المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌كِتَابُ الْكَرَاهِيَةِ   (كِتَابُ الْكَرَاهِيَةِ) أَوْرَدَ الْكَرَاهِيَةَ بَعْد الْأُضْحِيَّةِ؛ لِأَنَّ عَامَّةَ مَسَائِلِ كُلِّ - تكملة فتح القدير نتائج الأفكار في كشف الرموز والأسرار - جـ ١٠

[قاضي زاده]

فهرس الكتاب

‌كِتَابُ الْكَرَاهِيَةِ

(كِتَابُ الْكَرَاهِيَةِ)

أَوْرَدَ الْكَرَاهِيَةَ بَعْد الْأُضْحِيَّةِ؛ لِأَنَّ عَامَّةَ مَسَائِلِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا لَمْ تَخْلُ مِنْ أَصْلٍ أَوْ فَرْعٍ تَرِدُ فِيهِ الْكَرَاهَةُ؛ أَلَا يَرَى أَنَّ التَّضْحِيَةَ فِي لَيَالِي أَيَّامِ النَّحْرِ مَكْرُوهَةٌ، وَكَذَا التَّصَرُّفُ فِي الْأُضْحِيَّةِ بِجَزِّ صُوفِهَا وَحَلْبِ لَبَنِهَا وَإِبْدَالِ غَيْرِهَا مَكَانَهَا، وَكَذَلِكَ ذَبْحُ الْكِتَابِيِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ، كَمَا أَنَّ الْأَمْرَ فِي كِتَابِ الْكَرَاهِيَةِ كَذَلِكَ كَذَا فِي الشُّرُوحِ. ثُمَّ إنَّ عِبَارَاتِ الْكُتُبِ قَدْ اخْتَلَفَتْ فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ، فَقَدْ سَمَّاهُ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِاسْمِ الْكَرَاهِيَةِ، وَعَلَيْهِ وَضَعَ الطَّحَاوِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ وَتَبِعَهُمَا الْمُصَنِّفُ، وَسَمَّاهُ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ بِالِاسْتِحْسَانِ وَعَلَيْهِ كُتُبُ كَثِيرٍ مِنْ مَشَايِخِنَا كَالْكَافِي لِلْحَاكِمِ الشَّهِيدِ وَالْمَبْسُوطِ وَالْمُحِيطِ وَالذَّخِيرَةِ وَالْمُغْنِي وَغَيْرِهَا، وَسَمَّاهُ الْكَرْخِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ بِالْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ، وَتَبِعَهُ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ وَالْإِمَامُ قَاضِي خَانْ فِي فَتَاوَاهُ، وَكَذَا وَقَعَ فِي التُّحْفَةِ وَالتَّتِمَّةِ وَالْإِيضَاحِ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا. أَمَّا وَجْهُ التَّسْمِيَةِ بِالْكَرَاهِيَةِ فَلِأَنَّ بَيَانَ الْمَكْرُوهِ أَهَمُّ لِوُجُوبِ الِاحْتِرَازِ عَنْهُ. وَأَمَّا وَجْهُ التَّسْمِيَةِ بِالِاسْتِحْسَانِ فَلِأَنَّ فِيهِ مَا حَسَّنَهُ الشَّرْعُ وَمَا قَبَّحَهُ وَلَفْظُ الِاسْتِحْسَانِ أَحْسَنُ فَلُقِّبَ بِهِ، أَوْ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَسَائِلِهِ اسْتِحْسَانٌ لَا مَجَالَ لِلْقِيَاسِ فِيهَا، وَأَمَّا وَجْهُ التَّسْمِيَةِ بِالْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ فَلِأَنَّ الْحَظْرَ الْمَنْعُ وَالْإِبَاحَةَ الْإِطْلَاقُ، وَفِيهِ مَا مَنَعَ عَنْهُ الشَّرْعُ وَمَا أَبَاحَهُ.

كَذَا ذَكَرَ وَجْهَ كُلٍّ مِنْهُمَا فِي الِاخْتِيَارِ شَرْحُ الْمُخْتَارِ. وَفِي شَرْحِ الْكَنْزِ لِلْإِمَامِ الزَّيْلَعِيِّ: ثُمَّ إنَّ الْكَرَاهِيَةَ فِي اللُّغَةِ مَصْدَرُ

ص: 3

قَالَ رضي الله عنه: تَكَلَّمُوا فِي مَعْنَى الْمَكْرُوهِ. وَالْمَرْوِيُّ عَنْ مُحَمَّدٍ نَصًّا أَنَّ كُلَّ مَكْرُوهٍ حَرَامٌ، إلَّا أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجِدْ فِيهِ نَصًّا قَاطِعًا لَمْ يُطْلِقْ عَلَيْهِ لَفْظَ الْحَرَامِ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إلَى الْحَرَامِ أَقْرَبُ، وَهُوَ يَشْتَمِلُ عَلَى فُصُولٍ مِنْهَا:

‌فَصْلٌ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ

(قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله: يُكْرَهُ لُحُومُ الْأُتُنِ وَأَلْبَانُهَا وَأَبْوَالُ الْإِبِلِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لَا بَأْسَ بِأَبْوَالِ الْإِبِلِ)

كَرِهَ الشَّيْءَ كَرْهًا وَكَرَاهَةً وَكَرَاهِيَةً، قَالَ فِي الْمِيزَانِ: هِيَ ضِدُّ الْمَحَبَّةِ وَالرِّضَا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ} فَالْمَكْرُوهُ خِلَافُ الْمَنْدُوبِ وَالْمَحْبُوبِ لُغَةً، وَالْكَرَاهَةُ لَيْسَتْ بِضِدٍّ لِلْإِرَادَةِ عِنْدَنَا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَارِهٌ لِلْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي: أَيْ لَيْسَ بِرَاضٍ بِهِمَا وَلَا مُحِبٍّ لَهُمَا، وَإِنْ كَانَ الْكُفْرُ وَالْمَعَاصِي بِإِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَشِيئَتِهِ. وَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ هِيَ ضِدُّ الْإِرَادَةِ أَيْضًا عَلَى مَا عُرِفَ فِي أُصُولِ الْكَلَامِ، وَأَمَّا مَعْنَى الْكَرَاهِيَةِ فِي الشَّرِيعَةِ فَمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي الْكِتَابِ (قَوْلُهُ قَالَ رضي الله عنه: تَكَلَّمُوا فِي مَعْنَى الْمَكْرُوهِ) يَعْنِي اخْتَلَفَ أَصْحَابُ الشَّرْعِ فِي مَعْنَى الْمَكْرُوهِ، فَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ نَصَّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَكْرُوهٍ حَرَامٌ إلَّا أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجِدْ فِيهِ نَصًّا قَاطِعًا لَمْ يُطْلِقْ عَلَيْهِ لَفْظَ الْحَرَامِ فَكَانَ نِسْبَةُ الْمَكْرُوهِ إلَى الْحَرَامِ عِنْدَهُ كَنِسْبَةِ الْوَاجِبِ إلَى الْفَرْضِ فِي أَنَّ الْأَوَّلَ ثَابِتٌ بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ وَالثَّانِيَ ثَابِتٌ بِدَلِيلٍ ظَنِّيٍّ.

وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إلَى الْحَرَامِ أَقْرَبُ. ثُمَّ إنَّ هَذَا حَدُّ الْمَكْرُوهِ كَرَاهَةَ تَحْرِيمٍ، وَأَمَّا كَرَاهَةُ الْمَكْرُوهِ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ فَإِلَى الْحِلِّ أَقْرَبُ، هَذَا خُلَاصَةُ مَا ذَكَرُوا فِي الْكُتُبِ، وَلِبَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ هُنَا كَلِمَاتٌ طَوِيلَةُ الذَّيْلِ لَا حَاصِلَ لَهَا تَرَكْنَا التَّعَرُّضَ لَهَا لِمَا فِي تَضَاعِيفِهَا مِنْ الِاخْتِلَالِ كَرَاهَةَ الْإِطْنَابِ

(قَوْلُهُ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُكْرَهُ لُحُومُ الْأُتُنِ وَأَلْبَانُهَا وَأَبْوَالُ الْإِبِلِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: لَا بَأْسَ بِأَبْوَالِ الْإِبِلِ) قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الشُّرَّاحِ: خَصَّ الْأُتُنَ مَعَ كَرَاهَةِ لَحْمِ سَائِرِ الْحُمُرِ لِيَسْتَقِيمَ عَطْفُ الْأَلْبَانِ عَلَيْهِ، إذْ اللَّبَنُ لَا يَكُونُ إلَّا مِنْ الْأَتَانِ انْتَهَى.

يَعْنُونَ أَنَّهُ لَوْ قَالَ تُكْرَهُ لُحُومُ الْحُمُرِ وَأَلْبَانُهَا لَرَجَعَ الضَّمِيرُ فِي أَلْبَانِهَا إلَى الْحُمُرِ الْمَذْكُورِ فِيمَا قِيلَ، وَذَلِكَ يَعُمُّ الذُّكُورَ وَالْإِنَاثَ، فَلَا يَسْتَقِيمُ عَطْفُ الْأَلْبَانِ مُضَافَةً إلَى الضَّمِيرِ الرَّاجِعِ إلَى مُطْلَقِ الْجَرِّ عَلَى مَا قَبْلَهَا؛ لِأَنَّ الْأَلْبَانَ لَا تُتَصَوَّرُ فِي ذُكُورِ الْحُمُرِ، وَإِنَّمَا تَتَحَقَّقُ فِي إنَاثِهَا الَّتِي هِيَ الْأُتُنُ. نَعَمْ يُمْكِنُ تَصْحِيحُ ذَلِكَ أَيْضًا بِتَقْدِيرٍ وَتَأْوِيلٍ، لَكِنَّ مُرَادَهُمْ عَدَمُ اسْتِقَامَةِ ذَلِكَ نَظَرًا إلَى ظَاهِرِ التَّرْكِيبِ فَسَقَطَتْ عَنْ كَلَامِهِمْ مُؤَاخَذَةُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ وَقَالَ ذَلِكَ الْبَعْضُ: وَإِنَّمَا خَصَّ كَرَاهَةَ لَحْمِ الْأُتُنِ بِالذِّكْرِ وَلَمْ يَذْكُرْ كَرَاهَةَ لَحْمِ غَيْرِهَا مِمَّا سَبَقَ فِي كِتَابِ الذَّبَائِحِ، لِأَنَّهُ لَمَّا عَنْوَنَ الْفَصْلَ بِأَنَّهُ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَقَدْ ذَكَرَ فِي الذَّبَائِحِ جَمِيعَ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ وَلَوْ أَعَادَ كُلَّهَا يَلْزَمُ التَّكْرَارُ فَذَكَرَ بَعْضًا مِنْهَا تَذْكِيرًا لِلْبَوَاقِي انْتَهَى.

أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا مِمَّا يُعْتَدُّ بِهِ؛ لِأَنَّ حَدِيثَ عِنْوَانِ الْفَصْلِ بِأَنَّهُ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ لَا يُفِيدُ شَيْئًا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ أَصْلًا، فَإِنَّ

ص: 4

وَتَأْوِيلُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهَا لِلتَّدَاوِي، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْجُمْلَةَ فِيمَا تَقَدَّمَ فِي الصَّلَاةِ وَالذَّبَائِحِ فَلَا نُعِيدُهَا، وَاللَّبَنُ مُتَوَلِّدٌ مِنْ اللَّحْمِ فَأَخَذَ حُكْمَهُ

، قَالَ (وَلَا يَجُوزُ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَالِادِّهَانُ وَالتَّطَيُّبُ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام فِي الَّذِي يَشْرَبُ فِي إنَاءِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ «إنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ» «وَأُتِيَ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه بِشَرَابٍ فِي إنَاءِ فِضَّةٍ فَلَمْ يَقْبَلْهُ وَقَالَ:

مَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فِي هَذَا الْفَصْلِ غَيْرُ مُنْحَصِرٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، بَلْ كَثِيرٌ مِنْ الْمَسَائِلِ الْآتِيَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذَا الْفَصْلِ مِنْ مَسَائِلِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ أَيْضًا، فَيَصِحُّ عِنْوَانُ الْفَصْلِ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، سَوَاءٌ لَمْ تُذْكَرْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهِ أَصْلًا أَوْ ذَكَرَ مَعَهَا غَيْرَهَا أَيْضًا مِمَّا سَبَقَ فِي الذَّبَائِحِ. وَأَمَّا حَدِيثُ ذِكْرِ بَعْضٍ مِنْ الْمَسَائِلِ السَّابِقَةِ فِي الذَّبَائِحِ تَذْكِيرًا لِلْبَوَاقِي فَغَيْرُ تَامٍّ أَيْضًا؛ لِأَنَّ ذِكْرَ مَا ذَكَرَ مَرَّ وَبُيِّنَ مُسْتَوْفًى تَذْكِيرًا لِبَوَاقِي الْمَذْكُورَاتِ لَيْسَ مِنْ دَأْبِ الْمُصَنِّفِينَ وَلَا مِمَّا يَهُمُّ أَصْلًا، ثُمَّ أَقُولُ: الْأَوْجُهُ أَنْ يُقَالَ: إنَّمَا خَصَّ الْأُتُنَ بِالذِّكْرِ مَعَ كَرَاهَةِ لُحُومِ غَيْرِهَا أَيْضًا؛ لِأَنَّ جَمِيعَ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ قَدْ ذُكِرَ فِي الذَّبَائِحِ مُسْتَوْفًى، وَكَرَاهَةُ لُحُومِ الْأُتُنِ إنَّمَا ذُكِرْت هَاهُنَا تَوْطِئَةً لِكَرَاهَةِ أَلْبَانِهَا الَّتِي لَمْ تُذْكَرْ فِيمَا مَرَّ قَطُّ، وَلَا مَدْخَلَ لِكَرَاهَةِ لُحُومِ غَيْرِهَا فِي التَّوْطِئَةِ لِذَلِكَ فَلَا جَرَمَ خَصَّ الْأُتُنَ بِالذِّكْرِ دُونَ غَيْرِهَا. ثُمَّ قَالَ ذَلِكَ الْبَعْضُ: وَأَمَّا حُكْمُ أَبْوَالِ الْإِبِلِ فَإِنَّمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِيمَا سَبَقَ، وَذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ هَاهُنَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، فَلَيْسَ فِيهِ التَّكْرَارُ حَتَّى يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى الِاعْتِذَارِ انْتَهَى كَلَامُهُ.

أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا بِكَلَامٍ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الْمُصَنِّفَ أَيْضًا ذَكَرَهُ هَاهُنَا فِي الْهِدَايَةِ وَالْبِدَايَةِ فَلَزِمَهُ التَّكْرَارُ قَطْعًا، وَإِنَّمَا لَمْ يَلْزَمْهُ التَّكْرَارُ لَوْ ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَلَمْ يَذْكُرْهُ الْمُصَنِّفُ هَاهُنَا. وَأَمَّا كَوْنُ مَأْخَذِ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ هَاهُنَا مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فَلَا يُجْدِي شَيْئًا فِي دَفْعِ التَّكْرَارِ؛ لِأَنَّ الْمُصَنِّفَ لَيْسَ فِي حَيِّزِ الِاجْتِهَادِ، فَكُلُّ مَا ذَكَرَهُ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِ مُجْتَهِدٍ، فَإِذَا ذَكَرَ مَسْأَلَةً مَرَّتَيْنِ لَزِمَ التَّكْرَارُ لَا مَحَالَةَ (قَوْلُهُ وَتَأْوِيلُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ لَا بَأْسَ بِهِ لِلتَّدَاوِي) إنَّمَا احْتَاجَ الْمُصَنِّفُ إلَى هَذَا التَّأْوِيلِ؛ لِأَنَّ مَذْهَبَ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ بَوْلَ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ نَجِسٌ لِمَا مَرَّ فِي كِتَابِ الطَّهَارَاتِ فَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ شُرْبُهُ حَرَامًا.

وَالْمَفْهُومُ مِنْ قَوْلِهِ هَاهُنَا: وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لَا بَأْسَ بِأَبْوَالِ الْإِبِلِ حِلُّ شُرْبِهَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ أَيْضًا. فَأَوَّلَ الْمُصَنِّفُ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ الْمَذْكُورَ هَاهُنَا بِنَفْيِ الْبَأْسِ عَنْ شُرْبِهَا لِلتَّدَاوِي، وَشُرْبُهَا لِلتَّدَاوِي لَيْسَ بِحَرَامٍ عِنْدَهُ، وَإِنْ كَانَتْ نَجِسًا تَمَسُّكًا بِقِصَّةِ الْعُرَنِيِّينَ كَمَا مَرَّ بَيَانُهُ فِي كِتَابِ الطَّهَارَاتِ.

قَالَ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ فِي هَذَا الْمَقَامِ: وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: لَا بَأْسَ بِذَلِكَ، فَمُنْصَرِفٌ إلَى لَحْمِ الْفَرَسِ خَاصَّةً، لِأَنَّ بَوْلَ الْإِبِلِ نَجِسٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ أَيْضًا، إلَّا أَنَّهُ أَطْلَقَ شُرْبَهُ لِلتَّدَاوِي، وَقَدْ مَرَّ فِي كِتَابِ الطَّهَارَاتِ فِي فَصْلِ الْبِئْرِ انْتَهَى. أَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ لَفْظَ مُحَمَّدٍ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ هَكَذَا: مُحَمَّدٌ عَنْ يَعْقُوبَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ: أَكْرَهُ شُرْبَ أَبْوَالِ الْإِبِلِ وَأَكْلَ لُحُومِ الْفَرَسِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لَا بَأْسَ بِذَلِكَ إلَى هُنَا لَفْظُ مُحَمَّدٍ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، وَقَدْ اعْتَرَفَ بِهِ الشَّارِحُ الْمَذْكُورُ حَيْثُ ذَكَرَ لَفْظَهُ هَكَذَا بِعَيْنِهِ: وَلَا يَذْهَبُ عَلَيْك أَنَّ عِبَارَةَ كُلِّهِ فِي قَوْلِهِ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ كُلِّهِ تَمْنَعُ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ مُنْصَرِفًا إلَى لَحْمِ الْفَرَسِ خَاصَّةً، بَلْ يَقْتَضِي شُمُولَهُ لِأَبْوَالِ الْإِبِلِ أَيْضًا (قَوْلُهُ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْجُمْلَةَ فِيمَا تَقَدَّمَ فِي الصَّلَاةِ وَالذَّبَائِحِ فَلَا نُعِيدُهَا) أَقُولُ: فِي رَوَاجِ هَذِهِ الْحَوَالَةِ بَحْثٌ، فَإِنَّ أَلْبَانَ الْأُتُنِ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ

ص: 5

نَهَانَا عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم»، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فِي الشُّرْبِ فَكَذَا فِي الِادِّهَانِ وَنَحْوِهِ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَاهُ وَلِأَنَّهُ تَشَبُّهٌ بِزِيِّ الْمُشْرِكِينَ وَتَنَعُّمٌ بِنِعَمِ الْمُتْرَفِينَ وَالْمُسْرِفِينَ، وَقَالَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: يُكْرَهُ وَمُرَادُهُ التَّحْرِيمُ وَيَسْتَوِي فِيهِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ لِعُمُومِ النَّهْيِ، وَكَذَلِكَ الْأَكْلُ بِمِلْعَقَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالِاكْتِحَالُ بِمِيلِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَكَذَا مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ كَالْمُكْحُلَةِ وَالْمِرْآةِ وَغَيْرِهِمَا لِمَا ذَكَرْنَا.

قَالَ (وَلَا بَأْسَ بِاسْتِعْمَالِ آنِيَةٍ الرَّصَاصِ وَالزُّجَاجِ

وَلَمْ تُبَيِّنْ فِيمَا تَقَدَّمَ قَطُّ، وَكَذَا أَبْوَالُ الْإِبِلِ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ وَلَمْ تُبَيِّنْ فِي شَيْءٍ مِنْ كِتَابَيْ الصَّلَاةِ وَالذَّبَائِحِ، وَإِنَّمَا بُيِّنَتْ فِي كِتَابِ الطَّهَارَاتِ فِي فَصْلِ الْبِئْرِ فِي ضِمْنِ بَيَانِ بَوْلِ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ مُطْلَقًا، وَعَنْ هَذَا قَالَ صَاحِبُ الْكَافِي وَقَدْ مَرَّتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ وَالذَّبَائِحِ.

وَيُمْكِنُ أَنْ يَتَمَحَّلَ فِي تَوْجِيهِ كُلٍّ مِنْ هَاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ. أَمَّا فِي تَوْجِيهِ الصُّورَةِ الْأُولَى مِنْهُمَا فَبِأَنْ يُحْمَلَ الْمُرَادُ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي قَوْلِهِ قَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْجُمْلَةَ عَلَى مَا عَدَا الْأَلْبَانِ بِقَرِينَةِ بَيَانِ كَرَاهَةِ اللَّبَنِ بَعْدَ قَوْلِهِ فَلَا نُعِيدُهَا بِقَوْلِهِ وَاللَّبَنُ يَتَوَلَّدُ مِنْ اللَّحْمِ فَأَخَذَ حُكْمَهُ. وَأَمَّا فِي تَوْجِيهِ الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ مِنْهُمَا فَبِأَنَّ الطَّهَارَةَ لَمَّا كَانَتْ مِنْ شُرُوطِ الصَّلَاةِ وَمَبَادِيهَا عَبَّرَ الْمُصَنِّفُ عَنْ كِتَابِ الطَّهَارَاتِ بِكِتَابِ الصَّلَاةِ مُسَامَحَةً.

قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: وَإِنَّمَا قَالَ فِي الصَّلَاةِ مَعَ أَنَّ الْبَيَانَ لَمْ يَكُنْ فِيهَا بَلْ فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ فِي فَصْلِ الْبِئْرِ إشَارَةً إلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَذْكُرَ مَسَائِلَ الطَّهَارَةِ فِي فَصْلٍ مِنْ فُصُولِ كِتَابِ الصَّلَاةِ كَمَا وَقَعَ فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ وَأَنْ لَا يُتَرْجَمَ لَهَا كِتَابٌ عَلَى حِدَةٍ انْتَهَى. أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا شَيْءٌ؛ لِأَنَّ مَآلَهُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ بِتَعْبِيرِهِ الْمَذْكُورِ الْإِشَارَةَ إلَى تَقْبِيحِ نَفْسِهِ فِيمَا فَعَلَهُ فِي أَوَّلِ كِتَابِهِ مِنْ تَرْجَمَةِ الطَّهَارَاتِ بِكِتَابٍ عَلَى حِدَةٍ دُونَ فَصْلٍ مِنْ فُصُولِ كِتَابِ الصَّلَاةِ، وَهَلْ يَلِيقُ بِالْعَاقِلِ أَنْ يَقْصِدَ الْإِشَارَةَ إلَى مِثْلِ ذَلِكَ. عَلَى أَنَّ الشُّرَّاحَ ذَكَرُوا قَاطِبَةً فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ وَجْهًا وَجِيهًا لِإِيرَادِ الطَّهَارَةِ فِي كِتَابٍ مُسْتَقِلٍّ، فَكَوْنُ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يَذْكُرَ مَسَائِلَ الطَّهَارَةِ فِي فَصْلٍ مِنْ فُصُولِ الصَّلَاةِ مَمْنُوعٌ، وَعَنْ هَذَا تَرَى أَكْثَرَ ثِقَاتِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ ذَكَرُوا مَسَائِلَ الطَّهَارَةِ فِي كِتَابٍ عَلَى حِدَةٍ وَقَالَ ذَلِكَ الْبَعْضُ: ثُمَّ إنَّ الْمُصَنِّفَ بَيَّنَ فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ شُرْبَ أَبْوَالِ الْإِبِلِ حَرَامٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله مُطْلَقًا، وَحَلَالٌ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رحمه الله مُطْلَقًا، وَلِلتَّدَاوِي فَقَطْ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ.

وَذَكَرَ أَدِلَّتَهُمْ هُنَاكَ، لَكِنْ بُنِيَ دَلِيلُ مُحَمَّدٍ عَلَى طَهَارَتِهِ، مَعَ أَنَّ اسْتِلْزَامَ طَهَارَتِهِ حِلُّ شُرْبِهِ غَيْرُ ظَاهِرٍ، وَأَنَّ طَهَارَتَهُ لَمْ تَلْزَمْ عِنْدَهُ إلَّا مِنْ حِلِّهِ الثَّابِتِ بِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «مَا وُضِعَ شِفَاؤُكُمْ فِيمَا حُرِّمَ عَلَيْكُمْ» كَمَا سَبَقَ، فَبِنَاءُ حِلِّهِ عَلَى طَهَارَتِهِ دَوْرٌ ظَاهِرٌ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ. أَقُولُ: حَدِيثُ الدَّوْرِ سَاقِطٌ جِدًّا؛ لِأَنَّ حِلَّهُ إنَّمَا يَكُونُ عِلَّةً لِطَهَارَتِهِ فِي الْعَقْلِ بِأَنْ يَصِيرَ دَلِيلًا عَلَيْهَا. وَأَمَّا طَهَارَتُهُ فَإِنَّمَا تَكُونُ عِلَّةً لِحِلِّهِ فِي الْخَارِجِ فَاخْتَلَفَتْ الْجِهَةُ، وَهَذَا نَظِيرُ مَا قَالُوا فِي الْعُلُومِ الْعَقْلِيَّةِ أَنَّ الْحُمَّى عِلَّةٌ لِلْعُفُونَةِ فِي الذِّهْنِ وَالْعُفُونَةُ عِلَّةٌ لِلْحُمَّى فِي الْخَارِجِ، فَالِاسْتِدْلَالُ بِالْحُمَّى عَلَى الْعُفُونَةِ بُرْهَانٌ إنِّيٌّ وَبِعَكْسِهِ بُرْهَانٌ لَمِّيٌّ وَلَا دَوْرَ أَصْلًا، وَهَكَذَا الْحَالُ بَيْنَ كُلِّ مُؤَثِّرٍ وَأَثَرِهِ. فَإِنَّ الْأَوَّلَ عِلَّةٌ لِلثَّانِي فِي الْخَارِجِ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي عِلَّةً لِلْأَوَّلِ فِي الْعَقْلِ: أَيْ دَلِيلًا عَلَيْهِ، وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ اسْتِدْلَالُنَا بِوُجُودِ الْعَالَمِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ

(قَوْلُهُ وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فِي الشُّرْبِ فَكَذَا فِي الِادِّهَانِ وَنَحْوِهِ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَاهُ)

ص: 6

وَالْبَلُّورِ وَالْعَقِيقِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُكْرَهُ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فِي التَّفَاخُرِ بِهِ. قُلْنَا: لَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مَا كَانَ مِنْ عَادَتِهِمْ التَّفَاخُرُ بِغَيْرِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ.

قَالَ (وَيَجُوزُ الشُّرْبُ فِي الْإِنَاءِ الْمُفَضَّضِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالرُّكُوبُ عَلَى السَّرْجِ الْمُفَضَّضِ وَالْجُلُوسُ عَلَى الْكُرْسِيِّ الْمُفَضَّضِ وَالسَّرِيرِ الْمُفَضَّضِ إذَا كَانَ يَتَّقِي مَوْضِعَ الْفِضَّةِ) وَمَعْنَاهُ: يَتَّقِي مَوْضِعَ الْفَمِ، وَقِيلَ هَذَا وَمَوْضِعُ الْيَدِ فِي الْأَخْذِ وَفِي السَّرِيرِ وَالسَّرْجِ مَوْضِعُ الْجُلُوسِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُكْرَهُ ذَلِكَ، وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ يُرْوَى مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ وَيُرْوَى مَعَ أَبِي يُوسُفَ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الْإِنَاءُ الْمُضَبَّبُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْكُرْسِيُّ الْمُضَبَّبُ بِهِمَا، وَكَذَا إذَا جَعَلَ ذَلِكَ فِي السَّيْفِ وَالْمِشْحَذِ وَحَلْقَةِ الْمَرْأَةِ، أَوْ جَعَلَ الْمُصْحَفَ مُذَهَّبًا أَوْ مُفَضَّضًا، وَكَذَا الِاخْتِلَافُ فِي اللِّجَامِ وَالرِّكَابِ وَالثَّفْرِ إذَا كَانَ مُفَضَّضًا، وَكَذَا الثَّوْبُ فِيهِ كِتَابَةٌ بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ عَلَى هَذَا، وَهَذَا الِاخْتِلَافُ فِيمَا يَخْلُصُ، فَأَمَّا التَّمْوِيهُ الَّذِي

أَيْ لِأَنَّ الِادِّهَانَ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ أَوْ الْفِضَّةِ وَنَحْوِهِ فِي مَعْنَى الشُّرْبِ مِنْهَا؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْ ذَلِكَ اسْتِعْمَالٌ لَهَا، وَالْمُحَرَّمُ هُوَ الِاسْتِعْمَالُ بِأَيْ وَجْهٍ كَانَ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّجَبُّرِ وَالْإِسْرَافِ فَيَشْمَلُ الِادِّهَانَ وَالتَّطَيُّبَ أَيْضًا. وَفِي النِّهَايَةِ قِيلَ: صُورَةُ الِادِّهَانِ الْمُحَرَّمِ هُوَ أَنْ يَأْخُذَ آنِيَةَ الذَّهَبِ أَوْ الْفِضَّةِ وَيَصُبَّ الدُّهْنَ عَلَى الرَّأْسِ. أَمَّا إذَا أَدْخَلَ يَدَهُ فِيهَا وَأَخَذَ الدُّهْنَ، ثُمَّ صَبَّهُ عَلَى الرَّأْسِ مِنْ الْيَدِ لَا يُكْرَهُ. كَذَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الذَّخِيرَةِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ اهـ. قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ نَقْلِ ذَلِكَ: وَرَأَى أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الْمُكْحُلَةِ فَإِنَّ الْكُحْلَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَنْفَصِلَ عَنْهَا حِينَ الِاكْتِحَالِ. وَمَعَ ذَلِكَ فَقَطْ ذَكَرَهُ فِي الْمُحَرَّمَاتِ انْتَهَى.

أَقُولُ: يُمْكِنُ دَفْعُ الْمُخَالَفَةِ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ بِأَنَّ الْمُحَرَّمَ فِي أَوَانِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَآلَاتِهَا هُوَ اسْتِعْمَالُهَا، وَاسْتِعْمَالُ آنِيَةِ الذَّهَبِ أَوْ الْفِضَّةِ عِنْدَ إرَادَةِ الِادِّهَانِ مِنْهَا إنَّمَا يَتَحَقَّقُ فِي الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ بِأَخْذِ آنِيَتِهِمَا وَصَبِّ الدُّهْنِ مِنْهَا عَلَى الْبَدَنِ لَا بِإِدْخَالِ الْيَدِ فِيهَا وَأَخْذِ الدُّهْنِ، ثُمَّ صَبِّهِ عَلَى الْبَدَنِ. وَأَمَّا اسْتِعْمَالُ مُكْحُلَةِ الذَّهَبِ أَوْ الْفِضَّةِ فَإِنَّمَا يُتَصَوَّرُ عَادَةً بِإِدْخَالِ الْمِيلِ فِيهَا ثُمَّ الِاكْتِحَالُ بِهِ فَانْفِصَالُ الْكُحْلِ عَنْهَا حِينَ الِاكْتِحَالِ لَا يَقْدَحُ فِي تَحَقُّقِ اسْتِعْمَالِهَا فَافْتَرَقَا.

وَاعْتَرَضَ صَاحِبُ التَّسْهِيلِ عَلَى مَا قِيلَ فِي صُورَةِ الِادِّهَانِ الْمُحَرَّمِ بِوَجْهٍ آخَرَ. وَهُوَ أَنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ لَا يُكْرَهَ إذَا أَخَذَ الطَّعَامَ مِنْ آنِيَةِ الذَّهَبِ أَوْ الْفِضَّةِ بِمِلْعَقَةٍ ثُمَّ أَكَلَ مِنْهَا، وَكَذَا إذَا أَخَذَهُ بِيَدِهِ وَأَكَلَهُ مِنْهَا. وَأَجَابَ عَنْهُ صَاحِبُ الدُّرَرِ وَالْغُرَرِ بِمَا يَقْرَبُ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ فِي دَفْعِ مَا قَالَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي الْمُكْحُلَةِ حَيْثُ قَالَ بَعْدَ ذِكْرِ ذَلِكَ الِاعْتِرَاضِ أَقُولُ: مَنْشَؤُهُ الْغَفْلَةُ عَنْ مَعْنَى عِبَارَةِ الْمَشَايِخِ وَعَدَمُ الْوُقُوفِ عَلَى مُرَادِهِمْ.

أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ مِنْ فِي قَوْلِهِمْ مِنْ إنَاءِ ذَهَبٍ ابْتِدَائِيَّةٌ. وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ مُرَادَهُمْ أَنَّ الْأَدَوَاتِ الْمَصْنُوعَةَ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ إنَّمَا يَحْرُمُ اسْتِعْمَالُهَا إذَا اُسْتُعْمِلَتْ فِيمَا صُنِعَتْ لَهُ بِحَسَبِ مُتَعَارَفِ النَّاسِ، فَإِنَّ الْأَوَانِيَ الْكَبِيرَةَ الْمَصْنُوعَةَ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لِأَجْلِ أَكْلِ الطَّعَامِ إنَّمَا يَحْرُمُ اسْتِعْمَالُهَا إذَا أَكَلَ الطَّعَامَ مِنْهَا بِالْيَدِ أَوْ الْمِلْعَقَةِ؛ لِأَنَّهَا وُضِعَتْ لِأَجْلِ ابْتِدَاءِ الْأَكْلِ مِنْهَا بِالْيَدِ أَوْ الْمِلْعَقَةِ فِي الْعُرْفِ. وَأَمَّا إذَا أَخَذَ مِنْهَا وَوَضَعَ عَلَى مَوْضِعٍ مُبَاحٍ فَأَكَلَ مِنْهُ لَمْ يَحْرُمْ لِانْتِفَاءِ ابْتِدَاءِ الِاسْتِعْمَالِ مِنْهَا، وَكَذَا الْأَوَانِي الصَّغِيرَةُ الْمَصْنُوعَةُ لِأَجْلِ الِادِّهَانِ وَنَحْوِهِ إنَّمَا يَحْرُمُ اسْتِعْمَالُهَا إذَا أُخِذَتْ وَصُبَّ مِنْهَا الدُّهْنُ عَلَى الرَّأْسِ أَوْ عَلَى الْيَدِ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا صُنِعَتْ لِأَجْلِ الِادِّهَانِ مِنْهَا بِذَلِكَ الْوَجْهِ. وَأَمَّا إذَا أَدْخَلَ يَدَهُ فِيهَا وَأَخَذَ الدُّهْنَ وَصَبَّهُ عَلَى الرَّأْسِ مِنْ الْيَدِ فَلَا يُكْرَهُ لِانْتِفَاءِ ابْتِدَاءِ الِاسْتِعْمَالِ مِنْهَا، فَظَهَرَ أَنَّ مُرَادَهُمْ أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءُ الِاسْتِعْمَالِ الْمُتَعَارَفِ مِنْ ذَلِكَ الْمُحَرَّمِ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ. أَقُولُ: فِيهِ نَوْعُ اسْتِدْرَاكٍ بَلْ اخْتِلَالٍ، فَإِنَّ قَوْلَهُ مَنْشَؤُهُ الْغَفْلَةُ عَنْ مَعْنَى الْمَشَايِخِ ثُمَّ بَيَانُهُ إيَّاهُ بِقَوْلِهِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ " مِنْ " فِي قَوْلِهِمْ مِنْ إنَاءِ ذَهَبٍ ابْتِدَائِيَّةٌ أَمْرٌ زَائِدٌ بَلْ مُخْتَلٌّ. أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِي عِبَارَةِ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ بِكَلِمَةِ فِي بِدَلَ كَلِمَةِ مِنْ، وَعَلَيْهِ عِبَارَةُ الْكِتَابِ وَالْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَالْمُحِيطِ وَالذَّخِيرَةِ وَعَامَّةِ الْمُعْتَبَرَاتِ، وَإِنَّمَا وَقَعَتْ كَلِمَةُ مِنْ فِي كَلَامِ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِ الْمُتُونِ.

وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِلِابْتِدَاءِ فِي تَمْشِيَةِ الْجَوَابِ الَّذِي ذَكَرَهُ هَاهُنَا، إذْ يَكْفِي فِيهَا الْفَرْقُ بَيْنَ الِاسْتِعْمَالِ الْمُتَعَارَفِ وَغَيْرِهِ، سَوَاءٌ كَانَ الِاسْتِعْمَالُ فِي الِابْتِدَاءِ أَوْ فِي الِانْتِهَاءِ، يَظْهَرُ ذَلِكَ بِالتَّأَمُّلِ الصَّادِقِ وَالذَّوْقِ السَّلِيمِ. ثُمَّ إنَّ بَعْضَ الْمُتَأَخِّرِينَ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الْجَوَابَ الْمَذْكُورَ، وَطَعَنَ فِي بَعْضِ عِبَارَاتِهِ قَالَ: وَالْحَقُّ أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ صُوَرِ الِادِّهَانِ

ص: 7

لَا يَخْلُصُ فَلَا بَأْسَ بِهِ بِالْإِجْمَاعِ. لَهُمَا أَنَّ مُسْتَعْمِلَ جُزْءٍ مِنْ الْإِنَاءِ مُسْتَعْمِلَ جَمِيعِ الْأَجْزَاءِ فَيُكْرَهُ، كَمَا إذَا اسْتَعْمَلَ مَوْضِعَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّ ذَلِكَ تَابِعٌ وَلَا مُعْتَبَرَ بِالتَّوَابِعِ فَلَا يُكْرَهُ. كَالْجُبَّةِ الْمَكْفُوفَةِ بِالْحَرِيرِ وَالْعَلَمِ فِي الثَّوْبِ وَمِسْمَارِ الذَّهَبِ فِي الْفَصِّ.

قَالَ (وَمَنْ أَرْسَلَ أَجِيرًا لَهُ مَجُوسِيًّا أَوْ خَادِمًا فَاشْتَرَى لَحْمًا فَقَالَ اشْتَرَيْته مِنْ يَهُودِيٍّ أَوْ نَصْرَانِيٍّ أَوْ مُسْلِمٍ وَسِعَهُ أَكْلُهُ)؛ لِأَنَّ قَوْلَ الْكَافِرِ مَقْبُولٌ فِي الْمُعَامَلَاتِ؛ لِأَنَّهُ خَبَرٌ صَحِيحٌ لِصُدُورِهِ عَنْ عَقْلٍ وَدِينٍ يُعْتَقَدُ فِيهِ حُرْمَةُ الْكَذِبِ

وَالْحَاجَةُ مَاسَّةٌ إلَى قَبُولِهِ لِكَثْرَةِ وُقُوعِ الْمُعَامَلَاتِ

(وَإِنْ كَانَ

لَيْسَ بِمَا ذَكَرَهُ الْمُجِيبُ. بَلْ بِوُجُودِ مُمَاسَّةِ الْيَدِ بِالْإِنَاءِ وَقْتَ الِاسْتِعْمَالِ فِي الصُّورَتَيْنِ وَعَدَمِهَا فِي الثَّالِثَةِ، فَإِنَّ لِلْمُمَاسَّةِ تَأْثِيرًا فِي الْحُرْمَةِ كَمَا سَيَجِيءُ مِنْ وُجُوبِ الِاتِّقَاءِ عَنْ مَوْضِعِ الْفِضَّةِ فِي الْإِنَاءِ الْمُفَضَّضِ أَوْ الْمُضَبَّبِ وَقْتَ الشُّرْبِ فَتَأَمَّلْ انْتَهَى.

أَقُولُ: يَرُدُّ عَلَى هَذَا الْفَرْقِ الَّذِي زَعَمَهُ حَقًّا النَّقْضُ الَّذِي أَوْرَدَهُ صَاحِبُ التَّسْهِيلِ، فَإِنَّهُ إذَا أَخَذَ الطَّعَامَ مِنْ آنِيَةِ الذَّهَبِ أَوْ الْفِضَّةِ بِمِلْعَقَةٍ، ثُمَّ أَكَلَ مِنْهَا أَوْ أَخَذَهُ بِيَدِهِ وَأَكَلَهُ مِنْهَا لَمْ يُوجَدْ هُنَاكَ مُمَاسَّةُ الْيَدِ بِالْآنِيَةِ مَعَ أَنَّهُ يُكْرَهُ بِلَا شَكٍّ، فَالْمُخْلَصُ الْكُلِّيُّ هُنَا إنَّمَا يَحْصُلُ بِالْمَصِيرِ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الِاسْتِعْمَالِ الْمُتَعَارَفِ وَغَيْرِهِ لَا بِغَيْرِ ذَلِكَ، وَأَمَّا الْإِنَاءُ الْمُفَضَّضُ أَوْ الْمُضَبَّبُ فَبِمَعْزِلٍ عَمَّا نَحْنُ فِيهِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بِخَالِصِ فِضَّةٍ أَوْ ذَهَبٍ بَلْ هُوَ مُرَكَّبٌ مِنْ لَوْحٍ وَفِضَّةٍ أَوْ ذَهَبٍ، فَاعْتَبَرَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي حُرْمَةِ الشُّرْبِ مِنْهُ مُمَاسَّةَ الْعُضْوِ بِالْجُزْءِ الَّذِي هُوَ الْفِضَّةُ أَوْ الذَّهَبُ وَلَمْ يَعْتَبِرْهَا صَاحِبَاهُ، وَلِكُلٍّ مِنْ الْجَانِبَيْنِ أَصْلٌ يَأْتِي بَيَانُهُ

(قَوْلُهُ لَهُمَا أَنَّ مُسْتَعْمِلَ جُزْءٍ مِنْ الْإِنَاءِ مُسْتَعْمِلُ جَمِيعِ الْأَجْزَاءِ فَيُكْرَهُ) جَمْعُهَا فِي التَّعْلِيلِ جَرْيًا عَلَى رِوَايَةِ كَوْنِ قَوْلِ مُحَمَّدٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَعَ أَبِي يُوسُفَ، وَإِنْ كَانَ أَفْرَدَ أَبَا يُوسُفَ فِي بَيَانِ الْحُكْمِ فِيمَا قَبْلُ.

وَأَمَّا صَاحِبُ الْكَافِي فَأَفْرَدَهُ هَاهُنَا أَيْضًا حَيْثُ قَالَ: احْتَجَّ أَبُو يُوسُفَ بِعُمُومِ مَا وَرَدَ مِنْ النَّهْيِ. وَرَدَّ عَلَيْهِ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ حَيْثُ قَالَ بَعْدَ نَقْلِ مَا فِي الْكَافِي: قُلْت وَرَدَ النَّهْيُ عَنْ الشُّرْبِ فِي إنَاءِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ كَمَا سَبَقَ، وَصِدْقُهُ عَلَى الْمُفَضَّضِ وَالْمُضَبَّبِ مَمْنُوعٌ. وَقَالَ فِي الْحَاشِيَةِ رَدًّا لِمَا فِي الْكَافِي مِنْ احْتِجَاجِ أَبِي يُوسُفَ. أَقُولُ: لَيْسَ ذَاكَ بِتَامٍّ؛ لِأَنَّ مَا وَرَدَ مِنْ النَّهْيِ عَنْ الشُّرْبِ فِي إنَاءِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ إنْ لَمْ يَعُمَّ الْمُفَضَّضَ وَالْمُضَبَّبَ عِبَارَةُ يَعُمُّهُمَا دَلَالَةً كَعُمُومِهِ لِلِادِّهَانِ مِنْهُ وَنَحْوِهِ، وَكَعُمُومِهِ لِلْأَكْلِ بِمِلْعَقَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالِاكْتِحَالِ بِمِيلِ الذَّهَبِ، وَكَذَا مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ كَالْمُكْحُلَةِ وَالْمِرْآةِ وَغَيْرِهِمَا، فَإِنَّ الْمَدَارَ فِي كُلِّهَا تَنَاوُلُ النَّهْيِ الْوَارِدِ الْمَذْكُورِ لِكُلٍّ مِنْهَا دَلَالَةً كَمَا صَرَّحُوا بِهِ.

وَعَنْ هَذَا قَالَ فِي الْمُحِيطِ الْبُرْهَانِيِّ حُجَّتُهُمَا الْعُمُومَاتُ الْوَارِدَةُ بِالنَّهْيِ عَنْ اسْتِعْمَالِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ. وَمَنْ اسْتَعْمَلَ إنَاءً كَانَ مُسْتَعْمِلًا كُلَّ جُزْءٍ مِنْهُ فَكُرِهَ، وَهَذَا لِأَنَّ الْحُرْمَةَ فِي اسْتِعْمَالِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فِي الْإِنَاءِ وَغَيْرِهِ إنَّمَا كَانَتْ لِلتَّشَبُّهِ بِالْأَكَاسِرَةِ وَالْجَبَابِرَةِ. فَكُلُّ مَا كَانَ بِهَذَا الْمَعْنَى يُكْرَهُ، بِخِلَافِ خَاتَمِ الْفِضَّةِ وَالْمِنْطَقَةِ حَيْثُ لَا يُكْرَهُ؛ لِأَنَّ الرُّخْصَةَ جَاءَتْ فِي ذَلِكَ نَصًّا، أَمَّا هَاهُنَا بِخِلَافِهِ، إلَى هُنَا لَفْظُ الْمُحِيطِ تَأَمَّلْ. وَقَالَ الْإِمَامُ الزَّيْلَعِيُّ فِي شَرْحِ الْكَنْزِ: لِأَبِي يُوسُفَ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ «مَنْ شَرِبَ فِي إنَاءِ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أَوْ إنَاءٍ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ» رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ انْتَهَى. وَرَدَّ عَلَيْهِ أَيْضًا ذَلِكَ الْبَعْضُ حَيْثُ قَالَ بَعْدَ نَقْلِ ذَلِكَ: قُلْت لَوْ ثَبَتَ هَذَا كَانَ حُجَّةً قَاطِعَةً عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، لَكِنْ لَمْ نَجِدْهُ فِي رِوَايَاتِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ إلَّا خَالِيًا عَنْ زِيَادَةِ " أَوْ إنَاءٍ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ " وَقَالَ فِي الْحَاشِيَةِ: رُدَّ لِمَا ذَكَرَهُ الزَّيْلَعِيُّ مِنْ احْتِجَاجِ أَبِي يُوسُفَ انْتَهَى.

أَقُولُ: عَدَمُ وِجْدَانِهِ تِلْكَ الزِّيَادَةَ فِيمَا رَآهُ مِنْ رِوَايَاتِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ وُجُودِهَا فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لَمْ يَرَ مَحَلَّهَا، وَقَدْ بَيَّنَ الْإِمَامُ الزَّيْلَعِيُّ طَرِيقَ إخْرَاجِ مَا ذَكَرَهُ مِنْ الْحَدِيثِ حَيْثُ قَالَ: رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، فَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ الْبَعْضُ مُجَرَّدَ عَدَمِ اطِّلَاعِهِ عَلَى ذَلِكَ رَدًّا لَهُ

ص: 8

غَيْرَ ذَلِكَ لَمْ يَسَعْهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ) مَعْنَاهُ: إذَا كَانَ ذَبِيحَةَ غَيْرِ الْكِتَابِيِّ وَالْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا قَبِلَ قَوْلَهُ فِي الْحِلِّ أَوْلَى أَنْ يَقْبَلَ فِي الْحُرْمَةِ.

قَالَ (وَيَجُوزُ أَنْ يُقْبَلَ فِي الْهَدِيَّةِ وَالْإِذْنِ قَوْلُ الْعَبْدِ وَالْجَارِيَةِ وَالصَّبِيِّ)؛ لِأَنَّ الْهَدَايَا تُبْعَثُ عَادَةً عَلَى أَيْدِي هَؤُلَاءِ، وَكَذَا لَا يُمْكِنُهُمْ اسْتِصْحَابُ الشُّهُودِ عَلَى الْإِذْنِ عِنْدَ الضَّرْبِ فِي الْأَرْضِ وَالْمُبَايَعَةِ فِي السُّوقِ، فَلَوْ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُمْ يُؤَدِّي إلَى الْحَرَجِ. وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: إذَا قَالَتْ جَارِيَةٌ لِرَجُلٍ بَعَثَنِي مَوْلَايَ إلَيْك هَدِيَّةً وَسِعَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا؛ لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ مَا إذَا أَخْبَرَتْ بِإِهْدَاءِ الْمَوْلَى غَيْرَهَا أَوْ نَفْسَهُ لِمَا قُلْنَا (قَالَ وَيُقْبَلُ فِي الْمُعَامَلَاتِ قَوْلُ الْفَاسِقِ، وَلَا يُقْبَلُ فِي الدِّيَانَاتِ إلَّا قَوْلُ الْعَدْلِ)، وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الْمُعَامَلَاتِ يَكْثُرُ وُجُودُهَا فِيمَا بَيْنَ أَجْنَاسِ النَّاسِ،

فَلَوْ شَرَطْنَا شَرْطًا زَائِدًا يُؤَدِّي إلَى الْحَرَجِ

فَيُقْبَلُ قَوْلُ الْوَاحِدِ فِيهَا عَدْلًا كَانَ أَوْ فَاسِقًا

وَهُوَ لَيْسَ مِنْ فُرْسَانِ مَيْدَانِ عِلْمِ الْحَدِيثِ كَمَا لَا يَخْفَى

(قَوْلُهُ مَعْنَاهُ إذَا كَانَ ذَبِيحَةَ غَيْرِ الْكِتَابِيِّ وَالْمُسْلِمِ) أَقُولُ: كَانَ الْأَظْهَرُ أَنْ يُقَالَ: مَعْنَاهُ إذَا كَانَ قَوْلُهُ غَيْرَ ذَلِكَ بِأَنْ قَالَ اشْتَرَيْته مِنْ غَيْرِ الْكِتَابِيِّ وَالْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْبَيَانِ هُنَا كَوْنُ قَوْلِ الْكَافِرِ مَقْبُولًا فِيمَا هُوَ مِنْ جِنْسِ الْمُعَامَلَاتِ سَوَاءٌ تَضَمَّنَ الْحِلَّ أَوْ الْحُرْمَةَ، لَا كَوْنُ ذَبِيحَةِ الْمُسْلِمِ وَالْكِتَابِيِّ مِمَّا يُؤْكَلُ دُونَ ذَبِيحَةِ غَيْرِهِمَا فَإِنَّهُ مِنْ مَسَائِلِ كِتَابِ الذَّبَائِحِ وَقَدْ مَرَّ مُسْتَوْفًى، وَعِبَارَةُ الْمُصَنِّفِ تُوهِمُ أَصَالَةَ الثَّانِي كَمَا تَرَى. ثُمَّ إنَّهُ لَوْ قَالَ فِي الْمَتْنِ: وَإِنْ قَالَ غَيْرَ ذَلِكَ بَدَلِ قَوْلِهِ وَإِنْ كَانَ غَيْرُ ذَلِكَ لَكَانَ أَظْهَرُ مِنْ الْكُلِّ، وَكَانَ أَوْفَقُ لِمَا قَبْلَهُ وَهُوَ قَوْلُهُ وَقَالَ اشْتَرَيْته مِنْ يَهُودِيٍّ أَوْ نَصْرَانِيٍّ أَوْ مُسْلِمٍ، إلَّا أَنَّهُ لَمْ يُغَيِّرْ لَفْظَ مُحَمَّدٍ رحمه الله فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ تَبَرُّكًا بِهِ (قَوْلُهُ لِأَنَّهُ لَمَّا قُبِلَ قَوْلُهُ فِي الْحِلِّ أَوْلَى أَنْ يُقْبَلَ فِي الْحُرْمَةِ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَحَلِّ: قَوْلُهُ لِأَنَّهُ لَمَّا قُبِلَ قَوْلُهُ فِي الْحِلِّ: يَعْنِي فِي قَوْلِهِ وَسِعَهُ أَكْلُهُ، فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ الْحِلَّ لَا مَحَالَةَ أَوْلَى أَنْ يُقْبَلَ فِي الْحُرْمَةِ؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ مُرَجَّحَةٌ عَلَى الْحِلِّ دَائِمًا انْتَهَى.

أَقُولُ: فِي تَفْسِيرِهِ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ فِي الْحِلِّ بِقَوْلِهِ يَعْنِي فِي قَوْلِهِ وَسِعَهُ أَكْلُهُ رَكَاكَةٌ جِدًّا؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ وَسِعَهُ أَكْلُهُ جَوَابُ الْمَسْأَلَةِ فَهُوَ فِي قُوَّةِ أَنْ يُقَالَ يُقْبَلَ قَوْلُهُ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ ثَمَرَةُ قَبُولِ قَوْلِهِ فِي ذَلِكَ، فَلَوْ كَانَ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا بِقَوْلِهِ فِي الْحِلِّ فِي قَوْلِهِ وَسِعَهُ أَكْلُهُ يَصِيرُ مَعْنَى كَلَامِهِ لَمَّا قُبِلَ قَوْلُهُ فِي قَبُولِ قَوْلِهِ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ. وَلَا حَاصِلَ لَهُ بَلْ هُوَ مِنْ قَبِيلِ اللَّغْوِ مِنْ الْكَلَامِ.

وَالْحَقُّ عِنْدِي فِي شَرْحِ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ هُنَا أَنْ يُقَالَ: يَعْنِي أَنَّهُ لَمَّا قُبِلَ قَوْلُهُ فِي الْحِلِّ: أَيْ فِيمَا يَتَضَمَّنُ الْحِلَّ وَهُوَ قَوْلُهُ اشْتَرَيْته مِنْ يَهُودِيٍّ أَوْ نَصْرَانِيٍّ أَوْ مُسْلِمٍ فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ إثْبَاتَ حِلِّ أَكْلِ مَا اشْتَرَاهُ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ قَاطِبَةً أَوْلَى أَنْ يُقْبَلَ قَوْلُهُ فِي الْحُرْمَةِ: أَيْ فِيمَا يَتَضَمَّنُ الْحُرْمَةَ وَهُوَ قَوْلُهُ اشْتَرَيْته مِنْ غَيْرِ الْكِتَابِيِّ وَالْمُسْلِمِ فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ إثْبَاتَ حُرْمَةِ مَا اشْتَرَاهُ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ أَيْضًا تَبَصَّرْ (قَوْلُهُ لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ مَا إذَا أَخْبَرَتْ بِإِهْدَاءِ الْمَوْلَى غَيْرَهَا أَوْ نَفْسَهَا لِمَا قُلْنَا) قَالَ جُمْهُورُ الشُّرَّاحِ: قَوْلُهُ لِمَا قُلْنَا رَاجِعٌ إلَى قَوْلِهِ؛ لِأَنَّ الْهَدَايَا تُبْعَثُ عَادَةً عَلَى أَيْدِي هَؤُلَاءِ انْتَهَى.

أَقُولُ: لِمَانِعٍ أَنْ يَمْنَعَ أَنَّ نَفْسَ الْجَوَارِي وَالْعَبِيدِ تُبْعَثُ عَادَةً عَلَى أَيْدِي هَؤُلَاءِ، بِخِلَافِ إهْدَاءِ غَيْرِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ الْهَدَايَا فَإِنَّهَا تُبْعَثُ عَادَةً عَلَى أَيْدِيهِمْ بِلَا مَجَالِ النَّكِيرِ مِنْ أَحَدٍ. وَقَالَ صَاحِبُ الْغَايَةِ: قَوْلُهُ لِمَا قُلْنَا إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ فَلَوْ لَمْ يَقْبَلْ قَوْلَهُمْ يُؤَدِّي إلَى الْحَرَجِ، وَتَبِعَهُ الْعَيْنِيُّ. أَقُولُ: وَلِمَانِعٍ أَنْ يَمْنَعَ أَنَّ عَدَمَ قَبُولِ قَوْلِهِمْ فِي إهْدَاءِ مَوَالِيهِمْ أَنْفُسَهُمْ يُؤَدِّي إلَى الْحَرَجِ لِإِمْكَانِ إهْدَائِهِمْ عَلَى أَيْدِي غَيْرِهِمْ مِنْ سَائِرِ الْعَبِيدِ وَالْجَوَارِي أَوْ الصِّبْيَانِ وَعَدَمُ الْقُدْرَةِ عَلَى غَيْرِهِمْ أَصْلًا نَادِرٌ لَا يُعَدُّ مِثْلُهُ مُؤَدِّيًا إلَى الْحَرَجِ بِخِلَافِ إهْدَاءِ الْهَدَايَا مُطْلَقًا عَلَى أَيْدِي غَيْرِ جِنْسِ الْعَبِيدِ وَالْجَوَارِي وَالصِّبْيَانِ فَإِنَّ فِيهِ حَرَجًا بَيِّنًا سِيَّمَا فِي إهْدَاءِ الْأُمُورِ الْخَسِيسَةِ (قَوْلُهُ وَيَقْبَلُ فِي الْمُعَامَلَاتِ قَوْلَ الْفَاسِقِ وَلَا يَقْبَلُ فِي الدِّيَانَاتِ إلَّا قَوْلَ الْعَدْلِ) قَالَ فِي التَّلْوِيحِ: قِيلَ ذَكَرَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ فِي مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ أَنَّ إخْبَارَ الْمُمَيِّزِ الْغَيْرِ الْعَدْلِ يُقْبَلُ فِي مِثْلِ الْوَكَالَةِ وَالْهَدَايَا

ص: 9

كَافِرًا أَوْ مُسْلِمًا عَبْدًا أَوْ حُرًّا ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى دَفْعًا لِلْحَرَجِ. أَمَّا الدِّيَانَاتُ فَلَا يَكْثُرُ وُقُوعُهَا حَسَبِ وُقُوعِ الْمُعَامَلَاتِ فَجَازَ أَنْ يَشْتَرِطَ فِيهَا زِيَادَةَ شَرْطٍ، فَلَا يُقْبَلُ فِيهَا إلَّا قَوْلُ الْمُسْلِمِ الْعَدْلِ؛ لِأَنَّ الْفَاسِقَ مُتَّهَمٌ وَالْكَافِرَ لَا يَلْتَزِمُ الْحُكْمَ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُلْزِمَ الْمُسْلِمَ، بِخِلَافِ الْمُعَامَلَاتِ؛ لِأَنَّ الْكَافِرَ لَا يُمْكِنُهُ الْمَقَامُ فِي دِيَارِنَا إلَّا بِالْمُعَامَلَةِ. وَلَا يَتَهَيَّأُ لَهُ الْمُعَامَلَةُ إلَّا بَعْدَ قَبُولِ قَوْلِهِ فِيهَا فَكَانَ فِيهِ ضَرُورَةً، وَلَا يُقْبَلُ فِيهَا قَوْلُ الْمَسْتُورِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ.

وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِيهَا جَرْيًا عَلَى مَذْهَبِهِ أَنَّهُ يَجُوزُ الْقَضَاءُ بِهِ، وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ هُوَ وَالْفَاسِقُ فِيهِ سَوَاءٌ حَتَّى يُعْتَبَرَ فِيهِمَا أَكْبَرُ الرَّأْيِ.

مِنْ غَيْرِ انْضِمَامِ التَّحَرِّي، وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ التَّحَرِّي وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي كَلَامِ الْإِمَامِ السَّرَخْسِيِّ. وَمُحَمَّدٌ رحمه الله ذَكَرَ الْقَيْدَ فِي كِتَابِ الِاسْتِحْسَانِ وَلَمْ يَذْكُرْهُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، فَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَذْكُورُ فِي كِتَابِ الِاسْتِحْسَانِ تَفْسِيرًا لِهَذَا فَيُشْتَرَطُ، وَيَجُوزُ أَنْ يُشْتَرَطَ اسْتِحْسَانًا وَلَا يُشْتَرَطُ رُخْصَةً، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ انْتَهَى.

أَقُولُ: يُشْكِلُ عَلَى التَّوْجِيهِ الْأَوَّلِ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُعَامَلَاتِ وَالدِّيَانَاتِ لِأَنَّ قَوْلَ الْفَاسِقِ يُقْبَلُ فِي الدِّيَانَاتِ أَيْضًا بِشَرْطِ التَّحَرِّي كَمَا سَيَأْتِي التَّصْرِيحُ بِهِ فِي الْكِتَابِ، وَكَذَا يَشْكُلُ ذَلِكَ عَلَى التَّوْجِيهِ الثَّالِثِ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَهِيَ رِوَايَةُ الِاشْتِرَاطِ، فَالظَّاهِرُ الْمُنَاسِبُ عِنْدِي هُوَ التَّوْجِيهُ الثَّانِي.

فَإِنَّ الْفَرْقَ الْمَذْكُورَ يَسْتَقِيمُ حِينَئِذٍ، إذْ لَا رُخْصَةَ لِقَبُولِ قَوْلِ الْفَاسِقِ فِي الدِّيَانَاتِ بِدُونِ التَّحَرِّي (قَوْلُهُ وَلَا يُقْبَلُ فِيهَا قَوْلُ الْمَسْتُورِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّهُ يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِيهَا جَرْيًا عَلَى مَذْهَبِهِ أَنَّهُ يَجُوزُ الْقَضَاءُ بِهِ) قَالَ الشُّرَّاحُ: وَظَاهِرُ الرِّوَايَةِ أَصَحُّ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ أَحَدِ شَطْرَيْ الشَّهَادَةِ لِيَكُونَ الْخَبَرُ مُلْزِمًا، وَقَدْ سَقَطَ اعْتِبَارُ الْعَدَدِ فَبَقِيَ اعْتِبَارُ الْعَدَالَةِ انْتَهَى.

أَقُولُ: فِيهِ بَحْثٌ لِأَنَّ أَصْلَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الشَّهَادَةِ أَنْ يَقْتَصِرَ الْحَاكِمُ عَلَى ظَاهِرِ الْعَدَالَةِ إذَا لَمْ يَطْعَنْ الْخَصْمُ فِيمَا عَدَا الْحُدُودَ وَالْقِصَاصَ كَمَا تَقَرَّرَ فِي كِتَابِ الشَّهَادَاتِ، فَكَانَ أَحَدُ شَطْرَيْ الشَّهَادَةِ عِنْدَهُ ظَاهِرَ الْعَدَالَةِ دُونَ حَقِيقَتِهَا، وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْمَسْتُورَ ظَاهِرُ الْعَدَالَةِ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «الْمُسْلِمُونَ عُدُولٌ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، إلَّا مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ» فَفِي غَيْرِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَيْضًا لَمْ يَلْزَمْ عَدَمُ اعْتِبَارِ أَحَدِ شَطْرَيْ الشَّهَادَةِ فَلَمْ يَدُلَّ مَا ذَكَرُوهُ عَلَى أَصَحِّيَّةِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: لَيْسَ مَقْصُودُهُمْ بَيَانَ أَصَحِّيَّةِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الشَّهَادَةِ بَلْ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ فَسَادُ الزَّمَانِ مِنْ عَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِرِوَايَةِ الْمَسْتُورِ مَا لَمْ تَتَبَيَّنْ عَدَالَتُهُ، كَمَا لَمْ تُعْتَبَرْ شَهَادَتُهُ فِي الْقَضَاءِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ مَا لَمْ يُظْهِرُ عَدَالَتَهُ. وَعَنْ هَذَا قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي كِتَابِ الشَّهَادَاتِ: وَالْفَتْوَى عَلَى قَوْلِهِمَا فِي هَذَا الزَّمَانِ. وَيُؤَيِّدُ هَذَا التَّوْجِيهَ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ نَقْلًا عَنْ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ حَيْثُ قَالَ: قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ فِي أُصُولِهِ: وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْعَدْلِ فِي رِوَايَةِ الْأَخْبَارِ لِثُبُوتِ الْعَدَالَةِ ظَاهِرًا بِالْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَعَنْ عُمَرَ رضي الله عنها " الْمُسْلِمُونَ عُدُولٌ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ " وَلِهَذَا جَوَّزَ أَبُو حَنِيفَةَ الْقَضَاءَ بِشَهَادَةِ الْمَسْتُورِ فِيمَا يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ إذَا لَمْ يَطْعَنْ الْخَصْمُ، وَلَكِنْ مَا ذَكَرَهُ فِي الِاسْتِحْسَانِ أَصَحُّ فِي زَمَانِنَا، فَإِنَّ الْفِسْقَ غَالِبٌ فِي أَهْلِ هَذَا الزَّمَانِ فَلَا يَعْتَمِدُ عَلَى رِوَايَةِ الْمَسْتُورِ مَا لَمْ تَتَبَيَّنْ عَدَالَتُهُ، كَمَا لَا تُعْتَبَرُ شَهَادَتُهُ فِي الْقَضَاءِ قَبْلَ أَنْ تَظْهَرَ عَدَالَتُهُ انْتَهَى.

وَبِمَا ذَكَرْنَا تَبَيَّنَ اخْتِلَالُ تَحْرِيرِ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي هَذَا الْمَقَامِ حَيْثُ قَالَ فِي شَرْحِ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْمَسْتُورِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ: أَيْ وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي الدِّيَانَاتِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله. ثُمَّ قَالَ: وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ أَحَدِ شَطْرَيْ الشَّهَادَةِ لِيَكُونَ الْخَبَرُ مُلْزِمًا، وَقَدْ سَقَطَ اعْتِبَارُ الْعَدَدِ فَبَقِيَ اعْتِبَارُ الْعَدَالَةِ انْتَهَى. فَإِنَّهُ جَعَلَ مَا ذَكَرُوهُ وَجْهًا لِأَصَحِّيَّةِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَجْهًا لِنَفْسِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، فَيُرَدُّ عَلَيْهِ قَطْعًا أَنَّ حَقِيقَةَ الْعَدَالَةِ لَيْسَتْ بِأَحَدِ شَطْرَيْ الشَّهَادَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، بَلْ يَكْفِي ظَاهِرُ الْعَدَالَةِ عِنْدَهُ فِي قَبُولِ الشَّهَادَةِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ ظَاهِرَ الْعَدَالَةِ مُتَحَقِّقٌ فِي الْمَسْتُورِ فَمَا مَعْنَى اعْتِبَارِ حَقِيقَةِ الْعَدَالَةِ فِي قَبُولِ قَوْلِهِ فِي الدِّيَانَاتِ فِي ظَاهِرِ

ص: 10

قَالَ (وَيُقْبَلُ فِيهَا قَوْلُ الْعَبْدِ وَالْحُرِّ وَالْأَمَةِ إذَا كَانُوا عُدُولًا)؛ لِأَنَّ عِنْدَ الْعَدَالَةِ الصِّدْقُ رَاجِحٌ وَالْقَبُولُ لِرُجْحَانِهِ. فَمِنْ الْمُعَامَلَاتِ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَمِنْهَا التَّوْكِيلُ. وَمِنْ الدِّيَانَاتِ الْإِخْبَارُ بِنَجَاسَةِ الْمَاءِ حَتَّى إذَا أَخْبَرَهُ مُسْلِمٌ مَرْضِيٌّ لَمْ يَتَوَضَّأْ بِهِ وَيَتَيَمَّمُ، وَلَوْ كَانَ الْمُخْبِرُ فَاسِقًا أَوْ مَسْتُورًا تَحَرَّى، فَإِنْ كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ صَادِقٌ يَتَيَمَّمُ وَلَا يَتَوَضَّأُ بِهِ، وَإِنْ أَرَاقَ الْمَاءَ ثُمَّ تَيَمَّمَ كَانَ أَحْوَطَ، وَمَعَ الْعَدَالَةِ يَسْقُطُ احْتِمَالُ الْكَذِبِ فَلَا مَعْنَى لِلِاحْتِيَاطِ بِالْإِرَاقَةِ، أَمَّا التَّحَرِّي فَمُجَرَّدُ ظَنٍّ.

وَلَوْ كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ كَاذِبٌ يَتَوَضَّأُ بِهِ وَلَا يَتَيَمَّمُ لِتَرَجُّحِ جَانِبِ الْكَذِبِ بِالتَّحَرِّي، وَهَذَا جَوَابُ الْحُكْمِ. فَأَمَّا فِي الِاحْتِيَاطِ فَيَتَيَمَّمُ بَعْدَ الْوُضُوءِ لِمَا قُلْنَا. وَمِنْهَا الْحِلُّ وَالْحُرْمَةُ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ زَوَالُ الْمِلْكِ، وَفِيهَا تَفَاصِيلُ وَتَفْرِيعَاتٌ ذَكَرْنَاهَا فِي كِفَايَةِ الْمُنْتَهَى.

الرِّوَايَةِ عَنْهُ فَتَدَبَّرْ

(قَوْلُهُ وَيُقْبَلُ فِيهَا قَوْلُ الْعَبْدِ وَالْحُرِّ وَالْأَمَةِ إذَا كَانُوا عُدُولًا) أَقُولُ: لَا يَخْفَى عَلَى ذِي فِطْرَةٍ سَلِيمَةٍ أَنَّ ذِكْرَ الْحُرِّ هَاهُنَا خَالٍ عَنْ الْفَائِدَةِ، إذْ لَا يُشْتَبَهُ عَلَى أَحَدٍ قَبُولُ قَوْلِ الْحُرِّ فِي كُلِّ أَمْرٍ خَطِيرٍ إذَا كَانَ عَدْلًا، بِخِلَافِ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ، وَلَعَلَّ صَاحِبَ الْكَافِي ذَاقَ بَشَاعَةَ ذِكْرِ الْحُرِّ هَاهُنَا فَقَالَ: وَيُقْبَلُ فِيهَا قَوْلُ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ إذَا كَانَا عَدْلَيْنِ بِدُونِ ذِكْرِ الْحُرِّ. قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ: وَقَوْلُهُ وَيُقْبَلُ فِيهَا: أَيْ فِي الدِّيَانَاتِ قَوْلُ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ وَالْأَمَةِ لِأَنَّ خَبَرَ هَؤُلَاءِ فِي أُمُورِ الدِّينِ كَخَبَرِ الْحُرِّ إذَا كَانُوا عُدُولًا كَمَا فِي رِوَايَةِ الْأَخْبَارِ انْتَهَى.

أَقُولُ: قَدْ زَادَ هَذَا الشَّارِحُ فِي الطُّنْبُورِ نَغَمَةً حَيْثُ أَتَى بِمَحْذُورٍ آخَرَ فِي كَلَامِ نَفْسِهِ فَإِنَّهُ قَالَ: لِأَنَّ خَبَرَ هَؤُلَاءِ فِي أُمُورِ الدِّينِ كَخَبَرِ الْحُرِّ وَلَا شَكَّ أَنَّ كَلِمَةَ هَؤُلَاءِ مِنْ جُمُوعِ أَسْمَاءِ الْإِشَارَةِ فَتَكُونُ هَاهُنَا إشَارَةً إلَى الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورَةِ وَهِيَ الْعَبْدُ وَالْحُرُّ وَالْأَمَةُ، فَيَصِيرُ مَعْنَى كَلَامِ الشَّارِحِ الْمَذْكُورِ: لِأَنَّ خَبَرَ الْعَبْدِ وَالْحُرِّ وَالْأَمَةِ فِي أُمُورِ الدِّينِ كَخَبَرِ الْحُرِّ إذَا كَانُوا عُدُولًا فَيَدْخُلُ الْمُشَبَّهُ بِهِ فِي الْمُشَبَّهِ وَلَا يَخْفَى فَسَادُهُ. وَقَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: وَيُقْبَلُ فِيهَا: أَيْ فِي الدَّيَّانَاتِ قَوْلُ الْعَبْدِ وَالْحُرِّ وَالْأَمَةِ؛ لِأَنَّ فِي أُمُورِ الدِّينِ خَبَرَ الْعَبْدِ كَخَبَرِ الْحُرِّ كَمَا فِي رِوَايَةِ الْإِخْبَارِ، وَتَبِعَهُ صَاحِبُ مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ كَمَا هُوَ دَأْبُهُ فِي أَكْثَرِ الْمَوَاضِعِ. أَقُولُ فِي كَلَامِهِمَا أَيْضًا نَوْعٌ مَحْذُورٌ، لِأَنَّهُمَا جَعَلَا الْحُرَّ مَقِيسًا عَلَيْهِ أَوْ مُشَبَّهًا بِهِ، وَهُوَ دَاخِلٌ أَيْضًا فِي الْمُدَّعَى هَاهُنَا فَكَانَ يَلْزَمُ إثْبَاتُهُ أَيْضًا هُنَا، فَكَيْفَ يَتِمُّ أَنْ يَجْعَلَ مَقِيسًا عَلَيْهِ أَوْ مُشَبَّهًا بِهِ لِأَحَدِ قَرِينَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَتَبَيَّنَ حَالَ نَفْسِهِ، فَالتَّعْلِيلُ التَّامُّ الشَّامِلُ لِلْكُلِّ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ؛ لِأَنَّ عِنْدَ الْعَدَالَةِ الصِّدْقُ رَاجِحٌ وَالْقَبُولُ لِرُجْحَانِهِ (قَوْلُهُ وَإِنْ أَرَاقَ الْمَاءَ ثُمَّ تَيَمَّمَ كَانَ أَحْوَطَ) أَقُولُ: هَذَا مُشْكِلٌ عِنْدِي؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ صَادِقٌ كَانَ نَجَاسَةُ الْمَاءِ رَاجِحَةً عِنْدَهُ، فَإِذَا أَرَاقَ هَذَا الْمَاءَ عَلَى أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ كَانَ الرَّاجِحُ أَنْ تَتَنَجَّسَ تِلْكَ الْأَعْضَاءُ، وَإِذَا تَنَجَّسَتْ أَعْضَاؤُهُ لَمْ تَجُزْ صَلَاتُهُ مَا لَمْ تَطْهُرْ.

وَالْمَفْرُوضُ انْتِفَاءُ مَاءٍ آخَرَ مُطَهَّرٍ، وَإِلَّا لَمْ يَجُزْ التَّيَمُّمُ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الِاحْتِيَاطُ إذْ ذَاكَ فِي تَرْكِ الْإِرَاقَةِ لِتَأَدِّيهَا إلَى مَحْذُورٍ شَدِيدٍ، بِخِلَافِ الِاحْتِيَاطِ بِالتَّيَمُّمِ بَعْدَ الْوُضُوءِ فِيمَا إذَا كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ كَاذِبٌ كَمَا سَيَأْتِي مِنْ بَعْدُ، فَإِنَّ التَّيَمُّمَ هُنَاكَ بِشَيْءٍ طَاهِرٍ فَلَا يَلْزَمُ مَحْذُورٌ أَصْلًا فَلْيُتَأَمَّلْ (قَوْلُهُ وَمَعَ الْعَدَالَةِ يَسْقُطُ احْتِمَالُ الْكَذِبِ فَلَا مَعْنَى لِلِاحْتِيَاطِ بِالْإِرَاقَةِ) أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَا نُسَلِّمُ

ص: 11

قَالَ (وَمَنْ دُعِيَ إلَى وَلِيمَةٍ أَوْ طَعَامٍ فَوَجَدَ ثَمَّةَ لَعِبًا أَوْ غِنَاءً فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَقْعُدَ وَيَأْكُلَ) قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله: اُبْتُلِيت بِهَذَا مَرَّةً فَصَبَرْت. وَهَذَا لِأَنَّ إجَابَةَ الدَّعْوَةِ سُنَّةٌ. قَالَ عليه الصلاة والسلام «مَنْ لَمْ يُجِبْ الدَّعْوَةَ فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ» فَلَا يَتْرُكُهَا لِمَا اقْتَرَنَ بِهَا مِنْ الْبِدْعَةِ مِنْ غَيْرِهِ، كَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَاجِبَةُ الْإِقَامَةِ وَإِنْ حَضَرَتْهَا نِيَاحَةٌ، فَإِنْ قَدَرَ عَلَى الْمَنْعِ مَنَعَهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ يَصْبِرْ، وَهَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ مُقْتَدًى بِهِ، فَإِنْ كَانَ مُقْتَدًى وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى مَنْعِهِمْ يَخْرُجُ وَلَا يَقْعُدُ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ شِينُ الدِّينِ وَفَتْحُ بَابِ الْمَعْصِيَةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَالْمَحْكِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله فِي الْكِتَابِ كَانَ قَبْلَ أَنْ يَصِيرَ مُقْتَدًى بِهِ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ عَلَى الْمَائِدَةِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَقْعُدَ،

سُقُوطَ احْتِمَالِ الْكَذِبِ مَعَ مُجَرَّدِ الْعَدَالَةِ بِدُونِ أَنْ يَصِلَ حَدُّ التَّوَاتُرِ. كَيْفَ وَقَدْ صَرَّحُوا فِي عِلْمِ الْأُصُولِ بِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ وَإِنْ كَانَ صَحَابِيًّا لَا يُوجِبُ الْيَقِينَ، بَلْ احْتِمَالُ الْكَذِبِ قَائِمٌ، وَإِنْ كَانَ مَرْجُوحًا، وَإِلَّا لَزِمَ الْقَطْعُ بِالنَّقِيضَيْنِ عِنْدَ إخْبَارِ الْعَدْلَيْنِ بِهِمَا وَلِهَذَا قَالُوا إنَّهُ لَا يُفِيدُ إلَّا غَلَبَةَ الظَّنِّ دُونَ الْيَقِينِ، وَيُوَافِقُ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ فِيمَا مَرَّ؛ لِأَنَّ عِنْدَ الْعَدَالَةِ الصِّدْقُ رَاجِحٌ وَالْقَبُولُ لِرُجْحَانِهِ وَالْجَوَابُ أَنَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ بِاحْتِمَالِ الْكَذِبِ فِي قَوْلِهِ وَمَعَ الْعَدَالَةِ يَسْقُطُ احْتِمَالُ الْكَذِبِ هُوَ الِاحْتِمَالُ الظَّاهِرُ الَّذِي يُعْتَدُّ بِهِ شَرْعًا دُونَ مُطْلَقِ الِاحْتِمَالِ، وَعَنْ هَذَا قَالَ صَاحِبُ الْكَافِي: وَمَعَ الْعَدَالَةِ سَقَطَ احْتِمَالُ الْكَذِبِ شَرْعًا؛ لِأَنَّهَا عِبَارَةٌ عَنْ الِانْزِجَارِ عَنْ الْمَعَاصِي وَالْكَذِبِ مِنْهَا فَكَانَ مُنْزَجِرًا عَنْهُ انْتَهَى. فَإِنْ قُلْت: إذَا بَقِيَ احْتِمَالُ مَا لِلْكَذِبِ فِي الْعَدَالَةِ فَمَا مَعْنَى لِلِاحْتِيَاطِ بِالْإِرَاقَةِ. قُلْت: مُرَادُهُ أَنَّهُ لَا مَعْنَى لِلِاحْتِيَاطِ بِالْإِرَاقَةِ فِي صُورَةِ الْعَدَالَةِ احْتِيَاطًا بِهَا مِثْلَ الِاحْتِيَاطِ بِهَا فِي صُورَةِ التَّحَرِّي فِي خَبَرِ الْفَاسِقِ أَوْ الْمَسْتُورِ. فَإِنْ قُلْت: إذَا كَانَ مُفَادُ خَبَرِ الْعُدُولِ هُوَ الظَّنُّ دُونَ الْيَقِينِ فَمَا مَعْنَى قَوْلِ الْمُصَنِّفِ فِي مُقَابَلَةِ ذَلِكَ، وَأَمَّا التَّحَرِّي فَمُجَرَّدُ ظَنٍّ؟ قُلْت: مَعْنَاهُ أَنَّهُ مُجَرَّدُ تَخْمِينٍ وَظَنٍّ لَا غَلَبَةِ ظَنٍّ، بِخِلَافِ عَدَالَةِ الْمُخْبِرِ فَإِنَّ الْحَاصِلَ هُنَاكَ غَلَبَةُ الظَّنِّ، وَهِيَ أَقْوَى مِنْ الْأَوَّلِ فَافْتَرَقَا

(قَوْلُهُ وَهَذَا لِأَنَّ إجَابَةَ الدَّعْوَى سُنَّةٌ. قَالَ عليه الصلاة والسلام «مَنْ لَمْ يُجِبْ الدَّعْوَةَ فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ» فَلَا يَتْرُكُهَا لِمَا اقْتَرَنَ بِهَا مِنْ الْبِدْعَةِ مِنْ غَيْرِهِ، كَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَاجِبَةُ الْإِقَامَةِ، وَإِنْ حَضَرَتْهَا نِيَاحَةٌ) قِيلَ عَلَيْهِ أَنَّهُ قِيَاسُ السُّنَّةِ عَلَى الْفَرْضِ وَهُوَ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ، فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ تَحَمُّلِ الْمَحْذُورِ لِإِقَامَةِ الْفَرْضِ تَحَمُّلُهُ لِإِقَامَةِ السُّنَّةِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّهَا سُنَّةٌ فِي قُوَّةِ الْوَاجِبِ لِوُرُودِ الْوَعِيدِ عَلَى تَارِكِهَا، قَالَ صلى الله عليه وسلم «مَنْ لَمْ يُجِبْ الدَّعْوَةَ فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ» كَذَا فِي الْعِنَايَةِ وَعَامَّةِ الشُّرُوحِ. أَقُولُ: الْجَوَابُ مَنْظُورٌ فِيهِ، لِأَنَّهُمْ إنْ أَرَادُوا بِقَوْلِهِمْ إنَّهَا سُنَّةٌ فِي قُوَّةِ الْوَاجِبِ أَنَّهَا مِثْلُ الْوَاجِبِ فِي الْأَحْكَامِ كَمَا يُفْصِحُ عَنْهُ قَوْلُ صَاحِبَيْ النِّهَايَةِ وَالْكِفَايَةِ فَيَثْبُتُ الْحُكْمُ فِيهَا عَلَى وِفَاقِ مَا يَثْبُتُ فِي الْوَاجِبِ، فَهُوَ مُشْكِلٌ عَلَى قَوَاعِدِ عِلْمِ الْأُصُولِ، إذْ قَدْ تَقَرَّرَ فِيهِ كَوْنُ السُّنَّةِ قَسِيمًا لِلْوَاجِبِ وَمُغَايِرَةً لَهُ فِي الْأَحْكَامِ حَيْثُ صَرَّحُوا فِيهِ بِأَنَّ الْوَاجِبَ مِمَّا كَانَ فِعْلُهُ أَوْلَى مِنْ تَرْكِهِ مَعَ مَنْعِ تَرْكِهِ، وَالسُّنَّةَ مِمَّا كَانَ

ص: 12

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

فِعْلُهُ أَوْلَى مِنْ تَرْكِهِ بِلَا مَنْعِ تَرْكِهِ، وَأَنَّ تَارِكَ الْوَاجِبِ يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ بِالنَّارِ وَتَارِكَ السُّنَّةِ لَا يَسْتَحِقُّهَا بَلْ يَسْتَحِقُّ حِرْمَانَ الشَّفَاعَةِ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ الِاشْتِرَاكُ فِي الْأَحْكَامِ، وَإِنْ أَرَادُوا بِقَوْلِهِمْ إنَّهَا سُنَّةٌ فِي قُوَّةِ الْوَاجِبِ مُجَرَّدَ بَيَانِ تَأَكُّدِ سُنِّيَّتِهَا فَهُوَ لَا يُجْدِي نَفْعًا فِي دَفْعِ السُّؤَالِ. إذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ تَحَمُّلِ الْمَحْذُورِ لِإِقَامَةِ الْوَاجِبِ تَحَمُّلُهُ لِإِقَامَةِ السُّنَّةِ، وَإِنْ كَانَتْ مُؤَكَّدَةً تَأَكُّدًا تَامًّا لِظُهُورِ التَّفَاوُتِ بَيْنَهُمَا فِي الْحَقِيقَةِ وَالْأَحْكَامِ فَلَا يَتِمُّ الْقِيَاسُ عَلَى أَنَّ صَلَاةَ الْجِنَازَةِ فَرْضٌ لَا وَاجِبٌ مَحْضٌ، فَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ إجَابَةُ الدَّعْوَةِ فِي حُكْمِ الْوَاجِبِ بَلْ نَفْسُ الْوَاجِبِ لَا يَنْدَفِعُ السُّؤَالُ أَيْضًا، إذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ تَحَمُّلِ الْمَحْذُورِ لِإِقَامَةِ الْفَرْضِ تَحَمُّلُهُ لِإِقَامَةِ الْوَاجِبِ لِثُبُوتِ الْفَرْضِ بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ دُونَ الْوَاجِبِ، وَلِهَذَا يَكْفُرُ جَاحِدُ الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي فَلَا وَجْهَ لِلْقِيَاسِ. وَأَجَابَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ عَنْ السُّؤَالِ الْمَذْكُورِ بِوَجْهٍ آخَرَ حَيْثُ قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ وَجْهُ التَّشْبِيهِ اقْتِرَانُ الْعِبَادَةِ بِالْبِدْعَةِ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ صِفَةِ تِلْكَ الْعِبَادَةِ اهـ.

أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ تَشْبِيهَ إجَابَةِ الدَّعْوَى بِصَلَاةِ الْجِنَازَةِ فِي مُجَرَّدِ الِاقْتِرَانِ بِالْبِدْعَةِ مَعَ ظُهُورِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا فِي الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ لَا يُفِيدُ شَيْئًا فِقْهِيًّا، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ كَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَاجِبَةَ الْإِقَامَةِ وَإِنْ حَضَرَتْهَا نِيَاحَةٌ كَلَامًا زَائِدًا خَارِجًا عَنْ صَنْعَةِ الْفِقْهِ وَحَاشَى لَهُ.

ثُمَّ أَقُولُ: يُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْ ذَلِكَ السُّؤَالِ بِوَجْهٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ إجَابَةَ الدَّعْوَةِ وَإِنْ كَانَتْ سُنَّةً عِنْدَنَا ابْتِدَاءً إلَّا أَنَّهَا تَنْقَلِبُ إلَى الْوَاجِبِ بَقَاءً: أَيْ بَعْدَ الْحُضُورِ إلَى مَحَلٍّ حَيْثُ يَلْزَمُهُ حَقُّ الدَّعْوَةِ بِالْتِزَامِهِ إجَابَتَهَا كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ فِيمَا بَعْدُ، فَيَصِيرُ هَذَا نَظِيرَ الصَّلَاةِ النَّافِلَةِ فَإِنَّهَا تَنْقَلِبُ إلَى الْوَاجِبِ بَلْ إلَى الْفَرْضِ بِالْتِزَامِ إقَامَتِهَا بِالشُّرُوعِ فِيهَا كَمَا تَقَرَّرَ فِي مَحَلِّهِ، وَلِذَلِكَ لَوْ عَلِمَ الْمَدْعُوُّ الْبِدْعَةَ قَبْلَ الْحُضُورِ لَزِمَهُ تَرْكُ إجَابَةِ الدَّعْوَةِ كَمَا سَيَجِيءُ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ كَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَاجِبَةَ الْإِقَامَةِ وَإِنْ حَضَرَتْهَا نِيَاحَةٌ قِيَاسُ الْوَاجِبِ عَلَى الْوَاجِبِ فِي الْمَآلِ فَيَنْدَفِعُ الْإِشْكَالُ. ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ الْإِصْلَاحِ وَالْإِيضَاحِ رَدَّ الدَّلِيلَ الْمَذْكُورَ فِي الْكِتَابِ حَيْثُ قَالَ لَا؛ لِأَنَّ إجَابَةَ الدَّعْوَةِ سُنَّةٌ فَلَا تُتْرَكُ بِسَبَبِ بِدْعَةٍ كَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ يَحْضُرُهَا النِّيَاحَةُ؛ لِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ مُطْلَقَ الدَّعْوَةِ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ إجَابَتَهَا سُنَّةٌ، وَإِنْ أَرَادَ الدَّعْوَةَ عَلَى وَجْهِ السُّنَّةِ فَلَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ، بَلْ لِأَنَّ حَقَّ الدَّعْوَةِ يَلْزَمُهُ بَعْدَ الْحُضُورِ لَا قَبْلَهُ، إلَى هَاهُنَا كَلَامُهُ. وَقَصَدَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ الْجَوَابَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: ثُمَّ الْمُرَادُ بِالْإِجَابَةِ الْمَسْنُونَةِ فِي قَوْلِهِ؛ لِأَنَّ إجَابَةَ الدَّعْوَةِ سُنَّةٌ مَا يَعْلَمُ الْإِجَابَةَ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً وَالْإِجَابَةُ انْتِهَاءً فَقَطْ حَتَّى يَتِمَّ تَقْرِيبُ الدَّلِيلِ؛ لِأَنَّ فَرْضَ الْمَسْأَلَةِ فِي دَعْوَةٍ اقْتَرَنَتْ بِلَهْوٍ، وَفِيهَا لَا تُسَنُّ الْإِجَابَةُ ابْتِدَاءً كَمَا سَيَجِيءُ، فَإِذَا عَرَفَ الْمَدْعُوُّ ذَلِكَ قَبْلَ الْإِجَابَةِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِجَابَةُ أَصْلًا.

وَأَمَّا إذَا هَجَمَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَعْرِفْهُ كَمَا هُوَ الْمَفْرُوضُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فَوَجَدَ ثَمَّةَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْجُلُوسُ وَالصَّبْرُ وَالْأَكْلُ، وَهَذَا إجَابَةُ انْتِهَاءٍ، فَبِهَذَا يَنْطَبِقُ الدَّلِيلُ عَلَى الْمُدَّعِي فَلَا يَرُدُّ عَلَيْهِ مَا قِيلَ إنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: لِأَنَّ إجَابَةَ الدَّعْوَةِ سُنَّةٌ أَنَّ إجَابَةَ مُطْلَقِ الدَّعْوَةِ سُنَّةٌ فَلَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ لِمَا سَيَجِيءُ أَنَّ الدَّعْوَةَ إذَا قَارَنَتْ شَيْئًا مِنْ اللَّهْوِ لَمْ يَلْزَمْهُ حَقُّ الدَّعْوَةِ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ إجَابَةَ الدَّعْوَةِ عَلَى وَجْهِ السُّنَّةِ كَذَلِكَ فَلَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ. وَوَجْهُ الِانْدِفَاعِ ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَلْزَمْهُ حَقُّ الدَّعْوَةِ ابْتِدَاءً لَكِنْ يَلْزَمُهُ انْتِهَاءً إذَا هَجَمَ فَتَأَمَّلْ إلَى هُنَا كَلَامُ ذَلِكَ الْبَعْضِ.

أَقُولُ: لَا يَذْهَبُ عَلَى ذِي فَطَانَةٍ أَنَّ هَذَا كَلَامٌ خَالٍ عَنْ التَّحْصِيلِ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً. أَمَّا خُلُوُّهُ عَنْ التَّحْصِيلِ ابْتِدَاءً فَلِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِإِجَابَةِ الدَّعْوَةِ انْتِهَاءً فَقَطْ، إذْ لَا يُتَصَوَّرُ تَحَقُّقُ إجَابَةِ الدَّعْوَةِ انْتِهَاءً بِدُونِ تَحَقُّقِهَا ابْتِدَاءً؛ لِأَنَّ عَدَمَ تَحَقُّقِ إجَابَةِ الدَّعْوَةِ مِنْ الْمَدْعُوِّ ابْتِدَاءً إنَّمَا يُصَوَّرُ بِعَدَمِ مَجِيئِهِ إلَى مَحَلِّ الدَّعْوَةِ أَصْلًا لِأَجْلِ تِلْكَ الدَّعْوَةِ، فَإِذَنْ كَيْفَ يُتَصَوَّرُ مِنْهُ إجَابَةُ تِلْكَ الدَّعْوَةِ انْتِهَاءً؟ وَإِجَابَتُهَا انْتِهَاءً فَرْعُ مَجِيئِهِ إلَى مَحَلِّ الدَّعْوَةِ أَوَّلًا وَلَيْسَ فَلَيْسَتْ، وَإِنَّمَا الَّذِي يُتَصَوَّرُ وُقُوعُهُ عَكْسُ ذَلِكَ، وَهُوَ الْإِجَابَةُ ابْتِدَاءً فَقَطْ، كَمَا إذَا دُعِيَ إلَى وَلِيمَةٍ أَوْ غَيْرِهَا فَأَجَابَ وَذَهَبَ إلَى مَحَلِّ الدَّعْوَةِ فَوَجَدَ ثَمَّةَ لَعِبًا أَوْ غِنَاءً فَلَمْ يَقْعُدْ وَلَمْ يَأْكُلْ فَإِنَّهُ يُوجَدُ هُنَاكَ الْإِجَابَةُ ابْتِدَاءً لَا انْتِهَاءً كَمَا لَا يَخْفَى، وَصُورَتُهَا الشَّرْعِيَّةُ فِيمَا إذَا كَانَ الْمَدْعُوُّ مُقْتَدًى وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى مَنْعِهِمْ كَمَا سَيَجِيءُ فِي الْكِتَابِ وَالْعَجَبُ أَنَّ ذَلِكَ الْقَائِلَ ذَكَرَ الْإِجَابَةَ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً وَالْإِجَابَةَ انْتِهَاءً فَقَطْ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْإِجَابَةَ ابْتِدَاءً فَقَطْ، وَكَتَبَ تَحْتَ قَوْلِهِ وَالْإِجَابَةَ انْتِهَاءً فَقَطْ، أَمَّا عَكْسُهُ وَهُوَ الْقِسْمُ الثَّالِثُ هَاهُنَا فَلَا يُتَصَوَّرُ وُقُوعُهُ اهـ.

فَزَعَمَ مَا هُوَ مُتَصَوَّرُ

ص: 13

وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُقْتَدًى لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} وَهَذَا كُلُّهُ بَعْدَ الْحُضُورِ، وَلَوْ عَلِمَ قَبْلَ الْحُضُورِ لَا يَحْضُرُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَلْزَمْهُ حَقُّ الدَّعْوَةِ، بِخِلَافِ مَا إذَا هَجَمَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ لَزِمَهُ، وَدَلَّتْ الْمَسْأَلَةُ عَلَى أَنَّ الْمَلَاهِيَ كُلَّهَا حَرَامٌ حَتَّى التَّغَنِّي بِضَرْبِ الْقَضِيبِ.

الْوُقُوعِ غَيْرَ مُتَصَوَّرِ الْوُقُوعِ وَبِالْعَكْسِ، وَلَمْ يَدْرِ أَنَّ تَحَقُّقَ انْتِهَاءِ الشَّيْءِ فِي الْخَارِجِ يَسْتَلْزِمُ تَحَقُّقَ ابْتِدَائِهِ فِيهِ دُونَ الْعَكْسِ كَمَا لَا يَخْفَى. وَأَمَّا خُلُوُّ كَلَامِهِ عَنْ التَّحْصِيلِ انْتِهَاءً فَلِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ قَوْلِهِ وَوَجْهُ الِانْدِفَاعِ ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَلْزَمْهُ حَقُّ الدَّعْوَةِ ابْتِدَاءً لَكِنْ يَلْزَمُهُ انْتِهَاءً إذَا هَجَمَ أَنَّهُ اخْتَارَ كَوْنَ الْمُرَادِ أَنَّ إجَابَةَ مُطْلَقِ الدَّعْوَةِ سُنَّةٌ، لِأَنَّ عَدَمَ لُزُومِ حَقِّ الدَّعْوَةِ ابْتِدَاءً لَكِنْ يَلْزَمُهُ انْتِهَاءً كَانَ مِنْ مُتَفَرِّعَاتِ مَنْعِ ذَلِكَ، وَلَكِنْ مَا ذَكَرَهُ فِي وَجْهِ الِانْدِفَاعِ لَيْسَ بِسَدِيدٍ؛ لِأَنَّهُ إذَا عَلِمَ الْمَدْعُوُّ قَبْلَ الْحُضُورِ أَنَّ الدَّعْوَةَ قَارَنَتْ شَيْئًا مِنْ الْبِدْعَةِ لَمْ يَلْزَمْهُ الْإِجَابَةُ أَصْلًا كَمَا سَيَجِيءُ فِي الْكِتَابِ، وَذَكَرَهُ ذَلِكَ الْقَائِلُ أَيْضًا فِي أَثْنَاءِ كَلَامِهِ، وَيَكْفِي لِسَنَدِ مَنْعٍ أَنَّ إجَابَةَ مُطْلَقِ الدَّعْوَةِ سُنَّةٌ هَذِهِ الصُّورَةُ فَقَطْ، فَلَا وَجْهَ لِقَوْلِهِ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَلْزَمْهُ حَقُّ الدَّعْوَةِ ابْتِدَاءً لَكِنْ يَلْزَمُهُ انْتِهَاءً إذَا هَجَمَ؛ لِأَنَّ لُزُومَ حَقِّ الدَّعْوَةِ لِلْمَدْعُوِّ انْتِهَاءً إذَا هَجَمَ عَلَيْهِ إنَّمَا يَكُونُ بِأَنْ عَلِمَ ذَلِكَ بَعْدَ الْحُضُورِ، وَهُوَ صُورَةٌ أُخْرَى غَيْرُ الصُّورَةِ الْأُولَى الَّتِي هِيَ السَّنَدُ لِلْمَنْعِ الْمَذْكُورِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ حَقُّ الدَّعْوَةِ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى لَا ابْتِدَاءً وَلَا انْتِهَاءً، فَكَيْفَ يَكُونُ مَا ذَكَرَهُ وَجْهًا لِلِانْدِفَاعِ.

وَالصَّوَابُ فِي الْجَوَابِ عَمَّا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْإِصْلَاحِ وَالْإِيضَاحِ اخْتِيَارُ الشِّقِّ الثَّانِي مِنْ تَرْدِيدِهِ، وَهُوَ كَوْنُ الْمُرَادِ أَنَّ إجَابَةَ الدَّعْوَةِ عَلَى وَجْهِ السُّنِّيَّةِ فَتَكُونُ الْإِجَابَةُ سُنَّةً وَبَيَانُ تَمَامِ تَقْرِيبِ الدَّلِيلِ بِأَنَّ الدَّعْوَةَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ إنْ دُعِيَ إلَى وَلِيمَةٍ أَوْ طَعَامٍ وَلَمْ يَكُنْ ثَمَّةَ شَيْءٍ مِنْ الْبِدَعِ أَصْلًا.

وَالثَّانِي إنْ دُعِيَ إلَى ذَلِكَ وَيَذْكُرُ حِينَ الدَّعْوَةِ أَنَّ ثَمَّةَ شَيْئًا مِنْ الْبِدَعِ وَلَمْ يَعْلَمْهُ الْمَدْعُوُّ قَبْلَ الْحُضُورِ وَلَكِنْ هَجَمَ عَلَيْهِ،

وَالثَّالِثِ إنْ دُعِيَ إلَى ذَلِكَ وَذَكَرَ أَنَّ ثَمَّةَ شَيْئًا مِنْ الْبِدَعِ فَعَلِمَهُ الْمَدْعُوُّ قَبْلَ الْحُضُورِ. فَفِي الْوَجْهَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ كَانَتْ الدَّعْوَةُ عَلَى وَجْهِ السُّنَّةِ فَتَكُونُ الْإِجَابَةُ سُنَّةً. وَفِي الْوَجْهِ الثَّالِثِ لَمْ تَكُنْ الدَّعْوَةُ عَلَى وَجْهِ السُّنَّةِ فَلَا تَكُونُ الْإِجَابَةُ لَازِمَةً لِلْمَدْعُوِّ أَصْلًا، وَالْمَسْأَلَةُ الَّتِي نَحْنُ فِيهَا مِنْ الْوَجْهِ الثَّانِي مِنْ تِلْكَ الْأَوْجُهِ فَيَتَمَشَّى فِيهَا الدَّلِيلُ الْمَذْكُورُ فَيَتِمُّ التَّقْرِيبُ تَأَمَّلْ تَقِفْ.

(قَوْلُهُ وَهَذَا كُلُّهُ بَعْدَ الْحُضُورِ وَلَوْ عَلِمَ قَبْلَ الْحُضُورِ لَا يَحْضُرُ) أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ يَعُمُّ مَا بَعْدَ الْحُضُورِ وَمَا قَبْلَهُ، إذْ قَدْ تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ أَنَّ الْمُعَرَّفَ بِاللَّامِ إذَا لَمْ تَكُنْ لِلْعَهْدِ الْخَارِجِيِّ فَهُوَ لِلِاسْتِغْرَاقِ، وَالدَّعْوَةُ فِي قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «مَنْ لَمْ يُجِبْ الدَّعْوَةَ فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ» مُعَرَّفَةٌ بِاللَّامِ، وَلَمْ يَظْهَرْ هُنَاكَ مَعْهُودٌ خَارِجِيٌّ فَهِيَ لِلِاسْتِغْرَاقِ فَتَعُمُّ كُلَّ دَعْوَةٍ، وَالْجَوَابُ أَنَّهُ إنْ كَانَ عَامًّا مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ فَهُوَ مَخْصُوصٌ بِالنُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى وُجُوبِ الِاجْتِنَابِ عَنْ اقْتِرَابِ تِلْكَ الْبِدَعِ بِلَا ضَرُورَةٍ تَوْفِيقًا بَيْنَ النُّصُوصِ مَهْمَا أَمْكَنَ، وَقَدْ دَعَتْ الضَّرُورَةُ إلَى الصَّبْرِ فِيمَا إذَا عَلِمَ بَعْدَ الْحُضُورِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ لَزِمَهُ حَقُّ الدَّعْوَةِ، بِخِلَافِ مَا إذَا عَلِمَ قَبْلَ الْحُضُورِ إذْ لَمْ يَلْزَمْهُ ذَلِكَ هُنَاكَ كَمَا بَيَّنَهُ الْمُصَنِّفُ هُنَاكَ فَافْتَرَقَا.

(قَوْلُهُ وَدَلَّتْ الْمَسْأَلَةُ عَلَى أَنَّ الْمَلَاهِيَ كُلَّهَا حَرَامٌ حَتَّى التَّغَنِّي بِضَرْبِ الْقَضِيبِ)؛ لِأَنَّ مُحَمَّدًا رحمه الله أَطْلَقَ اسْمَ اللَّعِبِ وَالْغِنَاءِ بِقَوْلِهِ فَوَجَدَ ثَمَّةَ اللَّعِبَ وَالْغِنَاءَ وَهُوَ اللَّهْوُ حَرَامٌ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ، وَهَذَا الْقَدْرُ مِنْ التَّعْلِيلِ كَافٍ فِي بَيَانِ دَلَالَةِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى أَنَّ الْمَلَاهِيَ كُلَّهَا حَرَامٌ هُوَ الصَّحِيحُ الْمُخْتَارُ عِنْدِي، وَقَدْ زَادَ جُمْهُورُ الشُّرَّاحِ عَلَى ذَلِكَ كَلَامًا آخَرَ حَيْثُ قَالُوا: فَاللَّعِبُ وَهُوَ اللَّهْوُ حَرَامٌ

ص: 14

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

بِالنَّصِّ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم «لَهْوُ الْمُؤْمِنِ بَاطِلٌ إلَّا فِي ثَلَاثٍ: تَأْدِيبِهِ فَرَسَهُ وَفِي رِوَايَةٍ مُلَاعَبَتِهِ بِفَرَسِهِ، وَرَمْيِهِ عَنْ قَوْسِهِ، وَمُلَاعَبَتِهِ مَعَ أَهْلِهِ» وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ لَيْسَ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثِ فَكَانَ بَاطِلًا انْتَهَى.

أَقُولُ: فِيهِ كَلَامٌ، أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ زِيَادَةَ قَوْلِهِمْ بِالنَّصِّ فِي قَوْلِهِمْ فَاللَّعِبُ وَهُوَ اللَّهْوُ حَرَامٌ بِالنَّصِّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الدَّلِيلَ عَلَى حُرْمَةِ اللَّهْوِ هُوَ النَّصُّ، وَالْكَلَامُ فِي دَلَالَةِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى ذَلِكَ فَلَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يُؤْتَ بِتِلْكَ الزِّيَادَةُ إذْ يَكُونُ قَوْلُهُمْ فَاللَّعِبُ وَهُوَ اللَّهْوُ حَرَامٌ إذْ ذَاكَ مُتَفَرِّعًا عَلَى مَا قَبْلَهُ وَهُوَ إطْلَاقُ مُحَمَّدٍ اسْمَ اللَّعِبِ وَالْغِنَاءِ بِقَوْلِهِ فَوَجَدَ ثَمَّةَ اللَّعِبَ وَالْغِنَاءَ، فَيَصِيرُ حَاصِلُ التَّعْلِيلِ أَنَّ مُحَمَّدًا لَمَّا أَطْلَقَ اسْمَ اللَّعِبِ وَالْغِنَاءِ فِي هَاتِيكَ الْمَسْأَلَةِ وَلَمْ يُقَيِّدْهُ بِنَوْعٍ عُلِمَ أَنَّ اللَّعِبَ الَّذِي هُوَ اللَّهْوُ حَرَامٌ مُطْلَقًا، وَهُوَ جَيِّدٌ مُفِيدٌ لِلْمُدَّعِي.

وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ قَوْلَهُمْ وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ لَيْسَ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثِ فَكَانَ بَاطِلًا يُنَافِي قَوْلَهُمْ فِي أَوَّلِ التَّعْلِيلِ؛ لِأَنَّ مُحَمَّدًا أَطْلَقَ اسْمَ اللَّعِبِ وَالْغِنَاءِ، إذْ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ لَا يَكُونَ مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ فِي هَاتِيكَ الْمَسْأَلَةِ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثِ يَلْزَمُ أَنْ لَا يَكُونَ اسْمُ اللَّعِبِ فِيهَا مُطْلَقًا، بَلْ أَنْ يَكُونَ مُقَيَّدًا بِغَيْرِ هَذِهِ الثَّلَاثِ. لَا يُقَالُ: مُرَادُهُمْ بِإِطْلَاقِ مُحَمَّدٍ اسْمَ اللَّعِبِ إطْلَاقُهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا عَدَا هَذِهِ الثَّلَاثَ لَا بِالنِّسْبَةِ إلَى كُلِّ لَعِبٍ فَلَا تَنَافِي. لِأَنَّا نَقُولُ: لَا يُسَاعِدُهُ لَفْظُ مُحَمَّدٍ لِأَنَّهُمْ إنَّمَا أَخَذُوا إطْلَاقَ اسْمِ اللَّعِبِ مِنْ قَوْلِهِ فَوَجَدَ ثَمَّةَ اللَّعِبَ وَالْغِنَاءَ.

وَلَا يَخْفَى أَنَّ قَوْلَهُ الْمَذْكُورَ إنَّمَا يَقْتَضِي الْإِطْلَاقَ بِالنِّسْبَةِ إلَى جِنْسِ اللَّعِبِ لَا بِالنِّسْبَةِ إلَى بَعْضٍ مِنْهُ وَهُوَ مَا عَدَا الثَّلَاثَ الْمَذْكُورَةَ. ثُمَّ أَقُولُ: بَقِيَ شَيْءٌ فِي أَصْلِ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ، وَهُوَ أَنْ لَوْ اُعْتُبِرَتْ دَلَالَةُ الْمَسْأَلَةِ الْمَذْكُورَةِ عَلَى أَنَّ الْمَلَاهِيَ كُلَّهَا حَرَامٌ وَجَازَ الْعَمَلُ بِهَذِهِ الدَّلَالَةِ لَزِمَ الْقَوْلُ بِحُرْمَةِ الصُّوَرِ الثَّلَاثِ الْمُسْتَثْنَاةِ فِي الْحَدِيثِ أَيْضًا وَلَمْ يَقُلْ بِهَا أَحَدٌ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُقَالَ: تِلْكَ الثَّلَاثُ مُسْتَثْنَاةٌ فِي كَلَامِ مُحَمَّدٍ تَقْدِيرًا بِنَاءً عَلَى كَوْنِهَا مُسْتَثْنَاةً فِي الْحَدِيثِ صَرِيحًا، وَيَجْعَلُ شُهْرَةَ الْحَدِيثِ قَرِينَةً عَلَى ذَلِكَ. ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ الْعِنَايَةِ قَالَ: لَا يُقَالُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} وَالْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَيْسَتْ بِحَرَامٍ؛ لِأَنَّ الْحَاصِلَ مِنْ هَذَا الْقِيَاسِ بَعْضُ اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ لَيْسَ بِحَرَامٍ، وَهُوَ مَا اسْتَثْنَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي قَوْلِهِ «لَهْوُ الْمُؤْمِنِ بَاطِلٌ إلَّا فِي ثَلَاثٍ: تَأْدِيبِهِ فَرَسَهُ، وَرَمْيِهِ عَنْ قَوْسِهِ، وَمُلَاعَبَتِهِ مَعَ أَهْلِهِ» انْتَهَى كَلَامُهُ.

أَقُولُ: أَرَادَ بِالْقِيَاسِ فِي قَوْلِهِ: لِأَنَّ الْحَاصِلَ مِنْ هَذَا الْقِيَاسِ بَعْضُ اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ لَيْسَ بِحَرَامٍ الْقِيَاسَ الْمَنْطِقِيَّ الَّذِي ذُكِرَ فِي السُّؤَالِ عَلَى الشَّكْلِ الثَّالِثِ مِنْ الْأَشْكَالِ الْأَرْبَعَةِ بِقِسْمَةِ الِاقْتِرَانِيِّ وَبِالْحَاصِلِ مِنْهُ نَتِيجَةً، وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ بَعْضُ اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ إلَى جُزْئِيَّةِ تِلْكَ النَّتِيجَةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الشَّكْلَ الثَّالِثَ لَا يُنْتِجُ إلَّا جُزْئِيَّةً كَمَا تَقَرَّرَ فِي مَوْضِعِهِ فَبَطَلَ قَوْلُ بَعْضِ الْفُضَلَاءِ هُنَا: لَكِنَّ الْقِيَاسَ الْأَوَّلَ يَقْتَضِي الْكُلِّيَّةَ كَمَا لَا يَخْفَى، فَكَأَنَّهُ غَفَلَ عَنْ كَوْنِ الْقِيَاسِ الْمَذْكُورِ عَلَى الشَّكْلِ الثَّالِثِ أَوْ عَنْ كَوْنِ نَتِيجَةِ الشَّكْلِ الثَّالِثِ جُزْئِيَّةً لَا غَيْرُ، وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ هُنَا: إنَّ شَرْطَ إنْتَاجِ الشَّكْلِ الثَّالِثِ كُلِّيَّةً إحْدَى مُقَدِّمَتَيْهِ وَهِيَ هَاهُنَا مُنْتَفِيَةٌ انْتَهَى.

أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا أَيْضًا بِصَحِيحٍ، إذْ الظَّاهِرُ أَنَّ كِلْتَا مُقَدِّمَتَيْ الْقِيَاسِ الْمَذْكُورِ كُلِّيَّتَانِ صُغْرَاهُمَا مُوجَبَةٌ كُلِّيَّةٌ وَكُبْرَاهُمَا سَالِبَةٌ كُلِّيَّةٌ، وَإِنْ حَمَلَ السَّلْبَ فِي الثَّانِيَةِ عَلَى رَفْعِ الْإِيجَابِ الْكُلِّيِّ دُونَ السَّلْبِ الْكُلِّيِّ فَكُلِّيَّةُ الْأُولَى مُقَرَّرَةٌ، وَأَدَاةُ صُوَرِ الْكُلِّيَّةِ هِيَ اللَّامُ الاستغراقية الدَّاخِلَةُ عَلَى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَلَيْسَتْ أَدَاةُ صُوَرِهَا بِمُنْحَصِرَةٍ فِي لَفْظَةِ كُلٍّ، بَلْ كُلُّ مَا يَدُلُّ عَلَى الْكُلِّيَّةِ مِنْ الْأَلْفَاظِ فَهُوَ أَدَاةُ صُوَرِهَا كَمَا صَرَّحُوا بِهِ. ثُمَّ أَقُولُ: فِي الْجَوَابِ الَّذِي ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ نَظَرٌ، فَإِنَّ قَوْلَهُ؛ لِأَنَّ الْحَاصِلَ مِنْ هَذَا الْقِيَاسِ بَعْضُ اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ لَيْسَ بِحَرَامٍ جَيِّدٌ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ وَهُوَ مَا اسْتَثْنَاهُ النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام فَلَا؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ الْمَذْكُورَ إنَّمَا يُنْتِجُ أَنَّ بَعْضَ اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ وَهُوَ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَيْسَ بِحَرَامٍ، فَإِنَّ الَّذِي كَانَ حَدًّا أَوْسَطَ فِي ذَلِكَ الْقِيَاسِ هُوَ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا، فَهِيَ الْمُرَادُ بِالْبَعْضِ فِي النَّتِيجَةِ، وَنَظِيرُ هَذَا مَا إذَا قُلْنَا كُلُّ إنْسَانٍ حَيَوَانٌ وَلَا شَيْءَ مِنْ الْإِنْسَانِ بِفَرَسٍ، فَإِنَّهُ يَنْتُجُ أَنَّ بَعْضَ الْحَيَوَانِ الَّذِي هُوَ الْإِنْسَانُ لَيْسَ بِفَرَسٍ لَا أَنَّ بَعْضَهُ أَيْ بَعْضَهُ كَانَ لَيْسَ بِفَرَسٍ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِلْحَدِّ الْأَوْسَطِ تَأْثِيرٌ، وَدَخَلَ فِي النَّتِيجَةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ قَطْعًا؛ وَهَذَا كُلُّهُ غَيْرُ خَافٍ عَلَى مَنْ لَهُ دُرْبَةٌ بِعِلْمِ الْمِيزَانِ.

ص: 15

وَكَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله اُبْتُلِيت، لِأَنَّ الِابْتِلَاءَ بِالْمُحَرَّمِ يَكُونُ.

فَإِذَا كَانَتْ النَّتِيجَةُ فِي الْقِيَاسِ الْمَذْكُورِ أَنَّ بَعْضَ اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ الَّذِي هُوَ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَيْسَ بِحَرَامٍ فَلَا مَعْنَى لِتَخْصِيصِهِ بِالصُّوَرِ الثَّلَاثِ الْمُسْتَثْنَاةِ فِي الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّ مَا لَا يَحْرُمُ مِنْ أُمُورِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَثِيرٌ لَا يُحْصَى فَمَا الْوَجْهُ لِلتَّخْصِيصِ عَلَى أَنَّ مَا ذَكَرَهُ مِنْ الْجَوَابِ لَا يَحْسِمُ مَادَّةَ السُّؤَالِ لِإِمْكَانِ أَنْ يُورَدَ السُّؤَالُ بِصُورَةِ الْقِيَاسِ الِاسْتِثْنَائِيِّ. وَيُقَالُ: لَوْ كَانَتْ الْمَلَاهِي كُلُّهَا حَرَامًا لَكَانَتْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا أَيْضًا حَرَامًا لِأَنَّهَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} وَلَكِنَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا لَيْسَتْ بِحَرَامٍ، يَنْتُجُ أَنَّ الْمَلَاهِيَ كُلَّهَا لَيْسَتْ بِحَرَامٍ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْجَوَابَ الْمَذْكُورَ لَا يَتَمَشَّى حِينَئِذٍ.

فَالصَّوَابُ فِي الْجَوَابِ أَنْ يُقَالَ لَيْسَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} أَنَّهَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ حَقِيقَةً بَلْ الْمُرَادُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّهَا كَلَعِبٍ وَلَهْوٍ عَلَى طَرِيقِ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ: يَعْنِي أَنَّهَا كَاللَّعِبِ وَاللَّهْوِ فِي سُرْعَةِ فَنَائِهَا وَانْقِضَائِهَا، صَرَّحَ بِهِ فِي التَّفْسِيرِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ حُرْمَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا عَدَمُ حُرْمَةِ اللَّعِبِ وَاللَّهْوِ أَيْضًا كَمَا لَا يَخْفَى (قَوْلُهُ وَكَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ اُبْتُلِيت؛ لِأَنَّ الِابْتِلَاءَ بِالْمُحَرَّمِ يَكُونُ) يَعْنِي وَدَلَّ أَيْضًا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ اُبْتُلِيت عَلَى أَنَّ الْمَلَاهِيَ كُلَّهَا حَرَامٌ؛ لِأَنَّ الِابْتِلَاءَ لَا يَكُونُ إلَّا بِالْمُحَرَّمِ، وَقَدْ أَشَارَ إلَى هَذَا الْقَصْرِ بِتَقْدِيمِ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ عَلَى الْفِعْلِ فِي قَوْلِهِ بِالْمُحَرَّمِ يَكُونُ.

أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: دَلَالَةُ قَوْلِهِ اُبْتُلِيت عَلَى حُرْمَةِ مَا وَجَدَهُ ثَمَّةَ مُسَلَّمَةٌ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الِابْتِلَاءَ لَا يَكُونُ إلَّا بِالْمُحَرَّمِ. وَأَمَّا دَلَالَتُهُ عَلَى حُرْمَةِ كُلِّ الْمَلَاهِي كَمَا هُوَ الْمُدَّعَى فَمَمْنُوعَةٌ، كَيْفَ، وَقَدْ قَالَ اُبْتُلِيت بِهَذَا مَرَّةً انْتَهَى. وَلَا شَكَّ أَنَّ مَا اُبْتُلِيَ بِهِ مَرَّةً لَا يَكُونُ كُلَّ الْمَلَاهِي، بَلْ إنَّمَا يَكُونُ شَيْئًا مُعَيَّنًا مِنْهَا. وَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ بِوَجْهٍ آخَرَ حَيْثُ قَالَ فِي شَرْحِ الْوِقَايَةِ. قَالُوا قَوْلُهُ اُبْتُلِيت يَدُلُّ عَلَى الْحُرْمَةِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إنَّ الصَّبْرَ عَلَى الْحَرَامِ لِإِقَامَةِ السُّنَّةِ لَا يَجُوزُ، وَالصَّبْرُ الَّذِي قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ جَازَ أَنْ يَكُونَ جَالِسًا مُعْرِضًا عَنْ ذَلِكَ اللَّهْوِ مُنْكِرًا لَهُ غَيْرَ مُشْتَغِلٍ وَلَا مُتَلَذِّذٍ بِهِ اهـ.

أَقُولُ: ذَلِكَ سَاقِطٌ؛ لِأَنَّ إجَابَةَ الدَّعْوَةِ وَإِنْ كَانَتْ سُنَّةً ابْتِدَاءً إلَّا أَنَّهَا تَصِيرُ وَاجِبَةً بَقَاءً حَيْثُ يَلْزَمُهُ حَقُّ الدَّعْوَةِ بَعْدَ الْحُضُورِ لِالْتِزَامِهِ الْإِجَابَةَ بِالْحُضُورِ، كَمَا هُوَ الشَّأْنُ فِي سَائِرِ النَّوَافِلِ مِنْ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَنَحْوِهِمَا، فَإِنَّ كُلًّا مِنْهَا تَصِيرُ وَاجِبَةً بِالشُّرُوعِ فِيهَا فَكَانَ الصَّبْرُ عَلَى الْحَرَامِ فِيمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لِإِقَامَةِ الْوَاجِبِ فَيَجُوزُ كَمَا فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ إذَا حَضَرَتْهَا النِّيَاحَةُ، وَقَدْ مَرَّ مِنَّا مِثْلُ هَذَا الْجَوَابِ فِيمَا قَبْلُ فَتَذَكَّرْ. ثُمَّ إنَّ جَوَازَ كَوْنِ أَبِي حَنِيفَةَ جَالِسًا مُعْرِضًا عَنْ ذَلِكَ اللَّهْوِ مُنْكِرًا لَهُ غَيْرَ مُشْتَغِلٍ وَلَا مُتَلَذِّذٍ بِهِ لَا يَدْفَعُ حُرْمَةَ ذَلِكَ اللَّهْوِ وَلَا حُرْمَةَ الْجُلُوسِ عَلَيْهِ، إذْ قَدْ ذَكَرَ فِي الْكَافِي وَالشُّرُوحِ أَنَّ الصَّدْرَ الشَّهِيدَ رَوَى فِي كَرَاهِيَةِ الْوَاقِعَاتِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ «اسْتِمَاعُ الْمَلَاهِي مَعْصِيَةٌ، وَالْجُلُوسُ عَلَيْهَا فِسْقٌ، وَالتَّلَذُّذُ بِهَا مِنْ الْكُفْرِ» وَمَدْلُولُ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ مُجَرَّدَ الْجُلُوسِ عَلَى فِسْقِ اللَّهْوِ فَأَنَّى يُتَصَوَّرُ اخْتِيَارُ ذَلِكَ مِنْ مِثْلِ الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ لَوْ لَمْ يُعَارِضْ وُجُوبَ إجَابَةِ الدَّعْوَةِ بَعْدَ الْحُضُورِ شَرٌّ مِنْ ذَلِكَ فَتَأَمَّلْ.

وَقَدْ أَوْرَدَ صَاحِبُ الْإِصْلَاحِ وَالْإِيضَاحِ مَا أَوْرَدَهُ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ مَعَ زِيَادَةِ بَعْضٍ مِنْ الْمُقَدِّمَاتِ سِيَّمَا فِي أَوَّلِ إيرَادِهِ حَيْثُ قَالَ بَعْدَ قَوْلِهِ، وَدَلَّ قَوْلُهُ عَلَى حُرْمَةِ كُلِّ الْمَلَاهِي؛ لِأَنَّ الِابْتِلَاءَ بِالْمُحَرَّمِ يَكُونُ كَذَا قَالُوا وَفِيهِ نَظَرٌ فَإِنَّ الِابْتِلَاءَ يُسْتَعْمَلُ فِيمَا هُوَ مَحْظُورُ الْعَوَاقِبِ وَلَوْ كَانَ مُبَاحًا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «مَنْ اُبْتُلِيَ بِالْقَضَاءِ» الْحَدِيثَ. ثُمَّ إنَّ الصَّبْرَ عَلَى الْحَرَامِ رِعَايَةً لِحَقِّ الدَّعْوَةِ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ السُّنَّةَ تُتْرَكُ حَذَرًا عَنْ ارْتِكَابِ الْمَحْظُورِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ جَلَسَ مُعْرِضًا عَنْ ذَلِكَ اللَّهْوِ مُنْكِرًا لَهُ غَيْرَ مُسْتَمِعٍ لَهُ فَلَمْ يَتَحَقَّقْ مِنْهُ الْجُلُوسُ عَلَى اللَّهْوِ، فَعَلَى هَذَا لَا يَكُونُ مُبْتَلًى بِحَرَامٍ انْتَهَى. وَقَدْ نَقَلَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ بِتَقْصِيرٍ وَتَحْرِيفٍ وَعَزَاهُ فِي الْحَاشِيَةِ إلَى صَاحِبِ الْإِصْلَاحِ وَالْإِيضَاحِ، ثُمَّ قَصَدَ رَدَّهُ فَأَتَى بِكَلَامٍ مُفَصَّلٍ مُشَوَّشٍ قَابِلٍ لِلدَّخْلِ وَالْخَرْجِ تَرَكْنَا ذِكْرَهُ وَبَيَانَ مَا فِيهِ تَحَاشِيًا عَنْ الْإِطْنَابِ الْمُمِلِّ، وَمَنْ شَاءَ فَلْيُرَاجِعْ كِتَابَهُ.

ص: 16

‌فَصْلٌ فِي اللُّبْسِ

قَالَ (لَا يَحِلُّ لِلرِّجَالِ لُبْسُ الْحَرِيرِ وَيَحِلُّ لِلنِّسَاءِ)«؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام نَهَى عَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ وَقَالَ: إنَّمَا يَلْبَسُهُ مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ» وَإِنَّمَا حَلَّ لِلنِّسَاءِ بِحَدِيثٍ آخَرَ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ عِدَّةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم مِنْهُمْ عَلِيٌّ رضي الله عنه «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ وَبِإِحْدَى يَدَيْهِ حَرِيرٌ وَبِالْأُخْرَى ذَهَبٌ وَقَالَ: هَذَانِ مُحَرَّمَانِ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي حَلَالٌ لِإِنَاثِهِمْ» وَيُرْوَى «حِلٌّ لِإِنَاثِهِمْ»

(فَصْلٌ فِي اللُّبْسِ)

قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: لَمَّا ذَكَرَ مُقَدِّمَاتِ مَسَائِلِ الْكَرَاهِيَةِ ذَكَرَ مَا يَتَوَارَدُ عَلَى الْإِنْسَانِ مِمَّا يَحْتَاجُ إلَيْهِ بِالْفُصُولِ فَقَدَّمَ اللُّبْسَ عَلَى الْوَطْءِ؛ لِأَنَّ الِاحْتِيَاجَ إلَى اللُّبْسِ أَشَدُّ مِنْهُ إلَى الْوَطْءِ، انْتَهَى كَلَامُهُ، وَاقْتَفَى أَثَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي هَذَا الْمَعْنَى وَلَكِنْ بِعِبَارَةٍ أَقْصَرَ.

أَقُولُ: صُدُورُ هَذَا التَّوْجِيهِ مِنْهُمَا فِي غَايَةِ الِاسْتِبْعَادِ فَإِنَّ مُقْتَضَاهُ الْغَفْلَةُ عَمَّا تَقَدَّمَ مِنْ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ الْمَعْقُودِ لِبَيَانِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَمَا ذَكَرَهُ فِيهِ مِنْ مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ مُتَعَلِّقَةٍ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ مَقْصُودَةٍ بِالذَّاتِ غَيْرِ صَالِحَةٍ لَأَنْ تَكُونَ مِنْ مُقَدِّمَاتِ مَسَائِلِ الْكَرَاهِيَةِ كَمَا تَرَى. وَالصَّوَابُ فِي وَجْهِ التَّرْتِيبِ أَنْ يُقَالَ: قَدَّمَ فَصْلَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ؛ لِأَنَّ احْتِيَاجَ الْإِنْسَانِ إلَى الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ أَشَدُّ، وَعَقَّبَهُ بِفَصْلِ اللُّبْسِ فَقَدَّمَهُ عَلَى فَصْلِ الْوَطْءِ؛ لِأَنَّ احْتِيَاجَ الْإِنْسَانِ إلَى اللُّبْسِ أَكْثَرُ مِنْ احْتِيَاجِهِ إلَى الْوَطْءِ لِتَحَقُّقِ الْأَوَّلِ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ دُونَ الثَّانِي، وَقَدْ أُشِيرَ إلَى هَذَا التَّوْجِيهِ فِي مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ (قَوْلُهُ وَإِنَّمَا حَلَّ لِلنِّسَاءِ بِحَدِيثٍ آخَرَ وَهُوَ مَا رَوَاهُ عِدَّةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ إلَى آخِرِهِ) لَمَّا ذَكَرَ حُرْمَةَ لُبْسِ الْحَرِيرِ عَلَى الرِّجَالِ وَحِلَّهُ لِلنِّسَاءِ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى الْحُرْمَةِ بِمَا يَعُمُّ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ لَزِمَهُ أَنْ يَقُولَ: وَإِنَّمَا حَلَّ لِلنِّسَاءِ بِحَدِيثٍ آخَرَ. فَإِنْ قِيلَ: الْمُحَرَّمُ وَالْمُبِيحُ إذَا اجْتَمَعَا يُجْعَلُ الْمُحَرَّمُ مُتَأَخِّرًا كَيْ لَا يَلْزَمُ النَّسْخُ مَرَّتَيْنِ، وَهُنَا لَوْ تَأَخَّرَ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام هَذَانِ حَرَامَانِ الْحَدِيثَ، يَلْزَمُ النَّسْخُ مَرَّتَيْنِ فِي حَقِّ الْإِنَاثِ فَيَجْعَلُ قَوْلَهُ عليه الصلاة والسلام «حِلٌّ لِإِنَاثِهِمْ» مُقَدَّمًا.

قُلْنَا: قَوْلُهُ «إنَّمَا يَلْبَسُهُ مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ» يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بَيَانًا لِقَوْلِهِ «حَرَامَانِ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي» ؛ لِأَنَّ هَذَا وَعِيدٌ لَا بَيَانُ حُكْمٍ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ تَقْلِيلًا لِلنَّسْخِ، وَلِأَنَّ قَوْلَهُ " هَذَانِ حَرَامَانِ " الْحَدِيثُ نَصٌّ لِبَيَانِ التَّفْرِقَةِ فِي

ص: 17

(إلَّا أَنَّ الْقَلِيلَ عَفْوٌ وَهُوَ مِقْدَارُ ثَلَاثَةِ أَصَابِعَ أَوْ أَرْبَعَةٍ كَالْأَعْلَامِ وَالْمَكْفُوفِ بِالْحَرِيرِ) لِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام نَهَى عَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ إلَّا مَوْضِعَ إصْبَعَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ أَوْ أَرْبَعَةٍ» أَرَادَ الْأَعْلَامَ.

وَعَنْهُ عليه الصلاة والسلام «أَنَّهُ كَانَ يَلْبَسُ جُبَّةً مَكْفُوفَةً بِالْحَرِيرِ»

. قَالَ (وَلَا بَأْسَ بِتَوَسُّدِهِ وَالنَّوْمِ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: يُكْرَهُ) وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ذَكَرَ قَوْلَ مُحَمَّدٍ وَحْدَهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ الْمَشَايِخِ،

حَقِّ الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ لِلذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ. وَقَوْلُهُ «إنَّمَا يَلْبَسُهُ مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ» لِبَيَانِ الْوَعِيدِ فِي حَقِّ مَنْ لَبِسَ الْحَرَامَ فَكَانَا كَالظَّاهِرِ وَالنَّصِّ، وَالنَّصُّ رَاجِحٌ عَلَى الظَّاهِرِ. أَوْ نَقُولُ: الدَّلِيلُ دَلَّ عَلَى أَنَّ مُقْتَضَى الْحِلِّ لِلْإِنَاثِ مُتَأَخِّرٌ، وَهُوَ اسْتِعْمَالُ الْإِنَاثِ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى يَوْمِنَا هَذَا مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، وَهَذَا آيَةٌ قَاطِعَةٌ عَلَى تَأَخُّرِهِ، كَذَا ذُكِرَ السُّؤَالُ وَالْجَوَابُ فِي شَرْحِ تَاجِ الشَّرِيعَةِ وَالْكِفَايَةِ.

قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي تَقْرِيرِ السُّؤَالِ: وَالْجَوَابُ هُنَا. فَإِنْ قِيلَ: الْحَدِيثُ الدَّالُّ عَلَى حِلِّهِ لَهُنَّ إمَّا أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الْأَوَّلِ فَيُنْسَخُ بِهِ أَوْ بَعْدَهُ فَيَتَعَارَضَانِ؛ لِأَنَّ الْعَامَّ كَالْخَاصِّ فِي إفَادَةِ الْقَطْعِ عِنْدَنَا أَوْ لَا يُعْلَمُ التَّارِيخُ فَيُجْعَلُ الْمُحَرَّمَ مُتَأَخِّرًا لِئَلَّا يَلْزَمَ النَّسْخُ مَرَّتَيْنِ.

فَالْجَوَابُ أَنَّهُ بَعْدَهُ بِدَلِيلِ اسْتِعْمَالِهِنَّ إيَّاهُ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، وَذَلِكَ آيَةٌ قَاطِعَةٌ عَلَى تَأَخُّرِهِ فَيُنْسَخُ بِهِ الْمُحَرَّمُ، وَتَكْرَارُ النَّسْخِ بِالدَّلِيلِ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ انْتَهَى كَلَامُهُ. أَقُولُ: تَقْرِيرُ السُّؤَالِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ لَيْسَ بِسَدِيدٍ، لِأَنَّ التَّرْدِيدَ الْمُثَلَّثَ الْمَذْكُورَ فِيهِ قَبِيحٌ جِدًّا بَلْ مُخْتَلُّ الْمَعْنَى، فَإِنَّهُ إنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ فِي الشِّقِّ الثَّانِي فَيَتَعَارَضَانِ أَنَّهُمَا حِينَئِذٍ يَتَعَارَضَانِ فَيَتَسَاقَطَانِ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، إذْ الْمُؤَخَّرُ يَكُونُ نَاسِخًا لِلْمُقَدَّمِ أَلْبَتَّةَ عِنْدَ التَّعَارُضِ وَالتَّسَاوِي فِي الْقُوَّةِ، وَإِنَّمَا التَّسَاقُطُ فِيمَا إذَا لَمْ يُعْلَمْ التَّارِيخُ، وَلَمْ يُمْكِنْ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِطَلَبِ الْمُخَلِّصِ كَمَا تَقَرَّرَ كُلُّ ذَلِكَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ، وَإِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّهُمَا يَتَعَارَضَانِ وَيَكُونُ الْمُؤَخَّرُ نَاسِخًا لِلْمُقَدَّمِ فَهُوَ يَدْفَعُ السُّؤَالَ عَنْ الْمَقَامِ فَلَا وَجْهَ لِدَرْجِهِ فِي جَانِبِ السُّؤَالِ.

وَأَقُولُ: فِي الْجَوَابِ الَّذِي ذَكَرَهُ أَيْضًا شَيْءٌ، وَهُوَ أَنَّهُ ذَكَرَ فِي الشُّرُوحِ وَسَائِرِ الْمُعْتَبَرَاتِ أَنَّهُ قَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: لُبْسُ الْحَرِيرِ حَرَامٌ عَلَى النِّسَاءِ أَيْضًا لِعُمُومِ النَّهْيِ. وَلِمَا حَدَّثَ الطَّحَاوِيُّ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِي دَاوُد عَنْ شُعْبَةَ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو ذُبْيَانَ قَالَ: سَمِعْت ابْنَ الزُّبَيْرِ يَخْطُبُ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ لَا تُلْبِسُوا نِسَاءَكُمْ الْحَرِيرَ فَإِنِّي سَمِعْت عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ «مَنْ لَبِسَ الْحَرِيرَ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الْآخِرَةِ» فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ بَعْضَ الْفُقَهَاءِ سِيَّمَا ابْنِ الزُّبَيْرِ رضي الله عنها أَنْكَرُوا اسْتِعْمَالَ النِّسَاءِ الْحَرِيرِ فَكَيْفَ يَتِمُّ أَنْ يُقَالَ فِي الْجَوَابِ إنَّهُ بَعْدَهُ بِدَلِيلِ اسْتِعْمَالِهِنَّ إيَّاهُ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ فَتَأَمَّلْ.

ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم " هَذَانِ حَرَامَانِ " إشَارَةٌ إلَى جُزْئِيَّيْنِ، فَمِنْ أَيْنَ الْعُمُومُ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ الْجِنْسُ، وَلَئِنْ كَانَ شَخْصًا فَغَيْرُهُ مُلْحَقٌ بِهِ بِالدَّلَالَةِ انْتَهَى. أَقُولُ: فِيهِ بَحْثٌ، وَهُوَ أَنَّهُ قَدْ تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ أَنَّ عِبَارَةَ النَّصِّ تُرَجَّحُ عَلَى إشَارَتِهِ وَإِشَارَتُهُ تُرَجَّحُ عَلَى دَلَالَتِهِ، فَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ غَيْرُ الشَّخْصِ الْمُشَارِ إلَيْهِ فِي قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام " هَذَانِ حَرَامَانِ " الْحَدِيثَ مُلْحَقًا بِهِ بِالدَّلَالَةِ يَلْزَمُ أَنْ يُرَجَّحَ الْحَدِيثُ الدَّالُّ عِبَارَةً أَوْ إشَارَةً عَلَى حُرْمَةِ لُبْسِ الْحَرِيرِ مُطْلَقًا عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى كَقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «إنَّمَا يَلْبَسُهُ مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ» عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ فِي حَقِّ مَا أَفَادَهُ دَلَالَةً، وَهُوَ حِلُّ لُبْسِ الْحَرِيرِ الَّذِي هُوَ غَيْرُ الشَّخْصِ الْمُشَارِ إلَيْهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ لِلنِّسَاءِ، فَيَلْزَمُ أَنْ لَا يَنْتَهِضَ هَذَا الْحَدِيثُ حُجَّةً لِحِلِّ لُبْسِ الْحَرِيرِ الْغَيْرِ الْمُشَارِ إلَيْهِ فِي الْحَدِيثِ لِلنِّسَاءِ فَمِنْ أَيْنَ ثَبَتَ الْعُمُومُ

(قَوْلُهُ وَلَا بَأْسَ بِتَوَسُّدِهِ وَالنَّوْمِ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: يُكْرَهُ) قَالَ الشُّرَّاحُ: يَعْنِي لِلرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ جَمِيعًا بِخِلَافِ اللُّبْسِ، وَمَأْخَذُهُمْ الْخُلَاصَةُ فَإِنَّهُ قَالَ فِيهَا: وَالرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ فِي هَذَا سَوَاءٌ، بِخِلَافِ اللُّبْسِ. وَعَنْ هَذَا قَالَ فِي النِّهَايَةِ، كَذَا فِي الْخُلَاصَةِ، وَقَالَ فِي مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ: ذَكَرَهُ فِي الْخُلَاصَةِ. أَقُولُ: تَعْمِيمُ قَوْلِ الْإِمَامَيْنِ هُنَا لِلْمَرْأَةِ أَيْضًا

ص: 18

وَكَذَا الِاخْتِلَافُ فِي سِتْرِ الْحَرِيرِ وَتَعْلِيقِهِ عَلَى الْأَبْوَابِ. لَهُمَا الْعُمُومَاتُ، وَلِأَنَّهُ مِنْ زِيِّ الْأَكَاسِرَةِ وَالْجَبَابِرَةِ وَالتَّشَبُّهُ بِهِمْ حَرَامٌ. وَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: إيَّاكُمْ وَزِيَّ الْأَعَاجِمِ.

وَلَهُ مَا رُوِيَ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام جَلَسَ عَلَى مِرْفَقَةِ حَرِيرٍ» ، وَقَدْ كَانَ عَلَى بِسَاطِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما مِرْفَقَةُ حَرِيرٍ، وَلِأَنَّ الْقَلِيلَ مِنْ الْمَلْبُوسِ مُبَاحٌ كَالْأَعْلَامِ فَكَذَا الْقَلِيلَ مِنْ اللُّبْسِ وَالِاسْتِعْمَالِ، وَالْجَامِعُ كَوْنُهُ نَمُوذَجًا عَلَى مَا عُرِفَ.

قَالَ (وَلَا بَأْسَ بِلُبْسِ الْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ فِي الْحَرْبِ عِنْدَهُمَا) لِمَا رَوَى الشَّعْبِيُّ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام رَخَّصَ فِي لُبْسِ الْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ فِي الْحَرْبِ» وَلِأَنَّ فِيهِ ضَرُورَةً فَإِنَّ الْخَالِصَ مِنْهُ أَدْفَعُ لِمَعَرَّةِ السِّلَاحِ وَأَهْيَبُ فِي عَيْنِ الْعَدُوِّ لِبَرِيقِهِ (وَيُكْرَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ)؛ لِأَنَّهُ لَا فَصْلَ فِيمَا رَوَيْنَاهُ، وَالضَّرُورَةُ انْدَفَعَتْ بِالْمَخْلُوطِ وَهُوَ الَّذِي لُحْمَتُهُ حَرِيرٌ وَسَدَّاهُ غَيْرُ ذَلِكَ، وَالْمَحْظُورُ لَا يُسْتَبَاحُ إلَّا لِضَرُورَةٍ.

مُشْكِلٌ، فَإِنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم " حَلَالٌ لِإِنَاثِهِمْ " لَيْسَ بِمُقَيَّدٍ بِاللُّبْسِ بَلْ الظَّاهِرُ أَنَّهُ يَعُمُّ التَّوَسُّدَ وَالنَّوْمَ عَلَيْهِ أَيْضًا، وَهُمَا مَعَ كَوْنِهِمَا مُسْتَدِلِّينَ عَلَى مُدَّعَاهُمَا هَاهُنَا بِالْعُمُومَاتِ كَيْفَ يَتْرُكَانِ الْعَمَلَ بِعُمُومِ هَذَا الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ الَّذِي رَوَتْهُ جَمَاعَةٌ مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم (قَوْلُهُ لَهُمَا الْعُمُومَاتُ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: وَهِيَ مَا ذَكَرَهُ مِنْ قَوْلِهِ «نَهَى عَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ» وَقَوْلِهِ «إنَّمَا يَلْبَسُهُ مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ» وَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنها أَنَّهُ اسْتَقْبَلَ جَيْشًا مِنْ الْغُزَاةِ رَجَعُوا بِغَنَائِمَ وَلَبِسُوا الْحَرِيرَ فَلَمَّا وَقَعَ بَصَرُهُ عَلَيْهِمْ أَعْرَضَ عَنْهُمْ، فَقَالُوا: لِمَ أَعْرَضَتْ عَنَّا؟ قَالَ: لِأَنِّي رَأَيْت عَلَيْكُمْ ثِيَابَ أَهْلِ النَّارِ انْتَهَى.

وَاقْتَفَى أَثَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي بَيَانِ الْمُرَادِ مِنْ الْعُمُومَاتِ بِهَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ، أَقُولُ: حَمْلُ الْعُمُومَاتِ عَلَى هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ لَا يَكَادُ يَتِمُّ؛ لِأَنَّ مَدْلُولَ كُلٍّ مِنْ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ إنَّمَا هُوَ حُرْمَةُ لُبْسِ الْحَرِيرِ، وَالْكَلَامُ هَاهُنَا فِي تَوَسُّدِهِ وَالنَّوْمِ عَلَيْهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمَا لَيْسَا بِلُبْسٍ، إلَّا أَنْ يُقَالَ لِمَنْ تَوَسَّدَ شَيْئًا أَوْ نَامَ عَلَيْهِ إنَّهُ لَبِسَهُ لَا فِي اللُّغَةِ وَلَا فِي الْعُرْفِ فَأَنَّى يُوجَدُ الْعُمُومُ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُقَالَ: التَّوَسُّدُ وَالِافْتِرَاشُ وَإِنْ لَمْ يَكُونَا لُبْسًا فِي الْحَقِيقَةِ إلَّا أَنَّهُمَا فِي حُكْمِ اللُّبْسِ فِي تَحَقُّقِ الِاسْتِعْمَالِ وَالِانْتِفَاعِ بِهِمَا فَصَارَ مُلْحَقَيْنِ بِاللُّبْسِ عِنْدَهُمَا، وَكَانَ مُرَادُهُمَا بِالْعُمُومِ هُوَ الْعُمُومُ دَلَالَةً لَا عِبَارَةً لَكِنَّهُ تَعَسُّفٌ جِدًّا كَمَا لَا يَخْفَى. وَقَالَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ فِي بَيَانِ الْعُمُومَاتِ. هِيَ " وَهَذَانِ حَرَامَانِ " الْحَدِيثَ، وَقَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «لَأَنْ أَتَّكِئَ عَلَى جَمْرَةِ الْغَضَا أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَتَّكِئَ عَلَى مِرْفَقَةِ حَرِيرٍ» وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه أَنَّهُ أَتَى بِدَابَّةٍ عَلَى سَرْجِهَا حَرِيرٌ فَقَالَ: هَذَا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَنَا فِي الْآخِرَةِ انْتَهَى. وَاقْتَفَى أَثَرَهُ صَاحِبُ الْكِفَايَةِ فِي هَذَا الْبَيَانِ. أَقُولُ: هَذَا أَشْبَهُ مِنْ الْأَوَّلِ، وَلَكِنْ فِيهِ أَيْضًا شَيْءٌ، فَإِنَّ الْعُمُومَ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ ظَاهِرٌ حَيْثُ لَمْ يُقَيِّدْ الْحُرْمَةَ فِيهِ بِشَيْءٍ مِنْ اللُّبْسِ وَالتَّوَسُّدِ وَغَيْرِهِمَا، وَأَمَّا فِي الْأَخِيرَيْنِ فَلَا، لِأَنَّ الثَّانِيَ مَخْصُوصٌ بِالِاتِّكَاءِ وَالثَّالِثَ مَخْصُوصٌ بِمَا يَفْعَلُ فِي السَّرْجِ مِنْ الْقُعُودِ وَالِافْتِرَاشِ فَلَمْ يَظْهَرْ فِي شَيْءٍ مِنْهُمَا الْعُمُومُ إلَّا أَنْ يَنْظُرَ فِي الثَّالِثِ إلَى مُجَرَّدِ قَوْلِهِ هَذَا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَنَا فِي الْآخِرَةِ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَمَّا قَبْلَهُ فَحِينَئِذٍ يَتَحَمَّلُ الْعُمُومَ كَمَا تَرَى

(قَوْلُهُ وَالْمَحْظُورُ لَا يُسْتَبَاحُ إلَّا لِضَرُورَةٍ) قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: قَوْلُهُ وَالْمَحْظُورُ لَا يُسْتَبَاحُ إلَّا لِضَرُورَةٍ يُوهِمُ أَنَّهُ مَا لُحْمَتُهُ حَرِيرٌ وَسَدَّاهُ غَيْرُهُ مُبَاحٌ فِي غَيْرِ الْحَرْبِ أَيْضًا. فَحَقَّ التَّعْبِيرُ وَالضَّرُورَةُ انْدَفَعَتْ بِإِبَاحَةِ الْأَدْنَى فَلَا حَاجَةَ إلَى اسْتِبَاحَةِ الْأَعْلَى، وَلَوْ حَمَلْنَا الْمَعْنَى عَلَى الْمَحْظُورِ لَا يُسْتَبَاحُ إلَّا لِضَرُورَةٍ فَإِذَا أَمْكَنَ انْدِفَاعُهَا بِالْأَدْنَى مِنْهُ لَا يُصَارُ إلَى اسْتِبَاحَةِ الْأَعْلَى

ص: 19

وَمَا رَوَاهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَخْلُوطِ قَالَ (وَلَا بَأْسَ بِلُبْسِ مَا سُدَاه حَرِيرٌ وَلُحْمَتُهُ غَيْرُ حَرِيرٍ كَالْقُطْنِ وَالْخَزِّ فِي الْحَرْبِ وَغَيْرِهِ) لِأَنَّ الصَّحَابَةَ رضي الله عنهم كَانُوا يَلْبَسُونَ الْخَزَّ، وَالْخَزُّ مُسْدًى بِالْحَرِيرِ، وَلِأَنَّ الثَّوْبَ إنَّمَا يَصِيرُ ثَوْبًا بِالنَّسْجِ وَالنَّسْجُ بِاللُّحْمَةِ فَكَانَتْ هِيَ الْمُعْتَبَرَةُ دُونَ السَّدَى. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: أَكْرَهُ ثَوْبَ الْقَزِّ يَكُونُ بَيْنَ الْفَرْوِ وَالظِّهَارَةِ، وَلَا أَرَى بِحَشْوِ الْقَزِّ بَأْسًا؛ لِأَنَّ الثَّوْبَ مَلْبُوسٌ وَالْحَشْوَ غَيْرُ مَلْبُوسٍ. قَالَ (وَمَا كَانَ لُحْمَتُهُ حَرِيرًا وَسَدَاهُ غَيْرَ حَرِيرٍ لَا بَأْسَ بِهِ فِي الْحَرْبِ)

لِلضَّرُورَةِ

(وَيُكْرَهُ فِي غَيْرِهِ) لِانْعِدَامِهَا، وَالِاعْتِبَارُ لِلُّحْمَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا.

كَانَ الْكَلَامُ مِنْ قَبِيلِ الْإِيجَازِ الْمُخِلِّ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ.

أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ، فَإِنَّ جَمِيعَ مُقَدِّمَاتِهِ مَجْرُوحٌ. أَمَّا قَوْلُهُ وَالْمَحْظُورُ لَا يُسْتَبَاحُ إلَّا لِضَرُورَةٍ يُوهِمُ أَنَّ مَا لُحْمَتُهُ حَرِيرٌ وَسَدَّاهُ غَيْرُ مُبَاحٍ فِي غَيْرِ الْحَرْبِ أَيْضًا، فَلِأَنَّ ذَلِكَ الْإِيهَامَ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ أَنْ لَوْ تَحَقَّقَتْ الضَّرُورَةُ فِي غَيْرِ الْحَرْبِ أَيْضًا وَلَيْسَ فَلَيْسَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ فَحَقَّ التَّعْبِيرُ وَالضَّرُورَةُ انْدَفَعَتْ بِإِبَاحَةِ الْأَدْنَى فَلَا حَاجَةَ إلَى اسْتِبَاحَةِ الْأَعْلَى فَلِأَنَّ حَقَّ التَّعْبِيرِ كَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ. وَيُرَدُّ عَلَيْهِ أَنْ يُقَالَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْتِبَاحَةُ الْأَعْلَى لِلتَّوْسِعَةِ بِهَا لَا لِلْحَاجَةِ إلَيْهَا فَلَا بُدَّ فِي دَفْعِ ذَلِكَ مِنْ الْمَصِيرِ إلَى قَوْلِ الْمُصَنِّفِ وَالْمَحْظُورُ لَا يُسْتَبَاحُ إلَّا لِضَرُورَةٍ. وَأَمَّا قَوْلُهُ وَلَوْ حَمَلْنَا الْمَعْنَى إلَى قَوْلِهِ كَانَ الْكَلَامُ مِنْ قَبِيلِ الْإِيجَازِ الْمُخِلِّ فَلِأَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى مِنْ قَبِيلِ الْإِيجَازِ الْمُخِلِّ أَنْ لَوْ كَانَ قَوْلُهُ فَإِذَا أَمْكَنَ انْدِفَاعُهَا بِالْأَدْنَى مِنْهُ لَا يُصَارُ إلَى اسْتِبَاحَةِ الْأَعْلَى مُقَدَّرًا فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ. وَأَمَّا إذَا كَانَ مَضْمُونُ ذَلِكَ الْقَوْلِ مَفْهُومًا مِنْ الْمُقَدِّمَةِ السَّابِقَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ وَالضَّرُورَةُ انْدَفَعَتْ بِالْمَخْلُوطِ كَمَا هُوَ حَقِيقَةُ الْحَالِ فَلَا يُوجَدُ الْإِيجَازُ الْمُخِلُّ فِي الْكَلَامِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ كَمَا لَا يَخْفَى؛ وَكَأَنَّ ذَلِكَ الْبَعْضَ لَمْ يُلَاحِظْ ارْتِبَاطَ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ. أَعْنِي قَوْلَهُ وَالْمَحْظُورُ لَا يُسْتَبَاحُ إلَّا لِضَرُورَةٍ بِالْمُقَدِّمَةِ السَّابِقَةِ عَلَيْهَا، وَهِيَ قَوْلُهُ وَالضَّرُورَةُ انْدَفَعَتْ بِالْمَخْلُوطِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ قَوْلَهُ وَالضَّرُورَةُ انْدَفَعَتْ بِالْمَخْلُوطِ شُرُوعٌ فِي الْجَوَابِ عَنْ دَلِيلِهِمَا الْعَقْلِيِّ، وَهُوَ قَوْلُهُمَا وَلِأَنَّ فِيهِ ضَرُورَةً إلَخْ، وَقَدْ اعْتَرَفَ بِهِ ذَلِكَ الْبَعْضُ فِي شَرْحِهِ الْمُقَامِ. ثُمَّ لَا يَذْهَبُ عَلَى الْفَطِنِ أَنَّ الْجَوَابَ عَنْ ذَلِكَ لَا يَتِمُّ بِمُقَدِّمَةٍ وَاحِدَةٍ، فَقَوْلُهُ وَالْمَحْظُورُ لَا يُسْتَبَاحُ إلَّا لِضَرُورَةٍ مِنْ تَمَامِ الْجَوَابِ. وَالْمَعْنَى أَنَّ الْمَحْظُورَ الشَّرْعِيَّ لَا يُسْتَبَاحُ إلَّا لِضَرُورَةٍ، وَالضَّرُورَةُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ قَدْ انْدَفَعَتْ بِالْمَخْلُوطِ الَّذِي لُحْمَتُهُ حَرِيرٌ وَسَدَّاهُ غَيْرُ ذَلِكَ، فَلَا مَجَالَ لِاسْتِبَاحَةِ الْخَالِصِ مِنْهُ، فَالْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ فِي تَقْرِيرِ الْمُصَنِّفِ مُقَدِّمَةٌ فِي الْمَعْنَى إلَّا أَنَّهُ أَخَّرَهَا فِي الذِّكْرِ لِكَوْنِ مِسَاسِ الْمُقَدِّمَةِ الْأُولَى بِدَلِيلِهَا الْعَقْلِيِّ أَكْثَرَ، وَتَأْثِيرِهَا فِي الْجَوَابِ عَنْ ذَلِكَ الدَّلِيلِ أَظْهَرَ، فَلَا غُبَارَ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا أَصْلًا تَأَمَّلْ تَرْشُدْ.

(قَوْلُهُ وَمَا رَوَاهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَخْلُوطِ) أَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ مَا رَوَاهُ تَرْخِيصُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي لُبْسِ الْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ فِي الْحَرْبِ وَالْحَمْلُ عَلَى الْمَخْلُوطِ إنْ صَحَّ فِي الْحَرِيرِ لَا يَصِحُّ فِي الدِّيبَاجِ؛ لِأَنَّ الدِّيبَاجَ فِي اللُّغَةِ وَالْعُرْفِ مَا كَانَ كُلُّهُ حَرِيرًا. قَالَ فِي الْمُغْرِبِ الدِّيبَاجُ الَّذِي سَدَّاهُ وَلُحْمَتُهُ إبْرَيْسَمُ. وَقَالَ الشُّرَّاحُ: جُمْلَةُ وُجُوهِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةٌ: الْأَوَّلُ مَا يَكُونُ كُلُّهُ حَرِيرًا وَهُوَ الدِّيبَاجُ لَا يَجُوزُ لُبْسُهُ فِي غَيْرِ الْحَرْبِ بِالِاتِّفَاقِ، وَأَمَّا فِي الْحَرْبِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَجُوزُ وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ. وَالثَّانِي مَا يَكُونُ سَدَّاهُ حَرِيرًا وَلُحْمَتُهُ غَيْرَهُ فَلَا بَأْسَ بِلُبْسِهِ فِي الْحَرْبِ وَغَيْرِهِ. وَالثَّالِثُ عَكْسُ الثَّانِي وَهُوَ مُبَاحٌ فِي الْحَرْبِ دُونَ غَيْرِهِ، فَقَدْ صَرَّحُوا فِي كَلَامِهِمْ هَذَا بِأَنَّ الدِّيبَاجَ مَا كَانَ كُلُّهُ حَرِيرًا فَلَا مَجَالَ لِلْحَمْلِ عَلَى الْمَخْلُوطِ فِي حَقِّهِ.

(قَوْلُهُ وَلِأَنَّ الثَّوْبَ إنَّمَا يَصِيرُ ثَوْبًا بِالنَّسْجِ وَالنَّسْجُ بِاللُّحْمَةِ فَكَانَتْ هِيَ الْمُعْتَبَرَةُ دُونَ السَّدَى) قَالَ جُمْهُورُ الشُّرَّاحِ فِي تَعْلِيلِ هَذَا؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ إذَا

ص: 20

قَالَ (وَلَا يَجُوزُ لِلرِّجَالِ التَّحَلِّي بِالذَّهَبِ) لِمَا رَوَيْنَا (وَلَا بِالْفِضَّةِ) لِأَنَّهَا فِي مَعْنَاهُ (إلَّا بِالْخَاتَمِ وَالْمِنْطَقَةِ وَحِلْيَةِ السَّيْفِ مِنْ الْفِضَّةِ) تَحْقِيقًا لِمَعْنَى النَّمُوذَجِ، وَالْفِضَّةُ أَغْنَتْ عَنْ الذَّهَبِ إذْ هُمَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، كَيْفَ

تَعَلَّقَ بَعْلَةٍ ذَاتِ وَصْفَيْنِ يُضَافُ الْحُكْمُ إلَى آخِرِهِمَا، وَاللُّحْمَةُ آخِرُهُمَا انْتَهَى. وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: وَقَدْ يُقَالُ لِأَنَّ الثَّوْبَ لَا يَكُونُ ثَوْبًا إلَّا بِهِمَا، وَالشَّيْءُ إذَا تَعَلَّقَ وُجُودُهُ بِشَيْئَيْنِ يُضَافُ إلَى آخِرِهِمَا وُجُودًا.

أَقُولُ: لَا يَخْفَى أَنَّ الْمُصَنِّفَ لَمْ يَعْتَبِرْ فِي التَّعْلِيلِ كَوْنَ اللُّحْمَةِ آخِرَ جُزْءٍ مِنْ الثَّوْبِ وَلَمْ يَلْتَفِتْ فِيهِ إلَى الْمُقَدِّمَةِ الْقَائِلَةِ: إذَا تَعَلَّقَ وُجُودُ شَيْءٍ بِشَيْئَيْنِ يُضَافُ إلَى آخِرِهِمَا وُجُودًا، فَيَكُونُ كُلٌّ مِمَّا مَا ذَكَرَ دَلِيلًا مُسْتَقِلًّا مُنْقَطِعًا عَلَى الْآخِرِ يُرْشِدُك إلَيْهِ قَوْلُ الزَّيْلَعِيِّ: لِأَنَّ الثَّوْبَ لَا يَصِيرُ ثَوْبًا إلَّا بِالنَّسْجِ وَالنَّسْجُ بِاللُّحْمَةِ فَكَانَتْ هِيَ الْمُعْتَبَرَةُ. أَوْ نَقُولُ: الثَّوْبُ لَا يَكُونُ ثَوْبًا إلَّا بِهِمَا فَتَكُونُ الْعِلَّةُ ذَاتَ وَجْهَيْنِ فَيُعْتَبَرُ آخِرُهُمَا وَهُوَ اللُّحْمَةُ انْتَهَى.

لَكِنْ لَا يَخْفَى عَلَيْك أَنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّ النَّسْجَ يَكُونُ بِاللُّحْمَةِ وَهْمٌ بَلْ هُوَ بِاللُّحْمَةِ وَالسَّدَى مَعًا فَالتَّعْوِيلُ عَلَى الدَّلِيلِ الثَّانِي، وَلِهَذَا عَدَلَ عَنْهُ صَاحِبُ الْكَافِي وَقَالَ: وَلِأَنَّهُ بِالنَّسْجِ يَصِيرُ ثَوْبًا وَهُوَ بِاللُّحْمَةِ وَالسَّدَى فَيُضَافُ كَوْنُهُ ثَوْبًا إلَى آخِرِ الْأَمْرَيْنِ وَهُوَ اللُّحْمَةُ، وَجُعِلَتْ حُكْمًا فِي الْإِبَاحَةِ. ثُمَّ الْفَرْقُ بَيْنَ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَبَيْنَ مَا نَقَلْنَاهُ مِنْ الدَّلِيلَيْنِ مَعَ كَوْنِهِ ظَاهِرًا خُفِيَ عَلَى بَعْضُ الشُّرَّاحِ حَيْثُ عَلَّلَ الْأَوَّلَ بِالثَّانِي، إلَى هُنَا لَفْظُ ذَلِكَ الْبَعْضِ. أَقُولُ: لَمْ يُصِبْ ذَلِكَ فِي رَأْيِهِ هَاهُنَا، بَلْ خَرَجَ عَنْ سُنَنِ السَّدَادِ، إذْ لَا يَخْفَى عَلَى ذِي مُسْكَةٍ أَنَّ الدَّلِيلَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ لَا يُفِيدُ الْمُدَّعِيَ بِدُونِ الْمَصِيرِ إلَى الْمُقَدِّمَةِ الْقَائِلَةِ إنَّ الْحُكْمَ إذَا تَعَلَّقَ بِشَيْئَيْنِ يُضَافُ إلَى آخِرِهِمَا؛ لِأَنَّ النَّسْجَ إنَّمَا يَحْصُلُ بِاللُّحْمَةِ وَالسَّدَى مَعًا لَا بِاللُّحْمَةِ وَحْدَهَا إذْ النَّسْجُ إنَّمَا هُوَ تَرْكِيبُ اللُّحْمَةِ بِالسَّدَى كَمَا صَرَّحُوا بِهِ فَلَا يَثْبُتُ كَوْنُ الِاعْتِبَارِ بِاللُّحْمَةِ دُونَ السَّدَى إلَّا بِمُلَاحَظَةِ تِلْكَ الْمُقَدِّمَةِ، فَإِذَا لَمْ يُفِدْ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ الْمُدَّعِيَ بِدُونِ الْمَصِيرِ إلَى تِلْكَ الْمُقَدِّمَةِ لَمْ يَبْقَ احْتِمَالُ أَنْ يَكُونَ هَذَا دَلِيلًا مُسْتَقِلًّا وَتِلْكَ الْمُقَدَّمَةُ دَلِيلًا آخَرَ، فَلَا جَرَمَ نَبَّهَ جُمْهُورُ الشُّرَّاحِ عَلَى كَوْنِ تِلْكَ الْمُقَدِّمَةِ مُعْتَبَرَةً فِيمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ بِضَمِّهِمْ إيَّاهَا إلَيْهِ بِطَرِيقِ التَّعْلِيلِ لِقَوْلِهِ فَكَانَتْ هِيَ الْمُعْتَبَرَةُ دُونَ السَّدَى وَأَصَابُوا فِيمَا فَعَلُوا حَيْثُ حَمَلُوا الدَّلِيلَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ عَلَى الْمَعْنَى الصَّحِيحِ التَّامِّ مَعَ تَحَمُّلِ كَلَامِهِ إيَّاهُ، فَإِنَّ عَدَمَ اعْتِبَارِهِ فِي التَّعْلِيلِ كَوْنَ اللُّحْمَةِ آخِرَ جُزْءٍ مِنْ الثَّوْبِ لَيْسَ اعْتِبَارًا لِعَدَمِهِ، وَعَدَمُ الْتِفَاتِهِ فِيهِ إلَى التَّصْرِيحِ بِتِلْكَ الْمُقَدِّمَةِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِنَاءً عَلَى ظُهُورِ اعْتِبَارِهَا فِيهِ وَاعْتِمَادًا عَلَى تَقَرُّرِهِ فِي كَلِمَاتِ الْمَشَايِخِ، وَلَيْسَ فِي كَلَامِهِ مَا يَمْنَعُهُ فَإِنَّهُ قَالَ: وَالنَّسْجُ بِاللُّحْمَةِ بِدُونِ الْقَصْرِ عَلَيْهَا فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَتَمَامُ النَّسْجِ أَوْ آخِرُ النَّسْجِ بِاللُّحْمَةِ.

وَالْعَجَبُ مِنْ ذَلِكَ الْبَعْضِ أَنَّهُ مَعَ اعْتِرَافِهِ بِبُطْلَانِ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ بِدُونِ اعْتِبَارِ حَدِيثِ إضَافَةِ الْحُكْمِ إلَى آخِرِ الْجُزْأَيْنِ حَيْثُ قَالَ: لَكِنْ لَا يَخْفَى عَلَيْك أَنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّ النَّسْجَ يَكُونُ بِاللُّحْمَةِ وَهْمٌ، بَلْ هُوَ بِاللُّحْمَةِ وَالسَّدَى مَعًا جَعَلَ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ دَلِيلًا مُسْتَقِلًّا بِدُونِ الْمَصِيرِ إلَى تِلْكَ الْمُقَدِّمَةِ فَاخْتَارَ بُطْلَانَ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي التَّعْلِيلِ حِينَئِذٍ، وَشَنَّعَ عَلَى الشُّرَّاحِ الْمُصْلِحِينَ كَلَامَهُ بِعَدَمِ الْفَرْقِ بَيْنَ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَغَيْرُهُ، وَمَا غَرَّهُ إلَّا عِبَارَةُ الزَّيْلَعِيِّ، وَلَمْ يَنْظُرْ أَوْ لَمْ يَلْتَفِتْ إلَى مَا وَقَعَ فِي كَلَامِ فُحُولِ الْمَشَايِخِ مِنْ جَعْلِ الْمَجْمُوعِ دَلِيلًا وَاحِدًا مِنْهُمْ صَاحِبُ الْبَدَائِعِ فَإِنَّهُ قَالَ فِي تَقْرِيرِ الدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ إنَّ الثَّوْبَ يَصِيرُ ثَوْبًا بِاللُّحْمَةِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَصِيرُ ثَوْبًا بِالنَّسْجِ، وَالنَّسْجُ تَرْكِيبُ اللُّحْمَةِ بِالسَّدَى فَكَانَتْ اللُّحْمَةُ كَالْوَصْفِ الْأَخِيرِ فَيُضَافُ الْحُكْمُ إلَيْهِ انْتَهَى.

وَمِنْهُمْ صَاحِبُ الْمُحِيطِ فَإِنَّهُ أَيْضًا قَالَ فِي تَقْرِيرِ ذَلِكَ: لِأَنَّ الثَّوْبَ إنَّمَا يَصِيرُ ثَوْبًا بِالنَّسْجِ، وَالنَّسْجُ إنَّمَا يَتَأَتَّى بِاللُّحْمَةِ آخِرُهُمَا فَيُضَافُ صَيْرُورَتُهُ ثَوْبًا عَلَى اللُّحْمَةِ، فَإِذَا كَانَتْ اللُّحْمَةُ مِنْ الْحَرِيرِ كَانَ الْكُلُّ حَرِيرًا حُكْمًا انْتَهَى.

وَمِنْهُمْ صَاحِبُ الْكَافِي فَإِنَّهُ أَيْضًا جَمَعَ كَمَا نَقَلَهُ ذَلِكَ الْبَعْضُ، ثُمَّ إنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُ الزَّيْلَعِيِّ بِقَوْلِهِ أَوْ نَقُولُ إلَخْ تَقْرِيرُ ذَلِكَ الدَّلِيلِ بِعِبَارَةٍ أُخْرَى مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِقَيْدِ النَّسْجِ لَا ذِكْرُ دَلِيلٍ آخَرَ مُسْتَقِلٍّ مُغَايِرٍ لِلْأَوَّلِ فِي الْمَعْنَى وَالْمَآلِ، يُرْشِدُ إلَيْهِ أَنَّهُ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: وَلِأَنَّ اللُّحْمَةَ هِيَ الَّتِي تَظْهَرُ فِي الْمَنْظَرِ فَتَكُونُ الْعِبْرَةُ بِمَا يَظْهَرُ دُونَ مَا يَخْفَى انْتَهَى حَيْثُ أَعَادَ حَرْفَ التَّعْلِيلِ وَهِيَ اللَّامُ فِي هَذَا الدَّلِيلِ إشَارَةً إلَى اسْتِقْلَالِهِ.

فَلَوْ كَانَ مُرَادُهُ بِمَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ أَوْ نَقُولُ إلَخْ إيرَادَ دَلِيلٍ آخَرَ مُسْتَقِلٍّ لَأَعَادَ اللَّامَ فِيهِ أَيْضًا تَبَصَّرْ

(قَوْلُهُ وَلَا يَجُوزُ لِلرِّجَالِ التَّحَلِّيَ بِالذَّهَبِ لِمَا رَوَيْنَا وَلَا بِالْفِضَّةِ لِأَنَّهَا فِي مَعْنَاهُ) أَقُولُ: لِمَانِعٍ أَنْ يَمْنَعَ كَوْنَهُ

ص: 21

وَقَدْ جَاءَ فِي إبَاحَةِ ذَلِكَ آثَارٌ. وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: وَلَا يَتَخَتَّمُ إلَّا بِالْفِضَّةِ، وَهَذَا نَصٌّ عَلَى أَنَّ التَّخَتُّمَ بِالْحَجَرِ وَالْحَدِيدِ وَالصُّفْرِ حَرَامٌ. «وَرَأَى رَسُولُ اللَّهِ عليه الصلاة والسلام عَلَى رَجُلٍ خَاتَمَ صُفْرٍ فَقَالَ: مَالِي أَجِدُ مِنْك رَائِحَةَ الْأَصْنَامِ. وَرَأَى عَلَى آخَرَ خَاتَمَ حَدِيدٍ فَقَالَ: مَالِي أَرَى عَلَيْك حِلْيَةَ أَهْلِ النَّارِ» وَمِنْ النَّاسِ مَنْ أَطْلَقَ الْحَجَرَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ يَشْبُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِحَجَرٍ، إذْ لَيْسَ لَهُ ثِقَلُ الْحَجَرِ، وَإِطْلَاقُ الْجَوَابِ فِي الْكِتَابِ يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِهِ (وَالتَّخَتُّمُ بِالذَّهَبِ عَلَى الرِّجَالِ حَرَامٌ) لِمَا رَوَيْنَا. وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه «أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام نَهَى عَنْ التَّخَتُّمِ بِالذَّهَبِ» وَلِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ التَّحْرِيمُ، وَالْإِبَاحَةُ ضَرُورَةُ الْخَتْمِ أَوْ النَّمُوذَجِ، وَقَدْ انْدَفَعَتْ بِالْأَدْنَى وَهُوَ الْفِضَّةُ، وَالْحَلْقَةُ هِيَ الْمُعْتَبَرَةُ؛ لِأَنَّ قِوَامَ الْخَاتَمِ بِهَا، وَلَا مُعْتَبَرَ بِالْفَصِّ حَتَّى يَجُوزَ أَنْ يَكُونَ مِنْ

فِي مَعْنَاهُ، كَيْفَ وَقَدْ صَرَّحَ فِيمَا بَعْدُ بِأَنَّهَا أَدْنَى مِنْهُ حَيْثُ قَالَ فِي تَعْلِيلِ حُرْمَةِ التَّخَتُّمِ بِالذَّهَبِ عَلَى الرِّجَالِ. وَلِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ التَّحْرِيمُ، وَالْإِبَاحَةُ ضَرُورَةُ التَّخَتُّمِ أَوْ النَّمُوذَجُ وَقَدْ انْدَفَعَتْ بِالْأَدْنَى وَهُوَ الْفِضَّةُ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْأَدْنَى لَا يَكُونُ فِي مَعْنَى الْأَعْلَى. وَتَوْضِيحُهُ أَنَّ مَقْصُودَ الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ: لِأَنَّهَا فِي مَعْنَاهُ إثْبَاتُ عَدَمِ جَوَازِ التَّحَلِّي بِالْفِضَّةِ لِلرِّجَالِ بِدَلَالَةِ النَّصِّ الْوَارِدِ فِي حُرْمَةِ الذَّهَبِ عَلَى الرِّجَالِ وَهُوَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «هَذَانِ حَرَامَانِ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي» وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ أَنَّ شَرْطَ دَلَالَةِ النَّصِّ أَنْ يَكُونَ الْمَسْكُوتُ عَنْهُ أَوْلَى مِنْ الْمَنْطُوقِ فِي الْحُكْمِ الثَّابِتِ لِلْمَنْطُوقِ أَوْ مُسَاوِيًا لَهُ فِيهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَدْنَى مِنْهُ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ فِي الْفِضَّةِ كَذَلِكَ لِمَا عَرَفْت (قَوْلُهُ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ أَطْلَقَ فِي الْحَجَرِ الَّذِي يُقَالُ لَهُ يَشْبُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِحَجَرٍ، إذْ لَيْسَ لَهُ ثِقَلُ الْحَجَرِ) أَقُولُ: الِاسْتِدْلَال عَلَى عَدَمِ حُرْمَةِ التَّخَتُّمِ بِالْيَشْبِ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِحَجَرٍ مِمَّا لَا حَاصِلَ لَهُ؛ لِأَنَّ مَا لَيْسَ بِحَجَرٍ قَدْ يَكُونُ مِمَّا يَحْرُمُ التَّخَتُّمُ بِهِ بِلَا خِلَافٍ كَالْحَدِيدِ وَالصُّفْرِ، وَلَمْ يَرِدْ نَصٌّ فِي حُرْمَةِ التَّخَتُّمِ بِالْحَجَرِ كَوُرُودِهِ فِي الذَّهَبِ وَالْحَدِيدِ وَالصُّفْرِ حَتَّى يَكُونَ الْمَقْصُودُ مِنْ نَفْيِ كَوْنِهِ حَجَرًا هُوَ الِاحْتِرَازُ عَنْ كَوْنِهِ مَوْرِدَ نَصِّ الْحُرْمَةِ، بَلْ وَرَدَ النَّصُّ فِي جَوَازِ التَّخَتُّمِ بِبَعْضِ الْأَحْجَارِ كَالْعَقِيقِ، فَإِنَّهُ رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَتَخَتَّمُ بِالْعَقِيقِ» وَقَالَ «تَخَتَّمُوا بِالْعَقِيقِ فَإِنَّهُ مُبَارَكٌ» كَمَا ذَكَرَهُ فِي الْكَافِي وَغَيْرِهِ.

فَكَانَ التَّشَبُّثُ بِكَوْنِهِ حَجَرًا أَظْهَرَ نَفْعًا فِي إثْبَاتِ مُدَّعِي مَنْ قَالَ بِعَدَمِ حُرْمَةِ التَّخَتُّمِ بِهِ مِنْ نَفْيِ كَوْنِهِ حَجَرًا، وَعَنْ هَذَا قَالَ الْإِمَامُ قَاضِي خَانْ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَفِي فَتَاوَاهُ: ظَاهِرُ لَفْظِ الْكِتَابِ يَقْتَضِي كَرَاهَةَ التَّخَتُّمِ بِالْحَجَرِ الَّذِي يُقَالُ لَهُ يَشْبُ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِذَهَبٍ وَلَا حَدِيدٍ وَلَا صُفْرٍ، بَلْ هُوَ حَجَرٌ، وَقَدْ رُوِيَ «عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ تَخَتَّمَ بِالْعَقِيقِ» ، انْتَهَى كَلَامُهُ (قَوْلُهُ وَالتَّخَتُّمُ بِالذَّهَبِ عَلَى الرِّجَالِ حَرَامٌ) قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: هَذَا تَصْرِيحٌ بِمَا عُلِمَ مِنْ قَوْلِهِ إلَّا بِالْخَاتَمِ، إلَّا أَنَّهُ ذَكَرَهُ تَوْطِئَةً لِمَا فَصَّلَهُ مِنْ دَلَائِلِهِ انْتَهَى.

ص: 22

حَجَرٍ وَيَجْعَلَ الْفَصَّ إلَى بَاطِنِ كَفِّهِ بِخِلَافِ النِّسْوَانِ؛ لِأَنَّهُ تَزَيُّنٌ فِي حَقِّهِنَّ، وَإِنَّمَا يَتَخَتَّمُ الْقَاضِي

وَالسُّلْطَانُ لِحَاجَتِهِ

إلَى الْخَتْمِ، وَأَمَّا غَيْرُهُمَا فَالْأَفْضَلُ أَنْ يَتْرُكَهُ لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ

. قَالَ (وَلَا بَأْسَ بِمِسْمَارِ الذَّهَبِ يُجْعَلُ فِي حَجَرِ الْفَصِّ) أَيْ فِي ثُقْبِهِ؛ لِأَنَّهُ تَابِعٌ كَالْعَلَمِ فِي الثَّوْبِ فَلَا يُعَدُّ لَابِسًا لَهُ. قَالَ (وَلَا تُشَدُّ الْأَسْنَانُ بِالذَّهَبِ وَتُشَدُّ بِالْفِضَّةِ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا بَأْسَ بِالذَّهَبِ أَيْضًا. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ مِثْلَ قَوْلِ كُلٍّ مِنْهُمَا. لَهُمَا «أَنَّ عَرْفَجَةَ بْنَ أَسْعَدَ الْكِنَانِيَّ أُصِيبَ أَنْفُهُ يَوْمَ الْكُلَابِ فَاِتَّخَذَ أَنْفًا مِنْ فِضَّةٍ فَأَنْتَنَ. فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام بِأَنْ يَتَّخِذَ أَنْفًا مِنْ ذَهَبٍ» وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ التَّحْرِيمُ وَالْإِبَاحَةُ

لِلضَّرُورَةِ

، وَقَدْ انْدَفَعَتْ بِالْفِضَّةِ وَهِيَ الْأَدْنَى فَبَقِيَ الذَّهَبُ عَلَى التَّحْرِيمِ.

وَالضَّرُورَةُ فِيمَا رُوِيَ لَمْ تَنْدَفِعْ فِي الْأَنْفِ دُونَهُ حَيْثُ أَنْتَنَ. قَالَ (وَيُكْرَهُ أَنْ يَلْبَسَ الذُّكُورُ مِنْ الصِّبْيَانِ الذَّهَبَ وَالْحَرِيرَ)؛ لِأَنَّ التَّحْرِيمَ لَمَّا ثَبَتَ فِي حَقِّ الذُّكُورِ وَحَرُمَ اللُّبْسُ حَرُمَ الْإِلْبَاسُ كَالْخَمْرِ لَمَّا حَرُمَ شُرْبُهَا حَرُمَ سَقْيُهَا. قَالَ (وَتُكْرَهُ الْخِرْقَةُ الَّتِي تُحْمَلُ فَيُمْسَحُ بِهَا الْعَرَقُ)؛ لِأَنَّهُ نَوْعُ تَجَبُّرٍ وَتَكَبُّرٍ (وَكَذَا الَّتِي يُمْسَحُ بِهَا الْوُضُوءَ أَوْ يُمْتَخَطُ بِهَا) وَقِيلَ إذَا كَانَ عَنْ حَاجَةٍ لَا يُكْرَهُ وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَإِنَّمَا يُكْرَهُ إذَا كَانَ عَنْ تَكَبُّرٍ وَتَجَبُّرٍ وَصَارَ كَالتَّرَبُّعِ فِي الْجُلُوسِ (وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَرْبِطَ الرَّجُلُ فِي أُصْبُعِهِ أَوْ خَاتَمِهِ الْخَيْطَ لِلْحَاجَةِ) وَيُسَمَّى ذَلِكَ الرَّتَمُ وَالرَّتِيمَةُ. وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ. قَالَ قَائِلُهُمْ: لَا يَنْفَعَنَّكَ الْيَوْمَ إنْ هَمَّتْ بِهِمْ كَثْرَةُ مَا تُوصِي وَتَعْقَادُ الرَّتَمِ

أَقُولُ: لَيْسَ ذَاكَ بِسَدِيدٍ؛ لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ إلَّا بِالْخَاتَمِ إلَّا أَنَّهُ يَجُوزُ لِلرِّجَالِ التَّحَلِّيَ بِالْخَاتَمِ؛ لِأَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ وَلَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ التَّحَلِّيَ بِالذَّهَبِ وَلَا بِالْفِضَّةِ. وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ النَّفْيِ إثْبَاتٌ بِلَا رَيْبٍ، وَمَا ذَكَرَهُ هَاهُنَا حُرْمَةُ التَّخَتُّمِ بِالذَّهَبِ عَلَى الرِّجَالِ فَكَيْفَ يَكُونُ هَذَا تَصْرِيحًا بِمَا عَلِمَ مِنْ قَوْلِهِ إلَّا بِالْخَاتَمِ.

وَالتَّخَالُفُ بَيْنَ نَفْيِ جَوَازِ الشَّيْءِ وَإِثْبَاتِهِ ضَرُورِيٌّ. وَلَوْ قَالَ هَذَا تَصْرِيحٌ بِمَا فُهِمَ مِنْ قَوْلِهِ مِنْ الْفِضَّةِ فِي قَوْلِهِ إلَّا بِالْخَاتَمِ وَالْمِنْطَقَةِ وَحِلْيَةِ السَّيْفِ مِنْ الْفِضَّةِ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ مَفْهُومَ الْمُخَالَفَةِ مُعْتَبَرٌ فِي الرِّوَايَاتِ بِالِاتِّفَاقِ لَكَانَ لَهُ وَجْهٌ تَأَمَّلْ.

ص: 23

وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام أَمَرَ بَعْضَ أَصْحَابِهِ بِذَلِكَ، وَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِعَبَثٍ لِمَا فِيهِ مِنْ الْغَرَضِ الصَّحِيحِ وَهُوَ التَّذَكُّرُ عَنْدَ النِّسْيَانِ.

فَصْلٌ فِي الْوَطْءِ وَالنَّظَرِ وَاللَّمْسِ

قَالَ (وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنْظُرَ الرَّجُلُ إلَى الْأَجْنَبِيَّةِ إلَّا وَجْهَهَا وَكَفَّيْهَا) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} قَالَ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما؛ مَا ظَهَرَ مِنْهَا الْكُحْلُ وَالْخَاتَمُ، وَالْمُرَادُ مَوْضِعُهُمَا وَهُوَ الْوَجْهُ وَالْكَفُّ، كَمَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالزِّينَةِ الْمَذْكُورَةِ مَوْضِعُهَا، وَلِأَنَّ فِي إبْدَاءِ الْوَجْهِ وَالْكَفِّ ضَرُورَةً لِحَاجَتِهَا إلَى الْمُعَامَلَةِ مَعَ الرِّجَالِ أَخْذًا وَإِعْطَاءً وَغَيْرَ ذَلِكَ، وَهَذَا تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يُبَاحُ النَّظَرُ إلَى قَدِمَهَا. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ

(فَصْلٌ فِي الْوَطْءِ وَالنَّظَرِ وَاللَّمْسِ)

لَا يَذْهَبُ عَلَى النَّاظِرِ فِي الْمَسَائِلِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذَا الْفَصْلِ أَنَّ مَا يَتَعَلَّقُ مِنْهَا بِالْوَطْءِ إنَّمَا هِيَ مَسْأَلَةُ جَوَازِ الْعَزْلِ عَنْ أَمَتِهِ بِغَيْرِ إذْنِهَا، وَعَدَمُ جَوَازِ ذَلِكَ فِي الْحُرَّةِ إلَّا بِإِذْنِهَا، وَأَنَّ تِلْكَ الْمَسْأَلَةَ مَعَ كَوْنِ الْمَقْصُودِ مِنْهَا بَيَانَ مَحَلِّ جَوَازِ الْعَزْلِ وَغَيْرِ مَحَلِّهِ لَا بَيَانَ حَالِ الْوَطْءِ نَفْسِهِ، قَدْ ذُكِرَتْ فِي آخِرِ هَذَا الْفَصْلِ، فَالْمُنَاسِبُ أَنْ يُؤَخِّرَ ذِكْرَ الْوَطْءِ فِي عِنْوَانِ الْفَصْلِ أَيْضًا فَيُقَالُ: فَصْلٌ فِي النَّظَرِ وَاللَّمْسِ وَالْوَطْءِ عَلَى تَرْتِيبِ ذِكْرِ الْمَسَائِلِ الْآتِيَةِ كَمَا وَقَعَ فِي الْكَافِي.

وَالْأَنْسَبُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يُبَدِّلَ الْوَطْءَ بِالْعَزْلِ فِي التَّعْبِيرِ بَعْدَ التَّأْخِيرِ لِيَحْصُلَ تَمَامُ الْمُوَافَقَةِ بَيْنَ عِنْوَانِ الْفَصْلِ وَمَسَائِلِهِ. ثُمَّ إنَّ مَسَائِلَ النَّظَرِ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ: نَظَرُ الرَّجُلِ إلَى الْمَرْأَةِ، وَنَظَرُ الْمَرْأَةِ إلَى الرَّجُلِ، وَنَظَرُ الرَّجُلِ إلَى الرَّجُلِ، وَنَظَرُ الْمَرْأَةِ إلَى الْمَرْأَةِ: وَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ مِنْهَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ أَيْضًا: نَظَرِ الرَّجُلِ إلَى الْأَجْنَبِيَّةِ الْحُرَّةِ، وَنَظَرِهِ إلَى مَنْ يَحِلُّ لَهُ مِنْ الزَّوْجَةِ وَالْأَمَةِ، وَنَظَرِهِ إلَى ذَوَاتِ مَحَارِمِهِ، وَنَظَرِهِ إلَى أَمَةِ الْغَيْرِ.

فَبَدَأَ فِي الْكِتَابِ بِأَوَّلِ الْأَقْسَامِ مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ كَمَا تَرَى (قَوْلُهُ قَالَ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: مَا ظَهَرَ مِنْهَا الْكُحْلُ وَالْخَاتَمُ، وَالْمُرَادُ مَوْضِعُهُمَا وَهُوَ الْوَجْهُ وَالْكَفُّ) أَقُولُ: الظَّاهِرُ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ نَقْلِ قَوْلِ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ هَاهُنَا إنَّمَا هُوَ الِاسْتِدْلَال عَلَى جَوَازِ أَنْ يَنْظُرَ الرَّجُلُ إلَى وَجْهِ الْأَجْنَبِيَّةِ وَكَفَّيْهَا

ص: 24

يُبَاحُ؛ لِأَنَّ فِيهِ بَعْضَ الضَّرُورَةِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُبَاحُ النَّظَرُ إلَى ذِرَاعِهَا أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَبْدُو مِنْهَا عَادَةً قَالَ (فَإِنْ كَانَ لَا يَأْمَنُ الشَّهْوَةَ لَا يَنْظُرُ إلَى وَجْهِهَا إلَّا لِحَاجَةٍ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «مَنْ نَظَرَ إلَى مَحَاسِنِ امْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ عَنْ شَهْوَةٍ صُبَّ فِي عَيْنَيْهِ الْآنُكُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» فَإِذَا خَافَ الشَّهْوَةَ لَمْ يَنْظُرْ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ تَحَرُّزًا عَنْ الْمُحَرَّمِ. وَقَوْلُهُ لَا يَأْمَنُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُبَاحُ إذَا شَكَّ فِي الِاشْتِهَاءِ كَمَا إذَا عَلِمَ أَوْ كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ ذَلِكَ

(وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَمَسَّ وَجْهَهَا وَلَا كَفَّيْهَا وَإِنْ كَانَ يَأْمَنُ الشَّهْوَةَ) لِقِيَامِ الْمُحَرَّمِ وَانْعِدَامِ الضَّرُورَةِ وَالْبَلْوَى، بِخِلَافِ النَّظَرِ لِأَنَّ فِيهِ بَلْوَى. وَالْمُحَرَّمُ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «مَنْ مَسَّ كَفَّ امْرَأَةٍ لَيْسَ مِنْهَا بِسَبِيلٍ وُضِعَ عَلَى كَفِّهِ جَمْرَةٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَهَذَا إذَا كَانَتْ شَابَّةً تُشْتَهَى، أَمَّا إذَا كَانَتْ عَجُوزًا لَا تُشْتَهَى فَلَا بَأْسَ بِمُصَافَحَتِهَا وَمَسِّ يَدِهَا لِانْعِدَامِ خَوْفِ الْفِتْنَةِ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه كَانَ يُدْخِلُ بَعْضَ الْقَبَائِلِ الَّتِي كَانَ مُسْتَرْضَعًا فِيهِمْ وَكَانَ يُصَافِحُ الْعَجَائِزَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ رضي الله عنه اسْتَأْجَرَ عَجُوزًا لِتُمَرِّضَهُ، وَكَانَتْ تَغْمِزُ رِجْلَيْهِ

بِقَوْلِهِمَا فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى {إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} فَإِنَّ فِي تَفْسِيرِهِ أَقْوَالًا مِنْ الصَّحَابَةِ لَا يَدُلُّ عَلَى الْمُدَّعَى هَاهُنَا شَيْءٌ مِنْهَا سِوَى قَوْلِهِمَا، لَكِنَّ دَلَالَةَ قَوْلِهِمَا عَلَى ذَلِكَ غَيْرُ وَاضِحٍ أَيْضًا، إذْ الظَّاهِرُ أَنَّ مَوْضِعَ الْكُحْلِ هُوَ الْعَيْنُ لَا الْوَجْهُ كُلُّهُ، وَكَذَا مَوْضِعُ الْخَاتَمِ هُوَ الْأُصْبُعُ لَا الْكَفُّ كُلُّهُ، وَالْمُدَّعَى جَوَازُ النَّظَرِ إلَى وَجْهِ الْأَجْنَبِيَّةِ كُلِّهِ وَإِلَى كَفَّيْهَا بِالْكُلِّيَّةِ، فَالْأَوْلَى فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى ذَلِكَ هُوَ الْمَصِيرُ إلَى مَا جَاءَ مِنْ الْأَخْبَارِ فِي الرُّخْصَةِ فِي النَّظَرِ إلَى وَجْهِهَا وَكَفَّيْهَا: مِنْهَا مَا رُوِيَ «أَنَّ امْرَأَةً عَرَضَتْ نَفْسَهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَنَظَرَ إلَى وَجْهِهَا وَلَمْ يَرَ فِيهَا رَغْبَةً» . وَمِنْهَا مَا رُوِيَ «أَنَّ أَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ دَخَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعَلَيْهَا ثِيَابٌ رِقَاقٌ، فَأَعْرَضَ عَنْهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ: يَا أَسْمَاءُ إنَّ الْمَرْأَةَ إذَا بَلَغَتْ الْمَحِيضَ لَمْ يَصْلُحْ أَنْ يُرَى مِنْهَا إلَّا هَذَا وَهَذَا وَأَشَارَ إلَى وَجْهِهِ وَكَفَّيْهِ» وَمِنْهَا مَا رُوِيَ " أَنَّ فَاطِمَةَ رضي الله عنها لَمَّا نَاوَلَتْ أَحَدَ ابْنَيْهَا بِلَالًا أَوْ أَنَسًا قَالَ: رَأَيْت كَفَّهَا كَأَنَّهَا فَلْقَةُ قَمَرٍ ": أَيْ قِطْعَتُهُ، فَدَلَّ عَلَى أَنْ لَا بَأْسَ بِالنَّظَرِ إلَى وَجْهِ الْمَرْأَةِ وَكَفِّهَا

(الْمَرْأَةُ الْأَجْنَبِيَّةُ)(قَوْلُهُ وَهَذَا إذَا كَانَتْ شَابَّةً تُشْتَهَى، أَمَّا إذَا كَانَتْ عَجُوزًا لَا تُشْتَهَى فَلَا بَأْسَ بِمُصَافَحَتِهَا وَمَسِّ يَدِهَا لِانْعِدَامِ خَوْفِ الْفِتْنَةِ) قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: يُرِيدُ أَنَّ حُرْمَةَ مَسِّ الْوَجْهِ وَالْكَفِّ تَخْتَصُّ بِمَا إذَا كَانَتْ شَابَّةً، أَمَّا إذَا كَانَتْ عَجُوزًا لَا تُشْتَهَى فَلَا بَأْسَ بِمَسِّهِمَا انْتَهَى.

أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا بِشَرْحٍ صَحِيحٍ، إذْ لَمْ يُذْكَرْ فِي هَذَا الْكِتَابِ وَلَا فِي غَيْرِهِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ عَدَمُ الْبَأْسِ بِمَسِّ وَجْهِ الْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ وَإِنْ كَانَتْ عَجُوزًا، وَإِنَّمَا الْمَذْكُورُ هُنَا وَفِي سَائِرِ الْكُتُبِ عَدَمُ الْبَأْسِ بِمَسِّ كَفِّهَا إذَا كَانَتْ عَجُوزًا، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَافِحُ الْعَجَائِزَ فِي الْبَيْعَةِ وَلَا يُصَافِحُ الشَّوَابَّ» كَمَا ذَكَرَ فِي الْمُحِيطِ وَغَيْرِهِ، وَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ كَمَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ. نَعَمْ ظَاهِرُ الدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ وَهُوَ قَوْلُهُ لِانْعِدَامِ خَوْفِ الْفِتْنَةِ لَا يَأْبَى عَنْ التَّعْمِيمِ، لَكِنْ لَا مَجَالَ لِاخْتِرَاعِ مَسْأَلَةٍ بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ بِدُونِ أَنْ تُذْكَرَ فِي الْكُتُبِ نَقْلًا عَنْ الْأَئِمَّةِ أَوْ الْمَشَايِخِ. ثُمَّ إنَّ تَاجَ الشَّرِيعَةِ اعْتَرَضَ عَلَى قَوْلِهِ لِانْعِدَامِ خَوْفِ الْفِتْنَةِ، وَأَجَابَ حَيْثُ قَالَ: فَإِنْ قُلْت: هَذَا تَعْلِيلٌ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ، وَهُوَ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ مَنْ مَسَّ كَفَّ امْرَأَةٍ لَيْسَ مِنْهَا بِسَبِيلٍ وُضِعَ عَلَى كَفِّهِ جَمْرَةٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. قُلْت: الْمُرَادُ امْرَأَةٌ تَدْعُو النَّفْسُ إلَى مَسِّهَا، أَمَّا إذَا تَهَرَّبَتْ الْعَيْنُ مِنْ رُؤْيَتِهَا وَانْزَوَى الْخَاطِرُ مِنْ لِقَائِهَا فَلَا، انْتَهَى كَلَامُهُ.

وَاقْتَفَى أَثَرَهُ صَاحِبُ الْكِفَايَةِ. أَقُولُ: يُرَدُّ الِاعْتِرَاضُ الْمَذْكُورُ عَلَى قَوْلِ الْمُصَنِّفِ فِيمَا بَعْدُ، وَكَذَا إذَا كَانَ شَيْخًا يَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَيْهَا لِمَا قُلْنَا. فَإِنَّ قَوْلَهُ لِمَا قُلْنَا إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ لِانْعِدَامِ خَوْفِ الْفِتْنَةِ كَمَا لَا يَخْفَى، وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ بَعْضُ الشُّرَّاحِ. وَلَا يَتَمَشَّى الْجَوَابُ الْمَذْكُورُ هُنَاكَ

ص: 25

وَتُفَلِّي رَأْسَهُ، وَكَذَا إذَا كَانَ شَيْخًا يَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَيْهَا لِمَا قُلْنَا، فَإِنْ كَانَ لَا يَأْمَنُ عَلَيْهَا لَا تَحِلُّ مُصَافَحَتُهَا لِمَا فِيهِ مِنْ التَّعْرِيضِ لِلْفِتْنَةِ. وَالصَّغِيرَةُ إذَا كَانَتْ لَا تُشْتَهَى يُبَاحُ مَسُّهَا وَالنَّظَرُ إلَيْهَا لِعَدَمِ خَوْفِ الْفِتْنَةِ.

قَالَ (وَيَجُوزُ لِلْقَاضِي إذَا أَرَادَ أَنْ يَحْكُمَ عَلَيْهَا وَلِلشَّاهِدِ إذَا أَرَادَ أَدَاءَ الشَّهَادَةِ عَلَيْهَا النَّظَرُ إلَى وَجْهِهَا وَإِنْ خَافَ أَنْ يَشْتَهِيَ) لِلْحَاجَةِ إلَى إحْيَاءِ حُقُوقِ النَّاسِ بِوَاسِطَةِ الْقَضَاءِ وَأَدَاءِ الشَّهَادَةِ، وَلَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَقْصِدَ بِهِ أَدَاءَ الشَّهَادَةِ أَوْ الْحُكْمَ عَلَيْهَا لَا قَضَاءَ الشَّهْوَةِ تَحَرُّزًا عَمَّا يُمْكِنُهُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ وَهُوَ قَصْدُ الْقَبِيحِ. وَأَمَّا النَّظَرُ لِتَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ إذَا اشْتَهَى قِيلَ يُبَاحُ. وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يُبَاحُ؛ لِأَنَّهُ يُوجَدُ مَنْ لَا يَشْتَهِي فَلَا ضَرُورَةَ، بِخِلَافِ حَالَةِ الْأَدَاءِ.

(وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَةً فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَنْظُرَ إلَيْهَا وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ يَشْتَهِيهَا) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام فِيهِ «أَبْصِرْهَا فَإِنَّهُ أَحْرَى أَنْ يُؤْدَمَ بَيْنَكُمَا» وَلِأَنَّ مَقْصُودَهُ إقَامَةُ السُّنَّةِ لَا قَضَاءُ الشَّهْوَةِ.

(وَيَجُوزُ لِلطَّبِيبِ أَنْ يَنْظُرَ إلَى مَوْضِعِ الْمَرَضِ مِنْهَا) لِلضَّرُورَةِ (وَيَنْبَغِي أَنْ يُعَلِّمَ امْرَأَةً مُدَاوَاتَهَا) لِأَنَّ نَظَرَ الْجِنْسِ إلَى الْجِنْسِ أَسْهَلُ (فَإِنْ لَمْ يَقْدِرُوا يَسْتُرُ كُلَّ عُضْوٍ مِنْهَا سِوَى مَوْضِعِ الْمَرَضِ) ثُمَّ يَنْظُرُ وَيَغُضُّ بَصَرَهُ مَا اسْتَطَاعَ؛ لِأَنَّ مَا ثَبَتَ بِالضَّرُورَةِ يَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهَا وَصَارَ كَنَظَرِ الْخَافِضَةِ وَالْخَتَّانِ.

(وَكَذَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ النَّظَرُ إلَى مَوْضِعِ الِاحْتِقَانِ مِنْ الرَّجُلِ)

إذْ الظَّاهِرُ أَنَّ تِلْكَ الْمَسْأَلَةَ فِيمَا إذَا كَانَتْ شَابَّةً تُشْتَهَى، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ عَطْفُهَا عَلَى قَوْلِهِ إذَا كَانَتْ عَجُوزًا لَا تُشْتَهَى، وَلَا شَكَّ أَنَّ الشَّابَّةَ الْمُشْتَهَاةَ مِمَّنْ تَدْعُو النَّفْسُ إلَى مَسِّهَا فَكَانَتْ دَاخِلَةً تَحْتَ النَّصِّ الْمَذْكُورِ فَلَا مَحَالَةَ يَكُونُ التَّعْلِيلُ بِقَوْلِهِ لِمَا قُلْنَا تَعْلِيلًا فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ كَمَا عُرِفَ فِي الْأُصُولِ. فَإِنْ قُلْت: تِلْكَ الْمَسْأَلَةُ مُقَيَّدَةٌ بِأَنْ يَأْمَنَ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَيْهَا فَلَا تَتَحَقَّقُ دَعْوَتُهَا النَّفْسَ إلَى مَسِّهَا فِي تِلْكَ الصُّورَةِ.

قُلْت: إنْ لَمْ تَتَحَقَّقْ دَعْوَتُهَا النَّفْسَ إلَى مَسِّهَا بِالْفِعْلِ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ فَمِنْ شَأْنِهَا ذَلِكَ فِي كُلِّ حَالٍ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَهُ بِالْمَرْأَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي النَّصِّ الْمَذْكُورِ هِيَ الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ لَأَنْ تَدْعُوَ النَّفْسَ إلَى مَسِّهَا لَا الَّتِي تَحَقَّقَتْ فِيهَا دَعْوَتُهَا إلَيْهِ بِالْفِعْلِ.

وَإِلَّا لَزِمَ أَنْ لَا يَثْبُتَ حُرْمَةُ مَسِّ الرَّجُلِ الشَّابِّ الْمَرْأَةَ الْأَجْنَبِيَّةَ الشَّابَّةَ إذَا أَمِنَ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَيْهَا تَأَمَّلْ تَقِفْ.

(قَوْلُهُ وَكَذَا إذَا كَانَ شَيْخًا يَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَيْهَا) قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: اشْتِرَاطُ أَمْنِهِ عَلَيْهَا مَحَلُّ تَأَمُّلٍ لِعَدَمِ كَوْنِ ذَلِكَ فِي وُسْعِهِ لِعَدَمِ الْوُقُوفِ عَلَيْهِ اهـ. أَقُولُ: يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَيْهِ بِالْقَرَائِنِ الْحَالِيَّةِ أَوْ بِالتَّجْرِبَةِ فِي نَظَائِرِهَا، فَجَازَ اشْتِرَاطُ أَمْنِهِ عَلَيْهَا أَيْضًا بِنَاءً عَلَى ذَلِكَ (قَوْلُهُ فَإِنْ كَانَ لَا يَأْمَنُ عَلَيْهَا لَا تَحِلُّ مُصَافَحَتُهَا) قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: تَخْصِيصُ عَدَمِ أَمْنِهِ بِكَوْنِهِ عَلَيْهَا غَيْرُ ظَاهِرٍ أَيْضًا، فَإِنْ جَعَلْنَا الضَّمِيرَ فِي عَلَيْهَا لِلنَّفْسِ يَلْزَمُ التَّخْصِيصُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ انْتَهَى.

أَقُولُ: الضَّمِيرُ فِي عَلَيْهَا لِلْمَرْأَةِ، وَوَجْهُ تَخْصِيصِ عَدَمِ الْأَمْنِ عَلَيْهَا بِالذِّكْرِ ظَاهِرٌ وَهُوَ حُصُولُ الْعِلْمِ بِحُكْمِ عَدَمِ الْأَمْنِ عَلَى نَفْسِهِ دَلَالَةً مِنْ بَيَانِ حُكْمِ عَدَمِ الْأَمْنِ عَلَيْهَا عِبَارَةً، فَإِنَّهُ إذَا لَمْ تَحِلَّ مُصَافَحَتُهَا عِنْدَ عَدَمِ الْأَمْنِ عَلَيْهَا لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْرِيضِ الْغَيْرِ لِلْفِتْنَةِ فَلَأَنْ لَا تَحِلَّ مُصَافَحَتُهَا عِنْدَ عَدَمِ الْأَمْنِ عَلَى نَفْسِهِ أَوْلَى لِمَا فِيهِ مِنْ الْمُبَاشَرَةِ لِلْفِتْنَةِ بِنَفْسِهِ.

(قَوْلُهُ وَيَجُوزُ لِلْقَاضِي إذَا أَرَادَ أَنْ يَحْكُمَ عَلَيْهَا، وَلِلشَّاهِدِ إذَا أَرَادَ الشَّهَادَةَ عَلَيْهَا النَّظَرُ إلَى وَجْهِهَا، وَإِنْ خَافَ أَنْ يَشْتَهِيَ لِلْحَاجَةِ إلَى إحْيَاءِ حُقُوقِ النَّاسِ بِوَاسِطَةِ الْقَضَاءِ وَأَدَاءِ الشَّهَادَةِ) قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: وَقَدْ يُنَوَّرُ ذَلِكَ بِإِبَاحَةِ النَّظَرِ إلَى الْعَوْرَةِ الْغَلِيظَةِ عِنْدَ

ص: 26

لِأَنَّهُ مُدَاوَاةٌ وَيَجُوزُ لِلْمَرَضِ وَكَذَا لِلْهُزَالِ الْفَاحِشِ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّهُ أَمَارَةُ الْمَرَضِ. قَالَ (وَيَنْظُرُ الرَّجُلُ مِنْ الرَّجُلِ إلَى جَمِيعِ بَدَنِهِ إلَّا مَا بَيْنَ سُرَّتِهِ إلَى رُكْبَتِهِ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «عَوْرَةُ الرَّجُلِ مَا بَيْنَ سُرَّتِهِ إلَى رُكْبَتِهِ» وَيُرْوَى «مَا دُونَ سُرَّتِهِ حَتَّى يُجَاوِزَ رُكْبَتَيْهِ» وَبِهَذَا ثَبَتَ أَنَّ السُّرَّةَ لَيْسَتْ بِعَوْرَةٍ خِلَافًا لِمَا يَقُولُهُ أَبُو عِصْمَةَ وَالشَّافِعِيُّ، وَالرُّكْبَةُ عَوْرَةٌ خِلَافًا لِمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ، وَالْفَخِذُ عَوْرَةٌ خِلَافًا لِأَصْحَابِ الظَّوَاهِرِ، وَمَا دُونَ السُّرَّةِ إلَى مَنْبَتِ الشَّعْرِ عَوْرَةٌ خِلَافًا لِمَا يَقُولُهُ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ الْكَمَارِيُّ

الزِّنَا لِإِقَامَةِ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ. ثُمَّ قَالَ: خَطَرَ بِبَالِي هَاهُنَا إشْكَالٌ. وَهُوَ أَنَّ شُهُودَ الزِّنَا كَمَا صَرَّحُوا فِي الْكُتُبِ بَيْنَ حِسْبَتَيْنِ: إقَامَةِ الْحَدِّ، وَالتَّحَرُّزِ عَنْ الْهَتْكِ، وَالسَّتْرُ أَفْضَلُ، لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم لِلَّذِي شَهِدَ بِهِ عِنْدَهُ:«لَوْ سَتَرْته بِثَوْبِك لَكَانَ خَيْرًا لَك» وَلَيْسَ فِي الْحُدُودِ حُقُوقُ النَّاسِ إلَّا فِي السَّرِقَةِ، وَلِهَذَا يَجِبُ أَنْ يَشْهَدَ بِالْمَالِ فَيَقُولُ أَخَذَ إحْيَاءً لِحَقِّ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ وَلَا يَقُولُ سَرَقَ مُحَافَظَةً عَلَى السَّتْرِ، فَلَمْ يَكُنْ مَا ذَكَرَ مِنْ التَّنْوِيرِ فِي شَيْءٍ أَصْلًا لِانْعِدَامِ الْحَاجَةِ وَانْتِفَاءِ الضَّرُورَةِ فِي الشَّهَادَةِ بِالزِّنَا.

ثُمَّ دَفَعْته بِمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ شُرَّاحِ الْهِدَايَةِ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ مِنْ أَنَّ هَذَا: يَعْنِي كَوْنَ السَّتْرِ أَفْضَلَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَنْ لَمْ يَعْتَدَّ الزِّنَا وَلَمْ يَهْتِكْ بِهِ، وَأَمَّا إذَا وَصَلَ الْحَالُ إلَى إشَاعَتِهِ وَالتَّهَتُّكِ بِهِ بَلْ بَعْضُهُمْ رُبَّمَا افْتَخَرَ بِهِ فَيَجِبُ كَوْنُ الشَّهَادَةِ بِهِ أَوْلَى مِنْ تَرْكِهَا؛ لِأَنَّ مَطْلُوبَ الشَّارِعِ إخْلَاءُ الْأَرْضِ مِنْ الْفَوَاحِشِ وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ بِالتَّوْبَةِ وَبِالزَّجْرِ. فَإِذَا ظَهَرَ الشَّرَهُ فِي الزِّنَا مَثَلًا وَعَدَمُ الْمُبَالَاةِ بِهِ بِإِشَاعَتِهِ. فَإِخْلَاءُ الْأَرْضِ بِالتَّوْبَةِ احْتِمَالٌ يُقَابِلُهُ ظُهُورُ عَدَمِهَا. فَيَجِبُ تَحْقِيقُ السَّبَبِ الْآخَرِ لِلْإِخْلَاءِ وَهُوَ الْحَدُّ بِخِلَافِ مَنْ زَلَّ مَرَّةً أَوْ مِرَارًا مُتَسَتِّرًا مُتَخَوِّفًا مُتَنَدِّمًا عَلَيْهِ فَإِنَّهُ مَحَلُّ اسْتِحْبَابِ سَتْرِ الشَّاهِدِ انْتَهَى. أَقُولُ: مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ شُرَّاحِ الْهِدَايَةِ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ لَا يَدْفَعُ الْإِشْكَالَ الَّذِي خَطَرَ بِبَالِ ذَلِكَ الْقَائِلِ إلَّا فِي مَادَّةٍ جُزْئِيَّةٍ، وَهِيَ مَا إذَا وَصَلَ الْحَالُ إلَى إشَاعَةِ الْفَاحِشَةِ وَالتَّهَتُّكِ بِهَا لَا فِيمَا سِوَاهَا، فَإِنَّ السَّتْرَ فِيهِ أَفْضَلُ بِلَا شُبْهَةٍ. مَعَ أَنَّ النَّظَرَ إلَى الْعَوْرَةِ الْغَلِيظَةِ عِنْدَ الزِّنَا لِإِقَامَةِ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ مُبَاحٌ هُنَاكَ أَيْضًا فَكَفَى بِذَلِكَ إشْكَالًا. فَلَمْ يَتِمَّ قَوْلُهُ ثُمَّ دَفَعْته بِمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ شُرَّاحِ الْهِدَايَةِ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ.

ثُمَّ أَقُولُ فِي دَفْعِ ذَلِكَ الْإِشْكَالِ بِالْكُلِّيَّةِ: إنَّ الْحَاجَةَ إلَى النَّظَرِ إلَى الْعَوْرَةِ الْغَلِيظَةِ عِنْدَ الزِّنَا وَالضَّرُورَةِ مُتَحَقَّقَانِ فِي الشَّهَادَةِ بِالزِّنَا مُطْلَقًا فِي تَحْصِيلِ إحْدَى الْحِسْبَتَيْنِ وَهِيَ إقَامَةُ الْحَدِّ بِإِقَامَةِ الشَّهَادَةِ عَلَى الزِّنَا، إذْ لَا يَتَيَسَّرُ إقَامَةُ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ بِدُونِ النَّظَرِ إلَى الْعَوْرَةِ الْغَلِيظَةِ عِنْدَ الزِّنَا، وَإِنْ لَمْ تَتَحَقَّقْ الْحَاجَةُ إلَيْهِ وَلَا الضَّرُورَةُ فِي تَحْصِيلِ الْحِسْبَةِ الْأُخْرَى وَهِيَ التَّحَرُّزُ عَنْ التَّهَتُّكِ. فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَنَالَ الْحِسْبَةَ الْأُولَى يَحْتَاجُ وَيَضْطَرُّ إلَى النَّظَرِ إلَيْهَا فَيُبَاحُ لَهُ النَّظَرُ إلَيْهَا إذْ ذَاكَ، إذْ يَكْفِي فِي إبَاحَةِ ذَلِكَ الْحَاجَةُ إلَيْهِ، وَالضَّرُورَةُ بِالنِّسْبَةِ إلَى تَحْصِيلِ خُصُوصِ الْحِسْبَةِ، وَلَا يَتَوَقَّفُ إبَاحَتُهُ عَلَى الْحَاجَةِ إلَيْهِ وَالضَّرُورَةِ الْمُطْلَقَتَيْنِ: أَيْ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَلَا عَلَى أَنْ لَا يَكُونَ فَوْقَ تِلْكَ الْحِسْبَةِ حِسْبَةٌ أُخْرَى أَفْضَلُ مِنْهَا؛ أَلَا يُرَى أَنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَةً فَلَا بَأْسَ لَهُ بِأَنْ يَنْظُرَ إلَيْهَا، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ يَشْتَهِيهَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَقْصُودَهُ إقَامَةُ السُّنَّةِ لَا قَضَاءُ الشَّهْوَةِ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْكِتَابِ، مَعَ أَنَّ الْحَاجَةَ إلَى النَّظَرِ إلَيْهَا وَالضَّرُورَةَ إنَّمَا يَتَحَقَّقَانِ فِي إقَامَةِ تِلْكَ السُّنَّةِ لَا مُطْلَقًا لِإِمْكَانِ تَرْكِ تَزَوُّجِهَا الدَّاعِي إلَى النَّظَرِ إلَيْهَا وَإِنْ كَانَ فَوْقَ تِلْكَ السُّنَّةِ مَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْهَا مِنْ الْوَاجِبَاتِ بَلْ مِنْ بَعْضِ السُّنَنِ الْمُؤَكَّدَاتِ فَقَدْ انْدَفَعَ ذَلِكَ الْإِشْكَالُ بِحَذَافِيرِهِ.

(قَوْلُهُ وَيَنْظُرُ الرَّجُلُ مِنْ الرَّجُلِ إلَى جَمِيعِ بَدَنِهِ إلَّا مَا بَيْنَ سُرَّتِهِ إلَى رُكْبَتِهِ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: هَذَا هُوَ الْقِسْمُ الثَّانِي مِنْ أَصْلِ التَّقْسِيمِ. أَقُولُ: لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، بَلْ هُوَ الْقِسْمُ الثَّالِثُ مِنْهُ كَمَا لَا يُشْتَبَهُ عَلَى مَنْ نَظَرَ إلَى تَقْسِيمِهِ فِي صَدْرِ هَذَا الْفَصْلِ (قَوْلُهُ وَبِهَذَا ثَبَتَ أَنَّ السُّرَّةَ لَيْسَتْ بِعَوْرَةٍ خِلَافًا لِمَا يَقُولُهُ أَبُو عِصْمَةَ وَالشَّافِعِيُّ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: وَأَبُو عِصْمَةَ هُوَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ الْمَرْوَزِيِّ، فَإِنَّهُ يَقُولُ: إنَّ السُّرَّةَ

ص: 27

مُعْتَمِدًا فِيهِ الْعَادَةَ؛ لِأَنَّهُ لَا مُعْتَبَرَ بِهَا مَعَ النَّصِّ بِخِلَافِهِ، وَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام أَنَّهُ قَالَ «الرُّكْبَةُ مِنْ الْعَوْرَةِ» وَأَبْدَى الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ رضي الله عنه سُرَّتَهُ فَقَبَّلَهَا أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه

أَحَدُ حَدَّيْ الْعَوْرَةِ فَتَكُونُ مِنْ الْعَوْرَةِ كَالرُّكْبَةِ. ثُمَّ قَالَ: وَقَوْلُهُ وَالشَّافِعِيُّ بِالْعَطْفِ عَلَى أَبِي عِصْمَةَ فِي إثْبَاتِ أَنَّ السُّرَّةَ عَوْرَةٌ عِنْدَهُمَا كَأَنَّهُ وَقَعَ سَهْوًا لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَعْلِيلِ أَبِي عِصْمَةَ فِي إثْبَاتِ أَنَّ السُّرَّةَ عَوْرَةٌ بِقَوْلِهِ إنَّهَا أَحَدُ حَدَّيْ الْعَوْرَةِ فَتَكُونُ عَوْرَةً كَالرُّكْبَةِ، فَإِنَّ هَذَا التَّعْلِيلَ إنَّمَا يَسْتَقِيمُ لِمَنْ يَقُولُ بِأَنَّ الرُّكْبَةَ عَوْرَةٌ وَالشَّافِعِيُّ لَا يَقُولُ بِكَوْنِ الرُّكْبَةِ عَوْرَةً. وَالثَّانِي أَنَّ الشَّافِعِيَّ عَلَّلَ فِي إثْبَاتِ أَنَّ الرُّكْبَةَ لَيْسَتْ مِنْ الْعَوْرَةِ بِقَوْلِهِ إنَّهَا حَدٌّ لِلْعَوْرَةِ فَلَا تَكُونُ مِنْ الْعَوْرَةِ كَالسُّرَّةِ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ لَا يَدْخُلُ فِي الْمَحْدُودِ، وَهَذَا تَنْصِيصٌ مِنْهُ عَلَى أَنَّ السُّرَّةَ لَيْسَتْ بِعَوْرَةٍ اهـ.

وَرَدَّ عَلَيْهِ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ حَيْثُ قَالَ: قِيلَ عَطْفُ الشَّافِعِيِّ عَلَى أَبِي عِصْمَةَ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ؛ لِأَنَّ هَذَا التَّعْلِيلَ إنَّمَا يَسْتَقِيمُ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ الرُّكْبَةُ عَوْرَةٌ وَهُوَ لَا يَقُولُ بِهِ، وَهَذَا سَاقِطٌ؛ لِأَنَّ الْمُصَنِّفَ لَمْ يُعَلِّلْ بِهَذَا التَّعْلِيلِ فِي هَذَا الْكِتَابِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْمَذْهَبَ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَذْهَبُهُمَا وَاحِدًا وَالْمَأْخَذُ مُتَعَدِّدًا، فَالْمَذْكُورُ يَكُونُ تَعْلِيلًا لِأَبِي عِصْمَةَ، وَتَعْلِيلُ الشَّافِعِيِّ غَيْرُ ذَلِكَ وَهُوَ أَنَّ السُّرَّةَ مَحَلُّ الِاشْتِهَاءِ انْتَهَى.

أَقُولُ: قَدْ ذَكَرَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ لِعَدَمِ اسْتِقَامَةِ الْعَطْفِ الْمَزْبُورِ وَجْهَيْنِ، وَقَدْ نَقَلَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ أَحَدَ ذَيْنِكَ الْوَجْهَيْنِ وَأَجَابَ عَنْهُ كَمَا تَرَى، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِلْوَجْهِ الْآخَرِ أَصْلًا فَكَأَنَّهُ لَمْ يَظْفَرْ بِالْجَوَابِ عَنْهُ فَبَقِيَ الْإِشْكَالُ فِي الْعَطْفِ الْوَاقِعِ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ وَلَا بُدَّ مِنْ دَفْعِهِ. فَأَقُولُ: فِي الْجَوَابِ الْقَاطِعِ لِعِرْقِ الْإِشْكَالِ: إنَّ فِي السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ ثَلَاثَ رِوَايَاتٍ عَنْ الشَّافِعِيِّ: إحْدَاهَا أَنَّ السُّرَّةَ عَوْرَةٌ وَالرُّكْبَةَ لَيْسَتْ بِعَوْرَةٍ كَمَا هُوَ مَدْلُولُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا وَفِي كِتَابِ الصَّلَاةِ أَيْضًا. وَالثَّانِيَةُ أَنَّهُمَا لَيْسَتَا بِعَوْرَةٍ كَمَا ذُكِرَ فِي وَجِيزِ الشَّافِعِيَّةِ. وَالثَّالِثَةُ أَنَّهُمَا عَوْرَةٌ. وَذَكَرَ صَاحِبُ الْغَايَةِ هَاتَيْنِ الْأَخِيرَتَيْنِ وَقَالَ: لِلْأُولَى مِنْهُمَا. وَهَذَا أَصَحُّ الْوَجْهَيْنِ. وَإِذْ قَدْ تَقَرَّرَ هَذَا فَجَازَ أَنْ يَكُونَ تَعْلِيلُ الشَّافِعِيِّ فِي إثْبَاتِ أَنَّ الرُّكْبَةَ لَيْسَتْ مِنْ الْعَوْرَةِ بِقَوْلِهِ إنَّهَا حَدٌّ لِلْعَوْرَةِ فَلَا تَكُونُ مِنْ الْعَوْرَةِ كَالسُّرَّةِ مَبْنِيًّا عَلَى قَوْلِهِ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ، وَهَذَا لَا يُنَافِي اشْتِرَاكَهُ مَعَ أَبِي عِصْمَةَ فِي قَوْلِهِ الْآخَرِ الْوَاقِعِ فِي الرِّوَايَةِ الثَّالِثَةِ عَنْهُ، بَلْ لَا يُنَافِي أَيْضًا اشْتِرَاكَهُ مَعَهُ فِي تَعْلِيلِهِ بِقَوْلِهِ إنَّهَا أَحَدُ حَدَّيْ الْعَوْرَةِ فَتَكُونُ عَوْرَةً كَالرُّكْبَةِ بِنَاءً عَلَى ذَلِكَ الْقَوْلِ فَلَا مَحْذُورَ فِي الْعَطْفِ الْمَذْكُورِ أَصْلًا تَأَمَّلْ تَقِفْ.

(قَوْلُهُ وَأَبْدَى الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ رضي الله عنهما سُرَّتَهُ فَقَبَّلَهَا أَبُو هُرَيْرَةَ) هَذَا جَوَابٌ عَنْ قَوْلِ أَبِي عِصْمَةَ وَالشَّافِعِيِّ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ ابْنِ عَوْنٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: كُنْت أَمْشِي مَعَ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ رضي الله عنهما فِي بَعْضِ طُرُقِ الْمَدِينَةِ، فَلَقِيَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ، فَقَالَ لِلْحَسَنِ: اكْشِفْ لِي عَنْ بَطْنِك جُعِلْت فِدَاءَك حَتَّى أُقَبِّلَ حَيْثُ رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُقَبِّلُهُ، قَالَ: فَكَشَفَ عَنْ بَطْنِهِ فَقَبَّلَ سُرَّتَهُ. وَلَوْ كَانَتْ مِنْ الْعَوْرَةِ لَمَا كَشَفَهَا. قَالَ الشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ بَعْدَ بَيَانِ هَذَا الْمَحَلِّ بِهَذَا الْمِنْوَالِ: وَفِي مُعْجَمِ الطَّبَرَانِيِّ خِلَافُ هَذَا: حَدَّثَنَا أَبُو مُسْلِمٍ الْكَشِّيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ ابْنِ عَوْنٍ عَنْ عُمَيْرِ بْنِ إِسْحَاقَ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ لَقِيَ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ رضي الله عنهم فَقَالَ لَهُ: ارْفَعْ ثَوْبَك حَتَّى أُقَبِّلَ حَيْثُ رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُقَبِّلُ، فَرَفَعَ عَنْ

ص: 28

وَقَالَ لِجَرْهَدٍ: «وَارِ فَخِذَك، أَمَا عَلِمْت أَنَّ الْفَخِذَ عَوْرَةٌ؟» وَلِأَنَّ الرُّكْبَةَ مُلْتَقَى عَظْمِ الْفَخِذِ وَالسَّاقِ فَاجْتَمَعَ الْمُحَرَّمُ وَالْمُبِيحُ وَفِي مِثْلِهِ يَغْلِبُ الْمُحَرَّمُ، وَحُكْمُ الْعَوْرَةِ فِي الرُّكْبَةِ أَخَفُّ مِنْهُ فِي الْفَخِذِ، وَفِي الْفَخِذِ أَخَفُّ مِنْهُ فِي السَّوْأَةِ، حَتَّى أَنَّ كَاشِفَ الرُّكْبَةِ يُنْكَرُ عَلَيْهِ بِرِفْقٍ وَكَاشِفَ الْفَخِذِ يُعَنَّفُ عَلَيْهِ وَكَاشِفَ السَّوْءَةِ يُؤَدَّبُ إنْ لَجَّ

(وَمَا يُبَاحُ النَّظَرُ إلَيْهِ لِلرَّجُلِ مِنْ الرَّجُلِ يُبَاحُ الْمَسُّ) لِأَنَّهُمَا فِيمَا لَيْسَ بِعَوْرَةٍ سَوَاءٌ. قَالَ (وَيَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَنْظُرَ مِنْ الرَّجُلِ إلَى مَا يَنْظُرُ الرَّجُلُ إلَيْهِ مِنْهُ إذَا أَمِنَتْ الشَّهْوَةَ) لِاسْتِوَاءِ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ فِي النَّظَرِ إلَى مَا لَيْسَ بِعَوْرَةٍ كَالثِّيَابِ وَالدَّوَابِّ. وَفِي كِتَابِ الْخُنْثَى مِنْ الْأَصْلِ: أَنَّ نَظَرَ الْمَرْأَةِ إلَى الرَّجُلِ الْأَجْنَبِيِّ بِمَنْزِلَةِ نَظَرِ الرَّجُلِ إلَى مَحَارِمِهِ؛ لِأَنَّ النَّظَرَ إلَى خِلَافِ الْجِنْسِ أَغْلَظُ، فَإِنْ كَانَ فِي قَلْبِهَا شَهْوَةٌ أَوْ أَكْبَرُ رَأْيِهَا أَنَّهَا تَشْتَهِي أَوْ شَكَّتْ فِي ذَلِكَ يُسْتَحَبُّ لَهَا أَنْ تَغُضَّ بَصَرَهَا، وَلَوْ كَانَ النَّاظِرُ هُوَ الرَّجُلُ إلَيْهَا وَهُوَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لَمْ يَنْظُرْ، وَهَذَا إشَارَةٌ إلَى التَّحْرِيمِ. وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الشَّهْوَةَ عَلَيْهِنَّ غَالِبَةٌ وَهُوَ كَالْمُتَحَقِّقِ اعْتِبَارًا، فَإِذَا اشْتَهَى الرَّجُلُ كَانَتْ الشَّهْوَةُ مَوْجُودَةً فِي الْجَانِبَيْنِ، وَلَا كَذَلِكَ إذَا اشْتَهَتْ الْمَرْأَةُ؛ لِأَنَّ الشَّهْوَةَ غَيْرُ مَوْجُودَةٍ فِي جَانِبِهِ حَقِيقَةً وَاعْتِبَارًا فَكَانَتْ مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ، وَالْمُتَحَقِّقُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فِي الْإِفْضَاءِ إلَى الْمُحَرَّمِ أَقْوَى مِنْ الْمُتَحَقِّقِ فِي جَانِبٍ

بَطْنِهِ وَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى سُرَّتِهِ انْتَهَى.

وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ بَعْدَمَا نَقَلَ مَا ذَكَرَهُ الْعَيْنِيُّ: قُلْت لَا مُخَالَفَةَ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ لِإِمْكَانِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَسِّ وَالتَّقْبِيلِ. وَلَوْ سَلَّمَ فَذَلِكَ لَا يَضُرُّنَا بَلْ يُثْبِتُ مُدَّعَانَا بِالْأَوْلَوِيَّةِ انْتَهَى.

أَقُولُ: كَأَنَّ ذَلِكَ الْبَعْضَ خَبْطٌ فِي اسْتِخْرَاجِ مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ حَيْثُ حَسِبَ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ وَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى سُرَّتِهِ وَوَضَعَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَدَهُ عَلَى سُرَّةِ الْحَسَنِ فَبَنَى عَلَيْهِ عَدَمَ الْمُخَالَفَةِ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ بِإِمْكَانِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَسِّ وَالتَّقْبِيلِ: يَعْنِي أَنَّ وَضْعَ أَبِي هُرَيْرَةَ يَدَهُ عَلَى سُرَّةِ الْحَسَنِ مَسٌّ لَهَا، وَهُوَ لَا يُنَافِي تَقْبِيلَهُ إيَّاهَا فَلَا مُخَالَفَةَ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ بَنَى عَلَيْهِ أَيْضًا كَلَامَهُ التَّسْلِيمِيِّ: يَعْنِي لَوْ سَلَّمَ الْمُخَالَفَةَ بَيْنَهُمَا فَمَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ لَا يَضُرُّنَا، بَلْ يُثْبِتُ مُدَّعَانَا هَاهُنَا وَهُوَ أَنْ لَا تَكُونَ السُّرَّةُ مِنْ الْعَوْرَةِ بِالْأَوْلَوِيَّةِ، فَإِنَّ عَدَمَ جَوَازِ مَسِّ الْعَوْرَةِ بِوَضْعِ الْيَدِ عَلَيْهَا أَوْلَى مِنْ عَدَمِ جَوَازِ تَقْبِيلِهَا، فَإِذَا وَضَعَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَدَهُ عَلَى سُرَّةِ الْحَسَنِ وَلَمْ يَمْنَعْهُ الْحَسَنُ ثَبَتَ أَنَّ السُّرَّةَ لَيْسَتْ مِنْ الْعَوْرَةِ، لَكِنْ لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ لَهُ أَدْنَى تَمْيِيزٍ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ وَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى سُرَّتِهِ وَضَعَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ يَدَهُ عَلَى سُرَّةِ نَفْسِهِ، وَعَنْ هَذَا قَالَ: وَوَضَعَ يَدَهُ، بِالْوَاوِ دُونَ فَوَضَعَ يَدَهُ بِالْفَاءِ كَمَا قَالَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى فَقَبَّلَ سُرَّتَهُ، وَالْأُسْلُوبُ الْمُقَرَّرُ فِي الْحِكَايَةِ عَنْ الِاثْنَيْنِ إدْخَالُ الْفَاءِ عِنْدَ الِانْتِقَالِ إلَى حِكَايَةِ قَوْلِ الْآخَرِ أَوْ فِعْلِهِ أَوْ تَرْكِ الْعَاطِفِ وَالسُّلُوكُ مَسْلَكُ الِاسْتِئْنَافِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {قَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ} وَإِذْ قَدْ كَانَ مَعْنَى رِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ وَوَضَعَ الْحَسَنُ يَدَهُ عَلَى سُرَّتِهِ كَانَتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ مُخَالِفَةً لِلرِّوَايَةِ الْأُولَى لِعَدَمِ تَيَسُّرِ تَقْبِيلِ سُرَّةِ الْحَسَنِ عِنْدَ وَضْعِهِ يَدَهُ عَلَى سُرَّتِهِ، ثُمَّ إنَّهُ إنْ كَانَ مَقْصُودُ الْحَسَنِ رضي الله عنه مِنْ وَضْعِ يَدِهِ عَلَى سُرَّتِهِ فِي رِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ التَّحَرُّزَ عَنْ انْكِشَافِ نَفْسِ السُّرَّةِ عِنْدَ رَفْعِ ثَوْبِهِ عَنْ بَطْنِهِ يُشْعِرُ فِعْلُهُ الْمَذْكُورُ بِكَوْنِ السُّرَّةِ مِنْ الْعَوْرَةِ وَإِنْ كَانَ مَقْصُودُهُ مِنْهُ التَّحَرُّزَ عَنْ انْكِشَافِ مَا تَحْتَ السُّرَّةِ لَا يَدُلُّ فِعْلُهُ الْمَذْكُورُ عَلَى كَوْنِ نَفْسِ السُّرَّةِ مِنْ الْعَوْرَةِ فَلَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ جَزْمٌ بِأَحَدِ الطَّرَفَيْنِ.

(قَوْلُهُ وَمَا يُبَاحُ لِلرَّجُلِ النَّظَرُ إلَيْهِ مِنْ الرَّجُلِ يُبَاحُ الْمَسُّ؛ لِأَنَّهُمَا فِيمَا لَيْسَ بِعَوْرَةٍ سَوَاءٌ) أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: اسْتِوَاؤُهُمَا فِيهِ مَمْنُوعٌ، كَيْفَ وَقَدْ

ص: 29

وَاحِدٍ.

قَالَ (وَتَنْظُرُ الْمَرْأَةُ مِنْ الْمَرْأَةِ إلَى مَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَنْظُرَ إلَيْهِ مِنْ الرَّجُلِ) لِوُجُودِ الْمُجَانَسَةِ، وَانْعِدَامِ الشَّهْوَةِ غَالِبًا كَمَا فِي نَظَرِ الرَّجُلِ إلَى الرَّجُلِ، وَكَذَا الضَّرُورَةُ قَدْ تَحَقَّقَتْ إلَى الِانْكِشَافِ فِيمَا بَيْنَهُنَّ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّ نَظَرَ الْمَرْأَةِ إلَى الْمَرْأَةِ كَنَظَرِ الرَّجُلِ إلَى مَحَارِمِهِ، بِخِلَافِ نَظَرِهَا إلَى الرَّجُلِ؛ لِأَنَّ الرِّجَالَ

مَرَّ أَنَّ وَجْهَ الْأَجْنَبِيَّةِ وَكَفَّيْهَا لَيْسَتَا بِعَوْرَةٍ حَيْثُ يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَنْظُرَ إلَيْهِمَا إذَا أَمِنَ الشَّهْوَةَ، وَلَكِنْ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَمَسَّهُمَا وَإِنْ أَمِنَ الشَّهْوَةَ فَلَمْ يَسْتَوِ النَّظَرُ وَالْمَسُّ فِيهَا.

وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ أَنَّهُمَا سَوَاءٌ فِيهِ مَا لَمْ يَرِدْ النَّصُّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ كَمَا فِي الصُّورَةِ الْمَارَّةِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «مَنْ مَسَّ كَفَّ امْرَأَةٍ لَيْسَ مِنْهَا بِسَبِيلٍ وُضِعَ عَلَى كَفِّهِ جَمْرَةٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» فَمَا ذُكِرَ هَاهُنَا مِنْ حَدِيثِ الِاسْتِوَاءِ مُقْتَضًى الْقِيَاسَ، وَمَا مَرَّ مُوجِبٌ النَّصَّ فَلَا تَنَافِي بَيْنَهُمَا تَدَبَّرْ.

(قَوْلُهُ وَيَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَنْظُرَ مِنْ الرَّجُلِ إلَى مَا يَنْظُرُ الرَّجُلُ إلَيْهِ مِنْهُ إذَا أَمِنَ الشَّهْوَةَ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: قَوْلُهُ وَيَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَنْظُرَ مِنْ الرَّجُلِ إلَى مَا يَنْظُرُ الرَّجُلُ إلَيْهِ مِنْهُ عَكْسُ هَذَا الْقِسْمِ الَّذِي نَحْنُ فِيهِ. أَقُولُ: لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فِي الظَّاهِرِ. إذْ الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْقِسْمِ الَّذِي نَحْنُ فِيهِ هُوَ الَّذِي ذُكِرَ قُبَيْلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، أَعْنِي قَوْلَهُ وَيَنْظُرُ الرَّجُلُ مِنْ الرَّجُلِ إلَى جَمِيعِ بَدَنِهِ إلَّا مَا بَيْنَ سُرَّتِهِ إلَى رُكْبَتِهِ فَإِنَّهُ الصَّالِحُ لَأَنْ يُعْنَوْنَ بِمَا نَحْنُ فِيهِ. وَلَا يَذْهَبُ عَلَيْك أَنَّ هَذَا الَّذِي ذُكِرَ هُنَا لَيْسَ بِعَكْسِ ذَاكَ. وَإِنَّمَا هَذَا عَكْسُ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ الْمَذْكُورِ فِي صَدْرِ الْفَصْلِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ بِالْقِسْمِ الَّذِي نَحْنُ فِيهِ هُوَ الْقِسْمُ الْأَوَّلُ الْمَذْكُورُ فِي صَدْرِ الْفَصْلِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُصَنِّفَ لَمَّا لَمْ يَسْتَوْفِ بَعْدُ أَقْسَامَ ذَلِكَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ بَلْ أَدْخَلَ فِي خِلَالِهَا الْأَقْسَامَ الثَّلَاثَةَ الْأُخَرَ مِنْ أَصْلِ التَّقْسِيمِ كَمَا سَتُحِيطُ بِهِ خَبَرًا لَمْ يَكُنْ فَارِغًا عَنْ بَيَانِ ذَلِكَ الْقِسْمِ بِالْكُلِّيَّةِ. بَلْ كَانَ فِي عُهْدَتِهِ الْآنَ بَيَانُ مَا بَقِيَ مِنْهُ، فَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ جَازَ أَنْ يُعَبِّرَ عَنْهُ الشَّارِحُ الْمَزْبُورُ بِالْقِسْمِ الَّذِي نَحْنُ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَبْعَدًا عِنْدَ مَنْ لَهُ سَلَامَةُ الْفِطْرَةِ. ثُمَّ إنَّ بَعْضَ الْمُتَأَخِّرِينَ طَعَنَ فِي تَحْرِيرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ حَيْثُ قَالَ: وَلَوْ نَكَرَ الرَّجُلُ الثَّانِي كَانَ أَوْلَى. أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ إذْ لَا يَخْفَى عَلَى ذِي مُسْكَةٍ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَيَانُ حَالِ الْجِنْسِ مُطْلَقًا لَا بَيَانُ بَعْضٍ مَنْ أَفْرَادِهِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُعَيَّنٍ فَالْأَوْلَى أَنْ يُعَرَّفَ الرَّجُلُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ مَعًا تَعْرِيفَ الْجِنْسِ لَا أَنْ يُنَكَّرَ الثَّانِي وَلَا الْأَوَّلُ تَأَمَّلْ تَفْهَمْ.

(قَوْلُهُ وَتَنْظُرُ الْمَرْأَةُ مِنْ الْمَرْأَةِ إلَى مَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَنْظُرَ إلَيْهِ مِنْ الرَّجُلِ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: هَذَا هُوَ الْقِسْمُ الثَّالِثُ مِنْ أَصْلِ التَّقْسِيمِ. أَقُولُ: بَلْ هَذَا هُوَ الْقِسْمُ الرَّابِعُ مِنْهُ كَمَا لَا يُشْتَبَهُ عَلَى أَحَدٍ مِنْ أُولِي النُّهَى، وَلَمْ أَدْرِ كَيْفَ خَفِيَ عَلَيْهِ مِثْلُ ذَلِكَ. وَالْعَجَبُ أَنَّهُ قَدْ اُبْتُلِيَ بِمِثْلَيْهِ فِيمَا مَرَّ كَمَا عَرَفْته وَأَصَرَّ عَلَيْهِ، وَلَعَلَّ حِكْمَةَ زَلَّتِهِ فِي هَذَا الْفَصْلِ مَا وَقَعَ مِنْهُ مِنْ سُوءِ الظَّنِّ بِالْمُصَنِّفِ حَيْثُ قَالَ فِيمَا بَعْدُ: وَالتَّسَامُحُ فِي رِعَايَةِ التَّرْتِيبِ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ ظَاهِرٌ فَصَدَرَ مِنْ نَفْسِهِ مَا هُوَ أَشَدُّ قُبْحًا مِنْهُ (قَوْلُهُ وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ نَظَرَ الْمَرْأَةِ إلَى الْمَرْأَةِ كَنَظَرِ الرَّجُلِ إلَى مَحَارِمِهِ) يَعْنِي لَا تَنْظُرُ إلَى ظَهْرِهَا وَبَطْنِهَا. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ صَاحِبِ الْكَافِي: حَتَّى لَا يُبَاحَ لَهَا النَّظَرُ إلَى ظَهْرِهَا وَبَطْنِهَا. قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَحَلِّ: يَعْنِي لَا تَنْظُرُ إلَى ظَهْرِهَا وَبَطْنِهَا وَفَخِذِهَا كَمَا سَيَأْتِي انْتَهَى. أَقُولُ: ذِكْرُ الْفَخِذِ هَاهُنَا مُسْتَدْرَكٌ

ص: 30

يَحْتَاجُونَ إلَى زِيَادَةِ الِانْكِشَافِ لِلِاشْتِغَالِ بِالْأَعْمَالِ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ.

قَالَ (وَيَنْظُرُ الرَّجُلُ مِنْ أَمَتِهِ الَّتِي تَحِلُّ لَهُ وَزَوْجَتِهِ إلَى فَرْجِهَا) وَهَذَا إطْلَاقٌ فِي النَّظَرِ إلَى سَائِرِ بَدَنِهَا عَنْ شَهْوَةٍ وَغَيْرِ شَهْوَةٍ. وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «غُضَّ بَصَرَك إلَّا عَنْ أَمَتِك وَامْرَأَتِك» وَلِأَنَّ مَا فَوْقَ ذَلِكَ مِنْ الْمَسِّ وَالْغَشَيَانِ مُبَاحٌ فَالنَّظَرُ أَوْلَى، إلَّا أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ لَا يَنْظُرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى عَوْرَةِ صَاحِبِهِ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «إذَا أَتَى أَحَدُكُمْ أَهْلَهُ فَلْيَسْتَتِرْ مَا اسْتَطَاعَ وَلَا يَتَجَرَّدَانِ تَجَرُّدَ الْعِيرِ» وَلِأَنَّ ذَلِكَ يُورِثُ النِّسْيَانَ لِوُرُودِ الْأَثَرِ. وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما يَقُولُ: الْأَوْلَى أَنْ يَنْظُرَ لِيَكُونَ أَبْلَغَ فِي تَحْصِيلِ مَعْنَى اللَّذَّةِ.

قَالَ (وَيَنْظُرُ الرَّجُلُ مِنْ ذَوَاتِ مَحَارِمِهِ إلَى الْوَجْهِ وَالرَّأْسِ وَالصَّدْرِ وَالسَّاقَيْنِ وَالْعَضُدَيْنِ. وَلَا يَنْظُرُ إلَى ظَهْرِهَا وَبَطْنِهَا وَفَخِذِهَا).

بَلْ مُخِلٍّ؛ لِأَنَّ عَدَمَ جَوَازِ نَظَرِ الْمَرْأَةِ إلَى فَخِذِ الْمَرْأَةِ قَدْ تَقَرَّرَ فِي الْقَوْلِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْفَخِذَ لَيْسَ مِمَّا يَجُوزُ أَنْ يَنْظُرَ الرَّجُلُ إلَيْهِ مِنْ الرَّجُلِ. وَاَلَّذِي لَا بُدَّ لَهُ هُنَا مِنْهُ بَيَانُ مَا يَمْتَازُ بِهِ الْقَوْلُ الثَّانِي عَنْ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ. وَهُوَ أَنْ لَا تَنْظُرَ إلَى ظَهْرِهَا وَبَطْنِهَا أَيْضًا، وَذِكْرُ الْفَخِذِ فِي هَذَا. الْأَثْنَاءِ يُوهِمُ جَوَازَ النَّظَرِ إلَيْهِ فِي الْقَوْلِ الْأَوَّلِ

(قَوْلُهُ وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «غُضَّ بَصَرَك إلَّا عَنْ أَمَتِك وَامْرَأَتِك») قَالَ فِي الْكَافِي بَعْدَ ذِكْرِ هَذَا الْأَصْلِ الَّذِي هُوَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: وَقَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: «كُنْت أَغْتَسِلُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ مِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ، وَكُنْت أَقُولُ بَقِّ لِي بَقِّ لِي. وَهُوَ يَقُولُ بَقِّ لِي بَقِّ لِي» وَلَوْ لَمْ يَكُنْ النَّظَرُ مُبَاحًا لَمَا تَجَرَّدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيْنَ يَدَيْ صَاحِبِهِ انْتَهَى.

وَقَصَدَ الشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ تَزْيِيفَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْمُدَّعَى هَاهُنَا بِحَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها فَقَالَ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الِاسْتِدْلَالَ بِذَلِكَ: قُلْت: لَا يَتِمُّ الِاسْتِدْلَال بِهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ اغْتِسَالُهُمَا مَعًا بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَاقِبَيْنِ وَلَكِنْ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ. وَلَئِنْ سَلَّمْنَا فَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا كَانَ يَنْظُرُ إلَى فَرْجِ الْآخَرِ. كَيْفَ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ «قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَرَ مِنِّي وَلَمْ أَرَ مِنْهُ» انْتَهَى. أَقُولُ: لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ كَلَامِهِ الْمَنْفِيِّ وَالتَّسْلِيمِيِّ بِصَحِيحٍ.

أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ قَوْلَهَا رضي الله عنها وَكُنْت أَقُولُ بَقِّ لِي بَقِّ لِي وَهُوَ يَقُولُ لِي بَقِّ لِي يَدُلُّ قَطْعًا عَلَى أَنْ يَكُونَ اغْتِسَالُهُمَا مَعًا. إذْ لَوْ كَانَ عَلَى التَّعَاقُبِ لَمَا صَحَّ مِنْ الْمُتَقَدِّمِ مِنْهُمَا طَلَبُ تَبْقِيَةِ الْمَاءِ مِنْ الْآخَرِ، إذْ الْمُبَاشِرُ أَوَّلًا هُوَ الْمُتَقَدِّمُ فَالتَّبْقِيَةُ وَظِيفَتُهُ لَا وَظِيفَةُ الْآخَرِ، فَلَا مَعْنَى لِطَلَبِهَا مِنْ الْآخَرِ.

وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الْمُدَّعَى هَاهُنَا مُجَرَّدُ جَوَازِ النَّظَرِ إلَى الْفَرْجِ لَا لُزُومُ وُقُوعِهِ أَلْبَتَّةَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ تَجَرُّدَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيْنَ يَدَيْ صَاحِبِهِ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ فَإِنَّ التَّجَرُّدَ سَبَبٌ لِرُؤْيَةِ الْعَوْرَةِ عَادَةً، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ النَّظَرُ إلَيْهَا مُبَاحًا لِلزَّوْجِ لَمَا وَقَعَ التَّجَرُّدُ مِنْهُمَا لِلْقَطْعِ بِتَحَرُّزِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْ مَظَانِّ الْحُرْمَةِ.

ثُمَّ إنَّ مُجَرَّدَ جَوَازِ النَّظَرِ إلَى فَرْجِ الزَّوْجِ لَا يُنَافِي عَدَمَ وُقُوعِهِ مِنْهُمَا تَأَدُّبًا عَلَى مُقْتَضَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ. فَلَا تَدَافُعَ بَيْنَ حَدِيثَيْ عَائِشَةَ أَصْلًا.

(قَوْلُهُ وَيَنْظُرُ الرَّجُلُ مِنْ ذَوَاتِ مَحَارِمِهِ إلَى الْوَجْهِ وَالرَّأْسِ وَالصَّدْرِ وَالسَّاقَيْنِ وَالْعَضُدَيْنِ. وَلَا يَنْظُرُ إلَى ظَهْرِهَا وَبَطْنِهَا وَفَخِذِهَا) أَقُولُ: كَانَ الْأَنْسَبُ أَنْ لَا يَذْكُرَ الْفَخِذَ هَاهُنَا، فَإِنَّهُ لَمَّا

ص: 31

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

تَقَرَّرَ فِيمَا مَرَّ عَدَمُ جَوَازِ أَنْ يَنْظُرَ الرَّجُلُ مِنْ الرَّجُلِ مُطْلَقًا: أَيْ وَإِنْ كَانَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ إلَى مَا بَيْنَ سُرَّتِهِ إلَى رُكْبَتِهِ عُلِمَ عَدَمُ جَوَازِ أَنْ يَنْظُرَ الرَّجُلُ مِنْ الْمَرْأَةِ وَإِنْ كَانَتْ مِنْ ذَوَاتِ مَحَارِمِهِ إلَى مَا بَيْنَ سُرَّتِهَا إلَى رُكْبَتِهَا بِالْأَوْلَوِيَّةِ؛ لِأَنَّ النَّظَرَ إلَى خِلَافِ الْجِنْسِ أَغْلَظُ، وَعَنْ هَذَا لَمْ يَتَعَرَّضْ صَاحِبُ الْمُحِيطِ فِي هَذَا الْمَقَامِ لِذَكَرِ شَيْءٍ مِمَّا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ حَيْثُ قَالَ: وَلَا يَحِلُّ أَنْ يَنْظُرَ إلَى بَطْنِهَا وَلَا إلَى ظَهْرِهَا وَلَا إلَى جَنْبِهَا، وَلَا يَمَسَّ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ انْتَهَى.

وَظَهَرَ مِنْهُ أَيْضًا أَنَّ ذِكْرَ الْجَنْبِ أَحَقُّ مِنْ ذِكْرِ الْفَخِذِ هَاهُنَا. فَإِنْ قُلْت: الْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ الْفَخِذِ فِي الْكِتَابِ بَيَانُ الْوَاقِعِ وَالتَّصْرِيحُ بِمَا عُلِمَ الْتِزَامًا مِمَّا تَقَدَّمَ. قُلْت: فَحِينَئِذٍ كَانَ الْأَنْسَبُ أَنْ يُقَالَ: بَدَلُ وَفَخِذِهَا مَا بَيْنَ سُرَّتِهَا إلَى رُكْبَتِهَا كَمَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْبَدَائِعِ حَيْثُ قَالَ: وَلَا يَحِلُّ النَّظَرُ إلَى ظَهْرِهَا وَبَطْنِهَا وَإِلَى مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ مِنْهَا وَمَسُّهَا انْتَهَى، فَإِنَّ فِيهِ عُمُومَ الْإِفَادَةِ. فَإِنْ قُلْت: الْمَقْصُودُ بِالِاكْتِفَاءِ بِذِكْرِ الْفَخِذِ هُوَ السُّلُوكُ مَسْلَكَ الدَّلَالَةِ فِي إفَادَةِ حُرْمَةِ النَّظَرِ إلَى مَا عَدَاهُ أَيْضًا مِمَّا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ بِالْأَوْلَوِيَّةِ. قُلْت: فَحِينَئِذٍ كَانَ الْأَحَقُّ الِاكْتِفَاءَ بِذِكْرِ الرُّكْبَةِ، فَإِنَّ حُكْمَ الْعَوْرَةِ فِي الرُّكْبَةِ أَخَفُّ مِنْهُ فِي الْفَخِذِ، وَفِي الْفَخِذِ أَخَفُّ مِنْهُ فِي السَّوْءَةِ كَمَا تَقَرَّرَ فِيمَا مَرَّ، فَبِذِكْرِ الْفَخِذِ لَا يُعْلَمُ حُكْمُ الرُّكْبَةِ دَلَالَةً لِكَوْنِهَا أَخَفَّ مِنْهُ فِي حُرْمَةِ النَّظَرِ. وَأَمَّا بِذِكْرِ الرُّكْبَةِ فَيُعْلَمُ حُكْمُ الْفَخِذِ والسَّوْءَةِ أَيْضًا دَلَالَةً بِالْأَوْلَوِيَّةِ لِكَوْنِهِمَا أَقْوَى مِنْهَا فِي حُرْمَةِ النَّظَرِ. ثُمَّ إنَّ بَعْضَ الْمُتَأَخِّرِينَ قَصَدَ حِلَّ بَعْضِ عِبَارَةِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ: وَأَصْلُ التَّرْكِيبِ ذَوَاتُ الرَّحِمِ الْمَحَارِمِ عَلَى أَنَّ الْمَحَارِمَ صِفَةُ الذَّوَاتِ، وَقَدْ يُحْذَفُ الرَّحِمُ فَيُقَالُ ذَوَاتُ الْمَحَارِمِ بِطَرِيقِ الْمُسَامَحَةِ، وَالنُّكْتَةُ فِيهِ شُمُولُ الْمَسْأَلَةِ لِلْمَحْرَمِ بِسَبَبٍ كَمَا سَيَجِيءُ، وَجَعْلُ الْمَحْرَمَ هَاهُنَا مَصْدَرًا مِيمِيًّا بِمَعْنَى الْحُرْمَةِ مَعَ عَدَمِ اسْتِعْمَالِهِ فِيهِ لَا يُلَائِمُهُ تَفْسِيرُهُ بِمَا سَيَجِيءُ فَتَأَمَّلْ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ.

أَقُولُ: فِيهِ خَلَلٌ. أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ أَصْلُ التَّرْكِيبِ الْمَذْكُورِ ذَوَاتَ الرَّحِمِ الْمَحَارِمِ عَلَى أَنَّ الْمَحَارِمَ صِفَةُ الذَّوَاتِ فَحُذِفَ الرَّحِمُ وَأُضِيفَتْ الذَّوَاتُ إلَى الْمَحَارِمِ بِطَرِيقِ الْمُسَامَحَةِ كَانَ مَدْلُولُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُخْتَصًّا بِالْمَحْرَمِ بِنَسَبٍ، إذْ الرَّحِمُ لَا يُتَصَوَّرُ فِي غَيْرِ النَّسَبِ فَلَا مَجَالَ؛ لَأَنْ تَكُونَ النُّكْتَةُ فِي حَذْفِ الرَّحِمِ وَإِضَافَةِ الذَّوَاتِ إلَى الْمَحَارِمِ شُمُولَ الْمَسْأَلَةِ لِلْمَحْرَمِ بِسَبَبٍ؛ لِأَنَّ النُّكْتَةَ فِي الْعِبَارَةِ لَا تَصْلُحُ أَنَّ تُغَيِّرَ الْمَعْنَى بِالْكُلِّيَّةِ حَتَّى تَنْقُلَهُ مِنْ الْخُصُوصِ إلَى الْعُمُومِ. وَبِالْجُمْلَةِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى التَّرْكِيبِ الْمَذْكُورِ ذَوَاتِ الرَّحِمِ الْمَحَارِمِ، وَبَيْنَ أَنْ تَشْمَلَ الْمَسْأَلَةُ الْمَذْكُورَةُ الْمَحْرَمَ بِسَبَبِ تَنَافٍ لَا يَخْفَى.

وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ قَوْلَهُ وَجَعْلُ الْمَحْرَمِ هَاهُنَا مَصْدَرًا مِيمِيًّا بِمَعْنَى الْحُرْمَةِ مَعَ عَدَمِ اسْتِعْمَالِهِ فِيهِ لَا يُلَائِمُهُ تَفْسِيرُهُ بِمَا سَيَجِيءُ لَيْسَ بِسَدِيدٍ، فَإِنَّ كُلًّا مِنْ قَوْلِهِ مَعَ عَدَمِ اسْتِعْمَالِهِ فِيهِ وَمِنْ قَوْلِهِ لَا يُلَائِمُهُ تَفْسِيرُهُ بِمَا سَيَجِيءُ فِي حَيِّزِ الْمَنْعِ.

أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُ قَالَ فِي الْمُغْرِبِ: وَالْمَحْرَمُ الْحَرَامُ وَالْحُرْمَةُ أَيْضًا. وَقَالَ فِي الْبَدَائِعِ: النِّسَاءُ فِي هَذَا الْبَابِ سَبْعَةُ أَنْوَاعٍ. نَوْعٌ مِنْهُنَّ الْمَنْكُوحَاتُ، وَنَوْعٌ مِنْهُنَّ الْمَمْلُوكَاتُ، وَنَوْعٌ مِنْهُنَّ ذَوَاتُ الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ كَالْأُمِّ وَالْبِنْتِ وَالْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ، وَنَوْعٌ مِنْهُنَّ ذَوَاتُ الْمَحْرَمِ بِلَا رَحِمٍ وَهُنَّ الْمَحَارِمُ مِنْ جِهَةِ الرَّضَاعِ وَالْمُصَاهَرَةِ، وَنَوْعٌ مِنْهُنَّ مَمْلُوكَاتُ الْأَغْيَارِ، وَنَوْعٌ مِنْهُنَّ مَنْ لَا رَحِمَ لَهُنَّ وَلَا مَحْرَمَ وَهُنَّ الْأَجْنَبِيَّاتُ الْحَرَائِرُ، وَنَوْعٌ مِنْهُنَّ مِنْ ذَوَاتِ الرَّحِمِ بِلَا مَحْرَمٍ كَبِنْتِ الْعَمِّ وَالْعَمَّةِ وَالْخَالِ وَالْخَالَةِ اهـ.

وَلَا يَخْفَى عَلَى الْفَطِنِ أَنَّ الْمَحْرَمَ الْمَذْكُورَ ثَمَّةَ فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ إنَّمَا يَصْلُحُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْحَرَامِ مَا ذُكِرَ فِي قَوْلِهِ ذَوَاتَ الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ، وَالْبَاقِي مِنْهُ بِمَعْنَى الْحُرْمَةِ لَا غَيْرُ كَمَا فِي قَوْلِهِ ذَوَاتَ الْمَحْرَمِ بِلَا رَحِمٍ، وَقَوْلِهِ مَنْ لَا رَحِمَ لَهُنَّ وَلَا مَحْرَمَ، وَقَوْلِهِ ذَوَاتُ الرَّحِمِ بِلَا مَحْرَمٍ يَظْهَرُ كُلُّ ذَلِكَ بِالتَّأَمُّلِ الصَّادِقِ وَالذَّوْقِ الصَّحِيحِ.

وَقَالَ فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ: وَلَا بَأْسَ لِلرَّجُلِ أَنْ يَنْظُرَ مِنْ أُمِّهِ وَابْنَتِهِ وَأُخْتِهِ الْبَالِغَةِ وَكُلِّ ذَاتِ رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ كَالْجَدَّاتِ وَأَوْلَادِ الْأَوْلَادِ وَالْعَمَّاتِ وَالْخَالَاتِ إلَى شَعْرِهَا وَرَأْسِهَا وَصَدْرِهَا وَبَدَنِهَا وَعُنُقِهَا وَعَضُدِهَا وَسَاقِهَا، وَلَا يَنْظُرْ إلَى ظَهْرِهَا وَبَطْنِهَا وَلَا إلَى مَا بَيْنَ سُرَّتِهَا إلَى أَنْ تُجَاوِزَ الرُّكْبَةَ، وَكَذَا إلَى كُلِّ ذَاتِ مَحْرَمٍ بِرَضَاعٍ أَوْ صِهْرِيَّةٍ كَزَوْجَةِ الْأَبِ وَالْجَدِّ وَإِنْ عَلَا وَزَوْجَةِ الِابْنِ وَأَوْلَادِ الْأَوْلَادِ وَإِنْ سَفَلُوا، وَابْنَةِ الْمَرْأَةِ الْمَدْخُولِ بِهَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهَا فَهِيَ كَالْأَجْنَبِيَّةِ انْتَهَى.

ص: 32

وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ} الْآيَةَ، وَالْمُرَادُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مَوَاضِعُ الزِّينَةِ وَهِيَ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ السَّاعِدُ وَالْأُذُنُ وَالْعُنُقُ وَالْقَدَمُ؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مَوْضِعُ الزِّينَةِ، بِخِلَافِ الظَّهْرِ وَالْبَطْنِ وَالْفَخِذِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ مَوَاضِعِ الزِّينَةِ، وَلِأَنَّ الْبَعْضَ يَدْخُلُ عَلَى الْبَعْضِ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ وَاحْتِشَامٍ وَالْمَرْأَةُ فِي بَيْتِهَا فِي ثِيَابِ مِهْنَتِهَا عَادَةً، فَلَوْ حَرُمَ النَّظَرُ إلَى هَذِهِ الْمَوَاضِعِ أَدَّى إلَى الْحَرَجِ، وَكَذَا الرَّغْبَةُ

وَلَا يَخْفَى عَلَى الْفَطِنِ أَيْضًا أَنَّ الْمَحْرَمَ الْمَذْكُورَ فِي قَوْلِهِ وَكَذَا إلَى كُلِّ ذَاتِ مَحْرَمٍ بِرَضَاعٍ أَوْ صِهْرِيَّةٍ بِمَعْنَى الْحُرْمَةِ دُونَ الْحَرَامِ، إذْ لَا مَعْنَى لَأَنْ يُقَالَ: كُلُّ ذَاتِ حَرَامٍ: أَيْ صَاحِبَةِ حَرَامٍ؛ لِأَنَّ الْحَرَامَ هِيَ صَاحِبَةُ الْحُرْمَةِ نَفْسِهَا فَلَا مَعْنَى لِإِضَافَةِ الذَّاتِ إلَيْهِ.

وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّهُ إنَّمَا لَا يُلَائِمُهُ تَفْسِيرُهُ بِمَا سَيَجِيءُ لَوْ كَانَ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ بِمَا سَيَجِيءُ تَفْسِيرَ الْمَحْرَمِ الَّذِي هُوَ مُفْرَدُ الْمَحَارِمِ فِي قَوْلِهِ وَيَنْظُرُ الرَّجُلُ مِنْ ذَوَاتِ مَحَارِمِهِ.

وَأَمَّا إذَا كَانَ مُرَادُهُ بِذَلِكَ تَفْسِيرَ الْمَحْرَمِ بِمَعْنَى الْحَرَامِ الْمَأْخُوذِ مِنْ مَجْمُوعِ قَوْلِهِ ذَوَاتِ مَحَارِمِهِ لَا مِنْ قَوْلِهِ مَحَارِمِهِ فَقَطْ فَلَا يَلْزَمُ عَدَمُ الْمُلَاءَمَةِ كَمَا لَا يَخْفَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ هُوَ الثَّانِي. وَيُعَضِّدُهُ تَقْرِيرُ صَاحِبِ الْمُحِيطِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ حَيْثُ قَالَ: وَأَمَّا النَّظَرُ إلَى ذَوَاتِ مَحَارِمِهِ فَنَقُولُ: يُبَاحُ النَّظَرُ إلَى مَوْضِعِ زِينَتِهَا الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ. ثُمَّ قَالَ: وَذَوَاتُ الْمَحَارِمِ مَنْ حَرُمَ عَلَيْهِ نِكَاحُهُنَّ بِالنَّسَبِ نَحْوَ الْأُمَّهَاتِ وَالْبَنَاتِ وَالْجَدَّاتِ وَالْعَمَّاتِ وَالْخَالَاتِ وَبَنَاتِ الْأَخِ وَبَنَاتِ الْأُخْتِ، أَوْ بِالسَّبَبِ كَالرَّضَاعِ وَالْمُصَاهَرَةِ انْتَهَى.

فَإِنَّهُ فَسَّرَ ذَوَاتَ الْمَحَارِمِ بِمَا فَسَّرَ بِهِ الْمُصَنِّفُ الْمَحْرَمَ نَفْسَهُ. ثُمَّ إنَّ التَّحْقِيقَ فِي مَعْنَى التَّرْكِيبِ الْمَذْكُورِ وَهُوَ قَوْلُهُمْ ذَوَاتُ مَحَارِمِهِ أَنَّهُ إذَا أُرِيدَ بِهِ مَنْ حَرُمَ عَلَيْهِ نِكَاحُهُنَّ بِالنَّسَبِ وَحْدَهُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَصْلُهُ ذَوَاتِ الرَّحِمِ الْمَحَارِمِ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمَحَارِمُ صِفَةَ الذَّوَاتِ وَتَكُونَ جَمْعَ مَحْرَمٍ بِمَعْنَى حَرَامٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ ذَوَاتِ الْحُرُمَاتِ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمَحَارِمُ جَمْعَ مَحْرَمٍ بِمَعْنَى الْحُرْمَةِ. وَأَمَّا إذَا أُرِيدَ بِهِ مَنْ حَرُمَ عَلَيْهِ نِكَاحُهُنَّ بِنَسَبٍ أَوْ سَبَبٍ كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ فَلَا مَجَالَ لِتَقْدِيرِ الرَّحِمِ لِكَوْنِهِ مُنَافِيًا لِلتَّعْمِيمِ بَلْ يَتَعَيَّنُ الْمَعْنَى الثَّانِي.

(قَوْلُهُ وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ} الْآيَةَ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ: وَقَوْلُهُ وَالْأَصْلُ فِيهِ: أَيْ فِي جَوَازِ مَا جَازَ وَعَدَمِ جَوَازِ مَا لَمْ يَجُزْ عَلَى تَأْوِيلِ الْمَذْكُورِ قَوْله تَعَالَى {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} الْآيَةَ، وَتَبِعَهُ الشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ أَقُولُ فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ الْمَذْكُورَةَ إنَّمَا تَدُلُّ عَلَى جَوَازِ مَا جَازَ وَهُوَ النَّظَرُ إلَى مَوَاضِعِ الزِّينَةِ. وَلَا تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ مَا لَمْ يَجُزْ. وَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ آيَةٌ أُخْرَى وَهِيَ قَوْله تَعَالَى {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} كَمَا أَفْصَحَ عَنْهُ صَاحِبُ الْبَدَائِعِ حَيْثُ قَالَ: وَلَا يَحِلُّ النَّظَرُ إلَى ظَهْرِهَا وَبَطْنِهَا وَلَا مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ مِنْهَا وَمَسُّهَا لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} إلَّا أَنَّهُ رَخَّصَ لِلْمَحَارِمِ النَّظَرَ إلَى مَوَاضِعِ الزِّينَةِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ} الْآيَةَ، فَبَقِيَ غَضُّ الْبَصَرِ عَمَّا وَرَاءَهَا مَأْمُورًا بِهِ، وَإِذَا لَمْ يَحِلَّ النَّظَرُ فَالْمَسُّ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَقْوَى انْتَهَى، أَوْ آيَةُ الظِّهَارِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ صَاحِبُ الْمُحِيطِ حَيْثُ قَالَ: وَلَا يَحِلُّ أَنْ يَنْظُرَ إلَى بَطْنِهَا وَلَا إلَى ظَهْرِهَا وَلَا إلَى جَنْبِهَا وَلَا يَمَسَّ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ.

وَالْوَجْهُ فِيهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى الظِّهَارَ فِي كِتَابِهِ مُنْكَرًا مِنْ الْقَوْلِ وَزُورًا. وَصُورَةُ الظِّهَارِ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ كَظَهْرِ أُمِّي، وَلَوْلَا أَنَّ ظَهْرَهَا مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ نَظَرًا وَمَسًّا لَمَا سَمَّى الظِّهَارَ مُنْكَرًا مِنْ الْقَوْلِ وَزُورًا. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فِي الظَّهْرِ ثَبَتَ فِي الْبَطْنِ وَالْجَنْبَيْنِ انْتَهَى فَتَأَمَّلْ (قَوْلُهُ وَلِأَنَّ الْبَعْضَ يَدْخُلُ عَلَى الْبَعْضِ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ وَاحْتِشَامٍ وَالْمَرْأَةُ فِي بَيْتِهَا فِي ثِيَابِ مِهْنَتِهَا عَادَةً، فَلَوْ حَرُمَ النَّظَرُ إلَى هَذِهِ الْمَوَاضِعِ أَدَّى إلَى الْحَرَجِ) قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: وَتَقْرِيرُ هَذَا الدَّلِيلِ وَاضِحٌ، إلَّا أَنَّ قَوْلَهُ يَدْخُلُ عَلَى الْبَعْضِ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ يُشْكِلُ بِمَا ذَكَرَهُ

ص: 33

تَقِلُّ لِلْحُرْمَةِ الْمُؤَبَّدَةِ فَقَلَّمَا تُشْتَهَى، بِخِلَافِ مَا وَرَاءَهَا، لِأَنَّهَا لَا تَنْكَشِفُ عَادَةً. وَالْمَحْرَمُ مِنْ لَا تَجُوزُ الْمُنَاكَحَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا عَلَى التَّأْبِيدِ بِنَسَبٍ كَانَ أَوْ بِسَبَبٍ كَالرَّضَاعِ وَالْمُصَاهَرَةِ لِوُجُودِ الْمَعْنَيَيْنِ فِيهِ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ الْمُصَاهَرَةُ بِنِكَاحٍ أَوْ سِفَاحٍ فِي الْأَصَحِّ لِمَا بَيَّنَّا. قَالَ (وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَمَسَّ مَا جَازَ أَنْ يَنْظُرَ إلَيْهِ مِنْهَا) لِتَحَقُّقِ الْحَاجَةِ إلَى ذَلِكَ فِي الْمُسَافَرَةِ وَقِلَّةِ الشَّهْوَةِ لِلْمَحْرَمِيَّةِ، بِخِلَافِ وَجْهِ الْأَجْنَبِيَّةِ وَكَفَّيْهَا حَيْثُ لَا يُبَاحُ الْمَسُّ وَإِنْ أُبِيحَ النَّظَرُ؛ لِأَنَّ الشَّهْوَةَ مُتَكَامِلَةٌ (إلَّا إذَا كَانَ يَخَافُ عَلَيْهَا أَوْ عَلَى نَفْسِهِ الشَّهْوَةَ) فَحِينَئِذٍ لَا يَنْظُرُ وَلَا يَمَسُّ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «الْعَيْنَانِ تَزْنِيَانِ وَزِنَاهُمَا النَّظَرُ، وَالْيَدَانِ تَزْنِيَانِ وَزِنَاهُمَا الْبَطْشُ» ، وَحُرْمَةُ الزِّنَا بِذَوَاتِ الْمَحَارِمِ أَغْلَظُ فَيُجْتَنَبُ.

(وَلَا بَأْسَ بِالْخَلْوَةِ وَالْمُسَافَرَةِ بِهِنَّ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَا تُسَافِرْ الْمَرْأَةُ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهَا إلَّا وَمَعَهَا زَوْجُهَا أَوْ ذُو رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهَا»

صَاحِبُ الْبَدَائِعِ فِي مَسَائِلِ الدُّخُولِ فِي بَيْتِ الْغَيْرِ أَنَّهُ إذَا كَانَ مِنْ مَحَارِمِهِ فَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ، فَرُبَّمَا كَانَتْ مَكْشُوفَةَ الْعَوْرَةِ فَيَقَعُ بَصَرُهُ عَلَيْهَا فَيَكْرَهَانِ ذَلِكَ، ثُمَّ اسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِآثَارٍ انْتَهَى كَلَامُهُ.

أَقُولُ: مُرَادُ الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ إنَّ الْبَعْضَ يَدْخُلُ عَلَى الْبَعْضِ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ أَنَّ الْعَادَةَ جَرَتْ بَيْنَ النَّاسِ عَلَى دُخُولِ بَعْضِ الْمَحَارِمِ عَلَى بَعْضِهِمْ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ، لَا أَنَّهُ أَمْرٌ مَنْدُوبٌ فِي الشَّرْعِ وَمَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْبَدَائِعِ حُكْمُ الشَّرْعِ فِي أَمْرِ الدُّخُولِ فِي بَيْتِ الْغَيْرِ فَإِنَّهُ قَالَ. وَأَمَّا حُكْمُ الدُّخُولِ: فِي بَيْتِ الْغَيْرِ فَالدَّاخِلُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ أَجْنَبِيًّا أَوْ مِنْ مَحَارِمِهِ، فَإِنْ كَانَ أَجْنَبِيًّا فَلَا يَحِلُّ لَهُ الدُّخُولُ فِيهِ، ثُمَّ قَالَ: وَإِنْ كَانَ مِنْ مَحَارِمِهِ فَلَا يَدْخُلُ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ أَيْضًا، وَإِنْ كَانَ يَجُوزُ لَهُ النَّظَرُ إلَى مَوَاضِعِ الزِّينَةِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، ثُمَّ قَالَ: إلَّا أَنَّ الْأَمْرَ فِي الِاسْتِئْذَانِ عَلَى الْمَحَارِمِ أَسْهَلُ وَأَيْسَرُ؛ لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ مُطْلَقُ النَّظَرِ إلَى مَوَاضِعِ الزِّينَةِ مِنْهَا شَرْعًا انْتَهَى. فَقَدْ تَلَخَّصَ مِنْهُ أَنَّ الدُّخُولَ فِي بَيْتِ الْأَجْنَبِيِّ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ حَرَامٌ، وَالدُّخُولَ فِي بَيْتِ مَحَارِمِهِ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ مَكْرُوهٌ، وَيَكْفِي فِي التَّأَدِّي إلَى الْحَرَجِ جَرَيَانُ الْعَادَةِ بَيْنَ النَّاسِ بِدُخُولِ بَعْضِ الْمَحَارِمِ عَلَى بَعْضِهِمْ بِلَا اسْتِئْذَانٍ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُمْدَحُ فِي حُكْمِ الشَّرْعِ، وَالْحَرَجُ مَدْفُوعٌ شَرْعًا فَلَا إشْكَالَ (قَوْلُهُ وَالْمَحْرَمُ مَنْ لَا تَجُوزُ الْمُنَاكَحَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا عَلَى التَّأْبِيدِ بِنَسَبٍ كَانَ أَوْ سَبَبٍ كَالرَّضَاعِ وَالْمُصَاهَرَةِ لِوُجُودِ الْمَعْنَيَيْنِ فِيهِ) يَعْنِي بِالْمَعْنَيَيْنِ الضَّرُورَةَ وَقِلَّةَ الرَّغْبَةِ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ. وَفِي عِبَارَةِ بَعْضِهِمْ: يَعْنِي الْحَرَجَ وَقِلَّةَ الرَّغْبَةِ.

قَالَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ: فَإِنْ قُلْت: فَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ لَا يُقْطَعَ إذَا سَرَقَ الْمَرْءُ مِنْ بَيْتِ أُمِّهِ مِنْ الرَّضَاعِ لِجَوَازِ الدُّخُولِ مِنْ غَيْرِ احْتِشَامٍ وَاسْتِئْذَانٍ فَوَقَعَ نُقْصَانٌ فِي الْحِرْزِ. قُلْت: لَا يُقْطَعُ عِنْدَ الْبَعْضِ. وَأَمَّا جَوَازُ الدُّخُولِ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ فَمَمْنُوعٌ، ذَكَرَ خُوَاهَرْ زَادَهْ أَنَّ الْمَحَارِمَ مِنْ جِهَةِ الرَّضَاعِ لَا يَكُونُ لَهُمْ الدُّخُولُ مِنْ غَيْرِ حِشْمَةٍ وَاسْتِئْذَانٍ وَلِهَذَا يُقْطَعُونَ بِسَرِقَةِ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَاقْتَفَى أَثَرَهُ الْعَيْنِيُّ فِي ذِكْرِ هَذَا السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ بِعَيْنِهِمَا. أَقُولُ: لَيْسَ الْجَوَابُ بِتَامٍّ، أَمَّا قَوْلُهُ قُلْت لَا يُقْطَعُ عِنْدَ الْبَعْضِ فَلِأَنَّ عَدَمَ الْقَطْعِ عِنْدَ الْبَعْضِ هُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ

ص: 34

وَقَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «أَلَا لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ لَيْسَ مِنْهَا بِسَبِيلٍ فَإِنَّ ثَالِثَهُمَا الشَّيْطَانُ» وَالْمُرَادُ إذَا لَمْ يَكُنْ مَحْرَمًا، فَإِنْ احْتَاجَ إلَى الْإِرْكَابِ وَالْإِنْزَالِ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَمَسَّهَا مِنْ وَرَاءِ ثِيَابِهَا وَيَأْخُذَ ظَهْرَهَا وَبَطْنَهَا دُونَ مَا تَحْتَهُمَا إذَا أَمِنَا الشَّهْوَةَ، فَإِنْ خَافَهَا عَلَى نَفْسِهِ أَوْ عَلَيْهَا تَيَقُّنًا أَوْ ظَنًّا أَوْ شَكًّا فَلْيَجْتَنِبْ ذَلِكَ بِجَهْدِهِ، ثُمَّ إنْ أَمْكَنَهَا الرُّكُوبَ بِنَفْسِهَا يَمْتَنِعُ عَنْ ذَلِكَ أَصْلًا، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهَا يَتَكَلَّفُ بِالثِّيَابِ كَيْ لَا تُصِيبَهُ حَرَارَةُ عُضْوِهَا، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ الثِّيَابَ يَدْفَعُ الشَّهْوَةَ عَنْ قَلْبِهِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ.

قَالَ (وَيَنْظُرُ الرَّجُلُ مِنْ مَمْلُوكَةِ غَيْرِهِ إلَى مَا يَجُوزُ أَنْ يَنْظُرَ إلَيْهِ مِنْ ذَوَاتِ مَحَارِمِهِ) لِأَنَّهَا تَخْرُجُ لِحَوَائِجِ مَوْلَاهَا وَتَخْدُمُ أَضْيَافَهُ وَهِيَ فِي ثِيَابِ مِهْنَتِهَا، فَصَارَ حَالُهَا خَارِجَ الْبَيْتِ فِي حَقِّ الْأَجَانِبِ كَحَالِ الْمَرْأَةِ دَاخِلَهُ فِي حَقِّ مَحَارِمِهِ الْأَقَارِبِ. وَكَانَ عُمَرُ رضي الله عنه إذَا رَأَى جَارِيَةً مُتَقَنِّعَةً عَلَاهَا بِالدُّرَّةِ، وَقَالَ: أَلْقِي عَنْك الْخِمَارَ يَا دَفَارُ أَتَتَشَبَّهِينَ بِالْحَرَائِرِ؟ وَلَا يَحِلُّ النَّظَرُ إلَى بَطْنِهَا وَظَهْرِهَا خِلَافًا لِمَا يَقُولُهُ مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَنَّهُ يُبَاحُ إلَّا إلَى مَا دُونَ السُّرَّةِ إلَى الرُّكْبَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ كَمَا فِي الْمَحَارِمِ، بَلْ أَوْلَى لِقِلَّةِ الشَّهْوَةِ فِيهِنَّ وَكَمَالِهَا فِي الْإِمَاءِ. وَلَفْظَةُ الْمَمْلُوكَةِ تَنْتَظِمُ الْمُدَبَّرَةُ وَالْمُكَاتَبَةُ وَأُمُّ الْوَلَدِ لِتَحَقُّقِ الْحَاجَةِ، وَالْمُسْتَسْعَاةُ كَالْمُكَاتَبَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى مَا عُرِفَ، وَأَمَّا الْخَلْوَةُ بِهَا وَالْمُسَافَرَةُ مَعَهَا

عَنْ أَبِي يُوسُفَ كَمَا مَرَّ فِي كِتَابِ السَّرِقَةِ لَا يَدْفَعُ السُّؤَالَ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَيْضًا فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ فَإِنَّ كَوْنَ الْمَحْرَمِ بِسَبَبِ الرَّضَاعِ فِي حُكْمِ الْمَحْرَمِ بِالنَّسَبِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَإِذَا كَانَتْ الْعِلَّةُ فِي ذَلِكَ وُجُودَ الْمَعْنَيَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ كَمَا قَالَهُ الْمُصَنِّفُ يَتَوَجَّهُ السُّؤَالُ الْمَذْكُورُ عَلَى قَوْلِ الْأَكْثَرِ وَهُوَ الْقَوْلُ الْمُخْتَارُ وَظَاهِرُ الرِّوَايَةِ كَمَا تَقَرَّرَ فِي كِتَابِ السَّرِقَةِ، وَلَا يَدْفَعُهُ عَدَمُ الْقَطْعِ عِنْدَ الْبَعْضِ كَمَا لَا يَخْفَى. وَأَمَّا قَوْلُهُ وَأَمَّا جَوَازُ الدُّخُولِ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ فَمَمْنُوعٌ، وَتَأْيِيدُ ذَلِكَ بِمَا ذَكَرَهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ خُوَاهَرْ زَادَهْ فَلِأَنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَحَارِمِ مِنْ جِهَةِ الرَّضَاعِ الدُّخُولُ مِنْ غَيْرِ حِشْمَةٍ وَاسْتِئْذَانٍ لَمْ يَصِحَّ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ لِوُجُودِ الْمَعْنَيَيْنِ فِيهِ، فَإِنَّ وُجُودَ أَحَدِ ذَيْنِك الْمَعْنَيَيْنِ فِيهِ يَتَوَقَّفُ عَلَى أَنْ يَكُونَ لَهُ الدُّخُولُ مِنْ غَيْرِ حِشْمَةٍ وَاسْتِئْذَانٍ كَمَا تَحَقَّقْته، وَمَبْنَى السُّؤَالِ الْمَذْكُورِ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِ كَمَا يُفْصِحُ عَنْهُ الْفَاءُ فِي قَوْلِ السَّائِلِ فَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ لَا يُقْطَعَ إذَا سَرَقَ الْمَرْءُ مِنْ بَيْتِ أُمِّهِ مِنْ الرَّضَاعِ، فَالْأَوْلَى فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى كَوْنِ الْمَحْرَمِ بِسَبَبٍ فِي حُكْمِ الْمَحْرَمِ بِنَسَبٍ أَنْ يُصَارَ إلَى الدَّلِيلِ النَّقْلِيِّ كَمَا فَعَلَهُ صَاحِبُ الْبَدَائِعِ حَيْثُ قَالَ: وَأَمَّا النَّوْعُ الرَّابِعُ وَهُوَ ذَوَاتُ الْمَحْرَمِ بِلَا رَحِمٍ فَحُكْمُهُنَّ حُكْمُ ذَوَاتِ الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ.

وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ» وَرُوِيَ «أَنَّ أَفْلَحَ اسْتَأْذَنَ أَنْ يَدْخُلَ عَلَى عَائِشَةَ رضي الله عنها، فَسَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ عليه الصلاة والسلام: لِيَلِجَ عَلَيْك فَإِنَّهُ عَمُّك أَرْضَعَتْك امْرَأَةُ أَخِيهِ» انْتَهَى. وَقَالَ فِي الْمَبْسُوطِ بَعْدَ مَا ذَكَرَ حُكْمَ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ بِالنَّسَبِ وَالْمُحَرَّمَةِ بِالرَّضَاعِ وَكَذَلِكَ الْمُحَرَّمَةُ بِالْمُصَاهَرَةِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَوَّى بَيْنَهُمَا بِقَوْلِهِ {فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا} .

(ذَوَاتُ الْمَحَارِمِ)(قَوْلُهُ وَقَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «أَلَا لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ لَيْسَ مِنْهَا بِسَبِيلٍ فَإِنَّ ثَالِثَهُمَا الشَّيْطَانُ» وَالْمُرَادُ إذَا لَمْ يَكُنْ مَحْرَمًا) أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: كَوْنُ الْمُرَادِ إذَا لَمْ يَكُنْ مَحْرَمًا لَيْسَ بِأَجْلَى مِنْ أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ إذَا لَمْ يَكُنْ زَوْجًا، فَبِهَذَا الِاحْتِمَالِ كَيْفَ

ص: 35

فَقَدْ قِيلَ يُبَاحُ كَمَا فِي الْمَحَارِمِ، وَقَدْ قِيلَ لَا يُبَاحُ لِعَدَمِ الضَّرُورَةِ فِيهِنَّ، وَفِي الْإِرْكَابِ وَالْإِنْزَالِ اعْتَبَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ الضَّرُورَةَ فِيهِنَّ وَفِي ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ مُجَرَّدَ الْحَاجَةِ. قَالَ (وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَمَسَّ ذَلِكَ إذَا أَرَادَ الشِّرَاءَ، وَإِنْ خَافَ أَنْ يَشْتَهِيَ) كَذَا ذَكَرَهُ فِي الْمُخْتَصَرِ، وَأَطْلَقَ أَيْضًا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَلَمْ يُفَصِّلْ. قَالَ مَشَايِخُنَا رحمهم الله: يُبَاحُ النَّظَرُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَإِنْ اشْتَهَى لِلضَّرُورَةِ، وَلَا يُبَاحُ الْمَسُّ إذَا اشْتَهَى أَوْ كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ نَوْعُ اسْتِمْتَاعٍ، وَفِي غَيْرِ حَالَةِ الشِّرَاءِ يُبَاحُ النَّظَرُ وَالْمَسُّ بِشَرْطِ عَدَمِ الشَّهْوَةِ.

قَالَ (وَإِذَا حَاضَتْ الْأَمَةُ لَمْ تَعْرِضْ فِي إزَارٍ وَاحِدٍ) وَمَعْنَاهُ بَلَغَتْ، وَهَذَا مُوَافِقٌ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الظَّهْرَ وَالْبَطْنَ مِنْهَا عَوْرَةٌ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهَا إذَا كَانَتْ تُشْتَهَى وَيُجَامَعُ مِثْلُهَا فَهِيَ كَالْبَالِغَةِ لَا تَعْرِضُ فِي إزَارٍ وَاحِدٍ لِوُجُودِ الِاشْتِهَاءِ.

قَالَ (وَالْخَصِيُّ فِي النَّظَرِ إلَى الْأَجْنَبِيَّةِ كَالْفَحْلِ) لِقَوْلِ عَائِشَةَ رضي الله عنها: الْخِصَاءُ مِثْلُهُ فَلَا يُبِيحُ مَا كَانَ حَرَامًا قَبْلَهُ وَلِأَنَّهُ فَحْلٌ يُجَامِعُ. وَكَذَا الْمَجْبُوبُ؛ لِأَنَّهُ يَسْحَقُ وَيُنْزِلُ،

يَثْبُتُ الْمُدَّعَى، وَلَئِنْ سَلَّمَ كَوْنَ الْمُرَادِ ذَلِكَ فَجَوَازُ أَنْ يَخْلُوَ الرَّجُلُ بِامْرَأَةٍ ذَاتِ مَحْرَمٍ مِنْهُ لَا يُسْتَفَادُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ إلَّا بِطَرِيقِ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ وَهُوَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عِنْدَنَا.

(قَوْلُهُ وَالْخَصِيُّ فِي النَّظَرِ إلَى الْأَجْنَبِيَّةِ كَالْفَحْلِ لِقَوْلِ عَائِشَةَ رضي الله عنها: الْخِصَاءُ مِثْلُهُ فَلَا يُبِيحُ مَا كَانَ حَرَامًا قَبْلَهُ) قَالَ الشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ: هَا هُنَا إيرَادَانِ عَلَى الْمُصَنِّفِ الْأَوَّلُ أَنَّ هَذَا لَمْ يَثْبُتْ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، وَإِنَّمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنِّفِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ فَضْلٍ عَنْ مُطَرِّفٍ عَنْ رَجُلٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: خِصَاءُ الْبَهَائِمِ مِثْلُهُ، ثُمَّ تَلَا {وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنِّفِهِ عَنْ مُجَاهِدٍ وَعَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ الْخِصَاءُ مِثْلُهُ ذَكَرَهُ فِي كِتَابِ الْحَجِّ.

الثَّانِي أَنَّ هَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى مُدَّعَاكُمْ، فَإِنَّ كَوْنَ الْخِصَاءِ مِثْلِهِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ نَظَرَ الْخَصِيِّ إلَى الْأَجْنَبِيَّةِ كَالْفَحْلِ، إلَى هَاهُنَا كَلَامُهُ. أَقُولُ: كُلٌّ مِنْ إيرَادَيْهِ سَاقِطٌ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ حَاصِلَهُ عَدَمُ ثُبُوتِ هَذَا الْقَوْلِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها عِنْدَهُ بِطَرِيقِ الْإِسْنَادِ، وَهُوَ لَا يَقْتَضِي عَدَمَ ثُبُوتِهِ عِنْدَ الْمُجْتَهِدِينَ بِطَرِيقِ الْإِسْنَادِ أَوْ بِطَرِيقِ الْإِرْسَالِ، وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها فِي عَامَّةِ كُتُبِ أَصْحَابِنَا بِطَرِيقِ الْإِرْسَالِ، وَتَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ أَنَّ مُرْسَلَ الصَّحَابِيِّ مَقْبُولٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَمُرْسَلَ الْقَرْنِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ وَإِنْ لَمْ يُقْبَلْ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ بِدُونِ أَنْ يَثْبُتَ اتِّصَالُهُ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ كَمَرَاسِيلِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ إلَّا أَنَّهُ يُقْبَلُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ مَالِكٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ، حَتَّى قَالُوا إنَّهُ فَوْقَ الْمُسْنَدِ، وَمُرْسَلُ مَنْ دُونَ هَؤُلَاءِ يُقْبَلُ عِنْدَ بَعْضِ أَصْحَابِنَا وَيُرَدُّ عِنْدَ الْبَعْضِ، فَهَذَا الْقَوْلُ الْمُرْسَلُ إلَى عَائِشَةَ رضي الله عنها إنْ كَانَ مِنْ مَرَاسِيلِ الْقَرْنِ الثَّانِي أَوْ الثَّالِثِ فَلَا شَكَّ فِي كَوْنِهِ مَقْبُولًا عِنْدَنَا، وَإِنْ كَانَ مِنْ مَرَاسِيلِ مَنْ دُونَ الْقَرْنِ الثَّالِثِ فَهُوَ أَيْضًا مَقْبُولٌ عَلَى الْقَوْلِ الْمُخْتَارِ مِنْ أَصْحَابِنَا. وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ قَوْلَهُ فَلَا يُبِيحُ مَا كَانَ حَرَامًا قَبْلَهُ مِنْ كَلَامِ عَائِشَةَ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ تَقْرِيرَاتُ الثِّقَاتِ فِي عَامَّةِ الْمُعْتَبَرَاتِ، فَدَلَالَةُ أَثَرِ عَائِشَةَ رضي الله عنها عَلَى الْمُدَّعَى أَظْهَرُ مِنْ أَنْ يَخْفَى.

ثُمَّ أَقُولُ: وَلَكِنْ بَقِيَ هَاهُنَا شَيْءٌ وَهُوَ أَنَّهُ قَدْ ذُكِرَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ فِيمَا لَمْ يُعْلَمْ اتِّفَاقُ سَائِرِ الصَّحَابَةِ عَلَيْهِ وَلَا اخْتِلَافُهُمْ فِيهِ إنَّمَا يُوجِبُ التَّقْلِيدَ فِيمَا لَا يُدْرَكُ بِالْقِيَاسِ؛ لِأَنَّهُ لَا وَجْهَ لَهُ إلَّا السَّمَاعُ أَوْ الْكَذِبُ، وَالثَّانِي مُنْتَفٍ فَتَعَيَّنَ الْأَوَّلُ لَا فِيمَا يُدْرَكُ بِالْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ بِالرَّأْيِ مِنْهُمْ مَشْهُورٌ وَالْمُجْتَهِدُ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا نَحْنُ فِيهِ مِمَّا يُدْرَكُ بِالْقِيَاسِ، وَلِهَذَا اسْتَدَلُّوا عَلَيْهِ بِالدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ الَّذِي مَرْجِعُهُ الْقِيَاسُ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ حَيْثُ قَالُوا: وَلِأَنَّهُ فَحْلٌ يُجَامِعُ، وَلَمْ يُعْلَمْ اتِّفَاقُ سَائِرِ الصَّحَابَةِ عَلَى قَوْلِ عَائِشَةَ الْمَذْكُورِ هُنَا فَيَلْزَمُ أَنْ لَا يُوجِبَ التَّقْلِيدَ فَكَيْفَ يَتِمُّ الِاسْتِدْلَال بِهِ (قَوْلُهُ وَكَذَا الْمَجْبُوبُ لِأَنَّهُ يَسْحَقُ وَيُنْزِلُ) قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ:

ص: 36

وَكَذَا الْمُخَنَّثُ فِي الرَّدِيءِ مِنْ الْأَفْعَالِ؛ لِأَنَّهُ فَحْلٌ فَاسِقٌ. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يُؤْخَذُ فِيهِ بِمُحْكَمِ كِتَابِ اللَّهِ الْمُنَزَّلِ فِيهِ، وَالطِّفْلُ الصَّغِيرُ مُسْتَثْنًى بِالنَّصِّ.

قَالَ (وَلَا يَجُوزُ لِلْمَمْلُوكِ أَنْ يَنْظُرَ مِنْ سَيِّدَتِهِ إلَّا مَا يَجُوزُ لِلْأَجْنَبِيِّ النَّظَرُ إلَيْهِ مِنْهَا). وَقَالَ مَالِكٌ: هُوَ كَالْمَحْرَمِ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ مُتَحَقِّقَةٌ لِدُخُولِهِ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ. وَلَنَا أَنَّهُ فَحْلٌ غَيْرُ مَحْرَمٍ وَلَا زَوْجٍ، وَالشَّهْوَةُ مُتَحَقِّقَةٌ لِجَوَازِ النِّكَاحِ فِي الْجُمْلَةِ وَالْحَاجَةُ قَاصِرَةٌ؛ لِأَنَّهُ يَعْمَلُ خَارِجَ الْبَيْتِ.

وَيَسْحَقُ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَيُنْزِلُ بِضَمِّهَا: أَيْ يَفْعَلُ الْإِنْزَالَ. وَلَا حَاجَةَ إلَى تَقْدِيرِ الْمَفْعُولِ كَمَا فَعَلَهُ الْعَيْنِيُّ حَيْثُ قَالَ الْمَنِيَّ بَعْدَ قَوْلِهِ وَيُنْزِلُ انْتَهَى.

أَقُولُ: الصَّوَابُ مَا فَعَلَهُ الْعَيْنِيُّ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَعْنَى يُنْزِلُ هُنَا يَفْعَلُ الْإِنْزَالَ كَانَ هَذَا الْفِعْلُ الْمُتَعَدِّي مُنَزَّلًا مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ لِلْقَصْدِ إلَى نَفْسِ الْفِعْلِ كَمَا فِي نَحْوِ قَوْلِك فُلَانٌ يُعْطِي: أَيْ يَفْعَلُ الْإِعْطَاءَ. وَيُوجَدُ هَذِهِ الْحَقِيقَةُ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْمِفْتَاحِ وَغَيْرِهِ وَلَيْسَ ذَلِكَ الْمَعْنَى بِصَحِيحٍ هُنَا، إذْ لَا يَثْبُتُ الْمَطْلُوبُ بِمُجَرَّدِ كَوْنِ الْمَجْبُوبِ فَاعِلَ حَقِيقَةِ الْإِنْزَالِ. فَإِنَّ هَذَا يَتَحَقَّقُ بِإِنْزَالِهِ الْبَوْلَ وَنَحْوِهِ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِعِلَّةٍ لِحُرْمَةِ النَّظَرِ إلَى الْأَجْنَبِيَّةِ لَا مَحَالَةَ، وَإِنَّمَا الْعِلَّةُ لَهَا شَهْوَةُ الْمَنِيِّ فَلَا بُدَّ مِنْ تَعْيِينِ مَفْعُولِ يُنْزِلُ هُنَا بِالْمَنِيِّ حَتَّى يَتِمَّ الْمَطْلُوبُ (قَوْلُهُ وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يُؤْخَذُ فِيهِ بِمُحْكَمِ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى الْمُنَزَّلِ فِيهِ) أَيْ يُؤْخَذُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا، كَذَا فِي شَرْحِ تَاجِ الشَّرِيعَةِ. وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: أَيْ فِي الْمُخَنَّثِ الَّذِي فِي أَعْضَائِهِ لِينٌ وَتَكَسُّرٌ بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ وَلَا يَشْتَهِي النِّسَاءَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِخْدَامِ انْتَهَى. أَقُولُ: الْحَقُّ مَا قَالَهُ تَاجُ الشَّرِيعَةِ. أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُ يَصِحُّ أَنَّهُ يُؤْخَذُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ الْمَارَّةِ: أَعْنِي الْخَصِيَّ وَالْمَجْبُوبَ وَالْمُخَنَّثَ بِمُحْكَمِ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى بِلَا رَيْبٍ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} وَكَذَا قَوْله تَعَالَى {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ} الْآيَةَ، فَمَا مَعْنَى تَخْصِيصِ ذَلِكَ بِالثَّالِثِ وَحْدِهِ مَعَ إمْكَانِ حَمْلِهِ عَلَى الثَّلَاثَةِ جَمِيعًا، وَمَقْصُودُ الْمُصَنِّفِ مِنْ كَلَامِهِ هَذَا بَيَانُ دَلِيلٍ آخَرَ أَقْوَى مِمَّا ذَكَرَهُ.

أَوَّلًا جَامِعٍ لِلصُّوَرِ الثَّلَاثِ مَعًا كَمَا تَرَى.

وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ كَلِمَةَ الْحَاصِلِ تَقْتَضِي فِي الِاسْتِعْمَالِ تَفْصِيلًا سَابِقًا يَكُونُ مَا ذُكِرَ فِي حَيِّزِهَا تَلْخِيصًا لِذَلِكَ التَّفْصِيلِ، وَهَذَا إنَّمَا يُتَصَوَّرُ هُنَا إذَا كَانَ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ هَذَا نَاظِرًا إلَى مَجْمُوعِ الصُّوَرِ الثَّلَاثِ الْمَارَّةِ لَا إلَى الصُّورَةِ الثَّالِثَةِ وَحْدَهَا، سِيَّمَا لَوْ أُرِيدَ بِالضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ فِي قَوْلِهِ يُؤْخَذُ فِيهِ الْمُخَنَّثُ بِالْمَعْنَى الْغَيْرِ الْمَذْكُورِ فِيمَا مَرَّ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِخْدَامِ كَمَا زَعَمَهُ ذَلِكَ الْبَعْضُ، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ حِينَئِذٍ لِلْكَلِمَةِ الْحَاصِلِ مِسَاسٌ بِمَا قَبْلَهَا أَصْلًا كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى ذِي فِطْنَةٍ.

ص: 37

وَالْمُرَادُ بِالنَّصِّ الْإِمَاءُ، قَالَ سَعِيدٌ وَالْحَسَنُ وَغَيْرُهُمَا: لَا تَغُرَّنَّكُمْ سُورَةُ النُّورِ فَإِنَّهَا فِي الْإِنَاثِ دُونَ الذُّكُورِ

قَالَ (وَيَعْزِلُ عَنْ أَمَتِهِ بِغَيْرِ إذْنِهَا وَلَا يَعْزِلُ عَنْ زَوْجَتِهِ إلَّا بِإِذْنِهَا) «؛ لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام نَهَى عَنْ

قَوْلُهُ وَالْمُرَاد بِالنَّصِّ الْإِمَاء قَالَ سَعِيدٌ وَالْحَسَنُ وَغَيْرُهُمَا لَا تَغُرَّنَّكُمْ سُورَةُ النُّورِ فَإِنَّهَا فِي الْإِنَاثِ دُونَ الذُّكُورِ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ أَطْلَقَ اسْمَ سَعِيدٍ وَلَمْ يُقَيِّدْهُ بِالنِّسْبَةِ لِيَصِحَّ تَنَاوُلُهُ لِلسَّعِيدَيْنِ عَلَى مَا رَوَيْنَا مِنْ رِوَايَةِ الْمَبْسُوطِ انْتَهَى. وَتَبِعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ الشُّرَّاحِ فِي هَذَا التَّوْجِيهِ. وَرَدَّهُ صَاحِبُ الْغَايَةِ حَيْثُ قَالَ: أَرَادَ بِهِ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ لِمَا ذَكَرْنَا عَنْ الْكَشَّافِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ فِي شَرْحِهِ: إنَّمَا أَطْلَقَ السَّعِيدَ لِيَتَنَاوَلَ السَّعِيدَيْنِ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ وَسَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ حِينَئِذٍ أَنْ يَكُونَ لِلْمُشْتَرَكِ عُمُومٌ فِي مَوْضِعِ الْإِثْبَاتِ وَهُوَ فَاسِدٌ انْتَهَى.

أَقُولُ: نَظَرُهُ سَاقِطٌ، إذْ الظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَ هَؤُلَاءِ الشُّرَّاحِ بِالتَّنَاوُلِ فِي قَوْلِهِمْ لِيَتَنَاوَلَ السَّعِيدَيْنِ هُوَ التَّنَاوُلُ عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ لَا التَّنَاوُلُ عَلَى سَبِيلِ الشُّمُولِ وَالْعُمُومِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُشْتَرَكَ يَتَنَاوَلُ مَعَانِيَهُ عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ، وَلَقَدْ صَرَّحُوا بِهِ حَتَّى قَالَ الْمُحَقِّقُ التَّفْتَازَانِيُّ فِي التَّلْوِيحِ: وَالْمُشْتَرَكُ مُسْتَغْرِقٌ لِمَعَانِيهِ عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ، وَاَلَّذِي لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا دُونَ الشَّافِعِيِّ إنَّمَا هُوَ عُمُومُ الْمُشْتَرَكِ لِمُعَايَنَةٍ عَلَى سَبِيلِ الشُّمُولِ فِي إطْلَاقِ وَاحِدٍ كَمَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ، وَهُوَ غَيْرُ لَازِمٍ مِنْ عِبَارَةِ هَؤُلَاءِ الشُّرَّاحِ. وَقَالَ الشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ بَعْدَ نَقْلِ كَلَامِ هَؤُلَاءِ الشُّرَّاحِ: وَنَظَرَ صَاحِبُ الْغَايَةِ فِيهِ. قُلْت: نَظَرُهُ وَارِدٌ وَلَكِنَّ تَعْلِيلَهُ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ، أَمَّا وُرُودُهُ فَلِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَعْمِلْ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ لَفْظَ سَعِيدٍ مِنْ غَيْرِ نِسْبَةٍ، وَأَرَادَ بِهِ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ أَوْ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ. وَأَمَّا أَنَّ تَعْلِيلَهُ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ فَلِأَنَّهُ ادَّعَى فِيهِ لُزُومَ عُمُومِ الْمُشْتَرَكِ، وَلَا نُسَلِّمُ ثُبُوتَ الِاشْتِرَاكِ هَاهُنَا؛ لِأَنَّ الِاشْتِرَاكَ مَا وُضِعَ لَمَعَانٍ انْتَهَى. أَقُولُ: كِلَا دَخْلَيْهِ لَيْسَ بِشَيْءٍ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُ لَا شَكَّ أَنَّ الْعِلْمَ هُوَ لَفْظُ سَعِيدٍ لَا مَجْمُوعُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَوْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، فَعَدَمُ اسْتِعْمَالِ السَّلَفِ لَفْظَ سَعِيدٍ مِنْ غَيْرِ نِسْبَةٍ فِي سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَوْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِ لَيْسَ لِعَدَمِ صِحَّةِ إطْلَاقِ لَفْظِ سَعِيدٍ وَحْدَهُ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمَا، وَإِلَّا لَمَا كَانَ عَلَمًا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَلْ لِقَصْدِهِمْ زِيَادَةَ إظْهَارِ الْمُرَادِ وَتَعْيِينِهِ، وَإِذَا كَانَ مَقْصُودُ الْمُصَنِّفِ تَنَاوُلَ لَفْظِ سَعِيدٍ هَاهُنَا لِلسَّعِيدَيْنِ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ هَؤُلَاءِ الشُّرَّاحُ لَزِمَهُ تَرْكُ النِّسْبَةِ وَصَحَّ الْإِطْلَاقُ.

وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ لَفْظَ سَعِيدٍ عَلَمٌ مُشْتَرَكٌ، وَالْأَعْلَامُ الْمُشْتَرَكَةُ مِمَّا تَقَرَّرَ أَمَرَهُ فِي عِلْمِ النَّحْوِ فَكَيْفَ يُمْنَعُ ثُبُوتُ الِاشْتِرَاكِ هَاهُنَا. وَقَوْلُهُ لِأَنَّ الِاشْتِرَاكَ مَا وُضِعَ لَمَعَانٍ لَا يُجْدِي شَيْئًا، لِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ بِالْمَعَانِي مَا يُسْتَفَادُ مِنْ اللَّفْظِ فَهُوَ مُتَحَقِّقٌ فِي الْعَلَمِ الْمُشْتَرَكِ أَيْضًا بِلَا رَيْبٍ. وَإِنْ أَرَادَ بِهَا الصُّوَرَ الْعَقْلِيَّةَ الْمُقَابِلَةَ لِلْأَعْيَانِ الْخَارِجِيَّةَ فَلَيْسَتْ تِلْكَ بِمُعْتَبَرَةٍ فِي مَعْنَى الْمُشْتَرَكِ، فَإِنَّ الْمُشْتَرَكَ مَا وُضِعَ لِمُتَعَدِّدٍ بِوَضْعِ مُتَعَدِّدٍ: أَيِّ شَيْءٍ كَانَ ذَلِكَ الْمُتَعَدِّدُ الْمَوْضُوعُ لَهُ، وَالْأَمْرُ فِي الْعَلَمِ الْمُشْتَرَكِ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يَتَنَاوَلُ مُسَمَّيَاتِهِ بِوَضْعٍ وَاحِدٍ بَلْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَضْعٌ مُسْتَقِلٌّ كَمَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ.

ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ الْعِنَايَةِ عَلَّلَ كَوْنَ الْمُرَادِ بِالنَّصِّ الْإِمَاءَ بِوَجْهٍ آخَرَ حَيْثُ قَالَ: وَلِأَنَّ الذُّكُورَ مُخَاطَبُونَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} فَلَوْ دَخَلُوا فِي قَوْلِهِ عز وجل {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} لَزِمَ التَّعَارُضُ انْتَهَى. أَقُولُ: لَيْسَ ذَاكَ بِصَحِيحٍ. أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُ يُنْتَقَضُ

ص: 38

الْعَزْلِ عَنْ الْحُرَّةِ إلَّا بِإِذْنِهَا، وَقَالَ لِمَوْلَى أَمَةٍ: اعْزِلْ عَنْهَا إنْ شِئْت»، وَلِأَنَّ الْوَطْءَ حَقُّ الْحُرَّةِ قَضَاءً لِلشَّهْوَةِ وَتَحْصِيلًا لِلْوَلَدِ وَلِهَذَا تُخَيِّرُ فِي الْجَبِّ وَالْعُنَّةِ، وَلَا حَقَّ لِلْأَمَةِ فِي الْوَطْءِ فَلِهَذَا لَا يُنْقَصُ حَقُّ الْحُرَّةِ بِغَيْرِ إذْنِهَا وَيَسْتَبِدُّ بِهِ الْمَوْلَى وَلَوْ كَانَ تَحْتَهُ أَمَةَ غَيْرِهِ فَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي النِّكَاحِ.

بِخِطَابِ الْإِنَاثِ أَيْضًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} فَإِنَّ مُقْتَضَى مَا ذَكَرَهُ أَنْ لَا تَدْخُلَ الْإِمَاءُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ عز وجل {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} بِنَاءً عَلَى لُزُومِ التَّعَارُضِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْله تَعَالَى {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} مَعَ أَنَّ دُخُولَ الْإِمَاءِ فِيهِ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ.

وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ اللَّازِمَ مِنْ كَوْنِ الذُّكُورِ مِنْ الْمَمَالِيكِ مُخَاطَبِينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} دُخُولُهُمْ فِي جَانِبِ الْغَاضِّينَ مِنْ أَبْصَارِهِمْ لَا فِي جَانِبِ مَنْ يَجِبُ غَضُّ الْبَصَرِ عَنْهُ وَهُوَ الَّذِي مُنِعَ النَّظَرُ إلَيْهِ، فَإِنَّ كَلِمَةَ مِنْ فِي قَوْله تَعَالَى مِنْ أَبْصَارِهِمْ لِلتَّبْعِيضِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْمُفَسِّرُونَ، فَكَأَنَّ الْمَعْنَى يَغُضُّوا بَعْضًا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَهُوَ غَيْرُ مُعَيَّنٍ فَكَانَتْ تِلْكَ الْآيَةُ مُجْمَلَةً فِي حَقِّ مَنْ مُنِعَ النَّظَرُ إلَيْهِ، فَلَوْ دَخَلَ الذُّكُورُ مِنْ الْمَمَالِيكِ فِي قَوْله تَعَالَى {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} لَمْ يَلْزَمْ التَّعَارُضُ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ أَصْلًا، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ إحْدَى الْآيَتَيْنِ مُبَيِّنَةً لِمَا فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى مِنْ الْإِجْمَالِ، وَهُوَ مَعْنًى صَحِيحٌ حَسَنٌ مُقَرَّرٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ، فَإِنَّ قَوْله تَعَالَى {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ لَا يَدْخُلَ فِيهِ ذُكُورُ الْمَمَالِيكِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُنَا، وَكَذَا نَظَائِرُهُ مِنْ قَوْله تَعَالَى {إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ} إلَى آخِرِ الْآيَةِ كُلِّهَا مُبَيِّنَةً لِلْإِجْمَالِ الْوَاقِعِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ دَقَّقَ النَّظَرَ وَحَقَّقَ.

(قَوْلُهُ وَلَوْ كَانَ تَحْتَهُ أَمَةُ غَيْرِهِ فَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي النِّكَاحِ) يَعْنِي قَوْلَهُ وَإِذَا تَزَوَّجَ أَمَةً فَالْإِذْنُ فِي الْعَزْلِ إلَى الْمَوْلَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّ الْإِذْنَ إلَيْهَا. قَالَ فِي الْبَدَائِعِ، وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ لَهَا حَقًّا فِي قَضَاءِ الشَّهْوَةِ وَالْعَزْلُ يُوجِبُ النَّقْصَ فِيهِ، وَلَا يَجُوزُ الْبَخْسُ بِحَقِّ الْإِنْسَانِ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ. وَوَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْكَرَاهِيَةَ فِي الْحُرَّةِ لِمَكَانِ خَوْفِ فَوْتِ الْوَلَدِ الَّذِي لَهَا فِيهِ حَقٌّ. وَالْحَقُّ هَاهُنَا فِي الْوَلَدِ لِلْمَوْلَى دُونَ الْأَمَةِ، وَقَوْلُهُمَا فِيهِ نُقْصَانُ قَضَاءِ الشَّهْوَةِ. قُلْنَا: نَعَمْ لَكِنَّ حَقَّهَا فِي أَصْلِ قَضَاءِ الشَّهْوَةِ لَا فِي وَصْفِ الْكَمَالِ؛ أَلَا يُرَى أَنَّ مِنْ الرِّجَالِ مَنْ لَا مَاءَ لَهُ وَهُوَ يُجَامِعُ امْرَأَتَهُ مِنْ غَيْرِ إنْزَالٍ وَلَا يَكُونُ لَهَا حَقُّ الْخُصُومَةِ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ حَقَّهَا فِي أَصْلِ قَضَاءِ الشَّهْوَةِ لَا فِي وَصْفِ الْكَمَالِ انْتَهَى. وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ حَيْثُ قَالَ: أَقُولُ: إنَّمَا لَمْ يَكُنْ لَهَا حَقُّ الْخُصُومَةِ لِعَدَمِ صُنْعِ الزَّوْجِ فِيهِ، بِخِلَافِ الْعَزْلِ فَإِنَّهُ بِصُنْعِهِ وَلِهَذَا يَحْتَاجُ إلَى رِضَاهَا، فِي الْعَزْلِ لَا فِيهِ انْتَهَى.

أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ عَدَمَ صُنْعِ الزَّوْجِ فِيهِ لَا يَقْتَضِي أَنْ لَا يَكُونَ لَهَا حَقُّ الْخُصُومَةِ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ حَقَّهَا لَا يَسْقُطُ بِمُجَرَّدِ عَدَمِ صُنْعِ الزَّوْجِ فِيمَا يُبْطِلُ حَقَّهَا؛ أَلَا يَرَى أَنَّ لِلزَّوْجَةِ حَقَّ الْخُصُومَةِ فِي الْجَبِّ وَالْعُنَّةِ بِلَا خِلَافٍ وَإِنْ لَمْ يَكُونَا بِصُنْعِ الزَّوْجِ، فَتَعَيَّنَّ أَنَّ الْوَجْهَ فِي أَنْ لَا يَكُونَ لَهَا حَقُّ الْخُصُومَةِ فِيمَنْ لَا مَاءَ لَهُ وَهُوَ يُجَامِعُهَا مِنْ غَيْرِ إنْزَالٍ كَوْنُ حَقِّهَا فِي أَصْلِ قَضَاءِ الشَّهْوَةِ لَا فِي وَصْفِ الْكَمَالِ، فَكَذَا فِي الْعَزْلِ تَدَبَّرْ.

ص: 39

‌فَصْلٌ فِي الِاسْتِبْرَاءِ وَغَيْرِهِ

قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً فَإِنَّهُ لَا يَقْرَبُهَا وَلَا يَلْمِسُهَا وَلَا يُقَبِّلُهَا وَلَا يَنْظُرُ إلَى فَرْجِهَا بِشَهْوَةٍ حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا) وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام فِي سَبَايَا أَوْطَاسٍ «أَلَا لَا تُوطَأُ الْحَبَالَى حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ، وَلَا الْحَيَالَى

فَصْلٌ فِي الِاسْتِبْرَاءِ وَغَيْرِهِ)

قَالَ الشُّرَّاحُ: أَخَّرَ الِاسْتِبْرَاءَ؛ لِأَنَّهُ احْتِرَازٌ عَنْ وَطْءٍ مُقَيَّدٍ، وَالْمُقَيَّدُ بَعْدَ الْمُطْلَقِ. وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: فَإِنْ قُلْتَ: أَيْنَ الِاحْتِرَازُ عَنْ الْوَطْءِ الْمُطْلَقِ فِيمَا سَبَقَ؟ قُلْتُ: فُهِمَ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ أَوْ الْإِشَارَةِ، فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ اللَّمْسَ، فَالنَّهْيُ عَنْ الْمَسِّ نَهْيٌ عَنْهُ فَلِهَذَا عَنْوَنَهُ بِالْوَطْءِ فَتَأَمَّلْ انْتَهَى. أَقُولُ: لَا السُّؤَالُ بِشَيْءٍ وَلَا الْجَوَابُ.

أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُمْ مَا قَالُوا: لِأَنَّ الِاحْتِرَازَ عَنْ الْوَطْءِ الْمُقَيَّدِ بَعْدَ الِاحْتِرَازِ عَنْ الْوَطْءِ الْمُطْلَقِ حَتَّى يَتَوَجَّهَ السُّؤَالُ بِأَيْنَ الِاحْتِرَازُ عَنْ الْوَطْءِ الْمُطْلَقِ فِيمَا سَبَقَ، بَلْ مُرَادُهُمْ أَنَّ الْوَطْءَ الْمُقَيَّدَ نَفْسَهُ بَعْدَ الْوَطْءِ الْمُطْلَقِ نَفْسِهِ، فَأَخَّرَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْوَطْءِ الْمُقَيَّدِ، وَهُوَ الِاسْتِبْرَاءُ عَمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْوَطْءِ الْمُطْلَقِ، وَكَيْفَ يُتَوَهَّمُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُمْ أَنَّ الِاحْتِرَازَ عَنْ الْوَطْءِ الْمُقَيَّدِ بَعْدَ الِاحْتِرَازِ عَنْ الْوَطْءِ الْمُطْلَقِ، وَانْتِفَاءُ الْمُقَيَّدِ لَا يَسْتَلْزِمُ انْتِفَاءَ الْمُطْلَقِ كَمَا لَا يَخْفَى فَأَنَّى يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ الِاحْتِرَازُ عَنْ الْوَطْءِ الْمُقَيَّدِ بَعْدَ الِاحْتِرَازِ عَنْ الْوَطْءِ الْمُطْلَقِ. وَأَمَّا تَحَقُّقُ الْمُقَيَّدِ فَيَسْتَلْزِمُ تَحَقُّقَ الْمُطْلَقِ فِي ضِمْنِهِ فَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: الْوَطْءُ الْمُقَيَّدُ بَعْدَ الْوَطْءِ الْمُطْلَقِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُرَكَّبَ بَعْدَ الْمُفْرَدِ كَمَا صُرِّحَ بِهِ فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ.

وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ مَبْنَاهُ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ الِاحْتِرَازَ عَنْ الْمُقَيَّدِ بَعْدَ الِاحْتِرَازِ عَنْ الْمُطْلَقِ وَقَدْ عَرَفْت مَا فِيهِ، وَأَيْضًا لَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ فَلِهَذَا عَنْوَنَهُ بِالْوَطْءِ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ عَنْ الْمَسِّ إذَا كَانَ نَهْيًا عَنْ الْوَطْءِ كَانَ الْعُنْوَانُ بِالْمَسِّ عُنْوَانًا بِالْوَطْءِ أَيْضًا، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُعَنْوِنَ الْفَصْلَ السَّابِقَ بِالْوَطْءِ اسْتِقْلَالًا، كَمَا لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ النَّهْيَ عَنْ الْوَطْءِ اسْتِقْلَالًا. ثُمَّ أَقُولُ: الظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَهُمْ بِالْوَطْءِ الْمُطْلَقِ الْمَذْكُورِ فِيمَا تَقَدَّمَ مَا فِي مَسْأَلَةِ الْعَزْلِ الْمَذْكُورَةِ قُبَيْلَ فَصْلِ الِاسْتِبْرَاءِ، فَإِنَّ الْعَزْلَ أَنْ يَطَأَ الرَّجُلُ فَإِذَا قَرُبَ الْإِنْزَالُ أَخْرَجَ فَيُنْزِلُ خَارِجَ الْفَرْجِ، وَأَنَّ مُرَادَهُمْ بِالْوَطْءِ الْمُقَيَّدِ هَاهُنَا مَا قُيِّدَ بِزَمَانٍ، فَإِنَّ الْوَطْءَ فِي الِاسْتِبْرَاءِ مُقَيَّدٌ بِالزَّمَانِ كَمَا سَتَعْرِفُهُ وَفِي الْعَزْلِ مُطْلَقٌ عَنْهُ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالْوَطْءِ الْمَذْكُورِ فِي عُنْوَانِ الْفَصْلِ السَّابِقِ أَيْضًا مَا فِي ضِمْنِ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ كَمَا نَبَّهْت عَلَيْهِ فِي صَدْرِ ذَلِكَ الْفَصْلِ (قَوْلُهُ وَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً فَإِنَّهُ لَا يَقْرَبُهَا وَلَا يَلْمِسُهَا وَلَا يُقَبِّلُهَا وَلَا يَنْظُرُ إلَى فَرْجِهَا بِشَهْوَةٍ حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا) أَقُولُ: فِي إطْلَاقِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ نَظَرٌ، فَإِنَّ مَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً كَانَتْ تَحْتَ نِكَاحِهِ أَوْ كَانَتْ تَحْتَ نِكَاحِ غَيْرِهِ وَلَكِنْ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا بَعْدَ أَنْ اشْتَرَاهَا وَقَبَضَهَا أَوْ كَانَتْ مُعْتَدَّةَ الْغَيْرِ فَانْقَضَتْ

ص: 40

حَتَّى يُسْتَبْرَأْنَ بِحَيْضَةٍ» أَفَادَ وُجُوبَ الِاسْتِبْرَاءِ عَلَى الْمَوْلَى، وَدَلَّ عَلَى السَّبَبِ فِي الْمَسْبِيَّةِ وَهُوَ اسْتِحْدَاثُ الْمِلْكِ وَالْيَدِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَوْجُودُ فِي مَوْرِدِ النَّصِّ، وَهَذَا لِأَنَّ الْحِكْمَةَ فِيهِ التَّعَرُّفُ عَنْ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ صِيَانَةً لِلْمِيَاهِ الْمُحْتَرَمَةِ عَنْ الِاخْتِلَاطِ وَالْأَنْسَابِ عَنْ الِاشْتِبَاهِ،

عِدَّتُهَا بَعْدَ أَنْ اشْتَرَاهَا وَقَبَضَهَا لَمْ يَلْزَمْهُ الِاسْتِبْرَاءُ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الصُّوَرِ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ، وَسَيَظْهَرُ مِمَّا ذَكَرُوا فِي حِيلَةِ الِاسْتِبْرَاءِ مَعَ أَنَّ كُلًّا مِنْ هَاتَيْكِ الصُّوَرِ دَاخِلَةٌ فِي إطْلَاقِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَمَا تَرَى. فَكَانَ الْمُنَاسِبُ تَقْيِيدَهَا بِمَا يُخْرِجُ تِلْكَ الصُّوَرَ (قَوْلُهُ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَوْجُودُ فِي مَوْرِدِ النَّصِّ) قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: فِي الْحَصْرِ كَلَامٌ، فَإِنَّ السَّبْيَ مِنْ جُمْلَةِ مَا وُجِدَ فِي مَوْرِدِ النَّصِّ وَهُوَ يَصْلُحُ لِلسَّبَبِيَّةِ. فَإِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْمُمَلَّكَ فِي صُورَةِ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالْخُلْعِ وَالْكِتَابَةِ يُسْتَبْرَأُ صِيَانَةً لِمَائِهِ ثُمَّ يُبَاشِرُ السَّبَبَ فَلَا حَاجَةَ إلَى اسْتِبْرَاءَ الْمُمَلَّكِ حِينَئِذٍ انْتَهَى.

أَقُولُ: كَلَامُهُ سَاقِطٌ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ حَصْرُ مَا يَصْلُحُ لِلسَّبَبِيَّةِ فِي مَوْرِدِ النَّصِّ فِي اسْتِحْدَاثِ الْمِلْكِ وَالْيَدِ، فَالْمَعْنَى؛ لِأَنَّهُ أَيْ اسْتِحْدَاثُ الْمِلْكِ وَالْيَدِ هُوَ الْمَوْجُودُ الصَّالِحُ لِلسَّبَبِيَّةِ فِي مَوْرِدِ النَّصِّ وَقَوْلُ ذَلِكَ الْقَائِلِ وَهُوَ يَصْلُحُ لِلسَّبَبِيَّةِ مَمْنُوعٌ، فَإِنَّ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْحِكْمَةِ فِيهِ وَالْعِلَّةِ الْحَقِيقِيَّةِ إنَّمَا تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ السَّبَبُ فِيهِ هُوَ اسْتِحْدَاثُ الْمِلْكِ وَالْيَدِ مِنْ غَيْرِ مَدْخَلٍ فِيهِ لِلسَّبْيِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ تَأَمَّلَ فِي تَقْرِيرِ الْمُصَنِّفِ فِي بَيَانِ الْحِكْمَةِ فِيهِ وَبَيَانِ عِلَّتِهِ الْحَقِيقِيَّةِ، وَمَا يَكُونُ دَلِيلًا عَلَيْهَا، عَلَى أَنَّ تَاجَ الشَّرِيعَةِ قَدْ تَكَفَّلَ بِبَيَانِ عَدَمِ مَدْخَلِيَّةِ السَّبْيِ فِي السَّبَبِيَّةِ بِأَوْضَحِ وَجْهٍ حَيْثُ قَالَ لَا يُقَالُ الْمُوجِبُ كَوْنُهَا مَسْبِيَّةً لِأَنَّ كَوْنَهَا مَسْبِيَّةٍ إضَافَةٌ وَالْإِضَافَاتُ لَا مَدْخَلَ لَهَا فِي الْعِلَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ اُعْتُبِرَ ذَلِكَ انْسَدَّ بَابُ الْقِيَاسِ وَأَنَّهُ مَفْتُوحٌ بِالنُّصُوصِ، فَلَمْ يَبْقَ هَاهُنَا إلَّا كَوْنُهَا مَمْلُوكَةٍ رَقَبَةً وَيَدًا وَهُوَ الْمُؤْثَرُ كَمَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ انْتَهَى.

ثُمَّ إنَّ قَوْلَ ذَلِكَ الْقَائِلِ فَإِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْمُمَلَّكَ فِي صُورَةِ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالْخُلْعِ وَالْكِتَابَةِ يَسْتَبْرِئُ صِيَانَةً لِمَائِهِ ثُمَّ يُبَاشِرُ السَّبَبَ فَلَا حَاجَةَ إلَى اسْتِبْرَاءِ الْمُمَلَّكِ حِينَئِذٍ مَمْنُوعٌ أَيْضًا، فَإِنَّ عِلَّةَ الِاسْتِبْرَاءِ هِيَ إرَادَةُ الْوَطْءِ وَالْمُشْتَرِي هُوَ الَّذِي يُرِيدُهُ دُونَ الْبَائِعِ، وَلِهَذَا يَجِبُ الِاسْتِبْرَاءُ عَلَى الْمُشْتَرِي لَا عَلَى الْبَائِعِ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْكِتَابِ. فَمِنْ أَيْنَ كَانَ اسْتِبْرَاءُ الْمُمَلَّكِ قَبْلَ مُبَاشَرَتِهِ السَّبَبَ ظَاهِرًا. وَلَئِنْ سَلِمَ كَوْنُهُ ظَاهِرًا بِالنَّظَرِ إلَى مَا هُوَ اللَّائِقُ بِحَالِ الْمُسْلِمِ مِنْ صِيَانَةِ مَائِهِ، فَذَلِكَ لَا يُنَافِي وُجُوبَ الِاسْتِبْرَاءِ عَلَى الْمُمَلَّكِ. بِنَاءً عَلَى تَوَهُّمِ شَغْلِ الرَّحِمِ بِمَاءٍ مُحْتَرَمٍ فَإِنَّ مُجَرَّدَ تَوَهُّمِهِ كَافٍ فِي وُجُوبِهِ كَمَا سَيَظْهَرُ مِنْ الْبَيَانِ الْآتِي فِي الْكِتَابِ (قَوْلُهُ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْحِكْمَةَ فِيهِ التَّعَرُّفُ عَنْ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ صِيَانَةً لِلْمِيَاهِ الْمُحْتَرَمَةِ عَنْ الِاخْتِلَاطِ وَالْأَنْسَابِ عَنْ الِاشْتِبَاهِ) أَوْرَدَ عَلَيْهِ صَاحِبُ الْإِصْلَاحِ وَالْإِيضَاحِ حَيْثُ قَالَ يَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّهُمْ يُنْكِرُونَ انْعِلَاقَ الْوَلَدِ الْوَاحِدِ مِنْ مَاءَيْنِ لِعَدَمِ إمْكَانِ الِاخْتِلَاطِ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا مَرَّ فِي بَابِ التَّدْبِيرِ وَالِاسْتِيلَادِ فَكَيْفَ بَنَوْا هَاهُنَا حِكْمَةَ الِاسْتِبْرَاءِ عَلَى جَوَازِهِ انْتَهَى؟ أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ إذْ لَيْسَ الْمُرَادُ بِالِاخْتِلَاطِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِمْ صِيَانَةً لِلْمِيَاهِ الْمُحْتَرَمَةِ عَنْ الِاخْتِلَاطِ الْحَقِيقِيِّ، بَلْ الْمُرَادُ بِهِ هُوَ الِاخْتِلَاطُ الْحُكْمِيُّ وَهُوَ أَنْ لَا يَتَبَيَّنَ أَنَّ الْوَلَدَ مِنْ

ص: 41

وَذَلِكَ عِنْدَ حَقِيقَةِ الشُّغْلِ أَوْ تَوَهُّمِ الشُّغْلِ بِمَاءٍ مُحْتَرَمٍ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ ثَابِتَ النَّسَبِ، وَيَجِبُ عَلَى الْمُشْتَرِي لَا عَلَى الْبَائِعِ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ الْحَقِيقِيَّةَ إرَادَةُ الْوَطْءِ، وَالْمُشْتَرِي هُوَ الَّذِي يُرِيدُهُ دُونَ الْبَائِعِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ،

أَيِّ مَاءٍ انْعَلَقَ يُرْشِدُ إلَيْهِ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ وَالْأَنْسَابِ عَنْ الِاشْتِبَاهِ، وَيُفْصِحُ عَنْهُ قَوْلُ صَاحِبِ الْكَافِي فِي تَعْلِيلِ الِاخْتِلَاطِ إذْ لَوْ وَطِئَهَا قَبْلَ أَنْ يَتَعَرَّفَ بَرَاءَةَ رَحِمِهَا فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَلَا يَدْرِي أَنَّهُ مِنْهُ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ انْتَهَى.

وَاَلَّذِي يُنْكِرُونَهُ إنَّمَا هُوَ اخْتِلَاطُ الْمَاءَيْنِ اخْتِلَاطًا حَقِيقِيًّا، فَلَا تَدَافُعَ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ فِي الْمَقَامَيْنِ (قَوْلُهُ وَذَلِكَ عِنْدَ حَقِيقَةِ الشَّغْلِ أَوْ تَوَهُّمِ الشَّغْلِ بِمَاءٍ مُحْتَرَمٍ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ ثَابِتَ النَّسَبِ) لَا يَخْفَى عَلَى ذِي فِطْرَةٍ سَلِيمَةٍ أَنَّ فِي مَرْجِعِ ضَمِيرِ هُوَ فِي قَوْلِهِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ ثَابِتَ النَّسَبِ نَوْعُ اشْتِبَاهٍ، وَعَنْ هَذَا قَدْ افْتَرَقَتْ آرَاءُ النَّاظِرِينَ فِيهِ فَقَالَ صَاحِبُ الْغَايَةِ: قَوْلُهُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ ثَابِتَ النَّسَبِ: أَيْ الْمُرَادُ مِنْ تَوَهُّمِ الشَّغْلِ بِمَاءٍ مُحْتَرَمٍ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ بِحَيْثُ يُمْكِنُ إثْبَاتُ نَسَبِهِ مِنْ غَيْرِهِ انْتَهَى.

أَقُولُ: فِيهِ خَلَلٌ، فَإِنَّ تَفْسِيرَهُ الْمَذْكُورَ يُشْعِرُ بِإِرْجَاعِهِ ضَمِيرَ هُوَ إلَى تَوَهُّمِ الشَّغْلِ بِمَاءٍ مُحْتَرَمٍ، وَلَيْسَ بِسَدِيدٍ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ فِي حَقِيقَةِ الشَّغْلِ بِمَاءٍ مُحْتَرَمٍ أَيْضًا كَذَلِكَ فَلَا وَجْهَ لِلتَّخْصِيصِ بِتَوَهُّمِ الشَّغْلِ، عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ مَا يُصَحِّحُ حَمْلَ قَوْلِهِ أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ ثَابِتَ النَّسَبِ بِالْمُوَاطَأَةِ عَلَى ضَمِيرِ هُوَ الرَّاجِعِ إلَى تَوَهُّمِ الشَّغْلِ عَلَى مُقْتَضَى تَقْرِيرِهِ، وَلَا يَتِمُّ الْمَعْنَى بِدُونِ ذَلِكَ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ تَوَهُّمَ الشَّغْلِ بِمَاءٍ مُحْتَرَمٍ لَيْسَ نَفْسُ أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ ثَابِتَ النَّسَبِ حَتَّى يَصِحَّ حَمْلُهُ عَلَيْهِ بِالْمُوَاطَأَةِ تَأَمَّلْ. وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: قَوْلُهُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ ثَابِتَ النَّسَبِ: أَيْ الِاسْتِبْرَاءُ لَأَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ ثَابِتَ النَّسَبِ، وَحَذْفُ الْجَارِّ مَعَ أَنَّ وَأَنْ قِيَاسٌ انْتَهَى. أَقُولُ: فِيهِ أَيْضًا خَلَلٌ، فَإِنَّ الِاسْتِبْرَاءَ مَعَ كَوْنِهِ بَعِيدًا مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ وَالْمَعْنَى عَنْ أَنْ يَكُونَ مَرْجِعًا لِضَمِيرِ هُوَ هَاهُنَا لَيْسَ هُوَ لَأَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ ثَابِتَ النَّسَبِ بَلْ لِإِرَادَةِ الْوَطْءِ نَظَرًا إلَى عِلَّتِهِ وَلِتَعَرُّفِ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ نَظَرًا إلَى حِكْمَتِهِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ عِبَارَةُ الْكِتَابِ فِيمَا قَبْلُ وَمَا بَعْدُ، كَيْفَ وَلَوْ لَمْ يَدَّعِ الْمُشْتَرِي نَسَبَ الْوَلَدِ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الْمُشْتَرَاةُ بَعْدَ أَنْ اسْتَبْرَأَهَا لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُ ذَلِكَ الْوَلَدِ مِنْهُ لِكَوْنِ فِرَاشِ الْأَمَةِ ضَعِيفًا عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَحَلِّهِ، فَمَا مَعْنَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الِاسْتِبْرَاءَ لَأَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ ثَابِتَ النَّسَبِ فَتَأَمَّلْ.

وَأَقُولُ: فِي حِلِّ الْمَقَامِ: إنَّ ضَمِيرَ هُوَ هَاهُنَا رَاجِعٌ إلَى مَاءٍ مُحْتَرَمٍ مَذْكُورٍ قُبَيْلَهُ. فَالْمَعْنَى، وَهُوَ أَيْ الْمَاءُ الْمُحْتَرَمُ بِأَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ ثَابِتَ النَّسَبِ عَلَى حَذْفِ الْجَارِ مِنْ كَلِمَةِ إنْ كَمَا هُوَ الْقِيَاسُ عَلَى مَا عُرِفَ فِي عِلْمِ النَّحْوِ، وَكَوْنُ الْوَلَدِ ثَابِتَ النَّسَبِ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِأَنْ تَكُونَ الْأَمَةُ مِنْ قَبْلُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ نِكَاحًا أَوْ يَمِينًا فَتَدَبَّرْ. قَالَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ: وَإِنَّمَا قَيَّدَهُ بِمَاءٍ مُحْتَرَمٍ وَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ فِي غَيْرِ الْمُحْتَرَمِ كَذَلِكَ، فَإِنَّ الْجَارِيَةَ إذَا كَانَتْ حَامِلًا مِنْ الزِّنَا لَا يَحِلُّ وَطْؤُهَا؛ لِأَنَّهُ أَخْرَجَ الْكَلَامَ مَخْرَجَ أَوْضَاعِ الشَّرْعِ؛ لِأَنَّ وَضْعَ الشَّرْعِ أَنْ لَا يَكُونَ إلَّا فِي الْحَلَالِ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَاقْتَفَى أَثَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي خُلَاصَةِ هَذَا التَّوْجِيهِ حَيْثُ قَالَ فِي بَيَانِ مَاءٍ مُحْتَرَمٍ: بِأَنْ لَا يَكُونَ مِنْ بَغْيٍ، وَقَالَ: وَإِنَّمَا قُيِّدَ بِذَلِكَ وَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ فِي غَيْرِ الْمُحْتَرَمِ كَذَلِكَ فَإِنَّ الْجَارِيَةَ الْحَامِلَ مِنْ الزِّنَا لَا يَحِلُّ وَطْؤُهَا حَمْلًا لِلْحَالِ عَلَى الصَّلَاحِ انْتَهَى.

وَسَلَكَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي تَوْجِيهِ التَّقْيِيدِ بِمَاءٍ مُحْتَرَمٍ مَسْلَكًا آخَرَ، وَقَصَدَ رَدَّ التَّوْجِيهِ الْأَوَّلِ حَيْثُ قَالَ: وَلَا يَكُونُ مِنْ بَغْيٍ لِمَا سَبَقَ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ أَنَّ نِكَاحَ الْمُزَنِيَّةِ وَوَطْأَهَا جَائِزٌ بِلَا اسْتِبْرَاءٍ، فَإِذَا جَازَ وَطْؤُهَا بِلَا اسْتِبْرَاءٍ مَعَ تَحَقُّقِ الزِّنَا فَجَوَازُهُ مَعَ احْتِمَالِهِ أَوْلَى، وَلَا يَرِدُ عَلَيْهِ النَّقْضُ بِالْجَارِيَةِ الْحَامِلِ مِنْ الزِّنَا، فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ وَطْؤُهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ شَغْلٌ مُحَقَّقٌ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ حِلِّ وَطْئِهَا لِذَلِكَ عَدَمُ حِلِّهِ لِشَغْلٍ مُحْتَمَلٍ، عَلَى أَنَّ عَدَمَ جَوَازِ وَطْئِهَا لَيْسَ لِاحْتِرَامِ الْمَاءِ بَلْ لِئَلَّا يَسْقِيَ مَاؤُهُ زَرْعَ غَيْرِهِ كَمَا مَرَّ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ.

أَقُولُ: فِيهِ خَلَلٌ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ أَنَّ قَوْلَهُ لِمَا سَبَقَ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ أَنَّ نِكَاحَ الْمُزَنِيَّةِ وَوَطْأَهَا جَائِزٌ بِلَا اسْتِبْرَاءٍ لَيْسَ بِتَعْلِيلٍ صَحِيحٍ لِلْمُدَّعَى هَاهُنَا؛ لِأَنَّ جَوَازَ نِكَاحِ الْمُزَنِيَّةِ وَجَوَازَ وَطْئِهَا لِلزَّوْجِ بِلَا اسْتِبْرَاءٍ لَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ وَطْءِ الْجَارِيَةِ الْمُزَنِيَّةِ لِلْمُتَمَلِّكِ بِلَا اسْتِبْرَاءٍ. كَيْفَ وَاَلَّذِي سَبَقَ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ هُوَ أَنَّهُ إذَا رَأَى امْرَأَةً تَزْنِي فَتَزَوَّجَهَا حَلَّ لَهُ أَنْ يَطَأَهَا قَبْلَ الِاسْتِبْرَاءِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ.

وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا أُحِبُّ لَهُ أَنْ يَطَأَهَا مَا لَمْ يَسْتَبْرِئْهَا؛ لِأَنَّهُ احْتَمَلَ الشَّغْلُ بِمَاءِ الْغَيْرِ فَوَجَبَ التَّنَزُّهُ كَمَا فِي الشِّرَاءِ. وَلَهُمَا أَنَّ الْحُكْمَ بِجَوَازِ النِّكَاحِ أَمَارَةُ الْفَرَاغِ فَلَا يُؤْمَرُ بِالِاسْتِبْرَاءِ، بِخِلَافِ الشِّرَاءِ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ مَعَ الشَّغْلِ. فَقَدْ تَلَخَّصَ مِنْهُ أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي وُجُوبِ الِاسْتِبْرَاءِ فِي الشِّرَاءِ مُطْلَقًا، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي الِاسْتِبْرَاءِ فِي نِكَاحِ الْمُزَنِيَّةِ، وَالْكَلَامُ هَاهُنَا فِي الشِّرَاءِ وَنَحْوِهِ مِنْ التَّمَلُّكَاتِ فَلَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ أَصْلًا.

ص: 42

غَيْرَ أَنَّ الْإِرَادَةَ أَمْرٌ مُبْطَنٌ فَيُدَارُ الْحُكْمُ عَلَى دَلِيلِهَا، وَهُوَ التَّمَكُّنُ مِنْ الْوَطْءِ وَالتَّمَكُّنُ إنَّمَا يَثْبُتُ بِالْمِلْكِ وَالْيَدِ فَانْتَصَبَ سَبَبًا وَأُدِيرَ الْحُكْمُ عَلَيْهِ تَيْسِيرًا، فَكَانَ السَّبَبُ اسْتِحْدَاثَ مِلْكِ الرَّقَبَةِ الْمُؤَكَّدِ بِالْيَدِ وَتَعَدِّي الْحُكْمِ إلَى

وَالثَّانِي أَنَّ قَوْلَهُ فَإِذَا جَازَ وَطْؤُهَا بِلَا اسْتِبْرَاءٍ صَحَّ مَعَ تَحَقُّقِ الزِّنَا فَجَوَازُهُ مَعَ احْتِمَالِهِ أَوْلَى لَيْسَ بِمُسْتَقِيمٍ؛ لِأَنَّ مُجَرَّدَ احْتِمَالِ الزِّنَا لَوْ كَانَ مُجَوِّزًا لِلْوَطْءِ بِلَا اسْتِبْرَاءٍ لَارْتَفَعَ وُجُوبُ الِاسْتِبْرَاءِ فِي بَابِ تَمَلُّكِ الْجَارِيَةِ بِالْكُلِّيَّةِ، إذْ احْتِمَالُ الزِّنَا غَيْرُ مُنْتَفٍ فِي كُلِّ جَارِيَةٍ مَمْلُوكَةٍ، وَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ أَنَّهُ إذَا جَازَ وَطْؤُهَا بِلَا اسْتِبْرَاءٍ فِي صُورَةِ النِّكَاحِ مَعَ تَحَقُّقِ الزِّنَا فَجَوَازُهُ مَعَ احْتِمَالِهِ أَوْلَى فِي تِلْكَ الصُّورَةِ لَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ كَمَا لَا يَخْفَى.

وَالثَّالِثُ أَنَّ قَوْلَهُ فِي دَفْعِ النَّقْضِ بِالْجَارِيَةِ الْحَامِلِ مِنْ الزِّنَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لِشَغْلٍ مُحَقَّقٍ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ حِلِّ وَطْئِهَا لِذَلِكَ عَدَمُ حِلِّهِ لِشَغْلٍ مُحْتَمَلٍ. إنَّمَا يَتِمُّ أَنْ لَوْ كَانَ الِاحْتِرَامُ فِي قَوْلِ الْمُصَنِّفِ بِمَاءٍ مُحْتَرَمٍ قَيْدًا لِتَوَهُّمِ الشَّغْلِ فَقَطْ لَا لِمَجْمُوعِ حَقِيقَةِ الشَّغْلِ وَتَوَهُّمِ الشَّغْلِ مَعًا. وَالظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنْ يَكُونَ قَيْدًا لِلْمَجْمُوعِ. وَقَدْ أَفْصَحَ عَنْهُ ذَلِكَ الْبَعْضُ مِنْ قَبْلُ حَيْثُ قَالَ فِي شَرْحِ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ ثَابِتَ النَّسَبِ: وَهُوَ أَيْ احْتِرَامُ الْمَاءِ سَوَاءٌ اشْتَغَلَ بِهِ الرَّحِمُ حَقِيقَةً أَوْ تَوَهُّمًا أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ الْحَاصِلُ مِنْهُ ثَابِتَ النَّسَبِ انْتَهَى. فَإِذَا كَانَ قَيْدًا لِلْمَجْمُوعِ يَرِدُ النَّقْضُ بِالْجَارِيَةِ الْحَامِلِ مِنْ الزِّنَا فَإِنَّ رَحِمَهَا مُشْتَغِلٌ حَقِيقَةً بِمَاءٍ غَيْرِ مُحْتَرَمٍ مَعَ وُجُوبِ الِاسْتِبْرَاءِ فِيهَا أَيْضًا.

وَالرَّابِعُ أَنَّ قَوْلَهُ عَلَى أَنَّ عَدَمَ جَوَازِ وَطْئِهَا لَيْسَ لِاحْتِرَامِ الْمَاءِ بَلْ لِئَلَّا يَسْقِيَ مَاؤُهُ زَرْعَ غَيْرِهِ كَمَا مَرَّ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ مِمَّا لَا حَاصِلَ لَهُ هَاهُنَا، فَإِنَّ مَدَارَ النَّقْضِ الْمَذْكُورِ عَلَى عَدَمِ احْتِرَامِ الْمَاءِ فِي الْحَامِلِ مِنْ الزِّنَا حَيْثُ وَجَبَ الِاسْتِبْرَاءُ فِي الْجَارِيَةِ الْحَامِلِ مِنْ الزِّنَا أَيْضًا مَعَ عَدَمِ احْتِرَامِ الْمَاءِ فِيهَا فَانْتَقَضَ بِهَا التَّقْيِيدُ بِمَاءٍ مُحْتَرَمٍ عَكْسًا.

وَالْقَوْلُ بِأَنَّ عَدَمَ جَوَازِ وَطْئِهَا لَيْسَ لِاحْتِرَامِ الْمَاءِ فِيهَا لَا يَدْفَعُ النَّقْضَ بَلْ يُؤَيِّدُهُ كَمَا لَا يَخْفَى (قَوْلُهُ غَيْرَ أَنَّ الْإِرَادَةَ أَمْرٌ مُبْطَنٌ فَيُدَارُ الْحُكْمُ عَلَى دَلِيلِهَا وَهُوَ التَّمَكُّنُ مِنْ الْوَطْءِ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي بَيَانِ هَذَا: فَإِنَّ صَحِيحَ الْمِزَاجِ إذَا تَمَكَّنَ مِنْهُ أَرَادَهُ. وَرَدَّ عَلَيْهِ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ حَيْثُ قَالَ: فِيهِ بَحْثٌ، فَإِنَّ غَيْرَ صَحِيحِ الْمِزَاجِ مَمْنُوعٌ أَيْضًا عَنْ الْوَطْءِ وَدَوَاعِيهِ. وَقَالَ: وَلَعَلَّ الْأَوْلَى أَنْ يَقُولَ: فَإِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْمُتَمَكِّنَ مِنْهُ يُرِيدُهُ. وَالتَّمَكُّنُ إنَّمَا يَثْبُتُ إلَخْ، وَالْمُرَادُ مِنْ التَّمَكُّنِ هُوَ التَّمَكُّنُ الشَّرْعِيُّ انْتَهَى.

أَقُولُ: كُلٌّ مِنْ إيرَادِهِ وَمَا اخْتَارَهُ لَيْسَ بِتَامٍّ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ كَوْنَ غَيْرِ صَحِيحِ الْمِزَاجِ مَمْنُوعًا أَيْضًا عَنْ الْوَطْءِ وَدَوَاعِيهِ مَمْنُوعٌ، فَإِنَّ غَيْرَ صَحِيحِ الْمِزَاجِ عَاجِزٌ عَنْ الْوَطْءِ، وَالْمَنْعُ عَنْ الشَّيْءِ إنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ؛ أَلَا يُرَى أَنَّهُ لَا مَعْنَى لَأَنْ يُقَالَ الْأَعْمَى مَمْنُوعٌ عَنْ النَّظَرِ إلَى الْمُحَرَّمَاتِ. وَعَنْ هَذَا قَالَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ فِي بَيَانِ أَنَّ الِاسْتِبْرَاءَ يَجِبُ عَلَى الْمُشْتَرِي لَا عَلَى الْبَائِعِ؛ لِأَنَّ الشَّارِعَ نَهَى عَنْ الْوَطْءِ، وَالنَّهْيُ إنَّمَا يَسْتَقِيمُ عِنْدَ تَمَكُّنِ الْوَطْءِ وَالتَّمَكُّنُ لِلْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُتَمَلِّكُ لَا عَلَى الْبَائِعِ؛ لِأَنَّهُ مُعْرِضٌ انْتَهَى.

وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّهُ كَيْفَ يَكُونُ الْمُرَادُ مِنْ التَّمَكُّنِ هَاهُنَا هُوَ التَّمَكُّنُ

ص: 43

سَائِرِ أَسْبَابِ الْمِلْكِ كَالشِّرَاءِ وَالْهِبَةِ وَالْوَصِيَّةِ وَالْمِيرَاثِ وَالْخُلْعِ وَالْكِتَابَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ

وَكَذَا يَجِبُ عَلَى الْمُشْتَرِي مِنْ مَالِ الصَّبِيِّ وَمِنْ الْمَرْأَةِ وَالْمَمْلُوكِ وَمِمَّنْ لَا يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا، وَكَذَا إذَا كَانَتْ الْمُشْتَرَاةُ بِكْرًا لَمْ تُوطَأْ لِتَحَقُّقِ السَّبَبِ وَإِدَارَةِ الْأَحْكَامِ عَلَى الْأَسْبَابِ دُونَ الْحُكْمِ لِبُطُونِهَا فَيُعْتَبَرُ تَحَقُّقُ السَّبَبِ عِنْدَ تَوَهُّمِ الشُّغْلِ. وَكَذَا لَا يُجْتَزَأُ بِالْحَيْضَةِ الَّتِي اشْتَرَاهَا فِي أَثْنَائِهَا وَلَا بِالْحَيْضَةِ الَّتِي حَاضَتْهَا بَعْدَ الشِّرَاءِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ أَسْبَابِ الْمِلْكِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَلَا بِالْوِلَادَةِ الْحَاصِلَةِ بَعْدَهَا قَبْلَ الْقَبْضِ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ رحمه الله؛ لِأَنَّ السَّبَبَ اسْتِحْدَاثُ الْمِلْكِ وَالْيَدِ، وَالْحُكْمُ لَا يَسْبِقُ السَّبَبَ، وَكَذَا لَا يُجْتَزَأُ بِالْحَاصِلِ قَبْلَ الْإِجَازَةِ فِي بَيْعِ الْفُضُولِيِّ وَإِنْ كَانَتْ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي، وَلَا بِالْحَاصِلِ بَعْدَ الْقَبْضِ فِي الشِّرَاءِ الْفَاسِدِ قَبْلَ أَنْ يَشْتَرِيَهَا شِرَاءً صَحِيحًا لِمَا قُلْنَا.

(وَيَجِبُ فِي جَارِيَةٍ لِلْمُشْتَرِي فِيهَا شِقْصٌ فَاشْتَرَى الْبَاقِيَ)؛ لِأَنَّ السَّبَبَ قَدْ تَمَّ الْآنَ، وَالْحُكْمُ يُضَافُ إلَى تَمَامِ الْعِلَّةِ، وَيُجْتَزَأُ بِالْحَيْضَةِ الَّتِي حَاضَتْهَا بَعْدَ الْقَبْضِ وَهِيَ مَجُوسِيَّةٌ أَوْ مُكَاتَبَةٌ بِأَنْ كَاتَبَهَا بَعْدَ الشِّرَاءِ ثُمَّ أَسْلَمَتْ الْمَجُوسِيَّةُ أَوْ عَجَزَتْ الْمُكَاتَبَةُ لِوُجُودِهَا بَعْدَ السَّبَبِ وَهُوَ اسْتِحْدَاثُ الْمِلْكِ وَالْيَدِ إذْ هُوَ مُقْتَضٍ لِلْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ لِمَانِعٍ كَمَا فِي حَالَةِ الْحَيْضِ

(وَلَا يَجِبُ)(الِاسْتِبْرَاءُ إذَا رَجَعَتْ الْآبِقَةُ أَوْ رُدَّتْ الْمَغْصُوبَةُ أَوْ الْمُؤَاجَرَةُ) أَوْ فُكَّتْ الْمَرْهُونَةُ لِانْعِدَامِ السَّبَبِ وَهُوَ اسْتِحْدَاثُ الْمِلْكِ وَالْيَدِ وَهُوَ سَبَبٌ مُتَعَيَّنٌ فَأُدِيرَ الْحُكْمُ عَلَيْهِ وُجُودًا وَعَدَمًا، وَلَهَا نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ كَتَبْنَاهَا فِي كِفَايَةِ الْمُنْتَهَى. وَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الِاسْتِبْرَاءِ وَحُرْمَةُ الْوَطْءِ حَرُمَ الدَّوَاعِي لِإِفْضَائِهَا إلَيْهِ. أَوْ لِاحْتِمَالِ وُقُوعِهَا فِي غَيْرِ الْمِلْكِ عَلَى اعْتِبَارِ ظُهُورِ الْحَبَلِ وَدَعْوَةِ الْبَائِعِ. بِخِلَافِ الْحَائِضِ حَيْثُ لَا تَحْرُمُ الدَّوَاعِي فِيهَا لِأَنَّهُ لَا يُحْتَمَلُ الْوُقُوعُ

الشَّرْعِيُّ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ التَّمَكُّنَ الشَّرْعِيَّ مِمَّا هُوَ مُحَرَّمٌ شَرْعًا غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ، وَالْوَطْءَ قَبْلَ الِاسْتِبْرَاءِ مُحَرَّمٌ قَطْعًا، وَلَا شَكَّ أَنَّ عِلَّةَ الِاسْتِبْرَاءِ مُتَقَدِّمَةٌ عَلَيْهِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ دَلِيلُهَا أَيْضًا مُتَقَدِّمًا عَلَيْهِ، وَالْمَفْرُوضُ أَنَّهُ هُوَ التَّمَكُّنُ مِنْ الْوَطْءِ، فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ ذَلِكَ التَّمَكُّنِ هُوَ التَّمَكُّنُ الشَّرْعِيُّ دُونَ التَّمَكُّنِ الطَّبَعِيِّ لَزِمَ أَنْ يَتَمَكَّنَ مِنْ الْمُحَرَّمِ الشَّرْعِيِّ تَمَكُّنًا شَرْعِيًّا وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَحْذُورِ تَأَمَّلْ.

(قَوْلُهُ وَكَذَا يَجِبُ عَلَى الْمُشْتَرِي مِنْ مَالِ الصَّبِيِّ وَمِنْ الْمَرْأَةِ وَالْمَمْلُوكِ وَمِمَّنْ لَا يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا، وَكَذَا إذَا كَانَتْ الْمُشْتَرَاةُ بِكْرًا لَمْ تُوطَأْ لِتَحَقُّقِ السَّبَبِ وَإِدَارَةِ الْأَحْكَامِ عَلَى الْأَسْبَابِ دُونَ الْحُكْمِ لِخَفَائِهَا) وَعَنْ هَذَا قَالُوا: إنَّ الْحِكْمَةَ تُرَاعَى فِي الْجِنْسِ لَا فِي كُلِّ فَرْدٍ. وَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ فِي شَرْحِ الْوِقَايَةِ. وَأَجَابَ حَيْثُ قَالَ: يَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّ الْحِكْمَةَ لَا تُرَاعَى فِي كُلِّ فَرْدٍ وَلَكِنْ تُرَاعَى فِي الْأَنْوَاعِ الْمَضْبُوطَةِ، فَإِذَا كَانَتْ الْأَمَةُ بِكْرًا أَوْ مُشْتَرَاةً مِمَّنْ لَا يَثْبُتُ نَسَبُ وَلَدِهَا مِنْهُ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجِبَ الِاسْتِبْرَاءُ؛ لِأَنَّ عَدَمَ الشَّغْلِ بِالْمَاءِ الْمُحْتَرَمِ مُتَيَقِّنٌ فِي هَذِهِ الْأَنْوَاعِ، وَالْجَوَابُ أَنَّهُ إنَّمَا يَثْبُتُ بِالنَّصِّ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام فِي سَبَايَا أَوْطَاسٍ «أَلَا لَا تُوطَأُ الْحَبَالَى حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ، وَلَا الْحَيَالَى حَتَّى يُسْتَبْرَأْنَ بِحَيْضَةٍ» فَإِنَّ السَّبَايَا لَا تَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ فِيهَا بِكْرٌ أَوْ مَسْبِيَّةٌ مِنْ امْرَأَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَمَعَ هَذَا حَكَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حُكْمًا عَامًّا فَلَا يَخْتَصُّ بِالْحِكْمَةِ، فَإِذَا ثَبَتَ الْحُكْمُ فِي السَّبْيِ عَلَى الْعُمُومِ ثَبَتَ فِي سَائِرِ أَسْبَابِ الْمِلْكِ كَذَلِكَ قِيَاسًا، فَإِنَّ الْعِلَّةَ مَعْلُومَةٌ، ثُمَّ تَأَيَّدَ ذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ.

وَأَجَابَ صَاحِبُ الْإِصْلَاحِ وَالْإِيضَاحِ عَنْ الِاعْتِرَاضِ الْمَذْكُورِ بِوَجْهٍ آخَرَ فَقَالَ: إنَّ تَوَهُّمَ الشَّغْلِ ثَابِتٌ فِي الْبِكْرِ وَفِي الْمُشْرَبَةِ مِمَّنْ لَا يَثْبُتُ نَسَبُ وَلَدِهَا مِنْهُ. أَمَّا فِي الْأُولَى فَلِأَنَّ احْتِمَالَ وُصُولِ الْمَاءِ إلَى الرَّحِمِ

ص: 44

فِي غَيْرِ الْمِلْكِ، وَلِأَنَّهُ زَمَانُ نَفْرَةٍ فَالْإِطْلَاقُ فِي الدَّوَاعِي لَا يُفْضِي إلَى الْوَطْءِ وَالرَّغْبَةُ فِي الْمُشْتَرَاةِ قَبْلَ الدُّخُولِ أَصْدَقُ الرَّغَبَاتِ فَتُفْضِي إلَيْهِ، وَلَمْ يَذْكُرْ الدَّوَاعِيَ فِي الْمَسْبِيَّةِ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهَا لَا تَحْرُمُ؛ لِأَنَّهَا لَا يُحْتَمَلُ وُقُوعُهَا فِي غَيْرِ الْمِلْكِ

قَائِمٌ بِدُونِ زَوَالِ الْعَذْرَةِ. وَأَمَّا فِي الثَّانِيَةِ فَلِمَا ذُكِرَ فِي الْكَافِي مِنْ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ التَّوَهُّمُ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ الْمَالِكِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ. وَرُدَّ الْجَوَابُ الَّذِي ذَكَرَهُ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ: بِأَنَّ الِاعْتِرَاضَ الْمَذْكُورَ لَيْسَ عَلَى الْحُكْمِ حَتَّى يَنْدَفِعَ بِبَيَانِ وَجْهِ ثُبُوتِهِ عَامًّا. بَلْ عَلَى الْحِكْمَةِ بِأَنَّهَا لَا تَصْلُحُ حِكْمَةً لِعَدَمِ اطِّرَادِهَا بِحَسَبِ الْأَنْوَاعِ الْمَضْبُوطَةِ انْتَهَى.

وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ بَعْدَ نَقْلِ ذَلِكَ الرَّدِّ هَذَا الرَّدُّ مَرْدُودٌ؛ لِأَنَّ مَبْنَى الْجَوَابِ الْمَذْكُورِ عَلَى أَنَّ وُجُوبَ رِعَايَةِ الْحِكْمَةِ فِي الْأَنْوَاعِ لِيَعُمَّ الْحُكْمُ تِلْكَ الْأَنْوَاعَ لَا لِتَكُونَ الْحِكْمَةُ حِكْمَةً. فَحَاصِلُهُ أَنَّ الْحُكْمَ عَامٌّ لِتِلْكَ الْأَنْوَاعِ هَاهُنَا بِالْحَدِيثِ فَلَا حَاجَةَ إلَى ثُبُوتِ الْحِكْمَةِ فِيهَا اهـ.

أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ، فَإِنَّ شَرْعَ الصَّانِعِ الْحَكِيمِ لَا يَخْلُو عَنْ الْحِكْمَةِ وَالْفَائِدَةِ، فَمِنْهَا مَا لَا يَتَيَسَّرُ وُقُوفُ الْبَشَرِ عَلَيْهِ، وَمِنْهَا مَا يَتَيَسَّرُ ذَلِكَ. وَلَمَّا كَانَ مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ قَبِيلِ الثَّانِي تَعَرَّضَ الْفُقَهَاءُ قَاطِبَةً لِبَيَانِ الْحِكْمَةِ فِيهِ فَقَالُوا إنَّهَا تُعَرِّفُ بَرَاءَةَ الرَّحِمِ صِيَانَةً لِلْمِيَاهِ الْمُحْتَرَمَةِ عَنْ الِاخْتِلَاطِ وَالْأَنْسَابِ عَنْ الِاشْتِبَاهِ، وَذَلِكَ عِنْدَ حَقِيقَةِ الشَّغْلِ أَوْ تَوَهُّمِ الشَّغْلِ بِمَاءٍ مُحْتَرَمٍ، وَهَذَا لَا يُنَافِي ثُبُوتَ عُمُومِ الْحُكْمِ بِدَلِيلٍ مِنْ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ، فَإِنَّ الدَّلِيلَ الشَّرْعِيَّ فِي كُلِّ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ مِمَّا لَا بُدَّ مِنْهُ وَهُوَ غَيْرُ الْحِكْمَةِ فِيهِ، وَلَا يَدْفَعُ الْحَاجَةَ إلَى ثُبُوتِ الْحِكْمَةِ فِيهِ؛ فَقَوْلُهُ فَحَاصِلُهُ أَنَّ الْحُكْمَ عَامٌّ لِتِلْكَ الْأَنْوَاعِ هَاهُنَا بِالْحَدِيثِ فَلَا حَاجَةَ إلَى ثُبُوتِ الْحِكْمَةِ فِيهَا خُرُوجٌ عَنْ سُنَنِ الصَّوَابِ جِدًّا، فَإِنَّ مَآلَهُ الِاعْتِرَافُ بِعَدَمِ صَلَاحِيَّةِ مَا عَدَّهُ أَسَاطِينُ الْفُقَهَاءِ حِكْمَةً فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَأَنْ يَكُونَ حِكْمَةً فِيهَا، وَهَذَا مِمَّا لَا يَتَجَاسَرُ عَلَيْهِ الْمُتَشَرِّعُ. ثُمَّ أَقُولُ: بَقِيَ شَيْءٌ آخَرُ فِي جَوَابِ صَدْرِ الشَّرِيعَةِ، وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ فَإِذَا ثَبَتَ الْحُكْمُ فِي السَّبْيِ عَلَى الْعُمُومِ ثَبَتَ فِي سَائِرِ أَسْبَابِ الْمِلْكِ كَذَلِكَ قِيَاسًا لَيْسَ بِتَامٍّ، فَإِنَّ النَّصَّ وَرَدَ فِي الْمَسْبِيَّةِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ لِتَحَقُّقِ الْمُطْلَقِ لِلِاسْتِمْتَاعِ بِمَا وَهُوَ الْمِلْكُ كَمَا صُرِّحَ بِهِ فِي الْعِنَايَةِ وَغَيْرِهَا، وَشَرْطُ الْقِيَاسِ أَنْ لَا يَكُونَ حُكْمُ الْأَصْلِ مَعْدُولًا عَنْ سُنَنِ الْقِيَاسِ كَمَا عُرِفَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ فَأَنَّى يَتَيَسَّرُ إثْبَاتُ الْحُكْمِ فِي سَائِرِ أَسْبَابِ الْمِلْكِ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ.

فَالْوَجْهُ أَنْ يُقَالَ دَلَالَةً بَدَلَ قَوْلِهِ قِيَاسًا. فَإِنَّ الشَّرْطَ الْمَذْكُورَ مُنْتَفٍ فِي الدَّلَالَةِ فَيَسْتَقِيمُ الْمَعْنَى تَبَصَّرْ

الِاسْتِبْرَاءُ إذَا رَجَعَتْ الْآبِقَةُ أَوْ رُدَّتْ الْمَغْصُوبَةُ أَوْ الْمُؤَاجَرَةُ أَوْ فُكَّتْ الْمَرْهُونَةُ (قَوْلُهُ وَلَمْ يَذْكُرْ الدَّوَاعِيَ فِي الْمَسْبِيَّةِ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهَا لَا تَحْرُمُ) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ: وَاسْتُشْكِلَ ذَلِكَ حَيْثُ تَعَدَّى الْحُكْمُ مِنْ الْأَصْلِ وَهِيَ الْمَسْبِيَّةُ إلَى الْفَرْعِ وَهُوَ غَيْرُهَا بِتَغْيِيرٍ حَيْثُ حُرِّمَتْ الدَّوَاعِي فِي غَيْرِ الْمَسْبِيَّةِ دُونَهَا. وَأُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ اقْتِضَاءِ الدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ، وَفِيهِ نَظَرٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ التَّعَدِّيَ إنْ كَانَ بِالْقِيَاسِ فَالْجَوَابُ الْمَذْكُورُ غَيْرُ دَافِعٍ،؛ لِأَنَّ عَدَمَ التَّغْيِيرِ شَرْطُ الْقِيَاسِ كَمَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ وَانْتِفَاءُ الشَّرْطِ يَسْتَلْزِمُ انْتِفَاءَ الْمَشْرُوطِ. وَالثَّانِي أَنَّ مَا دَلَّ عَلَى حُرْمَةِ الدَّوَاعِي فِي غَيْرِ الْمَسْبِيَّةِ أَمْرَانِ: الْإِفْضَاءُ، وَالْوُقُوعُ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ، فَإِنْ لَمْ تُحَرَّمْ بِالثَّانِي فَلْتُحَرَّمْ بِالْأَوَّلِ. إذَا الْحُرْمَةُ تُؤْخَذُ بِالِاحْتِيَاطِ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ التَّعْدِيَةَ هَاهُنَا بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ لِلَّاحِقِ دَلَالَةُ حُكْمِ الدَّلِيلِ لَمْ يَكُنْ لِلْمُلْحَقِ بِهِ لِعَدَمِهِ، وَالدَّلِيلُ هُنَا أَنَّ حُرْمَةَ الدَّوَاعِي فِي هَذَا الْبَابِ مُجْتَهَدٌ فِيهِ وَلَمْ يَقُلْ بِهَا الشَّافِعِيُّ وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ.

فَلَمَّا كَانَ عِلَّتُهَا فِي الْمَسْبِيَّةِ أَمْرًا وَاحِدًا لَمْ تُعْتَبَرْ، وَلَمَّا كَانَ فِي غَيْرِهَا أَمْرَانِ تَعَاضَدَا

ص: 45

لِأَنَّهُ لَوْ ظَهَرَ بِهَا حَبَلٌ لَا تَصِحُّ دَعْوَةُ الْحَرْبِيِّ، بِخِلَافِ الْمُشْتَرَاةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا.

(وَالِاسْتِبْرَاءُ فِي الْحَامِلِ بِوَضْعِ الْحَمْلِ) لِمَا رَوَيْنَا (وَفِي ذَوَاتِ الْأَشْهُرِ بِالشَّهْرِ)؛ لِأَنَّهُ أُقِيمَ فِي حَقِّهِنَّ مَقَامَ الْحَيْضِ كَمَا فِي الْمُعْتَدَّةِ، وَإِذَا حَاضَتْ فِي أَثْنَائِهِ بَطَلَ الِاسْتِبْرَاءُ بِالْأَيَّامِ لِلْقُدْرَةِ عَلَى الْأَصْلِ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْبَدَلِ كَمَا فِي الْمُعْتَدَّةِ. فَإِنْ ارْتَفَعَ حَيْضُهَا تَرَكَهَا، حَتَّى إذَا تَبَيَّنَ أَنْ لَيْسَتْ بِحَامِلٍ وَقَعَ عَلَيْهَا وَلَيْسَ فِيهِ تَقْدِيرٌ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. وَقِيلَ يَتَبَيَّنُ بِشَهْرَيْنِ

اُعْتُبِرَتْ، إلَى هُنَا لَفْظُ الْعِنَايَةِ. أَقُولُ: فِي قَوْلِهِ فَلَمَّا كَانَ عِلَّتُهَا فِي الْمَسْبِيَّةِ أَمْرًا وَاحِدًا لَمْ تُعْتَبَرْ نَظَرٌ، فَإِنَّ الْعِلَّةَ إذَا كَانَتْ عِلَّةً صَحِيحَةً تَامَّةً فَوَحْدَتُهَا لَا تُنَافِي اعْتِبَارَهَا. وَلَا تَضُرُّ بِالْعَمَلِ بِهَا وَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ مِمَّا وَقَعَ الِاجْتِهَادُ فِي خِلَافِهِ، كَيْفَ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ أَنَّ الْعِلَّةَ الْوَاحِدَةَ لَا تَكْفِي فِي الْمَسَائِلِ الْخِلَافِيَّةِ، بَلْ نَرَى كَثِيرًا مِنْ الْخِلَافِيَّاتِ قَدْ اكْتَفَوْا فِيهَا بِعِلَّةٍ وَاحِدَةٍ. وَالْحُرْمَةُ مِمَّا يُؤْخَذُ فِيهِ بِالِاحْتِيَاطِ فَكَانَ الِاكْتِفَاءُ فِيهَا بِعِلَّةٍ وَاحِدَةٍ أَوْلَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْإِفْضَاءَ إلَى الْحَرَامِ عِلَّةٌ صَحِيحَةٌ تَامَّةٌ. وَلِهَذَا قَالُوا فِي تَعْلِيلِ حُرْمَةِ الدَّوَاعِي قَبْلَ الِاسْتِبْرَاءِ فِي غَيْرِ الْمَسْبِيَّةِ لِإِفْضَائِهَا إلَى الْوَطْءِ الْحَرَامِ أَوْ لِاحْتِمَالِ وُقُوعِهَا فِي مِلْكِ الْغَيْرِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ كَلِمَةَ أَوْ تَدُلُّ عَلَى اسْتِقْلَالِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْعِلَّتَيْنِ، وَاكْتَفَوْا فِي تَعْلِيلِ حُرْمَةِ الدَّوَاعِي فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَسَائِلِ بِالْعِلَّةِ الْأُولَى كَمَا فِي الظِّهَارِ وَالِاعْتِكَافِ وَالْإِحْرَامِ، وَفِي الْمَنْكُوحَةِ إذَا وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ كَمَا سَيَجِيءُ فِي الْكِتَابِ. هَذَا وَقَدْ أَوْرَدَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ عَلَى قَوْلِ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ التَّعْدِيَةَ هُنَا بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ لِلَّاحِقِ دَلَالَةُ حُكْمِ الدَّلِيلِ لَمْ يَكُنْ لِلْمُلْحَقِ بِهِ لِعَدَمِهِ حَيْثُ قَالَ بَعْدَ نَقْلِ ذَلِكَ: وَلَا يَخْفَى أَنَّ كَوْنَ هَذَا مِنْ قَبِيلِ الدَّلَالَةِ دُونَ الْقِيَاسِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ انْتَهَى.

أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا بِمُسْتَقِيمٍ. أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ الْمَنْعَ وَظِيفَةُ الْمُجِيبِ. فَإِنَّ حَاصِلَ جَوَابِهِ مَنْعُ كَوْنِ التَّعْدِيَةِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ حَتَّى يَلْزَمَ الْمَحْذُورُ الْمَذْكُورُ فِي النَّظَرِ وَهُوَ تَعْدِيَةُ الْحُكْمِ مِنْ الْأَصْلِ إلَى الْفَرْعِ بِتَغْيِيرٍ كَمَا عُرِفَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ، وَالِاسْتِنَادُ بِأَنَّهَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ وَلَا اسْتِحَالَةَ لِلتَّغْيِيرِ فِي هَذَا الطَّرِيقِ، فَمُقَابَلَةُ مَنْعِهِ بِمَنْعِ كَوْنِ هَذَا مِنْ قَبِيلِ الدَّلَالَةِ دُونَ الْقِيَاسِ خُرُوجٌ عَنْ قَوَاعِدِ آدَابِ الْمُنَاظَرَةِ. وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ مَنْعَ كَوْنِ التَّعْدِيَةِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ قَبِيلِ الدَّلَالَةِ دُونَ الْقِيَاسِ سَاقِطٌ جِدًّا، إذْ قَدْ تَقَرَّرَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ مِنْ شَرْطِ الْقِيَاسِ أَنْ لَا يَكُونَ حُكْمُ الْأَصْلِ مَعْدُولًا عَنْ الْقِيَاسِ. وَقَدْ ذَكَرَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِيمَا مَرَّ أَنَّ حُكْمَ الِاسْتِبْرَاءِ ثَابِتٌ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ لِتَحَقُّقِ الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ لِلِاسْتِمْتَاعِ فَلَا مَجَالَ لِلْقِيَاسِ فِيهِ، وَإِنَّمَا يَتَيَسَّرُ الْإِلْحَاقُ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ، وَقَدْ أَشَارَ إلَيْهِ هَاهُنَا بِقَوْلِهِ كَمَا تَقَدَّمَ فَلَا وَجْهَ لِلْمَنْعِ الْمَذْكُورِ بَعْدَ ذَلِكَ. ثُمَّ إنَّ لِذَلِكَ الْبَعْضِ فِي هَذَا الْمَقَامِ كَلِمَاتٌ أُخْرَى وَاهِيَةٌ يَطُولُ بِذِكْرِهَا الْكَلَامُ بِلَا طَائِلٍ فَصَفَحْنَا عَنْ التَّعَرُّضِ لَهَا دَوْمًا لِلِاخْتِصَارِ (قَوْلُهُ بِخِلَافِ الْمُشْتَرَاةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ.

وَقَوْلُهُ عَلَى مَا بَيَّنَّا إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ وَالرَّغْبَةُ فِي الْمُشْتَرَاةِ أَصْدَقُ الرَّغَبَاتِ انْتَهَى. وَتَبِعَهُ الْعَيْنِيُّ. أَقُولُ: هَذَا خَبْطٌ ظَاهِرٌ، إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَسْبِيَّةِ وَالْمُشْتَرَاةِ فِي كَوْنِ الرَّغْبَةِ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا أَصْدَقُ الرَّغَبَاتِ. فَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يُشِيرَ الْمُصَنِّفُ فِي بَيَانِ الْخِلَافِ بَيْنَهُمَا إلَى مَا لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِيهِ أَصْلًا، وَإِنَّمَا الصَّوَابُ أَنَّ قَوْلَهُ عَلَى مَا بَيَّنَّا إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ أَوْ لِاحْتِمَالِ وُقُوعِهَا فِي غَيْرِ الْمِلْكِ عَلَى اعْتِبَارِ ظُهُورِ الْحَبَلِ وَدَعْوَةِ الْبَائِعِ إذْ هُوَ الْفَارِقُ بَيْنَ الْمَسْبِيَّةِ وَالْمُشْتَرَاةِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَطْعًا قَوْلُهُ لِأَنَّهَا لَا تَحْتَمِلُ وُقُوعَهَا فِي مِلْكِ الْغَيْرِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ ظَهَرَ بِهَا حَبَلٌ لَا تَصِحُّ دَعْوَةُ الْحَرْبِيِّ اهـ.

(قَوْلُهُ وَالِاسْتِبْرَاءُ فِي الْحَامِلِ بِوَضْعِ الْحَمْلِ لِمَا رَوَيْنَا) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَقَوْلُهُ لِمَا رَوَيْنَا إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «وَلَا الْحَيَالَى حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ» انْتَهَى. أَقُولُ: قَدْ سَهَا الشَّارِحُ الْمَذْكُورُ فِي لَفْظِ الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الْمُصَنِّفُ فِيمَا مَرَّ حَيْثُ قَالَ «وَلَا الْحَيَالَى حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ» مَعَ أَنَّ لَفْظَهُ «أَلَا لَا تُوطَأُ الْحَبَالَى حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ، وَلَا الْحَيَالَى حَتَّى يُسْتَبْرَأْنَ» وَلَعَمْرِي إنَّ هَذَا كَانَ أَظْهَرَ مِنْ أَنْ يَخْفَى فَكَأَنَّ السَّهْوَ وَقَعَ مِنْ

ص: 46

أَوْ ثَلَاثَةٍ.

وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرَةُ أَيَّامٍ، وَعَنْهُ شَهْرَانِ وَخَمْسَةُ أَيَّامٍ اعْتِبَارًا بِعِدَّةِ الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ فِي الْوَفَاةِ. وَعَنْ زُفَرَ سَنَتَانِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ.

قَالَ (وَلَا بَأْسَ بِالِاحْتِيَالِ لِإِسْقَاطِ الِاسْتِبْرَاءِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ) وَقَدْ ذَكَرْنَا الْوَجْهَيْنِ فِي الشُّفْعَةِ. وَالْمَأْخُوذُ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ فِيمَا إذَا عَلِمَ أَنَّ الْبَائِعَ لَمْ يَقْرَبْهَا فِي طُهْرِهَا ذَلِكَ، وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ فِيمَا إذَا قَرِبَهَا. وَالْحِيلَةُ إذَا لَمْ يَكُنْ تَحْتَ الْمُشْتَرِي حُرَّةٌ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا قَبْلَ الشِّرَاءِ ثُمَّ يَشْتَرِيَهَا. وَلَوْ كَانَتْ فَالْحِيلَةُ أَنْ يُزَوِّجَهَا الْبَائِعُ قَبْلَ الشِّرَاءِ أَوْ الْمُشْتَرِي قَبْلَ الْقَبْضِ مِمَّنْ يُوثَقُ بِهِ ثُمَّ يَشْتَرِيَهَا وَيَقْبِضَهَا ثُمَّ يُطَلِّقَ الزَّوْجُ؛ لِأَنَّ عِنْدَ وُجُودِ السَّبَبِ وَهُوَ اسْتِحْدَاثُ الْمِلْكِ الْمُؤَكَّدِ بِالْقَبْضِ إذَا لَمْ يَكُنْ فَرْجُهَا حَلَالًا لَهُ لَا يَجِبُ الِاسْتِبْرَاءُ. وَإِنَّ حَلَّ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ أَوَانُ وُجُودِ السَّبَبِ كَمَا إذَا كَانَتْ مُعْتَدَّةَ الْغَيْرِ.

قَالَ (وَلَا يَقْرَبُ الْمَظَاهِرُ وَلَا يَلْمِسُ وَلَا يُقَبِّلُ وَلَا يَنْظُرُ إلَى فَرْجِهَا بِشَهْوَةٍ حَتَّى يُكَفِّرَ)؛ لِأَنَّهُ لَمَّا حَرُمَ الْوَطْءُ إلَى أَنْ يُكَفِّرَ حَرُمَ الدَّوَاعِي لِلْإِفْضَاءِ إلَيْهِ. لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ سَبَبَ الْحَرَامِ حَرَامٌ كَمَا فِي الِاعْتِكَافِ وَالْإِحْرَامِ وَفِي

طُغْيَانِ الْقَلَمِ فَاَللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا.

(قَوْلُهُ وَالْحِيلَةُ إذَا لَمْ يَكُنْ تَحْتَ الْمُشْتَرِي حُرَّةٌ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا قَبْلَ الشِّرَاءِ ثُمَّ يَشْتَرِيَهَا) قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: أَطْلَقَ الْمَسْأَلَةَ وَلَمْ يُقَيِّدْهَا بِكَوْنِ الْقَبْضِ قَبْلَ الشِّرَاءِ لَا يَعُدُّهُ مَعَ وُجُوبِ هَذَا التَّقْيِيدِ. قَالَ الْإِمَامُ قَاضِي خَانْ فِي فَتَاوَاهُ فِي تَصْوِيرِ الْمَسْأَلَةِ: إذَا أَرَادَ أَنْ يَشْتَرِيَ الْجَارِيَةَ يَتَزَوَّجُهَا الْمُشْتَرِي قَبْلَ الشِّرَاءِ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي نِكَاحِهِ حُرَّةٌ، ثُمَّ يُسَلِّمُهَا إلَيْهِ الْمَوْلَى ثُمَّ يَشْتَرِي فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الِاسْتِبْرَاءُ. ثُمَّ قَالَ: وَإِنَّمَا شَرَطَ تَسْلِيمَ الْجَارِيَةِ قَبْلَ الشِّرَاءِ كَيْ لَا يُوجَدَ الْقَبْضُ بِحُكْمِ الشِّرَاءِ بَعْدَ فَسَادِ النِّكَاحِ. يُرِيدُ أَنَّهُ يَتَحَقَّقُ حِينَئِذٍ سَبَبُ وُجُوبِ الِاسْتِبْرَاءِ. وَهُوَ حُدُوثُ الْمِلْكِ الْمُؤَكَّدِ بِالْقَبْضِ وَقْتَ عَدَمِ كَوْنِ فَرْجِهَا حَلَالًا لَهُ. بِخِلَافِ مَا لَوْ سَلَّمَهَا قَبْلَ الشِّرَاءِ فَإِنَّ الْقَبْضَ السَّابِقَ بِحُكْمِ التَّزَوُّجِ وَإِنْ عَرَضَ لَهُ كَوْنُهُ قَبْضًا بِحُكْمِ الشِّرَاءِ. إلَى هُنَا كَلَامُ ذَلِكَ الْبَعْضِ. أَقُولُ: فِيهِ خَلَلٌ. أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُ جَزَمَ بِوُجُوبِ تَقْيِيدِهِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ بِكَوْنِ الْقَبْضِ قَبْلَ الشِّرَاءِ لَا بَعْدَهُ. وَاسْتَشْهَدَ عَلَيْهِ بِمَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ قَاضِي خَانْ فِي فَتَاوَاهُ وَلَيْسَ بِتَامٍّ.

فَإِنَّ مَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ قَاضِي خَانْ إنَّمَا هُوَ قَوْلُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ الْمَشَايِخِ وَمُخْتَارُ نَفْسِهِ. وَأَمَّا عَامَّةُ الْمَشَايِخِ فَلَمْ يَشْتَرِطُوا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَوْنَ الْقَبْضِ قَبْلَ الشِّرَاءِ. وَعَنْ هَذَا قَالَ فِي الذَّخِيرَةِ وَالْمُحِيطِ الْبُرْهَانِيِّ: وَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَحْتَ الْمُشْتَرِي حُرَّةٌ فَلِإِسْقَاطِ الِاسْتِبْرَاءِ حِيلَةٌ أُخْرَى. وَهِيَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا الْمُشْتَرِي قَبْلَ الشِّرَاءِ ثُمَّ يَشْتَرِيَهَا وَيَقْبِضَهَا فَلَا يَلْزَمُهُ الِاسْتِبْرَاءُ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ يُثْبِتُ لَهُ عَلَيْهَا الْفِرَاشَ، فَإِنَّمَا اشْتَرَاهُ وَهِيَ فِي فِرَاشِهِ. وَقِيَامُ الْفِرَاشِ لَهُ عَلَيْهَا دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ عَلَى فَرَاغِ رَحِمِهَا مِنْ مَاءِ الْغَيْرِ انْتَهَى.

وَالْمُصَنِّفُ قَدْ

ص: 47

الْمَنْكُوحَةِ إذَا وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ، بِخِلَافِ حَالَةِ الْحَيْضِ وَالصَّوْمِ؛ لِأَنَّ الْحَيْضَ يَمْتَدُّ شَطْرَ عُمْرِهَا وَالصَّوْمَ يَمْتَدُّ شَهْرًا فَرْضًا وَأَكْثَرُ الْعُمْرِ نَفْلًا، فَفِي الْمَنْعِ عَنْهَا بَعْضُ الْحَرَجِ، وَلَا كَذَلِكَ مَا عَدَدْنَاهَا لِقُصُورِهَا مُدَدِهَا. وَقَدْ صَحَّ «أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام كَانَ يُقَبِّلُ وَهُوَ صَائِمٌ وَيُضَاجِعُ نِسَاءَهُ وَهُنَّ حُيَّضٌ»

قَالَ (وَمَنْ لَهُ أَمَتَانِ أُخْتَانِ فَقَبَّلَهُمَا بِشَهْوَةٍ فَإِنَّهُ لَا يُجَامِعُ وَاحِدَةً مِنْهُمَا وَلَا يُقَبِّلُهَا وَلَا يَمَسُّهَا بِشَهْوَةٍ وَلَا يَنْظُرُ إلَى فَرْجِهَا بِشَهْوَةٍ حَتَّى يَمْلِكَ

اخْتَارَ قَوْلَ هَؤُلَاءِ فَلِذَلِكَ أَطْلَقَ الْمَسْأَلَةَ، وَلَمْ يُقَيِّدْهَا بِكَوْنِ الْقَبْضِ قَبْلَ الشِّرَاءِ. وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ قَوْلَهُ يُرِيدُ أَنَّهُ يَتَحَقَّقُ حِينَئِذٍ سَبَبُ وُجُوبِ الِاسْتِبْرَاءِ وَهُوَ حُدُوثُ الْمِلْكِ الْمُؤَكَّدِ بِالْقَبْضِ وَقْتَ عَدَمِ كَوْنِ فَرْجِهَا حَلَالًا لَهُ لَيْسَ بِسَدِيدٍ؛ لِأَنَّ حُدُوثَ الْمِلْكِ الْمُؤَكَّدِ بِالْقَبْضِ وَقْتَ عَدَمِ كَوْنِ فَرْجِهَا حَلَالًا لَهُ لَا يُوجِبُ الِاسْتِبْرَاءَ بَلْ يَقْتَضِي سُقُوطَ الِاسْتِبْرَاءِ؛ أَلَا يُرَى إلَى قَوْلِ الْمُصَنِّفِ فِيمَا بَعْدُ؛ لِأَنَّ عِنْدَ وُجُوبِ السَّبَبِ وَهُوَ اسْتِحْدَاثُ الْمِلْكِ الْمُؤَكَّدِ بِالْقَبْضِ إذَا لَمْ يَكُنْ فَرْجُهَا حَلَالًا لَا يَجِبُ الِاسْتِبْرَاءُ وَإِنْ حَلَّ بَعْدَ ذَلِكَ. وَكَانَ الصَّوَابُ أَنْ يَقُولَ: وَهُوَ حُدُوثُ الْمِلْكِ الْمُؤَكَّدِ بِالْقَبْضِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ فَرْجُهَا حَلَالًا لَهُ بِفَسَادِ النِّكَاحِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ تَأَمَّلْ تَقِفْ.

ثُمَّ قَالَ ذَلِكَ الْبَعْضُ: ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ الْكَافِي سَلَكَ طَرِيقَةَ الْمُصَنِّفِ وَلَمْ يَلْتَفِتْ إلَى هَذَا الشَّرْطِ، إلَّا أَنَّهُ صَوَّرَ الْمَسْأَلَةَ بِصُورَةِ تَأْخِيرِ التَّسْلِيمِ تَنْصِيصًا عَلَى عَدَمِ الِاشْتِرَاطِ بِهِ، وَعَلَّلَ الْمَسْأَلَةَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى سُقُوطِ الِاسْتِبْرَاءِ فِي الصُّورَتَيْنِ مَعًا فَقَالَ: وَالْحِيلَةُ إنْ لَمْ تَكُنْ تَحْتَ الْمُشْتَرِي حُرَّةٌ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا قَبْلَ الشِّرَاءِ ثُمَّ يَشْتَرِيَهَا فَيَقْبِضَهَا فَلَا يَلْزَمُ الِاسْتِبْرَاءُ، لِأَنَّ بِالنِّكَاحِ ثَبَتَ لَهُ عَلَيْهَا الْفِرَاشُ. وَإِنَّمَا اشْتَرَاهَا وَهِيَ فِرَاشُهُ. وَقِيَامُ الْفِرَاشِ لَهُ عَلَيْهَا دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ عَلَى تَبَيُّنِ فَرَاغِ رَحِمِهَا مِنْ مَاءِ الْغَيْرِ، ثُمَّ الْحِلُّ لَهُ لَمْ يَتَجَدَّدْ بِمِلْكِ الرَّقَبَةِ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ حَلَالًا لَهُ بِالنِّكَاحِ قَبْلَ ذَلِكَ انْتَهَى. فَإِنْ قُلْت: لَا نُسَلِّمُ عَدَمَ تَجَدُّدِ الْحِلِّ بِمِلْكِ الْيَمِينِ. فَإِنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ حَلَالًا لَهُ بِالنِّكَاحِ إلَّا أَنَّهُ زَالَ ذَلِكَ بِزَوَالِهِ بِالشِّرَاءِ، فَزَمَانُ الشِّرَاءِ خَالٍ عَنْ الْحِلِّ. أَمَّا عَنْ الْحِلِّ الْحَاصِلِ بِالنِّكَاحِ فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ زَمَانُ زَوَالِهِ. وَأَمَّا عَنْ الْحِلِّ الْحَاصِلِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ فَلِأَنَّهُ يَسْتَعْقِبُهُ الشِّرَاءُ، فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ مَا لَمْ يَفْرُغْ عَنْ التَّلَفُّظِ بِلَفْظِ اشْتَرَيْت بَعْدَ إيجَابِ الْبَائِعِ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ الْحِلُّ. قُلْت: هَذِهِ مُغَالَطَةٌ؛ لِأَنَّ وُجُودَ الْعِلَّةِ يُقَارِنُ وُجُودَ الْمَعْلُولِ لَا يَسْتَعْقِبُهُ، فَزَمَانُ التَّلَفُّظِ بِالْحَرْفِ الْأَخِيرِ فِي اشْتَرَيْت هُوَ زَمَانُ وُجُودِ الشِّرَاءِ وَالْحِلِّ وَزَوَالِ النِّكَاحِ. لَا يُقَالُ: سَلَّمْنَا أَنَّ نَوْعَ الْحِلِّ مُسْتَمِرٌّ وَلَا يُوجَدُ زَمَانٌ خَالٍ عَنْ الْحِلِّ وَلَمْ يَحْدُثْ نَوْعُ الْحِلِّ، إلَّا أَنَّهُ حَدَثَ حِلٌّ هُوَ أَثَرُ مِلْكِ الْيَمِينِ.

وَذَلِكَ كَافٍ فِي وُجُوبِ الِاسْتِبْرَاءِ؛ لِأَنَّا نَمْنَعُ ذَلِكَ، بَلْ الْوَاجِبُ حُصُولُ الْحِلِّ بِمِلْكِ الْعَيْنِ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ حَلَالًا بِسَبَبٍ مِنْ الْأَسْبَابِ، هَذَا غَايَةُ تَوْجِيهِ كَلَامِهِ لَكِنَّهُ يُعَدُّ مَحَلَّ نَظَرٍ. إذْ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الشِّرَاءُ سَبَبُ الْمِلْكِ وَحِلُّ الْوَطْءِ حُكْمُهُ وَحُكْمُ الشَّيْءِ يَتَعَقَّبُهُ، فَزَمَانُ وُجُودِ الْمِلْكِ خَالٍ عَنْ الْحِلِّ مُطْلَقًا فَيَجِبُ الِاسْتِبْرَاءُ تَقَدَّمَ التَّسْلِيمُ أَوْ لَا، فَلَمْ يَصْلُحْ مَا ذَكَرَهُ حِيلَةً لِإِسْقَاطِهِ أَصْلًا فَتَأَمَّلْ، فَإِنَّ هَذَا مِنْ الْمَطَارِحِ، إلَى هُنَا لَفْظُ ذَلِكَ الْبَعْضِ. أَقُولُ: مَا أَوْرَدَهُ فِي خَاتِمَةِ كَلَامِهِ لَيْسَ بِشَيْءٍ، فَإِنَّهُ إنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ وَحُكْمُ الشَّيْءِ يَتَعَقَّبُهُ أَنَّهُ يَتَعَقَّبُهُ زَمَانًا أَلْبَتَّةَ فَهُوَ مَمْنُوعٌ جِدًّا، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ يَتَعَقَّبُهُ ذَاتًا: أَيْ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ فَهُوَ مُسَلَّمٌ. وَلَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ زَمَانُ وُجُودِ الْمِلْكِ خَالِيًا عَنْ الْحِلِّ مُطْلَقًا. وَبِالْجُمْلَةِ لُزُومُ تَأَخُّرِ حُكْمِ الشَّيْءِ عَنْ الشَّيْءِ زَمَانًا مَمْنُوعٌ، وَلُزُومُ تَأَخُّرِهِ عَنْهُ ذَاتًا مُسَلَّمٌ ضَرُورَةَ كَوْنِ حُكْمِ الشَّيْءِ مُتَفَرِّعًا عَلَيْهِ، وَلَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ خُلُوُّ زَمَانٍ مَا عَنْ الْحِلِّ مُطْلَقًا فِيمَنْ نَحْنُ فِيهِ حَتَّى يَجِبَ الِاسْتِبْرَاءُ

(قَوْلُهُ: لِأَنَّ الْحَيْضَ يَمْتَدُّ شَطْرَ عُمْرِهَا) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: أَيْ يَقْرُبُ مِنْ شَطْرِ عُمْرِهَا وَهُوَ عَشْرَةُ أَيَّامٍ فِي كُلِّ شَهْرٍ

ص: 48

فَرْجَ الْأُخْرَى غَيْرُهُ بِمِلْكٍ أَوْ نِكَاحٍ أَوْ يُعْتِقُهَا)، وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ الْمَمْلُوكَتَيْنِ لَا يَجُوزُ وَطْئًا لِإِطْلَاقِ قَوْله تَعَالَى {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} وَلَا يُعَارَضُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} ؛ لِأَنَّ التَّرْجِيحَ لِلْمُحَرَّمِ، وَكَذَا لَا يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي الدَّوَاعِي لِإِطْلَاقِ النَّصِّ، وَلِأَنَّ الدَّوَاعِيَ إلَى الْوَطْءِ بِمَنْزِلَةِ الْوَطْءِ فِي التَّحْرِيمِ عَلَى مَا مَهَّدْنَاهُ مِنْ قَبْلُ، فَإِذَا قَبَّلَهُمَا فَكَأَنَّهُ وَطِئَهُمَا، وَلَوْ وَطِئَهُمَا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُجَامِعَ إحْدَاهُمَا وَلَا أَنْ يَأْتِيَ بِالدَّوَاعِي فِيهِمَا، فَكَذَا إذَا قَبَّلَهُمَا وَكَذَا إذَا مَسَّهُمَا بِشَهْوَةٍ أَوْ نَظَرَ إلَى فَرْجِهِمَا بِشَهْوَةٍ لِمَا بَيَّنَّا إلَّا أَنْ يَمْلِكَ

فَكَانَ قَرِيبًا مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَهِيَ نِصْفُ الشَّهْرِ انْتَهَى.

وَاقْتَفَى أَثَرَهُ صَاحِبُ الْكِفَايَةِ. وَقَالَ صَاحِبُ مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ: أَيْ قَرِيبُ شَطْرِ عُمْرِهَا وَهُوَ الثُّلُثُ. أَوْ الْمُرَادُ الْبَعْضُ انْتَهَى. وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ نَقْلِ مَا فِي النِّهَايَةِ: وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ يُشِيرُ إلَى أَنَّ الشَّطْرَ هُوَ النِّصْفُ، وَيَتَقَوَّى بِذَلِكَ اسْتِدْلَالُ الشَّافِعِيِّ عَلَيْنَا بِالْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ أَكْثَرَ الْحَيْضِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا انْتَهَى.

أَقُولُ: نَظَرُهُ سَاقِطٌ جِدًّا، فَإِنَّ الْحَدِيثَ الَّذِي اسْتَدَلَّ بِهِ الشَّافِعِيُّ عَلَيْنَا هُوَ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام فِي نُقْصَانِ دِينِ الْمَرْأَةِ «تَقْعُدُ إحْدَاهُنَّ شَطْرَ عُمْرِهَا لَا تَصُومُ وَلَا تُصَلِّي» وَوَجْهُ اسْتِدْلَالِهِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ زَمَانُ الْحَيْضِ، وَالشَّطْرُ هُوَ النِّصْفُ فَكَانَ أَكْثَرُ مُدَّةِ الْحَيْضِ خَمْسَةَ عَشْرَةَ يَوْمًا. وَقَالَ الشُّرَّاحُ هُنَاكَ حَتَّى صَاحِبُ الْعِنَايَةِ نَفْسُهُ: لَيْسَ الْمُرَادُ بِالشَّطْرِ فِي الْحَدِيثِ حَقِيقَتَهُ؛ لِأَنَّ فِي عُمْرِهَا زَمَانُ الصِّغَرِ وَمُدَّةُ الْحَبَلِ وَزَمَانُ الْإِيَاسِ وَلَا تَحِيضُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَا يُقَارِبُ الشَّطْرَ، وَإِذَا قَدَّرْنَا الْعَشَرَةَ بِهَذِهِ الْآثَارِ كَانَ مُقَارِبًا لِلشَّطْرِ وَحَصَلَ التَّوْفِيقُ انْتَهَى.

فَظَهَرَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا كَانَ الشَّطْرُ هُوَ النِّصْفُ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ صَاحِبُ النِّهَايَةِ هُنَا وَنَصَّ عَلَيْهِ الْجَوْهَرِيُّ فِي صِحَاحِهِ وَالْمُطَرِّزِيُّ فِي الْمُغْرِبِ لَا يَتَقَوَّى اسْتِدْلَالُ الشَّافِعِيِّ عَلَيْنَا بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ، بَلْ لَا يَتَمَشَّى اسْتِدْلَالُهُ بِهِ عَلَيْنَا أَصْلًا حَيْثُ لَمْ يَكُنْ مَجَالٌ لِكَوْنِ الشَّطْرِ هُنَاكَ عَلَى حَقِيقَتِهِ لِعَدَمِ مُسَاعَدَةِ عُمْرِ الْمَرْأَةِ لَهَا كَمَا بَيَّنُوا، بَلْ لَا بُدَّ وَأَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْمَجَازِ بِأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ مَا يُقَارِبُ الشَّطْرَ كَمَا ذَكَرُوا قَاطِبَةً هُنَاكَ. وَعَلَيْهِ جَرَى صَاحِبُ النِّهَايَةِ هُنَا أَيْضًا، فَكَأَنَّ صَاحِبَ الْعِنَايَةِ نَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ. ثُمَّ إنَّ بَعْضَ الْمُتَأَخِّرِينَ قَالَ فِي هَذَا الْمَقَامِ: وَشَطْرُ الشَّيْءِ نِصْفُهُ وَبَعْضُهُ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا هُوَ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ صَاحِبُ النِّهَايَةِ، وَلِهَذَا أَوَّلَهُ بِمَا يَقْرُبُ مِنْ شَطْرِهِ وَقَالَ: فَإِنَّهُ عَشَرَةُ أَيَّامٍ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَةَ يَوْمًا وَهِيَ نِصْفُ الشَّهْرِ فَكَأَنَّهُ زَعَمَ أَنَّ الشَّطْرَ لَا يَجِيءُ إلَّا بِمَعْنَى النِّصْفِ انْتَهَى كَلَامُهُ.

أَقُول: لَيْسَ هَذَا بِسَدِيدٍ؛ لِأَنَّ مَجِيءَ الشَّطْرِ بِمَعْنَى الْبَعْضِ إنَّمَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْقَامُوسِ حَيْثُ قَالَ: الشَّطْرُ نِصْفُ الشَّيْءِ وَجُزْؤُهُ. وَمِنْهُ حَدِيثُ الْإِسْرَاءِ " فَوَضَعَ شَطْرَهَا " أَيْ بَعْضَهَا انْتَهَى.

وَلَكِنَّ ذَاكَ لَيْسَ بِقَطْعِيٍّ فِي أَنْ يَكُونَ الشَّطْرُ حَقِيقَةً فِي مَعْنَى الْبَعْضِ أَيْضًا، فَإِنَّ أَكْثَرَ كُتُبِ اللُّغَةِ غَيْرُ مُتَكَفِّلٍ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ، وَلَئِنْ سَلِمَ أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي مَعْنَى الْبَعْضِ أَيْضًا فَلَيْسَ مَعْنَى الْبَعْضِ بِمُنَاسِبٍ لِلْمَقَامِ؛ لِأَنَّ مُجَرَّدَ تَحَقُّقِ الْحَيْضِ فِي بَعْضِ عُمْرِهَا لَا يَقْتَضِي الْحَرَجَ فِي الْمَنْعِ عَنْ الدَّوَاعِي أَيْضًا حَالَةَ الْحَيْضِ. وَإِنَّمَا الَّذِي يَقْتَضِي الْحَرَجَ فِي ذَلِكَ تَحَقُّقُ الْحَيْضِ فِي نِصْفِ عُمْرِهَا أَوْ فِي قَرِيبٍ مِنْ نِصْفِ عُمْرِهَا لِطُولِ مُدَّةِ الْحَيْضِ إذْ ذَاكَ، وَهُوَ الْمُفْضِي إلَى الْحَرَجِ. فَلِذَلِكَ حَمَلَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ الشَّطْرَ الْوَاقِعَ فِي عِبَارَةِ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا عَلَى النِّصْفِ، وَأَوَّلَهُ بِالْقَرِيبِ مِنْ النِّصْفِ لِيُوَافِقَ مَذْهَبَنَا فِي أَكْثَرِ مُدَّةِ الْحَيْضِ.

(قَوْلُهُ وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ الْمَمْلُوكَتَيْنِ لَا يَجُوزُ وَطْئًا لِإِطْلَاقِ قَوْله تَعَالَى {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} وَلَا يُعَارَضُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}؛ لِأَنَّ التَّرْجِيحَ لِلْمَحْرَمِ) قَالَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ: فَإِنْ قُلْت: الْأَصْلُ فِي الدَّلَائِلِ الْجَمْعُ وَأَمْكَنَ هُنَا بِأَنْ يُحْمَلَ قَوْلُهُ {وَأَنْ تَجْمَعُوا} عَلَى النِّكَاحِ، وَقَوْلُهُ

ص: 49

فَرْجَ الْأُخْرَى غَيْرُهُ بِمِلْكٍ أَوْ نِكَاحٍ أَوْ يُعْتِقَهَا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا حَرُمَ عَلَيْهِ فَرْجُهَا لَمْ يَبْقَ جَامِعًا.

وَقَوْلُهُ بِمِلْكٍ أَرَادَ بِهِ مِلْكَ يَمِينٍ فَيَنْتَظِمُ التَّمْلِيكُ بِسَائِرِ أَسْبَابِهِ بَيْعًا أَوْ غَيْرَهُ، وَتَمْلِيكُ الشِّقْصِ فِيهِ كَتَمْلِيكِ الْكُلِّ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ يَحْرُمُ بِهِ، وَكَذَا إعْتَاقُ الْبَعْضِ مِنْ إحْدَاهُمَا كَإِعْتَاقِ كُلِّهَا، وَكَذَا الْكِتَابَةُ كَالْإِعْتَاقِ فِي هَذَا لِثُبُوتِ حُرْمَةِ الْوَطْءِ بِذَلِكَ كُلِّهِ،

{أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} عَلَى مِلْكِ الْيَمِينِ.

قُلْت: الْمَعْنَى الَّذِي يُحَرِّمُ الْجَمْعَ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ نِكَاحًا وُجِدَ هُنَا وَهُوَ قَطِيعَةُ الرَّحِمِ فَيَثْبُتُ الْحُكْمُ هُنَا أَيْضًا وَلِأَنَّ قَوْلَهُ {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} مَخْصُوصٌ إجْمَاعًا، فَإِنَّ أُمَّهُ وَأُخْتَهُ مِنْ الرَّضَاعِ وَالْأَمَةَ الْمَجُوسِيَّةَ حَرَامٌ فَلَا يُعَارِضُ مَا لَيْسَ بِمَخْصُوصٍ وَهُوَ الْمُحَرِّمُ لِلْجَمْعِ انْتَهَى كَلَامُهُ.

وَاقْتَفَى أَثَرَهُ صَاحِبُ الْكِفَايَةِ وَالشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ. أَقُولُ: فِي كُلٍّ مِنْ وَجْهَيْ الْجَوَابِ نَظَرٌ. أَمَّا فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فَلِأَنَّ حَاصِلَهُ أَنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُهُ {وَأَنْ تَجْمَعُوا} عَلَى النِّكَاحِ يَثْبُتُ حُكْمُ حُرْمَةِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ وَطْئًا بِمِلْكِ الْيَمِينِ أَيْضًا دَلَالَةً لِوُجُودِ الْمَعْنَى الْمُحَرَّمِ فِيهِ أَيْضًا وَهُوَ قَطِيعَةُ الرَّحِمِ لَكِنَّهُ لَيْسَ بِتَامٍّ، إذْ قَدْ تَقَرَّرَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ عِبَارَةَ النَّصِّ وَإِشَارَتَهُ تُرَجَّحَانِ عَلَى دَلَالَةِ النَّصِّ عِنْدَ التَّعَارُضِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ إفَادَةَ عُمُومِ قَوْله تَعَالَى {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} حِلُّ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ الْمَمْلُوكَتَيْنِ وَطْئًا بِالْعِبَارَةِ، وَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ بِالْإِشَارَةِ، فَيَلْزَمُ أَنْ يُتْرَكَ بِهَا دَلَالَةُ الْآيَةِ الْأُخْرَى عَلَى حُرْمَةِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا وَطْئًا عَلَى مُقْتَضَى قَاعِدَةِ الْأُصُولِ.

وَأَمَّا فِي الْوَجْهِ الثَّانِي فَلِأَنَّ حَاصِلَهُ أَنَّ قَوْله تَعَالَى {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} مِنْ قَبِيلِ الْعَامِّ الَّذِي خُصَّ مِنْهُ الْبَعْضُ فَصَارَ ظَنِّيًّا لِتَمَكُّنِ الشُّبْهَةِ كَمَا عُرِفَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ. فَلَا يَصْلُحُ أَنْ يُعَارِضَ مَا هُوَ لَيْسَ بِمَخْصُوصٍ وَهُوَ الْمُحَرِّمُ لِلْجَمْعِ لِكَوْنِهِ قَطْعِيًّا لَكِنَّهُ لَيْسَ بِتَامٍّ أَيْضًا، إذْ قَدْ تَقَرَّرَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ الْعَامَّ الَّذِي خُصَّ مِنْهُ الْبَعْضُ إنَّمَا يَكُونُ ظَنِّيًّا إذَا كَانَ الْمُخَصَّصُ مَوْصُولًا، وَأَمَّا إذَا كَانَ مَفْصُولًا مُتَأَخِّرًا فَالْخَاصُّ إذْ ذَاكَ يَكُونُ نَاسِخًا لِلْعَامِّ فِي الْقَدْرِ الَّذِي تَنَاوَلَهُ الْخَاصُّ، وَيَكُونُ الْعَامُّ فِي الْبَاقِي قَطْعِيًّا بِلَا شُبْهَةٍ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُخَصِّصَ الْأُمِّ وَالْأُخْتِ مِنْ الرَّضَاعِ وَالْأَمَةِ الْمَجُوسِيَّةِ مِنْ قَوْله تَعَالَى {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} لَيْسَ بِمَوْصُولٍ بِهِ، فَلَمْ يَكُنْ ظَنِّيًّا فِي الْبَاقِي بَلْ كَانَ قَطْعِيًّا كَالْمُحَرِّمِ لِلْجَمْعِ فَلَمْ يَظْهَرْ الرُّجْحَانُ مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ حَتَّى لَا يَصْلُحَ لِلْمُعَارَضَةِ فَتَأَمَّلْ.

(قَوْلُهُ وَقَوْلُهُ بِمِلْكٍ أَرَادَ بِهِ مِلْكَ يَمِينٍ فَيَنْتَظِمُ التَّمْلِيكُ بِسَائِرِ أَسْبَابِهِ بَيْعًا أَوْ غَيْرَهُ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: قَوْلُهُ فَيَنْتَظِمُ التَّمْلِيكُ بِسَائِرِ أَسْبَابِهِ: أَيْ أَسْبَابِ التَّمْلِيكِ كَالشِّرَاءِ وَالْوَصِيَّةِ وَالْمِيرَاثِ وَالْخُلْعِ وَالْكِتَابَةِ وَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ انْتَهَى.

أَقُولُ: فِي بَعْضِ تَمْثِيلَاتِهِ خَطَأٌ، وَهُوَ الْوَصِيَّةُ وَالْمِيرَاثُ وَالْكِتَابَةُ.

أَمَّا فِي الْوَصِيَّةِ وَالْمِيرَاثِ فَلِأَنَّ تَمْلِيكَ الْغَيْرِ فِي الْوَصِيَّةِ وَالْمِيرَاثِ إنَّمَا يَثْبُتُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي وَالْمُورِثِ فَكَيْفَ يَدْخُلُ ذَلِكَ تَحْتَ قَوْلِهِ بِمِلْكٍ فِي قَوْلِهِ: فَإِنَّهُ لَا يُجَامِعُ وَاحِدَةً مِنْهُمَا وَلَا يُقَبِّلُهَا وَلَا يَمَسُّهَا بِشَهْوَةٍ وَلَا يَنْظُرُ إلَى فَرْجِهَا بِشَهْوَةٍ حَتَّى يَمْلِكَ فَرْجَ الْأُخْرَى غَيْرُهُ بِمِلْكٍ أَوْ نِكَاحٍ، فَإِنَّ شَيْئًا مِنْ الْمُجَامَعَةِ وَالْمَسِّ وَالنَّظَرِ لَا يُتَصَوَّرُ بَعْدَ الْمَمَاتِ، عَلَى أَنَّ نَفْسَ التَّمْلِيكِ أَيْضًا عَلَى حَقِيقَتِهِ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ فِي الْإِرْثِ. وَأَمَّا فِي الْكِتَابَةِ فَلِأَنَّهَا مُلْحَقَةٌ بِالْإِعْتَاقِ كَمَا سَيُصَرِّحُ بِهِ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ وَكَذَا الْكِتَابَةُ كَالْإِعْتَاقِ فِي هَذَا فَكَانَتْ مِنْ فُرُوعِ قَوْلِهِ أَوْ يُعْتِقُهَا غَيْرَ دَاخِلَةٍ فِي قَوْلِهِ حَتَّى يَمْلِكَ فَرْجَ الْأُخْرَى غَيْرُهُ بِمِلْكٍ، إذَا الْمُرَادُ بِالْمِلْكِ هُنَا مِلْكُ الْيَمِينِ بِدَلَالَةِ عَطْفِ قَوْلِهِ أَوْ نِكَاحٍ عَلَيْهِ. وَلَا يُتَصَوَّرُ تَمْلِيكُ الْفَرْجِ غَيْرَهُ مِلْكَ يَمِينٍ بِالْكِتَابَةِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ عَرَفَ مَعْنَى الْكِتَابَةِ شَرْعًا (قَوْلُهُ وَكَذَا الْكِتَابَةُ كَالْإِعْتَاقِ فِي هَذَا لِثُبُوتِ حُرْمَةِ الْوَطْءِ بِذَلِكَ كُلِّهِ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: كَلِمَةُ كَذَا فِي قَوْلِهِ وَكَذَا الْكِتَابَةُ كَالْإِعْتَاقِ زَائِدَةٌ. وَقَالَ الشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ بَعْدَ نَقْلِ ذَلِكَ: قُلْت زِيَادَةُ كَذَا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ غَيْرُ مَشْهُورَةٍ انْتَهَى.

أَقُولُ: هَذَا كَلَامٌ عَجِيبٌ. إذْ لَا شَكَّ أَنَّ مُرَادَ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ أَنَّ كَلِمَةَ كَذَا هَاهُنَا زَائِدَةٌ: أَيْ مُسْتَدْرَكَةٌ لَا أَنَّهَا زَائِدَةٌ كَزِيَادَةِ بَعْضِ الْحُرُوفِ لِتَحْسِينِ اللَّفْظِ كَمَا تَوَهَّمَهُ الْعَيْنِيُّ حَتَّى يَتَوَجَّهَ إلَيْهِ قَوْلُهُ زِيَادَةٌ كَذَا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ غَيْرَ مَشْهُورَةٍ. وَبِالْجُمْلَةِ مُرَادُ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ الدَّخْلُ لَا التَّوْجِيهُ. فَمَا ذَكَرَهُ الْعَيْنِيُّ لَغْوٌ مَحْضٌ. ثُمَّ أَقُولُ: يُمْكِنُ تَوْجِيهُ عِبَارَةِ الْمُصَنِّفِ بِمَا يَنْدَفِعُ بِهِ الِاسْتِدْرَاكُ فِي كَلِمَةِ كَذَا، وَهُوَ أَنَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ وَكَذَا: أَيْ وَكَكَوْنِ إعْتَاقِ الْبَعْضِ مِنْ إحْدَاهُمَا كَإِعْتَاقِ الْكُلِّ الْكِتَابَةُ كَالْإِعْتَاقِ: أَيْ كَإِعْتَاقِ الْكُلِّ. فَحِينَئِذٍ يَصِيرُ الْمَقْصُودُ مِنْ كَلِمَةِ كَذَا

ص: 50

وَبِرَهْنِ إحْدَاهُمَا وَإِجَارَتِهَا وَتَدْبِيرِهَا لَا تَحِلُّ الْأُخْرَى؛ أَلَا يَرَى أَنَّهَا لَا تَخْرُجُ بِهَا عَنْ مِلْكِهِ، وَقَوْلُهُ أَوْ نِكَاحٍ أَرَادَ بِهِ النِّكَاحَ الصَّحِيحَ. أَمَّا إذَا زَوَّجَ إحْدَاهُمَا نِكَاحًا فَاسِدًا لَا يُبَاحُ لَهُ وَطْءُ الْأُخْرَى إلَّا أَنْ يَدْخُلَ الزَّوْجُ بِهَا فِيهِ؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ الْعِدَّةُ عَلَيْهَا، وَالْعِدَّةُ كَالنِّكَاحِ الصَّحِيحِ فِي التَّحْرِيمِ. وَلَوْ وَطِئَ إحْدَاهُمَا حَلَّ لَهُ وَطْءُ الْمَوْطُوءَةِ دُونَ الْأُخْرَى؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ جَامِعًا بِوَطْءِ الْأُخْرَى لَا بِوَطْءِ الْمَوْطُوءَةِ. وَكُلُّ امْرَأَتَيْنِ لَا يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا نِكَاحًا فِيمَا ذَكَرْنَاهُ بِمَنْزِلَةِ الْأُخْتَيْنِ.

قَالَ (وَيُكْرَهُ أَنْ يُقَبِّلَ الرَّجُلُ فَمَ الرَّجُلِ أَوْ يَدَهُ أَوْ شَيْئًا مِنْهُ أَوْ يُعَانِقَهُ) وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ هَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا بَأْسَ بِالتَّقْبِيلِ وَالْمُعَانَقَةِ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام عَانَقَ جَعْفَرًا رضي الله عنه حِينَ قَدِمَ مِنْ الْحَبَشَةِ وَقَبَّلَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ» وَلَهُمَا مَا رُوِيَ

هَاهُنَا هُوَ التَّشْبِيهُ بِمَا قَبْلَهُ كَمَا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ كَلِمَةِ كَذَا فِي قَوْلِهِ وَكَذَا إعْتَاقُ الْبَعْضِ مِنْ إحْدَاهُمَا كَإِعْتَاقِ كُلِّهَا هُوَ التَّشْبِيهُ أَيْضًا بِمَا قَبْلَهُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَأَيْضًا الْكِتَابَةُ كَالْإِعْتَاقِ فِي هَذَا، وَالْغَرَضُ مِنْ التَّشْبِيهِ التَّشْرِيكُ فِي تَعْلِيلِ وَاحِدٍ كَمَا يُرْشِدُ إلَيْهِ قَوْلُهُ لِثُبُوتِ حُرْمَةِ الْوَطْءِ بِذَلِكَ كُلِّهِ فَتَدَبَّرْ.

(قَوْلُهُ وَبِرَهْنِ إحْدَاهُمَا وَإِجَارَتِهَا وَتَدْبِيرِهَا لَا تَحِلُّ الْأُخْرَى؛ أَلَا يُرَى أَنَّهَا لَا تَخْرُجُ بِهَا عَنْ مِلْكِهِ) أَقُولُ: كَانَ الظَّاهِرُ فِي التَّعْلِيلِ هُنَا أَنْ يَقُولَ: لِأَنَّهُ لَا تَثْبُتُ بِهَا حُرْمَةُ الْوَطْءِ. فَإِنَّ مُجَرَّدَ عَدَمِ خُرُوجِهَا عَنْ مِلْكِهِ لَا يَقْتَضِي أَنْ لَا تَحِلَّ لَهُ الْأُخْرَى؛ أَلَا يُرَى أَنَّهَا لَا تَخْرُجُ عَنْ مِلْكِهِ بِالْكِتَابَةِ أَيْضًا كَمَا تَقَرَّرَ فِي كِتَابِ الْمُكَاتَبِ، وَصَرَّحَ بِهِ الشُّرَّاحُ أَيْضًا هُنَا فِيمَا قَبْلُ، مَعَ أَنَّهُ إذَا كَاتَبَ إحْدَاهُمَا تَحِلُّ لَهُ الْأُخْرَى كَمَا مَرَّ آنِفًا، وَحَمْلُ الْمِلْكِ فِي قَوْلِهِ لَا تَخْرُجُ بِهَا عَنْ مِلْكِهِ عَنْ مِلْكِ الْوَطْءِ كَمَا فَعَلَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ تَعَسُّفٌ لَا يَخْفَى. إذْ الْمُسْتَعْمَلُ فِي اللُّغَةِ وَالْعُرْفِ حِلُّ الْوَطْءِ لَا مِلْكُ الْوَطْءِ، وَإِنَّمَا يُقَالُ مِلْكُ الْيَمِينِ أَوْ مِلْكُ النِّكَاحِ.

(قَوْلُهُ وَلَهُمَا مَا رُوِيَ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام نَهَى عَنْ الْمُكَامَعَةِ وَهِيَ الْمُعَانَقَةُ، وَعَنْ الْمُكَاعَمَةِ وَهِيَ التَّقْبِيلُ») قَالَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ: وَتَفْسِيرُ الْمُكَامَعَةِ بِالْمُعَانَقَةِ فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ قَالَ فِي دِيوَانِ الْأَدَبِ وَغَيْرِهِ: كَامَعَ امْرَأَتَهُ: ضَاجَعَهَا، وَكَاعَمَ الْمَرْأَةَ: قَبَّلَهَا. وَقَالَ فِي الْفَائِقِ: «نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْمُكَامَعَةِ وَالْمُكَاعَمَةِ» : أَيْ عَنْ مُلَاثَمَةِ الرَّجُلِ الرَّجُلِ وَمُضَاجَعَتِهِ إيَّاهُ لَا سَتْرَ بَيْنَهُمَا إلَى هُنَا لَفْظُ غَايَةِ الْبَيَانِ.

وَقَالَ الْعَيْنِيُّ بَعْدَ نَقْلِ ذَلِكَ: قُلْت فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الْمُضَاجِعَ هُوَ الْمُعَانِقُ غَالِبًا، وَلَا يُضَاجِعُ أَحَدٌ غَيْرَهُ إلَّا وَالْغَالِبُ أَنَّهُ يُعَانِقُهُ اهـ.

أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ، لِأَنَّ كَوْنَ الْمُضَاجِعِ هُوَ الْمُعَانِقُ غَالِبًا مَمْنُوعٌ، وَلَوْ سَلِمَ ذَلِكَ فَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ تَكُونَ الْمُكَامَعَةُ هِيَ

ص: 51

«أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام نَهَى عَنْ الْمُكَامَعَةِ وَهِيَ الْمُعَانَقَةُ، وَعَنْ الْمُكَاعَمَةِ وَهِيَ التَّقْبِيلُ» . وَمَا رَوَاهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا قَبْلَ التَّحْرِيمِ. قَالُوا: الْخِلَافُ فِي الْمُعَانَقَةِ فِي إزَارٍ وَاحِدٍ، أَمَّا إذَا كَانَ عَلَيْهِ قَمِيصٌ أَوْ جُبَّةٌ فَلَا بَأْسَ بِهَا بِالْإِجْمَاعِ وَهُوَ الصَّحِيحُ. قَالَ (وَلَا بَأْسَ بِالْمُصَافَحَةِ)؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُتَوَارَثُ. وَقَالَ عليه الصلاة والسلام «مَنْ صَافَحَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ وَحَرَّكَ يَدَهُ تَنَاثَرَتْ ذُنُوبُهُ» .

فَصْلٌ فِي الْبَيْعِ

قَالَ (وَلَا بَأْسَ بِبَيْعِ السِّرْقِينِ، وَيُكْرَهُ بَيْعُ الْعَذِرَةِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ بَيْعُ السِّرْقِينِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ نَجِسُ الْعَيْنِ فَشَابَهُ الْعَذِرَةَ وَجِلْدَ الْمَيْتَةِ قَبْلَ الدِّبَاغِ. وَلَنَا أَنَّهُ مُنْتَفَعٌ بِهِ؛ لِأَنَّهُ يُلْقَى فِي الْأَرَاضِيِ لِاسْتِكْثَارِ الرِّيعِ فَكَانَ مَالًا، وَالْمَالُ مَحَلٌّ لِلْبَيْعِ. بِخِلَافِ الْعَذِرَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُنْتَفَعُ بِهَا إلَّا مَخْلُوطًا. وَيَجُوزُ بَيْعُ الْمَخْلُوطِ هُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ مُحَمَّدٍ وَهُوَ الصَّحِيحُ. وَكَذَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِالْمَخْلُوطِ لَا بِغَيْرِ الْمَخْلُوطِ فِي الصَّحِيحِ، وَالْمَخْلُوطُ بِمَنْزِلَةِ زَيْتٍ خَالَطَتْهُ النَّجَاسَةُ.

الْمُعَانَقَةُ فِي الْغَالِبِ. وَإِنَّمَا الَّذِي يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يُلَازِمَ الْمُكَامَعَةَ وَالْمُعَانَقَةَ فِي الْغَالِب. وَلَا شَكَّ أَنَّ أَحَدَ الْمُتَلَازِمَيْنِ لَا يَكُونُ عَيْنَ الْآخَرِ كَالْأُبُوَّةِ وَالْبُنُوَّةِ فَكَيْفَ يَصِحُّ تَفْسِيرُ إحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى. وَلَوْ سَلِمَ صِحَّةُ التَّفْسِيرِ بِاللَّازِمِ بِنَاءً عَلَى الْمُسَامَحَةِ لَمْ يُفِدْ هَاهُنَا؛ لِأَنَّ الْمُضَاجَعَةَ لَمَّا وُجِدَتْ بِدُونِ الْمُعَانَقَةِ وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ الْغَالِبِ كَانَتْ الْمُعَانَقَةُ أَخَصَّ مِنْ الْمُضَاجَعَةِ. فَلَمْ يَصِحَّ تَفْسِيرُ الْمُكَامَعَةِ الَّتِي هِيَ الْمُضَاجَعَةُ بِالْمُعَانَقَةِ بِنَاءً عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ التَّفْسِيرِ بِالْأَخَصِّ، وَنَظَرُ صَاحِبِ الْغَايَةِ إنَّمَا هُوَ فِي تَفْسِيرِ الْمُكَامَعَةِ بِالْمُعَانَقَةِ لَا غَيْرُ.

وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: وَفَسَّرَهَا الْمُصَنِّفُ بِالْمُعَانَقَةِ مَعَ أَنَّ الْمُكَامَعَةَ هِيَ الْمُضَاجَعَةُ. فِي دِيوَانِ الْأَدَبِ وَغَيْرِهِ: كَامَعَ امْرَأَتَهُ ضَاجَعَهَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ فِي الْمُعَانَقَةِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا نُهِيَ مِنْ الْمُضَاجَعَةِ هُوَ مَا كَانَ عَلَى سَبِيلِ الْمُعَانَقَةِ لِعَدَمِ الْخِلَافِ فِي إبَاحَةِ الْمُضَاجَعَةِ لَا عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ، عَلَى أَنَّ الْمُكَامَعَةَ بِحَسَبِ اللُّغَةِ هِيَ الْمُضَاجَعَةُ الْمَخْصُوصَةُ لَا مُطْلَقُ الْمُضَاجَعَةِ. فِي الْقَامُوسِ: كَامَعَهُ: ضَاجَعَهُ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، إلَى هُنَا كَلَامُ ذَلِكَ الْبَعْضِ فِي شَرْحِهِ. وَقَالَ فِي الْحَاشِيَةِ: فِيهِ رَدٌّ عَلَى صَاحِبِ الْغَايَةِ. أَقُولُ: كُلٌّ مِنْ مُقَدِّمَاتِ كَلَامِهِ مَجْرُوحٌ. أَمَّا قَوْلُهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ فِي الْمُعَانَقَةِ تَعْلِيلًا لِتَفْسِيرِ الْمُصَنِّفِ الْمُكَامَعَةَ بِالْمُعَانَقَةِ فَظَاهِرُ الْبُطْلَانِ، لِأَنَّ كَوْنَ الْكَلَامِ فِي الْمُعَانَقَةِ كَيْفَ يُسَوِّغُ تَفْسِيرَ الْمُكَامَعَةِ بِغَيْرِ مَعْنَاهَا، وَهَلْ يَقُولُ الْعَاقِلُ بِتَغْيِيرِ مَعْنَى لَفْظِ الْحَدِيثِ لِيَكُونَ مُطَابِقًا لِمُدَّعَاهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا نُهِيَ مِنْ الْمُضَاجَعَةِ هُوَ مَا كَانَ عَلَى سَبِيلِ الْمُعَانَقَةِ فَمَمْنُوعٌ، إذْ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الثِّقَاتِ بِهَذَا التَّخْصِيصِ عِنْدَ بَيَانِ الْمُرَادِ بِالْمُكَامَعَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْحَدِيثِ. بَلْ أَطْلَقُوهَا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُ فِي الْفَائِقِ:«نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْمُكَاعَمَةِ وَالْمُكَامَعَةِ» : أَيْ عَنْ مُلَاثَمَةِ الرَّجُلِ الرَّجُلَ وَمُضَاجَعَتِهِ إيَّاهُ لَا سُتْرَةَ بَيْنَهُمَا انْتَهَى.

وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ فِي الصِّحَاحِ: وَكَامَعَهُ مِثْلَ ضَاجَعَهُ، وَالْمُكَامَعَةُ الَّتِي نُهِيَ عَنْهَا فِي الْحَدِيثِ أَنْ يُضَاجِعَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ لَا سُتْرَةَ بَيْنَهُمَا انْتَهَى.

وَقَالَ الْمُطَرِّزِيُّ فِي الْمُغْرِبِ: نَهَى عَنْ الْمُكَاعَمَةِ وَالْمُكَامَعَةِ: أَيْ عَنْ مُلَاثَمَةِ الرَّجُلِ الرَّجُلَ لَا سُتْرَةَ بَيْنَهُمَا وَمُضَاجَعَتِهِ إيَّاهُ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ لَا سُتْرَةَ بَيْنَهُمَا. هَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِهِمَا فِي الْحَدِيثِ عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ الْقَاسِمِ بْنِ سَلَامٍ وَابْنِ دُرَيْدٍ وَغَيْرِهِمَا. وَهَكَذَا حَكَاهُ الْأَزْهَرِيُّ وَالْجَوْهَرِيُّ انْتَهَى.

وَأَمَّا قَوْلُهُ لِعَدَمِ الْخِلَافِ فِي إبَاحَةِ الْمُضَاجَعَةِ لَا عَلَى ذَاكَ الْوَجْهِ فَمَمْنُوعٌ أَيْضًا، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ شَنَاعَةَ مُضَاجَعَةِ الرَّجُلِ الرَّجُلَ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ لَا سُتْرَةَ بَيْنَهُمَا لَيْسَتْ بِأَقَلِّ مِنْ شَنَاعَةِ مُجَرَّدِ الْمُعَانَقَةِ وَلَوْ فِي غَيْرِ دَاخِلِ الثَّوْبِ، فَكَيْفَ يَقُولُ بِإِبَاحَةِ الْأُولَى مَنْ لَا يَقُولُ بِإِبَاحَةِ الثَّانِيَةِ سِيَّمَا عِنْدَ إطْلَاقِ لَفْظِ الْحَدِيثِ بَلْ كَوْنُهُ حَقِيقَةً فِي نَفْسِ الْمُضَاجَعَةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ عَلَى أَنَّ الْمُكَامَعَةَ بِحَسَبِ اللُّغَةِ هِيَ الْمُضَاجَعَةُ الْمَخْصُوصَةُ لَا مُطْلَقُ الْمُضَاجَعَةِ، وَاسْتِشْهَادُهُ عَلَيْهِ بِمَا فِي الْقَامُوسِ فَلَيْسَ بِمُقَيَّدٍ أَصْلًا؛ لِأَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ هِيَ الْمُضَاجَعَةُ الْمَخْصُوصَةُ إلَّا أَنَّ مَعْنَاهَا لَيْسَ عَيْنَ مَعْنَى الْمُعَانَقَةِ وَلَا مُسَاوِيًا لَهُ فِي التَّحَقُّقِ لِانْفِكَاكِ تَحَقُّقِ كُلٍّ مِنْهُمَا عَنْ الْآخَرِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ كَمَا عَرَفْته مِنْ قَبْلُ فَكَيْفَ يَصِحُّ تَفْسِيرُ الْمُكَامَعَةِ بِالْمُعَانَقَةِ كَمَا هُوَ حَاصِلُ نَظَرِ صَاحِبِ الْغَايَةِ، فَمِنْ أَيْنَ يَحْصُلُ الرَّدُّ عَلَيْهِ بِمَا ذَكَرَهُ ذَلِكَ الْقَائِلُ، وَلَعَمْرِي إنَّ مَفَاسِدَ قِلَّةِ التَّأَمُّلِ مِمَّا يَضِيقُ عَنْ الْإِحَاطَةِ بِهِ نِطَاقُ الْبَيَانِ، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى الْمُسْتَعَانُ.

ص: 52

قَالَ (وَمَنْ عَلِمَ بِجَارِيَةٍ أَنَّهَا لِرَجُلٍ فَرَأَى آخَرَ يَبِيعُهَا وَقَالَ وَكَّلَنِي صَاحِبُهَا بِبَيْعِهَا فَإِنَّهُ يَسَعُهُ أَنَّهُ يَبْتَاعُهَا وَيَطَؤُهَا)؛ لِأَنَّهُ أُخْبِرَ بِخَبَرٍ صَحِيحٍ لَا مُنَازِعَ لَهُ، وَقَوْلُ الْوَاحِدِ فِي الْمُعَامَلَاتِ مَقْبُولٌ عَلَى أَيِّ وَصْفٍ كَانَ لِمَا مَرَّ مِنْ قَبْلُ. وَكَذَا إذَا قَالَ اشْتَرَيْتهَا مِنْهُ أَوْ وَهَبَهَا لِي أَوْ تَصَدَّقَ بِهَا عَلَيَّ لِمَا قُلْنَا. وَهَذَا إذَا كَانَ ثِقَةً.

(فَصْلٌ فِي الْبَيْعِ)

قَالَ الشُّرَّاحُ: أَخَّرَ فَصْلَ الْبَيْعِ عَنْ فَصْلِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَاللَّمْسِ وَالْوَطْءِ؛ لِأَنَّ أَثَرَ تِلْكَ الْأَفْعَالِ مُتَّصِلٌ بِبَدَنِ الْإِنْسَانِ، وَهَذَا لَا، وَمَا كَانَ أَكْثَرَ اتِّصَالًا كَانَ أَحَقَّ بِالتَّقْدِيمِ انْتَهَى. أَقُولُ: كَانَ الْمُنَاسِبُ بِسِيَاقِ كَلَامِهِمْ أَنْ يَقُولُوا: وَمَا كَانَ مُتَّصِلًا كَانَ أَحَقَّ بِالتَّقْدِيمِ. إلَّا أَنَّهُمْ قَالُوا: وَمَا كَانَ أَكْثَرَ اتِّصَالًا كَانَ أَحَقَّ بِالتَّقْدِيمِ إفَادَةٌ فِي ضِمْنِ بَيَانِ وَجْهِ تَأْخِيرِ هَذَا الْفَصْلِ وَجْهُ تَأْخِيرِ الْفُصُولِ السَّابِقَةِ بَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ أَيْضًا؛ لِأَنَّ مَا هُوَ الْمُتَقَدِّمُ مِنْهَا أَكْثَرُ اتِّصَالًا بِبَدَنِ الْإِنْسَانِ مِمَّا هُوَ الْمُتَأَخِّرُ كَمَا يَظْهَرُ بِالتَّأَمُّلِ الصَّادِقِ

(قَوْلُهُ وَهَذَا إذَا كَانَ ثِقَةً) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ وَهَذَا إذَا كَانَ ثِقَةً يُنَاقِضُ قَوْلَهُ عَلَى أَيِّ وَصْفٍ كَانَ. أُجِيبَ بِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ ثِقَةٌ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يُعْتَمَدُ عَلَى كَلَامِهِ، وَإِنْ كَانَ فَاسِقًا لِجَوَازِ أَنْ لَا يَكْذِبَ الْفَاسِقُ لِمُرُوءَتِهِ وَلِوَجَاهَتِهِ انْتَهَى.

وَاقْتَفَى أَثَرَهُ الْعَيْنِيُّ.

ص: 53

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وَقَدْ سَبَقَهُمَا إلَى مَأْخَذِ هَذَا السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ تَاجُ الشَّرِيعَةِ وَصَاحِبُ الْكِفَايَةِ حَيْثُ قَالَا: وَتَأْوِيلُ قَوْلِهِ وَهَذَا إذَا كَانَ ثِقَةً بَعْدَ قَوْلِهِ عَلَى أَيِّ وَصْفٍ كَانَ: يَعْنِي أَنَّهُ مِمَّنْ يُعْتَمَدُ عَلَى كَلَامِهِ وَإِنْ كَانَ فَاسِقًا؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُون فَاسِقٌ صَادِقَ الْقَوْلِ لَا يَكْذِبُ لِمُرُوءَتِهِ انْتَهَى.

أَقُولُ: لَا السُّؤَالُ شَيْءٌ وَلَا الْجَوَابُ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ الْمُصَنِّفَ لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى قَوْلِهِ وَهَذَا إذَا كَانَ ثِقَةً، بَلْ قَالَ بَعْدَهُ وَكَذَا إذَا كَانَ غَيْرَ ثِقَةٍ. وَأَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ صَادِقٌ فَلَا يُنَاقِضُ مَا ذَكَرَهُ هَاهُنَا قَوْلَهُ فِيمَا قَبْلُ عَلَى أَيِّ وَصْفٍ كَانَ. نَعَمْ قَدْ نَبَّهَ بِقَوْلِهِ وَإِنْ كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ كَاذِبٌ لَمْ يَسَعْهُ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ عَلَى عَدَمِ دُخُولِ بَعْضِ جُزْئِيَّاتِ غَيْرِ الثِّقَةِ فِي الْحُكْمِ السَّابِقِ، وَلَا ضَيْرَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَفَادَ مِنْ قَوْلِهِ عَلَى أَيِّ وَصْفٍ كَانَ عُمُومُ الْأَوْصَافِ لَا عُمُومُ الْجُزْئِيَّاتِ، وَكَلَامُهُ هَاهُنَا تَفْصِيلٌ لِمَا أَجْمَلَهُ فِيمَا قَبْلُ.

وَلَا بُعْدَ فِي أَنْ يُفِيدَ التَّفْصِيلُ مَا لَا يُفِيدُهُ الْإِجْمَالُ. وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَعْنَى قَوْلِ الْمُصَنِّفِ ثِقَةً فِي قَوْلِهِ وَهَذَا إذَا كَانَ ثِقَةً أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يُعْتَمَدُ عَلَى كَلَامِهِ كَمَا تَوَهَّمَهُ هَؤُلَاءِ الشُّرَّاحُ دُونَ مَعْنَى الْعَدَالَةِ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ لَمَا تَمَّ مَعْنَى قَوْلِهِ وَكَذَا إذَا كَانَ غَيْرَ ثِقَةٍ وَأَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ صَادِقٌ، إذْ يَصِيرُ حِينَئِذٍ مَعْنَى قَوْلِهِ غَيْرَ ثِقَةٍ مَنْ لَا يُعْتَمَدُ عَلَى كَلَامِهِ، وَفِي شَأْنِ مَنْ لَا يُعْتَمَدُ عَلَى كَلَامِهِ كَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ أَكْبَرُ رَأْيِ السَّامِعِ أَنَّهُ صَادِقٌ، وَلَمَا تَمَّ تَعْلِيلُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ؛ لِأَنَّ عَدَالَةَ الْمُخْبِرِ غَيْرُ لَازِمَةٍ؛ لِأَنَّ عَدَمَ لُزُومِ عَدَالَةِ الْمُخْبِرِ لَا يَدُلُّ عَلَى لُزُومِ الِاعْتِمَادِ عَلَى كَلَامِهِ، إذَا الْمَفْرُوضُ مِنْ الْجَوَابِ الْمَذْكُورِ جَوَازُ كَوْنِ الْفَاسِقِ أَيْضًا مِمَّنْ يُعْتَمَدُ عَلَى كَلَامِهِ فَكَانَ مَنْ يُعْتَمَدُ عَلَى كَلَامِهِ أَعَمَّ مِنْ الْعَدْلِ وَلَا شَكَّ أَنَّ عَدَمَ لُزُومِ الْأَخَصِّ لِشَيْءٍ لَا يَقْتَضِي عَدَمَ لُزُومِ الْأَعَمِّ لَهُ. فَالصَّوَابُ أَنَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ إذَا كَانَ ثِقَةً إذَا كَانَ عَدْلًا، وَبِقَوْلِهِ وَكَذَا إذَا كَانَ غَيْرَ ثِقَةٍ.

وَكَذَا إذَا كَانَ غَيْرَ عَدْلٍ. وَلَا تَنَاقُضَ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ قَوْلِهِ عَلَى أَيِّ وَصْفٍ كَانَ أَصْلًا كَمَا تَحَقَّقْته آنِفًا، وَمِمَّا يُفْصِحُ عَنْ كَوْنِ الْمُرَادِ بِالثِّقَةِ وَبِغَيْرِ الثِّقَةِ هَاهُنَا مَا ذَكَرْنَاهُ كَلَامُ صَاحِبِ الْمُحِيطِ حَيْثُ قَالَ: هَذَا إذَا كَانَ الْمُخْبِرُ عَدْلًا، وَإِنْ كَانَ الْمُخْبِرُ غَيْرَ ثِقَةٍ أَوْ كَانَ لَا يُدْرَى أَنَّهُ ثِقَةٌ أَوْ غَيْرُ ثِقَةٍ يُرِيدُ بِهِ أَنَّ الْمُخْبِرَ إذَا كَانَ فَاسِقًا أَوْ مَسْتُورًا نُظِرَ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ صَادِقٌ إلَى آخِرِ كَلَامِهِ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ عَدْلًا مَوْضِعَ ثِقَةٍ وَفَسَّرَ غَيْرَ ثِقَةٍ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَإِنْ كَانَ الْمُخْبِرُ غَيْرَ ثِقَةٍ بِالْفَاسِقِ، وَمَنْ لَا يُدْرَى أَنَّهُ ثِقَةٌ أَوْ غَيْرُ ثِقَةٍ بِالْمَسْتُورِ حَيْثُ قَالَ: يُرِيدُ بِهِ أَنَّ الْمُخْبِرَ إذَا كَانَ فَاسِقًا أَوْ مَسْتُورًا.

وَمَنْ تَتَبَّعَ كَلِمَاتِ ثِقَاتِ الْمَشَايِخِ فِي بَابِ مَسَائِلِ قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ فِي كُتُبِهِمْ الْمُعْتَبَرَةِ لَا يُشْتَبَهُ عَلَيْهِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالثِّقَةِ هُوَ الْعَدْلُ، وَبِغَيْرِ الثِّقَةِ غَيْرُ الْعَدْلِ، فَإِنَّهُمْ كَثِيرًا مَا يَذْكُرُونَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ لَفْظَيْ الْعَدْلِ وَالثِّقَةِ مَوْضِعَ الْآخَرِ، وَكَذَا الْحَالُ فِي غَيْرِ الثِّقَةِ وَغَيْرِ الْعَدْلِ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي حَلِّ هَذَا الْمَقَامِ: قَوْلُهُ وَقَوْلُ الْوَاحِدِ فِي الْمُعَامَلَاتِ مَقْبُولٌ عَلَى أَيِّ وَصْفٍ كَانَ: يَعْنِي عَدْلًا كَانَ أَوْ غَيْرَ عَدْلٍ، صَبِيًّا كَانَ أَوْ بَالِغًا، حُرًّا كَانَ أَوْ عَبْدًا، مُسْلِمًا كَانَ أَوْ كَافِرًا، رَجُلًا كَانَ أَوْ امْرَأَةً، لَكِنْ بِشَرْطِ كَوْنِهِ ثِقَةً يُعْتَمَدُ عَلَى كَلَامِهِ، وَإِنْ كَانَ فَاسِقًا لِجَوَازِ أَنْ يُعْتَمَدَ عَلَى قَوْلِهِ إذَا كَانَ وَجِيهًا فِي النَّاسِ ذَا مُرُوءَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمِيلُ إلَى حُطَامِ الدُّنْيَا لِوَجَاهَتِهِ وَلَا يَكْذِبُ لِمُرُوءَتِهِ، فَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ عَدَمِ اشْتِرَاطِ الْعَدَالَةِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَلَى أَيِّ وَصْفٍ كَانَ وَبَيْنَ اشْتِرَاطِ كَوْنِهِ ثِقَةً كَمَا صَرَّحَ بِهِ بِقَوْلِهِ وَهَذَا إذَا كَانَ ثِقَةً؛ لِأَنَّ الثَّانِيَ أَعَمُّ مِنْ الْأَوَّلِ.

وَلَوْ سَلِمَ فَلَا مُنَافَاةَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْإِشَارَةَ بِلَفْظِ هَذَا إلَى كَوْنِهِ فِي سِعَةٍ مِنْ ابْتِيَاعِهَا بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ وَكَّلَنِي صَاحِبُهَا بِبَيْعِهَا، لَا إلَى قَبُولِ قَوْلِ الْوَاحِدِ فِي الْمُعَامَلَاتِ. فَإِنَّ قَوْلَهُ يُقْبَلُ أَيْضًا إذَا لَمْ يَكُنْ ثِقَةً كَمَا صَرَّحَ بِهِ بِقَوْلِهِ، وَكَذَا إذَا كَانَ غَيْرَ ثِقَةٍ، إلَّا أَنَّ قَبُولَهُ يَكُونُ مَعَ ضَمِيمَةِ التَّحَرِّي الْمُوَافِقِ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ، أَقُولُ: فِيهِ فَسَادٌ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ أَنَّ قَوْلَهُ لَكِنْ بِشَرْطِ كَوْنِهِ ثِقَةً يُعْتَمَدُ عَلَى كَلَامِهِ يُنَافِي قَوْلَ الْمُصَنِّفِ رحمه الله وَكَذَا إذَا كَانَ غَيْرَ ثِقَةٍ وَأَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ صَادِقٌ فَكَيْفَ يَصِحُّ شَرْحُ كَلَامِهِ بِمَا يُنَافِيهِ صَرِيحُ عِبَارَتِهِ. وَالثَّانِي أَنَّ قَوْلَهُ وَبَيْنَ اشْتِرَاطِ كَوْنِهِ ثِقَةً كَمَا صَرَّحَ بِهِ بِقَوْلِهِ وَهَذَا إذَا كَانَ ثِقَةً لَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ وَهَذَا إذَا كَانَ ثِقَةً إنَّمَا يَكُونُ تَصْرِيحًا بِاشْتِرَاطِ كَوْنِهِ ثِقَةً: أَنْ لَوْ اقْتَصَرَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَقُلْ وَكَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ غَيْرَ ثِقَةٍ، وَلَمَّا قَالَ وَكَذَا إذَا كَانَ غَيْرَ ثِقَةٍ كَانَ كَلَامُهُ صَرِيحًا فِي عَدَمِ اشْتِرَاطِ كَوْنِهِ ثِقَةً كَمَا لَا يَخْفَى.

وَالثَّالِثُ أَنَّ قَوْلَهُ وَلَوْ سَلِمَ فَلَا مُنَافَاةَ أَيْضًا كَلَامٌ فَاسِدُ الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ لَوْ سَلِمَ

ص: 54

وَكَذَا إذَا كَانَ غَيْرَ ثِقَةٍ، وَأَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ صَادِقٌ؛ لِأَنَّ عَدَالَةَ الْمُخْبِرِ فِي الْمُعَامَلَاتِ غَيْرُ لَازِمَةٍ لِلْحَاجَةِ عَلَى مَا مَرَّ،

الْمُنَافَاةُ بَيْنَ عَدَمِ اشْتِرَاطِ الْعَدَالَةِ وَبَيْنَ اشْتِرَاطِ كَوْنِهِ ثِقَةً فَلَا مُنَافَاةَ أَيْضًا، وَلَا شَكَّ أَنَّ تَسْلِيمَ الْمُنَافَاةِ يُنَاقِضُ الْقَوْلَ بِعَدَمِ الْمُنَافَاةِ. فَكَانَ مَضْمُونُ كَلَامِهِ الْمَزْبُورِ جَمْعًا بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ وَلَوْ سَلِمَ نَاظِرًا إلَى قَوْلِهِ؛ لِأَنَّ الثَّانِيَ أَعَمُّ مِنْ الْأَوَّلِ لَا إلَى قَوْلِهِ فَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ عَدَمِ اشْتِرَاطِ الْعَدَالَةِ إلَخْ؛ فَالْمَعْنَى وَلَوْ سَلِمَ عَدَمُ عُمُومِ الثَّانِي مِنْ الْأَوَّلِ فَلَا مُنَافَاةَ أَيْضًا. وَالرَّابِعُ أَنَّ قَوْلَهُ؛ لِأَنَّ الْإِشَارَةَ بِلَفْظِ هَذَا إلَى كَوْنِهِ فِي سَعَةٍ مِنْ ابْتِيَاعِهَا بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ وَكَّلَنِي صَاحِبُهَا لَا إلَى قَبُولِ قَوْلِ الْوَاحِدِ فِي الْمُعَامَلَاتِ ظَاهِرَ الْبُطْلَانِ؛ لِأَنَّ الْمُصَنِّفَ وَغَيْرَهُ عَلَّلُوا كَوْنَهُ فِي سَعَةٍ مِنْ أَنْ يَبْتَاعَهَا وَيَطَأَهَا بِكَوْنِ قَوْلِ الْوَاحِدِ فِي الْمُعَامَلَاتِ مَقْبُولًا عَلَى أَيِّ وَصْفٍ كَانَ، فَلَوْ كَانَ الْأَوَّلُ مَشْرُوطًا بِكَوْنِهِ ثِقَةً دُونَ الثَّانِي لَمَا صَحَّ تَعْلِيلُ الْأَوَّلِ بِالثَّانِي ضَرُورَةَ عَدَمِ اسْتِلْزَامِ تَحَقُّقِ الْعَامِّ تَحَقُّقَ الْخَاصِّ.

وَالْخَامِسُ أَنَّ قَوْلَهُ: فَإِنَّ قَوْلَهُ يُقْبَلُ أَيْضًا إذَا لَمْ يَكُنْ ثِقَةً كَمَا صَرَّحَ بِهِ بِقَوْلِهِ وَكَذَا إذَا كَانَ غَيْرَ ثِقَةٍ يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ مُدَّعَاهُ مِنْ كَوْنِ الْإِشَارَةِ بِلَفْظِ هَذَا إلَى كَوْنِهِ فِي سَعَةٍ مِنْ ابْتِيَاعِهَا بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ وَكَّلَنِي صَاحِبُهَا لَا إلَى قَبُولِ قَوْلِ الْوَاحِدِ فِي الْمُعَامَلَاتِ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ وَكَذَا إذَا كَانَ غَيْرَ ثِقَةٍ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ وَهَذَا إذَا كَانَ ثِقَةً، وَلَا رَيْبَ أَنَّ مَحَلَّ الْحُكْمِ فِي الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ وَاحِدٌ وَهُوَ مَا أُشِيرَ إلَيْهِ بِلَفْظِ هَذَا فِي الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، فَإِذَا كَانَ صَرِيحُ مَعْنَى قَوْلِهِ، وَكَذَا إذَا كَانَ غَيْرَ ثِقَةٍ، وَكَذَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْوَاحِدِ إذَا كَانَ غَيْرَ ثِقَةٍ كَمَا اعْتَرَفَ بِهِ فَلَا جَرَمَ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ وَهَذَا إذَا كَانَ ثِقَةً، وَقَبُولُ قَوْلِ الْوَاحِدِ إذَا كَانَ ثِقَةً عَلَى أَنْ يَكُونَ لَفْظُ هَذَا إشَارَةً إلَى قَبُولِ قَوْلِ الْوَاحِدِ وَهُوَ خِلَافُ مَا ادَّعَاهُ.

وَالسَّادِسُ أَنَّ اعْتِرَافَهُ هُنَا بِكَوْنِ قَوْلِ الْوَاحِدِ مَقْبُولًا فِيمَا إذَا كَانَ غَيْرَ ثِقَةٍ أَيْضًا، وَيَكُونُ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ وَكَذَا إذَا كَانَ غَيْرَ ثِقَةٍ صَرِيحًا فِي ذَلِكَ يُنَاقِضُ قَوْلَهُ فِي صَدْرِ كَلَامِهِ، وَقَوْلُ الْوَاحِدِ مَقْبُولٌ عَلَى أَيِّ وَصْفٍ كَانَ، وَلَكِنْ بِشَرْطِ كَوْنِهِ ثِقَةً يُعْتَمَدُ عَلَى كَلَامِهِ. وَبِالْجُمْلَةِ مَا ذَكَرَهُ ذَلِكَ الْبَعْضُ فِي هَذَا الْمَقَامِ بِرُمَّتِهِ خَارِجٌ عَنْ نَهْجِ الصَّوَابِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى ذَوِي الْأَلْبَابِ (قَوْلُهُ وَكَذَا إذَا كَانَ غَيْرَ ثِقَةٍ وَأَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ صَادِقٌ؛ لِأَنَّ عَدَالَةَ الْمُخْبِرِ فِي الْمُعَامَلَاتِ غَيْرُ لَازِمَةٍ لِلْحَاجَةِ عَلَى مَا مَرَّ) قُلْت: تَعْلِيلُهُ بِقَوْلِهِ؛ لِأَنَّ عَدَالَةَ الْمُخْبِرِ فِي الْمُعَامَلَاتِ غَيْرُ لَازِمَةٍ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى كَوْنِ مُرَادِهِ بِغَيْرِ الثِّقَةِ غَيْرَ الْعَدْلِ وَبِالثِّقَةِ الْعَدْلَ كَمَا نَبَّهْنَا عَلَيْهِ مِنْ قَبْلُ، إذْ لَوْ كَانَ مُرَادُهُ بِالثِّقَةِ مَنْ يُعْتَمَدُ عَلَى كَلَامِهِ وَإِنْ كَانَ فَاسِقًا، وَبِغَيْرِ الثِّقَةِ مَنْ لَا يُعْتَمَدُ عَلَى كَلَامِهِ كَمَا تَوَهَّمَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ الشُّرَّاحِ عَلَى مَا مَرَّ لَمَا صَحَّ تَعْلِيلُ قَبُولِ قَوْلِ غَيْرِ الثِّقَةِ إذَا كَانَ أَكْبَرُ الرَّأْيِ أَنَّهُ صَادِقٌ بِقَوْلِهِ: لِأَنَّ عَدَالَةَ الْمُخْبِرِ فِي الْمُعَامَلَاتِ غَيْرُ لَازِمَةٍ، فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ لُزُومِ عَدَالَتِهِ عَدَمُ لُزُومِ كَوْنِهِ مِمَّنْ يُعْتَمَدُ عَلَى كَلَامِهِ فَلَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ كَمَا لَا يَخْفَى. بَقِيَ فِي هَذَا الْمَقَامِ كَلَامٌ، وَهُوَ أَنَّ الَّذِي ظَهَرَ مِمَّا ذَكَرَهُ هَاهُنَا هُوَ أَنَّ عَدَالَةَ الْمُخْبِرِ فِي الْمُعَامَلَاتِ غَيْرُ لَازِمَةٍ، وَلَكِنْ لَا بُدَّ فِي قَبُولِ قَوْلِهِ إذَا كَانَ غَيْرَ عَدْلٍ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَكْبَرُ رَأْيِ السَّامِعِ أَنَّهُ صَادِقٌ، وَقَدْ مَرَّ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الْكَرَاهِيَةِ أَنَّهُمْ فَرَّقُوا بَيْنَ الْمُعَامَلَاتِ وَالدِّيَانَاتِ بِأَنَّهُ يُقْبَلُ فِي الْمُعَامَلَاتِ قَوْلُ الْفَاسِقِ مُطْلَقًا وَلَا يُقْبَلُ فِي الدِّيَانَاتِ قَوْلُ الْفَاسِقِ وَلَا الْمَسْتُورِ إلَّا إذَا كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِ السَّامِعِ أَنَّهُ صَادِقٌ، فَكَانَ مَا ذَكَرَهُ هَاهُنَا مُخَالِفًا لِمَا مَرَّ هُنَاكَ؛ لِأَنَّ مَا اُعْتُبِرَ هُنَاكَ فِي الدِّيَانَاتِ دُونَ الْمُعَامَلَاتِ قَدْ اُعْتُبِرَ هَاهُنَا فِي الْمُعَامَلَاتِ أَيْضًا، وَقَدْ تَنَبَّهْ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ لِوُرُودِ هَذَا الْإِشْكَالِ فَذَكَرَ إجْمَالَ مَا ذَكَرْنَاهُ.

وَأَجَابَ عَنْهُ حَيْثُ قَالَ: يَرُدُّ عَلَى الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ إذَا كَانَ قَبُولُ خَبَرِهِ مُتَوَقِّفًا عَلَى حُصُولِ أَكْبَرِ الرَّأْيِ لَا يَبْقَى فَرْقٌ بَيْنَ الْمُعَامَلَاتِ وَالدِّيَانَاتِ، فَإِنَّ خَبَرَ الْفَاسِقِ يُقْبَلُ فِي الدِّيَانَاتِ أَيْضًا بِأَكْبَرِ الرَّأْيِ عَلَى مَا مَرَّ. وَجَوَابُهُ أَنَّ خَبَرَ الْفَاسِقِ إنَّمَا يُقْبَلُ فِي الدِّيَانَاتِ بِأَكْبَرِ الرَّأْيِ إذَا حَصَلَ بَعْدَ التَّحَرِّي، بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ حَيْثُ لَا يُشْتَرَطُ التَّحَرِّي فَتَأَمَّلْ انْتَهَى.

أَقُولُ: جَوَابُهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ فَإِنَّ أَكْبَرَ الرَّأْيِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَحَقَّقَ بِدُونِ التَّحَرِّي، إذْ التَّحَرِّي طَلَبُ مَا هُوَ أَحْرَى الْأَمْرَيْنِ فِي غَالِبِ الظَّنِّ كَمَا صُرِّحَ بِهِ فِي عَامَّةِ كُتُبِ اللُّغَةِ، فَمَا لَمْ يُطْلَبْ ذَلِكَ، وَلَمْ يُتَوَجَّهْ إلَيْهِ كَيْفَ يُتَصَوَّرُ حُصُولُ أَكْبَرِ الرَّأْيِ فَلَا مَعْنًى لِعَدَمِ اشْتِرَاطِ التَّحَرِّي فِيمَا نَحْنُ فِيهِ عِنْدَ اشْتِرَاطِ أَكْبَرِ الرَّأْيِ فِيهِ، وَإِنَّمَا اعْتِبَارُ أَكْبَرِ الرَّأْيِ فِيهِ اعْتِبَارُ التَّحَرِّي بِعَيْنِهِ، وَعَنْ هَذَا وَقَعَ التَّعْبِيرُ فِي بَيَانِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِعَيْنِهَا فِي الْمُحِيطِ الْبُرْهَانِيِّ بِلَفْظِ التَّحَرِّي بَدَلَ أَكْبَرِ الرَّأْيِ حَيْثُ قَالَ فِيهِ: وَإِنْ كَانَ الَّذِي فِي يَدَيْهِ الْجَارِيَةُ فَاسِقًا لَا تَثْبُتُ إبَاحَةُ الْمُعَامَلَةِ مَعَهُ بِنَفْسِ الْخَبَرِ بَلْ يُتَحَرَّى فِي ذَلِكَ، فَإِنْ وَقَعَ تَحَرِّيهِ عَلَى أَنَّهُ صَادِقٌ حَلَّ لَهُ الشِّرَاءُ مِنْهُ، وَإِنْ وَقَعَ تَحَرِّيهِ عَلَى أَنَّهُ كَاذِبٌ

ص: 55

وَإِنْ كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ كَاذِبٌ لَمْ يَسَعْ لَهُ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ أَكْبَرَ الرَّأْيِ يُقَامُ مَقَامَ الْيَقِينِ، وَكَذَا إذَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهَا لِفُلَانٍ، وَلَكِنْ أَخْبَرَهُ صَاحِبُ الْيَدِ أَنَّهَا لِفُلَانٍ، وَأَنَّهُ وَكَّلَهُ بِبَيْعِهَا أَوْ اشْتَرَاهَا مِنْهُ، وَالْمُخْبِرُ ثِقَةٌ قُبِلَ قَوْلُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثِقَةً يُعْتَبَرُ أَكْبَرُ رَأْيِهِ؛ لِأَنَّ إخْبَارَهُ حُجَّةٌ فِي حَقِّهِ، وَإِنْ لَمْ يُخْبِرْهُ صَاحِبُ الْيَدِ بِشَيْءٍ.

فَإِنْ كَانَ عَرَّفَهَا لِلْأَوَّلِ لَمْ يَشْتَرِهَا حَتَّى يَعْلَمَ انْتِقَالَهَا إلَى مِلْكِ الثَّانِي؛ لِأَنَّ يَدَ الْأَوَّلِ دَلِيلُ مِلْكِهِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَعْرِفُ ذَلِكَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَهَا وَإِنْ كَانَ ذُو الْيَدِ فَاسِقًا؛ لِأَنَّ يَدَ الْفَاسِقِ دَلِيلُ الْمِلْكِ فِي حَقِّ الْفَاسِقِ وَالْعَدْلِ وَلَمْ يُعَارِضْهُ مُعَارِضٌ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِأَكْبَرِ الرَّأْيِ عِنْدَ وُجُودِ الدَّلِيلِ الظَّاهِرِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مِثْلُهُ لَا يَمْلِكُ مِثْلَ ذَلِكَ، فَحِينَئِذٍ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَتَنَزَّهَ، وَمَعَ ذَلِكَ لَوْ اشْتَرَاهَا يُرْجَى أَنْ يَكُونَ فِي سَعَةٍ مِنْ ذَلِكَ لِاعْتِمَادِهِ الدَّلِيلَ الشَّرْعِيَّ.

وَإِنْ كَانَ الَّذِي أَتَاهُ بِهَا عَبْدًا أَوْ أَمَةً لَمْ يَقْبَلْهَا وَلَمْ يَشْتَرِهَا حَتَّى يَسْأَلَ؛ لِأَنَّ الْمَمْلُوكَ لَا مِلْكَ لَهُ فَيَعْلَمُ أَنَّ الْمِلْكَ فِيهَا لِغَيْرِهِ، فَإِنْ أَخْبَرَهُ أَنَّ مَوْلَاهُ

لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَهَا مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ رَأْيٌ يَبْقَى مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ كَمَا فِي الدِّيَانَاتِ انْتَهَى.

ثُمَّ أَقُولُ: الْإِشْكَالُ الْمَذْكُورُ لَا يَخْتَصُّ بِهَذَا الْكِتَابِ بَلْ يَتَّجِهُ إلَى غَيْرِهِ أَيْضًا. وَعَنْ هَذَا قَالَ الْمُحَقِّقُ التَّفْتَازَانِيُّ فِي التَّلْوِيحِ: ذَكَرَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ فِي مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ أَنَّ إخْبَارَ غَيْرِ الْعَدْلِ يُقْبَلُ فِي الْمُعَامَلَاتِ مِنْ غَيْرِ انْضِمَامِ التَّحَرِّي وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ التَّحَرِّي وَمُحَمَّدٌ رحمه الله ذَكَرَ الْقَيْدَ فِي كِتَابِ الِاسْتِحْسَانِ وَلَمْ يَذْكُرْهُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ. وَقَالَ فِي التَّوْجِيهِ: فَقِيلَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَذْكُورُ فِي كِتَابِ الِاسْتِحْسَانِ تَفْسِيرًا لِمَا ذَكَرَهُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فَيُشْتَرَطُ التَّحَرِّي، وَيَجُوزُ أَنْ يُشْتَرَطَ اسْتِحْسَانًا وَلَا يُشْتَرَطُ رُخْصَةً، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ انْتَهَى.

وَقَدْ ذَكَرْت فِيمَا مَرَّ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الْكَرَاهِيَةِ بَعْدَ نَقْلِ هَذِهِ التَّوْجِيهَاتِ عَنْ التَّلْوِيحِ أَنَّ الْمُخْتَارَ عِنْدِي مِنْ بَيْنِهَا هُوَ التَّوْجِيهُ الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْحَاسِمُ لِمَادَّةِ الْإِشْكَالِ الْفَارِقِ بَيْنَ الْمُعَامَلَاتِ وَالدِّيَانَاتِ، إذًا لَا رُخْصَةَ فِي الدِّيَانَاتِ بِدُونِ التَّحَرِّي، وَالْآنَ أَيْضًا أَقُولُ كَذَلِكَ، فَيَحْصُلُ بِهِ التَّوْفِيقُ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ فِي الْمَقَامَيْنِ فِي هَذَا الْكِتَابِ وَغَيْرِهِ. (قَوْلُهُ لِأَنَّ أَكْبَرَ الرَّأْيِ يُقَامُ مَقَامَ الْيَقِينِ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: يَعْنِي فِيمَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا كَالْفُرُوجِ وَالدِّمَاءِ؛ أَلَا يُرَى أَنَّ مَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَأَدْخَلَهَا عَلَيْهِ إنْسَانٌ وَأَخْبَرَهُ أَنَّهَا امْرَأَتُهُ وَسِعَهُ أَنْ يَطَأَهَا إذَا كَانَ ثِقَةً عِنْدَهُ أَوْ كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ صَادِقٌ، وَكَذَا إذَا دَخَلَ رَجُلٌ عَلَى غَيْرِهِ لَيْلًا شَاهِرًا سَيْفَهُ فَلِصَاحِبِ الْمَنْزِلِ أَنْ يَقْتُلَهُ إذَا كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ لِصٌّ قَصَدَ قَتْلَهُ وَأَخْذَ مَالِهِ، وَإِنْ كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ هَارِبٌ مِنْ لِصٍّ لَمْ يُعَجِّلْ بِقَتْلِهِ انْتَهَى.

وَرَدَّ عَلَيْهِ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ حَيْثُ قَالَ: قَوْلُهُ: لِأَنَّ أَكْبَرَ الرَّأْيِ يُقَامُ مَقَامَ الْيَقِينِ: أَيْ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَحْكَامِ حَتَّى يَجِبَ بِهِ شَيْءٌ كَالتَّوَجُّهِ إلَى جِهَةِ التَّحَرِّي، وَيَحْرُمَ بِهِ شَيْءٌ كَالصَّلَاةِ إذَا تَوَضَّأَ بِمَاءٍ أَخْبَرَ بِنَجَاسَتِهِ غَيْرُ ثِقَةٍ، وَأَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ صَادِقٌ فَيُجْعَلُ أَكْبَرُ الرَّأْيِ دَلِيلًا شَرْعِيًّا أَيْضًا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ بَلْ فِيمَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ كَالْفُرُوجِ وَالدِّمَاءِ. وَقَالَ فِي الْحَاشِيَةِ: مَنْ قَالَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ يُقَامُ مَقَامَ الْيَقِينِ: يَعْنِي فِيمَا هُوَ أَعْظَمُ كَالْفُرُوجِ وَالدِّمَاءِ فَقَدْ سَهَا انْتَهَى. أَقُولُ: نِسْبَةُ السَّهْوِ إلَيْهِ فِي تَفْسِيرِهِ الْمَذْكُورِ سَهْوٌ عَظِيمٌ، فَإِنَّهُ سَلَكَ فِي تَفْسِيرِهِ الْمَذْكُورِ مَسْلَكَ الدَّلَالَةِ وَإِثْبَاتِ

ص: 56

أَذِنَ لَهُ وَهُوَ ثِقَةٌ قُبِلَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثِقَةً يُعْتَبَرُ أَكْبَرُ الرَّأْيِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ رَأْيٌ لَمْ يَشْتَرِهَا لِقِيَامِ الْحَاجِرِ فَلَا بُدَّ مِنْ دَلِيلٍ.

قَالَ (وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً أَخْبَرَهَا ثِقَةٌ أَنَّ زَوْجَهَا الْغَائِبَ مَاتَ عَنْهَا، أَوْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا أَوْ كَانَ غَيْرَ ثِقَةٍ وَأَتَاهَا بِكِتَابٍ مِنْ زَوْجِهَا بِالطَّلَاقِ، وَلَا تَدْرِي أَنَّهُ كِتَابُهُ أَمْ لَا. إلَّا أَنَّ أَكْبَرَ رَأْيِهَا أَنَّهُ حَقٌّ) يَعْنِي بَعْدَ التَّحَرِّي (فَلَا بَأْسَ بِأَنْ تَعْتَدَّ ثُمَّ تَتَزَوَّجَ)؛ لِأَنَّ الْقَاطِعَ طَارِئٌ وَلَا مُنَازِعَ، وَكَذَا لَوْ قَالَتْ لِرَجُلٍ طَلَّقَنِي زَوْجِي وَانْقَضَتْ عِدَّتِي فَلَا بَأْسَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا. وَكَذَا إذَا قَالَتْ الْمُطَلَّقَةُ الثَّلَاثَ انْقَضَتْ عِدَّتِي وَتَزَوَّجْت بِزَوْجٍ آخَرَ، وَدَخَلَ بِي ثُمَّ طَلَّقَنِي وَانْقَضَتْ عِدَّتِي فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَتَزَوَّجَهَا الزَّوْجُ الْأَوَّلُ، وَكَذَا لَوْ قَالَتْ جَارِيَةٌ كُنْت أَمَةَ فُلَانٍ فَأَعْتَقَنِي؛ لِأَنَّ الْقَاطِعَ طَارِئٌ. وَلَوْ أَخْبَرَهَا مُخْبِرٌ أَنَّ أَصْلَ النِّكَاحِ كَانَ فَاسِدًا أَوْ كَانَ الزَّوْجُ حِينَ تَزَوَّجَهَا مُرْتَدًّا أَوْ أَخَاهَا مِنْ الرَّضَاعَةِ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ حَتَّى يَشْهَدَ بِذَلِكَ رَجُلَانِ أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ.

وَكَذَا إذَا أَخْبَرَهُ مُخْبِرٌ أَنَّك تَزَوَّجْتهَا وَهِيَ مُرْتَدَّةٌ أَوْ أُخْتُك مِنْ الرَّضَاعَةِ لَمْ يَتَزَوَّجْ بِأُخْتِهَا أَوْ أَرْبَعٍ سِوَاهَا حَتَّى يَشْهَدَ بِذَلِكَ عَدْلَانِ؛ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ بِفَسَادٍ مُقَارَنٍ، وَالْإِقْدَامُ عَلَى الْعَقْدِ يَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهِ وَإِنْكَارِ فَسَادِهِ فَثَبَتَ الْمُنَازَعُ بِالظَّاهِرِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ الْمَنْكُوحَةُ صَغِيرَةً فَأَخْبَرَ الزَّوْجُ أَنَّهَا ارْتَضَعَتْ مِنْ أُمِّهِ أَوْ أُخْتِهِ حَيْثُ يُقْبَلُ قَوْلُ الْوَاحِدِ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْقَاطِعَ طَارِئٌ، وَالْإِقْدَامُ الْأَوَّلُ لَا يَدُلُّ عَلَى انْعِدَامِهِ فَلَمْ يَثْبُتْ الْمُنَازِعُ فَافْتَرَقَا، وَعَلَى هَذَا الْحَرْفِ يَدُورُ الْفَرْقُ. وَلَوْ كَانَتْ جَارِيَةً صَغِيرَةً لَا تُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهَا فِي يَدِ رَجُلٍ يَدَّعِي أَنَّهَا لَهُ فَلَمَّا كَبُرَتْ لَقِيَهَا رَجُلٌ فِي بَلَدٍ آخَرَ فَقَالَتْ أَنَا حُرَّةُ الْأَصْلِ لَمْ يَسَعْهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا لِتَحَقُّقِ الْمُنَازِعِ وَهُوَ ذُو الْيَدِ بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ.

قَالَ (وَإِذَا بَاعَ الْمُسْلِمُ خَمْرًا وَأَخَذَ ثَمَنَهَا وَعَلَيْهِ دَيْنٌ فَإِنَّهُ يُكْرَهُ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ نَصْرَانِيًّا فَلَا بَأْسَ بِهِ) وَالْفَرْقُ أَنَّ الْبَيْعَ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ قَدْ بَطَلَ؛ لِأَنَّ الْخَمْرَ لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ فَبَقِيَ الثَّمَنُ عَلَى مِلْكِ الْمُشْتَرِي فَلَا يَحِلُّ أَخْذُهُ مِنْ الْبَائِعِ.

الْحُكْمِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ بِالْأَوْلَوِيَّةِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} فَإِنَّ فِيهِ النَّهْيَ عَنْ الضَّرْبِ بِالْأَوْلَوِيَّةِ، وَلَيْتَ شِعْرِي مَاذَا يَقُولُ ذَلِكَ الْقَائِلُ فِي شَأْنِ الْإِمَامِ الرَّبَّانِيِّ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، فَإِنَّهُ أَيْضًا قَالَ فِي الْأَصْلِ فِي هَذَا الْمَقَامِ: وَأَكْبَرُ الرَّأْيِ مُجَوِّزٌ لِلْعَمَلِ فِيمَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْ هَذَا كَالْفُرُوجِ وَسَفْكِ الدِّمَاءِ، فَإِنَّ مَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَأَدْخَلَهَا عَلَيْهِ إنْسَانٌ وَأَخْبَرَهُ أَنَّهَا امْرَأَتُهُ إلَخْ كَمَا نُقِلَ عَنْهُ فِي النِّهَايَةِ وَالْكِفَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ.

وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ أَيْضًا مِثْلُ مَا قَالَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي كَوْنِهِ مِنْ تِلْكَ الدَّلَالَةِ بِالْأَوْلَوِيَّةِ، بَلْ ذَلِكَ مَأْخَذُ مَا قَالَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَعَنْ هَذَا قَالَ فِي النِّهَايَةِ وَالْكِفَايَةِ بَعْدَ نَقْلِ ذَلِكَ عَنْ مُحَمَّدٍ: فَعُلِمَ بِهَذَا أَنَّ فِيمَا هُوَ أَهَمُّ الْأُمُورِ وَهُوَ الدِّمَاءُ وَالْفُرُوجُ جَازَ الْعَمَلُ بِأَكْبَرِ الرَّأْيِ عِنْدَ الْحَاجَةِ. مَعَ أَنَّ الْغَلَطَ إذَا وَقَعَ لَا يُمْكِنُ تَدَارُكُهُ فِيمَا دُونَ ذَلِكَ أَوْلَى انْتَهَى.

(قَوْلُهُ لِأَنَّ الْقَاطِعَ طَارِئٌ وَالْإِقْدَامُ الْأَوَّلُ لَا يَدُلُّ عَلَى انْعِدَامِهِ فَلَمْ يَثْبُتْ الْمُنَازِعُ) اعْتَرَضَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ إنْ قَبِلَ خَبَرَ الْوَاحِدِ فِي إفْسَادِ النِّكَاحِ بَعْدَ الصِّحَّةِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَوَجْهٌ آخَرُ فِيهِ يُوجِبُ عَدَمَ الْقَبُولِ، وَهُوَ أَنَّ الْمِلْكَ لِلزَّوْجِ فِيهَا ثَابِتٌ وَالْمِلْكُ الثَّابِتُ لِلْغَيْرِ لَا يَبْطُلُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ.

وَأُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ إذَا كَانَ

ص: 57

وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي صَحَّ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ فِي حَقِّ الذِّمِّيِّ فَمَلَكَهُ الْبَائِعُ فَيَحِلُّ الْأَخْذُ مِنْهُ.

قَالَ (وَيُكْرَهُ الِاحْتِكَارُ فِي أَقْوَاتِ الْآدَمِيِّينَ وَالْبَهَائِمِ إذَا كَانَ ذَلِكَ فِي بَلَدٍ يَضُرُّ الِاحْتِكَارُ بِأَهْلِهِ وَكَذَلِكَ التَّلَقِّي. فَأَمَّا إذَا كَانَ لَا يَضُرُّ فَلَا بَأْسَ بِهِ) وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «الْجَالِبُ مَرْزُوقٌ وَالْمُحْتَكِرُ مَلْعُونٌ» وَلِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْعَامَّةِ، وَفِي الِامْتِنَاعِ عَنْ الْبَيْعِ إبْطَالُ حَقِّهِمْ وَتَضْيِيقُ الْأَمْرِ عَلَيْهِمْ فَيُكْرَهُ إذَا كَانَ يَضُرُّ بِهِمْ ذَلِكَ بِأَنْ كَانَتْ الْبَلْدَةُ صَغِيرَةً، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَضُرَّ بِأَنْ كَانَ الْمِصْرُ كَبِيرًا؛ لِأَنَّهُ حَابِسٌ مِلْكَهُ مِنْ غَيْرِ إضْرَارٍ بِغَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ التَّلَقِّي عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ؛ لِأَنَّ «النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام نَهَى عَنْ تَلَقِّي الْجَلَبِ وَعَنْ تَلَقِّي الرُّكْبَانِ» . قَالُوا هَذَا إذَا لَمْ يُلَبِّسْ الْمُتَلَقِّي عَلَى التُّجَّارِ سِعْرَ الْبَلْدَةِ. فَإِنْ لَبَّسَ فَهُوَ مَكْرُوهٌ فِي الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّهُ غَادِرٌ بِهِمْ.

وَتَخْصِيصُ الِاحْتِكَارِ بِالْأَقْوَاتِ كَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالتِّبْنِ وَالْقَتِّ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رحمه الله كُلُّ مَا أَضَرَّ بِالْعَامَّةِ حَبْسُهُ فَهُوَ احْتِكَارٌ وَإِنْ كَانَ ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً أَوْ ثَوْبًا. وَعَنْ مُحَمَّدٍ رحمه الله أَنَّهُ قَالَ: لَا احْتِكَارَ فِي الثِّيَابِ؛ فَأَبُو يُوسُفَ اعْتَبَرَ حَقِيقَةَ الضَّرَرِ إذْ هُوَ الْمُؤَثِّرُ فِي الْكَرَاهَةِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ اعْتَبَرَ الضَّرَرَ الْمَعْهُودَ الْمُتَعَارَفَ. ثُمَّ الْمُدَّةُ إذَا قَصُرَتْ لَا يَكُونُ احْتِكَارًا لِعَدَمِ الضَّرَرِ، وَإِذَا طَالَتْ يَكُونُ احْتِكَارًا مَكْرُوهًا لِتَحَقُّقِ الضَّرَرِ. ثُمَّ قِيلَ: هِيَ مُقَدَّرَةٌ بِأَرْبَعِينَ يَوْمًا لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «مَنْ احْتَكَرَ طَعَامًا أَرْبَعِينَ لَيْلَةً فَقَدْ بَرِئَ مِنْ اللَّهِ وَبَرِئَ اللَّهُ مِنْهُ» وَقِيلَ بِالشَّهْرِ؛ لِأَنَّ مَا دُونَهُ قَلِيلٌ عَاجِلٌ، وَالشَّهْرُ وَمَا فَوْقَهُ كَثِيرٌ آجِلٌ، وَقَدْ مَرَّ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، وَيَقَعُ التَّفَاوُتُ فِي الْمَأْثَمِ بَيْنَ أَنْ يَتَرَبَّصَ الْعِزَّةَ وَبَيْنَ أَنْ يَتَرَبَّصَ الْقَحْطَ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ، وَقِيلَ الْمُدَّةُ لِلْمُعَاقَبَةِ فِي الدُّنْيَا إمَّا يَأْثَمُ وَإِنْ قَلَّتْ الْمُدَّةُ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ التِّجَارَةَ فِي الطَّعَامِ غَيْرُ مَحْمُودَةٍ.

قَالَ (وَمَنْ احْتَكَرَ غَلَّةَ ضَيْعَتِهِ أَوْ مَا جَلَبَهُ مِنْ بَلَدٍ آخَرَ فَلَيْسَ بِمُحْتَكَرٍ) أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُ خَالِصُ حَقِّهِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقُّ الْعَامَّةِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ لَهُ أَنْ لَا يَزْرَعَ فَكَذَلِكَ لَهُ أَنْ لَا يَبِيعَ. وَأَمَّا الثَّانِي فَالْمَذْكُورُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْعَامَّةِ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِمَا جُمِعَ فِي الْمِصْرِ وَجُلِبَ إلَى فِنَائِهَا. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُكْرَهُ لِإِطْلَاقِ مَا رَوَيْنَا. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: كُلُّ

ثَابِتًا بِدَلِيلٍ مُوجِبٍ وَمِلْكُ الزَّوْجِ فِيهَا فِي الْحَالِ لَيْسَ بِدَلِيلٍ مُوجِبٍ بَلْ بِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ، وَخَبَرُ الْوَاحِدِ أَقْوَى مِنْ اسْتِصْحَابِ الْحَالِ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ وَكَثِيرٍ مِنْ الشُّرُوحِ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ بَعْدَ ذِكْرِ هَذَا الِاعْتِرَاضِ: وَالْجَوَابُ فِيهِ بَحْثٌ؛ لِأَنَّهُ سَبَقَ فِي فَصْلِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ أَنَّ الْحِلَّ وَالْحُرْمَةَ مِنْ بَابِ الدِّيَانَاتِ، فَيُقْبَلُ قَوْلُ الْوَاحِدِ فِيهِمَا إذَا لَمْ تَتَضَمَّنْ الْحُرْمَةُ زَوَالَ الْمِلْكِ، كَمَا إذَا أَخْبَرَ وَاحِدٌ عَدْلٌ بِحِلِّ طَعَامٍ فَيُؤْكَلُ أَوْ حُرْمَتِهِ فَلَا يُؤْكَلُ، لِأَنَّ الْحُرْمَةَ لَا تُنَافِي الْمِلْكَ.

وَأَمَّا إذَا تَضَمَّنَتْ زَوَالَ الْمِلْكِ فَلَا يُقْبَلُ وَلَا يَثْبُتُ بِهِ الْحُرْمَةُ، كَمَا إذَا أَخْبَرَ عَدْلٌ لِلزَّوْجَيْنِ أَنَّهُمَا ارْتَضَعَا مِنْ فُلَانَةَ؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ الْمُؤَبَّدَةَ لَا تُتَصَوَّرُ مَعَ بَقَاءِ مِلْكِ النِّكَاحِ فَاضْمَحَلَّ الْجَوَابُ وَبَقِيَ الْإِشْكَالُ انْتَهَى كَلَامُهُ. أَقُولُ: بَحْثُهُ سَاقِطٌ جِدًّا؛ لِأَنَّ الَّذِي تَقَرَّرَ فِي فَصْلِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ هُوَ أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ يُقْبَلُ فِي بَابِ الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ إذَا لَمْ يَتَضَمَّنْ زَوَالَ الْمِلْكِ. وَأَمَّا إذَا تَضَمَّنَ زَوَالَهُ فَلَا يُقْبَلُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ بُطْلَانَ الْمِلْكِ لَا يَثْبُتُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَذَلِكَ كَلَامٌ مُجْمَلٌ لَمْ يُفَصِّلْ فِيهِ أَنَّهُ إذَا تَضَمَّنَ زَوَالَ الْمِلْكِ الثَّابِتِ بِدَلِيلٍ مُوجِبٍ لَمْ يُقْبَلْ، وَأَمَّا إذَا تَضَمَّنَ زَوَالَ الْمِلْكِ الثَّابِتِ بِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ فَيُقْبَلُ.

فَنَشَأَ الِاعْتِرَاضُ هَاهُنَا نَظَرًا إلَى ظَاهِرِ إجْمَالِ مَا ذُكِرَ هُنَاكَ فَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ زَوَالِ الْمِلْكِ هُنَاكَ زَوَالُ الْمِلْكِ الثَّابِتِ بِدَلِيلٍ مُوجِبٍ لَا زَوَالُهُ وَلَوْ كَانَ بِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ؛ لِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ أَقْوَى مِنْ اسْتِصْحَابِ الْحَالِ لِكَوْنِ الِاسْتِصْحَابِ حُجَّةً دَافِعَةً لَا مُثَبِّتَةً أَصْلًا، بِخِلَافِ خَبَرِ الْوَاحِدِ فَكَانَ الْجَوَابُ الْمَذْكُورُ هَاهُنَا تَفْصِيلًا لِلْإِجْمَاعِ الْوَاقِعِ هُنَاكَ فِي الظَّاهِرِ

ص: 58

مَا يُجْلَبُ مِنْهُ إلَى الْمِصْرِ فِي الْغَالِبِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ فِنَاءِ الْمِصْرِ يَحْرُمُ الِاحْتِكَارُ فِيهِ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْعَامَّةِ بِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْبَلَدُ بَعِيدًا لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِالْحَمْلِ مِنْهُ إلَى الْمِصْرِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقُّ الْعَامَّةِ.

قَالَ (وَلَا يَنْبَغِي لِلسُّلْطَانِ أَنْ يُسَعِّرَ عَلَى النَّاسِ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَا تُسَعِّرُوا فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُسَعِّرُ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ الرَّازِقُ» وَلِأَنَّ الثَّمَنَ حَقُّ الْعَاقِدِ فَإِلَيْهِ تَقْدِيرُهُ، فَلَا يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِحَقِّهِ إلَّا إذَا تَعَلَّقَ بِهِ دَفْعُ ضَرَرِ الْعَامَّةِ عَلَى مَا نُبَيِّنُ. وَإِذَا رُفِعَ إلَى الْقَاضِي هَذَا الْأَمْرُ يَأْمُرُ الْمُحْتَكِرَ بِبَيْعِ مَا فَضَلَ عَنْ قُوتِهِ وَقُوتِ أَهْلِهِ عَلَى اعْتِبَارِ السَّعَةِ فِي ذَلِكَ وَيَنْهَاهُ عَنْ الِاحْتِكَارِ، فَإِنْ رُفِعَ إلَيْهِ مَرَّةً أُخْرَى حَبَسَهُ وَعَزَّرَهُ عَلَى مَا يَرَى زَجْرًا لَهُ وَدَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ النَّاسِ، فَإِنْ كَانَ أَرْبَابُ الطَّعَامِ يَتَحَكَّمُونَ وَيَتَعَدَّوْنَ عَنْ الْقِيمَةِ تَعَدِّيًا فَاحِشًا، وَعَجَزَ الْقَاضِي عَنْ صِيَانَةِ حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ إلَّا بِالتَّسْعِيرِ فَحِينَئِذٍ لَا بَأْسَ بِهِ بِمَشُورَةٍ مِنْ أَهْلِ الرَّأْيِ وَالْبَصِيرَةِ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ وَتَعَدَّى رَجُلٌ عَنْ ذَلِكَ وَبَاعَ بِأَكْثَرَ مِنْهُ أَجَازَهُ الْقَاضِي، وَهَذَا ظَاهِرٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَرَى الْحَجْرَ عَلَى الْحُرِّ وَكَذَا عِنْدَهُمَا، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْحَجْرُ عَلَى قَوْمٍ بِأَعْيَانِهِمْ. وَمَنْ بَاعَ مِنْهُمْ بِمَا قَدَّرَهُ الْإِمَامُ صَحَّ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُكْرَهٍ عَلَى الْبَيْعِ، هَلْ يَبِيعُ الْقَاضِي عَلَى الْمُحْتَكِرِ طَعَامَهُ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ. قِيلَ هُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي عُرِفَ فِي بَيْعِ مَالِ الْمَدْيُونِ، وَقِيلَ يَبِيعُ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يَرَى الْحَجْرَ لِدَفْعِ ضَرَرٍ عَامٍّ، وَهَذَا كَذَلِكَ.

قَالَ (وَيُكْرَهُ بَيْعُ السِّلَاحِ فِي أَيَّامِ الْفِتْنَةِ) مَعْنَاهُ مِمَّنْ يُعْرَفُ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْفِتْنَةِ؛ لِأَنَّهُ تَسْبِيبٌ إلَى الْمَعْصِيَةِ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي السِّيَرِ، وَإِنْ كَانَ لَا يُعْرَفُ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْفِتْنَةِ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَسْتَعْمِلَهُ فِي الْفِتْنَةِ فَلَا يُكْرَهُ بِالشَّكِّ.

قَالَ (وَلَا بَأْسَ بِبَيْعِ الْعَصِيرِ مِمَّنْ يُعْلَمُ أَنَّهُ يَتَّخِذُهُ خَمْرًا)؛ لِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ لَا تُقَامُ بِعَيْنِهِ بَلْ بَعْدَ تَغْيِيرِهِ، بِخِلَافِ بَيْعِ السِّلَاحِ فِي أَيَّامِ الْفِتْنَةِ لِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ تَقُومُ بِعَيْنِهِ.

قَالَ (وَمَنْ أَجَّرَ بَيْتًا لِيُتَّخَذَ فِيهِ بَيْتُ نَارٍ أَوْ كَنِيسَةٌ أَوْ بِيعَةٌ أَوْ يُبَاعُ فِيهِ الْخَمْرُ بِالسَّوَادِ فَلَا بَأْسَ بِهِ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: لَا يَنْبَغِي أَنْ يُكْرِيَهُ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إعَانَةٌ عَلَى الْمَعْصِيَةِ. وَلَهُ أَنَّ الْإِجَارَةَ تَرِدُ عَلَى مَنْفَعَةِ الْبَيْتِ، وَلِهَذَا تَجِبُ الْأُجْرَةُ بِمُجَرَّدِ التَّسْلِيمِ، وَلَا مَعْصِيَةَ فِيهِ، وَإِنَّمَا الْمَعْصِيَةُ بِفِعْلِ الْمُسْتَأْجِرِ، وَهُوَ مُخْتَارٌ فِيهِ فَقَطَعَ نِسْبَتَهُ عَنْهُ، وَإِنَّمَا قَيَّدَهُ بِالسَّوَادِ لِأَنَّهُمْ لَا يُمَكَّنُونَ مِنْ اتِّخَاذِ الْبِيَعِ وَالْكَنَائِسِ وَإِظْهَارِ بَيْعِ الْخُمُورِ وَالْخَنَازِيرِ

فَكَانَ جَوَابًا شَافِيًا قَدْ اضْمَحَلَّ بِهِ الْإِشْكَالُ كَمَا لَا يَخْفَى.

(قَوْلُهُ وَإِنْ كَانَ لَا يُعْرَفُ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْفِتْنَةِ لَا بَأْسَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَسْتَعْمِلَهُ فِي الْفِتْنَةِ فَلَا يُكْرَهُ بِالشَّكِّ) قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: قَوْلُهُ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَسْتَعْمِلَهُ فِي الْفِتْنَةِ وَلَوْ احْتِمَالًا ضَعِيفًا فَلَا يُكْرَهُ بِالشَّكِّ لِوُجُودِ هَذَا الِاحْتِمَالِ فَلَيْسَ الشَّكُّ عَلَى مَعْنَاهُ الْمُصْطَلَحِ انْتَهَى.

أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا بِشَرْحٍ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ كَوْنَ احْتِمَالِ أَنْ لَا يَسْتَعْمِلَهُ فِي الْفِتْنَةِ ضَعِيفًا فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا بِكَوْنِهِ مِنْ أَهْلِ الْفِتْنَةِ مَمْنُوعٌ، كَيْفَ وَأُمُورُ الْمُسْلِمِينَ مَحْمُولَةٌ عَلَى الصَّلَاحِ وَالِاسْتِقَامَةِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ صَاحِبُ الْغَايَةِ وَغَيْرُهُ فِي تَعْلِيلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. فَفِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا بِكَوْنِهِ مِنْ أَهْلِ الْفِتْنَةِ إنْ لَمْ يَكُنْ احْتِمَالُ أَنْ لَا يَسْتَعْمِلَهُ فِي الْفِتْنَةِ أَقْوَى وَأَرْجَحَ فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُسَاوِيًا لِاحْتِمَالِ خِلَافِهِ، فَالشَّكُّ عَلَى مَعْنَاهُ الْمُصْطَلَحِ عَلَيْهِ قَطْعًا، وَلَوْ كَانَ احْتِمَالُ أَنْ لَا يَسْتَعْمِلَهُ فِي الْفِتْنَةِ ضَعِيفًا مَرْجُوحًا كَانَ احْتِمَالُ أَنْ يَسْتَعْمِلَهُ فِي الْفِتْنَةِ قَوِيًّا رَاجِحًا، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ السِّلَاحُ مِنْ مِثْلِهِ فِي أَيَّامِ الْفِتْنَةِ مَكْرُوهًا. وَجَوَابُ الْمَسْأَلَةِ عَلَى خِلَافِهِ. وَبِالْجُمْلَةِ لَا وَجْهَ لِلشَّرْحِ الْمَذْكُورِ أَصْلًا

(قَوْلُهُ وَلَهُ أَنَّ الْإِجَارَةَ تَرِدُ عَلَى مَنْفَعَةِ الْبَيْتِ، وَلِهَذَا يَجِبُ الْأَجْرُ بِمُجَرَّدِ التَّسْلِيمِ، وَلَا مَعْصِيَةَ فِيهِ وَإِنَّمَا الْمَعْصِيَةُ بِفِعْلِ الْمُسْتَأْجِرِ وَهُوَ مُخْتَارٌ فِيهِ فَقَطَعَ نِسْبَتَهُ عَنْهُ) أَقُولُ: يُنْتَقَضُ هَذَا التَّعْلِيلُ الْمَذْكُورُ مِنْ قِبَلِ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِمَسَائِلَ مُتَعَدِّدَةٍ مَذْكُورَةٍ فِي الذَّخِيرَةِ وَالْمُحِيطِ وَفَتَاوَى قَاضِي خَانَ وَسَائِرِ

ص: 59

فِي الْأَمْصَارِ لِظُهُورِ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ فِيهَا. بِخِلَافِ السَّوَادِ. قَالُوا: هَذَا كَانَ فِي سَوَادِ الْكُوفَةِ، لِأَنَّ غَالِبَ أَهْلِهَا أَهْلُ الذِّمَّةِ.

فَأَمَّا فِي سَوَادِنَا فَأَعْلَامُ الْإِسْلَامِ فِيهَا ظَاهِرَةٌ فَلَا يُمَكَّنُونَ فِيهَا أَيْضًا، وَهُوَ الْأَصَحُّ.

قَالَ (وَمَنْ حَمَلَ لِذِمِّيٍّ خَمْرًا فَإِنَّهُ يَطِيبُ لَهُ الْأَجْرُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: يُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ)؛ لِأَنَّهُ إعَانَةٌ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَقَدْ صَحَّ " أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام لَعَنَ فِي الْخَمْرِ عَشْرًا حَامِلَهَا وَالْمَحْمُولَ إلَيْهِ " لَهُ أَنَّ الْمَعْصِيَةَ فِي شُرْبِهَا وَهُوَ فِعْلُ فَاعِلٍ مُخْتَارٍ، وَلَيْسَ الشِّرْبُ مِنْ ضَرُورَاتِ الْحَمْلِ وَلَا يُقْصَدُ بِهِ، وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى الْحَمْلِ الْمَقْرُونِ بِقَصْدِ الْمَعْصِيَةِ.

قَالَ (وَلَا بَأْسَ بِبَيْعِ بِنَاءِ بُيُوتِ مَكَّةَ، وَيُكْرَهُ بَيْعُ أَرْضِهَا) وَهَذَا عِنْدَ

الْمُعْتَبَرَاتِ مِنْ غَيْرِ بَيَانِ خِلَافٍ فِي شَيْءٍ مِنْهَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ أَئِمَّتِنَا.

مِنْهَا أَنَّهُ إذَا اسْتَأْجَرَ الذِّمِّيُّ مِنْ الْمُسْلِمِ بِيعَةً لِيُصَلِّيَ فِيهَا فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ. قَالَ فِي الْمُحِيطِ وَالذَّخِيرَةِ. لِأَنَّهُ اسْتَأْجَرَهَا لِيُصَلِّيَ فِيهَا، وَصَلَاةُ الذِّمِّيِّ مَعْصِيَةٌ عِنْدَنَا وَطَاعَةٌ فِي زَعْمِهِ، وَأَيُّ ذَلِكَ اعْتَبَرْنَا كَانَتْ الْإِجَارَةُ بَاطِلَةً؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ عَلَى مَا هُوَ طَاعَةٌ أَوْ مَعْصِيَةٌ لَا تَجُوزُ انْتَهَى. وَمِنْهَا أَنَّهُ إذَا اسْتَأْجَرَ الْمُسْلِمُ مِنْ الْمُسْلِمِ بَيْتًا لِيَجْعَلَهُ مَسْجِدًا يُصَلِّي فِيهِ الْمَكْتُوبَةَ أَوْ النَّافِلَةَ. فَإِنَّ هَذِهِ الْإِجَارَةَ لَا تَجُوزُ فِي قَوْلِ عُلَمَائِنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ تَجُوزُ. قَالَ فِي الْمُحِيطِ: وَهَذَا لِأَنَّهَا وَقَعَتْ عَلَى مَا هُوَ طَاعَةٌ، فَإِنَّ تَسْلِيمَ الدَّارِ لِيُصَلِّيَ فِيهَا طَاعَةٌ، وَمِنْ مَذْهَبِنَا أَنَّ الْإِجَارَةَ عَلَى مَا هُوَ طَاعَةٌ لَا تَجُوزُ وَعِنْدَهُ تَجُوزُ، وَكَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِلْأَذَانِ أَوْ الْإِمَامَةِ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّهُ طَاعَةٌ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَجُوزُ فَكَذَلِكَ هَذَا انْتَهَى.

وَمِنْهَا أَنَّهُ إذَا اسْتَأْجَرَ ذِمِّيٌّ مِنْ ذِمِّيٍّ بَيْتًا يُصَلِّي فِيهِ لَا يَجُوزُ. قَالَ فِي الْمُحِيطِ وَالذَّخِيرَةِ: لِأَنَّ صَلَاتَهُمْ طَاعَةٌ عِنْدَهُمْ مَعْصِيَةٌ عِنْدَنَا، وَأَيُّ ذَلِكَ كَانَ لَمْ تَجُزْ الْإِجَارَةُ انْتَهَى.

إذْ لَا يَخْفَى أَنَّ التَّعْلِيلَ الْمَذْكُورَ فِي الْكِتَابِ مِنْ قِبَلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي مَسْأَلَتِنَا يَقْتَضِي أَنْ لَا تَبْطُلَ الْإِجَارَةُ فِي تِلْكَ الْمَسَائِلِ أَيْضًا، فَإِنَّ الْإِجَارَةَ إنَّمَا تَرِدُ عَلَى مَنْفَعَةِ الْبَيْتِ وَلِهَذَا يَجِبُ الْأَجْرُ بِمُجَرَّدِ التَّسْلِيمِ، وَمَنْفَعَةُ الْبَيْتِ لَيْسَ بِطَاعَةٍ وَلَا مَعْصِيَةٍ، وَإِنَّمَا الطَّاعَةُ وَالْمَعْصِيَةُ بِفِعْلِ الْمُسْتَأْجِرِ وَهُوَ مُخْتَارٌ فِيهِ. فَقَطَعَ نِسْبَةَ ذَلِكَ الْفِعْلِ عَنْ الْمُؤَجِّرِ، فَيَنْبَغِي أَنْ تَصِحَّ الْإِجَارَةُ فِيهَا أَيْضًا عِنْدَهُ مَعَ أَنَّ الْأَمْرَ لَيْسَ كَذَلِكَ كَمَا عَرَفْت. فَإِنْ قُلْت: إنَّ الْإِجَارَةَ وَإِنْ وَرَدَتْ عَلَى مَنْفَعَةِ الْبَيْتِ إلَّا أَنَّ لِجَعْلِ مَنْفَعَتِهِ حِينَ الْعَقْدِ لِأَجْلِ الطَّاعَةِ أَوْ الْمَعْصِيَةِ تَأْثِيرًا فِي بُطْلَانِ الْإِجَارَةِ. قُلْت: فَلْيَكُنْ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ أَيْضًا. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ تِلْكَ الْمَسَائِلِ وَمَسْأَلَتِنَا هَذِهِ فِي الْحُكْمِ وَالدَّلِيلِ مُشْكِلٌ جِدًّا فَلْيُتَأَمَّلْ.

ثُمَّ إنَّهُ ذَكَرَ فِي الذَّخِيرَةِ وَالْمُحِيطِ: إذَا اسْتَأْجَرَ الذِّمِّيُّ مِنْ الْمُسْلِمِ دَارًا لِيَسْكُنَهَا فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ وَقَعَتْ عَلَى أَمْرٍ مُبَاحٍ فَجَازَتْ. وَإِنْ شَرِبَ فِيهَا الْخَمْرَ أَوْ عَبَدَ فِيهَا الصَّلِيبَ أَوْ أَدْخَلَ فِيهَا الْخَنَازِيرَ لَمْ يَلْحَقْ الْمُسْلِمَ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ لَمْ يُؤَاجِرْهَا لَهَا إنَّمَا أَجَّرَ لِلسُّكْنَى فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَجَّرَ دَارًا مِنْ فَاسِقٍ كَانَ مُبَاحًا وَإِنْ كَانَ قَدْ يَعْصِي فِيهَا، وَلَوْ اتَّخَذَ فِيهَا بِيعَةً أَوْ كَنِيسَةً أَوْ بَيْتَ نَارٍ يُمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ إنْ كَانَ فِي السَّوَادِ.

قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: وَأَرَادَ بِهَذَا إذَا اسْتَأْجَرَهَا الذِّمِّيُّ لِيَسْكُنَهَا، ثُمَّ أَرَادَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يَتَّخِذَ كَنِيسَةً أَوْ بِيعَةً فِيهَا، فَأَمَّا إذَا اسْتَأْجَرَهَا فِي الِابْتِدَاءِ لِيَتَّخِذَهَا بِيعَةً أَوْ كَنِيسَةً لَا يَجُوزُ إلَى هُنَا لَفْظُ الذَّخِيرَةِ وَالْمُحِيطِ. قَالَ: بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ بَعْدَ نَقْلِ ذَلِكَ عَنْ صَاحِبِ الْمُحِيطِ: وَلَا خَفَاءَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ التَّنَافِي. أَقُولُ: إنَّ التَّنَافِيَ بَيْنَهُمَا مَمْنُوعٌ. إذْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِنَاءُ قَوْلِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ فَأَمَّا إذَا اسْتَأْجَرَهَا فِي الِابْتِدَاءِ لِيَتَّخِذَهَا بِيعَةً أَوْ كَنِيسَةً لَا يَجُوزُ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، لِكَوْنِ مُخْتَارِ نَفْسِهِ قَوْلَهُمَا، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ التَّنَافِي بَيْنَهُمَا. أَنْ لَوْ قَالَ لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَوْ قَالَ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا وَلَيْسَ فَلَيْسَ. وَذِكْرُ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْخِلَافِيَّةِ بِدُونِ بَيَانِ الْخِلَافِ لَيْسَ بِعَزِيزٍ فِي كَلَامِ الثِّقَاتِ. وَعَنْ هَذَا نَرَى كَثِيرًا مِنْ أَصْحَابِ الْمُتُونِ يَذْكُرُونَ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَسَائِلِ الْخِلَافِيَّةِ بِدُونِ بَيَانِ الْخِلَافِ. ثُمَّ الشُّرَّاحُ يُبَيِّنُونَ الْخِلَافَ الْوَاقِعَ فِي ذَلِكَ، وَكَيْفَ لَا يَكُونُ مُرَادُ شَيْخِ الْإِسْلَامِ بِقَوْلِهِ الْمَزْبُورَ مَا ذَكَرْنَاهُ. وَقَدْ صَرَّحَ مُحَمَّدٌ رحمه الله فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِأَنَّهُ لَا بَأْسَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنْ تُؤَاجِرَ بَيْتَك لِيُتَّخَذَ فِيهِ بَيْتُ نَارٍ أَوْ كَنِيسَةٌ أَوْ بِيعَةٌ أَوْ يُبَاعُ الْخَمْرُ فِيهِ بِالسَّوَادِ. وَهَلْ يَلِيقُ بِمِثْلِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ أَنْ يَغْفُلَ عَنْ مَسْأَلَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ.

ثُمَّ قَالَ ذَلِكَ الْبَعْضُ: ثُمَّ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ صَرِيحٌ فِي أَنَّ إجَارَةَ الْبَيْتِ لِيُبَاعَ فِيهِ الْخَمْرُ مَعَ كَوْنِهِ مَعْصِيَةً إنَّمَا صَحَّتْ

ص: 60

أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَا: لَا بَأْسَ بِبَيْعِ أَرْضِهَا أَيْضًا. وَهَذَا رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ لَهُمْ لِظُهُورِ الِاخْتِصَاصِ الشَّرْعِيِّ بِهَا فَصَارَ كَالْبِنَاءِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «أَلَا إنَّ مَكَّةَ حَرَامٌ لَا تُبَاعُ رِبَاعُهَا وَلَا تُورَثُ» وَلِأَنَّهَا حُرَّةٌ مُحْتَرَمَةٌ لِأَنَّهَا فِنَاءُ الْكَعْبَةِ. وَقَدْ ظَهَرَ آيَةُ أَثَرِ التَّعْظِيمِ فِيهَا حَتَّى لَا يُنَفَّرَ صَيْدُهَا وَلَا يُخْتَلَى خَلَاهَا وَلَا يُعْضَدُ شَوْكُهَا، فَكَذَا فِي حَقِّ الْبَيْعِ، بِخِلَافِ الْبِنَاءِ؛ لِأَنَّهُ خَالِصُ مِلْكِ الْبَانِي. وَيُكْرَهُ إجَارَتُهَا أَيْضًا لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «مَنْ آجَرَ أَرْضَ مَكَّةَ فَكَأَنَّمَا أَكَلَ الرِّبَا» وَلِأَنَّ أَرَاضِيَ مَكَّةَ تُسَمَّى السَّوَائِبَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ عليه الصلاة والسلام مَنْ احْتَاجَ إلَيْهَا سَكَنَهَا وَمَنْ اسْتَغْنَى عَنْهَا أُسْكِنَ غَيْرَهُ

(وَمَنْ وَضَعَ دِرْهَمًا عِنْدَ بَقَّالٍ يَأْخُذُ مِنْهُ مَا شَاءَ يُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ)؛ لِأَنَّهُ مَلَّكَهُ قَرْضًا جَرَّ بِهِ نَفْعًا، وَهُوَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ مَا شَاءَ حَالًّا فَحَالًّا. «وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ عليه الصلاة والسلام عَنْ قَرْضٍ جَرَّ نَفْعًا» ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَسْتَوْدِعَهُ ثُمَّ يَأْخُذَ مِنْهُ مَا شَاءَ جُزْءًا فَجُزْءًا؛ لِأَنَّهُ وَدِيعَةٌ وَلَيْسَ بِقَرْضٍ، حَتَّى لَوْ هَلَكَ لَا شَيْءَ عَلَى الْآخِذِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِتَخَلُّلِ فِعْلِ فَاعِلٍ مُخْتَارٍ. وَقَدْ صَرَّحَ صَاحِبُ الْمُحِيطِ بِأَنَّ صِحَّتَهَا لِعَدَمِ كَوْنِ بَيْعِ الْخَمْرِ مَعْصِيَةً لِلذِّمِّيِّ كَشُرْبِهِ، لِأَنَّ خِطَابَ التَّحْرِيمِ غَيْرُ نَازِلٍ فِي حَقِّهِ، وَلَا خَفَاءَ فِيمَا بَيْنَهُمَا أَيْضًا مِنْ التَّنَافِي انْتَهَى. أَقُولُ: كَوْنُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ صَرِيحًا فِيمَا ذَكَرَهُ مَمْنُوعٌ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ وَإِنَّمَا الْمَعْصِيَةُ بِفِعْلِ الْمُسْتَأْجِرِ وَهُوَ مُخْتَارٌ فِيهِ خَارِجًا مَخْرَجَ التَّغْلِيبِ. فَإِنَّ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمَذْكُورَةِ صُوَرًا: إيجَارُ الْبَيْتِ لَأَنْ يُتَّخَذَ فِيهِ بَيْتُ نَارٍ وَإِيجَارُهُ لَأَنْ يُتَّخَذَ فِيهِ كَنِيسَةٌ، وَإِيجَارُهُ لَأَنْ يُتَّخَذَ فِيهِ بِيعَةٌ. وَإِيجَارُهُ لَأَنْ يُبَاعَ فِيهِ الْخَمْرُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ اتِّخَاذَ بَيْتِ النَّارِ وَاِتِّخَاذَ الْكَنِيسَةِ وَاِتِّخَاذَ الْبِيعَةِ مَعْصِيَةٌ لِلذِّمِّيِّ أَيْضًا لِكَوْنِ الْكُفَّارِ مُخَاطَبِينَ بِالْإِيمَانِ بِلَا خِلَافٍ.

وَاِتِّخَاذُ تِلْكَ الْأُمُورِ يُنَافِي الْإِيمَانَ فَكَانَتْ مَعْصِيَةً قَطْعًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْعُ الْخَمْرِ مَعْصِيَةً لِلْكَافِرِ بِنَاءً عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ خِطَابَ التَّحْرِيمِ غَيْرُ نَازِلٍ فِي حَقِّ الْكُفَّارِ فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الصُّوَرُ الثَّلَاثُ الْأُولَى مُغَلَّبَةً عَلَى صُورَةِ بَيْعِ الْخَمْرِ فِي قَوْلِ الْمُصَنِّفِ، وَإِنَّمَا الْمَعْصِيَةُ بِفِعْلِ الْمُسْتَأْجِرِ وَهُوَ مُخْتَارٌ فِيهِ قَطْعًا فَقَطَعَ نِسْبَتَهُ عَنْهُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَإِنَّمَا الْمَعْصِيَةُ فِي صُورَةِ اتِّخَاذِ الْمَعْصِيَةِ بِفِعْلِ الْمُسْتَأْجِرِ وَهُوَ مُخْتَارٌ فِيهِ فَقَطَعَ نِسْبَةَ ذَلِكَ الْفِعْلِ عَنْ الْمُؤَجِّرِ. وَأَمَّا فِي غَيْرِ صُورَةِ اتِّخَاذِ الْمَعْصِيَةِ وَهِيَ صُورَةُ بَيْعِ الذِّمِّيِّ الْخَمْرَ فَالْأَمْرُ بَيِّنٌ، فَحِينَئِذٍ لَا يَتَحَقَّقُ التَّنَافِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا صَرَّحَ بِهِ صَاحِبُ الْمُحِيطِ كَمَا لَا يَخْفَى، ثُمَّ إنَّهُ لَوْ سَلِمَ دَلَالَةُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ عَلَى كَوْنِ بَيْعِ الْخَمْرِ أَيْضًا مَعْصِيَةً لِلذِّمِّيِّ فَلَا ضَيْرَ فِيهِ؛ لِأَنَّ فِي نُزُولِ خِطَابِ التَّحْرِيمِ فِي حَقِّ الْكُفَّارِ قَوْلَيْنِ مِنْ مَشَايِخِنَا، فَعِنْدَ بَعْضِهِمْ غَيْرُ نَازِلٍ وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ نَازِلٌ كَمَا عُرِفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ فِي فَصْلِ أَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِالشَّرَائِعِ أَمْ لَا، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَبْنَى كَلَامِ صَاحِبِ الْمُحِيطِ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ وَمَبْنَى كَلَامِ الْمُصَنِّفِ عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي، وَلِكُلٍّ وَجِهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا

(قَوْلُهُ وَقَالَا: لَا بَأْسَ بِبَيْعِ أَرْضِهَا وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ لَهُمْ لِظُهُورِ الِاخْتِصَاصِ الشَّرْعِيِّ بِهَا فَصَارَ كَالْبِنَاءِ) قَالَ فِي الْكَافِي بَعْدَ ذِكْرِ هَذَا التَّعْلِيلِ: وَقَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ رَبْعٍ» دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ عَقَارَ مَكَّةَ عُرْضَةٌ لِلتَّمْلِيكِ انْتَهَى.

وَأَصْلُ هَذَا عَلَى مَا ذُكِرَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ وَغَيْرِهَا مَا رَوَى الطَّحَاوِيُّ فِي شَرْحِ الْآثَارِ بِإِسْنَادِهِ إلَى «أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ أَنَّهُ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ انْزِلْ فِي دَارِك بِمَكَّةَ؟ قَالَ عليه الصلاة والسلام: وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ رِبَاعٍ أَوْ دُورٍ» وَكَانَ عَقِيلٌ وَرِثَ أَبَا طَالِبٍ وَطَالِبٌ، وَلَمْ يَرِثْهُ جَعْفَرٌ وَلَا عَلِيٌّ لِأَنَّهُمَا كَانَا مُسْلِمَيْنِ، وَكَانَ عَقِيلٌ وَطَالِبٌ كَافِرَيْنِ، وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ يَقُولُ: لَا يَرِثُ الْمُؤْمِنَ الْكَافِرُ. فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَرْضَ مَكَّةَ تُمْلَكُ وَتُورَثُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ذَكَرَ فِيهَا مِيرَاثَ عَقِيلٍ وَطَالِبٍ مِمَّا تَرَكَ أَبُو طَالِبٍ فِيهَا مِنْ رِبَاعٍ وَدُورٍ انْتَهَى.

ثُمَّ إنَّ بَعْضَ الْمُتَأَخِّرِينَ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ مَا فِي الْكَافِي وَأَصْلِهِ الْمَزْبُورِ عَلَى التَّفْصِيلِ الْمَذْكُورِ قَالَ: وَلَا يَخْفَى عَلَيْك أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ لَا يَدُلُّ عَلَى مِيرَاثِ الْأَرْضِ قَطْعًا لِاحْتِمَالِ

ص: 61

(مَسَائِلُ مُتَفَرِّقَةٌ)

قَالَ (وَيُكْرَهُ التَّعْشِيرُ وَالنَّقْطُ فِي الْمُصْحَفِ) لِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه: جَرِّدُوا الْقُرْآنَ. وَيُرْوَى: جَرِّدُوا الْمَصَاحِفَ. وَفِي التَّعْشِيرِ وَالنَّقْطِ تَرْكُ التَّجْرِيدِ. وَلِأَنَّ التَّعْشِيرَ يُخِلُّ بِحِفْظِ الْآيِ وَالنَّقْطُ بِحِفْظِ الْإِعْرَابِ اتِّكَالًا عَلَيْهِ فَيُكْرَهُ. قَالُوا: فِي زَمَانِنَا لَا بُدَّ لِلْعَجَمِ مِنْ دَلَالَةٍ. فَتَرْكُ ذَلِكَ إخْلَالٌ بِالْحِفْظِ وَهِجْرَانٌ لِلْقُرْآنِ فَيَكُونُ حَسَنًا قَالَ (وَلَا بَأْسَ بِتَحْلِيَةِ الْمُصْحَفَ) لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْظِيمِهِ. وَصَارَ كَنَقْشِ الْمَسْجِدِ وَتَزْيِينِهِ بِمَاءِ الذَّهَبِ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ.

قَالَ (وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَدْخُلَ أَهْلُ الذِّمَّةِ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُكْرَهُ ذَلِكَ: وَقَالَ

جَرَيَانِ الْإِرْثِ عَلَى الْأَبْنِيَةِ دُونَ الْأَرَاضِيِ؛ أَلَّا يَرَى إلَى صِحَّةِ هَذَا الْحَدِيثِ أَيْضًا لَوْ كَانَتْ الْأَرَاضِي مَوْقُوفَةً وَالْأَبْنِيَةُ عَلَيْهَا مَمْلُوكَةً اهـ.

أَقُولُ: بَلْ لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ لَهُ أَدْنَى تَمْيِيزٍ أَنَّ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ يَدُلُّ عَلَى مِيرَاثِ الْأَرْضِ أَيْضًا قَطْعًا. إذْ قَدْ ذَكَرَ فِيهِ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ «وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ رِبَاعٍ أَوْ دُورٍ» وَالرِّبَاعُ جَمْعُ رَبْعٍ وَهُوَ الدَّارُ بِعَيْنِهَا حَيْثُ كَانَتْ وَالْمَحَلَّةُ وَالْمَنْزِلُ، كَذَا فِي الْقَامُوسِ وَغَيْرِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ كُلًّا مِنْ الدَّارِ وَالْمَحَلَّةِ وَالْمَنْزِلِ اسْمٌ لِمَا يَشْمَلُ الْبِنَاءَ وَالْعَرْصَةَ الَّتِي هِيَ الْأَرْضُ، فَكَانَ مَعْنَى قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ رِبَاعٍ أَوْ دُورٍ مَا تَرَكَ لَنَا شَيْئًا مِنْ الْبِنَاءِ وَالْأَرْضِ» وَإِذَا كَانَ وَجْهُ عَدَمِ تَرْكِهِ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ اسْتِيلَاءٌ عَلَى كُلٍّ مِنْ ذَلِكَ بِالْإِرْثِ مِنْ أَبِي طَالِبٍ كَمَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ فِي شَرْحِ الْآثَارِ دَلَّ الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ قَطْعًا عَلَى مِيرَاثِ الْأَرْضِ أَيْضًا، إنَّمَا لَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ لَوْ كَانَ لَفْظُ الْحَدِيثِ: وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ بُيُوتٍ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ كَمَا تَرَى، بَلْ لَا مَجَالَ أَصْلًا لَأَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ، إذَا لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا تَمَّ جَوَابًا عَنْ «قَوْلِ أُسَامَةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ انْزِلْ فِي دَارِك بِمَكَّةَ» ، فَإِنَّ عَدَمَ تَرْكِ عَقِيلٍ بَيْتًا بِاسْتِيلَائِهِ عَلَى الْأَبْنِيَةِ وَحْدَهَا لَا يَقْتَضِي عَدَمَ تَرْكِهِ أَرْضًا أَيْضًا حَتَّى لَا يُمْكِنَ النُّزُولُ فِي عَرْصَةِ دَارِهِ أَيْضًا، وَهَذَا مَعَ وُضُوحِهِ كَيْفَ خَفِيَ عَلَى ذَلِكَ الْبَعْضُ. وَالْعَجَبُ أَنَّهُ قَالَ فِي حَاشِيَةِ كِتَابِهِ فِي هَذَا الْمَقَامِ: الرِّبَاعُ جَمْعُ رَبْعٍ وَهُوَ الدَّارُ بِعَيْنِهَا وَالْمَحَلَّةُ وَالْمَنْزِلُ، كَذَا فِي الْقَامُوسِ انْتَهَى. وَقَالَ فِي أَصْلِ كِتَابِهِ: وَلَا يَخْفَى عَلَيْك أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ لَا يَدُلُّ عَلَى مِيرَاثِ الْأَرْضِ قَطْعًا لِاحْتِمَالِ جَرَيَانِ الْإِرْثِ عَلَى الْأَبْنِيَةِ دُونَ الْأَرَاضِيِ، وَلَمْ يُلَاحِظْ أَنَّهُ عَلَى ذَلِكَ كَيْفَ يَتِمُّ جَوَابُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِقَوْلِهِ «وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ رِبَاعٍ أَوْ دُورٍ» وَاَللَّهُ الْهَادِي إلَى سَوَاءِ السَّبِيلِ، وَهُوَ حَسْبِي وَنِعْمَ الْوَكِيلُ.

(مَسَائِلُ مُتَفَرِّقَةٌ)

(قَوْلُهُ وَلَا بَأْسَ بِتَحْلِيَةٍ الْمُصْحَفِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْظِيمِهِ، وَصَارَ كَنَقْشِ الْمَسْجِدِ وَتَزْيِينِهِ بِمَاءِ الذَّهَبِ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ) قَالَ قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: يَعْنِي فِي فَصْلِ الْقِرَاءَةِ مِنْ الصَّلَاةِ، وَقَدْ سَبَقَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ فِي التَّفْسِيرِ بِهَذَا الْوَجْهِ. أَقُولُ: هَذَا سَهْوٌ مِنْ الشَّارِحَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ؛ لِأَنَّ الْمُصَنِّفَ مَا ذَكَرَهُ فِي فَصْلِ الْقِرَاءَةِ مِنْ الصَّلَاةِ لَا صَرِيحًا وَلَا الْتِزَامًا، بَلْ إنَّمَا ذَكَرَهُ فِي آخِرِ بَابِ مَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ وَمَا يُكْرَهُ فِيهَا مِنْ كِتَابِ الصَّلَاةِ فِي فَصْلٍ أَوَّلُهُ: وَيُكْرَهُ اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ بِالْفَرْجِ فِي الْخَلَاءِ يَظْهَرُ ذَلِكَ بِالنَّظَرِ إلَى مَحَلِّهِ

ص: 62

مَالِكٌ: يُكْرَهُ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ. لِلشَّافِعِيِّ قَوْله تَعَالَى {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} وَلِأَنَّ الْكَافِرَ لَا يَخْلُو عَنْ جَنَابَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَغْتَسِلُ اغْتِسَالًا يُخْرِجُهُ عَنْهَا، وَالْجُنُبُ يَجْنَبُ الْمَسْجِدَ، وَبِهَذَا يَحْتَجُّ مَالِكٌ، وَالتَّعْلِيلُ بِالنَّجَاسَةِ عَامٌّ فَيَنْتَظِمُ الْمَسَاجِدَ كُلَّهَا. وَلَنَا مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام أَنْزَلَ وَفْدَ ثَقِيفٍ فِي مَسْجِدِهِ وَهُمْ كُفَّارٌ» وَلِأَنَّ الْخُبْثَ فِي اعْتِقَادِهِمْ فَلَا يُؤَدِّي إلَى تَلْوِيثِ الْمَسْجِدِ. وَالْآيَةُ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْحُضُورِ اسْتِيلَاءً وَاسْتِعْلَاءً أَوْ طَائِفِينَ عُرَاةً كَمَا كَانَتْ عَادَتُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ.

قَالَ (وَيُكْرَهُ اسْتِخْدَامُ الْخُصْيَانِ)؛ لِأَنَّ الرَّغْبَةَ فِي اسْتِخْدَامِهِمْ حَثُّ النَّاسِ عَلَى هَذَا الصَّنِيعِ وَهُوَ مُثْلَةٌ مُحَرَّمَةٌ

قَالَ (وَلَا بَأْسَ بِخِصَاءِ الْبَهَائِمِ وَإِنْزَاءِ الْحَمِيرِ عَلَى الْخَيْلِ)؛ لِأَنَّ فِي الْأَوَّلِ مَنْفَعَةٌ لِلْبَهِيمَةِ وَالنَّاسِ. وَقَدْ صَحَّ «أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام رَكِبَ الْبَغْلَةَ» فَلَوْ كَانَ هَذَا الْفِعْلُ حَرَامًا لَمَا رَكِبَهَا لِمَا فِيهِ مِنْ فَتْحِ بَابِهِ.

قَالَ (وَلَا بَأْسَ بِعِيَادَةِ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ)؛ لِأَنَّهُ نَوْعُ بِرٍّ

قَوْلُهُ لِلشَّافِعِيِّ قَوْله تَعَالَى {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} قَالَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ فِي حِلِّ دَلَالَةِ الْآيَةِ عَلَى مُدَّعَى الشَّافِعِيِّ: خَصَّ اللَّهُ تَعَالَى الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بِالذِّكْرِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ عَنْ الدُّخُولِ خَاصٌّ فِي حَقِّهِ؛ لِأَنَّ " إنَّمَا " لِحَصْرِ الْحُكْمِ فِي الشَّيْءِ أَوْ لِحَصْرِ الشَّيْءِ فِي الْحُكْمِ كَقَوْلِنَا إنَّمَا الطَّبِيبُ زَيْدٌ، وَإِنَّمَا زَيْدٌ طَبِيبٌ اهـ.

أَقُولُ: إنَّ قَوْلَهُ: لِأَنَّ إنَّمَا لِحَصْرِ الْحُكْمِ فِي الشَّيْءِ أَوْ لِحَصْرِ الشَّيْءِ فِي الْحُكْمِ لَيْسَ بِكَلَامٍ مُفِيدٍ هَاهُنَا؛ لِأَنَّ الْخِلَافَ فِي أَنَّ الْكُفَّارَ هَلْ يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ أَمْ لَا، لَا فِي أَنَّهُمْ نَجَسٌ أَمْ لَا، وَكَلِمَةُ إنَّمَا فِي الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ إنَّمَا هِيَ فِي قَوْله تَعَالَى {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} ، لَا فِي قَوْله تَعَالَى {فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} ، فَتَأْثِيرُ الْحَصْرِ الَّذِي تُفِيدُهُ كَلِمَةُ إنَّمَا هُوَ فِي الْجُمْلَةِ الَّتِي دَخَلَتْ عَلَيْهَا كَلِمَةُ إنَّمَا لَا فِي الْجُمْلَةِ الْأُخْرَى فَلَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ، (قَوْلُهُ وَلِأَنَّ الْكَافِرَ لَا يَخْلُو عَنْ جَنَابَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَغْتَسِلُ اغْتِسَالًا يُخْرِجُهُ عَنْهَا، وَالْجُنُبُ يَجْنَبُ الْمَسْجِدَ) أَقُولُ: لَا يَذْهَبُ عَلَيْك أَنَّ هَذَا الدَّلِيلَ لَوْ تَمَّ لَدَلَّ عَلَى أَنْ لَا يَدْخُلَ الْكَافِرُ شَيْئًا مِنْ الْمَسَاجِدِ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ دُخُولُ الْكَافِرِ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ دُونَ سَائِرِ الْمَسَاجِدِ، فَلَمْ يَكُنْ هَذَا الدَّلِيلُ مُلَائِمًا لِمَذْهَبِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ مُنَاسِبًا لِمَذْهَبِ مَالِكٍ كَمَا لَا يَخْفَى (قَوْلُهُ: وَلِأَنَّ الْخُبْثَ فِي اعْتِقَادِهِمْ فَلَا يُؤَدِّي إلَى تَلْوِيثِ الْمَسْجِدِ) قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: ظَاهِرُهُ أَنَّ هَذَا دَلِيلٌ آخَرُ وَلَا وَجْهَ لَهُ، فَحَقُّ التَّعْبِيرِ حَذْفُ حَرْفِ التَّعْلِيلِ لِيَكُونَ إشَارَةً إلَى دَفْعِ أَنْ يُقَالَ كَيْفَ أَنْزَلَهُمْ فِي مَسْجِدِهِ، وَقَدْ وَصَفَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى بِكَوْنِهِمْ أَنْجَاسًا انْتَهَى.

أَقُولُ: لَيْسَ ذَاكَ بِشَيْءٍ، إذْ لَا شَكَّ فِي صِحَّةِ أَنْ يَكُونَ هَذَا دَلِيلًا آخَرَ عَقْلِيًّا لَنَا. فَإِنَّ الْخُبْثَ إذَا كَانَ فِي اعْتِقَادِهِمْ لَا يُؤَدِّي إلَى تَلْوِيثِ الْمَسْجِدِ فَلَا يَكُونُ فِي دُخُولِهِمْ الْمَسْجِدَ بَأْسٌ لَا مَحَالَةَ، فَقَوْلُ ذَلِكَ الْبَعْضِ وَلَا وَجْهَ لَهُ تَحَكُّمٌ بَحْتٌ كَمَا لَا يَخْفَى، وَكَوْنُهُ دَلِيلًا مُسْتَقِلًّا عَلَى أُصُولِ الْمُدَّعَى لَا يُنَافِي أَنْ يَتَضَمَّنَ الْجَوَابَ عَنْ أَنْ يُقَالَ: كَيْفَ أَنْزَلَ النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام وَفْدَ ثَقِيفٍ فِي مَسْجِدِهِ، وَهُمْ كُفَّارٌ وَقَدْ وَصَفَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى بِكَوْنِهِمْ نَجَسًا. كَمَا حَكَى «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام لَمَّا أَنْزَلَهُمْ فِي مَسْجِدِهِ وَضَرَبَ لَهُمْ خَيْمَةً، قَالَتْ الصَّحَابَةُ: قَوْمٌ أَنْجَاسٌ، فَقَالَ عليه الصلاة والسلام لَيْسَ عَلَى الْأَرْضِ مِنْ أَنْجَاسِهِمْ شَيْءٌ، وَإِنَّمَا أَنْجَاسُهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ» وَمِنْ عَادَةِ الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ يَجْعَلُ كَثِيرًا مَا عِلَّةَ النَّصِّ دَلِيلًا مُسْتَقِلًّا عَقْلِيًّا عَلَى أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ إفَادَةً لِلْفَائِدَتَيْنِ مَعًا، وَمَا نَحْنُ فِيهِ أَيْضًا مِنْ ذَلِكَ الْقَبِيلِ.

نَعَمْ يَرِدُ عَلَى ظَاهِرِ هَذَا الدَّلِيلِ أَنَّهُ تَعْلِيلٌ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} وَالتَّعْلِيلُ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ غَيْرُ صَحِيحٍ عَلَى مَا عُرِفَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ، فَأَجَابَ الْمُصَنِّفُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ وَالْآيَةُ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْحُضُورِ اسْتِيلَاءً إلَى آخِرِهِ

(قَوْلُهُ وَيُكْرَهُ اسْتِخْدَامُ الْخُصْيَانِ) قَالَ الْعَيْنِيُّ: وَالْخُصْيَانُ بِضَمِّ الْخَاءِ جَمْعُ خَصِيٍّ كَالثُّنْيَانِ جَمْعُ ثَنِيٍّ، وَتَبِعَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ، أَقُولُ: مَا ذَكَرَاهُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ

ص: 63

فِي حَقِّهِمْ، وَمَا نُهِينَا عَنْ ذَلِكَ، وَقَدْ صَحَّ «أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام عَادَ يَهُودِيًّا مَرِضَ بِجِوَارِهِ» .

قَالَ (وَيُكْرَهُ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ فِي دُعَائِهِ: أَسْأَلُك بِمَعْقِدِ الْعِزِّ مِنْ عَرْشِك) وَلِلْمَسْأَلَةِ عِبَارَتَانِ: هَذِهِ، وَمَقْعَدُ الْعِزِّ، وَلَا رَيْبَ فِي كَرَاهَةِ الثَّانِيَةِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْقُعُودِ، وَكَذَا الْأَوْلَى؛ لِأَنَّهُ يُوهِمُ تَعَلُّقَ عِزِّهِ بِالْعَرْشِ وَهُوَ مُحْدَثٌ وَاَللَّهُ تَعَالَى بِجَمِيعِ صِفَاتِهِ قَدِيمٌ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ. وَبِهِ أَخَذَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ رحمه الله لِأَنَّهُ مَأْثُورٌ عَنْ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام. رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ مِنْ دُعَائِهِ «اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك بِمَعْقِدِ الْعِزِّ مِنْ عَرْشِك؛ وَمُنْتَهَى الرَّحْمَةِ مِنْ كِتَابِك، وَبِاسْمِك الْأَعْظَمِ وَجَدِّك الْأَعْلَى وَكَلِمَاتِك التَّامَّةِ» وَلَكِنَّا نَقُولُ: هَذَا خَبَرُ وَاحِدٍ فَكَانَ الِاحْتِيَاطُ فِي الِامْتِنَاعِ (وَيُكْرَهُ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ فِي دُعَائِهِ بِحَقِّ فُلَانٍ أَوْ بِحَقِّ أَنْبِيَائِك وَرُسُلِك)؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِلْمَخْلُوقِ عَلَى الْخَالِقِ.

قَالَ (وَيُكْرَهُ اللَّعِبُ بِالشِّطْرَنْجِ وَالنَّرْدِ وَالْأَرْبَعَةَ عَشَرَ وَكُلِّ لَهْوٍ)؛ لِأَنَّهُ إنْ قَامَرَ بِهَا فَالْمَيْسِرُ حَرَامٌ بِالنَّصِّ وَهُوَ اسْمٌ لِكُلِّ قِمَارٍ، وَإِنْ لَمْ يُقَامِرْ فَهُوَ عَبَثٌ وَلَهْوٌ. وَقَالَ عليه الصلاة والسلام «لَهْوُ الْمُؤْمِنِ بَاطِلٌ إلَّا الثَّلَاثَ: تَأْدِيبُهُ لِفَرَسِهِ، وَمُنَاضَلَتُهُ عَنْ قَوْسِهِ، وَمُلَاعَبَتُهُ مَعَ أَهْلِهِ» وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: يُبَاحُ اللَّعِبُ بِالشِّطْرَنْجِ

فَإِنَّ الْمَضْبُوطَ فِي عَامَّةِ الْمُعْتَبَرَاتِ مِنْ كُتُبِ اللُّغَةِ أَنَّ جَمْعَ خَصِيٍّ هُوَ خُصْيَانٌ بِكَسْرِ الْخَاءِ وَخُصْيَةٌ. قَالَ فِي مُخْتَارِ الصِّحَاحِ: وَالرَّجُلُ خَصِيٌّ وَالْجَمْعُ خُصْيَانٌ بِالْكَسْرِ وَخُصْيَةٌ انْتَهَى. وَأَمَّا كَوْنُ الْخُصْيَانِ بِالضَّمِّ جَمْعُ خَصِيٍّ فَلَمْ يُسْمَعْ مِنْ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ قَطُّ

(قَوْلُهُ وَكَذَا الْأَوْلَى؛ لِأَنَّهُ يُوهِمُ تَعَلُّقَ عِزِّهِ بِالْعَرْشِ وَهُوَ مُحْدَثٌ. وَاَللَّهُ تَعَالَى بِجَمِيعِ صِفَاتِهِ قَدِيمٌ) قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: يَرُدُّ عَلَيْهِ أَنَّ حُدُوثَ تَعَلُّقِ صِفَتِهِ تَعَالَى بِشَيْءٍ حَادِثٍ لَا يُوجِبُ حُدُوثَ تِلْكَ الصِّفَةِ لِعَدَمِ تَوَقُّفِهَا عَلَى ذَلِكَ التَّعَلُّقِ، فَإِنَّ صِفَةَ الْعِزِّ الثَّابِتَةِ لَهُ تَعَالَى أَزَلًا وَأَبَدًا، وَعَدَمُ تَعَلُّقِهِ بِالْعَرْشِ الْحَادِثِ مَثَلًا قَبْلَ خَلْقِهِ لَا يَسْتَلْزِمُ انْتِفَاءَ عِزِّهِ وَلَا نُقْصَانًا فِيهِ، كَمَا أَنَّ عَدَمَ تَعَلُّقِ كَمَالِ قُدْرَتِهِ بِهَذَا الْعَالَمِ الْعَجِيبِ الصُّنْعِ قَبْلَ خَلْقِهِ لَا يُوجِبُ عَدَمَ قُدْرَتِهِ أَوْ نَقْصًا فِيهِ. وَبِالْجُمْلَةِ التَّعَلُّقَاتُ الْحَادِثَةُ مَظَاهِرُ لِلصِّفَاتِ لَا مُبَادَ لَهَا، فَالْأَوْلَى فِي تَقْرِيرِ الدَّلِيلِ أَنْ يُقَالَ كَمَا قَالَ صَاحِبُ الْكَافِي؛ لِأَنَّهُ يُوهِمُ تَعَلُّقَ عِزِّهِ بِالْعَرْشِ وَأَنَّ عِزَّهُ حَادِثٌ، وَالْعِزُّ صِفَتُهُ الْقَدِيمَةُ حَيْثُ جَعَلَ لُزُومَ كَوْنِ عِزِّهِ حَادِثًا دَاخِلًا فِي حَيِّزِ الْإِيهَامِ فَتَأَمَّلْ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ. أَقُولُ: إنَّ صَاحِبَ الْكَافِي وَإِنْ جَعَلَ لُزُومَ كَوْنِ عِزِّهِ حَادِثًا دَاخِلًا فِي حَيِّزِ الْإِيهَامِ إلَّا أَنَّهُ عَلَّلَ إيهَامَ أَنَّ عِزَّهُ حَادِثٌ بِتَعَلُّقِهِ بِالْمُحْدَثِ حَيْثُ قَالَ: لِأَنَّهُ يُوهِمُ تَعَلُّقَ عِزِّهِ بِالْعَرْشِ، وَأَنَّ عِزَّهُ حَادِثٌ لِتَعَلُّقِهِ بِالْمُحْدَثِ، وَالْعِزُّ صِفَتُهُ الْقَدِيمَةُ لَمْ يَزَلْ مَوْصُوفًا بِهِ وَلَا يَزَالُ مَوْصُوفًا بِهِ انْتَهَى.

فَكَانَ مَدَارُ مَا قَالَهُ صَاحِبُ الْكَافِي أَيْضًا لُزُومُ تَعَلُّقِ عِزِّهِ بِالْمُحْدَثِ فَلَمْ يَكُنْ فَرْقٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا قَالَهُ الْمُصَنِّفُ فِي وُرُودِ مَا ذَكَرَهُ ذَلِكَ الْقَائِلُ، فَلَا مَعْنًى لِقَوْلِهِ فَالْأَوْلَى فِي تَقْرِيرِ الدَّلِيلِ أَنْ يُقَالَ كَمَا قَالَهُ صَاحِبُ الْكَافِي وَإِنْ لَمْ يَرَ ذَلِكَ الْقَائِلُ قَوْلَ صَاحِبِ الْكَافِي لِتَعَلُّقِهِ بِالْمُحْدَثِ فَكَوْنُ عِلَّةِ قَوْلِهِ: وَإِنَّ عِزَّهُ حَادِثٌ تَعَلُّقَهُ بِالْمُحْدَثِ ظَاهِرٌ وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ، إذْ لَا شَيْءَ يَصْلُحُ لَأَنْ يَكُونَ عِلَّةً لَهُ سِوَاهُ، وَعَنْ هَذَا تَرَى كُلَّ مَنْ بَيَّنَ وَجْهَ الْكَرَاهَةِ فِي الدُّعَاءِ الْمَذْكُورِ مِنْ مَشَايِخِنَا جَعَلَ الْمَدَارَ لُزُومَ تَعَلُّقِ عِزِّهِ بِالْحَادِثِ. قَالَ فِي الْمُحِيطِ: وَأَمَّا بِاللَّفْظِ الْأَوَّلِ فَلِأَنَّهُ يُوهِمُ تَعَلُّقَ عِزِّهِ بِالْعَرْشِ، وَأَنَّ عِزَّهُ حَادِثٌ إذْ تَعَلَّقَ بِالْمُحْدَثِ وَاَللَّهُ تَعَالَى مُتَعَالٍ عَنْ صِفَةِ الْحُدُوثِ انْتَهَى.

وَقَالَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: وَإِنْ كَانَ مِنْ الْعَقْدِ وَهُوَ الْمَعْرُوفُ فِي هَذَا الدُّعَاءِ فَإِنَّهُ يُكْرَهُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ يُوهِمُ تَعَلُّقَ عِزِّهِ بِالْعَرْشِ، وَأَنَّ عِزَّهُ حَادِثٌ إذْ تَعَلَّقَ بِالْمُحْدَثِ وَاَللَّهُ تَعَالَى عَزِيزٌ لَمْ يَزَلْ مَوْصُوفًا بِهِ وَلَا يُزَالُ مَوْصُوفًا بِهِ انْتَهَى. إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ عِبَارَاتِ الْمَشَايِخِ الْعِظَامِ فِي هَذَا الْمَقَامِ. ثُمَّ أَقُولُ فِي الْجَوَابِ عَمَّا أَوْرَدَهُ ذَلِكَ الْبَعْضُ: الظَّاهِرُ أَنَّ مَا هَرَبُوا عَنْهُ هَاهُنَا لَيْسَ إيهَامُ مُطْلَقِ تَعَلُّقِ عِزِّهِ تَعَالَى بِالْمُحْدَثِ، إذْ قَدْ تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ أُصُولِ الدِّينِ أَنَّ ظُهُورَ الْمُحْدَثَاتِ كُلِّهَا وَبُرُوزِهَا مِنْ كَتْمِ الْعَدَمِ إلَى دَائِرَةِ الْوُجُودِ

ص: 64

لِمَا فِيهِ مِنْ تَشْحِيذِ الْخَوَاطِرِ وَتَذْكِيَةِ الْأَفْهَامِ، وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ الشَّافِعِيِّ رحمه الله. لَنَا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «مَنْ لَعِبَ بِالشِّطْرَنْجِ وَالنَّرْدَشِيرِ فَكَأَنَّمَا غَمَسَ يَدَهُ فِي دَمِ الْخِنْزِيرِ» وَلِأَنَّهُ نَوْعُ لَعِبٍ يَصُدُّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الْجُمَعِ وَالْجَمَاعَاتِ فَيَكُونُ حَرَامًا لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «مَا أَلْهَاك عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ فَهُوَ مَيْسِرٌ» ثُمَّ إنْ قَامَرَ بِهِ تَسْقُطُ عَدَالَتُهُ، وَإِنْ لَمْ يُقَامِرْ لَا تَسْقُطُ؛ لِأَنَّهُ مُتَأَوِّلٌ فِيهِ. وَكَرِهَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ التَّسْلِيمَ عَلَيْهِمْ تَحْذِيرًا لَهُمْ، وَلَمْ يَرَ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله بِهِ بَأْسًا لِيَشْغَلَهُمْ عَمَّا هُمْ فِيهِ.

قَالَ (وَلَا بَأْسَ بِقَبُولِ هَدِيَّةِ الْعَبْدِ التَّاجِرِ وَإِجَابَةِ دَعْوَتِهِ وَاسْتِعَارَةُ دَابَّتِهِ. وَتُكْرَهُ كِسْوَتُهُ الثَّوْبَ وَهَدِيَّتُهُ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ) وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ. وَفِي الْقِيَاسِ: كُلُّ ذَلِكَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ وَالْعَبْدُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَبِلَ هَدِيَّةَ سَلْمَانَ رضي الله عنه حِينَ كَانَ عَبْدًا، وَقَبِلَ هَدِيَّةَ بَرِيرَةَ رضي الله عنها وَكَانَتْ مُكَاتَبَةً» وَأَجَابَ رَهْطٌ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم دَعْوَةَ مَوْلَى أَبِي أُسَيْدَ وَكَانَ عَبْدًا، وَلِأَنَّ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ ضَرُورَةً لَا يَجِدُ التَّاجِرُ بُدًّا مِنْهَا، وَمَنْ مَلَكَ شَيْئًا يَمْلِكُ مَا هُوَ مِنْ ضَرُورَاتِهِ، وَلَا ضَرُورَةَ فِي الْكِسْوَةِ وَإِهْدَاءِ الدَّرَاهِمِ فَبَقِيَ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ.

قَالَ (وَمَنْ كَانَ فِي يَدِهِ لَقِيطٌ لَا أَبَ لَهُ فَإِنَّهُ يَجُوزُ قَبْضُهُ الْهِبَةَ وَالصَّدَقَةَ لَهُ) وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ التَّصَرُّفَ عَلَى الصِّغَارِ أَنْوَاعٌ ثَلَاثَةٌ: نَوْعٌ هُوَ مِنْ بَابِ الْوِلَايَةِ لَا يَمْلِكُهُ إلَّا مَنْ هُوَ وَلِيٌّ كَالْإِنْكَاحِ وَالشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ لِأَمْوَالِ الْقُنْيَةِ؛ لِأَنَّ الْوَلِيَّ هُوَ الَّذِي قَامَ مَقَامَهُ بِإِنَابَةِ الشَّرْعِ، وَنَوْعٌ آخَرُ مَا كَانَ مِنْ ضَرُورَةِ حَالِ الصِّغَارِ وَهُوَ شِرَاءُ مَا لَا بُدَّ لِلصَّغِيرِ مِنْهُ وَبَيْعُهُ وَإِجَارَةُ الْأَظْآرِ. وَذَلِكَ جَائِزٌ مِمَّنْ يَعُولُهُ وَيُنْفِقُ عَلَيْهِ كَالْأَخِ وَالْعَمِّ وَالْأُمِّ وَالْمُلْتَقِطُ إذَا كَانَ فِي حِجْرِهِمْ. وَإِذَا مَلَكَ هَؤُلَاءِ هَذَا النَّوْعَ فَالْوَلِيُّ أَوْلَى بِهِ، إلَّا أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي حَقِّ الْوَلِيِّ أَنْ يَكُونَ الصَّبِيُّ فِي حِجْرِهِ، وَنَوْعٌ ثَالِثٌ مَا هُوَ نَفْعٌ مَحْضٌ كَقَبُولِ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْقَبْضِ، فَهَذَا يَمْلِكُهُ الْمُلْتَقِطُ وَالْأَخُ

بِحَسَبِ تَعَلُّقِ إرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَقُدْرَتِهِ بِذَلِكَ. وَالْحُدُوثُ إنَّمَا هُوَ فِي التَّعَلُّقَاتِ دُونَ أَصْلِ الصِّفَاتِ، وَلَا نُقْصَانَ فِي ذَلِكَ أَصْلًا بَلْ هُوَ كَمَالٌ مَحْضٌ لَا يَخْفَى، فَكَذَا الْحَالُ فِي صِفَةِ عِزِّهِ تَعَالَى وَإِنَّمَا مُرَادُهُمْ بِمَا هَرَبُوا عَنْهُ إيهَامُ تَعَلُّقِ عِزِّهِ تَعَالَى بِالْمُحْدَثِ تَعَلُّقًا خَاصًّا، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمُحْدَثُ مَبْدَأً وَمَنْشَأً لِعِزِّهِ تَعَالَى كَمَا يُوهِمُهُ كَلِمَةُ " مِنْ " فِي قَوْلِهِ " بِمَعْقِدِ الْعِزِّ مِنْ عَرْشِكَ " إذْ الظَّاهِرُ الْمُتَبَادِرُ مِنْهَا فِي بَادِئِ الرَّأْيِ أَنْ تَكُونَ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّ جَمِيعَ مَعَانِي مِنْ رَاجِعَةٌ إلَى مَعْنَى ابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ التَّعَلُّقَ بِالْمُحْدَثِ عَلَى الْوَجْهِ الْخَاصِّ الْمَذْكُورِ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ فِي عِزِّهِ تَعَالَى وَلَا فِي صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ تَعَالَى أَصْلًا، وَكَيْفَ لَا يَكُونُ مُرَادُهُمْ هَذَا وَلَا مَحَالَةَ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَخْفَى عَلَى أَسَاطِينِ الْفُقَهَاءِ مَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ أُصُولِ الدِّينِ مِنْ جَوَازِ تَعَلُّقِ صِفَاتِ اللَّهِ بِالْمُحْدَثَاتِ تَعَلُّقَ إفَاضَةٍ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُحْدَثَاتِ كُلَّهَا مَظَاهِرُ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنَّمَا الْمُحَالُ تَعَلُّقُ صِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْمُحْدَثِ تَعَلُّقَ اسْتِفَاضَةٍ مِنْهُ فَهُوَ الْمَهْرُوبُ عَنْ إيهَامِهِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ بِلَا رَيْبٍ

(قَوْلُهُ قَالَ وَمَنْ كَانَ فِي يَدِهِ لَقِيطٌ لَا أَبَ لَهُ فَإِنَّهُ يَجُوزُ قَبْضُهُ الْهِبَةَ وَالصَّدَقَةَ لَهُ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ: اعْلَمْ

ص: 65

وَالْعَمُّ وَالصَّبِيُّ بِنَفْسِهِ إذَا كَانَ يَعْقِلُ، لِأَنَّ اللَّائِقَ بِالْحِكْمَةِ فَتْحُ بَابِ مِثْلِهِ نَظَرًا لِلصَّبِيِّ فَيَمْلِكُ بِالْعَقْلِ وَالْوِلَايَةِ وَالْحِجْرِ وَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الْإِنْفَاقِ.

قَالَ (وَلَا يَجُوزُ لِلْمُلْتَقِطِ أَنْ يُؤَاجِرَهُ، وَيَجُوزُ لِلْأُمِّ أَنْ تُؤَاجِرَ ابْنَهَا إذَا كَانَ فِي حِجْرِهَا وَلَا يَجُوزُ لِلْعَمِّ)؛ لِأَنَّ الْأُمَّ تَمْلِكُ إتْلَافَ مَنَافِعِهِ بِاسْتِخْدَامٍ، وَلَا كَذَلِكَ الْمُلْتَقِطُ وَالْعَمُّ (وَلَوْ أَجَّرَ الصَّبِيُّ نَفْسَهُ لَا يَجُوزُ)؛ لِأَنَّهُ مَشُوبٌ بِالضَّرَرِ (إلَّا إذَا فَرَغَ مِنْ الْعَمَلِ)؛ لِأَنَّ عِنْدَ ذَلِكَ تَمَحَّضَ نَفْعًا فَيَجِبُ الْمُسَمَّى وَهُوَ نَظِيرُ الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ يُؤَاجِرُ نَفْسَهُ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ.

قَالَ (وَيُكْرَهُ أَنْ يَجْعَلَ الرَّجُلُ فِي عُنُقِ عَبْدِهِ الرَّايَةَ) وَيَرْوُونَ الدَّايَةَ، وَهُوَ طَوْقُ الْحَدِيدِ الَّذِي يَمْنَعُهُ مِنْ أَنْ يُحَرِّكَ رَأْسَهُ، وَهُوَ مُعْتَادٌ بَيْنَ الظَّلَمَةِ؛ لِأَنَّهُ عُقُوبَةُ أَهْلِ النَّارِ فَيُكْرَهُ كَالْإِحْرَاقِ بِالنَّارِ (وَلَا يُكْرَهُ أَنْ يُقَيِّدَهُ) لِأَنَّهُ سُنَّةُ الْمُسْلِمِينَ فِي السُّفَهَاءِ وَأَهْلِ الدَّعَارَةِ فَلَا يُكْرَهُ فِي الْعَبْدِ تَحَرُّزًا عَنْ إبَاقِهِ وَصِيَانَةً لِمَالِهِ.

قَالَ (وَلَا بَأْسَ بِالْحُقْنَةِ يُرِيدُ بِهِ التَّدَاوِيَ) لِأَنَّ التَّدَاوِيَ مُبَاحٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَقَدْ وَرَدَ

أَنَّ قَوْلَهُ لَا أَبَ لَهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ لَازِمٍ فِي حَقِّ هَذَا الْحُكْمِ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ فِي كِتَابِ الْهِبَةِ فِي صَغِيرَةٍ لَهَا زَوْجٌ هِيَ عِنْدَهُ يَعُولُهَا وَلَهَا أَبٌ فَوَهَبَ لَهَا أَنَّهَا لَوْ قَبَضَتْ أَوْ قَبَضَ لَهَا أَبُوهَا أَوْ زَوْجُهَا أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ فَلَمْ يَمْتَنِعْ صِحَّةُ قَبْضِ الزَّوْجِ لَهَا بِقِيَامِ الْأَبِ، فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ نَفْعًا مَحْضًا كَانَ تَحْقِيقُ مَعْنَاهُ فِي فَتْحِ بَابِ الْإِصَابَةِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ: مِنْ وَجْهِ الْوِلَايَةِ وَمِنْ وَجْهِ الْعَوْلِ وَالنَّفَقَةِ وَمِنْ وَجْهِ الْعَقْلِ وَالتَّمْيِيزِ، فَثَبَتَ أَنَّ عَدَمَ الْأَبِ لَيْسَ بِلَازِمٍ، كَذَا ذَكَرَهُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ انْتَهَى. وَقَدْ أُطْبِقَتْ كَلِمَةُ سَائِرِ الشُّرَّاحِ أَيْضًا عَلَى أَنَّ عَدَمَ الْأَبِ لَيْسَ بِلَازِمٍ فِي حُكْمِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ قَيْدٌ اتِّفَاقِيٌّ، وَعَلَّلَ ذَلِكَ كُلُّهُمْ بِمَا ذُكِرَ فِي كِتَابِ الْهِبَةِ مِنْ أَنَّ الصَّغِيرَةَ لَوْ كَانَتْ عِنْدَ زَوْجِهَا يَعُولُهَا وَلَهَا أَبٌ فَقَبَضَ زَوْجُهَا الْهِبَةَ لَهَا فَإِنَّهُ يَجُوزُ لِكَوْنِهِ نَفْعًا مَحْضًا فَجَازَ قَبْضُ الْهِبَةِ لَهَا مَعَ قِيَامِ الْأَبِ، غَيْرَ أَنَّ صَاحِبَيْ الْكِفَايَةِ وَالْعِنَايَةِ ذَكَرَاهُ بِطَرِيقِ النَّقْلِ عَنْ النِّهَايَةِ وَمَنْ عَدَاهُمَا ذَكَرُوهُ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ.

أَقُولُ: قَوْلُ الْكُلِّ لَيْسَ بِصَحِيحٍ عِنْدِي، إذْ الثَّابِتُ مِمَّا ذَكَرُوهُ فِي كِتَابِ الْهِبَةِ إنَّمَا هُوَ أَنَّ عَدَمَ الْأَبِ لَيْسَ بِلَازِمٍ فِي جَوَازِ قَبْضِ زَوْجِ الصَّغِيرَةِ الْهِبَةَ لَهَا إذَا كَانَتْ عِنْدَهُ يَعُولُهَا، لَا أَنَّ عَدَمَ الْأَبِ لَيْسَ بِلَازِمٍ فِيمَا نَحْنُ

ص: 66

بِإِبَاحَتِهِ الْحَدِيثَ. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُسْتَعْمَلَ الْمُحَرَّمُ كَالْخَمْرِ وَنَحْوِهَا؛ لِأَنَّ الِاسْتِشْفَاءَ بِالْمُحَرَّمِ حَرَامٌ.

قَالَ (وَلَا بَأْسَ بِرِزْقِ الْقَاضِي)«؛ لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام بَعَثَ عَتَّابَ بْنَ أَسِيدٍ إلَى مَكَّةَ وَفَرَضَ لَهُ، وَبَعَثَ عَلِيًّا إلَى الْيَمَنِ وَفَرَضَ لَهُ» وَلِأَنَّهُ مَحْبُوسٌ لِحَقِّ الْمُسْلِمِينَ فَتَكُونُ نَفَقَتُهُ فِي مَالِهِمْ وَهُوَ مَالُ بَيْتِ الْمَالِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْحَبْسَ مِنْ أَسْبَابِ النَّفَقَةِ كَمَا فِي الْوَصِيِّ وَالْمُضَارِبِ إذَا سَافَرَ بِمَالِ الْمُضَارَبَةِ، وَهَذَا فِيمَا يَكُونُ كِفَايَةً، فَإِنْ كَانَ شَرْطًا فَهُوَ حَرَامٌ؛ لِأَنَّهُ اسْتِئْجَارٌ عَلَى الطَّاعَةِ، إذْ الْقَضَاءُ طَاعَةٌ بَلْ هُوَ أَفْضَلُهَا، ثُمَّ الْقَاضِي إذَا كَانَ فَقِيرًا: فَالْأَفْضَلُ بَلْ الْوَاجِبُ الْأَخْذُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ إقَامَةُ فَرْضِ الْقَضَاءِ إلَّا بِهِ، إذْ الِاشْتِغَالُ بِالْكَسْبِ يُقْعِدُهُ عَنْ إقَامَتِهِ، وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا فَالْأَفْضَلُ الِامْتِنَاعُ عَلَى مَا قِيلَ رِفْقًا بِبَيْتِ الْمَالِ. وَقِيلَ الْأَخْذُ وَهُوَ الْأَصَحُّ صِيَانَةً لِلْقَضَاءِ عَنْ الْهَوَانِ وَنَظَرًا لِمَنْ يُوَلَّى بَعْدَهُ مِنْ الْمُحْتَاجِينَ؛ لِأَنَّهُ إذَا انْقَطَعَ زَمَانًا يَتَعَذَّرُ إعَادَتُهُ ثُمَّ تَسْمِيَتُهُ رِزْقًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ بِقَدْرِ الْكِفَايَةِ، وَقَدْ جَرَى الرَّسْمُ بِإِعْطَائِهِ فِي أَوَّلِ السَّنَةِ؛ لِأَنَّ الْخَرَاجَ يُؤْخَذُ فِي أَوَّلِ السَّنَةِ وَهُوَ يُعْطَى مِنْهُ، وَفِي زَمَانِنَا الْخَرَاجُ يُؤْخَذُ فِي آخَرِ السَّنَةِ وَالْمَأْخُوذُ مِنْ الْخَرَاجِ خَرَاجُ السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ هُوَ الصَّحِيحُ، وَلَوْ اسْتَوْفَى رِزْقَ سَنَةٍ وَعُزِلَ قَبْلَ اسْتِكْمَالِهَا، قِيلَ هُوَ عَلَى اخْتِلَافٍ مَعْرُوفٍ فِي نَفَقَةِ الْمَرْأَةِ إذَا

فِيهِ، وَهُوَ جَوَازُ قَبْضِ الْمُلْتَقِطِ الْهِبَةَ أَوْ الصَّدَقَةَ لِلَّقِيطِ الَّذِي فِي يَدِهِ لِتَحَقُّقِ الْفَرْقِ بَيْنَ زَوْجِ الصَّغِيرَةِ وَسَائِرِ مَنْ يَعُولُهَا فِي جَوَازِ قَبْضِ الْهِبَةِ لَهَا عِنْدَ وُجُودِ الْأَبِ كَمَا مَرَّ فِي نَفْسِ الْكِتَابِ فِي كِتَابِ الْهِبَةِ مُتَّصِلًا بِالْمَسْأَلَةِ الَّتِي اسْتَشْهَدُوا بِهَا حَيْثُ قَالَ: وَفِيمَا وُهِبَ لِلصَّغِيرَةِ يَجُوزُ قَبْضُ زَوْجِهَا لَهَا بَعْدَ الزِّفَافِ لِتَفْوِيضِ الْأَبِ أُمُورَهَا إلَيْهِ دَلَالَةً. بِخِلَافِ مَا قَبْلَ الزِّفَافِ وَيَمْلِكُ مَعَ حَضْرَةِ الْأَبِ، بِخِلَافِ الْأُمِّ وَكُلِّ مَنْ يَعُولُهَا غَيْرُهَا حَيْثُ لَا يَمْلِكُونَهُ إلَّا بَعْدَ مَوْتِ الْأَبِ أَوْ غَيْبَتِهِ غَيْبَةً مُنْقَطِعَةً فِي الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَ هَؤُلَاءِ لِلضَّرُورَةِ لَا بِتَفْوِيضِ الْأَبِ وَمَعَ حَضْرَةِ الْأَبِ لَا ضَرُورَةَ انْتَهَى تَأَمَّلْ تُرْشَدْ.

وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: وَقَوْلُهُ لَا أَبَ لَهُ: أَيْ لَا أَبَ لَهُ مَعْرُوفٌ لَا أَنْ لَا يَكُونَ أَبُوهُ حَيًّا، وَهُوَ بَيَانٌ لِلْوَاقِعِ فَإِنَّ اللَّقِيطَ لَا يَكُونُ إلَّا كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ فِي الشَّرْعِ مَوْلُودٌ طَرَحَهُ أَهْلُهُ فِي الطَّرِيقِ خَوْفًا مِنْ الْعَيْلَةِ أَوْ فِرَارًا مِنْ التُّهْمَةِ فَلَا يَكُونُ لَهُ أَبٌ مَعْرُوفٌ، فَلَا وَجْهَ لِمَا قَالَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ مِنْ أَنَّ قَوْلَهُ لَا أَبَ لَهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ لَازِمٍ فِي حَقِّ هَذَا الْحُكْمِ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ فِي كِتَابِ الْهِبَةِ فِي صَغِيرَةٍ لَهَا زَوْجٌ هِيَ عِنْدَهُ يَعُولُهَا، وَلَهَا أَبٌ فَوَهَبَ لَهَا أَنَّهَا لَوْ قَبَضَتْ أَوْ قَبَضَ لَهَا أَبُوهَا أَوْ زَوْجُهَا أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ، فَلَمْ يَمْتَنِعْ صِحَّةُ قَبْضِ الزَّوْجِ لَهَا بِقِيَامِ الْأَبِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ وَضْعَ الْمَسْأَلَةِ فِي اللَّقِيطِ لَا فِي الصِّغَارِ مُطْلَقًا، إلَى هُنَا كَلَامُهُ.

أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا أَيْضًا بِصَحِيحٍ، فَإِنَّ مَدَارَهُ الْغُفُولُ عَمَّا تَقَرَّرَ فِي كِتَابِ اللَّقِيطِ مِنْ أَنَّهُ إذَا ادَّعَاهُ مُدَّعٍ أَنَّهُ ابْنُهُ يُقْبَلُ قَوْلُهُ وَيَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ فَجَازَ أَنْ يَظْهَرَ لَهُ أَبٌ بَعْدَ الِالْتِقَاطِ فَيَصِيرُ كَسَائِرِ الصِّغَارِ الَّذِينَ لَهُمْ أَبٌ فَيَتَمَشَّى مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ وَغَيْرُهُ مِنْ جَوَازِ قَبْضِ الزَّوْجِ لَهُ بِقِيَامِ الْأَبِ فِيمَا إذَا كَانَتْ صَغِيرَةً مُزَوَّجَةً، وَكَانَتْ عِنْدَ زَوْجِهَا يَعُولُهَا، فَلَا وَجْهَ لِنَفْيِ وَجْهِ مَا قَالَهُ صَاحِبُ

ص: 67

مَاتَتْ فِي السَّنَةِ بَعْدَ اسْتِعْجَالِ نَفَقَةِ السَّنَةِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَجِبُ الرَّدُّ.

قَالَ (وَلَا بَأْسَ بِأَنْ تُسَافِرَ الْأَمَةُ وَأُمُّ الْوَلَدِ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ)؛ لِأَنَّ الْأَجَانِبَ فِي حَقِّ الْإِمَاءِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى النَّظَرِ وَالْمَسِّ بِمَنْزِلَةِ الْمَحَارِمِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ، وَأُمُّ الْوَلَدِ أَمَةٌ لِقِيَامِ الْمِلْكِ فِيهَا وَإِنْ امْتَنَعَ بَيْعُهَا.

النِّهَايَةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ وَضْعَ الْمَسْأَلَةِ فِي اللَّقِيطِ لَا فِي الصِّغَارِ مُطْلَقًا. وَلَا مَعْنًى لِحَمْلِ قَوْلِهِ لَا أَبَ لَهُ فِي مَسْأَلَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ عَلَى بَيَانِ الْوَاقِعِ بِأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ لَا أَبَ لَهُ مَعْرُوفٌ لَا أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ أَبٌ فِي الْحَيَاةِ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ الْمُرَادُ لَا أَبَ لَهُ مَعْرُوفٌ حِينَ الِالْتِقَاطِ فَهَذَا مَعَ كَوْنِهِ بَعِيدًا مِنْ اللَّفْظِ جِدًّا لِاحْتِيَاجِهِ إلَى التَّقْيِيدِ مَرَّتَيْنِ يَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ اللَّغْوِ مِنْ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْمَقَامِ لَا يَلِيقُ بِشَأْنِ الْإِمَامِ الرَّبَّانِيِّ مُحَمَّدٍ ذَلِكَ الْهُمَامُ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ لَا مَعْرُوفٌ أَصْلًا: أَيْ لَا حِينَ الِالْتِقَاطِ وَلَا بَعْدَهُ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ بَيَانًا لِلْوَاقِعِ، إذْ لَا يَلْزَمُ أَنْ لَا يَكُونَ اللَّقِيطُ إلَّا كَذَلِكَ فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ لَهُ أَبٌ مَعْرُوفٌ بَعْدَ الِالْتِقَاطِ بِأَنْ ادَّعَى أَحَدٌ أَنَّهُ ابْنُهُ، وَشَاعَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ مَقْبُولٌ فِي الشَّرْعِ كَمَا مَرَّ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَائِرِ الْأَوْلَادِ الَّذِينَ يَحْتَاجُ ثُبُوتُ نَسَبِهِمْ إلَى دَعْوَةِ الْأَبِ كَمَا فِي الْمَوْلُودِ مِنْ أَمَتِهِ. فَالْحَقُّ عِنْدِي أَنَّ قَوْلَهُ لَا أَبَ لَهُ قَيْدٌ احْتِرَازِيٌّ مِنْ اللَّقِيطِ الَّذِي كَانَ لَهُ أَبٌ حَاضِرٌ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ مِمَّنْ كَانَ فِي يَدِهِ مِثْلُ ذَلِكَ اللَّقِيطِ أَنْ يَقْبِضَ الْهِبَةَ أَوْ الصَّدَقَةَ لَهُ عَلَى مُوجِبِ مَا مَرَّ فِي كِتَابِ الْهِبَةِ مِنْ أَنَّ زَوْجَ الصَّغِيرَةِ يَمْلِكُ قَبْضَ الْهِبَةِ لَهَا بَعْدَ الزِّفَافِ مَعَ حَضْرَةِ الْأَبِ لِتَفْوِيضِ الْأَبِ أُمُورَهَا إلَيْهِ دَلَالَةً.

بِخِلَافِ الْأُمِّ وَكُلِّ مَنْ يَعُولُهَا غَيْرُهَا حَيْثُ لَا يَمْلِكُونَهُ إلَّا بَعْدَ مَوْتِ الْأَبِ أَوْ غَيْبَتِهِ غَيْبَةً مُنْقَطِعَةً فِي الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَ هَؤُلَاءِ لِلضَّرُورَةِ لَا بِتَفْوِيضِ الْأَبِ. وَمَعَ حَضْرَةِ الْأَبِ لَا ضَرُورَةَ انْتَهَى.

إذْ لَا شَكَّ أَنَّ الْمُلْتَقِطَ دَاخِلٌ فِي كُلِّيَّةِ قَوْلِهِ وَكُلُّ مَنْ يَعُولُهَا غَيْرُهَا، فَيَلْزَمُ أَنْ لَا يَمْلِكَ قَبْضَ الْهِبَةِ لِلصَّغِيرَةِ الَّتِي كَانَتْ فِي يَدِهِ وَعَوْلُهُ كَمَا لَا يَخْفَى فَتَبَصَّرْ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ.

(كِتَابُ إحْيَاءِ الْمَوَاتِ)

قَالَ جُمْهُورُ الشُّرَّاحِ: مُنَاسَبَةُ هَذَا الْكِتَابِ بِكِتَابِ الْكَرَاهِيَةِ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِنْ حَيْثُ إنَّ فِي مَسَائِلِ هَذَا الْكِتَابِ مَا يُكْرَهُ وَمَا لَا يُكْرَهُ انْتَهَى.

وَقَالَ الشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ بَعْدَ نَقْلِ قَوْلِهِمْ الْمَذْكُورِ: وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ قَلَّ كِتَابٌ مِنْ الْكُتُبِ يَخْلُو عَمَّا يُكْرَهُ وَمَا لَا يُكْرَهُ انْتَهَى. أَقُولُ: بَلْ مَا ذَكَرَهُ نَفْسَهُ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ لَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ مَا ذَكَرُوا فِي تَرْتِيبِ الْكُتُبِ السَّابِقَةِ وَاللَّاحِقَةِ مِنْ الْمُنَاسَبَاتِ مَلْحُوظَةٌ فِيمَا ذَكَرُوا هَاهُنَا مِنْ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ هَذَا الْكِتَابِ وَكِتَابِ الْكَرَاهِيَةِ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْحَيْثِيَّةَ الْمَذْكُورَةَ هَاهُنَا مَعَ مُلَاحَظَةِ تِلْكَ الْمُنَاسَبَاتِ تَقْتَضِي ذِكْرَ هَذَا الْكِتَابِ عَقِيبَ كِتَابِ الْكَرَاهِيَةِ دُونَ غَيْرِهِ، إذْ لَوْ غُيِّرَ ذَلِكَ لَفَاتَ بَعْضٌ مِنْ الْمُنَاسَبَاتِ السَّابِقَةِ

ص: 68

(كِتَابُ إحْيَاءِ الْمَوَاتِ)

قَالَ (الْمَوَاتُ مَا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ مِنْ الْأَرَاضِيِ لِانْقِطَاعِ الْمَاءِ عَنْهُ أَوْ لِغَلَبَةِ الْمَاءِ عَلَيْهِ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا يَمْنَعُ الزِّرَاعَةَ) سُمِّيَ بِذَلِكَ لِبُطْلَانِ الِانْتِفَاعِ بِهِ. قَالَ (فَمَا كَانَ مِنْهَا عَادِيًّا لَا مَالِكَ لَهُ أَوْ كَانَ مَمْلُوكًا فِي الْإِسْلَامِ لَا يُعْرَفُ لَهُ مَالِكٌ بِعَيْنِهِ وَهُوَ بَعِيدٌ مِنْ الْقَرْيَةِ بِحَيْثُ إذَا وَقَفَ إنْسَانٌ مِنْ أَقْصَى الْعَامِرِ فَصَاحَ لَا يُسْمَعُ الصَّوْتُ فِيهِ فَهُوَ مَوَاتٌ) قَالَ رضي الله عنه: هَكَذَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ، وَمَعْنَى الْعَادِيِّ مَا قَدُمَ خَرَابُهُ.

وَالْمَرْوِيُّ عَنْ مُحَمَّدٍ رحمه الله أَنَّهُ يَشْتَرِطُ أَنْ لَا يَكُونَ مَمْلُوكًا لِمُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ مَعَ انْقِطَاعِ الِارْتِفَاقِ بِهَا لِيَكُونَ مَيْتَةً مُطْلَقًا، فَأَمَّا الَّتِي هِيَ مَمْلُوكَةٌ لِمُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ لَا تَكُونُ مَوَاتًا، وَإِذَا لَمْ يُعْرَفْ مَالِكُهُ تَكُونُ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَوْ ظَهَرَ لَهُ مَالِكٌ يُرَدُّ عَلَيْهِ، وَيَضْمَنُ الزَّارِعُ نُقْصَانَهَا، وَالْبُعْدُ عَنْ الْقَرْيَةِ عَلَى مَا قَالَ شَرَطَهُ أَبُو يُوسُفَ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ مَا يَكُونُ قَرِيبًا مِنْ الْقَرْيَةِ لَا يَنْقَطِعُ ارْتِفَاقُ أَهْلِهَا عَنْهُ فَيُدَارِ الْحُكْمُ عَلَيْهِ. وَمُحَمَّدٌ رحمه الله اعْتَبَرَ انْقِطَاعَ ارْتِفَاقِ أَهْلِ الْقَرْيَةِ عَنْهَا حَقِيقَةً، وَإِنْ كَانَ قَرِيبًا مِنْ الْقَرْيَةِ

كَذَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ الْمَعْرُوفُ بِخُوَاهَرْ زَادَهْ رحمه الله، وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ

أَوْ اللَّاحِقَةِ، وَلْيَكُنْ هَذَا الْمَعْنَى عَلَى ذِكْرٍ مِنْك فَإِنَّهُ يَنْفَعُك فِي مَوَاضِعَ شَتَّى (قَوْلُهُ الْمَوَاتُ مَا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ مِنْ الْأَرَاضِيِ لِانْقِطَاعِ الْمَاءِ عَنْهُ، أَوْ لِغَلَبَةِ الْمَاءِ عَلَيْهِ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا يَمْنَعُ الزِّرَاعَةَ) قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: هَذَا تَعْرِيفٌ بِالْأَعَمِّ لِصِدْقِهِ عَلَى مَا لَهُ مَالِكٌ مَعْرُوفٌ، لَكِنْ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ لِأَحَدِ الْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ، وَلَك أَنْ تَقُولَ: هَذَا تَفْسِيرُ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ انْتَهَى. أَقُولُ: تَوْجِيهُهُ الَّذِي ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ وَلَك أَنْ تَقُولَ إلَى آخِرِهِ لَيْسَ بِتَامٍّ. فَإِنَّ قَيْدَ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ مَالِكٌ مُعْتَبَرٌ فِي مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ أَيْضًا. قَالَ فِي الصِّحَاحِ: وَالْمَوَاتُ بِالْفَتْحِ مَا لَا رُوحَ فِيهِ، وَالْمَوَاتُ أَيْضًا الْأَرْضُ الَّتِي لَا مَالِكَ لَهَا مِنْ الْآدَمِيِّينَ وَلَا يَنْتَفِعُ بِهَا أَحَدٌ انْتَهَى.

وَقَالَ فِي الْقَامُوسِ: وَالْمُوَاتُ كَغُرَابٍ الْمَوْتُ وَكَسَحَابٍ مَا لَا رُوحَ فِيهِ، وَأَرْضٌ لَا مَالِكَ لَهَا انْتَهَى. فَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يُحْمَلَ مَا فِي الْكِتَابِ عَلَى تَفْسِيرِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ يَكُونُ تَفْسِيرًا بِالْأَعَمِّ أَيْضًا. لَا يُقَالُ: أَصْلُ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ لِلْمَوَاتِ مَا لَا رَوْحَ فِيهِ. وَاَلَّذِي ذَكَرَهُ فِي الصِّحَاحِ وَالْقَامُوسِ ثَانِيًا هُوَ مَعْنَاهُ الْعُرْفِيُّ أَوْ الشَّرْعِيُّ فَلَمْ يَكُنْ قَيْدُ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ مَالِكٌ مُعْتَبَرًا فِي مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ. لِأَنَّا نَقُولُ: الظَّاهِرُ الْمُتَبَادِرُ مِنْ أَنْ يُذْكَرَ مَعْنَى اللَّفْظِ فِي كُتُبِ اللُّغَةِ بِلَا إضَافَةٍ إلَى الْعُرْفِ أَوْ الشَّرْعِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمَعْنَى مَعْنَاهُ اللُّغَوِيُّ، سِيَّمَا مِنْ قَيْدٍ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ فِي الصِّحَاحِ: وَالْمَوَاتُ أَيْضًا الْأَرْضُ الَّتِي لَا مَالِكَ لَهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ بَلْ كَانَ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيُّ هُوَ الَّذِي ذُكِرَ أَوَّلًا. فَلَا شَكَّ أَنَّ مَا لَا رَوْحَ

ص: 69

رحمه الله اعْتَمَدَ عَلَى مَا اخْتَارَهُ أَبُو يُوسُفَ رحمه الله (ثُمَّ مَنْ أَحْيَاهُ بِإِذْنِ الْإِمَامِ مَلَكَهُ، وَإِنْ أَحْيَاهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ لَمْ يَمْلِكْهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَقَالَا: يَمْلِكُهُ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً فَهِيَ لَهُ» وَلِأَنَّهُ مَالٌ مُبَاحٌ سَبَقَتْ يَدُهُ إلَيْهِ فَيَمْلِكُهُ كَمَا فِي الْحَطَبِ وَالصَّيْدِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «لَيْسَ لِلْمَرْءِ إلَّا مَا طَابَتْ نَفْسُ إمَامِهِ بِهِ» وَمَا رَوَيَاهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ إذْنٌ لِقَوْمٍ لَا نَصْبٌ لِشَرْعٍ، وَلِأَنَّهُ مَغْنُومٌ لِوُصُولِهِ إلَى يَدِ الْمُسْلِمِينَ بِإِيجَافِ الْخَيْلِ وَالرِّكَابِ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَخْتَصَّ بِهِ بِدُونِ إذْنِ الْإِمَامِ كَمَا فِي سَائِرِ

فِيهِ أَعَمُّ مِنْ الْأَرْضِ الَّتِي لَا يُنْتَفَعُ بِهَا بَلْ مِنْ مُطْلَقِ الْأَرْضِ، فَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يُحْمَلَ مَا فِي الْكِتَابِ عَلَى تَعْرِيفِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ يَكُونُ تَعْرِيفًا بِالْأَخَصِّ، وَهُوَ لَيْسَ بِأَقَلَّ قُبْحًا مِنْ التَّعْرِيفِ بِالْأَعَمِّ، وَبِهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا يَظْهَرُ أَنَّهُ يُشْكِلُ أَيْضًا مَا ذَكَرَهُ تَاجُ الشَّرِيعَةِ وَصَاحِبُ الْكِفَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ حَيْثُ قَالَا: قَوْلُهُ الْمَوَاتُ مَا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ مِنْ الْأَرْضِ تَحْدِيدٌ لُغَوِيٌّ، وَزِيدَ عَلَيْهِ فِي الشَّرْعِ أَشْيَاءُ أُخَرُ بَيَانُهَا فِي قَوْلِهِ فَمَا كَانَ عَادِيًا لَا مَالِكَ لَهُ أَوْ كَانَ مَمْلُوكًا فِي الْإِسْلَامِ لَا يُعْرَفُ لَهُ مَالِكٌ بِعَيْنِهِ وَهُوَ بَعِيدٌ مِنْ الْقَرْيَةِ، بِحَيْثُ إذَا وَقَفَ إنْسَانٌ فِي أَقْصَى الْعَامِرِ فَصَاحَ لَا يُسْمَعُ صَوْتُهُ فَهُوَ مَوَاتٌ انْتَهَى.

تَأَمَّلْ تَقِفْ (قَوْلُهُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «لَيْسَ لِلْمَرْءِ إلَّا مَا طَابَتْ نَفْسُ إمَامِهِ بِهِ») أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إنْ اُعْتُبِرَ عُمُومُ هَذَا الْحَدِيثِ يَلْزَمُ أَنْ لَا يَمْلِكَ أَحَدٌ شَيْئًا مِنْ الْأَمْلَاكِ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ مَعَ ظُهُورِ خِلَافِهِ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَسْتَبِدُّ فِي التَّمْلِيكِ بِالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالْهِبَةِ وَالْإِرْثِ وَالْوَصِيَّةِ وَنَحْوِهَا مِنْ أَسْبَابِ الْمِلْكِ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى إذْنِ الْإِمَامِ، وَإِنْ لَمْ يُعْتَبَرْ عُمُومُهُ لَا يَتِمُّ الْمَطْلُوبُ هَاهُنَا. فَإِنْ قُلْت: عُمُومُهُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ بَلْ هُوَ مُخْتَصٌّ بِمَا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى رَأْيِ الْإِمَامِ. وَمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَسْبَابِ الْمِلْكِ لَا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى رَأْيِ الْإِمَامِ. بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ. قُلْت: كَوْنُ التَّمْلِيكِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ مِمَّا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى رَأْيِ الْإِمَامِ أَوَّلَ الْمَسْأَلَةِ فَيَلْزَمُ الْمُصَادَرَةُ عَلَى الْمَطْلُوبِ.

(قَوْلُهُ وَمَا رَوَيَاهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ إذْنٌ لِقَوْمٍ لَا نَصْبٌ لِشَرْعٍ) تَقْرِيرُهُ: أَنَّ الْمَشْرُوعَاتِ عَلَى نَوْعَيْنِ: أَحَدُهُمَا نَصْبُ الشَّرْعِ، وَالْآخَرُ إذْنٌ بِالشَّرْعِ. فَالْأَوَّلُ كَقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «مَنْ قَاءَ أَوْ رَعَفَ فِي صَلَاتِهِ فَلْيَنْصَرِفْ» وَالْآخَرُ كَقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلْبُهُ» أَيْ لِلْإِمَامِ وِلَايَةٌ أَنْ يَأْذَنَ لِلْغَازِي بِهَذَا الْقَوْلِ فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إذْنًا لِقَوْمٍ مُعَيَّنِينَ وَتَحْرِيضًا عَلَى الْقِتَالِ لَا نَصْبَ شَرْعٍ، فَكَذَلِكَ فِي يَوْمِنَا هَذَا مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا لَا يَكُونُ سَلْبُهُ لَهُ إلَّا أَنْ يَأْذَنَ الْإِمَامُ بِهِ. فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً فَهِيَ لَهُ» مِنْ ذَلِكَ الْقَبِيلِ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ ذَلِكَ الْحَدِيثَ يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ. وَمَا ذَكَرَهُ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله مُفَسَّرٌ لَا يَقْبَلُ التَّأْوِيلَ فَكَانَ رَاجِحًا، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ وَغَيْرِهَا قَالَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ: فَإِنْ قُلْت: مَا رَوَاهُ عَامٌّ خَصَّ مِنْهُ الْحَطَبَ وَالْحَشِيشَ. وَمَا رَوَيَاهُ لَمْ يُخَصَّ فَيَكُونُ الْعَمَلُ بِهِ أَوْلَى. قُلْت: مَا ذُكِرَ لِبَيَانِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا الِافْتِيَاتُ عَلَى رَأْيِ الْإِمَامِ وَالْحَطَبُ وَالْحَشِيشُ لَا يُحْتَاجُ فِيهِمَا إلَى رَأْيِ الْإِمَامِ فَلَمْ يَتَنَاوَلْهُمَا عُمُومُ الْحَدِيثِ فَلَمْ يَصِرْ مَخْصُوصًا، وَالْأَرْضُ مِمَّا يُحْتَاجُ فِيهَا إلَى رَأْيِ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ مِنْ الْغَنَائِمِ بِإِيجَافِ الْخَيْلِ وَإِيضَاعِ الرِّكَابِ كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ فَكَانَ مَا قُلْنَا أَوْلَى انْتَهَى. وَاقْتَفَى أَثَرَهُ صَاحِبُ الْكِفَايَةِ وَالْعَيْنِيُّ. أَقُولُ: كُلٌّ مِنْ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ لَيْسَ بِسَدِيدٍ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ كَوْنَ مَا رَوَاهُ عَامًّا خَصَّ مِنْهُ الْحَطَبَ وَالْحَشِيشَ إنَّمَا يَقْتَضِي كَوْنَ الْعَمَلِ بِمَا رَوَيَاهُ أَوْلَى لِكَوْنِهِ مِمَّا لَمْ يَخُصَّ أَنْ لَوْ خَصَّ الْحَطَبَ وَالْحَشِيشَ مِمَّا رَوَاهُ بِكَلَامٍ مَوْصُولٍ بِهِ، إذْ يَصِيرُ الْعَامُّ الَّذِي خُصَّ مِنْهُ الْبَعْضُ حِينَئِذٍ ظَنِّيًّا كَمَا عُرِفَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ، وَأَمَّا إذَا خُصَّ الْحَطَبُ

ص: 70

الْغَنَائِمِ. وَيَجِبُ فِيهِ الْعُشْرُ؛ لِأَنَّ ابْتِدَاءَ تَوْظِيفِ الْخَرَاجِ عَلَى الْمُسْلِمِ لَا يَجُوزُ إلَّا إذَا سَقَاهُ بِمَاءِ الْخَرَاجِ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ إبْقَاءُ الْخَرَاجِ عَلَى اعْتِبَارِ الْمَاءِ. فَلَوْ أَحْيَاهَا، ثُمَّ تَرَكَهَا فَزَرَعَهَا غَيْرُهُ فَقَدْ قِيلَ الثَّانِي أَحَقُّ بِهَا؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ مَلَكَ اسْتِغْلَالَهَا لَا رَقَبَتَهَا، فَإِذَا تَرَكَهَا كَانَ الثَّانِي أَحَقَّ بِهَا. وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْأَوَّلَ يَنْزِعُهَا مِنْ الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهَا بِالْإِحْيَاءِ عَلَى مَا نَطَقَ بِهِ الْحَدِيثُ، إذْ الْإِضَافَةُ فِيهِ فَاللَّامُ التَّمْلِيكِ وَمِلْكُهُ لَا يَزُولُ بِالتَّرْكِ. وَمَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً ثُمَّ أَحَاطَ الْإِحْيَاءُ بِجَوَانِبِهَا الْأَرْبَعَةِ مِنْ أَرْبَعَةِ نَفَرٍ عَلَى التَّعَاقُبِ؛ فَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ طَرِيقَ الْأَوَّلِ فِي الْأَرْضِ الرَّابِعَةِ لِتَعَيُّنِهَا لِتَطَرُّقِهِ وَقَصَدَ الرَّابِعُ إبْطَالَ حَقِّهِ.

قَالَ (وَيَمْلِكُ الذِّمِّيُّ بِالْإِحْيَاءِ كَمَا يَمْلِكُهُ الْمُسْلِمُ)؛ لِأَنَّ الْإِحْيَاءَ سَبَبُ الْمِلْكِ، إلَّا أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله إذْنُ الْإِمَامِ مِنْ شَرْطِهِ فَيَسْتَوِيَانِ فِيهِ كَمَا فِي سَائِرِ أَسْبَابِ الْمِلْكِ حَتَّى الِاسْتِيلَاءِ عَلَى أَصْلِنَا

وَالْحَشِيشُ مِنْ ذَلِكَ بِمَا هُوَ مَفْصُولٌ عَنْهُ فَلَا يَلْزَمُ أَوْلَوِيَّةُ الْعَمَلِ بِمَا رَوَيَاهُ، إذْ يَصِيرُ الْعَامُّ حِينَئِذٍ مَنْسُوخًا فِي الْقَدْرِ الَّذِي تَنَاوَلَهُ الْخَاصُّ وَيَصِيرُ قَطْعِيًّا فِي الْبَاقِي كَسَائِرِ الْقَطْعِيَّاتِ كَمَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ أَيْضًا، وَلَا شَكَّ أَنَّ تَخْصِيصَ الْحَطَبِ وَالْحَشِيشِ مِمَّا رَوَاهُ لَيْسَ بِكَلَامٍ مَوْصُولٍ بِهِ، بَلْ إنَّمَا هُوَ دَلِيلٌ آخَرُ مَفْصُولٌ عَنْهُ.

وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ كَوْنَ الْأَرْضِ مُطْلَقًا مِمَّا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى رَأْيِ الْإِمَامِ أَوَّلَ الْمَسْأَلَةِ لَمْ يَقُلْ بِهِ الْإِمَامَانِ فِي الْأَرْضِ الْمَوَاتِ، فَبِنَاءُ الْجَوَابِ عَلَيْهِ يُؤَدِّي إلَى الْمُصَادَرَةِ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا يُؤَدِّي إلَى الْمُصَادَرَةِ لَوْ لَمْ يُسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ لِأَنَّهَا صَارَتْ مِنْ الْغَنَائِمِ إلَخْ. قُلْنَا: كَوْنُهَا مِنْ الْغَنَائِمِ دَلِيلٌ آخَرُ عَقْلِيٌّ لِأَبِي حَنِيفَةَ مَذْكُورٌ فِي الْكِتَابِ بَعْدَهُ، وَالْكَلَامُ الْآنَ فِي تَمْشِيَةِ الدَّلِيلِ النَّقْلِيِّ، فَبِالْمَصِيرِ إلَى ذَلِكَ الدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ هُنَا يَلْزَمُ خَلْطُ الدَّلِيلَيْنِ وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ (قَوْلُهُ يَجِبُ فِيهِ الْعُشْرُ؛ لِأَنَّ ابْتِدَاءَ تَوْظِيفِ الْخَرَاجِ عَلَى الْمُسْلِمِ لَا يَجُوزُ) أَقُولُ: فِي هَذَا التَّعْلِيلِ شَيْءٌ، وَهُوَ أَنَّهُ سَيَجِيءُ فِي الْكِتَابِ أَنَّ الْمُسْلِمَ وَالذِّمِّيَّ مُسْتَوِيَانِ فِي حُكْمِ إحْيَاءِ الْأَرْضِ الْمَوَاتِ، وَالتَّعْلِيلُ الْمَذْكُورُ إنَّمَا يَتَمَشَّى فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ دُونَ الذِّمِّيِّ فَتَأَمَّلْ (قَوْلُهُ وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْأَوَّلَ يَنْزِعُهَا مِنْ الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهَا بِالْإِحْيَاءِ عَلَى مَا نَطَقَ بِهِ الْحَدِيثُ، إذْ الْإِضَافَةُ فِيهِ فَاللَّامُ التَّمْلِيكِ وَمِلْكُهُ لَا يَزُولُ بِالتَّرْكِ) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ: وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الِاسْتِدْلَال بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى مَذْهَبِهِمَا صَحِيحٌ. وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ فَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ حَمَلَهُ عَلَى كَوْنِهِ إذْنًا لَا شَرْعًا فَكَيْفَ يَصِحُّ الِاسْتِدْلَال بِهِ، وَالْجَوَابُ أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ إذْنًا لَكِنَّهُ إذَا أَذِنَ لَهُ الْإِمَامُ كَانَ شَرْعًا؛ أَلَا يُرَى أَنَّ مَنْ قَالَ لَهُ الْإِمَامُ مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلْبُهُ مَلَكَ سَلْبَ مَنْ قَتَلَهُ انْتَهَى.

وَاعْتَرَضَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ عَلَى الْجَوَابِ حَيْثُ قَالَ: فِيهِ بَحْثٌ، فَبَيْنَهُمَا فَرْقٌ لِوُجُودِ دَلَالَةِ التَّمْلِيكِ فِي لَفْظِ الْإِمَامِ هُنَا، بِخِلَافِ الْإِذْنِ فِي الْإِحْيَاءِ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ بِلَفْظِ التَّمْلِيكِ انْتَهَى. أَقُولُ: الْفَرْقُ الَّذِي ذَكَرَهُ لَيْسَ بِتَامٍّ؛ لِأَنَّ لَامَ التَّمْلِيكِ مَذْكُورَةٌ فِي كُلٍّ مِنْ الْحَدِيثَيْنِ الْوَارِدَيْنِ فِي الْمَقَامَيْنِ، فَإِذَا كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا مَحْمُولًا عَلَى الْإِذْنِ فَجَعْلُ وُجُودِ لَفْظِ التَّمْلِيكِ

ص: 71

قَالَ (وَمَنْ حَجَرَ أَرْضًا وَلَمْ يَعْمُرْهَا ثَلَاثَ سِنِينَ أَخَذَهَا الْإِمَامُ وَدَفَعَهَا إلَى غَيْرِهِ) لِأَنَّ الدَّفْعَ إلَى الْأَوَّلِ كَانَ لِيَعْمُرَهَا فَتَحْصُلُ الْمَنْفَعَةُ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ حَيْثُ الْعُشْرُ أَوْ الْخَرَاجُ. فَإِذَا لَمْ تَحْصُلْ يَدْفَعُ إلَى غَيْرِهِ تَحْصِيلًا لِلْمَقْصُودِ، وَلِأَنَّ التَّحْجِيرَ لَيْسَ بِإِحْيَاءٍ لِيَمْلِكَهُ بِهِ؛ لِأَنَّ الْإِحْيَاءَ إنَّمَا هُوَ الْعِمَارَةُ وَالتَّحْجِيرُ الْإِعْلَامُ، سُمِّيَ بِهِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُعَلِّمُونَهُ بِوَضْعِ الْأَحْجَارِ حَوْلَهُ أَوْ يُعَلِّمُونَهُ لِحَجْرِ غَيْرِهِمْ عَنْ إحْيَائِهِ فَبَقِيَ غَيْرَ مَمْلُوكٍ كَمَا كَانَ هُوَ الصَّحِيحُ. وَإِنَّمَا شَرَطَ تَرْكَ ثَلَاثِ سِنِينَ لِقَوْلِ عُمَرَ رضي الله عنه: لَيْسَ لِمُتَحَجِّرٍ بَعْدَ ثَلَاثِ سِنِينَ حَقٌّ. وَلِأَنَّهُ إذَا أَعْلَمَهُ لَا بُدَّ مِنْ زَمَانٍ يَرْجِعُ فِيهِ إلَى وَطَنِهِ وَزَمَانٍ يُهَيِّئُ أُمُورَهُ فِيهِ، ثُمَّ زَمَانٍ يَرْجِعُ فِيهِ إلَى مَا يَحْجُرُهُ فَقَدَّرْنَاهُ بِثَلَاثِ سِنِينَ؛ لِأَنَّ مَا دُونَهَا مِنْ السَّاعَاتِ وَالْأَيَّامِ وَالشُّهُورِ لَا يَفِي بِذَلِكَ، وَإِذَا لَمْ يَحْضُرْ بَعْدَ انْقِضَائِهَا فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ تَرَكَهَا. قَالُوا: هَذَا كُلُّهُ دِيَانَةً، فَأَمَّا إذَا أَحْيَاهَا غَيْرُهُ قَبْلَ مُضِيِّ هَذِهِ الْمُدَّةِ مَلَكَهَا لِتَحَقُّقِ الْإِحْيَاءِ مِنْهُ دُونَ الْأَوَّلِ وَصَارَ كَالِاسْتِيَامِ فَإِنَّهُ يُكْرَهُ، وَلَوْ فُعِلَ يَجُوزُ الْعَقْدُ. ثُمَّ التَّحْجِيرُ قَدْ يَكُونُ بِغَيْرِ الْحَجَرِ بِأَنْ غَرَزَ حَوْلَهَا أَغْصَانًا يَابِسَةً أَوْ نَقَّى الْأَرْضَ وَأَحْرَقَ مَا فِيهَا مِنْ الشَّوْكِ أَوْ خَضَدَ مَا فِيهَا مِنْ الْحَشِيشِ أَوْ الشَّوْكِ، وَجَعَلَهَا حَوْلَهَا

شَرْطًا فِي إذْنِ الْإِمَامِ فِي أَحَدِ الْمَقَامَيْنِ دُونَ الْآخَرِ تَحَكُّمٌ بَحْتٌ لَمْ يُسْمَعْ ذَلِكَ مِنْ أَئِمَّةِ الشَّرْعِ

(قَوْلُهُ وَمَنْ حَجَرَ أَرْضًا وَلَمْ يَعْمُرْهَا ثَلَاثَ سِنِينَ أَخَذَهَا الْإِمَامُ وَدَفَعَهَا إلَى غَيْرِهِ) وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْمَشَايِخَ اخْتَلَفُوا فِي كَوْنِ التَّحْجِيرِ مُفِيدًا لِلْمِلْكِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ يُفِيدُ مِلْكًا مُؤَقَّتًا إلَى ثَلَاثِ سِنِينَ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ لَا يُفِيدُ. وَهُوَ مُخْتَارُ الْمُصَنِّفِ أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ هُوَ الصَّحِيحُ.

قِيلَ وَثَمَرَةُ الْخِلَافِ تَظْهَرُ فِيمَا إذَا جَاءَ إنْسَانٌ آخَرُ قَبْلَ مُضِيِّ ثَلَاثِ سِنِينَ وَأَحْيَاهُ، فَإِنَّهُ مَلَكَهُ عَلَى الثَّانِي وَلَمْ يَمْلِكْهُ عَلَى الْأَوَّلِ. وَجْهُ الْأَوَّلِ مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه: لَيْسَ لِمُتَحَجِّرٍ حَقٌّ بَعْدَ ثَلَاثِ سِنِينَ. نَفْيُ الْحَقِّ بَعْدَ ثَلَاثِ سِنِينَ فَيَكُونُ لَهُ الْحَقُّ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ، وَالْمُطْلَقُ يَنْصَرِفُ إلَى الْكَامِلِ، وَالْحَقُّ الْكَامِلُ هُوَ الْمِلْكُ، وَوَجْهُ الصَّحِيحِ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ. وَالْجَوَابُ عَنْ اسْتِدْلَالِهِمْ أَنَّ ذَلِكَ مَفْهُومٌ وَهُوَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ. وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ وَأَجَابَ حَيْثُ قَالَ: وَأَنْتَ خَبِيرٌ بِأَنَّ الْمُصَنِّفَ اسْتَدَلَّ عَلَى التَّرْكِ سِنِينَ بِهَذَا الطَّرِيقِ. وَجَوَابُهُ أَنَّ ثُبُوتَ الْحَقِّ لَيْسَ بِالْحَدِيثِ بَلْ بِالْإِجْمَاعِ انْتَهَى. أَقُولُ: جَوَابُهُ لَيْسَ بِسَدِيدٍ، إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ ثُبُوتُ الْحَقِّ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ بِالْحَدِيثِ بَلْ بِالْإِجْمَاعِ لَمَا قَالَ الْمُصَنِّفُ وَإِنَّمَا شَرَطَ تَرْكَ ثَلَاثِ سِنِينَ لِقَوْلِ عُمَرَ رضي الله عنه: لَيْسَ لِمُتَحَجِّرٍ بَعْدَ ثَلَاثِ سِنِينَ حَقٌّ، فَإِنَّ حَاصِلَهُ الِاسْتِدْلَال بِمَفْهُومِ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ عَلَى ثُبُوتِ حَقِّ الْمُتَحَجِّرِ قَبْلَ ثَلَاثِ سِنِينَ، إذْ هُوَ الْمُقْتَضِي اشْتِرَاطَ تَرْكِ ثَلَاثِ سِنِينَ، وَمَدَارُ مَا أَوْرَدَهُ عَلَى أَنَّ اسْتِدْلَالَ الْمُصَنِّفِ بِمَفْهُومِ ذَلِكَ الْحَدِيثِ لَيْسَ بِتَامٍّ لِعَدَمِ كَوْنِ الْمَفْهُومِ حُجَّةً عِنْدَنَا فَلَا يَدْفَعُهُ الْجَوَابُ الْمَزْبُورُ (قَوْلُهُ لِأَنَّ الدَّفْعَ إلَى الْأَوَّلِ كَانَ لِيَعْمُرَهَا فَتَحْصُلُ الْمَنْفَعَةُ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ حَدِيثِ الْعُشْرِ أَوْ الْخَرَاجِ، فَإِذَا لَمْ تَحْصُلْ يَدْفَعُهُ إلَى غَيْرِهِ تَحْصِيلًا لِلْمَقْصُودِ) أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَوْ تَمَّ هَذَا التَّعْلِيلُ لَاقْتَضَى أَنْ يَأْخُذَهَا الْإِمَامُ وَيَدْفَعَهَا إلَى الْغَيْرِ بَعْدَ الْإِحْيَاءِ أَيْضًا إذَا لَمْ يَزْرَعْهَا ثَلَاثَ سِنِينَ تَحْصِيلًا لِمَنْفَعَةِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ حَيْثُ الْعُشْرُ أَوْ الْخَرَاجُ وَتَخْلِيصًا لَهَا عَنْ التَّعْطِيلِ. فَإِنْ قُلْت: يَمْلِكُهَا الْإِنْسَانُ بِالْإِحْيَاءِ وَلَا يَمْلِكُهَا بِمُجَرَّدِ التَّحْجِيرِ بَلْ يَصِيرُ أَحَقَّ بِالتَّصَرُّفِ فِيهَا مِنْ الْغَيْرِ، وَالْإِمَامُ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَدْفَعَ مَمْلُوكَ أَحَدٍ إلَى غَيْرِهِ لِانْتِفَاعِ الْمُسْلِمِينَ، وَيَقْدِرُ أَنْ يَدْفَعَ غَيْرَ مَمْلُوكِ الْيَدِ لِذَلِكَ.

قُلْت: فَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ الْمَصِيرُ إلَى التَّعْلِيلِ الثَّانِي الَّذِي ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ وَلِأَنَّ التَّحْجِيرَ لَيْسَ

ص: 72

وَجَعَلَ التُّرَابَ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُتِمَّ الْمُسَنَّاةَ لِيَمْنَعَ النَّاسَ مِنْ الدُّخُولِ، أَوْ حَفَرَ مِنْ بِئْرٍ ذِرَاعًا أَوْ ذِرَاعَيْنِ، وَفِي الْأَخِيرِ وَرَدَ الْخَبَرُ. وَلَوْ كَرَبَهَا وَسَقَاهَا فَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ إحْيَاءٌ، وَلَوْ فَعَلَ أَحَدَهُمَا يَكُونُ تَحْجِيرًا، وَلَوْ حَفَرَ أَنْهَارَهَا وَلَمْ يَسْقِهَا يَكُونُ تَحْجِيرًا، وَإِنْ سَقَاهَا مَعَ حَفْرِ الْأَنْهَارِ كَانَ إحْيَاءً لِوُجُودِ الْفِعْلَيْنِ، وَلَوْ حَوَّطَهَا أَوْ سَنَّمَهَا بِحَيْثُ يَعْصِمُ الْمَاءَ يَكُونُ إحْيَاءً؛ لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْبِنَاءِ، وَكَذَا إذَا بَذَرَهَا.

قَالَ (وَلَا يَجُوزُ إحْيَاءُ مَا قَرُبَ مِنْ الْعَامِرِ وَيُتْرَكُ مَرْعًى لِأَهْلِ الْقَرْيَةِ وَمَطْرَحًا لِحَصَائِدِهِمْ) لِتَحَقُّقِ حَاجَتِهِمْ إلَيْهَا حَقِيقَةً أَوْ دَلَالَةً عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ، فَلَا يَكُونُ مَوَاتًا لِتَعَلُّقِ حَقِّهِمْ بِهَا بِمَنْزِلَةِ الطَّرِيقِ وَالنَّهْرِ. عَلَى هَذَا قَالُوا: لَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْطَعَ مَا لَا غِنًى بِالْمُسْلِمِينَ عَنْهُ كَالْمِلْحِ وَالْآبَارِ الَّتِي يَسْتَقِي النَّاسُ مِنْهَا لِمَا ذَكَرْنَا.

قَالَ (وَمَنْ حَفَرَ بِئْرًا فِي بَرِّيَّةٍ فَلَهُ حَرِيمُهَا) وَمَعْنَاهُ إذَا حَفَرَ فِي أَرْضٍ مَوَاتٍ بِإِذْنِ الْإِمَامِ عِنْدَهُ أَوْ بِإِذْنِهِ وَبِغَيْرِ إذْنِهِ عِنْدَهُمَا؛ لِأَنَّ حَفْرَ الْبِئْرِ إحْيَاءٌ. قَالَ (فَإِنْ كَانَتْ لِلْعَطَنِ فَحَرِيمُهَا أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «مَنْ حَفَرَ بِئْرًا فَلَهُ مِمَّا حَوْلَهَا أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا عَطَنًا لِمَاشِيَتِهِ» ثُمَّ قِيلَ: الْأَرْبَعُونَ مِنْ كُلِّ الْجَوَانِبِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ؛ لِأَنَّ فِي الْأَرَاضِيِ رَخْوَةً وَيَتَحَوَّلُ الْمَاءُ

بِإِحْيَاءٍ لِيَمْلِكَهُ بِهِ فَلَا يَكُونُ التَّعْلِيلُ الْأَوَّلُ مُفِيدًا لِلْمُدَّعِي بِدُونِ الثَّانِي مَعَ أَنَّ أُسْلُوبَ تَحْرِيرِهِ يَأْبَى ذَلِكَ كَمَا تَرَى

(قَوْلُهُ لِتَحَقُّقِ حَاجَتِهِمْ إلَيْهَا حَقِيقَةً أَوْ دَلَالَةً عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ) قَالَ عَامَّةُ الشُّرَّاحِ فِي حَلِّ هَذَا التَّعْلِيلِ: لِتَحَقُّقِ حَاجَتِهِمْ إلَيْهَا حَقِيقَةً: أَيْ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رحمه الله، أَوْ دَلَالَةً: أَيْ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله. وَقَالَ صَاحِبُ مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ بَعْدَ نَقْلِ ذَلِكَ: أَرَادَ بِقَوْلِهِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ قَوْلَهُ وَمُحَمَّدٌ اعْتَبَرَ انْقِطَاعَ ارْتِفَاقِ أَهْلِ الْقَرْيَةِ عَنْهَا حَقِيقَةً إلَخْ. وَاقْتَفَى أَثَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ وَالشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ، أَقُولُ: لَمْ يُصِبْ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ مِنْ الشُّرَّاحِ فِي حَمْلِهِمْ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ عَلَى مَا ذَكَرُوا، إذْ الظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ الْمَزْبُورِ مَجْمُوعُ مَا ذَكَرَهُ فِيمَا مَرَّ بِقَوْلِهِ: وَالْبُعْدُ عَنْ الْقَرْيَةِ عَلَى مَا قَالَ شَرَطَهُ أَبُو يُوسُفَ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ مَا يَكُونُ قَرِيبًا مِنْ الْقَرْيَةِ لَا يَنْقَطِعُ ارْتِفَاقُ أَهْلِهَا عَنْهُ فَيُدَارُ الْحُكْمُ عَلَيْهِ وَمُحَمَّدٌ اعْتَبَرَ انْقِطَاعَ ارْتِفَاقِ أَهْلِ الْقَرْيَةِ عَنْهَا حَقِيقَةً وَإِنْ كَانَ قَرِيبًا مِنْ الْقَرْيَةِ انْتَهَى. إذْ يَصِيرُ قَوْلُهُ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ حِينَئِذٍ نَاظِرًا إلَى مَجْمُوعِ قَوْلِهِ لِتَحَقُّقِ حَاجَتِهِمْ إلَيْهَا حَقِيقَةً أَوْ دَلَالَةً فَيَحْسُنُ، وَأَمَّا عَلَى مَا ذَكَرَهُ هَؤُلَاءِ الشُّرَّاحُ فَيَصِيرُ قَوْلُهُ الْمَزْبُورُ نَاظِرًا إلَى قَوْلِهِ لِتَحَقُّقِ حَاجَتِهِمْ إلَيْهَا حَقِيقَةً فَقَطْ، وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنْ الرَّكَاكَةِ. أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُ كَانَ يَنْبَغِي إذْ ذَاكَ أَنْ يُقَدِّمَ قَوْلَهُ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ عَلَى قَوْلِهِ أَوْ دَلَالَةً كَمَا لَا يُشْتَبَهُ عَلَى ذِي فِطْرَةٍ سَلِيمَةٍ.

وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّهُ يَلْزَمُ حِينَئِذٍ أَنْ يُقْصِرَ حَوَالَةَ الْبَيَانِ عَلَى صُورَةِ حَقِيقَةِ الْحَاجَةِ إلَيْهَا مَعَ مُرُورِ بَيَانِ صُورَةِ دَلَالَةِ الْحَاجَةِ إلَيْهَا أَيْضًا، وَذَلِكَ مِمَّا لَا ضَرُورَةَ فِيهِ بَلْ لَا وَجْهَ لَهُ

(قَوْلُهُ: لِأَنَّ فِي الْأَرَاضِيِ رَخْوَةً وَيَتَحَوَّلُ الْمَاءُ

ص: 73

إلَى مَا حُفِرَ دُونَهَا (وَإِنْ كَانَتْ لِلنَّاضِحِ فَحَرِيمُهَا سِتُّونَ ذِرَاعًا، وَهَذَا عِنْدَهُمَا. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا) لَهُمَا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «حَرِيمُ الْعَيْنِ خَمْسُمِائَةِ ذِرَاعٍ. وَحَرِيمُ بِئْرِ الْعَطَنِ أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا، وَحَرِيمُ بِئْرِ النَّاضِحِ سِتُّونَ ذِرَاعًا» وَلِأَنَّهُ قَدْ يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى أَنْ يُسَيِّرَ دَابَّتَهُ لِلِاسْتِقَاءِ، وَقَدْ يَطُولُ الرِّشَاءُ وَبِئْرُ الْعَطَنِ لِلِاسْتِقَاءِ مِنْهُ بِيَدِهِ فَقَلَّتْ الْحَاجَةُ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّفَاوُتِ. وَلَهُ مَا رَوَيْنَا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ، وَالْعَامُّ الْمُتَّفَقُ عَلَى قَبُولِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ

إلَى مَا حُفِرَ دُونَهَا) أَقُولُ: كَانَ الظَّاهِرُ أَنْ يُقَالَ: فَيَتَحَوَّلُ الْمَاءُ بِالْفَاءِ؛ لِأَنَّ سَبَبَ تَحَوُّلِ الْمَاءِ إلَى مَا حُفِرَ دُونَهَا إنَّمَا هُوَ رَخْوَةُ الْأَرَاضِيِ لَا غَيْرُ، إذْ لَوْ كَانَتْ فِيهَا صَلَابَةٌ لَمْ يَتَحَوَّلْ الْمَاءُ إلَى مَا حُفِرَ دُونَهَا قَطْعًا فَلَا بُدَّ مِنْ أَدَاةِ التَّفْرِيعِ.

ثُمَّ أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إنَّ هَذَا التَّعْلِيلَ تَعْلِيلٌ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ عليه الصلاة والسلام «مَنْ حَفَرَ بِئْرًا فَلَهُ مِمَّا حَوْلَهَا أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا» ظَاهِرٌ فِي كَوْنِ الْأَرْبَعِينَ مِنْ كُلِّ الْجَوَانِبِ الْأَرْبَعَةِ، عَلَى أَنْ يَكُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ عَشْرَةُ أَذْرُعٍ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْكَافِي وَعَامَّةِ الشُّرُوحِ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ أَنَّ التَّعْلِيلَ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ غَيْرُ صَحِيحٍ، فَكَيْفَ يَتِمُّ الِاسْتِدْلَال بِمَا ذَكَرَهُ عَلَى كَوْنِ الصَّحِيحِ أَنَّهُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ. وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْحَرِيمِ دَفْعُ الضَّرَرِ عَنْ صَاحِبِ الْبِئْرِ، وَالضَّرَرُ لَا يَنْدَفِعُ عَنْهُ بِعَشْرَةِ أَذْرُعٍ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ. فَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْأَرْبَعُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ لَزِمَهُ الْحَرَجُ وَهُوَ مَدْفُوعٌ بِالنَّصِّ، فَكَانَ مَآلُ هَذَا التَّعْلِيلِ هُوَ الِاسْتِدْلَال بِالنَّصِّ الدَّالِّ عَلَى دَفْعِ الْحَرَجِ، وَقَدْ اكْتَفَى فِيهِ بِمَا يَدُلُّ عَلَى لُزُومِ الضَّرَرِ الْمُؤَدِّي إلَى الْحَرَجِ، وَيُرْشِدُك إلَيْهِ تَقْرِيرُ صَاحِبِ الْكَافِي هَاهُنَا حَيْثُ قَالَ: وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا مِنْ كُلِّ الْجَوَانِبِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ دَفْعُ الضَّرَرِ عَنْ صَاحِبِ الْبِئْرِ الْأَوَّلِ لِكَيْ لَا يَحْفِرَ أَحَدٌ فِي حَرِيمِهِ بِئْرًا أُخْرَى فَيَتَحَوَّلَ إلَيْهَا مَاءُ بِئْرِهِ، وَهَذَا الضَّرَرُ لَا يَنْدَفِعُ بِعَشَرَةِ أَذْرُعٍ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، فَإِنَّ الْأَرَاضِيَ تَخْتَلِفُ صَلَابَةً وَرَخَاوَةً، فَرُبَّمَا يَحْفِرُ بِحَرِيمِهِ أَحَدٌ بِئْرًا أُخْرَى فَيَتَحَوَّلُ مَاءُ الْبِئْرِ الْأُولَى إلَيْهِ فَيَتَعَطَّلُ عَلَيْهِ مَنْفَعَةُ بِئْرِهِ، وَفِي مِقْدَارِ أَرْبَعِينَ ذِرَاعًا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ يَنْدَفِعُ هَذَا الضَّرَرُ بِيَقِينٍ انْتَهَى فَتَدَبَّرْ (قَوْلُهُ وَلَهُ مَا رَوَيْنَا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ، وَالْعَامُّ الْمُتَّفَقُ عَلَى قَبُولِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ أَوْلَى عِنْدَهُ مِنْ الْخَاصِّ الْمُخْتَلَفِ فِي قَبُولِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ) يُرِيدُ بِقَوْلِهِ مَا رَوَيْنَا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «مَنْ حَفَرَ بِئْرًا فَلَهُ مِمَّا حَوْلَهَا أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا» وَبِقَوْلِهِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ: أَيْ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْعَطَنِ وَالنَّاضِحِ، وَيُرِيدُ بِالْعَامِّ الْمُتَّفَقَ عَلَى قَبُولِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «مَنْ حَفَرَ بِئْرًا فَلَهُ مِمَّا حَوْلَهَا أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا» وَبِقَوْلِهِ أَوْلَى عِنْدَهُ، أَيْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَيُرِيدُ بِالْخَاصِّ الْمُخْتَلَفَ فِي قَبُولِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ حَدِيثَ الزُّهْرِيِّ وَهُوَ قَوْلُهُ «حَرِيمُ الْعَيْنِ خَمْسُمِائَةِ ذِرَاعٍ، وَحَرِيمُ بِئْرِ الْعَطَنِ أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا، وَحَرِيمُ بِئْرِ النَّاضِحِ سِتُّونَ ذِرَاعًا» كَذَا فِي الْعِنَايَةِ وَغَيْرِهَا.

أَقُولُ: هَذَا الدَّلِيلُ الْمَذْكُورُ مِنْ قِبَلِ أَبِي حَنِيفَةَ مَنْقُوضٌ بِمَا إذَا كَانَتْ الْبِئْرُ عَيْنًا، فَإِنَّ حَرِيمَهَا خَمْسُمِائَةِ ذِرَاعٍ بِالْإِجْمَاعِ كَمَا سَيَأْتِي مَعَ أَنَّ مَا رَوَاهُ مِنْ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «مَنْ حَفَرَ بِئْرًا فَلَهُ مِمَّا حَوْلَهَا أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا» لَا يُفَصِّلُ ذَلِكَ أَيْضًا، وَإِنَّ كَوْنَ الْعَامِّ الْمُتَّفَقِ عَلَى قَبُولِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ أَوْلَى عِنْدَهُ مِنْ الْخَاصِّ الْمُخْتَلَفِ فِي قَبُولِهِ، وَالْعَمَلُ بِهِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ حَرِيمُهَا أَرْبَعِينَ ذِرَاعًا عِنْدَهُ فَلْيُتَأَمَّلْ فِي الْفَرْقِ،

ص: 74

أَوْلَى عِنْدَهُ مِنْ الْخَاصِّ الْمُخْتَلَفِ فِي قَبُولِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ، وَلِأَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَى اسْتِحْقَاقَ الْحَرِيمِ؛ لِأَنَّ عَمَلَهُ فِي مَوْضِعِ الْحَفْرِ، وَالِاسْتِحْقَاقُ بِهِ، فَفِيمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْحَدِيثَانِ تَرَكْنَاهُ وَفِيمَا تَعَارَضَا فِيهِ حَفِظْنَاهُ؛ وَلِأَنَّهُ قَدْ يُسْتَقَى مِنْ الْعَطَنِ بِالنَّاضِحِ وَمِنْ بِئْرِ النَّاضِحِ بِالْيَدِ فَاسْتَوَتْ الْحَاجَةُ فِيهِمَا، وَيُمْكِنُهُ أَنْ يُدْبِرَ الْبَعِيرَ حَوْلَ الْبِئْرِ فَلَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى زِيَادَةِ مَسَافَةٍ: قَالَ (وَإِنْ كَانَتْ عَيْنًا فَحَرِيمُهَا خَمْسمِائَةِ ذِرَاعٍ) لِمَا رَوَيْنَا، وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ فِيهِ إلَى زِيَادَةِ مَسَافَةٍ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ تُسْتَخْرَجُ لِلزِّرَاعَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ مَوْضِعٍ يَجْرِي فِيهِ الْمَاءُ وَمِنْ حَوْضٍ يَجْتَمِعُ فِيهِ الْمَاءُ.

وَمِنْ مَوْضِعٍ يُجْرَى فِيهِ إلَى الْمَزْرَعَةِ فَلِهَذَا يُقَدَّرُ بِالزِّيَادَةِ، وَالتَّقْدِيرُ بِخَمْسِمِائَةٍ بِالتَّوْقِيفِ. وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ خَمْسُمِائَةِ ذِرَاعٍ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْعَطَنِ، وَالذِّرَاعُ هِيَ الْمُكَسَّرَةُ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ.

قَوْلُهُ وَلِأَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَى اسْتِحْقَاقَ الْحَرِيمِ؛ لِأَنَّ عَمَلَهُ فِي مَوْضِعِ الْحَفْرِ وَالِاسْتِحْقَاقُ بِهِ فَفِيمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْحَدِيثَانِ تَرَكْنَاهُ، وَفِيمَا تَعَارَضَا فِيهِ حَفِظْنَاهُ) يَعْنِي أَنَّ الْحَدِيثَيْنِ اتَّفَقَا فِي الْأَرْبَعِينَ فَتَرَكْنَا الْقِيَاسَ فِي هَذَا الْقَدْرِ، وَفِيمَا وَرَاءَ الْأَرْبَعِينَ تَعَارَضَا، لِأَنَّ الْعَامَّ يَنْفِيهِ، وَالْخَاصَّ يُثْبِتُهُ فَتَسَاقَطَا فَعَمِلْنَا بِالْقِيَاسِ، كَذَا فِي شَرْحِ تَاجِ الشَّرِيعَةِ وَغَيْرِهِ. أَقُولُ: فِيهِ بَحْثٌ لِأَنَّ الْمُتَعَارِضَيْنِ مِنْ الدَّلِيلَيْنِ إنَّمَا يَتَسَاقَطَانِ إذَا لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِهِمَا رُجْحَانٌ عَلَى الْآخَرِ، وَأَمَّا إذَا كَانَ لِأَحَدِهِمَا رُجْحَانٌ عَلَى الْآخَرِ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِالرَّاجِحِ وَتَرْكُ الْآخَرِ، وَالْأَمْرُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعَامَّ إنَّمَا يَنْفِي مَا وَرَاءَ الْأَرْبَعِينَ بِطَرِيقِ الْمَفْهُومِ وَهُوَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ عِنْدَنَا، وَإِنْ سُلِّمَ أَنَّهُ يَنْفِي ذَلِكَ بِمَنْطُوقِهِ فَإِنَّمَا يَنْفِيهِ بِطَرِيقِ الْإِشَارَةِ، وَالْخَاصُّ يُثْبِتُهُ بِطَرِيقِ الْعِبَارَةِ. وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ أَنَّ عِبَارَةَ النَّصِّ تُرَجَّحُ عَلَى إشَارَتِهِ عِنْدَ التَّعَارُضِ فَلَزِمَ أَنْ لَا يَسْقُطَ الْخَاصُّ بَلْ وَجَبَ أَنْ يُعْمَلَ بِهِ، وَيُتْرَكَ الْقِيَاسُ لِظُهُورِ أَنْ يُتْرَكَ الْقِيَاسُ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ. قَالَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ: فَإِنْ قُلْت: كَيْفَ يَتَعَارَضَانِ، وَقَدْ ذَكَرَ الْقَبُولَ فِي أَحَدِهِمَا وَالِاخْتِلَافَ فِي الْآخَرِ؟ قُلْت: يَعْنِي بِهِ صُورَةَ الْمُعَارَضَةِ، كَمَا يُقَالُ إذَا تَعَارَضَ الْمَشْهُورُ مَعَ خَبَرِ الْوَاحِدِ تَرَجَّحَ الْمَشْهُورُ وَعَدَمُ التَّعَارُضِ مَعْلُومٌ انْتَهَى.

وَاقْتَفَى أَثَرَهُ صَاحِبُ الْكِفَايَةِ وَالشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ. أَقُولُ: الْجَوَابُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، إذْ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِتَعَارُضِهِمَا هَاهُنَا صُورَةَ التَّعَارُضِ الَّتِي لَا تُنَافِي رُجْحَانَ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ لَمَا تَمَّ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ وَفِيمَا تَعَارَضَا فِيهِ حَفِظْنَاهُ. وَلَمَّا صَحَّ قَوْلُهُمْ فِي شَرْحِ ذَلِكَ وَفِيمَا وَرَاءَ الْأَرْبَعِينَ تَعَارَضَا فَتَسَاقَطَا فَعَمِلْنَا بِالْقِيَاسِ، إذْ التَّسَاقُطُ وَالْعَمَلُ بِالْقِيَاسِ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ فِي حَقِيقَةِ التَّعَارُضِ بِأَنْ يَتَسَاوَيَا فِي الْقُوَّةِ وَلَمْ يُوجَدْ الْمُخَلِّصُ. وَأَمَّا فِي صُورَةِ التَّعَارُضِ مَعَ رُجْحَانِ أَحَدِهَا عَلَى الْآخَرِ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِالرَّاجِحِ وَتَرْكُ الْآخَرِ وَالْقِيَاسِ، وَقَدْ عُرِفَ ذَلِكَ كُلُّهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ. ثُمَّ أَقُولُ: الظَّاهِرُ فِي الْجَوَابِ أَنْ يُقَالَ: مَدَارُ هَذَا الدَّلِيلِ عَلَى التَّنْزِيلِ عَمَّا ذُكِرَ فِي الدَّلِيلِ السَّابِقِ مِنْ كَوْنِ الْعَامِّ الْمُتَّفَقِ عَلَى قَبُولِهِ أَوْلَى مِنْ الْخَاصِّ الْمُخْتَلَفِ فِي قَبُولِهِ: يَعْنِي لَوْ سُلِّمَ عَدَمُ رُجْحَانِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ وَتَسَاقُطُهُمَا فِيمَا تَعَارَضَا فِيهِ، وَهُوَ مَا وَرَاءَ الْأَرْبَعِينَ حَفِظْنَا الْقِيَاسَ فِيهِ وَهُوَ يَكْفِينَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ تَأَمَّلْ تُرْشَدْ.

(قَوْلُهُ وَلِأَنَّهُ قَدْ يَسْتَقِي مِنْ بِئْرِ الْعَطَنِ بِالنَّاضِحِ وَمِنْ بِئْرِ النَّاضِحِ بِالْيَدِ فَاسْتَوَتْ الْحَاجَةُ فِيهِمَا)

ص: 75

وَقِيلَ إنَّ التَّقْدِيرَ فِي الْعَيْنِ وَالْبِئْرِ بِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي أَرَاضِيهِمْ لِصَلَابَةٍ بِهَا وَفِي أَرَاضِيِنَا رَخَاوَةٌ فَيُزَادُ كَيْ لَا يَتَحَوَّلَ الْمَاءُ إلَى الثَّانِي فَيَتَعَطَّلَ الْأَوَّلُ. قَالَ (فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَحْفِرَ فِي حَرِيمِهَا مُنِعَ مِنْهُ) كَيْ لَا يُؤَدِّيَ إلَى تَفْوِيتِ حَقِّهِ وَالْإِخْلَالِ بِهِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ بِالْحَفْرِ مَلَكَ الْحَرِيمَ ضَرُورَةً تُمَكِّنُهُ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهِ فَلَيْسَ لِغَيْرِهِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي مِلْكِهِ؛ فَإِنْ احْتَفَرَ آخَرُ بِئْرًا فِي حَرِيمِ الْأَوَّلِ لِلْأَوَّلِ أَنْ يُصْلِحَهُ وَيَكْبِسَهُ تَبَرُّعًا، وَلَوْ أَرَادَ أَخْذَ الثَّانِي فِيهِ قِيلَ: لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ وَيَكْبِسَهُ؛ لِأَنَّ إزَالَةَ جِنَايَةِ حَفْرِهِ بِهِ كَمَا فِي الْكُنَاسَةِ يُلْقِيهَا فِي دَارِ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ بِرَفْعِهَا، وَقِيلَ يُضَمِّنُهُ النُّقْصَانَ ثُمَّ يَكْبِسُهُ بِنَفْسِهِ كَمَا إذَا هَدَمَ جِدَارَ غَيْرِهِ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ ذَكَرَهُ فِي أَدَبِ الْقَاضِي لِلْخَصَّافِ.

وَذَكَرَ طَرِيقَ مَعْرِفَةِ النُّقْصَانِ، وَمَا عَطِبَ فِي الْأَوَّلِ فَلَا ضَمَانَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ، إنْ كَانَ بِإِذْنِ الْإِمَامِ فَظَاهِرٌ، وَكَذَا إنْ كَانَ بِغَيْرِ إذْنِهِ عِنْدَهُمَا. وَالْعُذْرُ لِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ جَعَلَ فِي الْحَفْرِ تَحْجِيرًا وَهُوَ بِسَبِيلٍ مِنْهُ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَمْلِكُهُ بِدُونِهِ، وَمَا عَطِبَ فِي الثَّانِيَةِ فَفِيهِ الضَّمَانُ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِيهِ حَيْثُ حَفَرَ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ، وَإِنْ حَفَرَ الثَّانِي بِئْرًا وَرَاءِ حَرِيمِ الْأَوَّلِ فَذَهَبَ مَاءُ الْبِئْرِ الْأَوَّلِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فِي حَفْرِهَا، وَلِلثَّانِي الْحَرِيمُ مِنْ الْجَوَانِبِ الثَّلَاثَةِ دُونَ الْجَانِبِ الْأَوَّلِ لِسَبْقِ مِلْكِ الْحَافِرِ الْأَوَّلِ فِيهِ

(وَالْقَنَاةُ لَهَا حَرِيمٌ بِقَدْرِ مَا يُصْلِحُهَا) وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْبِئْرِ فِي اسْتِحْقَاقِ الْحَرِيمِ. وَقِيلَ هُوَ عِنْدَهُمَا. وَعِنْدَهُ لَا حَرِيمَ لَهَا مَا لَمْ يَظْهَرْ الْمَاءُ عَلَى الْأَرْضِ؛ لِأَنَّهُ نَهْرٌ فِي التَّحْقِيقِ فَيُعْتَبَرُ بِالنَّهْرِ الظَّاهِرِ. قَالُوا: وَعِنْدَ ظُهُورِ الْمَاءِ عَلَى الْأَرْضِ هُوَ بِمَنْزِلَةِ عَيْنٍ فَوَّارَةٍ فَيُقَدَّرُ حَرِيمُهُ بِخَمْسِمِائَةِ ذِرَاعٍ (وَالشَّجَرَةُ تُغْرَسُ فِي أَرْضٍ مَوَاتٍ لَهَا حَرِيمٌ أَيْضًا حَتَّى لَمْ يَكُنْ لِغَيْرِهِ أَنْ يَغْرِسَ شَجَرًا فِي حَرِيمِهَا)؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى حَرِيمٍ لَهُ يَجِدُ فِيهِ ثَمَرَهُ وَيَضَعُهُ فِيهِ وَهُوَ مُقَدَّرٌ بِخَمْسَةِ أَذْرُعٍ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، بِهِ وَرَدَ الْحَدِيثُ.

قَالَ (وَمَا تَرَكَ الْفُرَاتُ أَوْ الدِّجْلَةُ وَعَدَلَ عَنْهُ الْمَاءُ وَيَجُوزُ عَوْدُهُ إلَيْهِ لَمْ يَجُزْ إحْيَاؤُهُ) لِحَاجَةِ الْعَامَّةِ إلَى كَوْنِهِ نَهْرًا (وَإِنْ كَانَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ إلَيْهِ فَهُوَ كَالْمَوَاتِ إذَا لَمْ يَكُنْ حَرِيمًا لِعَامِرٍ)؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي مِلْكِ أَحَدٍ، لِأَنَّ قَهْرَ

أَقُولُ: هَذَا التَّعْلِيلُ ضَعِيفٌ جِدًّا؛ لِأَنَّهُمْ صَرَّحُوا بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ بِئْرِ الْعَطَنِ مَا يُسْتَقَى مِنْهُ بِالْيَدِ، وَمِنْ بِئْرِ النَّاضِحِ مَا يُسْتَقَى مِنْهُ بِالْبَعِيرِ فَكَيْفَ يَتِمُّ أَنْ يُقَالَ: قَدْ يُسْتَقَى مِنْ بِئْرِ الْعَطَنِ بِالنَّاضِحِ وَمِنْ بِئْرِ النَّاضِحِ بِالْيَدِ، وَلَئِنْ سَلِمَ ذَلِكَ فَهُوَ عَلَى النُّدْرَةِ فَكَيْفَ يَتِمُّ أَنْ يُقَالَ: فَاسْتَوَتْ الْحَاجَةُ فِيهِمَا (قَوْلُهُ وَقِيلَ إنَّ التَّقْدِيرَ فِي الْبِئْرِ وَالْعَيْنِ بِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي أَرَاضِيهِمْ لِصَلَابَةٍ بِهَا وَفِي أَرَاضِيِنَا رَخَاوَةٌ فَيُزَادُ كَيْ لَا يَتَحَوَّلَ الْمَاءُ إلَى الثَّانِي فَيَتَعَطَّلَ الْأَوَّلُ) أَقُولُ: فِيهِ إشْكَالٌ، إذْ الْمَقَادِيرُ مِمَّا لَا مَدْخَلَ فِيهِ لِلرَّأْيِ أَصْلًا، وَإِنَّمَا مَدَارُهَا النَّصُّ مِنْ الشَّارِعِ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ وَاتَّفَقُوا عَلَيْهِ. وَاَلَّذِي ثَبَتَ بِالنَّصِّ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ مَا ذُكِرَ فِيمَا قَبْلُ لَا غَيْرُ، فَتَصِيرُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ عَمَلًا بِالرَّأْيِ فِيمَا هُوَ مِنْ الْمَقَادِيرِ وَهُوَ لَا يَجُوزُ فَلْيُتَأَمَّلْ فِي الدَّفْعِ (قَوْلُهُ وَمَا عَطِبَ فِي الثَّانِيَةِ فَفِيهِ الضَّمَانُ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِيهِ حَيْثُ حَفَرَ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ) أَقُولُ: فِي التَّعْلِيلِ قُصُورٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَشَّى فِيمَا إذَا حَفَرَ الْأَوَّلُ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، فَإِنَّهُ يَجْعَلُ الْحَفْرَ هُنَاكَ تَحْجِيرًا كَمَا مَرَّ آنِفًا، وَبِمُجَرَّدِ التَّحْجِيرِ لَا تَصِيرُ الْبِئْرُ الْأُولَى وَلَا حَرِيمُهَا مِلْكًا لِلْمُحَجِّرِ فَلَا يَصْدُقُ هُنَاكَ عَلَى أَصْلِهِ أَنْ يُقَالَ إنَّ الثَّانِيَ حَفَرَ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ، فَالْأَوْلَى فِي التَّعْلِيلِ أَنْ يُقَالَ: لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِيهِ حَيْثُ حَفَرَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ الْحَقَّ يَثْبُتُ بِالتَّحْجِيرِ كَمَا يَثْبُتُ بِالْإِحْيَاءِ، وَلِهَذَا لَا يَقْدِرُ

ص: 76

الْمَاءِ يَدْفَعُ قَهْرَ غَيْرِهِ وَهُوَ الْيَوْمَ فِي يَدِ الْإِمَامِ.

قَالَ (وَمَنْ كَانَ لَهُ نَهْرٌ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ فَلَيْسَ لَهُ حَرِيمٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إلَّا أَنْ يُقِيمَ بَيِّنَةً عَلَى ذَلِكَ، وَقَالَا: لَهُ مُسْنَاةُ النَّهْرِ يَمْشِي عَلَيْهَا وَيُلْقِي عَلَيْهَا طِينَهُ) قِيلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَنْ حَفَرَ نَهْرًا فِي أَرْضٍ مَوَاتٍ بِإِذْنِ الْإِمَامِ لَا يَسْتَحِقُّ الْحَرِيمَ عِنْدَهُ. وَعِنْدَهُمَا يَسْتَحِقُّهُ؛ لِأَنَّ النَّهْرَ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ إلَّا بِالْحَرِيمِ لِحَاجَتِهِ إلَى الْمَشْيِ لِتَسْيِيلِ الْمَاءِ، وَلَا يُمْكِنُهُ الْمَشْيُ عَادَةً فِي بَطْنِ النَّهْرِ وَإِلَى إلْقَاءِ الطِّينِ، وَلَا يُمْكِنُهُ النَّقْلُ إلَى مَكَان بَعِيدٍ إلَّا بِحَرَجٍ فَيَكُونُ لَهُ الْحَرِيمُ اعْتِبَارًا بِالْبِئْرِ. وَلَهُ أَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَاهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، وَفِي الْبِئْرِ عَرَفْنَاهُ بِالْأَثَرِ، وَالْحَاجَةُ إلَى الْحَرِيمِ فِيهِ فَوْقَهَا إلَيْهِ فِي النَّهْرِ؛ لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِالْمَاءِ فِي النَّهْرِ مُمْكِنٌ بِدُونِ الْحَرِيمِ، وَلَا يُمْكِنُ فِي الْبِئْرِ إلَّا بِالِاسْتِقَاءِ وَلَا اسْتِقَاءَ إلَّا بِالْحَرِيمِ فَتَعَذَّرَ الْإِلْحَاقُ.

وَوَجْهُ الْبِنَاءِ أَنَّ بِاسْتِحْقَاقِ الْحَرِيمِ تَثْبُتُ الْيَدُ عَلَيْهِ اعْتِبَارًا تَبَعًا لِلنَّهْرِ، وَالْقَوْلُ لِصَاحِبِ الْيَدِ، وَبِعَدَمِ اسْتِحْقَاقِهِ تَنْعَدِمُ الْيَدُ، وَالظَّاهِرُ يَشْهَدُ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَإِنْ كَانَتْ مَسْأَلَةً مُبْتَدَأَةً فَلَهُمَا أَنَّ الْحَرِيمَ فِي يَدِ صَاحِبِ النَّهْرِ بِاسْتِمْسَاكِهِ الْمَاءَ بِهِ، وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ صَاحِبُ الْأَرْضِ نَقْضَهُ.

وَلَهُ أَنَّهُ أَشْبَهُ بِالْأَرْضِ صُورَةً وَمَعْنًى، أَمَّا صُورَةً فَلِاسْتِوَائِهِمَا، وَمَعْنًى مِنْ حَيْثُ صَلَاحِيَّتُهُ لِلْغَرْسِ وَالزِّرَاعَةِ، وَالظَّاهِرُ شَاهِدٌ لِمَنْ فِي يَدِهِ مَا هُوَ أَشْبَهُ بِهِ.

الْإِمَامُ أَنْ يَأْخُذَهَا مِنْ يَدِ الْمُحَجِّرِ وَيَدْفَعَهَا إلَى غَيْرِهِ إلَّا إذَا حَجَرَ أَرْضًا وَلَمْ يَعْمُرْهَا ثَلَاثَ سِنِينَ كَمَا مَرَّ فَيَتَمَشَّى التَّعْلِيلُ بِهَذَا الْوَجْهِ فِي الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ أَيْضًا عَلَى أَصْلِ أَئِمَّتِنَا الثَّلَاثَةِ جَمِيعًا

(قَوْلُهُ وَلَهُ أَنَّهُ أَشْبَهُ بِالْأَرْضِ صُورَةً وَمَعْنًى، أَمَّا صُورَةً فَلِاسْتِوَائِهِمَا، وَمَعْنًى مِنْ حَيْثُ صَلَاحِيَّتُهُ لِلْغَرْسِ وَالزِّرَاعَةِ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَقَوْلُهُ لِاسْتِوَائِهِمَا يُشِيرُ إلَى أَنَّ الْخِلَافَ فِيمَا إذَا لَمْ تَكُنْ الْمُسَنَّاةُ مُرْتَفِعَةً عَنْ الْأَرْضِ، فَأَمَّا إذَا كَانَتْ الْمُسَنَّاةُ أَرْفَعَ مِنْ الْأَرْضِ فَهِيَ لِصَاحِبِ النَّهْرِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ ارْتِفَاعَهُ لِإِلْقَاءِ طِينِهِ انْتَهَى.

وَتَبِعَهُ

ص: 77

كَاثْنَيْنِ تَنَازَعَا فِي مِصْرَاعِ بَابٍ لَيْسَ فِي يَدِهِمَا، وَالْمِصْرَاعُ الْآخَرُ مُعَلَّقٌ عَلَى بَابِ أَحَدِهِمَا يُقْضَى لِلَّذِي فِي يَدِهِ مَا هُوَ أَشْبَهُ بِالْمُتَنَازَعِ فِيهِ، وَالْقَضَاءُ فِي مَوْضِعِ الْخِلَافِ قَضَاءُ تَرْكٍ، وَلَا نِزَاعَ فِيمَا بِهِ اسْتِمْسَاكُ الْمَاءِ إنَّمَا النِّزَاعُ فِيمَا وَرَاءَهُ مِمَّا يَصْلُحُ لِلْغَرْسِ، عَلَى أَنَّهُ إنْ كَانَ مُسْتَمْسِكًا بِهِ مَاءُ نَهْرِهِ فَالْآخَرُ دَافِعٌ بِهِ الْمَاءَ عَنْ أَرْضِهِ، وَالْمَانِعُ مِنْ نَقْضِهِ تَعَلُّقُ حَقِّ صَاحِبِ النَّهْرِ لَا مِلْكُهُ. كَالْحَائِطِ لِرَجُلٍ وَلِآخَرَ عَلَيْهِ جُذُوعٌ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ نَقْضِهِ وَإِنْ كَانَ مَلَكَهُ (وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ نَهْرٌ لِرَجُلٍ إلَى جَنْبِهِ مُسَنَّاةٌ وَلِآخَرَ خَلْفَ الْمُسَنَّاةِ أَرْضٌ تَلْزَقُهَا، وَلَيْسَتْ الْمُسَنَّاةُ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا فَهِيَ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ). وَقَالَا: هِيَ لِصَاحِبِ النَّهْرِ حَرِيمًا لِمُلْقَى طِينِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ وَلَيْسَتْ الْمُسَنَّاةُ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا مَعْنَاهُ: لَيْسَ لِأَحَدِهِمَا عَلَيْهِ غَرْسٌ وَلَا طِينٌ مُلْقًى فَيَنْكَشِفُ بِهَذَا اللَّفْظِ مَوْضِعُ الْخِلَافِ، أَمَّا إذَا كَانَ لِأَحَدِهِمَا عَلَيْهِ ذَلِكَ فَصَاحِبُ الشُّغْلِ أَوْلَى، لِأَنَّهُ صَاحِبُ يَدٍ. وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ غَرْسٌ لَا يُدْرَى مَنْ غَرَسَهُ فَهُوَ مِنْ مَوَاضِعِ الْخِلَافِ أَيْضًا.

وَثَمَرَةُ الِاخْتِلَافِ أَنَّ وِلَايَةَ الْغَرْسِ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا لِصَاحِبِ النَّهْرِ. وَأَمَّا إلْقَاءُ الطِّينِ فَقَدْ قِيلَ إنَّهُ عَلَى الْخِلَافِ، وَقِيلَ إنَّ لِصَاحِبِ النَّهْرِ ذَلِكَ مَا لَمْ يُفْحِشْ. وَأَمَّا الْمُرُورُ فَقَدْ قِيلَ يُمْنَعُ صَاحِبُ النَّهْرِ عِنْدَهُ، وَقِيلَ لَا يُمْنَعُ لِلضَّرُورَةِ. قَالَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ: آخُذُ بِقَوْلِهِ فِي الْغَرْسِ وَبِقَوْلِهِمَا فِي إلْقَاءِ الطِّينِ. ثُمَّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ حَرِيمَهُ مِقْدَارُ نِصْفِ النَّهْرِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ مِقْدَارُ بَطْنِ النَّهْرِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ. وَهَذَا أَرْفَقُ بِالنَّاسِ.

الْعَيْنِيُّ. أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا بِشَرْحٍ سَدِيدٍ، لِأَنَّ الْإِشَارَةَ إلَى مَا ذَكَرَهُ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ أَنْ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِاسْتِوَائِهِمَا فِي قَوْلِهِ صُورَةً لِاسْتِوَائِهِمَا اسْتِوَاءَهُمَا فِي الِارْتِفَاعِ وَالِانْخِفَاضِ: أَيْ الِاسْتِوَاءَ الْمَكَانِيَّ. وَلَا يَذْهَبُ عَلَى ذِي مُسْكَةٍ أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ إنَّمَا هُوَ الِاسْتِوَاءُ فِي الْحَقِيقَةِ الْأَرْضِيَّةِ. كَيْفَ لَا وَالِاسْتِوَاءُ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ قَدْ يَتَحَقَّقُ بَيْنَ النَّهْرِ وَالْحَرِيمِ أَيْضًا كَمَا لَا يَخْفَى عَلَيْك، فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ ذَلِكَ لَاخْتَلَّ التَّعْلِيلُ الْمَذْكُورُ تَبَصَّرْ.

(قَوْلُهُ وَثَمَرَةُ الِاخْتِلَافِ أَنَّ وِلَايَةَ الْغَرْسِ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا لِصَاحِبِ النَّهْرِ) قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: فِيهِ بَحْثٌ. إذْ لَا يَظْهَرُ كَوْنُ مَا ذَكَرَهُ ثَمَرَةً لِمَا تَقَدَّمَهُ، بَلْ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَدَّعِيَ الْعَكْسَ انْتَهَى. أَقُولُ: لَا وَجْهَ لِكَلَامِهِ هَذَا أَصْلًا فَإِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ لِصَاحِبِ النَّهْرِ حَرِيمٌ عِنْدَهُ بَلْ كَانَ طَرَفَا النَّهْرِ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ، وَكَانَ لِصَاحِبِ النَّهْرِ حَرِيمٌ عِنْدَهُمَا ظَهَرَ مِنْهُ أَنَّ وِلَايَةَ الْغَرْسِ فِي مِقْدَارِ ذَلِكَ الْحَرِيمِ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ عِنْدَهُ وَلِصَاحِبِ النَّهْرِ عِنْدَهُمَا، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ وِلَايَةَ الْغَرْسِ فِي مَوْضِعٍ لِمَنْ يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ، وَهَذَا مِمَّا لَا سُتْرَةَ بِهِ، فَكَيْفَ خَفِيَ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ الْقَائِلِ.

ص: 78

‌فُصُولٌ فِي مَسَائِلِ الشِّرْبِ

‌فَصْلٌ فِي الْمِيَاهِ

(وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ نَهْرٌ أَوْ بِئْرٌ أَوْ قَنَاةٌ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَ شَيْئًا مِنْ الشَّفَةِ، وَالشَّفَةُ الشِّرْبُ لِبَنِي آدَمَ وَالْبَهَائِمِ) اعْلَمْ أَنَّ الْمِيَاهَ أَنْوَاعٌ: مِنْهَا مَاءُ الْبِحَارِ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ النَّاسِ فِيهَا حَقُّ الشَّفَةِ وَسَقْيِ الْأَرَاضِيِ، حَتَّى إنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَكْرِيَ نَهْرًا مِنْهَا إلَى أَرْضِهِ لَمْ يُمْنَعْ مِنْ ذَلِكَ، وَالِانْتِفَاعُ بِمَاءِ الْبَحْرِ كَالِانْتِفَاعِ بِالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْهَوَاءِ فَلَا يُمْنَعُ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهِ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ شَاءَ، وَالثَّانِي مَاءُ الْأَوْدِيَةِ الْعِظَامِ كَجَيْحُونَ وَسَيْحُونَ وَدِجْلَةَ وَالْفُرَاتِ لِلنَّاسِ فِيهِ حَقُّ الشَّفَةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَحَقُّ سَقْيِ الْأَرَاضِيِ، فَإِنْ أَحْيَا وَاحِدٌ أَرْضًا مَيْتَةً وَكَرَى مِنْهُ نَهْرًا لِيَسْقِيَهَا.

إنْ كَانَ لَا يَضُرُّ بِالْعَامَّةِ وَلَا يَكُونُ النَّهْرُ فِي مِلْكِ أَحَدٍ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا مُبَاحَةٌ فِي الْأَصْلِ إذْ قَهْرُ الْمَاءِ يَدْفَعُ قَهْرَ غَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ يَضُرُّ بِالْعَامَّةِ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ دَفْعَ الضَّرَرِ عَنْهُمْ وَاجِبٌ، وَذَلِكَ فِي أَنْ يَمِيلَ الْمَاءُ إلَى هَذَا الْجَانِبِ إذَا انْكَسَرَتْ ضِفَّتُهُ فَيُغْرِقَ الْقُرَى وَالْأَرَاضِي، وَعَلَى هَذَا نَصْبُ الرَّحَى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ شَقَّ النَّهْرِ لِلرَّحَى

(فُصُولٌ فِي مَسَائِلِ الشُّرْبِ)

(فَصْلٌ فِي الْمِيَاهِ)

لَمَّا فَرَغَ مِنْ ذِكْرِ إحْيَاءِ الْمَوَاتِ ذَكَرَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ مَسَائِلِ الشُّرْبِ؛ لِأَنَّ إحْيَاءَ الْمَوَاتِ يَحْتَاجُ إلَيْهِ، وَقَدَّمَ فَصْلَ الْمِيَاهِ عَلَى فَصْلِ الْكَرْيِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْمَاءُ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ أَقُولُ: يَرِدُ عَلَى ظَاهِرِهِ أَنْ يُقَالَ: إذَا كَانَ الشُّرْبُ مِمَّا يَحْتَاجُ إلَيْهِ إحْيَاءُ الْمَوَاتِ كَانَ اللَّائِقُ تَقْدِيمَ مَسَائِلِ الشُّرْبِ عَلَى مَسَائِلِ إحْيَاءِ الْمَوَاتِ عَلَى عَكْسِ مَا فِي الْكِتَابِ.

وَالْجَوَابُ أَنَّ إحْيَاءَ الْمَوَاتِ لِأَصَالَتِهِ وَكَثْرَةِ فُرُوعِهِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ تَرْجَمَةُ الْكِتَابِ بِهِ فِي الْعِنْوَانِ يَسْتَحِقُّ التَّقْدِيمَ لَا مَحَالَةَ، وَإِنَّمَا مَقْصُودُ الشُّرَّاحِ هَاهُنَا بَيَانُ مُجَرَّدِ وَجْهِ تَذْيِيلِهِ بِمَسَائِلِ الشُّرْبِ لِتَحَقُّقِ الْمُنَاسَبَةِ وَالتَّعَلُّقِ بَيْنَهُمَا مِنْ جِهَةِ احْتِيَاجِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ دُونَ بَيَانِ التَّرْتِيبِ بَيْنَهُمَا، فَيَتِمُّ الْمَطْلُوبُ بِمَا ذَكَرُوهُ

ص: 79

كَشَقِّهِ لِلسَّقْيِ بِهِ. وَالثَّالِثُ إذَا دَخَلَ الْمَاءُ فِي الْمَقَاسِمِ فَحَقُّ الشَّفَةِ ثَابِتٌ.

وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «النَّاسُ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثٍ: الْمَاءِ، وَالْكَلَإِ، وَالنَّارِ» وَأَنَّهُ يَنْتَظِمُ الشِّرْبَ، وَالشِّرْبُ خُصَّ مِنْهُ الْأَوَّلُ وَبَقِيَ الثَّانِي وَهُوَ الشَّفَةُ، وَلِأَنَّ الْبِئْرَ وَنَحْوَهَا مَا وُضِعَ لِلْإِحْرَازِ. وَلَا يُمْلَكُ الْمُبَاحُ بِدُونِهِ كَالظَّبْيِ إذَا تَكَنَّسَ فِي أَرْضِهِ، وَلِأَنَّ فِي إبْقَاءِ الشَّفَةِ ضَرُورَةً؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُمْكِنُهُ اسْتِصْحَابُ الْمَاءِ إلَى كُلِّ مَكَان وَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ لِنَفْسِهِ وَظَهْرِهِ؛ فَلَوْ مُنِعَ عَنْهُ أَفْضَى إلَى حَرَجٍ عَظِيمٍ، وَإِنْ أَرَادَ رَجُلٌ أَنْ يَسْقِيَ بِذَلِكَ أَرْضًا أَحْيَاهَا كَانَ لِأَهْلِ النَّهْرِ أَنْ يَمْنَعُوهُ عَنْهُ أَضَرَّ بِهِمْ أَوْ لَمْ يَضُرَّ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ خَاصٌّ لَهُمْ وَلَا ضَرُورَةَ. وَلِأَنَّا لَوْ أَبَحْنَا ذَلِكَ لَانْقَطَعَتْ مَنْفَعَةُ الشِّرْبِ.

وَالرَّابِعُ: الْمَاءُ الْمُحَرَّزُ فِي الْأَوَانِي وَأَنَّهُ صَارَ مَمْلُوكًا لَهُ بِالْإِحْرَازِ، وَانْقَطَعَ حَقُّ غَيْرِهِ عَنْهُ كَمَا فِي الصَّيْدِ الْمَأْخُوذِ، إلَّا أَنَّهُ بَقِيَتْ فِيهِ شُبْهَةُ الشَّرِكَةِ نَظَرًا إلَى الدَّلِيلِ وَهُوَ مَا رَوَيْنَا، حَتَّى لَوْ سَرَقَهُ إنْسَانٌ فِي مَوْضِعٍ يَعِزُّ وُجُودُهُ وَهُوَ يُسَاوِي نِصَابًا لَمْ تُقْطَعْ يَدُهُ.

وَلَوْ كَانَ الْبِئْرُ أَوْ الْعَيْنُ أَوْ الْحَوْضُ أَوْ النَّهْرُ فِي مِلْكِ رَجُلٍ لَهُ أَنْ يَمْنَعَ مَنْ يُرِيدُ الشَّفَةَ مِنْ الدُّخُولِ فِي مِلْكِهِ إذَا كَانَ يَجِدُ مَاءً آخَرَ يَقْرُبُ مِنْ هَذَا الْمَاءِ فِي غَيْرِ مِلْكِ أَحَدٍ، وَإِنْ كَانَ لَا يَجِدُ يُقَالُ لِصَاحِبِ النَّهْرِ: إمَّا أَنْ تُعْطِيَهُ الشَّفَةَ أَوْ تَتْرُكَهُ يَأْخُذُ بِنَفْسِهِ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَكْسِرَ ضِفَّتَهُ، وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ الطَّحَاوِيِّ، وَقِيلَ مَا قَالَهُ صَحِيحٌ فِيمَا إذَا احْتَفَرَ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ لَهُ. أَمَّا إذَا احْتَفَرَهَا فِي أَرْضٍ مَوَاتٍ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهُ؛ لِأَنَّ الْمَوَاتَ كَانَ مُشْتَرَكًا وَالْحَفْرُ لِإِحْيَاءِ حَقٍّ مُشْتَرَكٍ فَلَا يَقْطَعُ الشِّرْكَةَ فِي الشَّفَةِ، وَلَوْ مَنَعَهُ عَنْ ذَلِكَ، وَهُوَ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ ظَهْرِهِ الْعَطَشَ لَهُ أَنْ يُقَاتِلَهُ بِالسِّلَاحِ لِأَنَّهُ قَصَدَ إتْلَافَهُ بِمَنْعِ حَقِّهِ وَهُوَ الشَّفَةُ، وَالْمَاءُ فِي الْبِئْرِ مُبَاحٌ غَيْرُ مَمْلُوكٍ، بِخِلَافِ الْمَاءِ الْمُحَرَّزِ فِي الْإِنَاءِ حَيْثُ يُقَاتِلُهُ بِغَيْرِ السِّلَاحِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ مَلَكَهُ، وَكَذَا الطَّعَامُ عِنْدَ إصَابَةِ الْمَخْمَصَةِ، وَقِيلَ فِي الْبِئْرِ وَنَحْوِهَا الْأَوْلَى أَنْ يُقَاتِلَهُ بِغَيْرِ السِّلَاحِ بِعَصًا؛ لِأَنَّهُ ارْتَكَبَ مَعْصِيَةً فَقَامَ ذَلِكَ مَقَامَ التَّعْزِيرِ لَهُ؛

قَوْلُهُ إلَّا أَنَّهُ بَقِيَتْ فِيهِ شُبْهَةُ الشِّرْكَةِ نَظَرًا إلَى الدَّلِيلِ، وَهُوَ مَا رَوَيْنَا، حَتَّى لَوْ سَرَقَهُ إنْسَانٌ فِي مَوْضِعٍ يَعِزُّ وُجُودُهُ وَهُوَ يُسَاوِي نِصَابًا لَمْ تُقْطَعْ يَدُهُ) وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ عَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ لَا يُقْطَعَ فِي الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا؛ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} يُورِثُ الشُّبْهَةَ بِهَذَا الطَّرِيقِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْعَمَلَ بِالْحَدِيثِ يُوَافِقُ الْعَمَلَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} وَلَا يَلْزَمُ بِالْعَمَلِ بِهِ إبْطَالُ الْكِتَابِ، بِخِلَافِ قَوْله تَعَالَى {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} فَإِنَّ الْعَمَلَ بِهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ يُبْطِلُ قَوْله تَعَالَى {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} ، {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} وَغَيْرَ ذَلِكَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ غَيْرُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْخُصُوصَاتُ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ أَقُولُ: فِي هَذَا الْجَوَابِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَلْزَمْ بِالْعَمَلِ بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ عَلَى الْإِطْلَاقِ إبْطَالُ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ آخَرَ، فَإِنَّهُمْ حَكَمُوا بِأَنَّ الْمَاءَ الْمُحْرَزَ فِي الْأَوَانِي يَصِيرُ مَمْلُوكًا بِالْإِحْرَازِ، وَيَنْقَطِعُ حَقُّ الْغَيْرِ عَنْهُ، هَذَا حُكْمٌ شَرْعِيٌّ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ لَا مَحَالَةَ، فَلَوْ عَمِلْنَا بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ عَلَى الْإِطْلَاقِ لَزِمَ إبْطَالُ ذَلِكَ الدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ الدَّالِّ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ الْمُحْرَزَ فِي الْأَوَانِي مِلْكٌ خَاصٌّ لِمَنْ أَحْرَزَهُ لَا شِرْكَةَ فِيهِ لِغَيْرِهِ مِنْ النَّاسِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ غَيْرُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ خُصُوصُ الدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ الدَّالِّ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ

ص: 80

وَالشَّفَةُ إذَا كَانَ يَأْتِي عَلَى الْمَاءِ كُلِّهِ بِأَنْ كَانَ جَدْوَلًا صَغِيرًا. وَفِيمَا يَرِدُ مِنْ الْإِبِلِ وَالْمَوَاشِي كَثْرَةٌ يَنْقَطِعُ الْمَاءُ بِشُرْبِهَا قِيلَ لَا يُمْنَعُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْإِبِلَ لَا تَرِدُهُ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَصَارَ كَالْمُيَاوَمَةِ وَهُوَ سَبِيلٌ فِي قِسْمَةِ الشِّرْبِ. وَقِيلَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَ اعْتِبَارًا: بِسَقْيِ الْمَزَارِعِ وَالْمَشَاجِرِ وَالْجَامِعُ تَفْوِيتُ حَقِّهِ، وَلَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا الْمَاءَ مِنْهُ لِلْوُضُوءِ وَغَسْلِ الثِّيَابِ فِي الصَّحِيحِ،؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ فِيهِ كَمَا قِيلَ يُؤَدِّي إلَى الْحَرَجِ وَهُوَ مَدْفُوعٌ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَسْقِيَ شَجَرًا أَوْ خَضِرًا فِي دَارِهِ حَمْلًا بِجِرَارِهِ لَهُ ذَلِكَ فِي الْأَصَحِّ؛ لِأَنَّ النَّاسَ يَتَوَسَّعُونَ فِيهِ وَيَعُدُّونَ الْمَنْعَ مِنْ الدَّنَاءَةِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْقِيَ أَرْضَهُ وَنَخْلَهُ وَشَجَرَهُ مِنْ نَهْرِ هَذَا الرَّجُلِ وَبِئْرِهِ وَقَنَاتِهِ إلَّا بِإِذْنِهِ نَصًّا، وَلَهُ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ مَتَى دَخَلَ فِي الْمَقَاسِمِ انْقَطَعَتْ شِرْكَةُ الشِّرْبِ بِوَاحِدَةٍ؛ لِأَنَّ فِي إبْقَائِهِ قَطْعَ شِرْبَ صَاحِبِهِ، وَلِأَنَّ الْمَسِيلَ حَقُّ صَاحِبِ النَّهْرِ، وَالضِّفَّةِ تَعَلَّقَ بِهَا حَقُّهُ فَلَا يُمْكِنُهُ التَّسْيِيلُ فِيهِ وَلَا شَقُّ الضِّفَّةِ، فَإِنْ أَذِنَ لَهُ صَاحِبُهُ فِي ذَلِكَ أَوْ أَعَارَهُ فَلَا بَأْسَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ حَقُّهُ فَتُجْرَى فِيهِ الْإِبَاحَةُ كَالْمَاءِ الْمُحَرَّزِ فِي إنَائِهِ.

‌فَصْلٌ فِي كَرْيِ الْأَنْهَارِ

قَالَ رضي الله عنه: الْأَنْهَارُ ثَلَاثَةٌ: نَهْرٌ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لِأَحَدٍ وَلَمْ يَدْخُلْ مَاؤُهُ فِي الْمَقَاسِمِ بَعْدُ كَالْفُرَاتِ وَنَحْوِهِ،

الْمُحْرَزَ فِي الْأَوَانِي مِلْكٌ مَخْصُوصٌ لِمُحْرِزِهِ كَمَا قِيلَ فِي الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُورِثَ شُبْهَةً فِيمَا لَوْ سَرَقَ إنْسَانٌ مَاءً مُحْرَزًا فِي الْأَوَّلِ كَمَا لَا تُورِثُهَا الْآيَةُ الْمَذْكُورَةُ.

فَالْحَقُّ فِي الْجَوَابِ عَنْ ذَلِكَ الِاعْتِرَاضِ مَا ذَكَرَهُ تَاجُ الشَّرِيعَةِ حَيْثُ قَالَ: فَإِنْ قُلْت: فَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ لَا يُقْطَعَ السَّارِقُ نَظَرًا إلَى قَوْله تَعَالَى {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} قُلْت: مُقَابَلَةُ الْجَمْعِ بِالْجَمْعِ تَقْتَضِي انْقِسَامَ الْآحَادِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} وقَوْله تَعَالَى {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} وَلَا يَجُوزُ الزَّائِدُ عَلَى الْأَرْبَعِ، فَكَذَا مَعْنَى الْآيَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ خَلَقَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا وَقَعَ فِي يَدِهِ لَا كُلَّ الْأَشْيَاءِ، وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ أَثْبَتَ الْحَدِيثُ الشِّرْكَةَ لِلنَّاسِ عَامًّا اهـ.

(فَصْلٌ فِي كَرْيِ الْأَنْهَارِ)

قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الشُّرَّاحِ: لَمَّا فَرَغَ مِنْ ذِكْرِ مَسَائِلِ الشُّرْبِ احْتَاجَ إلَى ذِكْرِ مُؤْنَةِ كَرْيِ الْأَنْهَارِ الَّتِي كَانَ الشُّرْبُ مِنْهَا، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَتْ مُؤْنَةُ الْكَرْيِ أَمْرًا زَائِدًا عَلَى النَّهْرِ إذْ النَّهْرُ يُوجَدُ بِدُونِ مُؤْنَةِ الْكَرْيِ كَالنَّهْرِ الْعَامِّ أَخَّرَ ذِكْرَهُ انْتَهَى. أَقُولُ: فِيهِ كَلَامٌ.

ص: 81

وَنَهْرٌ مَمْلُوكٌ دَخَلَ مَاؤُهُ فِي الْقِسْمَةِ إلَّا أَنَّهُ عَامٌّ. وَنَهْرٌ مَمْلُوكٌ دَخَلَ مَاؤُهُ فِي الْقِسْمَةِ وَهُوَ خَاصٌّ. وَالْفَاصِلُ بَيْنَهُمَا اسْتِحْقَاقُ الشَّفَةِ بِهِ وَعَدَمُهُ. فَالْأَوَّلُ كَرْيُهُ عَلَى السُّلْطَانِ مِنْ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْكَرْيِ لَهُمْ فَتَكُونُ مُؤْنَتُهُ عَلَيْهِمْ، وَيُصْرَفُ إلَيْهِ مِنْ مُؤْنَةِ الْخَرَاجِ وَالْجِزْيَةِ دُونَ الْعُشُورِ وَالصَّدَقَاتِ؛ لِأَنَّ الثَّانِيَ لِلْفُقَرَاءِ وَالْأَوَّلَ لِلنَّوَائِبِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي بَيْتِ الْمَالِ شَيْءٌ فَالْإِمَامُ يُجْبِرُ النَّاسَ عَلَى كَرْيِهِ إحْيَاءً

لِمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ

إذْ هُمْ لَا يُقِيمُونَهَا بِأَنْفُسِهِمْ، وَفِي مِثْلِهِ قَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: لَوْ تُرِكْتُمْ لَبِعْتُمْ أَوْلَادَكُمْ، إلَّا أَنَّهُ يُخْرِجُ لَهُ مَنْ كَانَ يُطِيقُهُ وَيُجْعَلُ مُؤْنَتُهُ عَلَى الْمَيَاسِيرِ الَّذِينَ لَا يُطِيقُونَهُ بِأَنْفُسِهِمْ.

وَأَمَّا الثَّانِي فَكَرْيُهُ عَلَى أَهْلِهِ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمْ وَالْمَنْفَعَةَ تَعُودُ إلَيْهِمْ عَلَى الْخُصُوصِ وَالْخُلُوصِ، وَمَنْ أَبَى مِنْهُمْ يُجْبَرُ عَلَى كَرْيِهِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ الْعَامِّ وَهُوَ ضَرَرُ بَقِيَّةِ الشُّرَكَاءِ وَضَرَرُ الْآبِي خَاصٌّ وَيُقَابِلُهُ عِوَضٌ فَلَا يُعَارَضُ بِهِ؛ وَلَوْ أَرَادُوا أَنْ يُحَصِّنُوهُ خِيفَةَ الِانْبِثَاقِ وَفِيهِ ضَرَرٌ عَامٌّ كَغَرَقِ الْأَرَاضِيِ وَفَسَادِ الطُّرُقِ يُجْبَرُ الْآبِي، وَإِلَّا فَلَا لِأَنَّهُ مَوْهُومٌ بِخِلَافِ الْكَرْيِ؛ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ. وَأَمَّا الثَّالِثُ وَهُوَ الْخَاصُّ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَكَرْيُهُ عَلَى أَهْلِهِ لِمَا بَيَّنَّا ثُمَّ قِيلَ يُجْبَرُ الْآبِي كَمَا فِي الثَّانِي. وَقِيلَ لَا يُجْبَرُ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الضَّرَرَيْنِ خَاصٌّ. وَيُمْكِنُ دَفْعُهُ عَنْهُمْ بِالرُّجُوعِ عَلَى الْآبِي بِمَا أَنْفَقُوا فِيهِ إذَا كَانَ بِأَمْرِ الْقَاضِي فَاسْتَوَتْ الْجِهَتَانِ، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ، وَلَا يُجْبَرُ لِحَقِّ

أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ الْمُصَنِّفَ لَمْ يَفْرُغْ مِنْ ذِكْرِ مَسَائِلِ الشُّرْبِ، بَلْ هُوَ فِي أَثْنَاءِ ذِكْرِ مَسَائِلِهَا بَعْدُ، كَيْفَ وَقَدْ قَالَ فِيمَا قَبْلُ فُصُولٌ فِي مَسَائِلِ الشُّرْبِ، وَهُوَ الْآنَ شَرَعَ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي مِنْ تِلْكَ الْفُصُولِ. وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ النَّهْرَ الْعَامَّ أَيْضًا لَا يُوجَدُ بِدُونِ مُؤْنَةِ الْكَرْيِ، بَلْ لَهُ مُؤْنَةٌ مِنْ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْمُصَنِّفُ فِيمَا بَعْدُ حَيْثُ قَالَ: فَالْأَوَّلُ كَرْيُهُ عَلَى السُّلْطَانِ مِنْ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْكَرْيِ لَهُمْ فَيَكُونُ مُؤْنَتُهُ عَلَيْهِمْ. لَا يُقَالُ: مُرَادُهُمْ أَنَّ النَّهْرَ الْعَامَّ يُوجَدُ بِدُونِ مُؤْنَةِ الْكَرْيِ عَلَى أَهْلِهِ لَا أَنَّهُ يُوجَدُ بِدُونِهَا مُطْلَقًا يُشِيرُ إلَيْهِ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ فِيمَا بَعْدُ: وَأَمَّا الثَّانِي فَكَرْيُهُ عَلَى أَهْلِهِ لَا عَلَى بَيْتِ الْمَالِ فَلَا يَضُرُّهُمْ وُجُوبُ مُؤْنَةِ النَّهْرِ الْعَامِّ عَلَى السُّلْطَانِ لِأَنَّا نَقُولُ: مُؤْنَةُ النَّهْرِ الْعَامِّ وَإِنْ كَانَتْ عَلَى السُّلْطَانِ فِي الظَّاهِرِ حَيْثُ كَانَ صَرْفُهَا مِنْ يَدِهِ إلَّا أَنَّهَا فِي الْحَقِيقَةِ عَلَى أَهْلِهَا أَيْضًا، وَهُمْ عَامَّةُ الْمُسْلِمِينَ، يُرْشِدُ إلَيْهِ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ: لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْكَرْيِ لَهُمْ فَتَكُونُ مُؤْنَتُهُ عَلَيْهِمْ فِي تَعْلِيلِ قَوْلِهِ فَالْأَوَّلُ كَرْيُهُ عَلَى السُّلْطَانِ مِنْ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ: وَلَئِنْ سُلِّمَ أَنَّ مُؤْنَةَ النَّهْرِ الْعَامِّ عَلَى السُّلْطَانِ نَفْسِهِ فَلَا يُجْدِي نَفْعًا أَيْضًا، إذْ لَا يَلْزَمُ حِينَئِذٍ أَنْ يُوجَدَ النَّهْرُ بِدُونِ مُؤْنَةِ

ص: 82

الشَّفَةِ كَمَا إذَا امْتَنَعُوا جَمِيعًا وَمُؤْنَةُ كَرْيِ النَّهْرِ الْمُشْتَرَكِ عَلَيْهِمْ مِنْ أَعْلَاهُ، فَإِذَا جَاوَزَ أَرْضَ رَجُلٍ رُفِعَ عَنْهُ وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله. وَقَالَا: هِيَ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا مِنْ أَوَّلِهِ إلَى آخِرِهِ بِحِصَصِ الشِّرْبِ وَالْأَرْضِينَ؛ لِأَنَّ لِصَاحِبِ الْأَعْلَى حَقًّا فِي الْأَسْفَلِ لِاحْتِيَاجِهِ إلَى تَسْيِيلِ مَا فَضَلَ مِنْ الْمَاءِ فِيهِ. وَلَهُ أَنَّ الْمَقْصِدَ مِنْ الْكَرْيِ الِانْتِفَاعُ بِالسَّقْيِ، وَقَدْ حَصَلَ لِصَاحِبِ الْأَعْلَى فَلَا يَلْزَمُهُ إنْفَاعُ غَيْرِهِ، وَلَيْسَ عَلَى صَاحِبِ السَّيْلِ عِمَارَتُهُ كَمَا إذَا كَانَ لَهُ مَسِيلٌ عَلَى سَطْحِ غَيْرِهِ، كَيْفَ وَأَنَّهُ يُمْكِنُهُ دَفْعَ الْمَاءِ عَنْ أَرْضِهِ بِسَدِّهِ مِنْ أَعْلَاهُ، ثُمَّ إنَّمَا يُرْفَعُ عَنْهُ إذَا جَاوَزَ أَرْضَهُ كَمَا ذَكَرْنَاهُ، وَقِيلَ إذَا جَاوَزَ فُوَّهَةَ نَهْرِهِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ مُحَمَّدٍ رحمه الله.

وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ لَهُ رَأْيًا فِي اتِّخَاذِ الْفُوَّهَةِ مِنْ أَعْلَاهُ وَأَسْفَلِهِ، فَإِذَا جَاوَزَ الْكَرْيُ أَرْضَهُ حَتَّى سَقَطَتْ عَنْهُ مُؤْنَتُهُ قِيلَ لَهُ أَنْ يَفْتَحَ الْمَاءُ لِيَسْقِيَ أَرْضَهُ لِانْتِهَاءِ الْكَرْيِ فِي حَقِّهِ، وَقِيلَ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ مَا لَمْ يَفْرُغْ شُرَكَاؤُهُ نَفْيًا لِاخْتِصَاصِهِ، وَلَيْسَ عَلَى أَهْلِ الشَّفَةِ مِنْ الْكَرْيِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يُحْصَوْنَ وَلِأَنَّهُمْ أَتْبَاعٌ.

الْكَرْيِ مُطْلَقًا فَلَا يَثْبُتُ كَوْنُ مُؤْنَةِ الْكَرْيِ أَمْرًا زَائِدًا عَلَى النَّهْرِ، فَلَا يَتِمُّ وَجْهُ التَّأْخِيرِ الَّذِي ذَكَرُوهُ هَاهُنَا.

ثُمَّ أَقُولُ: مَا ذَكَرُوهُ هَاهُنَا مَعَ كَوْنِهِ غَيْرَ تَامٍّ فِي نَفْسِهِ مُسْتَغْنًى عَنْهُ بِالْكُلِّيَّةِ بِمَا ذَكَرُوهُ مِنْ قَبْلُ عِنْدَ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ فُصُولٌ فِي مَسَائِلِ الشُّرْبِ: فَصْلٌ فِي الْمِيَاهِ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا هُنَاكَ: لَمَّا فَرَغَ مِنْ إحْيَاءِ الْمَوَاتِ ذَكَرَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ مَسَائِلِ الشُّرْبِ؛ لِأَنَّ إحْيَاءَ الْمَوَاتِ يَحْتَاجُ إلَيْهِ، وَقَدَّمَ فَصْلَ الْمِيَاهِ عَلَى فَصْلِ الْكَرْيِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْمَاءُ انْتَهَى فَتَأَمَّلْ (قَوْلُهُ وَلَهُ أَنَّ الْمَقْصِدَ مِنْ الْكَرْيِ الِانْتِفَاعُ بِالسَّقْيِ، وَقَدْ حَصَلَ لِصَاحِبِ الْأَعْلَى فَلَا يَلْزَمُهُ إنْفَاعُ غَيْرِهِ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: وَالصَّوَابُ نَفْعُ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الْإِنْفَاعَ فِي مَعْنَى النَّفْعِ غَيْرُ مَسْمُوعٍ، كَذَا وُجِدَتْ بِخَطِّ الْإِمَامِ تَاجِ الدِّينِ الزَّرْنُوجِيِّ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ وَاقْتَفَى أَثَرَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ الشُّرَّاحِ وَلَمْ يَزِيدُوا عَنْ ذَلِكَ شَيْئًا. وَقَالَ صَاحِبُ الْغَايَةِ: اُسْتُعْمِلَ الْإِنْفَاعُ فِي مَعْنَى النَّفْعِ وَهُوَ ضِدُّ الضَّرَرِ، وَلَمْ يُسْمَعْ ذَلِكَ فِي قَوَانِينِ اللُّغَةِ وَجَاءَ أَرْجَعْته فِي لُغَةِ هُذَيْلٍ بِمَعْنَى رَجَعْته، وَيَجُوزُ عَلَى قِيَاسِهِ أَنَفَعْته بِمَعْنَى نَفَعْته. وَلَكِنَّ اللُّغَةَ لَا تَصِحُّ بِالْقِيَاسِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ سَهْوًا مِنْ الْكِتَابِ بِأَنْ يَكُونَ فِي الْأَصْلِ انْتِفَاعُ غَيْرِهِ مِنْ بَابِ الِافْتِعَالِ اهـ كَلَامُهُ.

وَقَالَ الشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ بَعْدَ نَقْلِ كَلَامِ هَؤُلَاءِ الشُّرَّاحِ عَلَى التَّرْتِيبِ الْمَذْكُورِ: قُلْت: لَا يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ الْهَمْزَةُ هُنَا لِلتَّعْدِيَةِ لِكَوْنِ النَّفْعِ مُتَعَدِّيًا بِدُونِ الْهَمْزَةِ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِلتَّعْرِيضِ مِنْ بَابِ أَبِعْته فَإِنَّ بَاعَ مُتَعَدٍّ، وَلَمَّا قَصَدُوا مِنْهُ التَّعْرِيضَ أَدْخَلُوا الْهَمْزَةَ عَلَيْهِ عَلَى قَصْدِ أَنْ يَكُونَ الْمَفْعُولُ مُعَرِّضًا لِأَصْلِ الْفِعْلِ، فَإِنَّ مَعْنَى أَبِعْته عَرَضْته لِلْبَيْعِ وَجَعَلْته مُنْتَسِبًا إلَيْهِ، وَكَذَلِكَ هَاهُنَا يَكُونُ الْمَعْنَى فَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَجْعَلَ غَيْرَهُ مُعَرِّضًا لِلنَّفْعِ وَلَا مُنْتَسِبًا إلَيْهِ انْتَهَى.

أَقُولُ. لَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ، إذْ مَآلُهُ أَيْضًا إثْبَاتُ اللُّغَةِ بِالْقِيَاسِ، وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ عَلَى مَا صَرَّحُوا بِهِ، وَلَوْ صَحَّ ذَلِكَ لَكَانَ قِيَاسُ مَا فِي الْكِتَابِ عَلَى أَرْجَعَهُ بِمَعْنَى رَجَعَهُ أَوْلَى وَأَحْسَنُ مِنْ قِيَاسِهِ عَلَى أَبَاعَهُ بِمَعْنَى عَرَضَهُ لِلْبَيْعِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى ذِي فِطْرَةٍ سَلِيمَةٍ.

ص: 83

‌فَصْلٌ فِي الدَّعْوَى وَالِاخْتِلَافِ وَالتَّصَرُّفِ فِيهِ

قَالَ (وَتَصِحُّ دَعْوَى الشِّرْبِ بِغَيْرِ أَرْضٍ اسْتِحْسَانًا)؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُمْلَكُ بِدُونِ الْأَرْضِ إرْثًا، وَقَدْ يَبِيعُ الْأَرْضَ وَيَبْقَى الشِّرْبُ لَهُ وَهُوَ مَرْغُوبٌ فِيهِ فَيَصِحُّ فِيهِ الدَّعْوَى (وَإِذَا كَانَ نَهْرٌ لِرَجُلٍ يَجْرِي فِي أَرْضِ غَيْرِهِ فَأَرَادَ صَاحِبُ الْأَرْضِ أَنْ لَا يُجْرَى النَّهْرُ فِي أَرْضِهِ تُرِكَ عَلَى حَالِهِ)؛ لِأَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ لَهُ بِإِجْرَاءِ مَائِهِ. فَعِنْدَ الِاخْتِلَافِ يَكُونُ الْقَوْلُ

(فَصْلٌ فِي الدَّعْوَى وَالِاخْتِلَافِ وَالتَّصَرُّفِ فِيهِ)

لَمَّا قَرُبَ الْفَرَاغُ مِنْ بَيَانِ مَسَائِلِ الشُّرْبِ خَتَمَهُ بِفَصْلٍ يَشْتَمِلُ عَلَى مَسَائِلَ شَتَّى مِنْ مَسَائِلِ الشُّرْبِ (وَقَوْلُهُ وَتَصِحُّ دَعْوَى الشُّرْبِ بِغَيْرِ الْأَرْضِ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُمْلَكُ بِدُونِ الْأَرْضِ إرْثًا وَقَدْ تُبَاعُ الْأَرْضُ وَيَبْقَى الشُّرْبُ لَهُ، وَهُوَ مَرْغُوبٌ فِيهِ فَيَصِحُّ فِيهِ دَعْوَى الْبَيْعِ) قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ: يَنْبَغِي فِي الْقِيَاسِ أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ شَرْطَ صِحَّةِ الدَّعْوَى إعْلَامُ الْمُدَّعِي فِي الدَّعْوَى وَالشَّهَادَةُ وَالشُّرْبُ مَجْهُولٌ جَهَالَةً لَا تَقْبَلُ الْإِعْلَامَ، وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ كَذَا فِي الْعِنَايَةِ وَغَيْرِهَا، أَقُولُ: فِيهِ إشْكَالٌ؛ لِأَنَّ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ لَا يَدْفَعُ ذَلِكَ الْوَجْهَ الْمَذْكُورَ لِلْقِيَاسِ فِي الْمَبْسُوطِ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ الْمَشْرُوطَ يَنْتَفِي بِانْتِفَاءِ الشَّرْطِ، فَإِذَا انْتَفَى الْإِعْلَامُ الَّذِي هُوَ شَرْطُ صِحَّةِ الدَّعْوَى فِي دَعْوَى الشُّرْبِ لِجَهَالَتِهِ جَهَالَةً لَا تَقْبَلُ الْإِعْلَامَ انْتَفَى صِحَّةُ دَعْوَى الشُّرْبِ قَطْعًا فَلَا يُتَصَوَّرُ صِحَّةُ دَعْوَاهُ بِمَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ مِنْ كَوْنِهِ مَمْلُوكًا بِدُونِ الْأَرْضِ إرْثًا وَبَاقِيًا بَعْدَ بَيْعِ الْأَرْضِ وَمَرْغُوبًا فِيهِ وَإِلَّا يَلْزَمُ أَنْ يَتَحَقَّقَ الْمَشْرُوطُ بِدُونِ أَنْ يَتَحَقَّقَ الشَّرْطُ، فَكَيْفَ يَصْلُحُ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ فِي مُقَابَلَةِ ذَلِكَ الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ لِلْقِيَاسِ فِي الْمَبْسُوطِ، عَلَى أَنَّ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ لَوْ كَانَ مُصَحِّحًا لِدَعْوَى الشُّرْبِ مَعَ جَهَالَتِهِ لَكَانَ مُصَحِّحًا لِدَعْوَى غَيْرِهِ أَيْضًا مِنْ الْأَعْيَانِ الْمَجْهُولَةِ مَعَ كَوْنِهَا بَاطِلَةً قَطْعًا. نَعَمْ يَصْلُحُ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ أَنْ يَكُونَ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ فِي مُقَابَلَةِ وَجْهٍ آخَرَ لِلْقِيَاسِ مَذْكُورٌ أَيْضًا فِي الْمَبْسُوطِ وَمَنْقُولٌ عَنْهُ أَيْضًا فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ، وَهُوَ أَنَّ الْمُدَّعِيَ يَطْلُبُ مِنْ الْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ لَهُ بِالْمِلْكِ فِيمَا يَدَّعِيهِ إذَا ثَبَتَ دَعْوَاهُ بِالْبَيِّنَةِ، وَالشُّرْبُ لَا يَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ بِغَيْرِ أَرْضٍ فَلَا يَسْمَعُ الْقَاضِي فِيهِ الدَّعْوَى كَالْخَمْرِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ يَدْفَعُ هَذَا الْوَجْهَ، وَيَصِيرُ جَوَابًا عَنْهُ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِحْسَانِ تَأَمَّلْ تَفْهَمْ.

ثُمَّ أَقُولُ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ مِنْ ذَيْنِكَ الْوَجْهَيْنِ لِلْقِيَاسِ فِي مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ وَإِنْ كَانَ مَذْكُورًا فِي الْمَبْسُوطِ وَالْكَافِي وَكَثِيرٍ مِنْ شُرُوحِ هَذَا الْكِتَابِ بِطَرِيقِ النَّقْلِ عَنْ الْمَبْسُوطِ فِي بَعْضِهَا، وَبِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ فِي الْبَعْضِ إلَّا أَنَّهُ مَنْظُورٌ فِيهِ عِنْدِي؛ لِأَنَّهُمْ إنْ أَرَادُوا بِقَوْلِهِمْ فِي ذَلِكَ الْوَجْهِ وَالشُّرْبُ مَجْهُولٌ جَهَالَةً لَا تَقْبَلُ الْإِعْلَامَ أَنَّ الشُّرْبَ مُطْلَقًا مَجْهُولٌ جَهَالَةً لَا تَقْبَلُ الْإِعْلَامَ فَهُوَ مَمْنُوعٌ، فَإِنَّهُ إذَا ادَّعَى شُرْبَ يَوْمٍ فِي الشَّهْرِ مَثَلًا يَصِيرُ الشُّرْبُ هُنَاكَ مَعْلُومًا، نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْأَصْلِ؛ فَإِنَّهُ قَالَ فِي بَابِ الشَّهَادَاتِ فِي الشُّرْبِ مِنْ الْأَصْلِ: وَإِذَا كَانَ نَهْرٌ لِرَجُلٍ فِي أَرْضِهِ فَادَّعَى رَجُلٌ فِيهِ شُرْبَ يَوْمٍ فِي الشَّهْرِ، وَأَقَامَ عَلَى ذَلِكَ شَاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ تُقْبَلُ هَذِهِ الشَّهَادَةُ وَيُقْضَى لَهُ بِذَلِكَ اسْتِحْسَانًا، لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ قَامَتْ عَلَى شُرْبٍ مَعْلُومٍ مِنْ

ص: 84

قَوْلَهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ، وَلَمْ يَكُنْ جَارِيًا فَعَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ أَنَّ هَذَا النَّهْرَ لَهُ، أَوْ أَنَّهُ قَدْ كَانَ مَجْرَاهُ لَهُ فِي هَذَا النَّهْرِ يَسُوقُهُ إلَى أَرْضِهِ لِيَسْقِيَهَا فَيَقْضِي لَهُ لِإِثْبَاتِهِ بِالْحُجَّةِ مِلْكًا لَهُ أَوْ حَقًّا مُسْتَحَقًّا فِيهِ، وَعَلَى هَذَا الْمَصَبُّ فِي نَهْرٍ أَوْ عَلَى سَطْحٍ أَوْ الْمِيزَابُ أَوْ الْمَمْشَى فِي دَارِ غَيْرِهِ، فَحُكْمُ الِاخْتِلَافِ فِيهَا نَظِيرُهُ فِي الشِّرْبِ

(وَإِذَا كَانَ نَهْرٌ بَيْنَ قَوْمٍ وَاخْتَصَمُوا فِي الشِّرْبِ كَانَ الشِّرْبُ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ أَرَاضِيهِمْ)؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الِانْتِفَاعُ بِسَقْيِهَا فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهِ، بِخِلَافِ الطَّرِيقِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ التَّطَرُّقُ وَهُوَ فِي الدَّارِ الْوَاسِعَةِ وَالضَّيِّقَةِ عَلَى نَمَطٍ وَاحِدٍ، فَإِنْ كَانَ الْأَعْلَى مِنْهُمْ لَا يَشْرَبُ حَتَّى يَسْكُرَ النَّهْرَ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ إبْطَالِ حَقِّ الْبَاقِينَ، وَلَكِنَّهُ يَشْرَبُ بِحِصَّتِهِ، فَإِنْ تَرَاضَوْا عَلَى أَنْ يَسْكُرَ الْأَعْلَى النَّهْرَ حَتَّى يَشْرَبَ بِحِصَّتِهِ أَوْ اصْطَلَحُوا عَلَى أَنْ يَسْكُرَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ فِي نَوْبَتِهِ جَازَ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُ، إلَّا أَنَّهُ إذَا تَمَكَّنَ مِنْ ذَلِكَ بِلَوْحٍ لَا يَسْكُرُ بِمَا يَنْكَبِسُ بِهِ النَّهْرُ مِنْ غَيْرِ تَرَاضٍ لِكَوْنِهِ إضْرَارًا بِهِمْ، وَلَيْسَ لِأَحَدِهِمْ أَنْ يَكْرِيَ مِنْهُ نَهْرًا أَوْ يَنْصُبَ عَلَيْهِ رَحَى مَاءٍ إلَّا بِرِضَا أَصْحَابِهِ؛ لِأَنَّ فِيهِ كَسْرَ ضِفَّةِ النَّهْرِ وَشَغْلَ مَوْضِعٍ مُشْتَرَكٍ بِالْبِنَاءِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ رَحًى لَا يَضُرُّ بِالنَّهْرِ وَلَا بِالْمَاءِ، وَيَكُونُ مَوْضِعُهَا فِي أَرْضِ صَاحِبِهَا؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ وَلَا ضَرَرَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ.

غَيْرِ أَرْضٍ.

وَالشَّهَادَةُ عَلَى الشُّرْبِ مِنْ غَيْرِ أَرْضٍ مَقْبُولَةٌ إذَا كَانَ الشُّرْبُ مَعْلُومًا، وَالشُّرْبُ مَعْلُومٌ لِأَنَّهُمْ شَهِدُوا لَهُ بِشُرْبِ يَوْمٍ مِنْ ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَهُوَ مَعْلُومٌ، إلَى هُنَا لَفْظُ الْأَصْلِ وَإِنْ أَرَادُوا بِذَلِكَ أَنَّ الشُّرْبَ قَدْ يَكُونُ مَجْهُولًا فَهُوَ مُسَلَّمٌ، وَلَكِنْ لَا يُجْدَى شَيْئًا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ. إذْ لَا شَكَّ أَنَّ الْمُرَادَ بِصِحَّةِ دَعْوَى الشُّرْبِ بِغَيْرِ أَرْضٍ اسْتِحْسَانًا فِي مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ صِحَّةُ دَعْوَى الشُّرْبِ الْمَعْلُومِ، فَإِنَّ دَعْوَى الشُّرْبِ الْمَجْهُولِ وَالشَّهَادَةَ عَلَيْهِ لَا تَصِحُّ أَصْلًا، نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْأَصْلِ أَيْضًا، فَإِنَّهُ قَالَ فِيهِ: وَإِنْ شَهِدُوا أَنَّ لَهُ شُرْبَ يَوْمٍ، وَلَمْ يُسَمُّوا عَدَدَ الْأَيَّامِ لَا تُقْبَلُ هَذِهِ الشَّهَادَةُ؛ لِأَنَّهُمْ شَهِدُوا بِشُرْبٍ مَجْهُولٍ لَا يُمْكِنُ الْقَضَاءُ بِهِ لِأَنَّهُ لَا يُدْرَى أَنَّ لَهُ شُرْبَ يَوْمٍ مِنْ الشَّهْرِ أَوْ مِنْ السَّنَةِ أَوْ مِنْ الْأُسْبُوعِ، وَجَهَالَةُ الْمَشْهُودِ بِهِ تَمْنَعُ مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْقَضَاءُ بِهَا انْتَهَى.

(قَوْلُهُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ وَالنِّهَايَةِ: يَعْنِي بِأَنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَعْمَلًا بِإِجْرَاءِ مَائِهِ فِيهِ أَوْ لَمْ تَكُنْ أَشْجَارُهُ فِي طَرَفَيْ النَّهْرِ انْتَهَى.

أَقُولُ: فِي الْمَعْنَى الْأَوَّلِ خَلَلٌ، إذْ لَا يَخْفَى عَلَى الْفَطِنِ أَنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ هُوَ الْمَعْنَى الْأَوَّلُ: أَيْ بِأَنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَعْمَلًا بِإِجْرَاءِ مَائِهِ فِيهِ يَلْزَمُ أَنْ يَلْغُوا قَوْلَهُ وَلَمْ يَكُنْ جَارِيًا، إذْ يَكُونُ عَدَمُ الْجَرَيَانِ حِينَئِذٍ مُنْدَرِجًا فِي مَضْمُونِ قَوْلِهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ، وَلَمْ يَكُنْ جَارِيًا مُسْتَدْرَكًا مَحْضًا، فَالْوَجْهُ هُوَ الْمَعْنَى الثَّانِي وَهُوَ إنْ لَمْ تَكُنْ أَشْجَارُهُ فِي طَرَفَيْ النَّهْرِ، فَإِنَّ كَوْنَ أَشْجَارِهِ فِي طَرَفَيْ النَّهْرِ عَلَامَةَ أَنْ يَكُونَ هَذَا النَّهْرُ لَهُ، وَجَرَيَانُ مَائِهِ فِيهِ عَلَامَةُ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَجْرَاهُ فِي هَذَا النَّهْرِ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ إشَارَةٌ إلَى انْتِفَاءِ الْعَلَامَةِ الْأُولَى.

وَقَوْلُهُ وَلَمْ يَكُنْ جَارِيًا إشَارَةٌ إلَى انْتِفَاءِ الْعَلَامَةِ الثَّانِيَةِ، وَيَصِيرُ مَعْنَى مَجْمُوعِ كَلَامِهِ فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ مِنْ الْعَلَامَتَيْنِ فَعَلَى الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةُ أَنَّ هَذَا النَّهْرَ لَهُ، أَوْ أَنَّهُ كَانَ لَهُ مَجْرَاهُ فِي هَذَا النَّهْرِ فَيَنْتَظِمُ السِّيَاقُ وَاللِّحَاقُ كَمَا تَرَى. لَا يُقَالُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُ

ص: 85

وَمَعْنَى الضَّرَرِ بِالنَّهْرِ مَا بَيَّنَّاهُ مِنْ كَسْرِ ضِفَّتِهِ، وَبِالْمَاءِ أَنْ يَتَغَيَّرَ عَنْ سُنَنِهِ الَّذِي كَانَ يَجْرِي عَلَيْهِ، وَالدَّالِيَةُ وَالسَّانِيَةُ نَظِيرُ الرَّحَى، وَلَا يَتَّخِذَ عَلَيْهِ جِسْرًا وَلَا قَنْطَرَةً بِمَنْزِلَةِ طَرِيقٍ خَاصٍّ بَيْنَ قَوْمٍ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ لِوَاحِدٍ نَهْرٌ خَاصٌّ يَأْخُذُ مِنْ نَهْرٍ خَاصٍّ بَيْنَ قَوْمٍ فَأَرَادَ أَنْ يُقَنْطِرَ عَلَيْهِ وَيَسْتَوْثِقَ مِنْهُ لَهُ ذَلِكَ، أَوْ كَانَ مُقَنْطِرًا مُسْتَوْثِقًا فَأَرَادَ أَنْ يَنْقُضَ ذَلِكَ وَلَا يَزِيدَ ذَلِكَ فِي أَخْذِ الْمَاءِ حَيْثُ يَكُونُ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ فِي خَالِصِ مِلْكِهِ وَضْعًا وَرَفْعًا. وَلَا ضَرَرَ بِالشُّرَكَاءِ بِأَخْذِ زِيَادَةِ الْمَاءِ، وَيُمْنَعُ مِنْ أَنْ يُوَسِّعَ فَمَ النَّهْرِ؛ لِأَنَّهُ يَكْسِرُ ضِفَّةَ النَّهْرِ، وَيَزِيدُ عَلَى مِقْدَارِ حَقِّهِ فِي أَخْذِ الْمَاءِ، وَكَذَا إذَا كَانَتْ الْقِسْمَةُ بِالْكُوَى، وَكَذَا إذَا أَرَادَ أَنْ يُؤَخِّرَهَا عَنْ فَمِ النَّهْرِ فَيَجْعَلَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَذْرُعٍ مِنْهُ لِاحْتِبَاسِ الْمَاءِ فِيهِ فَيَزْدَادُ دُخُولُ الْمَاءِ فِيهِ.

بِخِلَافِ مَا إذَا أَرَادَ أَنْ يُسْفِلَ كُوَاهُ أَوْ يَرْفَعَهَا حَيْثُ يَكُونُ لَهُ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّ قِسْمَةَ الْمَاءِ فِي الْأَصْلِ بِاعْتِبَارِ سَعَةِ الْكُوَّةِ وَضِيقِهَا مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ التَّسَفُّلِ وَالتَّرَفُّعِ وَهُوَ الْعَادَةُ فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ تَغْيِيرُ مَوْضِعِ الْقِسْمَةِ، وَلَوْ كَانَتْ الْقِسْمَةُ وَقَعَتْ بِالْكُوَى فَأَرَادَ أَحَدُهُمْ أَنْ يُقَسِّمَ بِالْأَيَّامِ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْقَدِيمَ يَتْرُكُ عَلَى قَدَمِهِ لِظُهُورِ الْحَقِّ فِيهِ. وَلَوْ كَانَ لِكُلٍّ مِنْهُمْ كُوًى مُسَمَّاةٌ فِي نَهْرٍ خَاصٍّ لَيْسَ لِوَاحِدٍ أَنْ يَزِيدَ كُوَّةً وَإِنْ كَانَ لَا يَضُرُّ بِأَهْلِهِ؛ لِأَنَّ الشِّرْكَةَ خَاصَّةٌ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ الْكُوَى فِي النَّهْرِ الْأَعْظَمِ؛ لِأَنَّ لِكُلٍّ مِنْهُمْ أَنْ يَشُقَّ نَهْرًا مِنْهُ ابْتِدَاءً فَكَانَ لَهُ أَنْ يَزِيدَ فِي الْكُوَى بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى

(وَلَيْسَ لِأَحَدِ الشُّرَكَاءِ فِي النَّهْرِ أَنْ يَسُوقَ شِرْبَهُ إلَى أَرْضٍ لَهُ أُخْرَى لَيْسَ لَهَا فِي ذَلِكَ شِرْبٌ)؛ لِأَنَّهُ إذَا تَقَادَمَ الْعَهْدُ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ حَقُّهُ (وَكَذَا إذَا أَرَادَ أَنْ يَسُوقَ شِرْبَهُ

صَاحِبَيْ الْعِنَايَةِ وَالنِّهَايَةِ تَفْسِيرَ مَجْمُوعِ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ وَلَمْ يَكُنْ جَارِيًا عَلَى أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُمَا بِأَنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَعْمَلًا بِإِجْرَاءِ مَائِهِ فِيهِ نَاظِرًا إلَى قَوْلِهِ وَلَمْ يَكُنْ جَارِيًا، وَأَنْ يَكُونَ قَوْلُهُمَا أَوْ لَمْ تَكُنْ أَشْجَارُهُ فِي طَرَفَيْ النَّهْرِ نَاظِرًا إلَى قَوْلِهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ عَلَى طَرِيقَةِ اللَّفِّ وَالنَّشْرِ الْغَيْرِ مُرَتَّبٍ. لِأَنَّا نَقُولُ: مَعَ كَوْنِ اللَّفِّ وَالنَّشْرِ الْغَيْرِ مُرَتَّبِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ مِنْ قَبِيلِ الْأَلْغَازِ فِي الْكَلَامِ لَا يَسْتَقِيمُ حِينَئِذٍ كَلِمَةُ أَوْ فِي قَوْلِهِمَا أَوْ لَمْ تَكُنْ أَشْجَارُهُ فِي طَرَفَيْ النَّهْرِ فَإِنَّهَا لِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى كَلَامِ الْمُصَنِّفِ: فَإِنْ انْتَفَتْ إحْدَى الْعَلَامَتَيْنِ فَعَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، فَإِنَّهُ إذَا انْتَفَتْ إحْدَاهُمَا وَوُجِدَتْ أُخْرَاهُمَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ، وَلِهَذَا قَالَ

ص: 86

فِي أَرْضِهِ الْأُولَى حَتَّى يَنْتَهِيَ إلَى هَذِهِ الْأَرْضِ الْأُخْرَى)؛ لِأَنَّهُ يَسْتَوْفِي زِيَادَةً عَلَى حَقِّهِ، إذْ الْأَرْضُ الْأُولَى تُنَشِّفُ بَعْضَ الْمَاءِ قَبْلَ أَنْ تُسْقَى الْأَرْضُ الْأُخْرَى، وَهُوَ نَظِيرُ طَرِيقٍ مُشْتَرَكٍ أَرَادَ أَحَدُهُمْ أَنْ يَفْتَحَ فِيهِ بَابًا إلَى دَارٍ أُخْرَى سَاكِنُهَا غَيْرُ سَاكِنِ هَذِهِ الدَّارِ الَّتِي يَفْتَحُهَا فِي هَذَا الطَّرِيقِ، وَلَوْ أَرَادَ الْأَعْلَى مِنْ الشَّرِيكَيْنِ فِي النَّهْرِ الْخَاصِّ وَفِيهِ كُوًى بَيْنَهُمَا أَنْ يَسُدَّ بَعْضَهَا دَفْعًا لِفَيْضِ الْمَاءِ عَنْ أَرْضِهِ كَيْ لَا تَنِزَّ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ بِالْآخَرِ، وَكَذَا إذَا أَرَادَ أَنْ يُقَسِّمَ الشِّرْبَ مُنَاصَفَةً بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ بِالْكُوَى تَقَدَّمَتْ إلَّا أَنْ يَتَرَاضَيَا؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمَا، وَبَعْضُ التَّرَاضِي لِصَاحِبِ الْأَسْفَلِ أَنْ يَنْقُضَ ذَلِكَ. وَكَذَا لِوَرَثَتِهِ مِنْ بَعْدِهِ؛ لِأَنَّهُ إعَارَةُ الشِّرْبِ، فَإِنَّ مُبَادَلَةَ الشِّرْبِ بِالشِّرْبِ بَاطِلَةٌ، وَالشِّرْبُ مِمَّا يُورَثُ وَيُوصَى بِالِانْتِفَاعِ بِعَيْنِهِ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْوَصِيَّةِ بِذَلِكَ حَيْثُ لَا تَجُوزُ الْعُقُودُ إمَّا لِلْجَهَالَةِ أَوْ لِلْغَرَرِ، أَوْ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٌ حَتَّى لَا يَضْمَنَ إذَا سَقَى مِنْ شِرْبِ غَيْرِهِ، وَإِذَا بَطَلَتْ الْعُقُودُ فَالْوَصِيَّةُ بِالْبَاطِلِ بَاطِلَةٌ، وَكَذَا لَا يَصْلُحُ مُسَمًّى فِي النِّكَاحِ حَتَّى يَجِبَ مَهْرُ الْمِثْلِ، وَلَا فِي الْخُلْعِ حَتَّى يَجِبَ رَدُّ

الْمُصَنِّفُ: وَلَمْ يَكُنْ جَارِيًا بِكَلِمَةِ الْوَاوِ إشَارَةً إلَى انْتِفَائِهِمَا مَعًا

(قَوْلُهُ وَالشِّرْبُ مِمَّا يُورَثُ وَيُوصَى بِالِانْتِفَاعِ بِعَيْنِهِ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ وَالصَّدَقَةِ وَالْهِبَةِ وَالْوَصِيَّةِ بِذَلِكَ حَيْثُ لَا تَجُوزُ الْعُقُودُ إمَّا لِلْجَهَالَةِ أَوْ لِلْغَرَرِ، أَوْ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ حَتَّى لَا يَضْمَنَ إذَا سَقَى مِنْ شِرْبِ غَيْرِهِ) ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي بَابِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ مِنْ كِتَابِ الْبُيُوعِ أَنَّ الشِّرْبَ يَجُوزُ بَيْعُهُ تَبَعًا لِلْأَرْضِ بِاتِّفَاقِ الرِّوَايَاتِ، وَمُفْرَدًا فِي رِوَايَةٍ، وَهُوَ اخْتِيَارُ مَشَايِخِ بَلْخٍ؛ لِأَنَّهُ حَظٌّ مِنْ الْمَاءِ وَلِهَذَا يُضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ وَلَهُ قِسْطٌ مِنْ الثَّمَنِ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي كِتَابِ الشِّرْبِ انْتَهَى.

فَتَوَهَّمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ قَوْلَهُ هَاهُنَا حَتَّى لَا يَضْمَنَ إذَا سَقَى مِنْ شِرْبِ غَيْرِهِ يُنَاقِضُ قَوْلَهُ هُنَاكَ، وَلِهَذَا يُضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ مُنَاقَضَةً ظَاهِرَةً. أَقُولُ: لَيْسَ ذَاكَ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ بِنَاءَ كَلَامِهِ فِي الْمَقَامَيْنِ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ، فَمَا ذَكَرَهُ هَاهُنَا عَلَى رِوَايَةِ الْأَصْلِ وَهُوَ مُخْتَارُ شَيْخِ الْإِسْلَامِ خُوَاهَرْ زَادَهْ، وَمَا ذَكَرَهُ هُنَاكَ عَلَى مَا قَالَهُ الْإِمَامُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ الْبَزْدَوِيُّ. وَقَدْ أَفْصَحَ عَنْهُ صَاحِبُ الْخُلَاصَةِ حَيْثُ قَالَ: رَجُلٌ لَهُ نَوْبَةُ مَاءٍ فِي يَوْمٍ مُعَيَّنٍ مِنْ الْأُسْبُوعِ فَجَاءَ رَجُلٌ فَسَقَى أَرْضَهُ فِي نَوْبَتِهِ، ذَكَرَ الْإِمَامُ عَلِيٌّ الْبَزْدَوِيُّ أَنَّ غَاصِبَ الْمَاءِ يَكُونُ ضَامِنًا، وَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ

ص: 87

مَا قَبَضَتْ مِنْ الصَّدَاقِ لِتَفَاحُشِ الْجَهَالَةِ. وَلَا يَصْلُحُ بَدَلُ الصُّلْحِ عَنْ الدَّعْوَى؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْلَكُ بِشَيْءٍ مِنْ الْعُقُودِ. وَلَا يُبَاعُ الشِّرْبُ فِي دَيْنِ صَاحِبِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ بِدُونِ أَرْضٍ كَمَا فِي حَالِ حَيَاتِهِ، وَكَيْفَ يَصْنَعُ الْإِمَامُ؟ الْأَصَحُّ أَنْ يَضُمَّهُ إلَى أَرْضٍ لَا شِرْبَ لَهَا فَيَبِيعَهَا بِإِذْنِ صَاحِبِهَا، ثُمَّ يَنْظُرُ إلَى قِيمَةِ الْأَرْضِ مَعَ الشِّرْبِ وَبِدُونِهِ فَيَصْرِفُ التَّفَاوُتَ إلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ ذَلِكَ اشْتَرَى عَلَى تَرِكَةِ الْمَيِّتِ أَرْضًا بِغَيْرِ شِرْبٍ، ثُمَّ ضَمَّ الشِّرْبَ إلَيْهَا وَبَاعَهُمَا فَيَصْرِفُ مِنْ الثَّمَنِ إلَى ثَمَنِ الْأَرْضِ وَيَصْرِفُ الْفَاضِلَ إلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ

(وَإِذَا)(سَقَى الرَّجُلُ أَرْضَهُ أَوْ مَخَرَهَا مَاءً) أَيْ مَلَأَهَا (فَسَالَ مِنْ مَائِهَا فِي أَرْضِ رَجُلٍ فَغَرَّقَهَا أَوْ نَزَّتْ أَرْضُ جَارِهِ مِنْ هَذَا الْمَاءِ)(لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ ضَمَانُهَا)؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فِيهِ

‌كِتَابُ الْأَشْرِبَةِ

أَنَّهُ لَا يَكُونُ ضَامِنًا. ثُمَّ قَالَ: وَفِي فَتَاوَى الصُّغْرَى: رَجُلٌ أَتْلَفَ شِرْبَ رَجُلٍ بِأَنْ يَسْقِيَ أَرْضَهُ بِشِرْبِ غَيْرِهِ، قَالَ الْإِمَامُ الْبَزْدَوِيُّ: ضَمِنَ، وَقَالَ الْإِمَامُ خُوَاهَرْ زَادَهْ: لَا يَضْمَنُ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى انْتَهَى.

وَأَفْصَحَ عَنْهُ صَاحِبُ الْكَافِي أَيْضًا هَاهُنَا حَيْثُ قَالَ: حَتَّى لَوْ أَتْلَفَ شِرْبَ إنْسَانٍ بِأَنْ يَسْقِيَ أَرْضَهُ مِنْ شِرْبِ غَيْرِهِ لَا يَضْمَنُ عَلَى رِوَايَةِ الْأَصْلِ وَإِنْ اخْتَارَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ أَنَّهُ يَضْمَنُ انْتَهَى.

قَالَ جُمْهُورُ الشُّرَّاحِ: ذَكَرَ الْأَشْرِبَةَ بَعْدَ الشُّرْبِ لِأَنَّهُمَا شُعْبَتَا عِرْقٍ وَاحِد لَفْظًا وَمَعْنَى، وَقَصَدَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ حَلَّ مُرَادِهِمْ

ص: 88

سُمِّيَ بِهَا وَهِيَ جَمْعُ شَرَابٍ لِمَا فِيهِ مِنْ بَيَانِ حُكْمِهَا

قَالَ (الْأَشْرِبَةُ الْمُحَرَّمَةُ أَرْبَعَةٌ: الْخَمْرُ وَهِيَ عَصِيرُ الْعِنَبِ إذَا غَلَى وَاشْتَدَّ وَقَذَفَ بِالزَّبَدِ، وَالْعَصِيرُ إذَا طُبِخَ حَتَّى يَذْهَبَ أَقَلُّ مِنْ ثُلُثَيْهِ) وَهُوَ الطِّلَاءُ الْمَذْكُورُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ (وَنَقِيعُ التَّمْرِ وَهُوَ السَّكَرُ، وَنَقِيعُ الزَّبِيبِ إذَا اشْتَدَّ وَغَلَى)

أَمَّا الْخَمْرُ فَالْكَلَامُ فِيهَا فِي عَشَرَةِ مَوَاضِعَ:

بِعِرْقٍ وَاحِدٍ لَفْظًا وَمَعْنًى فَقَالَ: الْعِرْقُ اللَّفْظِيُّ ظَاهِرٌ وَهُوَ الشُّرْبُ مَصْدَرُ شَرِبَ، وَالْعِرْقُ الْمَعْنَوِيُّ لَعَلَّهُ الْأَرْضُ، فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَخْرُجُ مِنْهُ إمَّا بِالْوَاسِطَةِ أَوْ بِدُونِهَا انْتَهَى. أَقُولُ: حُمِلَ مُرَادُهُمْ بِالْعِرْقِ الْمَعْنَوِيِّ هَاهُنَا عَلَى الْأَرْضِ بِنَاءً عَلَى خُرُوجِ الشُّرْبِ مِنْهَا بِالذَّاتِ، وَخُرُوجُ الْأَشْرِبَةِ مِنْهَا بِالْوَاسِطَةِ تَعَسُّفٌ جِدًّا لَا تَقْبَلُهُ الْفِطْرَةُ السَّلِيمَةُ.

وَالصَّوَابُ أَنَّ مُرَادَهُمْ بِالْعِرْقِ الْمَعْنَوِيِّ هَاهُنَا هُوَ مَعْنَى لَفْظِ الشُّرْبِ الَّذِي هُوَ مَصْدَرُ شَرِبَ، فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مُشْتَقٌّ مِنْ ذَلِكَ الْمَصْدَرِ، وَلَا بُدَّ فِي الِاشْتِقَاقِ مِنْ التَّنَاسُبِ بَيْنَ الْمُشْتَقِّ وَالْمُشْتَقِّ مِنْهُ فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى؛ وَهَاهُنَا أَيْضًا كَذَلِكَ، وَهَذَا مَعْنَى كَوْنِهِمَا شُعْبَتَيْ عِرْقٍ وَاحِدٍ لَفْظًا وَمَعْنًى، وَيُرْشِدُ إلَيْهِ مَا ذُكِرَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ حَيْثُ قَالَ: ذَكَرَ كِتَابَ الْأَشْرِبَةِ بَعْدَ الشُّرْبِ لِمُنَاسِبَةٍ بَيْنَهُمَا فِي الِاشْتِقَاقِ وَهُوَ اشْتِرَاكُ اللَّفْظَيْنِ فِي الْمَعْنَى الْأَصْلِيِّ وَالْحُرُوفِ وَالْأُصُولِ اهـ. ثُمَّ إنَّ مِنْ مَحَاسِنِ ذِكْرِ الْأَشْرِبَةِ بَيَانَ حُرْمَتِهَا؛ إذْ لَا شُبْهَةَ فِي حُسْنِ تَحْرِيمِ مَا يُزِيلُ الْعَقْلَ الَّذِي هُوَ مَلَاكُ مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَشُكْرِ إنْعَامِهِ.

فَإِنْ قِيلَ: مَا بَالُهُ حَلَّ لِلْأُمَمِ السَّابِقَةِ مَعَ احْتِيَاجِهِمْ أَيْضًا إلَى الْعَقْلِ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ السُّكْرَ حَرَامٌ فِي جَمِيعِ الْأَدْيَانِ، وَحُرِّمَ شُرْبُ الْقَلِيلِ مِنْ الْخَمْرِ عَلَيْنَا كَرَامَةً لَنَا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى لِئَلَّا نَقَعَ فِي الْمَحْظُورِ بِأَنْ يَدْعُوَ شُرْبُ الْقَلِيلِ مِنْهَا إلَى شُرْبِ الْكَثِيرِ وَنَحْنُ مَشْهُودٌ لَنَا بِالْخَيْرِيَّةِ.

فَإِنْ قِيلَ: هَلَّا حُرِّمَتْ عَلَيْنَا ابْتِدَاءً، وَالدَّاعِي الْمَذْكُورُ مَوْجُودٌ؟ أُجِيبَ إمَّا بِأَنَّ الشَّهَادَةَ بِالْخَيْرِيَّةِ لَمْ تَكُنْ إذْ ذَاكَ، وَإِمَّا لِتَدْرِيجِ الضَّارِي لِئَلَّا يَنْفِرَ مِنْ الْإِسْلَامِ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ.

أَقُولُ: فِي كُلٍّ مِنْ وَجْهَيْ الْجَوَابِ الثَّانِي نَظَرٌ. أَمَّا فِي وَجْهِهِ الْأَوَّلِ فَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ بِالْخَيْرِيَّةِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ، إلَّا أَنَّ نَفْسَ خَيْرِيَّةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ كَانَتْ فِي الِابْتِدَاءِ وَالِانْتِهَاءِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ، وَهِيَ كَافِيَةٌ فِي الْكَرَامَةِ فَلَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ.

وَأَمَّا فِي وَجْهِهِ الثَّانِي فَلِأَنَّ نُفْرَةَ الضَّارِي بِالْخَمْرِ: أَيْ الْمُعْتَادِ بِهَا مِنْ الْإِسْلَامِ بِتَحْرِيمِ الْخَمْرِ يُوجَدُ بِتَحْرِيمِهَا فِي أَيِّ وَقْتٍ كَانَ، فَإِنَّهَا إذَا لَمْ تُحَرَّمْ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ كَانَ الضَّارِي بِهَا عَلَى حَالِهِ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ أَيْضًا، فَإِذَا حَرَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ لَزِمَ أَنْ يَنْفِرَ عَنْهُ عَلَى مُقْتَضَى صُعُوبَةِ تَرْكِ الْمُعْتَادِ، وَأَيْضًا احْتِمَالُ كَوْنِ الِاعْتِيَادِ بِخَبِيثٍ بَاعِثًا عَلَى التَّنْفِيرِ عَنْ الْإِسْلَامِ عِنْدَ النَّهْيِ عَنْ تَعَاطِي ذَلِكَ الْخَبِيثِ مُتَحَقِّقٌ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمُنْكَرَاتِ الَّتِي نَهَى عَنْهَا فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ، مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَعْتَبِرْ ذَلِكَ فِي مُقَابَلَةِ ظُهُورِ شَرَفِ الْإِسْلَامِ فَهَاهُنَا أَيْضًا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ، فَالْوَجْهُ الْوَجِيهُ فِي الْجَوَابِ عَنْ السُّؤَالِ الثَّانِي مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ حَيْثُ قَالَ: فَإِنْ قِيلَ: هَلَّا حُرِّمَتْ الْخَمْرُ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ مَعَ وُجُودِ هَذِهِ الْحِكْمَةِ؟ قُلْنَا: أَبَاحَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ لِيُعَايَنَ الْفَسَادُ فِي الْخَمْرِ، حَتَّى إذَا حُرِّمَ عَلَيْهِمْ عَرَفُوا مِنَّة الْحَقَّ لَدَيْهِمْ، وَلَيْسَ الْخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ انْتَهَى (قَوْلُهُ سُمِّيَ بِهَا وَهِيَ جَمْعُ شَرَابٍ لِمَا فِيهِ مِنْ بَيَانِ حُكْمِهَا) يَعْنِي سُمِّيَ

ص: 89

أَحَدُهَا فِي بَيَانِ مَائِيَّتِهَا وَهِيَ النِّيءُ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ إذَا صَارَ مُسْكِرًا وَهَذَا عِنْدَنَا وَهُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ وَأَهْلِ الْعِلْمِ

وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: هُوَ اسْمٌ لِكُلِّ مُسْكِرٍ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ» : وَقَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «الْخَمْرُ مِنْ هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ» وَأَشَارَ إلَى الْكَرْمَةِ وَالنَّخْلَةِ، وَلِأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ مُخَامَرَةِ الْعَقْلِ وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي كُلِّ مُسْكِرٍ

وَلَنَا أَنَّهُ اسْمٌ خَاصٌّ بِإِطْبَاقِ أَهْلِ اللُّغَةِ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ وَلِهَذَا اُشْتُهِرَ اسْتِعْمَالُهُ فِيهِ وَفِي غَيْرِهِ غَيْرُهُ،

هَذَا الْكِتَابُ بِالْأَشْرِبَةِ: أَيْ أُضِيفَ إلَيْهَا، وَالْحَالُ أَنَّ الْأَشْرِبَةَ جَمْعُ شَرَابٍ، وَهُوَ اسْمٌ فِي اللُّغَةِ لِكُلِّ مَا يُشْرَبُ مِنْ الْمَائِعَاتِ سَوَاءٌ كَانَ حَرَامًا أَوْ حَلَالًا، وَفِي اسْتِعْمَالِ أَهْلِ الشَّرْعِ اسْمٌ لِمَا هُوَ حَرَامٌ مِنْهُ وَكَانَ مُسْكِرًا لِمَا فِيهِ: أَيْ فِي هَذَا الْكِتَابِ مِنْ بَيَانِ حُكْمِهَا: أَيْ حُكْمِ الْأَشْرِبَةِ كَمَا سُمِّيَ كِتَابَ الْحُدُودِ لِمَا فِيهِ مِنْ بَيَانِ حُكْمِ الْحُدُودِ، وَكَمَا سُمِّيَ كِتَابُ الْبُيُوعِ لِمَا فِيهِ مِنْ بَيَانِ حُكْمِ الْبُيُوعِ، هَذَا زُبْدَةُ مَا ذُكِرَ هَا هُنَا فِي جُمْلَةِ الشُّرُوحِ وَالْكَافِي مَعَ نَوْعِ زِيَادَةٍ فِي حَلِّ الْأَلْفَاظِ.

قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ مِنْ بَيَانِ حُكْمِهَا: أَيْ بَيَانِ حُكْمِ أَنْوَاعِهَا، وَقَالَ: وَلَعَلَّ ذَلِكَ تَمْهِيدُ الْعُذْرِ لِعِنْوَانِهِ الْكِتَابَ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ: يَعْنِي إنَّمَا عَنْوَنَ بِهَا؛ لِأَنَّ فِيهِ بَيَانَ أَحْكَامِ أَنْوَاعِهَا كَمَا فِي الْبُيُوعِ، أَوْ لِإِضَافَةِ الْكِتَابِ إلَى الْأَعْيَانِ، وَالْفِقْهُ يَبْحَثُ عَنْ أَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ، فَوَجْهُهُ حِينَئِذٍ أَنَّ الْحُكْمَ وَهُوَ الْحُرْمَةُ هَا هُنَا وَصْفٌ لِلْأَعْيَانِ لَا لِلْأَفْعَالِ فَلِذَلِكَ عَنْوَنَ بِالْأَعْيَانِ وَيُعْلَمُ مِنْهُ حَالُ الْأَفْعَالِ، وَالتَّفْصِيلُ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ خُصُوصًا التَّلْوِيحَ فِي أَوَائِلِ الْقِسْمِ الثَّانِي، إلَى هُنَا كَلَامُهُ.

أَقُولُ: لَيْسَ لِتَوْجِيهِهِ الَّذِي ذَكَرَهُ لِإِضَافَةِ الْكِتَابِ إلَى الْأَعْيَانِ مَعْنًى مُحَصَّلٌ؛ لِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ أَنَّ الْحُكْمَ وَهُوَ الْحُرْمَةُ هَا هُنَا وَصْفٌ لِلْأَعْيَانِ حَقِيقَةً لَا لِلْأَفْعَالِ فَهُوَ مَمْنُوعٌ، إذْ قَدْ تَقَرَّرَ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ سِيَّمَا فِي التَّلْوِيحِ فِي أَوَائِلِ الْقِسْمِ الثَّانِي أَنَّ إضَافَةَ الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ إلَى الْأَعْيَانِ كَحُرْمَةِ الْمَيْتَةِ وَالْخَمْرِ وَالْأُمَّهَاتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مَجَازٌ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ بَابِ إطْلَاقِ اسْمِ الْمَحَلِّ عَلَى الْحَالِّ، أَوْ هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ: أَيْ حَرُمَ أَكْلُ الْمَيْتَةِ وَشُرْبُ الْخَمْرِ وَنِكَاحُ الْأُمَّهَاتِ لِدَلَالَةِ الْعَقْلِ عَلَى الْحَذْفِ، وَالْمَقْصُودُ الْأَظْهَرُ عَلَى تَعْيِينِ الْمَحْذُوفِ، وَأَمَّا عِنْدَ بَعْضِهِمْ وَإِنْ كَانَتْ إضَافَةُ الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ إلَى الْأَعْيَانِ حَقِيقَةً لِوَجْهَيْنِ مُفَصَّلَيْنِ فِي مَحَلِّهِ، إلَّا أَنَّ كَوْنَ إضَافَتِهِمَا إلَى الْأَفْعَالِ حَقِيقَةً مِمَّا لَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ قَطُّ، بَلْ مَنْ يَقُولُ بِكَوْنِ إضَافَتِهِمَا إلَى الْأَعْيَانِ حَقِيقَةً إنَّمَا يَقِيسُ إضَافَتَهُمَا إلَى الْأَعْيَانِ عَلَى إضَافَتِهِمَا إلَى الْأَفْعَالِ فِي كَوْنِهَا حَقِيقَةً، وَيَسْتَمِدُّ بِذَلِكَ فِي تَوْجِيهِ مَذْهَبِهِ، فَلَا مَجَالَ لِلْقَوْلِ بِأَنَّ الْحُرْمَةَ وَصْفٌ لِلْأَعْيَانِ حَقِيقَةً لَا لِلْأَفْعَالِ عَلَى كِلَا الْمَذْهَبَيْنِ.

وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ الْحُرْمَةَ هَا هُنَا وَصْفٌ لِلْأَعْيَانِ مَجَازًا لَا لِلْأَفْعَالِ لَا يَتِمُّ قَوْلُهُ فَلِذَلِكَ عَنْوَنَ بِالْأَعْيَانِ؛ لِأَنَّ كَوْنَ الْحُرْمَةِ وَصْفًا لِلْأَعْيَانِ مَجَازًا لَا يَقْتَضِي أَنْ يُعَنْوِنَ الْكِتَابَ بِالْأَعْيَانِ، بَلْ رِعَايَةُ جَانِبِ الْحَقِيقَةِ فِي الْعِنْوَانِ أَوْلَى وَأَحْسَنُ بِلَا رَيْبٍ، فَكَانَ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُعَنْوَنَ بِالْفِعْلِ بِأَنْ يُقَالَ كِتَابُ شُرْبِ الْأَشْرِبَةِ حَتَّى يُرَاعَى كَوْنُ الْفِقْهِ بَاحِثًا عَنْ أَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ بِلَا كُلْفَةٍ أَنْ يُقَالَ وَيُعْلَمَ مِنْهُ حَالُ الْأَفْعَالِ.

وَبِالْجُمْلَةِ تَوْجِيهُهُ الْمَذْكُورُ لَيْسَ بِتَامٍّ عَلَى كُلِّ حَالٍ

(قَوْلُهُ أَحَدُهَا فِي بَيَانِ مَاهِيَّتِهَا) وَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ مَائِيَّتِهَا بَدَلَ مَاهِيَّتِهَا.

قَالَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ: الْمَائِيَّةُ بِمَعْنَى الْمَاهِيَّةِ، وَهِيَ مَا بِهِ الشَّيْءُ هُوَ كَمَاهِيَّةِ الْإِنْسَانِ وَهِيَ حَيَوَانٌ نَاطِقٌ انْتَهَى.

قُلْت: وَفِي نُسْخَةٍ مَائِيَّتِهَا هَا هُنَا إيهَامٌ لَطِيفٌ لِمَا فِي قَوْلِهِ وَهِيَ النِّيءُ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ تَبَصَّرْ تَقِفْ

(قَوْلُهُ وَلَنَا أَنَّهُ اسْمٌ خَاصٌّ بِإِطْبَاقِ أَهْلِ اللُّغَةِ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ) أَقُولُ لِمَانِعٍ أَنْ يَمْنَعَ إطْبَاقَ أَهْلِ اللُّغَةِ عَلَى أَنَّهُ اسْمٌ خَاصٌّ لِلنِّيءِ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ إذَا صَارَ مُسْكِرًا؛ أَلَا يَرَى أَنَّهُ قَالَ فِي قَامُوسِ اللُّغَةِ: الْخَمْرُ مَا أَسْكَرَ مِنْ عَصِيرِ الْعِنَبِ أَوْ عَامٍّ.

وَقَالَ: وَالْعُمُومُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّهَا حُرِّمَتْ وَمَا بِالْمَدِينَةِ خَمْرُ عِنَبٍ.

وَمَا كَانَ شَرَابُهُمْ إلَّا الْبُسْرُ وَالتَّمْرُ انْتَهَى

وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْخَمْرَ عِنْدَ بَعْضِ أَهْلِ اللُّغَةِ يَعُمُّ

ص: 90

وَلِأَنَّ حُرْمَةَ الْخَمْرِ قَطْعِيَّةٌ وَهِيَ فِي غَيْرِهَا ظَنِّيَّةٌ،

مَاءَ الْعِنَبِ وَغَيْرَهُ، وَأَنَّ الْعُمُومَ أَصَحُّ عِنْدَ صَاحِبِ الْقَامُوسِ (قَوْلُهُ وَلِأَنَّ حُرْمَةَ الْخَمْرِ قَطْعِيَّةٌ وَهِيَ فِي غَيْرِهَا ظَنِّيَّةٌ) قَالَ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ: بَيَانُهُ أَنَّ النِّيءَ الْمُسْكِرَ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ خَمْرٌ قَطْعًا وَيَقِينًا لِثُبُوتِ ذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْحُرْمَةُ الْقَطْعِيَّةُ، فَأَمَّا سَائِرُ الْأَشْرِبَةِ فَفِي تَسْمِيَتِهَا خَمْرًا شُبْهَةٌ؛ لِأَنَّ فِيهَا خِلَافًا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَأَدْنَى دَرَجَاتِ الِاخْتِلَافِ إيرَاثُ الشُّبْهَةِ فَكَيْفَ تَتَرَتَّبُ الْحُرْمَةُ الثَّابِتَةُ قَطْعًا عَلَى مَا فِيهِ شُبْهَةٌ؛ لِأَنَّ بِالشُّبْهَةِ لَا يَثْبُتُ الْقَطْعُ وَالْيَقِينُ انْتَهَى

أَقُولُ: فِي هَذَا الْبَيَانِ خَلَلٌ، فَإِنَّهُ جَعَلَ فِيهِ مَدَارَ كَوْنِ الْحُرْمَةِ فِي غَيْرِ النِّيءِ الْمُسْكِرِ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ ظَنِّيَّةً اخْتِلَافَ الْعُلَمَاءِ فِي تَسْمِيَةِ ذَلِكَ خَمْرًا وَلَيْسَ بِسَدِيدٍ؛ إذْ الْمُصَنِّفُ بِصَدَدِ بَيَانِ بُطْلَانِ ذَلِكَ الِاخْتِلَافِ وَإِثْبَاتِ أَنَّ غَيْرَ النِّيءِ الْمُسْكِرِ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ لَا يُسَمَّى خَمْرًا

فَلَوْ كَانَ مَدَارُ ظَنِّيَّةِ حُرْمَةِ غَيْرِ ذَلِكَ اخْتِلَافَهُمْ فِي تَسْمِيَتِهِ خَمْرًا لَزِمَ الْمُصَادَرَةُ عَلَى الْمَطْلُوبِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: الْخَمْرُ هِيَ النِّيءُ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ إذَا صَارَ مُسْكِرًا، وَغَيْرُهُ لَيْسَ بِخَمْرٍ كَمَا زَعَمَهُ بَعْضُ النَّاسِ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْخَمْرِ قَطْعِيَّةٌ وَحُرْمَةَ غَيْرِ النِّيءِ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ ظَنِّيَّةٌ؛ لِأَنَّا خَالَفْنَا فِي كَوْنِ غَيْرِ ذَلِكَ خَمْرًا وَقُلْنَا: إنَّ اسْمَ الْخَمْرِ مَخْصُوصٌ بِالنِّيءِ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ لَا يُطْلَقُ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ، فَأَوْرَثَ خِلَافُنَا فِي ذَلِكَ شُبْهَةً فِي كَوْنِهِ خَمْرًا فَلَمْ تَكُنْ حُرْمَتُهُ قَطْعِيَّةً

وَفِي هَذَا مُصَادَرَةٌ كَمَا تَرَى

وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي بَيَانِ هَذَا الْمَقَامِ: يَعْنِي أَنَّ حُرْمَةَ الْخَمْرِ ثَابِتَةٌ بِالْإِجْمَاعِ فَتَكُونُ قَطْعِيَّةً، وَمَا هُوَ قَطْعِيٌّ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِقَطْعِيٍّ، وَكَوْنُ النِّيءِ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ خَمْرًا قَطْعِيٌّ بِلَا خِلَافٍ فَيَثْبُتُ بِهِ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ فَإِنَّ فِيهِ اخْتِلَافًا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، وَأَدْنَى دَرَجَاتِ الِاخْتِلَافِ إيرَاثُ الشُّبْهَةِ فَتَكُونُ الْحُرْمَةُ قَطْعِيَّةً وَمَا يَدُلُّ عَلَيْهَا ظَنِّيٌّ انْتَهَى

أَقُولُ: وَفِيهِ أَيْضًا خَلَلٌ أَمَّا أَوَّلًا فَلِمَا مَرَّ آنِفًا مِنْ اسْتِلْزَامِهِ الْمُصَادَرَةَ عَلَى الْمَطْلُوبِ، فَإِنَّ الظَّاهِرَ مِنْ قَوْلِهِ فَإِنَّ فِيهِ اخْتِلَافًا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي مُقَابَلَةِ قَوْلِهِ: وَكَوْنُ النِّيءِ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ خَمْرًا قَطْعِيٌّ بِلَا خِلَافٍ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ بِاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي غَيْرِ النِّيءِ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ اخْتِلَافَهُمْ فِي كَوْنِهِ خَمْرًا فَيَئُولُ إلَى مَا ذُكِرَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ

وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ قَوْلَهُ فَتَكُونُ الْحُرْمَةُ قَطْعِيَّةً وَمَا يَدُلُّ عَلَيْهَا ظَنِّيٌّ كَلَامٌ غَيْرُ صَحِيحٍ لَا ارْتِبَاطَ بِمَا قَبْلَهُ؛ لِأَنَّ مَدْلُولَ مَا قَبْلَهُ أَنَّ غَيْرَ النِّيءِ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ مِمَّا وَقَعَتْ فِيهِ شُبْهَةٌ بِاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي حَقِّهِ، فَاللَّازِم مِنْهُ أَنْ تَكُونَ حُرْمَتُهُ ظَنِّيَّةً، فَإِنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: فَتَكُونُ الْحُرْمَةُ قَطْعِيَّةً فَتَكُونُ حُرْمَةُ غَيْرِ النِّيءِ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ قَطْعِيَّةً لَمْ يَكُنْ التَّفْرِيعُ صَحِيحًا قَطْعًا، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ فَتَكُونُ حُرْمَةُ الْخَمْرِ قَطْعِيَّةً لَمْ يَصِحَّ قَوْلُهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهَا ظَنِّيٌّ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ دَلِيلَ حُرْمَةِ الْخَمْرِ قَطْعِيٌّ كَمَا أَفْصَحَ عَنْهُ فِي صَدْرِ بَيَانِهِ حَيْثُ قَالَ: يَعْنِي أَنَّ حُرْمَةَ الْخَمْرِ ثَابِتَةٌ بِالْإِجْمَاعِ فَتَكُونُ قَطْعِيَّةً، وَمَا هُوَ قَطْعِيٌّ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِقَطْعِيٍّ

فَالْحَقُّ فِي شَرْحِ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ هَا هُنَا مَا ذَكَرَهُ تَاجُ الشَّرِيعَةِ وَصَاحِبُ الْكِفَايَةِ حَيْثُ قَالَا: يَعْنِي فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُصْرَفَ تَحْرِيمُهَا إلَّا إلَى عَيْنٍ تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ فِي تِلْكَ الْعَيْنِ قَطْعًا، وَغَيْرُ النِّيءِ لَيْسَ بِتِلْكَ الْمَثَابَةِ لِمَكَانِ الِاجْتِهَادِ فِيهِ انْتَهَى

فَإِنَّهُمَا لَمْ يُرِيدَا بِالِاجْتِهَادِ فِيهِ الِاجْتِهَادَ فِي تَسْمِيَتِهِ خَمْرًا حَتَّى يَلْزَمَ الْمُصَادَرَةُ عَلَى الْمَطْلُوبِ، بَلْ أَرَادَا بِهِ الِاجْتِهَادَ فِي عَدَمِ حُرْمَتِهِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ فِيمَا بَعْدُ حَيْثُ قَالَ فِي الْعَصِيرِ إذَا طُبِخَ حَتَّى يَذْهَبَ أَقَلُّ مِنْ ثُلُثَيْهِ بَعْدَ بَيَانِ أَنَّهُ حَرَامٌ عِنْدَنَا

وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: إنَّهُ مُبَاحٌ، وَقَالَ فِي نَقِيعِ التَّمْرِ بَعْدَ بَيَانٍ: إنَّهُ حَرَامٌ

وَقَالَ شَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: إنَّهُ مُبَاحٌ، وَقَالَ فِي نَقِيعِ الزَّبِيبِ بَعْدَ بَيَانٍ: إنَّهُ حَرَامٌ إذَا اشْتَدَّ وَغَلَى، وَيَتَأَتَّى فِيهِ خِلَافُ الْأَوْزَاعِيِّ

ثُمَّ إنَّ بَعْضَ الْفُضَلَاءِ طَعَنَ فِي هَذَا التَّعْلِيلِ الْمَذْكُورِ

ص: 91

وَإِنَّمَا سُمِّيَ خَمْرًا لِتَخَمُّرِهِ لَا لِمُخَامَرَتِهِ الْعَقْلَ، عَلَى أَنَّ مَا ذَكَرْتُمْ لَا يُنَافِي كَوْنَ الِاسْمِ خَاصًّا فِيهِ

مِنْ قَبْلِنَا حَيْثُ قَالَ: لَا يَقُولُ الْخَصْمُ بِقَطْعِيَّةِ حُرْمَةِ غَيْرِ النِّيءِ؛ أَلَا يَرَى أَنَّهُمْ لَا يُكَفِّرُونَ مُسْتَحِلَّهُ فَلَا يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِمْ الْإِلْزَامُ، هَذَا كَالرِّبَا فَإِنَّ حُرْمَتَهُ قَطْعِيَّةٌ، وَحُرْمَةُ بَيْعِ الْحَفْنِ بِالْحَفْنِ مُتَفَاضِلًا مَثَلًا لَيْسَتْ بِقَطْعِيَّةٍ انْتَهَى، أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ عَدَمَ قَوْلِ الْخَصْمِ بِقَطْعِيَّةِ حُرْمَةِ غَيْرِ النِّيءِ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ لَا يُنَافِي تَوَجُّهَ الْإِلْزَامِ عَلَيْهِمْ، بَلْ بِذَلِكَ يَتَوَجَّهُ الْإِلْزَامُ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْخَمْرِ قَطْعِيَّةٌ بِلَا رَيْبٍ لِمَا سَيَأْتِي فِي الْكِتَابِ أَنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى سَمَّى الْخَمْرَ فِي كِتَابِهِ الْكَرِيمِ رِجْسًا وَالرِّجْسُ مَا هُوَ مُحَرَّمُ الْعَيْنِ، وَقَدْ جَاءَتْ السُّنَّةُ مُتَوَاتِرَةً أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حَرَّمَ الْخَمْرَ وَعَلَيْهِ انْعَقَدَ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ، وَمَا ثَبَتَ بِهَذِهِ الْأَدِلَّةِ الْقَطْعِيَّةِ قَطْعِيٌّ جَزْمًا، فَإِذَا لَمْ يَقُلْ الْخَصْمُ بِقَطْعِيَّةِ حُرْمَةِ غَيْرِ النِّيءِ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ تَعَيَّنَ أَنْ لَا يَكُونَ غَيْرُ النِّيءِ خَمْرًا؛ إذْ لَا شَكَّ أَنَّ قَطْعِيَّةَ الْحُرْمَةِ وَعَدَمَ قَطْعِيَّتِهَا لَا يَجْتَمِعَانِ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ

فَقَدْ تَوَجَّهَ عَلَيْهِمْ الْإِلْزَامُ فِي قَوْلِهِمْ: إنَّ كُلَّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَتَنْظِيرُهُ الَّذِي ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ، وَهَذَا كَالرِّبَا إلَى آخِرِهِ لَا يُجْدِي شَيْئًا؛ لِأَنَّ عِلَّةَ الرِّبَا عِنْدَنَا الْكَيْلُ مَعَ الْجِنْسِ، أَوْ الْوَزْنُ مَعَ الْجِنْسِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ الطَّعْمُ فِي الْمَطْعُومَاتِ وَالثَّمَنِيَّةُ فِي الْأَثْمَانِ، فَفِي بَيْعِ الْحَفْنَةِ بِالْحَفْنَةِ مُتَفَاضِلًا لَا يُوجَدُ الرِّبَا عِنْدَنَا لِعَدَمِ وُجُودِ عِلَّتِهِ فَلَا يَحْرُمُ ذَلِكَ الْبَيْعُ

وَأَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فَيُوجَدُ فِيهِ الرِّبَا لِوُجُودِ عِلَّتِهِ فَيَحْرُمُ فَكَوْنُ حُرْمَةِ الرِّبَا قَطْعِيَّةً يَصِيرُ حُجَّةً عَلَى الشَّافِعِيِّ هُنَاكَ أَيْضًا لِمِثْلِ مَا قُلْنَا هَا هُنَا فَلَا فَائِدَةَ فِي التَّنْظِيرِ أَصْلًا (قَوْلُهُ: وَإِنَّمَا سُمِّيَ خَمْرًا لِتَخَمُّرِهِ لَا لِمُخَامَرَتِهِ الْعَقْلَ) قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: وَلَك أَنْ تَقُولَ هَذَا مَنْعٌ لَا يَضُرُّ انْتَهَى

أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا بِسَدِيدٍ، إذْ لَا نُسَلِّمُ أَوَّلًا أَنَّ هَذَا مَنْعٌ بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُعَارَضَةً: يَعْنِي إنَّمَا سُمِّيَ خَمْرًا لِتَخَمُّرِهِ: أَيْ لِتَشَدُّدِهِ وَقُوَّتِهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَمْ يُوجَدْ فِي غَيْرِ النِّيءِ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ فَلَمْ يَكُنْ غَيْرُهُ خَمْرًا، وَيُشِيرُ إلَيْهِ تَفْسِيرُ تَاجِ الشَّرِيعَةِ وَصَاحِبِ الْكِفَايَةِ هَا هُنَا حَيْثُ قَالَا: أَيْ لِتَشَدُّدِهِ وَقُوَّتِهِ فَإِنَّ لَهَا شِدَّةً وَقُوَّةً لَيْسَتْ لِغَيْرِهَا حَتَّى سُمِّيَتْ أُمَّ الْخَبَائِثِ انْتَهَى

وَلَئِنْ سُلِّمَ أَنَّ ذَاكَ مَنْعٌ لَا مُعَارِضَةً فَلَا وَجْهَ لِقَوْلِهِ لَا يَضُرُّ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بِهَذَا الْكَلَامِ إنَّمَا هُوَ الْجَوَابُ عَنْ اسْتِدْلَالِ الْخَصْمِ عَلَى كَوْنِ الْخَمْرِ اسْمًا لِكُلِّ مُسْكِرٍ بِقَوْلِهِ: وَلِأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ مُخَامَرَةِ الْعَقْلِ وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي كُلِّ مُسْكِرٍ، فَإِنَّهُ إذَا مُنِعَ قَوْلُهُ: لِأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ مُخَامَرَةِ الْعَقْلِ تَسْقُطُ هَذِهِ الْمُقَدَّمَةُ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ الْمَذْكُورِ فَلَا يَتِمُّ دَلِيلُ الْخَصْمِ عَلَيْنَا وَهُوَ عَيْنُ الضَّرَرِ لَهُ

ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ الْعِنَايَةِ قَالَ فِي شَرْحِ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ: هَذَا وَقَوْلُهُ: وَإِنَّمَا سُمِّيَ يَعْنِي غَيْرَ النِّيءِ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ خَمْرًا لِتَخَمُّرِهِ: أَيْ لِصَيْرُورَتِهِ مُرًّا كَالْخَمْرِ لَا لِمُخَامَرَتِهِ جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمْ سُمِّيَ خَمْرًا لِمُخَامَرَتِهِ الْعَقْلَ انْتَهَى

أَقُولُ: هَذَا شَرْحٌ فَاسِدٌ لَا يُطَابِقُ الْمَشْرُوحَ أَصْلًا؛ إذْ حِينَئِذٍ لَا يَظْهَرُ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ الْمَذْكُورِ وَلَا يَرْتَبِطُ بِهِ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ فِيمَا بَعْدُ، عَلَى أَنَّ مَا ذَكَرْتُمْ لَا يُنَافِي كَوْنَ الِاسْمِ خَاصًّا فِيهِ، وَلَعَمْرِي إنَّ هَذَا الشَّرْحَ عَجِيبٌ مِنْ مِثْلِ ذَلِكَ الشَّارِحِ، وَكَانَ لَنَا أَنْ نَحْمِلَ كَلِمَةَ: غَيْرَ فِي قَوْلِهِ: يَعْنِي غَيْرَ النِّيءِ عَلَى السَّهْوِ مِنْ قَلَمِ النَّاسِخِ الْأَوَّلِ لَوْلَا قَوْلُهُ كَالْخَمْرِ فِي قَوْلِهِ أَيْ لِصَيْرُورَتِهِ مُرًّا كَالْخَمْرِ، فَإِنَّ التَّشْبِيهَ بِالْخَمْرِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمُشَبَّهُ غَيْرَ الْخَمْرِ وَهُوَ غَيْرُ النِّيءِ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ

وَالصَّوَابُ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ أَنْ يُقَالَ: يَعْنِي إنَّمَا سَمَّى النِّيءَ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ خَمْرًا لِتَخَمُّرِهِ: أَيْ لِتَغَيُّرِهِ وَاشْتِدَادِهِ وَهَذَا الْمَعْنَى غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي غَيْرِهِ فَلَمْ يَكُنْ خَمْرًا لَا لِمُخَامَرَتِهِ الْعَقْلَ: أَيْ لَيْسَتْ التَّسْمِيَةُ لِمُخَامَرَتِهِ الْعَقْلَ: أَيْ سِتْرِهِ الْعَقْلَ حَتَّى يُوجَدَ وَجْهُ التَّسْمِيَةِ فِي غَيْرِ النِّيءِ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ أَيْضًا فَيَكُونُ خَمْرًا

فَحِينَئِذٍ يَنْتَظِمُ الِارْتِبَاطُ بِالسَّبَّاقِ وَاللَّحَاقِ كَمَا لَا يَخْفَى

وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الشُّرَّاحِ فِي تَفْسِيرِهِ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ لِتَخَمُّرِهِ: أَيْ لِصَيْرُورَتِهِ خَمْرًا

أَقُولُ: هَذَا تَفْسِيرٌ خَالٍ عَنْ التَّحْصِيلِ مُؤَدٍّ إلَى

ص: 92

فَإِنَّ النَّجْمَ مُشْتَقٌّ مِنْ النُّجُومِ وَهُوَ الظُّهُورُ، ثُمَّ هُوَ اسْمٌ خَاصٌّ لِلنَّجْمِ الْمَعْرُوفِ لَا لِكُلِّ مَا ظَهَرَ وَهَذَا كَثِيرُ النَّظِيرِ

وَالْحَدِيثُ الْأَوَّلُ طَعَنَ فِيهِ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ رحمه الله، وَالثَّانِي أُرِيدَ بِهِ بَيَانُ الْحُكْمِ؛ إذْ هُوَ اللَّائِقُ بِمَنْصِبِ الرِّسَالَةِ

وَالثَّانِي فِي حَقِّ ثُبُوتِ هَذَا الِاسْمِ وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله وَعِنْدَهُمَا إذَا اشْتَدَّ صَارَ خَمْرًا، وَلَا يُشْتَرَطُ الْقَذْفُ بِالزَّبَدِ؛ لِأَنَّ الِاسْمَ يَثْبُتُ بِهِ، وَكَذَا الْمَعْنَى الْمُحَرَّمُ وَهُوَ الْمُؤَثِّرُ فِي الْفَسَادِ

إلَى تَعْلِيلِ الشَّيْءِ بِنَفْسِهِ كَمَا يَشْهَدُ بِهِ التَّأَمُّلُ الصَّادِقُ (قَوْلُهُ فَإِنَّ النَّجْمَ مُشْتَقٌّ مِنْ النُّجُومِ وَهُوَ الظُّهُورُ، ثُمَّ هُوَ اسْمٌ خَاصٌّ لِلنَّجْمِ الْمَعْرُوفِ لَا لِكُلِّ مَا ظَهَرَ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَحَلِّ: فَإِنَّ النَّجْمَ مُشْتَقٌّ مِنْ نَجَمَ إذَا ظَهَرَ ثُمَّ هُوَ خَاصٌّ بِالثُّرَيَّا انْتَهَى، وَتَبِعَهُ الْعَيْنِيُّ

أَقُولُ: هَذَا شَرْحٌ غَيْرُ صَحِيحٍ لَا يُطَابِقُ الْمَشْرُوحَ؛ لِأَنَّ النَّجْمَ إنَّمَا كَانَ اسْمًا خَاصًّا لِجِنْسِ الْكَوْكَبِ مَوْضُوعًا لَهُ لِظُهُورِهِ، ثُمَّ صَارَ عَلَمًا لِلثُّرَيَّا بِلَا وَضْعِ وَاضِعٍ مُعَيَّنٍ، بَلْ لِأَجْلِ الْغَلَبَةِ وَكَثْرَةِ اسْتِعْمَالِهِ فِي فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ جِنْسِهِ كَمَا هُوَ حَالُ سَائِرِ الْأَعْلَامِ الْغَالِبَةِ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي مَوْضِعِهِ

وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ ثُمَّ هُوَ اسْمٌ خَاصٌّ لِلنَّجْمِ الْمَعْرُوفِ أَنَّهُ اسْمٌ خَاصٌّ لِلظَّاهِرِ الْمَخْصُوصِ وَهُوَ جِنْسُ الْكَوْكَبِ لَا أَنَّهُ عَلَمٌ خَاصٌّ لِشَخْصٍ مُعَيَّنٍ مِنْ أَفْرَادِ جِنْسِ الْكَوْكَبِ وَهُوَ الثُّرَيَّا؛ لِأَنَّ مَعْنَى الظُّهُورِ إنَّمَا لُوحِظَ فِي مَرْتَبَةِ كَوْنِ النَّجْمِ اسْمًا مَوْضُوعًا لِجِنْسِ الْكَوْكَبِ لَا فِي مَرْتَبَةِ كَوْنِهِ عَلَمًا لِشَخْصٍ مُعَيَّنٍ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ وَهُوَ الثُّرَيَّا، فَإِنَّ كَوْنَهُ عَلَمًا لَهُ إنَّمَا كَانَ بِمُجَرَّدِ الْغَلَبَةِ وَكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ فِيهِ لَا لِمُلَاحَظَةِ مَعْنًى فِيهِ، وَلِهَذَا يُقَالُ لِلْأَعْلَامِ الْغَالِبَةِ أَعْلَامٌ اتِّفَاقِيَّةٌ، وَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا لَا سُتْرَةَ بِهِ عِنْدَ مَنْ لَهُ دُرْبَةٌ بِالْعُلُومِ الْأَدَبِيَّةِ، وَكَأَنَّ صَاحِبَ الْعِنَايَةِ إنَّمَا اغْتَرَّ بِلَفْظِ الْمَعْرُوفِ فِي قَوْلِ الْمُصَنِّفِ اسْمٌ خَاصٌّ لِلنَّجْمِ الْمَعْرُوفِ، إلَّا أَنَّ مُرَادَهُ بِالنَّجْمِ الْمَعْرُوفِ الْجِنْسُ الْمَخْصُوصُ الْمَعْرُوفُ بِإِطْلَاقِ لَفْظِ النَّجْمِ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِ مَا يُوجَدُ فِيهِ مَعْنَى الظُّهُورِ مُطْلَقًا وَهُوَ جِنْسُ الْكَوْكَبِ تَأَمَّلْ تَرْشُدْ

(قَوْلُهُ وَالثَّانِي أُرِيدَ بِهِ بَيَانُ الْحُكْمِ) قَالَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ وَالْعِنَايَةِ: يَعْنِي إذَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ كَانَ حُكْمُهُ فِي الْإِسْكَارِ حُكْمَ الْخَمْرِ فِي الْحُرْمَةِ وَثُبُوتِ الْحَدِّ انْتَهَى

أَقُولُ: فِيهِ بَحْثٌ؛ لِأَنَّ حَاصِلَهُ تَفْسِيرُ الْحُكْمِ فِي قَوْلِهِ وَالثَّانِي أُرِيدَ بِهِ بَيَانُ الْحُكْمِ بِالْحُرْمَةِ وَثُبُوتِ الْحَدِّ عِنْدَ إسْكَارِ كَثِيرِهِ وَلَيْسَ بِتَامٍّ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ عليه الصلاة والسلام «الْخَمْرُ مِنْ هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ» يُفِيدُ الْحَصْرَ كَقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «الْأَئِمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ» عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي مَوْضِعِهِ

فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ بَيَانَ الْحُكْمِ بِالْمَعْنَى الْمَذْكُورِ فِي ذَيْنِك الشَّرْحَيْنِ لَزِمَ أَنْ لَا يَصِحَّ الْحَصْرُ وَالتَّخْصِيصُ بِهَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ مُشِيرًا بِهِمَا إلَى الْكَرْمَةِ وَالنَّخْلَةِ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى الْمَذْكُورَ فِيهِمَا وَهُوَ الْحُرْمَةُ وَثُبُوتُ الْحَدِّ عِنْدَ إسْكَارِ الْكَثِيرِ يَتَحَقَّقُ فِي غَيْرِ تَيْنِكِ الشَّجَرَتَيْنِ أَيْضًا، فَإِنَّ نَبِيذَ الْعَسَلِ وَالتِّينِ وَنَبِيذَ الْحِنْطَةِ وَالذُّرَةِ وَالشَّعِيرِ وَإِنْ كَانَ حَلَالًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ إذَا لَمْ يَصِلْ مَرْتَبَةَ الْإِسْكَارِ وَكَانَ مِنْ غَيْرِ لَهْوٍ وَطَرَبٍ، إلَّا أَنَّهُ إذَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ صَارَ حَرَامًا بِالْإِجْمَاعِ، وَيَثْبُتُ بِهِ الْحَدُّ عَلَى الْقَوْلِ الْأَصَحِّ كَمَا سَيَجِيءُ فِي الْكِتَابِ

وَالْحَقُّ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحُكْمِ الَّذِي أُرِيدَ بَيَانُهُ بِالْحَدِيثِ الثَّانِي هُوَ حُرْمَةُ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَتَحَقَّقُ فِي الْمُتَّخَذِ مِنْ غَيْرِ تَيْنِكِ الشَّجَرَتَيْنِ فَيَصِحُّ الْحَصْرُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ ذَلِكَ الْحَدِيثِ بِلَا غُبَارٍ، وَعِبَارَةُ صَاحِبِ الْكَافِي فِي تَفْسِيرِ الْمُرَادِ بِالْحُكْمِ هَا هُنَا وَإِنْ لَمْ تَكُنْ صَرِيحَةً فِي حُرْمَةِ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ مَعًا، إلَّا أَنَّهَا بِإِجْمَالِهَا لَا تُنَافِيهَا بَلْ تُسَاعِدُهَا حَيْثُ قَالَ: وَالْمُرَادُ بِالثَّانِي بَيَانُ الْحُكْمِ وَهُوَ الْحُرْمَةُ لَا بَيَانَ الْحَقِيقَةِ، وَاقْتَفَى أَثَرَهُ تَاجُ الشَّرِيعَةِ وَصَاحِبُ الْكِفَايَةِ (قَوْلُهُ؛ لِأَنَّ الِاسْمَ يَثْبُتُ بِهِ، وَكَذَا الْمَعْنَى الْمُحَرَّمُ وَهُوَ الْمُؤَثِّرُ فِي الْفَسَادِ بِالِاشْتِدَادِ) أَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ

ص: 93

بِالِاشْتِدَادِ

وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّ الْغَلَيَانَ بِدَايَةُ الشِّدَّةِ، وَكَمَالُهَا بِقَذْفٍ بِالزَّبَدِ وَسُكُونِهِ؛ إذْ بِهِ يَتَمَيَّزُ الصَّافِي مِنْ الْكَدِرِ، وَأَحْكَامُ الشَّرْعِ قَطْعِيَّةٌ فَتُنَاطُ بِالنِّهَايَةِ كَالْحَدِّ وَإِكْفَارِ الْمُسْتَحِلِّ وَحُرْمَةِ الْبَيْعِ

وَقِيلَ يُؤْخَذُ فِي حُرْمَةِ الشُّرْبِ بِمُجَرَّدِ الِاشْتِدَادِ احْتِيَاطًا

وَالثَّالِثُ أَنَّ عَيْنَهَا حَرَامٌ غَيْرُ مَعْلُولٍ بِالسُّكْرِ وَلَا مَوْقُوفٍ عَلَيْهِ: وَمِنْ النَّاسِ مَنْ أَنْكَرَ حُرْمَةَ عَيْنِهَا، وَقَالَ: إنَّ السُّكْرَ مِنْهَا حَرَامٌ؛ لِأَنَّ بِهِ يَحْصُلُ الْفَسَادُ وَهُوَ الصَّدُّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، وَهَذَا كُفْرٌ؛ لِأَنَّهُ جُحُودُ الْكِتَابِ فَإِنَّهُ تَعَالَى سَمَّاهُ رِجْسًا وَالرِّجْسُ مَا هُوَ مُحَرَّمُ الْعَيْنِ، وَقَدْ جَاءَتْ السُّنَّةُ مُتَوَاتِرَةً أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام

قَوْلَهُ: لِأَنَّ الِاسْمَ يَثْبُتُ بِهِ مُصَادَرَةٌ عَلَى الْمَطْلُوبِ؛ لِأَنَّ مُدَّعَاهُمَا ثُبُوتُ هَذَا الِاسْمِ بِمُجَرَّدِ الِاشْتِدَادِ بِدُونِ اشْتِرَاطِ الْقَذْفِ بِالزَّبَدِ وَلَا يُسَلِّمُهُ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله بَلْ يَقُولُ بِاشْتِرَاطِ الْقَذْفِ بِالزَّبَدِ

فَتَعْلِيلُ مُدَّعَاهُمَا بِثُبُوتِ هَذَا الِاسْمِ بِالِاشْتِدَادِ تَعْلِيلُ الشَّيْءِ بِنَفْسِهِ

وَقَوْلُهُ وَكَذَا الْمَعْنَى الْمُحَرَّمُ وَهُوَ الْمُؤَثِّرُ فِي الْفَسَادِ بِالِاشْتِدَادِ يُشْعِرُ بِكَوْنِ حُرْمَةِ الْخَمْرِ مَعْلُولَةً، وَهَذَا يُنَافِي مَا صَرَّحَ بِهِ فِيمَا بَعْدُ مِنْ أَنَّ عَيْنَهَا حَرَامٌ غَيْرُ مَعْلُولٍ بِالسُّكْرِ وَلَا مَوْقُوفٍ عَلَيْهِ

وَقَدْ شَرَحَ الشَّارِحُ الْكَاكِيُّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ هَذَا بِمَا هُوَ أَظْهَرُ فِي الْمُنَافَاةِ حَيْثُ قَالَ: وَكَذَا الْمَعْنَى الْمُحَرَّمُ وَهُوَ الْإِسْكَارُ يَحْصُلُ بِالِاشْتِدَادِ وَهُوَ الْمُؤَثِّرُ فِي الْفَسَادِ: أَيْ الْإِسْكَارُ مُؤَثِّرٌ فِي إيقَاعِ الْعَدَاوَةِ وَالصَّدِّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى اهـ

إذْ لَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا إنَّمَا يُلَائِمُ قَوْلَ مَنْ قَالَ إنَّهَا مَعْلُولَةٌ بِالسُّكْرِ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِيمَا بَعْدُ بِقَوْلِهِ: وَمِنْ النَّاسِ مَنْ أَنْكَرَ حُرْمَةَ عَيْنِهَا، وَقَالَ: السُّكْرُ مِنْهُ حَرَامٌ؛ لِأَنَّ بِهِ يَحْصُلُ الْفَسَادُ وَهُوَ الصَّدُّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى فَتَأَمَّلْ (قَوْلُهُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْغَلَيَانَ بِدَايَةُ الشِّدَّةِ وَكَمَالُهَا بِقَذْفِ الزَّبَدِ وَسُكُونِهِ؛ إذْ بِهِ يَتَمَيَّزُ الصَّافِي مِنْ الْكَدِرِ وَأَحْكَامُ الشَّرْعِ قَطْعِيَّةٌ فَتُنَاطُ بِالنِّهَايَةِ كَالْحَدِّ وَإِكْفَارِ الْمُسْتَحِلِّ وَحُرْمَةِ الْبَيْعِ) أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الْكَلَامُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فِي حَدِّ ثُبُوتِ اسْمِ الْخَمْرِ لَا فِي حَدِّ تَرَتُّبِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ عَلَيْهِ فَيَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ اسْمُ الْخَمْرِ فِي بِدَايَةِ الشِّدَّةِ وَيُشْتَرَطُ تَرَتُّبُ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ عَلَيْهِ بِكَمَالِهَا فَلَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ

وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: الْكَلَامُ هَا هُنَا فِي حَدِّ

ثُبُوتِ اسْمِ الْخَمْرِ فِي الشَّرْعِ لَا فِي حَدِّ ثُبُوتِهِ فِي اللُّغَةِ فَقَطْ، فَإِذَا ثَبَتَ اسْمُهَا الشَّرْعِيُّ يَلْزَمُ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَيْهَا الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ بِلَا تَرَاخٍ فِيهِ فَيَتِمُّ التَّقْرِيبُ تَدَبَّرْ

(قَوْلُهُ: وَالثَّالِثُ أَنَّ عَيْنَهَا حَرَامٌ غَيْرُ مَعْلُولٍ بِالسُّكْرِ) قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: فَرْقٌ مَا بَيْنَ السُّكْرِ وَالْإِسْكَارِ فَلَا يُخَالَفُ هَذَا الْقَوْلُ لِمَا مَرَّ مِنْ قَوْلِهِ وَكَذَا الْمَعْنَى الْمُحَرَّمُ انْتَهَى أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ السُّكْرَ لَازِمُ الْإِسْكَارِ وَمُطَاوِعُهُ فَلَا يَفْتَرِقَانِ فِي التَّحْقِيقِ، فَالتَّعْلِيلُ بِأَحَدِهِمَا يُؤَدِّي إلَى التَّعْلِيلِ بِالْآخَرِ، وَمُجَرَّدُ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا فِي الْمَفْهُومِ لَا يُجْدِي شَيْئًا فِقْهِيًّا هَا هُنَا كَمَا لَا يَخْفَى، كَيْفَ وَلَا شَكَّ أَنَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ بَيَانُ كَوْنِ حُرْمَتِهَا لِعَيْنِهَا غَيْرَ مَعْلُولَةٍ بِشَيْءٍ مَا أَصْلًا

لَا أَنَّهَا غَيْرُ مَعْلُولَةٍ بِالسُّكْرِ وَلَكِنَّهَا مَعْلُولَةٌ بِشَيْءٍ آخَرَ كَالْإِسْكَارِ

لِأَنَّ مَا ذَكَرَهُ فِيمَا بَعْدُ مِنْ لُزُومِ الْكُفْرِ وَجُحُودِ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى إنَّمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ادِّعَاءِ كَوْنِهَا مَعْلُولَةً بِمَا يُنَافِي كَوْنَهَا مُحَرَّمَةَ الْعَيْنِ مُطْلَقًا لَا عَلَى ادِّعَاءِ كَوْنِهَا مَعْلُولَةً بِالسُّكْرِ فَقَطْ

وَإِنَّمَا قَالَ غَيْرُ مَعْلُولٍ بِالسُّكْرِ لِكَوْنِ الْوَاقِعِ فِي كَلَامِ

ص: 94

حَرَّمَ الْخَمْرَ؛ وَعَلَيْهِ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ، وَلِأَنَّ قَلِيلَهُ يَدْعُو إلَى كَثِيرِهِ وَهَذَا مِنْ خَوَاصِّ الْخَمْرِ، وَلِهَذَا تَزْدَادُ لِشَارِبِهِ اللَّذَّةُ بِالِاسْتِكْثَارِ مِنْهُ، بِخِلَافِ سَائِرِ الْمَطْعُومَاتِ

ثُمَّ هُوَ غَيْرُ مَعْلُولٍ عِنْدَنَا حَتَّى لَا يَتَعَدَّى حُكْمُهُ إلَى سَائِرِ الْمُسْكِرَاتِ، وَالشَّافِعِيُّ رحمه الله يُعَدِّيهِ إلَيْهَا، وَهَذَا بَعِيدٌ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ السُّنَّةِ الْمَشْهُورَةِ وَتَعْلِيلُهُ لِتَعَدِّيهِ الِاسْمَ، وَالتَّعْلِيلُ فِي الْأَحْكَامِ لَا فِي الْأَسْمَاءِ

وَالرَّابِعُ أَنَّهَا نَجِسَةٌ نَجَاسَةً غَلِيظَةً كَالْبَوْلِ لِثُبُوتِهَا بِالدَّلَائِلِ الْقَطْعِيَّةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا

وَالْخَامِسُ أَنَّهُ يَكْفُرُ مُسْتَحِلُّهَا لِإِنْكَارِهِ الدَّلِيلَ الْقَطْعِيَّ.

وَالسَّادِسُ سُقُوطُ تَقَوُّمِهَا فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ حَتَّى لَا يَضْمَنَ مُتْلِفُهَا وَغَاصِبُهَا وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا نَجَّسَهَا فَقَدْ أَهَانَهَا وَالتَّقَوُّمُ يُشْعِرُ بِعِزَّتِهَا

وَقَالَ عليه الصلاة والسلام

الْمُنْكِرِ هَذِهِ الْعِبَارَةَ تَبَصَّرْ تَفْهَمْ (قَوْلُهُ وَالشَّافِعِيُّ يُعَدِّيهِ إلَيْهَا، وَهَذَا بَعِيدٌ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ السُّنَّةِ الْمَشْهُورَةِ) قَالَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ: وَهِيَ مَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «حُرِّمَتْ الْخَمْرُ لِعَيْنِهَا وَالسُّكْرُ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ» وَقَالُوا: وَلَمَّا كَانَتْ حُرْمَتُهَا لِعَيْنِهَا لَا يَصِحُّ التَّعْلِيلُ؛ لِأَنَّ التَّعْلِيلَ حِينَئِذٍ يَكُونُ مُخَالِفًا لِلنَّصِّ انْتَهَى

أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إنْ كَانَ تَعْلِيلُهَا وَتَعْدِيَتُهَا إلَى غَيْرِهَا مُنَافِيًا لِحُرْمَةِ عَيْنِهَا يَلْزَمُ مِنْ تَعْلِيلِهَا وَتَعْدِيَتِهَا إلَى سَائِرِ الْمُسْكِرَاتِ الْمُخَالَفَةُ لِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى أَيْضًا فَإِنَّهُ سَمَّاهُ رِجْسًا، وَالرِّجْسُ مَا هُوَ مُحَرَّمُ الْعَيْنِ كَمَا مَرَّ، وَالسُّنَّةُ الْمُتَوَاتِرَةُ وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ أَيْضًا عَلَى مَا مَرَّ مِنْ قَبْلُ، وَذَلِكَ يُؤَدِّي إلَى جُحُودِ تِلْكَ الْأَدِلَّةِ الْقَطْعِيَّةِ، وَحَاشَى لِلشَّافِعِيِّ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَعْلِيلُهَا وَتَعْدِيَتُهَا إلَى غَيْرِهَا مُنَافِيًا لِحُرْمَةِ عَيْنِهَا بَلْ كَانَتْ حُرْمَةُ عَيْنِهَا ثَابِتَةً بِتِلْكَ الْأَدِلَّةِ الْقَطْعِيَّةِ، وَحُرْمَةُ عَيْنِ غَيْرِهَا ثَابِتَةً بِتَعَدِّيهِ حُرْمَةَ عَيْنِهَا إلَى حُرْمَةِ عَيْنِ غَيْرِهَا بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ لَمْ يَتِمَّ الْقَوْلُ بِأَنَّهُ خِلَافُ السُّنَّةِ الْمَشْهُورَةِ؛ لِأَنَّ مَدْلُولَ السُّنَّةِ الْمَشْهُورَةِ إنَّمَا هُوَ حُرْمَةُ عَيْنِ الْخَمْرِ، وَالْفَرْضُ أَنَّ تَعْدِيَتَهَا إلَى غَيْرِهَا لَا يُنَافِي حُرْمَةَ عَيْنِهَا

ثُمَّ أَقُولُ: الْحَقُّ عِنْدِي هَا هُنَا تَعْلِيلُهَا بِالْإِسْكَارِ يُنَافِي حُرْمَةَ عَيْنِهَا؛ لِأَنَّ قَلِيلَهَا لَيْسَ بِمُسْكِرٍ فَيَلْزَمُ أَنْ لَا يَكُونَ قَلِيلُهَا حَرَامًا عَلَى مُقْتَضَى التَّعْلِيلِ بِالْإِسْكَارِ، وَيَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ لَا يَكُونَ عَيْنُهَا حَرَامًا، لَكِنَّ الشَّافِعِيَّ لَمْ يَقُلْ بِتَعْلِيلِهَا بِالْإِسْكَارِ، وَأَمَّا تَعْلِيلُهَا بِمَا هُوَ غَيْرُ مُنْفَكٍّ عَنْ عَيْنِهَا بَلْ هُوَ لَازِمٌ لَهَا كَالْمُخَامَرَةِ وَنَحْوِهَا، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يُنَافِي حُرْمَةَ عَيْنِهَا، وَالشَّافِعِيُّ إنَّمَا قَالَ بِتَعْلِيلِهَا بِالْمُخَامَرَةِ فَعَدَّى حُكْمَهَا إلَى غَيْرِهَا مِنْ الْمُسْكِرَاتِ حَتَّى أَوْجَبَ الْحَدَّ بِشُرْبِ قَطْرَةٍ مِنْ الْبَاذَقِ قِيَاسًا عَلَى الْخَمْرِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْكَافِي وَالشُّرُوحِ فَمِنْ أَيْنَ يَلْزَمُهُ الْمُخَالِفَةُ لِلسُّنَّةِ الْمَشْهُورَةِ

(قَوْلُهُ: وَالرَّابِعُ أَنَّهَا نَجِسَةٌ نَجَاسَةً غَلِيظَةً كَالْبَوْلِ لِثُبُوتِهَا بِالدَّلَائِلِ الْقَطْعِيَّةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا) أَقُولُ: فِيهِ شَيْءٌ وَهُوَ أَنَّ الثَّابِتَ بِالدَّلَائِلِ الْقَطْعِيَّةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِيمَا مَرَّ آنِفًا إنَّمَا هُوَ حُرْمَتُهَا، فَإِنْ اسْتَلْزَمَتْ حُرْمَتُهَا الْقَطْعِيَّةُ كَوْنُهَا نَجِسَةً نَجَاسَةً غَلِيظَةً فَمَا مَعْنَى جَعْلِ كَوْنِهَا نَجِسَةً نَجَاسَةً غَلِيظَةً مَوْضِعًا رَابِعًا مَبْحُوثًا عَنْهُ بِالْأَصَالَةِ وَإِنْ لَمْ تَسْتَلْزِمْهُ فَمَا مَعْنَى الْحَوَالَةِ عَلَى تِلْكَ الدَّلَائِلِ الْمَارَّةِ

نَعَمْ وَاحِدٌ مِنْ تِلْكَ الدَّلَائِلِ وَهُوَ كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى يَدُلُّ صَرَاحَةً عَلَى كَوْنِهَا نَجِسَةً، فَإِنَّهُ سَمَّاهَا رِجْسًا، وَالرِّجْسُ هُوَ الْقَذَرُ عَلَى مَا نُصَّ عَلَيْهِ فِي عَامَّةِ كُتُبِ اللُّغَةِ، إلَّا أَنَّهُ يَبْقَى الْكَلَامُ فِي صِيغَةِ الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ لِثُبُوتِهَا بِالدَّلَائِلِ الْقَطْعِيَّةِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ، فَالْأَوْلَى هَا هُنَا تَحْرِيرُ صَاحِبِ الْكَافِي حَيْثُ قَالَ: وَهِيَ نَجِسَةٌ نَجَاسَةً غَلِيظَةً كَالْبَوْلِ وَالدَّمِ؛ لِأَنَّهَا سُمِّيَتْ رِجْسًا بِالنَّصِّ الْقَطْعِيِّ انْتَهَى

(قَوْلُهُ: وَالسَّادِسُ سُقُوطُ تَقَوُّمِهَا فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ حَتَّى لَا يَضْمَنَ مُتْلِفُهَا وَغَاصِبُهَا، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا نَجَّسَهَا فَقَدْ أَهَانَهَا وَالتَّقَوُّمُ يُشْعِرُ بِعِزَّتِهَا)

ص: 95

«إنَّ الَّذِي حَرَّمَ شُرْبَهَا حَرَّمَ بَيْعَهَا وَأَكْلَ ثَمَنِهَا» وَاخْتَلَفُوا فِي سُقُوطِ مَالِيَّتِهَا

وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ مَالٌ؛ لِأَنَّ الطِّبَاعَ تَمِيلُ إلَيْهَا وَتَضِنُّ بِهَا

وَمَنْ كَانَ لَهُ عَلَى مُسْلِمٍ دَيْنٌ فَأَوْفَاهُ ثَمَنَ خَمْرٍ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا، وَلَا لِلْمَدْيُونِ أَنْ يُؤَدِّيَهُ؛ لِأَنَّهُ ثَمَنُ بَيْعٍ بَاطِلٍ وَهُوَ غَصْبٌ فِي يَدِهِ أَوْ أَمَانَةٌ عَلَى حَسَبِ مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ كَمَا فِي بَيْعِ الْمَيْتَةِ

وَلَوْ كَانَ الدَّيْنُ عَلَى ذِمِّيٍّ فَإِنَّهُ يُؤَدِّيهِ مِنْ ثَمَنِ الْخَمْرِ، وَالْمُسْلِمُ الطَّالِبُ يَسْتَوْفِيهِ؛ لِأَنَّ بَيْعَهَا فِيمَا بَيْنَهُمْ جَائِزٌ.

وَالسَّابِعُ حُرْمَةُ الِانْتِفَاعِ بِهَا؛ لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِالنَّجَسِ حَرَامٌ، وَلِأَنَّهُ وَاجِبُ الِاجْتِنَابِ وَفِي الِانْتِفَاعِ بِهِ اقْتِرَابٌ.

وَالثَّامِنُ أَنْ يُحَدَّ شَارِبُهَا وَإِنْ لَمْ يَسْكَرْ مِنْهَا لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَاجْلِدُوهُ، فَإِنْ عَادَ فَاجْلِدُوهُ، فَإِنْ عَادَ فَاجْلِدُوهُ، فَإِنْ عَادَ فَاقْتُلُوهُ» إلَّا أَنَّ حُكْمَ الْقَتْلِ قَدْ انْتَسَخَ فَبَقِيَ الْجَلْدُ مَشْرُوعًا، وَعَلَيْهِ انْعَقَدَ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم، وَتَقْدِيرُهُ ذَكَرْنَاهُ فِي الْحُدُودِ.

وَالتَّاسِعُ أَنَّ الطَّبْخَ لَا يُؤَثِّرُ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ لِلْمَنْعِ مِنْ ثُبُوتِ الْحُرْمَةِ لَا لِرَفْعِهَا بَعْدَ ثُبُوتِهَا، إلَّا أَنَّهُ لَا يُحَدُّ فِيهِ مَا لَمْ يَسْكَرْ مِنْهُ عَلَى مَا قَالُوا؛ لِأَنَّ الْحَدَّ بِالْقَلِيلِ فِي النِّيءِ خَاصَّةً، لِمَا ذَكَرْنَا وَهَذَا قَدْ طُبِخَ.

وَالْعَاشِرُ جَوَازُ تَخْلِيلِهَا وَفِيهِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ وَسَنَذْكُرُهُ مِنْ بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، هَذَا هُوَ الْكَلَامُ فِي الْخَمْرِ.

وَأَمَّا الْعَصِيرُ إذَا طُبِخَ حَتَّى يَذْهَبَ أَقَلُّ مِنْ ثُلُثَيْهِ وَهُوَ الْمَطْبُوخُ أَدْنَى طَبْخَةٍ وَيُسَمَّى الْبَاذَقَ وَالْمُنَصَّفَ وَهُوَ مَا ذَهَبَ نِصْفُهُ بِالطَّبْخِ

فَكُلُّ ذَلِكَ حَرَامٌ عِنْدَنَا إذَا غَلَى وَاشْتَدَّ وَقَذَفَ بِالزَّبَدِ

أَوْ إذَا اشْتَدَّ عَلَى الِاخْتِلَافِ

أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَذَا التَّعْلِيلُ يَنْتَقِضُ بِالسِّرْقِينِ فَإِنَّهُ نَجِسُ الْعَيْنِ مَعَ أَنَّهُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ يَجُوزُ بَيْعُهُ عِنْدَنَا كَمَا مَرَّ فِي فَصْلِ الْبَيْعِ مِنْ كِتَابِ الْكَرَاهِيَةِ حَيْثُ قَالَ: وَلَا بَأْسَ بِبَيْعِ السِّرْقِينِ وَيُكْرَهُ بَيْعُ الْعَذِرَةِ

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ بَيْعُ السِّرْقِينِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ نَجِسُ الْعَيْنِ فَشَابَهَ الْعَذِرَةَ، وَجِلْدَ الْمَيْتَةِ قَبْلَ الدِّبَاغِ

وَلَنَا أَنَّهُ مُنْتَفَعٌ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُلْقَى فِي الْأَرَاضِيِ لِاسْتِكْثَارِ الرِّيعِ فَكَانَ مَالًا وَالْمَالُ مَحَلٌّ لِلْبَيْعِ بِخِلَافِ الْعَذِرَةِ انْتَهَى فَتَأَمَّلْ

(قَوْلُهُ وَالسَّابِعُ حُرْمَةُ الِانْتِفَاعِ بِهَا؛ لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِالنَّجَسِ حَرَامٌ) أَقُولُ: انْتِقَاضُ هَذَا التَّعْلِيلِ بِالسِّرْقِينِ أَظْهَرُ مِمَّا مَرَّ آنِفًا فَتَدَبَّرْ

(قَوْلُهُ وَأَمَّا الْعَصِيرُ إذَا طُبِخَ حَتَّى يَذْهَبَ أَقَلُّ مِنْ ثُلُثَيْهِ وَهُوَ الْمَطْبُوخُ أَدْنَى طَبْخَةٍ وَيُسَمَّى الْبَاذَقَ) قَالَ فِي الْقَامُوسِ: الْبَاذَقُ بِكَسْرِ الذَّالِ وَفَتْحِهَا: مَا طُبِخَ مِنْ عَصِيرِ الْعِنَبِ أَدْنَى طَبْخَةٍ فَصَارَ شَدِيدًا

وَقَالَ فِي الْمُغْرِبِ: الْبَاذَقُ مِنْ عَصِيرِ الْعِنَبِ: مَا طُبِخَ أَدْنَى طَبْخَةٍ فَصَارَ شَدِيدًا، وَقَالَ فِي الْفَائِقِ: هُوَ تَعْرِيبٌ بَاذَّهُ وَهُوَ الْخَمْرُ

وَنَقَلَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ مَا فِي الْمُغْرِبِ وَمَا فِي الْفَائِقِ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ عَلَى شَيْءٍ مِنْهُمَا بِشَيْءٍ

أَقُولُ: فِيمَا ذَكَرَ فِي الْفَائِقِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الْخَمْرَ عَلَى مَا مَرَّ هِيَ النِّيءُ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ إذَا صَارَ مُسْكِرًا، وَالْمَطْبُوخُ لَيْسَ بِنِيءٍ قَطْعًا، وَالْبَاذِقُ اسْمٌ لِمَا طُبِخَ مِنْ عَصِيرِ الْعِنَبِ أَدْنَى طَبْخَةٍ فَلَيْسَ بِخَمْرٍ لَا مَحَالَةَ، وَلِهَذَا قَالَ الْمُصَنِّفُ: وَأَمَّا الْعَصِيرُ إذَا طُبِخَ فِي مُقَابَلَةِ قَوْلِهِ وَأَمَّا الْخَمْرُ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ الْبَاذَقُ تَعْرِيبَ بَاذَّهُ بِمَعْنَى الْخَمْرِ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَا ذُكِرَ فِي الْفَائِقِ مَبْنِيًّا عَلَى مَا قَالَهُ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ أَنَّ الْخَمْرَ اسْمٌ لِكُلِّ مُسْكِرٍ لَا عَلَى مَا هُوَ الْمُحَقَّقُ عِنْدَنَا مِنْ كَوْنِهَا اسْمًا خَاصًّا لِلنِّيءِ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ إذَا أَسْكَرَ (قَوْلُهُ وَالْمُصَنِّفَ وَهُوَ مَا ذَهَبَ نِصْفُهُ بِالطَّبْخِ) قَالَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ: قَوْلُهُ: وَالْمُنَصَّفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِالنَّصْبِ وَهُوَ الْأَوْجَهُ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: الْبَاذَقَ: أَيْ يُسَمَّى الْعَصِيرُ الذَّاهِبُ أَقَلُّ مِنْ ثُلُثَيْهِ

ص: 96

وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: إنَّهُ مُبَاحٌ، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ؛ لِأَنَّهُ مَشْرُوبٌ طَيِّبٌ وَلَيْسَ بِخَمْرٍ

وَلَنَا أَنَّهُ رَقِيقٌ مُلِذٌّ مُطْرِبٌ وَلِهَذَا يَجْتَمِعُ عَلَيْهِ الْفُسَّاقُ فَيَحْرُمُ شُرْبُهُ دَفْعًا لِلْفَسَادِ الْمُتَعَلِّقِ بِهِ، وَأَمَّا نَقِيعُ التَّمْرِ وَهُوَ السُّكْرُ وَهُوَ النِّيءُ مِنْ مَاءِ التَّمْرِ: أَيْ الرَّطْبِ

الْبَاذَقَ وَيُسَمَّى الْمُنَصَّفَ أَيْضًا

وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا أَنَّ أَبَا اللَّيْثِ فَسَّرَ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ الذَّاهِبَ أَقَلُّ مِنْ ثُلُثَيْهِ بِالْمُنَصَّفِ

وَأَيْضًا أَنَّهُ قَدْ حَصَرَ الْأَشْرِبَةَ الْمُحَرَّمَةَ

عَلَى أَرْبَعَةٍ وَهِيَ الْخَمْرُ وَالْعَصِيرُ الذَّاهِبُ أَقَلُّ مِنْ ثُلُثَيْهِ وَنَقِيعُ التَّمْرِ وَنَقِيعُ الزَّبِيبِ

فَلَوْ كَانَ الْمُنَصَّفُ غَيْرَ الْبَاذَقِ الَّذِي هُوَ الْمَطْبُوخُ الذَّاهِبُ أَقَلُّ مِنْ ثُلُثَيْهِ لَكَانَتْ الْأَشْرِبَةُ الْمُحَرَّمَةُ خَمْسَةً، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُنَصَّفُ بِالرَّفْعِ؛ لِأَنَّهُ نَوْعٌ مِنْ الذَّاهِبِ أَقَلُّ مِنْ الثُّلُثَيْنِ؛ لِأَنَّهُ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُنَصَّفًا أَوْ غَيْرَهُ، وَلِهَذَا جَعَلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ خُوَاهَرْ زَادَهْ الْبَاذَقَ قِسْمًا وَالْمُنَصَّفَ قِسْمًا انْتَهَى

وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ نَقْلِ مَضْمُونِ مَا فِي غَايَةِ الْبَيَانِ: وَالْأَوَّلُ أَوْجَهُ مَعْنًى وَهَذَا أَوْجَهُ لَفْظًا؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَنْصُوبًا لَقَالَ أَيْضًا انْتَهَى

أَقُولُ: لَعَلَّ الْأَوَّلَ لَا وَجْهَ لَهُ أَصْلًا فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ أَوْجَهَ فَإِنَّهُ يَصِيرُ مَعْنَى كَلَامِ الْمُصَنِّفِ عَلَى ذَلِكَ تَقْدِيرَ الْعَصِيرِ الَّذِي طُبِخَ أَدْنَى طَبْخَةٍ يُسَمَّى بِاسْمَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا الْبَاذَقُ وَالْآخَرُ الْمُنَصَّفُ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْبَاذَقُ وَالْمُنَصَّفُ مُتَّحِدِينَ فِي الْمَعْنَى وَهُوَ الْعَصِيرُ الْمَطْبُوخُ أَدْنَى طَبْخَةٍ، مَعَ أَنَّ تَحْرِيرَ الْمُنَصَّفِ يُنَافِي ذَلِكَ

أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُ فَسَّرَ الْمُنَصَّفَ بِقَوْلِهِ وَهُوَ مَا ذَهَبَ نِصْفُهُ بِالطَّبْخِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا أَخَصُّ مِنْ الْعَصِيرِ الْمَطْبُوخِ أَدْنَى طَبْخَةٍ لِتَنَاوُلِ ذَلِكَ مَا ذَهَبَ أَقَلُّ مِنْ نِصْفِهِ بِالطَّبْخِ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ الِاتِّحَادُ فِي الْمَعْنَى

وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّهُ قَالَ: فَكُلُّ ذَلِكَ حَرَامٌ عِنْدَنَا إذَا غَلَى وَاشْتَدَّ إلَخْ

وَلَا يَخْفَى أَنَّ لَفْظَ كُلٍّ يَقْتَضِي التَّعَدُّدَ بِحَسَبِ الْمَعْنَى لَا بِحَسَبِ الِاسْمِ فَقَطْ، فَالْحَقُّ أَنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ مَرْفُوعٌ لَا غَيْرُ فَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى الْمَطْبُوخِ فِي قَوْلِهِ وَهُوَ الْمَطْبُوخُ أَدْنَى طَبْخَةٍ

وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْعَصِيرَ الْمَطْبُوخَ الذَّاهِبَ أَقَلُّ مِنْ ثُلُثَيْهِ عَلَى قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا الْمَطْبُوخُ أَدْنَى طَبْخَةٍ الْمُسَمَّى الْبَاذَقُ، وَالْآخَرُ الْمُنَصَّفُ وَهُوَ مَا ذَهَبَ نِصْفُهُ بِالطَّبْخِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَرَامٌ عِنْدَنَا إذَا غَلَى وَاشْتَدَّ وَقَذَفَ بِالزَّبَدِ أَوْ إذَا اشْتَدَّ عَلَى الِاخْتِلَافِ، وَأَمَّا حَدِيثُ أَنَّ الْمُنَصَّفَ لَوْ كَانَ غَيْرَ الْبَاذَقِ لَكَانَتْ الْأَشْرِبَةُ الْمُحَرَّمَةُ خَمْسَةً وَقَدْ حَصَرُوهَا فِي الْأَرْبَعَةِ فَعَلَى طَرَفِ الثُّمَامِ؛ لِأَنَّ الْأَرْبَعَةَ الَّتِي حَصَرُوا الْأَشْرِبَةَ الْمُحَرَّمَةَ فِيهَا إنَّمَا هِيَ أُصُولُ الْأَشْرِبَةِ الْمُحَرَّمَةِ وَأَقْسَامُهَا الْأَوَّلِيَّةُ، وَالْبَاذِقُ وَالْمُنَصَّفُ لَيْسَا كَذَلِكَ، بَلْ إنَّمَا هُمَا قِسْمَانِ مِنْ أَحَدِ تِلْكَ الْأُصُولِ

وَالْأَقْسَامُ الْأَوَّلِيَّةُ وَهُوَ الطِّلَاءُ الْعَامُّ لِلْبَاذِقِ وَالْمُنَصَّفِ

ثُمَّ إنَّ بَعْضَ الْفُضَلَاءِ أَوْرَدَ عَلَى قَوْلِ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ وَهَذَا أَوْجَهُ لَفْظًا؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَنْصُوبًا لَقَالَ أَيْضًا حَيْثُ قَالَ فِيهِ بَحْثٌ، فَإِنَّ الْمُسَمَّى بِالْبَاذِقِ غَيْرُ الْمُسَمَّى بِالْمُنَصَّفِ فَكَيْفَ يَكُونُ الْمَقَامُ مَقَامَ قَوْلِهِ وَأَيْضًا انْتَهَى

أَقُولُ: هَذَا سَاقِطٌ جِدًّا؛ لِأَنَّ كَوْنَ الْمُسَمَّى بِالْبَاذِقِ غَيْرُ الْمُسَمَّى بِالْمُنَصَّفِ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ وَالْمُنَصَّفُ مَرْفُوعًا، وَأَمَّا عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا كَمَا هُوَ مَحَلُّ كَلَامِ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ فَلَا مَجَالَ لَأَنْ يَكُونَ الْمُسَمَّى بِأَحَدِهِمَا غَيْرُ الْمُسَمَّى بِالْآخَرِ، بَلْ مُقْتَضَى مَعْنَى التَّرْكِيبِ عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ إنَّمَا هُوَ تَعَدُّدُ الِاسْمِ دُونَ الْمُسَمَّى كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ لَهُ دِرَايَةٌ بِقَوَاعِدِ الْعَرَبِيَّةِ

ثُمَّ أَقُولُ: يُمْكِنُ أَنْ يُنَاقَشَ فِي قَوْلِ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَنْصُوبًا لَقَالَ أَيْضًا بِوَجْهٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّ الْوَاوَ الْعَاطِفَةَ فِي قَوْلِهِ: وَالْمُنَصَّفَ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا مَعْطُوفًا عَلَى: " الْبَاذَقَ " تُغْنِي غِنَاءَ كَلِمَةٍ أَيْضًا فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَنْصُوبًا لَقَالَ أَيْضًا (قَوْلُهُ وَأَمَّا نَقِيعُ التَّمْرِ وَهُوَ السُّكْرُ وَهُوَ النِّيءُ مِنْ مَاءِ التَّمْرِ: أَيْ الرُّطَبُ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَتَفْسِيرُهُ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ التَّمْرَ بِالرُّطَبِ فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ التَّمْرَ إذَا نُقِعَ فِي الْمَاءِ يُسَمَّى نَقِيعًا فَلَا حَاجَةَ إلَى

ص: 97

فَهُوَ حَرَامٌ مَكْرُوهٌ

وَقَالَ شَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: إنَّهُ مُبَاحٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} اُمْتُنَّ عَلَيْنَا بِهِ، وَهُوَ بِالْمُحَرَّمِ لَا يَتَحَقَّقُ

وَلَنَا إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رَوَيْنَا مِنْ قَبْلُ، وَالْآيَةُ مَحْمُولَةٌ عَلَى الِابْتِدَاءِ إذْ كَانَتْ الْأَشْرِبَةُ مُبَاحَةً كُلُّهَا، وَقِيلَ أَرَادَ بِهِ التَّوْبِيخَ، مَعْنَاهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ: تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَتَدَّعُونَ رِزْقًا حَسَنًا

وَأَمَّا نَقِيعُ الزَّبِيبِ وَهُوَ النِّيءُ مِنْ مَاءِ الزَّبِيبِ فَهُوَ حَرَامٌ إذَا اشْتَدَّ وَغَلَى وَيَتَأَتَّى فِيهِ خِلَافُ الْأَوْزَاعِيِّ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْمَعْنَى مِنْ قَبْلُ، إلَى أَنَّ حُرْمَةَ هَذِهِ الْأَشْرِبَةِ دُونَ حُرْمَةِ الْخَمْرِ حَتَّى لَا يَكْفُرَ مُسْتَحِلُّهَا، وَيَكْفُرُ مُسْتَحِلُّ الْخَمْرِ؛ لِأَنَّ حُرْمَتَهَا اجْتِهَادِيَّةٌ، وَحُرْمَةُ الْخَمْرِ قَطْعِيَّةٌ،

أَنْ يُنْقَعَ الرُّطَبُ لَا مَحَالَةَ حَتَّى يُسَمَّى نَقِيعًا، وَقِيَاسُ كَلَامِهِ هُنَا أَنْ يَقُولَ فِي نَقِيعِ الزَّبِيبِ: أَيْ نَقِيعِ الْعِنَبِ وَلَيْسَ بِقَوِيٍّ انْتَهَى

وَقَالَ جُمْهُورُ الشُّرَّاحِ دَفْعًا لِذَلِكَ النَّظَرِ: وَإِنَّمَا فَسَّرَ التَّمْرَ بِالرُّطَبِ؛ لِأَنَّ الْمُتَّخَذَ مِنْ التَّمْرِ اسْمُهُ نَبِيذُ التَّمْرِ لَا السَّكَرُ، وَهُوَ حَلَالٌ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ عَلَى مَا سَيَجِيءُ انْتَهَى

أَقُولُ: فِيمَا قَالَهُ جُمْهُورُ الشُّرَّاحِ أَيْضًا نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الَّذِي كَانَ اسْمُهُ نَبِيذَ التَّمْرِ وَكَانَ حَلَالًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ إنَّمَا هُوَ مَا اُتُّخِذَ مِنْ التَّمْرِ وَطُبِخَ أَدْنَى طَبْخَةٍ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي عَامَّةِ الْمُعْتَبَرَاتِ، وَسَيَجِيءُ فِي الْكِتَابِ فِي قَوْلِهِ وَقَالَ فِي الْمُخْتَصَرِ وَنَبِيذُ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ إذَا طُبِخَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَدْنَى طَبْخَةٍ حَلَالٌ وَإِنْ اشْتَدَّ إذَا شُرِبَ مِنْهُ مَا يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ لَا يُسْكِرُهُ مِنْ غَيْرِ لَهْوٍ وَطَرَبٍ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ

وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ حَرَامٌ انْتَهَى

وَاَلَّذِي ذَكَرَ هَا هُنَا إنَّمَا هُوَ نَقِيعُ التَّمْرِ إذَا لَمْ يُطْبَخْ كَمَا أَفْصَحَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ وَهُوَ النِّيءُ مِنْ مَاءِ التَّمْرِ وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالسَّكَرِ لَا غَيْرُ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَيْسَ بِحَلَالٍ عِنْدَ أَئِمَّتِنَا أَصْلًا، فَلَا حَاجَةَ إلَى تَفْسِيرِ التَّمْرِ بِالرُّطَبِ (قَوْلُهُ فَهُوَ حَرَامٌ مَكْرُوهٌ) قَالَ عَامَّةُ الشُّرَّاحِ: أَرْدَفَ الْحَرَامَ بِالْكَرَاهَةِ إشَارَةً إلَى أَنَّ حُرْمَتَهُ لَيْسَتْ كَحُرْمَةِ الْخَمْرِ؛ لِأَنَّ مُسْتَحِلَّ الْخَمْرِ يَكْفُرُ وَمُسْتَحِلَّ غَيْرِهَا لَا يَكْفُرُ اهـ أَقُولُ: فِيهِ بَحْثٌ، أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَقْصُودُ الْمُصَنِّفِ بِإِرْدَافِ الْحَرَامِ بِالْمَكْرُوهِ الْإِشَارَةَ إلَى مَا ذَكَرُوهُ لَأَرْدَفَهُ بِذَلِكَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورَةِ بَعْدَ الْخَمْرِ؛ إذْ لَيْسَتْ حُرْمَةُ شَيْءٍ مِنْهَا كَحُرْمَةِ الْخَمْرِ، وَلَوْ اكْتَفَى بِإِرْدَافِهِ بِذَلِكَ فِي وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْأَقْسَامِ لَكَانَ الْقِسْمُ الْمَذْكُورُ عَقِيبَ الْخَمْرِ أَحَقَّ بِذَلِكَ كَمَا لَا يَخْفَى

وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ الْمُصَنِّفَ سَيُصَرِّحُ بِأَنَّ حُرْمَةَ هَذِهِ الْأَشْرِبَةِ دُونَ حُرْمَةِ الْخَمْرِ حَتَّى لَا يَكْفُرَ مُسْتَحِلُّهَا وَيَكْفُرَ مُسْتَحِلُّ الْخَمْرِ فَلَا حَاجَةَ إلَى الْإِشَارَةِ إلَى ذَلِكَ هَا هُنَا (قَوْلُهُ وَقِيلَ: أَرَادَ بِهِ التَّوْبِيخَ مَعْنَاهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ: تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَتَدَّعُونَ رِزْقًا حَسَنًا) قَالَ الشُّرَّاحُ: أَيْ أَنْتُمْ لِسَفَاهَتِكُمْ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا حَرَامًا وَتَتْرُكُونَ رِزْقًا حَسَنًا

أَقُولُ: فِيهِ إشْكَالٌ؛ لِأَنَّهُمْ صَرَّحُوا عِنْدَ شَرْحِ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ وَالْآيَةُ مَحْمُولَةٌ عَلَى الِابْتِدَاءِ بِأَنَّ الْآيَةَ مَكِّيَّةٌ وَتَحْرِيمَ الْخَمْرِ وَقَعَ بِالْمَدِينَةِ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الْآيَةِ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا حَرَامًا، وَالْخَمْرُ وَقْتَئِذٍ مِمَّا لَمْ يُوصَفْ بِالْحُرْمَةِ فَأَيْنَ السَّكَرُ الْحَرَامُ فَلْيُتَأَمَّلْ (قَوْلُهُ إلَّا أَنَّ حُرْمَةَ هَذِهِ الْأَشْرِبَةِ دُونَ حُرْمَةِ الْخَمْرِ حَتَّى لَا يَكْفُرَ مُسْتَحِلُّهَا وَيَكْفُرَ مُسْتَحِلُّ الْخَمْرِ؛ لِأَنَّ حُرْمَتَهَا اجْتِهَادِيَّةٌ، وَحُرْمَةُ الْخَمْرِ قَطْعِيَّةٌ) أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: مِنْ هَذِهِ الْأَشْرِبَةِ نَقِيعُ التَّمْرِ وَهُوَ السَّكَرُ، وَقَدْ قَالَ فِي إثْبَاتِ حُرْمَتِهِ: وَلَنَا إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ -، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ أَنَّ إجْمَاعَ الْأُمَّةِ سِيَّمَا إجْمَاعُ

ص: 98

وَلَا يَجِبُ الْحَدُّ بِشُرْبِهَا حَتَّى يَسْكَرَ، وَيَجِبُ بِشُرْبِ قَطْرَةٍ مِنْ الْخَمْرِ، وَنَجَاسَتُهَا خَفِيفَةٌ فِي رِوَايَةٍ وَغَلِيظَةٌ فِي أُخْرَى، وَنَجَاسَةُ الْخَمْرِ غَلِيظَةٌ رِوَايَةً وَاحِدَةً، وَيَجُوزُ بَيْعُهَا، وَيَضْمَنُ مُتْلِفُهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا فِيهِمَا؛ لِأَنَّهُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ، وَمَا شَهِدْت دَلَالَةٌ قَطْعِيَّةٌ بِسُقُوطِ تَقَوُّمِهَا، بِخِلَافِ الْخَمْرِ، غَيْرَ أَنَّ عِنْدَهُ يَجِبُ قِيمَتُهَا لَا مِثْلُهَا عَلَى مَا عُرِفَ، وَلَا يُنْتَفَعُ بِهَا بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ؛ لِأَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ

وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهَا إذَا كَانَ الذَّاهِبُ بِالطَّبْخِ أَكْثَرَ مِنْ النِّصْفِ دُونَ الثُّلُثَيْنِ (وَقَالَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ الْأَشْرِبَةِ فَلَا بَأْسَ بِهِ) قَالُوا: هَذَا الْجَوَابُ عَلَى هَذَا الْعُمُومِ وَالْبَيَانِ لَا يُوجَدُ فِي غَيْرِهِ، وَهُوَ نَصٌّ عَلَى أَنَّ مَا يُتَّخَذُ مِنْ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالْعَسَلِ وَالذُّرَةِ حَلَالٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلَا يُحَدُّ شَارِبُهُ عِنْدَهُ وَإِنْ سَكِرَ مِنْهُ، وَلَا يَقَعُ طَلَاقُ السَّكْرَانِ مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ النَّائِمِ وَمَنْ ذَهَبَ عَقْلُهُ بِالْبَنْجِ وَلَبَنِ الرِّمَاكِ

وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ حَرَامٌ وَيُحَدُّ شَارِبُهُ وَيَقَعُ طَلَاقُهُ إذَا سَكِرَ مِنْهُ كَمَا فِي سَائِرِ الْأَشْرِبَةِ الْمُحَرَّمَةِ

الصَّحَابَةِ دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ يَكْفُرُ جَاحِدُهُ، فَكَيْفَ يَتِمُّ الْقَوْلُ هَا هُنَا بِأَنَّ حُرْمَةَ هَذِهِ الْأَشْرِبَةِ لَا يَكْفُرُ مُسْتَحِلُّهَا لِكَوْنِ حُرْمَتِهَا اجْتِهَادِيَّةً لَا قَطْعِيَّةً؟ وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ نَقْلَ الْإِجْمَاعِ قَدْ لَا يَكُونُ بِالتَّوَاتُرِ، فَلَا يُفِيدُ مِثْلُ ذَلِكَ الْإِجْمَاعِ الْقَطْعَ لِعَدَمِ الْقَطْعِ فِي طَرِيقِ نَقْلِهِ إلَيْنَا كَمَا تَقَرَّرَ هَذَا أَيْضًا فِي عِلْمِ الْأُصُولِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْإِجْمَاعُ الْمَنْقُولُ فِي حَقِّ حُرْمَةِ السَّكَرِ مِنْ ذَلِكَ الْقَبِيلِ وَيَكُونَ هَذَا بَاعِثًا عَلَى وُقُوعِ الِاجْتِهَادِ فِي خِلَافِهِ (قَوْلُهُ: لِأَنَّهُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ وَمَا شَهِدَتْ دَلَالَةٌ قَطْعِيَّةٌ بِسُقُوطِ تَقَوُّمِهَا بِخِلَافِ الْخَمْرِ) أَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ

أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُمْ صَرَّحُوا بِأَنَّ مَعْنَى تَقَوُّمِ الْمَالِ إبَاحَةُ الِانْتِفَاعِ بِهِ شَرْعًا

وَسَيَجِيءُ التَّصْرِيحُ عَنْ قَرِيبٍ بِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْرِبَةَ مِمَّا لَا يُنْتَفَعُ بِهَا بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ التَّقَوُّمُ فِيهَا

وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ الدَّلَالَةَ الْقَطْعِيَّةَ إنَّمَا تُعْتَبَرُ فِي حَقِّ وُجُوبِ الِاعْتِقَادِ دُونَ وُجُوبِ الْعَمَلِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ مِنْ السُّنَّةِ يُوجِبُ الْعَمَلَ، وَلَا يُوجِبُ عِلْمَ الْيَقِينِ بَلْ يُوجِبُ غَلَبَةَ الظَّنِّ عَلَى الْمَذْهَبِ الصَّحِيحِ الْمُخْتَارِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ كَمَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ

وَمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ الْعَمَلِيَّاتِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُكْتَفَى فِيهِ بِمُجَرَّدِ غَلَبَةِ الظَّنِّ، كَيْفَ لَا، وَقَدْ اكْتَفَى بِهِ فِي الْحُكْمِ بِحُرْمَةِ هَذِهِ الْأَشْرِبَةِ إذْ هِيَ أَيْضًا اجْتِهَادِيَّةٌ لَا قَطْعِيَّةٌ كَمَا صَرَّحَ بِهِ آنِفًا (قَوْلُهُ وَلَا يُنْتَفَعُ بِهَا بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ؛ لِأَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ) أَقُولُ: فِي التَّعْلِيلِ بَحْثٌ؛ إذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ حُرْمَةِ تَنَاوُلِ الشَّيْءِ عَدَمُ الِانْتِفَاعِ بِهِ؛ أَلَا يَرَى أَنَّ السِّرْقِينَ نَجَسُ الْعَيْنِ مُحَرَّمُ التَّنَاوُلِ قَطْعًا مَعَ أَنَّهُ مِمَّا يُنْتَفَعُ بِهِ حَيْثُ يُلْقَى فِي الْأَرَاضِيِ لِاسْتِكْثَارِ الرِّيعِ وَلِهَذَا يَجُوزُ بَيْعُهُ كَمَا مَرَّ فِي فَصْلِ الْبَيْعِ مِنْ كِتَابِ الْكَرَاهِيَةِ، وَكَذَا الدُّهْنُ النَّجَسُ عَلَى مَا صَرَّحُوا بِهِ، وَقَدْ مَرَّ هُنَا غَيْرَ مَرَّةٍ نَظِيرُ هَذَا الْكَلَامِ فِي هَذَا الْكِتَابِ فَتَدَبَّرْ (قَوْلُهُ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهَا إذَا كَانَ الذَّاهِبُ بِالطَّبْخِ أَكْثَرَ مِنْ النِّصْفِ دُونَ الثُّلُثَيْنِ) أَقُولُ: لَا يَذْهَبُ عَلَيْك أَنَّ حَقَّ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنْ تُذْكَرَ قَبْلَ قَوْلِهِ وَلَا يُنْتَفَعُ بِهَا بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ شُعَبِ جَوَازِ بَيْعِ هَذِهِ الْأَشْرِبَةِ

وَقَوْلُهُ وَلَا يُنْتَفَعُ بِهَا إلَى آخِرِهِ مَسْأَلَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ دَخَلَتْ

ص: 99

(وَقَالَ فِيهِ أَيْضًا: وَكَانَ أَبُو يُوسُفَ يَقُولُ: مَا كَانَ مِنْ الْأَشْرِبَةِ يَبْقَى بَعْدَ مَا يَبْلُغُ عَشَرَةَ أَيَّامٍ وَلَا يَفْسُدُ فَإِنِّي أَكْرَهُهُ، ثُمَّ رَجَعَ إلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ) وَقَوْلُهُ الْأَوَّلُ مِثْلُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ إنَّ كُلَّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، إلَّا أَنَّهُ مُنْفَرِدٌ بِهَذَا الشَّرْطِ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: يَبْلُغُ: يَغْلِي وَيَشْتَدُّ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ وَلَا يَفْسُدُ: لَا يُحَمَّضُ وَوَجْهُهُ أَنَّ بَقَاءَهُ هَذِهِ الْمُدَّةَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُحَمَّضَ دَلَالَةُ قُوَّتِهِ وَشِدَّتِهِ فَكَانَ آيَةَ حُرْمَتِهِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ يُرْوَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، وَأَبُو حَنِيفَةَ يَعْتَبِرُ حَقِيقَةَ الشِّدَّةِ عَلَى الْحَدِّ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِيمَا يَحْرُمُ أَصْلُ شُرْبِهِ وَفِيمَا يَحْرُمُ السُّكْرُ مِنْهُ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى

وَأَبُو يُوسُفَ رَجَعَ إلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَلَمْ يُحَرِّمْ كُلَّ مُسْكِرٍ، وَرَجَعَ عَنْ هَذَا الشَّرْطِ أَيْضًا (وَقَالَ فِي الْمُخْتَصَرِ: وَنَبِيذُ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ إذَا طُبِخَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَدْنَى طَبْخَةٍ حَلَالٌ وَإِنْ اشْتَدَّ إذَا شُرِبَ مِنْهُ مَا يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ لَا يُسْكِرُهُ مِنْ غَيْرِ لَهْوٍ وَلَا طَرِبٍ)، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ

وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ حَرَامٌ، وَالْكَلَامُ فِيهِ كَالْكَلَامِ فِي الْمُثَلَّثِ الْعِنَبِيِّ

وَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى

قَالَ (وَلَا بَأْسَ بِالْخَلِيطَيْنِ) لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ زِيَادٍ أَنَّهُ قَالَ: سَقَانِي ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنه شَرْبَةً مَا كِدْت أَهْتَدِي إلَى مَنْزِلِي فَغَدَوْت إلَيْهِ مِنْ الْغَدِ فَأَخْبَرْته بِذَلِكَ فَقَالَ: مَا زِدْنَاك عَلَى عَجْوَةٍ وَزَبِيبٍ وَهَذَا نَوْعٌ مِنْ الْخَلِيطَيْنِ وَكَانَ مَطْبُوخًا؛ لِأَنَّ الْمَرْوِيَّ عَنْهُ حُرْمَةُ نَقِيعِ الزَّبِيبِ وَهُوَ النِّيءُ مِنْهُ، وَمَا رُوِيَ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام نَهَى عَنْ الْجَمْعِ بَيْنَ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ، وَالزَّبِيبِ وَالرُّطَبِ، وَالرُّطَبِ وَالْبُسْرِ» مَحْمُولٌ عَلَى حَالَةِ الشِّدَّةِ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي الِابْتِدَاءِ.

قَالَ (وَنَبِيذُ الْعَسَلِ وَالتِّينِ وَنَبِيذُ الْحِنْطَةِ وَالذُّرَةِ وَالشَّعِيرِ حَلَالٌ وَإِنْ لَمْ يُطْبَخْ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ إذَا كَانَ مِنْ غَيْرِ لَهْوٍ وَطَرَبٍ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «الْخَمْرُ مِنْ هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ، وَأَشَارَ إلَى الْكَرْمَةِ وَالنَّخْلَةِ» خَصَّ التَّحْرِيمَ بِهِمَا

وَالْمُرَادُ بَيَانُ الْحُكْمِ، ثُمَّ قِيلَ يُشْتَرَطُ الطَّبْخُ فِيهِ لِإِبَاحَتِهِ، وَقِيلَ لَا يُشْتَرَطُ وَهُوَ الْمَذْكُورُ

فِي الْبَيْنِ كَمَا تَرَى

(قَوْلُهُ: وَلَا بَأْسَ بِالْخَلِيطَيْنِ لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ زِيَادٍ أَنَّهُ قَالَ: سَقَانِي ابْنُ عُمَرَ شَرْبَةً مَا كِدْت أَهْتَدِي إلَى أَهْلِي، فَغَدَوْت إلَيْهِ مِنْ الْغَدِ وَأَخْبَرْته بِذَلِكَ فَقَالَ: مَا زِدْنَاك عَلَى عَجْوَةٍ وَزَبِيبٍ) وَابْنُ عُمَرَ كَانَ مَعْرُوفًا بِالزُّهْدِ وَالْفِقْهِ بَيْنَ الصَّحَابَةِ

فَلَا يُظَنُّ بِهِ أَنَّهُ كَانَ يَسْقِي غَيْرَهُ مَا لَا يَشْرَبُهُ أَوْ يَشْرَبُ مَا كَانَ حَرَامًا، كَذَا فِي الْكَافِي وَالشُّرُوحِ

أَقُولُ: هَا هُنَا كَلَامٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ تَقْلِيدَ الصَّحَابِيِّ فِيمَا لَمْ يُعْلَمْ اتِّفَاقُ سَائِرِ الصَّحَابَةِ عَلَيْهِ وَلَا خِلَافُهُمْ فِيهِ، وَلَمْ تَكُنْ الْحَادِثَةُ مِمَّا لَا يُدْرَكُ بِالْقِيَاسِ لَا يَجِبُ عَلَى الْقَوْلِ الْمُخْتَارِ كَمَا عُرِفَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ

وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ ذَلِكَ الْقَبِيلِ فَكَيْفَ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ فِعْلُ ابْنِ عُمَرَ أَوْ قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْمَزْبُورَةِ دَلِيلًا عَلَى حِلِّ الْخَلِيطَيْنِ

وَثَانِيهِمَا أَنَّ قَوْلَ ابْنِ زِيَادٍ مَا كِدْت أَهْتَدِي إلَى أَهْلِي يُشْعِرُ بِإِسْكَارِ الشَّرْبَةِ الَّتِي سَقَاهُ ابْنُ عُمَرَ إيَّاهَا، وَالسُّكْرُ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ حَرَامٌ بِالِاتِّفَاقِ فَكَيْفَ يُسْتَدَلُّ بِذَلِكَ عَلَى الْحِلِّ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْ الثَّانِي بِوَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: مَا أَشَارَ إلَيْهِ تَاجُ الشَّرِيعَةِ بِقَوْلِهِ: وَإِنَّمَا قَالَ: مَا كِدْت أَهْتَدِي إلَى أَهْلِي عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ فِي بَيَانِ التَّأْثِيرِ فِيهِ لَا حَقِيقَةِ السُّكْرِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَحِلُّ انْتَهَى

وَثَانِيهِمَا: أَنَّ وَجْهَ الِاسْتِدْلَالِ مُجَرَّدُ أَنْ يَسْقِيَ ابْنُ عُمَرَ ابْنَ زِيَادٍ تِلْكَ الشَّرْبَةَ

فَإِنَّهَا لَوْ كَانَتْ حَرَامًا لَمَا أَقْدَمَ ابْنُ عُمَرَ مَعَ كَمَالِ زُهْدِهِ وَفِقْهِهِ عَلَى أَنْ يَسْقِيَهُ إيَّاهَا، وَأَمَّا تَأْثِيرُهَا فِي الشَّارِبِ بَعْدَ أَنْ شَرِبَهَا بِحَيْثُ يَصِلُ إلَى مَرْتَبَةِ الْإِسْكَارِ فَلَيْسَ لَهُ حَدٌّ مُقَدَّرٌ؛ إذْ هُوَ مُخْتَلِفٌ بِاخْتِلَافِ الطِّبَاعِ وَالْأَوْقَاتِ، وَلِلشَّارِبِ أَنْ يَحْتَرِزَ عَنْهُ مَهْمَا أَمْكَنَ، فَإِنْ وَصَلَ إلَى تِلْكَ الْمَرْتَبَةِ فِي الرِّوَايَةِ الْمَذْكُورَةِ فَإِنَّمَا هُوَ فِي الْغَفْلَةِ، وَالْعُهْدَةُ فِي ذَلِكَ عَلَى الشَّارِبِ لَا السَّاقِي تَأَمَّلْ تَفْهَمْ

(قَوْلُهُ وَقِيلَ لَا يُشْتَرَطُ وَهُوَ الْمَذْكُورُ

ص: 100

فِي الْكِتَابِ؛ لِأَنَّ قَلِيلَهُ لَا يَدْعُو إلَى كَثِيرِهِ كَيْفَمَا كَانَ

وَهَلْ يُحَدُّ فِي الْمُتَّخَذِ مِنْ الْحُبُوبِ إذَا سَكِرَ مِنْهُ؟ قِيلَ لَا يُحَدُّ

وَقَدْ ذَكَرْنَا الْوَجْهَ مِنْ قَبْلُ

قَالُوا: وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يُحَدُّ، فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِيمَنْ سَكِرَ مِنْ الْأَشْرِبَةِ أَنَّهُ يُحَدُّ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْفُسَّاقَ يَجْتَمِعُونَ عَلَيْهِ فِي زَمَانِنَا اجْتِمَاعَهُمْ عَلَى سَائِرِ الْأَشْرِبَةِ، بَلْ فَوْقَ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ الْمُتَّخَذُ مِنْ الْأَلْبَانِ إذَا اشْتَدَّ فَهُوَ عَلَى هَذَا

وَقِيلَ: إنَّ الْمُتَّخَذَ مِنْ لَبَنِ الرِّمَاكِ لَا يَحِلُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ اعْتِبَارًا بِلَحْمِهِ؛ إذْ هُوَ مُتَوَلِّدٌ مِنْهُ

قَالُوا: وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَحِلُّ؛ لِأَنَّ كَرَاهَةَ لَحْمِهِ لِمَا فِي إبَاحَتِهِ مِنْ قَطْعِ مَادَّةِ الْجِهَادِ أَوْ لِاحْتِرَامِهِ فَلَا يُتَعَدَّى إلَى لَبَنِهِ

قَالَ (وَعَصِيرُ الْعِنَبِ إذَا طُبِخَ حَتَّى ذَهَبَ ثُلُثَاهُ وَبَقِيَ ثُلُثُهُ حَلَالٌ

فِي الْكِتَابِ؛ لِأَنَّ قَلِيلَهُ لَا يَدْعُو إلَى كَثِيرِهِ كَيْفَمَا كَانَ) أَقُولُ: هَذَا التَّعْلِيلُ مَنْظُورٌ فِيهِ؛ لِأَنَّ مُجَرَّدَ أَنْ لَا يَدْعُوَ قَلِيلُهُ إلَى كَثِيرِهِ لَا يَقْتَضِي أَنْ لَا يُشْتَرَطَ الطَّبْخُ فِيهِ لِإِبَاحَتِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ نَبِيذَ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ مِمَّا يُشْتَرَطُ الطَّبْخُ فِيهِ لِإِبَاحَتِهِ بِلَا اخْتِلَافٍ، مَعَ أَنَّ قَلِيلَ ذَلِكَ أَيْضًا لَا يَدْعُو إلَى كَثِيرِهِ كَيْفَمَا كَانَ، فَإِنَّ دُعَاءَ الْقَلِيلِ إلَى الْكَثِيرِ مِنْ خَوَاصِّ الْخَمْرِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِيمَا مَرَّ

وَالْأَظْهَرُ فِي التَّعْلِيلِ هَا هُنَا مَا ذُكِرَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ حَيْثُ قَالَ فِيهَا: وَفِي رِوَايَةٍ لَا يُشْتَرَطُ؛ لِأَنَّ حَالَ هَذِهِ الْأَشْرِبَةِ دُونَ نَقِيعِ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ

فَإِنَّ نَقِيعَ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ اُتُّخِذَ مِمَّا هُوَ أَصْلٌ لِلْخَمْرِ شَرْعًا، فَإِنَّ أَصْلَ الْخَمْرِ شَرْعًا التَّمْرُ وَالْعِنَبُ عَلَى مَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم «الْخَمْرُ مِنْ هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ» وَقَدْ شَرَطَ أَدْنَى طَبْخَةٍ فِي نَقِيعِ الزَّبِيبِ وَالتَّمْرِ فَيَجِبُ أَنْ لَا يَشْتَرِطَ أَدْنَى طَبْخَةٍ فِي هَذِهِ الْأَشْرِبَةِ لِيَظْهَرَ نُقْصَانُ هَذِهِ الْأَشْرِبَةِ عَنْ نَقِيعِ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ انْتَهَى

(قَوْلُهُ وَهَلْ يُحَدُّ فِي الْمُتَّخَذِ مِنْ الْحُبُوبِ إذَا سَكِرَ مِنْهُ؟ قِيلَ: لَا يُحَدُّ) أَقُولُ: قَدْ مَرَّتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَرَّةً أَثْنَاءَ بَيَانِ مَسْأَلَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فِيمَا قَبْلُ حَيْثُ قَالَ: وَهُوَ نَصٌّ عَلَى أَنَّ مَا يُتَّخَذُ مِنْ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالْعَسَلِ وَالذُّرَةِ حَلَالٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلَا يُحَدُّ شَارِبُهُ عِنْدَهُ، وَإِنْ سَكِرَ فَالتَّعَرُّضُ لَهَا مَرَّةً أُخْرَى يُشْبِهُ التَّكْرَارَ

فَلَعَلَّ الْمَقْصُودَ بِالذَّاتِ هَا هُنَا ذِكْرُ قَوْلِهِ قَالُوا وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يُحَدُّ، وَمَا قَبْلَهُ تَوْطِئَةً لَهُ

نَعَمْ يُتَّجَهُ أَنْ يُقَالَ: لَوْ ذَكَرَ أَيْضًا هُنَاكَ قَوْلَهُ قَالُوا وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يُحَدُّ لَاسْتَغْنَى عَنْ الْإِعَادَةِ هَا هُنَا بِالْكُلِّيَّةِ (قَوْلُهُ وَقَدْ ذَكَرْنَا الْوَجْهَ مِنْ قَبْلُ) قَالَ صَاحِبُ الْغَايَةِ: هُوَ إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ؛ لِأَنَّ قَلِيلَهُ لَا يَدْعُو إلَى كَثِيرِهِ

وَقَالَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إشَارَةً إلَى الْمَعْنَى الْمُسْتَفَادِ مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «الْخَمْرُ مِنْ هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ» يَعْنِي أَنَّ هَذِهِ الْأَشْرِبَةَ لَيْسَتْ بِمُتَّخَذَةٍ مِمَّا هُوَ أَصْلُ الْخَمْرِ فَلَا جَرَمَ لَا يُحَدُّ السَّكْرَانُ مِنْهَا انْتَهَى، وَقَالَ صَاحِبُ الْكِفَايَةِ: قَوْلُهُ وَقَدْ ذَكَرْنَا الْوَجْهَ مِنْ قَبْلُ الْإِشَارَةُ إلَى مَا ذَكَرَ أَنَّ السَّكْرَانَ مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ النَّائِمِ، وَمَنْ ذَهَبَ عَقْلُهُ بِالْبَنْجِ وَلَبَنِ الرِّمَاكِ اهـ

وَاخْتَارَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْغَايَةِ أَوَّلًا

وَنَقَلَ مَا ذَكَرَهُ ثَانِيًا بِقِيلَ، ثُمَّ نَقَلَ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْكِفَايَةِ بِقَوْلِهِ: وَقِيلَ أَقُولُ يُرَدُّ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ أَنَّ عَدَمَ دُعَاءِ الْقَلِيلِ إلَى الْكَثِيرِ جَازَ فِيمَا سِوَى الْخَمْرِ مِنْ الْأَشْرِبَةِ الْمُحَرَّمَةِ، فَإِنَّ دُعَاءَ الْقَلِيلِ إلَى الْكَثِيرِ مِنْ خَوَاصِّ الْخَمْرِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْمُصَنِّفُ فِيمَا مَرَّ حَيْثُ قَالَ: وَلِأَنَّ قَلِيلَهُ يَدْعُو إلَى كَثِيرِهِ وَهَذَا مِنْ خَوَاصِّ الْخَمْرِ انْتَهَى مَعَ أَنَّهُ إذَا سَكِرَ مِمَّا سِوَى الْخَمْرِ مِنْ الْأَشْرِبَةِ الْمُحَرَّمَةِ يُحَدُّ بِلَا خِلَافٍ

فَعُلِمَ أَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِعَدَمِ دُعَاءِ الْقَلِيلِ إلَى الْكَثِيرِ فِي سُقُوطِ الْحَدِّ عَنْ السَّكْرَانِ، وَيُرَدُّ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي أَنَّهُ لَوْ كَانَ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ مَا يُسْتَفَادُ مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «الْخَمْرُ مِنْ هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ» لَقَالَ لِمَا رَوَيْنَا كَمَا هُوَ عَادَتُهُ الْمُسْتَمِرَّةُ فِي الْحَوَالَةِ عَلَى مَا مَرَّ مِنْ السُّنَّةِ ثُمَّ إنَّ فِي كَوْنِ ذَلِكَ الْمَعْنَى مُسْتَفَادًا مِنْ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ خَفَاءً جِدًّا فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ مَذْكُورًا هُنَاكَ، فَأَنَّى يَتَيَسَّرُ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ هَا هُنَا بِقَوْلِهِ وَقَدْ ذَكَرْنَا الْوَجْهَ مِنْ قَبْلُ، فَالْأَوْجَهُ هُوَ الْوَجْهُ الثَّالِثُ، وَإِنْ أَخَّرَهُ صَاحِبُ الْغَايَةِ فِي الذِّكْرِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ تَأَمَّلَ فِي سِيَاقِ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ، وَرَاجَعَ كَلِمَاتِ السَّلَفِ كَشَيْخِ الْإِسْلَامِ وَغَيْرِهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ (قَوْلُهُ قَالُوا: وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يُحَدُّ، فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِيمَنْ سَكِرَ مِنْ الْأَشْرِبَةِ أَنَّهُ يُحَدُّ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ) أَقُولُ: تَحْرِيرُ الْمُصَنِّفِ هَا هُنَا لَا يَخْلُو عَنْ رَكَاكَةٍ؛ إذْ الظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَهُ بِقَوْلِهِ وَهَلْ يُحَدُّ فِي الْمُتَّخَذِ مِنْ الْحُبُوبِ إذَا

ص: 101

وَإِنْ اشْتَدَّ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ

وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: حَرَامٌ، وَهَذَا الْخِلَافُ فِيمَا إذَا قَصَدَ بِهِ التَّقَوِّي، أَمَّا إذَا قَصَدَ بِهِ التَّلَهِّيَ لَا يَحِلُّ بِالِاتِّفَاقِ

وَعَنْ مُحَمَّدٍ مِثْلُ قَوْلِهِمَا، وَعَنْهُ أَنَّهُ كَرِهَ ذَلِكَ، وَعَنْهُ أَنَّهُ تَوَقَّفَ فِيهِ

لَهُمْ فِي إثْبَاتِ الْحُرْمَةِ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ» وَقَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ» وَيُرْوَى عَنْهُ عليه الصلاة والسلام «مَا أَسْكَرَ الْجَرَّةُ مِنْهُ فَالْجَرْعَةُ مِنْهُ حَرَامٌ» وَلِأَنَّ الْمُسْكِرَ يُفْسِدُ الْعَقْلَ فَيَكُونُ حَرَامًا قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ كَالْخَمْرِ

وَلَهُمَا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «حُرِّمَتْ الْخَمْرُ لِعَيْنِهَا»

سَكِرَ أَنَّهُ هَلْ يُحَدُّ فِي ذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِيمَا قَبْلُ إنَّمَا هُوَ قَوْلُهُمَا، وَالْمُصَنِّفُ الْآنَ بِصَدَدِ التَّفْرِيعِ عَلَى ذَلِكَ وَتَكْمِيلِهِ فَيَسْتَدْعِي هَذَا أَنْ يَكُونَ مَدَارُ قَوْلِهِ قِيلَ لَا يُحَدُّ وَقَوْلُهُ قَالُوا وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يُحَدُّ عَلَى قَوْلِهِمَا، فَلَا يُنَاسَبُ فِي تَعْلِيلِ قَوْلِهِ: وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يُحَدُّ أَنْ يُقَالَ: فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِيمَنْ سَكِرَ مِنْ الْأَشْرِبَةِ أَنَّهُ يُحَدُّ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ، فَإِنَّ مُحَمَّدًا يُخَالِفُهُمَا فِي أَصْلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ حَيْثُ لَا يَقُولُ بِحِلِّ الْمُتَّخَذِ مِنْ الْحُبُوبِ إذَا اشْتَدَّ وَغَلَى، فَيَجُوزُ أَنْ يَقُولَ بِوُجُوبِ الْحَدِّ إذَا سَكِرَ مِنْهُ، وَأَمَّا هُمَا فَيَقُولَانِ بِحِلِّ ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا فَلَا يَكُونُ الْمَرْوِيُّ عَنْ مُحَمَّدٍ حُجَّةً فِي حَقِّهِمَا

وَعَنْ هَذَا تَرَكَ صَاحِبُ الْكَافِيَةِ هَذَا التَّعْلِيلَ، وَاكْتَفَى بِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ بَعْدَهُ بِقَوْلِهِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْفُسَّاقَ يَجْتَمِعُونَ عَلَيْهِ إلَخْ حَيْثُ قَالَ: وَذَكَرَ فِي الْهِدَايَةِ وَالْمَبْسُوطِ شَيْخُ الْإِسْلَامِ الْإِسْبِيجَابِيُّ الْأَصَحُّ أَنَّهُ يُحَدُّ؛ لِأَنَّ الْفُسَّاقَ يَجْتَمِعُونَ فِي زَمَانِنَا عَلَى شُرْبِهِ كَمَا يَجْتَمِعُونَ عَلَى سَائِرِ الْأَشْرِبَةِ انْتَهَى

(قَوْلُهُ وَعَنْهُ أَنَّهُ كَرِهَ ذَلِكَ) أَقُولُ: فِيهِ ضَرْبُ إشْكَالٍ، وَهُوَ أَنَّهُ قَدْ مَرَّ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْكَرَاهِيَةِ أَنَّ كُلَّ مَكْرُوهٍ حَرَامٌ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رحمه الله، وَقَوْلُهُ هُنَا وَعَنْهُ أَنَّهُ كَرِهَ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ صَرَّحَ فِيمَا قَبْلُ بِأَنَّهُ حَرَامٌ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ يَقْتَضِي الْمُغَايِرَةَ بَيْنَ قَوْلِ مُحَمَّدٍ بِحُرْمَتِهِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ بِكَرَاهَتِهِ، فَيُنَافِي مَا تَقَرَّرَ فِي أَوَائِلِ الْكَرَاهِيَةِ

فَإِنْ قُلْت: نَعَمْ إنَّ كُلَّ مَكْرُوهٍ حَرَامٌ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَلَكِنْ بِحُرْمَةٍ ظَنِّيَّةٍ لَا بِحُرْمَةٍ قَطْعِيَّةٍ فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَجِدْ نَصًّا قَاطِعًا فِي حُرْمَةِ شَيْءٍ لَمْ يُطْلِقْ عَلَيْهِ لَفْظَ الْحَرَامِ بَلْ يُطْلِقُ عَلَيْهِ لَفْظَ الْمَكْرُوهِ كَمَا تَقَرَّرَ أَيْضًا هُنَاكَ

فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَدَارُ رِوَايَةِ الْحُرْمَةِ وَرِوَايَةِ الْكَرَاهَةِ عَنْهُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ عَلَى قَطْعِيَّةِ الْحُرْمَةِ فِي إحْدَاهُمَا وَظَنِّيَّتِهَا فِي الْأُخْرَى فَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ الْمَقَامَيْنِ

قُلْت: لَا مَجَالَ لِلْقَوْلِ بِقَطْعِيَّةِ حُرْمَةِ الْمُثَلَّثِ الْعِنَبِيِّ عِنْدَ كَوْنِ اجْتِهَادِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ فِي حِلِّهِ؛ لِأَنَّ قَطْعِيَّةَ حُرْمَةِ الشَّيْءِ تَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكْفُرَ مُسْتَحِلُّهَا، وَهَذَا لَا يُتَصَوَّرُ فِيمَا وَقَعَ فِيهِ اجْتِهَادٌ مَا فَضْلًا عَمَّا وَقَعَ فِيهِ اجْتِهَادٌ مِثْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَعَنْ هَذَا قَالُوا فِيمَا سِوَى الْخَمْرِ مِنْ الْأَشْرِبَةِ الثَّلَاثَةِ الْمُحَرَّمَةِ عِنْدَ أَئِمَّتِنَا أَجْمَعَ وَعِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ حُرْمَةَ هَذِهِ الْأَشْرِبَةِ دُونَ حُرْمَةِ الْخَمْرِ حَتَّى لَا يَكْفُرَ مُسْتَحِلُّهَا، وَيَكْفُرُ مُسْتَحِلُّ الْخَمْرِ؛ لِأَنَّ حُرْمَتَهَا اجْتِهَادِيَّةٌ وَحُرْمَةَ الْخَمْرِ قَطْعِيَّةٌ كَمَا مَرَّ مِنْ قَبْلُ فِي الْكِتَابِ، مَعَ أَنَّ اجْتِهَادَ الْإِبَاحَةِ فِيهَا إنَّمَا وَقَعَ مِنْ نَحْوِ الْأَوْزَاعِيِّ وَشَرِيكٍ وَسَائِرِ أَصْحَابِ الظَّوَاهِرِ، فَتَحَقَّقَ أَنَّ الْحُرْمَةَ الْمَرْوِيَّةَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي حَقِّ الْمُثَلَّثِ الْعِنَبِيِّ إنَّمَا هِيَ الْحُرْمَةُ الِاجْتِهَادِيَّةُ الَّتِي مَدَارُهَا الظَّنُّ لَا الْحُرْمَةُ الْقَطْعِيَّةُ، فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ الْمُغَايَرَةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْكَرَاهَةِ عَلَى أَصْلِ مُحَمَّدٍ

وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: مَعْنَى قَوْلِهِ: إنَّ كُلَّ مَكْرُوهٍ حَرَامٌ عِنْدَ مُحَمَّدٍ: إنَّ كُلَّ مَكْرُوهٍ كَرَاهَةَ التَّحْرِيمِ حَرَامٌ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، لَكِنْ لَا بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ بَلْ بِدَلِيلٍ ظَنِّيٍّ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ فَإِنَّ الْمَكْرُوهَ كَرَاهَةَ التَّحْرِيمِ لَيْسَ بِحَرَامٍ أَصْلًا عِنْدَهُمَا بَلْ إلَى الْحَرَامِ أَقْرَبُ

وَأَمَّا الْمَكْرُوهُ كَرَاهَةَ التَّنْزِيهِ فَلَيْسَ بِحَرَامٍ وَلَا إلَى الْحَرَامِ أَقْرَبُ عِنْدَ أَحَدٍ، وَهَذَا كُلُّهُ يَظْهَرُ بِمُرَاجَعَةِ كُتُبِ الْأُصُولِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْكَرَاهَةِ فِي قَوْلِ الْمُصَنِّفِ هَا هُنَا وَعَنْهُ أَنَّهُ كَرِهَ ذَلِكَ هُوَ الْكَرَاهَةُ التَّنْزِيهِيَّةُ وَهِيَ مُغَايِرَةٌ لِلْحُرْمَةِ عَلَى قَوْلِ الْكُلِّ فَيَنْدَفِعُ التَّنَافِي بَيْنَ الْمَقَامَيْنِ تَأَمَّلْ قَوْلُهُ وَلَهُمَا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «حُرِّمَتْ الْخَمْرُ لِعَيْنِهَا»

ص: 102

وَيُرْوَى «بِعَيْنِهَا قَلِيلِهَا وَكَثِيرِهَا، وَالسُّكْرُ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ» خَصَّ السُّكْرَ بِالتَّحْرِيمِ فِي غَيْرِ الْخَمْرِ؛ إذْ الْعَطْفُ لِلْمُغَايَرَةِ، وَلِأَنَّ الْمُفْسِدَ هُوَ الْقَدَحُ الْمُسْكِرُ وَهُوَ حَرَامٌ عِنْدَنَا

وَيُرْوَى «بِعَيْنِهَا قَلِيلِهَا وَكَثِيرِهَا، وَالسُّكْرُ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ» قَالَ فِي النِّهَايَةِ: وَلَهُمَا أَيْضًا قَوْله تَعَالَى {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} الْآيَةَ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى الْحِكْمَةَ فِي تَحْرِيمِ الْخَمْرِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَهِيَ الصَّدُّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِيرَاثُ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ، وَهَذِهِ الْمَعَانِي لَا تَحْصُلُ بِشُرْبِ الْقَلِيلِ، وَلَوْ خُلِّينَا وَظَاهِرَ الْآيَةِ لَقُلْنَا لَا يَحْرُمُ الْقَلِيلُ مِنْ الْخَمْرِ أَيْضًا، وَلَكِنْ تَرَكْنَا قَضِيَّةَ ظَاهِرِ الْآيَةِ فِي قَلِيلِ الْخَمْرِ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَا إجْمَاعَ فِيمَا عَدَاهُ فَبَقِيَ عَلَى ظَاهِرِ الْآيَةِ انْتَهَى

أَقُولُ: يَنْتَقِضُ هَذَا الِاسْتِدْلَال بِمَا عَدَا الْخَمْرَ مِنْ الْأَشْرِبَةِ الْمُحَرَّمَةِ الثَّلَاثَةِ، فَإِنَّ قَلِيلَهَا أَيْضًا حَرَامٌ عِنْدَ أَئِمَّتِنَا قَاطِبَةً وَعِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ، مَعَ أَنَّ الْمَعَانِيَ الْمَذْكُورَةَ فِي الْآيَةِ الْمَزْبُورَةِ لَا تَحْصُلُ بِشُرْبِ قَلِيلِهَا كَمَا لَا يَخْفَى (قَوْلُهُ خَصَّ السَّكَرَ بِالتَّحْرِيمِ فِي غَيْرِ الْخَمْرِ إذْ الْعَطْفُ لِلْمُغَايِرَةِ) أَقُولُ: الظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَهُ بِقَوْلِهِ خَصَّ السَّكَرَ بِالتَّحْرِيمِ فِي غَيْرِ الْخَمْرِ قَصْرُ التَّحْرِيمِ عَلَى السَّكَرِ فِي غَيْرِ الْخَمْرِ عَلَى أَنْ تَكُونَ الْبَاءُ دَاخِلَةً عَلَى الْمَقْصُورِ كَمَا فِي قَوْلِهِمْ خَصَصْت فُلَانًا بِالذِّكْرِ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي مَوْضِعِهِ؛ إذْ هُوَ الْمُفِيدُ لِمُدَّعَاهُمَا هَا هُنَا دُونَ الْعَكْسِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى ذِي مَسْكَةٍ، لَكِنْ فِيهِ بَحْثٌ، وَهُوَ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ عَلَى مُدَّعَاهُمَا فِي هَذَا الْوَجْهِ كَمَا يَقْتَضِي حِلَّ الْمُثَلَّثِ يَقْتَضِي أَيْضًا حِلَّ الْأَشْرِبَةِ الْمُحَرَّمَةِ الثَّلَاثَةِ غَيْرِ الْخَمْرِ، وَهَذَا ظَاهِرٌ لُزُومًا وَبُطْلَانًا، عَلَى أَنَّ اسْتِفَادَةَ قَصْرِ التَّحْرِيمِ عَلَى السَّكَرِ فِي غَيْرِ الْخَمْرِ مِنْ مَنْطُوقِ لَفْظِ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ مُشْكِلٌ، وَاسْتِفَادَتُهُ مِنْ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ خِلَافُ الْمَذْهَبِ فَلْيُتَأَمَّلْ (قَوْلُهُ: وَلِأَنَّ الْمُفْسِدَ هُوَ الْقَدَحُ الْمُسْكِرُ وَهُوَ حَرَامٌ عِنْدَنَا) فَإِنْ قِيلَ: الْقَدَحُ الْأَخِيرُ إنَّمَا يَصِيرُ مُسْكِرًا بِمَا تَقَدَّمَهُ لَا بِانْفِرَادِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَحْرُمَ مَا تَقَدَّمَ أَيْضًا

قُلْنَا: لَمَّا وُجِدَ السُّكْرُ بِشُرْبِ الْقَدَحِ الْأَخِيرِ أُضِيفَ الْحُكْمُ إلَيْهِ لِكَوْنِهِ عِلَّةً مَعْنًى وَحُكْمًا، كَذَا ذَكَرَهُ جُمْهُورُ الشُّرَّاحِ

وَاعْتَرَضَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ عَلَى الْجَوَابِ الْمَذْكُورِ حَيْثُ قَالَ: فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الْإِضَافَةَ إلَى الْعِلَّةِ اسْمًا وَمَعْنًى وَحُكْمًا أَوْلَى، وَالْمَجْمُوعُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ اهـ أَقُولُ: إنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ وَالْمَجْمُوعُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْمَجْمُوعِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ إذْ لَا يَخْفَى أَنَّ شَيْئًا مِمَّا قَبْلَ الْجُزْءِ الْأَخِيرِ لَيْسَ بِعِلَّةٍ اسْمًا وَلَا مَعْنًى وَلَا حُكْمًا؛ إذْ الْعِلَّةُ اسْمًا مَا يُضَافُ إلَيْهِ الْحُكْمُ، وَالْعِلَّةُ مَعْنًى مَا يُؤَثِّرُ فِي الْحُكْمِ، وَالْعِلَّةُ حُكْمًا مَا يَتَّصِلُ بِهِ الْحُكْمُ، وَلَا يَتَرَاخَى عَنْهُ كَمَا عُرِفَ كُلُّهُ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ شَيْئًا مِمَّا قَبْلَ الْجُزْءِ الْأَخِيرِ لَيْسَ بِصِفَةٍ مِنْ هَذِهِ الْمَعَانِي، وَإِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ الْمَجْمُوعَ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَجْمُوعٌ بِهَذِهِ الصِّفَةِ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ فَهُوَ لَا يَقْدَحُ فِي مَطْلُوبِنَا هُنَا، إذْ لَا نُنْكِرُ حُرْمَةَ مَجْمُوعِ الْأَقْدَاحِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَجْمُوعٌ عِنْدَ اشْتِمَالِهِ عَلَى الْقَدَحِ الْمُسْكِرِ، وَإِنَّمَا نُنْكِرُ حُرْمَةَ مَا قَبْلَ الْقَدَحِ الْمُسْكِرِ بِانْفِرَادِهِ

نَعَمْ بَقِيَ الْكَلَامُ فِي أَنَّ إضَافَةَ الْحُكْمِ إلَى الْمَجْمُوعِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَجْمُوعٌ أَوْلَى أَمْ إلَى الْجُزْءِ الْأَخِيرِ وَحْدَهُ؟ وَالظَّاهِرُ فِي بَادِئِ الرَّأْيِ هُوَ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ الْجُزْءَ الْأَخِيرَ وَحْدَهُ عِلَّةً وَمَعْنًى وَحُكْمًا لَا اسْمًا عَلَى مَا هُوَ الْمَشْهُورُ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ، وَالْحُكْمُ إنَّمَا يُضَافُ إلَى الْعِلَّةِ اسْمًا، لَكِنَّ الْفَاضِلَ التَّفْتَازَانِيَّ قَالَ فِي التَّلْوِيحِ فِي مَبَاحِثِ الْعِلَّةِ مِنْ بَابِ الْحُكْمِ: ذَهَبَ الْمُحَقِّقُونَ إلَى أَنَّ الْجُزْءَ الْأَوَّلَ يَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ الْعَدَمِ فِي حَقِّ ثُبُوتِ الْحُكْمِ، وَيَصِيرُ الْحُكْمُ مُضَافًا إلَى الْجُزْءِ الْأَخِيرِ كَالْمَنِّ الْأَخِيرِ فِي أَثْقَالِ السَّفِينَةِ وَالْقَدَحِ الْأَخِيرِ فِي السُّكْرِ انْتَهَى

وَحِينَئِذٍ يَصِيرُ الْجُزْءُ الْأَخِيرُ عِلَّةً اسْمًا أَيْضًا: أَيْ كَمَا أَنَّهُ عِلَّةٌ مَعْنًى وَحُكْمًا فَيَنْتَظِمُ أَمْرُ إضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهِ

ص: 103

وَإِنَّمَا يَحْرُمُ الْقَلِيلُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ يَدْعُو لِرِقَّتِهِ وَلَطَافَتِهِ إلَى الْكَثِيرِ فَأُعْطِيَ حُكْمَهُ، وَالْمُثَلَّثُ لِغِلَظِهِ لَا يَدْعُو وَهُوَ فِي نَفْسِهِ غِذَاءٌ فَبَقِيَ عَلَى الْإِبَاحَةِ: وَالْحَدِيثُ الْأَوَّلُ غَيْرُ ثَابِتٍ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ، ثُمَّ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْقَدَحِ الْأَخِيرِ إذْ هُوَ

وَحْدَهُ بِلَا غُبَارٍ، ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: الْحَرَامُ هُوَ الْمُسْكِرُ، وَإِطْلَاقُهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مَجَازٌ، وَعَلَى الْقَدَحِ الْأَخِيرِ حَقِيقَةٌ، وَهُوَ مُرَادٌ فَلَا يَكُونُ الْمَجَازُ مُرَادًا انْتَهَى

أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ أَوْلَى؛ إذْ لَيْسَ الْكَلَامُ هَا هُنَا فِي إطْلَاقِ لَفْظِ الْمُسْكِرِ عَلَى شَيْءٍ وَعَدَمِ إطْلَاقِهِ عَلَيْهِ حَتَّى يُفِيدَ التَّشْبِيثَ بِرُجْحَانِ الْحَقِيقَةِ عَلَى الْمَجَازِ شَيْئًا بَلْ إنَّمَا الْكَلَامُ هُنَا فِي أَنَّ الْمُفْسِدَ لِلْعَقْلِ هُوَ الْقَدَحُ الْمُسْكِرُ: أَيْ الْمُزِيلُ لِلْعَقْلِ سَوَاءٌ أُطْلِقَ عَلَيْهِ لَفْظُ الْمُسْكِرِ حَقِيقَةً أَمْ لَا دُونَ غَيْرِهِ مِنْ الْأَقْدَاحِ الْمُتَقَدِّمَةِ فَكَانَ الْحَرَامُ هُوَ الْقَدَحَ الْمُزِيلَ لِلْعَقْلِ لَا غَيْرَ

وَبِالْجُمْلَةِ مَدَارُ الِاسْتِدْلَالِ هَا هُنَا عَلَى الْمَعْنَى وَهُوَ إزَالَةُ الْعَقْلِ دُونَ اللَّفْظِ، فَلَمَّا وَرَدَ السُّؤَالُ بِأَنَّ الْقَدَحَ الْأَخِيرَ لَا يُزِيلُ الْعَقْلَ بِانْفِرَادِهِ بَلْ بِمَا تَقَدَّمَ فَكَانَ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْأَقْدَاحِ مَدْخَلٌ أَيْضًا فِي إزَالَةِ الْعَقْلِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَحْرُمَ أَيْضًا لَمْ يُفِدْ أَنْ يُقَالَ: إنَّ لَفْظَ الْمُسْكِرِ إنَّمَا يُطْلَقُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مَجَازًا وَعَلَى الْقَدَحِ الْأَخِيرِ حَقِيقَةً شَيْئًا فِي دَفْعِ ذَلِكَ السُّؤَالِ أَصْلًا، وَإِنَّمَا يَتَمَشَّى ذَلِكَ فِي الْجَوَابِ عَنْ اسْتِدْلَالِ الْخَصْمِ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ»

وَمَحَلُّهُ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ ثُمَّ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْقَدَحِ الْأَخِيرِ؛ إذْ هُوَ الْمُسْكِرُ حَقِيقَةً

وَقَصَدَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ أَنْ يَرُدَّ عَلَى صَاحِبِ الْعِنَايَةِ قَوْلَهُ الْمَذْكُورَ بِوَجْهٍ آخَرَ فَقَالَ: إطْلَاقُهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ عَلَى الْقَدَحِ الْأَخِيرِ وَمَا تَقَدَّمَهُ مَجَازٌ بِلَا شُبْهَةٍ

وَأَمَّا إطْلَاقُهُ عَلَى الْمَجْمُوعِ مِنْ الْقَدَحِ الْأَخِيرِ حَقِيقَةً وَهُوَ مُرَادٌ فَلَا يَكُونُ الْمَجَازُ مُرَادًا انْتَهَى

أَقُولُ: وَهَذَا أَيْضًا لَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ إطْلَاقَهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ عَلَى الْقَدَحِ الْأَخِيرِ إذَا كَانَ مَجَازًا بِلَا شُبْهَةٍ كَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ إطْلَاقُهُ عَلَى الْمَجْمُوعِ حَقِيقَةً، فَإِنَّ الْمَجْمُوعَ مُشْتَمِلٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ عَلَى الْقَدَحِ الْأَخِيرِ أَيْضًا، وَلَا شَكَّ أَنَّ إطْلَاقَ اللَّفْظِ عَلَى الْمَجْمُوعِ الْمُرَكَّبِ مِمَّا هُوَ حَقِيقَةٌ فِيهِ وَمِمَّا هُوَ مَجَازٌ فِيهِ لَا يَكُونُ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّ الْحَقِيقَةَ هِيَ الْكَلِمَةُ الْمُسْتَعْمَلَةُ فِيمَا وُضِعَتْ لَهُ، وَالْمَجْمُوعُ الْمُرَكَّبُ مِمَّا وُضِعَتْ لَهُ وَمِمَّا لَمْ تُوضَعْ لَهُ لَيْسَ مِمَّا وُضِعَتْ لَهُ قَطْعًا

وَلَوْ سُلِّمَ أَنْ يَكُونَ إطْلَاقُهُ عَلَى الْمَجْمُوعِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَجْمُوعٌ حَقِيقَةً فَلَا يَضُرُّنَا؛ إذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الْمَجْمُوعِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَجْمُوعٌ مُسْكِرًا كَوْنُ الْمُتَقَدِّمِ عَلَى الْقَدَحِ الْأَخِيرِ أَيْضًا مُسْكِرًا حَتَّى يَلْزَمَ كَوْنُ مَا تَقَدَّمَ عَلَى الْقَدَحِ الْأَخِيرِ حَرَامًا أَيْضًا تَأَمَّلْ تَقِفْ (قَوْلُهُ وَإِنَّمَا يَحْرُمُ الْقَلِيلُ مِنْ الْخَمْرِ؛ لِأَنَّهُ يَدْعُو لِرِقَّتِهِ وَلَطَافَتِهِ إلَى الْكَثِيرِ فَأُعْطِيَ حُكْمُهُ) أَقُولُ: فِيهِ كَلَامٌ، وَهُوَ أَنَّ هَذَا التَّقْرِيرَ يَقْتَضِي كَوْنَ حُرْمَةِ الْخَمْرِ مُعَلَّلَةً، وَقَدْ صَرَّحَ فِيمَا مَرَّ بِأَنَّ الْخَمْرَ عَيْنُهُ حَرَامٌ غَيْرُ مَعْلُولٍ عِنْدَنَا بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ تَعْلِيلَهُ خِلَافُ السُّنَّةِ الْمَشْهُورَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «حُرِّمَتْ الْخَمْرُ لِعَيْنِهَا، وَالسُّكْرُ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ» فَكَانَ الَّذِي يَنْبَغِي هَا هُنَا أَنْ يُقَالَ: وَإِنَّمَا يَحْرُمُ الْقَلِيلُ مِنْ الْخَمْرِ لِوُرُودِ النَّصِّ فِيهِ وَهُوَ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «حُرِّمَتْ الْخَمْرُ لِعَيْنِهَا» الْحَدِيثَ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُحْمَلَ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ هَا هُنَا عَلَى التَّنَزُّلِ وَإِلْزَامِ الْخَصْمِ بِأَنْ يَكُونَ هَذَا الْكَلَامُ مِنْهُ جَوَابًا عَنْ قَوْلِ الْخَصْمِ، وَلِأَنَّ الْمُسْكِرَ يُفْسِدُ الْعَقْلَ فَيَكُونُ حَرَامًا قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ فَتَبَصَّرْ (قَوْلُهُ وَالْحَدِيثُ الْأَوَّلُ غَيْرُ ثَابِتٍ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ) قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: وَكَانَ عَلَى الْمُصَنِّفِ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِلْحَدِيثَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ اللَّذَيْنِ رَوَاهُمَا وَلَمْ يَفْعَلْ كَأَنَّهُ اكْتَفَى بِمُعَارَضَةِ مَا رَوَاهُ لَهُمَا انْتَهَى

أَقُولُ: تَوْجِيهُهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ دَلَالَةَ الْحَدِيثَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ اللَّذَيْنِ رَوَاهُمَا الْخَصْمُ

ص: 104

الْمُسْكِرُ حَقِيقَةً

وَاَلَّذِي يُصَبُّ عَلَيْهِ الْمَاءُ بَعْدَ مَا ذَهَبَ ثُلُثَاهُ بِالطَّبْخِ حَتَّى يَرِقَّ ثُمَّ يُطْبَخُ طَبْخَةً حُكْمُهُ حُكْمُ الْمُثَلَّثِ؛ لِأَنَّ صَبَّ الْمَاءِ لَا يَزِيدُهُ إلَّا ضَعْفًا، بِخِلَافِ مَا إذَا صُبَّ الْمَاءُ عَلَى الْعَصِيرِ ثُمَّ يُطْبَخُ حَتَّى يَذْهَبَ ثُلُثَا الْكُلِّ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ يَذْهَبُ أَوَّلًا لِلَطَافَتِهِ، أَوْ يَذْهَبُ مِنْهُمَا فَلَا يَكُونُ الذَّاهِبُ ثُلُثَيْ مَاءِ الْعِنَبِ

وَلَوْ طُبِخَ الْعِنَبُ كَمَا هُوَ ثُمَّ يُعْصَرُ يُكْتَفَى بِأَدْنَى طَبْخَةٍ فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ لَا يَحِلُّ مَا لَمْ يَذْهَبْ ثُلُثَاهُ بِالطَّبْخِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ؛ لِأَنَّ الْعَصِيرَ قَائِمٌ فِيهِ مِنْ غَيْرِ تَغَيُّرٍ فَصَارَ كَمَا بَعْدَ الْعَصْرِ.

وَلَوْ جُمِعَ فِي الطَّبْخِ بَيْنَ الْعِنَبِ وَالتَّمْرِ أَوْ بَيْنَ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ لَا يَحِلُّ حَتَّى يَذْهَبَ ثُلُثَاهُ

عَلَى حُرْمَةِ قَلِيلِ مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ إنَّمَا هِيَ بِطَرِيقِ الْعِبَارَةِ، وَدَلَالَةُ مَا رَوَاهُ الْمُصَنِّفِ مِنْ قِبَلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ عَلَى حِلِّ قَلِيلِ ذَلِكَ إنَّمَا هِيَ بِطَرِيقِ الْإِشَارَةِ أَوْ الِاقْتِضَاءِ

وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ أَنَّ عِبَارَةَ النَّصِّ تُرَجَّحُ عَلَى إشَارَةِ النَّصِّ وَاقْتِضَائِهِ عِنْدَ التَّعَارُضِ، فَإِنْ أَرَادَ ذَلِكَ الْقَائِلُ بِمُعَارَضَةِ مَا رَوَاهُ لَهُمَا الْمُعَارَضَةَ الْمُوجِبَةَ لِلتَّسَاقُطِ، وَهِيَ الْمُعَارَضَةُ بِدُونِ الرُّجْحَانِ فِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، وَإِنْ أَرَادَ بِهَا الْمُعَارَضَةَ مَعَ الرُّجْحَانِ فِي جَانِبِ الْحَدِيثَيْنِ اللَّذَيْنِ رَوَاهُمَا الْخَصْمُ فَلَيْسَ بِمُفِيدٍ بَلْ مُخِلٍّ كَمَا لَا يَخْفَى (قَوْلُهُ: لِأَنَّ الْمَاءَ يَذْهَبُ أَوَّلًا لِلَطَافَتِهِ أَوْ يَذْهَبُ مِنْهُمَا فَلَا يَكُونُ الذَّاهِبُ ثُلُثَيْ مَاءِ الْعِنَبِ) قَالَ الشُّرَّاحُ: أَيْ عَلَى الْقَطْعِ وَالْبَتَاتِ

وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: قَوْلُهُ أَيْ عَلَى الْقَطْعِ وَالْبَتَاتِ فِيهِ بَحْثٌ؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ تَثْبُتُ بِالشُّبْهَةِ انْتَهَى

أَقُولُ: مَدَارُ هَذَا الْبَحْثِ عَلَى عَدَمِ فَهْمِ مُرَادِ الشَّارِحِ، فَإِنَّ مُرَادَهُمْ بِقَوْلِهِمْ: أَيْ عَلَى الْقَطْعِ وَالْبَتَاتِ تَقْيِيدُ الْمَنْفِيِّ فِي قَوْلِ الْمُصَنِّفِ فَلَا يَكُونُ الذَّاهِبُ ثُلُثَيْ مَاءِ الْعِنَبِ لَا تَقْيِيدَ النَّفْيِ

فَالْمَعْنَى أَنَّ ذَهَابَ ثُلُثَيْ مَاءِ الْعِنَبِ عَلَى الْقَطْعِ وَالْبَتَاتِ لَا يَكُونُ؛ لِأَنَّ ذَهَابَ ثُلُثَيْ مَاءِ الْعِنَبِ لَا يَكُونُ عَلَى الْقَطْعِ وَالْبَتَاتِ

وَحَاصِلُهُ أَنَّ ذَهَابَهُمَا الْقَطْعِيَّ لَمْ يَثْبُتْ؛ لِأَنَّ عَدَمَ ذَهَابِهِمَا قَطْعِيٌّ، فَلَمَّا لَمْ يَثْبُتْ ذَهَابُهُمَا عَلَى الْقَطْعِ وَالْبَتَاتِ بَلْ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ الذَّاهِبُ أَقَلَّ مِنْهُمَا بِأَنْ يَذْهَبَ الْمَاءُ أَوَّلًا لِلَطَافَتِهِ قُلْنَا بِحُرْمَةِ شُرْبِ ذَلِكَ الْعَصِيرِ احْتِيَاطًا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْحُرْمَةَ تَثْبُتُ بِالشُّبْهَةِ فَلَا مَحَلَّ لِلْبَحْثِ الْمَذْكُورِ

وَالْفَرْقُ بَيْنَ تَعَلُّقِ الْقَيْدِ بِالنَّفْيِ وَبَيْنَ تَعَلُّقِهِ بِالْمَنْفِيِّ فِي أَمْثَالِ هَذَا الْمَقَامِ أَصْلٌ كَبِيرٌ قَدْ نُبِّهَ عَلَيْهِ فِي مَوَاضِعَ شَتَّى مِنْ عِلْمِ الْبَلَاغَةِ فَكَيْفَ خَفِيَ عَلَى ذَلِكَ الْقَائِلِ

(قَوْلُهُ وَلَوْ جُمِعَ فِي الطَّبْخِ بَيْنَ الْعِنَبِ وَالتَّمْرِ أَوْ بَيْنَ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ لَا يَحِلُّ حَتَّى يَذْهَبَ ثُلُثَاهُ) قَالَ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ: وَلَنَا فِي قَوْلِهِ أَوْ بَيْنَ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ مَاءَ الزَّبِيبِ كَمَاءِ التَّمْرِ يُكْتَفَى فِيهِمَا

ص: 105

لِأَنَّ التَّمْرَ إنْ كَانَ يُكْتَفَى فِيهِ بِأَدْنَى طَبْخَةٍ فَعَصِيرُ الْعِنَبِ لَا بُدَّ أَنْ يَذْهَبَ ثُلُثَاهُ فَيُعْتَبَرُ جَانِبُ الْعِنَبِ احْتِيَاطًا، وَكَذَا إذَا جُمِعَ بَيْنَ عَصِيرِ الْعِنَبِ وَنَقِيعِ التَّمْرِ لِمَا قُلْنَا.

وَلَوْ طُبِخَ نَقِيعُ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ أَدْنَى طَبْخَةٍ ثُمَّ أُنْقِعَ فِيهِ تَمْرٌ أَوْ زَبِيبٌ، إنْ كَانَ مَا أَنْقَعَ فِيهِ شَيْئًا يَسِيرًا لَا يُتَّخَذُ النَّبِيذُ مِنْ مِثْلِهِ لَا بَأْسَ بِهِ، وَإِنْ كَانَ يُتَّخَذُ النَّبِيذُ مِنْ مِثْلِهِ لَمْ يَحِلَّ كَمَا إذَا صُبَّ فِي الْمَطْبُوخِ قَدَحٌ مِنْ النَّقِيعِ

وَالْمَعْنَى تَغْلِيبُ جِهَةِ الْحُرْمَةِ، وَلَا حَدَّ فِي شُرْبِهِ؛ لِأَنَّ التَّحْرِيمَ لِلِاحْتِيَاطِ وَهُوَ لِلْحَدِّ فِي دَرْئِهِ.

وَلَوْ طُبِخَ الْخَمْرُ أَوْ غَيْرُهُ بَعْدَ الِاشْتِدَادِ حَتَّى يَذْهَبَ ثُلُثَاهُ لَمْ يَحِلَّ؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ قَدْ تَقَرَّرَتْ فَلَا تَرْتَفِعُ بِالطَّبْخِ.

قَالَ (وَلَا بَأْسَ بِالِانْتِبَاذِ فِي الدُّبَّاءِ وَالْحَنْتَمِ وَالْمُزَفَّتِ وَالنَّقِيرِ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام فِي حَدِيثٍ فِيهِ طُولٌ بَعْدَ ذِكْرِ هَذِهِ الْأَوْعِيَةِ «فَاشْرَبُوا فِي كُلِّ ظَرْفٍ، فَإِنَّ الظَّرْفَ لَا يُحِلُّ شَيْئًا وَلَا يُحَرِّمُهُ وَلَا تَشْرَبُوا الْمُسْكِرَ» وَقَالَ ذَلِكَ بَعْدَ مَا أَخْبَرَ عَنْ النَّهْيِ عَنْهُ فَكَانَ نَاسِخًا لَهُ، وَإِنَّمَا يُنْتَبَذُ فِيهِ بَعْدَ تَطْهِيرِهِ، فَإِنْ كَانَ الْوِعَاءُ عَتِيقًا يُغْسَلُ ثَلَاثًا فَيَطْهُرُ، وَإِنْ كَانَ جَدِيدًا لَا يَطْهُرُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ لِتَشَرُّبِ الْخَمْرِ فِيهِ بِخِلَافِ الْعَتِيقِ

وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُغْسَلُ ثَلَاثًا وَيُجَفَّفُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهِيَ مَسْأَلَةُ مَا لَا يَنْعَصِرُ بِالْعَصْرِ، وَقِيلَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ: يُمْلَأُ مَاءً مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، حَتَّى إذَا خَرَجَ الْمَاءُ صَافِيًا غَيْرَ مُتَغَيِّرٍ يُحْكَمُ بِطَهَارَتِهِ.

قَالَ (وَإِذَا تَخَلَّلَتْ الْخَمْرُ حَلَّتْ سَوَاءٌ صَارَتْ

بِأَدْنَى طَبْخَةٍ، وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ الْقُدُورِيُّ قَبْلَ هَذَا وَهُوَ قَوْلُهُ: وَنَبِيذُ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ إذَا طُبِخَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَدْنَى طَبْخَةٍ حَلَالٌ وَإِنْ اشْتَدَّ انْتَهَى

أَقُولُ: وَقَوْلُ الْقُدُورِيِّ بَعْدَهُ: وَلَا بَأْسَ بِالْخَلِيطَيْنِ أَظْهَرُ فِي تَرْوِيجِ نَظَرِ صَاحِبِ الْغَايَةِ مِنْ قَوْلِهِ وَنَبِيذُ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ إذَا طُبِخَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَدْنَى طَبْخَةٍ حَلَالٌ وَإِنْ اشْتَدَّ؛ إذْ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي الِاجْتِمَاعِ مَا لَا يَكُونُ فِي الِانْفِرَادِ، فَلَا يَسْتَلْزِمُ الْحِلَّ فِي الثَّانِي الْحِلُّ فِي الْأَوَّلِ

وَقَدْ تَشَبَّثَ صَاحِبُ الْغَايَةِ فِي تَرْوِيجِ نَظَرِهِ بِقَوْلِ الْقُدُورِيِّ الْأَوَّلِ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِقَوْلِهِ الثَّانِي، وَكَأَنَّ صَاحِبَ الْكَافِي فَهِمَ رَكَاكَةً فِيمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ هَا هُنَا حَيْثُ غَيَّرَ عِبَارَتَهُ فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ فَقَالَ: وَلَوْ جُمِعَ فِي الطَّبْخِ بَيْنَ الْعِنَبِ وَالتَّمْرِ أَوْ بَيْنَ الْعِنَبِ وَالزَّبِيبِ لَا يَحِلُّ مَا لَمْ يَذْهَبْ بِالطَّبْخِ مِنْهُ ثُلُثَاهُ انْتَهَى

وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَقَعَ لَفْظُ التَّمْرِ فِي قَوْلِ الْمُصَنِّفِ أَوْ بَيْنَ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ بَدَلَ لَفْظِ الْعِنَبِ سَهْوًا مِنْ نَفْسِ الْمُصَنِّفِ أَوْ مِنْ النَّاسِخِ الْأَوَّلِ، إلَّا أَنَّهُ يَبْقَى نَوْعُ قُصُورٍ فِي التَّعْلِيلِ الَّذِي ذَكَرَهُ هَا هُنَا عَنْ إفَادَةِ الْمُدَّعَى فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، إذْ لَمْ يَتَعَرَّضْ بِالزَّبِيبِ فِي التَّعْلِيلِ قَطُّ

ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ تَاجَ الشَّرِيعَةِ وَجَّهَ مَا وَقَعَ فِي نُسَخِ الْهِدَايَةِ هَا هُنَا حَيْثُ قَالَ: فَإِنْ قُلْت: هَذَا الْمَعْنَى لَا يَتَأَتَّى فِي التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ عَلَى مَا قَالَ

ص: 106

خَلًّا بِنَفْسِهَا أَوْ بِشَيْءٍ يُطْرَحُ فِيهَا، وَلَا يُكْرَهُ تَخْلِيلُهَا) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُكْرَهُ التَّخْلِيلُ وَلَا يَحِلُّ الْخَلُّ الْحَاصِلُ بِهِ إنْ كَانَ التَّخْلِيلُ بِإِلْقَاءِ شَيْءٍ فِيهِ قَوْلًا وَاحِدًا، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إلْقَاءِ شَيْءٍ فِيهِ فَلَهُ فِي الْخَلِّ الْحَاصِلِ بِهِ قَوْلَانِ

لَهُ أَنَّ فِي التَّخْلِيلِ اقْتِرَابًا مِنْ الْخَمْرِ عَلَى وَجْهِ التَّمَوُّلِ، وَالْأَمْرُ بِالِاجْتِنَابِ يُنَافِيه

وَلَنَا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «نِعْمَ الْإِدَامُ الْخَلُّ» مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ، وَقَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «خَيْرُ خَلِّكُمْ خَلُّ خَمْرِكُمْ» وَلِأَنَّ بِالتَّخْلِيلِ يَزُولُ الْوَصْفُ الْمُفْسِدُ وَتَثْبُتُ صِفَةُ الصَّلَاحِ مِنْ حَيْثُ تَسْكِينُ الصَّفْرَاءِ وَكَسْرُ الشَّهْوَةِ، وَالتَّغَذِّي بِهِ وَالْإِصْلَاحُ مُبَاحٌ، وَكَذَا الصَّالِحُ لِلْمَصَالِحِ اعْتِبَارًا بِالْمُتَخَلِّلِ بِنَفْسِهِ وَبِالدِّبَاغِ وَالِاقْتِرَابِ لِإِعْدَامِ الْفَسَادِ فَأَشْبَهَ الْإِرَاقَةَ، وَالتَّخْلِيلُ أَوْلَى لِمَا فِيهِ مِنْ إحْرَازِ مَالٍ يَصِيرُ حَلَالًا فِي الثَّانِي فَيَخْتَارُهُ مَنْ اُبْتُلِيَ بِهِ، وَإِذَا صَارَ الْخَمْرُ خَلًّا يَطْهُرُ مَا يُوَازِيهَا مِنْ الْإِنَاءِ، فَأَمَّا أَعْلَاهُ وَهُوَ الَّذِي نَقَصَ مِنْهُ الْخَمْرُ قِيلَ يَطْهُرُ تَبَعًا

وَقِيلَ لَا يَطْهُرُ؛ لِأَنَّهُ خَمْرٌ يَابِسٌ إلَّا إذَا غُسِلَ بِالْخَلِّ فَيَتَخَلَّلُ مِنْ سَاعَتِهِ فَيَطْهُرُ، وَكَذَا إذَا صُبَّ فِيهِ الْخَمْرُ ثُمَّ مُلِئَ خَلًّا يَطْهُرُ فِي الْحَالِ عَلَى مَا قَالُوا.

قَالَ (وَيُكْرَهُ شُرْبُ دُرْدِيِّ الْخَمْرِ وَالِامْتِشَاطُ بِهِ)؛ لِأَنَّ فِيهِ أَجْزَاءَ الْخَمْرِ، وَالِانْتِفَاعُ بِالْمُحَرَّمِ حَرَامٌ، وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُدَاوِيَ بِهِ جُرْحًا أَوْ دَبْرَةَ دَابَّةٍ وَلَا أَنْ يَسْقِيَ ذِمِّيًّا وَلَا أَنْ يَسْقِيَ صَبِيًّا لِلتَّدَاوِي، وَالْوَبَالُ عَلَى مَنْ سَقَاهُ، وَكَذَا لَا يَسْقِيهَا الدَّوَابَّ

وَقِيلَ: لَا تُحْمَلُ الْخَمْرُ إلَيْهَا، أَمَّا إذَا قُيِّدَتْ إلَى الْخَمْرِ فَلَا بَأْسَ بِهِ كَمَا فِي الْكَلْبِ وَالْمَيْتَةِ

وَلَوْ أُلْقِيَ

فِي الْمُخْتَصَرِ إنَّهُ يَكْتَفِي فِيهِمَا بِأَدْنَى طَبْخَةٍ

قُلْت: إنَّ هَذَا عَلَى مَا رَوَى هِشَامٌ فِي النَّوَادِرِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ مَا لَمْ يَذْهَبْ ثُلُثَاهُ بِالطَّبْخِ انْتَهَى

وَاقْتَفَى أَثَرَهُ الْعَيْنِيُّ

قُلْت: وَيُؤَيِّدُهُ مَا ذَكَرَهُ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي مِنْ كِتَابِ الْأَشْرِبَةِ مِنْ الْمُحِيطِ الْبُرْهَانِيِّ حَيْثُ قَالَ فِيهِ: وَإِذَا طُبِخَ الزَّبِيبُ أَدْنَى طَبْخَةٍ فَهُوَ النَّبِيذُ، وَيَحِلُّ شُرْبُهُ مَا دَامَ حُلْوًا، وَأَمَّا إذَا غَلَى وَاشْتَدَّ وَقَذَفَ بِالزَّبَدِ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ يَحِلُّ الشُّرْبُ، وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يَحِلُّ

وَرَوَى هِشَامٌ فِي نَوَادِرِهِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ مَا لَمْ يَذْهَبْ الثُّلُثَانِ بِالطَّبْخِ لَا يَحِلُّ انْتَهَى، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ

ص: 107

الدُّرْدِيُّ فِي الْخَلِّ لَا بَأْسَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ خَلًّا لَكِنْ يُبَاحُ حَمْلُ الْخَلِّ إلَيْهِ لَا عَكْسُهُ لِمَا قُلْنَا.

قَالَ (وَلَا يُحَدُّ شَارِبُهُ) أَيْ شَارِبُ الدُّرْدِيِّ (إنْ لَمْ يَسْكَرْ)

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُحَدُّ؛ لِأَنَّهُ شَرِبَ جُزْءًا مِنْ الْخَمْرِ

وَلَنَا أَنَّ قَلِيلَهُ لَا يَدْعُو إلَى كَثِيرِهِ لِمَا فِي الطِّبَاعِ مِنْ النَّبْوَةِ عَنْهُ فَكَانَ نَاقِصًا فَأَشْبَهَ غَيْرَ الْخَمْرِ مِنْ الْأَشْرِبَةِ وَلَا حَدَّ فِيهَا إلَّا بِالسُّكْرِ، وَلِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَيْهِ الثُّفْلُ فَصَارَ كَمَا إذَا غَلَبَ عَلَيْهِ الْمَاءُ بِالِامْتِزَاجِ

(وَيُكْرَهُ الِاحْتِقَانُ بِالْخَمْرِ وَإِقْطَارُهَا فِي الْإِحْلِيلِ)؛ لِأَنَّهُ انْتِفَاعٌ بِالْمُحَرَّمِ

وَلَا يَجِبُ الْحَدُّ لِعَدَمِ الشُّرْبِ وَهُوَ السَّبَبُ، وَلَوْ جُعِلَ الْخَمْرُ فِي مَرَقَةٍ لَا تُؤْكَلُ لِتَنَجُّسِهَا بِهَا وَلَا حَدَّ مَا لَمْ يَسْكَرْ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ أَصَابَهُ الطَّبْخُ

وَيُكْرَهُ أَكْلُ خُبْزٍ عُجِنَ عَجِينُهُ بِالْخَمْرِ لِقِيَامِ أَجْزَاءِ الْخَمْرِ فِيهِ.

فَصْلٌ فِي طَبْخِ الْعَصِيرِ

وَالْأَصْلُ أَنَّ مَا ذَهَبَ بِغَلَيَانِهِ بِالنَّارِ وَقَذَفَهُ بِالزَّبَدِ يُجْعَلُ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ وَيُعْتَبَرُ ذَهَابُ ثُلُثَيْ مَا بَقِيَ لِيَحِلَّ الثُّلُثُ الْبَاقِي، بَيَانُهُ عَشَرَةُ دَوَارِقَ مِنْ عَصِيرٍ طُبِخَ فَذَهَبَ دَوْرَقٌ بِالزَّبَدِ يُطْبَخُ الْبَاقِي حَتَّى يَذْهَبَ سِتَّةُ دَوَارِقَ وَيَبْقَى الثُّلُثُ فَيَحِلُّ؛ لِأَنَّ الَّذِي يَذْهَبُ زَبَدًا هُوَ الْعَصِيرُ أَوْ مَا يُمَازِجُهُ، وَأَيًّا مَا كَانَ جُعِلَ كَأَنَّ الْعَصِيرَ تِسْعَةُ دَوَارِقَ فَيَكُونُ ثُلُثُهَا ثَلَاثَةً

وَأَصْلٌ آخَرُ أَنَّ الْعَصِيرَ إذَا صُبَّ عَلَيْهِ مَاءٌ قَبْلَ الطَّبْخِ ثُمَّ طُبِخَ بِمَائِهِ، إنْ كَانَ الْمَاءُ أَسْرَعَ ذَهَابًا لِرِقَّتِهِ وَلَطَافَتِهِ يُطْبَخُ الْبَاقِي بَعْدَ مَا ذَهَبَ مِقْدَارُ مَا صُبَّ فِيهِ مِنْ الْمَاءِ حَتَّى يَذْهَبَ ثُلُثَاهُ؛ لِأَنَّ الذَّاهِبَ الْأَوَّلَ هُوَ الْمَاءُ وَالثَّانِي الْعَصِيرُ، فَلَا بُدَّ مِنْ ذَهَابِ ثُلُثَيْ الْعَصِيرِ، وَإِنْ كَانَا يَذْهَبَانِ مَعًا تُغْلَى الْجُمْلَةُ حَتَّى يَذْهَبَ ثُلُثَاهُ وَيَبْقَى ثُلُثُهُ فَيَحِلُّ؛ لِأَنَّهُ ذَهَبَ الثُّلُثَانِ مَاءً وَعَصِيرًا وَالثُّلُثُ الْبَاقِي مَاءٌ وَعَصِيرٌ فَصَارَ كَمَا إذَا صُبَّ الْمَاءُ فِيهِ بَعْدَ مَا ذَهَبَ مِنْ الْعَصِيرِ بِالْغَلْيِ ثُلُثَاهُ

بَيَانُهُ عَشَرَةُ دَوَارِقَ مِنْ عَصِيرٍ وَعِشْرُونَ دَوْرَقًا مِنْ مَاءٍ

فَفِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ

(فَصْلٌ فِي طَبْخِ الْعَصِيرِ)

قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الشُّرَّاحِ: لَمَّا كَانَ طَبْخُ الْعَصِيرِ مِنْ أَسْبَابِ مَنْعِهِ عَنْ التَّخَمُّرِ أَلْحَقَهُ بِالْأَشْرِبَةِ تَعْلِيمًا لِإِبْقَاءِ مَا هُوَ حَلَالٌ عَلَى حِلِّهِ

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَمَّا ذَكَرَ فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْعَصِيرَ لَا يَحِلُّ مَا لَمْ يَذْهَبْ ثُلُثَاهُ شَرَعَ يُبَيِّنُ كَيْفِيَّةَ طَبْخِ الْعَصِيرِ إلَى أَنْ يَذْهَبَ ثُلُثَاهُ (قَوْلُهُ: لِأَنَّ الَّذِي يَذْهَبُ زَبَدًا هُوَ الْعَصِيرُ أَوْ مَا يُمَازِجُهُ، وَأَيًّا مَا كَانَ جُعِلَ كَأَنَّ الْعَصِيرَ تِسْعَةٌ فَيَكُونُ ثُلُثُهَا ثَلَاثَةً) أَقُولُ: فِيهِ شَيْءٌ وَهُوَ

ص: 108

يُطْبَخُ حَتَّى يَبْقَى تُسْعُ الْجُمْلَةِ؛ لِأَنَّهُ ثُلُثُ الْعَصِيرِ؛ وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي حَتَّى يَذْهَبَ ثُلُثَا الْجُمْلَةِ لِمَا قُلْنَا، وَالْغَلْيُ بِدَفْعَةٍ أَوْ دَفَعَاتٍ سَوَاءٌ إذَا حَصَلَ قَبْلَ أَنْ يَصِيرَ مُحَرَّمًا

وَلَوْ قُطِعَ عَنْهُ النَّارُ فَغَلَى حَتَّى ذَهَبَ الثُّلُثَانِ يَحِلُّ؛ لِأَنَّهُ أَثَرُ النَّارِ

وَأَصْلٌ آخَرُ أَنَّ الْعَصِيرَ إذَا طُبِخَ فَذَهَبَ بَعْضُهُ ثُمَّ أُهْرِيقَ بَعْضُهُ كَمْ تُطْبَخُ الْبَقِيَّةُ حَتَّى يَذْهَبَ الثُّلُثَانِ فَالسَّبِيلُ فِيهِ أَنْ تَأْخُذَ ثُلُثَ الْجَمِيعِ فَتَضْرِبَهُ فِي الْبَاقِي بَعْدَ الْمُنْصَبِّ ثُمَّ تَقْسِمَهُ عَلَى مَا بَقِيَ بَعْدَ ذَهَابِ مَا ذَهَبَ بِالطَّبْخِ قَبْلَ أَنْ يَنْصَبَّ مِنْهُ شَيْءٌ فَمَا يَخْرُجُ بِالْقِسْمَةِ فَهُوَ حَلَالٌ

بَيَانُهُ عَشَرَةُ أَرْطَالِ عَصِيرٍ طُبِخَ حَتَّى ذَهَبَ رِطْلٌ ثُمَّ أُهْرِيقَ مِنْهُ ثَلَاثَةُ أَرْطَالٍ تَأْخُذُ ثُلُثَ الْعَصِيرِ كُلَّهُ وَهُوَ ثَلَاثَةٌ وَثُلُثٌ وَتَضْرِبُهُ فِيمَا بَقِيَ بَعْدَ الْمُنْصَبِّ هُوَ سِتَّةٌ فَيَكُونُ عِشْرِينَ ثُمَّ تَقْسِمُ الْعِشْرِينَ عَلَى مَا بَقِيَ بَعْدَ مَا ذَهَبَ بِالطَّبْخِ مِنْهُ قَبْلَ أَنْ يَنْصَبَّ مِنْهُ شَيْءٌ وَذَلِكَ تِسْعَةٌ، فَيَخْرُجُ لِكُلِّ جُزْءٍ مِنْ ذَلِكَ اثْنَانِ وَتُسْعَانِ، فَعَرَفْت أَنَّ الْحَلَالَ فِيمَا بَقِيَ مِنْهُ رِطْلَانِ وَتُسْعَانِ، وَعَلَى هَذَا تُخَرَّجُ الْمَسَائِلُ وَلَهَا طَرِيقٌ آخَرُ،

أَنَّ وَجْهَ جَعْلِ الْعَصِيرِ تِسْعَةَ دَوَارِقَ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الذَّاهِبُ زَبَدًا هُوَ الْعَصِيرُ غَيْرُ ظَاهِرٍ؛ إذْ لَا يَكُونُ حِينَئِذٍ فَرْقٌ بَيْنَ الذَّاهِبِ زَبَدًا مِنْ عَشَرَةِ دَوَارِقَ وَبَيْنَ الْبَاقِي مِنْهَا فِي كَوْنِهَا عَصِيرًا، فَإِذَا جَازَ اعْتِبَارُ بَعْضٍ مِنْهَا وَهُوَ الذَّاهِبُ زَبَدًا فِي حُكْمِ الْعَدَمِ بِلَا أَمْرٍ يُوجِبُهُ فَلِمَ لَا يَجُوزُ اعْتِبَارُ بَعْضٍ مِنْ التِّسْعَةِ الْبَاقِيَةِ مِنْهَا أَيْضًا فِي حُكْمِ الْعَدَمِ عِنْدَ ذَهَابِهِ بِالطَّبْخِ

وَالْأَظْهَرُ فِي تَعْلِيلِ هَذَا الْأَصْلِ أَنْ يُقَالَ: لِأَنَّ الَّذِي يَذْهَبُ زَبَدًا جُعِلَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّ الزَّبَدَ لَيْسَ بِعَصِيرٍ فَصَارَ كَمَا لَوْ صُبَّ فِيهِ دَوْرَقٌ مِنْ مَاءٍ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يُعْتَبَرْ الْمَاءُ فَكَذَلِكَ هَذَا، وَيُفْصِحُ عَنْ ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْغَايَةُ نَقْلًا عَنْ أَصْلِ مُحَمَّدٍ رحمه الله حَيْثُ قَالَ: قَالَ مُحَمَّدٌ: فِي الْأَصْلِ عَشَرَةُ دَوَارِقَ عَصِيرٍ تُصَبُّ فِي قِدْرٍ فَتُطْبَخُ فَتَغْلِي وَيَقْذِفُ بِالزَّبَدِ، فَجَعَلَ يَأْخُذُ ذَلِكَ الزَّبَدَ حَتَّى جَمَعَ مِنْ ذَلِكَ الزَّبَدِ قَدْرَ دَوْرَقٍ، ثُمَّ يُطْبَخُ الْبَاقِي حَتَّى يَبْقَى ثَلَاثَةُ دَوَارِقَ وَهُوَ ثُلُثُ الْبَاقِي بَعْدَ الدَّوْرَقِ الَّذِي أُخِذَ مِنْهُ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَا أُخِذَ مِنْ الدَّوْرَقِ زَبَدٌ فَجُعِلَ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّ الزَّبَدَ لَيْسَ بِعَصِيرٍ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ الزَّبَدُ عَصِيرًا يُعْتَبَرُ بِمَا لَوْ كَانَ صُبَّ فِيهِ دَوْرَقٌ مِنْ مَاءٍ، وَلَوْ

ص: 109

وَفِيمَا اكْتَفَيْنَا بِهِ كِفَايَةٌ وَهِدَايَةٌ إلَى تَخْرِيجِ غَيْرِهَا مِنْ الْمَسَائِلِ.

‌كِتَابُ الصَّيْدِ

قَالَ: الصَّيْدُ الِاصْطِيَادُ، وَيُطْلَقُ عَلَى مَا يُصَادُ، وَالْفِعْلُ مُبَاحٌ لِغَيْرِ الْمُحْرِمِ فِي غَيْرِ الْحَرَمِ

كَانَ كَذَلِكَ لَا يُعْتَبَرُ الْمَاءُ وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ الْعَصِيرُ وَهِيَ تِسْعَةُ دَوَارِقَ، فَكَذَلِكَ هَذَا، إلَى هُنَا لَفْظُهُ (قَوْلُهُ وَفِيمَا اكْتَفَيْنَا بِهِ كِفَايَةٌ وَهِدَايَةٌ إلَى تَخْرِيجِ غَيْرِهَا مِنْ الْمَسَائِلِ) قُلْت: فِيهِ إيهَامٌ لَطِيفٌ لِكِتَابَيْهِ الْمُسَمَّى أَحَدُهُمَا بِكِفَايَةِ الْمُنْتَهَى وَالْآخَرُ بِالْهِدَايَةِ

(كِتَابُ الصَّيْدِ)

قَالَ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ: مُنَاسَبَةُ كِتَابِ الصَّيْدِ بِكِتَابِ الْأَشْرِبَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَشْرِبَةِ وَالصَّيْدِ مِنْ الْمُبَاحَاتِ الَّتِي تُورِثُ السُّرُورَ وَالنَّشَاطَ فِي الْآدَمِيِّ، إلَّا أَنَّ السُّرُورَ فِي الْأَشْرِبَةِ الْمُبَاحَةِ أَكْثَرُ؛ لِأَنَّهُ بِأَمْرٍ يَدْخُلُ فِي الْبَاطِنِ، وَالسُّرُورُ فِي الصَّيْدِ بِأَمْرٍ خَارِجِيٍّ فَكَانَ الْأَوَّلُ أَقْوَى، وَصَارَ بِالتَّقْدِيمِ أَوْلَى انْتَهَى

أَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ وَضْعَ كِتَابِ الْأَشْرِبَةِ لِبَيَانِ الْأَشْرِبَةِ الْمُحَرَّمَةِ دُونَ الْأَشْرِبَةِ الْمُبَاحَةِ، وَإِلَّا لَذُكِرَ فِيهِ كُلُّ أَشْرِبَةٍ مُبَاحَةٍ عَلَى التَّفْصِيلِ، مَعَ أَنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ مِنْ الْأَشْرِبَةِ الْمُبَاحَةِ إلَّا نَبْذٌ قَلِيلٌ لَهُ مُنَاسَبَةٌ مَعَ بَعْضِ الْأَشْرِبَةِ الْمُحَرَّمَةِ فِي وَجْهٍ مَا حَتَّى وَقَعَ لِأَجْلِهِ الْخِلَافُ مِنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ فِي حِلِّهِ عَلَى أَنَّهُمْ صَرَّحُوا فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْأَشْرِبَةِ بِأَنَّ الْأَشْرِبَةَ جَمْعُ شَرَابٍ

وَالشَّرَابُ عِنْدَ أَهْلِ الشَّرْعِ اسْمٌ لِمَا هُوَ حَرَامٌ مِنْ الْمَائِعَاتِ، فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَشْرِبَةِ وَالصَّيْدِ مِنْ الْمُبَاحَاتِ الَّتِي تُورِثُ السُّرُورَ

وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ مَا ذَكَرَهُ هَا هُنَا لَا يُنَاسِبُ مَا ذَكَرَهُ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْأَشْرِبَةِ، فَإِنَّهُ قَالَ هُنَاكَ: ذَكَرَ كِتَابَ الْأَشْرِبَةِ بَعْدَ الشُّرْبِ لِمُنَاسَبَةٍ بَيْنَهُمَا فِي الِاشْتِقَاقِ، وَلَكِنْ قَدَّمَ الشُّرْبَ؛ لِأَنَّهُ حَلَالٌ وَالْأَشْرِبَةُ فِيهَا الْحَرَامُ كَالْخَمْرِ انْتَهَى

فَقَدْ جَعَلَ هُنَاكَ وَجْهَ تَأْخِيرِ الْأَشْرِبَةِ عَنْ الشُّرْبِ حُرْمَتَهَا، وَجَعَلَ هَا هُنَا وَجْهَ مُنَاسَبَتِهَا بِالصَّيْدِ إبَاحَتَهَا مَعَ إيرَاثِ السُّرُورِ، فَبَيْنَ كَلَامَيْهِ فِي الْمَقَامَيْنِ تَنَافُرٌ لَا يَخْفَى

فَالْوَجْهُ الظَّاهِرُ فِي مُنَاسَبَتِهِ كِتَابَ الصَّيْدِ لِكِتَابِ الْأَشْرِبَةِ وَفِي تَقْدِيمِ الْأَشْرِبَةِ عَلَى الصَّيْدِ مَا ذُكِرَ فِي الشُّرُوحِ الْأُخَرِ فَرَاجِعْهَا (قَوْلُهُ الصَّيْدُ هُوَ الِاصْطِيَادُ يُطْلَقُ عَلَى مَا يُصَادُ)

ص: 110

لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا}

يَعْنِي أَنَّ الصَّيْدَ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الِاصْطِيَادِ وَهُوَ أَخْذُ الصَّيْدِ، كَالِاحْتِطَابِ وَهُوَ أَخْذُ الْحَطَبِ، ثُمَّ يُرَادُ بِهِ مَا يُصَادُ مَجَازًا إطْلَاقًا لِاسْمِ الْمَصْدَرِ عَلَى الْمَفْعُولِ وَهُوَ الْمُمْتَنِعُ الْمُتَوَحِّشُ عَنْ الْآدَمِيِّ بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ مَأْكُولًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مَأْكُولٍ، كَذَا فِي غَايَةِ الْبَيَانِ

وَقَالَ فِي الْخُلَاصَةِ: وَإِنَّمَا يَحِلُّ الصَّيْدُ بِخَمْسَةَ عَشَرَ شَرْطًا

خَمْسَةٌ فِي الصَّيَّادِ: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الذَّكَاةِ، وَأَنْ يُوجَدَ مِنْهُ الْإِرْسَالُ، وَأَنْ لَا يُشَارِكَهُ فِي الْإِرْسَالِ مَنْ لَا يَحِلُّ صَيْدُهُ؛ وَأَنْ لَا يَتْرُكَ التَّسْمِيَةَ عَامِدًا، وَأَنْ لَا يَشْتَغِلَ بَيْنَ الْإِرْسَالِ وَالْأَخْذِ بِعَمَلٍ

وَخَمْسَةٌ فِي الْكَلْبِ: مِنْهَا أَنْ يَكُونَ مُعَلَّمًا، وَأَنْ يَذْهَبَ عَلَى سَنَنِ الْإِرْسَالِ، وَأَنْ لَا يُشَارِكَهُ فِي الْأَخْذِ مَا لَا يَحِلُّ صَيْدُهُ، وَأَنْ يَقْتُلَهُ جُرْحًا، وَأَنْ لَا يَأْكُلَ مِنْهُ

وَخَمْسَةٌ فِي الصَّيْدِ: مِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ مُتَقَوِّيًا بِأَنْيَابِهِ أَوْ مِخْلَبِهِ، وَأَنْ لَا يَكُونَ مِنْ الْحَشَرَاتِ، وَأَنْ لَا يَكُونَ مِنْ بَنَاتِ الْمَاءِ سِوَى السَّمَكِ، وَأَنْ يَمْنَعَ نَفْسَهُ بِجَنَاحَيْهِ أَوْ قَوَائِمِهِ، وَأَنْ يَمُوتَ بِهَذَا قَبْلَ أَنْ يُوصَلَ إلَى ذَبْحِهِ انْتَهَى، وَذُكِرَتْ هَذِهِ الشُّرُوطُ فِي النِّهَايَةِ وَغَايَةِ الْبَيَانِ أَيْضًا نَقْلًا عَنْ الْخُلَاصَةِ

وَذَكَرَهَا صَاحِبُ الْعِنَايَةِ أَيْضًا، وَقَالَ: كَذَا فِي النِّهَايَةِ مَنْسُوبًا إلَى الْخُلَاصَةِ

وَقَدَحَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ فِي وَاحِدٍ مِنْ هَاتِيكَ الشُّرُوطِ حَيْثُ قَالَ: قَوْلُهُ: وَأَنْ يَمُوتَ بِهَذَا قَبْلَ أَنْ يُوصَلَ إلَى ذَبْحِهِ مُسْتَدْرَكٌ بَعْدَ قَوْلِهِ وَأَنْ يَقْتُلَهُ جُرْحًا انْتَهَى

أَقُولُ: لَا اسْتِدْرَاكَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ الَّذِي أُرِيدَ بِقَوْلِهِ وَأَنْ يَقْتُلَهُ جُرْحًا لَيْسَ مُجَرَّدَ قَتْلِهِ بَلْ قَتْلُهُ جُرْحًا، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ الِاحْتِرَازُ عَنْ قَتْلِهِ خَنْقًا، فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ حِينَئِذٍ كَمَا سَتَقِفُ عَلَيْهِ، وَكَذَا الشَّرْطُ الَّذِي أُرِيدَ بِقَوْلِهِ: وَأَنْ يَمُوتَ بِهَذَا قَبْلَ أَنْ يُوصَلَ إلَى ذَبْحِهِ لَيْسَ مُجَرَّدَ مَوْتِهِ بَلْ مَوْتُهُ قَبْلَ أَنْ يُوصَلَ إلَى ذَبْحِهِ؛ إذْ لَوْ مَاتَ بِذَلِكَ بَعْدَ أَنْ يَصِلَ الْمُرْسِلُ إلَى ذَبْحِهِ لَمْ يَحِلَّ أَكْلُهُ إنْ لَمْ يَذْبَحْهُ الْمُرْسِلُ كَمَا سَتَعْرِفُهُ أَيْضًا، وَلَا شَكَّ أَنَّ اشْتِرَاطَ أَنْ يَقْتُلَهُ الْكَلْبُ جُرْحًا لَا يُغْنِي عَنْ اشْتِرَاطِ أَنْ يَمُوتَ الصَّيْدُ بِجُرْحِ الْكَلْبِ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ الْمُرْسِلُ إلَى ذَبْحِهِ لِجَوَازِ أَنْ يَقْتُلَهُ الْكَلْبُ جُرْحًا بَعْدَ أَنْ يَصِلَ الْمُرْسِلُ إلَى ذَبْحِهِ فَحِينَئِذٍ لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ، فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ الشَّرْطِ الْآخَرِ أَيْضًا عَلَى الِاسْتِقْلَالِ

وَطَعَنَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي جُمْلَةِ مَا نَقَلَ عَنْ الْخُلَاصَةِ حَيْثُ قَالَ: فِيهِ تَسَامُحٌ؛ لِأَنَّ هَذَا شَرْطُ الِاصْطِيَادِ لِلْأَكْلِ بِالْكَلْبِ لَا غَيْرَ، عَلَى أَنَّهُ لَوْ انْتَفَى بَعْضُهُ لَمْ يَحْرُمْ كَمَا لَوْ اشْتَغَلَ بِعَمَلٍ آخَرَ لَكِنْ أَدْرَكَهُ حَيًّا فَذَبَحَهُ، وَكَذَا إذَا لَمْ يَمُتْ بِهَذَا لَكِنَّهُ ذَبَحَهُ فَإِنَّهُ صَيْدٌ، وَهُوَ حَلَالٌ انْتَهَى

أَقُولُ: يُمْكِنُ أَنْ يَعْتَذِرَ عَمَّا ذَكَرَهُ فِي عِلَاوَتِهِ بِأَنَّ الْكَلَامَ فِي شَرَائِطِ

ص: 111

وَقَوْلُهُ عز وجل {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} وَلِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ الطَّائِيِّ رضي الله عنه «إذَا أَرْسَلْت كَلْبَك الْمُعَلَّمَ وَذَكَرْت اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ فَكُلْ، وَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ فَلَا تَأْكُلْ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ، وَإِنْ شَارَكَ كَلْبَك كَلْبٌ آخَرُ فَلَا تَأْكُلْ فَإِنَّك إنَّمَا سَمَّيْت عَلَى كَلْبِك وَلَمْ تُسَمِّ عَلَى كَلْبِ غَيْرِك» وَعَلَى إبَاحَتِهِ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ

وَلِأَنَّهُ نَوْعُ اكْتِسَابٍ وَانْتِفَاعٍ بِمَا هُوَ مَخْلُوقٌ لِذَلِكَ، وَفِيهِ اسْتِبْقَاءُ الْمُكَلَّفِ وَتَمْكِينُهُ مِنْ إقَامَةِ التَّكَالِيفِ فَكَانَ مُبَاحًا بِمَنْزِلَةِ الِاحْتِطَابِ

ثُمَّ جُمْلَةُ مَا يَحْوِيهِ الْكِتَابُ فَصْلَانِ: أَحَدُهُمَا فِي الصَّيْدِ بِالْجَوَارِحِ وَالثَّانِي فِي الِاصْطِيَادِ بِالرَّمْيِ.

حِلِّ الصَّيْدِ الْمَحْضِ وَهُوَ الَّذِي لَمْ يُدْرِكْهُ الصَّيَّادُ حَيًّا بَلْ مَاتَ بِجُرْحِ آلَةِ الصَّيْدِ كَالْكَلْبِ وَالْبَازِي وَالرَّمْي وَصَارَ مَذْبُوحًا بِالذَّبْحِ الِاضْطِرَارِيِّ، وَمَا أَدْرَكَهُ حَيًّا فَذَبَحَهُ لَا يَكُونُ صَيْدًا مَحْضًا بَلْ يَصِيرُ مُلْحَقًا بِسَائِرِ مَا يَذْبَحُ الِاخْتِيَارِيَّ فَيَكُونُ خَارِجًا عَنْ مَحَلِّ الِاشْتِرَاطِ

وَطَعَنَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ فِي قَوْلِ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ فِيهِ تَسَامُحٌ

؛ لِأَنَّ هَذَا شَرْطُ الِاصْطِيَادِ لِلْأَكْلِ بِالْكَلْبِ حَيْثُ قَالَ: فِيهِ تَسَامُحٌ بَلْ شَرْطُ حِلِّ الصَّيْدِ، أَقُولُ: الظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ بِالِاصْطِيَادِ فِي قَوْلِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا شَرْطُ الِاصْطِيَادِ لِلْأَكْلِ هُوَ الِاصْطِيَادُ الشَّرْعِيُّ وَهُوَ مَا كَانَ حَلَالًا، فَيَئُولُ مَعْنَى قَوْلِ شَرْطِ الِاصْطِيَادِ إلَى شَرْطِ حِلِّ الصَّيْدِ، فَإِنْ عَدَّ هَذَا تَسَامُحًا فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ التَّسَامُحِ فِي التَّعْبِيرِ بِنَاءً عَلَى ظُهُورِ الْمُرَادِ، وَلَا يُبَالَى بِمِثْلِهِ بِخِلَافِ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ مِنْ التَّسَامُحِ فِي كَلَامِ صَاحِبِ الْخُلَاصَةِ، فَإِنَّهُ رَاجِعٌ إلَى الْمَعْنَى تَدَبَّرْ تَفْهَمْ

ثُمَّ قَصَدَ ذَلِكَ الْبَعْضُ دَفْعَ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي عِلَاوَتِهِ حَيْثُ قَالَ: مُرَادُ صَاحِبِ الْخُلَاصَةِ بَيَانُ شَرَائِطِ حِلِّ صَيْدٍ قَتَلَهُ الْكَلْبُ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ آلَةٌ غَيْرُهُ فَلْيُتَأَمَّلْ انْتَهَى

أَقُولُ: لَا يَذْهَبُ عَلَيْك أَنَّ كَلَامَ صَاحِبِ الْخُلَاصَةِ مَعَ عَدَمِ مُسَاعَدَتِهِ لِهَذَا التَّقْيِيدِ وَعَدَمِ قِيَامِ قَرِينَةٍ عَلَيْهِ لَا يَدْفَعُ كَوْنَ مُرَادِهِ هَذَا الْمَعْنَى التَّسَامُحَ الَّذِي حَاصِلُهُ التَّقْصِيرُ فِي الْبَيَانِ، فَإِنَّهُ لَا وَجْهَ لِبَيَانِ شَرَائِطِ حِلِّ نَوْعٍ مَخْصُوصٍ مِنْ أَنْوَاعِ الصَّيْدِ وَتَرْكِ بَيَانِ شَرَائِطِ سَائِرِ أَنْوَاعِهِ بِلَا ضَرُورَةٍ دَاعِيَةٍ إلَيْهِ (قَوْلُهُ وَقَوْلُهُ عز وجل {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} مَدَّ التَّحْرِيمَ إلَى غَايَةٍ فَاقْتَضَى الْإِبَاحَةَ فِيمَا وَرَاءَ تِلْكَ الْغَايَةِ، كَذَا قَالُوا

وَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ حَيْثُ قَالَ: فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ اسْتِدْلَالٌ بِمَفْهُومِ الْغَايَةِ وَهُوَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ اهـ

أَقُولُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ مَفْهُومَ الْغَايَةِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، بَلْ هُوَ حُجَّةٌ بِالِاتِّفَاقِ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الْعَلَّامَةُ التَّفْتَازَانِيُّ فِي التَّلْوِيحِ فِي بَابِ الْمُعَارَضَةِ وَالتَّرْجِيحِ بِصَدَدِ بَيَانِ الْمُخَلِّصِ لِدَفْعِ التَّعَارُضِ بَيْنَ قِرَاءَةِ التَّشْدِيدِ وَقِرَاءَةِ التَّخْفِيفِ فِي قَوْله تَعَالَى {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ}

ص: 112

‌فَصْلُ الْجَوَارِحِ

قَالَ (وَيَجُوزُ الِاصْطِيَادُ بِالْكَلْبِ الْمُعَلَّمِ وَالْفَهْدِ وَالْبَازِي وَسَائِرُ الْجَوَارِحِ الْمُعَلَّمَةِ وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: وَكُلُّ شَيْءٍ عَلَّمْته مِنْ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ وَذِي مِخْلَبٍ مِنْ الطَّيْرِ فَلَا بَأْسَ بِصَيْدِهِ، وَلَا خَيْرَ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ إلَّا أَنْ تُدْرِكَ ذَكَاتَهُ)

(فَصْلٌ فِي الْجَوَارِحِ)

قَدَّمَ فَصْلَ الْجَوَارِحِ عَلَى فَصْلِ الرَّمْيِ؛ لِأَنَّ آلَةَ الصَّيْدِ هُنَا حَيَوَانٌ وَفِي الرَّمْيِ جَمَادٌ، وَلِلْحَيَوَانِ فَضْلٌ عَلَى الْجَمَادِ، وَالْفَاضِلُ يُقَدَّمُ عَلَى الْمَفْضُولِ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ (قَوْلُهُ وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: وَكُلُّ شَيْءٍ عَلَّمْته مِنْ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ وَذِي مِخْلَبٍ مِنْ الطَّيْرِ فَلَا بَأْسَ بِصَيْدِهِ، وَلَا خَيْرَ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ إلَّا أَنْ تُدْرِكَ ذَكَاتَهُ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: إنَّمَا أَوْرَدَ رِوَايَةَ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِقَوْلِهِ: وَلَا خَيْرَ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ: أَيْ فِيمَا سِوَى الْمُعَلَّمَةِ مِنْ ذِي النَّابِ وَالْمِخْلَبِ، فَإِنَّ رِوَايَةَ الْقُدُورِيِّ تَدُلُّ عَلَى الْإِثْبَاتِ لَا غَيْرَ، وَرِوَايَةُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ تَدُلُّ عَلَى الْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ جَمِيعًا انْتَهَى

أَقُولُ: فِيهِ شَيْءٌ؛ إذْ قَدْ صَرَّحُوا فِي شُرُوحِ هَذَا الْكِتَابِ وَغَيْرِهَا بِأَنَّ تَخْصِيصَ الشَّيْءِ بِالذِّكْرِ فِي الرِّوَايَاتِ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَاهُ بِالِاتِّفَاقِ، فَرِوَايَةُ الْقُدُورِيِّ أَيْضًا تَدُلُّ عَلَى إثْبَاتِ جَوَازِ الِاصْطِيَادِ بِمَا ذَكَرَ، وَنَفْيِ جَوَازِهِ بِمَا سِوَى ذَلِكَ فَلَا يَتِمُّ قَوْلُهُ: إنَّ رِوَايَةَ الْقُدُورِيِّ تَدُلُّ عَلَى الْإِثْبَاتِ لَا غَيْرَ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ أَنَّ رِوَايَةَ الْقُدُورِيِّ تَدُلُّ بِمَنْطُوقِهَا عَلَى الْإِثْبَاتِ لَا غَيْرَ، وَإِنْ دَلَّتْ بِمَفْهُومِهَا عَلَى النَّفْيِ أَيْضًا

وَأَمَّا رِوَايَةُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فَتَدُلُّ بِمَنْطُوقِهَا عَلَى الْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ مَعًا لَكِنْ لَا يَظْهَرُ حِينَئِذٍ فِي إيرَادِ رِوَايَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ كَبِيرُ نَفْعٍ كَمَا لَا يَخْفَى

قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الشُّرَّاحِ: إنَّمَا ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِلَفْظِ لَا بَأْسَ مَعَ ثُبُوتِ إبَاحَةِ الِاصْطِيَادِ بِالْكِتَابِ؛ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ} قَدْ خُصَّ مِنْهُ الْبَعْضُ وَهُوَ الْخِنْزِيرُ وَالْأَسَدُ وَالدُّبُّ، وَالنَّصُّ إذَا خُصَّ مِنْهُ الْبَعْضُ يَصِيرُ ظَنِّيًّا فَتَتَمَكَّنُ فِيهِ الشُّبْهَةُ كَمَا عُرِفَ فِي الْأُصُولِ فَلِذَلِكَ ذَكَرَ بِلَفْظِ لَا بَأْسَ انْتَهَى

أَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الْخِنْزِيرَ مَخْصُوصٌ مِنْ النَّصِّ الْمَذْكُورِ بِالْعَقْلِ؛ لِأَنَّهُ نَجَسُ الْعَيْنِ، وَالْعَقْلُ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ الِانْتِفَاعِ بِالنَّجَسِ، وَقَدْ عُرِفَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ أَنَّ النَّصَّ الَّذِي خُصَّ مِنْهُ شَيْءٌ بِالْعَقْلِ لَا يَصِيرُ ظَنِّيًّا بَلْ يَكُونُ قَطْعِيًّا لِكَوْنِهِ فِي حُكْمِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَقَدْ أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ فِيمَا بَعْدُ: وَالْخِنْزِيرُ مُسْتَثْنًى؛ لِأَنَّهُ نَجَسُ الْعَيْنِ وَلَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ

وَأَمَّا الْأَسَدُ وَالدُّبُّ فَلَيْسَا بِدَاخِلَيْنِ رَأْسًا فِي النَّصِّ الْمَذْكُورِ؛ لِأَنَّهُمْ صَرَّحُوا بِأَنَّ الْأَسَدَ وَالدُّبَّ لَا يَصْلُحَانِ لِلتَّعْلِيمِ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَعْمَلَانِ

ص: 113

وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ}

لِلْغَيْرِ فَلَمْ يَدْخُلَا تَحْتَ قَوْله تَعَالَى {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ} وَلَا يَخْفَى أَنَّ تَخْصِيصَ شَيْءٍ مِنْ شَيْءٍ فَرْعُ دُخُولِهِ فِيهِ أَوَّلًا، فَإِذَا لَمْ يَدْخُلَا فِي النَّصِّ الْمَذْكُورِ لَمْ يَكُونَا مَخْصُوصَيْنِ مِنْهُ

وَلَئِنْ سُلِّمَ كَوْنُ كُلٍّ مِنْ تِلْكَ الثَّلَاثَةِ مَخْصُوصًا مِنْ النَّصِّ الْمَذْكُورِ، وَكَوْنُ تَخْصِيصِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا مِنْهُ بِالْكَلَامِ الْمُسْتَقِلِّ دُونَ الْعَقْلِ فَلَا نُسَلِّمُ كَوْنَ ذَلِكَ النَّصِّ بَعْدَهُ ظَنِّيًّا؛ إذْ قَدْ تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ أَنَّ الْعَامَّ الَّذِي أُخْرِجَ مِنْهُ الْبَعْضُ بِكَلَامٍ مُسْتَقِلٍّ إنَّمَا يَصِيرُ ظَنِّيًّا إذَا كَانَ الْمُخْرِجُ مَوْصُولًا بِذَلِكَ

وَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ مَوْصُولًا بِهِ فَيَكُونُ قَطْعِيًّا فِي الْبَاقِي وَيُطْلَقُ عَلَى مِثْلِ هَذَا الْإِخْرَاجِ فِي عُرْفِ أَهْلِ الْأُصُولِ النُّسَخُ دُونَ التَّخْصِيصِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مُخْرِجَ تِلْكَ الْجَوَارِحِ الثَّلَاثَةِ مِنْ النَّصِّ الْمَزْبُورِ لَيْسَ بِمَوْصُولٍ بِذَلِكَ النَّصِّ فَلَا يَصِيرُ ظَنِّيًّا لَا مَحَالَةَ تَبَصَّرْ (قَوْلُهُ وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى: الطَّيِّبَاتُ فِي قَوْله تَعَالَى {قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} أَيْ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ وَصَيْدُ مَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ فَحُذِفَ الْمُضَافُ، كَذَا فِي الْكَافِي وَالشُّرُوحِ

قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ ذَلِكَ: فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الْقِرَانَ فِي النَّظْمِ لَا يُوجِبُ الْقِرَانَ فِي الْحُكْمِ

وَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ إذَا لَمْ يَدُلَّ إلَّا دَلِيلٌ عَلَى الْقِرَانِ وَهَاهُنَا قَدْ دَلَّ، فَإِنَّ قَوْله تَعَالَى {قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} جَوَابٌ عَنْ قَوْله تَعَالَى {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ} فَإِنْ لَمْ يَكُنْ {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ} مُقَارِنًا لَهُ لَمْ يَكُنْ ذِكْرُهُ عَلَى مَا يَنْبَغِي انْتَهَى

أَقُولُ: نَظَرُهُ فَاسِدٌ، وَجَوَابُهُ كَاسِدٌ

أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ اشْتِرَاكَ الْمَعْطُوفِ مَعَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فِي الْحُكْمِ السَّابِقِ وَاجِبٌ لَا مَحَالَةَ مُقَرَّرٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ بِلَا ارْتِيَابٍ، فَيَلْزَمُ فِي الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ الِاشْتِرَاكُ فِي حُكْمِ الْإِحْلَالِ ضَرُورَةً، وَقَوْلُ الْأُصُولِيِّينَ: الْقِرَانُ فِي النَّظْمِ لَا يُوجِبُ الْقِرَانَ فِي الْحُكْمِ لَيْسَ بِإِنْكَارٍ لِمِثْلِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ الْمُقَرَّرَةِ فِي عِلْمِ النَّحْوِ، بَلْ مَعْنَاهُ أَنَّ مُجَرَّدَ الْمُقَارَنَةِ فِي النَّظْمِ لَا يُوجِبُ الْمُقَارَنَةَ فِي الْحُكْمِ بِدُونِ أَنْ يَتَحَقَّقَ أَمْرٌ مُقْتَضًى لِلْمُقَارَنَةِ فِي الْحُكْمِ أَيْضًا، وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ قَدْ تَحَقَّقَ ذَلِكَ وَهُوَ قَضِيَّةُ الْعَطْفِ

وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إنَّمَا يَلْزَمُ مِنْ أَنْ لَا يَكُونَ {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ} مُقَارِنًا لِ: {أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} أَنْ لَا يَكُونَ ذِكْرُهُ عَلَى مَا يَنْبَغِي لَوْ كَانَ {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ} دَاخِلًا تَحْتَ جَوَابِ قَوْله تَعَالَى {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ} وَمَنْ يَقُولُ: إنَّ الْقِرَانَ فِي النَّظْمِ لَا يُوجِبُ الْقِرَانَ فِي الْحُكْمِ كَيْفَ يُسَلِّمُ ذَلِكَ، بَلْ يَقُولُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَوَابُ ذَلِكَ {قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} فَقَطْ وَيَكُونُ مَا بَعْدَهُ كَلَامًا مُسْتَقِلًّا مَسُوقًا لِبَيَانِ حُكْمٍ جَدِيدٍ وَلِإِفَادَةِ فَائِدَةٍ أُخْرَى

ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ}

ص: 114

وَالْجَوَارِحُ: الْكَوَاسِبُ

قَالَ فِي تَأْوِيلِ الْمُكَلِّبِينَ: الْمُسَلَّطِينَ، فَيَتَنَاوَلُ الْكُلَّ بِعُمُومِهِ، دَلَّ عَلَيْهِ مَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ عَدِيٍّ رضي الله عنه

وَاسْمُ الْكَلْبِ فِي اللُّغَةِ يَقَعُ عَلَى كُلِّ سَبُعٍ حَتَّى الْأَسَدِ

وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ اُسْتُثْنِيَ مِنْ ذَلِكَ الْأَسَدُ وَالدُّبُّ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَعْمَلَانِ لِغَيْرِهِمَا

الْأَسَدُ لِعُلُوِّ هِمَّتِهِ وَالدُّبُّ لِخَسَاسَتِهِ، وَأَلْحَقَ بِهِمَا بَعْضُهُمْ الْحِدَأَةَ لِخَسَاسَتِهَا، وَالْخِنْزِيرُ مُسْتَثْنًى؛ لِأَنَّهُ نَجَسُ الْعَيْنِ فَلَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ ثُمَّ لَا بُدَّ مِنْ التَّعْلِيمِ؛ لِأَنَّ مَا تَلَوْنَا مِنْ النَّصِّ يَنْطِقُ بِاشْتِرَاطِ التَّعْلِيمِ وَالْحَدِيثِ بِهِ وَبِالْإِرْسَالِ، وَلِأَنَّهُ إنَّمَا يَصِيرُ آلَةً بِالتَّعْلِيمِ لِيَكُونَ عَامِلًا لَهُ فَيَتَرَسَّلُ بِإِرْسَالِهِ وَيُمْسِكُهُ عَلَيْهِ.

قَالَ (تَعْلِيمُ الْكَلْبِ أَنْ يَتْرُكَ الْأَكْلَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَتَعْلِيمُ الْبَازِي أَنْ يَرْجِعَ وَيُجِيبَ دَعْوَتَهُ) وَهُوَ مَأْثُورٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، وَلِأَنَّ بَدَنَ الْبَازِي لَا يَحْتَمِلُ الضَّرْبَ، وَبَدَنُ الْكَلْبِ يَحْتَمِلُهُ فَيُضْرَبُ لِيَتْرُكَهُ، وَلِأَنَّ آيَةَ التَّعْلِيمِ تَرْكُ مَا هُوَ مَأْلُوفُهُ عَادَةً، وَالْبَازِي مُتَوَحِّشٌ مُتَنَفِّرٌ فَكَانَتْ الْإِجَابَةُ آيَةَ تَعْلِيمِهِ

وَأَمَّا الْكَلْبُ فَهُوَ مَأْلُوفٌ يَعْتَادُ الِانْتِهَابَ

شَرْطِيَّةً، وَجَوَابُهُ {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} وَهُوَ سَالِمٌ عَنْ الِاعْتِرَاضِ الْمَذْكُورِ فَالْحَمْلُ عَلَيْهِ أَوْلَى انْتَهَى

أَقُولُ: فِي تَفْرِيعِ قَوْلِهِ فَالْحَمْلُ عَلَيْهِ أَوْلَى خَلَلٌ؛ لِأَنَّ الِاعْتِرَاضَ الْمَذْكُورَ لَا يَرِدُ عَلَى مَعْنَى الْآيَةِ بِالتَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ، بَلْ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ بِهِ عَلَى مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ تَعَيُّنَ مَعْنَى الْآيَةِ أَوْ رُجْحَانَ أَحَدِ مُحْتَمَلَيْهَا لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى تَمَامِ الِاسْتِدْلَالِ بِهَا، بَلْ الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ، فَمَا مَعْنَى تَفْرِيعِ قَوْلِهِ فَالْحَمْلُ عَلَيْهِ أَوْلَى عَلَى قَوْلِهِ، وَهُوَ سَالِمٌ عَنْ الِاعْتِرَاضِ الْمَذْكُورِ (قَوْلُهُ: وَالْجَوَارِحُ الْكَوَاسِبُ، قَالَ فِي تَأْوِيلِ: وَالْمُكَلِّبِينَ الْمُسَلَّطِينَ، فَيَتَنَاوَلُ الْكُلَّ بِعُمُومِهِ، دَلَّ عَلَيْهِ مَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ عَدِيٍّ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَاسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ عَلَى صِحَّةِ التَّأْوِيلِ بِعُمُومِ حَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ

أَقُولُ: لَا صِحَّةَ لِهَذَا الْكَلَامِ؛ إذْ لَا يَذْهَبُ عَلَى ذِي مَسْكَةٍ أَنْ لَيْسَ مَقْصُودُ الْمُصَنِّفِ بَيَانَ صِحَّةِ تَأْوِيلٍ دُونَ صِحَّةِ تَأْوِيلٍ آخَرَ؛ إذْ لَا تَنَافِيَ بَيْنَ التَّأْوِيلَيْنِ كَمَا سَيَجِيءُ فِي الْكِتَابِ، وَأَيْضًا عُمُومُ حَدِيثِ عَدِيٍّ لَا يُنَافِي التَّأْوِيلَ الْآخَرَ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْجَوَارِحُ هِيَ الَّتِي تَجْرَحُ مِنْ الْجِرَاحَةِ بَلْ يُوَافِقُهُ أَيْضًا، فَمَا مَعْنَى الِاسْتِدْلَالِ بِعُمُومِهِ عَلَى صِحَّةِ تَأْوِيلٍ دُونَ آخَرَ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ: دَلَّ عَلَيْهِ مَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ عَدِيٍّ إنَّمَا هُوَ الِاسْتِدْلَال عَلَى تَنَاوُلِ مَا فِي الْآيَةِ الْكُلَّ بِحَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، فَالْمَعْنَى دَلَّ عَلَى تَنَاوُلِ الْكُلِّ مَا رَوَيْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ عَدِيٍّ وَبَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: وَاسْمُ الْكَلْبِ فِي اللُّغَةِ يَقَعُ عَلَى كُلِّ سَبُعٍ حَتَّى الْأَسَدِ لَكِنْ بَقِيَ شَيْءٌ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ، وَهُوَ أَنَّ الْمُدَّعَى جَوَازُ الِاصْطِيَادِ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلَّمْته مِنْ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ وَذِي مِخْلَبٍ مِنْ الطَّيْرِ، فَالْمُرَادُ بِالتَّنَاوُلِ فِي قَوْلِهِ فَيَتَنَاوَلُ الْكُلَّ بِعُمُومِهِ إنَّمَا هُوَ التَّنَاوُلُ لِكُلِّ مَا فِي الْمُدَّعَى

وَلَا يَخْفَى أَنَّ حَدِيثَ عَدِيٍّ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَنَاوَلُ جَوَارِحَ الطُّيُورِ، وَإِنَّمَا يَتَنَاوَلُ جَوَارِحَ السِّبَاعِ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يُرَادَ بِالْكَلْبِ الْمَذْكُورِ فِيهِ كُلُّ ذِي سَبُعٍ دُونَ النَّوْعِ الْمُعَيَّنِ الْمَعْرُوفِ (قَوْلُهُ: لِأَنَّ مَا تَلَوْنَا مِنْ النَّصِّ يَنْطِقُ بِاشْتِرَاطِ التَّعْلِيمِ وَالْحَدِيثُ بِهِ وَبِالْإِرْسَالِ) أَقُولُ: فِيهِ نَوْعُ شُبْهَةٍ؛ لِأَنَّ كَوْنَ مَا تَلَاهُ مِنْ الْآيَةِ نَاطِقًا بِالتَّعْلِيمِ، وَمَا رَوَاهُ مِنْ الْحَدِيثِ نَاطِقًا بِالتَّعْلِيمِ وَبِالْإِرْسَالِ مِمَّا لَا كَلَامَ فِيهِ

وَأَمَّا كَوْنُ مَا تَلَاهُ مِنْ الْآيَةِ نَاطِقًا بِاشْتِرَاطِ التَّعْلِيمِ، وَكَوْنُ مَا رَوَاهُ مِنْ الْحَدِيثِ نَاطِقًا بِاشْتِرَاطِ التَّعْلِيمِ كَمَا هُوَ الْمُدَّعَى هَا هُنَا وَبِاشْتِرَاطِ الْإِرْسَالِ أَيْضًا فَلَيْسَ بِظَاهِرٍ، وَإِنَّمَا يَدُلَّانِ عَلَى الِاشْتِرَاطِ الْمَذْكُورِ بِطَرِيقِ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ، وَهُوَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عِنْدَنَا فِي الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ كَمَا عُرِفَ.

(قَوْلُهُ: وَلِأَنَّ آيَةَ التَّعْلِيمِ تَرْكُ مَا هُوَ مَأْلُوفُهُ عَادَةً وَالْبَازِي مُتَوَحِّشٌ مُتَنَفِّرٌ فَكَانَتْ الْإِجَابَةُ آيَةَ تَعْلِيمِهِ، وَأَمَّا الْكَلْبُ فَهُوَ أَلُوفٌ عَادَةً يَعْتَادُ الِانْتِهَابَ

ص: 115

فَكَانَ آيَةُ تَعْلِيمِهِ تَرْكَ مَأْلُوفِهِ وَهُوَ الْأَكْلُ وَالِاسْتِلَابُ

ثُمَّ شُرِطَ تَرْكُ الْأَكْلِ ثَلَاثًا وَهَذَا عِنْدَهُمَا وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله؛ لِأَنَّ فِيمَا دُونَهُ مَزِيدَ الِاحْتِمَالِ فَلَعَلَّهُ تَرَكَهُ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ شِبَعًا، فَإِذَا تَرَكَهُ ثَلَاثًا دَلَّ عَلَى أَنَّهُ صَارَ عَادَةً لَهُ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الثَّلَاثَ مُدَّةٌ ضُرِبَتْ لِلِاخْتِبَارِ وَإِبْلَاءِ الْأَعْذَارِ كَمَا فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ

وَفِي بَعْضِ قَصَصِ الْأَخْيَارِ: وَلِأَنَّ الْكَثِيرَ هُوَ الَّذِي يَقَعُ أَمَارَةً عَلَى الْعِلْمِ دُونَ الْقَلِيلِ، وَالْجَمْعُ هُوَ الْكَثِيرُ وَأَدْنَاهُ الثَّلَاثُ فَقُدِّرَ بِهَا

وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ: لَا يَثْبُتُ التَّعْلِيمُ مَا لَمْ يَغْلِبْ عَلَى ظَنِّ الصَّائِدِ أَنَّهُ مُعَلَّمٌ، وَلَا يُقَدَّرُ بِالثَّلَاثِ؛ لِأَنَّ الْمَقَادِيرَ لَا تُعْرَفُ اجْتِهَادًا بَلْ نَصًّا وَسَمَاعًا وَلَا سَمْعَ فَيُفَوَّضُ إلَى رَأْيِ الْمُبْتَلَى بِهِ كَمَا هُوَ أَصْلُهُ فِي جِنْسِهَا

وَعَلَى الرِّوَايَةِ الْأُولَى عِنْدَهُ يَحِلُّ مَا اصْطَادَهُ ثَالِثًا

وَعِنْدَهُمَا لَا يَحِلُّ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَصِيرُ مُعَلَّمًا

بَعْدَ تَمَامِ الثَّلَاثِ وَقَبْلَ التَّعْلِيمِ غَيْرُ مُعَلَّمٍ، فَكَانَ الثَّالِثُ صَيْدَ كَلْبٍ جَاهِلٍ وَصَارَ كَالتَّصَرُّفِ الْمُبَاشِرِ فِي سُكُوتِ الْمَوْلَى

وَلَهُ أَنَّهُ آيَةُ تَعْلِيمِهِ عِنْدَهُ فَكَانَ هَذَا صَيْدَ جَارِحَةٍ مُعَلَّمَةٍ، بِخِلَافِ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ إعْلَامٌ وَلَا يَتَحَقَّقُ دُونَ عِلْمِ الْعَبْدِ وَذَلِكَ بَعْدَ الْمُبَاشَرَةِ.

قَالَ (وَإِذَا أَرْسَلَ كَلْبَهُ الْمُعَلَّمَ أَوْ بَازِيَهُ وَذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ إرْسَالِهِ فَأَخَذَ

فَكَانَ آيَةُ تَعْلِيمِهِ تَرْكَ مَأْلُوفِهِ وَهُوَ الْأَكْلُ وَالِاسْتِلَابُ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: وَلَكِنَّ هَذَا الْفَرْقَ لَا يَتَأَتَّى فِي الْفَهْدِ وَالنَّمِرِ فَإِنَّهُ مُتَوَحِّشٌ كَالْبَازِي، ثُمَّ الْحُكْمُ فِيهِ، وَفِي الْكَلْبِ سَوَاءٌ، فَالْمُعْتَمَدُ هُوَ الْأَوَّلُ، كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ انْتَهَى

وَاقْتَفَى أَثَرَهُ صَاحِبُ الْكِفَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ

وَزَعَمَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ أَنَّهُ لَيْسَ بِوَارِدٍ حَيْثُ قَالَ قَبْلُ: فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ هَذَا الْفَرْقَ لَا يَتَأَتَّى فِي الْفَهْدِ وَالنَّمِرِ فَإِنَّهُ مُتَوَحِّشٌ كَالْبَازِي، ثُمَّ الْحُكْمُ فِيهِ وَفِي الْكَلْبِ سَوَاءٌ، فَالْمُعْتَمَدُ هُوَ الْأَوَّلُ، وَلَيْسَ بِوَارِدٍ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا ذَكَرَهُ فَرْقًا بَيْنَ الْكَلْبِ وَالْبَازِي لَا غَيْرَ، وَذَلِكَ صَحِيحٌ، وَإِذَا أُرِيدَ الْفَرْقُ عُمُومًا فَالْمُعْتَمَدُ هُوَ الْأَوَّلُ، إلَى هُنَا لَفْظُهُ

أَقُولُ: مَا قَالَهُ عُذْرٌ بَارِدٌ وَتَوْجِيهٌ كَاسِدٌ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْكَلْبِ فِي اللُّغَةِ يَقَعُ عَلَى كُلِّ سَبُعٍ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِيمَا مَرَّ آنِفًا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْكَلْبِ فِي الْمُدَّعَى هَا هُنَا هُوَ الْمَعْنَى الْعَامُّ لِكُلِّ سَبُعٍ لَا الْكَلْبَ الْمَخْصُوصَ، وَإِلَّا يَلْزَمُ أَنْ يُتْرَكَ بَيَانُ حَالِ تَعْلِيمِ سَائِرِ السِّبَاعِ بِالْكُلِّيَّةِ فَالْمُرَادُ فِي التَّعْلِيلِ أَيْضًا هُوَ الْفَرْقُ عُمُومًا، وَاَلَّذِي يُفِيدُ الْفَرْقَ عُمُومًا هُوَ التَّعْلِيلُ الْأَوَّلُ دُونَ الثَّانِي، فَالْمُعْتَمَدُ هُوَ الْأَوَّلُ كَمَا ذُكِرَ فِي عَامَّةِ الْمُعْتَبَرَاتِ حَتَّى الْمَبْسُوطِ ثُمَّ إنَّ بَعْضَ الْفُضَلَاءِ بَعْدَ أَنْ تَنَبَّهَ لِمَا قَالَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ مِنْ الرَّكَاكَةِ قَالَ: وَلَعَلَّ الْأَوْلَى أَنْ يُجَابَ بِأَنَّهُ لَمَّا كَانَتْ ذَوَاتُ النَّابِ كُلُّهَا

ص: 116

الصَّيْدَ وَجَرَحَهُ فَمَاتَ حَلَّ أَكْلُهُ) لِمَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ عَدِيٍّ رضي الله عنه، وَلِأَنَّ الْكَلْبَ أَوْ الْبَازِي آلَةٌ، وَالذَّبْحُ لَا يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ الْآلَةِ إلَّا بِالِاسْتِعْمَالِ وَذَلِكَ فِيهِمَا بِالْإِرْسَالِ فَنَزَلَ مَنْزِلَةَ الرَّمْيِ وَإِمْرَارِ السِّكِّينِ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّسْمِيَةِ عِنْدَهُ

وَلَوْ تَرَكَهُ نَاسِيًا حَلَّ أَيْضًا عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ، وَحُرْمَةُ مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ عَامِدًا فِي الذَّبَائِحِ

وَلَا بُدَّ مِنْ الْجُرْحِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِيَتَحَقَّقَ الذَّكَاةُ الِاضْطِرَارِيُّ وَهُوَ الْجُرْحُ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ فِي الْبَدَنِ بِانْتِسَابِ مَا وُجِدَ مِنْ الْآلَةِ إلَيْهِ بِالِاسْتِعْمَالِ

وَفِي ظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ} مَا يُشِيرُ إلَى اشْتِرَاطِ الْجُرْحِ؛ إذْ هُوَ مِنْ الْجُرْحِ بِمَعْنَى الْجِرَاحَةِ فِي تَأْوِيلٍ فَيُحْمَلُ عَلَى الْجَارِحِ الْكَاسِبُ بِنَابِهِ وَمِخْلَبِهِ وَلَا تَنَافِيَ، وَفِيهِ أَخْذٌ بِالْيَقِينِ

جِنْسًا وَاحِدًا وَكَانَ أَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ مِنْهَا فِي الصَّيْدِ أَلُوفًا مَعَ أَنَّ فِي طَبْعِ غَيْرِهِ الْإِلْفَ أَيْضًا عَلَى مَا تَرَاهُ فِي الذِّئْبِ وَالْأَسَدِ وَغَيْرِهِمَا إذَا رُبِّيَ مِنْ صِغَرِهِ فِي الْبَيْتِ، بِخِلَافِ جَوَارِحِ الطَّيْرِ جُعِلَ الْكُلُّ فِي حُكْمٍ وَاحِدٍ فِي التَّعْلِيمِ: يَعْنِي أُدِيرَ حُكْمُ التَّعْلِيمِ عَلَى جِنْسِ الْكَلْبِ تَيْسِيرًا كَمَا فِي نَظَائِرِهِ فَلْيُتَأَمَّلْ اهـ

أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا أَيْضًا بِسَدِيدٍ؛ إذْ بَعْدَمَا تَقَرَّرَ أَنَّ الْفَهْدَ وَالنَّمِرَ مِمَّا لَا يَتَأَتَّى فِيهِ الْإِلْفُ بَلْ هُمَا مُتَوَحِّشَانِ كَالْبَازِي لَا يَكُونُ جَعْلُ أَنْوَاعِ الْكَلْبِ كُلِّهَا فِي حُكْمٍ وَاحِدٍ، وَإِدَارَةُ حُكْمِ التَّعْلِيلِ عَلَى جِنْسِ الْكَلْبِ مِنْ بَابِ التَّيْسِيرِ بَلْ يَكُونُ مِنْ بَابِ التَّعْسِيرِ وَالتَّشْدِيدِ، بَلْ يَلْزَمُ إذْ ذَاكَ أَنْ يُحْمَلَ الْمُتَوَحِّشُ عَلَى الْأَلُوفِ، وَهُوَ غَيْرُ مُيَسَّرٍ لَا مَحَالَةَ

ثُمَّ أَقُولُ: بَقِيَ شَيْءٌ فِي التَّعْلِيلِ الْأَوَّلِ أَيْضًا، وَهُوَ أَنَّهُ قَدْ ذُكِرَ فِي عَامَّةِ الْمُعْتَبَرَاتِ أَنَّ شَمْسَ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيَّ قَالَ نَاقِلًا عَنْ شَيْخِهِ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيِّ: لِلْفَهْدِ خِصَالٌ يَنْبَغِي لِكُلِّ عَاقِلٍ أَنْ يَأْخُذَ ذَلِكَ مِنْهُ، وَعَدَّ مِنْهَا أَنَّهُ لَا يَتَعَلَّمُ بِالضَّرْبِ، وَلَكِنْ يُضْرَبُ الْكَلْبُ بَيْنَ يَدَيْهِ إذَا أَكَلَ مِنْ الصَّيْدِ فَيَتَعَلَّمُ بِذَلِكَ، فَقَدْ ظَهَرَ مِنْهُ أَنَّ تَحَمُّلَ بَدَنِ الْفَهْدِ لِلضَّرْبِ لَا يُجْدِي شَيْئًا فِي حَقِّ تَعْلِيمِهِ، وَقَدْ كَانَ مَدَارُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْبَازِي وَالْكَلْبِ فِي التَّعْلِيلِ الْأَوَّلِ هُوَ أَنَّ بَدَنَ الْبَازِي لَا يَحْتَمِلُ الضَّرْبَ وَبَدَنَ الْكَلْبِ يَحْتَمِلُهُ، فَيُرَدُّ عَلَيْهِ أَنَّ مُجَرَّدَ احْتِمَالِ بَدَنِ الْكَلْبِ الضَّرْبَ لَا يُفِيدُ الْمُدَّعَى فِي حَقِّ الْفَهْدِ؛ إذْ هُوَ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ فِي حَقِّ تَعْلِيمِهِ فَتَأَمَّلْ

(قَوْلُهُ وَفِي ظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ} مَا يُشِيرُ إلَى اشْتِرَاطِ الْجُرْحِ؛ إذْ هُوَ مِنْ الْجُرْحِ بِمَعْنَى الْجِرَاحَةِ فِي تَأْوِيلٍ فَيُحْمَلُ عَلَى الْجَارِحِ الْكَاسِبِ بِنَابِهِ وَمِخْلَبِهِ وَلَا تَنَافِي وَفِيهِ أَخْذٌ بِالْيَقِينِ) وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ النَّصَّ إذَا وَرَدَ فِيهِ اخْتِلَافُ الْمَعَانِي، فَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا تَنَافٍ يُثْبِتُ أَحَدَهُمَا بِدَلِيلٍ يُوجِبُ

ص: 117

وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَشْتَرِطُ رُجُوعًا إلَى التَّأْوِيلِ الْأَوَّلِ

وَجَوَابُهُ مَا قُلْنَا.

قَالَ (فَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ الْكَلْبُ أَوْ الْفَهْدُ لَمْ يُؤْكَلْ وَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ الْبَازِي أُكِلَ) وَالْفَرْقُ مَا بَيَّنَّاهُ فِي دَلَالَةِ التَّعْلِيمِ وَهُوَ مُؤَيَّدٌ بِمَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ عَدِيٍّ رضي الله عنه وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ فِي قَوْلِهِ الْقَدِيمِ فِي إبَاحَةِ مَا أَكَلَ الْكَلْبُ مِنْهُ (وَلَوْ أَنَّهُ صَادَ صُيُودًا وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهَا

تَرْجِيحَهُ لَا الْجَمِيعَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا تَنَافٍ يُثْبِتُ الْجَمِيعَ أَخْذًا بِالْمُتَيَقَّنِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} قِيلَ أُرِيدَ بِهِ الْحَبَلُ، وَقِيلَ الْحَيْضُ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُمَا مُرَادَانِ؛ لِأَنَّهُ لَا تَنَافِيَ بَيْنَهُمَا فَكَذَا هَا هُنَا لَا تَنَافِيَ بَيْنَ الْكَسْبِ وَالْجِرَاحَةِ، كَذَا فِي عَامَّةِ الشُّرُوحِ

قَالَ صَاحِبُ الْغَايَةِ: فَأَقُولُ عَلَى مَا قَالُوا يَلْزَمُهُ عُمُومُ الْمُشْتَرَكِ فِي مَوْضِعِ الْإِثْبَاتِ وَهُوَ فَاسِدٌ انْتَهَى اهـ

وَذَكَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ عَلَى وَجْهِ الْبَسْطِ وَالتَّوْسِيعِ حَيْثُ قَالَ: وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الْجُرْحَ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُشْتَرَكًا بَيْنَ الْكَسْبِ وَالْجُرْحِ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ الْجِرَاحَةُ أَوْ يَكُونَ حَقِيقَةً فِي أَحَدِهِمَا مَجَازًا فِي الْآخَرِ، وَالْمُشْتَرَكُ لَا عُمُومَ لَهُ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ عِنْدَنَا لَا يَجُوزُ بِخِلَافِ قَوْله تَعَالَى {مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} فَإِنَّهُ لَفْظٌ عَامٌّ يَتَنَاوَلُ الْجَمِيعَ بِالتَّوَاطُؤِ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ

أَقُولُ: يُمْكِنُ الْجَوَابُ عَنْهُ بِأَنَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ مِنْ قَوْلِهِ: يُحْمَلُ عَلَى الْجَارِحِ الْكَاسِبِ بِنَابِهِ وَمِخْلَبِهِ أَنَّهُ يُجْمَعُ فِي الِاعْتِبَارِ وَالْعَمَلِ بَيْنَ كِلَا مُحْتَمَلَيْ النَّصِّ الْمَذْكُورِ مِنْ التَّأْوِيلَيْنِ لِعَدَمِ التَّنَافِي بَيْنَهُمَا وَفِيهِ أَخْذٌ بِالْمُتَيَقَّنِ إذْ يُوجَدُ فِي الْمَجْمُوعِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَأَيٌّ مِنْهُمَا يُرَادُ فِي النَّظْمِ الشَّرِيفِ كَانَ مَأْخُوذًا فِي الِاعْتِبَارِ وَالْعَمَلِ، وَلَيْسَ مُرَادُهُ أَنَّ كِلَا التَّأْوِيلَيْنِ يُرَادَانِ مَعًا بِلَفْظِ النَّصِّ الْمَذْكُورِ حَتَّى يَلْزَمَ عُمُومُ الْمُشْتَرَكِ فِي الْإِثْبَاتِ أَوْ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ، وَصَاحِبُ الْعِنَايَةِ لِزَعْمِهِ أَنَّ مُرَادَهُمْ هُوَ الثَّانِي قَالَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ فَيُحْمَلُ عَلَى الْجَارِحِ الْكَاسِبِ: يَعْنِي يُجْمَعُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ بَيْنَ التَّأْوِيلَيْنِ، وَكَانَ حَقُّ التَّفْسِيرِ أَنْ يُقَالَ: يَعْنِي يُجْمَعُ فِي الِاعْتِبَارِ وَالْعَمَلِ بَيْنَ التَّأْوِيلَيْنِ كَمَا نَبَّهْت عَلَيْهِ آنِفًا

وَقَالَ صَاحِبُ مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ هَا هُنَا: فَإِنْ قِيلَ فِيهِ جَمْعٌ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ أَوْ عُمُومُ الْمُشْتَرَكِ؛ لِأَنَّ الْجَوَارِحَ إمَّا أَنْ تَكُونَ حَقِيقَةً فِي الْكَوَاسِبِ أَوْ مَجَازًا

قُلْنَا: لَا كَذَلِكَ، بَلْ الْجَوَارِحُ أَخَصُّ مِنْ الْكَوَاسِبِ، فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْكَوَاسِبِ الْجَوَارِحَ لَا يَلْزَمُ ذَلِكَ انْتَهَى

أَقُولُ: جَوَابُهُ لَيْسَ بِسَدِيدٍ؛ لِأَنَّ كَوْنَ الْجَوَارِحِ أَخَصَّ مِنْ الْكَوَاسِبِ لَا يَدْفَعُ لُزُومَ الْمَحْذُورِ الْمَذْكُورِ فِي السُّؤَالِ؛ إذْ لَا شَكَّ أَنَّ مَفْهُومَ الْأَخَصِّ يُغَايِرُ مَفْهُومَ الْأَعَمِّ، وَإِلَّا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ أَخَصَّ مِنْ نَفْسِهِ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْبُطْلَانِ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ اللَّفْظَ الْوَاحِدَ لَا يُطْلَقُ عَلَى الْمَعْنَيَيْنِ الْمُتَغَايِرَيْنِ سَوَاءٌ كَانَ أَحَدُهُمَا أَخَصَّ مِنْ الْآخَرِ أَمْ لَا إلَّا بِطَرِيقِ الِاشْتِرَاكِ أَوْ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ فَيَلْزَمُ أَحَدُ الْمَحْذُورَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فِي السُّؤَالِ قَطْعًا عَلَى تَقْدِيرِ إرَادَتِهِمَا مَعًا مِنْ لَفْظٍ وَاحِدٍ.

(قَوْلُهُ وَهُوَ مُؤَيَّدٌ بِمَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ عَدِيٍّ) أَقُولُ: فِي كَلَامِهِ هَذَا رَكَاكَةٌ؛ لِأَنَّ ضَمِيرَ هُوَ فِي قَوْلِهِ وَهُوَ مُؤَيَّدٌ إنْ كَانَ رَاجِعًا إلَى الْفَرْقِ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ أُسْلُوبِ تَحْرِيرِهِ، يَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّ حَدِيثَ عَدِيٍّ لَا يُفِيدُ الْفَرْقَ الْمَذْكُورَ أَصْلًا، فَإِنَّهُ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَنْ لَا يُؤْكَلَ مَا أَكَلَ مِنْهُ الْكَلْبُ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنْ يُؤْكَلَ مَا أَكَلَ مِنْهُ الْبَازِي، وَإِفَادَةُ الْفَرْقِ إنَّمَا تَكُونُ بِالدَّلَالَةِ عَلَيْهِمَا مَعًا وَإِنْ كَانَ رَاجِعًا إلَى مَضْمُونِ قَوْلِهِ فَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ الْكَلْبُ أَوْ الْفَهْدُ لَمْ يُؤْكَلْ كَانَ حَقُّ قَوْلِهِ: وَهُوَ مُؤَيَّدٌ بِمَا رَوَيْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ عَدِيٍّ أَنْ يَذْكُرَ عَقِيبَ قَوْلِهِ فَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ الْكَلْبُ أَوْ الْفَهْدُ لَمْ يُؤْكَلْ، وَلَمَّا وَسَّطَ بَيْنَهُمَا قَوْلَهُ وَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ الْبَازِي أُكِلَ

وَقَوْلُهُ: وَالْفَرْقُ مَا بَيَّنَّاهُ فِي دَلَالَةِ التَّعْلِيمِ كَانَ الْكَلَامُ قَلِقًا كَمَا لَا يَخْفَى (قَوْلُهُ وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ فِي قَوْلِهِ الْقَدِيمِ فِي إبَاحَةِ مَا أَكَلَ الْكَلْبُ مِنْهُ) فَإِنْ قِيلَ: رَوَى أَبُو ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيُّ رضي الله عنه «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ فِي صَيْدِ الْكَلْبِ: كُلْ وَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ» وَذَلِكَ دَلِيلٌ

ص: 118

ثُمَّ أَكَلَ مِنْ صَيْدٍ لَا يُؤْكَلُ هَذَا الصَّيْدُ)؛ لِأَنَّهُ عَلَامَةُ الْجَهْلِ، وَلَا مَا يَصِيدُهُ بَعْدَهُ حَتَّى يَصِيرَ مُعَلَّمًا عَلَى اخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ كَمَا بَيَّنَّاهَا فِي الِابْتِدَاءِ

وَأَمَّا الصُّيُودُ الَّتِي أَخَذَهَا مِنْ قَبْلُ فَمَا أَكَلَ مِنْهَا لَا تَظْهَرُ الْحُرْمَةُ فِيهِ لِانْعِدَامِ الْمَحَلِّيَّةِ وَمَا لَيْسَ بِمُحْرَزٍ بِأَنْ كَانَ فِي الْمَفَازَةِ بِأَنْ لَمْ يَظْفَرْ صَاحِبُهُ بَعْدَ تَثَبُّتِ الْحُرْمَةِ فِيهِ بِالِاتِّفَاقِ، وَمَا هُوَ مُحْرَزٌ فِي بَيْتِهِ يَحْرُمُ عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا

هُمَا يَقُولَانِ: إنَّ الْأَكْلَ لَيْسَ يَدُلُّ عَلَى الْجَهْلِ فِيمَا تَقَدَّمَ؛ لِأَنَّ الْحِرْفَةَ

وَاضِحٌ لَهُمَا

أُجِيبَ بِأَنَّهُ خَبَرُ وَاحِدٍ لَا يُعَارِضُ قَوْله تَعَالَى {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} فَإِنَّ الْإِمْسَاكَ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يَأْكُلَ مِنْهُ، وَحِينَ أَكَلَ مِنْهُ دَلَّ أَنَّهُ أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ، يُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام فِي حَدِيثِ عَدِيٍّ «فَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ فَلَا تَأْكُلْ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ» كَذَا فِي الْعِنَايَةِ أَخْذًا مِنْ النِّهَايَةِ

أَقُولُ: يَرِدُ عَلَى هَذَا الْجَوَابِ أَنَّ قَوْله تَعَالَى {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى إبَاحَةِ أَكْلِ مَا لَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ الْكَلْبُ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ إبَاحَةِ أَكْلِ مَا أَكَلَ مِنْهُ إلَّا بِطَرِيقِ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ، وَهُوَ لَيْسَ بِمُعْتَبَرٍ عِنْدَنَا كَالْعُرْفِ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ، فَلَمْ يَتَحَقَّقْ التَّعَارُضُ بَيْنَ ذَلِكَ الْحَدِيثِ وَبَيْنَ قَوْله تَعَالَى {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} حَتَّى يَلْزَمَ أَنْ يُتْرَكَ الْعَمَلُ بِالْحَدِيثِ لِكَوْنِهِ خَبَرَ وَاحِدٍ

لَا يُقَالُ: يَحْصُلُ بِهَذَا الْجَوَابِ إلْزَامُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ مَفْهُومَ الْمُخَالَفَةِ حُجَّةٌ عِنْدَهُ، وَهَذَا الْقَدْرُ كَافٍ فِي صِحَّةِ الْجَوَابِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: لَا يَحْصُلُ إلْزَامُهُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ مَنْ يَقُولُ يَكُونُ الْمَفْهُومُ حُجَّةً لَا يُنْكِرُ أَنَّ الْمَنْطُوقَ أَقْوَى مِنْهُ فَلَا يَتَحَقَّقُ حُكْمُ التَّعَارُضِ عِنْدَهُ أَيْضًا

وَالْحَقُّ عِنْدِي فِي الْجَوَابِ عَنْ أَصْلِ السُّؤَالِ أَنْ يُقَالَ: حَدِيثُ أَبِي ثَعْلَبَةَ مُعَارَضٌ بِحَدِيثِ عَدِيٍّ، وَحَدِيثُ عَدِيٍّ مُرَجَّحٌ عَلَى حَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ؛ لِأَنَّ حَدِيثَهُ يُحِلُّ مَا أَكَلَ مِنْهُ الْكَلْبُ، وَحَدِيثُ عَدِيٍّ يُحَرِّمُهُ، وَقَدْ عُرِفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ الْمُحَرَّمَ يُرَجَّحُ عَلَى الْمُحَلَّلِ عِنْدَ التَّعَارُضِ فَيُجْعَل نَاسِخًا لَهُ فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِحَدِيثِ عَدِيٍّ دُونَ حَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ (قَوْلُهُ وَلَا مَا يَصِيدُهُ بَعْدَهُ حَتَّى يَصِيرَ مُعَلَّمًا عَلَى اخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ كَمَا بَيَّنَّاهَا فِي الِابْتِدَاءِ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: أَرَادَ مَا ذَكَرَ أَنَّهُ يَحِلُّ عِنْدَهُ مَا اصْطَادَهُ ثَالِثًا إلَخْ

أَقُولُ: تَفْسِيرُ مُرَادِ الْمُصَنِّف بِمَا ذَكَرَهُ هَذَا الشَّارِحُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّ فِيمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ: يَحِلُّ عِنْدَهُ مَا اصْطَادَهُ ثَالِثًا إلَخْ رِوَايَتَيْنِ لَا غَيْرَ: رِوَايَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَهِيَ حِلُّ مَا اصْطَادَهُ ثَالِثًا، وَرِوَايَةٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَهِيَ عَدَمُ حِلِّ ذَلِكَ

وَقَدْ قَالَ الْمُصَنِّفُ هَا هُنَا عَلَى اخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ كَمَا بَيَّنَّاهَا بِصِيغَةِ الْجَمْعِ، فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الشَّارِحُ الْمَذْكُورُ؟ فَالصَّوَابُ أَنَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ هَا هُنَا عَلَى اخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ كَمَا بَيَّنَّاهَا فِي الِابْتِدَاءِ وَهُوَ الْإِشَارَةُ إلَى مَا ذَكَرَهُ فِيمَا مَرَّ بِقَوْلِهِ ثُمَّ شَرَطَ تَرْكَ الْأَكْلِ ثَلَاثًا وَهَذَا عِنْدَهُمَا وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ إلَى آخِرِ مَا ذَكَرَهُ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ، فَحِينَئِذٍ تَتَحَقَّقُ الرِّوَايَاتُ وَتَنْتَظِمُ صِيغَةُ الْجَمْعِ كَمَا لَا يَخْفَى (قَوْلُهُ هُمَا يَقُولَانِ إنَّ الْأَكْلَ لَيْسَ يَدُلُّ عَلَى الْجَهْلِ فِيمَا تَقَدَّمَ؛ لِأَنَّ الْحِرْفَةَ

ص: 119

قَدْ تُنْسَى، وَلِأَنَّ فِيمَا أَحْرَزَهُ قَدْ أَمْضَى الْحُكْمَ فِيهِ الِاجْتِهَادُ فَلَا يُنْقَضُ بِاجْتِهَادٍ مِثْلِهِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ قَدْ حَصَلَ بِالْأَوَّلِ، بِخِلَافِ غَيْرِ الْمُحْرَزِ؛ لِأَنَّهُ مَا حَصَلَ الْمَقْصُودُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لِبَقَائِهِ صَيْدًا مِنْ وَجْهٍ لِعَدَمِ الْإِحْرَازِ فَحَرَّمْنَاهُ احْتِيَاطًا

وَلَهُ أَنَّهُ آيَةُ جَهْلِهِ مِنْ الِابْتِدَاءِ؛ لِأَنَّ الْحِرْفَةَ لَا يُنْسَى أَصْلُهَا، فَإِذَا أَكَلَ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ تَرَكَ الْأَكْلَ لِلشِّبَعِ لَا لِلْعِلْمِ، وَتَبَدَّلَ الِاجْتِهَادُ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ؛ لِأَنَّهُ بِالْأَكْلِ فَصَارَ كَتَبَدُّلِ اجْتِهَادِ الْقَاضِي قَبْلَ الْقَضَاءِ

(وَلَوْ أَنَّ صَقْرًا فَرَّ مِنْ صَاحِبِهِ فَمَكَثَ حِينًا ثُمَّ صَادَ لَا يُؤْكَلُ صَيْدُهُ)؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ مَا صَارَ بِهِ عَالِمًا فَيُحْكَمُ بِجَهْلِهِ كَالْكَلْبِ إذَا أَكَلَ مِنْ الصَّيْدِ

(وَلَوْ شَرِبَ الْكَلْبُ مِنْ دَمِ الصَّيْدِ وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ أُكِلَ)؛ لِأَنَّهُ مُمْسِكٌ لِلصَّيْدِ عَلَيْهِ، وَهَذَا مِنْ غَايَةِ عِلْمِهِ حَيْثُ شَرِبَ مَا لَا يَصْلُحُ لِصَاحِبِهِ وَأَمْسَكَ عَلَيْهِ مَا يَصْلُحُ لَهُ

(وَلَوْ أَخَذَ الصَّيْدَ مِنْ الْمُعَلَّمِ ثُمَّ قَطَعَ مِنْهُ قِطْعَةً وَأَلْقَاهَا إلَيْهِ فَأَكَلَهَا يُؤْكَلُ مَا بَقِيَ)؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ صَيْدًا فَصَارَ كَمَا إذَا أَلْقَى إلَيْهِ طَعَامًا غَيْرَهُ، وَكَذَا إذَا وَثَبَ الْكَلْبُ فَأَخَذَهُ مِنْهُ وَأَكَلَ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ مَا أَكَلَ مِنْ الصَّيْدِ، وَالشَّرْطُ تَرْكُ الْأَكْلِ مِنْ الصَّيْدِ فَصَارَ كَمَا إذَا افْتَرَسَ شَاتَهُ، بِخِلَافِ مَا إذَا فَعَلَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُحْرِزَهُ الْمَالِكُ؛ لِأَنَّهُ بَقِيَتْ فِيهِ جِهَةُ الصَّيْدِيَّةِ

(وَلَوْ نَهَسَ الصَّيْدَ فَقَطَعَ مِنْهُ بِضْعَةً فَأَكَلَهَا ثُمَّ أَدْرَكَ الصَّيْدَ فَقَتَلَهُ وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ لَمْ يُؤْكَلْ)؛ لِأَنَّهُ صَيْدُ كَلْبٍ جَاهِلٍ حَيْثُ أَكَلَ مِنْ الصَّيْدَ

(وَلَوْ أَلْقَى مَا نَهَسَهُ وَاتَّبَعَ الصَّيْدَ فَقَتَلَهُ وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ وَأَخَذَهُ صَاحِبُهُ ثُمَّ مَرَّ بِتِلْكَ الْبِضْعَةِ فَأَكَلَهَا يُؤْكَلُ الصَّيْدُ)؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَكَلَ مِنْ نَفْسِ الصَّيْدِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَمْ يَضُرَّهُ، فَإِذَا أَكَلَ مَا بَانَ مِنْهُ وَهُوَ لَا يَحِلُّ لِصَاحِبِهِ أَوْلَى، بِخِلَافِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ أَكَلَ فِي حَالَةِ الِاصْطِيَادِ فَكَانَ جَاهِلًا مُمْسِكًا لِنَفْسِهِ، وَلِأَنَّ نَهْسَ الْبِضْعَةِ قَدْ يَكُونُ لِيَأْكُلَهَا وَقَدْ يَكُونُ حِيلَةً فِي الِاصْطِيَادِ لِيَضْعُفَ بِقَطْعِ الْقِطْعَةِ مِنْهُ فَيُدْرِكَهُ، فَالْأَكْلُ قَبْلَ الْأَخْذِ يَدُلُّ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، وَبَعْدَهُ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي فَلَا يَدُلُّ عَلَى جَهْلِهِ.

قَدْ تُنْسَى) أَقُولُ: الظَّاهِرُ مِمَّا ذَكَرَهُ بَعْدَ هَذَا بِقَوْلِهِ وَلِأَنَّ فِيمَا أَحْرَزَهُ إلَخْ أَنْ يَكُونَ الْمَذْكُورُ هَا هُنَا دَلِيلًا تَامًّا لَهُمَا، فَيَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ تَمَّ لَدَلَّ عَلَى أَنْ لَا تَثْبُتَ الْحُرْمَةُ عِنْدَهُمَا فِيمَا كَانَ غَيْرَ مُحْرَزٍ فِي الْمَفَازَةِ أَيْضًا لِجَرَيَانِ هَذَا الدَّلِيلِ فِي ذَلِكَ أَيْضًا مَعَ أَنَّهُ تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ فِيهِ بِالِاتِّفَاقِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْمُصَنِّفُ مِنْ قَبْلُ فَتَأَمَّلْ

(قَوْلُهُ وَكَذَا إذَا وَثَبَ الْكَلْبُ فَأَخَذَهُ مِنْهُ وَأَكَلَ مِنْهُ مَا أَكَلَ مِنْ الصَّيْدِ، وَالشَّرْطُ تَرْكُ الْأَكْلِ مِنْ الصَّيْدِ فَصَارَ كَمَا إذَا افْتَرَسَ شَاتَهُ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَطُولِبَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ مَا وَثَبَ فَأَخَذَ مِنْ صَاحِبِهِ وَأَكَلَ وَبَيْنَ مَا أَكَلَ بَعْدَمَا قَتَلَ، فَإِنَّ الصَّيْدَ كَمَا خَرَجَ عَنْ الصَّيْدِيَّةِ بِأَخْذِ صَاحِبِهِ جَازَ أَنْ يَخْرُجَ أَيْضًا بِقَتْلِهِ

وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَتَعَرَّضْ بِالْأَكْلِ حَتَّى أَخَذَهُ صَاحِبُهُ دَلَّ أَنَّهُ كَانَ مُمْسِكًا عَلَى صَاحِبِهِ، وَانْتِهَاسُهُ مِنْهُ

وَمِنْ لَحْمٍ آخَرَ فِي مِخْلَاةِ صَاحِبِهِ سَوَاءٌ

وَأَمَّا إذَا أَكَلَ قَبْلَ الْأَخْذِ كَانَ مُمْسِكًا عَلَى نَفْسِهِ انْتَهَى كَلَامُهُ

أَقُولُ: هَذَا الْجَوَابُ لَا يَدْفَعُ الْمُطَالَبَةَ الْمَذْكُورَةَ؛ لِأَنَّ حَاصِلَهَا نَقْضُ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِ مَسْأَلَةِ الْوَثْبَةِ مِنْ أَنَّهُ مَا أَكَلَ مِنْ الصَّيْدِ بِمَا إذَا أَكَلَ بَعْدَمَا قَتَلَ، فَإِنَّ ذَلِكَ التَّعْلِيلَ مُتَمَشٍّ فِي صُورَةِ الْقَتْلِ أَيْضًا؛ إذْ الصَّيْدُ كَمَا يَخْرُجُ عَنْ الصَّيْدِيَّةِ بِأَخْذِ صَاحِبِهِ يَخْرُجُ أَيْضًا بِقَتْلِهِ، فَلَمْ يَتَحَقَّقْ الْأَكْلُ مِنْ الصَّيْدِ فِي الصُّورَتَيْنِ مَعًا مَعَ أَنَّهُمَا مُفْتَرِقَانِ فِي الْحُكْمِ

وَحَاصِلُ الْجَوَابِ الْمَذْكُورِ بَيَانُ فَرْقٍ بَيْنَهُمَا مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى غَيْرِ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي التَّعْلِيلِ، وَلَا يَذْهَبُ عَلَيْك أَنَّ

ص: 120

قَالَ (وَإِنْ أَدْرَكَ الْمُرْسِلُ الصَّيْدَ حَيًّا وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُذَكِّيَهُ، وَإِنْ تَرَكَ تَذْكِيَتَهُ حَتَّى مَاتَ لَمْ يُؤْكَلْ، وَكَذَا الْبَازِي وَالسَّهْمُ)؛ لِأَنَّهُ قَدَرَ عَلَى الْأَصْلِ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْبَدَلِ، إذْ الْمَقْصُودُ هُوَ الْإِبَاحَةُ وَلَمْ تَثْبُتْ قَبْلَ مَوْتِهِ فَبَطَلَ حُكْمُ الْبَدَلِ، وَهَذَا إذَا تَمَكَّنَ مِنْ ذَبْحِهِ

أَمَّا إذَا وَقَعَ فِي يَدِهِ وَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ ذَبْحِهِ وَفِيهِ مِنْ الْحَيَاةِ فَوْقَ مَا يَكُونُ فِي الْمَذْبُوحِ لَمْ يُؤْكَلْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ

وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَحِلُّ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْأَصْلِ فَصَارَ كَمَا إذَا رَأَى الْمَاءَ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى الِاسْتِعْمَالِ

وَوَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّهُ قَدَرَ اعْتِبَارًا؛ لِأَنَّهُ ثَبَّتَ يَدَهُ عَلَى الْمَذْبَحِ وَهُوَ قَائِمٌ مَكَانَ التَّمَكُّنِ مِنْ الذَّبْحِ إذْ لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُهُ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُدَّةٍ وَالنَّاسُ يَتَفَاوَتُونَ فِيهَا عَلَى حَسَبِ تَفَاوُتِهِمْ فِي الْكِيَاسَةِ وَالْهِدَايَةِ فِي أَمْرِ الذَّبْحِ فَأُدِيرَ الْحُكْمُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، بِخِلَافِ مَا إذَا بَقِيَ فِيهِ مِنْ الْحَيَاةِ مِثْلُ مَا يَبْقَى فِي الْمَذْبُوحِ؛ لِأَنَّهُ مَيِّتٌ حُكْمًا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ وَقَعَ فِي الْمَاءِ وَهُوَ بِهَذِهِ الْحَالَةِ لَمْ يَحْرُمْ كَمَا إذَا وَقَعَ وَهُوَ مَيِّتٌ وَالْمَيِّتُ لَيْسَ بِمُذْبَحٍ

وَفَصَّلَ بَعْضُهُمْ فِيهَا تَفْصِيلًا وَهُوَ أَنَّهُ إنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ لِفَقْدِ الْآلَةِ لَمْ يُؤْكَلْ، وَإِنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ بِضِيقِ الْوَقْتِ لَمْ يُؤْكَلْ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ إذَا وَقَعَ فِي يَدِهِ لَمْ يَبْقَ صَيْدًا فَبَطَلَ حُكْمُ ذَكَاةِ الِاضْطِرَارِ،

ذَلِكَ لَا يَدْفَعُ وُرُودَ الْمُطَالَبَةِ الْمَذْكُورَةِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي التَّعْلِيلِ

وَلَقَدْ أَحْسَنَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ هَا هُنَا فِي التَّقْرِيرِ حَيْثُ قَالَ: فَوَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا إذَا أَكَلَ الْكَلْبُ مِنْ الصَّيْدِ بَعْدَ أَنْ قَتَلَهُ قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَ الصَّائِدُ حَيْثُ لَا يُؤْكَلُ، وَفِي هَذِهِ الصُّورَةِ وَهِيَ مَا أَكَلَ مِنْهُ بِالْوَثْبَةِ بَعْدَ أَخْذِ الصَّائِدِ يُؤْكَلُ، وَتَعْلِيلُ الْكِتَابِ هَا هُنَا بِقَوْلِهِ؛ لِأَنَّ مَا أَكَلَ مِنْ الصَّيْدِ شَامِلٌ لِلصُّورَتَيْنِ وَمَعَ ذَلِكَ افْتَرَقَتَا فِي الْحُكْمِ

وَالْأَوْجُهُ فِيهِ هُوَ أَنَّ الْفَرْقَ إنَّمَا يَنْشَأُ بَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ وُجُودُ الْإِمْسَاكِ لِصَاحِبِهِ وَعَدَمُ الْإِمْسَاكِ لَهُ، فَهَاهُنَا أَيْ فِي مَسْأَلَةِ الْوَثْبَةِ لَمَّا لَمْ يَأْكُلْ مِنْ الصَّيْدِ إلَى أَنْ أَخَذَهُ صَاحِبُهُ قَدْ تَمَّ إمْسَاكُهُ عَلَى صَاحِبِهِ، وَهُنَاكَ لَمَّا أَكَلَ مِنْ الصَّيْدِ بَعْدَ قَتْلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَهُ صَاحِبُهُ عُلِمَ أَنَّهُ إنَّمَا أَمْسَكَهُ لِنَفْسِهِ لَا لِصَاحِبِهِ فَخَرَجَ بِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُعَلَّمًا انْتَهَى

فَإِنَّهُ طَعَنَ فِي التَّعْلِيلِ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ بِشُمُولِهِ لِلصُّورَتَيْنِ مَعَ افْتِرَاقِهِمَا فِي الْحُكْمِ، وَبَيَّنَ وَجْهًا آخَرَ فَارِقًا بَيْنَهُمَا وَعَدَّهُ أَوْجَهَ لِكَوْنِهِ سَالِمًا عَنْ وُرُودِ الْمُطَالَبَةِ بِالْفَرْقِ بَيْنَهُمَا

ثُمَّ أَقُولُ: التَّحْقِيقُ أَنَّ الْمُطَالَبَةَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ تَيْنِكِ الْمَسْأَلَتَيْنِ سَاقِطَةٌ عَمَّا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْمُصَنِّفَ تَدَارَكَ دَفْعَهَا بِقَوْلِهِ: بِخِلَافِ مَا إذَا فَعَلَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُحْرِزَهُ الْمَالِكُ؛ لِأَنَّهُ بَقِيَتْ فِيهِ جِهَةُ الصَّيْدِيَّةِ فِيهِ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ الشُّرَّاحُ هُوَ أَنَّ الصَّيْدَ اسْمٌ لِمُتَوَحِّشٍ غَيْرِ مُحْرَزٍ فَقَدْ زَالَ التَّوَحُّشُ بِالْقَتْلِ وَبَقِيَ عَدَمُ الْإِحْرَازِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِزَهُ الْمَالِكُ، فَمَا بَقِيَ شَيْءٌ مِنْ آثَارِ الصَّيْدِ وَلَوَازِمِهِ يَبْقَى حُكْمُ الصَّيْدِيَّةِ فِيهِ، فَظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ مَسْأَلَةِ الْوَثْبَةِ وَبَيْنَ مَا إذَا أَكَلَهُ بَعْدَ أَنْ قَتَلَهُ قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَهُ الصَّائِدُ، تَأَمَّلْ تَرْشُدْ

(قَوْلُهُ وَإِنْ أَدْرَكَ الْمُرْسِلُ الصَّيْدَ حَيًّا وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُذَكِّيَهُ، وَإِنْ تَرَكَ تَذْكِيَتَهُ حَتَّى مَاتَ لَمْ يُؤْكَلْ، وَكَذَا الْبَازِي وَالسَّهْمُ) اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ وَإِنْ أَدْرَكَ الْمُرْسِلُ إلَى قَوْلِهِ حَتَّى مَاتَ لَمْ يُؤْكَلْ عِبَارَةُ الْقُدُورِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ، وَقَوْلُهُ وَكَذَا الْبَازِي

ص: 121

وَهَذَا إذَا كَانَ يُتَوَهَّمُ بَقَاؤُهُ، أَمَّا إذَا شَقَّ بَطْنَهُ وَأَخْرَجَ مَا فِيهِ ثُمَّ وَقَعَ فِي يَدِ صَاحِبِهِ حَلَّ؛ لِأَنَّ مَا بَقِيَ اضْطِرَابُ الْمَذْبُوحِ فَلَا يُعْتَبَرُ كَمَا إذَا وَقَعَتْ شَاةٌ فِي الْمَاءِ بَعْدَمَا ذُبِحَتْ

وَقِيلَ هَذَا قَوْلُهُمَا، أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَلَا يُؤْكَلُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ وَقَعَ فِي يَدِهِ حَيًّا فَلَا يَحِلُّ إلَّا بِذَكَاةِ الِاخْتِيَارِ رُدَّ إلَى الْمُتَرَدِّيَةِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا إذَا تَرَكَ التَّذْكِيَةَ، فَلَوْ أَنَّهُ ذَكَّاهُ حَلَّ أَكْلُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَكَذَا الْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ، وَاَلَّذِي يَبْقُرُ الذِّئْبُ بَطْنَهُ وَفِيهِ حَيَاةٌ خَفِيَّةٌ أَوْ بَيِّنَةٌ، وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ} اسْتَثْنَاهُ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ

وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ إذَا كَانَ بِحَالٍ لَا يَعِيشُ مِثْلُهُ لَا يَحِلُّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَوْتُهُ بِالذَّبْحِ

وَقَالَ مُحَمَّدٌ: إنْ كَانَ يَعِيشُ فَوْقَ مَا يَعِيشُ الْمَذْبُوحُ يَحِلُّ وَإِلَّا فَلَا؛ لِأَنَّهُ لَا مُعْتَبَرَ بِهَذِهِ الْحَيَاةِ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ

وَالسَّهْمُ زِيَادَةٌ مِنْ الْمُصَنِّفِ

فَأَقُولُ: هَذِهِ الزِّيَادَةُ مِنْ الْمُصَنِّفِ هَا هُنَا أَمْرٌ زَائِدٌ مُسْتَغْنًى عَنْهُ جِدًّا عِنْدِي

أَمَّا قَوْلُهُ وَكَذَا الْبَازِي فَظَاهِرٌ لِأَنَّ قَوْلَ الْقُدُورِيِّ وَإِنْ أَدْرَكَ الْمُرْسِلُ الصَّيْدَ حَيًّا يَتَنَاوَلُ صَيْدَ الْكَلْبِ وَصَيْدَ الْبَازِي، وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ يَقْتَضِي اخْتِصَاصَهُ بِالْأَوَّلِ فَلَا حَاجَةَ إلَى ذِكْرِ قَوْلِهِ وَكَذَا الْبَازِي بَلْ لَا وَجْهَ لَهُ

وَأَمَّا قَوْلُهُ وَالسَّهْمُ فَلِأَنَّ حُكْمَ مَسْأَلَةِ السَّهْمِ سَيَجِيءُ فِي بَابِ الرَّمْيِ مُفَصَّلًا؛ أَلَا يَرَى إلَى قَوْلِهِ هُنَاكَ: وَإِذَا سَمَّى الرَّجُلُ عِنْدَ الرَّمْيِ أَكَلَ مَا أَصَابَ إذَا خَرَجَ السَّهْمُ فَمَاتَ، وَإِنْ أَدْرَكَهُ حَيًّا ذَكَّاهُ انْتَهَى، فَلَا حَاجَةَ إلَى بَيَانِهِ هَا هُنَا (قَوْلُهُ وَقَالَ مُحَمَّدٌ: إنْ كَانَ يَعِيشُ فَوْقَ مَا يَعِيشُ الْمَذْبُوحُ يَحِلُّ، وَإِلَّا فَلَا؛ لِأَنَّهُ لَا مُعْتَبَرَ بِهَذِهِ الْحَيَاةِ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَالْكِفَايَةِ: أَرَادَ بِقَوْلِهِ مَا قَرَّرْنَاهُ قَوْلَهُ: لِأَنَّ مَا بَقِيَ اضْطِرَابُ الْمَذْبُوحِ فَلَا يُعْتَبَرُ

وَقَالَ صَاحِبُ الْغَايَةِ وَالْعِنَايَةِ: أَشَارَ بِذَلِكَ إلَى قَوْلِهِ؛ لِأَنَّهُ مَيِّتٌ حُكْمًا

أَقُولُ: الْحَقُّ مَا قَالَهُ الشَّارِحَانِ الْأَخِيرَانِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ؛ لِأَنَّ مَا بَقِيَ اضْطِرَابُ الْمَذْبُوحِ فَلَا يُعْتَبَرُ تَعْلِيلٌ لِحُكْمِ أَكْلِ مَا شُقَّ بَطْنُهُ وَأُخْرِجَ مَا فِيهِ ثُمَّ وَقَعَ فِي يَدِ صَاحِبِهِ، وَلَمْ يُفَرِّقْ أَحَدٌ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ بَيْنَ مَا يَعِيشُ فَوْقَ مَا يَعِيشُ

ص: 122

(وَلَوْ أَدْرَكَهُ وَلَمْ يَأْخُذْهُ، فَإِنْ كَانَ فِي وَقْتٍ لَوْ أَخَذَهُ أَمْكَنَهُ ذَبْحُهُ لَمْ يُؤْكَلْ)؛ لِأَنَّهُ صَارَ فِي حُكْمِ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ (وَإِنْ كَانَ لَا يُمْكِنُهُ ذَبْحُهُ أُكِلَ)؛ لِأَنَّ الْيَدَ لَمْ تَثْبُتْ بِهِ، وَالتَّمَكُّنُ مِنْ الذَّبْحِ لَمْ يُوجَدْ (وَإِنْ أَدْرَكَهُ فَذَكَّاهُ حَلَّ لَهُ)؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ فِيهِ حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ فَالذَّكَاةُ وَقَعَتْ مَوْقِعَهَا بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ؛ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله ذَكَاتُهُ الذَّبْحُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ وَقَدْ وُجِدَ، وَعِنْدَهُمَا لَا يُحْتَاجُ إلَى الذَّبْحِ

(وَإِذَا أَرْسَلَ كَلْبَهُ الْمُعَلَّمَ عَلَى صَيْدٍ وَأَخَذَ غَيْرَهُ حَلَّ) وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَحِلُّ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَهُ بِغَيْرِ إرْسَالٍ؛ إذْ الْإِرْسَالُ مُخْتَصٌّ بِالْمُشَارِ إلَيْهِ

وَلَنَا أَنَّهُ شَرْطٌ غَيْرُ مُفِيدٍ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ حُصُولُ الصَّيْدِ إذْ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْوَفَاءِ بِهِ؛ إذْ لَا يُمْكِنُهُ تَعْلِيمُهُ عَلَى وَجْهٍ يَأْخُذُ مَا عَيَّنَهُ فَسَقَطَ اعْتِبَارُهُ

(وَلَوْ أَرْسَلَهُ عَلَى صَيْدٍ كَثِيرٍ وَسَمَّى مَرَّةً وَاحِدَةً حَالَةَ الْإِرْسَالِ، فَلَوْ قَتَلَ الْكُلَّ يَحِلُّ بِهَذِهِ التَّسْمِيَةِ الْوَاحِدَةِ)؛ لِأَنَّ الذَّبْحَ يَقَعُ بِالْإِرْسَالِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ، وَلِهَذَا تُشْتَرَطُ التَّسْمِيَةُ عِنْدَهُ وَالْفِعْلُ وَاحِدٌ فَيَكْفِيهِ تَسْمِيَةٌ وَاحِدَةٌ، بِخِلَافِ ذَبْحِ الشَّاتَيْنِ بِتَسْمِيَةٍ وَاحِدَةٍ؛ لِأَنَّ الثَّانِيَةَ تَصِيرُ مَذْبُوحَةً بِفِعْلٍ غَيْرِ الْأَوَّلِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَسْمِيَةٍ أُخْرَى، حَتَّى لَوْ أَضْجَعَ إحْدَاهُمَا فَوْقَ الْأُخْرَى، وَذَبَحَهُمَا بِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ تَحِلَّانِ بِتَسْمِيَةٍ وَاحِدَةٍ

(وَمَنْ أَرْسَلَ فَهْدًا فَكَمَنَ حَتَّى يَسْتَمْكِنَ ثُمَّ أَخَذَ الصَّيْدَ فَقَتَلَهُ يُؤْكَلُ)؛ لِأَنَّ مُكْثَهُ ذَلِكَ حِيلَةٌ مِنْهُ لِلصَّيْدِ لَا اسْتِرَاحَةٌ فَلَا يَقْطَعُ الْإِرْسَالَ (وَكَذَا الْكَلْبُ إذَا اعْتَادَ عَادَتَهُ)

(وَلَوْ أَخَذَ الْكَلْبُ صَيْدًا فَقَتَلَهُ ثُمَّ أَخَذَ آخَرَ فَقَتَلَهُ وَقَدْ أَرْسَلَهُ صَاحِبُهُ أُكِلَا جَمِيعًا)؛ لِأَنَّ الْإِرْسَالَ قَائِمٌ لَمْ يَنْقَطِعْ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ رَمَى سَهْمًا إلَى صَيْدٍ فَأَصَابَهُ وَأَصَابَ آخَرَ (وَلَوْ قَتَلَ الْأَوَّلَ فَجَثَمَ عَلَيْهِ طَوِيلًا مِنْ النَّهَارِ ثُمَّ مَرَّ بِهِ صَيْدٌ آخَرُ فَقَتَلَهُ لَا يُؤْكَلُ الثَّانِي) لِانْقِطَاعِ الْإِرْسَالِ بِمُكْثِهِ

إذْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ حِيلَةً مِنْهُ لِلْأَخْذِ وَإِنَّمَا كَانَ اسْتِرَاحَةً، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ

(وَلَوْ أَرْسَلَ بَازِيَهُ الْمُعَلَّمَ عَلَى صَيْدٍ فَوَقَعَ عَلَى شَيْءٍ ثُمَّ اتَّبَعَ الصَّيْدَ فَأَخَذَهُ وَقَتَلَهُ فَإِنَّهُ يُؤْكَلُ) وَهَذَا إذَا لَمْ يَمْكُثْ زَمَانًا طَوِيلًا لِلِاسْتِرَاحَةِ، وَإِنَّمَا مَكَثَ سَاعَةً لِلتَّمْكِينِ لِمَا بَيَّنَّاهُ فِي الْكَلْبِ

(وَلَوْ أَنَّ بَازِيًا مُعَلَّمًا أَخَذَ صَيْدًا فَقَتَلَهُ وَلَا يُدْرَى أَرْسَلَهُ إنْسَانٌ أَمْ لَا لَا يُؤْكَلُ) لِوُقُوعِ الشَّكِّ فِي الْإِرْسَالِ، وَلَا تَثْبُتُ الْإِبَاحَةُ بِدُونِهِ.

قَالَ (وَإِنْ خَنَقَهُ الْكَلْبُ وَلَمْ يَجْرَحْهُ لَمْ يُؤْكَلْ)؛ لِأَنَّ الْجُرْحَ شَرْطُ عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، وَهَذَا يَدُلُّك عَلَى أَنَّهُ لَا يَحِلُّ بِالْكَسْرِ

وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إذَا كَسَرَ عُضْوًا فَقَتَلَهُ لَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ؛ لِأَنَّهُ جِرَاحَةٌ بَاطِنَةٌ فَهِيَ كَالْجِرَاحَةِ الظَّاهِرَةِ

وَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ جُرْحٌ يَنْتَهِضُ سَبَبًا لِإِنْهَارِ الدَّمِ وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بِالْكَسْرِ فَأَشْبَهَ التَّخْنِيقَ

قَالَ (وَإِنْ شَارَكَهُ كَلْبٌ غَيْرُ مُعَلَّمٍ أَوْ كَلْبُ مَجُوسِيٍّ أَوْ كَلْبٌ لَمْ يَذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ يُرِيدُ بِهِ عَمْدًا لَمْ يُؤْكَلْ) لِمَا رَوَيْنَا فِي حَدِيثِ عَدِيٍّ رضي الله عنه، وَلِأَنَّهُ اجْتَمَعَ الْمُبِيحُ وَالْمُحْرِمُ فَيَغْلِبُ جِهَةُ الْحُرْمَةِ نَصًّا أَوْ احْتِيَاطًا (وَلَوْ رَدَّهُ عَلَيْهِ الْكَلْبُ

الْمَذْبُوحُ وَبَيْنَ مَا لَا يَعِيشُ فَوْقَ ذَلِكَ، بَلْ جَعَلُوا كَلْبَهُمَا مِمَّا بَقِيَ فِيهِ اضْطِرَابُ الْمَذْبُوحِ، وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ فَرَّقَ مُحَمَّدٌ بَيْنَهُمَا، وَقَوْلُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا مُعْتَبَرَ بِهَذِهِ الْحَيَاةِ تَعْلِيلٌ لِحُكْمِ أَحَدِهِمَا وَهُوَ مَا لَا يَعِيشُ فَوْقَ مَا يَعِيشُ الْمَذْبُوحُ، فَكَيْفَ يَتِمُّ أَنْ يُرِيدَ بِقَوْلِهِ فِي ذَيْلِ هَذَا التَّعْلِيلِ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ مَا يَعُمُّهُمَا مَعًا

بِخِلَافِ قَوْلِهِ؛ لِأَنَّهُ مَيِّتٌ حُكْمًا؛ لِأَنَّهُ تَعْلِيلٌ لِحِلِّ أَكْلِ مَا بَقِيَ فِيهِ مِنْ الْحَيَاةِ مِثْلَ مَا بَقِيَ فِي الْمَذْبُوحِ

ص: 123

الثَّانِي وَلَمْ يَجْرَحْهُ مَعَهُ وَمَاتَ بِجُرْحِ الْأَوَّلِ يُكْرَهُ أَكْلُهُ) لِوُجُودِ الْمُشَارَكَةِ فِي الْأَخْذِ وَفَقْدِهَا فِي الْجُرْحِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا رَدَّهُ الْمَجُوسِيُّ بِنَفْسِهِ حَيْثُ لَا يُكْرَهُ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْمَجُوسِيِّ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ فِعْلِ الْكَلْبِ فَلَا تَتَحَقَّقُ الْمُشَارَكَةُ وَتَتَحَقَّقُ بَيْنَ فِعْلَيْ الْكَلْبَيْنِ لِوُجُودِ الْمُجَانَسَةِ (وَلَوْ لَمْ يَرُدَّهُ الْكَلْبُ الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ لَكِنَّهُ أَشَدَّ عَلَى الْأَوَّلِ حَتَّى اشْتَدَّ عَلَى الصَّيْدِ فَأَخَذَهُ وَقَتَلَهُ لَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ)؛ لِأَنَّ فِعْلَ الثَّانِي أَثَرٌ فِي الْكَلْبِ الْمُرْسَلِ دُونَ الصَّيْدِ حَيْثُ ازْدَادَ بِهِ طَلَبًا فَكَانَ تَبَعًا لِفِعْلِهِ؛ لِأَنَّهُ بِنَاءٌ عَلَيْهِ فَلَا يُضَافُ الْأَخْذُ إلَى التَّبَعِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ رَدَّهُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِرْ تَبَعًا فَيُضَافُ إلَيْهِمَا.

قَالَ (وَإِذَا أَرْسَلَ الْمُسْلِمُ كَلْبَهُ فَزَجَرَهُ مَجُوسِيٌّ فَانْزَجَرَ بِزَجْرِهِ فَلَا بَأْسَ بِصَيْدِهِ) وَالْمُرَادُ بِالزَّجْرِ الْإِغْرَاءُ بِالصِّيَاحِ عَلَيْهِ، وَبِالِانْزِجَارِ إظْهَارُ زِيَادَةِ الطَّلَبِ

وَوَجْهُهُ أَنَّ الْفِعْلَ يُرْفَعُ بِمَا هُوَ فَوْقَهُ أَوْ مِثْلُهُ كَمَا فِي نَسْخِ الْآيِ، وَالزَّجْرُ دُونَ الْإِرْسَالِ لِكَوْنِهِ بِنَاءً عَلَيْهِ

قَالَ (وَلَوْ أَرْسَلَهُ مَجُوسِيٌّ فَزَجَرَهُ مُسْلِمٌ فَانْزَجَرَ بِزَجْرِهِ لَمْ يُؤْكَلْ)؛ لِأَنَّ الزَّجْرَ دُونَ الْإِرْسَالِ وَلِهَذَا لَمْ تَثْبُتْ بِهِ شُبْهَةُ الْحُرْمَةِ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَثْبُتَ بِهِ الْحِلُّ، وَكُلُّ مَنْ لَا تَجُوزُ

لَا فَوْقَ مَا يَبْقَى فِي الْمَذْبُوحِ وَمَا لَا يَبْقَى فِيهِ مِنْ الْحَيَاةِ فَوْقَ مَا يَبْقَى فِي الْمَذْبُوحِ مِمَّا لَا يَعِيشُ فَوْقَ مَا يَعِيشُ الْمَذْبُوحُ فَتَنْتَظِمُ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ هَا هُنَا بِقَوْلِهِ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ تَدَبَّرْ تَفْهَمْ

(قَوْلُهُ وَوَجْهُهُ أَنَّ الْفِعْلَ يُرْفَعُ بِمَا هُوَ فَوْقَهُ أَوْ مِثْلُهُ كَمَا فِي نَسْخِ الْآيِ وَالزَّجْرُ دُونَ الْإِرْسَالِ لِكَوْنِهِ بِنَاءً عَلَيْهِ) قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: لَك أَنْ تَقُولَ: لَا تَمَسُّ الْحَاجَةُ إلَى الرَّفْعِ بَلْ تَكْفِي الْمُشَارَكَةُ فِي إثْبَاتِ الْحُرْمَةِ أَوْ شَبَهِهَا انْتَهَى

أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا بِوَارِدٍ؛ لِأَنَّ الْإِرْسَالَ أَصْلٌ وَالزَّجْرَ تَبَعٌ، وَالتَّبَعُ لَا يُعَدُّ مُشَارِكًا لِلْأَصْلِ فِي تَرَتُّبِ الْحُكْمِ، وَقَدْ أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِ الْمَسْأَلَةِ السَّابِقَةِ حَيْثُ قَالَ: لِأَنَّ فِعْلَ الثَّانِي أَثَّرَ فِي الْكَلْبِ الْمُرْسَلِ دُونَ الصَّيْدِ حَيْثُ ازْدَادَ بِهِ طَلَبًا فَكَانَ تَبَعًا لِفِعْلِهِ؛ لِأَنَّهُ بِنَاءٌ عَلَيْهِ فَلَا يُضَافُ الْأَخْذُ إلَى التَّبَعِ انْتَهَى

وَلَئِنْ سُلِّمَ مُشَارَكَةُ الزَّجْرِ لِلْإِرْسَالِ فَلَا نُسَلِّمُ كِفَايَةَ مُجَرَّدِ الْمُشَارَكَةِ فِي إثْبَاتِ الْحُرْمَةِ أَوْ شَبَهِهَا بَلْ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ اللَّاحِقُ وَهُوَ الزَّجْرُ هَا هُنَا أَقْوَى مِنْ السَّابِقِ أَوْ مُسَاوِيًا لَهُ حَتَّى يُرْفَعَ بِهِ السَّابِقُ

وَأَمَّا إذَا كَانَ أَدْنَى مِنْهُ فَلَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي الْحُكْمِ وَقَدْ أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِ الْمَسْأَلَةِ اللَّاحِقَةِ حَيْثُ قَالَ: لِأَنَّ الزَّجْرَ دُونَ الْإِرْسَالِ وَلِهَذَا لَمْ تَثْبُتْ بِهِ شُبْهَةُ الْحُرْمَةِ، فَأَوْلَى أَنْ لَا يَثْبُتَ بِهِ الْحِلُّ انْتَهَى

قَالَ فِي الْعِنَايَةِ: وَنُوقِضَ بِالْمُحْرِمِ إذَا زَجَرَ كَلْبًا حَلَالًا فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ

وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْجَزَاءَ فِي الْمُحْرِمِ بِدَلَالَةِ النَّصِّ فَإِنَّهُ أَوْجَبَ عَلَيْهِ الْجَزَاءَ بِمَا هُوَ دُونَهُ وَهُوَ الدَّلَالَةُ فَوَجَبَ بِالزَّجْرِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى انْتَهَى

أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَذَا الْجَوَابُ لَا يَدْفَعُ النَّقْضَ الْمَذْكُورَ بَلْ يُقَوِّيهِ، فَإِنَّهُ إذَا ثَبَتَ بِدَلَالَةِ النَّصِّ وُجُوبُ الْجَزَاءِ عَلَى الْمُحْرِمِ إذَا زَجَرَ كَلْبًا حَلَالًا عِنْدَ إرْسَالِهِ تَقَرَّرَ أَنْ يُنْتَقَضَ بِهِ الْأَصْلُ الَّذِي ذَكَرُوهُ مِنْ عَدَمِ اعْتِبَارِ الزَّجْرِ عِنْدَ الْإِرْسَالِ لِكَوْنِ الزَّجْرِ دُونَ الْإِرْسَالِ

ص: 124

ذَكَاتُهُ كَالْمُرْتَدِّ وَالْمُحْرِمِ وَتَارِكِ التَّسْمِيَةِ عَامِدًا فِي هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْمَجُوسِيِّ (وَإِنْ لَمْ يُرْسِلْهُ أَحَدٌ فَزَجَرَهُ مُسْلِمٌ فَانْزَجَرَ فَأَخَذَ الصَّيْدَ فَلَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ)؛ لِأَنَّ الزَّجْرَ مِثْلُ الِانْفِلَاتِ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ دُونَهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ بِنَاءٌ عَلَيْهِ فَهُوَ فَوْقَهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ فِعْلُ الْمُكَلَّفِ فَاسْتَوَيَا فَصَلَحَ نَاسِخًا (وَلَوْ أَرْسَلَ الْمُسْلِمُ كَلْبَهُ عَلَى صَيْدٍ وَسَمَّى فَأَدْرَكَهُ فَضَرَبَهُ وَوَقَذَهُ ثُمَّ ضَرَبَهُ فَقَتَلَهُ أُكِلَ، وَكَذَا إذَا أَرْسَلَ كَلْبَيْنِ فَوَقَذَهُ أَحَدُهُمَا ثُمَّ قَتَلَهُ الْآخَرُ أُكِلَ)؛ لِأَنَّ الِامْتِنَاعَ عَنْ الْجُرْحِ بَعْدَ الْجُرْحِ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ التَّعْلِيمِ فَجُعِلَ عَفْوًا (وَلَوْ أَرْسَلَ رَجُلَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَلْبًا فَوَقَذَهُ أَحَدُهُمَا وَقَتَلَهُ الْآخَرُ أُكِلَ) لِمَا بَيَّنَّا (وَالْمِلْكُ لِلْأَوَّلِ)؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ أَخْرَجَهُ عَنْ حَدِّ الصَّيْدِيَّةِ إلَّا أَنَّ الْإِرْسَالَ حَصَلَ مِنْ الصَّيْدِ، وَالْمُعْتَبَرُ فِي الْإِبَاحَةِ وَالْحُرْمَةِ حَالَةُ الْإِرْسَالِ فَلَمْ يَحْرُمْ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْإِرْسَالُ مِنْ الثَّانِي بَعْدَ الْخُرُوجِ عَنْ الصَّيْدِيَّةِ بِجُرْحِ الْكَلْبِ الْأَوَّلِ.

‌فَصْلٌ فِي الرَّمْيِ

(وَمَنْ سَمِعَ حِسًّا ظَنَّهُ حِسَّ صَيْدٍ فَرَمَاهُ أَوْ أَرْسَلَ كَلْبًا أَوْ بَازِيًا عَلَيْهِ فَأَصَابَ صَيْدًا،

وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ مِنْ الْجَوَابِ الْمَذْكُورِ أَنَّ الْأَصْلَ الَّذِي ذَكَرُوهُ إنَّمَا هُوَ عَلَى مُوجِبِ الْقِيَاسِ، وَوُجُوبُ الْجَزَاءِ عَلَى الْمُحْرِمَ فِي الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ إنَّمَا ثَبَتَ بِدَلَالَةِ النَّصِّ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْقِيَاسَ يُتْرَكُ بِالنَّصِّ، وَهَذَا لَا يَقْدَحُ فِي كُلِّيَّةِ الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ الْمَبْنِيِّ عَلَى الْقِيَاسِ تَفَكَّرْ (قَوْلُهُ وَإِنْ لَمْ يُرْسِلْهُ أَحَدٌ فَزَجَرَهُ مُسْلِمٌ فَانْزَجَرَ وَأَخَذَ الصَّيْدَ فَلَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ؛ لِأَنَّ الزَّجْرَ مِثْلُ الِانْفِلَاتِ) قَالَ جُمْهُورُ الشُّرَّاحِ: يَعْنِي مِنْ حَيْثُ إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ غَيْرُ مَشْرُوطٍ فِي حِلِّ الصَّيْدِ، بِخِلَافِ الْإِرْسَالِ انْتَهَى

أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا الشَّرْحُ بِسَدِيدٍ عِنْدِي؛ إذْ لَمْ يَكُنْ الْكَلَامُ فِيمَا سَبَقَ فِي كَوْنِ فِعْلِ الْغَيْرِ الْمَشْرُوطِ فِي حِلِّ الصَّيْدِ مَرْفُوعًا بِمَا هُوَ مَشْرُوطٌ فِي حِلِّهِ أَوْ بِمَا هُوَ مِثْلُهُ، بَلْ كَانَ الْكَلَامُ فِي كَوْنِ الْفِعْلِ مَرْفُوعًا بِمَا هُوَ فَوْقَهُ فِي الْقُوَّةِ أَوْ بِمَا هُوَ مِثْلُهُ فِيهَا كَمَا فِي نَسْخِ الْآيِ، فَالْوَجْهُ هَا هُنَا أَنْ يُقَالَ: يَعْنِي أَنَّ الزَّجْرَ مِثْلُ الِانْفِلَاتِ فِي الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ، وَتَعْلِيلُ الْمُصَنِّفِ إيَّاهُ بِقَوْلِهِ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ دُونَهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ بِنَاءٌ عَلَيْهِ فَهُوَ فَوْقَهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ فِعْلُ الْمُكَلَّفِ فَاسْتَوَيَا فَصَلَحَ نَاسِخًا بِمَنْزِلَةِ الصَّرِيحِ فِيمَا قُلْنَاهُ تَبَصَّرْ

(فَصْلٌ فِي الرَّمْيِ)

لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ حُكْمِ الْآلَةِ الْحَيَوَانِيَّةِ شَرَعَ فِي بَيَانِ حُكْمِ الْآلَةِ الْجَمَادِيَّةِ، وَقَدْ مَرَّ وَجْهُ تَقْدِيمِ الْأَوَّلِ،

ص: 125

ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ حِسُّ صَيْدٍ حَلَّ الْمُصَابُ) أَيَّ صَيْدٍ كَانَ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ الِاصْطِيَادَ

وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ خَصَّ مِنْ ذَلِكَ الْخِنْزِيرَ لِتَغْلِيظِ التَّحْرِيمِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا تَثْبُتُ الْإِبَاحَةُ فِي شَيْءٍ مِنْهُ بِخِلَافِ السِّبَاعِ؛ لِأَنَّهُ يُؤْثَرُ فِي جِلْدِهَا

وَزُفَرُ خَصَّ مِنْهَا مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ؛ لِأَنَّ الْإِرْسَالَ فِيهِ لَيْسَ لِلْإِبَاحَةِ

وَوَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ اسْمَ الِاصْطِيَادِ لَا يَخْتَصُّ بِالْمَأْكُولِ فَوَقَعَ الْفِعْلُ اصْطِيَادًا وَهُوَ فِعْلٌ مُبَاحٌ فِي نَفْسِهِ، وَإِبَاحَةُ التَّنَاوُلِ تَرْجِعُ إلَى الْمَحَلِّ فَتَثْبُتُ بِقَدْرِ مَا يَقْبَلُهُ لَحْمًا وَجِلْدًا، وَقَدْ لَا تَثْبُتُ إذَا لَمْ يَقْبَلْهُ، وَإِذَا وَقَعَ اصْطِيَادًا صَارَ كَأَنَّهُ رَمَى إلَى صَيْدٍ فَأَصَابَ غَيْرَهُ (وَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ حِسُّ آدَمِيٍّ أَوْ حَيَوَانٍ أَهْلِيٍّ لَا يَحِلُّ الْمُصَابُ)؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ لَيْسَ بِاصْطِيَادٍ (وَالطَّيْرُ الدَّاجِنُ الَّذِي يَأْوِي الْبُيُوتَ أَهْلِيٌّ وَالظَّبْيُ الْمُوَثَّقُ بِمَنْزِلَتِهِ) لِمَا بَيَّنَّا (لَوْ رَمَى إلَى طَائِرٍ فَأَصَابَ صَيْدًا وَمَرَّ الطَّائِرُ وَلَا يَدْرِي وَحْشِيٌّ هُوَ أَوْ غَيْرُ وَحْشِيٍّ حَلَّ الصَّيْدُ)؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ فِيهِ التَّوَحُّشُ (وَلَوْ رَمَى إلَى بَعِيرٍ فَأَصَابَ صَيْدًا وَلَا يَدْرِي نَادٌّ هُوَ أَمَّ لَا لَا يَحِلُّ الصَّيْدُ)؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ الِاسْتِئْنَاسُ (وَلَوْ رَمَى إلَى سَمَكَةٍ أَوْ جَرَادَةٍ فَأَصَابَ صَيْدًا يَحِلُّ فِي رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ)؛ لِأَنَّهُ صَيْدٌ، وَفِي أُخْرَى عَنْهُ لَا يَحِلُّ؛ لِأَنَّهُ لَا ذَكَاةَ فِيهِمَا (وَلَوْ رَمَى فَأَصَابَ الْمَسْمُوعَ حِسُّهُ وَقَدْ ظَنَّهُ آدَمِيًّا فَإِذَا هُوَ صَيْدٌ يَحِلُّ)؛ لِأَنَّهُ لَا مُعْتَبَرَ بِظَنِّهِ مَعَ تَعَيُّنِهِ (فَإِذَا سَمَّى الرَّجُلُ عِنْدَ الرَّمْيِ أُكِلَ مَا أَصَابَ إذَا جَرَحَهُ السَّهْمُ فَمَاتَ)؛ لِأَنَّهُ ذَابِحٌ بِالرَّمْيِ لِكَوْنِ

قَوْلُهُ وَالظَّبْيُ الْمُوَثَّقُ بِمَنْزِلَتِهِ) قَالَ أَكْثَرُ الشُّرَّاحِ مِنْهُمْ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: أَيْ بِمَنْزِلَةِ الْآدَمِيِّ

أَقُولُ: هَذَا التَّفْسِيرُ لَيْسَ بِجَيِّدٍ؛ إذْ الظَّاهِرُ أَنَّ الظَّبْيَ الْمُوَثَّقَ بِمَنْزِلَةِ الْحَيَوَانِ الْأَهْلِيِّ دُونَ الْآدَمِيِّ؛ إذْ لَا مُنَاسَبَةَ بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ، بِخِلَافِ الْحَيَوَانَيْنِ

فَإِنْ قُلْت: الْمُرَادُ بِكَوْنِ الظَّبْيِ الْمُوَثَّقِ بِمَنْزِلَةِ الْآدَمِيِّ مُجَرَّدُ كَوْنِهِ غَيْرَ صَيْدٍ كَالْآدَمِيِّ لَا الِاشْتِرَاكُ فِي جَمِيعِ الْأَوْصَافِ فَلَا مَحْذُورَ فِي جَعْلِهِ بِمَنْزِلَةِ الْآدَمِيِّ

قُلْت: لَوْ كَانَ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ هَذَا الْمَعْنَى لَقَالَ: وَالطَّيْرُ الدَّاجِنُ الَّذِي يَأْوِي الْبُيُوتَ وَالظَّبْيُ الْمُوَثَّقُ بِمَنْزِلَتِهِ؛ إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي مُجَرَّدِ كَوْنِهِمَا غَيْرَ صَيْدٍ

وَلَمَّا فَصَلَ بَيْنَهُمَا فَقَالَ: وَالطَّيْرُ الدَّاجِنُ الَّذِي يَأْوِي الْبُيُوتَ أَهْلِيٌّ، وَالظَّبْيُ الْمُوَثَّقُ بِمَنْزِلَتِهِ عُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ لَيْسَ مُجَرَّدَ أَنْ لَا يَكُونَ صَيْدًا بَلْ الِاشْتِرَاكُ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ أَيْضًا

فَالْوَجْهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ وَالظَّبْيُ الْمُوَثَّقُ بِمَنْزِلَتِهِ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْغَايَةِ حَيْثُ

ص: 126

السَّهْمِ آلَةً لَهُ فَتُشْتَرَطُ التَّسْمِيَةُ عِنْدَهُ، وَجَمِيعُ الْبَدَنِ مَحَلٌّ لِهَذَا النَّوْعِ مِنْ الذَّكَاةِ، وَلَا بُدَّ مِنْ الْجُرْحِ لِيَتَحَقَّقَ مَعْنَى الذَّكَاةِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ

قَالَ (وَإِذَا أَدْرَكَهُ حَيًّا ذَكَّاهُ) وَقَدْ بَيَّنَّاهَا بِوُجُوهِهَا، وَالِاخْتِلَافِ فِيهَا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ فَلَا نُعِيدُهُ.

قَالَ (وَإِذَا وَقَعَ السَّهْمُ بِالصَّيْدِ فَتَحَامَلَ حَتَّى غَابَ عَنْهُ وَلَمْ يَزَلْ فِي طَلَبِهِ حَتَّى أَصَابَهُ مَيِّتًا أُكِلَ، وَإِنْ قَعَدَ عَنْ طَلَبِهِ) ثُمَّ أَصَابَهُ مَيِّتًا لَمْ يُؤْكَلْ، لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام «أَنَّهُ كَرِهَ أَكْلَ الصَّيْدِ إذَا غَابَ عَنْ الرَّامِي وَقَالَ: لَعَلَّ هَوَامَّ الْأَرْضِ قَتَلَتْهُ» وَلِأَنَّ احْتِمَالَ الْمَوْتِ بِسَبَبٍ آخَرَ قَائِمٌ فَمَا يَنْبَغِي أَنْ يَحِلَّ أَكْلُهُ؛ لِأَنَّ الْمَوْهُومَ فِي هَذَا كَالْمُتَحَقِّقِ لِمَا رَوَيْنَا، إلَّا أَنَّا أَسْقَطْنَا اعْتِبَارَهُ مَا دَامَ فِي طَلَبِهِ ضَرُورَةَ أَنْ لَا يَعْرَى الِاصْطِيَادُ

قَالَ: أَيْ الظَّبْيُ الْمُقَيَّدُ بِمَنْزِلَةِ الطَّيْرِ الدَّاجِنِ الَّذِي يَأْوِي الْبُيُوتَ انْتَهَى

(قَوْلُهُ: وَإِذَا وَقَعَ السَّهْمُ بِالصَّيْدِ فَتَحَامَلَ حَتَّى غَابَ عَنْهُ، وَلَمْ يَزَلْ فِي طَلَبِهِ حَتَّى أَصَابَهُ مَيِّتًا أُكِلَ، وَإِنْ قَعَدَ عَنْ طَلَبِهِ ثُمَّ أَصَابَهُ مَيِّتًا لَمْ يُؤْكَلْ) قَالَ الزَّيْلَعِيُّ فِي شَرْحِ الْكَنْزِ: وَجَعَلَ قَاضِي خَانْ فِي فَتَاوَاهُ

ص: 127

عَنْهُ، وَلَا ضَرُورَةَ فِيمَا إذَا قَعَدَ عَنْ طَلَبِهِ لِإِمْكَانِ التَّحَرُّزِ عَنْ تَوَارٍ يَكُونُ بِسَبَبِ عَمَلِهِ، وَاَلَّذِي رَوَيْنَاهُ حُجَّةٌ عَلَى مَالِكٍ فِي قَوْلِهِ إنَّ مَا تَوَارَى عَنْهُ إذَا لَمْ يَبِتْ يَحِلُّ فَإِذَا بَاتَ لَيْلَةً لَمْ يَحِلَّ (وَلَوْ وُجِدَ بِهِ جِرَاحَةٌ سِوَى جِرَاحَةِ سَهْمِهِ لَا يَحِلُّ)؛ لِأَنَّهُ مَوْهُومٌ يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ فَاعْتُبِرَ مُحَرَّمًا، بِخِلَافِ وَهْمِ الْهَوَامِّ

وَالْجَوَابُ فِي إرْسَالِ الْكَلْبِ فِي هَذَا

مِنْ شَرْطِ حِلِّ الصَّيْدِ أَنْ لَا يَتَوَارَى عَنْ بَصَرِهِ فَقَالَ: لِأَنَّهُ إذَا غَابَ عَنْ بَصَرِهِ رُبَّمَا يَكُونُ مَوْتُ الصَّيْدِ بِسَبَبٍ آخَرَ فَلَا يَحِلُّ لِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: كُلْ مَا أَصَمَيْت وَدَعْ مَا أَنْمَيْت، وَالْإِصْمَاءُ: مَا رَأَيْته، وَالْإِنْمَاءُ: مَا تَوَارَى عَنْك

وَهَذَا نَصٌّ عَلَى أَنَّ الصَّيْدَ يَحْرُمُ بِالتَّوَارِي، وَإِنْ لَمْ يَقْعُدْ عَنْ طَلَبِهِ انْتَهَى

أَقُولُ: لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا زَعَمَهُ الزَّيْلَعِيُّ، فَإِنَّ الْإِمَامَ قَاضِي خَانْ لَمْ يَجْعَلْ فِي فَتَاوَاهُ مِنْ شَرْطِ حِلِّ الصَّيْدِ عَدَمَ التَّوَارِي عَنْ بَصَرِهِ بِخُصُوصِهِ، بَلْ جَعَلَ مِنْ شَرْطِ ذَلِكَ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ: عَدَمُ التَّوَارِي عَنْ بَصَرِهِ، وَعَدَمُ الْقُعُودِ عَنْ طَلَبِهِ حَيْثُ قَالَ:

وَالسَّابِعُ يَعْنِي الشَّرْطَ السَّابِعَ أَنْ لَا يَتَوَارَى عَنْ بَصَرِهِ أَوْ لَا يَقْعُدَ عَنْ طَلَبِهِ فَيَكُونَ فِي طَلَبِهِ، وَلَا يَشْتَغِلَ بِعَمَلٍ آخَرَ حَتَّى يَجِدَهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا غَابَ عَنْ بَصَرِهِ رُبَّمَا يَكُونُ مَوْتُ الصَّيْدِ بِسَبَبٍ آخَرَ فَلَا يَحِلُّ لِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: كُلْ مَا أَصَمَيْت وَدَعْ مَا أَنْمَيْت

وَالْإِصْمَاءُ: مَا رَأَيْته، وَالْإِنْمَاءُ: مَا تَوَارَى عَنْك انْتَهَى

وَلَا شَكَّ أَنَّ قَوْلَهُ: وَالسَّابِعُ أَنْ لَا يَتَوَارَى عَنْ بَصَرِهِ أَوْ لَا يَقْعُدَ عَنْ طَلَبِهِ نَصٌّ عَلَى أَنَّ الصَّيْدَ لَا يَحْرُمُ بِمُجَرَّدِ التَّوَارِي عَنْ بَصَرِهِ إذَا لَمْ يَقْعُدْ عَنْ طَلَبِهِ،

ص: 128

كَالْجَوَابِ فِي الرَّمْيِ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَاهُ.

قَالَ (وَإِذَا رَمَى صَيْدًا فَوَقَعَ فِي الْمَاءِ أَوْ وَقَعَ عَلَى سَطْحٍ أَوْ جَبَلٍ ثُمَّ تَرَدَّى مِنْهُ إلَى الْأَرْضِ لَمْ يُؤْكَلْ)؛ لِأَنَّهُ الْمُتَرَدِّيَةُ وَهِيَ حَرَامٌ بِالنَّصِّ، وَلِأَنَّهُ احْتَمَلَ الْمَوْتَ بِغَيْرِ الرَّمْيِ؛ إذْ الْمَاءُ مُهْلِكٌ

وَكَذَا السُّقُوطُ مِنْ عَالٍ، يُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام لِعَدِيٍّ رضي الله عنه «وَإِنْ وَقَعَتْ رَمِيَّتُك فِي الْمَاءِ فَلَا تَأْكُلْ، فَإِنَّك لَا تَدْرِي أَنَّ الْمَاءَ قَتَلَهُ أَوْ سَهْمُك» (وَإِنْ وَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ ابْتِدَاءً أُكِلَ)؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ، وَفِي اعْتِبَارِهِ سَدَّ بَابِ الِاصْطِيَادِ بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ، فَصَارَ الْأَصْلُ أَنَّ سَبَبَ الْحُرْمَةِ وَالْحِلِّ إذَا اجْتَمَعَا وَأَمْكَنَ التَّحَرُّزُ عَمَّا هُوَ سَبَبُ الْحُرْمَةِ تُرَجَّحُ جِهَةُ الْحُرْمَةِ احْتِيَاطًا، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ جَرَى وُجُودُهُ مَجْرَى عَدَمِهِ؛ لِأَنَّ التَّكْلِيفَ بِحَسَبِ الْوُسْعِ، فَمِمَّا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ إذَا وَقَعَ عَلَى شَجَرٍ أَوْ حَائِطٍ أَوْ آجُرَّةٍ ثُمَّ وَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ أَوْ رَمَاهُ، وَهُوَ عَلَى جَبَلٍ فَتَرَدَّى مِنْ مَوْضِعٍ إلَى مَوْضِعٍ حَتَّى تَرَدَّى إلَى الْأَرْضِ، أَوْ رَمَاهُ فَوَقَعَ عَلَى رُمْحٍ مَنْصُوبٍ أَوْ عَلَى قَصَبَةٍ قَائِمَةٍ أَوْ عَلَى حَرْفِ آجُرَّةٍ لِاحْتِمَالِ أَنَّ حَدَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ قَتَلَهُ، وَمِمَّا لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ إذَا وَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ، أَوْ عَلَى مَا هُوَ مَعْنَاهُ كَجَبَلٍ أَوْ ظَهْرِ بَيْتٍ أَوْ لَبِنَةٍ مَوْضُوعَةٍ أَوْ صَخْرَةٍ فَاسْتَقَرَّ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ وُقُوعَهُ عَلَيْهِ وَعَلَى الْأَرْضِ سَوَاءٌ

وَذُكِرَ فِي الْمُنْتَفَى: لَوْ وَقَعَ عَلَى صَخْرَةٍ فَانْشَقَّ بَطْنُهُ لَمْ يُؤْكَلْ لِاحْتِمَالِ الْمَوْتِ بِسَبَبٍ آخَرَ

وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ وَحُمِلَ مُطْلَقُ الْمَرْوِيِّ فِي الْأَصْلِ عَلَى غَيْرِ حَالَةِ الِانْشِقَاقِ، وَحَمَلَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ رحمه الله عَلَى مَا أَصَابَهُ حَدُّ الصَّخْرَةِ فَانْشَقَّ بَطْنُهُ بِذَلِكَ، وَحَمَلَ الْمَرْوِيَّ فِي الْأَصْلِ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُصِبْهُ مِنْ الْآجُرَّةِ إلَّا مَا يُصِيبُهُ مِنْ الْأَرْضِ لَوْ وَقَعَ عَلَيْهَا وَذَلِكَ

بَلْ إنَّمَا يَحْرُمُ بِالتَّوَارِي عَنْ بَصَرِهِ وَالْقُعُودِ عَنْ طَلَبِهِ مَعًا

وَأَمَّا قَوْلُهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا غَابَ عَنْ بَصَرِهِ رُبَّمَا يَكُونُ مَوْتُ الصَّيْدِ بِسَبَبٍ آخَرَ فَلَا يَحِلُّ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَنَّهُ إذَا غَابَ عَنْ بَصَرِهِ وَقَعَدَ عَنْ طَلَبِهِ بِقَرِينَةِ سِيَاقِ كَلَامِهِ

وَأَمَّا إذَا لَمْ يَقْعُدْ عَنْ طَلَبِهِ فَيُعْذَرُ فِيهِ لِلضَّرُورَةِ لِعَدَمِ إمْكَانِ التَّحَرُّزِ عَنْ تَوَارِي الصَّيْدِ عَنْ بَصَرِ الرَّامِي، فَكَانَ فِي اعْتِبَارِ عَدَمِ التَّوَارِي مُطْلَقًا حَرَجٌ عَظِيمٌ، وَالْحَرَجُ مَدْفُوعٌ بِالنَّصِّ، وَقَدْ أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ: إلَّا أَنَّا أَسْقَطْنَا اعْتِبَارَهُ مَا دَامَ فِي طَلَبِهِ ضَرُورَةُ أَنْ لَا يَعْرَى الِاصْطِيَادُ عَنْهُ، وَلَا ضَرُورَةَ فِيمَا إذَا قَعَدَ عَنْ طَلَبِهِ لِإِمْكَانِ التَّحَرُّزِ عَنْ تَوَارٍ يَكُونُ بِسَبَبِ عَمَلِهِ

وَذُكِرَ فِي الشُّرُوحِ وَالْكَافِي «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِالرَّوْحَاءِ عَلَى حِمَارِ وَحْشٍ عَقِيرٍ فَتَبَادَرَ أَصْحَابُهُ إلَيْهِ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: دَعُوهُ فَسَيَأْتِي صَاحِبُهُ، فَجَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: هَذِهِ رَمْيَتِي، وَأَنَا فِي طَلَبِهَا وَقَدْ جَعَلْتهَا لَك، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَبَا بَكْرٍ فَقَسَّمَهَا بَيْنَ الرِّفَاقِ» انْتَهَى.

(قَوْلُهُ وَإِنْ وَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ ابْتِدَاءً أُكِلَ) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ أَخْذًا مِنْ النِّهَايَةِ: يَعْنِي إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى الْأَرْضِ مَا يَقْتُلُهُ كَحَدِّ الرُّمْحِ وَالْقَصَبَةِ الْمَنْصُوبَةِ عَلَى مَا سَيَجِيءُ انْتَهَى

أَقُولُ: هَذَا التَّقْيِيدُ مُسْتَغْنًى عَنْهُ بِالْكُلِّيَّةِ هَا هُنَا؛ إذْ الظَّاهِرُ أَنَّ الْوُقُوعَ عَلَى نَحْوِ حَدِّ الرُّمْحِ وَالْقَصَبَةِ الْمَنْصُوبَةِ لَيْسَ بِوُقُوعٍ عَلَى الْأَرْضِ، وَلِهَذَا جَعَلَ الْمُصَنِّفُ الْأَوَّلَ قَسِيمًا لِلثَّانِي فِيمَا سَيَجِيءُ، وَعَدَّ الْأَوَّلَ مِمَّا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ، وَالثَّانِيَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ فَلَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَتَنَاوَلَ قَوْلُهُ هَا هُنَا وَإِنْ وَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ ابْتِدَاءً مَا وَقَعَ عَلَى نَحْوِ حَدِّ الرُّمْحِ وَالْقَصَبَةِ الْمَنْصُوبَةِ حَتَّى يُحْتَاجَ إلَى أَنْ يُقَالَ: يَعْنِي إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى الْأَرْضِ مَا يَقْتُلُهُ كَحَدِّ الرُّمْحِ وَالْقَصَبَةِ الْمَنْصُوبَةِ عَلَى مَا سَيَجِيءُ

ص: 129

عَفْوٌ وَهَذَا أَصَحُّ

وَإِنْ كَانَ الطَّيْرُ مَائِيًّا، فَإِنْ كَانَتْ الْجِرَاحَةُ لَا تَنْغَمِسُ فِي الْمَاءِ أُكِلَ، وَإِنْ انْغَمَسَتْ لَا يُؤْكَلُ كَمَا إذَا وَقَعَ فِي الْمَاءِ

قَالَ (وَمَا أَصَابَهُ الْمِعْرَاضُ بِعَرْضِهِ لَمْ يُؤْكَلْ، وَإِنْ جَرَحَهُ يُؤْكَلُ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام فِيهِ «مَا أَصَابَ بِحَدِّهِ فَكُلْ، وَمَا أَصَابَ بِعَرْضِهِ فَلَا تَأْكُلْ» وَلِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْجُرْحِ لِيَتَحَقَّقَ مَعْنَى الذَّكَاةِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ.

قَالَ (وَلَا يُؤْكَلُ مَا أَصَابَتْهُ الْبُنْدُقَةُ فَمَاتَ بِهَا)؛ لِأَنَّهَا تَدُقُّ وَتَكْسِرُ وَلَا تَجْرَحُ فَصَارَ كَالْمِعْرَاضِ إذَا لَمْ يَخْزِقُ، وَكَذَلِكَ إنْ رَمَاهُ بِحَجَرٍ، وَكَذَا إنْ جَرَحَهُ

قَالُوا: تَأْوِيلُهُ إذَا كَانَ ثَقِيلًا وَبِهِ حِدَةٌ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ قَتَلَهُ بِثِقَلِهِ، وَإِنْ كَانَ الْحَجَرُ خَفِيفًا وَبِهِ حِدَةٌ يَحِلُّ لِتَعَيُّنِ الْمَوْتِ بِالْجُرْحِ، وَلَوْ كَانَ الْحَجَرُ خَفِيفًا، وَجَعَلَهُ طَوِيلًا كَالسَّهْمِ وَبِهِ حِدَةٌ فَإِنَّهُ يَحِلُّ؛ لِأَنَّهُ يَقْتُلُهُ بِجُرْحِهِ، وَلَوْ رَمَاهُ بِمَرْوَةِ حَدِيدَةٍ وَلَمْ تُبْضِعْ بِضْعًا لَا يَحِلُّ؛ لِأَنَّهُ قَتَلَهُ دَقًّا، وَكَذَا إذَا رَمَاهُ بِهَا فَأَبَانَ رَأْسَهُ أَوْ قَطَعَ أَوْدَاجَهُ؛ لِأَنَّ الْعُرُوقَ تَنْقَطِعُ بِثِقَلِ الْحَجَرِ كَمَا تَنْقَطِعُ بِالْقَطْعِ فَوْقَ الشَّكِّ أَوْ لَعَلَّهُ مَاتَ قَبْلَ قَطْعِ الْأَوْدَاجِ، وَلَوْ رَمَاهُ بِعَصًا أَوْ بِعُودٍ حَتَّى قَتَلَهُ لَا يَحِلُّ؛ لِأَنَّهُ يَقْتُلُهُ ثِقَلًا لَا جُرْحًا، اللَّهُمَّ إلَّا إذَا كَانَ لَهُ حِدَةٌ يُبْضِعُ بِضْعًا فَحِينَئِذٍ لَا بَأْسَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ السَّيْفِ وَالرُّمْحِ

وَالْأَصْلُ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ أَنَّ الْمَوْتَ إذَا كَانَ مُضَافًا إلَى الْجُرْحِ بِيَقِينٍ كَانَ الصَّيْدُ حَلَالًا، وَإِذَا كَانَ مُضَافًا إلَى الثِّقَلِ بِيَقِينٍ كَانَ حَرَامًا، وَإِنْ وَقَعَ الشَّكُّ وَلَا يَدْرِي مَاتَ بِالْجُرْحِ أَوْ بِالثِّقَلِ كَانَ حَرَامًا احْتِيَاطًا، وَإِنْ رَمَاهُ بِسَيْفٍ أَوْ بِسِكِّينٍ فَأَصَابَهُ بِحَدِّهِ فَجَرَحَهُ حَلَّ، وَإِنْ أَصَابَهُ بِقَفَا السِّكِّينِ أَوْ بِمِقْبَضِ السَّيْفِ لَا يَحِلُّ؛ لِأَنَّهُ قَتَلَهُ دَقًّا، وَالْحَدِيدُ وَغَيْرُهُ فِيهِ سَوَاءٌ

وَلَوْ رَمَاهُ فَجَرَحَهُ وَمَاتَ بِالْجُرْحِ، إنْ كَانَ الْجُرْحُ مُدْمِيًا يَحِلُّ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُدْمِيًا فَكَذَلِكَ عِنْدَ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ سَوَاءٌ كَانَتْ الْجِرَاحَةُ صَغِيرَةً أَوْ كَبِيرَةً؛ لِأَنَّ الدَّمَ قَدْ يَحْتَبِسُ بِضِيقِ الْمَنْفَذِ أَوْ غِلَظِ الدَّمِ

وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ يُشْتَرَطُ الْإِدْمَاءُ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَأَفْرَى الْأَوْدَاجَ فَكُلْ» شَرَطَ الْإِنْهَارَ، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ إنْ كَانَتْ كَبِيرَةً

(قَوْلُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُدْمِيًا فَكَذَلِكَ عِنْدَ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ سَوَاءٌ كَانَتْ الْجِرَاحَةُ صَغِيرَةً أَوْ كَبِيرَةً؛ لِأَنَّ الدَّمَ قَدْ يَحْتَبِسُ لِضِيقِ الْمَنْفَذِ أَوْ غِلَظِ الدَّمِ) أَقُولُ: يَرِدُ عَلَى ظَاهِرِ هَذَا التَّعْلِيلِ أَنَّهُ قَدْ تَقَرَّرَ فِي كِتَابِ الذَّبَائِحِ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالذَّبْحِ هُوَ إخْرَاجُ الدَّمِ النَّجِسِ، وَأَنَّ الْجُرْحَ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ مِنْ الْبَدَنِ ذَبْحٌ اضْطِرَارِيٌّ يُصَارُ إلَيْهِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ الذَّبْحِ الِاخْتِيَارِيِّ وَهُوَ الْجُرْحُ

فِيمَا بَيْنَ اللِّبَةِ وَاللَّحْيَيْنِ، وَأَنَّ فِي كُلٍّ مِنْ الذَّبْحَيْنِ إخْرَاجَ الدَّمِ إلَّا أَنَّ الِاخْتِيَارِيَّ أَعْمَلُ فِيهِ مِنْ الِاضْطِرَارِيِّ فَكَوْنُ الدَّمِ مُحْتَبِسًا لِضِيقِ الْمَنْفَذِ أَوْ غِلَظِ الدَّمِ لَا يَقْتَضِي حِلَّ أَكْلِ الْمَجْرُوحِ بِالرَّمْيِ بِدُونِ الْإِدْمَاءِ، بَلْ يَقْتَضِي حُرْمَتَهُ بِنَاءً عَلَى عَدَمِ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالذَّبْحِ

وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ بِأَنَّ مَعْنَى هَذَا التَّعْلِيلِ أَنَّ الدَّمَ قَدْ يَحْتَبِسُ لِضِيقِ الْمَنْفَذِ أَوْ غِلَظِ الدَّمِ فَلَا يُمْكِنُ إخْرَاجُهُ فَفِي اعْتِبَارِ الْإِدْمَاءِ حَرَجٌ، فَاكْتَفَى بِمَا هُوَ سَبَبُهُ فِي الْغَالِبِ وَهُوَ الْجُرْحُ فَتَأَمَّلْ (قَوْلُهُ وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ يُشْتَرَطُ الْإِدْمَاءُ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَأَفْرَى الْأَوْدَاجَ فَكُلْ» شَرَطَ الْإِنْهَارَ) أَقُولُ: لِمَانِعٍ أَنْ يَمْنَعَ دَلَالَةَ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ عَلَى شَرْطِ الْإِنْهَارِ بِنَاءً عَلَى عَدَمِ الْقَوْلِ بِمَفْهُومِ

ص: 130

حَلَّ بِدُونِ الْإِدْمَاءِ، وَلَوْ ذَبَحَ شَاةً وَلَمْ يَسِلْ مِنْهُ الدَّمُ قِيلَ لَا تَحِلُّ وَقِيلَ تَحِلُّ

وَوَجْهُ الْقَوْلَيْنِ دَخَلَ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ

وَإِذَا أَصَابَ السَّهْمُ ظِلْفَ الصَّيْدِ أَوْ قَرْنَهُ، فَإِنْ أَدْمَاهُ حَلَّ وَإِلَّا فَلَا، وَهَذَا يُؤَيِّدُ بَعْضَ مَا ذَكَرْنَاهُ

قَالَ (وَإِذَا رَمَى صَيْدًا فَقَطَعَ عُضْوًا مِنْهُ أُكِلَ الصَّيْدُ) لِمَا بَيَّنَّاهُ (وَلَا يُؤْكَلُ الْعُضْوُ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: أُكِلَ إنْ مَاتَ الصَّيْدُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ مُبَانٌ بِذَكَاةِ الِاضْطِرَارِ فَيَحِلُّ الْمُبَانُ وَالْمُبَانُ مِنْهُ كَمَا إذَا أُبِينَ الرَّأْسُ بِذَكَاةِ الِاخْتِيَارِ بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَمُتْ؛ لِأَنَّهُ مَا أُبِينَ بِالذَّكَاةِ

وَلَنَا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «مَا أُبِينَ مِنْ الْحَيِّ فَهُوَ مَيِّتٌ» ذِكْرُ الْحَيِّ مُطْلَقًا فَيَنْصَرِفُ إلَى الْحَيِّ حَقِيقَةً وَحُكْمًا، وَالْعُضْوُ الْمُبَانُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ؛ لِأَنَّ الْمُبَانَ مِنْهُ حَيٌّ حَقِيقَةً لِقِيَامِ الْحَيَاةِ فِيهِ، وَكَذَا حُكْمًا؛ لِأَنَّهُ تُتَوَهَّمُ سَلَامَتُهُ بَعْدَ هَذِهِ الْجِرَاحَةِ وَلِهَذَا اعْتَبَرَهُ الشَّرْعُ حَيًّا، حَتَّى لَوْ وَقَعَ فِي الْمَاءِ وَفِيهِ حَيَاةٌ بِهَذِهِ الصِّفَةِ يَحْرُمُ

وَقَوْلُهُ أُبِينَ بِالذَّكَاةِ قُلْنَا حَالَ وُقُوعِهِ لَمْ يَقَعْ ذَكَاةً لِبَقَاءِ الرُّوحِ فِي الْبَاقِي، وَعِنْدَ زَوَالِهِ لَا يَظْهَرُ فِي الْمُبَانِ لِعَدَمِ الْحَيَاةِ فِيهِ، وَلَا تَبَعِيَّةَ لِزَوَالِهَا بِالِانْفِصَالِ فَصَارَ هَذَا الْحَرْفُ هُوَ الْأَصْلَ؛ لِأَنَّ الْمُبَانَ مِنْ الْحَيِّ حَقِيقَةً وَحُكْمًا لَا يَحِلُّ، وَالْمُبَانُ مِنْ الْحَيِّ صُورَةً لَا حُكْمًا يَحِلُّ وَذَلِكَ بِأَنْ يَبْقَى فِي الْمُبَانِ مِنْهُ حَيَاةٌ بِقَدْرِ مَا يَكُونُ

الْمُخَالِفَةِ تَدَبَّرْ تَفْهَمْ

وَطَعَنَ فِيهِ صَاحِبُ الْغَايَةِ بِوَجْهٍ آخَرَ حَيْثُ قَالَ: وَهَذَا ضَعِيفٌ عِنْدِي؛ لِأَنَّهُ كَمَا شَرَطَ الْإِنْهَارَ شَرَطَ فَرْيَ الْأَوْدَاجِ أَيْضًا

وَفِي ذَكَاةِ الِاضْطِرَارِ لَا يُشْتَرَطُ فَرْيُ الْأَوْدَاجِ، فَكَذَا لَا يُشْتَرَطُ الْإِنْهَارُ انْتَهَى

أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا بِسَدِيدٍ؛ لِأَنَّ عَدَمَ اشْتِرَاطِ فَرْيِ الْأَوْدَاجِ فِي ذَكَاةِ الِاضْطِرَارِ لِلْعَجْزِ عَنْهُ وَلُزُومِ الْحَرَجِ فِي اشْتِرَاطِهِ، وَهَذَا غَيْرُ مُتَحَقِّقٌ فِي الْإِنْهَارِ؛ إذْ لَا عَجْزَ عَنْ الْجُرْحِ بِلَا رَيْبٍ، ثُمَّ إنَّ الْجُرْحَ لَا يَنْفَكُّ عَنْ الْإِنْهَارِ فِي الْغَالِبِ فَلَا حَرَجَ فِي اشْتِرَاطِ الْإِنْهَارِ عَلَى رَأْيِ ذَلِكَ الْبَعْضِ فَافْتَرَقَا

(قَوْلُهُ وَلَنَا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «مَا أُبِينَ مِنْ الْحَيِّ فَهُوَ مَيِّتٌ» ذَكَرَ الْحَيَّ مُطْلَقًا فَيَنْصَرِفُ إلَى الْحَيِّ حَقِيقَةً وَحُكْمًا، وَالْعُضْوُ الْمُبَانُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ) قَالَ الشُّرَّاحُ: يَعْنِي أَنَّهُ ذَكَرَ الْحَيَّ مُطْلَقًا وَالْمُطْلَقُ يَنْصَرِفُ إلَى الْكَامِلِ، وَالْكَامِلُ هُوَ الْحَيُّ حَقِيقَةً وَحُكْمًا وَالْعُضْوُ

ص: 131

فِي الْمَذْبُوحِ فَإِنَّهُ حَيَاةٌ صُورَةً لَا حُكْمًا، وَلِهَذَا لَوْ وَقَعَ فِي الْمَاءِ وَبِهِ هَذَا الْقَدْرُ مِنْ الْحَيَاةِ أَوْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ أَوْ سَطْحٍ لَا يَحْرُمُ فَتُخَرَّجُ عَلَيْهِ الْمَسَائِلُ، فَنَقُولُ: إذَا قَطَعَ يَدًا أَوْ رِجْلًا أَوْ فَخِذًا أَوْ ثُلُثَهُ مِمَّا يَلِي الْقَوَائِمَ أَوْ أَقَلَّ مِنْ نِصْفِ الرَّأْسِ يَحْرُمُ الْمُبَانُ وَيَحِلُّ الْمُبَانُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ يُتَوَهَّمُ بَقَاءُ الْحَيَاةِ فِي الْبَاقِي (وَلَوْ قَدَّهُ بِنِصْفَيْنِ أَوْ قَطَّعَهُ أَثْلَاثًا وَالْأَكْثَرُ مِمَّا يَلِي الْعَجُزَ أَوْ قَطَعَ نِصْفَ رَأْسِهِ أَوْ أَكْثَرَ مِنْهُ يَحِلُّ الْمُبَانُ وَالْمُبَانُ مِنْهُ)؛ لِأَنَّ الْمُبَانَ مِنْهُ حَيٌّ صُورَةً لَا حُكْمًا؛ إذْ لَا يُتَوَهَّمُ بَقَاءُ الْحَيَاةِ بَعْدَ هَذَا الْجُرْحِ، وَالْحَدِيثُ وَإِنْ تَنَاوَلَ السَّمَكَ وَمَا أُبِينَ مِنْهُ فَهُوَ مَيِّتٌ، إلَّا أَنَّ مَيْتَتَهُ حَلَالٌ بِالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَيْنَاهُ

(وَلَوْ ضَرَبَ عُنُقَ شَاةٍ فَأَبَانَ رَأْسَهَا يَحِلُّ لِقَطْعِ الْأَوْدَاجِ) وَيُكْرَهُ هَذَا الصَّنِيعُ لِإِبْلَاغِهِ النُّخَاعَ، وَإِنْ ضَرَبَهُ مِنْ قِبَلِ الْقَفَا، إنْ مَاتَ قَبْلَ قَطْعِ الْأَوْدَاجِ لَا يَحِلُّ، وَإِنْ لَمْ يَمُتْ حَتَّى قَطَعَ الْأَوْدَاجَ حَلَّ

(وَلَوْ ضَرَبَ صَيْدًا فَقَطَعَ يَدًا أَوْ رِجْلًا وَلَمْ يُبِنْهُ؛ إنْ كَانَ يُتَوَهَّمُ الِالْتِئَامُ وَالِانْدِمَالُ فَإِذَا مَاتَ حَلَّ أَكْلُهُ)؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ أَجْزَائِهِ، وَإِنْ كَانَ لَا يُتَوَهَّمُ بِأَنْ بَقِيَ مُتَعَلِّقًا بِجِلْدِهِ حَلَّ مَا سِوَاهُ لِوُجُودِ الْإِبَانَةِ مَعْنًى وَالْعِبْرَةُ لِلْمَعَانِي.

قَالَ (وَلَا يُؤْكَلُ صَيْدُ الْمَجُوسِيِّ وَالْمُرْتَدِّ وَالْوَثَنِيِّ)؛ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الذَّكَاةِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي الذَّبَائِحِ، وَلَا بُدَّ مِنْهَا فِي إبَاحَةِ الصَّيْدِ بِخِلَافِ النَّصْرَانِيِّ وَالْيَهُودِيِّ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ أَهْلِ الذَّكَاةِ اخْتِيَارًا فَكَذَا اضْطِرَارًا.

قَالَ (وَمَنْ رَمَى صَيْدًا فَأَصَابَهُ وَلَمْ يُثْخِنْهُ وَلَمْ يُخْرِجْهُ عَنْ حَيِّزِ الِامْتِنَاعِ فَرَمَاهُ آخَرُ فَقَتَلَهُ فَهُوَ لِلثَّانِي وَيُؤْكَلُ)؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْآخِذُ، وَقَدْ قَالَ عليه الصلاة والسلام «الصَّيْدُ لِمَنْ أَخَذَ» (وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ أَثْخَنَهُ فَرَمَاهُ الثَّانِي فَقَتَلَهُ فَهُوَ لِلْأَوَّلِ وَلَمْ يُؤْكَلْ)

الْمُبَانُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ: أَيْ أُبِينَ مِنْ الْحَيِّ حَقِيقَةً وَحُكْمًا

أَقُولُ: الْمُقَدَّمَةُ الْقَائِلَةُ: إنَّ الْمُطْلَقَ يَنْصَرِفُ إلَى الْكَامِلِ شَائِعَةٌ فِي أَلْسِنَةِ الْفُقَهَاءِ وَكُتُبِ أَصْحَابِنَا لَكِنَّهَا مُخَالِفَةٌ فِي الظَّاهِرِ لِمَا تَقَرَّرَ فِي أُصُولِ أَئِمَّتِنَا مِنْ أَنَّ حُكْمَ الْمُطْلَقِ أَنْ يَجْرِيَ عَلَى إطْلَاقِهِ، كَمَا أَنَّ الْمُقَيَّدَ يَجْرِي

ص: 132

لِاحْتِمَالِ الْمَوْتِ بِالثَّانِي، وَهُوَ لَيْسَ بِذَكَاةٍ لِلْقُدْرَةِ عَلَى ذَكَاةِ الِاخْتِيَارِ، بِخِلَافِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، وَهَذَا إذَا كَانَ الرَّمْيُ الْأَوَّلُ بِحَالٍ يَنْجُو مِنْهُ الصَّيْدُ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ الْمَوْتُ مُضَافًا إلَى الرَّمْيِ الثَّانِي

وَأَمَّا إذَا كَانَ الْأَوَّلُ بِحَالٍ لَا يَسْلَمُ مِنْهُ الصَّيْدُ بِأَنْ لَا يَبْقَى فِيهِ مِنْ الْحَيَاةِ إلَّا بِقَدْرِ مَا يَبْقَى فِي الْمَذْبُوحِ، كَمَا إذَا أَبَانَ رَأْسَهُ يَحِلُّ؛ لِأَنَّ الْمَوْتَ لَا يُضَافُ إلَى الرَّمْيِ الثَّانِي؛ لِأَنَّ وُجُودَهُ وَعَدَمَهُ بِمَنْزِلَةٍ، وَإِنْ كَانَ الرَّمْيُ الْأَوَّلُ بِحَالٍ لَا يَعِيشُ مِنْهُ الصَّيْدُ إلَّا أَنَّهُ بَقِيَ فِيهِ مِنْ الْحَيَاةِ أَكْثَرُ مِمَّا يَكُونُ بَعْدَ الذَّبْحِ بِأَنْ كَانَ يَعِيشُ يَوْمًا أَوْ دُونَهُ؛ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ لَا يَحْرُمُ بِالرَّمْيِ الثَّانِي؛ لِأَنَّ هَذَا الْقَدْرَ مِنْ الْحَيَاةِ لَا عِبْرَةَ بِهَا عِنْدَهُ

وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَحْرُمُ؛ لِأَنَّ هَذَا الْقَدْرَ مِنْ الْحَيَاةِ مُعْتَبَرٌ عِنْدَهُ عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ مَذْهَبِهِ

فَصَارَ الْجَوَابُ فِيهِ وَالْجَوَابُ فِيمَا إذَا كَانَ الْأَوَّلُ بِحَالٍ لَا يَسْلَمُ مِنْهُ الصَّيْدُ سَوَاءً فَلَا يَحِلُّ

قَالَ (وَالثَّانِي ضَامِنٌ لِقِيمَتِهِ لِلْأَوَّلِ غَيْرَ مَا نَقَصَتْهُ جِرَاحَتُهُ)؛ لِأَنَّهُ بِالرَّمْيِ أَتْلَفَ صَيْدًا مَمْلُوكًا لَهُ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِالرَّمْيِ الْمُثْخِنِ وَهُوَ مَنْقُوصٌ بِجِرَاحَتِهِ، وَقِيمَةُ الْمُتْلَفِ تُعْتَبَرُ يَوْمَ الْإِتْلَافِ

قَالَ رضي الله عنه: تَأْوِيلُهُ إذَا عُلِمَ أَنَّ الْقَتْلَ حَصَلَ بِالثَّانِي بِأَنْ كَانَ الْأَوَّلُ بِحَالٍ يَجُوزُ أَنْ يَسْلَمَ الصَّيْدُ مِنْهُ وَالثَّانِي بِحَالٍ لَا يَسْلَمُ الصَّيْدُ مِنْهُ لِيَكُونَ الْقَتْلُ كُلُّهُ مُضَافًا إلَى الثَّانِيَ وَقَدْ قَتَلَ حَيَوَانًا مَمْلُوكًا لِلْأَوَّلِ مَنْقُوصًا بِالْجِرَاحَةِ فَلَا يَضْمَنُهُ كَامِلًا، كَمَا إذَا قَتَلَ عَبْدًا مَرِيضًا

عَلَى تَقْيِيدِهِ فَتَأَمَّلْ فِي التَّوْفِيقِ

(قَوْلُهُ قَالَ رضي الله عنه: تَأْوِيلُهُ إذَا عَلِمَ أَنَّ الْقَتْلَ حَصَلَ بِالثَّانِي بِأَنْ كَانَ الْأَوَّلُ بِحَالٍ يَجُوزُ أَنْ يَسْلَمَ الصَّيْدُ مِنْهُ إلَخْ) أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: تَأْوِيلُ الْمَسْأَلَةِ هَا هُنَا بِمَا ذَكَرَهُ بَعْدَ أَنْ أَوَّلَهَا مَرَّةً فِيمَا قَبْلُ بِقَوْلِهِ: وَهَذَا إذَا كَانَ الرَّمْيُ الْأَوَّلُ بِحَالٍ يَنْجُو مِنْهُ الصَّيْدُ يُرَى مُسْتَدْرِكًا؛ لِأَنَّ مَجْمُوعَ التَّأْوِيلَيْنِ مُتَعَلِّقٌ بِمَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ مَذْكُورَةٍ فِي مُخْتَصَرِ الْقُدُورِيِّ وَهِيَ قَوْلُهُ: وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ أَثْخَنَهُ فَرَمَاهُ الثَّانِي فَقَتَلَهُ لَمْ يُؤْكَلْ، وَالثَّانِي ضَامِنٌ لِقِيمَتِهِ لِلْأَوَّلِ غَيْرَ مَا نَقَصَتْهُ جِرَاحَتُهُ انْتَهَى

فَلَمَّا أَوَّلَ الْمُصَنِّفُ قَوْلَهُ لَمْ يُؤْكَلْ بِمَا إذَا كَانَ الرَّمْيُ الْأَوَّلُ بِحَالٍ يَنْجُو مِنْهُ الصَّيْدُ تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ أَيْضًا قَوْلُهُ: وَالثَّانِي ضَامِنٌ لِقِيمَتِهِ لِلْأَوَّلِ غَيْرَ مَا نَقَصَتْهُ جِرَاحَتُهُ فِيمَا إذَا كَانَ الرَّمْيُ الْأَوَّلُ بِحَالٍ يَنْجُو مِنْهُ الصَّيْدُ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَالثَّانِي ضَامِنٌ لِقِيمَتِهِ لِلْأَوَّلِ فَرْعُ قَوْلِهِ لَمْ يُؤْكَلْ، فَمَا هُوَ شَرْطٌ فِي الْأَصْلِ شَرْطٌ فِي الْفَرْعِ أَيْضًا

وَإِذَا عُلِمَ أَنَّ الرَّمْيَ الْأَوَّلَ كَانَ بِحَالٍ يَنْجُو مِنْهُ الصَّيْدُ عُلِمَ أَنَّ الْقَتْلَ حَصَلَ بِالرَّمْيِ الثَّانِي فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّأْوِيلِ الثَّانِي

ثُمَّ أَقُولُ فِي الْجَوَابِ: إنَّ كَوْنَ الرَّمْيِ الْأَوَّلِ بِحَالٍ يَنْجُو مِنْهُ الصَّيْدُ إنَّمَا يَقْتَضِي أَنْ لَا يَحْصُلَ الْقَتْلُ بِالرَّمْيِ الْأَوَّلِ فَقَطْ، وَلَا يَقْتَضِي أَنْ يَحْصُلَ الْقَتْلُ بِالرَّمْيِ الثَّانِي وَحْدَهُ لِجَوَازِ أَنْ يَحْصُلَ مِنْ اجْتِمَاعِ الرَّمْيَيْنِ؛ إذْ قَدْ يَكُونُ فِي حَالَةِ الِاجْتِمَاعِ

ص: 133

وَإِنْ عَلِمَ أَنَّ الْمَوْتَ يَحْصُلُ مِنْ الْجِرَاحَتَيْنِ أَوْ لَا يَدْرِي

قَالَ فِي الزِّيَادَاتِ: يَضْمَنُ الثَّانِي مَا نَقَصَتْهُ جِرَاحَتُهُ ثُمَّ يُضَمِّنُهُ نِصْفَ قِيمَتِهِ مَجْرُوحًا بِجِرَاحَتَيْنِ ثُمَّ يَضْمَنُ نِصْفَ قِيمَةِ لَحْمِهِ

أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُ جَرَحَ حَيَوَانًا مَمْلُوكًا لِلْغَيْرِ وَقَدْ نَقَصَهُ فَيَضْمَنُ مَا نَقَصَهُ أَوَّلًا

وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الْمَوْتَ حَصَلَ بِالْجِرَاحَتَيْنِ فَيَكُونُ هُوَ مُتْلِفًا نِصْفَهُ وَهُوَ مَمْلُوكٌ لِغَيْرِهِ فَيَضْمَنُ نِصْفَ قِيمَتِهِ مَجْرُوحًا بِالْجِرَاحَتَيْنِ؛ لِأَنَّ الْأُولَى مَا كَانَتْ بِصُنْعِهِ، وَالثَّانِيَةُ ضَمِنَهَا مَرَّةً فَلَا يَضْمَنُهَا ثَانِيًا

وَأَمَّا الثَّالِثُ فَلِأَنَّ بِالرَّمْيِ الْأَوَّلِ صَارَ بِحَالٍ يَحِلُّ بِذَكَاةِ الِاخْتِيَارِ لَوْلَا رَمْيُ الثَّانِي، فَهَذَا بِالرَّمْيِ الثَّانِي أَفْسَدَ عَلَيْهِ نِصْفَ اللَّحْمِ فَيَضْمَنُهُ، وَلَا يَضْمَنُ النِّصْفَ الْآخَرَ؛ لِأَنَّهُ ضَمِنَهُ مَرَّةً فَدَخَلَ ضَمَانُ اللَّحْمِ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ رَمَاهُ الْأَوَّلُ ثَانِيًا فَالْجَوَابُ فِي حُكْمِ الْإِبَاحَةِ كَالْجَوَابِ فِيمَا إذَا كَانَ الرَّامِي غَيْرَهُ، وَيَصِيرُ كَمَا إذَا رَمَى صَيْدًا عَلَى قِمَّةِ جَبَلٍ فَأَثْخَنَهُ ثُمَّ رَمَاهُ ثَانِيًا فَأَنْزَلَهُ لَا يَحِلُّ؛ لِأَنَّ الثَّانِيَ مُحَرَّمٌ، كَذَا هَذَا.

قَالَ (وَيَجُوزُ اصْطِيَادُ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ مِنْ الْحَيَوَانِ وَمَا لَا يُؤْكَلُ) لِإِطْلَاقِ مَا تَلُونَا

وَالصَّيْدُ لَا يَخْتَصُّ بِمَأْكُولِ اللَّحْمِ

قَالَ قَائِلُهُمْ:

صَيْدُ الْمُلُوكِ أَرَانِب وَثَعَالِب

وَإِذَا رَكِبْتُ فَصَيْدِي الْأَبْطَالُ

وَلِأَنَّ صَيْدَهُ سَبَبٌ لِلِانْتِفَاعِ بِجِلْدِهِ أَوْ شَعْرِهِ أَوْ رِيشَةِ أَوْ لِاسْتِدْفَاعِ شَرِّهِ وَكُلُّ ذَلِكَ مَشْرُوعٌ.

مَا لَا يَكُونُ فِي حَالَةِ الِانْفِرَادِ، وَمُرَادُ الْمُصَنِّفِ بِالتَّأْوِيلِ الثَّانِي التَّقْيِيدُ بِمَا عُلِمَ كَوْنُ الْقَتْلِ حَاصِلًا بِالرَّمْيِ الثَّانِي وَحْدَهُ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ الِاحْتِرَازُ عَمَّا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ عَلِمَ أَنَّ الْمَوْتَ حَصَلَ مِنْ الْجِرَاحَتَيْنِ أَوْ لَا يَدْرِي، وَلَا يُفِيدُ التَّأْوِيلُ الْأَوَّلُ هَذَا التَّقْيِيدَ؛ لِأَنَّ الْقَيْدَ الَّذِي ذَكَرَهُ أَوَّلًا أَعَمُّ تَحَقُّقًا مِنْ الْقَيْدِ الَّذِي ذَكَرَهُ ثَانِيًا لِتَنَاوُلِهِ صُورَةَ أَنْ يَحْصُلَ الْقَتْلُ مِنْ مَجْمُوعِ الرَّمْيَيْنِ كَمَا يَتَنَاوَلُ صُورَةَ أَنْ يَحْصُلَ بِالرَّمْيِ الثَّانِي وَحْدَهُ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ مِنْ التَّأْوِيلِ الْأَوَّلِ الِاحْتِرَازُ عَمَّا إذَا كَانَ الرَّمْيُ الْأَوَّلُ بِحَالٍ لَا يَسْلَمُ مِنْهُ الصَّيْدُ بِأَنْ لَا يَبْقَى فِيهِ مِنْ الْحَيَاةِ إلَّا بِقَدْرِ مَا يَبْقَى فِي الْمَذْبُوحِ، وَعَمَّا إذَا كَانَ الرَّمْيُ الْأَوَّلُ بِحَالٍ لَا يَعِيشُ مِنْهُ الصَّيْدُ إلَّا أَنَّهُ يَبْقَى فِيهِ مِنْ الْحَيَاةِ أَكْثَرُ مِمَّا يَكُونُ بَعْدَ الذَّبْحِ كَمَا فَصَّلَهُ مِنْ قَبْلُ، فَلَا اسْتِدْرَاكَ أَصْلًا بَلْ أَصَابَ كُلٌّ مِنْ التَّأْوِيلَيْنِ مَجْرَاهُ

ص: 134

كِتَابُ الرَّهْنِ

الرَّهْنُ لُغَةً: حَبْسُ الشَّيْءِ بِأَيِّ سَبَبٍ كَانَ

وَفِي الشَّرِيعَةِ: جَعْلُ الشَّيْءِ مَحْبُوسًا بِحَقٍّ يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ الرَّهْنِ كَالدُّيُونِ

وَهُوَ مَشْرُوعٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} وَبِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام اشْتَرَى مِنْ يَهُودِيٍّ طَعَامًا وَرَهَنَهُ بِهِ دِرْعَهُ» وَقَدْ انْعَقَدَ عَلَى ذَلِكَ الْإِجْمَاعُ، وَلِأَنَّهُ عَقْدُ وَثِيقَةٍ لِجَانِبِ الِاسْتِيفَاءِ فَيُعْتَبَرُ

(كِتَابُ الرَّهْنِ)

مُنَاسَبَةُ كِتَابِ الرَّهْنِ لِكِتَابِ الصَّيْدِ مِنْ حَيْثُ إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الرَّهْنِ وَالِاصْطِيَادِ سَبَبٌ لِتَحْصِيلِ الْمَالِ كَذَا فِي الشُّرُوحِ

أَقُولُ: يَرِدُ عَلَى ظَاهِرِ هَذَا التَّوْجِيهِ أَنَّ الْمُنَاسَبَةَ الْمَذْكُورَةَ مُتَحَقِّقَةٌ بَيْنَ مَا ذُكِرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْكُتُبِ السَّابِقَةِ وَاللَّاحِقَةِ فَلَا تَكُونُ مُرَجِّحَةً لِإِيرَادِ كِتَابِ الرَّهْنِ عَقِيبَ كِتَابِ الصَّيْدِ

وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ هَذِهِ الْمُنَاسَبَةَ مَعَ مُلَاحَظَةِ الْمُنَاسَبَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْكُتُبِ السَّابِقَةِ وَاللَّاحِقَةِ تَقْتَضِي إيرَادَ كِتَابِ الرَّهْنِ عَقِيبَ كِتَابِ الصَّيْدِ، وَإِلَّا يَلْزَمُ تَفْوِيتُ تِلْكَ الْمُنَاسِبَاتِ فَتَكُونُ مُرَجَّحَةً مَعَ تِلْكَ الْمُلَاحَظَةِ، وَقَدْ نَبَّهْت عَلَى هَذِهِ النُّكْتَةِ غَيْرَ مَرَّةٍ فِي نَظَائِرِ هَذَا الْمَقَامِ فَلَا تَغْفُلْ

ثُمَّ مِنْ مَحَاسِنِ الرَّهْنِ حُصُولُ النَّظَرِ لِكُلٍّ مِنْ جَانِبَيْ الدَّائِنِ وَالْمَدْيُونِ كَمَا فَصَّلَ فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ

وَسَبَبُهُ مَا ذُكِرَ فِي سَائِرِ الْمُعَامَلَاتِ مِنْ تَعَلُّقِ الْبَقَاءِ الْمُقَدَّرِ بِتَعَاطِيهِ

وَأَمَّا تَفْسِيرُهُ لُغَةً وَشَرِيعَةً وَرُكْنُهُ وَشَرْطُ جَوَازِهِ وَشَرْطُ لُزُومِهِ وَدَلِيلُ مَشْرُوعِيَّتِهِ وَحُكْمُهُ فَيَجِيءُ كُلُّ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ شَيْئًا فَشَيْئًا صَرَاحَةً أَوْ إشَارَةً فَتَنَبَّهْ لَهُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى (قَوْلُهُ الرَّهْنُ فِي اللُّغَةِ حَبْسُ الشَّيْءِ بِأَيِّ سَبَبٍ كَانَ وَفِي الشَّرِيعَةِ جَعْلُ الشَّيْءِ مَحْبُوسًا بِحَقٍّ يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ الرَّهْنِ كَالدُّيُونِ) قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: هَذَا تَعْرِيفُ الرَّهْنِ التَّامِّ أَوْ اللَّازِمِ، وَإِلَّا فَفِي انْعِقَادِ الرَّهْنِ لَا يَلْزَمُ الْحَبْسُ بَلْ ذَلِكَ بِالْقَبْضِ انْتَهَى

أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا بِسَدِيدٍ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّهُ يَتَحَقَّقُ بِانْعِقَادِ الرَّهْنِ مَعْنَى جَعْلِ الشَّيْءِ مَحْبُوسًا بِحَقٍّ، إلَّا أَنَّ لِلْعَاقِدِ الرُّجُوعَ عَنْهُ مَا لَمْ يَقْبِضْ الْمُرْتَهِنُ الرَّهْنَ فَقَبْلَ الْقَبْضِ يُوجَدُ مَعْنَى الْحَبْسِ، وَلَكِنْ لَا يَلْزَمُ ذَلِكَ إلَّا بَعْدَ الْقَبْضِ، وَالْمَأْخُوذُ مِنْ التَّعْرِيفِ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ لِلرَّهْنِ إنَّمَا هُوَ نَفْسُ الْحَبْسِ لَا لُزُومُهُ، فَيَصْدُقُ هَذَا

ص: 135

بِالْوَثِيقَةِ فِي طَرَفِ الْوُجُوبِ وَهِيَ الْكَفَالَةُ

قَالَ (الرَّهْنُ يَنْعَقِدُ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ وَيَتِمُّ بِالْقَبْضِ) قَالُوا: الرُّكْنُ الْإِيجَابُ بِمُجَرَّدِهِ؛ لِأَنَّهُ عَقْدُ تَبَرُّعٍ فَيَتِمُّ بِالْمُتَبَرَّعِ كَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ

التَّعْرِيفُ عَلَى الرَّهْنِ قَبْلَ تَمَامِهِ وَلُزُومِهِ أَيْضًا بِلَا رَيْبٍ

ثُمَّ إنَّ الْإِمَامَ النَّسَفِيَّ لَمَّا قَالَ فِي الْكَنْزِ: هُوَ حَبْسُ شَيْءٍ بِحَقٍّ يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْهُ كَالدَّيْنِ، قَالَ الزَّيْلَعِيُّ فِي شَرْحِهِ: هَذَا حَدُّهُ فِي الشَّرْعِ، ثُمَّ قَالَ: وَقَوْلُهُ كَالدَّيْنِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الرَّهْنَ لَا يَجُوزُ إلَّا بِالدَّيْنِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْحَقُّ الْمُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ الرَّهْنِ لِعَدَمِ تَعَيُّنِهِ انْتَهَى

أَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ الْمُتَبَادَرَ مِنْ الْكَافِ فِي قَوْلِهِ كَالدَّيْنِ أَنْ يَجُوزَ الرَّهْنُ بِغَيْرِ الدَّيْنِ أَيْضًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي قَوْلِهِ كَالدَّيْنِ إشَارَةٌ إلَى جَوَازِ الرَّهْنِ بِغَيْرِ الدَّيْنِ أَيْضًا فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ لَا يَكُونَ فِيهِ إشَارَةٌ إلَى انْحِصَارِ مَا يَجُوزُ الرَّهْنُ بِهِ فِي الدَّيْنِ فَلَا وَجْهَ لِقَوْلِ الزَّيْلَعِيِّ قَوْلُهُ كَالدَّيْنِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الرَّهْنَ لَا يَجُوزُ إلَّا بِالدَّيْنِ (قَوْلُهُ الرَّهْنُ يَنْعَقِدُ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ: رُكْنُ الرَّهْنِ الْإِيجَابُ وَهُوَ قَوْلُ الرَّاهِنِ رَهَنْتُك هَذَا الْمَالَ بِدَيْنٍ لَك عَلَيَّ وَمَا أَشْبَهَهُ، وَالْقَبُولُ وَهُوَ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ قَبِلْت؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ، وَالْعَقْدُ يَنْعَقِدُ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ، وَعَلَى ذَلِكَ عَامَّةُ الْمَشَايِخِ انْتَهَى

وَأَوْرَدَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ عَلَى قَوْلِهِ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ وَالْعَقْدُ يَنْعَقِدُ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ بِأَنْ قَالَ: هَذَا مَنْقُوضٌ بِعَقْدِ التَّبَرُّعَاتِ، وَقَالَ: إلَّا أَنْ يَخُصَّ الْعَقْدَ فِي الصُّغْرَى بِمَا سِوَى التَّبَرُّعِ

أَقُولُ: لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ إيرَادِهِ وَتَوْجِيهِهِ بِمُسْتَقِيمٍ

أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ مَنْ يَقُولُ مِنْ الْمَشَايِخِ بِأَنَّ انْعِقَادَ الرَّهْنِ لَا يَكُونُ إلَّا بِمَجْمُوعِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ يَقُولُ بِأَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ فِي سَائِرِ عَقْدِ التَّبَرُّعَاتِ أَيْضًا، وَاخْتِلَافُ الْمَشَايِخِ فِي أَنَّ الْقَبُولَ هَلْ هُوَ رُكْنٌ كَالْإِيجَابِ أَمْ لَا؟ لَيْسَ بِمُخْتَصٍّ بِعَقْدِ الرَّهْنِ بَلْ يَعُمُّ سَائِرَ التَّبَرُّعَاتِ أَيْضًا مِنْ الْعُقُودِ كَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ كَمَا مَرَّ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الْهِبَةِ، فَلَا انْتِقَاضَ بِشَيْءٍ عَلَى أَصْلِ مَنْ يَقُولُ مِنْ الْمَشَايِخِ بِأَنَّ الْقَبُولَ رُكْنٌ فِي كُلِّ عَقْدٍ، وَقَوْلُ الْقُدُورِيِّ: الرَّهْنُ يَنْعَقِدُ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ، وَتَعْلِيلُ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ إيَّاهُ بِقَوْلِهِ: لِأَنَّهُ عَقْدٌ وَالْعَقْدُ يَنْعَقِدُ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلِ هَؤُلَاءِ الْمَشَايِخِ

وَأَمَّا قَوْلُ سَائِرِ الْمَشَايِخِ فَقَدْ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ قَالُوا: الرُّكْنُ الْإِيجَابُ بِمُجَرَّدِهِ؛ لِأَنَّهُ عَقْدُ تَبَرُّعٍ فَيَتِمُّ بِالْمُتَبَرَّعِ، وَأَوْضَحَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي شَرْحِهِ

وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّهُ لَوْ خَصَّ الْعَقْدَ فِي الصُّغْرَى بِمَا سِوَى التَّبَرُّعِ صَارَ الْمَعْنَى؛ لِأَنَّهُ أَيْ الرَّهْنَ عَقْدٌ غَيْرُ تَبَرُّعٍ، وَكُلُّ عَقْدٍ غَيْرِ تَبَرُّعٍ يَنْعَقِدُ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الصُّغْرَى تَصِيرُ حِينَئِذٍ كَاذِبَةً؛ إذْ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِأَنَّ عَقْدَ الرَّهْنِ لَيْسَ بِعَقْدِ تَبَرُّعٍ، بَلْ أَطْبَقَتْ كَلِمَاتُهُمْ عَلَى أَنَّهُ عَقْدُ تَبَرُّعٍ فَلَا صِحَّةَ لِلتَّخْصِيصِ بِمَا سِوَى التَّبَرُّعِ (قَوْلُهُ قَالُوا: الرُّكْنُ الْإِيجَابُ بِمُجَرَّدِهِ؛ لِأَنَّهُ عَقْدُ تَبَرُّعٍ فَيَتِمُّ بِالْمُتَبَرَّعِ كَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي حِلِّ هَذَا التَّعْلِيلِ: لِأَنَّهُ عَقْدُ تَبَرُّعٍ، وَكُلُّ مَا هُوَ كَذَلِكَ يَتِمُّ بِالْمُتَبَرَّعِ، فَالرَّهْنُ يَتِمُّ بِالْمُتَبَرَّعِ، أَمَّا أَنَّهُ عَقْدُ تَبَرُّعٍ فَلِأَنَّ الرَّاهِنَ لَمْ يَسْتَوْجِبْ بِإِزَاءِ مَا أَثْبَتَ لِلْمُرْتَهِنِ مِنْ الْيَدِ شَيْئًا

ص: 136

وَالْقَبْضُ شَرْطُ اللُّزُومِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى

وَقَالَ مَالِكٌ: يَلْزَمُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُ يَخْتَصُّ بِالْمَالِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فَصَارَ كَالْبَيْعِ، وَلِأَنَّهُ عَقْدُ وَثِيقَةٍ فَأَشْبَهَ الْكَفَالَةَ

وَلَنَا مَا تَلَوْنَا، وَالْمَصْدَرُ الْمَقْرُونُ بِحَرْفِ الْفَاءِ فِي مَحَلِّ الْجَزَاءِ يُرَادُ بِهِ الْأَمْرُ،

عَلَيْهِ، وَلَا نَعْنِي بِالتَّبَرُّعِ إلَّا ذَلِكَ

وَأَمَّا أَنَّ كُلَّ مَا هُوَ كَذَلِكَ يَتِمُّ بِالْمُتَبَرَّعِ فَكَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ، وَقَالَ: فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْجَبَ عَلَيْهِ صَيْرُورَتَهُ مُسْتَوْفِيًا لِدَيْنِهِ عِنْدَ الْهَلَاكِ

وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالِاسْتِيجَابِ مَا يَكُونُ ابْتِدَاءً، وَالرَّهْنُ لَيْسَ كَذَلِكَ انْتَهَى

أَقُولُ: فِي الْجَوَابِ بَحْثٌ؛ لِأَنَّ الرَّاهِنَ إنْ لَمْ يَسْتَوْجِبْ شَيْئًا عَلَى الْمُرْتَهِنِ ابْتِدَاءً فَقَدْ اسْتَوْجَبَ عَلَيْهِ شَيْئًا فِي الْبَقَاءِ، وَهُوَ صَيْرُورَةُ الْمُرْتَهِنِ مُسْتَوْفِيًا لِدَيْنِهِ عِنْدَ الْهَلَاكِ، فَلَمْ يَكُنْ الرَّهْنُ عَقْدَ تَبَرُّعٍ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، بَلْ كَانَ فِيهِ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ مِنْ وَجْهٍ حَيْثُ صَارَ الْمُرْتَهِنُ مُسْتَوْفِيًا لِدَيْنِهِ عِنْدَ هَلَاكِ الرَّهْنِ فِي يَدِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَتِمَّ بِإِيجَابِ الرَّاهِنِ وَحْدَهُ، بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَتَوَقَّفَ عَلَى قَبُولِ الْمُرْتَهِنِ أَيْضًا حَتَّى يَتِمَّ جَعْلُنَا إيَّاهُ مُسْتَوْفِيًا لِدَيْنِهِ حُكْمًا عِنْدَ الْهَلَاكِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُنَا عَلَى مَا سَيَجِيءُ تَفْصِيلُهُ فَلْيُتَأَمَّلْ (قَوْلُهُ وَالْقَبْضُ شَرْطُ اللُّزُومِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ: كَأَنَّهُ تَفْسِيرٌ لِقَوْلِ الْقُدُورِيِّ وَيَتِمُّ بِالْقَبْضِ فَيَكُونُ الرَّهْنُ قَبْلَ الْقَبْضِ جَائِزًا، وَبِهِ يَلْزَمُ، وَهُوَ أَيْضًا اخْتِيَارُ شَيْخِ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِرِوَايَةِ عَامَّةِ الْكُتُبِ

قَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَجُوزُ الرَّهْنُ إلَّا مَقْبُوضًا

وَقَالَ الْحَاكِمُ فِي الْكَافِي: لَا يَجُوزُ الرَّهْنُ غَيْرَ مَقْبُوضٍ

وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ: وَلَا يَجُوزُ إلَّا مَقْبُوضًا مُفَرَّغًا مَحُوزًا

وَقَالَ الْكَرْخِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَزُفَرُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ: لَا يَجُوزُ الرَّهْنُ إلَّا مَقْبُوضًا، إلَى هُنَا لَفْظُ الْعِنَايَةِ

وَقَصَدَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ دَفْعَ مُخَالَفَةِ مَا فِي الْكِتَابِ لِرِوَايَةِ عَامَّةِ الْكُتُبِ فَقَالَ: سَبَقَ فِي كِتَابِ الْهِبَةِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ «لَا تَجُوزُ الْهِبَةُ إلَّا مَقْبُوضَةً» وَالْقَبْضُ لَيْسَ بِشَرْطِ الْجَوَازِ فِي الْهِبَةِ فَلْيَكُنْ هُنَا كَذَلِكَ فَلْيُتَأَمَّلْ انْتَهَى

أَقُولُ: هَذَا قِيَاسٌ مَعَ الْفَارِقِ؛ إذْ قَدْ دَعَتْ الضَّرُورَةُ هُنَاكَ إلَى صَرْفِ نَفْيِ الْجَوَازِ عَنْ ظَاهِرِهِ؛ إذْ الْجَوَازُ قَبْلَ الْقَبْضِ ثَابِتٌ هُنَاكَ بِالْإِجْمَاعِ، فَحَمَلْنَا نَفْيَ الْجَوَازِ بِدُونِ الْقَبْضِ فِي قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَا تَجُوزُ الْهِبَةُ إلَّا مَقْبُوضَةً» عَلَى نَفْيِ ثُبُوتِ حُكْمِ الْهِبَةِ وَهُوَ الْمِلْكُ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ

وَأَمَّا هُنَا فَلَا ضَرُورَةَ وَلَا مَجَالَ لِلْحَمْلِ عَلَى نَفْيِ ثُبُوتِ الْمِلْكِ لِلْمُرْتَهِنِ بِدُونِ الْقَبْضِ وَثُبُوتِهِ لَهُ بِالْقَبْضِ كَمَا هُوَ مُوجِبُ النَّفْيِ وَالِاسْتِثْنَاءِ؛ إذْ لَيْسَ حُكْمُ الرَّهْنِ ثُبُوتَ الْمِلْكِ لِلْمُرْتَهِنِ بِحَالٍ أَصْلًا فَبَقِيَ نَفْيُ الْجَوَازِ هَا هُنَا عَلَى ظَاهِرِهِ

قَوْلُهُ (وَلَنَا مَا تَلَوْنَا، وَالْمَصْدَرُ الْمَقْرُونُ بِحَرْفِ الْفَاءِ فِي مَحَلِّ الْجَزَاءِ يُرَادُ بِهِ الْأَمْرُ) نَظِيرُهُ قَوْله تَعَالَى {فَضَرْبَ الرِّقَابِ} أَيْ فَاضْرِبُوهَا وقَوْله تَعَالَى {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} أَيْ فَلْيُحَرِّرْهَا

ص: 137

وَلِأَنَّهُ عَقْدُ تَبَرُّعٍ لِمَا أَنَّ الرَّاهِنَ لَا يَسْتَوْجِبُ بِمُقَابَلَتِهِ عَلَى الْمُرْتَهِنِ شَيْئًا وَلِهَذَا لَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ فَلَا بُدَّ مِنْ إمْضَائِهِ كَمَا

وقَوْله تَعَالَى {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} بِتَقْدِيرِ فَصَوْمُ عِدَّةٍ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ: أَيْ فَلْيَصُمْ عِدَّةً مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ، فَكَانَ الْمَصْدَرُ فِيمَا تَلَوْنَا هَا هُنَا أَيْضًا وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} بِمَعْنَى الْأَمْرِ: أَيْ فَارْهَنُوا وَارْتَهِنُوا

ثُمَّ لَمَّا كَانَ بِمَعْنَى الْأَمْرِ وَلَمْ يُعْمَلْ بِمُوجِبِ الْأَمْرِ الَّذِي هُوَ الْوُجُوبُ وَاللُّزُومُ فِي حَقِّ نَفْسِ الرَّهْنِ حَيْثُ لَمْ يَجِبْ الرَّهْنُ عَلَى الْمَدْيُونِ بِالْإِجْمَاعِ وَجَبَ أَنْ يُعْمَلَ بِهِ فِي شَرْطِهِ وَهُوَ الْقَبْضُ كَمَا قُلْنَا فِي قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «الْحِنْطَةَ بِالْحِنْطَةِ مِثْلًا بِمِثْلٍ» بِالنَّصْبِ: أَيْ بِيعُوا، فَلَمْ يَعْمَلْ الْأَمْرُ فِي نَفْسِ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ مُبَاحٌ غَيْرُ وَاجِبٍ فَصُرِفَ إلَى شَرْطِهِ وَهُوَ الْمُمَاثَلَةُ فِي أَمْوَالِ الرِّبَا، فَكَذَا هُنَا، هَذَا زُبْدَةُ مَا ذُكِرَ فِي جُمْلَةِ الشُّرُوحِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ

ثُمَّ إنَّ كَثِيرًا مِنْ الشُّرَّاحِ اسْتَشْكَلُوا كَلَامَ الْمُصَنِّفِ هَا هُنَا، فَقَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: فِي تَسْمِيَةِ الرِّهَانِ بِالْمَصْدَرِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الرِّهَانَ جَمْعُ رَهْنٍ كَالنَّعْلِ وَالنِّعَالِ وَالْحَبْلِ وَالْحِبَالِ، كَذَا فِي كُتُبِ اللُّغَةِ، وَلِأَنَّ قَوْلَهُ مَقْبُوضَةٌ بِالتَّأْنِيثِ دَالٌّ عَلَى أَنَّهُ جَمْعٌ وَلَيْسَ بِمَصْدَرٍ، وَلَوْ تَمَحَّلَ مُتَمَحِّلٌ بِتَصْحِيحِ مَا فِي الْكِتَابِ بِقَوْلِهِ تَقْدِيرُهُ فَرَهْنُ رِهَانٍ مَقْبُوضَةٍ فَكَانَ الْمَصْدَرُ مَحْذُوفًا فَجَعَلَ الْمَحْذُوفَ بِمَنْزِلَةِ الثَّابِتِ فَقَالَ وَالْمَصْدَرُ الْمَقْرُونُ بِحَرْفِ الْفَاءِ، وَالرِّهَانُ لَمَّا كَانَ مَصْدَرًا عَلَى قَوْلِ صَاحِبِ الْكِتَابِ كَانَ إرَادَةُ الْمَرْهُونِ بِهِ جَائِزَةً كَالرَّهْنِ يُرَادُ بِهِ الْمَرْهُونُ، ثُمَّ أُنِّثَ الْمَرْهُونُ بِتَأْوِيلِ السِّلْعَةِ أَوْ الْعَيْنِ فَقِيلَ مَقْبُوضَةٌ بِالتَّأْنِيثِ كَمَا يُؤَنَّثُ الصَّوْتُ بِتَأْوِيلِ الصَّيْحَةِ لَكَانَ وَجْهًا بَعِيدًا؛ إذْ فِي الْأَوَّلِ وُرُودُ الْإِلْبَاسِ وَفِي الثَّانِي لَا يَبْقَى الْمَصْدَرُ بِحَقِيقَتِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، إلَى هُنَا لَفْظُ النِّهَايَةِ

وَقَالَ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ: وَقَدْ سَمَّى صَاحِبُ الْهِدَايَةِ الرِّهَانَ مَصْدَرًا كَمَا تَرَى، وَكَذَلِكَ ذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ عَلَاءُ الدِّينِ الْإِسْبِيجَابِيُّ فِي شَرْحِ الْكَافِي

وَلَنَا فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ مَا ثَبَتَ فِي قَوَانِينِ اللُّغَةِ كَالْجَمْهَرَةِ وَدِيوَانِ الْأَدَبِ وَغَيْرِهِمَا؛ لِأَنَّهُمْ قَالُوا: الرِّهَانُ جَمْعُ رَهْنٍ، وَجَمْعُ الرَّهْنِ رُهُونٌ وَرِهَانٌ وَرُهُنٌ بِضَمَّتَيْنِ، وَالرَّهِينَةُ بِمَعْنَى الرَّهْنِ أَيْضًا وَجَمْعُهَا رَهَائِنُ

نَعَمْ الرِّهَانُ يَجِيءُ مَصْدَرًا مِنْ قَوْلِهِمْ رَاهَنَهُ عَلَى كَذَا: أَيْ خَاطَرَهُ مُرَاهَنَةً وَرِهَانًا مِنْ بَابِ الْمُفَاعَلَةِ، وَلَكِنْ لَيْسَ ذَلِكَ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ، وَلَوْ كَانَ الْمَصْدَرُ هُوَ الْمُرَادَ فِي الْآيَةِ لَمْ يَحْتَجْ فِي صِفَةِ الرِّهَانِ إلَى تَاءِ التَّأْنِيثِ فَافْهَمْ، إلَى هُنَا لَفْظُهُ

وَقَالَ صَاحِبُ الْكِفَايَةِ: فِي تَسْمِيَتِهِ الرِّهَانَ بِالْمَصْدَرِ نَظَرٌ

ص: 138

فِي الْوَصِيَّةِ وَذَلِكَ بِالْقَبْضِ، ثُمَّ يَكْتَفِي فِيهِ بِالتَّخْلِيَةِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّهُ قَبْضٌ بِحُكْمِ عَقْدٍ مَشْرُوعٍ فَأَشْبَهَ قَبْضَ الْمَبِيعِ

لِأَنَّ الرِّهَانَ جَمْعُ رَهْنٍ كَالنَّعْلِ وَالنِّعَالِ وَالْحَبْلِ وَالْحِبَالِ، وَقَوْلُهُ مَقْبُوضَةٌ بِالتَّأْنِيثِ دَالٌّ عَلَى أَنَّهُ جَمْعٌ وَلَيْسَ بِمَصْدَرٍ، وَإِنَّمَا قَالَ: وَالْمَصْدَرُ الْمَقْرُونُ؛ لِأَنَّ تَقْدِيرَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ فَرَهْنُ رِهَانٍ مَقْبُوضَةٍ انْتَهَى

وَقَالَ صَاحِبُ مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ: وَفِي النِّهَايَةِ: فِي تَسْمِيَتِهِ الرِّهَانَ بِالْمَصْدَرِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الرِّهَانَ جَمْعُ رَهْنٍ كَالنَّعْلِ وَالنِّعَالِ وَهَكَذَا فِي كُتُبِ اللُّغَةِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ {مَقْبُوضَةٌ} بِالتَّأْنِيثِ فَدَلَّ أَنَّهُ جَمْعٌ لَا مَصْدَرٌ

وَقَالَ فِي الْفَوَائِدِ الشَّاهِيَةِ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الرِّهَانُ مَصْدَرًا مِنْ بَابِ الْمُفَاعَلَةِ كَالْقِتَالِ وَالضِّرَابِ، وَمَقْبُوضَةٌ صِفَةٌ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ وَهُوَ فَرِهَانٌ مَرْهُونَةٌ مَقْبُوضَةٌ، وَأَنَّثَ الْمَرْهُونَ بِتَأْوِيلِ السِّلْعَةِ أَوْ الْعَيْنِ كَمَا يُؤَنَّثُ الصَّوْتُ بِتَأْوِيلِ الصَّيْحَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الرِّهَانُ مَصْدَرًا بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ، وَأَنَّثَ الْمَرْهُونَ لِمَا ذَكَرْنَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الرِّهَانُ قَائِمًا مَقَامَ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ وَهُوَ فَرَهْنُ رِهَانٍ مَقْبُوضَةٍ فَيَكُونُ مَصْدَرًا تَقْدِيرًا لَا تَحْقِيقًا، إلَى هُنَا كَلَامُهُ

وَأَمَّا صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فَعَدَّ مَا اسْتَشْكَلُوهُ أَمْرًا هَيِّنًا وَتَعَجَّبَ مِنْهُ حَيْثُ قَالَ: قِيلَ إنَّ الْمُصَنِّفَ جَعَلَ الرِّهَانَ مَصْدَرًا وَهُوَ جَمْعُ رَهْنٍ، ثُمَّ قَالَ: وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّهُ مِمَّا يُقْضَى مِنْهُ الْعَجَبُ؛ لِأَنَّهُ جَمْعُ رَهْنٍ وَالرَّهْنُ مَصْدَرٌ فَجَمْعُهُ كَذَلِكَ، وَإِسْنَادُ مَقْبُوضَةٍ إلَى ضَمِيرِ الْمَصْدَرِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ كَمَا فِي: سَيْلٍ مُفْعَمٍ انْتَهَى

أَقُولُ: مَنْشَأُ مُجَازَفَتِهِ هَذِهِ الْغُفُولَ عَمَّا ذُكِرَ فِي كُتُبِ اللُّغَةِ وَكُتُبِ التَّفْسِيرِ؛ لِأَنَّ كَوْنَ الرِّهَانِ جَمْعَ رَهْنٍ أَمْرٌ مُقَرَّرٌ، وَأَمَّا كَوْنُهُ جَمْعَ رَهْنٍ بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ فَكَلَّا بَلْ هُوَ جَمْعُ رَهْنٍ بِمَعْنَى الْمَرْهُونِ

قَالَ فِي الْمُغْرِبِ: وَالرَّهْنُ الْمَرْهُونُ وَالْجَمْعُ رُهُونٌ وَرِهَانٌ وَرُهُنٌ

وَقَالَ فِي الْقَامُوسِ: الرَّهْنُ مَا وُضِعَ عِنْدَك لِيَنُوبَ مَنَابَ مَا أُخِذَ مِنْك وَالْجَمْعُ رِهَانٌ وَرُهُونٌ وَرُهُنٌ بِضَمَّتَيْنِ

وَقَالَ فِي الصِّحَاحِ: الرَّهْنُ مَعْرُوفٌ، وَالْجَمْعُ رِهَانٌ مِثْلُ حَبْلٍ وَحِبَالٍ

وَقَالَ فِي تَفْسِيرِ الْقَاضِي: رِهَانٌ وَرُهُنٌ كِلَاهُمَا جَمْعُ رَهْنٍ بِمَعْنَى مَرْهُونٍ، وَكَذَا فِي سَائِرِ التَّفَاسِيرِ

ثُمَّ إنَّ كَوْنَ إسْنَادِ {مَقْبُوضَةٌ} إلَى ضَمِيرِ رِهَانٍ مَجَازًا عَقْلِيًّا خِلَافُ الظَّاهِرِ لَا يُصَارُ إلَيْهِ بِلَا ضَرُورَةٍ دَاعِيَةٍ إلَيْهِ، وَهِيَ مُنْتَفِيَةٌ فِي الْآيَةِ الْمَزْبُورَةِ، إذْ يَصِحُّ الْمَعْنَى وَيَحْسُنُ جِدًّا بِحَمْلِ الرِّهَانِ عَلَى جَمْعِ الرَّهْنِ بِمَعْنَى الْمَرْهُونِ كَمَا حَمَلَ عَلَيْهِ الْمُفَسِّرُونَ وَيَكُونُ الْإِسْنَادُ إذْ ذَاكَ حَقِيقِيًّا، فَمَا مَعْنَى الْعُدُولِ عَنْهُ، وَبِنَاءُ اسْتِدْلَالِنَا بِتِلْكَ الْآيَةِ عَلَى مَا هُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ وَخِلَافُ مَا عَلَيْهِ فَحَوْلُ الْمُفَسِّرِينَ

ثُمَّ إنَّ تَمْثِيلَهُ الْمَجَازَ الْعَقْلِيَّ الَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ هَا هُنَا بِسَيْلٍ مُفْعَمٍ قَبِيحٌ جِدًّا، فَإِنَّ الْمُفْعَمَ اسْمُ مَفْعُولٍ أُسْنِدَ إلَى الْفَاعِلِ كَمَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ وَلَيْسَ مِمَّا أُسْنِدَ إلَى الْمَصْدَرِ، بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ عَلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ، فَالْمُنَاسِبُ فِي التَّمْثِيلِ هَا هُنَا أَنْ يَقُولَ كَمَا فِي شِعْرِ شَاعِرٍ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي كُتُبِ عِلْمِ الْبَلَاغَةِ

ثُمَّ أَقُولُ: التَّوْجِيهَاتُ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي سَائِرِ الشُّرُوحِ لِتَصْحِيحِ مَا فِي الْكِتَابِ كُلُّهَا أَيْضًا خِلَافُ الظَّاهِرِ وَخِلَافُ مَا عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ، فَالْإِنْصَافُ أَنَّ التَّمَسُّكَ بِمِثْلِهَا لَا يُفِيدُ الْقَطْعَ وَلَا الْإِلْزَامَ عَلَى الْخَصْمِ، وَلَكِنَّ الْأَقْرَبَ وَالْأَشْبَهَ مِنْ بَيْنِهَا أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ فَرَهْنُ رِهَانٍ مَقْبُوضَةٍ، عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمَصْدَرُ الْمَقْرُونُ بِالْفَاءِ مَحْذُوفًا كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} فَإِنَّ التَّقْدِيرَ فِيهِ: فَصَوْمُ عِدَّةٍ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ تَأَمَّلْ تَرْشُدْ (قَوْلُهُ ثُمَّ يُكْتَفَى فِيهِ بِالتَّخْلِيَةِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّهُ قَبْضٌ بِحُكْمِ عَقْدٍ مَشْرُوعٍ فَأَشْبَهَ قَبْضَ الْمَبِيعِ) قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: هَذَا مَنْقُوضٌ بِصُورَةِ الصَّرْفِ، فَإِنَّهُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ الْقَبْضِ بِالْبَرَاجِمِ وَلَا يُكْتَفَى بِالتَّخْلِيَةِ مَعَ جَرَيَانِ الدَّلِيلِ إلَّا أَنْ يَثْبُتَ رِوَايَةُ كِفَايَةِ التَّخْلِيَةِ فِيهِ وَكَوْنُهَا مُخْتَارَ الْمُصَنِّفِ انْتَهَى

أَقُولُ: الْجَوَابُ عَنْ

ص: 139

وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ فِي الْمَنْقُولِ إلَّا بِالنَّقْلِ؛ لِأَنَّهُ قَبْضٌ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ ابْتِدَاءً بِمَنْزِلَةِ الْغَصْبِ، بِخِلَافِ الشِّرَاءِ؛ لِأَنَّهُ نَاقِلٌ لِلضَّمَانِ مِنْ الْبَائِعِ إلَى الْمُشْتَرِي وَلَيْسَ بِمُوجِبٍ ابْتِدَاءً وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ.

قَالَ (وَإِذَا قَبَضَهُ الْمُرْتَهِنُ مَحُوزًا مُفَرَّغًا مُتَمَيِّزًا تَمَّ الْعَقْدُ فِيهِ) لِوُجُودِ الْقَبْضِ بِكَمَالِهِ فَلَزِمَ الْعَقْدُ (وَمَا لَمْ يَقْبِضْهُ فَالرَّاهِنُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ سَلَّمَهُ وَإِنْ شَاءَ رَجَعَ عَنْ الرَّهْنِ) لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ اللُّزُومَ بِالْقَبْضِ إذْ الْمَقْصُودُ لَا يَحْصُلُ قَبْلَهُ.

قَالَ (وَإِذَا سَلَّمَهُ إلَيْهِ فَقَبَضَهُ دَخَلَ فِي ضَمَانِهِ)

هَذَا النَّقْضِ هَيِّنٌ

فَإِنَّ التَّعْلِيلَ الْمَذْكُورَ عَلَى مُوجِبِ الْقِيَاسِ، وَلُزُومُ الْقَبْضِ فِي الصَّرْفِ إنَّمَا يَثْبُتُ بِالنَّصِّ وَهُوَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «يَدًا بِيَدٍ» كَمَا تَقَرَّرَ فِي مَحَلِّهِ، وَالْقِيَاسُ يُتْرَكُ بِالنَّصِّ عَلَى مَا عُرِفَ، بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ فَإِنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِيهِ نَصٌّ يَقْتَضِي حَقِيقَةَ الْقَبْضِ وَعَدَمَ كِفَايَةِ التَّخْلِيَةِ فَعَمِلْنَا فِيهِ بِمُوجِبِ الْقِيَاسِ (قَوْلُهُ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِالنَّقْلِ؛ لِأَنَّهُ قَبْضٌ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ ابْتِدَاءً بِمَنْزِلَةِ الْغَصْبِ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ بِعَقْدِ التَّبَرُّعِ لَمْ يُعْهَدْ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ وَبَيْنَ التَّبَرُّعِ وَالضَّمَانِ مُنَافَاةٌ، وَلَا بُدَّ مِنْ الضَّمَانِ فِي الرَّهْنِ عِنْدَ الْهَلَاكِ فَيَنْتَفِي التَّبَرُّعُ انْتَهَى

أَقُولُ: هَذَا النَّظَرُ فِي غَايَةِ السُّقُوطِ؛ لِأَنَّ جِهَةَ التَّبَرُّعِ فِي الرَّهْنِ غَيْرُ جِهَةِ الضَّمَانِ فِيهِ، فَإِنَّ جِهَةَ التَّبَرُّعِ فِيهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يُجْعَلُ مَحْبُوسًا فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ بِلَا اسْتِيجَابِ شَيْءٍ عَلَيْهِ بِمُقَابَلَةِ ذَلِكَ، وَجِهَةُ الضَّمَانِ فِيهِ عِنْدَ الْهَلَاكِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَثْبُتُ فِيهِ لِلْمُرْتَهِنِ يَدُ الِاسْتِيفَاءِ مِنْ وَجْهٍ فَيَتَقَرَّرُ عِنْدَ الْهَلَاكِ فَيَصِيرُ الْمُرْتَهِنُ بِذَلِكَ مُسْتَوْفِيًا لِدَيْنِهِ كَمَا سَتَطَّلِعُ عَلَى بَيَانِهِ، وَالْمُنَافَاةُ بَيْنَ التَّبَرُّعِ وَالضَّمَانِ إنَّمَا تَلْزَمُ أَنْ لَوْ كَانَا مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَيْسَ فَلَيْسَ

وَالْعَجَبُ مِنْ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ أَنَّهُ كَيْفَ خَفِيَ عَلَيْهِ هَذَا الْمَعْنَى مَعَ ظُهُورِهِ مِمَّا سَيَأْتِي فِي الْكِتَابِ مِنْ تَفْصِيلِ دَلِيلِنَا الْعَقْلِيِّ عَلَى مَسْأَلَةٍ أَنَّهُ إذَا سَلَّمَ الرَّاهِنُ الْمَرْهُونَ إلَى الْمُرْتَهِنِ دَخَلَ فِي ضَمَانِهِ

(قَوْلُهُ فَإِذَا قَبَضَهُ الْمُرْتَهِنُ مَحُوزًا مُفَرَّغًا مُمَيَّزًا تَمَّ الْعَقْدُ فِيهِ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ:

ص: 140

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: هُوَ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ، وَلَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنْ الدَّيْنِ بِهَلَاكِهِ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَا يُغْلَقُ الرَّهْنُ، قَالَهَا ثَلَاثَةً، لِصَاحِبِهِ غُنْمُهُ وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ»

قَالَ: وَمَعْنَاهُ لَا يَصِيرُ مَضْمُونًا بِالدَّيْنِ، وَلِأَنَّ الرَّهْنَ وَثِيقَةٌ بِالدَّيْنِ فَبِهَلَاكِهِ لَا يَسْقُطُ الدَّيْنُ اعْتِبَارًا بِهَلَاكِ الصَّكِّ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ بَعْدَ الْوَثِيقَةِ يَزْدَادُ مَعْنَى الصِّيَانَةِ، وَالسُّقُوطُ بِالْهَلَاكِ يُضَادُّ مَا اقْتَضَاهُ الْعَقْدُ إذَا لَحِقَ بِهِ يَصِيرُ بِعَرْضِ الْهَلَاكِ وَهُوَ ضِدُّ الصِّيَانَةِ

وَلَنَا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام لِلْمُرْتَهِنِ بَعْدَ مَا نَفَقَ فَرَسُ الرَّهْنِ عِنْدَهُ «ذَهَبَ حَقُّك» وَقَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «إذَا غَمَّى الرَّهْنَ فَهُوَ بِمَا فِيهِ» مَعْنَاهُ: عَلَى مَا قَالُوا إذَا اشْتَبَهَتْ قِيمَةُ الرَّهْنِ بَعْدَ مَا هَلَكَ

وَإِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ رضي الله عنهم عَلَى أَنَّ الرَّاهِنَ مَضْمُونٌ مَعَ اخْتِلَافِهِمْ فِي كَيْفِيَّتِهِ، وَالْقَوْلُ بِالْأَمَانَةِ خَرْقٌ لَهُ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَا يُغْلَقُ الرَّهْنُ» عَلَى مَا قَالُوا الِاحْتِبَاسُ الْكُلِّيُّ وَالتَّمَكُّنُ بِأَنْ يَصِيرَ مَمْلُوكًا لَهُ

كَذَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ عَنْ السَّلَفِ

قَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْقَبْضَ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْهِبَةِ أَنَّ الْمَنْصُوصَ مُعْتَنًى بِشَأْنِهِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي الْكَامِلَ فِي الْقَبْضِ هُوَ أَنْ يَكُونَ الرَّهْنُ مَحُوزًا مُفَرَّغًا مُتَمَيِّزًا فَيَجِبُ ذَلِكَ انْتَهَى

أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَذَا الْبَسْطُ وَالتَّقْرِيرُ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَثْبُتَ الْقَبْضُ بِالتَّخْلِيَةِ فِي بَابِ الرَّهْنِ، بَلْ يَجِبُ أَنْ يَضَعَ الْمُرْتَهِنُ يَدَهُ حَقِيقَةً عَلَى الْمَرْهُونِ؛ إذْ لَا شَكَّ أَنَّ الْكَامِلَ فِي الْقَبْضِ هُوَ الثَّانِي، وَهَذَا

ص: 141

وَلِأَنَّ الثَّابِتَ لِلْمُرْتَهِنِ يَدُ الِاسْتِيفَاءِ وَهُوَ مِلْكُ الْيَدِ وَالْحَبْسِ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ يُنْبِئُ عَنْ الْحَبْسِ الدَّائِمِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} وَقَالَ قَائِلُهُمْ:

وَفَارَقْتُك بِرَهْنٍ لَا فِكَاكَ لَهُ

يَوْمَ الْوَدَاعِ فَأَمْسَى الرَّهْنُ قَدْ غَلِقَا

وَالْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ تَنْعَطِفُ عَلَى الْأَلْفَاظِ عَلَى وَفْقِ الْأَنْبَاءِ، وَلِأَنَّ الرَّهْنَ وَثِيقَةٌ لِجَانِبِ الِاسْتِيفَاءِ وَهُوَ أَنْ تَكُونَ مُوصِلَةً إلَيْهِ وَذَلِكَ ثَابِتٌ لَهُ بِمِلْكِ الْيَدِ وَالْحَبْسِ لِيَقَعَ الْأَمْنُ مِنْ الْجُحُودِ مَخَافَةَ جُحُودِ الْمُرْتَهِنِ الرَّهْنَ، وَلِيَكُونَ

خِلَافُ مَا تَقَرَّرَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَبِخِلَافِ مَا هُوَ الْمُخْتَارُ فِي عَامَّةِ الْمُعْتَبَرَاتِ

(قَوْلُهُ: لِأَنَّ الرَّهْنَ يُنْبِئُ عَنْ الْحَبْسِ الدَّائِمِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} وَقَالَ قَائِلُهُمْ:

وَفَارَقْتُك بِرَهْنٍ لَا فِكَاكَ لَهُ

يَوْمَ الْوَدَاعِ فَأَمْسَى الرَّهْنُ قَدْ غُلِقَا)

قَالَ فِي الْعِنَايَةِ: قِيلَ الدَّوَامُ إنَّمَا فُهِمَ مِنْ قَوْلِهِ لَا فِكَاكَ لَهُ لَا مِنْ لَفْظِ الرَّهْنِ وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَمَّا دَامَ وَتَأَبَّدَ بِنَفْيِ انْفِكَاكٍ دَلَّ أَنَّهُ يُنْبِئُ عَنْ الدَّوَامِ؛ إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ مُوجِبًا لِذَلِكَ لَمَا دَامَ بِنَفْيِ مَا يَعْتَرِضُهُ، بَلْ كَانَ الدَّوَامُ يَثْبُتُ بِإِثْبَاتِ مَا يُوجِبُهُ، فَثَبَتَ أَنَّ اللُّغَةَ تَدُلُّ عَلَى إنْبَاءِ الرَّهْنِ عَنْ الْحَبْسِ الدَّائِمِ انْتَهَى

أَقُولُ: السُّؤَالُ وَالْجَوَابُ فِي الْأَصْلِ لِتَاجِ الشَّرِيعَةِ، لَكِنَّ الْجَوَابَ لَيْسَ بِتَامٍّ عِنْدِي؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ مُوجِبًا لِذَلِكَ لَمَا دَامَ بِنَفْيِ مَا يَعْتَرِضُهُ مَمْنُوعٌ فَإِنَّ مَا يَعْتَرِضُهُ إذَا كَانَ مُنَاقِضًا لِدَوَامِهِ يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ ذَلِكَ دَوَامُهُ سَوَاءٌ كَانَ مَا يُوجِبُ دَوَامَهُ نَفْسَهُ أَوْ أَمْرًا خَارِجًا عَنْهُ، وَإِلَّا يَلْزَمُ ارْتِفَاعُ النَّقِيضَيْنِ مَعًا، وَمَا نَحْنُ فِيهِ كَذَلِكَ؛ إذْ لَا شَكَّ أَنَّ فِكَاكَ الرَّهْنِ يُنَافِي وَيُنَاقِضُ دَوَامَهُ فَيَلْزَمُ مِنْ نَفْيِهِ تَحَقُّقُ دَوَامِهِ وَإِنْ كَانَ دَوَامُهُ مِمَّا لَمْ يُوجِبْهُ نَفْسُهُ بَلْ كَانَ بِسَبَبٍ خَارِجٍ، فَلَمْ يَثْبُتْ

ص: 142

عَاجِزًا عَنْ الِانْتِفَاعِ بِهِ فَيَتَسَارَعُ إلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ لِحَاجَتِهِ أَوْ لِضَجَرِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ يَثْبُتُ الِاسْتِيفَاءُ مِنْ وَجْهٍ وَقَدْ تَقَرَّرَ بِالْهَلَاكِ، فَلَوْ اسْتَوْفَاهُ ثَانِيًا يُؤَدِّي إلَى الرِّبَا، بِخِلَافِ حَالَةِ الْقِيَامِ؛ لِأَنَّهُ يَنْقُضُ هَذَا الِاسْتِيفَاءَ بِالرَّدِّ عَلَى الرَّاهِنِ فَلَا يَتَكَرَّرُ، وَلَا وَجْهَ إلَى اسْتِيفَاءِ الْبَاقِي بِدُونِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ، وَالِاسْتِيفَاءُ يَقَعُ بِالْمَالِيَّةِ

أَمَّا الْعَيْنُ فَأَمَانَةٌ حَتَّى كَانَتْ نَفَقَةُ الْمَرْهُونِ عَلَى الرَّاهِنِ فِي حَيَاتِهِ وَكَفَنِهِ بَعْدَ مَمَاتِهِ، وَكَذَا قَبْضُ الرَّهْنِ لَا يَنُوبُ عَنْ قَبْضِ الشِّرَاءِ إذَا اشْتَرَاهُ الْمُرْتَهِنُ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ أَمَانَةٌ فَلَا تَنُوبُ عَنْ قَبْضِ ضَمَانٍ، وَمُوجِبُ الْعَقْدِ ثُبُوتُ يَدِ الِاسْتِيفَاءِ وَهَذَا يُحَقِّقُ

فِي الْبَيْتِ الْمَزْبُورِ إنْبَاءُ لَفْظِ الرَّهْنِ نَفْسِهِ عَنْ الْحَبْسِ الدَّائِمِ، بَلْ جَازَ أَنْ يَكُونَ انْفِهَامُ ذَلِكَ مِنْ نَفْيِ فِكَاكِهِ تَدَبَّرْ تَفْهَمْ (قَوْلُهُ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ يَثْبُتُ الِاسْتِيفَاءُ مِنْ وَجْهٍ وَقَدْ تَقَرَّرَ بِالْهَلَاكِ فَلَوْ اسْتَوْفَاهُ ثَانِيًا يُؤَدِّي إلَى الرِّبَا) يَعْنِي إذَا ثَبَتَ أَنَّ الرَّهْنَ يَدُلُّ عَلَى الْيَدِ وَالْحَبْسِ ثَبَتَ الِاسْتِيفَاءُ مِنْ وَجْهٍ؛ لِأَنَّ الِاسْتِيفَاءَ إنَّمَا يَكُونُ بِالْيَدِ وَالرَّقَبَةِ وَقَدْ حَصَلَ بَعْضُهُ، وَتَقَرَّرَ بِالْهَلَاكِ لِانْتِفَاءِ احْتِمَالِ النَّقْصِ، فَلَوْ لَمْ يَسْقُطْ الدَّيْنُ وَاسْتَوْفَاهُ ثَانِيًا أَدَّى إلَى تَكْرَارِ الْأَدَاءِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْيَدِ وَهُوَ رِبًا، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ وَغَيْرِهَا

أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: نَعَمْ لَوْ اسْتَوْفَاهُ ثَانِيًا أَدَّى إلَى الرِّبَا وَلَكِنْ إذَا لَمْ يَسْتَوْفِهِ ثَانِيًا أَصْلًا يُؤَدِّي إلَى ضَيَاعِ بَعْضِ حَقِّهِ وَهُوَ اسْتِيفَاءُ الرَّقَبَةِ وَالتَّأَدِّي إلَى ضَيَاعِ حَقِّ الْمُسْلِمِ مَحْذُورٌ شَرْعِيٌّ أَيْضًا فَمَا الْوَجْهُ فِي تَرْجِيحِ اخْتِيَارِ هَذَا الْمَحْذُورِ عَلَى اخْتِيَارِ مَحْذُورِ الرِّبَا فَتَأَمَّلْ فِي الدَّفْعِ

ص: 143

الصِّيَانَةَ، وَإِنْ كَانَ فَرَاغُ الذِّمَّةِ مِنْ ضَرُورَاتِهِ كَمَا فِي الْحَوَالَةِ

فَالْحَاصِلُ أَنَّ عِنْدَنَا حُكْمَ الرَّهْنِ صَيْرُورَةُ الرَّهْنِ مُحْتَبِسًا بِدَيْنِهِ بِإِثْبَاتِ يَدِ الِاسْتِيفَاءِ عَلَيْهِ وَعِنْدَهُ تَعَلُّقُ الدَّيْنِ بِالْعَيْنِ اسْتِيفَاءً مِنْهُ عَيْنًا بِالْبَيْعِ، فَيُخَرَّجُ عَلَى هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ عِدَّةٌ مِنْ الْمَسَائِلِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ عَدَدْنَاهَا فِي كِفَايَةِ الْمُنْتَهَى جُمْلَةً: مِنْهَا أَنَّ الرَّاهِنَ مَمْنُوعٌ عَنْ الِاسْتِرْدَادِ لِلِانْتِفَاعِ؛ لِأَنَّهُ يَفُوتُ مُوجَبُهُ وَهُوَ الِاحْتِبَاسُ عَلَى الدَّوَامِ، وَعِنْدَهُ لَا يَمْنَعُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُنَافِي مُوجِبَهُ وَهُوَ تَعَيُّنُهُ لِلْبَيْعِ وَسَيَأْتِيك الْبَوَاقِي فِي أَثْنَاءِ الْمَسَائِلِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَالَ (وَلَا يَصِحُّ الرَّهْنُ إلَّا بِدَيْنٍ مَضْمُونٍ)؛ لِأَنَّ حُكْمَهُ ثُبُوتُ يَدِ الِاسْتِيفَاءِ، وَالِاسْتِيفَاءُ يَتْلُو الْوُجُوبَ

قَالَ رضي الله عنه: وَيَدْخُلُ عَلَى هَذَا اللَّفْظِ الرَّهْنُ بِالْأَعْيَانِ الْمَضْمُونَةِ بِأَنْفُسِهَا، فَإِنَّهُ يَصِحُّ الرَّهْنُ بِهَا وَلَا دَيْنَ

وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إنَّ الْوَاجِبَ الْأَصْلِيَّ فِيهَا هُوَ الْقِيمَةُ وَرَدُّ

(قَوْلُهُ وَيَدْخُلُ عَلَى هَذَا اللَّفْظِ الرَّهْنُ بِالْأَعْيَانِ الْمَضْمُونَةِ بِأَنْفُسِهَا فَإِنَّهُ يَصِحُّ الرَّهْنُ بِهَا وَلَا دَيْنَ) يَعْنِي: يَرِدُ عَلَى هَذَا اللَّفْظِ: أَيْ عَلَى لَفْظِ الْقُدُورِيِّ وَهُوَ قَوْلُهُ وَلَا يَصِحُّ الرَّهْنُ إلَّا بِدَيْنٍ مَضْمُونِ الرَّهْنِ بِالْأَعْيَانِ الْمَضْمُونَةِ بِأَنْفُسِهَا: أَيْ الْإِشْكَالُ بِصِحَّةِ الرَّهْنِ بِالْأَعْيَانِ الْمَضْمُونَةِ بِأَنْفُسِهَا، وَهِيَ مَا يَجِبُ مِثْلُهُ عِنْدَ هَلَاكِهِ إنْ كَانَ مِثْلِيًّا، وَقِيمَتُهُ إنْ كَانَ قِيَمِيًّا، كَالْمَغْصُوبِ وَالْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ وَنَحْوِهِمَا فَإِنَّهُ يَصِحُّ الرَّهْنُ بِتِلْكَ الْأَعْيَانِ وَلَا دَيْنَ فِيهَا

وَأَجَابَ الْمُصَنِّفُ عَنْ هَذَا الْإِشْكَالِ بِقَوْلِهِ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إلَى آخِرِهِ، كَذَا قَالَهُ الشُّرَّاحُ قَاطِبَةً، غَيْرَ أَنَّ صَاحِبَ غَايَةِ الْبَيَانِ بَعْدَ أَنْ وَافَقَ سَائِرَ الشُّرَّاحِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَحَلِّ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ قَالَ: قُلْت لَا يَرِدُ عَلَى الْقُدُورِيِّ الِاعْتِرَاضُ رَأْسًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْفِي صِحَّةَ الرَّهْنِ بِالْأَعْيَانِ الْمَضْمُونَةِ بِأَنْفُسِهَا بَلْ صَرَّحَ بِصِحَّتِهِ فِي شَرْحِهِ لِمُخْتَصَرِ الْكَرْخِيِّ، وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ هَا هُنَا عَلَى الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ فِي الرَّهْنِ أَنْ يَكُونَ بِالدَّيْنِ، وَاكْتَفَى بِهِ هَا هُنَا اعْتِمَادًا عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، إلَى هُنَا لَفْظُهُ

أَقُولُ: لَا يَنْبَغِي لِمَنْ لَهُ أَدْنَى تَمْيِيزٍ فَضْلًا عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ الشَّارِحِ أَنْ يَقُولَ: إنَّ الْقُدُورِيَّ لَمْ يَنْفِ فِي مُخْتَصَرِهِ صِحَّةَ الرَّهْنِ بِالْأَعْيَانِ الْمَضْمُونَةِ بِأَنْفُسِهَا بَعْدَ أَنْ رَأَى مَا فِي لَفْظِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَلَا يَصِحُّ الرَّهْنُ إلَّا بِدَيْنٍ مَضْمُونٍ مِنْ أَدَاةِ قَصْرِ الصِّحَّةِ عَلَى الرَّهْنِ بِالدَّيْنِ وَهِيَ النَّفْيُ وَالِاسْتِثْنَاءُ.

وَإِنَّمَا يَصِحُّ مَا قَالَهُ الشَّارِحُ الْمَزْبُورُ أَنْ لَوْ كَانَ لَفْظُ الْقُدُورِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ وَيَصِحُّ الرَّهْنُ بِالدَّيْنِ، وَلَمَّا كَانَ لَفْظُهُ فِيهِ وَلَا يَصِحُّ الرَّهْنُ إلَّا بِالدَّيْنِ لَمْ يَبْقَ لَهُ مَجَالٌ

وَقَوْلُهُ بَلْ صَرَّحَ بِصِحَّتِهِ فِي شَرْحِهِ لِمُخْتَصَرِ الْكَرْخِيِّ لَا يُجْدِي شَيْئًا فِي دَفْعِ الْإِشْكَالِ الْوَارِدِ عَلَى لَفْظِهِ فِي مُخْتَصَرِهِ، وَقَدْ تَدَارَكَهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ وَيَدْخُلُ عَلَى هَذَا اللَّفْظِ

وَأَمَّا حَمْلُ الْقَصْرِ الْوَاقِعِ فِي هَذَا الْمُخْتَصَرِ عَلَى الْقَصْرِ الِادِّعَائِيِّ فَبِمَعْزِلِ عَنْ مُسَاعَدَةِ هَذَا الْفَنِّ إيَّاهُ، فَإِنَّ مُجَرَّدَ تَخْصِيصِ الشَّيْءِ بِالذِّكْرِ

ص: 144

الْعَيْنِ مُخَلِّصٌ عَلَى مَا عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْمَشَايِخِ وَهُوَ دَيْنٌ وَلِهَذَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِهَا، وَلَئِنْ كَانَ لَا يَجِبُ إلَّا بَعْدَ الْهَلَاكِ وَلَكِنَّهُ يَجِبُ عِنْدَ الْهَلَاكِ بِالْقَبْضِ السَّابِقِ، وَلِهَذَا تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْقَبْضِ فَيَكُونُ رَهْنًا بَعْدَ وُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِهِ فَيَصِحُّ كَمَا فِي الْكَفَالَةِ، وَلِهَذَا لَا تَبْطُلُ الْحَوَالَةُ الْمُقَيَّدَةُ بِهِ بِهَلَاكِهِ، بِخِلَافِ الْوَدِيعَةِ، قَالَ (وَهُوَ مَضْمُونٌ بِالْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ الدَّيْنِ، فَإِذَا هَلَكَ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ، وَقِيمَتُهُ وَالدَّيْنُ سَوَاءٌ صَارَ الْمُرْتَهِنُ مُسْتَوْفِيًا لِدَيْنِهِ، وَإِنْ كَانَتْ

فِي الرِّوَايَاتِ الْوَاقِعَةِ فِي هَذَا الْفَنِّ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَاهُ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ، فَمَا ظَنُّك بِدَلَالَةِ أَدَاةِ الْقَصْرِ عَلَى ذَلِكَ (قَوْلُهُ: وَلِهَذَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِهَا) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ: وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ صِحَّةَ الْكَفَالَةِ بِهَا لَا تَسْتَلْزِمُ صِحَّةَ الرَّهْنِ، فَإِنَّهَا تَصِحُّ بِدَيْنٍ سَيَجِبُ كَمَا لَوْ قَالَ مَا ذَابَ لَك عَلَى فُلَانٍ فَعَلَيَّ دُونَ الرَّهْنِ

وَأُجِيبَ بِأَنَّ قَوْلَهُ مَا ذَابَ لَك إضَافَةٌ لِلْكَفَالَةِ لَا كَفَالَةٌ

وَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: قَوْلُك دُونَ الرَّهْنِ تُرِيدُ بِهِ دَيْنًا مَا انْعَقَدَ سَبَبُ وُجُوبِهِ أَوْ دَيْنًا انْعَقَدَ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَلَيْسَ كَلَامُنَا فِيهِ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَهُوَ مَمْنُوعٌ فَإِنَّهُ عَيْنُ مَا نَحْنُ فِيهِ انْتَهَى

أَقُولُ: الِاعْتِرَاضُ وَالْجَوَابُ لِتَاجِ الشَّرِيعَةِ، وَلَهُمَا وَجْهُ صِحَّةٍ

وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ إلَى آخِرِهِ فَمِنْ عِنْدِ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ نَفْسِهِ يُرِيدُ بِهِ الْجَوَابَ عَنْ الِاعْتِرَاضِ الْمَذْكُورِ بِوَجْهٍ آخَرَ، وَلَيْسَ لَهُ وَجْهُ صِحَّةٍ؛ إذْ الْمُرَادُ هُوَ الْأَوَّلُ

قَوْلُهُ فَلَيْسَ كَلَامُنَا فِيهِ لَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ عَدَمَ كَوْنِ كَلَامِنَا فِيهِ لَا يَضُرُّ بِغَرَضِ السَّائِلِ بَلْ بِعَيْنِهِ، فَإِنَّ مَقْصُودَهُ الْقَدْحُ فِي قَوْلِ الْمُصَنِّفِ وَلِهَذَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِهَا بِأَنَّ صِحَّةَ الْكَفَالَةِ لَا تَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الرَّهْنِ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ تَصِحُّ بِدَيْنٍ سَيَجِبُ وَلَمْ يَنْعَقِدْ سَبَبُ وُجُوبِهِ، وَلَا يَصِحُّ الرَّهْنُ بِذَلِكَ بِلَا خِلَافٍ فَيَجُوزُ أَنْ تَصِحَّ الْكَفَالَةُ بِالْعَيْنِ الْمَضْمُونِ بِنَفْسِهِ أَيْضًا الَّذِي كَلَامُنَا فِيهِ، وَلَا يَصِحُّ الرَّهْنُ بِهِ فَلَمْ يَتِمَّ الِاسْتِدْلَال بِصِحَّةِ الْكَفَالَةِ بِهِ عَلَى صِحَّةِ الرَّهْنِ بِهِ

وَلَا يَخْفَى أَنَّ عَدَمَ كَوْنِ كَلَامِنَا فِي الدَّيْنِ الَّذِي لَمْ يَنْعَقِدْ سَبَبُ وُجُوبِهِ لَا يَدْفَعُ الِاعْتِرَاضَ بِهَذَا الْوَجْهِ، وَإِنَّمَا يَدْفَعُهُ مَا أَشَارَ إلَيْهِ تَاجُ الشَّرِيعَةِ مِنْ مَنْعِ صِحَّةِ الْكَفَالَةِ بِدَيْنٍ سَيَجِبُ وَلَمْ يَنْعَقِدْ سَبَبُ وُجُوبِهِ.

وَإِنَّمَا قَوْلُهُ مَا ذَابَ لَك عَلَى فُلَانٍ فَعَلَيَّ إضَافَةُ الْكَفَالَةِ إلَى ذَلِكَ الدَّيْنِ لَا عَقْدُ كَفَالَةٍ بِهِ مُنْجَزَةٍ، وَمُرَادُ الْمُصَنِّفِ بِالْكَفَالَةِ فِي قَوْلِهِ: وَلِهَذَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِهِ هِيَ الْكَفَالَةُ الْمُنْجَزَةُ فَتَمَّ الِاسْتِدْلَال (قَوْلُهُ: وَلِهَذَا يُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْقَبْضِ) أَقُولُ: هَذَا التَّنْوِيرُ لَا يَتِمُّ إلَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، فَإِنَّ الْمُعْتَبَرَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْخُصُومَةِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ قِيمَتُهُ يَوْمَ الِانْقِطَاعِ كَمَا مَرَّ تَفْصِيلُهُ فِي صَدْرِ كِتَابِ الْغَصْبِ، مَعَ أَنَّ صِحَّةَ الرَّهْنِ بِالْأَعْيَانِ الْمَضْمُونَةِ بِأَنْفُسِهَا عَلَى قَوْلِ أَئِمَّتِنَا جَمِيعًا فَلَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ إلَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَلَيْتَ شِعْرِي لِمَ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِهَذَا أَحَدٌ مِنْ الشُّرَّاحِ (قَوْلُهُ وَهُوَ مَضْمُونٌ بِالْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ الدَّيْنِ) قَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ: وَقَعَ فِي بَعْضِ

ص: 145

قِيمَةُ الرَّهْنِ أَكْثَرَ فَالْفَضْلُ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ)؛ لِأَنَّ الْمَضْمُونَ بِقَدْرِ مَا يَقَعُ بِهِ الِاسْتِيفَاءُ وَذَاكَ بِقَدْرِ الدَّيْنِ (وَإِنْ كَانَتْ أَقَلَّ سَقَطَ مِنْ الدَّيْنِ بِقَدْرِهِ وَرَجَعَ الْمُرْتَهِنُ بِالْفَضْلِ)؛ لِأَنَّ الِاسْتِيفَاءَ بِقَدْرِ الْمَالِيَّةِ

وَقَالَ زُفَرُ: الرَّهْنُ مَضْمُونٌ بِالْقِيمَةِ، حَتَّى لَوْ هَلَكَ الرَّهْنُ، وَقِيمَتُهُ يَوْمَ الرَّهْنِ أَلْفٌ وَخَمْسمِائَةٍ وَالدَّيْنُ أَلْفٌ رَجَعَ الرَّاهِنُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ بِخَمْسِمِائَةٍ

لَهُ حَدِيثُ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ " يَتَرَادَّانِ الْفَضْلَ فِي الرَّهْنِ " وَلِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الدَّيْنِ مَرْهُونَةٌ لِكَوْنِهَا مَحْبُوسَةً بِهِ فَتَكُونُ مَضْمُونَةً اعْتِبَارًا بِقَدْرِ الدَّيْنِ

وَمَذْهَبُنَا مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنهم، وَلِأَنَّ يَدَ الْمُرْتَهِنِ يَدُ الِاسْتِيفَاءِ فَلَا تُوجِبُ الضَّمَانَ إلَّا بِالْقَدْرِ الْمُسْتَوْفِي كَمَا فِي حَقِيقَةِ الِاسْتِيفَاءِ، وَالزِّيَادَةُ مَرْهُونَةٌ بِهِ ضَرُورَةَ امْتِنَاعِ حَبْسِ الْأَصْلِ بِدُونِهَا وَلَا ضَرُورَةَ فِي حَقِّ الضَّمَانِ

وَالْمُرَادُ بِالتَّرَادِّ فِيمَا يُرْوَى حَالَةَ الْبَيْعِ، فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: الْمُرْتَهِنُ أَمِينٌ فِي الْفَضْلِ.

قَالَ (وَلِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يُطَالِبَ الرَّاهِنَ بِدَيْنِهِ وَيَحْبِسَهُ بِهِ)؛ لِأَنَّ حَقَّهُ بَاقٍ بَعْدَ الرَّهْنِ وَالرَّهْنُ

نُسَخِ الْقُدُورِيِّ بِأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ الدَّيْنِ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْمُعَرَّفِ وَاحِدٌ مِنْهُمَا وَمَعْنَى الْمُنَكَّرِ ثَالِثٌ، وَاعْتُبِرَ هَذَا بِقَوْلِ الرَّجُلِ مَرَرْت بِأَعْلَمَ مِنْ زَيْدٍ وَعَمْرٍو يَكُونُ الْأَعْلَمُ غَيْرَهُمَا، وَلَوْ قَالَ مَرَرْت بِالْأَعْلَمِ مِنْ زَيْدٍ وَعَمْرٍو يَكُونُ الْأَعْلَمَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، وَالْمُرَادُ هَا هُنَا وَاحِدٌ مِنْ الْقِيمَةِ وَالدَّيْنِ وَهُوَ أَقَلُّهُمَا لَا أَمْرٌ ثَالِثٌ

ثُمَّ إنَّ تَاجَ الشَّرِيعَةِ مِنْ الشُّرَّاحِ بَيَّنَ وَجْهَ اخْتِلَافِ الْمَعْنَى بَيْنَ الْمُعَرَّفِ وَالْمُنَكَّرِ حَيْثُ قَالَ: وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ كَلِمَةَ " مِنْ " فِي قَوْلِهِ مِنْهُمَا لِلتَّبْعِيضِ وَالْأَقَلُّ يَصْلُحُ بَعْضًا؛ إذْ الْأَقَلُّ مَعَ مِنْهُمَا مَعْرِفَتَانِ، بِخِلَافِ: أَقَلُّ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ أَقَلَّ نَكِرَةٌ وَهُمَا مَعْرِفَةٌ وَالْمَعْرِفَةُ لَا تَتَنَاوَلُ النَّكِرَةَ انْتَهَى كَلَامُهُ

أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا بِسَدِيدٍ، إذْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمَعْرِفَةَ لَا تَتَنَاوَلُ النَّكِرَةَ تَنَاوُلَ الْكُلِّ لِلْجُزْءِ كَمَا هُوَ مُقْتَضًى مِنْ التَّبْعِيضِيَّةِ، نَعَمْ إنَّ الْمَعْرِفَةَ وَالنَّكِرَةَ لَا يَتَّحِدَانِ؛ لِأَنَّ مَدْلُولَ الْمَعْرِفَةِ شَيْءٌ بِعَيْنِهِ وَمَدْلُولَ النَّكِرَةِ شَيْءٌ لَا بِعَيْنِهِ، وَهُمَا مُتَضَادَّانِ فَلَا يَتَّحِدَانِ

وَأَمَّا كَوْنُ الْمُبْهَمِ بَعْضًا مِنْ الْمُعَيَّنِ فَلَا اسْتِحَالَةَ فِيهِ، بَلْ هُوَ أَمْرٌ شَائِعٌ مُسْتَعْمَلٌ؛ أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِنَا وَاحِدٌ مِنْهُمَا أَوْ جُزْءٌ مِنْهُمَا أَوْ بَعْضٌ مِنْهُمَا يَكُونُ كَذَا فَإِنَّهُ صَحِيحٌ بِلَا رَيْبٍ وَشَائِعٌ مُسْتَعْمَلٌ، مَعَ أَنَّ كَلِمَةَ وَاحِدٍ وَجُزْءٍ وَبَعْضٍ نَكِرَةٌ، وَكَلِمَةُ هُمَا فِي مِنْهُمَا مَعْرِفَةٌ وَمِنْ لِلتَّبْعِيضِ، عَلَى أَنَّ الْوَجْهَ الْمَذْكُورَ لِلْفَرْقِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ اسْمُ التَّفْضِيلِ مُعَرَّفًا وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ مُنَكَّرًا إنَّمَا يَتَمَشَّى فِيمَا إذَا كَانَ مَدْخُولُ كَلِمَةِ " مِنْ " مَعْرِفَةً وَلَا يَتَمَشَّى فِيمَا إذَا كَانَ مَدْخُولُهَا نَكِرَةً، إذْ لَا يَلْزَمُ إذْ ذَاكَ تَنَاوُلُ الْمَعْرِفَةِ لِلنَّكِرَةِ مَثَلًا لَوْ كَانَتْ الْعِبَارَةُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ أَقَلَّ مِنْ قِيمَةٍ وَدَيْنٍ لَزِمَ أَنْ لَا يَكُونَ فَرْقٌ فِي الْمَعْنَى بَيْنَ

ص: 146

لِزِيَادَةِ الصِّيَانَةِ فَلَا تَمْتَنِعُ بِهِ الْمُطَالَبَةُ، وَالْحَبْسُ جَزَاءُ الظُّلْمِ، فَإِذَا ظَهَرَ مَطْلُهُ عِنْدَ الْقَاضِي يَحْبِسُهُ كَمَا بَيَّنَّاهُ عَلَى التَّفْصِيلِ فِيمَا تَقَدَّمَ (وَإِذَا طَلَبَ الْمُرْتَهِنُ دَيْنَهُ يُؤْمَرُ بِإِحْضَارِ الرَّهْنِ)؛ لِأَنَّ قَبْضَ الرَّهْنِ قَبْضُ اسْتِيفَاءٍ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقْبِضَ مَالَهُ مَعَ قِيَامِ يَدِ الِاسْتِيفَاءِ؛ لِأَنَّهُ يَتَكَرَّرُ الِاسْتِيفَاءُ عَلَى اعْتِبَارِ الْهَلَاكِ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ وَهُوَ مُحْتَمَلٌ (وَإِذَا أُحْضِرَ أُمِرَ الرَّاهِنُ بِتَسْلِيمِ الدَّيْنِ إلَيْهِ أَوَّلًا) لِيَتَعَيَّنَ حَقُّهُ كَمَا تَعَيَّنَ حَقُّ الرَّاهِنِ تَحْقِيقًا لِلتَّسْوِيَةِ كَمَا فِي تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ يُحْضَرُ الْمَبِيعُ ثُمَّ يُسَلَّمُ أَوَّلًا (وَإِنْ طَالَبَهُ بِالدَّيْنِ فِي غَيْرِ الْبَلَدِ الَّذِي وَقَعَ الْعَقْدُ فِيهِ، إنْ كَانَ الرَّهْنُ مِمَّا لَا حَمْلَ لَهُ وَلَا مُؤْنَةَ، فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ)؛ لِأَنَّ الْأَمَاكِنَ كُلَّهَا فِي حَقِّ التَّسْلِيمِ كَمَكَانٍ وَاحِدٍ فِيمَا لَيْسَ لَهُ حَمْلٌ وَلَا مُؤْنَةٌ؛ وَلِهَذَا لَا يُشْتَرَطُ بَيَانُ مَكَانِ الْإِيفَاءِ فِيهِ فِي بَابِ السَّلَمِ بِالْإِجْمَاعِ (وَإِنْ كَانَ لَهُ حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ يَسْتَوْفِي دَيْنَهُ وَلَا يُكَلَّفُ إحْضَارَ الرَّهْنِ)؛ لِأَنَّ هَذَا نَقْلٌ، وَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ التَّسْلِيمُ بِمَعْنَى التَّخْلِيَةِ، لَا النَّقْلُ مِنْ مَكَان إلَى مَكَان؛ لِأَنَّهُ يَتَضَرَّرُ بِهِ زِيَادَةَ الضَّرَرِ وَلَمْ يَلْتَزِمْهُ.

(وَلَوْ سَلَّطَ الرَّاهِنُ الْعَدْلَ عَلَى بَيْعِ الْمَرْهُونِ فَبَاعَهُ بِنَقْدٍ أَوْ نَسِيئَةٍ جَازَ) لِإِطْلَاقِ الْأَمْرِ (فَلَوْ طَالَبَ الْمُرْتَهِنُ بِالدَّيْنِ لَا يُكَلَّفُ الْمُرْتَهِنُ إحْضَارَ الرَّهْنِ)؛ لِأَنَّهُ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى الْإِحْضَارِ (وَكَذَا إذَا أَمَرَ الْمُرْتَهِنُ بِبَيْعِهِ فَبَاعَهُ وَلَمْ يَقْبِضْ الثَّمَنَ)؛ لِأَنَّهُ صَارَ دَيْنًا بِالْبَيْعِ بِأَمْرِ الرَّاهِنِ، فَصَارَ كَأَنَّ الرَّاهِنَ رَهَنَهُ وَهُوَ دَيْنٌ (وَلَوْ قَبَضَهُ يُكَلَّفُ إحْضَارَهُ لِقِيَامِ الْبَدَلِ مَقَامَ الْمُبْدَلِ)؛ لِأَنَّ الَّذِي يَتَوَلَّى قَبْضَ الثَّمَنِ هُوَ الْمُرْتَهِنُ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْعَاقِدُ فَتَرْجِعُ الْحُقُوقُ إلَيْهِ،

تَعْرِيفِ الْأَقَلِّ وَتَنْكِيرِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ قَطْعًا

وَذَكَرَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ وَجْهًا آخَرَ لِلْفَرْقِ بَيْنَ الْمُعَرَّفِ وَالْمُنَكَّرِ حَيْثُ قَالَ: إذْ تَكُونُ مِنْ فِي الْمُنَكَّرِ تَفْضِيلِيَّةً لِوُجُوبِ اسْتِعْمَالِ الْأَفْعَلِ بِأَحَدِ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ، وَتَكُونُ فِي الْمُعَرَّفِ لِلْبَيَانِ لِعَدَمِ جَوَازِ الْجَمْعِ بَيْنَ مِنْ وَحَرْفِ التَّعْرِيفِ وَمَوْضِعُهُ كُتُبُ النَّحْوِ

ثُمَّ قَالَ: وَفِيهِ بَحْثٌ، إذْ قَدْ تُحْذَفُ " مِنْ " مِنْ اللَّفْظِ وَهَا هُنَا أَيْضًا كَذَلِكَ، وَالْقَرِينَةُ عَلَى الْحَذْفِ شُهْرَةُ الْمَذْهَبِ انْتَهَى

أَقُولُ: الْحَقُّ فِي الْفَرْقِ مَا قَالَهُ ذَلِكَ الْبَعْضُ وَبَحْثُهُ سَاقِطٌ؛ إذْ قَدْ تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ النَّحْوِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ اسْمِ التَّفْضِيلِ بِدُونِ أَحَدِ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ، إلَّا أَنْ يُعْلَمَ الْمُفَضَّلُ عَلَيْهِ وَيَتَعَيَّنُ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} وقَوْله تَعَالَى {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ لَا يَتَعَيَّنُ الْمُفَضَّلُ عَلَيْهِ وَلَا يُعْلَمُ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يُنَكَّرَ اسْمُ التَّفْضِيلِ، وَلَمْ يَجْعَلْ كَلِمَةَ مِنْ تَفْضِيلِيَّةً وَادِّعَاءُ كَوْنِهِ مَعْلُومًا بِقَرِينَةِ شُهْرَةِ الْمَذْهَبِ غَيْرُ مَسْمُوعٍ؛ لِأَنَّهُ الْآنَ بِصَدَدِ بَيَانِ الْمَذْهَبِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَلَمْ يُبَيِّنْ مِنْ قَبْلُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ فَمِنْ أَيْنَ حَصَلَتْ الشُّهْرَةُ، كَيْفَ وَلَوْ تَحَقَّقَتْ الشُّهْرَةُ فِي مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ بِحَيْثُ جَازَ بِهَا تَرْكُ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ فِي اسْتِعْمَالِ صِيغَةِ التَّفْضِيلِ لَاسْتَغْنَى عَنْ ذِكْرِهَا وَبَيَانِهَا هَا هُنَا بِالْكُلِّيَّةِ

(قَوْلُهُ: لِأَنَّهُ صَارَ دَيْنًا بِالْبَيْعِ بِأَمْرِ الرَّاهِنِ فَصَارَ كَأَنَّ الرَّاهِنَ رَهَنَهُ وَهُوَ دَيْنٌ) قَالَ بَعْضُ

ص: 147

وَكَمَا يُكَلَّفُ إحْضَارَ الرَّهْنِ لِاسْتِيفَاءِ كُلِّ الدَّيْنِ يُكَلَّفُ لِاسْتِيفَاءِ نَجْمٍ قَدْ حَلَّ لِاحْتِمَالِ الْهَلَاكِ، ثُمَّ إذَا قَبَضَ الثَّمَنَ يُؤْمَرُ بِإِحْضَارِهِ لِاسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ لِقِيَامِهِ مَقَامَ الْعَيْنِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا قَتَلَ رَجُلٌ الْعَبْدَ الرَّهْنَ خَطَأً حَتَّى قَضَى بِهِ بِالْقِيمَةِ عَلَى عَاقِلَتِهِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ لَمْ يُجْبَرْ الرَّاهِنُ عَلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ حَتَّى يُحْضِرَ كُلَّ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ خَلَفٌ عَنْ الرَّهْنِ فَلَا بُدَّ مِنْ إحْضَارِ كُلِّهَا كَمَا لَا بُدَّ مِنْ إحْضَارِ كُلِّ عَيْنِ الرَّهْنِ وَمَا صَارَتْ قِيمَةً بِفِعْلِهِ، وَفِيمَا تَقَدَّمَ صَارَ دَيْنًا بِفِعْلِ الرَّاهِنِ فَلِهَذَا افْتَرَقَا (وَلَوْ وَضَعَ الرَّهْنَ عَلَى يَدِ الْعَدْلِ وَأُمِرَ أَنْ يُودِعَهُ غَيْرَهُ فَفَعَلَ ثُمَّ جَاءَ الْمُرْتَهِنُ يَطْلُبُ دَيْنَهُ لَا يُكَلَّفُ إحْضَارَ الرَّهْنِ)؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُؤْتَمَنْ عَلَيْهِ حَيْثُ وُضِعَ عَلَى يَدِ غَيْرِهِ فَلَمْ يَكُنْ تَسْلِيمُهُ فِي قُدْرَتِهِ (وَلَوْ وَضَعَهُ الْعَدْلُ فِي يَدِ مَنْ فِي عِيَالِهِ وَغَابَ وَطَلَبَ الْمُرْتَهِنُ دَيْنَهُ وَاَلَّذِي فِي يَدِهِ يَقُولُ أَوْدَعَنِي فُلَانٌ وَلَا أَدْرِي لِمَنْ هُوَ يُجْبَرُ الرَّاهِنُ عَلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ)؛ لِأَنَّ إحْضَارَ الرَّهْنِ لَيْسَ عَلَى الْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْبِضْ شَيْئًا.

(وَكَذَلِكَ إذَا غَابَ الْعَدْلُ

الْفُضَلَاءِ: فِيهِ بَحْثٌ، فَإِنَّ الْمَقِيسَ عَلَيْهِ هُوَ رَهْنُ الدَّيْنِ غَيْرُ صَحِيحٍ فَكَيْفَ يَثْبُتُ الْحُكْمُ فِي الْفَرْعِ قِيَاسًا عَلَيْهِ انْتَهَى

أَقُولُ: لَا يَخْفَى عَلَى الْفَطِنِ أَنَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ بِتَعْلِيلِهِ الْمَذْكُورِ لَيْسَ إثْبَاتَ الْحُكْمِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ عَلَى رَهْنِ الدَّيْنِ حَتَّى يَتَوَجَّهَ الْبَحْثُ الْمَذْكُورُ، بَلْ مُرَادُهُ بِهِ بَيَانُ أَنَّ حُكْمَ الرَّهْنِ يَبْقَى فِي الدَّيْنِ الَّذِي صَارَ خَلَفًا عَنْ الْعَيْنِ الْمَبِيعِ بِأَمْرِ الرَّاهِنِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ كَانَ صَالِحًا لَأَنْ يَكُونَ رَهْنًا فَكَذَا خَلْفُهُ تَبَعًا، وَإِنْ لَمْ يَصْلُحْ الدَّيْنُ لِلرَّهْنِيَّةِ أَصَالَةً فَكَمْ مِنْ شَيْءٍ يَثْبُتُ ضِمْنًا وَتَبَعًا وَلَا يَثْبُتُ أَصَالَةً وَقَصْدًا، فَقَوْلُهُ فَصَارَ كَأَنَّ الرَّاهِنَ رَهَنَهُ وَهُوَ دَيْنٌ إشَارَةً إلَى مَعْنَى الْخَلَفِيَّةِ لَا إلَى الْقِيَاسِ

وَهَذَا مَعَ ظُهُورِهِ لِكُلِّ مُتَأَمِّلٍ مُتْقِنٍ قَدْ صَرَّحَ بِهِ أَكْثَرُ الشُّرَّاحِ حَيْثُ قَالُوا: فَإِنْ قِيلَ: لَوْ رَهَنَ الدَّائِنُ ابْتِدَاءً لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ مَحَلًّا لِلرَّهْنِ

قُلْنَا: نَعَمْ، وَلَكِنْ يَبْقَى حُكْمُ الرَّهْنِ

ص: 148

بِالرَّهْنِ وَلَا يُدْرَى أَيْنَ هُوَ) لِمَا قُلْنَا (وَلَوْ أَنَّ الَّذِي أَوْدَعَهُ الْعَدْلُ جَحَدَ الرَّهْنَ وَقَالَ هُوَ مَالِيٌّ لَمْ يَرْجِعْ الْمُرْتَهِنُ عَلَى الرَّاهِنِ بِشَيْءٍ حَتَّى يَثْبُتَ كَوْنُهُ رَهْنًا)؛ لِأَنَّهُ لَمَّا جَحَدَ الرَّهْنَ فَقَدْ تَوَى الْمَالُ وَالْتَوَى عَلَى الْمُرْتَهِنِ فَيَتَحَقَّقُ اسْتِيفَاءُ الدَّيْنِ وَلَا يَمْلِكُ الْمُطَالَبَةَ بِهِ

قَالَ (وَإِنْ كَانَ الرَّهْنُ فِي يَدِهِ لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُمَكِّنَهُ مِنْ الْبَيْعِ حَتَّى يَقْضِيَهُ الدَّيْنَ)؛ لِأَنَّ حُكْمَهُ الْحَبْسُ الدَّائِمُ إلَى أَنْ يَقْضِيَ الدَّيْنَ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ (وَلَوْ قَضَاهُ الْبَعْضَ فَلَهُ أَنْ يَحْبِسَ كُلَّ الرَّهْنِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الْبَقِيَّةَ) اعْتِبَارًا بِحَبْسِ الْمَبِيعِ (فَإِذَا قَضَاهُ الدَّيْنَ قِيلَ لَهُ سَلِّمْ الرَّهْنَ إلَيْهِ)؛ لِأَنَّهُ زَالَ الْمَانِعُ مِنْ التَّسْلِيمِ لِوُصُولِ الْحَقِّ إلَى مُسْتَحِقِّهِ (فَلَوْ هَلَكَ قَبْلَ التَّسْلِيمِ اسْتَرَدَّ الرَّاهِنُ مَا قَضَاهُ)؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُسْتَوْفِيًا عِنْدَ الْهَلَاكِ بِالْقَبْضِ السَّابِقِ، فَكَانَ الثَّانِي اسْتِيفَاءً بَعْدَ اسْتِيفَاءٍ فَيَجِبُ رَدُّهُ (وَكَذَلِكَ لَوْ تَفَاسَخَا الرَّهْنَ لَهُ حَبْسُهُ مَا لَمْ يَقْبِضْ الدَّيْنَ أَوْ يُبْرِئْهُ، وَلَا يَبْطُلُ

فِي الدَّيْنِ لِكَوْنِهِ بَدَلًا عَنْ الْمَقْبُوضِ، وَهُوَ قَدْ كَانَ صَالِحًا لِذَلِكَ فَيَثْبُتُ هَذَا الْحُكْمُ فِي خَلْفِهِ تَبَعًا لَا مَقْصُودًا انْتَهَى.

(قَوْلُهُ فَلَوْ هَلَكَ قَبْلَ التَّسْلِيمِ اسْتَرَدَّ الرَّاهِنُ مَا قَضَاهُ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُسْتَوْفِيًا عِنْدَ الْهَلَاكِ بِالْقَبْضِ السَّابِقِ، فَكَانَ الثَّانِي اسْتِيفَاءً فَيَجِبُ رَدُّهُ) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ: وَطُولِبَ بِالْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا إذَا ارْتَهَنَ عَبْدًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَقَبَضَهُ وَقِيمَتُهُ مِثْلُ الدَّيْنِ ثُمَّ وَهَبَ الْمُرْتَهِنُ الْمَالَ لِلرَّاهِنِ أَوْ أَبْرَأَهُ وَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ الرَّهْنَ حَتَّى هَلَكَ عِنْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَمْنَعَهُ إيَّاهُ فَإِنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ اسْتِحْسَانًا وَإِنْ ثَبَتَتْ يَدُ الِاسْتِيفَاءِ لِلْمُرْتَهِنِ بِقَبْضِهِ السَّابِقِ وَقَدْ تَقَرَّرَ بِالْهَلَاكِ، فَصَيْرُورَتُهُ مُسْتَوْفِيًا بِهَلَاكِ الرَّهْنِ بَعْدَ الْإِبْرَاءِ بِمَنْزِلَةِ اسْتِيفَائِهِ حَقِيقَةً، وَفِي الِاسْتِيفَاءِ حَقِيقَةً بَعْدَ الْإِبْرَاءِ يَرُدُّ الْمُسْتَوْفِي فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ هَا هُنَا كَذَلِكَ

وَأُجِيبَ بِأَنَّ الرَّهْنَ عَقْدُ اسْتِيفَاءٍ بِالْيَدِ وَالْحَبْسِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَذَلِكَ الِاسْتِيفَاءُ يَتَقَرَّرُ بِالْهَلَاكِ مُسْتَنِدًا إلَى وَقْتِ الْقَبْضِ، فَالْقَضَاءُ بَعْدَ الْهَلَاكِ اسْتِيفَاءٌ بَعْدَ اسْتِيفَاءٍ فَيَجِبُ الرَّدُّ، وَأَمَّا الْإِبْرَاءُ فَلَيْسَ فِيهِ اسْتِيفَاءُ شَيْءٍ لِيَجِبَ رَدُّهُ، وَإِنَّمَا هُوَ إسْقَاطٌ، وَإِسْقَاطُ الدَّيْنِ بِمَنْ لَيْسَ عَلَيْهِ لَغْوٌ انْتَهَى

أَقُولُ: فِي خَاتِمَةِ هَذَا الْجَوَابِ خَلَلٌ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَإِسْقَاطُ الدَّيْنِ مِمَّنْ لَيْسَ عَلَيْهِ لَغْوٌ مِنْ الْكَلَامِ هَا هُنَا؛ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ فِي مَادَّةِ النَّقْضِ مِنْ الرَّاهِنِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الرَّاهِنَ مِمَّنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ فَكَانَ الْإِبْرَاءُ فِيهَا مِمَّنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ فَلَمْ يَكُنْ لَغْوًا بَلْ كَانَ إسْقَاطًا صَحِيحًا فَلَا مِسَاسَ لِقَوْلِهِ: وَإِسْقَاطُ الدَّيْنِ مِمَّنْ لَيْسَ عَلَيْهِ لَغْوٌ بِمَا نَحْنُ فِيهِ

فَإِنْ قُلْت: مُرَادُهُ أَنَّ يَدَ الِاسْتِيفَاءِ لَمَّا ثَبَتَ لِلْمُرْتَهِنِ بِعَقْدِ الرَّهْنِ وَتَقَرُّرِهِ بِالْهَلَاكِ مُسْنَدًا إلَى وَقْتِ الْقَبْضِ صَارَ الْمُرْتَهِنُ بِالْهَلَاكِ مُسْتَوْفِيًا دَيْنَهُ مِنْ وَقْتِ الْقَبْضِ فَصَارَ الِاسْتِيفَاءُ مُقَدَّمًا عَلَى الْإِبْرَاءِ فِي الْحُكْمِ فَلَمْ يَكُنْ الرَّاهِنُ مَدْيُونًا وَقْتَ الْإِبْرَاءِ لِسُقُوطِ دَيْنِهِ بِالْقَبْضِ السَّابِقِ فَلَمْ يَكُنْ الْإِبْرَاءُ، فِيمَا نَحْنُ فِيهِ إسْقَاطُ الدَّيْنِ مِمَّنْ عَلَيْهِ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ فَلِهَذَا قَالَ: وَإِسْقَاطُ الدَّيْنِ مِمَّنْ لَيْسَ عَلَيْهِ لَغْوٌ

قُلْت: لَوْ كَانَ لِهَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ اعْتِبَارٌ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ مَادَّةِ النَّقْضِ، وَكَانَ الْإِبْرَاءُ فِيهِ لَغْوًا بِنَاءً عَلَى ذَلِكَ لَوَجَبَ فِيهِ الضَّمَانُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ لِثُبُوتِ الِاسْتِيفَاءِ لَهُ بِيَدِهِ بِقَبْضِهِ السَّابِقِ وَتَقَرُّرِهِ بِالْهَلَاكِ، وَكَوْنُ الْإِبْرَاءِ لَغْوًا عَلَى الْفَرْضِ مَعَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ فِيهِ وَهُوَ مَدَارُ النَّقْضِ وَالْمُطَالَبَةُ بِالْفَرْقِ بَيْنَ مَسْأَلَةِ

ص: 149

الرَّهْنُ إلَّا بِالرَّدِّ عَلَى الْمُرْتَهِنِ عَلَى وَجْهِ الْفَسْخِ)؛ لِأَنَّهُ يَبْقَى مَضْمُونًا مَا بَقِيَ الْقَبْضُ وَالدَّيْنُ (وَلَوْ هَلَكَ فِي يَدِهِ سَقَطَ الدَّيْنُ إذَا كَانَ بِهِ وَفَاءٌ بِالدَّيْنِ) لِبَقَاءِ الرَّهْنِ (وَلَيْسَ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَنْتَفِعَ بِالرَّهْنِ لَا بِاسْتِخْدَامٍ، وَلَا بِسُكْنَى وَلَا لُبْسٍ، إلَّا أَنْ يَأْذَنَ لَهُ الْمَالِكُ)؛ لِأَنَّ لَهُ حَقَّ الْحَبْسِ دُونَ الِانْتِفَاعِ (وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ إلَّا بِتَسْلِيطٍ مِنْ الرَّاهِنِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُؤَاجِرَ وَيُعِيرَ)؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ الِانْتِفَاعِ بِنَفْسِهِ فَلَا يَمْلِكُ تَسْلِيطَ غَيْرِهِ عَلَيْهِ، فَإِنْ فَعَلَ كَانَ مُتَعَدِّيًا، وَلَا يَبْطُلُ عَقْدُ الرَّهْنِ بِالتَّعَدِّي.

قَالَ (وَلِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَحْفَظَ الرَّهْنَ بِنَفْسِهِ وَزَوْجَتِهِ وَوَلَدِهِ وَخَادِمِهِ الَّذِي فِي عِيَالِهِ) قَالَ رضي الله عنه: مَعْنَاهُ أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ فِي عِيَالِهِ أَيْضًا، وَهَذَا؛ لِأَنَّ عَيْنَهُ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ فَصَارَ كَالْوَدِيعَةِ (وَإِنْ حَفِظَهُ بِغَيْرِ مَنْ فِي عِيَالِهِ أَوْ أَوْدَعَهُ ضَمِنَ) وَهَلْ يَضْمَنُ الثَّانِي فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ، وَقَدْ بَيَّنَّا جَمِيعَ ذَلِكَ بِدَلَائِلِهِ فِي الْوَدِيعَةِ (وَإِذَا تَعَدَّى الْمُرْتَهِنُ فِي الرَّهْنِ ضَمِنَهُ ضَمَانَ الْغَصْبِ بِجَمِيعِ قِيمَتِهِ)؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى مِقْدَارِ الدَّيْنِ أَمَانَةٌ، وَالْأَمَانَاتُ تُضْمَنُ بِالتَّعَدِّي (وَلَوْ رَهَنَهُ خَاتَمًا فَجَعَلَهُ فِي خِنْصِرِهِ فَهُوَ ضَامِنٌ)؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ بِالِاسْتِعْمَالِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَأْذُونٍ فِيهِ، وَإِنَّمَا الْإِذْنُ بِالْحِفْظِ وَالْيُمْنَى وَالْيُسْرَى فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ فِيهِ مُخْتَلِفَةٌ (وَلَوْ جَعَلَهُ فِي بَقِيَّةِ الْأَصَابِعِ كَانَ رَهْنًا بِمَا فِيهِ)؛ لِأَنَّهُ لَا يُلْبَسُ كَذَلِكَ عَادَةً فَكَانَ مِنْ بَابِ الْحِفْظِ، وَكَذَا الطَّيْلَسَانُ إنْ لَبِسَهُ لُبْسًا مُعْتَادًا ضَمِنَ،

الْكِتَابِ وَبَيْنَ ذَلِكَ فَلَا يَتِمُّ الْجَوَابُ

فَالْحَقُّ فِي الْجَوَابِ عَنْ الْمُطَالَبَةِ الْمَذْكُورَةِ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ حَيْثُ قَالَ: قُلْت إنَّ ضَمَانَ الرَّهْنِ يَثْبُتُ بِاعْتِبَارِ الْقَبْضِ وَالدَّيْنِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ ضَمَانُ الِاسْتِيفَاءِ فَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إلَّا بِاعْتِبَارِ الدَّيْنِ، وَبِالْإِبْرَاءِ عَنْ الدَّيْنِ انْعَدَمَ أَحَدُ الْمَعْنَيَيْنِ وَهُوَ الدَّيْنُ، وَالْحُكْمُ الثَّابِتُ بِعِلَّةٍ ذَاتِ وَصْفَيْنِ يَنْعَدِمُ بِانْعِدَامِ إحْدَاهُمَا، أَلَا يَرَى أَنَّهُ لَوْ رَدَّ الرَّهْنَ سَقَطَ الضَّمَانُ لِانْعِدَامِ الْقَبْضِ مَعَ بَقَاءِ الدَّيْنِ، فَكَذَا إذَا أَبْرَأَ عَنْ الدَّيْنِ يَسْقُطُ الضَّمَانُ لِانْعِدَامِ الدَّيْنِ مَعَ بَقَاءِ الْقَبْضِ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ اسْتَوْفَى الدَّيْنَ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّ هُنَاكَ الدَّيْنَ لَا يَسْقُطُ بِالِاسْتِيفَاءِ بَلْ يَتَقَرَّرُ، فَإِنَّ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ يَحْصُلُ بِالِاسْتِيفَاءِ، وَحُصُولُ الْمَقْصُودِ بِالشَّيْءِ يُقَرِّرُهُ وَيُهَيِّئُهُ،

ص: 150

وَإِنْ وَضَعَهُ عَلَى عَاتِقِهِ لَمْ يَضْمَنْ (وَلَوْ رَهَنَهُ سَيْفَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً فَتَقَلَّدَهَا لَمْ يَضْمَنْ فِي الثَّلَاثَةِ وَضَمِنَ فِي السَّيْفَيْنِ)؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ جَرَتْ بَيْنَ الشُّجْعَانِ بِتَقَلُّدِ السَّيْفَيْنِ فِي الْحَرْبِ وَلَمْ تَجْرِ بِتَقَلُّدِ الثَّلَاثَةِ، وَإِنْ لَبِسَ خَاتَمًا فَوْقَ خَاتَمٍ، إنْ كَانَ هُوَ مِمَّنْ يَتَجَمَّلُ بِلُبْسِ خَاتَمَيْنِ ضَمِنَ، وَإِنْ كَانَ لَا يَتَجَمَّلُ بِذَلِكَ فَهُوَ حَافِظٌ فَلَا يَضْمَنُ

قَالَ (وَأُجْرَةُ الْبَيْتِ الَّذِي يُحْفَظُ فِيهِ الرَّهْنُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ وَكَذَلِكَ أُجْرَةُ الْحَافِظِ وَأُجْرَةُ الرَّاعِي وَنَفَقَةُ الرَّهْنِ عَلَى الرَّاهِنِ) وَالْأَصْلُ أَنَّ مَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ لِمَصْلَحَةِ الرَّهْنِ وَتَبْقِيَتِهِ فَهُوَ عَلَى الرَّاهِنِ سَوَاءٌ كَانَ فِي الرَّهْنِ فَضْلٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ، وَكَذَلِكَ مَنَافِعُهُ مَمْلُوكَةٌ لَهُ فَيَكُونُ إصْلَاحُهُ وَتَبْقِيَتُهُ عَلَيْهِ لِمَا أَنَّهُ مُؤْنَةُ مِلْكِهِ كَمَا فِي الْوَدِيعَةِ، وَذَلِكَ مِثْلُ النَّفَقَةِ فِي مَأْكَلِهِ وَمَشْرَبِهِ، وَأُجْرَةُ الرَّاعِي فِي مَعْنَاهُ؛ لِأَنَّهُ عَلَفُ الْحَيَوَانِ، وَمِنْ هَذَا الْجِنْسِ كِسْوَةُ الرَّقِيقِ وَأُجْرَةُ ظِئْرِ وَلَدِ الرَّهْنِ، وَسَقْيُ الْبُسْتَانِ، وَكَرْيُ النَّهْرِ وَتَلْقِيحُ نَخِيلِهِ وَجُذَاذُهُ، وَالْقِيَامُ بِمَصَالِحِهِ، وَكُلُّ مَا كَانَ لِحِفْظِهِ أَوْ لِرَدِّهِ إلَى يَدِ الْمُرْتَهِنِ أَوْ لِرَدِّ جُزْءٍ مِنْهُ فَهُوَ عَلَى الْمُرْتَهِنِ مِثْلُ أُجْرَةِ الْحَافِظِ؛ لِأَنَّ الْإِمْسَاكَ حَقٌّ لَهُ وَالْحِفْظُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ فَيَكُونُ بَدَلُهُ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ أُجْرَةُ الْبَيْتِ الَّذِي يُحْفَظُ الرَّهْنُ فِيهِ، وَهَذَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ

وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ كِرَاءَ الْمَأْوَى عَلَى الرَّاهِنِ بِمَنْزِلَةِ النَّفَقَةِ؛ لِأَنَّهُ سَعَى فِي تَبْقِيَتِهِ، وَمِنْ هَذَا الْقِسْمِ جُعْلُ الْآبِقِ فَإِنَّهُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى إعَادَةِ الِاسْتِيفَاءِ الَّتِي كَانَتْ لَهُ لِيَرُدَّهُ فَكَانَتْ مُؤْنَةُ الرَّدِّ فَيَلْزَمُهُ، وَهَذَا إذَا كَانَتْ قِيمَةُ الرَّهْنِ وَالدَّيْنِ سَوَاءً، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الرَّهْنِ أَكْثَرَ فَعَلَيْهِ بِقَدْرِ الْمَضْمُونِ وَعَلَى الرَّاهِنِ بِقَدْرِ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ وَالرَّدُّ لِإِعَادَةِ الْيَدِ، وَيَدُهُ فِي الزِّيَادَةِ يَدُ الْمَالِكِ إذْ هُوَ كَالْمُودِعِ فِيهَا فَلِهَذَا يَكُونُ عَلَى الْمَالِكِ، وَهَذَا بِخِلَافِ أُجْرَةِ الْبَيْتِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فَإِنَّ كُلَّهَا تَجِبُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ، وَإِنْ كَانَ فِي قِيمَةِ الرَّهْنِ فَضْلٌ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ ذَلِكَ بِسَبَبِ الْحَبْسِ، وَحَقُّ الْحَبْسِ فِي الْكُلِّ ثَابِتٌ لَهُ

فَأَمَّا الْجُعْلُ إنَّمَا يَلْزَمُهُ لِأَجْلِ الضَّمَانِ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ الْمَضْمُونِ وَمُدَاوَاةُ الْجِرَاحَةِ وَالْقُرُوحِ وَمُعَالَجَةُ الْأَمْرَاضِ وَالْفِدَاءُ مِنْ الْجِنَايَةِ تَنْقَسِمُ عَلَى الْمَضْمُونِ وَالْأَمَانَةِ، وَالْخَرَاجُ عَلَى الرَّاهِنِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّهُ مِنْ مُؤَنِ الْمِلْكِ، وَالْعُشْرُ فِيمَا يَخْرُجُ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الْمُرْتَهِنِ لِتَعَلُّقِهِ بِالْعَيْنِ

وَإِذَا بَقِيَ الدَّيْنُ حُكْمًا بَقِيَ ضَمَانُ الرَّهْنِ، وَبِهَلَاكِ الرَّهْنِ يَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ اسْتَوْفَى مَرَّتَيْنِ فَيَلْزَمُهُ رَدُّ أَحَدِهِمَا، وَأَمَّا الْإِبْرَاءُ فَيُسْقِطُ الدَّيْنَ فَلَا يَبْقَى الضَّمَانُ بَعْدَ انْعِدَامِ أَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ، إلَى هُنَا لَفْظُ النِّهَايَةِ

وَسَيَجِيءُ مِنْ الْمُصَنِّفِ فِي آخَرِ كِتَابِ الرَّهْنِ مَا يُطَابِقُ ذَلِكَ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ تَيْنِكِ الْمَسْأَلَتَيْنِ فَتَبَصَّرْ

قَالَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ: فَإِنْ قُلْت: يَنْبَغِي أَنْ لَا يَبْقَى الرَّهْنُ مَضْمُونًا بَعْدَ قَبْضِ الدَّيْنِ إذَا هَلَكَ الرَّهْنُ قَبْلَ التَّسْلِيمِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الرَّهْنِ لَمْ يَبْقَ

قُلْت: بَقِيَ احْتِمَالُ اسْتِحْقَاقِ الْحَبْسِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَسْتَحِقَّ الْمُؤَدِّي وَحِينَئِذٍ يَظْهَرُ أَنَّهُ مَا اسْتَوْفَى حَقَّهُ فَكَانَ لَهُ اسْتِحْقَاقُ الْحَبْسِ انْتَهَى

وَرَدَّ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ هَذَا الْجَوَابَ حَيْثُ قَالَ بَعْدَ ذِكْرِ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ: فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الِاحْتِمَالَ لَا يُوجِبُ التَّحْقِيقَ لَا سِيَّمَا إذَا لَمْ يَنْشَأْ عَنْ دَلِيلٍ انْتَهَى

أَقُولُ: الْحَقُّ فِي الْجَوَابِ عَنْ أَصْلِ السُّؤَال أَنْ

ص: 151

وَلَا يَبْطُلُ الرَّهْنُ فِي الْبَاقِي؛ لِأَنَّ وُجُوبَهُ لَا يُنَافِي مِلْكَهُ، بِخِلَافِ الِاسْتِحْقَاقِ، وَمَا أَدَّاهُ أَحَدُهُمَا مِمَّا وَجَبَ عَلَى صَاحِبِهِ فَهُوَ مُتَطَوِّعٌ، وَمَا أَنْفَقَ أَحَدُهُمَا مِمَّا يَجِبُ عَلَى الْآخَرِ بِأَمْرِ الْقَاضِي رَجَعَ عَلَيْهِ كَأَنَّ صَاحِبَهُ أَمَرَهُ بِهِ؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْقَاضِي عَامَّةٌ

وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ إذَا كَانَ صَاحِبُهُ حَاضِرًا وَإِنْ كَانَ بِأَمْرِ الْقَاضِي

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ إنَّهُ يَرْجِعُ فِي الْوَجْهَيْنِ، وَهِيَ فَرْعُ مَسْأَلَةِ الْحَجْرِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

بَابُ مَا يَجُوزُ ارْتِهَانُهُ وَالِارْتِهَانُ بِهِ وَمَا لَا يَجُوزُ

قَالَ (وَلَا يَجُوزُ رَهْنُ الْمُشَاعِ)

يُقَالَ: الدَّيْنُ لَا يَسْقُطُ بِالْقَضَاءِ كَمَا يَسْقُطُ بِالْإِبْرَاءِ لِقِيَامِ الْمُوجِبِ وَهُوَ الذِّمَّةُ، بَلْ يَبْقَى عَلَى حَالِهِ، وَلَكِنْ لَا يُطَالَبُ بِهِ لِتَعَذُّرِ الِاسْتِيفَاءِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْمُصَنِّفُ فِي آخِرِ كِتَابِ الرَّهْنِ أَثْنَاءَ الْفَرْقِ بَيْنَ مَسْأَلَةِ إبْرَاءِ الْمُرْتَهِنِ الرَّاهِنَ عَنْ الدَّيْنِ وَمَسْأَلَةِ اسْتِيفَاءِ الْمُرْتَهِنِ الرَّهْنَ، فَإِذَا بَقِيَ الدَّيْنُ بَعْدَ قَضَاءِ مِثْلِهِ يَبْقَى حُكْمُ الرَّهْنِ أَيْضًا مَا لَمْ يُسَلَّمْ إلَى الرَّاهِنِ فَيَبْقَى مَضْمُونًا بِالْهَلَاكِ إلَى أَنْ يُسَلَّمَ إلَى الرَّاهِنِ، تَأَمَّلْ تَقِفْ انْتَهَى، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ

(بَابُ مَا يَجُوزُ ارْتِهَانُهُ وَالِارْتِهَانُ بِهِ وَمَا لَا يَجُوزُ)

لَمَّا ذَكَرَ مُقَدَّمَاتِ مَسَائِلِ الرَّهْنِ ذَكَرَ فِي هَذَا الْبَابِ تَفْصِيلَ مَا يَجُوزُ ارْتِهَانُهُ وَالِارْتِهَانُ بِهِ وَمَا لَا يَجُوزُ؛ إذْ التَّفْصِيلُ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ الْإِجْمَالِ (وَقَوْلُهُ وَلَا يَجُوزُ رَهْنُ الْمُشَاعِ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: رَهْنُ الْمُشَاعِ الْقَابِلِ لِلْقِسْمَةِ وَغَيْرِهِ فَاسِدٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ الضَّمَانُ إذَا قُبِضَ،

ص: 152

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَجُوزُ، وَلَنَا فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا يَبْتَنِي عَلَى حُكْمِ الرَّهْنِ، فَإِنَّهُ عِنْدَنَا ثُبُوتُ يَدِ الِاسْتِيفَاءِ، وَهَذَا لَا يُتَصَوَّرُ فِيمَا يَتَنَاوَلُهُ الْعَقْدُ وَهُوَ الْمُشَاعُ

وَعِنْدَهُ الْمُشَاعُ يَقْبَلُ مَا هُوَ الْحُكْمُ عِنْدَهُ وَهُوَ تَعَيُّنُهُ لِلْبَيْعِ

وَقِيلَ بَاطِلٌ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ ذَلِكَ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الْبَاطِلَ مِنْهُ هُوَ فِيمَا إذَا لَمْ يَكُنْ الرَّهْنُ مَالًا أَوْ لَمْ يَكُنْ الْمُقَابَلُ بِهِ مَضْمُونًا، وَمَا نَحْنُ فِيهِ لَيْسَ كَذَلِكَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْقَبْضَ شَرْطُ تَمَامِ الْعَقْدِ لَا شَرْطُ جَوَازِهِ، إلَى هُنَا لَفْظُهُ

أَقُولُ: إنَّ قَوْلَهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْقَبْضَ شَرْطُ تَمَامِ الْعَقْدِ لَا شَرْطُ جَوَازِهِ حَشْوٌ مُفْسِدٌ؛ إذْ الظَّاهِرُ أَنَّهُ عِلَّةٌ لِقَوْلِهِ وَمَا نَحْنُ فِيهِ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ إذْ لَا شَكَّ أَنَّ مَا نَحْنُ فِيهِ وَهُوَ رَهْنُ الْمُشَاعِ لَيْسَ مِمَّا لَمْ يَكُنْ الرَّهْنُ مَالًا وَلَا مِمَّا لَمْ يَكُنْ الْمُقَابَلُ بِهِ مَضْمُونًا، فَإِنَّ الشُّيُوعَ لَا يُنَافِي الْمَالِيَّةَ قَطْعًا حَتَّى يَكُونَ رَهْنُ الْمُشَاعِ مِمَّا لَمْ يَكُنْ الرَّهْنُ مَالًا، وَكَذَا الشُّيُوعُ فِي الرَّهْنِ لَا يَقْتَضِي أَنْ لَا يَكُونَ الْمُقَابَلُ بِهِ مَضْمُونًا بَلْ يُتَصَوَّرُ فِيمَا إذَا كَانَ الْمُقَابَلُ بِهِ مَضْمُونًا أَيْضًا كَمَا لَا يَخْفَى

ثُمَّ لَا شَكَّ أَنَّهُ لَا بِنَاءَ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ عَلَى كَوْنِ الْقَبْضِ شَرْطَ تَمَامِ عَقْدِ الرَّهْنِ لَا شَرْطَ جَوَازِهِ، بَلْ ذَلِكَ أَمْرٌ مُقَرَّرٌ سَوَاءٌ كَانَ الْقَبْضُ شَرْطَ تَمَامِ عَقْدِ الرَّهْنِ أَوْ شَرْطَ جَوَازِهِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى ذِي مَسْكَةٍ، فَلَا وَجْهَ لِجَعْلِ قَوْلِهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْقَبْضَ شَرْطُ تَمَامِ الْعَقْدِ لَا شَرْطُ جَوَازِهِ عِلَّةٌ لِقَوْلِهِ وَمَا نَحْنُ فِيهِ لَيْسَ كَذَلِكَ

وَزَعَمَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ أَنَّ قَوْلَهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْقَبْضَ شَرْطُ تَمَامِ الْعَقْدِ إلَخْ عِلَّةٌ لِقَوْلِهِ: لِأَنَّ الْبَاطِلَ مِنْهُ هُوَ فِيمَا إذَا لَمْ يَكُنْ الرَّهْنُ مَالًا أَوْ لَمْ يَكُنْ الْمُقَابَلُ بِهِ مَضْمُونًا حَيْثُ قَالَ فِي بَيَانِ قَوْلِهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْقَبْضَ شَرْطُ تَمَامِ الْعَقْدِ لَا شَرْطُ جَوَازِهِ: يَعْنِي أَنَّ الْحُكْمَ بِكَوْنِ الْبَاطِلِ مُنْحَصِرًا فِيمَا ذَكَرَهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْقَبْضَ شَرْطُ تَمَامِ الْعَقْدِ لَا شَرْطُ جَوَازِهِ، فَإِنَّهُ إذَا كَانَ شَرْطَ الْجَوَازِ لَمْ يَصِحَّ الْحَصْرُ انْتَهَى

أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا أَيْضًا بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّهُ مَعَ كَوْنِ الْفَصْلِ بِقَوْلِهِ وَمَا نَحْنُ فِيهِ لَيْسَ كَذَلِكَ مِمَّا يَأْبَى جِدًّا كَوْنَ قَوْلِهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْقَبْضَ إلَى آخِرِهِ عِلَّةٌ لِمَا قَبْلَ ذَلِكَ لَا يَصِحُّ بِنَاءً أَنَّ الْحُكْمَ بِكَوْنِ الْبَاطِلِ مِنْ الرَّهْنِ مُنْحَصِرًا فِيمَا ذَكَرَهُ مِنْ الصُّورَتَيْنِ عَلَى أَنَّ الْقَبْضَ شَرْطُ تَمَامِ الْعَقْدِ لَا شَرْطُ جَوَازِهِ

قَوْلُهُ فَإِنَّهُ إذَا كَانَ شَرْطَ الْجَوَازِ لَمْ يَصِحَّ الْحَصْرُ مَمْنُوعٌ، فَإِنَّ مُجَرَّدَ انْتِفَاءِ شَرْطِ الْجَوَازِ لَا يَسْتَلْزِمُ بُطْلَانَ الْعَقْدِ بَلْ يُتَصَوَّرُ انْتِفَاءُ ذَلِكَ فِيمَا إذَا انْعَقَدَ الْعَقْدُ بِصِفَةِ الْفَسَادِ أَيْضًا، وَإِنَّمَا الَّذِي يَسْتَلْزِمُ بُطْلَانَ الْعَقْدِ انْتِفَاءُ شَرْطِ الِانْعِقَادِ، وَإِنَّمَا هُوَ فِي عَقْدِ الرَّهْنِ أَنْ يَكُونَ الرَّهْنُ مَالًا، وَأَنْ يَكُونَ الْمُقَابَلُ بِهِ مَضْمُونًا لَا غَيْرَ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ مَا ذُكِرَ فِي الذَّخِيرَةِ وَالْمُغْنِي وَنُقِلَ عَنْهُمَا فِي النِّهَايَةِ وَغَيْرِهَا، وَهُوَ أَنَّ الْبَاطِلَ مِنْ الرَّهْنِ مَا لَا يَكُونُ مُنْعَقِدًا أَصْلًا كَالْبَاطِلِ مِنْ الْبُيُوعِ، وَالْفَاسِدُ مِنْهُ مَا يَكُونُ مُنْعَقِدًا لَكِنْ بِوَصْفِ الْفَسَادِ كَالْفَاسِدِ مِنْ الْبُيُوعِ، وَشَرْطُ انْعِقَادِ الرَّهْنِ أَنْ يَكُونَ الرَّهْنُ مَالًا وَالْمُقَابَلُ بِهِ مَضْمُونًا، فَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ كَانَ الرَّهْنُ مَالًا وَالْمُقَابَلُ بِهِ مَضْمُونًا، إلَّا أَنَّهُ بِفَقْدِ بَعْضِ شَرَائِطِ الْجَوَازِ يَنْعَقِدُ الرَّهْنُ لِوُجُودِ شَرْطِ الِانْعِقَادِ لَكِنْ بِصِفَةِ الْفَسَادِ لِانْعِدَامِ بَعْضِ شَرْطِ

ص: 153

وَالثَّانِي أَنَّ مُوجِبَ الرَّهْنِ هُوَ الْحَبْسُ الدَّائِمُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُشْرَعْ إلَّا مَقْبُوضًا بِالنَّصِّ، أَوْ بِالنَّظَرِ إلَى الْمَقْصُودِ مِنْهُ وَهُوَ الِاسْتِيثَاقُ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّاهُ، وَكُلُّ ذَلِكَ يَتَعَلَّقُ بِالدَّوَامِ، وَلَا يُفْضِي إلَيْهِ إلَّا اسْتِحْقَاقُ الْحَبْسِ، وَلَوْ جَوَّزْنَاهُ فِي الْمُشَاعِ يَفُوتُ الدَّوَامُ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْمُهَايَأَةِ فَيَصِيرُ كَمَا إذَا قَالَ رَهَنْتُك يَوْمًا وَيَوْمًا لَا، وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ فِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ وَمَا لَا يَحْتَمِلُهَا، بِخِلَافِ الْهِبَةِ حَيْثُ يَجُوزُ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ فِي الْهِبَةِ غَرَامَةُ الْقِسْمَةِ وَهُوَ فِيمَا يُقَسَّمُ، أَمَّا حُكْمُ الْهِبَةِ الْمِلْكُ وَالْمُشَاعُ يَقْبَلُهُ، وَهَا هُنَا الْحُكْمُ ثُبُوتُ يَدِ الِاسْتِيفَاءِ وَالْمُشَاعُ لَا يَقْبَلُهُ وَإِنْ كَانَ لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ، وَلَا يَجُوزُ مِنْ شَرِيكِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقْبَلُ حُكْمُهُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ

وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي يَسْكُنُ يَوْمًا بِحُكْمِ الْمِلْكِ وَيَوْمًا بِحُكْمِ الرَّهْنِ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ رَهَنَ يَوْمًا وَيَوْمًا لَا

وَالشُّيُوعُ الطَّارِئُ يَمْنَعُ بَقَاءَ الرَّهْنِ فِي رِوَايَةِ الْأَصْلِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَمْنَعُ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْبَقَاءِ أَسْهَلُ مِنْ حُكْمِ الِابْتِدَاءِ فَأَشْبَهَ الْهِبَةَ

وَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّ الِامْتِنَاعَ لِعَدَمِ الْمَحَلِّيَّةِ وَمَا يَرْجِعُ إلَيْهِ، فَالِابْتِدَاءُ وَالْبَقَاءُ سَوَاءٌ كَالْمَحْرَمِيَّةِ فِي بَابِ النِّكَاحِ، بِخِلَافِ الْهِبَةِ؛ لِأَنَّ الْمُشَاعَ يَقْبَلُ حُكْمَهَا وَهُوَ الْمِلْكُ، وَاعْتِبَارُ الْقَبْضِ فِي الِابْتِدَاءِ لِنَفْيِ الْغَرَامَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ، وَلَا حَاجَةَ إلَى اعْتِبَارِهِ

الْجَوَازِ، وَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ لَمْ يَكُنْ الرَّهْنُ مَالًا أَوْ لَمْ يَكُنْ الْمُقَابَلُ بِهِ مَضْمُونًا لَا يَنْعَقِدُ الرَّهْنُ أَصْلًا انْتَهَى فَتَدَبَّرْ (قَوْلُهُ: وَالثَّانِي أَنَّ مُوجِبَ الرَّهْنِ هُوَ الْحَبْسُ الدَّائِمُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُشْرَعْ إلَّا مَقْبُوضًا) أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ إنَّهُ لَمْ يُشْرَعْ إلَّا مَقْبُوضًا أَنَّ عَقْدَ الرَّهْنِ لَمْ يَجُزْ إلَّا مَقْبُوضًا يَكُونُ هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُ مُنَاقِضًا لِمَا ذَكَرَهُ فِي صَدْرِ كِتَابِ الرَّهْنِ مِنْ أَنَّ الْقَبْضَ شَرْطُ لُزُومِ الرَّهْنِ لَا شَرْطُ جَوَازِهِ، وَإِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَلْزَمْ إلَّا مَقْبُوضًا لَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ؛ إذْ الْمُدَّعَى هَا هُنَا عَدَمُ جَوَازِ رَهْنِ الْمُشَاعِ لَا عَدَمُ لُزُومِهِ فَتَأَمَّلْ فِي الدَّفْعِ (قَوْلُهُ أَوْ بِالنَّظَرِ إلَى الْمَقْصُودِ مِنْهُ وَهُوَ الِاسْتِيثَاقُ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّاهُ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: وَهُوَ قَوْلُهُ وَلِيَكُونَ عَاجِزًا عَنْ الِانْتِفَاعِ فَيَتَسَارَعُ إلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ لِحَاجَتِهِ أَوْ لِضَجَرِهِ انْتَهَى

وَاقْتَفَى أَثَرَهُ فِي هَذَا التَّفْسِيرِ جَمَاعَةٌ مِنْ الشُّرَّاحِ، مِنْهُمْ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ حَيْثُ قَالَ: يَعْنِي مَا مَرَّ مِنْ قَوْلِهِ وَلِيَكُونَ عَاجِزًا عَنْ الِانْتِفَاعِ فَيَتَسَارَعُ إلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ لِحَاجَتِهِ أَوْ لِضَجَرِهِ

أَقُولُ: عَلَّلَ الْمُصَنِّفُ فِيمَا مَرَّ كَوْنَ الرَّهْنِ وَثِيقَةً لِجَانِبِ الِاسْتِيفَاءِ بِعِلَّتَيْنِ حَيْثُ قَالَ: لِيَقَعَ الْأَمْنُ مِنْ الْجُحُودِ مَخَافَةَ جُحُودِ الْمُرْتَهِنِ الرَّهْنَ، وَلِيَكُونَ عَاجِزًا عَنْ الِانْتِفَاعِ فَيَتَسَارَعُ الدَّائِنُ لِحَاجَتِهِ أَوْ لِضَجَرِهِ انْتَهَى

فَلَيْتَ شَعْرِي مَا حَمَلَ هَؤُلَاءِ الشُّرَّاحَ عَلَى حَمْلِهِمْ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ هَا هُنَا مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّاهُ عَلَى الْعِلَّةِ الثَّانِيَةِ فَقَطْ دُونَ مَجْمُوعِ الْعِلَّتَيْنِ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ، أَوْ عَلَى الْعِلَّةِ الْأُولَى لِتَقَدُّمِهَا

ص: 154

فِي حَالَةِ الْبَقَاءِ وَلِهَذَا يَصِحُّ الرُّجُوعُ فِي بَعْضِ الْهِبَةِ، وَلَا يَجُوزُ فَسْخُ الْعَقْدِ فِي بَعْضِ الرَّهْنِ

قَالَ (وَلَا رَهْنُ ثَمَرَةٍ عَلَى رُءُوسِ النَّخِيلِ دُونَ النَّخِيلِ، وَلَا زَرْعُ الْأَرْضِ دُونَ الْأَرْضِ، وَلَا رَهْنُ النَّخِيلِ فِي الْأَرْضِ دُونَهَا)؛ لِأَنَّ الْمَرْهُونَ مُتَّصِلٌ بِمَا لَيْسَ بِمَرْهُونٍ خِلْقَةً فَكَانَ فِي مَعْنَى الشَّائِعِ (وَكَذَا إذَا رَهَنَ الْأَرْضَ دُونَ النَّخِيلِ أَوْ دُونَ الزَّرْعِ أَوْ النَّخِيلِ دُونَ الثَّمَرِ)؛ لِأَنَّ الِاتِّصَالَ يَقُومُ بِالطَّرَفَيْنِ، فَصَارَ الْأَصْلُ أَنَّ الْمَرْهُونَ إذَا كَانَ مُتَّصِلًا بِمَا لَيْسَ بِمَرْهُونٍ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ قَبْضُ الْمَرْهُونِ وَحْدَهُ

وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ رَهْنَ الْأَرْضِ بِدُونِ الشَّجَرِ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الشَّجَرَ اسْمٌ لِلنَّابِتِ فَيَكُونُ اسْتِثْنَاءُ الْأَشْجَارِ بِمَوَاضِعِهَا، بِخِلَافِ مَا إذَا رَهَنَ الدَّارَ دُونَ الْبِنَاءِ؛ لِأَنَّ الْبِنَاءَ اسْمٌ لِلْمَبْنَى فَيَصِيرُ رَاهِنًا جَمِيعَ الْأَرْضِ وَهِيَ مَشْغُولَةٌ بِمِلْكِ الرَّاهِنِ (وَلَوْ رَهَنَ النَّخِيلَ بِمَوَاضِعِهَا جَازَ)؛ لِأَنَّ هَذِهِ مُجَاوِرَةٌ وَهِيَ لَا تَمْنَعُ الصِّحَّةَ (وَلَوْ كَانَ فِيهِ ثَمَرٌ يَدْخُلُ فِي الرَّهْنِ)؛ لِأَنَّهُ تَابِعٌ لِاتِّصَالِهِ بِهِ فَيَدْخُلُ تَبَعًا تَصْحِيحًا لِلْعَقْدِ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ بَيْعَ النَّخِيلِ بِدُونِ الثَّمَرِ جَائِزٌ، وَلَا ضَرُورَةَ إلَى إدْخَالِهِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِهِ، وَبِخِلَافِ الْمَتَاعِ فِي الدَّارِ حَيْثُ لَا يَدْخُلُ فِي رَهْنِ الدَّارِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِتَابِعٍ بِوَجْهٍ مَا، وَكَذَا يَدْخُلُ الزَّرْعُ وَالرَّطْبَةُ فِي رَهْنِ الْأَرْضِ وَلَا يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الثَّمَرَةِ (وَيَدْخُلُ الْبِنَاءُ وَالْغَرْسُ فِي رَهْنِ الْأَرْضِ وَالدَّارِ وَالْقَرْيَةِ) لِمَا ذَكَرْنَا (وَلَوْ رَهَنَ الدَّارَ بِمَا فِيهَا جَازَ وَلَوْ اسْتَحَقَّ بَعْضَهُ، وَإِنْ كَانَ الْبَاقِي يَجُوزُ ابْتِدَاءُ الرَّهْنِ عَلَيْهِ وَحْدَهُ بَقِيَ رَهْنًا بِحِصَّتِهِ وَإِلَّا بَطَلَ كُلُّهُ)؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ جُعِلَ كَأَنَّهُ مَا وَرَدَ إلَّا عَلَى الْبَاقِي، وَيَمْنَعُ التَّسْلِيمَ كَوْنُ الرَّاهِنِ أَوْ مَتَاعِهِ فِي الدَّارِ الْمَرْهُونَةِ، وَكَذَا مَتَاعُهُ فِي الْوِعَاءِ الْمَرْهُونِ، وَيَمْنَعُ تَسْلِيمَ الدَّابَّةِ الْمَرْهُونَةِ الْحَمْلُ عَلَيْهَا فَلَا يَتِمُّ حَتَّى يُلْقِيَ الْحِمْلَ؛ لِأَنَّهُ شَاغِلٌ لَهَا، بِخِلَافِ مَا إذَا رَهَنَ الْحِمْلَ دُونَهَا حَيْثُ يَكُونُ رَهْنًا تَامًّا إذَا دَفَعَهَا إلَيْهِ؛ لِأَنَّ الدَّابَّةَ مَشْغُولَةٌ بِهِ فَصَارَ كَمَا إذَا رَهَنَ مَتَاعًا فِي دَارٍ أَوْ فِي وِعَاءٍ دُونَ الدَّارِ وَالْوِعَاءِ، بِخِلَافِ مَا إذَا رَهَنَ سَرْجًا عَلَى دَابَّةٍ أَوْ لِجَامًا فِي رَأْسِهَا وَدَفَعَ الدَّابَّةَ مَعَ السَّرْجِ وَاللِّجَامِ حَيْثُ لَا يَكُونُ رَهْنًا حَتَّى يَنْزِعَهُ مِنْهَا ثُمَّ يُسَلِّمَهُ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ تَوَابِعِ الدَّابَّةِ بِمَنْزِلَةِ الثَّمَرَةِ لِلنَّخِيلِ حَتَّى قَالُوا يَدْخُلُ فِيهِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرٍ.

قَالَ (وَلَا يَصِحُّ)(الرَّهْنُ بِالْأَمَانَاتِ) كَالْوَدَائِعِ وَالْعَوَارِيّ وَالْمُضَارَبَاتِ

فِي الذِّكْرِ هُنَاكَ

وَالْعَجَبُ مِنْ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ أَنَّهُ قَالَ فِي شَرْحِ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ: وَكُلُّ ذَلِكَ يَتَعَلَّقُ بِالدَّوَامِ: أَيْ كُلُّ مَا مَرَّ مِنْ قَوْلِهِ إلَّا مَقْبُوضًا بِالنَّصِّ أَوْ بِالنَّظَرِ إلَى الْمَقْصُودِ وَيَتَعَلَّقُ بِالدَّوَامِ، وَقَالَ: أَمَّا تَعَلُّقُهُ بِالدَّوَامِ بِالنَّظَرِ إلَى الْمَقْصُودِ فَظَاهِرٌ، فَإِنَّهُ لَوْ تَمَكَّنَ مِنْ الِاسْتِرْدَادِ رُبَّمَا جَحَدَ الرَّهْنَ وَالدَّيْنَ جَمِيعًا فَيَفُوتُ الِاسْتِيثَاقُ انْتَهَى

فَقَدْ جَعَلَ مَدَارَ الِاسْتِيثَاقِ فِي الْبَيَانِ هُوَ الْعِلَّةَ الْأُولَى عَلَى

ص: 155

(وَمَالُ الشِّرْكَةِ)؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ فِي بَابِ الرَّهْنِ قَبْضٌ مَضْمُونٌ فَلَا بُدَّ مِنْ ضَمَانٍ ثَابِتٍ لِيَقَعَ الْقَبْضُ مَضْمُونًا وَيَتَحَقَّقَ اسْتِيفَاءُ الدَّيْنِ مِنْهُ (وَكَذَلِكَ لَا يَصِحُّ بِالْأَعْيَانِ الْمَضْمُونَةِ بِغَيْرِهَا كَالْمَبِيعِ فِي يَدِ الْبَائِعِ)؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، فَإِنَّهُ إذَا هَلَكَ الْعَيْنُ لَمْ يَضْمَنْ الْبَائِعُ شَيْئًا لَكِنَّهُ يَسْقُطُ الثَّمَنُ وَهُوَ حَقُّ الْبَائِعِ فَلَا يَصِحُّ الرَّهْنُ

فَأَمَّا الْأَعْيَانُ الْمَضْمُونَةُ بِعَيْنِهَا وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَضْمُونًا بِالْمِثْلِ أَوْ بِالْقِيمَةِ عِنْدَ هَلَاكِهِ مِثْلَ الْمَغْصُوبِ وَبَدَلِ الْخُلْعِ وَالْمَهْرِ وَبَدَلِ الصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ يَصِحُّ الرَّهْنُ بِهَا؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ مُتَقَرِّرٌ، فَإِنَّهُ إنْ كَانَ قَائِمًا وَجَبَ تَسْلِيمُهُ، وَإِنْ كَانَ هَالِكًا تَجِبُ قِيمَتُهُ فَكَانَ رَهْنًا بِمَا هُوَ مَضْمُونٌ فَيَصِحُّ.

قَالَ (وَالرَّهْنُ بِالدَّرَكِ بَاطِلٌ وَالْكَفَالَةُ بِالدَّرَكِ جَائِزَةٌ) وَالْفَرْقُ أَنَّ الرَّهْنَ لِلِاسْتِيفَاءِ وَلَا اسْتِيفَاءَ قَبْلَ الْوُجُوبِ، وَإِضَافَةُ التَّمْلِيكِ إلَى زَمَانٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لَا تَجُوزُ

أَمَّا الْكَفَالَةُ فَلِالْتِزَامِ الْمُطَالَبَةِ، وَالْتِزَامُ الْأَفْعَالِ يَصِحُّ مُضَافًا إلَى الْمَآلِ كَمَا فِي الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ، وَلِهَذَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِمَا ذَابَ لَهُ عَلَى فُلَانٍ وَلَا يَصِحُّ الرَّهْنُ، فَلَوْ قَبَضَهُ قَبْلَ الْوُجُوبِ فَهَلَكَ عِنْدَهُ يَهْلِكُ أَمَانَةً؛ لِأَنَّهُ لَا عَقْدَ حَيْثُ وَقَعَ بَاطِلًا، بِخِلَافِ الرَّهْنِ بِالدَّيْنِ الْمَوْعُودِ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ رَهَنْتُك هَذَا لِتُقْرِضَنِي أَلْفَ دِرْهَمٍ وَهَلَكَ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ حَيْثُ يَهْلِكُ بِمَا سَمَّى مِنْ الْمَالِ بِمُقَابَلَتِهِ؛ لِأَنَّ الْمَوْعُودَ جُعِلَ كَالْمَوْجُودِ بِاعْتِبَارِ الْحَاجَةِ،

خِلَافِ مَا فُسِّرَ بِهِ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ فِيمَا قَبْلُ تَبَصَّرْ

(قَوْلُهُ بِخِلَافِ الرَّهْنِ بِالدَّيْنِ الْمَوْعُودِ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ رَهَنْتُك هَذَا لِتُقْرِضَنِي أَلْفَ دِرْهَمٍ وَهَلَكَ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ حَيْثُ يَهْلِكُ بِمَا سَمَّى مِنْ الْمَالِ بِمُقَابَلَتِهِ) قَالَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ: فِيهِ تَسَامُحٌ؛ لِأَنَّهُ يَهْلِكُ بِالْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِمَّا سَمَّى لَهُ مِنْ الْقَرْضِ؛ أَلَا تَرَى إلَى مَا قَالَ الْإِمَامُ الْإِسْبِيجَابِيُّ فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ: وَلَوْ أَخَذَ الرَّهْنَ بِشَرْطِ أَنْ يُقْرِضَهُ كَذَا فَهَلَكَ فِي يَدِهِ قَبْلَ أَنْ يُقْرِضَهُ هَلَكَ بِالْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِمَّا سَمَّى لَهُ مِنْ الْفَرْضِ انْتَهَى

وَقَالَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ: فِي شَرْحِ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ حَيْثُ يَهْلِكُ بِمَا سَمَّى مِنْ الْمَالِ بِمُقَابَلَتِهِ: هَذَا إذَا سَاوَى الرَّهْنُ الدَّيْنَ قِيمَةً، وَإِنَّمَا أَطْلَقَ جَرْيًا عَلَى الْعَادَةِ؛ إذْ الظَّاهِرُ أَنْ يُسَاوِيَ الرَّهْنُ الدَّيْنَ انْتَهَى

وَاقْتَفَى أَثَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ

أَقُولُ: فِيهِ قُصُورٌ بَيِّنٌ، فَإِنَّ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ كَمَا يَتَمَشَّى فِيمَا إذَا سَاوَى قِيمَةُ الرَّهْنِ الدَّيْنَ الْمَوْعُودَ وَهُوَ مَا سَمَّى لَهُ مِنْ الْقَرْضِ يَتَمَشَّى أَيْضًا فِيمَا إذَا كَانَتْ قِيمَةُ الرَّهْنِ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ الدَّيْنِ فَلَا وَجْهَ لِتَخْصِيصِهِ

ص: 156

وَلِأَنَّهُ مَقْبُوضٌ بِجِهَةِ الرَّهْنِ الَّذِي يَصِحُّ عَلَى اعْتِبَارِ وُجُودِهِ فَيُعْطَى لَهُ حُكْمُهُ كَالْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ فَيَضْمَنُهُ.

قَالَ (وَيَصِحُّ الرَّهْنُ بِرَأْسِ مَالِ السَّلَمِ وَبِثَمَنِ الصَّرْفِ وَالْمُسْلَمِ فِيهِ) وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ حُكْمَهُ الِاسْتِيفَاءُ، وَهَذَا اسْتِبْدَالٌ لِعَدَمِ الْمُجَانِسَةِ، وَبَابُ الِاسْتِبْدَالِ فِيهَا مَسْدُودٌ

وَلَنَا أَنَّ الْمُجَانَسَةَ ثَابِتَةٌ فِي الْمَالِيَّةِ فَيَتَحَقَّقُ الِاسْتِيفَاءُ مِنْ حَيْثُ الْمَالُ وَهُوَ الْمَضْمُونُ عَلَى مَا مَرَّ

قَالَ (وَالرَّهْنُ بِالْمَبِيعِ بَاطِلٌ) لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ غَيْرُ مَضْمُونٍ بِنَفْسِهِ (فَإِنْ هَلَكَ ذَهَبَ بِغَيْرِ شَيْءٍ)؛ لِأَنَّهُ اعْتِبَارٌ لِلْبَاطِلِ فَبَقِيَ قَبْضًا بِإِذْنِهِ (وَإِنْ هَلَكَ الرَّهْنُ بِثَمَنِ الصَّرْفِ وَرَأْسِ مَالِ السَّلَمِ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ تَمَّ الصَّرْفُ وَالسَّلَمُ وَصَارَ الْمُرْتَهِنُ مُسْتَوْفِيًا لِدَيْنِهِ حُكْمًا) لِتَحَقُّقِ الْقَبْضِ حُكْمًا (وَإِنْ افْتَرَقَا قَبْلَ هَلَاكِ الرَّهْنِ بَطَلَا) لِفَوَاتِ الْقَبْضِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا (وَإِنْ هَلَكَ الرَّهْنُ بِالْمُسْلَمِ فِيهِ بَطَلَ السَّلَمُ بِهَلَاكِهِ) وَمَعْنَاهُ: أَنَّهُ يَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا لِلْمُسْلَمِ فِيهِ فَلَمْ يَبْقَ السَّلَمُ (وَلَوْ تَفَاسَخَا السَّلَمَ وَبِالْمُسْلَمِ فِيهِ رَهْنٌ يَكُونُ ذَلِكَ رَهْنًا بِرَأْسِ الْمَالِ حَتَّى يَحْبِسَهُ)؛ لِأَنَّهُ بَدَلُهُ

بِصُورَةِ الْمُسَاوَاةِ

فَالْحَقُّ أَنْ يُقَالَ فِي الْبَيَانِ: هَذَا إذَا سَاوَى قِيمَةُ الرَّهْنِ مَا سَمَّى لَهُ مِنْ الْقَرْضِ أَوْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَأَمَّا إذَا كَانَتْ قِيمَةُ الرَّهْنِ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ فَيَهْلَكُ بِقِيمَةِ الرَّهْنِ؛ إذْ قَدْ تَقَرَّرَ فِيمَا مَرَّ أَنَّ الرَّهْنَ مَضْمُونٌ بِالْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ الدَّيْنِ وَلَكِنَّ الْمُصَنِّفَ ذَكَرَ هَا هُنَا قَوْلَهُ حَيْثُ يَهْلِكُ بِمَا سَمَّى لَهُ مِنْ الْقَرْضِ فِي صُورَةِ الْإِطْلَاقِ جَرْيًا عَلَى مَا هُوَ الظَّاهِرُ الْغَالِبُ مِنْ كَوْنِ

ص: 157

فَصَارَ كَالْمَغْصُوبِ إذَا هَلَكَ وَبِهِ رَهْنٌ يَكُونُ رَهْنًا بِقِيمَتِهِ (وَلَوْ هَلَكَ الرَّهْنُ بَعْدَ التَّفَاسُخِ يَهْلِكُ بِالطَّعَامِ الْمُسَلَّمِ فِيهِ)؛ لِأَنَّهُ رَهَنَهُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ مَحْبُوسًا بِغَيْرِهِ كَمَنْ بَاعَ عَبْدًا وَسَلَّمَ الْمَبِيعَ وَأَخَذَ بِالثَّمَنِ رَهْنًا ثُمَّ تَقَايَلَا الْبَيْعَ لَهُ أَنْ يَحْبِسَهُ لِأَخْذِ الْمَبِيعِ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ بَدَلَهُ، وَلَوْ هَلَكَ الْمَرْهُونُ يَهْلِكُ بِالثَّمَنِ لِمَا بَيَّنَّا؛ وَكَذَا لَوْ اشْتَرَى عَبْدًا شِرَاءً فَاسِدًا وَأَدَّى ثَمَنَهُ لَهُ أَنْ يَحْبِسَهُ لِيَسْتَوْفِيَ الثَّمَنَ، ثُمَّ لَوْ هَلَكَ الْمُشْتَرَى فِي يَدِ الْمُشْتَرِي يَهْلِكُ بِقِيمَتِهِ فَكَذَا هَذَا

قَالَ (وَلَا يَجُوزُ رَهْنُ الْحُرِّ وَالْمُدَبَّرِ وَالْمُكَاتَبِ وَأُمِّ الْوَلَدِ)؛ لِأَنَّ حُكْمَ الرَّهْنِ ثُبُوتُ يَدِ الِاسْتِيفَاءِ، وَلَا يَتَحَقَّقُ الِاسْتِيفَاءُ مِنْ هَؤُلَاءِ لِعَدَمِ الْمَالِيَّةِ فِي الْحُرِّ وَقِيَامِ الْمَانِعِ فِي الْبَاقِينَ، (وَلَا يَجُوزُ الرَّهْنُ بِالْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ، وَكَذَا بِالْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ وَمَا دُونَهَا) لِتَعَذُّرِ الِاسْتِيفَاءِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ الْجِنَايَةُ خَطَأً

قِيمَةِ الرَّهْنِ مُسَاوِيَةً لِلدَّيْنِ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ

(قَوْلُهُ وَلَوْ هَلَكَ الْمَرْهُونُ يَهْلِكُ بِالثَّمَنِ لِمَا بَيَّنَّا) قَالَ جُمْهُورُ الشُّرَّاحِ: يُرِيدُ بِهِ قَوْلَهُ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ بَدَلَهُ

أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا بِتَفْسِيرٍ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ كَوْنَ الثَّمَنِ بَدَلَ الْعَبْدِ الْمَبِيعِ لَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ هَلَاكُ الْمَرْهُونِ بِالثَّمَنِ دُونَ الْمَبِيعِ؛

ص: 158

لِأَنَّ اسْتِيفَاءَ الْأَرْشِ مِنْ الرَّهْنِ مُمْكِنٌ

(وَلَا يَجُوزُ الرَّهْنُ بِالشُّفْعَةِ)؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَى الْمُشْتَرِي (وَلَا بِالْعَبْدِ الْجَانِي وَالْعَبْدِ الْمَأْذُونِ وَالْمَدْيُونِ)؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَى الْمَوْلَى، فَإِنَّهُ لَوْ هَلَكَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ (وَلَا بِأُجْرَةِ النَّائِحَةِ وَالْمُغَنِّيَةِ، حَتَّى لَوْ ضَاعَ لَمْ يَكُنْ مَضْمُونًا)؛ لِأَنَّهُ لَا يُقَابِلُهُ شَيْءٌ مَضْمُونٌ

(وَلَا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَرْهَنَ خَمْرًا أَوْ يَرْتَهِنَهُ مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ) لِتَعَذُّرِ الْإِيفَاءِ وَالِاسْتِيفَاءِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ، ثُمَّ الرَّاهِنُ إذَا كَانَ ذِمِّيًّا فَالْخَمْرُ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ لِلذِّمِّيِّ كَمَا إذَا غَصَبَهُ، وَإِنْ كَانَ الْمُرْتَهِنُ ذِمِّيًّا لَمْ يَضْمَنْهَا لِلْمُسْلِمِ كَمَا لَا يَضْمَنُهَا بِالْغَصْبِ مِنْهُ، بِخِلَافِ مَا إذَا جَرَى ذَلِكَ فِيمَا بَيْنَهُمْ؛ لِأَنَّهَا مَالٌ فِي حَقِّهِمْ، أَمَّا الْمَيْتَةُ فَلَيْسَتْ بِمَالٍ عِنْدَهُمْ فَلَا يَجُوزُ رَهْنُهَا وَارْتِهَانُهَا فِيمَا بَيْنَهُمْ، كَمَا لَا يَجُوزُ فِيمَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ بِحَالٍ (وَلَوْ اشْتَرَى عَبْدًا وَرَهَنَ بِثَمَنِهِ عَبْدًا أَوْ خَلًّا أَوْ شَاةً مَذْبُوحَةً ثُمَّ ظَهَرَ الْعَبْدُ حُرًّا أَوْ الْخَلُّ خَمَرًا أَوْ الشَّاةُ مَيْتَةً فَالرَّهْنُ مَضْمُونٌ)؛ لِأَنَّهُ رَهَنَهُ بِدَيْنٍ وَاجِبٍ ظَاهِرًا (وَكَذَا إذَا قَتَلَ عَبْدًا وَرَهَنَ بِقِيمَتِهِ رَهْنًا ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّهُ حُرٌّ) وَهَذَا كُلُّهُ عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ (وَكَذَا إذَا صَالَحَ عَلَى إنْكَارٍ وَرَهَنَ بِمَا صَالَحَ عَلَيْهِ رَهْنًا ثُمَّ تَصَادَقَا أَنْ لَا دَيْنَ فَالرَّهْنُ مَضْمُونٌ) وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ خِلَافُهُ، وَكَذَا قِيَاسُهُ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ جِنْسِهِ.

قَالَ (وَيَجُوزُ لِلْأَبِ أَنْ يَرْهَنَ بِدَيْنٍ عَلَيْهِ عَبْدًا لِابْنِهِ الصَّغِيرِ)؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الْإِيدَاعَ، وَهَذَا أَنْظَرُ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ مِنْهُ؛ لِأَنَّ قِيَامَ الْمُرْتَهِنِ بِحِفْظِهِ أَبْلَغُ خِيفَةَ الْغَرَامَةِ (وَلَوْ هَلَكَ يَهْلِكُ مَضْمُونًا، الْوَدِيعَةُ تَهْلِكُ أَمَانَةً وَالْوَصِيُّ بِمَنْزِلَةِ الْأَبِ) فِي هَذَا

أَلَا يُرَى أَنَّ رَأْسَ الْمَالِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى كَانَ بَدَلَ الطَّعَامِ الْمُسْلَمِ فِيهِ مَعَ أَنَّ هَلَاكَ الرَّهْنِ بَعْدَ التَّفَاسُخِ هُنَاكَ كَانَ بِالْمَبِيعِ دُونَ الثَّمَنِ

وَالصَّوَابُ أَنَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ لِمَا بَيَّنَّا إنَّمَا هُوَ الْإِشَارَةُ إلَى قَوْلِهِ؛ لِأَنَّهُ رَهَنَهُ بِهِ وَإِنْ كَانَ مَحْبُوسًا بِغَيْرِهِ: يَعْنِي أَنَّ هَلَاكَ الْمَرْهُونِ بِمَا هُوَ الْأَصْلُ حِينَ انْعِقَادِ الرَّهْنِ وَإِنْ كَانَ الْمَرْهُونُ مَحْبُوسًا قَبْلَ الْهَلَاكِ بِغَيْرِهِ أَيْضًا لِقِيَامِهِ مَقَامَهُ، وَبِهَذَا يَتِمُّ كَوْنُ الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ

ص: 159

الْبَابِ لِمَا بَيَّنَّا

وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ وَزُفَرَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ مِنْهُمَا، وَهُوَ الْقِيَاسُ اعْتِبَارًا بِحَقِيقَةِ الْإِيفَاءِ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ عَلَى الظَّاهِرِ وَهُوَ الِاسْتِحْسَانُ أَنَّ فِي حَقِيقَةِ الْإِيفَاءِ إزَالَةَ مِلْكِ الصَّغِيرِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ يُقَابِلُهُ فِي الْحَالِ، وَفِي هَذَا نَصْبٌ حَافِظٌ لِمَالِهِ نَاجِزًا مَعَ بَقَاءِ مِلْكِهِ فَوَضَحَ الْفَرْقُ (وَإِذَا جَازَ الرَّهْنُ يَصِيرُ الْمُرْتَهِنُ مُسْتَوْفِيًا دَيْنَهُ لَوْ هَلَكَ فِي يَدِهِ وَيَصِيرُ الْأَبُ) أَوْ الْوَصِيُّ (مُوفِيًا لَهُ وَيَضْمَنُهُ لِلصَّبِيِّ)؛ لِأَنَّهُ قَضَى دَيْنَهُ بِمَالِهِ، وَكَذَا لَوْ سَلَّطَا الْمُرْتَهِنَ عَلَى بَيْعِهِ؛ لِأَنَّهُ تَوْكِيلٌ بِالْبَيْعِ وَهُمَا يَمْلِكَانِهِ

قَالُوا: أَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْبَيْعُ، فَإِنَّ الْأَبَ أَوْ الْوَصِيَّ إذَا بَاعَ مَالَ الصَّبِيِّ مِنْ غَرِيمِ نَفْسِهِ جَازَ وَتَقَعُ الْمُقَاصَّةُ وَيَضْمَنُهُ لِلصَّبِيِّ عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا تَقَعُ الْمُقَاصَّةُ، وَكَذَا وَكِيلُ الْبَائِعِ بِالْبَيْعِ، وَالرَّهْنُ نَظِيرُ الْبَيْعِ نَظَرًا إلَى عَاقِبَتِهِ مِنْ حَيْثُ وُجُوبُ الضَّمَانِ (وَإِذَا رَهَنَ الْأَبُ مَتَاعَ الصَّغِيرِ مِنْ نَفْسِهِ أَوْ مِنْ ابْنٍ لَهُ صَغِيرٍ أَوْ عَبْدٍ لَهُ تَاجِرٍ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ جَازَ)؛ لِأَنَّ الْأَبَ لِوُفُورِ شَفَقَتِهِ أُنْزِلَ مَنْزِلَةَ شَخْصَيْنِ وَأُقِيمَتْ عِبَارَتُهُ مَقَامَ عِبَارَتَيْنِ فِي هَذَا الْعَقْدِ كَمَا فِي بَيْعِهِ مَالَ الصَّغِيرِ مِنْ نَفْسِهِ فَتَوَلَّى طَرَفِي الْعَقْدِ (وَلَوْ ارْتَهَنَهُ الْوَصِيُّ مِنْ نَفْسِهِ أَوْ مِنْ هَذَيْنِ أَوْ رَهْنًا عَيْنًا لَهُ مِنْ الْيَتِيمِ بِحَقٍّ لِلْيَتِيمِ عَلَيْهِ لَمْ يَجُزْ)؛ لِأَنَّهُ وَكِيلٌ مَحْضٌ، وَالْوَاحِدُ لَا يَتَوَلَّى طَرَفَيْ الْعَقْدِ فِي الرَّهْنِ كَمَا لَا يَتَوَلَّاهُمَا فِي الْبَيْعِ، وَهُوَ قَاصِرُ الشَّفَقَةِ فَلَا يَعْدِلُ عَنْ الْحَقِيقَةِ فِي حَقِّهِ إلْحَاقًا لَهُ بِالْأَبِ، وَالرَّهْنِ مِنْ ابْنِهِ الصَّغِيرِ

نَظِيرًا لِلْمَسْأَلَةِ الْأُولَى تَأَمَّلْ تَفْهَمْ

(قَوْلُهُ وَكَذَلِكَ لَوْ سَلَّطَا الْمُرْتَهِنَ عَلَى بَيْعِهِ) قَالَ صَاحِبُ الْغَايَةِ؛ أَيْ كَمَا أَنَّ الْأَبَ وَالْوَصِيَّ يَضْمَنَانِ لِلصَّبِيِّ إذَا هَلَكَ عَبْدُهُ الَّذِي رَهْنَاهُ عِنْدَ الْمُرْتَهِنِ فَكَذَلِكَ يَضْمَنَانِ إذَا سَلَّطَا الْمُرْتَهِنَ عَلَى بَيْعِهِ فَبَاعَهُ انْتَهَى

أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا بِشَرْحٍ صَحِيحٍ، إذْ يَأْبَى عَنْهُ جِدًّا قَوْلُ الْمُصَنِّفِ فِي التَّعْلِيلِ؛ لِأَنَّهُ تَوْكِيلٌ بِالْبَيْعِ وَهُمَا يَمْلِكَانِهِ

وَالصَّوَابُ أَنَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ هَا هُنَا هُوَ أَنَّ الْأَبَ وَالْوَصِيَّ كَمَا يَجُوزُ لَهُمَا أَنْ يَرْهَنَا بِدَيْنٍ عَلَيْهِمَا عَبْدًا لِلصَّغِيرِ كَذَلِكَ يَجُوزُ لَهُمَا أَنْ يُسَلِّطَا الْمُرْتَهِنَ عَلَى بَيْعِ ذَلِكَ الْعَبْدِ، فَحِينَئِذٍ يَنْتَظِمُ التَّعْلِيلُ الْمَذْكُورُ وَيَظْهَرُ وَجْهُ تَرْكِ الْمُصَنِّفِ قَيْدَ فَبَاعَهُ بَعْدَ قَوْلِهِ وَكَذَلِكَ لَوْ سَلَّطَا الْمُرْتَهِنَ عَلَى بَيْعِهِ، إذْ لَوْ كَانَ مُرَادُهُ مَا زَعَمَهُ الشَّارِحُ الْمَزْبُورُ لَكَانَ ذِكْرُ ذَلِكَ الْقَيْدِ مِمَّا لَا بُدَّ مِنْهُ، بَلْ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَزِيدَ عَلَى ذَلِكَ الْقَيْدِ شَيْئًا آخَرَ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ وَأَخَذَ ثَمَنَهُ لِنَفْسِهِ بَدَلَ دَيْنِهِ عَلَى الرَّاهِنِ، إذْ لَوْ جَعَلَ ثَمَنَهُ رَهْنًا مَوْضِعَ عَيْنِهِ وَلَمْ يُتْلِفْهُ لَا يَضْمَنَانِ شَيْئًا لِلصَّبِيِّ؛ لِأَنَّهُمَا يَمْلِكَانِ رَهْنَ مَالِ الصَّبِيِّ بِدَيْنٍ عَلَيْهِمَا وَيَمْلِكَانِ التَّوْكِيلَ بِبَيْعِ مَالِهِ، فَمِنْ أَيْنَ يَلْزَمُهُمَا الضَّمَانُ بِمُجَرَّدِ تَسْلِيطِهِمَا الْمُرْتَهِنَ عَلَى بَيْعِهِ، وَبَيْعُ الْمُرْتَهِنِ إيَّاهُ إذَا لَمْ يُتْلِفْ الْمُرْتَهِنُ ثَمَنَهُ بَلْ حَفِظَهُ بَدَلَ الْمَبِيعِ (قَوْلُهُ: وَهُوَ قَاصِرُ الشَّفَقَةِ فَلَا يَعْدِلُ عَنْ الْحَقِيقَةِ فِي حَقِّهِ إلْحَاقًا لَهُ بِالْأَبِ) قُلْت: قَوْلُهُ إلْحَاقًا لَهُ بِالْأَبِ

ص: 160

وَعَبْدِهِ التَّاجِرِ الَّذِي لَيْسَ عَلَيْهِ دَيْنٌ بِمَنْزِلَةِ الرَّهْنِ مِنْ نَفْسِهِ، بِخِلَافِ ابْنِهِ الْكَبِيرِ وَأَبِيهِ وَعَبْدِهِ الَّذِي عَلَيْهِ دَيْنٌ؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِمْ، بِخِلَافِ الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ إذَا بَاعَ مِنْ هَؤُلَاءِ؛ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ فِيهِ وَلَا تُهْمَةَ فِي الرَّهْنِ؛ لِأَنَّ لَهُ حُكْمًا وَاحِدًا.

(وَإِنْ اسْتَدَانَ الْوَصِيُّ لِلْيَتِيمِ فِي كِسْوَتِهِ وَطَعَامِهِ فَرَهَنَ بِهِ مَتَاعًا لِلْيَتِيمِ جَازَ)؛ لِأَنَّ الِاسْتِدَانَةَ جَائِزَةٌ لِلْحَاجَةِ وَالرَّهْنُ يَقَعُ إيفَاءً لِلْحَقِّ فَيَجُوزُ (وَكَذَلِكَ لَوْ اتَّجَرَ لِلْيَتِيمِ فَارْتَهَنَ أَوْ رَهَنَ)؛ لِأَنَّ الْأَوْلَى لَهُ التِّجَارَةُ تَثْمِيرًا لِمَالِ الْيَتِيمِ فَلَا يَجِدُ بُدًّا مِنْ الِارْتِهَانِ وَالرَّهْنِ؛ لِأَنَّهُ إيفَاءٌ وَاسْتِيفَاءٌ (وَإِذَا رَهَنَ الْأَبُ مَتَاعَ الصَّغِيرِ فَأَدْرَكَ الِابْنُ وَمَاتَ الْأَبُ لَيْسَ لِلِابْنِ أَنْ يَرُدَّهُ حَتَّى يَقْضِيَ الدَّيْنَ) لِوُقُوعِهِ لَازِمًا مِنْ جَانِبِهِ؛ إذْ تَصَرُّفُ الْأَبِ بِمَنْزِلَةِ تَصَرُّفِهِ بِنَفْسِهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ لِقِيَامِهِ مَقَامَهُ (وَلَوْ كَانَ الْأَبُ رَهَنَهُ لِنَفْسِهِ فَقَضَاهُ الِابْنُ رَجَعَ بِهِ فِي مَالِ الْأَبِ)؛ لِأَنَّهُ مُضْطَرٌّ فِيهِ لِحَاجَتِهِ إلَى إحْيَاءِ مِلْكِهِ فَأَشْبَهَ مُعِيرَ الرَّهْنِ (وَكَذَا إذَا هَلَكَ قَبْلَ أَنْ يَفْتَكَّهُ)؛ لِأَنَّ الْأَبَ يَصِيرُ قَاضِيًا دَيْنَهُ بِمَالِهِ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ (وَلَوْ رَهَنَهُ بِدَيْنٍ عَلَى نَفْسِهِ وَبِدَيْنٍ عَلَى الصَّغِيرِ جَازَ) لِاشْتِمَالِهِ عَلَى أَمْرَيْنِ جَائِزَيْنِ (فَإِنْ هَلَكَ ضَمِنَ الْأَبُ حِصَّتَهُ مِنْ ذَلِكَ لِلْوَلَدِ) لِإِيفَائِهِ دَيْنَهُ مِنْ مَالِهِ بِهَذَا الْمِقْدَارِ، وَكَذَلِكَ الْوَصِيُّ، وَكَذَلِكَ الْجَدُّ أَبُ الْأَبِ إذَا لَمْ يَكُنْ الْأَبُ أَوْ وَصِيُّ الْأَبِ (وَلَوْ رَهَنَ الْوَصِيُّ مَتَاعًا لِلْيَتِيمِ فِي دَيْنٍ اسْتَدَانَهُ عَلَيْهِ وَقَبَضَ الْمُرْتَهِنُ ثُمَّ اسْتَعَارَهُ الْوَصِيُّ لِحَاجَةِ الْيَتِيمِ فَضَاعَ فِي يَدِ الْوَصِيِّ فَإِنَّهُ خَرَجَ مِنْ الرَّهْنِ وَهَلَكَ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ)؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْوَصِيِّ

عَادَ لِلْمَنْفِيِّ دُونَ النَّفْيِ تَأَمَّلْ تَقِفْ (قَوْلُهُ وَلَوْ رَهَنَهُ بِدَيْنٍ عَلَى نَفْسِهِ وَبِدَيْنٍ عَلَى الصَّغِيرِ جَازَ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى أَمْرَيْنِ جَائِزَيْنِ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: يُرِيدُ بِهِ رَهْنَ الْأَبِ وَالْوَصِيِّ مَتَاعَ الصَّغِيرِ لِدَيْنٍ عَلَى نَفْسِهِ، وَرَهْنَهُمَا ذَلِكَ لِدَيْنٍ عَلَى الصَّغِيرِ، وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى رَأْيُ جُمْهُورِ الشُّرَّاحِ هَا هُنَا

أَقُولُ: فِيهِ بُعْدٌ عَمَّا يَتَحَمَّلُهُ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ، فَإِنَّ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِيمَا قَبْلُ إنَّمَا هُوَ رَهْنُ الْأَبِ مَتَاعَ الصَّغِيرِ لِدَيْنٍ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ لِدَيْنٍ عَلَى الصَّغِيرِ دُونَ رَهْنِ الْوَصِيِّ إيَّاهُ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: وَلَوْ رَهَنَهُ بِدَيْنٍ عَلَى نَفْسِهِ وَبِدَيْنٍ عَلَى الصَّغِيرِ رَاجِعٌ إلَى الْأَبِ فَقَطْ، فَدَرْجُ رَهْنِ الْوَصِيِّ أَيْضًا فِي بَيَانِ مُرَادِ الْمُصَنِّفِ هَا هُنَا لَا يُنَاسَبُ سِيَاقَ كَلَامِهِ

وَأَيْضًا قَالَ الْمُصَنِّفُ فِيمَا بَعْدُ: وَكَذَلِكَ الْوَصِيُّ وَكَذَلِكَ الْجَدُّ أَبٌ الْأَبِ إذَا لَمْ يَكُنْ الْأَبُ أَوْ وَصِيُّ الْأَبِ

وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا الْعَطْفَ وَالتَّشْبِيهَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَلَوْ رَهَنَهُ بِدَيْنٍ عَلَى نَفْسِهِ وَبِدَيْنٍ عَلَى الصَّغِيرِ مَخْصُوصًا بِالْأَبِ، فَدَرْجُ الْوَصِيِّ فِي مَضْمُونِهِ لَا يُنَاسِبُ لَحَاقَ كَلَامِهِ

فَالْحَقُّ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ حَيْثُ قَالَ: أَرَادَ بِهِمَا رَهْنَ الْأَبِ مَتَاعَ الصَّغِيرِ بِدَيْنِ نَفْسِهِ وَبِدَيْنٍ عَلَى الصَّغِيرِ انْتَهَى

ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي بَيَانِ وَجْهِ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى أَمْرَيْنِ جَائِزَيْنِ: وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا مَلَكَ أَنْ يَرْهَنَ بِدَيْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ مَلَكَ بِدِينِهِمَا؛ لِأَنَّ كُلَّ مَا جَازَ أَنْ يَثْبُتَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْمُرَكَّبِ جَازَ أَنْ يَثْبُتَ لِلْكُلِّ دُونَ الْعَكْسِ انْتَهَى

أَقُولُ: فِي هَذِهِ الْكُلِّيَّةِ مَنْعٌ ظَاهِرٌ؛ أَلَا يُرَى أَنَّ إنْسَانًا أَوْ فَرَسًا يُطِيقُ تَحَمُّلَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْبَيْتِ الْمُرَكَّبِ مِنْ الْأَحْجَارِ وَالْأَشْجَارِ مَثَلًا وَلَا يُطِيقُ تَحَمُّلَ الْكُلِّ قَطْعًا، وَأَنَّ رَجُلًا شُجَاعًا يُطِيقُ مُقَابَلَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ آحَادِ الْعَسْكَرِ عَلَى الِانْفِرَادِ

ص: 161

كَفِعْلِهِ بِنَفْسِهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَعَارَهُ لِحَاجَةِ الصَّبِيِّ

وَالْحُكْمُ فِيهِ هَذَا عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى (وَالْمَالُ دَيْنٌ عَلَى الْوَصِيِّ) مَعْنَاهُ هُوَ الْمُطَالَبُ بِهِ (ثُمَّ يَرْجِعُ بِذَلِكَ عَلَى الصَّبِيِّ)؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فِي هَذِهِ الِاسْتِعَارَةِ؛ إذْ هِيَ لِحَاجَةِ الصَّبِيِّ (وَلَوْ اسْتَعَارَهُ لِحَاجَةِ نَفْسِهِ ضَمِنَهُ لِلصَّبِيِّ)؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ؛ إذْ لَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ الِاسْتِعْمَالِ فِي حَاجَةِ نَفْسِهِ (وَلَوْ غَصَبَهُ الْوَصِيُّ بَعْدَ مَا رَهَنَهُ فَاسْتَعْمَلَهُ لِحَاجَةِ نَفْسِهِ حَتَّى هَلَكَ عِنْدَهُ فَالْوَصِيُّ ضَامِنٌ لِقِيمَتِهِ)؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِي حَقِّ الْمُرْتَهِنِ بِالْغَصْبِ وَالِاسْتِعْمَالِ، وَفِي حَقِّ الصَّبِيِّ بِالِاسْتِعْمَالِ فِي حَاجَةِ نَفْسِهِ، فَيُقْضَى بِهِ الدَّيْنُ إنْ كَانَ قَدْ حَلَّ (فَإِنْ كَانَ قِيمَتُهُ مِثْلَ الدَّيْنِ أَدَّاهُ إلَى الْمُرْتَهِنِ وَلَا يَرْجِعُ عَلَى الْيَتِيمِ)؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ لِلْيَتِيمِ عَلَيْهِ مِثْلُ مَا وَجَبَ لَهُ عَلَى الْيَتِيمِ فَالْتَقَيَا قِصَاصًا (وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَقَلَّ) مِنْ الدَّيْنِ (أَدَّى قَدْرَ الْقِيمَةِ إلَى الْمُرْتَهِنِ وَأَدَّى الزِّيَادَةَ مِنْ مَال الْيَتِيمِ)؛ لِأَنَّ الْمَضْمُونَ عَلَيْهِ قَدْرُ الْقِيمَةِ لَا غَيْرَ (وَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الرَّهْنِ أَكْثَرَ مِنْ الدَّيْنِ أَدَّى قَدْرَ الدَّيْنِ مِنْ الْقِيمَةِ إلَى الْمُرْتَهِنِ، وَالْفَضْلُ لِلْيَتِيمِ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَحِلَّ الدَّيْنُ فَالْقِيمَةُ رَهْنٌ)؛ لِأَنَّهُ ضَامِنٌ لِلْمُرْتَهِنِ بِتَفْوِيتِ حَقِّهِ الْمُحْتَرَمِ فَتَكُونُ رَهْنًا عِنْدَهُ، ثُمَّ إذَا حَلَّ الْأَجَلُ كَانَ الْجَوَابُ عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي فَصَّلْنَاهُ (وَلَوْ أَنَّهُ غَصَبَهُ وَاسْتَعْمَلَهُ لِحَاجَةِ الصَّغِيرِ حَتَّى هَلَكَ فِي يَدِهِ يَضْمَنُهُ لِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ، وَلَا يَضْمَنُهُ لِحَقِّ الصَّغِيرِ)؛ لِأَنَّ اسْتِعْمَالَهُ لِحَاجَةِ الصَّغِيرِ لَيْسَ بِتَعَدٍّ، وَكَذَا الْأَخْذُ؛ لِأَنَّ لَهُ وِلَايَةَ أَخْذِ مَالِ الْيَتِيمِ، وَلِهَذَا قَالَ فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ: إذَا أَقَرَّ الْأَبُ أَوْ الْوَصِيُّ بِغَصْبِ مَالِ الصَّغِيرِ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ غَصْبُهُ لِمَا أَنَّ لَهُ وِلَايَةَ الْأَخْذِ، فَإِذَا هَلَكَ فِي يَدِهِ يَضْمَنُهُ لِلْمُرْتَهِنِ

وَلَا يُطِيقُ مُقَابَلَةَ مَجْمُوعِ الْعَسْكَرِ مَعًا، وَهَذَا فِي الْأُمُورِ الْخَارِجِيَّةِ

وَأَمَّا فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ فَكَمَا أَنَّهُ يَجُوزُ لِرَجُلٍ أَنْ يُجَامِعَ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْأُخْتَيْنِ مُنْفَرِدَةً عَنْ الْأُخْرَى بِمِلْكِ نِكَاحٍ أَوْ بِمُلْكِ يَمِينٍ وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَجْمَعَهُمَا مَعًا فِي الْجِمَاعِ بِشَيْءٍ مِنْ ذَيْنِك السَّبَبَيْنِ، وَلَعَلَّ سَائِرَ الشُّرَّاحِ وَصَاحِبَ الْكَافِي تَنَبَّهُوا لِعَدَمِ صِحَّةِ الْكُلِّيَّةِ فَقَالُوا فِي الْبَيَانِ وَالتَّعْلِيلِ: وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا مَلَكَ أَنْ يَرْهَنَ بِدَيْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ فَكَذَلِكَ بِدَيْنِهِمَا وَلَمْ يَزِيدُوا عَلَى هَذَا الْمِقْدَارِ شَيْئًا

لَكِنْ لَا يَخْفَى عَلَى الْفَطِنِ الْمُتَأَمِّلِ أَنَّ تَعْلِيلَهُمْ الْمَذْكُورَ بِدُونِ تِلْكَ الْكُلِّيَّةِ لَا يُفِيدُ الشِّفَاءَ فِي إثْبَاتِ الْمُدَّعَى هُنَا

ثُمَّ إنَّ بَعْضَ الْفُضَلَاءِ لَمَّا تَنَبَّهَ لِاخْتِلَالِ الْكُلِّيَّةِ الْوَاقِعَةِ فِي كَلَامِ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ قَصَدَ الْإِصْلَاحَ حَيْثُ قَيَّدَ قَوْلَهُ: لِأَنَّ كُلَّ مَا أَجَازَ أَنْ يَثْبُتَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْمُرَكَّبِ جَازَ أَنْ يَثْبُتَ لِلْكُلِّ بِأَنْ قَالَ: إذَا لَمْ يَمْنَعْ مَانِعٌ كَمَا فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ وَسَائِرِ مَا لَا يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا

أَقُولُ: هَذَا التَّقْيِيدُ يُخِلُّ بِالْمَقَامِ، أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ التَّعْلِيلَ الْمَذْكُورَ لَا يَتِمُّ إثْبَاتًا لِلْمُدَّعَى حِينَئِذٍ، فَإِنَّ عَدَمَ تَحَقُّقِ الْمَانِعِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ أَوَّلَ الْمَسْأَلَةَ؛ إذْ لَوْ كَانَ بَيِّنًا فِي نَفْسِهِ لَمَا اُحْتِيجَ إلَى ذِكْرِ جَوَازِ رَهْنِ الْأَبِ مَتَاعَ الصَّغِيرِ بِدَيْنٍ عَلَى نَفْسِهِ وَبِدَيْنٍ عَلَى الصَّغِيرِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ فِيمَا قَبْلُ جَوَازَ رَهْنِهِ إيَّاهُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا

وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّهُ لَا يَتِمُّ حِينَئِذٍ قَوْلُ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ دُونَ الْعَكْسِ، فَإِنَّ مَا يَثْبُتُ لِلْكُلِّ يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ لِلْجُزْءِ إذَا لَمْ يَمْنَعْ عَنْهُ مَانِعٌ سِيَّمَا فِي الْأُمُورِ الْهَيِّنَةِ (قَوْلُهُ وَلِهَذَا قَالَ فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ: إذَا أَقَرَّ الْأَبُ أَوْ الْوَصِيُّ بِغَصْبِ مَالِ الصَّغِيرِ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ غَصْبُهُ لِمَا أَنَّ لَهُ وِلَايَةَ الْأَخْذِ) وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ حَيْثُ قَالَ: لِمَ لَا يَكُونُ إقْرَارًا بِالِاسْتِعْمَالِ فِي حَاجَتِهِ فَإِنَّهُ مُتَعَدٍّ فِيهِ

ص: 162

يَأْخُذُهُ بِدَيْنِهِ إنْ كَانَ قَدْ حَلَّ، وَيَرْجِعُ الْوَصِيُّ عَلَى الصَّغِيرِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُتَعَدٍّ بَلْ هُوَ عَامِلٌ لَهُ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَحِلَّ يَكُونُ رَهْنًا عِنْدَ الْمُرْتَهِنِ، ثُمَّ إذَا حَلَّ الدَّيْنُ يَأْخُذُ دَيْنَهُ مِنْهُ وَيَرْجِعُ الْوَصِيُّ عَلَى الصَّبِيِّ بِذَلِكَ لِمَا ذَكَرْنَا

قَالَ (وَيَجُوزُ رَهْنُ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ)؛ لِأَنَّهُ يَتَحَقَّقُ الِاسْتِيفَاءُ مِنْهُ فَكَانَ مَحَلًّا لِلرَّهْنِ (فَإِنْ رُهِنَتْ بِجِنْسِهَا فَهَلَكَتْ هَلَكَتْ بِمِثْلِهَا مِنْ الدَّيْنِ وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الْجَوْدَةِ)؛ لِأَنَّهُ لَا مُعْتَبَرَ بِالْجَوْدَةِ عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ بِجِنْسِهَا، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ يَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا بِاعْتِبَارِ الْوَزْنِ دُونَ الْقِيمَةِ، وَعِنْدَهُمَا يَضْمَنُ الْقِيمَةَ مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ وَيَكُونُ رَهْنًا مَكَانَهُ (وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: فَإِنْ رَهَنَ إبْرِيقَ فِضَّةٍ وَزْنُهُ عَشَرَةٌ بِعَشَرَةٍ فَضَاعَ فَهُوَ بِمَا فِيهِ) قَالَ رضي الله عنه: مَعْنَاهُ أَنْ تَكُونَ قِيمَتُهُ مِثْلَ وَزْنِهِ أَوْ أَكْثَرَ

هَذَا الْجَوَابُ فِي الْوَجْهَيْنِ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِيفَاءَ عِنْدَهُ بِاعْتِبَارِ الْوَزْنِ وَعِنْدَهُمَا بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ، وَهِيَ مِثْلُ الدَّيْنِ فِي الْأَوَّلِ وَزِيَادَةٌ عَلَيْهِ فِي الثَّانِي فَيَصِيرُ بِقَدْرِ الدَّيْنِ مُسْتَوْفِيًا (فَإِنْ كَانَ قِيمَتُهُ أَقَلَّ مِنْ الدَّيْنِ فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ) الْمَذْكُورِ

لَهُمَا أَنَّهُ لَا وَجْهَ إلَى الِاسْتِيفَاءِ بِالْوَزْنِ لِمَا فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ بِالْمُرْتَهِنِ، وَلَا إلَى اعْتِبَارِ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى الرِّبَا فَصِرْنَا إلَى التَّضْمِينِ، بِخِلَافِ الْجِنْسِ لِيَنْتَقِضَ الْقَبْضُ وَيُجْعَلَ مَكَانَهُ ثُمَّ يَتَمَلَّكَهُ

وَلَهُ أَنَّ الْجَوْدَةَ سَاقِطَةُ الْعِبْرَةِ فِي الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ بِجِنْسِهَا، وَاسْتِيفَاءُ الْجَيِّدِ بِالرَّدِيءِ جَائِزٌ كَمَا إذَا تَجَوَّزَ بِهِ وَقَدْ حَصَلَ الِاسْتِيفَاءُ بِالْإِجْمَاعِ وَلِهَذَا يُحْتَاجُ إلَى نَقْضِهِ، وَلَا يُمْكِنُ نَقْضُهُ بِإِيجَابِ

وَلِهَذَا يَضْمَنُهُ انْتَهَى

أَقُولُ: لَيْسَ ذَاكَ بِشَيْءٍ فَإِنَّ الِاسْتِعْمَالَ فِي حَاجَةِ نَفْسِهِ لَيْسَ بِدَاخِلٍ فِي حَقِيقَةِ الْغَصْبِ وَلَا أَمْرٍ لَازِمٍ لَهُ؛ إذْ الْغَصْبُ فِي اللُّغَةِ أَخْذُ الشَّيْءِ مِنْ الْغَيْرِ عَلَى سَبِيلِ التَّغَلُّبِ

وَفِي الشَّرِيعَةِ أَخْذُ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ مُحْتَرَمٍ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَالِكِ عَلَى وَجْهٍ يُزِيلُ يَدَهُ

كَمَا مَرَّ ذَلِكَ كُلُّهُ فِي صَدْرِ كِتَابِ الْغَصْبِ، وَلَا شَكَّ فِي عَدَمِ دُخُولِ الِاسْتِعْمَالِ فِي حَاجَةِ نَفْسِهِ فِي شَيْءٍ مِنْ مَعْنَى الْغَصْبِ وَلَا فِي عَدَمِ لُزُومِهِ لِشَيْءٍ مِنْهُمَا فَكَيْفَ يَكُونُ الْإِقْرَارُ بِالْغَصْبِ إقْرَارًا بِالِاسْتِعْمَالِ فِي حَاجَتِهِ

(قَوْلُهُ وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: فَإِنْ رَهَنَ إبْرِيقَ فِضَّةٍ وَزْنُهُ عَشَرَةً بِعَشَرَةٍ فَضَاعَ فَهُوَ بِمَا فِيهِ) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ: وَأَتَى بِرِوَايَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِاحْتِيَاجِهَا إلَى تَفْصِيلِ

ص: 163

الضَّمَانِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدَ لَهُ مِنْ مُطَالِبٍ وَمُطَالَبٍ، وَكَذَا الْإِنْسَانُ لَا يَضْمَنُ مِلْكَ نَفْسِهِ وَبِتَعَذُّرِ التَّضْمِينِ يَتَعَذَّرُ النَّقْضُ، وَقِيلَ: هَذِهِ فُرَيْعَةُ مَا إذَا اسْتَوْفَى الزُّيُوفَ مَكَانَ الْجِيَادِ فَهَلَكَتْ ثُمَّ عَلِمَ بِالزِّيَافَةِ يُمْنَعُ الِاسْتِيفَاءُ وَهُوَ مَعْرُوفٌ، غَيْرَ أَنَّ الْبِنَاءَ لَا يَصِحُّ مَا هُوَ الْمَشْهُورُ؛ لِأَنَّ مُحَمَّدًا فِيهَا مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ وَفِي هَذَا مَعَ أَبِي يُوسُفَ

وَالْفَرْقُ لِمُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَبَضَ الزُّيُوفَ لِيَسْتَوْفِيَ مِنْ عَيْنِهَا، وَالزِّيَافَةُ لَا تَمْنَعُ الِاسْتِيفَاءَ، وَقَدْ تَمَّ بِالْهَلَاكِ وَقَبْضِ الرَّهْنِ لِيَسْتَوْفِيَ مِنْ مَحَلٍّ آخَرَ فَلَا بُدَّ مِنْ نَقْضِ الْقَبْضِ، وَقَدْ أَمْكَنَ عِنْدَهُ بِالتَّضْمِينِ، وَلَوْ انْكَسَرَ الْإِبْرِيقُ فَفِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَهُوَ مَا إذَا كَانَتْ

مَا ذَكَرَهُ انْتَهَى

وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ طَعْنًا فِيهِ: لَا يَخْفَى أَنَّ رِوَايَةَ الْقُدُورِيِّ أَيْضًا مُحْتَاجَةٌ إلَى التَّفْصِيلِ انْتَهَى

أَقُولُ: هَذَا كَلَامٌ لَغْوٌ؛ إذْ لَا يَخْفَى أَنَّ رِوَايَةَ الْقُدُورِيِّ لَيْسَتْ مُحْتَاجَةً إلَى تَفْصِيلٍ كَثِيرٍ مِثْلَ مَا تَحْتَاجُ إلَيْهِ رِوَايَةُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، وَلَيْسَ مُرَادُ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ أَنَّ رِوَايَةَ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ مُحْتَاجَةٌ إلَى تَفْصِيلٍ مَا حَتَّى يُقَالَ: إنَّ رِوَايَةَ الْقُدُورِيِّ أَيْضًا مُحْتَاجَةٌ إلَى ذَلِكَ، بَلْ مُرَادُهُ أَنَّ رِوَايَةَ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ مُحْتَاجَةٌ إلَى تَفْصِيلٍ كَثِيرٍ زَائِدٍ عَلَى مَا احْتَاجَ إلَيْهِ رِوَايَةُ الْقُدُورِيِّ كَمَا أَتَمَّهُ الْمُصَنِّفُ فِي مِقْدَارِ تَمَامِ جَانِبَيْ الْوَرَقَةِ

وَقَدْ أَشَارَ إلَيْهِ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بِقَوْلِهِ: إلَى تَفْصِيلِ ذِكْرِهِ فَلَغَا مَا قَالَهُ ذَلِكَ الْبَعْضُ كَمَا لَا يَخْفَى (قَوْلُهُ وَالْفَرْقُ لِمُحَمَّدٍ رحمه الله) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: أَيْ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ بِنَاءً عَلَى تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ

وَاقْتَفَى أَثَرَهُ فِي هَذَا التَّفْسِيرِ جَمَاعَةٌ مِنْ الشُّرَّاحِ مِنْهُمْ

ص: 164

قِيمَتُهُ مِثْلَ وَزْنِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ لَا يُجْبَرُ عَلَى الْفِكَاكِ؛ لِأَنَّهُ لَا وَجْهَ إلَى أَنْ يَذْهَبَ شَيْءٌ مِنْ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ قَاضِيًا دَيْنَهُ بِالْجَوْدَةِ عَلَى الِانْفِرَاد، وَلَا إلَى أَنْ يَفْتَكَّهُ مَعَ النُّقْصَانِ لِمَا فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ فَخَيَّرْنَاهُ، إنْ شَاءَ افْتَكَّهُ بِمَا فِيهِ وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ مِنْ جِنْسِهِ أَوْ خِلَافِ جِنْسِهِ، وَتَكُونُ رَهْنًا عِنْدَ الْمُرْتَهِنِ، وَالْمَكْسُورُ لِلْمُرْتَهِنِ بِالضَّمَانِ

وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ إنْ شَاءَ افْتَكَّهُ نَاقِصًا، وَإِنْ شَاءَ جَعَلَهُ بِالدَّيْنِ اعْتِبَارًا لِحَالَةِ الِانْكِسَارِ بِحَالَةِ الْهَلَاكِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا تَعَذَّرَ الْفِكَاكُ مَجَّانًا صَارَ بِمَنْزِلَةِ الْهَلَاكِ، وَفِي الْهَلَاكِ الْحَقِيقِيِّ مَضْمُونٌ بِالدَّيْنِ بِالْإِجْمَاعِ فَكَذَا فِيمَا هُوَ فِي مَعْنَاهُ

قُلْنَا: الِاسْتِيفَاءُ عِنْدَ الْهَلَاكِ بِالْمَالِيَّةِ، وَطَرِيقُهُ أَنْ يَكُونَ مَضْمُونًا بِالْقِيمَةِ ثُمَّ تَقَعُ الْمُقَاصَّةُ، وَفِي جَعْلِهِ بِالدَّيْنِ إغْلَاقُ الرَّهْنِ وَهُوَ حُكْمٌ جَاهِلِيٌّ فَكَانَ التَّضْمِينُ بِالْقِيمَةِ أَوْلَى

وَفِي الْوَجْهِ الثَّالِثِ وَهُوَ مَا إذَا كَانَتْ قِيمَتُهُ أَقَلَّ مِنْ وَزْنِهِ ثَمَانِيَةً يَضْمَنُ قِيمَتَهُ جَيِّدًا مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ أَوْ رَدِيئًا مِنْ جِنْسِهِ وَتَكُونُ رَهْنًا عِنْدَهُ، وَهَذَا بِالِاتِّفَاقِ

صَاحِبُ الْعِنَايَةِ

أَقُولُ: لَمْ أَدْرِ كَيْفَ ذَهَبُوا إلَى هَذَا الشَّرْحِ مَعَ ظُهُورِ بُطْلَانِهِ؛ إذْ قَدْ صَرَّحَ الْمُصَنِّفُ بِأَنَّ بِنَاءَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ لَا يَصِحُّ عَلَى الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ؛ لِأَنَّ مُحَمَّدًا فِيهَا مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَعَ أَبِي يُوسُفَ

وَذَكَرَ الشُّرَّاحُ أَنَّ بِنَاءَ هَذِهِ عَلَى تِلْكَ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ عَلَى مَا رَوَى عِيسَى بْنُ أَبَانَ أَنَّ مُحَمَّدًا مَعَ أَبِي يُوسُفَ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ

وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْفَرْقَ لِمُحَمَّدٍ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ عَلَى الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ دُونَ رِوَايَةِ عِيسَى بْنِ أَبَانَ فِيهَا، فَإِنَّ قَوْلَ مُحَمَّدٍ وَاحِدٌ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ عَلَى رِوَايَتِهِ، فَالْفَرْقُ لِمُحَمَّدٍ يُنَافِي الْبِنَاءَ قَطْعًا

وَالصَّوَابُ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَحَلِّ أَنْ يُقَالَ: أَيْ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ لَا تَكُونَ هَذِهِ

ص: 165

أَمَّا عِنْدَهُمَا فَظَاهِرٌ

وَكَذَلِكَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّهُ يَعْتَبِرُ حَالَةَ الِانْكِسَارِ بِحَالَةِ الْهَلَاكِ، وَالْهَلَاكُ عِنْدَهُ بِالْقِيمَةِ

وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي وَهُوَ مَا إذَا كَانَتْ قِيمَتُهُ أَكْثَرَ مِنْ وَزْنِهِ اثْنَيْ عَشَرَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَضْمَنُ جَمِيعَ قِيمَتِهِ وَتَكُونُ رَهْنًا عِنْدَهُ؛ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ لِلْوَزْنِ عِنْدَهُ لَا لِلْجَوْدَةِ وَالرَّدَاءَةِ

فَإِنْ كَانَ بِاعْتِبَارِ الْوَزْنِ كُلِّهِ مَضْمُونًا يُجْعَلُ كُلُّهُ مَضْمُونًا، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُ فَبَعْضُهُ، وَهَذَا لِأَنَّ الْجَوْدَةَ تَابِعَةٌ لِلذَّاتِ، وَمَتَى صَارَ الْأَصْلُ مَضْمُونًا اسْتَحَالَ أَنْ يَكُونَ التَّابِعُ أَمَانَةً

وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَضْمَنُ خَمْسَةَ أَسْدَاسِ قِيمَتِهِ، وَيَكُونُ خَمْسَةُ أَسْدَاسِ الْإِبْرِيقِ لَهُ بِالضَّمَانِ وَسُدُسُهُ يُفْرَزُ حَتَّى لَا يَبْقَى الرَّهْنُ شَائِعًا، وَيَكُونُ مَعَ قِيمَتِهِ خَمْسَةُ أَسْدَاسِ الْمَكْسُورِ رَهْنًا؛ فَعِنْدَهُ تُعْتَبَرُ الْجَوْدَةُ وَالرَّدَاءَةُ، وَتُجْعَلُ زِيَادَةُ الْقِيمَةِ كَزِيَادَةِ الْوَزْنِ كَأَنَّ وَزْنَهُ اثْنَا عَشَرَ، وَهَذَا لِأَنَّ الْجَوْدَةَ مُتَقَوِّمَةٌ فِي ذَاتِهَا حَتَّى تُعْتَبَرَ عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ، بِخِلَافِ جِنْسِهَا، وَفِي تَصَرُّفِ الْمَرِيضِ، وَإِنْ كَانَتْ لَا تُعْتَبَرُ عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ بِجِنْسِهَا سَمْعًا فَأَمْكَنَ اعْتِبَارُهَا، وَفِي بَيَانِ

الْمَسْأَلَةُ بِنَاءً عَلَى تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ فِيهَا، بَلْ كَانَتْ مَسْأَلَةً مُبْتَدَأَةً كَمَا هُوَ الْأَصَحُّ كَمَا ذَكَرَهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ فِي مَبْسُوطِهِ وَنَقَلَ عَنْهُ عَامَّةُ الشُّرَّاحِ هَا هُنَا

وَيُفْصِحُ عَمَّا ذَكَرْنَا تَحْرِيرُ صَاحِبِ الْكَافِي فِي هَذَا الْمَقَامِ حَيْثُ قَالَ: وَقِيلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فَرْعُ مَا إذَا اسْتَوْفَى الزُّيُوفَ مَكَانَ الْجِيَادِ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِهِ وَهَلَكَتْ الزُّيُوفُ عِنْدَهُ ثُمَّ عَلِمَ بِالزِّيَافَةِ فَإِنَّهُ سَقَطَ دَيْنُهُ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَضْمَنُ مِثْلَ مَا قَبَضَ وَيَأْخُذُ مِثْلَ حَقِّهِ

وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ أَوَّلًا كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَآخِرًا كَقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ

كَذَا ذَكَرَهُ عِيسَى بْنُ أَبَانَ

وَالْأَصَحُّ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مُبْتَدَأَةٌ؛ لِأَنَّ مُحَمَّدًا مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ فِي الْمَشْهُورِ

ص: 166

قَوْلِ مُحَمَّدٍ نَوْعُ طُولٍ يُعْرَفُ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ الْمَبْسُوطِ وَالزِّيَادَاتِ مَعَ جَمِيعِ شُعَبِهَا

قَالَ (وَمَنْ بَاعَ عَبْدًا عَلَى أَنْ يَرْهَنَهُ الْمُشْتَرِي شَيْئًا بِعَيْنِهِ جَازَ اسْتِحْسَانًا) وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ، وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ إذَا بَاعَ شَيْئًا عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُ كَفِيلًا مُعَيَّنًا حَاضِرًا فِي الْمَجْلِسِ فَقُبِلَ

وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُ صَفْقَةٌ فِي صَفْقَةٍ وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَلِأَنَّهُ شَرْطٌ لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ لِأَحَدِهِمَا، وَمِثْلُهُ يُفْسِدُ الْبَيْعَ

وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ شَرْطٌ مُلَائِمٌ لِلْعَقْدِ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ وَالرَّهْنَ لِلِاسْتِيثَاقِ وَأَنَّهُ يُلَائِمُ الْوُجُوبَ، فَإِذَا كَانَ الْكَفِيلُ حَاضِرًا فِي الْمَجْلِسِ وَالرَّهْنُ مُعَيَّنًا اعْتَبَرْنَا فِيهِ الْمَعْنَى وَهُوَ مُلَائِمٌ فَصَحَّ الْعَقْدُ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ الرَّهْنُ وَلَا الْكَفِيلُ مُعَيَّنًا أَوْ كَانَ الْكَفِيلُ غَائِبًا حَتَّى افْتَرَقَا لَمْ يَبْقَ مَعْنَى الْكَفَالَةِ وَالرَّهْنِ لِلْجَهَالَةِ فَبَقِيَ الِاعْتِبَارُ لِعَيْنِهِ فَيَفْسُدُ، وَلَوْ كَانَ غَائِبًا فَحَضَرَ فِي الْمَجْلِسِ وَقَبِلَ صَحَّ (وَلَوْ امْتَنَعَ الْمُشْتَرِي عَنْ تَسْلِيمِ الرَّهْنِ لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ) وَقَالَ زُفَرُ: يُجْبَرُ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ إذَا شُرِطَ فِي الْبَيْعِ صَارَ حَقًّا مِنْ حُقُوقِهِ كَالْوَكَالَةِ الْمَشْرُوطَةِ فِي الرَّهْنِ فَيَلْزَمُهُ بِلُزُومِهِ

وَنَحْنُ نَقُولُ: الرَّهْنُ عَقْدُ تَبَرُّعٍ مِنْ جَانِبِ الرَّاهِنِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ وَلَا جَبْرَ عَلَى التَّبَرُّعَاتِ (وَلَكِنَّ الْبَائِعَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ رَضِيَ بِتَرْكِ الرَّهْنِ وَإِنْ شَاءَ فَسَخَ الْبَيْعَ)؛ لِأَنَّهُ وَصْفٌ مَرْغُوبٌ فِيهِ وَمَا رَضِيَ إلَّا بِهِ فَيَتَخَيَّرُ بِفَوَاتِهِ (إلَّا أَنْ يَدْفَعَ الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ حَالًّا) لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ (أَوْ يَدْفَعَ قِيمَةَ الرَّهْنِ رَهْنًا)؛ لِأَنَّ يَدَ الِاسْتِيفَاءِ

وَمَعَ أَبِي يُوسُفَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَالْفَرْقُ لِمُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَبَضَ الزُّيُوفَ إلَى آخِرِ كَلَامِهِ تَبَصَّرْ

(قَوْلُهُ فَإِذَا كَانَ الْكَفِيلُ حَاضِرًا بِالْمَجْلِسِ وَالرَّهْنُ مُعَيَّنًا اعْتَبَرْنَا فِيهِ الْمَعْنَى) قَالَ صَاحِبُ الْكِفَايَةِ: أَيْ مَعْنَى الشَّرْطِ وَهُوَ الْمُلَاءَمَةُ

أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا بِسَدِيدٍ؛ إذْ لَا يُسَاعِدُهُ تَحْرِيرُ الْمُصَنِّفِ قَطْعًا، فَإِنَّهُ قَالَ بَعْدَ قَوْلِهِ اعْتَبَرْنَا فِيهِ الْمَعْنَى وَهُوَ مُلَائِمٌ فَيَصِيرُ مَعْنَى كَلَامِ الْمُصَنِّفِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الشَّارِحُ الْمَذْكُورُ، وَهُوَ أَيْ مَعْنَى الشَّرْطِ الَّذِي هُوَ الْمُلَاءَمَةُ مُلَائِمٌ وَلَا حَاصِلَ لَهُ كَمَا لَا يَخْفَى

فَالْحَقُّ أَنَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ اعْتَبَرْنَا فِيهِ الْمَعْنَى: أَيْ مَعْنَى الشَّرْطِ الَّذِي هُوَ الِاسْتِيثَاقُ، وَهُوَ أَيْ هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي هُوَ الِاسْتِيثَاقُ مُلَائِمٌ: أَيْ مُلَائِمٌ لِلْعَقْدِ لِكَوْنِهِ مُؤَكِّدًا مُوجِبَ الْعَقْدِ فَصَحَّ الْعَقْدُ، وَهَذَا الْمَعْنَى صَحِيحٌ مُطَابِقٌ لِقَوْلِهِ فِي وَجْهِ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ شَرْطٌ مُلَائِمٌ لِلْعَقْدِ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ وَالرَّهْنَ لِلِاسْتِيثَاقِ، وَأَنَّهُ مُلَائِمٌ لِلْوُجُوبِ (قَوْلُهُ: وَإِذَا لَمْ يَكُنْ الرَّهْنُ وَلَا الْكَفِيلُ مُعَيَّنًا أَوْ كَانَ الْكَفِيلُ غَائِبًا حَتَّى افْتَرَقَا لَمْ يَبْقَ مَعْنَى الْكَفَالَةِ وَالرَّهْنِ لِلْجَهَالَةِ) أَقُولُ: فِيهِ شَيْءٌ، وَهُوَ أَنَّ التَّعْلِيلَ بِقَوْلِهِ لِلْجَهَالَةِ قَاصِرٌ عَنْ إفَادَةِ تَمَامِ الْمُدَّعَى فَإِنَّهُ إنَّمَا يَتَمَشَّى فِيمَا إذَا لَمْ يَكُنْ الرَّهْنُ وَالْكَفِيلُ مُعَيَّنًا لَا فِيمَا إذَا كَانَ الْكَفِيلُ غَائِبًا؛ إذْ الْغَيْبَةُ لَا تَقْتَضِي الْجَهَالَةَ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا مُعَيَّنًا وَلَا يَكُونُ حَاضِرًا فِي الْمَجْلِسِ، بَلْ هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: أَوْ كَانَ الْكَفِيلُ غَائِبًا حَيْثُ جَعَلَهُ قَسِيمًا لِكَوْنِ الرَّهْنِ وَالْكَفِيلِ غَيْرَ مُعَيَّنٍ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُقَالَ: إنَّ الْجَهَالَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي التَّعْلِيلِ تَعُمُّ الْجَهَالَةَ مِنْ حَيْثُ الذَّاتُ وَالْجَهَالَةَ مِنْ حَيْثُ الْمَكَانُ، وَإِنَّ الْجَهَالَةَ الثَّانِيَةَ تَتَحَقَّقُ فِيمَا إذَا كَانَ الْكَفِيلُ غَائِبًا لَكِنْ فِيهِ مَا فِيهِ تَأَمَّلْ

ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ الْعِنَايَةِ قَالَ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ: يَعْنِي أَنَّ جَوَازَ الْعَقْدِ اسْتِحْسَانًا مَعَ وُجُودِ الشَّرْطِ إنَّمَا كَانَ بِاعْتِبَارِ النَّظَرِ إلَى مَعْنَاهُ، وَإِذَا كَانَ الرَّهْنُ غَيْرَ مُعَيَّنٍ وَالْكَفِيلُ غَائِبًا فَاتَ مَعْنَاهُ وَهُوَ الِاسْتِيثَاقُ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ رُبَّمَا يَأْتِي بِشَيْءٍ يُسَاوِي عُشْرَ حَقِّهِ أَوْ يُعْطِي كَفِيلًا غَيْرَ مَلِيءٍ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مِنْ التَّوَثُّقِ شَيْءٌ فَبَقِيَ الِاعْتِبَارُ لِعَيْنِ الشَّرْطِ فَيَفْسُدُ الْعَقْدُ انْتَهَى

أَقُولُ: وَفِيهِ قُصُورٌ

أَمَّا أَوَّلًا

ص: 167

تَثْبُتُ عَلَى الْمَعْنَى وَهُوَ الْقِيمَةُ.

قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى ثَوْبًا بِدَرَاهِمَ فَقَالَ لِلْبَائِعِ أَمْسِكْ هَذَا الثَّوْبَ حَتَّى أُعْطِيَك الثَّمَنَ فَالثَّوْبُ رَهْنٌ)؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِمَا يُنْبِئُ عَنْ مَعْنَى الرَّهْنِ وَهُوَ الْحَبْسُ إلَى وَقْتِ الْإِعْطَاءِ، وَالْعِبْرَةُ فِي الْعُقُودِ لِلْمَعَانِي حَتَّى كَانَتْ الْكَفَالَةُ بِشَرْطِ بَرَاءَةِ الْأَصِيلِ حَوَالَةً، وَالْحَوَالَةُ فِي ضِدِّ ذَلِكَ كَفَالَةٌ

وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَكُونُ رَهْنًا، وَمِثْلُهُ عَنْ أَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَمْسِكْ يَحْتَمِلُ الرَّهْنَ وَيَحْتَمِلُ الْإِيدَاعَ، وَالثَّانِي أَقَلُّهُمَا فَيَقْضِي بِثُبُوتِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ: أَمْسِكْهُ بِدَيْنِك أَوْ بِمَالِك؛ لِأَنَّهُ لَمَّا قَابَلَهُ بِالدَّيْنِ فَقَدْ عَيَّنَ جِهَةَ الرَّهْنِ

قُلْنَا: لَمَّا مَدَّهُ إلَى الْإِعْطَاءِ عَلِمَ أَنَّ مُرَادَهُ الرَّهْنُ.

فَصْلٌ

(وَمَنْ رَهَنَ عَبْدَيْنِ بِأَلْفٍ فَقَضَى حِصَّةَ أَحَدِهِمَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَقْبِضَهُ حَتَّى يُؤَدِّيَ بَاقِيَ الدَّيْنِ) وَحِصَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا يَخُصُّهُ إذَا قُسِّمَ الدَّيْنُ عَلَى قِيمَتِهِمَا، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ مَحْبُوسٌ بِكُلِّ الدَّيْنِ فَيَكُونُ مَحْبُوسًا بِكُلِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهِ مُبَالَغَةً فِي حَمْلِهِ عَلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ وَصَارَ كَالْمَبِيعِ فِي يَدِ الْبَائِعِ، فَإِنْ سَمَّى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَعْيَانِ الرَّهْنِ شَيْئًا مِنْ

فَلِأَنَّهُ تَرَكَ ذِكْرَ كَوْنِ الْكَفِيلِ غَيْرَ مُعَيَّنٍ فِي تَصْوِيرِ الْمُدَّعَى حَيْثُ قَالَ: وَإِذَا كَانَ الرَّهْنُ غَيْرَ مُعَيَّنٍ وَالْكَفِيلُ غَائِبًا فَاتَ مَعْنَاهُ مَعَ أَنَّ كَوْنَ الْكَفِيلِ غَيْرَ مُعَيَّنٍ دَاخِلٌ أَيْضًا فِي مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ

وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ قَوْلَهُ فِي التَّعْلِيلِ أَوْ يُعْطِي كَفِيلًا غَيْرَ مَلِيءٍ لَا يُفِيدُ مَا سَبَقَ لَهُ وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْمُدَّعِي وَالْكَفِيلِ غَائِبًا لِمَا ذَكَرْنَا آنِفًا أَنَّ غَيْبَةَ الْكَفِيلِ عَنْ الْمَجْلِسِ لَا تَقْتَضِي عَدَمَ تَعَيُّنِهِ فَيَجُوزُ أَنْ يُعَيِّنَ الْمُشْتَرِي لِلْكَفَالَةِ رَجُلًا مَلِيئًا غَائِبًا عَنْ الْمَجْلِسِ فَكَيْفَ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يُعْطِيَ كَفِيلًا غَيْرَ مَلِيءٍ بَعْدَ أَنْ عَيَّنَ الْمَلِيءَ لِلْكَفَالَةِ

وَالْحَقُّ فِي تَعْلِيلِ فَوَاتِ الْمَعْنَى عِنْدَ كَوْنِ الْكَفِيلِ غَائِبًا أَنْ يُقَالَ لِجَوَازِ أَنْ لَا يَقْبَلَ الْكَفَالَةَ عِنْدَ حُضُورِهِ، وَلَعَلَّ الْمُصَنِّفَ تَرَكَ تَعْلِيلَ هَذِهِ الصُّورَةِ بِنَاءً عَلَى ظُهُورِهِ أَوْ انْفِهَامِهِ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَوْ كَانَ غَائِبًا فَحَضَرَ فِي الْمَجْلِسِ وَقَبِلَ صَحَّ تَدَبَّرْ

(فَصْلٌ)

قَالَ فِي الْعِنَايَةِ أَخْذًا مِنْ النِّهَايَةِ: وَجْهُ الْفَصْلِ كَوْنُ الرَّهْنِ مُتَعَدِّدًا، وَلَا خَفَاءَ فِي تَأَخُّرِ التَّعَدُّدِ عَنْ الْإِفْرَادِ انْتَهَى

أَقُولُ: لَا يَذْهَبُ عَلَيْك أَنَّ هَذَا الْوَجْهَ إنَّمَا يَتِمُّ بِالنَّظَرِ إلَى الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى مِنْ هَذَا الْفَصْلِ دُونَ الْمَسَائِلِ الْبَاقِيَةِ مِنْهُ، إذْ لَا تَعَدُّدَ فِي الرَّهْنِ فِي شَيْءٍ مِنْهَا، وَإِنَّمَا التَّعَدُّدُ فِي الْمُرْتَهِنِ فِي بَعْضٍ مِنْهَا وَفِي الرَّاهِنِ فِي بَعْضٍ آخَرَ مِنْهَا

فَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: وَجْهُ الْفَصْلِ كَوْنُ الرَّهْنِ أَوْ الْمُرْتَهِنِ

ص: 168

الْمَالِ الَّذِي رَهَنَهُ بِهِ، فَكَذَا الْجَوَابُ فِي رِوَايَةِ الْأَصْلِ: وَفِي الزِّيَادَاتِ: لَهُ أَنْ يَقْبِضَهُ إذَا أَدَّى مَا سَمَّى لَهُ

وَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّ الْعَقْدَ مُتَّحِدٌ لَا يَتَفَرَّقُ التَّسْمِيَةَ كَمَا فِي الْمَبِيعِ

وَجْهُ الثَّانِي أَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى الِاتِّحَادِ؛ لِأَنَّ أَحَدَ الْعَقْدَيْنِ لَا يَصِيرُ مَشْرُوطًا فِي الْآخَرِ؛ أَلَا يَرَى أَنَّهُ لَوْ قَبِلَ الرَّهْنَ فِي أَحَدِهِمَا جَازَ.

أَوْ الرَّاهِنِ مُتَعَدِّدًا كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ، فَحِينَئِذٍ يَنْتَظِمُ وَجْهُ الْفَصْلِ جَمِيعَ الْمَسَائِلِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذَا الْفَصْلِ كَمَا تَرَى (قَوْلُهُ أَلَا يَرَى أَنَّهُ لَوْ قَبِلَ الرَّهْنَ فِي أَحَدِهِمَا جَازَ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَالْعِنَايَةِ: وَحَاصِلُهُ أَنَّ الصَّفْقَةَ تَتَفَرَّقُ فِي بَابِ الرَّهْنِ بِتَفَرُّقِ التَّسْمِيَةِ، فَكَأَنَّهُ رَهَنَ كُلَّ عَبْدٍ بِعَقْدٍ عَلَى حِدَةٍ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّهَا لَا تَتَفَرَّقُ فِيهِ بِتَفَرُّقِ التَّسْمِيَةِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ بَاعَهُ عَبْدَيْنِ بِأَلْفٍ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِخَمْسِمِائَةٍ فَقَبِلَ الْمُشْتَرِي الْعَقْدَ فِي أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ لَمْ يَجُزْ كَمَا فِي حَالَةِ الْإِجْمَالِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ عَقْدُ تَمْلِيكٍ، وَالْهَلَاكُ قَبْلَ الْقَبْضِ يُبْطِلُهُ فَبَعْدَمَا نَقَدَ بَعْضَ الثَّمَنِ لَوْ تَمَكَّنَ مِنْ قَبْضِ بَعْضِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ أَدَّى إلَى تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ قَبْلَ التَّمَامِ بِأَنْ يَهْلِكَ مَا بَقِيَ فَيَنْفَسِخَ الْبَيْعُ فِيهِ، بِخِلَافِ الرَّهْنِ فَإِنَّهُ بِالْهَلَاكِ يَنْتَهِي حُكْمُ الرَّهْنِ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ، كَمَا أَنَّ بِالِافْتِكَاكِ يَنْتَهِي حُكْمُ الرَّهْنِ، فَلَوْ تَمَكَّنَ مِنْ اسْتِرْدَادِ الْبَعْضِ عِنْدَ قَضَاءِ بَعْضِ الدَّيْنِ لَمْ يُؤَدِّ ذَلِكَ إلَى تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِيهِ أَنْ يَهْلِكَ مَا بَقِيَ فَيَنْتَهِيَ حُكْمُ الرَّهْنِ فِيهِ انْتَهَى

أَقُولُ: فِيهِ بَحْثٌ، وَهُوَ أَنَّ حَاصِلَ كَلَامِهِمَا الِاسْتِدْلَال عَلَى أَنَّ الصَّفْقَةَ تَتَفَرَّقُ فِي بَابِ الرَّهْنِ بِتَفَرُّقِ التَّسْمِيَةِ، وَلَا تَتَفَرَّقُ فِي بَابِ الْبَيْعِ بِذَلِكَ بِدَلِيلَيْنِ:

أَحَدُهُمَا إنِّيٌّ وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ رَهَنَ عَبْدَيْنِ بِأَلْفٍ وَسَمَّى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَيْئًا مِنْ الْأَلْفِ فَقَبِلَ الْمُرْتَهِنُ الرَّهْنَ فِي أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ جَازَ، وَإِنْ بَاعَهُمَا بِأَلْفٍ وَسَمَّى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَيْئًا مِنْ الْأَلْفِ فَقَبِلَ الْمُشْتَرِي الْعَقْدَ فِي أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ لَمْ يَجُزْ

وَثَانِيهِمَا لَمِّيٌّ وَهُوَ مَا ذَكَرَاهُ بِقَوْلِهِمَا، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ عَقْدُ تَمْلِيكٍ إلَخْ، وَالْأَوَّلُ مِنْهُمَا سَالِمٌ وَالثَّانِي مَنْظُورٌ فِيهِ عِنْدِي؛ إذْ لَا شَكَّ أَنَّ الْمَحْذُورَ تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ الْوَاحِدَةِ دُونَ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ الْمُتَفَرِّقَةِ فِي الْأَصْلِ، وَأَنَّ الْكَلَامَ هُنَا فِي إثْبَاتِ أَنَّ الصَّفْقَةَ تَتَفَرَّقُ بِتَفَرُّقِ التَّسْمِيَةِ فِي بَابِ الرَّهْنِ وَلَا تَتَفَرَّقُ بِذَلِكَ فِي بَابِ الْبَيْعِ، فَالتَّأَدِّي إلَى تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ فِي بَابِ الْبَيْعِ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَتَمَكَّنَ الْمُشْتَرِي مِنْ قَبْضِ بَعْضِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ بَعْدَمَا نَقَدَ بَعْضَ الثَّمَنِ إنَّمَا يَكُونُ مَحْذُورًا عِنْدَ ثُبُوتِ عَدَمِ تَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ بِتَفَرُّقِ التَّسْمِيَةِ فِي بَابِ الْبَيْعِ وَلَمْ يَثْبُتْ بَعْدُ، بَلْ هُوَ أَوَّلُ مَنْ قَصَدَ إثْبَاتَهُ هَا هُنَا بِقَوْلِهِمَا، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ عَقْدُ تَمْلِيكٍ إلَخْ فَابْتِنَاءُ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ مُصَادَرَةٌ عَلَى الْمَطْلُوبِ

فَالْوَجْهُ الظَّاهِرُ فِي لَمِّيَّةِ الْفَرْقِ بَيْنَ بَابَيْ الرَّهْنِ وَالْبَيْعِ فِي تَفَرُّقِ أَحَدِهِمَا بِتَفَرُّقِ التَّسْمِيَةِ دُونَ الْآخَرِ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْكَافِي حَيْثُ قَالَ: وَإِنَّمَا افْتَرَقَا؛ لِأَنَّ ضَمَّ الرَّدِيءِ إلَى الْجَيِّدِ مُتَعَارَفٌ فِي الْبَيْعِ غَيْرُ مُتَعَارَفٍ فِي الرَّهْنِ، فَلَوْ تَفَرَّقَ الْبَيْعُ بِتَفَرُّقِ التَّسْمِيَةِ كَانَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَقْبَلَ فِي أَحَدِهِمَا فَيَقْبَلَ الْجَيِّدَ فَيَتَضَرَّرَ بِهِ الْبَائِعُ، وَلَوْ تَفَرَّقَ الرَّهْنُ بِتَفَرُّقِ التَّسْمِيَةِ لَمْ يَتَضَرَّرْ بِهِ الرَّاهِنُ، وَلِأَنَّ فِي الْبَيْعِ إذَا جُمِعَ بَيْنَهُمَا لَوْ تَفَرَّقَتْ الصَّفْقَةُ تَصِيرُ الثَّانِيَةُ شَرْطًا فِي الْأُولَى وَهُوَ شَرْطٌ فَاسِدٌ، وَالْبَيْعُ يَفْسُدُ بِهِ، أَمَّا الرَّهْنُ فَلَا

ص: 169

قَالَ (فَإِنْ رَهَنَ عَيْنًا وَاحِدَةً عِنْدَ رَجُلَيْنِ بِدَيْنٍ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَيْهِ جَازَ، وَجَمِيعُهَا رَهْنٌ عِنْدَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا)؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ أُضِيفَ إلَى جَمِيعِ الْعَيْنِ فِي صَفْقَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَا شُيُوعَ فِيهِ، وَمُوجِبُهُ صَيْرُورَتُهُ مُحْتَبِسًا بِالدَّيْنِ، وَهَذَا مِمَّا لَا يَقْبَلُ الْوَصْفَ بِالتَّجَزِّيِ فَصَارَ مَحْبُوسًا بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَهَذَا بِخِلَافِ الْهِبَةِ مِنْ رَجُلَيْنِ حَيْثُ لَا تَجُوزُ

يَفْسُدُ بِالشَّرْطِ الْفَاسِدِ؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ كَالْهِبَةِ انْتَهَى

ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَالْعِنَايَةِ: فَإِنْ قِيلَ: هَذَا فِي حَالَةِ الْإِجْمَالِ مَوْجُودٌ

قُلْنَا: نَعَمْ، وَلَكِنَّ حِصَّةَ كُلِّ عَبْدٍ مِنْ الدَّيْنِ فِيهَا غَيْرُ مَعْلُومٍ بِيَقِينٍ، وَرُبَّمَا كَانَ أَحَدُ الْعَبْدَيْنِ أَكْثَرَ قِيمَةً مِثْلَ أَنْ يُسَاوِيَ أَحَدُهُمَا أَلْفًا، وَالْآخَرُ أَلْفَيْنِ وَرَهَنَهُمَا بِثَلَاثَةِ آلَافٍ أَحَدُهُمَا بِأَلْفٍ، وَالْآخَرُ بِأَلْفَيْنِ وَلَمْ يُبَيِّنْ هَذَا مِنْ ذَاكَ وَأَرَادَ الرَّاهِنُ فِكَاكَ الَّذِي قِيمَتُهُ أَلْفَانِ فَأَدَّى أَلْفًا، وَهُوَ يَقُولُ هَذَا الَّذِي رَهَنَهُ بِأَلْفٍ وَالْمُرْتَهِنُ يَقُولُ بَلْ هُوَ رُهِنَ بِأَلْفَيْنِ فَكَانَ ذَلِكَ جَهَالَةً تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ، فَأَمَّا عِنْدَ التَّفْصِيلِ فَحِصَّةُ كُلِّ عَبْدٍ مَعْلُومَةٌ بِالتَّسْمِيَةِ لَا جَهَالَةَ هُنَاكَ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ فَلِهَذَا يُمْكِنُ فِكَاكُ الْبَعْضِ بِقَضَاءِ بَعْضِ الدَّيْنِ انْتَهَى

أَقُولُ: فِي الْجَوَابِ بَحْثٌ

أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُ لِمَ لَا يَجْعَلُ قِيمَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَبْدَيْنِ فَيْصَلًا فِي قَطْعِ الْمُنَازَعَةِ فِي حَالَةِ الْإِجْمَالِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا كَانَ فِي قَوْلِ الْمُصَنِّفِ فِي صَدْرِ مَسْأَلَةِ الْإِجْمَالِ: وَحِصَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مَا يَخُصُّهُ إذَا قُسِّمَ الدَّيْنُ عَلَى قِيمَتِهِمَا فَائِدَةٌ

وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّهُ إذَا كَانَ الْعَبْدَانِ مُتَسَاوِيَيْنِ فِي الْقِيمَةِ لَا يُوجَدُ هُنَاكَ جَهَالَةٌ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ مَعَ أَنَّ جَوَابَ مَسْأَلَةِ الْإِجْمَالِ تَعُمُّ هَذِهِ الصُّورَةَ أَيْضًا

فَالْأَوْلَى: فِي دَفْعِ النَّقْضِ بِحَالَةِ الْإِجْمَالِ أَنْ يُقَالَ: لِأَنَّ تَفَرُّقَ الصَّفْقَةِ أَيُّمَا يُتَصَوَّرُ فِيمَا إذَا كَانَ فِي كَلَامِ الْعَاقِدِ مَا يَتَحَمَّلُهُ كَمَا فِي حَالَةِ التَّفْصِيلِ فَإِنَّ تَفَرُّقَ التَّسْمِيَةِ فِيهَا تَتَحَمَّلُ تَفَرُّقَ الصَّفْقَةِ، بِخِلَافِ حَالَةِ الْإِجْمَالِ إذَا لَمْ يُوجَدْ فِيهِ شَيْءٌ يَتَحَمَّلُهُ، فَإِذَا تَعَيَّنَ الْحَمْلُ فِيهَا عَلَى تَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ فِيهَا، وَإِنْ لَمْ يَلْزَمْ التَّأَدِّي إلَى تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ قَبْلَ تَمَامِهَا فِي بَابِ الرَّهْنِ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ فِي حَالَةِ الْإِجْمَالِ أَيْضًا تَأَمَّلْ.

(قَوْلُهُ: فَإِنْ رَهَنَ عَيْنًا وَاحِدَةً عِنْدَ رَجُلَيْنِ بِدَيْنٍ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَيْهِ جَازَ، وَجَمِيعُهَا رَهْنٌ عِنْدَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ أُضِيفَ إلَى جَمِيعِ الْعَيْنِ فِي صَفْقَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَا شُيُوعَ فِيهِ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ أَخْذًا مِنْ النِّهَايَةِ: قِيلَ هُوَ مَنْقُوضٌ بِمَا إذَا بَاعَ مِنْ رَجُلَيْنِ أَوْ وَهَبَ مِنْ رَجُلَيْنِ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، فَإِنَّ الْعَقْدَ فِيهِمَا أُضِيفَ إلَى جَمِيعِ الْعَيْنِ فِي صَفْقَةٍ وَاحِدَةٍ وَفِيهِ الشُّيُوعُ حَتَّى كَانَ الْمَبِيعُ وَالْمَوْهُوبُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ كَمَا لَوْ نَصَّ عَلَى الْمُنَاصَفَةِ

وَالْجَوَابُ أَنَّ إضَافَةَ الْعَقْدِ إلَى اثْنَيْنِ تُوجِبُ الشُّيُوعَ فِيمَا يَكُونُ الْعَقْدُ مُفِيدًا لِلْمِلْكِ كَالْهِبَةِ وَالْبَيْعِ، فَإِنَّ الْعَيْنَ الْوَاحِدَةَ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ مَمْلُوكَةً لِشَخْصَيْنِ عَلَى الْكَمَالِ فَتُجْعَلُ شَائِعَةً فَتُقْسَمُ

ص: 170

عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ (فَإِنْ تَهَايَآ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي نَوْبَتِهِ كَالْعَدْلِ فِي حَقِّ الْآخَرِ) قَالَ (وَالْمَضْمُونُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حِصَّتُهُ مِنْ الدَّيْنِ)؛ لِأَنَّ عِنْدَ الْهَلَاكِ يَصِيرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُسْتَوْفِيًا حِصَّتَهُ؛ إذْ الِاسْتِيفَاءُ مِمَّا يَتَجَزَّأُ

قَالَ (فَإِنْ أَعْطَى أَحَدُهُمَا دَيْنَهُ كَانَ كُلُّهُ رَهْنًا فِي يَدِ الْآخَرِ)؛ لِأَنَّ جَمِيعَ الْعَيْنِ رَهْنٌ فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ غَيْرِ تَفَرُّقٍ

عَلَيْهِمَا لِلْجَوَازِ، وَالرَّهْنُ غَيْرُ مُفِيدٍ لِلْمِلْكِ، وَإِنَّمَا يُفِيدُ الِاحْتِبَاسَ

وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْعَيْنُ الْوَاحِدَةُ مُحْتَبَسَةً لِحَقَّيْنِ عَلَى الْكَمَالِ فَيُمْنَعُ الشُّيُوعُ فِيهِ تَحْرِيمًا لِلْجَوَازِ لِكَوْنِ الْقَبْضِ لَا بُدَّ مِنْهُ فِي الرَّهْنِ، وَالشُّيُوعُ يَمْنَعُ عَنْهُ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ

أَقُولُ: هَذَا السُّؤَالُ وَالْجَوَابُ عَلَى التَّقْرِيرِ الْمَذْكُورِ لَيْسَا بِصَحِيحَيْنِ فِي حَقِّ الْهِبَةِ؛ إذْ لَا فَرْقَ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ بَيْنَ الرَّهْنِ وَالْهِبَةِ فِي عَدَمِ تَحَقُّقِ الشُّيُوعِ فِي شَيْءٍ مِنْ صُورَتَيْ رَهْنِ عَيْنٍ وَاحِدَةٍ عِنْدَ رَجُلَيْنِ وَهِبَتِهِمَا مِنْهُمَا، وَإِنَّمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، أَلَا يَرَى إلَى مَا مَرَّ فِي كِتَابِ الْهِبَةِ مِنْ أَنَّهُ إذَا وُهِبَ اثْنَانِ مِنْ وَاحِدٍ دَارًا جَازَ؛ لِأَنَّهُمَا سُلِّمَاهَا جُمْلَةً، وَهُوَ قَدْ قَبَضَهَا جُمْلَةً فَلَا شُيُوعَ، وَإِنْ وُهِبَ وَاحِدٌ مِنْ اثْنَيْنِ لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: يَصِحُّ؛ لِأَنَّ هَذِهِ أَشْبَهَتْ الْجُمْلَةَ مِنْهُمَا؛ إذْ التَّمْلِيكُ وَاحِدٌ فَلَا يَتَحَقَّقُ الشُّيُوعُ كَمَا لَوْ رَهَنَ مِنْ رَجُلَيْنِ

وَلَهُ أَنَّ هَذَا هِبَةُ النِّصْفِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ، وَلِهَذَا لَوْ كَانَتْ فِيمَا لَا يَنْقَسِمُ فَقَبِلَ أَحَدُهُمَا صَحَّ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي النِّصْفِ فَيَكُونُ التَّمْلِيكُ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ حُكْمُهُ، وَعَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ يَتَحَقَّقُ الشُّيُوعُ، بِخِلَافِ الرَّهْنِ؛ لِأَنَّ حُكْمَهُ الْحَبْسُ وَيَثْبُتُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَمَلًا، وَلِهَذَا لَوْ قَضَى دَيْنَ أَحَدِهِمَا لَا يَسْتَرِدُّ شَيْئًا مِنْ الرَّهْنِ انْتَهَى

فَلَا مَعْنَى لِنَقْضِ مَا نَحْنُ فِيهِ بِالْهِبَةِ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ أَصْلًا، وَلَا لِلْجَوَابِ عَنْهُ عَلَى قَوْلِهِمَا بِمَا ذُكِرَ فِي الْجَوَابِ الْمَذْكُورِ مِنْ الْفَرْقِ كَمَا لَا يَخْفَى (قَوْلُهُ وَإِنْ أَعْطَى أَحَدَهُمَا دَيْنَهُ كَانَ كُلُّهُ رَهْنًا فِي يَدِ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ الْعَيْنِ رَهْنٌ فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ غَيْرِ تَفَرُّقٍ) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ أَخْذًا مِنْ النِّهَايَةِ: اُعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ الْمُرْتَهِنَ الَّذِي اسْتَوْفَى حَقَّهُ انْتَهَى مَقْصُودُهُ مِنْ الرَّهْنِ وَهُوَ كَوْنُهُ وَسِيلَةً إلَى الِاسْتِيفَاءِ الْحَقِيقِيِّ بِالِاسْتِيفَاءِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الرَّهْنُ فِي يَدِ الْآخَرِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ مِنْ غَيْرِ نِيَابَةٍ عَنْ صَاحِبِهِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَسْتَرِدَّ الرَّاهِنُ مَا قَضَاهُ إلَى الْأَوَّلِ مِنْ الدَّيْنِ عِنْدَ الْهَلَاكِ لَكِنْ يَسْتَرِدُّهُ

وَأُجِيبَ بِأَنَّ ارْتِهَانَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَاقٍ مَا لَمْ يَصِلْ الرَّهْنُ إلَى الرَّاهِنِ كَمَا ذَكَرْنَا، فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُسْتَوْفِيًا دَيْنَهُ مِنْ نِصْفِ مَالِيَّةِ الرَّهْنِ فَإِنَّ فِيهِ وَفَاءً بِدَيْنِهِمَا، فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْقَابِضَ اسْتَوْفَى حَقَّهُ مَرَّتَيْنِ فَعَلَيْهِ رَدُّ مَا قَبَضَهُ ثَانِيًا انْتَهَى

أَقُولُ: هَذَا الْجَوَابُ غَيْرُ شَافٍ فِي دَفْعِ الِاعْتِرَاضِ الْمَذْكُورِ؛ لِأَنَّ السَّائِلَ بَسَطَ مُقَدَّمَةً، وَهِيَ أَنَّ الْمُرْتَهِنَ الَّذِي اسْتَوْفَى حَقَّهُ مِنْ الرَّهْنِ انْتَهَى مَقْصُودُهُ مِنْ الرَّهْنِ وَهُوَ كَوْنُهُ وَسِيلَةً إلَى الِاسْتِيفَاءِ الْحَقِيقِيِّ فَفَرَّعَ عَلَيْهَا قَوْلَهُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الرَّهْنُ فِي يَدِ

ص: 171

وَعَلَى هَذَا حَبْسُ الْمَبِيعِ إذَا أَدَّى أَحَدُ الْمُشْتَرِيَيْنِ حِصَّتَهُ مِنْ الثَّمَنِ.

قَالَ (وَإِنْ رَهَنَ رَجُلَانِ بِدَيْنٍ عَلَيْهِمَا رَجُلًا رَهْنًا وَاحِدًا فَهُوَ جَائِزٌ وَالرَّهْنُ رَهْنٌ بِكُلِّ الدَّيْنِ، وَلِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يُمْسِكَهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ جَمِيعَ الدَّيْنِ)؛ لِأَنَّ قَبْضَ الرَّهْنِ يَحْصُلُ فِي الْكُلِّ مِنْ غَيْرِ شُيُوعٍ (فَإِنْ أَقَامَ الرَّجُلَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ رَهَنَهُ عَبْدَهُ الَّذِي فِي يَدِهِ وَقَبَضَهُ فَهُوَ بَاطِلٌ)؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَثْبَتَ بِبَيِّنَتِهِ أَنَّهُ رَهَنَهُ كُلَّ الْعَبْدِ، وَلَا وَجْهَ إلَى الْقَضَاءِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْكُلِّ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ الْوَاحِدَ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ كُلُّهُ رَهْنًا لِهَذَا وَكُلُّهُ رَهْنًا لِذَلِكَ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَا إلَى الْقَضَاءِ بِكُلِّهِ لِوَاحِدٍ بِعَيْنِهِ لِعَدَمِ الْأَوْلَوِيَّةِ، وَلَا إلَى الْقَضَاءِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالنِّصْفِ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى الشُّيُوعِ فَتَعَذَّرَ الْعَمَلُ بِهِمَا وَتَعَيَّنَ التَّهَاتُرُ

وَلَا يُقَالُ: إنَّهُ يَكُونُ رَهْنًا لَهُمَا كَأَنَّهُمَا ارْتَهَنَاهُ مَعًا إذَا جُهِلَ التَّارِيخُ بَيْنَهُمَا، وَجُعِلَ فِي كِتَابِ الشَّهَادَاتِ هَذَا وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ لِأَنَّا نَقُولُ: هَذَا عَمَلٌ عَلَى خِلَافِ مَا اقْتَضَتْهُ الْحُجَّةُ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا أَثْبَتَ بِبَيِّنَتِهِ حَبْسًا يَكُونُ وَسِيلَةً إلَى مِثْلِهِ فِي الِاسْتِيفَاءِ، وَبِهَذَا الْقَضَاءِ يَثْبُتُ حَبْسٌ يَكُونُ وَسِيلَةً إلَى شَطْرِهِ

الْآخَرِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَلَا يَخْفَى عَلَيْك أَنَّ تِلْكَ الْمُقَدَّمَةَ صَادِقَةٌ، وَأَنَّهَا تَقْتَضِي أَنْ لَا يَكُونَ ارْتِهَانُ الَّذِي اسْتَوْفَى حَقَّهُ بَاقِيًا بَعْدَ اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ مِنْ الرَّهْنِ قَدْ انْتَهَى بِاسْتِيفَاءِ حَقِّهِ، فَمَا وَجْهُ بَقَاءِ ارْتِهَانِهِ بَعْدَهُ

وَبِالْجُمْلَةِ بَقَاءُ ارْتِهَانِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا لَمْ يَصِلْ الرَّهْنُ إلَى الرَّاهِنِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ عِنْدَ السَّائِلِ، بَلْ هُوَ يَقُولُ: لَا مَعْنَى لِبَقَاءِ ذَلِكَ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ أَحَدِهِمَا حَقَّهُ إذَا كَانَ الرَّهْنُ فِي يَدِ الْآخَرِ، وَيَسْتَنِدُ فِي ذَلِكَ إلَى الْمُقَدَّمَةِ الَّتِي بَسَطَهَا فِي أَوَّلِ كَلَامِهِ فَلَا يَشْفِيهِ الْجَوَابُ الْمَذْكُورُ

(قَوْلُهُ فَإِنْ أَقَامَ الرَّجُلَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ رَهَنَهُ عَبْدَهُ الَّذِي فِي يَدِهِ وَقَبَضَهُ فَهُوَ بَاطِلٌ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَهُوَ أَحَدُ الْوُجُوهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَجُمْلَتُهَا أَنَّ الْعَبْدَ إمَّا أَنْ يَكُونَ فِي أَيْدِيهِمَا أَوَّلًا فِي يَدِ وَاحِدٍ أَوْ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا، فَإِنْ كَانَ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا فَهُوَ أَوْلَى بِهِ؛ لِأَنَّ تَمَكُّنَهُ مِنْ الْقَبْضِ

ص: 172

فِي الِاسْتِيفَاءِ، وَلَيْسَ هَذَا عَمَلًا عَلَى وَفْقِ الْحُجَّةِ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ وَإِنْ كَانَ قِيَاسًا لَكِنَّ مُحَمَّدًا أَخَذَ بِهِ لِقُوَّتِهِ، وَإِذَا وَقَعَ بَاطِلًا فَلَوْ هَلَكَ يَهْلِكُ أَمَانَةً؛ لِأَنَّ الْبَاطِلَ لَا حُكْمَ لَهُ

قَالَ (وَلَوْ مَاتَ الرَّاهِنُ وَالْعَبْدُ فِي أَيْدِيهِمَا فَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ عَلَى مَا وَصَفْنَاهُ كَانَ فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُهُ رَهْنًا يَبِيعُهُ بِحَقِّهِ اسْتِحْسَانًا) وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَفِي الْقِيَاسِ: هَذَا بَاطِلٌ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّ الْحَبْسَ لِلِاسْتِيفَاءِ حُكْمٌ أَصْلِيٌّ لِعَقْدِ الرَّهْنِ فَيَكُونُ الْقَضَاءُ بِهِ قَضَاءً بِعَقْدِ الرَّهْنِ وَأَنَّهُ بَاطِلٌ لِلشُّيُوعِ كَمَا فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ

وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْعَقْدَ لَا يُرَادُ لِذَاتِهِ، وَإِنَّمَا يُرَادُ لِحُكْمِهِ، وَحُكْمُهُ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ الْحَبْسُ وَالشُّيُوعُ يَضُرُّهُ، وَبَعْدَ الْمَمَاتِ الِاسْتِيفَاءُ بِالْبَيْعِ فِي الدَّيْنِ وَالشُّيُوعُ لَا يَضُرُّهُ، وَصَارَ كَإِذَا ادَّعَى الرَّجُلَانِ نِكَاحَ امْرَأَةٍ أَوْ ادَّعَتْ أُخْتَانِ النِّكَاحَ عَلَى رَجُلٍ وَأَقَامُوا الْبَيِّنَةَ تَهَاتَرَتْ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ وَيُقْضَى بِالْمِيرَاثِ بَيْنَهُمْ بَعْدَ الْمَمَاتِ؛ لِأَنَّهُ يَقْبَلُ الِانْقِسَامَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

‌بَابُ الرَّهْنِ يُوضَعُ عَلَى يَدِ الْعَدْلِ

(قَالَ وَإِذَا اتَّفَقَا عَلَى وَضْعِ الرَّهْنِ عَلَى يَدِ الْعَدْلِ جَازَ وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَجُوزُ) ذَكَرَ قَوْلَهُ فِي بَعْضِ النُّسَخِ؛ لِأَنَّ

دَلِيلٌ سَبَقَ عَقْدَهُ كَمَا فِي الشِّرَاءِ وَقَدْ تَقَدَّمَ، إلَّا أَنْ يُقِيمَ الْآخَرُ بَيِّنَةً أَنَّهُ الْأَوَّلُ فَإِنَّهُ صَرِيحٌ فِي السَّبَقِ وَهُوَ يَفُوقُ الدَّلَالَةَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ أَوَّلًا وَكَلَامُهُ فِيهِ وَاضِحٌ، وَإِنْ كَانَ فِي أَيْدِيهِمَا فَإِنْ عَلِمَ الْأَوَّلُ مِنْهُمَا فَهُوَ أَوْلَى، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ فَهُوَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ عَلَى مَا ذُكِرَ فِيهَا مِنْ الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ

قَالَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ: وَبِهِ أَيْ بِالْقِيَاسِ نَأْخُذُ، وَوَجْهُهُ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ انْتَهَى

أَقُولُ: فِي تَحْرِيرِ الْمَذْكُورِ نَوْعُ اخْتِلَالٍ وَاضْطِرَابٍ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ التَّفْصِيلَ فِي الشِّقِّ الثَّالِثِ بِقَوْلِهِ: فَإِنْ عَلِمَ الْأَوَّلُ مِنْهُمَا إلَخْ، وَتَرَكَ هَذَا التَّفْصِيلَ فِي الشِّقِّ الثَّانِي، وَهُوَ مَا لَمْ يَكُنْ فِي يَدِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، مَعَ أَنَّ هَذَا التَّفْصِيلَ مِمَّا لَا بُدَّ مِنْهُ فِي ذَاكَ الشِّقِّ أَيْضًا، وَأَيْضًا إنْ أَرَادَ بِمَسْأَلَةِ الْكِتَابِ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ فَهُوَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ: وَإِنْ أَقَامَ الرَّجُلَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ يَلْزَمُ التَّنَافِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ فِيمَا قَبْلُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا فَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ أَوَّلًا

وَإِنْ أَرَادَ بِهَا قَوْلَ الْمُصَنِّفِ وَلَوْ مَاتَ الرَّاهِنُ وَالْعَبْدُ فِي أَيْدِيهِمَا كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ لَمْ يَتِمَّ قَوْلُهُ بَعْدَهُ

قَالَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ: وَبِهِ أَيْ بِالْقِيَاسِ نَأْخُذُ، فَإِنَّ مُحَمَّدًا إنَّمَا يَأْخُذُ بِالْقِيَاسِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى لَا فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ، فَكَانَ حَقُّ قَوْلِهِ: الْمَزْبُورِ أَنْ يُذْكَرَ مُتَّصِلًا بِبَيَانِ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى كَمَا لَا يَخْفَى

(بَابُ الرَّهْنِ يُوضَعُ عَلَى يَدِ الْعَدْلِ)

لَمَّا فَرَغَ مِنْ الْأَحْكَامِ الرَّاجِعَةِ إلَى نَفْسِ الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ ذَكَرَ فِي هَذَا الْبَابِ الْأَحْكَامَ الرَّاجِعَةَ إلَى نَائِبِهِمَا وَهُوَ الْعَدْلُ لِمَا أَنَّ

ص: 173

يَدَ الْعَدْلِ يَدُ الْمَالِكِ وَلِهَذَا يَرْجِعُ الْعَدْلُ عَلَيْهِ عِنْدَ الِاسْتِحْقَاقِ فَانْعَدَمَ الْقَبْضُ

وَلَنَا أَنَّ يَدَهُ عَلَى الصُّورَةِ يَدُ الْمَالِكِ فِي الْحِفْظِ؛ إذْ الْعَيْنُ أَمَانَةٌ، وَفِي حَقِّ الْمَالِيَّةِ يَدُ الْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّ يَدَهُ يَدُ ضَمَانٍ وَالْمَضْمُونُ هُوَ الْمَالِيَّةُ فَنُزِّلَ مَنْزِلَةَ الشَّخْصَيْنِ تَحْقِيقًا لِمَا قَصَدَاهُ مِنْ الرَّهْنِ، وَإِنَّمَا يَرْجِعُ الْعَدْلُ عَلَى الْمَالِكِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ؛ لِأَنَّهُ نَائِبٌ عَنْهُ فِي حِفْظِ الْعَيْنِ كَالْمُودَعِ

قَالَ (وَلَيْسَ لِلْمُرْتَهِنِ وَلَا لِلرَّاهِنِ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْهُ) لِتَعَلُّقِ حَقِّ الرَّاهِنِ فِي الْحِفْظِ بِيَدِهِ وَأَمَانَتِهِ وَتَعَلُّقِ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ بِهِ اسْتِيفَاءً فَلَا يَمْلِكُ أَحَدُهُمَا إبْطَالَ حَقِّ الْآخَرِ (فَلَوْ هَلَكَ فِي يَدِهِ هَلَكَ فِي ضَمَانِ الْمُرْتَهِنِ)؛ لِأَنَّ يَدَهُ فِي حَقِّ الْمَالِيَّةِ يَدُ الْمُرْتَهِنِ وَهِيَ الْمَضْمُونَةُ (وَلَوْ دَفَعَ الْعَدْلُ إلَى الرَّاهِنِ أَوْ الْمُرْتَهِنِ ضَمِنَ)؛ لِأَنَّهُ مُودَعُ الرَّاهِنِ فِي حَقِّ الْعَيْنِ وَمُودَعُ الْمُرْتَهِنِ فِي حَقِّ الْمَالِيَّةِ وَأَحَدُهُمَا أَجْنَبِيٌّ عَنْ الْآخَرِ، وَالْمُودَعُ يَضْمَنُ بِالدَّفْعِ إلَى الْأَجْنَبِيِّ (وَإِذَا ضَمِنَ الْعَدْلُ قِيمَةَ الرَّهْنِ بَعْدَ مَا دَفَعَ إلَى أَحَدِهِمَا وَقَدْ اسْتَهْلَكَهُ الْمَدْفُوعُ عَلَيْهِ أَوْ هَلَكَ فِي يَدِهِ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَجْعَلَ الْقِيمَةَ رَهْنًا فِي يَدِهِ)؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ قَاضِيًا وَمُقْتَضِيًا وَبَيْنَهُمَا تَنَافٍ، لَكِنْ يَتَّفِقَانِ عَلَى أَنْ يَأْخُذَاهَا مِنْهُ وَيَجْعَلَاهَا رَهْنًا عِنْدَهُ

حُكْمَ النَّائِبِ يَقْفُو حُكْمَ الْأَصْلِ

ثُمَّ إنَّ الْمُرَادَ بِالْعَدْلِ هَا هُنَا مَنْ رَضِيَ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ بِوَضْعِ الرَّهْنِ فِي يَدِهِ

وَزَادَ عَلَيْهِ صَاحِبَا النِّهَايَةِ وَالْعِنَايَةِ قَيْدًا آخَرَ حَيْثُ قَالَا: وَرَضِيَا بِبَيْعِهِ الرَّهْنَ عِنْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ

أَقُولُ: لَعَلَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ مِنْهُمَا بِنَاءً عَلَى مَا هُوَ الْجَارِي بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا هُوَ الْغَالِبُ، وَإِلَّا فَرِضَاهُمَا بِبَيْعِهِ الرَّهْنَ عِنْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ لَيْسَ بِأَمْرٍ لَازِمٍ فِي مَعْنَى الْعَدْلِ

وَعَنْ هَذَا قَالَ الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ فِي الْكَافِي: لَيْسَ لِلْعَدْلِ بَيْعُ الرَّهْنِ مَا لَمْ يُسَلَّطْ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْحِفْظِ فَحَسْبُ انْتَهَى (قَوْلُهُ: وَإِنَّمَا يَرْجِعُ الْعَدْلُ عَلَى الْمَالِكِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ؛ لِأَنَّهُ نَائِبٌ عَنْهُ فِي حِفْظِ الْعَيْنِ كَالْمُودَعِ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: يُشِيرُ إلَى دَفْعِ مَا عَسَى أَنْ يُقَالَ كَمَا أَنَّهُ نَائِبٌ عَنْ الرَّاهِنِ فَهُوَ نَائِبٌ عَنْ الْمُرْتَهِنِ فِي حَقِّ الْمَالِيَّةِ، وَالضَّمَانُ إنَّمَا يَكُونُ مِنْ حَيْثُ الْمَالِيَّةُ فَلِمَ لَا يُرْجَعُ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعَدْلَ يَضْمَنُ لِلْمُسْتَحِقِّ ضَمَانَ الْغَصْبِ، وَالْغَصْبُ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِالنَّقْلِ وَالتَّحْوِيلِ، وَذَلِكَ يَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِ دُونَ الْمَالِيَّةِ عَلَى أَنَّهُ سُؤَالٌ سَاقِطٌ؛ لِأَنَّ الْخَصْمَ لَيْسَ بِقَائِلٍ بِهِ انْتَهَى كَلَامُهُ

أَقُولُ: هَذِهِ الْعِلَاوَةُ الَّتِي زَادَهَا الشَّارِحُ الْمَذْكُورُ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ لَيْسَتْ بِشَيْءٍ، فَإِنَّ عَدَمَ قَوْلِ الْخَصْمِ بِذَلِكَ لَا يَقْتَضِي سُقُوطَ السُّؤَالِ الْمُتَّجَهِ عَلَى أَصْلِنَا؛ إذْ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ تَوَجَّهَ السُّؤَالُ مِنْ قِبَلِ الْخَصْمِ، وَعَنْ هَذَا تَرَاهُمْ يَقُولُونَ: لَيْسَ لِلسَّائِلِ مَذْهَبٌ، وَلَوْ سَلِمَ ذَلِكَ فَلِلْخَصْمِ أَنْ يُورِدَ السُّؤَالَ الْمَذْكُورَ عَلَيْنَا بِطَرِيقِ الْإِلْزَامِ بِمَا هُوَ مُسَلَّمٌ عِنْدَنَا لَا بِطَرِيقِ

ص: 174

أَوْ عِنْدَ غَيْرِهِ وَلَوْ تَعَذَّرَ اجْتِمَاعُهُمَا يَرْفَعُ أَحَدُهُمَا إلَى الْقَاضِي لِيَفْعَلَ كَذَلِكَ، وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ ثُمَّ قَضَى الرَّاهِنُ الدَّيْنَ وَقَدْ ضَمِنَ الْعَدْلُ الْقِيمَةَ بِالدَّفْعِ إلَى الرَّاهِنِ فَالْقِيمَةُ سَالِمَةٌ لَهُ لِوُصُولِ الْمَرْهُونِ إلَى الرَّاهِنِ وَوُصُولِ الدَّيْنِ إلَى الْمُرْتَهِنِ وَلَا يَجْتَمِعُ الْبَدَلُ وَالْمُبْدَلُ فِي مِلْكٍ وَاحِدٍ (وَإِنْ كَانَ ضَمِنَهَا بِالدَّفْعِ إلَى الْمُرْتَهِنِ فَالرَّاهِنُ يَأْخُذُ الْقِيمَةَ مِنْهُ)؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ لَوْ كَانَتْ قَائِمَةً فِي يَدِهِ يَأْخُذُهَا إذَا أَدَّى الدَّيْنَ، فَكَذَلِكَ يَأْخُذُ مَا قَامَ مَقَامَهَا، وَلَا جَمْعَ فِيهِ بَيْنَ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ

قَالَ (وَإِذَا وَكَّلَ الرَّاهِنُ الْمُرْتَهِنَ أَوْ الْعَدْلَ أَوْ غَيْرَهُمَا بِبَيْعِ الرَّهْنِ عِنْدَ حُلُولِ الدَّيْنِ فَالْوَكَالَةُ جَائِزَةٌ)؛ لِأَنَّهُ تَوْكِيلٌ بِبَيْعِ مَالِهِ (وَإِنْ شُرِطَتْ فِي عَقْدِ الرَّهْنِ فَلَيْسَ لِلرَّاهِنِ أَنْ يَعْزِلَ الْوَكِيلَ، وَإِنْ عَزَلَهُ لَمْ يَنْعَزِلْ)؛ لِأَنَّهَا لَمَّا شُرِطَتْ فِي ضِمْنِ عَقْدِ الرَّهْنِ صَارَ وَصْفًا مِنْ أَوْصَافِهِ وَحَقًّا مِنْ حُقُوقِهِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لِزِيَادَةِ الْوَثِيقَةِ فَيَلْزَمُ بِلُزُومِ أَصْلِهِ، وَلِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ وَفِي الْعَزْلِ إتْوَاءً حَقِّهِ وَصَارَ كَالْوَكِيلِ بِالْخُصُومَةِ بِطَلَبِ الْمُدَّعِي (وَلَوْ وَكَّلَهُ بِالْبَيْعِ مُطْلَقًا حَتَّى مَلَكَ الْبَيْعَ بِالنَّقْدِ وَالنَّسِيئَةِ ثُمَّ نَهَاهُ عَنْ الْبَيْعِ نَسِيئَةً لَمْ يَعْمَلْ نَهْيُهُ)؛ لِأَنَّهُ لَازِمٌ بِأَصْلِهِ، فَكَذَا بِوَصْفِهِ لِمَا ذَكَرْنَا، وَكَذَا إذَا عَزَلَهُ الْمُرْتَهِنُ لَا يَنْعَزِلُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوَكِّلْهُ وَإِنَّمَا وَكَّلَهُ غَيْرُهُ (وَإِنْ مَاتَ الرَّاهِنُ لَمْ يَنْعَزِلْ)؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ لَا يَبْطُلُ بِمَوْتِهِ وَلِأَنَّهُ لَوْ بَطَلَ إنَّمَا يَبْطُلُ لِحَقِّ الْوَرَثَةِ وَحَقُّ الْمُرْتَهِنِ مُقَدَّمٌ

قَالَ (وَلِلْوَكِيلِ أَنْ يَبِيعَهُ بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنْ الْوَرَثَةِ كَمَا يَبِيعُهُ فِي حَالِ حَيَاتِهِ بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنْهُ، وَإِنْ مَاتَ الْمُرْتَهِنُ فَالْوَكِيلُ عَلَى وَكَالَتِهِ)؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَا يَبْطُلُ

التَّحْقِيقِ بِمَا هُوَ مُقَرَّرٌ عِنْدَهُ

فَالْجَوَابُ الْحَقُّ عَنْهُ مَا أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ لَا غَيْرُ (قَوْلُهُ وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ وَالْعِنَايَةِ: أَيْ جَعَلَ الْقِيمَةَ فِي يَدِ الْعَدْلِ هُنَا

وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: فِيهِ بَحْثٌ، بَلْ الْمُرَادُ إذَا جُعِلَتْ الْقِيمَةُ رَهْنًا بِرَأْيِهِمَا أَوْ بِرَأْيِ الْقَاضِي عِنْدَ الْعَدْلِ الْأَوَّلِ أَوْ عِنْدَ غَيْرِهِ كَمَا ذَكَرَهُ الْعَلَّامَةُ الزَّيْلَعِيُّ انْتَهَى

أَقُولُ: إنْ كَانَ وَجْهُ بَحْثِهِ عَدَمَ تَحَقُّقِ الْعُمُومِ فِيمَا ذُكِرَ فِي النِّهَايَةِ وَالْعِنَايَةِ لَمَا جُعِلَتْ الْقِيمَةُ رَهْنًا بِرَأْيِهِمَا: أَيْ بِرَأْيِ الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ، مَعَ أَنَّ الْحُكْمَ فِيهِ أَيْضًا كَذَلِكَ فَهُوَ مَمْنُوعٌ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا لَا يَتَحَقَّقُ الْعُمُومُ

ص: 175

بِمَوْتِهِمَا وَلَا بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا فَيَبْقَى بِحُقُوقِهِ وَأَوْصَافِهِ (وَإِنْ مَاتَ الْوَكِيلُ انْتَقَضَتْ الْوَكَالَةُ وَلَا يَقُومُ وَارِثُهُ وَلَا وَصِيُّهُ مَقَامَهُ)؛ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ لَا يَجْرِي فِيهَا الْإِرْثُ، وَلِأَنَّ الْمُوَكِّلَ رَضِيَ بِرَأْيِهِ لَا بِرَأْيِ غَيْرِهِ

وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ إنَّ وَصِيَّ الْوَكِيلِ يَمْلِكُ بَيْعَهُ؛ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ لَازِمَةٌ فَيَمْلِكُهُ الْوَصِيُّ، كَالْمُضَارِبِ إذَا مَاتَ بَعْدَمَا صَارَ رَأْسُ الْمَالِ أَعْيَانًا يَمْلِكُ وَصِيُّ الْمُضَارِبِ بَيْعَهَا لِمَا أَنَّهُ لَازِمٌ بَعْدَ مَا صَارَ أَعْيَانًا

قُلْنَا: التَّوْكِيلُ حَقٌّ لَازِمٌ لَكِنْ عَلَيْهِ، وَالْإِرْثُ يَجْرِي فِيمَا لَهُ بِخِلَافِ الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّهَا حَقُّ الْمُضَارِبِ (وَلَيْسَ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَبِيعَهُ إلَّا بِرِضَا الرَّاهِنِ)؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ وَمَا رَضِيَ بِبَيْعِهِ (وَلَيْسَ لِلرَّاهِنِ أَنْ يَبِيعَهُ إلَّا بِرِضَا الْمُرْتَهِنِ)؛ لِأَنَّ الْمُرْتَهِنَ أَحَقُّ بِمَالِيَّتِهِ مِنْ الرَّاهِنِ فَلَا يَقْدِرُ الرَّاهِنُ عَلَى تَسْلِيمِهِ بِالْبَيْعِ

قَالَ (فَإِنْ حَلَّ الْأَجَلُ وَأَبَى الْوَكِيلُ الَّذِي فِي يَدِهِ الرَّهْنُ أَنْ يَبِيعَهُ وَالرَّاهِنُ غَائِبٌ أُجْبِرَ عَلَى بَيْعِهِ) لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْوَجْهَيْنِ فِي لُزُومِهِ (وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ يُوَكِّلُ غَيْرَهُ بِالْخُصُومَةِ وَغَابَ الْمُوَكِّلُ فَأَبَى أَنْ يُخَاصِمَ أُجْبِرَ عَلَى الْخُصُومَةِ) لِلْوَجْهِ الثَّانِي وَهُوَ أَنَّ فِيهِ إتْوَاءَ الْحَقِّ، بِخِلَافِ الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ؛ لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ يَبِيعُ بِنَفْسِهِ فَلَا يَتْوِي حَقَّهُ، أَمَّا الْمُدَّعِي لَا يَقْدِرُ عَلَى الدَّعْوَى وَالْمُرْتَهِنُ لَا يَمْلِكُ بَيْعَهُ بِنَفْسِهِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ التَّوْكِيلُ مَشْرُوطًا فِي عَقْدِ الرَّهْنِ وَإِنَّمَا شُرِطَ بَعْدَهُ قِيلَ لَا يُجْبَرُ اعْتِبَارًا بِالْوَجْهِ الْأَوَّلِ، وَقِيلَ يُجْبَرُ رُجُوعًا إلَى الْوَجْهِ الثَّانِي، وَهَذَا أَصَحُّ

وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله أَنَّ الْجَوَابَ فِي الْفَصْلَيْنِ وَاحِدٌ، وَيُؤَيِّدُهُ إطْلَاقُ الْجَوَابِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَفِي الْأَصْلِ

(وَإِذَا بَاعَ الْعَدْلُ الرَّهْنَ فَقَدْ خَرَجَ مِنْ الرَّهْنِ، وَالثَّمَنُ قَائِمٌ مَقَامَهُ فَكَانَ رَهْنًا، وَإِنْ لَمْ يُقْبَضْ بَعْدُ) لِقِيَامِهِ مَقَامَ مَا كَانَ مَقْبُوضًا، وَإِذَا تَوَى كَانَ مَالَ الْمُرْتَهِنِ لِبَقَاءِ عَقْدِ الرَّهْنِ فِي الثَّمَنِ لِقِيَامِهِ مَقَامَ الْمَبِيعِ الْمَرْهُونِ، وَكَذَلِكَ إذَا قُتِلَ الْعَبْدُ الرَّهْنُ وَغَرِمَ الْقَاتِلُ قِيمَتَهُ؛ لِأَنَّ الْمَالِكَ لَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ حَيْثُ الْمَالِيَّةُ، وَإِنْ كَانَ بَدَلَ الدَّمِ فَأَخَذَ حُكْمَ ضَمَانِ الْمَالِ فِي حَقِّ الْمُسْتَحِقِّ فَبَقِيَ عَقْدُ الرَّهْنِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَتَلَهُ عَبْدٌ فَدُفِعَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْأَوَّلِ لَحْمًا وَدَمًا

قَالَ (وَإِنْ بَاعَ الْعَدْلُ الرَّهْنَ فَأَوْفَى

لِذَلِكَ بَلْ يَخْتَصُّ بِمَا جُعِلَتْ الْقِيمَةُ رَهْنًا بِرَأْيِ الْقَاضِي لَوْ كَانَ لَفْظُ جَعَلَ فِي عِبَارَةِ النِّهَايَةِ وَالْعِنَايَةِ وَلَفْظُ فَعَلَ فِي عِبَارَةِ الْكِتَابِ مُبَيِّنًا لِلْفَاعِلِ، وَكَانَ الضَّمِيرُ الْمُسْتَتِرُ فِيهِ رَاجِعًا إلَى الْقَاضِي، وَأَمَّا إذَا كَانَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَكَانَ لَفْظُ الْقِيمَةِ فِي عِبَارَةِ النِّهَايَةِ وَالْعِنَايَةِ قَائِمًا مَقَامَ

ص: 176

الْمُرْتَهِنَ الثَّمَنَ ثُمَّ اُسْتُحِقَّ الرَّهْنُ فَضَمِنَهُ الْعَدْلُ كَانَ بِالْخِيَارِ، إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الرَّاهِنَ قِيمَتَهُ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُرْتَهِنَ الثَّمَنَ الَّذِي أَعْطَاهُ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ غَيْرَهُ) وَكَشْفُ هَذَا أَنَّ الْمَرْهُونَ الْمَبِيعَ إذَا اُسْتُحِقَّ إمَّا أَنْ يَكُونَ هَالِكًا أَوْ قَائِمًا

فَفِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ الْمُسْتَحِقُّ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الرَّاهِنَ قِيمَتَهُ؛ لِأَنَّهُ غَاصِبٌ فِي حَقِّهِ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْعَدْلَ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِي حَقِّهِ بِالْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ

فَإِنْ ضَمَّنَ الرَّاهِنَ نَفَذَ الْبَيْعُ وَصَحَّ الِاقْتِضَاءُ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ أَمَرَهُ بِبَيْعِ مِلْكِ نَفْسِهِ، وَإِنْ ضَمَّنَ الْبَائِعَ يَنْفُذُ الْبَيْعُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ بَاعَ مِلْكَ نَفْسِهِ

وَإِذَا ضَمَّنَ الْعَدْلَ فَالْعَدْلُ بِالْخِيَارِ، إنْ شَاءَ رَجَعَ عَلَى الرَّاهِنِ بِالْقِيمَةِ؛ لِأَنَّهُ وَكِيلٌ مِنْ جِهَتِهِ عَامِلٌ لَهُ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمَا لَحِقَهُ مِنْ الْعُهْدَةِ وَنَفَذَ الْبَيْعُ وَصَحَّ الِاقْتِضَاءُ فَلَا يَرْجِعُ الْمُرْتَهِنُ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ مِنْ دَيْنِهِ، وَإِنْ شَاءَ رَجَعَ عَلَى الْمُرْتَهِنِ بِالثَّمَنِ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَخَذَ الثَّمَنَ بِغَيْرِ حَقٍّ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ الْعَبْدَ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ وَنَفَذَ بَيْعُهُ عَلَيْهِ فَصَارَ الثَّمَنُ لَهُ، وَإِنَّمَا أَدَّاهُ إلَيْهِ عَلَى حُسْبَانِ أَنَّهُ مِلْكُ الرَّاهِنِ، فَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ مِلْكُهُ لَمْ يَكُنْ رَاضِيًا بِهِ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ عَلَيْهِ، وَإِذَا رَجَعَ بَطَلَ الِاقْتِضَاءُ فَيَرْجِعُ الْمُرْتَهِنُ عَلَى الرَّاهِنِ بِدَيْنِهِ

وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي وَهُوَ أَنْ يَكُونَ قَائِمًا فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَلِلْمُسْتَحِقِّ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْ يَدِهِ؛ لِأَنَّهُ وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ

ثُمَّ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْعَدْلِ بِالثَّمَنِ؛ لِأَنَّهُ الْعَاقِدُ فَتَتَعَلَّقُ بِهِ حُقُوقُ الْعَقْدِ، وَهَذَا مِنْ حُقُوقِهِ حَيْثُ وَجَبَ بِالْبَيْعِ، وَإِنَّمَا أَدَّاهُ لِيُسَلِّمَ لَهُ الْمَبِيعَ وَلَمْ يُسَلِّمْ

ثُمَّ الْعَدْلُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ رَجَعَ عَلَى الرَّاهِنِ بِالْقِيمَةِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَدْخَلَهُ فِي هَذِهِ الْعُهْدَةِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ تَخْلِيصُهُ

وَإِذَا رَجَعَ عَلَيْهِ صَحَّ قَبْضُ الْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّ الْمَقْبُوضَ سُلِّمَ لَهُ، وَإِنْ شَاءَ رَجَعَ عَلَى الْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّهُ إذَا انْتَقَضَ الْعَقْدُ بَطَلَ الثَّمَنُ وَقَدْ قَبَضَهُ ثَمَنًا فَيَجِبُ نَقْضُ قَبْضِهِ ضَرُورَةً، وَإِذَا رَجَعَ عَلَيْهِ وَانْتُقِضَ قَبْضُهُ عَادَ حَقُّهُ فِي الدَّيْنِ كَمَا كَانَ فَيَرْجِعُ بِهِ عَلَى الرَّاهِنِ

وَلَوْ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ سَلَّمَ الثَّمَنَ إلَى الْمُرْتَهِنِ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْعَدْلِ؛ لِأَنَّهُ فِي الْبَيْعِ عَامَلَ الرَّاهِنَ، وَإِنَّمَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ إذَا قَبَضَ وَلَمْ يَقْبِضْ فَبَقِيَ الضَّمَانُ عَلَى الْمُوَكِّلِ، وَلَوْ كَانَ التَّوْكِيلُ بَعْدَ عَقْدِ الرَّهْنِ غَيْرَ مَشْرُوطٍ فِي الْعَقْدِ فَمَا لَحِقَ الْعَدْلَ مِنْ الْعُهْدَةِ يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الرَّاهِنِ قَبَضَ الثَّمَنَ الْمُرْتَهِنُ أَمْ لَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهَذَا التَّوْكِيلِ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ فَلَا رُجُوعَ، كَمَا فِي الْوَكَالَةِ الْمُفْرَدَةِ عَنْ الرَّهْنِ إذَا بَاعَ الْوَكِيلُ وَدَفَعَ الثَّمَنَ إلَى مَنْ أَمَرَهُ الْمُوَكِّلُ ثُمَّ لَحِقَهُ عُهْدَةٌ لَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْمُقْتَضَى، بِخِلَافِ الْوَكَالَةِ الْمَشْرُوطَةِ فِي الْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ فَيَكُونُ الْبَيْعُ لِحَقِّهِ

قَالَ رضي الله عنه: هَكَذَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ، وَهَذَا

الْفَاعِلِ فَيَتَحَمَّلُ الْعُمُومَ لِلصُّورَتَيْنِ مَعًا كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى الْفَطِنِ، وَإِنْ كَانَ وَجْهُ بَحْثِهِ عَدَمَ تَحَقُّقِ الْعُمُومِ فِيمَا ذُكِرَ فِي النِّهَايَةِ وَالْعِنَايَةِ لَمَا

ص: 177

يُؤَيِّدُ قَوْلَ مَنْ لَا يَرَى جَبْرَ هَذَا الْوَكِيلِ عَلَى الْبَيْعِ

قَالَ (وَإِنْ مَاتَ الْعَبْدُ الْمَرْهُونُ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ ثُمَّ اسْتَحَقَّهُ رَجُلٌ فَلَهُ الْخِيَارُ، إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الرَّاهِنَ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُرْتَهِنَ)؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَعَدٍّ فِي حَقِّهِ بِالتَّسْلِيمِ أَوْ بِالْقَبْضِ (فَإِنْ ضَمَّنَ الرَّاهِنَ فَقَدْ مَاتَ بِالدَّيْنِ)؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ فَصَحَّ الْإِيفَاءُ (وَإِنْ ضَمَّنَ الْمُرْتَهِنَ يَرْجِعُ عَلَى الرَّاهِنِ بِمَا ضَمِنَ مِنْ الْقِيمَةِ وَبِدَيْنِهِ) أَمَّا بِالْقِيمَةِ فَلِأَنَّهُ مَغْرُورٌ مِنْ جِهَةِ الرَّاهِنِ، وَأَمَّا بِالدَّيْنِ فَلِأَنَّهُ انْتَقَضَ اقْتِضَاؤُهُ فَيَعُودُ حَقُّهُ كَمَا كَانَ

فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا كَانَ قَرَارُ الضَّمَانِ عَلَى الرَّاهِنِ بِرُجُوعِ الْمُرْتَهِنِ عَلَيْهِ، وَالْمِلْكُ فِي الْمَضْمُونِ يَثْبُتُ لِمَنْ عَلَيْهِ قَرَارُ الضَّمَانِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ رَهَنَ مِلْكَ نَفْسِهِ فَصَارَ كَمَا إذَا ضَمَّنَ الْمُسْتَحِقُّ الرَّاهِنَ ابْتِدَاءً

قُلْنَا: هَذَا طَعْنُ أَبِي حَازِمٍ الْقَاضِي

وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّهُ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِسَبَبِ الْغُرُورِ وَالْغُرُورُ بِالتَّسْلِيمِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ، أَوْ بِالِانْتِقَالِ مِنْ الْمُرْتَهِنِ إلَيْهِ كَأَنَّهُ وَكِيلٌ عَنْهُ، وَالْمِلْكُ بِكُلِّ ذَلِكَ مُتَأَخِّرٌ عَنْ عَقْدِ الرَّهْنِ، بِخِلَافِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحِقَّ يَضْمَنُهُ بِاعْتِبَارِ الْقَبْضِ السَّابِقِ عَلَى الرَّهْنِ فَيَسْتَنِدُ الْمِلْكُ إلَيْهِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ رَهَنَ مِلْكَ نَفْسِهِ

وَقَدْ طَوَّلْنَا الْكَلَامَ فِي كِفَايَةِ الْمُنْتَهَى

جُعِلَتْ الْقِيمَةُ رَهْنًا فِي يَدِ غَيْرِ الْعَدْلِ الْأَوَّلِ فَأَمْرُهُ هَيِّنٌ، فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ عَدَمُ التَّفَاوُتِ بَيْنَ أَنْ جُعِلَتْ الْقِيمَةُ بَعْدَ الضَّمَانِ رَهْنًا فِي يَدِ الْعَدْلِ الْأَوَّلِ وَبَيْنَ أَنْ جُعِلَتْ رَهْنًا فِي يَدِ غَيْرِهِ ظَاهِرًا اكْتَفَى بِذِكْرِ الْأَوَّلِ رَوْمًا لِلِاخْتِصَارِ

ص: 178

بَابُ التَّصَرُّفِ فِي الرَّهْنِ وَالْجِنَايَةِ عَلَيْهِ وَجِنَايَتِهِ عَلَى غَيْرِهِ

قَالَ (وَإِذَا بَاعَ الرَّاهِنُ الرَّهْنَ بِغَيْرِ إذْنِ الْمُرْتَهِنِ فَالْبَيْعُ مَوْقُوفٌ) لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ بِهِ وَهُوَ الْمُرْتَهِنُ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَتِهِ، وَإِنْ كَانَ الرَّاهِنُ يَتَصَرَّفُ فِي مِلْكِهِ كَمَنْ أَوْصَى بِجَمِيعِ مَالِهِ تَقِفُ عَلَى إجَازَةِ الْوَرَثَةِ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ لِتَعَلُّقِ حَقِّهِمْ بِهِ (فَإِنْ أَجَازَ الْمُرْتَهِنُ جَازَ)؛ لِأَنَّ التَّوَقُّفَ لِحَقِّهِ وَقَدْ رَضِيَ بِسُقُوطِهِ (وَإِنْ قَضَاهُ الرَّاهِنُ دَيْنَهُ جَازَ أَيْضًا)؛ لِأَنَّهُ زَالَ الْمَانِعُ مِنْ النُّفُوذِ وَالْمُقْتَضِي مَوْجُودٌ وَهُوَ التَّصَرُّفُ الصَّادِرُ مِنْ الْأَهْلِ فِي الْمَحَلِّ (وَإِذَا نَفَذَ الْبَيْعُ بِإِجَازَةِ الْمُرْتَهِنِ يَنْتَقِلُ حَقُّهُ إلَى بَدَلِهِ هُوَ الصَّحِيحُ)؛ لِأَنَّ حَقَّهُ تَعَلَّقَ بِالْمَالِيَّةِ، وَالْبَدَلُ لَهُ حُكْمُ الْمُبْدَلِ فَصَارَ كَالْعَبْدِ الْمَدْيُونِ الْمَأْذُونِ إذَا بِيعَ بِرِضَا الْغُرَمَاءِ يَنْتَقِلُ حَقُّهُمْ إلَى الْبَدَلِ؛ لِأَنَّهُمْ رَضُوا بِالِانْتِقَالِ دُونَ السُّقُوطِ رَأْسًا فَكَذَا هَذَا

بَابُ التَّصَرُّفِ فِي الرَّهْنِ وَالْجِنَايَةِ عَلَيْهِ وَجِنَايَتِهِ عَلَى غَيْرِهِ)

لَمَّا كَانَ التَّصَرُّفُ فِي الرَّهْنِ، وَالْجِنَايَةُ عَلَيْهِ وَجِنَايَتُهُ عَلَى غَيْرِهِ مُتَأَخِّرًا طَبْعًا عَنْ كَوْنِهِ رَهْنًا أَخَّرَهُ وَضْعًا لِيُوَافِقَ الْوَضْعُ الطَّبْعَ (قَوْلُهُ وَإِذَا بَاعَ الرَّاهِنُ بِغَيْرِ إذْنِ الْمُرْتَهِنِ فَالْبَيْعُ مَوْقُوفٌ) اخْتَلَفَتْ عِبَارَةُ مُحَمَّدٍ فِيهِ

فِي مَوْضِعٍ قَالَ: بَيْعُ الْمَرْهُونِ فَاسِدٌ، وَفِي مَوْضِعٍ قَالَ: جَائِزٌ

وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ جَائِزٌ مَوْقُوفٌ

وَقَوْلُهُ فَاسِدٌ مَحْمُولٌ عَلَى مَا لَمْ يَجُزْ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ يُفْسِدُهُ إذَا خُوصِمَ إلَيْهِ وَطَلَبَ الْمُشْتَرِي التَّسْلِيمَ

وَقَوْلُهُ جَائِزٌ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا أَجَازَهُ وَسَلَّمَهُ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ الشُّرُوحِ

قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ قَوْلُهُ فَاسِدٌ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي التَّشْبِيهِ، فَإِنَّهُ كَالْفَاسِدِ فِي عَدَمِ تَرَتُّبِ الْحُكْمِ فِي الْفِعْلِ، أَوْ أَنَّهُ مَجَازٌ عَلَى سَبِيلِ الْمُشَارَفَةِ فَإِنَّهُ عَلَى شَرَفِ أَنْ يَفْسُدَ إذَا لَمْ يُجِزْهُ انْتَهَى

أَقُولُ: لَا يَخْفَى عَلَى ذِي فِطْرَةٍ سَلِيمَةٍ أَنَّ هَذَيْنِ التَّأْوِيلَيْنِ لَيْسَا بِتَأْوِيلٍ فِقْهِيٍّ بَلْ هُمَا مِنْ قَبِيلِ التَّأْوِيلِ اللُّغَوِيِّ الَّذِي فِيهِ نَوْعُ إلْغَازٍ وَتَعْمِيَةٍ فَلَا يُنَاسِبُ أَصْحَابَ هَذَا الْفَنِّ سِيَّمَا فِي مَوْضِعِ الْكَشْفِ وَالْبَيَانِ (قَوْلُهُ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ بِهِ وَهُوَ الْمُرْتَهِنُ فَيُتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَتِهِ، وَإِنْ كَانَ الرَّاهِنُ يَتَصَرَّفُ فِي مِلْكِهِ) أَقُولُ: فِي تَمَامِ هَذَا الْقَدْرِ مِنْ التَّعْلِيلِ نَظَرٌ،

ص: 179

(وَإِنْ لَمْ يُجِزْ الْمُرْتَهِنُ الْبَيْعَ وَفَسَخَهُ انْفَسَخَ فِي رِوَايَةٍ، حَتَّى لَوْ افْتَكَّ الرَّاهِنُ الرَّهْنَ لَا سَبِيلَ لِلْمُشْتَرِي عَلَيْهِ)؛ لِأَنَّ الْحَقَّ الثَّابِتَ لِلْمُرْتَهِنِ بِمَنْزِلَةِ الْمِلْكِ فَصَارَ كَالْمَالِكِ لَهُ أَنْ يُجِيزَ وَلَهُ أَنْ يَفْسَخَ (وَفِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ لَا يَنْفَسِخُ بِفَسْخِهِ)؛ لِأَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ حَقُّ الْفَسْخِ لَهُ إنَّمَا يُثْبِتُ ضَرُورَةَ صِيَانَةِ حَقِّهِ، وَحَقُّهُ فِي الْحَبْسِ لَا يَبْطُلُ بِانْعِقَادِ هَذَا الْعَقْدِ فَبَقِيَ مَوْقُوفًا، فَإِنْ شَاءَ الْمُشْتَرِي صَبَرَ حَتَّى يَفْتَكَّ الرَّاهِنُ الرَّهْنَ؛ إذْ الْعَجْزُ عَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ، وَإِنْ شَاءَ رَفَعَ الْأَمْرَ إلَى الْقَاضِي، وَلِلْقَاضِي أَنْ يَفْسَخَ لِفَوَاتِ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّسْلِيمِ، وَوِلَايَةُ الْفَسْخِ إلَى الْقَاضِي لَا إلَيْهِ، وَصَارَ كَمَا إذَا أَبَقَ الْعَبْدُ الْمُشْتَرَى قَبْلَ الْقَبْضِ فَإِنَّهُ يَتَخَيَّرُ الْمُشْتَرِي لِمَا ذَكَرْنَا كَذَلِكَ هَذَا (وَلَوْ بَاعَهُ الرَّاهِنُ مِنْ رَجُلٍ ثُمَّ بَاعَهُ بَيْعًا ثَانِيًا مِنْ غَيْرِهِ قَبْلَ أَنْ يُجِيزَهُ الْمُرْتَهِنُ فَالثَّانِي مَوْقُوفٌ أَيْضًا عَلَى إجَازَتِهِ)؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ لَمْ يَنْفُذْ وَالْمَوْقُوفُ لَا يَمْنَعُ تَوَقُّفَ الثَّانِي، فَلَوْ أَجَازَ الْمُرْتَهِنُ الْبَيْعَ الثَّانِي جَازَ الثَّانِي.

(وَلَوْ بَاعَ الرَّاهِنُ ثُمَّ أَجَّرَ أَوْ وَهَبَ أَوْ رَهَنَ مِنْ غَيْرِهِ، وَأَجَازَ الْمُرْتَهِنُ هَذِهِ الْعُقُودَ جَازَ الْبَيْعُ الْأَوَّلُ) وَالْفَرْقُ أَنَّ الْمُرْتَهِنَ ذُو حَظٍّ مِنْ الْبَيْعِ الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ يَتَعَلَّقُ حَقُّهُ بِبَدَلِهِ فَيَصِحُّ تَعْيِينُهُ لِتَعَلُّقِ فَائِدَتِهِ بِهِ، أَمَّا لَا حَقَّ لَهُ فِي هَذِهِ الْعُقُودِ؛ لِأَنَّهُ لَا بَدَلَ فِي الْهِبَةِ وَالرَّهْنِ، وَاَلَّذِي فِي الْإِجَارَةِ بَدَلُ الْمَنْفَعَةِ لَا بَدَلُ الْعَيْنِ، وَحَقُّهُ فِي مَالِيَّةِ الْعَيْنِ لَا فِي الْمَنْفَعَةِ فَكَانَتْ إجَازَتُهُ إسْقَاطًا لِحَقِّهِ فَزَالَ الْمَانِعُ فَنَفَذَ الْبَيْعُ الْأَوَّلُ فَوَضَحَ الْفَرْقُ

قَالَ (وَلَوْ أَعْتَقَ الرَّاهِنُ عَبْدَ الرَّهْنِ نَفَذَ عِتْقُهُ) وَفِي بَعْضِ أَقْوَالِ الشَّافِعِيِّ لَا يَنْفُذُ إذَا كَانَ الْمُعْتِقُ مُعْسِرًا؛ لِأَنَّ فِي تَنْفِيذِهِ إبْطَالَ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ فَأَشْبَهَ الْبَيْعَ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ مُوسِرًا حَيْثُ يَنْفُذُ عَلَى بَعْضِ أَقْوَالِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَبْطُلُ حَقُّهُ مَعْنًى بِالتَّضْمِينِ، وَبِخِلَافِ إعْتَاقِ الْمُسْتَأْجِرِ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ تَبْقَى مُدَّتُهَا؛ إذْ الْحُرُّ يَقْبَلُهَا، أَمَّا مَا لَا يَقْبَلُ

فَإِنَّهُ يُنْتَقَضُ بِمَا إذَا أَعْتَقَ الرَّاهِنُ عَبْدَ الرَّهْنِ فَإِنَّهُ يَنْفُذُ عِتْقُهُ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْكِتَابِ مَعَ جَرَيَانِ هَذَا التَّعْلِيلِ هُنَاكَ أَيْضًا

فَالْوَجْهُ فِي التَّعْلِيلِ هَا هُنَا أَنْ يُقَالَ لِانْعِدَامِ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّسْلِيمِ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ بِهِ وَهُوَ الْمُرْتَهِنُ فَيُتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَتِهِ؛ أَلَا يُرَى أَنَّ الْمُصَنِّفَ إنَّمَا فَصَلَ بَيْنَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَمَسْأَلَةِ الْإِعْتَاقِ بِانْعِدَامِ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّسْلِيمِ حَيْثُ قَالَ فِي آخِرِ تَعْلِيلِ الْمَسْأَلَةِ: مَسْأَلَةُ الْإِعْتَاقِ مِنْ قِبَلِ

ص: 180

الرَّهْنَ فَلَا يَبْقَى

وَلَنَا أَنَّهُ مُخَاطَبٌ أَعْتَقَ مِلْكَ نَفْسِهِ فَلَا يَلْغُو بِصَرْفِهِ بِعَدَمِ إذْنِ الْمُرْتَهِنِ كَمَا إذَا أَعْتَقَ الْعَبْدُ الْمُشْتَرَى قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ أَعْتَقَ الْآبِقَ أَوْ الْمَغْصُوبَ، وَلَا خَفَاءَ فِي قِيَامِ مِلْكِ الرَّقَبَةِ لِقِيَامِ الْمُقْتَضِي، وَعَارِضُ الرَّهْنِ لَا يُنْبِئُ عَنْ زَوَالِهِ

ثُمَّ إذَا زَالَ مِلْكُهُ فِي الرَّقَبَةِ بِإِعْتَاقِهِ يَزُولُ مِلْكُ الْمُرْتَهِنِ فِي الْيَدِ بِنَاءً عَلَيْهِ كَإِعْتَاقِ الْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ، بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ مِلْكَ الرَّقَبَةِ أَقْوَى مِنْ مِلْكِ الْيَدِ، فَلَمَّا لَمْ يُمْنَعْ الْأَعْلَى لَا يُمْنَعُ الْأَدْنَى بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى، وَامْتِنَاعُ النَّفَاذِ فِي الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ لِانْعِدَامِ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّسْلِيمِ، وَإِعْتَاقُ الْوَارِثِ الْعَبْدَ الْمُوصَى بِرَقَبَتِهِ لَا يَلْغُو بَلْ يُؤَخَّرُ إلَى أَدَاءِ السِّعَايَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَإِذَا نَفَذَ الْإِعْتَاقُ بَطَلَ الرَّهْنُ لِفَوَاتِ مَحَلِّهِ (ثُمَّ) بَعْدَ ذَلِكَ (إنْ كَانَ الرَّاهِنُ مُوسِرًا، وَالدَّيْنُ حَالًّا طُولِبَ بِأَدَاءِ الدَّيْنِ)؛ لِأَنَّهُ لَوْ طُولِبَ بِأَدَاءِ الْقِيمَةِ تَقَعُ الْمُقَاصَّةُ بِقَدْرِ الدَّيْنِ فَلَا فَائِدَةَ فِيهِ (وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ مُؤَجَّلًا أُخِذَتْ مِنْهُ قِيمَةُ الْعَبْدِ وَجُعِلَتْ رَهْنًا مَكَانَهُ حَتَّى يَحِلَّ الدَّيْنُ)؛ لِأَنَّ سَبَبَ الضَّمَانِ مُتَحَقِّقٌ، وَفِي التَّضْمِينِ فَائِدَةٌ فَإِذَا حَلَّ الدَّيْنُ اقْتَضَاهُ بِحَقِّهِ إذَا كَانَ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ وَرَدَّ الْفَضْلَ (وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا سَعَى الْعَبْدُ فِي قِيمَتِهِ وَقَضَى بِهِ الدَّيْنَ إلَّا إذَا كَانَ بِخِلَافِ جِنْسِ حَقِّهِ)؛ لِأَنَّهُ لَمَّا تَعَذَّرَ الْوُصُولُ إلَى عَيْنِ حَقِّهِ مِنْ جِهَةِ الْمُعْتَقِ يَرْجِعُ إلَى مَنْ يَنْتَفِعُ بِعِتْقِهِ وَهُوَ الْعَبْدُ؛ لِأَنَّ الْخَرَاجَ بِالضَّمَانِ

قَالَ رضي الله عنه: وَتَأْوِيلُهُ إذَا كَانَتْ الْقِيمَةُ أَقَلَّ مِنْ الدَّيْنِ، أَمَّا إذَا كَانَ الدَّيْنُ أَقَلَّ نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى (ثُمَّ يَرْجِعُ بِمَا سَعَى عَلَى مَوْلَاهُ إذَا أَيْسَرَ)؛ لِأَنَّهُ قَضَى دَيْنَهُ وَهُوَ مُضْطَرٌّ

أَصْحَابِنَا، وَامْتِنَاعُ النَّفَاذِ فِي الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ لِانْعِدَامِ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّسْلِيمِ تَدَبَّرْ

(قَوْلُهُ وَامْتِنَاعُ النَّفَاذِ فِي الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ لِانْعِدَامِ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّسْلِيمِ)؛ لِأَنَّ يَدَ الْمُرْتَهِنِ مَانِعَةٌ عَنْ التَّسْلِيمِ وَالْبَيْعِ

كَمَا يَفْتَقِرُ إلَى الْمِلْكِ يَفْتَقِرُ إلَى الْقُدْرَةِ عَلَى التَّسْلِيمِ، وَلِهَذَا لَا يَنْفُذُ بَيْعُ الْآبِقِ وَالْمُسْتَأْجِرِ،

ص: 181

فِيهِ بِحُكْمِ الشَّرْعِ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمَا تَحَمَّلَ عَنْهُ، بِخِلَافِ الْمُسْتَسْعَى فِي الْإِعْتَاقِ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي ضَمَانًا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَسْعَى لِتَحْصِيلِ الْعِتْقِ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا لِتَكْمِيلِهِ، وَهُنَا يَسْعَى فِي ضَمَانٍ عَلَى غَيْرِهِ بَعْدَ تَمَامِ إعْتَاقِهِ فَصَارَ كَمُعِيرِ الرَّهْنِ

ثُمَّ أَبُو حَنِيفَةَ أَوْجَبَ السِّعَايَةَ فِي الْمُسْتَسْعَى الْمُشْتَرَكِ فِي حَالَتَيْ الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ، وَفِي الْعَبْدِ الْمَرْهُونِ شَرَطَ الْإِعْسَارَ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ لِلْمُرْتَهِنِ حَقُّ الْمِلْكِ وَأَنَّهُ أَدْنَى مِنْ حَقِيقَتِهِ الثَّابِتَةِ لِلشَّرِيكِ السَّاكِتِ فَوَجَبَ السِّعَايَةُ هُنَا فِي حَالَةِ وَاحِدَةٍ إظْهَارُ النُّقْصَانِ رُتْبَتَهُ بِخِلَافِ الْمُشْتَرَى قَبْلَ الْقَبْضِ إذَا أَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي حَيْثُ لَا يَسْعَى لِلْبَائِعِ إلَّا رِوَايَةً عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَالْمَرْهُونُ يَسْعَى؛ لِأَنَّ حَقَّ الْبَائِعِ فِي الْحَبْسِ أَضْعَفُ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ لَا يَمْلِكُهُ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُسْتَوْفَى مِنْ عَيْنِهِ، وَكَذَلِكَ يَبْطُلُ حَقُّهُ فِي الْحَبْسِ بِالْإِعَارَةِ مِنْ الْمُشْتَرِي، وَالْمُرْتَهِنُ يَنْقَلِبُ حَقُّهُ مِلْكًا، وَلَا يَبْطُلُ حَقُّهُ بِالْإِعَارَةِ مِنْ الرَّاهِنِ حَتَّى يُمْكِنَهُ الِاسْتِرْدَادُ، فَلَوْ أَوْجَبْنَا السِّعَايَةَ فِيهِمَا لَسَوَّيْنَا بَيْنَ الْحَقَّيْنِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ

(وَلَوْ)(أَقَرَّ الْمَوْلَى بِرَهْنِ عَبْدِهِ) بِأَنْ قَالَ (لَهُ رَهَنْتُك عِنْدَ فُلَانٍ وَكَذَّبَهُ الْعَبْدُ ثُمَّ أَعْتَقَهُ)(تَجِبُ السِّعَايَةُ) عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ، وَهُوَ يُعْتَبَرُ، بِإِقْرَارِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ

وَنَحْنُ نَقُولُ أَقَرَّ بِتَعَلُّقِ الْحَقِّ فِي حَالٍ يَمْلِكُ التَّعْلِيقَ فِيهِ لِقِيَامِ مِلْكِهِ فَيَصِحُّ، بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الْعِتْقِ؛ لِأَنَّهُ حَالَ انْقِطَاعِ الْوِلَايَةِ

قَالَ (وَلَوْ دَبَّرَهُ الرَّاهِنُ صَحَّ تَدْبِيرُهُ بِالِاتِّفَاقِ) أَمَّا عِنْدَنَا فَظَاهِرٌ، وَكَذَا عِنْدَهُ؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ لَا يَمْنَعُ الْبَيْعَ عَلَى أَصْلِهِ (وَلَوْ كَانَتْ أَمَةً فَاسْتَوْلَدَهَا الرَّاهِنُ صَحَّ الِاسْتِيلَادُ بِالِاتِّفَاقِ)؛ لِأَنَّهُ يَصِحُّ بِأَدْنَى الْحَقَّيْنِ وَهُوَ مَا لِلْأَبِ فِي جَارِيَةِ الِابْنِ فَيَصِحُّ بِالْأَعْلَى (وَإِذَا صَحَّا خَرَجَا مِنْ الرَّهْنِ) لِبُطْلَانِ الْمَحَلِّيَّةِ؛ إذْ لَا يَصِحُّ اسْتِيفَاءُ الدَّيْنِ مِنْهُمَا (فَإِنْ كَانَ الرَّاهِنُ مُوسِرًا ضَمِنَ قِيمَتَهُمَا) عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي الْإِعْتَاقِ (وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا اسْتَسْعَى الْمُرْتَهِنُ الْمُدَبَّرَ وَأُمَّ الْوَلَدِ فِي جَمِيعِ الدَّيْنِ)؛ لِأَنَّ كَسْبَهُمَا مَالُ الْمَوْلَى، بِخِلَافِ الْمُعْتَقِ حَيْثُ يَسْعَى فِي الْأَقَلِّ مِنْ الدَّيْنِ وَمِنْ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ كَسْبَهُ حَقُّهُ، وَالْمُحْتَبَسُ عِنْدَهُ لَيْسَ إلَّا قَدْرَ الْقِيمَةِ فَلَا يُزَادُ عَلَيْهِ، وَحَقُّ الْمُرْتَهِنِ بِقَدْرِ الدَّيْنِ فَلَا تَلْزَمُهُ الزِّيَادَةُ وَلَا يَرْجِعَانِ بِمَا يُؤَدِّيَانِ عَلَى الْمَوْلَى بَعْدَ يَسَارِهِ؛ لِأَنَّهُمَا أَدَّيَاهُ مِنْ مَالِ الْمَوْلَى، وَالْمُعْتَقُ يَرْجِعُ؛ لِأَنَّهُ أَدَّى مِلْكَهُ عَنْهُ وَهُوَ مُضْطَرٌّ عَلَى مَا مَرَّ

وَقِيلَ الدَّيْنُ إذَا كَانَ مُؤَجَّلًا يَسْعَى الْمُدَبَّرُ فِي قِيمَتِهِ قِنًّا؛ لِأَنَّهُ عِوَضُ الرَّهْنِ حَتَّى تُحْبَسَ مَكَانَهُ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ الْعِوَضِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ حَالًّا؛ لِأَنَّهُ يَقْضِي بِهِ الدَّيْنَ، وَلَوْ أَعْتَقَ الرَّاهِنُ الْمُدَبَّرَ وَقَدْ قَضَى عَلَيْهِ بِالسِّعَايَةِ أَوْ لَمْ يَقْضِ لَمْ يَسْعَ إلَّا بِقَدْرِ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ كَسْبَهُ بَعْدَ الْعِتْقِ مِلْكُهُ، وَمَا أَدَّاهُ قَبْلَ الْعِتْقِ لَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَى مَوْلَاهُ

وَالْإِعْتَاقُ لَا يَفْتَقِرُ إلَيْهَا بِدَلِيلِ نَفَاذِ إعْتَاقِ الْآبِقِ، كَذَا فِي الْكَافِي وَغَيْرِهِ

وَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ صَاحِبُ التَّسْهِيلِ حَيْثُ قَالَ: أَقُولُ هَذَا يَلْزَمُ أَنْ يَفْسُدَ بَيْعُ الرَّهْنِ وَلَا يُتَوَقَّفُ، وَبَيْنَهُمَا فَرْقٌ؛ إذْ الْفَاسِدُ يُمْلَكُ بِالْقَبْضِ دُونَ الْمَوْقُوفِ؛ أَلَا يُرَى أَنَّ الْمَبِيعَ بِالْبَيْعِ الْفُضُولِيِّ لَا يُمْلَكُ بِالْقَبْضِ وَهُوَ مَوْقُوفٌ لَا فَاسِدٌ انْتَهَى

أَقُولُ: هَذَا الِاعْتِرَاضُ ظَاهِرُ السُّقُوطِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَلْزَمُ أَنْ يَفْسُدَ بَيْعُ الرَّهْنِ وَلَا يُتَوَقَّفُ أَنْ لَوْ انْتَفَى الْقُدْرَةُ عَلَى تَسْلِيمِهِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَالْمُنْتَفَى فِي بَيْعِ الرَّهْنِ إنَّمَا هُوَ الْقُدْرَةُ عَلَى تَسْلِيمِهِ بِدُونِ إجَازَةِ الْمُرْتَهِنِ أَوْ قَضَاءُ الرَّاهِنِ دَيْنَهُ لَا الْقُدْرَةُ عَلَى تَسْلِيمِهِ أَصْلًا فَيُتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَةِ الْمُرْتَهِنِ أَوْ قَضَاءِ الرَّاهِنِ دَيْنَهُ؛ إذْ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا

ص: 182

لِأَنَّهُ أَدَّاهُ مِنْ مَالِ الْمَوْلَى

قَالَ (وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَهْلَكَ الرَّاهِنُ الرَّهْنَ)؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ مُحْتَرَمٌ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ بِالْإِتْلَافِ، وَالضَّمَانُ رَهْنٌ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ لِقِيَامِهِ مَقَامَ الْعَيْنِ (فَإِنْ اسْتَهْلَكَهُ أَجْنَبِيٌّ فَالْمُرْتَهِنُ هُوَ الْخَصْمُ فِي تَضْمِينِهِ فَيَأْخُذُ الْقِيمَةَ وَتَكُونُ رَهْنًا فِي يَدِهِ)؛ لِأَنَّهُ أَحَقُّ بِعَيْنِ الرَّهْنِ حَالَ قِيَامِهِ فَكَذَا فِي اسْتِرْدَادِ مَا قَامَ مَقَامَهُ، وَالْوَاجِبُ عَلَى هَذَا الْمُسْتَهْلِكِ قِيمَتُهُ يَوْمَ هَلَكَ، فَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ يَوْمَ اسْتَهْلَكَهُ خَمْسَمِائَةٍ وَيَوْمَ رَهَنَ أَلْفًا غَرِمَ خَمْسَمِائَةٍ وَكَانَتْ رَهْنًا وَسَقَطَ مِنْ الدَّيْنِ خَمْسُمِائَةٍ فَصَارَ الْحُكْمُ فِي الْخَمْسِمِائَةِ الزِّيَادَةَ كَأَنَّهَا هَلَكَتْ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ، وَالْمُعْتَبَرُ فِي ضَمَانِ الرَّهْنِ الْقِيمَةُ يَوْمَ الْقَبْضِ لَا يَوْمَ الْفِكَاكِ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ السَّابِقَ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ قَبْضٌ اسْتِيفَاءً، إلَّا أَنَّهُ يَتَقَرَّرُ عِنْدَ الْهَلَاكِ (وَلَوْ اسْتَهْلَكَهُ الْمُرْتَهِنُ وَالدَّيْنُ مُؤَجَّلٌ غَرِمَ الْقِيمَةَ)؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ مِلْكَ الْغَيْرِ (وَكَانَتْ رَهْنًا فِي يَدِهِ حَتَّى يَحِلَّ الدَّيْنُ)؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ بَدَلُ الْعَيْنِ فَأَخَذَ حُكْمَهُ (وَإِذَا حَلَّ الدَّيْنُ وَهُوَ عَلَى صِفَةِ الْقِيمَةِ اسْتَوْفَى الْمُرْتَهِنُ مِنْهَا قَدْرَ حَقِّهِ)؛ لِأَنَّهُ جِنْسُ حَقِّهِ (ثُمَّ إنْ كَانَ فِيهِ فَضْلٌ يَرُدُّهُ عَلَى الرَّاهِنِ)؛ لِأَنَّهُ بَدَلُ مِلْكِهِ وَقَدْ فَرَغَ عَنْ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ (وَإِنْ نَقَصَتْ عَنْ الدَّيْنِ بِتَرَاجُعِ السِّعْرِ إلَى خَمْسِمِائَةٍ وَقَدْ كَانَتْ قِيمَتُهُ يَوْمَ الرَّهْنِ أَلْفًا وَجَبَ بِالِاسْتِهْلَاكِ خَمْسُمِائَةٍ وَسَقَطَ مِنْ الدَّيْنِ خَمْسُمِائَةٍ)؛ لِأَنَّ مَا انْتَقَصَ كَالْهَالِكِ

تَحْصُلُ الْقُدْرَةُ عَلَى التَّسْلِيمِ فَيَنْفُذُ الْبَيْعُ كَمَا فِي الْبَيْعِ الْفُضُولِيِّ

(قَوْلُهُ: وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَهْلَكَ الرَّاهِنُ الرَّهْنَ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ، هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا ضَمِنَ قِيمَتَهُمَا، وَاقْتَفَى أَثَرَهُ صَاحِبُ مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ، وَصَاحِبُ الْعِنَايَةِ

أَقُولُ: شَرْحُ هَذَا الْمَقَامِ بِهَذَا الْوَجْهِ خُرُوجٌ عَنْ سُنَنِ الصَّوَابِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَهْلَكَ الرَّاهِنُ الرَّهْنَ لَفْظُ الْقُدُورِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ: وَهُوَ مَذْكُورٌ فِي الْبِدَايَةِ أَيْضًا

وَقَوْلُهُ فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا ضَمِنَ قِيمَتَهُمَا لَيْسَ بِلَفْظِ الْقُدُورِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ، وَلَيْسَ بِمَذْكُورٍ فِي الْبِدَايَةِ أَصْلًا بَلْ هُوَ مِنْ الْمَسَائِلِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ فِي الْهِدَايَةِ تَفْرِيعًا عَلَى مَسْأَلَةِ مُخْتَصَرِ الْقُدُورِيِّ، وَهِيَ مِنْ قَوْلِهِ وَلَوْ أَقَرَّ الْمَوْلَى بِرَهْنِ عَبْدِهِ إلَى هُنَا فَكَيْفَ يَصِحُّ جَعْلُ لَفْظِ أَحَدِ الشَّيْخَيْنِ فِي أَحَدِ الْكِتَابَيْنِ مَعْطُوفًا عَلَى لَفْظِ شَيْخٍ آخَرَ فِي كِتَابٍ آخَرَ، وَكَيْفَ يُمْكِنُ عَطْفُ عِبَارَةِ الْمَتْنِ وَهُوَ الْبِدَايَةُ عَلَى عِبَارَةِ الشَّرْحِ وَهُوَ الْهِدَايَةُ مَعَ تَقَدُّمِ تَحَقُّقِ عِبَارَةِ الْمَتْنِ عَلَى تَحَقُّقِ عِبَارَةِ الشَّرْحِ

فَالصَّوَابُ أَنْ يُجْعَلَ قَوْلُهُ الْمَذْكُورُ مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ فِيمَا مَرَّ، فَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ حَالًّا طُولِبَ بِأَدَاءِ الدَّيْنِ، وَإِنْ كَانَ مُؤَجَّلًا أُخِذَ مِنْهُ قِيمَةُ الْعَبْدِ وَجُعِلَتْ رَهْنًا مَكَانَهُ حَتَّى يَحِلَّ الدَّيْنُ؛ لِأَنَّهُ أَيْضًا لَفْظُ الْقُدُورِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ وَمَذْكُورٌ فِي الْبِدَايَةِ أَيْضًا فَيَتِمُّ، وَيَحْسُنُ عَطْفُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، وَتَرْتِيبُ عِبَارَةِ مُخْتَصَرِ الْقُدُورِيِّ وَالْبِدَايَةِ هَكَذَا فَإِنْ أَعْتَقَ الرَّاهِنُ عَبْدَ الرَّهْنِ نَفَذَ عِتْقُهُ، فَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ حَالًّا طُولِبَ بِأَدَاءِ الدَّيْنِ، وَإِنْ كَانَ مُؤَجَّلًا أُخِذَ مِنْهُ قِيمَةُ الْعَبْدِ وَجُعِلَتْ رَهْنًا مَكَانَهُ حَتَّى يَحِلَّ الدَّيْنُ، وَإِنْ كَانَ الرَّاهِنُ مُعْسِرًا سَعَى الْعَبْدُ فِي قِيمَتِهِ وَقَضَى الدَّيْنَ، وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَهْلَكَ الرَّاهِنُ الرَّهْنَ انْتَهَى فَتَأَمَّلْ فِي هَذَا التَّرْتِيبِ تَكُنْ الْحَاكِمَ الْفَيْصَلَ (قَوْلُهُ: وَإِنْ نَقَصَتْ عَنْ الدَّيْنِ بِتَرَاجُعِ السِّعْرِ إلَى خَمْسِمِائَةٍ وَقَدْ كَانَتْ قِيمَتُهُ يَوْمَ الرَّهْنِ أَلْفًا وَجَبَ بِالِاسْتِهْلَاكِ خَمْسُمِائَةٍ وَسَقَطَ مِنْ الدَّيْنِ خَمْسُمِائَةٍ؛ لِأَنَّ مَا انْتَقَصَ كَالْهَالِكِ

ص: 183

وَسَقَطَ الدَّيْنُ بِقَدْرِهِ، وَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْقَبْضِ فَهُوَ مَضْمُونٌ بِالْقَبْضِ السَّابِقِ لَا بِتَرَاجُعِ السِّعْرِ، وَوَجَبَ عَلَيْهِ الْبَاقِي بِالْإِتْلَافِ وَهُوَ قِيمَتُهُ يَوْمَ أُتْلِفَ

قَالَ (وَإِذَا أَعَارَ الْمُرْتَهِنُ الرَّهْنَ لِلرَّاهِنِ لِيَخْدُمَهُ أَوْ لِيَعْمَلَ لَهُ عَمَلًا فَقَبَضَهُ خَرَجَ مِنْ ضَمَانِ الْمُرْتَهِنِ) لِمُنَافَاةٍ بَيْنَ يَدِ الْعَارِيَّةِ وَيَدِ الرَّهْنِ (فَإِنْ هَلَكَ فِي يَدِ الرَّاهِنِ هَلَكَ بِغَيْرِ شَيْءٍ) لِفَوَاتِ الْقَبْضِ الْمَضْمُونِ (وَلِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَسْتَرْجِعَهُ إلَى يَدِهِ)؛ لِأَنَّ عَقْدَ الرَّهْنِ بَاقٍ إلَّا فِي حُكْمِ الضَّمَانِ فِي الْحَالِّ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ هَلَكَ الرَّاهِنُ قَبْلَ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ كَانَ الْمُرْتَهِنُ أَحَقَّ بِهِ مِنْ سَائِرِ الْغُرَمَاءِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ يَدَ الْعَارِيَّةِ لَيْسَتْ بِلَازِمَةٍ وَالضَّمَانُ لَيْسَ مِنْ لَوَازِمِ الرَّهْنِ عَلَى كُلِّ حَالٍ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ حُكْمَ الرَّهْنِ ثَابِتٌ فِي وَلَدِ الرَّهْنِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَضْمُونًا بِالْهَلَاكِ، وَإِذَا بَقِيَ عَقْدُ الرَّهْنِ فَإِذَا أَخَذَهُ عَادَ الضَّمَانُ؛ لِأَنَّهُ عَادَ الْقَبْضُ فِي عَقْدِ الرَّهْنِ فَيَعُودُ بِصِفَتِهِ (وَكَذَلِكَ لَوْ أَعَارَهُ أَحَدُهُمَا أَجْنَبِيًّا بِإِذْنِ الْآخَرِ سَقَطَ حُكْمُ الضَّمَانِ) لِمَا قُلْنَا (وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَرُدَّهُ رَهْنًا كَمَا كَانَ)؛ لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَقًّا مُحْتَرَمًا فِيهِ

وَسَقَطَ الدَّيْنُ بِقَدْرِهِ وَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْقَبْضِ فَهُوَ مَضْمُونٌ بِالْقَبْضِ السَّابِقِ لَا بِتَرَاجُعِ السِّعْرِ وَوَجَبَ عَلَيْهِ الْبَاقِي بِالْإِتْلَافِ، وَهُوَ قِيمَتُهُ يَوْمَ أُتْلِفَ) قَالَ الزَّيْلَعِيُّ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ هَذَا بِعَيْنِهِ فِي شَرْحِ الْكَنْزِ: كَذَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ وَغَيْرُهُ، وَهَذَا مُشْكِلٌ فَإِنَّ النُّقْصَانَ بِتَرَاجُعِ السِّعْرِ إذَا لَمْ يَكُنْ مَضْمُونًا عَلَيْهِ وَلَا مُعْتَبَرًا فَكَيْفَ يَسْقُطُ مِنْ الدَّيْنِ خَمْسُمِائَةٍ سِوَى مَا ضَمِنَ بِالْإِتْلَافِ، وَكَيْفَ يَكُونُ مَا انْتَقَصَ بِهِ كَالْهَالِكِ حَتَّى يَسْقُطَ الدَّيْنُ بِقَدْرِهِ وَهُوَ مَا لَمْ يُنْتَقَصْ إلَّا بِتَرَاجُعِ السِّعْرِ وَهُوَ لَا يُعْتَبَرُ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَسْقُطَ بِمُقَابَلَتِهِ شَيْءٌ مِنْ الدَّيْنِ انْتَهَى

أَقُولُ: لَيْسَ اسْتِشْكَالُهُ بِشَيْءٍ فَإِنَّهُ يَضْمَحِلُّ بِقَوْلِ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ وَغَيْرِهِ، وَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْقَبْضِ فَهُوَ مَضْمُونٌ بِالْقَبْضِ السَّابِقِ لَا بِتَرَاجُعِ السِّعْرِ؛ إذْ لَا شَكَّ أَنَّ الْقَبْضَ السَّابِقَ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ قَبْضُ اسْتِيفَاءٍ فَبِالْهَلَاكِ يَتَقَرَّرُ الضَّمَانُ، وَلَمَّا كَانَ الْمُعْتَبَرُ قِيمَتَهُ يَوْمَ الْقَبْضِ أَلْفًا ثُمَّ انْتَقَصَتْ مِنْهَا خَمْسُمِائَةٍ بِتَرَاجُعِ السِّعْرِ سَقَطَ عَنْ الدَّيْنِ لَا مَحَالَةَ مِقْدَارُ تَمَامِ الْأَلْفِ خَمْسُمِائَةٍ مِنْهُ بِالْإِتْلَافِ وَخَمْسُمِائَةٍ مِنْهُ بِقَبْضِهِ السَّابِقِ حَيْثُ كَانَتْ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْقَبْضِ أَلْفًا تَامًّا، وَلَا تَأْثِيرَ فِي سُقُوطِ شَيْءٍ مِنْهُ لِتَرَاجُعِ السِّعْرِ أَصْلًا

وَهَذَا مَعَ ظُهُورِهِ مِنْ عِبَارَةِ الْهِدَايَةِ وَغَيْرِهَا كَيْفَ خَفِيَ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ الْفَاضِلِ

(قَوْلُهُ وَكَذَلِكَ لَوْ أَعَارَهُ أَحَدُهُمَا أَجْنَبِيًّا بِإِذْنِ الْآخَرِ سَقَطَ حُكْمُ الضَّمَانِ لِمَا قُلْنَا) يُشِيرُ بِقَوْلِهِ لِمَا قُلْنَا إلَى قَوْلِهِ لِمُنَافَاةٍ بَيْنَ يَدِ الْعَارِيَّةِ وَيَدِ الرَّهْنِ

قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: فِيهِ: إنَّهُ إذَا وُضِعَ فِي يَدِ الْعَدْلِ لَا يَسْقُطُ الضَّمَانُ مَعَ الْمُنَافَاةِ بَيْنَ يَدَيْ الْإِيدَاعِ وَالرَّهْنِ

أَقُولُ: الْفَرْقُ بَيْنَ الْإِعَارَةِ وَبَيْنَ الْوَضْعِ فِي يَدِ الْعَدْلِ مَذْكُورٌ فِي شَرْحِ تَاجِ الشَّرِيعَةِ، وَفِي الْكِفَايَةِ مُفَصَّلًا مُسْتَوْفًى فَكَأَنَّهُ لَمْ يَرَهُمَا فَمَنْ شَاءَ فَلْيُرَاجِعْهُمَا

ص: 184

وَهَذَا بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ وَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ مِنْ أَجْنَبِيٍّ إذَا بَاشَرَهَا أَحَدُهُمَا بِإِذْنِ الْآخَرِ حَيْثُ يَخْرُجُ عَنْ الرَّهْنِ فَلَا يَعُودُ إلَّا بِعَقْدٍ مُبْتَدَإٍ

(وَلَوْ مَاتَ الرَّاهِنُ قَبْلَ الرَّدِّ إلَى الْمُرْتَهِنِ يَكُونُ الْمُرْتَهِنُ أُسْوَةً لِلْغُرَمَاءِ)؛ لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِالرَّهْنِ حَقٌّ لَازِمٌ بِهَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ فَيَبْطُلُ بِهِ حُكْمُ الرَّهْنِ، أَمَّا بِالْعَارِيَّةِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقٌّ لَازِمٌ فَافْتَرَقَا

(وَإِذَا اسْتَعَارَ الْمُرْتَهِنُ الرَّهْنَ مِنْ الرَّاهِنِ لِيَعْمَلَ بِهِ فَهَلَكَ قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَ فِي الْعَمَلِ هَلَكَ عَلَى ضَمَانِ الرَّهْنِ) لِبَقَاءِ يَدِ الرَّهْنِ (وَكَذَا إذَا هَلَكَ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْعَمَلِ) لِارْتِفَاعِ يَدِ الْعَارِيَّةِ (وَلَوْ هَلَكَ فِي حَالَةِ الْعَمَلِ هَلَكَ بِغَيْرِ ضَمَانٍ) لِثُبُوتِ يَدِ الْعَارِيَّةِ بِالِاسْتِعْمَالِ، وَهِيَ مُخَالِفَةٌ لِيَدِ الرَّاهِنِ فَانْتَفَى الضَّمَانُ (وَكَذَا إذَا أَذِنَ الرَّاهِنُ لِلْمُرْتَهِنِ بِالِاسْتِعْمَالِ) لِمَا بَيَّنَّاهُ

(وَمَنْ اسْتَعَارَ مِنْ غَيْرِهِ ثَوْبًا لِيَرْهَنَهُ فَمَا رَهَنَهُ بِهِ مِنْ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ فَهُوَ جَائِزٌ)؛ لِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ بِإِثْبَاتِ مِلْكِ الْيَدِ فَيُعْتَبَرُ بِالتَّبَرُّعِ بِإِثْبَاتِ مِلْكِ الْعَيْنِ وَالْيَدِ وَهُوَ قَضَاءُ الدَّيْنِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَنْفَصِلَ مِلْكُ الْيَدِ عَنْ مِلْكِ الْعَيْنِ ثُبُوتًا لِلْمُرْتَهِنِ كَمَا يَنْفَصِلُ زَوَالًا فِي حَقِّ الْبَائِعِ، وَالْإِطْلَاقُ وَاجِبُ الِاعْتِبَارِ خُصُوصًا فِي الْإِعَارَةِ؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ فِيهَا لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ (وَلَوْ عَيَّنَ قَدْرًا

قَوْلُهُ وَهَذَا بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ وَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ مِنْ أَجْنَبِيٍّ إذَا بَاشَرَهَا أَحَدُهُمَا بِإِذْنِ الْآخَرِ حَيْثُ يَخْرُجُ عَنْ الرَّهْنِ فَلَا يَعُودُ إلَّا بِعَقْدٍ مُبْتَدَإٍ) قَالَ الشُّرَّاحُ: وَحُكْمُ الْوَدِيعَةِ كَحُكْمِ الْعَارِيَّةِ، وَحُكْمُ الرَّهْنِ كَحُكْمِ الْإِجَارَةِ انْتَهَى

وَأَوْرَدَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ عَلَى قَوْلِهِمْ: وَحُكْمُ الْوَدِيعَةِ كَحُكْمِ الْعَارِيَّةِ بِأَنْ قَالَ: إذَا كَانَ الْإِيدَاعُ مِنْ أَجْنَبِيٍّ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَسْقُطَ الضَّمَانُ؛ لِأَنَّهُ الْعَدْلُ انْتَهَى

أَقُولُ: لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا زَعَمَهُ؛ لِأَنَّ الْعَدْلَ مَنْ رَضِيَا بِوَضْعِ الرَّهْنِ فِي يَدِهِ ابْتِدَاءً، وَكَلَامُ الشُّرَّاحِ هُنَا فِيمَا إذَا أَوْدَعَ أَحَدُهُمَا الرَّهْنَ بِإِذْنِ الْآخَرِ بَعْدَ أَنْ قَبَضَهُ الْمُرْتَهِنُ

ص: 185

لَا يَجُوزُ لِلْمُسْتَعِيرِ أَنْ يَرْهَنَهُ بِأَكْثَرَ مِنْهُ، وَلَا أَقَلَّ مِنْهُ)؛ لِأَنَّ التَّقْيِيدَ مُفِيدٌ، وَهُوَ يَنْفِي الزِّيَادَةَ؛ لِأَنَّ غَرَضَهُ الِاحْتِبَاسُ بِمَا تَيَسَّرَ أَدَاؤُهُ، وَيَنْفِي النُّقْصَانَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ غَرَضَهُ أَنْ يَصِيرَ مُسْتَوْفِيًا لِلْأَكْثَرِ بِمُقَابَلَتِهِ عِنْدَ الْهَلَاكِ لِيَرْجِعَ بِهِ عَلَيْهِ (وَكَذَلِكَ التَّقْيِيدُ بِالْجِنْسِ وَبِالْمُرْتَهِنِ وَبِالْبَلَدِ)؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مُفِيدٌ لِتَيَسُّرِ الْبَعْضِ بِالْإِضَافَةِ إلَى الْبَعْضِ وَتَفَاوُتِ الْأَشْخَاصِ فِي الْأَمَانَةِ وَالْحِفْظِ (فَإِذَا خَالَفَ كَانَ ضَامِنًا، ثُمَّ إنْ شَاءَ الْمُعِيرُ ضَمَّنَ الْمُسْتَعِيرَ وَيَتِمُّ عَقْدُ الرَّهْنِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُرْتَهِنِ)؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ رَهَنَ مِلْكَ نَفْسِهِ (وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُرْتَهِنَ، وَيَرْجِعُ الْمُرْتَهِنُ بِمَا ضَمِنَ وَبِالدَّيْنِ عَلَى الرَّاهِنِ) وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الِاسْتِحْقَاقِ (وَإِنْ وَافَقَ) بِأَنْ رَهَنَهُ بِمِقْدَارِ مَا أَمَرَهُ بِهِ (إنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ مِثْلَ الدَّيْنِ أَوْ أَكْثَرَ فَهَلَكَ عِنْدَ الْمُرْتَهِنِ يَبْطُلُ الْمَالُ عَنْ الرَّاهِنِ) لِتَمَامِ الِاسْتِيفَاءِ بِالْهَلَاكِ (وَوَجَبَ مِثْلُهُ لِرَبِّ الثَّوْبِ عَلَى الرَّاهِنِ)؛ لِأَنَّهُ صَارَ قَاضِيًا دَيْنَهُ بِمَالِهِ بِهَذَا الْقَدْرِ وَهُوَ الْمُوجِبُ لِلرُّجُوعِ دُونَ الْقَبْضِ بِذَاتِهِ؛ لِأَنَّهُ بِرِضَاهُ، وَكَذَلِكَ إنْ أَصَابَهُ عَيْبٌ ذَهَبَ مِنْ الدَّيْنِ بِحِسَابِهِ وَوَجَبَ مِثْلُهُ لِرَبِّ الثَّوْبِ عَلَى الرَّاهِنِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ.

(وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَقَلَّ مِنْ الدَّيْنِ ذَهَبَ بِقَدْرِ الْقِيمَةِ وَعَلَى الرَّاهِنِ بَقِيَّةُ دَيْنِهِ لِلْمُرْتَهِنِ)؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ الِاسْتِيفَاءُ بِالزِّيَادَةِ عَلَى قِيمَتِهِ وَعَلَى الرَّاهِنِ لِصَاحِبِ الثَّوْبِ مَا صَارَ بِهِ مُوفِيًا لِمَا بَيَّنَّاهُ (وَلَوْ كَانَتْ قِيمَتُهُ مِثْلَ الدَّيْنِ فَأَرَادَ الْمُعِيرُ أَنْ يَفْتَكَّهُ جَبْرًا عَنْ الرَّاهِنِ لَمْ يَكُنْ لِلْمُرْتَهِنِ إذَا قَضَى دَيْنَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ)؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَبَرِّعٍ حَيْثُ يُخَلِّصُ مِلْكَهُ

بِنَفْسِهِ

ثُمَّ إنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا أَنَّ فِي صُورَةِ الْإِيدَاعِ بَعْدَ قَبْضِ الْمُرْتَهِنِ بِنَفْسِهِ يُنْتَقَضُ قَبْضُهُ السَّابِقُ بِالْإِيدَاعِ لِلْمُنَافَاةِ بَيْنَ يَدِ الْوَدِيعَةِ وَيَدِ الرَّهْنِ لِكَوْنِ إحْدَاهُمَا مُوجِبَةً لِلضَّمَانِ دُونَ الْأُخْرَى كَمَا ذَكَرَ فِي الْمُنَافَاةِ بَيْنَ يَدَيْ الْعَارِيَّةِ وَالرَّهْنِ

وَأَمَّا فِي صُورَةِ الْوَضْعِ فِي يَدِ الْعَدْلِ ابْتِدَاءً فَيَقُومُ يَدُ الْعَدْلِ فِي قَبْضِ الرَّهْنِ مَقَامَ يَدِ الْمُرْتَهِنِ فِي حَقِّ الْمَالِيَّةِ فَيَصِيرُ الرَّهْنُ مَضْمُونًا عَلَى الْمُرْتَهِنِ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ كَمَا تَبَيَّنَ فِي بَابِهِ وَلَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ آخَرُ يَقْتَضِي انْتِقَاضَ هَذَا الْقَبْضِ فَبَقِيَ الضَّمَانُ عَلَى حَالِهِ

(قَوْلُهُ وَلَوْ كَانَتْ قِيمَتُهُ مِثْلَ الدَّيْنِ فَأَرَادَ الْمُعِيرُ أَنْ يَفْتَكَّهُ جَبْرًا عَنْ الرَّاهِنِ لَمْ يَكُنْ لِلْمُرْتَهِنِ إذَا قَضَى دَيْنَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ) اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ جَبْرًا عَنْ الرَّاهِنِ فِي أَثْنَاءِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ مُغْلَقَاتِ هَذَا الْكِتَابِ، وَكَانَ لَفْظُ مُحَمَّدٍ بَدَلَ هَذَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ حِينَ أَعْسَرَ الرَّاهِنُ كَمَا ذَكَرَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ الْبَزْدَوِيُّ وَقَدْ نَبَّهَ عَلَيْهِ تَاجُ الشَّرِيعَةِ وَصَاحِبُ الْكِفَايَةِ

وَعَنْ هَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ: لَعَلَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ جَبْرًا عَنْ الرَّاهِنِ تَصْحِيفٌ وَقَعَ مِنْ

ص: 186

وَلِهَذَا يَرْجِعُ عَلَى الرَّاهِنِ بِمَا أَدَّى الْمُعِيرُ فَأُجْبِرَ الْمُرْتَهِنُ عَلَى الدَّفْعِ (بِخِلَافِ الْأَجْنَبِيِّ إذَا قَضَى الدَّيْنَ)؛ لِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ؛ إذْ هُوَ لَا يَسْعَى فِي تَخْلِيصِ مِلْكِهِ وَلَا فِي تَفْرِيغِ ذِمَّتِهِ فَكَانَ لِلطَّالِبِ أَنْ لَا يَقْبَلَهُ (وَلَوْ هَلَكَ الثَّوْبُ الْعَارِيَّةُ عِنْدَ الرَّاهِنِ قَبْلَ أَنْ يَرْهَنَهُ أَوْ بَعْدَ مَا افْتَكَّهُ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ)؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ قَاضِيًا بِهَذَا، وَهُوَ الْمُوجِبُ عَلَى مَا بَيَّنَّا (وَلَوْ اخْتَلَفَا فِي ذَلِكَ فَالْقَوْلُ لِلرَّاهِنِ) لِأَنَّهُ يُنْكِرُ الْإِيفَاءَ بِدَعْوَاهُ الْهَلَاكَ فِي هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ.

(كَمَا لَوْ اخْتَلَفَا فِي مِقْدَارِ مَا أَمَرَهُ بِالرَّهْنِ بِهِ فَالْقَوْلُ لِلْمُعِيرِ)؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهُ

الْكَاتِبِ أَوْ الْقَارِئِ

وَقَالَ صَاحِبُ مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ: مَعْنَى قَوْلِهِ جَبْرًا عَنْ الرَّاهِنِ: بِغَيْرِ رِضَاهُ، وَيُوَافِقُهُ تَقْرِيرُ صَاحِبِ الْكَافِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ حَيْثُ قَالَ: وَلَوْ كَانَتْ قِيمَتُهُ مِثْلَ الدَّيْنِ فَأَرَادَ الْمُعِيرُ أَنْ يَفْتَكَّهُ جَبْرًا بِغَيْرِ رِضَا الرَّاهِنِ لَيْسَ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَمْتَنِعَ إذَا قَضَى دَيْنَهُ

وَقَالَ صَاحِبُ الْكِفَايَةِ: مَعْنَى قَوْلِهِ فَأَرَادَ الْمُعِيرُ أَنْ يَفْتَكَّهُ جَبْرًا عَنْ الرَّاهِنِ: أَرَادَ أَنْ يَفْتَكَّهُ نِيَابَةً عَنْ الرَّاهِنِ جَبْرًا عَنْ الْمُرْتَهِنِ

وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: قَوْلُهُ افْتَكَّهُ جَبْرًا عَنْ الرَّاهِنِ قِيلَ مَعْنَاهُ: مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ وَلَيْسَ بِظَاهِرٍ

وَقِيلَ نِيَابَةً وَلَعَلَّهُ مِنْ الْجُبْرَانِ: يَعْنِي جُبْرَانًا لِمَا فَاتَ عَنْ الرَّاهِنِ مِنْ الْقَضَاءِ بِنَفْسِهِ انْتَهَى

أَقُولُ: فِيهِ كَلَامٌ أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ مَا اخْتَارَهُ مِنْ الْمَعْنَى لَا يَتَمَشَّى فِيمَا إذَا أَرَادَ الْمُعِيرُ أَنْ يَفْتَكَّهُ قَبْلَ حُلُولِ أَجَلِ دَيْنِ الرَّاهِنِ؛ إذْ لَمْ يَفُتْ عَنْ الرَّاهِنِ إذْ ذَاكَ الْقَضَاءُ بِنَفْسِهِ لِعَدَمِ مَجِيءِ أَوَانِهِ حَتَّى يَكُونَ افْتِكَاكُ الْمُعِيرِ الرَّهْنَ هُنَاكَ بِقَضَاءِ دَيْنِ الرَّاهِنِ جُبْرَانًا لِمَا فَاتَ عَنْهُ مِنْ الْقَضَاءِ بِنَفْسِهِ، مَعَ أَنَّ تِلْكَ الصُّورَةَ أَيْضًا دَاخِلَةٌ فِي جَوَابِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَمَا لَا يَخْفَى

وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّهُ لَمْ يُسْمَعْ فِي الْعَرَبِيَّةِ جَبَرَ عَنْهُ

سَوَاءٌ كَانَ مِنْ الْجَبْرِ بِمَعْنَى الْقَهْرِ أَوْ مِنْ الْجَبْرِ بِمَعْنَى الْجُبْرَانِ، وَمَحَلُّ الْإِغْلَاقِ فِي تَرْكِيبِ الْمُصَنِّفِ إنَّمَا هُوَ كَلِمَةٌ عَنْ الدَّاخِلَةِ عَلَى الرَّاهِنِ لَا كَوْنُ الْجَبْرِ بِمَعْنَى الْقَهْرِ؛ إذْ هُوَ مُتَحَقِّقٌ فِي مَسْأَلَتِنَا بِالنَّظَرِ إلَى الْمُرْتَهِنِ، وَعَلَى الْمَعْنَى الَّذِي اخْتَارَهُ لَا يَظْهَرُ لِكَلِمَةِ:(عَنْ) مُتَعَلَّقٌ إلَّا أَنْ يُصَارَ إلَى تَقْدِيرٍ لِمَا فَاتَ جُمْلَةً، وَجَعْلِ كَلِمَةِ:(عَنْ) مُتَعَلِّقَةً بِلَفْظِ فَاتَ الْمُنْدَرِجِ فِي ذَلِكَ، وَلَا يَخْفَى بُعْدُهُ جِدًّا فَكَيْفَ يُرْتَكَبُ مَعَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ مِنْهُ بِتَقْدِيرِ مُتَعَلَّقِ كَلِمَةِ: عَنْ لَفْظَ نِيَابَةٍ وَحْدَهُ كَمَا فَعَلَهُ صَاحِبُ الْكِفَايَةِ (قَوْلُهُ وَلِهَذَا يُرْجَعُ عَلَى الرَّاهِنِ بِمَا أَدَّى) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: وَهَا هُنَا قَيْدٌ لَازِمٌ ذَكَرَهُ، فَإِنَّ قَوْلَهُ يُرْجِعُ عَلَى الرَّاهِنِ بِمَا أَدَّى غَيْرُ مُجْرًى عَلَى إطْلَاقِهِ، بَلْ مَعْنَاهُ يَرْجِعُ عَلَى الرَّاهِنِ بِمَا أَدَّى إذَا كَانَ مَا أَدَّاهُ بِقَدْرِ

ص: 187

فِي إنْكَارِ أَصْلِهِ فَكَذَا فِي إنْكَارِ وَصْفِهِ (وَلَوْ رَهَنَهُ الْمُسْتَعِيرُ بِدَيْنٍ مَوْعُودٍ وَهُوَ أَنْ يَرْهَنَهُ بِهِ لِيُقْرِضَهُ كَذَا فَهَلَكَ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ قَبْلَ الْإِقْرَاضِ وَالْمُسَمَّى وَالْقِيمَةُ سَوَاءٌ يَضْمَنُ قَدْرَ الْمَوْعُودِ الْمُسَمَّى) لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ كَالْمَوْجُودِ وَيَرْجِعُ الْمُعِيرُ عَلَى الرَّاهِنِ بِمِثْلِهِ؛ لِأَنَّ سَلَامَةَ مَالِيَّةِ الرَّهْنِ بِاسْتِيفَائِهِ مِنْ الْمُرْتَهِنِ كَسَلَامَتِهِ بِبَرَاءَةِ ذِمَّتِهِ عَنْهُ

(وَلَوْ كَانَتْ الْعَارِيَّةُ عَبْدًا فَأَعْتَقَهُ الْمُعِيرُ جَازَ) لِقِيَامِ مِلْكِ الرَّقَبَةِ (ثُمَّ الْمُرْتَهِنُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ رَجَعَ بِالدَّيْنِ عَلَى الرَّاهِنِ)؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَوْفِهِ (وَإِنْ شَاءَ ضَمِنَ الْمُعِيرُ قِيمَتَهُ)؛ لِأَنَّ الْحَقَّ قَدْ تَعَلَّقَ بِرَقَبَتِهِ بِرِضَاهُ وَقَدْ أَتْلَفَهُ بِالْإِعْتَاقِ (وَتَكُونُ رَهْنًا عِنْدَهُ إلَى أَنْ يَقْبِضَ دَيْنَهُ فَيَرُدَّهَا إلَى الْمُعِيرِ)؛ لِأَنَّ اسْتِرْدَادَ الْقِيمَةِ كَاسْتِرْدَادِ الْعَيْنِ

(وَلَوْ اسْتَعَارَ عَبْدًا أَوْ دَابَّةً لِيَرْهَنَهُ فَاسْتَخْدَمَ الْعَبْدَ أَوْ رَكِبَ الدَّابَّةَ قَبْلَ أَنْ يَرْهَنَهُمَا ثُمَّ رَهَنَهُمَا بِمَالٍ مِثْلِ قِيمَتِهِمَا ثُمَّ قَضَى الْمَالَ فَلَمْ يَقْبِضْهُمَا حَتَّى هَلَكَا عِنْدَ الْمُرْتَهِنِ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الرَّاهِنِ)؛ لِأَنَّهُ قَدْ بَرِئَ مِنْ الضَّمَانِ حِينَ رَهَنَهُمَا، فَإِنَّهُ كَانَ أَمِينًا خَالَفَ ثُمَّ عَادَ إلَى الْوِفَاقِ (وَكَذَا إذَا افْتَكَّ الرَّهْنَ

الدَّيْنِ لَا بِأَكْثَرَ مِنْهُ مِنْ قِيمَةِ الثَّوْبِ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ فِي الْإِيضَاحِ وَفَتَاوَى قَاضِي خَانْ: فَإِنْ عَجَزَ الرَّاهِنُ عَنْ الِافْتِكَاكِ فَافْتَكَّهُ الْمَالِكُ يَرْجِعُ بِقَدْرِ مَا يَهْلَكُ الدَّيْنُ بِهِ وَلَا يَرْجِعُ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ

بَيَانُهُ إذَا كَانَتْ قِيمَةُ الرَّهْنِ أَلْفًا فَرَهَنَهُ بِأَلْفَيْنِ فَأَفْتَكّهُ الْمَالِكُ بِأَلْفَيْنِ رَجَعَ بِقَدْرِ مَا يَهْلِكُ الدَّيْنُ بِهِ وَهُوَ الْأَلْفُ وَلَا يَرْجِعُ بِأَكْثَرَ مِنْ أَلْفٍ؛ لِأَنَّهُ لَوْ هَلَكَ الرَّهْنُ لَمْ يَضْمَنْ الرَّاهِنُ لِلْمُعِيرِ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، فَكَذَلِكَ إذَا افْتَكَّهُ كَانَ مُتَبَرِّعًا بِالزِّيَادَةِ انْتَهَى

وَاقْتَفَى أَثَرَهُ صَاحِبُ الْكِفَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ

وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ نَقْلِ مَا فِي النِّهَايَةِ بِعِبَارَةِ نَفْسِهِ: وَلَيْسَ بِوَارِدٍ عَلَى الْمُصَنِّفِ؛ لِأَنَّهُ وَضَعَ الْمَسْأَلَةَ فِيمَا إذَا كَانَتْ الْقِيمَةُ مِثْلَ الدَّيْنِ انْتَهَى

أَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ وَلِهَذَا يَرْجِعُ عَلَى الرَّاهِنِ بِمَا أَدَّى مِنْ مُقَدِّمَاتِ دَلِيلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَا نَفْسِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ

وَلَا يَخْفَى أَنَّ مُقَدِّمَاتِ الدَّلِيلِ لَا يَجِبُ أَنْ تُوَافِقَ الْمُدَّعِيَ فِي الْخُصُوصِ وَالْعُمُومِ وَلَا فِي التَّقْيِيدِ وَالْإِطْلَاقِ؛ أَلَا يُرَى أَنَّ كُلِّيَّةَ الْكُبْرَى شَرْطٌ فِي أَشْهَرْ الْأَقْيِسَةِ وَأَقْوَاهَا

وَإِنْ كَانَ الْمُدَّعِي جُزْئِيًّا فَمِنْ أَيْنَ يَلْزَمُ مِنْ تَقْيِيدِ وَضْعِ الْمَسْأَلَةِ تَقْيِيدُ مُقَدِّمَاتِ دَلِيلِهَا أَيْضًا حَتَّى يَسْتَغْنِيَ عَنْ تَقْيِيدِ هَاتِيك الْمُقَدِّمَةِ بِمَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَغَيْرُهُ

ثُمَّ إنَّ الزَّيْلَعِيَّ قَالَ فِي التَّبْيِينِ: وَذَكَرَ فِي النِّهَايَةِ أَنَّهُ إذَا افْتَكَّهُ بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ بِأَنْ كَانَ الدَّيْنُ الْمَرْهُونُ بِهِ أَكْثَرَ لَا يَرْجِعُ بِالزَّائِدِ عَلَى قِيمَتِهِ

وَهَذَا مُشْكِلٌ؛ لِأَنَّ تَخْلِيصَ الرَّهْنِ لَا يَحْصُلُ بِإِيفَاءِ بَعْضِ الدَّيْنِ فَكَانَ مُضْطَرًّا، وَبِاعْتِبَارِ الِاضْطِرَارِ ثَبَتَ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ فَكَيْفَ يَمْتَنِعُ الرُّجُوعُ مَعَ بَقَاءِ الِاضْطِرَارِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ غَرَضَهُ تَخْلِيصُهُ لِيَنْتَفِعَ بِهِ وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ إلَّا بِأَدَاءِ الدَّيْنِ كُلِّهِ؛ إذْ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَحْبِسَهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الْكُلَّ عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ انْتَهَى

أَقُولُ: فِي كَلَامِهِ هَذَا نَوْعُ غَرَابَةٍ،؛ لِأَنَّ صَاحِبَ النِّهَايَةِ قَدْ ذَكَرَ حَاصِلَ اسْتِشْكَالِهِ بِطَرِيقِ السُّؤَالِ

وَأَجَابَ عَنْهُ حَيْثُ قَالَ: فَإِنْ قِيلَ: هُوَ لَا يَتَوَصَّلُ إلَى تَحْصِيلِ مِلْكِهِ إلَّا بِإِيفَاءِ جَمِيعِ الدَّيْنِ فَلَمْ يَكُنْ مُتَبَرِّعًا

قُلْنَا: الضَّمَانُ إنَّمَا وَجَبَ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ بِاعْتِبَارِ إيفَاءِ الدَّيْنِ مِنْ مِلْكِهِ فَكَانَ الرُّجُوعُ إلَيْهِ بِقَدْرِ مَا يَتَحَقَّقُ بِهِ الْإِيفَاءُ انْتَهَى

وَقَدْ تَبِعَهُ فِي ذِكْرِ هَذَا السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ صَاحِبَا الْكِفَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ، فَإِنْ كَانَ الْجَوَابُ الْمَذْكُورُ مَرْضِيًّا عِنْدَ الزَّيْلَعِيِّ أَيْضًا فَلَا مَعْنَى لِاسْتِشْكَالِهِ كَلَامَ صَاحِبِ النِّهَايَةِ بَعْدَ أَنْ رَأَى السُّؤَالَ وَالْجَوَابَ مَسْطُورَيْنِ فِي النِّهَايَةِ عَلَى الِاتِّصَالِ بِمَا اسْتَشْكَلَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْجَوَابُ الْمَذْكُورُ مَرْضِيًّا عِنْدَهُ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُبَيِّنَ مَحَلَّ فَسَادِهِ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَعُدَّ السُّؤَالَ الْمَذْكُورَ فِيهَا إشْكَالًا مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ

(قَوْلُهُ وَإِنْ شَاءَ ضَمِنَ الْمُعِيرُ قِيمَتَهُ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ قَدْ تَعَلَّقَ بِرَقَبَتِهِ بِرِضَاهُ وَقَدْ أَتْلَفَهُ بِالْإِعْتَاقِ)

ص: 188

ثَمَّ رَكِبَ الدَّابَّةَ أَوْ اسْتَخْدَمَ الْعَبْدَ فَلَمْ يَعْطَبْ ثُمَّ عَطِبَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ صُنْعِهِ لَا يَضْمَنُ)؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ الْفِكَاكِ بِمَنْزِلَةِ الْمُودَعِ لَا بِمَنْزِلَةِ الْمُسْتَعِيرِ لِانْتِهَاءِ حُكْمِ الِاسْتِعَارَةِ بِالْفِكَاكِ وَقَدْ عَادَ إلَى الْوِفَاقِ فَيَبْرَأُ عَنْ الضَّمَانِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُسْتَعِيرِ؛ لِأَنَّ يَدَهُ يَدُ نَفْسِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْوُصُولِ إلَى يَدِ الْمَالِكِ، أَمَّا الْمُسْتَعِيرُ فِي الرَّهْنِ فَيَحْصُلُ مَقْصُودُ الْآمِرِ وَهُوَ الرُّجُوعُ عَلَيْهِ عِنْدَ الْهَلَاكِ وَتَحَقُّقِ الِاسْتِيفَاءِ

قَالَ (وَجِنَايَةُ الرَّاهِنِ عَلَى الرَّهْنِ مَضْمُونَةٌ)؛ لِأَنَّهُ تَفْوِيتُ حَقٍّ لَازِمٍ مُحْتَرَمٍ، وَتَعَلُّقُ مِثْلِهِ بِالْمَالِ يَجْعَلُ الْمَالِكَ كَالْأَجْنَبِيِّ فِي حَقِّ الضَّمَانِ كَتَعَلُّقِ حَقِّ الْوَرَثَةِ بِمَالِ الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ يَمْنَعُ نَفَاذَ تَبَرُّعِهِ فِيمَا وَرَاءَ الثُّلُثِ، وَالْعَبْدُ الْمُوصَى بِخِدْمَتِهِ إذَا أَتْلَفَهُ الْوَرَثَةُ ضَمِنُوا قِيمَتَهُ لِيُشْتَرَى بِهَا عَبْدٌ يَقُومُ مَقَامَهُ

قَالَ (وَجِنَايَةُ الْمُرْتَهِنِ عَلَيْهِ تَسْقُطُ مِنْ دَيْنِهِ بِقَدْرِهَا) وَمَعْنَاهُ أَنْ يَكُونَ الضَّمَانُ عَلَى صِفَةِ الدَّيْنِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ مِلْكُ الْمَالِكِ، وَقَدْ تَعَدَّى عَلَيْهِ الْمُرْتَهِنُ فَيَضْمَنُهُ لِمَالِكِهِ

قَالَ (وَجِنَايَةُ الرَّهْنِ عَلَى الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ وَعَلَى مَالِهِمَا هَدْرٌ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ

وَقَالَا: جِنَايَتُهُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ مُعْتَبَرَةٌ، وَالْمُرَادُ بِالْجِنَايَةِ عَلَى النَّفْسِ مَا يُوجِبُ الْمَالَ، أَمَّا الْوِفَاقِيَّةُ فَلِأَنَّهَا جِنَايَةُ الْمَمْلُوكِ عَلَى الْمَالِكِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ مَاتَ كَانَ الْكَفَنُ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ جِنَايَةِ الْمَغْصُوبِ عَلَى الْمَغْصُوبِ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ عِنْدَ أَدَاءِ الضَّمَانِ يَثْبُتُ لِلْغَاصِبِ مُسْتَنِدًا حَتَّى يَكُونَ الْكَفَنُ عَلَيْهِ، فَكَانَتْ جِنَايَةً عَلَى غَيْرِ الْمَالِكِ فَاعْتُبِرَتْ

أَقُولُ: كَانَ الْحَقُّ فِي التَّعْلِيلِ أَنْ يُقَالَ: لِأَنَّ الْحَقَّ تَعَلَّقَ بِمَالِيَّتِهِ، وَقَدْ أَتْلَفَهَا بِالْإِعْتَاقِ؛ إذْ لَا شَكَّ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَقِّ الْمَذْكُورِ فِي التَّعْلِيلِ إنَّمَا هُوَ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ، وَحَقُّهُ مُتَعَلِّقٌ بِمَالِيَّةِ الرَّهْنِ دُونَ رَقَبَتِهِ كَمَا مَرَّ غَيْرَ مَرَّةٍ

(قَوْلُهُ أَمَّا الْوِفَاقِيَّةُ فَلِأَنَّهَا جِنَايَةُ الْمَمْلُوكِ عَلَى الْمَالِكِ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَحَلِّ: أَيْ أَمَّا وَجْهُ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي اتَّفَقُوا فِي حُكْمِهَا وَهِيَ أَنَّ جِنَايَةَ الرَّهْنِ عَلَى الرَّاهِنِ هَدْرٌ فَلِأَنَّهَا جِنَايَةُ الْمَمْلُوكِ عَلَى الْمَالِكِ، وَاقْتَفَى أَثَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ

أَقُولُ: لَا وَجْهَ عِنْدِي لِإِقْحَامِ لَفْظِ الْوَجْهِ فِي تَفْسِيرِ مُرَادِ الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ الْمَذْكُورِ؛ إذْ يَصِيرُ الْمَعْنَى حِينَئِذٍ أَمَّا وَجْهُ الْمَسْأَلَةِ الْوِفَاقِيَّةِ: أَيْ عِلَّتُهَا فَلِهَذِهِ الْعِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْكِتَابِ؛ لِأَنَّ الْمُصَنِّفَ قَدْ أَدْخَلَ اللَّامَ عَلَى الْخَبَرِ كَمَا تَرَى فَيَئُولُ الْمَعْنَى إلَى أَنَّ عِلَّةَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ عِلَّةَ الْعِلَّةِ لَا عِلَّةَ نَفْسِ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ فَاسِدٌ قَطْعًا

ص: 189

وَلَهُمَا فِي الْخِلَافِيَّةِ أَنَّ الْجِنَايَةَ حَصَلَتْ عَلَى غَيْرِ مَالِكِهِ

وَفِي الِاعْتِبَارِ فَائِدَةٌ وَهُوَ دَفْعُ الْعَبْدِ إلَيْهِ بِالْجِنَايَةِ فَتُعْتَبَرُ

ثُمَّ إنْ شَاءَ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ أَبْطَلَا الرَّهْنَ وَدَفَعَاهُ بِالْجِنَايَةِ إلَى الْمُرْتَهِنِ، وَإِنْ قَالَ الْمُرْتَهِنُ لَا أَطْلُبُ الْجِنَايَةَ فَهُوَ رَهْنٌ عَلَى حَالِهِ

وَلَهُ أَنَّ هَذِهِ الْجِنَايَةَ لَوْ اعْتَبَرْنَا لِلْمُرْتَهِنِ كَانَ عَلَيْهِ التَّطْهِيرُ مِنْ الْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّهَا حَصَلَتْ فِي ضَمَانِهِ فَلَا يُفِيدُ وُجُوبُ الضَّمَانِ لَهُ مَعَ وُجُوبِ التَّخْلِيصِ عَلَيْهِ، وَجِنَايَتُهُ عَلَى مَالِ الْمُرْتَهِنِ لَا تُعْتَبَرُ بِالِاتِّفَاقِ إذَا كَانَتْ قِيمَتُهُ وَالدَّيْنُ سَوَاءً؛ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي اعْتِبَارِهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَلَّكُ الْعَبْدَ وَهُوَ الْفَائِدَةُ، وَإِنْ كَانَتْ الْقِيمَةُ أَكْثَرَ مِنْ الدَّيْنِ؛ فَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ بِقَدْرِ الْأَمَانَةِ؛ لِأَنَّ الْفَضْلَ لَيْسَ فِي ضَمَانِهِ فَأَشْبَهَ جِنَايَةُ الْعَبْدِ الْوَدِيعَةَ عَلَى الْمُسْتَوْدَعِ

وَعَنْهُ أَنَّهَا لَا تُعْتَبَرُ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الرَّهْنِ وَهُوَ الْحَبْسُ فِيهِ ثَابِتٌ فَصَارَ كَالْمَضْمُونِ، وَهَذَا بِخِلَافِ جِنَايَةِ الرَّهْنِ عَلَى ابْنِ الرَّاهِنِ أَوْ ابْنِ الْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّ الْأَمْلَاكَ حَقِيقَةٌ مُتَبَايِنَةٌ فَصَارَ كَالْجِنَايَةِ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ

قَالَ (وَمَنْ رَهَنَ عَبْدًا يُسَاوِي أَلْفًا بِأَلْفٍ إلَى أَجَلٍ فَنَقَصَ فِي السِّعْرِ فَرَجَعَتْ قِيمَتُهُ إلَى مِائَةٍ ثُمَّ قَتَلَهُ رَجُلٌ وَغَرِمَ قِيمَتَهُ مِائَةً ثُمَّ حَلَّ الْأَجَلُ فَإِنَّ الْمُرْتَهِنَ يَقْبِضُ الْمِائَةَ قَضَاءً عَنْ حَقِّهِ وَلَا يَرْجِعُ عَلَى الرَّاهِنِ بِشَيْءٍ)

وَأَصْلُهُ أَنَّ النُّقْصَانَ مِنْ حَيْثُ السِّعْرُ لَا يُوجِبُ سُقُوطَ الدَّيْنِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ، وَهُوَ يَقُولُ: إنَّ الْمَالِيَّةَ قَدْ انْتَقَصَتْ فَأَشْبَهَ انْتِقَاصَ الْعَيْنِ

وَلَنَا أَنَّ نُقْصَانَ السِّعْرِ عِبَارَةٌ عَنْ فُتُورِ رَغَبَاتِ النَّاسِ

وَذَلِكَ لَا يُعْتَبَرُ فِي الْبَيْعِ حَتَّى لَا يَثْبُتَ بِهِ الْخِيَارُ

وَلَا فِي الْغَصْبِ حَتَّى لَا يَجِبَ الضَّمَانُ، بِخِلَافِ نُقْصَانِ الْعَيْنِ؛ لِأَنَّ بِفَوَاتِ جُزْءٍ مِنْهُ يَتَقَرَّرُ الِاسْتِيفَاءُ فِيهِ؛ إذْ الْيَدُ يَدُ الِاسْتِيفَاءِ، وَإِذَا

قَوْلُهُ ثُمَّ إنْ شَاءَ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ أَبْطَلَا الرَّهْنَ وَدَفَعَاهُ بِالْجِنَايَةِ إلَى الْمُرْتَهِنِ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: قَوْلُهُ وَدَفَعَاهُ فِيهِ تَسَامُحٌ

لِأَنَّ الْمُرْتَهِنَ لَا يَدْفَعُ الْعَبْدَ إلَى نَفْسِهِ وَمُخَلِّصُهُ الْمُشَاكَلَةُ، فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ قَابِلًا ذِكْرَهُ بِلَفْظِ الدَّافِعِ لِوُقُوعِهِ فِي صُحْبَتِهِ أَوْ التَّغْلِيبِ

ص: 190

لَمْ يَسْقُطْ شَيْءٌ مِنْ الدَّيْنِ بِنُقْصَانِ السِّعْرِ بَقِيَ مَرْهُونًا بِكُلِّ الدَّيْنِ، فَإِذَا قَتَلَهُ حُرٌّ غَرِمَ قِيمَتَهُ مِائَةً؛ لِأَنَّهُ تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْإِتْلَافِ فِي ضَمَانِ الْإِتْلَافِ؛ لِأَنَّ الْجَابِرَ بِقَدْرِ الْفَائِتِ، وَأَخَذَهُ الْمُرْتَهِنُ؛ لِأَنَّهُ بَدَلُ الْمَالِيَّةِ فِي حَقِّ الْمُسْتَحِقِّ وَإِنْ كَانَ مُقَابَلًا بِالدَّمِ عَلَى أَصْلِنَا حَتَّى لَا يُزَادَ عَلَى دِيَةِ الْحُرِّ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى اسْتَحَقَّهُ بِسَبَبِ الْمَالِيَّةِ وَحَقُّ الْمُرْتَهِنِ مُتَعَلِّقٌ بِالْمَالِيَّةِ فَكَذَا فِيمَا قَامَ مَقَامَهُ، ثُمَّ لَا يُرْجَعُ عَلَى الرَّاهِنِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ يَدَ الرَّهْنِ يَدُ الِاسْتِيفَاءِ مِنْ الِابْتِدَاءِ وَبِالْهَلَاكِ يَتَقَرَّرُ، وَقِيمَتُهُ كَانَتْ فِي الِابْتِدَاءِ أَلْفًا فَيَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا لِلْكُلِّ مِنْ الِابْتِدَاءِ

أَوْ نَقُولُ: لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ مُسْتَوْفِيًا الْأَلْفَ بِمِائَةٍ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى الرِّبَا فَيَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا الْمِائَةَ وَبَقِيَ تِسْعُمِائَةٍ فِي الْعَيْنِ، فَإِذَا هَلَكَ يَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا تِسْعَمِائَةٍ بِالْهَلَاكِ، بِخِلَافِ مَا إذَا مَاتَ مِنْ غَيْرِ قَتْلِ أَحَدٍ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا الْكُلَّ بِالْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤَدِّي إلَى الرِّبَا

قَالَ (وَإِنْ كَانَ أَمَرَهُ الرَّاهِنُ أَنْ يَبِيعَهُ فَبَاعَهُ بِمِائَةٍ وَقَبَضَ الْمِائَةَ قَضَاءً مِنْ حَقِّهِ فَيَرْجِعُ بِتِسْعِمِائَةٍ)؛ لِأَنَّهُ لَمَّا بَاعَهُ بِإِذْنِ الرَّاهِنِ صَارَ كَأَنَّ الرَّاهِنَ اسْتَرَدَّهُ وَبَاعَهُ بِنَفْسِهِ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ يَبْطُلُ الرَّهْنُ وَيَبْقَى الدَّيْنُ إلَّا بِقَدْرِ مَا اسْتَوْفَى، وَكَذَا هَذَا

قَالَ (وَإِنْ قَتَلَهُ عَبْدٌ قِيمَتُهُ مِائَةٌ فَدُفِعَ مَكَانَهُ افْتَكَّهُ بِجَمِيعِ الدَّيْنِ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ

وَقَالَ مُحَمَّدٌ: هُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ افْتَكَّهُ بِجَمِيعِ الدَّيْنِ، وَإِنْ شَاءَ سَلَّمَ الْعَبْدَ الْمَدْفُوعَ إلَى الْمُرْتَهِنِ بِمَالِهِ

وَقَالَ زُفَرُ: يَصِيرُ رَهْنًا بِمِائَةٍ

لَهُ أَنَّ يَدَ الرَّهْنِ يَدُ اسْتِيفَاءٍ وَقَدْ تَقَرَّرَ بِالْهَلَاكِ، إلَّا أَنَّهُ أَخْلَفَ بَدَلًا بِقَدْرِ الْعُشْرِ فَيَبْقَى الدَّيْنُ بِقَدْرِهِ

وَلِأَصْحَابِنَا عَلَى زُفَرَ أَنَّ الْعَبْدَ الثَّانِيَ قَائِمٌ مَقَامَ الْأَوَّلِ لَحْمًا وَدَمًا، وَلَوْ كَانَ الْأَوَّلُ قَائِمًا وَانْتُقِضَ السِّعْرُ لَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنْ الدَّيْنِ عِنْدَنَا لِمَا ذَكَرْنَا، فَكَذَلِكَ إذَا قَامَ الْمَدْفُوعُ مَكَانَهُ

وَلِمُحَمَّدٍ فِي الْخِيَارِ أَنَّ الْمَرْهُونَ تَغَيَّرَ

سَمَّاهُ دَافِعًا وَثَنَّاهُ انْتَهَى

أَقُولُ: لَا صِحَّةَ لِتَوْجِيهِ الْمُشَاكَلَةِ هَا هُنَا؛ لِأَنَّ الْمُشَاكَلَةَ ذِكْرُ الشَّيْءِ بِلَفْظِ غَيْرِهِ لِوُقُوعِهِ فِي صُحْبَتِهِ وَهَذَا لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا إذَا تَكَرَّرَ ذِكْرُ لَفْظٍ وَأُرِيدَ بِهِ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى أَصْلُ مَعْنَاهُ وَفِي الْأُخْرَى غَيْرُ ذَلِكَ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى حِكَايَةِ

ص: 191

فِي ضَمَانِ الْمُرْتَهِنِ فَيُخَيَّرُ الرَّاهِنُ كَالْمَبِيعِ إذَا قُتِلَ قَبْلَ الْقَبْضِ وَالْمَغْصُوبِ إذَا قُتِلَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ يُخَيَّرُ الْمُشْتَرِي، وَالْمَغْصُوبُ مِنْهُ كَذَا هَذَا

وَلَهُمَا أَنَّ التَّغَيُّرَ لَمْ يَظْهَرْ فِي نَفْسِ الْعَبْدِ لِقِيَامِ الثَّانِي مَقَامَ الْأَوَّلِ لَحْمًا وَدَمًا كَمَا ذَكَرْنَاهُ مَعَ زُفَرَ، وَعَيْنُ الرَّهْنِ أَمَانَةٌ عِنْدَنَا فَلَا يَجُوزُ تَمْلِيكُهُ مِنْهُ بِغَيْرِ رِضَاهُ، وَلِأَنَّ جَعْلَ الرَّهْنِ بِالدَّيْنِ حُكْمٌ جَاهِلِيٌّ، وَأَنَّهُ مَنْسُوخٌ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ الْخِيَارَ فِيهِ حُكْمُهُ الْفَسْخُ وَهُوَ مَشْرُوعٌ

وَبِخِلَافِ الْغَصْبِ؛ لِأَنَّ تَمَلُّكَهُ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ مَشْرُوعٌ، وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ تَرَاجَعَ سِعْرُهُ حَتَّى صَارَ يُسَاوِي مِائَةً ثُمَّ قَتَلَهُ عَبْدٌ يُسَاوِي مِائَةً فَدُفِعَ بِهِ فَهُوَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ

(وَإِذَا قَتَلَ الْعَبْدُ الرَّهْنُ قَتِيلًا خَطَأً فَضَمَانُ الْجِنَايَةِ عَلَى الْمُرْتَهِنِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَدْفَعَ)؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ التَّمْلِيكَ (وَلَوْ فُدِيَ طَهُرَ الْمَحَلُّ فَبَقِيَ الدَّيْنُ عَلَى حَالِهِ وَلَا يَرْجِعُ عَلَى الرَّاهِنِ بِشَيْءٍ مِنْ الْفِدَاءِ)؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ حَصَلَتْ فِي ضَمَانِهِ فَكَانَ عَلَيْهِ إصْلَاحُهَا (وَلَوْ أَبَى الْمُرْتَهِنُ أَنْ يَفْدِيَ قِيلَ لِلرَّاهِنِ ادْفَعْ الْعَبْدَ أَوْ افْدِهِ بِالدِّيَةِ)؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِي الرَّقَبَةِ قَائِمٌ لَهُ، وَإِنَّمَا إلَى الْمُرْتَهِنِ الْفِدَاءُ لِقِيَامِ حَقِّهِ (فَإِذَا امْتَنَعَ عَنْ الْفِدَاءِ يُطَالَبُ الرَّاهِنُ بِحُكْمِ الْجِنَايَةِ وَمِنْ حُكْمِهَا التَّخْيِيرُ) بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ (فَإِنْ اخْتَارَ الدَّفْعَ سَقَطَ الدَّيْنُ)؛ لِأَنَّهُ اُسْتُحِقَّ لِمَعْنًى فِي ضَمَانِ الْمُرْتَهِنِ فَصَارَ كَالْهَلَاكِ

{تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ لَمْ يَتَكَرَّرْ ذِكْرُ لَفْظٍ بَلْ وَقَعَ مَرَّةً وَاحِدَةً بِصِيغَةِ التَّثْنِيَةِ فَسَبِيلُهُ التَّغْلِيبُ لَا غَيْرُ كَمَا لَا يَخْفَى

(قَوْلُهُ وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ تَرَاجَعَ سِعْرُهُ حَتَّى صَارَ يُسَاوِي مِائَةً ثُمَّ قَتَلَهُ عَبْدٌ يُسَاوِي مِائَةً فَدُفِعَ بِهِ فَهُوَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ) قَالَ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ: وَهَذَا تَكْرَارٌ لَا مَحَالَةَ؛ لِأَنَّ وَضْعَ الْمَسْأَلَةِ فِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ فِيمَا إذَا تَرَاجَعَ سِعْرُ الرَّهْنِ إلَى مِائَةٍ فَقَتَلَهُ عَبْدٌ قِيمَتُهُ مِائَةٌ فَدُفِعَ بِهِ وَقَدْ ذَكَرَ الْخِلَافَ فِيهِ فَلَا حَاجَةَ إلَى أَنْ يَقُولَ بَعْدَ ذَلِكَ فِيهِ بِعَيْنِهِ فَهُوَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ انْتَهَى

وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: قِيلَ فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ: وَهَذَا تَكْرَارٌ لَا مَحَالَةَ؛ لِأَنَّ وَضْعَ الْمَسْأَلَةِ فِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ: يَعْنِي مَا عَبَّرْنَا عَنْهُ هَا هُنَا بِالصُّورَةِ الثَّالِثَةِ فِيمَا إذَا تَرَاجَعَ سِعْرُ الرَّهْنِ إلَى مِائَةٍ فَقَتَلَهُ عَبْدٌ قِيمَتُهُ مِائَةٌ فَدُفِعَ بِهِ وَقَدْ ذَكَرَ الْخِلَافَ، فَلَا حَاجَةَ إلَى أَنْ يَقُولَ بَعْدَ ذَلِكَ فِيهِ بِعَيْنِهِ فَهُوَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ، وَكَذَلِكَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ جَعَلَ الصُّورَةَ الثَّالِثَةَ فِيمَا إذَا تَرَاجَعَ السِّعْرُ لَكِنَّهُ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِوُقُوعِ التَّكْرَارِ وَهُوَ لَازِمٌ أَيْضًا عَلَيْهِ، وَذَلِكَ سُوءُ ظَنٍّ بِمِثْلِ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ الَّذِي حَازَ قَصَبَاتِ السَّبْقِ فِي مِضْمَارِ التَّحْقِيقِ، وَإِنَّمَا الصُّورَةُ الثَّالِثَةُ فِي غَيْرِ تَرَاجُعِ السِّعْرِ كَمَا ذَكَرْنَا وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي صُورَةِ التَّرَاجُعِ وَلَا تَكْرَارَ ثَمَّةَ، إلَى هُنَا لَفْظُ الْعِنَايَةِ

أَقُولُ: مَا مَرَّ فِي بَيَانِ صُوَرِ الْمَسَائِلِ الثَّلَاثِ إنَّمَا هُوَ عِبَارَةُ الْبِدَايَةِ الْمَأْخُوذَةُ مِنْ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ

وَالْإِنْصَافُ أَنَّهَا لَا تُسَاعِدُ جَعْلَ الصُّورَةِ الثَّالِثَةِ فِي غَيْرِ تَرَاجُعِ السِّعْرِ كَمَا فَعَلَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ وَصَاحِبُ الْكِفَايَةِ، وَإِنَّمَا تُسَاعِدُ جَعْلَهَا فِي تَرَاجُعِ السِّعْرِ أَيْضًا كَمَا فَعَلَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَصَاحِبُ مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ وَصَاحِبُ الْغَايَةِ، أَوْ جَعْلَهَا فِيمَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ تَرَاجُعِ السِّعْرِ وَمِنْ عَدَمِ تَرَاجُعِهِ فَإِنَّ نَصَّ عِبَارَةِ الْبِدَايَةِ عَلَى وَفْقِ مَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ هَكَذَا

ص: 192

(وَكَذَلِكَ إنْ فَدَى)؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ كَالْحَاصِلِ لَهُ بِعِوَضٍ كَانَ عَلَى الْمُرْتَهِنِ، وَهُوَ الْفِدَاءُ، بِخِلَافِ وَلَدِ الرَّهْنِ إذَا قَتَلَ إنْسَانًا أَوْ اسْتَهْلَكَ مَالًا حَيْثُ يُخَاطَبُ الرَّاهِنُ بِالدَّفْعِ أَوْ الْفِدَاءِ فِي الِابْتِدَاءِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَى الْمُرْتَهِنِ، فَإِنْ دَفَعَ خَرَجَ مِنْ الرَّهْنِ وَلَمْ يَسْقُطْ شَيْءٌ مِنْ الدَّيْنِ كَمَا لَوْ هَلَكَ فِي الِابْتِدَاءِ، وَإِنْ فَدَى فَهُوَ رَهْنٌ مَعَ أُمِّهِ عَلَى حَالِهِمَا

(وَلَوْ اسْتَهْلَكَ الْعَبْدُ الْمَرْهُونُ مَالًا يَسْتَغْرِقُ رَقَبَتَهُ، فَإِنْ أَدَّى الْمُرْتَهِنُ الدَّيْنَ الَّذِي لَزِمَ الْعَبْدَ فَدَيْنُهُ عَلَى حَالِهِ كَمَا فِي الْفِدَاءِ، وَإِنْ أَبَى قِيلَ لِلرَّاهِنِ بِعْهُ فِي الدَّيْنِ إلَّا أَنْ يَخْتَارَ أَنْ يُؤَدِّيَ عَنْهُ، فَإِنْ أَدَّى بَطَلَ دَيْنُ الْمُرْتَهِنِ) كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْفِدَاءِ (وَإِنْ لَمْ يُؤَدِّ وَبِيعَ الْعَبْدُ فِيهِ يَأْخُذُ صَاحِبُ دَيْنِ الْعَبْدِ دَيْنَهُ)؛ لِأَنَّ دَيْنَ الْعَبْدِ مُقَدَّمٌ عَلَى دَيْنِ الْمُرْتَهِنِ وَحَقِّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ لِتَقَدُّمِهِ عَلَى حَقِّ الْمَوْلَى،

وَمَنْ رَهَنَ عَبْدًا يُسَاوِي أَلْفًا بِأَلْفٍ إلَى أَجَلٍ فَنَقَصَ فِي السِّعْرِ وَرَجَعَتْ قِيمَتُهُ إلَى مِائَةٍ ثُمَّ قَتَلَهُ رَجُلٌ وَغَرِمَ قِيمَتَهُ مِائَةً ثُمَّ حَلَّ الْأَجَلُ فَإِنَّ الْمُرْتَهِنَ يَقْبِضُ الْمِائَةَ قَضَاءً مِنْ حَقِّهِ وَلَا يَرْجِعُ عَلَى الرَّاهِنِ بِشَيْءٍ، وَإِنْ كَانَ أَمَرَهُ الرَّاهِنُ بِبَيْعِهِ فَبَاعَهُ بِمِائَةٍ قَبَضَ الْمِائَةَ قَضَاءً مِنْ حَقِّهِ وَرَجَعَ بِتِسْعِمِائَةٍ، فَإِنْ قَتَلَهُ عَبْدٌ قِيمَتُهُ مِائَةٌ فَدُفِعَ إلَيْهِ مَكَانَهُ افْتَكَّهُ بِجَمِيعِ الدَّيْنِ

وَقَالَ مُحَمَّدٌ رحمه الله: هُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ افْتَكَّهُ بِجَمِيعِ الدَّيْنِ وَإِنْ شَاءَ سَلَّمَ الْعَبْدَ الْمَدْفُوعَ إلَى الْمُرْتَهِنِ انْتَهَى

وَلَا يَخْفَى عَلَيْك أَنَّ قَوْلَهُ فَإِنْ قَتَلَهُ عَبْدٌ إلَخْ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ ثُمَّ قَتَلَهُ رَجُلٌ وَأَنَّ الظَّاهِرَ الْمُتَبَادِرَ أَنَّ ضَمِيرَ قَتَلَهُ فِي الْمَعْطُوفِ رَاجِعٌ إلَى مَا رَجَعَ إلَيْهِ ضَمِيرُ قَتَلَهُ فِي الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ رَاجِعٌ إلَى الْعَبْدِ الْمَرْهُونِ الَّذِي نَقَصَ فِي السِّعْرِ، فَكَذَا الضَّمِيرُ الَّذِي فِي الْمَعْطُوفِ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ أَصْحَابُ النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ وَغَايَةِ الْبَيَانِ

وَإِنْ أَخْرَجَ الضَّمِيرَ فِي الْمَعْطُوفِ عَمَّا هُوَ الظَّاهِرُ الْمُتَبَادِرُ مِنْ رُجُوعِهِ إلَى مَا رَجَعَ إلَيْهِ ضَمِيرُ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فَلَا أَقَلَّ مِنْ إرْجَاعِهِ إلَى مُطْلَقِ الْعَبْدِ الْمَرْهُونِ الْمَذْكُورِ فِي ضِمْنِ الْعَبْدِ الْمَرْهُونِ الْمُقَيَّدِ بِنُقْصَانِ سِعْرِهِ فِي الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ لَا يَخْلُو مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ هَا هُنَا بِقَوْلِهِ وَلَوْ كَانَ تَرَاجُعُ سِعْرِهِ إلَخْ عَنْ شَائِبَةِ التَّكْرَارِ، وَأَمَّا إرْجَاعُ الضَّمِيرِ فِي الْمَعْطُوفِ إلَى الْعَبْدِ الْمَرْهُونِ الْمُقَيَّدِ بِعَدَمِ تَرَاجُعِ السِّعْرِ فَمِمَّا لَا تُسَاعِدُهُ الْعِبَارَةُ الْمَذْكُورَةُ قَطْعًا عَلَى مُقْتَضَى الْعَرَبِيَّةِ فَلَا وَجْهَ لِلْمَصِيرِ إلَيْهِ تَبَصَّرْ تَرْشُدْ

(قَوْلُهُ: لِأَنَّ دَيْنَ الْعَبْدِ مُقَدَّمٌ عَلَى دَيْنِ الْمُرْتَهِنِ وَحَقِّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ لِتَقَدُّمِهِ عَلَى حَقِّ الْمَوْلَى) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ:

ص: 193

(فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ وَدَيْنُ غَرِيمِ الْعَبْدِ مِثْلُ دَيْنِ الْمُرْتَهِنِ أَوْ أَكْثَرُ فَالْفَضْلُ لِلرَّاهِنِ وَبَطَلَ دَيْنُ الْمُرْتَهِنِ)؛ لِأَنَّ الرَّقَبَةَ اُسْتُحِقَّتْ لِمَعْنًى هُوَ فِي ضَمَانِ الْمُرْتَهِنِ فَأَشْبَهَ الْهَلَاكَ (وَإِنْ كَانَ دَيْنُ الْعَبْدِ أَقَلَّ سَقَطَ مِنْ دَيْنِ الْمُرْتَهِنِ بِقَدْرِ دَيْنِ الْعَبْدِ وَمَا فَضَلَ مِنْ دَيْنِ الْعَبْدِ يَبْقَى رَهْنًا كَمَا كَانَ، ثُمَّ إنْ كَانَ دَيْنُ الْمُرْتَهِنِ قَدْ حَلَّ أَخَذَهُ بِهِ)؛ لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ (وَإِنْ كَانَ لَمْ يَحِلَّ أَمْسَكَهُ حَتَّى يَحِلَّ، وَإِنْ كَانَ ثَمَنُ الْعَبْدِ لَا يَفِي بِدَيْنِ الْغَرِيمِ أَخَذَ الثَّمَنَ وَلَمْ يَرْجِعْ بِمَا بَقِيَ عَلَى أَحَدٍ حَتَّى يُعْتَقَ الْعَبْدُ)؛ لِأَنَّ الْحَقَّ فِي دَيْنِ الِاسْتِهْلَاكِ يَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ وَقَدْ اُسْتُوْفِيَتْ فَيَتَأَخَّرُ إلَى مَا بَعْدَ الْعِتْقِ (ثُمَّ إذَا أَدَّى بَعْدَهُ لَا يَرْجِعُ عَلَى أَحَدٍ)؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ عَلَيْهِ بِفِعْلِهِ

(وَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْعَبْدِ أَلْفَيْنِ وَهُوَ رَهْنٌ بِأَلْفٍ وَقَدْ جَنَى الْعَبْدُ يُقَالُ لَهُمَا افْدِيَاهُ)؛ لِأَنَّ النِّصْفَ مِنْهُ مَضْمُونٌ، وَالنِّصْفُ أَمَانَةٌ، وَالْفِدَاءُ فِي الْمَضْمُونِ عَلَى الْمُرْتَهِنِ، وَفِي الْأَمَانَةِ عَلَى الرَّاهِنِ، فَإِنْ أَجْمَعَا عَلَى الدَّفْعِ دَفَعَاهُ وَبَطَلَ دَيْنُ الْمُرْتَهِنِ، وَالدَّفْعُ لَا يَجُوزُ فِي الْحَقِيقَةِ مِنْ الْمُرْتَهِنِ لِمَا بَيَّنَّا، وَإِنَّمَا مِنْهُ الرِّضَا بِهِ (فَإِنْ تَشَاحَّا فَالْقَوْلُ لِمَنْ قَالَ أَنَا أَفْدِي رَاهِنًا كَانَ أَوْ مُرْتَهِنًا) أَمَّا الْمُرْتَهِنُ فَلِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْفِدَاءِ إبْطَالُ حَقِّ الرَّاهِنِ، وَفِي الدَّفْعِ الَّذِي يَخْتَارُهُ الرَّاهِنُ إبْطَالُ الْمُرْتَهِنِ، وَكَذَا فِي جِنَايَةِ الرَّهْنِ إذَا قَالَ الْمُرْتَهِنُ أَنَا أَفْدِي لَهُ

قَوْلُهُ وَحَقِّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ بِالْجَرِّ: أَيْ: دَيْنُ الْعَبْدِ مُقَدَّمٌ عَلَى دَيْنِ الْمُرْتَهِنِ وَمُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ أَيْضًا، حَتَّى إنَّهُ لَوْ جَنَى وَعَلَيْهِ دَيْنٌ يُدْفَعُ إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ ثُمَّ يُبَاعُ لِلْغُرَمَاءِ عَلَى مَا يَأْتِي فِي جِنَايَةِ الْمَمْلُوكِ فِي الدِّيَاتِ

وَقَوْلُهُ: لِتَقَدُّمِهِ عَلَى حَقِّ الْمَوْلَى: أَيْ لِتَقَدُّمِ حَقِّ الْعَبْدِ عَلَى حَقِّ الْمَوْلَى، فَإِذَا كَانَ مُقَدَّمًا عَلَى حَقِّ الْمَوْلَى يَكُونُ مُقَدَّمًا عَلَى حَقِّ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ وَهُوَ الْمُرْتَهِنُ وَوَلِيُّ الْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّ الْمُرْتَهِنَ يَقُومُ مَقَامَ الْمَوْلَى فِي الْمَالِيَّةِ، وَوَلِيُّ الْجِنَايَةِ يَقُومُ مَقَامَ الْمَوْلَى فِي مِلْكِ الْعَيْنِ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ

وَاقْتَفَى أَثَرَهُ فِي هَذَا الْبَيَانِ جَمَاعَةٌ مِنْ الشُّرَّاحِ مِنْهُمْ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ

وَقَالَ صَاحِبُ الْغَايَةِ: قَوْلُهُ وَحَقَّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ بِالنَّصْبِ أَوْ بِالرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى لَفْظِ: دَيْنَ الْعَبْدِ أَوْ مَحَلِّهِ، مَعْنَاهُ أَنَّ دَيْنَ الْعَبْدِ مُقَدَّمٌ عَلَى دَيْنِ الْمُرْتَهِنِ، وَكَذَا حَقُّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ أَيْضًا مُقَدَّمٌ عَلَى دَيْنِ الْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الْمَوْلَى، فَلَأَنْ يُقَدَّمَ عَلَى حَقِّ الْمُرْتَهِنِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمَالِكِ أَقْوَى، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ تَصْرِيحُ الْقُدُورِيِّ بِذَلِكَ فِي شَرْحِهِ

وَقَدْ مَرَّ آنِفًا تَحْقِيقُهُ أَنَّ الْمُصَنِّفَ ذَكَرَ جِنَايَةَ الْعَبْدِ الْمَرْهُونِ أَوَّلًا، وَتَقَدُّمَهُ عَلَى حَقِّ الْمُرْتَهِنِ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَإِذَا قَتَلَ الْعَبْدُ الرَّهْنُ قَتِيلًا خَطَأً فَضَمَانُ الْجِنَايَةِ عَلَى الْمُرْتَهِنِ

ثُمَّ ذَكَرَ دَيْنَ الْعَبْدِ ثَانِيًا وَتَقَدُّمَهُ عَلَى حَقِّ الْمُرْتَهِنِ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَلَوْ اسْتَهْلَكَ الْعَبْدُ الْمَرْهُونُ مَالًا، وَهَذَا كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ مَا ذَكَرْنَا

وَقَالَ بَعْضُهُمْ فِي شَرْحِهِ: قَوْلُهُ: وَحَقِّ وَلِيِّ بِالْجَرِّ: أَيْ دَيْنُ الْعَبْدِ مُقَدَّمٌ عَلَى دَيْنِ الْمُرْتَهِنِ، وَمُقَدَّمٌ أَيْضًا عَلَى حَقِّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ، حَتَّى لَوْ جَنَى وَعَلَيْهِ دَيْنٌ يُدْفَعُ إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ ثُمَّ يُبَاعُ لِلْغُرَمَاءِ، فَأَقُولُ: هَذَا فِي غَايَةِ الضَّعْفِ؛ لِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ الَّتِي اسْتَشْهَدَ بِهَا تَدْفَعُ كَلَامَهُ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: دَيْنُ الْعَبْدِ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ، وَفِي الْمَسْأَلَةِ قَدَّمَ حَقَّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ ثُمَّ رَتَّبَ عَلَيْهِ حَقَّ الْغُرَمَاءِ وَأَنَّهُ مُنَاقَضَةٌ لَا مَحَالَةَ، إلَى هُنَا لَفْظُ الْغَايَةِ

أَقُولُ: لَا تَدَافُعَ بَيْنَ كَلَامِ هَؤُلَاءِ الشُّرَّاحِ وَبَيْنَ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي اسْتَشْهَدُوا بِهَا؛ إذْ لَا يَشْتَبِهُ عَلَى الْفَطِنِ تَحَقُّقُ تَقْدِيمِ حَقِّ الْغُرَمَاءِ حَقِيقَةً عَلَى حَقِّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ، فَإِنَّهُ وَإِنْ دَفَعَ الْعَبْدَ الْجَانِيَ أَوَّلًا إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ فِي يَدِهِ بَلْ بِيعَ وَدُفِعَ ثَمَنُهُ إلَى الْغُرَمَاءِ، وَقَدْ نَبَّهَ عَلَيْهِ صَاحِبُ الْكِفَايَةِ حَيْثُ قَالَ: لِأَنَّهُ وَإِنْ دُفِعَ إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ أَوَّلًا، لَكِنْ إذَا بِيعَ لَمْ يَبْقَ لِلدَّفْعِ أَثَرٌ فَعُلِمَ أَنَّ الدَّيْنَ كَانَ مُقَدَّمًا حَقِيقَةً انْتَهَى (قَوْلُهُ فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ إلَخْ) أَقُولُ: فِيهِ شَيْءٌ، وَهُوَ أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ أُسْلُوبِ تَحْرِيرِ الْكِتَابِ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ إلَخْ مِنْ مُتَفَرِّعَاتِ

ص: 194

ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ الْمَالِكُ يَخْتَارُ الدَّفْعَ؛ لِأَنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ مَضْمُونًا فَهُوَ مَحْبُوسٌ بِدَيْنِهِ

وَلَهُ فِي الْفِدَاءِ غَرَضٌ صَحِيحٌ، وَلَا ضَرَرَ عَلَى الرَّاهِنِ، فَكَانَ لَهُ أَنْ يَفْدِيَ، وَأَمَّا الرَّاهِنُ فَلِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْمُرْتَهِنِ وِلَايَةُ الدَّفْعِ لِمَا بَيَّنَّا فَكَيْفَ يَخْتَارُهُ (وَيَكُونُ الْمُرْتَهِنُ فِي الْفِدَاءِ مُتَطَوِّعًا فِي حِصَّةِ الْأَمَانَةِ حَتَّى لَا يَرْجِعَ عَلَى الرَّاهِنِ)؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ لَا يَخْتَارَهُ فَيُخَاطَبُ الرَّاهِنُ، فَلَمَّا الْتَزَمَهُ، وَالْحَالَةُ هَذِهِ كَانَ مُتَبَرِّعًا، وَهَذَا عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ مَعَ الْحُضُورِ، وَسَنُبَيِّنُ الْقَوْلَيْنِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى (وَلَوْ أَبَى الْمُرْتَهِنُ أَنْ يَفْدِيَ وَفَدَاهُ الرَّاهِنُ فَإِنَّهُ يَحْتَسِبُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ نِصْفَ الْفِدَاءِ مِنْ دَيْنِهِ)؛ لِأَنَّ سُقُوطَ الدَّيْنِ أَمْرٌ لَازِمٌ فَدَى أَوْ دَفَعَ فَلَمْ يُجْعَلْ الرَّاهِنُ فِي الْفِدَاءِ مُتَطَوِّعًا، ثُمَّ يُنْظَرُ إنْ كَانَ نِصْفُ الْفِدَاءِ مِثْلَ الدَّيْنِ أَوْ أَكْثَرَ بَطَلَ الدَّيْنُ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ سَقَطَ مِنْ الدَّيْنِ بِقَدْرِ نِصْفِ الْفِدَاءِ، وَكَانَ الْعَبْدُ رَهْنًا بِمَا بَقِيَ؛ لِأَنَّ الْفِدَاءَ فِي نِصْفٍ كَانَ عَلَيْهِ، فَإِذَا أَدَّاهُ الرَّاهِنُ، وَهُوَ لَيْسَ بِمُتَطَوِّعٍ كَانَ لَهُ الرُّجُوعُ عَلَيْهِ فَيَصِيرُ قِصَاصًا بِدَيْنِهِ كَأَنَّهُ أَوْفَى نِصْفَهُ فَيَبْقَى الْعَبْدُ رَهْنًا بِمَا بَقِيَ (وَلَوْ كَانَ الْمُرْتَهِنُ فَدَى، وَالرَّاهِنُ حَاضِرٌ فَهُوَ مُتَطَوِّعٌ، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا لَمْ يَكُنْ مُتَطَوِّعًا) وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالْحَسَنُ وَزُفَرُ رحمهم الله: الْمُرْتَهِنُ مُتَطَوِّعٌ فِي الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّهُ فَدَى مِلْكَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَأَشْبَهَ الْأَجْنَبِيَّ

وَلَهُ أَنَّهُ إذَا كَانَ الرَّاهِنُ حَاضِرًا أَمْكَنَهُ مُخَاطَبَتُهُ، فَإِذَا فَدَاهُ الْمُرْتَهِنُ فَقَدْ تَبَرَّعَ كَالْأَجْنَبِيِّ، فَأَمَّا إذَا كَانَ الرَّاهِنُ غَائِبًا تَعَذَّرَ مُخَاطَبَتُهُ، وَالْمُرْتَهِنُ يَحْتَاجُ إلَى إصْلَاحِ الْمَضْمُونِ، وَلَا يُمْكِنُهُ ذَلِكَ إلَّا بِإِصْلَاحِ الْأَمَانَةِ فَلَا يَكُونُ مُتَبَرِّعًا

قَالَ (وَإِذَا مَاتَ الرَّاهِنُ بَاعَ وَصِيُّهُ الرَّهْنَ وَقَضَى الدَّيْنَ)؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّ قَائِمٌ مَقَامَهُ، وَلَوْ تَوَلَّى الْمُوصَى حَيًّا بِنَفْسِهِ كَانَ لَهُ وِلَايَةُ الْبَيْعِ بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ فَكَذَا لِوَصِيِّهِ (وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَصِيٌّ نَصَّبَ الْقَاضِي لَهُ وَصِيًّا وَأَمَرَهُ بِبَيْعِهِ)؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ نَصَّبَ نَاظِرًا لِحُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ إذَا عَجَزُوا عَنْ النَّظَرِ لِأَنْفُسِهِمْ، وَالنَّظَرُ فِي نَصْبِ الْوَصِيِّ لِيُؤَدِّيَ مَا عَلَيْهِ لِغَيْرِهِ وَيَسْتَوْفِيَ مَالَهُ مِنْ غَيْرِهِ (وَإِنْ كَانَ عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ فَرَهَنَ الْوَصِيُّ بَعْضَ التَّرِكَةِ عِنْدَ غَرِيمٍ مِنْ غُرَمَائِهِ لَمْ يَجُزْ وَلِلْآخَرِينَ أَنْ يَرُدُّوهُ)؛ لِأَنَّهُ آثَرَ بَعْضَ

الْمَسْأَلَةِ السَّابِقَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ: وَلَوْ اسْتَهْلَكَ الْعَبْدُ الْمَرْهُونُ مَالًا يَسْتَغْرِقُ رَقَبَتَهُ

وَلَا يَذْهَبُ عَلَى ذِي مَسْكَةٍ أَنَّ الْمَالَ الْمُسْتَهْلَكَ إذَا اسْتَغْرَقَ رَقَبَةَ الْعَبْدِ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَفْضُلَ عَلَى دَيْنِ الْغَرِيمِ شَيْءٌ مِنْ ثَمَنِ الْعَبْدِ الَّذِي بِيعَ فَيَلْزَمُ أَنْ لَا يَنْتَظِمَ الْمَعْنَى، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ إلَخْ مَسْأَلَةً مُبَايِنَةً لِلْمَسْأَلَةِ الْأُولَى مُقَابِلَةً لَهَا لَا مُتَفَرِّعَةً عَلَيْهَا، وَيَكُونَ الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَإِنْ فَضَلَ لِمُجَرَّدِ التَّرْتِيبِ الذِّكْرِيِّ كَمَا تُسْتَعْمَلُ الْفَاءُ فِي هَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا عَلَى مَا عُرِفَ فِي عِلْمِ الْأَدَبِ تَأَمَّلْ

ص: 195

الْغُرَمَاءِ بِالْإِيفَاءِ الْحُكْمِيِّ فَأَشْبَهَ الْإِيثَارَ بِالْإِيفَاءِ الْحَقِيقِيِّ (فَإِنْ قَضَى دَيْنَهُمْ قَبْلَ أَنْ يَرُدُّوهُ جَازَ) لِزَوَالِ الْمَانِعِ بِوُصُولِ حَقِّهِمْ إلَيْهِمْ (وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَيِّتِ غَرِيمٌ آخَرُ جَازَ الرَّهْنُ) اعْتِبَارًا بِالْإِيفَاءِ الْحَقِيقِيِّ (وَبِيعَ فِي دَيْنِهِ)؛ لِأَنَّهُ يُبَاعُ فِيهِ قَبْلَ الرَّهْنِ فَكَذَا بَعْدَهُ (وَإِذَا ارْتَهَنَ الْوَصِيُّ بِدَيْنٍ لِلْمَيِّتِ عَلَى رَجُلٍ جَازَ)؛ لِأَنَّهُ اسْتِيفَاءٌ وَهُوَ يَمْلِكُهُ

قَالَ رضي الله عنه: وَفِي رَهْنِ الْوَصِيِّ تَفْصِيلَاتٌ نَذْكُرُهَا فِي كِتَابِ الْوَصَايَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى

فَصْلٌ

قَالَ (وَمَنْ رَهَنَ عَصِيرًا بِعَشَرَةٍ قِيمَتُهُ عَشَرَةٌ فَتَخَمَّرَ ثُمَّ صَارَ خَلًّا يُسَاوِي عَشَرَةً فَهُوَ رَهْنٌ بِعَشَرَةٍ)؛ لِأَنَّ مَا يَكُونُ مَحَلًّا لِلْبَيْعِ يَكُونُ مَحَلًّا لِلرَّهْنِ، إذْ الْمَحَلِّيَّةُ بِالْمَالِيَّةِ فِيهِمَا، وَالْخَمْرُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَحَلًّا لِلْبَيْعِ ابْتِدَاءً فَهُوَ مَحَلٌّ لَهُ بَقَاءً حَتَّى إنَّ مَنْ اشْتَرَى عَصِيرًا فَتَخَمَّرَ قَبْلَ الْقَبْضِ يَبْقَى الْعَقْدُ إلَّا أَنَّهُ يَتَخَيَّرُ فِي الْبَيْعِ لِتَغَيُّرِ وَصْفِ الْمَبِيعِ بِمَنْزِلَةِ مَا إذَا

فَصْلٌ)

هَذَا الْفَصْلُ بِمَنْزِلَةِ الْمَسَائِلِ الْمُتَفَرِّقَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي أَوَاخِرِ الْكُتُبِ، فَلِذَلِكَ أَخَّرَهُ اسْتِدْرَاكًا لِمَا فَاتَ فِيمَا سَبَقَ (قَوْلُهُ: لِأَنَّ مَا يَكُونُ مَحَلًّا لِلْبَيْعِ يَكُونُ مَحَلًّا لِلرَّهْنِ؛ إذْ الْمَحَلِّيَّةُ بِالْمَالِيَّةِ فِيهِمَا، وَالْخَمْرُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَحَلًّا لِلْبَيْعِ ابْتِدَاءً فَهُوَ مَحَلٌّ لَهُ بَقَاءً) أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ

ص: 196

تَعَيَّبَا

(وَلَوْ رَهَنَ شَاةً قِيمَتُهَا عَشَرَةٌ بِعَشَرَةٍ فَمَاتَتْ فَدُبِغَ جِلْدُهَا فَصَارَ يُسَاوِي دِرْهَمًا فَهُوَ رَهْنٌ بِدِرْهَمٍ)؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ يَتَقَرَّرُ بِالْهَلَاكِ، فَإِذَا حَيِيَ بَعْضُ الْمَحَلِّ يَعُودُ حُكْمُهُ بِقَدْرِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا مَاتَتْ الشَّاةُ الْمَبِيعَةُ قَبْلَ الْقَبْضِ فَدُبِغَ جِلْدُهَا حَيْثُ لَا يَعُودُ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ يُنْتَقَضُ بِالْهَلَاكِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَالْمُنْتَقَضُ لَا يَعُودُ، أَمَّا الرَّهْنُ يَتَقَرَّرُ بِالْهَلَاكِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ

وَمِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ يَمْنَعُ مَسْأَلَةَ الْبَيْعِ وَيَقُولُ: يَعُودُ الْبَيْعُ

قَالَ (وَنَمَاءُ الرَّهْنِ لِلرَّاهِنِ وَهُوَ مِثْلُ الْوَلَدِ وَالثَّمَرِ وَاللَّبَنِ وَالصُّوفِ)؛ لِأَنَّهُ مُتَوَلِّدٌ مِنْ مِلْكِهِ وَيَكُونُ رَهْنًا مَعَ الْأَصْلِ؛ لِأَنَّهُ تَبَعٌ لَهُ، وَالرَّهْنُ حَقٌّ لَازِمٌ فَيَسْرِي إلَيْهِ (فَإِنْ هَلَكَ يَهْلَكُ بِغَيْرِ شَيْءٍ)؛ لِأَنَّ الْأَتْبَاعَ لَا قِسْطَ لَهَا مِمَّا يُقَابَلُ بِالْأَصْلِ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَدْخُلْ تَحْتَ الْعَقْدِ مَقْصُودًا؛ إذْ اللَّفْظُ لَا يَتَنَاوَلُهَا (وَإِنْ هَلَكَ الْأَصْلُ وَبَقِيَ النَّمَاءُ افْتَكَّهُ الرَّاهِنُ بِحِصَّتِهِ يُقَسَّمُ الدَّيْنُ عَلَى قِيمَةِ الرَّهْنِ يَوْمَ الْقَبْضِ وَقِيمَةِ النَّمَاءِ يَوْمَ الْفِكَاكِ)؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ يَصِيرُ مَضْمُونًا بِالْقَبْضِ، وَالزِّيَادَةُ تَصِيرُ مَقْصُودَةً بِالْفِكَاكِ إذَا بَقِيَ إلَى وَقْتِهِ، وَالتَّبَعُ يُقَابِلُهُ شَيْءٌ إذَا صَارَ مَقْصُودًا كَوَلَدِ الْمَبِيعِ، فَمَا أَصَابَ الْأَصْلَ يَسْقُطُ مِنْ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّهُ يُقَابِلُهُ الْأَصْلُ مَقْصُودًا،

لَوْ كَانَ مَدَارُ مَسْأَلَتِنَا الْمَذْكُورَةِ عَلَى هَذَا الْقَدْرِ مِنْ التَّعْلِيلِ لَمَا ظَهَرَ فَائِدَةُ قَوْلِهِ ثُمَّ صَارَ خَلًّا فِي وَضْعِ الْمَسْأَلَةِ، بَلْ كَانَ يَكْفِي أَنْ يُقَالَ: وَمَنْ رَهَنَ عَصِيرًا بِعَشَرَةٍ فَتَخَمَّرَ فَهُوَ رَهْنٌ بِعَشَرَةٍ لِكِفَايَةِ التَّعْلِيلِ الْمَذْكُورِ بِعَيْنِهِ فِي إثْبَاتِ هَذَا الْمَعْنَى الْعَامِّ فَتَأَمَّلْ

ص: 197

وَمَا أَصَابَ النَّمَاءَ افْتَكَّهُ الرَّاهِنُ لِمَا ذَكَرْنَا

وَصُوَرُ الْمَسَائِلِ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ تُخَرَّجُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا بَعْضَهَا فِي كِفَايَةِ الْمُنْتَهَى، وَتَمَامُهُ فِي الْجَامِعِ وَالزِّيَادَاتِ

(وَلَوْ رَهَنَ شَاةً بِعَشَرَةٍ وَقِيمَتُهَا عَشَرَةٌ وَقَالَ الرَّاهِنُ لِلْمُرْتَهِنِ: احْلِبْ الشَّاةَ فَمَا حَلَبَتْ فَهُوَ لَك حَلَالٌ فَحَلَبَ وَشَرِبَ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ) أَمَّا الْإِبَاحَةُ فَيَصِحُّ تَعْلِيقُهَا بِالشَّرْطِ وَالْخَطَرِ؛ لِأَنَّهَا إطْلَاقٌ وَلَيْسَ بِتَمْلِيكٍ فَتَصِحُّ مَعَ الْخَطَرِ (وَلَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنْ الدَّيْنِ)؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَهُ بِإِذْنِ الْمَالِكِ (فَإِنْ لَمْ يَفْتَكَّ الشَّاةَ حَتَّى مَاتَتْ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ قُسِّمَ الدَّيْنُ عَلَى قِيمَةِ اللَّبَنِ الَّذِي شَرِبَ وَعَلَى قِيمَةِ الشَّاةِ، فَمَا أَصَابَ الشَّاةَ سَقَطَ، وَمَا أَصَابَ اللَّبَنَ أَخَذَهُ الْمُرْتَهِنُ مِنْ الرَّاهِنِ)؛ لِأَنَّ اللَّبَنَ تَلِفَ عَلَى مِلْكِ الرَّاهِنِ بِفِعْلِ الْمُرْتَهِنِ وَالْفِعْلُ حَصَلَ بِتَسْلِيطٍ مِنْ قِبَلِهِ فَصَارَ كَأَنَّ الرَّاهِنَ أَخَذَهُ وَأَتْلَفَهُ فَكَانَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ فَيَكُونُ لَهُ حِصَّتُهُ مِنْ الدَّيْنِ فَبَقِيَ بِحِصَّتِهِ، وَكَذَلِكَ وَلَدُ

قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: مَا يَرْجِعُ إلَى الْمَحَلِّ فَالِابْتِدَاءُ وَالْبَقَاءُ فِيهِ سَوَاءٌ، فَمَا بَالُ هَذَا تَخَلَّفَ عَنْ ذَلِكَ الْأَصْلِ؟ قَالَ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّهُ كَذَلِكَ فِيمَا يَكُونُ الْمَحَلُّ بَاقِيًا، وَهَاهُنَا يَتَبَدَّلُ الْمَحَلُّ حُكْمًا بِتَبَدُّلِ الْوَصْفِ فَلِذَلِكَ تَخَلَّفَ عَنْ ذَلِكَ الْأَصْلِ انْتَهَى

أَقُولُ: فِي الْجَوَابِ بَحْثٌ؛ إذْ لِقَائِلٍ أَنْ يَعُودَ وَيَقُولَ: لَوْ كَانَ يَتَبَدَّلُ الْمَحَلُّ هَا هُنَا بِتَبَدُّلِ الْوَصْفِ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَبْطُلَ الْعَقْدُ فِيمَا إذَا اشْتَرَى عَصِيرًا فَتَخَمَّرَ قَبْلَ الْقَبْضِ؛ إذْ عَلَى تَقْدِيرِ تَبَدُّلِ الْمَحَلِّ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ هَالِكًا قَبْلَ الْقَبْضِ فِي هَاتِيك الصُّورَةِ، وَقَدْ قَالُوا فِي الْمَسْأَلَةِ الْآتِيَةِ: إنَّ الْبَيْعَ يُنْتَقَضُ بِالْهَلَاكِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَإِنَّ الْمُنْتَقَضَ لَا يَعُودُ، مَعَ أَنَّهُ ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ أَنَّ مَنْ اشْتَرَى عَصِيرًا فَتَخَمَّرَ قَبْلَ الْقَبْضِ يَبْقَى الْعَقْدُ إلَّا أَنَّهُ يَتَخَيَّرُ فِي الْبَيْعِ

فَإِنْ قِيلَ: هَذَا التَّبَدُّلُ لَيْسَ بِتَبَدُّلٍ حَقِيقِيٍّ بَلْ هُوَ تَبَدُّلٌ حُكْمِيٌّ كَمَا صَرَّحَ بِهِ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ، وَاَلَّذِي يَسْتَلْزِمُ كَوْنَ الْبَيْعِ هَالِكًا إنَّمَا هُوَ التَّبَدُّلُ الْحَقِيقِيُّ دُونَ الْحُكْمِيِّ

قُلْنَا: فَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: مَا بَالُ هَذَا التَّبَدُّلِ الْحُكْمِيِّ كَانَ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي التَّخَلُّفِ عَنْ ذَلِكَ الْأَصْلِ الْمُقَرَّرِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي كَوْنِ الْمَبِيعِ هَالِكًا، وَمَا الْفَارِقُ بَيْنَهُمَا

وَبِالْجُمْلَةِ لِلْكَلَامِ مَجَالٌ فِي كُلِّ حَالٍ

وَأَوْرَدَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ عَلَى الْجَوَابِ الْمَزْبُورِ بِوَجْهٍ آخَرَ حَيْثُ قَالَ: فِيهِ بَحْثٌ؛ لِأَنَّ مَآلَ مَا ذَكَرَهُ أَنْ يَكُونَ السَّالِبُ لِقَابِلِيَّةِ الْمَحَلِّيَّةِ وَهُوَ تَبَدُّلُ وَصْفِ الْعَصِيرِيَّةِ إلَى الْخَمْرِيَّةِ مُصَحِّحًا لَهَا

وَقَالَ وَالْأَوْلَى أَنْ يُجَابَ بِأَنَّ الْخَمْرَ قَابِلٌ لِحُكْمِ الْبَيْعِ وَهُوَ الْمِلْكُ ابْتِدَاءً وَبَقَاءً، كَمَا إذَا كَانَ لِمُسْلِمٍ عَصِيرٌ فَتَخَمَّرَ فَإِنَّهُ لَا يَخْرُجُ بِهِ عَنْ مِلْكِهِ، فَإِذَا مَاتَ وَرِثَهُ قَرِيبُهُ الْمُسْلِمُ فَيَثْبُتُ لَهُ الْمِلْكُ ابْتِدَاءً وَبَقَاءً، وَالْعُقُودُ شُرِعَتْ لِأَحْكَامِهَا، وَإِنَّمَا لَمْ يَكُنْ مَحَلًّا لِلْعَقْدِ ابْتِدَاءً لِلنَّهْيِ عَنْ الِاقْتِرَابِ وَالِاغْتِرَارِ،

ص: 198

الشَّاةِ إذَا أَذِنَ لَهُ الرَّاهِنُ فِي أَكْلِهِ، وَكَذَلِكَ جَمِيعُ النَّمَاءِ الَّذِي يَحْدُثُ عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ

قَالَ (وَتَجُوزُ الزِّيَادَةُ فِي الرَّهْنِ وَلَا تَجُوزُ فِي الدَّيْنِ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَلَا يَصِيرُ الرَّهْنُ رَهْنًا بِهَا

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: تَجُوزُ الزِّيَادَةُ فِي الدَّيْنِ أَيْضًا

وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ: لَا تَجُوزُ فِيهِمَا، وَالْخِلَافُ مَعَهُمَا فِي الرَّهْنِ، وَالثَّمَنُ وَالْمُثَمَّنُ وَالْمَهْرُ وَالْمَنْكُوحَةُ سَوَاءٌ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي الْبُيُوعِ

وَلِأَبِي يُوسُفَ فِي الْخِلَافِيَّةِ الْأُخْرَى أَنَّ الدَّيْنَ فِي بَابِ الرَّهْنِ كَالثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ، وَالرَّهْنُ كَالْمُثَمَّنِ فَتَجُوزُ الزِّيَادَةُ فِيهِمَا كَمَا فِي الْبَيْعِ، وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا الِالْتِحَاقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ لِلْحَاجَةِ وَالْإِمْكَانِ

وَلَهُمَا وَهُوَ الْقِيَاسُ أَنَّ الزِّيَادَةَ فِي الدَّيْنِ تُوجِبُ الشُّيُوعَ فِي الرَّهْنِ، وَهُوَ غَيْرُ مَشْرُوعٍ عِنْدَنَا، وَالزِّيَادَةُ فِي الرَّهْنِ تُوجِبُ الشُّيُوعَ فِي الدَّيْنِ، وَهُوَ غَيْرُ مَانِعٍ مِنْ صِحَّةِ الرَّهْنِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ رَهَنَ عَبْدًا بِخَمْسِمِائَةٍ مِنْ الدَّيْنِ جَازَ، وَإِنْ كَانَ

وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ فِي الْبَقَاءِ فَلْيُتَأَمَّلْ انْتَهَى، إلَى هُنَا كَلَامُهُ

أَقُولُ: جَوَابُهُ الَّذِي عَدَّهُ أَوْلَى لَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ مَوْرِدَ السُّؤَالِ الَّذِي ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بِقَوْلِهِ وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ إلَخْ إنَّمَا هُوَ قَوْلُهُمْ فِي تَعْلِيلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: إنَّ مَا يَكُونُ مَحَلًّا لِلْبَيْعِ يَكُونُ مَحَلًّا لِلرَّهْنِ، وَالْخَمْرُ إنْ لَمْ يَكُنْ مَحَلًّا لِلْبَيْعِ ابْتِدَاءً فَهُوَ مَحَلٌّ لَهُ بَقَاءً حَيْثُ وَرَدَ عَلَيْهِ أَنَّ مَا يَرْجِعُ إلَى الْمَحَلِّ فَالِابْتِدَاءُ وَالْبَقَاءُ فِيهِ سَوَاءٌ، فَمَا مَعْنَى كَوْنِ الْخَمْرِ مَحَلًّا لِلْبَيْعِ فِي الْبَقَاءِ دُونَ الِابْتِدَاءِ

وَلَا شَكَّ أَنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْخَمْرَ قَابِلٌ لِحُكْمِ الْبَيْعِ وَهُوَ الْمِلْكُ ابْتِدَاءً وَبَقَاءً لَا يَدْفَعُ السُّؤَالَ الْمَزْبُورَ الْمُورَدَ عَلَى قَوْلِهِمْ فِي التَّعْلِيلِ الْمَذْكُورِ: إنَّ الْخَمْرَ إنْ لَمْ يَكُنْ مَحَلًّا لِلْبَيْعِ ابْتِدَاءً فَهُوَ مَحَلٌّ لَهُ بَقَاءً، بَلْ يَكُونُ مَآلُهُ تَغْيِيرَ تَعْلِيلِهِمْ الْمَذْكُورِ، إلَى أَنْ يُقَالَ: إنَّ مَا يَكُونُ حُكْمًا لِلْبَيْعِ يَكُونُ حُكْمًا لِلرَّهْنِ، وَالْخَمْرُ قَابِلٌ لِحُكْمِ الْبَيْعِ ابْتِدَاءً وَبَقَاءً فَكَذَا فِي الرَّهْنِ، وَهَذَا مَعَ كَوْنِهِ عُدُولًا عَنْ تَعْلِيلِهِمْ الْمَرَضِيِّ عِنْدَهُمْ لَيْسَ بِصَحِيحٍ فِي نَفْسِهِ؛ إذْ لَا رَيْبَ أَنَّ مَا يَكُونُ حُكْمًا لِلْبَيْعِ، وَهُوَ مِلْكُ الْعَيْنِ لَا يَكُونُ حُكْمًا لِلرَّهْنِ

فَإِنَّ حُكْمَ الرَّهْنِ إنَّمَا هُوَ ثُبُوتُ يَدِ الِاسْتِيفَاءِ وَالْحَبْسِ لِلْمُرْتَهِنِ لَا غَيْرُ كَمَا تَقَرَّرَ فِيمَا مَرَّ

(قَوْلُهُ وَلَهُمَا وَهُوَ الْقِيَاسُ أَنَّ الزِّيَادَةَ فِي الدَّيْنِ تُوجِبُ الشُّيُوعَ فِي الرَّهْنِ إلَخْ) أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَا فَائِدَةَ لِقَوْلِهِ وَهُوَ الْقِيَاسُ فِي أَثْنَاءِ ذِكْرِ دَلِيلِهِمَا؛ لِأَنَّ دَلِيلَ أَبِي يُوسُفَ أَيْضًا هُوَ الْقِيَاسُ كَمَا أَفْصَحَ عَنْهُ تَقْرِيرُ الْمُصَنِّفِ إيَّاهُ حَيْثُ قَالَ: إنَّ الدَّيْنَ فِي بَابِ الرَّهْنِ كَالثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ، وَالرَّهْنُ كَالْمُثَمَّنِ، ثُمَّ قَالَ: وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا الِالْتِحَاقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ لِلْحَاجَةِ وَالْإِمْكَانِ، وَعَنْ هَذَا تَرَكَ صَاحِبُ الْكَافِي الْقَيْدَ الْمَذْكُورَ أَعْنِي قَوْلَهُ وَهُوَ الْقِيَاسُ فِي أَثْنَاءِ تَقْرِيرِ دَلِيلِهِمَا

وَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَيْسَ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ هَا هُنَا بِقَوْلِهِ وَهُوَ الْقِيَاسُ الِاحْتِرَازَ عَنْ أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي هِيَ الْخِلَافِيَّةُ الْأُخْرَى وَهِيَ مَسْأَلَةُ الزِّيَادَةِ فِي الدَّيْنِ، بَلْ مُرَادُهُ بِذَلِكَ هُوَ الِاحْتِرَازُ عَنْ أَصْلِ أَئِمَّتِنَا الثَّلَاثَةِ فِي الْخِلَافِيَّةِ الْأُولَى وَهِيَ مَسْأَلَةُ الزِّيَادَةِ فِي الرَّهْنِ، فَإِنَّ أَصْلَهُمْ فِيهَا هُوَ الِاسْتِحْسَانُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي النِّهَايَةِ وَغَيْرِهَا، وَالْبَاعِثُ عَلَى تَقْيِيدِ الْمُصَنِّفِ هَا هُنَا بِهَذَا الِاحْتِرَازِ هُوَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ دَلِيلُ أَبِي يُوسُفَ فِي الْخِلَافِيَّةِ الْأُخْرَى هُوَ الْقِيَاسَ كَمَا أَفْصَحَ عَنْهُ تَقْرِيرُهُ

ص: 199

الدَّيْنُ أَلْفًا وَهَذَا شُيُوعٌ فِي الدَّيْنِ، وَالِالْتِحَاقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ غَيْرُ مُمْكِنٍ فِي طَرَفِ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَعْقُودٍ عَلَيْهِ وَلَا مَعْقُودٍ بِهِ بَلْ وُجُوبُهُ سَابِقٌ عَلَى الرَّهْنِ، وَكَذَا يَبْقَى بَعْدَ انْفِسَاخِهِ، وَالِالْتِحَاقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ فِي بَدَلَيْ الْعَقْدِ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ بَدَلٌ يَجِبُ بِالْعَقْدِ، ثُمَّ إذَا صَحَّتْ الزِّيَادَةُ فِي الرَّهْنِ وَتُسَمَّى هَذِهِ زِيَادَةً قَصْدِيَّةً يُقَسَّمُ الدَّيْنُ عَلَى قِيمَةِ الْأَوَّلِ يَوْمَ الْقَبْضِ، وَعَلَى قِيمَةِ الزِّيَادَةِ يَوْمَ قُبِضَتْ، حَتَّى لَوْ كَانَتْ قِيمَةُ الزِّيَادَةِ يَوْمَ قَبْضِهَا خَمْسَمِائَةٍ، وَقِيمَةُ الْأَوَّلِ يَوْمَ الْقَبْضِ أَلْفًا وَالدَّيْنُ أَلْفًا يُقَسَّمُ الدَّيْنُ أَثْلَاثًا، فِي الزِّيَادَةِ ثُلُثُ الدَّيْنِ، وَفِي الْأَصْلِ ثُلُثَا الدَّيْنِ اعْتِبَارًا بِقِيمَتِهِمَا فِي وَقْتَيْ الِاعْتِبَارِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَثْبُتُ بِالْقَبْضِ فَتُعْتَبَرُ قِيمَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَقْتَ الْقَبْضِ

(وَإِذَا وَلَدَتْ الْمَرْهُونَةُ وَلَدًا ثُمَّ إنَّ الرَّاهِنَ زَادَ مَعَ الْوَلَدِ عَبْدًا، وَقِيمَةُ كُلِّ وَاحِد أَلْفٌ فَالْعَبْدُ رَهْنٌ مَعَ الْوَلَدِ خَاصَّةً يُقَسَّمُ مَا فِي الْوَلَدِ عَلَيْهِ وَعَلَى الْعَبْدِ الزِّيَادَةُ)؛ لِأَنَّهُ جَعَلَهُ زِيَادَةً مَعَ الْوَلَدِ دُونَ الْأُمِّ (وَلَوْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ مَعَ الْأُمِّ يُقَسَّمُ الدَّيْنُ عَلَى قِيمَةِ الْأُمِّ يَوْمَ الْعَقْدِ وَعَلَى قِيمَةِ الزِّيَادَةِ يَوْمَ الْقَبْضِ، فَمَا أَصَابَ الْأُمَّ قُسِّمَ عَلَيْهَا وَعَلَى وَلَدِهَا)؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ دَخَلَتْ عَلَى الْأُمِّ

قَالَ (فَإِنْ رَهَنَ عَبْدًا يُسَاوِي أَلْفًا بِأَلْفٍ ثُمَّ أَعْطَاهُ عَبْدًا آخَرَ قِيمَتَهُ أَلْفٌ رَهْنًا

جَازَ أَنْ يُتَوَهَّمَ أَنَّ دَلِيلَهُمَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هُوَ الِاسْتِحْسَانُ لِكَوْنِهِمَا فِي خِلَافِيَّةٍ هَا هُنَا، فَنَبَّهَ عَلَى أَنَّ أَصْلَهُمَا أَيْضًا هُوَ الْقِيَاسُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَإِنَّمَا الِاسْتِحْسَانُ أَصْلُهُمْ فِي الْخِلَافِيَّةِ الْأُولَى (قَوْلُهُ: وَالِالْتِحَاقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ غَيْرُ مُمْكِنٍ فِي طَرَفِ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَعْقُودٍ عَلَيْهِ وَلَا مَعْقُودٍ بِهِ، بَلْ وُجُوبُهُ سَابِقٌ عَلَى الرَّهْنِ) أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: سَبْقُ وُجُوبِهِ عَلَى الرَّهْنِ أَلْبَتَّةَ مَمْنُوعٌ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الدَّيْنُ الَّذِي زِيدَ دَيْنًا جَدِيدًا حَادِثًا بِمُوجِبٍ مُتَأَخِّرٍ عَنْ عَقْدِ الرَّهْنِ مِنْ الِاسْتِقْرَاضِ وَغَيْرِهِ

وَالْجَوَابُ أَنَّ الْكَلَامَ فِي الِالْتِحَاقِ بِأَصْلِ الْعَقْدِ، فَالدَّيْنُ وَإِنْ كَانَ مُتَأَخِّرًا عَنْ أَصْلِ عَقْدِ الرَّهْنِ إلَّا أَنَّهُ يَثْبُتُ بِالِالْتِحَاقِ بِأَصْلِ الْعَقْدِ تَسْمِيَةً جَدِيدَةً فَتَصِيرُ كَالرَّهْنِ

ص: 200

مَكَانَ الْأَوَّلِ، فَالْأَوَّلُ رَهْنٌ حَتَّى يَرُدَّهُ إلَى الرَّاهِنِ، وَالْمُرْتَهِنُ فِي الْآخَرِ أَمِينٌ حَتَّى يَجْعَلَهُ مَكَانَ الْأَوَّلِ)؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ إنَّمَا دَخَلَ فِي ضَمَانِهِ بِالْقَبْضِ وَالدَّيْنِ وَهُمَا بَاقِيَانِ فَلَا يَخْرُجُ عَنْ الضَّمَانِ إلَّا بِنَقْضِ الْقَبْضِ مَا دَامَ الدَّيْنُ بَاقِيًا، وَإِذَا بَقِيَ الْأَوَّلُ فِي ضَمَانِهِ لَا يَدْخُلُ الثَّانِي فِي ضَمَانِهِ؛ لِأَنَّهُمَا رَضِيَا بِدُخُولِ أَحَدِهِمَا فِيهِ لَا بِدُخُولِهِمَا

فَإِذَا رُدَّ الْأَوَّلُ دَخَلَ الثَّانِي فِي ضَمَانِهِ

ثُمَّ قِيلَ: يُشْتَرَطُ تَجْدِيدُ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّ يَدَ الْمُرْتَهِنِ عَلَى الثَّانِي يَدُ أَمَانَةٍ وَيَدُ الرَّهْنِ بَعْدَ اسْتِيفَاءٍ وَضَمَانٍ فَلَا يَنُوبُ عَنْهُ، كَمَنْ لَهُ عَلَى آخَرَ جِيَادٌ فَاسْتَوْفَى زُيُوفًا ظَنَّهَا جِيَادًا ثُمَّ عَلِمَ بِالزِّيَافَةِ وَطَالَبَهُ بِالْجِيَادِ وَأَخَذَهَا فَإِنَّ الْجِيَادَ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ مَا لَمْ يَرُدَّ الزُّيُوفَ وَيُجَدِّدَ الْقَبْضَ

وَقِيلَ لَا يُشْتَرَطُ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ تَبَرُّعٌ كَالْهِبَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ وَقَبْضُ الْأَمَانَةِ يَنُوبُ عَنْ قَبْضِ الْهِبَةِ، وَلِأَنَّ الرَّهْنَ عَيْنَهُ أَمَانَةٌ، وَالْقَبْضُ يُرَدُّ عَلَى الْعَيْنِ فَيَنُوبُ قَبْضُ الْأَمَانَةِ عَنْ قَبْضِ الْعَيْنِ

(وَلَوْ أَبْرَأَ الْمُرْتَهِنُ الرَّاهِنَ عَنْ الدَّيْنِ أَوْ وَهَبَهُ مِنْهُ ثُمَّ هَلَكَ الرَّهْنُ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ يَهْلَكُ بِغَيْرِ شَيْءٍ اسْتِحْسَانًا) خِلَافًا لِزُفَرَ،؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ مَضْمُونٌ بِالدَّيْنِ أَوْ بِجِهَتِهِ عِنْدَ تَوَهُّمِ الْوُجُودِ كَمَا فِي الدَّيْنِ الْمَوْعُودِ وَلَمْ يَبْقَ الدَّيْنُ بِالْإِبْرَاءِ أَوْ الْهِبَةِ وَلَا جِهَتِهِ لِسُقُوطِهِ، إلَّا إذَا أَحْدَثَ مَنْعًا؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ بِهِ غَاصِبًا إذَا لَمْ تَبْقَ لَهُ وِلَايَةُ الْمَنْعِ

(وَكَذَا إذَا ارْتَهَنَتْ الْمَرْأَةُ رَهْنًا بِالصَّدَاقِ فَأَبْرَأَتْهُ أَوْ وَهَبَتْهُ أَوْ ارْتَدَّتْ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ اخْتَلَعَتْ مِنْهُ عَلَى صَدَاقِهَا ثُمَّ هَلَكَ الرَّهْنُ فِي يَدِهَا يَهْلَكُ بِغَيْرِ شَيْءٍ فِي هَذَا كُلِّهِ وَلَمْ تَضْمَنْ شَيْئًا لِسُقُوطِ الدَّيْنِ كَمَا فِي الْإِبْرَاءِ، وَلَوْ اسْتَوْفَى الْمُرْتَهِنُ الدَّيْنَ بِإِيفَاءِ الرَّاهِنِ أَوْ بِإِيفَاءِ مُتَطَوِّعٍ ثُمَّ هَلَكَ الرَّهْنُ فِي يَدِهِ يَهْلَكُ بِالدَّيْنِ وَيَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّ مَا اسْتَوْفَى إلَى مَا اسْتَوْفَى مِنْهُ وَهُوَ مَنْ عَلَيْهِ أَوْ الْمُتَطَوِّعُ بِخِلَافِ الْإِبْرَاءِ) وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ بِالْإِبْرَاءِ يَسْقُطُ الدَّيْنُ أَصْلًا كَمَا ذَكَرْنَا، وَبِالِاسْتِيفَاءِ لَا يَسْقُطُ لِقِيَامِ الْمُوجِبِ، إلَّا أَنَّهُ يَتَعَذَّرُ الِاسْتِيفَاءُ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ؛ لِأَنَّهُ يَعْقُبُ مُطَالَبَةَ مِثْلِهِ، فَأَمَّا هُوَ فِي نَفْسِهِ فَقَائِمٌ، فَإِذَا هَلَكَ يَتَقَرَّرُ الِاسْتِيفَاءُ الْأَوَّلُ فَانْتَقَضَ الِاسْتِيفَاءُ الثَّانِي.

الِابْتِدَائِيِّ، وَلَا شَكَّ أَنَّ زَمَانَ وُجُوبِ الدَّيْنِ الْجَدِيدِ مُقَدَّمٌ عَلَى زَمَانِ الْتِحَاقِهِ بِالْأَصْلِ، فَإِنَّ الِالْتِحَاقَ فَرْعُ التَّحَقُّقِ فَلِهَذَا حُكِمَ بِسَبْقِ وُجُوبِهِ عَلَى الرَّهْنِ أَلْبَتَّةَ تَأَمَّلْ تَفْهَمْ

(قَوْلُهُ وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ بِالْإِبْرَاءِ يَسْقُطُ الدَّيْنُ أَصْلًا كَمَا ذَكَرْنَاهُ، وَبِالِاسْتِيفَاءِ لَا يَسْقُطُ لِقِيَامِ الْمُوجِبِ، إلَّا أَنَّهُ يَتَعَذَّرُ الِاسْتِيفَاءُ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ؛ لِأَنَّهُ يَعْقُبُ مُطَالَبَةَ مِثْلِهِ، فَإِذَا هَلَكَ يَتَقَرَّرُ الِاسْتِيفَاءُ الْأَوَّلُ فَانْتَقَضَ الِاسْتِيفَاءُ الثَّانِي) الْمُرَادُ بِالِاسْتِيفَاءِ الْأَوَّلِ هُوَ الِاسْتِيفَاءُ الْحُكْمِيُّ، وَبِالِاسْتِيفَاءِ الثَّانِي هُوَ الِاسْتِيفَاءُ الْحَقِيقِيُّ، كَذَا فِي عَامَّةِ الشُّرُوحِ

أَقُولُ:

ص: 201

(وَكَذَا إذَا اشْتَرَى بِالدَّيْنِ عَيْنًا أَوْ صَالَحَ عَنْهُ عَلَى عَيْنٍ)؛ لِأَنَّهُ اسْتِيفَاءٌ (وَكَذَلِكَ إذَا أَحَالَ الرَّاهِنُ الْمُرْتَهِنَ بِالدَّيْنِ عَلَى غَيْرِهِ ثُمَّ هَلَكَ الرَّهْنُ بَطَلَتْ الْحَوَالَةُ وَيَهْلَكُ بِالدَّيْنِ)؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْبَرَاءَةِ بِطَرِيقِ الْأَدَاءِ؛ لِأَنَّهُ يَزُولُ بِهِ عَنْ مِلْكِ الْمُحِيلِ مِثْلَ مَا كَانَ لَهُ عَلَى الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ، أَوْ مَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِهِ إنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُحِيلِ عَلَى الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ دَيْنٌ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ (وَكَذَا لَوْ تَصَادَقَا عَلَى أَنْ لَا دَيْنَ ثُمَّ هَلَكَ الرَّهْنُ يَهْلَكُ بِالدَّيْنِ) لِتَوَهُّمِ وُجُوبِ الدَّيْنِ بِالتَّصَادُقِ عَلَى قِيَامِهِ فَتَكُونُ الْجِهَةُ بَاقِيَةً بِخِلَافِ الْإِبْرَاءِ،

وَاَللَّهُ أَعْلَمُ

هَا هُنَا نَوْعُ إشْكَالٍ، وَهُوَ أَنَّ الِاسْتِيفَاءَ الْحُكْمِيَّ الَّذِي ثَبَتَ لِلْمُرْتَهِنِ بِقَبْضِ الرَّهْنِ إمَّا أَنْ يُنْتَقَضَ بِاسْتِيفَائِهِ الدَّيْنَ حَقِيقَةً بِإِيفَاءِ الرَّاهِنِ أَوْ بِإِيفَاءِ مُتَطَوِّعٍ قَبْلَ هَلَاكِ الرَّهْنِ، أَوْ لَمْ يُنْتَقَضْ بَلْ بَقِيَ عَلَى حَالِهِ، فَإِنْ انْتَقَضَ لَمْ يَتِمَّ قَوْلُهُ، فَإِذَا هَلَكَ يَتَقَرَّرُ الِاسْتِيفَاءُ الْأَوَّلُ؛ إذْ قَدْ تَقَرَّرَ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْمُنْتَقَضَ لَا يَعُودُ وَقَدْ مَرَّ فِي الْكِتَابِ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَإِنْ لَمْ يُنْتَقَضْ بَلْ بَقِيَ عَلَى حَالِهِ يَلْزَمُ أَنْ يَتَكَرَّرَ الِاسْتِيفَاءُ عِنْدَ اسْتِيفَائِهِ الدَّيْنَ بِإِيفَاءِ الرَّاهِنِ أَوْ بِإِيفَاءِ مُتَطَوِّعٍ، وَتَكَرُّرُهُ مُؤَدٍّ إلَى الرِّبَا، فَاسِدٌ كَمَا مَرَّ أَيْضًا غَيْرَ مَرَّةٍ

وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّهُ غَيْرُ مُنْتَقَضٍ بَلْ بَاقٍ عَلَى حَالِهِ، وَلَكِنَّهُ فِي قُوَّةِ الزَّوَالِ وَالِانْتِقَاضُ بِرَدِّ الْمُرْتَهِنِ الرَّهْنَ عَلَى الرَّاهِنِ سِيَّمَا إذَا وَجَبَ الرَّدُّ عَلَيْهِ عِنْدَ تَحَقُّقِ الِاسْتِيفَاءِ الْحَقِيقِيِّ كَمَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ، فَكَأَنَّ الِاسْتِيفَاءَ لَمْ يَتَكَرَّرْ عِنْدَ الِاسْتِيفَاءِ الْحَقِيقِيِّ مَا لَمْ يَتَقَرَّرْ الِاسْتِيفَاءُ الْحُكْمِيُّ بِهَلَاكِ الرَّهْنِ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ فَلَمْ يُجْعَلْ فَاسِدًا، هَذَا غَايَةُ مَا يُمْكِنُ فِي التَّقَصِّي عَنْ ذَلِكَ الْإِشْكَالِ وَإِنْ كَانَ لَا يَخْلُو عَنْ نَوْعِ تَكَلُّفٍ

(قَوْلُهُ بِخِلَافِ الْإِبْرَاءِ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: قَوْلُهُ بِخِلَافِ الْإِبْرَاءِ رَاجِعٌ إلَى قَوْلِهِ وَلَوْ اسْتَوْفَى، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مِنْ ثَمَّةَ هُنَا نُقَوِّضُ عَلَى جَوَابِ الِاسْتِحْسَانِ فِي صُورَةٍ فِي الْإِبْرَاءِ

وَقَالَ وَالْأَوْلَى أَنْ يُرْجَعَ إلَى قَوْلِهِ: فَتَكُونُ الْجِهَةُ بَاقِيَةً انْتَهَى

أَقُولُ: لَا مَسَاغَ عِنْدِي لَأَنْ يَكُونَ

ص: 202

‌كِتَابُ الْجِنَايَاتِ

قَالَ (الْقَتْلُ عَلَى خَمْسَةِ أَوْجُهٍ: عَمْدٌ، وَشِبْهُ عَمْدٍ، وَخَطَأٌ، وَمَا أُجْرِيَ مَجْرَى الْخَطَأِ، وَالْقَتْلُ بِسَبَبٍ)

قَوْلُهُ هَا هُنَا بِخِلَافِ الْإِبْرَاءِ رَاجِعًا إلَى قَوْلِهِ وَلَوْ اسْتَوْفَى؛ لِأَنَّ الْمُصَنِّفَ قَالَ بَعْدَ ذِكْرِ مَسْأَلَةِ اسْتِيفَاءِ الْمُرْتَهِنِ الدَّيْنَ فِيمَا مَرَّ بِخِلَافِ الْإِبْرَاءِ، وَبَيَّنَ وَجْهَ الْفَرْقِ بَيْنَ الْإِبْرَاءِ وَالِاسْتِيفَاءِ مُسْتَوْفًى، فَلَوْ كَانَ قَوْلُهُ هَا هُنَا بِخِلَافِ الْإِبْرَاءِ رَاجِعًا إلَى قَوْلِهِ: وَلَوْ اسْتَوْفَى لَتَكَرَّرَ الْحَشْوُ فِي كَلَامِهِ، وَحَاشَا لَهُ عَنْ ارْتِكَابِ مِثْلِ ذَلِكَ

(كِتَابُ الْجِنَايَاتِ)

أَوْرَدَ الْجِنَايَاتِ عَقِيبَ الرَّهْنِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِلْوِقَايَةِ وَالصِّيَانَةِ، فَإِنَّ الرَّهْنَ وَثِيقَةٌ لِصِيَانَةِ الْمَالِ، وَحُكْمُ الْجِنَايَةِ لِصِيَانَةِ النَّفْسِ؛ أَلَا يَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} وَلَمَّا كَانَ الْمَالُ وَسِيلَةً لِبَقَاءِ النَّفْسِ قُدِّمَ الرَّهْنُ عَلَى الْجِنَايَاتِ بِنَاءً عَلَى تَقَدُّمِ الْوَسَائِلِ عَلَى الْمَقَاصِدِ، كَذَا فِي أَكْثَرِ الشُّرُوحِ

قَالَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ: وَلَكِنْ قَدَّمَ الرَّهْنَ؛ لِأَنَّهُ مَشْرُوعٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، بِخِلَافِ الْجِنَايَةِ فَإِنَّهَا مَحْظُورَةٌ؛ لِأَنَّهَا عِبَارَةٌ عَمَّا لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ فِعْلُهُ انْتَهَى

أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْبَيَانِ فِي كِتَابِ الْجِنَايَاتِ إنَّمَا هُوَ أَحْكَامُ الْجِنَايَاتِ دُونَ أَنْفُسِهَا، وَلَا شَكَّ أَنَّ أَحْكَامَهَا مَشْرُوعَةٌ ثَابِتَةٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَيْضًا فَلَا مَعْنَى لِتَأْخِيرِهَا مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ

ثُمَّ إنَّ الْجِنَايَةَ فِي اللُّغَةِ اسْمٌ لِمَا تَجْنِيهِ مِنْ شَرٍّ تَكْسِبُهُ

وَهِيَ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرُ جَنَى عَلَيْهِ شَرًّا جِنَايَةً، وَهُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ مَا يَقْبُحُ وَيَسُوءُ، إلَّا أَنَّهُ فِي الشَّرْعِ خُصَّ بِفِعْلٍ مُحَرَّمٍ حَلَّ بِالنُّفُوسِ وَالْأَطْرَافِ، وَالْأَوَّلُ يُسَمَّى قَتْلًا وَهُوَ فِعْلٌ مِنْ الْعِبَادِ تَزُولُ بِهِ الْحَيَاةُ، وَالثَّانِي يُسَمَّى قَطْعًا وَجُرْحًا، هَذَا زُبْدَةُ مَا فِي الْكِتَابِ وَالشُّرُوحِ

(قَوْلُهُ الْقَتْلُ عَلَى خَمْسَةِ أَوْجُهٍ: عَمْدٌ، وَشِبْهُ عَمْدٍ، وَخَطَأٌ، وَمَا أُجْرِيَ مَجْرَى الْخَطَأِ، وَالْقَتْلُ بِسَبَبٍ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: وَجْهُ الِانْحِصَارِ فِي هَذِهِ الْخَمْسَةِ هُوَ أَنَّ الْقَتْلَ إذَا صَدَرَ عَنْ إنْسَانٍ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ حَصَلَ بِسِلَاحٍ أَوْ بِغَيْرِ سِلَاحٍ، فَإِنْ حَصَلَ بِسِلَاحٍ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ بِهِ قَصْدُ الْقَتْلِ أَمْ لَا، فَإِنْ كَانَ فَهُوَ عَمْدٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَهُوَ خَطَأٌ

وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِسِلَاحٍ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مَعَهُ قَصْدُ التَّأْدِيبِ وَالضَّرْبِ أَمْ لَا، فَإِنْ كَانَ فَهُوَ شِبْهُ الْعَمْدِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ جَارِيًا مَجْرَى الْخَطَأِ أَمْ لَا، فَإِنْ كَانَ فَهُوَ هُوَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَهُوَ الْقَتْلُ بِسَبَبٍ، وَبِهَذَا

ص: 203

وَالْمُرَادُ بَيَانُ قَتْلٍ تَتَعَلَّقُ بِهِ الْأَحْكَامُ

الِانْحِصَارِ يُعْرَفُ أَيْضًا تَفْسِيرُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا انْتَهَى

أَقُولُ: فِيهِ خَلَلٌ

أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُ جَعَلَ الْقَتْلَ الْخَطَأَ مَخْصُوصًا بِمَا حَصَلَ بِسِلَاحٍ وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ إذْ لَا شَكَّ أَنَّ الْقَتْلَ الْخَطَأَ كَمَا يَكُونُ بِسِلَاحٍ يَكُونُ أَيْضًا بِمَا لَيْسَ بِسِلَاحٍ كَالْحَجَرِ الْعَظِيمِ وَالْخَشَبَةِ الْعَظِيمَةِ

وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ قَوْلَهُ: فَإِنْ كَانَ هُوَ هُوَ يُشْبِهُ تَفْسِيرَ الشَّيْءِ بِنَفْسِهِ

وَأَمَّا ثَالِثًا فَلِأَنَّ قَوْلَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جَارِيًا مَجْرَى الْخَطَأِ فَهُوَ الْقَتْلُ بِسَبَبٍ لَيْسَ بِتَامٍّ لِأَنَّ مَا لَا يَكُونُ جَارِيًا مَجْرَى الْخَطَأِ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْقَتْلَ بِسَبَبٍ أَلْبَتَّةَ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْقَتْلَ بِخَطَأٍ مَحْضٍ أَيْضًا فَلَا يَتِمُّ الْحَصْرُ فِي الْقَتْلِ بِسَبَبٍ

وَلَمَّا تَنَبَّهْ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ لِمَا فِي وَجْهِ الْحَصْرِ الَّذِي ذَكَرَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ مِنْ الْقُصُورِ قَالَ فِي بَيَانِ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ الْقَتْلُ عَلَى خَمْسَةِ أَوْجُهٍ: وَذَلِكَ أَنَّا قَدْ اسْتَقْرَيْنَا فَوَجَدْنَا مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ الْأَحْكَامِ الْمَذْكُورَةِ أَحَدُ هَؤُلَاءِ الْأَوْجُهِ الْمَذْكُورَةِ، وَنَقَلَ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ مِنْ وَجْهِ الْحَصْرِ فَقَالَ: وَضَعْفُهُ وَرَكَاكَتُهُ ظَاهِرَانِ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ وَبَيَانٍ (قَوْلُهُ: وَالْمُرَادُ بَيَانُ قَتْلٍ تَتَعَلَّقُ بِهِ الْأَحْكَامُ) قَالَ جُمْهُورُ الشُّرَّاحِ: إنَّمَا قَيَّدَ بِهِ؛ لِأَنَّ أَنْوَاعَ الْقَتْلِ مِنْ حَيْثُ هُوَ قَتْلٌ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى ضَمَانِ الْقَتْلِ وَعَدَمِ ضَمَانِهِ أَكْثَرُ مِنْ خَمْسَةٍ: كَقَتْلِ الْمُرْتَدِّ، وَالْقَتْلِ قِصَاصًا، وَالْقَتْلِ رَجْمًا، وَالْقَتْلِ بِقَطْعِ الطَّرِيقِ، وَقَتْلِ الْحَرْبِيِّ، حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ: وَنَظِيرُ هَذَا مَا قَالَهُ مُحَمَّدٌ فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ: الْأَيْمَانُ ثَلَاثَةٌ، وَلَمْ يُرِدْ بِهِ جِنْسَ الْأَيْمَانِ؛ لِأَنَّهَا أَكْثَرُ مِنْ ثَلَاثَةٍ: يَمِينُ اللَّهِ، وَيَمِينٌ بِالطَّلَاقِ، وَيَمِينٌ بِالْعَتَاقِ وَالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِذَلِكَ الْأَيْمَانَ بِاَللَّهِ تَعَالَى انْتَهَى

أَقُولُ: فِيمَا قَالُوا نَظَرٌ؛ إذْ الظَّاهِرُ أَنَّ شَيْئًا مِنْ أَنْوَاعِ الْقَتْلِ لَا يَخْرُجُ مِنْ الْأَوْجُهِ الْخَمْسَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْكِتَابِ، بَلْ يَدْخُلُ كُلٌّ مِنْ ذَلِكَ فِي وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْأَوْجُهِ، فَإِنَّ مَا ذَكَرُوا مِنْ قَتْلِ الْمُرْتَدِّ وَقَتْلِ الْحَرْبِيِّ وَالْقَتْلِ قِصَاصًا أَوْ رَجْمًا أَوْ قَطْعِ الطَّرِيقِ يَكُونُ قَتْلَ عَمْدٍ إنْ تَعَمَّدَ الْقَاتِلُ ضَرْبَ الْمَقْتُولِ بِسِلَاحٍ وَمَا أُجْرِيَ مَجْرَى السِّلَاحِ، وَيَكُونُ شِبْهَ عَمْدٍ إنْ تَعَمَّدَ ضَرْبَهُ بِمَا لَيْسَ بِسِلَاحٍ، وَلَا مَا أُجْرِيَ مَجْرَى السِّلَاحِ، وَيَكُونُ خَطَأً إنْ لَمْ يَكُنْ بِطَرِيقِ التَّعَمُّدِ بَلْ كَانَ بِطَرِيقِ الْخَطَإِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَوْجُهِ الْمَذْكُورَةِ، وَإِنَّمَا تَكُونُ تِلْكَ الْأَنْوَاعُ الْمُبَاحَةُ مِنْ الْقَتْلِ خَارِجَةً مِنْ الْأَحْكَامِ الْمَذْكُورَةِ لِهَذِهِ الْأَوْجُهِ الْخَمْسَةِ لَا مِنْ نَفْسِ هَذِهِ الْأَوْجُهِ الْخَمْسَةِ فَلَا مَعْنَى لِلْقَوْلِ بِأَنَّ أَنْوَاعَ الْقَتْلِ أَكْثَرُ مِنْ خَمْسَةٍ فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ يُتَصَوَّرُ خُرُوجُ تِلْكَ الْأَنْوَاعِ مِنْ الْأَحْكَامِ الْمَذْكُورَةِ لِلْأَوْجُهِ الْخَمْسَةِ لِلْقَتْلِ لَا مِنْ نَفْسِ هَذِهِ الْأَوْجُهِ وَحُكْمُ الشَّيْءِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ وَيَلْزَمُهُ؟ قُلْتُ: قَدْ يَكُونُ تَرَتُّبُ الْحُكْمِ عَلَى شَيْءٍ مَشْرُوطًا بِشُرُوطٍ؛ أَلَا يَرَى أَنَّهُمْ جَعَلُوا وُجُوبَ الْقَوَدِ مِنْ أَحْكَامِ الْقَتْلِ الْعَمْدِ مَعَ أَنَّ لَهُ شَرَائِطَ كَثِيرَةً: مِنْهَا كَوْنُ الْقَاتِلِ عَاقِلًا بَالِغًا إذْ لَا يَجِبُ الْقَوَدُ عَلَى الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ أَصْلًا

وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ الْمَقْتُولُ جُزْءَ الْقَاتِلِ حَتَّى لَوْ قَتَلَ الْأَبُ وَلَدَهُ عَمْدًا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ، وَكَذَا لَوْ قَتَلَتْ الْأُمُّ وَلَدَهَا وَكَذَا الْجَدُّ وَالْجَدَّةُ

وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ الْمَقْتُولُ مِلْكَ الْقَاتِلِ حَتَّى لَا يُقْتَلَ الْمَوْلَى بِعَبْدِهِ

وَمِنْهَا كَوْنُ الْمَقْتُولِ مَعْصُومَ الدَّمِ مُطْلَقًا فَلَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ وَلَا ذِمِّيٌّ بِالْكَافِرِ الْحَرْبِيِّ، وَلَا بِالْمُرْتَدِّ لِعَدَمِ الْعِصْمَةِ أَصْلًا، وَلَا بِالْمُسْتَأْمَنِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّ عِصْمَتَهُ مَا ثَبَتَتْ مُطْلَقَةً بَلْ مُؤَقَّتَةً إلَى غَايَةِ مُقَامِهِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، صَرَّحَ بِذَلِكَ كُلِّهِ فِي عَامَّةِ الْمُعْتَبَرَاتِ، فَكَذَا كَوْنُ الْقَتْلِ بِغَيْرِ حَقٍّ شَرْطًا لِتَرَتُّبِ كُلٍّ مِنْ الْأَحْكَامِ الْمَذْكُورَةِ لِلْأَوْجُهِ الْخَمْسَةِ مِنْ الْقَتْلِ، وَلَيْسَ شَيْءٌ مِمَّا ذَكَرُوا مِنْ الْأَنْوَاعِ الْمُبَاحَةِ لِلْقَتْلِ بِغَيْرِ حَقٍّ بَلْ كُلُّهَا بِحَقٍّ، فَدُخُولُهَا فِي نَفْسِ أَوْجُهِ الْقَتْلِ دُونَ الْأَحْكَامِ الْمَذْكُورَةِ لَهَا بِنَاءً عَلَى انْتِفَاءِ شَرْطِ تِلْكَ الْأَحْكَامِ وَهُوَ كَوْنُ الْقَتِيلِ مَعْصُومَ الدَّمِ، وَكَوْنُ الْقَتْلِ

ص: 204

قَالَ (فَالْعَمْدُ مَا تَعَمَّدَ ضَرْبَهُ بِسِلَاحٍ أَوْ مَا أُجْرِيَ مَجْرَى السِّلَاحِ كَالْمُحَدَّدِ مِنْ الْخَشَبِ وَلِيطَةِ الْقَصَبِ وَالْمَرْوَةِ الْمُحَدَّدَةِ وَالنَّارِ)؛ لِأَنَّ الْعَمْدَ هُوَ الْقَصْدُ، وَلَا يُوقَفُ عَلَيْهِ إلَّا بِدَلِيلِهِ وَهُوَ اسْتِعْمَالُ الْآلَةِ الْقَاتِلَةِ فَكَانَ مُتَعَمِّدًا فِيهِ عِنْدَ ذَلِكَ

(وَمُوجِبُ ذَلِكَ الْمَأْثَمُ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} الْآيَةَ، وَقَدْ نَطَقَ بِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ السُّنَّةِ، وَعَلَيْهِ انْعَقَدَ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ

بِغَيْرِ حَقٍّ لَا يَقْدَحُ فِي شَيْءٍ

فَالْأَظْهَرُ أَنَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ وَالْمُرَادُ بَيَانُ قَتْلٍ تَتَعَلَّق بِهِ الْأَحْكَامُ هُوَ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْبَيَانِ فِي كِتَابِ الْجِنَايَاتِ إنَّمَا هُوَ أَحْوَالُ الْقَتْلِ بِغَيْرِ حَقٍّ؛ إذْ هُوَ الَّذِي يَكُونُ مِنْ الْجِنَايَاتِ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَحْكَامُهَا دُونَ أَحْوَالِ مُطْلَقِ الْقَتْلِ، وَإِنْ كَانَ الْأَوْجُهُ الْخَمْسَةُ الْمَذْكُورَةُ تَتَنَاوَلُ كُلَّ ذَلِكَ (قَوْلُهُ فَالْعَمْدُ مَا تَعَمَّدَ ضَرْبَهُ بِسِلَاحٍ أَوْ مَا أُجْرِيَ مَجْرَى السِّلَاحِ) قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ ضَرَبَهُ: أَيْ ضَرَبَ الْمَقْتُولَ، وَقَالَ: فَيَخْرُجُ الْعَمْدُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ انْتَهَى

أَقُولُ: يَرِدُ عَلَيْهِ النَّقْضُ بِمَسْأَلَةٍ ذُكِرَتْ فِي الْمُحِيطِ نَقْلًا عَنْ الْمُنْتَقَى، وَهِيَ أَنَّهُ إذَا تَعَمَّدْ أَنْ يَضْرِبَ يَدَ رَجُلٍ فَأَخْطَأَ فَأَصَابَ عُنُقَ ذَلِكَ الرَّجُلِ فَأَبَانَ رَأْسَهُ وَقَتَلَهُ فَهُوَ عَمْدٌ وَفِيهِ الْقَوَدُ، وَإِنْ أَصَابَ عُنُقَ غَيْرِهِ فَهُوَ خَطَأٌ

وَجْهُ الْوُرُودِ أَنَّهُ لَمْ يَتَعَمَّدْ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى ضَرْبَ الْمَقْتُولِ بَلْ تَعَمَّدَ ضَرْبَ يَدِهِ، مَعَ أَنَّهُ جَعَلَ ضَرْبَهُ الْقَتْلَ الْعَمْدَ وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ حَكَمُ قَتْلِ النَّفْسِ، وَهُوَ الْقَوَدُ تَأَمَّلْ (قَوْلُهُ: لِأَنَّ الْعَمْدَ هُوَ الْقَصْدُ وَلَا يُوقَفُ عَلَيْهِ إلَّا بِدَلِيلِهِ وَهُوَ اسْتِعْمَالُ الْآلَةِ الْقَاتِلَةِ فَكَانَ مُتَعَمَّدًا فِيهِ عِنْدَ ذَلِكَ) أَقُولُ: فِيهِ بَحْثٌ، وَهُوَ أَنَّ هَذَا الْقَدْرَ مِنْ التَّعْلِيلِ يُشْكِلُ بِمَا إذَا اسْتَعْمَلَ الْآلَةَ الْقَاتِلَةَ فِي الْقَتْلِ الْخَطَإِ؛ كَمَا إذَا رَمَى شَخْصًا بِسَهْمٍ أَوْ ضَرَبَهُ بِسَيْفٍ يَظُنُّهُ صَيْدًا فَإِذَا هُوَ آدَمِيٌّ، أَوْ يَظُنُّهُ حَرْبِيًّا فَإِذَا هُوَ مُسْلِمٌ، وَهَذَا مِنْ نَوْعِ الْخَطَإِ فِي الْقَصْدِ، وَكَمَا إذَا رَمَى غَرَضًا بِآلَةٍ قَاتِلَةٍ فَأَصَابَ آدَمِيًّا وَهَذَا مِنْ نَوْعِ الْخَطَإِ فِي الْفِعْلِ، فَإِنَّ اسْتِعْمَالَ الْآلَةِ الْقَاتِلَةِ الَّذِي جُعِلَ دَلِيلًا عَلَى الْقَصْدِ قَدْ تَحَقَّقَ هُنَاكَ أَيْضًا مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ بِعَمْدٍ بَلْ هُوَ خَطَأٌ مَحْضٌ عَلَى مَا نَصُّوا عَلَيْهِ قَاطِبَةً

فَإِنْ قُلْتَ: الْمُرَادُ بِاسْتِعْمَالِ الْآلَةِ الْقَاتِلَةِ فِي التَّعْلِيلِ الْمَذْكُورِ اسْتِعْمَالُهَا لِضَرْبِ الْمَقْتُولِ لَا اسْتِعْمَالُهَا مُطْلَقًا فَفِيمَا إذَا رَمَى غَرَضًا فَأَصَابَ آدَمِيًّا لَمْ يَكُنْ اسْتِعْمَالُهَا لِضَرْبِ الْآدَمِيِّ بَلْ كَانَ لِغَرَضٍ آخَرَ

قُلْتُ: هَذَا التَّأْوِيلُ إنَّمَا يُفِيدُ فِي نَوْعِ الْخَطَإِ فِي الْفِعْلِ دُونَ نَوْعِ الْخَطَإِ فِي الْقَصْدِ، فَإِنَّ اسْتِعْمَالَهَا فِيهِ أَيْضًا لِضَرْبِ الْمَقْتُولِ لَكِنَّ الْخَطَأَ فِي وَصْفِ الْمَقْتُولِ

فَإِنْ قُلْتَ: الْمُرَادُ اسْتِعْمَالُهَا لِضَرْبِ الْمَقْتُولِ مِنْ حَيْثُ هُوَ آدَمِيٌّ لَا اسْتِعْمَالُهَا لِضَرْبِهِ مُطْلَقًا، وَفِي نَوْعِ الْخَطَإِ فِي الْقَصْدِ لَمْ تَتَحَقَّقْ الْحَيْثِيَّةُ الْمَذْكُورَةُ قُلْتُ: كَوْنُ الِاسْتِعْمَالِ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ أَمْرٌ مُضْمَرٌ رَاجِعٌ إلَى النِّيَّةِ وَالْقَصْدِ فَلَا يُوقَفُ عَلَيْهِ كَمَا لَا يُوقَفُ عَلَى الْعَمْدِ فَلَا بُدَّ مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ خَارِجِيٍّ لَمْ يُذْكَرْ فِي التَّعْلِيلِ الْمَزْبُورِ

ثُمَّ إنَّهُ لَوْ كَانَ مَدَارُ كَوْنِ الْقَتْلِ عَمْدًا مُجَرَّدَ اسْتِعْمَالِ الْآلَةِ الْقَاتِلَةِ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ التَّعْلِيلِ الْمَزْبُورِ لَمَا كَانَ لِقَوْلِ صَاحِبِ الْوِقَايَةِ وَكَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِ الْمُتُونِ: الْقَتْلُ الْعَمْدُ ضَرْبُهُ قَصْدًا بِمَا يُفَرِّقُ الْأَجْزَاءَ كَسِلَاحٍ وَمُحَدَّدٍ مِنْ خَشَبٍ أَوْ حَجَرٍ أَوْ لِيطَةٍ أَوْ نَارٍ وَجْهٌ؛ إذْ يَلْزَمُ إذْ ذَاكَ أَنْ يَكُونَ قَيَّدَ قَصْدًا زَائِدًا بَلْ لَغْوًا لِعَدَمِ الْوُقُوفِ عَلَيْهِ بِالْغَرَضِ إلَّا بِاسْتِعْمَالِ الْآلَةِ الْقَاتِلَةِ وَهُوَ ضَرْبُهُ مِمَّا يُفَرِّقُ الْأَجْزَاءَ فَيَكْفِي ذِكْرُهُ، بَلْ لَمَّا كَانَ لِقَيْدِ تَعَمَّدَ فِي الْكِتَابِ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ فَالْعَمْدُ مَا تَعَمَّدَ ضَرْبَهُ وَجْهٌ، بَلْ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ فَالْعَمْدُ مَا ضَرَبَهُ بِسِلَاحٍ أَوْ مَا أُجْرِيَ مَجْرَى السِّلَاحِ فَتَدَبَّرْ

(قَوْلُهُ وَمُوجِبُ ذَلِكَ الْمَأْثَمُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} الْآيَةَ) أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الدَّلِيلُ خَاصٌّ وَالْمُدَّعِي عَامٌّ،

ص: 205

قَالَ (وَالْقَوَدُ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} إلَّا أَنَّهُ تَقَيَّدَ بِوَصْفِ الْعَمْدِيَّةِ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «الْعَمْدُ قَوَدٌ» أَيْ مُوجِبُهُ، وَلِأَنَّ الْجِنَايَةَ بِهَا تَتَكَامَلُ وَحِكْمَةُ الزَّجْرِ عَلَيْهَا تَتَوَفَّرُ، وَالْعُقُوبَةُ الْمُتَنَاهِيَةُ لَا شَرْعَ لَهَا دُونَ ذَلِكَ

لِأَنَّ إيجَابَ الْقَتْلِ الْعَمْدِ الْمَأْثَمُ، وَالْقَوَدُ يَعُمُّ الْمُسْلِمَ وَالذِّمِّيَّ لِمَا سَيَجِيءُ مِنْ أَنَّ الْمُسْلِمَ يُقَادُ بِالذِّمِّيِّ عِنْدَنَا، وَلَا شَكَّ أَنَّ وُجُوبَ الْقَوَدِ لَا يَنْفَكُّ عَنْ لُزُومِ الْمَأْثَمِ، وَالْآيَةُ الْمَذْكُورَةُ مَخْصُوصَةٌ بِقَتْلِ الْمُؤْمِنِ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُقَالَ: الْآيَةُ الْمَذْكُورَةُ وَإِنْ أَفَادَتْ الْمَأْثَمَ فِي قَتْلِ الْمُؤْمِنِ عَمْدًا فَقَطْ بِعِبَارَتِهَا إلَّا أَنَّهَا تُفِيدُ الْمَأْثَمَ فِي قَتْلِ الذِّمِّيِّ عَمْدًا أَيْضًا بِدَلَالَتِهَا بِنَاءً عَلَى ثُبُوتِ الْمُسَاوَاةِ فِي الْعِصْمَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ نَظَرًا إلَى التَّكْلِيفِ أَوْ الدَّارِ كَمَا سَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ

فَإِنْ قِيلَ: بَقِيَ خُصُوصُ الدَّلِيلِ مَعَ عُمُومِ الْمُدَّعِي مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّ الْمَذْهَبَ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ أَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يُخَلَّدُ فِي النَّارِ، وَإِنْ ارْتَكَبَ كَبِيرَةً وَلَمْ يَتُبْ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِمَنْ يَقْتُلُ فِي الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ هُوَ الْمُسْتَحِلُّ بِدَلَالَةِ خَالِدًا فِيهَا فَكَانَ الْقَتْلُ بِدُونِ الِاسْتِحْلَالِ خَارِجًا عَنْ مَدْلُولِ الْآيَةِ

قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ ظُهُورَ كَوْنِ الْمُرَادِ بِمَنْ يَقْتُلُ فِي الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ هُوَ الْمُسْتَحِلُّ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْخُلُودِ الْمَذْكُورِ فِيهَا هُوَ الْمُكْثُ الطَّوِيلُ كَمَا ذُكِرَ فِي التَّفَاسِيرِ، فَلَا يُنَافِي التَّعْمِيمُ مَذْهَبَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ

وَلَئِنْ سُلِّمَ كَوْنُ الْمُرَادِ بِذَلِكَ هُوَ الْمُسْتَحِلُّ كَمَا ذُكِرَ فِي الْكُتُبِ الْكَلَامِيَّةِ وَفِي التَّفَاسِيرِ أَيْضًا فَالْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى عِظَمِ تِلْكَ الْجِنَايَةِ، وَتَحَقُّقِ الْإِثْمِ فِي قَتْلِ الْمُؤْمِنِ عَمْدًا بِدُونِ الِاسْتِحْلَالِ أَيْضًا، وَإِلَّا لَمَا لَزِمَ مِنْ اسْتِحْلَالِهِ الْخُلُودُ فِي النَّارِ (قَوْلُهُ وَالْقَوَدُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} إلَّا أَنَّهُ تَقَيُّدٌ بِوَصْفِ الْعَمْدِيَّةِ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «الْعَمْدُ قَوَدٌ» أَيْ مُوجِبُهُ) يَعْنِي أَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ يُوجِبُ الْقَوَدَ بِالْقِصَاصِ أَيْنَمَا يُوجَدُ الْقَتْلُ، وَلَا يُفْصَلُ بَيْنَ الْعَمْدِ وَالْخَطَإِ إلَّا أَنَّهُ تَقَيُّدٌ بِوَصْفِ الْعَمْدِيَّةِ بِالْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ الَّذِي تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ وَهُوَ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «الْعَمْدُ قَوَدٌ» أَيْ مُوجِبُهُ قَوَدٌ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ قَالَ صَاحِبُ الْكِفَايَةِ بَعْدَ ذَلِكَ: لَا يُقَالُ إنَّ قَوْلَهُ عليه الصلاة والسلام «الْعَمْدُ قَوَدٌ» لَا يُوجِبُ التَّقْيِيدَ؛ لِأَنَّهُ تَخْصِيصٌ بِالذِّكْرِ فَلَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ مَا عَدَاهُ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: لَوْ لَمْ يُوجِبْ هَذَا الْخَبَرُ تَقْيِيدَ الْآيَةِ لَمْ يَكُنْ الْقَوَدُ مُوجِبَ الْعَمْدِ فَقَطْ فَلَا يَكُونُ لِذِكْرِ لَفْظِ الْعَمْدِ فَائِدَةٌ انْتَهَى

أَقُولُ: سُؤَالُهُ ظَاهِرُ الْوُرُودِ يَنْبَغِي أَنْ يَخْطِرَ بِبَالِ كُلِّ ذِي فِطْرَةٍ سَلِيمَةٍ، وَلَكِنْ لَمْ أَرَ أَحَدًا سِوَاهُ حَامَ حَوْلَ ذِكْرِهِ

وَأَمَّا جَوَابُهُ فَمَنْظُورٌ فِيهِ عِنْدِي لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ سُئِلَ النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام عَنْ حُكْمِ الْعَمْدِ فَقَطْ بِأَنْ كَانَتْ الْحَادِثَةُ قَتْلَ الْعَمْدِ فَصَارَ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «الْعَمْدُ قَوَدٌ» جَوَابًا عَنْ سُؤَالِهِمْ، فَفَائِدَةُ ذِكْرِ لَفْظِ الْعَمْدِ حِينَئِذٍ تَطْبِيقُ الْجَوَابِ لِلسُّؤَالِ، وَمَعَ هَذَا الِاحْتِمَالِ كَيْفَ يَتَعَيَّنُ تَقْيِيدُ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ تَفَكَّرْ (قَوْلُهُ: وَلِأَنَّ الْجِنَايَةَ بِهَا تَتَكَامَلُ وَحِكْمَةُ الزَّجْرِ عَلَيْهَا تَتَوَفَّرُ وَالْعُقُوبَةُ الْمُتَنَاهِيَةُ لَا شَرْعَ لَهَا دُونَ ذَلِكَ) أَقُولُ: جَعَلَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ قَوْلَهُ: وَلِأَنَّ الْجِنَايَةَ بِهَا تَتَكَامَلُ وَحِكْمَةُ الزَّجْرِ عَلَيْهَا تَتَوَفَّرُ حُجَّةً تَامَّةً

وَجَعَلَ قَوْلَهُ: وَالْعُقُوبَةُ الْمُتَنَاهِيَةُ لَا شَرْعَ لَهَا دُونَ ذَلِكَ حُجَّةً أُخْرَى فَقَالَ فِي تَقْرِيرِ الْأُولَى: وَتَقْرِيرِ

ص: 206

قَالَ (إلَّا أَنْ يَعْفُوَ الْأَوْلِيَاءُ أَوْ يُصَالِحُوا)؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمْ ثُمَّ هُوَ وَاجِبٌ عَيْنًا، وَلَيْسَ لِلْوَلِيِّ أَخْذُ الدِّيَةِ إلَّا بِرِضَا الْقَاتِلِ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ، إلَّا أَنَّ لَهُ حَقَّ الْعُدُولِ إلَى الْمَالِ مِنْ غَيْرِ مَرْضَاةِ الْقَاتِلِ؛ لِأَنَّهُ تَعَيَّنَ مَدْفَعًا لِلْهَلَاكِ فَيَجُوزُ بِدُونِ رِضَاهُ، وَفِي قَوْلِ الْوَاجِبِ أَحَدُهُمَا لَا بِعَيْنِهِ وَيَتَعَيَّنُ بِاخْتِيَارِهِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْعَبْدِ شُرِعَ جَابِرًا وَفِي كُلِّ وَاحِدٍ نَوْعُ جَبْرٍ فَيَتَخَيَّرُ

وَلَنَا مَا تَلَوْنَا مِنْ الْكِتَابِ وَرَوَيْنَا مِنْ السُّنَّةِ، وَلِأَنَّ الْمَالَ لَا يَصْلُحُ مُوجِبًا لِعَدَمِ الْمُمَاثَلَةِ، وَالْقِصَاصُ يَصْلُحُ لِلتَّمَاثُلِ، وَفِيهِ مَصْلَحَةُ الْأَحْيَاءِ زَجْرًا وَجَبْرًا فَيَتَعَيَّنُ، وَفِي الْخَطَإِ وُجُوبُ الْمَالِ ضَرُورَةَ صَوْنِ الدَّمِ عَنْ الْإِهْدَارِ،

حُجَّتِهِ أَنَّ الْعَمْدِيَّةَ تَتَكَامَلُ بِهَا الْجِنَايَةُ، وَكُلُّ مَا كَانَ يَتَكَامَلُ بِهِ الْجِنَايَةُ كَانَتْ حِكْمَةُ الزَّجْرِ عَلَيْهَا أَكْمَلَ، وَقَالَ فِي تَقْرِيرِ الْأُخْرَى وَتَقْرِيرُهَا الْقَوَدَ عُقُوبَةٌ مُتَنَاهِيَةٌ، وَالْعُقُوبَةُ الْمُتَنَاهِيَةُ لَا شَرْعَ لَهَا دُونَ الْعَمْدِيَّةِ وَذَلِكَ ظَاهِرٌ انْتَهَى

أَقُولُ: لَيْسَ ذَاكَ بِسَدِيدٍ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ الْحُكْمِ بِأَنَّ الْعُقُوبَةَ الْمُتَنَاهِيَةَ لَا شَرْعَ لَهَا دُونَ الْعَمْدِيَّةِ مَوْقُوفَةٌ عَلَى كَوْنِ الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ مُقَيَّدَةً بِوَصْفِ الْعَمْدِيَّةِ؛ إذْ لَوْ كَانَتْ بَاقِيَةً عَلَى إطْلَاقِهَا لَتَنَاوَلَتْ الْعَمْدَ وَشِبْهَهُ وَالْخَطَأَ، فَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْقِصَاصُ الَّذِي هُوَ عُقُوبَةٌ كَامِلَةٌ مَشْرُوعًا دُونَ الْعَمْدِيَّةِ أَيْضًا بِمُقْتَضَى إطْلَاقِهَا، وَكَوْنُ الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ مُقَيَّدَة بِوَصْفِ الْعَمْدِيَّةِ هُوَ الْمُدَّعَى هَا هُنَا، فَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَالْعُقُوبَةُ الْمُتَنَاهِيَةُ لَا شَرْعَ لَهَا دُونَ ذَلِكَ حُجَّةً أُخْرَى يَلْزَمُ الْمُصَادَرَةُ عَلَى الْمَطْلُوبِ

وَأَيْضًا يَلْزَمُ حِينَئِذٍ أَنْ لَا يُفِيدَ الْمُدَّعِي مَا جَعَلَهُ حُجَّةً أُولَى؛ لِأَنَّ نَتِيجَتَهَا عَلَى مُقْتَضَى تَقْرِيرِهِ أَنَّ الْعَمْدِيَّةَ كَانَتْ حِكْمَةُ الزَّجْرِ عَلَيْهَا أَكْمَلَ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْهَا أَنْ لَا تَتَحَقَّقَ حِكْمَةُ الزَّجْرِ فِي غَيْرِ الْعَمْدِ أَصْلًا فَيَجُوزُ أَنْ يَجِبَ الْقِصَاصُ فِي غَيْرِ الْعَمْدِ أَيْضًا زَجْرًا عَنْهُ فَلَا يَتِمُّ الْمَطْلُوبُ

فَالصَّوَابُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَالْعُقُوبَةُ الْمُتَنَاهِيَةُ لَا شَرْعَ لَهَا دُونَ ذَلِكَ مِنْ تَتِمَّةِ مَا قَبْلَهُ وَالْمَجْمُوعُ حُجَّةٌ وَاحِدَةٌ، وَأَنَّ لَفْظَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ لَا شَرْعَ لَهَا دُونَ ذَلِكَ إشَارَةٌ إلَى تَكَامُلِ الْجِنَايَةِ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ كَثِيرٌ مِنْ الشُّرَّاحِ أَوْ إلَى تَوَفُّرِ حِكْمَةِ الزَّجْرِ كَمَا هُوَ الْأَظْهَرُ وَالْأَقْرَبُ لَا إلَى الْعَمْدِيَّةِ كَمَا زَعَمَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ، فَيُفِيدُ مَجْمُوعُ الْمُقَدِّمَاتِ أَنَّ الْقَوَدَ الَّذِي هُوَ عُقُوبَةٌ مُتَنَاهِيَةٌ لَا يَجِبُ فِي غَيْرِ الْعَمْدِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى ذِي مَسْكَةٍ

ثُمَّ أَقُولُ: بَقِيَ فِي كَلَامِ

ص: 207

وَلَا يُتَيَقَّنُ بِعَدَمِ قَصْدِ الْوَلِيِّ بَعْدَ أَخْذِ الْمَالِ فَلَا يَتَعَيَّنُ مَدْفَعًا لِلْهَلَاكِ،

الْمُصَنِّفِ هَا هُنَا شَيْءٌ، وَهُوَ أَنَّهُ قَدْ تَقَرَّرَ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ أَنَّ مَرْجِعَ الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي عِلْمِ الْفِقْهِ بِأَسْرِهَا إلَى الْقِيَاسِ، وَبِهَذَا صَحَّحُوا انْحِصَارَ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ فِي أَرْبَعَةٍ، وَهِيَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ وَالْقِيَاسُ

فَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ هَا هُنَا وَلِأَنَّ الْجِنَايَةَ بِهَا تَتَكَامَلُ إلَخْ رَاجِعٌ إلَى الْقِيَاسِ، وَتَقْيِيدُ الْكِتَابِ بِالْقِيَاسِ نَسْخٌ لِإِطْلَاقِ الْكِتَابِ بِالْقِيَاسِ وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ كَمَا عُرِفَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ فَلْيُتَأَمَّلْ (قَوْلُهُ: وَلَا يُتَيَقَّنُ بِعَدَمِ قَصْدِ الْوَلِيِّ بَعْدَ أَخْذِ الْمَالِ فَلَا يَتَعَيَّنُ مَدْفَعًا لِلْهَلَاكِ) يَعْنِي لَا يَتَيَقَّنُ بِعَدَمِ قَصْدِ الْوَلِيِّ لِقَتْلِ الْقَاتِلِ بَعْدَ مَا أَخَذَ الدِّيَةَ لِجَوَازِ أَنْ يَأْخُذَهَا الْوَلِيُّ مِنْ الْقَاتِلِ بِدُونِ رِضَاهَا ثُمَّ يَقْتُلَهُ

وَهَذَا جَوَابٌ عَنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ تَعَيَّنَ مَدْفَعًا لِلْهَلَاكِ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ

أَقُولُ: لِلْخَصْمِ أَنْ يَقُولَ: لَا شَكَّ أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ مَدْفَعًا لِلْهَلَاكِ شَرْعًا، فَإِنَّ الْقَاتِلَ يَصِيرُ مَحْقُونَ الدَّمِ بَعْدَهُ، حَتَّى لَوْ قَتَلَهُ الْوَلِيُّ بَعْدَهُ يُقْتَصُّ مِنْهُ، وَكَوْنُهُ مَدْفَعًا لِلْهَلَاكِ شَرْعًا يَكْفِي لِأَخْذِ الدِّيَةِ مِنْ الْقَاتِلِ بِدُونِ رِضَاهُ؛ إذْ الظَّاهِرُ أَنَّ الْقَاتِلَ لَا يَخْتَارُ الْهَلَاكَ الْمُقَرَّرَ عِنْدَ تَحَقُّقِ الْخَلَاصِ عَنْهُ شَرْعًا بِأَدَاءِ الْمَالِ بِمُجَرَّدِ احْتِمَالِ الْهَلَاكِ عَقْلًا بَعْدَ أَدَاءِ ذَلِكَ أَيْضًا، فَلَوْ اخْتَارَهُ الْقَاتِلُ وَامْتَنَعَ عَنْ أَدَاءِ الْمَالِ يُعَدُّ ذَلِكَ سَفَهًا وَإِلْقَاءً لِنَفْسِهِ فِي التَّهْلُكَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُحْجَرَ عَلَيْهِ

ثُمَّ أَقُولُ: لَعَلَّ الْأَوْلَى فِي الْجَوَابِ عَنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ: لِأَنَّهُ تَعَيَّنَ مَدْفَعًا لِلْهَلَاكِ أَنْ يُقَالَ: هَذَا تَعْلِيلٌ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَهُوَ لَا يَجُوزُ كَمَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ

قَالَ فِي الْعِنَايَةِ أَخْذًا مِنْ النِّهَايَةِ: قِيلَ هَذَا الْوَهْمُ مَوْجُودٌ فِيمَا أَخَذَ الْمَالَ صُلْحًا وَقَدْ جَازَ

وَأُجِيبُ بِأَنَّ فِي الصُّلْحِ الْمُرَاضَاةَ، وَالْقَتْلُ بَعْدَهُ ظَاهِرُ الْعَدَمِ انْتَهَى

وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: فِيهِ بَحْثٌ؛ لِأَنَّ رِضَا الْقَاتِلِ لَا يُفِيدُ وَرِضَا الْوَلِيِّ مَوْجُودٌ

ص: 208

وَلَا كَفَّارَةَ فِيهِ عِنْدَنَا: وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رحمه الله تَجِبُ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى التَّكْفِيرِ فِي الْعَمْدِ أَمَسُّ مِنْهَا إلَيْهِ فِي الْخَطَأِ فَكَانَ أَدْعَى إلَى إيجَابِهَا

وَلَنَا أَنَّهُ كَبِيرَةٌ مَحْضَةٌ، وَفِي الْكَفَّارَةِ مَعْنَى الْعِبَادَةِ فَلَا تُنَاطُ بِمِثْلِهَا، وَلِأَنَّ الْكَفَّارَةَ مِنْ الْمَقَادِيرِ،

فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ

وَالْأَوْلَى أَنْ يَكْتَفِيَ فِي الْجَوَابِ بِقَوْلِهِ: إنَّ فِي الصُّلْحِ الْمُرَاضَاةَ، إذْ لَا مَانِعَ مِنْ الْأَخْذِ فِيهِ بَعْدَ مَا وُجِدَ رِضَا الْقَاتِلِ، بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ انْتَهَى

أَقُولُ: بَحْثُهُ سَاقِطٌ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: لِأَنَّ رِضَا الْقَاتِلِ لَا يُفِيدُ غَيْرُ مُسَلَّمٍ، فَإِنَّ رِضَاهُ إذَا اجْتَمَعَ مَعَ رِضَا الْوَلِيِّ يُفِيدُ أَمْرًا زَائِدًا عَلَى رِضَا الْوَلِيِّ وَحْدَهُ، فَإِنَّ التَّصَالُحَ وَالتَّوَافُقَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ يَقْطَعُ مَادَّةَ الْعَدَاوَةِ وَالْبُغْضِ عَادَةً، وَعَنْ هَذَا قَالَ اللَّهُ تبارك وتعالى {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} بِخِلَافِ رِضَا الْوَلِيِّ وَحْدَهُ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَثِيرًا مَا يَنْدَمُ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ وَحْدَهُ فَيَرْجِعُ عَنْهُ فَتَمَّ قَوْلُ الْمُجِيبِ وَالْقَتْلُ بَعْدَهُ ظَاهِرُ الْعَدَمِ، وَقَدْ كَانَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ أَشَارَ إلَى مَا قُلْنَا حَيْثُ قَالَ فِي بَسْطِ الْجَوَابِ الْمَذْكُورِ: قُلْتُ لَا كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمَا لَمَّا تَصَالَحَا بِرِضَاهُمَا عَلَى الْمَالِ كَانَ وَهُوَ قَصْدُ الْقَتْلِ مُنْدَفِعًا؛ لِأَنَّ لِلتَّرَاضِي وَالتَّصَالُحِ تَأْثِيرًا فِي دَفْعِ الشَّرِّ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} وَلَمَّا وَرَدَ الْخَيْرُ انْتَفَى الشَّرُّ لَا مَحَالَةَ لِلتَّضَادِّ بَيْنَهُمَا انْتَهَى

ثُمَّ قَالَ فِي الْعِنَايَةِ: وَعُورِضَ بِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «مَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَأَهْلُهُ بَيْنَ خِيرَتَيْنِ: إنْ أَحَبُّو قَتَلُوا، وَإِنْ أَحَبُّو أَخَذُوا الدِّيَةَ» وَبِأَنَّ الشَّرْعَ أَوْجَبَ الْقِصَاصَ لِمَعْنَى الِانْتِقَامِ وَتَشَفِّي صُدُورِ الْأَوْلِيَاءِ، بِخِلَافِ الْقِيَاسِ فَإِنَّ الْجَمَاعَةَ تُقْتَلُ بِوَاحِدٍ، وَالْقِيَاسُ لَا يَقْتَضِيهِ، فَكَانَ لِمَعْنَى النَّظَرِ لِلْوَلِيِّ وَذَلِكَ بِتَمَكُّنِهِ مِنْ الْقِصَاصِ وَأَخْذِ الدِّيَةِ

وَالْجَوَابُ أَنَّ الْحَدِيثَ خَبَرٌ وَاحِدٌ فَلَا يُعَارِضُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ الْمَشْهُورَةَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَأَنَّ الْقِصَاصَ لِمَعْنَى النَّظَرِ لِلْوَلِيِّ عَلَى وَجْهٍ خَاصٍّ وَهُوَ الِانْتِقَامُ وَتَشَفِّي الصُّدُورِ، فَإِنَّهُ شُرِعَ زَجْرًا عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ إفْنَاءِ قَبِيلَةٍ بِوَاحِدٍ، لَا؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَأْخُذُونَ أَمْوَالًا كَثِيرَةً عِنْدَ قَتْلِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، بَلْ الْقَاتِلُ وَأَهْلُهُ لَوْ بَذَلُوا مَا مَلَكُوهُ وَأَمْثَالَهُ مَا رَضِيَ بِهِ أَوْلِيَاءُ الْمَقْتُولِ، فَكَانَ إيجَابُ الْمَالِ فِي مُقَابَلَةِ الْقَتْلِ الْعَمْدِ تَضْيِيعَ حِكْمَةِ الْقِصَاصِ انْتَهَى

أَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ؛ إذْ لِلْخَصْمِ أَنْ يَقُولَ: إنَّمَا يَكُونُ إيجَابُ الْمَالِ فِي مُقَابَلَةِ الْقَتْلِ الْعَمْدِ تَضْيِيعًا لِحِكْمَةِ الْقِصَاصِ أَنْ لَوْ كَانَ إيجَابُهُ فِي مُقَابَلَتِهِ عَلَى وَجْهِ التَّعْيِينِ، وَأَمَّا إذَا كَانَ ذَلِكَ لَا عَلَى وَجْهِ التَّعْيِينِ بَلْ عَلَى وَجْهِ تَخْيِيرِ الْوَلِيِّ بَيْنَ أَخْذِ الْمَالِ وَبَيْنَ الْقِصَاصِ كَمَا هُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْخَصْمِ فَلَا تَضْيِيعَ لِحِكْمَةِ الْقِصَاصِ؛ إذْ لِلْوَلِيِّ حِينَئِذٍ الْقُدْرَةُ عَلَى الِانْتِقَامِ وَتَشَفِّي الصُّدُورِ بِاخْتِيَارِ الْقِصَاصِ، فَإِذَا لَمْ يَخْتَرْهُ بَلْ اخْتَارَ الْمَالَ كَانَ تَارِكًا لِلِانْتِقَامِ بِاخْتِيَارِهِ فَكَانَ كَمَا إذَا عَفَا أَوْ صَالَحَ فِي إسْقَاطِ مَا قُدِّرَ عَلَيْهِ مِنْ حَقِّهِ (قَوْلُهُ: وَلَنَا أَنَّهُ كَبِيرَةٌ مَحْضَةٌ وَفِي الْكَفَّارَةِ مَعْنَى الْعِبَادَةِ فَلَا تُنَاطُ بِمِثْلِهَا) قَالَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ: فَإِنْ قُلْتَ: يُشْكِلُ بِكَفَّارَةِ قَتْلِ صَيْدِ الْحَرَمِ فَإِنَّهُ كَبِيرَةٌ مَحْضَةٌ وَمَعَ هَذَا تَجِبُ فِيهِ الْكَفَّارَةُ

قُلْتُ: هُوَ جِنَايَةٌ عَلَى الْمَحَلِّ، وَلِهَذَا لَوْ اشْتَرَكَ حَلَالَانِ فِي قَتْلِ صَيْدِ الْحَرَمِ يَلْزَمُ جَزَاءٌ وَاحِدٌ، وَلَوْ كَانَ جِنَايَةَ الْفِعْلِ لَوَجَبَ جَزَاءَانِ، وَالْجِنَايَةُ عَلَى الْمَحَلِّ يَسْتَوِي فِيهِ الْعَمْدُ وَالْخَطَأُ انْتَهَى

أَقُولُ: فِي الْجَوَابِ بَحْثٌ

أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُ لَا يَدْفَعُ السُّؤَالَ الْمَذْكُورَ؛ لِأَنَّ مَوْرِدَهُ مَضْمُونُ الدَّلِيلِ الْمَزْبُورِ، وَهُوَ أَنَّ الْكَفَّارَةَ لَا تُنَاطُ بِمَا هُوَ كَبِيرَةٌ مَحْضَةٌ لَا أَصْلُ الْمُدَّعِي، وَهُوَ أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ فِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ، فَإِذَا سُلِّمَ كَوْنُ قَتْلِ صَيْدِ الْحَرَمِ كَبِيرَةً مَحْضَةً يَلْزَمُ أَنْ يُشْكِلَ الدَّلِيلُ الْمَزْبُورُ بِهِ سَوَاءٌ كَانَ جِنَايَةَ الْفِعْلِ أَوْ جِنَايَةَ الْمَحَلِّ، وَكَوْنُ الْجِنَايَةِ عَلَى الْمَحَلِّ يَسْتَوِي فِيهِ الْعَمْدُ وَالْخَطَأُ إنَّمَا يُفِيدُ لَوْ أَوْرَدَ السُّؤَالَ عَلَى أَصْلِ الْمُدَّعِي، فَإِنَّهُ يُمْكِنُ الْجَوَابُ عَنْهُ حِينَئِذٍ بِأَنَّ مَا قُلْنَاهُ فِي جِنَايَةِ الْفِعْلِ دُونَ جِنَايَةِ الْمَحَلِّ، وَقَتْلُ صَيْدِ الْحَرَمِ مِنْ قَبِيلِ الثَّانِيَةِ دُونَ الْأُولَى

وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّهُ قَدْ تَقَرَّرَ فِي كُتُبِ أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ الْكَفَّارَةَ جَزَاءُ الْفِعْلِ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ لَا جَزَاءُ الْمَحَلِّ أَصْلًا، فَلَوْ كَانَ قَتْلُ صَيْدِ الْحَرَمِ جِنَايَةً عَلَى الْمَحَلِّ لَا جِنَايَةَ الْفِعْلِ لَزِمَ أَنْ لَا تَصْلُحَ الْكَفَّارَةُ لِكَوْنِ الْكَفَّارَةِ جَزَاءَ الْفِعْلِ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ لَا جَزَاءَ الْمَحَلِّ أَصْلًا (قَوْلُهُ وَلِأَنَّ الْكَفَّارَةَ مِنْ الْمَقَادِيرِ

ص: 209

وَتَعَيُّنُهَا فِي الشَّرْعِ لِدَفْعِ الْأَدْنَى لَا يُعَيِّنُهَا لِدَفْعِ الْأَعْلَى

وَمِنْ حُكْمِهِ حِرْمَانُ الْمِيرَاثِ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَا مِيرَاثَ لِقَاتِلٍ»

قَالَ (وَشِبْهُ الْعَمْدِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنْ يَتَعَمَّدَ الضَّرْبَ بِمَا لَيْسَ بِسِلَاحٍ وَلَا مَا أُجْرِيَ مَجْرَى السِّلَاحِ) وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: إذَا ضَرَبَهُ بِحَجَرٍ عَظِيمٍ أَوْ بِخَشَبَةٍ عَظِيمَةٍ فَهُوَ عَمْدٌ

وَشِبْهُ الْعَمْدِ أَنْ يَتَعَمَّدَ ضَرْبَهُ بِمَا لَا يُقْتَلُ بِهِ غَالِبًا؛ لِأَنَّهُ يَتَقَاصَرُ مَعْنَى الْعَمْدِيَّةِ بِاسْتِعْمَالِ آلَةٍ صَغِيرَةٍ لَا يُقْتَلُ بِهَا غَالِبًا لِمَا أَنَّهُ يَقْصِدُ بِهَا غَيْرَهُ كَالتَّأْدِيبِ وَنَحْوِهِ فَكَانَ شِبْهَ الْعَمْدِ، وَلَا يَتَقَاصَرُ بِاسْتِعْمَالِ آلَةٍ لَا تَلْبَثُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْصِدُ بِهِ إلَّا الْقَتْلَ كَالسَّيْفِ فَكَانَ عَمْدًا مُوجِبًا لِلْقَوَدِ

وَتَعَيُّنَهَا فِي الشَّرْعِ لِدَفْعِ الْأَدْنَى لَا يَدُلُّ عَلَى تَعَيُّنِهَا لِدَفْعِ الْأَعْلَى) هَذَا جَوَابٌ عَنْ قِيَاسِ الشَّافِعِيِّ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ فِي الْعَمْدِ عَلَى وُجُوبِهَا فِي الْخَطَإِ يَعْنِي أَنَّ تَعَيُّنَ الْكَفَّارَةِ فِي الشَّرْعِ لِدَفْعِ الذَّنْبِ الْأَدْنَى، وَهُوَ الْخَطَأُ لَا يَدُلُّ عَلَى تَعَيُّنِهَا لِدَفْعِ الذَّنْبِ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَمْدُ، فَإِنَّ كَمْ مِنْ شَيْءٍ يَتَحَمَّلُ الْأَدْنَى لِلْقُدْرَةِ عَلَيْهِ وَلَا يَتَحَمَّلُ الْأَعْلَى لِلْعَجْزِ عَنْهُ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَغَيْرِهَا

قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: فَإِنْ قَالَ الشَّافِعِيُّ قَدْ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِ صِفَةِ الْعَمْدِيَّةِ وَهُوَ حَدِيثُ «وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ قَالَ أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِصَاحِبٍ لَنَا قَدْ اسْتَوْجَبَ النَّارَ بِالْقَتْلِ، فَقَالَ: أَعْتِقُوا عَنْهُ رَقَبَةً يَعْتِقْ اللَّهُ تَعَالَى بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهَا عُضْوًا مِنْهُ مِنْ النَّارِ» وَإِيجَابُ النَّارِ إنَّمَا يَكُونُ بِالْقَتْلِ الْعَمْدِ

قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ اسْتَوْجَبَهَا بِشِبْهِ الْعَمْدِ كَالْقَتْلِ بِالْحَجَرِ أَوْ الْعَصَا الْكَبِيرَيْنِ

سَلَّمْنَاهُ لَكِنَّهُ لَا يُعَارِضُ إشَارَةَ قَوْله تَعَالَى {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} فَإِنَّ الْفَاءَ تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمَذْكُورُ كُلَّ الْجَزَاءِ، فَلَوْ أَوْجَبْنَا الْكَفَّارَةَ لَكَانَ الْمَذْكُورُ بَعْضَهُ وَهُوَ خَلَفٌ انْتَهَى

أَقُولُ: لِلْخَصْمِ أَنْ يَقُولَ: هَذَا مُشْتَرَكُ الْإِلْزَامِ؛ إذْ الْقِصَاصُ وَاجِبٌ فِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ بِالْإِجْمَاعِ، فَلَوْ اقْتَضَتْ الْفَاءُ أَنْ يَكُونَ الْمَذْكُورُ بَعْدَهَا كُلَّ الْجَزَاءِ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْقِصَاصُ أَيْضًا مَذْكُورًا فِي الْجَزَاءِ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ وَإِنْ حُمِلَ الْجَزَاءُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ عَلَى الْجَزَاءِ الْأُخْرَوِيِّ فَقَطْ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ النَّظْمِ الشَّرِيفِ

وَقِيلَ الْقِصَاصُ جَزَاءٌ دُنْيَوِيٌّ فَلِهَذَا لَمْ يُذْكَرْ بَعْدَ الْفَاءِ فَلْيَكُنْ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فِي شَأْنِ الْكَفَّارَةِ

ثُمَّ أَقُولُ: يُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ وُجُوبَ الْقِصَاصِ عُرِفَ بِآيَةٍ أُخْرَى، وَهِيَ قَوْله تَعَالَى {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} فَإِنْ دَلَّتْ إشَارَةُ قَوْله تَعَالَى {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} عَلَى أَنَّ الْقِصَاصَ لَيْسَ مِنْ جَزَاءِ الْقَتْلِ الْعَمْدِ كَالْكَفَّارَةِ بِمُقْتَضَى كَوْنِ الْمَذْكُورِ بَعْدَ الْفَاءِ كُلَّ الْجَزَاءِ فَقَدْ دَلَّتْ عِبَارَةُ قَوْله تَعَالَى {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} عَلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ

ص: 210

وَلَهُ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «أَلَا إنَّ قَتِيلَ خَطَأِ الْعَمْدِ قَتِيلُ السَّوْطِ وَالْعَصَا، وَفِيهِ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ» وَلِأَنَّ الْآلَةَ غَيْرُ مَوْضُوعَةٍ لِلْقَتْلِ وَلَا مُسْتَعْمَلَةٌ فِيهِ؛ إذْ لَا يُمْكِنُ اسْتِعْمَالُهَا عَلَى غِرَّةٍ مِنْ الْمَقْصُودِ قَتْلُهُ، وَبِهِ يَحْصُلُ الْقَتْلُ غَالِبًا فَقُصِرَتْ الْعَمْدِيَّةُ نَظَرًا إلَى الْآلَةِ، فَكَانَ شِبْهُ الْعَمْدِ كَالْقَتْلِ بِالسَّوْطِ وَالْعَصَا الصَّغِيرَةِ

وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ أَنَّ عِبَارَةَ النَّصِّ تُرَجَّحُ عَلَى إشَارَةِ النَّصِّ عِنْدَ التَّعَارُضِ فَعَمِلْنَا بِعِبَارَةِ قَوْله تَعَالَى {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} وَثَانِيهِمَا: أَنَّ الْقِصَاصَ جَزَاءُ الْمَحَلِّ مِنْ وَجْهٍ وَجَزَاءُ الْفِعْلِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ كَمَا بَيَّنَ فِي التَّوْضِيحِ وَغَيْرِهِ مِنْ كُتُبِ الْأُصُولِ

وَأَمَّا الْكَفَّارَةُ فَجَزَاءُ الْفِعْلِ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ أَيْضًا

وَالظَّاهِرُ مِنْ الْجَزَاءِ الْمُضَافِ إلَى الْفَاعِلِ فِي قَوْله تَعَالَى {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} هُوَ جَزَاءُ فِعْلِهِ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ، فَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْقِصَاصُ مَذْكُورًا فِيهِ، بِخِلَافِ الْكَفَّارَةِ لَوْ أَوْجَبْنَاهَا

وَقَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ هَا هُنَا نَقْلًا عَنْ الْمَبْسُوطِ وَالْأَسْرَارِ: وَلَا وَجْهَ لِحَمْلِ الْآيَةِ عَلَى الْمُسْتَحِلِّ؛ لِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ جَزَاءُ الْقَتْلِ الْعَمْدِ، وَإِذَا حُمِلَ عَلَى الْمُسْتَحِلِّ كَانَ الْمَذْكُورُ جَزَاءَ الرِّدَّةِ، وَلِأَنَّ زِيَادَةَ الِاسْتِحْلَالِ زِيَادَةٌ عَلَى الشَّرْطِ الْمَنْصُوصِ فَيَكُونُ نَسْخًا

وَأَمَّا تَأْوِيلُ الْخُلُودِ فَعَلَى مَعْنَى أَنَّهُ لَوْ عَامَلَهُ بِعَدْلِهِ أَوْ عَلَى مَعْنَى تَطْوِيلِ الْمُدَّةِ مَجَازًا يُقَالُ خَلَدَ فُلَانٌ فِي السِّجْنِ إذَا طَالَتْ الْمُدَّةُ انْتَهَى

أَقُولُ: لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ ذَيْنِك الدَّلِيلَيْنِ الْمَسُوقَيْنِ لِعَدَمِ وَجْهِ حَمْلِ الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ عَلَى الْمُسْتَحِلِّ بِمُسْتَقِيمٍ

أَمَّا الْأَوَّلُ مِنْهُمَا فَلِأَنَّ كَوْنَ الْمَذْكُورِ فِي هَاتِيك الْآيَةِ جَزَاءَ قَتْلِ الْعَمْدِ مِمَّا لَا يُنَافِيهِ كَوْنُهُ جَزَاءَ الرِّدَّةِ أَيْضًا عَلَى تَقْدِيرِ حَمْلِهَا عَلَى الْمُسْتَحِلِّ، إذْ يَصِيرُ الْمَذْكُورُ فِيهَا عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ جَزَاءَ الْقَتْلِ الْعَمْدِ الْمَخْصُوصِ وَهُوَ الْقَتْلُ بِطَرِيقِ الِاسْتِحْلَالِ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْقَتْلَ بِهَذَا الطَّرِيقِ مُسْتَلْزِمٌ لِلرِّدَّةِ، فَفِي الْآيَةِ؛ إذْ ذَاكَ بَيَانُ جَزَاءِ الرِّدَّةِ الَّتِي سَبَبُهَا الْقَتْلُ الْمَخْصُوصُ، وَفِي التَّعْبِيرِ فِي الشَّرْطِ بِمَنْ {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا} دُونَ مَنْ يَرْتَدُّ عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ فَائِدَةُ التَّنْبِيهِ عَلَى سَبَبِيَّةِ قَتْلِ الْمُؤْمِنِ بِطَرِيقِ الِاسْتِحْلَالِ لِلِارْتِدَادِ الَّذِي جَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ عَلَى الْخُلُودِ، وَهَذَا مَعْنًى لَطِيفٌ لَا يَخْفَى

وَأَمَّا الثَّانِي مِنْهُمَا فَلِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ حَمْلِ الْآيَةِ الْمَزْبُورَةِ عَلَى الْمُسْتَحِلِّ زِيَادَةُ الِاسْتِحْلَالِ عَلَى الشَّرْطِ الْمَنْصُوصِ، بَلْ يَكُونُ الِاسْتِحْلَالُ حِينَئِذٍ مَدْلُولَ نَفْسِ الشَّرْطِ الْمَنْصُوصِ بِأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ {مُتَعَمِّدًا} مَعْنَى مُسْتَحِلًّا مَجَازًا بِقَرِينَةِ ذِكْرِ الْخُلُودِ، فِي الْجَزَاءِ، كَمَا أَنَّ أَئِمَّتَنَا حَمَلُوا مُتَعَمِّدًا عَلَى هَذَا الْمَعْنَى فِي قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ مُتَعَمِّدًا فَقَدْ كَفَرَ» وَبِأَنْ يَكُونَ مَعْنَى مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مَنْ يَقْتُلُهُ لِكَوْنِهِ مُؤْمِنًا كَمَا ذَكَرَهُ الْعَلَّامَةُ التَّفْتَازَانِيُّ فِي شَرْحِهِ لِلْعَقَائِدِ، فَيَكُونُ مَدَارُهُ عَلَى قَاعِدَةِ أَنَّ تَرْتِيبَ الْحُكْمِ عَلَى الْمُشْتَقِّ يَقْتَضِي عَلَيْهِ الْمَأْخَذَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ قَتْلَ الْمُؤْمِنِ لِكَوْنِهِ مُؤْمِنًا يَقْتَضِي اسْتِحْلَالَ قَتْلِهِ فَيَحْصُلُ الدَّلَالَةُ عَلَى الِاسْتِحْلَالِ مِنْ نَظْمِ النَّصِّ الْمَزْبُورِ فَلَا يَلْزَمُ النَّسْخُ أَصْلًا، وَالْعَجَبُ مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَجِلَّاءِ وَهُوَ أَصْحَابُ الْمَبْسُوطِ وَالْأَسْرَارِ وَالنِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ أَنَّهُ كَيْفَ خَفِيَ عَلَيْهِمْ مَا ذَكَرْنَا

قَالَ الْقَاضِي الْبَيْضَاوِيُّ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ: وَهُوَ عِنْدَنَا إمَّا مَخْصُوصٌ بِالْمُسْتَحِلِّ لَهُ كَمَا ذَكَرَهُ عِكْرِمَةُ وَغَيْرُهُ، وَيُؤَيِّدُهُ «أَنَّهُ نَزَلَ فِي مِقْيَسِ بْنِ حُبَابَةَ وَجَدَ أَخَاهُ هِشَامًا قَتِيلًا فِي بَنِي النَّجَّارِ وَلَمْ يَظْهَرْ قَاتِلُهُ، فَأَمَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَدْفَعُوا إلَيْهِ دِيَتَهُ فَدَفَعُوا، ثُمَّ حَمَلَ عَلَى مُسْلِمٍ فَقَتَلَهُ وَرَجَعَ إلَى مَكَّةَ مُرْتَدًّا»

أَوْ الْمُرَادُ بِالْخُلُودِ الْمُكْثُ الطَّوِيلُ، فَإِنَّ الدَّلَائِلَ مُتَظَاهِرَةٌ عَلَى أَنَّ عُصَاة الْمُؤْمِنِينَ

ص: 211

قَالَ (وَمُوجِبُ ذَلِكَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ الْإِثْمُ)؛ لِأَنَّهُ قَتَلَ وَهُوَ قَاصِدٌ فِي الضَّرْبِ (وَالْكَفَّارَةُ) لِشَبَهِهِ بِالْخَطَأِ (وَالدِّيَةُ مُغَلَّظَةٌ عَلَى الْعَاقِلَةِ) وَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ دِيَةٍ وَجَبَتْ بِالْقَتْلِ ابْتِدَاءً لَا بِمَعْنًى يَحْدُثُ مِنْ بُعْدٍ فَهِيَ عَلَى الْعَاقِلَةِ اعْتِبَارًا بِالْخَطَأِ، وَتَجِبُ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ لِقَضِيَّةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه، وَتَجِبُ مُغَلَّظَةً، وَسَنُبَيِّنُ صِفَةَ التَّغْلِيظِ مِنْ بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى (وَيَتَعَلَّقُ بِهِ حِرْمَانُ الْمِيرَاثِ)؛ لِأَنَّهُ جَزَاءُ الْقَتْلِ، وَالشُّبْهَةُ تُؤَثِّرُ فِي سُقُوطِ الْقِصَاصِ دُونَ حِرْمَانِ الْمِيرَاثِ

لَا يَدُومُ عَذَابُهُمْ، إلَى هُنَا لَفْظُ الْقَاضِي

(قَوْلُهُ وَمُوجِبُ ذَلِكَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ الْإِثْمُ؛ لِأَنَّهُ قَتَلَ وَهُوَ قَاصِدٌ فِي الضَّرْبِ، وَالْكَفَّارَةُ لِشَبَهِهِ بِالْخَطَإِ) أَقُولُ: الظَّاهِرُ الْمُتَبَادِرُ مِنْ قَوْلِهِ لِشَبَهِهِ بِالْخَطَإِ قِيَاسُ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ عَلَى وُجُوبِهَا فِي الْخَطَإِ أَوْ إلْحَاقُ وُجُوبِهَا فِي شِبْهِ الْعَمْدِ دَلَالَةً بِوُجُوبِهَا فِي الْخَطَإِ، وَأَيًّا مَا كَانَ يَرِدُ عَلَيْهِ أَنْ يُقَالَ إنَّ تَعَيُّنَهَا لِدَفْعِ الذَّنْبِ الْأَدْنَى فِي الشَّرْعِ لَا يُعَيِّنُهَا لِدَفْعِ الذَّنْبِ الْأَعْلَى كَمَا سَبَقَ فِي الْجَوَابِ عَنْ قِيَاسِ الشَّافِعِيِّ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ فِي الْعَمْدِ عَلَى وُجُوبِهَا فِي الْخَطَإِ؛ إذْ لَا شَكَّ أَنَّ شِبْهَ الْعَمْدِ أَيْضًا أَعْلَى ذَنْبًا مِنْ الْخَطَإِ الْمَحْضِ، فَإِنَّ الْجَانِيَ فِي الْأَوَّلِ قَاصِدٌ فِي الضَّرْبِ بِخِلَافِ الثَّانِي، وَعَنْ هَذَا قَالُوا فِي الْأَوَّلِ: وَمُوجِبُهُ الْمَأْثَمُ وَفِي الثَّانِي وَلَا إثْمَ فِيهِ

فَالْأَوْلَى فِي بَيَانِ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْكَافِي حَيْثُ قَالَ: وَالْكَفَّارَةُ؛ لِأَنَّهُ خَطَأٌ نَظَرًا إلَى الْآلَةِ، فَدَخَلَ تَحْتَ قَوْله تَعَالَى {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} الْآيَةَ انْتَهَى (قَوْلُهُ وَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ دِيَةٍ وَجَبَتْ بِالْقَتْلِ ابْتِدَاءً لَا بِمَعْنًى يَحْدُثُ مِنْ بَعْدُ فَهِيَ عَلَى الْعَاقِلَةِ اعْتِبَارًا بِالْخَطَإِ) أَقُولُ: مَدْلُولُ قَوْلِهِ اعْتِبَارًا بِالْخَطَإِ أَنْ يَكُونَ الْأَصْلُ فِي وُجُوبِ الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ هُوَ الْخَطَأُ، وَأَنْ يَكُونَ وُجُوبُهَا عَلَيْهِمْ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ ثَابِتًا بِالْقِيَاسِ عَلَى الْخَطَإِ، وَلَيْسَ ذَاكَ بِوَاضِحٍ؛ إذْ الْمُصَنِّفُ قَالَ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الْمَعَاقِلِ: وَالْأَصْلُ فِي وُجُوبِهَا عَلَى الْعَاقِلَةِ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام فِي حَدِيثِ «حَمَلِ بْنِ مَالِكِ رضي الله عنه لِلْأَوْلِيَاءِ قُومُوا فَدُوهُ» انْتَهَى

وَقَدْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ فِي حَدِيثِ حَمَلِ بْنِ مَالِكٍ شِبْهَ عَمْدٍ لَا خَطَأً فَإِنَّ تَفْصِيلَهُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الشُّرَّاحُ قَاطِبَةً فِي فَصْلِ الْجَنِينِ مِنْ كِتَابِ الدِّيَاتِ أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ «حَمَلِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ كُنْتُ بَيْنَ ضَرَّتَيْنِ فَضَرَبَتْ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى بِعَمُودِ فُسْطَاطٍ أَوْ بِمُسَطَّحِ خَيْمَةٍ فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا، فَاخْتَصَمَ أَوْلِيَاؤُهَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ عليه الصلاة والسلام لِأَوْلِيَاءِ الضَّارِبَةِ: دُوهُ، فَقَالَ أَخُوهَا: أَنَدِي مَنْ لَا صَاحَ وَلَا اسْتَهَلَّ، وَلَا شَرِبَ وَلَا أَكَلَ، وَدَمُ مِثْلِهِ يُطَلَّ، فَقَالَ عليه الصلاة والسلام: أَسَجْعٌ كَسَجْعِ الْكُهَّانِ» وَفِي رِوَايَةٍ «دَعْنِي وَأَرَاجِيزَ الْعَرَبِ قُومُوا فَدُوهُ» وَهَكَذَا ذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ أَيْضًا، وَلَا رَيْبَ أَنَّ قَضَاءَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ عَلَى مَا ذَكَرُوا فِي تَفْصِيلِ ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ إنَّمَا كَانَ بِجِنَايَةِ شِبْهِ الْعَمْدِ دُونَ الْخَطَإِ، فَكَانَ وُجُوبُ الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ ثَابِتًا بِالنَّصِّ دُونَ الْقِيَاسِ، وَكَانَ الْأَصْلُ فِي هَذَا

ص: 212

وَمَالِكٌ وَإِنْ أَنْكَرَ مَعْرِفَةَ شِبْهِ الْعَمْدِ فَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا أَسْلَفْنَاهُ

قَالَ (وَالْخَطَأُ عَلَى نَوْعَيْنِ: خَطَأٌ فِي الْقَصْدِ، وَهُوَ أَنْ يَرْمِيَ شَخْصًا يَظُنُّهُ صَيْدًا، فَإِذَا هُوَ آدَمِيٌّ، أَوْ يَظُنُّهُ حَرْبِيًّا فَإِذَا هُوَ مُسْلِمٌ وَخَطَأٌ فِي الْفِعْلِ، وَهُوَ أَنْ يَرْمِيَ غَرَضًا فَيُصِيبَ آدَمِيًّا، وَمُوجَبُ ذَلِكَ الْكَفَّارَةُ، وَالدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} الْآيَةَ، وَهِيَ عَلَى عَاقِلَتِهِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ،

الْحُكْمِ هُوَ شِبْهَ الْعَمْدِ لَا الْخَطَأَ فَتَأَمَّلْ (قَوْلُهُ وَمَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَإِنْ أَنْكَرَ مَعْرِفَةَ شِبْهِ الْعَمْدِ فَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا أَسْلَفْنَاهُ) قَالَ جُمْهُورُ الشُّرَّاحِ: أَرَادَ بِهِ قَوْلَهُ عليه الصلاة والسلام «أَلَا إنَّ قَتِيلَ خَطَإِ الْعَمْدِ قَتِيلُ السَّوْطِ وَالْعَصَا» وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ نَقْلِ ذَلِكَ: وَلَكِنْ الْمَعْهُودُ مِنْ الْمُصَنِّفِ فِي مِثْلِهِ أَنْ يَقُولَ مَا رَوَيْنَاهُ، وَقَالَ: وَالْحَقُّ أَنْ يُقَالَ: إنَّمَا قَالَ أَسْلَفْنَاهُ نَظَرًا إلَى الْحَدِيثِ وَالْمَعْنَى الْمَعْقُولِ انْتَهَى

أَقُولُ: فِيهِ كَلَامٌ، وَهُوَ أَنَّ حَاصِلَ الْمَعْنَى الْمَعْقُولِ عَلَى مَا قَرَّرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِيمَا قَبْلُ قِيَاسُ الْعَصَا الْكَبِيرَةِ عَلَى الْعَصَا الصَّغِيرَةِ فِي كَوْنِهِمَا غَيْرَ مَوْضُوعَتَيْنِ لِلْقَتْلِ وَلَا مُسْتَعْمَلَتَيْنِ لَهُ، وَمَالِكٌ مُنْكِرٌ كَوْنَ الْقَتْلِ بِالْعَصَا الصَّغِيرَةِ أَيْضًا شِبْهَ عَمْدٍ، فَإِنَّهُ قَالَ: لَا أَدْرِي مَا شِبْهُ الْعَمْدِ، وَإِنَّمَا الْقَتْلُ نَوْعَانِ: عَمْدٌ، وَخَطَأٌ؛ إذْ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَهُمَا فِي سَائِرِ الْأَفْعَالِ فَكَذَا فِي هَذَا الْفِعْلِ فَكَيْفَ يَكُونُ الْمَعْنَى الْمَعْقُولُ الْمَذْكُورُ حُجَّةً عَلَيْهِ

(قَوْلُهُ: وَالْخَطَأُ عَلَى نَوْعَيْنِ: خَطَأٌ فِي الْقَصْدِ، وَهُوَ أَنْ يَرْمِيَ شَخْصًا يَظُنُّهُ صَيْدًا فَإِذَا هُوَ آدَمِيٌّ، أَوْ يَظُنَّهُ حَرْبِيًّا فَإِذَا هُوَ مُسْلِمٌ، وَخَطَأٌ فِي الْفِعْلِ وَهُوَ أَنْ يَرْمِيَ غَرَضًا فَيُصِيبَ آدَمِيًّا) أَقُولُ: فِي عِبَارَةِ الْكِتَابِ هَا هُنَا تَسَامُحٌ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي تَفْسِيرِ الْخَطَإِ فِي الْقَصْدِ: وَهُوَ أَنْ يَرْمِيَ شَخْصًا يَظُنُّهُ صَيْدًا إلَخْ

وَقَالَ فِي تَفْسِيرِ الْخَطَإِ فِي الْفِعْلِ: وَهُوَ أَنْ يَرْمِيَ غَرَضًا فَيُصِيبَ آدَمِيًّا

وَلَا يَخْفَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ نَوْعَيْ الْخَطَإِ غَيْرُ مُنْحَصِرٍ بِمَا ذَكَرَهُ فِي تَفْسِيرِهِ، بَلْ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي تَفْسِيرِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جُزْئِيٌّ مِنْ جُزْئِيَّاتِهِ فَكَانَ أَخَصَّ مِنْهُ جِدًّا فَلَمْ يَصْلُحْ لَأَنْ يَكُونَ تَفْسِيرًا لَهُ، فَكَانَ الظَّاهِرُ أَنْ يُقَالَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَهُوَ نَحْوُ أَنْ يَرْمِيَ أَوْ هُوَ كَأَنْ يَرْمِيَ إشَارَةً إلَى الْعُمُومِ، كَمَا تَدَارَكَهُ صَاحِبُ الْوِقَايَةِ حَيْثُ قَالَ: وَفِي الْخَطَإِ قَصْدًا كَرَمْيِهِ مُسْلِمًا ظَنَّهُ صَيْدًا أَوْ حَرْبِيًّا وَفِعْلًا كَرَمْيِهِ غَرَضًا فَأَصَابَ آدَمِيًّا انْتَهَى

ثُمَّ إنَّ صَدْرَ الشَّرِيعَةِ قَالَ فِي شَرْحِ الْوِقَايَةِ: الْخَطَأُ ضَرْبَانِ: خَطَأٌ فِي الْقَصْدِ، وَخَطَأٌ فِي الْفِعْلِ

فَالْخَطَأُ فِي الْفِعْلِ أَنْ يَقْصِدَ فِعْلًا فَصَدَرَ مِنْهُ فِعْلٌ آخَرُ، كَمَا إذَا رَمَى الْغَرَضَ فَأَخْطَأَ وَأَصَابَ غَيْرَهُ وَالْخَطَأُ فِي الْقَصْدِ أَنْ لَا يَكُونَ الْخَطَأُ فِي الْفِعْلِ وَإِنَّمَا يَكُونُ الْخَطَأُ فِي قَصْدِهِ، فَإِنَّهُ قَصَدَ بِهَذَا الْفِعْلِ حَرْبِيًّا لَكِنْ أَخْطَأَ فِي ذَلِكَ الْقَصْدِ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ مَا قَصَدَهُ انْتَهَى

وَرَدَّ عَلَيْهِ صَاحِبُ الْإِصْلَاحِ وَالْإِيضَاحِ حَيْثُ قَالَ: مَنْ قَالَ الْخَطَأُ فِي الْفِعْلِ أَنْ لَا يَصْدُرَ عَنْهُ الْفِعْلُ الَّذِي قَصَدَهُ بَلْ يَصْدُرُ فِعْلٌ آخَرُ فَكَأَنَّهُ زَعَمَ أَنَّهُ شَرَطَ فِي الْخَطَإِ فِي الْفِعْلِ أَنْ لَا يَصْدُرَ عَنْهُ الْفِعْلُ الَّذِي قَصَدَهُ بَلْ يَصْدُرُ عَنْهُ فِعْلٌ آخَرُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّهُ إذَا رَمَى غَرَضًا فَأَصَابَهُ ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ أَوْ تَجَاوَزَ عَنْهُ إلَى مَا وَرَاءَهُ فَأَصَابَ رَجُلًا يَتَحَقَّقُ الْخَطَأُ فِي الْفِعْلِ، وَالشَّرْطُ الْمَذْكُورُ مَفْقُودٌ فِي الصُّورَتَيْنِ، ثُمَّ إنَّهُ أَخْطَأَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ حَيْثُ اعْتَبَرَ الْقَصْدَ فِيهِ وَذَلِكَ غَيْرُ لَازِمٍ، فَإِنَّهُ إذَا سَقَطَ مِنْ يَدِهِ خَشَبَةٌ أَوْ لَبِنَةٌ فَقَتَلَ رَجُلًا يَتَحَقَّقُ الْخَطَأُ فِي الْفِعْلِ وَلَا قَصْدَ فِيهِ انْتَهَى

أَقُولُ: كُلٌّ مِنْ وَجْهَيْ رَدِّهِ سَاقِطٌ جِدًّا

أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ صَدْرَ الشَّرِيعَةِ لَمْ يَشْتَرِطْ فِي الْخَطَإِ فِي الْفِعْلِ أَنْ لَا يَصْدُرَ عَنْهُ الْفِعْلُ الَّذِي قَصَدَهُ، بَلْ قَالَ: فَالْخَطَأُ فِي الْفِعْلِ أَنْ يَقْصِدَ فِعْلًا فَصَدَرَ عَنْهُ فِعْلٌ آخَرُ، وَهَذَا أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَصْدُرَ عَنْهُ الْفِعْلُ الَّذِي قَصَدَهُ كَمَا صَدَرَ عَنْهُ فِعْلٌ آخَرُ، وَمِنْ أَنْ لَا يَصْدُرَ عَنْهُ الْفِعْلُ الَّذِي قَصَدَهُ

مِثَالُ الْأَوَّلِ مَا ذَكَرَهُ الرَّادُّ مِنْ الصُّورَتَيْنِ، وَمِثَالُ الثَّانِي: وَهُوَ الْأَكْثَرُ وُقُوعًا مَا ذَكَرَهُ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ بِقَوْلِهِ كَمَا

ص: 213

لِمَا بَيَّنَّاهُ (وَلَا إثْمَ فِيهِ) يَعْنِي فِي الْوَجْهَيْنِ

قَالُوا: الْمُرَادُ إثْمُ الْقَتْلِ، فَأَمَّا فِي نَفْسِهِ فَلَا يَعْرَى عَنْ الْإِثْمِ مِنْ حَيْثُ تَرْكُ الْعَزِيمَةِ وَالْمُبَالَغَةُ فِي التَّثَبُّتِ فِي حَالِ الرَّمْيِ، إذْ شَرْعُ الْكَفَّارَةِ يُؤْذِنُ بِاعْتِبَارِ هَذَا الْمَعْنَى (وَيُحْرَمُ عَنْ الْمِيرَاثِ)؛ لِأَنَّ فِيهِ إثْمًا فَيَصِحُّ تَعْلِيقُ الْحِرْمَانِ بِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا تَعَمَّدَ الضَّرْبَ مَوْضِعًا مِنْ جَسَدِهِ فَأَخْطَأَ فَأَصَابَ مَوْضِعًا آخَرَ فَمَاتَ حَيْثُ يَجِبُ الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ قَدْ وُجِدَ بِالْقَصْدِ إلَى بَعْضِ بَدَنِهِ، وَجَمِيعُ الْبَدَنِ كَالْمَحَلِّ الْوَاحِدِ

قَالَ (وَمَا أُجْرِيَ مَجْرَى الْخَطَأِ مِثْلُ النَّائِمِ يَنْقَلِبُ عَلَى رَجُلٍ فَيَقْتُلُهُ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْخَطَأِ فِي الشَّرْعِ، وَأَمَّا الْقَتْلُ بِسَبَبٍ كَحَافِرِ الْبِئْرِ وَوَاضِعِ الْحَجَرِ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ، وَمُوجِبُهُ إذَا تَلِفَ فِيهِ آدَمِيٌّ الدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ)؛ لِأَنَّهُ سَبَبُ التَّلَفِ وَهُوَ مُتَعَدٍّ فِيهِ فَأُنْزِلَ مَوْقِعًا دَافِعًا فَوَجَبَتْ الدِّيَةُ (وَلَا كَفَّارَةَ فِيهِ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حِرْمَانُ الْمِيرَاثِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُلْحَقُ بِالْخَطَإِ فِي أَحْكَامِهِ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ أَنْزَلَهُ قَاتِلًا

وَلَنَا أَنَّ الْقَتْلَ مَعْدُومٌ مِنْهُ حَقِيقَةً فَأُلْحِقَ بِهِ فِي حَقِّ الضَّمَانِ فَبَقِيَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ عَلَى الْأَصْلِ، وَهُوَ إنْ كَانَ يَأْثَمُ بِالْحَفْرِ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ لَا يَأْثَمُ بِالْمَوْتِ عَلَى مَا قَالُوا، وَهَذِهِ كَفَّارَةُ ذَنْبِ الْقَتْلِ وَكَذَا الْحِرْمَانُ بِسَبَبِهِ (وَمَا يَكُونُ شِبْهَ عَمْدٍ فِي النَّفْسِ فَهُوَ عَمْدٌ فِيمَا سِوَاهَا)؛ لِأَنَّ إتْلَافَ النَّفْسِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْآلَةِ، وَمَا دُونَهَا لَا يَخْتَصُّ إتْلَافُهُ بِآلَةٍ دُونَ آلَةٍ

إذَا رَمَى الْغَرَضَ فَأَخْطَأَ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ كَمَا إذَا رَمَى الْغَرَضَ فَأَخْطَأَ عَامًّا كَصُورَتَيْ صُدُورِ مَا قَصَدَهُ أَيْضًا وَعَدَمِ صُدُورِهِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى ذِي فَطَانَةٍ

وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ تَحَقُّقَ الْخَطَأِ فِي الْفِعْلِ فِي صُورَةِ إنْ سَقَطَ مِنْ يَدِهِ خَشَبَةٌ أَوْ لَبِنَةٌ فَقَتَلَ رَجُلًا مَمْنُوعٌ، بَلْ الْمُتَحَقَّقُ هُنَاكَ مَا أُجْرِيَ مَجْرَى الْخَطَأِ كَالنَّائِمِ يَنْقَلِبُ عَلَى رَجُلٍ فَيَقْتُلُهُ لَا نَفْسُ الْخَطَأِ؛ إذْ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ صُدُورِ فِعْلٍ عَنْهُ بِاخْتِيَارِهِ، وَفِي صُورَةِ إنْ سَقَطَ مِنْ يَدِهِ شَيْءٌ فَقَتَلَ رَجُلًا لَمْ يَصْدُرْ عَنْهُ فِعْلٌ بِاخْتِيَارِهِ بَلْ وَقَعَ السُّقُوطُ بِفِعْلِهِ لَا بِاخْتِيَارٍ فَصَارَ لَا مَحَالَةَ مِنْ قَبِيلِ مَا أُجْرِيَ مَجْرَى الْخَطَإِ، وَالْكَلَامُ هُنَا فِي نَفْسِ الْخَطَإِ لَا فِيمَا أُجْرِيَ مَجْرَى الْخَطَإِ فَإِنَّهُ قِسْمٌ آخَرُ مِنْ الْأَقْسَامِ الْخَمْسَةِ لِلْجِنَايَةِ سَيَأْتِي ذِكْرُهُ مُسْتَقِلًّا فِيمَا بَعْدُ (قَوْلُهُ وَلَا إثْمَ فِيهِ: يَعْنِي فِي الْوَجْهَيْنِ) أَقُولُ: كَانَ الْأَوْلَى لِلْمُصَنِّفِ أَنْ يَقُولَ: يَعْنِي فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْوَجْهَيْنِ؛ إذْ يَحْصُلُ حِينَئِذٍ إصْلَاحُ إفْرَادِ الضَّمِيرِ أَيْضًا

ص: 214

بَابُ مَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ وَمَا لَا يُوجِبُهُ

قَالَ (الْقِصَاصُ وَاجِبٌ بِقَتْلِ كُلِّ مَحْقُونِ الدَّمِ عَلَى التَّأْبِيدِ إذَا قَتَلَ عَمْدًا) أَمَّا الْعَمْدِيَّةُ فَلِمَا بَيَّنَّاهُ، وَأَمَّا حَقْنُ الدَّمِ عَلَى التَّأْبِيدِ فَلِتَنْتَفِيَ شُبْهَةُ الْإِبَاحَةِ وَتَتَحَقَّقَ الْمُسَاوَاةُ

قَالَ (وَيُقْتَلُ الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْحُرُّ بِالْعَبْدِ) لِلْعُمُومَاتِ

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: لَا يُقْتَلُ الْحُرُّ بِالْعَبْدِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} وَمِنْ ضَرُورَةِ هَذِهِ الْمُقَابَلَةِ أَنْ لَا يُقْتَلَ حُرٌّ بِعَبْدٍ، وَلِأَنَّ مَبْنَى الْقِصَاصِ عَلَى الْمُسَاوَاةِ وَهِيَ مُنْتَفِيَةٌ بَيْنَ الْمَالِكِ وَالْمَمْلُوكِ وَلِهَذَا لَا يُقْطَعُ طَرَفُ

بَابُ مَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ وَمَا لَا يُوجِبُهُ) لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ أَنْوَاعِ الْقَتْلِ شَرَعَ فِي تَفْصِيلِ مَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ مِنْ الْقَتْلِ وَمَا لَا يُوجِبُهُ فِي بَابٍ عَلَى حِدَةٍ (قَوْلُهُ أَمَّا الْعَمْدِيَّةُ فَلِمَا بَيَّنَّاهُ) مِنْ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «الْعَمْدُ قَوَدٌ» وَمِنْ أَنَّ الْجِنَايَةَ بِهَا تَتَكَامَلُ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ وَغَايَةِ الْبَيَانِ

وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: وَمِنْ قَوْله تَعَالَى {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} عَلَى مَا مَرَّ فِي وَجْهِ كَوْنِ مُوجِبِ الْقَتْلِ الْقَوَدَ عَيْنًا اهـ

أَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي الْقَتْلِ

وَأَمَّا كَوْنُ وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ خَاصَّةً فَلَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْآيَةُ الْمَذْكُورَةُ وَحْدَهَا لِإِطْلَاقِهَا، وَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ وَهُوَ قَوْلُهُ

ص: 215

الْحُرِّ بِطَرَفِهِ، بِخِلَافِ الْعَبْدِ بِالْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُمَا يَسْتَوِيَانِ، وَبِخِلَافِ الْعَبْدِ حَيْثُ يُقْتَلُ بِالْحُرِّ؛ لِأَنَّهُ تَفَاوُتٌ إلَى نُقْصَانٍ

وَلَنَا أَنَّ الْقِصَاصَ يَعْتَمِدُ الْمُسَاوَاةَ فِي الْعِصْمَةِ وَهِيَ بِالدِّينِ وَبِالدَّارِ وَيَسْتَوِيَانِ فِيهِمَا، وَجَرَيَانُ الْقِصَاصِ بَيْنَ الْعَبْدَيْنِ يُؤْذِنُ بِانْتِفَاءِ شُبْهَةِ الْإِبَاحَةِ، وَالنَّصُّ تَخْصِيصٌ بِالذِّكْرِ فَلَا يَنْفِي مَا عَدَاهُ

- عليه الصلاة والسلام «الْعَمْدُ قَوَدٌ» وَالدَّلِيلُ الْمَعْقُولُ كَمَا أَفْصَحَ عَنْهُ الْمُصَنِّفُ فِيمَا قَبْلُ حَيْثُ قَالَ: وَالْقَوَدُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} وَقَالَ: إلَّا أَنَّهُ تَقَيُّدٌ بِوَصْفِ الْعَمْدِيَّةِ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «الْعَمْدُ قَوَدٌ» أَيْ مُوجِبُهُ، وَلِأَنَّ الْجِنَايَةَ بِهَا تَتَكَامَلُ إلَخْ، فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَنْدَرِجَ قَوْله تَعَالَى {كُتِبَ عَلَيْكُمُ} إلَخْ فِي قَوْلِ الْمُصَنِّفِ هَا هُنَا أَمَّا الْعَمْدِيَّةُ فَلِمَا بَيَّنَّاهُ كَمَا يَقْتَضِيهِ قَوْلُ ذَلِكَ الْبَعْضِ، وَمِنْ قَوْله تَعَالَى {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} تَبَصَّرْ (قَوْلُهُ وَجَرَيَانُ الْقِصَاصِ بَيْنَ الْعَبْدَيْنِ يُؤْذِنُ بِانْتِفَاءِ شُبْهَةِ الْإِبَاحَةِ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ: فَإِنْ قَالَ الشَّافِعِيُّ: جَازَ أَنْ تَكُونَ شُبْهَةُ الْإِبَاحَةِ مَانِعَةً، وَهِيَ ثَابِتَةٌ؛ لِأَنَّ الرِّقَّ أَثَرُ الْكُفْرِ وَحَقِيقَةُ الْكُفْرِ تَمْنَعُ مِنْهُ كَمَا بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْمُسْتَأْمَنِ فَكَذَا أَثَرُهُ

أَجَابَ بِقَوْلِهِ: وَجَرَيَانُ الْقِصَاصِ وَمَعْنَاهُ لَا يَصْلُحُ ذَلِكَ مَانِعًا؛ إذْ لَوْ صَحَّ لَمَا جَرَى بَيْنَ الْعَبْدَيْنِ كَمَا لَا يَجْرِي بَيْنَ الْمُسْتَأْمَنِينَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ اهـ

أَقُولُ: هَذَا الشَّرْحُ لَا يُطَابِقُ الْمَشْرُوحَ؛ لِأَنَّ حَاصِلَهُ مَنْعُ مَانِعِيَّةِ شُبْهَةِ الْإِبَاحَةِ عَنْ الْقِصَاصِ

وَحَاصِلُ الْمَشْرُوحِ مَنْعُ ثُبُوتِ شُبْهَةِ الْإِبَاحَةِ فِي الْعَبْدِ، وَمِنْ النَّصِّ فِيهِ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ يُؤْذِنُ بِانْتِفَاءِ شُبْهَةِ الْإِبَاحَةِ

فَالصَّوَابُ فِي الشَّرْحِ أَنْ يُقَالَ: وَمَعْنَاهُ أَنَّ شُبْهَةَ الْإِبَاحَةِ غَيْرُ ثَابِتَةٍ فِي الْعَبْدِ وَإِلَّا لَمَا جَرَى بَيْنَ الْعَبْدَيْنِ كَمَا لَا يَجْرِي بَيْنَ الْمُسْتَأْمَنِينَ (قَوْلُهُ: وَالنَّصُّ تَخْصِيصٌ بِالذَّكَرِ فَلَا يَنْفِي مَا عَدَاهُ) هَذَا جَوَابٌ عَمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ الْخَصْمُ مِنْ مُقَابَلَةِ الْحُرِّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدِ بِالْعَبْدِ فِي الْآيَةِ

وَوَجْهُهُ أَنَّ ذَلِكَ تَخْصِيصٌ بِالذِّكْرِ، وَهُوَ لَا يَنْفِي مَا عَدَاهُ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى} فَإِنَّهُ لَا يَنْفِي أَنْ يُقْتَلَ الْأُنْثَى بِالذَّكَرِ وَلَا الْعَكْسُ بِالْإِجْمَاعِ

وَفَائِدَةُ التَّخْصِيصِ الرَّدُّ عَلَى مَنْ أَرَادَ قَتْلَ غَيْرِ الْقَاتِلِ بِالْمَقْتُولِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ

وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ قَبِيلَتَيْنِ مِنْ الْعَرَبِ اقْتَتَلَتَا وَكَانَتْ إحْدَاهُمَا تَدَّعِي الْفَضْلَ عَلَى الْأُخْرَى فَقَالَتْ: لَا نَرْضَى إلَّا بِقَتْلِ الذَّكَرِ مِنْهُمْ بِالْأُنْثَى مِنَّا وَالْحُرِّ مِنْهُمْ بِالْعَبْدِ مِنَّا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ رَدًّا عَلَيْهِمْ كَذَا فِي الشُّرُوحِ

أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ إنَّ التَّخْصِيصَ بِالذَّكَرِ وَإِنْ لَمْ يَدُلَّ عَلَى نَفْيِ مَا عَدَاهُ إلَّا أَنَّ تَعْرِيفَ الْمُسْنَدِ إلَيْهِ فَاللَّامُ الْجِنْسِ يُفِيدُ الْقَصْرَ نَحْوَ: الْكَرَمُ التَّقْوَى: أَيْ لَا غَيْرُهَا، وَالْأَمِيرُ الشُّجَاعُ؟ أَيْ لَا الْجَبَانُ، وَنَحْوَ التَّوَكُّلُ عَلَى اللَّهِ وَ «الْإِمَامُ مِنْ قُرَيْشٍ» إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَمْثِلَةِ كَمَا عُرِفَ

ص: 216

قَالَ (وَالْمُسْلِمُ بِالذِّمِّيِّ) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ

لَهُ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ» وَلِأَنَّهُ لَا مُسَاوَاةَ بَيْنَهُمَا وَقْتَ الْجِنَايَةِ، وَكَذَا الْكُفْرُ مُبِيحٌ فَيُورِثُ الشُّبْهَةَ

وَلَنَا مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَتَلَ مُسْلِمًا بِذِمِّيٍّ» وَلِأَنَّ الْمُسَاوَاةَ فِي الْعِصْمَةِ ثَابِتَةٌ نَظَرًا إلَى التَّكْلِيفِ وَالدَّارِ وَالْمُبِيحُ كُفْرُ الْمُحَارِبِ دُونَ الْمُسَالِمِ، وَالْقَتْلُ بِمِثْلِهِ يُؤْذِنُ بِانْتِفَاءِ

فِي عِلْمِ الْأَدَبِ

وَقَدْ اسْتَدَلَّ الْأَئِمَّةُ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ مُوجَبَ الْقَتْلِ الْعَمْدِ هُوَ الْقَوَدُ عَيْنًا لَا وَاحِدٌ مِنْ الْقَوَدِ وَالدِّيَةِ لَا بِعَيْنِهِ بِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «الْعَمْدُ قَوَدٌ» وَقَالُوا: وَجْهُ التَّمَسُّكِ بِهِ أَنَّ الْأَلْفَ وَاللَّامَ فِي قَوْلِهِ الْعَمْدُ لِلْجِنْسِ فَتُفِيدُ الْقَصْرَ عَلَى الْقَوَدِ فَلْيَكُنْ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ

وَالْجَوَابُ أَنَّ اللَّامَ إنَّمَا يَجُوزُ حَمْلُهَا عَلَى الْجِنْسِ إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَعْهُودٌ كَمَا عُرِفَ فِي عِلْمِ الْأَدَبِ وَعِلْمِ الْأُصُولِ أَيْضًا، وَفِي الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ تَحَقُّقُ الْمَعْهُودِ وَهُوَ مَا ذُكِرَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا فَتُحْمَلُ اللَّامُ عَلَيْهِ دُونَ الْجِنْسِ فَلَمْ يُوجَدْ فِيهَا مَا يَقْتَضِي الْقَصْرَ، وَقَدْ أَشَارَ إلَيْهِ فِي الْكَافِي حَيْثُ قَالَ بَعْدَ ذِكْرِ فَائِدَةِ الْمُقَابَلَةِ بِبَيَانِ سَبَبِ النُّزُولِ فَكَانَ اللَّامُ لِتَعْرِيفِ الْعَهْدِ لَا لِتَعْرِيفِ الْجِنْسِ (قَوْلُهُ وَكَذَا الْكُفْرُ مُبِيحٌ فَيُورِثُ الشُّبْهَةَ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَحَلِّ: إنَّ الْكُفْرَ مُبِيحٌ لِدَمِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} أَيْ فِتْنَةُ الْكُفْرِ فَيُورِثُ شُبْهَةَ عَدَمِ الْمُسَاوَاةِ اهـ

أَقُولُ: قَدْ حَمَلَ الشُّبْهَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي الْكِتَابِ هُنَا عَلَى شُبْهَةِ الْمُسَاوَاةِ وَهُوَ خَبْطٌ ظَاهِرٌ

أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ الْمُصَنِّفَ قَدْ صَرَّحَ قُبَيْلَ هَذَا بِعَدَمِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمَا عَلَى طَرِيقِ الْجَزْمِ حَيْثُ قَالَ: لِأَنَّهُ لَا مُسَاوَاةَ بَيْنَهُمَا وَقْتَ الْجِنَايَةِ فَكَيْفَ يَتِمُّ أَنْ يَقُولَ بَعْدَهُ: كَوْنُ الْكُفْرِ مُبِيحًا يُورِثُ شُبْهَةَ عَدَمِ الْمُسَاوَاةِ وَيَجْعَلُهَا اسْتِدْلَالًا آخَرَ فَهَلَّا يَكُونُ هَذَا مُنَافِيًا لِمَا سَبَقَ أَوْ مُسْتَدْرِكًا

وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّهُ سَيَقُولُ فِي الْجَوَابِ مِنْ قَبْلِنَا عَنْ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ: وَالْمُبِيحُ كُفْرُ الْمُحَارِبِ دُونَ الْمُسْلِمِ، وَالْقَتْلُ بِمِثْلِهِ يُؤْذِنُ بِانْتِفَاءِ الشُّبْهَةِ، وَذَلِكَ قَطْعِيُّ الدَّلَالَةِ، عَلَى أَنْ لَيْسَ الْمُرَادُ بِالشُّبْهَةِ الْمَذْكُورَةِ هُنَا شُبْهَةَ عَدَمِ الْمُسَاوَاةِ؛ إذْ لَا شَكَّ أَنَّ قَتْلَ الذِّمِّيِّ بِمِثْلِهِ لَا يُؤْذِنُ بِانْتِفَاءِ شُبْهَةِ عَدَمِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ، وَإِنَّمَا يُؤْذِنُ بِانْتِفَاءِ شُبْهَةِ عَدَمِ الْإِبَاحَةِ فِي دَمِ الذِّمِّيِّ

فَالصَّوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالشُّبْهَةِ هُوَ شُبْهَةُ الْإِبَاحَةِ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى تَفْرِيعِ قَوْلِهِ فَيُورِثُ الشُّبْهَةَ عَلَى قَوْلِهِ، وَكَذَا الْكُفْرُ مُبِيحٌ وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي الْمَسْأَلَةِ السَّابِقَةِ فَحِينَئِذٍ يَنْتَظِمُ السِّبَاقُ وَاللِّحَاقُ بِلَا غُبَارٍ كَمَا لَا يَخْفَى (قَوْلُهُ وَلِأَنَّ الْمُسَاوَاةَ فِي الْعِصْمَةِ ثَابِتَةٌ نَظَرًا إلَى التَّكْلِيفِ أَوْ الدَّارِ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي حَلِّ هَذَا التَّعْلِيلِ: وَلِأَنَّ الْقِصَاصَ يَعْتَمِدُ الْمُسَاوَاةَ فِي الْعِصْمَةِ وَهِيَ ثَابِتَةٌ نَظَرًا إلَى

ص: 217

الشُّبْهَةِ، وَالْمُرَادُ بِمَا رَوَى الْحَرْبِيَّ لِسِيَاقِهِ «وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ» وَالْعَطْفُ لِلْمُغَايَرَةِ

التَّكْلِيفِ: يَعْنِي عِنْدَهُ، أَوْ الدَّارِ: يَعْنِي عِنْدَنَا اهـ

أَقُولُ: وَزَّعَ الشَّارِحُ الْمَذْكُورُ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ نَظَرًا إلَى التَّكْلِيفِ أَوْ الدَّارِ إلَى الْمَذْهَبَيْنِ كَمَا تَرَى، فَحَمَلَ قَوْلَهُ إلَى التَّكْلِيفِ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَقَوْلَهُ أَوْ الدَّارِ عَلَى مَذْهَبِنَا، لَكِنَّهُ مَحَلُّ نَظَرٍ؛ لِأَنَّ الْمُصَنِّفَ لَمَّا قَالَ فِي تَعْلِيلِ الْمَسْأَلَةِ السَّابِقَةِ

وَلَنَا أَنَّ الْقِصَاصَ يَعْتَمِدُ الْمُسَاوَاةَ فِي الْعِصْمَةِ وَهِيَ بِالدِّينِ أَوْ بِالدَّارِ

قَالَ الشَّارِحُ الْمَذْكُورُ وَسَائِرُ الشُّرَّاحِ أَيْضًا هُنَاكَ، وَهِيَ أَيْ الْعِصْمَةُ بِالدِّينِ: يَعْنِي عِنْدَهُ، أَوْ بِالدَّارِ: يَعْنِي عِنْدَنَا، فَقَدْ حَمَلُوا قَوْلَ الْمُصَنِّفِ بِالدِّينِ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَإِذَا كَانَ الْمُعْتَبَرُ فِي ثُبُوتِ الْعِصْمَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ هُوَ الدِّينُ فَكَيْفَ يَتِمُّ الْقَوْلُ هُنَا بِثُبُوتِهَا عِنْدَهُ بِمُجَرَّدِ التَّكْلِيفِ بِدُونِ تَحَقُّقِ دِينِ الْإِسْلَامِ كَمَا يَقْتَضِيهِ شَرْحُ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ فِي هَذَا الْمَحَلِّ

ثُمَّ أَقُولُ: لَعَلَّ كَلِمَةَ أَوْ فِي قَوْلِ الْمُصَنِّفِ نَظَرًا إلَى التَّكْلِيفِ، أَوْ الدَّارِ بِمَعْنَى الْوَاوِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: سِيَّانِ كَسْرُ رَغِيفِهِ أَوْ كَسْرُ عَظْمٍ مِنْ عِظَامِهِ فَيَكُونُ الْمَجْمُوعُ عَلَى مَذْهَبِنَا، وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ مِنْ كَلِمَةِ الْوَاوِ بَدَلَ كَلِمَةِ أَوْ، وَعِبَارَةُ الْكَافِي وَالتَّبْيِينِ أَيْضًا فَإِنَّ الْمَذْكُورَ فِيهِمَا فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَلِأَنَّ الْقِصَاصَ يَعْتَمِدُ الْمُسَاوَاةَ فِي الْعِصْمَةِ وَقَدْ وُجِدَتْ نَظَرًا إلَى الدَّارِ وَإِلَى التَّكْلِيفِ اهـ

فَإِنْ قُلْتَ: لِمَ لَمْ تَحْمِلْ الْمَجْمُوعَ عَلَى مَذْهَبِنَا مَعَ إبْقَاءِ كَلِمَةِ أَوْ عَلَى أَصْلِ مَعْنَاهَا؟ قُلْتُ: لِأَنَّ التَّكْلِيفَ وَحْدَهُ لَا يَقْتَضِي الْعِصْمَةَ الْمُوجِبَةَ لِلْقِصَاصِ؛ أَلَا يَرَى أَنَّهُ إذَا قُتِلَ مُكَلَّفٌ وَلَوْ كَانَ مُسْلِمًا فِي دَارِ الْحَرْبِ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ صَرَّحَ بِهِ فِي عَامَّةِ الْمُعْتَبَرَاتِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ أَيْضًا (قَوْلُهُ وَالْمُرَادُ بِمَا رَوَى الْحَرْبِيُّ لِسِيَاقِهِ وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ وَالْعَطْفُ لِلْمُغَايَرَةِ) يَعْنِي أَنَّ الْمُرَادَ

ص: 218

قَالَ (وَلَا يُقْتَلُ بِالْمُسْتَأْمَنِ)؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَحْقُونِ الدَّمِ عَلَى التَّأْبِيدِ، وَكَذَلِكَ كُفْرُهُ بَاعِثٌ عَلَى الْحِرَابِ؛

بِالْكَافِرِ فِي قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ» هُوَ الْحَرْبِيُّ بِدَلِيلِ سِيَاقِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ «وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ» فَإِنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى: مُؤْمِنٌ، فَالْمَعْنَى: وَلَا يُقْتَلُ ذُو عَهْدٍ بِكَافِرٍ، وَلَا شَكَّ أَنَّ ذَا الْعَهْدِ وَهُوَ الذِّمِّيُّ إنَّمَا لَا يُقْتَلُ بِالْحَرْبِيِّ دُونَ الذِّمِّيِّ، فَإِنَّ جَرَيَانَ الْقِصَاصِ بَيْنَ الذِّمِّيِّينَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ

فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِذِي الْعَهْدِ فِي الْحَدِيثِ هُوَ الْمُسْلِمَ دُونَ الذِّمِّيِّ؟ قُلْنَا: لِأَنَّ الْعَطْفَ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ، فَلَا جَرَمَ يَكُونُ الْمُرَادُ بِذِي الْعَهْدِ الْمَعْطُوفِ عَلَى الْمُؤْمِنِ غَيْرَ الْمُسْلِمِ، وَقَدْ أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ وَالْعَطْفُ لِلْمُغَايَرَةِ

فَإِنْ قِيلَ: وَلَمْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ وَلَا ذُو عَهْدِ فِي عَهْدِهِ ابْتِدَاءَ كَلَامٍ: أَوْ لَا يُقْتَلُ ذُو عَهْدِ فِي مُدَّةِ عَهْدِهِ

قُلْنَا: لِأَنَّ الْوَاوَ لِلْعَطْفِ حَقِيقَةً خُصُوصًا فِيمَا لَا يَكُونُ مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ

وَالْمُرَادُ بِالْأَوَّلِ نَفْيُ الْقَتْلِ قِصَاصًا لَا نَفْيُ مُطْلَقِ الْقَتْلِ، فَكَذَا فِي الثَّانِي تَحْقِيقًا لِمُقْتَضَى الْعَطْفِ مِنْ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ، هَذَا جُمْلَةُ مَا فِي الْكَافِي وَأَكْثَرِ الشُّرُوحِ فِي هَذَا الْمَقَامِ أَخْذًا مِنْ الْمَبْسُوطِ وَالْأَسْرَارِ

وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَحَلِّ: قَوْلُهُ وَالْمُرَادُ بِمَا رُوِيَ جَوَابٌ عَمَّا اسْتَدَلُّوا بِهِ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ رضي الله عنه وَتَقْرِيرُهُ مَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ فِي شَرْحِ الْآثَارِ: إنَّ الَّذِي حَكَاهُ أَبُو جُحَيْفَةَ عَنْ عَلِيٍّ لَمْ يَكُنْ مُفْرَدًا، وَلَوْ كَانَ مُفْرَدًا لَاحْتَمَلَ مَا قَالُوا وَلَكِنْ كَانَ مَوْصُولًا بِغَيْرِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ «وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ» وَإِلَيْهِ أَشَارَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ لِسِيَاقِهِ وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ

وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ عَطَفَ هَذَا عَلَى الْأَوَّلِ وَالْعَطْفُ لِلْمُغَايَرَةِ فَيَكُونُ كَلَامًا تَامًّا فِي نَفْسِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِأَدَائِهِ إلَّا أَنْ لَا يُقْتَلَ ذُو عَهْدٍ مُدَّةَ عَهْدِهِ وَإِنْ قَتَلَ مُسْلِمًا، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ بِالْإِجْمَاعِ فَيُقَدَّرُ وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ بِكَافِرٍ عَلَى طَرِيقَةِ قَوْله تَعَالَى {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ} ثُمَّ الْكَافِرُ الَّذِي لَا يُقْتَلُ بِهِ ذُو عَهْدٍ هُوَ الْحَرْبِيُّ بِالْإِجْمَاعِ فَيُقَدَّرُ بِكَافِرٍ حَرْبِيٍّ، وَإِذْ لَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ حَرْبِيٍّ يُقَدَّرُ فِي الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ كَذَلِكَ، وَإِلَّا لَكَانَ ذَلِكَ أَعَمَّ، وَالْأَعَمُّ لَا دَلَالَةَ لَهُ عَلَى الْأَخَصِّ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ، فَمَا فَرَضْنَاهُ دَلِيلًا لَا يَكُونُ دَلِيلًا هَذَا خُلْفٌ، إلَى هُنَا لَفْظُ الْعِنَايَةِ

أَقُولُ: فِيهِ خَلَلٌ مِنْ الْوُجُوهِ: الْأَوَّلُ أَنَّ الْأَعَمَّ إنَّمَا لَا يَدُلُّ عَلَى الْأَخَصِّ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ مِنْ حَيْثُ خُصُوصِيَّةُ الْأَخَصِّ: أَيْ لَا يَدُلُّ الْأَعَمُّ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ هُوَ الْأَخَصَّ وَحْدَهُ، وَهَذَا مَعْنَى مَا يُقَالُ فِي الْعُلُومِ الْعَقْلِيَّةِ: لَا دَلَالَةَ لِلْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ بِإِحْدَى الدَّلَالَاتِ الثَّلَاثِ

وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ انْدِرَاجُ الْأَخَصِّ تَحْتَ ذَلِكَ الْأَعَمِّ فَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَطْعًا بِوَاسِطَةِ دَلَالَتِهِ عَلَى مَعْنَاهُ الْعَامِّ الشَّامِلِ لِذَلِكَ الْأَخَصِّ وَلِغَيْرِهِ أَيْضًا؛ أَلَا يَرَى أَنَّا إذَا قُلْنَا كُلُّ حَيَوَانٍ مُتَحَرِّكٍ بِالْإِرَادَةِ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ الْإِنْسَانِ مُتَحَرِّكًا بِالْإِرَادَةِ كَسَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ لِانْدِرَاجِهِ تَحْتَ الْحَيَوَانِ، وَكَذَا حَالُ سَائِرِ الْكُلِّيَّاتِ بِالنَّظَرِ إلَى مَا تَحْتَهَا مِنْ الْجُزْئِيَّاتِ، وَهَذَا أَمْرٌ لَا سُتْرَةَ بِهِ، فَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ لَوْ لَمْ يُقَدَّرْ حَرْبِيٌّ فِي الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ وَكَانَ كَافِرٌ أَعَمَّ مِنْ الْحَرْبِيِّ وَالذِّمِّيِّ لَدَلَّ عَلَى أَنْ لَا يُقْتَلَ مُؤْمِنٌ بِشَيْءٍ مِنْ أَفْرَادِ الْكَافِرِ وَحَصَلَ مَطْلُوبُ الشَّافِعِيِّ، وَلَمْ يَلْزَمْ أَنْ لَا يَكُونَ مَا فَرَضْنَاهُ دَلِيلًا لِلشَّافِعِيِّ دَلِيلًا لَهُ عَلَى مُدَّعَاهُ كَمَا زَعَمَهُ الشَّارِحُ الْمَزْبُورُ

وَالثَّانِي أَنَّ عَدَمَ كَوْنِ مَا فَرَضْنَاهُ دَلِيلًا لِلشَّافِعِيِّ دَلِيلًا لَهُ لَا يَقْتَضِي تَقْدِيرَ شَيْءٍ فِي الْحَدِيثِ؛ إذْ لَا يَتْبَعُ تَعَيُّنُ مَعْنَى الْحَدِيثِ جَعْلَ الشَّافِعِيِّ ذَلِكَ الْحَدِيثَ دَلِيلًا عَلَى مُدَّعَاهُ، بَلْ جَعْلُهُ دَلِيلًا عَلَيْهِ إنَّمَا يَصِحُّ بَعْدَ تَعَيُّنِ مَعْنَاهُ، فَمَا مَعْنَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَى عَدَمِ عُمُومِ الْكَافِرِ فِي الْحَدِيثِ بِلُزُومِ أَنْ لَا يَكُونَ مَا فَرَضْنَاهُ دَلِيلًا لِلشَّافِعِيِّ دَلِيلًا لَهُ عَلَى تَقْدِيرِ عُمُومِهِ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى تَقْرِيرِ الشَّارِحِ الْمَزْبُورِ

وَالثَّالِثُ أَنَّ مَا عَدَّهُ مَحْذُورًا، وَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ مَا فَرَضْنَاهُ دَلِيلًا لِلشَّافِعِيِّ دَلِيلًا لَهُ لَازِمٌ أَيْضًا عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يُقَدَّرَ حَرْبِيٌّ فِي الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ بِمُقْتَضَى رَأْيِهِ؛ لِأَنَّ الْحَرْبِيَّ مُبَايِنٌ لِلذِّمِّيِّ لَا مَحَالَةَ، وَعَدَمُ دَلَالَةِ أَحَدِ الْمُتَبَايِنَيْنِ عَلَى الْآخَرِ أَظْهَرُ مِنْ عَدَمِ دَلَالَةِ الْأَعَمِّ عَلَى الْأَخَصِّ، فَإِنْ لَزِمَ مِنْ أَنْ يَكُونَ كَافِرٌ فِي الْحَدِيثِ أَعَمَّ أَنْ لَا يَكُونَ مَا فَرَضْنَاهُ دَلِيلًا لِلشَّافِعِيِّ دَلِيلًا لَهُ فَلَأَنْ لَزِمَ مِنْ أَنْ يُقَيَّدَ كَافِرٌ فِي الْحَدِيثِ بِحَرْبِيٍّ أَنْ لَا يَكُونَ مَا فَرَضْنَاهُ دَلِيلًا لِلشَّافِعِيِّ

ص: 219

لِأَنَّهُ عَلَى قَصْدِ الرُّجُوعِ

(وَلَا يُقْتَلُ الذِّمِّيُّ بِالْمُسْتَأْمَنِ) لِمَا بَيَّنَّا

(وَيُقْتَلُ الْمُسْتَأْمَنُ بِالْمُسْتَأْمَنِ) قِيَاسًا لِلْمُسَاوَاةِ، وَلَا يُقْتَلُ اسْتِحْسَانًا لِقِيَامِ الْمُبِيحِ

(وَيُقْتَلُ الرَّجُلُ بِالْمَرْأَةِ، وَالْكَبِيرُ بِالصَّغِيرِ، وَالصَّحِيحُ بِالْأَعْمَى وَالزَّمِنُ وَبِنَاقِصِ الْأَطْرَافِ وَبِالْمَجْنُونِ) لِلْعُمُومَاتِ، وَلِأَنَّ فِي اعْتِبَارِ التَّفَاوُتِ فِيمَا وَرَاءَ الْعِصْمَةِ امْتِنَاعَ الْقِصَاصِ وَظُهُورَ التَّقَاتُلِ وَالتَّفَانِي

قَالَ (وَلَا يُقْتَلُ الرَّجُلُ بِابْنِهِ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَا يُقَادُ الْوَالِدُ بِوَلَدِهِ» وَهُوَ بِإِطْلَاقِهِ

دَلِيلًا لَهُ أَوْلَى، فَكَيْفَ يَثْبُتُ تَقْدِيرُ حَرْبِيٍّ عَلَى رَأْيِهِ وَبِالْجُمْلَةِ قَدْ خَرَجَ الشَّارِحُ الْمَزْبُورُ فِي تَوْجِيهِ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ عَنْ سُنَنِ الصَّوَابِ بِالْكُلِّيَّةِ فَضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ

ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ الْغَايَةِ اعْتَرَضَ عَلَى قَوْلِ الْمُصَنِّفِ: وَالْعَطْفُ لِلْمُغَايَرَةِ حَيْثُ قَالَ: وَلَنَا فِي هَذَا الْمَقَامِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: نَعَمْ الْعَطْفُ لِلْمُغَايَرَةِ، وَلَكِنْ لَمْ يَعْطِفْ قَوْلَهُ عليه الصلاة والسلام " وَلَا ذُو عَهْدٍ " عَلَى كَافِرٍ؛ لِأَنَّهُ لَوْ عَطَفَ عَلَيْهِ لَقِيلَ بِالْجَرِّ بَلْ هُوَ عَطْفٌ عَلَى مُؤْمِنٍ، وَلَكِنْ نَقُولُ: إنَّ الذِّمِّيَّ يُقْتَلُ بِالذِّمِّيِّ بِالِاتِّفَاقِ، فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْكَافِرِ الْحَرْبِيُّ اهـ

أَقُولُ: نَظَرُهُ فِي غَايَةِ السُّقُوطِ؛ لِأَنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ وَالْعَطْفُ لِلْمُغَايَرَةِ لَيْسَ لِبَيَانِ مُغَايَرَةِ: ذُو عَهْدٍ فِي الْحَدِيثِ لِكَافِرٍ حَتَّى يَتَّجِهَ مَا تَوَهَّمَهُ مِنْ أَنَّ قَوْلَهُ عليه الصلاة والسلام " وَلَا ذُو عَهْدٍ " لَمْ يُعْطَفْ عَلَى كَافِرٍ بَلْ لِبَيَانِ مُغَايَرَتِهِ لِمُؤْمِنٍ دَفْعًا لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِذُو عَهْدٍ فِي الْحَدِيثِ هُوَ الْمُؤْمِنُ أَيْضًا؛ إذْ عَلَى هَذَا الِاحْتِمَالِ لَا يَظْهَرُ كَوْنُ الْمُرَادِ بِكَافِرٍ هُوَ الْحَرْبِيَّ؛ إذْ الْمُؤْمِنُ لَا يُقْتَلُ بِذِمِّيٍّ أَيْضًا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فَلَا يَسْلَمُ التَّقْيِيدُ بِحَرْبِيٍّ، وَأَمَّا إذَا كَانَ ذُو عَهْدٍ مُغَايِرًا لِمُؤْمِنٍ فَكَانَ الْمُرَادُ بِهِ هُوَ الذِّمِّيَّ يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِكَافِرٍ هُوَ الْحَرْبِيَّ، وَإِلَّا يَلْزَمُ أَنْ لَا يُقْتَلَ الذِّمِّيُّ أَيْضًا مَعَ أَنَّ خِلَافَهُ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ

وَالْعَجَبُ أَنَّ كَوْنَ مَقْصُودِ الْمُصَنِّفِ مِنْ قَوْلِهِ: وَالْعَطْفُ لِلْمُغَايَرَةِ مَا ذَكَرْنَاهُ مَعَ وُضُوحِهِ فِي نَفْسِهِ يُرْشِدُ إلَيْهِ جِدًّا تَقْرِيرُ صَاحِبِ الْكَافِي وَبَعْضُ الشُّرَّاحِ الْمُتَقَدِّمِينَ فَكَيْفَ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ ذَلِكَ الشَّارِحُ

(قَوْلُهُ وَلَا يُقْتَلُ الذِّمِّيُّ بِالْمُسْتَأْمَنِ لِمَا بَيَّنَّا) قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الشُّرَّاحِ: وَهُوَ قَوْلُهُ: وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ، وَحَمَلَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ عَلَى قَوْلِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مَحْقُونَ الدَّمِ عَلَى التَّأْبِيدِ، وَلَمْ يَقْبَلْ رَأْيَ هَؤُلَاءِ الشُّرَّاحِ حَيْثُ قَالَ: وَلَا يُقْتَلُ الذِّمِّيُّ بِالْمُسْتَأْمَنِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ لَيْسَ مَحْقُونَ الدَّمِ عَلَى التَّأْبِيدِ، وَقِيلَ: هُوَ إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ» وَلَيْسَ بِوَاضِحٍ؛ لِأَنَّ الْمَعْهُودَ مِنْهُ فِي مِثْلِهِ لِمَا رَوَيْنَا، وَلِأَنَّا قَدَّرْنَا ذَلِكَ بِكَافِرٍ حَرْبِيٍّ، إلَّا إذَا أُرِيدَ هُنَاكَ بِالْحَرْبِيِّ أَعَمَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُسْتَأْمَنًا أَوْ مُحَارَبًا وَهُوَ الْحَقُّ، وَيُغْنِينَا عَنْ السُّؤَالِ عَنْ كَيْفِيَّةِ قَتْلِ الْمُسْلِمِ بِالْحَرْبِيِّ وَالْجَوَابِ عَنْهُ وَعَبَّرَ بِقَوْلِهِ: لِمَا بَيَّنَّا؛ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ الْمَذْكُورَ لَيْسَ بِمَرْوِيٍّ، وَإِنَّمَا هُوَ تَأْوِيلٌ فَلَمْ يَقُلْ لِمَا رَوَيْنَا، إلَى هُنَا كَلَامُهُ

أَقُولُ: فِي قَوْلِهِ وَيُغْنِينَا عَنْ السُّؤَالِ عَنْ كَيْفِيَّةِ قَتْلِ الْمُسْلِمِ بِالْحَرْبِيِّ وَالْجَوَابِ عَنْهُ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ إذَا أُرِيدَ هُنَاكَ بِالْحَرْبِيِّ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ الْمُسْتَأْمَنِ وَالْمُحَارِبِ يَرِدُ السُّؤَالُ عَنْ كَيْفِيَّةِ قَتْلِ الْمُسْلِمِ بِالْمُحَارِبِ، فَإِنَّ قَتْلَ الْمُحَارِبِ وَاجِبٌ فَمَا مَعْنَى نَفْيِهِ فِي الْحَدِيثِ، فَيُحْتَاجُ إلَى الْجَوَابِ عَنْهُ بِالْوَجْهَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرَهُمَا مِنْ قَبْلُ، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ الْغِنَى عَنْ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ إذَا كَانَ الْمُرَادُ بِالْحَرْبِيِّ هُنَاكَ هُوَ الْمُسْتَأْمَنَ فَقَطْ كَمَا هُوَ الْأَحْسَنُ، وَجَزَمَ بِهِ صَاحِبُ الْبَدَائِعِ حَيْثُ قَالَ: وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَالْمُرَادُ مِنْ الْكَافِرِ الْمُسْتَأْمَنُ؛ لِأَنَّهُ قَالَ «لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ» عَطَفَ قَوْلَهُ وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ عَلَى الْمُسْلِمِ، فَكَانَ مَعْنَاهُ: لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ وَلَا ذُو عَهْدٍ بِهِ، وَنَحْنُ بِهِ نَقُولُ اهـ

(قَوْلُهُ: وَلَا يُقْتَلُ الرَّجُلُ بِابْنِهِ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَا يُقَادُ الْوَالِدُ بِوَلَدِهِ») قَالَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ: قُلْت: خَصَّ بِهِ عُمُومَ الْكِتَابِ؛ لِأَنَّهُ لَحِقَهُ

ص: 220

حُجَّةٌ عَلَى مَالِكٍ رحمه الله فِي قَوْلِهِ يُقَادُ إذَا ذَبَحَهُ ذَبْحًا، وَلِأَنَّهُ سَبَبٌ لِإِحْيَائِهِ، فَمِنْ الْمُحَالِ أَنْ يُسْتَحَقَّ لَهُ إفْنَاؤُهُ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ لَهُ قَتْلُهُ، وَإِنْ وَجَدَهُ فِي صَفِّ الْأَعْدَاءِ مُقَاتِلًا أَوْ زَانِيًا وَهُوَ مُحْصَنٌ، وَالْقِصَاصُ يَسْتَحِقُّهُ الْمَقْتُولُ ثُمَّ يَخْلُفُهُ وَارِثُهُ، وَالْجَدُّ مِنْ قِبَلِ الرِّجَالِ أَوْ النِّسَاءِ، وَإِنْ عَلَا فِي هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْأَبِ، وَكَذَا الْوَالِدَةُ وَالْجَدَّةُ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ أَوْ الْأُمِّ قَرُبَتْ أَوْ بَعُدَتْ لِمَا بَيَّنَّا، وَيُقْتَلُ الْوَلَدُ بِالْوَالِدِ لِعَدَمِ الْمُسْقِطِ

قَالَ (وَلَا يُقْتَلُ الرَّجُلُ بِعَبْدِهِ وَلَا مُدَبَّرِهِ وَلَا مُكَاتَبِهِ وَلَا بِعَبْدِ وَلَدِهِ)؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَوْجِبُ لِنَفْسِهِ عَلَى نَفْسِهِ الْقِصَاصَ وَلَا وَلَدِهِ عَلَيْهِ، وَكَذَا لَا يُقْتَلُ بِعَبْدٍ مَلَكَ بَعْضَهُ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ لَا يَتَجَزَّأُ

الْخُصُوصُ

فَإِنَّ الْمَوْلَى لَا يُقْتَصُّ بِعَبْدِهِ وَلَا بِعَبْدِ وَلَدِهِ

وَذَكَرَ الْإِمَامُ الْبَزْدَوِيُّ أَنَّ هَذَا حَدِيثٌ مَشْهُورٌ تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ فَصَلُحَ مُخَصِّصًا أَوْ نَاسِخًا حُكْمَ الْكِتَابِ اهـ

أَقُولُ: الْحَقُّ مَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ الْبَزْدَوِيُّ لَا مَا قَالَهُ تَاجُ الشَّرِيعَةِ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ حَاصِلَ مَا قَالَهُ أَنَّ الْكِتَابَ فِي حُكْمِ الْقِصَاصِ صَارَ مِمَّا خُصَّ مِنْهُ الْبَعْضُ بِعَدَمِ اقْتِصَاصِ الْمَوْلَى بِعَبْدِهِ وَلَا بِعَبْدِ وَلَدِهِ فَصَارَ ظَنِّيًّا فَجَازَ تَخْصِيصُ قَتْلِ الْوَالِدِ وَلَدَهُ مِنْ عُمُومِ الْكِتَابِ الدَّالِ عَلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي الْقَتْلَى بِالسُّنَّةِ وَلَوْ كَانَتْ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ، وَلَكِنَّهُ غَيْرُ تَامٍّ؛ إذْ قَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ الْعَامَّ الَّذِي خُصَّ مِنْهُ الْبَعْضُ إنَّمَا يَصِيرُ ظَنِّيًّا إذَا كَانَ تَخْصِيصُهُ بِكَلَامٍ مُسْتَقِلٍّ مَوْصُولٍ بِهِ، وَأَمَّا إذَا كَانَ الْبَعْضُ مِنْ الْعَامِّ مُخْرَجًا بِدَلِيلٍ مَفْصُولٍ عَنْهُ فَيَكُونُ عُمُومُهُ مَنْسُوخًا لَا مَخْصُوصًا وَيَصِيرُ قَطْعِيًّا فِي الْبَاقِي

وَلَا شَكَّ أَنَّ مَا يُخْرِجُ قَتْلَ الْمَوْلَى عَبْدَهُ أَوْ عَبْدَ وَلَدِهِ عَنْ آيَةِ الْقِصَاصِ لَيْسَ كَلَامًا مَوْصُولًا بِهَا فَلَا يُنَافِي قَطْعِيَّتَهَا، فَلَا يَجُوزُ إخْرَاجُ قَتْلِ الْوَالِدِ وَلَدَهُ عَنْهَا بِخَبَرٍ وَاحِدٍ، بَلْ لَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْمُخْرِجُ حَدِيثًا مَشْهُورًا كَمَا عُرِفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْمَصِيرِ هُنَا إلَى مَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ الْبَزْدَوِيُّ (قَوْلُهُ: وَالْقِصَاصُ يَسْتَحِقُّهُ الْمَقْتُولُ ثُمَّ يَخْلُفُهُ وَارِثُهُ) قَالَ الشُّرَّاحُ: هَذَا جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ الْوَارِثُ يَسْتَحِقُّ إفْنَاءَهُ لَا الْوَلَدُ وَلَا مَحْذُورَ فِيهِ

وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ ذَلِكَ: وَلَوْ قَالَ فَمِنْ الْمُحَالِ أَنْ يَتَسَبَّبَ لِفِنَائِهِ لَاسْتَغْنَى عَنْ هَذَا السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ اهـ أَقُولُ: فِيهِ بَحْثٌ؛ إذْ لَا يَرَى جِهَةَ سَبَبِيَّةِ الْمَقْتُولِ لِفَنَاءِ الْقَاتِلِ سِوَى اسْتِحْقَاقِهِ الْقِصَاصَ، فَلَوْ قَالَ: فَمِنْ الْمُحَالِ أَنْ يَتَسَبَّبَ لِفِنَائِهِ، فَأَمَّا إنْ أَرَادَ بِتَسَبُّبِهِ لِفَنَائِهِ اسْتِحْقَاقَهُ الْقِصَاصَ فَيُرَدُّ عَلَيْهِ السُّؤَالُ الْمَزْبُورُ وَيُحْتَاجُ إلَى الْجَوَابِ الْمَذْكُورِ، وَأَمَّا إنْ أَرَادَ بِهَا شَيْئًا سِوَى اسْتِحْقَاقِهِ الْقِصَاصَ، وَهُوَ غَيْرُ مَعْلُومٍ فَكَيْفَ يَتِمُّ بِنَاءُ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ تَدَبَّرْ تَفْهَمْ (قَوْلُهُ، وَالْجَدُّ مِنْ قِبَلِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَإِنْ عَلَا فِي هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْأَبِ، وَكَذَا الْوَالِدَةُ وَالْجَدَّةُ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ أَوْ الْأُمِّ قَرُبَتْ أَوْ بَعُدَتْ لِمَا بَيَّنَّا) أَقُولُ: مِنْ الْعَجَائِبِ هُنَا أَنَّ الْإِمَامَ الزَّاهِدِيَّ

ص: 221

قَالَ (وَمَنْ وَرِثَ قِصَاصًا عَلَى أَبِيهِ سَقَطَ) لِحُرْمَةِ الْأُبُوَّةِ

قَالَ (وَلَا يُسْتَوْفَى الْقِصَاصُ إلَّا بِالسَّيْفِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُفْعَلُ بِهِ مِثْلُ مَا فَعَلَ إنْ كَانَ فِعْلًا مَشْرُوعًا، فَإِنْ مَاتَ وَإِلَّا تُحَزَّ رَقَبَتُهُ؛ لِأَنَّ مَبْنَى الْقِصَاصِ عَلَى الْمُسَاوَاةِ

وَلَنَا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «لَا قَوَدَ إلَّا بِالسَّيْفِ» وَالْمُرَادُ بِهِ السِّلَاحُ، وَلِأَنَّ فِيمَا ذَهَبَ إلَيْهِ اسْتِيفَاءُ الزِّيَادَةِ لَوْ لَمْ يَحْصُلْ الْمَقْصُودُ بِمِثْلِ مَا فَعَلَ فَيُحَزُّ فَيَجِبُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ كَمَا فِي كَسْرِ الْعَظْمِ

قَالَ (وَإِذَا قُتِلَ الْمُكَاتَبُ عَمْدًا وَلَيْسَ لَهُ وَارِثٌ إلَّا الْمَوْلَى وَتَرَكَ وَفَاءً فَلَهُ الْقِصَاصُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا أَرَى فِي هَذَا قِصَاصًا)؛ لِأَنَّهُ اشْتَبَهَ سَبَبُ الِاسْتِيفَاءِ فَإِنَّهُ الْوَلَاءُ إنْ مَاتَ حُرًّا وَالْمِلْكُ إنْ مَاتَ عَبْدًا، وَصَارَ كَمَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ بِعْنِي هَذِهِ الْجَارِيَةَ بِكَذَا، وَقَالَ الْمَوْلَى زَوَّجْتُهَا مِنْك لَا يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا لِاخْتِلَافِ السَّبَبِ كَذَا هَذَا

وَلَهُمَا أَنَّ حَقَّ الِاسْتِيفَاءِ لِلْمَوْلَى بِيَقِينٍ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ وَهُوَ مَعْلُومٌ وَالْحُكْمُ مُتَّحِدٌ، وَاخْتِلَافُ السَّبَبِ لَا يُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ وَلَا إلَى اخْتِلَافِ حُكْمٍ فَلَا يُبَالَى بِهِ، بِخِلَافِ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ مِلْكِ الْيَمِينِ يُغَايِرُ حُكْمَ النِّكَاحِ

قَالَ فِي شَرْحِ مُخْتَصَرِ الْقُدُورِيِّ: قُلْتُ: ذَكَرَ الْجَدَّةَ فِي الْهِدَايَةِ مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ وَلَمْ يُطْلِقْهَا، وَذَكَرَ فِيهَا الْأَجْدَادَ مِنْ قِبَلِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَالْأُمَّ وَلَمْ يَذْكُرْ الْجَدَّةَ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ أَصْلًا فَوَقَعَتْ لِي شُبْهَةٌ فِي الْجَدَّةِ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ وَقَدْ زَالَتْ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى بِمَا ذَكَرَ فِي كِفَايَةِ الْبَيْهَقِيّ

قَالَ: وَلَا يُقْتَلُ أُصُولُ الْمَقْتُولِ بِهِ وَإِنْ عَلَوْا خِلَافًا لِمَالِكٍ فِيمَا إذَا ذَبَحَهُ ذَبْحًا اهـ

وَأَنْتَ تَرَى أَنَّ الْجَدَّةَ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ مَذْكُورَةٌ فِي الْهِدَايَةِ هُنَا صَرَاحَةً فَكَيْفَ خَفِيَتْ عَلَيْهِ حَتَّى وَقَعَتْ لَهُ شُبْهَةٌ فِي أَمْرِهَا

(قَوْلُهُ وَلَنَا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «لَا قَوَدَ إلَّا بِالسَّيْفِ» وَالْمُرَادُ بِهِ السِّلَاحُ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي حَلِّ هَذَا الْمَحَلِّ: وَلَنَا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «لَا قَوَدَ إلَّا بِالسَّيْفِ» وَهُوَ نَصٌّ عَلَى نَفْيِ اسْتِيفَاءِ الْقَوَدِ بِغَيْرِهِ وَيَلْحَقُ بِهِ مَا كَانَ سِلَاحًا

أَقُولُ: فِيهِ خَلَلٌ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ نَصًّا عَلَى نَفْيِ اسْتِيفَاءِ

ص: 222

(وَلَوْ تَرَكَ وَفَاءً وَلَهُ وَارِثٌ غَيْرُ الْمَوْلَى فَلَا قِصَاصَ، وَإِنْ اجْتَمَعُوا مَعَ الْمَوْلَى)؛ لِأَنَّهُ اشْتَبَهَ مَنْ لَهُ الْحَقُّ؛ لِأَنَّهُ الْمَوْلَى إنْ مَاتَ عَبْدًا، وَالْوَارِثُ إنْ مَاتَ حُرًّا إذْ ظَهَرَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم فِي مَوْتِهِ عَلَى نَعْتِ الْحُرِّيَّةِ أَوْ الرِّقِّ، بِخِلَافِ الْأُولَى؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى مُتَعَيَّنٌ فِيهَا

الْقَوَدِ بِغَيْرِ السَّيْفِ فَكَيْفَ يَلْحَقُ بِهِ دَلَالَةً مَا كَانَ سِلَاحًا مِنْ غَيْرِ السَّيْفِ، وَهُوَ يَتَصَوَّرُ أَنْ يَدُلَّ كَلَامٌ وَاحِدٌ عَلَى نَفْيِ شَيْءٍ وَإِثْبَاتِهِ مَعًا

وَالْحَقُّ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالسَّيْفِ فِي الْحَدِيثِ الْمَزْبُورِ وَالسِّلَاحِ مُطْلَقًا بِطَرِيقِ الْكِنَايَةِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ: وَالْمُرَادُ بِهِ السِّلَاحُ وَصَرَّحَ بِهِ صَاحِبُ الْكَافِي وَالْكِفَايَةِ حَيْثُ قَالَا: وَلَنَا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «لَا قَوَدَ إلَّا بِالسَّيْفِ» أَيْ لَا قَوَدَ يُسْتَوْفَى إلَّا بِالسَّيْفِ، وَالْمُرَادُ بِالسَّيْفِ السِّلَاحُ، هَكَذَا فَهِمَتْ الصَّحَابَةُ رضي الله عنهم

وَقَالَ أَصْحَابُ ابْنِ مَسْعُودٍ: لَا قَوَدَ إلَّا بِسِلَاحٍ، وَإِنَّمَا كَنَّى بِالسَّيْفِ عَنْ السِّلَاحِ اهـ

وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ: فَإِنْ قِيلَ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ الْحَدِيثِ لَا قَوَدَ يَجِبُ إلَّا بِالسَّيْفِ لَا أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ لَا قَوَدَ يُسْتَوْفَى إلَّا بِالسَّيْفِ

قُلْنَا: الْقَوَدُ اسْمٌ لِفِعْلٍ هُوَ جَزَاءُ الْقَتْلِ دُونَ مَا يَجِبُ شَرْعًا، وَإِنْ حُمِلَ عَلَيْهِ كَانَ مَجَازًا، وَلِأَنَّ الْقُودَ قَدْ يَجِبُ بِغَيْرِ السَّيْفِ كَالْقَتْلِ بِالنَّارِ وَالْإِبْرَةِ فَلَمْ يُمْكِنْ حَمْلُهُ عَلَيْهِ لِوُجُودِ وُجُوبِ الْقَوَدِ بِدُونِ الْقَتْلِ بِالسَّيْفِ، وَإِنَّمَا السَّيْفُ مَخْصُوصٌ بِالِاسْتِيفَاءِ اهـ

وَذَكَرَ هَذَا السُّؤَالَ فِي الْعِنَايَةِ أَيْضًا، وَلَكِنْ قَصَرَ الْجَوَابَ عَنْهُ فِيهَا عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ مِنْ الْوَجْهَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فِي النِّهَايَةِ

أَقُولُ: فِي ذَاكَ الْوَجْهِ مِنْ الْجَوَابِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَتِمُّ أَنْ لَوْ كَانَ مَدَارُ السُّؤَالِ عَلَى احْتِمَالِ أَنْ يُرَادَ بِلَفْظِ الْقَوَدِ الْمَذْكُورِ فِي الْحَدِيثِ مَا يَجِبُ شَرْعًا، وَأَمَّا إذَا كَانَ مَدَارُهُ عَلَى احْتِمَالِ أَنْ يُقَدَّرَ فِي الْحَدِيثِ لَفْظُ يَجِبُ بَعْدَ قَوْلِهِ لَا قَوَدَ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ عِبَارَةِ السُّؤَالِ فَلَا يَتِمُّ ذَلِكَ؛ إذْ لَا مَجَازَ حِينَئِذٍ فِي لَفْظِ الْقَوَدِ

فَإِنْ قُلْتَ: الْمَصِيرُ إلَى التَّقْدِيرِ لَيْسَ بِأَسْهَلَ مِنْ الْمَصِيرِ إلَى التَّجَوُّزِ فَيَحْصُلُ الْمَطْلُوبُ وَهُوَ لُزُومُ الْعُدُولِ إلَى خِلَافِ الظَّاهِرِ مِنْ عِبَارَةِ الْحَدِيثِ عَلَى الِاحْتِمَالِ الْآخَرِ

قُلْتُ: لَا مَحِيصَ عَنْ تَقْدِيرِ شَيْءٍ عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي حَمَلُوهُ عَلَيْهِ أَيْضًا، فَإِنَّ مَعْنَى الْحَدِيثِ عَلَى ذَاكَ لَا قَوَدَ يُسْتَوْفَى إلَّا بِالسَّيْفِ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ مَعْنَى الِاسْتِيفَاءِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ بِمَعُونَةِ الْمَقَامِ لَيْسَ بِعَزِيزٍ فِي كَلَامِ الْبُلَغَاءِ فَلَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ

(قَوْلُهُ: وَلَوْ تَرَكَ وَفَاءً وَلَهُ وَارِثٌ غَيْرُ الْمَوْلَى فَلَا قِصَاصَ) أَقُولُ: أَطْلَقَ الْوَارِثَ هُنَا وَلَمْ يُقَيِّدْهُ بِالْحُرِّ وَقَيَّدَهُ فِي الصُّورَةِ الْآتِيَةِ بِذَلِكَ حَيْثُ قَالَ: وَإِنْ لَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً وَلَهُ وَرَثَةٌ أَحْرَارٌ، وَكَانَ الْأَوْلَى أَنْ يُعْكَسَ الْأَمْرُ، فَإِنَّهُ إذَا كَانَ الْوَارِثُ هُنَا رَقِيقًا فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَجِبُ الْقِصَاصُ لِلْمَوْلَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ كَمَا فِي الصُّورَةِ السَّابِقَةِ لِكَوْنِ حَقِّ الِاسْتِيفَاءِ حِينَئِذٍ لِلْمَوْلَى خَاصَّةً؛ إذْ لَا وِلَايَةَ لِلْأَرِقَّاءِ عَلَى اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ قَطُّ فَلَمْ يَشْتَبِهْ مَنْ لَهُ الْحَقُّ هُنَاكَ فَإِنَّهُ الْمَوْلَى عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَإِنْ مَاتَ عَبْدًا فَبِالْمِلْكِ وَإِنْ مَاتَ حُرًّا فَبِالْوَلَاءِ

وَأَمَّا إذَا كَانَتْ الْوَرَثَةُ أَرِقَّاءَ فِي الصُّورَةِ الْآتِيَةِ فَيَجِبُ الْقِصَاصُ لِلْمَوْلَى وَحْدَهُ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا كَمَا إذَا كَانَتْ الْوَرَثَةُ أَحْرَارًا؛ لِأَنَّهُ مَاتَ عَبْدًا

ص: 223

(وَإِنْ لَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً وَلَهُ وَرَثَةٌ أَحْرَارٌ وَجَبَ الْقِصَاصُ لِلْمَوْلَى فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا)؛ لِأَنَّهُ مَاتَ عَبْدًا بِلَا رَيْبٍ لِانْفِسَاخِ الْكِتَابَةِ، بِخِلَافِ مُعْتَقِ الْبَعْضِ إذَا مَاتَ وَلَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ فِي الْبَعْضِ لَا يَنْفَسِخُ بِالْعَجْزِ

(وَإِذَا قُتِلَ عَبْدُ الرَّهْنِ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ لَمْ يَجِبْ الْقِصَاصُ حَتَّى يَجْتَمِعَ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ)؛ لِأَنَّ الْمُرْتَهِنَ لَا مِلْكَ لَهُ فَلَا يَلِيهِ، وَالرَّاهِنُ لَوْ تَوَلَّاهُ لَبَطَل حَقُّ

فِي تِلْكَ الصُّورَةِ بِلَا رَيْبٍ

وَالتَّقْيِيدُ بِالْأَحْرَارِ يُشْعِرُ بِكَوْنِ الْحُكْمِ فِي الْأَرِقَّاءِ خِلَافَ ذَلِكَ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَفْهُومَ الْمُخَالَفَةِ مُعْتَبَرٌ عِنْدَنَا أَيْضًا فِي الرِّوَايَاتِ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ، فَالْأَحْسَنُ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْكَافِي حَيْثُ قَالَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ: وَلَوْ تَرَكَ وَفَاءً وَلَهُ وَارِثٌ حُرٌّ غَيْرُ الْمَوْلَى فَلَا قِصَاصَ وَقَالَ فِي الصُّورَةِ الْآتِيَةِ: فَإِنْ لَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً لَهُ وَرَثَةٌ أَحْرَارٌ أَوْ لَا وَجَبَ الْقِصَاصُ لِلْمَوْلَى عِنْدَهُمْ

فَإِنْ قُلْتَ: الرَّقِيقُ لَا يَكُونُ وَارِثًا؛ لِأَنَّ الرِّقَّ أَحَدُ الْأُمُورِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي تَمْنَعُ عَنْ الْإِرْثِ كَمَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْفَرَائِضِ فَلَا احْتِيَاجَ إلَى تَقْيِيدِ الْوَارِثِ بِالْحُرِّ بَلْ لَا وَجْهَ لَهُ لِإِشْعَارِهِ بِكَوْنِ الرَّقِيقِ أَيْضًا وَارِثًا

قُلْتُ: الْمُرَادُ بِالْوَارِثِ هُنَا مَنْ كَانَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَرِثَ، وَالرَّقِيقُ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَرِثُ عِنْدَ زَوَالِ الرِّقِّ عَنْهُ لَا مَنْ يَرِثُ بِالْفِعْلِ فَيَتَحَمَّلُ التَّقْيِيدَ بِالْحُرِّيَّةِ، وَإِلَّا يَلْزَمُ أَنْ لَا يَتِمَّ تَقْيِيدُ الْوَرَثَةِ بِالْأَحْرَارِ فِي الصُّورَةِ الْأَتِيَّةِ أَيْضًا مَعَ أَنَّهَا قُيِّدَتْ بِهَا فِي الْكِتَابِ بَلْ فِي أَصْلِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِلْإِمَامِ الرَّبَّانِيِّ (قَوْلُهُ وَإِنْ لَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً وَلَهُ وَرَثَةٌ أَحْرَارٌ وَجَبَ الْقِصَاصُ لِلْمَوْلَى فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَلَمْ يَذْكُرْ مَا إذَا مَاتَ وَلَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً، وَلَا وَارِثَ لَهُ أَوْ لَهُ وَرَثَةٌ أَرِقَّاءُ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ فِي ذِكْرِهِ؛ لِأَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ اهـ

أَقُولُ: هَذَا كَلَامٌ خَالٍ عَنْ التَّحْصِيلِ؛ لِأَنَّ كَوْنَ حُكْمِهِ حُكْمَ الْمَذْكُورِ لَا يَقْتَضِي عَدَمَ الْفَائِدَةِ فِي ذِكْرِهِ بَلْ يَكُونُ بَيَانَ كَوْنِ حُكْمِهِ حُكْمَ الْمَذْكُورِ عَيْنَ الْفَائِدَةِ فِي ذِكْرِهِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ أَكْثَرَ الْمَسَائِلِ الْمَذْكُورَةِ فِي أَبْوَابِ هَذَا الْكِتَابِ وَفُصُولِهِ مُتَّحِدَةُ الْأَحْكَامِ مَعَ أَنَّهُ لَا مَجَالَ لَأَنْ يُسْتَغْنَى بِذِكْرِ بَعْضِهَا عَنْ ذِكْرِ الْآخَرِ، عَلَى أَنَّ تَخْصِيصَ مَنْ لَهُ وَرَثَةٌ أَحْرَارٌ بِالذِّكْرِ يُشْعِرُ بِكَوْنِ الْحُكْمِ فِي غَيْرِ الْمَذْكُورِ خِلَافَ حُكْمِ الْمَذْكُورِ عَلَى قَاعِدَةِ كَوْنِ الْمَفْهُومِ مُعْتَبَرًا فِي الرِّوَايَاتِ كَمَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ شَيْءٍ يُفِيدُ كَوْنَ الْحُكْمِ فِي الْمَتْرُوكِ حُكْمَ الْمَذْكُورِ

فَالْوَجْهُ فِي الِاعْتِذَارِ عَنْ تَرْكِ ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: إنَّ حُكْمَ الْمَتْرُوكِ هَا هُنَا مَعْلُومٌ مِنْ حُكْمِ الْمَذْكُورِ بِالْأَوْلَوِيَّةِ عَلَى طَرِيقَةِ دَلَالَةِ النَّصِّ، فَإِنَّهُ إذَا وَجَبَ الْقِصَاصُ لِلْمَوْلَى وَحْدَهُ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا فِيمَا إذَا كَانَ لَهُ وَرَثَةٌ أَحْرَارٌ فَلَأَنْ يَجِبَ الْقِصَاصُ لِلْمَوْلَى وَحْدَهُ فِيمَا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ أَصْلًا أَوْ كَانَ لَهُ وَرَثَةٌ أَرِقَّاءُ أَوْلَى كَمَا لَا يَخْفَى (قَوْلُهُ بِخِلَافِ مُعْتَقِ الْبَعْضِ إذَا مَاتَ وَلَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ فِي الْبَعْضِ لَا يَنْفَسِخُ بِالْعَجْزِ) قَالَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ: قَالَ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ لِمُخْتَصَرِ الْكَرْخِيِّ: وَلَيْسَ هَذَا كَالْعَبْدِ الْمُعْتَقِ بَعْضُهُ إذَا مَاتَ عَاجِزًا؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ فِي الْمُنْتَقَى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنْ لَا قِصَاصَ؛ لِأَنَّ عَجْزَ الْمُكَاتَبِ يَنْفَسِخُ بِهِ الْكِتَابَةُ فَكَأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ، وَمَوْتُ الْمُعْتَقِ لَمْ يَنْفَسِخْ بِهِ عِتْقُهُ فَالْمَوْلَى يَسْتَحِقُّ الْقِصَاصَ فِي بَعْضِهِ بِالْوَلَاءِ، وَفِي بَعْضِهِ بِالْمِلْكِ فَلَا يَثْبُتُ لَهُ الِاسْتِحْقَاقُ بِسَبَبَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ اهـ

أَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ، قَدْ مَرَّ مِنْ قِبَلِ أَنَّ أَصْلَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ هُوَ أَنَّ اخْتِلَافَ السَّبَبِ الَّذِي لَا يُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ وَلَا إلَى اخْتِلَافِ الْحُكْمِ لَا يُبَالَى بِهِ، وَلِهَذَا كَانَ لِلْمَوْلَى الْقِصَاصُ عِنْدَهُمَا فِيمَا إذَا قُتِلَ الْمُكَاتَبُ عَمْدًا وَلَيْسَ لَهُ وَارِثٌ سِوَى الْمَوْلَى وَتَرَكَ وَفَاءً فَكَيْفَ يَتِمُّ تَعْلِيلُ عَدَمِ وُجُوبِ الْقِصَاصِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي مَسْأَلَةِ مُعْتَقِ الْبَعْضِ إذَا مَاتَ عَاجِزًا بِأَنَّ الْمَوْلَى يَسْتَحِقُّ الْقِصَاصَ فِي بَعْضِهِ بِالْوَلَاءِ وَفِي بَعْضِهِ بِالْمِلْكِ فَلَا يَثْبُتُ لَهُ الِاسْتِحْقَاقُ بِسَبَبَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ؛ إذْ لَا إفْضَاءَ إلَى الْمُنَازَعَةِ عَلَى مُقْتَضَى هَذَا التَّعْلِيلِ وَلَا إلَى اخْتِلَافِ الْحُكْمِ فَمِنْ أَيْنَ لَا يَثْبُتُ لَهُ الِاسْتِحْقَاقُ عِنْدَهُ بِمُجَرَّدِ اخْتِلَافِ السَّبَبِ؟ ثُمَّ أَقُولُ: لَعَلَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ بِخِلَافِ مُعْتَقِ

ص: 224

الْمُرْتَهِنِ فِي الدَّيْنِ فَيُشْتَرَطُ اجْتِمَاعُهُمَا لِيَسْقُطَ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ بِرِضَاهُ

قَالَ (وَإِذَا قُتِلَ وَلِيُّ الْمَعْتُوهِ فَلِأَبِيهِ أَنْ يَقْتُلَ)؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْوِلَايَةِ عَلَى النَّفْسِ شُرِعَ لِأَمْرٍ رَاجِعٍ إلَيْهَا وَهُوَ تَشَفِّي الصَّدْرِ فَيَلِيهِ كَالْإِنْكَاحِ

الْبَعْضِ إذَا مَاتَ وَلَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً مَا إذَا كَانَ لَهُ وَارِثٌ غَيْرُ الْمَوْلَى، يَرْشُدُ إلَيْهِ ذِكْرُ مُخَالَفَةِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي حَيِّزِ قَوْلِهِ وَإِنْ لَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً، وَلَهُ وَرَثَةٌ أَحْرَارٌ إلَخْ فَحِينَئِذٍ يَصِحُّ تَتْمِيمُ مَا أَجْمَلَهُ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِهِ بِقَوْلِهِ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ فِي الْبَعْضِ لَا يَنْفَسِخُ بِالْعَجْزِ بِأَنْ يُقَالَ: فَالْمَوْلَى يَسْتَحِقُّ الْقِصَاصَ فِي الْبَعْضِ الْمَمْلُوكِ بِالْمِلْكِ، وَالْوَارِثُ يَسْتَحِقُّهُ فِي الْبَعْضِ الْمُعْتَقِ بِالْإِرْثِ فَيَكُونُ السَّبَبَانِ رَاجِعَيْنِ إلَى الشَّخْصَيْنِ فَيُبَالَى بِاخْتِلَافِهِمَا لِلْإِفْضَاءِ إلَى الْمُنَازَعَةِ تَأَمَّلْ تَقِفْ

(قَوْلُهُ وَإِذَا قُتِلَ وَلِيُّ الْمَعْتُوهِ فَلِأَبِيهِ أَنْ يَقْتُلَ) يَعْنِي إذَا قُتِلَ قَرِيبُ الْمَعْتُوهِ فَلِأَبِي الْمَعْتُوهِ أَنْ يَقْتُلَ: أَيْ لَهُ وِلَايَةُ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ مِنْ الْقَاتِلِ

قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: وَإِذَا قُتِلَ وَلِيُّ الْمَعْتُوهِ يَعْنِي ابْنَهُ فَلِأَبِيهِ وَهُوَ جَدُّ الْمَقْتُولِ الِاسْتِيفَاءُ

أَقُولُ: هَذَا تَقْصِيرٌ فِي بَيَانِ الْمَسْأَلَةِ، فَإِنَّ مَنْ كَانَ الْقِصَاصُ لَهُ حَقُّ الْمَعْتُوهِ دُونَ أَبِيهِ غَيْرَ مُنْحَصِرٍ فِي ابْنِ الْمَعْتُوهِ بَلْ يَعُمُّ ابْنَهُ وَغَيْرَهُ كَأَخِيهِ وَأُخْتِهِ لِأُمٍّ مِنْ غَيْرِ أَبِيهِ وَكَأُمِّهِ الْمُطَلَّقَةِ مِنْ أَبِيهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ

وَعِبَارَةُ الْكِتَابِ تَتَحَمَّلُ التَّعْمِيمَ، فَإِنَّ وَلِيَّ الْمَعْتُوهِ بِمَعْنَى قَرِيبِهِ يَعُمُّ الْكُلَّ فَمَا مَعْنَى تَخْصِيصِ الْمَسْأَلَةِ مَعَ عُمُومِ جَوَابِهَا

وَصَاحِبُ النِّهَايَةِ أَصَابَ فِي تَفْسِيرِ وَلِيِّ الْمَعْتُوهِ، وَلَكِنْ أَفْسَدَ بَعْدَهُ حَيْثُ قَالَ: وَإِذَا قَتَلَ وَلِيٌّ الْمَعْتُوهَ أَيْ قَرِيبُهُ وَهُوَ ابْنُهُ: يَعْنِي إذَا كَانَ لِلْمَعْتُوهِ ابْنٌ فَقُتِلَ ابْنُهُ فَلِأَبِي الْمَعْتُوهِ وَهُوَ جَدُّ الْمَقْتُولِ وِلَايَةُ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ اهـ

وَاقْتَفَى أَثَرَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ الشُّرَّاحِ، وَالْحَقُّ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ التَّعْمِيمِ، وَغَايَةُ مَا يُمْكِنُ فِي تَوْجِيهِ كَلَامِهِمْ أَنْ يُحْمَلَ مَا ذَكَرُوهُ عَلَى التَّمْثِيلِ دُونَ التَّخْصِيصِ (قَوْلُهُ: لِأَنَّهُ مِنْ الْوِلَايَةِ عَلَى النَّفْسِ شُرِعَ لِأَمْرٍ رَاجِعٍ إلَيْهَا وَهُوَ تَشَفِّي الصَّدْرِ فَيَلِيهِ كَالْإِنْكَاحِ) قَالَ صَاحِبُ الْغَايَةِ: قَالَ بَعْضُ الشَّارِحِينَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: كُلُّ مَنْ مَلَكَ الْإِنْكَاحَ لَا يَمْلِكُ اسْتِيفَاءَ الْقِصَاصِ، فَإِنَّ الْأَخَ يَمْلِكُ الْإِنْكَاحَ وَلَا يَمْلِكُ اسْتِيفَاءَ الْقِصَاصِ

فَأَقُولُ: لَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ الْأَخَ يَمْلِكُ اسْتِيفَاءَ الْقِصَاصِ إذَا لَمْ يَكُنْ ثَمَّةَ مَنْ هُوَ أَقْرَبُ مِنْهُ كَالْأَبِ وَالِابْنِ، وَكَذَلِكَ يَمْلِكُ الْإِنْكَاحَ إذَا لَمْ يَكُنْ ثَمَّةَ وَلِيٌّ أَقْرَبُ مِنْهُ، فَإِذَا كَانَ ثَمَّةَ أَقْرَبُ مِنْهُ فَلَا يَمْلِكُ الْإِنْكَاحَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ مَنْ يَسْتَحِقُّ الدَّمَ هُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ مَالَ الْمَقْتُولِ عَلَى فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ حَتَّى الزَّوْجُ وَالزَّوْجَةُ، وَبِهِ صَرَّحَ الْكَرْخِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ، إلَى هُنَا لَفْظُ الْغَايَةِ

أَقُولُ: مَا نَسَبَهُ إلَى بَعْضِ الشَّارِحِينَ قَوْلُ كُلِّ الشَّارِحِينَ سِوَاهُ، وَرَدُّهُ عَلَيْهِمْ مَرْدُودٌ، فَإِنَّهُ نَاشِئٌ مِنْ عَدَمِ فَهْمِ مَعْنَى الْمَقَامِ وَمُرَادِ الشُّرَّاحِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْمَقَامِ أَنَّهُ إذَا قُتِلَ أَحَدٌ مِمَّنْ كَانَ الْقِصَاصُ لَهُ حَقُّ الْمَعْتُوهِ دُونَ حَقِّ غَيْرِهِ كَانَ لِأَبِي الْمَعْتُوهِ وِلَايَةُ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ مِنْ الْقَاتِلِ نِيَابَةً عَنْ الْمَعْتُوهِ كَمَا لَهُ وِلَايَةُ إنْكَاحِ الْمَعْتُوهِ وَالصَّبِيِّ، وَمُرَادُ الشُّرَّاحِ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنْ لَيْسَ كُلُّ مَنْ يَمْلِكُ إنْكَاحَ الْغَيْرِ يَمْلِكُ اسْتِيفَاءَ الْقِصَاصِ مِنْ قِبَلِ الْغَيْرِ، فَإِنَّ الْأَخَ مَثَلًا يَمْلِكُ إنْكَاحَ الْمَعْتُوهِ وَالصَّبِيِّ وَلَا يَمْلِكُ اسْتِيفَاءَ الْقِصَاصِ مِنْ قِبَلِهِمَا، بِخِلَافِ الْأَبِ فَإِنَّهُ يَمْلِكُهُمَا مَعًا

وَبَيَّنُوا وَجْهَ الْفَرْقِ بِأَنَّ الْقِصَاصَ شُرِعَ لِلتَّشَفِّي وَلِلْأَبِ شَفَقَةٌ كَامِلَةٌ، يُعَدُّ ضَرَرُ الْوَلَدِ ضَرَرَ نَفْسِهِ فَجُعِلَ مَا يَحْصُلُ لَهُ مِنْ التَّشَفِّي كَالْحَاصِلِ لِلِابْنِ، بِخِلَافِ الْأَخِ، فَقَوْلُ صَاحِبِ الْغَايَةِ: لِأَنَّ الْأَخَ يَمْلِكُ اسْتِيفَاءَ الْقِصَاصِ إذَا لَمْ يَكُنْ ثَمَّةَ مَنْ هُوَ أَقْرَبُ مِنْهُ كَالْأَبِ وَالِابْنِ إنْ أَرَادَ بِهِ أَنْ يَمْلِكَ ذَلِكَ بِاسْتِحْقَاقِهِ إيَّاهُ بِنَفْسِهِ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ تَعْلِيلِهِ بِقَوْلِهِ: لِأَنَّ مَنْ يَسْتَحِقُّ الدَّمَ هُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ مَالَ الْمَقْتُولِ عَلَى فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ مُسَلَّمٌ، وَلَكِنْ لَا مِسَاسَ لَهُ بِالْمَقَامِ وَلَا بِمَا قَالَهُ الشُّرَّاحُ، فَإِنَّ الْكَلَامَ هَا هُنَا فِي وِلَايَةِ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ نِيَابَةً بِدُونِ أَنْ يَسْتَحِقَّ الْقِصَاصَ بِنَفْسِهِ أَصَالَةً، وَهُوَ مَعْنَى الْمَسْأَلَةِ الَّتِي نَحْنُ فِيهَا كَمَا يُفْصِحُ عَنْهُ جِدًّا عِبَارَةُ الْمُحِيطِ الْبُرْهَانِيِّ فَإِنَّهُ قَالَ فِيهِ: وَإِذَا وَجَبَ الْقِصَاصُ لِصَغِيرٍ أَوْ مَعْتُوهٍ فِي النَّفْسِ أَوْ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ وَلَهُ أَبٌ وَلَا حَقَّ لِلْأَبِ فِي هَذَا الْقِصَاصِ فَإِنَّ الْأَبَ يَمْلِكُ اسْتِيفَاءَهُ عِنْدَ عُلَمَائِنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ اهـ

وَإِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ الْأَخَ يَمْلِكُ ذَلِكَ نِيَابَةً عَنْ الْغَيْرِ أَيْضًا، وَإِنْ لَمْ يَسْتَحِقَّهُ بِنَفْسِهِ أَصَالَةً فَهُوَ مَمْنُوعٌ جِدًّا، وَلَمْ أَرَ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ أَنَّ أَحَدًا ذَهَبَ إلَيْهِ وَقَالَ بِهِ

وَالدَّلِيلُ الَّذِي ذَكَرُوهُ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْأَبِ

ص: 225

(وَلَهُ أَنْ يُصَالِحَ)؛ لِأَنَّهُ أَنْظَرُ فِي حَقِّ الْمَعْتُوهِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْفُوَ؛ لِأَنَّ فِيهِ إبْطَالَ حَقِّهِ (وَكَذَلِكَ إنْ قُطِعَتْ يَدُ الْمَعْتُوهِ عَمْدًا) لِمَا ذَكَرْنَا (وَالْوَصِيُّ بِمَنْزِلَةِ الْأَبِ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ إلَّا أَنَّهُ لَا يَقْتُلُ)؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ وِلَايَةٌ عَلَى نَفْسِهِ وَهَذَا مِنْ قَبِيلِهِ، وَيَنْدَرِجُ تَحْتَ هَذَا الْإِطْلَاقِ الصُّلْحُ عَنْ النَّفْسِ وَاسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ فِي الطَّرَفِ فَإِنَّهُ لَمْ يُسْتَثْنَ إلَّا الْقَتْلُ

وَفِي كِتَابِ الصُّلْحِ أَنَّ الْوَصِيَّ لَا يَمْلِكُ الصُّلْحَ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي النَّفْسِ بِالِاعْتِيَاضِ عَنْهُ فَيَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الِاسْتِيفَاءِ

وَوَجْهُ الْمَذْكُورِ هَا هُنَا

وَغَيْرِهِ هُنَا يَقْتَضِي خِلَافَ ذَلِكَ قَطْعًا (قَوْلُهُ: وَلَهُ أَنْ يُصَالِحَ؛ لِأَنَّهُ أَنْظَرُ فِي حَقِّ الْمَعْتُوهِ) قَالَ جُمْهُورُ الشُّرَّاحِ: هَذَا فِيمَا إذَا صَالَحَ عَلَى قَدْرِ الدِّيَةِ

أَمَّا إذَا صَالَحَ عَلَى أَقَلَّ مِنْ الدِّيَةِ لَمْ يَجُزْ الْحَطُّ وَإِنْ قَلَّ وَيَجِبُ كَمَالُ الدِّيَةِ اهـ

وَكَذَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ الزَّيْلَعِيُّ فِي شَرْحِ الْكَنْزِ

وَقَالَ صَاحِبُ الْغَايَةِ: قَالَ بَعْضُهُمْ فِي شَرْحِهِ: هَذَا إذَا صَالَحَ عَلَى مِثْلِ الدِّيَةِ، أَمَّا إذَا صَالَحَ عَلَى أَقَلَّ مِنْ الدِّيَةِ لَمْ يَجُزْ الْحَطُّ وَإِنْ قَلَّ وَيَجِبُ كَمَالُ الدِّيَةِ

وَلَنَا فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ لَفْظَ مُحَمَّدٍ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ مُطْلَقٌ حَيْثُ جَوَّزَ صُلْحَ أَبِي الْمَعْتُوهِ عَنْ دَمِ قَرِيبِهِ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّهُ قَالَ: وَلَهُ أَنْ يُصَالِحَ مِنْ غَيْرِ قَيْدٍ بِقَدْرِ الدِّيَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ الصُّلْحُ عَلَى أَقَلَّ مِنْ قَدْرِ الدِّيَةِ عَمَلًا بِإِطْلَاقِهِ، وَإِنَّمَا جَازَ صُلْحُهُ عَلَى الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ أَنْفَعُ لِلْمَعْتُوهِ مِنْ الْقِصَاصِ، فَإِذَا جَازَ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ فَالصُّلْحُ أَوْلَى، وَالنَّفْعُ يَحْصُلُ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ؛ أَلَا يَرَى أَنَّ الْكَرْخِيَّ قَالَ فِي مُخْتَصَرِهِ: وَإِذَا وَجَبَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ قِصَاصٌ فِي نَفْسٍ أَوْ فِيمَا دُونَهَا فَصَالَحَ صَاحِبَ الْحَقِّ مِنْ ذَلِكَ عَلَى مَالٍ فَذَلِكَ جَائِزٌ قَلِيلًا كَانَ الْمَالُ أَوْ كَثِيرًا كَانَ ذَلِكَ دُونَ دِيَةِ النَّفْسِ أَوْ أَرْشِ الْجِرَاحَةِ أَوْ أَكْثَرَ، إلَى هُنَا لَفْظُهُ

أَقُولُ: نَظَرُهُ سَاقِطٌ، فَإِنَّ لِأَصْحَابِ التَّخْرِيجِ مِنْ الْمَشَايِخِ صَرْفَ إطْلَاقِ كَلَامِ الْمُجْتَهِدِ إلَى التَّقْيِيدِ إذَا اقْتَضَاهُ الْفِقْهُ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ، وَلَهُ نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ فِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ هَا هُنَا كَذَلِكَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الشُّرَّاحَ أَخَذُوا التَّقْيِيدَ هُنَا مِنْ كَلَامِ مَشَايِخِنَا الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ أَصْحَابِ التَّخْرِيجِ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَصِلَ بَعْضٌ مَنْ أَنْفَسِ الشُّرَّاحِ أَيْضًا إلَى تِلْكَ الرُّتْبَةِ، فَلَا يَقْدَحُ فِيمَا قَالُوا إطْلَاقُ ظَاهِرِ لَفْظِ مُحَمَّدٍ رحمه الله فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ

ثُمَّ إنَّ قَوْلَهُ: وَإِنَّمَا جَازَ صُلْحُهُ عَلَى الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ أَنْفَعُ لِلْمَعْتُوهِ مِنْ الْقِصَاصِ مُسَلَّمٌ

وَقَوْلُهُ: وَالنَّفْعُ يَحْصُلُ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ مَمْنُوعٌ، فَإِنَّ فِي الْقِصَاصِ تَشَفِّيَ الصَّدْرِ وَمَا دُونَ الدِّيَةِ فِي مُقَابَلَةِ تَشَفِّي الصَّدْرِ لَا يُعَدُّ نَفْعًا عُرْفًا، وَوِلَايَةُ الْأَبِ لِلْمَعْتُوهِ نَظَرِيَّةٌ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ تَصَرُّفُهُ فِي حَقِّ الْمَعْتُوهِ مِنْ قَبِيلِ مَا يُعَدُّ نَفْعًا عُرْفًا وَعَادَةً

وَأَمَّا تَنْوِيرُهُ بِمَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ جِدًّا، فَإِنَّ الَّذِي نَقَلَهُ عَنْ مُخْتَصَرِ الْكَرْخِيِّ مَا إذَا كَانَ الْمُصَالِحُ صَاحِبَ حَقِّ الْقِصَاصِ بِنَفْسِهِ، وَصُلْحُ صَاحِبِ الْحَقِّ عَنْ حَقِّهِ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ الْمَالِ وَقَلِيلِهِ جَائِزٌ بِلَا رَيْبٍ؛ إذْ لَهُ إسْقَاطُ حَقِّهِ بِالْكُلِّيَّةِ بِلَا أَخْذِ عِوَضٍ عَنْهُ أَصْلًا فَتَرْكُهُ بِمُقَابَلَةِ مَالٍ وَإِنْ قَلَّ أَوْلَى بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ فَإِنَّ الْمُصَالِحَ هُنَا وَلِيُّ صَاحِبِ حَقِّ الْقِصَاصِ، وَهُوَ أَبُوهُ لَا نَفْسُ صَاحِبِ الْحَقِّ وَهُوَ الْمَعْتُوهُ فَلَا بُدَّ فِي تَصَرُّفِهِ مِنْ

ص: 226

أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الصُّلْحِ الْمَالُ وَأَنَّهُ يَجِبُ بِعَقْدِهِ كَمَا يَجِبُ بِعَقْدِ الْأَبِ بِخِلَافِ الْقِصَاصِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ التَّشَفِّي وَهُوَ مُخْتَصٌّ بِالْأَبِ وَلَا يَمْلِكُ الْعَفْوَ؛ لِأَنَّ الْأَبَ لَا يَمْلِكُهُ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِبْطَالِ فَهُوَ أَوْلَى

وَقَالُوا الْقِيَاسُ أَلَّا يَمْلِكَ الْوَصِيُّ الِاسْتِيفَاءَ فِي الطَّرَفِ كَمَا لَا يَمْلِكُهُ فِي النَّفْسِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مُتَّحِدٌ وَهُوَ التَّشَفِّي

وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَمْلِكُهُ؛ لِأَنَّ الْأَطْرَافَ يُسْلَكُ بِهَا مَسْلَكَ الْأَمْوَالِ فَإِنَّهَا خُلِقَتْ وِقَايَةً لِلْأَنْفُسِ كَالْمَالِ عَلَى مَا عُرِفَ فَكَانَ اسْتِيفَاؤُهُ بِمَنْزِلَةِ التَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ، وَالصَّبِيُّ بِمَنْزِلَةِ الْمَعْتُوهِ فِي هَذَا، وَالْقَاضِي بِمَنْزِلَةِ الْأَبِ فِي الصَّحِيحِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ قُتِلَ وَلَا وَلِيَّ لَهُ يَسْتَوْفِهِ السُّلْطَانُ، وَالْقَاضِي بِمَنْزِلَتِهِ فِيهِ

قَالَ (وَمَنْ قُتِلَ وَلَهُ أَوْلِيَاءٌ صِغَارٌ وَكِبَارٌ فَلِلْكِبَارِ أَنْ يَقْتُلُوا الْقَاتِلَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَا لَيْسَ لَهُمْ ذَلِكَ حَتَّى يُدْرِكَ الصِّغَارُ)؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمْ وَلَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ

النَّظَرِ لِمَنْ لَهُ الْحَقُّ لِكَوْنِ وِلَايَتِهِ نَظَرِيَّةً وَبِالْجُمْلَةِ مَدَارُ كَلَامِهِ هَذَا أَيْضًا عَدَمُ الْفَرْقِ بَيْنَ التَّصَرُّفِ لِنَفْسِهِ أَصَالَةً وَبَيْنَ التَّصَرُّفِ لِغَيْرِهِ نِيَابَةً

ثُمَّ أَقُولُ: بَقِيَ شَيْءٌ فِي أَصْلِ الدَّلِيلِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ: لِأَنَّهُ أَنْظَرُ فِي حَقِّ الْمَعْتُوهِ مِنْ الْقِصَاصِ وَهُوَ أَنَّ الصُّلْحَ عَلَى مَالٍ إذَا كَانَ أَنْظَرَ فِي حَقِّ الْمَعْتُوهِ مِنْ الْقِصَاصِ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَمْلِكَ الْأَبُ اسْتِيفَاءَ الْقِصَاصِ مِنْ قِبَلِ الْمَعْتُوهِ عِنْدَ إمْكَانِ الْمُصَالَحَةِ عَلَى الْمَالِ؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْأَبِ عَلَى الْمَعْتُوهِ لَمَّا كَانَتْ نَظَرِيَّةً كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُرَاعِيَ مَا هُوَ الْأَنْظَرُ لَهُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ كَوْنَ الْوِلَايَةِ نَظَرِيَّةً لَا يَسْتَدْعِي وُجُوبَ الْعَمَلِ بِمَا هُوَ الْأَنْظَرُ؛ لِأَنَّ فِي خِلَافِهِ أَيْضًا حُصُولَ أَصْلِ النَّظَرِ، بَلْ إنَّمَا يَقْتَضِي أَوْلَوِيَّةَ الْعَمَلِ بِذَلِكَ، وَلَمْ يَنْفِ أَحَدٌ أَوْلَوِيَّةَ الْمُصَالَحَةِ عَلَى الْمَالِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ، عَلَى أَنَّ كَوْنَ الْمُصَالَحَةِ أَنْظَرَ فِي حَقِّ الْمَعْتُوهِ مِنْ الْقِصَاصِ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ مَمْنُوعٌ، وَدَلَالَةُ عِبَارَةِ الْكِتَابِ عَلَيْهِ أَيْضًا مَمْنُوعَةٌ، فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْمُصَالَحَةُ أَنْظَرَ فِي حَقِّهِ مِنْ وَجْهٍ، وَهُوَ حُصُولُ مَنْفَعَةِ الْمَالِ لَهُ، وَيَكُونُ الْقِصَاصُ أَنْظَرَ لَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَهُوَ دَفْعُ سَبَبِ الْهَلَاكِ عَنْ نَفْسِهِ، فَإِنَّهُمْ صَرَّحُوا بِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْقِصَاصِ تَشَفِّي الصَّدْرِ أَوْ دَفْعُ سَبَبِ الْهَلَاكِ عَنْ نَفْسِ وَلِيِّ الْمَقْتُولِ كَمَا أُشِيرَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} فَحِينَئِذٍ لَا يَلْزَمُ أَوْلَوِيَّةُ الْعَمَلِ بِالْمُصَالَحَةِ رَأْسًا فَضْلًا عَنْ وُجُوبِهِ

(قَوْلُهُ: وَمَنْ قُتِلَ وَلَهُ أَوْلِيَاءٌ صِغَارٌ وَكِبَارٌ) قَالَ صَاحِبَا النِّهَايَةِ وَالْكِفَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَحَلِّ بِأَنْ كَانَ لِلْمَقْتُولِ أَخَوَانِ أَحَدُهُمَا صَغِيرٌ وَالْآخَرُ كَبِيرٌ

أَقُولُ: هَذَا الشَّرْحُ لَا يُطَابِقُ عِبَارَةَ الْمَشْرُوحِ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الْأَوْلِيَاءِ فِي الْمَشْرُوحِ صِيغَةُ الْجَمْعِ، وَكَذَا لَفْظُ الصِّغَارِ وَالْكِبَارِ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ تَصْوِيرُ مَعْنَى الْمَشْرُوحِ بِأَنْ كَانَ لِلْمَقْتُولِ أَخَوَانِ أَحَدُهُمَا صَغِيرًا وَالْآخَرُ كَبِيرًا وَلَا يُسَاعِدُهُ لَفْظُ الْأَوْلِيَاءِ فَضْلًا عَنْ لَفْظَيْ الصِّغَارِ وَالْكِبَارِ

وَالظَّاهِرُ فِي التَّصْوِيرِ أَنْ يُقَالَ بِأَنْ كَانَ لِلْمَقْتُولِ إخْوَةٌ بَعْضُهُمْ صِغَارٌ وَبَعْضُهُمْ كِبَارٌ، وَغَايَةُ مَا يُمْكِنُ فِي تَوْجِيهِ كَلَامِ ذَيْنِك الشَّارِحَيْنِ أَنْ يُقَالَ: لَيْسَ مَقْصُودُهُمَا

ص: 227

الْبَعْضِ لِعَدَمِ التَّجَزِّي، وَفِي اسْتِيفَائِهِمْ الْكُلَّ إبْطَالُ حَقِّ الصِّغَارِ فَيُؤَخَّرُ إلَى إدْرَاكِهِمْ كَمَا إذَا كَانَ بَيْنَ الْكَبِيرَيْنِ وَأَحَدُهُمَا غَائِبٌ أَوْ كَانَ بَيْنَ الْمَوْلَيَيْنِ

وَلَهُ أَنَّهُ حَقٌّ لَا يَتَجَزَّأُ لِثُبُوتِهِ بِسَبَبٍ لَا يَتَجَزَّأُ وَهُوَ الْقَرَابَةُ، وَاحْتِمَالُ الْعَفْوِ مِنْ الصَّغِيرِ مُنْقَطِعٌ فَيَثْبُتُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَمَلًا كَمَا فِي وِلَايَةِ الْإِنْكَاحِ، بِخِلَافِ الْكَبِيرَيْنِ؛ لِأَنَّ احْتِمَالَ الْعَفْوِ مِنْ الْغَائِبِ ثَابِتٌ وَمَسْأَلَةُ الْمَوْلَيَيْنِ مَمْنُوعَةٌ

قَالَ (وَمَنْ ضَرَبَ رَجُلًا بِمَرٍّ فَقَتَلَهُ، فَإِنْ أَصَابَهُ بِالْحَدِيدِ قُتِلَ بِهِ وَإِنْ أَصَابَهُ

شَرْحَ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ عَلَى وَفْقِ عَيْنِ عِبَارَتِهِ، بَلْ مَقْصُودُهُمَا مُجَرَّدُ تَصْوِيرِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى وَجْهٍ يَتَضَمَّنُ الْإِشَارَةَ إلَّا أَنَّهُ لَا احْتِيَاجَ فِي تَحَقُّقِ مَادَّةِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إلَى تَحَقُّقِ مَعْنَى الْجَمْعِيَّةِ لَا فِي جَانِبِ الصَّغِيرِ وَلَا فِي جَانِبِ الْكَبِيرِ بَلْ وَلَا فِي مَجْمُوعِ الْجَانِبَيْنِ أَيْضًا (قَوْلُهُ كَمَا إذَا كَانَ بَيْنَ الْكَبِيرَيْنِ، وَأَحَدُهُمَا غَائِبٌ أَوْ كَانَ بَيْنَ الْمَوْلَيَيْنِ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ فِي شَرْحِ قَوْلِهِ: أَوْ كَانَ بَيْنَ الْمَوْلَيَيْنِ: أَيْ وَأَحَدُهُمَا غَائِبٌ، وَاقْتَفَى أَثَرَهُ صَاحِبُ مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ كَمَا هُوَ دَأْبُهُ فِي أَكْثَرِ الْمَحَالِّ

أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا بِشَرْحٍ صَحِيحٍ عِنْدِي؛ إذْ لَوْ كَانَ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ هَذَا الْمَعْنَى لَكَانَ ذِكْرُ قَوْلِهِ أَوْ كَانَ بَيْنَ الْمَوْلَيَيْنِ مُسْتَدْرَكًا مَحْضًا إذْ يَتَنَاوَلُهُ حِينَئِذٍ قَوْلُهُ كَمَا إذَا كَانَ بَيْنَ الْكَبِيرَيْنِ وَأَحَدُهُمَا غَائِبٌ فَيَسْتَغْنِي عَنْ قَوْلِهِ أَوْ كَانَ بَيْنَ الْمَوْلَيَيْنِ

وَأَيْضًا لَوْ كَانَ مُرَادُهُ ذَلِكَ لَمَا قَدَّمَ قَوْلَهُ وَأَحَدُهُمَا غَائِبٌ عَلَى قَوْلِهِ أَوْ كَانَ بَيْنَ الْمَوْلَيَيْنِ بَلْ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُؤَخِّرَ قَوْلَهُ: وَأَحَدُهُمَا غَائِبٌ عَنْ ذَلِكَ لِيَتَعَلَّقَ بِمَجْمُوعِ الْقَوْلَيْنِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى التَّقْدِيرِ فِي الثَّانِي، وَالصَّوَابُ فِي شَرْحِ قَوْلِهِ أَوْ كَانَ بَيْنَ الْمَوْلَيَيْنِ أَنْ يُقَالَ: أَيْ وَأَحَدُهُمَا صَغِيرٌ؛ إذْ لَا يَلْزَمُ حِينَئِذٍ شَيْءٌ مِنْ الْمَحْذُورَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ بَلْ يَكُونُ كُلٌّ مِنْ قَوْلَيْهِ الْمَزْبُورَيْنِ إشَارَةً إلَى مَسْأَلَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ مُغَايِرَةٍ لِلْأُخْرَى، وَيُوَافِقُهُ صَرِيحُ مَا ذُكِرَ فِي الْمَبْسُوطِ فَإِنَّهُ قَالَ فِيهِ فِي بَابِ الْوَكَالَةِ بِالدَّمِ مِنْ الدِّيَاتِ:

صُورَةٌ

مَسْأَلَةُ الْمَوْلَيَيْنِ فِيمَا إذَا كَانَ الْعَبْدُ مُشْتَرَكًا بَيْنَ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ فَقُتِلَ الْعَبْدُ لَيْسَ لِلْكَبِيرِ وِلَايَةُ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَ الصَّغِيرُ بِالِاتِّفَاقِ اهـ تَبَصَّرْ (قَوْلُهُ وَلَهُ أَنَّهُ حَقٌّ لَا يَتَجَزَّأُ لِثُبُوتِهِ بِسَبَبٍ لَا يَتَجَزَّأُ وَهُوَ الْقَرَابَةُ)

أَقُولُ: فِي تَمَامِ الِاسْتِدْلَالِ بِعَدَمِ تَجَزُّؤِ سَبَبِ الْقِصَاصِ وَهُوَ الْقَرَابَةُ عَلَى عَدَمِ تَجَزُّؤِ الْقِصَاصِ نَفْسِهِ خَفَاءٌ، فَإِنَّ الْعَقْلَ لَا يَجِدُ مَحْذُورًا فِي كَوْنِ السَّبَبِ بَسِيطًا وَالْمُسَبَّبِ مُرَكَّبًا، كَيْفَ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْقَرَابَةَ الَّتِي لَا تَتَجَزَّأُ كَمَا أَنَّهَا سَبَبٌ لِاسْتِحْقَاقِ وَلِيِّ الْقَتِيلِ الْقِصَاصَ فِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ كَذَلِكَ هِيَ سَبَبٌ أَيْضًا لِاسْتِحْقَاقِهِ الدِّيَةَ فِي الْقَتْلِ الْخَطَإِ، مَعَ أَنَّهُ لَا شَكَّ أَنَّ الدِّيَةَ تَتَجَزَّأُ؛ لِأَنَّهَا مَالٌ وَالْمَالُ مُنَجَّزٌ بِلَا رَيْبٍ

فَالْأَظْهَرُ فِي بَيَانِ كَوْنِ الْقِصَاصِ حَقًّا لَا يَتَجَزَّأُ مَا ذُكِرَ فِي الْكَافِي وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ أَثْنَاءَ تَقْرِيرِ دَلِيلِ الْإِمَامَيْنِ، وَهُوَ أَنَّ الْقَتْلَ غَيْرُ مُنَجَّزٍ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي الرُّوحِ وَذَا لَا يَقْبَلُ التَّجَزُّؤَ

ثُمَّ إنَّ بَعْضَ الْفُضَلَاءِ طَعَنَ فِي قَوْلِهِمْ هُنَا إنَّ سَبَبَ الْقِصَاصِ هُوَ الْقَرَابَةُ حَيْثُ قَالَ: كَيْفَ يَكُونُ سَبَبُهُ الْقَرَابَةَ وَهُوَ يَثْبُتُ لِلزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ اهـ

أَقُولُ: نَعَمْ يَثْبُتُ لِلزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ بَلْ لِلْمُعْتَقِ وَالْمُعْتَقَةِ أَيْضًا كَمَا صَرَّحُوا بِهِ أَنَّ السَّبَبَ فِي الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ هُوَ الزَّوْجِيَّةُ، وَفِي الْمُعْتَقِ وَالْمُعْتَقَةِ هُوَ الْوَلَاءُ دُونَ الْقَرَابَةِ، إلَّا أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ قَوْلَهُمْ هَا هُنَا وَهُوَ الْقَرَابَةُ إمَّا بِنَاءً عَلَى التَّغْلِيبِ لِكَوْنِ أَوْلِيَاءِ الْقَتِيلِ فِي الْأَكْثَرِ قَرَائِبَهُ، وَإِمَّا بِنَاءً عَلَى أَنَّهُمْ أَرَادُوا بِالْقَرَابَةِ هُنَا الِاتِّصَالَ الْمُوجِبَ لِلْإِرْثِ دُونَ حَقِيقَةِ الْقَرَابَةِ فَيَعُمُّ الْكُلَّ (قَوْلُهُ: وَاحْتِمَالُ الْعَفْوِ مِنْ الصَّغِيرِ مُنْقَطِعٌ فَيَثْبُتُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَمَلًا كَمَا فِي وِلَايَةِ الْإِنْكَاحِ) قَالَ الشُّرَّاحُ: وَجْهُ أَبِي حَنِيفَةَ مَبْنِيٌّ عَلَى ثُبُوتِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الصِّغَارِ وَالْكِبَارِ الْغُيَّبِ مِنْ حَيْثُ

ص: 228

بِالْعُودِ فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ) قَالَ رضي الله عنه: وَهَذَا إذَا أَصَابَهُ بِحَدِّ الْحَدِيدِ لِوُجُودِ الْجُرْحِ فَكَمُلَ السَّبَبُ، وَإِنْ أَصَابَهُ بِظَهْرِ الْحَدِيدِ فَعِنْدَهُمَا يَجِبُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ اعْتِبَارًا مِنْهُ لِلْآلَةِ، وَهُوَ الْحَدِيدُ

وَعَنْهُ إنَّمَا يَجِبُ إذَا جَرَحَ، وَهُوَ الْأَصَحُّ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَعَلَى هَذَا الضَّرْبُ بِسِنْجَاتِ الْمِيزَانِ؛ وَأَمَّا إذَا ضَرَبَهُ بِالْعُودِ فَإِنَّمَا تَجِبُ الدِّيَةُ لِوُجُودِ قَتْلِ النَّفْسِ الْمَعْصُومَةِ وَامْتِنَاعِ الْقِصَاصِ حَتَّى لَا يُهْدَرَ الدَّمُ، ثُمَّ قِيلَ: هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْعَصَا الْكَبِيرَةِ فَيَكُونُ قَتْلًا بِالْمُثْقَلِ، وَفِيهِ خِلَافُ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى مَا نُبَيِّنُ، وَقِيلَ هُوَ بِمَنْزِلَةِ السَّوْطِ، وَفِيهِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْمُوَالَاةِ

لَهُ أَنَّ الْمُوَالَاةَ فِي الضَّرَبَاتِ إلَى أَنْ مَاتَ دَلِيلُ الْعَمْدِيَّةِ فَيَتَحَقَّقُ الْمُوجِبُ

وَلَنَا مَا رَوَيْنَا «أَلَا إنَّ قَتِيلَ خَطَإِ الْعَمْدِ» وَيُرْوَى " شِبْهِ الْعَمْدِ " الْحَدِيثَ وَلِأَنَّ فِيهِ شُبْهَةَ عَدَمِ الْعَمْدِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْمُوَالَاةَ قَدْ تُسْتَعْمَلُ لِلتَّأْدِيبِ أَوْ لَعَلَّهُ اعْتَرَاهُ الْقَصْدُ فِي خِلَالِ الضَّرَبَاتِ فَيَعْرَى أَوَّلُ الْفِعْلِ عَنْهُ وَعَسَاهُ أَصَابَ الْمَقْتَلَ، وَالشُّبْهَةُ دَارِئَةٌ لِلْقَوَدِ فَوَجَبَ الدِّيَةُ

قَالَ (وَمَنْ غَرَّقَ صَبِيًّا أَوْ بَالِغًا فِي الْبَحْرِ فَلَا قِصَاصَ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ: يُقْتَصُّ مِنْهُ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، غَيْرَ أَنَّ عِنْدَهُمَا يُسْتَوْفَى حَزًّا وَعِنْدَهُ يُغَرَّقُ كَمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ

لَهُمْ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «مَنْ غَرَّقَ غَرَّقْنَاهُ» وَلِأَنَّ الْآلَةَ قَاتِلَةٌ فَاسْتِعْمَالُهَا أَمَارَةُ الْعَمْدِيَّةِ،

احْتِمَالُ الْعَفْوِ فِي الْحَالِ وَعَدَمُهُ، فَإِنَّ الْعَفْوَ فِي الْغَائِبِ مَوْهُومٌ حَالَ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْغَائِبُ عَفَا، وَالْحَاضِرُ لَا يَشْعُرُ بِهِ فَلَوْ اسْتَوْفَى كَانَ اسْتِيفَاءً مَعَ الشُّبْهَةِ وَهُوَ لَا يَجُوزُ

وَأَمَّا الْعَفْوُ فِي الصَّغِيرِ فَمَأْيُوسٌ حَالَ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْعَفْوِ، وَإِنَّمَا يُتَوَهَّمُ الْعَفْوُ مِنْهُ بَعْدَ بُلُوغِهِ، وَالشُّبْهَةُ فِي الْمَالِ لَا تُعْتَبَرُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إلَى سَدِّ بَابِ الْقِصَاصِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَنْدَمَ وَلِيُّ الْمَقْتُولِ عَلَى قَتْلِهِ

وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ كَذَا فِي مَبْسُوطِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ وَالْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِلْإِمَامِ الْمَحْبُوبِيِّ

أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْغَائِبِ شُعُورٌ أَصْلًا بِكَوْنِ قَرِيبِهِ مَقْتُولًا بِأَنْ كَانَ فِي مَسِيرَةِ سَنَةٍ مَثَلًا مِنْ مَوْضِعِ الْقَتْلِ فَأَنَّى يُتَوَهَّمُ مِنْهُ الْعَفْوُ فِي الْحَالِ؛ إذْ الْعَفْوُ عَنْ الشَّيْءِ فَرْعُ الشُّعُورِ بِهِ، فَحَيْثُ لَا شُعُورَ بِهِ لَا يُتَصَوَّرُ الْعَفْوُ عَنْهُ، وَمَسْأَلَةُ الْغَائِبِ تَعُمُّ مِثْلَ هَذِهِ الصُّورَةِ أَيْضًا فَكَيْفَ يَتِمُّ فِيهَا مَا ذَكَرُوا مِنْ التَّفْرِقَةِ

ثُمَّ أَقُولُ: يُمْكِنُ أَنْ يُدْفَعَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ الْغَائِبُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ أَوْ قَبْلَهَا كُلُّ حَقٍّ يَثْبُتُ لِي عَلَى الْغَيْرِ فَإِنِّي عَفَوْتُهُ وَبَرِئْت مِنْهُ، فَيَنْدَرِجُ فِي هَذِهِ الْكُلِّيَّةِ عَفَوْهُ عَنْ قَتْلِ قَرِيبِهِ أَيْضًا، وَلَا يَلْزَمُ الشُّعُورُ بِخُصُوصِهِ فَهَذَا الِاحْتِمَالُ فِي صُورَةِ أَنْ كَانَ بَعْضُ الْأَوْلِيَاءِ غَائِبًا، وَإِنْ كَانَ مَوْهُومًا يُورِثُ شُبْهَةً فِي الْحَالِ فَلَا يُسْتَوْفَى الْقِصَاصُ بِهَا بِالْإِجْمَاعِ، وَلَعَلَّ حَلَّ هَذَا الْمَقَامِ بِهَذَا الْوَجْهِ مِمَّا لَا بُدَّ مِنْهُ، وَقَدْ أَهْمَلَهُ الْجُمْهُورُ

(قَوْلُهُ: ثُمَّ قِيلَ: هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْعَصَا الْكَبِيرَةِ فَيَكُونُ قَتْلًا بِالْمُثْقَلِ، وَفِيهِ خِلَافُ أَبِي حَنِيفَةَ) أَقُولُ: كَانَ حَقُّ التَّحْرِيرِ هُنَا أَنْ يَقُولَ: وَفِيهِ خِلَافُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ الْمَذْكُورَ فِيمَا سَبَقَ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ وُجُوبُ الدِّيَةِ عِنْدَ الْإِصَابَةِ بِالْعُودِ لَا وُجُوبُ الْقَوَدِ عِنْدَ ذَلِكَ، وَخِلَافُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي وُجُوبِ الْقَوَدِ فِي الْقَتْلِ بِالْمُثْقَلِ لَا فِي وُجُوبِ الدِّيَةِ فِيهِ فَإِنَّ وُجُوبَهَا فِيهِ عَيْنُ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِيهِ لِأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ

وَقُصُورُ تَحْرِيرِ الْمُصَنِّفِ هُنَا مَعَ كَوْنِهِ ظَاهِرًا جِدًّا لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ أَحَدٌ مِنْ الشُّرَّاحِ لَا مِنْ جِهَةِ الْقَدْحِ وَلَا مِنْ جِهَةِ التَّوْجِيهِ فَكَأَنَّهُمْ لَمْ يَتَنَبَّهُوا لَهُ

(قَوْلُهُ لَهُمْ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «مَنْ غَرَّقَ غَرَّقْنَاهُ») قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: وَقَوْلُهُ لَهُمْ: أَيْ لِلشَّافِعِيِّ وَلَهُمَا لَكِنْ لِلشَّافِعِيِّ الِاسْتِدْلَال بِالْحَدِيثِ وَلَهُمَا الِاسْتِدْلَال بِالْمَعْقُولِ اهـ وَتَبِعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ الشُّرَّاحِ مِنْهُمْ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ حَيْثُ قَالَ: وَقَوْلُهُ لَهُمْ: أَيْ لِأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ، لَكِنْ اسْتِدْلَالُ الشَّافِعِيِّ بِالْحَدِيثِ وَاسْتِدْلَالُهُمَا بِالْمَعْقُولِ اهـ

أَقُولُ: لَا مُسَاعَدَةَ فِي عِبَارَةِ الْمَشْرُوحِ

ص: 229

وَلَا مِرَاءَ فِي الْعِصْمَةِ

وَلَهُ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «أَلَا إنَّ قَتِيلَ خَطَإِ الْعَمْدِ قَتِيلُ السَّوْطِ وَالْعَصَا» وَفِيهِ «وَفِي كُلِّ خَطَإٍ أَرْشٌ» ؛ لِأَنَّ الْآلَةَ غَيْرُ مُعَدَّةٍ لِلْقَتْلِ، وَلَا مُسْتَعْمَلَةٌ فِيهِ لِتَعَذُّرِ اسْتِعْمَالِهِ فَتَمَكَّنَتْ شُبْهَةُ عَدَمِ الْعَمْدِيَّةِ وَلِأَنَّ الْقِصَاصَ يُنْبِئُ عَنْ الْمُمَاثَلَةِ، وَمِنْهُ يُقَالُ: اقْتَصَّ أَثَرَهُ، وَمِنْهُ الْقُصَّةُ لِلْجَلَمَيْنِ، وَلَا تَمَاثُلَ بَيْنَ الْجَرْحِ وَالدَّقِّ لِقُصُورِ الثَّانِي عَنْ تَخْرِيبِ الظَّاهِرِ، وَكَذَا لَا يَتَمَاثَلَانِ فِي حِكْمَةِ الزَّجْرِ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ بِالسِّلَاحِ غَالِبٌ وَبِالْمُثْقَلِ نَادِرٌ،

لِهَذَا الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ الْمُصَنِّفَ أَعَادَ لَامَ التَّعْلِيلِ فِي الْمَعْقُولِ حَيْثُ قَالَ: وَلِأَنَّ الْآلَةَ قَاتِلَةٌ وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَلِأَنَّ الْآلَةَ قَاتِلَةٌ إلَخْ مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ لَهُمْ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «مَنْ غَرَّقَ غَرَّقْنَاهُ» فَلَمْ يَبْقَ فِي حَيِّزِ قَوْلِهِ لَهُمْ إلَّا الْحَدِيثُ فَلَا مَجَالَ لِلتَّوْزِيعِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ أَنْ لَوْ كَانَ الْمَعْنَى لَهُمْ الْحَدِيثُ وَالْمَعْقُولُ، وَعِبَارَةُ الْكِتَابِ تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى لَهُمْ الْحَدِيثُ، وَلَهُمْ الْمَعْقُولُ، وَهَذَا لَا يَكُونُ إلَّا بِمُشَارَكَةِ مَجْمُوعِهِمْ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الدَّلِيلَيْنِ تَأَمَّلْ تَقِفْ

وَقَالَ صَاحِبُ الْكِفَايَةِ بَعْدَ ذِكْرِ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: إذْ لِلشَّافِعِيِّ الِاسْتِدْلَال بِالْحَدِيثِ فِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ، وَفِي الِاسْتِيفَاءِ

وَلَهُمَا الِاسْتِدْلَال بِالْحَدِيثِ فِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ وَلَمْ يَعْمَلَا فِي الِاسْتِيفَاءِ بِهَذَا الْحَدِيثِ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَا قَوَدَ إلَّا بِالسَّيْفِ» اهـ

أَقُولُ: وَفِيهِ بَحْثٌ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْقِصَاصِ وَكَيْفِيَّةَ الِاسْتِيفَاءِ إنَّمَا يُسْتَفَادَانِ مِنْ لَفْظٍ وَاحِدٍ فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ وَهُوَ غَرَّقْنَاهُ، فَالْعَمَلُ بِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ مَعَ كَوْنِهِ لَا يَخْلُو عَنْ إشْكَالٍ فِي نَفْسِهِ لَا مُوجِبَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ بِهِ فِي حَقِّ الِاسْتِيفَاءِ إنَّمَا يَجِبُ أَنْ يُتْرَكَ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «لَا قَوَدَ إلَّا بِالسَّيْفِ» أَنْ لَوْ ثَبَتَ تَأَخُّرُ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَا قَوَدَ إلَّا بِالسَّيْفِ» عَنْ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «مَنْ غَرَّقَ غَرَّقْنَاهُ» أَوْ ثَبَتَ كَوْنُهُ أَقْوَى مِنْهُ وَشَيْءٌ مِنْهُمَا لَمْ يَثْبُتْ لَا يُقَالُ: يَكْفِي التَّعَارُضُ بَيْنَهُمَا فَإِنَّهُمَا إذَا تَعَارَضَا تَسَاقَطَا

لِأَنَّا نَقُولُ: لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا صَحَّ الِاسْتِدْلَال بِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَا قَوَدَ إلَّا بِالسَّيْفِ» عَلَى أَنْ لَا يُسْتَوْفَى الْقِصَاصُ إلَّا بِالسَّيْفِ؛ لِأَنَّ السَّاقِطَ لَا يَصْلُحُ لَأَنْ يُتَمَسَّكَ بِهِ مَعَ أَنَّ أَئِمَّتَنَا تَمَسَّكُوا بِهِ فِي ذَلِكَ الْمَطْلَبِ وَاعْتَمَدُوا عَلَيْهِ كَمَا مَرَّ

ثُمَّ أَقُولُ: الْأَوْلَى عِنْدِي فِي تَوْجِيهِ الْمَقَامِ أَنْ يُقَالَ: الْحَدِيثُ حُجَّةٌ لِأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ كُلِّهِمْ، إلَّا أَنَّ الشَّافِعِيَّ يُبْقِيهِ عَلَى ظَاهِرِهِ فَيَحْمِلُ التَّغْرِيقَ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَأَمَّا الْإِمَامَانِ فَيَحْمِلَانِهِ عَلَى الْكِنَايَةِ عَنْ الْإِهْلَاكِ لِكَوْنِ الْإِهْلَاكِ لَازِمَ التَّغْرِيقِ فَيَصِيرُ مَعْنَى قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام " غَرَّقْنَاهُ " أَهْلَكْنَاهُ، وَيَكُونُ التَّعْبِيرُ بِغَرَّقْنَاهُ لِمُشَاكَلَةِ قَوْلِهِ " مَنْ غَرَّقَ " وَإِنَّمَا يَحْمِلَانِهِ عَلَى ذَلِكَ تَوْفِيقًا بَيْنَ هَذَا الْحَدِيثِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَا قَوَدَ إلَّا بِالسَّيْفِ» إذْ قَدْ تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ أَنَّهُ إذَا تَعَارَضَ ظَاهِرُ النَّصَّيْنِ يُطْلَبُ الْمُخَلِّصُ مَهْمَا أَمْكَنَ فِي التَّوْفِيقِ وَالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا، وَهَاهُنَا الْمُخَلِّصُ عِنْدَهُمَا يَتَيَسَّرُ بِحَمْلِ التَّغْرِيقِ عَلَى الْإِهْلَاكِ وَالْقَتْلِ عَلَى سَبِيلِ الْكِنَايَةِ تَدَبَّرْ (قَوْلُهُ وَلَهُ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «أَلَا إنَّ قَتِيلَ خَطَإِ الْعَمْدِ قَتِيلُ السَّوْطِ وَالْعَصَا» وَفِيهِ «وَفِي كُلِّ خَطَإٍ أَرْشٌ») أَقُولُ فِي دَلَالَةِ هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى مُدَّعَى أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي مَسْأَلَةِ التَّغْرِيقِ خَفَاءٌ كَمَا تَرَى، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ أَحَدٌ مِنْ الشُّرَّاحِ لِبَيَانِ وَجْهِ دَلَالَتِهِ عَلَى ذَلِكَ،

ص: 230

وَمَا رَوَاهُ غَيْرُ مَرْفُوعٍ أَوْ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى السِّيَاسَةِ، وَقَدْ أَوْمَتْ إلَيْهِ إضَافَتُهُ إلَى نَفْسِهِ فِيهِ

وَإِذَا امْتَنَعَ الْقِصَاصُ وَجَبَتْ الدِّيَةُ، وَهِيَ عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ وَاخْتِلَافُ الرِّوَايَتَيْنِ فِي الْكَفَّارَةِ.

قَالَ (وَمَنْ جَرَحَ رَجُلًا عَمْدًا فَلَمْ يَزَلْ صَاحِبَ فِرَاشٍ حَتَّى مَاتَ فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ) لِوُجُودِ السَّبَبِ وَعَدَمِ مَا يُبْطِلُ حُكْمَهُ فِي الظَّاهِرِ فَأُضِيفَ إلَيْهِ

قَالَ (وَإِذَا الْتَقَى الصَّفَّانِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ فَقَتَلَ مُسْلِمٌ مُسْلِمًا ظَنَّ أَنَّهُ مُشْرِكٌ فَلَا قَوَدَ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ)؛ لِأَنَّ هَذَا أَحَدُ نَوْعَيْ الْخَطَإِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ، وَالْخَطَأُ بِنَوْعَيْهِ لَا يُوجِبُ الْقَوَدَ وَيُوجِبُ الْكَفَّارَةَ، وَكَذَا الدِّيَةُ عَلَى مَا نَطَقَ بِهِ نَصُّ الْكِتَابِ «وَلَمَّا اخْتَلَفَتْ سُيُوفُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْيَمَانِ أَبِي حُذَيْفَةَ قَضَى رَسُولُ اللَّهِ عليه الصلاة والسلام بِالدِّيَةِ» قَالُوا: إنَّمَا تَجِبُ الدِّيَةُ إذَا كَانُوا مُخْتَلَطِينَ، فَإِنْ كَانَ فِي صَفِّ الْمُشْرِكِينَ لَا تَجِبُ لِسُقُوطِ عِصْمَتِهِ بِتَكْثِيرِ سَوَادِهِمْ قَالَ عليه الصلاة والسلام «مَنْ كَثَّرَ سَوَادَ قَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ»

قَالَ (وَمَنْ شَجَّ نَفْسَهُ وَشَجَّهُ رَجُلٌ وَعَقَرَهُ أَسَدٌ وَأَصَابَتْهُ حَيَّةٌ فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ فَعَلَى الْأَجْنَبِيِّ ثُلُثُ الدِّيَةِ)؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْأَسَدِ وَالْحَيَّةِ جِنْسٌ وَاحِدٌ لِكَوْنِهِ هَدَرًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَفِعْلُهُ بِنَفْسِهِ هَدَرٌ فِي الدُّنْيَا مُعْتَبَرٌ فِي الْآخِرَةِ حَتَّى يَأْثَمَ عَلَيْهِ

وَفِي النَّوَادِرِ أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ يُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ

وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُغَسَّلُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ

وَفِي شَرْحِ السِّيَرِ الْكَبِيرِ ذَكَرَ فِي الصَّلَاةِ عَلَيْهِ اخْتِلَافَ الْمَشَايِخِ عَلَى مَا كَتَبْنَاهُ فِي كِتَابِ التَّجْنِيسِ وَالْمَزِيدِ فَلَمْ يَكُنْ هَدَرًا مُطْلَقًا وَكَانَ جِنْسًا آخَرَ، وَفِعْلُ الْأَجْنَبِيِّ مُعْتَبَرٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَصَارَتْ ثَلَاثَةَ أَجْنَاسٍ فَكَأَنَّ النَّفْسَ تَلِفَتْ بِثَلَاثَةِ أَفْعَالٍ فَيَكُونُ التَّالِفُ بِفِعْلِ كُلِّ وَاحِدٍ ثُلُثَهُ فَيَجِبُ عَلَيْهِ ثُلُثُ الدِّيَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ

وَالْإِنْصَافُ أَنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ دَلَالَةً إقْنَاعِيَّةً وَإِنْ أَمْكَنَ التَّوْجِيهُ بِبَعْضِ مِنْ التَّمَحُّلَاتِ، وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ السِّرُّ فِي أَنَّ صَاحِبَ الْكَافِي تَرَكَ

ص: 231

فَصْلٌ

قَالَ (وَمَنْ شَهَرَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ سَيْفًا فَعَلَيْهِمْ أَنْ يَقْتُلُوهُ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «مَنْ شَهَرَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ سَيْفًا فَقَدْ أَطَلَّ دَمَهُ» وَلِأَنَّهُ بَاغٍ فَتَسْقُطُ عِصْمَتُهُ بِبَغْيِهِ، وَلِأَنَّهُ تَعَيَّنَ طَرِيقًا لِدَفْعِ الْقَتْلِ عَنْ نَفْسِهِ فَلَهُ قَتْلُهُ

وَقَوْلُهُ فَعَلَيْهِمْ وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فَحَقٌّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَقْتُلُوهُ إشَارَةٌ إلَى الْوُجُوبِ، وَالْمَعْنَى وُجُوبُ دَفْعِ الضَّرَرِ

وَفِي سَرِقَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: وَمَنْ شَهَرَ عَلَى رَجُلٍ سِلَاحًا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا أَوْ شَهَرَ عَلَيْهِ عَصًا لَيْلًا فِي مِصْرٍ أَوْ نَهَارًا فِي طَرِيقٍ فِي غَيْرِ مِصْرٍ فَقَتَلَهُ الْمَشْهُورُ عَلَيْهِ عَمْدًا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِمَا بَيَّنَّا، وَهَذَا؛ لِأَنَّ السِّلَاحَ لَا يَلْبَثُ فَيَحْتَاجُ إلَى دَفْعِهِ بِالْقَتْلِ وَالْعَصَا الصَّغِيرَةِ، وَإِنْ كَانَتْ تَلْبَثُ وَلَكِنْ فِي اللَّيْلِ لَا يَلْحَقُهُ الْغَوْثُ فَيُضْطَرُّ إلَى دَفْعِهِ بِالْقَتْلِ، وَكَذَا فِي النَّهَارِ فِي غَيْرِ الْمِصْرِ فِي الطَّرِيقِ لَا يَلْحَقُهُ الْغَوْثُ فَإِذَا قَتَلَهُ كَانَ دَمُهُ هَدَرًا

قَالُوا: فَإِنْ كَانَ عَصًا لَا تَلْبَثُ يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ مِثْلَ السِّلَاحِ عِنْدَهُمَا

قَالَ (وَإِنْ شَهَرَ الْمَجْنُونُ عَلَى غَيْرِهِ سِلَاحًا فَقَتَلَهُ الْمَشْهُورُ عَلَيْهِ عَمْدًا فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الصَّبِيُّ وَالدَّابَّةُ

وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَجِبُ الضَّمَانُ فِي الدَّابَّةِ وَلَا يَجِبُ فِي الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ

لِلشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَتَلَهُ دَافِعًا عَنْ نَفْسِهِ فَيُعْتَبَرُ بِالْبَالِغِ الشَّاهِرِ، وَلِأَنَّهُ يَصِيرُ مَحْمُولًا عَلَى قَتْلِهِ بِفِعْلِهِ فَأَشْبَهَ الْمُكْرَهَ

وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ فِعْلَ الدَّابَّةِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ أَصْلًا حَتَّى لَوْ تَحَقَّقَ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ

التَّمَسُّكَ بِهَذَا الْحَدِيثِ هَا هُنَا بِالْكُلِّيَّةِ وَاكْتَفَى بِالدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ مَعَ كَوْنِ عَادَتِهِ أَنْ يَقْتَفِيَ أَثَرَ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ فِي وَضْعِ الْمَسَائِلِ وَبَسْطِ الدَّلَائِلِ

ص: 232

أَمَّا فِعْلُهُمَا مُعْتَبَرٌ فِي الْجُمْلَةِ حَتَّى لَوْ حَقَّقْنَاهُ يَجِبُ عَلَيْهِمَا الضَّمَانُ، وَكَذَا عِصْمَتُهُمَا لِحَقِّهِمَا وَعِصْمَةُ الدَّابَّةِ لِحَقِّ مَالِكِهَا فَكَانَ فِعْلُهُمَا مُسْقِطًا لِلْعِصْمَةِ دُونَ فِعْلِ الدَّابَّةِ، وَلَنَا أَنَّهُ قَتَلَ شَخْصًا مَعْصُومًا أَوْ أَتْلَفَ مَالًا مَعْصُومًا حَقًّا لِلْمَالِكِ وَفِعْلُ الدَّابَّةِ لَا يَصْلُحُ مُسْقِطًا وَكَذَا فِعْلُهُمَا، وَإِنْ كَانَتْ عِصْمَتُهُمَا حَقَّهُمَا لِعَدَمِ اخْتِيَارٍ صَحِيحٍ وَلِهَذَا لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ بِتَحَقُّقِ الْفِعْلِ مِنْهُمَا، بِخِلَافِ الْعَاقِلِ الْبَالِغِ؛ لِأَنَّ لَهُ اخْتِيَارًا صَحِيحًا، وَإِنَّمَا لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ لِوُجُودِ الْمُبِيحِ وَهُوَ دَفْعُ الشَّرِّ فَتَجِبُ الدِّيَةُ

قَالَ (وَمَنْ شَهَرَ عَلَى غَيْرِهِ سِلَاحًا فِي الْمِصْرِ فَضَرَبَهُ ثُمَّ قَتَلَهُ الْآخَرُ فَعَلَى الْقَاتِلِ الْقِصَاصُ) مَعْنَاهُ: إذَا ضَرَبَهُ فَانْصَرَفَ؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُحَارِبًا بِالِانْصِرَافِ فَعَادَتْ عِصْمَتُهُ

قَالَ (وَمَنْ دَخَلَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ لَيْلًا وَأَخْرَجَ السَّرِقَةَ فَاتَّبَعَهُ وَقَتَلَهُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «قَاتِلْ دُونَ مَالِك» وَلِأَنَّهُ يُبَاحُ لَهُ الْقَتْلُ دَفْعًا فِي الِابْتِدَاءِ فَكَذَا اسْتِرْدَادًا فِي الِانْتِهَاءِ، وَتَأْوِيلُ الْمَسْأَلَةِ إذَا كَانَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الِاسْتِرْدَادِ إلَّا بِالْقَتْلِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

بَابُ الْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ

قَالَ: (وَمَنْ قَطَعَ يَدَ غَيْرِهِ عَمْدًا مِنْ الْمِفْصَلِ قُطِعَتْ يَدُهُ وَإِنْ كَانَتْ يَدُهُ أَكْبَرَ مِنْ الْيَدِ الْمَقْطُوعَةِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} وَهُوَ يُنْبِئُ عَنْ الْمُمَاثَلَةِ، فَكُلُّ مَا أَمْكَنَ رِعَايَتُهَا فِيهِ يَجِبُ فِيهِ الْقِصَاصُ وَمَا لَا فَلَا، وَقَدْ أَمْكَنَ فِي الْقَطْعِ مِنْ الْمِفْصَلِ فَاعْتُبِرَ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِكِبَرِ الْيَدِ وَصِغَرِهَا لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْيَدِ لَا تَخْتَلِفُ بِذَلِكَ، وَكَذَلِكَ

(بَابُ الْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ)

لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ شَرَعَ فِي بَيَانِ الْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ، إذْ الْجُزْءُ يَتْبَعُ الْكُلَّ (قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} أَيْ ذَاتُ قِصَاصٍ، كَذَا فِي التَّفَاسِيرِ وَالشُّرُوحِ. قَالَ الزَّيْلَعِيُّ فِي شَرْحِ الْكَنْزِ: أَيْ ذُو قِصَاصٍ

ص: 233

الرِّجْلُ وَمَارِنُ الْأَنْفِ وَالْأُذُنُ لِإِمْكَانِ رِعَايَةِ الْمُمَاثَلَةِ. .

قَالَ: (وَمَنْ ضَرَبَ عَيْنَ رَجُلٍ فَقَلَعَهَا لَا قِصَاصَ عَلَيْهِ) لِامْتِنَاعِ الْمُمَاثَلَةِ فِي الْقَلْعِ، وَإِنْ كَانَتْ قَائِمَةً فَذَهَبَ ضَوْءُهَا فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ لِإِمْكَانِ الْمُمَاثَلَةِ عَلَى مَا قَالَ فِي الْكِتَابِ: تُحْمَى لَهُ الْمِرْآةُ وَيُجْعَلُ عَلَى وَجْهِهِ قُطْنٌ رَطْبٌ وَتُقَابَلُ عَيْنُهُ بِالْمِرْآةِ فَيَذْهَبُ ضَوْءُهَا، وَهُوَ مَأْثُورٌ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم. .

قَالَ: (وَفِي السِّنِّ الْقِصَاصُ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} (وَإِنْ كَانَ سِنُّ مَنْ يُقْتَصُّ مِنْهُ أَكْبَرَ مِنْ سِنِّ الْآخَرِ) لِأَنَّ مَنْفَعَةَ السِّنِّ لَا تَتَفَاوَتُ بِالصِّغَرِ وَالْكِبَرِ. قَالَ: (وَفِي كُلِّ شَجَّةٍ تَتَحَقَّقُ فِيهَا الْمُمَاثَلَةُ الْقِصَاصُ) لِمَا تَلَوْنَا. قَالَ (وَلَا قِصَاصَ فِي عَظْمٍ إلَّا فِي السِّنِّ) وَهَذَا اللَّفْظُ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنهما، وَقَالَ عليه الصلاة والسلام:«لَا قِصَاصَ فِي الْعَظْمِ» وَالْمُرَادُ غَيْرُ السِّنِّ، وَلِأَنَّ اعْتِبَارَ الْمُمَاثَلَةِ فِي غَيْرِ السِّنِّ مُتَعَذِّرٌ لِاحْتِمَالِ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ، بِخِلَافِ السِّنِّ لِأَنَّهُ يُبْرَدُ بِالْمِبْرَدِ، وَلَوْ قَلَعَ مِنْ أَصْلِهِ يُقْلَعُ الثَّانِي فَيَتَمَاثَلَانِ. .

أَقُولُ: لَا وَجْهَ لِتَذْكِيرِ ذُو هُنَا إلَّا بِتَمَحُّلٍ رَكِيكٍ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُرْتَكَبَ بِلَا ضَرُورَةٍ سِيَّمَا فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ

(قَوْلُهُ وَلَوْ قَلَعَ مِنْ أَصْلِهِ يَقْلَعُ الثَّانِي فَيَتَمَاثَلَانِ) قَالَ صَاحِبُ الْكَافِي: وَعَامَّةُ شُرَّاحِ الْكِتَابِ فِي هَذَا الْمَقَامِ: وَلَوْ قَلَعَ السِّنَّ مِنْ أَصْلِهِ لَا يُقْلَعُ سِنُّهُ قِصَاصًا لَتَعَذُّرِ اعْتِبَارِ الْمُمَاثَلَةِ فَرُبَّمَا تَفْسُدُ بِهِ لِثَاتُهُ، وَلَكِنْ يُبْرِدُ بِالْمِبْرَدِ إلَى مَوْضِعِ أَصْلِ السِّنِّ، وَعَزَاهُ الشُّرَّاحُ إلَى الْمَبْسُوطِ. أَقُولُ: أُسْلُوبُ تَحْرِيرِهِمْ هَاهُنَا مَحَلُّ تَعَجُّبٍ، فَإِنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ لَا بِالرَّدِّ وَلَا بِالْقَبُولِ، بَلْ ذَكَرُوا الْمَسْأَلَةَ عَلَى خِلَافِ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ، وَكَانَ مِنْ دَأْبِ الشُّرَّاحِ التَّعَرُّضُ لِمَا فِي الْكِتَابِ إمَّا بِالْقَبُولِ وَإِمَّا بِالرَّدِّ، فَكَأَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْهُ أَصْلًا. نَعَمْ الْقَوْلُ الَّذِي نَقَلْتُهُ هُنَا عَنْ الْمُصَنِّفِ غَيْرُ مَذْكُورٍ فِي بَعْضِ النُّسَخِ لَكِنَّهُ وَاقِعٌ فِي كَثِيرٍ مِنْ النُّسَخِ لَيْسَ بِمَثَابَةِ أَنْ لَا يَطَّلِعَ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ الشُّرَّاحِ. كَيْفَ وَقَدْ أَخَذَهُ صَاحِبُ الْوِقَايَةِ فَذَكَرَهُ فِي مَتْنِهِ حَيْثُ قَالَ: وَلَا قَوْدَ فِي عَظْمٍ إلَّا السِّنِّ فَتُقْلَعُ إنْ قُلِعَتْ وَتُبْرَدُ إنْ كُسِرَتْ،

ص: 234

قَالَ: (وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ شِبْهُ عَمْدٍ إنَّمَا هُوَ عَمْدٌ أَوْ خَطَأٌ) لِأَنَّ شِبْهَ الْعَمْدِ يَعُودُ إلَى الْآلَةِ، وَالْقَتْلُ هُوَ الَّذِي يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِهَا دُونَ مَا دُونَ النَّفْسِ لِأَنَّهُ لَا يَخْتَلِفُ إتْلَافُهُ بِاخْتِلَافِ الْآلَةِ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا الْعَمْدُ وَالْخَطَأُ.

(وَلَا قِصَاصَ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ، وَلَا بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ، وَلَا بَيْنَ الْعَبْدَيْنِ) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ إلَّا فِي الْحُرِّ يَقْطَعُ طَرَفَ الْعَبْدِ. وَيُعْتَبَرُ الْأَطْرَافُ بِالْأَنْفُسِ لِكَوْنِهَا تَابِعَةً لَهَا.

وَكَأَنَّ مَأْخَذَ مَتْنِ الْوِقَايَةِ هُوَ الْهِدَايَةُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ صَاحِبُهُ، وَكَذَا ذُكِرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمُتُونِ. ثُمَّ إنَّ التَّحْقِيقَ هَاهُنَا هُوَ أَنَّهُ إذَا قَلَعَ سِنَّ غَيْرِهِ هَلْ يُقْلَعُ سِنُّهُ قِصَاصًا أَمْ يُبْرَدُ بِالْمِبْرَدِ إلَى أَنْ يَنْتَهِيَ إلَى اللَّحْمِ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ كَمَا أَفْصَحَ عَنْهُ فِي الْمُحِيطِ الْبُرْهَانِيِّ حَيْثُ قَالَ: إنْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ بِكَسْرِ بَعْضِ السِّنِّ يُؤْخَذُ مِنْ سِنِّ الْكَاسِرِ بِالْمِبْرَدِ مِقْدَارُ مَا كَسَرَ مِنْ سِنِّ الْآخَرِ وَهَذَا بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ بِقَلْعِ سِنٍّ ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ أَنَّهُ لَا يُقْلَعُ سِنُّ الْقَالِعِ وَلَكِنْ يُبْرَدُ سِنُّ الْقَالِعِ بِالْمِبْرَدِ إلَى أَنْ يَنْتَهِيَ إلَى اللَّحْمِ وَيَسْقُطُ الْبَاقِي، وَإِلَيْهِ مَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ، وَذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ فِي شَرْحِهِ أَنَّهُ يُقْلَعُ سِنُّ الْقَالِعِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ مُحَمَّدٌ رحمه الله فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ حَيْثُ ذَكَرَ بِلَفْظِ النَّزْعِ، وَالنَّزْعُ وَالْقَلْعُ وَاحِدٌ. وَفِي الزِّيَادَاتِ نَصَّ عَلَى الْقَلْعِ، إلَى هُنَا لَفْظُ الْمُحِيطِ

(قَوْلُهُ وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ شِبْهُ عَمْدٍ إنَّمَا هُوَ عَمْدٌ أَوْ خَطَأٌ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: قَدْ ذَكَرَهُ مَرَّةً لَكِنَّهُ ذَكَرَ هُنَاكَ أَنَّهُ عَمْدٌ وَهَاهُنَا أَنَّهُ عَمْدٌ أَوْ خَطَأٌ فَيُحْمَلُ الْأَوَّلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ إنْ أَمْكَنَ الْقِصَاصُ انْتَهَى. أَقُولُ: يُرَدُّ عَلَيْهِ أَنَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ لَوْ كَانَ ذَلِكَ لَمَا تَمَّ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ هُنَاكَ بِأَنْ قَالَ: يَعْنِي لَيْسَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ شِبْهُ عَمْدٍ إنَّمَا هُوَ عَمْدٌ أَوْ خَطَأٌ، فَإِنَّ مُقْتَضَى ذَلِكَ الشَّرْحُ أَنْ لَا يَكُونَ بَيْنَ كَلَامَيْ الْمُصَنِّفِ فِي الْمَقَامَيْنِ فَرْقٌ كَمَا لَا يَخْفَى ثُمَّ أَقُولُ: التَّحْقِيقُ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ هَاهُنَا عِبَارَةُ الْقُدُورِيِّ وَمَا ذَكَرَهُ فِيمَا سَبَقَ عِبَارَةُ نَفْسِهِ، وَإِنَّ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْعِبَارَتَيْنِ مَعْنًى مُغَايِرٌ لِمَعْنَى الْأُخْرَى، فَإِنَّ مَا سَبَقَ هَكَذَا: وَمَا يَكُونُ شِبْهُ عَمْدٍ فِي النَّفْسِ فَهُوَ عَمْدٌ فِيمَا ` سِوَاهَا، وَمَعْنَاهُ أَنَّ مَا يَكُونُ شِبْهَ عَمْدٍ فِي النَّفْسِ وَهُوَ تَعَمُّدُ الضَّرْبِ بِمَا لَيْسَ بِسِلَاحٍ وَلَا مَا أُجْرِيَ مَجْرَى.

ص: 235

وَلَنَا أَنَّ الْأَطْرَافَ يَسْلُكُ بِهَا مَسْلَكَ الْأَمْوَالِ فَيَنْعَدِمُ التَّمَاثُلُ بِالتَّفَاوُتِ فِي الْقِيمَةِ، وَهُوَ مَعْلُومٌ قَطْعًا بِتَقْوِيمِ الشَّرْعِ فَأَمْكَنَ اعْتِبَارُهُ. بِخِلَافِ التَّفَاوُتِ فِي الْبَطْشِ لِأَنَّهُ لَا ضَابِطَ لَهُ فَاعْتُبِرَ أَصْلُهُ، وَبِخِلَافِ الْأَنْفُسِ لِأَنَّ الْمُتْلَفَ إزْهَاقُ الرُّوحِ وَلَا تَفَاوَتَ فِيهِ.

(وَيَجِبُ الْقِصَاصُ فِي الْأَطْرَافِ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ) لِلتَّسَاوِي بَيْنَهُمَا فِي الْأَرْشِ. .

السِّلَاحِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَبِمَا لَا يُقْتَلُ بِهِ غَالِبًا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ فَهُوَ عَمْدٌ فِيمَا سِوَى النَّفْسِ سَوَاءٌ أَمْكَنَ الْقِصَاصُ بِهِ أَوْ لَمْ يُمْكِنْ لِمَانِعٍ يَمْنَعُ عَنْهُ، فَإِنَّ سُقُوطَ الْقِصَاص لِمَانِعٍ يَقَعُ فِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ فِي النَّفْسِ، كَمَا إذَا قَتَلَ الْأَبُ ابْنَهُ عَمْدًا وَكَمَا إذَا وَرِثَ الِابْنُ قِصَاصًا عَلَى أَبِيهِ، فَلَأَنْ يَقَعَ فِي الْعَمْدِ فِي الْأَطْرَافِ أَوْلَى، وَمَعْنَى قَوْلِهِ هَاهُنَا إنَّمَا هُوَ عَمْدٌ أَوْ خَطَأٌ أَنَّ الَّذِي كَانَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ عَمْدٌ أَوْ خَطَأٌ لَا أَنَّ شِبْهَ الْعَمْدِ عَمْدٌ أَوْ خَطَأٌ، فَإِنَّ ضَمِيرَ هُوَ فِي قَوْلِهِ إنَّمَا هُوَ عَمْدٌ أَوْ خَطَأٌ رَاجِعٌ إلَى مَا كَانَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ لَا إلَى شِبْهِ عَمْدٍ، إذْ لَا مَجَالَ لَأَنْ يَكُونَ شِبْهُ الْعَمْدِ خَطَأً لَا فِي النَّفْسِ وَلَا فِي الْأَطْرَافِ، لِأَنَّ تَعَمُّدَ الضَّرْبِ مُعْتَبَرٌ فِي مَفْهُومِ شِبْهِ الْعَمْدِ وَلَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ فِي الْخَطَأِ، فَإِذَا كَانَ مَعْنَيَا الْكَلَامَيْنِ فِي الْمَقَامَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ بِالْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فَلَا احْتِيَاجَ إلَى تَوْجِيهِ مَا سَبَقَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ إنْ أَمْكَنَ الْقِصَاصُ، بَلْ لَا وَجْهَ لَهُ كَمَا تَحَقَّقْتُهُ مِمَّا قَدَّمْنَاهُ فَتَبَصَّرْ.

(قَوْلُهُ وَلَنَا أَنَّ الْأَطْرَافَ يَسْلُكُ بِهَا مَسْلَكَ الْأَمْوَالِ فَيَنْعَدِمُ التَّمَاثُلُ بِالتَّفَاوُتِ فِي الْقِيمَةِ) قَالَ صَاحِبُ الْكِفَايَةِ: فَإِنْ قِيلَ: قَوْله تَعَالَى {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ مُطْلَقٌ يَتَنَاوَلُ مَوْضِعَ النِّزَاعِ فَيَكُونُ حُجَّةً عَلَيْكُمْ. قُلْنَا: قَدْ خُصُّ مِنْهُ الْحَرْبِيُّ وَالْمُسْتَأْمَنُ، وَالنَّصُّ الْعَامُّ إذَا خُصَّ مِنْهُ شَيْءٌ يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فَخَصَّصْنَاهُ بِمَا رُوِيَ عَنْ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ أَنَّهُ قَالَ «قَطَعَ عَبْدٌ لِقَوْمٍ فُقَرَاءَ أُذُنَ عَبْدٍ لِقَوْمٍ أَغْنِيَاءَ، فَاخْتَصَمُوا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يَقْضِ بِالْقِصَاصِ» انْتَهَى.

أَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُ قَدْ تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ أَنَّ النَّصَّ الْعَامَّ إذَا خُصَّ مِنْهُ شَيْءٌ بِكَلَامٍ مُسْتَقِلٍّ مَوْصُولٍ بِهِ يَكُونُ ذَلِكَ الْعَامُّ الْمَخْصُوصُ مِنْهُ الْبَعْضُ ظَنِّيًّا فِي الْبَاقِي فَيَجُوزُ تَخْصِيصُهُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَأَمَّا إذَا أُخْرِجَ مِنْ النَّصِّ الْعَامِّ شَيْءٌ بِمَا هُوَ مَفْصُولٌ عَنْهُ غَيْرُ مَوْصُولٍ بِهِ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ ظَنِّيًّا فِي الْبَاقِي بَلْ يَكُونُ بَاقِيًا عَلَى حَالَتِهِ

ص: 236

قَالَ: (وَمَنْ قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ مِنْ نِصْفِ السَّاعِدِ أَوْ جَرَحَهُ جَائِفَةٌ فَبَرَأَ مِنْهَا فَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِ) لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ الْمُمَاثَلَةِ فِيهِ، إذْ الْأَوَّلُ كَسْرُ الْعَظْمِ وَلَا ضَابِطَ فِيهِ، وَكَذَا الْبُرْءُ نَادِرٌ فَيُفْضِي الثَّانِي إلَى الْهَلَاكِ ظَاهِرًا. قَالَ:(وَإِذَا كَانَتْ يَدُ الْمَقْطُوعِ صَحِيحَةً وَيَدُ الْقَاطِعِ شَلَّاءَ أَوْ نَاقِصَةَ الْأَصَابِعِ فَالْمَقْطُوعُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ قَطَعَ الْيَدَ الْمَعِيبَةَ وَلَا شَيْءَ لَهُ غَيْرُهَا وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْأَرْشَ كَامِلًا) لِأَنَّ اسْتِيفَاءَ الْحَقِّ كَامِلًا مُتَعَذَّرٌ فَلَهُ أَنْ يَتَجَوَّزَ بِدُونِ حَقِّهِ وَلَهُ أَنْ يَعْدِلَ إلَى الْعِوَضِ كَالْمِثْلِيِّ إذَا انْصَرَمَ عَنْ أَيْدِي النَّاسِ بَعْدَ الْإِتْلَافِ ثُمَّ إذَا اسْتَوْفَاهَا نَاقِصًا فَقَدْ رَضِيَ بِهِ فَيَسْقُطُ حَقُّهُ كَمَا إذَا رَضِيَ بِالرَّدِيءِ مَكَانَ الْجَيِّدِ (وَلَوْ سَقَطَتْ الْمُؤْنَةُ قَبْلَ اخْتِيَارِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَوْ قُطِعَتْ ظُلْمًا فَلَا شَيْءَ لَهُ) عِنْدَنَا لِأَنَّ حَقَّهُ مُتَعَيِّنٌ فِي الْقِصَاصِ، وَإِنَّمَا يَنْتَقِلُ إلَى الْمَالِ بِاخْتِيَارِهِ فَيَسْقُطُ بِفَوَاتِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا قُطِعَتْ بِحَقٍّ عَلَيْهِ مِنْ قِصَاصٍ أَوْ

الْأُولَى، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَخْرَجَ الْحَرْبِيِّ وَالْمُسْتَأْمَنِ مِنْ الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ لَيْسَ بِكَلَامٍ مَوْصُولٍ بِهَا فَتَكُونُ بَاقِيَةً عَلَى قَطْعِيَّتِهَا الْأَصْلِيَّةِ فَلَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهَا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَقَدَّمْنَا غَيْرَ مَرَّةٍ نَظِيرَ هَذَا النَّظَرِ فِي مَحَالِّهِ وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ حَدِيثَ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ إنَّمَا يُفِيدُ عَدَمَ جَرَيَانِ الْقِصَاصِ فِي الْأَطْرَافِ بَيْنَ الْعَبْدَيْنِ، وَلَا يُفِيدُ عَدَمَ جَرَيَانِهِ فِيهَا بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ وَلَا بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ، فَبَقِيَ الِاعْتِرَاضُ بِإِطْلَاقِ الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ فَلَمْ يَتِمَّ الْجَوَابُ.

وَالصَّوَابُ عِنْدِي فِي الْجَوَابِ أَنْ يُقَالَ: إنَّ الْآيَةَ الْمَذْكُورَةَ آيَةُ الْقِصَاصِ وَالْقِصَاصُ يُنْبِئُ عَنْ الْمُمَاثَلَةِ، فَالْمُرَادُ بِمَا فِي الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ مَا يُمْكِنُ فِيهِ الْمُمَاثَلَةُ لَا غَيْرَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ صَاحِبُ الْكَشَّافِ فِي تَفْسِيرِ هَاتِيَكَ الْآيَةِ مِنْ التَّنْزِيلِ حَيْثُ قَالَ: وَمَعْنَاهُ مَا يُمْكِنُ فِيهِ الْقِصَاصُ وَتُعْرَفُ الْمُسَاوَاةُ، وَأَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ فِي صَدْرِ هَذَا الْبَابِ حَيْثُ قَالَ: وَهُوَ يُنْبِئُ عَنْ الْمُمَاثَلَةِ، فَكُلُّ مَا أَمْكَنَ رِعَايَتُهَا فِيهِ يَجِبُ فِيهِ الْقِصَاصُ وَمَا لَا فَلَا، وَأَشَارَ إلَيْهِ هَاهُنَا أَيْضًا حَيْثُ قَالَ: فَيَنْعَدِمُ التَّمَاثُلُ بِالتَّفَاوُتِ بِالْقِيمَةِ فَلَمْ تَكُنْ الْآيَةُ الْمَذْكُورَةُ مُجْرَاةً عَلَى ظَاهِرِ إطْلَاقِهَا حَتَّى يَكُونَ إطْلَاقُهَا حُجَّةً عَلَيْنَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ، وَكَيْف يُتَصَوَّرُ إجْرَاؤُهَا عَلَى ظَاهِرِ إطْلَاقِهَا، وَلَا قِصَاصَ فِي الْعَيْنِ إذَا قَلَعَهَا بِالْإِجْمَاعِ لِعَدَمِ إمْكَانِ الْمُمَاثَلَةِ فِي الْقَلْعِ، وَكَذَا الْحَالُ فِي قَطْعِ الْيَدِ أَوْ الرِّجْلِ مِنْ غَيْرِ الْمِفْصَلِ، وَكَذَا فِيمَا إذَا قَطَعَ الْحُرُّ طَرْفَ الْعَبْدِ، فَظَهَرَ أَنَّ الْمَدَارَ فِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ إمْكَانُ الْمُمَاثَلَةِ وَأَنَّ مَعْنَى النَّظْمِ الشَّرِيفِ مَصْرُوفٌ إلَى ذَلِكَ فَانْدَفَعَ الِاعْتِرَاضُ النَّاشِئُ مِنْ تَوَهُّمِ الْإِطْلَاقِ.

ثُمَّ إنَّهُ بَقِيَ فِي هَذَا الْمَقَامِ إشْكَالٌ قَوِيٌّ ذُكِرَ فِي عَامَّةِ الشُّرُوحِ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: سَلَّمْنَا وُجُودَ التَّفَاوُتِ فِي الْقِيمَةِ فِي الْأَطْرَافِ وَأَنَّهُ يَمْنَعُ الِاسْتِيفَاءَ، لَكِنَّ الْمَعْقُولَ مِنْهُ أَنْ يَمْنَعَ اسْتِيفَاءَ الْأَكْمَلِ بِالْأَنْقَصِ دُونَ الْعَكْسِ؛ أَلَا يَرَى أَنَّ الشَّلَّاءَ تُقْطَعُ بِالصَّحِيحَةِ وَأَنْتُمْ لَا تَقْطَعُونَ يَدَ الْمَرْأَةِ بِيَدِ الرَّجُلِ أَيْضًا، وَالشُّرَّاحُ كَانُوا فِي طَرِيقِ دَفْعِهِ طَرَائِقَ قِدَدًا، فَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: فَالْجَوَابُ أَنَّا قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَطْرَافَ يَسْلُكُ بِهَا مَسْلَكَ الْأَمْوَالِ لِأَنَّهَا خُلِقَتْ وِقَايَةً لِلْأَنْفُسِ كَالْمَالِ، فَالْوَاجِبُ أَنْ يُعْتَبَرَ التَّفَاوُتُ الْمَالِيُّ مَانِعًا مُطْلَقًا وَالشَّلَلُ لَيْسَ مِنْهُ فَيُعْتَبَرُ مَانِعًا مِنْ جِهَةِ الْأَكْمَلِ لِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَيْسَ تَفَاوُتًا مَالِيًّا يَنْبَغِي أَنْ لَا يُعْتَبَرُ فِيمَا يَسْلُكُ بِهَا مَسْلَكَ الْأَمْوَالِ وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ يُوجِبُ تَفَاوُتًا فِي الْمَنْفَعَةِ

ص: 237

سَرِقَةٍ حَيْثُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْأَرْشُ لِأَنَّهُ أَوْفَى بِهِ حَقًّا مُسْتَحَقًّا فَصَارَتْ سَالِمَةً لَهُ مَعْنًى. .

قَالَ: (وَمَنْ شَجَّ رَجُلًا فَاسْتَوْعَبَتْ الشَّجَّةُ مَا بَيْنَ قَرْنَيْهِ وَهِيَ لَا تَسْتَوْعِبُ مَا بَيْنَ قَرْنَيْ الشَّاجِّ فَالْمَشْجُوجُ بِالْخِيَارِ، إنْ شَاءَ اقْتَصَّ بِمِقْدَارِ شَجَّتِهِ يَبْتَدِئُ مِنْ أَيِّ الْجَانِبَيْنِ شَاءَ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْأَرْشَ) لِأَنَّ الشَّجَّةَ مُوجِبَةٌ لِكَوْنِهَا مَشِينَةٌ فَقَطْ فَيَزْدَادُ الشَّيْنُ بِزِيَادَتِهَا، وَفِي اسْتِيفَائِهِ مَا بَيْنَ قَرْنَيْ الشَّاجِّ زِيَادَةٌ عَلَى مَا فَعَلَ، وَلَا يَلْحَقُهُ مِنْ الشَّيْنِ بِاسْتِيفَائِهِ قَدْرَ حَقِّهِ مَا يَلْحَقُ الْمَشْجُوجَ فَيَنْتَقِصُ فَيُخَيَّرُ كَمَا فِي الشَّلَّاءِ وَالصَّحِيحَةِ، وَفِي عَكْسِهِ يُخَيَّرُ أَيْضًا لِأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ الِاسْتِيفَاءُ كَامِلًا لِلتَّعَدِّي إلَى غَيْرِ.

يَنْتَفِي بِهِ الْمُمَاثَلَةُ يَنْبَغِي أَنْ يُعْتَبَرَ، فَقُلْنَا: يُعْتَبَرُ مِنْ جِهَةِ الْأَكْمَلِ لِئَلَّا يَلْزَمَ أَنْ يَكُونَ بَاذِلًا لِلزِّيَادَةِ فِي الْأَطْرَافِ، وَلَا يُعْتَبَرُ مِنْ جِهَةِ الْأَنْقَصِ لِأَنَّهُ إسْقَاطٌ وَالْإِسْقَاطُ جَائِزٌ دُونَ الْبَذْلِ بِالْأَطْرَافِ انْتَهَى.

أَقُولُ: فِيهِ بَحْثٌ أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ مَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ التَّفَاوُتَ الْمَالِيَّ يَجِبُ أَنْ يُعْتَبَرَ مَانِعًا مُطْلَقًا، وَأَمَّا مَا لَيْسَ تَفَاوُتًا مَالِيًّا بَلْ مُوجِبًا لِلتَّفَاوُتِ فِي الْمَنْفَعَةِ كَالشَّلَلِ فَيُعْتَبَرُ مَانِعًا مِنْ جِهَةِ الْأَكْمَلِ وَلَا يُعْتَبَرُ مَانِعًا مِنْ جِهَةِ الْأَنْقَصِ تَحَكُّمٌ بَحْتٌ، لِأَنَّ الْعِلَّةَ الَّتِي أَقَامَهَا عَلَى أَنَّ الثَّانِيَ لَا يُعْتَبَرُ مِنْ جِهَةِ الْأَنْقَصِ وَهِيَ أَنَّهُ إسْقَاطٌ وَالْإِسْقَاطُ جَائِزٌ فِي الْأَطْرَافِ دُونَ الْبَذْلِ مُتَمَشِّيَةٌ بِعَيْنِهَا فِي الْأَوَّلِ أَيْضًا، إذْ لَا شَكَّ أَنَّهُ كَمَا يَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ إسْقَاطُ حَقِّهِ فِي الْمَنْفَعَةِ يَجُوزُ لَهُ إسْقَاطُ حَقِّهِ الْمَالِيِّ أَيْضًا بِلَا تَفَاوُتٍ بَيْنَهُمَا، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُعْتَبَرَ التَّفَاوُتُ الْمَالِيُّ أَيْضًا مَانِعًا مِنْ جِهَةِ الْأَنْقَصِ وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ كَوْنَ الشَّلَلِ مِمَّا لَا يُوجِبُ التَّفَاوُتَ الْمَالِيَّ مَمْنُوعٌ، كَيْفَ وَقِيمَةُ الْيَدِ تَتَفَاوَتُ بِالصِّحَّةِ وَالشَّلَلِ قَطْعًا، فَإِنَّ الشَّرْعَ جَعَلَ أَرْشَ الْيَدِ الصَّحِيحَةِ نِصْفَ دِيَةِ النَّفْسِ وَجَعَلَ أَرْشَ الْيَدِ الشَّلَّاءِ حُكُومَةَ عَدْلٍ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ فِي الدِّيَاتِ وَأَشَارَ إلَيْهِ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ هَاهُنَا أَيْضًا حَيْثُ قَالَ فِي أَثْنَاءِ تَعْلِيلِ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي نَحْنُ فِيهَا، وَلِأَنَّ أَرْشَ الْأَطْرَافِ مُخْتَلِفٌ فَصَارَتْ كَالصَّحِيحِ وَالْأَشَلِّ.

وَقَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ فِي دَفْعِ الْإِشْكَالِ الْمَذْكُورِ قُلْنَا: نَعَمْ إذَا كَانَ التَّفَاوُتُ بِسَبَبٍ حِسِّيٍّ كَالشَّلَلِ وَفَوَاتِ بَعْضِ الْأَصَابِعِ فَهُوَ كَمَا قُلْت: يَعْنِي يُمْنَعُ اسْتِيفَاءُ الْأَكْمَلِ بِالْأَنْقَصِ دُونَ الْعَكْسِ، فَأَمَّا إذَا كَانَ التَّفَاوُتُ بِمَعْنًى حُكْمِيٍّ فَإِنَّهُ يُمْنَعُ اسْتِيفَاءُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِصَاحِبِهِ كَالْيَمِينِ مَعَ الْيَسَارِ وَهَذَا الْمَعْنَى وَهُوَ أَنَّ التَّفَاوُتَ إذَا كَانَ لِمَعْنَى حِسِّيٍّ فَمَنْ لَهُ الْحَقُّ إذَا رَضِيَ بِالِاسْتِيفَاءِ يُجْعَلُ مُبْرِئًا لِبَعْضِ حَقِّهِ مُسْتَوْفِيًا لِمَا بَقِيَ وَذَلِكَ جَائِزٌ، وَلِهَذَا لَا يُسْتَوْفَى الْأَكْمَلُ بِالْأَنْقَصِ وَإِنْ رَضِيَ بِهِ الْقَاطِعُ، لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ بِالرِّضَا بَاذِلًا لِلزِّيَادَةِ، وَلَا يَحِلُّ اسْتِيفَاءُ الطَّرَفِ بِالْبَذْلِ.

فَأَمَّا إذَا كَانَ التَّفَاوُتُ بِمَعْنًى حُكْمِيٍّ فَلَا وَجْهَ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ مِنْهَا بِطَرِيقِ إسْقَاطِ الْبَعْضِ وَلَا بِطَرِيقِ الْبَذْلِ انْتَهَى. وَاقْتَفَى أَثَرَهُ صَاحِبُ مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ وَصَاحِبُ الْعِنَايَةِ.

أَقُولُ: وَفِيهِ أَيْضًا بَحْثٌ، إذْ الْفَرْقُ بَيْنَ التَّفَاوُتِ الْحِسِّيِّ وَبَيْنَ التَّفَاوُتِ الْحُكْمِيِّ فِي اسْتِيفَاءِ الْأَنْقَصِ بِالْأَكْمَلِ تَحَكُّمٌ أَيْضًا، فَإِنَّهُ إذَا تَقَرَّرَ التَّفَاوُتُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ بِالْكَمَالِ وَالنُّقْصَانِ فَصَاحِبُ الْأَكْمَلِ إنْ رَضِيَ بِأَنْ يَسْتَوْفِيَ فِي الْأَنْقَصِ مِنْ صَاحِبِ الْأَنْقَصِ بِمُقَابِلَةِ الْأَكْمَلِ يَصِيرُ مُسْقِطًا لِبَعْضِ حَقِّهِ مُسْتَوْفِيًا لِمَا بَقِيَ بِالضَّرُورَةِ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ التَّفَاوُتُ أَمْرًا حِسِّيًّا أَوْ أَمْرًا حُكْمِيًّا. وَأَمَّا صَاحِبُ الْأَنْقَصِ، فَإِنْ رَضِيَ بِأَنْ يَسْتَوْفِيَ مِنْهُ صَاحِبُ الْأَنْقَصِ الْأَكْمَلَ بِمُقَابَلَةَ الْأَنْقَصِ يَصِيرُ بَاذِلًا لِزِيَادَةِ حَقِّهِ بِالضَّرُورَةِ أَيْضًا بِلَا تَفَاوُتٍ بَيْنَ كَوْنِ سَبَبِ التَّفَاوُتِ حِسِّيًّا أَوْ حُكْمِيًّا، وَالْبَذْلُ فِي الْأَطْرَافِ غَيْرُ جَائِزٍ بِلَا خِلَافٍ. وَأَمَّا إسْقَاطُ الْحَقِّ بِالرِّضَا وَالِاخْتِيَارِ فَجَائِزٌ فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ، فَلَا مَجَالَ لِلْفَرْقِ الْمَزْبُورِ. فَإِنْ قُلْتَ: السَّبَبُ الْحُكْمِيُّ لَا يُفِيدُ التَّفَاوُتَ الْحَقِيقِيَّ، وَإِسْقَاطُ الْبَعْضِ وَبَذْلُ الزِّيَادَةِ فَرْعُ التَّفَاوُتِ الْحَقِيقِيِّ فَهَذَا مَدَارُ الْفَرْقِ الْمَذْكُورِ.

قُلْتُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ إسْقَاطَ بَعْضِ الْحَقِّ وَبَذْلِ زِيَادَتِهِ فَرْعُ التَّفَاوُتِ الْحِسِّيِّ الْحَقِيقِيِّ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ الْحُقُوقِ الشَّرْعِيَّةِ الْغَيْرِ الْحِسِّيَّةِ يَجْرِي فِيهَا الْكَمَالُ وَالنُّقْصَانُ، فَلَا جَرَمَ يَكُونُ الرِّضَا بِالنَّاقِصِ مِنْهَا عِنْدَ اسْتِحْقَاقِهِ الْكَامِلَ إسْقَاطًا لِبَعْضِ الْحَقِّ، وَيَكُونُ إيفَاءُ الْكَامِلِ مِنْهَا

ص: 238

حَقِّهِ، وَكَذَا إذَا كَانَتْ الشَّجَّةُ فِي طُولِ الرَّأْسِ وَهِيَ تَأْخُذُ مِنْ جَبْهَتِهِ إلَى قَفَاهُ وَلَا تَبْلُغُ إلَى قَفَا الشَّاجِّ فَهُوَ بِالْخِيَارِ لِأَنَّ الْمَعْنَى لَا يَخْتَلِفُ. .

قَالَ: (وَلَا قِصَاصَ فِي اللِّسَانِ وَلَا فِي الذَّكَرِ) وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إذَا قُطِعَ مِنْ أَصْلِهِ يَجِبُ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ اعْتِبَارُ الْمُسَاوَاةِ. وَلَنَا أَنَّهُ يَنْقَبِضُ وَيَنْبَسِطُ فَلَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ الْمُسَاوَاةِ (إلَّا أَنْ تُقْطَعَ الْحَشَفَةُ) لِأَنَّ مَوْضِعَ الْقَطْعِ مَعْلُومٌ كَالْمَفْصِلِ، وَلَوْ قَطَعَ بَعْضَ الْحَشَفَةِ أَوْ بَعْضَ الذَّكَرِ فَلَا قِصَاصَ فِيهِ لِأَنَّ الْبَعْضَ لَا يُعْلَمُ مِقْدَارُهُ، بِخِلَافِ الْأُذُنِ إذَا قُطِعَ كُلُّهُ أَوْ بَعْضُهُ لِأَنَّهُ لَا يَنْقَبِضُ وَلَا يَنْبَسِطُ وَلَهُ حَدٌّ يُعْرَفُ فَيُمْكِنُ اعْتِبَارُ الْمُسَاوَاةِ، وَالشَّفَةُ إذَا اسْتَقْصَاهَا بِالْقَطْعِ يَجِبُ الْقِصَاصُ لِإِمْكَانِ اعْتِبَارِ الْمُسَاوَاةِ، بِخِلَافِ مَا إذَا قُطِعَ بَعْضُهَا لِأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ اعْتِبَارُهَا. .

فَصْلٌ

قَالَ: (وَإِذَا اصْطَلَحَ الْقَاتِلُ وَأَوْلِيَاءُ الْقَتِيلِ عَلَى مَالٍ سَقَطَ الْقِصَاصُ وَوَجَبَ الْمَالُ قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} الْآيَةُ عَلَى مَا قِيلَ نَزَلَتْ الْآيَةُ فِي الصُّلْحِ. وَقَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام.

بَدَلَ النَّاقِصِ بَذْلًا لِلزِّيَادَةِ، كَيْفَ وَلَوْ سَلَّمَ ذَلِكَ لَزِمَ أَنْ لَا يَتِمَّ أَصْلُ دَلِيلِ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِهَا، فَإِنَّ مَدَارَ ذَلِكَ عَلَى انْعِدَامِ التَّمَاثُلِ فِي الْأَطْرَافِ بِتَحَقُّقِ التَّفَاوُتِ الْحُكْمِيِّ بَيْنَهَا.

وَقَالَ صَاحِبُ الْكِفَايَةِ فِي دَفْعِ ذَلِكَ الْإِشْكَالِ قُلْنَا: شَرْعُ الْقِصَاصِ فِي الْأَصْلِ يَعْتَمِدُ الْمُسَاوَاةَ، فَإِنْ كَانَ النُّقْصَانُ ثَابِتًا بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ كَنُقْصَانِ طَرَفِ الْأُنْثَى وَالْعَبْدِ مِنْ طَرَفِ الذَّكَرِ وَالْحُرِّ مُنِعَ شَرْعُ الْقِصَاصِ لِانْتِفَاءِ مَحَلِّهِ، وَإِنْ كَانَ التَّسَاوِي فِي الْأَصْلِ ثَابِتًا وَالتَّفَاوُتُ بِاعْتِبَارِ أَمْرٍ عَارِضٍ كَانَ الْقِصَاصُ مَشْرُوعًا فَيُمْنَعُ اسْتِيفَاءُ الْكَامِلِ بِالنَّاقِصِ دُونَ عَكْسِهِ إذَا رَضِيَ بِهِ صَاحِبُ الْحَقِّ انْتَهَى. وَيَقْرُبُ مِنْ هَذَا رَأْيُ تَاجِ الشَّرِيعَةِ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ.

أَقُولُ: وَفِيهِ أَيْضًا بَحْثٌ، لِأَنَّهُ إنْ أُرِيدَ أَنَّ شَرْعَ الْقِصَاصِ يَعْتَمِدُ الْمُسَاوَاةَ بِحَسَبِ الْأَصْلِ وَلَا اعْتِبَارَ لِلتَّفَاوُتِ بِحَسْبِ أَمْرٍ عَارِضٍ يَلْزَمُ أَنْ يَجُوزَ اسْتِيفَاءُ الْكَامِلِ وَهُوَ الصَّحِيحُ بِالنَّاقِصِ وَهُوَ الْأَشَلُّ، كَمَا يَجُوزُ عَكْسُهُ لِأَنَّهُمَا مُتَسَاوِيَانِ بِحَسَبِ أَصْلِ الْخِلْقَةِ، وَالتَّفَاوُتُ بَيْنَهَا بِحَسَبِ أَمْرٍ عَارِضٍ وَهُوَ الشَّلَلُ مَعَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ اسْتِيفَاءُ الْكَامِلِ بِالنَّاقِصِ بِلَا رَيْبٍ، وَإِنْ أُرِيدَ أَنَّ شَرْعَ الْقِصَاصِ يَعْتَمِدُ الْمُسَاوَاةَ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ لَكِنْ يَجُوزُ اسْتِيفَاءُ النَّاقِصِ بِالْكَامِلِ إذَا رَضِيَ صَاحِبُ الْحَقِّ بِهِ لِرِضَا صَاحِبِ الْحَقِّ بِإِسْقَاطِ بَعْضِ حَقِّهِ لَا لِتَحَقُّقِ الْمُسَاوَاةِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي شَرْعِ الْقِصَاصِ فَمَعَ إبَاءِ عِبَارَةِ الْجَوَابِ الْمَذْكُورِ عَنْهُ جِدًّا يَلْزَمُ أَنْ يَجُوزَ اسْتِيفَاءُ طَرَفِ الْمَرْأَةِ بِطَرَفِ الرَّجُلِ أَيْضًا إذَا رَضِيَ الرَّجُلُ بِهِ لِوُجُودِ رِضَا صَاحِبِ الْحَقِّ بِإِسْقَاطِ بَعْضِ حَقِّهِ فِي هَاتِيَكَ الصُّورَةِ أَيْضًا مَعَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا أَصْلًا فَتَأَمَّلْ حَقَّ التَّأَمُّلِ، فَلَعَلَّ حَلَّ هَذَا الْمَقَامِ عَلَى وَجْهٍ يَرْتَفِعُ بِهِ الْإِشْكَالُ عَنْهُ بِالْمَرَّةِ مِمَّا تُسْكَبُ فِيهِ الْعَبَرَاتُ.

(فَصْلٌ)

قَالَ فِي الْعِنَايَةِ: لَمَّا كَانَ تَصَوُّرُ الصُّلْحِ بَعْدَ تَصَوُّرِ الْجِنَايَةِ وَمُوجِبِهَا أَتْبَعَهُ ذَلِكَ فِي فَصْلٍ عَلَى حِدَةٍ انْتَهَى. أَقُولُ: فِيهِ كَلَامٌ

ص: 239

«مَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ» الْحَدِيثُ، وَالْمُرَادُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ الْأَخْذُ بِالرِّضَا عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ وَهُوَ الصُّلْحُ بِعَيْنِهِ، وَلِأَنَّهُ حَقٌّ ثَابِتٌ لِلْوَرَثَةِ يَجْرِي فِيهِ الْإِسْقَاطُ عَفْوًا فَكَذَا تَعْوِيضًا لِاشْتِمَالِهِ عَلَى إحْسَانِ الْأَوْلِيَاءِ وَإِحْيَاءِ الْقَاتِلِ فَيَجُوزُ بِالتَّرَاضِي. وَالْقَلِيلُ وَالْكَثِيرُ فِيهِ سَوَاءٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ نَصٌّ مُقَدَّرٌ فَيُفَوَّضُ إلَى اصْطِلَاحِهِمَا كَالْخُلْعِ وَغَيْرِهِ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرُوا حَالًّا وَلَا مُؤَجَّلًا فَهُوَ حَالٌّ لِأَنَّهُ مَالٌ وَاجِبٌ بِالْعَقْدِ، وَالْأَصْلُ فِي أَمْثَالِهِ الْحُلُولُ نَحْوُ الْمَهْرِ وَالثَّمَنِ، بِخِلَافِ الدِّيَةِ لِأَنَّهَا مَا وَجَبَتْ بِالْعَقْدِ. .

قَالَ: (وَإِنْ كَانَ الْقَاتِلُ حُرًّا وَعَبْدًا فَأَمَرَ الْحُرُّ وَمَوْلَى الْعَبْدِ رَجُلًا بِأَنْ يُصَالِحَ عَنْ دَمِهِمَا عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ فَفَعَلَ فَالْأَلْفُ عَلَى الْحُرِّ وَالْمَوْلَى نِصْفَانِ) لِأَنَّ عَقْدَ الصُّلْحِ أُضِيفَ إلَيْهِمَا.

(وَإِذَا عَفَا أَحَدُ الشُّرَكَاءِ مِنْ الدَّمِ أَوْ صَالَحَ مِنْ نَصِيبِهِ عَلَى عِوَضٍ سَقَطَ حَقُّ الْبَاقِينَ عَنْ الْقِصَاصِ وَكَانَ لَهُمْ نُصِيبُهُمْ مِنْ الدِّيَةِ).

أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ الصُّلْحَ عَنْ الْقِصَاصِ مَسْأَلَةٌ وَاحِدَةٌ مِنْ مَسَائِلِ هَذَا الْفَصْلِ، وَبَيَانُ وَجْهِ اتِّبَاعِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَحْدَهَا لَا يَكْفِي فِي اتِّبَاعِ جَمِيعِ مَا شَمِلَهُ هَذَا الْفَصْلُ مِنْ الْمَسَائِلِ الْكَثِيرَةِ الْمُخْتَلِفَةِ كَمَا تَرَى وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ كَوْنَ تَصَوُّرِ الصُّلْحِ عَنْ الْجِنَايَةِ بَعْدَ تَصَوُّرِ الْجِنَايَةِ وَمُوجِبِهَا إنَّمَا يَقْتَضِي مُجَرَّدَ اتِّبَاعِهِ ذَلِكَ وَتَأْخِيرِهِ عَنْهُ لَا ذِكْرُهُ فِي فَصْلٍ عَلَى حِدَةٍ، فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ فِي تَالِي الشَّرْطِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ أَتْبَعَهُ ذَلِكَ فِي فَصْلٍ عَلَى حِدَةٍ (قَوْلُهُ وَلِأَنَّهُ حَقٌّ ثَابِتٌ لِلْوَرَثَةِ يَجْرِي فِيهِ الْإِسْقَاطُ عَفْوًا فَكَذَلِكَ تَعْوِيضًا) أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَا يَلْزَمُ مِنْ جَرَيَانِ الْإِسْقَاطِ عَفْوًا فِي شَيْءٍ جَرَيَانُهُ تَعْوِيضًا أَيْضًا فِيهِ؛ أَلَا يَرَى أَنَّ لِلشَّفِيعِ إسْقَاطَ حَقِّ شُفْعَتِهِ بِلَا عِوَضٍ بَعْدَ أَنْ ثَبَتَ لَهُ حَقُّ الشُّفْعَةِ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُصَالِحَ عَنْ حَقِّ شُفْعَتِهِ عَلَى مَالٍ كَمَا مَرَّ فِي كِتَابِ الصُّلْحِ فَلْيُتَأَمَّلْ فِي الدَّفْعِ

(قَوْلُهُ وَإِذَا عَفَا أَحَدُ الشُّرَكَاءِ مِنْ الدَّمِ أَوْ صَالَحَ مِنْ نَصِيبِهِ عَلَى عِوَضٍ سَقَطَ حَقُّ الْبَاقِينَ مِنْ الْقِصَاصِ وَكَانَ لَهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنْ الدِّيَةِ) أَقُولُ: فِي عِبَارَةِ الْكِتَابِ هَاهُنَا فُتُورٌ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ أَنَّ كَلِمَةَ عَفَا تُعَدَّى بِعَنْ وَقَدْ عَدَّاهَا فِي الْكِتَابِ بِمِنْ حَيْثُ قَالَ: مِنْ الدَّمِ.

وَالثَّانِي أَنَّهُ يُقَالُ صَالَحَ عَنْ كَذَا عَلَى عِوَضٍ، وَذَكَرَ فِي الْكِتَابِ كَلِمَةَ مِنْ مَوْضِعَ كَلِمَةِ عَنْ حَيْثُ قَالَ: أَوْ صَالَحَ مِنْ نَصِيبِهِ عَلَى عِوَضٍ وَالثَّالِثُ أَنَّ عِبَارَةَ النَّصِيبِ فِي قَوْلِهِ أَوْ صَالَحَ مِنْ نَصِيبِهِ تُوهِمُ تَجَزُّؤَ الْقِصَاصِ لِأَنَّ النَّصِيبَ هُوَ الْحِصَّةُ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِيمَا مَرَّ أَنَّ الْقِصَاصَ غَيْرُ مُتَجَزِّئ فَيَثْبُتُ كَامِلًا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَوْلِيَاءِ الْقَتِيلِ، فَالْأَظْهَرُ فِي وَضْعِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يُقَالَ: وَإِذَا عَفَا أَحَدُ الشُّرَكَاءِ عَنْ الدَّمِ أَوْ صَالَحَ عَنْ حَقِّهِ عَلَى عِوَضٍ سَقَطَ حَقُّ الْبَاقِينَ فِي الْقِصَاصِ وَكَانَ لَهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنْ الدِّيَةِ، وَالتَّعْبِيرُ بِالنَّصِيبِ إنَّمَا أَصَابَ الْمُجَزَّءَ فِي قَوْلِهِ وَكَانَ لَهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنْ الدِّيَةِ لِأَنَّ الدِّيَةَ مُتَجَزِّئَةٌ لِكَوْنِهَا مِنْ قَبِيلِ الْأَمْوَالِ فَكَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ نَصِيبٌ مِنْهَا بِقَدْرِ حَقِّهِ مِنْ الْإِرْثِ.

وَأَمَّا حَقُّ التَّعْبِيرِ فِي شَأْنِ الْقِصَاصِ فَأَنْ يَذْكُرَ لَفْظَ الْحَقِّ بَدَلَ لَفْظِ النَّصِيبِ كَمَا نَبَّهْنَا عَلَيْهِ وَعَنْ هَذَا قَالَ الْمُصَنِّفُ عِنْدَ تَقْرِيرِ دَلِيلِنَا عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.

وَمِنْ ضَرُورَةِ سُقُوطِ حَقِّ الْبَعْضِ فِي الْقِصَاصِ سُقُوطُ حَقِّ الْبَاقِينَ فِيهِ لِأَنَّهُ لَا يَتَجَزَّأُ.

ص: 240

وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ الْقِصَاصَ حَقُّ جَمِيعِ الْوَرَثَةِ، وَكَذَا الدِّيَةَ خِلَافًا لِمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ فِي الزَّوْجَيْنِ. لَهُمَا أَنَّ الْوِرَاثَةَ خِلَافَةٌ وَهِيَ بِالنَّسَبِ دُونَ السَّبَبِ لِانْقِطَاعِهِ بِالْمَوْتِ، وَلَنَا «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام أَمَرَ بِتَوْرِيثِ امْرَأَةِ أَشْيَمَ الضَّبَابِيِّ مِنْ عَقْلِ زَوْجِهَا أَشْيَمَ» ،

قَوْلُهُ (وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ الْقِصَاصَ حَقُّ جَمِيعِ الْوَرَثَةِ وَكَذَا الدِّيَةُ خِلَافًا لِمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ فِي الزَّوْجَيْنِ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: هَذَا اللَّفْظُ كَمَا تَرَى يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلزَّوْجَيْنِ حَقٌّ فِي الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ جَمِيعًا عِنْدَهُمَا، وَنُقِلَ عَنْ الْمَبْسُوطِ وَالْإِيضَاحِ وَالْأَسْرَارِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ خِلَافَ مَالِكٍ فِي الزَّوْجَيْنِ فِي الدِّيَةِ خَاصَّةً. وَأَمَّا فِي حَقِّ الْقِصَاصِ فَفِيهِ خِلَافُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى فِي الزَّوْجَيْنِ، وَنُقِلَ عَنْ الْأَسْرَارِ أَنَّ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ: لَا حَظَّ لِلنِّسَاءِ فِي اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ وَلَهُنَّ حَقُّ الْعَفْوِ.

ثُمَّ قَالَ: وَبِهَذَا يُعْلَمُ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ مِنْ أَنَّهُ لَا حَظَّ لِلزَّوْجَيْنِ فِي الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ مُخَالِفٌ لِرِوَايَةِ الْمَبْسُوطِ وَالْإِيضَاحِ وَالْأَسْرَارِ. أَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ إنَّمَا يَكُونُ مُخَالِفًا لِرِوَايَةِ تِلْكَ الْكُتُبِ لَوْ كَانَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا حَقَّ لِلزَّوْجَيْنِ فِي الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ جَمِيعًا عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ، وَهُوَ غَيْرُ مُسَلَّمٍ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ خِلَافًا لِمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ فِي الزَّوْجَيْنِ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ وَكَذَا الدِّيَةُ وَحْدَهُ لَا بِمَجْمُوعِ قَوْلِهِ وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ الْقِصَاصَ حَقُّ جَمِيعِ الْوَرَثَةِ وَكَذَا الدِّيَةُ، وَلَا يَخْلُو عَنْ نَوْعِ إرْشَادٍ إلَيْهِ فَصَّلَ قَوْلَهُ وَكَذَا الدِّيَةُ بِذِكْرِ لَفْظَةِ كَذَا، إذْ لَوْ كَانَ مُرَادُهُ الْجَمْعَ بَيْنَ الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ فِي بَيَانِ الْخِلَافِ أَيْضًا لَقَالَ: وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ الْقِصَاصَ وَالدِّيَةَ حَقُّ جَمِيعِ الْوَرَثَةِ خِلَافًا لِمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ فِي الزَّوْجَيْنِ.

وَعَنْ هَذَا قَالَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ فِي شَرْحِ قَوْلِهِ خِلَافًا لِمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ فِي الزَّوْجَيْنِ: فَعِنْدَهُمَا لَا يَرِثُ الزَّوْجُ وَالزَّوْجَةُ مِنْ الدِّيَةِ شَيْئًا لِأَنَّ وُجُوبَهُ بَعْدَ الْمَوْتِ وَالزَّوْجِيَّةُ تَنْقَطِعُ بِهِ انْتَهَى. حَيْثُ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِلْقِصَاصِ فِي شَرْحِ ذَلِكَ، وَيُوَافِقُهُ تَحْرِيرُ صَاحِبِ الْكَافِي هَاهُنَا حَيْثُ قَالَ: وَالْأَصْلُ أَنَّ الْقِصَاصَ حَقُّ الْوَرَثَةِ وَكَذَا الدِّيَةُ. وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: لَا يَرِثُ الزَّوْجَانِ مِنْ الدِّيَةِ شَيْئًا انْتَهَى.

وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ نَقْلِ مَا فِي النِّهَايَةِ: وَهُوَ مُؤَاخَذَةٌ ضَعِيفَةٌ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ الْمُخَالِفَةِ لَهَا عَدَمُ صِحَّةِ مَا نَقَلَهُ، وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِهِمَا مَا نَقَلَهُ انْتَهَى.

أَقُولُ: بَلْ مَا ذَكَرَهُ نَفْسُهُ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ صَاحِبَ النِّهَايَةِ لَمْ يَدَعْ عَدَمَ صِحَّةِ مَا فِي الْكِتَابِ بِالْكُلِّيَّةِ، بَلْ أَرَادَ بَيَانَ مُخَالَفَتِهِ لِمَا فِي الْكُتُبِ الثَّلَاثَةِ الْمُعْتَبَرَةِ الْمَقْبُولَةِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ لَا سِيَّمَا الْمَبْسُوطِ وَالْأَسْرَارِ فَإِنَّ صَاحِبَيْهِمَا مِنْ أَسَاطِينِ الْأَئِمَّةِ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمَشْهُورَ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ أَنْ لَيْسَ لِلزَّوْجَيْنِ حَقٌّ فِي الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ جَمِيعًا، بَلْ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِهِمَا مَا ذُكِرَ فِي تِلْكَ الْكُتُبِ، فَالْأَوْجَهُ التَّوْفِيقُ بَيْنَ مَا ذُكِرَ فِيهَا وَبَيْنَ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ بِمَا نَبَّهْنَا عَلَيْهِ آنِفًا (قَوْلُهُ وَلَنَا أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام أَمَرَ بِتَوْرِيثِ امْرَأَةِ أَشْيَمَ الضَّبَابِيِّ مِنْ عَقْلِ زَوْجِهَا أَشْيَمَ) أَقُولُ: فِيهِ شَيْءٌ، وَهُوَ أَنَّ هَذَا

ص: 241

وَلِأَنَّهُ حَقٌّ يَجْرِي فِيهِ الْإِرْثُ، حَتَّى أَنَّ مَنْ قُتِلَ وَلَهُ ابْنَانِ فَمَاتَ أَحَدُهُمَا عَنْ ابْنٍ كَانَ الْقِصَاصُ بَيْنَ الصُّلْبِيِّ وَابْنِ الِابْنِ فَيَثْبُتُ لِسَائِرِ الْوَرَثَةِ، وَالزَّوْجِيَّةُ تَبْقَى بَعْدَ الْمَوْتِ حُكْمًا فِي حَقِّ الْإِرْثِ أَوْ يَثْبُتُ بَعْدَ الْمَوْتِ مُسْتَنِدًا إلَى سَبَبِهِ وَهُوَ الْجُرْحُ، وَإِذَا ثَبَتَ لِلْجَمِيعِ فَكُلٌّ مِنْهُمْ يَتَمَكَّنُ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ وَالْإِسْقَاطِ عَفْوًا وَصُلْحًا وَمِنْ ضَرُورَةِ سُقُوطِ حَقِّ الْبَعْضِ فِي الْقِصَاصِ سُقُوطُ حَقِّ الْبَاقِينَ فِيهِ، لِأَنَّهُ لَا يَتَجَزَّأُ، بِخِلَافِ مَا إذَا قُتِلَ رَجُلَيْنِ وَعَفَا أَحَدُ الْوَلِيَّيْنِ لِأَنَّ الْوَاجِبَ هُنَاكَ قِصَاصَانِ مِنْ غَيْرِ شُبْهَةٍ لِاخْتِلَافِ الْقَتْلِ وَالْمَقْتُولِ وَهَاهُنَا وَاحِدٌ لِاتِّحَادِهِمَا، وَإِذَا سَقَطَ الْقِصَاصُ يَنْقَلِبُ نَصِيبُ الْبَاقِينَ مَالًا لِأَنَّهُ امْتَنَعَ لِمَعْنًى رَاجِعٍ إلَى الْقَاتِلِ، وَلَيْسَ لِلْعَافِي شَيْءٌ مِنْ الْمَالِ لِأَنَّهُ أَسْقَطَ حَقَّهُ بِفِعْلِهِ وَرِضَاهُ، ثُمَّ يَجِبُ مَا يَجِبُ مِنْ الْمَالِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ وَقَالَ زُفَرُ: يَجِبُ فِي سَنَتَيْنِ فِيمَا إذَا كَانَ بَيْنَ الشَّرِيكَيْنِ وَعَفَا أَحَدُهُمَا، لِأَنَّ الْوَاجِبَ نِصْفُ الدِّيَةِ فَيُعْتَبَرُ بِمَا إذَا قُطِعَتْ يَدُهُ خَطَأً.

الدَّلِيلَ لَا يُفِيدُ تَمَامَ الْمُدَّعِي هَاهُنَا، فَإِنَّهُ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ الِاسْتِحْقَاقِ بِالزَّوْجِيَّةِ فِي حَقِّ الدِّيَةِ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْقِصَاصِ، وَالْعُمْدَةِ هَاهُنَا هُوَ الثَّانِي، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْآخِرَ اسْتِطْرَادًا كَمَا تَرَى.

(قَوْلُهُ وَلِأَنَّهُ حَقٌّ يَجْرِي فِيهِ الْإِرْثُ، حَتَّى أَنْ مَنْ قُتِلَ وَلَهُ ابْنَانِ فَمَاتَ أَحَدُهُمَا عَنْ ابْنٍ كَانَ الْقِصَاصُ بَيْنَ الصُّلْبِيِّ وَابْنِ الِابْنِ فَيَثْبُتُ لِسَائِرِ الْوَرَثَةِ) أَقُولُ: فِيهِ أَيْضًا شَيْءٌ، وَهُوَ أَنَّ هَذَا التَّعْلِيلَ وَإِنْ كَانَ يَتَمَشَّى فِي الْقِصَاصِ أَيْضًا إلَّا أَنَّهُ لَا يَتَمَشَّى فِيهِ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَإِنَّمَا يَتَمَشَّى فِيهِ عَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، فَإِنَّهُ سَيَجِيءُ فِي أَوَّلِ بَابِ الشَّهَادَةِ فِي الْقَتْلِ أَنَّ الْقِصَاصَ طَرِيقُهُ طَرِيقُ الْوِرَاثَةِ عِنْدَهُمَا كَالدَّيْنِ وَالدِّيَةِ، وَأَمَّا عِنْدَهُ فَطَرِيقُهُ طَرِيقُ الْخِلَافَةِ دُونَ الْوِرَاثَةِ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ مِنْ قِبَلِهِ إنَّهُ حَقٌّ يَجْرِي فِيهِ الْإِرْثُ مَعَ أَنَّ الْمُدَّعِي هَاهُنَا وَهُوَ قَوْلُهُ وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ الْقِصَاصَ حَقُّ جَمِيعِ الْوَرَثَةِ وَكَذَا الدِّيَةُ مِمَّا اتَّفَقَ عَلَيْهِ أَئِمَّتُنَا قَاطِبَةً فَكَيْفَ يَتِمُّ تَعْلِيلُ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ بِالْمُخْتَلِفِ فِيهِ.

وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ فِي تَتِمَّتِهِ: حَتَّى أَنَّ مَنْ قُتِلَ وَلَهُ ابْنَانِ فَمَاتَ أَحَدُهُمَا عَنْ ابْنٍ كَانَ الْقِصَاصُ بَيْنَ الصُّلْبِيِّ وَابْنِ الِابْنِ لَا يُجْدِي نَفْعًا لِأَنَّهُ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى جَرَيَانِ الْإِرْثِ فِيهِ مِنْ غَيْرِ الْمَقْتُولِ، وَلَا كَلَامَ فِيهِ إذْ لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ أَئِمَّتِنَا الثَّلَاثَةِ، فَإِنَّ حَقَّ الْقِصَاصِ هُنَاكَ يَثْبُتُ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا لِلْمُوَرِّثِ الْغَيْرِ الْمَقْتُولِ قَبْلَ مَوْتِهِ وِرَاثَةً مِنْ الْمَقْتُولِ عِنْدَهُمَا وَخِلَافَةً عَنْهُ لَا وِرَاثَةً عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، بِخِلَافِ الْمَقْتُولِ فَإِنَّ حَقَّ الْقِصَاصِ لَا يَثْبُتُ لَهُ قَبْلَ مَوْتِهِ عِنْدَهُ، بَلْ إنَّمَا يَثْبُتُ عِنْدَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ لِوَرَثَتِهِ ابْتِدَاءً لِتَشَفِّي الصُّدُورِ كَمَا سَتَطَّلِعُ عَلَى تَفْصِيلِهِ فِي بَابِهِ، وَالْكَلَامُ هَاهُنَا فِي وَرَثَةِ نَفْسِ الْمَقْتُولِ فَلَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ عَلَى أَصْلِهِ فَلْيُتَأَمَّلْ.

ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ الْعِنَايَةِ قَالَ فِي شَرْحِ هَذَا التَّعْلِيلِ: وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّهُمَا مَوْرُوثَانِ كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ بِالِاتِّفَاقِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَا فِي حَقِّ الزَّوْجَيْنِ كَذَلِكَ لِأَنَّ وُجُوبَهُمَا أَوَّلًا لِلْمَيِّتِ، ثُمَّ يَثْبُتُ لِلْوَرَثَةِ وَلَا يَقَعُ لِلْمَيِّتِ إلَّا بِأَنْ يُسْنِدَ الْوُجُوبَ إلَى سَبَبِهِ وَهُوَ الْجُرْحُ، فَكَانَا كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ فِي ثُبُوتِهِمَا قَبْلَ الْمَوْتِ انْتَهَى، أَقُولُ: قَدْ زَادَ هَذَا

ص: 242

وَلَنَا أَنَّ هَذَا بَعْضُ بَدَلِ الدَّمِ وَكُلَّهُ مُؤَجَّلٌ إلَى ثَلَاثِ سِنِينَ فَكَذَلِكَ بَعْضُهُ، وَالْوَاجِبُ فِي الْيَدِ كُلُّ بَدَلِ الطَّرَفِ وَهُوَ فِي سَنَتَيْنِ فِي الشَّرْعِ وَيَجِبُ فِي مَالِهِ لِأَنَّهُ عَمْدٌ. .

قَالَ: (وَإِذَا قَتَلَ جَمَاعَةٌ وَاحِدًا عَمْدًا اُقْتُصَّ مِنْ جَمِيعِهِمْ) لِقَوْلِ عُمَرَ رضي الله عنه فِيهِ: لَوْ تَمَالَأَ عَلَيْهِ أَهْلُ صَنْعَاءَ لَقَتَلْتُهُمْ،

الشَّارِحُ هَاهُنَا نَغْمَةً فِي الطُّنْبُورِ حَيْثُ زَادَ فَسَادًا عَلَى فَسَادٍ، لِأَنَّهُ مَعَ إتْيَانِهِ فِي تَضَاعِيفِ شَرْحِهِ بِمَا يُقَرِّرُ أَنْ لَا يَتِمَّ هَذَا التَّعْلِيلُ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ قَوْلُهُ لِأَنَّ وُجُوبَهُمَا أَوَّلًا لِلْمَيِّتِ ثُمَّ يَثْبُتُ لِلْوَرَثَةِ صَرَّحَ بِأَنَّهُمَا يَعْنِي الْقِصَاصَ وَالدِّيَةَ مَوْرُوثَانِ كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ بِالِاتِّفَاقِ.

وَقَدْ عَرَفْت أَنَّ الْقِصَاصَ لَيْسَ بِمَوْرُوثٍ مِنْ الْمَقْتُولِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَمْوَالِ فَالتَّصْرِيحُ بِالِاتِّفَاقِ فَسَادٌ فَوْقَ فَسَادٍ، وَاَللَّهُ الْهَادِي إلَى سَبِيلِ الرَّشَادِ

(قَوْلُهُ وَإِذَا قَتَلَ جَمَاعَةٌ وَاحِدًا عَمْدًا اُقْتُصَّ مِنْ جَمِيعِهِمْ لِقَوْلِ عُمَرَ فِيهِ: لَوْ تَمَالَأَ عَلَيْهِ أَهْلُ صَنْعَاءَ لَقَتَلْتُهُمْ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: هَذَا جَوَابُ الِاسْتِحْسَانِ.

وَفِي الْقِيَاسِ: لَا يَلْزَمُهُمْ الْقِصَاصُ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْقِصَاصِ الْمُسَاوَاةُ لِمَا فِي الزِّيَادَةِ مِنْ الظُّلْمِ عَلَى الْمُعْتَدِي وَفِي النُّقْصَانِ مِنْ الْبَخْسِ بِحَقِّ الْمُعْتَدِي عَلَيْهِ، وَلَا مُسَاوَاةَ بَيْنَ الْعَشَرَةِ وَالْوَاحِدِ هَذَا شَيْءٌ يُعْلَمُ بِبَدَاهَةِ الْعَقْلِ، فَالْوَاحِدُ مِنْ الْعَشَرَةِ يَكُونُ مَثَلًا لِلْوَاحِدِ فَكَيْفَ تَكُونُ الْعَشَرَةُ مَثَلًا لِلْوَاحِدِ. وَأَيَّدَ هَذَا الْقِيَاسَ قَوْله تَعَالَى {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} وَذَلِكَ يَنْفِي مُقَابَلَةَ النُّفُوسِ بِنَفْسٍ، وَلَكِنْ تَرَكْنَا هَذَا الْقِيَاسَ لِمَا رُوِيَ أَنَّ سَبْعَةً مِنْ أَهْلِ صَنْعَاءَ قَتَلُوا رَجُلًا فَقَضَى عُمَرُ رضي الله عنه بِالْقِصَاصِ عَلَيْهِمْ وَقَالَ: لَوْ تَمَالَأَ عَلَيْهِ أَهْلُ صَنْعَاءَ لَقَتَلْتهمْ بِهِ انْتَهَى كَلَامُهُ.

أَقُولُ: فِيهِ بَحْثٌ، لِأَنَّهُ صَرَّحَ بِأَنَّ هَذَا الْقِيَاسَ مُؤَيَّدٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} وَقَالَ فِي بَيَانِهِ: وَذَلِكَ يَنْفِي مُقَابَلَةَ النُّفُوسِ بِنَفْسٍ، فَعَلَى ذَلِكَ يَلْزَمُ مِنْ تَرْكِ هَذَا الْقِيَاسِ تَرْكُ الْعَمَلِ بِمَدْلُولِ الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ بِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه لِأَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه إنْ كَانَ مُنْفَرِدًا فِي قَضَائِهِ وَقَوْلِهِ الْمَزْبُورَيْنِ فَظَاهِرٌ، لِأَنَّ قَوْلَ صَحَابِيٍّ وَاحِدٍ وَفِعْلَهُ لَا يَصْلُحَانِ لِلْمُعَارَضَةِ لِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَضْلًا عَنْ الرُّجْحَانِ عَلَيْهِ، وَإِنْ انْضَمَّ إلَيْهِ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ حَيْثُ كَانُوا مُتَوَافِرَيْنِ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْهُمْ فَحَلَّ مَحَلُّ الْإِجْمَاعِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْعِنَايَةِ وَغَيْرِهَا فَكَذَلِكَ، إذْ قَدْ تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يَكُونُ

ص: 243

وَلِأَنَّ الْقَتْلَ بِطَرِيقِ التَّغَالُبِ غَالِبٌ، وَالْقِصَاصُ مَزْجَرَةٌ لِلسُّفَهَاءِ فَيَجِبُ تَحْقِيقًا لِحِكْمَةِ الْإِحْيَاءِ.

(وَإِذَا قَتَلَ وَاحِدٌ جَمَاعَةً فَحَضَرَ أَوْلِيَاءُ الْمَقْتُولِينَ قُتِلَ لِجَمَاعَتِهِمْ وَلَا شَيْءَ لَهُمْ غَيْرُ ذَلِكَ، فَإِنْ حَضَرَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ قُتِلَ لَهُ وَسَقَطَ حَقُّ الْبَاقِينَ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُقْتَلُ بِالْأَوَّلِ مِنْهُمْ وَيَجِبُ لِلْبَاقِينَ الْمَالُ، وَإِنْ اجْتَمَعُوا وَلَمْ يُعْرَفْ الْأَوَّلُ قُتِلَ لَهُمْ وَقُسِمَتْ الدِّيَاتُ بَيْنَهُمْ، وَقِيلَ يُقْرَعُ بَيْنَهُمْ فَيُقْتَلُ لِمَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ. لَهُ أَنَّ الْمَوْجُودَ مِنْ الْوَاحِدِ قِتْلَاتٌ وَاَلَّذِي تَحَقَّقَ فِي حَقِّهِ قَتْلُ وَاحِدٍ فَلَا تَمَاثُلَ، وَهُوَ الْقِيَاسُ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ، إلَّا أَنَّهُ عُرِفَ بِالشَّرْعِ. وَلَنَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَاتِلٌ بِوَصْفِ الْكَمَالِ فَجَاءَ التَّمَاثُلُ أَصْلُهُ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ، إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَمَا وَجَبَ الْقِصَاصُ،

نَاسِخًا لِلْكِتَابِ وَلَا السُّنَّةِ كَمَا لَا يَكُونُ الْقِيَاسُ نَاسِخًا لِشَيْءٍ مِنْهُمَا، فَالْحَقُّ فِي أُسْلُوبِ تَحْرِيرِ هَذَا الْمَقَامِ أَنْ لَا يَتَعَرَّضَ لِحَدِيثِ كَوْنِ الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ مُؤَيَّدَةً لِمَا فِي مُقْتَضَى الْقِيَاسِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَأَنْ يُبَيِّنَ عَدَمَ الْمُنَافَاةِ بَيْنَ مَدْلُولِ تِلْكَ الْآيَةِ وَبَيْنَ جَوَابِ الِاسْتِحْسَانِ هَاهُنَا، وَسَيَجِيءُ مِنَّا الْكَلَامُ فِي التَّوْفِيقِ بَيْنَهُمَا بَعْدَ هَذَا الْقَوْلِ (قَوْلُهُ وَلِأَنَّ الْقَتْلَ بِطَرِيقِ التَّغَالُبِ غَالِبٌ وَالْقِصَاصُ مَزْجَرَةٌ لِلسُّفَهَاءِ فَيَجِبُ تَحْقِيقًا لِحِكْمَةِ الْإِحْيَاءِ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: مَا ذَكَرْتُمْ مِنْ الْمَعْقُولِ إنْ لَمْ يَكُنْ قِيَاسًا عَلَى مُجْمَعٍ عَلَيْهِ لَا يَكُونُ مُعْتَبَرًا فِي الشَّرْعِ، وَإِنْ كَانَ فَلَا يَرْبُو عَلَى الْقِيَاسِ الْمُقْتَضِي لِعَدَمِهِ الْمُؤَيِّدِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} وَالْجَوَابُ أَنَّهُ قِيَاسٌ عَلَى سَائِرِ أَبْوَابِ الْعُقُوبَاتِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَى مَا يُوجِبُ الْفَسَادَ مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَيَرْبُو عَلَى ذَلِكَ بِقُوَّةِ أَثَرِهِ الْبَاطِنِ وَهُوَ إحْيَاءُ حِكْمَةِ الْإِحْيَاءِ، وقَوْله تَعَالَى {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} لَا يُنَافِيهِ لِأَنَّهُمْ فِي إزْهَاقِ الرُّوحِ الْغَيْرِ الْمُتَجَزِّئِ كَشَخْصٍ وَاحِدٍ انْتَهَى كَلَامُهُ.

أَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ جَعْلَ الْأَشْخَاصِ الْمُتَعَدِّدَةِ الذَّوَاتِ فِي الْحَقِيقَةِ كَشَخْصٍ وَاحِدٍ بِمُجَرَّدِ صُدُورِ إزْهَاقِ الرُّوحِ الْغَيْرِ الْمُتَجَزِّئِ عَنْ مَجْمُوعِهِمْ وَجَعَلَهُمْ مُسَاوِينَ لِشَخْصٍ وَاحِدٍ بِحَيْثُ يَتَحَقَّقُ بَيْنَ ذَلِكَ الشَّخْصِ الْوَاحِدِ وَبَيْنَ هَؤُلَاءِ الْجَمَاعَةِ مُمَاثَلَةٌ مُعْتَبَرَةٌ فِي الْقِصَاصِ بَعِيدٌ جِدًّا عَنْ مُسَاعِدَةِ الْعَقْلِ وَالنَّقْلِ، وَأَيْضًا يُنَافِي هَذَا مَا سَيَأْتِي فِي تَعْلِيلِ الْمَسْأَلَةِ الْآتِيَةِ مِنْ أَنَّ الْأَصْلَ عِنْدَ أَئِمَّتِنَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَاتِلٌ بِوَصْفِ الْكَمَالِ فَكَانَ الصَّادِرُ مِنْهُمْ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ قَتْلَاتٍ مُتَعَدِّدَةً عَلَى عَدَدِ رُءُوسهمْ فَحَصَلَتْ الْمُمَاثَلَةُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي الْقِصَاصِ.

وَالْحَقُّ عِنْدِي هُنَا أَنْ يُقَالَ: إنَّ قَوْله تَعَالَى {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} لَا يُنَافِي مَا قَالُوا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إذْ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى اعْتِبَارِ الْوِحْدَةِ فِي النَّفْسِ، بَلْ فِيهِ مُجَرَّدُ مُقَابِلَةِ جِنْسِ النَّفْسِ بِجِنْسِ النَّفْسِ كَمَا تَرَى، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ الِاحْتِرَازُ عَنْ أَنْ يُقْتَصَّ النَّفْسُ بِغَيْرِ النَّفْسِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ} وَنَحْوَهُمَا وَأَمَّا أَنَّهُ هَلْ تَتَحَقَّقُ الْمُمَاثَلَةُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي الْقِصَاصِ عِنْدَ تَعَدُّدِ النَّفْسِ فِي جَانِبِ الْقَاتِلِ أَوْ الْمَقْتُولِ فَإِنَّمَا يُسْتَفَادُ ذَلِكَ مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ؛ أَلَا يَرَى أَنَّ الْعَيْنَ الْيُمْنَى لَا تُقْتَصُّ بِالْعَيْنِ الْيُسْرَى وَكَذَا الْعَكْسُ، مَعَ أَنَّ قَوْله تَعَالَى {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} .

لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ نَظَرًا إلَى ظَاهِرِ إطْلَاقِهِ، بَلْ إنَّمَا يُسْتَفَادُ ذَلِكَ مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ فَكَذَا هُنَا تَبَصَّرْ

(قَوْلُهُ وَلَنَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَاتِلٌ بِوَصْفِ الْكَمَالِ فَجَاءَ التَّمَاثُلُ أَصْلُهُ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَمَا وَجَبَ الْقِصَاصُ)

ص: 244

وَلِأَنَّهُ وُجِدَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جُرْحٌ صَالِحٌ لِلْإِزْهَاقِ فَيُضَافُ إلَى كُلٍّ مِنْهُمْ إذْ هُوَ لَا يَتَجَزَّأُ،.

أَقُولُ: فِيهِ إشْكَالٌ أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ كَوْنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَاتَلَا بِوَصْفِ الْكَمَالِ أَمْرٌ مُتَعَذِّرٌ لِاسْتِلْزَامِهِ تَوَارُدَ الْعِلَلِ الْمُسْتَقِلَّةِ بِالِاجْتِمَاعِ عَلَى مَعْلُولٍ وَاحِدٍ بِالشَّخْصِ وَهُوَ مُحَالٌ كَمَا تَقَرَّرَ فِي مَوْضِعِهِ.

وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ شُرَّاحَ الْكِتَابِ وَغَيْرَهُمْ صَرَّحُوا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ بِأَنَّ جَوَابَ الْمَسْأَلَةِ جَوَابُ الِاسْتِحْسَانِ، وَالْقِيَاسُ لَا يَقْتَضِيهِ، لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْقِصَاصِ الْمُمَاثَلَةُ وَلَا مُمَاثَلَةَ بَيْنَ الْوَاحِدِ وَالْجَمَاعَةِ قَطْعًا بَلْ بَدِيهَةً، لَكِنَّا تَرَكْنَا الْقِيَاسَ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ عَلَى قَتْلِ جَمَاعَةٍ بِوَاحِدٍ، فَالْقَوْلُ هَاهُنَا بِتَحَقُّقِ التَّمَاثُلِ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ أَيْضًا يُنَافِي ذَلِكَ، إذْ يَلْزَمُ حِينَئِذٍ أَنْ يَكُونَ جَوَابُ الْمَسْأَلَةِ هُنَاكَ جَوَابَ الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ مَعًا.

فَإِنْ قُلْت: لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَاتِلٌ بِوَصْفِ الْكَمَالِ حَقِيقَةً، بَلْ الْمُرَادُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَاتِلٌ بِوَصْفِ الْكَمَالِ فِي اعْتِبَارِ الشَّرْعِ تَحْقِيقًا لِلْمُمَاثَلَةِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الْقِصَاصِ فَيَحْصُلُ الْجَوَابُ عَنْ وَجْهَيْ الْإِشْكَالِ مَعًا.

قُلْت: تَوَارُدُ الْعِلَّتَيْنِ الْمُسْتَقِلَّتَيْنِ بِالِاجْتِمَاعِ عَلَى مَعْلُولٍ وَاحِدٍ بِالشَّخْصِ مُمْتَنِعٌ عَقْلِيٌّ، وَاعْتِبَارُ الشَّرْعِ مَا هُوَ مُمْتَنِعُ الْوُقُوعِ وَاقِعًا مِمَّا لَا وُقُوعَ لَهُ فِي شَيْءٍ، وَلَوْ فَرَضْنَا وُقُوعَهُ لَا يَظْهَرُ لَهُ فَائِدَةٌ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ لِأَنَّهُمْ صَرَّحُوا بِأَنَّ شَرْعَ الْمُمَاثَلَةِ فِي الْقِصَاصِ لِئَلَّا يَلْزَمَ الظُّلْمُ عَلَى الْمُعْتَدِي عَلَى تَقْدِيرِ الزِّيَادَةِ، وَلِئَلَّا يَلْزَمَ الْبَخْسُ لِحَقِّ الْمُعْتَدَى عَلَيْهِ عَلَى تَقْدِيرِ النُّقْصَانِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الظُّلْمَ وَالْبَخْسَ إنَّمَا يَنْدَفِعَانِ بِتَحَقُّقِ الْمُمَاثَلَةِ الْحَقِيقِيَّةِ.

وَأَمَّا فِي مُجَرَّدِ اعْتِبَارِ غَيْرِ الْمُمَاثِلِ مُمَاثِلًا فَلَا يَخْلُو الْأَمْرُ عَنْ الظُّلْمِ أَوْ الْبَخْسِ حَقِيقَةً، وَهَذَا غَيْرُ وَاقِعٍ بَلْ غَيْرُ جَائِزٍ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ (قَوْلُهُ وَلِأَنَّهُ وُجِدَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جُرْحٌ صَالِحٌ لِلْإِزْهَاقِ فَيُضَافُ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إذْ هُوَ لَا يَتَجَزَّأُ) أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: حَاصِلُ هَذَا الدَّلِيلِ بَيَانُ وَجْهِ قَوْلِهِ فِي الدَّلِيلِ الْأَوَّلِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَاتِلٌ بِوَصْفِ الْكَمَالِ فَلَا وَجْهَ لِجَعْلِهِ دَلِيلًا مُسْتَقِلًّا مَعْطُوفًا عَلَى الدَّلِيلِ الْأَوَّلِ بِقَوْلِهِ وَلِأَنَّهُ وُجِدَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ إلَخْ. ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ الْعِنَايَةِ قَالَ فِي شَرْعِ هَذَا الدَّلِيلِ: يَعْنِي أَنَّ الْقَتْلَ جُرْحٌ صَالِحٌ لِإِزْهَاقِ الرُّوحِ، وَقَدْ وُجِدَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِحَيْثُ لَوْ انْفَرَدَ عَنْ الْبَاقِينَ كَانَ قَاتِلًا بِصِفَةِ الْكَمَالِ. وَالْحُكْمُ إذَا حَصَلَ عَقِيبَ عِلَلٍ لَا بُدَّ مِنْ الْإِضَافَةِ إلَيْهَا، فَإِمَّا أَنْ يُضَافَ إلَيْهَا تَوْزِيعًا أَوْ كَامِلًا، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِعَدَمِ التَّجَزِّي فَتَعَيَّنَ الثَّانِي، وَلِهَذَا لَوْ حَلَفَ جَمَاعَةٌ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ لَا يَقْتُلَ فُلَانًا فَاجْتُمِعُوا عَلَى قَتْلِهِ حَنِثُوا انْتَهَى. أَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ أَنْ لَا يَجُوزَ إضَافَةُ الْقَتْلِ إلَى تِلْكَ الْعِلَلِ تَوْزِيعًا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْقَتْلَ لَا يَتَجَزَّأُ تَعَيَّنَ أَنْ يُضَافَ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ كَامِلًا، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يُضَافَ كَامِلًا إلَى مَجْمُوعِ تِلْكَ الْعِلَلِ مِنْ حَيْثُ هِيَ مَجْمُوعٌ بَلْ هُوَ الظَّاهِرُ لِئَلَّا يَلْزَمَ تَوَارُدُ الْعِلَلِ الْمُسْتَقِلَّةِ بِالِاجْتِمَاعِ عَلَى مَعْلُولٍ وَاحِدٍ بِالشَّخْصِ فَحِينَئِذٍ لَا يَتِمُّ الْمَطْلُوبُ كَمَا لَا يَخْفَى.

وَيُمْكِنُ تَوْجِيهُ مَسْأَلَةِ الْحَلِفِ بِأَنَّ مَدَارَ الْأَيْمَانِ عَلَى الْعُرْفِ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ فِي مَحَلِّهِ، فَإِذَا اجْتَمَعَتْ جَمَاعَةٌ عَلَى قَتْلِ رَجُلٍ وَوُجِدَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جُرْحٌ صَالِحٌ لِإِزْهَاقِ الرُّوحِ يُقَالُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي الْعُرْفِ أَنَّهُ قَتَلَ فُلَانًا، وَإِنْ كَانَ الْقَتْلُ فِي الْحَقِيقَةِ كَامِلًا مُضَافًا إلَى مَجْمُوعِهِمْ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَجْمُوعٌ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ بِنَاءَ حِنْثِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي مَسْأَلَةِ الْحَلِفِ عَلَى الْعُرْفِ. وَأَمَّا الْقِصَاصُ فَالْمُعْتَبَرُ فِيهِ الْحَقِيقَةُ لَا غَيْرُ.

ثُمَّ أَقُولُ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ ذَيْنِكَ الدَّلِيلَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فِي الْكِتَابِ إنَّمَا يَتَمَشَّيَانِ فِيمَا إذَا حَضَرَ أَوْلِيَاءُ الْمَقْتُولَيْنِ وَقَتَلُوا الْقَاتِلَ جُمْلَةً، وَأَمَّا فِيمَا إذَا حَضَرَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ وَقَتَلَ الْقَاتِلَ وَحْدَهُ فَسَقَطَ حَقُّ الْبَاقِينَ كَمَا ذُكِرَ أَيْضًا فِي الْكِتَابِ فَلَا تَمْشِيَةَ لِشَيْءٍ مِنْهُمَا، إذْ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يُقَالَ لِأَحَدٍ مِنْ الْبَاقِينَ الْغَيْرِ الْحَاضِرِينَ الَّذِينَ لَمْ يُبَاشِرُوا الْقَتْلَ أَصْلًا إنَّهُ قَاتِلٌ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ قَاتِلٌ بِوَصْفِ الْكَمَالِ، وَكَذَا لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يُقَالَ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ إنَّهُ وُجِدَ مِنْهُ جُرْحٌ صَالِحٌ لِلْإِزْهَاقِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ لِلْبَاقِينَ الْمَالُ

ص: 245

وَلِأَنَّ الْقِصَاصَ شُرِعَ مَعَ الْمُنَافِي لِتَحْقِيقِ الْإِحْيَاءِ وَقَدْ حَصَلَ بِقَتْلِهِ فَاكْتَفَى بِهِ. .

قَالَ: (وَمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ إذَا مَاتَ سَقَطَ الْقِصَاصُ) لِفَوَاتِ مَحِلِّ الِاسْتِيفَاءِ فَأَشْبَهَ مَوْتَ الْعَبْدِ الْجَانِي، وَيَتَأَتَّى فِيهِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ إذْ الْوَاجِبُ أَحَدُهُمَا عِنْدَهُ. .

قَالَ (وَإِذَا قَطَعَ رَجُلَانِ يَدَ رَجُلٍ وَاحِدٍ فَلَا قِصَاصَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَعَلَيْهِمَا نِصْفُ الدِّيَةِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تُقْطَعُ يَدَاهُمَا، وَالْمُفْرِضُ إذَا أَخَذَ سِكِّينًا وَأَمَرَّهُ عَلَى يَدِهِ حَتَّى انْقَطَعَتْ لَهُ الِاعْتِبَارُ بِالْأَنْفُسِ، وَالْأَيْدِي تَابِعَةٌ لَهَا فَأَخَذَتْ حُكْمَهَا، أَوْ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِجَامِعِ الزَّجْرِ. وَلَنَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَاطِعٌ بَعْضَ الْيَدِ، لِأَنَّ الِانْقِطَاعَ حَصَلَ بِاعْتِمَادِيِّهِمَا وَالْمَحَلُّ مُتَجَزِّئٌ فَيُضَافُ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَعْضُ فَلَا مُمَاثَلَةَ، بِخِلَافِ النَّفْسِ لِأَنَّ الِانْزِهَاقَ لَا يَتَجَزَّأُ، وَلِأَنَّ الْقَتْلَ بِطَرِيقِ الِاجْتِمَاعِ غَالِبٌ حَذَارِ الْغَوْثِ، وَالِاجْتِمَاعُ عَلَى قَطْعِ الْيَدِ مِنْ الْمِفْصَلِ فِي حَيِّزِ النُّدْرَةِ لِافْتِقَارِهِ إلَى مُقَدَّمَاتٍ بَطِيئَةٍ فَيَلْحَقُهُ الْغَوْثُ. قَالَ (وَعَلَيْهِمَا نِصْفُ الدِّيَةِ) لِأَنَّهُ دِيَةُ الْيَدِ الْوَاحِدَةِ وَهُمَا قَطَعَاهَا.

(وَإِنْ قَطَعَ وَاحِدٌ يَمِينَيْ رَجُلَيْنِ فَحَضَرَا فَلَهُمَا أَنْ يَقْطَعَا يَدَهُ وَيَأْخُذَا مِنْهُ نِصْفَ الدِّيَةِ يَقْسِمَانِهِ نِصْفَيْنِ سَوَاءٌ قَطَعَهُمَا مَعًا أَوْ عَلَى التَّعَاقُبِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: فِي التَّعَاقُبِ يُقْطَعُ بِالْأَوَّلِ، وَفِي الْقِرَانِ يُقْرَعُ لِأَنَّ الْيَدَ اسْتَحَقَّهَا الْأَوَّلُ فَلَا يَثْبُتُ الِاسْتِحْقَاقُ فِيهَا لِلثَّانِي كَالرَّهْنِ بَعْدَ الرَّهْنِ، وَفِي الْقِرَانِ الْيَدُ الْوَاحِدَةُ لَا تَفِي بِالْحَقَّيْنِ فَتُرَجَّحُ بِالْقُرْعَةِ. وَلَنَا أَنَّهُمَا اسْتَوَيَا فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ فَيَسْتَوِيَانِ فِي حُكْمِهِ كَالْغَرِيمَيْنِ فِي التَّرِكَةِ، وَالْقِصَاصُ مِلْكُ الْفِعْلِ يَثْبُتُ مَعَ الْمُنَافِي فَلَا يَظْهَرُ إلَّا فِي حَقِّ الِاسْتِيفَاءِ.

فِي هَذِهِ الصُّورَةِ فَلْيُتَأَمَّلْ (قَوْلُهُ وَلِأَنَّ الْقِصَاصَ شُرِعَ مَعَ الْمُنَافِي لِتَحْقِيقِ الْإِحْيَاءِ وَقَدْ حَصَلَ بِقَتْلِهِ فَاكْتَفَى بِهِ) أَقُولُ: فِيهِ كَلَامٌ، وَهُوَ أَنَّ تَحْقِيقَ الْإِحْيَاءِ حِكْمَةُ الْقِصَاصِ، وَبِمُجَرَّدِ حُصُولِ حِكْمَتِهِ لَا يَتِمُّ أَمْرُهُ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ حُصُولِ شَرَائِطِهِ أَيْضًا، وَمِنْ جُمْلَتِهَا الْمُمَاثَلَةُ؛ أَلَا يَرَى أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ الْمُسْلِمُ وَلَا الذِّمِّيُّ بِالْمُسْتَأْمَنِ، وَكَذَا لَا يُقْتَلُ أَحَدٌ بِوَلَدِهِ وَلَا بِوَلَدِ وَلَدِهِ وَلَا بِعَبْدِهِ وَلَا بِمُدَبَّرِهِ وَلَا بِمُكَاتَبِهِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ، مَعَ أَنَّ حُصُولَ تَحْقِيقِ الْإِحْيَاءِ مُتَصَوَّرٌ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ فِي تِلْكَ الصُّوَرِ لِانْتِفَاءِ بَعْضِ شَرَائِطِهِ أَوْ لِتَحَقُّقِ بَعْضِ مَوَانِعِهِ.

وَعِنْدَ أَنْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ: إنَّ الْمَوْجُودَ مِنْ الْوَاحِدِ قَتْلَاتٌ وَاَلَّذِي تَحَقَّقَ فِي حَقِّهِ قَتْلٌ وَاحِدٌ فَلَمْ يُوجَدْ التَّمَاثُلُ الَّذِي هُوَ مَبْنَى الْقِصَاصِ، كَيْف يَتِمُّ أَنْ يُقَالَ فِي مُقَابَلَتِهِ قَدْ حَصَلَ تَحْقِيقُ الْإِحْيَاءِ بِقَتْلِهِ فَاكْتَفَى بِهِ، وَلَعَلَّ صَاحِبَ

ص: 246

أَمَّا الْمَحِلُّ فَخُلُوٌّ عَنْهُ فَلَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ الثَّانِي، بِخِلَافِ الرَّهْنِ لِأَنَّ الْحَقَّ ثَابِتٌ فِي الْمَحَلِّ. فَصَارَ كَمَا إذَا قَطَعَ الْعَبْدُ يَمِينَيْهِمَا عَلَى التَّعَاقُبِ فَتُسْتَحَقُّ رَقَبَتُهُ لَهُمَا، وَإِنْ حَضَرَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا فَقَطَعَ يَدَهُ فَلِلْآخَرِ عَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ، لِأَنَّ لِلْحَاضِرِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ لِثُبُوتِ حَقِّهِ وَتَرَدُّدِ حَقِّ الْغَائِبِ، وَإِذَا اسْتَوْفَى لَمْ يَبْقَ مَحِلُّ الِاسْتِيفَاءِ فَيَتَعَيَّنُ حَقُّ الْآخَرِ فِي الدِّيَةِ لِأَنَّهُ أَوْفَى بِهِ حَقًّا مُسْتَحَقًّا. .

قَالَ: (وَإِذَا أَقَرَّ الْعَبْدُ بِقَتْلِ الْعَمْدِ لَزِمَهُ الْقَوَدُ) وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ لِأَنَّهُ يُلَاقِي حَقَّ الْمَوْلَى بِالْإِبْطَالِ فَصَارَ كَمَا إذَا أَقَرَّ بِالْمَالِ. وَلَنَا أَنَّهُ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فِيهِ لِأَنَّهُ مُضِرٌّ بِهِ فَيُقْبَلُ، وَلِأَنَّ الْعَبْدَ مُبْقَى عَلَى أَصْلِ الْحُرِّيَّةِ فِي حَقِّ الدَّمِ عَمَلًا بِالْآدَمِيَّةِ حَتَّى لَا يَصِحَّ إقْرَارُ الْمَوْلَى عَلَيْهِ بِالْحَدِّ وَالْقِصَاصِ، وَبُطْلَانُ حَقِّ الْمَوْلَى بِطَرِيقِ الضِّمْنِ فَلَا يُبَالَى بِهِ.

(وَمَنْ رَمَى رَجُلًا عَمْدًا فَنَفَذَ السَّهْمُ مِنْهُ إلَى آخَرَ فَمَاتَا فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ لِلْأَوَّلِ وَالدِّيَةُ لِلثَّانِي عَلَى عَاقِلَتِهِ) لِأَنَّ الْأَوَّلَ عَمْدٌ وَالثَّانِي أَحَدُ نَوْعَيْ الْخَطَأِ، كَأَنَّهُ رَمَى إلَى صَيْدٍ فَأَصَابَ آدَمِيًّا وَالْفِعْلُ يَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِ الْأَثَرِ. .

الْكَافِي فَهِمَ ضَعْفَ هَذَا التَّعْلِيلِ حَيْثُ تَرَكَ ذِكْرَهُ مَعَ كَوْنِ عَادَتِهِ أَنْ يَقْتَفِي أَثَرَ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ

(قَوْلُهُ لِأَنَّ الْأَوَّلَ عَمْدٌ وَالثَّانِي أَحَدُ نَوْعَيْ الْخَطَإِ) قَالَ صَاحِبُ الْغَايَةِ: وَهُوَ خَطَأٌ فِي الْقَصْدِ.

أَقُولُ: هَذَا خَبْطٌ ظَاهِرٌ، إذْ قَدْ مَرَّ فِي الْكِتَابِ أَنَّ الْخَطَأَ عَلَى نَوْعَيْنِ: خَطَأٌ فِي الْقَصْدِ وَهُوَ أَنْ يَرْمِي شَخْصًا يَظُنُّهُ صَيْدًا فَإِذَا هُوَ آدَمِيٌّ أَوْ يَظُنُّهُ حَرْبِيًّا فَإِذَا هُوَ مُسْلِمٌ، وَخَطَأٌ فِي الْفِعْلِ وَهُوَ أَنْ يَرْمِي غَرَضًا فَيُصِيبُ آدَمِيًّا. وَلَا شَكَّ أَنَّ مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ قَبِيلِ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ، وَمِنْ الْبَيِّنِ فِيهِ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ هُنَا كَأَنَّهُ رَمَى إلَى صَيْدٍ فَأَصَابَ آدَمِيًّا (قَوْلُهُ وَالْفِعْلُ يَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِ الْأَثَرِ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: قِيلَ فَإِنَّ الرَّمْيَ إذَا أَصَابَ حَيَوَانًا وَمَزَّقَ جِلْدَهُ سُمِّيَ جُرْحًا، وَإِنْ

ص: 247

فَصْل

قَالَ: (وَمَنْ قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ خَطَأً ثُمَّ قَتَلَهُ عَمْدًا قَبْلَ أَنْ تَبْرَأَ يَدُهُ أَوْ قَطَعَ يَدَهُ عَمْدًا ثُمَّ قَتَلَهُ خَطَأً أَوْ قَطَعَ يَدَهُ خَطَأً

قَتَلَهُ سُمِّيَ قَتْلًا، وَإِنْ أَصَابَ الْكُوزَ وَكَسَرَهُ سُمِّيَ كَسْرًا فَكَذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَحَلٍّ عَمْدًا وَبِالنِّسْبَةِ إلَى آخَرَ خَطَأً، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ ذَلِكَ تَسْمِيَةُ الْفِعْلِ الْوَاحِدِ بِأَسَامٍ مُخْتَلِفَةٍ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَحَالِّ وَلَا نِزَاعَ فِيهِ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي أَنْ يَتَعَدَّدَ الْفِعْلُ الْوَاحِدُ فَيَصِيرُ فِعْلَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ انْتَهَى.

أَقُولُ: نَظَرُهُ سَاقِطٌ، إذْ الظَّاهِرُ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ ذَلِكَ الْقَائِلُ تَسْمِيَةُ الْفِعْلِ الْوَاحِدِ بِحَيْثِيَّاتِ انْضِمَامِ قُيُودٍ مُخْتَلِفَةٍ وَأَوْصَافٍ مُتَضَادَّةٍ إلَيْهِ بِأَسَامٍ مُخْتَلِفَةٍ لَا تَسْمِيَةَ ذَلِكَ الْفِعْلِ الْوَاحِدِ مِنْ حَيْثُ هُوَ فِعْلٌ وَاحِدٌ بِتِلْكَ الْأَسَامِي الْمُخْتَلِفَةِ؛ أَلَا يَرَى أَنَّ الرَّمْيَ مِنْ حَيْثُ أَصَابَ الْكُوزَ لَا يُسَمَّى جُرْحًا وَلَا قَتْلًا بَلْ يُسَمَّى كَسْرًا، وَكَذَا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ أَصَابَ حَيَوَانًا وَمَزَّقَ جِلْدَهُ أَوْ قَتَلَهُ لَا يُسَمَّى كَسْرًا بَلْ يُسَمَّى جُرْحًا أَوْ قَتْلًا.

وَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ اخْتِلَافَ تِلْكَ الْأَسَامِي بِاخْتِلَافِ الْأَوْصَافِ الْمُنْضَمَّةِ إلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ تَقَرَّرَ اخْتِلَافُ مُسَمَّيَاتِ تِلْكَ الِأَسَامِي أَيْضًا فَكَانَ مُنَاسِبًا لِمَا نَحْنُ فِيهِ مُفِيدًا لَهُ.

ثُمَّ إنَّ قَوْلَهُ وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي أَنْ يَتَعَدَّدَ الْفِعْلُ الْوَاحِدُ فَيَصِيرُ فِعْلَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ إنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّ الْكَلَامَ فِي أَنْ يَتَعَدَّدَ الْفِعْلُ الْوَاحِدُ بِحَسَبِ الذَّاتِ بِحَيْثُ يَصِيرُ فِعْلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فِي الْحَقِيقَةِ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْكَلَامَ فِيهِ بَلْ لَا نُسَلِّمُ إمْكَانَ ذَلِكَ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّ الْكَلَامَ فِي أَنْ يَتَعَدَّدَ الْفِعْلُ الْوَاحِدُ بِتَعَدُّدِ الْأَوْصَافِ الْمُتَضَادَّةِ الْمُنْضَمَّةِ إلَيْهِ فَهُوَ مُسَلَّمٌ، لَكِنَّ هَذَا التَّعَدُّدَ يَحْصُلُ قَطْعًا بِتَعَدُّدِ الْأَسَامِي تَعَدُّدًا نَاشِئًا مِنْ تَعَدُّدِ الْمُسَمَّيَاتِ بِالْحَيْثِيَّاتِ الْمُخْتَلِفَةِ كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ، وَمُرَادُ ذَلِكَ الْقَائِلِ كَمَا عَرَفْت آنِفًا. ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الْخَطَأُ يَسْتَلْزِمُ إبَاحَةً لِكَوْنِهِ سَبَبًا لِلْكَفَّارَةِ، وَهُوَ لَا يَكُونُ إلَّا أَمْرًا دَائِرًا بَيْنَ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ وَلَمْ يُوجَدْ هُنَا.

وَالْجَوَابُ أَنَّ الْخَطَأَ هُوَ تَحَقُّقُ الْجِنَايَةِ فِي إنْسَانٍ مُخَالِفٍ لِظَنِّ الْجَانِي كَمَنْ رَمَى إلَى شَيْءٍ يَظُنُّهُ صَيْدًا فَإِذَا هُوَ إنْسَانٌ، أَوْ لِقَصْدِهِ مُطْلَقًا كَمَنْ رَمَى إلَى هَدَفٍ فَأَصَابَ إنْسَانًا وَكَاَلَّذِي نَحْنُ فِيهِ، وَالرَّمْيُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُخَالِفِ لَهُمَا كَالرَّمْيِ لَا إلَى مُعَيَّنٍ وَذَلِكَ مُبَاحٌ لَا مَحَالَةَ انْتَهَى. أَقُولُ: فِي تَحْرِيرِ جَوَابِهِ نَوْعُ خَلَلٍ، فَإِنَّ تَمْثِيلَ قَوْلِهِ أَوْ لِقَصْدِهِ مُطْلَقًا بِقَوْلِهِ كَمَنْ رَمَى إلَى هَدَفٍ فَأَصَابَ إنْسَانًا، وَكَاَلَّذِي نَحْنُ فِيهِ يُشْعِرُ بِأَنْ تَكُونَ الْإِصَابَةُ لِإِنْسَانٍ عِنْدَ الرَّمْيِ إلَى هَدَفٍ وَكَذَا مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ قَبِيلِ الْخَطَإِ فِي الْقَصْدِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ قَطْعًا إذْ كُلٌّ مِنْهُمَا مِنْ قَبِيلِ الْخَطَإِ فِي الْفِعْلِ كَمَا بَيَّنَّا مِنْ قَبْلُ.

(فَصْلٌ فِي حُكْمِ الْفِعْلَيْنِ)

لَمَّا ذَكَرَ حُكْمَ الْفِعْلِ الْوَاحِدِ ذَكَرَ فِي هَذَا الْفَصْلِ حُكْمَ الْفِعْلَيْنِ لِأَنَّ الِاثْنَيْنِ بَعْدَ الْوَاحِدِ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ (قَوْلُهُ وَمَنْ قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ خَطَأً ثُمَّ قَتَلَهُ عَمْدًا قَبْلَ أَنْ تَبْرَأَ يَدُهُ إلَخْ) أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إذَا اخْتَلَفَ حُكْمُ الْفِعْلَيْنِ بِأَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا عَمْدًا

ص: 248

فَبَرَأَتْ يَدُهُ ثُمَّ قَتَلَهُ خَطَأً أَوْ قَطَعَ يَدَهُ عَمْدًا فَبَرَأَتْ ثُمَّ قَتَلَهُ عَمْدًا فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ بِالْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا) وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْجِرَاحَاتِ وَاجِبٌ مَا أَمْكَنَ تَتْمِيمًا لِلْأَوَّلِ، لِأَنَّ الْقَتْلَ فِي الْأَعَمِّ يَقَعُ بِضَرَبَاتٍ مُتَعَاقِبَةٍ، وَفِي اعْتِبَارِ كُلِّ ضَرْبَةٍ بِنَفْسِهَا بَعْضُ الْحَرَجِ، إلَّا أَنْ لَا يُمْكِنَ لِلْجَمْعِ فَيُعْطَى كُلُّ وَاحِدٍ حُكْمَ نَفْسِهِ، وَقَدْ تَعَذَّرَ الْجَمْعُ فِي هَذِهِ الْفُصُولِ فِي الْأَوَّلَيْنِ لِاخْتِلَافِ حُكْمِ الْفِعْلَيْنِ، وَفِي الْآخَرَيْنِ لِتَخَلُّلِ الْبُرْءِ وَهُوَ قَاطِعٌ لِلسَّرَايَةِ، حَتَّى لَوْ لَمْ يَتَخَلَّلْ وَقَدْ تَجَانَسَا بِأَنْ كَانَا خَطَأَيْنِ يَجْمَعُ بِالْإِجْمَاعِ لِإِمْكَانِ الْجَمْعِ وَاكْتَفَى بِدِيَّةٍ وَاحِدَةٍ (وَإِنْ كَانَ قَطَعَ يَدَهُ عَمْدًا ثُمَّ قَتَلَهُ عَمْدًا قَبْلَ أَنْ تَبْرَأَ يَدُهُ، فَإِنْ شَاءَ الْإِمَامُ قَالَ: اقْطَعُوهُ ثُمَّ اُقْتُلُوهُ، وَإِنْ شَاءَ قَالَ: اُقْتُلُوهُ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: يُقْتَلُ وَلَا تُقْطَعُ يَدُهُ لِأَنَّ الْجَمْعَ مُمْكِنٌ لِتَجَانُسِ الْفِعْلَيْنِ وَعَدَمِ تَخَلُّلِ الْبُرْءِ فَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا. وَلَهُ أَنَّ الْجَمْعَ مُتَعَذِّرٌ، إمَّا لِلِاخْتِلَافِ بَيْنَ الْفِعْلَيْنِ هَذَيْنِ لِأَنَّ الْمُوجِبَ الْقَوَدُ وَهُوَ يَعْتَمِدُ الْمُسَاوَاةَ فِي الْفِعْلِ وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ الْقَتْلُ بِالْقَتْلِ وَالْقَطْعُ بِالْقَطْعِ وَهُوَ مُتَعَذِّرٌ، أَوْ لِأَنَّ الْحَزَّ يَقْطَعُ إضَافَةَ السِّرَايَةِ إلَى الْقَطْعِ، حَتَّى لَوْ صَدَرَ مِنْ شَخْصَيْنِ يَجِبُ.

وَالْآخَرُ خَطَأً يُعْطَى كُلُّ وَاحِدٍ حُكْمَ نَفْسِهِ سَوَاءٌ تَخَلَّلَ بَيْنَهُمَا الْبُرْءُ أَوْ لَمْ يَتَخَلَّلْ كَمَا سَيَنْكَشِفُ فِي الْأَصْلِ الْآتِي ذِكْرُهُ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ قَبْلَ أَنْ تَبْرَأَ يَدُهُ فِي وَضْعِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُسْتَدْرَكًا لِتَمَامِ جَوَابِهَا، وَهُوَ أَنْ يُؤْخَذَ بِالْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا بِدُونِ ذِكْرِ ذَلِكَ الْقَيْدِ، بَلْ يُوهِمُ ذِكْرُهُ أَنْ لَا يَكُونَ الْجَوَابُ كَذَلِكَ فِيمَا بَعْدَ أَنْ تَبْرَأَ يَدُهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ تَخْصِيصَ الشَّيْءِ بِالذِّكْرِ فِي الرِّوَايَاتِ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَاهُ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ، وَعَنْ هَذَا قَالَ فِي وَضْعِ الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ أَوْ قَطَعَ يَدَهُ عَمْدًا ثُمَّ قَتَلَهُ خَطَأً بِدُونِ ذِكْرِ ذَلِكَ الْقَيْدِ.

ثُمَّ أَقُولُ: يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: فَائِدَةُ ذِكْرِ ذَلِكَ الْقَيْدِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى التَّنْبِيهُ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ عَلَى أَنَّ تَخَلُّلَ الْبُرْءِ لَيْسَ بِمُؤَثِّرٍ فِيمَا إذَا اخْتَلَفَ الْفِعْلَانِ فَإِنَّهُ إذَا أَعْطَى كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُكْمَ نَفْسِهِ فِيمَا إذَا لَمْ يَتَخَلَّلْ الْبُرْءُ فَفِيمَا إذَا تَخَلَّلَ ذَلِكَ أَوْلَى، وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ إيهَامُ أَنْ لَا يَكُونَ الْجَوَابُ فِيمَا إذَا تَخَلَّلَ الْبُرْءُ كَالْجَوَابِ فِيمَا إذَا لَمْ يَتَخَلَّلْ، فَإِنَّ تَخْصِيصَ الشَّيْءِ بِالذِّكْرِ إنَّمَا يَدُلُّ فِي الرِّوَايَاتِ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَاهُ إنْ لَوْ لَمْ يَكُنْ مَا عَدَاهُ أَوْلَى بِثُبُوتِ الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ لَهُ.

وَأَمَّا إذَا كَانَ أَوْلَى بِذَلِكَ فَيَدُلُّ عَلَى اشْتَرَاكِ مَا عَدَاهُ مَعَهُ فِي الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ بِالْأَوْلَوِيَّةِ بِطَرِيقِ دَلَالَةِ النَّصِّ بِلَا رَيْبٍ وَمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ. ثُمَّ إنَّهُ لَمَّا حَصَلَ التَّنْبِيهُ عَلَى ذَلِكَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى حَصَلَ الِاسْتِغْنَاءُ عَنْهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي اخْتِلَافِ الْفِعْلَيْنِ وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ الْقَيْدَ فِيهَا. ثُمَّ لَمَّا جَاءَ إلَى الْمَسْأَلَةِ الثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ.

ص: 249

الْقَوَدُ عَلَى الْحَازِّ فَصَارَ كَتَخَلُّلِ الْبُرْءِ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَطَعَ وَسَرَى لِأَنَّ الْفِعْلَ وَاحِدٌ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا كَانَا خَطَأَيْنِ لِأَنَّ الْمُوجَبَ الدِّيَةُ وَهِيَ بَدَلُ النَّفْسِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ الْمُسَاوَاةِ، وَلِأَنَّ أَرْشَ الْيَدِ إنَّمَا يَجِبُ عِنْدَ اسْتِحْكَامِ أَثَرِ الْفِعْلِ وَذَلِكَ بِالْحَزِّ الْقَاطِعِ لِلسِّرَايَةِ فَيَجْتَمِعُ ضَمَانُ الْكُلِّ وَضَمَانُ الْجُزْءِ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَا يَجْتَمِعَانِ. أَمَّا الْقَطْعُ وَالْقَتْلُ قِصَاصًا يَجْتَمِعَانِ. .

قَالَ (وَمَنْ ضَرَبَ رَجُلًا مِائَةَ سَوْطٍ فَبَرِأَ مِنْ تِسْعِينَ وَمَاتَ مِنْ عَشَرَةٍ فَفِيهِ دِيَةٌ وَاحِدَةٌ) لِأَنَّهُ لَمَّا بَرَأَ مِنْهَا لَا تَبْقَى مُعْتَبَرَةٌ فِي حَقِّ الْأَرْشِ وَإِنْ بَقِيَتْ مُعْتَبَرَةٌ فِي حَقِّ التَّعْزِيرِ فَبَقِيَ الِاعْتِبَارُ لِلْعَشَرَةِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ.

قَيَّدَهُمَا بِتَخَلُّلِ الْبُرْءِ لِتَجَانُسِ الْفِعْلَيْنِ عَمْدًا وَخَطَأً فِيهِمَا فَلَا بُدَّ فِي الْأَخْذِ بِالْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا مِنْ تَخَلُّلِ الْبُرْءِ فِي الْبَيْنِ (قَوْلُهُ فَصَارَ كَتَخَلُّلِ الْبُرْءِ) قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: مَنْقُوضٌ بِمَا إذَا كَانَ كِلَاهُمَا خَطَأً.

أَقُولُ: كَيْفَ يَكُونُ مَنْقُوضًا بِذَلِكَ وَقَدْ تَدَارَكَهُ الْمُصَنِّفُ صَرَاحَةً فِيمَا بَعْدُ حَيْثُ قَالَ: وَبِخِلَافِ مَا إذَا كَانَا خَطَأَيْنِ، وَعَلَّلَهُ بِتَعْلِيلَيْنِ بِإِزَاءِ تَعْلِيلَيْ أَبِي حَنِيفَةَ مَا إذَا كَانَا عَمْدَيْنِ، وَتَعْلِيلُهُ الثَّانِي وَهُوَ قَوْلُهُ وَلِأَنَّ أَرْشَ الْيَدِ إنَّمَا يَجِبُ عِنْدَ اسْتِحْكَامِ أَثَرِ الْفِعْلِ إلَخْ دَافِعٌ قَطْعًا لِتَوَهُّمِ انْتِقَاضِ قَوْلِهِ فَصَارَ كَتَخَلُّلِ الْبُرْءِ بِمَا إذَا كَانَا خَطَأَيْنِ تَأَمَّلْ تَفْهَمْ. وَقَالَ صَاحِبُ مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ: فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ بِمَنْزِلَةِ تَخَلُّلِ الْبُرْءِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ لِلْإِمَامِ خِيَارٌ كَمَا لَوْ تَخَلَّلَ الْبُرْءُ. قُلْنَا: الْمَسْأَلَةُ مُجْتَهَدٌ فِيهَا، فَالْقَاضِي يَقْضِي عَلَى مَا وَافَقَ رَأْيَهُ انْتَهَى.

أَقُولُ: فِي الْجَوَابِ نَظَرٌ، فَإِنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ بَعْدَ بَيَانِ خِيَارِ الْإِمَامِ وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَأْبَى هَذَا الْجَوَابَ جِدًّا فَإِنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُجْتَهَدِ فِيهَا عَلَى مَا وَافَقَ رَأْيَهُ لَيْسَ بِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَقَطْ بَلْ صَاحِبَاهُ أَيْضًا يَقُولَانِ بِهِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى الْعَارِفِ بِمَسَائِلِ الْفِقْهِ. ثُمَّ إنَّ هَذَا كُلَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الْخِيَارُ لِلْإِمَامِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَمَّا إذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْوَلِيِّ عِنْدَهُ كَمَا ذَكَرَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ وَنَقَلَ عَنْهُ الشُّرَّاحُ قَاطِبَةً حَتَّى قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ نَقْلِ ذَلِكَ عَنْهُ: فَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَوْلُهُ فَإِنْ شَاءَ الْإِمَامُ مَعْنَاهُ يُبَيِّنُ لَهُمْ أَنَّ لَهُمْ الْخِيَارَ، فَلَا تَمْشِيَةَ رَأْسًا لِلسُّؤَالِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ.

نَعَمْ يَرِدُ أَنْ يُقَالَ: فَمَا مَعْنَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِأَنَّ لِلْوَلِيِّ الْخِيَارَ مَعَ الْجَزْمِ فِي الْمَسَائِلِ السَّابِقَةِ بِأَنْ يُؤْخَذَ بِالْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا،

ص: 250

جِرَاحَةٍ انْدَمَلَتْ وَلَمْ يَبْقَ لَهَا أَثَرٌ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي مِثْلِهِ حُكُومَةُ عَدْلٍ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ تَجِبُ أُجْرَةُ الطَّبِيبِ (وَإِنْ ضَرَبَ رَجُلًا مِائَةَ سَوْطٍ وَجَرَحَتْهُ وَبَقِيَ لَهُ أَثَرٌ تَجِبُ حُكُومَةُ الْعَدْلِ) لِبَقَاءِ الْأَثَرِ وَالْأَرْشِ إنَّمَا يَجِبُ بِاعْتِبَارِ الْأَثَرِ فِي النَّفْسِ. .

قَالَ: (وَمَنْ قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ فَعَفَا الْمَقْطُوعَةُ يَدُهُ عَنْ الْقَطْعِ ثُمَّ مَاتَ مِنْ ذَلِكَ فَعَلَى الْقَاطِعِ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ، وَإِنْ عَفَا عَنْ الْقَطْعِ وَمَا يَحْدُثُ مِنْهُ ثُمَّ مَاتَ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ عَفْوٌ عَنْ النَّفْسِ، ثُمَّ إنْ كَانَ خَطَأً فَهُوَ مِنْ الثُّلُثِ، وَإِنْ كَانَ عَمْدًا فَهُوَ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: إذَا عَفَا عَنْ الْقَطْعِ فَهُوَ عَفْوٌ عَنْ النَّفْسِ أَيْضًا، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا عَفَا عَنْ الشَّجَّةِ ثُمَّ سَرَى إلَى النَّفْسِ وَمَاتَ، لَهُمَا أَنَّ الْعَفْوَ عَنْ الْقَطْعِ عَفْوٌ عَنْ مُوجِبِهِ، وَمُوجِبُهُ الْقَطْعُ لَوْ اقْتَصَرَ أَوْ الْقَتْلُ إذَا سَرَى، فَكَانَ الْعَفْوُ عَنْهُ عَفْوًا عَنْ أَحَدِ مُوجِبَيْهِ أَيُّهُمَا كَانَ، وَلِأَنَّ اسْمَ الْقَطْعِ يَتَنَاوَلُ السَّارِيَ وَالْمُقْتَصَرَ فَيَكُونُ الْعَفْوُ عَنْ قَطْعٍ عَفْوًا عَنْ نَوْعَيْهِ وَصَارَ كَمَا إذَا عَفَا عَنْ الْجِنَايَةِ فَإِنَّهُ يَتَنَاوَلُ الْجِنَايَةَ السَّارِيَةَ وَالْمُقْتَصِرَةَ. كَذَا هَذَا. وَلَهُ أَنَّ سَبَبَ الضَّمَانِ قَدْ تَحَقَّقَ وَهُوَ قَتْلُ نَفْسٍ مَعْصُومَةٍ مُتَقَوِّمَةٍ وَالْعَفْوُ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ بِصَرِيحِهِ لِأَنَّهُ عَفَا عَنْ الْقَطْعِ وَهُوَ غَيْرُ الْقَتْلِ، وَبِالسِّرَايَةِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْوَاقِعَ قَتْلٌ وَحَقُّهُ فِيهِ وَنَحْنُ نُوجِبُ ضَمَانَهُ. وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ الْقِصَاصُ وَهُوَ الْقِيَاسُ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُوجِبُ لِلْعَمْدِ، إلَّا أَنَّ

وَعِلَّةُ تَعَذُّرِ الْجَمْعِ مُتَحَقِّقَةٌ فِي الْكُلِّ عِنْدَهُ بِلَا تَفَاوُتٍ كَمَا تَبَيَّنَ فِي الْكِتَابِ؟

(قَوْلُهُ وَلِأَنَّ اسْمَ الْقَطْعِ يَتَنَاوَلُ السَّارِي وَالْمُقْتَصِرَ فَكَانَ الْعَفْوُ عَنْهُ عَفْوًا عَنْ نَوْعَيْهِ) أَقُولُ: أُسْلُوبُ التَّحْرِيرِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مَا سَبَقَ دَلِيلًا تَامًّا لَهُمَا وَهَذَا أَيْضًا دَلِيلًا آخَرَ مُسْتَقِلًّا لَهُمَا، لَكِنْ لَا يَخْفَى عَلَى الْفَطِنِ أَنَّ مَا سَبَقَ لَا يَتِمُّ دَلِيلًا لَهُمَا بِدُونِ انْضِمَامِ هَذَا إلَيْهِ، لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَتَقَرَّرْ أَنَّ اسْمَ الْقَطْعِ يَتَنَاوَلُ السَّارِي وَالْمُقْتَصَرَ لَا يَتَقَرَّرُ كَوْنُ الْقَتْلِ أَحَدَ مُوجِبِي الْقَطْعِ، فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَتَنَاوَلْ اسْمَ الْقَطْعِ السَّارِي أَيْضًا لَا يُتَصَوَّرُ كَوْنُ الْقَتْلِ أَحَدَ مُوجِبِي الْقَطْعِ، إذْ لَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْقَطْعُ الْمُقْتَصَرُ مُوجِبًا لِلْقَتْلِ أَيْضًا تَدَبَّرْ.

(قَوْلُهُ وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ الْقِصَاصُ وَهُوَ الْقِيَاسُ) قُلْت: وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ: وَكَانَ الظَّاهِرُ أَنْ يَجِبَ الْقِصَاصُ بَدَلَ قَوْلِهِ وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ الْقِصَاصُ، لِأَنَّ الَّذِي يَنْبَغِي هُوَ مُوجِبُ الِاسْتِحْسَانِ

ص: 251

فِي الِاسْتِحْسَانِ تَجِبُ الدِّيَةُ، لِأَنَّ صُورَةَ الْعَفْوِ أَوْرَثَتْ شُبْهَةً وَهِيَ دَارِئَةٌ لِلْقَوَدِ. وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ السَّارِيَ نَوْعٌ مِنْ الْقَطْعِ، وَأَنَّ السِّرَايَةَ صِفَةٌ لَهُ، بَلْ السَّارِي قَتْلٌ مِنْ الِابْتِدَاءِ، وَكَذَا لَا مُوجِبَ لَهُ مِنْ حَيْثُ كَوْنِهِ قَطْعًا فَلَا يَتَنَاوَلُهُ الْعَفْوُ، بِخِلَافِ الْعَفْوِ عَنْ الْجِنَايَةِ لِأَنَّهُ اسْمُ جِنْسٍ، وَبِخِلَافِ الْعَفْوِ عَنْ الشَّجَّةِ وَمَا يَحْدُثُ مِنْهَا لِأَنَّهُ صَرِيحٌ فِي الْعَفْوِ عَنْ السِّرَايَةِ وَالْقَتْلِ، وَلَوْ كَانَ الْقَطْعُ خَطَأً فَقَدْ أَجْرَاهُ مَجْرَى الْعَمْدِ فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ وِفَاقًا وَخِلَافًا،

دُونَ مُوجِبِ الْقِيَاسِ، إلَّا أَنَّ مُوجِبَ الْقِيَاسِ هُوَ الظَّاهِرُ فِي بَادِئِ الرَّأْيِ (قَوْلُهُ وَلَوْ كَانَ الْقَطْعُ خَطَأً فَقَدْ أَجْرَاهُ مَجْرَى الْعَمْدِ فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ وِفَاقًا وَخِلَافًا) قَالَ جُمْهُورُ الشُّرَّاحِ فِي بَيَانِ هَذِهِ الْوُجُوهِ: وَهِيَ الْأَرْبَعَةُ الَّتِي هِيَ الْعَفْوُ عَنْ الْقَطْعِ مُطْلَقًا، وَالْعَفْوُ عَنْ الْقَطْعِ وَمَا يَحْدُثُ مِنْهُ، وَالْعَفْوُ عَنْ الشَّجَّةِ، وَالْعَفْوُ عَنْ الْجِنَايَةِ انْتَهَى.

أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا بِسَدِيدٍ، لِأَنَّ مَعْنَى كَلَامِ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا أَنَّ مُحَمَّدًا رحمه الله أَجْرَى الْقَطْعَ خَطَأً مَجْرَى الْعَمْدِ فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمَارَّةِ الَّتِي هِيَ مِنْ مَسَائِلِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، وَالْعَفْوُ عَنْ الشَّجَّةِ لَمْ يَكُنْ مَذْكُورًا فِي كَلَامِ مُحَمَّدٍ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ قَطُّ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ حَيْثُ قَالَ: وَكَذَلِكَ الِاخْتِلَافُ فِي الضَّرْبِ وَالشَّجَّةِ وَالْجِرَاحَةِ فِي الْيَدِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَكَذَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الْهِدَايَةِ دُونَ الْبِدَايَةِ حَيْثُ قَالَ: وَعَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ إذَا عَفَا عَنْ الشَّجَّةِ ثُمَّ سَرَّى إلَى النَّفْسِ وَمَاتَ، وَالْمُصَنِّفُ هُنَا بِصَدَدِ بَيَانِ مَا يَتَنَاوَلُهُ كَلَامُ مُحَمَّدٍ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمَارَّةِ الَّتِي هِيَ مَسْأَلَةُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ دَرْجُ الْعَفْوِ عَنْ الشَّجَّةِ فِي مَضْمُونِ ذَلِكَ كَمَا فَعَلَهُ جُمْهُورُ الشُّرَّاحِ حَيْثُ فَسَرُّوا هَذِهِ الْوُجُوهَ فِي قَوْلِهِ فَقَدْ أَجْرَاهُ مَجْرَى الْعَمْدِ فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ بِمَا يَشْمَلُ الْعَفْوَ عَنْ الشَّجَّةِ أَيْضًا، فَالْوَجْهُ أَنَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ هِيَ الْوُجُوهُ الثَّلَاثَةُ، وَهِيَ الْعَفْوُ عَنْ الْقَطْعِ مُطْلَقًا، وَالْعَفْوُ عَنْ الْقَطْعِ وَمَا يَحْدُثُ مِنْهُ، وَالْعَفْوُ عَنْ الْجِنَايَةِ،

ص: 252

آذَنَ بِذَلِكَ إطْلَاقَهُ، إلَّا أَنَّهُ إنْ كَانَ خَطَأً فَهُوَ مِنْ الثُّلُثِ، وَإِنْ كَانَ عَمْدًا فَهُوَ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ، لِأَنَّ مُوجِبَ الْعَمْدِ الْقَوَدُ وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقُّ الْوَرَثَةِ لِمَا أَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ فَصَارَ كَمَا إذَا أَوْصَى بِإِعَارَةِ أَرْضِهِ.

لِأَنَّ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ هِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي مَسْأَلَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ.

وَأَمَّا الْعَفْوُ عَنْ الشَّجَّةِ فَقَدْ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِيمَا مَرَّ اسْتِطْرَادًا وَبَيَّنَ أَنَّ حُكْمَهُ كَحُكْمِ مَا ذُكِرَ فِي مَسْأَلَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَخْذًا مِمَّا ذَكَرَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ (قَوْلُهُ آذَنَ بِذَلِكَ إطْلَاقُهُ) أَيْ أَعْلَمَ بِذَلِكَ إطْلَاقُ لَفْظِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَهُوَ قَوْلُهُ وَمَنْ قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ فَعَفَا الْمَقْطُوعَةُ يَدُهُ عَنْ الْقَطْعِ حَيْثُ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِلْعَمْدِ وَلَا لِلْخَطَإِ فَكَانَ مُتَنَاوِلًا لَهُمَا، كَذَا فِي عَامَّةِ الشُّرُوحِ.

قَالَ صَاحِبُ الْغَايَةِ بَعْدَ أَنْ شَرَحَ الْمَقَامَ كَذَلِكَ: هَذَا تَقْرِيرُ مَا اقْتَضَاهُ كَلَامُ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ وَذَلِكَ مَمْنُوعٌ عِنْدَنَا لِأَنَّ مُحَمَّدًا قَيَّدَهُ بِالْعَمْدِ فِي أَصْلِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ كَمَا ذَكَرْنَا رِوَايَتَهُ، وَكَذَلِكَ قَيَّدَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ وَالصَّدْرُ الشَّهِيدُ وَغَيْرُهُمْ فِي شُرُوحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِالْعَمْدِ فَلَا يَصِحُّ حِينَئِذٍ دَعْوَى الْإِطْلَاقِ اهـ.

وَأَمَّا مَا عَدَا صَاحِبَ الْغَايَةِ مِنْ الشُّرَّاحِ فَسَأَلُوا هَاهُنَا وَأَجَابُوا حَيْثُ قَالُوا: فَإِنْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ لَفْظَهُ مُطْلَقٌ بَلْ هُوَ مُقَيَّدٌ بِالْقَطْعِ الْعَمْدِ بِدَلِيلِ جَوَابِ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ فَعَلَى الْقَاطِعِ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ فَإِنَّهُ يُبَيِّنُ أَنَّ مُرَادَهُ الْعَمْدُ، لِأَنَّ الدِّيَةَ فِي الْخَطَإِ عَلَى الْعَاقِلَةِ: قُلْنَا: وَضْعُ الْمَسْأَلَةِ مُطْلَقٌ بِلَا شَكٍّ إذْ الْقَيْدُ غَيْرُ مَلْفُوظٍ، لَكِنَّ الْجَوَابَ إنَّمَا هُوَ لِأَحَدِ نَوْعَيْ الْقَطْعِ فَتَقْدِيرُهُ فَعَلَى الْقَاطِعِ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ إنْ كَانَ الْقَطْعُ عَمْدًا، انْتَهَى كَلَامُهُمْ.

أَقُولُ: لَا يَذْهَبُ عَلَيْك أَنَّ جَوَابَهُمْ هَذَا لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ مَقْصُودَ الْمُصَنِّفِ هُنَا بَيَانُ إجْرَاءِ مُحَمَّدٍ الْقَطْعَ خَطَأً مَجْرَى الْعَمْدِ فِي أَحْكَامِ هَذِهِ الْوُجُوهِ وِفَاقًا وَخِلَافًا، وَلَا رَيْبَ أَنَّ حُكْمَ الْمَسْأَلَةِ إنَّمَا يُؤْخَذُ مِنْ جَوَابِهَا، وَإِذَا كَانَ الْجَوَابُ فِي لَفْظِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ مَخْصُوصًا بِصُورَةِ الْعَمْدِ فَكَيْفَ يُؤْذَنُ مُجَرَّدُ إطْلَاقِ وَضْعِ الْمَسْأَلَةِ بِاشْتِرَاكِ نَوْعَيْ الْقَطْعِ فِي الْحُكْمِ، إذْ لَوْ آذَنَ ذَلِكَ بِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْحُكْمِ لَآذَنَ بِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْحُكْمِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ الْجَوَابِ، وَقَوْلُهُ فِيمَا لَهُ مَانِعٌ عَنْ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ فَلَا مُؤْذِنَ لِلِاشْتِرَاكِ قَطُّ فَلَمْ يَتِمَّ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ آذَنَ بِذَلِكَ إطْلَاقَهُ فَتَأَمَّلْ (قَوْلُهُ لِأَنَّ مُوجِبَ الْعَمْدِ الْقَوَدُ وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقُّ الْوَرَثَةِ لِمَا أَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ: فِيهِ بَحْثٌ، وَهُوَ أَنَّ الْقِصَاصَ مَوْرُوثٌ بِالِاتِّفَاقِ فَكَيْفَ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقُّ الْوَرَثَةِ.

ثُمَّ قَالَ: وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ الْمُصَنِّفَ نَفَى تَعَلُّقَ حَقِّ الْوَرَثَةِ بِهِ لَا كَوْنُهُ مَوْرُوثًا، وَلَا تَنَافِي بَيْنَهُمَا لِأَنَّ حَقَّ الْوَرَثَةِ إنَّمَا يَثْبُتُ بِطَرِيقِ الْخِلَافَةِ، وَحُكْمُ الْخَلْفِ لَا يَثْبُتُ مَعَ وُجُودِ الْأَصْلِ، وَالْقِيَاسُ فِي الْمَالِ أَيْضًا أَلَّا يَثْبُتَ فِيهِ تَعَلُّقُ حَقِّهِمْ إلَّا بَعْدَ مَوْتِ الْمُورَثِ، لَكِنْ ثَبَتَ ذَلِكَ شَرْعًا بِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَأَنْ تَدَعَ وَرَثَتَك أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ» وَتَرْكُهُمْ أَغْنِيَاءَ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِتَعَلُّقِ حَقِّهِمْ بِمَا يَتَحَقَّقُ بِهِ الْغِنَى وَهُوَ الْمَالُ، فَلَوْ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ لِتَصَرُّفِهِ فِيهِ لَتَرَكَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ، وَالْقِصَاصُ لَيْسَ بِمَالٍ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ لَكِنَّهُ مَوْرُوثٌ انْتَهَى.

أَقُولُ: فِي تَقْرِيرِ الْبَحْثِ الْمَذْكُورِ خَلَلٌ فَاحِشٌ، وَفِي تَحْرِيرِ الْجَوَابِ الْمَزْبُورِ الْتِزَامُ ذَلِكَ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُ سَيَجِيءُ فِي أَوَّلِ بَابِ الشَّهَادَةِ فِي الْقَتْلِ أَنَّ الْقِصَاصَ يَثْبُتُ لِوَرَثَةِ الْقَتِيلِ ابْتِدَاءً لَا بِطَرِيقِ الْوِرَاثَةِ مِنْ الْمَقْتُولِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَيَثْبُتُ لِلْقَتِيلِ ابْتِدَاءً، ثُمَّ يَنْتَقِلُ بِمَوْتِهِ إلَى وَرَثَتِهِ بِطَرِيقِ الْوِرَاثَةِ مِنْهُ كَالدَّيْنِ وَالدِّيَةِ، فَقَوْلُهُ رحمه الله

ص: 253

أَمَّا الْخَطَأُ فَمُوجِبُهُ الْمَالُ، وَحَقُّ الْوَرَثَةِ يَتَعَلَّقُ بِهِ فَيُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ. .

قَالَ: (وَإِذَا قَطَعَتْ الْمَرْأَةُ يَدَ رَجُلٍ فَتَزَوَّجَهَا عَلَى يَدِهِ ثُمَّ مَاتَ فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا، وَعَلَى عَاقِلَتِهَا الدِّيَةُ إنْ كَانَ خَطَأً، وَإِنْ كَانَ عَمْدًا فَفِي مَالِهَا) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، لِأَنَّ الْعَفْوَ عَنْ الْيَدِ إذَا لَمْ يَكُنْ عَفْوًا عَمَّا يَحْدُثُ مِنْهُ عِنْدَهُ فَالتَّزَوُّجُ عَلَى الْيَدِ لَا يَكُونُ تَزَوُّجًا عَلَى مَا يَحْدُثُ مِنْهُ. ثُمَّ الْقَطْعُ إذَا كَانَ عَمْدًا يَكُونُ هَذَا تَزَوُّجًا عَلَى الْقِصَاصِ فِي الطَّرَفِ وَهُوَ لَيْسَ بِمَالٍ فَلَا يَصْلُحُ مَهْرًا،

إنَّ الْقِصَاصَ مَوْرُوثٌ بِالِاتِّفَاقِ كَذِبٌ صَرِيحٌ.

وَقَدْ مَرَّ نَظِيرُ هَذَا مِنْ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ فِي الْفَصْلِ السَّابِقِ وَبَيَّنْتُ بُطْلَانَهُ هُنَاكَ أَيْضًا فَتَذَكَّرْ وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ التَّعَرُّضُ فِيهِ لِكَوْنِ الْقِصَاصِ غَيْرُ مَوْرُوثٍ مِنْ الْمَقْتُولِ عِنْدَ إمَامِنَا الْأَعْظَمِ رحمه الله، بَلْ سِيقَ الْكَلَامُ فِيهِ عَلَى وَجْهٍ يُشْعِرُ بِكَوْنِهِ مَوْرُوثًا بِالِاتِّفَاقِ؛ أَلَا يَرَى إلَى قَوْلِهِ فِي خَاتِمَتِهِ وَالْقِصَاصُ لَيْسَ بِمَالٍ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ لَكِنَّهُ مَوْرُوثٌ (قَوْلُهُ أَمَّا الْخَطَأُ فَمُوجِبُهُ الْمَالُ وَحَقُّ الْوَرَثَةِ يَتَعَلَّقُ بِهِ فَيُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ) قَالَ جُمْهُورُ الشُّرَّاحِ: فَإِنْ قِيلَ: الْقَاتِلُ وَاحِدٌ مِنْ الْعَاقِلَةِ فَكَيْفَ جَوَّزَ الْوَصِيَّةَ بِجَمِيعِ الثُّلُثِ هَاهُنَا حَتَّى صَحَّ فِي نَصِيبِ الْقَاتِلِ أَيْضًا مَعَ أَنَّ الْوَصِيَّةَ لَا تَصِحُّ لِلْقَاتِلِ؟ قُلْنَا: إنَّمَا جَوَّزَ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمَجْرُوحَ لَمْ يَقُلْ أَوْصَيْت لَك بِثُلُثِ الدِّيَةِ، وَإِنَّمَا عَفَا عَنْهُ الْمَالَ بَعْدَ سَبَبِ الْوُجُوبِ فَكَانَ تَبَرُّعًا مُبْتَدَأً وَذَلِكَ جَائِزٌ لِلْقَاتِلِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ وَهَبَ لَهُ شَيْئًا وَسَلَّمَ جَازَ انْتَهَى كَلَامُهُمْ.

وَأَوْرَدَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ عَلَى قَوْلِهِمْ أَلَا يَرَى أَنَّهُ لَوْ وَهَبَ لَهُ شَيْئًا وَسَلَّمَ جَازَ بِأَنْ قَالَ: فِيهِ بَحْثٌ، لِأَنَّ الْهِبَةَ فِي الْمَرَضِ فِي حُكْمِ الْوَصِيَّةِ عَلَى مَا سَيَجِيءُ فِي كِتَابِ الْوَصِيَّةِ انْتَهَى.

أَقُولُ: إنْ أَرَادَ أَنَّ الْهِبَةَ فِي الْمَرَضِ فِي حُكْمِ الْوَصِيَّةِ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ فَهُوَ مَمْنُوعٌ؛ أَلَا يَرَى أَنَّ الْهِبَةَ عَقْدٌ مُنَجَّزٌ وَالْوَصِيَّةُ فِي الْمَرَضِ عَقْدٌ مُعَلَّقٌ بِالْمَوْتِ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهَا فِي حُكْمِ الْوَصِيَّةِ فِي بَعْضِ الْوُجُوهِ كَكَوْنِهَا مُعْتَبِرَةٌ مِنْ الثُّلُثِ وَنَحْوُ ذَلِكَ فَهُوَ مُسَلَّمٌ، لَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ لَا تَصِحَّ هِبَةُ الْمَجْرُوحِ لِلْقَاتِلِ كَعَدَمِ صِحَّةِ وَصِيَّتِهِ لَهُ فَلَا يُجْدِي قَدْحًا فِيمَا ذَكَرَهُ الشُّرَّاحُ فِي تَنْوِيرِ جَوَابِهِمْ

(قَوْلُهُ ثُمَّ الْقَطْعُ إنْ كَانَ عَمْدًا يَكُونُ هَذَا تَزَوُّجًا عَلَى الْقِصَاصِ فِي الطَّرَفِ وَهُوَ لَيْسَ بِمَالٍ فَلَا يَصْلُحُ مَهْرًا) قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الشُّرَّاحِ: فَإِنْ قِيلَ؛ الْقِصَاصُ لَا يَجْرِي بَيْنَ

ص: 254

لَا سِيَّمَا عَلَى تَقْدِيرِ السُّقُوطِ فَيَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ، وَعَلَيْهَا الدِّيَةُ فِي مَالِهَا لِأَنَّ التَّزَوُّجَ وَإِنْ كَانَ يَتَضَمَّنُ الْعَفْوَ عَلَى مَا نُبَيِّنُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى لَكِنْ عَنْ الْقِصَاصِ فِي الطَّرَفِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ،.

الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ فِي الْأَطْرَافِ فَكَيْفَ يَكُونُ هَذَا تَزَوُّجًا عَلَى الْقِصَاصِ.

قُلْنَا: الْمُوجِبُ الْأَصْلِيُّ فِي الْعَمْدِ الْقِصَاصُ قَضِيَّةً لِإِطْلَاقِ قَوْله تَعَالَى {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} إلَّا أَنَّهُ تَعَذَّرَ الِاسْتِيفَاءُ لِقِيَامِ الْمَانِعِ وَهُوَ التَّفَاوُتُ بَيْنَ طَرَفَيْ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ انْتَهَى.

أَقُولُ فِي الْجَوَابِ نَظَرٌ، لِأَنَّ إطْلَاقَ قَوْله تَعَالَى {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} لِمِثْلِ مَا نَحْنُ فِيهِ مَمْنُوعٌ، فَإِنَّ الْقِصَاصَ يُنْبِئُ عَنْ الْمُمَاثَلَةِ، وَمَا لَا يُمْكِنُ فِيهِ الْمُمَاثَلَةُ لَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ الْقِصَاصُ، وَعَنْ هَذَا إذَا قَطَعَ رَجُلٌ يَدَ رَجُلٍ عَمْدًا مِنْ غَيْرِ الْمِفْصَلِ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ لِعَدَمِ إمْكَانِ اعْتِبَارِ الْمُمَاثَلَةِ، وَقَدْ حَقَّقَ الْمُصَنِّفُ هَذَا الْمَعْنَى فِي أَوَّلِ بَابِ الْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ بِصَدَدِ الِاسْتِدْلَالِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} عَلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي قَطْعِ يَدِ غَيْرِهِ عَمْدًا مِنْ الْمِفْصَلِ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِيمَا مَرَّ أَنَّهُ لَا مُمَاثَلَةَ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ فِي الْأَطْرَافِ فَلَا يَنْدَرِجُ فِي قَوْله تَعَالَى {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} وَلَئِنْ سُلِّمَ ذَلِكَ لَزِمَ أَنْ يَنْتَقِضَ الْجَوَابُ الْمَذْكُورُ بِمَا إذَا قَطَعَتْ الْمَرْأَةُ يَدَ رَجُلٍ فَتَزَوَّجَهَا عَلَى يَدِهِ فَاقْتَصَرَ الْقَطْعُ فَإِنَّهُ تَصِحُّ التَّسْمِيَةُ فِيهِ، وَيَصِيرُ أَرْشُ الْيَدِ وَهُوَ خَمْسَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ مَهْرًا لَهَا بِالْإِجْمَاعِ، صَرَّحَ بِهِ الشُّرَّاحُ قَاطِبَةً فِي أَوَّلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَعَزَاهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ إلَى الْإِمَامِ قَاضِي خَانَ وَالْإِمَامِ الْمَحْبُوبِيِّ، وَقَالُوا: أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ ثُمَّ مَاتَ، وَلَوْ كَانَ الْمُوجِبُ الْأَصْلِيُّ هُوَ الْقِصَاصُ فِي الْعَمْدِ الْوَاقِعِ بَيْنَ أَطْرَافِ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ أَيْضًا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ التَّزَوُّجُ فِي صُورَةِ الِاقْتِصَارِ أَيْضًا تَزَوُّجًا عَلَى الْقِصَاصِ، فَلَزِمَ أَنْ لَا يَتِمَّ مَا صَرَّحُوا بِهِ مِنْ صِحَّةِ التَّسْمِيَةِ وَلُزُومِ الْأَرْشِ مَهْرًا لَهَا بِالْإِجْمَاعِ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ كَمَا لَا يَخْفَى.

وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ وَتَاجُ الشَّرِيعَةِ: فَإِنْ قِيلَ: الْوَاجِبُ فِي الْأَطْرَافِ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ هُوَ الْأَرْشُ وَأَرْشُ الْيَدِ مَعْلُومٌ وَهُوَ خَمْسُمِائَةِ دِينَارٍ فَمَا الْمَانِعُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمَهْرُ؟ قُلْنَا: أَرْشُ الْيَدِ لَيْسَ بِمُتَعَيَّنٍ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ خَمْسَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ فَيَكُونُ مَجْهُولًا فَيَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ انْتَهَى. أَقُولُ: فِي جَوَابِ هَذَا السُّؤَالِ أَيْضًا نَظَرٌ، فَإِنَّهُ يُنْتَقَضُ أَيْضًا قَطْعًا بِالتَّزَوُّجِ عَلَى يَدِهِ فِي صُورَةِ الِاقْتِصَارِ، فَإِنَّ أَرْشَ الْيَدِ يَصِيرُ مَهْرًا لَهَا هُنَاكَ بِالْإِجْمَاعِ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ مَعَ تَحَقُّقِ الْجَهَالَةِ النَّاشِئَةِ مِنْ عَدَمِ تَعَيُّنِ أَرْشِ الْيَدِ هُنَاكَ أَيْضًا.

ثُمَّ أَقُولُ: لَوْ قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِ صُورَةِ الْعَمْدِ أَيْضًا مِنْ مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ مِثْلَ مَا قَالَهُ فِي صُورَةِ الْخَطَإِ مِنْهَا مِنْ أَنَّهُ يَكُونُ هَذَا تَزَوُّجًا عَلَى أَرْشِ الْيَدِ، إذْ الْقِصَاصُ لَا يَجْرِي فِي الْأَطْرَافِ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ فِي الْعَمْدِ أَيْضًا عِنْدَنَا، وَإِذَا سَرَى إلَى النَّفْسِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا أَرْشَ لِلْيَدِ وَأَنَّ الْمُسَمَّى مَعْدُومٌ فَوَجَبَ مَهْرُ الْمِثْلِ لَصَحَّ وَكَانَ سَالِمًا عَنْ أَنْ يَرِدَ عَلَيْهِ السُّؤَالَانِ الْمَذْكُورَانِ وَلَمْ

ص: 255

وَإِذَا سَرَى تَبَيَّنَ أَنَّهُ قَتْلُ النَّفْسِ وَلَمْ يَتَنَاوَلْهُ الْعَفْوُ فَتَجِبُ الدِّيَةُ وَتَجِبُ فِي مَالِهَا لِأَنَّهُ عَمْدٌ. وَالْقِيَاسُ أَنْ يَجِبَ الْقِصَاصُ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ. وَإِذَا وَجَبَ لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ وَعَلَيْهَا الدِّيَةُ تَقَعُ الْمُقَاصَّةُ إنْ كَانَا عَلَى السَّوَاءِ، وَإِنْ كَانَ فِي الدِّيَةِ فَضْلٌ تَرُدُّهُ عَلَى الْوَرَثَةِ، وَإِنْ كَانَ فِي الْمَهْرِ فَضْلٌ يَرُدُّهُ الْوَرَثَةُ عَلَيْهَا، وَإِذَا كَانَ الْقَطْعُ خَطَأً يَكُونُ هَذَا تَزَوُّجًا عَلَى أَرْشِ الْيَدِ، وَإِذَا سَرَى إلَى النَّفْسِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا أَرْشَ لِلْيَدِ وَأَنَّ الْمُسَمَّى مَعْدُومٌ فَيَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ، كَمَا إذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى مَا فِي الْيَدِ وَلَا شَيْءَ فِيهَا. وَلَا يَتَقَاصَّانِ لِأَنَّ الدِّيَةَ تَجِبُ عَلَى الْعَاقِلَةِ فِي الْخَطَأِ وَالْمَهْرُ لَهَا. .

قَالَ: (وَلَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى الْيَدِ وَمَا يَحْدُثُ مِنْهَا أَوْ عَلَى الْجِنَايَةِ ثُمَّ مَاتَ مِنْ ذَلِكَ وَالْقَطْعُ عَمْدٌ فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا) لِأَنَّ هَذَا تَزَوُّجٌ عَلَى الْقِصَاصِ وَهُوَ لَا يَصْلُحُ مَهْرًا فَيَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ، وَصَارَ كَمَا إذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ وَلَا شَيْءَ لَهُ عَلَيْهَا، لِأَنَّهُ لَمَّا جَعَلَ الْقِصَاصَ مَهْرًا فَقَدْ رَضِيَ بِسُقُوطِهِ بِجِهَةِ الْمَهْرِ فَيَسْقُطُ أَصْلًا كَمَا إذَا أَسْقَطَ الْقِصَاصَ بِشَرْطِ أَنْ يَصِيرَ مَالًا فَإِنَّهُ يَسْقُطُ أَصْلًا (وَإِنْ كَانَ خَطَأً يُرْفَعُ عَنْ الْعَاقِلَةِ مَهْرُ مِثْلِهَا، وَلَهُمْ

يَحْتَجْ إلَى جَوَابَيْهِمَا الْمَذْكُورَيْنِ فِي الشُّرُوحِ الْمُخْتَلَّيْنِ كَمَا بَيَّنَّاهُ آنِفًا (قَوْلُهُ وَإِذَا سَرَى تَبَيَّنَ أَنَّهُ قَتْلُ النَّفْسِ وَلَمْ يَتَنَاوَلْهُ الْعَفْوُ فَيَجِبُ الدِّيَةُ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ: فَإِنْ قُلْت: لِمَ لَمْ يَجِبْ الْقِصَاصُ هَاهُنَا عَلَى الْمَرْأَةِ مَعَ أَنَّ الْقَطْعَ كَانَ عَمْدًا وَهُوَ قَتْلٌ مِنْ الِابْتِدَاءِ، فَإِنَّهُ لَمَّا مَاتَ ظَهَرَ أَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الْقِصَاصُ وَهُوَ لَمْ يَجْعَلْ الْقِصَاصَ مَهْرًا لِأَنَّ الْقِصَاصَ لَا يَصْلُحُ مَهْرًا لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ وَالْمَهْرُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَالًا، وَلَمَّا لَمْ يَصْلُحْ الْقِصَاصُ مَهْرًا صَارَ كَأَنَّهُ تَزَوَّجَهَا وَلَمْ يَذْكُرْ شَيْئًا وَفِيهِ الْقِصَاصُ فَكَذَا هُنَا.

قُلْت: نَعَمْ كَذَلِكَ، إلَّا أَنَّهُ لَمَّا جَعَلَ الْقِصَاصَ مَهْرًا جَعَلَ وِلَايَةَ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ لِلْمَرْأَةِ، وَلَوْ اسْتَوْفَتْ الْمَرْأَةُ الْقِصَاصَ إنَّمَا تَسْتَوْفِي عَنْ نَفْسِهَا لِنَفْسِهَا، وَذَلِكَ مُحَالٌ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ عَنْ نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ، لِأَنَّ الشَّخْصَ الْوَاحِدَ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُطَالِبًا لِلْقِصَاصِ وَمُطَالَبًا بِهِ فَسَقَطَ الْقِصَاصُ لِاسْتِحَالَةِ الِاسْتِيفَاءِ، وَلَمَّا سَقَطَ الْقِصَاصُ بَقِيَ النِّكَاحُ بِلَا تَسْمِيَةٍ فَيَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ كَمَا إذَا لَمْ يُسَمِّ ابْتِدَاءً انْتَهَى. أَقُولُ: لَا السُّؤَالُ شَيْءٌ وَلَا الْجَوَابُ.

أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ وَجْهَ عَدَمِ وُجُوبِ الْقِصَاصِ هَاهُنَا عَلَى الْمَرْأَةِ ظَاهِرٌ مِنْ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ، وَالْقِيَاسُ أَنْ يَجِبَ الْقِصَاصُ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ، فَإِنَّهُ إشَارَةٌ إلَى مَا ذَكَرَهُ فِيمَا قَبْلُ مِنْ أَنَّ وُجُوبَ الدِّيَةِ هَاهُنَا دُونَ الْقِصَاصِ عَلَى مُوجِبِ الِاسْتِحْسَانِ، فَإِنَّ صُورَةَ الْعَفْوِ أَوْرَثَتْ شُبْهَةً وَهِيَ دَارِئَةٌ لِلْقَوَدِ فَلَمْ يَبْقَ مَحَلٌّ لِلسُّؤَالِ عَنْ لَمِّيِّةِ عَدَمِ وُجُوبِ الْقِصَاصِ هَاهُنَا عَلَى الْمَرْأَةِ، وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الْقِصَاصَ الَّذِي جُعِلَ مَهْرًا وَجُعِلَ وِلَايَةَ اسْتِيفَائِهِ لِلْمَرْأَةِ إنَّمَا هُوَ قِصَاصُ الْيَدِ دُونَ قِصَاصِ النَّفْسِ كَمَا أَفْصَحَ عَنْهُ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ فِيمَا قَبْلُ يَكُونُ هَذَا تَزَوُّجًا عَلَى الْقِصَاصِ فِي الطَّرَفِ، وَإِذَا سَرَى تَبَيَّنَ أَنَّهُ قَتْلُ النَّفْسِ فَلَمْ يَتَنَاوَلْهُ وِلَايَةُ الْمَرْأَةِ لِلْعِلَّةِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ فِي عَدَمِ تَنَاوُلِهِ الْعَفْوَ الَّذِي تَضَمَّنَهُ التَّزَوُّجُ، فَبَقِيَ السُّؤَالُ عَنْ وَجْهِ عَدَمِ وُجُوبِ قِصَاصِ النَّفْسِ عَلَى الْمَرْأَةِ بَعْدَ أَنْ تَبَيَّنَ أَنَّ قَطْعَهَا صَارَ قَتْلَ النَّفْسِ وَلَغَا مَا ذُكِرَ فِي الْجَوَابِ الْمَزْبُورِ، إذْ لَمْ يَجْعَلْ حَدَّ وِلَايَةِ اسْتِيفَاءِ قِصَاصِ النَّفْسِ لِلْمَرْأَةِ قَطُّ حَتَّى يَلْزَمَ مِنْ وُجُوبِ قِصَاصِ النَّفْسِ عَلَيْهَا اسْتِيفَاؤُهَا الْقِصَاصَ عَنْ نَفْسِهَا لِنَفْسِهَا

(قَوْلُهُ وَإِنْ كَانَ خَطَأً يُرْفَعُ عَنْ الْعَاقِلَةِ مَهْرُ مِثْلِهَا وَلَهُمْ

ص: 256

ثُلُثُ مَا تَرَكَ وَصِيَّةً) لِأَنَّ هَذَا تَزَوُّجٌ عَلَى الدِّيَةِ وَهِيَ تَصْلُحُ مَهْرًا إلَّا أَنَّهُ يُعْتَبَرُ بِقَدْرِ مَهْرِ الْمِثْلِ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ لِأَنَّهُ مَرِيضٌ مَرَضَ الْمَوْتِ وَالتَّزَوُّجُ مِنْ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ وَلَا يَصِحُّ فِي حَقِّ الزِّيَادَةِ عَلَى مَهْرِ الْمِثْلِ لِأَنَّهُ مُحَابَاةٌ فَيَكُونُ وَصِيَّةً فَيُرْفَعُ عَنْ الْعَاقِلَةِ لِأَنَّهُمْ يَتَحَمَّلُونَ عَنْهَا، فَمِنْ الْمُحَالِ أَنْ تَرْجِعَ عَلَيْهِمْ بِمُوجِبِ جِنَايَتِهَا، وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ وَصِيَّةٌ لَهُمْ لِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْوَصِيَّةِ لِمَا أَنَّهُمْ لَيْسُوا بِقَتَلَةٍ، فَإِنْ كَانَتْ تَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ تَسْقُطُ، وَإِنْ لَمْ تَخْرُجْ يَسْقُطُ ثُلُثُهُ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: كَذَلِكَ الْجَوَابُ فِيمَا إذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى الْيَدِ، لِأَنَّ الْعَفْوَ عَنْ الْيَدِ عَفْوٌ عَمَّا يَحْدُثُ مِنْهُ عِنْدَهُمَا فَاتَّفَقَ جَوَابُهُمَا فِي الْفَصْلَيْنِ. .

ثُلُثُ مَا تَرَكَ وَصِيَّةً) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَالْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَحِلِّ: قَوْلُهُ وَيُرْفَعُ عَنْ الْعَاقِلَةِ مَهْرُ مِثْلِهَا: أَيْ قَدْرُ مَهْرِ مِثْلِهَا، وَقَوْلُهُ وَلَهُمْ ثُلُثُ مَا تَرَكَ وَصِيَّةً: أَيْ وَلِلْعَاقِلَةِ ثُلُثُ مَا زَادَ عَلَى مَهْرِ الْمِثْلِ إلَى تَمَامِ الدِّيَةِ يَكُونُ وَصِيَّةً انْتَهَى.

أَقُولُ: فِي التَّفْسِيرِ الثَّانِي خَلَلٌ، فَإِنَّ الْمُصَنِّفَ فَصَّلَ فِيمَا بَعْدَ حَالِ الزِّيَادَةِ عَلَى مَهْرِ الْمِثْلِ وَجَعَلَهَا صُورَتَيْنِ حَيْثُ قَالَ: فَإِنْ كَانَتْ تَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ تَسْقُطُ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَخْرُجُ يَسْقُطُ ثُلُثُهُ، وَعَلَى ذَلِكَ التَّفْسِيرِ يَلْزَمُ أَنْ لَا يَتَنَاوَلَ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا الصُّورَةَ الْأُولَى مِنْ الصُّورَتَيْنِ اللَّتَيْنِ ذَكَرَهُمَا فِيمَا بَعْدُ، فَإِنَّ مَا يَكُونُ وَصِيَّةً لَهُمْ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى مِنْهُمَا جَمِيعُ مَا زَادَ عَلَى مَهْرِ الْمِثْلِ لَا إلَى تَمَامِ الدِّيَةِ ثُلُثُهُ فَقَطْ كَمَا لَا يَخْفَى.

وَقَالَ صَاحِبُ الْغَايَةِ: قَوْلُهُ يُرْفَعُ عَنْ الْعَاقِلَةِ مَهْرُ مِثْلِهَا: أَيْ قَدْرُ مَهْرِ مِثْلِهَا، وَقَوْلُهُ وَلَهُمْ ثُلُثُ مَا تَرَكَ وَصِيَّةً لَهُمْ: أَيْ لِلْعَاقِلَةِ ثُلُثُ مَا تَرَكَ الْمَيِّتُ مِنْ الدِّيَةِ وَصِيَّةً انْتَهَى.

أَقُولُ: مَآلُ هَذَا أَيْضًا مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَالْعِنَايَةِ وَإِنْ كَانَتْ الْعِبَارَةُ مُغَايِرَةً فِي التَّفْسِيرِ الثَّانِي، فَإِنَّهُ لَمَّا بَيَّنَ مَا تَرَكَ الْمَيِّتُ فِي قَوْلِهِ ثُلُثُ مَا تَرَكَ الْمَيِّتُ بِقَوْلِهِ مِنْ الدِّيَةِ تَعَيَّنَ أَنَّ مُرَادَهُ ثُلُثُ الدِّيَةِ فَيُرَدُّ عَلَيْهِ مِثْلُ مَا يُرَدُّ عَلَى مَا ذَكَرَاهُ مِنْ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُخْرِجَ كُلَّ الدِّيَةِ مِنْ ثُلُثِ مَالِ الْمَيِّتِ فَيَلْزَمُ أَنْ لَا يَتَنَاوَلَهُ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا عَلَى التَّفْسِيرِ الْمَزْبُورِ.

ثُمَّ أَقُولُ: فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا احْتِمَالٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: وَلِلْعَاقِلَةِ ثُلُثُ مَا تَرَكَ الْمَيِّتُ مِنْ جَمِيعِ مَا لَهُ وَصِيَّةٌ لَهُمْ فَيَتَنَاوَلُ الصُّورَتَيْنِ الْآتِيَتَيْنِ فِي التَّفْصِيلِ مَعًا، لِأَنَّ جَمِيعَ مَالِ الْمَيِّتِ يَشْمَلُ الدِّيَةَ وَغَيْرَهَا فَيَجُوزُ أَنْ يُخْرِجَ الدِّيَةَ كُلَّهَا مِنْ ثُلُثِ جَمِيعِ مَا لَهُ، لَكِنْ يُتَّجَهُ عَلَيْهِ أَيْضًا أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ثُلُثُ جَمِيعِ مَا لَهُ أَكْثَرَ مِمَّا زَادَ عَلَى مَهْرِ مِثْلِهَا مِنْ الدِّيَةِ بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَكْثَرُ مِنْ كُلِّ الدِّيَةِ، فَلَا يَصِحُّ حِينَئِذٍ قَوْلُهُ وَصِيَّةً لِأَنَّ مَا يَكُونُ وَصِيَّةً لِلْعَاقِلَةِ إنَّمَا هُوَ مِقْدَارُ مَا زَادَ عَلَى مَهْرِ مِثْلِهَا مِنْ الدِّيَةِ لَا غَيْرُ.

وَبِالْجُمْلَةِ عِبَارَةُ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا لَيْسَتْ بِخَالِيَةٍ عَنْ الْقُصُورِ فِي إفَادَةِ تَمَامِ الْمُرَادِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى ذَوِي الرَّشَادِ، فَالْأَوْلَى فِي تَحْرِيرِ الْمَقَامِ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْوِقَايَةِ حَيْثُ قَالَ: وَفِي الْخَطَإِ رُفِعَ عَنْ الْعَاقِلَةِ مَهْرُ مِثْلِهَا وَالْبَاقِي وَصِيَّةً لَهُمْ، فَإِنْ خَرَجَ مِنْ الثُّلُثِ سَقَطَ وَإِلَّا سَقَطَ ثُلُثُ الْمَالِ انْتَهَى تَأَمَّلْ (قَوْلُهُ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: كَذَلِكَ الْجَوَابُ فِيمَا إذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى الْيَدِ، لِأَنَّ الْعَفْوَ عَنْ الْيَدِ عَفْوٌ عَمَّا يَحْدُثُ مِنْهُ عِنْدَهُمَا فَاتَّفَقَ جَوَابُهُمَا فِي الْفَصْلَيْنِ) أَيْ فِي التَّزَوُّجِ عَلَى الْيَدِ، وَفِي التَّزَوُّجِ عَلَى الْيَدِ وَمَا يَحْدُثُ مِنْهَا أَوْ عَلَى الْجِنَايَةِ، كَذَا قَالَ جُمْهُورُ الشُّرَّاحِ وَهُوَ الصَّوَابُ.

وَزَادَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ عَلَى ذَلِكَ شَيْئًا فِي شَرْحِهِ حَيْثُ قَالَ: يَعْنِي فِي التَّزَوُّجِ عَلَى الْيَدِ إذَا كَانَ الْقَطْعُ خَطَأً، وَفِي التَّزَوُّجِ عَلَى الْيَدِ وَمَا يَحْدُثُ مِنْهَا أَوْ عَلَى الْجِنَايَةِ انْتَهَى.

وَتَبِعَهُ الشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ. أَقُولُ: لَيْسَ ذَاكَ بِشَيْءٍ، إذْ لَا وَجْهَ لِتَقْيِيدِ الْقَطْعِ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ بِالْخَطَأِ فَإِنَّ الظَّاهِرَ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا وَمِنْ قَوْلِهِ فِيمَا سَبَقَ وَلَوْ كَانَ الْقَطْعُ خَطَأً فَقَدْ أَجْرَاهُ مَجْرَى الْعَمْدِ فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ وِفَاقًا وَخِلَافًا، وَكَذَا مِمَّا ذُكِرَ فِي عَامَّةِ الْكُتُبِ مِنْ الْمُتُونِ وَالشُّرُوحِ أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ عِنْدَهُمَا فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَإِ فِي الْفَصْلَيْنِ سَوَاءٌ، وَلَقَدْ صَرَّحَ بِهِ هَاهُنَا صَاحِبُ الْغَايَةِ نَقْلًا عَنْ شُرُوحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ حَيْثُ قَالَ: فَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَالْجَوَابُ فِيهِ فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَإِ كَالْجَوَابِ فِيمَا إذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى الْقَطْعِ وَمَا يَحْدُثُ مِنْهُ، أَوْ عَلَى الْجِنَايَةِ لِمَا ذُكِرَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، كَذَا فِي شُرُوحِ

ص: 257

قَالَ: (وَمَنْ قُطِعَتْ يَدُهُ فَاقْتُصَّ لَهُ مِنْ الْيَدِ ثُمَّ مَاتَ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ الْمُقْتَصُّ مِنْهُ) لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ الْجِنَايَةَ كَانَتْ قَتْلَ عَمْدٍ وَحَقُّ الْمُقْتَصِّ لَهُ الْقَوَدُ، وَاسْتِيفَاءُ الْقَطْعِ لَا يُوجِبُ سُقُوطَ الْقَوَدِ كَمَنْ كَانَ لَهُ الْقَوَدُ إذَا اسْتَوْفَى طَرَفَ مَنْ عَلَيْهِ الْقَوَدُ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَسْقُطُ حَقُّهُ فِي الْقِصَاصِ، لِأَنَّهُ لَمَّا أَقْدَمَ عَلَى الْقَطْعِ فَقَدْ أَبْرَأَهُ عَمَّا وَرَاءَهُ. وَنَحْنُ نَقُولُ: إنَّمَا أَقْدَمَ عَلَى الْقَطْعِ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّ حَقَّهُ فِيهِ وَبَعْدَ السِّرَايَةِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ فِي الْقَوَدِ فَلَمْ يَكُنْ مُبْرِئًا عَنْهُ بِدُونِ الْعِلْمِ بِهِ.

قَالَ: (وَمَنْ قَتَلَ وَلِيَّهُ عَمْدًا فَقَطَعَ يَدَ قَاتِلِهِ ثُمَّ عَفَا وَقَدْ قَضَى لَهُ بِالْقِصَاصِ أَوْ لَمْ يَقْضِ فَعَلَى قَاطِعِ الْيَدِ دِيَةُ الْيَدِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ) لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى حَقَّهُ فَلَا يَضْمَنُهُ، وَهَذَا لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّ إتْلَافَ النَّفْسِ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا، وَلِهَذَا لَوْ لَمْ يَعْفُ لَا يَضْمَنُهُ، وَكَذَا إذَا سَرَى وَمَا بَرَأَ أَوْ مَا عَفَا وَمَا سَرَى، أَوْ قَطَعَ ثُمَّ حَزَّ رَقَبَتَهُ قَبْلَ الْبُرْءِ أَوْ بَعْدَهُ وَصَارَ كَمَا إذَا كَانَ لَهُ قِصَاصٌ فِي الطَّرَفِ فَقَطَعَ أَصَابِعَهُ ثُمَّ عَفَا لَا يَضْمَنُ الْأَصَابِعَ. وَلَهُ أَنَّهُ اسْتَوْفَى غَيْرَ حَقِّهِ، لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الْقَتْلِ. وَهَذَا قَطْعٌ وَإِبَانَةٌ، وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يَجِبَ الْقِصَاصُ إلَّا أَنَّهُ سَقَطَ لِلشُّبْهَةِ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يُتْلِفَهُ تَبَعًا، وَإِذَا سَقَطَ وَجَبَ الْمَالُ،.

الْجَامِعِ الصَّغِيرِ انْتَهَى

(قَوْلُهُ وَمَنْ قُطِعَتْ يَدُهُ فَاقْتُصَّ لَهُ مِنْ الْيَدِ ثُمَّ مَاتَ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ الْمُقْتَصُّ مِنْهُ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: لَمْ يَذْكُرْ مَا إذَا مَاتَ الْمُقْتَصُّ مِنْهُ مِنْ الْقَطْعِ. وَحُكْمُهُ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ الْمُقْتَصِّ لَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله.

وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ الشَّافِعِيِّ. لَا شَيْءَ عَلَيْهِ عَلَى مَا سَيَجِيءُ انْتَهَى. أَقُولُ: هَذَا الْكَلَامُ مِنْهُ هُنَا كَلَامٌ خَالٍ عَنْ التَّحْصِيلِ، لِأَنَّهُ إنْ كَانَ مَقْصُودُهُ مِنْهُ مُؤَاخَذَةَ الْمُصَنِّفِ بِأَنَّهُ تَرَكَ ذِكْرَ تِلْكَ الصُّورَةِ مَعَ كَوْنِ ذِكْرِهَا أَيْضًا مِمَّا يُهِمُّ فَلَا وَجْهَ لَهُ إذْ قَدْ ذَكَرَهَا أَيْضًا فِيمَا بَعْدُ، وَإِنْ كَانَ مَقْصُودُهُ مِنْهُ مُؤَاخَذَةَ الْمُصَنِّفِ بِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ تِلْكَ الصُّورَةَ هُنَا مَعَ كَوْنِ حَقِّهَا أَنْ تُذْكَرَ هُنَا فَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ تِلْكَ الصُّورَةَ مِنْ قَبِيلِ اسْتِيفَاءِ مَنْ لَهُ الْقِصَاصُ فِي الطَّرَفِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْكِتَابِ فِيمَا بَعْدُ، وَمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ قَبِيلِ اسْتِيفَاءِ مَنْ لَهُ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ.

وَلَمَّا كَانَتْ الْمَسْأَلَةُ الْمُتَّصِلَةُ بِمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ قَبِيلِ اسْتِيفَاءِ مَنْ لَهُ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ أَيْضًا كَمَا تَرَى ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ عَقِيبَ مَا نَحْنُ فِيهِ وَأَخَّرَ تِلْكَ الصُّورَةَ عَنْهَا، وَإِنْ كَانَ مَقْصُودُهُ مِنْهُ مُجَرَّدَ بَيَانِ حُكْمِ تِلْكَ الصُّورَةِ أَيْضًا دُونَ مُؤَاخَذَةِ الْمُصَنِّفِ بِشَيْءٍ فَلَا فَائِدَةَ فِيهِ، إذْ قَدْ بَيَّنَ الْمُصَنِّفُ حُكْمَهَا فِيمَا سَيَجِيءُ مُفَصَّلًا وَمُدَلَّلًا فَيَلْغُو بَيَانُ ذَلِكَ الشَّارِحِ إيَّاهُ هَاهُنَا (قَوْلُهُ وَنَحْنُ نَقُولُ: إنَّمَا أَقْدَمَ عَلَى الْقَطْعِ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّ حَقَّهُ فِيهِ وَبَعْدَ السِّرَايَةِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ فِي الْقَوَدِ فَلَمْ يَكُنْ مُبَرِّئًا عَنْهُ بِدُونِ الْعِلْمِ بِهِ) قَالَ صَاحِبُ الْإِصْلَاحِ وَالْإِيضَاحِ: وَفِيهِ إشْكَالٌ لِمَا مَرَّ أَنَّ صُورَةَ الْعَفْوِ تَكْفِي فِي سُقُوطِ الْقَوَدِ لِأَنَّهَا تُورِثُ شُبْهَةً وَبِذَلِكَ تَمَسَّكُوا فِي سُقُوطِهِ فِيمَا إذَا عَفَا عَنْ الْقَطْعِ ثُمَّ مَاتَ مِنْهُ وَلَمْ يَلْتَفِتُوا ثَمَّةَ إلَى الْمُقَدِّمَةِ الْقَائِلَةِ إنَّهُ لَا يَكُونُ مُبْرِئًا عَنْهُ بِدُونِ الْعِلْمِ بِهِ انْتَهَى.

أَقُولُ: جَوَابُهُ أَنَّهُ قَدْ تَقَرَّرَ عِنْدَهُمْ أَنَّ الشُّبْهَةَ مُعْتَبَرَةٌ دُونَ شُبْهَةِ الشُّبْهَةِ، فَفِيمَ نَحْنُ فِيهِ يَكُونُ الْإِبْرَاءُ عَنْ النَّفْسِ شُبْهَةَ الشُّبْهَةِ، لِأَنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى الْقَطْعِ لَا يَقْتَضِيَ الْفَرَاغَ مِمَّا وَرَاءَهُ رَأْسًا لِجَوَازِ أَنْ يُسْتَوْفَى الْقَتْلُ أَيْضًا بَعْدَ الْقَطْعِ كَمَنْ لَهُ الْقَوَدُ يَسْتَوْفِي طَرَفَ مَنْ عَلَيْهِ الْقَوَدُ ثُمَّ يَقْتُلُهُ فَتَحَقَّقَتْ شُبْهَةٌ، ثُمَّ إنَّ الْفَرَاغَ مِمَّا وَرَاءَ الْقَطْعِ لَا يَقْتَضِي الْإِبْرَاءَ عَنْهُ أَيْضًا لِجَوَازِ أَنْ يَفْرُغَ مِنْهُ ظَنًّا أَنَّ حَقَّهُ فِي الْقَطْعِ لَا إبْرَاءً عَمَّا وَرَاءَهُ فَتَحَقَّقَتْ شُبْهَةٌ بَعْدَ شُبْهَةٍ فَصَارَتْ شُبْهَةُ الشُّبْهَةِ فَلَمْ تُعْتَبَرْ، بِخِلَافِ مَا إذَا عَفَا عَنْ الْقَطْعِ ثُمَّ مَاتَ مِنْهُ فَإِنَّ الْعَفْوَ عَنْ الْقَطْعِ هُنَا مُقَرَّرٌ لَا شُبْهَةَ فِيهِ.

وَإِنَّمَا بَقِيَتْ شُبْهَةُ أَنْ يَكُونَ الْعَفْوُ عَنْ الْقَطْعِ عَفْوًا عَنْ الْقَتْلِ فَاعْتُبِرَتْ فِي سُقُوطِ الْقَوَدِ بِهَا لِكَوْنِ الشُّبْهَةِ دَارِئَةً لَهُ فَافْتَرَقَا تَأَمَّلْ، فَإِنَّ هَذَا مَعْنًى

ص: 258

وَإِنَّمَا لَا يَجِبُ فِي الْحَالِ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَصِيرَ قَتْلًا بِالسِّرَايَةِ فَيَكُونُ مُسْتَوْفِيًا حَقَّهُ، وَمِلْكُ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ ضَرُورِيٌّ لَا يَظْهَرُ إلَّا عِنْدَ الِاسْتِيفَاءِ أَوْ الْعَفْوِ أَوْ الِاعْتِيَاضِ لِمَا أَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِيهِ، فَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ لَمْ يَظْهَرْ لِعَدَمِ الضَّرُورَةِ بِخِلَافِ مَا إذَا سَرَى لِأَنَّهُ اسْتِيفَاءٌ. وَأَمَّا إذَا لَمْ يَعْفُ وَمَا سَرَى، قُلْنَا: إنَّمَا يَتَبَيَّنُ كَوْنُهُ قَطْعًا بِغَيْرِ حَقٍّ بِالْبُرْءِ حَتَّى لَوْ قَطَعَ وَمَا عَفَا وَبَرَأَ الصَّحِيحُ أَنَّهُ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ، وَإِذَا قَطَعَ ثُمَّ حَزَّ رَقَبَتَهُ قَبْلَ الْبُرْءِ فَهُوَ اسْتِيفَاءٌ وَلَوْ حَزَّ بَعْدَ الْبُرْءِ فَهُوَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ هُوَ الصَّحِيحُ، وَالْأَصَابِعُ وَإِنْ كَانَتْ تَابِعَةً قِيَامًا بِالْكَفِّ فَالْكَفُّ تَابِعَةٌ لَهَا غَرَضًا، بِخِلَافِ الطَّرَفِ لِأَنَّهَا تَابِعَةٌ لِلنَّفْسِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. .

قَالَ: (وَمَنْ لَهُ الْقِصَاصُ فِي الطَّرَفِ إذَا اسْتَوْفَاهُ ثُمَّ سَرَى إلَى النَّفْسِ وَمَاتَ يَضْمَنُ دِيَةَ النَّفْسِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَا: لَا يَضْمَنُ) لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى حَقَّهُ وَهُوَ الْقَطْعُ، وَلَا يُمْكِنُ التَّقْيِيدُ بِوَصْفِ السَّلَامَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ سَدِّ بَابِ الْقِصَاصِ، إذْ الِاحْتِرَازُ عَنْ السِّرَايَةِ لَيْسَ فِي وُسْعِهِ فَصَارَ كَالْإِمَامِ وَالْبَزَّاغِ وَالْحَجَّامِ وَالْمَأْمُورِ بِقَطْعِ الْيَدِ. وَلَهُ أَنَّهُ قَتْلٌ بِغَيْرِ حَقٍّ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الْقَطْعِ وَهَذَا وَقَعَ قَتْلًا وَلِهَذَا لَوْ وَقَعَ ظُلْمًا كَانَ قَتْلًا. وَلِأَنَّهُ جُرْحٌ أَفْضَى إلَى فَوَاتِ الْحَيَاةِ فِي مَجْرَى الْعَادَةِ وَهُوَ مُسَمَّى الْقَتْلِ، إلَّا أَنَّ الْقِصَاصَ سَقَطَ لِلشُّبْهَةِ فَوَجَبَ الْمَالُ بِخِلَافِ مَا اسْتَشْهَدَا بِهِ مِنْ الْمَسَائِلِ إلَّا أَنَّهُ مُكَلَّفٌ فِيهَا بِالْفِعْلِ، إمَّا تَقَلُّدًا كَالْإِمَامِ أَوْ عَقْدًا كَمَا فِي غَيْرِهِ مِنْهَا.

عَمِيقٌ وَفَرْقٌ دَقِيقٌ

(قَوْلُهُ بِخِلَافِ مَا اسْتَشْهِدَا بِهِ مِنْ الْمَسَائِلِ لِأَنَّهُ مُكَلَّفٌ فِيهَا بِالْفِعْلِ، إمَّا تَقَلُّدًا كَالْإِمَامِ، أَوْ عَقْدًا كَمَا فِي غَيْرِهِ مِنْهَا) أَقُولُ: فِيهِ تَسَاهُلٌ، لِأَنَّ مِنْ تِلْكَ الْمَسَائِلِ مَا لَا يَجِبُ فِعْلُهُ لَا تَقَلُّدًا وَلَا عَقْدًا وَهُوَ الْمَأْمُورُ بِقَطْعِ الْيَدِ، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَا إذَا

ص: 259

وَالْوَاجِبَاتُ لَا تَتَقَيَّدُ بِوَصْفِ السَّلَامَةِ كَالرَّمْيِ إلَى الْحَرْبِيِّ، وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ لَا الْتِزَامَ وَلَا وُجُوبَ، إذْ هُوَ مَنْدُوبٌ إلَى الْعَفْوِ فَيَكُونُ مِنْ بَابِ الْإِطْلَاقِ فَأَشْبَهَ الِاصْطِيَادَ.

‌بَابُ الشَّهَادَةِ فِي الْقَتْلِ

قَالَ: (وَمَنْ قُتِلَ وَلَهُ ابْنَانِ حَاضِرٌ وَغَائِبٌ فَأَقَامَ الْحَاضِرُ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْقَتْلِ ثُمَّ قَدِمَ الْغَائِبُ فَإِنَّهُ يُعِيدُ الْبَيِّنَةَ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ،

قَالَ: اقْطَعْ يَدِي فَفَعَلَ فَسَرَى إلَى النَّفْسِ فَمَاتَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْكَافِي وَعَامَّةِ الشُّرُوحِ فَلَمْ يَتِمَّ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ أَوْ عَقْدًا كَمَا فِي غَيْرِهِ مِنْهَا فَإِنَّ الْعَقْدَ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ فِي الْبَزَّاغِ وَالْحَجَّامِ مِنْهَا دُونَ الْمَأْمُورِ بِالْقَطْعِ مَعَ أَنَّهُ غَيْرُ الْإِمَامِ وَأَنَّهُ مِنْ تِلْكَ الْمَسَائِلِ أَيْضًا، وَلَا يُجْدِي التَّشَبُّثُ بِالتَّغْلِيبِ نَفْعًا هُنَا، لِأَنَّ قَوْلَهُ بَعْدَهُ وَالْوَاجِبَاتُ لَا تَتَقَيَّدُ بِوَصْفِ السَّلَامَةِ لَا يَتَمَشَّى فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ، إذْ لَا يَجِبُ عَلَى الْمَأْمُورِ بِالْقَطْعِ الْقَطْعُ بَلْ هُوَ تَبَرُّعٌ مِنْهُ كَمَا لَا يَخْفَى، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الدَّلِيلُ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ قَاصِرًا عَنْ إفَادَةِ الْفَرْقِ فِي حَقِّ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ كَمَا تَرَى.

نَعَمْ يُمْكِنُ الْفَرْقُ فِي حَقِّهَا أَيْضًا بِأَنْ يُقَالَ لَمَّا فَعَلَ الْمَأْمُورَ بِالْقَطْعِ بِإِذْنِ الْآمِرِ انْتَقَلَ حُكْمُ الْفِعْلِ إلَى الْآمِرِ فَصَارَ كَمَا لَوْ قَطَعَ يَدَ نَفْسِهِ وَفِي ذَلِكَ لَا ضَمَانَ، لَكِنَّ الْكَلَامَ فِي قُصُورِ عِبَارَةِ الْكِتَابِ عَنْ إفَادَةِ تَمَامِ الْمَرَامِ وَهَذَا مِمَّا لَا رَيْبَ فِيهِ.

(بَابُ الشَّهَادَةِ فِي الْقَتْلِ)

لَمَّا كَانَتْ الشَّهَادَةُ فِي الْقَتْلِ أَمْرًا مُتَعَلِّقًا بِالْقَتْلِ أَوْرَدَهَا بَعْدَ ذِكْرِ حُكْمِ الْقَتْلِ لِأَنَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِالشَّيْءِ كَانَ أَدْنَى دَرَجَةً مِنْ نَفْسِ ذَلِكَ الشَّيْءِ (قَوْلُهُ وَمَنْ قُتِلَ وَلَهُ ابْنَانِ حَاضِرٌ وَغَائِبٌ فَأَقَامَ الْحَاضِرُ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْقَتْلِ ثُمَّ قَدِمَ الْغَائِبُ فَإِنَّهُ يُعِيدُ الْبَيِّنَةَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ

ص: 260

وَقَالَا: لَا يُعِيدُ (وَإِنْ كَانَ خَطَأً لَمْ يُعِدْهَا بِالْإِجْمَاعِ) وَكَذَلِكَ الدَّيْنُ يَكُونُ لِأَبِيهِمَا عَلَى آخَرَ. لَهُمَا فِي الْخِلَافِيَّةِ أَنَّ الْقِصَاصَ طَرِيقُهُ طَرِيقُ الْوِرَاثَةِ كَالدَّيْنِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ عِوَضٌ عَنْ نَفْسِهِ فَيَكُونُ الْمِلْكُ فِيهِ لِمَنْ لَهُ الْمِلْكُ فِي الْمُعَوَّضِ كَمَا فِي الدِّيَةِ، وَلِهَذَا لَوْ انْقَلَبَ مَالًا يَكُونُ لِلْمَيِّتِ، وَلِهَذَا يَسْقُطُ بِعَفْوِهِ بَعْدَ الْجُرْحِ قَبْلَ الْمَوْتِ فَيَنْتَصِبُ أَحَدُ الْوَرَثَةِ خَصْمًا عَنْ الْبَاقِينَ. وَلَهُ أَنَّ الْقِصَاصَ طَرِيقُهُ الْخِلَافَةُ دُونَ الْوِرَاثَةِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ مِلْكَ

- رحمه الله وَقَالَا: لَا يُعِيدُ) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ: وَالْأَصْلُ أَنَّ اسْتِيفَاءَ الْقِصَاصِ حَقُّ الْوَارِثِ عِنْدَهُ وَحَقُّ الْمُوَرِّثِ عِنْدَهُمَا. وَقَالَ: وَلَيْسَ لِأَبِي حَنِيفَةَ تَمَسُّكٌ بِصِحَّةِ الْعَفْوِ مِنْ الْوَارِثِ حَالَ حَيَاةِ الْمُوَرِّثِ اسْتِحْسَانًا، كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ لَهُمَا ذَلِكَ بِصِحَّةِ الْعَفْوِ مِنْ الْمُوَرَّثِ الْمَجْرُوحِ اسْتِحْسَانًا لِلتَّدَافُعِ انْتَهَى. أَقُولُ: فِيهِ بَحْثٌ، لِأَنَّ مَا تَمَسَّكَا بِهِ لَا يَنْتَهِضُ حُجَّةً عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَا تَمَسَّك بِهِ يَنْتَهِضُ حُجَّةً عَلَيْهِمَا فَكَيْفَ يَتَحَقَّقُ التَّدَافُعُ بَيْنَ ذَيْنِكَ التَّمَسُّكَيْنِ.

وَذَلِكَ أَنَّ الْقِصَاصَ وَإِنْ كَانَ حَقًّا لِلْوَارِثِ عِنْدَهُ بِاعْتِبَارِ ثُبُوتِهِ لِلْوَارِثِ ابْتِدَاءً بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْقِصَاصَ لَا يَثْبُتُ إلَّا بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْمَيِّتُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ أَنْ يَثْبُتَ لَهُ هَذَا الْحَقُّ لِأَنَّهُ شُرِعَ لِلتَّشَفِّي، وَدَرْكِ الثَّأْرِ وَالْمَيِّتُ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِذَلِكَ لَكِنَّهُ حَقٌّ لِلْمُوَرِّثِ أَيْضًا عِنْدَهُ بِاعْتِبَارِ انْعِقَادِ سَبَبِهِ الَّذِي هُوَ الْجِنَايَةُ فِي حَقِّ الْمُوَرِّثِ، وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ فِي كَثِيرِ مِنْ الشُّرُوحِ.

فَأَبُو حَنِيفَةَ رَاعَى فِيمَا نَحْنُ فِيهِ جِهَةَ كَوْنِ الْقِصَاصِ حَقًّا لِلْوَارِثِ فَقَالَ بِاشْتِرَاطِ إعَادَةِ الْبَيِّنَةِ إذَا حَضَرَ الْغَائِبُ احْتِيَالًا لِلدَّرْءِ وَرَاعَى فِي مَسْأَلَةِ الْعَفْوِ مِنْ الْمُوَرِّثِ الْمَجْرُوحِ جِهَةَ كَوْنِهِ حَقًّا لِلْمُوَرِّثِ فَقَالَ بِصِحَّةِ الْعَفْوِ مِنْهُ احْتِيَالًا لِلدَّرْءِ أَيْضًا.

وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَالْقِصَاصُ حَقٌّ ثَابِتٌ لِلْمُوَرِّثِ ابْتِدَاءً مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ، ثُمَّ يَنْتَقِلُ بَعْدَ مَوْتِهِ إلَى الْوَارِثِ بِطَرِيقِ الْوِرَاثَةِ كَسَائِرِ أَمْلَاكِهِ،

ص: 261

الْقِصَاصِ يَثْبُتُ بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْمَيِّتُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ، بِخِلَافِ الدَّيْنِ وَالدِّيَةِ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْمِلْكِ فِي الْأَمْوَالِ، كَمَا إذَا نَصَبَ شَبَكَةً فَتَعَلَّقَ بِهَا صَيْدٌ بَعْدَ مَوْتِهِ فَإِنَّهُ يَمْلِكُهُ، وَإِذَا كَانَ طَرِيقُهُ الْإِثْبَاتَ ابْتِدَاءً لَا يَنْتَصِبُ أَحَدُهُمْ خَصْمًا عَنْ الْبَاقِينَ فَيُعِيدُ الْبَيِّنَةَ بَعْدَ حُضُورِهِ (فَإِنْ كَانَ أَقَامَ الْقَاتِلُ الْبَيِّنَةَ أَنَّ الْغَائِبَ قَدْ عَفَا فَالشَّاهِدُ خَصْمٌ وَيَسْقُطُ الْقِصَاصُ) لِأَنَّهُ ادَّعَى عَلَى الْحَاضِرِ سُقُوطَ حَقِّهِ فِي الْقِصَاصِ إلَى مَالٍ، وَلَا يُمْكِنُهُ إثْبَاتُهُ إلَّا بِإِثْبَاتِ الْعَفْوِ مِنْ الْغَائِبِ فَيَنْتَصِبُ الْحَاضِرُ خَصْمًا عَنْ الْغَائِبِ (وَكَذَلِكَ عَبْدٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ قُتِلَ عَمْدًا وَأَحَدُ الرَّجُلَيْنِ غَائِبٌ فَهُوَ عَلَى هَذَا) لِمَا بَيَّنَّاهُ. .

قَالَ: (فَإِنْ كَانَ الْأَوْلِيَاءُ ثَلَاثَةً فَشَهِدَ أَثْنَانِ مِنْهُمْ عَلَى الْآخَرِ أَنَّهُ قَدْ عَفَا فَشَهَادَتُهُمَا بَاطِلَةٌ وَهُوَ عَفْوٌ مِنْهُمَا) لِأَنَّهُمَا يَجُرَّانِ بِشَهَادَتِهِمَا إلَى أَنْفُسِهِمَا مَغْنَمًا وَهُوَ انْقِلَابُ الْقَوَدِ مَالًا (فَإِنْ صَدَّقَهُمَا الْقَاتِلُ فَالدِّيَةُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا) مَعْنَاهُ: إذَا صَدَّقَهُمَا وَحْدَهُ، لِأَنَّهُ لَمَّا صَدَّقَهُمَا فَقَدْ أَقَرَّ بِثُلْثَيْ الدِّيَةِ لَهُمَا فَصَحَّ إقْرَارُهُ، إلَّا أَنَّهُ يَدَّعِي سُقُوطَ حَقِّ الشُّهُودِ عَلَيْهِ وَهُوَ يُنْكِرُ فَلَا يُصَدَّقُ وَيَغْرَمُ نَصِيبَهُ (وَإِنْ كَذَّبَهُمَا فَلَا شَيْءَ لَهُمَا وَلِلْآخَرِ ثُلُثُ الدِّيَةِ) وَمَعْنَاهُ: إذَا كَذَّبَهُمَا الْقَاتِلُ أَيْضًا، وَهَذَا لِأَنَّهُمَا أَقَرَّا عَلَى أَنْفُسِهِمَا بِسُقُوطِ الْقِصَاصِ فَقِبَلَ وَادَّعَيَا انْقِلَابَ نَصِيبِهِمَا مَالًا فَلَا يُقْبَلُ إلَّا بِحُجَّةٍ، وَيَنْقَلِبُ نَصِيبُ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ مَالًا لِأَنَّ دَعْوَاهُمَا الْعَفْوَ عَلَيْهِ وَهُوَ يُنْكِرُ بِمَنْزِلَةِ ابْتِدَاءِ الْعَفْوِ مِنْهُمَا فِي حَقِّ

فَيُتَّجَهُ عَلَيْهِمَا الْمُؤَاخَذَةُ لِصِحَّةِ الْعَفْوِ مِنْ الْوَارِثِ حَالَ حَيَاةِ الْمُوَرِّثِ اسْتِحْسَانًا بِالْإِجْمَاعِ فَتَدَبَّرْ

(قَوْلُهُ وَإِنْ كَذَّبَهُمَا فَلَا شَيْءَ لَهُمَا وَلِلْآخَرِ ثُلُثُ الدِّيَةِ مَعْنَاهُ إذَا كَذَّبَهُمَا الْقَاتِلُ أَيْضًا) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ: وَإِنْ كَذَّبَهُمَا فَلَا شَيْءَ أَيْ وَإِنْ كَذَّبَهُمَا الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ، مَعْنَاهُ: إذَا كَذَّبَهُمَا الْقَاتِلُ أَيْضًا، وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِهَذَا لِأَنَّهُ إذَا صَدَّقَهُمَا الْقَاتِلُ عَنْ تَكْذِيبِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ يَجِبُ عَلَى الْقَاتِلِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا ثُمَّ قَالَ: وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ مَعْنَاهُ: إذَا كَذَّبَهُمَا الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ أَيْضًا فَحِينَئِذٍ كَانَ مَعْنَى قَوْلِهِ وَإِنْ كَذَّبَهُمَا: أَيْ وَإِنْ كَذَّبَهُمَا الْقَاتِلُ انْتَهَى.

وَعَلَى طَرْزِهِ شَرْحُ صَاحِبِ الْغَايَةِ أَيْضًا، إلَّا أَنَّهُ جَعَلَ النُّسْخَةَ الثَّانِيَةَ أَصْلًا عَلَى عَكْسِ مَا فِي النِّهَايَةِ،

ص: 262

الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، لِأَنَّ سُقُوطَ الْقَوَدِ مُضَافٌ إلَيْهِمَا، وَإِنْ صَدَّقَهُمَا الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ وَحْدَهُ غَرِمَ الْقَاتِلُ ثُلُثَ الدِّيَةِ لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ لِإِقْرَارِهِ لَهُ بِذَلِكَ. .

قَالَ: (وَإِذَا شَهِدَ الشُّهُودُ أَنَّهُ ضَرَبَهُ فَلَمْ يَزَلْ صَاحِبَ فِرَاشٍ حَتَّى مَاتَ فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ إذَا كَانَ عَمْدًا) لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالشَّهَادَةِ كَالثَّابِتِ مُعَايَنَةً، وَفِي ذَلِكَ الْقِصَاصُ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ، وَالشَّهَادَةُ عَلَى قَتْلِ الْعَمْدِ تَتَحَقَّقُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، لِأَنَّ الْمَوْتَ بِسَبَبِ الضَّرْبِ إنَّمَا يُعْرَفُ إذَا صَارَ بِالضَّرْبِ صَاحِبُ فِرَاشٍ حَتَّى مَاتَ، وَتَأْوِيلُهُ إذَا شَهِدُوا أَنَّهُ ضَرَبَهُ بِشَيْءٍ جَارِحٍ.

وَقَالَ: وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ.

أَقُولُ: مَدَارُ مَا ذَكَرَا فِي شَرْحِ الْمَقَامِ عَلَى أَنَّهُمَا فَهِمَا أَنَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ مَعْنَاهُ إذَا كَذَّبَهُمَا الْقَاتِلُ أَيْضًا وَكَذَا بِقَوْلِهِ فِي النُّسْخَةِ الْأُخْرَى مَعْنَاهُ إذَا كَذَّبَهُمَا الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ أَيْضًا بَيَانُ الْكَلَامِ الْمُقَدَّرِ فِي عِبَارَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَهِيَ قَوْلُهُ وَإِنْ كَذَّبَهُمَا فَلَا شَيْءَ لَهُمَا، فَإِنَّهُمَا جَعَلَا فَاعِلَ كَذَّبَهُمَا فِي قَوْلِهِ وَإِنْ كَذَّبَهُمَا فَلَا شَيْءَ لَهُمَا ضَمِيرًا رَاجِعًا إلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ عَلَى نُسْخَةٍ مَعْنَاهُ إذَا كَذَّبَهُمَا الْقَاتِلُ أَيْضًا، وَضَمِيرًا رَاجِعًا إلَى الْقَاتِلِ عَلَى نُسْخَةِ مَعْنَاهُ إذَا كَذَّبَهُمَا الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ أَيْضًا، وَهَذَا لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا بِأَنْ يَكُونَ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ فِي النُّسْخَةِ الْأُولَى أَنَّ جُمْلَةَ إذَا كَذَّبَهُمَا الْقَاتِلُ أَيْضًا مُقَدَّرَةٌ فِي عِبَارَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فَتَقْدِيرُهَا وَإِنْ كَذَّبَهُمَا الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ فَلَا شَيْءَ لَهُمَا إذَا كَذَّبَهُمَا الْقَاتِلُ أَيْضًا، وَفِي النُّسْخَةِ الْأُخْرَى أَنَّ جُمْلَةَ إذَا كَذَّبَهُمَا الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ أَيْضًا مُقَدَّرَةٌ فِيهَا فَتَقْدِيرُهَا وَإِنْ كَذَّبَهُمَا الْقَاتِلُ فَلَا شَيْءَ لَهُمَا إذَا كَذَّبَهُمَا الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ أَيْضًا، لَكِنْ لَيْسَ مَا ذَهَبَا إلَيْهِ بِسَدِيدٍ، إذْ يَأْبَاهُ قَطْعًا قَوْلُ الْمُصَنِّفِ مَعْنَاهُ لِأَنَّ الْمُقَدَّرَ لَا يَكُونُ مَعْنَى الْمَذْكُورِ.

وَالْحَقُّ عِنْدِي أَنَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ بَيَانُ اعْتِبَارِ مُجَرَّدِ قَيْدٍ أَيْضًا فِي عِبَارَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ هُنَا كَمَا أَنَّهُ بَيَّنَ قَبِيلَهُ اعْتِبَارَ قَيْدٍ وَحْدَهُ فِي عِبَارَتِهِ حَيْثُ قَالَ: مَعْنَاهُ إذَا صَدَّقَهُمَا وَحْدَهُ، فَمُرَادُهُ عَلَى النُّسْخَةِ الْأُولَى أَنَّ مَعْنَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَإِنْ كَذَّبَهُمَا إذَا كَذَّبَهُمَا الْقَاتِلُ، أَيْضًا: أَيْ مَعَ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، كَمَا أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ فِيمَا قَبْلُ فَإِنْ صَدَّقَهُمَا الْقَاتِلُ إذَا صَدَّقَهُمَا وَحْدَهُ: أَيْ بِدُونِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ وَالْقَيْدَانِ مَنْوِيَّانِ بِمَعُونَةِ الْمَقَامِ، وَمُرَادُهُ عَلَى النُّسْخَةِ الْأُخْرَى مَعْنَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَإِنْ كَذَّبَهُمَا إذَا كَذَّبَهُمَا الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ أَيْضًا: أَيْ مَعَ الْقَاتِلِ، فَحِينَئِذٍ يَنْتَظِمُ الْكَلَامُ وَيَتَّضِحُ الْمَرَامُ

(قَوْلُهُ وَتَأْوِيلُهُ إذَا شَهِدُوا أَنَّهُ ضَرَبَهُ بِشَيْءٍ جَارِحٍ) قَالَ فِي الْكِفَايَةِ: وَإِنَّمَا أَوَّلَ لِتَكُونَ الْمَسْأَلَةُ مُجْمَعًا عَلَيْهَا.

وَقَالَ فِي مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ نَقْلًا عَنْ الذَّخِيرَةِ: مَا ذُكِرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ إنْ

ص: 263

قَالَ: (وَإِذَا اخْتَلَفَ شَاهِدَا الْقَتْلِ فِي الْأَيَّامِ أَوْ فِي الْبَلَدِ أَوْ فِي الَّذِي كَانَ بِهِ الْقَتْلُ فَهُوَ بَاطِلٌ) لِأَنَّ الْقَتْلَ لَا يُعَادُ وَلَا يُكَرَّرُ، وَالْقَتْلُ فِي زَمَانٍ أَوْ فِي مَكَان غَيْرُ الْقَتْلِ فِي زَمَانٍ أَوْ مَكَان آخَرَ، وَالْقَتْلُ بِالْعَصَا غَيْرُ الْقَتْلِ بِالسِّلَاحِ لِأَنَّ الثَّانِيَ عَمْدٌ وَالْأَوَّلَ شِبْهُ الْعَمْدِ، وَيَخْتَلِفُ أَحْكَامُهُمَا فَكَانَ عَلَى كُلِّ قَتْلٍ شَهَادَةٌ فَرُدَّ (وَكَذَا إذَا قَالَ أَحَدُهُمَا: قَتَلَهُ بِعَصًا وَقَالَ الْآخَرُ لَا أَدْرِي بِأَيِّ شَيْءٍ قَتَلَهُ فَهُوَ بَاطِلٌ) لِأَنَّ الْمُطْلَقَ يُغَايِرُ الْمُقَيَّدَ. .

قَالَ: (وَإِنْ شَهِدَا أَنَّهُ قَتَلَهُ وَقَالَا: لَا نَدْرِي بِأَيِّ شَيْءٍ قَتَلَهُ فَفِيهِ الدِّيَةُ اسْتِحْسَانًا) وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا تُقْبَلَ هَذِهِ الشَّهَادَةُ لِأَنَّ الْقَتْلَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْآلَةِ فَجُهِلَ الْمَشْهُودُ بِهِ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُمْ شَهِدُوا بِقَتْلٍ مُطْلَقٍ وَالْمُطْلَقُ لَيْسَ بِمُجْمَلٍ فَيَجِبُ أَقَلُّ مُوجِبَيْهِ وَهُوَ الدِّيَةُ وَلِأَنَّهُ يُحْمَلُ إجْمَالُهُمْ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى إجْمَالِهِمْ بِالْمَشْهُودِ عَلَيْهِ سِتْرًا عَلَيْهِ.

كَانَ قَوْلُهُمَا فَهُوَ مُجْرَى عَلَى إطْلَاقِهِ، وَإِنْ كَانَ قَوْلُ الْكُلِّ فَتَأْوِيلُهُ أَنْ تَكُونَ الْآلَةُ جَارِحَةً انْتَهَى.

ثُمَّ قَالَ جُمْهُورُ الشُّرَّاحِ: فَإِنْ قِيلَ: الشُّهُودُ شَهِدُوا عَلَى الضَّرْبِ بِشَيْءٍ جَارِحٍ وَلَكِنَّ الضَّرْبَ بِهِ قَدْ يَكُونُ خَطَأً فَكَيْفَ يَثْبُتُ الْقَوَدُ مَعَ أَنَّهُمْ لَمْ يَشْهَدُوا أَنَّهُ كَانَ مُتَعَمِّدًا؟ قُلْنَا: لَمَّا شَهِدُوا أَنَّهُ ضَرَبَهُ بِسِلَاحٍ فَقَدْ شَهِدُوا أَنَّهُ قَصَدَ ضَرْبَهُ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُخْطِئًا لَا يَحِلُّ لَهُمْ أَنْ يَشْهَدُوا أَنَّهُ ضَرَبَهُ وَإِنَّمَا يَشْهَدُونَ أَنَّهُ قَصَدَ ضَرْبَ غَيْرِهِ فَأَصَابَهُ. وَقَالُوا: كَذَا ذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ الْمَعْرُوفُ بِخُوَاهَرْ زَادَهْ. وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ نَقْلِ ذَلِكَ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ.

وَأَقُولُ هَذَا لَيْسَ بِوَارِدٍ عَلَى صَاحِبِ الْهِدَايَةِ لِأَنَّهُ أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ إذَا كَانَ عَمْدًا نَعَمْ يُرَدُّ عَلَى عِبَارَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَلِهَذَا احْتَرَزَ عَنْهُ الْمُصَنِّفُ انْتَهَى.

وَأَنَا أَقُولُ: نَعَمْ لَا يُرَدُّ عَلَى الْمُصَنِّفِ ذَلِكَ السُّؤَالُ بَعْدَمَا قَيَّدَ مَسْأَلَةَ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِقَوْلِهِ إذَا كَانَ عَمْدًا، لَكِنْ يُرَدُّ عَلَيْهِ أَنْ يُقَالَ: لَيْسَ لِهَذَا التَّقْيِيدِ هَاهُنَا وَجْهٌ، لِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّ وُجُوبَ الْقَوَدِ فِي مَسْأَلَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فِيمَا إذَا صَرَّحَ الشُّهُودُ بِكَوْنِ ضَرَبَهُ عَمْدًا لَا فِيمَا إذَا أَطْلَقُوا ضَرْبَهُ وَلَمْ يُقَيِّدُوا بِكَوْنِهِ عَمْدًا فَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ عَلَى مَا ذَكَرَهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ وَنَقَلَ عَنْهُ شُرَّاحُ الْكِتَابِ، فَإِنَّهُ صَرِيحٌ فِي أَنَّ تَصْرِيحَ الشُّهُودِ بِذِكْرِ الْعَمْدِ لَيْسَ بِلَازِمٍ فِي وُجُوبِ الْقَوَدِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَإِنْ لَمْ يُرِدْ بِهِ ذَلِكَ بَلْ كَانَ مُعْتَرِفًا بِمَا ذَكَرَهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ فَلَا حَاجَةَ إلَى تَقْيِيدِهِ الْمَزْبُورِ بَلْ لَا وَجْهَ لَهُ كَمَا لَا يَخْفَى

(قَوْلُهُ وَالْقَتْلُ بِالْعَصَا غَيْرُ الْقَتْلِ بِالسِّلَاحِ لِأَنَّ الثَّانِيَ عَمْدٌ وَالْأَوَّلَ شِبْهُ الْعَمْدِ وَيَخْتَلِفُ أَحْكَامُهُمَا) أَقُولُ: لَوْ قَالَ بَدَلَ قَوْلِهِ الْمَذْكُورِ وَالْقَتْلُ بِآلَةٍ غَيْرُ الْقَتْلِ بِآلَةٍ كَمَا قَالَ فِي الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ لَكَانَ أَجْمَلَ وَأَشْمَلَ.

أَمَّا كَوْنُهُ أَجْمَلَ فَظَاهِرٌ. وَأَمَّا كَوْنُهُ أَشْمَلَ فَلِأَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي الَّذِي كَانَ بِهِ الْقَتْلُ غَيْرُ مُنْحَصِرٍ فِي الِاخْتِلَافِ فِيمَا يُوجِبُ الِاخْتِلَافَ فِي الْأَحْكَامِ كَالْعَصَا وَالسِّلَاحِ، بَلْ يَعُمُّ الِاخْتِلَافَ فِي غَيْرِ ذَلِكَ أَيْضًا كَالسَّيْفِ وَالرُّمْحِ، فَإِنَّ الْقَتْلَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَمْدٌ يُوجِبُ الْقَوَدَ، وَمَعَ ذَلِكَ لَوْ قَالَ أَحَدُ الشَّاهِدَيْنِ: قَتَلَهُ بِسَيْفٍ وَقَالَ الْآخَرُ: قَتَلَهُ بِرُمْحٍ كَانَتْ شَهَادَتُهَا أَيْضًا بَاطِلَةً، نَصَّ عَلَيْهِ الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ فِي الْكَافِي حَيْثُ قَالَ: وَلَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَتَلَهُ بِسَيْفٍ وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ طَعَنَهُ بِرُمْحٍ أَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ ضَرَبَهُ بِسَيْفٍ وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ رَمَاهُ بِسَهْمٍ أَوْ اخْتَلَفَا فِي مَكَانِ الْقَتْلِ أَوْ وَقْتِهِ أَوْ مَوَاضِعِ الْجِرَاحَةِ مِنْ بَدَنِهِ فَالشَّهَادَةُ بَاطِلَةٌ انْتَهَى.

(قَوْلُهُ وَلِأَنَّهُ يُحْمَلُ إجْمَالَهُمْ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى إجْمَالِهِمْ بِالْمَشْهُودِ عَلَيْهِ سِتْرًا عَلَيْهِ) فِيهِ صَنْعَةُ التَّجْنِيسِ التَّامِّ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} فَالْإِجْمَالُ الْأَوَّلُ هَاهُنَا

ص: 264

وَأَوَّلُوا كَذِبَهُمْ فِي نَفْيِ الْعِلْمِ بِظَاهِرِ مَا وَرَدَ بِإِطْلَاقِهِ فِي إصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ وَهَذَا فِي مَعْنَاهُ،

بِمَعْنَى الْإِبْهَامِ، وَالثَّانِي بِمَعْنَى الصَّنِيعِ وَهُوَ الْإِحْسَانُ.

ثُمَّ إنَّ كَثِيرًا مِنْ الشُّرَّاحِ قَالُوا قَوْلُ الْمُصَنِّفِ هَذَا جَوَابٌ عَمَّا يَرِدُ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِحْسَانِ. وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: الشُّهُودُ فِي قَوْلِهِمْ لَا نَدْرِي بِأَيِّ شَيْءٍ قَتَلَهُ إمَّا صَادِقُونَ أَوْ كَاذِبُونَ، وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ يَنْبَغِي أَنْ لَا تُقْبَلَ شَهَادَتُهُمْ، لِأَنَّهُمْ إنْ صَدَقُوا امْتَنَعَ الْقَضَاءُ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ لِاخْتِلَافِ مُوجِبِ السَّيْفِ وَالْعَصَا.

وَإِنْ كَذَبُوا صَارُوا فَسَقَةً وَشَهَادَةُ الْفَاسِقِ لَا تُقْبَلُ. فَقَالَ فِي جَوَابِهِ: إنَّهُمْ جُعِلُوا عَالَمَيْنِ بِأَنَّهُ قَتَلَهُ بِالسَّيْفِ.

لَكِنَّهُمْ بِقَوْلِهِمْ لَا نَدْرِي اخْتَارُوا حِسْبَةَ السِّتْرِ عَلَى الْقَاتِلِ وَأَحْسَنُوا إلَيْهِ بِالْإِحْيَاءِ وَجُعِلَ كَذِبُهُمْ هَذَا مَعْفُوًّا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى لِمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «لَيْسَ بِكَذَّابٍ مَنْ يُصْلِحُ بَيْنَ اثْنَيْنِ» فَبِتَأْوِيلِهِمْ كَذِبَهُمْ بِهَذَا لَمْ يَكُونُوا فَسَقَةً فَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ أَوَّلُوا كَذِبَهُمْ بِظَاهِرِ مَا وَرَدَ بِإِطْلَاقِهِ: أَيْ بِظَاهِرِ مَا وَرَدَ بِتَجْوِيزِ الْكَذِبِ انْتَهَى كَلَامُهُمْ.

أَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ، إذْ لَا وُرُودَ لِمَا ذَكَرُوهُ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِحْسَانِ أَصْلًا حَتَّى يَرْتَكِبَ الْمُصَنِّفُ لِدَفْعِهِ هَذَا الْمَضِيقَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْمَحْذُورِ فِي صُورَةِ إنْ صَدَقَ الشُّهُودُ هُوَ بِعَيْنِهِ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي وَجْهِ الْقِيَاسِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَقَدْ حَصَلَ الْجَوَابُ عَنْهُ فِي وَجْهِ الِاسْتِحْسَانِ الَّذِي ذَكَرَهُ مِنْ قَبْلِ. تَوْضِيحُهُ هُوَ أَنَّهُ لَمْ تَكُنْ شَهَادَةُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِالْقَتْلِ بِآلَةٍ وَشَهَادَةُ الْآخَرِ مِنْهُمْ بِالْقَتْلِ بِآلَةٍ أُخْرَى حَتَّى يَتَحَقَّقَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَهُمْ فِي الشَّهَادَةِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ الْفِعْلِ بِاخْتِلَافِ الْآلَةِ، بَلْ كَانَتْ شَهَادَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِقَتْلٍ مُطْلَقٍ وَالْمُطْلَقُ لَيْسَ بِمُجْمَلٍ، وَلِهَذَا وَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ كَمَا عُرِفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ فَيُحْمَلُ عَلَى الْأَقَلِّ الْمُتَيَقَّنِ، فَيَجِبُ أَقَلُّ مُوجِبَيْهِ وَهُوَ الدِّيَةُ فَيَحْصُلُ الِاتِّفَاقُ بَيْنَهُمْ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، فَلَا يُتَوَجَّهُ أَنْ يُقَالَ: إنْ صَدَقَ الشُّهُودُ امْتَنَعَ الْقَضَاءُ بِشَهَادَتِهِمْ لِوُقُوعِ الِاخْتِلَافِ بِاخْتِلَافِ الْآلَةِ، وَأَيْضًا قَوْلُ الْمُصَنِّفِ فِي ذَيْلِ هَذَا الْكَلَامِ: فَلَا يَثْبُتُ الِاخْتِلَافُ بِالشَّكِّ يَأْبَى كَوْنُ مُرَادِهِ بِكَلَامِهِ هَذَا هُوَ الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرَهُ هَؤُلَاءِ الشُّرَّاحُ، إذْ يَكُونُ حَاصِلُ الْجَوَابِ حِينَئِذٍ اخْتِيَارَ أَنَّهُمْ كَاذِبُونَ وَمَنْعَ فِسْقِهِمْ بِنَاءً عَلَى تَأْوِيلِهِمْ كَذِبَهُمْ بِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ فَلَا يَبْقَى الِاحْتِيَاجُ إذْ ذَاكَ إلَى قَوْلِهِ فَلَا يَثْبُتُ الِاخْتِلَافُ بِالشَّكِّ، بَلْ لَا يَكُونُ لَهُ مِسَاسٌ بِالْجَوَابِ الْمَذْكُورِ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ لَغْوًا مِنْ الْكَلَامِ.

وَالْحَقُّ عِنْدِي أَنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ وَلِأَنَّهُ يُحْمَلُ إجْمَالُهُمْ فِي الشَّهَادَةِ إلَخْ وَجْهٌ آخَرُ لِلِاسْتِحْسَانِ يَظْهَرُ تَقْرِيرُهُ وَتَطْبِيقُهُ لِلْمَقَامِ بِأَدْنَى تَأَمُّلٍ صَادِقٍ، وَيَخْرُجُ مِنْهُ الْجَوَابُ عَنْ وَجْهٍ آخَرَ لِلْقِيَاسِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَذْكُورٌ فِي الْكَافِي وَغَيْرِهِ، وَهُوَ أَنَّ الشَّهَادَةَ بِالْوَجْهِ الْمَذْكُورِ غَفْلَةٌ مِنْ الشَّاهِدَيْنِ فَلَا تُقْبَلُ (قَوْلُهُ وَهَذَا فِي مَعْنَاهُ) قَالَ جُمْهُورُ الشُّرَّاحِ: أَيْ سَتْرُ الشَّاهِدَيْنِ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ فِي مَعْنَى إصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ بِجَامِعِ أَنَّ الْعَفْوَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ هَاهُنَا كَمَا أَنَّ الْإِصْلَاحَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ هُنَاكَ فَكَانَ وُرُودُ الْحَدِيثِ هُنَاكَ وُرُودًا هَاهُنَا انْتَهَى.

أَقُولُ: فِيهِ بَحْثٌ، لِأَنَّ الْمَنْدُوبَ إلَيْهِ فِي بَابِ الْقَتْلِ إنَّمَا هُوَ عَفْوُ أَوْلِيَاءِ الْقَتِيلِ دُونَ عَفْوِ الشُّهُودِ. كَيْفَ وَلَوْ كَانَ الْعَفْوُ حَقَّ الشُّهُودِ لَكَانَ الْأَفْضَلُ لَهُمْ أَنْ لَا يَشْهَدُوا رَأْسًا بِمَا يَتَعَلَّقُ بِالْقَتْلِ كَمَا فِي الْحُدُودِ فَلَزِمَ أَنْ لَا يُوجَدَ الْبَاعِثُ عَلَى ارْتِكَابِهِمْ الْكَذِبَ فِي شَهَادَتِهِمْ الْمَذْكُورَةِ هَاهُنَا، بِخِلَافِ إصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ، فَإِنَّهُ قَدْ يَتَوَقَّف عَلَى ارْتِكَابِ الْكَذِبِ فَيُرَخَّصُ الْكَذِبُ هُنَاكَ. وَقَصَدَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ تَوْجِيهَ كَلَامِهِمْ فَقَالَ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْعَفْوِ دَرْءَ الْقِصَاصِ. وَإِلَّا فَهُوَ تِلْوُ الْوُجُوبِ، فَحَيْثُ لَا وُجُوبَ لِلْقِصَاصِ لَا عَفْوَ عَنْهُ.

ثُمَّ قَالَ: وَالْأَظْهَرُ أَنْ يَقُولَ بِجَامِعِ أَنَّ السِّتْرَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ انْتَهَى. أَقُولُ: يُرَدُّ عَلَى تَوْجِيهِهِ أَيْضًا أَنْ يُقَالَ: لَوْ كَانَ دَرْءُ الْقِصَاصِ مِنْ غَيْرِ شُبْهَةٍ مَنْدُوبًا إلَيْهِ وَكَانَ

ص: 265

فَلَا يَثْبُتُ الِاخْتِلَافُ بِالشَّكِّ، وَتَجِبُ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْفِعْلِ الْعَمْدُ فَلَا يَلْزَمُ الْعَاقِلَةُ. .

قَالَ: (وَإِذَا أَقَرَّ رَجُلَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهُ قَتَلَ فُلَانًا فَقَالَ الْوَلِيُّ: قَتَلْتُمَاهُ جَمِيعًا فَلَهُ أَنْ يَقْتُلَهُمَا، وَإِنْ شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ قَتَلَ فُلَانًا وَشَهِدَ آخَرُونَ عَلَى آخَرَ بِقَتْلِهِ وَقَالَ الْوَلِيُّ: قَتَلْتُمَاهُ جَمِيعًا بَطَلَ ذَلِكَ كُلُّهُ) وَالْفَرْقُ أَنَّ الْإِقْرَارَ وَالشَّهَادَةَ يَتَنَاوَلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وُجُودَ كُلِّ الْقَتْلِ وَوُجُوبَ الْقِصَاصِ، وَقَدْ حَصَلَ التَّكْذِيبُ فِي الْأُولَى مِنْ الْمُقِرِّ لَهُ وَفِي الثَّانِيَةِ مِنْ الْمَشْهُودِ لَهُ، غَيْرَ أَنَّ تَكْذِيبَ الْمُقِرِّ لَهُ الْمُقِرُّ فِي بَعْضِ مَا أَقَرَّ بِهِ لَا يُبْطِلُ إقْرَارَهُ فِي الْبَاقِي، وَتَكْذِيبُ الْمَشْهُودِ لَهُ الشَّاهِدَ فِي بَعْضِ مَا شَهِدَ بِهِ يُبْطِلُ شَهَادَتَهُ أَصْلًا، لِأَنَّ التَّكْذِيبَ تَفْسِيقٌ وَفِسْقُ الشَّاهِدِ يَمْنَعُ الْقَبُولَ، أَمَّا فِسْقُ الْمُقِرِّ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ. .

دَرْؤُهُ جَائِزًا لِلشُّهُودِ بَعْدَ أَنْ عَايَنُوا الْقَتْلَ بِجَارِحٍ عَمْدًا لَكَانَ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يَشْهَدُوا بِالْقَتْلِ أَصْلًا، فَلَا يُوجَدُ مَا يُسَوِّغُ ارْتِكَابَهُمْ الْكَذِبَ فِي طَرِيقِ شَهَادَتِهِمْ الْمَذْكُورَةِ هُنَا، ثُمَّ إنَّ وُرُودَ هَذَا عَلَى مَا عَدَّهُ أَظْهَرُ هَاهُنَا أَظْهَرُ، إذْ لَوْ كَانَ سِتْرُ الْقِصَاصِ مَنْدُوبًا إلَيْهِ لَكَانَ الْأَفْضَلُ لِلشُّهُودِ أَنْ يَسْتُرُوهُ طُرًّا بِأَنْ لَا يَشْهَدُوا بِالْقَتْلِ أَصْلًا كَمَا فِي الْحُدُودِ فَلَا وَجْهَ لِارْتِكَابِهِمْ الْكَذِبَ قَطُّ تَأَمَّلْ تَرْشُدْ (قَوْلُهُ فَلَا يَثْبُتُ الِاخْتِلَافُ بِالشَّكِّ) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ: يَعْنِي إذَا احْتَمَلَ أَنْ يَكُونُوا عَالِمِينَ وَأَجْمَلُوا وَاحْتَمَلَ أَنْ لَا يَكُونُوا كَذَلِكَ وَقَعَ الشَّكُّ، وَالِاخْتِلَافُ لَا يَثْبُتُ بِالشَّكِّ انْتَهَى.

أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: كَمَا لَا يَثْبُتُ الِاخْتِلَافُ بِالشَّكِّ لَا يَثْبُتُ الِاتِّفَاقُ بِذَلِكَ أَيْضًا، وَمِنْ شَرَائِطِ قَبُولِ الشَّهَادَةِ اتِّفَاقُ الشَّاهِدَيْنِ، فَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ الِاتِّفَاقُ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ الْقَبُولُ تَدَبَّرْ.

(قَوْلُهُ غَيْرَ أَنَّ تَكْذِيبَ الْمُقِرِّ لَهُ فِي بَعْضِ مَا أَقَرَّ بِهِ لَا يُبْطِلُ إقْرَارَهُ فِي الْبَاقِي، وَتَكْذِيبَ الْمَشْهُودِ لَهُ الشَّاهِدَ فِي بَعْضِ مَا شَهِدَ بِهِ يُبْطِلُ شَهَادَتَهُ أَصْلًا) قَالَ صَاحِبُ الْغَايَةِ: فَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إذَا أَقَرَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْقَتْلِ فَقَدْ أَقَرَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْإِتْلَافِ لِجَمِيعِ النَّفْسِ وَقَدْ صَدَّقَ الْوَلِيُّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِإِتْلَافِ بَعْضِ النَّفْسِ، وَالْقِصَاصُ يَجِبُ بِإِتْلَافِ الْبَعْضِ كَمَا يَجِبُ بِإِتْلَافِ الْكُلِّ فَلِهَذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَقْتُلَهُمَا.

وَأَمَّا فِي الشَّهَادَةِ فَلَمَّا كَذَّبَ كُلُّ فَرِيقٍ فِي بَعْضِ الشَّهَادَةِ بَطَلَتْ شَهَادَتُهُمَا فِي الْكُلِّ انْتَهَى. وَقَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ فِي بَيَانِ صُورَةِ الْإِقْرَارِ: لَمَّا أَقَرَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْقَتْلِ صَدَّقَ الْوَلِيُّ بِقَوْلِهِ قَتَلْتُمَاهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي نِصْفِ الْقَتْلِ وَكَذَّبَهُ فِي النِّصْفِ، وَالتَّكْذِيبُ فِي نِصْفِ مَا أَقَرَّ بِهِ لَا يُبْطِلُ الْإِقْرَارَ، أَمَّا التَّكْذِيبُ فِي كُلِّ مَا أَقَرَّ بِهِ يُبْطِلُ الْإِقْرَارَ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ رَدًّا لِإِقْرَارِهِ.

وَالْإِقْرَارُ يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ انْتَهَى. أَقُولُ: هَذَا الشَّرْحُ وَالْبَيَانُ مِنْ ذَيْنِكَ الشَّارِحَيْنِ مِمَّا لَا يَكَادُ يَصِحُّ لِمَا مَرَّ غَيْرُ مَرَّةٍ أَنَّ الْقَتْلَ لَا يَتَجَزَّأُ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ إتْلَافُ بَعْضِ النِّصْفِ وَنِصْفُ الْقَتْلِ كَمَا زَعَمَاهُ وَبَنَيَا عَلَيْهِ مَعْنَى الْمَقَامِ، وَأَيْضًا قَدْ مَرَّ أَنَّ الْأَصْلَ عِنْدَنَا فِيمَا إذَا قَتَلَ جَمَاعَةٌ وَاحِدًا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَاتِلٌ بِوَصْفِ الْكَمَالِ، وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ يَحْصُلُ التَّمَاثُلُ بَيْنَ الْجَمَاعَةِ وَالْوَاحِدِ فَيَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الْجَمِيعِ فَكَيْفَ يَصِحُّ الْقَوْلُ بِوُجُوبِ الْقِصَاصِ بِإِتْلَافِ بَعْضِ النَّفْسِ وَنِصْفُ الْقَتْلِ كَمَا هُوَ اللَّازِمُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ عَلَى مُقْتَضَى تَقْرِيرِهِمَا.

وَالصَّوَابُ أَنَّ مَعْنَى الْمَقَامِ هُوَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَقَرَّ بِالْقَتْلِ بِانْفِرَادِهِ، وَقَدْ صَدَّقَ الْوَلِيُّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِقَوْلِهِ قَتَلْتُمَاهُ جَمِيعًا فِي بَعْضِ مَا أَقَرَّ بِهِ وَهُوَ الْقَتْلُ، وَكَذَّبَهُ فِي بَعْضِهِ الْآخَرَ وَهُوَ انْفِرَادُهُ، فَعَلَى مُقْتَضَى أَنَّ تَكْذِيبَ الْمُقَرِّ لَهُ الْمُقِرَّ فِي بَعْضِ مَا أَقَرَّ بِهِ لَا يُبْطِلُ إقْرَارَهُ فِي الْبَاقِي يُؤَاخَذُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِإِقْرَارِهِ بِالْقَتْلِ فَلِلْوَلِيِّ أَنْ يَقْتُلَهُمَا جَمِيعًا، وَإِنْ رَدَّ انْفِرَادَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْقَتْلِ وَيَصِيرُ كَمَا إذَا قَتَلَ جَمَاعَةٌ وَاحِدًا عَمْدًا حَيْثُ يُقْتَصُّ مِنْ جَمِيعِهِمْ إجْمَاعًا، بِخِلَافِ صُورَةِ الشَّهَادَةِ كَمَا بُيِّنَ فِي الْكِتَابِ.

ص: 266

‌بَابٌ فِي اعْتِبَارِ حَالَةِ الْقَتْلِ

قَالَ: (وَمَنْ رَمَى مُسْلِمًا فَارْتَدَّ الْمَرْمِيُّ إلَيْهِ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ ثُمَّ وَقَعَ بِهِ السَّهْمُ فَعَلَى الرَّامِي الدِّيَةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَا: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ) لِأَنَّهُ بِالِارْتِدَادِ أَسْقَطَ تَقَوُّمَ نَفْسِهِ فَيَكُونُ مُبْرِئًا لِلرَّامِي عَنْ مُوجِبِهِ كَمَا إذَا أَبْرَأَهُ بَعْدَ الْجُرْحِ قَبْلَ الْمَوْتِ. وَلَهُ أَنَّ الضَّمَانَ يَجِبُ بِفِعْلِهِ وَهُوَ الرَّمْيُ إذْ لَا فِعْلَ مِنْهُ بَعْدُ فَتُعْتَبَرُ حَالَةُ الرَّمْيِ وَالْمَرْمِيِّ إلَيْهِ فِيهَا مُتَقَوِّمٌ. وَلِهَذَا تُعْتَبَرُ حَالَةُ الرَّمْي فِي حَقِّ الْحِلِّ حَتَّى لَا يَحْرُمَ بِرِدَّةِ الرَّامِي بَعْدَ الرَّمْي، وَكَذَا فِي حَقِّ التَّكْفِيرِ حَتَّى جَازَ بَعْدَ

(بَابٌ فِي اعْتِبَارِ حَالَةِ الْقَتْلِ)

لَمَّا كَانَتْ الْأَحْوَالُ صِفَاتٍ لِذَوِيهَا ذَكَرَهَا بَعْدَ ذِكْرِ نَفْسِ الْقَتْلِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ كَذَا فِي الشُّرُوحِ (قَوْلُهُ وَقَالَا: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ بِالِارْتِدَادِ أَسْقَطَ تَقَوُّمَ نَفْسِهِ فَيَكُونُ مُبْرِئًا لِلرَّامِي عَنْ مُوجِبِهِ) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ: إلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رحمه الله يَقُولُ: إنَّ قَوْلَهُمَا بِأَنَّهُ بِالِارْتِدَادِ صَارَ مُبْرِئًا عَنْ ضَمَانِ الْجِنَايَةِ غَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّ فِي اعْتِقَادِ الْمُرْتَدِّ أَنَّ الرِّدَّةَ لَا تُبْطِلُ التَّقَوُّمَ فَكَيْفَ يَصِيرُ مُبْرِئًا عَنْ ضَمَانِ الْجِنَايَةِ، كَذَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِقَاضِي خَانْ والتمرتاشي وَالْمَحْبُوبِيِّ انْتَهَى.

أَقُولُ: لَهُمَا أَنْ يَقُولَا فِي الْجَوَابِ عَنْهُ: إنَّا لَا نُرِيدُ

ص: 267

الْجُرْحِ قَبْلَ الْمَوْتِ. وَالْفِعْلُ وَإِنْ كَانَ عَمْدًا فَالْقَوَدُ سَقَطَ لِلشُّبْهَةِ وَوَجَبَتْ الدِّيَةُ.

(وَلَوْ رَمَى إلَيْهِ وَهُوَ مُرْتَدٌّ فَأَسْلَمَ ثُمَّ وَقَعَ بِهِ السَّهْمُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا، وَكَذَا إذَا رَمَى حَرْبِيًّا فَأَسْلَمَ) لِأَنَّ الرَّمْيَ مَا انْعَقَدَ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ لِعَدَمِ تَقَوُّمِ الْمَحِلِّ فَلَا يَنْقَلِبُ مُوجِبًا لِصَيْرُورَتِهِ مُتَقَوِّمًا بَعْدَ ذَلِكَ.

قَالَ: (وَإِنْ رَمَى عَبْدًا فَأَعْتَقَهُ مَوْلَاهُ ثُمَّ وَقَعَ السَّهْمُ بِهِ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ لِلْمَوْلَى) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: عَلَيْهِ فَضْلُ مَا بَيْنَ قِيمَتِهِ مَرْمِيًّا إلَى غَيْرِ مَرْمِيٍّ، وَقَوْلُ أَبِي يُوسُفَ مَعَ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ. لَهُ أَنَّ الْعِتْقَ قَاطِعٌ لِلسِّرَايَةِ، وَإِذَا انْقَطَعَتْ بَقِيَ مُجَرَّدُ الرَّمْيِ وَهُوَ جِنَايَةٌ يَنْتَقِصُ بِهَا قِيمَةُ الْمَرْمِيِّ

بِالْإِبْرَاءِ فِي قَوْلِنَا إنَّهُ بِالِارْتِدَادِ صَارَ مُبْرِئًا حَقِيقَةَ الْإِبْرَاءِ، بَلْ نُرِيدُ بِذَلِكَ الْإِبْرَاءِ الْحُكْمِيِّ لِأَنَّهُ بِارْتِدَادِهِ لَمَّا أَسْقَطَ تَقَوُّمَ نَفْسَهُ شَرْعًا أَسْقَطَ حَقَّهُ مَعْنًى، لِأَنَّ مَا لَا تَقَوُّمَ لَهُ لَا ضَمَانَ لَهُ فِي الشَّرْعِ فَصَارَ فِعْلُهُ فِي حُكْمِ الْإِبْرَاءِ شَرْعًا سَوَاءٌ طَابَقَ اعْتِقَادَهُ أَوْ لَمْ يُطَابِقْ، وَلَعَلَّ تَفْرِيعَ الْمُصَنِّفِ قَوْلَهُ فَيَكُونُ مُبْرِئًا لِلرَّامِي عَنْ مُوجِبِهِ عَلَى قَوْلِهِ لِأَنَّهُ بِالِارْتِدَادِ أَسْقَطَ تَقَوُّمَ نَفْسِهِ يُومِي إلَى مَا ذَكَرْنَاهُ

. (قَوْلُهُ وَقَوْلُ أَبِي يُوسُفَ مَعَ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ) قُلْت: لَعَلَّ وَجْهَ عُدُولِ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا عَنْ التَّحْرِيرِ الْمَأْلُوفِ حَيْثُ لَمْ يَقُلْ فِيمَا قَبْلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ كَمَا هُوَ الْمُعْتَادُ فِي نَظَائِرِهِ، بَلْ قَالَ بَعْدَ بَيَانِ الْخِلَافِ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَقَوْلُ أَبِي يُوسُفَ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله هُوَ أَنَّ كَوْنَ أَبِي يُوسُفَ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَيْسَ مِمَّا اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ الرِّوَايَاتُ، لِأَنَّ الْفَقِيهَ أَبَا اللَّيْثِ ذَكَرَ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ مَعَ مُحَمَّدٍ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.

وَذَكَرَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ الْبَزْدَوِيُّ فِي شَرْحِهِ قَوْلَهُ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ كَمَا بَيَّنَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ. فَلَوْ قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي أَوَّلِ الْمَسْأَلَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ لَفُهِمَ مِنْهُ اتِّفَاقُ الرِّوَايَاتِ عَلَيْهِ بِنَاءً

ص: 268

إلَيْهِ بِالْإِضَافَةِ إلَى مَا قَبْلَ الرَّمْيِ فَيَجِبُ ذَلِكَ. وَلَهُمَا أَنَّهُ يَصِيرُ قَاتِلًا مِنْ وَقْتِ الرَّمْيِ لِأَنَّ فِعْلَهُ الرَّمْيَ وَهُوَ مَمْلُوكٌ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ فَتَجِبُ قِيمَتُهُ، بِخِلَافِ الْقَطْعِ وَالْجُرْحِ لِأَنَّهُ إتْلَافُ بَعْضِ الْمَحِلِّ، وَأَنَّهُ يُوجِبُ الضَّمَانَ لِلْمَوْلَى، وَبَعْدَ السِّرَايَةِ لَوْ وَجَبَ شَيْءٌ لَوَجَبَ لِلْعَبْدِ فَتَصِيرُ النِّهَايَةُ مُخَالِفَةً لِلْبِدَايَةِ. أَمَّا الرَّمْيُ قَبْلَ الْإِصَابَةِ لَيْسَ بِإِتْلَافِ شَيْءٍ مِنْهُ لِأَنَّهُ لَا أَثَرَ لَهُ فِي الْمَحَلِّ. وَإِنَّمَا قَلَّتْ الرَّغَبَاتُ فِيهِ فَلَا يَجِبُ بِهِ ضَمَانٌ فَلَا تَتَخَالَفُ النِّهَايَةُ وَالْبِدَايَةُ فَتَجِبُ قِيمَتُهُ لِلْمَوْلَى.

عَلَى مَا هُوَ الْمَأْلُوفُ فِي نَظَائِرِهِ فَغَيَّرَ الْأُسْلُوبَ إشَارَةً إلَى أَنَّ فِيهِ اخْتِلَافَ الرِّوَايَةِ وَأَنَّ الْمُخْتَارَ عِنْدَهُ كَوْنُ قَوْلِهِ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ (قَوْلُهُ وَلَهُمَا أَنَّهُ يَصِيرُ قَاتِلًا مِنْ وَقْتِ الرَّمْيِ لِأَنَّ فِعْلَهُ الرَّمْيُ وَهُوَ مَمْلُوكٌ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ فَتَجِبُ قِيمَتُهُ) قَالَ الشُّرَّاحُ: مَرَّ أَبُو حَنِيفَةَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى أَصْلِهِ، وَأَبُو يُوسُفَ فَرَّقَ بَيْنَ هَذِهِ وَبَيْنَ مَا تَقَدَّمَ.

وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الْمَرْمِيَّ إلَيْهِ خَرَجَ بِالِارْتِدَادِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَعْصُومًا فَصَارَ مُبْرَأً عَنْ الْجِنَايَةِ، إذْ الضَّمَانُ يَعْتَمِدُ الْعِصْمَةَ وَالرِّدَّةُ تُنَافِيهَا. وَأَمَّا الْإِعْتَاقُ فَإِنَّهُ لَا يُنَافِي الْعِصْمَةَ فَيَجِبُ عَلَيْهِ ضَمَانُ قِيمَتِهِ لِلْمَوْلَى انْتَهَى.

أَقُولُ: فِي وَجْهِ الْفَرْقِ نَظَرٌ، لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ وَإِنْ لَمْ يُنَافِ الْعِصْمَةَ إلَّا أَنَّهُ يُنَافِي كَوْنَ الْمَحِلِّ مَالًا مُتَقَوِّمًا فَيَنْبَغِي أَنْ يَصِيرَ الْمَوْلَى أَيْضًا مُبَرَّأً عَنْ ضَمَانِ قِيمَةِ الْعَبْدِ الْمَرْمِيِّ إلَيْهِ بِإِعْتَاقِهِ إيَّاهُ قَبْلَ الْإِصَابَةِ، لِأَنَّ ضَمَانَ الْقِيمَةِ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ فِيمَا هُوَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ، وَلَمَّا أَخْرَجَهُ الْمَوْلَى بِالْإِعْتَاقِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَالًا مُتَقَوِّمًا فَقَدْ أَسْقَطَ حَقَّهُ فِي قِيمَتِهِ؛ أَلَّا يَرَى أَنَّ الْمَغْصُوبَ مِنْهُ إذَا أَعْتَقَ الْعَبْدَ الْمَغْصُوبَ صَارَ مُبْرِئًا لِلْغَاصِبِ عَنْ الضَّمَانِ بِإِسْقَاطِ حَقِّهِ بِالْإِجْمَاعِ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ فَلِمَ لَمْ يَكُنْ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ؟ ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ الْعِنَايَةِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الْفَرْقَ الْمَزْبُورَ مِنْ قِبَلِ أَبِي يُوسُفَ قَالَ: وَمِنْ هَذَا يُعْلَمُ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ يَعْتَبِرُ وَقْتَ الرَّمْيِ إلَّا فِي صُورَةِ الِارْتِدَادِ انْتَهَى.

أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا بِسَدِيدٍ، لِأَنَّهُ مَعَ كَوْنِهِ ظَاهِرَ الْفَسَادِ إذْ لَوْ لَمْ يَعْتَبِرْ أَبُو يُوسُفَ وَقْتَ الرَّمْيِ فِي صُورَةِ الِارْتِدَادِ لَمَا صَحَّ مِنْهُ الْقَوْلُ بِأَنَّهُ صَارَ بِالِارْتِدَادِ مُبْرَأً عَنْ الضَّمَانِ، فَإِنَّ الْإِبْرَاءَ إنَّمَا يَصِحُّ بَعْدَ انْعِقَادِ السَّبَبِ مُخَالِفٌ لِمَا صَرَّحَ بِهِ كِبَارُ الْمَشَايِخِ فِي شُرُوحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ كَمَا ذُكِرَ فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي النِّهَايَةِ: وَهُمَا يَقُولَانِ بِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي أَنَّ الْمُعْتَبَرَ حَالَةُ الرَّمْيِ وَلِهَذَا وَافَقَاهُ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ: يَعْنِي الْمَسَائِلَ الْآتِيَةَ فِي الْكِتَابِ وَنَظَائِرَهَا، إلَّا أَنَّ الْمَرْمِيَّ إلَيْهِ فِي مَسْأَلَتِنَا لَمَّا ارْتَدَّ صَارَ مُبْرِئًا لِلرَّامِي عَنْ الدِّيَةِ بِإِخْرَاجِهِ نَفْسَهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَعْصُومًا وَفِعْلُهُ مُعْتَبَرٌ فِي إسْقَاطِ حَقِّهِ، كَمَا إذَا أَبْرَأَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ الْغَاصِبَ بِإِعْتَاقِ الْمَغْصُوبِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، إلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يَقُولُ: إنَّ قَوْلَهُمَا إنَّهُ بِالِارْتِدَادِ صَارَ مُبْرَأً عَنْ ضَمَانِ الْجِنَايَةِ غَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّ فِي اعْتِقَادِ الْمُرْتَدِّ أَنَّ الرِّدَّةَ لَا تُبْطِلُ التَّقَوُّمَ فَكَيْفَ يَصِيرُ مُبْرَأً عَنْ ضَمَانِ الْجِنَايَةِ، كَذَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِقَاضِي خَانَ والتمرتاشي وَالْمَحْبُوبِيِّ انْتَهَى.

وَقَالَ فِي مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ: وَأَصْحَابُنَا اعْتَبَرُوا حَالَةَ الرَّمْيِ كَمَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَكَذَا مَسْأَلَةُ الرَّجْمِ عَلَى مَا يَجِيءُ، وَكَذَا فِي مَسْأَلَةِ الرَّمْيِ ثُمَّ تَمَجَّسَ، وَكَذَا فِي مَسْأَلَةِ الْمُحْرِمِ عَلَى مَا سَيَجِيءُ، إلَّا أَنَّهُمَا يَقُولَانِ فِي مَسْأَلَةِ إنْ رَمَى مُسْلِمًا فَارْتَدَّ أَنَّهُ بِالِارْتِدَادِ يَصِيرُ مُبْرِئًا لِلرَّامِي عَنْ الضَّمَانِ، وَلِهَذَا قَالَا: يَصِيرُ بِالِارْتِدَادِ مُبْرَأً، وَالْإِبْرَاءُ إنَّمَا يَصِحُّ بَعْدَ انْعِقَادِ السَّبَبِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ بِالِارْتِدَادِ لَا يَصِيرُ مُبْرَأً، لِأَنَّ فِي اعْتِقَادِ الْمُرْتَدِّ أَنَّ الرِّدَّةَ لَا تُبْطِلُ التَّقَوُّمَ فَكَيْفَ يَصِيرُ مُبْرَأً عَنْ الضَّمَانِ، كَذَا فِي جَامِعِ قَاضِي خَانَ والتمرتاشي وَالْمَحْبُوبِيِّ انْتَهَى (قَوْلُهُ أَمَّا الرَّمْيُ قَبْلَ الْإِصَابَةِ لَيْسَ بِإِتْلَافِ شَيْءٍ لِأَنَّهُ لَا أَثَرَ لَهُ فِي الْمَحَلِّ) أَقُولُ: لِمُتَوَهِّمٍ أَنْ يُتَوَهَّمَ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ

ص: 269

وَزُفَرُ وَإِنْ كَانَ يُخَالِفُنَا فِي وُجُوبِ الْقِيمَةِ نَظَرًا إلَى حَالَةِ الْإِصَابَةِ فَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا حَقَقْنَاهُ. .

قَالَ: (وَمَنْ قُضِيَ عَلَيْهِ بِالرَّجْمِ فَرَمَاهُ رَجُلٌ ثُمَّ رَجَعَ أَحَدُ الشُّهُودِ ثُمَّ وَقَعَ بِهِ الْحَجَرُ فَلَا شَيْءَ عَلَى الرَّامِي) لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ حَالَةُ الرَّمْيِ وَهُوَ مُبَاحُ الدَّمِ فِيهَا.

(وَإِذَا رَمَى الْمَجُوسِيُّ صَيْدًا ثُمَّ أَسْلَمَ ثُمَّ وَقَعَتْ الرَّمْيَةُ بِالصَّيْدِ لَمْ يُؤْكَلْ، وَإِنْ رَمَاهُ وَهُوَ مُسْلِمٌ ثُمَّ تَمَجَّسَ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ أُكِلَ) لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ حَالُ الرَّمْيِ فِي حَقِّ الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ إذْ الرَّمْيُ هُوَ الذَّكَاةُ فَتُعْتَبَرُ الْأَهْلِيَّةُ وَانْسِلَابُهَا عِنْدَهُ. .

(وَلَوْ رَمَى الْمُحْرِمُ صَيْدًا ثُمَّ حَلَّ فَوَقَعَتْ الرَّمْيَةُ بِالصَّيْدِ فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ، وَإِنْ رَمَى حَلَالٌ صَيْدًا ثُمَّ أَحْرَمَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ) لِأَنَّ الضَّمَانَ إنَّمَا يَجِبُ بِالتَّعَدِّي وَهُوَ رَمْيُهُ فِي حَالَةِ الْإِحْرَامِ، وَفِي الْأَوَّلِ هُوَ مُحْرِمٌ وَقْتَ الرَّمْيِ وَفِي الثَّانِي حَلَالٌ فَلِهَذَا افْتَرَقَا. .

كِتَابُ الدِّيَاتِ

قَالَ (وَفِي شِبْهِ الْعَمْدِ دِيَةٌ مُغَلَّظَةٌ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَكَفَّارَةٌ عَلَى الْقَاتِلِ) وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي أَوَّلِ الْجِنَايَاتِ.

يُنَافِي مَا قَالَهُ فِي صَدْرِ دَلِيلِهِمَا مِنْ أَنَّهُ يَصِيرُ قَاتِلًا مِنْ وَقْتِ الرَّمْيِ، فَإِنَّ الْقَتْلَ لَا يُتَصَوَّرُ بِدُونِ إتْلَافِ شَيْءٍ مِنْ الْمَقْتُولِ.

وَالْجَوَابُ أَنَّ مَعْنَى مَا قَالَهُ فِي صَدْرِ دَلِيلِهِمَا هُوَ أَنَّهُ يَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ الْقَاتِلِ مِنْ وَقْتِ الرَّمْيِ مِنْ جِهَةِ اسْتِنَادِ الْحُكْمِ إلَى وَقْتِ الرَّمْي عِنْدَ الِاتِّصَالِ بِالْمَحَلِّ، وَقَدْ أَشَارَ إلَيْهِ صَاحِبُ الْغَايَةِ بِقَوْلِهِ هُنَا: وَإِنَّمَا انْقَلَبَ الرَّمْيُ عِلَّةً لِلْإِتْلَافِ عِنْدَ الِاتِّصَالِ بِالْمَحِلِّ بِطَرِيقِ اسْتِنَادِ الْحُكْمِ إلَى وَقْتِ الرَّمْيِ فَكَأَنَّهُ وُجِدَ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ انْتَهَى

(كِتَابُ الدِّيَاتِ)

قَالَ الشُّرَّاحُ: ذِكْرُ الدِّيَاتِ بَعْدَ الْجِنَايَاتِ ظَاهِرُ الْمُنَاسَبَةِ، لِمَا أَنَّ الدِّيَةَ إحْدَى مُوجَبَيْ الْجِنَايَةِ فِي الْآدَمِيِّ الْمَشْرُوعَيْنِ صِيَانَةً، لَكِنَّ الْقِصَاصَ أَشَدُّ صِيَانَةً فَقُدِّمَ انْتَهَى.

أَقُولُ: يُرَدُّ عَلَى ظَاهِرِ هَذَا الْوَجْهِ أَنَّهُ إنَّمَا يَقْتَضِي أَنْ يَذْكُرَ الدِّيَاتِ فِي كِتَابِ الْجِنَايَاتِ كَالْقِصَاصِ بِأَنْ يُوضَعَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَابٌ مُسْتَقِلٌّ مِنْ كِتَابِ الْجِنَايَاتِ لِكَوْنِ كُلٍّ مِنْهُمَا مُوجِبَ الْجِنَايَاتِ، لَا أَنْ يَجْعَلَ الدِّيَاتِ كِتَابًا عَلَى حِدَةٍ كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ فِي الْكِتَابِ: وَالْجَوَابُ أَنَّ مَقْصُودَهُمْ هُنَا بَيَانُ وَجْهِ مُنَاسَبَةِ ذِكْرِ الدِّيَاتِ بَعْدَ ذِكْرِ الْجِنَايَاتِ، وَهَذَا

ص: 270

قَالَ: (وَكَفَّارَتُهُ عِتْقُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} الْآيَةُ (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ) بِهَذَا النَّصِّ (وَلَا يُجْزِئُ فِيهِ الْإِطْعَامُ) لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ بِهِ نَصٌّ وَالْمَقَادِيرُ تُعْرَفُ بِالتَّوْقِيفِ،.

الْمَقْصُودُ يَحْصُلُ بِمَا ذَكَرُوهُ قَطْعًا.

وَأَمَّا جَعْلُ الدِّيَاتِ كِتَابًا عَلَى حِدَةٍ دُونَ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْجِنَايَاتِ فَلَهُ وَجْهٌ آخَرُ لَمْ يَذْكُرُوهُ أَصَالَةً، وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا كَثُرَتْ مَسَائِلُ الدِّيَاتِ وَمَبَاحِثُهَا اسْتَحَقَّتْ أَنْ يُجْعَلَ كِتَابًا عَلَى حِدَةٍ كَكِتَابِ الطِّهَارَاتِ بِالنِّسْبَةِ إلَى سَائِرِ شُرُوطِ الصَّلَاةِ وَكِتَابِ الصَّرْفِ بِالنِّسْبَةِ إلَى سَائِرِ أَنْوَاعِ الْبَيْعِ. ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ مَا وَقَعَ فِي الْكِتَابِ وَضْعُ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ، وَأَمَّا الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ فَقَدَّمَ فِي مُخْتَصَرِهِ كِتَابَ الدِّيَاتِ عَلَى كِتَابِ الْجِنَايَاتِ، وَالشَّيْخُ أَبُو جَعْفَرَ الطَّحَاوِيُّ قَدَّمَ الْقِصَاصَ عَلَى الدِّيَاتِ، وَلَكِنْ جَعَلَهُمَا فِي كِتَابٍ وَاحِدٍ وَتَرْجَمَ الْكِتَابَ بِكِتَابِ الْقِصَاصِ وَالدِّيَاتِ، وَالْإِمَامُ مُحَمَّدٌ رحمه الله ذَكَرَ أَحْكَامَ الْجِنَايَاتِ فِي كِتَابِ الدِّيَاتِ وَلَمْ يُسَمِّ كِتَابَ الْجِنَايَاتِ أَصْلًا، لِأَنَّ عَامَّةَ أَحْكَامِ الْجِنَايَاتِ هِيَ الدِّيَاتُ، فَإِنَّ الْقِصَاصَ لَا يَجِبُ إلَّا بِالْعَمْدِ الْمَحْضِ وَالدِّيَةُ تَجِبُ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ، وَفِي الْخَطَإِ وَفِي شَبَهِ الْخَطَإِ، وَفِي الْقَتْلِ بِسَبَبٍ، وَفِي الْعَمْدِ أَيْضًا إذَا تَمَكَّنَ فِيهِ الشُّبْهَةُ فَرَجَّحَ جَانِبَ الدِّيَةِ فِي نِسْبَةِ الْكِتَابِ إلَيْهَا.

ثُمَّ إنَّ الدِّيَةَ مَصْدَرُ وَدَى الْقَاتِلُ الْمَقْتُولَ إذَا أَعْطَى وَلِيَّهُ الْمَالَ الَّذِي هُوَ بَدَلُ النَّفْسِ، ثُمَّ قِيلَ لِذَلِكَ الْمَالِ الدِّيَةُ تَسْمِيَةٌ بِالْمَصْدَرِ، كَذَا ذَكَرَ فِي الْمُغْرِبِ وَعَامَّةِ الشُّرُوحِ. قَالَ فِي الْقَامُوسِ: الدِّيَةُ بِالْكَسْرِ: حَقُّ الْقَتِيلِ جَمْعُهَا دِيَاتٌ. وَقَالَ فِي الصِّحَاحِ: وَدَيْت الْقَتِيلَ أَدِيهِ دِيَةً: إذَا أَعْطَيْت دِيَتَهُ. وَقَالَ فِي الْكَافِي: الدِّيَةُ الْمَالُ الَّذِي هُوَ بَدَلُ النَّفْسِ، وَالْأَرْشُ اسْمٌ لِلْوَاجِبِ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ انْتَهَى.

أَقُولُ: الظَّاهِرُ مِنْ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ كُلِّهَا أَنْ تَكُونَ الدِّيَةُ مُخْتَصَّةً بِمَا هُوَ بَدَلُ النَّفْسِ، وَيُنَافِيهِ مَا سَيَجِيءُ فِي الْفَصْلِ الْآتِي مِنْ أَنَّ فِي الْمَارِنِ الدِّيَةَ وَفِي اللِّسَانِ الدِّيَةَ وَفِي اللِّحْيَةِ الدِّيَةَ وَفِي شَعْرِ الرَّأْسِ الدِّيَةَ وَفِي الْحَاجِبَيْنِ الدِّيَةَ وَفِي الْعَيْنَيْنِ الدِّيَةَ وَفِي الْيَدَيْنِ الدِّيَةَ وَفِي الذَّكَرِ الدِّيَةَ وَفِي الرِّجْلَيْنِ الدِّيَةَ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَسَائِلِ الَّتِي أُطْلِقَتْ الدِّيَةُ فِيهَا عَلَى مَا هُوَ بَدَلُ مَا دُونَ النَّفْسِ، وَكَذَا مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ وَهُوَ مَا رَوَى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «فِي النَّفْسِ الدِّيَةُ، وَفِي اللِّسَانِ الدِّيَةُ، وَفِي الْمَارِنِ الدِّيَةُ» وَهَكَذَا هُوَ فِي الْكِتَابِ الَّذِي كَتَبَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ رضي الله عنه كَمَا سَيَأْتِي.

فَالْأَظْهَرُ فِي تَفْسِيرِ الدِّيَةِ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْغَايَةِ آخِرًا، فَإِنَّهُ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ مِثْلَ مَا ذَكَرَ فِي الْمُغْرِبِ وَعَامَّةِ الشُّرُوحِ قَالَ: وَالدِّيَةُ اسْمٌ لِضَمَانٍ يَجِبُ بِمُقَابِلَةِ الْآدَمِيِّ أَوْ طَرَفٍ مِنْهُ، سُمِّيَ بِهَا لِأَنَّهَا تُودَى عَادَةً، لِأَنَّهُ قَلَّمَا يَجْرِي فِيهِ الْعَفْوُ لِعِظَمِ حُرْمَةِ الْآدَمِيِّ انْتَهَى

(قَوْلُهُ وَكَفَّارَتُهُ عِتْقُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} الْآيَةُ {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} بِهَذَا النَّصِّ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ: وَكَفَّارَتُهُ عِتْقُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} إلَى قَوْلِهِ {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} الْآيَةُ، وَهُوَ نَصٌّ فِي كَوْنِهَا بِالتَّحْرِيرِ أَوْ الصَّوْمِ فَقَطْ فَلَا يُجْزِئُ فِيهِ الْإِطْعَامُ لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ بِهِ نَصٌّ، وَالْمَقَادِيرُ تُعْرَفُ بِالتَّوْقِيفِ انْتَهَى.

أَقُولُ: أَخَلَّ الشَّارِحُ الْمَذْكُورُ بِحَقِّ الْمَقَامِ فِي تَحْرِيرِهِ هَذَا أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُ خَصَّ بِالذَّكَرِ فِي بَيَانِ كَفَّارَةِ شِبْهِ الْعَمْدِ عِتْقُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ، وَجَعَلَ قَوْله تَعَالَى {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} إلَى قَوْلِهِ {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} دَلِيلًا عَلَيْهِ، فَقَدْ قَصَّرَ فِي الْبَيَانِ حَيْثُ لَمْ يَذْكُرْ كَوْنَ كَفَّارَتِهِ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ إذَا لَمْ يَجِدْ رَقَبَةً مُؤْمِنَةً، وَلَمْ يُصِبْ فِي سَوْقِ الدَّلِيلِ حَيْثُ جَعَلَ الدَّلِيلَ عَلَى كَوْنِ كَفَّارَتِهِ عِتْقُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ مَجْمُوعُ قَوْله تَعَالَى {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} إلَى قَوْلِهِ {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} مَعَ أَنَّ الدَّلِيلَ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} وَحْدَهُ، وَإِنَّمَا قَوْله تَعَالَى {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} دَلِيلٌ عَلَى الْقِسْمِ الْآخَرِ مِنْ كَفَّارَتِهِ الَّذِي لَمْ يَذْكُرْهُ فِي الْمُدَّعِي، بِخِلَافِ تَحْرِيرِ الْمُصَنِّفِ فَإِنَّهُ بَيَّنَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ قِسْمَيْ كَفَّارَتِهِ عَلَى تَرْتِيبِهِمَا حَيْثُ قَالَ: وَكَفَّارَتُهُ عِتْقُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ، ثُمَّ قَالَ: فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ

ص: 271

وَلِأَنَّهُ جَعَلَ الْمَذْكُورَ كُلَّ الْوَاجِبِ بِحَرْفِ الْفَاءِ، أَوْ لِكَوْنِهِ كُلَّ الْمَذْكُورِ عَلَى مَا عُرِفَ (وَيُجْزِئُهُ رَضِيعُ أَحَدِ أَبَوَيْهِ مُسْلِمٌ) لِأَنَّهُ مُسْلِمٌ بِهِ وَالظَّاهِرُ بِسَلَامَةِ أَطْرَافِهِ (وَلَا يُجْزِئُ مَا فِي الْبَطْنِ) لِأَنَّهُ لَا تُعْرَفُ حَيَاتُهُ وَلَا سَلَامَتُهُ. .

قَالَ (وَهُوَ الْكَفَّارَةُ فِي الْخَطَأِ) لِمَا تَلَوْنَاهُ (وَدِيَتُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ أَرْبَاعًا: خَمْسٌ وَعِشْرُونَ بِنْتَ مَخَاضٍ، وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ بِنْتَ لَبُونٍ، وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ حِقَّةً، وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ جَذَعَةً) وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ أَثْلَاثًا: ثَلَاثُونَ جَذَعَةً وَثَلَاثُونَ حِقَّةً، وَأَرْبَعُونَ ثَنِيَّةً، كُلُّهَا خَلْفَاتٌ فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا،

مُتَتَابِعَيْنِ.

وَاسْتَدَلَّ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِدَلِيلٍ مُسْتَقِلٍّ حَيْثُ قَالَ فِي تَعْلِيلِ الْأَوَّلِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} وَلَمْ يَذْكُرْ آخِرَ الْآيَةِ. وَقَالَ فِي تَعْلِيلِ الثَّانِي بِهَذَا النَّصِّ: أَيْ بِآخِرِ هَذَا النَّصِّ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} .

وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّهُ قَالَ: وَهُوَ نَصٌّ فِي كَوْنِهَا بِالتَّحْرِيرِ أَوْ الصَّوْمِ فَقَطْ، وَفَرَّعَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ فَلَا يُجْزِئُ فِيهِ الْإِطْعَامُ، فَإِنْ كَانَ مَدَارَ قَيْدٍ فَقَطْ فِي قَوْلِهِ وَهُوَ نَصٌّ فِي كَوْنِهَا بِالتَّحْرِيرِ أَوْ الصَّوْمِ فَقَطْ وَكَذَا مَدَارُ التَّفْرِيعِ فِي قَوْلِهِ فَلَا يُجْزِئُ فِيهِ الْإِطْعَامُ، عَلَى أَنَّ تَخْصِيصَ التَّحْرِيرِ وَالصَّوْمِ بِالذَّكَرِ فِي الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى نَفْي مَا عَدَاهُمَا كَانَ ذَلِكَ قَوْلًا بِمَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ، وَهُوَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عِنْدَنَا، وَإِنْ كَانَ مَدَارُهُمَا عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِيمَا بَعْدُ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ بِالْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ عَلَى عَدَمِ إجْزَاءِ الْإِطْعَامِ بِوَجْهَيْنِ آخَرَيْنِ، وَهُمَا قَوْلُهُ: وَلِأَنَّهُ جَعَلَ الْمَذْكُورَ كُلَّ الْوَاجِبِ بِحَرْفِ الْفَاءِ، وَقَوْلُهُ: أَوْ لِكَوْنِهِ كُلُّ الْمَذْكُورِ عَلَى مَا عُرِفَ كَانَ قَوْلُهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ بِهِ نَصٌّ إلَخْ بَعْدَ تَفْرِيعِ عَدَمِ إجْزَاءِ الْإِطْعَامِ عَلَى مَا قَبْلَهُ كَلَامًا مُخْتَلًّا، إذْ يَكُونُ الْمُفَرَّعُ عَلَيْهِ إذْ ذَاكَ دَلِيلًا عَلَى الْمُفَرَّعِ فَيَصِيرُ قَوْلُهُ فَلَا يُجْزِئُ فِيهِ الْإِطْعَامُ مِنْ قَبِيلِ تَفْرِيعِ الْمُدَّعِي عَلَى الدَّلِيلِ فَلَا جَرَمَ يَصِيرُ قَوْلُهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ بِهِ نَصٌّ إلَخْ دَلِيلًا آخَرَ عَلَى ذَلِكَ الْمُدَّعِي فَيَجِبُ فِيهِ زِيَادَةُ وَاوِ الْعَطْفِ بِأَنْ يُقَالَ: وَلِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ بِهِ نَصٌّ إلَخْ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ لَهُ دُرْبَةٌ بِأَسَالِيبِ الْكَلَامِ، بِخِلَافِ تَحْرِيرِ الْمُصَنِّفِ فَإِنَّهُ جَعَلَ قَوْلَهُ وَلَا يُجْزِئُ فِيهِ الْإِطْعَامُ كَلَامًا مُبْتَدَأً مَطْلُوبًا بِالْبَيَانِ عَلَى الِاسْتِقْلَالِ، وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِوُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ كَمَا تَرَى فَلَا غُبَارَ فِي أُسْلُوبِ تَحْرِيرِهِ أَصْلًا (قَوْلُهُ وَلِأَنَّهُ جَعَلَ الْمَذْكُورَ كُلَّ الْوَاجِبِ بِحَرْفِ الْفَاءِ) قَالَ الشُّرَّاحُ: يَعْنِي أَنَّ الْوَاقِعَ بَعْدَ فَاءِ الْجَزَاءِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ كُلَّ الْجَزَاءِ، إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَالْتَبَسَ فَلَا يُعْلَمُ أَنَّهُ هُوَ الْجَزَاءُ أَوْ بَقِيَ مِنْهُ شَيْءٌ وَمِثْلُهُ مُخِلٌّ انْتَهَى.

أَقُولُ: يَشْكُلُ هَذَا بِالْحِرْمَانِ عَنْ الْمِيرَاثِ فَإِنَّهُ جَزَاءُ الْقَتْلِ أَيْضًا فِي الْعَمْدِ وَشِبْهِهِ وَالْخَطَأِ وَشِبْهِهِ كَمَا مَرَّ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْجِنَايَاتِ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ بِدَاخِلٍ فِي الْوَاقِعِ بَعْدَ فَاءِ الْجَزَاءِ فِي الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ فَلْيُتَأَمَّلْ (قَوْلُهُ أَوْ لِكَوْنِهِ كُلَّ الْمَذْكُورِ عَلَى مَا عُرِفَ) يَعْنِي لَوْ كَانَ الْغَيْرُ مُرَادًا لَذَكَرَهُ لِأَنَّهُ مَوْضِعَ

ص: 272

لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «أَلَا إنَّ قَتِيلَ خَطَإِ الْعَمْدِ قَتِيلُ السَّوْطِ وَالْعَصَا، وَفِيهِ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ أَرْبَعُونَ مِنْهَا فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا» وَعَنْ عُمَرَ رضي الله عنه: ثَلَاثُونَ حِقَّةً وَثَلَاثُونَ جَذَعَةً، وَلِأَنَّ دِيَةَ شِبْهِ الْعَمْدِ أَغْلَظُ وَذَلِكَ فِيمَا قُلْنَا. وَلَهُمَا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «فِي نَفْسِ الْمُؤْمِنِ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ» وَمَا رَوَيَاهُ غَيْرُ ثَابِتٍ لِاخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم فِي صِفَةِ التَّغْلِيظِ، وَابْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ بِالتَّغْلِيظِ أَرْبَاعًا كَمَا ذَكَرْنَا وَهُوَ كَالْمَرْفُوعِ فَيُعَارَضُ بِهِ. قَالَ (وَلَا يَثْبُتُ التَّغْلِيظُ إلَّا فِي الْإِبِلِ خَاصَّةً) لِأَنَّ التَّوْقِيفَ فِيهِ، فَإِنْ قَضَى بِالدِّيَةِ فِي غَيْرِ الْإِبِلِ

الْحَاجَةِ إلَى الْبَيَانِ، وَحَيْثُ لَمْ يَذْكُرْ دَلَّ أَنَّهُ غَيْرُ مُرَادٍ لِأَنَّ السُّكُوتَ عَنْ الْبَيَانِ فِي مَوْضِعِ الْحَاجَةِ إلَى الْبَيَانِ بَيَانٌ كَمَا عُرِفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ كُلِّهَا.

قَالَ صَاحِبُ الْكِفَايَةِ بَعْدَ ذَلِكَ: لَا يُقَالُ: إنَّ السُّكُوتَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَذْكُورَ كُلُّ الْوَاجِبِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام «أَلَا إنَّ قَتِيلَ خَطَإِ الْعَمْدِ قَتِيلُ السَّوْطِ وَالْعَصَا، وَفِيهِ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ» وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ الْكَفَّارَةَ، وَمَعَ ذَلِكَ قُلْتُمْ بِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ. لِأَنَّا نَقُولُ: ثَمَّةَ وُجِدَ بَيَانٌ بِنَصٍّ آخَرَ؛ أَوْ نَقُولُ: لَا نُسَلِّمُ، فَإِنَّهُ قَالَ الْجُرْجَانِيُّ: وَجَدْت رِوَايَةً عَنْ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْكَفَّارَةَ لَا تَجِبُ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ انْتَهَى.

أَقُولُ: فِي كُلٍّ مِنْ جَوَابَيْهِ نَظَرٌ. أَمَّا فِي الْأَوَّلِ فَلِأَنَّ التَّشَبُّثَ بِوُجُودِ نَصٍّ آخَرَ فِي مَادَّةِ النَّقْضِ وَعَدَمِ وُجُودِهِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ مُصَيِّرٌ إلَى الِاسْتِدْلَالِ بِالْوَجْهِ الْأَوَّلِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ بِهِ نَصٌّ فَيَلْزَمُ أَنْ لَا يَكُونَ هَذَا الْوَجْهُ الَّذِي هُوَ مَوْرِدُ السُّؤَالِ دَلِيلًا مُسْتَقِلًّا، بَلْ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَدْرَكًا. وَأَمَّا فِي الثَّانِي فَلِأَنَّ اللَّازِمَ لِلْمُجِيبِ دَفْعُ النَّقْضِ عَمَّا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُوَرِّدُ لِلسُّؤَالِ.

وَلَا شَكَّ أَنَّ مَا ذُكِرَ فِيهِ مَبْنِيٌّ عَلَى وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ، وَأَمَّا رِوَايَةُ عَدَمِ وُجُوبِهَا فِيهِ فَبِمَعْزِلٍ عَنْهُ فَلَا وَجْهَ لِلْمُصَيَّرِ إلَيْهِ هُنَا كَمَا لَا يَخْفَى. ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ الْعِنَايَةِ قَالَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ أَوْ لِكَوْنِهِ كُلَّ الْمَذْكُورِ: أَيْ لِكَوْنِ الصِّيَامِ كُلَّ الْمَذْكُورِ وَتَبِعَهُ الْعَيْنِيُّ. أَقُولُ: لَيْسَ ذَاكَ بِسَدِيدٍ، إذْ لَا يَخْفَى أَنَّ كُلَّ الْمَذْكُورِ فِي حَقِّ كَفَّارَةِ الْقَتْلِ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى إنَّمَا هُوَ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ لَا الصِّيَامُ وَحْدَهُ.

وَأَمَّا إطْلَاقُ الْكُلِّ عَلَى الصِّيَامِ لِكَوْنِهِ الْجُزْءَ الْأَخِيرَ الَّذِي يَتِمُّ بِهِ الْكُلُّ فَأَمْرٌ قَبِيحٌ لَا يُنَاسِبُ شَرْحَ الْكِتَابِ. فَالْحَقُّ فِي التَّفْسِيرِ أَنْ يُقَالَ: أَيْ وَلِكَوْنِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ التَّحْرِيرِ وَالصِّيَامِ كُلَّ الْمَذْكُورِ

(قَوْلُهُ وَلَا يَثْبُتُ التَّغْلِيظُ إلَّا فِي الْإِبِلِ خَاصَّةً، لِأَنَّ التَّوْقِيفَ فِيهِ، فَإِنْ قَضَى بِالدِّيَةِ مِنْ غَيْرِ الْإِبِلِ

ص: 273

لَمْ تَتَغَلَّظْ لِمَا قُلْنَا.

قَالَ (وَقَتْلُ الْخَطَأِ تَجِبُ بِهِ الدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَالْكَفَّارَةُ عَلَى الْقَاتِلِ) لِمَا بَيَّنَّا مِنْ قَبْلُ. قَالَ: (وَالدِّيَةُ فِي الْخَطَأِ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ أَخْمَاسًا عِشْرُونَ بِنْتَ مَخَاضٍ وَعِشْرُونَ بِنْتَ لَبُونٍ وَعِشْرُونَ ابْنَ مَخَاضٍ وَعِشْرُونَ حِقَّةً وَعِشْرُونَ جَذَعَةً) وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودَ رضي الله عنه، وَأَخَذْنَا نَحْنُ وَالشَّافِعِيُّ بِهِ لِرِوَايَتِهِ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَضَى فِي قَتِيلٍ قُتِلَ خَطَأً أَخْمَاسًا» عَلَى نَحْوِ مَا قَالَ، وَلِأَنَّ مَا قُلْنَاهُ أَخَفُّ فَكَانَ أَلْيَقَ بِحَالَةِ الْخَطَإِ لِأَنَّ الْخَاطِئَ مَعْذُورٌ، غَيْرَ أَنَّ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَقْضِي بِعِشْرِينَ ابْنَ لَبُونٍ مَكَانَ ابْنِ مَخَاضٍ وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا رَوَيْنَاهُ.

لَمْ تَتَغَلَّظَ لِمَا قُلْنَا) أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إذَا لَمْ يَثْبُتْ التَّغْلِيظُ إلَّا فِي الْإِبِلِ خَاصَّةً يَنْبَغِي أَنْ لَا يَصِحَّ الْقَضَاءُ بِالدِّيَةِ مِنْ غَيْرِ الْإِبِلِ أَصْلًا فِي جِنَايَةِ شِبْهِ الْعَمْدِ، إذْ قَدْ ذُكِرَ فِي أَوَّلِ هَذَا الْكِتَابِ وَمَرَّ أَيْضًا فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الْجِنَايَاتِ أَنَّ مُوجِبَ شِبْهِ الْعَمْدِ دِيَةٌ مُغَلَّظَةٌ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَكَفَّارَةٌ عَلَى الْقَاتِلِ، فَحَيْثُ لَمْ يَثْبُتْ التَّغْلِيظُ فِي غَيْرِ الْإِبِلِ لَمْ يَصْلُحْ غَيْرُهَا أَنْ يَكُونَ دِيَةً فِي شِبْهِ الْعَمْدِ لِانْتِفَاءِ مَا هُوَ الْمُعْتَبَرُ فِي دِيَتِهِ وَهُوَ التَّغْلِيظُ، فَكَيْفَ يَتِمُّ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ فَإِنْ قَضَى بِالدِّيَةِ مِنْ غَيْرِ الْإِبِلِ لَمْ تَتَغَلَّظْ، فَإِنَّ الظَّاهِرَ مِنْهُ أَنْ يَصِحَّ الْقَضَاءُ بِالدِّيَةِ مِنْ غَيْرِ الْإِبِلِ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ، وَلَكِنْ لَا يَثْبُتُ التَّغْلِيظُ فِي غَيْرِ الْإِبِلِ بِأَنْ يُزَادَ فِي الدَّرَاهِمِ عَلَى عَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ وَفِي الدَّنَانِيرِ عَلَى أَلْفِ دِينَارٍ كَمَا فَصَّلُوا فِي الشُّرُوحِ فَلْيُتَأَمَّلْ فِي التَّوْجِيهِ.

(قَوْلُهُ وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأَخَذْنَا نَحْنُ وَالشَّافِعِيُّ بِهِ لِرِوَايَتِهِ «أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام قَضَى فِي قَتِيلٍ قُتِلَ خَطَأً أَخْمَاسًا» عَلَى نَحْوِ مَا قَالَ) أَقُولُ: فِيهِ شَيْءٌ، وَهُوَ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ وَإِنْ رَوَى قَضَاءَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى نَحْوِ مَا قَالَهُ إلَّا أَنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه كَانَ يَقُولُ: الدِّيَةُ فِي الْخَطَإِ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ أَرْبَاعًا: خَمْسٌ وَعِشْرُونَ حِقَّةً، وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ جَذَعَةً، وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ ابْنَةَ لَبُونٍ، وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ ابْنَةَ مَخَاضٍ، ذَكَرَهُ أَبُو يُوسُفَ رحمه الله فِي كِتَابِ الْخَرَاجِ. وَذَكَرَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ وَغَيْرِهَا مِنْ الشُّرُوحِ، وَالْمَقَادِيرِ لَا تُعْرَفُ إلَّا سَمَاعًا فَكَانَ كَالْمَرْفُوعِ.

فَصَارَ مَا رَوَاهُ ابْنُ مَسْعُودٍ مُعَارِضًا بِهِ فَكَيْفَ يَتِمُّ جَعْلُ الْمُصَنِّفِ مُجَرَّدَ رِوَايَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه دَلِيلًا عَلَى مَا أَخَذْنَا نَحْنُ وَالشَّافِعِيُّ بِهِ بِدُونِ بَيَانِ الرُّجْحَانِ فِيمَا رَوَاهُ ابْنُ مَسْعُودٍ. نَعَمْ كَوْنُ مَا رَوَاهُ أَلْيَقُ بِحَالَةِ الْخَطَأِ لِكَوْنِهِ أَخَفَّ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُرَجِّحًا لِمَا رَوَاهُ. وَعَنْ هَذَا قَالَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ بَعْدَ بَيَانِ اخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ فِي أَسْنَانِ الْإِبِلِ فِي دِيَةِ الْخَطَأِ: وَنَحْنُ رَجَّحْنَا رِوَايَةَ ابْنِ مَسْعُودٍ لِأَنَّهُ أَوْفَقُ لِمَوْضُوعِ دِيَةِ الْخَطَإِ وَهُوَ التَّخْفِيفُ، إلَّا أَنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ: وَلِأَنَّ مَا قُلْنَاهُ أَخَفُّ فَكَانَ أَلْيَقَ بِحَالَةِ الْخَطَإِ لِأَنَّ الْخَاطِئَ مَعْذُورٌ يُشْعِرُ بِأَنَّ هَذَا دَلِيلٌ مُسْتَقِلٌّ وَمَا قَبْلَهُ أَيْضًا دَلِيلٌ مُسْتَقِلٌّ، وَهَذَا يُنَافِي ضَمَّ الثَّانِي إلَى الْأَوَّلِ لِيَحْصُلَ بِهِ الرُّجْحَانُ، وَبِالْجُمْلَةِ فِي تَحْرِيرِ الْمُصَنِّفِ هُنَا نَوْعُ رَكَاكَةٍ، وَكَأَنَّ صَاحِبَ الْعِنَايَةِ تَنَبَّهَ لَهُ حَيْثُ غَيَّرَ أُسْلُوبَ تَحْرِيرِ الْمُصَنِّفِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ فَقَالَ بَعْدَ بَيَانِ مَا رَوَاهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه، لَكِنَّ مَا قُلْنَا أَخَفُّ فَكَانَ أَوْلَى بِحَالِ الْخَطَإِ لِأَنَّ الْخَاطِئَ مَعْذُورٌ انْتَهَى تَبَصَّرْ.

(قَوْلُهُ غَيْرَ أَنَّ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَقْضِي بِعِشْرِينَ ابْنَ لَبُونٍ مَكَانَ ابْنِ مَخَاضٍ) أَقُولُ: هُنَا كَلَامٌ، وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ

ص: 274

قَالَ (وَمِنْ الْعَيْنِ أَلْفُ دِينَارٍ وَمِنْ الْوَرِقِ عَشَرَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: مِنْ الْوَرِقِ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام قَضَى بِذَلِكَ. وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه «أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام قَضَى بِالدِّيَةِ فِي قَتِيلٍ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ» . وَتَأْوِيلُ مَا رُوِيَ أَنَّهُ قَضَى مِنْ دَرَاهِمَ كَانَ وَزْنُهَا وَزْنَ سِتَّةٍ وَقَدْ كَانَتْ كَذَلِكَ. قَالَ (وَلَا تَثْبُتُ الدِّيَةُ إلَّا مِنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا مِنْهَا وَمِنْ الْبَقَرِ مِائَتَا بَقَرَةٍ، وَمِنْ الْغَنَمِ أَلْفَا شَاةٍ، وَمِنْ الْحُلَلِ مِائَتَا حُلَّةٍ كُلُّ حُلَّةٍ ثَوْبَانِ).

هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ وَأَخَذْنَا نَحْنُ وَالشَّافِعِيُّ بِهِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْعِنَايَةِ وَغَيْرِهَا.

وَالْمَقْصُودُ بِهِ بَيَانُ الْفَرْقِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الشَّافِعِيِّ بَعْدَ الِاتِّفَاقِ فِي الْمَأْخَذِ، لَكِنْ فِيهِ إشْكَالٌ، إذْ الظَّاهِرُ أَنَّ ضَمِيرَ بِهِ فِي قَوْلِهِ وَأَخَذْنَا نَحْنُ وَالشَّافِعِيُّ بِهِ بَعْدَ قَوْلِهِ وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ رَاجِعٌ إلَى قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ فَيَكُونُ الْمَأْخَذُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الشَّافِعِيِّ هُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ، فَبَعْدَ ذَلِكَ كَيْفَ يَتِمُّ الْقَوْلُ بِأَنَّ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَقْضِي بِعِشْرِينَ ابْنَ لَبُونٍ مَكَانَ ابْنِ مَخَاضٍ، وَالْقَضَاءُ بِابْنِ لَبُونٍ مَكَانَ ابْنِ مَخَاضٍ يُنَافِي الْأَخْذَ بِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ لِأَنَّ ابْنَ مَخَاضٍ مُتَعَيَّنٍ فِي قَوْلِهِ وَإِنَّمَا الَّذِي يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَأْخَذًا لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ الْقَضَاءُ بِعِشْرِينَ ابْنَ لَبُونٍ مَكَانَ ابْنِ مَخَاضٍ مَا رَوَى مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: فِي دِيَةِ الْخَطَأِ عِشْرُونَ بِنْتَ مَخَاضٍ وَعِشْرُونَ بِنْتَ لَبُونٍ وَعِشْرُونَ ابْنَ لَبُونٍ وَعِشْرُونَ حِقَّةً وَعِشْرُونَ جَذَعَةً كَمَا ذُكِرَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ فَلْيُتَأَمَّلْ فِي التَّوْجِيهِ (قَوْلُهُ وَلَا تَثْبُتُ الدِّيَةُ إلَّا مِنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَقَالَا: مِنْهَا وَمِنْ الْبَقَرِ مِائَتَا بَقَرَةٍ وَمِنْ الْغَنَمِ أَلْفَا شَاةٍ، وَمِنْ الْحُلَلِ مِائَتَا حُلَّةٍ) قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الشُّرَّاحِ: فَائِدَةُ هَذَا الِاخْتِلَافِ إنَّمَا تَظْهَرُ فِيمَا إذَا صَالَحَ الْقَاتِلُ مَعَ وَلِيِّ الْقَتِيلِ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ مِائَتَيْ بَقَرَةٍ أَوْ غَيْرِهَا

ص: 275

لِأَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه هَكَذَا جَعَلَ عَلَى أَهْلِ كُلِّ مَالٍ مِنْهَا. وَلَهُ أَنَّ التَّقْدِيرَ إنَّمَا يَسْتَقِيمُ بِشَيْءٍ مَعْلُومِ الْمَالِيَّةِ، وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ مَجْهُولَةُ الْمَالِيَّةِ وَلِهَذَا لَا يُقَدَّرُ بِهَا ضَمَانٌ، وَالتَّقْدِيرُ بِالْإِبِلِ عُرِفَ بِالْآثَارِ الْمَشْهُورَةِ وَعَدِمْنَاهَا فِي غَيْرِهَا. وَذُكِرَ فِي الْمُعَاقِلِ أَنَّهُ لَوْ صَالَحَ عَلَى الزِّيَادَةِ عَلَى مِائَتَيْ حُلَّةٍ أَوْ مِائَتَيْ بَقَرَةٍ لَا يَجُوزُ، وَهَذَا آيَةُ التَّقْدِيرِ بِذَلِكَ. ثُمَّ قِيلَ: هُوَ قَوْلُ الْكُلِّ فَيَرْتَفِعُ الْخِلَافُ، وَقِيلَ هُوَ قَوْلُهُمَا.

عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ كَمَا هُوَ الْمَذْكُورُ فِي كِتَابِ الدِّيَاتِ: يَجُوزُ كَمَا لَوْ صَالَحَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ مِائَتَيْ فَرَسٍ، وَعَلَى قَوْلِهِمَا لَا يَجُوزُ كَمَا لَوْ صَالَحَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ مِائَةٍ مِنْ الْإِبِلِ انْتَهَى.

أَقُولُ: لَيْتَ شِعْرِي مَا بَالُهُمْ صَوَّرُوا ظُهُورَ فَائِدَةِ هَذَا الِاخْتِلَافِ فِي هَذَا الْمَضِيقِ وَحَصَرُوا فِيهِ بِكَلِمَةٍ إنَّمَا مَعَ كَوْنِ ظُهُورِ فَائِدَتِهِ فِي غَيْرِ هَذِهِ الصُّورَةِ أَظْهَرُ وَأَجْلَى، فَإِنَّ لِلْقَاتِلِ الْخِيَارُ فِي أَدَاءِ الدِّيَةِ مِنْ أَيِّ نَوْعٍ شَاءَ مِنْ أَنْوَاعِ الدِّيَةِ لَا مِنْ غَيْرِ أَنْوَاعِهَا كَمَا صَرَّحُوا بِهِ، فَعَلَى قَوْلِهِمَا يَتَمَكَّنُ الْقَاتِلُ مِنْ أَدَائِهَا مِنْ نَوْعِ الْبَقَرِ أَوْ نَوْعِ الْغَنَمِ أَوْ نَوْعِ الْحُلَلِ كَمَا يُتَمَكَّنُ مِنْ أَدَائِهَا مِنْ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا وَهِيَ الْإِبِلُ وَالْعَيْنُ وَالْوَرِقُ، وَعَلَى قَوْلِهِ فِي رِوَايَةِ كِتَابِ الدِّيَاتِ لَا يُتَمَكَّنُ مِنْ أَدَائِهَا إلَّا مِنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ (قَوْلُهُ وَذُكِرَ فِي الْمَعَاقِلِ أَنَّهُ لَوْ صَالَحَ عَلَى الزِّيَادَةِ عَلَى مِائَتَيْ حُلَّةٍ أَوْ مِائَتَيْ بَقَرَةٍ لَا يَجُوزُ، وَهَذَا آيَةُ التَّقْدِيرِ بِذَلِكَ، ثُمَّ قِيلَ هُوَ قَوْلُ الْكُلِّ فَيَرْتَفِعُ الْخِلَافُ وَقِيلَ: هُوَ قَوْلُهُمَا) قَالَ جُمْهُورُ الشُّرَّاحِ: أَوْرَدَ قَوْلَهُ وَذُكِرَ فِي الْمَعَاقِلِ: أَيْ فِي مَعَاقِلِ الْمَبْسُوطِ شُبْهَةٌ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ أَنَّهُ لَا تَثْبُتُ الدِّيَةُ إلَّا مِنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ. وَوَجْهُ وُرُودِهَا أَنَّ مُحَمَّدًا ذَكَرَ فِي الْمَعَاقِلِ أَنَّهُ لَوْ صَالَحَ الْوَلِيُّ مِنْ الدِّيَةِ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ أَلْفَيْ شَاةٍ أَوْ مِنْ مِائَتَيْ بَقَرَةٍ أَوْ مِنْ مِائَتَيْ حُلَّةٍ لَا يَجُوزُ وَلَمْ يَذْكُرْ الْخِلَافَ فِيهِ، وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْأَصْنَافَ الثَّلَاثَةَ أَيْضًا مِنْ الْأُصُولِ الْمُقَدَّرَةِ فِي الدِّيَةِ عِنْدَهُ أَيْضًا، وَذَكَرَ الْجَوَابُ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا يُصَحِّحُ الشُّبْهَةَ وَيَرْفَعُ الْخِلَافَ.

وَثَانِيهمَا يَرْفَعُ الشُّبْهَةَ بِحَمْلِ رِوَايَةِ الْمَعَاقِلِ عَلَى أَنَّهَا قَوْلُهُمَا، ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ الْعِنَايَةِ رَدَّ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ مِنْهُمَا حَيْثُ قَالَ: وَلَا أَرَى صِحَّتَهُ لِأَنَّهُ يُنَاقِضُ رِوَايَةَ كِتَابِ الدِّيَاتِ كَمَا مَرَّ آنِفًا انْتَهَى. أَقُولُ:

ص: 276

قَالَ: (وَدِيَةُ الْمَرْأَةِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ الرَّجُلِ) وَقَدْ وَرَدَ هَذَا اللَّفْظُ مَوْقُوفًا عَلَى عَلِيٍّ رضي الله عنه وَمَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: مَا دُونَ الثُّلُثِ لَا يُتَنَصَّفُ، وَإِمَامُهُ فِيهِ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ رضي الله عنه، وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا رَوَيْنَاهُ بِعُمُومِهِ، وَلِأَنَّ حَالَهَا أَنْقَصُ مِنْ حَالِ الرَّجُلِ وَمَنْفَعَتُهَا أَقَلُّ، وَقَدْ ظَهَرَ أَثَرُ النُّقْصَانِ بِالتَّنْصِيفِ فِي النَّفْسِ فَكَذَا فِي أَطْرَافِهَا وَأَجْزَائِهَا اعْتِبَارًا بِهَا وَبِالثُّلُثِ وَمَا فَوْقَهُ.

لَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ لِأَنَّ مَدَارَ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ عَلَى عَدَمِ قَبُولِ صِحَّةِ رِوَايَةِ كِتَابِ الدِّيَاتِ وَعَدَمِ تَسْلِيمِ ثُبُوتِ الِاخْتِلَافِ بَيْنَهُمْ، وَكَوْنُهُ مُنَاقِضًا لِرِوَايَةِ كِتَابِ الدِّيَاتِ إنَّمَا يُنَافِي صِحَّتَهُ لَوْ تَحَقَّقَتْ صِحَّةُ تِلْكَ الرِّوَايَةِ وَهِيَ فِي حَيِّزِ الْمَنْعِ عِنْدَ قَائِلِ ذَلِكَ الْوَجْهِ، يَدُلُّ عَلَيْهِ قَطْعًا عِبَارَةُ صَاحِبِ النِّهَايَةِ حَيْثُ قَالَ: فَقَالَ فِي جَوَابِهِ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ صَحَّحَ الشُّبْهَةَ فَقَالَ: نَعَمْ تِلْكَ الرِّوَايَةُ أَعْنِي رِوَايَةَ الْخِلَافِ غَيْرُ صَحِيحٍ، بَلْ الصَّحِيحُ رِوَايَةُ كِتَابِ الْمَعَاقِلِ.

وَالْخِلَافُ بَيْنَهُمْ غَيْرُ ثَابِتٍ، بَلْ هَذِهِ الْأَنْوَاعُ: أَعْنِي الْبَقَرَ وَالْغَنَمَ وَالْحُلَلَ فِي الدِّيَةِ مِنْ الْأَمْوَالِ الْمُقَدَّرَةِ انْتَهَى. وَتَصْحِيحُ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَمَنْعُ الْأُخْرَى لَيْسَ بِعَزِيزٍ فِي كَلِمَاتِ الْفُقَهَاءِ وَقَدْ مَرَّ لَهُ نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ فِي الْكِتَابِ.

وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ لِدَفْعِ رَدِّ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ يَرْتَفِعُ التَّنَاقُضُ بِالْحَمْلِ عَلَى الرُّجُوعِ إلَى قَوْلِهِمَا انْتَهَى. أَقُولُ: هَذَا لَا يَصْلُحُ لِدَفْعِ رَدِّهِ الْوَجْهَ الْمَزْبُورَ، وَإِنَّمَا يَصْلُحُ لَأَنْ يَكُونَ جَوَابًا آخَرَ عَنْ أَصْلِ الشُّبْهَةِ لِأَنَّ مَآلَهُ إلَى أَنْ يَكُونَ فِي الْمَسْأَلَةِ عَنْهُ رِوَايَتَانِ وَيَكُونُ الْمَرْوِيُّ فِي إحْدَاهُمَا قَوْلَهُ الْأَوَّلُ وَفِي الْأُخْرَى قَوْلَهُ الْآخَرُ الَّذِي رَجَعَ إلَيْهِ، وَقَدْ ذَكَرَهُ أَيْضًا صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ بَيَانِ ذَيْنِكَ الْوَجْهَيْنِ وَرَدَّ أَحَدَهُمَا حَيْثُ قَالَ: وَحَمَلَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا عَلَى أَنَّ فِي الْمَسْأَلَةِ عَنْهُ رِوَايَتَيْنِ انْتَهَى. وَمَدَارُ رَدِّهِ أَحَدُ ذَيْنِك الْوَجْهَيْنِ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ تَقْرِيرَ الشُّبْهَةِ وَرَفْعَ الْخِلَافِ كَمَا ذَكَرَهُ الشُّرَّاحُ.

وَذَلِكَ لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا بِأَنْ يَنْحَصِرَ الْقَوْلُ مِنْهُ فِي هَاتِيكَ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا ذُكِرَ فِي الْمَعَاقِلِ، وَإِلَّا لَا تَتَقَرَّرُ الشُّبْهَةُ بَلْ تَرْتَفِعُ بِالْحَمْلِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مِنْهُ تَفَكَّرْ تَفْهَمْ

(قَوْلُهُ وَلِأَنَّ حَالَهَا أَنْقَصُ مِنْ حَالِ الرَّجُلِ وَمَنْفَعَتَهَا أَقَلُّ) وَقَدْ ظَهَرَ أَثَرُ النُّقْصَانِ بِالتَّنْصِيفِ فِي النَّفْسِ فَكَذَا فِي أَطْرَافِهَا وَأَجْزَائِهَا

ص: 277

قَالَ: (وَدِيَةُ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ سَوَاءٌ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: دِيَةُ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ أَرْبَعَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَدِيَةُ الْمَجُوسِيِّ ثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ. وَقَالَ مَالِكٌ: دِيَةُ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ سِتَّةُ آلَافِ دِرْهَمٍ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «عَقْلُ الْكَافِرِ نِصْفُ عَقْلِ الْمُسْلِمِ» وَالْكُلُّ عِنْدَهُ اثْنَا عَشْرَ أَلْفًا. وَلِلشَّافِعِيِّ مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام جَعَلَ دِيَةَ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ أَرْبَعَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَدِيَةَ الْمَجُوسِيِّ ثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ» . وَلَنَا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «دِيَةُ كُلِّ ذِي عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ أَلْفُ دِينَارٍ» وَكَذَلِكَ قَضَى أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رضي الله عنهما، وَمَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ رحمه الله لَمْ يُعْرَفْ رَاوِيهِ وَلَمْ يُذْكَرْ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ، وَمَا رَوَيْنَاهُ أَشْهُرُ مِمَّا رَوَاهُ مَالِكٌ فَإِنَّهُ ظَهَرَ بِهِ عَمَلُ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم. .

اعْتِبَارًا بِهَا وَبِالثُّلُثِ وَمَا فَوْقَهُ.

أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: حَاصِلُ هَذَا التَّعْلِيلِ الْقِيَاسُ، وَلَا مَجَالَ لَهُ فِي هَذَا الْبَابِ لِأَنَّ الدِّيَةَ مِنْ الْمُقَدَّرَاتِ الشَّرْعِيَّةِ، وَلَا يَجْرِي الْقِيَاسُ فِي الْمَقَادِيرِ مَا نَصُّوا عَلَيْهِ. ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ الْعِنَايَةِ قَالَ فِي تَعْلِيلِ قَوْلِهِ: فَكَذَا فِي أَطْرَافِهَا وَأَجْزَائِهَا اعْتِبَارًا بِهَا وَبِالثُّلُثِ وَمَا فَوْقَهُ لِئَلَّا يَلْزَمَ مُخَالَفَةُ التَّبَعِ لِلْأَصْلِ، وَتَبَعَهُ الْعَيْنِيُّ. أَقُولُ: لِمَانِعٍ أَنْ يَمْنَعَ بُطْلَانَ اللَّازِمِ إذْ لَا مَحْذُورَ فِي مُخَالَفَةِ التَّبَعِ الَّذِي هُوَ الْأَطْرَافُ لِلْأَصْلِ الَّذِي هُوَ النَّفْسُ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ؛ أَلَا يَرَى أَنَّ الْقِصَاصَ يَجْرِي بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ وَلَا يَجْرِي بَيْنَهُمَا فِيمَا دُونَ النَّفْسِ عِنْدَنَا كَمَا مَرَّ فِي كِتَابِ الْجِنَايَاتِ فَلِمَ لَا يَجُوزُ الْمُخَالَفَةُ بَيْنَ النَّفْسِ وَمَا دُونَهَا فِي حُكْمِ الدِّيَةِ أَيْضًا.

ص: 278

فَصْلٌ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ

قَالَ: (وَفِي النَّفْسِ الدِّيَةُ) وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ. قَالَ (وَفِي الْمَارِنِ الدِّيَةُ، وَفِي اللِّسَانِ الدِّيَةُ، وَفِي الذَّكَرِ الدِّيَةُ) وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رَوَى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام قَالَ: «فِي النَّفْسِ الدِّيَةُ، وَفِي اللِّسَانِ الدِّيَةُ، وَفِي الْمَارِنِ الدِّيَةُ» وَهَكَذَا هُوَ فِي الْكِتَابِ الَّذِي كَتَبَهُ رَسُولُ اللَّهِ عليه الصلاة والسلام لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ رضي الله عنه. وَالْأَصْلُ فِي الْأَطْرَافِ أَنَّهُ إذَا فَوَّتَ جِنْسَ مَنْفَعَةٍ عَلَى الْكَمَالِ أَوْ أَزَالَ جَمَالًا مَقْصُودًا فِي الْآدَمِيِّ عَلَى الْكَمَالِ يَجِبُ كُلُّ الدِّيَةِ لِإِتْلَافِهِ النَّفْسَ مِنْ وَجْهٍ وَهُوَ مُلْحَقٌ بِالْإِتْلَافِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ تَعْظِيمًا لِلْآدَمِيِّ. أَصْلُهُ قَضَاءُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالدِّيَةِ كُلِّهَا فِي اللِّسَانِ وَالْأَنْفِ، وَعَلَى هَذَا تَنْسَحِبُ فُرُوعٌ كَثِيرَةٌ فَنَقُولُ: فِي الْأَنْفِ الدِّيَةُ لِأَنَّهُ أَزَالَ الْجَمَالَ عَلَى الْكَمَالِ وَهُوَ مَقْصُودٌ، وَكَذَا إذَا قَطَعَ الْمَارِنَ أَوْ الْأَرْنَبَةَ لِمَا ذَكَرْنَا، وَلَوْ قَطَعَ الْمَارِنَ مَعَ الْقَصَبَةِ لَا يُزَادُ عَلَى دِيَةٍ وَاحِدَةٍ لِأَنَّهُ عُضْوٌ وَاحِدٌ، وَكَذَا اللِّسَانُ لِفَوَاتِ مَنْفَعَةِ مَقْصُودَةٍ وَهُوَ

(فَصْلُ الدِّيَةِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ)

لَمَّا ذَكَرَ حُكْمَ الدِّيَةِ فِي النَّفْسِ ذَكَرَ فِي هَذَا الْفَصْلِ حُكْمَهَا فِيمَا دُونَ النَّفْسِ لِأَنَّ الْأَطْرَافَ تَابِعَةٌ لِلنَّفْسِ فَأَتْبَعَ ذِكْرُ حُكْمِهَا أَيْضًا تَحْقِيقًا لِلْمُنَاسَبَةِ (قَوْلُهُ أَصْلُهُ قَضَاءُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالدِّيَةِ كُلِّهَا فِي اللِّسَانِ وَالْأَنْفِ) قَالَ فِي الْكَافِي وَغَايَةِ الْبَيَانِ: فَقِسْنَا عَلَيْهِ غَيْرَهُ إذَا كَانَ فِي مَعْنَاهُ انْتَهَى.

أَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ الدِّيَةَ مِنْ الْمُقَدَّرَاتِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْقِيَاسُ لَا يَجْرِي فِيهَا عَلَى مَا عُرِفَ

ص: 279

النُّطْقُ، وَكَذَا فِي قَطْعِ بَعْضِهِ إذَا مَنَعَ الْكَلَامَ لِتَفْوِيتِ مَنْفَعَةٍ مَقْصُودَةٍ وَإِنْ كَانَتْ الْآلَةُ قَائِمَةً، وَلَوْ قَدَرَ عَلَى التَّكَلُّمِ بِبَعْضِ الْحُرُوفِ قِيلَ: تُقْسَمُ عَلَى عَدَدِ الْحُرُوفِ، وَقِيلَ: عَلَى عَدَدِ حُرُوفٍ تَتَعَلَّقُ بِاللِّسَانِ؛ فَبِقَدْرِ مَا لَا يَقْدِرُ تَجِبُ، وَقِيلَ: إنْ قَدَرَ عَلَى أَدَاءِ أَكْثَرِهَا تَجِبُ حُكُومَةُ عَدْلٍ لِحُصُولِ الْإِفْهَامِ مَعَ الِاخْتِلَالِ، وَإِنْ عَجَزَ عَنْ أَدَاءِ الْأَكْثَرِ يَجِبُ كُلُّ الدِّيَةِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَا تَحْصُلُ مَنْفَعَةُ الْكَلَامِ، وَكَذَا الذَّكَر لِأَنَّهُ يُفَوِّتُ بِهِ مَنْفَعَةَ الْوَطْءِ وَالْإِيلَادِ وَاسْتِمْسَاكِ الْبَوْلِ وَالرَّمْي بِهِ وَدَفْقِ الْمَاءِ وَالْإِيلَاجِ الَّذِي هُوَ طَرِيقُ الْإِعْلَاقِ عَادَةً، وَكَذَا فِي الْحَشَفَةِ الدِّيَةُ كَامِلَةً، لِأَنَّ الْحَشَفَةَ أَصْلٌ فِي مَنْفَعَةِ الْإِيلَاجِ وَالدَّفْقِ وَالْقَصَبَةُ كَالتَّابِعِ لَهُ. .

قَالَ: (وَفِي الْعَقْلِ إذَا ذَهَبَ بِالضَّرْبِ الدِّيَةُ) لِفَوَاتِ مَنْفَعَةِ الْإِدْرَاكِ إذْ بِهِ يَنْتَفِعُ بِنَفْسِهِ فِي مَعَاشِهِ وَمَعَادِهِ (وَكَذَا إذَا ذَهَبَ سَمْعُهُ أَوْ بَصَرُهُ أَوْ شَمُّهُ أَوْ ذَوْقُهُ)

فَالصَّوَابُ عِنْدِي هُنَا أَنْ يُقَالَ: فَأَلْحَقْنَا بِهِ غَيْرَهُ دَلَالَةً (قَوْلُهُ وَلَوْ قَدَرَ عَلَى التَّكَلُّمِ بِبَعْضِ الْحُرُوفِ قِيلَ تُقْسَمُ عَلَى عَدَدِ الْحُرُوفِ، وَقِيلَ عَلَى عَدَدِ حُرُوفٍ تَتَعَلَّقُ بِاللِّسَانِ فَبِقَدْرِ مَا لَا يُقَدَّرُ تَجِبُ) قَالَ جُمْهُورُ الشُّرَّاحِ: وَالْحُرُوفُ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِاللِّسَانِ هِيَ الْأَلْفُ وَالتَّاءُ وَالثَّاءُ وَالْجِيمُ وَالدَّالُ وَالرَّاءُ وَالزَّايُ وَالسِّينُ وَالشِّينُ وَالصَّادُ وَالضَّادُ وَالطَّاءُ وَالظَّاءُ وَاللَّامُ وَالنُّونُ انْتَهَى. وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ نَقْلِ ذَلِكَ عَنْ النِّهَايَةِ: وَفِي كَوْنِ الْأَلْفِ مِنْ ذَلِكَ نَظَرٌ، لِأَنَّهُ مِنْ أَقْصَى الْحَلْقِ عَلَى مَا عُرِفَ انْتَهَى.

أَقُولُ: نَظَرُهُ سَاقِطٌ إذْ الظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَ جُمْهُورِ الشُّرَّاحِ بِالْأَلِفِ وَالتَّاءِ وَالثَّاءِ وَغَيْرِهَا مِمَّا ذَكَرُوا هُوَ الْأَلْفَاظُ الَّتِي يُتَهَجَّى بِهَا لَا الْحُرُوفُ الْمَبْسُوطَةُ الَّتِي يَتَرَكَّبُ مِنْهَا الْكَلِمُ، وَاَلَّذِي مِنْ أَقْصَى الْحَلْقِ إنَّمَا هُوَ الْحَرْفُ الَّذِي يَقَعُ جُزْءُ الْكَلِمِ كَمَا فِي أَوَّلِ أَخَذَ وَأَوْسَطِ سَأَلَ وَآخِرَ قَرَأَ؛ لَا الْحَرْفُ الَّذِي يُتَهَجَّى بِهِ وَهُوَ لَفْظُ أَلْفٍ إذْ هُوَ مُرَكَّبٌ مِنْ ثَلَاثَةِ أَجْزَاءٍ مُتَعَلِّقٌ بِاللِّسَانِ بِوَاسِطَةِ جُزْئِهِ الْأَوْسَطِ الَّذِي هُوَ اللَّامُ، فَمَنْشَأُ نَظَرِ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ عَدَمُ وُقُوفِهِ عَلَى مُرَادِهِمْ، كَيْفَ وَلَوْ كَانَ مُرَادُهُمْ مَا تَوَهَّمَهُ لَذَكَرُوا الْهَمْزَةَ بَدَلَ الْأَلْفِ كَمَا لَا يَخْفَى.

فَإِنْ قُلْت: الْأَلْفَاظُ الَّتِي يُتَهَجَّى بِهَا أَسْمَاءُ مُسَمَّيَاتِهَا الْحُرُوفُ الْمَبْسُوطَةُ الَّتِي رُكِّبَتْ مِنْهَا الْكَلِمُ كَمَا حَقَّقَهُ صَاحِبُ الْكَشَّافِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَجُمْهُورُ الشُّرَّاحِ إنَّمَا عَدُوًّا الْأَلْفَ وَنَظَائِرَهُ مِنْ الْحُرُوفِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِاللِّسَانِ فَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُمْ بِذَلِكَ

ص: 280

لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا مَنْفَعَةٌ مَقْصُودَةٌ، وَقَدْ رُوِيَ: أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه قَضَى بِأَرْبَعِ دِيَاتٍ فِي ضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ ذَهَبَ بِهَا الْعَقْلُ وَالْكَلَامُ وَالسَّمْعُ وَالْبَصَرُ. .

قَالَ: (وَفِي اللِّحْيَةِ إذَا حُلِقَتْ فَلَمْ تَنْبُتُ الدِّيَةُ) لِأَنَّهُ يُفَوِّتَ بِهِ مَنْفَعَةَ الْجَمَالِ. قَالَ (وَفِي شَعْرِ الرَّأْسِ الدِّيَةُ) لِمَا قُلْنَا. وَقَالَ مَالِكٌ: وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ تَجِبُ فِيهِمَا حُكُومَةُ عَدْلٍ، لِأَنَّ ذَلِكَ زِيَادَةٌ فِي الْآدَمِيِّ، وَلِهَذَا يُحْلَقُ شَعْرُ الرَّأْسِ كُلُّهُ، وَاللِّحْيَةُ بَعْضُهَا فِي بَعْضِ الْبِلَادِ وَصَارَ كَشَعْرِ الصَّدْرِ وَالسَّاقِ وَلِهَذَا يَجِبُ فِي شَعْرِ الْعَبْدِ نُقْصَانُ الْقِيمَةِ. وَلَنَا أَنَّ اللِّحْيَةَ فِي وَقْتِهَا جَمَالٌ وَفِي حَلْقِهَا تَفْوِيتُهُ عَلَى الْكَمَالِ فَتَجِبُ الدِّيَةُ كَمَا فِي الْأُذُنَيْنِ الشَّاخِصَتَيْنِ، وَكَذَا شَعْرُ الرَّأْسِ جَمَالٌ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ عَدِمَهُ خِلْقَةً يَتَكَلَّفُ فِي سَتْرِهِ، بِخِلَافِ شَعْرِ الصَّدْرِ وَالسَّاقِ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ جَمَالٌ. وَأَمَّا لِحْيَةُ الْعَبْدِ فَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَجِبُ فِيهَا كَمَالُ الْقِيمَةِ، وَالتَّخْرِيجُ عَلَى الظَّاهِرِ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْعَبْدِ الْمَنْفَعَةُ بِالِاسْتِعْمَالِ دُونَ الْجَمَالِ بِخِلَافِ الْحُرِّ. .

قَالَ: (وَفِي الشَّارِبِ حُكُومَةُ عَدْلٍ هُوَ الْأَصَحُّ) لِأَنَّهُ تَابِعٌ لِلِّحْيَةِ فَصَارَ كَبَعْضِ أَطْرَافِهَا.

(وَلِحْيَةُ الْكَوْسَجِ إنْ كَانَ عَلَى ذَقَنِهِ شَعَرَاتٌ مَعْدُودَةٌ فَلَا شَيْءَ فِي حَلْقِهِ) لِأَنَّ وُجُودَهُ يَشِينُهُ وَلَا يَزِينُهُ (وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ وَكَانَ عَلَى الْخَدِّ وَالذَّقَنِ جَمِيعًا لَكِنَّهُ غَيْرُ مُتَّصِلٍ فَفِيهِ حُكُومَةُ عَدْلٍ) لِأَنَّ فِيهِ بَعْضَ الْجَمَالِ (وَإِنْ كَانَ مُتَّصِلًا فَفِيهِ كَمَالُ الدِّيَةِ) لِأَنَّهُ لَيْسَ بِكَوْسَجٍ وَفِيهِ مَعْنَى الْجَمَالِ، وَهَذَا كُلُّهُ إذَا فَسَدَ الْمَنْبَتُ، فَإِنْ نَبَتَتْ حَتَّى اسْتَوَى كَمَا كَانَ لَا يَجِبُ شَيْءٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ أَثَرُ الْجِنَايَةِ وَيُؤَدَّبُ عَلَى ارْتِكَابِهِ مَا لَا يَحِلُّ، وَإِنْ نَبَتَتْ بَيْضَاءَ فَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ شَيْءٌ فِي الْحُرِّ لِأَنَّهُ يَزِيدُ جَمَالًا، وَفِي الْعَبْدِ تَجِبُ حُكُومَةُ عَدْلٍ لِأَنَّهُ يَنْقُصُ قِيمَتُهُ، وَعِنْدَهُمَا تَجِبُ حُكُومَةُ عَدْلٍ لِأَنَّهُ فِي غَيْرِ أَوَانِهِ يَشِينُهُ وَلَا يَزِينُهُ،.

مَا يُتَهَجَّى بِهِ مِنْ الْأَلْفَاظِ؟ قُلْت: قَدْ وَقَعَ فِي عِبَارَاتِ الْمُتَقَدِّمِينَ إطْلَاقُ الْحُرُوفِ عَلَى تِلْكَ الْأَلْفَاظِ مُسَامَحَةً اسْتِعْمَالًا لِلْحَرْفِ فِي مَعْنَى الْكَلِمَةِ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ أَيْضًا صَاحِبُ الْكَشَّافِ هُنَاكَ وَكَلَامُ هَؤُلَاءِ الشُّرَّاحِ هَاهُنَا، بَلْ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ أَيْضًا جَارٍ عَلَى ذَلِكَ الِاصْطِلَاحِ الشَّائِعِ فِيمَا بَيْنَ الْقَوْمِ وَلِهَذَا يَقُولُونَ لَهَا حُرُوفُ التَّهَجِّي.

فَإِنْ قُلْت: لِمَ لَمْ يُرِيدُوا بِالْحُرُوفِ هَاهُنَا الْحُرُوفَ الْمَبْسُوطَةَ الَّتِي يَتَرَكَّبُ مِنْهَا الْكَلِمُ وَلَمْ يُخْرِجُوا الْأَلِفَ مِنْ عِدَادِ الْحُرُوفِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِاللِّسَانِ؟ قُلْت: لَعَلَّ سِرَّ ذَلِكَ أَنَّ الْفَائِتَ مِنْ الْحُرُوفِ إنَّمَا يُعْرَفُ بِالِامْتِحَانِ، وَالِامْتِحَانُ إنَّمَا يَكُونُ فِي الْعَادَةِ بِحُرُوفِ التَّهَجِّي كَمَا وَقَعَ بِهَا فِي قِصَّةِ عَلِيٍّ رضي الله عنه، وَهِيَ مَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا قَطَعَ طَرَفَ لِسَانِ رَجُلٍ فِي زَمَنِ عَلِيٍّ رضي الله عنه فَأَمَرَهُ أَنْ يَقْرَأَ أب ت ث فَكُلَّمَا قَرَأَ حَرْفًا أَسْقَطَ مِنْ الدِّيَةِ بِقَدْرِ ذَلِكَ، وَمَا لَمْ يَقْرَأْ أَوْجَبَ مِنْ الدِّيَةِ بِحِسَابِهِ وَهُوَ الْأَصْلُ فِي هَذَا الْبَابِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الشُّرُوحِ وَغَيْرِهَا، فَجَرُوا هَاهُنَا فِي الْعِبَارَةِ وَالْإِرَادَةِ عَلَى وَفْقِ ذَلِكَ تَأَمَّلْ تَقِفْ

. (قَوْلُهُ وَإِنْ كَانَ مُتَّصِلًا فَفِيهِ كَمَالُ الدِّيَةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِكَوْسَجٍ وَفِيهِ مَعْنَى الْجَمَالِ) أَقُولُ: يُرَدُّ عَلَى ظَاهِرِ هَذَا التَّعْلِيلِ أَنَّهُ يُنَافِي سِيَاقَ كَلَامِهِ، فَإِنَّهُ قَسَمَ لِحْيَةَ الْكَوْسَجِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ وَجَعَلَ مِنْهَا مَا كَانَ مُتَّصِلًا؛ فَقَوْلُهُ لِأَنَّهُ

ص: 281

وَيَسْتَوِي الْعَمْدُ وَالْخَطَأُ عَلَى هَذَا الْجُمْهُورِ.

(وَفِي الْحَاجِبَيْنِ الدِّيَةُ وَفِي إحْدَاهُمَا نِصْفُ الدِّيَةِ) وَعِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَجِبُ حُكُومَةُ عَدْلٍ، وَقَدْ مَرَّ الْكَلَامُ فِيهِ فِي اللِّحْيَةِ. .

قَالَ (وَفِي الْعَيْنَيْنِ الدِّيَةُ، وَفِي الْيَدَيْنِ الدِّيَةُ، وَفِي الرِّجْلَيْنِ الدِّيَةُ، وَفِي الشَّفَتَيْنِ الدِّيَةُ، وَفِي الْأُذُنَيْنِ الدِّيَةُ، وَفِي الْأُنْثَيَيْنِ الدِّيَةُ) كَذَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام. قَالَ: (وَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ نِصْفُ الدِّيَةِ) وَفِيمَا كَتَبَهُ النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ «وَفِي الْعَيْنَيْنِ الدِّيَةُ، وَفِي إحْدَاهُمَا نِصْفُ الدِّيَةِ» وَلِأَنَّ فِي تَفْوِيتِ الِاثْنَيْنِ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ تَفْوِيتُ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ أَوْ كَمَالِ الْجَمَالِ فَيَجِبُ كُلُّ الدِّيَةِ، وَفِي تَفْوِيتِ إحْدَاهُمَا تَفْوِيتُ النِّصْفِ فَيَجِبُ نِصْفُ الدِّيَةِ. .

قَالَ: (وَفِي ثَدْيَيْ الْمَرْأَةِ الدِّيَةُ) لِمَا فِيهِ مِنْ تَفْوِيتِ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ (وَفِي إحْدَاهُمَا نِصْفُ دِيَةِ الْمَرْأَةِ) لِمَا بَيَّنَّا، بِخِلَافِ ثَدْيَيْ الرَّجُلِ حَيْثُ تَجِبُ حُكُومَةُ عَدْلٍ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ تَفْوِيتُ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ وَالْجَمَالِ.

(وَفِي حَلَمَتَيْ الْمَرْأَةِ الدِّيَةُ كَامِلَةً) لِفَوَاتِ جِنْسِ مَنْفَعَةِ الْإِرْضَاعِ وَإِمْسَاكِ اللَّبَنِ (وَفِي إحْدَاهُمَا نِصْفُهَا) لِمَا بَيَّنَّاهُ. .

قَالَ (وَفِي أَشْفَارِ الْعَيْنَيْنِ الدِّيَةُ وَفِي إحْدَاهَا رُبْعُ الدِّيَةِ) قَالَ رضي الله عنه: يُحْتَمَلُ أَنَّ مُرَادَهُ الْأَهْدَابُ مَجَازًا كَمَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ لِلْمُجَاوِرَةِ كَالرَّاوِيَةِ لِلْقِرْبَةِ وَهِيَ حَقِيقَةٌ فِي الْبَعِيرِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ يُفَوِّتُ الْجَمَالَ عَلَى الْكَمَالِ وَجِنْسَ الْمَنْفَعَةِ وَهِيَ مَنْفَعَةُ دَفْعِ الْأَذَى وَالْقَذَى عَنْ الْعَيْنِ إذْ هُوَ يَنْدَفِعُ بِالْهُدْبِ، وَإِذَا كَانَ الْوَاجِبُ فِي الْكُلِّ كُلَّ الدِّيَةِ وَهِيَ أَرْبَعَةٌ كَانَ فِي أَحَدِهَا رُبْعُ الدِّيَةِ وَفِي ثَلَاثَةٍ مِنْهَا ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ مَنْبَتَ الشَّعْرِ وَالْحُكْمُ فِيهِ هَكَذَا.

(وَلَوْ قَطَعَ الْجُفُونَ بِأَهْدَابِهَا فَفِيهِ دِيَةٌ وَاحِدَةٌ) لِأَنَّ الْكُلَّ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ وَصَارَ كَالْمَارِنِ مَعَ الْقَصَبَةِ. .

قَالَ (وَفِي كُلِّ أُصْبُعٍ مِنْ أَصَابِعِ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ عُشْرُ الدِّيَةِ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «فِي كُلِّ أُصْبُعٍ عَشْرٌ مِنْ الْإِبِلِ» وَلِأَنَّ فِي قَطْعِ الْكُلِّ تَفْوِيتُ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ وَفِيهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ وَهِيَ عَشَرٌ فَتَنْقَسِمُ الدِّيَةُ عَلَيْهَا. قَالَ (وَالْأَصَابِعُ كُلُّهَا سَوَاءٌ) لِإِطْلَاقِ الْحَدِيثِ، وَلِأَنَّهَا سَوَاءٌ فِي أَصْلِ الْمَنْفَعَةِ فَلَا تُعْتَبَرُ الزِّيَادَةُ فِيهِ كَالْيَمِينِ مَعَ الشِّمَالِ، وَكَذَا أَصَابِعُ الرِّجْلَيْنِ لِأَنَّهُ يُفَوِّتُ بِقَطْعِ كُلِّهَا مَنْفَعَةَ الْمَشْيِ فَتَجِبُ الدِّيَةُ كَامِلَةٌ، ثُمَّ فِيهِمَا عَشَرُ أَصَابِعَ فَتَنْقَسِمُ الدِّيَةُ عَلَيْهَا أَعْشَارًا.

قَالَ (وَفِي كُلِّ أُصْبُعٍ فِيهَا ثَلَاثَةُ مَفَاصِلَ؛ فَفِي أَحَدِهَا

لَيْسَ بِكَوْسَجٍ فِي تَعْلِيلِ قَوْلِهِ وَإِنْ كَانَ مُتَّصِلًا فَفِيهِ كَمَالُ الدِّيَةِ يُنَافِي ذَلِكَ.

وَالْجَوَابُ أَنَّ مُرَادَهُ بِقَوْلِهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِكَوْسَجٍ أَنَّهُ لَيْسَ بِكَوْسَجٍ حَقِيقَةً وَإِنْ كَانَ فِي صُورَةِ الْكَوْسَجِ، وَاَلَّذِي قَسَمَ لِحْيَتَهُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ فِي سِيَاقِ كَلَامِهِ أَعَمُّ مِنْ الْكَوْسَجِ الْحَقِيقِيِّ.

ص: 282

ثُلُثُ دِيَةِ الْأُصْبُعِ وَمَا فِيهَا مِفْصَلَانِ فَفِي أَحَدِهِمَا نِصْفُ دِيَةِ الْأُصْبُعِ) وَهُوَ نَظِيرُ انْقِسَامِ دِيَةِ الْيَدِ عَلَى الْأَصَابِعِ. .

قَالَ: (وَفِي كُلِّ سِنٍّ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام فِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه «وَفِي كُلِّ سِنٍّ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ» وَالْأَسْنَانُ وَالْأَضْرَاسُ كُلُّهَا سَوَاءٌ لِإِطْلَاقِ مَا رَوَيْنَا، وَلِمَا رُوِيَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: وَالْأَسْنَانُ كُلُّهَا سَوَاءٌ، وَلِأَنَّ كُلَّهَا فِي أَصْلِ الْمَنْفَعَةِ سَوَاءٌ فَلَا يُعْتَبَرُ التَّفَاضُلُ كَالْأَيْدِي وَالْأَصَابِعِ، وَهَذَا إذَا كَانَ خَطَأً، فَإِنْ كَانَ عَمْدًا فَفِيهِ الْقِصَاصُ وَقَدْ مَرَّ فِي الْجِنَايَاتِ. .

قَالَ: (وَمَنْ ضَرَبَ عُضْوًا فَأَذْهَب مَنْفَعَتَهُ فَفِيهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ كَالْيَدِ إذَا شُلَّتْ وَالْعَيْنِ إذَا ذَهَبَ ضَوْءُهَا) لِأَنَّ الْمُتَعَلِّقَ تَفْوِيتُ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ لَا فَوَاتُ الصُّورَةِ.

(وَمَنْ ضَرَبَ صُلْبَ غَيْرِهِ فَانْقَطَعَ مَاؤُهُ تَجِبُ الدِّيَةُ) لِتَفْوِيتِ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ (وَكَذَا لَوْ أَحْدَبَهُ) لِأَنَّهُ فَوَّتَ جَمَالًا عَلَى الْكَمَالِ وَهُوَ اسْتِوَاءُ الْقَامَةِ (فَلَوْ زَالَتْ الْحُدُوبَةُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ) لِزَوَالِهَا لَا عَنْ أَثَرٍ.

وَالصُّورِيِّ فَلَا مُنَافَاةَ

(قَوْلُهُ وَالْأَسْنَانُ وَالْأَضْرَاسُ كُلُّهَا سَوَاءٌ) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ: قَالُوا فِيهِ نَظَرٌ.

وَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ: وَالْأَسْنَانُ كُلُّهَا سَوَاءٌ، أَوْ يُقَالَ: وَالْأَنْيَابُ وَالْأَضْرَاسُ كُلُّهَا سَوَاءٌ، لِأَنَّ السِّنَّ اسْمُ جِنْسٍ يَدْخُلُ تَحْتَهُ اثْنَانِ وَثَلَاثُونَ: أَرْبَعٌ مِنْهَا ثَنَايَا وَهِيَ الْأَسْنَانُ الْمُتَقَدِّمَةُ، اثْنَتَانِ فَوْقَ وَاثْنَتَانِ أَسْفَلَ، وَمِثْلُهَا رَبَاعِيَاتٌ وَهِيَ مَا يَلِي الثَّنَايَا، وَمِثْلُهَا أَنْيَابٌ تَلِي الرَّبَاعِيَاتِ، وَمِثْلُهَا.

ص: 283

فَصْلٌ فِي الشِّجَاجِ

قَالَ (الشِّجَاجُ عَشْرَةٌ: الْحَارِصَةُ) وَهِيَ الَّتِي تَحْرِصُ الْجِلْدَ: أَيْ تَخْدِشُهُ وَلَا تُخْرِجُ الدَّمَ (وَالدَّامِعَةُ) وَهِيَ الَّتِي تُظْهِرُ الدَّمَ

ضَوَاحِكُ تَلِي الْأَنْيَابَ، وَاثْنَتَا عَشَرَةَ سِنًّا تُسَمَّى بِالطَّوَاحِنِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ ثَلَاثٌ فَوْقَ وَثَلَاثٌ أَسْفَلَ، وَبَعْدَهَا سِنٌّ وَهِيَ آخِرُ الْأَسْنَانِ تُسَمَّى ضِرْسُ الْحِلْمِ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَقْتَ كَمَالِ الْعَقْلِ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: الْأَسْنَانُ وَالْأَضْرَاسُ سَوَاءٌ لِعَوْدِهِ، إلَى مَعْنَى أَنْ يُقَالَ: الْأَسْنَانُ وَبَعْضُهَا سَوَاءٌ انْتَهَى.

أَقُولُ: فِي هَذَا النَّظَرِ مُبَالَغَةٌ مَرْدُودَةٌ حَيْثُ قِيلَ فِي أَوَّلِهِ: وَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ مَا فِي الْكِتَابِ خَطَأٌ، وَقِيلَ فِي آخِرِهِ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ الْأَسْنَانُ وَالْأَضْرَاسُ سَوَاءٌ، وَفِيهِ تَصْرِيحٌ بِعَدَمِ صِحَّةِ مَا فِي الْكِتَابِ مَعَ أَنَّ تَصْحِيحَهُ عَلَى طَرَفِ التَّمَامِ فَإِنَّ عَطْفَ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِ طَرِيقَةٌ مَعْرُوفَةٌ قَدْ ذُكِرَتْ مِزْيَتُهُ فِي عِلْمِ الْبَلَاغَةِ وَلَهُ أَمْثِلَةٌ كَثِيرَةٌ فِي التَّنْزِيلِ مِنْهَا قَوْله تَعَالَى {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} فَجَازَ أَنْ يَكُونَ مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ قَبِيلِ ذَلِكَ، وَيَعُودُ حَاصِلُ مَعْنَاهُ إلَى أَنْ يُقَالَ: الْأَضْرَاسُ وَمَا عَدَاهُ مِنْ الْأَسْنَانِ سَوَاءٌ فَإِنَّهُ إذَا عَطَفَ الْخَاصَّ عَلَى الْعَامِّ يُرَادُ بِالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ مَا عَدَا الْمَعْطُوفِ مِنْ أَفْرَادِ الْعَامِّ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ فَلَا يَلْزَمُ الْمَحْذُورُ.

ثُمَّ إنَّ قَوْلَهُ أَوْ يُقَالَ وَالْأَنْيَابُ وَالْأَضْرَاسُ كُلُّهَا سَوَاءٌ مُعَارَضٌ بِمِثْلِ مَا أَوْرَدَ عَلَى مَا فِي الْكِتَابِ، فَإِنَّ الْأَضْرَاسَ تَعُمُّ الْأَنْيَابَ كَمَا أَفْصَحَ عَنْهُ فِي الْمَغْرِبِ حَيْثُ قَالَ: الْأَضْرَاسُ مَا سِوَى الثَّنَايَا مِنْ الْأَسْنَانِ، وَكَذَا ذُكِرَ فِي النِّهَايَةِ وَغَيْرِهَا فَيَعُودُ مَعْنَى قَوْلِهِ وَالْأَنْيَابُ وَالْأَضْرَاسُ سَوَاءٌ إلَى أَنْ يُقَالَ: وَبَعْضُ الْأَضْرَاسِ وَالْأَضْرَاسُ كُلُّهَا سَوَاءٌ لِمِثْلِ مَا ذُكِرَ فِي الْإِيرَادِ عَلَى مَا فِي الْكِتَابِ، فَلَا مَعْنَى لَأَنْ يَكُونَ ذَاكَ صَوَابًا دُونَ مَا فِي الْكِتَابِ.

نَعَمْ الْأَظْهَرُ فِي إفَادَةِ الْمُرَادِ هَاهُنَا أَنْ يُقَالَ: وَالْأَسْنَانُ كُلُّهَا سَوَاءٌ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ لَفْظُ الْحَدِيثِ، أَوْ أَنْ يُقَالَ: وَالْأَضْرَاسُ وَالثَّنَايَا كُلُّهَا سَوَاءٌ بِالْجَمْعِ بَيْنَ النَّوْعَيْنِ كَمَا ذُكِرَ فِي الْمَبْسُوطِ.

(فَصْلٌ فِي الشِّجَاجِ).

لَمَّا كَانَ الشِّجَاجُ نَوْعًا مِنْ أَنْوَاعِ مَا دُونَ النَّفْسِ وَتَكَاثَرَتْ مَسَائِلُهُ اسْمًا وَحُكْمًا ذَكَرَهُ فِي فَصْلٍ عَلَى حِدَةٍ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ. قُلْت: لَوْ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ لَفْظَ الْبَابِ بَدَلَ لَفْظِ الْفَصْلِ فِي قَوْلِهِ فَصْلٌ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ ثُمَّ ذَكَرَ الشِّجَاجَ الَّتِي هِيَ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ مَا دُونَ النَّفْسِ فِي فَصْلٍ وَذَكَرَ سَائِرَ أَنْوَاعِهِ الَّتِي سَتَجِيءُ فِي الْفَصْلِ الْآتِي فِي فَصْلٍ آخَرَ أَيْضًا لَكَانَ أَحْسَنَ وَأَوْفَقَ لِمَا هُوَ الْمُعْتَادُ فِي نَظَائِرِهِ كَمَا لَا يَخْفَى (قَوْلُهُ وَالدَّامِعَةُ وَهِيَ الَّتِي تُظْهِرُ الدَّمَ وَلَا تُسِيلُهُ كَالدَّمْعِ مِنْ الْعَيْنِ وَالدَّامِيَةُ وَهِيَ الَّتِي تَسِيلُ الدَّمَ) أَقُولُ: تَفْسِيرُ الدَّامِعَةِ وَالدَّامِيَةِ مِنْ الشِّجَاجِ بِهَذَا الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، وَإِنْ وَقَعَ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْكُتُبِ الْمُعْتَبَرَةِ مِنْ الْفِقْهِ كَالْبَدَائِعِ وَالْكَافِي وَعَامَّةِ الشُّرُوحِ وَاقْتِضَاءِ تَرْتِيبِ الْقُدُورِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ حَيْثُ قَدَّمَ الدَّامِعَةَ عَلَى الدَّامِيَةِ وَصَرَّحَ بِهِ فِي شَرْحِهِ لِمُخْتَصَرِ الْكَرْخِيِّ، إلَّا أَنَّهُ مَنْظُورٌ فِيهِ عِنْدِي لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَا ذُكِرَ فِي عَامَّةِ كُتُبِ اللُّغَةِ الْمَوْثُوقِ بِهَا، فَإِنَّهُ قَالَ فِي الْمُغْرِبِ: الدَّامِعَةُ مِنْ الشِّجَاجِ هِيَ الَّتِي يَسِيلُ مِنْهَا الدَّمُ كَدَمْعِ الْعَيْنِ، وَقَبْلَهَا الدَّامِيَةُ وَهِيَ الَّتِي تُدْمِي مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسِيلَ مِنْهَا دَمٌ انْتَهَى. وَقَالَ فِي الصِّحَاحِ: وَالدَّامِعَةُ مِنْ

ص: 284

وَلَا تُسِيلُهُ كَالدَّمْعِ مِنْ الْعَيْنِ (وَالدَّامِيَةُ) وَهِيَ الَّتِي تُسِيلُ الدَّمَ (وَالْبَاضِعَةُ) وَهِيَ الَّتِي تَبْضَعُ الْجِلْدَ أَيْ تَقْطَعُهُ (وَالْمُتَلَاحِمَةُ) وَهِيَ الَّتِي تَأْخُذُ فِي اللَّحْمِ (وَالسِّمْحَاقُ) وَهِيَ الَّتِي تَصِلُ إلَى السِّمْحَاقِ وَهِيَ جَلْدَةٌ رَقِيقَةٌ بَيْنَ اللَّحْمِ وَعَظْمِ الرَّأْسِ (وَالْمُوضِحَةُ) وَهِيَ الَّتِي تُوضِحُ الْعَظْمَ أَيْ تُبَيِّنُهُ (وَالْهَاشِمَةُ) وَهِيَ الَّتِي تُهَشِّمُ الْعَظْمَ: أَيْ تَكْسِرُهُ (وَالْمُنَقِّلَةُ) وَهِيَ الَّتِي تُنَقِّلُ الْعَظْمَ بَعْدَ الْكَسْرِ: أَيْ تُحَوِّلُهُ (وَالْآمَّةُ) وَهِيَ الَّتِي تَصِلُ إلَى أُمِّ الرَّأْسِ وَهُوَ الَّذِي فِيهِ الدِّمَاغُ. قَالَ: (فَفِي الْمُوضِحَةِ الْقِصَاصُ إنْ كَانَتْ عَمْدًا) لِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَضَى بِالْقِصَاصِ فِي الْمُوضِحَةِ» وَلِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَنْتَهِيَ السِّكِّينُ إلَى الْعَظْمِ فَيَتَسَاوَيَانِ فَيَتَحَقَّقُ الْقِصَاصُ. قَالَ: (وَلَا قِصَاصَ فِي بَقِيَّةِ الشِّجَاجِ) لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ الْمُسَاوَاةِ فِيهَا لِأَنَّهُ لَا حَدَّ يَنْتَهِي السِّكِّينُ إلَيْهِ، وَلِأَنَّ فِيمَا فَوْقَ الْمُوضِحَةِ كَسْرَ الْعَظْمِ وَلَا قِصَاصَ فِيهِ، وَهَذَا رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ.

وَقَالَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ: يَجِبُ الْقِصَاصُ فِيمَا قَبْلَ الْمُوضِحَةِ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ اعْتِبَارُ الْمُسَاوَاةِ فِيهِ، إذْ لَيْسَ فِيهِ كَسْرُ الْعَظْمِ وَلَا خَوْفُ هَلَاكٍ غَالِبٍ فَيُسْبَرُ غَوْرُهَا بِمِسْبَارٍ ثُمَّ تُتَّخَذُ حَدِيدَةٌ بِقَدْرِ ذَلِكَ فَيُقْطَعُ بِهَا مِقْدَارُ مَا قَطَعَ فَيَتَحَقَّقُ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ. قَالَ (وَفِيمَا دُونَ الْمُوضِحَةِ حُكُومَةُ عَدْلٍ) لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا أَرْشٌ مُقَدَّرٌ وَلَا يُمْكِنُ إهْدَارُهُ فَوَجَبَ اعْتِبَارُهُ بِحُكْمِ الْعَدْلِ،

الشِّجَاجِ بَعْدَ الدَّامِيَةِ.

قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الدَّامِيَةُ هِيَ الَّتِي تُدْمِي مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسِيلَ مِنْهَا دَمٌ، فَإِذَا سَالَ مِنْهَا الدَّمُ فَهِيَ الدَّامِعَةُ بِالْعَيْنِ غَيْرِ مُعْجَمَةٍ انْتَهَى. وَقَالَ فِي الْقَامُوسِ: وَالدَّامِعَةُ مِنْ الشِّجَاجِ بَعْدَ الدَّامِيَةِ اهـ. إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مُعْتَبَرَاتِ كُتُبِ اللُّغَةِ، وَسَيَجِيءُ مِنْ الْمُصَنِّفِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّ الْحُكْمَ فِي الشِّجَاجِ مُرَتَّبٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ اللُّغَوِيَّةِ فِي الصَّحِيحِ فَلَا مَجَالَ لِلْحَمْلِ عَلَى الِاصْطِلَاحِ الْمَحْضِ. ثُمَّ أَقُولُ: الصَّحِيحُ الْمُطَابِقُ لِلُّغَةِ فِي تَفْسِيرِ الدَّامِيَةِ وَالدَّامِعَةِ مِنْ الشِّجَاجِ وَتَرْتِيبِهِمَا مَا ذَكَرَ فِي الْمُحِيطِ الْبُرْهَانِيُّ نَقْلًا عَنْ الطَّحَاوِيِّ حَيْثُ قَالَ فِيهِ: اعْلَمْ أَنَّ أَوَّلَ الشِّجَاجِ الْحَارِصَةُ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَهِيَ الَّتِي تَشُقُّ الْجِلْدَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ حَرَصَ الْقَصَّارُ الثَّوْبَ إذَا شَقَّهُ فِي الدَّقِّ وَلَا تُدْمِيهِ، ثُمَّ الدَّامِيَةُ وَهِيَ الَّتِي تَخْدِشُ الْجِلْدَ وَتُدْمِيهِ وَلَا تُسِيلُ الدَّمَ، هَكَذَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ وَذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: هِيَ الَّتِي تُقَشِّرُ الْجِلْدَ وَتُدْمِيهِ سَوَاءٌ كَانَ سَائِلًا أَوْ غَيْرَ سَائِلٍ، ثُمَّ الدَّامِعَةُ وَهِيَ الَّتِي تُدْمِي وَتُسِيلُ الدَّمَ، هَكَذَا ذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ فِي كِتَابِهِ.

وَذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: هِيَ الَّتِي تُسِيلُ الدَّمَ أَكْثَرَ مِمَّا يَكُونُ فِي الدَّامِيَةِ مِنْ السَّيَلَانِ مَأْخُوذٌ مِنْ دَمْعِ الْعَيْنِ، فَكَأَنَّهَا سُمِّيَتْ بِهَذَا الِاسْمِ لِأَنَّ الْأَلَمَ يَصِلُ إلَى صَاحِبِهَا فَتَدْمَعُ عَيْنَاهُ بِسَبَبِ مَا يَجِدُ مِنْ الْأَلَمِ، إلَى هُنَا لَفْظُ الْمُحِيطِ فَتَبَصَّرْ (قَوْلُهُ وَالْبَاضِعَةُ وَهِيَ الَّتِي تَبْضَعُ الْجِلْدَ: أَيْ تَقْطَعُهُ) أَقُولُ: فِي تَفْسِيرِ الْبَاضِعَةِ بِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فُتُورٌ، وَإِنْ تَابَعَهُ صَاحِبُ الْكَافِي وَكَثِيرٌ مِنْ

ص: 285

وَهُوَ مَأْثُورٌ عَنْ النَّخَعِيِّ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ. قَالَ (وَفِي الْمُوضِحَةِ إنْ كَانَتْ خَطَأً نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ، وَفِي الْهَاشِمَةِ عُشْرُ الدِّيَةِ، وَفِي الْمُنَقِّلَةِ عُشْرُ الدِّيَةِ وَنِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ، وَفِي الْآمَّةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ، وَفِي الْجَائِفَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ، فَإِنْ نَفَذَتْ فَهُمَا جَائِفَتَانِ فَفِيهِمَا ثُلُثَا الدِّيَةِ) لِمَا رُوِيَ فِي كِتَابِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام قَالَ «وَفِي الْمُوضِحَةِ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ، وَفِي الْهَاشِمَةِ عَشْرٌ، وَفِي الْمُنَقِّلَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ، وَفِي الْآمَّةِ» وَيُرْوَى «الْمَأْمُومَةُ ثُلُثُ الدِّيَةِ» وَقَالَ عليه الصلاة والسلام «فِي الْجَائِفَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ» وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه أَنَّهُ حَكَمَ فِي جَائِفَةٍ نَفَذَتْ إلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ بِثُلُثَيْ الدِّيَةِ، وَلِأَنَّهَا إذَا نَفَذَتْ نَزَلَتْ مَنْزِلَةَ جَائِفَتَيْنِ إحْدَاهُمَا مِنْ جَانِبِ الْبَطْنِ وَالْأُخْرَى مِنْ جَانِبِ الظَّهْرِ وَفِي كُلِّ جَائِفَةٍ ثُلُثُ الدِّيَةِ فَلِهَذَا وَجَبَ فِي النَّافِذَةِ ثُلُثَا الدِّيَةِ.

وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ جَعَلَ الْمُتَلَاحِمَةَ قَبْلَ الْبَاضِعَةِ وَقَالَ: هِيَ الَّتِي يَتَلَاحَمُ فِيهَا الدَّمُ وَيَسْوَدُّ. وَمَا ذَكَرْنَاهُ بَدْءًا مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَهَذَا اخْتِلَافُ عِبَارَةٍ لَا يَعُودُ إلَى مَعْنًى وَحُكْمٍ. .

وَبَعْدَ هَذَا شَجَّةٌ أُخْرَى تُسَمَّى الدَّامِغَةُ وَهِيَ الَّتِي تَصِلُ إلَى الدِّمَاغِ،

الْمُتَأَخِّرِينَ فِيهِ، لِأَنَّ قَطْعَ الْجِلْدِ مُتَحَقِّقٌ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى أَيْضًا سِيَّمَا فِي الدَّامِعَةِ وَالدَّامِيَةِ، إذْ الظَّاهِرُ أَنَّ شَيْئًا مِنْ إظْهَارِ الدَّمِ وَإِسَالَتِهِ لَا يُتَصَوَّرُ بِدُونِ قَطْعِ الْجِلْدِ، وَقَدْ صَرَّحَ الشُّرَّاحُ بِتَحَقُّقِ قَطْعِ الْجِلْدِ فِي كُلٍّ مِنْ الْأَنْوَاعِ الْعَشَرَةِ لِلشَّجَّةِ فَكَانَ التَّفْسِيرُ الْمَذْكُورُ شَامِلًا لِلْكُلِّ غَيْرَ مُخْتَصٍّ بِالْبَاضِعَةِ، فَالظَّاهِرُ فِي تَفْسِيرِ الْبَاضِعَةِ مَا ذُكِرَ فِي الْمُحِيطِ وَالْبَدَائِعِ حَيْثُ قَالَ فِي الْمُحِيطِ: ثُمَّ الْبَاضِعَةُ وَهِيَ الَّتِي تَبْضَعُ اللَّحْمَ: أَيْ تَقْطَعُهُ.

وَقَالَ فِي الْبَدَائِعِ: وَالْبَاضِعَةُ هِيَ الَّتِي تَبْضَعُ اللَّحْمَ: أَيْ تَقْطَعُهُ انْتَهَى.

وَيُعَضِّدُ ذَلِكَ مَا وَقَعَ فِي مُعْتَبَرَاتِ كُتُبِ اللُّغَةِ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي الْمُغْرِبِ: وَفِي الشِّجَاجِ الْبَاضِعَةُ وَهِيَ الَّتِي جَرَحَتْ الْجِلْدَ وَشَقَّتْ اللَّحْمَ انْتَهَى. وَقَالَ فِي الصِّحَاحِ: وَالْبَاضِعَةُ: الشَّجَّةُ الَّتِي تَقْطَعُ الْجِلْدَ وَتَشُقُّ اللَّحْمَ وَتُدْمِي إلَّا أَنَّهُ لَا يَسِيلُ الدَّمُ انْتَهَى.

وَقَالَ فِي الْقَامُوسِ: وَالْبَاضِعَةُ: الشَّجَّةُ الَّتِي تَقْطَعُ الْجِلْدَ وَتَشُقُّ اللَّحْمَ شَقًّا خَفِيفًا وَتُدْمِي إلَّا أَنَّهَا تُسِيلُ انْتَهَى. لَا يُقَالُ: فَعَلَى هَذَا تَشْتَبِهُ الْبَاضِعَةُ بِالْمُتَلَاحِمَةِ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي الْكِتَابِ: وَالْمُتَلَاحِمَةُ وَهِيَ الَّتِي تَأْخُذُ فِي اللَّحْمِ، وَهَذَا فِي الْمَآلِ عَيْنُ مَا نَقَلْتُهُ عَنْ الْمُحِيطِ وَالْبَدَائِعِ فِي تَفْسِيرِ الْبَاضِعَةِ. لِأَنَّا نَقُولُ: مَنْ فَسَّرَ الْبَاضِعَةَ بِمَا نَقَلْنَاهُ مِنْ الْمَعْنَى الظَّاهِرِ لَا يَقُولُ بِتَفْسِيرِ الْمُتَلَاحِمَةِ بِمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ حَتَّى يَلْزَمَ الِاشْتِبَاهُ بَلْ يَزِيدُ عَلَيْهِ قَيْدًا.

وَعَنْ هَذَا قَالَ فِي الْمُحِيطِ: ثُمَّ الْبَاضِعَةُ وَهِيَ الَّتِي تَبْضَعُ اللَّحْمَ: أَيْ تَقْطَعُهُ. قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: وَلَا تَنْزِعُ شَيْئًا مِنْ اللَّحْمِ. ثُمَّ الْمُتَلَاحِمَةُ وَهِيَ الَّتِي تَقْطَعُ اللَّحْمَ وَتَنْزِعُ شَيْئًا مِنْ اللَّحْمِ، إلَى هُنَا لَفْظُ الْمُحِيطِ. وَقَالَ فِي الْبَدَائِعِ: وَالْبَاضِعَةُ هِيَ الَّتِي تَبْضَعُ اللَّحْمَ: أَيْ تَقْطَعُهُ، وَالْمُتَلَاحِمَةُ هِيَ الَّتِي تَذْهَبُ فِي اللَّحْمِ أَكْثَرَ مِمَّا تَذْهَبُ الْبَاضِعَةُ فِيهِ انْتَهَى. وَقَالَ فِي الْمُغْرِبِ: وَالْمُتَلَاحِمَةُ مِنْ الشِّجَاجِ هِيَ الَّتِي تَشُقُّ فِي اللَّحْمِ دُونَ الْعَظْمِ ثُمَّ تَتَلَاحَمُ بَعْدَ شَقِّهَا: أَيْ تَتَلَاءَمُ وَتَتَلَاصَقُ اهـ. وَقَالَ فِي الصِّحَاحِ: وَالْمُتَلَاحِمَةُ: الشَّجَّةُ الَّتِي أَخَذَتْ فِي اللَّحْمِ وَلَمْ تَبْلُغْ السِّمْحَاقَ انْتَهَى. وَقَالَ فِي الْقَامُوسِ: وَشَجَّةٌ مُتَلَاحِمَةٌ أَخَذَتْ فِيهِ وَلَمْ تَبْلُغْ السِّمْحَاقَ انْتَهَى (قَوْلُهُ وَفِي الْجَائِفَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ) قَالَ فِي الْإِيضَاحِ: الْجَائِفَةُ مَا تَصِلُ إلَى الْجَوْفِ مِنْ الصَّدْرِ وَالْبَطْنِ وَالظَّهْرِ وَالْجَنْبَيْنِ وَالِاسْمُ دَلِيلٌ عَلَيْهِ، وَمَا وَصَلَ مِنْ الرَّقَبَةِ إلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي إذَا وَصَلَ إلَيْهِ الشَّرَابُ كَانَ مُفْطِرًا، وَمَا فَوْقَ ذَلِكَ فَلَيْسَ بِجَائِفَةٍ انْتَهَى. وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ بَعْدَ نَقْلِ ذَلِكَ: فَعَلَى هَذَا ذِكْرُ الْجَائِفَةِ هُنَا فِي مَسَائِلِ الشِّجَاجِ وَقَعَ اتِّفَاقًا، وَكَذَا

ص: 286

وَإِنَّمَا لَمْ يَذْكُرْهَا لِأَنَّهَا تَقَعُ قَتْلًا فِي الْغَالِبِ لَا جِنَايَةً مُقْتَصِرَةً مُنْفَرِدَةً بِحُكْمٍ عَلَى حِدَةٍ، ثُمَّ هَذِهِ الشِّجَاجُ تَخْتَصُّ بِالْوَجْهِ وَالرَّأْسِ لُغَةً، وَمَا كَانَ فِي غَيْرِ الْوَجْهِ وَالرَّأْسِ يُسَمَّى جِرَاحَةً، وَالْحُكْمُ مُرَتَّبٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ فِي الصَّحِيحِ، حَتَّى لَوْ تَحَقَّقَتْ فِي غَيْرِهِمَا نَحْوُ السَّاقِ وَالْيَدِ لَا يَكُونُ لَهَا أَرْشٌ مُقَدَّرٌ، وَإِنَّمَا تَجِبُ حُكُومَةُ الْعَدْلِ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ بِالتَّوْقِيفِ وَهُوَ إنَّمَا وَرَدَ فِيمَا يَخْتَصُّ بِهِمَا، وَلِأَنَّهُ إنَّمَا وَرَدَ الْحُكْمُ فِيهَا لِمَعْنَى الشَّيْنِ الَّذِي يَلْحَقُهُ بِبَقَاءِ أَثَرِ الْجِرَاحَةِ، وَالشَّيْنُ يَخْتَصُّ بِمَا يَظْهَرُ مِنْهَا فِي الْغَالِبِ وَهُوَ الْعُضْوَانِ هَذَانِ لَا سِوَاهُمَا. وَأَمَّا اللَّحْيَانِ فَقَدْ قِيلَ لَيْسَا مِنْ الْوَجْهِ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، حَتَّى لَوْ وُجِدَ فِيهِمَا مَا فِيهِ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ لَا يَجِبُ الْمُقَدَّرُ. وَهَذَا لِأَنَّ الْوَجْهَ مُشْتَقٌّ مِنْ الْمُوَاجِهَةِ، وَلَا مُوَاجِهَةَ لِلنَّاظِرِ فِيهِمَا إلَّا أَنَّ عِنْدَنَا هُمَا مِنْ الْوَجْهِ لِاتِّصَالِهِمَا بِهِ مِنْ غَيْرِ فَاصِلَةٍ، وَقَدْ يَتَحَقَّقُ فِيهِ مَعْنَى الْمُوَاجِهَةِ أَيْضًا.

قَالَ فِي الْعِنَايَةِ نَقْلًا عَنْ النِّهَايَةِ. أَقُولُ: نَعَمْ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْإِيضَاحِ يَكُونُ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، إلَّا أَنَّ الْمُصَنِّفَ تَدَارَكَهُ حَيْثُ قَالَ فِيمَا بَعْدُ: وَقَالُوا الْجَائِفَةُ تَخْتَصُّ بِالْجَوْفِ جَوْفِ الرَّأْسِ أَوْ جَوْفِ الْبَطْنِ: يَعْنِي أَنَّهَا لَمَّا تَنَاوَلَتْ مَا فِي جَوْفِ الرَّأْسِ أَيْضًا كَانَتْ مِنْ الشِّجَاجِ فِيمَا إذَا وَقَعَتْ فِي الرَّأْسِ فَتَدْخُلُ فِي مَسَائِلِ الشِّجَاجِ بِاعْتِبَارِ ذَلِكَ فَلَا يَكُونُ ذِكْرُهَا فِي فَصْلِ الشِّجَاجِ مِمَّا وَقَعَ اتِّفَاقًا.

(قَوْلُهُ ثُمَّ هَذِهِ الشِّجَاجُ تَخْتَصُّ بِالْوَجْهِ وَالرَّأْسِ لُغَةً) قَالَ فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ: وَكَذَلِكَ تَخْتَصُّ بِالْجَبْهَةِ وَالْوَجْنَتَيْنِ وَالذَّقَنِ أَيْضًا عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ رِوَايَةِ الْإِيضَاحِ انْتَهَى. أَقُولُ: لَيْسَ لِهَذَا الْكَلَامِ وَجْهٌ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ كُلًّا مِنْ الْجَبْهَةِ وَالْوَجْنَتَيْنِ وَالذَّقَنُ دَاخِلٌ فِي الْوَجْهِ، لِأَنَّهُمْ صَرَّحُوا فِي أَوَّلِ كِتَابِ الطَّهَارَةِ بِأَنَّ حَدَّ الْوَجْهِ مِنْ قُصَاصِ الشَّعْرِ إلَى أَسْفَلِ الذَّقَنِ وَإِلَى شَحْمَتَيْ الْأُذُنِ، لِأَنَّ الْمُوَاجِهَةَ تَقَعُ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْهَا، وَقَدْ صَرَّحَ الشُّرَّاحُ فِيمَا سَيَأْتِي فِي هَذَا الْفَصْلِ حَتَّى صَاحِبَا النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ أَنْفُسُهُمَا أَيْضًا بِأَنَّ الذَّقَنَ مِنْ الْوَجْهِ بِلَا خِلَافٍ، وَالْعَظْمُ الَّذِي تَحْتَ الذَّقَنِ وَهُوَ اللَّحْيَانِ مِنْ الْوَجْهِ أَيْضًا عِنْدَنَا خِلَافًا لَمَالِكٍ. فَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ ثُمَّ هَذِهِ الشِّجَاجُ تَخْتَصُّ بِالْوَجْهِ وَالرَّأْسِ يَشْمَلُ الْكُلَّ، فَبَعْدَ ذَلِكَ مَا مَعْنَى أَنْ يُقَالَ: وَكَذَلِكَ تَخْتَصُّ بِالْجَبْهَةِ وَالْوَجْنَتَيْنِ وَالذَّقَنِ أَيْضًا، وَكُلٌّ مِنْ الْعَطْفِ وَأَدَاةِ التَّشْبِيهِ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ لَا مَحَالَةَ (قَوْلُهُ وَلِأَنَّهُ إنَّمَا وَرَدَ الْحُكْمُ فِيهَا لِمَعْنَى الشَّيْنِ الَّذِي يَلْحَقُهُ بِبَقَاءِ أَثَرِ الْجِرَاحَةِ) قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ إلْحَاقِ الْجِرَاحَةِ بِهَا دَلَالَةً، فَفِي قَوْلِهِ وَلِأَنَّهُ تَسَامُحٌ انْتَهَى.

وَأَقُولُ: إنْ أَرَادَ أَنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى ذَلِكَ أَصَالَةً فَهُوَ مَمْنُوعٌ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ دَلِيلٌ أَصَالَةً عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ أَرْشٍ مُقَدَّرٍ فِي الْجِرَاحَةِ الَّتِي فِي غَيْرِ الْوَجْهِ وَالرَّأْسِ وَلَكِنْ يَتَضَمَّنُ الدَّلَالَةَ أَيْضًا عَلَى عَدَمِ جَوَازِ إلْحَاقِ تِلْكَ الْجِرَاحَةِ بِالشِّجَاجِ دَلَالَةً فَهُوَ مُسَلَّمٌ، وَلَكِنَّ قَوْلَهُ فَفِي قَوْلِهِ وَلِأَنَّهُ تَسَامُحٌ مَمْنُوعٌ، لِأَنَّ قَوْلَهُ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ بِالتَّوْقِيفِ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ أَرْشٍ مُقَدَّرٍ فِي الْجِرَاحَةِ الْكَائِنَةِ فِي غَيْرِ الْوَجْهِ وَالرَّأْسِ. وَلَمَّا كَانَ قَوْلُهُ وَلِأَنَّهُ إنَّمَا وَرَدَ الْحُكْمُ فِيهَا إلَخْ دَلِيلًا عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا أَصَالَةً كَانَ حَقُّ الْأَدَاءِ أَنْ يُقَالَ: وَلِأَنَّهُ بِلَا تَسَامُحٍ أَصْلًا، وَلَعَلَّ ذَلِكَ الْبَعْضَ إنَّمَا غَرَّهُ تَقْرِيرُ صَاحِبِ الْكَافِي هَا هُنَا حَيْثُ قَالَ: لِأَنَّ الْأَثَرَ بِالتَّقْدِيرِ جَاءَ فِي الشِّجَاجِ فِي الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ وَغَيْرِهِمَا لَيْسَ فِي مَعْنَاهُمَا حَتَّى يَلْحَقَ بِهِمَا، لِأَنَّهُ إنَّمَا وَرَدَ الْحُكْمُ فِيهِمَا لِمَعْنَى الشَّيْنِ الَّذِي يَلْحَقُهُمَا بِبَقَاءِ أَثَرِ الْجِرَاحَةِ، وَالشَّيْنُ إنَّمَا يَكُونُ فِيمَا يَظْهَرُ مِنْ الْبَدَنِ وَهُوَ الْوَجْهُ وَالرَّأْسُ انْتَهَى.

وَلَكِنْ لِتَقْرِيرِ الْمُصَنِّفِ شَأْنٌ آخَرُ كَمَا تَرَى (قَوْلُهُ إلَّا أَنَّ عِنْدَنَا هُمَا مِنْ الْوَجْهِ لِاتِّصَالِهِمَا بِهِ مِنْ غَيْرِ فَاصِلَةٍ، وَقَدْ يَتَحَقَّقُ فِيهِ مَعْنَى الْمُوَاجِهَةِ أَيْضًا) قَالَ فِي النِّهَايَةِ وَفِي مَبْسُوطِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ: وَيَجِبُ أَنْ يُفْتَرَضَ غَسْلُ اللَّحْيَيْنِ فِي الطَّهَارَةِ لِأَنَّهُمَا مِنْ الْوَجْهِ عَلَى الْحَقِيقَةِ، إلَّا أَنَّا تَرَكْنَا هَذِهِ الْحَقِيقَةَ بِالْإِجْمَاعِ وَلَا إجْمَاعَ هَا هُنَا فَبَقِيَتْ الْعِبْرَةُ لِلْحَقِيقَةِ انْتَهَى. وَهَكَذَا ذَكَرَ فِي الْكِفَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ أَيْضًا. وَأَمَّا صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فَذَكَرَهُ عَلَى وَجْهِ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ حَيْثُ قَالَ: قِيلَ عَلَيْهِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ غَسْلُهُمَا فَرْضًا فِي الطَّهَارَةِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّا تَرَكْنَا هَذِهِ الْحَقِيقَةَ بِالْإِجْمَاعِ وَلَا إجْمَاعَ هَا هُنَا

ص: 287

وَقَالُوا: الْجَائِفَةُ تَخْتَصُّ بِالْجَوْفِ: جَوْفِ الرَّأْسِ أَوْ جَوْفِ الْبَطْنِ، وَتَفْسِيرُ حُكُومَةِ الْعَدْلِ عَلَى مَا قَالَهُ الطَّحَاوِيُّ أَنْ يُقَوَّمَ مَمْلُوكًا بِدُونِ هَذَا الْأَثَرِ وَيُقَوَّمُ وَبِهِ هَذَا الْأَثَرُ، ثُمَّ يَنْظُرُ إلَى تَفَاوُتِ مَا بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ، فَإِنْ كَانَ نِصْفَ عُشْرِ الْقِيمَةِ يَجِبُ نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ، وَإِنْ كَانَ رُبْعَ عُشْرِ فَرُبْعُ عُشْرٍ. وَقَالَ الْكَرْخِيُّ: يُنْظَرُ كَمْ مِقْدَارُ هَذِهِ الشَّجَّةِ مِنْ الْمُوضِحَةِ فَيَجِبُ بِقَدْرِ ذَلِكَ مِنْ نِصْفِ عُشْرِ الدِّيَةِ، لِأَنَّ مَا لَا نَصَّ فِيهِ يُرَدُّ إلَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ. . فَصْلٌ

قَالَ (وَفِي أَصَابِعِ الْيَدِ نِصْفُ الدِّيَةِ) لِأَنَّ فِي كُلِّ أُصْبُعٍ عُشْرُ الدِّيَةِ عَلَى مَا رَوَيْنَا، فَكَانَ فِي الْخَمْسِ نِصْفُ الدِّيَةِ

فَبَقِيَتْ الْعِبْرَةُ لِلْحَقِيقَةِ انْتَهَى. وَاقْتَفَى أَثَرَهُ الشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ. أَقُولُ: فِي الْجَوَابِ إشْكَالٌ عِنْدِي لِأَنَّ اللَّحْيَيْنِ إذَا كَانَا مِنْ الْوَجْهِ عَلَى الْحَقِيقَةِ كَانَا دَاخِلَيْنِ تَحْتَ قَوْله تَعَالَى {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} فَيَكُونُ تَرْكُ وُجُوبِ غَسْلِهِمَا بِالْإِجْمَاعِ نَسْخًا لِلْكِتَابِ بِالْإِجْمَاعِ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يَنْسَخُ الْكِتَابَ وَلَا السُّنَّةَ (قَوْلُهُ وَقَالُوا: الْجَائِفَةُ تَخْتَصُّ بِالْجَوْفِ جَوْفِ الرَّأْسِ أَوْ جَوْفِ الْبَطْنِ) أَقُولُ: فِيهِ كَلَامٌ، وَهُوَ أَنَّ الْجَائِفَةَ إنْ تَنَاوَلَتْ مَا فِي جَوْفِ الرَّأْسِ أَيْضًا فَاَلَّتِي فِي جَوْفِ الرَّأْسِ مِنْهَا إنْ كَانَتْ مِنْ أَحَدِ الْأَنْوَاعِ الْعَشَرَةِ لِلشِّجَاجِ فَمَا مَعْنَى ذِكْرِهَا وَبَيَانُ حُكْمِهَا بَعْدَ ذِكْرِ تِلْكَ الْأَنْوَاعِ بِأَسْرِهَا وَبَيَانُ حُكْمِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مِنْ أَحَدِ تِلْكَ الْأَنْوَاعِ بَلْ كَانَتْ مُغَايِرَةً لَهَا فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ فِي صَدْرِ الْفَصْلِ الشِّجَاجُ عَشْرَةٌ، إذْ تَكُونُ الشِّجَاجُ حِينَئِذٍ إحْدَى عَشْرَةَ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُقَالَ: هِيَ إحْدَى تِلْكَ الْأَنْوَاعِ وَهُوَ الْآمَّةُ بِدَلَالَةِ كَوْنِ حُكْمِهَا ثُلُثَ الدِّيَةِ، وَذَكَرَهَا مَعَ حُكْمِهَا بَعْدَ ذِكْرِ تِلْكَ الْأَنْوَاعِ مَعَ أَحْكَامِهَا لِبَيَانِ حَالِ قِسْمِهَا الَّذِي فِي جَوْفِ الْبَطْنِ لَا لِبَيَانِ حَالِ قِسْمِهَا الَّذِي فِي جَوْفِ الرَّأْسِ لَكِنَّهُ تَعَسُّفٌ لَا يَخْفَى.

(فَصْلٌ فِي الْأَطْرَافِ دُونَ الرَّأْسِ) لَمَّا كَانَتْ الْأَطْرَافُ دُونَ الرَّأْسِ وَلَهَا حُكْمٌ عَلَى حِدَةٍ ذَكَرَهَا فِي فَصْلٍ عَلَى حِدَةٍ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ وَغَيْرِهَا. أَقُولُ: لَا يَذْهَبُ عَلَى النَّاظِرِ فِي مَسَائِلِ هَذَا الْفَصْلِ أَنَّهَا غَيْرُ مُنْحَصِرَةٍ فِي الْأَطْرَافِ، بَلْ بَعْضُهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِالْأَطْرَافِ وَبَعْضُهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِالشِّجَاجِ، وَبَعْضُهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِالْقَتْلِ، فَالْوَجْهُ الْمَذْكُورُ إنَّمَا يَتَمَشَّى فِي بَعْضٍ مِنْهَا دُونَ الْكُلِّ، فَالْأَوْجَهُ عِنْدِي أَنْ يُقَالَ: لَمَّا كَانَتْ مَسَائِلُ هَذَا الْفَصْلِ مَسَائِلَ مُتَفَرِّقَةً وَلِهَذَا كَانَتْ كُلُّ مَسْأَلَةٍ مِنْهَا فِي بَابٍ عَلَى حِدَةٍ فِي مُخْتَصَرِ الْكَرْخِيِّ كَمَا ذَكَرَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ أَوْرَدَهَا الْمُصَنِّفُ فِي فَصْلٍ عَلَى حِدَةٍ وَأَخَّرَهَا عَنْ الْفَصْلَيْنِ الْمَارَّيْنِ جَرْيًا عَلَى مَا هُوَ عَادَةُ الْمُصَنِّفِينَ مِنْ جَمْعِ الْمَسَائِلِ الْمُتَفَرِّقَاتِ فِي فَصْلٍ وَاحِدٍ وَتَأْخِيرِهَا عَنْ سَائِرِ الْفُصُولِ تَلَافِيًا لِمَا فَاتَ فِيهَا، إلَّا أَنَّهُ لَمْ يُصَرِّحْ بِكَوْنِهَا مَسَائِلَ مُتَفَرِّقَةً كَمَا هُوَ الْمُعْتَادُ أَيْضًا اعْتِمَادًا عَلَى فَهْمِ النَّاظِرِينَ (قَوْلُهُ وَفِي أَصَابِعِ الْيَدِ نِصْفُ الدِّيَةِ) أَيْ فِي أَصَابِعِ الْيَدِ الْوَاحِدَةِ نِصْفُ الدِّيَةِ، إذْ فِي أَصَابِعِ الْيَدَيْنِ كَمَالُ الدِّيَةِ كَمَا مَرَّ.

أَقُولُ: لِقَائِلٍ

ص: 288

وَلِأَنَّ فِي قَطْعِ الْأَصَابِعِ تَفْوِيتَ جِنْسِ مَنْفَعَةِ الْبَطْشِ وَهُوَ الْمُوجِبُ عَلَى مَا مَرَّ (فَإِنْ قَطَعَهَا مَعَ الْكَفِّ فَفِيهِ أَيْضًا نِصْفُ الدِّيَةِ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «وَفِي الْيَدَيْنِ الدِّيَةُ، وَفِي إحْدَاهُمَا نِصْفُ الدِّيَةِ» وَلِأَنَّ الْكَفَّ تَبَعٌ لِلْأَصَابِعِ لِأَنَّ الْبَطْشَ بِهَا (وَإِنْ قَطَعَهَا مَعَ نِصْفِ السَّاعِدِ فَفِي الْأَصَابِعِ وَالْكَفِّ نِصْفُ الدِّيَةِ، وَفِي الزِّيَادَةِ حُكُومَةُ عَدْلٍ) وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ. وَعَنْهُ: أَنَّ مَا زَادَ عَلَى أَصَابِعِ الْيَدِ وَالرِّجْلِ فَهُوَ تَبَعٌ لِلْأَصَابِعِ إلَى الْمَنْكِبِ وَإِلَى الْفَخِذِ، لِأَنَّ الشَّرْعَ أَوْجَبَ فِي الْيَدِ الْوَاحِدَةِ نِصْفَ الدِّيَةِ وَالْيَدُ اسْمٌ لِهَذِهِ الْجَارِحَةِ إلَى الْمَنْكِبِ فَلَا يُزَادُ عَلَى تَقْدِيرِ الشَّرْعِ. وَلَهُمَا أَنَّ الْيَدَ آلَةٌ بَاطِشَةٌ وَالْبَطْشُ يَتَعَلَّقُ بِالْكَفِّ وَالْأَصَابِعِ دُونَ الذِّرَاعِ فَلَمْ يُجْعَلْ الذِّرَاعُ تَبَعًا فِي حَقِّ التَّضْمِينِ. وَلِأَنَّهُ لَا وَجْهَ إلَى أَنْ يَكُونَ تَبَعًا لِلْأَصَابِعِ لِأَنَّ بَيْنَهُمَا عُضْوًا كَامِلًا، وَلَا إلَى أَنْ

أَنْ يَقُولَ: لِمَا ذُكِرَ فِيمَا مَرَّ أَنَّ فِي كُلِّ إصْبَعٍ مِنْ أَصَابِعِ الْيَدَيْنِ أَوْ الرِّجْلَيْنِ عُشْرُ الدِّيَةِ كَانَ ذِكْرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هَا هُنَا مُسْتَدْرِكًا، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ خَمْسَةَ أَعْشَارِ الدِّيَةِ نِصْفُ الدِّيَةِ، فَعُلِمَ قَطْعًا مِمَّا مَرَّ أَنَّ فِي أَصَابِعِ الْيَدِ الْوَاحِدَةِ وَهِيَ خُمْسُ أَصَابِعِ نِصْفِ الدِّيَةِ،.

وَلَوْ لَمْ يَكْفِ الِاسْتِلْزَامُ وَالِاقْتِضَاءُ فِي حُصُولِ الْعِلْمِ بِمَسْأَلَةٍ بَلْ كَانَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ التَّصْرِيحِ بِهَا لَلَزِمَ أَنْ يَذْكُرَ أَيْضًا أَنَّ فِي الْإِصْبَعَيْنِ عُشْرَيْ الدِّيَةِ وَفِي ثَلَاثِ أَصَابِعَ ثَلَاثَةُ أَعْشَارِ الدِّيَةِ وَفِي أَرْبَعِ أَصَابِعَ أَرْبَعَةُ أَعْشَارِ الدِّيَةِ، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَسَائِلِ الْمَتْرُوكِ ذِكْرُهَا صَرَاحَةً فِي الْكِتَابِ.

وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ عَنْهُ بِأَنَّ ذِكْرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هُنَا لَيْسَ لِبَيَانِ نَفْسِهَا أَصَالَةً حَتَّى يُتَوَهَّمَ الِاسْتِدْرَاكُ، بَلْ لِيَكُونَ ذِكْرُهَا تَوْطِئَةً لِلْمَسْأَلَةِ الْمُعَاقِبَةِ إيَّاهَا وَهِيَ قَوْلُهُ فَإِنْ قَطَعَهَا مَعَ الْكَفِّ فَفِيهِ أَيْضًا نِصْفُ الدِّيَةِ، فَالْمَقْصُودُ بِالْبَيَانِ هُنَا أَنَّ قَطْعَ الْأَصَابِعِ وَحْدَهَا وَقَطْعَهَا مَعَ الْكَفِّ سِيَّانِ فِي الْحُكْمِ، وَعَنْ هَذَا قَالَ فِي الْوِقَايَةِ فِي هَذَا الْمَقَامِ: وَفِي أَصَابِعِ يَدٍ بِلَا كَفٍّ وَمَعَهَا نِصْفُ الدِّيَةِ.

(قَوْلُهُ وَلِأَنَّ فِي قَطْعِ الْأَصَابِعِ تَفْوِيتُ جِنْسِ مَنْفَعَةِ الْبَطْشِ وَهُوَ الْمُوجِبُ عَلَى مَا مَرَّ).

يَعْنِي أَنَّ قَطْعَ كُلِّهَا تَفْوِيتُ جِنْسِ مَنْفَعَةِ الْبَطْشِ وَهُوَ يُوجِبُ الدِّيَةَ الْكَامِلَةَ عَلَى مَا مَرَّ، فَفِي تَفْوِيتِ نِصْفِ مَنْفَعَةِ الْبَطْشِ اللَّازِمِ مِنْ قَطْعِ أَصَابِعِ الْيَدِ الْوَاحِدَةِ نِصْفُ الدِّيَةِ لَا مَحَالَةَ. ثُمَّ إنَّ جُمْهُورَ الشُّرَّاحِ قَالُوا: قَوْلُهُ عَلَى مَا مَرَّ إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ وَلِأَنَّ فِي قَطْعِ الْكُلِّ تَفْوِيتُ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ وَفِيهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ وَهِيَ عَشْرَةٌ فَتُقْسَمُ الدِّيَةُ عَلَيْهَا.

أَقُولُ: فِيهِ بَحْثٌ، إذْ الظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ عَلَى مَا مَرَّ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ وَهُوَ الْمُوجِبُ لَا بِمَا قَبْلَهُ، وَإِلَّا لَكَانَ حَقُّ قَوْلِهِ وَهُوَ الْمُوجِبُ أَنْ يُؤَخَّرَ عَنْ قَوْلِهِ عَلَى مَا مَرَّ، وَإِذَا كَانَ قَوْلُهُ عَلَى مَا مَرَّ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ وَهُوَ الْمُوجِبُ لَمْ يَتِمَّ أَنْ يُشَارَ بِهِ إلَى مَا قَالَهُ هَؤُلَاءِ الشُّرَّاحُ، إذْ لَيْسَ فِي ذَلِكَ تَعَرُّضٌ لِمَا هُوَ الْمُوجِبُ لِلدِّيَةِ حَتَّى يُشَارَ إلَيْهِ هُنَا بِقَوْلِهِ كَمَا مَرَّ.

وَقَالَ صَاحِبُ الْغَايَةِ هُنَا: قَوْلُهُ وَهُوَ الْمُوجِبُ عَلَى مَا مَرَّ: أَيْ الْمُوجِبُ لِلدِّيَةِ تَفْوِيتُ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ لَا تَفْوِيتُ صُورَةِ الْآلَةِ عَلَى مَا مَرَّ فِي فَصْلٌ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ اهـ.

أَقُولُ: هَذَا أَبْعَدُ مِمَّا ذَهَبَ إلَيْهِ جُمْهُورُ الشُّرَّاحِ. لِأَنَّ بَيَانَ كَوْنِ الْمُوجِبِ لِلدِّيَةِ تَفْوِيتَ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ لَا تَفْوِيتَ صُورَةِ الْآلَةِ مِمَّا لَا فَائِدَةَ لَهُ أَصْلًا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ، لِأَنَّ الْمَفْرُوضَ فِيهِ قَطْعُ أَصَابِعِ الْيَدِ الْوَاحِدَةِ عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ وَلِأَنَّ فِي قَطْعِ الْأَصَابِعِ تَفْوِيتُ جِنْسِ مَنْفَعَةِ الْبَطْشِ دُونَ مُجَرَّدِ إزَالَةِ مَنْفَعَتِهَا بِدُونِ الْقَطْعِ حَتَّى يُتَصَوَّرَ كَوْنُ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ هَا هُنَا عَلَى مَا مَرَّ إشَارَةً إلَى مَا ذَكَرَهُ فِي فَصْلٌ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ قُبَيْلَ فَصْلِ الشِّجَاجِ بِقَوْلِهِ لِأَنَّ الْمُتَعَلِّقَ تَفْوِيتُ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ لَا تَفْوِيتُ الصُّورَةِ كَمَا زَعَمَهُ صَاحِبُ الْغَايَةِ،

بِخِلَافِ مَا مَرَّ فِي ذَلِكَ الْفَصْلِ، فَإِنَّ وَضْعَ الْمَسْأَلَةِ هُنَاكَ فِيمَنْ ضَرَبَ عُضْوًا فَأَذْهَبَ مَنْفَعَتَهُ بِدُونِ أَنْ يَقْطَعَهُ، فَلِبَيَانِ كَوْنِ الْمُوجِبِ لِلدِّيَةِ تَفْوِيتَ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ لَا تَفْوِيتَ الصُّورَةِ تَأْثِيرٌ تَامٌّ وَفَائِدَةٌ ظَاهِرَةٌ هُنَاكَ. ثُمَّ أَقُولُ: الْأَقْرَبُ إلَى الْحَقِّ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ هُنَا عَلَى مَا مَرَّ إشَارَةً إلَى مَا ذَكَرَهُ فِي أَوَائِلِ فَصْلٌ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ مِنْ قَوْلِهِ وَالْأَصْلُ فِي الْأَطْرَافِ أَنَّهُ إذَا فَوَّتَ جِنْسَ مَنْفَعَةٍ عَلَى الْكَمَالِ أَوْ أَزَالَ جَمَالًا مَقْصُودًا فِي الْآدَمِيِّ عَلَى الْكَمَالِ يَجِبُ كُلُّ الدِّيَةِ لِإِتْلَافِهِ النَّفْسَ مِنْ وَجْهٍ وَهُوَ مُلْحَقٌ بِالْإِتْلَافِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ تَعْظِيمًا لِلْآدَمِيِّ. اهـ.

فَإِنَّ الظَّاهِرَ مِنْهُ أَنَّ الْمُوجِبَ لِلدِّيَةِ الْكَامِلَةِ فِي الْأَطْرَافِ تَفْوِيتُ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ أَوْ إزَالَةُ الْجَمَالِ الْمَقْصُودِ فِي الْآدَمِيِّ عَلَى الْكَمَالِ فَيُنَاسِبُ الْإِشَارَةَ إلَيْهِ هُنَا بِقَوْلِهِ عَلَى مَا مَرَّ فِي قَوْلِهِ وَهُوَ الْمُوجِبُ عَلَى مَا مَرَّ.

(قَوْلُهُ وَلَهُمَا أَنَّ الْيَدَ آلَةٌ بَاطِشَةٌ وَالْبَطْشَ يَتَعَلَّقُ بِالْكَفِّ وَالْأَصَابِعَ دُونَ الذِّرَاعِ).

أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الظَّاهِرُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ

ص: 289

يَكُونَ تَبَعًا لِلْكَفِّ لِأَنَّهُ تَابِعٌ وَلَا تَبَعَ لِلتَّبَعِ. قَالَ: (وَإِنْ قَطَعَ الْكَفَّ مِنْ الْمِفْصَلِ وَفِيهَا أُصْبُعٌ وَاحِدَةٌ فَفِيهِ عُشْرُ الدِّيَةِ، وَإِنْ كَانَ أُصْبُعَيْنِ فَالْخُمُسُ، وَلَا شَيْءَ فِي الْكَفِّ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: يُنْظَرُ إلَى أَرْشِ الْكَفِّ وَالْأُصْبُعِ فَيَكُونُ عَلَيْهِ الْأَكْثَرُ، وَيَدْخُلُ الْقَلِيلُ فِي الْكَثِيرِ لِأَنَّهُ لَا وَجْهَ إلَى الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَرْشَيْنِ لِأَنَّ الْكُلَّ شَيْءٌ وَاحِدٌ، وَلَا إلَى إهْدَارِ أَحَدِهِمْ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَصْلٌ مِنْ وَجْهٍ فَرَجَّحْنَا بِالْكَثْرَةِ. وَلَهُ أَنَّ الْأَصَابِعَ أَصْلٌ وَالْكَفُّ تَابِعٌ حَقِيقَةً وَشَرْعًا، لِأَنَّ الْبَطْشَ يَقُومُ بِهَا، وَأَوْجَبَ الشَّرْعُ فِي أُصْبُعٍ وَاحِدَةٍ عَشْرًا مِنْ الْإِبِلِ، وَالتَّرْجِيحُ مِنْ حَيْثُ الذَّاتُ وَالْحُكْمُ أَوْلَى مِنْ التَّرْجِيحِ مِنْ حَيْثُ مِقْدَارُ الْوَاجِبِ (وَلَوْ كَانَ فِي الْكَفِّ ثَلَاثَةُ أَصَابِعَ يَجِبُ أَرْشُ الْأَصَابِعِ وَلَا شَيْءَ فِي الْكَفِّ بِالْإِجْمَاعِ) لِأَنَّ الْأَصَابِعَ أُصُولٌ فِي التَّقَوُّمِ، وَلِلْأَكْثَرِ حُكْمُ الْكُلِّ فَاسْتَتْبَعَتْ الْكَفَّ، كَمَا إذَا كَانَتْ الْأَصَابِعُ قَائِمَةً بِأَسْرِهَا. قَالَ (وَفِي الْأُصْبُعِ الزَّائِدَةِ حُكُومَةُ عَدْلٍ) تَشْرِيفًا لِلْآدَمِيِّ لِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ يَدِهِ، وَلَكِنْ لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ وَلَا زِينَةَ (وَكَذَلِكَ السِّنُّ الشَّاغِيَةُ) لِمَا قُلْنَا.

(وَفِي عَيْنِ الصَّبِيِّ

وَاحِدٍ مِنْ الْكَفِّ وَالْأَصَابِعِ مَدْخَلٌ فِي الْبَطْشِ، وَمَدْلُولُ قَوْلِهِ فِيمَا قَبْلُ وَلِأَنَّ الْكَفَّ تَبَعٌ لِلْأَصَابِعِ لِأَنَّ الْبَطْشَ بِهَا أَنْ يَكُونَ الْبَاطِشُ هُوَ الْأَصَابِعُ لَا غَيْرُ، فَبَيْنَ كَلَامَيْهِ فِي الْمَقَامَيْنِ نَوْعُ تَدَافُعٍ، وَكَأَنَّ صَاحِبَ الْكَافِي تَفَطَّنَ لَهُ حَيْثُ غَيَّرَ تَحْرِيرَ الْمُصَنِّفِ هُنَا فَقَالَ: لَهُمَا أَنَّ أَرْشَ الْيَدِ إنَّمَا يَجِبُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ آلَةٌ بَاطِشَةٌ، وَالْأَصْلُ فِي الْبَطْشِ الْأَصَابِعُ وَالْكَفُّ تَبَعٌ لَهَا، أَمَّا السَّاعِدُ فَلَا يَتْبَعُهَا لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَّصِلٍ بِهَا فَلَمْ يُجْعَلْ تَبَعًا لَهَا فِي حَقِّ التَّضْمِينِ انْتَهَى. ثُمَّ أَقُولُ: يُمْكِنُ التَّوْفِيقُ بَيْنَ كَلَامَيْ الْمُصَنِّفِ أَيْضًا بِنَوْعِ عِنَايَةٍ، وَهُوَ أَنْ يُقَدَّرَ

ص: 290

وَذَكَرِهِ وَلِسَانِهِ إذَا لَمْ تُعْلَمْ صِحَّتُهُ حُكُومَةُ عَدْلٍ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تَجِبُ فِيهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ، لِأَنَّ الْغَالِبَ فِيهِ الصِّحَّةُ فَأَشْبَهَ قَطْعَ الْمَارِنِ وَالْأُذُنِ. وَلَنَا أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ الْمَنْفَعَةُ، فَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ صِحَّتُهَا لَا يَجِبُ الْأَرْشُ الْكَامِلُ بِالشَّكِّ، وَالظَّاهِرُ لَا يَصْلُحُ حَجَّةً لِلْإِلْزَامِ بِخِلَافِ الْمَارِنِ وَالْأُذُنِ الشَّاخِصَةِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْجَمَالُ وَقَدْ فَوَّتَهُ عَلَى الْكَمَالِ (وَكَذَا لَوْ اسْتَهَلَّ الصَّبِيُّ) لِأَنَّهُ لَيْسَ بِكَلَامٍ وَإِنَّمَا هُوَ مُجَرَّدُ صَوْتٍ وَمَعْرِفَةُ الصِّحَّةِ فِيهِ بِالْكَلَامِ وَفِي الذَّكَرِ بِالْحَرَكَةِ وَفِي الْعَيْنِ بِمَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى النَّظَرِ فَيَكُونُ حُكْمُهُ بَعْدَ ذَلِكَ حُكْمَ الْبَالِغِ فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَإِ.

قَالَ: (وَمَنْ شَجَّ رَجُلًا فَذَهَبَ عَقْلُهُ أَوْ شَعْرُ رَأْسِهِ دَخَلَ أَرْشُ الْمُوضِحَةِ فِي الدِّيَةِ) لِأَنَّ بِفَوَاتِ الْعَقْلِ تَبْطُلُ مَنْفَعَةُ جَمِيعِ الْأَعْضَاءِ فَصَارَ كَمَا إذَا أَوْضَحَهُ فَمَاتَ، وَأَرْشُ الْمُوضِحَةِ يَجِبُ بِفَوَاتِ جُزْءٍ مِنْ الشَّعْرِ، حَتَّى لَوْ نَبَتَ يَسْقُطُ، وَالدِّيَةُ بِفَوَاتِ كُلِّ الشَّعْرِ وَقَدْ تَعَلَّقَا بِسَبَبٍ وَاحِدٍ فَدَخَلَ الْجُزْءُ فِي الْجُمْلَةِ كَمَا إذَا قَطَعَ أُصْبُعَ رَجُلٍ فَشُلَّتْ يَدُهُ.

الْمُضَافُ فِي قَوْلِهِ فِيمَا قَبْلُ لِأَنَّ الْبَطْشَ بِهَا: أَيْ لِأَنَّ أَصْلَ الْبَطْشِ بِهَا كَمَا قَالَ فِي الْكَافِي هُنَاكَ، لِأَنَّ قِوَامَ الْبَطْشِ بِهَا فَلَا يُنَافِي أَنْ يَكُونَ بِالْكَفِّ أَيْضًا بَطْشٌ فِي الْجُمْلَةِ بِالتَّبَعِيَّةِ فَيَرْتَفِعُ التَّدَافُعُ

(قَوْلُهُ لِأَنَّ بِفَوَاتِ الْعَقْلِ تَبْطُلُ مَنْفَعَةُ جَمِيعِ الْأَعْضَاءِ فَصَارَ كَمَا إذَا أَوْضَحَهُ فَمَاتَ) أَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ، إذْ لَوْ كَانَ فَوَاتُ الْعَقْلِ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْتِ وَكَانَ هَذَا مَدَارَ دُخُولِ أَرْشِ الْمُوضِحَةِ فِي الدِّيَةِ لَمَّا تَمَّ مَا سَبَقَ فِي فَصْلٍ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ مِنْ أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه قَضَى بِأَرْبَعِ دِيَاتٍ فِي ضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ ذَهَبَ بِهَا الْعَقْلُ وَالْكَلَامُ وَالسَّمْعُ وَالْبَصَرُ، فَإِنَّهُمْ صَرَّحُوا بِأَنَّهُ لَوْ مَاتَ مِنْ الشَّجَّةِ لَمْ يَلْزَمْهُ إلَّا دِيَةٌ وَاحِدَةٌ، فَلَوْ صَحَّ كَوْنُ فَوَاتِ الْعَقْلِ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْتِ لَمَا لَزِمَ فِي ضَرْبَةٍ ذَهَبَ بِهَا الْعَقْلُ إلَّا دِيَةٌ وَاحِدَةٌ فَلْيُتَأَمَّلْ (قَوْلُهُ وَأَرْشُ الْمُوضِحَةِ يَجِبُ بِفَوَاتِ جُزْءٍ مِنْ الشَّعْرِ حَتَّى لَوْ نَبَتَ يَسْقُطُ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: أَيْ لَوْ نَبَتَ الشَّعْرُ وَالْتَأَمَتْ الشَّجَّةُ فَصَارَ كَمَا كَانَ لَا يَجِبُ شَيْءٌ فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ وُجُوبَ أَرْشِ الْمُوضِحَةِ بِسَبَبِ فَوَاتِ الشَّعْرِ انْتَهَى. وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: قَوْلُهُ وَأَرْشُ الْمُوضِحَةِ يَجِبُ بِفَوَاتِ جُزْءٍ مِنْ الشَّعْرِ لِبَيَانِ الْجُزْئِيَّةِ، وَقَوْلُهُ حَتَّى لَوْ نَبَتَ يَعْنِي الشَّعْرَ يَسْقُطُ: يَعْنِي أَرْشَ الْمُوضِحَةِ لِبَيَانِ أَنَّ الْأَرْشَ يَجِبُ بِالْفَوَاتِ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ، وَلَيْسَ بِمُفْتَقِرٍ إلَيْهِ لِكَوْنِهِ مَعْلُومًا اهـ أَقُولُ: إنَّ قَوْلَهُ وَلَيْسَ بِمُفْتَقِرٍ إلَيْهِ لِكَوْنِهِ مَعْلُومًا لَيْسَ بِشَيْءٍ، إذْ لَا رَيْبَ أَنَّ كَوْنَ وُجُوبِ أَرْشِ الْمُوضِحَةِ بِفَوَاتِ جُزْءٍ مِنْ

ص: 291

وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَدْخُلُ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جِنَايَةٌ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ فَلَا يَتَدَاخَلَانِ كَسَائِرِ الْجِنَايَاتِ. وَجَوَابُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ. قَالَ (وَإِنْ ذَهَبَ سَمْعُهُ أَوْ بَصَرُهُ أَوْ كَلَامُهُ فَعَلَيْهِ أَرْشُ الْمُوضِحَةِ مَعَ الدِّيَةِ) قَالُوا: هَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الشَّجَّةَ تَدْخُلُ فِي دِيَةِ السَّمْعِ وَالْكَلَامِ وَلَا تَدْخُلُ فِي دِيَةِ الْبَصَرِ. وَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا جِنَايَةٌ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ وَالْمَنْفَعَةُ مُخْتَصَّةٌ بِهِ فَأَشْبَهَ الْأَعْضَاءَ الْمُخْتَلِفَةَ، بِخِلَافِ الْعَقْلِ لِأَنَّ مَنْفَعَتَهُ عَائِدَةٌ إلَى جَمِيعِ الْأَعْضَاءِ عَلَى مَا بَيَّنَّا.

الشَّعْرِ لَا بِمُجَرَّدِ تَفْرِيقِ الِاتِّصَالِ، وَالْإِيلَامُ الشَّدِيدُ أَمْرٌ خَفِيٌّ جِدًّا غَيْرُ مَعْلُومٍ بِدُونِ الْبَيَانِ وَالْإِعْلَامِ، إذْ كَانَ الظَّاهِرُ الْمُتَبَادِرُ مِمَّا ذَكَرُوا فِي فَصْلِ الشِّجَاجِ أَنْ لَا يُشْتَرَطَ فِي وُجُوبِ أَرْشِ الْمُوضِحَةِ فَوَاتُ جُزْءٍ مِنْ الشَّعْرِ بِالْكُلِّيَّةِ بِأَنْ لَا يَنْبُتَ بَعْدُ أَصْلًا، فَإِنَّهُمْ قَالُوا: الْمُوضِحَةُ مِنْ الشِّجَاجِ هِيَ الَّتِي تُوضِحُ الْعَظْمَ: أَيْ تُبَيِّنُهُ ثُمَّ بَيَّنُوا حُكْمَهَا بِأَنَّهُ الْقِصَاصُ إنْ كَانَتْ عَمْدًا، وَنِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ إنْ كَانَتْ خَطَأً، وَلَا شَكَّ أَنَّ اسْمَ الْمُوضِحَةِ وَحَدَّهَا الْمَذْكُورَ يَتَحَقَّقَانِ فِيمَا نَبَتَ فِيهِ الشَّعْرُ أَيْضًا، فَكَانَ اشْتِرَاطُ أَنْ لَا يَنْبُتَ الشَّعْرُ بَعْدَ الْبُرْءِ أَصْلًا فِي وُجُوبِ أَرْشِهَا أَمْرًا خَفِيًّا مُحْتَاجًا إلَى الْبَيَانِ بَلْ إلَى الْبُرْهَانِ، وَلِهَذَا قَالَ الْمُصَنِّفُ: وَأَرْشُ الْمُوضِحَةِ يَجِبُ بِفَوَاتِ جُزْءٍ مِنْ الشَّعْرِ حَتَّى لَوْ نَبَتَ يَسْقُطُ.

وَقَالَ فِي الْكَافِي: وَوُجُوبُ أَرْشِ الْمُوضِحَةِ بِاعْتِبَارِ ذَهَابِ الشَّعْرِ، وَلِهَذَا لَوْ نَبَتَ الشَّعْرُ عَلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَاسْتَوَى لَا يَجِبُ شَيْءٌ. وَقَالَ فِي الْمَبْسُوطِ: وُجُوبُ أَرْشِ الْمُوضِحَةِ بِاعْتِبَارِ ذَهَابِ الشَّعْرِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ نَبَتَ الشَّعْرُ عَلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَاسْتَوَى كَمَا كَانَ لَا يَجِبُ شَيْءٌ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْبَيَانَاتِ الْوَاقِعَةِ مِنْ الثِّقَاتِ (قَوْلُهُ وَجَوَابُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ: قِيلَ يَعْنِي بِهِ قَوْلَهُ لِأَنَّ بِفَوَاتِ الْعَقْلِ تَبْطُلُ مَنْفَعَةُ جَمِيعِ الْأَعْضَاءِ، وَقِيلَ: قَوْلُهُ وَقَدْ تَعَلَّقَا بِسَبَبٍ وَاحِدٍ وَهُوَ أَشْمَلُ مِنْ الْأَوَّلِ انْتَهَى. أَقُولُ: فِي قَوْلِهِ وَهُوَ أَشْمَلُ بَحْثٌ، لِأَنَّ الْمُرَادَ بِسَبَبٍ وَاحِدٍ فِي قَوْلِ الْمُصَنِّفِ وَقَدْ تَعَلَّقَا بِسَبَبٍ وَاحِدٍ إنَّمَا هُوَ فَوَاتُ الشَّعْرِ كَمَا يَرْشُدُ إلَيْهِ قَوْلُهُ فَدَخَلَ الْجُزْءُ فِي الْجُمْلَةِ، لِأَنَّ الْجُزْئِيَّةَ إنَّمَا تُوجَدُ فِي صُورَةِ فَوَاتِ شَعْرِ رَأْسِهِ بِالشَّجَّةِ لَا فِي صُورَةِ ذَهَابِ عَقْلِهِ بِهَا، وَقَدْ صَرَّحَ الشُّرَّاحُ حَتَّى صَاحِبُ الْعِنَايَةِ نَفْسُهُ بِكَوْنِ مُرَادِ الْمُصَنِّفِ بِسَبَبٍ وَاحِدٍ هُنَاكَ فَوَاتُ الشَّعْرِ حَيْثُ قَالَ فِي شَرْحِهِ قَوْلُهُ وَقَدْ تَعَلَّقَا: يَعْنِي أَرْشَ الْمُوضِحَةِ وَالدِّيَةَ بِسَبَبٍ وَاحِدٍ وَهُوَ فَوَاتُ الشَّعْرِ، لَكِنَّ سَبَبَ الْمُوضِحَةِ الْبَعْضُ وَسَبَبُ الدِّيَةِ الْكُلُّ فَدَخَلَ الْجُزْءُ فِي الْجُمْلَةِ انْتَهَى.

وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى يَخْتَصُّ بِالْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ، وَهِيَ صُورَةُ ذَهَابِ شَعْرِ رَأْسِهِ، كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ لِأَنَّ بِفَوَاتِ الْعَقْلِ تَبْطُلُ مَنْفَعَةُ جَمِيعِ الْأَعْضَاءِ مُخْتَصٌّ بِالْمَسْأَلَةِ الْأُولَى وَهِيَ صُورَةُ ذَهَابِ عَقْلِهِ، فَكَيْفَ يَصِحُّ الْقَوْلُ بِأَنَّ الْقَوْلَ الثَّانِي أَشْمَلُ مِنْ الْأَوَّلِ؟ وَالْوَجْهُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي قَوْلِهِ وَجَوَابُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ مَجْمُوعَ مَا ذَكَرَهُ فِي تَعْلِيلَيْ الْمَسْأَلَتَيْنِ فَحِينَئِذٍ يُوجَدُ الشُّمُولُ بِلَا غُبَارٍ كَمَا لَا يَخْفَى (قَوْلُهُ وَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ جِنَايَةٌ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ وَالْمَنْفَعَةُ مُخْتَصَّةٌ بِهِ فَأَشْبَهَ الْأَعْضَاءَ الْمُخْتَلِفَةَ، بِخِلَافِ الْعَقْلِ لِأَنَّ مَنْفَعَتَهُ عَائِدَةٌ إلَى جَمِيعِ الْأَعْضَاءِ) قَالَ فِي مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ: قَالَ الْهِنْدُوَانِيُّ: كُنَّا نُفَرِّقُ بِهَذَا الْفَرْقِ حَتَّى رَأَيْت مَا يَنْقُضُهُ، وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ قَطَعَ يَدَهُ فَذَهَبَ عَقْلُهُ أَنَّ عَلَيْهِ دِيَةَ الْعَقْلِ وَأَرْشَ الْيَدِ بِلَا خِلَافٍ مِنْ أَحَدٍ، فَلَوْ كَانَ زَوَالُ الْعَقْلِ كَزَوَالِ الرُّوحِ لَمَا وَجَبَ أَرْشُ الْيَدِ كَمَا لَوْ مَاتَ، وَالصَّحِيحُ مِنْ الْفَرْقِ أَنَّ الْجِنَايَةَ وَقَعَتْ عَلَى عُضْوٍ وَاحِدٍ فِي الْعَقْلِ، وَوَقَعَتْ فِي السَّمْعِ وَالْبَصَرِ عَلَى عُضْوَيْنِ فَلَا يَدْخُلُ انْتَهَى.

أَقُولُ: كَمَا يُنْتَقَضُ الْفَرْقُ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ

ص: 292

وَوَجْهُ الثَّانِي أَنَّ السَّمْعَ وَالْكَلَامَ مُبْطَنٌ فَيُعْتَبَرُ بِالْعَقْلِ، وَالْبَصَرُ ظَاهِرٌ فَلَا يَلْحَقُ بِهِ. قَالَ (وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: وَمَنْ شَجَّ رَجُلًا مُوضِحَةً فَذَهَبَتْ عَيْنَاهُ فَلَا قِصَاصَ فِي ذَلِكَ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. قَالُوا: وَيَنْبَغِي أَنْ تَجِبَ الدِّيَةُ فِيهِمَا (وَقَالَا: فِي الْمُوضِحَةِ الْقِصَاصُ) قَالُوا: وَيَنْبَغِي أَنْ تَجِبَ الدِّيَةُ فِي الْعَيْنَيْنِ. .

قَالَ (وَإِنْ قَطَعَ أُصْبُعَ رَجُلٍ مِنْ الْمِفْصَلِ الْأَعْلَى فَشُلَّ مَا بَقِيَ مِنْ الْأُصْبُعِ أَوْ الْيَدِ كُلِّهَا لَا قِصَاصَ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ) وَيَنْبَغِي أَنْ تَجِبَ الدِّيَةُ فِي الْمِفْصَلِ الْأَعْلَى وَفِيمَا بَقِيَ حُكُومَةُ عَدْلٍ (وَكَذَلِكَ لَوْ كَسَرَ سِنَّ رَجُلٍ فَاسْوَدَّ مَا بَقِيَ) وَلَمْ يَحْكِ خِلَافًا وَيَنْبَغِي أَنْ تَجِبَ الدِّيَةُ فِي السِّنِّ كُلِّهِ (وَلَوْ قَالَ: اقْطَعْ الْمِفْصَلَ وَاتْرُكْ مَا يَبِسَ أَوْ اكْسِرْ الْقِدْرَ الْمَكْسُورَ وَاتْرُكْ الْبَاقِيَ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ) لِأَنَّ الْفِعْلَ فِي نَفْسِهِ مَا وَقَعَ مُوجِبًا لِلْقَوَدِ فَصَارَ كَمَا لَوْ شَجَّهُ مُنَقِّلَةً فَقَالَ: أَشُجُّهُ مُوضِحَةً أَتْرُكُ الزِّيَادَةَ. لَهُمَا فِي الْخِلَافِيَّةِ أَنَّ الْفِعْلَ فِي مَحَلَّيْنِ فَيَكُونُ جِنَايَتَيْنِ مُبْتَدَأَتَيْنِ فَالشُّبْهَةُ فِي إحْدَاهُمَا لَا تَتَعَدَّى إلَى الْأُخْرَى، كَمَنْ رَمَى إلَى رَجُلٍ عَمْدًا فَأَصَابَهُ وَنَفَذَ مِنْهُ إلَى غَيْرِهِ فَقَتَلَهُ يَجِبُ الْقَوَدُ فِي الْأَوَّلِ وَالدِّيَةُ فِي الثَّانِي. وَلَهُ أَنَّ الْجِرَاحَةَ الْأُولَى سَارِيَةٌ وَالْجَزَاءُ بِالْمِثْلِ، وَلَيْسَ فِي وُسْعِهِ السَّارِي فَيَجِبُ الْمَالُ، وَلِأَنَّ الْفِعْلَ وَاحِدٌ حَقِيقَةً وَهُوَ الْحَرَكَةُ الْقَائِمَةُ، وَكَذَا الْمَحَلُّ مُتَّحِدٌ مِنْ وَجْهِ لِاتِّصَالٍ أَحَدِهِمَا بِالْآخِرِ فَأَوْرَثَتْ نِهَايَتُهُ شُبْهَةَ الْخَطَأِ فِي الْبِدَايَةِ، بِخِلَافِ النَّفْسَيْنِ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا لَيْسَ مِنْ سِرَايَةِ صَاحِبِهِ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا وَقَعَ السِّكِّينُ عَلَى الْأُصْبُعِ

بِالْمَسْأَلَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْهِنْدُوَانِيُّ كَذَلِكَ يُنْتَقَضُ مَا عَدَّهُ صَحِيحًا مِنْ الْفَرْقِ بِتِلْكَ الْمَسْأَلَةِ، فَإِنَّ الْجِنَايَةَ وَقَعَتْ فِيهَا أَيْضًا عَلَى عُضْوٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الْيَدُ، مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ أَرْشُ الْيَدِ فِي الدِّيَةِ، وَإِنْ اُعْتُبِرَ الْعَقْلُ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ عُضْوًا مُغَايِرًا لِعُضْوِ الْيَدِ فَتَكُونُ الْجِنَايَةُ فِيهَا وَاقِعَةً عَلَى الْعُضْوَيْنِ بِذَلِكَ الِاعْتِبَارِ، فَلِمَ لَمْ يُعْتَبَرْ الْعَقْلُ فِي مَسْأَلَةِ الشَّجَّةِ أَيْضًا عُضْوًا مُغَايِرًا لِمَحَلِّ الشَّجَّةِ حَتَّى تَكُونَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ أَيْضًا بِذَلِكَ الِاعْتِبَارِ مِنْ قَبِيلِ مَا وَقَعَتْ الْجِنَايَةُ عَلَى عُضْوَيْنِ فَلَا يَدْخُلُ الْأَرْشُ فِي الدِّيَةِ كَمَا فِي السَّمْعِ وَالْبَصَرِ. وَبِالْجُمْلَةِ مَا عَدَّهُ الْهِنْدُوَانِيُّ صَحِيحًا مِنْ الْفَرْقِ هُنَا لَا يَخْلُو عَنْ الِانْتِقَاضِ أَيْضًا فَتَأَمَّلْ (قَوْلُهُ وَوَجْهُ الثَّانِي أَنَّ السَّمْعَ وَالْكَلَامَ مُبْطَنٌ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: قِيلَ يُرَادُ بِهِ الْكَلَامُ النَّفْسِيُّ بِحَيْثُ لَا تَرْتَسِمُ فِيهَا الْمَعَانِي وَلَا يَقْدِرُ عَلَى نَظْمِ التَّكَلُّمِ، فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ ذَلِكَ كَانَ الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ذَهَابِ الْعَقْلِ عَسِرًا جِدًّا، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ التَّكَلُّمُ بِالْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ فَفِي جَعْلِهِ مُبْطَنًا نَظَرٌ انْتَهَى.

أَقُولُ: يُمْكِنُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ هُوَ الثَّانِي، وَالْمُرَادُ بِكَوْنِ السَّمْعِ وَالْكَلَامِ مُبْطَنًا كَوْنُ مَحِلِّهِمَا مَسْتُورًا غَائِبًا عَنْ الْحِسِّ، بِخِلَافِ الْبَصَرِ فَإِنَّ مَحَلَّهُ ظَاهِرٌ مُشَاهَدٌ فَيَنْدَفِعُ النَّظَرُ كَمَا تَرَى

(قَوْلُهُ وَيَنْبَغِي أَنْ تَجِبَ الدِّيَةُ فِي الْمِفْصَلِ الْأَعْلَى وَفِيمَا بَقِيَ حُكُومَةُ عَدْلٍ) أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَذَا يُخَالِفُ وَيُنَافِي مَا ذَكَرَهُ

ص: 293

لِأَنَّهُ لَيْسَ فِعْلًا مَقْصُودًا.

قَالَ: (وَإِنْ قَطَعَ أُصْبُعًا فَشُلَّتْ إلَى جَنْبِهَا أُخْرَى فَلَا قِصَاصَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَا هُمَا وَزُفَرُ وَالْحَسَنُ: يُقْتَصُّ مِنْ الْأُولَى وَفِي الثَّانِيَةِ أَرْشُهَا. وَالْوَجْهُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ قَدْ ذَكَرْنَاهُ. وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى وَهُوَ مَا إذَا شُجَّ مُوضِحَةً فَذَهَبَ بَصَرُهُ أَنَّهُ يَجِبُ الْقِصَاصُ فِيهِمَا لِأَنَّ الْحَاصِلَ بِالسَّرَايَةِ مُبَاشَرَةً كَمَا فِي النَّفْسِ وَالْبَصَرُ يَجْرِي فِيهِ الْقِصَاصُ، بِخِلَافِ الْخِلَافِيَّةِ الْأَخِيرَةِ لِأَنَّ الشَّلَلَ لَا قِصَاصَ فِيهِ، فَصَارَ الْأَصْلُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ سِرَايَةَ مَا يَجِبُ فِيهِ الْقِصَاصُ إلَى مَا يُمْكِنُ فِيهِ الْقِصَاصُ يُوجِبُ الِاقْتِصَاصَ كَمَا لَوْ آلَتْ إلَى النَّفْسِ وَقَدْ وَقَعَ الْأَوَّلُ ظُلْمًا. وَوَجْهُ الْمَشْهُورِ أَنَّ ذَهَابَ الْبَصَرِ بِطَرِيقِ التَّسْبِيبِ؛ أَلَا يَرَى أَنَّ الشَّجَّةَ بَقِيَتْ مُوجِبَةً فِي نَفْسِهَا وَلَا قَوَدَ فِي التَّسْبِيبِ، بِخِلَافِ السِّرَايَةِ إلَى النَّفْسِ لِأَنَّهُ لَا تَبْقَى الْأُولَى فَانْقَلَبَتْ الثَّانِيَةُ مُبَاشَرَةً. .

قَالَ: (وَلَوْ كَسَرَ بَعْضَ السِّنِّ فَسَقَطَتْ فَلَا قِصَاصَ) إلَّا عَلَى رِوَايَةِ ابْنِ سِمَاعَةَ (وَلَوْ أَوْضَحَهُ مُوضِحَتَيْنِ فَتَآكَلَتَا فَهُوَ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ هَاتَيْنِ).

قَالَ: (وَلَوْ قَلَعَ سِنَّ رَجُلٍ فَنَبَتَتْ مَكَانَهَا أُخْرَى سَقَطَ الْأَرْشُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ: عَلَيْهِ الْأَرْشُ كَامِلًا) لِأَنَّ الْجِنَايَةَ قَدْ تَحَقَّقَتْ وَالْحَادِثُ نِعْمَةٌ مُبْتَدَأَةٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى. وَلَهُ أَنَّ الْجِنَايَةَ انْعَدَمَتْ مَعْنًى فَصَارَ كَمَا إذَا قَلَعَ سِنَّ صَبِيٍّ فَنَبَتَتْ لَا يَجِبُ الْأَرْشُ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ لَمْ يُفْتِ عَلَيْهِ مَنْفَعَةً وَلَا زِينَةً (وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ تَجِبُ حُكُومَةُ عَدْلٍ) لِمَكَانِ الْأَلَمِ الْحَاصِلِ (وَلَوْ قَلَعَ سِنَّ غَيْرِهِ فَرَدَّهَا صَاحِبُهَا فِي مَكَانِهَا وَنَبَتَ عَلَيْهِ اللَّحْمُ فَعَلَى الْقَالِعِ الْأَرْشُ بِكَمَالِهِ) لِأَنَّ هَذَا مِمَّا لَا يُعْتَدُّ بِهِ إذْ الْعُرُوقُ لَا تَعُودُ (وَكَذَا إذَا قَطَعَ أُذُنَهُ فَأَلْصَقَهَا فَالْتَحَمَتْ) لِأَنَّهَا لَا تَعُودُ إلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ.

(وَمَنْ نَزَعَ سِنَّ رَجُلٍ فَانْتَزَعَ الْمَنْزُوعَةُ سِنُّهُ سِنَّ النَّازِعِ فَنَبَتَتْ سِنُّ الْأَوَّلِ فَعَلَى الْأَوَّلِ لِصَاحِبِهِ خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ) لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ اسْتَوْفَى بِغَيْرِ حَقٍّ

فِيمَا قَبْلُ مِنْ قَوْلِهِ وَقَدْ تَعَلَّقَا بِسَبَبٍ وَاحِدٍ فَدَخَلَ الْجُزْءُ فِي الْكُلِّ، كَمَا إذَا قُطِعَ أُصْبُعُ رَجُلٍ فَشُلَّتْ يَدُهُ فَإِنَّ مُقْتَضَى مَا أَسْلَفَهُ أَنْ يَجِبَ فِي الْكُلِّ الدِّيَةُ وَيَدْخُلُ الْجُزْءُ فِي الْكُلِّ عَلَى خِلَافِ مَا ذَكَرَهُ هَاهُنَا، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ بِنَاءُ اخْتِلَافِ مَا ذَكَرَهُ فِي الْمَقَامَيْنِ

ص: 294

لِأَنَّ الْمُوجِبَ فَسَادُ الْمَنْبَتِ وَلَمْ يَفْسُدْ حَيْثُ نَبَتَ مَكَانَهَا أُخْرَى فَانْعَدَمَتْ الْجِنَايَةُ، وَلِهَذَا يُسْتَأْنَى حَوْلًا بِالْإِجْمَاعِ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُنْتَظَرَ الْيَأْسُ فِي ذَلِكَ لِلْقِصَاصِ، إلَّا أَنَّ فِي اعْتِبَارِ ذَلِكَ تَضْيِيعَ الْحُقُوقِ فَاكْتَفَيْنَا بِالْحَوْلِ لِأَنَّهُ تَنْبُتُ فِيهِ ظَاهِرًا، فَإِذَا مَضَى الْحَوْلُ وَلَمْ تَنْبُتْ قَضَيْنَا بِالْقِصَاصِ، وَإِذَا نَبَتَتْ تَبَيَّنَ أَنَّا أَخْطَأْنَا فِيهِ وَالِاسْتِيفَاءُ كَانَ بِغَيْرِ حَقٍّ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ لِلشُّبْهَةِ فَيَجِبُ الْمَالُ. قَالَ:(وَلَوْ ضَرَبَ إنْسَانٌ سِنَّ إنْسَانٍ فَتَحَرَّكَتْ يُسْتَأْنَى حَوْلًا) لِيَظْهَرَ أَثَرُ فِعْلِهِ (فَلَوْ أَجَّلَهُ الْقَاضِي سَنَةً ثُمَّ جَاءَ الْمَضْرُوبُ وَقَدْ سَقَطَتْ سِنُّهُ فَاخْتَلَفَا قَبْلَ السَّنَةِ فِيمَا سَقَطَ بِضَرْبِهِ فَالْقَوْلُ لِلْمَضْرُوبِ) لِيَكُونَ التَّأْجِيلُ مُفِيدًا، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا شَجَّهُ مُوضِحَةً فَجَاءَ وَقَدْ صَارَتْ مُنَقِّلَةً فَاخْتَلَفَا حَيْثُ يَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ الضَّارِبِ لِأَنَّ الْمُوضِحَةَ لَا تُورِثُ الْمُنَقِّلَةَ، أَمَّا التَّحْرِيكُ فَيُؤَثِّرُ فِي السُّقُوطِ فَافْتَرَقَا

عَلَى اخْتِلَافِ الرِّوَايَتَيْنِ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَمِمَّا يُعَضِّدُهُ كَلَامُ تَاجِ الشَّرِيعَةِ هُنَا حَيْثُ قَالَ: وَذَكَرَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ فِي الْجَامِعِ عَلَى نَحْوِ مَا ذُكِرَ هُنَا، وَذَكَرَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ الْبَزْدَوِيُّ فِي مَبْسُوطِهِ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ قَطَعَ مَفْصِلًا مِنْ أُصْبُعٍ فَشُلَّ الْبَاقِي فَإِنَّهُ يَجِبُ فِي الْكُلِّ الْأَرْشُ وَيُجْعَلُ كُلُّهُ جِنَايَةً وَاحِدَةً انْتَهَى تَدَبَّرْ.

(قَوْلُهُ وَلِهَذَا يُسْتَأْنَى حَوْلًا بِالْإِجْمَاعِ) أَيْ يُؤَجَّلُ سَنَةً بِالْإِجْمَاعِ. وَذَكَرَ فِي التَّتِمَّةِ أَنَّ سِنَّ الْبَالِغِ إذَا سَقَطَ يُنْتَظَرُ حَتَّى يَبْرَأَ مَوْضِعُ السِّنِّ لَا الْحَوْلَ هُوَ الصَّحِيحُ، لِأَنَّ نَبَاتَ سِنِّ الْبَالِغِ نَادِرٌ فَلَا يُفِيدُ التَّأْجِيلُ، إلَّا أَنَّ قَبْلَ الْبُرْءِ لَا يُقْتَصُّ وَلَا يُؤْخَذُ الْأَرْشُ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي عَاقِبَتَهُ انْتَهَى. قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ نَقْلِ ذَلِكَ إجْمَالًا: وَلَيْسَ بِظَاهِرٍ، وَإِنَّمَا الظَّاهِرُ مَا قَالَ الْمُصَنِّفُ، لِأَنَّ الْحَوْلَ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْفُصُولِ الْأَرْبَعَةِ وَلَهَا تَأْثِيرٌ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِبَدَنِ الْإِنْسَانِ، فَلَعَلَّ فَصْلًا مِنْهَا يُوَافِقُ مِزَاجَ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ فَيُؤَثِّرُ فِي إنْبَاتِهِ. وَقَالَ: وَلَكِنَّ قَوْلَهُ بِالْإِجْمَاعِ فِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّهُ قَالَ فِي الذَّخِيرَةِ: وَبَعْضُ مَشَايِخِنَا قَالُوا: الِاسْتِينَاءُ حَوْلًا فِي فَصْلِ الْقَلْعِ فِي الْبَالِغِ وَالصَّغِيرِ جَمِيعًا لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «فِي الْجِرَاحَاتِ كُلِّهَا يُسْتَأْنَى حَوْلًا» وَهُوَ كَمَا تَرَى يُنَافِي الْإِجْمَاعَ انْتَهَى.

أَقُولُ: نَظَرُهُ سَاقِطٌ، لِأَنَّ الَّذِي يُنَافِي الْإِجْمَاعَ مِمَّا نَقَلَهُ عَنْ الذَّخِيرَةِ إنَّمَا هُوَ مَفْهُومُ قَوْلِهِ وَبَعْضُ مَشَايِخِنَا قَالُوا: أَيْ مَفْهُومُ الْمُخَالَفَةِ، لَكِنَّ مَفْهُومَ ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ عَدَمُ إجْمَاعِ الْمَشَايِخِ لَا عَدَمُ إجْمَاعِ الْمُجْتَهِدِينَ. وَمُرَادُ الْمُصَنِّفِ بِالْإِجْمَاعِ فِي قَوْلِهِ وَلِهَذَا يُسْتَأْتَى حَوْلًا بِالْإِجْمَاعِ إنَّمَا هُوَ إجْمَاعُ الْمُجْتَهِدِينَ دُونَ إجْمَاعِ الْمَشَايِخِ، وَانْتِفَاءُ أَحَدِ الْإِجْمَاعَيْنِ لَا يَسْتَلْزِمُ انْتِفَاءَ الْآخَرِ؛ أَلَا يَرَى أَنَّ الْمَشَايِخَ كَثِيرًا مَا يَخْتَلِفُونَ فِي رِوَايَةِ الْمَسْأَلَةِ عَنْ الْمُجْتَهِدِينَ، فَبَعْضُهُمْ يَرْوِي اجْتِمَاعَ الْمُجْتَهِدِينَ فِيهَا وَبَعْضُهُمْ يَرْوِي اخْتِلَافَهُمْ فِيهَا، وَمَا نَحْنُ فِيهِ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، كَمَا يُشْعِرُ بِهِ مَا ذُكِرَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ، فَإِنَّهُ قَالَ فِيهَا: وَنَقَلَ النَّاطِفِيِّ فِي الْأَجْنَاسِ عَنْ نَوَادِرِ أَبِي يُوسُفَ رِوَايَةَ ابْنِ سِمَاعَةَ قَالَ أَبُو يُوسُفَ: رَجُلٌ قَلَعَ سِنَّ رَجُلٍ لَا أَنْتَظِرُ بِهَا حَوْلًا، وَإِنَّمَا أَنْتَظِرُ بِسِنِّ الصَّبِيِّ وَأَقْضِي عَلَيْهِ بِأَرْشِهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ نَبَاتَ السِّنِّ بَعْدَ الْبُلُوغِ نَادِرٌ، وَإِلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ مَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا مِثْلُ خُوَاهَرْ زَادَهْ وَغَيْرُهُ.

وَقَالَ النَّاطِفِيُّ أَيْضًا. قَالَ فِي الْمُجَرَّدِ: لَوْ نَزَعَ سِنَّ صَبِيٍّ يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَأْخُذَ ضَمِينًا مِنْ النَّازِعِ لِلْمَنْزُوعِ سِنُّهُ وَيُؤَجِّلَهُ سَنَةً مُنْذُ يَوْمِ

ص: 295

(وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي ذَلِكَ بَعْدَ السَّنَةِ فَالْقَوْلُ لِلضَّارِبِ) لِأَنَّهُ يُنْكِرُ أَثَرَ فِعْلِهِ وَقَدْ مَضَى الْأَجَلُ الَّذِي وَقَّتَهُ الْقَاضِي لِظُهُورِ الْأَثَرِ فَكَانَ الْقَوْلُ لِلْمُنْكِرِ (وَلَوْ لَمْ تَسْقُطْ لَا شَيْءَ عَلَى الضَّارِبِ) وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ تَجِبُ حُكُومَةُ الْأَلَمِ، وَسَنُبَيِّنُ الْوَجْهَيْنِ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى (وَلَوْ لَمْ تَسْقُطْ وَلَكِنَّهَا اسْوَدَّتْ يَجِبُ الْأَرْشُ فِي الْخَطَإِ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَفِي الْعَمْدِ فِي مَالِهِ، وَلَا يَجِبُ الْقِصَاصُ) لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَضْرِبَهُ ضَرْبًا تَسْوَدُّ مِنْهُ (وَكَذَا إذَا كَسَرَ بَعْضَهُ وَاسْوَدَّ الْبَاقِي) لَا قِصَاصَ لِمَا ذَكَرْنَا (وَكَذَا لَوْ احْمَرَّ أَوْ اخْضَرَّ) وَلَوْ اصْفَرَّ فِيهِ رِوَايَتَانِ. .

قَالَ: (وَمَنْ شَجَّ رَجُلًا فَالْتَحَمَتْ وَلَمْ يَبْقَ لَهَا أَثَرٌ وَنَبَتَ الشَّعْرُ سَقَطَ الْأَرْشُ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِزَوَالِ الشَّيْنِ الْمُوجِبِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَجِبُ عَلَيْهِ أَرْشُ الْأَلَمِ وَهُوَ حُكُومَةُ عَدْلٍ، لِأَنَّ الشَّيْنَ إنْ زَالَ فَالْأَلَمُ الْحَاصِلُ مَا زَالَ فَيَجِبُ تَقْوِيمُهُ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: عَلَيْهِ أُجْرَةُ الطَّبِيبِ، لِأَنَّهُ إنَّمَا لَزِمَهُ الطَّبِيبُ وَثَمَنُ الدَّوَاءِ بِفِعْلِهِ فَصَارَ كَأَنَّهُ أَخَذَ ذَلِكَ مِنْ مَالِهِ، إلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يَقُولُ: إنَّ الْمَنَافِعَ عَلَى أَصْلِنَا لَا تَتَقَوَّمُ إلَّا بِعَقْدٍ أَوْ بِشُبْهَةٍ، وَلَمْ يُوجَدْ فِي حَقِّ الْجَانِي فَلَا يَغْرَمُ شَيْئًا. .

نُزِعَ سِنُّهُ، فَإِذَا مَضَتْ سَنَةٌ وَلَمْ تَنْبُتْ اقْتَصَّ لَهُ. وَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ لَمْ يُفَرِّقْ كَثِيرٌ مِنْ مَشَايِخِنَا بَيْنَ سِنِّ الْبَالِغِ وَالصَّغِيرِ بَلْ قَالُوا بِالِاسْتِينَاءِ فِيهِمَا جَمِيعًا. وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْقُدُورِيُّ وَالسَّرَخْسِيُّ وَغَيْرُهُمَا، إلَى هُنَا لَفْظُ الْغَايَةِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُصَنِّفَ أَيْضًا ذَهَبَ إلَيْهِ فَقَالَ: وَلِهَذَا يَسْتَأْنِي حَوْلًا بِالْإِجْمَاعِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ الصَّبِيِّ وَالْبَالِغِ، وَادَّعَى الْإِجْمَاعَ أَخْذًا بِمَا ذَكَرَ فِي الْمُجَرَّدِ بِدُونِ رِوَايَةِ خِلَافِ أَحَدٍ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ. وَالْعَجَبُ مِنْ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ أَنَّهُ جَعَلَ مَا ذَكَرَ فِي الذَّخِيرَةِ مُنَافِيًا لِلْإِجْمَاعِ وَلَمْ يَجْعَلْ مَا ذَكَرَ فِي التَّتِمَّةِ مُنَافِيًا لَهُ حَيْثُ لَمْ يُورِدْ النَّظَرَ بِهِ مَعَ كَوْنِ مُنَافَاتِهِ إيَّاهُ أَظْهَرُ عَلَى تَقْدِيرِ حَمْلِ الْإِجْمَاعِ عَلَى إجْمَاعِ الْمَشَايِخِ كَمَا هُوَ مَدَارُ نَظَرِهِ الْمَذْكُورِ.

وَعَنْ هَذَا قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَصَاحِبَا الْكِفَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ: قَوْلُهُ وَلِهَذَا يَسْتَأْنِي حَوْلًا بِالْإِجْمَاعِ يُخَالِفُ رِوَايَةَ التَّتِمَّةِ (قَوْلُهُ وَلَوْ لَمْ تَسْقُطْ وَلَكِنَّهَا اسْوَدَّتْ يَجِبُ الْأَرْشُ فِي الْخَطَإِ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَفِي الْعَمْدِ فِي مَالِهِ) قَالَ فِي الذَّخِيرَةِ وَالْمُحِيطِ: أَوْجَبَ مُحَمَّدٌ كَمَالَ

ص: 296

قَالَ: (وَمَنْ ضَرَبَ رَجُلًا مِائَةَ سَوْطٍ فَجَرَحَهُ فَبَرَأَ مِنْهَا فَعَلَيْهِ أَرْشُ الضَّرْبِ) مَعْنَاهُ: إذَا بَقِيَ أَثَرُ الضَّرْبِ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَبْقَ أَثَرُهُ فَهُوَ عَلَى اخْتِلَافٍ قَدْ مَضَى فِي الشَّجَّةِ الْمُلْتَحِمَةِ. .

قَالَ (وَمَنْ قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ خَطَأً ثُمَّ قَتَلَهُ خَطَأً قَبْلَ الْبُرْءِ فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ وَسَقَطَ عَنْهُ أَرْشُ الْيَدِ) لِأَنَّ الْجِنَايَةَ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ وَالْمُوجَبُ وَاحِدٌ وَهُوَ الدِّيَةُ وَإِنَّهَا بَدَلُ النَّفْسِ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا فَدَخَلَ الطَّرَفُ فِي النَّفْسِ كَأَنَّهُ قَتَلَهُ ابْتِدَاءً. .

قَالَ: (وَمَنْ جَرَحَ رَجُلًا جِرَاحَةً لَمْ يُقْتَصَّ مِنْهُ حَتَّى يَبْرَأَ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: يُقْتَصُّ مِنْهُ فِي الْحَالِ اعْتِبَارًا بِالْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمُوجِبَ قَدْ تَحَقَّقَ فَلَا يُعَطَّلُ. وَلَنَا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «يُسْتَأْنَى فِي الْجِرَاحَاتِ سَنَةً» وَلِأَنَّ الْجِرَاحَاتِ يُعْتَبَرُ فِيهَا مَآلُهَا لَا حَالُهَا لِأَنَّ حُكْمَهَا فِي الْحَالِ غَيْرُ مَعْلُومٍ فَلَعَلَّهَا تَسْرِي إلَى النَّفْسِ فَيَظْهَرُ أَنَّهُ قَتَلَ وَإِنَّمَا يَسْتَقِرُّ الْأَمْرُ بِالْبُرْءِ. .

قَالَ: (وَكُلُّ عَمْدٍ سَقَطَ الْقِصَاصُ فِيهِ بِشُبْهَةٍ فَالدِّيَةُ فِي مَالِ الْقَاتِلِ، وَكُلُّ أَرْشٍ وَجَبَ بِالصُّلْحِ فَهُوَ فِي مَالِ الْقَاتِلِ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَا تَعْقِلُ الْعَوَاقِلُ عَمْدًا» الْحَدِيثُ. وَهَذَا عَمْدٌ،

الْأَرْشِ بِاسْوِدَادِ السِّنِّ، وَلَمْ يُفَصِّلْ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ السِّنُّ مِنْ الْأَضْرَاسِ الَّتِي لَا تُرَى أَوْ مِنْ الْعَوَارِضِ الَّتِي تُرَى. قَالُوا: يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ فِيهَا عَلَى التَّفْصِيلِ إنْ كَانَ السِّنُّ مِنْ الْأَضْرَاسِ الَّتِي لَا تُرَى، إنْ فَاتَتْ مَنْفَعَةُ الْمَضْغِ بِالِاسْوِدَادِ يَجِبُ الْأَرْشُ كَامِلًا، وَإِلَّا يَجِبُ حُكُومَةُ الْعَدْلِ، وَإِنْ كَانَ السِّنُّ مِنْ الْعَوَارِضِ الَّتِي تُرَى وَتَظْهَرُ يَجِبُ كَمَالُ الْأَرْشِ بِالِاسْوِدَادِ، وَإِنْ لَمْ تَفُتْ مَنْفَعَتُهُ لِأَنَّهُ فَوَّتَ جَمَالًا عَلَى الْكَمَالِ انْتَهَى.

وَهَذَا ذَكَرَهُ الشُّرَّاحُ هُنَا وَعَزَاهُ أَكْثَرُهُمْ إلَى الذَّخِيرَةِ فَقَطْ، وَأَوْرَدَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ عَلَى جَوَابِ الشِّقِّ الثَّانِي مِنْ التَّفْصِيلِ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَا ذَكَرُوهُ قُبَيْلَ فَصْلِ الشِّجَاجِ مِنْ أَنَّ الْجَمَالَ تَابِعٌ فِي الْعُضْوِ الَّذِي يُقْصَدُ مِنْهُ الْمَنْفَعَةُ انْتَهَى. أَقُولُ: يُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ فِي الْأَسْنَانِ الَّتِي تُرَى لَيْسَتْ بِمَقْصُودَةٍ مِنْهَا بِالذَّاتِ وَإِنْ حَصَلَتْ فِيهَا أَيْضًا فِي الْجُمْلَةِ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ مِنْهَا بِالذَّاتِ الْجَمَالُ وَالزِّينَةُ لِلْإِنْسَانِ، وَمَا ذَكَرُوا قُبَيْلَ فَصْلِ الشِّجَاجِ مِنْ كَوْنِ الْجَمَالِ تَابِعًا إنَّمَا هُوَ فِي الْأَعْضَاءِ الَّتِي يُقْصَدُ مِنْهَا الْمَنْفَعَةُ أَصَالَةً كَالْيَدِ وَنَحْوِهَا فَلَا مُخَالَفَةَ (قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَا تَعْقِلُ الْعَوَاقِلُ عَمْدًا» الْحَدِيثُ) قَالَ صَاحِبُ الْغَايَةِ: فِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّهُ مِنْ كَلَامِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالشَّعْبِيِّ وَقَدْ مَرَّ آنِفًا انْتَهَى. أَقُولُ: هَذَا النَّظَرُ فِي غَايَةِ السُّقُوطِ. أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ كَمَا رُوِيَ مَوْقُوفًا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالشَّعْبِيِّ، رُوِيَ أَيْضًا مَرْفُوعًا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ هُنَا صَاحِبُ الْكَافِي حَيْثُ قَالَ: وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما مَوْقُوفًا عَلَيْهِ وَمَرْفُوعًا إلَى رَسُولِ اللَّهِ عليه الصلاة والسلام «لَا تَعْقِلُ الْعَاقِلَةُ عَمْدًا وَلَا عَبْدًا وَلَا صُلْحًا وَلَا اعْتِرَافًا وَلَا مَا دُونَ أَرْشِ الْمُوضِحَةِ» انْتَهَى.

وَكَذَا نَصَّ عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ فِي كِتَابِ الْمَعَاقِلِ بِهَذَا الْمِنْوَالِ، فَكَانَ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى مَا رُوِيَ مَرْفُوعًا إلَيْهِ بِلَا رَيْبٍ، وَهَذَا يَكْفِي فِي صِحَّةِ عِبَارَةِ الْمُصَنِّفِ هُنَا كَمَا لَا يَخْفَى. وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّهُ عَلَى مَا رُوِيَ مَوْقُوفًا أَيْضًا يُحْمَلُ عَلَى الرِّوَايَةِ عَنْ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام لِأَنَّهُ مِمَّا لَا يُعْلَمُ بِالرَّأْيِ بَلْ يَتَوَقَّفُ عَلَى السَّمَاعِ، وَمِثْلُ هَذَا يُحْمَلُ عَلَى السَّمَاعِ صِيَانَةً لِلصَّحَابِيِّ عَنْ الْكَذِبِ وَالْجُزَافِ وَيَصِيرُ الْمَوْقُوفُ فِيهِ كَالْمَرْفُوعِ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ وَمَرَّ فِي الْكِتَابِ مِرَارًا، فَصَحَّ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ فِي حَقِّ هَذَا الْحَدِيثِ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام

ص: 297

غَيْرَ أَنَّ الْأَوَّلَ يَجِبُ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ لِأَنَّهُ مَالٌ وَجَبَ بِالْقَتْلِ ابْتِدَاءً فَأَشْبَهَ شِبْهَ الْعَمْدِ. وَالثَّانِي يَجِبُ حَالًّا لِأَنَّهُ مَالٌ وَجَبَ بِالْعَقْدِ فَأَشْبَهَ الثَّمَنَ فِي الْبَيْعِ. قَالَ: (وَإِنْ قَتَلَ الْأَبُ ابْنَهُ عَمْدًا فَالدِّيَةُ فِي مَالِهِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: تَجِبُ حَالَّةً لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ مَا يَجِبُ بِالْإِتْلَافِ يَجِبُ حَالًّا، وَالتَّأْجِيلُ لِلتَّخْفِيفِ فِي الْخَاطِئِ وَهَذَا عَامِدٌ فَلَا يَسْتَحِقُّهُ، وَلِأَنَّ الْمَالَ وَجَبَ جَبْرًا لِحَقِّهِ، وَحَقُّهُ فِي نَفْسِهِ حَالٌّ فَلَا يَنْجَبِرُ بِالْمُؤَجَّلِ. وَلَنَا أَنَّهُ مَالٌ وَاجِبٌ بِالْقَتْلِ فَيَكُونُ مُؤَجَّلًا كَدِيَةِ الْخَطَإِ وَشِبْهِ الْعَمْدِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَى تَقَوُّمَ الْآدَمِيِّ بِالْمَالِ لِعَدَمِ التَّمَاثُلِ، وَالتَّقْوِيمُ ثَبَتَ بِالشَّرْعِ وَقَدْ وَرَدَ بِهِ مُؤَجَّلًا لَا مُعَجَّلًا فَلَا يَعْدُلُ عَنْهُ لَا سِيَّمَا إلَى زِيَادَةٍ، وَلَمَّا لَمْ يَجُزْ التَّغْلِيطُ بِاعْتِبَارِ الْعَمْدِيَّةِ قَدْرًا لَا يَجُوزُ وَصْفًا (وَكُلُّ جِنَايَةٍ اعْتَرَفَ بِهَا الْجَانِي فَهِيَ فِي مَالِهِ وَلَا يَصْدُقُ عَلَى عَاقِلَتِهِ) لِمَا رَوَيْنَا، وَلِأَنَّ الْإِقْرَارَ لَا يَتَعَدَّى الْمُقِرَّ لِقُصُورِ وِلَايَتِهِ عَنْ غَيْرِهِ فَلَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ الْعَاقِلَةِ. .

قَالَ: (وَعَمْدُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ خَطَأٌ وَفِيهِ الدِّيَةُ) عَلَى الْعَاقِلَةِ،

عَلَى كُلِّ حَالٍ. وَالْعَجَبُ مِنْ صَاحِبِ الْغَايَةِ أَنَّهُ قَالَ: وَقَدْ مَرَّ آنِفًا، وَاَلَّذِي مَرَّ مِنْهُ آنِفًا يَصِيرُ جَوَابًا عَنْ نَظَرِهِ هَذَا فَإِنَّهُ قَالَ هُنَاكَ: رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي مُوَطَّئِهِ وَقَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ " لَا تَعْقِلُ الْعَاقِلَةُ عَمْدًا وَلَا صُلْحًا وَلَا اعْتِرَافًا وَلَا مَا جَنَى الْمَمْلُوكُ " وَهَذَا لَا يُعْلَمُ إلَّا مِنْ طَرِيقِ التَّوْقِيفِ، فَحُمِلَ عَلَى أَنَّهُ رَوَاهُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِصِيَانَتِهِ عَنْ الْكَذِبِ وَالْجُزَافِ، إلَى هُنَا لَفْظُهُ.

وَهَذَا صَرِيحٌ فِي الْجَوَابِ عَنْ نَظَرِهِ هَا هُنَا كَمَا لَا يَخْفَى

(قَوْلُهُ غَيْرَ أَنَّ الْأَوَّلَ يَجِبُ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ لِأَنَّهُ مَالٌ وَجَبَ بِالْقَتْلِ ابْتِدَاءً فَأَشْبَهَ شِبْهَ الْعَمْدِ) أَقُولُ: إنَّ قَيْدَ ابْتِدَاءً فِي قَوْلِهِ وَجَبَ بِالْقَتْلِ ابْتِدَاءً مُسْتَدْرَكٌ بَلْ مُفْسِدٌ، لِأَنَّ الْمُصَنِّفَ قَالَ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الْجِنَايَاتِ أَثْنَاءَ بَيَانِ أَنَّ مِنْ مُوجِبَاتِ شِبْهِ الْعَمْدِ الدِّيَةُ الْمُغَلَّظَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ: وَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ دِيَةٍ وَجَبَتْ بِالْقَتْلِ ابْتِدَاءً لَا بِمَعْنًى يَحْدُثُ مِنْ بَعْدُ فَهِيَ عَلَى الْعَاقِلَةِ، فَلَوْ كَانَ الْأَوَّلُ هَا هُنَا مَا لَا وَجَبَ بِالْقَتْلِ ابْتِدَاءً لَوَجَبَ عَلَى الْعَاقِلَةِ عَلَى مُقْتَضَى الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ هُنَاكَ مَعَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْقَاتِلِ فِي مَالِهِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ آنِفًا.

فَالْوَجْهُ أَنْ يُتْرَكَ قَيْدُ ابْتِدَاءً هَا هُنَا فَيُقَالُ: لِأَنَّهُ مَالٌ وَجَبَ بِالْقَتْلِ احْتِرَازًا بِهِ عَمَّا وَجَبَ بِالْعَمْدِ كَمَا فِي الْقِسْمِ الثَّانِي فَإِنَّهُ يَجِبُ حَالًّا، وَلَقَدْ أَصَابَ فِيمَا بَعْدُ حَيْثُ قَالَ: وَلَنَا أَنَّهُ مَالٌ وَاجِبٌ بِالْقَتْلِ فَيَكُونُ مُؤَجَّلًا كَدِيَةِ الْخَطَإِ وَشِبْهِ الْعَمْدِ (قَوْلُهُ وَإِذَا قَتَلَ الْأَبُ ابْنَهُ عَمْدًا فَالدِّيَةُ فِي مَالِهِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: كَأَنَّ حُكْمَهُ قَدْ عُلِمَ مِنْ الضَّابِطَةِ الْكُلِّيَّةِ لَكِنَّهُ ذَكَرَهُ لِبَيَانِ خِلَافِ الشَّافِعِيِّ انْتَهَى. أَقُولُ: اعْتِذَارُهُ هَذَا لَيْسَ بِسَدِيدٍ. أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ ذِكْرَ حُكْمِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَعْدَ ذِكْرِ تِلْكَ الضَّابِطَةِ الْكُلِّيَّةِ قَدْ وَقَعَ فِي مُخْتَصَرِ الْقُدُورِيِّ وَالْبِدَايَةِ أَيْضًا بِدُونِ بَيَانِ خِلَافِ الشَّافِعِيِّ أَصْلًا، فَكَيْفَ يَصْلُحُ بَيَانُ الْمُصَنِّفِ فِي شَرْحِهِ خِلَافَ الشَّافِعِيِّ لَأَنْ يَكُونَ عُذْرًا مِنْ ذِكْرِهِ حُكْمَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي مَتْنِهِ قَبْلَ مُدَّةٍ مِنْ ذِكْرِ الْقُدُورِيِّ إيَّاهُ

ص: 298

وَكَذَلِكَ كُلُّ جِنَايَةٍ مُوجَبُهَا خَمْسُمِائَةٍ فَصَاعِدًا وَالْمَعْتُوهُ كَالْمَجْنُونِ (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: عَمْدُهُ عَمْدٌ حَتَّى تَجِبُ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ حَالَّةً) لِأَنَّهُ عَمْدٌ حَقِيقَةً، إذْ الْعَمْدُ هُوَ الْقَصْدُ غَيْرَ أَنَّهُ تَخَلَّفَ عَنْهُ أَحَدُ حُكْمَيْهِ وَهُوَ الْقِصَاصُ فَيَنْسَحِبُ عَلَيْهِ حُكْمُهُ الْآخَرُ وَهُوَ الْوُجُوبُ فِي مَالِهِ، وَلِهَذَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ بِهِ، وَيَحْرُمُ عَنْ الْمِيرَاثِ عَلَى أَصْلِهِ لِأَنَّهُمَا يَتَعَلَّقَانِ بِالْقَتْلِ. وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه أَنَّهُ جَعَلَ عَقْلَ الْمَجْنُونِ عَلَى عَاقِلَتِهِ، وَقَالَ: عَمْدُهُ وَخَطَؤُهُ سَوَاءٌ، وَلِأَنَّ الصَّبِيَّ مَظِنَّةُ الْمَرْحَمَةِ، وَالْعَاقِلُ الْخَاطِئُ لَمَّا اسْتَحَقَّ التَّخْفِيفَ حَتَّى وَجَبَتْ الدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ فَالصَّبِيُّ وَهُوَ أَعْذَرُ أَوْلَى بِهَذَا التَّخْفِيفِ. وَلَا نُسَلِّمُ تَحَقُّقَ الْعَمْدِيَّةِ فَإِنَّهَا تَتَرَتَّبُ عَلَى الْعِلْمِ وَالْعِلْمُ بِالْعَقْلِ، وَالْمَجْنُونُ عَدِيمُ الْعَقْلِ وَالصَّبِيُّ قَاصِرُ الْعَقْلِ فَأَنَّى يَتَحَقَّقُ مِنْهُمَا الْقَصْدُ وَصَارَ كَالنَّائِمِ. وَحِرْمَانُ الْمِيرَاثِ عُقُوبَةٌ، وَهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِ الْعُقُوبَةِ وَالْكَفَّارَةُ كَاسْمِهَا سَتَّارَةٌ: وَلَا ذَنْبَ تَسْتُرُهُ لِأَنَّهُمَا مَرْفُوعَا الْقَلَمِ. .

(فَصْلٌ فِي الْجَنِينِ)

قَالَ: (وَإِذَا ضَرَبَ بَطْنَ امْرَأَةٍ فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا فَفِيهِ غُرَّةٌ وَهِيَ نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ) قَالَ رضي الله عنه:

فِي مُخْتَصَرِهِ قَبْلَ سِنِينَ مُتَكَاثِرَةٍ، وَهَلْ يَتَفَوَّهُ الْعَاقِلُ بِمِثْلِ ذَاكَ الِاعْتِذَارِ. وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ خِلَافَ الشَّافِعِيِّ لَيْسَ بِمُنْحَصِرٍ فِي حُكْمِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْمُنْفَرِدَةِ بِالذِّكْرِ، بَلْ خِلَافُهُ مُتَحَقِّقٌ فِي حُكْمِ تِلْكَ الضَّابِطَةِ الْكُلِّيَّةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَإِنَّهُ لَا يَقُولُ بِالتَّأْجِيلِ فِي الْعَمْدِ أَصْلًا بَلْ يُخَصِّصُهُ بِالْخَطَإِ كَمَا يُفْصِحُ عَنْهُ تَعْلِيلُهُ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ، وَتِلْكَ الضَّابِطَةُ الْكُلِّيَّةُ إنَّمَا هِيَ فِي الْعَمْدِ، وَحُكْمُهَا التَّأْجِيلُ مُطْلَقًا كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ غَيْرَ أَنَّ الْأَوَّلَ يَجِبُ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ، فَقَصْدُ بَيَانِ خِلَافِ الشَّافِعِيِّ لَا يَقْتَضِي إفْرَادَ حُكْمِ هَاتِيكَ الْمَسْأَلَةِ بِالذِّكْرِ بَعْدَ ذِكْرِ تِلْكَ الضَّابِطَةِ الْكُلِّيَّةِ فَلَا تَمْشِيَةَ لِلِاعْتِذَارِ الْمَذْكُورِ أَصْلًا.

(فَصْلٌ الْجِنَايَةُ فِي الْجَنِينِ).

لَمَّا ذَكَرَ أَحْكَامَ الْجِنَايَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْآدَمِيِّ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ شَرَعَ فِي بَيَانِ أَحْكَامِهَا الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْآدَمِيِّ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ وَهُوَ الْجَنِينُ. بَيَانُ ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ فِي أُصُولِهِ أَنَّ الْجَنِينَ مَا دَامَ مُجْتَنًّا فِي الْبَطْنِ لَيْسَ لَهُ ذِمَّةٌ صَالِحَةٌ لِكَوْنِهِ فِي حُكْمِ جُزْءٍ مِنْ الْآدَمِيِّ لَكِنَّهُ مُنْفَرِدٌ بِالْحَيَاةِ مُعَدٌّ لَأَنْ يَكُونَ نَفْسًا لَهُ ذِمَّةٌ، فَبِاعْتِبَارِ هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ أَهْلًا لِوُجُوبِ الْحَقِّ لَهُ مِنْ عِتْقٍ أَوْ إرْثٍ أَوْ نَسَبٍ أَوْ وَصِيَّةٍ، وَبِاعْتِبَارِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ لَا يَكُونُ أَهْلًا لِوُجُوبِ الْحَقِّ عَلَيْهِ، فَأَمَّا بَعْدَمَا يُولَدُ فَلَهُ ذِمَّةٌ صَالِحَةٌ، وَلِهَذَا لَوْ انْقَلَبَ

ص: 299

مَعْنَاهُ دِيَةُ الرَّجُلِ، وَهَذَا فِي الذَّكَرِ، وَفِي الْأُنْثَى عُشْرُ دِيَةِ الْمَرْأَةِ وَكُلٌّ مِنْهُمَا خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ. وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجِبَ شَيْءٌ لِأَنَّهُ لَمْ يُتَيَقَّنْ بِحَيَاتِهِ، وَالظَّاهِرُ لَا يَصْلُحُ حُجَّةً لِلِاسْتِحْقَاقِ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام قَالَ «فِي الْجَنِينِ غُرَّةٌ عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ قِيمَتُهُ خَمْسُمِائَةٍ» وَيُرْوَى " أَوْ خَمْسُمِائَةٍ " فَتَرَكْنَا الْقِيَاسَ بِالْأَثَرِ، وَهُوَ

عَلَى مَالِ إنْسَانٍ فَأَتْلَفَهُ يَكُونُ ضَامِنًا لَهُ وَيَلْزَمُهُ مَهْرُ امْرَأَتِهِ بِعَقْدِ الْوَلِيِّ (قَوْلُهُ وَهَذَا فِي الذَّكَرِ وَفِي الْأُنْثَى عُشْرُ دِيَةِ الْمَرْأَةِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ) أَقُولُ: فِي هَذَا التَّفْصِيلِ الَّذِي ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ وَهَذَا فِي الذَّكَرِ وَفِي الْأُنْثَى عُشْرُ دِيَةِ الْمَرْأَةِ اسْتِدْرَاكٌ بَعْدَ أَنْ قَالَ قَبْلَهُ مَعْنَاهُ دِيَةُ الرَّجُلِ، لِأَنَّ عُشْرَ دِيَةِ الْمَرْأَةِ هُوَ نِصْفُ عُشْرِ دِيَةِ الرَّجُلِ فِي الْمِقْدَارِ بِلَا رَيْبٍ، إذْ قَدْ تَقَرَّرَ فِيمَا مَرَّ أَنَّ دِيَةَ الْمَرْأَةِ نِصْفُ دِيَةِ الرَّجُلِ فَعُشْرُ دِيَتِهَا نِصْفُ عُشْرِ دِيَتِهِ لَا مَحَالَةَ، وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ هُنَا بِقَوْلِهِ وَكُلٌّ مِنْهُمَا خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَمَا فَائِدَةُ هَذَا التَّفْصِيلِ الْفَارِقِ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى فِي مُجَرَّدِ الْعِبَارَةِ، وَإِنَّمَا كَانَ يَظْهَرُ فَائِدَتُهُ أَنْ لَوْ لَمْ يُفَسِّرْ نِصْفَ عُشْرِ الدِّيَةِ الْوَاقِعِ فِي كَلَامِ الْقُدُورِيِّ بِقَوْلِهِ مَعْنَاهُ دِيَةُ الرَّجُلِ فَإِنَّهُ كَانَ يَحْتَمِلُ حِينَئِذٍ نِصْفَ عُشْرِ دِيَةِ الرَّجُلِ وَنِصْفَ عُشْرِ دِيَةِ الْمَرْأَةِ فَيُفِيدُ التَّفْصِيلَ الْمَذْكُورَ، وَعَنْ هَذَا فَصَّلَ صَاحِبُ الْكَافِي كَمَا فَصَّلَهُ الْمُصَنِّفُ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ قَبْلَهُ لِتَقْيِيدِ عُشْرِ الدِّيَةِ بِعُشْرِ دِيَةِ الرَّجُلِ (قَوْلُهُ وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجِبَ شَيْءٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَيَقَّنْ بِحَيَاتِهِ) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ وَكَثِيرٍ مِنْ الشُّرُوحِ تَتْمِيمًا لِمَا فِي الْكِتَابِ: وَفِعْلُ الْقَتْلِ لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا فِي مَحِلٍّ هُوَ حَيٌّ فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ بِالشَّكِّ انْتَهَى.

أَقُولُ: يُرَدُّ عَلَى هَذَا الْبَيَانِ أَنَّهُ إنَّمَا يَتِمُّ أَنْ لَوْ ثَبَتَ كَوْنُ الْغُرَّةِ جَزَاءَ فِعْلِ الْقَتْلِ وَهُوَ مَمْنُوعٌ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ جَزَاءَ إتْلَافِ عُضْوٍ مِنْ الْآدَمِيِّ صَالِحٍ لِلْحَيَاةِ كَمَا يَجِبُ فِي إتْلَافِ سَائِرِ أَعْضَائِهِ شَيْءٌ مِنْ الدِّيَةِ عَلَى مَا مَرَّ تَفْصِيلُهُ. وَالْأَظْهَرُ فِي الْبَيَانِ هُنَا مَا ذَكَرَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ ثَانِيًا بِقَوْلِهِ وَلِأَنَّ الْجَنِينَ فِي حُكْمِ الْأَعْضَاءِ بِدَلَالَةِ أَنَّهُ لَا يَكْمُلُ أَرْشُهُ وَالْأَعْضَاءُ لَوْ انْفَصَلَتْ بَعْدَ الْمَوْتِ لَا تَتَقَوَّمُ انْتَهَى تَدَبَّرْ (قَوْلُهُ وَالظَّاهِرُ لَا يَصْلُحُ حُجَّةً لِلِاسْتِحْقَاقِ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَحِلِّ: فَإِنْ قِيلَ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ حَيٌّ أَوْ مُعَدٌّ لِلْحَيَاةِ. قُلْنَا: الظَّاهِرُ لَا يَصْلُحُ حُجَّةً لِلِاسْتِحْقَاقِ، وَلِهَذَا لَا يَجِبُ فِي جَنِينِ الْبَهِيمَةِ إلَّا نُقْصَانُ الْأُمِّ إنْ تَمَكَّنَ اهـ.

وَرَدَّ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ قَوْلَهُ أَوْ مُعَدٌّ لِلْحَيَاةِ فِي تَقْرِيرِ السُّؤَالِ حَيْثُ قَالَ: كَوْنُهُ مُعَدًّا لِلْحَيَاةِ مُتَيَقَّنٌ لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ الظَّاهِرِ انْتَهَى. أَقُولُ: لَيْسَ بِسَدِيدٍ، فَإِنَّ تَيَقُّنَ كَوْنِهِ مُعَدًّا لِلْحَيَاةِ مَمْنُوعٌ لِجَوَازِ أَنْ يَفْسُدَ الْمَاءُ فِي الرَّحِمِ فَحِينَئِذٍ يَنْتَفِي اسْتِعْدَادُهُ لِلْحَيَاةِ، وَلَقَدْ أَشَارَ إلَيْهِ فِي النِّهَايَةِ حَيْثُ قَالَ نَقْلًا عَنْ الْمَبْسُوطِ: ثُمَّ الْمَاءُ فِي الرَّحِمِ مَا لَمْ يَفْسُدْ فَهُوَ مُعَدٌّ لِلْحَيَاةِ فَيُجْعَلُ كَالْحَيِّ فِي إيجَابِ ذَلِكَ

ص: 300

حُجَّةٌ عَلَى مَنْ قَدَّرَهَا بِسِتِّمِائَةٍ نَحْوُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ (وَهِيَ عَلَى الْعَاقِلَةِ) عِنْدَنَا إذَا كَانَتْ خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ.

الضَّمَانِ بِإِتْلَافِهِ كَمَا يُجْعَلُ بِيضُ الصَّيْدِ فِي حَقِّ الْمُحْرِمِ كَالصَّيْدِ فِي إيجَابِ الْجَزَاءِ عَلَيْهِ بِكَسْرِهِ انْتَهَى تَبَصَّرْ (قَوْلُهُ وَهِيَ عَلَى الْعَاقِلَةِ عِنْدَنَا إذَا كَانَتْ خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ) اعْلَمْ أَنَّ النَّاظِرِينَ فِي هَذَا الْمَقَامِ تَحَيَّرُوا فِي تَوْجِيهِ هَذَا الْقَيْدِ: أَعْنِي قَوْلَهُ إذَا كَانَتْ خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَقَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: قَيَّدَ بِهَذَا احْتِرَازًا عَنْ جَنِينِ الْأَمَةِ إذَا كَانَتْ قِيمَتُهُ لَا تَبْلُغُ خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ كَذَا وَجَدْت بِخَطِّ شَيْخِي، لَكِنْ هَذَا لَا يَتَّضِحُ لِي لِأَنَّ مَا وَجَبَ فِي جَنِينِ الْأَمَةِ هُوَ فِي مَالِ الضَّارِبِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِالْبُلُوغِ إلَى خَمْسِمِائَةِ دِرْهَمٍ عَلَى مَا يَجِيءُ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ. وَسَائِرُ الشُّرَّاحِ أَيْضًا ذَكَرُوا التَّوْجِيهَ الَّذِي نَقَلَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ عَنْ خَطِّ شَيْخِهِ، وَرَدُّوهُ بِمَا رَدَّهُ بِهِ صَاحِبُ النِّهَايَةِ. وَقَالَ صَاحِبُ الْغَايَةِ: وَقَوْلُهُ إذَا كَانَتْ خَمْسَمِائَةٍ كَأَنَّهُ سَهْوُ الْقَلَمِ وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ إذْ بِسُكُونِ الذَّالِ بِلَا أَلِفٍ بَعْدَهَا: يَعْنِي أَنَّهَا إنَّمَا تَجِبُ عَلَى الْعَاقِلَةِ لِأَنَّهَا مَقْدِرَةٌ بِخَمْسِمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَالْعَاقِلَةُ تَعْقِلُ خَمْسَمِائَةٍ وَلَا تَعْقِلُ مَا دُونَهَا انْتَهَى.

وَقَدْ نَقَلَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ هَذَا التَّوْجِيهَ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ بِرَدٍّ بَعْدَ أَنْ نَقَلَ التَّوْجِيهَ الْأَوَّلَ مَعَ رَدِّهِ حَيْثُ قَالَ: قِيلَ قَيَّدَ بِهِ احْتِرَازًا عَنْ جَنِينِ الْأَمَةِ إذَا كَانَتْ قِيمَتُهُ لَا تَبْلُغُ خَمْسَمِائَةٍ. وَرُدَّ بِأَنَّ مَا يَجِبُ فِي جَنِينِ الْأَمَةِ هُوَ فِي مَالِ الضَّارِبِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَقَيُّدٍ بِالْبُلُوغِ إلَى خَمْسِمِائَةٍ عَلَى مَا يَجِيءُ.

وَقِيلَ لَعَلَّهُ وَقَعَ سَهْوًا مِنْ الْكَاتِبِ وَكَانَ فِي الْأَصْلِ إذْ كَانَ خَمْسَمِائَةٍ تَعْلِيلًا لِكَوْنِهَا عَلَى الْعَاقِلَةِ انْتَهَى.

فَكَأَنَّهُ ارْتَضَى التَّوْجِيهَ الثَّانِي. أَقُولُ: التَّوْجِيهُ الثَّانِي أَيْضًا مَرْدُودٌ عِنْدِي، إذْ لَا مَعْنَى لِتَعْلِيلِ كَوْنِهَا عَلَى الْعَاقِلَةِ بِكَوْنِهَا خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَإِنَّهُ يُنْتَقَضُ بِمَا يَجِبُ فِي جَنِينِ الْأَمَةِ إذَا بَلَغَ خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ فَإِنَّهُ عَلَى الضَّارِبِ كَمَا دُونَهُ لَا عَلَى الْعَاقِلَةِ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ آنِفًا حَيْثُ قَالُوا: إنَّ مَا وَجَبَ فِي جَنِينِ الْأَمَةِ فَهُوَ فِي مَالِ الضَّارِبِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِالْبُلُوغِ إلَى خَمْسِمِائَةٍ مَعَ جَرَيَانِ التَّعْلِيلِ الْمَذْكُورِ فِيهِ عِنْدَ بُلُوغِهِ إلَى خَمْسِمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَيُنْتَقَضُ بِكُلِّ عَمْدٍ سَقَطَ الْقِصَاصُ فِيهِ بِشُبْهَةٍ وَوَجَبَ دِيَةٌ بَالِغَةٌ إلَى خَمْسِمِائَةِ دِرْهَمٍ أَيْضًا فِيمَا فَوْقَهَا، فَإِنَّ مِثْلَ ذَلِكَ كُلِّهِ فِي مَالِ الْقَاتِلِ كَمَا مَرَّ فِي الْفَصْلِ السَّابِقِ مَعَ جَرَيَانِ التَّعْلِيلِ الْمَذْكُورِ فِيهِ أَيْضًا. ثُمَّ أَقُولُ: هُنَا تَوْجِيهٌ آخَرُ لَمْ يَذْكُرْهُ الشُّرَّاحُ وَهُوَ،

ص: 301

وَقَالَ مَالِكٌ: فِي مَالِهِ لِأَنَّهُ بَدَلُ الْجُزْءِ. وَلَنَا أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام «قَضَى بِالْغُرَّةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ» ، وَلِأَنَّهُ بَدَلُ النَّفْسِ وَلِهَذَا سَمَّاهُ عليه الصلاة والسلام دِيَةً حَيْثُ قَالَ " دُوهُ " وَقَالُوا:«أَنَدِي مَنْ لَا صَاحَ وَلَا اسْتَهَلَّ» الْحَدِيثُ، إلَّا أَنَّ الْعَوَاقِلَ لَا تَعْقِلُ مَا دُونَ خَمْسِمِائَةٍ.

(وَتَجِبُ فِي سَنَةٍ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: فِي ثَلَاثِ سِنِينَ لِأَنَّهُ بَدَلُ النَّفْسِ وَلِهَذَا يَكُونُ مَوْرُوثًا بَيْنَ وَرَثَتِهِ. وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ رحمه الله أَنَّهُ قَالَ: " بَلَغَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ عليه الصلاة والسلام جَعَلَهُ عَلَى الْعَاقِلَةِ فِي سَنَةٍ "

أَنْ يَكُونَ الْقَيْدُ الْمَذْكُورُ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ جَنِينِ الْأَمَةِ مُطْلَقًا بِأَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ إذَا كَانَتْ خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ عَلَى الْبَتَاتِ بِتَقْدِيرِ الشَّرْعِ ذَلِكَ الْقَدْرَ الْمُعَيَّنَ، وَهَذَا إنَّمَا يَكُونُ فِي جَنِينِ الْحُرَّةِ، فَإِنَّ الْوَاجِبَ فِي جَنِينِ الْأَمَةِ نِصْفُ عُشْرِ قِيمَتِهِ لَوْ كَانَ حَيًّا إنْ كَانَ ذَكَرًا، وَعُشْرُ قِيمَتِهِ حَيًّا إنْ كَانَ أُنْثَى مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ قَدْرٍ مُعَيَّنٍ مِنْ الْعَدَدِ فَضْلًا عَنْ أَنْ تَبْلُغَ خَمْسَمِائَةٍ فَحِينَئِذٍ يَحْصُلُ الْمَرَامُ مِنْ غَيْرِ كُلْفَةٍ كَمَا تَرَى (قَوْلُهُ وَقَالَ مَالِكٌ فِي مَالِهِ: لِأَنَّهُ بَدَلُ الْجُزْءِ) أَقُولُ: فِي تَعْلِيلِهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ مُجَرَّدَ كَوْنِهِ بَدَلَ الْجُزْءِ لَا يَقْتَضِي كَوْنَهُ فِي مَالِ الْجَانِي، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْبَدَلُ أَقَلَّ مِنْ خَمْسِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَالْبَدَلُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ تَمَامُ خَمْسِمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَقَدْ مَرَّ قُبَيْلَ هَذَا الْفَصْلِ أَنَّ عَمْدَ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ خَطَأٌ وَفِيهِ الدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَكَذَا كُلُّ جِنَايَةٍ مُوجِبُهَا خَمْسُمِائَةٍ فَصَاعِدًا.

وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إنَّ مَذْهَبَ مَالِكٍ أَنْ لَا يَجِبَ بَدَلُ الْجُزْءِ عَلَى الْعَاقِلَةِ فِيمَا إذَا كَانَ أَقَلَّ مِنْ ثُلُثِ الدِّيَةِ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ، وَمَا نَحْنُ فِيهِ كَذَلِكَ، فَيَكُونُ هَذَا التَّعْلِيلُ مِنْ قَبِيلِ ذَلِكَ وَلَكِنَّهُ مِنْ بَابِ رَدِّ الْمُخْتَلِفِ عَلَى الْمُخْتَلِفِ تَأَمَّلْ تَقِفْ (قَوْلُهُ وَلِأَنَّهُ بَدَلُ النَّفْسِ وَلِهَذَا سَمَّاهُ عليه الصلاة والسلام دِيَةً حَيْثُ قَالَ " دُوهُ ") أَقُولُ: فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى أَنَّهُ بَدَلُ النَّفْسِ بِتَسْمِيَةِ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام دِيَةً بَحْثٌ، فَإِنَّهُ عليه الصلاة والسلام سَمَّى كَثِيرًا مِنْ بَدَلِ الْأَعْضَاءِ وَالْأَجْزَاءِ دِيَةً؛ أَلَّا يَرَى إلَى مَا مَرَّ فِي فَصْلٍ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ رضي الله عنه رَوَى أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام قَالَ «فِي النَّفْسِ الدِّيَةُ، وَفِي اللِّسَانِ الدِّيَةُ، وَفِي الْمَارِنِ الدِّيَةُ» وَهَكَذَا كَتَبَ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ رضي الله عنه، وَكَتَبَ لَهُ أَيْضًا " وَفِي الْعَيْنَيْنِ الدِّيَةُ، وَفِي إحْدَاهُمَا نِصْفُ الدِّيَةِ " إلَى غَيْرِ ذَلِكَ، فَلْيُتَأَمَّلْ فِي الدَّفْعِ (قَوْلُهُ إلَّا أَنَّ الْعَوَاقِلَ لَا تَعْقِلُ مَا دُونَ خَمْسِمِائَةٍ) قَالَ صَاحِبُ الْغَايَةِ: قَوْلُ الْمُصَنِّفِ هَذَا يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ وَهِيَ عَلَى الْعَاقِلَةِ عِنْدَنَا إذَا كَانَتْ خَمْسَمِائَةٍ، وَكَأَنَّهُ يَقُولُ: إذَا كَانَتْ الْغُرَّةُ أَقَلَّ مِنْ خَمْسِمِائَةِ دِرْهَمٍ لَا تَعْقِلُهُ الْعَاقِلَةُ.

وَلَنَا فِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ فِي جَنِينِ الْأَمَةِ لَا وُجُوبَ عَلَى الْعَاقِلَةِ أَصْلًا لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِي جَنِينِ الْأَمَةِ عَلَى الضَّارِبِ مُطْلَقًا انْتَهَى. أَقُولُ: نَظَرُهُ سَاقِطٌ لِأَنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ إلَّا أَنَّ الْعَوَاقِلَ لَا تَعْقِلُ مَا دُونَ خَمْسِمِائَةٍ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا تَعْقِلُ خَمْسَمِائَةٍ فَصَاعِدًا بِطَرِيقِ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ وَهُوَ لَيْسَ بِمُعْتَبَرٍ عِنْدَنَا وَلَئِنْ سَلَّمْنَا اعْتِبَارَهُ عِنْدَنَا أَيْضًا فِي الرِّوَايَاتِ فَمَفْهُومُ قَوْلِهِ الْمَذْكُورِ أَنَّهَا تَعْقِلُ خَمْسَمِائَةٍ فَصَاعِدًا فِي الْجُمْلَةِ لِأَنَّهَا تَعْقِلُهَا فِي كُلِّ مَادَّةٍ حَتَّى يَرِدَ النَّقْضُ بِالْوَاجِبِ فِي جَنِينِ الْأَمَةِ إذَا بَلَغَ خَمْسَمِائَةٍ حَيْثُ يَكُونُ عَلَى الضَّارِبِ لَا عَلَى الْعَاقِلَةِ. وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: قَوْلُ الْمُصَنِّفِ إلَّا أَنَّ الْعَوَاقِلَ لَا تَعْقِلُ مَا دُونَ خَمْسِمِائَةٍ جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ: الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الدِّيَةَ عَلَى الْعَاقِلَةِ قَلِيلَةً كَانَتْ أَوْ كَثِيرَةً، وَأَنْتُمْ قَيَّدْتُمْ بِقَوْلِكُمْ إذَا كَانَتْ

ص: 302

وَلِأَنَّهُ إنْ كَانَ بَدَلَ النَّفْسِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ نَفْسٌ عَلَى حِدَةٍ فَهُوَ بَدَلُ الْعُضْوِ مِنْ حَيْثُ الِاتِّصَالُ بِالْأُمِّ فَعَمِلْنَا بِالشَّبَهِ الْأَوَّلِ فِي حَقِّ التَّوْرِيثِ، وَبِالثَّانِي فِي حَقِّ التَّأْجِيلِ إلَى سَنَةٍ، لِأَنَّ بَدَلَ الْعُضْوِ إذَا كَانَ ثُلُثَ الدِّيَةِ أَوْ أَقَلَّ أَكْثَرُ مِنْ نِصْفِ الْعُشْرِ يَجِبُ فِي سَنَةٍ، بِخِلَافِ أَجْزَاءِ الدِّيَةِ لِأَنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنْهَا عَلَى مَنْ وَجَبَ يَجِبُ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ

خَمْسَمِائَةٍ وَقَدْ عَلِمْت مَا يَرِدُ عَلَيْهِ مِنْ النَّظَرِ انْتَهَى.

أَقُولُ: الظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَهُ بِمَا يَرِدُ عَلَيْهِ مِنْ النَّظَرِ مَا ذَكَرَهُ فِيمَا مَرَّ بِقَوْلِهِ: وَرُدَّ بِأَنَّ مَا يَجِبُ فِي جَنِينِ الْأَمَةِ هُوَ فِي مَالِ الضَّارِبِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِالْبُلُوغِ إلَى خَمْسِمِائَةٍ، إلَّا أَنَّك عَلِمْت سُقُوطَهُ أَيْضًا بِمَا بَيَّنَّاهُ فِي سُقُوطِ نَظَرِ صَاحِبِ غَايَةِ الْبَيَانِ آنِفًا. ثُمَّ أَقُولُ: فِي تَقْرِيرِ مُرَادِ الْمُصَنِّفِ هُنَا خَلَلٌ، إذْ لَا يَتِمُّ حِينَئِذٍ السُّؤَالُ وَلَا الْجَوَابُ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ مَدْلُولَ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ «قَضَاءُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِدِيَةِ جَنِينِ الْحُرَّةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ» وَدِيَتُهُ تَبْلُغُ خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ بِالْإِجْمَاعِ، فَمِنْ أَيْنَ يَدُلُّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ الدِّيَةَ لَوْ كَانَتْ قَلِيلَةً بِحَيْثُ لَمْ تَبْلُغْ خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ تَكُونُ أَيْضًا عَلَى الْعَاقِلَةِ حَتَّى يَتَوَجَّهُ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ يُنَافِي تَقْيِيدَكُمْ بِقَوْلِكُمْ إذَا كَانَتْ خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ. وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ لَوْ دَلَّ عَلَى أَنَّ الدِّيَةَ سَوَاءٌ كَانَتْ أَقَلَّ مِنْ خَمْسِمِائَةٍ أَوْ أَكْثَرَ مِنْهَا عَلَى الْعَاقِلَةِ لَمَا صَلَحَ مُجَرَّدُ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ إلَّا أَنَّ الْعَوَاقِلَ لَا تَعْقِلُ مَا دُونَ خَمْسِمِائَةٍ لَأَنْ يَكُونَ مَعْمُولًا بِهِ فِي مُقَابَلَةِ ذَلِكَ الْحَدِيثِ دُونَ بَيَانِ نَصٍّ يَشْهَدُ بِذَلِكَ حَتَّى يَصْلُحَ لِلْجَوَابِ عَمَّا ذَكَرَهُ كَمَا قَرَّرَهُ.

(قَوْلُهُ وَلِأَنَّهُ إنْ كَانَ بَدَلَ النَّفْسِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ نَفْسٌ عَلَى حِدَةٍ فَهُوَ بَدَلُ الْعُضْوِ مِنْ حَيْثُ الِاتِّصَالُ بِالْأُمِّ فَعَمِلْنَا بِالشَّبَهِ الْأَوَّلِ فِي حَقِّ التَّوْرِيثِ وَبِالثَّانِي فِي حَقِّ التَّأْجِيلِ إلَى سَنَةٍ) أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لِمَ لَمْ يَعْكِسْ الْأَمْرَ: أَيْ لَمْ يَعْمَلْ فِي حَقِّ التَّأْجِيلِ بِالشَّبَهِ الْأَوَّلِ وَفِي حَقِّ التَّوْرِيثِ بِالشَّبَهِ الثَّانِي، وَمَا لَمْ يُبَيِّنْ وَجْهَ ذَلِكَ لَا يَتِمُّ الْمَطْلُوبُ هَاهُنَا. وَالْأَظْهَرُ فِي تَقْرِيرِ التَّعْلِيلِ هَاهُنَا مَا ذَكَرَ فِي الْكَافِي أَخْذًا مِنْ الْمَبْسُوطِ حَيْثُ قَالَ: وَلِأَنَّهُ إذَا كَانَ بَدَلَ النَّفْسِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ نَفْسٌ مُودَعَةٌ فِي الْأُمِّ حَتَّى يَنْفَصِلَ عَنْهَا حَيَّةً فَالْجِنَايَةُ عَلَيْهِ قَبْلَ الِانْفِصَالِ تُعْتَبَرُ بِالْجِنَايَةِ عَلَيْهِ بَعْدَ الِانْفِصَالِ فَهُوَ بَدَلُ الْعُضْوِ مِنْ حَيْثُ الِاتِّصَالُ بِالْأُمِّ فَلَا يَثْبُتُ مِنْ التَّأْجِيلِ إلَّا قَدْرُ الْمُتَيَقَّنِ انْتَهَى تَدَبَّرْ تَفْهَمْ (قَوْلُهُ لِأَنَّ بَدَلَ الْعُضْوِ إذَا كَانَ ثُلُثَ الدِّيَةِ أَوْ أَقَلَّ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ الْعُشْرِ) يَجِبُ فِي سَنَةٍ قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ مِنْ لَفْظِ الْكِتَابِ، وَقَوْلُهُ أَكْثَرَ بِدُونِ الْوَاوِ بَدَلٌ مِنْ أَقَلَّ: أَيْ إذَا كَانَ ذَلِكَ الْأَقَلُّ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ الْعُشْرِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ أَوْ أَكْثَرَ، وَفِي بَعْضِهَا وَأَكْثَرَ، وَكِلَاهُمَا غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّهُ لَا يَبْقَى بَدَلًا حِينَئِذٍ، انْتَهَى كَلَامُهُ وَتَبِعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ الشُّرَّاحِ وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: قَوْلُهُ لِأَنَّ بَدَلَ الْعُضْوِ إذَا كَانَ ثُلُثَ الدِّيَةِ أَوْ أَقَلَّ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ الْعُشْرِ هُوَ الصَّحِيحُ مِنْ النُّسَخِ، وَفِي بَعْضِهَا أَوْ أَكْثَرَ، وَفِي بَعْضِهَا وَأَكْثَرَ قَالَ الشَّارِحُونَ: وَكِلَاهُمَا غَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّ الْمُرَادَ أَنْ يَكُونَ الْأَقَلُّ مِنْ ثُلُثِ الدِّيَةِ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ الْعُشْرِ، وَهُوَ إنَّمَا يَكُونُ إذَا كَانَ الْأَكْثَرُ صِفَةً لِأَقَلَّ أَوْ بَدَلًا مِنْهُ، وَلَعَلَّ الْعَطْفَ بِالْوَاوِ يُفِيدُ ذَلِكَ إلَى هُنَا لَفْظُهُ. أَقُولُ: فِيهِ شَيْءٌ، وَهُوَ أَنَّ بَيْنَ قَوْلِهِ وَلَعَلَّ الْعَطْفُ بِالْوَاوِ يُفِيدُ ذَلِكَ أَيْضًا وَبَيْنَ قَوْلِهِ هُوَ الصَّحِيحُ مِنْ النُّسَخِ بِقَصْرِ الصِّحَّةِ عَلَى الْأَوَّلِ تَدَافُعًا لَا يَخْفَى، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ قَصْرَ الصِّحَّةِ عَلَى الْأَوَّلِ مِنْ الرِّوَايَةِ لَا مِنْ حَيْثُ سَدَادُ الْمَعْنَى فَحِينَئِذٍ يَنْدَفِعُ التَّدَافُعُ. وَقَالَ صَاحِبُ الْغَايَةِ: وَقَوْلُهُ أَكْثَرَ بِدُونِ الْوَاوِ الْعَاطِفَةِ فِي أَوَّلِهِ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِقَوْلِهِ أَقَلَّ: أَيْ إذَا كَانَ بَدَلُ الْعُضْوِ ثُلُثَ الدِّيَةِ أَوْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ ثُلُثِ الدِّيَةِ،

ص: 303

(وَيَسْتَوِي فِيهِ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى) لِإِطْلَاقِ مَا رَوَيْنَا، وَلِأَنَّ فِي الْجَنِينِ إنَّمَا ظَهَرَ التَّفَاوُتُ لِتَفَاوُتِ مَعَانِي الْآدَمِيَّةِ وَلَا تَفَاوُتَ فِي الْجَنِينِ فَيُقَدَّرُ بِمِقْدَارٍ وَاحِدٍ وَهُوَ خَمْسُمِائَةٍ.

(فَإِنْ أَلْقَتْهُ حَيًّا ثُمَّ مَاتَ فَفِيهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ) لِأَنَّهُ أَتْلَفَ حَيًّا بِالضَّرْبِ السَّابِقِ (وَإِنْ أَلْقَتْهُ مَيِّتًا ثُمَّ مَاتَتْ الْأُمُّ فَعَلَيْهِ دِيَةٌ بِقَتْلِ الْأُمِّ وَغُرَّةٌ بِإِلْقَائِهَا) وَقَدْ صَحَّ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَضَى فِي هَذَا بِالدِّيَةِ وَالْغُرَّةِ» (وَإِنْ مَاتَتْ الْأُمُّ مِنْ الضَّرْبَةِ ثُمَّ خَرَجَ الْجَنِينُ بَعْدَ ذَلِكَ حَيًّا ثُمَّ مَاتَ فَعَلَيْهِ دِيَةٌ فِي الْأُمِّ وَدِيَةٌ فِي الْجَنِينِ) لِأَنَّهُ قَاتِلُ شَخْصَيْنِ (وَإِنْ مَاتَتْ ثُمَّ أَلْقَتْ مَيِّتًا فَعَلَيْهِ دِيَةٌ فِي الْأُمِّ وَلَا شَيْءَ فِي الْجَنِينِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تَجِبُ الْغُرَّةُ فِي الْجَنِينِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مَوْتُهُ بِالضَّرْبِ فَصَارَ كَمَا إذَا أَلْقَتْهُ مَيِّتًا وَهِيَ حَيَّةٌ. وَلَنَا أَنَّ مَوْتَ الْأُمِّ أَحَدُ سَبَبَيْ مَوْتِهِ لِأَنَّهُ يَخْتَنِقُ بِمَوْتِهَا إذْ تَنَفُّسُهُ بِتَنَفُّسِهَا فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ بِالشَّكِّ. قَالَ (وَمَا يَجِبُ

وَكَانَ ذَلِكَ الْأَقَلُّ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ عُشْرِ الدِّيَةِ يَجِبُ فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَكِنْ لَنَا فِي التَّقْيِيدِ بِالْأَكْثَرِ نَظَرٌ، لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ عُشْرِ الدِّيَةِ بَلْ كَانَ قَدْرَ نِصْفِ عُشْرِ الدِّيَةِ إلَى ثُلُثِهَا يَجِبُ فِي سَنَةٍ انْتَهَى.

وَنَقَلَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ مَضْمُونَ نَظَرِهِ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِلْجَوَابِ عَنْهُ حَيْثُ قَالَ: وَفِي بَعْضِ الشُّرُوحِ أَنَّ تَقْيِيدَهُ بِالْأَكْثَرِ لَيْسَ بِمُفِيدٍ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ نِصْفَ الْعُشْرِ كَانَ الْحُكْمُ كَذَلِكَ انْتَهَى فَكَأَنَّهُ ارْتَضَاهُ. وَأَشَارَ صَاحِبُ الْكِفَايَةِ إلَى الْجَوَابِ عَنْهُ حَيْثُ قَالَ بَعْدَ تَصْحِيحِ النُّسْخَةِ الْأُولَى: لَكِنَّ التَّقْرِيبَ إنَّمَا يَتَأَتَّى أَنْ لَوْ كَانَ نِصْفُ الْعُشْرِ وَاجِبًا فِي سَنَةٍ، لِأَنَّ الْغُرَّةَ مُقَدَّرَةٌ بِنِصْفِ الْعُشْرِ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ الْعُشْرِ مُؤَجَّلًا بِسَنَةٍ فَأَوْلَى أَنْ يَكُونَ نِصْفُ الْعُشْرِ مُؤَجَّلًا بِهَا انْتَهَى. أَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ، إذْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ إذَا كَانَ مَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْ نِصْفِ الْعُشْرِ مُؤَجَّلًا بِسَنَةٍ فَأَوْلَى أَنْ يَكُونَ نِصْفُ الْعُشْرِ أَيْضًا مُؤَجَّلًا بِسَنَةٍ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ نِصْفُ الْعُشْرِ غَيْرَ مُؤَجَّلٍ أَصْلًا كَأَقَلَّ مِنْ نِصْفِ الْعُشْرِ أَوْ يَكُونَ مُؤَجَّلًا بِأَقَلَّ مِنْ سَنَةٍ وَبِذَلِكَ لَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ كَمَا لَا يَخْفَى.

(قَوْلُهُ وَلَنَا أَنَّ مَوْتَ الْأُمِّ أَحَدُ سَبَبَيْ مَوْتِهِ لِأَنَّهُ يَخْتَنِقُ بِمَوْتِهَا إذْ تَنَفُّسُهُ بِتَنَفُّسِهَا فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ بِالشَّكِّ) اُعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ الشَّكَّ ثَابِتٌ فِيمَا إذَا أَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْمَوْتُ بِالضَّرْبِ

ص: 304

فِي الْجَنِينِ مَوْرُوثٌ عَنْهُ) لِأَنَّهُ بَدَلُ نَفْسِهِ فَيَرِثُهُ وَرَثَتُهُ (وَلَا يَرِثُهُ الضَّارِبُ، حَتَّى لَوْ ضَرَبَ بَطْنَ امْرَأَتِهِ فَأَلْقَتْ ابْنَهُ مَيِّتًا فَعَلَى عَاقِلَةِ الْأَبِ غُرَّةٌ وَلَا يَرِثُ مِنْهَا) لِأَنَّهُ قَاتِلٌ بِغَيْرِ حَقٍّ مُبَاشَرَةً وَلَا مِيرَاثَ لِلْقَاتِلِ.

قَالَ: (وَفِي جَنِينِ الْأَمَةِ إذَا كَانَ ذَكَرًا نِصْفُ عُشْرِ قِيمَتِهِ لَوْ كَانَ حَيًّا وَعُشْرُ قِيمَتِهِ لَوْ كَانَ أُنْثَى) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: فِيهِ عُشْرُ قِيمَةِ الْأُمِّ، لِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ وَجْهٍ، وَضَمَانُ الْأَجْزَاءِ يُؤْخَذُ مِقْدَارُهَا مِنْ الْأَصْلِ. وَلَنَا أَنَّهُ بَدَلُ نَفْسِهِ لِأَنَّ ضَمَانَ الطَّرَفِ لَا يَجِبُ إلَّا عِنْدَ ظُهُورِ النُّقْصَانِ، وَلَا مُعْتَبَرَ فِي ضَمَانِ الْجَنِينِ فَكَانَ بَدَلَ نَفْسِهِ فَيُقَدَّرُ بِهَا. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَجِبُ ضَمَانُ النُّقْصَانِ لَوْ انْتَقَصَتْ الْأُمُّ اعْتِبَارًا بِجَنِينِ الْبَهَائِمِ، وَهَذَا لِأَنَّ الضَّمَانَ فِي قَتْلِ الرَّقِيقِ ضَمَانُ مَالٍ عِنْدَهُ عَلَى مَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فَصَحَّ الِاعْتِبَارُ عَلَى أَصْلِهِ. قَالَ (فَإِنْ ضُرِبَتْ فَأَعْتَقَ الْمَوْلَى مَا فِي بَطْنِهَا ثُمَّ أَلْقَتْهُ حَيًّا ثُمَّ مَاتَ فَفِيهِ قِيمَتُهُ حَيًّا وَلَا تَجِبُ الدِّيَةُ وَإِنْ مَاتَ بَعْدَ الْعِتْقِ) لِأَنَّهُ قَتَلَهُ بِالضَّرْبِ السَّابِقِ وَقَدْ كَانَ فِي حَالَةِ الرِّقِّ فَلِهَذَا تَجِبُ الْقِيمَةُ دُونَ الدِّيَةِ، وَتَجِبُ قِيمَتُهُ حَيًّا لِأَنَّهُ بِالضَّرْبِ صَارَ قَاتِلًا إيَّاهُ وَهُوَ حَيٌّ فَنَظَرْنَا إلَى حَالَتَيْ السَّبَبِ وَالتَّلَفِ.

وَاحْتِمَالِ أَنَّهُ لَمْ يُنْفَخْ فِيهِ الرُّوحُ، وَمَعَ ذَلِكَ وَجَبَ الضَّمَانُ وَهُوَ أَوَّلُ مَا ذُكِرَ فِي هَذَا الْفَصْلِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْغُرَّةَ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ ثَبَتَتْ بِالنَّصِّ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ كَمَا ذَكَرْنَا، وَلَيْسَ مَا نَحْنُ فِيهِ فِي مَعْنَاهُ لِأَنَّ فِيهِ الِاحْتِمَالَ مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ، وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ وُجُوهٍ وَهِيَ احْتِمَالُ عَدَمِ نَفْخِ الرُّوحِ وَالْمَوْتِ بِسَبَبِ انْقِطَاعِ الْغِذَاءِ بِسَبَبِ مَوْتِ الْأُمِّ وَبِسَبَبِ تَخْنِيقِ الرَّحِمِ وَغَمِّ الْبَطْنِ، فَلَا يَلْحَقُ بِذَلِكَ قِيَاسًا وَلَا دَلَالَةً فَبَقِيَ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ وَهُوَ عَدَمُ وُجُوبِ الضَّمَانِ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ أَخْذًا مِنْ النِّهَايَةِ.

وَأَوْرَدَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ عَلَى هَذَا الْجَوَابِ حَيْثُ قَالَ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: النَّصُّ وَهُوَ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «فِي الْجَنِينِ غُرَّةٌ» يَشْمَلُهُ فَلَا حَاجَةَ إلَى الْإِلْحَاقِ انْتَهَى. أَقُولُ: هَذَا أَمْرٌ عَجِيبٌ مِنْ مِثْلِهِ، فَإِنَّ مَضْمُونَ إيرَادِهِ مَعَ جَوَابِهِ مَذْكُورٌ فِي شَرْحِ تَاجِ الشَّرِيعَةِ، فَإِنْ كَانَ جَوَابُهُ الْمَذْكُورُ هُنَاكَ مَقْبُولًا عِنْدَ هَذَا الْقَائِلِ فَمَا مَعْنَى ذِكْرِ السُّؤَالِ وَتَرْكِ الْجَوَابِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الْجَوَابُ مَقْبُولًا عِنْدَهُ كَانَ عَلَيْهِ بَيَانُ فَسَادِهِ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَنْظُرْ إلَى مَا فِي شَرْحِ تَاجِ الشَّرِيعَةِ هُنَا وَلَمْ يَظْفَرْ بِجَوَابِ إيرَادِهِ أَصْلًا، وَاَلَّذِي ذُكِرَ فِي شَرْحِ تَاجِ الشَّرِيعَةِ هُنَا هَكَذَا. فَإِنْ قُلْت: عُمُومُ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «فِي الْجَنِينِ غُرَّةٌ، عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ» يَتَنَاوَلُ الْمُتَنَازَعَ فِيهِ. قُلْت: لَا بُدَّ مِنْ إضْمَارٍ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ فِي إتْلَافِ الْجَنِينِ غُرَّةٌ، وَالشَّكُّ وَاقِعٌ فِي ذَلِكَ انْتَهَى، تَأَمَّلْ فِي تَفْصِيلِ جَوَابِهِ لَعَلَّهُ سَمْتٌ صَالِحٌ (قَوْلُهُ وَلَنَا أَنَّهُ بَدَلُ نَفْسِهِ لِأَنَّ ضَمَانَ الطَّرَفِ لَا يَجِبُ إلَّا عِنْدَ ظُهُورِ النُّقْصَانِ وَلَا مُعْتَبَرَ بِهِ فِي ضَمَانِ الْجَنِينِ فَكَانَ بَدَلَ نَفْسِهِ فَيُقَدَّرُ بِهَا)

ص: 305

وَقِيلَ: هَذَا عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ تَجِبُ قِيمَتُهُ مَا بَيْنَ كَوْنِهِ مَضْرُوبًا إلَى كَوْنِهِ غَيْرَ مَضْرُوبٍ، لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ قَاطِعٌ لِلسَّرَايَةِ عَلَى مَا يَأْتِيك بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ:(وَلَا كَفَّارَةَ فِي الْجَنِينِ) وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ تَجِبُ لِأَنَّهُ نَفْسٌ مِنْ وَجْهٍ فَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ احْتِيَاطًا. وَلَنَا أَنَّ الْكَفَّارَةَ فِيهَا مَعْنَى الْعُقُوبَةِ وَقَدْ عُرِفَتْ فِي النُّفُوسِ الْمُطْلَقَةِ فَلَا تَتَعَدَّاهَا وَلِهَذَا لَمْ يَجِبْ كُلُّ الْبَدَلِ. قَالُوا: إلَّا أَنْ يَشَاءَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ ارْتَكَبَ مَحْظُورًا، فَإِذَا تَقَرَّبَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى كَانَ أَفْضَلَ لَهُ وَيَسْتَغْفِرُ مِمَّا صَنَعَ (وَالْجَنِينُ الَّذِي قَدْ اسْتَبَانَ بَعْضُ خَلْقِهِ بِمَنْزِلَةِ الْجَنِينِ التَّامِّ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ) لِإِطْلَاقِ مَا رَوَيْنَا، وَلِأَنَّهُ وَلَدٌ فِي حَقِّ أُمُومِيَّةِ الْوَلَدِ وَانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَالنِّفَاسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَكَذَا فِي حَقِّ هَذَا الْحُكْمِ، وَلِأَنَّ بِهَذَا الْقَدْرِ يَتَمَيَّزُ مِنْ الْعَلَقَةِ وَالدَّمِ فَكَانَ نَفْسَهَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. .

. قَالَ (وَمَنْ أَخْرَجَ إلَى الطَّرِيقِ الْأَعْظَمِ كَنِيفًا أَوْ مِيزَابًا أَوْ جُرْصُنًا أَوْ بَنَى دُكَّانًا فَلِرَجُلٍ مِنْ عَرَضِ النَّاسِ أَنْ

أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إنْ أَرَادَ أَنَّهُ بَدَلُ نَفْسِهِ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ سِيَاقِ تَعْلِيلِهِ يَكُونُ مَا ذَكَرَهُ هُنَا مُنَاقِضًا لِمَا قَالَهُ فِيمَا قَبْلُ مِنْ أَنَّهُ إنْ كَانَ بَدَلَ النَّفْسِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ نَفْسٌ عَلَى حِدَةٍ فَهُوَ بَدَلُ الْعُضْوِ مِنْ حَيْثُ الِاتِّصَالُ بِالْأُمِّ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ بَدَلُ نَفْسِهِ مِنْ وَجْهٍ لَا يَكُونُ هَذَا دَلِيلًا عَلَى مُدَّعَانَا دَافِعًا لَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ أَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ وَجْهٍ وَضَمَانُ الْأَجْزَاءِ يُؤْخَذُ مِقْدَارُهَا مِنْ الْأَصْلِ فَلْيُتَأَمَّلْ. .

(بَابُ مَا يُحْدِثُ الرَّجُلُ فِي الطَّرِيقِ).

لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ أَحْكَامِ الْقَتْلِ مُبَاشَرَةً شَرَعَ فِي بَيَانِ أَحْكَامِهِ تَسْبِيبًا، وَقَدَّمَ الْأَوَّلَ لِكَوْنِهِ أَصْلًا لِأَنَّهُ قَتْلٌ بِلَا وَاسِطَةٍ وَلِكَوْنِهِ

ص: 306

يَنْزِعَهُ) لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ صَاحِبُ حَقٍّ بِالْمُرُورِ بِنَفْسِهِ وَبِدَوَابِّهِ فَكَانَ لَهُ حَقُّ النَّقْضِ، كَمَا فِي الْمِلْكِ الْمُشْتَرَكِ فَإِنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ حَقُّ النَّقْضِ لَوْ أَحْدَثَ غَيْرُهُمْ فِيهِ شَيْئًا فَكَذَا فِي الْحَقِّ الْمُشْتَرَكِ. قَالَ:(وَيَسَعُ لِلَّذِي عَمِلَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ مَا لَمْ يَضُرَّ بِالْمُسْلِمِينَ) لِأَنَّ لَهُ حَقَّ الْمُرُورِ وَلَا ضَرَرَ فِيهِ فَلْيُلْحَقْ مَا فِي مَعْنَاهُ بِهِ، إذْ الْمَانِعُ مُتَعَنَّتٌ، فَإِذَا أَضَرَّ بِالْمُسْلِمِينَ كُرِهَ لَهُ ذَلِكَ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ فِي الْإِسْلَامِ» قَالَ:(وَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الدَّرْبِ الَّذِي لَيْسَ بِنَافِذٍ أَنْ يَشْرَعَ كَنِيفًا أَوْ مِيزَابًا إلَّا بِإِذْنِهِمْ) لِأَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ لَهُمْ وَلِهَذَا وَجَبَتْ الشُّفْعَةُ لَهُمْ عَلَى كُلِّ حَالٍ، فَلَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ أَضَرَّ بِهِمْ أَوْ لَمْ يَضُرَّ إلَّا بِإِذْنِهِمْ. وَفِي الطَّرِيقِ النَّافِذِ لَهُ التَّصَرُّفُ إلَّا إذَا أَضَرَّ لِأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ الْوُصُولُ إلَى إذْنِ الْكُلِّ، فَجُعِلَ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ كَأَنَّهُ هُوَ الْمَالِكُ وَحْدَهُ حُكْمًا كَيْ لَا يَتَعَطَّلَ عَلَيْهِ طَرِيقُ الِانْتِفَاعِ، وَلَا كَذَلِكَ غَيْرُ النَّافِذِ لِأَنَّ الْوُصُولَ إلَى إرْضَائِهِمْ مُمْكِنٌ فَبَقِيَ عَلَى الشَّرِكَةِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا. .

قَالَ: (وَإِذَا أَشْرَعَ فِي الطَّرِيقِ رَوْشَنًا أَوْ مِيزَابًا أَوْ نَحْوَهُ فَسَقَطَ عَلَى إنْسَانٍ فَعَطِبَ فَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ) لِأَنَّهُ سَبَبٌ لِتَلَفِهِ

أَكْثَرَ وُقُوعًا فَكَانَتْ أَمَسُّ حَاجَةٍ إلَى مَعْرِفَةِ أَحْكَامِهِ (قَوْلُهُ وَيَسَعُ لِلَّذِي عَمِلَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ مَا لَمْ يَضُرَّ بِالْمُسْلِمِينَ لِأَنَّ لَهُ حَقَّ الْمُرُورِ وَلَا ضَرَرَ فِيهِ فَلْيُلْحَقْ بِهِ مَا فِي مَعْنَاهُ إذْ الْمَانِعُ مُتَعَنَّتٌ) أَقُولُ: هَذَا الْمَقَامُ مَحَلُّ الْكَلَامِ، فَإِنَّ الْمُدَّعَى هُنَا وَهُوَ إبَاحَةُ الِانْتِفَاعِ بِالْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ آنِفًا لِلَّذِي عَمِلَهَا مَا لَمْ يَضُرَّ بِالْمُسْلِمِينَ مَسْأَلَةٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا بَيْنَ الْأَئِمَّةِ، وَدَلِيلُهُ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ لَا يَتَمَشَّى إلَّا عَلَى أَصْلِ مُحَمَّدٍ.

أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ قَوْلَهُ فَلْيُلْحَقْ بِهِ مَا هُوَ فِي مَعْنَاهُ لَيْسَ بِتَامٍّ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، إذْ قَدْ صُرِّحَ فِي الشُّرُوحِ وَعَامَّةِ الْمُعْتَبَرَاتِ أَنَّ أَصْلَهُمَا أَنَّ لِكُلِّ أَحَدٍ مِنْ عَرَضِ النَّاسِ مُسْلِمًا كَانَ أَوْ ذِمِّيًّا أَنْ يَمْنَعَ الْعَامِلَ مِنْ الْوَضْعِ سَوَاءٌ كَانَ

ص: 307

مُتَعَدٍّ بِشَغْلِهِ هَوَاءَ الطَّرِيقِ، وَهَذَا مِنْ أَسْبَابِ الضَّمَانِ وَهُوَ الْأَصْلُ، وَكَذَلِكَ إذَا سَقَطَ شَيْءٌ مِمَّا ذَكَرْنَا فِي أَوَّلِ الْبَابِ (وَكَذَا إذَا تَعَثَّرَ بِنَقْضِهِ إنْسَانٌ أَوْ عَطِبَتْ بِهِ دَابَّةٌ، وَإِنْ عَثَرَ بِذَلِكَ رَجُلٌ فَوَقَعَ عَلَى آخَرَ فَمَاتَا فَالضَّمَانُ عَلَى الَّذِي أَحْدَثَهُ فِيهِمَا) لِأَنَّهُ يَصِيرُ كَالدَّافِعِ إيَّاهُ عَلَيْهِ (وَإِنْ سَقَطَ الْمِيزَابُ بِطَرَفَانِ أَصَابَ مَا كَانَ مِنْهُ فِي الْحَائِطِ رَجُلًا فَقَتَلَهُ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ) لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فِيهِ لِمَا أَنَّهُ وَضَعَهُ فِي مِلْكِهِ (وَإِنْ أَصَابَهُ مَا كَانَ خَارِجًا مِنْ الْحَائِطِ فَالضَّمَانُ عَلَى الَّذِي وَضَعَهُ فِيهِ) لِكَوْنِهِ مُتَعَدِّيًا فِيهِ، وَلَا ضَرُورَةَ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يُرَكِّبَهُ فِي الْحَائِطِ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، وَلَا يُحْرَمُ عَنْ الْمِيرَاثِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِقَاتِلٍ حَقِيقَةً (وَلَوْ أَصَابَهُ الطَّرَفَانِ جَمِيعًا وَعَلِمَ ذَلِكَ وَجَبَ نِصْفُ الدِّيَةِ وَهُدِرَ النِّصْفُ كَمَا إذَا جَرَحَهُ سَبُعٌ وَإِنْسَانٌ، وَلَوْ لَمْ يُعْلَمْ أَيُّ طَرَفٍ أَصَابَهُ يَضْمَنُ النِّصْفَ) اعْتِبَارًا لِلْأَحْوَالِ (وَلَوْ أَشْرَعَ جَنَاحًا إلَى الطَّرِيقِ ثُمَّ بَاعَ الدَّارَ فَأَصَابَ الْجَنَاحُ رَجُلًا فَقَتَلَهُ أَوْ وَضَعَ خَشَبَةً فِي الطَّرِيقِ

فِيهِ ضَرَرٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ إذَا أَرَادَ الْوَضْعَ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ، لِأَنَّ فِيهِ الِافْتِيَاتَ عَلَى رَأْيِ الْإِمَامِ فِيمَا إلَيْهِ تَدْبِيرُهُ، فَلِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يُنْكِرَ عَلَيْهِ؛ فَظَهَرَ مِنْهُ أَنَّ عَمَلَ ذَلِكَ وَالِانْتِفَاعَ بِهِ يَشْتَمِلُ عَلَى أَمْرٍ مُنْكَرٍ عَلَى أَصْلِهِمَا وَهُوَ الِافْتِيَاتُ عَلَى رَأْيِ الْإِمَامِ فِيمَا إلَيْهِ تَدْبِيرُهُ وَإِنْ لَمْ يَضُرَّ بِالْمُسْلِمِينَ، فَلَمْ يُتَصَوَّرْ عِنْدَهُمَا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي مَعْنَى الْمُرُورِ الَّذِي لَا يَشْتَمِلُ عَلَى أَمْرٍ مُنْكَرٍ أَصْلًا حَتَّى يَصِحَّ إلْحَاقُ ذَلِكَ بِهِ، وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ قَوْلَهُ إذْ الْمَانِعُ مُتَعَنَّتٌ لَيْسَ بِتَامٍّ أَيْضًا عَلَى أَصْلِهِمَا قَطْعًا، إذْ لَوْ صَحَّ عِنْدَهُمَا كَوْنُ الْمَانِعِ مُتَعَنَّتًا لَمَا ذَهَبَ إلَى جَوَازِ مَنْعِهِ شَرْعًا وَقَدْ عَرَفْت كَوْنَ مَذْهَبِهِمَا ذَلِكَ وَدَلِيلَهُمَا الَّذِي أَقَامَا عَلَيْهِ فَتَبَصَّرْ.

(قَوْلُهُ وَكَذَلِكَ إذَا سَقَطَ شَيْءٌ مِمَّا ذَكَرْنَا فِي أَوَّلِ الْبَابِ) قَالَ الشُّرَّاحُ: يَعْنِي الْكَنِيفَ وَالْمِيزَابَ وَالْجُرْصُنَ. أَقُولُ: لَعَلَّ قَوْلَ الْمُصَنَّفِ هَذَا مُسْتَدْرَكٌ، لِأَنَّ مَا مَرَّ آنِفًا مِنْ لَفْظِ مُخْتَصَرِ الْقُدُورِيِّ وَهُوَ قَوْلُهُ وَإِذَا أَشْرَعَ فِي الطَّرِيقِ رَوْشَنًا أَوْ مِيزَابًا أَوْ نَحْوَهُ فَسَقَطَ عَلَى إنْسَانٍ فَعَطِبَ فَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ كَانَ مُتَنَاوِلًا لِجَمِيعِ مَا ذُكِرَ فِي أَوَّلِ الْبَابِ. أَمَّا لِلْمِيزَابِ فَصَرَاحَةً كَمَا تَرَى. وَأَمَّا لِغَيْرِ ذَلِكَ فَبِعُمُومِ قَوْلِهِ أَوْ نَحْوِهِ فَلَا حَاجَةَ إلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ هُنَا بَلْ لَا وَجْهَ لِلَّفْظِ، وَكَذَلِكَ سِيَّمَا بِالنَّظَرِ إلَى الْمِيزَابِ تَأَمَّلْ (قَوْلُهُ وَكَذَا إذَا تَعَثَّرَ بِنَقْضِهِ إنْسَانٌ أَوْ عَطِبَتْ بِهِ دَابَّةٌ)

ص: 308

ثُمَّ بَاعَ الْخَشَبَةَ وَبَرِئَ إلَيْهِ مِنْهَا فَتَرَكَهَا الْمُشْتَرِي حَتَّى عَطِبَ بِهَا إنْسَانٌ فَالضَّمَانُ عَلَى الْبَائِعِ) لِأَنَّ فِعْلَهُ وَهُوَ الْوَضْعُ لَمْ يَنْفَسِخْ بِزَوَالِ مِلْكِهِ وَهُوَ الْمُوجِبُ (وَلَوْ وَضَعَ فِي الطَّرِيقِ جَمْرًا فَأَحْرَقَ شَيْئًا يَضْمَنُهُ) لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِيهِ (وَلَوْ حَرَّكَتْهُ الرِّيحُ إلَى مَوْضِعٍ آخَرَ ثُمَّ أَحْرَقَ شَيْئًا لَا يَضْمَنُهُ) لِنَسْخِ الرِّيحِ فِعْلَهُ، وَقِيلَ إذَا كَانَ الْيَوْمُ رِيحًا يَضْمَنُهُ لِأَنَّهُ فَعَلَهُ مَعَ عِلْمِهِ بِعَاقِبَتِهِ وَقَدْ أَفْضَى إلَيْهَا فَجُعِلَ كَمُبَاشَرَتِهِ.

(وَلَوْ اسْتَأْجَرَ رَبُّ الدَّارِ الْفَعَلَةَ لِإِخْرَاجِ الْجَنَاحِ أَوْ الظُّلَّةِ فَوَقَعَ فَقَتَلَ إنْسَانًا قَبْلَ أَنْ يَفْرُغُوا مِنْ الْعَمَلِ فَالضَّمَانُ عَلَيْهِمْ) لِأَنَّ التَّلَفَ بِفِعْلِهِمْ (وَمَا لَمْ يَفْرُغُوا لَمْ يَكُنْ الْعَمَلُ مُسَلَّمًا إلَى رَبِّ الدَّارِ) وَهَذَا لِأَنَّهُ انْقَلَبَ فِعْلُهُمْ قَتْلًا حَتَّى وَجَبَتْ عَلَيْهِمْ الْكَفَّارَةُ، وَالْقَتْلُ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي عَقْدِهِ فَلَمْ يَتَسَلَّمْ فِعْلُهُمْ إلَيْهِ فَاقْتَصَرَ عَلَيْهِمْ (وَإِنْ سَقَطَ بَعْدَ فَرَاغِهِمْ فَالضَّمَانُ عَلَى رَبِّ الدَّارِ اسْتِحْسَانًا)

أَقُولُ: فِيهِ نَوْعُ تَسَاهُلٍ، لِأَنَّ جَوَابَ الْمَسْأَلَةِ السَّابِقَةِ وُجُوبُ الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَفِيمَا إذَا عَطِبَتْ بِهِ دَابَّةٌ يَجِبُ ضَمَانُهَا فِي مَالِهِ صَرَّحَ بِهِ فِي الْكَافِي وَغَيْرِهِ، وَكَلِمَةُ كَذَا تَقْتَضِي الِاشْتِرَاكَ فِي الْجَوَابِ وَهُوَ غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ فِي قَوْلِهِ أَوْ عَطِبَتْ بِهِ دَابَّةٌ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِكَلِمَةِ كَذَا هُنَا هُوَ التَّشْبِيهُ وَالتَّشْرِيكُ فِي مُجَرَّدِ وُجُوبِ الضَّمَانِ لَا فِي وُجُوبِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْخَاصِّ الْمَذْكُورِ فِيمَا سَبَقَ، فَيَعُمُّ قَوْلَهُ إذَا تَعَثَّرَ بِنَقْضِهِ إنْسَانٌ.

وَقَوْلَهُ أَوْ عَطِبَتْ بِهِ دَابَّةٌ، لَكِنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ مِنْ الْعِبَارَةِ فَهُوَ عَيْنُ التَّسَاهُلِ.

(قَوْلُهُ وَلَوْ اسْتَأْجَرَ رَبُّ الدَّارِ الْفَعَلَةَ لِإِخْرَاجِ الْجَنَاحِ أَوْ الظُّلَّةِ فَوَقَعَ فَقَتَلَ إنْسَانًا قَبْلَ أَنْ يَفْرُغُوا مِنْ الْعَمَلِ فَالضَّمَانُ عَلَيْهِمْ إلَخْ) قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: هُوَ عَلَى وُجُوهٍ: إنْ قَالَ مُخْرِجُ الْجَنَاحِ لِلْأُجَرَاءِ: ابْنُوا جَنَاحًا لِي عَلَى فِنَاءِ دَارِي فَإِنَّهُ مِلْكِي أَوْ لِي حَقُّ إشْرَاعِ الْجَنَاحِ إلَيْهِ مِنْ الْقَدِيمِ وَلَمْ يَعْلَمْ الْعَمَلَةُ بِخِلَافِ مَا قَالَهُ فَفَعَلُوا ثُمَّ سَقَطَ فَأَصَابَ شَيْئًا فَالضَّمَانُ عَلَيْهِمْ، وَيَرْجِعُونَ بِالضَّمَانِ عَلَى الْآمِرِ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا سَوَاءٌ سَقَطَ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْ الْعَمَلِ أَوْ بَعْدَهُ، لِمَا أَنَّ الضَّمَانَ وَجَبَ عَلَى الْعَامِلِ بِأَمْرِ الْآمِرِ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَ غَيْرَهُ لِيَذْبَحَ لَهُ شَاةً ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ الشَّاةُ بَعْدَ الذَّبْحِ فَلِلْمُسْتَحِقِّ أَنْ يُضَمِّنَ الذَّابِحَ وَيَرْجِعَ الذَّابِحُ بِهِ عَلَى الْآمِرِ وَلِأَنَّهُ غَرَّهُ كَذَا هَذَا.

وَإِنْ قَالَ

ص: 309

لِأَنَّهُ صَحَّ الِاسْتِئْجَارُ حَتَّى اسْتَحَقُّوا الْأَجْرَ وَوَقَعَ فِعْلُهُمْ عِمَارَةً وَإِصْلَاحًا فَانْتَقَلَ فِعْلُهُمْ إلَيْهِ فَكَأَنَّهُ فَعَلَ بِنَفْسِهِ فَلِهَذَا يَضْمَنُهُ (وَكَذَا إذَا صَبَّ الْمَاءَ فِي الطَّرِيقِ فَعَطِبَ بِهِ إنْسَانٌ أَوْ دَابَّةٌ، وَكَذَا إذَا رَشَّ الْمَاءَ أَوْ تَوَضَّأَ) لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِيهِ بِإِلْحَاقِ الضَّرَرِ بِالْمَارَّةِ (بِخِلَافِ مَا إذَا فَعَلَ ذَلِكَ فِي سِكَّةٍ غَيْرِ نَافِذَةٍ وَهُوَ مِنْ أَهْلِهَا أَوْ قَعَدَ أَوْ وَضَعَ مَتَاعَهُ) لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ فِيهَا لِكَوْنِهِ مِنْ ضَرُورَاتِ السُّكْنَى كَمَا فِي الدَّارِ الْمُشْتَرَكَةِ. قَالُوا: هَذَا إذَا رَشَّ مَاءً كَثِيرًا بِحَيْثُ يُزْلَقُ بِهِ عَادَةً، أَمَّا إذَا رَشَّ مَاءً قَلِيلًا كَمَا هُوَ الْمُعْتَادُ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يُزْلَقُ بِهِ

الْمُسْتَأْجِرُ لِلْأُجَرَاءِ: اشْرَعُوا لِي جَنَاحًا عَلَى فِنَاءِ دَارِي وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ حَقُّ إشْرَاعِ الْجَنَاحِ أَوْ لَمْ يُخْبِرْهُمْ حَتَّى بَنَوْا جَنَاحًا بِأَمْرِهِ ثُمَّ سَقَطَ فَأَتْلَفَ شَيْئًا، إنْ سَقَطَ قَبْلَ فَرَاغِهِمْ مِنْ الْعَمَلِ فَالضَّمَانُ عَلَى الْأُجَرَاءِ وَلَمْ يَرْجِعُوا قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا، وَإِنْ سَقَطَ بَعْدَ فَرَاغِهِمْ مِنْ الْعَمَلِ فَكَذَلِكَ عَلَى جَوَابِ الْقِيَاسِ لِأَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِمَا لَمْ يَمْلِكْ مُبَاشَرَتَهُ بِنَفْسِهِ وَقَدْ عَلِمُوا بِفَسَادِ الْأَمْرِ فَلَمْ يُحْكَمْ بِالضَّمَانِ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَ لِيَذْبَحَ شَاةَ جَارٍ لَهُ فَذَبَحَ ثُمَّ ضَمِنَ الذَّابِحُ لِلْجَارِ لَمْ يَرْجِعْ بِهِ عَلَى الْآمِرِ، وَكَذَا لَوْ اسْتَأْجَرَهُمْ لِيَبْنُوا بَيْتًا فِي وَسَطِ الطَّرِيقِ ثُمَّ سَقَطَ فَأَتْلَفَ شَيْئًا لَمْ يَرْجِعُوا بِهِ عَلَى الْآمِرِ. وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَكُونُ الضَّمَانُ عَلَى الْآمِرِ لِأَنَّ هَذَا الْأَمْرَ صَحِيحٌ مِنْ حَيْثُ إنَّ فِنَاءَ دَارِهِ مَمْلُوكٌ لَهُ مِنْ وَجْهٍ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ يُبَاحُ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ، وَلَكِنَّهُ غَيْرُ صَحِيحٍ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لَهُ حَيْثُ لَا يَجُوزُ لَهُ بَيْعُهُ، فَمِنْ حَيْثُ إنَّ الْأَمْرَ صَحِيحٌ يَكُونُ قَرَارُ الضَّمَانِ عَلَى الْآمِرِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْعَمَلِ، وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ فَاسِدٌ يَكُونُ الضَّمَانُ عَلَى الْعَامِلِ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْ الْعَمَلِ عَمَلًا بِهِمَا.

وَإِظْهَارُ شِبْهِ الصِّحَّةِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْعَمَلِ أَوْلَى مِنْ إظْهَارِهِ قَبْلَ الْفَرَاغِ، لِأَنَّ أَمْرَ الْآمِرِ إنَّمَا صَحَّ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَمْلِكُ الِانْتِفَاعَ بِفِنَاءِ دَارِهِ، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ لَهُ الْمَنْفَعَةُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْعَمَلِ، كَذَا ذَكَرَ جُمْهُورُ الشُّرَّاحِ هُنَا. أَقُولُ: هَذِهِ الْوُجُوهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِهَذَا التَّفْصِيلِ وَالْبَيَانِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا قَالَهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ وَارْتِضَاءُ جُمْهُورِ الشُّرَّاحِ لَكِنَّهُ مُشْكِلٌ عِنْدِي مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ أَنَّهُمْ قَالُوا فِي تَعْلِيلِ جَوَابِ الْقِيَاسِ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ مِنْ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرُوهَا لِأَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِمَا لَا يَمْلِكُ مُبَاشَرَتَهُ بِنَفْسِهِ وَقَدْ عَلِمُوا بِفَسَادِ الْأَمْرِ، وَهُوَ إنَّمَا يَتِمُّ فِيمَا إذَا أَخْبَرَهُمْ بِأَنْ لَيْسَ لَهُ حَقٌّ فِي ذَلِكَ لَا فِيمَا إذَا لَمْ يُخْبِرْهُمْ بِذَلِكَ، إذْ لَا عِلْمَ لَهُمْ بِفَسَادِ الْأَمْرِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، وَقَدْ سَوَّوْهُمَا فِي وَضْعِ الْمَسْأَلَةِ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ حَيْثُ قَالُوا: وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ حَقُّ إشْرَاعِ الْجَنَاحِ مِنْ الْقَدِيمِ أَوْ لَمْ يُخْبِرْهُمْ. وَالثَّانِي أَنَّهُمْ قَالُوا فِي بَيَانِ وَجْهِ الِاسْتِحْسَانِ فِي الْوَجْهِ الثَّالِثِ أَنَّ أَمْرَهُ غَيْرُ صَحِيحٍ مِنْ حَيْثُ إنَّ فِنَاءَ دَارِهِ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لَهُ حَيْثُ لَا يَجُوزُ لَهُ بَيْعُهُ، وَجَعَلُوا الضَّمَانَ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ عَلَى الْعَامِلِ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْ الْعَمَلِ، مَعَ أَنَّ مَدْخَلِيَّةَ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ فِي فَسَادِ أَمْرِهِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ غَيْرُ ظَاهِرَةٍ، لِأَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِبَيْعِهِ وَلَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ حَتَّى يَفْسُدَ أَمْرُهُ بِذَلِكَ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مَمْلُوكٍ لَهُ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ وَيَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الْفَعَلَةِ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْ الْعَمَلِ، بَلْ أَمَرَهُمْ بِالِانْتِفَاعِ بِذَلِكَ بِإِشْرَاعِ الْجَنَاحِ إلَيْهِ وَفَعَلُوا ذَلِكَ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ مَمْلُوكٌ لَهُ مِنْ حَيْثُ الِانْتِفَاعُ بِهِ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ فَكَيْفَ يَفْسُدُ أَمْرُهُ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ حَتَّى يَجِبَ الضَّمَانُ عَلَيْهِمْ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْ الْعَمَلِ بِنَاءً عَلَى فَسَادِ الْأَمْرِ.

وَالثَّالِثُ أَنَّهُمْ قَالُوا فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ الضَّمَانُ عَلَى الْأُجَرَاءِ وَيَرْجِعُونَ بِهِ عَلَى الْآمِرِ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا سَوَاءٌ سَقَطَ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْ الْعَمَلِ أَوْ بَعْدَهُ. وَقَالُوا فِي الْوَجْهِ الثَّالِثِ: وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَكُونُ الضَّمَانُ

ص: 310

عَادَةً لَا يَضْمَنُ (وَلَوْ تَعَمَّدَ الْمُرُورَ فِي مَوْضِعِ صَبِّ الْمَاءِ فَسَقَطَ لَا يَضْمَنُ الرَّاشُّ) لِأَنَّهُ صَاحِبُ عِلَّةٍ. وَقِيلَ: هَذَا إذَا رَشَّ بَعْضَ الطَّرِيقِ لِأَنَّهُ يَجِدُ مَوْضِعًا لِلْمُرُورِ لَا أَثَرَ لِلْمَاءِ فِيهِ، فَإِذَا تَعَمَّدَ الْمُرُورَ عَلَى مَوْضِعِ صَبِّ الْمَاءِ مَعَ عِلْمِهِ بِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ عَلَى الرَّاشِّ شَيْءٌ، وَإِنْ رَشَّ جَمِيعَ الطَّرِيقِ يَضْمَنُ لِأَنَّهُ مُضْطَرٌّ فِي الْمُرُورِ؛ وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الْخَشَبَةِ الْمَوْضُوعَةِ فِي الطَّرِيقِ فِي أَخْذِهَا جَمِيعَهُ أَوْ بَعْضَهُ (وَلَوْ رَشَّ فِنَاءَ حَانُوتٍ بِإِذْنِ صَاحِبِهِ فَضَمَانُ

عَلَى الْآمِرِ، وَالظَّاهِرُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ الضَّمَانُ فِي الْوَجْهِ الثَّالِثِ فِي جَوَابِ الِاسْتِحْسَانِ عَلَى الْآمِرِ ابْتِدَاءً مَعَ أَنَّ الْفِقْهَ يَقْتَضِي أَوْلَوِيَّةَ كَوْنِ الضَّمَانِ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ أَيْضًا إذَا كَانَ السُّقُوطُ بَعْدَ فَرَاغِهِمْ مِنْ الْعَمَلِ عَلَى الْآمِرِ ابْتِدَاءً، لِأَنَّ الْفَعَلَةَ كَانُوا فِيهِ مَغْرُورِينَ بِقَوْلِ الْآمِرِ: إنَّهُ مِلْكِي أَوْ لِي حَقُّ ذَلِكَ الْفِعْلِ مِنْ الْقَدِيمِ، بِخِلَافِ الْوَجْهِ الثَّالِثِ فِي الْغُرُورِ مَعَ الِاشْتِرَاكِ بَيْنَهُمَا فِي سَائِرِ الْأُمُورِ كَمَا تَرَى. ثُمَّ أَقُولُ: تَقْرِيرُ الْمُصَنِّفِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ وَتَعْلِيلُهَا لَا يُوَافِقُ مَا ذَكَرَهُ الشُّرَّاحُ هُنَا مِنْ التَّفْصِيلِ الْمَنْقُولِ عَنْ شَيْخِ الْإِسْلَامِ، بَلْ يَأْبَاهُ جِدًّا.

قَالَ الْمُصَنِّفُ: جَعَلَ الْمَسْأَلَةَ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا السُّقُوطُ قَبْلَ فَرَاغِهِمْ مِنْ الْعَمَلِ، وَالْآخَرُ السُّقُوطُ بَعْدَ فَرَاغِهِمْ مِنْهُ، وَجَعَلَ حُكْمَ أَحَدِهِمَا مُخَالِفًا لِحُكْمِ الْآخَرِ مُطْلَقًا. وَقَالَ فِي تَعْلِيلِ الْأَوَّلِ: إنَّ التَّلَفَ كَانَ بِفِعْلِهِمْ، وَإِنَّ فِعْلَهُمْ انْقَلَبَ قَتْلًا حَتَّى وَجَبَ عَلَيْهِمْ الْكَفَّارَةُ، وَالْقَتْلُ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي عَقْدِهِ فَلَمْ يُتَسَلَّمْ فِعْلُهُمْ إلَى رَبِّ الدَّارِ فَاقْتَصَرَ عَلَيْهِمْ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا التَّعْلِيلَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الضَّمَانُ عَلَيْهِمْ، وَأَنْ لَا يَرْجِعُوا بِهِ عَلَى الْآمِرِ فِي صُورَةِ السُّقُوطِ قَبْلَ فَرَاغِهِمْ مِنْ الْعَمَلِ مُطْلَقًا: أَيْ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ أَيْضًا مِنْ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرَهَا الشُّرَّاحُ نَقْلًا عَنْ شَيْخِ الْإِسْلَامِ وَهُوَ مَا إذَا أَخْبَرَهُمْ الْآمِرُ بِأَنَّ لَهُ حَقًّا فِي ذَلِكَ، لِأَنَّ فِعْلَهُمْ لَمَّا انْقَلَبَ قَتْلًا وَصَارَ غَيْرَ دَاخِلٍ فِي عَقْدِ الْآمِرِ وَلَمْ يَتَسَلَّمْ إلَيْهِ بَلْ اقْتَصَرَ عَلَيْهِمْ كَانَ إخْبَارُهُ لَهُمْ بِأَنَّ لَهُ حَقًّا فِي ذَلِكَ، وَعَدَمُ إخْبَارِهِ لَهُمْ بِذَلِكَ سَيَتَبَيَّنُ قَطْعًا، وَيَقْتَضِي أَنْ لَا يَتِمَّ فِي صُورَةِ السُّقُوطِ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْ الْعَمَلِ التَّعْلِيلُ الَّذِي ذَكَرُوهُ لِرُجُوعِهِمْ بِالضَّمَانِ عَلَى الْآمِرِ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ مِنْ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرُوهَا سَوَاءٌ سَقَطَ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْ الْعَمَلِ أَوْ بَعْدَهُ بِقَوْلِهِمْ لِأَنَّ الضَّمَانَ وَجَبَ عَلَى الْعَامِلِ بِأَمْرِ الْآمِرِ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ فِعْلَهُمْ لَمَّا انْقَلَبَ قَتْلًا فِي صُورَةِ السُّقُوطِ قَبْلَ فَرَاغِهِمْ مِنْ الْعَمَلِ صَارَ مُخَالِفًا لِأَمْرِ الْآمِرِ خَارِجًا عَنْ عَقْدِهِ فَلَمْ يَكُنْ بِأَمْرِ الْآمِرِ، فَمَا كَانَ وُجُوبُ الضَّمَانِ عَلَيْهِمْ بِأَمْرِهِ بَلْ كَانَ بِفِعْلِ أَنْفُسِهِمْ، وَيَقْتَضِي أَيْضًا أَنْ لَا يَتِمُّ تَنْظِيرُهُمْ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ بِمَا لَوْ اسْتَأْجَرَ غَيْرَهُ لِيَذْبَحَ شَاةً لَهُ ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ بَعْدَ الذَّبْحِ فَلِلْمُسْتَحِقِّ أَنْ يُضَمِّنَ الذَّابِحَ وَيَرْجِعُ الذَّابِحُ بِهِ عَلَى الْآمِرِ فِي صُورَةِ السُّقُوطِ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْ الْعَمَلِ، فَإِنْ فَعَلَ الذَّابِحُ هُنَاكَ لَمْ يَنْقَلِبْ مَا هُوَ خَارِجٌ عَنْ الْعَقْدِ بَلْ وَقَعَ عَلَى مَا هُوَ الدَّاخِلُ فِي الْعَقْدِ، فَإِذَا ضَمِنَ الذَّابِحُ كَانَ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَى الْآمِرِ بِحُكْمِ التَّغْرِيرِ، بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ فِي صُورَةِ السُّقُوطِ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْ الْعَمَلِ كَمَا عَرَفْت آنِفًا.

ثُمَّ إنَّ بَعْضَ الْفُضَلَاءِ قَالَ هُنَا: لَا يُقَالُ فَرَّقَ بَيْنَ مَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ وَهَذَا الْمَنْقُولِ، فَإِنَّ مَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ مَحْمَلُهُ الْمُبَاشَرَةُ وَلِهَذَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ عِلْمِ الْعَمَلَةِ وَعَدَمِ عِلْمِهِمْ بِفَسَادِ الْأَمْرِ فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ قَبْلَ الْفَرَاغِ، وَلَا تُتَصَوَّرُ الْمُبَاشَرَةُ بَعْدَهُ فَيَكُونُ بِالتَّسْبِيبِ. لِأَنَّا نَقُولُ: إشْرَاعُ الْجَنَاحِ مُطْلَقًا مُبَاشَرَةٌ فَلِهَذَا شُبِّهَ بِذَبْحِ الشَّاةِ، وَسَيَجِيءُ مِنْ الشَّارِحِ أَيْضًا: يَعْنِي صَاحِبَ الْعِنَايَةِ. أَقُولُ: جَوَابُهُ لَيْسَ بِسَدِيدٍ، إذْ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِأَنَّ إشْرَاعَ الْجَنَاحِ مُبَاشَرَةٌ لِلْقَتْلِ فِي صُورَةِ السُّقُوطِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْعَمَلِ، كَيْفَ وَلَوْ كَانَ مُبَاشَرَةً لَهُ بَعْدَهُ فَلَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ مُبَاشَرَةً مِنْ الْفَعَلَةِ أَوْ مِنْ الْآمِرِ، فَلَوْ كَانَ مُبَاشَرَةً مِنْ الْفَعَلَةِ لَوَجَبَ عَلَيْهِمْ الضَّمَانُ وَالْكَفَّارَةُ قَطْعًا كَمَا فِي السُّقُوطِ قَبْلَ الْفَرَاغِ، وَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِمْ بَعْدَهُ شَيْءٌ مِنْهُمَا بَلْ وَجَبَ الضَّمَانُ عَلَى الْآمِرِ وَهُوَ رَبُّ الدَّارِ اسْتِحْسَانًا كَمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ، وَلَوْ كَانَ مُبَاشَرَةً مِنْ الْآمِرِ لَوَجَبَ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ لَا مَحَالَةَ وَلَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ، وَالتَّشْبِيهُ بِذَبْحِ الشَّاةِ إنَّمَا وَقَعَ فِي صُورَةِ السُّقُوطِ قَبْلَ الْفَرَاغِ لَا فِي صُورَةِ السُّقُوطِ بَعْدَهُ، وَاَلَّذِي سَيَجِيءُ مِنْ الشَّارِحِ أَيْضًا لَا بُدَّ وَأَنْ يُحْمَلَ عَلَى كَوْنِ إشْرَاعِ الْجَنَاح مُبَاشَرَةً فِي الصُّورَةِ الْأُولَى لَا فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ.

وَأَمَّا كَوْنُ إشْرَاعِ الْجَنَاحِ مُبَاشَرَةً مُطْلَقًا لِفِعْلٍ مَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُبَاشَرَةً لِلْقَتْلِ فِي صُورَةِ السُّقُوطِ بَعْدَ الْفَرَاغِ فَبِمَعْزِلٍ عَمَّا فِيهِ الْكَلَامُ وَغَيْرِ مُفِيدٍ فِي دَفْعِ السُّؤَالِ الَّذِي ذَكَرَهُ كَمَا لَا يَخْفَى (قَوْلُهُ وَلَوْ تَعَمَّدَ الْمُرُورَ فِي مَوْضِعِ صَبِّ الْمَاءِ فَسَقَطَ لَا يَضْمَنُ الرَّاشُّ)

ص: 311

مَا عَطِبَ عَلَى الْآمِرِ اسْتِحْسَانًا. وَإِذَا اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا لِيَبْنِيَ لَهُ فِي فِنَاءِ حَانُوتِهِ فَتَعَقَّلَ بِهِ إنْسَانٌ بَعْدَ فَرَاغِهِ فَمَاتَ يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الْآمِرِ اسْتِحْسَانًا، وَلَوْ كَانَ أَمَرَهُ بِالْبِنَاءِ فِي وَسَطِ الطَّرِيقِ فَالضَّمَانُ عَلَى الْأَجِيرِ) لِفَسَادِ الْأَمْرِ.

قَالَ: (وَمَنْ حَفَرَ بِئْرًا فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ وَضَعَ حَجَرًا فَتَلِفَ بِذَلِكَ إنْسَانٌ فَدِيَتُهُ عَلَى عَاقِلَتِهِ، وَإِنْ تَلِفَتْ بِهِ بَهِيمَةٌ فَضَمَانُهَا فِي مَالِهِ) لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِيهِ فَيَضْمَنُ مَا يَتَوَلَّدُ مِنْهُ، غَيْرَ أَنَّ الْعَاقِلَةَ تَتَحَمَّلُ النَّفْسَ دُونَ الْمَالِ فَكَانَ ضَمَانُ الْبَهِيمَةِ فِي مَالِهِ وَإِلْقَاءُ التُّرَابِ وَاِتِّخَاذُ الطِّينِ فِي الطَّرِيقِ بِمَنْزِلَةِ إلْقَاءِ الْحَجَرِ وَالْخَشَبَةِ لِمَا ذَكَرْنَا، بِخِلَافِ مَا إذَا كَنَسَ الطَّرِيقَ فَعَطِبَ بِمَوْضِعِ كَنْسِهِ إنْسَانٌ حَيْثُ لَمْ يَضْمَنْ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُتَعَدٍّ فَإِنَّهُ مَا أَحْدَثَ شَيْئًا فِيهِ إنَّمَا قَصَدَ دَفْعَ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ، حَتَّى لَوْ جَمَعَ الْكُنَاسَةَ فِي الطَّرِيقِ وَتَعَقَّلَ بِهَا إنْسَانٌ كَانَ ضَامِنًا لِتَعَدِّيهِ بِشَغْلِهِ (وَلَوْ وَضَعَ حَجَرًا فَنَحَّاهُ غَيْرُهُ عَنْ مَوْضِعِهِ فَعَطِبَ بِهِ إنْسَانٌ فَالضَّمَانُ عَلَى الَّذِي نَحَّاهُ) لِأَنَّ حُكْمَ فِعْلِهِ قَدْ انْتَسَخَ لِفَرَاغِ مَا شَغَلَهُ، وَإِنَّمَا اُشْتُغِلَ بِالْفِعْلِ الثَّانِي مَوْضِعٌ آخَرُ (وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فِي الْبَالُوعَةِ يَحْفِرُهَا الرَّجُلُ فِي الطَّرِيقِ، فَإِنْ أَمَرَهُ السُّلْطَانُ بِذَلِكَ أَوْ أَجْبَرَهُ عَلَيْهِ لَمْ يَضْمَنْ) لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ حَيْثُ فَعَلَ مَا فَعَلَ بِأَمْرِ مَنْ لَهُ الْوِلَايَةُ فِي حُقُوقِ الْعَامَّةِ (وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَهُوَ مُتَعَدٍّ) إمَّا بِالتَّصَرُّفِ فِي حَقِّ غَيْرِهِ أَوْ بِالِافْتِيَاتِ عَلَى رَأْيِ الْإِمَامِ أَوْ هُوَ مُبَاحٌ

أَقُولُ: فِي تَحْرِيرِ الْمُصَنِّفِ هُنَا شَيْءٌ وَهُوَ أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ قَوْلِهِ فِيمَا مَرَّ آنِفًا، وَكَذَا إذَا رَشَّ الْمَاءَ بَعْدَ قَوْلِهِ وَكَذَا إذَا صَبَّ الْمَاءَ أَنَّ مَسْأَلَةَ رَشِّ الْمَاءِ تَغَايُرُ مَسْأَلَةَ صَبِّ الْمَاءِ، وَقَدْ ذَكَرَ هُنَا الصَّبَّ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ حَيْثُ قَالَ: وَلَوْ تَعَمَّدَ الْمُرُورَ فِي مَوْضِعِ صَبِّ الْمَاءِ وَذَكَرَ الرَّشَّ فِي جَوَابِهَا حَيْثُ قَالَ: لَا يَضْمَنُ الرَّاشُّ فَلَمْ يُطَابِقْ جَوَابُ الْمَسْأَلَةِ وَضْعَ الْمَسْأَلَةِ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُعْتَذَرَ عَنْهُ بِأَنَّهُ إنَّمَا فَعَلَ هَكَذَا إيمَاءً إلَى اتِّحَادِ مَسْأَلَتَيْ الصَّبِّ وَالرَّشِّ فِي هَذَا الْحُكْمِ مَعَ الِاعْتِمَادِ إلَى الْعِلْمِ بِمُغَايِرَتِهِمَا مِمَّا ذَكَرَهُ مِنْ قَبْلُ (قَوْلُهُ وَإِذَا اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا لِيَبْنِيَ لَهُ فِي فِنَاءِ حَانُوتِهِ فَتَعَقَّلَ بِهِ إنْسَانٌ بَعْدَ فَرَاغِهِ فَمَاتَ يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الْآمِرِ اسْتِحْسَانًا) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ: لَمْ يَتَعَرَّضْ الْمُصَنِّفُ بِأَنَّ ذَلِكَ إذَا عَلِمَ الْأَجِيرُ أَنَّ الْفِنَاءَ لِغَيْرِ الْآمِرِ أَوْ إذَا لَمْ يَعْلَمْ.

وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِلْإِمَامِ الْمَحْبُوبِيِّ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْجَوَابَ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ فِيمَا إذَا كَانَ الْأَجِيرُ يَحْسِبُ أَنَّهُ لِلْمُسْتَأْجِرِ حَيْثُ قَالَ: وَإِنْ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِيَحْفِرَ لَهُ بِئْرًا فِي الْفِنَاءِ فَحَفَرَ وَمَاتَ فِيهِ إنْسَانٌ أَوْ دَابَّةٌ وَالْفِنَاءُ لِغَيْرِهِ فَإِنْ كَانَ الْأَجِيرُ عَالِمًا بِهِ فَالضَّمَانُ عَلَى الْأَجِيرِ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ الْأَجِيرُ أَنَّ الْفِنَاءَ لِلْغَيْرِ فَالضَّمَانُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ لِأَنَّ الْأَجِيرَ لَمْ يَعْلَمْ بِفَسَادِ الْأَمْرِ انْتَهَى. أَقُولُ: مَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ الْمَحْبُوبِيُّ فِي جَامِعِهِ وَإِنْ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْجَوَابَ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ فِيمَا إذَا كَانَ الْأَجِيرُ يَحْسِبُ أَنَّ الْفِنَاءَ لِلْمُسْتَأْجِرِ إلَّا أَنَّهُ يَدُلُّ بِإِطْلَاقِهِ عَلَى أَنَّ الْجَوَابَ فِي مَوْتِ إنْسَانٍ فِيهِ بَعْدَ فَرَاغِ الْأَجِيرِ مِنْ الْعَمَلِ وَقَبْلَهُ سَوَاءٌ، وَاَلَّذِي ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ مُقَيَّدٌ بِكَوْنِ مَوْتِهِ بَعْدَ تَعَقُّلِهِ بِهِ بَعْدَ فَرَاغِ الْأَجِيرِ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ الشَّارِحُ أَيْضًا فَتَبَصَّرْ.

(قَوْلُهُ وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فِي الْبَالُوعَةِ يَحْفِرُهَا الرَّجُلُ فِي الطَّرِيقِ فَإِنْ أَمَرَهُ السُّلْطَانُ بِذَلِكَ أَوْ أَجْبَرَهُ عَلَيْهِ لَمْ يَضْمَنْ)

ص: 312

مُقَيِّدٌ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ، وَكَذَا الْجَوَابُ عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ فِي جَمِيعِ مَا فُعِلَ فِي طَرِيقِ الْعَامَّةِ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ وَغَيْرِهِ لِأَنَّ الْمَعْنَى لَا يَخْتَلِفُ (وَكَذَا إنْ حَفَرَهُ فِي مِلْكِهِ لَا يَضْمَنُ) لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ

قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: الْأَمْرُ مِنْ السُّلْطَانِ إكْرَاهٌ؛ فَقَوْلُهُ أَوْ أَجْبَرَهُ كَالْعِطْفِ التَّفْسِيرِيِّ اهـ. أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا بِسَدِيدٍ، لِأَنَّ كَوْنَ مُجَرَّدِ الْأَمْرِ مِنْ السُّلْطَانِ إكْرَاهًا لَيْسَ بِقَوْلٍ مُخْتَارٍ سِيَّمَا عِنْدَ مُحَمَّدٍ رحمه الله كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ حَيْثُ قَالَ: إنَّ مُجَرَّدَ أَمْرِ الْإِمَامِ لَيْسَ بِإِكْرَاهٍ. فَجَازَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَوْ أَجْبَرَهُ عَلَيْهِ بَعْدَ قَوْلِهِ فَإِنْ أَمَرَهُ السُّلْطَانُ بِذَلِكَ مَبْنِيًّا عَلَى ذَلِكَ، وَلَئِنْ سُلِّمَ أَنَّ كَوْنَهُ إكْرَاهًا قَوْلٌ مُخْتَارٌ فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْأَمْرَ هُنَا كِنَايَةٌ عَنْ الْإِذْنِ لِاسْتِلْزَامِ الْأَمْرِ الْإِذْنَ، وَعَطْفُ أَجْبَرَ عَلَيْهِ قَرِينَةٌ عَلَى ذَلِكَ، وَعَنْ هَذَا قَالَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ فِي تَعْلِيلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: وَذَلِكَ لِأَنَّ لِلْإِمَامِ وِلَايَةً عَامَّةً فَلَا يَضْمَنُ مَا فَعَلَهُ بِإِذْنِ الْإِمَامِ وَقَالَ فِي الْعِنَايَةِ: وَذَكَرَ رِوَايَةَ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى بَيَانِ إذْنِ الْإِمَامِ انْتَهَى.

وَلَا شَكَّ أَنَّ مُجَرَّدَ إذْنِ السُّلْطَانِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ يَدْفَعُ الضَّمَانَ عَنْ الْفَاعِلِ، صَرَّحَ بِهِ فِي عَامَّةِ الْمُعْتَبَرَاتِ فَيَكُونُ قَوْلُهُ أَوْ أَجْبَرَهُ عَلَيْهِ مَسْأَلَةً أُخْرَى لَا مَحَالَةَ. وَأَمَّا كَوْنُ قَوْلِهِ أَوْ أَجْبَرَهُ عَلَيْهِ عَطْفًا تَفْسِيرِيًّا فَمِمَّا لَا وَجْهَ لَهُ، لِأَنَّ الْعَطْفَ التَّفْسِيرِيَّ لَمْ يُسْمَعْ فِي كَلِمَةِ أَوْ وَمَعْنَاهَا أَيْضًا لَا يُسَاعِدُ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا شَاعَ ذَلِكَ فِي كَلِمَةِ الْوَاوِ لِمُسَاعَدَةِ مَعْنَاهَا إيَّاهُ، وَلَكِنْ بَقِيَ لَنَا شَيْءٌ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَوْ أَجْبَرَهُ عَلَيْهِ بَعْدَ قَوْلِهِ فَإِنْ أَمَرَهُ السُّلْطَانُ بِذَلِكَ، وَهُوَ أَنَّهُ إذَا عَلِمَ عَدَمَ ضَمَانِ الْفَاعِلِ فِيمَا إذَا أَمَرَهُ السُّلْطَانُ بِمَا فَعَلَهُ يَعْلَمُ عَدَمَ ضَمَانِهِ قَطْعًا فِيمَا إذَا أَجْبَرَهُ عَلَيْهِ فَمَا فَائِدَةُ ذِكْرِ قَوْلِهِ أَوْ أَجْبَرَهُ عَلَيْهِ بَعْدَ قَوْلِهِ فَإِنْ أَمَرَهُ السُّلْطَانُ بِذَلِكَ، نَعَمْ لَوْ قَالَ: فَإِنْ أَجْبَرَهُ السُّلْطَانُ عَلَى ذَلِكَ أَوْ أَمَرَهُ بِهِ لَكَانَ لَهُ حُسْنٌ لِكَوْنِ الثَّانِي مِنْ قَبِيلِ التَّرَقِّي تَأَمَّلْ تَفْهَمْ (قَوْلُهُ وَكَذَا الْجَوَابُ عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ فِي جَمِيعِ مَا فُعِلَ فِي طَرِيقِ الْعَامَّةِ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ وَغَيْرِهِ) قَالَ عَامَّةُ الشُّرَّاحُ: أَرَادَ بِقَوْلِهِ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ: مَا ذَكَرَهُ مِنْ أَوَّلِ الْبَابِ إلَى هُنَا مِنْ إخْرَاجِ الْكَنِيفِ أَوْ الْمِيزَابِ أَوْ الْجُرْصُنِ إلَى الطَّرِيقِ وَبِنَاءِ الدُّكَّانِ فِيهِ وَإِشْرَاعِ الرَّوْشَنِ وَحَفْرِ الْبِئْرِ، وَزَادَ صَاحِبُ الْغَايَةِ: وَوَضْعِ الْحَجَرِ.

وَقَالُوا: أَرَادَ بِقَوْلِهِ وَغَيْرِهِ غَيْرَ مَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ كَبِنَاءِ الظُّلَّةِ وَغَرْسِ الشَّجَرِ وَرَمْيِ الثَّلْجِ وَالْجُلُوسِ لِلْبَيْعِ. أَقُولُ: مِمَّا ذَكَرَهُ مِنْ أَوَّلِ الْبَابِ إلَى هُنَا صَبُّ الْمَاءِ فِي الطَّرِيقِ وَكَذَا رَشُّ الْمَاءِ أَوْ التَّوَضُّؤُ فِيهِ وَكَذَا وَضْعُ الْخَشَبَةِ فِيهِ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ مِنْ الشُّرَّاحِ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ مَعَ الْتِزَامِهِمْ الْبَيَانَ وَالتَّفْصِيلَ حَتَّى ذَكَرُوا جَمِيعَ مَا وَقَعَ فِي الْبَابِ قَبْلَ مَا تَرَكُوهُ وَمَا بَعْدَهُ، وَإِنْ زَعَمُوا أَنَّ الْجَوَابَ فِيمَا تَرَكُوهُ خِلَافُ الْجَوَابِ فِيمَا ذَكَرُوهُ كَانَ عَلَيْهِمْ الْبَيَانُ وَالنَّقْلُ. ثُمَّ إنَّهُمْ جَعَلُوا بِنَاءَ الظُّلَّةِ مِنْ غَيْرِ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ مَعَ أَنَّهُ قَدْ ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ حَيْثُ قَالَ: وَلَوْ اسْتَأْجَرَ رَبُّ الدَّارِ الْفَعَلَةَ لِإِخْرَاجِ الْجَنَاحِ أَوْ الظُّلَّةِ فَوَقَعَ وَقَتَلَ إنْسَانًا إلَخْ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُعْتَذَرَ عَنْ الثَّانِي بِأَنَّ الْكَلَامَ هُنَا فِيمَا فَعَلَ فِي طَرِيقِ الْعَامَّةِ، وَقَدْ حَمَلَ الشُّرَّاحُ مَسْأَلَةَ اسْتِئْجَارِ الْفَعَلَةِ لِإِخْرَاجِ الْجَنَاحِ أَوْ الظُّلَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْكِتَابِ فِيمَا مَرَّ عَلَى مَا فُعِلَ فِي فِنَاءِ الدَّارِ لَا فِي طَرِيقِ الْعَامَّةِ فَلَمْ يَجْعَلُوهَا مِمَّا نَحْنُ فِيهِ هُنَا، وَأَرَادُوا بِبِنَاءِ الظُّلَّةِ الَّذِي عَدُوّهُ مِنْ غَيْرِ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ بِنَاءَهَا فِي طَرِيقِ الْعَامَّةِ، أَوْ أَنَّهُمْ حَمَلُوا الْمُرَادَ بِمَا فُعِلَ فِي طَرِيقِ الْعَامَّةِ فِي قَوْلِهِ فِي جَمِيعِ مَا فُعِلَ فِي طَرِيقِ الْعَامَّةِ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ وَغَيْرِهِ عَلَى مَا فَعَلَهُ الْإِنْسَانُ بِنَفْسِهِ دُونَ مَا اسْتَأْجَرَ الْغَيْرَ لِفِعْلِهِ فَلَمْ يَعُدُّوا مَا اسْتَأْجَرَ رَبُّ الدَّارِ الْفَعَلَةَ لِإِخْرَاجِ الظُّلَّةِ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ هُنَا، وَأَرَادُوا بِبِنَاءِ الظُّلَّةِ الَّذِي عَدُّوهُ مِنْ غَيْرِ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ بِنَاءَهُ بِنَفْسِهِ، لَكِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْجَوَابَ عَلَى التَّفْصِيلِ الْمَذْكُورِ وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ فَعَلَهُ بِأَمْرِ السُّلْطَانِ لَمْ يَضْمَنْ، وَلَوْ فَعَلَهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ ضَمِنَ مُتَمَشٍّ فِيمَا فُعِلَ فِي فِنَاءِ الدَّارِ أَيْضًا، وَفِيمَا فُعِلَ بِاسْتِئْجَارِ الْغَيْرِ لِفِعْلِهِ أَيْضًا فَلَا فَائِدَةَ فِي التَّخْصِيصِ بَلْ لَا وَجْهَ لَهُ تَفَكَّرْ.

ص: 313

(وَكَذَا إذَا حَفَرَهُ فِي فِنَاءِ دَارِهِ) لِأَنَّ لَهُ ذَلِكَ لِمَصْلَحَةِ دَارِهِ وَالْفِنَاءُ فِي تَصَرُّفِهِ. وَقِيلَ هَذَا إذَا كَانَ الْفِنَاءُ مَمْلُوكًا لَهُ أَوْ كَانَ لَهُ حَقُّ الْحَفْرِ فِيهِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ، أَمَّا إذَا كَانَ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ مُشْتَرَكًا بِأَنْ كَانَ فِي سِكَّةٍ غَيْرِ نَافِذَةٍ فَإِنَّهُ يَضْمَنُهُ لِأَنَّهُ مُسَبِّبٌ مُتَعَدٍّ وَهَذَا صَحِيحٌ.

(وَلَوْ حَفَرَ فِي الطَّرِيقِ وَمَاتَ الْوَاقِعُ فِيهِ جُوعًا أَوْ غَمًّا لَا ضَمَانَ عَلَى الْحَافِرِ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله لِأَنَّهُ مَاتَ لِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ فَلَا يُضَافُ إلَى الْحَفْرِ، وَالضَّمَانُ إنَّمَا يَجِبُ إذَا مَاتَ مِنْ الْوُقُوعِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رحمه الله: إنْ مَاتَ جُوعًا فَكَذَلِكَ، وَإِنْ مَاتَ غَمًّا فَالْحَافِرُ ضَامِنٌ لَهُ لِأَنَّهُ لَا سَبَبَ لِلْغَمِّ سِوَى الْوُقُوعِ، أَمَّا الْجُوعُ فَلَا يَخْتَصُّ بِالْبِئْرِ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: هُوَ ضَامِنٌ فِي الْوُجُوهِ كُلِّهَا، لِأَنَّهُ إنَّمَا حَدَثَ بِسَبَبِ الْوُقُوعِ، إذْ لَوْلَاهُ لَكَانَ الطَّعَامُ قَرِيبًا مِنْهُ. .

قَالَ: (وَإِنْ اسْتَأْجَرَ أُجَرَاءَ فَحَفَرُوهَا لَهُ فِي غَيْرِ فِنَائِهِ فَذَلِكَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ وَلَا شَيْءَ عَلَى الْأُجَرَاءِ إنْ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهَا فِي غَيْرِ فِنَائِهِ) لِأَنَّ الْإِجَارَةَ صَحَّتْ ظَاهِرًا إذَا لَمْ يَعْلَمُوا فَنُقِلَ فِعْلُهُمْ إلَيْهِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مَغْرُورِينَ، فَصَارَ كَمَا إذَا أَمَرَ آخَرَ بِذَبْحِ هَذِهِ الشَّاةِ فَذَبَحَهَا ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّ الشَّاةَ لِغَيْرِهِ، إلَّا أَنَّ

قَوْلُهُ وَكَذَا إذَا حَفَرَهُ فِي فِنَاءِ دَارِهِ) يَعْنِي وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْفِنَاءُ مِلْكَهُ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ وَغَيْرِهَا. أَقُولُ: يَرُدُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ يُنَافِي مَا ذَكَرَ فِيمَا مَرَّ مِنْ الْمَسْأَلَةِ الْمُقَرَّرَةِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا وَهُوَ قَوْلُهُ وَإِذَا اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا لِيَبْنِيَ لَهُ فِي فِنَاءِ حَانُوتِهِ فَتَعَقَّلَ بِهِ إنْسَانٌ بَعْدَ فَرَاغِهِ فَمَاتَ يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الْآمِرِ اسْتِحْسَانًا فَتَأَمَّلْ (قَوْلُهُ وَقِيلَ هَذَا إذَا كَانَ الْفِنَاءُ مَمْلُوكًا أَوْ كَانَ لَهُ حَقُّ الْحَفْرِ فِيهِ) قَالَ جُمْهُورُ الشُّرَّاحِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ أَوْ كَانَ لَهُ حَقُّ الْحَفْرِ فِيهِ بِأَنْ كَانَ لَا يَضُرُّ بِأَحَدِ أَوْ أَذِنَ لَهُ الْإِمَامُ فِي ذَلِكَ. أَقُولُ: فِي كُلٍّ مِنْ وَجْهَيْ تَفْسِيرِهِمْ خَلَلٌ. أَمَّا فِي الْأَوَّلِ فَلِأَنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ أَمَّا إذَا كَانَ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ مُشْتَرَكًا إلَخْ يَأْبَاهُ جِدًّا، فَإِنَّ عَدَمَ الضَّرَرِ لِأَحَدٍ قَدْ يَتَحَقَّقُ فِي صُورَةِ كَوْنِهِ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ مُشْتَرَكًا أَيْضًا، وَقَدْ جُعِلَ الْحُكْمُ فِيهَا خِلَافَ مَا إذَا كَانَ لَهُ حَقُّ الْحَفْرِ فِيهِ.

وَأَمَّا فِي الثَّانِي فَلِأَنَّهُ إذَا أَذِنَ لَهُ الْإِمَامُ يَجُوزُ لَهُ التَّصَرُّفُ فِي طَرِيقِ الْعَامَّةِ أَيْضًا فَلَا يَضْمَنُ مَا عَطِبَ فِيهِ كَمَا مَرَّ آنِفًا، وَلَا شَكَّ أَنَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ بَعْدَ بَيَانِ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ إنْ حَفَرَ فِي مِلْكِهِ لَمْ يَضْمَنْ، وَكَذَلِكَ إذَا حَفَرَهُ فِي فِنَاءِ دَارِهِ هُوَ أَنَّ الْحَافِرَ لَا يَضْمَنُ فِي هَاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ بِدُونِ إذْنِ الْإِمَامِ أَيْضًا، وَعَنْ هَذَا قَالَ الشُّرَّاحُ فِي شَرْحِ قَوْلِهِ وَكَذَلِكَ إنْ حَفَرَهُ فِي مِلْكِهِ لَمْ يَضْمَنْ: يَعْنِي كَمَا إذَا أَذِنَ لَهُ فَحَفَرَهُ فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَضْمَنْ، كَذَلِكَ إنْ حَفَرَهُ فِي مِلْكِهِ بِلَا إذْنِ الْإِمَامِ لَمْ يَضْمَنْ، فَلَا مَعْنَى لِحَمْلِ مَا قِيلَ

ص: 314

هُنَاكَ يَضْمَنُ الْمَأْمُورُ وَيَرْجِعُ عَلَى الْآمِرِ لِأَنَّ الذَّابِحَ مُبَاشِرٌ وَالْآمِرُ مُسَبِّبٌ وَالتَّرْجِيحُ لِلْمُبَاشَرَةِ فَيَضْمَنُ الْمَأْمُورُ وَيَرْجِعُ الْمَغْرُورُ، وَهُنَا يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ ابْتِدَاءً لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُسَبِّبٌ وَالْأَجِيرُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ وَالْمُسْتَأْجِرُ مُتَعَدٍّ فَيُرَجَّحُ جَانِبُهُ (وَإِنْ عَلِمُوا ذَلِكَ فَالضَّمَانُ عَلَى الْأُجَرَاءِ) لِأَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ أَمْرُهُ بِمَا لَيْسَ بِمَمْلُوكٍ لَهُ وَلَا غُرُورَ فَبَقِيَ الْفِعْلُ مُضَافًا إلَيْهِمْ (وَإِنْ قَالَ لَهُمْ: هَذَا فِنَائِي وَلَيْسَ لِي فِيهِ حَقُّ الْحَفْرِ فَحَفَرُوا وَمَاتَ فِيهِ إنْسَانٌ) فَالضَّمَانُ

فِي مَسْأَلَةِ الْحَفْرِ فِي فِنَاءِ دَارِهِ الَّتِي جَوَابُهَا عَدَمُ الضَّمَانِ بِدُونِ إذْنِ الْإِمَامِ أَيْضًا عَلَى التَّقْيِيدِ بِإِذْنِ الْإِمَامِ كَمَا لَا يَخْفَى. وَقَالَ صَاحِبُ الْغَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ: وَقِيلَ إنَّمَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَحْفِرَ فِي فِنَاءِ دَارِهِ إذَا كَانَ الْفِنَاءُ مَمْلُوكًا لَهُ، أَوْ كَانَ بِحَيْثُ لَا يَلْحَقُ الضَّرَرُ بِغَيْرِهِ، لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَلْحَقْ الضَّرَرُ بِغَيْرِهِ يَكُونُ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ مُقَيَّدًا بِشَرْطِ السَّلَامَةِ بِعَدَمِ التَّعَدِّي.

أَمَّا إذَا كَانَ الْفِنَاءُ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ كَانَ مُشْتَرَكًا كَمَا إذَا كَانَ فِي سِكَّةٍ غَيْرِ نَافِذَةٍ يَجِبُ الضَّمَانُ لِوُجُودِ التَّعَدِّي انْتَهَى. أَقُولُ: قَدْ زَادَ ذَلِكَ الشَّارِحُ نَغْمَةً فِي الطُّنْبُورِ مِنْ جِهَةِ الْفَسَادِ حَيْثُ شَرَحَ قَوْلَهُ أَوْ كَانَ لَهُ حَقُّ الْحَفْرِ فِيهِ بِأَنْ قَالَ: أَوْ كَانَ بِحَيْثُ لَا يَلْحَقُ الضَّرَرُ بِغَيْرِهِ، فَاشْتَرَكَ مَعَ جُمْهُورِ الشُّرَّاحِ فِي أَنْ يَرِدَ عَلَيْهِ مَا يَرِدُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ مِنْ وَجْهَيْ تَفْسِيرِهِمْ كَمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ، وَقَالَ فِي تَعْلِيلِ ذَلِكَ: لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَلْحَقْ الضَّرَرُ بِالْغَيْرِ يَكُونُ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ مُقَيَّدًا بِشَرْطِ السَّلَامَةِ لِعَدَمِ التَّعَدِّي. وَيُرَدُّ عَلَيْهِ أَنَّ التَّقْيِيدَ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ يَقْتَضِي الضَّمَانَ عِنْدَ الْهَلَاكِ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ فِي مَسَائِلَ عَدِيدَةٍ، وَجَوَابُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَدَمُ الضَّمَانِ عِنْدَ الْهَلَاكِ لِعَدَمِ التَّعَدِّي فَلَا مَعْنَى لِلتَّقْيِيدِ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ كَمَا لَا يَخْفَى. ثُمَّ أَقُولُ: الصَّوَابُ عِنْدِي أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ أَوْ كَانَ لَهُ حَقُّ الْحَفْرِ فِيهِ إنْ كَانَ لَهُ حَقُّ الِاخْتِصَاصِ بِالْحَفْرِ فِيهِ بِأَنْ كَانَ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ بِالِانْتِفَاعِ فِيهِ أَوْ كَانَ مِمَّا اسْتَأْجَرَهُ لِلِانْتِفَاعِ فِيهِ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ، فَحِينَئِذٍ يَنْتَظِمُ السِّبَاقُ وَاللِّحَاقُ بِلَا غُبَارٍ كَمَا تَرَى.

(قَوْلُهُ وَإِنْ عَلِمُوا بِذَلِكَ فَالضَّمَانُ عَلَى الْأُجَرَاءِ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ أَمْرُهُ بِمَا لَيْسَ بِمَمْلُوكٍ لَهُ وَلَا غُرُورَ فَبَقِيَ الْفِعْلُ مُضَافًا إلَيْهِمْ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: فِي عِبَارَةِ الْمُصَنِّفِ تَسَامُحٌ، لِأَنَّ صِحَّةَ الْأَمْرِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ لَا تَحْتَاجُ إلَى كَوْنِ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي مِلْكِهِ حَتَّى يَصِحَّ التَّعْلِيلُ بِقَوْلِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ أَمْرُهُ بِمَا لَيْسَ بِمَمْلُوكٍ لَهُ، بَلْ الْمُنَاسِبُ أَنْ يُقَالَ: لِأَنَّ الْأَمْرَ لَمْ يَصِحَّ ظَاهِرًا حَيْثُ عَلِمُوا اهـ. أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا بِسَدِيدٍ، لِأَنَّ مَدَارَ زَعْمِهِ التَّسَامُحَ فِي عِبَارَةِ الْمُصَنِّفِ عَلَى الْغَفْلَةِ عَنْ دُخُولِ قَوْلِهِ وَلَا غُرُورَ فِي تَمَامِ التَّعْلِيلِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ دَاخِلٌ فِيهِ، فَقَوْلُهُ لَمْ يَصِحَّ أَمْرُهُ بِمَا لَيْسَ بِمَمْلُوكٍ لَهُ إشَارَةٌ إلَى انْتِفَاءِ صِحَّةِ أَمْرِهِ حَقِيقَةً. وَقَوْلُهُ وَلَا غُرُورَ إشَارَةٌ إلَى انْتِفَاءِ صِحَّتِهِ ظَاهِرًا، وَالْمَعْنَى لَمْ يَصِحَّ أَمْرُهُ حَقِيقَةً لِانْتِفَاءِ الْمِلْكِ فِي الْمَأْمُورِ بِهِ، وَلَا ظَاهِرًا لِعَدَمِ الْغُرُورِ حَيْثُ عَلِمُوا، فَظَهَرَ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ تَعْلِيلٌ مُفِيدٌ وَاسِعٌ لَيْسَ بِمَثَابَةِ أَنْ يُقَالَ: لِأَنَّ الْأَمْرَ لَمْ يَصِحَّ ظَاهِرًا حَيْثُ عَلِمُوا كَمَا تَرَى، فَلَمْ يَتِمَّ الْقَوْلُ بِأَنَّ ذَلِكَ

ص: 315

عَلَى الْأُجَرَاءِ قِيَاسًا (لِأَنَّهُمْ عَلِمُوا بِفَسَادِ الْأَمْرِ فَمَا غَرَّهُمْ) وَفِي الِاسْتِحْسَانِ الضَّمَانُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ (لِأَنَّ كَوْنَهُ فِنَاءً لَهُ بِمَنْزِلَةِ كَوْنِهِ مَمْلُوكًا لَهُ لِانْطِلَاقِ يَدِهِ فِي التَّصَرُّفِ فِيهِ مِنْ إلْقَاءِ الطِّينِ وَالْحَطَبِ وَرَبْطِ الدَّابَّةِ وَالرُّكُوبِ وَبِنَاءِ الدُّكَّانِ فَكَانَ الْأَمْرُ بِالْحَفْرِ فِي مِلْكِهِ ظَاهِرًا بِالنَّظَرِ إلَى مَا ذَكَرْنَا فَكَفَى ذَلِكَ لِنَقْلِ الْفِعْلِ إلَيْهِ. قَالَ): وَمَنْ جَعَلَ قَنْطَرَةً بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ فَتَعَمَّدَ رَجُلٌ الْمُرُورَ عَلَيْهَا فَعَطِبَ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الَّذِي عَمِلَ الْقَنْطَرَةَ، وَكَذَلِكَ (إذَا وَضَعَ خَشَبَةً فِي الطَّرِيقِ فَتَعَمَّدَ رَجُلٌ الْمُرُورَ عَلَيْهَا) لِأَنَّ الْأَوَّلَ تَعَدٍّ هُوَ تَسْبِيبٌ، وَالثَّانِي تَعَدٍّ هُوَ مُبَاشَرَةٌ فَكَانَتْ الْإِضَافَةُ إلَى الْمُبَاشِرِ أَوْلَى، وَلِأَنَّ تَخَلُّلَ فِعْلِ فَاعِلٍ مُخْتَارٍ يَقْطَعُ النِّسْبَةَ كَمَا فِي الْحَافِرِ مَعَ الْمُلْقِي. .

قَالَ (وَمَنْ حَمَلَ شَيْئًا فِي الطَّرِيقِ فَسَقَطَ عَلَى إنْسَانٍ فَعَطِبَ بِهِ إنْسَانٌ فَهُوَ ضَامِنٌ، وَكَذَا إذَا سَقَطَ فَتَعَثَّرَ بِهِ إنْسَانٌ وَإِنْ كَانَ رِدَاءً قَدْ لَبِسَهُ فَسَقَطَ عَنْهُ فَعَطِبَ

هُوَ الْمُنَاسِبُ (قَوْلُهُ فَكَانَ الْأَمْرُ بِالْحَفْرِ فِي مِلْكِهِ ظَاهِرًا بِالنَّظَرِ إلَى مَا ذَكَرْنَا) يَعْنِي قَوْلَهُ لِأَنَّ كَوْنَهُ فِنَاءً لَهُ بِمَنْزِلَةِ كَوْنِهِ مَمْلُوكًا لَهُ لِانْطِلَاقِ يَدِهِ فِي التَّصَرُّفِ فِيهِ إلَخْ.

قَالَ فِي الْعِنَايَةِ أَخْذًا مِنْ مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ: فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ لَيْسَ لِي فِيهِ حَقُّ الْحَفْرِ يُخَالِفُ هَذَا الظَّاهِرَ وَهُوَ صَرِيحٌ فَلَا تُعْتَبَرُ الدَّلَالَةُ بِمُقَابَلَتِهِ. أُجِيبَ بِأَنَّ قَوْلَهُ لَيْسَ لِي فِيهِ حَقُّ الْحَفْرِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ لَيْسَ لِي ذَلِكَ فِي الْقَدِيمِ، وَهَكَذَا لَفْظُ الْمَبْسُوطِ، فَيَكُونُ الصَّرِيحُ مُشْتَرَكُ الدَّلَالَةِ فَلَا يُعَارِضُ الدَّلَالَةَ انْتَهَى. أَقُولُ: فِي الْجَوَابِ بَحْثٌ، لِأَنَّ كَلِمَةَ لَيْسَ لِنَفْيِ مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ حَالًا عِنْدَ جُمْهُورِ النُّحَاةِ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي مَوْضِعِهِ، فَحِينَئِذٍ لَا يَحْتَمِلُ قَوْلُهُ لَيْسَ لِي فِيهِ حَقُّ الْحَفْرِ غَيْرَ نَفْيِ حَقِّ الْحَفْرِ عَنْهُ حَالًا. وَأَمَّا عِنْدَ بَعْضِ النُّحَاةِ فَكَلِمَةُ لَيْسَ وَإِنْ كَانَتْ لِلنَّفْيِ مُطْلَقًا، إلَّا أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ مَضْمُونَ الْجُمْلَةِ إذَا قُيِّدَ بِزَمَانٍ مِنْ الْأَزْمِنَةِ فَهُوَ عَلَى مَا قُيِّدَ بِهِ. وَأَمَّا إذَا لَمْ يُقَيَّدْ بِزَمَانٍ فَيُحْمَلُ عَلَى الْحَالِ كَمَا يُحْمَلُ الْإِيجَابُ عَلَيْهِ فِي نَحْوِ: زَيْدٌ قَائِمٌ كَذَا حَقَّقَهُ الْأَنْدَلُسِيُّ وَاسْتَحْسَنَهُ الرَّضِيُّ، وَفِيمَا وَقَعَ فِي مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ لَمْ يُقَيَّدْ بِزَمَانٍ فَيُحْمَلُ عَلَى الْحَالِ كَمَا يُحْمَلُ الْإِيجَابُ عَلَيْهِ قَطْعًا فَلَمْ يَكُنْ مُشْتَرَكَ الدَّلَالَةِ، كَيْفَ وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا صَحَّ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ فِي تَعْلِيلِ كَوْنِ الضَّمَانِ عَلَى الْأُجَرَاءِ قِيَاسًا لِأَنَّهُمْ عَلِمُوا بِفَسَادِ الْأَمْرِ فَمَا غَرَّهُمْ، إذْ الْعِلْمُ بِفَسَادِ الْأَمْرِ لَا يُتَصَوَّرُ عِنْدَ اشْتِرَاكِ دَلَالَةِ ذَلِكَ.

وَأَمَّا مَا وَقَعَ فِي لَفْظِ الْمَبْسُوطِ فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ لَيْسَ لِي ذَلِكَ مِنْ الْقَدِيمِ لَكِنَّهُ لِي فِي الْحَالِ وَإِلَّا لَمَا تَمَّ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ. ثُمَّ أَقُولُ: الْحَقُّ عِنْدِي فِي الْجَوَابِ أَنْ يُقَالَ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِذَلِكَ لَيْسَ لِي عَلَى الِاخْتِصَاصِ حَقُّ الْحَفْرِ فِيهِ عَلَى أَنْ يَكُونَ اللَّامُ فِي لِي لِلِاخْتِصَاصِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِنَاءُ دَارِهِ حَقَّ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ مُشْتَرَكًا بِأَنْ كَانَتْ فِي سِكَّةٍ غَيْرِ نَافِذَةٍ كَمَا مَرَّ مِثْلُهُ فَلَا يُخَالِفُ الظَّاهِرَ مِنْ انْطِلَاقِ يَدِهِ فِي التَّصَرُّفِ فِيهِ، إذْ يَجُوزُ لِكُلِّ أَحَدٍ التَّصَرُّفُ فِي حَقِّ الْعَامَّةِ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ، وَلَا يُنَافِي أَيْضًا قَوْلَ الْمُصَنَّفِ فِي تَعْلِيلِ وَجْهِ الْقِيَاسِ لِأَنَّهُمْ عَلِمُوا بِفَسَادِ الْأَمْرِ فَمَا غَرَّهُمْ؟ لِأَنَّ فَسَادَ الْأَمْرِ مُقَرَّرٌ عَلَى كُلٍّ مِنْ الِاحْتِمَالَيْنِ. أَمَّا عَلَى احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ لَيْسَ لِي فِيهِ حَقُّ الْحَفْرِ أَصْلًا: أَيْ عَلَى الِاخْتِصَاصِ وَلَا عَلَى الِاشْتِرَاكِ فَظَاهِرٌ. وَأَمَّا عَلَى احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ لَيْسَ لِي فِيهِ عَلَى الِاخْتِصَاصِ حَقُّ الْحَفْرِ فَلِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْحَفْرِ فِي حَقِّ الْعَامَّةِ أَوْ فِي الْحَقِّ الْمُشْتَرَكِ بِدُونِ إذْنِ الشَّرِيكِ فَاسِدٌ لِأَنَّهُ تَعَدٍّ، وَلِهَذَا لَوْ فَعَلَهُ بِنَفْسِهِ فَتَلِفَ بِهِ إنْسَانٌ أَوْ بَهِيمَةٌ يَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ

ص: 316

بِهِ إنْسَانٌ لَمْ يَضْمَنْ) وَهَذَا اللَّفْظُ يَشْمَلُ الْوَجْهَيْنِ، وَالْفَرْقُ أَنَّ حَامِلَ الشَّيْءِ قَاصِدٌ حِفْظَهُ فَلَا حَرَجَ فِي التَّقْيِيدِ بِوَصْفِ السَّلَامَةِ، وَاللَّابِسُ لَا يَقْصِدُ حِفْظَ مَا يَلْبَسُهُ فَيَخْرُجُ بِالتَّقْيِيدِ بِمَا ذَكَرْنَا فَجَعَلْنَاهُ مُبَاحًا مُطْلَقًا. وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ إذَا لَبِسَ مَا لَا يَلْبَسُهُ عَادَةً فَهُوَ كَالْحَامِلِ لِأَنَّ الْحَاجَةَ لَا تَدْعُو إلَى لُبْسِهِ. .

قَالَ: (وَإِذَا كَانَ الْمَسْجِدُ

قَوْلُهُ وَهَذَا اللَّفْظُ يَشْمَلُ الْوَجْهَيْنِ) قَالَ جُمْهُورُ الشُّرَّاحِ: أَشَارَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ وَهَذَا اللَّفْظُ إلَى قَوْلِهِ فَعَطِبَ بِهِ فَهُوَ ضَامِنٌ وَأَرَادَ بِالْوَجْهَيْنِ فِي قَوْلِهِ يَشْمَلُ الْوَجْهَيْنِ تَلَفَ الْإِنْسَانِ بِوُقُوعِ الشَّيْءِ الْمَحْمُولِ عَلَيْهِ وَتَلَفَهُ بِالتَّعَثُّرِ بِهِ بَعْدَمَا وَقَعَ فِي الطَّرِيقِ.

أَقُولُ: مَا ذَهَبُوا إلَيْهِ مِنْ كَوْنِ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ وَهَذَا اللَّفْظُ إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ فَعَطِبَ بِهِ فَهُوَ ضَامِنٌ فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَوْ كَانَ قَوْلُهُ فَعَطِبَ بِهِ فَهُوَ ضَامِنٌ يَشْمَلُ الْوَجْهَيْنِ وَهُمَا تَلَفُ الْإِنْسَانِ بِسُقُوطِ الْمَحْمُولِ عَلَيْهِ وَتَلَفُهُ بِتَعَثُّرِهِ بِهِ بَعْدَ سُقُوطِ ذَلِكَ لَكَانَ قَوْلُهُ وَكَذَا إذَا سَقَطَ فَتَعَثَّرَ بِهِ إنْسَانٌ بَعْدَ قَوْلِهِ فَعَطِبَ بِهِ فَهُوَ ضَامِنٌ مُسْتَدْرَكًا مَحْضًا. وَثَانِيهِمَا أَنَّهُ لَوْ كَانَ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ ذَلِكَ لَذَكَرَ قَوْلَهُ وَهَذَا اللَّفْظُ يَشْمَلُ الْوَجْهَيْنِ قَبْلَ ذِكْرِ الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ وَإِنْ كَانَ رِدَاءٌ قَدْ لَبِسَهُ فَسَقَطَ فَعَطِبَ بِهِ إنْسَانٌ لَمْ يَضْمَنْ، إذْ لَا وَجْهَ لِتَأْخِيرِ بَيَانِ مَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى عَنْ ذِكْرِ الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ بِلَا أَمْرٍ دَاعٍ إلَيْهِ. وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ أَنْ شَرَحَ الْمَقَامَ عَلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ جُمْهُورُ الشُّرَّاحِ: وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ فَعَطِبَ بِهِ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ فَسَقَطَ عَلَى إنْسَانٍ وَذَلِكَ لَا يَشْمَلُ التَّعَثُّرَ بِهِ. ثُمَّ قَالَ: وَلَعَلَّ الْمُصَنِّفَ نَظَرَ إلَى الْمَعْطُوفِ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ انْتَهَى. أَقُولُ: إنَّ قَوْلَهُ وَلَعَلَّ الْمُصَنِّفَ نَظَرَ إلَى الْمَعْطُوفِ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ مِمَّا لَا مَعْنَى لَهُ، لِأَنَّ قَوْلَهُ فَهُوَ ضَامِنٌ جَوَابُ مَجْمُوعِ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ صِحَّةُ الْمَعْنَى مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ.

وَأَنَا أَتَعَجَّبُ مِنْ هَؤُلَاءِ الشُّرَّاحِ كَيْفَ حَمَلُوا مُرَادَ الْمُصَنِّفِ ذَلِكَ الْمُتْقِنِ التَّحْرِيرَ عَلَى مَا يَأْبَاهُ مَنْ لَهُ أَدْنَى دُرْبَةً بِأَسَالِيبِ الْكَلَامِ. وَجَعَلَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ وَهَذَا اللَّفْظُ إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ فَعَطِبَ بِهِ إنْسَانٌ لَمْ يَضْمَنْ، وَهُوَ الْحَقُّ الصَّرِيحُ عِنْدِي أَيْضًا فَإِنَّهُ مَصُونٌ عَنْ الْمَحْذُورَاتِ الْمَذْكُورَةِ كُلِّهَا. وَرَدَّهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ أَنْ نَقَلَهُ حَيْثُ قَالَ: وَفِي بَعْضِ الشُّرُوحِ جَعَلَ قَوْلَهُ وَهَذَا اللَّفْظُ إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ فَعَطِبَ بِهِ إنْسَانٌ لَمْ يَضْمَنْ، وَهُوَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الرِّدَاءِ فَاسِدٌ، لِأَنَّ مَوْتَ الْإِنْسَانِ بِسُقُوطِ الرِّدَاءِ عَلَيْهِ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ انْتَهَى. أَقُولُ: رَدُّهُ مَرْدُودٌ، إذْ لَا يَخْفَى أَنَّهُ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَسْقُطَ الرِّدَاءُ عَلَى فَمِ الصَّغِيرِ بَلْ عَلَى فَمِ الْكَبِيرِ أَيْضًا فِي حَالَةِ النَّوْمِ بَلْ فِي حَالَةِ الْيَقِظَةِ أَيْضًا فَيَخْتَنِقَ بِذَلِكَ فَيَمُوتَ. نَعَمْ تَحَقُّقُ مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ نَادِرٌ، لَكِنْ إمْكَانُ وُقُوعِهِ كَافٍ فِي تَعْمِيمِ الْمَسْأَلَةِ كَمَا لَا يَخْفَى.

ثُمَّ إنَّ بَعْضَ الْفُضَلَاءِ قَصَدَ الْجَوَابَ عَنْ رَدِّ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ بِوَجْهٍ آخَرَ فَقَالَ: وَلَك أَنْ تَقُولَ: قَوْلُهُ فَسَقَطَ فَعَطِبَ بِهِ إنْسَانٌ: يَعْنِي أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ يَشْمَلُ الْوَجْهَيْنِ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ فَسَقَطَ عَلَى إنْسَانٍ فَعَطِبَ فَمُرَادُهُ

ص: 317

لِلْعَشِيرَةِ فَعَلَّقَ رَجُلٌ مِنْهُمْ فِيهِ قِنْدِيلًا أَوْ جَعَلَ فِيهِ بَوَارِي أَوْ حَصَاةً فَعَطِبَ بِهِ رَجُلٌ لَمْ يَضْمَنْ، وَإِنْ كَانَ الَّذِي فَعَلَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ الْعَشِيرَةِ ضَمِنَ) قَالُوا: هَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: لَا يَضْمَنُ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا، لِأَنَّ هَذِهِ مِنْ الْقُرَبِ وَكُلُّ أَحَدٍ مَأْذُونٌ فِي إقَامَتِهَا فَلَا يَتَقَيَّدُ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ، كَمَا إذَا فَعَلَهُ بِإِذْنِ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْمَسْجِدِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ الْفَرْقُ أَنَّ التَّدْبِيرَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَسْجِدِ لِأَهْلِهِ دُونَ غَيْرِهِمْ كَنَصْبِ الْإِمَامِ وَاخْتِيَارِ الْمُتَوَلِّي وَفَتْحِ بَابِهِ وَإِغْلَاقِهِ وَتَكْرَارِ الْجَمَاعَةِ إذَا سَبَقَهُمْ بِهَا غَيْرُ أَهْلِهِ فَكَانَ فِعْلُهُمْ مُبَاحًا مُطْلَقًا غَيْرَ مُقَيَّدٍ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ وَفِعْلُ غَيْرِهِمْ تَعَدِّيًا أَوْ مُبَاحًا مُقَيَّدًا بِشَرْطِ السَّلَامَةِ، وَقَصْدُ الْقُرْبَةِ لَا يُنَافِي الْغَرَامَةَ إذَا أَخْطَأَ الطَّرِيقَ كَمَا إذَا تَفَرَّدَ بِالشَّهَادَةِ عَلَى الزِّنَا وَالطَّرِيقُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ الِاسْتِئْذَانُ مِنْ أَهْلِهِ. قَالَ:(وَإِنْ جَلَسَ فِيهِ رَجُلٌ مِنْهُمْ فَعَطِبَ بِهِ رَجُلٌ لَمْ يَضْمَنْ إنْ كَانَ فِي الصَّلَاةِ، وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ ضَمِنَ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: لَا يَضْمَنُ عَلَى كُلِّ حَالٍ.

الْفَرْقُ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ نَفْسِهِمَا مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ الْغَيْرِ، وَلَوْ سُلِّمَ فَالْمُرَادُ بِالرِّدَاءِ مُطْلَقُ اللِّبَاسِ مَجَازًا لَا خُصُوصُهُ؛ أَلَا يَرَى إلَى دَلِيلِهِ إلَى هُنَا لَفْظُهُ. أَقُولُ: كُلٌّ مِنْ مُقَدِّمَاتِ كَلَامِهِ كَاسِدٌ. أَمَّا قَوْلُهُ يَعْنِي أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ يَشْمَلُ الْوَجْهَيْنِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ فَسَقَطَ عَلَى إنْسَانٍ فَمُرَادُهُ الْفَرْقُ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ نَفْسِهِمَا مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ الْغَيْرِ، فَلِأَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ نَفْسِهِمَا بِدُونِ أَنْ يَكُونَ لَهُ تَأْثِيرٌ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ الْمَسْأَلَةِ يَكُونُ خَارِجًا مِنْ الْفِقْهِ بَلْ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ اللَّغْوِ مِنْ الْكَلَامِ هَاهُنَا، وَمِثْلُهُ لَا يَلِيقُ بِمَنْ لَهُ أَدْنَى تَمْيِيزٍ فَضْلًا عَنْ الْمُصَنِّفِ الَّذِي هُوَ عَلَمٌ فِي التَّحْقِيقِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ وَلَوْ سُلِّمَ فَالْمُرَادُ بِالرِّدَاءِ مُطْلَقُ اللِّبَاسِ مَجَازًا لَا خُصُوصُهُ، فَلِأَنَّ الْمَجَازَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ قَرِينَةٍ وَلَا قَرِينَةَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ أَلَا يَرَى إلَى دَلِيلِهِ فَلِأَنَّ عُمُومَ الدَّلِيلِ لَا يَقْتَضِي عُمُومَ الْمَسْأَلَةِ؛ أَلَا يَرَى أَنَّ كُلِّيَّةَ الْكُبْرَى شَرْطٌ فِي إنْتَاجِ الشَّكْلِ الْأَوَّلِ مَعَ كَوْنِ النَّتِيجَةِ خَاصَّةً

(قَوْلُهُ وَقَالَا: لَا يَضْمَنُ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا) أَيْ فِيمَا إذَا فَعَلَ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ الْعَشِيرَةِ، وَفِيمَا إذَا فَعَلَهُ أَحَدٌ مِنْ غَيْرِ الْعَشِيرَةِ. قَالَ صَاحِبُ مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ: قَوْلُهُ وَقَالَا: لَا يَضْمَنُ فِي الْوَجْهَيْنِ وَهُمَا إذْنُ الْإِمَامِ أَوْ الْعَشِيرَةِ أَوْ عَدَمُ إذْنِهِمَا، وَتَبِعَهُ الشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ.

أَقُولُ: تَفْسِيرُ الْوَجْهَيْنِ هُنَا بِمَا ذَكَرَهُ ذَلِكَ الشَّارِحَانِ لَا يُطَابِقُ الْمَشْرُوحَ كَمَا

ص: 318

وَلَوْ كَانَ جَالِسًا لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ أَوْ لِلتَّعْلِيمِ أَوْ لِلصَّلَاةِ أَوْ نَامَ فِيهِ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ أَوْ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ أَوْ مَرَّ فِيهِ مَارًّا أَوْ قَعَدَ فِيهِ لِحَدِيثٍ فَهُوَ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ، وَأَمَّا الْمُعْتَكِفُ فَقَدْ قِيلَ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ، وَقِيلَ لَا يَضْمَنُ

لَا يَخْفَى عَلَى ذِي مُسْكَةٍ (قَوْلُهُ وَلَوْ كَانَ جَالِسًا لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ أَوْ لِلتَّعْلِيمِ أَوْ لِلصَّلَاةِ أَوْ نَامَ فِيهِ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ أَوْ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ أَوْ مَرَّ فِيهِ مَارًّا أَوْ قَعَدَ فِيهِ لِحَدِيثٍ فَهُوَ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَحَلِّ: وَلَوْ كَانَ جَالِسًا لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ أَوْ لِلتَّعْلِيمِ: أَيْ تَعْلِيمِ الْفِقْهِ أَوْ الْحَدِيثِ أَوْ لِلصَّلَاةِ: يَعْنِي مُنْتَظِرًا لَهَا أَوْ نَامَ فِيهِ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ أَوْ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ أَوْ مَرَّ فِيهِ مَارًّا أَوْ قَعَدَ فِيهِ لِحَدِيثٍ قَالَ الْمُصَنِّفُ: فَهُوَ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ بَعْضِ أَصْحَابِنَا، وَاخْتَارَهُ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْجُرْجَانِيِّ: لَيْسَ فِيهَا خِلَافٌ، بَلْ لَا ضَمَانَ فِيهِ بِالِاتِّفَاقِ انْتَهَى. أَقُولُ: فِي تَقْرِيرِهِ خَلَلٌ، فَإِنَّ الِاخْتِلَافَ بَيْنَ أَصْحَابِنَا، وَاخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ الرَّازِيّ قَوْلَ بَعْضِهِمْ وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْجُرْجَانِيِّ قَوْلَ الْبَعْضِ الْآخَرِ إنَّمَا هُوَ فِيمَا إذَا قَعَدَ لِلْعِبَادَةِ بِأَنْ كَانَ يَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ أَوْ قَعَدَ لِلتَّدْرِيسِ وَتَعْلِيمِ الْفِقْهِ أَوْ الِاعْتِكَافِ أَوْ قَعَدَ يَذْكُرُ اللَّهَ أَوْ يُسَبِّحُهُ أَوْ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ فَعَثَرَ بِهِ إنْسَانٌ فَمَاتَ، وَأَمَّا فِيمَا إذَا قَعَدَ لِحَدِيثٍ أَوْ نَامَ فِيهِ أَوْ أَقَامَ فِيهِ لِغَيْرِ الصَّلَاةِ أَوْ مَرَّ فِيهِ مَارًّا فَعَثَرَ بِهِ إنْسَانٌ فَمَاتَ فَفِيهِ اخْتِلَافٌ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَبَيْنَ صَاحِبَيْهِ بِلَا خِلَافٍ لِأَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِنَا عَلَى مَا بُيِّنَ، وَفَصَّلَ فِي الذَّخِيرَةِ وَالْمُحِيطِ الْبُرْهَانِيُّ وَذَكَرَ فِي النِّهَايَةِ أَيْضًا نَقْلًا عَنْ الذَّخِيرَةِ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ هُنَا مِنْ الصُّوَرِ فَقَالَ: فَهُوَ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ يَشْمَلُ الْقِسْمَيْنِ فَكَيْفَ يَتِمُّ قَوْلُ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَهُوَ اخْتِيَارُ بَعْضِ أَصْحَابِنَا إلَى آخِرِ كَلَامِهِ.

ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: فِي عِبَارَةِ الْكِتَابِ تَكْرَارٌ، لِأَنَّهُ قَالَ: وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ ضَمِنَ وَغَيْرُ الصَّلَاةِ يَشْمَلُ هَذَا الْمَذْكُورَ كُلَّهُ. وَالْجَوَابُ أَنَّ قَوْلَهُ وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ ضَمِنَ لَفْظُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، وَقَوْلُهُ وَلَوْ كَانَ جَالِسًا لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ مِنْ لَفْظِ الْمُصَنِّفِ بَيَانٌ لِذَلِكَ انْتَهَى. أَقُولُ: فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ سُؤَالِهِ وَجَوَابِهِ سَقَامَةٌ. أَمَّا فِي الْأَوَّلِ فَلِأَنَّ وَضْعَ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا قَالَ وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ إنَّمَا كَانَ فِي الْجُلُوسِ فِي الْمَسْجِدِ فَكَيْفَ يَشْمَلُ قَوْلَهُ وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ ضَمِنَ هَذَا الْمَذْكُورَ كُلَّهُ، وَمِنْهُ مَا لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْجُلُوسِ كَالنَّوْمِ فِيهِ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ أَوْ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ وَالْمُرُورِ فِيهِ مَارًّا. وَأَمَّا فِي الثَّانِي فَلِأَنَّ لَفْظَ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ مُخْتَصٌّ بِالْجُلُوسِ فِي الْمَسْجِدِ، وَلَفْظُ الْمُصَنِّفِ شَامِلٌ لِلْجُلُوسِ وَغَيْرِهِ كَمَا عَرَفْت آنِفًا فَكَيْفَ يَكُونُ هَذَا بَيَانًا لِذَاكَ.

ثُمَّ قَالَ: وَقَوْلُهُ فَهُوَ عَلَى هَذَا

ص: 319

بِالِاتِّفَاقِ. لَهُمَا أَنَّ الْمَسْجِدَ إنَّمَا بُنِيَ لِلصَّلَاةِ وَالذِّكْرِ وَلَا يُمْكِنُهُ أَدَاءُ الصَّلَاةِ بِالْجَمَاعَةِ إلَّا بِانْتِظَارِهَا فَكَانَ الْجُلُوسُ فِيهِ مُبَاحًا لِأَنَّهُ مِنْ ضَرُورَاتِ الصَّلَاةِ، أَوْ لِأَنَّ الْمُنْتَظِرَ لِلصَّلَاةِ فِي الصَّلَاةِ حُكْمًا بِالْحَدِيثِ فَلَا يَضْمَنُ كَمَا إذَا كَانَ فِي الصَّلَاةِ.

وَلَهُ أَنَّ الْمَسْجِدَ إنَّمَا بُنِيَ لِلصَّلَاةِ، وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ مُلْحَقَةٌ بِهَا فَلَا بُدَّ مِنْ إظْهَارِ التَّفَاوُتِ فَجَعَلْنَا الْجُلُوسَ لِلْأَصْلِ مُبَاحًا مُطْلَقًا وَالْجُلُوسَ لِمَا يُلْحَقُ بِهِ مُبَاحًا مُقَيَّدًا بِشَرْطِ السَّلَامَةِ وَلَا غَرْوَ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ مُبَاحًا أَوْ مَنْدُوبًا إلَيْهِ وَهُوَ مُقَيَّدٌ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ كَالرَّمْيِ إلَى الْكَافِرِ أَوْ إلَى الصَّيْدِ وَالْمَشْيِ فِي الطَّرِيقِ وَالْمَشْيِ فِي الْمَسْجِدِ إذَا وَطِئَ غَيْرَهُ وَالنَّوْمِ فِيهِ إذَا انْقَلَبَ عَلَى غَيْرِهِ (وَإِنْ جَلَسَ رَجُلٌ مِنْ غَيْرِ الْعَشِيرَةِ فِيهِ لِلصَّلَاةِ فَتَعَقَّلَ بِهِ إنْسَانٌ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَضْمَنَ) لِأَنَّ الْمَسْجِدَ بُنِيَ لِلصَّلَاةِ وَأَمْرُ الصَّلَاةِ بِالْجَمَاعَةِ إنْ كَانَ مُفَوَّضًا إلَى أَهْلِ الْمَسْجِدِ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ وَحْدَهُ. .

الِاخْتِلَافِ يُفِيدُ اتِّفَاقَ الْمَشَايِخِ عَلَى ذَلِكَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ هُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ كَمَا رَأَيْت. أَقُولُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ يُفِيدُ اتِّفَاقَ الْمَشَايِخِ عَلَى ذَلِكَ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مُخْتَارَ الْمُصَنِّفِ أَيْضًا مَا اخْتَارَهُ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ، فَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ لَمْ يَذْكُرْ الْقَوْلَ الْآخَرَ، وَمِثْلُ هَذَا لَيْسَ بِعَزِيزٍ فِي كَلِمَاتِ الْمَشَايِخِ. ثُمَّ قَالَ: وَكَانَ مِنْ حَقِّ الْكَلَامِ أَنْ يَقُولَ: فَقَدْ قِيلَ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ، وَقِيلَ لَا يَضْمَنُ بِلَا خِلَافٍ كَمَا قَالَ فِي الِاعْتِكَافِ انْتَهَى. أَقُولُ: لَعَلَّ سِرَّ أَنَّ الْمُصَنِّفَ لَمْ يَقُلْ هَكَذَا هُوَ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ مِنْ الصُّوَرِ مُشْتَمِلٌ عَلَى مَا لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْعِبَادَةِ أَيْضًا، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِأَنَّهُ لَا يَضْمَنُ فِي هَذَا الْقِسْمِ بِلَا خِلَافٍ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِيمَا قَبْلُ، فَلَوْ قَالَ الْمُصَنِّفُ مِثْلَ مَا زَعَمَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ حَقَّ الْكَلَامِ لَاخْتَلَّ كَلَامُهُ كَاخْتِلَالِ كَلَامِ ذَلِكَ الشَّارِحِ فِي شَرْحِهِ كَمَا مَرَّ حَيْثُ يَلْزَمُ أَنْ يُدْرِجَ فِي اخْتِلَافِ الْمَشَايِخِ مَحَلَّ الْوِفَاقِ أَيْضًا فَقَالَ: وَهُوَ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ بِالْبَتَاتِ جَرْيًا عَلَى اتِّفَاقِهِمْ عَلَى وُقُوعِ الِاخْتِلَافِ فِيمَا هُوَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْعِبَادَةِ وَاخْتِيَارًا لِمَا اخْتَارَهُ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ فِيمَا هُوَ مِنْ جِنْسِ الْعِبَادَةِ تَأَمَّلْ، فَإِنَّ هَذَا مَعْنًى لَطِيفٌ وَتَوْجِيهٌ حَسَنٌ (قَوْلُهُ لَهُمَا أَنَّ الْمَسْجِدَ إنَّمَا بُنِيَ لِلصَّلَاةِ وَالذِّكْرِ وَلَا يُمْكِنُهُ أَدَاءُ الصَّلَاةِ بِالْجَمَاعَةِ إلَّا بِانْتِظَارِهَا فَكَانَ الْجُلُوسُ مُبَاحًا إلَخْ).

أَقُولُ: هَذَا التَّعْلِيلُ قَاصِرٌ عَنْ إفَادَةِ مُدَّعَاهُمَا فِي بَعْضٍ مِنْ الْمَسَائِلِ الْمَذْكُورَةِ كَالنَّوْمِ فِي الْمَسْجِدِ وَالْمُرُورِ فِيهِ وَالْقُعُودِ فِيهِ لِحَدِيثٍ: فَإِنَّ شَيْئًا مِنْهَا لَيْسَ مِنْ الصَّلَاةِ وَلَا مِنْ الذِّكْرِ وَلَا مِنْ ضَرُورَاتِ الصَّلَاةِ وَلَا مِنْ الِانْتِظَارِ لِلصَّلَاةِ فَلَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ. .

ص: 320

(فَصْلٌ فِي أَحْكَامِ الْحَائِطِ الْمَائِلِ)

قَالَ: (وَإِذَا مَالَ الْحَائِطُ إلَى طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ فَطُولِبَ صَاحِبُهُ بِنَقْضِهِ وَأُشْهِدَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَنْقُضْهُ فِي مُدَّةٍ يَقْدِرُ عَلَى نَقْضِهِ حَتَّى سَقَطَ ضَمِنَ مَا تَلِفَ بِهِ مِنْ نَفْسٍ أَوْ مَالٍ) وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَضْمَنَ لِأَنَّهُ لَا صُنْعَ مِنْهُ مُبَاشَرَةً، وَالْمُبَاشَرَةُ شَرْطٌ هُوَ مُتَعَدٍّ فِيهِ، لِأَنَّ أَصْلَ الْبِنَاءِ كَانَ فِي مِلْكِهِ، وَالْمَيَلَانُ وَشَغْلُ الْهَوَاءِ لَيْسَ مِنْ فِعْلِهِ فَصَارَ كَمَا قَبْلَ الْإِشْهَادِ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْحَائِطَ لَمَّا مَالَ إلَى الطَّرِيقِ فَقَدْ اشْتَمَلَ هَوَاءَ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ بِمِلْكِهِ وَرَفْعُهُ فِي يَدِهِ، فَإِذَا تَقَدَّمَ إلَيْهِ وَطُولِبَ بِتَفْرِيغِهِ يَجِبُ عَلَيْهِ فَإِذَا امْتَنَعَ صَارَ مُتَعَدِّيًا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ وَقَعَ ثَوْبُ إنْسَانٍ فِي حِجْرِهِ يَصِيرُ مُتَعَدِّيًا بِالِامْتِنَاعِ عَنْ التَّسْلِيمِ إذَا طُولِبَ بِهِ كَذَا هَذَا، بِخِلَافِ مَا قَبْلَ الْإِشْهَادِ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ هَلَاكِ الثَّوْبِ قَبْلَ الطَّلَبِ، وَلِأَنَّا لَوْ لَمْ نُوجِبْ عَلَيْهِ الضَّمَانَ يَمْتَنِعُ عَنْ التَّفْرِيغِ فَيَنْقَطِعُ الْمَارَّةُ حَذَرًا عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَيَتَضَرَّرُونَ بِهِ، وَدَفْعُ الضَّرَرِ الْعَامِّ مِنْ الْوَاجِبِ وَلَهُ تَعَلُّقٌ بِالْحَائِطِ فَيَتَعَيَّنُ لِدَفْعِ هَذَا الضَّرَرِ، وَكَمْ مِنْ ضَرَرٍ خَاصٍّ يُتَحَمَّلُ لِدَفْعِ الْعَامِّ مِنْهُ، ثُمَّ فِيمَا تَلِفَ بِهِ مِنْ النُّفُوسِ تَجِبُ الدِّيَةُ وَتَتَحَمَّلُهَا الْعَاقِلَةُ، لِأَنَّهُ فِي كَوْنِهِ جِنَايَةً دُونَ الْخَطَأِ فَيُسْتَحَقُّ فِيهِ التَّخْفِيفُ بِالطَّرِيقِ الْأُولَى كَيْ لَا يُؤَدِّيَ إلَى اسْتِئْصَالِهِ وَالْإِجْحَافِ بِهِ، وَمَا تَلِفَ بِهِ مِنْ الْأَمْوَالِ كَالدَّوَابِّ وَالْعُرُوضِ يَجِبُ ضَمَانُهَا فِي مَالِهِ، لِأَنَّ الْعَوَاقِلَ لَا تَعْقِلُ الْمَالَ وَالشَّرْطُ التَّقَدُّمُ إلَيْهِ وَطَلَبُ النَّقْضِ مِنْهُ دُونَ الْإِشْهَادِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْإِشْهَادَ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ إثْبَاتِهِ عِنْدَ إنْكَارِهِ فَكَانَ مِنْ بَابِ الِاحْتِيَاطِ. وَصُورَةُ الْإِشْهَادِ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ:

(فَصْلٌ فِي أَحْكَامِ الْحَائِطِ الْمَائِلِ)

لَمَّا ذَكَرَ أَحْكَامَ الْقَتْلِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِالْإِنْسَانِ مُبَاشَرَةً أَوْ تَسَبُّبًا شَرَعَ فِي بَيَانِ أَحْكَامِ الْقَتْلِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِالْجَمَادِ وَهُوَ الْحَائِطُ الْمَائِلُ، وَكَانَ مِنْ حَقِّهَا أَنْ تُؤَخَّرَ عَنْ مَسَائِلِ جَمِيعِ الْحَيَوَانَاتِ تَقْدِيمًا لِلْحَيَوَانِ عَلَى الْجَمَادِ، إلَّا أَنَّ الْحَائِطَ الْمَائِلَ لَمَّا نَاسَبَ الْجُرْصُنَ وَالرَّوْشَنَ وَالْجَنَاحَ وَالْكَنِيفَ وَغَيْرَهَا أَلْحَقَ مَسَائِلَهُ بِهَا وَلِهَذَا أَتَى بِلَفْظِ الْفَصْلِ لَا بِلَفْظِ الْبَابِ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَغَيْرِهَا

ص: 321

اشْهَدُوا أَنِّي قَدْ تَقَدَّمْت إلَى هَذَا الرَّجُلِ فِي هَدْمِ حَائِطِهِ هَذَا، وَلَا يَصِحُّ الْإِشْهَادُ قَبْلَ أَنْ يَهِيَ الْحَائِطُ لِانْعِدَامِ التَّعَدِّي. .

قَالَ: (وَلَوْ بَنَى الْحَائِطَ مَائِلًا فِي الِابْتِدَاءِ قَالُوا: يَضْمَنُ مَا تَلِفَ بِسُقُوطِهِ مِنْ غَيْرِ إشْهَادٍ) لِأَنَّ الْبِنَاءَ تَعَدٍّ ابْتِدَاءً كَمَا فِي إشْرَاعِ الْجَنَاحِ. قَالَ: (وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ عَلَى التَّقَدُّمِ) لِأَنَّ هَذِهِ لَيْسَتْ بِشَهَادَةٍ عَلَى الْقَتْلِ، وَشَرْطُ التَّرْكِ فِي مُدَّةٍ يَقْدِرُ عَلَى نَقْضِهِ فِيهَا لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إمْكَانِ النَّقْضِ لِيَصِيرَ بِتَرْكِهِ جَانِيًا، وَيَسْتَوِي أَنْ يُطَالِبَهُ بِنَقْضِهِ مُسْلِمٌ أَوْ ذِمِّيٌّ، لِأَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ شُرَكَاءُ فِي الْمُرُورِ فَيَصِحُّ التَّقَدُّمُ إلَيْهِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ رَجُلًا كَانَ أَوْ امْرَأَةً حُرًّا كَانَ أَوْ مُكَاتَبًا، وَيَصِحُّ التَّقَدُّمُ إلَيْهِ عِنْدَ السُّلْطَانِ وَغَيْرِهِ لِأَنَّهُ مُطَالَبَةٌ بِالتَّفْرِيغِ فَيَتَفَرَّدُ كُلُّ صَاحِبِ حَقٍّ بِهِ. .

قَالَ: (وَإِنْ مَالَ إلَى دَارِ رَجُلٍ فَالْمُطَالَبَةُ إلَى مَالِكِ الدَّارِ خَاصَّةً) لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُ عَلَى الْخُصُوصِ، وَإِنْ كَانَ فِيهَا سُكَّانٌ لَهُمْ أَنْ يُطَالِبُوهُ لِأَنَّ لَهُمْ الْمُطَالَبَةَ بِإِزَالَةِ مَا شَغَلَ الدَّارَ فَكَذَا بِإِزَالَةِ مَا شَغَلَ هَوَاءَهَا، وَلَوْ أَجَّلَهُ صَاحِبُ الدَّارِ أَوْ أَبْرَأَهُ مِنْهَا أَوْ فَعَلَ ذَلِكَ سَاكِنُوهَا فَذَلِكَ جَائِزٌ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيمَا تَلِفَ بِالْحَائِطِ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمْ، بِخِلَافِ مَا إذَا مَالَ إلَى الطَّرِيقِ فَأَجَّلَهُ الْقَاضِي أَوْ مَنْ أَشْهَدَ عَلَيْهِ حَيْثُ لَا يَصِحُّ، لِأَنَّ الْحَقَّ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَلَيْسَ إلَيْهِمَا إبْطَالُ حَقِّهِمْ. .

وَلَوْ بَاعَ الدَّارَ بَعْدَمَا أَشْهَدَ عَلَيْهِ وَقَبَضَهَا الْمُشْتَرِي بَرِئَ مِنْ ضَمَانِهِ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ بِتَرْكِ الْهَدْمِ مَعَ تَمَكُّنِهِ وَقَدْ زَالَ تَمَكُّنُهُ بِالْبَيْعِ، بِخِلَافِ إشْرَاعِ الْجَنَاحِ لِأَنَّهُ كَانَ جَانِيًا بِالْوَضْعِ وَلَمْ يَنْفَسِخْ بِالْبَيْعِ فَلَا يَبْرَأُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُشْتَرِي لِأَنَّهُ لَمْ يُشْهِدْ عَلَيْهِ، وَلَوْ أَشْهَدَ عَلَيْهِ بَعْدَ شِرَائِهِ فَهُوَ ضَامِنٌ لِتَرْكِهِ التَّفْرِيغَ مَعَ تَمَكُّنِهِ بَعْدَ مَا طُولِبَ بِهِ، وَالْأَصْلُ أَنَّهُ يَصِحُّ التَّقَدُّمُ إلَى كُلِّ مَنْ يَتَمَكَّنُ مِنْ نَقْضِ الْحَائِطِ وَتَفْرِيغِ الْهَوَاءِ، وَمَنْ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْهُ لَا يَصِحُّ التَّقَدُّمُ إلَيْهِ كَالْمُرْتَهِنِ وَالْمُسْتَأْجِرِ وَالْمُودَعِ وَسَاكِنِ الدَّارِ، وَيَصِحُّ التَّقَدُّمُ إلَى الرَّاهِنِ لِقُدْرَتِهِ عَلَى ذَلِكَ بِوَاسِطَةِ الْفِكَاكِ وَإِلَى الْوَصِيِّ وَإِلَى أَبِي الْيَتِيمِ أَوْ أُمِّهِ فِي حَائِطِ الصَّبِيِّ لِقِيَامِ الْوِلَايَةِ، وَذَكَرَ الْأُمَّ فِي الزِّيَادَاتِ وَالضَّمَانُ فِي مَالِ الْيَتِيمِ لِأَنَّ فِعْلَ هَؤُلَاءِ كَفِعْلِهِ، وَإِلَى الْمُكَاتَبِ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ لَهُ، وَإِلَى الْعَبْدِ التَّاجِرِ سَوَاءٌ كَانَ عَلَيْهِ

قَوْلُهُ وَالْأَصْلُ أَنَّهُ يَصِحُّ التَّقَدُّمُ إلَى كُلِّ مَنْ يَتَمَكَّنُ مِنْ نَقْضِ الْحَائِطِ وَتَفْرِيغِ الْهَوَاءِ وَمَنْ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْهُ لَا يَصِحُّ التَّقَدُّمُ إلَيْهِ) أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: يَنْتَقِضُ هَذَا الْأَصْلُ بِمَا سَيَأْتِي فِي الْكِتَابِ مِنْ أَنَّهُ يَصِحُّ التَّقَدُّمُ إلَى أَحَدِ الْوَرَثَةِ فِي نَصِيبِهِ وَإِنْ كَانَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ نَقْضِ الْحَائِطِ وَحْدَهُ. وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ عَنْهُ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْأَصْلُ عَلَى مُوجِبِ الْقِيَاسِ وَمَا سَيَأْتِي فِي الْكِتَابِ جَوَابُ الِاسْتِحْسَانِ. وَوَجْهُهُ مَا ذُكِرَ هُنَاكَ. وَأَمَّا جَوَابُ الْقِيَاسِ فِيهِ فَهُوَ أَنْ لَا يَضْمَنَ أَحَدٌ مِنْ الْوَرَثَةِ شَيْئًا، أَمَّا الَّذِي تَقَدَّمَ إلَيْهِ فَلِعَدَمِ تَمَكُّنِهِ مِنْ النَّقْضِ، وَأَمَّا غَيْرُهُ مِنْ الْوَرَثَةِ فَلِعَدَمِ التَّقَدُّمِ إلَيْهِمْ، وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي الْمَبْسُوطِ، وَذُكِرَ فِي الشُّرُوحِ أَيْضًا فِيمَا سَيَجِيءُ. وَثَانِيهمَا أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ هُنَا بِمَنْ يَتَمَكَّنُ مِنْ نَقْضِ الْحَائِطِ مَنْ يَتَمَكَّنُ مِنْهُ وَحْدَهُ أَوْ مَعَ مُشَارَكَةِ غَيْرِهِ، وَبِمَنْ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْهُ مَنْ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْهُ أَصْلًا، وَأَحَدُ الْوَرَثَةِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْآتِيَةِ وَإِنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ نَقْضِ الْحَائِطِ وَحْدَهُ إلَّا أَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْهُ مَعَ مُشَارَكَةِ سَائِرِ الْوَرَثَةِ فَلَا انْتِقَاضَ (قَوْلُهُ وَالضَّمَانُ فِي مَالِ الْيَتِيمِ) أَقُولُ: فِي هَذَا الْإِطْلَاقِ نَوْعُ قُصُورٍ،

ص: 322

دَيْنٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ لِأَنَّ وِلَايَةَ النَّقْضِ لَهُ، ثُمَّ التَّلَفُ بِالسُّقُوطِ إنْ كَانَ مَا لَا فَهُوَ فِي عِتْقِ الْعَبْدِ، وَإِنْ كَانَ نَفْسًا فَهُوَ عَلَى عَاقِلَةِ الْمَوْلَى لِأَنَّ الْإِشْهَادَ مِنْ وَجْهٍ عَلَى الْمَوْلَى وَضَمَانُ الْمَالِ أَلْيَقُ بِالْعَبْدِ وَضَمَانُ النَّفْسِ بِالْمَوْلَى، وَيَصِحُّ التَّقَدُّمُ إلَى أَحَدِ الْوَرَثَةِ فِي نَصِيبِهِ وَإِنْ كَانَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ نَقْضِ الْحَائِطِ وَحْدَهُ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ إصْلَاحِ نَصِيبِهِ بِطَرِيقِهِ وَهُوَ الْمُرَافَعَةُ إلَى الْقَاضِي.

(وَلَوْ سَقَطَ الْحَائِطُ الْمَائِلُ عَلَى إنْسَانٍ بَعْدَ الْإِشْهَادِ فَقَتَلَهُ فَتَعَثَّرَ بِالْقَتِيلِ غَيْرُهُ فَعَطِبَ لَا يَضْمَنُهُ) لِأَنَّ التَّفْرِيغَ عَنْهُ إلَى الْأَوْلِيَاءِ لَا إلَيْهِ (وَإِنْ عَطِبَ بِالنَّقْضِ ضَمِنَهُ) لِأَنَّ التَّفْرِيغَ إلَيْهِ إذْ النَّقْضُ مِلْكُهُ وَالْإِشْهَادُ عَلَى الْحَائِطِ إشْهَادٌ عَلَى النَّقْضِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ امْتِنَاعُ الشَّغْلِ (وَلَوْ عَطِبَ بِجَرَّةِ كَانَتْ عَلَى الْحَائِطِ فَسَقَطَتْ بِسُقُوطِهِ وَهِيَ مِلْكُهُ ضَمِنَهُ) لِأَنَّ التَّفْرِيغَ إلَيْهِ (وَإِنْ كَانَ مِلْكَ غَيْرِهِ لَا يَضْمَنُهُ) لِأَنَّ التَّفْرِيغَ إلَى مَالِكِهَا قَالَ

لِأَنَّ مَا تَلِفَ بِالْحَائِطِ الْمَائِلِ إنْ كَانَ مِنْ النُّفُوسِ يَجِبُ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ صَاحِبِ الْحَائِطِ لَا فِي مَالِهِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ الْأَمْوَالِ كَالدَّوَابِّ وَالْعُرُوضِ يَجِبُ ضَمَانُهَا فِي مَالِهِ، وَقَدْ مَرَّ هَذَا كُلُّهُ فِي الْكِتَابِ، فَكَوْنُ الضَّمَانِ فِي مَالِ الْيَتِيمِ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ فِي تَلَفِ الْأَمْوَالِ

ص: 323

(وَإِنْ كَانَ الْحَائِطُ بَيْنَ خَمْسَةِ رِجَالٍ أَشْهَدَ عَلَى أَحَدِهِمْ فَقَتَلَ إنْسَانًا ضَمِنَ خُمُسَ الدِّيَةِ وَيَكُونُ ذَلِكَ عَلَى عَاقِلَتِهِ، وَإِنْ كَانَتْ دَارٌ بَيْنَ ثَلَاثَةِ نَفَرٍ فَحَفَرَ أَحَدُهُمْ فِيهَا بِئْرًا وَالْحَفْرُ كَانَ بِغَيْرِ رِضَا الشَّرِيكَيْنِ الْآخَرِينَ أَوْ بَنَى حَائِطًا فَعَطِبَ بِهِ إنْسَانٌ فَعَلَيْهِ ثُلُثَا الدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَتِهِ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: عَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَتِهِ فِي الْفَصْلَيْنِ) لَهُمَا أَنَّ التَّلَفَ بِنَصِيبِ مَنْ أَشْهَدَ عَلَيْهِ مُعْتَبَرٌ، وَبِنَصِيبِ مَنْ لَمْ يُشْهِدْ عَلَيْهِ هَدَرٌ، فَكَانَا قِسْمَيْنِ فَانْقَسَمَ نِصْفَيْنِ كَمَا مَرَّ فِي عَقْرِ الْأَسَدِ وَنَهْشِ الْحَيَّةِ وَجَرْحِ الرَّجُلِ. وَلَهُ أَنَّ الْمَوْتَ حَصَلَ بِعِلَّةٍ وَاحِدَةٍ وَهُوَ الثِّقَلُ الْمُقَدَّرُ وَالْعُمْقُ الْمُقَدَّرُ، لِأَنَّ أَصْلَ ذَلِكَ لَيْسَ بِعِلَّةٍ وَهُوَ الْقَلِيلُ حَتَّى يُعْتَبَرُ كُلُّ جُزْءٍ عِلَّةً فَتَجْتَمِعُ الْعِلَلُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ يُضَافُ إلَى الْعِلَّةِ الْوَاحِدَةِ ثُمَّ تُقْسَمُ عَلَى أَرْبَابِهَا بِقَدْرِ الْمِلْكِ، بِخِلَافِ الْجِرَاحَاتِ فَإِنَّ كُلَّ جِرَاحَةٍ عِلَّةٌ لِلتَّلَفِ بِنَفْسِهَا صَغُرَتْ أَوْ كَبِرَتْ عَلَى مَا عُرِفَ، إلَّا أَنَّ عِنْدَ الْمُزَاحِمَةِ أُضِيفَ إلَى الْكُلِّ لِعَدَمِ الْأَوْلَوِيَّةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

لَا فِي تَلَفِ النُّفُوسِ فَمَا مَعْنَى الْحُكْمِ هُنَا بِكَوْنِ الضَّمَانِ فِي مَالِ الْيَتِيمِ عَلَى الْإِطْلَاقِ.

(قَوْلُهُ لَهُمَا أَنَّ التَّلَفَ بِنَصِيبِ مَنْ أَشْهَدَ عَلَيْهِ مُعْتَبَرٌ وَبِنَصِيبِ مَنْ لَمْ يُشْهِدْ عَلَيْهِ هَدَرٌ فَكَانَا قِسْمَيْنِ فَانْقَسَمَ نِصْفَيْنِ كَمَا فِي عَقْرِ الْأَسَدِ وَنَهْشِ الْحَيَّةِ وَجَرْحِ الرَّجُلِ) أَقُولُ: كَانَ مُدَّعَاهُمَا عَامًّا لِلْفَصْلَيْنِ أَيْ فَصْلِ حَائِطٍ بَيْنِ خَمْسَةٍ وَفَصْلِ دَارٍ بَيْنِ ثَلَاثَةٍ كَمَا أَفْصَحَ عَنْهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ وَقَالَا: عَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَتِهِ فِي الْفَصْلَيْنِ، وَالدَّلِيلُ الَّذِي ذَكَرَهُ مَنْ قَبْلَهُمَا خَاصٌّ لِلْفَصْلِ الْأَوَّلِ فَكَانَ قَاصِرًا فِي الظَّاهِرِ عَنْ إفَادَةِ تَمَامِ الْمُدَّعَى، وَعَنْ هَذَا قَالَ صَاحِبُ الْكَافِي بَعْدَ ذِكْرِ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ قَبْلِهِمَا، وَفِي مَسْأَلَةِ الْبِئْرِ تَلِفَتْ النَّفْسُ بِالْحَفْرِ فِي مِلْكِهِ وَفِي مِلْكِ غَيْرِهِ فَانْقَسَمَ نِصْفَيْنِ اهـ. وَالْجَوَابُ مِنْ جَانِبِ الْمُصَنِّفِ هُنَا هُوَ أَنَّ الدَّلِيلَ الَّذِي ذَكَرَهُ مِنْ قَبْلِهِمَا وَإِنْ كَانَ يَخُصُّ الْفَصْلَ الْأَوَّلَ بِعِبَارَتِهِ إلَّا أَنَّهُ يَعُمُّ الْفَصْلَ الثَّانِيَ أَيْضًا بِدَلَالَتِهِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى ذِي فَطَانَةٍ، فَاكْتَفَى بِذَلِكَ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَدَارُ الْكَلَامِ هُنَا عَلَى الِاكْتِفَاءِ بِانْفِهَامِ تَمَامِ الْمُرَادِ لَكَانَ مَا زَادَهُ صَاحِبُ الْكَافِي أَيْضًا قَاصِرًا عَنْ إفَادَةِ تَمَامِ الْمُدَّعَى هُنَا، لِأَنَّ الْفَصْلَ الثَّانِيَ لَيْسَ مَسْأَلَةَ حَفْرِ الْبِئْرِ وَحْدَهَا بَلْ هُوَ مَسْأَلَةُ حَفْرِ الْبِئْرِ وَبِنَاءِ الْحَائِطِ جَمِيعًا، وَقَدْ تَعَرَّضَ صَاحِبُ الْكَافِي فِي التَّعْلِيلِ لِحَفْرِ الْبِئْرِ دُونَ بِنَاءِ الْحَائِطِ كَمَا تَرَى.

ص: 324

(بَابُ جِنَايَةِ الْبَهِيمَةِ وَالْجِنَايَةِ عَلَيْهَا)

قَالَ (الرَّاكِبُ ضَامِنٌ لِمَا أَوْطَأَتْ الدَّابَّةُ مَا أَصَابَتْ بِيَدِهَا أَوْ رِجْلِهَا أَوْ رَأْسِهَا أَوْ كَدَمَتْ أَوْ خَبَطَتْ، وَكَذَا

بَابُ جِنَايَةِ الْبَهِيمَةِ وَالْجِنَايَةِ عَلَيْهَا)

لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ أَحْكَامِ جِنَايَةِ الْإِنْسَانِ شَرَعَ فِي بَيَانِ أَحْكَامِ جِنَايَةِ الْبَهِيمَةِ، وَلَا شَكَّ فِي تَقَدُّمِ الْإِنْسَانِ عَلَى الْبَهِيمَةِ رُتْبَةً، فَكَذَا ذِكْرًا، كَذَا ذُكِرَ فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ. أَقُولُ: يَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَمْ يَفْرَغْ مِنْ بَيَانِ أَحْكَامِ جِنَايَةِ الْإِنْسَانِ مُطْلَقًا بَلْ بَقِيَ مِنْهَا أَحْكَامُ جِنَايَةِ الْمَمْلُوكِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَمْلُوكَ مِنْ الْإِنْسَانِ أَيْضًا مُقَدَّمٌ عَلَى الْبَهِيمَةِ رُتْبَةً فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُقَدَّمَ عَلَيْهَا أَيْضًا ذِكْرًا، فَلَمْ يَكُنْ الْقَدْرُ الْمَذْكُورُ مِنْ التَّوْجِيهِ كَافِيًا فِي إفَادَةِ حَقِّ الْمَقَامِ. وَقَالَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ، وَكَانَ مِنْ حَقِّ هَذَا الْبَابِ أَنْ يُذْكَرَ بَعْدَ بَابِ جِنَايَةِ الْمَمْلُوكِ لِفَضِيلَةِ النُّطْقِ فِي الْمَمْلُوكِ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَتْ الْبَهِيمَةُ مُلْحَقَةً بِالْجَمَادَاتِ مِنْ حَيْثُ عَدَمُ الْعَقْلِ وَالنُّطْقِ أُلْحِقَ هَذَا الْبَابُ بِبَابِ مَا يُحْدِثُهُ الرَّجُلُ فِي الطَّرِيقِ مِنْ الْجُرْصُنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ اهـ.

أَقُولُ: يَرِدُ عَلَيْهِ أَيْضًا أَنَّهُ لَوْ كَانَ هَذَا الْبَابُ مُلْحَقًا بِبَابِ مَا يُحْدِثُهُ الرَّجُلُ فِي الطَّرِيقِ مِنْ الْحَيْثِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ لَمَا ذُكِرَتْ مَسَائِلُ هَذَا الْبَابِ فِي بَابٍ مُسْتَقِلٍّ بَلْ كَانَ حَقُّهَا أَنْ تُذْكَرَ فِي فَصْلٍ كَمَا قَالُوا

ص: 325

إذَا صَدَمَتْ وَلَا يَضْمَنُ مَا نَفَحَتْ بِرِجْلِهَا أَوْ ذَنَبِهَا) وَالْأَصْلُ أَنَّ الْمُرُورَ فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ مُبَاحٌ مُقَيَّدٌ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ لِأَنَّهُ يُتَصَرَّفُ فِي حَقِّهِ مِنْ وَجْهٍ وَفِي حَقِّ غَيْرِهِ مِنْ وَجْهٍ لِكَوْنِهِ مُشْتَرَكًا بَيْنَ كُلِّ النَّاسِ فَقُلْنَا بِالْإِبَاحَةِ مُقَيَّدًا بِمَا ذَكَرْنَا لِيَعْتَدِلَ النَّظَرُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، ثُمَّ إنَّمَا يَتَقَيَّدُ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ فِيمَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ وَلَا يَتَقَيَّدُ بِهَا فِيمَا لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَنْعِ عَنْ التَّصَرُّفِ وَسَدِّ بَابِهِ وَهُوَ مَفْتُوحٌ، وَالِاحْتِرَازُ عَنْ الْإِيطَاءِ وَمَا يُضَاهِيهِ مُمْكِنٌ، فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَاتِ التَّيْسِيرِ فَقَيَّدْنَاهُ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ عَنْهُ، وَالنَّفْحَةُ بِالرِّجْلِ وَالذَّنَبِ لَيْسَ يُمْكِنُهُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ مَعَ السَّيْرِ عَلَى الدَّابَّةِ فَلَمْ يَتَقَيَّدْ بِهِ (فَإِنْ أَوْقَفَهَا فِي الطَّرِيقِ ضَمِنَ النَّفْحَةَ أَيْضًا) لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ التَّحَرُّزُ عَنْ الْإِيقَافِ وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ عَنْ النَّفْحَةِ فَصَارَ مُتَعَدِّيًا فِي الْإِيقَافِ وَشَغْلِ الطَّرِيقِ بِهِ فَيَضْمَنُهُ.

قَالَ (وَإِنْ أَصَابَتْ بِيَدِهَا أَوْ بِرِجْلِهَا حَصَاةٌ أَوْ نَوَاةً أَوْ أَثَارَتْ غُبَارًا أَوْ حَجَرًا صَغِيرًا فَفَقَأَ عَيْنَ إنْسَانٍ أَوْ أَفْسَدَ ثَوْبَهُ لَمْ يَضْمَنْ، وَإِنْ كَانَ حَجَرًا كَبِيرًا ضَمِنَ) لِأَنَّهُ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ، إذْ سَيْرُ الدَّوَابِّ لَا يَعْرَى عَنْهُ، وَفِي الثَّانِي مُمْكِنٌ لِأَنَّهُ يَنْفَكُّ عَنْ السَّيْرِ عَادَةً، وَإِنَّمَا ذَلِكَ بِتَعْنِيفِ الرَّاكِبِ، وَالْمُرْتَدِفُ فِيمَا ذَكَرْنَا كَالرَّاكِبِ لِأَنَّ الْمَعْنَى

فِي فَصْلِ الْحَائِطِ الْمَائِلِ تَدَبَّرْ.

(قَوْلُهُ وَلَا يَضْمَنُ مَا نَفَحَتْ بِرِجْلِهَا أَوْ ذَنَبِهَا) قَالَ الشُّرَّاحُ قَاطِبَةً: يُقَالُ نَفَحَتْ الدَّابَّةُ شَيْئًا إذَا ضَرَبَتْهُ بِحَدِّ حَافِرِهَا. وَقَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ بَعْدَ ذَلِكَ: كَذَا فِي الصِّحَاحِ وَالْمُغْرِبِ، وَاقْتَفَى أَثَرَهُ صَاحِبَا الْكِفَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ. أَقُولُ: كَوْنُ الْمَذْكُورِ فِي الْمُغْرِبِ كَذَلِكَ مُسْلِمٌ فَإِنَّهُ قَالَ فِيهِ: نَفَحَتْهُ الدَّابَّةُ ضَرَبَتْهُ بِحَدِّ حَافِرِهَا، وَأَمَّا كَوْنُ الْمَذْكُورِ فِي الصِّحَاحِ كَذَلِكَ فَمَمْنُوعٌ، إذْ لَمْ يَعْتَبِرْ فِيهِ كَوْنِ الضَّرْبِ بِحَدِّ الْحَافِرِ بَلْ قَالَ فِيهِ: وَنَفَحَتْ النَّاقَةُ ضَرَبَتْ بِرِجْلِهَا. ثُمَّ أَقُولُ: بَقِيَ إشْكَالٌ فِي عِبَارَةِ الْكِتَابِ وَهُوَ أَنَّ الَّذِي يَظْهَرُ مِمَّا ذُكِرَ فِي كُتُبِ اللُّغَةِ وَمِمَّا ذَكَرَهُ الشُّرَّاحُ هُنَا أَنْ لَا تَكُونَ النَّفْحَةُ إلَّا بِالرِّجْلِ فَيَلْزَمُ أَنْ لَا يَصِحَّ قَوْلُهُ أَوْ ذَنَبِهَا فِي قَوْلِهِ وَلَا يَضْمَنُ مَا نَفَحَتْ بِرِجْلِهَا أَوْ ذَنَبِهَا لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ النَّفْحَةُ بِالذَّنَبِ أَيْضًا بَلْ يَلْزَمُ أَيْضًا اسْتِدْرَاكُ قَوْلِهِ بِرِجْلِهَا لِأَنَّ الضَّرْبَ بِالرِّجْلِ كَانَ دَاخِلًا فِي مَفْهُومِ النَّفْحَةِ. لَا يُقَالُ: ذِكْرُ الرِّجْلِ مَحْمُولٌ عَلَى التَّأْكِيدِ وَذِكْرُ الذَّنَبِ عَلَى التَّجْرِيدِ. لِأَنَّا نَقُولُ: اعْتِبَارُ التَّأْكِيدِ وَالتَّجْرِيدِ مَعًا بِالنَّظَرِ إلَى كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ مُتَعَذِّرٍ لِلتَّنَافِي بَيْنَهُمَا كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى الْفَطِنِ، بَلْ التَّأْوِيلُ الصَّحِيحُ أَنْ تُحْمَلَ النَّفْحَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْكِتَابِ عَلَى مُطْلَقِ الضَّرْبِ بِطَرِيقِ عُمُومِ الْمَجَازِ، فَيَصِحُّ ذِكْرُ الرِّجْلِ وَالذَّنَبِ

ص: 326

لَا يَخْتَلِفُ. قَالَ (فَإِنْ رَاثَتْ أَوْ بَالَتْ فِي الطَّرِيقِ وَهِيَ تَسِيرُ فَعَطِبَ بِهِ إنْسَانٌ لَمْ يَضْمَنْ) لِأَنَّهُ مِنْ ضَرُورَاتِ السَّيْرِ فَلَا يُمْكِنُهُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ (وَكَذَا إذَا أَوْقَفَهَا لِذَلِكَ) لِأَنَّ مِنْ الدَّوَابِّ مَا لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ إلَّا بِالْإِيقَافِ، وَإِنْ أَوْقَفَهَا لِغَيْرِ ذَلِكَ فَعَطِبَ إنْسَانٌ بِرَوْثِهَا أَوْ بَوْلِهَا ضَمِنَ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِي هَذَا الْإِيقَافِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَاتِ السَّيْرِ، ثُمَّ هُوَ أَكْثَرُ ضَرَرًا بِالْمَارَّةِ مِنْ السَّيْرِ لِمَا أَنَّهُ أَدْوَمُ مِنْهُ فَلَا يَلْحَقُ بِهِ (وَالسَّائِقُ ضَامِنٌ لِمَا أَصَابَتْ بِيَدِهَا أَوْ رِجْلِهَا وَالْقَائِدُ ضَامِنٌ لِمَا أَصَابَتْ بِيَدِهَا دُونَ رِجْلِهَا) وَالْمُرَادُ النَّفْحَةُ. قَالَ رضي الله عنه: هَكَذَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ، وَإِلَيْهِ مَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ.

وَوَجْهُهُ أَنَّ النَّفْحَةَ بِمَرْأَى عَيْنِ السَّائِقِ فَيُمْكِنُهُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ وَغَائِبٌ عَنْ بَصَرِ الْقَائِدِ فَلَا يُمْكِنُهُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ. وَقَالَ أَكْثَرُ الْمَشَايِخِ: إنَّ السَّائِقَ لَا يَضْمَنُ النَّفْحَةَ أَيْضًا وَإِنْ كَانَ يَرَاهَا، إذْ لَيْسَ عَلَى رِجْلِهَا مَا يَمْنَعُهَا بِهِ فَلَا يُمْكِنُهُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ،

كِلَيْهِمَا بِلَا إشْكَالٍ تَأَمَّلْ.

(قَوْلُهُ وَالسَّائِقُ ضَامِنٌ لِمَا أَصَابَتْ بِيَدِهَا أَوْ رِجْلِهَا وَالْقَائِدُ ضَامِنٌ لِمَا أَصَابَتْ بِيَدِهَا دُونَ رِجْلِهَا) هَذَا لَفْظُ الْقُدُورِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ: وَالْمُرَادُ النَّفْحَةُ. وَقَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ فِي شَرْحِهِ: أَيْ مِنْ قَوْلِهِ لِمَا أَصَابَتْ بِيَدِهَا أَوْ رِجْلِهَا، وَقَالَ: إنَّمَا فُسِّرَ بِهَذَا لِأَنَّهُ كَانَ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِقَوْلِهِ لِمَا أَصَابَتْ بِيَدِهَا أَوْ رِجْلِهَا الْوَطْءُ، وَقَدْ ذَكَرْت أَنَّهُ يُضَمَّنُ فِيهِ السَّائِقُ وَالْقَائِدُ مِنْ غَيْرِ خِلَافِ أَحَدٍ، وَإِنَّمَا الِاخْتِلَافُ فِي النَّفْحَةِ، وَلَمْ لَوْ يُفَسَّرْ بِهَذَا لَكَانَ لِلْمُؤَوِّلِ أَنْ يُؤَوِّلَ ذَلِكَ بِالْوَطْءِ وَيَثْبُتُ الِاخْتِلَافُ فِيهِ وَلَيْسَتْ الرِّوَايَةُ كَذَلِكَ اهـ.

وَاقْتَفَى أَثَرَهُ كَثِيرٌ مِنْ الشُّرَّاحِ مِنْهُمْ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ. أَقُولُ: فِيهِ خَلَلٌ: أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ قَوْلِهِمْ: أَيْ مِنْ قَوْلِهِ لِمَا أَصَابَتْ بِيَدِهَا أَوْ رِجْلِهَا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْإِصَابَةِ بِيَدِهَا وَبِالْإِصَابَةِ بِرِجْلِهَا كِلَيْهِمَا هُوَ النَّفْحَةُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ إذْ لَا يُطْلَقُ عَلَى الْإِصَابَةِ بِالْيَدِ النَّفْحَةُ وَإِنَّمَا يُطْلَقُ عَلَيْهَا الْخَطُّ إذَا ضَرَبَتْ بِالْيَدِ، وَلَوْ سَلِمَ إطْلَاقُ النَّفْحَةِ عَلَيْهَا أَيْضًا بِطَرِيقِ التَّجَوُّزِ فَلَا يُجْدِي هُنَا، إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْوَطْءِ بِالْيَدِ وَالْخَبْطِ الَّذِي هُوَ الضَّرْبُ بِالْيَدِ فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ بِهِمَا عَلَى السَّائِقِ وَالْقَائِدِ بِلَا خِلَافِ أَحَدٍ، فَلَا مَعْنَى لَأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَحَدَهُمَا دُونَ الْآخَرِ.

وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ الْقُدُورِيَّ لَمْ يَذْكُرْ الْخِلَافَ فِي مَسْأَلَةِ السَّائِقِ أَصْلًا حَتَّى يَلْزَمَ مِنْ تَوَهُّمِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ لِمَا أَصَابَتْ بِيَدِهَا أَوْ رِجْلِهَا هُوَ الْوَطْءُ إثْبَاتُ الِاخْتِلَافِ فِي الْوَطْءِ، وَإِنَّمَا الَّذِي بَيَّنَ الْخِلَافَ فِي هَاتِيكَ الْمَسْأَلَةِ هُنَا هُوَ الْمُصَنِّفُ وَذَا فَرْعُ تَفْسِيرِهِ مُرَادَ الْقُدُورِيِّ بِالنَّفْحَةِ لَا مَنْشَأُ هَذَا التَّفْسِيرِ كَمَا يُوهِمُهُ كَلَامُهُمْ. ثُمَّ أَقُولُ: الْحَقُّ عِنْدِي أَنَّ مَعْنَى قَوْلِ الْمُصَنِّفِ وَالْمُرَادُ النَّفْحَةُ هُوَ أَنَّ مُرَادَ الْقُدُورِيِّ بِقَوْلِهِ أَوْ بِرِجْلِهَا فِي مَسْأَلَةِ السَّائِقِ وَبِقَوْلِهِ دُونَ رِجْلِهَا فِي مَسْأَلَةِ الْقَائِدِ هُوَ النَّفْحَةُ، وَأَنَّهُ إنَّمَا فَسَّرَ بِذَلِكَ لِيَتِمَّ قَوْلُهُ فِي مَسْأَلَةِ الْقَائِدِ دُونَ رِجْلِهَا، إذْ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ الْوَطْءُ لَمْ يَتِمَّ ذَلِكَ فَإِنَّ وَطْءَ الدَّابَّةِ بِرِجْلِهَا يُوجِبُ الضَّمَانَ عَلَى الْقَائِدِ أَيْضًا بِلَا خِلَافِ أَحَدٍ.

(قَوْلُهُ وَوَجْهُهُ أَنَّ النَّفْحَةَ بِمَرْأَى عَيْنِ السَّائِقِ فَيُمْكِنُهُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ وَغَائِبٌ عَنْ بَصَرِ الْقَائِدِ فَلَا يُمْكِنُهُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ) أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إنَّ يَدَ الدَّابَّةِ أَيْضًا غَائِبٌ عَنْ بَصَرِ الْقَائِدِ إذْ الْقَوَدْ لَا يَتَيَسَّرُ إلَّا بِالنَّظَرِ وَالِالْتِفَاتِ إلَى الْقُدَّامِ فَيَغِيبُ مَا فِي الْخَلْفِ عَنْ الْبَصَرِ فَلَا يُمْكِنُهُ التَّحَرُّزُ عَمَّا أَصَابَتْهُ بِيَدِهَا أَيْضًا فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَضْمَنَ ذَلِكَ أَيْضًا فَلْيُتَأَمَّلْ فِي الدَّفْعِ.

(قَوْلُهُ وَقَالَ أَكْثَرُ الْمَشَايِخِ: إنَّ السَّائِقَ لَا يَضْمَنُ النَّفْحَةَ أَيْضًا وَإِنْ كَانَ يَرَاهَا، إذْ لَيْسَ عَلَى رِجْلِهَا مَا يَمْنَعُهَا بِهِ فَلَا يُمْكِنُهُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ) أَقُولُ: وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَيْسَ عَلَى يَدِهَا أَيْضًا مَا يَمْنَعُهَا بِهِ كَمَا كَانَ فِي فَمِهَا

ص: 327

بِخِلَافِ الْكَدْمِ لِإِمْكَانِهِ كَبْحَهَا بِلِجَامِهَا. وَبِهَذَا يَنْطِقُ أَكْثَرُ النُّسَخِ وَهُوَ الْأَصَحُّ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَضْمَنُونَ النَّفْحَةَ كُلُّهُمْ لِأَنَّ فِعْلَهَا مُضَافٌ إلَيْهِمْ، وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَقَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «الرِّجْلُ جُبَارٌ» وَمَعْنَاهُ النَّفْحَةُ بِالرِّجْلِ، وَانْتِقَالُ الْفِعْلِ بِتَخْوِيفِ الْقَتْلِ كَمَا فِي الْمُكْرَهِ وَهَذَا تَخْوِيفٌ بِالضَّرْبِ. قَالَ (وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَكُلُّ شَيْءٍ ضَمِنَهُ الرَّاكِبُ ضَمِنَهُ السَّائِقُ وَالْقَائِدُ) لِأَنَّهُمَا مُسَبِّبَانِ بِمُبَاشَرَتِهِمَا شَرْطَ التَّلَفِ وَهُوَ تَقْرِيبُ الدَّابَّةِ إلَى مَكَانِ الْجِنَايَةِ فَيَتَقَيَّدُ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ فِيمَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ كَالرَّاكِبِ (إلَّا أَنَّ عَلَى الرَّاكِبِ الْكَفَّارَةَ) فِيمَا أَوْطَأَتْهُ الدَّابَّةُ بِيَدِهَا أَوْ بِرِجْلِهَا (وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهَا) وَلَا عَلَى الرَّاكِبِ فِيمَا وَرَاءَ الْإِبْطَاءِ، لِأَنَّ الرَّاكِبَ مُبَاشِرٌ فِيهِ لِأَنَّ التَّلَفَ بِثِقَلِهِ وَثِقَلِ الدَّابَّةِ تَبَعٌ لَهُ، لِأَنَّ سَيْرَ الدَّابَّةِ مُضَافٌ إلَيْهِ وَهِيَ آلَةٌ لَهُ وَهُمَا مُسَبَّبَانِ لِأَنَّهُ لَا يَتَّصِلُ مِنْهُمَا إلَى الْمَحَلِّ شَيْءٌ، وَكَذَا الرَّاكِبُ فِي غَيْرِ الْإِيطَاءِ، وَالْكَفَّارَةُ حُكْمُ الْمُبَاشَرَةِ لَا حُكْمُ التَّسَبُّبِ، وَكَذَا يَتَعَلَّقُ بِالْإِيطَاءِ فِي حَقِّ الرَّاكِبِ حِرْمَانُ الْمِيرَاثِ وَالْوَصِيَّةِ دُونَ السَّائِقِ وَالْقَائِدِ لِأَنَّهُ يَخْتَصُّ بِالْمُبَاشَرَةِ (وَلَوْ كَانَ رَاكِبٌ وَسَائِقٌ قِيلَ: لَا يَضْمَنُ السَّائِقُ مَا أَوْطَأَتْ الدَّابَّةُ) لِأَنَّ الرَّاكِبَ مُبَاشِرٌ فِيهِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ وَالسَّائِقُ مُسَبِّبٌ، وَالْإِضَافَةُ إلَى الْمُبَاشِرِ أَوْلَى. وَقِيلَ: الضَّمَانُ عَلَيْهِمَا لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ سَبَبُ الضَّمَانِ. .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ص: 328

قَالَ (وَإِذَا اصْطَدَمَ فَارِسَانِ فَمَاتَا فَعَلَى عَاقِلَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دِيَةُ الْآخَرِ) وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ: يَجِبُ عَلَى عَاقِلَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ دِيَةِ الْآخَرِ لِمَا رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه، وَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَاتَ بِفِعْلِهِ وَفِعْلِ صَاحِبِهِ، لِأَنَّهُ بِصَدْمَتِهِ آلَمَ نَفْسَهُ وَصَاحِبَهُ فَيُهْدَرُ نِصْفُهُ وَيُعْتَبَرُ نِصْفُهُ، كَمَا إذَا كَانَ الِاصْطِدَامُ عَمْدًا، أَوْ جَرَحَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَفْسَهُ وَصَاحِبَهُ جِرَاحَةً أَوْ حَفَرَا عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ بِئْرًا فَانْهَارَ عَلَيْهِمَا يَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا النِّصْفُ فَكَذَا هَذَا. وَلَنَا أَنَّ الْمَوْتَ يُضَافُ إلَى فِعْلِ صَاحِبِهِ لِأَنَّ فِعْلَهُ فِي نَفْسِهِ مُبَاحٌ وَهُوَ الْمَشْيُ فِي الطَّرِيقِ فَلَا يَصْلُحُ مُسْتَنَدًا لِلْإِضَافَةِ فِي حَقِّ الضَّمَانِ، كَالْمَاشِي إذَا لَمْ يَعْلَمْ بِالْبِئْرِ وَوَقَعَ فِيهَا لَا يُهْدَرُ شَيْءٌ مِنْ دَمِهِ، وَفِعْلُ صَاحِبِهِ وَإِنْ كَانَ مُبَاحًا، لَكِنَّ الْفِعْلَ الْمُبَاحَ فِي غَيْرِهِ سَبَبٌ لِلضَّمَانِ كَالنَّائِمِ إذَا انْقَلَبَ عَلَى غَيْرِهِ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه أَنَّهُ أَوْجَبَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كُلَّ الدِّيَةِ فَتَعَارَضَتْ رِوَايَتَاهُ فَرَجَّحْنَا بِمَا ذَكَرْنَا، وَفِيمَا ذُكِرَ مِنْ الْمَسَائِلِ

مِنْ اللِّجَامِ فَلَا يُمْكِنُهُ التَّحَرُّزُ عَمَّا أَصَابَتْ بِيَدِهَا أَيْضًا فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَضْمَنَهُ أَيْضًا فَلْيُتَأَمَّلْ فِي الْجَوَابِ.

(قَوْلُهُ وَإِذَا اصْطَدَمَ فَارِسَانِ فَمَاتَا فَعَلَى عَاقِلَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دِيَةُ الْآخَرِ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ: وَفِي تَقْيِيدِ الْفَارِسَيْنِ فِي الْكِتَابِ بِقَوْلِهِ وَإِذَا اصْطَدَمَ الْفَارِسَانِ لَيْسَتْ زِيَادَةُ فَائِدَةٍ، فَإِنَّ الْحُكْمَ فِي اصْطِدَامِ الْمَاشِيَيْنِ وَمَوْتِهِمَا بِذَلِكَ كَذَلِكَ ذَكَرَهُ فِي الْمَبْسُوطِ، سِوَى أَنَّ مَوْتَ الْمُصْطَدِمَيْنِ فِي الْغَالِبِ إنَّمَا يَكُونُ فِي الْفَارِسَيْنِ اهـ.

وَقَالَ فِي الْعِنَايَةِ أَخْذًا مِنْ النِّهَايَةِ: حُكْمُ الْمَاشِيَيْنِ حُكْمُ الْفَارِسَيْنِ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ مَوْتُ الْمُصْطَدِمَيْنِ غَالِبًا فِي الْفَارِسَيْنِ خَصَّهُمَا بِالذِّكْرِ اهـ.

وَقَالَ فِي مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ: وَكَذَا الْحُكْمُ إذَا اصْطَدَمَ الْمَاشِيَانِ وَالتَّقْيِيدُ بِالْفَارِسَيْنِ اتِّفَاقِيٌّ أَوْ بِحَسَبِ الْغَالِبِ اهـ.

وَتَبِعَهُ الشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ. أَقُولُ: عَجِيبٌ مِنْ هَؤُلَاءِ الشُّرَّاحِ مِثْلُ هَذِهِ التَّعَسُّفَاتِ مَعَ كَوْنِ وَجْهِ التَّقْيِيدِ بِالْفَارِسَيْنِ نَيِّرًا، فَإِنَّ الْبَابَ الَّذِي نَحْنُ فِيهِ بَابُ جِنَايَةِ الْبَهِيمَةِ وَالْجِنَايَةَ عَلَيْهَا. وَلَا يَخْفَى أَنَّ اصْطِدَامَ الْمَاشِيَيْنِ لَيْسَ مِنْ ذَلِكَ فِي شَيْءٍ فَكَانَ خَارِجًا مِنْ مَسَائِلِ هَذَا الْبَابِ.

(قَوْلُهُ وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه أَنَّهُ أَوْجَبَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كُلَّ الدِّيَةِ فَتَعَارَضَتْ رِوَايَتَاهُ فَرَجَّحْنَا بِمَا ذَكَرْنَا) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ أَخْذًا مِنْ شَرْحِ تَاجِ الشَّرِيعَةِ: فِيهِ بَحْثٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْخَصْمَ أَيْضًا تَرَجَّحَ

ص: 329

الْفِعْلَانِ مَحْظُورَانِ فَوَضَحَ الْفَرْقُ. هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا إذَا كَانَا حُرَّيْنِ فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَإِ، وَلَوْ كَانَا عَبْدَيْنِ يَهْدُرُ الدَّمُ فِي الْخَطَإِ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ تَعَلَّقَتْ بِرَقَبَتِهِ دَفْعًا وَفِدَاءً، وَقَدْ فَاتَتْ لَا إلَى خُلْفٍ مِنْ غَيْرِ فِعْلِ الْمَوْلَى فَهُدِرَ ضَرُورَةً، وَكَذَا فِي الْعَمْدِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا هَلَكَ بَعْدَمَا جَنَى وَلَمْ يَخْلُفْ بَدَلًا، وَلَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا حُرًّا وَالْآخَرُ عَبْدًا فَفِي الْخَطَإِ تَجِبُ عَلَى عَاقِلَةِ الْحُرِّ الْمَقْتُولِ قِيمَةُ الْعَبْدِ فَيَأْخُذُهَا وَرَثَةُ الْمَقْتُولِ الْحُرِّ، وَيَبْطُلُ حَقُّ الْحُرِّ الْمَقْتُولِ فِي الدِّيَةِ فِيمَا زَادَ عَلَى الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ أَصْلَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ تَجِبُ الْقِيمَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ لِأَنَّهُ ضَمَانُ الْآدَمِيِّ فَقَدْ أَخْلَفَ بَدَلًا بِهَذَا الْقَدْرِ فَيَأْخُذُهُ وَرَثَةُ الْحُرِّ الْمَقْتُولِ وَيَبْطُلُ مَا زَادَ عَلَيْهِ لِعَدَمِ الْخُلْفِ، وَفِي الْعَمْدِ يَجِبُ عَلَى عَاقِلَةِ الْحُرِّ نِصْفُ قِيمَةِ الْعَبْدِ لِأَنَّ الْمَضْمُونَ هُوَ النِّصْفُ فِي الْعَمْدِ، وَهَذَا الْقَدْرُ يَأْخُذُهُ وَلِيُّ الْمَقْتُولِ، وَمَا عَلَى الْعَبْدِ فِي رَقَبَتِهِ وَهُوَ نِصْفُ دِيَةِ الْحُرِّ يَسْقُطُ بِمَوْتِهِ إلَّا قَدْرَ مَا أَخْلَفَ مِنْ الْبَدَلِ وَهُوَ نِصْفُ الْقِيمَةِ.

قَالَ (وَمَنْ سَاقَ دَابَّةً فَوَقَعَ السَّرْجُ عَلَى رَجُلٍ فَقَتَلَهُ ضَمِنَ، وَكَذَا عَلَى هَذَا سَائِرُ أَدَوَاتِهِ كَاللِّجَامِ وَنَحْوِهِ، وَكَذَا مَا يَحْمِلُ عَلَيْهَا) لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِي هَذَا التَّسْبِيبِ، لِأَنَّ الْوُقُوعَ بِتَقْصِيرٍ مِنْهُ وَهُوَ تَرْكُ الشَّدِّ أَوْ الْإِحْكَامِ فِيهِ، بِخِلَافِ الرِّدَاءِ لِأَنَّهُ لَا يُشَدُّ فِي الْعَادَةِ، وَلِأَنَّهُ قَاصِدٌ لِحِفْظِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ كَمَا فِي الْمَحْمُولِ عَلَى عَاتِقِهِ دُونَ اللِّبَاسِ عَلَى مَا مَرَّ مِنْ قَبْلُ فَيُقَيَّدُ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ.

قَالَ (وَمَنْ قَادَ قِطَارًا فَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا أَوْطَأَ)، فَإِنْ وَطِئَ بَعِيرٌ إنْسَانًا ضَمِنَ بِهِ الْقَائِدُ وَالدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ لِأَنَّ الْقَائِدَ عَلَيْهِ حِفْظُ الْقِطَارِ كَالسَّائِقِ وَقَدْ أَمْكَنَهُ ذَلِكَ وَقَدْ صَارَ مُتَعَدِّيًا بِالتَّقْصِيرِ فِيهِ، وَالتَّسَبُّبِ بِوَصْفِ التَّعَدِّي سَبَبٌ لِلضَّمَانِ، إلَّا أَنَّ ضَمَانَ النَّفْسِ عَلَى الْعَاقِلَةِ فِيهِ وَضَمَانُ الْمَالِ فِي مَالِهِ (وَإِنْ كَانَ مَعَهُ سَائِقٌ فَالضَّمَانُ عَلَيْهِمَا)

جَانِبُهُ بِمَا ذَكَرَهُ مِنْ الْمَعْنَى. وَالثَّانِي أَنَّ مَا ذَكَرْتُمْ قِيَاسٌ وَالْقِيَاسُ يَصْلُحُ حُجَّةً وَمَا صَلُحَ حُجَّةً لَمْ يَصْلُحْ مُرَجِّحًا. وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ مَنْقُوضٌ بِالْوَاقِعِ فِي الْبِئْرِ بِمَشْيِهِ فَيَكُونُ فَاسِدًا، وَعَنْ الثَّانِي أَنَّ الْقِيَاسَ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ لَا يَصْلُحُ حُجَّةً اهـ.

أَقُولُ: إنَّ الْجَوَابَ مِنْ الثَّانِي بِمَا ذَكَرَ لَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّ الْقِيَاسَ إنَّمَا لَا يَصْلُحُ حُجَّةً فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ إذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ النَّصُّ مَتْرُوكَ الْعَمَلِ بِهِ بِأَنْ عَارَضَهُ نَصٌّ آخَرُ. وَأَمَّا إذَا كَانَ مَتْرُوكَ الْعَمَلِ بِهِ بِأَنْ عَارَضَهُ نَصٌّ آخَرُ وَتَسَاقَطَا كَمَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ فَالْقِيَاسُ يَصْلُحُ حُجَّةً فِي مُقَابَلَتِهِ قَطْعًا؛ أَلَا يَرَى إلَى مَا تَقَرَّرَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ الدَّلِيلَيْنِ إذَا تَعَارَضَا وَتَسَاقَطَا يُصَارُ مِنْ الْكِتَابِ إلَى السُّنَّةِ وَمِنْ السُّنَّةِ إلَى الْقِيَاسِ، وَقَوْلِ الصَّحَابِيِّ إنْ أَمْكَنَ ذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ الْقِيَاسُ لَا يَصْلُحُ فِيهِ حُجَّةٌ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ الَّذِي تَرَكَ الْعَمَلَ بِهِ لَمَا صَحَّ الْمَصِيرُ

ص: 330

لِأَنَّ قَائِدَ الْوَاحِدِ قَائِدٌ لِلْكُلِّ، وَكَذَا سَائِقُهُ لِاتِّصَالِ الْأَزِمَّةِ، وَهَذَا إذَا كَانَ السَّائِقُ فِي جَانِبٍ مِنْ الْإِبِلِ، أَمَّا إذَا كَانَ تَوَسَّطَهَا وَأَخَذَ بِزِمَامٍ وَاحِدٍ يَضْمَنُ مَا عَطِبَ بِمَا هُوَ خَلْفَهُ، وَيَضْمَنَانِ مَا تَلِفَ بِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ لِأَنَّ الْقَائِدَ لَا يَقُودُ مَا خَلْفَ السَّائِقِ لِانْفِصَامِ الزِّمَامِ، وَالسَّائِقُ يَسُوقُ مَا يَكُونُ قُدَّامَهُ.

قَالَ (وَإِنْ رَبَطَ رَجُلٌ بَعِيرًا إلَى الْقِطَارِ وَالْقَائِدُ لَا يَعْلَمُ فَوَطِئَ الْمَرْبُوطُ إنْسَانًا فَقَتَلَهُ فَعَلَى عَاقِلَةِ الْقَائِدِ الدِّيَةُ) لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ صِيَانَةُ الْقِطَارِ عَنْ رَبْطِ غَيْرِهِ، فَإِذَا تَرَكَ الصِّيَانَةَ صَارَ مُتَعَدِّيًا، وَفِي التَّسْبِيبِ الدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ كَمَا فِي الْقَتْلِ الْخَطَإِ (ثُمَّ يَرْجِعُونَ بِهَا عَلَى عَاقِلَةِ الرَّابِطِ) لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَوْقَعَهُمْ فِي هَذِهِ الْعُهْدَةِ، وَإِنَّمَا لَا يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَيْهِمَا فِي الِابْتِدَاءِ وَكُلٌّ مِنْهُمَا مُسَبِّبٌ لِأَنَّ الرَّبْطَ مِنْ الْقَوْدِ بِمَنْزِلَةِ التَّسَيُّبِ مِنْ الْمُبَاشَرَةِ لِاتِّصَالِ التَّلَفِ بِالْقَوْدِ دُونَ الرَّبْطِ. قَالُوا: هَذَا إذَا رَبَطَ وَالْقِطَارُ يَسِيرُ لِأَنَّهُ أَمْرٌ بِالْقَوْدِ دَلَالَةً، فَإِذَا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ لَا يُمْكِنُهُ التَّحَفُّظُ مِنْ ذَلِكَ فَيَكُونُ قَرَارُ الضَّمَانِ عَلَى الرَّابِطِ، أَمَّا إذَا رَبَطَ وَالْإِبِلُ قِيَامٌ ثُمَّ قَادَهَا ضَمِنَهَا الْقَائِدُ لِأَنَّهُ قَادَ بَعِيرَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ لَا صَرِيحًا وَلَا دَلَالَةً فَلَا يَرْجِعُ بِمَا لَحِقَهُ عَلَيْهِ.

قَالَ (وَمَنْ أَرْسَلَ بَهِيمَةً وَكَانَ لَهَا سَائِقًا فَأَصَابَتْ فِي فَوْرِهَا يَضْمَنُهُ) لِأَنَّ الْفِعْلَ انْتَقَلَ إلَيْهِ بِوَاسِطَةِ السَّوْقِ. قَالَ (وَلَوْ أَرْسَلَ طَيْرًا وَسَاقَهُ فَأَصَابَ فِي فَوْرِهِ لَمْ يَضْمَنْ) وَالْفَرْقُ أَنَّ بَدَنَ الْبَهِيمَةِ يَحْتَمِلُ السَّوْقَ فَاعْتُبِرَ سَوْقُهُ وَالطَّيْرُ لَا يَحْتَمِلُ السَّوْقَ فَصَارَ وُجُودُ السَّوْقِ وَعَدَمِهِ بِمَنْزِلَةٍ، وَكَذَا لَوْ أَرْسَلَ كَلْبًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ سَائِقًا لَمْ يَضْمَنْ، وَلَوْ

مِنْ السُّنَّةِ عِنْدَ التَّعَارُضِ وَالتَّسَاقُطِ إلَى الْقِيَاسِ إذْ يَكُونُ الْقِيَاسُ إذْ ذَاكَ فِي مُقَابَلَةِ السُّنَّةِ لَا مَحَالَةَ. وَالصَّوَابُ فِي الْجَوَابِ عَنْ الثَّانِي أَنْ يُقَالَ: مُرَادُ الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ فَرَجَّحْنَا بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّا رَجَّحْنَا قَوْلَنَا بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْمَعْقُولِ الَّذِي مَآلُهُ الْقِيَاسُ بَعْدَ أَنْ تَعَارَضَتْ رِوَايَتَاهُ، لَا أَنَّا رَجَّحْنَا إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ حَتَّى يُتَّجَهَ عَلَيْهِ أَنَّ مَا يَصْلُحُ حُجَّةً لَا يَصْلُحُ مُرَجِّحًا. بَقِيَ هَاهُنَا شَيْءٌ، وَهُوَ أَنَّهُمْ صَرَّحُوا بِأَنَّ مَا ذَكَرَهُ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ جَوَابُ الْقِيَاسِ وَمَا قُلْنَاهُ جَوَابُ الِاسْتِحْسَانِ، وَإِذَا تَعَارَضَتْ الرِّوَايَتَانِ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه وَتَسَاقَطَتَا فَكَانَ مَصِيرُنَا فِي إثْبَاتِ قَوْلِنَا إلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْمَعْقُولِ الَّذِي مَآلُهُ الْقِيَاسُ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ مَا قُلْنَاهُ جَوَابَ الْقِيَاسِ أَيْضًا، فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ: إنَّهُ جَوَابُ الِاسْتِحْسَانِ؟ وَالْجَوَابُ أَنَّ الِاسْتِحْسَانَ لَا يَنْحَصِرُ فِي النَّصِّ، بَلْ قَدْ يَكُونُ بِالنَّصِّ كَمَا فِي السَّلَمِ وَالْإِجَارَةِ وَبَقَاءِ الصَّوْمِ فِي النِّسْيَانِ، وَقَدْ يَكُونُ بِالْإِجْمَاعِ كَمَا فِي الِاسْتِصْنَاعِ، وَقَدْ يَكُونُ بِالضَّرُورَةِ كَمَا فِي طَهَارَةِ الْحِيَضِ وَالْآبَارِ، وَقَدْ يَكُونُ بِالْقِيَاسِ الْخَفِيِّ وَهُوَ الْأَكْثَرُ كَمَا صُرِّحَ بِذَلِكَ كُلِّهِ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ، فَالْمُرَادُ

ص: 331

أَرْسَلَهُ إلَى صَيْدٍ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ سَائِقًا فَأَخَذَ الصَّيْدَ وَقَتَلَهُ حَلَّ. وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الْبَهِيمَةَ مُخْتَارَةٌ فِي فِعْلِهَا وَلَا تَصْلُحُ نَائِبَةً عَنْ الْمُرْسِلِ فَلَا يُضَافُ فِعْلُهَا إلَى غَيْرِهَا، هَذَا هُوَ الْحَقِيقَةُ، إلَّا أَنَّ الْحَاجَةَ مَسَّتْ فِي الِاصْطِيَادِ فَأُضِيفَ إلَى الْمُرْسِلِ لِأَنَّ الِاصْطِيَادَ مَشْرُوعٌ وَلَا طَرِيقَ لَهُ سِوَاهُ وَلَا حَاجَةَ فِي حَقِّ ضَمَانِ الْعُدْوَانِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ أَوْجَبَ الضَّمَانَ فِي هَذَا كُلِّهِ احْتِيَاطًا صِيَانَةً لِأَمْوَالِ النَّاسِ. قَالَ رضي الله عنه: وَذُكِرَ فِي الْمَبْسُوطِ إذَا أَرْسَلَ دَابَّةً فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ فَأَصَابَتْ فِي فَوْرِهَا فَالْمُرْسِلُ ضَامِنٌ؛ لِأَنَّ سَيْرَهَا مُضَافٌ إلَيْهِ مَا دَامَتْ تَسِيرُ عَلَى سَنَنِهَا، وَلَوْ انْعَطَفَتْ يَمْنَةً أَوْ يَسْرَةً انْقَطَعَ حُكْمُ الْإِرْسَالِ إلَّا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ طَرِيقٌ آخَرُ سِوَاهُ وَكَذَا إذَا وَقَفَتْ ثُمَّ سَارَتْ بِخِلَافِ مَا إذَا وَقَفَتْ بَعْدَ الْإِرْسَالِ فِي الِاصْطِيَادِ ثُمَّ سَارَتْ فَأَخَذَتْ الصَّيْدَ، لِأَنَّ تِلْكَ الْوَقْفَةَ تَحَقُّقُ مَقْصُودِ الْمُرْسِلِ لِأَنَّهُ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ الصَّيْدِ، وَهَذِهِ تُنَافِي مَقْصُودَ الْمُرْسِلِ وَهُوَ السَّيْرُ فَيَنْقَطِعُ حُكْمُ الْإِرْسَالِ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا أَرْسَلَهُ إلَى صَيْدٍ فَأَصَابَ نَفْسًا أَوْ مَالًا فِي فَوْرِهِ لَا يَضْمَنُهُ مَنْ أَرْسَلَهُ، وَفِي الْإِرْسَالِ فِي الطَّرِيقِ يَضْمَنُهُ لِأَنَّ شَغْلَ الطَّرِيقِ تَعَدٍّ فَيَضْمَنُ مَا تَوَلَّدَ مِنْهُ، أَمَّا الْإِرْسَالُ لِلِاصْطِيَادِ فَمُبَاحٌ وَلَا تَسْبِيبَ إلَّا بِوَصْفِ التَّعَدِّي.

قَالَ (وَلَوْ أَرْسَلَ بَهِيمَةً فَأَفْسَدَتْ زَرْعًا عَلَى فَوْرِهِ ضَمِنَ الْمُرْسِلُ، وَإِنْ مَالَتْ يَمِينًا أَوْ شِمَالًا) وَلَهُ طَرِيقٌ آخَرُ لَا يَضْمَنُ لِمَا مَرَّ، وَلَوْ انْفَلَتَتْ الدَّابَّةُ فَأَصَابَتْ مَالًا أَوْ آدَمِيًّا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا (لَا ضَمَانَ عَلَى صَاحِبِهَا) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «جُرْحُ الْعَجْمَاءِ جُبَارٌ» وَقَالَ مُحَمَّدٌ رحمه الله: هِيَ الْمُنْفَلِتَةُ، وَلِأَنَّ الْفِعْلَ غَيْرُ مُضَافٍ إلَيْهِ لِعَدَمِ مَا يُوجِبُ النِّسْبَةَ إلَيْهِ

بِالِاسْتِحْسَانِ فِي قَوْلِهِمْ هُنَا وَمَا قُلْنَاهُ جَوَابُ الِاسْتِحْسَانِ هُوَ الْقِيَاسُ الْخَفِيُّ الْمُقَابِلُ لِلْقِيَاسِ الْجَلِيِّ فَلَا إشْكَالَ

(قَوْلُهُ أَمَّا الْإِرْسَالُ لِلِاصْطِيَادِ فَمُبَاحٌ) قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: نَعَمْ إلَّا أَنَّهُ لَمْ لَا يَكُنْ مُقَيَّدًا بِشَرْطِ السَّلَامَةِ اهـ.

أَقُولُ: جَوَابُهُ يَظْهَرُ بِقَوْلِ الْمُصَنِّفِ رحمه الله وَلَا تَسْبِيبَ إلَّا بِوَصْفِ التَّعَدِّي، فَإِنَّ كَوْنَ الْفِعْلِ الْمُبَاحِ مُقَيَّدًا بِشَرْطِ السَّلَامَةِ إنَّمَا هُوَ فِيمَا وُجِدَ فِيهِ التَّعَدِّي كَمَا فِي الْمُرُورِ فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ حَيْثُ يُوجَدُ فِيهِ شَغْلُ الطَّرِيقِ الَّذِي هُوَ حَقُّ الْعَامَّةِ. وَأَمَّا فِيمَا لَا يُوجَدُ فِيهِ التَّعَدِّي كَمَا فِي الْإِرْسَالِ لِلِاصْطِيَادِ فَلَا مَعْنَى لِلتَّقْيِيدِ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ، لِأَنَّ الضَّمَانَ فِي أَمْثَالِ ذَلِكَ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ بِالتَّسْبِيبِ وَلَا تَسْبِيبَ إلَّا بِوَصْفِ التَّعَدِّي، وَحَيْثُ لَمْ يُوجَدْ التَّعَدِّي لَمْ يُتَصَوَّرْ التَّسْبِيبُ فَلَا ضَمَانَ أَصْلًا. وَقَدْ أَوْضَحَ الْفَرْقَ بَيْنَ إرْسَالِ الدَّابَّةِ فِي الطَّرِيقِ وَبَيْنَ إرْسَالِ الْكَلْبِ أَوْ الْبَازِي لِلِاصْطِيَادِ فِي الذَّخِيرَةِ حَيْثُ قَالَ: وَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ إرْسَالَ الدَّابَّةِ فِي الطَّرِيقِ إذَا لَمْ يُتْبَعْ مَعَ الدَّابَّةِ وَأَمْكَنَهُ الِاتِّبَاعُ تَعَدٍّ مِنْ صَاحِبِهِ، فَمَا تَوَلَّدَ مِنْهُ يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ. وَأَمَّا إرْسَالُ الْكَلْبِ أَوْ الْبَازِي مِنْ غَيْرِ اتِّبَاعٍ مَعَهُ فَلَيْسَ بِتَعَدٍّ مِنْهُ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الِاتِّبَاعُ، وَالْمُتَسَبِّبُ فِي الْإِتْلَافِ لَا يَضْمَنُ إلَّا إذَا كَانَ مُتَعَدِّيًا. اهـ تَبَصَّرْ.

(قَوْلُهُ وَلِأَنَّ الْفِعْلَ غَيْرُ مُضَافٍ إلَيْهِ لِعَدَمِ مَا يُوجِبُ النِّسْبَةَ إلَيْهِ مِنْ الْإِرْسَالِ وَأَخَوَاتِهِ) وَهِيَ السَّوْقُ وَالْقَوْدُ وَالرُّكُوبُ، كَذَا فِي عَامَّةِ الشُّرُوحِ. وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ بَعْدَ بَيَانِهَا عَلَى النَّمَطِ الْمَزْبُورِ كَانَ مِنْ حَقِّ

ص: 332

مِنْ الْإِرْسَالِ وَأَخَوَاتِهِ.

قَالَ (شَاةٌ لِقَصَّابٍ فُقِئَتْ عَيْنُهَا فَفِيهَا مَا نَقَصَهَا) لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا هُوَ اللَّحْمُ فَلَا يُعْتَبَرُ إلَّا النُّقْصَانُ (وَفِي عَيْنِ بَقَرَةِ الْجَزَّارِ وَجَزُورِهِ رُبْعُ الْقِيمَةِ، وَكَذَا فِي عَيْنِ الْحِمَارِ وَالْبَغْلِ وَالْفَرَسِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: فِيهِ النُّقْصَانُ أَيْضًا اعْتِبَارًا بِالشَّاةِ. وَلَنَا مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام قَضَى فِي عَيْنِ الدَّابَّةِ بِرُبْعِ الْقِيمَةِ» وَهَكَذَا قَضَى عُمَرُ رضي الله عنه، وَلِأَنَّ فِيهَا مَقَاصِدَ سِوَى اللَّحْمِ كَالْحَمْلِ

اللَّفْظِ أَنْ يَقُولَ: مِنْ الْإِرْسَالِ وَأَمْثَالِهِ، أَوْ يَقُولَ: مِنْ الْإِرْسَالِ وَأَخَوَاتِهَا بِتَأْوِيلِ الْكَلِمَةِ، إذْ السَّوْقُ أَوْ الْقَوْدُ لَمَّا كَانَ أُخْتًا لَا أَخًا لِلْإِرْسَالِ كَانَ الْإِرْسَالُ أُخْتًا أَيْضًا، وَإِلَّا يَلْزَمُ جَعْلُ بَعْضِ أَسْبَابِ التَّعَدِّي أَخًا وَبَعْضُهَا أُخْتًا مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ اهـ.

وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ نَقْلِ هَذَا عَنْ النِّهَايَةِ: وَلَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّهُ لَيْسَ هُنَا مُؤَنَّثٌ مَعْنَوِيٌّ خُولِفَ فِيمَا يَقْتَضِيهِ حَتَّى يُنَاقَشَ عَلَى ذَلِكَ اهـ.

أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا بِدَافِعٍ لِمَا قَالَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْ كَانَ مِنْ حَقِّ اللَّفْظِ أَنْ يُؤْتَى بِأَدَاءِ التَّأْنِيثِ أَلْبَتَّةَ حَتَّى يُقَالَ: لَيْسَ هُنَا مُؤَنَّثٌ مَعْنَوِيٌّ يَقْتَضِي الْإِتْيَانَ بِأَدَاةِ التَّأْنِيثِ، بَلْ قَالَ: كَانَ حَقُّهُ أَنْ يَجْعَلَ أَسْبَابَ التَّعَدِّي فِي قَرْنٍ وَاحِدٍ مِنْ التَّذْكِيرِ وَالتَّأْنِيثِ بِأَنْ يُقَالَ مِنْ الْإِرْسَالِ وَأَمْثَالِهِ، أَوْ يُقَالَ مِنْ الْإِرْسَالِ وَأَخَوَاتِهَا، وَإِلَّا يَلْزَمُ جَعْلُ بَعْضِهَا مُذَكَّرًا وَبَعْضِهَا مُؤَنَّثًا مِنْ غَيْرِ أَمْرٍ يَدْعُو إلَيْهِ، وَمَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ لَا يَدْفَعُ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ. ثُمَّ أَقُولُ: الْوَجْهُ فِي دَفْعِ ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: لَمَّا جَازَ تَذْكِيرُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْأَسْبَابِ بِاعْتِبَارِ مَا فِي ظَاهِرِ لَفْظِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا وَفِي مَعْنَاهُ مِنْ التَّذْكِيرِ وَجَازَ تَأْنِيثُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا بِتَأْوِيلِ لَفْظِهِ بِالْكَلِمَةِ أَوْ تَأْوِيلِ مَعْنَاهُ بِالْفَعْلَةِ صَحَّ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا الْوَجْهَانِ. ثُمَّ إنَّ الْمُصَنِّفَ لَمَّا قَصَدَ رِعَايَةَ صَنْعَةِ الْمُطَابَقَةِ وَهِيَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْمُتَضَادَّيْنِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} عَلَى مَا عُرِفَ ذَكَّرَ بَعْضَ تِلْكَ الْأَسْبَابِ وَأَنَّثَ بَعْضَهَا فَقَالَ مِنْ الْإِرْسَالِ وَأَخَوَاتِهِ، تَدَبَّرْ تَقِفْ.

(قَوْلُهُ وَلَنَا مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام قَضَى فِي عَيْنِ الدَّابَّةِ بِرُبْعِ الْقِيمَةِ») قَالَ فِي الْعِنَايَةِ: فَإِنْ قِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَضَاءُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيمَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ. فَالْجَوَابُ أَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي أَوْجَبَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ الْمَأْكُولِ مِنْ الْحَمْلِ وَالرُّكُوبِ وَالزِّينَةِ وَالْجَمَالِ وَالْعَمَلِ مَوْجُودٌ فِي مَأْكُولِ اللَّحْمِ فَيَلْحَقُ بِهِ اهـ.

أَقُولُ: فِي الْجَوَابِ نَظَرٌ، إذْ لِمَانِعٍ أَنْ يَمْنَعَ أَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي أَوْجَبَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ مَأْكُولِ اللَّحْمِ تِلْكَ الْأُمُورُ الْمَذْكُورَةُ وَحْدَهَا لِجَوَازِ كَوْنِ أَنْ لَا يُقْصَدَ مِنْهُ اللَّحْمُ أَصْلًا كَمَا يُقْصَدُ ذَلِكَ مِنْ الشَّاةِ دَاخِلًا فِي كَوْنِ ذَلِكَ الْمَعْنَى أَيْضًا وَهُوَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي مَأْكُولِ اللَّحْمِ، إذْ قَدْ يُقْصَدُ مِنْهُ اللَّحْمُ كَمَا تُقْصَدُ تِلْكَ الْأُمُورُ الْمَذْكُورَةُ أَيْضًا فَلَا يَتِمُّ الْإِلْحَاقُ كَمَا لَا يَخْفَى.

(قَوْلُهُ وَلِأَنَّ فِيهَا مَقَاصِدُ سِوَى اللَّحْمِ إلَخْ) أَقُولُ: فِيهِ كَلَامٌ. أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ

ص: 333

وَالرُّكُوبِ وَالزِّينَةِ وَالْجَمَالِ وَالْعَمَلِ، فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ تُشْبِهُ الْآدَمِيَّ وَقَدْ تُمْسَكُ لِلْأَكْلِ، فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ تُشْبِهُ الْمَأْكُولَاتِ فَعَمِلْنَا بِالشَّبَهَيْنِ بِشَبَهِ الْآدَمِيِّ فِي إيجَابِ الرُّبْعِ وَبِالشَّبَهِ الْآخَرِ فِي نَفْيِ النِّصْفِ، وَلِأَنَّهُ إنَّمَا يُمْكِنُ إقَامَةُ الْعَمَلِ بِهَا بِأَرْبَعَةِ أَعْيُنٍ عَيْنَاهَا وَعَيْنَا الْمُسْتَعْمِلِ فَكَأَنَّهَا ذَاتُ أَعْيُنٍ أَرْبَعَةٍ فَيَجِبُ الرُّبْعُ بِفَوَاتِ إحْدَاهَا.

قَالَ (وَمَنْ سَارَ عَلَى دَابَّةٍ فِي الطَّرِيقِ فَضَرَبَهَا رَجُلٌ أَوْ نَخَسَهَا فَنَفَحَتْ رَجُلًا أَوْ ضَرَبَتْهُ بِيَدِهَا أَوْ نَفَرَتْ فَصَدَمَتْهُ فَقَتَلَتْهُ كَانَ ذَلِكَ عَلَى النَّاخِسِ دُونَ الرَّاكِبِ) هُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنهما، وَلِأَنَّ الرَّاكِبَ وَالْمَرْكَبَ مَدْفُوعَانِ بِدَفْعِ النَّاخِسِ فَأُضِيفَ فِعْلُ الدَّابَّةِ إلَيْهِ كَأَنَّهُ فَعَلَهُ بِيَدِهِ، وَلِأَنَّ النَّاخِسَ مُتَعَدٍّ فِي تَسْبِيبِهِ وَالرَّاكِبُ فِي فِعْلِهِ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فَيَتَرَجَّحُ جَانِبُهُ فِي التَّغْرِيمِ لِلتَّعَدِّي، حَتَّى لَوْ كَانَ وَاقِفًا دَابَّتَهُ عَلَى الطَّرِيقِ يَكُونُ الضَّمَانُ عَلَى الرَّاكِبِ

هَذَا الدَّلِيلَ لَا يَتَمَشَّى فِي غَيْرِ مَأْكُولِ اللَّحْمِ كَالْحِمَارِ وَالْبَغْلِ وَالْفَرَسِ، بَلْ هُوَ بِحُكْمِ انْعِكَاسِهِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ فِي غَيْرِ مَأْكُولِ اللَّحْمِ غَيْرَ الْجَوَابِ فِي مَأْكُولِ اللَّحْمِ مَعَ أَنَّ الْجَوَابَ فِيهِمَا مُتَّحِدٌ وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا دَاخِلًا فِي الْمُدَّعَى هُنَا. وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ قَوْلَهُ بِشَبَهِ الْآدَمِيِّ فِي إيجَابِ الرُّبْعِ: يَعْنِي عَمَلُنَا بِشَبَهِ الْآدَمِيِّ فِي إيجَابِ الرُّبْعِ لَيْسَ بِوَاضِحٍ، لِأَنَّ شَبَهَ الْآدَمِيِّ لَا يَقْتَضِي إيجَابَ الرُّبْعِ بَلْ يَقْتَضِي إيجَابَ النِّصْفِ، لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِي الْآدَمِيِّ فِي الْجِنَايَةِ الْمَزْبُورَةِ هُوَ النِّصْفُ، وَإِنَّمَا الْمُقْتَضِي لِإِيجَابِ الرُّبْعِ مَجْمُوعُ الشَّبَهَيْنِ، كَيْفَ وَلَوْ كَانَ الْمُقْتَضِي لِإِيجَابِ الرُّبْعِ شَبَهَ الْآدَمِيِّ فَقَطْ لَمَا اُحْتِيجَ إلَى الْعَمَلِ بِالشَّبَهِ الْآخَرِ كَمَا لَا يَخْفَى. فَالظَّاهِرُ فِي الْأَدَاءِ أَنْ يُقَالَ: فَعَمِلْنَا بِالشَّبَهَيْنِ بِشَبَهِ الْآدَمِيِّ فِي إيجَابِ الْمُقَدَّرِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ النُّقْصَانِ، وَبِالشَّبَهِ الْآخَرِ فِي نَفْيِ النِّصْفِ الْوَاجِبِ فِي عَيْنِ الْآدَمِيِّ فَوَجَبَ الرُّبْعُ عَمَلًا بِهِمَا. وَقَدْ أَشَارَ إلَيْهِ صَاحِبُ الْكَافِي حَيْثُ قَالَ: فَأَشْبَهَ الْإِنْسَانَ مِنْ وَجْهٍ وَالشَّاةَ مِنْ وَجْهٍ فَوَجَبَ تَنْصِيفُ التَّقْدِيرِ الْوَاجِبِ فِي الْإِنْسَانِ عَمَلًا بِهِمَا اهـ.

نَعَمْ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ أَيْضًا هَذَا الْمَعْنَى لَكِنَّ عِبَارَتَهُ لَا تُسَاعِدُهُ كَمَا تَرَى.

(قَوْلُهُ وَلِأَنَّ الرَّاكِبَ وَالْمَرْكَبَ مَدْفُوعَانِ بِدَفْعِ النَّاخِسِ فَأُضِيفَ فِعْلُ الدَّابَّةِ إلَيْهِ كَأَنَّهُ فَعَلَهُ بِيَدِهِ) أَقُولُ: يَرِدُ عَلَيْهِ مَا ذَكَرَهُ

ص: 334

وَالنَّاخِسِ نِصْفَيْنِ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِي الْإِيقَافِ أَيْضًا. قَالَ (وَإِنْ نَفَحَتْ النَّاخِسَ كَانَ دَمُهُ هَدَرًا) لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْجَانِي عَلَى نَفْسِهِ (وَإِنْ أَلْقَتْ الرَّاكِبَ فَقَتَلَتْهُ كَانَ دِيَتُهُ عَلَى عَاقِلَةِ النَّاخِسِ) لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِي تَسْبِيبِهِ وَفِيهِ الدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ. قَالَ (وَلَوْ وَثَبَتْ بِنَخْسِهِ عَلَى رَجُلٍ أَوْ وَطِئَتْهُ فَقَتَلَتْهُ كَانَ ذَلِكَ عَلَى النَّاخِسِ دُونَ الرَّاكِبِ) لِمَا بَيَّنَّاهُ، وَالْوَاقِفُ فِي مِلْكِهِ وَاَلَّذِي يَسِيرُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى النَّاخِسِ وَالرَّاكِبِ نِصْفَيْنِ، لِأَنَّ التَّلَفَ حَصَلَ بِثِقَلِ الرَّاكِبِ وَوَطْءِ الدَّابَّةِ، وَالثَّانِي مُضَافٌ إلَى النَّاخِسِ فَيَجِبُ الضَّمَانُ عَلَيْهِمَا، وَإِنْ نَخَسَهَا بِإِذْنِ الرَّاكِبِ كَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ فِعْلِ الرَّاكِبِ لَوْ نَخَسَهَا، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي نَفْحَتِهَا لِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِمَا يَمْلِكُهُ، إذْ النَّخْسُ فِي مَعْنَى السَّوْقِ فَصَحَّ أَمْرُهُ بِهِ، وَانْتَقَلَ إلَيْهِ لِمَعْنَى الْأَمْرِ.

قَالَ (وَلَوْ وَطِئَتْ رَجُلًا فِي سَيْرِهَا وَقَدْ نَخَسَهَا النَّاخِسُ بِإِذْنِ الرَّاكِبِ فَالدِّيَةُ عَلَيْهِمَا نِصْفَيْنِ جَمِيعًا

فِيمَا مَرَّ فِي مَسْأَلَةِ السَّائِقِ وَالْقَائِدِ جَوَابًا عَنْ الشَّافِعِيِّ بِقَوْلِهِ وَانْتِقَالُ الْفِعْلِ بِتَخْوِيفِ الْقَتْلِ كَمَا فِي الْمُكْرَهِ، وَهَذَا تَخْوِيفٌ بِالضَّرْبِ. وَجْهُ الْوُرُودِ غَيْرُ خَافٍ عَلَى الْفَطِنِ النَّاظِرِ فِي الْمَقَامَيْنِ.

(قَوْلُهُ وَلِأَنَّ النَّاخِسَ مُتَعَدٍّ فِي تَسْبِيبِهِ وَالرَّاكِبَ فِي فِعْلِهِ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فَيَتَرَجَّحُ جَانِبُهُ فِي التَّغْرِيمِ لِلتَّعَدِّي) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: فِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ الرَّاكِبَ إنْ كَانَ فِعْلُهُ مُعْتَبَرًا فَهُوَ مُبَاشِرٌ، وَالتَّعَدِّي لَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُعْتَبَرًا لِكَوْنِهِ مَدْفُوعًا فَقَدْ اسْتَغْنَى عَنْ ذِكْرِهِ بِذِكْرِ الدَّلِيلِ الْأَوَّلِ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ الرَّاكِبَ مُبَاشِرٌ فِيمَا إذَا تَلِفَ بِالْوَطْءِ لِأَنَّهُ يَحْصُلُ التَّلَفُ بِالثِّقَلِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَيْسَ الْكَلَامُ هُنَا فِي ذَلِكَ وَإِنَّمَا هُوَ فِي النَّفْحِ بِالرِّجْلِ وَالضَّرْبِ بِالْيَدِ وَالصَّدْمَةِ فَكَانَا مُتَسَبِّبَيْنِ وَتَرَجَّحَ النَّاخِسُ فِي التَّغْرِيمِ لِلتَّعَدِّي. اهـ كَلَامُهُ.

أَقُولُ: فِي الْجَوَابِ نَظَرٌ، لِأَنَّ حَاصِلَهُ اخْتِيَارُ الشِّقِّ الْأَوَّلِ مِنْ التَّرْدِيدِ وَمَنْعُ كَوْنِ الرَّاكِبِ مُبَاشِرًا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ، فَيَصِيرُ حِينَئِذٍ مَدَارُ هَذَا الدَّلِيلِ أَنْ يَكُونَ فِعْلُ الرَّاكِبِ مُعْتَبَرًا فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مَضْمُونُ هَذَا الدَّلِيلِ مُنَافِيًا لِمَضْمُونِ الدَّلِيلِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَيْهِ، لِأَنَّ مَدَارُهُ أَنْ لَا يَكُونَ فِعْلُ الرَّاكِبِ مُعْتَبَرًا لِكَوْنِهِ مَدْفُوعًا بِدَفْعِ النَّاخِسِ فَيَتَدَافَعَانِ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُحْمَلَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْفَرْضِ وَالْآخَرُ عَلَى التَّحْقِيقِ فَتَأَمَّلْ.

(قَوْلُهُ وَإِنْ نَخَسَهَا بِإِذْنِ الرَّاكِبِ كَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ فِعْلِ الرَّاكِبِ لَوْ نَخَسَهَا، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي نَفْحَتِهَا لِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِمَا يَمْلِكُهُ، إذْ النَّخْسُ فِي مَعْنَى السَّوْقِ فَيَصِحُّ أَمْرُهُ بِهِ وَانْتَقَلَ إلَيْهِ لِمَعْنَى الْأَمْرِ) أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَبْ أَنَّ النَّخْسَ فِي مَعْنَى السَّوْقِ وَأَنَّ الرَّاكِبَ كَانَ يَمْلِكُهُ فَأَمَرَ النَّاخِسُ بِهِ، لَكِنَّ الْأَمْرَ بِهِ إنَّمَا يَتَنَاوَلُهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ سَوْقٌ لَا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ إتْلَافٌ كَمَا سَيَجِيءُ التَّصْرِيحُ بِهِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْآتِيَةِ، فَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ إتْلَافٌ يَنْبَغِي أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى النَّاخِسِ وَلَا يَنْتَقِلَ إلَى الرَّاكِبِ فَيَجِبُ عَلَى النَّاخِسِ الضَّمَانُ لِتَعَدِّيهِ فِي الْإِتْلَافِ كَمَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْآتِيَةِ فَتَفَكَّرْ فِي الْفَرْقِ وَلَعَلَّهُ تُسْكَبُ فِيهِ الْعَبَرَاتُ.

(قَوْلُهُ وَلَوْ وَطِئَتْ رَجُلًا فِي سَيْرِهَا وَقَدْ نَخَسَهَا النَّاخِسُ بِإِذْنِ الرَّاكِبِ فَالدِّيَةُ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا

ص: 335

إذَا كَانَتْ فِي فَوْرِهَا الَّذِي نَخَسَهَا) لِأَنَّ سَيْرَهَا فِي تِلْكَ الْحَالَةِ مُضَافٌ إلَيْهِمَا، وَالْإِذْنُ يَتَنَاوَلُ فِعْلَهُ مِنْ حَيْثُ السَّوْقُ وَلَا يَتَنَاوَلُهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ إتْلَافٌ، فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ يَقْتَصِرُ عَلَيْهِ، وَالرُّكُوبُ وَإِنْ كَانَ عِلَّةً لِلْوَطْءِ فَالنَّخْسُ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ بَلْ هُوَ شَرْطٌ أَوْ عِلَّةٌ لِلسَّيْرِ وَالسَّيْرُ عِلَّةٌ لِلْوَطْءِ وَبِهَذَا لَا يَتَرَجَّحُ صَاحِبُ الْعِلَّةِ، كَمَنْ جَرَحَ إنْسَانًا فَوَقَعَ فِي بِئْرٍ حَفَرَهَا غَيْرُهُ عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ وَمَاتَ فَالدِّيَةُ عَلَيْهِمَا لِمَا أَنَّ الْحَفْرَ شَرْطُ عِلَّةٍ أُخْرَى دُونَ عِلَّةِ الْجُرْحِ كَذَا هَذَا. ثُمَّ قِيلَ: يَرْجِعُ النَّاخِسُ عَلَى الرَّاكِبِ بِمَا ضَمِنَ فِي الْإِيطَاءِ لِأَنَّهُ فَعَلَهُ بِأَمْرِهِ. وَقِيلَ: لَا يَرْجِعُ وَهُوَ الْأَصَحُّ فِيمَا أَرَاهُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْهُ بِالْإِيطَاءِ وَالنَّخْسُ يَنْفَصِلُ عَنْهُ، وَصَارَ كَمَا إذَا أَمَرَ صَبِيًّا يَسْتَمْسِكُ عَلَى الدَّابَّةِ بِتَسْيِيرِهَا فَوَطِئَتْ إنْسَانًا وَمَاتَ حَتَّى ضَمَّنَ عَاقِلَةَ الصَّبِيِّ فَإِنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ عَلَى الْآمِرِ لِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِالتَّسْيِيرِ وَالْإِيطَاءُ يَنْفَصِلُ عَنْهُ، وَكَذَا إذَا نَاوَلَهُ سِلَاحًا فَقَتَلَ بِهِ آخَرَ حَتَّى ضَمِنَ لَا يَرْجِعُ عَلَى الْآمِرِ، ثُمَّ النَّاخِسُ إنَّمَا يَضْمَنُ إذَا كَانَ الْإِيطَاءُ فِي فَوْرِ النَّخْسِ حَتَّى يَكُونَ السَّوْقُ مُضَافًا إلَيْهِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي فَوْرِ ذَلِكَ فَالضَّمَانُ عَلَى الرَّاكِبِ لِانْقِطَاعِ أَثَرِ النَّخْسِ فَبَقِيَ السَّوْقُ مُضَافًا إلَى الرَّاكِبِ عَلَى الْكَمَالِ.

(وَمَنْ قَادَ دَابَّةً فَنَخَسَهَا رَجُلٌ فَانْفَلَتَتْ مِنْ يَدِ الْقَائِدِ فَأَصَابَتْ فِي فَوْرِهَا فَهُوَ عَلَى النَّاخِسِ وَكَذَا إذَا كَانَ لَهَا سَائِقٌ فَنَخَسَهَا غَيْرُهُ لِأَنَّهُ مُضَافٌ إلَيْهِ، وَالنَّاخِسُ إذَا كَانَ عَبْدًا فَالضَّمَانُ فِي رَقَبَتِهِ، وَإِنْ كَانَ صَبِيًّا فَفِي مَالِهِ لِأَنَّهُمَا مُؤَاخَذَانِ بِأَفْعَالِهِمَا) وَلَوْ نَخَسَهَا شَيْءٌ مَنْصُوبٌ فِي الطَّرِيقِ

إذَا كَانَتْ فِي فَوْرِهَا الَّذِي نَخَسَهَا، لِأَنَّ سَيْرَهَا فِي تِلْكَ الْحَالَةِ مُضَافٌ إلَيْهِمَا) أَقُولُ: وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الرَّاكِبُ مُبَاشِرٌ فِيمَا أَتْلَفَ بِالْوَطْءِ لِحُصُولِ التَّلَفِ بِثِقَلِهِ وَثِقَلِ الدَّابَّةِ جَمِيعًا كَمَا صَرَّحُوا بِهِ، وَالنَّاخِسُ مُسَبِّبٌ كَمَا مَرَّ فِي الْكِتَابِ، وَإِذَا اجْتَمَعَ الْمُبَاشِرُ وَالْمُسَبِّبُ فَالْإِضَافَةُ إلَى الْمُبَاشِرِ أَوْلَى كَمَا صَرَّحُوا بِهِ سِيَّمَا فِي مَسْأَلَةِ الرَّاكِبِ وَالسَّائِقِ، فَمَا بَالُهُمْ جَزَمُوا هُنَا بِإِضَافَةِ الْفِعْلِ إلَى الرَّاكِبِ وَالنَّاخِسِ مَعًا وَحَكَمُوا بِوُجُوبِ الدِّيَةِ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا فَتَدَبَّرْ.

(قَوْلُهُ وَالْإِذْنُ يَتَنَاوَلُ فِعْلَهُ مِنْ حَيْثُ السَّوْقِ وَلَمْ يَتَنَاوَلْهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ إتْلَافٌ فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ يَقْتَصِرُ عَلَيْهِ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ: أَيْ يَقْتَصِرُ الضَّمَانُ عَلَى النَّاخِسِ. أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا بِشَرْحٍ صَحِيحٍ، إذْ مُقْتَضَى هَذَا الْوَجْهِ وَهُوَ حَيْثِيَّةُ كَوْنِ فِعْلِ النَّاخِسِ إتْلَافًا أَنْ يَكُونَ النَّاخِسُ مُتَعَدِّيًا بِكَوْنِهِ مُسَبِّبًا لِجِنَايَةِ الدَّابَّةِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ لَا يُوجَدَ هُنَاكَ مُسَبِّبٌ آخَرُ أَوْ مُبَاشِرٌ حَتَّى يَلْزَمَ اقْتِصَارُ الضَّمَانِ عَلَى النَّاخِسِ وَقَدْ وُجِدَ فِي مَسْأَلَتِنَا، فَإِنَّ الرَّاكِبَ فِيهَا مُبَاشِرٌ، وَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَيْضًا مُسَبِّبًا فَلَا يَقْتَصِرُ الضَّمَانُ عَلَى النَّاخِسِ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ وَعَلَى الرَّاكِبِ جَمِيعًا كَمَا هُوَ جَوَابُ الْمَسْأَلَةِ. فَالصَّوَابُ أَنَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ يَقْتَصِرُ عَلَيْهِ: أَيْ فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ يَقْتَصِرُ فِعْلُ النَّاخِسِ وَهُوَ النَّخْسُ عَلَى النَّاخِسِ: أَيْ لَا يَنْتَقِلُ إلَى الْآمِرِ وَهُوَ الرَّاكِبُ، كَمَا يَنْتَقِلُ إلَيْهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَهُوَ حَيْثِيَّةُ كَوْنِهِ سَوْقًا كَمَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى، فَحِينَئِذٍ يَنْتَظِمُ الْكَلَامُ وَيَتِمُّ الْمَرَامُ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى ذَوِي الْأَفْهَامِ.

(قَوْلُهُ وَالنَّاخِسُ إذَا كَانَ عَبْدًا فَالضَّمَانُ فِي رَقَبَتِهِ) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ: قَوْلُهُ وَالنَّاخِسُ

ص: 336

فَنَفَحَتْ إنْسَانًا فَقَتَلَتْهُ فَالضَّمَانُ عَلَى مَنْ نَصَبَ ذَلِكَ الشَّيْءَ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ بِشَغْلِ الطَّرِيقِ فَأُضِيفَ إلَيْهِ كَأَنَّهُ نَخَسَهَا بِفِعْلِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

(بَابُ جِنَايَةِ الْمَمْلُوكِ وَالْجِنَايَةِ عَلَيْهِ)

قَالَ (وَإِذَا جَنَى الْعَبْدُ جِنَايَةَ خَطَإٍ

إذَا كَانَ عَبْدًا: يَعْنِي وَنَخَسَ بِغَيْرِ إذْنِ الرَّاكِبِ فَالضَّمَانُ فِي رَقَبَتِهِ يُدْفَعُ بِهَا أَوْ يَفْدِي اهـ.

وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: فِيهِ بَحْثٌ. فَإِنَّهُ إذَا كَانَ التَّلَفُ بِالْوَطْءِ فِي فَوْرِ النَّخْسَةِ فَعَلَى عَاقِلَةِ الرَّاكِبِ نِصْفُ الدِّيَةِ، وَفِي عُنُقِ الْعَبْدِ نِصْفُ الدِّيَةِ يَدْفَعُ مَوْلَاهُ أَوْ يَفْدِيهِ عَلَى مَا صَرَّحُوا بِهِ إذَا كَانَ النَّخْسُ بِإِذْنِ الرَّاكِبِ اهـ.

أَقُولُ: بَحْثُهُ سَاقِطٌ، فَإِنَّ مُرَادَ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ أَنَّ جَوَابَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى وَجْهِ الْإِطْلَاقِ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ كَمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ إنَّمَا هُوَ فِيمَا إذَا نَخَسَ بِغَيْرِ إذْنِ الرَّاكِبِ، لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ كَوْنُ الضَّمَانِ فِي رَقَبَتِهِ فِي شَيْءٍ مِنْ الصُّوَرِ إلَّا إذَا كَانَ نَخَسَ بِغَيْرِ إذْنِ الرَّاكِبِ، لَا أَنَّهُ يُتَصَوَّرُ حَتَّى يُتَّجَهَ عَلَيْهِ أَنَّ فِي صُورَةِ التَّلَفِ بِالْوَطْءِ فِي فَوْرِ النَّخْسِ يَجِبُ عَلَى عَاقِلَةِ الرَّاكِبِ نِصْفُ الدِّيَةِ وَفِي رَقَبَةِ الْعَبْدِ نِصْفُهَا إذَا كَانَ النَّخْسُ بِإِذْنِ الرَّاكِبِ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ، وَيُرْشِدُ إلَى كَوْنِ مُرَادِ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ مَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ صَاحِبَ النِّهَايَةِ وَغَيْرَهُ قَالُوا فِي شَرْحِ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ وَالنَّاخِسُ إذَا كَانَ عَبْدًا فَالضَّمَانُ فِي رَقَبَتِهِ، هَذَا إذَا نَخَسَهُ بِغَيْرِ إذْنِ الرَّاكِبِ، وَأَمَّا إذَا نَخَسَهُ بِإِذْنِ الرَّاكِبِ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كَانَتْ مِنْ الدَّابَّةِ نَفْحَةٌ أَوْ وَطْءٌ فَقَدْ ذُكِرَ حُكْمُهَا فِي الْمَبْسُوطِ. وَقَالَ: إذَا كَانَ الرَّجُلُ يَسِيرُ فِي الطَّرِيقِ فَأَمَرَ عَبْدَ الْغَيْرِ فَنَخَسَ دَابَّتَهُ فَنَفَحَتْ فَلَا ضَمَانَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا، لِأَنَّ فِعْلَ الْمَأْمُورِ كَفِعْلِ الْآمِرِ عَبْدًا كَانَ الْمَأْمُورُ أَوْ حُرًّا، وَإِنْ وَطِئَتْ فِي فَوْرِهَا ذَلِكَ إنْسَانًا فَقَتَلَتْهُ فَعَلَى عَاقِلَةِ الرَّاكِبِ نِصْفُ الدِّيَةِ وَفِي عُنُقِ الْعَبْدِ نِصْفُ الدِّيَةِ يَدْفَعُهُ مَوْلَاهُ أَوْ يَفْدِيهِ بِمَنْزِلَةِ السَّائِقِ مَعَ الرَّاكِبِ، إلَّا أَنَّ الْمَوْلَى يَرْجِعُ عَلَى الْآمِرِ بِالْأَقَلِّ مِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ وَمِنْ نِصْفِ الدِّيَةِ لِأَنَّهُ صَارَ غَاصِبًا لِلْعَبْدِ بِاسْتِعْمَالِهِ إيَّاهُ فِي نَخْسِ الدَّابَّةِ، فَإِذَا لَحِقَهُ ضَمَانٌ بِذَلِكَ السَّبَبِ كَانَ لِلْمَوْلَى أَنْ يَرْجِعَ بِهِ عَلَى الْمُسْتَعْمِلِ لَهُ. اهـ تَأَمَّلَ.

لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ أَحْكَامِ جِنَايَةِ الْمَالِكِ وَهُوَ الْحُرُّ وَالْجِنَايَةِ عَلَيْهِ شَرَعَ فِي بَيَانِ أَحْكَامِ جِنَايَةِ الْمَمْلُوكِ وَهُوَ الْعَبْدُ، وَأَخَّرَهُ لِانْحِطَاطِ رُتْبَةِ الْعَبْدِ عَنْ رُتْبَةِ الْحُرِّ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ. أَقُولُ: فِيهِ شَيْءٌ، وَهُوَ أَنَّ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: مَا وَقَعَ الْفَرَاغُ مِنْ بَيَانِ أَحْكَامِ جِنَايَةِ الْحُرِّ مُطْلَقًا بَلْ بَقِيَ مِنْهُ بَيَانُ حُكْمِ جِنَايَةِ الْحُرِّ عَلَى الْعَبْدِ وَهُوَ إنَّمَا يَتَبَيَّنُ فِي هَذَا الْبَابِ، وَكَذَا مَا وَقَعَ الْفَرَاغُ مِنْ بَيَانِ

ص: 337

قِيلَ لِمَوْلَاهُ: إمَّا أَنْ تَدْفَعَهُ بِهَا أَوْ تَفْدِيهِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: جِنَايَتُهُ فِي رَقَبَتِهِ يُبَاعُ فِيهَا إلَّا أَنْ يَقْضِيَ الْمَوْلَى الْأَرْشَ، وَفَائِدَةُ الِاخْتِلَافِ فِي اتِّبَاعِ الْجَانِي بَعْدَ الْعِتْقِ. وَالْمَسْأَلَةُ مُخْتَلِفَةٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ -. لَهُ أَنَّ الْأَصْلَ فِي مُوجِبِ الْجِنَايَةِ أَنْ يَجِبَ عَلَى الْمُتْلِفِ لِأَنَّهُ هُوَ الْجَانِي، إلَّا أَنَّ الْعَاقِلَةَ تَتَحَمَّلُ عَنْهُ، وَلَا عَاقِلَةَ لِلْعَبْدِ لِأَنَّ الْعَقْلَ عِنْدِي بِالْقَرَابَةِ وَلَا قَرَابَةَ بَيْنَ الْعَبْدِ وَمَوْلَاهُ فَتَجِبُ فِي ذِمَّتِهِ كَمَا فِي الدَّيْنِ. وَيَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ يُبَاعُ فِيهِ كَمَا فِي الْجِنَايَةِ

أَحْكَامِ الْجِنَايَةِ عَلَى الْحُرِّ مُطْلَقًا بَلْ بَقِيَ مِنْهُ بَيَانُ حُكْمِ جِنَايَةِ الْعَبْدِ عَلَى الْحُرِّ، وَهُوَ أَيْضًا إنَّمَا يَتَبَيَّنُ فِي هَذَا الْبَابِ، فَالْأَظْهَرُ أَنْ يُقَالَ: لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ جِنَايَةِ الْحُرِّ عَلَى الْحُرِّ شَرَعَ فِي بَيَانِ جِنَايَةِ الْمَمْلُوكِ وَالْجِنَايَةِ عَلَيْهِ، وَلَمَّا كَانَ فِيهِ تَعَلُّقٌ بِالْمَمْلُوكِ أَلْبَتَّةَ مِنْ جَانِبٍ أَخَّرَهُ لِانْحِطَاطِ رُتْبَةِ الْمَمْلُوكِ عَنْ الْمَالِكِ. ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: لَا يُقَالُ: الْعَبْدُ لَا يَكُونُ أَدْنَى مَنْزِلَةً مِنْ الْبَهِيمَةِ فَكَيْفَ أَخَّرَ بَابَ جِنَايَتِهِ عَنْ بَابِ جِنَايَةِ الْبَهِيمَةِ، لِأَنَّ جِنَايَةَ الْبَهِيمَةِ كَانَتْ بِاعْتِبَارِ الرَّاكِبِ أَوْ السَّائِقِ أَوْ الْقَائِدِ وَهُوَ مَالِكٌ اهـ.

أَقُولُ: فِيهِ أَيْضًا شَيْءٌ، إذْ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إنْ أَرَادَ أَنَّ جِنَايَةَ الْبَهِيمَةِ كَانَتْ أَلْبَتَّةَ بِاعْتِبَارِ الرَّاكِبِ أَوْ السَّائِقِ أَوْ الْقَائِدِ فَهُوَ مَمْنُوعٌ فَإِنَّ جِنَايَتَهَا بِطَرِيقِ النَّفْحَةِ بِرِجْلِهَا أَوْ ذَنَبِهَا وَهِيَ تَسِيرُ لَا يَكُونُ بِاعْتِبَارِ أَحَدٍ مِنْهُمْ. وَإِلَّا لَوَجَبَ عَلَيْهِمْ الضَّمَانُ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ. وَلَيْسَ كَذَلِكَ كَمَا عُرِفَ فِي بَابِهَا. وَكَذَا الْحَالُ فِيمَا إذَا أَصَابَتْ بِيَدِهَا أَوْ رِجْلِهَا حَصَاةً أَوْ نَوَاةً أَوْ أَثَارَتْ غُبَارًا أَوْ حَجَرًا صَغِيرًا فَفَقَأَ عَيْنَ إنْسَانٍ أَوْ أَفْسَدَ ثَوْبَهُ. وَكَذَا إذَا انْفَلَتَتْ فَأَصَابَ مَالًا أَوْ آدَمِيًّا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا كَمَا عُرِفَ كُلُّ ذَلِكَ أَيْضًا فِي بَابِهَا، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ جِنَايَتَهَا قَدْ تَكُونُ بِاعْتِبَارِ أَحَدٍ مِنْهُمْ فَهُوَ مُسَلَّمٌ وَلَكِنْ لَا يَتِمُّ بِهِ تَمَامُ التَّقْرِيبِ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: الصُّوَرُ الَّتِي لَا يَجِبُ فِيهَا مِنْ فِعْلِ الْبَهِيمَةِ ضَمَانٌ عَلَى أَحَدٍ بَلْ يَكُونُ فِعْلُهَا هَدَرًا مِمَّا لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِ الْجِنَايَةِ فِي الشَّرْعِ، وَإِنَّمَا ذُكِرَتْ فِي بَابِهَا اسْتِطْرَادًا. وَبِنَاءُ الْكَلَامِ هُنَا عَلَى مَالَهُ حُكْمٌ مِنْ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ فَيَتِمُّ التَّقْرِيبُ.

(قَوْلُهُ وَالْمَسْأَلَةُ مُخْتَلِفَةٌ بَيْنَ الصَّاحِبَةِ رضي الله عنهم) قَالَ فِي الْكَافِي وَالْكِفَايَةِ: فَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه مِثْلُ مَذْهَبِنَا، وَعَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ رضي الله عنهما مِثْلُ مَذْهَبِهِ. وَقَالَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه كَمَا هُوَ مَذْهَبُنَا. وَعَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ رضي الله عنهما كَمَا هُوَ مَذْهَبُهُمَا، فَإِنَّهُمَا قَالَا: عَبِيدُ النَّاسِ أَمْوَالُهُمْ، وَجِنَايَتُهُمْ فِي قِيمَتِهِمْ: أَيْ أَثْمَانِهِمْ. وَقَالَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ: رَوَى أَصْحَابُنَا كَالْقُدُورِيِّ وَغَيْرِهِ فِي كُتُبِهِمْ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: إذَا جَنَى الْعَبْدُ إنْ شَاءَ دَفَعَهُ وَإِنْ شَاءَ فَدَاهُ. وَعَنْ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: عَبِيدُ النَّاسِ أَمْوَالُهُمْ، وَجِنَايَتُهُمْ فِي قِيمَتِهِمْ وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه مِثْلُهُ. وَقَالَ فِي مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ. رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: عَبِيدُ النَّاسِ أَمْوَالُهُمْ جَزَاءُ جِنَايَتِهِمْ فِي رِقَابِ النَّاسِ كَمَذْهَبِنَا، وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَأَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ رضي الله عنهم. وَرُوِيَ

ص: 338

عَلَى الْمَالِ.

وَلَنَا أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى الْآدَمِيِّ حَالَةَ الْخَطَإِ أَنْ تَتَبَاعَدَ عَنْ الْجَانِي تَحَرُّزًا عَنْ اسْتِئْصَالِهِ وَالْإِجْحَافِ بِهِ، إذْ هُوَ مَعْذُورٌ فِيهِ حَيْثُ لَمْ يَتَعَمَّدْ الْجِنَايَةَ، وَتَجِبُ عَلَى عَاقِلَةِ الْجَانِي إذَا كَانَ لَهُ عَاقِلَةٌ،

عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه مِثْلُ مَذْهَبِهِ، فَإِنَّهُ قَالَ: عَبِيدُ النَّاسِ أَمْوَالُهُمْ جَزَاءَ جِنَايَتِهِمْ فِي قِيمَتِهِمْ: أَيْ فِي أَثْمَانِهِمْ، لِأَنَّ الثَّمَنَ قِيمَةُ الْعَبْدِ اهـ.

أَقُولُ: قَدْ اضْطَرَبَتْ كَلِمَاتُهُمْ فِي الرِّوَايَةِ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه، فَبَعْضُهُمْ نَقَلَ الرِّوَايَةَ عَنْهُ مِثْلَ مَذْهَبِ الْخَصْمِ وَبَعْضُهُمْ نَقَلَهَا عَنْهُ مِثْلَ مَذْهَبِنَا كَمَا تَرَى. ثُمَّ أَقُولُ: قَدْ خَالَفَ الْكُلَّ هُنَا صَاحِبُ الْبَدَائِعِ حَيْثُ قَالَ: وَلَنَا إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم، فَإِنَّهُ رَوَى عَنْ عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَ مَذْهَبِنَا بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم، وَلَمْ يُنْقَلْ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ فَيَكُونُ إجْمَاعًا مِنْهُمْ اهـ.

وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ يُخَالِفُ قَوْلَ الْعَامَّةِ وَالْمَسْأَلَةُ مُخْتَلِفَةٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ -.

(قَوْلُهُ وَلَنَا أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى الْآدَمِيِّ فِي حَالَةِ الْخَطَإِ أَنْ تَتَبَاعَدَ عَنْ الْجَانِي إلَخْ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: فِيهِ بَحْثٌ، وَهُوَ أَنَّ الْحُكْمَ فِي الْمَسْأَلَةِ مُخْتَلِفٌ، فَإِنَّ حُكْمَهَا عِنْدَنَا الْوُجُوبُ عَلَى الْمَوْلَى وَعِنْدَهُ الْوُجُوبُ عَلَى الْعَبْدِ كَمَا ذَكَرْنَا وَهُوَ بَنَاهُ عَلَى أَصْلٍ وَنَحْنُ عَلَى أَصْلٍ فَمِنْ أَيْنَ يَقُومُ لِأَحَدِنَا حُجَّةٌ عَلَى الْآخَرِ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - جَعَلَ وُجُوبَ مُوجِبِ جِنَايَتِهِ فِي ذِمَّتِهِ كَوُجُوبِ الدَّيْنِ فِي ذِمَّتِهِ وَكَوُجُوبِ الْجِنَايَةِ عَلَى الْمَالِ، فَنَحْنُ إذْ بَيَّنَّا الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا بَقِيَ أَصْلُهُ بِلَا أَصْلٍ فَبَطَلَ، وَقَدْ بَيَّنَ الْمُصَنِّفُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ بِخِلَافِ الذِّمِّيِّ فَإِنَّهُمْ لَا يَتَعَاقَلُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ فَتَجِبُ فِي ذِمَّتِهِ صِيَانَةً لِلدَّمِ عَنْ الْهَدَرِ. وَقَوْلُهُ وَبِخِلَافِ الْجِنَايَةِ عَلَى الْمَالِ لِأَنَّ الْعَوَاقِلَ لَا تَعْقِلُ الْمَالَ فَيَجِبُ فِي ذِمَّتِهِ، وَأَمَّا أَصْلُنَا فَهُوَ ثَابِتٌ فِي نَفْسِهِ مُسْتَنِدًا إلَى النَّصِّ الَّذِي لَا يُعْقَلُ إبْطَالُهُ لَيْسَ بِمَقِيسٍ عَلَى مَا يَبْطُلُ بِإِبْدَاءِ الْفَارِقِ، إلَى هُنَا كَلَامًا. أَقُولُ: جَوَابُهُ لَيْسَ بِتَامٍّ.

أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُ لَا شَكَّ أَنَّ مَدَارَ دَلِيلِ الشَّافِعِيِّ لَيْسَ عَلَى قِيَاسِ وُجُوبِ مُوجِبِ جِنَايَةِ الْعَبْدِ فِي ذِمَّتِهِ عَلَى وُجُوبِ الدَّيْنِ فِي ذِمَّتِهِ وَوُجُوبِ الْجِنَايَةِ عَلَى الْمَالِ فِي ذِمَّتِهِ حَتَّى يَلْزَمُ مِنْ بَيَانِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَقِيسِ وَالْمَقِيسِ عَلَيْهِ أَنْ يَبْقَى مَذْهَبُهُ بِلَا أَصْلٍ، بَلْ مَدَارُ دَلِيلِهِ عَلَى أَنْ لَا عَاقِلَةَ لِلْعَبْدِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعَقْلَ عِنْدَهُ بِالْقَرَابَةِ لَا غَيْرُ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ وُجُوبَ الدَّيْنِ فِي ذِمَّتِهِ وَوُجُوبَ الْجِنَايَةِ عَلَى الْمَالِ فِي ذِمَّتِهِ فِي ذَيْلِ دَلِيلِهِ لِمُجَرَّدِ التَّنْظِيرِ كَمَا يُرْشِدُ إلَى ذَلِكَ كُلِّهِ تَقْرِيرُ الْمُصَنِّفِ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ بَيَانِ الْفَرْقِ بَيْنَ مَسْأَلَتِنَا وَبَيْنَ مَا ذَكَرَهُ بِطَرِيقِ التَّنْظِيرِ بَقَاءُ أَصْلِهِ بِلَا أَصْلٍ كَمَا لَا يَخْفَى.

وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ لِلشَّافِعِيِّ أَنْ يَقُولَ: أَصْلُنَا مُسْتَنِدٌ إلَى النَّصِّ كَمَا أَنَّ أَصْلَكُمْ مُسْتَنِدٌ إلَى النَّصِّ، وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه لَيْسَ بِمَقِيسٍ عَلَى مَا يَبْطُلُ بِإِبْدَاءِ الْفَرْقِ. ثُمَّ أَقُولُ: الْحَقُّ فِي الْجَوَابِ عَنْ الْبَحْثِ الْمَذْكُورِ أَنْ يُقَالَ: الْكَلَامُ فِي تَعْلِيلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ قَبِيلِ رَدِّ الْمُخْتَلِفِ إلَى الْمُخْتَلِفِ وَهُوَ أَنَّ الْعَاقِلَةَ مَنْ هِيَ؟ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ هِيَ أَهْلُ الْعَشِيرَةِ، وَقُلْنَا: هِيَ أَهْلُ النُّصْرَةِ، وَقَدْ ذُكِرَ ذَلِكَ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الْمَعَاقِلِ مُدَلَّلًا

ص: 339

وَالْمَوْلَى عَاقِلَتُهُ لِأَنَّ الْعَبْدَ يَسْتَنْصِرُ بِهِ، وَالْأَصْلُ فِي الْعَاقِلَةِ عِنْدَنَا النُّصْرَةُ حَتَّى تَجِبَ عَلَى أَهْلِ الدِّيوَانِ. بِخِلَافِ الذِّمِّيِّ لِأَنَّهُمْ لَا يَتَعَاقَلُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ فَلَا عَاقِلَةَ فَتَجِبُ فِي ذِمَّتِهِ صِيَانَةً لِلدَّمِ عَنْ الْهَدَرِ، وَبِخِلَافِ الْجِنَايَةِ عَلَى الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْعَوَاقِلَ لَا تَعْقِلُ الْمَالَ، إلَّا أَنَّهُ يُخَيَّرُ بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ لِأَنَّهُ وَاحِدٌ، وَفِي إثْبَاتِ الْخِيرَةِ نَوْعُ تَخْفِيفٍ فِي حَقِّهِ كَيْ لَا يُسْتَأْصَلَ، غَيْرَ أَنَّ الْوَاجِبَ الْأَصْلِيَّ هُوَ الدَّفْعُ فِي الصَّحِيحِ، وَلِهَذَا يَسْقُطُ الْمُوجِبُ بِمَوْتِ الْعَبْدِ لِفَوَاتِ مَحَلِّ الْوَاجِبِ وَإِنْ كَانَ لَهُ حَقُّ النَّقْلِ إلَى الْفِدَاءِ كَمَا فِي مَالِ الزَّكَاةِ، بِخِلَافِ مَوْتِ الْجَانِي الْحُرِّ لِأَنَّ الْوَاجِبَ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْحُرِّ اسْتِيفَاءً فَصَارَ كَالْعَبْدِ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ. قَالَ (فَإِنْ دَفَعَهُ مَلَكَهُ وَلِيُّ الْجِنَايَةِ وَإِنْ فَدَاهُ فَدَاهُ بِأَرْشِهَا وَكُلُّ ذَلِكَ يَلْزَمُ حَالًّا) أَمَّا الدَّفْعُ فَلِأَنَّ التَّأْجِيلَ فِي الْأَعْيَانِ بَاطِلٌ وَعِنْدَ اخْتِيَارِهِ الْوَاجِبَ عُيِّنَ.

وَمُفَصَّلًا، وَقَدْ قَامَتْ لَنَا حُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ هُنَاكَ فَاكْتَفَيْنَا هُنَا بِجَعْلِ ذَلِكَ الْمُخْتَلِفِ أَصْلًا لِهَذَا الْمُخْتَلِفِ كَمَا تَرَى (قَوْلُهُ وَالْمَوْلَى عَاقِلَتُهُ لِأَنَّ الْعَبْدَ يَسْتَنْصِرُ بِهِ) قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: لَيْسَ يُخَالِفُ هَذَا حَدِيثَ «لَا تَعْقِلُ الْعَوَاقِلُ عَمْدًا وَلَا عَبْدًا» اهـ. وَقَالَ صَاحِبُ التَّسْهِيلِ: يُشْكِلُ هَذَا عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ الْعَبْدَ إذَا جَنَى عَلَى الْحُرِّ لَا يَعْقِلُهُ الْعَاقِلَةُ عِنْدَهُ فَلَا يَصِحُّ هَذَا التَّعْلِيلُ عَلَى مَذْهَبِهِ اهـ.

وَذَكَرَهُ أَيْضًا بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى شَرْحِ صَدْرِ الشَّرِيعَةِ لِلْوِقَايَةِ أَخْذًا مِنْ التَّسْهِيلِ كَمَا هُوَ حَالُهُ فِي أَكْثَرِ إيرَادَاتِهِ فِي تِلْكَ الْحَاشِيَةِ. أَقُولُ: فِي الْجَوَابِ عَمَّا ذَكَرَهُ كُلُّهُمْ هُنَا أَنَّ لَفْظَةَ الْعَاقِلَةِ إنَّمَا تُطْلَقُ عَلَى الْجَمَاعَةِ لَا عَلَى الْوَاحِدِ كَمَا يُفْصِحُ عَنْهُ كَلَامُ الْفُقَهَاءِ وَكَلِمَاتُ أَهْلِ اللُّغَةِ أَيْضًا، فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ قَالُوا: الْعَاقِلَةُ الَّذِينَ يَعْقِلُونَ: أَيْ يُؤَدُّونَ الْعَقْلَ وَهُوَ الدِّيَةُ كَمَا سَيَجِيءُ فِي الْكِتَابِ. وَفِي الْمُغْرِبِ: الْعَاقِلَةُ هِيَ الْجَمَاعَةُ الَّتِي تَغْرَمُ الدِّيَةَ، وَهُمْ عَشِيرَةُ الرَّجُلِ أَوْ أَهْلُ دِيوَانِهِ: أَيْ الَّذِينَ يَرْتَزِقُونَ مِنْ دِيوَانٍ عَلَى حِدَةٍ اهـ.

وَقَالَ فِي الصِّحَاحِ: وَعَاقِلَةُ الرَّجُلِ عُصْبَتُهُ، وَهُمْ الْقَرَابَةُ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ الَّذِينَ يُعْطُونَ دِيَةَ مَنْ قَتَلَهُ خَطَأً. وَقَالَ أَهْلُ الْعِرَاقِ: هُمْ أَصْحَابُ الدَّوَاوِينِ

اهـ. إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمُعْتَبَرَاتِ. فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ بِمَا فِي الْحَدِيثِ أَنَّ الْعَوَاقِلَ

ص: 340

وَأَمَّا الْفِدَاءُ فَلِأَنَّهُ جَعَلَ بَدَلًا عَنْ الْعَبْدِ فِي الشَّرْعِ وَإِنْ كَانَ مُقَدَّرًا بِالْمُتْلَفِ وَلِهَذَا سُمِّيَ فِدَاءً فَيَقُومُ مَقَامَهُ وَيَأْخُذُ حُكْمَهُ فَلِهَذَا وَجَبَ حَالًّا كَالْمُبْدَلِ (وَأَيُّهُمَا اخْتَارَهُ وَفَعَلَهُ لَا شَيْءَ لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ غَيْرَهُ) أَمَّا الدَّفْعُ فَلِأَنَّ حَقَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِهِ، فَإِذَا خَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرَّقَبَةِ سَقَطَ. وَأَمَّا الْفِدَاءُ فَلِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ إلَّا الْأَرْشُ، فَإِذَا أَوْفَاهُ حَقَّهُ سَلَّمَ الْعَبْدَ لَهُ،

الَّتِي هِيَ الْجَمَاعَاتُ لَا تَعْقِلُ عَبْدًا كَمَا تَعْقِلُ حُرًّا، وَأَنَّ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - هُوَ أَنَّ الْعَبْدَ إذَا جَنَى عَلَى الْحُرِّ لَا تَعْقِلُهُ الْعَاقِلَةُ: أَيْ الْجَمَاعَةُ بَلْ يَغْرَمُ مَوْلَاهُ جِنَايَتَهُ، فَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ وَغَيْرِهِ هُنَا وَالْمَوْلَى عَاقِلَتُهُ مِنْ قَبِيلِ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ. وَمَعْنَاهُ وَالْمَوْلَى كَعَاقِلَتِهِ لِأَنَّ الْعَبْدَ يَسْتَنْصِرُ بِهِ كَمَا يَسْتَنْصِرُ الْحُرُّ بِعَاقِلَتِهِ يُرْشِدُ إلَيْهِ قَوْلُ صَاحِبِ الْكَافِي فِي كِتَابِ الْمَعَاقِلِ: لَا تَعْقِلُ الْعَاقِلَةُ مَا جَنَى الْعَبْدُ عَلَى حُرٍّ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى فِي كَوْنِهِ مُخَاطَبًا بِجِنَايَةِ الْعَبْدِ بِمَنْزِلَةِ الْعَاقِلَةِ وَلَا يَتَحَمَّلُ عَنْ الْعَاقِلَةِ عَوَاقِلَهُمْ فَكَذَا لَا يَتَحَمَّلُ جِنَايَةَ الْعَبْدِ عَاقِلَةُ مَوْلَاهُ اهـ.

فَلَا يُخَالِفُ مَا ذَكَرُوا هُنَا حَدِيثَ «لَا تَعْقِلُ الْعَوَاقِلُ عَمْدًا وَلَا عَبْدًا» وَلَا يُشْكِلُ هَذَا عَلَى مَذْهَبِ أَئِمَّتِنَا مِنْ أَنَّ الْعَبْدَ إذَا جَنَى عَلَى الْحُرِّ لَا تَعْقِلُهُ الْعَاقِلَةُ فَتَبَصَّرْ.

(قَوْلُهُ وَأَمَّا الْفِدَاءُ فَلِأَنَّهُ جُعِلَ بَدَلًا عَنْ الْعَبْدِ فِي الشَّرْعِ وَإِنْ كَانَ مُقَدَّرًا بِالْمُتْلَفِ وَلِهَذَا سُمِّيَ فِدَاءً فَيَقُومُ مَقَامَهُ وَيَأْخُذُ حُكْمَهُ فَلِهَذَا وَجَبَ حَالًّا كَالْمُبْدَلِ) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ قِيلَ: كَوْنُ الشَّيْءِ بَدَلًا عَنْ شَيْءٍ لَا يَسْتَلْزِمُ الِاتِّحَادَ فِي الْحُكْمِ؛ أَلَا يَرَى أَنَّ الْمَالَ قَدْ يَقَعُ بَدَلًا عَنْ الْقِصَاصِ وَلَمْ يَتَّحِدْ فِي الْحُكْمِ فَإِنَّ الْقِصَاصَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْمُوصَى لَهُ وَإِذَا صَارَ مَالًا تَعَلَّقَ بِهِ، وَكَذَلِكَ التَّيَمُّمُ بَدَلٌ عَنْ الْوُضُوءِ وَالنِّيَّةُ مِنْ شَرْطِهِ دُونَ الْأَصْلِ وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَأُجِيبَ أَنَّ الْفِدَاءَ لَمَّا وَجَبَ بِمُقَابَلَةِ الْجِنَايَةِ فِي النَّفْسِ أَوْ الْعُضْوِ أَشْبَهَ الدِّيَةَ وَالْأَرْشَ وَهُمَا يَثْبُتَانِ مُؤَجَّلًا وَذَلِكَ يَقْتَضِي كَوْنَ الْفِدَاءِ كَذَلِكَ، وَلَمَّا اخْتَارَهُ الْمَوْلَى كَانَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ كَسَائِرِ الدُّيُونِ وَذَلِكَ يَقْتَضِي كَوْنَهُ كَذَلِكَ، أَيْ كَسَائِرِ الدُّيُونِ حَالًّا، لِأَنَّ الْأَجَلَ فِي الدُّيُونِ عَارِضٍ وَلِهَذَا لَا يَثْبُتُ إلَّا بِالشَّرْطِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَتَعَارَضَ جَانِبُ الْحُلُولِ وَالْأَجَلَ فَتَرَجَّحَ جَانِبُ الْحُلُولِ بِكَوْنِهِ فَرْعَ أَصْلٍ حَالٍّ مُوَافَقَةً بَيْنَ الْأَصْلِ وَفَرْعِهِ، وَهَذَا كَلَامٌ حَسَنٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي لَفْظِ الْمُصَنِّفِ مَا يُشْعِرُ بِهِ اهـ.

أَقُولُ: بَلْ هُوَ كَلَامٌ قَبِيحٌ، لِأَنَّ الْمُوَافَقَةَ فِي الْحُكْمِ بَيْنَ الْأَصْلِ وَفَرْعِهِ إنْ كَانَتْ أَمْرًا لَازِمًا أَوْ رَاجِحًا يَرْتَفِعُ السُّؤَالُ عَنْ أَصْلِهِ، وَيَكْفِي ذِكْرُ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ فِي الْجَوَابِ عَنْهُ، وَيَصِيرُ بَاقِي الْمُقَدِّمَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْجَوَابِ الْمَزْبُورِ مُسْتَدْرَكًا جِدًّا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ أَمْرًا لَازِمًا وَلَا رَاجِحًا فَكَيْفَ يَتِمُّ تَرْجِيحُ جَانِبِ الْحُلُولِ بِكَوْنِهِ فَرْعَ أَصْلٍ حَالٍّ.

وَقَالَ فِي الْعِنَايَةِ: وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: الْأَصْلُ أَنْ لَا يُفَارِقَ الْفَرْعُ الْأَصْلَ إلَّا بِأُمُورٍ ضَرُورِيَّةٍ، فَإِنَّ الْأَصْلَ عِنْدَ الْمُحَصِّلِينَ عِبَارَةٌ عَنْ حَالَةٍ مُسْتَمِرَّةٍ لَا تَتَغَيَّرُ إلَّا بِأُمُورٍ ضَرُورِيَّةٍ، وَالْمَسَائِلُ الْمَذْكُورَةُ تَغَيَّرَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّ الْقِصَاصَ غَيْرُ صَالِحٍ لِحَقِّ الْمُوصَى لَهُ بِالْمَالِ فَلَا يَتَعَلَّقُ حَقُّهُ بِهِ، وَالتُّرَابُ غَيْرُ مُطَهِّرٍ بِطَبْعِهِ فَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ إلْحَاقِ النِّيَّةِ بِهِ لِيَكُونَ مُطَهِّرًا شَرْعًا، بِخِلَافِ الْمَاءِ، وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ لَيْسَ أَمْرٌ ضَرُورِيٌّ يَمْنَعُهُ عَنْ الْحُلُولِ الَّذِي هُوَ حُكْمُ أَصْلِهِ فَيَكُونُ مُلْحَقًا بِهِ اهـ.

أَقُولُ: فِيهِ بَحْثٌ، إذْ كَانَ حَاصِلُ السُّؤَالِ أَنَّ كَوْنَ الشَّيْءِ بَدَلًا عَنْ شَيْءٍ لَا يَسْتَلْزِمُ الِاتِّحَادَ فِي الْحُكْمِ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ فِي الْجَوَابِ بِقَوْلِهِ الْأَصْلُ أَنْ لَا يُفَارِقَ الْفَرْعُ الْأَصْلَ إلَّا بِأُمُورٍ ضَرُورِيَّةٍ، هُوَ أَنَّ الْأَصْلَ أَنْ لَا يُفَارِقَهُ فِي الْحُكْمِ إلَّا بِأُمُورٍ ضَرُورِيَّةٍ، وَلَا يَدُلُّ عَلَيْهِ التَّعْلِيلُ الَّذِي ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ فَإِنَّ الْأَصْلَ عِنْدَ الْمُحَصِّلِينَ عِبَارَةٌ عَنْ حَالَةٍ مُسْتَمِرَّةٍ لَا تَتَغَيَّرُ إلَّا بِأُمُورٍ ضَرُورِيَّةٍ، إذْ الظَّاهِرُ أَنَّ مَعْنَى كَوْنِ الْأَصْلِ عِنْدَ الْمُحَصِّلِينَ عِبَارَةٌ عَنْ حَالَةٍ مُسْتَمِرَّةٍ لَا تَتَغَيَّرُ إلَّا بِأُمُورٍ ضَرُورِيَّةٍ هُوَ كَوْنُهُ عِنْدَهُمْ عِبَارَةً عَنْ حَالَةٍ مُسْتَمِرَّةٍ لَا تَتَغَيَّرُ نَفْسُهَا إلَّا بِالضَّرُورَةِ، لَا كَوْنُهُ عِبَارَةً عَنْ حَالَةٍ مُسْتَمِرَّةٍ لَا يَتَغَيَّرُ حُكْمُهَا بَعْدَ أَنْ تَغَيَّرَتْ نَفْسُهَا إلَّا بِالضَّرُورَةِ، وَالْمَطْلُوبُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ هُوَ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ فَلَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ فَتَأَمَّلْ تَفْهَمْ.

(قَوْلُهُ وَأَمَّا الْفِدَاءُ فَلِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ إلَّا الْأَرْشُ) أَقُولُ: فِيهِ إشْكَالٌ سِيَّمَا فِي الْحَصْرِ،

ص: 341

فَإِنْ لَمْ يَخْتَرْ شَيْئًا حَتَّى مَاتَ الْعَبْدُ بَطَلَ حَقُّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ لِفَوَاتِ مَحَلِّ حَقِّهِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ، وَإِنْ مَاتَ بَعْدَمَا اخْتَارَ الْفِدَاءَ لَمْ يَبْرَأْ لِتَحَوُّلِ الْحَقِّ مِنْ رَقَبَةِ الْعَبْدِ إلَى ذِمَّةِ الْمَوْلَى.

قَالَ (فَإِنْ عَادَ فَجَنَى كَانَ حُكْمُ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ كَحُكْمِ الْجِنَايَةِ الْأُولَى) مَعْنَاهُ بَعْدَ الْفِدَاءِ لِأَنَّهُ لَمَّا طَهُرَ عَنْ الْجِنَايَةِ بِالْفِدَاءِ جُعِلَ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ، وَهَذَا ابْتِدَاءُ جِنَايَةٍ. قَالَ (وَإِنْ جَنَى جِنَايَتَيْنِ قِيلَ لِلْمَوْلَى إمَّا أَنْ تَدْفَعَهُ إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَتَيْنِ يَقْتَسِمَانِهِ عَلَى قَدْرِ حَقَّيْهِمَا وَإِمَّا أَنْ تَفْدِيهِ بِأَرْشِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا) لِأَنَّ تَعَلُّقَ الْأُولَى بِرَقَبَتِهِ لَا يَمْنَعُ تَعَلُّقَ الثَّانِيَةِ بِهَا كَالدُّيُونِ الْمُتَلَاحِقَةِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ مِلْكَ الْمَوْلَى لَمْ يَمْنَعْ تَعَلُّقَ الْجِنَايَةِ فَحَقُّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ الْأَوَّلِ أَوْلَى أَنْ لَا يُمْنَعَ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ عَلَى قَدْرِ حَقَّيْهِمَا عَلَى قَدْرِ أَرْشِ جِنَايَتِهِمَا (وَإِنْ كَانُوا جَمَاعَةً يَقْتَسِمُونَ الْعَبْدَ الْمَدْفُوعَ عَلَى قَدْرِ حِصَصِهِمْ وَإِنْ فَدَاهُ فَدَاهُ بِجَمِيعِ أُرُوشِهِمْ) لِمَا ذَكَرْنَا (وَلَوْ قَتَلَ وَاحِدًا وَفَقَأَ عَيْنَ آخَرَ) يَقْتَسِمَانِهِ أَثْلَاثًا (لِأَنَّ أَرْشَ الْعَيْنِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ أَرْشِ النَّفْسِ)، وَعَلَى هَذَا حُكْمُ الشَّجَّاتِ (وَلِلْمَوْلَى أَنْ يَفْدِيَ مِنْ بَعْضِهِمْ وَيَدْفَعَ إلَى بَعْضِهِمْ مِقْدَارَ مَا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّهُ مِنْ الْعَبْدِ) لِأَنَّ الْحُقُوقَ مُخْتَلِفَةٌ بِاخْتِلَافِ أَسْبَابِهَا وَهِيَ الْجِنَايَاتُ الْمُخْتَلِفَةُ، بِخِلَافِ مَقْتُولِ الْعَبْدِ إذَا كَانَ لَهُ وَلِيَّانِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَفْدِيَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَيَدْفَعَ إلَى الْآخَرِ لِأَنَّ الْحَقَّ مُتَّحِدٌ لِاتِّحَادِ سَبَبِهِ وَهِيَ الْجِنَايَةُ الْمُتَّحِدَةُ، وَالْحَقُّ يَجِبُ لِلْمَقْتُولِ ثُمَّ لِلْوَارِثِ خِلَافَةً عَنْهُ فَلَا

إذْ قَدْ تَقَرَّرَ فِيمَا قَبْلُ أَنَّ الْوَاجِبَ الْأَصْلِيَّ فِي جِنَايَةِ الْعَبْدِ هُوَ الدَّفْعُ فِي الصَّحِيحِ وَلِهَذَا يَسْقُطُ الْمُوجِبُ بِمَوْتِ الْعَبْدِ لِفَوَاتِ مَحَلِّ الْوَاجِبِ، إلَّا أَنَّهُ كَانَ لِلْمَوْلَى حَقُّ النَّقْلِ إلَى الْفِدَاءِ كَمَا فِي مَالِ الزَّكَاةِ، فَإِذَنْ كَانَ حَقُّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ مُنْحَصِرًا فِي الدَّفْعِ عَلَى مَا هُوَ الْوَاجِبُ الْأَصْلِيُّ فِي جِنَايَةِ الْعَبْدِ، فَإِنْ لَمْ يَنْحَصِرْ فِيهِ فَمَا مَعْنَى حَصْرِهِ فِي الْأَرْشِ بِقَوْلِهِ لَا حَقَّ لَهُ إلَّا الْأَرْشُ، وَهَذَا يَكُونُ مُنَاقِضًا

ص: 342

يَمْلِكُ التَّفْرِيقَ فِي مُوجَبِهَا.

قَالَ (فَإِنْ أَعْتَقَهُ الْمَوْلَى وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِالْجِنَايَةِ ضَمِنَ الْأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ أَرْشِهَا، وَإِنْ أَعْتَقَهُ بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْجِنَايَةِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْأَرْشُ) لِأَنَّ فِي الْأَوَّلِ فَوْتُ حَقِّهِ فَيَضْمَنُهُ وَحَقُّهُ فِي أَقَلِّهِمَا، وَلَا يَصِيرُ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ لِأَنَّهُ لَا اخْتِيَارَ بِدُونِ الْعِلْمِ، وَفِي الثَّانِي صَارَ مُخْتَارًا لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ يَمْنَعُهُ مِنْ الدَّفْعِ فَالْإِقْدَامُ عَلَيْهِ اخْتِيَارٌ مِنْهُ لِلْآخَرِ، وَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ الْبَيْعُ وَالْهِبَةُ وَالتَّدْبِيرُ وَالِاسْتِيلَادُ، لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مِمَّا يَمْنَعُ الدَّفْعَ لِزَوَالِ الْمِلْكِ بِهِ، بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ عَلَى رِوَايَةِ الْأَصْلِ لِأَنَّهُ لَا يَسْقُطُ بِهِ حَقُّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ، فَإِنَّهُ الْمُقَرُّ لَهُ يُخَاطَبُ بِالدَّفْعِ إلَيْهِ.

وَلَيْسَ فِيهِ نَقْلُ الْمِلْكِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ كَمَا قَالَهُ الْمُقِرُّ وَأَلْحَقَهُ الْكَرْخِيُّ بِالْبَيْعِ وَأَخَوَاتِهِ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ فِي الظَّاهِرِ فَيَسْتَحِقُّهُ الْمُقَرُّ لَهُ بِإِقْرَارِهِ فَأَشْبَهَ الْبَيْعَ.

وَإِطْلَاقُ الْجَوَابِ فِي الْكِتَابِ يَنْتَظِمُ النَّفْسَ وَمَا دُونَهَا، وَكَذَا الْمَعْنَى لَا يَخْتَلِفُ وَإِطْلَاقُ الْبَيْعِ يَنْتَظِمُ الْبَيْعَ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لِلْمُشْتَرِي لِأَنَّهُ يُزِيلُ الْمِلْكَ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ وَنَقْضِهِ، وَبِخِلَافِ الْعَرْضِ عَلَى الْبَيْعِ لِأَنَّ الْمِلْكَ مَا زَالَ، وَلَوْ بَاعَهُ بَيْعًا فَاسِدًا لَمْ يَصِرْ مُخْتَارًا حَتَّى يُسَلِّمَهُ لِأَنَّ الزَّوَالَ بِهِ، بِخِلَافِ الْكِتَابَةِ الْفَاسِدَةِ لِأَنَّ مُوجَبَهُ يَثْبُتُ قَبْلَ قَبْضِ الْبَدَلِ فَيَصِيرُ بِنَفْسِهِ مُخْتَارًا، وَلَوْ بَاعَهُ مَوْلَاهُ مِنْ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ فَهُوَ مُخْتَارٌ، بِخِلَافِ مَا إذَا وَهَبَهُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحِقَّ لَهُ أَخَذَهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ وَهُوَ مُتَحَقِّقٌ فِي الْهِبَةِ دُونَ الْبَيْعِ، وَإِعْتَاقُ

لِمَا ذَكَرَهُ قُبَيْلَهُ بِقَوْلِهِ أَمَّا الدَّفْعُ فَلِأَنَّ حَقَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِهِ

(قَوْلُهُ وَإِطْلَاقُ الْجَوَابِ فِي الْكِتَابِ يَنْتَظِمُ النَّفْسَ وَمَا دُونَهَا) يُرِيدُ قَوْلَهُ ضَمِنَ الْأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ أَرْشِهَا، وَقِيلَ: يُرِيدُ بِهِ قَوْلَهُ فِي أَوَّلِ الْبَابِ وَإِذَا جَنَى الْعَبْدُ جِنَايَةَ خَطَإٍ فَإِنَّهُ يَنْتَظِمُ النَّفْسَ وَمَا دُونَهَا، كَذَا

ص: 343

الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ بِأَمْرِ الْمَوْلَى بِمَنْزِلَةِ إعْتَاقِ الْمَوْلَى فِيمَا ذَكَرْنَاهُ، لِأَنَّ فِعْلَ الْمَأْمُورِ مُضَافٌ إلَيْهِ، وَلَوْ ضَرَبَهُ فَنَقَصَهُ فَهُوَ مُخْتَارٌ إذَا كَانَ عَالِمًا بِالْجِنَايَةِ لِأَنَّهُ حَبَسَ جُزْءًا مِنْهُ وَكَذَا إذَا كَانَتْ بِكْرًا فَوَطِئَهَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُعَلَّقًا لِمَا قُلْنَا بِخِلَافِ التَّزْوِيجِ لِأَنَّهُ عَيْبٌ مِنْ حَيْثُ الْحُكْمِ، وَبِخِلَافِ وَطْءِ الثَّيِّبِ عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّهُ لَا يَنْقُصُ مِنْ غَيْرِ إعْلَاقٍ، وَبِخِلَافِ الِاسْتِخْدَامِ لِأَنَّهُ لَا يَخْتَصُّ بِالْمِلْكِ، وَلِهَذَا لَا يَسْقُطُ بِهِ خِيَارُ الشَّرْطِ وَلَا يَصِيرُ مُخْتَارًا بِالْإِجَارَةِ وَالرَّهْنِ فِي الْأَظْهَرِ مِنْ الرِّوَايَاتِ، وَكَذَا بِالْإِذْنِ فِي التِّجَارَةِ وَإِنْ رَكِبَهُ دَيْنٌ، لِأَنَّ الْإِذْنَ لَا يُفَوِّتُ الدَّفْعَ وَلَا يُنْقِصُ الرَّقَبَةَ، إلَّا أَنَّ لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ قَبُولِهِ لِأَنَّ الدَّيْنَ لَحِقَهُ مِنْ جِهَةِ الْمَوْلَى فَلَزِمَ الْمَوْلَى قِيمَتُهُ.

قَالَ (وَمَنْ قَالَ

فِي الْعِنَايَةِ. أَقُولُ: لَا يَخْفَى عَلَى ذِي فِطْرَةٍ سَلِيمَةٍ أَنَّهُ لَا سَدَادَ لِمَا ذَكَرَ ثَانِيًا، لِأَنَّ تَأْخِيرَ التَّعَرُّضِ لِإِطْلَاقِ مَا فِي أَوَّلِ الْبَابِ إلَى هُنَا مَعَ كَوْنِهِ بَعِيدًا عَنْ نَهْجِ السَّدَادِ فِي نَفْسِهِ يَمْنَعُ عَنْ الْحَمْلِ عَلَيْهِ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ وَإِطْلَاقُ الْجَوَابِ، لِأَنَّ الْإِطْلَاقَ هُنَاكَ فِي الْمَسْأَلَةِ لَا فِي الْجَوَابِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى ذَوِي الْأَلْبَابِ فَالْمُرَادُ هُوَ الْأَوَّلُ لَا غَيْرُ.

(قَوْلُهُ وَكَذَا بِالْإِذْنِ فِي التِّجَارَةِ وَإِنْ رَكِبَهُ دَيْنٌ، لِأَنَّ الْإِذْنَ لَا يُفَوِّتُ الدَّفْعَ وَلَا يُنْقِصُ الرَّقَبَةَ) أَقُولُ: فِي التَّعْلِيلِ شَيْءٌ وَهُوَ أَنَّهُ إنْ أَرَادَ أَنَّ الْإِذْنَ فِي التِّجَارَةِ وَإِنْ رَكِبَهُ دَيْنٌ لَا يَفُوتُ الدَّفْعُ

ص: 344

لِعَبْدِهِ إنْ قَتَلْت فُلَانًا أَوْ رَمَيْته أَوْ شَجَجْته فَأَنْتَ حُرٌّ) فَهُوَ مُخْتَارٌ لِلْفِدَاءِ إنْ فَعَلَ ذَلِكَ (وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَصِيرُ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ لِأَنَّ وَقْتَ تَكَلُّمِهِ لَا جِنَايَةَ وَلَا عِلْمَ لَهُ بِوُجُودِهِ، وَبَعْدَ الْجِنَايَةِ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ فِعْلٌ يَصِيرُ بِهِ مُخْتَارًا)؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ عَلَّقَ الطَّلَاقَ أَوْ الْعَتَاقَ بِالشَّرْطِ ثُمَّ حَلَفَ أَنْ لَا يُطَلِّقَ أَوْ لَا يُعْتِقَ وُجِدَ الشَّرْطُ وَثَبَتَ الْعِتْقُ وَالطَّلَاقُ لَا يَحْنَثُ فِي يَمِينِهِ تِلْكَ، كَذَا هَذَا.

وَلَنَا أَنَّهُ عَلَّقَ الْإِعْتَاقَ بِالْجِنَايَةِ وَالْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ يُنَزَّلُ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ كَالْمُنَجَّزِ فَصَارَ كَمَا إذَا أَعْتَقَهُ بَعْدَ الْجِنَايَةِ؛ أَلَا يَرَى أَنَّ مَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَوَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك يَصِيرُ ابْتِدَاءُ الْإِيلَاءِ مِنْ وَقْتِ الدُّخُولِ، وَكَذَا إذَا قَالَ لَهَا إذَا مَرِضْت فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَمَرِضَ حَتَّى طَلُقَتْ وَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ الْمَرَضِ يَصِيرُ فَارًّا لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُطَلِّقًا بَعْدَ وُجُودِ الْمَرَضِ، بِخِلَافِ مَا أَوْرَدَ لِأَنَّ غَرَضَهُ طَلَاقٌ أَوْ عِتْقٌ يُمْكِنُهُ الِامْتِنَاعُ عَنْهُ، إذْ الْيَمِينُ لِلْمَنْعِ فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَهُ مَا لَا يُمْكِنُهُ الِامْتِنَاعُ عَنْهُ، وَلِأَنَّهُ حَرَّضَهُ عَلَى مُبَاشَرَةِ الشَّرْطِ بِتَعْلِيقِ أَقْوَى الدَّوَاعِي إلَيْهِ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَفْعَلُهُ، فَهَذَا دَلَالَةُ الِاخْتِيَارِ.

قَالَ (وَإِذَا قَطَعَ الْعَبْدُ يَدَ رَجُلٍ عَمْدًا فَدُفِعَ إلَيْهِ بِقَضَاءٍ أَوْ بِغَيْرِ قَضَاءٍ فَأَعْتَقَهُ ثُمَّ مَاتَ مِنْ قَطْعِ الْيَدِ فَالْعَبْدُ صُلْحٌ بِالْجِنَايَةِ، وَإِنْ لَمْ يُعْتِقْهُ رُدَّ عَلَى الْمَوْلَى وَقِيلَ لِلْأَوْلِيَاءِ اُقْتُلُوهُ أَوْ اُعْفُوا عَنْهُ) وَوَجْهُ ذَلِكَ وَهُوَ أَنَّهُ إذَا لَمْ يُعْتِقْهُ وَسَرَى تَبَيَّنَ أَنَّ الصُّلْحَ وَقَعَ بَاطِلًا لِأَنَّ الصُّلْحَ كَانَ

بِغَيْرِ رِضَا وَلِيِّ الْجِنَايَةِ فَهُوَ مَمْنُوعٌ، كَيْفَ وَقَدْ قَالَ مُتَّصِلًا بِهِ إلَّا أَنَّ لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ قَبُولِهِ، وَإِذَا كَانَ لَهُ ذَلِكَ يَفُوتُ الدَّفْعُ بِغَيْرِ رِضَاهُ قَطْعًا، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ لَا يَفُوتُ الدَّفْعُ بِرِضَا وَلَيِّ الْجِنَايَةِ فَهُوَ مُسَلَّمٌ، لَكِنْ يَلْزَمُ حِينَئِذٍ أَنْ يُنْتَقَضَ هَذَا التَّعْلِيلُ بِمَا لَوْ ضَرَبَ الْمَوْلَى الْعَبْدَ الْجَانِيَ فَنَقَصَهُ فَإِنَّهُ يَصِيرُ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ هُنَاكَ إذَا كَانَ عَالِمًا بِالْجِنَايَةِ كَمَا مَرَّ آنِفًا، مَعَ أَنَّهُ يَجْرِي أَنْ يُقَالَ هُنَاكَ أَيْضًا: إنَّ الضَّرْبَ وَإِذَا نَقَصَهُ لَا يَفُوتُ الدَّفْعُ بِرِضَا وَلِيِّ الْجِنَايَةِ، فَإِنَّهُ إذَا رَضِيَ أَنْ يَأْخُذَهُ نَاقِصًا وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمَوْلَى جَازَ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ، وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ عَنْهُ بِأَنَّ قَوْلَهُ وَلَا يَنْقُصُ الرَّقَبَةَ مِنْ تَمَامِ التَّعْلِيلِ، فَفِي صُورَةِ مَا إذَا ضَرَبَهُ فَنَقَصَهُ إنْ لَمْ يَفُتْ الدَّفْعُ بِرِضَا وَلِيِّ الْجِنَايَةِ نَقَصَتْ الرَّقَبَةُ، فَالتَّعْلِيلُ الْمَذْكُورُ هُنَا لَمْ يَجُزْ بِتَمَامِهِ هُنَاكَ فَلَمْ يُنْتَقَضْ بِذَلِكَ. نَعَمْ فِي تَمَامِ قَوْلِهِ وَلَا يَنْقُصُ الرَّقَبَةَ فِيمَا إذَا رَكِبَهُ دَيْنُ كَلَامٍ، لِأَنَّ وُجُوبَ الدَّيْنِ فِي ذِمَّةِ الْعَبْدِ نُقْصَانٌ لَهُ لِأَنَّ الْغُرَمَاءَ يَتْبَعُونَ وَلِيَّ الْجِنَايَةِ إذَا دَفَعَ الْعَبْدُ إلَيْهِ فَيَتْبَعُونَهُ بِدُيُونِهِمْ كَمَا صَرَّحَ بِهِ جُمْهُورُ الشُّرَّاحِ فِي شَرْحِ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ إلَّا أَنَّ لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ قَبُولِهِ لِأَنَّ الدَّيْنَ لَحِقَهُ مِنْ جِهَةِ الْمَوْلَى. وَعَنْ هَذَا قَالَ صَاحِبُ الْكَافِي: وَلَكِنَّ الرَّقَبَةَ قَدْ اُنْتُقِصَتْ عِنْدَ لُحُوقِ الدَّيْنِ بِسَبَبٍ مِنْ جِهَةِ الْمَوْلَى وَهُوَ الْإِذْنُ فَكَانَ لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ قَبُولِهِ نَاقِصًا فَيَلْزَمُ الْمَوْلَى قِيمَتُهُ اهـ فَتَأَمَّلْ.

(قَوْلُهُ وَوَجْهُ ذَلِكَ وَهُوَ أَنَّهُ إذَا لَمْ يُعْتِقْهُ وَسَرَى تَبَيَّنَ أَنَّ الصُّلْحَ وَقَعَ بَاطِلًا)

ص: 345

عَنْ الْمَالِ؛ لِأَنَّ أَطْرَافَ الْعَبْدِ لَا يَجْرِي الْقِصَاصُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ أَطْرَافِ الْحُرِّ فَإِذَا سَرَى تَبَيَّنَ أَنَّ الْمَالَ غَيْرُ وَاجِبٍ، وَإِنَّمَا الْوَاجِبُ هُوَ الْقَوَدُ فَكَانَ الصُّلْحُ وَاقِعًا بِغَيْرِ بَدَلٍ فَبَطَلَ وَالْبَاطِلُ لَا يُورِثُ الشُّبْهَةَ، كَمَا إذَا وَطِئَ الْمُطَلَّقَةَ الثَّلَاثَ فِي عِدَّتِهَا مَعَ الْعِلْمِ بِحُرْمَتِهَا عَلَيْهِ فَوَجَبَ الْقِصَاصُ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَعْتَقَهُ لِأَنَّ إقْدَامَهُ عَلَى الْإِعْتَاقِ يَدُلُّ عَلَى قَصْدِهِ تَصْحِيحَ الصُّلْحِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ مَنْ أَقْدَمَ عَلَى تَصَرُّفٍ يَقْصِدُ تَصْحِيحَهُ وَلَا صِحَّةَ لَهُ إلَّا وَأَنْ يُجْعَلَ صُلْحًا عَنْ الْجِنَايَةِ وَمَا يَحْدُثُ مِنْهَا وَلِهَذَا لَوْ نَصَّ عَلَيْهِ وَرَضِيَ الْمَوْلَى بِهِ يَصِحُّ وَقَدْ رَضِيَ الْمَوْلَى بِهِ لِأَنَّهُ لَمَّا رَضِيَ بِكَوْنِ الْعَبْدِ عِوَضًا عَنْ الْقَلِيلِ يَكُونُ أَرْضَى بِكَوْنِهِ عِوَضًا عَنْ الْكَثِيرِ فَإِذَا أُعْتِقَ يَصِحُّ الصُّلْحُ فِي ضِمْنِ الْإِعْتَاقِ ابْتِدَاءً وَإِذَا لَمْ يُعْتِقْ لَمْ يُوجَدْ الصُّلْحُ ابْتِدَاءً وَالصُّلْحُ الْأَوَّلُ وَقَعَ بَاطِلًا فَيُرَدُّ الْعَبْدُ إلَى الْمَوْلَى وَالْأَوْلِيَاءُ عَلَى خِيرَتِهِمْ فِي الْعَفْوِ وَالْقَتْلِ.

وَذُكِرَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ: رَجُلٌ قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ عَمْدًا فَصَالَحَ الْقَاطِعُ الْمَقْطُوعَةَ يَدَهُ عَلَى عَبْدٍ وَدَفَعَهُ إلَيْهِ

قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَحَلِّ: يُرِيدُ بَيَانَ الْفَرْقِ بَيْنَ مَا إذَا أَعْتَقَ وَبَيْنَ مَا إذَا لَمْ يُعْتِقْ أَنَّهُ إذَا لَمْ يُعْتِقْهُ وَسَرَى تَبَيَّنَ أَنَّ الصُّلْحَ: أَيْ الدَّفْعَ وَقَعَ بَاطِلًا وَسَمَّاهُ صُلْحًا بِنَاءً عَلَى مَا اخْتَارَهُ بَعْضُ الْمَشَايِخِ أَنَّ الْمُوجَبَ الْأَصْلِيَّ هُوَ الْفِدَاءُ فَكَانَ الدَّفْعُ بِمَنْزِلَةِ الصُّلْحِ لِسُقُوطِ مُوجَبِ الْجِنَايَةِ بِهِ اهـ.

وَاقْتَفَى أَثَرَهُ الشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ. أَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ الْمُصَنِّفَ صَرَّحَ فِيمَا مَرَّ بِأَنَّ الْمُوجَبَ الْأَصْلِيَّ هُوَ الدَّفْعُ فِي الصَّحِيحِ وَقَالَ: وَلِهَذَا يَسْقُطُ الْمُوجَبُ بِمَوْتِ الْعَبْدِ لِفَوَاتِ مَحَلِّ الْوَاجِبِ فَكَيْفَ يَتِمُّ تَسْمِيَةُ الدَّفْعِ هُنَا صُلْحًا عَلَى الْبِنَاءِ عَلَى خِلَافِ مَا اخْتَارَهُ وَصَحَّحَهُ نَفْسُهُ فِيمَا قَبْلُ، وَخِلَافُ مَا عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ مَشَايِخِنَا، حَتَّى أَنَّ صَاحِبَ الْأَسْرَارِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ مَا اخْتَارَهُ بَعْضُ الْمَشَايِخِ مِنْ أَنَّ الْوَاجِبَ الْأَصْلِيَّ هُوَ الْأَرْشُ قَالَ: وَالرِّوَايَةُ بِخِلَافِ هَذَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، وَقَدْ نَصَّ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ رحمه الله أَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الْعَبْدُ انْتَهَى. ثُمَّ أَقُولُ: الْحَقُّ عِنْدِي أَنْ يُحْمَلَ تَسْمِيَةُ الدَّفْعِ هُنَا صُلْحًا عَلَى الْمُشَاكَلَةِ بِأَنْ عَبَّرَ عَنْ الدَّفْعِ بِالصُّلْحِ لِوُقُوعِ ذِكْرِهِ فِي صُحْبَةِ مَا هُوَ صُلْحٌ وَمَا هُوَ إذَا أَعْتَقَهُ تَدَبَّرْ تَرْشُدْ.

(قَوْلُهُ وَالْبَاطِلُ لَا يُورِثُ الشُّبْهَةَ كَمَا إذَا وَطِئَ الْمُطَلَّقَةَ الثَّلَاثَ فِي عِدَّتِهَا مَعَ الْعِلْمِ بِحُرْمَتِهَا عَلَيْهِ) أَقُولُ: فِيهِ بَحْثٌ، وَهُوَ أَنَّهُ إنْ أَرَادَ أَنَّ الْبَاطِلَ لَا يُورِثُ الشُّبْهَةَ فِيمَا إذَا عَلِمَ بُطْلَانَهُ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ مِمَّا ذَكَرَهُ فِي تَنْظِيرِهِ حَيْثُ قَالَ فِيهِ مَعَ الْعِلْمِ بِحُرْمَتِهَا عَلَيْهِ فَهُوَ مُسَلَّمٌ، لَكِنْ لَا يُجْدِي نَفْعًا هُنَا لِأَنَّ الدَّافِعَ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الْقَطْعَ يَسْرِي فَيَكُونُ مُوجَبَهُ الْقَوَدُ، بَلْ ظَنَّ أَنَّهُ لَا يَسْرِي وَكَانَ مُوجَبَهُ الْمَالُ، وَإِنْ أَرَادَ الْبَاطِلَ لَا يُورِثُ الشُّبْهَةَ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بُطْلَانَهُ فَهُوَ مَمْنُوعٌ، أَلَا يَرَى أَنَّهُ إذَا وَطِئَ الْمُطَلَّقَةَ الثَّلَاثَ فِي عِدَّتِهَا وَلَمْ يَعْلَمْ بِحُرْمَتِهَا عَلَيْهِ بَلْ ظَنَّ أَنَّهَا تَحِلُّ لَهُ فَإِنَّهُ

ص: 346

فَأَعْتَقَهُ الْمَقْطُوعَةُ يَدُهُ ثُمَّ مَاتَ مِنْ ذَلِكَ فَالْعَبْدُ صُلْحٌ بِالْجِنَايَةِ إلَى آخِرِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الرِّوَايَةِ. وَهَذَا الْوَضْعُ يَرِدُ إشْكَالًا فِيمَا إذَا عَفَا عَنْ الْيَدِ ثُمَّ سَرَى إلَى النَّفْسِ وَمَاتَ حَيْثُ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ هُنَالِكَ، وَهَاهُنَا قَالَ يَجِبُ. قِيلَ مَا ذُكِرَ هَاهُنَا جَوَابُ الْقِيَاسِ فَيَكُونُ الْوَضْعَانِ جَمِيعًا عَلَى الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ. وَقِيلَ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ، وَوَجْهُهُ أَنَّ الْعَفْوَ عَنْ الْيَدِ صَحَّ ظَاهِرًا لِأَنَّ الْحَقَّ كَانَ لَهُ فِي الْيَدِ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ فَيَصِحُّ الْعَفْوُ ظَاهِرًا، فَبَعْدَ ذَلِكَ وَإِنْ بَطَلَ حُكْمًا يَبْقَى مَوْجُودًا حَقِيقَةً فَكَفَى ذَلِكَ لِمَنْعِ وُجُوبِ الْقِصَاصِ.

أَمَّا هَاهُنَا الصُّلْحُ لَا يُبْطِلُ الْجِنَايَةَ بَلْ يُقَرِّرُهَا حَيْثُ صَالَحَ عَنْهَا عَلَى مَالٍ، فَإِذَا لَمْ يُبْطِلْ الْجِنَايَةَ لَمْ تَمْتَنِعْ الْعُقُوبَةُ، هَذَا إذَا لَمْ يُعْتِقْهُ، أَمَّا إذَا أَعْتَقَهُ فَالتَّخْرِيجُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ.

قَالَ (وَإِذَا جَنَى الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ لَهُ جِنَايَةً وَعَلَيْهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَأَعْتَقَهُ الْمَوْلَى وَلَمْ يَعْلَمْ بِالْجِنَايَةِ فَعَلَيْهِ قِيمَتَانِ: قِيمَةٌ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ، وَقِيمَةٌ لِأَوْلِيَاءِ الْجِنَايَةِ) لِأَنَّهُ أَتْلَفَ حَقَّيْنِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَضْمُونٌ بِكُلِّ الْقِيمَةِ عَلَى الِانْفِرَادِ: الدَّفْعُ لِلْأَوْلِيَاءِ، وَالْبَيْعُ لِلْغُرَمَاءِ، فَكَذَا عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ. وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَقَّيْنِ إيفَاءً مِنْ الرَّقَبَةِ الْوَاحِدَةِ بِأَنْ

يُورِثُ الشُّبْهَةَ فَيَدْرَأُ الْحَدَّ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ، وَفُهِمَ أَيْضًا هَاهُنَا مِنْ قَوْلِهِ مَعَ الْعِلْمِ بِحُرْمَتِهَا عَلَيْهِ.

(قَوْلُهُ أَمَّا هَاهُنَا الصُّلْحُ لَا يُبْطِلُ الْجِنَايَةَ بَلْ يُقَرِّرُهَا حَيْثُ صَالَحَ عَنْهَا عَلَى مَالٍ، فَإِذَا لَمْ تَبْطُلْ الْجِنَايَةُ لَمْ تَمْتَنِعْ الْعُقُوبَةُ) أَقُولُ: يَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّهُ إنْ أُرِيدَ بِقَوْلِهِمْ الصُّلْحُ لَا يُبْطِلُ الْجِنَايَةَ بَلْ يُقَرِّرُهَا أَنَّ الصُّلْحَ لَا يُسْقِطُ مُوجَبَ الْجِنَايَةِ بَلْ يُبْقِيهِ عَلَى حَالِهِ فَهُوَ مَمْنُوعٌ، كَيْفَ وَقَدْ صَرَّحُوا فِي صَدْرِ

ص: 347

يُدْفَعَ إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ ثُمَّ يُبَاعَ لِلْغُرَمَاءِ فَيَضْمَنُهُمَا بِالْإِتْلَافِ بِخِلَافِ مَا إذَا أَتْلَفَهُ أَجْنَبِيٌّ حَيْثُ تَجِبُ قِيمَةٌ وَاحِدَةٌ لِلْمَوْلَى وَيَدْفَعُهَا الْمَوْلَى إلَى الْغُرَمَاءِ، لِأَنَّ الْأَجْنَبِيَّ إنَّمَا يَضْمَنُ لِلْمَوْلَى بِحُكْمِ الْمِلْكِ فَلَا يَظْهَرُ فِي مُقَابَلَتِهِ الْحَقُّ لِأَنَّهُ دُونَهُ، وَهَاهُنَا يَجِبُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِإِتْلَافِ الْحَقِّ فَلَا تَرْجِيحَ فَيَظْهَرَانِ فَيَضْمَنُهُمَا.

قَالَ (وَإِذَا اسْتَدَانَتْ الْأَمَةُ الْمَأْذُونُ لَهَا أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهَا ثُمَّ وَلَدَتْ فَإِنَّهُ يُبَاعُ الْوَلَدُ مَعَهَا فِي الدَّيْنِ، وَإِنْ جَنَتْ جِنَايَةً لَمْ يُدْفَعْ الْوَلَدُ مَعَهَا) وَالْفَرْقُ أَنَّ الدَّيْنَ وَصْفٌ حُكْمِيٌّ فِيهَا وَاجِبٌ فِي ذِمَّتِهَا مُتَعَلِّقٌ بِرَقَبَتِهَا اسْتِيفَاءً فَيَسْرِي إلَى الْوَلَدِ كَوَلَدِ الْمَرْهُونَةِ، بِخِلَافِ الْجِنَايَةِ لِأَنَّ وُجُوبَ الدَّفْعِ فِي ذِمَّةِ الْمَوْلَى لَا فِي ذِمَّتِهَا، وَإِنَّمَا يُلَاقِيهَا أَثَرُ الْفِعْلِ الْحَقِيقِيِّ وَهُوَ الدَّفْعُ وَالسِّرَايَةُ فِي الْأَوْصَافِ الشَّرْعِيَّةِ دُونَ الْأَوْصَافِ الْحَقِيقِيَّةِ.

كِتَابِ الْجِنَايَاتِ بِأَنَّ مُوجَبَ الْقَتْلِ الْعَمْدِ الْقَوَدُ إلَّا أَنْ يَعْفُوَ الْأَوْلِيَاءُ أَوْ يُصَالِحُوا، فَقَدْ جَعَلُوا الصُّلْحَ كَالْعَفْوِ فِي إسْقَاطِ مُوجَبِ الْجِنَايَةِ، وَإِنْ أُرِيدَ بِذَلِكَ أَنَّ الصُّلْحَ لَا يُنَافِي ثُبُوتَ مُوجَبِ الْجِنَايَةِ فِي الْأَصْلِ بَلْ يُقَرِّرُ ذَلِكَ حَيْثُ وَقَعَ الصُّلْحُ عَنْهُ عَلَى مَالٍ، وَإِنْ سَقَطَ بَعْدَ تَحَقُّقِ الصُّلْحِ فَهُوَ مُسَلَّمٌ، لَكِنْ لَا يَتِمُّ حِينَئِذٍ قَوْلُهُمْ فَإِذَا لَمْ تَبْطُلْ الْجِنَايَةُ لَمْ تَمْتَنِعْ الْعُقُوبَةُ، إذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ بُطْلَانِ الْجِنَايَةِ

ص: 348

قَالَ (وَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ لِرَجُلٍ زَعَمَ رَجُلٌ آخَرُ أَنَّ مَوْلَاهُ أَعْتَقَهُ فَقَتَلَ الْعَبْدُ وَلِيًّا لِذَلِكَ الرَّجُلِ الزَّاعِمِ خَطَأً فَلَا شَيْءَ لَهُ) لِأَنَّهُ لَمَّا زَعَمَ أَنَّ مَوْلَاهُ أَعْتَقَهُ فَقَدْ ادَّعَى الدِّيَةَ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَأَبْرَأَ الْعَبْدَ وَالْمَوْلَى إلَّا أَنَّهُ لَا يُصَدَّقُ عَلَى الْعَاقِلَةِ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ.

قَالَ (وَإِذَا أُعْتِقَ الْعَبْدُ فَقَالَ لِرَجُلٍ قَتَلْتُ أَخَاك خَطَأً وَأَنَا عَبْدٌ وَقَالَ الْآخَرُ قَتَلْته وَأَنْتَ حُرٌّ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْعَبْدِ) لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ لِلضَّمَانِ لَمَّا أَنَّهُ أَسْنَدَهُ إلَى حَالَةٍ مَعْهُودَةٍ مُنَافِيَةٍ لِلضَّمَانِ، إذْ الْكَلَامُ فِيمَا إذَا عُرِفَ رِقُّهُ، وَالْوُجُوبُ فِي جِنَايَةِ الْعَبْدِ عَلَى الْمَوْلَى دَفْعًا أَوْ فِدَاءً، وَصَارَ كَمَا إذَا قَالَ الْبَالِغُ الْعَاقِلُ طَلَّقْت امْرَأَتِي وَأَنَا صَبِيٌّ أَوْ بِعْت دَارِي وَأَنَا صَبِيٌّ، أَوْ قَالَ طَلَّقْت امْرَأَتِي وَأَنَا مَجْنُونٌ أَوْ بِعْت دَارِي وَأَنَا مَجْنُونٌ وَقَدْ كَانَ جُنُونُهُ مَعْرُوفًا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ لِمَا ذَكَرْنَا.

قَالَ (وَمَنْ أَعْتَقَ جَارِيَةً ثُمَّ قَالَ لَهَا قَطَعْتُ يَدَك وَأَنْتِ أَمَتِي وَقَالَتْ قَطَعْتَهَا وَأَنَا حُرَّةٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا أُخِذَ مِنْهَا إلَّا الْجِمَاعَ وَالْغَلَّةَ اسْتِحْسَانًا،

بِمَعْنَى ثُبُوتِهَا فِي الْأَصْلِ عَدَمُ امْتِنَاعِ الْعُقُوبَةِ بَعْدَ تَحَقُّقِ الصُّلْحِ عَنْهَا كَمَا هُوَ الْحَالُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ، بَلْ لَا يَتِمُّ حِينَئِذٍ الْفَرْقُ رَأْسًا بَيْنَ صُورَتَيْ الْعَفْوِ وَالصُّلْحِ، إذْ الْعَفْوُ أَيْضًا لَا يُنَافِي ثُبُوتَ مُوجَبِ الْجِنَايَةِ فِي الْأَصْلِ قَبْلَ الْعَفْوِ كَمَا لَا يَخْفَى

(قَوْلُهُ وَمَنْ أَعْتَقَ جَارِيَةً ثُمَّ قَالَ لَهَا قَطَعْتُ يَدِك وَأَنْتِ أَمَتِي وَقَالَتْ بَلْ قَطَعْتَهَا وَأَنَا حُرَّةٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ أَيْضًا مَبْنَاهَا عَلَى إسْنَادِ الْإِقْرَارِ إلَى حَالَةٍ مُنَافِيَةٍ لِلضَّمَانِ. أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا بِسَدِيدٍ، لِأَنَّ مَبْنَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي جَوَابُهَا كَوْنُ الْقَوْلِ قَوْلُهَا لَيْسَ عَلَى

ص: 349

وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَضْمَنُ إلَّا شَيْئًا قَائِمًا بِعَيْنِهِ يُؤْمَرُ بِرَدِّهِ عَلَيْهَا) لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ وُجُوبَ الضَّمَانِ لِإِسْنَادِهِ الْفِعْلَ إلَى حَالَةٍ مَعْهُودَةٍ مُنَافِيَةٍ لَهُ كَمَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى وَكَمَا فِي الْوَطْءِ وَالْغَلَّةِ. وَفِي الشَّيْءِ الْقَائِمِ أَقَرَّ بِيَدِهَا حَيْثُ اعْتَرَفَ بِالْأَخْذِ مِنْهَا ثُمَّ ادَّعَى التَّمَلُّكَ عَلَيْهَا وَهِيَ مُنْكِرَةٌ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ فَلِهَذَا يُؤْمَرُ بِالرَّدِّ إلَيْهَا، وَلَهُمَا أَنَّهُ أَقَرَّ بِسَبَبِ الضَّمَانِ ثُمَّ ادَّعَى مَا يُبَرِّئُهُ فَلَا يَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ كَمَا إذَا قَالَ لِغَيْرِهِ فَقَأْت عَيْنَكَ الْيُمْنَى وَعَيْنِي الْيُمْنَى صَحِيحَةٌ ثُمَّ فُقِئَتْ وَقَالَ الْمُقِرُّ لَهُ: لَا بَلْ فَقَأْتَهَا وَعَيْنُك الْيُمْنَى مَفْقُوءَةٌ فَإِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُقَرِّ لَهُ، وَهَذَا لِأَنَّهُ مَا أَسْنَدَهُ إلَى حَالَةٍ مُنَافِيَةٍ لِلضَّمَانِ لِأَنَّهُ يَضْمَنُ يَدَهَا لَوْ قَطَعَهَا وَهِيَ مَدْيُونَةٌ، وَكَذَا يَضْمَنُ مَالَ الْحَرْبِيِّ إذَا أَخَذَهُ وَهُوَ مُسْتَأْمَنٌ، بِخِلَافِ الْوَطْءِ وَالْغَلَّةِ لِأَنَّ وَطْءَ الْمَوْلَى أَمَتَهُ الْمَدْيُونَةَ لَا يُوجِبُ الْعُقْرَ، وَكَذَا أَخْذُهُ مِنْ

إسْنَادِ الْإِقْرَارِ إلَى حَالَةٍ مُنَافِيَةٍ لِلضَّمَانِ كَمَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى، وَإِلَّا لَمَا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهَا، بَلْ كَانَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُقِرِّ كَمَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى، وَإِنَّمَا مَبْنَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى أَنَّهُ أَقَرَّ بِسَبَبِ الضَّمَانِ ثُمَّ ادَّعَى مَا يُبَرِّئُهُ فَلَا يُسْمَعُ قَوْلُهُ إلَّا بِحُجَّةٍ كَمَا يَظْهَرُ مِمَّا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ فِي تَعْلِيلِ جَوَابِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. نَعَمْ مَبْنَاهَا عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ إسْنَادُ الْإِقْرَارِ إلَى حَالَةٍ مُنَافِيَةٍ لِلضَّمَانِ، إلَّا أَنَّ قَوْلَهُ لَيْسَ بِمُطَابِقٍ لِجَوَابِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَإِنَّمَا ذُكِرَ هُنَا بِطَرِيقِ الِاسْتِطْرَادِ لَا الْأَصَالَةِ فَمَا مَعْنَى بِنَاءِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي كَانَ جَوَابُهَا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْكِتَابِ عَلَى أَصْلِ قَوْلِ مُحَمَّدٍ فِيهَا.

(قَوْلُهُ وَكَذَا يَضْمَنُ مَالَ الْحَرْبِيِّ إذَا أَخَذَهُ وَهُوَ مُسْتَأْمَنٌ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: لَيْسَ لَهُ تَعَلُّقٌ بِمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ مَسْأَلَةِ الْقَطْعِ لَكِنَّهُ ذَكَرَهُ بَيَانًا لِمَسْأَلَةٍ أُخْرَى. صُورَتُهَا: مُسْلِمٌ دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ وَأَخَذَ مَالَ حَرْبِيٍّ ثُمَّ أَسْلَمَ الْحَرْبِيُّ ثُمَّ خَرَجَا إلَيْنَا فَقَالَ لَهُ الْمُسْلِمُ: أَخَذْتُ مِنْك مَالًا وَأَنْتَ حَرْبِيٌّ فَقَالَ بَلْ أَخَذْتَ مِنِّي وَأَنَا مُسْلِمٌ فَإِنَّهَا عَلَى خِلَافٍ، كَذَا قِيلَ. فَإِنْ صَحَّ ذَلِكَ فَوَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ أَسْنَدَ إقْرَارَهُ إلَى حَالَةٍ مَعْهُودَةٍ مُنَافِيَةٍ لِلضَّمَانِ، وَوَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ مَالَ الْحَرْبِيِّ قَدْ يُضْمَنُ إذَا أَخَذَهُ دَيْنًا فَكَانَ قَدْ أَقَرَّ بِسَبَبِ الضَّمَانِ ثُمَّ ادَّعَى مَا يُبَرِّئُهُ فَلَا يُسْمَعُ إلَّا بِحُجَّةٍ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ. أَقُولُ: فِيهِ نُبَذٌ مِنْ الِاخْتِلَالِ أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ قَوْلَهُ لَيْسَ لَهُ تَعَلُّقٌ بِمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ مَسْأَلَةِ الْقَطْعِ مَمْنُوعٌ، فَإِنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ دَاخِلًا فِي مَسْأَلَةِ الْقَطْعِ نَفْسِهَا إلَّا أَنَّهُ نَظِيرٌ لَهَا لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْعِلَّةِ حَيْثُ لَمْ يُوجَدْ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا إسْنَادُ الْإِقْرَارِ إلَى حَالَةٍ مُنَافِيَةٍ لِلضَّمَانِ عِنْدَهُمَا: وَكَوْنُهُ نَظِيرًا لِمَا نَحْنُ فِيهِ تَعَلُّقٌ مَحْضٌ بِهِ، فَإِنَّ التَّنْظِيرَ كَثِيرُ الْوُقُوعِ فِي اسْتِدْلَالَاتهمْ شَائِعٌ فِيمَا بَيْنَهُمْ. فَصَارَ قَوْلُهُ هُنَا وَكَذَا يَضْمَنُ مَالَ الْحَرْبِيِّ إذَا أَخَذَهُ وَهُوَ مُسْتَأْمَنٌ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ فِيمَا قَبْلُ كَمَا إذَا قَالَ لِغَيْرِهِ فَقَأْتُ عَيْنَك الْيُمْنَى وَعَيْنِي الْيُمْنَى صَحِيحَةٌ إلَخْ. وَأَمَّا ثَانِيًا

ص: 350

غَلَّتِهَا، وَإِنْ كَانَتْ مَدْيُونَةً لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ عَلَيْهِ فَحَصَلَ الْإِسْنَادُ إلَى حَالَةٍ مَعْهُودَةٍ مُنَافِيَةٍ لِلضَّمَانِ.

قَالَ (وَإِذَا أَمَرَ الْعَبْدُ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ صَبِيًّا حُرًّا بِقَتْلِ رَجُلٍ فَقَتَلَهُ فَعَلَى عَاقِلَةِ الصَّبِيِّ الدِّيَةُ) لِأَنَّهُ هُوَ الْقَاتِلُ حَقِيقَةً، وَعَمْدُهُ وَخَطَؤُهُ سَوَاءٌ عَلَى مَا بَيَّنَّا مِنْ قَبْلُ (وَلَا شَيْءَ عَلَى الْآمِرِ) وَكَذَا إذَا كَانَ الْآمِرُ صَبِيًّا لِأَنَّهُمَا لَا يُؤَاخَذَانِ بِأَقْوَالِهِمَا؛ لِأَنَّ الْمُؤَاخَذَةَ فِيهَا بِاعْتِبَارِ الشَّرْعِ وَمَا اُعْتُبِرَ قَوْلُهُمَا، وَلَا رُجُوعَ لِعَاقِلَةِ الصَّبِيِّ عَلَى الصَّبِيِّ الْآمِرِ أَبَدًا، وَيَرْجِعُونَ عَلَى الْعَبْدِ الْآمِرِ بَعْدَ الْإِعْتَاقِ لِأَنَّ عَدَمَ الِاعْتِبَارِ لِحَقِّ الْمَوْلَى وَقَدْ زَالَ لَا لِنُقْصَانِ أَهْلِيَّةِ الْعَبْدِ، بِخِلَافِ الصَّبِيِّ لِأَنَّهُ قَاصِرُ الْأَهْلِيَّةِ. قَالَ (وَكَذَلِكَ إنْ أَمَرَ عَبْدًا) مَعْنَاهُ أَنْ يَكُونَ الْآمِرُ عَبْدًا وَالْمَأْمُورُ عَبْدًا مَحْجُورًا عَلَيْهِمَا (يُخَاطَبُ مَوْلَى الْقَاتِلِ بِالدَّفْعِ أَوْ الْفِدَاءِ) وَلَا رُجُوعَ لَهُ عَلَى الْأَوَّلِ فِي الْحَالِ، وَيَجِبُ أَنْ يَرْجِعَ بَعْدَ الْعِتْقِ بِأَقَلَّ مِنْ الْفِدَاءِ وَقِيمَةِ الْعَبْدِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُضْطَرٍّ فِي دَفْعِ الزِّيَادَةِ، وَهَذَا إذَا كَانَ الْقَتْلُ خَطَأً، وَكَذَا إذَا كَانَ عَمْدًا وَالْعَبْدُ الْقَاتِلُ صَغِيرًا لِأَنَّ عَمْدَهُ خَطَأٌ، أَمَّا إذَا كَانَ كَبِيرًا يَجِبُ الْقِصَاصُ لِجَرَيَانِهِ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ.

قَالَ (وَإِذَا قَتَلَ الْعَبْدُ رَجُلَيْنِ عَمْدًا وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلِيَّانِ فَعَفَا أَحَدُ وَلِيَّيْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَإِنَّ الْمَوْلَى يَدْفَعُ نِصْفَهُ إلَى الْآخَرَيْنِ أَوْ يَفْدِيهِ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمَ) لِأَنَّهُ لَمَّا عَفَا أَحَدُ وَلِيِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَقَطَ الْقِصَاصُ وَانْقَلَبَ مَالًا فَصَارَ كَمَا لَوْ وَجَبَ الْمَالُ مِنْ الِابْتِدَاءِ، وَهَذَا لِأَنَّ حَقَّهُمْ فِي الرَّقَبَةِ أَوْ فِي عِشْرِينَ أَلْفًا وَقَدْ سَقَطَ نَصِيبُ الْعَافِيَيْنِ وَهُوَ النِّصْفُ وَبَقِيَ النِّصْفُ (فَإِنْ كَانَ قَتَلَ أَحَدَهُمَا عَمْدًا وَالْآخَرَ خَطَأً فَعَفَا أَحَدُ وَلِيَّيْ الْعَمْدِ فَإِنْ فَدَاهُ الْمَوْلَى فَدَاهُ بِخَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفًا خَمْسَةُ آلَافٍ لِلَّذِي لَمْ يَعْفُ مِنْ وَلِيِّي الْعَمْدِ وَعَشَرَةُ آلَافٍ لِوَلِيَّيْ الْخَطَأِ) لِأَنَّهُ لَمَّا انْقَلَبَ الْعَمْدُ مَالًا كَانَ حَقُّ وَلِيَّيْ الْخَطَإِ فِي كُلِّ الدِّيَةِ عَشَرَةَ آلَافٍ، وَحَقُّ أَحَدِ وَلِيَّيْ الْعَمْدِ فِي نِصْفِهَا خَمْسَةَ آلَافٍ، وَلَا تَضَايُقَ فِي الْفِدَاءِ فَيَجِبُ خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفًا (وَإِنْ دَفَعَهُ دَفَعَهُ إلَيْهِمْ أَثْلَاثًا: ثُلُثَاهُ لِوَلِيَّيْ الْخَطَإِ، وَثُلُثُهُ لِغَيْرِ الْعَافِي مِنْ وَلِيَّيْ الْعَمْدِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَا: يَدْفَعُهُ أَرْبَاعًا: ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ لِوَلِيَّيْ الْخَطَإِ، وَرُبْعُهُ لِوَلِيِّ الْعَمْدِ) فَالْقِسْمَةُ عِنْدَهُمَا بِطَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ،

فَلِأَنَّ قَوْلَهُ وَوَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ مَالَ الْحَرْبِيِّ قَدْ يُضْمَنُ إذَا أَخَذَهُ دَيْنًا لَيْسَ بِشَرْحٍ مُطَابِقٍ لِلْمَشْرُوحِ، وَإِنَّمَا الْمُطَابِقُ لَهُ أَنْ يُقَالَ: لِأَنَّ مَالَ الْحَرْبِيِّ قَدْ يُضْمَنُ إذَا أَخَذَهُ وَهُوَ مُسْتَأْمَنٌ تَدَبَّرْ

(قَوْلُهُ وَإِنْ دَفَعَهُ دَفَعَهُ إلَيْهِمْ أَثْلَاثًا: ثُلُثَاهُ لِوَلِيَّيْ الْخَطَإِ، وَثُلُثُهُ لِغَيْرِ الْعَافِي مِنْ وَلِيَّيْ الْعَمْدِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَقَالَا: يَدْفَعُهُ أَرْبَاعًا إلَخْ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: وَأَصْلُ هَذَا مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ، وَهُوَ

ص: 351

فَيُسَلِّمُ النِّصْفَ لِوَلِيَّيْ الْخَطَإِ بِلَا مُنَازَعَةٍ، وَاسْتَوَتْ مُنَازَعَةُ الْفَرِيقَيْنِ فِي النِّصْفِ الْآخَرِ فَيَتَنَصَّفُ، فَلِهَذَا يُقَسَّمُ أَرْبَاعًا. وَعِنْدَهُ يُقَسَّمُ بِطَرِيقِ الْعَوْلِ وَالْمُضَارَبَةِ أَثْلَاثًا، لِأَنَّ الْحَقَّ تَعَلَّقَ بِالرَّقَبَةِ أَصْلُهُ التَّرِكَةُ الْمُسْتَغْرَقَةُ بِالدُّيُونِ فَيَضْرِبُ هَذَا بِالْكُلِّ وَذَلِكَ بِالنِّصْفِ، وَلِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ نَظَائِرُ وَأَضْدَادٌ ذَكَرْنَاهَا فِي الزِّيَادَاتِ.

قَالَ (وَإِذَا كَانَ)(عَبْدٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَقَتَلَ مَوْلًى لَهُمَا) أَيْ قَرِيبًا لَهُمَا (فَعَفَا أَحَدُهُمَا)(بَطَلَ الْجَمِيعُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: يَدْفَعُ الَّذِي عَفَا نِصْفَ نَصِيبِهِ إلَى الْآخَرِ أَوْ يَفْدِيهِ بِرُبْعِ الدِّيَةِ) وَذَكَرَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ قَتَلَ وَلِيًّا لَهُمَا، وَالْمُرَادُ الْقَرِيبُ أَيْضًا، وَذَكَرَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ قَوْلَ مُحَمَّدٍ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَذَكَرَ فِي الزِّيَادَاتِ: عَبْدٌ قَتَلَ مَوْلَاهُ وَلَهُ ابْنَانِ فَعَفَا أَحَدُ الِابْنَيْنِ بَطَلَ ذَلِكَ كُلُّهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ الْجَوَابُ فِيهِ كَالْجَوَابِ فِي مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ.

أَنَّ قِسْمَةَ الْعَيْنِ إذَا وَجَبَتْ بِسَبَبِ دَيْنٍ فِي الذِّمَّةِ كَالْغَرِيمَيْنِ فِي التَّرِكَةِ وَنَحْوِهَا كَانَتْ الْقِسْمَةُ بِطَرِيقِ الْعَوْلِ وَالْمُضَارَبَةِ، لِأَنَّهُ لَا تَضَايُقَ فِي الذِّمَّةِ فَيَثْبُتُ حَقُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ فَيَضْرِبُ بِجَمِيعِ حَقِّهِ. أَمَّا إذَا وَجَبَتْ قِسْمَةُ الْعَيْنِ ابْتِدَاءً لَا بِسَبَبِ دَيْنٍ فِي الذِّمَّةِ كَمَا فِي مَسْأَلَةِ بَيْعِ الْفُضُولِيِّ وَهِيَ أَنَّ فُضُولِيًّا لَوْ بَاعَ عَبْدَ إنْسَانٍ كُلِّهِ وَفُضُولِيًّا آخَرَ بَاعَ نِصْفَهُ وَأَجَازَ الْمَوْلَى الْبَيْعَيْنِ كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَ الْمُشْتَرِيَيْنِ أَرْبَاعًا وَكَانَتْ الْقِسْمَةُ بِطَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ، لِأَنَّ الْحَقَّ الثَّابِتَ فِي الْعَيْنِ ابْتِدَاءً لَا يَثْبُتُ بِصِفَةِ الْكَمَالِ عِنْدَ الْمُزَاحَمَةِ، لِأَنَّ الْعَيْنَ الْوَاحِدَةَ تَضِيقُ عَنْ الْحَقَّيْنِ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ.

وَلَمَّا ثَبَتَ هَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ:

ص: 352

وَلَمْ يَذْكُرْ اخْتِلَافَ الرِّوَايَةِ. لِأَبِي يُوسُفَ رحمه الله أَنَّ حَقَّ الْقِصَاصِ ثَبَتَ فِي الْعَبْدِ عَلَى سَبِيلِ الشُّيُوعِ، لِأَنَّ مِلْكَ الْمَوْلَى لَا يَمْنَعُ اسْتِحْقَاقَ الْقِصَاصِ لَهُ فَإِذَا عَفَا أَحَدُهُمَا انْقَلَبَ نَصِيبُ الْآخَرِ وَهُوَ النِّصْفُ مَالًا، غَيْرَ أَنَّهُ شَائِعٌ فِي الْكُلِّ فَيَكُونُ نِصْفُهُ فِي نَصِيبِهِ وَالنِّصْفُ فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ، فَمَا يَكُونُ فِي نَصِيبِهِ سَقَطَ ضَرُورَةَ أَنَّ الْمَوْلَى لَا يَسْتَوْجِبُ عَلَى عَبْدِهِ مَالًا، وَمَا كَانَ فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ بَقِيَ وَنِصْفُ النِّصْفِ هُوَ الرُّبْعُ فَلِهَذَا يُقَالُ: ادْفَعْ نِصْفَ نَصِيبِك أَوْ افْتَدَاهُ بِرُبْعِ الدِّيَةِ. وَلَهُمَا أَنَّ مَا يَجِبُ مِنْ الْمَالِ يَكُونُ حَقَّ الْمَقْتُولِ لِأَنَّهُ بَدَلُ دَمِهِ، وَلِهَذَا تُقْضَى مِنْهُ دُيُونُهُ وَتُنَفَّذُ بِهِ وَصَايَاهُ، ثُمَّ الْوَرَثَةُ يَخْلُفُونَهُ فِيهِ عِنْدَ الْفَرَاغِ مِنْ حَاجَتِهِ وَالْمَوْلَى لَا يَسْتَوْجِبُ عَلَى عَبْدِهِ دَيْنًا فَلَا تَخْلُفُهُ الْوَرَثَةُ فِيهِ.

ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْعَبْدِ الْمَدْفُوعِ لِوَلِيِّ الْخَطَإِ. وَرُبْعُهُ لِلسَّاكِتِ مِنْ وَلِيِّ الْعَمْدِ. لِأَنَّ حَقَّ وَلِيِّ الْعَمْدِ كَانَ فِي جَمِيعِ الرَّقَبَةِ، فَإِذَا عَفَا أَحَدُهُمَا بَطَلَ حَقُّهُ وَفَرَغَ النِّصْفُ فَيَتَعَلَّقُ حَقُّ وَلِيِّ الْخَطَإِ بِهَذَا النِّصْفِ بِلَا مُنَازَعَةٍ، بَقِيَ النِّصْفُ الْآخَرُ وَاسْتَوَتْ مُنَازَعَةُ وَلِيِّ الْخَطَإِ وَالسَّاكِتِ مِنْ وَلِيِّ الْعَمْدِ فِي هَذَا النِّصْفِ فَصَارَ هَذَا النِّصْفُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، فَكَانَتْ الْقِسْمَةُ بَيْنَهُمَا بِطَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ أَرْبَاعًا كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الْفُضُولِيَّيْنِ.

وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّ أَصْلَ حَقِّهِمَا لَيْسَ فِي عَيْنِ الْعَبْدِ بَلْ فِي الْأَرْشِ الَّذِي هُوَ بَدَلُ الْمُتْلَفِ، وَالْقِسْمَةُ فِي غَيْرِ الْعَيْنِ تَكُونُ بِطَرِيقِ الْعَوْلِ وَالْمُضَارَبَةِ، وَهَذَا لِأَنَّ حَقَّ وَلِيِّ الْخَطَإِ فِي عَشْرَةٍ وَحَقَّ شَرِيكِ الْعَافِي فِي خَمْسَةٍ فَيَضْرِبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِحِصَّةٍ، كَرَجُلٍ عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ أَلْفٌ لِرَجُلٍ وَأَلْفَانِ لِآخَرَ مَاتَ الْمَدْيُونُ وَتَرَكَ أَلْفًا كَانَتْ التَّرِكَةُ بَيْنَ صَاحِبَيْ الدَّيْنِ أَثْلَاثًا بِطَرِيقِ الْعَوْلِ وَالْمُضَارَبَةِ ثُلُثَاهَا لِصَاحِبِ الْأَلْفَيْنِ وَثُلُثُهَا لِصَاحِبِ الْأَلْفِ، فَكَذَا هَاهُنَا بِخِلَافِ بَيْعِ الْفُضُولِيِّ، لِأَنَّ

ص: 353

(فَصْلٌ).

(وَمَنْ قَتَلَ عَبْدًا خَطَأً فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ لَا تُزَادُ عَلَى عَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ، فَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ أَوْ أَكْثَرَ قَضَى لَهُ بِعَشَرَةِ آلَافٍ إلَّا عَشَرَةً، وَفِي الْأَمَةِ إذَا زَادَتْ قِيمَتُهَا عَلَى الدِّيَةِ خَمْسَةُ آلَافٍ إلَّا عَشَرَةً) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَالشَّافِعِيُّ: تَجِبُ قِيمَتُهُ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ، وَلَوْ غَصَبَ عَبْدًا قِيمَتُهُ عِشْرُونَ أَلْفًا فَهَلَكَ فِي يَدِهِ تَجِبُ قِيمَتُهُ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ بِالْإِجْمَاعِ. لَهُمَا أَنَّ الضَّمَانَ بَدَلُ الْمَالِيَّةِ وَلِهَذَا يَجِبُ لِلْمَوْلَى وَهُوَ لَا يَمْلِكُ الْعَبْدَ إلَّا مِنْ حَيْثُ الْمَالِيَّةُ، وَلَوْ قَتَلَ الْعَبْدُ الْمَبِيعَ قَبْلَ الْقَبْضِ يَبْقَى الْعَقْدُ وَبَقَاؤُهُ بِبَقَاءِ الْمَالِيَّةِ أَصْلًا أَوْ بَدَلًا وَصَارَ كَقَلِيلِ الْقِيمَةِ وَكَالْغَصْبِ.

الْمِلْكَ يَثْبُتُ لِلْمُشْتَرِي فِي الْعَيْنِ ابْتِدَاءً، إلَى هُنَا أَشَارَ الْإِمَامُ قَاضِي خَانْ وَالْمَحْبُوبِيُّ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ. وَاقْتَفَى أَثَرَهُ فِي هَذَا الشَّرْحِ وَالْبَيَانِ صَاحِبَا الْعِنَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ. أَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ الْمُصَنِّفَ صَرَّحَ فِي أَوَائِلِ هَذَا الْبَابِ بِأَنَّ الْوَاجِبَ الْأَصْلِيَّ فِي جِنَايَةِ الْمَمْلُوكِ هُوَ الدَّفْعُ وَلِهَذَا يَسْقُطُ الْمُوجِبَ بِمَوْتِ الْعَبْدِ لِفَوَاتِ مَحَلِّ الْوَاجِبِ وَإِنْ كَانَ لِلْمَوْلَى حَقُّ النَّقْلِ إلَى الْفِدَاءِ كَمَا فِي مَالِ الزَّكَاةِ، وَصَرَّحَ بِهِ أَيْضًا عَامَّةُ الْفُقَهَاءِ فِي كُتُبِهِمْ فَمَا مَعْنَى بِنَاءِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى أَنَّ أَصْلَ حَقِّهِمَا لَيْسَ فِي عَيْنِ الْعَبْدِ بَلْ فِي الْأَرْشِ، وَهَلَّا يَقْتَضِي هَذَا أَنْ يَكُونَ الْوَاجِبُ الْأَصْلِيُّ فِي جِنَايَةِ الْمَمْلُوكِ هُوَ الْفِدَاءُ دُونَ دَفْعِ عَيْنِ الْعَبْدِ. ثُمَّ إنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ فِي بَيَانِ طَرِيقَةِ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله هَاهُنَا لِأَنَّ الْحَقَّ تَعَلَّقَ بِالرَّقَبَةِ يَنْبُو عَمَّا ذَكَرَهُ هَؤُلَاءِ الشُّرَّاحِ فِي تَعْلِيلِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى ذِي فِطْرَةٍ سَلِيمَةٍ. .

لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ أَحْكَامِ جِنَايَةِ الْعَبْدِ شَرَعَ فِي بَيَانِ أَحْكَامِ الْجِنَايَةِ عَلَى الْعَبْدِ، وَقَدَّمَ الْأَوْلَى تَرْجِيحًا لِجَانِبِ الْفَاعِلِيَّةِ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ وَهُوَ حَقُّ الْأَدَاءِ. وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ وَغَايَةِ الْبَيَانِ: إنَّمَا قَدَّمَ جِنَايَةَ الْعَبِيدِ عَلَى الْجِنَايَةِ عَلَيْهِمْ لِأَنَّ الْفَاعِلَ قَبْلَ الْمَفْعُولِ وُجُودًا فَكَذَا تَرْتِيبًا، أَقُولُ: فِيهِ بَحْثٌ، لِأَنَّهُ إنْ أُرِيدَ أَنَّ ذَاتَ الْفَاعِلِ قَبْلَ ذَاتِ الْمَفْعُولِ وُجُودًا فَهُوَ مَمْنُوعٌ، إذْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وُجُودُ ذَاتِ الْمَفْعُولِ قَبْلَ وُجُودِ ذَاتِ الْفَاعِلِ مُدَّةً طَوِيلَةً، مَثَلًا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عُمْرُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ سَبْعِينَ سَنَةً أَوْ أَكْثَرَ وَعُمْرُ الْجَانِي عِشْرِينَ سَنَةً أَوْ أَقَلَّ، وَإِنْ أُرِيدَ أَنَّ فَاعِلِيَّةَ الْفَاعِلِ قَبْلَ مَفْعُولِيَّةِ الْمَفْعُولِ وُجُودًا فَهُوَ أَيْضًا مَمْنُوعٌ فَإِنَّ الْمَفْعُولِيَّةَ وَالْفَاعِلِيَّةَ تُوجَدَانِ مَعًا فِي آنٍ وَاحِدٍ وَهُوَ آنُ تَعَلُّقِ الْفِعْلِ الْمُتَعَدِّي بِالْمَفْعُولِ بِوُقُوعِهِ عَلَيْهِ، إذْ قَبْلَ ذَلِكَ لَا يَتَّصِفُ الْفَاعِلُ بِالْفَاعِلِيَّةِ وَلَا الْمَفْعُولُ بِالْمَفْعُولِيَّةِ، وَكُلُّ

ص: 354

وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ قَوْله تَعَالَى {وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} أَوْجَبَهَا مُطْلَقًا، وَهِيَ اسْمٌ لِلْوَاجِبِ بِمُقَابَلَةِ الْآدَمِيَّةِ، وَلِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى الْآدَمِيَّةِ حَتَّى كَانَ مُكَلَّفًا، وَفِيهِ مَعْنَى الْمَالِيَّةِ، وَالْآدَمِيَّةُ أَعْلَاهُمَا فَيَجِبُ اعْتِبَارُهَا بِإِهْدَارِ الْأَدْنَى عِنْدَ تَعَذُّرِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا وَضَمَانُ الْغَصْبِ بِمُقَابَلَةِ الْمَالِيَّةِ، إذْ الْغَصْبُ لَا يُرَدُّ إلَّا عَلَى الْمَالِ، وَبَقَاءُ الْعَقْدِ يَتْبَعُ الْفَائِدَةَ حَتَّى يَبْقَى بَعْدَ قَتْلِهِ عَمْدًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْقِصَاصُ بَدَلًا عَنْ الْمَالِيَّةِ فَكَذَلِكَ أَمْرُ الدِّيَةِ، وَفِي قَلِيلِ الْقِيمَةِ الْوَاجِبِ بِمُقَابَلَةِ الْآدَمِيَّةِ إلَّا أَنَّهُ لَا سَمْعَ فِيهِ فَقَدَّرْنَاهُ بِقِيمَتِهِ رَأْيًا، بِخِلَافِ كَثِيرِ الْقِيمَةِ لِأَنَّ قِيمَةَ الْحُرِّ

ذَلِكَ غَيْرُ خَافٍ عَلَى الْفَطِنِ الْعَارِفِ بِالْقَوَاعِدِ.

(قَوْلُهُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ قَوْله تَعَالَى {وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} أَوْجَبَهَا مُطْلَقًا وَهِيَ اسْمٌ لِلْوَاجِبِ بِمُقَابَلَةِ الْآدَمِيَّةِ) وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ الدِّيَةَ مُطْلَقًا فِيمَنْ قَتَلَ خَطَأً حُرًّا كَانَ أَوْ عَبْدًا. وَالدِّيَةُ اسْمٌ لِلْوَاجِبِ بِمُقَابَلَةِ الْآدَمِيَّةِ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ وَغَيْرِهَا. أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَوْ كَانَ الْوَاجِبُ فِيمَنْ قَتَلَ الْعَبْدَ أَيْضًا خَطَأً هُوَ الدِّيَةُ الَّتِي تَكُونُ وَاجِبَةً بِمُقَابَلَةِ الْآدَمِيَّةِ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا تَتَفَاوَتَ دِيَاتُ الْعَبِيدِ فِي الْمِقْدَارِ لِتَسَاوِيهِمْ فِي الْآدَمِيَّةِ، كَمَا لَا تَتَفَاوَتُ دِيَاتُ الْأَحْرَارِ فِي الْقِيمَةِ لِتَسَاوِيهِمْ فِي ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ أَشْرَفَ مِنْ بَعْضٍ بِوُجُوهٍ شَتَّى، مَعَ أَنَّ دِيَاتِ الْعَبِيدِ تَتَفَاوَتُ فِي الْمِقْدَارِ بِحَسَبِ تَفَاوُتِ قِيمَتِهِمْ كَمَا هُوَ الْمَذْهَبُ فَتَأَمَّلْ.

(قَوْلُهُ وَلِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى الْآدَمِيَّةِ حَتَّى كَانَ مُكَلَّفًا وَفِيهِ مَعْنَى الْمَالِيَّةِ، وَالْآدَمِيَّةُ أَعْلَاهُمَا فَيَجِبُ اعْتِبَارُهَا بِإِهْدَارِ الْأَدْنَى عِنْدَ تَعَذُّرِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَحَلِّ: وَلِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى الْآدَمِيَّةِ حَتَّى كَانَ مُكَلَّفًا بِلَا خِلَافٍ، وَفِيهِ مَعْنَى الْمَالِيَّةِ حَتَّى وَرَدَ عَلَيْهِ الْمِلْكُ بِلَا خِلَافٍ وَالْآدَمِيَّةُ أَعْلَاهُمَا لَا مَحَالَةَ فَيَجِبُ اعْتِبَارُهَا بِإِهْدَارِ الْأَدْنَى عِنْدَ تَعَذُّرِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا إذْ الْعَكْسُ يُفْضِي إلَى إهْدَارِهِمَا جَمِيعًا، لِأَنَّ الْآدَمِيَّةَ أَصْلٌ لِقِيَامِ الْمَالِيَّةِ بِهَا، وَفِي إهْدَارِ الْأَصْلِ إهْدَارُ التَّابِعِ، وَإِهْدَارُ أَحَدِهِمَا أَوْلَى مِنْ إهْدَارِهِمَا انْتَهَى، وَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ بِأَنَّهُ مَنْقُوضٌ بِصُورَةِ الْغَصْبِ فَإِنَّ فِيهَا إهْدَارَ الْأَصْلِ دُونَ التَّابِعِ انْتَهَى. أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا بِوَارِدٍ، فَإِنَّ إهْدَارَ أَحَدِهِمَا إنَّمَا يُتَصَوَّرُ فِيمَا إذَا وُجِدَ إتْلَافُهُمَا مَعًا فَاعْتُبِرَ أَحَدُهُمَا وَأُهْدِرَ الْآخَرُ بِأَنْ يُعْطَى لِإِتْلَافِ أَحَدِهِمَا حُكْمٌ شَرْعِيٌّ دُونَ إتْلَافِ الْآخَرِ كَمَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ، فَإِنَّ فِي قَتْلِ الْعَبْدِ إتْلَافَ آدَمِيَّةٍ وَمَالِيَّةٍ مَعًا، بِخِلَافِ الْغَصْبِ إذْ لَيْسَ فِيهِ إتْلَافُ الْآدَمِيَّةِ أَصْلًا، وَإِنَّمَا الْحَاصِلُ بِهِ إتْلَافُ الْمَالِيَّةِ بِإِزَالَةِ الْيَدِ الْمُحِقَّةِ عَنْهُ وَإِثْبَاتِ الْيَدِ الْمُبْطِلَةِ فِيهِ، كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ وَضَمَانُ الْغَصْبِ بِمُقَابَلَةِ الْمَالِيَّةِ، إذْ الْغَصْبُ لَا يُرَدُّ إلَّا عَلَى الْمَالِ، فَحَيْثُ لَمْ يُوجَدْ فِيهِ إتْلَافُ الْآدَمِيَّةِ لَمْ يَلْزَمْ فِيهِ إهْدَارُ الْأَصْلِ الَّذِي هُوَ الْآدَمِيَّةُ، فَإِنَّ مَعْنَى إهْدَارِهِ أَنْ لَا يُعْطَى لِإِتْلَافِهِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ إتْلَافُهُ لَمْ يُتَصَوَّرْ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ فَمِنْ أَيْنَ يَلْزَمُ إهْدَارُهُ تَفَكَّرْ.

(قَوْلُهُ وَفِي قَلِيلِ الْقِيمَةِ الْوَاجِبِ بِمُقَابَلَةِ الْآدَمِيَّةِ إلَّا أَنَّهُ لَا سَمْعَ فِيهِ فَقَدَّرْنَاهُ بِقِيمَتِهِ رَأْيًا) أَقُولُ: فِيهِ إشْكَالٌ، إذْ قَدْ تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ وَشَاعَ فِي عِلْمِ الْفُرُوعِ أَيْضًا

ص: 355

مُقَدَّرَةٌ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ وَنَقَصْنَا مِنْهَا فِي الْعَبْدِ إظْهَارًا لِانْحِطَاطِ رُتْبَتِهِ، وَتَعْيِينُ الْعَشَرَةِ بِأَثَرِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما. قَالَ (وَفِي يَدِ الْعَبْدِ نِصْفُ قِيمَتِهِ لَا يُزَادُ عَلَى خَمْسَةِ آلَافٍ إلَّا خَمْسَةً) لِأَنَّ الْيَدَ مِنْ الْآدَمِيِّ نِصْفُهُ فَتُعْتَبَرُ بِكُلِّهِ، وَيَنْقُصُ هَذَا الْمِقْدَارُ إظْهَارًا لِانْحِطَاطِ رُتْبَتِهِ، وَكُلُّ مَا يُقَدَّرُ مِنْ دِيَةِ الْحُرِّ فَهُوَ مُقَدَّرٌ مِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ لِأَنَّ الْقِيمَةَ فِي الْعَبْدِ كَالدِّيَةِ فِي الْحُرِّ إذْ هُوَ بَدَلُ الدَّمِ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ، وَإِنْ غَصَبَ أَمَةً قِيمَتُهَا عِشْرُونَ أَلْفًا فَمَاتَتْ فِي يَدِهِ فَعَلَيْهِ تَمَامُ قِيمَتِهَا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ ضَمَانَ الْغَصْبِ ضَمَانُ الْمَالِيَّةِ.

قَالَ (وَمَنْ قَطَعَ يَدَ عَبْدٍ فَأَعْتَقَهُ الْمَوْلَى ثُمَّ مَاتَ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ لَهُ وَرَثَةٌ غَيْرُ الْمَوْلَى فَلَا قِصَاصَ فِيهِ وَإِلَّا اُقْتُصَّ مِنْهُ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا قِصَاصَ فِي ذَلِكَ، وَعَلَى الْقَاطِعِ أَرْشُ الْيَدِ، وَمَا نَقَصَهُ ذَلِكَ إلَى أَنْ يَعْتِقَهُ وَيَبْطُلُ الْفَضْلُ) وَإِنَّمَا لَمْ يَجِبْ الْقِصَاصُ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ لِاشْتِبَاهِ مَنْ لَهُ الْحَقُّ،

أَنَّ الرَّأْيَ وَالْقِيَاسَ لَا يَجْرِيَانِ فِي الْمَقَادِيرِ، بَلْ إنَّمَا تُعْرَفُ الْمَقَادِيرُ بِالسَّمْعِ فَكَيْفَ يَجُوزُ التَّقْدِيرُ بِالْقِيمَةِ هُنَا بِالرَّأْيِ مِنْ غَيْرِ سَمْعٍ؟ وَأَيْضًا أَنَّ الْعَبِيدَ لَا يَتَفَاوَتُونَ فِي نَفْسِ الْآدَمِيَّةِ لَا مَحَالَةَ، وَعَنْ هَذَا لَا يَتَفَاوَتُونَ فِي شَيْءٍ مِنْ تَكَالِيفِ الشَّرْعِ الْمُتَوَجِّهَةِ عَلَيْهِمْ مِنْ حَيْثُ الْآدَمِيَّةُ، كَالتَّكْلِيفِ بِالْإِيمَانِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ شَرَائِعِ الْمُعَامَلَاتِ وَالْعُقُوبَاتِ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ، فَكَيْفَ يَتِمُّ تَقْدِيرُ الْوَاجِبِ عَلَيْهِمْ بِمُقَابَلَةِ الْآدَمِيَّةِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ بِقِيمَتِهِمْ وَهُمْ مُتَفَاوِتُونَ فِي الْقِيَمِ.

(قَوْلُهُ: وَإِنْ غَصَبَ أَمَةً قِيمَتُهَا عِشْرُونَ أَلْفًا فَمَاتَتْ فِي يَدِهِ فَعَلَيْهِ تَمَامُ قِيمَتِهَا) أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: ذَكَرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مَرَّةً فِيمَا قَبْلُ حَيْثُ قَالَ: وَلَوْ غَصَبَ عَبْدًا قِيمَتُهُ عِشْرُونَ أَلْفًا وَهَلَكَ فِي يَدِهِ يَجِبُ قِيمَتُهُ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ بِالْإِجْمَاعِ فَمَا وَجْهُ الْإِعَادَةِ هُنَا، وَتَكْرَارُ مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ فِي مَوْضِعٍ قَرِيبٍ لَيْسَ مِنْ دَأْبِ الْمُصَنِّفِينَ كَمَا لَا يَخْفَى. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: أَصْلُ الْمَسْأَلَةِ مَا ذَكَرَ هُنَا فَإِنَّهُ الْمَذْكُورُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَالْبِدَايَةِ، وَاَلَّذِي ذَكَرَ فِيمَا قَبْلُ إنَّمَا هُوَ بِطَرِيقِ الِاسْتِطْرَادِ فَرْقًا بَيْنَ مَسْأَلَةِ قَتْلِ الْعَبْدِ خَطَأً وَبَيْنَ مَسْأَلَةِ غَصْبِهِ فِي الْحُكْمِ، حَيْثُ يَجِبُ فِي الْأُولَى أَقَلُّ مِنْ عَشْرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ إذَا زَادَتْ قِيمَتُهُ عَلَى دِيَةِ الْحُرِّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ وَالشَّافِعِيِّ، وَيَجِبُ فِي الثَّانِيَةِ قِيمَتُهُ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ بِالْإِجْمَاعِ وَجَمْعًا لِدَلِيلَيْ تَيْنِكَ الْمَسْأَلَتَيْنِ فِي الْبَيَانِ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ.

(قَوْلُهُ وَإِنَّمَا لَمْ يَجِبْ الْقِصَاصُ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ لِاشْتِبَاهِ مَنْ لَهُ الْحَقُّ،

ص: 356

لِأَنَّ الْقِصَاصَ يَجِبُ عِنْدَ الْمَوْتِ مُسْتَنِدًا إلَى وَقْتِ الْجُرْحِ، فَعَلَى اعْتِبَارِ حَالَةِ الْجُرْحِ يَكُونُ الْحَقُّ لِلْمَوْلَى، وَعَلَى اعْتِبَارِ الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ يَكُونُ لِلْوَرَثَةِ فَتَحَقَّقَ الِاشْتِبَاهُ وَتَعَذَّرَ الِاسْتِيفَاءُ فَلَا يَجِبُ عَلَى وَجْهٍ يُسْتَوْفَى وَفِيهِ الْكَلَامُ، وَاجْتِمَاعُهُمَا لَا يُزِيلُ الِاشْتِبَاهَ لِأَنَّ الْمُلْكَيْنِ فِي الْحَالَيْنِ، بِخِلَافِ الْعَبْدِ الْمُوصَى بِخِدْمَتِهِ لِرَجُلٍ وَبِرَقَبَتِهِ لِآخَرَ إذَا قُتِلَ، لِأَنَّ مَا لِكُلٍّ مِنْهُمَا مِنْ الْحَقِّ ثَابِتٌ مِنْ وَقْتِ الْجُرْحِ إلَى وَقْتِ الْمَوْتِ، فَإِذَا اجْتَمَعَا زَالَ الِاشْتِبَاهُ.

وَلِمُحَمَّدٍ فِي الْخِلَافِيَّةِ وَهُوَ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْعَبْدِ وَرَثَةٌ سِوَى الْمَوْلَى أَنَّ سَبَبَ الْوِلَايَةِ قَدْ اخْتَلَفَ لِأَنَّهُ الْمِلْكُ عَلَى اعْتِبَارِ إحْدَى الْحَالَتَيْنِ وَالْوِرَاثَةُ بِالْوَلَاءِ عَلَى اعْتِبَارِ الْأُخْرَى، فَنُزِّلَ مَنْزِلَةَ اخْتِلَافِ الْمُسْتَحَقِّ فِيمَا يُحْتَاطُ فِيهِ

لِأَنَّ الْقِصَاصَ يَجِبُ عِنْدَ الْمَوْتِ مُسْتَنِدًا إلَى وَقْتِ الْجُرْحِ، فَعَلَى اعْتِبَارِ حَالَةِ الْجُرْحِ يَكُونُ الْحَقُّ لِلْمَوْلَى، وَعَلَى اعْتِبَارِ الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ يَكُونُ لِلْوَرَثَةِ فَتَحَقَّقَ الِاشْتِبَاهُ إلَخْ) وَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِأَنَّهُ مَا مَعْنَى هَذَا التَّرَدُّدِ وَقَدْ صَرَّحُوا فِيمَا لَوْ ضَرَبَ الْأَمَةَ الْحَامِلَةَ فَأَعْتَقَ الْمَوْلَى الْأَمَةَ ثُمَّ أَلْقَتْهُ حَيًّا فَمَاتَ الْوَلَدُ بِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ حَالَةُ الضَّرْبِ حَتَّى تَجِبَ الْقِيمَةُ لَا الدِّيَةُ اهـ.

أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ، إذْ قَدْ صَرَّحُوا فِي بَيَانِ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ بِأَنَّا اعْتَبَرْنَا حَالَتَيْ الضَّرْبِ وَالتَّلَفِ مَعًا، فَأَوْجَبْنَا الْقِيمَةَ دُونَ الدِّيَةِ اعْتِبَارًا لِحَالَةِ الضَّرْبِ، وَأَوْجَبْنَا قِيمَتَهُ حَيًّا اعْتِبَارًا لِحَالَةِ التَّلَفِ، وَقَدْ مَرَّ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ وَشُرُوحِهِ مُفَصَّلًا فِي أَوَاخِرِ فَصْلِ الْجَنِينِ فَكَأَنَّ ذَلِكَ الْبَعْضَ حَفِظَ بَعْضَ مَا ذُكِرَ هُنَاكَ وَنَسِيَ بَعْضَهُ فَزَعَمَ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُنَاكَ حَالَةُ الضَّرْبِ فَقَطْ.

(قَوْلُهُ وَفِيهِ الْكَلَامُ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: أَيْ الْكَلَامُ فِيمَا إذَا كَانَ لِلْعَبْدِ وَرَثَةٌ سِوَى الْمَوْلَى. وَقَالَ: وَوَصَلَ شَيْخِي بِخَطِّهِ الضَّمِيرَ فِي وَفِيهِ إلَى وَتَعَذَّرَ الِاسْتِيفَاءُ لَكِنْ مَآلُ ذَلِكَ إلَى مَا قُلْنَا اهـ.

وَقَالَ صَاحِبُ الْكِفَايَةِ: قَوْلُهُ وَفِيهِ الْكَلَامُ: أَيْ فِي وُجُوبِهِ عَلَى وَجْهٍ يُسْتَوْفَى، وَلَا كَلَامَ فِي أَصْلِ الْوُجُوبِ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ لِإِفَادَةِ الِاسْتِيفَاءِ، فَإِذَا فَاتَ الْمَطْلُوبُ مِنْهُ سَقَطَ اعْتِبَارُهُ اهـ.

وَقَالَ صَاحِبُ الْغَايَةِ: قَوْلُهُ وَفِيهِ الْكَلَامُ: أَيْ كَلَامُنَا فِي تَحَقُّقِ اشْتِبَاهِ مَنْ لَهُ حَقُّ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ: يَعْنِي أَنَّ تَعَذُّرَ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ لِتَحَقُّقِ اشْتِبَاهِ مَنْ لَهُ الِاسْتِيفَاءُ وَقَدْ تَحَقَّقَ الِاشْتِبَاهُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ فَيَتَعَذَّرُ الِاسْتِيفَاءُ اهـ.

وَاخْتَارَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ مِنْ بَيْنِ تِلْكَ الْأَقْوَالِ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ حَيْثُ قَالَ: قَوْلُهُ وَفِيهِ الْكَلَامُ: أَيْ وَفِيمَا إذَا كَانَ لَهُ وَرَثَةٌ غَيْرُ الْمَوْلَى، وَنَقَلَ سَائِرَ الْأَقْوَالِ بِقَوْلِهِ وَقِيلَ وَقِيلَ وَقِيلَ. أَقُولُ: مَا ذَهَبَ إلَيْهِ صَاحِبُ النِّهَايَةِ فِي تَفْسِيرِ مُرَادِ الْمُصَنِّفِ هُنَا وَاخْتَارَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ لَيْسَ بِشَيْءٍ عِنْدِي، لِأَنَّ الْمُصَنِّفَ بَعْدَ أَنْ قَالَ فِيمَا قَبْلُ وَإِنَّمَا لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ مَرِيدًا بِهِ مَا إذَا كَانَ لَهُ وَرَثَةٌ غَيْرُ الْمَوْلَى كَمَا صَرَّحَ بِهِ الشُّرَّاحُ قَاطِبَةً كَيْفَ يَحْتَاجُ هُنَا إلَى أَنْ يَقُولَ وَالْكَلَامُ فِيمَا إذَا كَانَ لَهُ وَرَثَةٌ غَيْرُ الْمَوْلَى، وَهَلَّا يَكُونُ هَذَا لَغْوًا مِنْ الْكَلَامِ كَمَا يَشْهَدُ بِهِ الْفِطْرَةُ السَّلِيمَةُ. وَأَمَّا مَا ذَهَبَ إلَيْهِ شَيْخُ صَاحِبِ النِّهَايَةِ وَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ صَاحِبُ الْغَايَةِ فَلَا يَخْلُو كُلٌّ مِنْهُمَا عَنْ الرَّكَاكَةِ، بَلْ عَنْ اللُّغَوِيَّةِ أَيْضًا كَمَا يُدْرِكُهُ الذَّوْقُ الصَّحِيحُ. وَإِنَّمَا الْحَقُّ الصَّرِيحُ هُنَا مَا ذَهَبَ إلَيْهِ صَاحِبُ الْكِفَايَةِ، إذْ يَنْتَظِمُ الْمَعْنَى حِينَئِذٍ جِدًّا وَيَتَعَلَّقُ الْكَلَامُ بِقَرِيبِهِ الْمُتَّصِلِ بِهِ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ كَمَا تَرَى.

(قَوْلُهُ فَنُزِّلَ مَنْزِلَةَ اخْتِلَافِ الْمُسْتَحِقِّ فِيمَا يُحْتَاطُ فِيهِ) قَالَ جُمْهُورُ الشُّرَّاحِ فِي تَفْسِيرِ مَا يُحْتَاطُ فِيهِ: أَيْ الَّذِي

ص: 357

كَمَا إذَا قَالَ لِآخَرَ بِعْتنِي هَذِهِ الْجَارِيَةَ بِكَذَا فَقَالَ الْمَوْلَى زَوَّجْتهَا مِنْك لَا يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا وَلِأَنَّ الْإِعْتَاقَ قَاطِعٌ لِلسَّرَايَةِ، وَبِانْقِطَاعِهَا يَبْقَى الْجُرْحُ بِلَا سِرَايَةٍ وَالسِّرَايَةُ بِلَا قَطْعٍ فَيَمْتَنِعُ الْقِصَاصُ. وَلَهُمَا أَنَّا تَيَقَّنَّا بِثُبُوتِ الْوِلَايَةِ لِلْمَوْلَى فَيَسْتَوْفِيَا

لَا يَثْبُتُ بِالشُّبُهَاتِ، وَقَالُوا: فَإِنَّهُ يُحْتَرَزُ بِهَذَا عَمَّنْ قَالَ لِآخَرَ لَك عَلَيَّ أَلْفٌ مِنْ قَرْضٍ فَقَالَ الْمُقَرُّ لَهُ بَلْ مِنْ ثَمَنِ مَبِيعٍ فَإِنَّهُ يَقْضِي بِالْمَالِ وَإِنْ اخْتَلَفَ السَّبَبُ، لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ الْأَمْوَالِ وَالْأَمْوَالُ مِمَّا يَقَعُ فِيهَا الْبَدَلُ وَالْإِبَاحَةُ فَلَا يُبَالِي بِاخْتِلَافِ السَّبَبِ اهـ.

وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ نَقْلِ هَذَا عَنْ الشُّرُوحِ: فِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ الِاحْتِرَازَ بِاَلَّذِي لَا يَثْبُتُ بِالشُّبُهَاتِ إنَّمَا يَكُونُ عَمَّا يَثْبُتُ بِالشُّبُهَاتِ وَالْأَمْوَالُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ اهـ.

أَقُولُ: هَذَا النَّظَرُ سَاقِطٌ جِدًّا، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ الْأَمْوَالَ مِمَّا يَثْبُتُ بِالشُّبُهَاتِ؛ أَلَا يَرَى إلَى مَا صَرَّحُوا بِهِ فِي كِتَابِ الشَّهَادَةِ مِنْ أَنَّ فِي شَهَادَةِ النِّسَاءِ شُبْهَةَ الْبَدَلِيَّةِ لِقِيَامِهَا مَقَامَ شَهَادَةِ الرِّجَالِ فَلَا تُقْبَلُ فِيمَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ مِنْ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ وَتُقْبَلُ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ الْحُقُوقِ مَالًا كَانَتْ أَوْ غَيْرَ مَالٍ. ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَالْأَوْلَى أَنْ يُفَسِّرَ مَا يُحْتَاطُ فِيهِ بِالدِّمَاءِ وَالْفُرُوجِ، فَإِنَّهُ اسْتَشْهَدَ بَعْدَهُ بِحِلِّ الْوَطْءِ وَهُوَ مِمَّا يَثْبُتُ بِالشُّبُهَاتِ اهـ.

أَقُولُ: فِيهِ خَلَلٌ أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ الْمُصَنِّفَ مَا اسْتَشْهَدَ بَعْدَهُ بِحِلِّ الْوَطْءِ وَإِنَّمَا اسْتَشْهَدَ بِعَدَمِ حِلِّهِ كَمَا تَرَى. وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ حِلَّ الْوَطْءِ لَيْسَ مِمَّا يَثْبُتُ بِالشُّبُهَاتِ قَطْعًا. نَعَمْ لَا يَجِبُ الْحَدُّ بِالْوَطْءِ بِشُبْهَةِ الْمِلْكِ أَوْ بِشُبْهَةِ الْمَحَلِّ، لَكِنْ لَا يَحِلُّ الْوَطْءُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ كَمَا عُرِفَ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ. فَإِنَّ وَجْهَ الْخَلَلِ الْأَوَّلِ بِتَقْدِيرِ الْمُضَافِ بِأَنْ يَكُونَ الْأَصْلُ بِعَدَمِ حِلِّ الْوَطْءِ يَبْقَى الْخَلَلُ الثَّانِي بِلَا تَحَمُّلِ تَوْجِيهٍ. ثُمَّ إنَّ بَعْضَ الْفُضَلَاءِ قَالَ فِي نَقْلِ عِبَارَةِ الْعِنَايَةِ: وَهُوَ مَا يَثْبُتُ بِالشُّبُهَاتِ بَدَلٌ وَهُوَ مِمَّا يَثْبُتُ بِالشُّبُهَاتِ، وَقَالَ لَفْظَةُ " مَا " نَافِيَةٌ. أَقُولُ: نُسَخُ الْعِنَايَةِ الَّتِي رَأَيْنَاهَا لَا تُوَافِقُ مَا ذَكَرَهُ، وَعَلَى فَرْضِ صِحَّةِ ذَلِكَ لَا يَرْتَفِعُ الْإِشْكَالُ عَنْ كَلَامِ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ هُنَا، لِأَنَّهُ لَمَّا فَسَّرَ مَا يُحْتَاطُ فِيهِ بِالدِّمَاءِ وَالْفُرُوجِ لَزِمَ أَنْ يَحْتَرِزَ بِهِ عَنْ الْأَمْوَالِ بِالضَّرُورَةِ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ الدِّمَاءِ وَلَا مِنْ الْفُرُوجِ، فَإِنْ كَانَ عِبَارَةُ الْعِنَايَةِ فَإِنَّهُ اسْتَشْهَدَ بَعْدَهُ بِحِلِّ الْوَطْءِ وَهُوَ مَا يَثْبُتُ بِالشُّبُهَاتِ وَكَانَ لَفْظَةُ مَا نَافِيَةً لَزِمَ أَنْ يَرِدَ عَلَيْهِ مِثْلُ النَّظَرِ الَّذِي أَوْرَدَهُ عَلَى سَائِرِ الشُّرُوحِ بِأَنْ يُقَالَ: الْأَمْوَالُ أَيْضًا لَا تَثْبُتُ بِالشُّبُهَاتِ عَلَى زَعْمِك فَصَارَتْ كَمَا اسْتَشْهَدَ بِهِ، فَمَا مَعْنَى الِاحْتِرَازِ عَنْهَا بِتَفْسِيرِ مَا يُحْتَاطُ فِيهِ بِالدِّمَاءِ وَالْفُرُوجِ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مَا عَدَّهُ أَوْلَى مُشْتَرَكُ الْإِلْزَامِ تَأَمَّلْ تَفْهَمْ.

(قَوْلُهُ وَلِأَنَّ الْإِعْتَاقَ قَاطِعٌ لِلسِّرَايَةِ، وَبِانْقِطَاعِهَا يَبْقَى الْجُرْحُ بِلَا سِرَايَةٍ وَالسِّرَايَةُ بِلَا قَطْعٍ فَيَمْتَنِعُ الْقِصَاصُ) هَذَا دَلِيلٌ آخَرُ لِمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ يُصَيِّرُ النِّهَايَةَ

ص: 358

وَهَذَا لِأَنَّ الْمَقْضِيَّ لَهُ مَعْلُومٌ وَالْحُكْمُ مُتَّحِدٌ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِالِاسْتِيفَاءِ، بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ، لِأَنَّ الْمَقْضِيَّ لَهُ مَجْهُولٌ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِاخْتِلَافِ السَّبَبِ هَاهُنَا لِأَنَّ الْحُكْمَ لَا يَخْتَلِفُ، بِخِلَافِ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ لِأَنَّ مِلْكَ الْيَمِينِ يُغَايِرُ مِلْكَ النِّكَاحِ حُكْمًا، وَالْإِعْتَاقُ لَا يَقْطَعُ السِّرَايَةَ لِذَاتِهِ بَلْ لِاشْتِبَاهِ مَنْ لَهُ الْحَقُّ، وَذَلِكَ فِي الْخَطَإِ دُونَ الْعَمْدِ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَصْلُحُ مَالِكًا لِلْمَالِ، فَعَلَى اعْتِبَارِ حَالَةِ الْجُرْحِ يَكُونُ الْحَقُّ لِلْمَوْلَى، وَعَلَى اعْتِبَارِ حَالَةِ الْمَوْتِ يَكُونُ لِلْمَيِّتِ لِحُرِّيَّتِهِ فَيُقْضَى مِنْهُ دُيُونُهُ وَيُنَفَّذُ وَصَايَاهُ فَجَاءَ الِاشْتِبَاهُ.

أَمَّا الْعَمْدُ فَمُوجِبُهُ الْقِصَاصُ وَالْعَبْدُ مُبْقًى عَلَى أَصْلِ الْحُرِّيَّةِ فِيهِ، وَعَلَى اعْتِبَارِ أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ لَهُ فَالْمَوْلَى هُوَ الَّذِي يَتَوَلَّاهُ إذْ لَا وَارِثَ لَهُ سِوَاهُ فَلَا اشْتِبَاهَ فِيمَنْ لَهُ الْحَقُّ، وَإِذَا امْتَنَعَ الْقِصَاصُ فِي الْفَصْلَيْنِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ يَجِبُ أَرْشُ الْيَدِ، وَمَا نَقَصَهُ مِنْ وَقْتِ الْجُرْحِ إلَى وَقْتِ الْإِعْتَاقِ كَمَا ذَكَرْنَا لِأَنَّهُ حَصَلَ عَلَى مِلْكِهِ وَيَبْطُلُ الْفَضْلُ، وَعِنْدَهُمَا الْجَوَابُ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ

مُخَالِفَةً لِلْبِدَايَةِ وَذَلِكَ يَمْنَعُ الْقِصَاصَ؛ أَلَا يَرَى أَنَّ مَنْ جَرَحَ عَبْدَ إنْسَانٍ ثُمَّ أَعْتَقَهُ مَوْلَاهُ ثُمَّ مَاتَ الْعَبْدُ مِنْ تِلْكَ الْجِرَاحَةِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ وَلَا الْقِيمَةُ، وَإِنَّمَا يَضْمَنُ النُّقْصَانَ؛ فَإِنْ كَانَ خَطَأً فَبِالِاتِّفَاقِ، وَإِنْ كَانَ عَمْدًا فَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، لِأَنَّ الدَّلِيلَ وَهُوَ مُخَالَفَةُ النِّهَايَةِ لِلْبِدَايَةِ لَا يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا، وَبِانْقِطَاعِهِمَا يَبْقَى الْجُرْحُ بِلَا سِرَايَةٍ وَالسِّرَايَةُ بِلَا قَطْعٍ فَيَمْتَنِعُ الْقِصَاصُ كَأَنَّهُ تَلِفَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ وَكَثِيرٍ مِنْ الشُّرُوحِ. وَقَالَ فِي الْعِنَايَةِ بَعْدَ ذَلِكَ: فَإِنْ قِيلَ: يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ أَرْشُ الْيَدِ لِلْمَوْلَى لِكَوْنِهِ جُرْحًا بِلَا سِرَايَةٍ. أُجِيبَ بِأَنَّهُ لَا يَجِبُ نَظَرًا إلَى حَقِيقَةِ الْجِنَايَةِ وَهُوَ الْقَتْلُ، لِأَنَّهُ إذَا سَرَى تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ الْجِنَايَةَ قَتْلٌ لَا قَطْعٌ اهـ.

أَقُولُ: فِيهِ بَحْثٌ، وَهُوَ أَنَّهُ إنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ فِي السُّؤَالِ يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ أَرْشُ الْيَدِ لِلْمَوْلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ ذَلِكَ فِي مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِ: أَرْشُ الْيَدِ دُونَ أَنْ يَقُولَ أَرْشُ الْجُرْحِ فَلَا وُرُودَ لِلسُّؤَالِ الْمَذْكُورِ أَصْلًا، إذْ يَجِبُ أَرْشُ الْيَدِ لِلْمَوْلَى عِنْدَ مُحَمَّدٍ فِي مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْكِتَابِ، فَلَا مَجَالَ لِلسُّؤَالِ عَلَى دَلِيلِ مُحَمَّدٍ رحمه الله بِأَنَّهُ يَنْبَغِي عَلَى مُقْتَضَاهُ أَنْ يَجِبَ أَرْشُ الْيَدِ لِلْمَوْلَى، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ ذَلِكَ فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي ذَكَرُوهَا هَاهُنَا عَلَى سَبِيلِ التَّنْوِيرِ، وَهِيَ أَنَّ مَنْ جَرَحَ عَبْدَ إنْسَانٍ ثُمَّ أَعْتَقَهُ مَوْلَاهُ ثُمَّ مَاتَ الْعَبْدُ مِنْ تِلْكَ الْجِرَاحَةِ فَلِلسُّؤَالِ الْمَذْكُورِ وُرُودٌ، وَلَكِنَّ الْجَوَابَ عَنْهُ بِمَا ذَكَرَهُ مَنْقُوضٌ بِمَسْأَلَةِ الْكِتَابِ فَإِنَّهُ يَجْرِي فِيهَا أَيْضًا مَعَ أَنَّهُ يَجِبُ فِيهَا أَرْشُ الْيَدِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ كَمَا تَحَقَّقْتُهُ تَدَبَّرْ.

(قَوْلُهُ وَذَلِكَ فِي الْخَطَإِ دُونَ الْعَمْدِ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَصْلُحُ مَالِكًا لِلْمَالِ، فَعَلَى اعْتِبَارِ حَالَةِ الْجُرْحِ يَكُونُ الْحَقُّ لِلْمَوْلَى، وَعَلَى اعْتِبَارِ حَالَةِ الْمَوْتِ يَكُونُ لِلْمَيِّتِ لِحُرِّيَّتِهِ فَجَاءَ الِاشْتِبَاهُ) أَقُولُ: فِي هَذَا الْمَقَامِ ضَرْبٌ مِنْ الْإِشْكَالِ لِأَنَّ الْحَقَّ عَلَى اعْتِبَارِ حَالَةِ الْمَوْتِ وَإِنْ كَانَ لِلْمَيِّتِ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَتَقَرَّرُ عَلَيْهِ بَلْ يَنْتَقِلُ إلَى الْمَوْلَى بِالْوِرَاثَةِ،

ص: 359

كَالْجَوَابِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ فِي الثَّانِي.

قَالَ (وَمَنْ قَالَ لِعَبْدَيْهِ أَحَدُكُمَا حُرٌّ ثُمَّ شُجَّا فَأَوْقَعَ الْعِتْقَ عَلَى أَحَدِهِمَا فَأَرْشُهُمَا لِلْمَوْلَى) لِأَنَّ الْعِتْقَ غَيْرُ نَازِلٍ فِي الْمُعَيَّنِ وَالشَّجَّةُ تُصَادِفُ الْمُعَيَّنَ فَبَقِيَا مَمْلُوكَيْنِ فِي حَقِّ الشَّجَّةِ (وَلَوْ قَتَلَهُمَا رَجُلٌ تَجِبُ دِيَةُ حُرٍّ وَقِيمَةُ عَبْدٍ) وَالْفَرْقُ أَنَّ الْبَيَانَ إنْشَاءٌ مِنْ وَجْهٍ وَإِظْهَارٌ مِنْ وَجْهٍ عَلَى مَا عُرِفَ، وَبَعْدَ الشَّجَّةِ بَقِيَ مَحِلًّا لِلْبَيَانِ فَاعْتُبِرَ إنْشَاءً فِي حَقِّهِمَا، وَبَعْدَ الْمَوْتِ لَمْ يَبْقَ مَحِلًّا لِلْبَيَانِ فَاعْتَبَرْنَاهُ إظْهَارًا مَحْضًا، وَأَحَدُهُمَا حُرٌّ بِيَقِينٍ فَتَجِبُ قِيمَةُ عَبْدٍ وَدِيَةُ حُرٍّ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَتَلَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رَجُلٌ حَيْثُ تَجِبُ قِيمَةُ الْمَمْلُوكِينَ، لِأَنَّا لَمْ نَتَيَقَّنْ بِقَتْلِ

فَكَانَ مَنْ لَهُ الْحَقُّ فِي الْمَالِ عَلَى كِلْتَا الْحَالَتَيْنِ هُوَ الْمَوْلَى فَلَا اشْتِبَاهَ؛ أَلَا يَرَى إلَى قَوْلِ الْمُصَنِّفِ فِي صُورَةِ الْعَمْدِ وَعَلَى اعْتِبَارِ أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ لِلْعَبْدِ فَالْمَوْلَى هُوَ الَّذِي يَتَوَلَّاهُ، إذْ لَا وَارِثَ سِوَاهُ فَلَا اشْتِبَاهَ فِيمَنْ لَهُ الْحَقُّ، وَإِنْ ادَّعَى أَنَّ اخْتِلَافَ مَنْ لَهُ الْحَقُّ ابْتِدَاءً كَافٍ فِي تَحَقُّقِ الِاشْتِبَاهِ الْمُقْتَضِي لِقَطْعِ الْإِعْتَاقِ السِّرَايَةِ وَاتِّحَادِهِ بِالنَّظَرِ إلَى الِانْتِهَاءِ، وَالْمَالُ غَيْرُ مُفِيدٍ فِي دَفْعِ ذَلِكَ يَتَّجِهُ الْإِشْكَالُ عَلَى صُورَةِ الْعَمْدِ، فَإِنَّ حَقَّ الْقِصَاصِ فِي هَاتِيكَ الصُّورَةِ لِلْعَبْدِ عَلَى اعْتِبَارِ حَالَةِ الْجُرْحِ لِكَوْنِ الْعَبْدِ مُبْقًى عَلَى أَصْلِ الْحُرِّيَّةِ فِي حَقِّ الْقِصَاصِ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ، وَلِلْمَوْلَى عَلَى اعْتِبَارِ حَالَةِ الْمَوْتِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مِنْ أَنَّ حَقَّ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ ثَابِتٌ لِلْوَارِثِ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْتَقِلَ إلَيْهِ بِطَرِيقِ الْوِرَاثَةِ كَمَا فِي الدِّيَةِ، لِأَنَّ مِلْكَ الْقِصَاصِ إنَّمَا يَثْبُتُ بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْمَيِّتُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ لِأَنَّهُ مِلْكُ الْفِعْلِ وَلَا يُتَصَوَّرُ الْفِعْلُ مِنْ الْمَيِّتِ، بِخِلَافِ الدِّيَةِ لِأَنَّ الْمَيِّتَ مِنْ أَهْلِ الْمِلْكِ فِي الْأَمْوَالِ، كَمَا إذَا نَصَبَ شَبَكَةً وَتَعَقَّلَ بِهَا صَيْدًا بَعْدَ مَوْتِهِ عَلَى مَا تَقَرَّرَ كُلُّهُ فِي أَوَّلِ بَابِ الشَّهَادَةِ فِي الْقَتْلِ مِنْ كِتَابِ الْجِنَايَاتِ فَيَلْزَمُ اشْتِبَاهُ مَنْ لَهُ الْحَقُّ ابْتِدَاءً فِي صُورَةِ الْعَمْدِ أَيْضًا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، فَلَا يَظْهَرُ الْفَرْقُ بَيْنَ صُورَتَيْ الْخَطَإِ وَالْعَمْدِ بِالْوَجْهِ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ عَلَى أَصْلِهِ فَلَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ عَلَى قَوْلِهِ فِي مَسْأَلَتِنَا فَلْيُتَأَمَّلْ فِي الدَّفْعِ

(قَوْلُهُ وَبَعْدَ الشَّجَّةِ بَقِيَ مَحَلًّا لِلْبَيَانِ فَاعْتُبِرَ إنْشَاءٌ فِي حَقِّهِمَا) أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الظَّاهِرُ الْمُطَابِقُ لِوَضْعِ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يُقَالَ: فَاعْتُبِرَ إنْشَاءُ فِي حَقِّ مَنْ أَوْقَعَ الْعِتْقَ عَلَيْهِ وَهُوَ أَحَدُهُمَا الْمُتَعَيَّنُ بِالْبَيَانِ

ص: 360

كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُرًّا وَكُلٌّ مِنْهُمَا يُنْكِرُ ذَلِكَ، وَلِأَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَى ثُبُوتَ الْعِتْقِ فِي الْمَجْهُولِ لِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ فَائِدَةً، وَإِنَّمَا صَحَّحْنَاهُ ضَرُورَةَ صِحَّةِ التَّصَرُّفِ وَأَثْبَتْنَا لَهُ وِلَايَةَ النَّقْلِ مِنْ الْمَجْهُولِ إلَى الْمَعْلُومِ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ وَهِيَ فِي النَّفْسِ دُونَ الْأَطْرَافِ فَبَقِيَ مَمْلُوكًا فِي حَقِّهَا.

قَالَ (وَمَنْ فَقَأَ عَيْنَيْ عَبْدٍ، فَإِنْ شَاءَ الْمَوْلَى دَفَعَ عَبْدَهُ وَأَخَذَ قِيمَتَهُ وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَهُ، وَلَا شَيْءَ لَهُ مِنْ النُّقْصَانِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: إنْ شَاءَ أَمْسَكَ الْعَبْدَ وَأَخَذَ مَا نَقَصَهُ، وَإِنْ شَاءَ دَفَعَ الْعَبْدَ وَأَخَذَ قِيمَتَهُ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُضَمِّنُهُ كُلَّ الْقِيمَةِ وَيُمْسِكُ الْجُثَّةَ لِأَنَّهُ يَجْعَلُ الضَّمَانَ مُقَابِلًا بِالْفَائِتِ فَبَقِيَ الْبَاقِي عَلَى مِلْكِهِ، كَمَا إذَا قَطَعَ إحْدَى يَدَيْهِ أَوْ فَقَأَ إحْدَى عَيْنَيْهِ. وَنَحْنُ نَقُولُ: إنَّ الْمَالِيَّةَ قَائِمَةٌ فِي الذَّاتِ وَهِيَ مُعْتَبَرَةٌ فِي حَقِّ الْأَطْرَافِ لِسُقُوطِ اعْتِبَارِهَا فِي حَقِّ الذَّاتِ قَصْرًا عَلَيْهِ. وَإِذَا كَانَتْ مُعْتَبَرَةً

فَتَأَمَّلْ فِي التَّوْجِيهِ

(قَوْلُهُ وَنَحْنُ نَقُولُ: إنَّ الْمَالِيَّةَ قَائِمَةٌ فِي الذَّاتِ وَهِيَ مُعْتَبَرَةٌ فِي حَقِّ الْأَطْرَافِ لِسُقُوطِ اعْتِبَارَهَا فِي حَقِّ الذَّاتِ قَصْرًا عَلَيْهِ) قَالَ جُمْهُورُ الشُّرَّاحِ فِي حِلِّ هَذَا الْمَقَامِ: يَعْنِي أَنَّ الْمَالِيَّةَ مُعْتَبَرَةٌ فِي حَقِّ الْأَطْرَافِ كَمَا أَنَّهَا مُعْتَبَرَةٌ فِي حَقِّ الذَّاتِ لِسُقُوطِ اعْتِبَارِ الْمَالِيَّةِ فِي حَقِّ الذَّاتِ قَصْرًا عَلَيْهِ: أَيْ لِأَنَّ اعْتِبَارَ الْمَالِيَّةِ فِي حَقِّ الذَّاتِ مُقْتَصَرًا عَلَيْهِ سَاقِطٌ بِالْإِجْمَاعِ: يَعْنِي لَمْ يَقْتَصِرْ اعْتِبَارُ الْمَالِيَّةِ عَلَى الذَّاتِ فَحَسْبُ، بَلْ اُعْتُبِرَتْ فِي حَقِّ الذَّاتِ وَالْأَطْرَافِ جَمِيعًا، هَذَا زُبْدَةُ مَا قَالُوا. أَقُولُ: فَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى يَكُونُ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ هُنَا مُنَافِيًا لِمَا ذَكَرَهُ فِي تَعْلِيلِ الْمَسْأَلَةِ الْمَارَّةِ فِي صَدْرِ هَذَا الْفَصْلِ مِنْ قِبَلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ حَيْثُ قَالَ: وَلِأَنَّ فِيهِ: أَيْ فِي الْعَبْدِ مَعْنَى الْآدَمِيَّةِ حَتَّى كَانَ مُكَلَّفًا وَفِيهِ مَعْنَى الْمَالِيَّةِ وَالْآدَمِيَّةُ أَعْلَاهُمَا فَيَجِبُ اعْتِبَارُهَا بِإِهْدَارِ الْأَدْنَى عِنْدَ تَعَذُّرِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا اهـ.

فَإِنَّ مَدْلُولَ مَا قَالَهُ هُنَاكَ أَنَّ الْمَالِيَّةَ الَّتِي هِيَ أَدْنَى مِنْ الْآدَمِيَّةِ مُهْدَرَةٌ فِي حَقِّ ذَاتِ الْعَبْدِ لِتَعَذُّرِ الْجَمْعِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْآدَمِيَّةِ، وَإِنَّمَا الْمُعْتَبَرَةُ فِيهِ هِيَ الْآدَمِيَّةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَمَدْلُولُ كَلَامِهِ هُنَا عَلَى الْمَعْنَى الْمَذْكُورِ أَنَّ الْمَالِيَّةَ مُعْتَبَرَةٌ فِي حَقِّ ذَاتِ الْعَبْدِ وَأَطْرَافِهِ جَمِيعًا عِنْدَ أَئِمَّتِنَا فَبَيْنَهُمَا تَدَافُعٌ لَا يَخْفَى. ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ الْعِنَايَةِ مِنْ بَيْنِ هَؤُلَاءِ الْجُمْهُورِ قَالَ فِي تَقْرِيرِ الْمَعْنَى الْمَذْكُورِ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إنَّ الْمَالِيَّةَ قَائِمَةٌ فِي الذَّاتِ وَهِيَ مُعْتَبَرَةٌ فِي حَقِّ الْأَطْرَافِ، لِأَنَّ اعْتِبَارَهَا

ص: 361

وَقَدْ وُجِدَ إتْلَافُ النَّفْسِ مِنْ وَجْهٍ بِتَفْوِيتِ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ وَالضَّمَانُ يَتَقَدَّرُ بِقِيمَةِ الْكُلِّ فَوَجَبَ أَنْ يَتَمَلَّكَ الْجُثَّةَ دَفْعًا لِلضَّرَرِ وَرِعَايَةً لِلْمُمَاثَلَةِ، بِخِلَافِ مَا إذَا فَقَأَ عَيْنَيْ حُرٍّ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَعْنَى الْمَالِيَّةِ، وَبِخِلَافِ عَيْنَيْ الْمُدَبَّرِ لِأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ الِانْتِقَالَ مِنْ مِلْكٍ إلَى مِلْكٍ، وَفِي قَطْعِ إحْدَى الْيَدَيْنِ وَفَقْءِ إحْدَى الْعَيْنَيْنِ لَمْ يُوجَدْ تَفْوِيتُ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ. وَلَهُمَا أَنَّ مَعْنَى الْمَالِيَّةِ لَمَّا كَانَ مُعْتَبَرًا وَجَبَ أَنْ يَتَخَيَّرَ الْمَوْلَى عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قُلْنَاهُ كَمَا فِي سَائِرِ الْأَمْوَالِ فَإِنَّ مَنْ خَرَقَ ثَوْبَ غَيْرِهِ خَرْقًا فَاحِشًا إنْ شَاءَ الْمَالِكُ دَفَعَ الثَّوْبَ إلَيْهِ وَضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ، وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَ الثَّوْبَ وَضَمَّنَهُ النُّقْصَانَ. وَلَهُ أَنَّ الْمَالِيَّةَ وَإِنْ كَانَتْ مُعْتَبَرَةً فِي الذَّاتِ فَالْآدَمِيَّةُ غَيْرُ مُهْدَرَةٍ فِيهِ وَفِي الْأَطْرَافِ أَيْضًا، أَلَا تَرَى أَنَّ عَبْدًا لَوْ قَطَعَ يَدَ عَبْدٍ آخَرَ يُؤْمَرُ الْمَوْلَى بِالدَّفْعِ أَوْ الْفِدَاءِ وَهَذَا مِنْ أَحْكَامِ الْآدَمِيَّةِ، لِأَنَّ مُوجِبَ الْجِنَايَةِ عَلَى الْمَالِ أَنْ تُبَاعَ رَقَبَتُهُ فِيهَا ثُمَّ مِنْ أَحْكَامِ الْأُولَى أَنْ لَا يَنْقَسِمَ عَلَى الْأَجْزَاءِ،

فِي حَقِّ الذَّاتِ: أَيْ فِي جَمِيعِ الْبَدَنِ وَحْدِهِ مُقْتَصَرًا عَلَيْهِ سَاقِطٌ بِالْإِجْمَاعِ، فَإِنَّ الشَّرْعَ قَدْ أَوْجَبَ كَمَالَ الدِّيَةِ بِتَفْوِيتِ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ بِتَفْوِيتِ الْأَطْرَافِ اهـ.

أَقُولُ: فِيهِ خَلَلٌ زَائِدٌ. أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُ فَسَّرَ الذَّاتَ بِجَمِيعِ الْبَدَنِ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّ جَمِيعَ الْبَدَنِ مِنْ الْأَطْرَافِ. قَالَ فِي الصِّحَاحِ: بَدَنُ الْإِنْسَانِ جَسَدُهُ وقَوْله تَعَالَى {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ} قَالُوا: بِجَسَدٍ لَا رُوحَ فِيهِ اهـ.

وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِالذَّاتِ مَا يُقَابِلُ الْأَطْرَافَ وَهُوَ النَّفْسُ وَإِتْلَافُهَا بِإِزَالَةِ الرُّوحِ. وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّهُ عَلَّلَ سُقُوطَ اقْتِصَارِ اعْتِبَارِ الْمَالِيَّةِ عَلَى الذَّاتِ بِقَوْلِهِ فَإِنَّ الشَّرْعَ قَدْ أَوْجَبَ كَمَالَ الدِّيَةِ بِتَفْوِيتِ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ بِتَفْوِيتِ الْأَطْرَافِ، وَلَيْسَ بِسَدِيدٍ لِأَنَّ إيجَابَ الشَّرْعِ كَمَالِ الدِّيَةِ بِتَفْوِيتِ ذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِ الْمَالِيَّةِ فِي حَقِّ الْأَطْرَافِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ إيجَابُهُ إيَّاهُ لِلْآدَمِيَّةِ كَمَا فِي الْحُرِّ تَدَبَّرْ. وَقَالَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ مِنْ الشُّرَّاحِ فِي حَلِّ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ هُنَا: يَعْنِي أَنَّ اعْتِبَارَ الْمَالِيَّةِ فِي الْأَطْرَافِ لَا فِي الذَّاتِ لِأَنَّهَا تَسْلُكُ مَسْلَكَ الْأَمْوَالِ وَلِهَذَا لَا يَتَحَمَّلُهَا الْعَاقِلَةُ، وَفَسَّرَ الذَّاتَ فِي قَوْلِ الْمُصَنِّفِ الْمَالِيَّةُ قَائِمَةٌ فِي الذَّاتِ بِالْعَبْدِ حَيْثُ قَالَ: أَيْ فِي الْعَبْدِ. وَقَالَ فِي شَرْحِ قَوْلِهِ لِسُقُوطِ اعْتِبَارِهَا فِي حَقِّ الذَّاتِ قَصْرًا عَلَيْهِ: يَعْنِي أَنَّ سُقُوطَ اعْتِبَارِ الْمَالِيَّةِ مُقْتَصَرًا فِي النَّفْسِ لَا فِي الْأَطْرَافِ، وَوُجُوبُ الضَّمَانِ بَدَلُ الْآدَمِيَّةِ لَا بَدَلَ الْمَالِيَّةِ، وَلِهَذَا لَا يُجَاوِزُ عَلَى عَشَرَةِ آلَافٍ بَلْ يَنْقُصُ عَشَرَةً فَتَكُونُ الْمَالِيَّةُ فِي الْعَبْدِ بِاعْتِبَارِ الْأَطْرَافِ اهـ.

أَقُولُ: هَذَا الْمَعْنَى هُوَ الْمُطَابِقُ لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِ الْمَسْأَلَةِ الْمَارَّةِ فِي صَدْرِ الْفَصْلِ مِنْ قِبَلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَإِنْ كَانَ فِي اسْتِفَادَتِهِ مَنْ عِبَارَةِ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا تَمَحُّلٌ كَثِيرٌ كَمَا تَرَى، لَكِنَّهُ غَيْرُ مُطَابِقٍ لِمَا ذَكَرَهُ هُنَاكَ مِنْ قِبَلِ أَبِي يُوسُفَ، وَكَلَامُهُ هُنَا مَسُوقٌ لِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى الشَّافِعِيِّ مِنْ قِبَلِ أَئِمَّتِنَا جَمِيعًا وَلِهَذَا قَالَ: وَنَحْنُ نَقُولُ: فَلَا بُدَّ أَنْ يُطَابِقَ لِأَصْلِهِمْ جَمِيعًا وَقَدْ فَاتَ ذَلِكَ. وَبِالْجُمْلَةِ إنَّ كَلَامَ الْمُصَنِّفِ رحمه الله هُنَا لَيْسَ بِخَالٍ عَنْ الِاضْطِرَابِ كَمَا لَا يَذْهَبُ عَلَى الْفَطِنِ، وَلَعَلَّ صَاحِبَ الْكَافِي تَفَطَّنَ لَهُ حَيْثُ تَرَكَ أُسْلُوبَ تَقْرِيرِ الْمُصَنِّفِ هُنَا وَسَلَكَ مَسْلَكًا آخَرَ فِي التَّقْرِيرِ وَالْبَيَانِ مَعَ كَوْنِ عَادَتِهِ أَنْ يَقْتَفِيَ أَثَرَ الْمُصَنِّفِ فِي وَضْعِ الْمَسَائِلِ وَتَقْرِيرِ الدَّلَائِلِ.

(قَوْلُهُ وَلَهُ أَنَّ الْمَالِيَّةَ وَإِنْ كَانَتْ مُعْتَبَرَةً فِي الذَّاتِ فَالْآدَمِيَّةُ غَيْرُ مُهْدَرَةٍ فِيهِ وَفِي الْأَطْرَافِ أَيْضًا)

ص: 362

وَلَا يَتَمَلَّكَ الْجُثَّةَ، وَمِنْ أَحْكَامِ الثَّانِيَةِ أَنْ يَنْقَسِمَ وَيَتَمَلَّكَ الْجُثَّةَ فَوَفَّرْنَا عَلَى الشَّبَهَيْنِ حَظَّهُمَا مِنْ الْحُكْمِ.

(فَصْلٌ فِي جِنَايَةِ الْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ)

قَالَ (وَإِذَا جَنَى الْمُدَبَّرُ أَوْ أُمُّ الْوَلَدِ جِنَايَةً ضَمِنَ الْمَوْلَى الْأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ أَرْشِهَا) لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ قَضَى بِجِنَايَةِ الْمُدَبَّرِ عَلَى مَوْلَاهُ، وَلِأَنَّهُ صَارَ مَانِعًا عَنْ تَسْلِيمِهِ فِي الْجِنَايَةِ بِالتَّدْبِيرِ أَوْ الِاسْتِيلَادِ مِنْ

أَقُولُ: الظَّاهِرُ مِنْ هَذَا الْبَيَانِ أَنَّ الْمَالِيَّةَ وَالْآدَمِيَّةَ مُعْتَبَرَتَانِ مَعًا فِي ذَاتِ الْعَبْدِ: أَيْ نَفْسِهِ وَأَطْرَافِهِ أَيْضًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَقَدْ مَرَّ مِنْ الْمُصَنِّفِ فِي أَوَّلِ الْفَصْلِ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي ذَاتِ الْعَبْدِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ هِيَ الْآدَمِيَّةُ دُونَ الْمَالِيَّةِ، فَإِنَّهَا مُهْدَرَةٌ فِي ذَاتِهِ عِنْدَهُمَا فِي فَصْلِ الْجِنَايَةِ، وَلِهَذَا لَوْ زَادَتْ قِيمَتُهُ عَلَى تَمَامِ الدِّيَةِ يَنْقُصُ عَنْهُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ عِنْدَ هُمَا فَكَانَ بَيْنَ كَلَامَيْهِ فِي الْمَقَامَيْنِ تَدَافُعٌ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُهُ هُنَا إنَّ الْمَالِيَّةَ وَإِنْ كَانَتْ مُعْتَبَرَةً فِي الذَّاتِ عَلَى مُجَرَّدِ الْفَرْضِ فَالْمَعْنَى أَنَّ الْمَالِيَّةَ وَإِنْ فُرِضَتْ مُعْتَبَرَةً فِي الذَّاتِ فَالْآدَمِيَّةُ غَيْرُ مُهْدَرَةٍ فِيهِ لَكِنَّهُ لَا يَخْلُو عَنْ بُعْدٍ.

(فَصْلٌ فِي جِنَايَةِ الْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ وَالْجِنَايَةِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا)

لَمَّا ذَكَرَ بَابَ جِنَايَةِ الْمَمْلُوكِ وَالْجِنَايَةَ عَلَيْهِ قَدَّمَ مَنْ هُوَ أَكْمَلُ فِي اسْتِحْقَاقِ اسْمِ الْمَمْلُوكِيَّةِ وَهُوَ الْعَبْدُ، ثُمَّ ذَكَرَ فَصْلَ مَنْ هُوَ أَحَطُّ رُتْبَةً فِي اسْمِ الْمَمْلُوكِيَّةِ وَهُوَ الْمُدَبَّرُ وَأُمُّ الْوَلَدِ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ. قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: فِيهِ أَنَّ الْمِلْكَ كَامِلٌ فِي الْمُدَبَّرِ

ص: 363

غَيْرِ اخْتِيَارِهِ الْفِدَاءَ فَصَارَ كَمَا إذَا فَعَلَ ذَلِكَ بَعْدَ الْجِنَايَةِ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ. وَإِنَّمَا يَجِبُ الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ الْأَرْشِ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ فِي أَكْثَرَ مِنْ الْأَرْشِ، وَلَا مَنْعَ مِنْ الْمَوْلَى فِي أَكْثَرَ مِنْ الْقِيمَةِ، وَلَا تَخْيِيرَ بَيْنَ الْأَقَلِّ وَالْأَكْثَرِ لِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ فِي جِنْسٍ وَاحِدٍ لِاخْتِيَارِهِ الْأَقَلَّ لَا مَحَالَةَ، بِخِلَافِ الْقِنِّ لِأَنَّ الرَّغَبَاتِ صَادِقَةٌ فِي الْأَعْيَانِ فَيُفِيدُ التَّخْيِيرَ بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ (وَجِنَايَاتُ الْمُدَبَّرِ وَإِنْ تَوَالَتْ لَا تُوجِبُ إلَّا قِيمَةً وَاحِدَةٍ) لِأَنَّهُ لَا مَنْعَ مِنْهُ إلَّا فِي رَقَبَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلِأَنَّ دَفْعَ الْقِيمَةِ كَدَفْعِ الْعَبْدِ وَذَلِكَ لَا يَتَكَرَّرُ فَهَذَا كَذَلِكَ، وَيَتَضَارَبُونَ بِالْحِصَصِ فِيهَا، وَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ لِكُلِّ وَاحِدٍ فِي حَالِ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْمَنْعَ فِي هَذَا الْوَقْتِ يَتَحَقَّقُ.

قَالَ (فَإِنْ جَنَى جِنَايَةً أُخْرَى وَقَدْ دَفَعَ الْمَوْلَى الْقِيمَةَ إلَى وَلِيِّ الْأُولَى بِقَضَاءٍ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ) لِأَنَّهُ مَجْبُورٌ عَلَى الدَّفْعِ. قَالَ (وَإِنْ كَانَ الْمَوْلَى دَفَعَ الْقِيمَةَ بِغَيْرِ قَضَاءٍ فَالْوَلِيُّ بِالْخِيَارِ، إنْ شَاءَ اتَّبَعَ الْمَوْلَى وَإِنْ شَاءَ اتَّبَعَ وَلِيَّ الْجِنَايَةِ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: لَا شَيْءَ عَلَى الْمَوْلَى) لِأَنَّهُ حِينَ دَفَعَ لَمْ تَكُنْ الْجِنَايَةُ الثَّانِيَةُ مَوْجُودَةً فَقَدْ دَفَعَ كُلَّ الْحَقِّ إلَى مُسْتَحِقِّهِ وَصَارَ كَمَا إذَا دَفَعَ بِالْقَضَاءِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمَوْلَى جَانٍ بِدَفْعِ حَقِّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ طَوْعًا، وَوَلِيُّ الْأُولَى ضَامِنٌ بِقَبْضِ حَقِّهِ

وَأُمِّ الْوَلَدِ دُونَ الرِّقِّ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ. بِخِلَافِ الْمُكَاتَبِ فَإِنَّهُ عَلَى الْعَكْسِ اهـ.

أَقُولُ: فِي الْجَوَابِ عَنْهُ مِنْ طَرَفِ الشُّرَّاحِ أَنَّ كَمَالَ الْمِلْكِ فِي الْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُكَاتَبِ حَيْثُ يَمْلِكُهُمَا الْمَوْلَى يَدًا وَرَقَبَةً، بِخِلَافِ الْمُكَاتَبِ فَإِنَّ مَوْلَاهُ يَمْلِكُهُ رَقَبَةً لَا يَدًا كَمَا عُرِفَ فِي مَحَلِّهِ لَا يُنَافِي أَكْمَلِيَّةَ الْمِلْكِ فِي الْعَبْدِ، فَإِنَّ مَوْلَاهُ كَمَا يَمْلِكُهُ يَدًا وَرَقَبَةً يَمْلِكُهُ مِنْ جِهَاتِ عَامَّةِ التَّصَرُّفَاتِ فِيهِ، بِخِلَافِ الْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ فَإِنَّ مَوْلَاهُمَا لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِيهِمَا مِنْ جِهَةِ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَأَشْبَاهِهَا لِأَنَّهُمَا لَا يَصْلُحَانِ ذَلِكَ عِنْدَنَا عَلَى مَا عُرِفَ أَيْضًا فِي مَحَلِّهِ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ أَكْمَلِيَّةَ الْمِلْكِ فِي الْعَبْدِ كَافِيَةٌ فِي تَقْدِيمِهِ عَلَى الْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ فِي الذِّكْرِ فِي بَابِ جِنَايَةِ الْمَمْلُوكِ وَالْجِنَايَةِ عَلَيْهِ، وَقَدْ أَفْصَحَ

ص: 364

ظُلْمًا فَيَتَخَيَّرُ، وَهَذَا لِأَنَّ الثَّانِيَةَ مُقَارِنَةٌ حُكْمًا مِنْ وَجْهٍ وَلِهَذَا يُشَارِكُ وَلِيُّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى، وَمُتَأَخِّرَةٌ حُكْمًا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ فِي حَقِّهَا فَجُعِلَتْ كَالْمُقَارِنَةِ فِي حَقِّ التَّضْمِينِ لِإِبْطَالِهِ مَا تَعَلَّقَ بِهِ مِنْ حَقِّ وَلِيِّ الثَّانِيَةِ عَمَلًا بِالشَّبَهَيْنِ. (وَإِذَا أَعْتَقَ الْمَوْلَى الْمُدَبَّرَ وَقَدْ جَنَى جِنَايَاتٍ لَمْ تَلْزَمْهُ إلَّا قِيمَةٌ وَاحِدَةٌ) لِأَنَّ الضَّمَانَ إنَّمَا وَجَبَ عَلَيْهِ بِالْمَنْعِ فَصَارَ وُجُودُ الْإِعْتَاقِ مِنْ بَعْدُ وَعَدَمُهُ بِمَنْزِلَةٍ (وَأُمُّ الْوَلَدِ بِمَنْزِلَةِ الْمُدَبَّرِ فِي جَمِيعِ مَا وَصَفْنَا) لِأَنَّ الِاسْتِيلَادَ مَانِعٌ مِنْ الدَّفْعِ كَالتَّدْبِيرِ (وَإِذَا أَقَرَّ الْمُدَبَّرُ بِجِنَايَةِ الْخَطَإِ لَمْ يَجُزْ إقْرَارُهُ وَلَا يَلْزَمُهُ بِهِ شَيْءٌ عَتَقَ أَوْ لَمْ يُعْتَقْ) لِأَنَّ مُوجَبَ جِنَايَةِ الْخَطَإِ عَلَى سَيِّدِهِ وَإِقْرَارَهُ بِهِ لَا يَنْفُذُ عَلَى السَّيِّدِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

عَنْهُ عِبَارَةُ الشُّرَّاحِ حَيْثُ قَالُوا: قَدَّمَ مَنْ هُوَ أَكْمَلُ فِي اسْتِحْقَاقِ اسْمِ الْمَمْلُوكِيَّةِ وَهُوَ الْعَبْدُ تَبَصَّرْ.

(بَابُ غَصْبِ الْعَبْدِ وَالْمُدَبَّرِ وَالصَّبِيِّ وَالْجِنَايَةِ فِي ذَلِكَ)

(قَوْلُهُ عَمَلًا بِالشَّبَهَيْنِ) قَالَ جُمْهُورُ الشُّرَّاحِ: يَعْنِي لَمَّا عَمِلْنَا بِشَبَهِ التَّأَخُّرِ فِي ضَمَانِ الْجِنَايَةِ حَتَّى اعْتَبَرْنَا قِيمَتَهُ يَوْمَ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ فِي حَقِّهَا وَجَبَ أَنْ نَعْمَلَ بِشَبَهِ الْمُقَارَنَةِ فِي حَقِّ تَضْمِينِ نِصْفِ الْمَدْفُوعِ اهـ.

أَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ، إذْ لِلْخَصْمِ أَنْ يَقُولَ: قَدْ تَحَقَّقَ الْعَمَلُ بِشَبَهِ الْمُقَارَنَةِ فِي حَقِّ تَشْرِيكِ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى، إذْ لَوْلَا الْعَمَلُ بِذَلِكَ لَكَانَ الْمَدْفُوعُ كُلُّهُ لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى، خَاصَّةً لِتَقَدُّمِهِ فِي اسْتِحْقَاقِهِ الْمَدْفُوعِ عَلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا، وَلَكِنْ لَمَّا جَعَلْنَاهُ الثَّانِيَةَ مُقَارِنَةً لِلْأُولَى حُكْمًا عَمِلْنَا بِشَبَهِ الْمُقَارَنَةِ فَشَرَكْنَا وَلِيَّ الثَّانِيَةِ لِوَلِيِّ الْأُولَى كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ لِأَنَّ الثَّانِيَةَ مُقَارِنَةً حُكْمًا مِنْ وَجْهٍ وَلِهَذَا يُشَارِكُ وَلِيُّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى، فَإِذَا وَقَعَ الْعَمَلُ بِشَبَهِ الْمُقَارَنَةِ مَرَّةً فَقَدْ وُجِدَ الْعَمَلُ بِالشَّبَهَيْنِ فَلَمْ يَبْقَ الِاحْتِيَاجُ إلَى الْعَمَلِ بِشَبَهِهِمَا مَرَّةً أُخْرَى بِتَضْمِينِ بَعْضِ الْمَدْفُوعِ لِلْمَوْلَى. وَقَالَ صَاحِبُ الْغَايَةِ فِي بَيَانِ مَعْنَى الْمَقَامِ: جُعِلَتْ الثَّانِيَةُ كَالْمُقَارِنَةِ فِي حَقِّ التَّضْمِينِ إذَا وَقَعَ بِغَيْرِ قَضَاءٍ لِأَنَّهُ أَبْطَلَ مَا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الثَّانِي، وَلَمْ تُجْعَلْ كَالْمُقَارِنَةِ إذَا وَقَعَ بِقَضَاءٍ لِأَنَّهُ مَجْبُورٌ بِالدَّفْعِ عَمَلًا بِشَبَهَيْ الْمُقَارَنَةِ وَالتَّأَخُّرِ اهـ.

وَقَدْ نَقَلَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بِقِيلَ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الْمَعْنَى الْأَوَّلَ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ بِشَيْءٍ. أَقُولُ: فِيهِ خَلَلٌ، لِأَنَّ الْعَمَلَ بِالشَّبَهَيْنِ أَمْرٌ وَاجِبٌ مَهْمَا أَمْكَنَ عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ. فَلَمَّا أَمْكَنَ الْعَمَلُ بِهِمَا فِي صُورَةٍ وَاحِدَةٍ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ وَهِيَ مَا إذَا وَقَعَ الدَّفْعُ بِغَيْرِ قَضَاءٍ كَمَا ظَهَرَ مِمَّا سَبَقَ لَمْ يَصِحَّ الْمَصِيرُ فِي اعْتِبَارِ الْعَمَلِ بِهِمَا إلَى التَّوْزِيعِ عَلَى مَجْمُوعِ الصُّورَتَيْنِ كَمَا فَعَلَهُ ذَلِكَ الْقَائِلُ، وَإِنَّمَا كَانَ يَصِحُّ ذَاكَ لَوْ لَمْ يُتَصَوَّرْ الْعَمَلُ بِهِمَا فِي صُورَةٍ وَاحِدَةٍ. بَلْ كَانَ اعْتِبَارُهُ مَوْقُوفًا عَلَى مَجْمُوعِ الصُّورَتَيْنِ وَلَيْسَ فَلَيْسَ. ثُمَّ إنَّهُ يَرِدُ عَلَيْهِ أَيْضًا أَنْ يُقَالَ: يَتَحَقَّقُ الْعَمَلُ بِالشَّبَهَيْنِ بِأَنْ تُجْعَلَ الثَّانِيَةُ كَالْمُقَارَنَةِ لِلْأُولَى فِي حَقِّ تَشْرِيكِ وَلِيِّ الثَّانِيَةِ لِوَلِيِّ الْأُولَى، وَأَنْ تُجْعَلَ مُتَأَخِّرَةً عَنْهَا مِنْ حَيْثُ إنْ يَعْتَبِرَ قِيمَتَهُ يَوْمَ الْجِنَايَةِ فَلَمْ يَقْتَضِ الْعَمَلَ بِهِمَا مَا هُوَ الْمَطْلُوبُ هُنَا كَمَا لَا يَخْفَى.

ص: 365

(بَابُ غَصْبِ الْعَبْدِ وَالْمُدَبَّرِ وَالصَّبِيِّ وَالْجِنَايَةِ فِي ذَلِكَ)

قَالَ (وَمَنْ قَطَعَ يَدَ عَبْدِهِ ثُمَّ غَصَبَهُ رَجُلٌ وَمَاتَ فِي يَدِهِ مِنْ الْقَطْعِ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ أَقْطَعَ، وَإِنْ كَانَ الْمَوْلَى قَطَعَ يَدَهُ فِي يَدِ الْغَاصِبِ فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ) وَالْفَرْقُ أَنَّ الْغَصْبَ قَاطِعٌ لِلسَّرَايَةِ لِأَنَّهُ سَبَبُ الْمِلْكِ كَالْبَيْعِ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ هَلَكَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ فَتَجِبُ قِيمَتُهُ أَقْطَعَ، وَلَمْ يُوجَدْ الْقَاطِعُ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي فَكَانَتْ

(بَابُ غَصْبِ الْعَبْدِ وَالْمُدَبَّرِ وَالصَّبِيِّ وَالْجِنَايَةِ فِي ذَلِكَ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ: لَمَّا ذَكَرَ حُكْمَ الْمُدَبَّرِ فِي الْجِنَايَةِ ذَكَرَ فِي هَذَا الْبَابِ مَا يُرَدُّ عَلَيْهِ وَمَا يُرَدُّ مِنْهُ وَذَكَرَ حُكْمَ مَنْ يَلْحَقُ بِهِ اهـ.

وَاقْتَفَى أَثَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ. أَقُولُ: فِيهِ قُصُورٌ وَفُتُورٌ. أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ وَجْهَ ذِكْرِ غَصْبِ الْعَبْدِ فِي هَذَا الْبَابِ كَانَ ضَائِعًا عَلَى هَذَا التَّوْجِيهِ. وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ مَا ذُكِرَ فِي هَذَا الْبَابِ مِمَّا يُرَدُّ عَلَى الْمُدَبَّرِ وَيُرَدُّ مِنْهُ مِنْ قَبِيلِ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ أَوْ الْجِنَايَةِ مِنْهُ فَكَانَ مِنْ حُكْمِ الْمُدَبَّرِ فِي الْجِنَايَةِ. فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ لَمَّا ذَكَرَ حُكْمَ الْمُدَبَّرِ فِي الْجِنَايَةِ ذَكَرَ فِي هَذَا الْبَابِ مَا يُرَدُّ عَلَيْهِ وَمَا يُرَدُّ مِنْهُ. وَأَمَّا ثَالِثًا فَلِأَنَّ الصَّبِيَّ لَيْسَ بِمُلْحَقٍ بِالْمُدَبَّرِ فِي حُكْمِهِ الْمَذْكُورِ فِي هَذَا الْبَابِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى النَّاظِرِ الْمُتَأَمِّلِ فِي الْمَسَائِلِ الْآتِيَةِ فِي هَذَا الْبَابِ. نَعَمْ يَجُوزُ أَنْ يُعَدَّ مُلْحَقًا بِالْمُدَبَّرِ بَلْ بِالْعَبْدِ فِي كَوْنِهِ مَحْجُورًا عَنْ التَّصَرُّفَاتِ عَلَى مَا بَيَّنَ فِي كِتَابِ الْحَجْرِ، وَلَكِنَّهُ لَا يَقْتَضِي ذِكْرَ حُكْمِهِ فِي هَذَا الْبَابِ دُونَ الْبَابِ السَّابِقِ فَلَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ فِي قَوْلِهِ وَذِكْرِ حُكْمِ مَنْ يَلْحَقُ بِهِ. وَقَالَ فِي مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ: لَمَّا ذَكَرَ حُكْمَ الْعَبْدِ وَالْمُدَبَّرِ فِي الْجِنَايَةِ شَرَعَ فِي بَيَانِ مَا يُرَدُّ عَلَيْهِمَا وَمَا يُرَدُّ مِنْهُمَا وَذَكَرَ حُكْمَ مَنْ يَلْحَقُ بِهِمَا اهـ.

أَقُولُ: وَقَعَ فِيهِ تَدَارُكُ دَفْعِ الْمَحْذُورِ الْأَوَّلِ مِنْ الْمَحْذُورَاتِ الْوَارِدَةِ عَلَى تَقْرِيرِ صَاحِبَيْ النِّهَايَةِ وَالْعِنَايَةِ، وَلَكِنْ بَقِيَ الْمَحْذُورَانِ الْأَخِيرَانِ مِنْهَا وَارِدَيْنِ عَلَيْهِ أَيْضًا كَمَا تَرَى. وَقَالَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ: لَمَّا ذَكَرَ جِنَايَةَ الْعَبْدِ وَالْمُدَبَّرِ ذَكَرَ فِي هَذَا الْبَابِ جِنَايَتَهُمَا مَعَ غَصْبِهِمَا لِأَنَّ الْمُفْرَدَ قَبْلَ الْمُرَكَّبِ ثُمَّ جَرَّ كَلَامُهُ إلَى بَيَانِ حُكْمِ غَصْبِ الصَّبِيِّ اهـ.

وَتَبِعَهُ الْعَيْنِيُّ. أَقُولُ: هَذَا أَشْبَهُ الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ وَإِنْ أَمْكَنَ التَّقْرِيرُ بِأَحْسَنَ مِنْهُ تَدَبَّرْ.

(قَوْلُهُ وَالْفَرْقُ أَنَّ الْغَصْبَ قَاطِعٌ لِلسِّرَايَةِ لِأَنَّهُ سَبَبُ الْمِلْكِ كَالْبَيْعِ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ هَلَكَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ إلَخْ) وَاعْتَرَضَ الْإِمَامُ قَاضِي خَانْ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ عَلَى هَذَا التَّعْلِيلِ بَعْدَ أَنْ نَقَلَهُ عَنْ بَعْضِ الْمَشَايِخِ، ثُمَّ عَلَّلَ الْمَسْأَلَةَ بِوَجْهٍ آخَرَ حَيْثُ قَالَ بَعْدَ نَقْلِ ذَلِكَ: إلَّا أَنَّ هَذَا يُخَالِفُ مَذْهَبَنَا، فَإِنَّ الْغَصْبَ لَا يَقْطَعُ السِّرَايَةَ مَا لَمْ يَمْلِكْ الْبَدَلَ عَلَى الْغَاصِبِ بِقَضَاءٍ أَوْ رِضًا، لِأَنَّ السِّرَايَةَ إنَّمَا تَقْطَعُ بِهِ بِاعْتِبَارِ تَبَدُّلِ الْمِلْكِ، وَإِنَّمَا يَتَبَدَّلُ الْمِلْكُ بِهِ إذَا مَلَكَ الْبَدَلَ عَلَى الْغَاصِبِ، وَأَمَّا قَبْلَهُ فَلَا كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي آخِرِ رَهْنِ الْجَامِعِ وَالْبَابِ الثَّانِي مِنْ جِنَايَاتِهِ، إلَّا أَنَّهُ إنَّمَا ضَمِنَ الْغَاصِبُ هُنَا قِيمَةَ الْعَبْدِ أَقْطَعَ لِأَنَّ السِّرَايَةَ وَإِنْ لَمْ تَنْقَطِعْ فَالْغَصْبُ وَرَدَ عَلَى مَالٍ مُتَقَوِّمٍ فَانْعَقَدَ سَبَبُ الضَّمَانِ فَلَا يَبْرَأُ عَنْهُ الْغَاصِبُ إلَّا إذَا ارْتَفَعَ الْغَصْبُ، وَلَمْ يَرْتَفِعْ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ إنَّمَا يَرْتَفِعُ بِمَا هُوَ فَوْقَهُ أَوْ مِثْلُهُ، وَيَدُ الْغَاصِبِ ثَابِتَةٌ عَلَى الْمَغْصُوبِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا، وَيَدُ الْمَوْلَى بِاعْتِبَارِ السِّرَايَةِ ثَبَتَتْ عَلَيْهِ حُكْمًا لَا حَقِيقَةً لِأَنَّ بَعْدَ الْغَصْبِ لَمْ تَثْبُتْ يَدُهُ عَلَى الْعَبْدِ حَقِيقَةً، وَالثَّابِتُ حُكْمًا دُونَ الثَّابِتِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا فَلَمْ يَرْتَفِعْ الْغَصْبُ بِاتِّصَالِ السِّرَايَةِ إلَى فِعْلِ الْمَوْلَى فَتَقَرَّرَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ، بِخِلَافِ مَا لَوْ جَنَى

ص: 366

السِّرَايَةُ مُضَافَةً إلَى الْبِدَايَةِ فَصَارَ الْمَوْلَى مُتْلِفًا فَيَصِيرُ مُسْتَرِدًّا، كَيْفَ وَأَنَّهُ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ وَهُوَ اسْتِرْدَادٌ فَيَبْرَأُ الْغَاصِبُ عَنْ الضَّمَانِ.

قَالَ (وَإِذَا غَصَبَ الْعَبْدُ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ عَبْدًا مَحْجُورًا عَلَيْهِ فَمَاتَ فِي يَدِهِ فَهُوَ ضَامِنٌ) لِأَنَّ الْمَحْجُورَ عَلَيْهِ مُؤَاخَذٌ بِأَفْعَالِهِ.

قَالَ (وَمَنْ غَصَبَ مُدَبَّرًا فَجَنَى عِنْدَهُ جِنَايَةً ثُمَّ رَدَّهُ عَلَى الْمَوْلَى فَجَنَى عِنْدَهُ جِنَايَةً أُخْرَى فَعَلَى الْمَوْلَى قِيمَتُهُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ) لِأَنَّ الْمَوْلَى بِالتَّدْبِيرِ السَّابِقِ أَعْجَزَ نَفْسَهُ عَنْ الدَّفْعِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَصِيرَ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ فَيَصِيرُ مُبْطِلًا حَقَّ أَوْلِيَاءِ الْجِنَايَةِ إذْ حَقُّهُمْ فِيهِ وَلَمْ يَمْنَعْ إلَّا رَقَبَةً وَاحِدَةً فَلَا يُزَادُ عَلَى قِيمَتِهَا، وَيَكُونُ بَيْنَ وَلِيِّ الْجِنَايَتَيْنِ نِصْفَيْنِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْمُوجَبِ. قَالَ (وَيَرْجِعُ الْمَوْلَى بِنِصْفِ قِيمَتِهِ عَلَى الْغَاصِبِ) لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّ نِصْفَ الْبَدَلِ بِسَبَبٍ كَانَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ فَصَارَ كَمَا إذَا اسْتَحَقَّ نِصْفَ الْعَبْدِ بِهَذَا السَّبَبِ.

عَلَيْهِ بَعْدَ الْغَصْبِ لِأَنَّ الْغَصْبَ يَرْتَفِعُ بِهَا، إلَى هُنَا كَلَامُ قَاضِي خَانْ. وَقَدْ نَقَلَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ الشُّرَّاحِ وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لَهُ بِشَيْءٍ.

وَأَمَّا صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فَبَعْدَ أَنْ نَقَلَ مَا قَالَهُ قَاضِي خَانْ أَوْرَدَ عَلَى مَا اخْتَارَهُ مِنْ التَّعْلِيلِ نَظَرًا حَيْثُ قَالَ: وَفِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ يَدَ الْغَاصِبِ عَلَيْهِ ثَابِتَةٌ حُكْمًا، فَإِنَّ يَدَ الْمَوْلَى ثَابِتَةٌ عَلَيْهِ حُكْمًا وَلَا يَثْبُتُ عَلَى الشَّيْءِ الْوَاحِدِ يَدَانِ حُكْمِيَّتَانِ بِكَمَالِهِمَا وَالْيَدُ الْحَقِيقِيَّةُ وَاجِبَةُ الرَّفْعِ لِكَوْنِهَا عُدْوَانًا لَا تَصْلُحُ مُعَارِضًا وَلَا مُرَجِّحًا انْتَهَى. أَقُولُ: نَظَرُهُ سَاقِطٌ، إذْ لَا وَجْهَ لِمَنْعِ ثُبُوتِ يَدِ الْغَاصِبِ عَلَيْهِ حُكْمًا، فَإِنَّ مَعْنَى ثُبُوتِ الْيَدِ عَلَى الشَّيْءِ حُكْمًا أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَى تِلْكَ الْيَدِ حُكْمٌ مِنْ الْأَحْكَامِ، وَقَدْ تَرَتَّبَ عَلَى يَدِ الْغَاصِبِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ

ص: 367

قَالَ (وَيَدْفَعُهُ إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى ثُمَّ يَرْجِعُ بِذَلِكَ عَلَى الْغَاصِبِ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ رحمه الله: يَرْجِعُ بِنِصْفِ قِيمَتِهِ فَيُسَلِّمُ لَهُ) لِأَنَّ الَّذِي يَرْجِعُ بِهِ الْمَوْلَى عَلَى الْغَاصِبِ عِوَضُ مَا سَلَّمَ لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى فَلَا يَدْفَعُهُ إلَيْهِ كَيْ لَا يُؤَدِّيَ إلَى اجْتِمَاعِ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ فِي مِلْكِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، وَكِيلَا يَتَكَرَّرَ الِاسْتِحْقَاقُ. وَلَهُمَا أَنَّ حَقَّ الْأَوَّلِ فِي جَمِيعِ الْقِيمَةِ لِأَنَّهُ حِينَ جَنَى فِي حَقِّهِ لَا يُزَاحِمُهُ أَحَدٌ، وَإِنَّمَا انْتَقَصَ بِاعْتِبَارِ مُزَاحَمَةِ الثَّانِي فَإِذَا وَجَدَ شَيْئًا مِنْ بَدَلِ الْعَبْدِ فِي يَدِ الْمَالِكِ فَارِغًا يَأْخُذُهُ لِيُتِمَّ حَقَّهُ فَإِذَا أَخَذَهُ مِنْهُ يَرْجِعُ الْمَوْلَى بِمَا أَخَذَهُ

وُجُوبُ الضَّمَانِ بِالْإِجْمَاعِ. وَأَمَّا سَنَدُ مَنْعِهِ فَلَيْسَ بِتَامٍّ أَيْضًا إذْ لَا مَحْذُورَ فِي أَنْ يَثْبُتَ عَلَى الشَّيْءِ الْوَاحِدِ يَدَانِ حُكْمِيَّتَانِ بِكَمَالِهِمَا مِنْ جِهَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ وَهَاهُنَا كَذَلِكَ، فَإِنَّ ثُبُوتَ يَدِ الْمَوْلَى عَلَى الْعَبْدِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ حُكْمًا بِاعْتِبَارِ سِرَايَةِ الْقَطْعِ الَّذِي صَدَرَ مِنْهُ فِي يَدِهِ، وَثُبُوتُ يَدِ الْغَاصِبِ عَلَيْهِ حُكْمًا بِاعْتِبَارِ ثُبُوتِ يَدِهِ عَلَيْهِ حَقِيقَةً فَاخْتَلَفَتْ الْجِهَتَانِ

(بَابُ غَصْبِ الْعَبْدِ وَالْمُدَبَّرِ وَالصَّبِيِّ وَالْجِنَايَةِ فِي ذَلِكَ)(قَوْلُهُ وَقَالَ مُحَمَّدٌ رحمه الله: يَرْجِعُ بِنِصْفِ قِيمَتِهِ فَيُسَلِّمُ لَهُ، لِأَنَّ الَّذِي يَرْجِعُ بِهِ الْمَوْلَى عَلَى الْغَاصِبِ عِوَضُ مَا سَلَّمَ لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى فَلَا يَدْفَعُهُ إلَيْهِ كَيْ لَا يُؤَدِّيَ إلَى اجْتِمَاعِ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ فِي مِلْكِ رَجُلٍ وَاحِدٍ) قَالَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ جَوَابًا عَنْهُ مِنْ قِبَلِ الْإِمَامَيْنِ: وَهُمَا يَقُولَانِ لَيْسَ هَذَا عِوَضَ مَا أَخَذَهُ وَلِيُّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى حَتَّى يَجْتَمِعَ الْبَدَلُ وَالْمُبْدَلُ فِي مِلْكِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، بَلْ هُوَ عِوَضُ مَا أَخَذَهُ وَلِيُّ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ فَلَا يَجْتَمِعُ الْبَدَلُ وَالْمُبْدَلُ فِي مِلْكٍ وَاحِدٍ اهـ.

أَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ الَّذِي يَرْجِعُ بِهِ الْمَوْلَى عَلَى الْغَاصِبِ كَيْفَ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عِوَضَ مَا أَخَذَهُ وَلِيُّ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ وَالْجِنَايَةُ الثَّانِيَةُ فِي مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ وَقَعَتْ عِنْدَ الْمَوْلَى لَا عِنْدَ الْغَاصِبِ، فَأَنَّى يَصِحُّ أَنْ يَأْخُذَ الْمَوْلَى مِنْ الْغَاصِبِ عِوَضًا عَمَّا دَفَعَهُ إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ الَّتِي صَدَرَتْ مِنْ مُدَبَّرِهِ حَالَ كَوْنِهِ فِي يَدِهِ، وَالْعُهْدَةُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ عَلَى ذِي الْيَدِ دُونَ غَيْرِهِ كَمَا لَا رَيْبَ فِيهِ. وَعَنْ هَذَا فَرَّقَ مُحَمَّدٌ بَيْنَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَبَيْنَ الْمَسْأَلَةِ الْآتِيَةِ الَّتِي هِيَ عَكْسُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ حَيْثُ وَافَقَ الْإِمَامَيْنِ هُنَاكَ كَمَا سَتَطَّلِعُ عَلَيْهِ. وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمَوْلَى مَلَكَ مَا قَبَضَهُ مِنْ الْغَاصِبِ وَدَفَعَهُ إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى عِوَضًا عَمَّا أَخَذَهُ وَلِيُّ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ دُونَ الْأُولَى فَلَا يَجْتَمِعُ الْبَدَلُ وَالْمُبْدَلُ فِي مِلْكِ شَخْصٍ وَاحِدٍ اهـ.

أَقُولُ: هَذَا قَرِيبٌ مِمَّا ذَكَرَهُ تَاجُ الشَّرِيعَةِ، إلَّا أَنَّ فِي تَقْرِيرِهِ مَسَاغَ التَّخَلُّصِ عَمَّا أَوْرَدْنَاهُ عَلَى تَقْرِيرِ تَاجِ الشَّرِيعَةِ حَيْثُ اعْتَبَرَ التَّعَارُضَ فِي جَانِبِ الدَّفْعِ إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى لَا فِي جَانِبِ الرُّجُوعِ عَلَى الْغَاصِبِ تَأَمَّلْ تَفْهَمْ.

ثُمَّ إنَّ الْأَظْهَرَ فِي الْجَوَابِ عَمَّا قَالَهُ مُحَمَّدٌ مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ مَا ذَكَرَهُ جُمْهُورُ الشُّرَّاحِ وَعَزَاهُ صَاحِبُ الْغَايَةِ إلَى الْإِمَامِ قَاضِي خَانْ حَيْثُ قَالَ: وَجَوَابُهُ مَا قَالَ فَخْرُ الدِّينِ قَاضِي خَانْ أَنَّ مَا أَخَذَهُ الْمَوْلَى مِنْ الْغَاصِبِ هُوَ بَدَلٌ عَنْ الْمَدْفُوعِ إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى مِنْ الْعَبْدِ فِيمَا بَيْنَ الْمَوْلَى وَالْغَاصِبِ. وَأَمَّا فِي حَقِّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى فَلَا يُعْتَبَرُ بَدَلًا عَنْ الْعَبْدِ بَلْ يُعْتَبَرُ بَدَلًا عَنْ الْمَيِّتِ وَيَكُونُ الشَّيْءُ الْوَاحِدُ بَدَلًا عَنْ عَيْنٍ فِي حَقِّ إنْسَانٍ، وَيَكُونُ بَدَلًا عَنْ شَيْءٍ آخَرَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ كَالنَّصْرَانِيِّ إذَا بَاعَ الْخَمْرَ وَقَضَى مِنْهُ دَيْنَ الْمُسْلِمِ يَجُوزُ وَيَكُونُ الْمَأْخُوذُ بَدَلَ الْخَمْرِ فِي حَقِّ النَّصْرَانِيِّ وَفِي حَقِّ الْمُسْلِمِ بَدَلَ دَيْنِهِ كَذَا هَاهُنَا اهـ.

(قَوْلُهُ وَلَهُمَا أَنَّ حَقَّ الْأَوَّلِ فِي جَمِيعِ الْقِيمَةِ لِأَنَّهُ حِينَ جَنَى فِي حَقِّهِ لَا يُزَاحِمُهُ أَحَدٌ، وَإِنَّمَا انْتَقَصَ بِاعْتِبَارِ مُزَاحَمَةِ الثَّانِي إلَخْ) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ: وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ الثَّانِيَةَ مُقَارِنَةً لِلْأُولَى حُكْمًا فَكَيْفَ يَكُونُ حَقُّ الْأَوَّلِ فِي جَمِيعِ الْقِيمَةِ، وَالْجَوَابُ أَنَّ

ص: 368

عَلَى الْغَاصِبِ لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّ مِنْ يَدِهِ بِسَبَبٍ كَانَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ.

قَالَ (وَإِنْ كَانَ جَنَى عِنْدَ الْمَوْلَى فَغَصَبَهُ رَجُلٌ فَجَنَى عِنْدَهُ جِنَايَةً أُخْرَى فَعَلَى الْمَوْلَى قِيمَتُهُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ وَيَرْجِعُ بِنِصْفِ الْقِيمَةِ عَلَى الْغَاصِبِ) لِمَا بَيَّنَّا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ، غَيْرَ أَنَّ اسْتِحْقَاقَ النِّصْفِ حَصَلَ بِالْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ إذْ كَانَتْ هِيَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ فَيَدْفَعُهُ إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى وَلَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْغَاصِبِ وَهَذَا بِالْإِجْمَاعِ. ثُمَّ وَضَعَ الْمَسْأَلَةَ فِي الْعَبْدِ فَقَالَ (وَمَنْ غَصَبَ عَبْدًا فَجَنَى فِي يَدِهِ ثُمَّ رَدَّهُ فَجَنَى جِنَايَةً أُخْرَى فَإِنَّ الْمَوْلَى يَدْفَعُهُ إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَتَيْنِ ثُمَّ يَرْجِعُ عَلَى الْغَاصِبِ بِنِصْفِ الْقِيمَةِ فَيَدْفَعُهُ إلَى الْأَوَّلِ وَيَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْغَاصِبِ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ رحمه الله: يَرْجِعُ بِنِصْفِ الْقِيمَةِ فَيُسَلِّمُ لَهُ)، وَإِنْ جَنَى عِنْدَ الْمَوْلَى ثُمَّ غَصَبَهُ فَجَنَى فِي يَدِهِ دَفَعَهُ الْمَوْلَى نِصْفَيْنِ وَيَرْجِعُ بِنِصْفِ قِيمَتِهِ فَيَدْفَعُهُ إلَى الْأَوَّلِ وَلَا يَرْجِعُ بِهِ (وَالْجَوَابُ فِي الْعَبْدِ كَالْجَوَابِ فِي الْمُدَبَّرِ) فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا، إلَّا أَنَّ فِي هَذَا الْفَصْلِ يَدْفَعُ الْمَوْلَى الْعَبْدَ وَفِي الْأَوَّلِ يَدْفَعُ الْقِيمَةَ.

قَالَ (وَمَنْ غَصَبَ مُدَبَّرًا فَجَنَى عِنْدَهُ جِنَايَةً ثُمَّ رَدَّهُ عَلَى الْمَوْلَى ثُمَّ غَصَبَهُ ثُمَّ جَنَى عِنْدَهُ جِنَايَةً فَعَلَى الْمَوْلَى قِيمَتُهُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ) لِأَنَّهُ مَنَعَ رَقَبَةً وَاحِدَةً بِالتَّدْبِيرِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ قِيمَةٌ وَاحِدَةٌ (ثُمَّ يَرْجِعُ بِقِيمَتِهِ عَلَى الْغَاصِبِ) لِأَنَّ الْجِنَايَتَيْنِ كَانَتَا فِي يَدِ الْغَاصِبِ (فَيَدْفَعُ نِصْفَهَا إلَى الْأَوَّلِ) لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّ كُلَّ الْقِيمَةِ، لِأَنَّ عِنْدَ وُجُودِ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ لَا حَقَّ لِغَيْرِهِ، وَإِنَّمَا انْتَقَصَ بِحُكْمِ الْمُزَاحِمَةِ مِنْ بُعْدٍ. قَالَ (وَيَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْغَاصِبِ) لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ بِسَبَبٍ كَانَ فِي يَدِهِ وَيُسَلِّمُ لَهُ، وَلَا يَدْفَعُهُ إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى، وَلَا إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ إلَّا فِي النِّصْفِ لِسَبْقِ حَقِّ الْأَوَّلِ وَقَدْ وَصَلَ ذَلِكَ إلَيْهِ. ثُمَّ قِيلَ: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى الِاخْتِلَافِ كَالْأُولَى، وَقِيلَ عَلَى

الْمُقَارَنَةَ جُعِلَتْ حُكْمًا فِي حَقِّ التَّضْمِينِ لَا غَيْرُ، وَالْأُولَى مُتَقَدِّمَةٌ حَقِيقَةً وَقَدْ انْعَقَدَتْ مُوجِبَةً لِكُلِّ الْقِيمَةِ مِنْ غَيْرِ مُزَاحِمٍ وَأَمْكَنَ تَوْفِيرُ مُوجَبِهَا فَلَا يَمْتَنِعُ بِلَا مَانِعٍ اهـ.

أَقُولُ: فِي الْجَوَابِ بَحْثٌ، لِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمُقَارَنَةَ جُعِلَتْ حُكْمًا فِي التَّضْمِينِ لَا غَيْرُ بَلْ جُعِلَتْ حُكْمًا أَيْضًا فِي حَقِّ مُشَارَكَةِ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى كَمَا أَرْشَدَ إلَيْهِ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ فِي الْفَصْلِ السَّابِقِ، لِأَنَّ الثَّانِيَةَ مُقَارِنَةٌ حُكْمًا مِنْ وَجْهٍ وَلِهَذَا يُشَارِكُ وَلِيُّ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ الْأُولَى اهـ.

فَإِذَا جُعِلَتْ الْمُقَارَنَةُ حُكْمًا فِي حَقِّ مُشَارَكَةِ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ أَيْضًا كَانَ وَلِيُّ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ مُزَاحِمًا لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى فِي اسْتِحْقَاقِهِ جَمِيعَ الْقِيمَةِ، فَكَيْفَ يَأْخُذُ وَلِيُّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى وَحْدَهُ كُلَّ الْقِيمَةِ مَعَ مُزَاحَمَةِ وَلِيِّ الثَّانِيَةِ لَهُ فِي اسْتِحْقَاقِهِ إيَّاهُ، وَإِنْ كَانَ الِاعْتِبَارُ لِتَقَدُّمِ الْأُولَى حَقِيقَةً دُونَ الْمُقَارَنَةِ الْحُكْمِيَّةِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَسْتَحِقَّ وَلِيُّ الثَّانِيَةِ شَيْئًا مِنْ قِيمَةِ الْمُدَبَّرِ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ فَلْيُتَأَمَّلْ فِي الْجَوَابِ الشَّافِي.

(بَابُ غَصْبِ الْعَبْدِ وَالْمُدَبَّرِ وَالصَّبِيِّ وَالْجِنَايَةِ فِي ذَلِكَ)(قَوْلُهُ وَلَا إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ إلَّا فِي النِّصْفِ لِسَبْقِ حَقِّ الْأَوَّلِ) أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إنْ كَانَ حَقُّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ يَتَعَلَّقُ رَأْسًا بِنِصْفِ

ص: 369

الِاتِّفَاقِ. وَالْفَرْقُ لِمُحَمَّدٍ أَنَّ فِي الْأُولَى الَّذِي يَرْجِعُ بِهِ عِوَضٌ عَمَّا سَلَّمَ لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى لِأَنَّ الْجِنَايَةَ الثَّانِيَةَ كَانَتْ فِي يَدِ الْمَالِكِ، فَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ ثَانِيًا يَتَكَرَّرُ الِاسْتِحْقَاقُ، فَأَمَّا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ عِوَضًا عَنْ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ لِحُصُولِهَا فِي يَدِ الْغَاصِبِ فَلَا يُؤَدِّي إلَى مَا ذَكَرْنَاهُ.

قَالَ (وَمَنْ غَصَبَ صَبِيًّا حُرًّا فَمَاتَ فِي يَدِهِ فَجْأَةً أَوْ بِحُمَّى فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَإِنْ مَاتَ مِنْ صَاعِقَةٍ أَوْ نَهْسَةِ حَيَّةٍ فَعَلَى عَاقِلَةِ الْغَاصِبِ الدِّيَةُ) وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ. وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَضْمَنَ فِي الْوَجْهَيْنِ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ، لِأَنَّ الْغَصْبَ فِي الْحُرِّ لَا يَتَحَقَّقُ؛ أَلَا يَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ مُكَاتَبًا صَغِيرًا لَا يَضْمَنُ مَعَ أَنَّهُ حُرٌّ يَدًا، فَإِذَا كَانَ الصَّغِيرُ حُرًّا رَقَبَةً وَيَدًا أَوْلَى. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ بِالْغَصْبِ وَلَكِنْ يَضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ، وَهَذَا إتْلَافٌ تَسْبِيبًا لِأَنَّهُ نَقَلَهُ إلَى أَرْضٍ مَسْبَعَةٍ أَوْ إلَى مَكَانِ الصَّوَاعِقِ، وَهَذَا لِأَنَّ الصَّوَاعِقَ وَالْحَيَّاتِ وَالسِّبَاعَ لَا تَكُونُ فِي كُلِّ مَكَان، فَإِذَا نَقَلَهُ إلَيْهِ فَهُوَ مُتَعَدٍّ فِيهِ وَقَدْ

الْقِيمَةِ لَا بِكُلِّهَا كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ إلَّا فِي النِّصْفِ يَنْبَغِي أَنْ لَا تَكُونَ الَّتِي وَجَبَتْ عَلَى الْمَوْلَى بَيْنَ وَلِيِّ الْجِنَايَتَيْنِ نِصْفَيْنِ كَمَا هُوَ الْمَذْكُورُ فِي وَضْعِ الْمَسْأَلَةِ، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا: ثُلُثَاهُ لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى، وَثُلُثُهُ لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ لِأَنَّ حَقَّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى قَدْ تَعَلَّقَ بِكُلِّ الْقِيمَةِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْمُصَنِّفُ فِيمَا قَبْلُ حَيْثُ قَالَ: لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّ كُلَّ الْقِيمَةِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَتَعَلَّقَ حَقُّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ بِنِصْفِ الْقِيمَةِ يَكُونُ حَقُّهُ فِي الْقِيمَةِ نِصْفَ حَقِّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَضَارَبَا فِي الْقِيمَةِ بِقَدْرِ حَقَّيْهِمَا فِيهَا، إذْ قَدْ مَرَّ فِي الْفَصْلِ السَّابِقِ أَنَّ جِنَايَاتِ الْمُدَبَّرِ إذَا تَوَالَتْ لَا تُوجِبُ إلَّا قِيمَةً وَاحِدَةً لِأَنَّهُ لَا مَنْعَ مِنْ الْمَوْلَى إلَّا فِي رَقَبَةٍ وَاحِدَةٍ، وَأَوْلِيَاءُ الْجِنَايَاتِ يَتَضَارَبُونَ بِالْحِصَصِ فِيهَا وَإِنْ كَانَ حَقُّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ يَتَعَلَّقُ أَيْضًا بِكُلِّ الْقِيمَةِ، وَلَكِنْ يَسْقُطُ نِصْفُهَا بِالتَّزَاحُمِ فَيَكُونُ حَقُّهُ الْبَاقِي لَهُ نِصْفُهَا، وَكَانَ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِ الْمُصَنِّفِ لَا حَقَّ لَهُ إلَّا فِي النِّصْفِ يَنْبَغِي أَنْ يَدْفَعَ الْمَوْلَى مَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْغَاصِبِ ثَانِيًا إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ، لِأَنَّ حَقَّهُ كَانَ فِي كُلِّ الْقِيمَةِ كَوْنُ الْجِنَايَةِ الْأُولَى، إلَّا أَنَّهُ سَقَطَ نِصْفُهَا بِالتَّزَاحُمِ، فَلَمَّا انْدَفَعَ التَّزَاحُمُ بِوُصُولِ حَقِّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى إلَيْهِ بِتَمَامِهِ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَعُودَ حَقُّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ فِي النِّصْفِ السَّاقِطِ بِالتَّزَاحُمِ إلَيْهِ كَحَقِّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى.

ثُمَّ أَقُولُ: يُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ بِأَنْ يَخْتَارَ الشِّقَّ الثَّانِيَ، وَيُقَالُ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ وَلِيِّ الْجِنَايَتَيْنِ: إنَّ حَقَّ الْأَوَّلِ يَتَعَلَّقُ بِكُلِّ الْقِيمَةِ ثُمَّ يُنْتَقَصُ نِصْفُهَا بِتَزَاحُمِ الثَّانِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَلَكِنْ لَا يَسْقُطُ بِالْكُلِّيَّةِ وَحَقُّ الثَّانِي أَيْضًا يَتَعَلَّقُ بِكُلِّهَا وَلَكِنْ يَسْقُطُ نِصْفُهَا بِالْكُلِّيَّةِ بِتَزَاحُمِ الْأَوَّلِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِغَيْرِ الْأَوَّلِ عِنْدَ وُجُودِ الْجِنَايَةِ الْأُولَى، فَانْعَقَدَتْ سَبَبًا مُوجِبًا لِاسْتِحْقَاقِ كُلِّ الْقِيمَةِ، وَانْتِقَاصُ حَقِّهِ إنَّمَا كَانَ يُعَارِضُ حُدُوثَ الْمُزَاحَمَةِ بَعْدَ ذَلِكَ، بِخِلَافِ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ فَإِنَّهَا وُجِدَتْ وَالْمُزَاحِمُ مُقَارِنٌ فَلَمْ تَنْعَقِدْ سَبَبًا مُوجِبًا لِاسْتِحْقَاقِ الزَّائِدِ عَلَى النِّصْفِ فَسَقَطَ مَا وَرَاءَ النِّصْفِ وَالسَّاقِطُ مُتَلَاشٍ فَلَا يَعُودُ كَمَا تَقَرَّرَ عِنْدَهُمْ، وَمَرَّ فِي مَوَاضِعَ شَتَّى مِنْ الْكِتَابِ، هَذَا غَايَةُ مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْكَلَامِ فِي تَوْجِيهِ الْمَقَامِ.

(قَوْلُهُ فَأَمَّا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ عِوَضًا عَنْ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ لِحُصُولِهَا فِي يَدِ الْغَاصِبِ فَلَا يُؤَدِّي إلَى مَا ذَكَرْنَاهُ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: فِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّ الْجِنَايَةَ

ص: 370

أَزَالَ حِفْظَ الْوَلِيِّ فَيُضَافُ إلَيْهِ، لِأَنَّ شَرْطَ الْعِلَّةِ يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْعِلَّةِ إذَا كَانَ تَعَدِّيًا كَالْحَفْرِ فِي الطَّرِيقِ، بِخِلَافِ الْمَوْتِ فَجْأَةً أَوْ بِحُمَّى، لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَمَاكِنِ، حَتَّى لَوْ نَقَلَهُ إلَى مَوْضِعٍ يَغْلِبُ فِيهِ الْحُمَّى وَالْأَمْرَاضُ نَقُولُ بِأَنَّهُ يَضْمَنُ فَتَجِبُ الدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ لِكَوْنِهِ قَتْلًا تَسْبِيبًا.

قَالَ (وَإِذَا أُودِعَ صَبِيٌّ عَبْدًا فَقَتَلَهُ فَعَلَى عَاقِلَتِهِ الدِّيَةُ، وَإِنْ أُودِعَ طَعَامًا فَأَكَلَهُ لَمْ يَضْمَنْ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَالشَّافِعِيُّ: يَضْمَنُ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا، وَعَلَى هَذَا إذَا أُودِعَ الْعَبْدُ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ مَالًا فَاسْتَهْلَكَهُ لَا يُؤَاخَذُ بِالضَّمَانِ فِي الْحَالِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَيُؤَاخَذُ بِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَالشَّافِعِيِّ يُؤَاخَذُ بِهِ فِي الْحَالِ. وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الْإِقْرَاضُ وَالْإِعَارَةُ فِي الْعَبْدِ وَالصَّبِيِّ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ فِي أَصْلِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: صَبِيٌّ قَدْ عَقَلَ، وَفِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ وَضْعُ الْمَسْأَلَةِ فِي صَبِيٍّ ابْنِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ غَيْرَ الْعَاقِلِ يَضْمَنُ بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّ التَّسْلِيطَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ وَفِعْلُهُ مُعْتَبَرٌ لَهُمَا أَنَّهُ أَتْلَفَ مَالًا مُتَقَوِّمًا مَعْصُومًا حَقًّا لِمَالِكِهِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ كَمَا إذَا كَانَتْ الْوَدِيعَةُ عَبْدًا وَكَمَا إذَا أَتْلَفَهُ غَيْرُ الصَّبِيِّ فِي يَدِ الصَّبِيِّ الْمُودَعِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّهُ أَتْلَفَ مَالًا غَيْرَ مَعْصُومٍ فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ كَمَا إذَا أَتْلَفَهُ بِإِذْنِهِ وَرِضَاهُ، وَهَذَا لِأَنَّ الْعِصْمَةَ تَثْبُتُ حَقًّا لَهُ وَقَدْ فَوَّتَهَا عَلَى نَفْسِهِ حَيْثُ وَضَعَ الْمَالَ

الثَّانِيَةَ وَإِنْ حَصَلَتْ فِي يَدِ الْغَاصِبِ لَكِنْ أَخَذَ الْمَوْلَى مِنْهُ حَقَّهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلَمْ يَبْقَ لِوَلِيِّهَا اسْتِحْقَاقٌ حَتَّى يَجْعَلَ الْمَأْخُوذَ مِنْ الْغَاصِبِ ثَانِيًا فِي مُقَابَلَةِ مَا أَخَذَهُ اهـ.

أَقُولُ: هَذَا النَّظَرُ نَاشِئٌ مِنْ غَلَطٍ فِي اسْتِخْرَاجِ مُرَادِ الْمُصَنِّفِ رحمه الله، فَإِنَّ الشَّارِحَ الْمَذْكُورَ زَعَمَ أَنَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ بِمَا يُجْعَلُ عِوَضًا عَنْ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ فِي قَوْلِهِ يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ عِوَضًا عَنْ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ هُوَ الَّذِي يَرْجِعُ بِهِ الْمَوْلَى عَلَى الْغَاصِبِ ثَانِيًا فَبَنَى نَظَرَهُ الْمَزْبُورَ عَلَيْهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ بِذَلِكَ هُوَ الَّذِي يَرْجِعُ بِهِ الْمَوْلَى عَلَى الْغَاصِبِ أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَهُوَ النِّصْفُ الَّذِي كَانَ حَقًّا لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ وَرَجَعَ بِهِ الْمَوْلَى عَلَى الْغَاصِبِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فِي ضِمْنِ رُجُوعِهِ عَلَيْهِ بِالْكُلِّ فَلَا اتِّجَاهَ أَصْلًا لِمَا قَالَ، وَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إلَّا الضَّلَالُ.

ص: 371

فِي يَدٍ مَانِعَةٍ فَلَا يَبْقَى مُسْتَحِقًّا لِلنَّظَرِ إلَّا إذَا أَقَامَ غَيْرَهُ مَقَامَ نَفْسِهِ فِي الْحِفْظِ، وَلَا إقَامَةَ هَاهُنَا لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى الِاسْتِقْلَالِ عَلَى الصَّبِيِّ وَلَا لِلصَّبِيِّ عَلَى نَفْسِهِ، بِخِلَافِ الْبَالِغِ وَالْمَأْذُونِ لَهُ لِأَنَّ لَهُمَا وِلَايَةٌ عَلَى أَنْفُسِهِمَا وَبِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ الْوَدِيعَةُ عَبْدًا لِأَنَّ عِصْمَتَهُ لِحَقِّهِ إذْ هُوَ مُبْقًى عَلَى أَصْلِ الْحُرِّيَّةِ فِي حَقِّ الدَّمِ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا أَتْلَفَهُ غَيْرُ الصَّبِيِّ فِي يَدِ الصَّبِيِّ لِأَنَّهُ سَقَطَتْ الْعِصْمَةُ بِالْإِضَافَةِ إلَى الصَّبِيِّ الَّذِي وَضَعَ فِي يَدِهِ الْمَالَ دُونَ غَيْرِهِ. قَالَ (وَإِنْ اسْتَهْلَكَ مَالًا ضَمِنَ) يُرِيدُ بِهِ مِنْ غَيْرِ إيدَاعٍ؛ لِأَنَّ الصَّبِيَّ يُؤَاخَذُ بِأَفْعَالِهِ، وَصِحَّةُ الْقَصْدِ لَا مُعْتَبَرَ بِهَا فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

(بَابُ الْقَسَامَةِ)

قَالَ (وَإِذَا وُجِدَ الْقَتِيلُ فِي مَحَلَّةٍ وَلَا يُعْلَمُ مَنْ قَتَلَهُ اُسْتُحْلِفَ خَمْسُونَ رَجُلًا مِنْهُمْ.

لَمَّا كَانَ أَمْرُ الْقَتِيلِ يَئُولُ إلَى الْقَسَامَةِ فِيمَا إذَا لَمْ يَعْلَمْ قَاتِلَهُ ذَكَرَهَا فِي بَابٍ عَلَى حِدَةٍ فِي آخِرِ الدِّيَاتِ. ثُمَّ إنَّ الْقَسَامَةَ فِي اللُّغَةِ:

ص: 372

يَتَخَيَّرُهُمْ الْوَلِيُّ بِاَللَّهِ مَا قَتَلْنَاهُ وَلَا عَلِمْنَا لَهُ قَاتِلًا) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إذَا كَانَ هُنَاكَ لَوْثٌ اسْتَحْلَفَ الْأَوْلِيَاءُ خَمْسِينَ يَمِينًا وَيَقْضِي لَهُمْ بِالدِّيَةِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَمْدًا كَانَتْ الدَّعْوَى أَوْ خَطَأً. وَقَالَ مَالِكٌ: يَقْضِي بِالْقَوَدِ إذَا كَانَتْ الدَّعْوَى فِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ، وَالْمَوْتُ عِنْدَهُمَا أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ عَلَامَةُ الْقَتْلِ عَلَى وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ أَوْ ظَاهِرٍ يَشْهَدُ لِلْمُدَّعِي مِنْ عَدَاوَةٍ ظَاهِرَةٍ أَوْ شَهَادَةِ عَدْلٍ أَوْ جَمَاعَةٍ غَيْرِ عُدُولٍ أَنَّ أَهْلَ الْمَحَلَّةِ قَتَلُوهُ،

اسْمٌ وُضِعَ مَوْضِعَ الْإِقْسَامِ، كَذَا فِي عَامَّةِ الشُّرُوحِ أَخْذًا مِنْ الْمُغْرِبِ. وَقَالَ فِي مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ: الْقَسَامَةُ لُغَةً مَصْدَرُ أَقْسَمَ قَسَامَةً أَوْ اسْمٌ وُضِعَ مَوْضِعَ الْإِقْسَامِ انْتَهَى.

أَقُولُ: لَا يُرَى وَجْهُ صِحَّةٍ لِكَوْنِ الْقَسَامَةِ مَصْدَرَ أَقْسَمَ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ لَهُ دُرْبَةٌ بِعِلْمِ الْأَدَبِ وَأَمَّا فِي الشَّرِيعَةِ فَهِيَ أَيْمَانٌ يُقْسِمُ بِهَا أَهْلُ مَحَلَّةٍ أَوْ دَارٍ وُجِدَ فِيهَا قَتِيلٌ بِهِ أَثَرُ جِرَاحَةٍ يَقُولُ كُلٌّ مِنْهُمْ بِاَللَّهِ مَا قَتَلْتُهُ وَمَا عَلِمْتُ لَهُ قَاتِلًا كَذَا فِي الْعِنَايَةِ. أَقُولُ: فِيهِ قُصُورٌ، فَإِنَّهُ يَخْرُجُ مِنْهُ مَا إذَا وَجَدَ الْقَتِيلَ لَا فِي مَحَلَّةٍ وَلَا فِي دَارٍ بَلْ فِي مَوْضِعٍ خَارِجٍ مِنْ مِصْرٍ أَوْ قَرْيَةٍ قَرِيبٍ مِنْهُ بِحَيْثُ يُسْمَعُ الصَّوْتُ مِنْهُ مَعَ أَنَّهُ يَجِبُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَيْضًا قَسَامَةٌ شَرْعِيَّةٌ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ وَيَجِيءُ فِي الْكِتَابِ. وَلَا يُقَالُ: إنَّهُ بَنَى الْكَلَامَ عَلَى مَا هُوَ الْأَكْثَرُ وُقُوعًا، لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ تَعْرِيفٍ لِمَعْنَى الْقَسَامَةِ فِي الشَّرِيعَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ جَامِعًا وَمَانِعًا كَمَا لَا يَخْفَى. فَالْأَوْلَى أَنْ يُزَادَ عَلَيْهِ قُيُودٌ وَيُقَالُ: هِيَ فِي الشَّرِيعَةِ أَيْمَانٌ يُقْسِمُ بِهَا أَهْلُ مَحَلَّةٍ أَوْ دَارٍ أَوْ مَوْضِعٍ خَارِجٍ مِنْ مِصْرَ أَوْ قَرْيَةٍ قَرِيبٍ مِنْهُ بِحَيْثُ يُسْمَعُ الصَّوْتُ مِنْهُ إذَا وُجِدَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا قَتِيلٌ بِهِ أَثَرٌ لَا يُعْلَمُ مَنْ قَتَلَهُ يَقُولُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِاَللَّهِ مَا قَتَلْتُ وَلَا عَلِمْتُ لَهُ قَاتِلًا. وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ: وَأَمَّا تَفْسِيرُهَا شَرْعًا فَمَا رَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ: فِي الْقَتِيلِ يُوجَدُ فِي الْمَحَلَّةِ أَوْ دَارِ رَجُلٍ فِي الْمِصْرِ إنْ كَانَ بِهِ جِرَاحَةٌ أَوْ أَثَرُ ضَرْبٍ أَوْ أَثَرُ خَنْقٍ وَلَا يُعْلَمُ مَنْ قَتَلَهُ يُقْسِمُ خَمْسُونَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ كُلٌّ مِنْهُمْ بِاَللَّهِ مَا قَتَلْتُهُ وَلَا عَلِمْتُ لَهُ قَاتِلًا

انْتَهَى.

أَقُولُ: فِيهِ سَمَاجَةٌ لَا تَخْفَى، فَإِنَّ مَا رَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي النِّهَايَةِ إنَّمَا هُوَ مَسْأَلَةُ الْقَسَامَةِ لَا تَفْسِيرُ الْقَسَامَةِ شَرْعًا، فَإِنَّ التَّفْسِيرَ مِنْ قَبِيلِ التَّصَوُّرَاتِ، وَمَا ذُكِرَ فِيهَا تَصْدِيقٌ مِنْ قَبِيلِ الشَّرْطِيَّاتِ كَمَا تَرَى، نَعَمْ يُمْكِنُ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُ تَفْسِيرُ الْقَسَامَةِ شَرْعًا بِتَدْقِيقِ النَّظَرِ، لَكِنَّهُ فِي مَوْضِعِ بَيَانِ مَعْنَى الْقَسَامَةِ شَرْعًا فِي أَوَّلِ الْبَابِ تَعَسُّفٌ خَارِجٌ عَنْ سُنَنِ الصَّوَابِ. ثُمَّ قَالَ فِي النِّهَايَةِ: وَأَمَّا شَرْطُهَا فَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُقْسِمُ رَجُلًا بَالِغًا عَاقِلًا حُرًّا، فَلِذَلِكَ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْقَسَامَةِ الْمَرْأَةُ وَالصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ وَالْعَبْدُ، وَأَنْ يَكُونَ فِي الْمَيِّتِ الْمَوْجُودِ أَثَرُ الْقَتْلِ، وَأَمَّا لَوْ وُجِدَ مَيِّتًا لَا أَثَرَ بِهِ فَلَا قَسَامَةَ وَلَا دِيَةَ. وَمِنْ شُرُوطِهَا أَيْضًا تَكْمِيلُ الْيَمِينِ بِالْخَمْسِينَ انْتَهَى. وَفِي غَايَةِ الْبَيَانِ أَيْضًا كَذَلِكَ. أَقُولُ: فِيهِ كَلَامٌ. أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ شُرُوطَهَا غَيْرُ مُنْحَصِرَةٍ بِمَا ذَكَرَ، فَإِنَّ مِنْهَا أَيْضًا أَنْ لَا يُعْلَمَ قَاتِلُهُ، فَإِنْ عُلِمَ فَلَا قَسَامَةَ فِيهِ وَلَكِنْ يَجِبُ الْقِصَاصُ أَوْ الدِّيَةُ كَمَا تَقَدَّمَ.

وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْقَتِيلُ مِنْ بَنِي آدَمَ فَلَا قَسَامَةَ فِي بَهِيمَةٍ وُجِدَتْ فِي مَحَلَّةِ قَوْمٍ وَلَا غُرْمَ فِيهَا. وَمِنْهَا الدَّعْوَى مِنْ أَوْلِيَاءِ الْقَتِيلِ لِأَنَّ الْقَسَامَةَ يَمِينٌ وَالْيَمِينُ لَا تَجِبُ بِدُونِ الدَّعْوَى كَمَا فِي سَائِرِ الدَّعَاوَى. وَمِنْهَا إنْكَارُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِأَنَّ الْيَمِينَ وَظِيفَةُ الْمُنْكِرِ، وَمِنْهَا الْمُطَالَبَةُ بِالْقَسَامَةِ، لِأَنَّ الْيَمِينَ حَقُّ الْمُدَّعِي وَحَقُّ الْإِنْسَانِ يُوفَى عِنْدَ طَلَبِهِ كَمَا فِي سَائِرِ الْأَيْمَانِ. وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْمَوْضِعُ الَّذِي وُجِدَ فِيهِ الْقَتِيلُ مِلْكًا لِأَحَدٍ أَوْ فِي يَدِ أَحَدٍ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِلْكًا لِأَحَدٍ وَلَا فِي يَدِ أَحَدٍ أَصْلًا فَلَا قَسَامَةَ فِيهِ وَلَا دِيَةَ.

وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ الْقَتِيلُ مِلْكًا لِصَاحِبِ الْمِلْكِ الَّذِي وُجِدَ فِيهِ

ص: 373

وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لَهُ فَمَذْهَبُهُ مِثْلُ مَذْهَبِنَا، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُكَرِّرُ الْيَمِينَ بَلْ يَرُدُّهَا عَلَى الْوَلِيِّ، فَإِنْ حَلَفُوا لَا دِيَةَ عَلَيْهِمْ لِلشَّافِعِيِّ فِي الْبَدَاءِ بِيَمِينِ الْوَلِيِّ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام لِلْأَوْلِيَاءِ «فَيُقْسِمُ مِنْكُمْ خَمْسُونَ أَنَّهُمْ قَتَلُوهُ» وَلِأَنَّ الْيَمِينَ تَجِبُ عَلَى مَنْ يَشْهَدُ لَهُ الظَّاهِرُ وَلِهَذَا تَجِبُ عَلَى صَاحِبِ الْيَدِ، فَإِذَا كَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لِلْوَلِيِّ يَبْدَأُ بِيَمِينِهِ وَرَدُّ الْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعِي أَصْلٌ لَهُ كَمَا فِي النُّكُولِ، غَيْرَ أَنَّ هَذِهِ دَلَالَةٌ فِيهَا نَوْعُ شُبْهَةٍ وَالْقِصَاصُ لَا يُجَامِعُهَا وَالْمَالُ يَجِبُ مَعَهَا فَلِهَذَا وَجَبَتْ الدِّيَةُ. وَلَنَا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» وَفِي رِوَايَةٍ «عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ» وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ «أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام بَدَأَ بِالْيَهُودِ بِالْقَسَامَةِ وَجَعَلَ

فَلَا قَسَامَةَ وَلَا دِيَةَ فِي قِنٍّ أَوْ مُدَبَّرٍ أَوْ أُمِّ وَلَدٍ أَوْ مُكَاتَبٍ أَوْ مَأْذُونٍ وُجِدَ قَتِيلًا فِي دَارِ مَوْلَاهُ. نَصَّ فِي الْبَدَائِعِ عَلَى هَاتِيك الشُّرُوطِ كُلِّهَا بِالْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مَعَ زِيَادَةِ تَفْصِيلٍ. فَمَا وَجْهُ ذِكْرِ بَعْضِ الشُّرُوطِ وَتَرْكِ أَكْثَرِهَا. وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّهُ إذَا وُجِدَ قَتِيلٌ فِي دَارِ مُكَاتَبٍ فَعَلَيْهِ الْقَسَامَةُ، وَإِذَا حَلَفَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ الدِّيَةِ، نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْبَدَائِعِ، وَقَالَ: ذَكَرَهُ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ لِمُخْتَصَرِ الطَّحَاوِيِّ، فَمَا مَعْنَى جَعْلِ كَوْنِ الْمُقْسِمِ حُرًّا مِنْ شُرُوطِهَا، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُقَالَ: الْمُكَاتَبُ حُرٌّ يَدًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حُرًّا رَقَبَةً كَمَا صَرَّحُوا بِهِ وَمَرَّ فِي الْبَابِ السَّابِقِ فَوُجِدَ فِيهِ الْحُرِّيَّةُ فِي الْجُمْلَةِ فَجَازَ اشْتِرَاطُ الْحُرِّيَّةِ فِي الْقَسَامَةِ مُطْلَقًا بِنَاءً عَلَى ذَلِكَ، لَكِنْ لَا يَخْفَى مَا فِيهِ. وَقَالَ فِي الْعِنَايَةِ: وَشَرْطُهَا بُلُوغُ الْمُقْسِمِ وَعَقْلُهُ وَحُرِّيَّتُهُ وَوُجُودُ أَثَرِ الْقَتْلِ فِي الْمَيِّتِ وَتَكْمِيلُ الْيَمِينِ خَمْسِينَ انْتَهَى.

أَقُولُ: فِيهِ شَيْءٌ مِنْ الْإِخْلَالِ زَائِدٌ عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ وَغَايَةِ الْبَيَانِ وَهُوَ أَنَّهُ لَمْ يَتَعَرَّضْ فِيهِ لِاشْتِرَاطِ الذُّكُورَةِ فِي الْمُقْسِمِ مَعَ كَوْنِهَا شَرْطًا أَيْضًا. ثُمَّ أَقُولُ: فِي إمْكَانِ تَوْجِيهِ ذَلِكَ احْتِمَالَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ اكْتَفَى فِي إفَادَةِ ذَلِكَ الشَّرْطِ أَيْضًا بِتَذْكِيرِ لَفْظِ الْمُقْسِمِ فِي قَوْلِهِ: بُلُوغُ الْمُقْسِمِ، وَبِتَذْكِيرِ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ وَعَقْلُهُ وَحُرِّيَّتُهُ، وَإِنْ كَانَ تَغْلِيبُ الْمُذَكَّرِ عَلَى الْمُؤَنَّثِ شَائِعًا فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ. وَثَانِيهِمَا أَنَّهُ تَرَكَ ذِكْرَ اشْتِرَاطِ الذُّكُورَةِ بِنَاءً عَلَى وُجُوبِ الْقَسَامَةِ عَلَى الْمَرْأَةِ فِي مَسْأَلَةٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَهِيَ مَا سَيَجِيءُ فِي آخِرِ هَذَا الْبَابِ مِنْ أَنَّهُ لَوْ وُجِدَ قَتِيلٌ فِي قَرْيَةٍ لِامْرَأَةٍ؛ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ عَلَيْهَا الْقَسَامَةُ تُكَرَّرُ عَلَيْهَا الْأَيْمَانُ وَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهَا. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: الْقَسَامَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ أَيْضًا فَكَانَتْ الْمَرْأَةُ أَهْلًا لِلْقَسَامَةِ فِي الْجُمْلَةِ عِنْدَهُمَا.

(قَوْلُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لَهُ فَمَذْهَبُهُ مِثْلُ مَذْهَبِنَا) أَقُولُ: فِي تَحْرِيرِ الْمُصَنِّفِ هُنَا قُصُورٌ بَلْ اخْتِلَالٌ: أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ مَذْهَبَ الْخَصْمِ مِثْلُ مَذْهَبِنَا إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ لَوْثٌ: أَيْ قَرِينَةٌ حَالَ تَوَقُّعٍ فِي الْقَلْبِ صَدَقَ الْمُدَّعِي سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ اللَّوْثُ مِنْ قِبَلِ عَلَامَةِ الْقَتْلِ عَلَى وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ كَالدَّمِ، أَمْ مِنْ قِبَلِ ظَاهِرٍ يَشْهَدُ لِلْمُدَّعِي كَعَدَاوَةٍ ظَاهِرَةٍ وَنَحْوِهَا فَلَا وَجْهَ لِتَخْصِيصِهِ بِالثَّانِي كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لَهُ بَعْدَ عَطْفِ قَوْلِهِ أَوْ ظَاهِرٍ يَشْهَدُ لِلْمُدَّعِي فِيمَا قُبِلَ عَلَى قَوْلِهِ عَلَامَةُ الْقَتْلِ عَلَى وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ، فَحَقُّ الْعِبَارَةِ أَنْ يُقَالَ: وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ لَوْثٌ. وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ إيرَادَ الضَّمِيرِ الْمُفْرَدِ فِي قَوْلِهِ فَمَذْهَبُهُ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ فِيمَا قَبْلُ مَذْهَبَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَإِنْ قَالَ: اللَّوْثُ عِنْدَهُمَا إلَخْ مِنْ قَبِيلِ الْإِغْلَاقِ حَيْثُ لَا يُفْهَمُ أَنَّ مَرْجِعَهُ أَيٌّ مِنْهُمَا، وَعَنْ هَذَا حَمَلَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ عَلَى الشَّافِعِيِّ وَبَعْضُهُمْ عَلَى مَالِكٍ فَحَقُّ الْمَقَامِ الْإِظْهَارُ دُونَ الْإِضْمَارِ كَمَا لَا يَخْفَى (قَوْلُهُ وَلَنَا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» وَفِي رِوَايَةٍ «عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ») أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إنَّ قَوْلَهُ عليه الصلاة والسلام «وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ» إنْ أَفَادَ قَصْرَ الْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِنَاءً عَلَى مَا صَرَّحُوا بِهِ فِي عِلْمِ الْأَدَبِ مِنْ أَنَّ الْمُعَرَّفَ فَاللَّامُ

ص: 374

الدِّيَةَ عَلَيْهِمْ لِوُجُودِ الْقَتِيلِ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ» وَلِأَنَّ الْيَمِينَ حُجَّةٌ لِلدَّفْعِ دُونَ الِاسْتِحْقَاقِ وَحَاجَةُ الْوَلِيِّ إلَى الِاسْتِحْقَاقِ وَلِهَذَا لَا يَسْتَحِقُّ بِيَمِينِهِ الْمَالَ الْمُبْتَذَلَ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَسْتَحِقَّ بِهِ النَّفْسَ الْمُحْتَرَمَةَ. وَقَوْلُهُ يَتَخَيَّرُهُمْ الْوَلِيُّ إشَارَةً إلَى أَنَّ خِيَارَ تَعْيِينِ الْخَمْسِينَ إلَى الْوَلِيِّ لِأَنَّ الْيَمِينَ حَقُّهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَخْتَارُ مِنْ يَتَّهِمُهُ بِالْقَتْلِ أَوْ يَخْتَارُ صَالِحِي أَهْلِ الْمَحَلَّةِ لِمَا أَنَّ تَحَرُّزَهُمْ عَنْ الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ أَبْلَغُ التَّحَرُّزِ فَيَظْهَرُ الْقَاتِلُ، وَفَائِدَةُ الْيَمِينِ النُّكُولُ، فَإِنْ كَانُوا لَا يُبَاشِرُونَ وَيَعْلَمُونَ يُفِيدُ يَمِينَ الصَّالِحِ عَلَى الْعِلْمِ بِأَبْلَغَ مِمَّا يُفِيدُ يَمِينُ الطَّالِحِ، وَلَوْ اخْتَارُوا أَعْمَى أَوْ مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ جَازَ لِأَنَّهُ يَمِينٌ وَلَيْسَ بِشَهَادَةٍ.

قَالَ (وَإِذَا حَلَفُوا قَضَى عَلَى أَهْلِ الْمَحَلَّةِ بِالدِّيَةِ وَلَا يُسْتَحْلَفُ الْوَلِيُّ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا تَجِبُ الدِّيَةُ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَهْلٍ رضي الله عنه «تُبَرِّئُكُمْ الْيَهُودُ بِأَيْمَانِهَا» وَلِأَنَّ

الْجِنْسِ إذَا جُعِلَ مُبْتَدَأً فَهُوَ مَقْصُورٌ عَلَى الْخَبَرِ نَحْوُ " الْكَرَمُ التَّقْوَى وَالتَّوَكُّلُ عَلَى اللَّهِ " وَ «الْأَئِمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ» وَقَدْ أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ فِي بَابِ الْيَمِينِ مِنْ كِتَابِ الدَّعْوَى حَيْثُ اسْتَدَلَّ فِيهِ عَلَى أَنْ لَا يُرَدَّ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعِي عِنْدَنَا لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» وَقَالَ: فِي وَجْهِهِ جَعْلُ جِنْسِ الْأَيْمَانِ عَلَى الْمُنْكَرِينَ وَلَيْسَ وَرَاءَ الْجِنْسِ شَيْءٌ انْتَهَى.

لَزِمَ أَنْ لَا يَصِحَّ تَحْلِيفُ غَيْرِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مِنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ فِيمَا إذَا ادَّعَى الْوَلِيُّ الْقَتْلَ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ بِعَيْنِهِ مَعَ أَنَّهُ يُسْتَحْلَفُ خَمْسُونَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَيْضًا كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْمُصَنِّفُ فِيمَا سَيَجِيءُ، وَجَعَلَ إطْلَاقَ جَوَابِ الْكِتَابِ دَلِيلًا عَلَيْهِ وَقَالَ: وَهَكَذَا الْجَوَابُ فِي الْمَبْسُوطِ وَإِنْ لَمْ يُفِدْ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ» قَصْرَ الْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَا يُثْبِتُ الْمُدَّعَى هَاهُنَا بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ فَلَا يَصِحُّ التَّعْلِيلُ بِهِ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُقَالَ: يَجُوزُ أَنْ يُثْبِتَ بِهِ الْمُدَّعَى هُنَا بِوَجْهٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام ذَكَرَ قَوْلَهُ الْمَزْبُورَ بِطَرِيقِ الْقِسْمَةِ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ وَالْقِسْمَةُ تُنَافِي الشَّرِكَةَ، وَقَدْ أَشَارَ الْمُصَنِّفُ إلَيْهِ أَيْضًا فِي بَابِ الْيَمِينِ مِنْ كِتَابِ الدَّعْوَى حَيْثُ قَالَ: وَلَا تُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعِي لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» قَسْمٌ وَالْقِسْمَةُ تُنَافِي الشَّرِكَةَ، وَجَعَلَ جِنْسَ الْأَيْمَانِ عَلَى الْمُنْكِرِينَ وَلَيْسَ وَرَاءَ الْجِنْسِ شَيْءٌ انْتَهَى.

وَلَا يَخْفَى أَنَّ مُنَافَاةَ الْقِسْمَةِ الشَّرِكَةَ إنَّمَا تَقْتَضِي أَنْ لَا يَحْلِفَ الْمُدَّعِي لَا أَنْ لَا يَحْلِفَ غَيْرُ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ كَمَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ فِي صُورَةِ إنْ ادَّعَى الْوَلِيُّ الْقَتْلَ عَلَى بَعْضٍ مُعَيَّنٍ مِنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ. نَعَمْ يَلْزَمُ أَنْ يُنْتَقَضَ بِهَذِهِ الصُّورَةِ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ فِي بَابِ الْيَمِينِ وَجُعِلَ جِنْسُ الْأَيْمَانِ عَلَى الْمُنْكِرِينَ وَلَيْسَ وَرَاءَ الْجِنْسِ شَيْءٌ تَأَمَّلْ تَقِفْ.

(قَوْلُهُ وَفَائِدَةُ الْيَمِينِ النُّكُولُ، فَإِذَا كَانُوا لَا يُبَاشِرُونَ وَيَعْلَمُونَ يُفِيدُ يَمِينَ الصَّالِحِ عَلَى الْعِلْمِ بِأَبْلَغَ مِمَّا يُفِيدُ يَمِينُ الطَّالِحِ) أَقُولُ: لَا فَائِدَةَ هُنَا لِذِكْرِ الْمُقَدِّمَةِ الْقَائِلَةِ وَفَائِدَةُ الْيَمِينِ النُّكُولُ، بَلْ فِيهِ خَلَلٌ لِأَنَّ مُوجَبَ النُّكُولِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ حَبْسُ النَّاكِلِ حَتَّى يَحْلِفَ لَا الْقَضَاءُ بِمَا ادَّعَاهُ الْوَلِيُّ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْكِتَابِ، فَإِنَّمَا يَظْهَرُ فَائِدَةُ الْيَمِينِ عَلَى الصَّالِحِ فِي إظْهَارِهِ الْقَاتِلَ تَحَرُّزًا عَنْ الْيَمِينِ الْكَاذِبِ لَا فِي مُجَرَّدِ نُكُولِهِ حَتَّى يَلْزَمَ الْمَصِيرُ إلَى ذِكْرِ الْمُقَدِّمَةِ الْمَزْبُورَةِ، ثُمَّ إنَّ كَوْنَ فَائِدَةِ الْيَمِينِ النُّكُولُ إنَّمَا هُوَ فِي الْأَمْوَالِ لَا فِي بَابِ الْقَسَامَةِ لِأَنَّ الْيَمِينَ فِيهِ مُسْتَحَقَّةٌ لِذَاتِهَا تَعْظِيمًا لِأَمْرِ الدَّمِ وَلِهَذَا يَجْمَعُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الدِّيَةِ، بِخِلَافِ النُّكُولِ فِي الْأَمْوَالِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي الْكِتَابِ، فَلَا مَعْنَى لِذِكْرِ تِلْكَ الْمُقَدِّمَةِ هَاهُنَا، وَلَقَدْ أَصْلَحَ صَاحِبُ الْكَافِي تَقْرِيرَ هَذَا الْمَحَلِّ حَيْثُ قَالَ: وَلَهُ أَنَّ مُخْتَارَ الْمَشَايِخِ وَالصُّلَحَاءِ مِنْهُمْ لِأَنَّهُمْ يَتَحَرَّزُونَ عَنْ الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ أَكْثَرَ مِمَّا يَتَحَرَّزُ الْفَسَقَةُ، فَإِذَا عَلِمُوا الْقَاتِلَ فِيهِمْ أَظْهَرُوهُ وَلَمْ يَحْلِفُوا انْتَهَى، بَقِيَ فِي هَذَا الْمَقَامِ إشْكَالٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ أَخْبَرَ بَعْضٌ مِنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ بِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ الْقَاتِلَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ بِعَيْنِهِ أَوْ أَحَدٌ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهَا لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ وَلَا يُعْمَلُ بِهِ لِكَوْنِهِمْ مُتَّهَمِينَ بِدَفْعِ الْخُصُومَةِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ

ص: 375

الْيَمِينَ عُهِدَ فِي الشَّرْعِ مُبَرِّئًا لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَا مُلْزِمًا كَمَا فِي سَائِرِ الدَّعَاوَى. وَلَنَا أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام جَمَعَ بَيْنَ الدِّيَةِ وَالْقَسَامَةِ فِي حَدِيثِ ابْنِ سَهْلٍ وَفِي حَدِيثِ زِيَادِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ، وَكَذَا جَمَعَ عُمَرُ رضي الله عنه بَيْنَهُمَا عَلَى وَادِعَةَ. وَقَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «تُبَرِّئُكُمْ الْيَهُودُ» مَحْمُولٌ عَلَى الْإِبْرَاءِ عَنْ الْقِصَاصِ وَالْحَبْسِ،

وَسَيَجِيءُ فِي الْكِتَابِ تَفْصِيلُهُ فَمَا الْفَائِدَةُ فِي اسْتِحْلَافِهِمْ عَلَى الْعِلْمِ رَأْسًا، وَلَمْ أَرَ أَحَدًا مِنْ الثِّقَاتِ حَامَ حَوْلَ حَلِّ هَذَا الْإِشْكَالِ سِوَى صَاحِبِ الْبَدَائِعِ فَإِنَّهُ قَالَ: فَإِنْ قِيلَ: أَيَّةُ فَائِدَةٍ فِي الِاسْتِحْلَافِ عَلَى الْعِلْمِ وَهُمْ لَوْ عَلِمُوا الْقَاتِلَ فَأَخْبَرُوا بِهِ لَكَانَ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُمْ لِأَنَّهُمْ يُسْقِطُونَ بِهِ الضَّمَانَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ فَكَانُوا مُتَّهَمِينَ دَافِعِينَ الْغُرْمَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ.

وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «لَا شَهَادَةَ لِلْمُتَّهَمِ» وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «لَا شَهَادَةَ لِجَارِّ الْمَغْنَمِ وَلَا لِدَافِعِ الْمَغْرَمِ» قِيلَ: إنَّمَا اُسْتُحْلِفُوا عَلَى الْعِلْمِ اتِّبَاعًا لِلسُّنَّةِ، لِأَنَّ السُّنَّةَ هَكَذَا وَرَدَتْ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْأَخْبَارِ فَاتُّبِعْتِ السُّنَّةُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعْقَلَ فِيهِ الْمَعْنَى. ثُمَّ فِيهِ فَائِدَةٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ مِنْ الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ الْقَاتِلُ عَبْدًا لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ فَيُقِرُّ عَلَيْهِ بِالْقَتْلِ فَيُقْبَلُ إقْرَارُهُ، لِأَنَّ إقْرَارَ الْمَوْلَى عَلَى عَبْدِهِ بِالْقَتْلِ الْخَطَإِ صَحِيحٌ فَيُقَالُ لَهُ: ادْفَعْهُ أَوْ افْدِهِ وَيَسْقُطُ الْحُكْمُ عَنْ غَيْرِهِ فَكَانَ التَّحْلِيفُ عَلَى الْعِلْمِ مُفِيدًا، وَجَائِزٌ أَنْ يُقِرَّ عَلَى عَبْدِ غَيْرِهِ فَصَدَّقَهُ مَوْلَاهُ فَيُؤْمَرُ بِالدَّفْعِ أَوْ الْفِدَاءِ وَيَسْقُطُ الْحُكْمُ عَنْ غَيْرِهِ فَكَانَ مُفِيدًا فَجَازَ أَنْ يَكُونَ التَّحْلِيفُ عَلَى الْعِلْمِ لِهَذَا الْمَعْنَى فِي الْأَصْلِ، ثُمَّ بَقِيَ هَذَا الْحُكْمُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِوَاحِدٍ مِنْ الْحَالِفِينَ عَبْدٌ كَالرَّمَلِ فِي الطَّوَافِ «فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ رَمَلَ فِي الطَّوَافِ إظْهَارًا لِلْجَلَادَةِ وَالْقُوَّةِ لِلْكَفَرَةِ وَيَقُولُ: رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً أَظْهَرَ الْيَوْمَ الْجَلَادَةَ مِنْ نَفْسِهِ» ثُمَّ زَالَ ذَلِكَ الْيَوْمُ وَبَقِيَ الرَّمَلُ فِي الطَّوَافِ كَذَا هَذَا.

وَالثَّانِي أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ أَمَرَ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا أَوْ عَبْدًا مَحْجُورًا بِالْقَتْلِ، فَلَوْ أَقَرَّ بِهِ يَلْزَمُهُ فِي مَالِهِ فَيَحْلِفُ بِاَللَّهِ مَا عَلِمْتُ لَهُ قَاتِلًا، لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ عَلِمْتُ لَهُ قَاتِلًا وَهُوَ الصَّبِيُّ الَّذِي أَمَرَهُ بِقَتْلِهِ لَكَانَ حَاصِلُ الضَّمَانِ عَلَيْهِ وَيَسْقُطُ الْحُكْمُ عَنْ غَيْرِهِ فَكَانَ مُفِيدًا، إلَى هُنَا لَفْظُ الْبَدَائِعِ فَلْيَكُنْ هَذَا عَلَى ذِكْرٍ مِنْك

(قَوْلُهُ وَلَنَا أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام جَمَعَ بَيْنَ الدِّيَةِ وَالْقَسَامَةِ فِي حَدِيثِ ابْنِ سَهْلٍ) قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: فِيهِ بَحْثٌ، فَإِنَّهُ لَمْ يُجْرِ الْقَسَامَةَ بَيْنَهُمْ بِالْكُلِّيَّةِ، «وَإِنَّمَا وَدَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ عِنْدِهِ» ، وَفِي رِوَايَةٍ «مِنْ إبِلِ الصَّدَقَةِ» عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا وَنَقَلَهُ الشُّرَّاحُ هُنَا انْتَهَى. أَقُولُ: أَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى وُجُوبِ الْقَسَامَةِ عَلَى الْيَهُودِ بِقَوْلِهِ «تُبَرِّئُكُمْ الْيَهُودُ بِأَيْمَانِهَا» وَإِنَّمَا لَمْ يُجْرِ الْقَسَامَةَ بَيْنَهُمْ لِعَدَمِ طَلَبِ أَوْلِيَاءِ الْقَتِيلِ إيَّاهَا حَيْثُ قَالُوا: لَا نَرْضَى بِأَيْمَانِ قَوْمٍ كُفَّارٍ لَا يُبَالُونَ مَا حَلَفُوا عَلَيْهِ، وَمُطَالَبَةُ وَلِيِّ الْقَتِيلِ بِالْقَسَامَةِ شَرْطٌ لِإِجْرَائِهَا عَلَى الْخُصُومِ كَمَا عَرَفْته فِيمَا مَرَّ أَثْنَاءَ أَنْ ذَكَرْنَا شُرُوطَ الْقَسَامَةِ عَلَى التَّفْصِيلِ نَقْلًا عَنْ الْبَدَائِعِ، وَإِنَّمَا وَدَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِمِائَةٍ مِنْ إبِلِ الصَّدَقَةِ عَلَى سَبِيلِ الْحَمَالَةِ عَنْهُمْ بِنَاءً عَلَى أَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ مِنْ أَهْلِ الْبِرِّ إلَيْهِمْ، وَقَدْ أَفْصَحَ عَنْهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ هُنَا حَيْثُ قَالَا بَعْدَ نَقْلِ الْحَدِيثِ: إنَّمَا وَدَى رَسُولُ اللَّهِ عليه الصلاة والسلام لِأَنَّهُ تَجُوزُ الْحَمَالَةُ عَنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، فَإِنَّ قَضَاءَ دَيْنِ الْغَيْرِ بِرٌّ لَهُ، وَأَهْلُ الذِّمَّةِ مِنْ أَهْلِ الْبِرِّ إلَيْهِمْ حَتَّى جَازَ عِنْدَنَا صَرْفُ الْكَفَّارَاتِ إلَيْهِمْ، وَلَا يَجُوزُ مِنْ مَالِ الزَّكَاةِ إلَّا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِقْرَاضِ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ انْتَهَى.

ثُمَّ إنَّ هَذَا الْقَدْرَ مِنْ التَّوْجِيهِ إنَّمَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ عَلَى مَا رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَهْلِ بْنِ أَبِي حُثْمَةَ كَمَا وَقَعَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَأَمَّا مَا رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ كَمَا وَقَعَ فِي شَرْحِ الْآثَارِ لِلطَّحَاوِيِّ قَصْرًا عَلَى الزُّهْرِيِّ وَأَخْرَجَهُ كَثِيرٌ مِنْ الْمُحَدِّثِينَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ مِنْهُمْ عَبْدُ الرَّزَّاقِ رَوَاهُ فِي مُصَنَّفِهِ، وَمِنْهُمْ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ رَوَاهُ أَيْضًا فِي مُصَنَّفِهِ،

ص: 376

وَكَذَا الْيَمِينُ مُبَرِّئَةٌ عَمَّا وَجَبَ لَهُ الْيَمِينُ وَالْقَسَامَةُ مَا شُرِعَتْ لِتَجِبَ الدِّيَةُ إذَا نَكَلُوا، بَلْ شُرِعَتْ لِيَظْهَرَ الْقِصَاصُ بِتَحَرُّزِهِمْ عَنْ الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ فَيُقِرُّوا بِالْقَتْلِ، فَإِذَا حَلَفُوا حَصَلَتْ الْبَرَاءَةُ عَنْ الْقِصَاصِ.

ثُمَّ الدِّيَةُ تَجِبُ بِالْقَتْلِ الْمَوْجُودِ مِنْهُمْ ظَاهِرًا لِوُجُودِ الْقَتِيلِ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ لَا بِنُكُولِهِمْ، أَوْ وَجَبَتْ بِتَقْصِيرِهِمْ فِي الْمُحَافَظَةِ كَمَا فِي الْقَتْلِ الْخَطَإِ (وَمَنْ أَبَى مِنْهُمْ الْيَمِينَ حُبِسَ حَتَّى يَحْلِفَ) لِأَنَّ الْيَمِينَ فِيهِ مُسْتَحَقَّةٌ لِذَاتِهَا تَعْظِيمًا لِأَمْرِ الدَّمِ وَلِهَذَا يُجْمَعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الدِّيَةِ،

وَمِنْهُمْ الْوَاقِدِيُّ رَوَاهُ فِي مَغَازِيهِ فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ. فَإِيجَابُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْقَسَامَةَ وَالدِّيَةَ عَلَى الْيَهُودِ صَرِيحٌ بَيِّنٌ وَقَدْ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ إجْمَالًا مِنْ قَبْلُ حَيْثُ قَالَ: وَرَوَى ابْنُ الْمُسَيِّبِ «أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام بَدَأَ بِالْيَهُودِ فِي الْقَسَامَةِ وَجَعَلَ الدِّيَةَ عَلَيْهِمْ لِوُجُودِ الْقَتِيلِ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ» وَفَصَّلَهُ الشُّرَّاحُ حَيْثُ قَالُوا: رَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّ الْقَسَامَةَ كَانَتْ مِنْ أَحْكَامِ الْجَاهِلِيَّةِ فَقَرَّرَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي قَتِيلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ وُجِدَ فِي جُبِّ الْيَهُودِ بِخَيْبَرَ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ إلَى أَنْ قَالَ «فَأَلْزَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْيَهُودَ الدِّيَةَ وَالْقَسَامَةَ» انْتَهَى.

وَكَذَا أَمْرُ إيجَابِ الْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ مَعًا عَلَى الْيَهُودِ ظَاهِرٌ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَتَبَ إلَى أَهْلِ خَيْبَرَ: إنَّ هَذَا قَتِيلٌ وُجِدَ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ فَمَا الَّذِي يُخْرِجُهُ عَنْكُمْ؟ فَكَتَبُوا لَهُ إنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْحَادِثَةِ وَقَعَتْ فِي بَنِي إسْرَائِيلَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى مُوسَى عليه الصلاة والسلام أَمْرًا، فَإِنْ كُنْت نَبِيًّا فَاسْأَلْ اللَّهَ تَعَالَى مِثْلَ ذَلِكَ، فَكَتَبَ إلَيْهِمْ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرَانِي أَنْ أَخْتَارَ مِنْكُمْ خَمْسِينَ رَجُلًا يَحْلِفُونَ بِاَللَّهِ مَا قَتَلْنَا وَلَا عَلِمْنَا لَهُ قَاتِلًا ثُمَّ تَغْرَمُونَ الدِّيَةَ، قَالُوا: لَقَدْ قَضَيْت فِينَا بِالنَّامُوسِ: أَيْ بِالْوَحْيِ» كَذَا ذُكِرَ الْحَدِيثُ فِي الْكَافِي وَالْبَدَائِعِ وَغَيْرِهِمَا، فَظَهَرَ أَنَّ مَنْشَأَ الْبَحْثِ الْمَزْبُورِ عَدَمُ الْإِحَاطَةِ بِجَوَانِبِ الْمَقَامِ خَبَرًا.

(قَوْلُهُ وَكَذَا الْيَمِينُ تُبَرِّئُ عَمَّا وَجَبَ لَهُ الْقِصَاصُ وَالْقَسَامَةُ مَا شُرِعَتْ لِتَجِبَ الدِّيَةُ إذَا نَكَلُوا بَلْ شُرِعَتْ لِيَظْهَرَ الْقِصَاصُ بِتَحَرُّزِهِمْ عَنْ الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ فَيُقِرُّوا بِالْقَتْلِ، فَإِذَا حَلَفُوا حَصَلَتْ الْبَرَاءَةُ عَنْ الْقِصَاصِ) أَقُولُ: الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْجَوَابِ هُوَ عَنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ، وَلِأَنَّ الْيَمِينَ عُهِدَ فِي الشَّرْعِ مُبَرِّئًا لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ، لَكِنْ يَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّهُ إنَّمَا يَتِمُّ فِيمَا إذَا ادَّعَى وَلِيُّ الْقَتِيلِ الْقَتْلَ الْعَمْدَ، فَإِنَّ الْمُوجَبَ حِينَئِذٍ هُوَ الْقِصَاصُ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يُقِرُّوا بِذَلِكَ، فَإِنْ حَلَفُوا حَصَلَتْ الْبَرَاءَةُ عَنْهُ، وَأَمَّا فِيمَا إذَا ادَّعَى الْقَتْلَ خَطَأً فَلَا يَتِمُّ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْمُوجَبَ حِينَئِذٍ هُوَ الدِّيَةُ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يُقِرُّوا بِهِ، فَإِذَا حَلَفُوا لَا تَحْصُلُ الْبَرَاءَةُ عَنْهَا بَلْ تَجِبُ الدِّيَةُ عَلَيْهِمْ أَيْضًا عِنْدَنَا. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: وَلِيُّ الْقَتِيلِ وَإِنْ ادَّعَى الْقَتْلَ الْخَطَأَ يَحْلِفُ أَهْلُ الْمَحَلَّةِ بِأَنَّا مَا قَتَلْنَاهُ وَلَا عَلِمْنَا لَهُ قَاتِلًا بِإِطْلَاقِ الْقَتْلِ عَنْ قَيْدِ الْعَمْدِ وَالْخَطَإِ فَيَجُوزُ إنْ وَقَعَ الْقَتْلُ مِنْهُمْ عَمْدًا وَلَمْ يَعْلَمْهُ الْوَلِيُّ بَلْ ظَنَّ أَنَّهُمْ قَتَلُوا قَرِيبَهُ خَطَأً. فَلَوْ أَقَرُّوا فِي مِثْلِ ذَلِكَ بِالْقَتْلِ الْعَمْدِ تَحَرُّزًا عَنْ الْأَيْمَانِ الْكَاذِبَةِ بِنَاءً عَلَى إطْلَاقِ الْقَتْلِ فِي تَحْلِيفِهِمْ لَظَهَرَ الْقِصَاصُ، فَإِذَا حَلَفُوا حَصَلَتْ الْبَرَاءَةُ عَنْهُ قَطْعًا. فَإِنْ قُلْت: إذَا كَانَتْ دَعْوَى الْوَلِيِّ مَخْصُوصَةً بِالْقَتْلِ الْخَطَأِ كَيْفَ يَصِحُّ إطْلَاقُ الْقَتْلِ عِنْدَ التَّحْلِيفِ وَهَلْ لَهُ نَظِيرٌ فِي الشَّرْعِ؟ قُلْت: لَا غَرْوَ فِي ذَلِكَ، وَلَهُ نَظِيرٌ فِي الشَّرْعِ، أَلَا يَرَى أَنَّهُ لَوْ ادَّعَى الْوَلِيُّ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ بِعَيْنِهِ قَتْلَ قَرِيبِهِ عَمْدًا أَوْ خَطَأً اُسْتُحْلِفَ خَمْسُونَ مِنْهُمْ بِاَللَّهِ مَا قَتَلْنَاهُ وَلَا عَلِمْنَا لَهُ قَاتِلًا كَمَا اُسْتُحْلِفَ كَذَلِكَ لَوْ ادَّعَاهُ عَلَى جَمِيعِهِمْ عَلَى مَا سَيَجِيءُ فِي الْكِتَابِ فَتَأَمَّلْ، فَإِنْ حَلَّ هَذَا الْمَحَلُّ بِهَذَا الْوَجْهِ مِمَّا يُضْطَرُّ إلَيْهِ فِي تَصْحِيحِ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ هُنَا وَإِنْ كَانَ يَرَى تَعَسُّفًا فِي بَادِئِ الرَّأْيِ.

(قَوْلُهُ ثُمَّ الدِّيَةُ تَجِبُ بِالْقَتْلِ الْمَوْجُودِ مِنْهُمْ ظَاهِرًا لِوُجُودِ الْقَتِيلِ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ لَا بِنُكُولِهِمْ) أَقُولُ: لَا وَجْهَ لِذِكْرِ قَوْلِهِ لَا بِنُكُولِهِمْ هُنَا، بَلْ الْحَقُّ أَنْ يَذْكُرَ بَدَلَهُ لَا بِأَيْمَانِهِمْ لِأَنَّا الْآنَ بِصَدَدِ بَيَانِ مُوجَبِ أَيْمَانِهِمْ، وَأَمَّا مُوجَبُ نُكُولِهِمْ فَإِنَّمَا يَأْتِي بَيَانُهُ مِنْ بَعْدُ بِقَوْلِهِ وَمَنْ أَبَى مِنْهُمْ الْيَمِينَ حُبِسَ حَتَّى يَحْلِفَ فَلَا ارْتِبَاطَ لِقَوْلِهِ لَا بِنُكُولِهِمْ بِمَا نَحْنُ بِصَدَدِهِ، وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ قَوْلَهُ ثُمَّ الدِّيَةُ تَجِبُ بِالْقَتْلِ الْمَوْجُودِ مِنْهُمْ ظَاهِرًا إلَخْ جَوَابٌ عَنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ لَا مُلْزِمًا كَمَا فِي سَائِرِ الدَّعَاوَى: يَعْنِي مَا عُهِدَ الْيَمِينُ فِي الشَّرْعِ مُلْزِمًا كَمَا فِي سَائِرِ الدَّعَاوَى، فَالدَّافِعُ لَهُ أَنْ يُقَالَ: الدِّيَةُ إنَّمَا تَجِبُ بِالْقَتْلِ الْمَوْجُودِ مِنْهُمْ ظَاهِرًا لَا بِأَيْمَانِهِمْ، فَلَمْ يَكُنْ الْيَمِينُ مُلْزِمًا هُنَا كَمَا فِي سَائِرِ الدَّعَاوَى، فَقَوْلُهُ لَا بِنُكُولِهِمْ حَشْوٌ مَحْضٌ فِي دَفْعِ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا اللَّازِمُ أَنْ يُقَالَ بَدَلَهُ لَا بِأَيْمَانِهِمْ كَمَا لَا يَخْفَى.

(قَوْلُهُ وَمَنْ أَبَى مِنْهُمْ الْيَمِينَ حُبِسَ حَتَّى يَحْلِفَ) قَالَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ: هَذَا إذَا ادَّعَى

ص: 377

بِخِلَافِ النُّكُولِ فِي الْأَمْوَالِ لِأَنَّ الْيَمِينَ بَدَلٌ عَنْ أَصْلِ حَقِّهِ وَلِهَذَا يَسْقُطُ بِبَذْلِ الْمُدَّعِي وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ لَا يَسْقُطُ بِبَذْلِ الدِّيَةِ، هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا إذَا ادَّعَى الْوَلِيُّ الْقَتْلَ عَلَى جَمِيعِ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ، وَكَذَا إذَا ادَّعَى عَلَى الْبَعْضِ لَا بِأَعْيَانِهِمْ وَالدَّعْوَى فِي الْعَمْدِ أَوْ الْخَطَإِ لِأَنَّهُمْ لَا يَتَمَيَّزُونَ عَنْ الْبَاقِي، وَلَوْ ادَّعَى عَلَى الْبَعْضِ بِأَعْيَانِهِمْ أَنَّهُ قَتَلَ وَلِيَّهُ عَمْدًا أَوْ خَطَأً فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ، يَدُلُّ عَلَيْهِ إطْلَاقُ الْجَوَابِ فِي الْكِتَابِ، وَهَكَذَا الْجَوَابُ فِي الْمَبْسُوطِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْأَصْلِ أَنَّ فِي الْقِيَاسِ تَسْقُطُ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ عَنْ الْبَاقِينَ مِنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ، وَيُقَالُ لِلْوَلِيِّ أَلَكَ بَيِّنَةٌ؟ فَإِنْ قَالَ لَا يُسْتَحْلَفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَمِينًا وَاحِدَةً.

وَوَجْهُهُ أَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَاهُ لِاحْتِمَالِ وُجُودِ الْقَتْلِ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَإِنَّمَا عُرِفَ بِالنَّصِّ فِيمَا إذَا كَانَ فِي مَكَان يُنْسَبُ إلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ وَالْمُدَّعِي يَدَّعِي الْقَتْلَ عَلَيْهِمْ، وَفِيمَا وَرَاءَهُ بَقِيَ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ وَصَارَ كَمَا إذَا ادَّعَى الْقَتْلَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ غَيْرِهِمْ.

الْوَلِيُّ الْقَتْلَ عَمْدًا، أَمَّا إذَا ادَّعَاهُ خَطَأً فَنَكَلَ أَهْلُ الْمَحَلَّةِ فَإِنَّهُ يَقْضِي بِالدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَتِهِ وَلَا يُحْبَسُونَ لِيَحْلِفُوا انْتَهَى. وَأَمَّا سَائِرُ الشُّرَّاحِ فَلَمْ يُقَيِّدْ أَحَدٌ مِنْهُمْ هَاهُنَا مِثْلَ مَا قَيَّدَهُ تَاجُ الشَّرِيعَةِ، إلَّا أَنَّ صَاحِبَيْ النِّهَايَةِ وَالْعِنَايَةِ قَالَا فِي صَدْرِ هَذَا الْبَابِ: حُكْمُ الْقَسَامَةِ الْقَضَاءُ بِوُجُوبِ الدِّيَةِ إنْ حَلَفُوا، وَالْحَبْسُ حَتَّى يَحْلِفُوا إنْ أَبَوْا لَوْ ادَّعَى الْوَلِيُّ الْعَمْدَ، وَلَوْ ادَّعَى الْخَطَأَ فَالْقَضَاءُ بِالدِّيَةِ عِنْدَ النُّكُولِ انْتَهَى.

وَلَا يَخْفَى أَنَّ ظَاهِرَ مَا ذَكَرَاهُ هُنَاكَ يُطَابِقُ مَا ذَكَرَهُ تَاجُ الشَّرِيعَةِ هُنَا. أَقُولُ: لَا يَذْهَبُ عَلَيْك أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ إطْلَاقِ جَوَابِ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ هُنَا وَمِنْ اقْتِضَاءِ دَلِيلِهَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَمِنْ دَلَالَةِ قَوْلِهِ فِيمَا بَعْدُ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ إذَا ادَّعَى الْوَلِيُّ الْقَتْلَ عَلَى جَمِيعِ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ، وَكَذَا إذَا ادَّعَى عَلَى الْبَعْضِ لَا بِأَعْيَانِهِمْ، وَالدَّعْوَى فِي الْعَمْدِ أَوْ الْخَطَأِ أَنْ يَكُونَ الْحَبْسُ إلَى أَنْ يَحْلِفَ النَّاكِلُ مُوجَبَ النُّكُولِ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ صُورَتَيْ دَعْوَى الْعَمْدِ وَدَعْوَى الْخَطَإِ، وَعَنْ هَذَا تَرَى أَصْحَابَ الْمُتُونِ قَاطِبَةً أَطْلَقُوا جَوَابَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَكَذَا أَطْلَقَهُ الْإِمَامُ قَاضِي خَانْ فِي فَتَاوَاهُ حَيْثُ قَالَ: وَإِنْ امْتَنَعُوا عَنْ الْيَمِينِ حُبِسُوا حَتَّى يَحْلِفُوا انْتَهَى.

وَكَذَا حَالُ سَائِرِ ثِقَاتِ الْأَئِمَّةِ فِي تَصَانِيفِهِمْ، وَكَأَنَّ صَاحِبَ الْغَايَةِ تَنَبَّهَ لِهَذَا حَيْثُ قَالَ فِي صَدْرِ هَذَا الْبَابِ: حُكْمُ الْقَسَامَةِ الْقَضَاءُ بِوُجُوبِ الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ إذَا حَلَفُوا بَرِئُوا، وَأَمَّا إذَا أَبَوْا الْقَسَامَةَ فَيُحْبَسُونَ حَتَّى يَحْلِفُوا أَوْ يُقِرُّوا انْتَهَى فَإِنَّهُ جَرَى فِي بَيَانِ حُكْمِهَا أَيْضًا عَلَى الْإِطْلَاقِ كَمَا تَرَى. ثُمَّ أَقُولُ: التَّحْقِيقُ هَاهُنَا هُوَ أَنَّ فِي جَوَابِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَيْنِ إحْدَاهُمَا أَنَّهُمْ إنْ نَكَلُوا حُبِسُوا حَتَّى يَحْلِفُوا عَلَى الْإِطْلَاقِ وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَئِمَّتِنَا الثَّلَاثَةِ، وَالْأُخْرَى أَنَّهُمْ إنْ نَكَلُوا لَا يُحْبَسُونَ بَلْ يُقْضَى بِالدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَتِهِمْ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ بِلَا تَقْيِيدٍ بِدَعْوَى الْخَطَإِ، وَهُوَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ.

وَقَدْ أَفْصَحَ عَنْهُ فِي الْمُحِيطِ الْبُرْهَانِيِّ حَيْثُ قَالَ: ثُمَّ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ وَجَبَتْ الْقَسَامَةُ وَحَلَّفَ الْقَاضِي خَمْسِينَ رَجُلًا فَنَكَلُوا عَنْ الْحَلِفِ حُبِسُوا حَتَّى يَحْلِفُوا، هَكَذَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ. وَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ: لَا يُحْبَسُونَ، وَلَكِنْ يُقْضَى بِالدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَتِهِمْ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي مَالِكٍ: هَذَا قَوْلُهُ الْآخَرُ، وَكَانَ مَا ذُكِرَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ، إلَى هُنَا لَفْظُ الْمُحِيطِ. ثُمَّ أَقُولُ: بَقِيَ هَاهُنَا إشْكَالٌ، وَهُوَ أَنَّهُ قَدْ مَرَّ فِي بَابِ الْيَمِينِ مِنْ كِتَابِ الدَّعْوَى أَنَّ مَنْ ادَّعَى قِصَاصًا عَلَى غَيْرِهِ فَجَحَدَ اُسْتُحْلِفَ بِالْإِجْمَاعِ، ثُمَّ إنْ نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ يَلْزَمُهُ الْقِصَاصُ، وَإِنْ نَكَلَ فِي النَّفْسِ حُبِسَ حَتَّى يَحْلِفَ أَوْ يُقِرَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لَزِمَهُ الْأَرْشُ فِي النَّفْسِ وَفِيمَا دُونَهَا انْتَهَى، فَمُقْتَضَى إطْلَاقِ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مُوجَبُ النُّكُولِ فِي الْقَسَامَةِ أَيْضًا هُوَ الْقَضَاءُ بِالدِّيَةِ دُونَ الْحَبْسِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَإِنْ ادَّعَى وَلِيُّ الْقَتِيلِ الْقِصَاصَ مَعَ أَنَّ الْمَذْكُورَ فِي عَامَّةِ الْكُتُبِ أَنْ يَكُونَ مُوجَبُ النُّكُولِ فِي الْقَسَامَةِ هُوَ الْحَبْسُ إلَى الْحَلِفِ بِلَا خِلَافٍ فِيهِ مِنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ، نَعَمْ قَدْ ذُكِرَ أَيْضًا فِي الْمُحِيطِ وَالذَّخِيرَةِ أَنَّهُ رَوَى الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ

ص: 378

وَفِي الِاسْتِحْسَانِ تَجِبُ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ عَلَى أَهْلِ الْمَحَلَّةِ لِأَنَّهُ لَا فَصْلَ فِي إطْلَاقِ النُّصُوصِ بَيْنَ دَعْوًى وَدَعْوًى فَنُوجِبُهُ بِالنَّصِّ لَا بِالْقِيَاسِ، بِخِلَافِ مَا إذَا ادَّعَى عَلَى وَاحِدٍ مِنْ غَيْرِهِمْ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ نَصٌّ، فَلَوْ أَوْجَبْنَاهُمَا لَأَوْجَبْنَاهُمَا بِالْقِيَاسِ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ، ثُمَّ حُكْمُ ذَلِكَ أَنْ يُثْبِتَ مَا ادَّعَاهُ إذَا كَانَ لَهُ بَيِّنَةٌ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ اسْتَحْلَفَهُ يَمِينًا وَاحِدَةً لِأَنَّهُ لَيْسَ بِقَسَامَةٍ لِانْعِدَامِ النَّصِّ وَامْتِنَاعِ الْقِيَاسِ.

ثُمَّ إنْ حَلَفَ بَرِئَ وَإِنْ نَكَلَ وَالدَّعْوَى فِي الْمَالِ ثَبَتَ بِهِ، وَإِنْ كَانَ فِي الْقِصَاصِ فَهُوَ عَلَى اخْتِلَافٍ مَضَى فِي كِتَابِ الدَّعْوَى. قَالَ (وَإِنْ لَمْ يُكْمِلْ أَهْلُ الْمَحَلَّةِ كُرِّرَتْ الْأَيْمَانُ عَلَيْهِمْ حَتَّى تَتِمَّ خَمْسِينَ) لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه لَمَّا قَضَى فِي الْقَسَامَةِ وَافَى إلَيْهِ تِسْعَةٌ وَأَرْبَعُونَ رَجُلًا فَكَرَّرَ الْيَمِينَ عَلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ حَتَّى تَمَّتْ خَمْسِينَ ثُمَّ قَضَى بِالدِّيَةِ.

وَعَنْ شُرَيْحٍ وَالنَّخَعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ مِثْلُ ذَلِكَ، وَلِأَنَّ الْخَمْسِينَ وَاجِبٌ بِالسُّنَّةِ فَيَجِبُ إتْمَامُهَا مَا أَمْكَنَ، وَلَا يُطْلَبُ فِيهِ الْوُقُوفُ عَلَى الْفَائِدَةِ لِثُبُوتِهَا بِالسُّنَّةِ، ثُمَّ فِيهِ اسْتِعْظَامُ أَمْرِ الدَّمِ، فَإِنْ كَانَ الْعَدَدُ كَامِلًا فَأَرَادَ الْوَلِيُّ أَنْ يُكَرِّرَ عَلَى أَحَدِهِمْ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْمَصِيرَ إلَى التَّكْرَارِ ضَرُورَةُ الْإِكْمَالِ. قَالَ (وَلَا قَسَامَةَ عَلَى صَبِيٍّ وَلَا مَجْنُونٍ) لِأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِ الْقَوْلِ الصَّحِيحِ وَالْيَمِينُ قَوْلٌ صَحِيحٌ. قَالَ (وَلَا امْرَأَةٍ وَلَا عَبْدٍ) لِأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِ النُّصْرَةِ وَالْيَمِينُ عَلَى أَهْلِهَا.

قَالَ (وَإِنْ وُجِدَ مَيِّتًا لَا أَثَرَ بِهِ فَلَا قَسَامَةَ وَلَا دِيَةَ) لِأَنَّهُ لَيْسَ بِقَتِيلٍ، إذْ الْقَتِيلُ فِي الْعُرْفِ مَنْ فَاتَتْ حَيَاتُهُ بِسَبَبٍ يُبَاشِرُهُ حَيٌّ وَهَذَا مَيِّتٌ حَتْفَ أَنْفِهِ، وَالْغَرَامَةُ تَتْبَعُ فِعْلَ الْعَبْدِ وَالْقَسَامَةُ تَتْبَعُ احْتِمَالَ الْقَتْلِ ثُمَّ يَجِبُ عَلَيْهِمْ الْقَسَمُ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ بِهِ أَثَرٌ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى كَوْنِهِ قَتِيلًا، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ بِهِ جِرَاحَةٌ أَوْ أَثَرُ ضَرْبٍ أَوْ خَنْقٍ، وَكَذَا إذَا كَانَ خَرَجَ الدَّمُ مِنْ عَيْنِهِ أَوْ أُذُنِهِ لِأَنَّهُ لَا يَخْرُجُ مِنْهَا إلَّا بِفِعْلٍ مِنْ جِهَةِ الْحَيِّ عَادَةً، بِخِلَافِ مَا إذَا خَرَجَ مِنْ فِيهِ أَوْ دُبُرِهِ أَوْ ذَكَرِهِ لِأَنَّ الدَّمَ يَخْرُجُ مِنْ هَذِهِ الْمَخَارِجِ عَادَةً بِغَيْرِ فِعْلِ أَحَدٍ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي الشَّهِيدِ.

(وَلَوْ وُجِدَ بَدَنُ الْقَتِيلِ أَوْ أَكْثَرُ مِنْ نِصْفِ الْبَدَنِ أَوْ النِّصْفُ وَمَعَهُ الرَّأْسُ فِي مَحَلَّةٍ فَعَلَى أَهْلِهَا الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ، وَإِنْ وُجِدَ نِصْفُهُ مَشْقُوقًا

يَقْضِي بِالدِّيَةِ فِي الْقَسَامَةِ أَيْضًا عِنْدَ النُّكُولِ، لَكِنْ يَبْقَى إشْكَالُ التَّنَافِي بَيْنَ مَا ذُكِرَ فِي الْمَقَامَيْنِ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ مُطْلَقًا فَتَأَمَّلْ فِي الدَّفْعِ.

(قَوْلُهُ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ تَجِبُ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ عَلَى أَهْلِ الْمَحَلَّةِ لِأَنَّهُ لَا فَصْلَ فِي إطْلَاقِ النُّصُوصِ بَيْنَ دَعْوَى وَدَعْوَى فَنُوجِبُهُ بِالنَّصِّ لَا بِالْقِيَاسِ) أَقُولُ: فِيهِ بَحْثٌ، لِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ بِإِطْلَاقِ النُّصُوصِ إطْلَاقَهَا بِحَسَبِ لَفْظِهَا فَهُوَ مُسَلَّمٌ، لَكِنْ لَا يُجْدِي هُنَا نَفْعًا، إذْ مِنْ الْقَوَاعِدِ الْمُقَرَّرَةِ عِنْدَهُمْ أَنَّ النَّصَّ الْوَارِدَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ يَخْتَصُّ بِمَوْرِدِهِ، وَالنُّصُوصُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ وَارِدَةٌ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ مَخْصُوصَةً بِمَوْرِدِهَا، وَهُوَ مَا إذَا وُجِدَ الْقَتِيلُ فِي مَكَان يُنْسَبُ إلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ وَالْمُدَّعِي يَدَّعِي الْقَتْلَ عَلَيْهِمْ كَمَا ذُكِرَ فِي وَجْهِ الْقِيَاسِ، وَإِنْ أَرَادَ بِإِطْلَاقِهَا إطْلَاقَهَا بِحَسَبِ الْمَوْرِدِ أَيْضًا فَهُوَ مَمْنُوعٌ إذْ لَمْ يُسْمَعْ فِي حَقِّ الْقَسَامَةِ نَصٌّ وَرَدَ فِيمَا إذَا ادَّعَى الْوَلِيُّ الْقَتْلَ عَلَى بَعْضٍ مِنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ بِعَيْنِهِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ تَتَبَّعَ النُّصُوصَ الْوَارِدَةَ فِي هَذَا الْبَابِ.

(قَوْلُهُ وَلَا امْرَأَةٍ وَلَا عَبْدٍ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِ النُّصْرَةِ وَالْيَمِينُ عَلَى أَهْلِهَا) أَقُولُ: يُشْكِلُ إطْلَاقُ هَذَا بِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ فِي مَسْأَلَةٍ تَجِيءُ فِي آخِرِ هَذَا الْبَابِ، وَهِيَ أَنَّهُ لَوْ وُجِدَ قَتِيلٌ فِي قَرْيَةٍ لِامْرَأَةٍ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ عَلَيْهَا الْقَسَامَةُ يُكَرَّرُ عَلَيْهَا الْأَيْمَانُ وَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهَا. وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فَالْقَسَامَةُ أَيْضًا عَلَى الْعَاقِلَةِ انْتَهَتْ، وَسَيَجِيءُ

ص: 379

بِالطُّولِ أَوْ وُجِدَ أَقَلُّ مِنْ النِّصْفِ وَمَعَهُ الرَّأْسُ أَوْ وُجِدَ يَدُهُ أَوْ رِجْلُهُ أَوْ رَأْسُهُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِمْ) لِأَنَّ هَذَا حُكْمٌ عَرَفْنَاهُ بِالنَّصِّ وَقَدْ وَرَدَ بِهِ فِي الْبَدَنِ، إلَّا أَنَّ لِلْأَكْثَرِ حُكْمَ الْكُلِّ تَعْظِيمًا لِلْآدَمِيِّ، بِخِلَافِ الْأَقَلِّ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِبَدَنٍ وَلَا مُلْحَقٍ بِهِ فَلَا تَجْرِي فِيهِ الْقَسَامَةُ، وَلِأَنَّا لَوْ اعْتَبَرْنَاهُ تَتَكَرَّرُ الْقَسَامَتَانِ وَالدِّيَتَانِ بِمُقَابَلَةِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَلَا تَتَوَالَيَانِ،

فِي كِتَابِ الْمَعَاقِلِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا مِنْ الْجَوَابِ وَمَا فِيهِ مِنْ الْخَلَلِ.

(قَوْلُهُ لِأَنَّ هَذَا حُكْمٌ عَرَفْنَاهُ بِالنَّصِّ وَقَدْ وَرَدَ بِهِ فِي الْبَدَنِ إلَّا أَنَّ لِلْأَكْثَرِ حُكْمَ الْكُلِّ تَعْظِيمًا لِلْآدَمِيِّ، بِخِلَافِ الْأَقَلِّ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِبَدَنٍ وَلَا مُلْحَقَ بِهِ فَلَا تَجْرِي فِيهِ الْقَسَامَةُ) يَعْنِي أَنَّ وُجُوبَ الْقَسَامَةِ عَلَى أَهْلِ الْمَحَلَّةِ وَوُجُوبَ الدِّيَةِ عَلَى عَوَاقِلِهِمْ ثَبَتَ بِالنَّصِّ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ، وَالنَّصُّ وَرَدَ فِي كُلِّ الْبَدَنِ وَأَكْثَرُ الْبَدَنِ كُلٌّ حُكْمًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كُلًّا حَقِيقَةً، فَأُلْحِقَ أَكْثَرُ الْبَدَنِ بِالْبَدَنِ فِي وُجُوبِ الْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ تَعْظِيمًا لِأَمْرِ الدَّمِ وَمَا سِوَاهُ لَيْسَ بِكُلٍّ أَصْلًا لَا حَقِيقَةً وَلَا حُكْمًا فَبَقِيَ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ فَلَمْ تَجِبْ فِيهِ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ، كَذَا فِي غَايَةِ الْبَيَانِ. أَقُولُ: فِي هَذَا التَّعْلِيلِ شَيْءٌ، وَهُوَ أَنَّهُ قَدْ ذَكَرَ فِي وَضْعِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ لَوْ وُجِدَ بَدَنُ الْقَتِيلِ أَوْ أَكْثَرُ مِنْ نِصْفِ الْبَدَنِ أَوْ النِّصْفُ وَمَعَهُ الرَّأْسُ فِي مَحَلَّةٍ فَعَلَى أَهْلِهَا الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ. وَالتَّعْلِيلُ الْمَذْكُورُ إنَّمَا يُفِيدُ وُجُوبَ الْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ عَلَى أَهْلِ الْمَحَلَّةِ فِيمَا إذَا وُجِدَ بَدَنُ الْقَتِيلِ أَوْ أَكْثَرُ مِنْ نِصْفِ الْبَدَنِ فِي هَاتِيكَ الْمَحَلَّةِ لَا فِيمَا إذَا وُجِدَ النِّصْفُ وَمَعَهُ الرَّأْسُ فِيهَا، فَإِنَّ الْمَوْجُودَ فِيهَا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لَيْسَ كُلُّ الْبَدَنِ وَلَا أَكْثَرُهُ، فَلَمْ يَكُنْ مَا وَرَدَ فِيهِ النَّصُّ وَلَا مُلْحَقًا بِهِ فَلَمْ يَتِمَّ التَّقْرِيبُ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُقَالَ: النِّصْفُ إذَا كَانَ مَعَهُ الرَّأْسُ يَصِيرُ فِي حُكْمِ أَكْثَرِ الْبَدَنِ بِنَاءً عَلَى شَرَفِ الرَّأْسِ وَكَوْنِهِ أَصْلًا كَمَا صَرَّحُوا بِهِ، فَيَصِيرُ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ: إلَّا أَنَّ لِلْأَكْثَرِ حُكْمَ الْكُلِّ تَعْظِيمًا لِلْآدَمِيِّ شَامِلًا لِمَا هُوَ الْأَكْثَرُ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا فَيَتِمُّ التَّقْرِيبُ بِهَذَا التَّأْوِيلِ.

ثُمَّ بَقِيَ شَيْءٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ بِخِلَافِ الْأَقَلِّ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِبَدَنٍ وَلَا مُلْحَقٍ بِهِ فَلَا تَجْرِي فِيهِ الْقَسَامَةُ قَاصِرٌ عَنْ إفَادَةِ تَمَامِ الْمَقْصُودِ، إذْ قَدْ ذَكَرَ مِنْ قَبْلُ أَنَّهُ إنْ وُجِدَ نِصْفُهُ مَشْقُوقًا بِالطُّولِ أَوْ وُجِدَ أَقَلُّ مِنْ النِّصْفِ وَمَعَهُ الرَّأْسُ أَوْ وُجِدَ يَدُهُ أَوْ رِجْلُهُ أَوْ رَأْسُهُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِمْ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ قَوْلَهُ بِخِلَافِ الْأَقَلِّ إلَخْ لَا يَشْمَلُ مَا وُجِدَ نِصْفُهُ مَشْقُوقًا بِالطُّولِ فَلَا يَحْصُلُ تَمَامُ التَّقْرِيبِ، فَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: بِخِلَافِ الْأَقَلِّ وَالنِّصْفِ الَّذِي لَيْسَ مَعَهُ الرَّأْسُ إلَخْ، وَكَأَنَّ صَاحِبَ الْغَايَةِ ذَاقَ هَذِهِ الْبَشَاعَةَ حَيْثُ قَالَ فِي شَرْحِهِ بَدَلَ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ بِخِلَافِ الْأَقَلِّ إلَخْ وَمَا سِوَاهُ لَيْسَ بِكُلٍّ أَصْلًا لَا حَقِيقَةً وَلَا حُكْمًا فَبَقِيَ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ فَلَمْ تَجِبْ فِيهِ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ اهـ.

وَأَوْرَدَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ عَلَى قَوْلِ الْمُصَنِّفِ إلَّا أَنَّ لِلْأَكْثَرِ حُكْمَ الْكُلِّ تَعْظِيمًا لِلْآدَمِيِّ حَيْثُ قَالَ فِيهِ بَحْثٌ، لِأَنَّ هَذَا قِيَاسٌ انْتَهَى.

أَقُولُ: لَيْسَ ذَاكَ بِوَارِدٍ، فَإِنَّ هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ لَيْسَ بِقِيَاسٍ بَلْ هُوَ إلْحَاقٌ بِدَلَالَةِ النَّصِّ كَمَا يُرْشِدُ إلَيْهِ قَوْلُهُ وَلَا مُلْحَقٍ بِهِ فِي قَوْلِهِ بِخِلَافِ الْأَقَلِّ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِبَدَنٍ وَلَا مُلْحَقٍ بِهِ، وَاَلَّذِي لَا يَجُوزُ فِي هَذَا الْبَابِ هُوَ الْقِيَاسُ لَا دَلَالَةُ النَّصِّ كَمَا لَا يَخْفَى.

(قَوْلُهُ وَلِأَنَّا لَوْ اعْتَبَرْنَاهُ تَتَكَرَّرُ الْقَسَامَتَانِ وَالدِّيَتَانِ بِمُقَابَلَةِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَلَا تَتَوَالَيَانِ) يَعْنِي لَوْ وَجَبَتْ بِالْأَقَلِّ لَوَجَبَتْ بِالْأَكْثَرِ أَيْضًا إذَا وُجِدَ، وَكَذَلِكَ لَوْ وَجَبَتْ بِالنِّصْفِ لَوَجَبَتْ بِالنِّصْفِ الْآخَرِ أَيْضًا إذَا وُجِدَ، فَيَلْزَمُ أَنْ تَتَكَرَّرَ الْقَسَامَتَانِ وَالدِّيَتَانِ فِي مُقَابَلَةِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ إذْ لَمْ تُشْرَعَا مُكَرَّرَتَيْنِ قَطُّ. قَالَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ: كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ: يَتَكَرَّرُ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ بِلَفْظِ الْمُفْرَدِ وَلَا يَذْكُرُهُمَا بِلَفْظِ التَّثْنِيَةِ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ أَكْثَرَ مِنْ الْقَسَامَتَيْنِ وَالدِّيَتَيْنِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَقَصَدَ

ص: 380

وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ الْمَوْجُودَ الْأَوَّلَ إنْ كَانَ بِحَالٍ لَوْ وُجِدَ الْبَاقِي تَجْرِي فِيهِ الْقَسَامَةُ لَا تَجِبُ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ بِحَالٍ لَوْ وُجِدَ الْبَاقِي لَا تَجْرِي فِيهِ الْقَسَامَةُ تَجِبُ، وَالْمَعْنَى مَا أَشَرْنَا إلَيْهِ، وَصَلَاةُ الْجِنَازَةِ فِي هَذَا تَنْسَحِبُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ لِأَنَّهَا لَا تَتَكَرَّرُ.

(وَلَوْ وُجِدَ فِيهِمْ جَنِينٌ أَوْ سِقْطٌ لَيْسَ بِهِ أَثَرُ الضَّرْبِ فَلَا شَيْءَ عَلَى أَهْلِ الْمَحَلَّةِ) لِأَنَّهُ لَا يَفُوقُ الْكَبِيرُ حَالًّا (وَإِنْ كَانَ بِهِ أَثَرُ الضَّرْبِ وَهُوَ تَامُّ الْخَلْقِ وَجَبَتْ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ عَلَيْهِمْ) لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ تَامَّ الْخَلْقِ يَنْفَصِلُ حَيًّا (وَإِنْ كَانَ نَاقِصَ الْخَلْقِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِمْ) لِأَنَّهُ يَنْفَصِلُ مَيِّتًا لَا حَيًّا.

صَاحِبُ الْعِنَايَةِ تَوْجِيهَ عِبَارَةِ الْمُصَنِّفِ حَيْثُ قَالَ بَعْدَ نَقْلِ مَا فِي غَايَةِ الْبَيَانِ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ الْقَسَامَتَانِ وَالدِّيَتَانِ عَلَى الْقِطْعَتَيْنِ يَتَكَرَّرَانِ فِي خَمْسِينَ نَفْسًا انْتَهَى.

أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ لِأَنَّ الْقَسَامَةَ فِي الشَّرْعِ اسْمٌ لِمَجْمُوعِ أَيْمَانٍ يَقْسِمُ بِهَا خَمْسُونَ مِنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ وَكَذَا الدِّيَةُ اسْمٌ لِمَجْمُوعِ مَا وَجَبَ مِنْ الْمَالِ بِمُقَابَلَةِ دَمِ إنْسَانٍ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَتَحَقَّقَا فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ خَمْسِينَ نَفْسًا حَتَّى يَصِحَّ تَوْجِيهُ تَكَرُّرِ الْقَسَامَتَيْنِ وَالدِّيَتَيْنِ عَلَى الْقِطْعَتَيْنِ بِتَكَرُّرِهِمَا فِي خَمْسِينَ نَفْسًا، وَإِنَّمَا الْمَوْجُودُ فِي آحَادِ خَمْسِينَ نَفْسًا بَعْضُ الْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ لِأَنْفُسِهِمَا، وَالْكَلَامُ فِي إسْنَادِ التَّكَرُّرِ إلَى نَفْسِ الْقَسَامَتَيْنِ وَالدِّيَتَيْنِ فَلَا مَسَاغَ لِذَلِكَ التَّوْجِيهِ.

(قَوْلُهُ وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ الْمَوْجُودَ الْأَوَّلَ إنْ كَانَ بِحَالٍ لَوْ وُجِدَ الْبَاقِي تَجْرِي فِيهِ الْقَسَامَةُ لَا تَجِبُ إلَخْ) أَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّهُ إذَا كَانَ الْبَاقِي نِصْفَ الْقَتِيلِ مَشْقُوقًا بِالطُّولِ مَثَلًا يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ بِحَالٍ لَوْ وُجِدَ لَا تَجْرِي فِيهِ الْقَسَامَةُ، إذْ قَدْ صَرَّحَ فِيمَا قَبْلُ بِأَنَّهُ إنْ وَجَدَ نِصْفَهُ مَشْقُوقًا بِالطُّولِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِمْ مَعَ أَنَّهُ لَا تَجِبُ الْقَسَامَةُ حِينَئِذٍ فِي الْمَوْجُودِ الْأَوَّلِ أَيْضًا بِنَاءً عَلَى ذَلِكَ الْمُصَرَّحِ بِهِ فِيمَا قَبْلُ فَانْتَقَضَ بِمِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ قَوْلُهُ: وَإِنْ كَانَ بِحَالٍ لَوْ وَجَدَ الْبَاقِي لَا تَجْرِي فِيهِ الْقَسَامَةُ تَجِبُ كَمَا لَا يَخْفَى

(قَوْلُهُ وَلَوْ وُجِدَ فِيهِمْ جَنِينٌ أَوْ سَقْطٌ لَيْسَ بِهِ أَثَرُ الضَّرْبِ فَلَا شَيْءَ عَلَى أَهْلِ الْمَحَلَّةِ) أَقُولُ: فِي تَحْرِيرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِهَذَا الْأَدَاءِ فُتُورٌ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْجَنِينَ عَلَى مَا صُرِّحَ بِهِ فِي عَامَّةِ كُتُبِ اللُّغَةِ الْوَلَدُ مَا دَامَ فِي الْبَطْنِ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يُوجَدَ فِيهِمْ جَنِينٌ وَحْدَهُ وَهُوَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ؟ أَمَّا وُجُودُهُ مَعَ أُمِّهِ فَهُوَ بِمَعْزِلٍ عَمَّا نَحْنُ فِيهِ لِكَوْنِ الْحُكْمِ هُنَاكَ لِلْأُمِّ دُونَ الْجَنِينِ. وَالثَّانِي أَنَّ ذِكْرَ الْجَنِينِ يُغْنِي عَنْ ذِكْرِ السِّقْطِ، لِأَنَّ السِّقْطَ عَلَى مَا صُرِّحَ بِهِ فِي كُتُبِ اللُّغَةِ الْوَلَدُ الَّذِي سَقَطَ قَبْلَ تَمَامِهِ، وَالْجَنِينُ يَعُمُّ تَامَّ الْخَلْقِ وَغَيْرَ تَامِّهِ. وَالثَّالِثُ أَنَّ قَوْلَهُ لَيْسَ بِهِ أَثَرُ الضَّرْبِ غَيْرُ كَافٍ فِي جَوَابِ الْمَسْأَلَةِ، إذْ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ أَنْ لَا يَكُونَ بِهِ أَثَرُ الْجِرَاحَةِ وَالْخَنْقِ أَيْضًا كَمَا تَقَرَّرَ فِيمَا سَبَقَ. فَالِاقْتِصَارُ هُنَا عَلَى نَفْيِ أَثَرِ الضَّرْبِ تَقْصِيرٌ، وَالْأَظْهَرُ أَنْ يُقَالَ: وَلَوْ وُجِدَ فِيهِمْ وَلَدٌ صَغِيرٌ سَاقِطٌ لَيْسَ بِهِ أَثَرُ الْقَتْلِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِمْ تَدَبَّرْ.

(قَوْلُهُ وَإِنْ كَانَ بِهِ أَثَرُ الضَّرْبِ وَهُوَ تَامُّ الْخَلْقِ وَجَبَتْ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ تَامَّ الْخَلْقِ يَنْفَصِلُ حَيًّا) فَإِنْ قِيلَ: الظَّاهِرُ يَصْلُحُ لِلدَّفْعِ دُونَ الِاسْتِحْقَاقِ وَلِهَذَا قُلْنَا فِي عَيْنِ الصَّبِيِّ وَلِسَانِهِ وَذَكَرِهِ إذَا لَمْ تُعْلَمْ صِحَّتُهُ حُكُومَةٌ عَدْلٌ عِنْدَنَا وَإِنْ كَانَ الظَّاهِرُ سَلَامَتُهَا. أُجِيبَ بِأَنَّهُ إنَّمَا لَمْ يَجِبْ فِي الْأَطْرَافِ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ صِحَّتَهَا مَا يَجِبُ فِي السَّلِيمِ لِأَنَّ الْأَطْرَافَ يُسْلَكُ بِهَا مَسْلَكُ الْأَمْوَالِ وَلَيْسَ لَهَا تَعْظِيمٌ كَتَعْظِيمِ النُّفُوسِ فَلَمْ يَجِبْ فِيهَا قَبْلَ الْعِلْمِ بِالصِّحَّةِ قِصَاصٌ أَوْ دِيَةٌ، بِخِلَافِ الْجَنِينِ فَإِنَّهُ نَفْسٌ مِنْ وَجْهٍ عُضْوٌ مِنْ وَجْهٍ، فَإِذَا انْفَصَلَ تَامَّ الْخَلْقِ وَبِهِ أَثَرُ الضَّرْبِ وَجَبَ فِيهِ

ص: 381

قَالَ (وَإِذَا وُجِدَ الْقَتِيلُ عَلَى دَابَّةٍ يَسُوقُهَا رَجُلٌ فَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ دُونَ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ) لِأَنَّهُ فِي يَدِهِ فَصَارَ كَمَا إذَا كَانَ فِي دَارِهِ، وَكَذَا إذَا كَانَ قَائِدَهَا أَوْ رَاكِبَهَا (فَإِنْ اجْتَمَعُوا فَعَلَيْهِمْ) لِأَنَّ الْقَتِيلَ فِي أَيْدِيهِمْ فَصَارَ كَمَا إذَا وُجِدَ فِي دَارِهِمْ.

قَالَ (وَإِنْ مَرَّتْ دَابَّةٌ بَيْنَ الْقَرْيَتَيْنِ وَعَلَيْهَا قَتِيلٌ فَهُوَ عَلَى أَقْرَبِهِمَا) لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام أُتِيَ بِقَتِيلٍ وُجِدَ بَيْنَ قَرْيَتَيْنِ فَأَمَرَ أَنْ يُذْرَعَ» . وَعَنْ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّهُ لَمَّا كُتِبَ إلَيْهِ فِي الْقَتِيلِ الَّذِي وُجِدَ بَيْنَ وَدَاعَةَ وَأَرْحَبَ كَتَبَ بِأَنْ يَقِيسَ بَيْنَ قَرْيَتَيْنِ، فَوُجِدَ الْقَتِيلُ إلَى وَادِعَةَ أَقْرَبَ فَقَضَى عَلَيْهِمْ بِالْقَسَامَةِ. قِيلَ هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا كَانَ بِحَيْثُ يَبْلُغُ أَهْلَهُ الصَّوْتُ، لِأَنَّهُ إذَا كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ يَلْحَقُهُ الْغَوْثُ فَتُمْكِنُهُمْ النُّصْرَةُ وَقَدْ قَصَّرُوا.

قَالَ (وَإِذَا وُجِدَ الْقَتِيلُ فِي دَارِ إنْسَانٍ فَالْقَسَامَةُ عَلَيْهِ) لِأَنَّ الدَّارَ فِي يَدِهِ (وَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ) لِأَنَّ نُصْرَتَهُ مِنْهُمْ وَقُوَّتَهُ بِهِمْ.

الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ تَعْظِيمًا لِلنُّفُوسِ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ قَتِيلٌ لِوُجُودِ دَلَالَةِ الْقَتِيلِ وَهُوَ الْأَثَرُ، إذْ الظَّاهِرُ مِنْ حَالِ تَامِّ الْخَلْقِ أَنْ يَنْفَصِلَ حَيًّا، وَأَمَّا إذَا وُجِدَ مَيِّتًا وَلَا أَثَرَ بِهِ فَلَا يَجِبُ فِيهِ شَيْءٌ لِأَنَّ لَا تَفُوقُ حَالَ الْكَبِيرِ، وَإِذَا وُجِدَ الْكَبِيرُ مَيِّتًا وَلَا أَثَرَ بِهِ لَا يَجِبُ فِيهِ شَيْءٌ فَكَذَا هَذَا، كَذَا قَالَ جُمْهُورُ الشُّرَّاحِ. وَرَدَّ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ جَوَابَهُمْ الْمَزْبُورَ حَيْثُ قَالَ بَعْدَ ذِكْرِ السُّؤَالِ وَالْجَوَابُ: وَهَذَا كَمَا

ص: 382

قَالَ (وَلَا تَدْخُلُ السُّكَّانُ فِي الْقَسَامَةِ مَعَ الْمُلَّاكِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ (وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ هُوَ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا) لِأَنَّ وِلَايَةَ التَّدْبِيرِ كَمَا تَكُونُ بِالْمِلْكِ تَكُونُ بِالسُّكْنَى أَلَا تَرَى «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام جَعَلَ الْقَسَامَةَ وَالدِّيَةَ عَلَى الْيَهُودِ وَإِنْ كَانُوا سُكَّانًا بِخَيْبَرَ» . وَلَهُمَا أَنَّ الْمَالِكَ هُوَ الْمُخْتَصُّ بِنُصْرَةِ الْبُقْعَةِ دُونَ السُّكَّانِ لِأَنَّ سُكْنَى الْمُلَّاكِ أَلْزَمُ وَقَرَارَهُمْ أَدْوَمُ فَكَانَتْ وِلَايَةُ التَّدْبِيرِ إلَيْهِمْ فَيَتَحَقَّقُ التَّقْصِيرُ مِنْهُمْ. وَأَمَّا أَهْلُ خَيْبَرَ فَالنَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام أَقَرَّهُمْ عَلَى أَمْلَاكِهِمْ فَكَانَ يَأْخُذُ مِنْهُمْ عَلَى وَجْهِ الْخَرَاجِ. قَالَ (وَهِيَ عَلَى أَهْلِ الْخُطَّةِ دُونَ الْمُشْتَرِينَ) وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: الْكُلُّ مُشْتَرِكُونَ لِأَنَّ الضَّمَانَ إنَّمَا يَجِبُ بِتَرْكِ الْحِفْظِ مِمَّنْ لَهُ وِلَايَةُ الْحِفْظِ وَبِهَذَا الطَّرِيقِ يُجْعَلُ جَانِبًا مُقَصِّرًا، وَالْوِلَايَةُ بِاعْتِبَارِ الْمِلْكِ وَقَدْ اسْتَوَوْا فِيهِ. وَلَهُمَا أَنَّ صَاحِبَ الْخُطَّةِ هُوَ الْمُخْتَصُّ بِنُصْرَةِ الْبُقْعَةِ هُوَ الْمُتَعَارَفُ، وَلِأَنَّهُ أَصِيلٌ وَالْمُشْتَرِي دَخِيلٌ وَوِلَايَةُ التَّدْبِيرِ إلَى الْأَصِيلِ، وَقِيلَ: أَبُو حَنِيفَةَ بَنَى ذَلِكَ عَلَى مَا شَاهَدَ بِالْكُوفَةِ. قَالَ (وَإِنْ بَقِيَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ فَكَذَلِكَ) يَعْنِي مِنْ أَهْلِ الْخُطَّةِ لِمَا بَيَّنَّا (وَإِنْ لَمْ يَبْقَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ بِأَنْ بَاعُوا كُلُّهُمْ فَهُوَ عَلَى الْمُشْتَرِينَ) لِأَنَّ الْوِلَايَةَ انْتَقَلَتْ إلَيْهِمْ أَوْ خَلَصَتْ لَهُمْ

تَرَى مَعَ تَطْوِيلِهِ لَمْ يَرُدَّ السُّؤَالَ وَرُبَّمَا قَوَّاهُ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ إذَا لَمْ يَكُنْ حُجَّةً لِلِاسْتِحْقَاقِ فِي الْأَمْوَالِ وَمَا يُسْلَكُ بِهَا مَسْلَكُهَا فَلَأَنْ لَا يَكُونَ فِيمَا هُوَ أَعْظَمُ خَطَرًا أَوْلَى انْتَهَى.

أَقُولُ: لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا زَعَمَهُ، فَإِنَّ حَاصِلَ جَوَابِهِمْ مَنْعُ عَدَمِ كَوْنِ الظَّاهِرِ حُجَّةً لِلِاسْتِحْقَاقِ فِي بَابِ الْقَسَامَةِ فَإِنَّهُ يَكُونُ حُجَّةً لِلِاسْتِحْقَاقِ فِيهِ تَعْظِيمًا لِأَمْرِ النُّفُوسِ وَصِيَانَةً لَهَا عَنْ الْإِهْدَارِ. وَعَنْ هَذَا قَالُوا: يَجِبُ الدِّيَةُ بِالْقَتْلِ الْمَوْجُودِ مِنْهُمْ ظَاهِرًا لِوُجُودِ الْقَتِيلِ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، فَقَوْلُهُ لِأَنَّ الظَّاهِرَ إذَا لَمْ يَكُنْ حُجَّةً لِلِاسْتِحْقَاقِ فِي الْأَمْوَالِ وَمَا يُسْلَكُ بِهَا مَسْلَكُهَا فَلَأَنْ لَا يَكُونَ فِيمَا هُوَ أَعْظَمُ خَطَرًا أَوْلَى مَمْنُوعٌ، فَإِنَّ مَا لَزِمَ مِنْ عَدَمِ كَوْنِ الظَّاهِرِ حُجَّةً فِي الْأَمْوَالِ وَمَا يُسْلَكُ بِهِ مَسْلَكُهَا إهْدَارُ أَمْرٍ حَقِيرٍ، وَمَا لَزِمَ مِنْ عَدَمِ كَوْنِهِ حُجَّةً فِي النُّفُوسِ إهْدَارُ أَمْرٍ خَطِيرٍ، وَلَا شَكَّ أَنَّ إهْدَارَ الْحَقِيرِ أَهْوَنُ وَأَوْلَى مِنْ إهْدَارِ الْخَطِيرِ.

ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ: الظَّاهِرُ هُنَا اُعْتُبِرَ دَافِعًا لِمَا عَسَى يَدَّعِي الْقَاتِلُ عَدَمَ حَيَاتِهِ. وَأَمَّا دَلِيلُ الِاسْتِحْقَاقِ فَهُوَ حَدِيثُ حَمَلِ بْنِ مَالِكٍ وَهُوَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «أَسَجْعٌ كَسَجْعِ الْكُهَّانِ، قُومُوا فَدُوهُ» انْتَهَى. أَقُولُ يَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّ حَدِيثَ حَمَلِ بْنِ مَالِكٍ وَرَدَ فِي جَنِينٍ انْفَصَلَ مَيِّتًا، وَمُوجَبُهُ الْغُرَّةُ وَهِيَ نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ، وَإِنَّمَا سَمَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ

ص: 383

لِزَوَالِ مَنْ يَتَقَدَّمُهُمْ أَوْ يُزَاحِمُهُمْ.

(وَإِذَا وُجِدَ قَتِيلٌ فِي دَارِ فَالْقَسَامَةُ عَلَى رَبِّ الدَّارِ وَعَلَى قَوْمِهِ وَتَدْخُلُ الْعَاقِلَةُ فِي الْقَسَامَةِ إنْ كَانُوا حُضُورًا، وَإِنْ كَانُوا غُيَّبًا فَالْقَسَامَةُ عَلَى رَبِّ الدَّارِ يُكَرِّرُ عَلَيْهِ الْأَيْمَانَ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا قَسَامَةَ عَلَى الْعَاقِلَةِ؛ لِأَنَّ رَبَّ الدَّارِ أَخَصُّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ فَلَا يُشَارِكُهُ غَيْرُهُ فِيهَا كَأَهْلِ الْمَحَلَّةِ لَا يُشَارِكُهُمْ فِيهَا عَوَاقِلُهُمْ. وَلَهُمَا أَنَّ الْحُضُورَ لَزِمَتْهُمْ نُصْرَةُ الْبُقْعَةِ كَمَا تَلْزَمُ صَاحِبَ الدَّارِ فَيُشَارِكُونَهُ فِي الْقَسَامَةِ.

قَالَ (وَإِنْ وُجِدَ الْقَتِيلُ فِي دَارٍ مُشْتَرَكَةٍ نِصْفُهَا لِرَجُلٍ وَعُشْرُهَا لِرَجُلٍ وَلِآخَرَ مَا بَقِيَ فَهُوَ عَلَى رُءُوسِ الرِّجَالِ) لِأَنَّ صَاحِبَ الْقَلِيلِ يُزَاحِمُ صَاحِبَ الْكَثِيرِ فِي التَّدْبِيرِ فَكَانُوا سَوَاءً فِي الْحِفْظِ وَالتَّقْصِيرِ فَيَكُونُ عَلَى عَدَدِ الرُّءُوسِ بِمَنْزِلَةِ الشُّفْعَةِ.

قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى دَارًا وَلَمْ يَقْبِضْهَا حَتَّى وُجِدَ فِيهَا قَتِيلٌ فَهُوَ عَلَى عَاقِلَةِ الْبَائِعِ وَإِنْ كَانَ فِي الْبَيْعِ خِيَارٌ لِأَحَدِهِمَا فَهُوَ عَلَى عَاقِلَةِ الَّذِي فِي يَدِهِ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَا: إنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ خِيَارٌ فَهُوَ عَلَى عَاقِلَةِ الْمُشْتَرِي

- صلى الله عليه وسلم دِيَةً حَيْثُ قَالَ فَدُوهُ لِكَوْنِهَا بَدَلَ النَّفْسِ كَمَا تَقَرَّرَ فِي بَابِ الْجَنِينِ، وَالْكَلَامُ هُنَا فِي جَنِينٍ انْفَصَلَ حَيًّا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ تَامَّ الْخَلْقِ يَنْفَصِلُ حَيًّا وَالْمُوجَبُ فِيهِ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ كَمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ، فَأَيْنَ هَذَا مِنْ ذَلِكَ. وَقَدْ كَانَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ ذَكَرَ حَدِيثَ حَمَلِ بْنِ مَالِكٍ فِي بَابِ الْجَنِينِ عَلَى التَّفْصِيلِ حَيْثُ قَالَ: وَهَذَا الْحَدِيثُ حَدِيثُ حَمَلِ بْنِ مَالِكٍ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالْمِيمِ الْمَفْتُوحَتَيْنِ، قَالَ «كُنْت بَيْنَ جَارِيَتَيْنِ لِي فَضَرَبَتْ إحْدَاهُمَا بَطْنَ صَاحِبَتِهَا بِعَمُودِ فُسْطَاطٍ أَوْ بِمِسْطَحِ خَيْمَةٍ فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا فَاخْتَصَمَ أَوْلِيَاؤُهَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ عليه الصلاة والسلام لِأَوْلِيَاءِ الضَّارِبَةِ: دُوهُ، فَقَالَ أَخُوهَا: أَنَدِي مَنْ لَا صَاحَ وَلَا اسْتَهَلَّ وَلَا شَرِبَ وَلَا أَكَلَ وَمِثْلُ دَمِهِ يَطِلْ؟ فَقَالَ عليه الصلاة والسلام: أَسَجْعٌ كَسَجْعِ الْكُهَّانِ» وَفِي رِوَايَةٍ «دَعْنِي وَأَرَاجِيزِ الْعَرَبِ، قُومُوا فَدُوهُ» الْحَدِيثُ انْتَهَى فَكَأَنَّهُ نَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ

(قَوْلُهُ وَإِذَا وُجِدَ قَتِيلٌ فِي دَارٍ فَالْقَسَامَةُ عَلَى رَبِّ الدَّارِ وَعَلَى قَوْمِهِ وَتَدْخُلُ الْعَاقِلَةُ فِي الْقَسَامَةِ إذَا كَانُوا حُضُورًا، وَإِنْ كَانُوا غُيَّبًا فَالْقَسَامَةُ عَلَى رَبِّ الدَّارِ يُكَرَّرُ عَلَيْهِ الْأَيْمَانُ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ: يَعْنِي إذَا وُجِدَ الْقَتِيلُ فِي دَارٍ فَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ صَاحِبِهَا بِاتِّفَاقِ الرِّوَايَاتِ. وَفِي الْقَسَامَةِ رِوَايَتَانِ: فَفِي إحْدَاهُمَا تَجِبُ عَلَى صَاحِبِ الدَّارِ وَفِي الْأُخْرَى عَلَى عَاقِلَتِهِ، وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ مَا يُرَى مِنْ التَّدَافُعِ

ص: 384

وَإِنْ كَانَ فِيهِ خِيَارٌ فَهُوَ عَلَى عَاقِلَةِ الَّذِي تَصِيرُ لَهُ، لِأَنَّهُ إنَّمَا أَنْزَلَ قَاتِلًا بِاعْتِبَارِ التَّقْصِيرِ فِي الْحِفْظِ وَلَا يَجِبُ إلَّا عَلَى مَنْ لَهُ وِلَايَةُ الْحِفْظِ، وَالْوِلَايَةُ تُسْتَفَادُ بِالْمِلْكِ وَلِهَذَا كَانَتْ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ صَاحِبِ الدَّارِ دُونَ الْمُودِعِ، وَالْمِلْكُ لِلْمُشْتَرِي قَبْلَ الْقَبْضِ فِي الْبَيْعِ الْبَاتِّ، وَفِي الْمَشْرُوطِ فِيهِ الْخِيَارُ يُعْتَبَرُ قَرَارُ الْمِلْكِ كَمَا فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ. وَلَهُ أَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى الْحِفْظِ بِالْيَدِ لَا بِالْمِلْكِ؛ أَلَا يَرَى أَنَّهُ يَقْتَدِرُ عَلَى الْحِفْظِ بِالْيَدِ دُونَ الْمِلْكِ وَلَا يَقْتَدِرُ بِالْمِلْكِ دُونَ الْيَدِ، وَفِي الْبَاتِّ الْيَدُ لِلْبَائِعِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَكَذَا فِيمَا فِيهِ الْخِيَارُ لِأَحَدِهِمَا قَبْلَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّهُ دُونَ الْبَاتِّ، وَلَوْ كَانَ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي وَالْخِيَارُ لَهُ فَهُوَ أَخَصُّ النَّاسِ بِهِ تَصَرُّفًا، وَلَوْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ فَهُوَ فِي يَدِهِ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ بِالْقِيمَةِ كَالْمَغْصُوبِ فَتُعْتَبَرُ يَدُهُ إذْ بِهَا يَقْدِرُ عَلَى الْحِفْظِ.

بَيْنَ قَوْلِهِ قَبْلَ هَذَا وَإِنْ وُجِدَ الْقَتِيلُ فِي دَارِ إنْسَانٍ فَالْقَسَامَةُ عَلَيْهِ، وَبَيْنَ قَوْلِهِ هُنَا فَالْقَسَامَةُ عَلَى رَبِّ الدَّارِ وَعَلَى قَوْمِهِ يُحْمَلُ ذَاكَ عَلَى رِوَايَةٍ وَهَذَا عَلَى أُخْرَى انْتَهَى. أَقُولُ: فِيهِ بَحْثٌ؛ أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ فِيمَا قَبْلُ وَإِنْ وُجِدَ الْقَتْلُ فِي دَارِ إنْسَانٍ فَالْقَسَامَةُ عَلَيْهِ وَإِنْ جَازَ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ اللَّتَيْنِ ذَكَرَهُمَا صَاحِبُ الْعِنَايَةِ إلَّا أَنَّ قَوْلَهُ هَاهُنَا فَالْقَسَامَةُ عَلَى رَبِّ الدَّارِ وَعَلَى قَوْمِهِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْأُخْرَى مِنْهُمَا، فَإِنَّ الْقَسَامَةَ فِيهَا عَلَى عَاقِلَةِ صَاحِبِ الدَّارِ لَا عَلَى صَاحِبِ الدَّارِ وَعَلَى عَاقِلَتِهِ جَمِيعًا، وَفِيمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ هَاهُنَا عَلَى رَبِّ الدَّارِ وَعَلَى قَوْمِهِ جَمِيعًا فَتَغَايَرَا. وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ فَتَدْخُلُ الْعَاقِلَةُ فِي الْقَسَامَةِ إنْ كَانُوا حُضُورًا، وَإِنْ كَانُوا غُيَّبًا فَالْقَسَامَةُ عَلَى رَبِّ الدَّارِ يُكَرَّرُ عَلَيْهِ الْأَيْمَانُ صَرِيحٌ فِي التَّوْفِيقِ بَيْنَ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا هُنَا وَبَيْنَ الْمَسْأَلَةِ الْمَذْكُورَةِ فِيمَا قَبْلُ، حَيْثُ كَانَ وُجُوبُ الْقَسَامَةِ عَلَى رَبِّ الدَّارِ وَعَلَى قَوْمِهِ فِيمَا إذَا كَانَ قَوْمُهُ حُضُورًا وَوُجُوبُهَا عَلَى رَبِّ الدَّارِ وَحْدِهِ فِيمَا إذَا كَانُوا غُيَّبًا، وَالْمَصِيرُ إلَى الْحَمْلِ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ إنَّمَا يَكُونُ فِيمَا لَا يُمْكِنُ التَّوْفِيقُ، وَهُوَ خِلَافُ مَدْلُولِ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ صَرَاحَةً فَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ شَرْحًا لِمُرَادِهِ

(قَوْلُهُ لِأَنَّهُ إنَّمَا أَنْزَلَ قَاتِلًا بِاعْتِبَارِ التَّقْصِيرِ فِي الْحِفْظِ، وَلَا يَجِبُ إلَّا عَلَى مَنْ لَهُ وِلَايَةُ الْحِفْظِ وَالْوِلَايَةُ تُسْتَفَادُ بِالْمِلْكِ) أَقُولُ: هَذَا التَّعْلِيلُ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ مُشْكِلٌ، لِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ وَالْوِلَايَةُ تُسْتَفَادُ بِالْمِلْكِ الْحَصْرَ بِمَعْنَى أَنَّ الْوِلَايَةَ تُسْتَفَادُ بِالْمِلْكِ لَا بِغَيْرِهِ، وَيُنْتَقَضُ ذَلِكَ بِمَا مَرَّ مِنْ أَنَّ السُّكَّانَ يَدْخُلُونَ فِي الْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ مَعَ الْمُلَّاكِ عِنْدَهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ وِلَايَةَ التَّدْبِيرِ كَمَا تَكُونُ بِالْمِلْكِ تَكُونُ بِالسُّكْنَى، وَإِنْ لَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ مَعْنَى الْحَصْرِ لَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ فِي إثْبَاتِ مُدَّعَاهُمَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَمَا لَا يَخْفَى.

(قَوْلُهُ وَلَهُ أَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى الْحِفْظِ بِالْيَدِ دُونَ الْمِلْكِ؛ أَلَا يَرَى أَنَّهُ يَقْتَدِرُ عَلَى الْحِفْظِ بِالْيَدِ دُونَ الْمِلْكِ وَلَا يَقْتَدِرُ بِالْمِلْكِ دُونَ الْيَدِ) أَقُولُ: هَذَا التَّنْوِيرُ غَيْرُ وَاضِحٍ، لِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ بِالْيَدِ الْيَدَ مُطْلَقًا: أَيْ سَوَاءٌ كَانَتْ يَدَ أَصَالَةٍ أَوْ يَدَ نِيَابَةٍ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، إذْ لَا يَجِبُ شَيْءٌ مِنْ الْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ عَلَى الْمُودِعِ وَنَحْوِهِ بِالِاتِّفَاقِ لِكَوْنِ يَدِهِ يَدَ نِيَابَةٍ لَا يَدَ أَصَالَةٍ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ قَاطِبَةً، فَلَوْ أَمْكَنَ الِاقْتِدَارُ عَلَى الْحِفْظِ بِيَدِ النِّيَابَةِ أَيْضًا لَمَا صَحَّ ذَلِكَ، وَإِنْ أَرَادَ بِهَا يَدَ الْأَصَالَةِ فَقَطْ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ فَالْخَصْمُ وَهُوَ صَاحِبَاهُ لَا يُسَلِّمُ أَنَّهُ يَقْتَدِرُ عَلَى الْحِفْظِ بِيَدِ الْأَصَالَةِ فَقَطْ بِدُونِ الْمِلْكِ، وَلَا أَنَّهُ لَا يَقْتَدِرُ عَلَيْهِ بِالْمِلْكِ بِدُونِ تِلْكَ الْيَدِ، بَلْ يَقُولُ: وِلَايَةُ الْحِفْظِ إنَّمَا تُسْتَفَادُ بِالْمِلْكِ دُونَ الْيَدِ كَمَا فِي مَسْأَلَتِنَا الْمُتَنَازَعِ فِيهَا. وَبِالْجُمْلَةِ مَا ذُكِرَ فِي هَذَا التَّنْوِيرِ لَيْسَ بِأَجْلَى مِنْ

ص: 385

قَالَ (وَمَنْ كَانَ فِي يَدِهِ دَارٌ فَوُجِدَ فِيهَا قَتِيلٌ لَمْ تَعْقِلْهُ الْعَاقِلَةُ حَتَّى تَشْهَدَ الشُّهُودُ أَنَّهَا لِلَّذِي فِي يَدِهِ) لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْمِلْكِ لِصَاحِبِ الْيَدِ حَتَّى تَعْقِلَ الْعَوَاقِلُ عَنْهُ، وَالْيَدُ وَإِنْ كَانَتْ دَلِيلًا عَلَى الْمِلْكِ لَكِنَّهَا مُحْتَمِلَةٌ فَلَا تَكْفِي لِإِيجَابِ الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ كَمَا لَا تَكْفِي لِاسْتِحْقَاقِ الشُّفْعَةِ بِهِ فِي الدَّارِ الْمَشْفُوعَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ.

قَالَ (وَإِنْ وُجِدَ قَتِيلٌ فِي سَفِينَةٍ فَالْقَسَامَةُ عَلَى مَنْ فِيهَا مِنْ الرُّكَّابِ وَالْمَلَّاحِينَ) لِأَنَّهَا فِي أَيْدِيهِمْ وَاللَّفْظُ يَشْمَلُ أَرْبَابَهَا حَتَّى تَجِبُ عَلَى الْأَرْبَابِ الَّذِينَ فِيهَا وَعَلَى السُّكَّانِ، وَكَذَا عَلَى مَنْ يُمِدُّهَا وَالْمَالِكُ فِي ذَلِكَ وَغَيْرُ الْمَالِكِ سَوَاءٌ، وَكَذَا الْعَجَلَةُ، وَهَذَا عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ ظَاهِرٌ. وَالْفَرْقُ لَهُمَا أَنَّ السَّفِينَةَ تُنْقَلُ وَتُحَوَّلُ فَيُعْتَبَرُ فِيهَا الْيَدُ دُونَ الْمِلْكِ كَمَا فِي الدَّابَّةِ، بِخِلَافِ الْمَحَلَّةِ وَالدَّارِ لِأَنَّهَا لَا تُنْقَلُ.

قَالَ (وَإِنْ وُجِدَ فِي مَسْجِدِ مَحَلَّةٍ فَالْقَسَامَةُ عَلَى أَهْلِهَا) لِأَنَّ التَّدْبِيرَ فِيهِ إلَيْهِمْ (وَإِنْ وُجِدَ فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ أَوْ الشَّارِعِ الْأَعْظَمِ فَلَا قَسَامَةَ فِيهِ وَالدِّيَةُ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ) لِأَنَّهُ لِلْعَامَّةِ لَا يَخْتَصُّ بِهِ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، وَكَذَلِكَ

أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ

(قَوْلُهُ وَمَنْ كَانَ فِي يَدِهِ دَارٌ فَوُجِدَ فِيهَا قَتِيلٌ لَمْ تَعْقِلْهُ الْعَاقِلَةُ حَتَّى يَشْهَدَ الشُّهُودُ أَنَّهَا لِلَّذِي فِي يَدِهِ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَلَا يَخْتَلِجَنَّ فِي وَهْمِك صُورَةٌ تُنَاقِضُ فِي عَدَمِ الِاكْتِفَاءِ بِالْيَدِ مَعَ مَا تَقَدَّمَ أَنَّ الِاعْتِبَارَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِلْيَدِ، لِأَنَّ الْيَدَ الْمُعْتَبَرَةَ عِنْدَهُ وَهِيَ الَّتِي تَكُونُ بِالْأَصَالَةِ وَالْعَاقِلَةُ تُنْكِرُ ذَلِكَ انْتَهَى.

أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَبْ أَنَّ الْيَدَ الْمُعْتَبَرَةَ عِنْدَهُ هِيَ الَّتِي تَكُونُ بِالْأَصَالَةِ لَكِنْ كَيْفَ يَتِمُّ عَلَى أَصْلِهِ التَّعْلِيلُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْمِلْكِ لِصَاحِبِ الْيَدِ حَتَّى تَعْقِلَ الْعَوَاقِلُ عَنْهُ، وَهَلَّا يُنَاقِضُ هَذَا مَا مَرَّ مِنْ أَنَّ الِاعْتِبَارَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِلْيَدِ دُونَ الْمِلْكِ كَمَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ آنِفًا، فَإِنَّ الْمِلْكَ هُنَاكَ لِلْمُشْتَرِي مَعَ أَنَّ الدِّيَةَ عِنْدَهُ لِعَاقِلَةِ الْبَائِعِ لِكَوْنِهِ صَاحِبَ الْيَدِ قَبْلَ الْقَبْضِ كَمَا مَرَّ تَفْصِيلُهُ. وَقَالَ صَاحِبُ الْغَايَةِ هُنَا: وَلَا يَلْزَمُ أَبَا حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَعْتَبِرُ الْيَدَ فِي اسْتِحْقَاقِ الدِّيَةِ حَتَّى قَالَ فِي الدَّارِ الْمَبِيعَةِ فِي يَدِ الْبَائِعِ يُوجَدُ فِيهَا قَتِيلٌ أَنَّ الدِّيَةَ تَجِبُ عَلَى عَاقِلَةِ الْبَائِعِ لِأَنَّهُ يَعْتَبِرُ يَدَ الْمِلْكِ لَا مُجَرَّدَ الْيَدِ فَلَمْ يَثْبُتْ هُنَا يَدُ الْمِلْكِ إلَّا بِالْبَيِّنَةِ انْتَهَى. وَذَكَرَ فِي مِعْرَاجِ الدَّارِيَةِ مَا يُوَافِقُهُ حَيْثُ قَالَ: وَفِي جَامِعِ الْكَرَابِيسِيِّ اعْتَبَرَ أَبُو حَنِيفَةَ يَدَ الْمِلْكِ لَا مُجَرَّدَ الْيَدِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَهُنَا لَا يَثْبُتُ ذَلِكَ إلَّا بِالْبَيِّنَةِ فَلَا يَرِدُ نَقْضًا عَلَيْهِ انْتَهَى.

أَقُولُ: هَذَا التَّوْجِيهُ مُشْكِلٌ، لِأَنَّ الْمِلْكَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ كَانَ لِلْمُشْتَرِي لَا مَحَالَةَ، وَعَنْ هَذَا نَشَأَ النِّزَاعُ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ، إذْ لَوْ كَانَ الْمِلْكُ أَيْضًا لِلْبَائِعِ لَمَا صَارَ مَحَلَّ الْخِلَافِ وَإِقَامَةِ الْحُجَّةِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ عَلَى مَا مَرَّ بَيَانُهُ، فَإِذَا كَانَ الْمِلْكُ هُنَاكَ لِلْمُشْتَرِي فَكَيْفَ يَتَحَقَّقُ لِلْبَائِعِ إذْ ذَاكَ يَدُ الْمِلْكِ، إذْ ثُبُوتُ يَدِ الْمِلْكِ لَهُ يَقْتَضِي ثُبُوتَ نَفْسِ الْمِلْكِ أَيْضًا فَيَلْزَمُ أَنْ يَجْتَمِعَ عَلَى الدَّارِ الْمَبِيعَةِ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ مِلْكَانِ وَهُمَا مِلْكُ الْبَائِعِ وَمِلْكُ الْمُشْتَرِي وَهُوَ مُحَالٌ، وَإِنْ أُرِيدَ بِيَدِ الْمِلْكِ غَيْرُ مَعْنَاهُ الظَّاهِرِ: أَيْ الْيَدِ الَّتِي كَانَ لِصَاحِبِهَا مِلْكٌ فِي الْأَصْلِ، وَإِنْ زَالَ ذَلِكَ الْمِلْكُ فِي الْحَالِ بِالْبَيْعِ فَمَا مَعْنَى اعْتِبَارِ مِثْلِ ذَلِكَ الْأَمْرِ الزَّائِلِ فِي تَرَتُّبِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ،

ص: 386

الْجُسُورُ الْعَامَّةُ وَمَالُ بَيْتِ الْمَالِ مَالُ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ.

(وَلَوْ وُجِدَ فِي السُّوقِ إنْ كَانَ مَمْلُوكًا) فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ تَجِبُ عَلَى السُّكَّانِ وَعِنْدَهُمَا عَلَى الْمَالِكِ، (وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَمْلُوكًا كَالشَّوَارِعِ الْعَامَّةِ الَّتِي بُنِيَتْ فِيهَا فَعَلَى بَيْتِ الْمَالِ) لِأَنَّهُ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ (وَلَوْ وُجِدَ فِي السَّجْنِ فَالدِّيَةُ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الدِّيَةُ وَالْقَسَامَةُ عَلَى أَهْلِ السَّجْنِ) لِأَنَّهُمْ سُكَّانٌ وَوِلَايَةُ التَّدْبِيرِ إلَيْهِمْ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْقَتْلَ حَصَلَ مِنْهُمْ، وَهُمَا يَقُولَانِ: إنَّ أَهْلَ السَّجْنِ مَقْهُورُونَ فَلَا يَتَنَاصَرُونَ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِمْ مَا يَجِبُ لِأَجْلِ النُّصْرَةِ، وَلِأَنَّهُ بُنِيَ لِاسْتِيفَاءِ حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِذَا كَانَ غُنْمُهُ يَعُودُ إلَيْهِمْ فَغُرْمُهُ يَرْجِعُ عَلَيْهِمْ. قَالُوا: وَهَذِهِ فُرَيْعَةُ الْمَالِكِ وَالسَّاكِنِ وَهِيَ مُخْتَلَفٌ فِيهَا بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ.

قَالَ (وَإِنْ وُجِدَ فِي بَرِيَّةٍ لَيْسَ بِقُرْبِهَا عِمَارَةٌ فَهُوَ هَدَرٌ) وَتَفْسِيرُ الْقُرْبِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ اسْتِمَاعِ الصَّوْتِ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ بِهَذِهِ الْحَالَةِ لَا يَلْحَقُهُ الْغَوْثُ مِنْ غَيْرِهِ فَلَا يُوصَفُ أَحَدٌ بِالتَّقْصِيرِ، وَهَذَا إذَا لَمْ تَكُنْ مَمْلُوكَةً لِأَحَدٍ. أَمَّا إذَا كَانَتْ فَالدِّيَةُ وَالْقَسَامَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ (وَإِنْ وُجِدَ بَيْنَ قَرْيَتَيْنِ كَانَ عَلَى أَقْرَبِهِمَا) وَقَدْ بَيَّنَّاهُ.

(وَإِنْ وُجِدَ فِي وَسَطِ الْفُرَاتِ يَمُرُّ بِهِ الْمَاءُ فَهُوَ هَدَرٌ) لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي يَدِ أَحَدٍ وَلَا فِي مِلْكِهِ (وَإِنْ كَانَ مُحْتَبَسًا بِالشَّاطِئِ فَهُوَ عَلَى أَقْرَبِ الْقُرَى مِنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ) عَلَى التَّفْسِيرِ الَّذِي تَقَدَّمَ لِأَنَّهُ اخْتَصَّ بِنُصْرَةِ هَذَا الْمَوْضِعِ فَهُوَ كَالْمَوْضُوعِ عَلَى الشَّطِّ وَالشَّطُّ فِي يَدِ مَنْ هُوَ أَقْرَبُ مِنْهُ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ يَسْتَقُونَ مِنْهُ الْمَاءَ وَيُورِدُونَ بَهَائِمَهُمْ فِيهَا، بِخِلَافِ النَّهْرِ الَّذِي يَسْتَحِقُّ بِهِ الشُّفْعَةَ لِاخْتِصَاصِ أَهْلِهَا بِهِ لِقِيَامِ يَدِهِمْ عَلَيْهِ فَتَكُونُ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ عَلَيْهِمْ.

قَالَ (وَإِنْ ادَّعَى الْوَلِيُّ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ بِعَيْنِهِ لَمْ تَسْقُطْ الْقَسَامَةُ عَنْهُمْ) وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ وَذَكَرْنَا فِيهِ الْقِيَاسَ وَالِاسْتِحْسَانَ. قَالَ (وَإِنْ ادَّعَى عَلَى وَاحِدٍ مِنْ غَيْرِهِمْ سَقَطَتْ عَنْهُمْ) وَقَدْ بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ وَوَجْهُ الْفَرْقِ هُوَ أَنَّ وُجُوبَ الْقَسَامَةِ عَلَيْهِمْ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقَاتِلَ مِنْهُمْ فَتَعْيِينُهُ وَاحِدًا مِنْهُمْ لَا يُنَافِي ابْتِدَاءَ الْأَمْرِ لِأَنَّهُ مِنْهُمْ بِخِلَافِ مَا إذَا عَيَّنَ مِنْ غَيْرِهِمْ لِأَنَّ ذَلِكَ بَيَانُ أَنَّ الْقَاتِلَ

وَهَلْ يَلِيقُ أَنْ يَعُدَّ ذَلِكَ أَصْلًا لِإِمَامِنَا الْأَعْظَمِ فَعَلَيْك بِالتَّأَمُّلِ الصَّادِقِ

(قَوْلُهُ وَإِنْ ادَّعَى عَلَى وَاحِدٍ مِنْ غَيْرِهِمْ سَقَطَتْ عَنْهُمْ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: يُرِيدُ بِهِ قَوْلَهُ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا إذَا ادَّعَى الْوَلِيُّ الْقَتْلَ عَلَى جَمِيعِ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ انْتَهَى، وَاقْتَفَى أَثَرَهُ الْعَيْنِيُّ. أَقُولُ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ قَوْلَهُ بِخِلَافِ مَا إذَا ادَّعَى عَلَى وَاحِدٍ مِنْ غَيْرِهِمْ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ نَصٌّ، فَلَوْ أَوْجَبْنَاهَا لَأَوْجَبْنَاهَا بِالْقِيَاسِ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ فَإِنَّهُ هُوَ الْمُطَابِقُ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ هُنَا دُونَ مَا حَمَلَ عَلَيْهِ الشَّارِحَانِ الْمَزْبُورَانِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى الْفَطِنِ.

(قَوْلُهُ وَوَجْهُ الْفَرْقِ هُوَ أَنَّ وُجُوبَ الْقَسَامَةِ عَلَيْهِمْ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقَاتِلَ مِنْهُمْ) أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إنْ أُرِيدَ أَنَّ وُجُوبَ

ص: 387

لَيْسَ مِنْهُمْ، وَهُمْ إنَّمَا يَغْرَمُونَ إذَا كَانَ الْقَاتِلُ مِنْهُمْ لِكَوْنِهِمْ قَتَلَةً تَقْدِيرًا حَيْثُ لَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدِ الظَّالِمِ، وَلِأَنَّ أَهْلَ الْمَحَلَّةِ لَا يَقُومُونَ بِمُجَرَّدِ ظُهُورِ الْقَتِيلِ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ إلَّا بِدَعْوَى الْوَلِيِّ، فَإِذَا ادَّعَى الْقَتْلَ عَلَى غَيْرِهِمْ امْتَنَعَ دَعْوَاهُ عَلَيْهِمْ وَسَقَطَ لِفَقْدِ شَرْطِهِ.

قَالَ (وَإِذَا الْتَقَى قَوْمٌ بِالسُّيُوفِ فَأَجْلَوْا عَنْ قَتِيلٍ فَهُوَ عَلَى أَهْلِ الْمَحَلَّةِ) لِأَنَّ الْقَتِيلَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ وَالْحِفْظُ عَلَيْهِمْ (إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ الْأَوْلِيَاءُ عَلَى أُولَئِكَ أَوْ عَلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ بِعَيْنِهِ فَلَمْ يَكُنْ عَلَى أَهْلِ الْمَحَلَّةِ شَيْءٌ) لِأَنَّ هَذِهِ الدَّعْوَى تَضَمَّنَتْ بَرَاءَةَ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ عَنْ الْقَسَامَةِ. قَالَ (وَلَا عَلَى أُولَئِكَ حَتَّى يُقِيمُوا الْبَيِّنَةَ) لِأَنَّ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى لَا يَثْبُتُ الْحَقُّ لِلْحَدِيثِ الَّذِي رَوَيْنَاهُ، أَمَّا يَسْقُطُ بِهِ الْحَقُّ عَنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ لِأَنَّ قَوْلَهُ حُجَّةٌ عَلَى نَفْسِهِ.

الْقَسَامَةِ عَلَيْهِمْ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقَاتِلَ مِنْهُمْ بِدُونِ أَنْ يَتَعَيَّنَ خُصُوصُهُ فَهُوَ مُسَلَّمٌ، لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ تَعْيِينَهُ وَاحِدًا مِنْهُمْ لَا يُنَافِي ابْتِدَاءَ الْأَمْرِ حِينَئِذٍ، فَإِنَّ ابْتِدَاءَ الْأَمْرِ إذْ ذَاكَ كَوْنُ الْقَاتِلِ مِنْهُمْ بِدُونِ أَنْ يَتَعَيَّنَ خُصُوصُهُ، وَبِتَعْيِينِهِ وَاحِدًا مِنْهُمْ يَلْزَمُ أَنْ يَتَعَيَّنَ خُصُوصُهُ وَإِنْ كَانَ مِنْهُمْ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ تَعَيُّنَ خُصُوصِ الْقَاتِلِ يُنَافِي عَدَمَ تَعَيُّنِهِ، وَإِنْ أُرِيدَ أَنَّ وُجُوبَ الْقَسَامَةِ عَلَيْهِمْ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقَاتِلَ مِنْهُمْ تَعَيَّنَ خُصُوصُهُ فَهُوَ مَمْنُوعٌ كَمَا لَا يَخْفَى، وَإِنْ أُرِيدَ أَنَّ وُجُوبَ الْقَسَامَةِ عَلَيْهِمْ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقَاتِلَ مِنْهُمْ سَوَاءٌ تَعَيَّنَ خُصُوصُهُ أَوْ لَمْ يَتَعَيَّنْ فَهُوَ أَيْضًا مَمْنُوعٌ، إذْ لَا يَظْهَرُ وَجْهُ كَوْنِ الْجِنَايَةِ الصَّادِرَةِ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عِنْدَ تَعَيُّنِ خُصُوصِهِ سَبَبًا لِوُجُوبِ الْغُرْمِ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا؛ أَلَا يَرَى أَنَّهُ إذَا أَقَرَّ وَاحِدٌ مِنْهُمْ بِعَيْنِهِ بِقَتْلِ الْقَتِيلِ الْمَوْجُودِ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ أَوْ ثَبَتَ ذَلِكَ بِالْبَيِّنَةِ لَا يَجِبُ شَيْءٌ عَلَى غَيْرُهُ أَصْلًا. فَإِنْ قِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سَبَبُ وُجُوبِ الْغُرْمِ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا عِنْدَ تَعَيُّنِ خُصُوصِ الْقَاتِلِ مِنْهُمْ كَوْنُهُمْ قَتَلَةً أَيْضًا تَقْدِيرًا بِتَرْكِهِمْ النُّصْرَةَ لِعَدَمِ أَخْذِهِمْ عَلَى يَدِ ذَلِكَ الْقَاتِلِ الظَّالِمِ كَمَا يُشْعِرُ بِهِ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ فِيمَا بَعْدُ: وَهُمْ إنَّمَا يَغْرَمُونَ إذَا كَانَ الْقَاتِلُ مِنْهُمْ لِكَوْنِهِمْ قَتَلَةً تَقْدِيرًا حَيْثُ لَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدِ الظَّالِمِ.

قُلْنَا: ذَلِكَ إنَّمَا يَظْهَرُ إذَا عَلِمُوا قَتْلَ ذَاكَ الظَّالِمِ فَتَرَكُوا النُّصْرَةَ، وَأَمَّا إذَا لَمْ يَعْلَمُوا ذَلِكَ بِأَنْ كَانَ قَتْلُهُ خُفْيَةً فَلَا. وَلَئِنْ سُلِّمَ ذَلِكَ مُطْلَقًا لِعَدَمِ احْتِيَاطِهِمْ فِي حِفْظِ الْمَحَلَّةِ يُشْكِلُ بِمَا إذَا أَقَرَّ وَاحِدٌ مِنْهُمْ بِعَيْنِهِ بِالْقَتْلِ أَوْ ثَبَتَ ذَلِكَ بِالْبَيِّنَةِ، فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى غَيْرِهِ شَيْءٌ هُنَاكَ مَعَ تَحَقُّقِ ذَلِكَ السَّبَبِ فِيهِ أَيْضًا فَتَأَمَّلْ فِي التَّوْجِيهِ. وَذُكِرَ فِي الشُّرُوحِ نَقْلًا عَنْ الْمَبْسُوطِ أَنَّهُ رَوَى ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ تَسْقُطُ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ عَنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ، لِأَنَّ دَعْوَى الْوَلِيِّ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِعَيْنِهِ تَكُونُ إبْرَاءً لِأَهْلِ الْمَحَلَّةِ عَنْ الْقَسَامَةِ، فَإِنَّ الْقَسَامَةَ فِي قَتِيلٍ لَا يُعْرَفُ قَاتِلُهُ، فَإِذَا زَعَمَ الْوَلِيُّ أَنَّهُ يَعْرِفُ الْقَاتِلَ مِنْهُمْ بِعَيْنِهِ صَارَ مُبَرِّئًا لَهُمْ عَنْ الْقَسَامَةِ وَذَلِكَ صَحِيحٌ مِنْهُ انْتَهَى. قُلْت: هَذِهِ الرِّوَايَةُ أَظْهَرُ عِنْدِي دِرَايَةً، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

(قَوْلُهُ وَلِأَنَّ أَهْلَ الْمَحَلَّةِ لَا يَغْرَمُونَ بِمُجَرَّدِ ظُهُورِ الْقَتِيلِ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ إلَّا بِدَعْوَى الْوَلِيِّ فَإِذَا ادَّعَى الْقَتْلَ عَلَى غَيْرِهِمْ امْتَنَعَ دَعْوَاهُ عَلَيْهِمْ وَسَقَطَ لِفَقْدِ شَرْطِهِ) أَقُولُ: يُشْكِلُ هَذَا التَّعْلِيلُ بِمَا إذَا ادَّعَى الْوَلِيُّ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ بِعَيْنِهِ فَإِنَّهُمْ إذَا لَمْ يَغْرَمُوا بِمُجَرَّدِ ظُهُورِ الْقَتِيلِ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ إلَّا بِدَعْوَى الْوَلِيِّ فَإِذَا ادَّعَى الْوَلِيُّ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِعَيْنِهِ دُونَ غَيْرِهِ لَزِمَ أَنْ تَسْقُطَ الْغَرَامَةُ عَنْ غَيْرِهِ مِنْهُمْ لِفَقْدِ شَرْطِ الْغَرَامَةِ وَهُوَ دَعْوَى الْوَلِيِّ عَلَيْهِمْ فَتَفَكَّرْ فِي الْفَرْقِ، وَلَعَلَّهُ لَا يَتَيَسَّرُ بِدُونِ التَّعَسُّفِ. قَالَ الْعَيْنِيُّ: وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ وَجْهُ الْفَرْقِ إلَى قَوْلِهِ قَالَ وَإِذَا الْتَقَى قَوْمٌ بِالسُّيُوفِ لَمْ يُوجَدْ فِي كَثِيرٍ مِنْ النُّسَخِ وَلِهَذَا لَمْ يَشْرَحْهُ أَكْثَرُ الشُّرَّاحِ انْتَهَى. قُلْت: وَعَنْ هَذَا تَرَى مَا فِيهِ مِنْ الْوَهَنِ كَمَا نَبَّهْت عَلَيْهِ آنِفًا فِي الْمَوْضِعَيْنِ

(قَوْلُهُ وَإِذَا الْتَقَى قَوْمٌ بِالسُّيُوفِ فَأَجْلَوْا عَنْ قَتِيلٍ فَهُوَ عَلَى أَهْلِ الْمَحَلَّةِ لِأَنَّ الْقَتِيلَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ) أَيْ وُجِدَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ: أَيْ بَيْنَهُمْ. وَالظُّهْرُ وَالْأَظْهُرُ يَجِيئَانِ مُقْحَمَيْنِ كَمَا فِي قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَا صَدَقَةَ إلَّا عَنْ ظَهْرِ غِنًى» أَيْ صَادِرَةٍ عَنْ غِنًى فَالظَّهْرُ فِيهِ مُقْحَمٌ كَمَا فِي ظَهْرِ الْقَلْبِ وَظَهْرِ الْغَيْبِ، وَكَذَا فِي الْأَظْهُرِ، يُقَالُ: أَقَامَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ: أَيْ بَيْنَهُمْ،

ص: 388

(وَلَوْ وُجِدَ قَتِيلٌ فِي مُعَسْكَرٍ أَقَامُوهُ بِفَلَاةٍ مِنْ الْأَرْضِ لَا مِلْكَ لِأَحَدٍ فِيهَا، فَإِنْ وُجِدَ فِي خِبَاءٍ أَوْ فُسْطَاطٍ فَعَلَى مَنْ يَسْكُنُهَا الدِّيَةُ وَالْقَسَامَةُ، وَإِنْ كَانَ خَارِجًا مِنْ الْفُسْطَاطِ فَعَلَى أَقْرَبِ الْأَخْبِيَةِ) اعْتِبَارًا لِلْيَدِ عِنْدَ انْعِدَامِ الْمِلْكِ (وَإِنْ كَانَ الْقَوْمُ لَقُوا قِتَالًا وَوُجِدَ قَتِيلٌ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ فَلَا قَسَامَةَ وَلَا دِيَةَ) لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْعَدُوَّ قَتَلَهُ فَكَانَ هَدَرًا، وَإِنْ لَمْ يَلْقَوْا عَدُوًّا فَعَلَى مَا بَيَّنَّاهُ (وَإِنْ كَانَ لِلْأَرْضِ مَالِكٌ فَالْعَسْكَرُ كَالسُّكَّانِ فَيَجِبُ عَلَى الْمَالِكِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ.

قَالَ (وَإِذَا قَالَ الْمُسْتَحْلَفُ قَتَلَهُ فُلَانٌ اُسْتُحْلِفَ بِاَللَّهِ مَا قَتَلْتُ وَلَا عَرَفْت لَهُ قَاتِلًا

كَذَا فِي الشُّرُوحِ. فَإِنْ قِيلَ: الظَّاهِرُ أَنَّ قَاتِلَهُ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ وَأَنَّهُ مِنْ خُصَمَائِهِ. قُلْنَا: قَدْ تَعَذَّرَ الْوُقُوفُ عَلَى قَاتِلِهِ حَقِيقَةً فَيَتَعَلَّقُ الْحُكْمُ بِالسَّبَبِ الظَّاهِرِ وَهُوَ وُجُودُهُ قَتِيلًا فِي مَحَلَّتِهِمْ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَالْعِنَايَةِ. أَقُولُ: يَرِدُ عَلَى هَذَا الْجَوَابِ أَنْ يُقَالَ: مَا بَالُكُمْ تَجْعَلُونَ هَذَا الظَّاهِرَ وَهُوَ وُجُودُهُ قَتِيلًا فِي مَحَلَّتِهِمْ مُوجِبًا لِاسْتِحْقَاقِ الْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ عَلَى أَهْلِ الْمَحَلَّةِ وَلَا تَجْعَلُونَ ذَاكَ الظَّاهِرَ وَهُوَ كَوْنُ قَاتِلِهِ خَصْمًا مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ دَافِعًا لِلْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ عَنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ، مَعَ أَنَّ الْأَصْلَ الشَّائِعَ أَنْ يَكُونَ الظَّاهِرُ حُجَّةً لِلدَّفْعِ دُونَ الِاسْتِحْقَاقِ. فَالْأَظْهَرُ فِي الْجَوَابِ أَنْ يُقَالَ: الظَّاهِرُ لَا يَكُونُ حُجَّةً لِلِاسْتِحْقَاقِ فَبَقِيَ حَالُ الْقَتْلِ مُشْكِلًا، فَأَوْجَبْنَا الْقَسَامَةَ وَالدِّيَةَ عَلَى أَهْلِ الْمَحَلَّةِ لِوُرُودِ النَّصِّ بِإِضَافَةِ الْقَتْلِ إلَيْهِمْ عِنْدَ الْإِشْكَالِ، فَكَانَ الْعَمَلُ بِمَا وَرَدَ فِيهِ النَّصُّ، وَسَيَأْتِي مِثْلُ هَذَا عَنْ قَرِيبٍ

(قَوْلُهُ وَإِنْ كَانَ الْقَوْمُ لَقُوا قِتَالًا وَوُجِدَ قَتِيلٌ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ فَلَا قَسَامَةَ وَلَا دِيَةَ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْعَدُوَّ قَتَلَهُ فَكَانَ هَدَرًا)

ص: 389

غَيْرَ فُلَانٍ) لِأَنَّهُ يُرِيدُ إسْقَاطَ الْخُصُومَةِ عَنْ نَفْسِهِ بِقَوْلِهِ فَلَا يُقْبَلُ فَيَحْلِفُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، لِأَنَّهُ لَمَّا أَقَرَّ بِالْقَتْلِ عَلَى وَاحِدٍ صَارَ مُسْتَثْنًى عَنْ الْيَمِينِ فَبَقِيَ حُكْمُ مَنْ سِوَاهُ فَيَحْلِفُ عَلَيْهِ.

قَالَ (وَإِذَا شَهِدَ اثْنَانِ مِنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ عَلَى رَجُلٍ مِنْ غَيْرِهِمْ أَنَّهُ قَتَلَ لَمْ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: تُقْبَلُ لِأَنَّهُمْ كَانُوا بِعَرْضِيَّةِ أَنْ يَصِيرُوا خُصَمَاءَ وَقَدْ بَطَلَتْ الْعَرَضِيَّةُ بِدَعْوَى الْوَلِيِّ الْقَتْلَ عَلَى غَيْرِهِمْ فَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ كَالْوَكِيلِ بِالْخُصُومَةِ إذَا عُزِلَ قَبْلَ الْخُصُومَةِ. وَلَهُ أَنَّهُمْ خُصَمَاءُ بِإِنْزَالِهِمْ قَاتِلِينَ لِلتَّقْصِيرِ الصَّادِرِ مِنْهُمْ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ وَإِنْ خَرَجُوا مِنْ جُمْلَةِ الْخُصُومِ كَالْوَصِيِّ إذَا خَرَجَ مِنْ الْوِصَايَةِ بَعْدَمَا قَبِلَهَا ثُمَّ شَهِدَ. قَالَ رضي الله عنه: وَعَلَى هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ يَتَخَرَّجُ كَثِيرٌ مِنْ الْمَسَائِلِ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ، قَالَ (وَلَوْ ادَّعَى عَلَى وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ بِعَيْنِهِ فَشَهِدَ شَاهِدَانِ مِنْ أَهْلِهَا عَلَيْهِ لَمْ تُقْبَلْ الشَّهَادَةُ) لِأَنَّ الْخُصُومَةَ قَائِمَةٌ مَعَ الْكُلِّ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ وَالشَّاهِدُ يَقْطَعُهَا عَنْ نَفْسِهِ فَكَانَ مُتَّهَمًا. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الشُّهُودَ

قَالَ فِي الْعِنَايَةِ: قَوْلُهُ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْعَدُوَّ قَتَلَهُ فَكَانَ هَدَرًا يُحْوِجُ إلَى ذِكْرِ الْفَرْقِ بَيْنَ هَذِهِ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إذَا اقْتَتَلُوا عَصَبِيَّةً فِي مَحَلَّةٍ فَأَجْلَوْا عَنْ قَتِيلٍ فَإِنَّ عَلَيْهِمْ الْقَسَامَةَ وَالدِّيَةَ كَمَا مَرَّ آنِفًا. وَقَالُوا فِي الْفَرْقِ: إنَّ الْقِتَالَ إذَا كَانَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ فِي مَكَان فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَلَا يَدْرِي أَنَّ الْقَاتِلَ مِنْ أَيِّهِمَا يُرَجَّحُ احْتِمَالُ قَتْلِ الْمُشْرِكِينَ حَمْلًا لِأَمْرِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الصَّلَاحِ فِي أَنَّهُمْ لَا يَتْرُكُونَ الْكَافِرِينَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ الْحَالِ وَيَقْتُلُونَ الْمُسْلِمِينَ. وَأَمَّا فِي الْمُسْلِمِينَ مِنْ الطَّرَفَيْنِ فَلَيْسَ ثَمَّةُ جِهَةُ الْحَمْلِ عَلَى الصَّلَاحِ حَيْثُ كَانَ الْفَرِيقَانِ مُسْلِمَيْنِ فَبَقِيَ حَالُ الْقَتْلِ مُشْكِلًا فَأَوْجَبْنَا الْقَسَامَةَ وَالدِّيَةَ عَلَى أَهْلِ ذَلِكَ الْمَكَانِ لِوُرُودِ النَّصِّ بِإِضَافَةِ الْقَتْلِ إلَيْهِمْ عِنْدَ الْإِشْكَالِ، وَكَانَ الْعَمَلُ بِمَا وَرَدَ فِيهِ النَّصُّ أَوْلَى عِنْدَ الِاحْتِمَالِ مِنْ الْعَمَلِ بِاَلَّذِي لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ انْتَهَى. وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ طَعْنًا فِي الْمَصِيرِ إلَى الْفَرْقِ الْمَذْكُورِ: الْفَرْقُ ظَاهِرٌ، فَإِنَّ الظَّاهِرَ هُنَا حُجَّةٌ لِلدَّفْعِ عَنْ الْمُسْلِمِينَ فَيَصْلُحُ حُجَّةً، وَثَمَّةَ لَوْ كَانَ حُجَّةً لَكَانَ

ص: 390

يَحْلِفُونَ بِاَللَّهِ مَا قَتَلْنَاهُ وَلَا يَزْدَادُونَ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ أَخْبَرُوا أَنَّهُمْ عَرَفُوا الْقَاتِلَ.

قَالَ (وَمَنْ جُرِحَ فِي قَبِيلَةٍ فَنُقِلَ إلَى أَهْلِهِ فَمَاتَ مِنْ تِلْكَ الْجِرَاحَةِ، فَإِنْ كَانَ صَاحِبَ فِرَاشٍ حَتَّى مَاتَ فَالْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ عَلَى الْقَبِيلَةِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا قَسَامَةَ وَلَا دِيَةَ) لِأَنَّ الَّذِي حَصَلَ فِي الْقَبِيلَةِ وَالْمَحَلَّةِ مَا دُونَ النَّفْسِ وَلَا قَسَامَةَ فِيهِ، فَصَارَ كَمَا إذَا لَمْ يَكُنْ صَاحِبَ فِرَاشٍ. وَلَهُ أَنَّ الْجُرْحَ إذَا اتَّصَلَ بِهِ الْمَوْتُ صَارَ قَتْلًا وَلِهَذَا وَجَبَ الْقِصَاصُ، فَإِنْ كَانَ صَاحِبَ فِرَاشٍ أُضِيفَ إلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ الْمَوْتُ مِنْ غَيْرِ الْجُرْحِ فَلَا يَلْزَمُ بِالشَّكِّ.

(وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا مَعَهُ جَرِيحٌ بِهِ رَمَقٌ حَمَلَهُ إنْسَانٌ إلَى أَهْلِهِ فَمَكَثَ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ ثُمَّ مَاتَ لَمْ يَضْمَنْ الَّذِي حَمَلَهُ إلَى أَهْلِهِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَفِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ يَضْمَنُ) لِأَنَّ يَدَهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَحَلَّةِ فَوُجُودُهُ جَرِيحًا فِي يَدِهِ كَوُجُودِهِ فِيهَا، وَقَدْ ذَكَرْنَا وَجْهَيْ الْقَوْلَيْنِ فِيمَا قَبْلَهُ مِنْ مَسْأَلَةِ الْقَبِيلَةِ.

(وَلَوْ وُجِدَ رَجُلٌ قَتِيلًا فِي دَارِ نَفْسِهِ فَدِيَتُهُ عَلَى عَاقِلَتِهِ لِوَرَثَتِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ لَا شَيْءَ فِيهِ) لِأَنَّ الدَّارَ فِي يَدِهِ حِينَ وُجِدَ الْجَرِيحُ

حُجَّةً لِلِاسْتِحْقَاقِ وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ فَيَجِبُ عَلَى أَهْلِ الْمَحَلَّةِ لِلنَّصِّ انْتَهَى. أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا الْفَرْقُ بِتَامٍّ فَضْلًا عَنْ كَوْنِهِ ظَاهِرًا، إذْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الظَّاهِرَ ثَمَّةَ لَوْ كَانَ حُجَّةً لَكَانَ حُجَّةً لِلِاسْتِحْقَاقِ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حُجَّةً لِدَفْعِ الْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ عَنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ، وَلَا يَكُونُ حُجَّةً لِلِاسْتِحْقَاقِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ اقْتَتَلُوا عَصَبِيَّةً فِي ذَلِكَ الْمَحَلِّ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ هَدَرًا فَلَا بُدَّ فِي تَمَامِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ مِنْ الْمَصِيرِ إلَى مَا ذَكَرَهُ الْمَشَايِخُ مِنْ الْبَيَانِ، وَنَقَلَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ كَمَا تَحَقَّقْته

(قَوْلُهُ وَلَوْ وُجِدَ رَجُلٌ قَتِيلًا فِي دَارِ نَفْسِهِ فَدِيَتُهُ عَلَى عَاقِلَتِهِ لِوَرَثَتِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: اعْلَمْ أَنَّ الْمُصَنِّفَ قَالَ فَدِيَتُهُ عَلَى عَاقِلَتِهِ لِوَرَثَتِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، ثُمَّ قَالَ فِي دَلِيلِهِ وَحَالَ ظُهُورِ الْقَتْلِ الدَّارُ لِلْوَرَثَةِ فَتَجِبُ عَلَى عَاقِلَتِهِمْ، وَفِيهِ تَنَاقُضٌ ظَاهِرٌ وَمُخَالَفَةٌ بَيْنَ الدَّلِيلِ وَالْمَدْلُولِ. وَدَفْعُ ذَلِكَ بِأَنْ يُقَالَ: عَاقِلَةُ الْمَيِّتِ إمَّا أَنْ تَكُونَ عَاقِلَةَ الْوَرَثَةِ أَوْ غَيْرَهُمْ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ كَانَ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ الْمَيِّتِ وَهُمْ عَاقِلَةُ الْوَرَثَةِ فَلَا تَنَافِيَ بَيْنَهُمْ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي كَانَ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ الْوَرَثَةِ، وَلَمَّا كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا مُمْكِنًا أَشَارَ إلَى الْأَوَّلِ فِي حُكْمِ الْمَسْأَلَةِ وَإِلَى

ص: 391

فَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ قَتَلَ نَفْسَهُ فَيَكُونُ هَدَرًا. وَلَهُ أَنَّ الْقَسَامَةَ إنَّمَا تَجِبُ بِنَاءً عَلَى ظُهُورِ الْقَتْلِ، وَلِهَذَا لَا يَدْخُلُ فِي الدِّيَةِ مَنْ مَاتَ قَبْلَ ذَلِكَ، وَحَالَ ظُهُورِ الْقَتْلِ الدَّارُ لِلْوَرَثَةِ فَتَجِبُ عَلَى عَاقِلَتِهِمْ، بِخِلَافِ الْمُكَاتَبِ إذَا وُجِدَ قَتِيلًا

الثَّانِي فِي دَلِيلِهَا. وَعَلَى التَّقْدِيرِ الثَّانِي يُقَدَّرُ فِي قَوْلِهِ فَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ مُضَافٌ: أَيْ عَلَى عَاقِلَةِ وَرَثَتِهِ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ.

أَقُولُ: مَا ذَكَرَهُ فِي الدَّفْعِ كَلَامٌ مُشَوَّشٌ خَالٍ عَنْ التَّحْصِيلِ سِيَّمَا قَوْلُهُ وَعَلَى التَّقْدِيرِ الثَّانِي يُقَدَّرُ فِي قَوْلِهِ فَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ مُضَافٌ: أَيْ عَلَى عَاقِلَةِ وَرَثَتِهِ، فَإِنَّ حُكْمَ الْمَسْأَلَةِ الْمَذْكُورَةِ وَهُوَ وُجُوبُ الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَعُمُّ الصُّورَتَيْنِ قَطْعًا: أَيْ صُورَةَ إنْ كَانَ عَاقِلَةُ الْمَيِّتِ عَاقِلَةَ الْوَرَثَةِ.

وَصُورَةَ إنْ كَانَ عَاقِلَةُ الْمَيِّتِ غَيْرَ عَاقِلَةِ الْوَرَثَةِ، فَمَا مَعْنَى تَخْصِيصِ حُكْمِهَا بِالصُّورَةِ الْأُولَى بِمُجَرَّدِ الْإِشَارَةِ إلَى إمْكَانِهَا؟ ثُمَّ إنَّ تَقْدِيرَ الْمُضَافِ وَعَدَمَ تَقْدِيرِهِ مُتَنَاقِضَانِ لَا يُمْكِنُ اجْتِمَاعُهُمَا فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ حَتَّى يُقَدَّرَ الْمُضَافُ فِي قَوْلِ الْمُصَنِّفِ فَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ عَلَى التَّقْدِيرِ الثَّانِي وَلَمْ يُقَدَّرْ عَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ كَمَا يُشْعِرُ بِهِ قَوْلُهُ وَعَلَى التَّقْدِيرِ الثَّانِي يُقَدَّرُ فِي قَوْلِهِ فَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ مُضَافٌ: أَيْ عَلَى عَاقِلَةِ وَرَثَتِهِ، فَالْوَجْهُ فِي الدَّفْعِ أَنْ يُقَالَ: الْمُضَافُ مُقَدَّرٌ أَلْبَتَّةَ فِي قَوْلِهِ فَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ: أَيْ عَلَى عَاقِلَةِ وَرَثَتِهِ فَيُوَافِقُ الدَّلِيلَ وَيَتَنَاوَلُ الصُّورَتَيْنِ مَعًا. أَمَّا تَنَاوُلُهُ الصُّورَةَ الثَّانِيَةَ وَهِيَ إنْ كَانَ عَاقِلَةُ الْمَيِّتِ غَيْرَ عَاقِلَةِ الْوَرَثَةِ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا تَنَاوُلُهُ الصُّورَةَ الْأُولَى وَهِيَ إنْ كَانَ عَاقِلَةُ الْمَيِّتِ عَيْنَ عَاقِلَةِ الْوَرَثَةِ فَلِأَنَّ عَاقِلَتَهُ وَعَاقِلَتَهُمْ إذَا اتَّحَدَتَا يَصِحُّ نِسْبَتُهُمْ إلَى الْوَرَثَةِ كَمَا يَصِحُّ نِسْبَتُهُمْ إلَى الْمَيِّتِ، بَلْ تَكُونُ نِسْبَتُهُمْ إلَى الْوَرَثَةِ أَوْلَى هَاهُنَا لِأَنَّ الدَّارَ لَمَّا كَانَتْ حَالَ ظُهُورِ الْقَتْلِ لِلْوَرَثَةِ لَا لِلْمَيِّتِ وَكَانَ وُجُوبُ الْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ بِنَاءً عَلَى ظُهُورِ الْقَتْلِ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الدَّلِيلِ كَانَتْ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ الْوَرَثَةِ لَا عَلَى عَاقِلَةِ الْمَيِّتِ.

وَقَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ فِي شَرْحِ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ فَدِيَتُهُ عَلَى عَاقِلَتِهِ لِوَرَثَتِهِ: أَيْ عَلَى عَاقِلَةِ وَرَثَتِهِ لِوَرَثَتِهِ لِأَنَّهُ لَمَّا وُجِدَ قَتِيلًا فِي الدَّارِ الْمَمْلُوكَةِ لِوَرَثَتِهِ لَا لَهُ لِأَنَّهُ مَيِّتٌ وَالْمَيِّتُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْمَلِكِ كَانَتْ الدِّيَةُ عَلَيْهِمْ، وَإِنَّمَا قَالَ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ بِنَاءً عَلَى الظَّاهِرِ، وَهُوَ أَنَّ عَاقِلَةَ الْوَارِثِ وَالْمُوَرِّثِ مُتَّحِدَةٌ، وَإِنْ كَانَ فِي مَوْضِعٍ تَخْتَلِفُ الْعَاقِلَةُ يَنْبَغِي عَلَى قِيَاسِ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ وَهِيَ أَنَّ الدَّارَ مَمْلُوكَةٌ لِلْوَرَثَةِ لَا لِلْمَيِّتِ أَنْ تَكُونَ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ الْوَرَثَةِ وَهِيَ الْأَصَحُّ، وَعَلَى قِيَاسِ طَرِيقَةِ أَنَّ غَيْرَهُ لَوْ وُجِدَ قَتِيلًا فِيهَا كَانَتْ الْقَسَامَةُ عَلَيْهِ دُونَ عَاقِلَتِهِ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ الْقَتِيلِ، كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ انْتَهَى.

أَقُولُ: لَا يَذْهَبُ عَلَى ذِي فِطْرَةٍ سَلِيمَةٍ أَنَّ هَذَا أَوْلَى مِمَّا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ، إلَّا أَنَّ فِي تَقْرِيرِهِ أَيْضًا شَيْئًا مِنْ الرَّكَاكَةِ، فَالْأَرْجَحُ مَا قَرَّرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ تَأَمَّلْ تَرْشُدْ.

(قَوْلُهُ وَلَهُ أَنَّ الْقَسَامَةَ إنَّمَا تَجِبُ بِنَاءً عَلَى ظُهُورِ الْقَتْلِ وَلِهَذَا لَا يَدْخُلُ فِي الدِّيَةِ مَنْ مَاتَ قَبْلَ ذَلِكَ، وَحَالَ ظُهُورِ الْقَتْلِ الدَّارُ لِلْوَرَثَةِ فَتَجِبُ عَلَى عَاقِلَتِهِمْ) اُعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ الدِّيَةَ إذَا وَجَبَتْ عَلَى عَاقِلَةِ الْوَرَثَةِ فَإِنَّمَا وَجَبَتْ لِلْوَرَثَةِ فَكَيْفَ يَسْتَقِيمُ أَنْ يَعْقِلُوا عَنْهُمْ لَهُمْ،

ص: 392

فِي دَارِ نَفْسِهِ لِأَنَّ حَالَ ظُهُورِ قَتْلِهِ بَقِيَتْ الدَّارُ عَلَى حُكْمِ مِلْكِهِ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ قَتَلَ نَفْسَهُ فَيُهْدَرُ دَمُهُ.

(وَلَوْ أَنَّ رَجُلَيْنِ كَانَا فِي بَيْتٍ وَلَيْسَ مَعَهُمَا ثَالِثٌ فَوُجِدَ أَحَدُهُمَا مَذْبُوحًا، قَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَضْمَنُ الْآخَرُ الدِّيَةَ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَضْمَنُهُ) لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ قَتَلَ نَفْسَهُ فَكَانَ التَّوَهُّمُ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ قَتَلَهُ الْآخَرُ فَلَا يَضْمَنُهُ بِالشَّكِّ. وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَقْتُلُ نَفْسَهُ فَكَانَ التَّوَهُّمُ سَاقِطًا كَمَا إذَا وُجِدَ قَتِيلٌ فِي مَحَلَّةٍ.

(وَلَوْ وُجِدَ قَتِيلٌ فِي قَرْيَةٍ لِامْرَأَةٍ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ عَلَيْهَا الْقَسَامَةُ تُكَرَّرُ عَلَيْهَا الْأَيْمَانُ، وَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهَا أَقْرَبُ الْقَبَائِلِ إلَيْهَا فِي النَّسَبِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: عَلَى الْعَاقِلَةِ أَيْضًا) لِأَنَّ الْقَسَامَةَ إنَّمَا تَجِبُ عَلَى مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النُّصْرَةِ وَالْمَرْأَةُ لَيْسَتْ مِنْ أَهْلِهَا فَأَشْبَهَتْ الصَّبِيَّ. وَلَهُمَا أَنَّ الْقَسَامَةَ لِنَفْيِ التُّهْمَةِ وَتُهْمَةُ الْقَتْلِ مِنْ الْمَرْأَةِ مُتَحَقِّقَةٌ. قَالَ الْمُتَأَخِّرُونَ: إنَّ الْمَرْأَةَ تَدْخُلُ مَعَ الْعَاقِلَةِ فِي التَّحَمُّلِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِأَنَّا أَنْزَلْنَاهَا قَاتِلَةً وَالْقَاتِلُ يُشَارِكُ الْعَاقِلَةَ.

(وَلَوْ وُجِدَ رَجُلٌ قَتِيلًا فِي أَرْضٍ رَجُلٍ إلَى جَانِبِ قَرْيَةٍ لَيْسَ صَاحِبُ الْأَرْضِ مِنْ أَهْلِهَا، قَالَ: هُوَ عَلَى صَاحِبِ الْأَرْضِ) لِأَنَّهُ أَحَقُّ بِنُصْرَةِ أَرْضِهِ مِنْ أَهْلِ الْقَرْيَةِ.

وَأُجِيبَ بِأَنَّهَا تَجِبُ لِلْمَقْتُولِ حَتَّى تُقْضَى مِنْهَا دُيُونُهُ وَتُنَفَّذُ وَصَايَاهُ ثُمَّ يَخْلُفُهُ الْوَارِثُ فِيهِ وَهُوَ نَظِيرُ الصَّبِيِّ وَالْمَعْتُوهِ إذَا قَتَلَ أَبَاهُ تَجِبُ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ وَتَكُونُ مِيرَاثًا لَهُ كَذَا فِي الْعِنَايَةِ وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الشُّرَّاحِ.

أَقُولُ: يَرِدُ عَلَى ظَاهِرِ هَذَا الْجَوَابِ أَنَّهُ يُنَافِي مَا ذُكِرَ فِي وَضْعِ جَوَابِ الْمَسْأَلَةِ، فَإِنَّ الْمَذْكُورَ فِيهِ فَدِيَتُهُ عَلَى عَاقِلَتِهِ لِوَرَثَتِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُقْتَضَى جَوَابِ الِاعْتِرَاضِ أَنْ تَكُونَ دِيَتُهُ لَهُ لَا لِوَرَثَتِهِ. وَيُمْكِنُ دَفْعُهُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَذْكُورِ فِي وَضْعِ جَوَابِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ دِيَةَ الْمَقْتُولِ عَلَى عَاقِلَتِهِ لِوَرَثَتِهِ فِي ثَانِي الْحَالِ: أَيْ تَصِيرُ لَهُمْ بِالْخِلَافَةِ عَنْ الْمَقْتُولِ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ لَهُ أَوَّلًا، وَمِثْلُ هَذَا التَّسَامُحِ فِي الْعِبَارَةِ لَيْسَ بِعَزِيزٍ فِي كَلِمَاتِ الثِّقَاتِ. ثُمَّ أَقُولُ: بَقِيَ هُنَا إشْكَالٌ قَوِيٌّ، وَهُوَ أَنَّهُ قَدْ مَرَّ أَنَّ دَعْوَى وَلِيِّ الْقَتِيلِ شَرْطٌ لِوُجُوبِ الْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ وَوَلِيُّ الْقَتِيلِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ هُوَ الْوَرَثَةُ فَلَا بُدَّ مِنْ دَعْوَاهُمْ، فَيَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ دَعْوَاهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ لِأَنَّ الدَّارَ كَانَتْ لَهُمْ حَالَ ظُهُورِ الْقَتْلِ، وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ. وَيُمْكِنُ دَفْعُهُ أَيْضًا بِتَمَحُّلٍ فَلْيُتَأَمَّلْ. وَأَجَابَ صَاحِبُ الْغَايَةِ عَنْ أَصْلِ الِاعْتِرَاضِ بِوَجْهٍ آخَرَ حَيْثُ قَالَ: قُلْت الْعَاقِلَةُ أَعَمُّ مِنْ أَنْ تَكُونَ وَرَثَةً أَوْ غَيْرَ وَرَثَةٍ، فَمَا وَجَبَ عَلَى غَيْرِ الْوَرَثَةِ مِنْ الْعَاقِلَةِ يَجِبُ لِلْوَرَثَةِ مِنْهُمْ انْتَهَى. أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ. أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ الدِّيَةَ اسْمٌ لِمَجْمُوعِ مَا قَدَّرَهُ الشَّرْعُ مِنْ الْأَنْوَاعِ الْمَخْصُوصَةِ مِنْ الْمَالِ كَمَا تَقَرَّرَ فِي أَوَّلِ الدِّيَاتِ، وَبَعْضُ ذَلِكَ لَا يُسَمَّى دِيَةً كَمَا صَرَّحُوا بِهِ، فَلَوْ كَانَ مَا يَجِبُ لِلْوَرَثَةِ مِنْ الْعَاقِلَةِ مَا وَجَبَ عَلَى غَيْرِ الْوَرَثَةِ مِنْهُمْ فَقَطْ لَمَا تَمَّ جَوَابُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ فَدِيَتُهُ عَلَى عَاقِلَتِهِ لِوَرَثَتِهِ،

ص: 393

(كِتَابُ الْمَعَاقِلِ)

الْمَعَاقِلُ جَمْعُ مَعْقُلَةٍ، وَهِيَ الدِّيَةُ، وَتُسَمَّى الدِّيَةُ عَقْلًا لِأَنَّهَا تَعْقِلُ الدِّمَاءَ مِنْ أَنْ تُسْفَكَ: أَيْ تُمْسِكُ. قَالَ (وَالدِّيَةُ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ وَالْخَطَإِ، وَكُلُّ دِيَةٍ تَجِبُ بِنَفْسِ الْقَتْلِ عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَالْعَاقِلَةُ الَّذِينَ يَعْقِلُونَ) يَعْنِي يُؤَدُّونَ

لِأَنَّ دِيَةَ الْمَقْتُولِ مَجْمُوعُ مَا يَجِبُ عَلَى الْعَاقِلَةِ كُلِّهِمْ لَا مَا يَجِبُ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ. وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ الْمَحْذُورَ الْمَذْكُورَ فِي الِاعْتِرَاضِ الْمَزْبُورِ إنَّمَا هُوَ أَنْ يَكُونَ الَّذِينَ عَقَلُوا عَنْهُمْ هُمْ الَّذِينَ عَقَلُوا لَهُمْ وَهُمْ الْوَرَثَةُ كَمَا يُنَادِي عَلَيْهِ قَوْلُ الْمُعْتَرِضِ فَكَيْفَ يَسْتَقِيمُ أَنْ يَعْقِلُوا عَنْهُمْ لَهُمْ، لَا أَنْ يَكُونَ مَنْ وَجَبَتْ الدِّيَةُ عَلَيْهِمْ عَيْنَ مَنْ وَجَبَتْ لَهُمْ حَتَّى يُقَالَ إنَّ مَنْ وَجَبَتْ الدِّيَةُ عَلَيْهِمْ غَيْرُ الْوَرَثَةِ وَمَنْ وَجَبَتْ لَهُمْ هُمْ الْوَرَثَةُ فَلَا اتِّحَادَ. عَلَى أَنَّ الْعَاقِلَةَ إذَا كَانَتْ أَعَمَّ مِنْ أَنْ تَكُونَ وَرَثَةً أَوْ غَيْرَ وَرَثَةٍ كَمَا صَرَّحَ بِهِ ذَلِكَ الْمُجِيبُ تَكُونُ الْوَرَثَةُ أَيْضًا مِمَّنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِمْ الدِّيَةُ، لِأَنَّ الدِّيَةَ إنَّمَا تَجِبُ عَلَى الْعَاقِلَةِ كُلِّهِمْ لَا عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ فَيَلْزَمُ اتِّحَادُ مَنْ وَجَبَتْ الدِّيَةُ عَلَيْهِمْ. وَمَنْ وَجَبَتْ لَهُمْ بِالنَّظَرِ إلَى الْوَرَثَةِ لَا مَحَالَةَ فَلَا يَصِحُّ الْجَوَابُ الْمَزْبُورُ عَلَى كُلِّ حَالٍ كَمَا لَا يَخْفَى.

(كِتَابُ الْمَعَاقِلِ)

أَقُولُ: هَكَذَا وَقَعَ الْعُنْوَانُ فِي عَامَّةِ الْمُعْتَبَرَاتِ، لَكِنْ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَذْكُرَ الْعَوَاقِلَ بَدَلَ الْمَعَاقِلِ، لِأَنَّ الْمَعَاقِلَ جَمْعُ الْمِعْقَلَةِ وَهِيَ الدِّيَةُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْمُصَنِّفُ وَغَيْرُهُ فَيَصِيرُ الْمَعْنَى كِتَابَ الدِّيَاتِ، وَهَذَا مَعَ كَوْنِهِ مُؤَدِّيًا إلَى تَكْرَارٍ لَيْسَ بِتَامٍّ فِي نَفْسِهِ، لِأَنَّ بَيَانَ أَقْسَامِ الدِّيَاتِ وَأَحْكَامِهَا قَدْ مَرَّ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الدِّيَاتِ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ بِالْبَيَانِ هَاهُنَا بَيَانُ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِمْ الدِّيَةُ بِتَفَاصِيلِ أَنْوَاعِهِمْ وَأَحْكَامِهِمْ وَهُمْ الْعَاقِلَةُ، فَالْمُنَاسِبُ فِي الْعُنْوَانِ ذِكْرُ الْعَوَاقِلِ لِأَنَّهَا جَمْعُ الْعَاقِلَةِ. قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: لَمَّا كَانَ مُوجِبُ الْقَتْلِ الْخَطَإِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ الدِّيَةَ عَلَى الْعَاقِلَةِ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ مَعْرِفَتِهَا وَمَعْرِفَةِ أَحْكَامِهَا فَذَكَرَهَا فِي هَذَا الْكِتَابِ انْتَهَى. وَاقْتَفَى أَثَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ أَقُولُ: لَيْسَ ذَاكَ بِسَدِيدٍ، لِأَنَّ مَدَارَهُ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ بِالذَّاتِ فِي هَذَا الْفَصْلِ مَعْرِفَةَ الدِّيَاتِ نَفْسِهَا وَمَعْرِفَةَ أَحْكَامِهَا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ مَحَلَّهَا كِتَابُ الدِّيَاتِ وَاسْتُوْفِيَتْ هُنَاكَ عَلَى التَّفْصِيلِ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ بِالذَّاتِ هُنَا مَعْرِفَةُ الْعَوَاقِلِ وَأَحْكَامِهَا وَذِكْرُ الدِّيَةِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِطْرَادِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا ذَكَرَ الْكِتَابَ هُنَا بَلْ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَذْكُرَ الْبَابَ أَوْ الْفَصْلَ لِكَوْنِ الْمَذْكُورِ هُنَا إذْ ذَاكَ شُعْبَةً مِنْ الدِّيَاتِ، بِخِلَافِ الْعَوَاقِلِ فَإِنَّهَا أَمْرٌ مُغَايِرٌ لِلدِّيَاتِ ذَاتًا وَحُكْمًا فَكَانَتْ مَحَلًّا لِذِكْرِ الْكِتَابِ، وَكَأَنَّ ذَيْنِك الشَّارِحَيْنِ إنَّمَا اغْتَرَّا بِذِكْرِ الْمَعَاقِلِ فِي عُنْوَانِ هَذَا الْكِتَابِ بَدَلَ الْعَوَاقِلِ كَمَا فَصَّلْنَاهُ آنِفًا.

وَالْوَجْهُ السَّدِيدُ هُنَا مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ حَيْثُ قَالَ: لَمَّا بَيَّنَ أَحْكَامَ الْقَتْلِ الْخَطَإِ وَتَوَابِعَهُ شَرَعَ فِي بَيَانِ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الدِّيَةُ، إذْ لَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَتِهَا انْتَهَى (قَوْلُهُ وَالدِّيَةُ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ وَالْخَطَإِ وَكُلُّ دِيَةٍ وَجَبَتْ بِنَفْسِ الْقَتْلِ عَلَى الْعَاقِلَةِ) قَالَ جُمْهُورُ الشُّرَّاحِ: قَوْلُهُ وَكُلُّ دِيَةٍ مُبْتَدَأٌ

ص: 394

الْعَقْلَ وَهُوَ الدِّيَةُ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي الدِّيَاتِ. وَالْأَصْلُ فِي وُجُوبِهَا عَلَى الْعَاقِلَةِ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام فِي حَدِيثِ حَمَلِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه لِلْأَوْلِيَاءِ «قُومُوا فَدُوهُ» وَلِأَنَّ النَّفْسَ مُحْتَرَمَةٌ لَا وَجْهَ إلَى الْإِهْدَارِ وَالْخَاطِئُ مَعْذُورٌ، وَكَذَا الَّذِي تَوَلَّى شِبْهَ الْعَمْدِ نَظَرًا إلَى الْآلَةِ فَلَا وَجْهَ إلَى إيجَابِ الْعُقُوبَةِ عَلَيْهِ، وَفِي إيجَابِ مَالِ عَظِيمٍ إجْحَافُهُ وَاسْتِئْصَالُهُ فَيَصِيرُ عُقُوبَةً فَضَمَّ إلَيْهِ الْعَاقِلَةَ تَحْقِيقًا لِلتَّخْفِيفِ. وَإِنَّمَا خُصُّوا بِالضَّمِّ لِأَنَّهُ إنَّمَا قَصَرَ لِقُوَّةٍ فِيهِ وَتِلْكَ بِأَنْصَارِهِ وَهُمْ الْعَاقِلَةُ فَكَانُوا هُمْ الْمُقَصِّرِينَ فِي تَرْكِهِمْ مُرَاقَبَتِهِ فَخُصُّوا بِهِ.

قَالَ (وَالْعَاقِلَةُ أَهْلُ الدِّيوَانِ إنْ كَانَ الْقَاتِلُ مِنْ أَهْلِ الدِّيوَانِ يُؤْخَذُ مِنْ عَطَايَاهُمْ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ) وَأَهْلُ الدِّيوَانِ أَهْلُ الرَّايَاتِ وَهُمْ الْجَيْشُ الَّذِينَ كُتِبَتْ أَسَامِيهمْ فِي الدِّيوَانِ وَهَذَا عِنْدَنَا.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الدِّيَةُ عَلَى أَهْلِ الْعَشِيرَةِ لِأَنَّهُ كَانَ كَذَلِكَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ عليه الصلاة والسلام وَلَا نَسْخَ بَعْدَهُ وَلِأَنَّهُ صِلَةٌ وَالْأَوْلَى بِهَا الْأَقَارِبُ. وَلَنَا قَضِيَّةُ عُمَرَ رضي الله عنه فَإِنَّهُ لَمَّا دَوَّنَ الدَّوَاوِينَ جَعَلَ الْعَقْلَ عَلَى أَهْلِ الدِّيوَانِ، وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ مِنْهُمْ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِنَسْخٍ بَلْ هُوَ تَقْرِيرُ مَعْنًى لِأَنَّ الْعَقْلَ كَانَ عَلَى أَهْلِ النُّصْرَةِ وَقَدْ كَانَتْ بِأَنْوَاعٍ: بِالْقَرَابَةِ وَالْحِلْفِ وَالْوَلَاءِ وَالْعَدِّ.

وَفِي عَهْدِ عُمَرَ رضي الله عنه قَدْ صَارَتْ بِالدِّيوَانِ فَجَعَلَهَا عَلَى أَهْلِهِ اتِّبَاعًا لِلْمَعْنَى وَلِهَذَا قَالُوا: لَوْ كَانَ الْيَوْمَ قَوْمٌ تَنَاصُرُهُمْ بِالْحِرَفِ فَعَاقِلَتُهُمْ أَهْلُ الْحِرْفَةِ، وَإِنْ كَانَ بِالْحِلْفِ فَأَهْلُهُ وَالدِّيَةُ صِلَةٌ كَمَا قَالَ، لَكِنَّ إيجَابَهُمْ فِيمَا هُوَ صِلَةٌ وَهُوَ الْعَطَاءُ أَوْلَى مِنْهُ فِي أُصُولِ أَمْوَالِهِمْ، وَالتَّقْدِيرُ بِثَلَاثِ سِنِينَ مَرْوِيٌّ عَنْ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام

وَقَوْلُهُ عَلَى الْعَاقِلَةِ خَبَرُهُ.

أَقُولُ: فِيهِ خَلَلٌ، إذْ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا قَالُوهُ لَكَانَ قَوْلُهُ وَكُلُّ دِيَةٍ وَجَبَتْ بِنَفْسِ الْقَتْلِ عَلَى الْعَاقِلَةِ كَلَامًا مُسْتَأْنَفًا مُسْتَقِلًّا وَكَانَ مَا قَبْلَهُ وَهُوَ قَوْلُهُ وَالدِّيَةُ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ وَالْخَطَإِ كَلَامًا تَامًّا مُسْتَقِلًّا أَيْضًا فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ وَالدِّيَةُ مُبْتَدَأً، وَقَوْلُهُ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ وَالْخَطَإِ خَبَرُهُ فَيَصِيرُ الْمَعْنَى وَالدِّيَةُ كَائِنَةٌ أَوْ وَاجِبَةٌ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ وَالْخَطَإِ، وَهَذَا مَعَ اسْتِلْزَامِهِ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ وَالدِّيَةُ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ وَالْخَطَإِ مُسْتَدْرَكًا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ هَاهُنَا، إذْ كَوْنُ الدِّيَةِ وَاجِبَةً فِي شِبْهِ الْعَمْدِ وَالْخَطَإِ، وَقَدْ ذُكِرَ مُفَصَّلًا فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْجِنَايَاتِ وَكِتَابِ الدِّيَاتِ، وَلَيْسَ لَهُ تَعَلُّقٌ بِكِتَابِ الْمَعَاقِلِ يَفُوتُ بِهِ الْمَعْنَى الْمَقْصُودُ هَاهُنَا وَهُوَ بَيَانُ كَوْنِ الدِّيَةِ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ وَالْخَطَإِ عَلَى الْعَاقِلَةِ، إذْ بِهَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ تَصِيرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ مَسَائِلِ كِتَابِ الْمَعَاقِلِ.

وَالْحَقُّ الصَّرِيحُ عِنْدِي أَنَّ قَوْلَهُ وَالدِّيَةُ مُبْتَدَأٌ وَقَوْلَهُ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ وَالْخَطَإِ صِفَتُهُ: أَيْ الدِّيَةُ الْكَائِنَةُ أَوْ الْوَاجِبَةُ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ وَالْخَطَإِ، وَقَوْلُهُ وَكُلُّ دِيَةٍ وَجَبَتْ بِنَفْسِ الْقَتْلِ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ وَالدِّيَةُ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ وَالْخَطَإِ، وَقَوْلُهُ عَلَى الْعَاقِلَةِ خَبَرُ الْمُبْتَدَإِ وَهُوَ قَوْلُهُ فَيَصِيرُ الْحُكْمُ بِكَوْنِهَا عَلَى الْعَاقِلَةِ مُنْسَحِبًا

ص: 395

وَمَحْكِيٌّ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه، وَلِأَنَّ الْأَخْذَ مِنْ الْعَطَاءِ لِلتَّخْفِيفِ وَالْعَطَاءُ يَخْرُجُ فِي كُلِّ سَنَةٍ مَرَّةً (فَإِنْ خَرَجَتْ الْعَطَايَا فِي أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِ سِنِينَ أَوْ أَقَلَّ أُخِذَ مِنْهَا) لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ وَتَأْوِيلُهُ إذَا كَانَتْ الْعَطَايَا لِلسِّنِينَ الْمُسْتَقْبِلَةِ بَعْدَ الْقَضَاءِ، حَتَّى لَوْ اجْتَمَعَتْ فِي السِّنِينَ الْمَاضِيَةِ قَبْلَ الْقَضَاءِ ثُمَّ خَرَجَتْ بَعْدَ الْقَضَاءِ لَا يُؤْخَذُ مِنْهَا لِأَنَّ الْوُجُوبَ بِالْقَضَاءِ عَلَى مَا نُبَيِّنُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَلَوْ خَرَجَ لِلْقَاتِلِ ثَلَاثُ عَطَايَا فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ مَعْنَاهُ فِي الْمُسْتَقْبِلِ يُؤْخَذُ مِنْهَا كُلُّ الدِّيَةِ لِمَا ذَكَرْنَا، وَإِذَا كَانَ جَمِيعُ الدِّيَةِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ فَكُلُّ ثُلُثٍ مِنْهَا فِي سَنَةٍ،

عَلَى الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ جَمِيعًا فَلَا يَلْزَمُ الْمَحْذُورُ أَصْلًا وَيَحْصُلُ الْمَعْنَى الْمَقْصُودُ هُنَا بِلَا رَيْبٍ.

(قَوْلُهُ وَلِأَنَّ الْأَخْذَ مِنْ الْعَطَاءِ لِلتَّخْفِيفِ، وَالْعَطَاءُ يَخْرُجُ فِي كُلِّ سَنَةٍ مَرَّةً) أَقُولُ: فِي تَمَامِ هَذَا التَّعْلِيلِ كَلَامٌ، لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَطَاءُ الْخَارِجُ فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ فِي سَنَتَيْنِ وَافِيًا بِتَمَامِ الدِّيَةِ لِكَثْرَةِ آحَادِ الْعَاقِلَةِ، فَيُمْكِنُ أَخْذُهَا بِالتَّمَامِ مِنْ الْعَطَاءِ الْخَارِجِ فِي سَنَةٍ أَوْ سَنَتَيْنِ، فَلَا يُفِيدُ هَذَا التَّعْلِيلُ الْمَزْبُورُ الْمُدَّعَى وَهُوَ التَّقْدِيرُ بِثَلَاثِ سِنِينَ. وَأَيْضًا يَجُوزُ أَنْ لَا تَكُونَ الْعَطَايَا الْخَارِجَةُ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ وَافِيَةً بِتَمَامِ الدِّيَةِ لِقِلَّةِ آحَادِ الْعَاقِلَةِ، فَلَا بُدَّ أَنْ تُؤْخَذَ إذْ ذَاكَ مِنْ الْعَطَايَا الْخَارِجَةِ فِي أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِ سِنِينَ، فَلَا يُفِيدُ التَّعْلِيلُ الْمَذْكُورُ الْمُدَّعَى مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ أَيْضًا كَمَا تَرَى. نَعَمْ يُفِيدُ التَّأْجِيلُ مُطْلَقًا لَكِنَّ الْمُدَّعَى هُنَا هُوَ التَّأْجِيلُ بِثَلَاثِ سِنِينَ لَا التَّأْجِيلُ مُطْلَقًا (قَوْلُهُ فَإِنْ خَرَجَتْ الْعَطَايَا فِي أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِ سِنِينَ أَوْ أَقَلَّ أُخِذَ مِنْهَا لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ) أَقُولُ: فِيهِ بَحْثٌ، وَهُوَ أَنَّ الْقِيَاسَ كَانَ يَأْبَى إيجَابُ الْمَالِ بِمُقَابَلَةِ النَّفْسِ الْمُحْتَرَمَةِ لِعَدَمِ الْمُمَاثَلَةِ بَيْنَهُمَا، إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ بِذَلِكَ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ، وَالشَّرْعُ إنَّمَا وَرَدَ بِإِيجَابِهِ مُؤَجَّلًا بِثَلَاثِ سِنِينَ، فَإِنَّهُ هُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ الْمَحْكِيُّ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه كَمَا مَرَّ آنِفًا، فَيَنْبَغِي أَنْ يَخْتَصَّ التَّأْجِيلُ بِثَلَاثِ سِنِينَ، إذْ قَدْ تَقَرَّرَ عِنْدَهُمْ أَنَّ الشَّرْعَ الْوَارِدَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ يَخْتَصُّ بِمَا وَرَدَ بِهِ، وَسَيَجِيءُ نَظِيرُ هَذَا فِي الْكِتَابِ فِي تَعْلِيلِ أَنَّ مَا وَجَبَ عَلَى الْقَاتِلِ فِي مَالِهِ كَمَا إذَا قَتَلَ الْأَبُ ابْنَهُ عَمْدًا لَيْسَ بِحَالٍّ عِنْدَنَا بَلْ مُؤَجَّلٌ بِثَلَاثِ سِنِينَ فَتَأَمَّلْ هَلْ يُمْكِنُ دَفْعُهُ؟ (قَوْلُهُ وَلَوْ خَرَجَ لِلْقَاتِلِ ثَلَاثُ عَطَايَا فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ) قَالَ صَاحِبُ مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ: وَفِي بَعْضِ النَّسْخِ: وَلَوْ خَرَجَ لِلْقَابِلِ: أَيْ لِلْعَامِ الْقَابِلِ وَهُوَ الْأَصَحُّ انْتَهَى. وَتَبِعَهُ الشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ.

أَقُولُ: كَيْفَ يَكُونُ ذَاكَ هُوَ الْأَصَحُّ، وَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ مَعْنَاهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لَغْوًا مَحْضًا، لِأَنَّ مَا يَخْرُجُ لِلْعَامِ الْقَابِلِ: أَيْ الْمُقْبِلِ لَا يَكُونُ إلَّا فِي الْمُسْتَقْبَلِ قَطْعًا، فَمَا مَعْنَى تَفْسِيرِ الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ مَعْنَاهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ خُرُوجٍ فِي الْعَامِ الْقَابِلِ وَبَيْنَ خُرُوجٍ لِلْعَامِ الْقَابِلِ وَيَدَّعِي إمْكَانَ كَوْنِ الْخُرُوجِ لِلْعَامِ الْقَابِلِ فِي الْمَاضِي بِأَنْ خَرَجَ الْعَطَاءُ فِي الْمَاضِي لِلْعَامِ الْقَابِلِ: أَيْ لِأَجْلِ الْعَامِ الْقَابِلِ بِطَرِيقِ تَعْجِيلِ إعْطَاءِ عَطِيَّةِ الْعَامِ الْآتِي أَيْضًا لِمَصْلَحَةٍ لَكِنَّهُ تَعَسُّفٌ لَا يَخْفَى.

نَعَمْ فِي النُّسْخَةِ الْأُولَى أَيْضًا كَلَامٌ، وَهُوَ أَنَّهُ فِي جَوَابِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يُؤْخَذُ مِنْهَا كُلُّ الدِّيَةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ كُلَّ الدِّيَةِ إنَّمَا يُؤْخَذُ مِنْ الْعَطَايَا الَّتِي خَرَجَتْ لِلْعَاقِلَةِ أَجْمَعِهِمْ لَا مِمَّا خَرَجَتْ لِلْقَاتِلِ فَقَطْ، إلَّا أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُقَدَّرَ الْمُضَافُ فِي قَوْلِهِ وَلَوْ خَرَجَ لِلْقَاتِلِ: أَيْ لَوْ خَرَجَ لِعَاقِلَةِ الْقَاتِلِ وَتَقْدِيرُ الْمُضَافِ طَرِيقَةٌ مَعْهُودَةٌ فَحِينَئِذٍ يَنْتَظِمُ جَوَابُ الْمَسْأَلَةِ كَمَا لَا يَخْفَى (قَوْلُهُ يُؤْخَذُ مِنْهَا كُلُّ الدِّيَةِ لِمَا ذَكَرْنَا) قَالَ الشُّرَّاحُ: قَوْلُهُ لِمَا ذَكَرْنَا إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّ الْوُجُوبَ بِالْقَضَاءِ.

ص: 396

وَإِنْ كَانَ الْوَاجِبُ بِالْعَقْلِ ثُلُثَ دِيَةِ النَّفْسِ أَوْ أَقَلَّ كَانَ فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ وَمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ إلَى تَمَامِ الثُّلُثَيْنِ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ، وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ إلَى تَمَامِ الدِّيَةِ فِي السَّنَةِ الثَّالِثَةِ

وَمَا وَجَبَ عَلَى الْعَاقِلَةِ مِنْ الدِّيَةِ أَوْ عَلَى الْقَاتِلِ بِأَنْ قَتَلَ الْأَبُ ابْنَهُ عَمْدًا فَهُوَ فِي مَالِهِ ثَلَاثَ سِنِينَ.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: وَمَا وَجَبَ عَلَى الْقَاتِلِ فِي مَالِهِ فَهُوَ حَالٌّ، لِأَنَّ التَّأْجِيلَ لِلتَّخْفِيفِ لِتَحَمُّلِ الْعَاقِلَةِ فَلَا يَلْحَقُ بِهِ الْعَمْدُ الْمَحْضُ.

وَلَنَا أَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَاهُ وَالشَّرْعَ وَرَدَ بِهِ مُؤَجَّلًا فَلَا يَتَعَدَّاهُ.

أَقُولُ: أَرَاهُمْ خَرَجُوا هُنَا عَنْ سُنَنِ الصَّوَابِ إذْ الظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ لِمَا ذَكَرْنَا دَلِيلٌ عَلَى قَوْلِهِ يُؤْخَذُ مِنْهَا كُلُّ الدِّيَةِ فَحِينَئِذٍ لَا مَجَالَ لِكَوْنِ قَوْلِهِ الْمَزْبُورِ إشَارَةً إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّ الْوُجُوبَ بِالْقَضَاءِ، إذْ لَا تَأْثِيرَ لِكَوْنِ الْوُجُوبِ بِالْقَضَاءِ فِي أَنْ يُؤْخَذَ كُلُّ الدِّيَةِ مِنْ الْعَطَايَا الْخَارِجَةِ فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ فِي مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ، بَلْ إنَّمَا يَكُونُ قَوْلُهُ الْمَزْبُورُ حِينَئِذٍ إشَارَةً إلَى قَوْلِهِ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ فَإِنَّهُ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا عَلَيْهِ إذْ ذَاكَ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى ذِي مُسْكَةٍ. نَعَمْ لَوْ جُعِلَ قَوْلُهُ الْمَزْبُورُ دَلِيلًا عَلَى قَوْلِهِ مَعْنَاهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لَصَحَّ جَعْلُ ذَلِكَ إشَارَةً إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّ الْوُجُوبَ بِالْقَضَاءِ لَكِنَّ جَعْلَهُ دَلِيلًا عَلَى مَا وَقَعَ ذِكْرُهُ مِنْ الْمُصَنِّفِ اسْتِطْرَادًا وَبِالتَّبَعِ وَهُوَ قَوْلُهُ مَعْنَاهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَتَرَكَ مَا هُوَ أَصْلُ الْمَسْأَلَةِ وَمَقْصُودٌ بِالذَّاتِ هُنَا خَالِيًا عَنْ الدَّلِيلِ بِالْكُلِّيَّةِ مِمَّا لَا تَقْبَلُهُ الْفِطْرَةُ السَّلِيمَةُ، عَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ ذَلِكَ لَمَا أَخَّرَ قَوْلَهُ لِمَا ذَكَرْنَا عَنْ جَوَابِ الْمَسْأَلَةِ بَلْ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَذْكُرَهُ مُتَّصِلًا بِقَوْلِهِ مَعْنَاهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ.

(قَوْلُهُ وَمَا وَجَبَ عَلَى الْعَاقِلَةِ مِنْ الدِّيَةِ أَوْ عَلَى الْقَاتِلِ بِأَنْ قَتَلَ الْأَبُ ابْنَهُ عَمْدًا فَهُوَ فِي مَالِهِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ) أَقُولُ: هَذَا التَّحْرِيرُ مُخْتَلٌّ، إذْ الظَّاهِرُ أَنَّ خَبَرَ " مَا " فِي قَوْلِهِ وَمَا وَجَبَ عَلَى الْعَاقِلَةِ إنَّمَا هُوَ قَوْلُهُ فَهُوَ فِي مَالِهِ، إذْ لَوْ كَانَ خَبَرُهُ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ لَمْ يَكُنْ لِلْفَاءِ فِي قَوْلِهِ فَهُوَ فِي مَالِهِ مَعْنًى، بَلْ لَمْ يَظْهَرْ لِضَمِيرِ هُوَ فِي قَوْلِهِ فَهُوَ فِي مَالِهِ ارْتِبَاطٌ بِمَا قَبْلَهُ، وَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا لَا سُتْرَةَ بِهِ عِنْدَ مَنْ لَهُ دُرْبَةٌ بِأَسَالِيبِ الْكَلَامِ وَالْقَوَاعِدِ الْأَدَبِيَّةِ، فَإِنْ كَانَ خَبَرُ " مَا " قَوْلَهُ فَهُوَ فِي مَالِهِ لَمْ يَصِحَّ مَعْنَى الْكَلَامِ فِي الْمَقَامِ، فَإِنَّ مَا وَجَبَ عَلَى الْعَاقِلَةِ مِنْ الدِّيَةِ لَيْسَ مِنْ مَالِ الْقَاتِلِ بِلَا رَيْبٍ.

فَالْحَقُّ فِي تَحْرِيرِ الْمَقَامِ أَنْ يُقَالَ: وَمَا وَجَبَ عَلَى الْعَاقِلَةِ مِنْ الدِّيَةِ أَوْ عَلَى الْقَاتِلِ فِي مَالِهِ بِأَنْ قَتَلَ الْأَبُ ابْنَهُ عَمْدًا فَهُوَ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ (قَوْلُهُ وَلَنَا أَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَاهُ، وَالشَّرْعَ وَرَدَ بِهِ مُؤَجَّلًا فَلَا يَتَعَدَّاهُ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ قَوْلِهِ إنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَاهُ: أَيْ الْقِيَاسُ يَأْبَى إيجَابَ الْمَالِ بِمُقَابَلَةِ النَّفْسِ: يَعْنِي لَا يَقْتَضِيهِ لِأَنَّ الْقِيَاسَ مِنْ حُجَجِ الشَّرْعِ وَهِيَ لَا تَتَنَاقَضُ انْتَهَى.

أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا بِشَرْحٍ صَحِيحٍ. أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَعْنَى قَوْلِ الْمُصَنِّفِ إنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَاهُ هُوَ أَنَّهُ لَا يَقْتَضِيهِ لَمَا أَثْبَتَ دَلِيلُنَا الْمَذْكُورُ هَاهُنَا مُدَّعَانَا، فَإِنَّ إيجَابَ الْمَالِ بِمُقَابَلَةِ النَّفْسِ لَا يَكُونُ حِينَئِذٍ مُخَالِفًا لِلْقِيَاسِ، لِأَنَّ عَدَمَ اقْتِضَاءِ الْقِيَاسِ إيَّاهُ لَيْسَ بِاقْتِضَاءٍ لِعَدَمِهِ، وَالْمُخَالَفَةُ إنَّمَا تَتَحَقَّقُ فِي الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُخَالِفًا لِلْقِيَاسِ لَمْ يَلْزَمْ مِنْ وُرُودِ الشَّرْعِ بِإِيجَابِ الْمَالِ فِي الْخَطَإِ مُؤَجَّلًا أَنْ لَا يَتَعَدَّى غَيْرُهُ، لِأَنَّ الَّذِي لَا يَتَعَدَّى مَوْرِدُهُ إنَّمَا هُوَ مَا يُخَالِفُ الْقِيَاسَ كَمَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ. وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ " وَهِيَ ": أَيْ حُجَجُ الشَّرْعِ لَا تَتَنَاقَضُ أَنَّ حُجَجَهُ الْمَعْمُولَ بِهَا لَا تَتَنَاقَضُ فَمُسَلَّمٌ، لَكِنَّ الْقِيَاسَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ لَيْسَ بِمَعْمُولٍ بِهِ بَلْ هُوَ مَتْرُوكٌ بِالنَّصِّ الْوَارِدِ بِإِيجَابِ الْمَالِ فَلَا مَحْذُورَ فِي اقْتِضَائِهِ عَدَمَ إيجَابِ الْمَالِ بِمُقَابَلَةِ النَّفْسِ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّ حُجَجَ الشَّرْعِ لَا تَتَنَاقَضُ مُطْلَقًا: أَيْ سَوَاءٌ كَانَتْ مَعْمُولًا بِهَا أَوْ لَا فَمَمْنُوعٌ، كَيْفَ وَقَدْ وَضَعُوا فِي كُتُبِ الْأُصُولِ بَابًا لِلْمُعَارَضَةِ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ وَالتَّرْجِيحِ، وَبَيَّنُوا أَحْكَامَ ذَلِكَ عَلَى التَّفْصِيلِ. وَالْعَجَبُ مِنْ الشَّارِحِ الْمَزْبُورِ أَنَّهُ رَفَضَ هُنَا عِدَّةً مِنْ الْقَوَاعِدِ

ص: 397

وَلَوْ قَتَلَ عَشَرَةٌ رَجُلًا خَطَأً فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ عُشْرُ الدِّيَةِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ اعْتِبَارًا لِلْجُزْءِ بِالْكُلِّ إذْ هُوَ بَدَلُ النَّفْسِ، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ مُدَّةُ ثَلَاثِ سِنِينَ مِنْ وَقْتِ الْقَضَاءِ بِالدِّيَةِ لِأَنَّ الْوَاجِبَ الْأَصْلِيَّ الْمِثْلُ وَالتَّحَوُّلَ إلَى الْقِيمَةِ بِالْقَضَاءِ فَيُعْتَبَرُ ابْتِدَاؤُهَا مِنْ وَقْتِهِ كَمَا فِي وَلَدِ الْمَغْرُورِ.

قَالَ (وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الدِّيوَانِ فَعَاقِلَتُهُ قَبِيلَتُهُ) لِأَنَّ نُصْرَتَهُ بِهِمْ وَهِيَ الْمُعْتَبَرَةُ فِي التَّعَاقُلِ. قَالَ (وَتُقْسَمُ عَلَيْهِمْ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ لَا يُزَادُ الْوَاحِدُ عَلَى أَرْبَعَةِ دَرَاهِمَ فِي كُلِّ سَنَةٍ وَيُنْتَقَصُ مِنْهَا) قَالَ رضي الله عنه: كَذَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ رحمه الله فِي مُخْتَصَرِهِ، وَهَذَا إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ يُزَادُ عَلَى أَرْبَعَةٍ مِنْ جَمِيعِ الدِّيَةِ، وَقَدْ نَصَّ مُحَمَّدٌ رحمه الله عَلَى أَنَّهُ لَا يُزَادُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ جَمِيعِ الدِّيَةِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ عَلَى ثَلَاثَةٍ أَوْ أَرْبَعَةٍ فَلَا يُؤْخَذُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ فِي كُلِّ سَنَةٍ إلَّا دِرْهَمٌ أَوْ دِرْهَمٌ وَثُلُثُ دِرْهَمٍ وَهُوَ الْأَصَحُّ.

قَالَ (وَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَتَّسِعُ الْقَبِيلَةُ لِذَلِكَ ضُمَّ إلَيْهِمْ أَقْرَبُ الْقَبَائِلِ) مَعْنَاهُ: نَسَبًا كُلُّ ذَلِكَ لِمَعْنَى التَّخْفِيفِ وَيُضَمُّ الْأَقْرَبُ

الْفِقْهِيَّةِ بِلَا ضَرُورَةٍ أَصْلًا. ثُمَّ قَالَ ذَاكَ الشَّارِحُ: فَإِنْ قِيلَ هَذَا لَيْسَ فِي مَعْنَى الْخَطَإِ فَلَا يَلْحَقُ بِهِ. قُلْنَا: هُوَ فِي مَعْنَاهُ مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ مَالًا وَجَبَ بِالْقَتْلِ ابْتِدَاءً. أَقُولُ: إنَّ قَيْدَ الِابْتِدَاءِ فِي قَوْلِهِ وَجَبَ بِالْقَتْلِ ابْتِدَاءً يُنَافِي مَا مَرَّ مِنْهُ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْمَعَاقِلِ فَإِنَّهُ لَمَّا قَالَ فِي الْكِتَابِ هُنَاكَ وَكُلُّ دِيَةٍ وَجَبَتْ بِنَفْسِ الْقَتْلِ عَلَى الْعَاقِلَةِ، قَالَ ذَلِكَ الشَّارِحُ وَغَيْرُهُ فِي شَرْحِ قَوْلِهِ وَجَبَتْ بِنَفْسِ الْقَتْلِ: يَعْنِي ابْتِدَاءً، وَقَالُوا: يُحْتَرَزُ بِهِ عَنْ دِيَةٍ تَجِبُ بِسَبَبِ الصُّلْحِ أَوْ الْأُبُوَّةِ فِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ، فَإِنَّهَا فِي مَالِ الْقَاتِلِ لَا عَلَى الْعَاقِلَةِ انْتَهَى. وَوَجْهُ الْمُنَافَاةِ غَيْرُ خَافٍ عَلَى ذِي مُسْكَةٍ.

(قَوْلُهُ وَلَوْ قَتَلَ عَشَرَةٌ رَجُلًا خَطَأً فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ عُشْرُ الدِّيَةِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ اعْتِبَارًا لِلْجُزْءِ بِالْكُلِّ) أَقُولُ: قَدْ مَرَّ فِي كِتَابِ الْجِنَايَاتِ أَنَّهُ إذَا قَتَلَ جَمَاعَةٌ وَاحِدًا عَمْدًا اُقْتُصَّ مِنْ جَمِيعِهِمْ، وَقَالُوا فِي بَيَانِ وَجْهِهِ: إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَاتَلَ بِوَصْفِ الْكَمَالِ، لِأَنَّ الْقَتْلَ لَا يَتَجَزَّأُ فَجَاءَ التَّمَاثُلُ بَيْنَ الْوَاحِدِ وَالْجَمَاعَةِ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ فَوَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَى جَمِيعِهِمْ، فَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ هُنَا: فَلِمَ لَا تَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَشَرَةِ الْقَاتِلِينَ وَاحِدًا خَطَأً دِيَةٌ كَامِلَةٌ بِاعْتِبَارِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَاتَلَ بِوَصْفِ الْكَمَالِ كَمَا فِي الْعَمْدِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْقَتْلَ لَا يَتَجَزَّأُ، وَقَدْ مَرَّ فِي كِتَابِ الدِّيَاتِ أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه قَضَى بِأَرْبَعِ دِيَاتٍ فِي ضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ ذَهَبَ بِهَا الْعَقْلُ وَالْكَلَامُ وَالسَّمْعُ وَالْبَصَرُ فَلْيُتَأَمَّلْ فِي الْفَرْقِ (قَوْلُهُ وَإِنَّمَا يَعْتَبِرُ مُدَّةَ ثَلَاثِ سِنِينَ مِنْ وَقْتِ الْقَضَاءِ بِالدِّيَةِ لِأَنَّ الْوَاجِبَ الْأَصْلِيَّ الْمِثْلُ وَالتَّحَوُّلُ إلَى الْقِيمَةِ بِالْقَضَاءِ فَيُعْتَبَرُ ابْتِدَاؤُهُ مِنْ وَقْتِهِ) قَالَ الشُّرَّاحُ فِي بَيَانِهِ

ص: 398

فَالْأَقْرَبُ عَلَى تَرْتِيبِ الْعَصَبَاتِ: الْإِخْوَةُ ثُمَّ بَنُوهُمْ، ثُمَّ الْأَعْمَامُ ثُمَّ بَنُوهُمْ. وَأَمَّا الْآبَاءُ وَالْأَبْنَاءُ فَقِيلَ يَدْخُلُونَ لِقُرْبِهِمْ، وَقِيلَ لَا يَدْخُلُونَ لِأَنَّ الضَّمَّ لِنَفْيِ الْحَرَجِ حَتَّى لَا يُصِيبَ كُلَّ وَاحِدٍ أَكْثَرُ مِنْ ثَلَاثَةٍ أَوْ أَرْبَعَةٍ، وَهَذَا الْمَعْنَى إنَّمَا يَتَحَقَّقُ عِنْدَ الْكَثْرَةِ وَالْآبَاءُ وَالْأَبْنَاءُ لَا يَكْثُرُونَ، وَعَلَى هَذَا حُكْمُ الرَّايَاتِ إذَا لَمْ يَتَّسِعْ لِذَلِكَ أَهْلُ رَايَةٍ ضُمَّ إلَيْهِمْ أَقْرَبُ الرَّايَاتِ: يَعْنِي أَقْرَبَهُمْ نُصْرَةً إذَا حَزَبَهُمْ أَمْرُ الْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ، وَيُفَوَّضُ ذَلِكَ إلَى الْإِمَامِ لِأَنَّهُ هُوَ الْعَالِمُ بِهِ، ثُمَّ هَذَا كُلُّهُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رحمه الله يَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ نِصْفُ دِينَارٍ فَيُسَوَّى بَيْنَ الْكُلِّ لِأَنَّهُ صِلَةٌ فَيُعْتَبَرُ بِالزَّكَاةِ وَأَدْنَاهَا ذَلِكَ إذْ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ عِنْدَهُمْ نِصْفُ دِينَارٍ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: هِيَ أَحَطُّ رُتْبَةً مِنْهَا؛ أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَا تُؤْخَذُ مِنْ أَصْلِ الْمَالِ فَيُنْتَقَصُ مِنْهَا تَحْقِيقًا لِزِيَادَةِ التَّخْفِيفِ.

(وَلَوْ كَانَتْ عَاقِلَةُ الرَّجُلِ أَصْحَابَ الرِّزْقِ يُقْضَى بِالدِّيَةِ فِي أَرْزَاقِهِمْ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ فِي كُلِّ سَنَةٍ الثُّلُثُ) لِأَنَّ الرِّزْقَ فِي حَقِّهِمْ بِمَنْزِلَةِ الْعَطَاءِ قَائِمٌ مُقَامَهُ إذْ كُلٌّ مِنْهُمَا صِلَةٌ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، ثُمَّ يُنْظَرُ إنْ كَانَتْ أَرْزَاقُهُمْ تَخْرُجُ فِي كُلِّ سَنَةٍ، فَكَمَا يَخْرُجُ رِزْقٌ يُؤْخَذُ الثُّلُثُ بِمَنْزِلَةِ الْعَطَاءِ، وَإِنْ كَانَ يَخْرُجُ فِي كُلِّ سِتَّةِ أَشْهُرٍ وَخَرَجَ بَعْدَ الْقَضَاءِ يُؤْخَذُ مِنْهُ سُدُسُ الدِّيَةِ وَإِنْ كَانَ يَخْرُجُ فِي كُلِّ شَهْرٍ يُؤْخَذُ مِنْ كُلِّ رِزْقٍ بِحِصَّتِهِ مِنْ الشَّهْرِ حَتَّى يَكُونَ الْمُسْتَوْفِي فِي كُلِّ سَنَةٍ مِقْدَارَ

لِأَنَّ ضَمَانَ الْمُتْلَفَاتِ إنَّمَا يَكُونُ بِالْمِثْلِ بِالنَّصِّ، وَمِثْلُ النَّفْسِ النَّفْسُ، إلَّا أَنَّهُ إذَا رُفِعَ إلَى الْقَاضِي وَتَحَقَّقَ الْعَجْزُ عَنْ اسْتِيفَاءِ النَّفْسِ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الْعُقُوبَةِ وَهُوَ مَرْفُوعٌ عَنْ الْخَاطِئِ تَحَوَّلَ الْحَقُّ بِالْقَضَاءِ إلَى الْمَالِ انْتَهَى.

أَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّهُمْ إنْ أَرَادُوا أَنَّ ضَمَانَ الْمُتْلَفَاتِ مُطْلَقًا حَتَّى النَّفْسُ الْمُتْلَفَةُ بِالْقَتْلِ خَطَأً إنَّمَا يَكُونُ بِالْمِثْلِ بِالنَّصِّ فَهُوَ مَمْنُوعٌ، كَيْفَ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} الْآيَةَ، وَهُوَ نَصٌّ صَرِيحٌ فِي كَوْنِ جَزَاءِ الْقَتْلِ خَطَأً تَحْرِيرَ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةً مُسْلِمَةً إلَى أَهْلِهِ لَا قَتْلَ الْقَاتِلِ بِمُقَابَلَةِ ذَاكَ، نَعَمْ إنَّ قَوْله تَعَالَى {فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} كَانَ يَقْتَضِي بِإِطْلَاقِهِ أَنْ يَكُونَ الضَّمَانُ فِي النَّفْسِ الْمُتْلَفَةِ بِالْقَتْلِ خَطَأً أَيْضًا بِالْمِثْلِ لَوْ لَمْ يَكُنْ حُكْمُ الْقَتْلِ خَطَأً مُخَصَّصًا مِنْهُ بِنَصٍّ آخَرَ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} وَلَمَّا خُصَّ بِهِ مِنْ ذَلِكَ كَانَ جَوَابُ الدِّيَةِ فِي الْقَتْلِ خَطَأً مَنْصُوصًا عَلَيْهِ مِنْ قِبَلِ رَبِّ الْعِزَّةِ ثَابِتًا قَبْلَ الْقَضَاءِ بَلْ قَبْلَ أَنْ يُخْلَقَ الْقَاضِي، وَإِنْ أَرَادُوا أَنَّ ضَمَانَ الْمُتْلَفَاتِ مَا عَدَا النَّفْسِ إنَّمَا يَكُونُ بِالْمِثْلِ بِالنَّصِّ فَهُوَ مُسَلَّمٌ لَا مَحَالَةَ، وَلَكِنْ لَا يُجْدِي شَيْئًا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ كَمَا لَا يَخْفَى (قَوْلُهُ وَقِيلَ لَا يَدْخُلُونَ لِأَنَّ الضَّمَّ لِنَفْيِ الْحَرَجِ حَتَّى لَا يُصِيبَ كُلَّ وَاحِدٍ أَكْثَرُ مِنْ ثَلَاثَةٍ أَوْ أَرْبَعَةٍ وَهَذَا الْمَعْنَى إنَّمَا يَتَحَقَّقُ عِنْدَ الْكَثْرَةِ، وَالْآبَاءُ وَالْأَبْنَاءُ لَا يَكْثُرُونَ) أَقُولُ: فِيهِ كَلَامٌ، وَهُوَ أَنَّ عَدَمَ كَثْرَةِ الْآبَاءِ مُسَلَّمٌ، وَأَمَّا عَدَمُ كَثْرَةِ الْأَبْنَاءِ كَكَثْرَةِ الْإِخْوَةِ فَمَمْنُوعٌ، كَيْفَ وَأَخَوَاتُهُ أَبْنَاءُ أَبِيهِ، فَإِذَا جَازَ أَنْ يُكْثِرَ أَبْنَاءَ أَبِيهِ فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُكْثِرَ أَبْنَاءَ نَفْسِهِ فَتَأَمَّلْ.

(قَوْلُهُ وَإِنْ كَانَتْ عَاقِلَةُ الرَّجُلِ أَصْحَابَ الرِّزْقِ يُقْضَى بِالدِّيَةِ فِي أَرْزَاقِهِمْ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ فِي كُلِّ سَنَةٍ الثُّلُثُ، لِأَنَّ الرِّزْقَ فِي حَقِّهِمْ بِمَنْزِلَةِ الْعَطَاءِ قَائِمٌ مُقَامَهُ، إذْ كُلٌّ مِنْهُمَا صِلَةٌ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ) قَالَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ: الْفَرْقُ

ص: 399

الثُّلُثِ، وَإِنْ خَرَجَ بَعْدَ الْقَضَاءِ بِيَوْمٍ أَوْ أَكْثَرَ أُخِذَ مِنْ رِزْقِ ذَلِكَ الشَّهْرِ بِحِصَّةِ الشَّهْرِ، وَإِنْ كَانَتْ لَهُمْ أَرْزَاقٌ فِي كُلِّ شَهْرٍ وَأَعْطِيَةٌ فِي كُلِّ سَنَةٍ فُرِضَتْ الدِّيَةُ فِي الْأَعْطِيَةِ دُونَ الْأَرْزَاقِ لِأَنَّهُ أَيْسَرُ، إمَّا لِأَنَّ الْأَعْطِيَةَ أَكْثَرُ، أَوْ لِأَنَّ الرِّزْقَ لِكِفَايَةِ الْوَقْتِ فَيَتَعَسَّرُ الْأَدَاءُ مِنْهُ وَالْأَعْطِيَاتُ لِيَكُونُوا فِي الدِّيوَانِ قَائِمِينَ بِالنُّصْرَةِ فَيَتَيَسَّرَ عَلَيْهِمْ.

قَالَ (وَأُدْخِلَ الْقَاتِلُ مَعَ الْعَاقِلَةِ فَيَكُونُ فِيمَا يُؤَدِّي كَأَحَدِهِمْ) لِأَنَّهُ هُوَ الْفَاعِلُ فَلَا مَعْنَى لِإِخْرَاجِهِ وَمُؤَاخَذَةِ غَيْرِهِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجِبُ عَلَى الْقَاتِلِ شَيْءٌ مِنْ الدِّيَةِ اعْتِبَارًا لِلْجُزْءِ بِالْكُلِّ فِي النَّفْيِ عَنْهُ وَالْجَامِعُ كَوْنُهُ مَعْذُورًا.

بَيْنَ الرِّزْقِ وَالْعَطَاءِ أَنَّ الرِّزْقَ مَا يُفْرَضُ لِلْإِنْسَانِ فِي مَالِ بَيْتِ الْمَالِ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ وَالْكِفَايَةِ يُفْرَضُ لَهُ مَا يَكْفِيهِ كُلَّ شَهْرٍ أَوْ كُلَّ يَوْمٍ، وَالْعَطَاءُ مَا يُفْرَضُ كُلَّ سَنَةٍ لَا بِالْحَاجَةِ انْتَهَى. أَقُولُ: تَفْسِيرُ الْعَطَاءِ بِمَا ذَكَرَهُ لَا يُلَائِمُ مَسْأَلَةً مَرَّتْ فِيمَا قَبْلُ وَهِيَ قَوْلُهُ وَلَوْ خَرَجَ لِلْقَاتِلِ ثَلَاثُ عَطَايَا فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ يُؤْخَذُ مِنْهَا كُلُّ الدِّيَةِ، فَإِنَّ الْمَفْهُومَ مِنْهَا جَوَازُ أَنْ يُفْرَضَ لِرَجُلٍ عَطَاءٌ فِي كُلِّ سَنَةٍ مِنْ الثَّلَاثِ فَتَخْرُجُ لَهُ فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ ثَلَاثُ عَطَايَا، وَالظَّاهِرُ مِنْ التَّفْسِيرِ الْمَزْبُورِ أَنْ يَكُونَ الْعَطَاءُ مَا يُفْرَضُ كُلَّ سَنَةٍ مَرَّةً وَاحِدَةً. نَعَمْ يُلَائِمُ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ قَبِيلُ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ: وَالْعَطَاءُ يَخْرُجُ فِي كُلِّ سَنَةٍ مَرَّةً وَاحِدَةً، فَاَلَّذِي يُمْكِنُ فِي التَّوْفِيقِ أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ وَالْعَطَاءُ يَخْرُجُ فِي كُلِّ سَنَةٍ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَكَذَا التَّفْسِيرُ الَّذِي ذَكَرَهُ تَاجُ الشَّرِيعَةِ لِلْعَطَاءِ عَلَى مَا هُوَ الْأَكْثَرُ الْأَغْلَبُ وُقُوعًا، وَمِثْلُ هَذَا لَيْسَ بِعَزِيزٍ فِي الْمُتَعَارَفِ. وَقَالَ صَاحِبُ الْغَايَةِ: الْفَرْقُ بَيْنَ الرِّزْقِ وَالْعَطِيَّةِ أَنَّ الرِّزْقَ مَا يُفْرَضُ لِكِفَايَةِ الْوَقْتِ، وَالْعَطِيَّةُ مَا يُفْرَضُ لِيَكُونُوا قَائِمِينَ بِالنُّصْرَةِ.

ثُمَّ قَالَ: قَالَ صَاحِبُ الْمُغْرِبِ: الْعَطِيَّةُ مَا يُفْرَضُ لِلْمُقَاتِلَةِ، وَالرِّزْقُ مَا يُجْعَلُ لِفُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ إذَا لَمْ يَكُونُوا مُقَاتِلَةً. وَفِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ مُحَمَّدًا قَالَ: إذَا كَانَ لَهُمْ أَرْزَاقٌ وَأَعْطِيَاتٌ فُرِضَتْ الدِّيَةُ فِي أَعْطِيَاتِهِمْ دُونَ أَرْزَاقِهِمْ، فَعُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّ الرِّزْقَ يُفْرَضُ لِلْمُقَاتِلَةِ أَيْضًا انْتَهَى. أَقُولُ: إنَّ صَاحِبَ الْمُغْرِبِ قَدْ ذَكَرَ الْفَرْقَ بَيْنَ الرِّزْقِ وَالْعَطَاءِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ مِنْ الْمُغْرِبِ: أَحَدُهُمَا مَوْضِعُ بَيَانِ الرِّزْقِ، وَالثَّانِي مَوْضِعُ بَيَانِ الْعَطَاءِ، فَقَالَ فِي الْأَوَّلِ: الرِّزْقُ مَا يُخْرَجُ لِلْجُنْدِيِّ عِنْدَ رَأْسِ كُلِّ شَهْرٍ، وَقِيلَ يَوْمًا بِيَوْمٍ. ثُمَّ قَالَ: وَفِي مُخْتَصَرِ الْكَرْخِيِّ: الْعَطَاءُ مَا يُفْرَضُ لِلْمُقَاتِلَةِ، وَالرِّزْقُ لِلْفُقَرَاءِ. وَقَالَ فِي الثَّانِي: الْعَطَاءُ اسْمُ مَا يُعْطَى وَالْجَمْعُ أَعْطِيَةٌ وَأَعْطِيَاتٌ، وَقَوْلُهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْعَطَاءِ وَالرِّزْقِ فَفَرْقُ مَا بَيْنَهُمَا أَنَّ الْعَطَاءَ مَا يَخْرُجُ لِلْجُنْدِيِّ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ فِي السُّنَّةِ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ، وَالرِّزْقُ مَا يَخْرُجُ لَهُ كُلَّ شَهْرٍ. ثُمَّ قَالَ: وَفِي شَرْحِ الْقُدُورِيِّ فِي الْعَاقِلَةِ. الدِّيَةُ فِي أَعْطِيَاتِهِمْ ثَلَاثَ سِنِينَ، فَإِنْ لَمْ يَكُونُوا أَهْلَ عَطَاءٍ وَكَانَتْ لَهُمْ أَرْزَاقٌ جُعِلَتْ الدِّيَةُ فِي أَرْزَاقِهِمْ. وَقَالَ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْعَطِيَّةَ مَا يُفْرَضُ لِلْمُقَاتِلَةِ، وَالرِّزْقُ مَا يُجْعَلُ لِفُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ إذَا لَمْ يَكُونُوا مُقَاتِلَةً انْتَهَى.

فَنَظَرُ صَاحِبِ الْغَايَةِ لَا يَرِدُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي الْمَوْضِعِ الْأَوَّلِ قَطُّ، وَكَذَا لَا يَرِدُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي الْمَوْضِعِ الثَّانِي أَوَّلًا بِقَوْلِهِ فَفَرْقُ مَا بَيْنَهُمَا أَنَّ الْعَطَاءَ مَا يَخْرُجُ لِلْجُنْدِيِّ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ فِي السَّنَةِ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ وَالرِّزْقُ مَا يَخْرُجُ لَهُ كُلَّ شَهْرٍ، وَإِنَّمَا يَرِدُ عَلَى مَا نَقَلَهُ مَنْ شَرْحِ الْقُدُورِيِّ بِقَوْلِهِ وَقَالَ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْعَطِيَّةَ مَا يُفْرَضُ لِلْمُقَاتِلَةِ، وَالرِّزْقَ مَا يُجْعَلُ لِفُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ إذَا لَمْ يَكُونُوا مُقَاتِلَةً، وَهُوَ لَيْسَ بِمَرْضِيٍّ عِنْدَ صَاحِبِ الْمُغْرِبِ، فَنِسْبَةُ ذَلِكَ الْقَوْلِ إلَى صَاحِبِ الْمُغْرِبِ نَفْسِهِ وَإِيرَادُ النَّظَرِ عَلَيْهِ لَيْسَ كَمَا يَنْبَغِي، وَالْعَجَبُ هَاهُنَا مِنْ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ أَنَّهُ خَصَّ بِالذِّكْرِ مِنْ بَيْنِ مَا ذَكَرُوا فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْعَطِيَّةِ وَالرِّزْقِ ذَلِكَ الْقَوْلَ الَّذِي رَدَّهُ صَاحِبُ الْغَايَةِ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَحْذُورِ وَلَمْ يَذْكُرْ شَيْئًا يَدْفَعُهُ مَعَ ظُهُورِ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ الْآتِيَةَ فِي الْكِتَابِ بِقَوْلِهِ وَإِنْ كَانَتْ لَهُمْ أَرْزَاقٌ فِي كُلِّ شَهْرٍ وَأَعْطِيَةٌ فِي كُلِّ سَنَةٍ فُرِضَتْ الدِّيَةُ فِي الْأَعْطِيَةِ دُونَ الْأَرْزَاقِ يَأْبَى ذَلِكَ الْقَوْلَ جِدًّا.

(قَوْلُهُ وَأُدْخِلَ الْقَاتِلُ مَعَ الْعَاقِلَةِ فَيَكُونُ فِيمَا يُؤَدِّي كَأَحَدِهِمْ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: اعْلَمْ أَنَّ الْقَاتِلَ إنَّمَا يَكُونُ كَأَحَدِ الْعَوَاقِلِ فِي أَدَاءِ نَصِيبِهِ مِنْ الدِّيَةِ إذَا كَانَ الْقَاتِلُ مِنْ أَهْلِ الْعَطَاءِ فِي الدِّيوَانِ. وَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْعَطَاءِ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ الدِّيَةِ عِنْدَنَا أَيْضًا لِأَنَّ الدِّيَةَ تُؤْخَذُ مِنْ الْأَعْطِيَاتِ وَقَالَ وَهُوَ هَكَذَا مَنْصُوصٌ فِي الْمَبْسُوطِ وَاقْتَفَى أَثَرَهُ فِي تَقْيِيدِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِالْوَجْهِ الْمَزْبُورِ أَكْثَرُ الشُّرَّاحِ مِنْهُمْ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ. أَقُولُ: هَذَا مُشْكِلٌ عِنْدِي، إذْ قَدْ مَرَّ فِي الْكِتَابِ أَنَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ

ص: 400

قُلْنَا: إيجَابُ الْكُلِّ إجْحَافٌ بِهِ وَلَا كَذَلِكَ إيجَابُ الْجُزْءِ، وَلَوْ كَانَ الْخَاطِئُ مَعْذُورًا فَالْبَرِيءُ مِنْهُ أَوْلَى، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}

(وَلَيْسَ عَلَى النِّسَاءِ وَالذُّرِّيَّةِ مِمَّنْ كَانَ لَهُ حَظٌّ فِي الدِّيوَانِ عَقْلٌ) لِقَوْلِ عُمَرَ رضي الله عنه: لَا يَعْقِلُ مَعَ الْعَاقِلَةِ صَبِيٌّ وَلَا امْرَأَةٌ، وَلِأَنَّ الْعَقْلَ إنَّمَا يَجِبُ عَلَى أَهْلِ النُّصْرَةِ لِتَرْكِهِمْ مُرَاقَبَتَهُ، وَالنَّاسُ لَا يَتَنَاصَرُونَ بِالصِّبْيَانِ وَالنِّسَاءِ وَلِهَذَا لَا يُوضَعُ عَلَيْهِمْ مَا هُوَ خَلَفٌ عَنْ النُّصْرَةِ وَهُوَ الْجِزْيَةُ، وَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ الْقَاتِلُ صَبِيًّا أَوْ امْرَأَةً لَا شَيْءَ عَلَيْهِمَا مِنْ الدِّيَةِ بِخِلَافِ الرَّجُلِ، لِأَنَّ وُجُوبَ جُزْءٍ مِنْ الدِّيَةِ عَلَى الْقَاتِلِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ أَحَدُ الْعَوَاقِلِ لِأَنَّهُ يَنْصُرُ نَفْسَهُ وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِيهِمَا، وَالْفَرْضُ لَهُمَا مِنْ الْعَطَاءِ لِلْمَعُونَةِ لَا لِلنُّصْرَةِ كَفَرْضِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ.

(وَلَا يَعْقِلُ أَهْلُ مِصْرٍ عَنْ مِصْرٍ آخَرَ) يُرِيدُ بِهِ أَنَّهُ إذَا كَانَ

الدِّيوَانِ فَعَاقِلَتُهُ قَبِيلَتُهُ لِأَنَّ نُصْرَتَهُ بِهِمْ وَهِيَ الْمُعْتَبَرَةُ فِي التَّعَاقُلِ وَلَا شَكَّ أَنَّ قَبِيلَةَ مَنْ لَا يَكُون مِنْ أَهْلِ الْعَطَاءِ فِي الدِّيوَانِ قَدْ لَا تَكُونُ هِيَ أَيْضًا مِنْ أَهْلِ الْعَطَاءِ فِي الدِّيوَانِ وَقَدْ مَرَّ أَيْضًا أَنَّهُمْ قَالُوا: لَوْ كَانَ الْيَوْمَ قَوْمٌ تُنَاصِرُهُمْ بِالْحِرَفِ فَعَاقِلَتُهُمْ أَهْلُ الْحِرْفَةِ وَإِنْ كَانَ بِالْحِلْفِ فَأَهْلُهُ وَعَلَى مُقْتَضَى مَا ذُكِرَ فِي النِّهَايَةِ مِنْ قَوْلِهِ لِأَنَّ الدِّيَةَ تُؤْخَذُ مِنْ الْأَعْطِيَاتِ فِي تَعْلِيلِ قَوْلِهِ وَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْعَطَاءِ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ الدِّيَةِ عِنْدَنَا أَيْضًا يَلْزَمُ أَنْ لَا تَجِبَ الدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ أَيْضًا فِيمَا إذَا لَمْ يَكُنْ الْقَاتِلُ وَلَا عَاقِلَتُهُ مِنْ أَهْلِ الْعَطَاءِ لِعَدَمِ إمْكَانِ الْأَخْذِ مِنْ الْأَعْطِيَاتِ هُنَاكَ لَا فِي حَقِّ الْقَاتِلِ وَلَا فِي حَقِّ عَاقِلَتِهِ وَاللَّازِمُ بَاطِلٌ لَا مَحَالَةَ فَإِنَّ وُجُوبَ الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ فِي الْقَتْلِ الْخَطَإِ وَشِبْهِ الْعَمْدِ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ فَإِذَا وَجَبَ عَلَيْهِمْ الدِّيَةُ أَلْبَتَّةَ يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ عَلَى الْقَاتِلِ أَيْضًا شَيْءٌ مِنْهَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْعَطَاءِ لِلْعِلَّةِ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي الْكِتَابِ وَهِيَ أَنَّ الْقَاتِلَ هُوَ الْفَاعِلُ فَلَا مَعْنَى لِإِخْرَاجِهِ وَمُؤَاخَذَةِ غَيْرِهِ فَتَدَبَّرْ.

(قَوْلُهُ وَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ الْقَاتِلُ صَبِيًّا أَوْ امْرَأَةً لَا شَيْءَ عَلَيْهِمَا) L

ص: 401

لِأَهْلِ كُلِّ مِصْرٍ دِيوَانٌ عَلَى حِدَةٍ لِأَنَّ التَّنَاصُرَ بِالدِّيوَانِ عِنْدَ وُجُودِهِ، وَلَوْ كَانَ بِاعْتِبَارِ الْقُرْبِ فِي السُّكْنَى فَأَهْلُ مِصْرِهِ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ أَهْلِ مِصْرٍ آخَرَ (وَيَعْقِلُ أَهْلُ كُلِّ مِصْرٍ مِنْ أَهْلِ سَوَادِهِمْ) لِأَنَّهُمْ أَتْبَاعٌ لِأَهْلِ الْمِصْرِ، فَإِنَّهُمْ إذَا حَزَبَهُمْ أَمْرٌ اسْتَنْصَرُوا بِهِمْ فَيَعْقِلُهُمْ أَهْلُ الْمِصْرِ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْقُرْبِ فِي النُّصْرَةِ (وَمَنْ كَانَ مَنْزِلُهُ بِالْبَصْرَةِ وَدِيوَانُهُ بِالْكُوفَةِ عَقَلَ عَنْهُ أَهْلُ الْكُوفَةِ) لِأَنَّهُ يَسْتَنْصِرُ بِأَهْلِ دِيوَانِهِ لَا بِجِيرَانِهِ.

وَالْحَاصِلُ أَنَّ الِاسْتِنْصَارَ بِالدِّيوَانِ أَظْهَرُ فَلَا يَظْهَرُ مَعَهُ حُكْمُ النُّصْرَةِ بِالْقَرَابَةِ وَالنَّسَبِ وَالْوَلَاءِ وَقُرْبِ السُّكْنَى وَغَيْرِهِ وَبَعْدَ الدِّيوَانِ النُّصْرَةُ بِالنَّسَبِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ كَثِيرٌ مِنْ صُوَرِ مَسَائِلِ الْمَعَاقِلِ (وَمَنْ جَنَى جِنَايَةً مِنْ أَهْلِ الْمِصْرِ وَلَيْسَ لَهُ فِي الدِّيوَانِ عَطَاءٌ وَأَهْلُ الْبَادِيَةِ أَقْرَبُ إلَيْهِ وَمَسْكَنُهُ الْمِصْرُ عَقَلَ عَنْهُ أَهْلُ الدِّيوَانِ مِنْ ذَلِكَ الْمِصْرِ) وَلَمْ يُشْتَرَطْ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَهْلِ الدِّيوَانِ قَرَابَةٌ، قِيلَ هُوَ صَحِيحٌ لِأَنَّ الَّذِينَ يَذُبُّونَ عَنْ أَهْلِ الْمِصْرِ وَيُقَدَّمُونَ بِنُصْرَتِهِمْ وَيَدْفَعُونَ عَنْهُمْ أَهْلُ الدِّيوَانِ مِنْ أَهْلِ الْمِصْرِ وَلَا يَخُصُّونَ بِهِ أَهْلَ الْعَطَاءِ.

وَقِيلَ تَأْوِيلُهُ إذَا كَانَ قَرِيبًا لَهُمْ، وَفِي الْكِتَابِ إشَارَةٌ إلَيْهِ حَيْثُ قَالَ: وَأَهْلُ الْبَادِيَةِ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ أَهْلِ مِصْرٍ، وَهَذَا لِأَنَّ الْوُجُوبَ عَلَيْهِمْ بِحُكْمِ الْقَرَابَةِ وَأَهْلُ الْمِصْرِ أَقْرَبُ مِنْهُمْ مَكَانًا فَكَانَتْ الْقُدْرَةُ عَلَى النُّصْرَةِ لَهُمْ وَصَارَ نَظِيرُ مَسْأَلَةِ الْغَيْبَةِ الْمُنْقَطِعَةِ (وَلَوْ كَانَ الْبَدْوِيُّ نَازِلًا فِي الْمِصْرِ لَا مَسْكَنَ لَهُ فِيهِ لَا يَعْقِلُهُ أَهْلُ الْمِصْرِ) لِأَنَّ أَهْلَ الْعَطَاءِ لَا يَنْصُرُونَ مَنْ لَا مَسْكَنَ لَهُ فِيهِ، كَمَا أَنَّ أَهْلَ الْبَادِيَةِ لَا تَعْقِلُ عَنْ أَهْلِ الْمِصْرِ النَّازِلِ فِيهِمْ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَنْصِرُ بِهِمْ (وَإِنْ كَانَ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ عَوَاقِلُ مَعْرُوفَةٌ يَتَعَاقَلُونَ

قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: إنَّ قَوْلَهُ هُنَا لَا يَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ شَيْءٌ مِنْ الدِّيَةِ وَإِنْ كَانَتْ هِيَ الْقَاتِلَةَ يُخَالِفُ الْمَسْأَلَةَ الَّتِي ذَكَرَهَا قُبَيْلَ كِتَابِ الْمَعَاقِلِ فِيمَا إذَا وُجِدَ الْقَتِيلُ فِي دَارِ امْرَأَةٍ حَيْثُ أَدْخَلَهَا الْمُتَأَخِّرُونَ هُنَاكَ فِي تَحَمُّلِ الدِّيَةِ مَعَ الْعَاقِلَةِ انْتَهَى. وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ نَقْلِ ذَلِكَ بِقِيلِ: وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّ فَرْضَ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا إذَا كَانَتْ قَاتِلَةً حَقِيقَةً وَهُنَاكَ تُقَدَّرُ قَاتِلَةً بِسَبَبِ وُجُوبِ الْقَسَامَةِ لَا يُقَالُ: إذَا لَمْ يَجِبْ عَلَى الْمَرْأَةِ شَيْءٌ مِنْ الدِّيَةِ وَهِيَ قَاتِلَةٌ حَقِيقَةً فَلَأَنْ لَا يَجِبَ عَلَيْهَا شَيْءٌ مِنْهَا وَهِيَ قَاتِلَةٌ تَقْدِيرًا أَوْلَى، لِأَنَّا نَقُولُ: الْقَسَامَةُ تَسْتَلْزِمُ وُجُوبَ الدِّيَةِ عَلَى الْمُقْسِمِ إمَّا بِالِاسْتِقْلَالِ أَوْ بِالدُّخُولِ فِي الْعَاقِلَةِ عِنْدَنَا بِالِاسْتِقْرَاءِ، وَقَدْ تَحَقَّقَ الْمَلْزُومُ فَيَتَحَقَّقُ اللَّازِمُ، بِخِلَافِ الْقَتْلِ مُبَاشَرَةً فَإِنَّهُ قَدْ لَا يَسْتَلْزِمُ الدِّيَةَ انْتَهَى.

أَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ اسْتِلْزَامَ الْقَسَامَةِ وُجُوبُ الدِّيَةِ عَلَى الْمُقْسِمِ عِنْدَنَا إمَّا بِالِاسْتِقْلَالِ أَوْ بِالدُّخُولِ فِي الْعَاقِلَةِ بِالِاسْتِقْرَاءِ مَمْنُوعٌ، فَإِنَّهُ إذَا وُجِدَ الْقَتِيلُ فِي قَرْيَةِ امْرَأَةٍ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ يَجِبُ عَلَيْهَا الْقَسَامَةُ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهَا شَيْءٌ مِنْ الدِّيَةِ عَلَى مَا هُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ مِنْ مُحَمَّدٍ كَمَا ذُكِرَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ وَالْكِفَايَةِ وَغَيْرِهِمَا، وَالْمُتَأَخِّرُونَ وَإِنْ قَالُوا: إنَّ الْمَرْأَةَ تَدْخُلُ مَعَ الْعَاقِلَةِ فِي تَحَمُّلِ الدِّيَةِ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ إلَّا أَنَّ تَعْلِيلَهُمْ إيَّاهَا بِقَوْلِهِمْ لِأَنَّا أَنْزَلْنَاهَا قَاتِلَةً وَالْقَاتِلَةُ تُشَارِكُ الْعَاقِلَةَ كَمَا مَرَّ فِي الْكِتَابِ قُبَيْلَ كِتَابِ الْمَعَاقِلِ يَأْبَى الْفَرْقُ بَيْنَ الْقَاتِلَةِ حَقِيقَةً وَالْمُقَدَّرَةِ قَاتِلَةً، بَلْ يَقْتَضِي قِيَاسَ الْمُنَزَّلَةِ قَاتِلَةً عَلَى الْقَاتِلَةِ حَقِيقَةً وَإِلَّا لَا يَتِمُّ تَعْلِيلُهُمْ الْمَذْكُورُ لَا عَلَى قَاعِدَةِ الْفِقْهِ وَلَا عَلَى قَاعِدَةِ الْمِيزَانِ كَمَا يَظْهَرُ بِالتَّأَمُّلِ الصَّادِقِ، فَالْحَقُّ فِي التَّوْفِيقِ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ فِي الْمَقَامَيْنِ مَا ذَكَرَهُ سَائِرُ الشُّرَّاحِ فَإِنَّهُ قَالَ فِي الْكِفَايَةِ: هَذَا يُخَالِفُ مَا ذُكِرَ قُبَيْلَ الْمَعَاقِلِ مِنْ

ص: 402

بِهَا فَقَتَلَ أَحَدُهُمْ قَتِيلًا فَدِيَتُهُ عَلَى عَاقِلَتِهِ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْلِمِ) لِأَنَّهُمْ الْتَزَمُوا أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ فِي الْمُعَامَلَاتِ لَا سِيَّمَا فِي الْمَعَانِي الْعَاصِمَةِ عَنْ الْإِضْرَارِ، وَمَعْنَى التَّنَاصُرِ مَوْجُودٌ فِي حَقِّهِمْ (وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ عَاقِلَةٌ مَعْرُوفَةٌ فَالدِّيَةُ فِي مَالِهِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ مِنْ يَوْمِ يُقْضَى بِهَا عَلَيْهِ) كَمَا فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْوُجُوبَ عَلَى الْقَاتِلِ وَإِنَّمَا يَتَحَوَّلُ عَنْهُ إلَى الْعَاقِلَةِ أَنْ لَوْ وُجِدَتْ، فَإِذَا لَمْ تُوجَدْ بَقِيَتْ عَلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ تَاجِرَيْنِ مُسْلِمَيْنِ فِي دَارِ الْحَرْبِ قَتَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ يُقْضَى بِالدِّيَةِ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ لِأَنَّ أَهْلَ دَارِ الْإِسْلَامِ لَا يَعْقِلُونَ عَنْهُ، وَتَمَكُّنُهُ مِنْ هَذَا الْقَتْلِ لَيْسَ بِنُصْرَتِهِمْ.

(وَلَا يَعْقِلُ كَافِرٌ عَنْ مُسْلِمٍ وَلَا مُسْلِمٌ عَنْ كَافِرٍ) لِعَدَمِ التَّنَاصُرِ

اخْتِيَارِ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ الْمَرْأَةَ تَدْخُلُ فِي التَّحَمُّلِ مَعَ الْعَاقِلَةِ، إلَّا أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِأَصْلِ الرِّوَايَةِ وَإِنَّمَا هُوَ اخْتِيَارُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَمَا ذُكِرَ هُنَا هُوَ اخْتِيَارُ الطَّحَاوِيِّ وَهُوَ الْأَصَحُّ وَهُوَ أَصْلُ رِوَايَةِ مُحَمَّدٍ انْتَهَى.

وَقَالَ فِي مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مُخَالِفَةٌ لِمَا مَرَّ قُبَيْلَ كِتَابِ الْمَعَاقِلِ أَنَّهُ لَوْ وُجِدَ قَتِيلٌ فِي دَارِ امْرَأَةٍ أَنَّ الْمَرْأَةَ تُشَارِكُ الْعَاقِلَةَ عِنْدَ الْمُتَأَخِّرِينَ، إلَّا أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هَذَا عَلَى رِوَايَةِ الْمُتَقَدِّمِينَ أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَدْخُلُ فِي الْعَوَاقِلِ فِي صُورَةٍ مِنْ الصُّوَرِ انْتَهَى، وَقَالَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ: فَإِنْ قُلْت: قَدْ مَرَّ قُبَيْلَ كِتَابِ الْمَعَاقِلِ أَنَّ الْقَتِيلَ إذَا وُجِدَ فِي قَرْيَةِ امْرَأَةٍ تَجِبُ الْقَسَامَةُ عَلَيْهَا وَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَذَهَبَ الْمَشَايِخُ الْمُتَأَخِّرُونَ إلَى أَنَّهَا تُشَارِكُ الْعَاقِلَةَ فِي الدِّيَةِ فَكَيْفَ لَمْ تُشَارِكْهُمْ هُنَا. قُلْت: ثَمَّةَ لَا تُشَارِكُهُمْ فِي الدِّيَةِ عَلَى مَا هُوَ الْمَنْصُوصُ مِنْ مُحَمَّدٍ، وَإِنَّمَا اسْتَحْسَنَ الْمُتَأَخِّرُونَ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ خَاصَّةً انْتَهَى، ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: فَإِنْ قُلْت: هَذَا الْجَوَابُ يَبْتَنِي عَلَى إيجَابِ الْقَسَامَةِ عَلَيْهَا وَفِي ذَلِكَ تَنَاقُضٌ، لِأَنَّهُ قَالَ قَبْلَ هَذَا وَلَا قَسَامَةَ عَلَى صَبِيٍّ إلَى أَنْ قَالَ وَلَا امْرَأَةٍ وَلَا عَبْدٍ، وَقَالَ هَاهُنَا: لَوْ وُجِدَ قَتِيلٌ فِي قَرْيَةٍ لِامْرَأَةٍ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ الْقَسَامَةُ عَلَيْهَا تُكَرِّرُ الْأَيْمَانَ وَذَلِكَ تَنَاقُضٌ أَلْبَتَّةَ.

فَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي سِيَاقِ قَوْلِهِ وَإِنْ لَمْ يُكْمِلْ أَهْلُ الْمُحَلَّةِ خَمْسِينَ كُرِّرَتْ الْأَيْمَانُ، فَمَعْنَاهُ لَا يُكْمِلُ أَهْلُ الْمُحَلَّةِ خَمْسِينَ مِنْ الصَّبِيِّ وَالْمَرْأَةِ وَالْعَبْدِ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ النُّصْرَةِ وَالْيَمِينِ عَلَى أَهْلِهَا، وَأَمَّا هُنَا فَالْقَتِيلُ وُجِدَ فِي قَرْيَتِهَا فَتَجِبُ عَلَيْهَا نَفْيًا لِتُهْمَةِ الْقَتْلِ فَإِنَّهَا تَتَحَقَّقُ مِنْهَا، وَتَبَيَّنَ مِنْ هَذَا أَنَّ الْقَسَامَةَ إذَا وَجَبَتْ عَلَى الْجَمَاعَةِ تُعَلَّلُ بِالنُّصْرَةِ، فَمَنْ كَانَ أَهْلًا لَهَا يَدْخُلُ وَمَنْ لَا فَلَا، فَلَا يَدْخُلُ الصَّبِيُّ وَالْعَبْدُ وَالْمَرْأَةُ، وَإِذَا وَجَبَتْ عَلَى وَاحِدٍ تُعَلَّلُ بِتُهْمَةِ الْقَتْلِ، فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِهَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ وَمَنْ لَا فَلَا فَتَدْخُلُ الْمَرْأَةُ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ. أَقُولُ: فِيهِ أَيْضًا نَظَرٌ. أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ كَوْنَ ذَلِكَ مَذْكُورًا فِي سِيَاقِ قَوْلِهِ وَإِنْ لَمْ يُكْمِلْ أَهْلُ الْمُحَلَّةِ خَمْسِينَ كُرِّرَتْ الْأَيْمَانُ مَمْنُوعٌ، بَلْ ذَلِكَ مَسْأَلَةٌ مُبْتَدَأَةٌ مَقْصُودَةٌ بِالْبَيَانِ عَلَى الِاسْتِقْلَالِ، إذْ لَوْ كَانَ مَعْنَاهُ لَا يُكْمِلُ أَهْلُ الْمُحَلَّةِ خَمْسِينَ مِنْ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَالْمَرْأَةِ وَالْعَبْدِ لَا نَفْيُ صَلَاحِيَتِهِمْ لِلْقَسَامَةِ مُطْلَقًا: أَيْ سَوَاءٌ كَانُوا مُنْضَمِّينَ إلَى الْغَيْرِ لِتَكْمِيلِ الْخَمْسِينَ أَوْ كَانُوا مُنْفَرِدِينَ وَحْدَهُمْ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ بَيَانُ حَالِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَالْعَبْدِ فِي أَمْرِ الْقَسَامَةِ عِنْدَ كَوْنِهِمْ مُنْفَرِدِينَ غَيْرَ مُنْضَمِّينَ إلَى الْغَيْرِ مَتْرُوكًا بِالْكُلِّيَّةِ فِي هَذَا الْكِتَابِ وَكَثِيرٌ مِنْ الْكُتُبِ الْمُعْتَبَرَةِ، إذْ الْفَرْضُ أَنَّ عَدَمَ الصَّلَاحِيَّةِ لِلْقَسَامَةِ حَالَ الِانْضِمَامِ إلَى الْغَيْرِ لِتَكْمِيلِ الْخَمْسِينَ لَا يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ الصَّلَاحِيَّةِ لَهَا حَالَ الِانْفِرَادِ إذْ هُوَ حَاصِلُ الْجَوَابِ الَّذِي ذَكَرَهُ لِدَفْعِ التَّنَاقُضِ بَيْنَ الْمَقَامَيْنِ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ كَمَا تَرَى.

وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ مَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ الْقَسَامَةِ إذَا وَجَبَتْ عَلَى الْجَمَاعَةِ تُعَلَّلُ بِالنُّصْرَةِ، وَإِذَا وَجَبَتْ عَلَى الْوَاحِدِ تُعَلَّلُ بِتُهْمَةِ الْقَتْلِ مِنْ عِنْدِيَاتِهِ لَا يُسَاعِدُهُ الْعَقْلُ وَلَا النَّقْلُ، أَمَّا عَدَمُ مُسَاعَدَةِ الْعَقْلِ فَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ تَرْكِ النُّصْرَةِ وَاحْتِمَالِ الْقَتْلِ مُتَحَقِّقٌ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ صُورَتَيْ وُجُوبِ الْقَسَامَةِ عَلَى الْجَمَاعَةِ وَوُجُوبِهَا عَلَى الْوَاحِدِ، فَتَعْلِيلُ إحْدَاهُمَا بِالْأَوَّلِ وَالْأُخْرَى بِالثَّانِي دُونَ الْعَكْسِ أَوْ الْجَمْعِ تَحَكُّمٌ بَحْتٌ. وَأَمَّا عَدَمُ مُسَاعِدَةِ النَّقْلِ فَلِأَنَّهُمْ كَانُوا يُعَلِّلُونَ وُجُوبَ الْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ مُطْلَقًا بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْعِلَّتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ يُرَاجِعُ الْمُعْتَبَرَاتِ وَقَدْ مَرَّتْ

ص: 403

وَالْكُفَّارُ يَتَعَاقَلُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ مِلَلُهُمْ لِأَنَّ الْكُفْرَ كُلَّهُ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ. قَالُوا: هَذَا إذَا لَمْ تَكُنْ الْمُعَادَاةُ فِيمَا بَيْنَهُمْ ظَاهِرَةً، أَمَّا إذَا كَانَتْ ظَاهِرَةً كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى يَنْبَغِي أَنْ لَا يَتَعَاقَلُونَ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ، وَهَكَذَا عَنْ أَبِي يُوسُفَ لِانْقِطَاعِ التَّنَاصُرِ

وَلَوْ كَانَ الْقَاتِلُ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَلَهُ بِهَا عَطَاءٌ فَحَوَّلَ دِيوَانَهُ إلَى الْبَصْرَةِ ثُمَّ رُفِعَ إلَى الْقَاضِي فَإِنَّهُ يُقْضَى بِالدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَتِهِ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ.

وَقَالَ زُفَرُ: يُقْضَى عَلَى عَاقِلَتِهِ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، لِأَنَّ الْمُوجِبَ هُوَ الْجِنَايَةُ وَقَدْ تَحَقَّقَ وَعَاقِلَتُهُ أَهْلُ الْكُوفَةِ، وَصَارَ كَمَا إذَا حُوِّلَ بَعْدَ الْقَضَاءِ.

وَلَنَا أَنَّ الْمَالَ إنَّمَا يَجِبُ عِنْدَ الْقَضَاءِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الْمِثْلُ وَبِالْقَضَاءِ يَنْتَقِلُ إلَى الْمَالِ، وَكَذَا الْوُجُوبُ عَلَى الْقَاتِلِ وَتَتَحَمَّلُ عَنْهُ عَاقِلَتُهُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ يَتَحَمَّلُ عَنْهُ مَنْ يَكُونُ عَاقِلَتَهُ عِنْدَ الْقَضَاءِ، بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الْقَضَاءِ لِأَنَّ الْوَاجِبَ قَدْ تَقَرَّرَ بِالْقَضَاءِ فَلَا يَنْتَقِلُ بَعْدَ ذَلِكَ، لَكِنَّ حِصَّةَ الْقَاتِلِ تُؤْخَذُ مِنْ عَطَائِهِ بِالْبَصْرَةِ لِأَنَّهَا تُؤْخَذُ مِنْ الْعَطَاءِ وَعَطَاؤُهُ بِالْبَصْرَةِ،

الْإِشَارَةُ إلَى ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ مِنْ نَفْسِ الْكِتَابِ فَتَذَكَّرْ.

(قَوْلُهُ وَالْكُفَّارُ يَتَعَاقَلُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ مِلَلُهُمْ لِأَنَّ الْكُفْرَ كُلَّهُ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ) قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: هَذَا مُخَالِفٌ لِمَا سَبَقَ فِي أَوَّلِ بَابِ جِنَايَةِ الْمَمْلُوكِ أَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ لَا يَتَعَاقَلُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَجَوَابُهُ أَنَّ ذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْغَالِبِ انْتَهَى. أَقُولُ: يَأْبَى هَذَا الْجَوَابَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ هُنَاكَ فَلَا عَاقِلَةَ بَعْدَ قَوْلِهِ إنَّهُمْ لَا يَتَعَاقَلُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ لِأَنَّ النَّكِرَةَ الْمَنْفِيَّةَ تُفِيدُ الْعُمُومَ عَلَى مَا عُرِفَ. فَالْأَوْلَى فِي الْجَوَابِ أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ هُنَاكَ نَفْيُ الْوُقُوعِ: أَيْ لَمْ يَقَعْ التَّعَاقُلُ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَالْمُرَادُ هُنَا بَيَانُ الْجَوَازِ: أَيْ وَقَعَ التَّعَاقُلُ فِيمَا بَيْنَهُمْ جَازَ وَلَا يَضُرُّ اخْتِلَافُ مِلَلِهِمْ تَبَصَّرْ.

(قَوْلُهُ وَلَوْ كَانَ الْقَاتِلُ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَلَهُ بِهَا عَطَاءٌ فَحَوَّلَ دِيوَانَهُ إلَى الْبَصْرَةِ ثُمَّ رُفِعَ إلَى الْقَاضِي فَإِنَّهُ يُقْضَى عَلَى عَاقِلَتِهِ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ) أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: قَدْ مَرَّ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الْمَعَاقِلِ أَنَّ الْعَاقِلَةَ إنَّمَا خُصُّوا بِالضَّمِّ إلَى الْقَاتِلِ فِي أَدَاءِ الدِّيَةِ، لِأَنَّ الْقَاتِلَ إنَّمَا قَصَّرَ لِقُوَّةٍ فِيهِ، وَتِلْكَ الْقُوَّةُ بِأَنْصَارِهِ وَهُمْ الْعَاقِلَةُ فَكَانُوا هُمْ الْمُقَصِّرِينَ فِي تَرْكِهِمْ مُرَاقَبَتَهُ فَخُصُّوا بِهِ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ مُقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْقَضَاءُ بِالدِّيَةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى عَاقِلَةِ الْقَاتِلِ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ زُفَرُ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ إنَّمَا صَدَرَتْ عَنْهُ حَالَ كَوْنِ عَاقِلَتِهِ أَهْلَ الْكُوفَةِ فَالْقُوَّةُ فِيهِ وَقْتَ صُدُورِهَا عَنْهُ إنَّمَا كَانَتْ بِأَنْصَارِهِ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُ الْكُوفَةِ، وَالتَّقْصِيرُ فِي مُرَاقَبَتِهِ وَقْتَئِذٍ إنَّمَا وَقَعَ مِنْهُمْ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ عُهْدَةَ الْمُرَاقَبَةِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَانَتْ عَلَيْهِمْ لَا عَلَى أَهْلِ الْبَصْرَةِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُقْضَى بِالدِّيَةِ عَلَيْهِمْ لَا عَلَى أَهْلِ الْبَصْرَةِ.

وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ بِأَنَّ مَا ذَكَرَهُ هُنَاكَ حِكْمَةٌ أَنْ خُصَّتْ الْعَاقِلَةُ بِالضَّمِّ إلَى الْقَاتِلِ فِي تَحَمُّلِ الدِّيَةِ لَا عِلَّتُهُ، وَقَدْ تَقَرَّرَ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْحِكْمَةَ تُرَاعَى فِي الْجِنْسِ لَا فِي كُلِّ فَرْدٍ، كَمَا فِي الِاسْتِبْرَاءِ فِي الْبِكْرِ فَلَا يَقْدَحُ عَدَمُ تَمْشِيَةِ مَا ذُكِرَ هُنَاكَ فِي مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ، فَإِنْ مِلَاكَ الْأَمْرِ فِي تَمَامِ جَوَابِ الْمَسْأَلَةِ هُوَ الدَّلِيلُ، وَقَدْ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ وَلَنَا أَنَّ الْمَالَ إنَّمَا يَجِبُ عِنْدَ الْقَضَاءِ إلَخْ، وَلَا مَحَالَةَ أَنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ يُقْضَى بِالدِّيَةِ عَلَى أَهْلِ الْبَصْرَةِ لَا عَلَى أَهْلِ الْكُوفَةِ، لِأَنَّ وُجُوبَ الدِّيَةِ لَمَّا كَانَ عِنْدَ الْقَضَاءِ لَا قَبْلَهُ وَكَانَ دِيوَانُ الْقَاتِلِ مُتَحَوِّلًا إلَى الْبَصْرَةِ قَبْلَ الْقَضَاءِ لَمْ يَبْقَ مَجَالٌ أَنْ يُقْضَى بِالدِّيَةِ عَلَى أَهْلِ الْبَصْرَةِ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا عَاقِلَةَ الْقَاتِلِ وَقْتَ الْقَضَاءِ، وَلَمْ تَجِبْ عَلَيْهِمْ الدِّيَةُ حَالَ كَوْنِهِمْ عَاقِلَتَهُ لِعَدَمِ سَبْقِ وُجُوبِهَا الْقَضَاءَ، فَلَا بُدَّ أَنْ يُقْضَى بِهَا عَلَى مَنْ هُوَ عَاقِلَتُهُ وَقْتَ الْوُجُوبِ تَحْقِيقًا لِلتَّخْفِيفِ عَنْ

ص: 404

بِخِلَافِ مَا إذَا قَلَّتْ الْعَاقِلَةُ بَعْدَ الْقَضَاءِ عَلَيْهِمْ حَيْثُ يُضَمُّ إلَيْهِمْ أَقْرَبُ الْقَبَائِلِ فِي النَّسَبِ، لِأَنَّ فِي النَّقْلِ إبْطَالَ حُكْمِ الْأَوَّلِ فَلَا يَجُوزُ بِحَالٍ، وَفِي الضَّمِّ تَكْثِيرُ الْمُتَحَمِّلِينَ لِمَا قُضِيَ بِهِ عَلَيْهِمْ فَكَانَ فِيهِ تَقْرِيرُ الْحُكْمِ الْأَوَّلِ لَا إبْطَالُهُ، وَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ الْقَاتِلُ مَسْكَنُهُ بِالْكُوفَةِ وَلَيْسَ لَهُ عَطَاءٌ فَلَمْ يُقْضَ عَلَيْهِ حَتَّى اسْتَوْطَنَ الْبَصْرَةَ قُضِيَ بِالدِّيَةِ عَلَى أَهْلِ الْبَصْرَةِ، وَلَوْ كَانَ قَضَى بِهَا عَلَى أَهْلِ الْكُوفَةِ لَمْ يَنْتَقِلْ عَنْهُمْ، وَكَذَا الْبَدْوِيُّ إذَا أُلْحِقَ بِالدِّيوَانِ بَعْدَ الْقَتْلِ قَبْلَ الْقَضَاءِ يُقْضَى بِالدِّيَةِ عَلَى أَهْلِ الدِّيوَانِ، وَبَعْدَ الْقَضَاءِ عَلَى عَاقِلَتِهِ بِالْبَادِيَةِ لَا يَتَحَوَّلُ عَنْهُمْ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ قُضِيَ بِالدِّيَةِ عَلَيْهِمْ فِي أَمْوَالِهِمْ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ ثُمَّ جَعَلَهُمْ الْإِمَامُ فِي الْعَطَاءِ حَيْثُ تَصِيرُ الدِّيَةُ فِي أَعْطِيَاتِهِمْ وَإِنْ كَانَ قَضَى بِهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ فِي أَمْوَالِهِمْ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ نَقْضُ الْقَضَاءِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ قَضَى بِهَا فِي أَمْوَالِهِمْ وَأَعْطِيَاتُهُمْ أَمْوَالُهُمْ، غَيْرَ أَنَّ الدِّيَةَ تُقْضَى مِنْ أَيْسَرِ الْأَمْوَالِ أَدَاءً، وَالْأَدَاءُ مِنْ الْعَطَاءِ أَيْسَرُ إذَا صَارُوا مِنْ أَهْلِ الْعَطَاءِ إلَّا إذَا لَمْ يَكُنْ مَالُ الْعَطَاءِ مِنْ جِنْسِ مَا قُضِيَ بِهِ عَلَيْهِ بِأَنْ كَانَ الْقَضَاءُ بِالْإِبِلِ وَالْعَطَاءُ دَرَاهِمَ فَحِينَئِذٍ لَا تَتَحَوَّلُ إلَى الدَّرَاهِمِ أَبَدًا لِمَا فِيهِ مِنْ إبْطَالِ الْقَضَاءِ الْأَوَّلِ، لَكِنْ يُقْضَى ذَلِكَ مِنْ مَالِ الْعَطَاءِ لِأَنَّهُ أَيْسَرُ.

قَالَ (وَعَاقِلَةُ الْمُعْتَقِ قَبِيلَةُ مَوْلَاهُ) لِأَنَّ النُّصْرَةَ بِهِمْ يُؤَيِّدُ ذَلِكَ عليه الصلاة والسلام «مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْهُمْ» .

قَالَ (وَمَوْلَى الْمُوَالَاةِ يَعْقِلُ عَنْهُ مَوْلَاهُ وَقَبِيلَتُهُ) لِأَنَّهُ وَلَاءٌ يُتَنَاصَرُ بِهِ فَأَشْبَهَ وَلَاءَ الْعَتَاقَةِ، وَفِيهِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ وَقَدْ مَرَّ فِي كِتَابِ الْوَلَاءِ.

قَالَ (وَلَا تَعْقِلُ الْعَاقِلَةُ أَقَلَّ مِنْ نِصْفِ عُشْرِ الدِّيَةِ وَتَتَحَمَّلُ

الْقَاتِلِ الْمَعْذُورِ كَمَا تَقَرَّرَ فِيمَا مَرَّ (قَوْلُهُ بِخِلَافِ مَا إذَا قَلَّتْ الْعَاقِلَةُ بَعْدَ الْقَضَاءِ عَلَيْهِمْ حَيْثُ يُضَمُّ إلَيْهِمْ أَقْرَبُ الْقَبَائِلِ فِي النَّسَبِ إلَخْ) قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الشُّرَّاحِ مِنْهُمْ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ: قَوْلُهُ بِخِلَافِ مَا إذَا قَلَّتْ الْعَاقِلَةُ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الْقَضَاءِ وَمَعْنَاهُ لَا يُقْضَى بِالدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَتِهِ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ إذَا كَانَ الْقَاضِي قَضَى بِدِيَتِهِ عَلَى عَاقِلَتِهِ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَلَّتْ الْعَاقِلَةُ بِمَوْتِ بَعْضِهِمْ حَيْثُ يُضَمُّ إلَيْهِمْ أَقْرَبُ الْقَبَائِلِ فِي النَّسَبِ وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْقَضَاءِ مَعَ أَنَّ فِيهِ أَيْضًا نَقْلَ الدِّيَةِ مِنْ الْمَوْجُودِينَ وَقْتَ الْقَضَاءِ إلَى أَقْرَبِ الْقَبَائِلِ.

وَقَدْ ذَكَرَ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا بِقَوْلِهِ لِأَنَّ فِي النَّقْلِ إبْطَالَ حُكْمِ الْأَوَّلِ فَلَا يَجُوزُ بِحَالٍ، وَفِي الضَّمِّ تَكْثِيرُ الْمُتَحَمِّلِينَ لِمَا قُضِيَ بِهِ عَلَيْهِمْ فَكَانَ فِيهِ تَقْرِيرُ حُكْمِ الْأَوَّلِ لَا إبْطَالُهُ انْتَهَى. أَقُولُ: مُقَدِّمَتُهُمْ الْقَائِلَةُ مَعَ أَنَّ فِيهِ أَيْضًا نَقْلَ الدِّيَةِ مِنْ الْمَوْجُودِينَ وَقْتَ الْقَضَاءِ إلَى أَقْرَبِ الْقَبَائِلِ مَعَ كَوْنِهَا مُسْتَدْرَكَةً فِي بَيَانِ مَعْنَى الْمَقَامِ غَيْرَ صَحِيحَةٍ فِي نَفْسِهَا، إذْ لَيْسَ فِيمَا إذَا قَلَّتْ الْعَاقِلَةُ بَعْدَ الْقَضَاءِ نَقْلُ الدِّيَةِ مِنْ أَحَدٍ إلَى أَحَدٍ قَطُّ، بَلْ إنَّمَا فِيهِ تَكْثِيرُ الْمُتَحَمِّلِينَ لِمَا قُضِيَ بِهِ عَلَيْهِمْ، وَلَا شَكَّ أَنَّ التَّكْثِيرَ يُغَايِرُ النَّقْلَ بَلْ يُنَافِيهِ. وَعَنْ هَذَا قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ: إنَّ فِي النَّقْلِ إبْطَالَ حُكْمِ الْأَوَّلِ، وَفِي الضَّمِّ تَقْرِيرُ حُكْمِ الْأَوَّلِ لَا إبْطَالُهُ، وَلَوْ كَانَتْ الْمُقَدِّمَةُ الْكَاذِبَةُ مُعْتَبَرَةً فِي مَعْنَى الْمَقَامِ لَقَالَ الْمُصَنِّفُ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ إنَّ أَمْرَ النَّقْلِ فِي صُورَةِ الْقِلَّةِ كَذَا وَفِي صُورَةِ التَّحَوُّلِ بَعْدَ الْقَضَاءِ كَذَا تَأَمَّلْ تَقِفْ.

(قَوْلُهُ قَالَ وَلَا تَعْقِلُ الْعَاقِلَةُ أَقَلَّ مِنْ نِصْفِ عُشْرِ الدِّيَةِ وَتَتَحَمَّلُ

ص: 405

نِصْفَ الْعُشْرِ فَصَاعِدًا) وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما مَوْقُوفًا عَلَيْهِ وَمَرْفُوعًا إلَى رَسُولِ اللَّهِ عليه الصلاة والسلام «لَا تَعْقِلُ الْعَوَاقِلُ عَمْدًا وَلَا عَبْدًا وَلَا صُلْحًا وَلَا اعْتِرَافًا وَلَا مَا دُونَ أَرْشِ الْمُوضِحَةِ» وَأَرْشُ الْمُوضِحَةِ نِصْفُ عُشْرِ بَدَلِ النَّفْسِ، وَلِأَنَّ التَّحَمُّلَ لِلتَّحَرُّزِ عَنْ الْإِجْحَافِ وَلَا إجْحَافَ فِي الْقَلِيلِ وَإِنَّمَا هُوَ فِي الْكَثِيرِ، وَالتَّقْدِيرُ الْفَاصِلُ عُرِفَ بِالسَّمْعِ.

قَالَ (وَمَا نَقَصَ مِنْ ذَلِكَ يَكُونُ فِي مَالِ الْجَانِي) وَالْقِيَاسُ فِيهِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ فَيَجِبُ الْكُلُّ عَلَى الْعَاقِلَةِ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الشَّافِعِيُّ، أَوْ التَّسْوِيَةُ فِي أَنْ لَا يَجِبَ عَلَى الْعَاقِلَةِ شَيْءٌ، إلَّا أَنَّا تَرَكْنَاهُ بِمَا رَوَيْنَا، وَبِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام أَوْجَبَ أَرْشَ الْجَنِينِ عَلَى الْعَاقِلَةِ» وَهُوَ نِصْفُ عُشْرِ بَدَلِ الرَّجُلِ عَلَى مَا مَرَّ فِي الدِّيَاتِ، فَمَا دُونَهُ يُسْلَكُ بِهِ مَسْلَكُ الْأَمْوَالِ لِأَنَّهُ يَجِبُ بِالتَّحْكِيمِ كَمَا يَجِبُ ضَمَانُ الْمَالِ بِالتَّقْوِيمِ فَلِهَذَا كَانَ فِي مَالِ الْجَانِي أَخْذًا بِالْقِيَاسِ.

نِصْفَ عُشْرِ الدِّيَةَ فَصَاعِدًا) قَالَ فِي النِّهَايَةِ: وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَا لَا تَتَحَمَّلُ مَا دُونَ نِصْفِ الْعُشْرِ أَنَّ الْقِصَاصَ لَا يَجِبُ فِي عَمْدِهِ وَلَا يَتَقَدَّرُ أَرْشُهُ فَصَارَ كَضَمَانِ الْأَمْوَالِ، كَذَا فِي شَرْحِ الْأَقْطَعِ انْتَهَى. وَاقْتَفَى أَثَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ.

أَقُولُ: يَرُدُّ عَلَيْهِ أَنَّ لِكُلِّ مِفْصَلٍ مِنْ أُصْبُعٍ فِيهَا ثَلَاثَةُ مَفَاصِلَ ثُلُثُ عُشْرِ الدِّيَةِ كَمَا مَرَّ فِي كِتَابِ الدِّيَاتِ حَيْثُ قَالَ: وَفِي كُلِّ أُصْبُعٍ مِنْ أَصَابِعِ الْيَدَيْنِ أَوْ الرِّجْلَيْنِ عُشْرُ الدِّيَةِ. ثُمَّ قَالَ: وَفِي كُلِّ أُصْبُعٍ فِيهَا ثَلَاثَةُ مَفَاصِلَ، فَفِي أَحَدِهَا ثُلُثُ دِيَةِ الْأُصْبُعِ فَكَانَ لِكُلِّ مِفْصَلٍ مِنْ أُصْبُعٍ فِيهَا ثَلَاثَةُ مَفَاصِلَ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ هُوَ أَقَلُّ مِنْ نِصْفِ عُشْرِ الدِّيَةِ، وَيَجِبُ الْقِصَاصُ فِي عَمْدِهِ لَا مَحَالَةَ لِإِمْكَانِ رِعَايَةِ الْمُمَاثَلَةِ الَّتِي هِيَ مَبْنَى الْقِصَاصِ كَمَا تَقَرَّرَ فِي بَابِ الْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ مِنْ كِتَابِ الْجِنَايَاتِ، فَانْتَقَضَ بِهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ قَوْلِهِ إنَّ الْقِصَاصَ لَا يَجِبُ فِي عَمْدِهِ وَمِنْ قَوْلِهِ وَلَا يَتَقَدَّرُ أَرْشُهُ كَمَا تَرَى، نَعَمْ قَدْ تَدَارَكَ صَاحِبُ الْغَايَةِ إصْلَاحَ الْمُقَدِّمَةِ الثَّانِيَةِ: أَعْنِي قَوْلَهُ وَلَا يَتَقَدَّرُ أَرْشُهُ حَيْثُ قَالَ: وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ النَّظَرِ أَنَّ مَا دُونَ الْمُوضِحَةِ لَيْسَ لَهُ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ فِي نَفْسِهِ فَأَشْبَهَ ضَمَانَ الْأَمْوَالِ. ثُمَّ قَالَ: فَإِنْ قِيلَ: أَرْشُ الْأُنْمُلَةِ مُقَدَّرٌ وَهُوَ ثُلُثُ دِيَةِ الْأُصْبُعِ فَيَنْبَغِي أَنْ تَتَحَمَّلَهُ الْعَاقِلَةُ، قِيلَ لَهُ لَيْسَ أَرْشُهَا مُقَدَّرًا بِنَفْسِهَا بَلْ هُوَ مُقَدَّرٌ بِغَيْرِهَا وَهُوَ الْأُصْبُعُ، وَنَحْنُ إنَّمَا شَبَّهْنَا مَا دُونَ الْمُوضِحَةِ بِالْأَمْوَالِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ بِنَفْسِهِ انْتَهَى. لَكِنْ بَقِيَتْ الْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى وَهِيَ قَوْلُهُ إنَّ الْقِصَاصَ لَا يَجِبُ فِي عَمْدِهِ مَجْرُوحَةٌ تَدَبَّرْ.

(قَوْلُهُ وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما مَوْقُوفًا عَلَيْهِ وَمَرْفُوعًا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «لَا تَعْقِلُ الْعَوَاقِلُ عَمْدًا وَلَا عَبْدًا وَلَا صُلْحًا وَلَا اعْتِرَافًا وَلَا مَا دُونَ أَرْشِ الْمُوضِحَةِ»)

ص: 406

قَالَ (وَلَا تَعْقِلُ الْعَاقِلَةُ جِنَايَةَ الْعَبْدِ وَلَا مَا لَزِمَ بِالصُّلْحِ أَوْ بِاعْتِرَافِ الْجَانِي) لِمَا رَوَيْنَا، وَلِأَنَّهُ لَا تَنَاصُرَ بِالْعَبْدِ وَالْإِقْرَارُ وَالصُّلْحُ لَا يَلْزَمَانِ الْعَاقِلَةَ لِقُصُورِ الْوِلَايَةِ عَنْهُمْ. قَالَ (إلَّا أَنْ يُصَدِّقُوهُ) لِأَنَّهُ ثَبَتَ بِتَصَادُقِهِمْ وَالِامْتِنَاعُ كَانَ لِحَقِّهِمْ وَلَهُمْ وِلَايَةٌ عَلَى أَنْفُسِهِمْ.

(وَمَنْ أَقَرَّ بِقَتْلٍ خَطَإٍ وَلَمْ يَرْفَعُوا إلَى الْقَاضِي إلَّا بَعْدَ سِنِينَ قُضِيَ عَلَيْهِ بِالدِّيَةِ فِي مَالِهِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ مِنْ يَوْمِ يُقْضَى) لِأَنَّ التَّأْجِيلَ مِنْ وَقْتِ الْقَضَاءِ فِي الثَّابِتِ بِالْبَيِّنَةِ فَفِي الثَّابِتِ بِالْإِقْرَارِ أَوْلَى (وَلَوْ تَصَادَقَ الْقَاتِلُ وَوَلِيُّ الْجِنَايَةِ عَلَى أَنَّ قَاضِيَ بَلَدِ كَذَا قَضَى بِالدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَتِهِ بِالْكُوفَةِ بِالْبَيِّنَةِ وَكَذَّبَهُمَا الْعَاقِلَةُ فَلَا شَيْءَ عَلَى الْعَاقِلَةِ) لِأَنَّ تَصَادُقَهُمَا لَيْسَ بِحَجَّةٍ عَلَيْهِمْ (وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي مَالِهِ) لِأَنَّ الدِّيَةَ بِتَصَادُقِهِمَا تَقَرَّرَتْ

قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: اخْتَلَفُوا فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَا تَعْقِلُ الْعَوَاقِلُ عَمْدًا وَلَا عَبْدًا» فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: إنَّمَا مَعْنَاهُ أَنْ يَقْتُلَ الْعَبْدُ حُرًّا فَلَيْسَ عَلَى عَاقِلَةِ مَوْلَاهُ شَيْءٌ مِنْ جِنَايَةِ عَبْدِهِ، إنَّمَا جِنَايَتُهُ فِي رَقَبَتِهِ أَنْ يَدْفَعَهُ إلَى الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَوْ يَفْدِيَهُ. ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: إنَّمَا مَعْنَاهُ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ مَجْنِيًّا عَلَيْهِ يَقْتُلُهُ حُرٌّ أَوْ يَجْرَحُهُ فَلَيْسَ عَلَى عَاقِلَةِ الْجَانِي شَيْءٌ إنَّمَا ثَمَنُهُ فِي مَالِهِ خَاصَّةً. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: فَذَاكَرْت الْأَصْمَعِيَّ فِي ذَلِكَ فَإِذَا هُوَ يَرَى الْقَوْلَ فِيهِ قَوْلَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى عَلَى كَلَامِ الْعَرَبِ، وَلَا يَرَى قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ جَائِزًا، يَذْهَبُ إلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمَعْنَى عَلَى مَا قَالَ لَكَانَ الْكَلَامُ لَا تَعْقِلُ الْعَاقِلَةُ عَنْ عَبْدٍ وَلَمْ يَكُنْ وَلَا تَعْقِلُ عَبْدًا. وَمَعْنَى قَوْلِ الْأَصْمَعِيِّ أَنَّ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ يُقَالُ عَقَلْت الْقَتِيلَ إذَا أَعْطَيْت دِيَتَهُ وَعَقَلْت عَنْ فُلَانٍ إذَا لَزِمَتْهُ دِيَةٌ فَأَعْطَيْتهَا عَنْهُ. قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: كَلَّمْت أَبَا يُوسُفَ الْقَاضِيَ فِي ذَلِكَ بِحَضْرَةِ الرَّشِيدِ فَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ عَقَلْته وَعَقَلْت عَنْهُ حَتَّى فَهَّمْته. وَأُجِيبَ بِأَنَّ عَقَلْته يُسْتَعْمَلُ فِي مَعْنَى عَقَلْت عَنْهُ، وَسِيَاقُ الْحَدِيثِ وَهُوَ قَوْلُهُ «لَا تَعْقِلُ الْعَاقِلَةُ عَمْدًا» وَسِيَاقُهُ وَهُوَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «وَلَا صُلْحًا وَلَا اعْتِرَافًا» يَدُلَّانِ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّ مَعْنَاهُ عَنْ عَمْدٍ وَعَنْ صُلْحٍ وَعَنْ اعْتِرَافٍ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ. أَقُولُ: الْجَوَابُ مَحِلُّ الْكَلَامِ، إذْ لِلْخَصْمِ أَنْ يَمْنَعَ كَوْنَ مَعْنَاهُ مَا ذُكِرَ وَيَقُولَ: بَلْ مَعْنَاهُ لَا تَعْقِلُ الْعَاقِلَةُ مَنْ قُتِلَ عَمْدًا بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ، وَمَنْ صُولِحَ عَنْ دَمِهِ وَمَنْ اُعْتُرِفَ بِقَتْلِهِ عَلَى صِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْضًا فَيَئُولُ الْمَعْنَى فِي الْكُلِّ إلَى مَعْنَى عَقَلْت الْقَتِيلَ لَا إلَى مَعْنَى عَقَلْت عَنْ فُلَانٍ فَلَا يَتِمُّ الْجَوَابُ إلْزَامًا.

(قَوْلُهُ لِأَنَّ التَّأْجِيلَ مِنْ وَقْتِ الْقَضَاءِ فِي الثَّابِتِ بِالْبَيِّنَةِ فَفِي الثَّابِتِ بِالْإِقْرَارِ أَوْلَى) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: يُرِيدُ أَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ أَقْوَى مِنْهُ بِالْإِقْرَارِ، لِأَنَّ الثَّابِتَ بِهَا كَالثَّابِتِ مُعَايَنَةً، وَفِي الْقَتْلِ مُعَايَنَةً الدِّيَةُ إنَّمَا تَجِبُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَهَذَا أَوْلَى انْتَهَى. وَرَدَّ عَلَيْهِ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ حَيْثُ قَالَ: لَيْسَ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ فِي الدِّيَةِ بَلْ فِي التَّأْجِيلِ كَمَا لَا يَخْفَى، وَقَالَ: وَلَعَلَّ الْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: إذَا ثَبَتَ الْقَتْلُ الْخَطَأُ بِالْبَيِّنَةِ يَلْزَمُ الدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَمَعَ هَذَا يُؤَجَّلُ إلَى ثَلَاثِ سِنِينَ تَحْقِيقًا لِلتَّخْفِيفِ، فَفِي الثَّابِتِ بِالْإِقْرَارِ أَوْلَى يُؤَجَّلُ

ص: 407

عَلَى الْعَاقِلَةِ بِالْقَضَاءِ وَتَصَادُقُهُمَا حُجَّةٌ فِي حَقِّهِمَا، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ (إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ عَطَاءٌ مَعَهُمْ فَحِينَئِذٍ يَلْزَمُهُ بِقَدْرِ حِصَّتِهِ) لِأَنَّهُ فِي حَقِّ حِصَّتِهِ مُقِرٌّ عَلَى نَفْسِهِ وَفِي حَقِّ الْعَاقِلَةِ مُقِرٌّ عَلَيْهِمْ.

قَالَ (وَإِذَا جَنَى الْحُرُّ عَلَى الْعَبْدِ فَقَتَلَهُ خَطَأً كَانَ عَلَى عَاقِلَتِهِ قِيمَتُهُ) لِأَنَّهُ بَدَلُ النَّفْسِ عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ أَصْلِنَا. وَفِي أَحَدِ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ تَجِبُ فِي مَالِهِ لِأَنَّهُ بَدَلُ الْمَالِ عِنْدَهُ وَلِهَذَا يُوجِبُ قِيمَتَهُ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ، وَمَا دُونَ النَّفْسِ مِنْ الْعَبْدِ لَا تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ لِأَنَّهُ يُسْلَكُ بِهِ مَسْلَكَ الْأَمْوَالِ عِنْدَنَا عَلَى مَا عُرِفَ،

لِلتَّخْفِيفِ لِأَنَّ الْوُجُوبَ حِينَئِذٍ عَلَى الْمُقِرِّ وَحْدَهُ دُونَ الْعَاقِلَةِ فَلْيُتَأَمَّلْ انْتَهَى.

أَقُولُ: لَيْسَ مَا قَالَهُ بِسَدِيدٍ، إذْ لَيْسَ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ هُنَا أَصَالَةً فِي الدِّيَةِ وَلَا فِي التَّأْجِيلِ نَفْسِهِ، لِأَنَّ وُجُوبَ الدِّيَةِ بِطَرِيقِ التَّأْجِيلِ فِي الْقَتْلِ الْخَطَإِ، إذْ قَدْ عُلِمَ فِي كِتَابِ الْجِنَايَاتِ وَفِي كِتَابِ الدِّيَاتِ وَفِيمَا مَرَّ غَيْرَ مَرَّةٍ فِي كِتَابِ الْمَعَاقِلِ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ هَاهُنَا أَصَالَةٌ فِي كَوْنِ التَّأْجِيلِ مِنْ وَقْتِ الْقَضَاءِ دُونَ وَقْتِ الْإِقْرَارِ، وَلِهَذَا قَصَرَ الْمُصَنِّفُ الْبَيَانَ عَلَيْهِ فِي تَعْلِيلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَمَا ذَكَرَهُ ذَلِكَ الْبَعْضُ بِقَوْلِهِ وَلَعَلَّ الْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ إلَخْ إنَّمَا يُفِيدُ كَوْنَ الدِّيَةِ مُؤَجَّلَةً إلَى ثَلَاثِ سِنِينَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، لَا كَوْنَ التَّأْجِيلِ فِيهَا مِنْ وَقْتِ الْقَضَاءِ دُونَ وَقْتِ الْإِقْرَارِ، وَالْمَقْصُودُ بِالْبَيَانِ هُنَا هُوَ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ. وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فَيُفِيدُ الثَّانِيَ لِأَنَّهُ قَالَ: وَفِي الْقَتْلِ مُعَايَبَةً إنَّمَا تَجِبُ الدِّيَةُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَهَذَا أَوْلَى، وَهَذَا يُثْبِتُ كَوْنَ التَّأْجِيلِ مِنْ وَقْتِ الْقَضَاءِ دُونَ وَقْتِ الْإِقْرَارِ، لِأَنَّ وُجُوبَ الدِّيَةِ إذَا كَانَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَلَا جَرَمَ لَا يَتَحَقَّقُ وُجُوبُهَا قَبْلَ قَضَاءِ الْقَاضِي وَتَأْجِيلُ الدِّيَةِ فَرْعُ وُجُوبِهَا لَا مَحَالَةَ، إنَّمَا يُتَصَوَّرُ التَّأْجِيلُ مِنْ وَقْتِ الْقَضَاءِ لَا قَبْلَهُ. وَعَنْ هَذَا قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ كَمَا نَقَلَ عَنْهُ فِي النِّهَايَةِ. وَالتَّأْجِيلُ فِيهِ مِنْ وَقْتِ الْقَضَاءِ لَا مِنْ وَقْتِ الْإِقْرَارِ، لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْإِقْرَارِ بِالْقَتْلِ لَا يَكُونُ أَقْوَى مِنْ الثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ، وَفِي الْقَتْلِ الْمُعَايَنِ الدِّيَةُ إنَّمَا تَجِبُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَهُنَا أَوْلَى انْتَهَى.

(قَوْلُهُ وَمَا دُونَ النَّفْسِ مِنْ الْعَبْدِ لَا تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ لِأَنَّهُ يَسْلُكُ بِهِ مَسْلَكَ الْأَمْوَالِ عِنْدَنَا عَلَى مَا عُرِفَ) أَقُولُ: فِيهِ كَلَامٌ، وَهُوَ أَنَّهُ إنْ كَانَ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ عَلَى مَا عُرِفَ مَا ذَكَرَهُ فِي بَابِ الْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ فِي تَعْلِيلِ أَنْ لَا قِصَاصَ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ وَلَا بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ وَلَا بَيْنَ الْعَبْدَيْنِ عِنْدَنَا بِقَوْلِهِ وَلَنَا أَنَّ الْأَطْرَافَ يُسْلَكُ بِهَا مَسْلَكَ الْأَمْوَالِ فَيَنْعَدِمُ التَّمَاثُلُ بِالتَّفَاوُتِ فِي الْقِيمَةِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ صَاحِبُ الْغَايَةِ حَيْثُ قَالَ هُنَا: لَنَا أَنَّ الْأَطْرَافَ يُسْلَكُ بِهَا مَسْلَكَ الْأَمْوَالِ، وَلِهَذَا لَا يَجْرِي الْقِصَاصُ فِي الْعَمْدِ بَيْنَ طَرَفِ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ فَلَا تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ كَطَرَفِ الْبَهِيمَةِ، وَقَدْ مَرَّ ذَلِكَ فِي بَابِ الْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ عَلَى مَا عُرِفَ انْتَهَى. يُنْتَقَضُ حِينَئِذٍ مَا ذَكَرَهُ فِي تَعْلِيلِ مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ بِتَحَمُّلِ الْعَاقِلَةِ مَا دُونَ النَّفْسِ مِنْ الْحُرِّ إلَى مَا دُونَ نِصْفِ عُشْرِ الدِّيَةِ، فَإِنَّ الدَّلِيلَ الْمَذْكُورَ هُنَا يَجْرِي هُنَاكَ أَيْضًا مَعَ تَخَلُّفِ الْحُكْمِ عَنْهُ وَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ بِهِ مَا ذَكَرَهُ فِي فَصْلٍ بَعْدَ بَابِ جِنَايَةِ الْمَمْلُوكِ مِنْ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ مِنْ الْعَبْدِ هِيَ الْمَالِيَّةُ دُونَ الْآدَمِيَّةِ، بِخِلَافِ النَّفْسِ مِنْ الْعَبْدِ فَإِنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي إتْلَافِهَا هِيَ الْآدَمِيَّةُ دُونَ الْمَالِيَّةِ عِنْدَنَا جَازَ أَنْ

ص: 408

وَفِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ الْعَاقِلَةُ تَتَحَمَّلُهُ كَمَا فِي الْحُرِّ وَقَدْ مَرَّ مِنْ قَبْلُ.

قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّ الْقَاتِلَ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ عَاقِلَةٌ فَالدِّيَةُ فِي بَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ هُمْ أَهْلُ نُصْرَتِهِ وَلَيْسَ بَعْضُهُمْ أَخَصُّ مِنْ بَعْضٍ بِذَلِكَ، وَلِهَذَا لَوْ مَاتَ كَانَ مِيرَاثُهُ لِبَيْتِ الْمَالِ فَكَذَا مَا يَلْزَمُهُ مِنْ الْغَرَامَةِ يَلْزَمُ بَيْتَ الْمَالِ.

وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رِوَايَةٌ شَاذَّةٌ أَنَّ الدِّيَةَ فِي مَالِهِ، وَوَجْهُهُ أَنَّ الْأَصْلَ أَنْ تَجِبَ الدِّيَةُ عَلَى الْقَاتِلِ لِأَنَّهُ بَدَلٌ مُتْلِفٌ وَالْإِتْلَافُ مِنْهُ، إلَّا أَنَّ الْعَاقِلَةَ تَتَحَمَّلُهَا تَحْقِيقًا لِلتَّخْفِيفِ عَلَى مَا مَرَّ. وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ عَاقِلَةٌ عَادَ الْحُكْمُ إلَى الْأَصْلِ.

(وَابْنُ الْمُلَاعَنَةِ تَعْقِلُهُ عَاقِلَةُ أُمِّهِ) لِأَنَّ نَسَبَهُ ثَابِتٌ مِنْهَا دُونَ الْأَبِ (فَإِنْ عَقَلُوا عَنْهُ ثُمَّ ادَّعَاهُ الْأَبُ رَجَعَتْ عَاقِلَةُ الْأُمِّ بِمَا أَدَّتْ عَلَى عَاقِلَةِ الْأَبِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ مِنْ يَوْمِ يَقْضِي الْقَاضِي لِعَاقِلَةِ الْأُمِّ عَلَى عَاقِلَةِ الْأَبِ) لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ الدِّيَةَ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ عِنْدَ الْإِكْذَابِ ظَهَرَ أَنَّ النَّسَبَ لَمْ يَزَلْ كَانَ ثَابِتًا مِنْ الْأَبِ حَيْثُ بَطَلَ اللِّعَانُ بِالْإِكْذَابِ، وَمَتَى ظَهَرَ مِنْ الْأَصْلِ فَقَوْمُ الْأُمِّ تَحَمَّلُوا مَا كَانَ وَاجِبًا عَلَى قَوْمِ الْأَبِ فَيَرْجِعُونَ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ مُضْطَرُّونَ فِي ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ إنْ مَاتَ الْمُكَاتَبُ عَنْ وَفَاءٍ وَلَهُ وَلَدٌ حُرٌّ فَلَمْ يُؤَدِّ كِتَابَتَهُ حَتَّى جَنَى ابْنُهُ وَعَقَلَ عَنْهُ قَوْمُ أُمِّهِ ثُمَّ أُدِّيَتْ الْكِتَابَةُ لِأَنَّهُ عِنْدَ الْأَدَاءِ يَتَحَوَّلُ وَلَاؤُهُ إلَى قَوْمِ أَبِيهِ مِنْ وَقْتِ حُرِّيَّةِ الْأَبِ وَهُوَ آخِرُ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ حَيَاتِهِ فَيَتَبَيَّنُ أَنَّ قَوْمَ الْأُمِّ عَقَلُوا عَنْهُمْ فَيَرْجِعُونَ عَلَيْهِمْ، وَكَذَلِكَ رَجُلٌ أَمَرَ صَبِيًّا بِقَتْلِ رَجُلٍ فَقَتَلَهُ فَضَمِنَتْ عَاقِلَةُ الصَّبِيِّ الدِّيَةَ رَجَعَتْ بِهَا عَلَى عَاقِلَةِ الْآمِرِ إنْ كَانَ الْأَمْرُ ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ، وَفِي مَالِ الْآمِرِ إنْ كَانَ ثَبَتَ بِإِقْرَارِهِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ مِنْ يَوْمِ يَقْضِي بِهَا الْقَاضِي عَلَى الْآمِرِ، أَوْ عَلَى عَاقِلَتِهِ لِأَنَّ الدِّيَاتِ تَجِبُ مُؤَجَّلَةً بِطَرِيقِ التَّيْسِيرِ.

قَالَ رضي الله عنه: هَاهُنَا عِدَّةُ مَسَائِلَ ذَكَرَهَا مُحَمَّدٌ مُتَفَرِّقَةً، وَالْأَصْلُ الَّذِي يُخَرَّجُ عَلَيْهِ أَنْ يُقَالَ: حَالُ الْقَاتِلِ إذَا تَبَدَّلَ حُكْمًا فَانْتَقَلَ وَلَاؤُهُ إلَى وَلَاءٍ بِسَبَبِ أَمْرٍ حَادِثٍ لَمْ تَنْتَقِلْ جِنَايَتُهُ عَنْ الْأَوَّلِ قَضَى بِهَا أَوْ لَمْ يَقْضِ، وَإِنْ ظَهَرَتْ حَالَةٌ خَفِيَّةٌ مِثْلُ

لَا يُنْتَقَضُ مَا ذَكَرَهُ هُنَا بِتَحَمُّلِ الْعَاقِلَةِ مَا دُونَ النَّفْسِ مِنْ الْحُرِّ إلَى مَا دُونَ نِصْفِ عُشْرِ الدِّيَةِ، إذْ لَمْ يُصَرِّحْ أَحَدٌ بِسُقُوطِ اعْتِبَارِ الْآدَمِيَّةِ فِي أَطْرَافِ الْحُرِّ بِالْكُلِّيَّةِ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَتِمُّ الدَّلِيلُ الْمَذْكُورُ هُنَا حِينَئِذٍ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، فَإِنَّهُ يَعْتَبِرُ الْمَالِيَّةَ وَالْآدَمِيَّةَ مَعًا فِي أَطْرَافِ الْعَبْدِ، وَإِنَّمَا يَتِمُّ هَذَا عَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فَإِنَّهُمَا لَا يَعْتَبِرَانِ الْآدَمِيَّةَ فِيهَا بِالْكُلِّيَّةِ، وَقَدْ مَرَّ ذَلِكَ كُلُّهُ فِي الْفَصْلِ الْمَزْبُورِ فِي بَيَانِ مَسْأَلَةِ مَنْ فَقَأَ عَيْنَيْ عَبْدٍ إنْسَانٍ، وَالْمَسْأَلَةُ الَّتِي نَحْنُ فِيهَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا بَيْنَ أَئِمَّتِنَا فَلَا مَعْنَى لَأَنْ يُبْنَى دَلِيلُهَا عَلَى أَصْلِ بَعْضٍ مِنْهُمْ دُونَ بَعْضٍ، وَبِالْجُمْلَةِ لَا يَخْلُو الْمَقَامُ عَلَى كُلِّ حَالٍ عَنْ نَوْعٍ مِنْ الِاضْطِرَابِ كَمَا تَرَى.

(قَوْلُهُ وَفِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ تَتَحَمَّلُهُ كَمَا فِي الْحُرِّ وَقَدْ مَرَّ مِنْ قَبْلُ) قَالَ صَاحِبُ الْغَايَةِ: أَيْ فِي أَوَّلِ فَصْلٍ بَعْدَ بَابِ جِنَايَةِ الْمَمْلُوكِ، وَاقْتَفَى أَثَرَهُ فِي هَذَا التَّفْسِيرِ صَاحِبُ

ص: 409

دَعْوَةِ وَلَدِ الْمُلَاعَنَةِ حُوِّلَتْ الْجِنَايَةُ إلَى الْأُخْرَى وَقَعَ الْقَضَاءُ بِهَا أَوْ لَمْ يَقَعْ، وَلَوْ لَمْ يَخْتَلِفْ حَالُ الْجَانِي وَلَكِنَّ الْعَاقِلَةَ تَبَدَّلَتْ كَانَ الِاعْتِبَارُ فِي ذَلِكَ لِوَقْتِ الْقَضَاءِ، فَإِنْ كَانَ قَضَى بِهَا عَلَى الْأُولَى لَمْ تَنْتَقِلْ إلَى الثَّانِيَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَضَى بِهَا عَلَى الْأُولَى فَإِنَّهُ يَقْضِي بِهَا عَلَى الثَّانِيَةِ، وَإِنْ كَانَتْ الْعَاقِلَةُ وَاحِدَةً فَلَحِقَهَا زِيَادَةٌ أَوْ نُقْصَانٌ اشْتَرَكُوا فِي حُكْمِ الْجِنَايَةِ قَبْلَ الْقَضَاءِ وَبَعْدَهُ إلَّا فِيمَا سَبَقَ أَدَاؤُهُ فَمَنْ أَحْكَمَ هَذَا الْأَصْلَ مُتَأَمِّلًا يُمْكِنُهُ التَّخْرِيجُ فِيمَا وَرَدَ عَلَيْهِ مِنْ النَّظَائِرِ وَالْأَضْدَادِ.

(كِتَابُ الْوَصَايَا)

الْعِنَايَةِ وَالشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِتَفْسِيرِ ذَلِكَ أَصْلًا سَائِرُ الشُّرَّاحِ. أَقُولُ: لَوْ كَانَ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ وَقَدْ مَرَّ مِنْ قَبْلُ مَا فَسَّرَهُ بِهِ هَؤُلَاءِ الشُّرَّاحُ الثَّلَاثَةُ كَانَتْ حَوَالَتُهُ هُنَا غَيْرَ رَائِجَةٍ قَطْعًا، إذْ لَمْ يَذْكُرْ فِي الْفَصْلِ تَحَمُّلَ الْعَاقِلَةِ مَا دُونَ النَّفْسِ وَلَا تَحَمُّلَهَا دِيَةَ النَّفْسِ لَا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَلَا عِنْدَنَا كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ تَتَبَّعَ مَسَائِلَ ذَلِكَ الْفَصْلِ بِرُمَّتِهَا.

(كِتَابُ الْوَصَايَا)

قَالَ الشُّرَّاحُ: إيرَادُ كِتَابِ الْوَصَايَا فِي آخِرِ الْكِتَابِ ظَاهِرُ الْمُنَاسَبَةِ، لِأَنَّ آخِرَ أَحْوَالِ الْآدَمِيِّ فِي الدُّنْيَا الْمَوْتُ، وَالْوَصِيَّةُ مُعَامَلَةٌ وَقْتَ الْمَوْتِ. أَقُولُ: يَرُدُّ عَلَيْهِ أَنَّ كِتَابَ الْوَصَايَا لَيْسَ بِمُورَدٍ فِي آخِرِ هَذَا الْكِتَابِ، وَإِنَّمَا الْمُورَدُ فِي آخِرِهِ كِتَابُ الْخُنْثَى كَمَا تَرَى. نَعَمْ إنَّ كَثِيرًا مِنْ أَصْحَابِ التَّصَانِيفِ أَوْرَدُوهُ فِي آخِرِ كُتُبِهِمْ، لَكِنَّ الْكَلَامَ فِي شَرْحِ هَذَا الْكِتَابِ. وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ مِنْ قِبَلِ الشُّرَّاحِ بِحَمْلِ الْآخِرِ فِي قَوْلِهِمْ فِي آخِرِ الْكِتَابِ عَلَى الْإِضَافِيِّ، فَإِنَّ آخِرَهُ الْحَقِيقِيَّ وَإِنْ كَانَ كِتَابَ الْخُنْثَى إلَّا أَنَّ كِتَابَ الْوَصَايَا أَيْضًا آخِرُهُ بِالْإِضَافَةِ إلَى مَا قَبْلَهُ حَيْثُ كَانَ فِي قُرْبِ آخِرِهِ الْحَقِيقِيِّ، وَعَنْ هَذَا تَرَى الْقَوْمَ يَقُولُونَ وَقَعَ هَذَا فِي أَوَائِلِ كَذَا وَأَوَاخِرِهِ، فَإِنَّ صِيغَةَ الْجَمْعِ لَا تَتَمَشَّى فِي الْأَوَّلِ الْحَقِيقِيِّ وَالْآخِرِ الْحَقِيقِيِّ، وَإِنَّمَا الْمُخَلِّصُ مِنْ ذَلِكَ تَعْمِيمُ الْأَوَّلِ وَالْآخِرِ لِلْحَقِيقِيِّ وَالْإِضَافِيِّ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ أَيْضًا: لَمَّا كَانَ مَا ذَكَرَ فِي كِتَابِ الْخُنْثَى نَادِرًا مِنْ حَيْثُ الْوُقُوعُ وَمِنْ حَيْثُ الْمَسَائِلُ أَيْضًا جَعَلُوهُ

ص: 410

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

فِي حُكْمِ الْعَدَمِ وَاعْتَبَرُوا كِتَابَ الْوَصَايَا آخِرَ الْكِتَابِ.

ثُمَّ إنَّ الْوَصِيَّةَ فِي اللُّغَةِ اسْمٌ بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ هُوَ التَّوْصِيَةُ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {حِينَ الْوَصِيَّةِ} ثُمَّ سَمَّى الْمُوصَى بِهِ وَصِيَّةً، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا} وَفِي الشَّرِيعَةِ: تَمْلِيكٌ مُضَافٌ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ بِطَرِيقِ التَّبَرُّعِ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ فِي الْأَعْيَانِ أَوْ فِي الْمَنَافِعِ، كَذَا فِي عَامَّةِ الشُّرُوحِ.

قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: ثُمَّ الْوَصِيَّةُ وَالتَّوْصِيَةُ وَكَذَا الْإِيصَاءُ فِي اللُّغَةِ: طَلَبُ فِعْلٍ مِنْ غَيْرِهِ لِيَفْعَلَهُ فِي غَيْبَتِهِ حَالَ حَيَاتِهِ أَوْ بَعْدَ وَفَاتِهِ. وَفِي الشَّرِيعَةِ: تَمْلِيكٌ مُضَافٌ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ عَلَى سَبِيلِ التَّبَرُّعِ عَيْنًا كَانَ أَوْ مَنْفَعَةً، هَذَا هُوَ التَّعْرِيفُ الْمَذْكُورُ فِي عَامَّةِ الْكُتُبِ، وَالْوَصِيَّةُ بِهَذَا الْمَعْنَى هِيَ الْمَحْكُومُ عَلَيْهَا بِأَنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ غَيْرُ وَاجِبَةٍ، وَأَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَى جَوَازَهَا، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ بَعْضُ الْمَسَائِلِ مِثْلُ مَسْأَلَةِ الْوَصِيَّةِ بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَحُقُوقِ الْعِبَادِ. وَالْمَسَائِلُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْوَصِيِّ مَذْكُورَةٌ فِي كِتَابِ الْوَصَايَا بِطَرِيقِ التَّطَفُّلِ، لَكِنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ كَمَا أَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ فِي الشَّرْعِ لِلْمَعْنَى الْمَذْكُورِ مَوْضُوعَةٌ فِيهِ أَيْضًا لِطَلَبِ شَيْءٍ مِنْ غَيْرِهِ لِيَفْعَلَهُ بَعْدَ مَمَاتِهِ فَقَطْ، نُقِلَ هَذَا عَنْ مَبْسُوطِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ خُوَاهَرْ زَادَهْ، لَكِنْ يُشْتَرَطُ اسْتِعْمَالُ لَفْظِ الْإِيصَاءِ بِاللَّامِ فِي الْمَعْنَى الْأَوَّلِ وَبِإِلَى فِي الْمَعْنَى الثَّانِي، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ ذِكْرُ الْمَسَائِلِ الْمَذْكُورِ عَلَى أَنَّهَا مِنْ فُرُوعِ الْمَعْنَى الثَّانِي لَا عَلَى سَبِيلِ التَّطَفُّلِ، إلَى هُنَا لَفْظُهُ.

أَقُولُ: مَا عَدَّهُ تَحْقِيقًا لَيْسَ بِشَيْءٍ. أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ الَّتِي تَكُونُ مِنْ فُرُوعِ الْمَعْنَى الثَّانِي مِنْ الْمَسَائِلِ الْمَذْكُورَةِ إنَّمَا هِيَ الْمَسَائِلُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْوَصِيِّ دُونَ مَسَائِلِ الْوَصِيَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَحُقُوقِ الْعِبَادِ، فَإِنَّ اسْتِعْمَالَ لَفْظِ الْإِيصَاءِ فِيهَا بِاللَّامِ لَا بِإِلَى، يُقَالُ أَوْصَى لِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ لِحُقُوقِ الْعِبَادِ وَلَا يُقَالُ أَوْصَى إلَيْهَا كَمَا لَا يَخْفَى، فَبَقِيَ أَمْرُ التَّطَفُّلِ فِي حَقِّ تِلْكَ الْمَسَائِلِ مِنْ الْمَسَائِلِ الَّتِي ذَكَرَهَا مِنْ قَبْلُ إذْ لَمْ يَشْمَلْهَا شَيْءٌ مِنْ الْمَعْنَيَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ قَطُّ، وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ مَسَائِلَ التَّبَرُّعَاتِ الْوَاقِعَةَ مِنْ الْإِنْسَانِ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ بِطَرِيقِ التَّنْجِيزِ مَذْكُورَةٌ أَيْضًا فِي كِتَابِ الْوَصَايَا، وَمِنْهَا بَابُ الْعِتْقِ فِي الْمَرَضِ كَمَا سَيَجِيءُ فِي الْكِتَابِ، وَلَا رَيْبَ فِي عَدَمِ شُمُولِ شَيْءٍ مِنْ الْمَعْنَيَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الْمَسَائِلِ، فَبَقِيَ أَمْرُ التَّطَفُّلِ فِي حَقِّ تِلْكَ الْمَسَائِلِ كُلِّهَا بِالنَّظَرِ إلَى ذَيْنِك الْمَعْنَيَيْنِ مَعًا، فَمِنْ أَيْنَ كَانَ ارْتِكَابُ جَمْعِهِمَا فِي لَفْظٍ وَاحِدٍ بِتَأْوِيلٍ بَعِيدٍ مَعَ عَدَمِ عُمُومِ الْمُشْتَرَكِ عِنْدَنَا حَقِيقِيًّا بِأَنْ يُعَدَّ تَحْقِيقًا كَمَا زَعَمَهُ ذَلِكَ الْقَائِلُ. ثُمَّ أَقُولُ: الْوَجْهُ فِي التَّفَصِّي عَنْ أَمْرِ التَّطَفُّلِ فِي حَقِّ الْمَسَائِلِ الَّتِي ذَكَرَهَا ذَلِكَ الْقَائِلُ حَمْلُ مَعْنَى الْوَصِيَّةِ شَرِيعَةً عَلَى مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْبَدَائِعِ حَيْثُ قَالَ: وَأَمَّا بَيَانُ مَعْنَى الْوَصِيَّةِ اسْمٌ لِمَا أَوْجَبَهُ الْمُوصِي فِي مَالِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ. وَيَقْرُبُ مِنْهُ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْوِقَايَةِ حَيْثُ قَالَ: هِيَ إيجَابٌ بَعْدَ الْمَوْتِ فَإِنَّهُمَا يَشْمَلَانِ تِلْكَ الْمَسَائِلَ جُمْلَةً كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى الْمُتَأَمِّلِ، وَالْوَجْهُ فِي التَّفَصِّي عَنْ أَمْرِ التَّطَفُّلِ فِي حَقِّ مَسَائِلِ كِتَابِ الْوَصَايَا كُلِّهَا مِنْ الْمُعَلَّقَاتِ وَالْمُنَجَّزَاتِ حَمْلُ مَعْنَى الْوَصِيَّةِ شَرِيعَةً عَلَى مَا نَقَلَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ عَنْ الْإِيضَاحِ حَيْثُ قَالَ: ذَكَرَ فِي الْإِيضَاحِ: الْوَصِيَّةُ مَا أَوْجَبَهَا الْمُوصِي فِي مَالِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ أَوْ مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ انْتَهَى. فَإِنَّهُ يَشْمَلُ جَمِيعَ مَا ذُكِرَ فِي كِتَابِ الْوَصَايَا كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى ذِي مُسْكَةٍ. ثُمَّ إنَّ سَبَبَ الْوَصِيَّةِ سَبَبُ سَائِرِ التَّبَرُّعَاتِ، وَهُوَ إرَادَةُ تَحْصِيلِ ذِكْرِ الْخَيْرِ فِي الدُّنْيَا وَوُصُولِ الدَّرَجَاتِ الْعَالِيَةِ فِي الْعُقْبَى.

وَشَرَائِطُهَا: كَوْنُ الْمُوصِي أَهْلًا لِلتَّبَرُّعِ، وَأَنْ لَا يَكُونَ مَدْيُونًا، وَكَوْنُ الْمُوصَى لَهُ حَيًّا وَقْتَ الْوَصِيَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَوْلُودًا، حَتَّى إذَا أَوْصَى لِلْجَنِينِ إذَا كَانَ مَوْجُودًا حَيًّا عِنْدَ الْوَصِيَّةِ يَصِحُّ وَإِلَّا فَلَا، وَإِنَّمَا تُعْرَفُ حَيَاتُهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بِأَنْ وُلِدَ قَبْلَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ حَيًّا، وَكَوْنُهُ أَجْنَبِيًّا حَتَّى إنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْوَارِثِ لَا تَجُوزُ إلَّا بِإِجَازَةِ الْوَرَثَةِ، وَأَنْ لَا يَكُونَ قَاتِلًا وَكَوْنُ الْمُوصَى بِهِ شَيْئًا قَابِلًا لِلتَّمْلِيكِ مِنْ الْغَيْرِ بِعَقْدٍ مِنْ الْعُقُودِ حَالَ حَيَاةِ الْمُوصِي سَوَاءٌ كَانَ مَوْجُودًا فِي الْحَالِ أَوْ مَعْدُومًا، وَأَنْ يَكُونَ بِمِقْدَارِ الثُّلُثِ حَتَّى إنَّهَا لَا تَصِحُّ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَفِي الْعِنَايَةِ أَيْضًا بِطَرِيقِ الْإِجْمَالِ. أَقُولُ: فِيهِ قُصُورٌ، بَلْ خَلَلٌ. أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُ جَعَلَ مِنْ شَرَائِطِهَا أَنْ لَا يَكُونَ الْمُوصِي مَدْيُونًا بِدُونِ التَّقْيِيدِ بِأَنْ يَكُونَ الدَّيْنُ مُسْتَغْرِقًا لِتَرِكَتِهِ، وَالشَّرْطُ عَدَمُ هَذَا الدَّيْنِ الْمُقَيَّدِ دُونَ عَدَمِ الدَّيْنِ الْمُطْلَقِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْبَدَائِعِ وَغَيْرِهِ. وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّهُ جَعَلَ مِنْ شَرَائِطِهَا كَوْنَ الْمُوصِي حَيًّا وَقْتَ الْوَصِيَّةِ، وَالشَّرْطُ كَوْنُهُ مَوْجُودًا وَقْتَ الْوَصِيَّةِ لَا كَوْنُهُ حَيًّا فِيهِ، أَلَا يُرَى أَنَّهُمْ جَعَلُوا الدَّلِيلَ عَلَيْهِ الْوِلَادَةَ قَبْلَ سِتَّةِ

ص: 411

بَابٌ فِي صِفَةِ الْوَصِيَّةِ مَا يَجُوزُ مِنْ ذَلِكَ وَمَا يُسْتَحَبُّ مِنْهُ وَمَا يَكُونُ رُجُوعًا عَنْهُ

أَشْهُرٍ حَيًّا، وَتِلْكَ إنَّمَا تَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الْجَنِينِ وَقْتَ الْوَصِيَّةِ لَا عَلَى حَيَاتِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى الْعَارِفِ بِأَحْوَالِ الْجَنِينِ فِي الرَّحِمِ وَبِأَقَلِّ مُدَّةِ الْحَمْلِ وَعَنْ هَذَا كَانَ الْمَذْكُورُ فِي عَامَّةِ الْمُعْتَبَرَاتِ عِنْدَ بَيَانِ هَذَا الشَّرْطِ أَنْ يَكُونَ الْمُوصَى لَهُ مَوْجُودًا وَقْتَ الْوَصِيَّةِ بِدُونِ ذِكْرِ قَيْدِ الْحَيَاةِ أَصْلًا، وَأَمَّا ثَالِثًا فَلِأَنَّهُ جَعَلَ مِنْ شَرَائِطِهَا أَنْ يَكُونَ الْمُوصَى بِهِ مِقْدَارَ الثُّلُثِ لَا زَائِدًا عَلَيْهِ، وَهُوَ لَيْسَ بِسَدِيدٍ عَلَى إطْلَاقِهِ فَإِنَّ الْمُوصِي إذَا تَرَكَ وَرَثَةً فَإِنَّمَا لَا تَصِحُّ وَصِيَّتُهُ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ إنْ لَمْ تُجِزْهُ الْوَرَثَةُ، وَإِنْ أَجَازُوهُ صَحَّتْ وَصِيَّتُهُ بِهِ. وَأَمَّا إذَا لَمْ يَتْرُكْ وَارِثًا فَتَصِحُّ وَصِيَّتُهُ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ حَتَّى بِجَمِيعِ مَالِهِ عِنْدَنَا كَمَا تَقَرَّرَ فِي مَوْضِعِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّقْيِيدِ مَرَّتَيْنِ: مَرَّةً بِأَنْ يَكُونَ لَهُ وَارِثٌ، وَأُخْرَى بِأَنْ لَا يُجِيزَهُ الْوَارِثُ.

(بَابٌ فِي صِفَةِ الْوَصِيَّةِ مَا يَجُوزُ مِنْ ذَلِكَ وَمَا يُسْتَجَبُّ مِنْهُ وَمَا يَكُونُ رُجُوعًا عَنْهُ)

قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي حَلِّ هَذَا التَّرْكِيبِ: أَيْ مَا يَجُوزُ مِنْهُ وَمَا لَا يَجُوزُ، وَمَا يُسْتَحَبُّ مِنْهُ وَمَا لَا يُسْتَحَبُّ. وَقَالَ: ثُمَّ ظَاهِرُ الْإِبْدَالِ يُفِيدُ أَنَّ الْمُرَادَ بِبَيَانِ صِفَةِ الْوَصِيَّةِ بَيَانُ مَا يَجُوزُ مِنْهُ وَمَا يُسْتَحَبُّ مِنْهُ، لَكِنَّ الظَّاهِرَ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ الْوَصِيَّةُ غَيْرُ وَاجِبَةٍ وَهِيَ مُسْتَحَبَّةٌ، فَالْأَوْلَى إيرَادُهُ بِالْوَاوِ الْعَاطِفَةِ انْتَهَى. أَقُولُ: فِيهِ خَلَلٌ فَاحِشٌ. أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُ سَلَكَ مَسْلَكَ التَّقْدِيرِ فِي قَوْلِ الْمُصَنِّفِ مَا يَجُوزُ مِنْ ذَلِكَ وَمَا يُسْتَحَبُّ مِنْهُ حَيْثُ قَالَ: أَيْ مَا يَجُوزُ مِنْهُ وَمَا لَا يَجُوزُ وَمَا يُسْتَحَبُّ مِنْهُ وَمَا لَا يُسْتَحَبُّ، وَلَا يَذْهَبُ عَلَيْك أَنَّ ذَاكَ التَّقْدِيرَ إنْ صَحَّ فِي قَوْلِهِ مَا يَجُوزُ مِنْ ذَلِكَ لَا يَصِحُّ فِي قَوْلِهِ وَمَا يُسْتَحَبُّ مِنْهُ، إذْ لَيْسَ فِي جِنْسِ الْوَصِيَّةِ مَا يَخْلُو عَنْ الْجَوَازِ وَعَدَمِهِ لِكَوْنِهِمَا نَقِيضِينَ لَا يَرْتَفِعَانِ عَنْ شَيْءٍ، فَلَمْ يَبْقَ مِنْ جِنْسِ الْوَصِيَّةِ شَيْءٌ يُغَايِرُ مَا يَجُوزُ مِنْهُ وَمَا لَا يَجُوزُ حَتَّى يَصْلُحَ ذَلِكَ لَأَنْ يُذْكَرَ بَعْدَهُمَا، فَإِنْ قُيِّدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِشَيْءٍ يُخْرِجُ مِنْهُ مَا يُسْتَحَبُّ مِنْهُ لَا يَبْقَى مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ يُغَايِرُ مَا يَجُوزُ مِنْهُ وَمَا لَا يَجُوزُ وَمَا يُسْتَحَبُّ مِنْهُ حَتَّى يَنْدَرِجَ فِيمَا لَا يُسْتَحَبُّ مِنْهُ فَيَصِحُّ تَقْدِيرُهُ.

لَا يُقَالُ: الْمُرَادُ بِالْجَوَازِ تَسَاوِي الطَّرَفَيْنِ وَبِعَدَمِ الْجَوَازِ عَدَمُ صِحَّةِ طَرَفِ الْفِعْلِ أَصْلًا لَا مُجَرَّدُ رَفْعِ التَّسَاوِي حَتَّى يَكُونَا مِنْ قَبِيلِ النَّقِيضَيْنِ فَيَبْقَى الِاسْتِحْبَابُ

ص: 412

قَالَ (الْوَصِيَّةُ غَيْرُ وَاجِبَةٍ وَهِيَ مُسْتَحَبَّةٌ) وَالْقِيَاسُ يَأْبَى جَوَازَهَا لِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ مُضَافٌ إلَى حَالِ زَوَالِ مَالِكِيَّتِهِ، وَلَوْ أُضِيفَ إلَى حَالِ قِيَامِهَا بِأَنْ قِيلَ مَلَّكْتُك غَدًا كَانَ بَاطِلًا فَهَذَا أَوْلَى، إلَّا أَنَّا اسْتَحْسَنَّاهُ

لِحَاجَةِ النَّاسِ

إلَيْهَا، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ مَغْرُورٌ بِأَمَلِهِ مُقَصِّرٌ فِي عَمَلِهِ، فَإِذَا عَرَضَ لَهُ الْمَرَضُ وَخَافَ الْبَيَانَ يَحْتَاجُ إلَى تَلَافِي بَعْضِ مَا فَرَّطَ مِنْهُ مِنْ التَّفْرِيطِ بِمَالِهِ عَلَى وَجْهٍ لَوْ مَضَى فِيهِ يَتَحَقَّقُ مَقْصِدُهُ الْمَآلِيُّ، وَلَوْ أَنْهَضَهُ الْبُرْءُ يَصْرِفُهُ إلَى مَطْلَبِهِ الْحَالِيِّ،

وَالْوُجُوبُ وَاسِطَةً بَيْنَهُمَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِمَا لَا يُسْتَحَبُّ مِنْهُ مَا هُوَ الْوَاجِبُ مِنْهُ. لِأَنَّا نَقُولُ: نَفْيُ الِاسْتِحْبَابِ يَعُمُّ الْجَوَازَ وَالْوُجُوبَ وَعَدَمَ صِحَّةِ طَرَفِ الْفِعْلِ أَصْلًا، فَمِنْ أَيْنَ يَدُلُّ مَا لَا يُسْتَحَبُّ مِنْهُ عَلَى مَا هُوَ الْوَاجِبُ مِنْهُ فَقَطْ حَتَّى يَجُوزَ أَنْ يُرَادَ بِهِ ذَلِكَ. وَلَئِنْ سَلِمَ جَوَازُ إرَادَةِ ذَلِكَ بِهِ يَفْسُدُ مَعْنَى الْمَقَامِ إذْ يَلْزَمُ حِينَئِذٍ أَنْ يُدْرِجَ فِي عُنْوَانِ الْبَابِ مَا هُوَ الْوَاجِبُ مِنْ الْوَصِيَّةِ فَيُخَالِفُ مَا ذَكَرَهُ فِي أَوَّلِ الْبَابِ مِنْ أَنَّ الْوَصِيَّةَ غَيْرُ وَاجِبَةٍ وَهِيَ مُسْتَحَبَّةٌ.

وَبِالْجُمْلَةِ لَمْ يُوجَدْ لِمَا ارْتَكَبَهُ مَحْمَلٌ صَحِيحٌ قَطُّ، فَالصَّوَابُ أَنْ لَا تَقْدِيرَ فِي شَيْءٍ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا، فَإِنَّ صِفَاتِ الْوَصِيَّةِ الشَّرْعِيَّةِ هِيَ الْجَوَازُ وَالِاسْتِحْبَابُ وَالرُّجُوعُ عَنْهَا: أَيْ كَوْنُهَا مَرْجُوعًا عَنْهَا، وَهَذِهِ الصِّفَاتُ كُلُّهَا حَاصِلَةٌ مِمَّا ذَكَرَهُ فِي عُنْوَانِ الْبَابِ صَرَاحَةً فَلَا حَاجَةَ إلَى تَقْدِيرِ شَيْءٍ أَصْلًا حَتَّى عَدَمُ الْجَوَازِ فَإِنَّهُ صِفَةٌ لِلْوَصِيَّةِ الْغَيْرِ الشَّرْعِيَّةِ، وَعُنْوَانُ الْبَابِ إنَّمَا كَانَ فِي صِفَةِ الْوَصِيَّةِ الشَّرْعِيَّةِ. نَعَمْ قَدْ يَذْكُرُ فِي أَثْنَاءِ مَسَائِلِ الْبَابِ مَا لَا يَجُوزُ مِنْ الْوَصَايَا، لَكِنْ لِأَجْلِ إزَالَةِ أَنْ يُتَوَهَّمُ كَوْنُهُ مِنْ الْوَصَايَا الْجَائِزَةِ الشَّرْعِيَّةِ، لَا لِأَنَّهُ مَقْصُودٌ بِالْبَيَانِ بِالذَّاتِ كَمَا هُوَ الْحَالُ فِي مَسَائِلِ سَائِرِ الْكُتُبِ. وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ قَوْلَهُ لَكِنَّ الظَّاهِرَ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ أَنَّ الْمُرَادَ مَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ الْوَصِيَّةُ غَيْرُ وَاجِبَةٍ وَهِيَ مُسْتَحَبَّةٌ لَيْسَ بِسَدِيدٍ، إذْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الظَّاهِرَ ذَلِكَ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ أَحَدًا سِوَاهُ صَرَّحَ بِهِ، وَإِنَّمَا الَّذِي صَرَّحُوا بِهِ أَنَّ صِفَةَ الْوَصِيَّةِ فِي الشَّرْعِ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ الْوَصِيَّةُ غَيْرُ وَاجِبَةٍ وَهِيَ مُسْتَحَبَّةٌ، لَا أَنَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ بِالصِّفَةِ فِي قَوْلِهِ بَابٌ فِي صِفَةِ الْوَصِيَّةِ هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ الْوَصِيَّةُ غَيْرُ وَاجِبَةٍ وَهِيَ مُسْتَحَبَّةٌ؛ أَلَا يُرَى أَنَّهُمْ إنَّمَا ذَكَرُوا مَا صَرَّحُوا بِهِ عِنْد بَيَانِ مُتَعَلِّقَاتِ الْوَصِيَّةِ مِنْ سَبَبِهَا وَشَرَائِطِهَا وَرُكْنِهَا وَحُكْمِهَا وَصِفَتِهَا لَا عِنْدَ شَرْحِ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ بَابٌ فِي صِفَةِ الْوَصِيَّةِ إلَخْ وَكَمْ بَيْنَ الْمَقَامَيْنِ؟ وَأَمَّا ثَالِثًا فَلِأَنَّ قَوْلَهُ فَالْأَوْلَى إيرَادُهُ بِالْوَاوِ الْعَاطِفَةِ لَا يَكَادُ يَصِحُّ إذْ لَوْ أَوْرَدَهُ الْمُصَنِّفُ بِالْوَاوِ الْعَاطِفَةِ عَلَى فَرْضِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالصِّفَةِ فِي قَوْلِهِ " بَابٌ فِي صِفَةِ الْوَصِيَّةِ " مَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ الْوَصِيَّةُ غَيْرُ وَاجِبَةٍ وَهِيَ مُسْتَحَبَّةٌ كَمَا زَعَمَهُ الْقَائِلُ لَصَارَ مَعْنَى الْكَلَامِ " بَابٌ فِي صِفَةِ الْوَصِيَّةِ " أَيْ فِيمَا يُسْتَحَبُّ مِنْهَا وَفِيمَا يَجُوزُ مِنْ ذَلِكَ وَمَا يُسْتَحَبُّ مِنْهُ، فَيَصِيرُ قَوْلُهُ " وَمَا يُسْتَحَبُّ مِنْهُ " لَغْوًا مِنْ الْكَلَامِ لِكَوْنِهِ تَكْرَارًا مَحْضًا فَكَأَنَّ هَذَا الْقَائِلَ نَسِيَ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ وَمَا يُسْتَحَبُّ مِنْهُ عِنْدَ كَتْبِ قَوْلِهِ فَالْأَوْلَى إيرَادُهُ بِالْوَاوِ الْعَاطِفَةِ وَلَعَمْرِي أَنَّهُ عَجِيبٌ مِنْ مِثْلِهِ.

(قَوْلُهُ الْوَصِيَّةُ غَيْرُ وَاجِبَةٍ وَهِيَ مُسْتَحَبَّةٌ) أَقُولُ: الْحُكْمُ بِالِاسْتِحْبَابِ عَلَى الْوَصِيَّةِ مُطْلَقًا لَا يُنَاسِبُ مَا مَرَّ آنِفًا فِي عُنْوَانِ الْبَابِ مِنْ قَوْلِهِ مَا يَجُوزُ مِنْ ذَلِكَ وَمَا يُسْتَحَبُّ مِنْهُ، وَلَا مَا سَيَأْتِي فِي الْكِتَابِ مِنْ أَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالثُّلُثِ لِلْأَجْنَبِيِّ جَائِرَةٌ وَبِدُونِ الثُّلُثِ مُسْتَحَبَّةٌ إنْ كَانَتْ الْوَرَثَةُ أَغْنِيَاءَ أَوْ يَسْتَغْنُونَ بِنَصِيبِهِمْ، وَإِنْ كَانُوا فُقَرَاءَ لَا يَسْتَغْنُونَ بِمَا يَرِثُونَ فَتَرْكُ الْوَصِيَّةِ أَوْلَى، فَكَانَ الظَّاهِرُ أَنْ يُقَالَ: الْوَصِيَّةُ غَيْرُ وَاجِبَةٍ بَلْ هِيَ مُسْتَحَبَّةٌ أَوْ جَائِزَةٌ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُوَجَّهَ قَوْلُهُ وَهِيَ مُسْتَحَبَّةٌ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَنَّ غَايَةَ أَمْرِهَا الِاسْتِحْبَابُ دُونَ الْوُجُوبِ لَا أَنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: إنَّهَا لَا تَصِلُ إلَى مَرْتَبَةِ الْوُجُوبِ بَلْ قُصَارَى أَمْرِهَا الِاسْتِحْبَابُ، لَكِنْ يُرَدُّ

ص: 413

وَفِي شَرْعِ الْوَصِيَّةِ ذَلِكَ فَشَرَعْنَاهُ، وَمِثْلُهُ فِي الْإِجَارَةِ بَيَّنَّاهُ، وَقَدْ تَبْقَى الْمَالِكِيَّةُ بَعْدَ الْمَوْتِ بِاعْتِبَارِ الْحَاجَةِ كَمَا فِي قَدْرِ التَّجْهِيزِ وَالدَّيْنِ، وَقَدْ نَطَقَ بِهِ الْكِتَابُ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} وَالسُّنَّةُ وَهُوَ قَوْلُ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَصَدَّقَ عَلَيْكُمْ بِثُلُثِ أَمْوَالِكُمْ فِي آخِرِ أَعْمَارِكُمْ زِيَادَةً لَكُمْ فِي أَعْمَالِكُمْ

عَلَيْهِ النَّقْضُ بِالْوَصِيَّةِ لِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ الَّتِي فَرَّطَ فِيهَا، إذْ الظَّاهِرُ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْإِمَامُ الزَّيْلَعِيُّ فِي التَّبْيِينِ، قَالَ فِي الْعِنَايَةِ أَخْذًا مِنْ النِّهَايَةِ: قَوْلُهُ غَيْرُ وَاجِبَةٍ رَدٌّ لِقَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إذَا كَانُوا مِمَّنْ لَا يَرِثُونَ فَرْضٌ، وَلِقَوْلِ مَنْ يَقُولُ: الْوَصِيَّةُ وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ مِمَّنْ لَهُ ثَرْوَةٌ وَيَسَارٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} وَالْمَكْتُوبُ عَلَيْنَا فَرْضٌ، وَلَمَّا لَمْ يُفْهَمْ الِاسْتِحْبَابُ مِنْ نَفْيِ الْوُجُوبِ لِجَوَازِ الْإِبَاحَةِ قَالَ: وَهِيَ مُسْتَحَبَّةٌ انْتَهَى.

أَقُولُ: فِي قَوْلِهِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ رَدٌّ لِقَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إذَا كَانُوا مِمَّنْ لَا يَرِثُونَ فَرْضٌ نَظَرٌ، لِأَنَّ الْفَرْضَ غَيْرُ الْوَاجِبِ عِنْدَنَا، إذْ الْفَرْضُ مَا يَثْبُتُ بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ وَالْوَاجِبُ مَا ثَبَتَ بِدَلِيلٍ ظَنِّيٍّ كَمَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الْوَصِيَّةِ غَيْرَ وَاجِبَةٍ كَوْنُهَا غَيْرَ فَرْضٍ فَكَيْفَ يَحْصُلُ الرَّدُّ بِقَوْلِهِ الْوَصِيَّةُ غَيْرُ وَاجِبَةٍ لِقَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إنَّهَا فَرْضٌ فِي حَقِّ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ، بَلْ الظَّاهِرُ أَنَّ الرَّدَّ لِقَوْلِ ذَلِكَ إنَّمَا يَحْصُلُ بِقَوْلِهِ وَهِيَ مُسْتَحَبَّةٌ. ثُمَّ إنَّ فِي أُسْلُوبِ تَحْرِيرِهِ سَمَاجَةً ظَاهِرَةً إذْ الظَّاهِرُ مِنْ تَأْخِيرِ قَوْلِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {كُتِبَ عَلَيْكُمْ} إلَخْ عَنْ مَجْمُوعِ الْقَوْلَيْنِ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ الْمَذْكُورَةُ دَلِيلًا عَلَيْهِمَا، بَلْ الْمُتَبَادَرُ أَنْ تَكُونَ دَلِيلًا عَلَى قُرْبَتِهَا، وَلَا يَخْفَى أَنَّهَا لَا تَصْلُحُ لَأَنْ تَكُونَ دَلِيلًا عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي، وَصَاحِبُ النِّهَايَةِ وَإِنْ شَارَكَهُ فِي تَأْخِيرِ ذِكْرِ الدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ عَنْ مَجْمُوعِ الْقَوْلَيْنِ الْمَزْبُورَيْنِ إلَّا أَنَّهُ ذَكَرَ دَلِيلًا آخَرَ بَعْدَهُ مِنْ السُّنَّةِ حَيْثُ قَالَ: وَقَالَ عليه الصلاة والسلام «لَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ إذَا كَانَ لَهُ مَالٌ يُرِيدُ الْوَصِيَّةَ فِيهِ أَنْ يَبِيتَ لَيْلَتَيْنِ إلَّا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَ رَأْسِهِ» انْتَهَى.

فَجَازَ أَنْ يُجْعَلَ الدَّلِيلُ الْأَوَّلُ دَلِيلًا عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَالدَّلِيلُ الثَّانِي عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي بِطَرِيقِ التَّوْزِيعِ عَلَى اللَّفِّ وَالنَّشْرِ الْمُرَتَّبِ، وَأَمَّا صَاحِبُ الْغَايَةِ فَقَدْ قَصَرَ الذِّكْرَ عَلَى دَلِيلٍ وَاحِدٍ فَقَصَرَ، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الْجَوَابَ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ دَلِيلَيْ الْخَصْمَيْنِ مُسْتَقْصًى وَمُسْتَوْفًى فِي النِّهَايَةِ وَغَيْرِهَا فَلَا عَلَيْنَا أَنْ لَا نَذْكُرَهُ هَاهُنَا.

(قَوْلُهُ وَقَدْ تَبْقَى الْمَالِكِيَّةُ بَعْدَ الْمَوْتِ بِاعْتِبَارِ الْحَاجَةِ كَمَا فِي قَدْرِ التَّجْهِيزِ وَالدَّيْنِ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: قَوْلُهُ وَقَدْ تَبْقَى الْمَالِكِيَّةُ بَعْدَ الْمَوْتِ جَوَابٌ عَنْ وَجْهِ الْقِيَاسِ، وَاقْتَفَى أَثَرَهُ الشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ. أَقُولُ: فِيهِ بَحْثٌ، إذْ لَا يَصْلُحُ الْجَوَابُ عَنْ وَجْهِ الْقِيَاسِ الْمَذْكُورِ بِمُجَرَّدِ بَقَاءِ الْمَالِكِيَّةِ بَعْدَ الْمَوْتِ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي وَجْهِ الْقِيَاسِ: وَلَوْ أُضِيفَ إلَى حَالِ قِيَامِهَا بِأَنْ قَالَ مَلَّكْتُك غَدًا كَانَ بَاطِلًا فَهَذَا أَوْلَى، فَاللَّازِمُ مِنْ بَقَاءِ الْمَالِكِيَّةِ بَعْدَ الْمَوْتِ انْتِفَاءُ أَوْلَوِيَّةِ الْبُطْلَانِ لَا انْتِفَاءُ نَفْسِ الْبُطْلَانِ فَلَا يُجْدِي نَفْعًا، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُتَمَحَّلَ بِأَنْ يُقَالَ: مَعْنَى كَوْنِهِ جَوَابًا عَنْ وَجْهِ الْقِيَاسِ مُجَرَّدُ تَضَمُّنِهِ قَدْحَ مُقَدِّمَةٍ مَذْكُورَةٍ فِيهِ وَهِيَ قَوْلُهُ لِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ مُضَافٌ إلَى حَالِ زَوَالِ مَالِكِيَّتِهِ لَا كَوْنُهُ جَوَابًا قَاطِعًا لَهُ عَنْ عِرْقِهِ. وَالْأَوْجُهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْكَلَامُ مُجَرَّدَ تَتْمِيمٍ لِوَجْهِ الِاسْتِحْسَانِ، فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ فِي تَجْوِيزِ تَمْلِيكٍ مُضَافٍ إلَى حَالِ زَوَالِ الْمَالِكِيَّةِ نَوْعُ اسْتِبْعَادٍ لِكَوْنِ التَّمْلِيكِ فَرْعَ بَقَاءِ الْمِلْكِ تَدَارَكَ دَفْعَهُ بِأَنْ قَالَ: إنَّ الْمَالِكِيَّةَ لَا تَزُولُ عَنْ الْإِنْسَانِ بِالْكُلِّيَّةِ بَعْدَ الْمَوْتِ، بَلْ تَبْقَى مَالِكِيَّتُهُ بَعْدَهُ فِي حَقِّ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ كَمَا فِي قَدْرِ التَّجْهِيزِ وَالدَّيْنِ وَمِنْهُ الْوَصِيَّةُ بِقَدْرِ الثُّلُثِ.

(قَوْلُهُ وَقَدْ نَطَقَ بِهِ الْكِتَابُ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَقَدْ اسْتَدَلَّ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ عَلَى نَسْخِ قَوْله تَعَالَى {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَقَدْ ذَكَرَهُ

ص: 414

تَضَعُونَهَا حَيْثُ شِئْتُمْ» أَوْ قَالَ «حَيْثُ أَحْبَبْتُمْ» وَعَلَيْهِ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ. ثُمَّ تَصِحُّ لِلْأَجْنَبِيِّ فِي الثُّلُثِ مِنْ غَيْرِ إجَازَةِ الْوَرَثَةِ لِمَا رَوَيْنَا، وَسَنُبَيِّنُ مَا هُوَ الْأَفْضَلُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَالَ (وَلَا تَجُوزُ)(بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ) لِقَوْلِ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام فِي حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه «الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ» بَعْدَ مَا نَفَى وَصِيَّتَهُ

الْإِمَامُ الْمُحَقِّقُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ فِي أُصُولِهِ، وَقَدْ قَرَّرْنَاهُ فِي التَّقْرِيرِ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى رَتَّبَ الْمَوَارِيثَ عَلَى وَصِيَّةٍ نَكِرَةٍ، وَالْوَصِيَّةُ الْأُولَى كَانَتْ مَعْهُودَةً فَإِنَّهَا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ، فَلَوْ كَانَتْ تِلْكَ الْوَصِيَّةُ بَاقِيَةً مَعَ الْمِيرَاثِ لَرَتَّبَ هَذِهِ الْوَصِيَّةَ عَلَيْهَا وَبَيَّنَ بِأَنَّ هَذَا الْمِقْدَارَ بَعْدَ الْمِقْدَارِ الْمَفْرُوضِ، لِأَنَّ الْمَحِلَّ مَحِلُّ بَيَانِ مَا فُرِضَ لِلْوَالِدَيْنِ، وَحَيْثُ رَتَّبَهَا عَلَى وَصِيَّةٍ مُنَكَّرَةٍ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْوَصِيَّةَ الْمَفْرُوضَةَ لَمْ تَبْقَ لَازِمَةً بَلْ بَعْدَ أَيِّ وَصِيَّةٍ كَانَتْ نَصِيبُهُمَا ذَلِكَ الْمِقْدَارُ وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ انْتِفَاءَ وُجُوبِ الْوَصِيَّةِ الْمَفْرُوضَةِ، وَإِذَا اُنْتُسِخَ الْوُجُوبُ اُنْتُسِخَ الْجَوَازُ عِنْدَنَا انْتَهَى.

أَقُولُ: يُرَدُّ عَلَيْهِ أَنَّ هَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَصِيَّةَ الْأُولَى لَمْ تَبْقَ لَازِمَةً، فَإِنَّ الْمَوَارِيثَ وَإِنْ لَمْ تُرَتَّبْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْوَصِيَّةُ الْأُولَى الْمَعْهُودَةُ لَكِنَّهَا رُتِّبَتْ عَلَى وَصِيَّةٍ مُطْلَقَةٍ حَيْثُ قِيلَ {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا} فَدَخَلَتْ تِلْكَ الْوَصِيَّةُ الْأُولَى أَيْضًا تَحْتَ إطْلَاقِ هَذِهِ الْوَصِيَّةِ الْمُنَكَّرَةِ فَمِنْ أَيْنَ يَلْزَمُ انْتِفَاءُ وُجُوبِ الْوَصِيَّةِ الْأُولَى حَتَّى يَلْزَمَ انْتِسَاخُ الْآيَةِ الْأُولَى بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَفَائِدَةُ تَرْتِيبِ الْمَوَارِيثِ عَلَى الْوَصِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ دُونَ الْوَصِيَّةِ الْأُولَى الْمَعْهُودَةِ فَقَطْ إفَادَةُ تَأَخُّرِ الْمَوَارِيثِ عَنْ الْوَصِيَّةِ الشَّرْعِيَّةِ أَيْضًا كَمَا هُوَ الْمَذْهَبُ فِي مِقْدَارِ الثُّلُثِ، وَعَنْ هَذَا أَوْرَدَ الْقَاضِي الْبَيْضَاوِيُّ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الْأُولَى عَلَى مَنْ قَالَ كَانَ هَذَا الْحُكْمُ فِي بَدْءِ الْإِسْلَامِ فَنُسِخَ بِآيَةِ الْمَوَارِيثِ بِأَنْ قَالَ: فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ آيَةَ الْمَوَارِيثِ لَا تُعَارِضُهُ بَلْ تُؤَكِّدُهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا تَدُلُّ عَلَى تَقْدِيمِ الْوَصِيَّةِ مُطْلَقًا انْتَهَى.

ثُمَّ إنْ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ رَدَّ قَوْلَ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ " لَرَتَّبَ هَذِهِ الْوَصِيَّةَ عَلَيْهَا " فِي قَوْلِهِ فَلَوْ كَانَتْ تِلْكَ الْوَصِيَّةُ بَاقِيَةً مَعَ الْمِيرَاثِ لَرَتَّبَ هَذِهِ الْوَصِيَّةَ عَلَيْهَا حَيْثُ قَالَ: وَلَعَلَّ هُنَا سَهْوًا، وَالْعِبَارَةُ الصَّحِيحَةُ لِرُتْبَةٍ عَلَيْهَا انْتَهَى. أَقُولُ: إنَّمَا السَّاهِي نَفْسُهُ، لِأَنَّ مُرَادَ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ بِهَذِهِ الْوَصِيَّةِ فِي قَوْلِهِ لَرَتَّبَ هَذِهِ الْوَصِيَّةَ هُوَ الْمِيرَاثُ، وَمُرَادُهُ بِالْوَصِيَّةِ هُنَا وَصِيَّةُ اللَّهِ تَعَالَى لَا وَصِيَّةُ الْعِبَادِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تِلْكَ الْوَصِيَّةُ وَإِنَّمَا عَبَّرَ عَنْ الْمِيرَاثِ بِالْوَصِيَّةِ تَأَسِّيًا بِكَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي أَوَّلِ آيَةِ الْمَوَارِيثِ {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ: أَيْ يَأْمُرُكُمْ وَيَعْهَدُ إلَيْكُمْ فِي شَأْنِ مِيرَاثِهِمْ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى فِي آخِرِ تِلْكَ الْآيَةِ {وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ} فَلَمْ يَكُنْ فِي الْعِبَارَةِ الْمَذْكُورَةِ سَهْوٌ بَلْ كَانَ فِيهَا لَطَافَةٌ وَحُسْنٌ.

(قَوْلُهُ وَلَا تَجُوزُ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام فِي حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه «الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ» بَعْدَمَا نَفَى وَصِيَّتَهُ بِالْكُلِّ وَالنِّصْفِ) قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: يَعْنِي أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ دَلَّ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ الْوَصِيَّةِ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ صَرَاحَةً، وَقَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَصَدَّقَ عَلَيْكُمْ بِثُلُثِ أَمْوَالِكُمْ» إلَخْ وَإِنْ دَلَّ عَلَيْهِ أَيْضًا لِأَنَّهُ دَلَّ عَلَى جَوَازِ الْوَصِيَّةِ بِالثُّلُثِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فَبَقِيَ مَا فَوْقَهُ

ص: 415

بِالْكُلِّ وَالنِّصْفِ، وَلِأَنَّهُ حَقُّ الْوَرَثَةِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ انْعَقَدَ سَبَبُ الزَّوَالِ إلَيْهِمْ وَهُوَ اسْتِغْنَاؤُهُ عَنْ الْمَالِ فَأَوْجَبَ تَعَلُّقَ حَقِّهِمْ بِهِ، إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يُظْهِرْهُ فِي حَقِّ الْأَجَانِبِ بِقَدْرِ الثُّلُثِ لِيَتَدَارَكَ مَصِيرَهُ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ، وَأَظْهَرَهُ فِي حَقِّ الْوَرَثَةِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَا يُتَصَدَّقُ بِهِ عَلَيْهِمْ تَحَرُّزًا عَمَّا يَتَّفِقُ مِنْ الْإِيثَارِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ

عَلَى الْأَصْلِ لَكِنْ لَا بِطَرِيقِ الصَّرَاحَةِ وَلِهَذَا اُسْتُدِلَّ عَلَيْهِ بِهَذَا دُونَ ذَاكَ انْتَهَى. أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا بِسَدِيدٍ، إذْ لَا يَخْفَى عَلَيْك أَنَّ قَوْلَهُ عليه الصلاة والسلام «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَصَدَّقَ عَلَيْكُمْ بِثُلُثِ أَمْوَالِكُمْ» إلَخْ لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ الْوَصِيَّةِ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ لَا صَرَاحَةً وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَلَا دَلَالَةً لِأَنَّ مَفْهُومَ الْمُخَالَفَةِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ عِنْدَنَا كَمَا عُرِفَ، وَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْوَصِيَّةِ بِالثُّلُثِ. فَجَوَازُ الْوَصِيَّةِ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ وَعَدَمُ جَوَازِهَا مَسْكُوتٌ عَنْهُمَا بِالنَّظَرِ إلَى ذَلِكَ الْحَدِيثِ فَلَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ وَقَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «إنَّ اللَّهَ تَصَدَّقَ عَلَيْكُمْ بِثُلُثِ أَمْوَالِكُمْ» إلَخْ وَإِنَّ دَلَّ عَلَيْهِ أَيْضًا، وَلَا وَجْهَ لِتَعْلِيلِ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ لِأَنَّهُ دَلَّ عَلَى جَوَازِ الْوَصِيَّةِ بِالثُّلُثِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فَبَقِيَ مَا فَوْقَهُ عَلَى الْأَصْلِ، فَإِنَّ بَقَاءَ مَا فَوْقَهُ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ لَيْسَ بِمَدْلُولِ ذَلِكَ الْحَدِيثِ أَصْلًا، وَإِنَّمَا هُوَ مُقْتَضَى الْقِيَاسِ فَلَا مَجَالَ لِلِاسْتِدْلَالِ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ الْوَصِيَّةِ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ بِذَلِكَ الْحَدِيثِ.

وَقَالَ ذَلِكَ الْبَعْضُ: إلَّا أَنَّ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: نَفْيُ جَوَازِ الْوَصِيَّةِ بِالْكُلِّ وَالنِّصْفِ وَإِثْبَاتُ جَوَازِهَا بِالثُّلُثِ لَا يَدُلُّ صَرَاحَةً عَلَى نَفْيِ جَوَازِهَا بِمَا بَيْنَ النِّصْفِ وَالثُّلُثِ، فَالرُّجُوعُ إلَى الْأَصْلِ فِي هَذَا الْمِقْدَارِ ضَرُورِيٌّ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِحَدِيثِ سَعْدٍ أَيْضًا انْتَهَى.

أَقُولُ: هَذَا أَيْضًا لَيْسَ بِتَامٍّ، لِأَنَّ نَفْيَ جَوَازِ الْوَصِيَّةِ بِالْكُلِّ وَالنِّصْفِ وَإِثْبَاتَ جَوَازِهَا بِالثُّلُثِ وَإِنْ لَمْ يَدُلَّ عَلَى نَفْيِ جَوَازِهَا بِمَا بَيْنَ النِّصْفِ وَالثُّلُثِ إلَّا أَنَّ قَوْلَهُ عليه الصلاة والسلام «الثُّلُثُ كَثِيرٌ»: بَعْدَ إثْبَاتِ جَوَازِهَا بِالثُّلُثِ بِقَوْلِهِ الثُّلُثَ بِالنَّصْبِ عَلَى تَقْدِيرِ أَعْطِ الثُّلُثَ أَوْ أَوْصِ الثُّلُثَ، أَوْ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ مَحْذُوفُ الْخَبَرِ: أَيْ الثُّلُثُ كَافٍ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ فَاعِلٌ مَحْذُوفُ الْفِعْلِ: أَيْ يَكْفِيك الثُّلُثُ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الزِّيَادَةِ عَلَى الثُّلُثِ، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَنَّ الثُّلُثَ كَثِيرٌ لَا يَجُوزُ التَّجَاوُزُ عَنْهُ، إذْ لَا فَائِدَةَ فِي ذِكْرِ قَوْلِهِ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ بَعْدَ قَوْلِهِ الثُّلُثُ سِوَى نَفْيِ جَوَازِ التَّجَاوُزِ عَنْ الثُّلُثِ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ لَا مَحَالَةَ، وَقَدْ أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ فِي تَقْرِيرِهِ حَيْثُ قَالَ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام فِي حَدِيثِ سَعْدٍ رضي الله عنه «الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ» بَعْدَ نَفْيِ وَصِيَّتِهِ بِالْكُلِّ وَالنِّصْفِ، وَلَمْ يَقُلْ لِحَدِيثِ سَعْدٍ، فَقَوْلُ ذَلِكَ الْقَائِلِ فَالرُّجُوعُ إلَى الْأَصْلِ فِي هَذَا الْمِقْدَارِ ضَرُورِيٌّ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِحَدِيثِ سَعْدٍ أَيْضًا مَمْنُوعٌ.

(قَوْلُهُ وَلِأَنَّهُ حَقُّ الْوَرَثَةِ وَهَذَا لِأَنَّهُ انْعَقَدَ سَبَبُ الزَّوَالِ إلَيْهِمْ وَهُوَ اسْتِغْنَاؤُهُ عَنْ الْمَالِ فَأَوْجَبَ تَعَلُّقَ حَقِّهِمْ بِهِ) وَأَوْضَحَهُ صَاحِبُ الْكَافِي بِأَنْ قَالَ: وَلِأَنَّهُ انْعَقَدَ سَبَبُ زَوَالِ أَمْلَاكِهِ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ لِأَنَّ الْمَرَضَ سَبَبُ الْمَوْتِ وَبِالْمَوْتِ يَزُولُ مِلْكُهُ لِاسْتِغْنَائِهِ عَنْهُ، وَلَوْ تَحَقَّقَ السَّبَبُ لَزَالَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَإِذَا انْعَقَدَتْ ثَبَتَ ضَرْبُ حَقِّ انْتَهَى. أَقُولُ: فِي هَذَا التَّعْلِيلِ قُصُورٌ، لِأَنَّهُ إنَّمَا يَتَمَشَّى فِيمَا إذَا وَقَعَتْ وَصِيَّتُهُ حَالَ مَرَضِهِ لَا فِيمَا إذَا وَقَعَتْ حَالَ صِحَّتِهِ، إذْ لَا يَنْعَقِدُ سَبَبُ الزَّوَالِ إلَيْهِمْ فِي حَالِ الصِّحَّةِ لِعَدَمِ اسْتِغْنَائِهِ عَنْ مَالِهِ فِي حَالِ صِحَّتِهِ، فَلَا تُوجِبُ وَصِيَّتُهُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ تَعَلُّقَ حَقِّهِمْ بِهِ، فَالْأَوْلَى فِي تَعْلِيلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْبَدَائِعِ حَيْثُ قَالَ: وَلِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْمَالِ إيجَابُ

ص: 416

«الْحَيْفُ فِي الْوَصِيَّةِ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ» وَفَسَّرُوهُ بِالزِّيَادَةِ عَلَى الثُّلُثِ وَبِالْوَصِيَّةِ لِلْوَارِثِ.

قَالَ (إلَّا أَنَّ يُجِيزَهُ الْوَرَثَةُ بَعْدَ مَوْتِهِ وَهُمْ كِبَارٌ) لِأَنَّ الِامْتِنَاعَ لِحَقِّهِمْ وَهُمْ أَسْقَطُوهُ (وَلَا مُعْتَبَرَ بِإِجَازَتِهِمْ فِي حَالِ حَيَاتِهِ) لِأَنَّهَا قَبْلَ ثُبُوتِ الْحَقِّ إذْ الْحَقُّ يَثْبُتُ عِنْدَ الْمَوْتِ فَكَانَ لَهُمْ أَنْ يَرُدُّوهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ، بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الْمَوْتِ لِأَنَّهُ بَعْدَ ثُبُوتِ الْحَقِّ فَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا عَنْهُ، لِأَنَّ السَّاقِطَ مُتَلَاشٍ.

الْمِلْكِ عِنْدَ الْمَوْتِ، وَعِنْدَ الْمَوْتِ حَقُّ الْوَرَثَةِ مُتَعَلِّقٌ بِمَالِهِ إلَّا فِي قَدْرِ الثُّلُثِ، فَالْوَصِيَّةُ بِالزِّيَادَةِ عَلَى الثُّلُثِ تَتَضَمَّنُ إبْطَالَ حَقِّهِمْ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ مِنْ غَيْرِ إجَازَتِهِمْ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ وَصِيَّتُهُ فِي الْمَرَضِ أَوْ فِي الصِّحَّةِ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ إيجَابٌ مُضَافٌ إلَى زَمَانِ الْمَوْتِ فَيُعْتَبَرُ وَقْتُ الْمَوْتِ لَا وَقْتُ وُجُودِ الْكَلَامِ، إلَى هُنَا لَفْظُهُ تَدَبَّرْ.

(قَوْلُهُ إلَّا أَنْ يُجِيزَهُ الْوَرَثَةُ بَعْدَ مَوْتِهِ وَهُمْ كِبَارٌ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ وَلَا يَجُوزُ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ. قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي شَرْحِ قَوْلِهِ وَلَا يَجُوزُ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ: أَرَادَ لَا تَجُوزُ فِي حَقِّ الْفَضْلِ عَلَى الثُّلُثِ بَلْ فِي حَقِّ الثُّلُثِ فَقَطْ، لَا أَنَّهُ لَا تَجُوزُ هَذِهِ الْوَصِيَّةُ أَصْلًا. وَقَالَ هُنَا: فَإِنْ قُلْت: كَيْفَ يَجُوزُ إعْمَالُ اللَّفْظِ الْوَاحِدِ فِي بَعْضِ مَدْلُولِهِ دُونَ بَعْضٍ، وَبِأَيِّ تَوْجِيهٍ أَمْكَنَ ذَلِكَ حَتَّى جَازَتْ فِي الثُّلُثِ وَبَطَلَتْ فِي الْفَضْلِ إنْ رَدُّوا؟ قُلْت: يَجْعَلُهُ فِي حُكْمِ وَصَايَا مُتَعَدِّدَةٍ بِأَنْ يُجْعَلَ مَثَلًا قَوْلُهُ أَوْصَيْت لِفُلَانٍ بِثُلُثَيْ مَالِي فِي قُوَّةٍ أَوْصَيْت لَهُ بِثُلُثِهِ وَثُلُثُهُ الْآخَرُ، وَيُجْعَلَ قَوْلُهُ أَوْصَيْت لَهُ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ وَقَدْ كَانَ ثُلُثُ مَالِهِ ثَمَانِيَةَ آلَافٍ بِمَنْزِلَةِ أَنْ يُقَالَ أَوْصَيْت لَهُ بِثَمَانِيَةِ آلَافٍ وَبِأَلْفَيْنِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ صِيَانَةً لِكَلَامِ الْعَاقِلِ عَنْ إلْغَائِهِ مَا أَمْكَنَ، وَحَذَرًا عَنْ إبْطَالِ حَقٍّ يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ بِعَقْدٍ صَدَرَ عَنْ عَاقِلٍ بِلَفْظٍ يَجُوزُ تَصْحِيحُهُ بِضَرْبٍ مِنْ التَّأْوِيلِ فَتَدَبَّرْ، فَإِنَّ هَذَا مِمَّا يُهِمُّ فَهْمُهُ انْتَهَى.

أَقُولُ: حَسِبَ أَنَّهُ أَتَى بِأَمْرٍ مُهِمٍّ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ صِحَّةُ مَعْنَى الْمَقَامِ، وَلَمْ يَدْرِ أَنَّهُ إنَّمَا ارْتَكَبَ شَطَطًا، فَإِنَّ صِحَّةَ بَعْضِ أَجْزَاءِ شَيْءٍ وَاحِدٍ وَفَسَادَ بَعْضٍ آخَرَ مِنْهُ لَيْسَ بِمُسْتَبْعَدٍ لَا بِحَسَبِ الْعَقْلِ وَلَا بِحَسَبِ الْفِقْهِ؛ أَلَا يُرَى أَنَّهُمْ صَرَّحُوا بِأَنَّهُ إذَا جُمِعَ بَيْنَ عَبْدٍ وَمُدَبَّرٍ فِي بَيْعٍ بِصَفْقَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ جُمِعَ بَيْنَ عَبْدٍ وَمُكَاتَبٍ أَوْ أُمِّ وَلَدٍ فِيهِ صَحَّ الْبَيْعُ فِي الْعَبْدِ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ وَفَسَدَ فِيمَا ضُمَّ إلَيْهِ مِنْ الْمُدَبَّرِ أَوْ الْمُكَاتَبِ أَوْ أُمِّ الْوَلَدِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْفَسَادَ بِقَدْرِ الْمُفْسِدِ فَلَا يَتَعَدَّى إلَى الْآخَرِ، وَكَذَا الْحَالُ فِيمَا إذَا جُمِعَ بَيْنَ الْأَجْنَبِيَّةِ وَأُخْتِهَا فِي النِّكَاحِ، وَالْمَحْذُورُ بِحَسَبِ الْعَقْلِ إنَّمَا يَلْزَمُ أَنْ لَوْ كَانَ مَحِلُّ الصِّحَّةِ وَالْفَسَادِ وَاحِدًا، وَأَمَّا إذَا كَانَ مُتَعَدِّدًا بِأَنْ كَانَ مَحِلُّ الصِّحَّةِ بَعْضًا مِنْ شَيْءٍ ذِي أَجْزَاءٍ وَمَحِلُّ الْفَسَادِ بَعْضًا آخَرَ مِنْهُ كَمَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ فَلَا مَحْذُورَ فِيهِ عَقْلًا أَصْلًا، فَلَا وَلِجَعْلِ وَصِيَّةٍ وَاحِدَةٍ فِي حُكْمِ وَصَايَا مُتَعَدِّدَةٍ بِلَا أَمْرٍ دَاعٍ إلَيْهِ، وَصِيَانَةُ كَلَامِ الْعَاقِلِ عَنْ الْإِلْغَاءِ مَهْمَا أَمْكَنَ، وَالْحَذَرُ عَنْ إبْطَالِ حَقٍّ يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ بِعَقْدٍ صَدَرَ عَنْ عَاقِلٍ مِمَّا لَا يَدْعُو إلَيْهِ أَصْلًا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ لِأَنَّ إلْغَاءَ الْوَصِيَّةِ فِيمَا فَضَلَ عَنْ الثُّلُثِ إذَا رَدَّهُ الْوَرَثَةُ، وَإِثْبَاتُهَا فِي مِقْدَارِ الثُّلُثِ ضَرُورِيٌّ عَلَى مُقْتَضَى الشَّرَهِ سَوَاءٌ جُعِلَتْ وَصِيَّةً بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ بِكَلَامٍ وَاحِدٍ فِي حُكْمِ وَصَايَا مُتَعَدِّدَةٍ أَوْ أُبْقِيَتْ عَلَى حَالِهَا الظَّاهِرَةِ مِنْ كَلَامِهِ، وَبِالْجُمْلَةِ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ ذَلِكَ الْبَعْضُ هُنَا أَمْرٌ وَهْمِيٌّ لَا أَصْلَ لَهُ كَمَا تَرَى.

(قَوْلُهُ لِأَنَّ السَّاقِطَ مُتَلَاشٍ) قَالَ الشُّرَّاحُ قَاطِبَةً: قَوْلُ الْمُصَنِّفِ هَذَا تَعْلِيلٌ لِقَوْلِهِ فَكَانَ لَهُمْ أَنْ يَرُدُّوهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ، وَتَقْرِيرُهُ لِأَنَّ إجَازَتَهُمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَانَتْ سَاقِطَةً لِعَدَمِ مُصَادَفَتِهَا مَحِلَّهَا وَالسَّاقِطُ مُتَلَاشٍ فَإِجَازَتُهُمْ مُتَلَاشِيَةٌ فَكَانَ لَهُمْ أَنْ يَرُدُّوا بَعْدَ الْمَوْتِ مَا أَجَازُوهُ فِي حَالِ حَيَاةِ الْمُوَرِّثِ انْتَهَى. أَقُولُ: فِيهِ إشْكَالٌ.

أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُ لَا وَجْهَ لَأَنْ يُقَالَ: إنَّ إجَازَتَهُمْ فِي حَالِ حَيَاةِ الْمُوَرِّثِ سَاقِطَةٌ، لِأَنَّ إجَازَتَهُمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ أَصْلًا كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِيمَا قَبْلُ وَبَيَّنَهُ، وَالسُّقُوطُ إنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِيمَا لَهُ ثُبُوتٌ وَاعْتِبَارٌ فِي الْأَصْلِ لَكِنْ زَالَ ذَلِكَ لِدَاعٍ؛ أَلَّا يُرَى أَنَّهُ لَا يُقَالُ سَقَطَ حَقُّ غَيْرِ الْوَارِثِ عَنْ مَالِ الْمُورِثِ بَلْ يُقَالُ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقُّهُ أَصْلًا. وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّهُ يَلْزَمُ الْفَصْلُ بَيْنَ الْمُدَّعِي وَدَلِيلِهِ عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِ قَوْلِهِ الْمَذْكُورِ تَعْلِيلًا لِمَا ذَكَرُوهُ بِمَسْأَلَةٍ أُخْرَى مَعَ دَلِيلِهَا وَهِيَ قَوْلُهُ بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الْمَوْتِ لِأَنَّهُ بَعْدَ ثُبُوتِ الْحَقِّ فَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا عَنْهُ، وَلَا يَخْفَى عَنْهُ رَكَاكَتُهُ وَبُعْدُهُ عَنْ شَأْنِ الْمُصَنِّفِ، وَالْحَقُّ عِنْدِي

ص: 417

غَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّهُ يُسْتَنَد عِنْدَ الْإِجَازَةِ، لَكِنَّ الِاسْتِنَادَ يَظْهَرُ فِي حَقِّ الْقَائِمِ وَهَذَا قَدْ مَضَى وَتَلَاشَى، وَلِأَنَّ الْحَقِيقَةَ تَثْبُتُ عِنْدَ الْمَوْتِ وَقَبْلَهُ يَثْبُتُ مُجَرَّدُ الْحَقِّ،

أَنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ هَذَا تَعْلِيلٌ لِقَوْلِهِ قُبَيْلَهُ لَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا عَنْهُ: يَعْنِي أَنَّ إجَازَتَهُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ إسْقَاطٌ لِحَقِّهِمْ بَعْدَ ثُبُوتِهِ وَالسَّاقِطُ مُتَلَاشٍ لَا يَعُودُ فَلَمْ يَتَيَسَّرْ لَهُمْ الرُّجُوعُ عَنْهُ فَحِينَئِذٍ يَنْتَظِمُ اللَّفْظُ وَالْمَعْنَى كَمَا لَا يَخْفَى.

(قَوْلُهُ غَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّهُ يَسْتَنِدُ عِنْدَ الْإِجَازَةِ) وَفِي بَعْضِ النَّسْخِ عِنْدَ الِاسْتِغْنَاءِ (لَكِنَّ الِاسْتِنَادَ يَظْهَرُ فِي حَقِّ الْقَائِمِ وَهَذَا قَدْ مَضَى وَتَلَاشَى) هَذَا جَوَابٌ عَنْ شُبْهَةٍ تَرِدُ عَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ، وَهِيَ أَنَّ حَقَّ الْوَرَثَةِ وَإِنْ ثَبَتَ عِنْدَ الْمَوْتِ إلَّا أَنَّهُ يَسْتَنِدُ إلَى أَوَّلِ الْمَرَضِ، فَبِالْمَوْتِ يَظْهَرُ أَنَّ حَقَّهُمْ كَانَ ثَابِتًا قَبْلَ الْمَوْتِ فَيَنْبَغِي أَنْ تَصِيرَ إجَازَتُهُمْ فِي حَالِ حَيَاةِ الْمُوَرِّثِ بِمَنْزِلَةِ إجَازَتِهِمْ بَعْدَ مَوْتِهِ بِسَبَبِ الِاسْتِنَادِ. فَأَجَابَ بِأَنَّ الِاسْتِنَادَ. إنَّمَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ الْقَائِمِ كَمَا فِي الْعُقُودِ الْمَوْقُوفَةِ إذَا لَحِقَتْهَا الْإِجَازَةُ فَإِنَّهَا تَصِحُّ إذَا كَانَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ قَائِمًا، وَكَثُبُوتِ الْمِلْكِ فِي الْمَغْصُوبِ عِنْدَ أَدَاءِ الضَّمَانِ، وَهَذَا أَيْ مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ الْإِجَازَةِ فِي حَالِ حَيَاةِ الْمُوَرِّثِ قَدْ مَضَى وَتَلَاشَى لِكَوْنِهِ لَغْوًا وَقْتَئِذٍ فَلَمْ يَكُنْ قَائِمًا فَلَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ الِاسْتِنَادِ. هَذَا خُلَاصَةُ مَا فِي عَامَّةِ الشُّرُوحِ، وَإِلَى هَذَا التَّقْرِيرِ أَشَارَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ فِي مَبْسُوطِهِ كَمَا فَصَّلَ فِي النِّهَايَةِ. وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي تَقْرِيرِ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ هُنَا: فَإِنْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ عَدَمَ مُصَادَفَةِ الْمَحِلِّ فَإِنَّ حَقَّ الْوَرَثَةِ ثَبَتَ فِي مَالِ الْمُوَرِّثِ مِنْ أَوَّلِ الْمَرَضِ حَتَّى مُنِعَ عَنْ التَّصَرُّفِ فِي الثُّلُثَيْنِ، فَلَمَّا مَاتَ ظَهَرَ أَنَّهَا صَادَفَتْ مَحِلَّهَا فَصَارَتْ كَإِجَازَتِهِمْ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوَرِّثِ بِسَبَبِ الِاسْتِنَادِ.

أَجَابَ بِقَوْلِهِ غَايَةُ الْأَمْرِ: يَعْنِي أَنَّ حَقَّهُمْ وَإِنْ اسْتَنَدَ إلَى أَوَّلِ الْمَرَضِ لَكِنَّ الِاسْتِنَادَ يَظْهَرُ فِي حَقِّ الْقَائِمِ يَعْنِي كَمَا فِي الْعُقُودِ الْمَوْقُوفَةِ إذَا لَحِقَتْهَا الْإِجَازَةُ، وَكَثُبُوتِ الْمِلْكِ فِي الْغَصْبِ عِنْدَ أَدَاءِ الضَّمَانِ، فَإِنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ فِيهِمَا مُسْتَنِدًا إلَى أَوَّلِ الْعَقْدِ وَالْغَصْبِ، وَهَذَا يَعْنِي مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ الْإِجَازَةِ قَدْ مَضَى وَتَلَاشَى حِينَ وَقَعَ إذْ لَمْ يُصَادِفْ مَحِلَّهُ فَلَا يَلْحَقُهَا الِاسْتِنَادُ انْتَهَى. أَقُولُ: فِيهِ خَلَلٌ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي أَوَّلِ تَقْرِيرِ السُّؤَالِ: لَا نُسَلِّمُ عَدَمَ مُصَادَفَةِ الْمَحِلِّ وَاسْتَنَدَ إلَى مَنْعِ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ فَإِنَّ حَقَّ الْوَرَثَةِ ثَبَتَ فِي مَالِ الْمُوَرِّثِ مِنْ أَوَّلِ الْمَرَضِ حَتَّى مُنِعَ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي الثُّلُثَيْنِ.

وَقَالَ فِي آخِرِ تَقْرِيرِ الْجَوَابِ تَعْلِيلًا لِقَوْلِ الْمُصَنِّفِ: وَهَذَا قَدْ مَضَى وَتَلَاشَى إذْ لَمْ يُصَادِفْ مَحِلَّهُ، وَعَدَمُ مُصَادِفَتِهِ الْمَحِلَّ هُوَ الَّذِي قَدْ كَانَ مُنِعَ فِي أَوَّلِ السُّؤَالِ فَخَتْمُ الْجَوَابِ بِهِ مُصَادَرَةٌ كَمَا لَا يَخْفَى.

(قَوْلُهُ وَلِأَنَّ الْحَقِيقَةَ تَثْبُتُ عِنْدَ الْمَوْتِ وَقَبْلَهُ يَثْبُتُ مُجَرَّدُ الْحَقِّ) قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: ظَاهِرُهُ مُخَالِفٌ لِمَا سَبَقَ آنِفًا مِنْ قَوْلِهِ إذْ الْحَقُّ يَثْبُتُ عِنْدَ الْمَوْتِ، إلَّا أَنَّ الْمُرَادَ هُنَا ثُبُوتُهُ بِطَرِيقِ الِاسْتِنَادِ بِخِلَافِ مَا سَبَقَ كَمَا لَا يَخْفَى انْتَهَى. أَقُولُ: مَنْشَأُ تَوَهُّمِ الْمُخَالَفَةِ الْغُفُولُ عَنْ قَيْدِ مُجَرَّدٍ فِي قَوْلِ الْمُصَنِّفِ وَقَبْلَهُ يَثْبُتُ مُجَرَّدُ الْحَقِّ، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْحَقُّ الَّذِي لَا يُجَامِعُ الْحَقِيقَةَ وَهُوَ الْحَقُّ الَّذِي يَمْنَعُ تَصَرُّفَ الْمُوَرِّثِ فِي الثُّلُثَيْنِ قَبْلَ مَوْتِهِ كَمَا تَقَرَّرَ مِنْ قَبْلُ فِي تَعْلِيلِ عَدَمِ جَوَازِ الْوَصِيَّةِ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ بِقَوْلِهِ وَلِأَنَّهُ حَقُّ الْوَرَثَةِ إلَى آخِرِهِ، وَالْمُرَادُ بِالْحَقِّ فِي قَوْلِهِ فِيمَا سَبَقَ آنِفًا، إذْ الْحَقُّ يَثْبُتُ عِنْدَ الْمَوْتِ هُوَ الْحَقُّ الْمَجَامِعُ لِلْحَقِيقَةِ فَلَا مُخَالَفَةَ أَصْلًا. وَأَمَّا الْحَقُّ الثَّابِتُ بِطَرِيقِ الِاسْتِنَادِ فَإِنَّمَا يُتَصَوَّرُ عِنْدَ الْمَوْتِ لِكَوْنِ الِاسْتِنَادِ فَرْعَ تَحَقُّقِ حَقِيقَةِ الْمِلْكِ الَّتِي تَثْبُتُ عِنْدَ الْمَوْتِ فَلَا حَاجَةَ إلَى أَنْ يُحْمَلَ عَلَى

ص: 418

فَلَوْ اسْتَنَدَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ يَنْقَلِبُ حَقِيقَةً قَبْلَهُ، وَالرِّضَا بِبُطْلَانِ الْحَقِّ لَا يَكُونُ رِضًا بِبُطْلَانِ الْحَقِيقَةِ، وَكَذَا إنْ كَانَتْ الْوَصِيَّةُ لِلْوَارِثِ وَأَجَازَهُ الْبَقِيَّةُ فَحُكْمُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ.

ذَلِكَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ وَقَبْلَهُ يَثْبُتُ مُجَرَّدُ الْحَقِّ، بَلْ لَا وَجْهَ لَهُ بِالنَّظَرِ إلَى رَبْطِ مَا بَعْدَهُ بِهِ كَمَا يَظْهَرُ بِالتَّأَمُّلِ الصَّادِقِ.

(قَوْلُهُ فَلَوْ اسْتَنَدَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لَانْقَلَبَ حَقِيقَةً قَبْلَهُ) يَعْنِي لَوْ اسْتَنَدَ مِلْكُ الْوَرَثَةِ إلَى أَوَّلِ الْمَرَضِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لَانْقَلَبَ الْحَقُّ حَقِيقَةً قَبْلَ الْمَوْتِ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ لِاسْتِلْزَامِهِ وُقُوعَ الْحُكْمِ قَبْلَ السَّبَبِ وَهُوَ مَرَضُ الْمَوْتِ. قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِقَوْلِهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ دَفْعًا لِوَهْمِ مَنْ يَقُولُ: حَقُّ الْوَرَثَةِ يَتَعَلَّقُ بِمَالِ الْمُوَرِّثِ مِنْ أَوَّلِ الْمَرَضِ حَتَّى مَنَعَ ذَلِكَ التَّعَلُّقُ تَصَرُّفَ الْمُوَرِّثِ فِي الثُّلُثَيْنِ فَيَجِبُ أَنْ يَظْهَرَ أَثَرُ ذَلِكَ التَّعَلُّقِ فِي حَقِّ إسْقَاطِهِمْ بِالْإِجَازَةِ أَيْضًا. وَجْهُ الدَّفْعِ أَنَّهُ لَوْ ظَهَرَ أَثَرُ ذَلِكَ التَّعَلُّقِ فِي ذَلِكَ أَيْضًا لَانْقَلَبَ الْحَقُّ حَقِيقَةً مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَهُوَ لَا يَجُوزُ لِمَا مَرَّ انْتَهَى.

أَقُولُ: لِمَانِعٍ أَنْ يَمْنَعَ اسْتِلْزَامَ أَنْ يُظْهِرَ أَثَرُ ذَلِكَ التَّعَلُّقِ فِي حَقِّ إسْقَاطِهِمْ بِالْإِجَازَةِ أَيْضًا انْقِلَابَ الْحَقِّ حَقِيقَةً أَصْلًا فَضْلًا عَنْ اسْتِلْزَامِهِ انْقِلَابَهُ إيَّاهَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لِجَوَازِ أَنْ يُظْهِرَ أَثَرُ ذَلِكَ التَّعَلُّقِ مُجَرَّدَ تَعَلُّقِ حَقِّهِمْ بِمَالِ الْمُوَرِّثِ مِنْ أَوَّلِ الْمَرَضِ فِي كِلَا الْأَمْرَيْنِ مَعًا بِدُونِ أَنْ يَنْقَلِبَ الْحَقُّ حَقِيقَةً أَصْلًا، إذْ لَا رَيْبَ أَنَّ لُزُومَ ذَلِكَ الِانْقِلَابِ لَيْسَ بِبَدِيهِيٍّ وَلَمْ يَقُمْ عَلَيْهِ بُرْهَانٌ، وَلِهَذَا وَقَعَ عَلَى اعْتِبَارِ إجَازَتِهِمْ قَبْلَ الْمَوْتِ أَيْضًا اجْتِهَادُ مَالِكٍ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَالزُّهْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَعَطَاءٍ وَغَيْرِهِمْ كَمَا ذَكَرُوا.

ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: فَإِنْ قِيلَ: الْوَارِثُ إذَا عَفَا عَنْ جَارِحِ أَبِيهِ قَبْلَ مَوْتِ أَبِيهِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَحَدُ أَمْرَيْنِ: إمَّا أَنْ لَا يَلْزَمَ مِنْ الِاسْتِنَادِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ قَلْبُ الْحَقِّ حَقِيقَةً، وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ هَذَا الْقَلْبُ مَانِعًا. أُجِيبَ بِأَنَّ هَذَا الْقَلْبَ مَانِعٌ إذَا لَمْ يَتَحَقَّقْ السَّبَبُ وَالْجُرْحُ سَبَبُ الْمَوْتِ وَقَدْ تَحَقَّقَ بِخِلَافِ الْإِجَازَةِ، فَإِنَّ السَّبَبَ لَمْ يَتَحَقَّقْ ثَمَّةَ لِأَنَّ السَّبَبَ هُوَ مَرَضُ الْمَوْتِ

ص: 419

وَكُلُّ مَا جَازَ بِإِجَازَةِ الْوَارِثِ يَتَمَلَّكُهُ الْمُجَازُ لَهُ مِنْ قِبَلِ الْمُوصِي) عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ مِنْ قِبَلِ الْوَارِثِ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا لِأَنَّ السَّبَبَ صَدَرَ مِنْ الْمُوصِي، وَالْإِجَازَةُ رَفْعُ الْمَانِعِ وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ الْقَبْضُ فَصَارَ كَالْمُرْتَهَنِ إذَا أَجَازَ بَيْعَ الرَّاهِنِ.

وَمَرَضُ الْمَوْتِ هُوَ الْمُتَّصِلُ بِالْمَوْتِ، فَقَبْلَ الِاتِّصَالِ لَوْ انْقَلَبَ الْحَقُّ حَقِيقَةً وَقَعَ الْحُكْمُ قَبْلَ السَّبَبِ وَهُوَ بَاطِلٌ فَنَحْنُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ: إمَّا أَنْ نُبْطِلَ الْعَفْوَ عَنْ الْجَارِحِ نَظَرًا إلَى عَدَمِ الْحَقِيقَةِ، وَإِمَّا أَنْ نُجِيزَ الْإِجَازَةَ نَظَرًا إلَى وُجُودِ الْحَقِّ، وَفِي ذَلِكَ إبْطَالٌ لِأَحَدِهِمَا، فَقُلْنَا: لَا تَجُوزُ الْإِجَازَةُ نَظَرًا إلَى انْتِفَاءِ الْحَقِيقَةِ وَجَازَ الْعَفْوُ نَظَرًا إلَى وُجُودِ الْحَقِّ، وَلَمْ يُعْكَسْ لِكَوْنِ الْعَفْوِ مَطْلُوبَ الْحُصُولِ اهـ.

أَقُولُ: فِيهِ خَلَلٌ، لِأَنَّ قَوْلَهُ فَنَحْنُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إلَخْ مُفَرَّعًا عَلَى مَا قَبْلَهُ لَيْسَ بِسَدِيدٍ. أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ قَوْلَهُ وَإِمَّا أَنْ نُجِيزَ الْإِجَازَةَ نَظَرًا إلَى وُجُودِ الْحَقِّ مِمَّا لَا مَجَالَ لَهُ بَعْدَ أَنْ قَرَّرَ فِيمَا قَبْلُ أَنَّ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ انْقِلَابَ الْحَقِّ حَقِيقَةً، وَأَنَّ انْقِلَابَ الْحَقِّ حَقِيقَةً مَانِعٌ إذَا لَمْ يَتَحَقَّقْ السَّبَبُ لِاسْتِلْزَامِهِ وُقُوعَ الْحُكْمِ قَبْلَ السَّبَبِ، وَإِنَّ السَّبَبَ لَمْ يَتَحَقَّقْ فِي صُورَةِ الْإِجَازَةِ قَبْلَ الْمَوْتِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ السَّبَبَ هُوَ مَرَضُ الْمَوْتِ وَمَرَضُ الْمَوْتِ هُوَ الْمُتَّصِلُ بِالْمَوْتِ.

وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ قَوْلَهُ وَلَمْ يُعْكَسْ لِكَوْنِ الْعَفْوِ مَطْلُوبَ الْحُصُولِ غَيْرَ تَامٍّ لِاقْتِضَائِهِ جَوَازَ الْعَكْسِ لَوْلَا كَوْنُ الْعَفْوِ مَطْلُوبَ الْحُصُولِ، مَعَ أَنَّ مَا قَرَّرَهُ فِيمَا قَبْلُ وَمَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ يَمْنَعَانِ جَوَازَ ذَلِكَ أَصْلًا. وَبِالْجُمْلَةِ لَا مَجَالَ لِرَبْطِ قَوْلِهِ فَنَحْنُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إلَخْ بِمَا ذَكَرَهُ نَفْسُهُ فِيمَا قَبْلَهُ بَلْ بِمَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ أَيْضًا، فَالْوَجْهُ تَرْكُ ذَلِكَ وَالِاكْتِفَاءُ فِي الْجَوَابِ عَنْ النَّقْضِ بِصِحَّةِ عَفْوِ الْوَارِثِ عَنْ جَارِحِ أَبِيهِ قَبْلَ مَوْتِ أَبِيهِ بِمَا ذَكَرَهُ قَبْلَهُ كَمَا فَعَلَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ. ثُمَّ إنَّ بَعْضَ الْفُضَلَاءِ أَوْرَدَ عَلَى قَوْلِهِ لِأَنَّ السَّبَبَ هُوَ مَرَضُ الْمَوْتِ وَمَرَضُ الْمَوْتِ هُوَ الْمُتَّصِلُ بِالْمَوْتِ بِأَنْ قَالَ: وَكَذَا السَّبَبُ الْجُرْحُ الْمُتَّصِلُ بِالْمَوْتِ فَلَا فَرْقَ. وَقَالَ: وَلِذَلِكَ قَالَ فَنَحْنُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إلَخْ انْتَهَى.

أَقُولُ: لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ كَلَامَيْهِ بِمُسْتَقِيمٍ. أَمَّا نَقْضُهُ بِالْجُرْحِ فَلِأَنَّ الْجُرْحَ فِعْلٌ وَاحِدٌ صَادِرٌ عَنْ الْجَارِحِ لَا تَكَرُّرَ فِيهِ إلَى أَنْ يَمُوتَ الْمَجْرُوحُ حَتَّى يُقَالَ: إنَّ السَّبَبَ هُوَ الْجُرْحُ الْمُتَّصِلُ بِالْمَوْتِ، بَلْ إنَّمَا السَّبَبُ هُوَ الْجُرْحُ الْوَاحِدُ الصَّادِرُ عَنْ الْجَارِحِ، إلَّا أَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَاتِلًا وَغَيْرَ قَاتِلٍ، وَبِالْمَوْتِ يَظْهَرُ أَنَّهُ قَاتِلٌ، بِخِلَافِ الْمَرَضِ فَإِنَّهُ حَالَةٌ انْفِعَالِيَّةٌ تَتَكَرَّرُ وَتَتَجَدَّدُ إلَى الْمَوْتِ، فَالْقَاتِلُ مِنْهَا هِيَ الَّتِي تَتَّصِلُ بِالْمَوْتِ فَهِيَ السَّبَبُ لِلْمَوْتِ فَافْتَرَقَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ وَلِذَلِكَ قَالَ فَنَحْنُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إلَخْ فَلِأَنَّ فَاءَ التَّفْرِيعِ تُنَافِي ذَلِكَ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ لَهُ دِرَايَةٌ بِأَسَالِيبِ الْكَلَامِ.

(قَوْلُهُ وَكُلُّ مَا جَازَ بِإِجَازَةِ الْوَارِثِ يَتَمَلَّكُهُ الْمُجَازُ لَهُ مِنْ قِبَلِ الْمُوصِي عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ مِنْ قِبَلِ الْوَارِثِ)

ص: 420

قَالَ (وَلَا يَجُوزُ لِلْقَاتِلِ عَامِدًا كَانَ أَوْ خَاطِئًا بَعْدَ أَنْ كَانَ مُبَاشِرًا) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَا وَصِيَّةَ لِلْقَاتِلِ» وَلِأَنَّهُ اسْتَعْجَلَ مَا أَخَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَيَحْرُمُ الْوَصِيَّةُ كَمَا يَحْرُمُ الْمِيرَاثُ.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ:

قَالَ صَاحِبَا النِّهَايَةِ وَالْعِنَايَةِ: وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ إنَّ بِنَفْسِ الْمَوْتِ صَارَ قَدْرُ الثُّلُثَيْنِ مِنْ الْمَالِ مَمْلُوكًا لِلْوَارِثِ لِأَنَّ الْمِيرَاثَ يَثْبُتُ لِلْوَارِثِ مِنْ غَيْرِ قَبُولِهِ وَلَا يَرْتَدُّ بِرَدِّهِ، فَإِجَازَتُهُ تَكُونُ إخْرَاجًا عَنْ مِلْكِهِ بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَذَلِكَ هِبَةٌ لَا تَتِمُّ بِالْقَبْضِ انْتَهَى. وَهَكَذَا ذَكَرَ فِي الْكَافِي أَيْضًا. أَقُولُ: قَدْ قَصَّرُوا فِي تَقْرِيرِ وَجْهِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ حَيْثُ قَيَّدُوا الْمَالَ الَّذِي صَارَ مَمْلُوكًا لِلْوَارِثِ بِنَفْسِ الْمَوْتِ بِقَدْرِ الثُّلُثَيْنِ فَلَزِمَ أَنْ لَا يَتَمَشَّى فِيمَا إذَا كَانَ مَا أَجَازَهُ الْوَارِثُ أَقَلَّ مِنْ قَدْرِ الثُّلُثِ أَوْ كَانَ قَدْرَ الثُّلُثِ كَمَا فِي صُورَةِ إجَازَتِهِ الْوَصِيَّةَ لِوَارِثٍ أَوْ قَاتِلٍ بِأَقَلَّ مِنْ الثُّلُثِ أَوْ بِالثُّلُثِ، فَإِنَّ الْحُكْمَ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ أَيْضًا دَاخِلٌ فِي كُلِّيَّةِ مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ مَعَ عَدَمِ جَرَيَانِ مَا ذَكَرُوا مِنْ الدَّلِيلِ لِلشَّافِعِيِّ فِيهَا كَمَا تَرَى. فَالْأَوْلَى فِي بَيَانِ وَجْهِ الشَّافِعِيِّ هُنَا مَا ذَكَرَ فِي مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ مِنْ أَنَّ الشَّارِعَ أَبْطَلَ الْوَصِيَّةَ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ وَلِلْوَارِثِ وَلِلْقَاتِلِ وَالْإِجَازَةُ لَا تَعْمَلُ فِي الْبَاطِلِ فَتَكُونُ هِبَةً مُبْتَدَأَةً لِأَنَّهَا تَمْلِيكٌ بِلَا عِوَضٍ اهـ فَإِنَّهُ يَعُمُّ الْكُلَّ ثُمَّ إنَّ الصَّحِيحَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلُنَا لِمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ.

(قَوْلُهُ وَلَا تَجُوزُ لِلْقَاتِلِ عَامِدًا كَانَ أَوْ خَاطِئًا بَعْدَ أَنْ كَانَ مُبَاشِرًا لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَا وَصِيَّةَ لِلْقَاتِلِ») أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مِمَّا يُعَارِضُهُ إطْلَاقُ قَوْله تَعَالَى {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} وَعُمُومُ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَصَدَّقَ عَلَيْكُمْ بِثُلُثِ أَمْوَالِكُمْ فِي آخِرِ أَعْمَارِكُمْ زِيَادَةً لَكُمْ فِي أَعْمَالِكُمْ تَضَعُونَهَا حَيْثُ شِئْتُمْ» أَوْ قَالَ «حَيْثُ أَحْبَبْتُمْ» كَمَا مَرَّ. ثُمَّ إنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ قَبِيلِ أَخْبَارِ الْآحَادِ فَلَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُقَيِّدًا لِإِطْلَاقِ الْكِتَابِ قَطُّ عَلَى مَا عُرِفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَإِنْ صَلَحَ أَنْ يَكُونَ مُخَصِّصًا لِعُمُومِ ذَلِكَ الْحَدِيثِ الْآخَرِ فَإِنَّمَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ عِنْدَ ثُبُوتِ تَأَخُّرِ وُرُودِ هَذَا الْحَدِيثِ عَنْ وُرُودِ ذَلِكَ الْحَدِيثِ وَهُوَ لَيْسَ بِثَابِتٍ قَطُّ، فَإِذَا لَمْ يُعْلَمْ التَّارِيخُ يُحْمَلُ عَلَى الْمُقَارَنَةِ فَيَلْزَمُ أَنْ يَتَعَارَضَا وَيَتَسَاقَطَا فِي حَقِّ الْوَصِيَّةِ لِلْقَاتِلِ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى قَاعِدَةِ الْأُصُولِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَحِلِّهِ، فَمِنْ أَيْنَ يَتِمُّ الِاسْتِدْلَال بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ الْوَصِيَّةِ لِلْقَاتِلِ؟ قَالَ فِي الْبَدَائِعِ: قَالَ مَالِكٌ: تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ لِلْقَاتِلِ، وَاحْتَجَّ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلَائِلِ لِجَوَازِ الْوَصِيَّةِ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْقَاتِلِ وَغَيْرِهِ. ثُمَّ قَالَ: وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ «لَا وَصِيَّةَ لِقَاتِلٍ» وَهَذَا نَصٌّ، وَيُرْوَى أَنَّهُ قَالَ «لَيْسَ لِقَاتِلٍ شَيْءٌ» ذِكْرُ شَيْءٍ نَكِرَةً فِي مَحِلِّ النَّفْيِ فَيَعُمُّ الْمِيرَاثَ وَالْوَصِيَّةَ جَمِيعًا، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْقَاتِلَ مَخْصُوصٌ مِنْ عُمُومَاتِ جَوَازِ الْوَصِيَّةِ انْتَهَى. أَقُولُ: لَيْتَ شِعْرِي مِنْ أَيْنَ تَبَيَّنَ أَنَّ الْقَاتِلَ مَخْصُوصٌ مِنْ عُمُومَاتِ جَوَازِ الْوَصِيَّةِ، وَمِنْ شَرْطِ التَّخْصِيصِ أَنْ يَكُونَ الْمُخَصِّصَ مُتَأَخِّرًا عَنْ الْعَامِّ فِي الْوُرُودِ وَهُوَ لَمْ يَثْبُتْ قَطُّ، وَلَوْ ثَبَتَ تَأَخُّرُ هَذَا الْحَدِيثِ لَمْ يَصْلُحْ أَنْ يَكُونَ مُخَصِّصًا لِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى لِكَوْنِهِ خَبَرَ الْوَاحِدِ، وَمِنْ الدَّلَائِلِ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ لِجَوَازِ الْوَصِيَّةِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْقَاتِلِ وَغَيْرِهِ كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا عَرَفْته فَكَيْفَ يَكُونُ الْقَاتِلُ مَخْصُوصًا مِنْهُ.

(قَوْلُهُ وَلِأَنَّهُ اسْتَعْجَلَ مَا أَخَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَيُحَرِّمُ الْوَصِيَّةَ كَمَا يُحَرِّمُ الْمِيرَاثَ) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ: وَرُدَّ بِأَنَّ حِرْمَانَ الْإِرْثِ لَا يَسْتَلْزِمُ بُطْلَانَ الْوَصِيَّةِ كَمَا فِي الرِّقِّ وَاخْتِلَافِ الدِّينِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ حِرْمَانَ الْقَاتِلِ عَنْ الْمِيرَاثِ بِسَبَبِ مُغَايَظَةِ الْوَرَثَةِ مُقَاسَمَةَ قَاتِلِ أَبِيهِمْ فِي تَرِكَتِهِ وَالْمُوصَى لَهُ

ص: 421

تَجُوزُ لِلْقَاتِلِ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا أَوْصَى لِرَجُلٍ ثُمَّ إنَّهُ قَتَلَ الْمُوصِيَ تَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ لَا تَبْطُلُ، وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ فِي الْفَصْلَيْنِ مَا بَيَّنَّاهُ (وَلَوْ أَجَازَتْهَا الْوَرَثَةُ جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ،

يُشَارِكُهُ فِي هَذَا الْمَعْنَى فَجَازَ الْقِيَاسُ عَلَيْهِ، وَالْمُشَابَهَةُ بَيْنَ الْمَقِيسِ وَالْمَقِيسِ عَلَيْهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ غَيْرُ مُلْتَزَمٌ انْتَهَى. أَقُولُ: لَا الرَّدُّ شَيْءٌ وَلَا الْجَوَابُ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ التَّعْلِيلَ الْمَذْكُورَ فِي الْكِتَابِ لَا يَدُلُّ عَلَى قِيَاسِ الْحِرْمَانِ مِنْ الْوَصِيَّةِ مُطْلَقًا عَلَى الْحِرْمَانِ مِنْ الْمِيرَاثِ حَتَّى يُرَدَّ بِأَنَّ حِرْمَانَ الْإِرْثِ لَا يَسْتَلْزِمُ بُطْلَانَ الْوَصِيَّةِ كَمَا فِي الصُّورَتَيْنِ الْمَزْبُورَتَيْنِ، بَلْ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى قِيَاسِ حِرْمَانِ الْقَاتِلِ مِنْ الْوَصِيَّةِ عَلَى حِرْمَانِهِ مِنْ الْمِيرَاثِ لِعِلَّةِ الِاسْتِعْجَالِ بِفِعْلِ مَحْظُورٍ وَهُوَ الْقَتْلُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الْعِلَّةَ غَيْرُ مُتَحَقِّقَةٍ فِي صُورَتَيْ الرِّقِّ وَاخْتِلَافِ الدِّينِ فَلَا يَجْرِي هَذَا الْقِيَاسُ فِيهِمَا. وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ كَوْنَ حِرْمَانِ الْقَاتِلِ عَنْ الْمِيرَاثِ بِسَبَبِ مُغَايَظَةِ الْوَرَثَةِ مُقَاسَمَةَ قَاتِلِ مُوَرِّثِهِمْ فِي تَرِكَتِهِ مَمْنُوعٌ، كَيْفَ وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَجَازَ أَنْ يَرِثَ الْقَاتِلُ عِنْدَ إجَازَةِ سَائِرِ الْوَرَثَةِ إيَّاهُ وَتَرْكِهِمْ الْمُغَايَظَةَ، كَمَا جَازَتْ الْوَصِيَّةُ لَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ إذَا أَجَازَهَا الْوَرَثَةُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ، وَأَيْضًا لَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَزِمَ أَنْ لَا يُحْرَمَ الْقَاتِلُ عَنْ الْمِيرَاثِ إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَقْتُولِ وَارِثٌ غَيْرُ الْقَاتِلِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ قَطْعًا.

وَالْحَقُّ أَنَّ سَبَبَ حِرْمَانِ الْقَاتِلِ عَنْ الْمِيرَاثِ صُدُورُ جِنَايَةٍ عَظِيمَةٍ مِنْهُ وَهِيَ الْقَتْلُ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَإِنَّهُ يَسْتَدْعِي الْعُقُوبَةَ بِأَبْلَغِ الْوُجُوهِ، وَقَدْ جَعَلَهَا الشَّرْعُ حِرْمَانَهُ عَنْ الْمِيرَاثِ، وَالْقَاتِلُ الْمُوصَى لَهُ يُشَارِكُهُ فِي هَذَا الْمَعْنَى، فَجَازَ قِيَاسُ حِرْمَانِهِ عَنْ الْوَصِيَّةِ عَلَى حِرْمَانِهِ عَنْ الْمِيرَاثِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ وَلِأَنَّهُ اسْتَعْجَلَ مَا أَخَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى: يَعْنِي اسْتَعْجَلَهُ بِارْتِكَابِ جِنَايَةٍ عَظِيمَةٍ فَيُحْرَمُ الْوَصِيَّةَ كَمَا يُحْرَمُ الْمِيرَاثَ، وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ صَاحِبُ الْبَدَائِعِ حَيْثُ قَالَ: وَلِأَنَّ الْقَتْلَ بِغَيْرِ حَقٍّ جِنَايَةٌ عَظِيمَةٌ فَيَسْتَدْعِي الزَّجْرَ بِأَبْلَغِ الْوُجُوهِ. وَحِرْمَانُ الْوَصِيَّةِ يَصْلُحُ زَاجِرًا كَحِرْمَانِ الْمِيرَاثِ فَيَثْبُتُ انْتَهَى. ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَلَعَلَّ التَّفَصِّي عَنْ عُهْدَةِ كَوْنِهِ قِيَاسًا عَلَى طَرِيقَتِنَا عَسِرٌ جِدًّا وَسُلُوكُ طَرِيقِ الدَّلَالَةِ أَسْهَلُ انْتَهَى.

أَقُولُ: فِيهِ بَحْثٌ، لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ طَرِيقِ الدَّلَالَةِ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى الَّذِي كَانَ الْحُكْمُ لِأَجْلِهِ فِي الْمَنْطُوقِ مُتَحَقِّقًا فِي الْمُلْحَقِ بِالدَّلَالَةِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَوِيَّةِ أَوْ التَّسَاوِي، وَتَحَقُّقُ ذَلِكَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ بِطَرِيقِ الْمَذْكُورِ مَمْنُوعٌ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، فَإِنَّ الْمَعْنَى الْمُقْتَضَى لِحِرْمَانِ الْقَاتِلِ عَنْ الْمِيرَاثِ لَا يَتَغَيَّرُ وَلَا يَتَكَسَّرُ بِإِجَازَةِ الْوَرَثَةِ أَصْلًا وَلِهَذَا لَا يَرِثُ الْقَاتِلُ سَوَاءٌ أَجَازَهُ الْوَرَثَةُ أَوْ لَمْ تُجِزْهُ بِخِلَافِ الْمَعْنَى الْمُقْتَضَى لِحِرْمَانِهِ عَنْ الْوَصِيَّةِ فَإِنَّهُ يَتَغَيَّرُ وَيَتَكَسَّرُ بِإِجَازَةِ الْوَرَثَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَلِهَذَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ لَهُ عِنْدَهُمَا إذَا أَجَازَتْهَا الْوَرَثَةُ كَمَا سَتَطَّلِعُ عَلَيْهِ عَنْ قَرِيبٍ فَكَانَ ذَلِكَ الْمَعْنَى فِي حَقِّ الْمِيرَاثِ أَقْوَى مِنْهُ فِي حَقِّ الْوَصِيَّةِ عِنْدَهُمَا فَلَمْ يُوجَدْ شَرْطُ طَرِيقِ الدَّلَالَةِ فِي شَأْنِ الْوَصِيَّةِ عَلَى أَصْلِهِمَا ثُمَّ أَقُولُ: هَاهُنَا احْتِمَالٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ " كَمَا يُحْرَمُ الْمِيرَاثَ " الْقِيَاسَ الْفِقْهِيَّ وَلَا الْإِلْحَاقَ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ بَلْ كَانَ مُرَادُهُ بِهِ مُجَرَّدَ التَّنْظِيرِ وَالتَّشْبِيهِ،

ص: 422

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا تَجُوزُ) لِأَنَّ جِنَايَتَهُ بَاقِيَةٌ وَالِامْتِنَاعُ لِأَجْلِهَا.

وَلَهُمَا أَنَّ الِامْتِنَاعَ لِحَقِّ الْوَرَثَةِ لِأَنَّ نَفْعَ بُطْلَانِهَا يَعُودُ إلَيْهِمْ كَنَفْعِ بُطْلَانِ الْمِيرَاثِ، وَلِأَنَّهُمْ لَا يَرْضَوْنَهَا لِلْقَاتِلِ كَمَا لَا يَرْضَوْنَهَا لِأَحَدِهِمْ. قَالَ (وَلَا تَجُوزُ لِوَارِثِهِ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، أَلَا لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» وَلِأَنَّهُ يَتَأَذَّى الْبَعْضُ بِإِيثَارِ الْبَعْضِ فَفِي تَجْوِيزِهِ قَطِيعَةُ الرَّحِمِ وَلِأَنَّهُ حَيْفٌ بِالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَيْنَاهُ، وَيُعْتَبَرُ كَوْنُهُ وَارِثًا أَوْ غَيْرَ وَارِثٍ وَقْتَ الْمَوْتِ لَا وَقْتَ الْوَصِيَّةِ لِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ مُضَافٌ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَحُكْمُهُ يَثْبُتُ بَعْدَ الْمَوْتِ.

وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَذْكُرْ قَوْلَهُ كَمَا يُحْرَمُ الْمِيرَاثَ لَتَمَّ دَلِيلُهُ الْعَقْلِيُّ بِلَا احْتِيَاجٍ إلَيْهِ فَإِنَّ اسْتِعْجَالَ الْقَاتِلِ مَا أَخَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى جُرْمٌ عَظِيمٌ يَسْتَدْعِي حِرْمَانَهُ عَنْ الْوَصِيَّةِ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ اسْتِدْعَائِهِ حِرْمَانَهُ عَنْ الْمِيرَاثِ وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى لَا يُتَوَهَّمُ الرَّدُّ الْمَذْكُورُ أَصْلًا وَتَسْقُطُ الْكَلِمَاتُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِهِ بِحَذَافِيرِهَا كَمَا لَا يَخْفَى.

(قَوْلُهُ وَلَهُمَا أَنَّ الِامْتِنَاعَ لِحَقِّ الْوَرَثَةِ لِأَنَّ نَفْعَ بُطْلَانِهَا يَعُود إلَيْهِمْ كَنَفْعِ بُطْلَانِ الْمِيرَاثِ) أَقُولُ: أَرَى دَلِيلَهُمَا هَذَا ضَعِيفًا جِدًّا، فَإِنَّ قَوْلَهُ إنَّ الِامْتِنَاعَ لِحَقِّ الْوَرَثَةِ لَيْسَ بِظَاهِرٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ، إذْ قَدْ تَقَرَّرَ فِيمَا مَرَّ أَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَعْتَبِرْ تَعَلُّقَ حَقِّهِمْ بِقَدْرِ الثُّلُثِ وَلِهَذَا جَازَتْ الْوَصِيَّةُ بِهَذَا الْقَدْرِ لِلْأَجَانِبِ وَإِنْ لَمْ يُجِزْهَا الْوَرَثَةُ، وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ لَمْ تُجَزْ الْوَصِيَّةُ بِشَيْءٍ لِلْقَاتِلِ بِدُونِ إجَازَةِ الْوَرَثَةِ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ الِامْتِنَاعُ فِي قَدْرِ الثُّلُثِ أَيْضًا لِحَقِّهِمْ. ثُمَّ إنَّ تَعْلِيلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ لِأَنَّ نَفْعَ بُطْلَانِهَا يَعُودُ إلَيْهِمْ كَنَفْعِ بُطْلَانِ الْمِيرَاثِ لَيْسَ بِتَامٍّ، لِأَنَّ مُجَرَّدَ عَوْدِ نَفْعِ بُطْلَانِهَا إلَيْهِمْ لَوْ اقْتَضَى كَوْنَ الِامْتِنَاعِ فِي الْوَصِيَّةِ لِحَقِّهِمْ لَاقْتَضَى كَوْنَهُ فِي الْإِرْثِ أَيْضًا لِحَقِّهِمْ، فَلَزِمَ أَنْ يَجُوزَ إرْثُ الْقَاتِلِ أَيْضًا بِإِجَازَتِهِمْ عِنْدَهُمَا وَلَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ. قَالَ فِي الْعِنَايَةِ: فَإِنْ قِيلَ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمِيرَاثِ إذَا أَجَازَتْ الْوَرَثَةُ حَيْثُ صَحَّتْ فِي الْوَصِيَّةِ دُونَ الْمِيرَاثِ. أُجِيبَ بِأَنَّ الْإِجَازَةَ تَصَرُّفٌ مِنْ الْعَبْدِ فَتُعْمَلُ فِيمَا كَانَ مِنْ جِهَةِ الْعَبْدِ وَالْوَصِيَّةُ مِنْ جِهَةِ الْعَبْدِ فَتُعْمَلُ فِيهِ، بِخِلَافِ الْمِيرَاثِ فَإِنَّهُ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ لَا صُنْعَ لِلْعَبْدِ فِيهِ فَلَا يُعْمَلُ فِيهِ تَصَرُّفُ الْعَبْدِ انْتَهَى.

أَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ الْكَلَامَ هُنَا لَيْسَ فِي نَفْسِ الْوَصِيَّةِ وَالْمِيرَاثِ حَتَّى يَتِمَّ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ أَحَدَهُمَا مِنْ جِهَةِ الْعَبْدِ وَالْآخَرَ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ، بَلْ إنَّمَا الْكَلَامُ هُنَا فِي أَنَّ حِرْمَانَ الْقَاتِلِ عَنْ الْوَصِيَّةِ كَحِرْمَانِهِ عَنْ الْمِيرَاثِ أَوْ لَا، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ حِرْمَانِهِ عَنْ الْوَصِيَّةِ وَحِرْمَانِهِ عَنْ الْمِيرَاثِ فِي كَوْنِهِمَا مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ نَظَرًا إلَى دَلِيلِهِمَا، وَفِي كَوْنِهَا مِنْ جِهَةِ الْعَبْدِ نَظَرًا إلَى صُدُورِ سَبَبِهِمَا وَهُوَ الْقَتْلُ عَنْ الْعَبْدِ، فَمَا مَعْنَى أَنْ تُعْمَلَ الْإِجَازَةُ الَّتِي هِيَ تَصَرُّفٌ مِنْ الْعَبْدِ فِي ارْتِفَاعِ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ، وَبِعِبَارَةٍ أُخْرَى إنَّ الْمِيرَاثَ وَإِنْ كَانَ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ بِدُونِ صُنْعِ الْعَبْدِ إلَّا أَنَّ حِرْمَانَ الْقَاتِلِ عَنْهُ كَانَ مِنْ جِهَةِ الْعَبْدِ حَيْثُ بَاشَرَ الْقَتْلَ، فَكَانَ فِعْلُهُ هَذَا مَانِعًا عَنْ مِيرَاثِهِ مِنْ الْمَقْتُولِ فَلِمَ لَا تَجُوزُ أَنْ تُعْمَلَ الْإِجَازَةُ فِي رَفْعِ هَذَا الْمَانِعِ الَّذِي كَانَ مِنْ جِهَتِهِ وَبِصُنْعِهِ.

(قَوْلُهُ وَلِأَنَّهُ حَيْفٌ بِالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَيْنَاهُ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: قَوْلُهُ بِالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَيْنَاهُ إشَارَةٌ إلَى مَا تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الْهِبَةِ فِيمَنْ خَصَّصَ بَعْضَ أَوْلَادِهِ فِي الْعَطِيَّةِ انْتَهَى. أَقُولُ: هَذَا خَبْطٌ ظَاهِرٌ مِنْ الشَّارِحِ الْمَزْبُورِ إذْ لَمْ يَتَقَدَّمْ مِنْ الْمُصَنِّفِ فِي كِتَابِ الْهِبَةِ ذِكْرُ حَدِيثٍ فِي حَقِّ مَنْ خَصَّصَ بَعْضَ أَوْلَادِهِ فِي الْعَطِيَّةِ، بَلْ لَمْ يَتَقَدَّمْ مِنْهُ ثَمَّةَ ذِكْرُ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ قَطُّ فَكَيْفَ تُتَصَوَّرُ الْحَوَالَةُ عَلَيْهِ بِهَا هَاهُنَا.

وَالصَّوَابُ أَنَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ هُنَا بِقَوْلِهِ بِالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَيْنَاهُ هُوَ الْإِشَارَةُ إلَى مَا ذَكَرَهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ فِيمَا مَضَى عَنْ قَرِيبٍ بِقَوْلِهِ وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «الْحَيْفُ فِي الْوَصِيَّةِ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ» وَفَسَّرُوهُ بِالزِّيَادَةِ

ص: 423

وَالْهِبَةُ مِنْ الْمَرِيضِ لِلْوَارِثِ فِي هَذَا نَظِيرُ الْوَصِيَّةِ) لِأَنَّهَا وَصِيَّةٌ حُكْمًا حَتَّى تَنْفُذَ مِنْ الثُّلُثِ، وَإِقْرَارُ الْمَرِيضِ لِلْوَارِثِ عَلَى عَكْسِهِ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي الْحَالِ فَيُعْتَبَرُ ذَلِكَ وَقْتَ الْإِقْرَارِ.

عَلَى الثُّلُثِ وَبِالْوَصِيَّةِ لِلْوَارِثِ انْتَهَى.

(قَوْلُهُ وَإِقْرَارُ الْمَرِيضِ لِلْوَارِثِ عَلَى عَكْسِهِ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ: أَيْ عَلَى عَكْسِ الْوَصِيَّةِ بِتَأْوِيلِ الْإِيصَاءِ. وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: أَيْ عَلَى عَكْسِ الْوَصِيَّةِ بِتَأْوِيلِ الْإِيصَاءِ أَوْ الْمَذْكُورِ. وَرَدَّ عَلَيْهِ التَّأْوِيلَ الثَّانِيَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ بِأَنْ قَالَ: الْوَصِيَّةُ هِيَ الْمَذْكُورَةُ بِالْهَاءِ لَا الْمَذْكُورُ فَالْأَوْلَى أَوْ مَا ذَكَرَ انْتَهَى. أَقُولُ: رَدُّهُ سَاقِطٌ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ إنَّمَا تَكُونُ هِيَ الْمَذْكُورَةَ بِتَاءِ التَّأْنِيثِ لَا الْمَذْكُورَ أَنْ لَوْ كَانَ الْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي اسْمِ الْمَفْعُولِ حَرْفَ تَعْرِيفٍ. وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْأَدَبِ أَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ فِي اسْمِ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ عِنْدَ غَيْرِ الْمَازِنِيِّ مِنْ عَامَّةِ أَئِمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ اسْمٌ مَوْصُولٌ لَا حَرْفُ تَعْرِيفٍ وَصِلَتُهُ اسْمُ الْفَاعِلِ أَوْ الْمَفْعُولِ، فَحِينَئِذٍ يَصِيرُ لَفْظُ الْمَذْكُورِ فِي مَعْنَى مَا ذَكَرَ فَيَعُودُ الضَّمِيرُ الْمُسْتَتِرُ فِي اسْمِ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ إلَى الْمَوْصُولِ الَّذِي هُوَ الْأَلِفُ وَاللَّامُ، وَلَا يَلْزَمُ إلْحَاقُ تَاءِ التَّأْنِيثِ بِصِلَتِهِ لِعَدَمِ عَلَامَةِ التَّأْنِيثِ فِي لَفْظِ ذَلِكَ الْمَوْصُولِ، فَإِنَّهُ فِي اللَّفْظِ مُفْرَدٌ مُذَكَّرٌ صَالِحٌ لِلْمُثَنَّى وَالْمَجْمُوعِ وَالْمُؤَنَّثِ أَيْضًا كَكَلِمَةِ " مَا " وَكَلِمَةِ " مَنْ " كَمَا صَرَّحُوا بِهِ.

نَعَمْ يَجُوزُ إلْحَاقُهَا بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى الْمُرَادِ بِذَلِكَ هُنَا وَهُوَ الْوَصِيَّةُ، لَكِنَّ الْأَمْرَ فِي كَلِمَةِ مَا أَيْضًا كَذَلِكَ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَذْكُورِ وَمَا ذُكِرَ فِي جَوَازِ تَذْكِيرِ الصِّلَةِ نَظَرًا إلَى لَفْظِ الْمَوْصُولِ وَجَوَازِ تَأْنِيثِهَا نَظَرًا إلَى الْمَعْنَى الْمُرَادِ بِالْمَوْصُولِ. وَعَنْ هَذَا تَرَى ثِقَاتِ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ يُؤَوِّلُونَ الْمُؤَنَّثَ الَّذِي عُبِّرَ عَنْهُ بِضَمِيرِ الْمُذَكَّرِ أَوْ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ الْمُذَكَّرِ فِي مَوَاضِعَ شَتَّى مِنْ كُتُبِ عِلْمِ الْبَلَاغَةِ بَلْ فِي التَّفَاسِيرِ أَيْضًا بِالْمَذْكُورِ كَمَا يُؤَوِّلُونَهَا بِمَا ذُكِرَ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ

ص: 424

قَالَ (إلَّا أَنْ تُجِيزَهَا الْوَرَثَةُ) وَيُرْوَى هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ فِيمَا رَوَيْنَاهُ، وَلِأَنَّ الِامْتِنَاعَ لِحَقِّهِمْ فَتَجُوزُ بِإِجَازَتِهِمْ؛

ثُمَّ إنْ كَانَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِمْ بِتَأْوِيلِ الْمَذْكُورِ فِي أَمْثَالِ هَذَا الْمَقَامِ أَنْ يُقَالَ بِتَأَوُّلِ الشَّيْءِ الْمَذْكُورِ عَلَى أَنْ يُقَدَّرَ الْمَوْصُوفُ الْمُذَكَّرُ كَانَ الْأَمْرُ أَسْهَلَ وَيَرْتَفِعُ الِاشْتِبَاهُ بِالْكُلِّيَّةِ. ثُمَّ إنَّ الشُّرَّاحَ قَاطِبَةً قَالُوا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ وَإِقْرَارُ الْمَرِيضِ لِلْوَارِثِ عَلَى عَكْسِهِ: أَيْ يُعْتَبَرُ فِي الْإِقْرَارِ لِلْوَارِثِ وَقْتُ الْإِقْرَارِ لَا وَقْتُ الْمَوْتِ.

وَقَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ بَعْدَ ذَلِكَ: إنَّ اعْتِبَارَ وَقْتِ الْإِقْرَارِ دُونَ وَقْتِ الْمَوْتِ لَيْسَ عَلَى إطْلَاقِهِ، بَلْ ذَلِكَ إذَا كَانَ كَوْنُهُ وَارِثًا بِسَبَبٍ حَادِثٍ، وَأَمَّا إذَا كَانَ كَوْنُهُ وَارِثًا بِسَبَبٍ كَانَ وَقْتَ الْإِقْرَارِ فَيُعْتَبَرُ كَوْنُهُ وَارِثًا وَقْتَ الْمَوْتِ أَيْضًا، ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ فِي مَرِيضٍ أَقَرَّ لِابْنِهِ الْعَبْدِ فَأُعْتِقَ فَمَاتَ الْأَبُ حَيْثُ صَحَّ الْإِقْرَارُ لِأَنَّ وِرَاثَتَهُ تَثْبُتُ بِسَبَبٍ حَادِثٍ وَهُوَ الْإِعْتَاقُ وَقَبْلَهُ كَانَ عَبْدًا وَكَسْبُ الْعَبْدِ لِمَوْلَاهُ، فَهَذَا الْإِقْرَارُ فِي الْمَعْنَى حَصَلَ لِلْمَوْلَى وَهُوَ أَجْنَبِيٌّ فَلَا يَبْطُلُ بِصَيْرُورَةِ الِابْنِ وَارِثًا بِسَبَبٍ حَادِثٍ.

وَلَوْ أَقَرَّ لِأَخِيهِ وَلَهُ ابْنٌ ثُمَّ مَاتَ الِابْنُ قَبْلَهُ حَتَّى صَارَ الْأَخُ وَارِثًا بَطَلَ إقْرَارُهُ عِنْدَنَا لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ وَارِثًا بِسَبَبٍ قَائِمٍ وَقْتَ الْإِقْرَارِ تَبَيَّنَ أَنَّ إقْرَارَهُ حَصَلَ لِوَارِثِهِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ، هَذَا حَاصِلُ مَا ذَكَرَهُ.

وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ نَقْلِ مَا ذَكَرَ فِي النِّهَايَةِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَزْبُورِ: وَأَرَى أَنَّ إطْلَاقَ الْمُصَنِّفِ يُغْنِي عَنْ ذَلِكَ التَّطْوِيلِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ قَالَ: يُعْتَبَرُ فِي إقْرَارِ الْمَرِيضِ لِوَارِثِهِ كَوْنُهُ وَارِثًا عِنْدَ الْإِقْرَارِ، وَالْعَبْدُ لَيْسَ بِوَارِثٍ عِنْدَ الْإِقْرَارِ لِكَوْنِهِ مَحْرُومًا فَلَا يَكُونُ إقْرَارٌ لِلْوَارِثِ وَكَلَامُنَا فِيهِ وَالْأَخُ لَيْسَ بِمَحْرُومٍ فَيَكُونُ وَارِثًا عِنْدَ الْإِقْرَارِ، وَإِنْ كَانَ مَحْجُوبًا وَالْإِقْرَارُ لِلْوَارِثِ بَاطِلٌ انْتَهَى.

أَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ مَدَارَ هَذَا التَّوْجِيهِ أَنْ يَكُونَ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ بِالْوَارِثِ مَا يَعُمُّ الْمَحْجُوبَ وَيُقَابِلُ الْمَحْرُومَ، وَلَيْسَ بِسَدِيدٍ، إذْ لَوْ كَانَ مُرَادُهُ بِالْوَارِثِ هُنَا ذَلِكَ لَكَانَ مُرَادُهُ بِهِ فِي قَوْلِهِ وَيُعْتَبَرُ كَوْنُهُ وَارِثًا أَوْ غَيْرَ وَارِثٍ وَقْتَ الْمَوْتِ لَا وَقْتَ الْوَصِيَّةِ أَيْضًا ذَلِكَ، وَإِلَّا لَمْ يَتِمَّ قَوْلُهُ وَإِقْرَارُ الْمَرِيضِ لِلْوَارِثِ عَلَى عَكْسِهِ، فَإِنَّ أَمْرَ الِانْعِكَاسِ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ عِنْدَ اتِّحَادِ الْمُرَادِ بِالْوَارِثِ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْوَارِثِ هُنَاكَ أَيْضًا ذَلِكَ لَفَسَدَ الْمَعْنَى، إذْ لَا يَخْفَى أَنَّ الْمُوصَى لَهُ إذَا كَانَ مَحْجُوبًا عَنْ الْمِيرَاثِ عِنْدَ مَوْتِ الْمُوصِي تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ لَهُ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَطْعًا مَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ قَاضِي خَانْ فِي فَتَاوَاهُ، وَنَقَلَهُ الشُّرَّاحُ بِأَسْرِهِمْ عَنْهُ مِنْ قَبْلُ وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ أَوْصَى لِإِخْوَتِهِ الثَّلَاثَةِ الْمُتَفَرِّقِينَ وَلَهُ ابْنٌ جَازَتْ الْوَصِيَّةُ لَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ أَثْلَاثًا لِأَنَّهُمْ لَا يَرِثُونَ مَعَ الِابْنِ، فَإِنْ كَانَتْ لَهُ بِنْتٌ مَكَانَ الِابْنِ جَازَتْ الْوَصِيَّةُ لِلْأَخِ لِأَبٍ وَالْأَخِ لِأُمٍّ، وَبَطَلَتْ لِلْأَخِ لِأَبٍ وَأُمٍّ لِأَنَّهُ يَرِثُ مَعَ الْبِنْتِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ ابْنٌ وَلَا بِنْتٌ كَانَتْ الْوَصِيَّةُ لِلْأَخِ لِأَبٍ لِأَنَّهُ لَا يَرِثُهُ، وَبَطَلَتْ لِلْأَخِ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَلِلْأَخِ لِأُمٍّ لِأَنَّهُمَا يَرِثَانِهِ انْتَهَى.

فَظَهَرَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْوَارِثِ هُنَا مَا ثَبَتَ لَهُ الْإِرْثُ بِالْفِعْلِ بِأَنْ لَا يَكُونَ مَحْرُومًا وَلَا مَحْجُوبًا فَاحْتِيجَ إلَى التَّقْيِيدِ فِي صُورَةِ الْإِقْرَارِ بِمَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ.

ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ الْغَايَةِ رَدَّ عَلَى صَاحِبِ النِّهَايَةِ هُنَا بِوَجْهٍ آخَرَ حَيْثُ قَالَ: وَذُكِرَ فِي وَصَايَا الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: لَوْ أَنَّ الْمَرِيضَ أَقَرَّ لِابْنِهِ بِدَيْنٍ وَهُوَ نَصْرَانِيٌّ أَوْ عَبْدٌ ثُمَّ أَسْلَمَ الِابْنُ أَوْ أُعْتِقَ الْعَبْدُ ثُمَّ مَاتَ الرَّجُلُ فَالْإِقْرَارُ بَاطِلٌ، لِأَنَّهُ حِينَ أَقَرَّ كَانَ سَبَبُ التُّهْمَةِ بَيْنَهُمَا قَائِمًا وَهُوَ الْقَرَابَةُ الَّتِي صَارَ بِهَا وَارِثًا فِي ثَانِي الْحَالِ. ثُمَّ قَالَ: فَعَنْ هَذَا عَرَفْت أَنَّ مَا ذَكَرَ بَعْضُهُمْ فِي شَرْحِهِ سَهْوٌ مِنْهُ لَا يَصِحُّ نَقْلُهُ وَهُوَ أَنَّهُ قَالَ: أَقَرَّ لِابْنِهِ بِدَيْنِ عَبْدٍ ثُمَّ أُعْتِقَ ثُمَّ مَاتَ الْأَبُ وَهُوَ مِنْ وَرَثَتِهِ فَإِقْرَارُهُ بِالدَّيْنِ جَائِزٌ لِأَنَّ كَسْبَ الْعَبْدِ لِمَوْلَاهُ، فَهَذَا الْإِقْرَارُ حَصَلَ مِنْ الْمَرِيضِ فِي الْمَعْنَى لِلْمَوْلَى وَهُوَ أَجْنَبِيٌّ مِنْهُ اهـ.

أَقُولُ: السَّاهِي هُنَا صَاحِبُ الْغَايَةِ نَفْسُهُ، لِأَنَّ ذَلِكَ الْبَعْضَ الَّذِي نَسَبَ السَّهْوَ إلَيْهِ، فَإِنَّ الْمُصَنِّفَ ذَكَرَ مَا ذَكَرَهُ ذَلِكَ الْبَعْضُ نَقْلًا مِنْ كِتَابِ الْإِقْرَارِ فِي فَصْلِ اعْتِبَارِ حَالَةِ الْوَصِيَّةِ مِنْ بَابِ الْوَصِيَّةِ بِالثُّلُثِ فِيمَا سَيَأْتِي، وَاعْتَرَفَ صَاحِبُ الْغَايَةِ أَيْضًا ثَمَّةَ بِأَنَّ الصَّدْرَ الشَّهِيدَ وَغَيْرَهُ ذَكَرُوا مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ هُنَاكَ نَقْلًا عَنْ كِتَابِ الْإِقْرَارِ، فَمَا قَالَهُ هُنَا مِنْ أَنَّهُ سَهْوٌ مِنْهُ لَا يَصِحُّ لَعَلَّهُ غُفُولٌ عَنْ ذَلِكَ وَسَهْوٌ مِنْ نَفْسِهِ كَمَا لَا يَخْفَى.

نَعَمْ مَا ذَكَرَهُ ذَلِكَ الْبَعْضُ هُنَا يُخَالِفُ رِوَايَةَ وَصَايَا الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لَكِنْ لَا يَلْزَمُهُ مِنْهُ السَّهْوُ، فَإِنَّهُ بَنَى كَلَامَهُ هُنَا عَلَى رِوَايَةِ كِتَابِ الْإِقْرَارِ، وَمِثْلُ هَذَا لَيْسَ بِعَزِيزٍ فِي كَلِمَاتِ الثِّقَاتِ. ثُمَّ إنَّ تَاجَ الشَّرِيعَةِ بَعْدَ أَنْ فَسَّرَ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ

ص: 425

وَلَوْ أَجَازَ بَعْضٌ وَرَدَّ بَعْضٌ تَجُوزُ عَلَى الْمُجِيزِ بِقَدْرِ حِصَّتِهِ لِوِلَايَتِهِ عَلَيْهِ وَبَطَلَ فِي حَقِّ الرَّادِّ.

قَالَ (وَيَجُوزُ أَنْ يُوصِيَ الْمُسْلِمُ لِلْكَافِرِ وَالْكَافِرُ لِلْمُسْلِمِ) فَالْأُولَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} الْآيَةَ. وَالثَّانِي لِأَنَّهُمْ بِعَقْدِ الذِّمَّةِ سَاوَوْا الْمُسْلِمِينَ فِي الْمُعَامَلَاتِ وَلِهَذَا جَازَ التَّبَرُّعُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ فَكَذَا بَعْدَ الْمَمَاتِ (وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ الْوَصِيَّةُ لِأَهْلِ الْحَرْبِ بَاطِلَةٌ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ} الْآيَةَ.

وَإِقْرَارُ الْمَرِيضِ لِلْوَارِثِ عَلَى عَكْسِهِ " بِقَوْلِهِ: أَيْ يُعْتَبَرُ كَوْنُهُ وَارِثًا وَغَيْرَ وَارِثٍ وَقْتَ الْإِقْرَارِ لَا زَمَانَ الْمَوْتِ، قَالَ: فَلَوْ كَانَ وَقْتَ الْإِقْرَارِ وَارِثًا لَا يَصِحُّ الْإِقْرَارُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَارِثًا زَمَانَ الْمَوْتِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ وَقْتَ الْإِقْرَارِ وَارِثًا صَحَّ الْإِقْرَارُ وَإِنْ صَارَ وَارِثًا زَمَانَ الْمَوْتِ، لِأَنَّ الْإِقْرَارَ إيجَابٌ فِي الْحَالِ وَلِهَذَا يَمْلِكُهُ الْمُقَرُّ لَهُ فِي الْحَالِ وَيَصِحُّ رَدُّهُ فِي الْحَالِ انْتَهَى.

أَقُولُ: فِيهِ بَحْثٌ، فَإِنَّ قَوْلَهُ فَلَوْ كَانَ وَقْتَ الْإِقْرَارِ وَارِثًا لَا يَصِحُّ الْإِقْرَارُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَارِثًا زَمَانَ الْمَوْتِ مِمَّا يُنَافِيهِ مَا نَصَّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ قَاضِي خَانْ فِي فَتَاوَاهُ فِي فَصْلِ إقْرَارِ الْمَرِيضِ مِنْ كِتَابِ الْإِقْرَارِ حَيْثُ قَالَ: وَلَوْ أَقَرَّ لِوَارِثٍ ثُمَّ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ وَارِثًا بِأَنْ أَقَرَّ الْأَخُ لَهُ ثُمَّ وُلِدَ لَهُ ابْنٌ ثُمَّ مَاتَ الْمَرِيضُ صَحَّ إقْرَارُهُ انْتَهَى. ثُمَّ إنَّ لِبَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ هُنَا كَلِمَاتٌ مُفَصَّلَةٌ غَيْرُ خَالِيَةٍ عَنْ الِاخْتِلَالِ فِي بَعْضِ مَوَاضِعِهَا تَرَكْنَا ذِكْرَهَا وَبَيَانَ اخْتِلَالِهَا مَخَافَةً مِنْ الْإِطْنَابِ الْمُمِلِّ.

(قَوْلُهُ قَالَ وَيَجُوزُ أَنْ يُوصِيَ الْمُسْلِمُ لِلْكَافِرِ) قَالَ فِي الْكِفَايَةِ: أَرَادَ بِهِ الذِّمِّيَّ بِدَلِيلِ التَّعْلِيلِ، وَرِوَايَةُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّ الْوَصِيَّةَ لِأَهْلِ الْحَرْبِ بَاطِلَةٌ انْتَهَى. أَقُولُ: فِيهِ أَنَّ قَوْلَهُ وَيَجُوزُ أَنْ يُوصِيَ الْمُسْلِمُ لِلْكَافِرِ لَفْظُ الْقُدُورِيِّ وَالتَّعْلِيلُ وَرِوَايَةُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ إنَّمَا هُمَا مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ، فَكَيْفَ يَصِحُّ جَعْلُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ دَلِيلًا عَلَى إرَادَةِ الْقُدُورِيِّ بِالْكَافِرِ الذِّمِّيِّ دُونَ مُطْلَقِ الْكَافِرِ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ لَفْظِهِ، عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِأَهْلِ الْحَرْبِ فِي رِوَايَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ هُوَ الْحَرْبِيُّ الْغَيْرُ الْمُسْتَأْمَنِ، لِأَنَّ لَفْظَ الْجَامِعِ هَكَذَا الْوَصِيَّةُ لِحَرْبِيٍّ هُوَ فِي دَارِهِمْ بَاطِلَةٌ كَمَا ذَكَرَ فِي الْكَافِي وَغَيْرِهِ فَبَقِيَ الْحَرْبِيُّ الْمُسْتَأْمَنُ خَارِجًا عَنْ مَسْأَلَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، فَكَيْفَ تَكُونُ رِوَايَةُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ دَلِيلًا عَلَى كَوْنِ الْمُرَادِ بِالْكَافِرِ فِي لَفْظِ الْكِتَابِ هُوَ الذِّمِّيُّ دُونَ مَا يَعُمُّ الْحَرْبِيَّ الْمُسْتَأْمَنَ، وَقَدْ صَرَّحَ فِي الْمُحِيطِ وَغَيْرِهِ بِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُوصِيَ الْمُسْلِمُ لِلْحَرْبِيِّ الْمُسْتَأْمَنِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ كَمَا يَجُوزُ أَنْ يُوصِيَ لِلذِّمِّيِّ. نَعَمْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اخْتِصَاصُ التَّعْلِيلِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ بِالذِّمِّيِّ دَلِيلًا عَلَى حَمْلِ الْمُصَنِّفِ مُرَادَ الْقُدُورِيِّ بِالْكَافِرِ عَلَى الذِّمِّيِّ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ دَلِيلًا عَلَى أَنْ يَكُونَ مُرَادُ الْقُدُورِيِّ بِذَلِكَ فِي نَفْسِهِ هُوَ الذِّمِّيُّ. وَأَمَّا ذِكْرُ الْمُصَنِّفِ رِوَايَةَ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ الَّتِي تَخْتَصُّ بِالْحَرْبِيِّ الْغَيْرِ الْمُسْتَأْمَنِ فَلَا يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى حَمْلِ الْمُصَنِّفِ أَيْضًا إيَّاهُ عَلَى الذِّمِّيِّ فَقَطْ كَمَا لَا يَخْفَى.

(قَوْلُهُ وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ الْوَصِيَّةُ لِأَهْلِ الْحَرْبِ بَاطِلَةٌ) قَالَ شُرَّاحُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: ذَكَرَ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ مَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْوَصِيَّةِ لَهُمْ، فَوَجْهُ التَّوْفِيقِ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُفْعَلَ، وَإِنْ فُعِلَ جَازَ وَثَبَتَ الْمِلْكُ لِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْمِلْكِ انْتَهَى.

ص: 426

قَالَ (وَقَبُولُ الْوَصِيَّةِ بَعْدَ الْمَوْتِ فَإِنْ قَبِلَهَا الْمُوصَى لَهُ حَالَ الْحَيَاةِ أَوْ رَدَّهَا فَذَلِكَ بَاطِلٌ) لِأَنَّ أَوَانَ ثُبُوتِ حُكْمِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ لِتَعَلُّقِهِ بِهِ فَلَا يُعْتَبَرُ قَبْلَهُ كَمَا لَا يُعْتَبَرُ قَبْلَ الْعَقْدِ.

قَالَ (وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُوصِيَ الْإِنْسَانُ بِدُونِ الثُّلُثِ) سَوَاءٌ كَانَتْ الْوَرَثَةُ أَغْنِيَاءَ أَوْ فُقَرَاءَ، لِأَنَّ فِي التَّنْقِيصِ صِلَةَ الْقَرِيبِ بِتَرْكِ مَا لَهُ عَلَيْهِمْ، بِخِلَافِ اسْتِكْمَالِ الثُّلُثِ،

وَاقْتَفَى أَثَرَهُمْ صَاحِبُ الْكَافِي وَشُرَّاحُ هَذَا الْكِتَابِ. أَقُولُ: وَالْإِنْصَافُ أَنَّ لَفْظَةَ بَاطِلَةٍ فِي عِبَارَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ مِمَّا يَأْبَى التَّوْفِيقُ الْمَذْكُورُ جِدًّا، إذْ قَدْ تَقَرَّرَ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْبَاطِلَ مِنْ الْعُقُودِ لَا يُفِيدُ الْمِلْكَ، بِخِلَافِ الْفَاسِدِ مِنْهَا فَإِنَّهُ يُفِيدُ الْمِلْكَ عِنْدَ تَحَقُّقِ الْقَبْضِ، فَلَوْ كَانَ الْمَذْكُورُ فِي الْجَامِعِ لَفْظَةَ فَاسِدَةٍ بَدَلَ لَفْظَةِ بَاطِلَةٍ لَكَانَ لِذَلِكَ التَّوْفِيقِ وَجْهٌ وَلَيْسَ فَلَيْسَ. ثُمَّ أَقُولُ: لَعَلَّ الْحَقَّ هُنَا رَأْيُ صَاحِبِ الْمُحِيطِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَقْبَلْ قَوْلَهُمْ ذَكَرَ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ مَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْوَصِيَّةِ لِلْحَرْبِيِّ، بَلْ نَقَلَ مَا ذُكِرَ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ وَاسْتُنْبِطَ مِنْهُ بُطْلَانُ الْوَصِيَّةِ لِلْحَرْبِيِّ حَيْثُ قَالَ: وَفِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ قَالُوا: وَذَكَرَ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ مَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْوَصِيَّةِ لِلْحَرْبِيِّ.

وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ: مِنْهُمْ مَنْ وَفَّقَ بَيْنَ مَا ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ وَبَيْنَ مَا ذُكِرَ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ فَقَالَ: لَا يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُوصِيَ لِلْحَرْبِيِّ كَمَا ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ، وَلَكِنْ لَوْ فَعَلَ جَازَتْ وَثَبَتَ الْمِلْكُ لِلْمُوصَى لَهُ كَمَا ذُكِرَ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ، هَكَذَا قَالُوا. وَالْمَذْكُورُ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ أَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْحَرْبِيِّ بَاطِلَةٌ، وَالصُّورَةُ الْمَذْكُورَةُ ثَمَّةَ لَوْ أَوْصَى مُسْلِمٌ لِحَرْبِيٍّ وَالْحَرْبِيُّ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَا تَجُوزُ فَإِنْ خَرَجَ الْحَرْبِيُّ الْمُوصَى لَهُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ بِأَمَانٍ وَأَرَادَ أَخْذَ وَصِيَّتِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ وَإِنْ أَجَازَتْ الْوَرَثَةُ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ وَقَعَتْ بِصِفَةِ الْبُطْلَانِ فَلَا تُعْمَلُ إجَازَةُ الْوَرَثَةِ فِيهَا، فَقَدْ نَصَّ عَلَى عَدَمِ الْجَوَازِ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ وَنَصَّ عَلَى الْبُطْلَانِ فِي الْفَرْعِ وَأَنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى بُطْلَانِهَا، إلَى هُنَا لَفْظُ الْمُحِيطِ فَتَأَمَّلْ، ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ الدُّرَرِ وَالْغُرَرِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ التَّوْفِيقَ الْمَارَّ الذِّكْرِ فِي عَامَّةِ الْكُتُبِ وَعَزَاهُ إلَى الْكَافِي وَالنِّهَايَةِ قَالَ: أَقُولُ لَا يَخْفَى بَعْدَهُ، بَلْ وَجْهُ التَّوْفِيقِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَهُوَ فِي دَارِهِمْ فَإِنَّهُ احْتِرَازٌ عَنْ حَرْبِيٍّ لَيْسَ فِي دَارِهِمْ وَهُوَ الْمُسْتَأْمَنُ، فَإِنَّ الْحَرْبِيَّ مَا دَامَ فِي دَارِ الْحَرْبِ مِمَّنْ يُقَاتِلُنَا بِخِلَافِ الْمُسْتَأْمَنِ فَإِنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِمَّا ذُكِرَ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ، انْتَهَى كَلَامُهُ.

أَقُولُ: هَذَا كَلَامٌ عَجِيبٌ، فَإِنَّ لَفْظَ السِّيَرِ الْكَبِيرِ عَلَى مَا نَقَلَهُ صَاحِبُ الْمُحِيطِ: لَوْ أَوْصَى مُسْلِمٌ لِحَرْبِيٍّ وَالْحَرْبِيُّ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَا يَجُوزُ انْتَهَى، فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَأْمَنُ هُوَ الْمُرَادَ مِمَّا ذُكِرَ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ.

(قَوْلُهُ وَقَبُولُ الْوَصِيَّةِ بَعْدَ الْمَوْتِ، فَإِنْ قَبِلَهَا الْمُوصَى لَهُ حَالَ الْحَيَاةِ أَوْ رَدَّهَا فَذَلِكَ بَاطِلٌ) قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: لَا يَخْفَى أَنَّ بَيَانَ وَقْتِ الْقَبُولِ حَقُّهُ أَنْ يُقَدَّمَ عَلَى بَيَانِ وُجُوبِ الْقَبُولِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُقَدَّمَ قَوْلُهُ فَالْوَصِيُّ بِهِ يَمْلِكُ بِالْقَبُولِ عَلَى قَوْلِهِ وَقَبُولُ الْوَصِيَّةِ بَعْدَ الْمَوْتِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَتَوَسَّطَ بَيْنَهُمَا مَسْأَلَةُ اسْتِحْبَابِ الْوَصِيَّةِ بِمَا دُونَ الثُّلُثِ اهـ. أَقُولُ: خَبَطَ ذَلِكَ الْقَائِلُ فِي تَحْرِيرِهِ هَذَا خَبْطَ عَشْوَاءَ، لِأَنَّ بَيَانَ وَقْتِ الْقَبُولِ إنْ كَانَ حَقُّهُ أَنْ يُقَدَّمَ عَلَى بَيَانِ وُجُوبِ الْقَبُولِ فَكَيْفَ يَصِحُّ قَوْلُهُ فَيَنْبَغِي أَنْ يُقَدِّمَ قَوْلَهُ فَالْمُوصَى بِهِ يَمْلِكُ بِالْقَبُولِ عَلَى قَوْلِهِ وَقَبُولُ الْوَصِيَّةِ بَعْدَ الْمَوْتِ، لِأَنَّ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُقَدَّمَ إنَّمَا هُوَ مَا حَقُّهُ أَنْ يُقَدَّمَ وَهُوَ بَيَانُ وَقْتِ الْقَبُولِ عَلَى مُقْتَضَى صَرِيحِ كَلَامِهِ الْمَذْكُورِ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الَّذِي يَنْبَغِي عَكْسَ مَا ذَكَرَهُ وَذَلِكَ عَيْنُ مَا وَقَعَ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ، فَكَأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَقُولَ: لَا يَخْفَى أَنَّ بَيَانَ وُجُوبِ الْقَبُولِ حَقُّهُ أَنْ يُقَدَّمَ عَلَى بَيَانِ وَقْتِ الْقَبُولِ فَخَبَطَ فِي تَحْرِيرِهِ حَيْثُ عَكَسَ الْأَمْرَ.

(قَوْلُهُ وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُوصِيَ الْإِنْسَانُ بِدُونِ الثُّلُثِ سَوَاءٌ كَانَتْ الْوَرَثَةُ أَغْنِيَاءَ أَوْ فُقَرَاءَ، لِأَنَّ فِي التَّنْقِيصِ صِلَةَ الْقَرِيبِ بِتَرْكِ مَالِهِ عَلَيْهِمْ) أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: كَمَا أَنَّ فِي التَّنْقِيصِ صِلَةَ الْقَرِيبِ كَذَلِكَ فِي التَّكْمِيلِ

ص: 427

لِأَنَّهُ اسْتِيفَاءُ تَمَامِ حَقِّهِ فَلَا صِلَةَ وَلَا مِنَّةَ، ثُمَّ الْوَصِيَّةُ بِأَقَلَّ مِنْ الثُّلُثِ أَوْلَى أَمْ تَرْكُهَا؟ قَالُوا: إنْ كَانَتْ الْوَرَثَةُ فُقَرَاءَ وَلَا يَسْتَغْنُونَ بِمَا يَرِثُونَ فَالتَّرْكُ أَوْلَى لِمَا فِيهِ مِنْ الصَّدَقَةِ عَلَى الْقَرِيبِ.

وَقَدْ قَالَ عليه الصلاة والسلام «أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ عَلَى ذِي الرَّحِمِ الْكَاشِحِ» وَلِأَنَّ فِيهِ رِعَايَةَ حَقِّ الْفُقَرَاءِ وَالْقَرَابَةِ جَمِيعًا،

صَدَقَةٌ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ، وَفِيمَا إذَا كَانَتْ الْوَرَثَةُ أَغْنِيَاءَ كَانَتْ الصِّلَةُ لَهُمْ هِبَةً مِنْهُمْ، فَالصَّدَقَةُ أَوْلَى مِنْ الْهِبَةِ كَمَا سَيَجِيءُ التَّصْرِيحُ بِهِ فِي تَعْلِيلِ كَوْنِ الْوَصِيَّةِ بِدُونِ الثُّلُثِ أَوْلَى مِنْ تَرْكِهَا فِيمَا إذَا كَانَتْ الْوَرَثَةُ أَغْنِيَاءَ أَوْ يَسْتَغْنُونَ بِنَصِيبِهِمْ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ التَّكْمِيلُ أَيْضًا أَوْلَى مِنْ التَّنْقِيصِ فِيمَا إذَا كَانَتْ الْوَرَثَةُ أَغْنِيَاءَ لِتِلْكَ الْعِلَّةِ فَمَا وَجْهُ التَّعْمِيمِ هُنَا. وَالْجَوَابُ أَنَّ فِي التَّنْقِيصِ أَصْلَ صِلَةِ الْقَرِيبِ لَا زِيَادَتَهَا، وَفِي التَّكْمِيلِ زِيَادَةُ الصَّدَقَةِ لَا أَصْلُهَا لِتَحَقُّقِ أَصْلِهَا بِمَا دُونَ الثُّلُثِ بِدُونِ التَّكْمِيلِ، فَفِي اخْتِيَارِ التَّكْمِيلِ تَفْوِيتُ صِلَةِ الْقَرِيبِ عَنْ أَصْلِهَا: أَيْ بِالْكُلِّيَّةِ، وَلَيْسَ فِي التَّنْقِيصِ تَفْوِيتُ الصَّدَقَةِ بِالْكُلِّيَّةِ بَلْ فِيهِ تَفْوِيتُ بَعْضِهَا، فَكَانَ فِي اخْتِيَارِ التَّنْقِيصِ الْعَمَلُ بِالْفَضِيلَتَيْنِ مَعًا فَضِيلَةِ الصَّدَقَةِ وَفَضِيلَةِ صِلَةِ الْقَرِيبِ، وَفِي اخْتِيَارِ التَّكْمِيلِ الْعَمَلُ بِفَضِيلَةٍ وَاحِدَةٍ فَقَطْ وَهِيَ فَضِيلَةُ الصَّدَقَةِ وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْعَمَلَ بِهِمَا مَعًا أَوْلَى مِنْ الْعَمَلِ بِأَحَدِهِمَا فَقَطْ.

(قَوْلُهُ ثُمَّ الْوَصِيَّةُ بِأَقَلَّ مِنْ الثُّلُثِ أَوْلَى أَمْ تَرْكُهَا) أَقُولُ: وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: قَدْ حُكِمَ فِيمَا مَرَّ آنِفًا بِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِدُونِ الثُّلُثِ مُسْتَحَبَّةٌ سَوَاءٌ كَانَتْ الْوَرَثَةُ أَغْنِيَاءَ أَوْ فُقَرَاءَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ هُوَ الَّذِي كَانَ فِعْلُهُ أَوْلَى مِنْ تَرْكِهِ فَمَا مَعْنَى التَّرْدِيدِ هُنَا بِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِأَقَلَّ مِنْ الثُّلُثِ أَوْلَى أَمْ تَرْكُهَا وَالتَّفْصِيلُ بِقَوْلِهِ قَالُوا إنْ كَانَتْ الْوَرَثَةُ فُقَرَاءَ إلَخْ، وَالْجَوَابُ أَنَّ الِاسْتِحْبَابَ فِي قَوْلِهِ سَابِقًا وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُوصِيَ الْإِنْسَانُ بِدُونِ الثُّلُثِ لَيْسَ بِنَاظِرٍ إلَى قَوْلِهِ أَنْ يُوصِيَ الْإِنْسَانُ بَلْ إلَى قَوْلِهِ بِدُونِ الثُّلُثِ: أَيْ مَصَبُّ الْإِفَادَةِ فِي ذَلِكَ الْكَلَامِ قَيْدُهُ لَا نَفْسُهُ، فَمَآلُ مَعْنَاهُ إلَى أَنَّ التَّنْقِيصَ عَنْ الثُّلُثِ فِي الْوَصِيَّةِ مُسْتَحَبٌّ مُطْلَقًا، وَهَذَا إنَّمَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ التَّنْقِيصُ مِنْ الثُّلُثِ فِي الْوَصِيَّةِ أَوْلَى مِنْ التَّكْمِيلِ مُطْلَقًا وَلِهَذَا قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِهِ: لِأَنَّ فِي التَّنْقِيصِ صِلَةَ الْقَرِيبِ بِتَرْكِ مَالِهِ عَلَيْهِمْ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُنَافِي أَنْ يَكُونَ تَرْكُ الْوَصِيَّةِ بِالْكُلِّيَّةِ أَوْلَى مِنْ التَّنْقِيصِ عَنْ الثُّلُثِ أَيْضًا فِي بَعْضِ الصُّوَرِ، فَبَيَّنَ الْمُصَنِّفُ ذَلِكَ بِمَا قَالُوا: إنْ كَانَتْ الْوَرَثَةُ فُقَرَاءَ وَلَا يَسْتَغْنُونَ بِمَا يَرِثُونَ فَتَرْكُهَا بِالْكُلِّيَّةِ أَوْلَى، وَإِنْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ أَوْ يَسْتَغْنُونَ بِنَصِيبِهِمْ فَالْوَصِيَّةُ أَوْلَى، فَلَمْ يَكُنْ تَرْدِيدُهُ وَتَفْصِيلُهُ هَاهُنَا مُخَالِفًا لِمَا سَبَقَ آنِفًا، بَلْ كَانَ بِمُلَاحَظَةِ ذَلِكَ وَرِعَايَتِهِ عَلَى حَالِهِ، هَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُفْهَمَ هَذَا الْمَقَامُ.

(قَوْلُهُ لِمَا فِيهِ مِنْ الصَّدَقَةِ عَلَى الْقَرِيبِ، وَقَدْ قَالَ عليه الصلاة والسلام «أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ عَلَى ذِي الرَّحِمِ الْكَاشِحِ») وَالْكَاشِحُ: الْعَدُوُّ الَّذِي أَبْدَى كَشْحَهُ، وَهُوَ مَا بَيْنَ الْخَاصِرَةِ إلَى الضِّلْعِ. وَقِيلَ الْكَاشِحُ: هُوَ الَّذِي أَضْمَرَ الْعَدَاوَةَ فِي كَشْحِهِ. وَإِنَّمَا جَعَلَ هَذَا التَّصَدُّقَ أَفْضَلَ لِأَنَّ فِي التَّصَدُّقِ عَلَيْهِ مُخَالَفَةَ النَّفْسِ وَقَهْرَهَا، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ وَغَيْرِهَا. أَقُولُ: فِيهِ شَيْءٌ، وَهُوَ أَنَّ الْحَدِيثَ حِينَئِذٍ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَفْضَلِيَّةِ الصَّدَقَةِ عَلَى ذِي الرَّحِمِ الْكَاشِحِ لَا عَلَى أَفْضَلِيَّةِ الصَّدَقَةِ عَلَى الْقَرِيبِ مُطْلَقًا كَمَا هُوَ الْمَطْلُوبُ فَلَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ، وَقَدْ تَنَبَّهَ لَهُ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ حَيْثُ قَالَ: هَذَا الْحَدِيثُ لَا يَفِي بِتَمَامِ الْمُدَّعَى وَلِذَلِكَ لَمْ يُصَدِّرْهُ بِأَدَاةِ التَّعْلِيلِ، إلَّا أَنَّ قَوْلَهُ وَلِذَلِكَ لَمْ يُصَدِّرْهُ بِأَدَاةِ التَّعْلِيلِ لَا يُجْدِي نَفْعًا، لِأَنَّ ذَلِكَ الْحَدِيثَ فِي مَقَامِ التَّعْلِيلِ هُنَا سَوَاءٌ صَدَّرَهُ بِأَدَاةِ التَّعْلِيلِ أَوْ لَمْ يُصَدِّرهُ بِهَا، وَلِهَذَا صَدَّرَهُ صَاحِبُ الْكَافِي بِاللَّامِ حَيْثُ قَالَ: لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ عَلَى ذِي الرَّحِمِ الْكَاشِحِ» ثُمَّ إنَّ بَعْضَ الْمُتَأَخِّرِينَ كَأَنَّهُ قَصَدَ دَفْعَ ذَلِكَ الْقُصُورِ وَإِصْلَاحَ الْمَقَامِ فَقَالَ فِي شَرْحِ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ لِمَا فِيهِ مِنْ الصَّدَقَةِ عَلَى الْقَرِيبِ: هَذَا قِيَاسٌ مِنْ الشَّكْلِ الْأَوَّلِ كُبْرَاهُ مَطْوِيَّةٌ وَهِيَ وَكُلُّ صَدَقَةٍ عَلَى الْقَرِيبِ أَوْلَى مِنْ الصَّدَقَةِ عَلَى غَيْرِهِ أُقِيمَ دَلِيلُهَا مَقَامَهَا وَهُوَ قَوْلُهُ وَقَدْ قَالَ عليه الصلاة والسلام «أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ عَلَى ذِي الرَّحِمِ الْكَاشِحِ»

ص: 428

وَإِنْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ أَوْ يَسْتَغْنُونَ بِنَصِيبِهِمْ فَالْوَصِيَّةُ أَوْلَى لِأَنَّهُ يَكُونُ صَدَقَةً عَلَى الْأَجْنَبِيِّ، وَالتَّرْكُ هِبَةٌ مِنْ الْقَرِيبِ وَالْأُولَى أَوْلَى لِأَنَّهُ يَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى. وَقِيلَ فِي هَذَا الْوَجْهِ يُخَيَّرُ لِاشْتِمَالِ كُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى فَضِيلَةٍ وَهُوَ الصَّدَقَةُ وَالصِّلَةُ فَيُخَيِّرُ بَيْنَ الْخَيْرَيْنِ. قَالَ (وَالْمُوصَى بِهِ يُمْلَكُ بِالْقَبُولِ) خِلَافًا لِزُفَرَ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ. هُوَ يَقُولُ: الْوَصِيَّةُ أُخْتُ الْمِيرَاثِ، إذْ كُلٌّ مِنْهُمَا خِلَافَةٌ لِمَا أَنَّهُ انْتِقَالٌ، ثُمَّ الْإِرْثُ يَثْبُتُ مِنْ غَيْرِ قَبُولٍ فَكَذَلِكَ الْوَصِيَّةُ.

وَلَنَا أَنَّ الْوَصِيَّةَ إثْبَاتُ مِلْكٍ جَدِيدٍ، وَلِهَذَا لَا يُرَدُّ الْمُوصَى لَهُ بِالْعَيْبِ، وَلَا يُرَدُّ عَلَيْهِ بِالْعَيْبِ، وَلَا يَمْلِكُ أَحَدٌ إثْبَاتَ الْمِلْكِ لِغَيْرِهِ إلَّا بِقَبُولِهِ، أَمَّا الْوِرَاثَةُ فَخِلَافَةٌ حَتَّى يَثْبُتَ فِيهَا هَذِهِ الْأَحْكَامُ فَيَثْبُتُ جَبْرًا مِنْ الشَّرْعِ مِنْ غَيْرِ قَبُولٍ.

قَالَ (إلَّا فِي مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ أَنْ يَمُوتَ الْمُوصِي ثُمَّ يَمُوتَ الْمُوصَى لَهُ قَبْلَ الْقَبُولِ فَيَدْخُلُ الْمُوصَى بِهِ فِي مِلْكِ وَرَثَتِهِ) اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنْ تَبْطُلَ الْوَصِيَّةُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمِلْكَ مَوْقُوفٌ عَلَى الْقَبُولِ فَصَارَ كَمَوْتِ الْمُشْتَرِي قَبْلَ قَبُولِهِ بَعْدَ إيجَابِ الْبَائِعِ.

وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْوَصِيَّةَ مِنْ جَانِبِ الْمُوصِي قَدْ تَمَّتْ بِمَوْتِهِ تَمَامًا لَا يَلْحَقُهُ الْفَسْخُ مِنْ جِهَتِهِ، وَإِنَّمَا تَوَقَّفَتْ لِحَقِّ الْمُوصَى لَهُ، فَإِذَا مَاتَ دَخَلَ فِي مِلْكِهِ كَمَا فِي الْبَيْعِ الْمَشْرُوطِ فِيهِ الْخِيَارُ إذَا مَاتَ قَبْلَ الْإِجَازَةِ.

فَإِنَّهُ بِصَرِيحِهِ يَدُلُّ عَلَى أَفْضَلِيَّةِ الصَّدَقَةِ عَلَى ذِي رَحِمٍ كَاشِحٍ مِنْ الصَّدَقَةِ عَلَى ذِي رَحِمٍ غَيْرِ كَاشِحٍ. وَتَخْصِيصُ الْكَاشِحِ بِذِي الرَّحِمِ يَدُلُّ عَلَى أَفْضَلِيَّةِ الصَّدَقَةِ عَلَى ذِي الرَّحِمِ مِنْهَا عَلَى غَيْرِ ذِي الرَّحِمِ انْتَهَى.

أَقُولُ: لَيْسَ ذَاكَ أَيْضًا بِتَامٍّ فَإِنَّا إنْ أَغْمَضْنَا عَنْ مَنْعِ قَوْلِهِ فَإِنَّهُ بِصَرِيحِهِ يَدُلُّ عَلَى أَفْضَلِيَّةِ الصَّدَقَةِ عَلَى ذِي الرَّحِمِ كَاشِحٍ مِنْ الصَّدَقَةِ عَلَى ذِي رَحِمٍ غَيْرِ كَاشِحٍ نَمْنَعُ جِدًّا قَوْلَهُ وَتَخْصِيصُ الْكَاشِحِ بِذِي الرَّحِمِ يَدُلُّ عَلَى أَفْضَلِيَّةِ الصَّدَقَةِ عَلَى ذِي الرَّحِمِ عَلَى غَيْرِ ذِي الرَّحِمِ، فَإِنَّ تَخْصِيصَ الْكَاشِحِ بِذِي الرَّحِمِ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَنْ يَكُونَ لِلتَّصَدُّقِ عَلَى ذِي الرَّحِمِ تَأْثِيرٌ فِي أَفْضَلِيَّةِ الصَّدَقَةِ، كَمَا أَنَّ لِكَوْنِهِ كَاشِحًا تَأْثِيرًا فِيهَا، وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ التَّصَدُّقُ عَلَى ذِي الرَّحِمِ الْغَيْرِ الْكَاشِحِ أَفْضَلَ مِنْ التَّصَدُّقِ عَلَى غَيْرِ ذِي الرَّحِمِ الْكَاشِحِ، لِأَنَّ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا انْتِفَاءَ أَحَدِ سَبَبَيْ الْأَفْضَلِيَّةِ الْمُسْتَفَادَيْنِ مِنْ الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ، فَمِنْ أَيْنَ يُعْلَمُ أَفْضَلِيَّةُ أَحَدِهِمَا تَأَمَّلْ تَقِفْ.

(قَوْلُهُ وَإِنْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ أَوْ يَسْتَغْنُونَ بِنَصِيبِهِمْ فَالْوَصِيَّةُ أَوْلَى لِأَنَّهُ يَكُونُ صَدَقَةً عَلَى الْأَجْنَبِيِّ، وَالتَّرْكُ هِبَةٌ مِنْ الْقَرِيبِ وَالْأُولَى أَوْلَى) أَقُولُ: لِمَانِعٍ أَنْ يَمْنَعَ كَوْنَ الْوَصِيَّةِ صَدَقَةً عَلَى الْأَجْنَبِيِّ مُطْلَقًا، إذْ الْأَجْنَبِيُّ الْمُوصَى لَهُ قَدْ يَكُونُ غَنِيًّا أَيْضًا فَلَمْ يَثْبُت أَوْلَوِيَّةُ الْوَصِيَّةِ مِنْ تَرْكِهَا عَلَى الْإِطْلَاقِ فِيمَا إذَا كَانَتْ الْوَرَثَةُ أَغْنِيَاءَ أَوْ يَسْتَغْنُونَ بِنَصِيبِهِمْ فَتَدَبَّرْ.

(قَوْلُهُ وَلِهَذَا لَا يُرَدُّ الْمُوصَى لَهُ بِالْعَيْبِ وَلَا يُرَدُّ عَلَيْهِ بِالْعَيْبِ) قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الشُّرَّاحِ مِنْهُمْ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: صُورَةُ الْأَوَّلِ أَنْ يَشْتَرِيَ الْمَرِيضُ شَيْئًا وَيُوصِيَ بِهِ لِرَجُلٍ ثُمَّ الْمُوصَى لَهُ يَجِدُهُ مَعِيبًا فَإِنَّهُ لَا يَرُدُّهُ عَلَى بَائِعِهِ. وَصُورَةُ الثَّانِي أَنْ يُوصِيَ بِجَمِيعِ مَالِهِ لِإِنْسَانٍ ثُمَّ بَاعَ شَيْئًا مِنْ التَّرِكَةِ وَوَجَدَ الْمُشْتَرِي بِهِ عَيْبًا لَا يَرُدُّهُ عَلَى الْمُوصَى لَهُ انْتَهَى. أَقُولُ: فِي تَصْوِيرِ الثَّانِي بِمَا ذَكَرَ نَظَرٌ، لِأَنَّ الْمُوصِيَ إذَا بَاعَ شَيْئًا مِنْ الْمُوصَى بِهِ يَصِيرُ رَاجِعًا عَنْ وَصِيَّتِهِ كَمَا سَيَجِيءُ تَفْصِيلُهُ عَنْ قَرِيبٍ،

ص: 429

قَالَ (وَمَنْ أَوْصَى وَعَلَيْهِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِمَالِهِ لَمْ تَجُزْ الْوَصِيَّةُ) لِأَنَّ الدَّيْنَ يُقَدَّمُ عَلَى الْوَصِيَّةِ لِأَنَّهُ أَهَمُّ الْحَاجَتَيْنِ فَإِنَّهُ فَرْضٌ وَالْوَصِيَّةُ تَبَرُّعٌ، وَأَبَدًا يُبْدَأْ بِالْأَهَمِّ فَالْأَهَمِّ. (إلَّا أَنْ يُبَرِّئَهُ الْغُرَمَاءُ) لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ الدَّيْنُ فَتَنْفُذُ الْوَصِيَّةُ عَلَى الْحَدِّ الْمَشْرُوعِ لِحَاجَتِهِ إلَيْهَا.

قَالَ (وَلَا تَصِحُّ وَصِيَّةُ الصَّبِيِّ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تَصِحُّ إذَا كَانَ فِي وُجُوهِ الْخَيْرِ لِأَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه أَجَازَ وَصِيَّةَ يَفَاعٍ أَوْ يَافَاعٍ وَهُوَ الَّذِي رَاهَقَ الْحُلُمَ، وَلِأَنَّهُ نَظَرَ لَهُ بِصَرْفِهِ إلَى نَفْسِهِ فِي نَيْلِ الزُّلْفَى، وَلَوْ لَمْ تَنْفُذْ يَبْقَى عَلَى غَيْرِهِ.

وَلَنَا أَنَّهُ تَبَرُّعٌ وَالصَّبِيُّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ، وَلِأَنَّ قَوْلَهُ غَيْرُ مَلْزُومٍ وَفِي تَصْحِيحِ وَصِيَّتِهِ قَوْلٌ بِإِلْزَامِ قَوْلِهِ وَالْأَثَرُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ قَرِيبَ الْعَهْدِ بِالْحُلُمِ مَجَازًا أَوْ كَانَتْ وَصِيَّتُهُ فِي تَجْهِيزِهِ وَأَمْرِ دَفْنِهِ، وَذَلِكَ جَائِزٌ عِنْدَنَا،

فَفِي الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ يَكُونُ عَدَمُ ثُبُوتِ وِلَايَةِ رَدِّ الْمُشْتَرِي مَا اشْتَرَاهُ مِنْ الْمُوصِي عَلَى الْمُوصَى لَهُ بِالْعَيْبِ لِرُجُوعِ الْمُوصِي عَنْ وَصِيَّةِ مَا بَاعَهُ مِنْ التَّرِكَةِ بِبَيْعِهِ وَعَدَمِ تَعَلُّقِ حَقِّ الْمُوصَى لَهُ بِذَلِكَ بَعْدَ تَحَقُّقِ الرُّجُوعِ عَنْ الْوَصِيَّةِ لَا لِكَوْنِ الْوَصِيَّةِ إثْبَاتَ مِلْكٍ جَدِيدٍ فَلَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ.

(قَوْلُهُ وَمَنْ أَوْصَى وَعَلَيْهِ دَيْنٌ مُحِيطٌ بِمَالِهِ لَمْ تَجُزْ الْوَصِيَّةُ لِأَنَّ الدَّيْنَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْوَصِيَّةِ لِأَنَّهُ أَهَمُّ الْحَاجَتَيْنِ فَإِنَّهُ فَرْضٌ وَالْوَصِيَّةُ تَبَرُّعٌ) أَقُولُ: هَذَا التَّعْلِيلُ مَنْقُوضٌ بِالْوَصِيَّةِ بِنَحْوِ الْحَجِّ وَالزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَاتِ فَإِنَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَى مَا صَرَّحُوا بِهِ. فَالْأَوْلَى فِي التَّعْلِيلِ الْبَسْطُ بِأَنْ يُقَالَ: لِأَنَّهُ حَقُّ الْعَبْدِ وَأَدَاؤُهُ فَرْضٌ، وَالْوَصِيَّةُ تَكُونُ بِطَرِيقِ التَّبَرُّعِ فِي الْغَالِبِ وَقَدْ تَكُونُ بِطَرِيقِ الْوُجُوبِ، وَذَلِكَ فِيمَا إذَا كَانَتْ لِأَدَاءِ حُقُوقِ اللَّهِ سبحانه وتعالى الْفَائِتَةِ كَالْحَجِّ وَالزَّكَاةِ وَنَحْوِهِمَا، وَأَيًّا مَا كَانَ يُقَدَّمُ الدَّيْنُ عَلَيْهَا. أَمَّا فِي الشِّقِّ الْأَوَّلِ فَظَاهِرٌ لِأَنَّ أَدَاءَ الدَّيْنِ فَرْضٌ وَالْفَرْضُ مُقَدَّمٌ عَلَى التَّبَرُّعِ لَا مَحَالَةَ. وَأَمَّا فِي الشِّقِّ الثَّانِي فَلِأَنَّ الدَّيْنَ حَقُّ الْعَبْدِ وَحَقُّ الْعَبْدِ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى إذَا اجْتَمَعَا لِاحْتِيَاجِ الْعَبْدِ دُونَ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا عُرِفَ فِي مَحِلِّهِ.

(قَوْلُهُ وَالْأَثَرُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ قَرِيبَ الْعَهْدِ بِالْحُلُمِ مَجَازًا) يَعْنِي كَانَ بَالِغًا لَمْ يَمْضِ عَلَى بُلُوغِهِ زَمَانٌ كَثِيرٌ، وَمِثْلُهُ يُسَمَّى يَافِعًا مَجَازًا تَسْمِيَةً لِلشَّيْءِ بِاسْمِ مَا كَانَ عَلَيْهِ كَذَا فِي الْعِنَايَةِ وَغَيْرِهَا (أَوْ كَانَتْ وَصِيَّتُهُ فِي تَجْهِيزِهِ وَأَمْرِ دَفْنِهِ وَذَلِكَ جَائِزٌ عِنْدَنَا) قَالَ صَاحِبُ الْغَايَةِ: وَفِيهِ نَظَرٌ عِنْدِي، لِأَنَّهُ صَرَّحَ الرَّاوِي بِأَنَّهُ أَوْصَى لِابْنَةِ عَمٍّ لَهُ بِمَالٍ فَكَيْفَ يُسَمَّى ذَلِكَ وَصِيَّةً بِتَجْهِيزِ نَفْسِهِ، وَكَيْفَ يَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ كَانَ أَدْرَكَ لَكِنْ سُمِّيَ غُلَامًا مَجَازًا لِأَنَّهُ صَحَّ فِي رِوَايَةِ الْحَدِيثِ أَنَّهُ كَانَ غُلَامًا لَمْ يَحْتَلِمْ انْتَهَى. وَرَدَّ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ حَاصِلَ نَظَرِهِ. وَالْجَوَابُ عَنْهُ حَيْثُ قَالَ: وَرُدَّ بِأَنَّهُ صَحَّ فِي رِوَايَةِ الْحَدِيثِ أَنَّهُ كَانَ غُلَامًا لَمْ يَحْتَلِمْ وَأَنَّهُ أَوْصَى لِابْنَةِ عَمٍّ لَهُ بِمَالٍ فَكَيْفَ يَصِحُّ التَّأْوِيلُ بِكَوْنِهِ يَافِعًا مَجَازًا أَوْ يَكُونُ الْوَصِيَّةُ فِي التَّجْهِيزِ وَأَمْرِ الدَّفْنِ؟ وَأُجِيبَ بِأَنَّ قَوْلَهُ كَانَ غُلَامًا لَمْ يَحْتَلِمْ مَعْنَى الْيَافِعِ حَقِيقَةً فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الرَّاوِي نَقَلَهُ بِمَعْنَاهُ، وَقَوْلُهُ إنَّهُ أَوْصَى لِابْنَةِ عَمٍّ لَهُ بِمَالٍ لَا يُنَافِي أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِتَجْهِيزِهِ وَأَمْرِ دَفْنِهِ. أَقُولُ: لَيْسَ ذَاكَ الْجَوَابُ

ص: 430

وَهُوَ يُحْرِزُ الثَّوَابَ بِالتَّرْكِ عَلَى وَرَثَتِهِ كَمَا بَيَّنَّاهُ، وَالْمُعْتَبَرُ فِي النَّفْعِ وَالضَّرَرِ النَّظَرُ إلَى أَوْضَاعِ التَّصَرُّفَاتِ لَا إلَى مَا يَتَّفِقُ بِحُكْمِ الْحَالِ اعْتَبَرَهُ بِالطَّلَاقِ فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ وَلَا وَصِيَّهُ وَإِنْ كَانَ يَتَّفِقُ نَافِعًا فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ، وَكَذَا إذَا أَوْصَى ثُمَّ مَاتَ بَعْدَ الْإِدْرَاكِ لِعَدَمِ الْأَهْلِيَّةِ وَقْتَ الْمُبَاشَرَةِ، وَكَذَا إذَا قَالَ إذَا أَدْرَكْت فَثُلُثُ مَالِي لِفُلَانٍ وَصِيَّةً لِقُصُورِ أَهْلِيَّتِهِ فَلَا يَمْلِكُهُ تَنْجِيزًا وَتَعْلِيقًا كَمَا فِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ،

بِسَدِيدٍ. أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُ إذَا كَانَ لَفْظُ الْيَافِعِ فِي الْأَثَرِ الْمَزْبُورِ مَجَازًا عَمَّنْ كَانَ بَالِغًا لَمْ يَمْضِ عَلَى بُلُوغِهِ زَمَانٌ كَثِيرٌ كَانَ مَعْنَى الْيَافِعِ حَقِيقَةً غَيْرَ مُرَادٍ فِي ذَلِكَ الْأَثَرِ بَلْ غَيْرَ وَاقِعٍ فِي أَصْلِ الْقِصَّةِ، فَلَوْ كَانَ الرَّاوِي نَقَلَهُ بِمَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ لَزِمَ أَنْ يَكْذِبَ فِي نَقْلِهِ وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ.

وَأَمَّا ثَانِيًا: فَلِأَنَّ قَوْلَهُ وَقَوْلُهُ " إنَّهُ أَوْصَى لِابْنَةِ عَمٍّ لَهُ بِمَالٍ لَا يُنَافِي أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِتَجْهِيزِهِ وَأَمْرِ دَفْنِهِ " مَمْنُوعٌ جِدًّا، فَإِنَّ مَعْنَى أَوْصَى لَهُ بِمَالٍ مَلَّكَهُ إيَّاهُ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِتَجْهِيزِهِ وَأَمْرِ دَفْنِهِ لَا يَكَادُ أَنْ يَكُونَ مِلْكًا لِغَيْرِهِ كَمَا لَا يَخْفَى. نَعَمْ لَوْ كَانَ الْمَرْوِيُّ فِي الْأَثَرِ أَنَّهُ أَوْصَى إلَى ابْنَةِ عَمٍّ لَهُ بِكَلِمَةِ " إلَى " بَدَلَ كَلِمَةِ " اللَّامِ " لَمْ يَلْزَمْ التَّنَافِي، لِأَنَّ مَعْنَى أَوْصَى إلَيْهِ جَعَلَهُ وَصِيًّا فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ ابْنَةُ عَمِّهِ وَصِيَّتَهُ فِي تَجْهِيزِهِ وَأَمْرِ دَفْنِهِ، وَلَمَّا كَانَ الْمَرْوِيُّ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ أَوْصَى لِابْنَةِ عَمٍّ لَهُ بِمَالٍ لَمْ يَبْقَ لِلتَّأْوِيلِ الْمَذْكُورِ مَجَالٌ.

(قَوْلُهُ وَهُوَ يُحْرِزُ الثَّوَابَ بِالتَّرْكِ عَلَى وَرَثَتِهِ كَمَا بَيَّنَّاهُ) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ: قَوْلُهُ يُحْرِزُ الثَّوَابَ جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ وَلِأَنَّهُ نَظَرَ لَهُ بِصَرْفِهِ إلَى نَفْسِهِ فِي نَيْلِ الزُّلْفَى، وَقَوْلُهُ كَمَا بَيَّنَّاهُ إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ فَالتَّرْكُ أَوْلَى لِمَا فِيهِ مِنْ الصَّدَقَةِ عَنْ الْقَرِيبِ إلَخْ، فَإِنَّهُ يُفِيدُ إمَّا أَفْضَلِيَّةَ التَّرْكِ فِي الثَّوَابِ أَوْ تُسَاوِيهِمَا فِيهِ انْتَهَى. أَقُولُ: فِيهِ إشْكَالٌ، لِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ أَنَّ قَوْلَهُ لِمَا بَيَّنَّاهُ إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ فَالتَّرْكُ أَوْلَى لِمَا فِيهِ مِنْ الصَّدَقَةِ إلَى آخِرِهِ: أَيْ إلَى آخِرِ تَعْلِيلِ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ مَا يَنْتَهِي عِنْدَ قَوْلِهِ وَإِنْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ يَلْزَمُ أَنْ لَا يَتِمَّ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ هُنَا فَإِنَّهُ إنَّمَا يَتَمَشَّى فِي صُورَةِ إنْ كَانَتْ الْوَرَثَةُ فُقَرَاءَ فَلَا يَحْصُلُ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَلِأَنَّهُ نَظَرَ لَهُ بِصَرْفِهِ إلَى نَفْسِهِ فِي نَيْلِ الزُّلْفَى فِي صُورَةٍ إنْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ، وَيَلْزَمُ أَنْ لَا يَصِحَّ قَوْلُ الشَّارِحِ فَإِنَّهُ يُفِيدُ إمَّا أَفْضَلِيَّةَ التَّرْكِ فِي الثَّوَابِ أَوْ تُسَاوِيَهُمَا فِيهِ إذْ الْأَفْضَلِيَّةُ مُتَعَيِّنَةٌ حِينَئِذٍ فَلَا مَعْنَى لِلتَّرْدِيدِ، وَإِنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ إلَخْ، قَوْلُهُ وَالْمُوصَى بِهِ يَمْلِكُ بِالْقَبُولِ لِتَنَاوُلِهِ صُورَةَ إنْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ أَيْضًا يَلْزَمُ أَنْ لَا يَجْرِيَ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ هُنَا، وَكَلَامُ الشَّارِحِ أَيْضًا فِي صُورَةِ إنْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ إلَّا عَلَى الْقَوْلِ الضَّعِيفِ الْمَذْكُورِ

ص: 431

بِخِلَافِ الْعَبْدِ وَالْمُكَاتَبِ لِأَنَّ أَهْلِيَّتَهُمَا مُسْتَتِمَّةٌ وَالْمَانِعُ حَقُّ الْمَوْلَى فَتَصِحُّ إضَافَتُهُ إلَى حَالِ سُقُوطِهِ.

قَالَ (وَلَا تَصِحُّ وَصِيَّةُ الْمُكَاتَبِ وَإِنْ تَرَكَ وَفَاءً) لِأَنَّ مَالَهُ لَا يَقْبَلُ التَّبَرُّعَ، وَقِيلَ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لَا تَصِحُّ، وَعِنْدَهُمَا تَصِحُّ رَدًّا لَهَا إلَى مُكَاتَبٍ يَقُولُ كُلُّ مَمْلُوكٍ أَمْلِكُهُ فِيمَا أَسْتَقْبِلُ فَهُوَ حُرٌّ ثُمَّ عَتَقَ فَمَلَكَ، وَالْخِلَافُ فِيهَا مَعْرُوفٌ عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ.

قَالَ (وَتَجُوزُ الْوَصِيَّةُ لِلْحَمْلِ وَبِالْحَمْلِ إذَا وُضِعَ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْوَصِيَّةِ) أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ الْوَصِيَّةَ اسْتِخْلَافٌ مِنْ وَجْهٍ لِأَنَّهُ يَجْعَلُهُ خَلِيفَةً فِي بَعْضِ مَالِهِ وَالْجَنِينُ صَلَحَ خَلِيفَةً فِي الْإِرْثِ فَكَذَا فِي الْوَصِيَّةِ إذْ هِيَ أُخْتُهُ،

هُنَاكَ بِقِيلَ وَهُوَ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الْوَصِيَّةِ وَتَرْكِهَا عَلَى الْقَوْلِ الْمُخْتَارِ الْمَذْكُورِ هُنَاكَ أَوَّلًا وَهُوَ كَوْنُ الْوَصِيَّةِ أَوْلَى مِنْ تَرْكِهَا. وَبِالْجُمْلَةِ لَا يَخْلُو الْمَقَامُ عَلَى كُلِّ حَالٍ عَنْ نَوْعٍ مِنْ الِاخْتِلَالِ.

قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ هُنَا بَعْدَ نَقْلِ مَا فِي الْعِنَايَةِ: وَفِيهِ أَنَّ التَّسَاوِيَ مَبْنِيٌّ عَلَى قَوْلٍ ضَعِيفٍ كَمَا سَبَقَ وَلَا حَاجَةَ إلَيْهِ فِي الْمَقْصُودِ انْتَهَى. أَقُولُ: إنَّ قَوْلَهُ وَلَا حَاجَةَ إلَيْهِ فِي الْمَقْصُودِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، إذْ لَا أَفْضَلِيَّةَ لِلتَّرْكِ فِي صُورَةِ إنْ كَانَتْ الْوَرَثَةُ أَغْنِيَاءَ، بَلْ الْأَفْضَلِيَّةُ فِيهَا لِلْوَصِيَّةِ عَلَى الْقَوْلِ الْمُخْتَارِ أَوْ الْوَصِيَّةُ وَتَرْكُهَا سِيَّانِ فِيهَا عَلَى الْقَوْلِ الضَّعِيفِ كَمَا تَقَرَّرَ فِيمَا سَبَقَ، وَالْمَقْصُودُ هُنَا هُوَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَلِأَنَّهُ نَظَرَ لَهُ بِصَرْفِهِ إلَى نَفْسِهِ فِي نَيْلِ الزُّلْفَى، وَلَا رَيْبَ أَنَّ ذَلِكَ الْمَقْصُودَ لَا يَحْصُلُ بِقَوْلِ الْمُصَنِّفِ هُنَا وَهُوَ يُحْرِزُ الثَّوَابَ بِالتَّرْكِ عَلَى وَرَثَتِهِ فِي صُورَةِ إنْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ بِالتَّشَبُّثِ إلَّا بِالْقَوْلِ الضَّعِيفِ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ تُسَاوِي الْوَصِيَّةِ وَتَرْكِهَا إذْ عَلَى الْقَوْلِ الْمُخْتَارِ فِيهَا تَكُونُ الْوَصِيَّةُ أَفْضَلَ فَلَا يَتَيَسَّرُ إحْرَازُ الثَّوَابِ بِتَرْكِهَا فَتَحَقَّقَتْ الْحَاجَةُ إلَى ذِكْرِ التَّسَاوِي لِيَتِمَّ الْجَوَابُ بِالنَّظَرِ إلَى تِلْكَ الصُّورَةِ أَيْضًا. وَعَنْ هَذَا أَوْرَدَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ عَلَى مَا فِي الْعِنَايَةِ مَا أَوْرَدَهُ ذَلِكَ وَلَمْ يَذْكُرْ الْمُقَدِّمَةَ الْقَائِلَةَ، لَا حَاجَةَ إلَيْهِ فِي الْمَقْصُودِ حَيْثُ قَالَ: فِيهِ بَحْثٌ، فَإِنَّ التَّسَاوِيَ فِيهِ ضَعِيفٌ، وَلِذَلِكَ الْبَعْضِ أَوْرَدَهُ الْمُصَنِّفُ بِصِيغَةِ التَّمْرِيضِ انْتَهَى.

(قَوْلُهُ وَتَجُوزُ الْوَصِيَّةُ لِلْحَمْلِ وَبِالْحَمْلِ إذَا وُضِعَ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْوَصِيَّةِ) أَيْ وَتَجُوزُ الْوَصِيَّةُ لِلْحَمْلِ، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ أَوْصَيْت بِثُلُثِ مَالِي لِمَا فِي بَطْنِ فُلَانَةَ وَبِالْحَمْلِ كَمَا إذَا أَوْصَى بِمَا فِي بَطْنِ جَارِيَتِهِ وَلَمْ يَكُنْ مِنْهُ لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّهُ مَوْجُودٌ فِي الْبَطْنِ وَقْتَ الْوَصِيَّةِ لَهُ أَوْ بِهِ بِأَنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ

ص: 432

إلَّا أَنْ يَرْتَدَّ بِالرَّدِّ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى التَّمْلِيكِ، بِخِلَافِ الْهِبَةِ، لِأَنَّهَا تَمْلِيكٌ مَحْضٌ وَلَا وِلَايَةَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ لِيُمَلِّكَهُ شَيْئًا.

وَقْتِ الْوَصِيَّةِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ وَصَحَّحَهُ الْإِسْبِيجَابِيُّ فِي شَرْحِ الْكَافِي وَاخْتَارَهُ الْمُصَنِّفُ، أَوْ مِنْ وَقْتِ مَوْتِ الْمُوصِي بِأَنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ مَوْتِهِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ فِي بَابِ الْوَصَايَا وَالْإِمَامُ الْإِسْبِيجَابِيُّ فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ وَاخْتَارَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ، هَذَا زُبْدَةُ مَا فِي الْعِنَايَةِ وَغَايَةُ الْبَيَانِ.

قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ بَعْدَ أَنْ شَرَحَ الْمَقَامَ بِهَذَا الْمِنْوَالِ: أَقُولُ: لَيْسَ مَبْنَى هَذَا الِاخْتِلَافِ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي أَنَّهُ هَلْ يَكْفِي فِي صِحَّةِ الْوَصِيَّةِ وُجُودُ الْمُوصَى لَهُ وَبِهِ وَقْتَ مَوْتِ الْمُوصِي، أَوْ لَا بُدَّ مَعَ ذَلِكَ مِنْ وُجُودِهِمَا وَقْتَ الْوَصِيَّةِ لِاتِّفَاقِ مَشَايِخِنَا عَلَى أَنَّ الشَّرْطَ لِصِحَّتِهَا وُجُودُهُمَا وَقْتَ الْمَوْتِ فَقَطْ لَا وَقْتَ الْوَصِيَّةِ أَيْضًا لِأَنَّهَا تَمْلِيكٌ بَعْدَ الْمَوْتِ فَلَا بُدَّ مِنْ وُجُودِهِمَا إذْ ذَاكَ دُونَ وَقْتِ الْإِيجَابِ بِدَلِيلِ مَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ قَاضِي خَانْ، وَسَيَجِيءُ أَيْضًا أَنَّهُ لَوْ قَالَ أَوْصَيْت بِثُلُثِ مَالِي لِفُلَانٍ وَلَيْسَ لَهُ مَالٌ ثُمَّ اسْتَفَادَ مَالًا كَانَ لِلْمُوصَى لَهُ ثُلُثُ مَا تَرَكَ، وَبِدَلِيلِ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْمُحِيطِ نَقْلًا عَنْ الْأَصْلِ أَنَّهُ إذَا أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِبَنِي فُلَانٍ وَلَيْسَ لِفُلَانٍ ابْنٌ يَوْمَ الْوَصِيَّةِ ثُمَّ حَدَثَ لَهُ بَنُونَ بَعْدَ ذَلِكَ وَمَاتَ الْمُوصِي كَانَ الثُّلُثُ لِلَّذِينَ حَدَثُوا مِنْ بَنِيهِ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ مَنْشَأَ الِاخْتِلَافِ لَيْسَ بِذَاكَ بَلْ خُصُوصِيَّةٌ فِي الْمَسْأَلَةِ اعْتَبَرَهَا الطَّحَاوِيُّ وَلَمْ يَتَنَبَّهْ لَهَا غَيْرُهُ، وَهِيَ أَنَّ الْمَفْهُومَ عُرْفًا وَلُغَةً إذَا قِيلَ أَوْصَيْت لِمَا فِي بَطْنِهَا بِكَذَا كَوْنُهُ مَوْجُودًا فِي بَطْنِهَا وَقْتَئِذٍ لِأَنَّ الْمَعْنَى لِمَا ثَبَتَ وَتَحَقَّقَ فِي بَطْنِهَا فِي هَذَا الْوَقْتِ، إلَى هُنَا كَلَامُ ذَلِكَ الْبَعْضِ.

أَقُولُ: فِيهِ اخْتِلَافٌ فَاحِشٌ، فَإِنَّ قَوْلَهُ لِاتِّفَاقِ مَشَايِخِنَا عَلَى أَنَّ الشَّرْطَ لِصِحَّتِهَا وُجُودُهُمَا وَقْتَ الْمَوْتِ فَقَطْ لَا وَقْتَ الْوَصِيَّةِ أَيْضًا مَمْنُوعٌ، كَيْفَ وَقَدْ وُضِعَ فِي الْمُحِيطِ وَالذَّخِيرَةِ فَصْلٌ عَلَى حِدَةٍ لِبَيَانِ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ لِصِحَّةِ الْإِيجَابِ فِي الْوَصَايَا وُجُودُ الْمُوصَى بِهِ يَوْمَ مَوْتِ الْمُوصِي أَوْ وُجُودُهُ يَوْمَ الْوَصِيَّةِ، وَذَكَرَ هُنَاكَ أَنَّ حَاصِلَ هَذَا الْفَصْلِ أَنَّ الْمُوصَى بِهِ إذَا كَانَ مُعَيَّنًا يُعْتَبَرُ لِصِحَّةِ الْإِيجَابِ وُجُودُهُ يَوْمَ الْوَصِيَّةِ، حَتَّى إنَّ مَنْ أَوْصَى لِإِنْسَانٍ بِعَيْنٍ لَا يَمْلِكُهُ ثُمَّ مَلَكَهُ يَوْمًا مِنْ الدَّهْرِ لَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ، وَإِذَا كَانَ الْعَيْنُ الْمُوصَى بِهِ فِي مِلْكِ الْمُوصِي يَوْمَ الْوَصِيَّةِ فَالْوَصِيَّةُ تَتَعَلَّقُ بِهِ حَتَّى إذَا هَلَكَ ذَلِكَ الْعَيْنُ تَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ، وَمَتَى كَانَ الْمُوصَى بِهِ غَيْرَ مُعَيَّنٍ وَهُوَ شَائِعٌ فِي بَعْضِ التَّرِكَةِ فَكَذَلِكَ يُعْتَبَرُ لِصِحَّةِ الْإِيجَابِ وُجُودُ الْمُوصَى بِهِ يَوْمَ الْوَصِيَّةِ وَتَتَعَلَّقُ الْوَصِيَّةُ بِهِ، فَلَوْ قَالَ أَوْصَيْت لَك بِثُلُثِ غَنَمِي أَوْ بِشَاةٍ مِنْ غَنَمِي وَلَيْسَ فِي مِلْكِهِ غَنَمٌ يَوْمَ الْوَصِيَّةِ لَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ، حَتَّى لَوْ وُجِدَتْ لِلْمُوصِي أَغْنَامٌ بَعْدَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ لَا يَكُونُ لِلْمُوصَى لَهُ مِنْ الْأَغْنَامِ الْحَادِثَةِ شَيْءٌ، وَمَتَى كَانَ الْمُوصَى بِهِ غَيْرَ مُعَيَّنٍ وَهُوَ شَائِعٌ فِي جَمِيعِ التَّرِكَةِ يُعْتَبَرُ لِصِحَّةِ الْإِيجَابِ وُجُودُ الْمُوصَى بِهِ يَوْمَ مَوْتِ الْمُوصِي، فَإِذَا أَوْصَى لِرَجُلٍ بِثُلُثِ مَالِهِ وَلَهُ مَالٌ فَهَلَكَ ذَلِكَ الْمَالُ وَاكْتَسَبَ مَالًا غَيْرَهُ فَإِنَّ ثُلُثَ مَالِهِ الَّذِي اكْتَسَبَهُ لِلْمُوصَى لَهُ وَلَمْ تَتَعَلَّقْ الْوَصِيَّةُ بِالْمَالِ الْمَوْجُودِ يَوْمَ الْوَصِيَّةِ حَتَّى لَا تَبْطُلَ بِهَلَاكِهِ اهـ.

فَقَدْ ظَهَرَ لَك بِذَلِكَ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ لِصِحَّةِ الْإِيجَابِ فِي أَكْثَرِ أَقْسَامِ الْوَصَايَا وُجُودُ الْمُوصَى بِهِ وَقْتَ الْوَصِيَّةِ لَا وَقْتَ الْمَوْتِ، فَلَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ بِاتِّفَاقِ مَشَايِخِنَا عَلَى أَنَّ الشَّرْطَ لِصِحَّتِهَا وُجُودُهُمَا: أَيْ وُجُودُ الْمُوصَى لَهُ وَبِهِ وَقْتَ الْمَوْتِ فَقَطْ لَا وَقْتَ الْوَصِيَّةِ أَيْضًا، وَقَوْلُهُ فِي تَعْلِيلِ ذَلِكَ لِأَنَّهَا تَمْلِيكٌ بَعْدَ الْمَوْتِ فَلَا بُدَّ مِنْ وُجُودِهِمَا إذْ ذَاكَ دُونَ وَقْتِ الْإِيجَابِ لَيْسَ بِتَامٍّ، لِأَنَّ سَبَبَ الِاسْتِحْقَاقِ هُوَ الْوَصِيَّةُ فَيَجُوزُ أَنْ يُعْتَبَرَ وُجُودُهُمَا وَقْتَ وُجُودِ ذَلِكَ السَّبَبِ، كَمَا يَجُوزُ أَنْ يُعْتَبَرَ وُجُودُهُمَا وَقْتَ تَحَقُّقِ الْحُكْمِ وَهُوَ الْمِلْكُ، وَمِنْ هَذَا مَنْشَأُ الِاخْتِلَافِ الْوَاقِعِ بَيْنَ الْمَشَايِخِ عَلَى مَا مَرَّ مِنْ قَبْلُ، وَقَوْلُهُ بِدَلِيلِ مَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ قَاضِي خَانْ، وَسَيَجِيءُ أَيْضًا أَنَّهُ لَوْ قَالَ أَوْصَيْت لِفُلَانٍ بِثُلُثِ مَالِي وَلَيْسَ لَهُ مَالٌ ثُمَّ اسْتَفَادَ مَالًا كَانَ لِلْمُوصَى لَهُ ثُلُثُ مَا تَرَكَ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، لِأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى كَوْنِ الْمُعْتَبَرِ وَقْتَ الْمَوْتِ فِيمَا إذَا كَانَ الْمُوصَى بِهِ غَيْرَ مُعَيَّنٍ وَهُوَ شَائِعٌ فِي جَمِيعِ التَّرِكَةِ كَمَا هُوَ الْحَالُ فِي قَوْلِهِ أَوْصَيْت بِثُلُثِ مَالِي لِفُلَانٍ لَا فِيمَا إذَا كَانَ الْمُوصَى بِهِ مُعَيَّنًا كَمَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ، وَعَنْ هَذَا قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَغَيْرُهُ فِي شَرْحِ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي سَتَجِيءُ

ص: 433

وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّهُ بِعَرْضِ الْوُجُودِ، إذْ الْكَلَامُ فِيمَا إذَا عُلِمَ وُجُودُهُ وَقْتَ الْوَصِيَّةِ،

فِي الْكِتَابِ: هَذَا إذَا كَانَ الْمُوصَى بِهِ غَيْرَ مُعَيِّنٍ وَهُوَ شَائِعٌ فِي جَمِيعِ التَّرِكَةِ كَمَا فِي اسْمِ الْمَالِ، وَأَمَّا إذَا كَانَ مُعَيَّنًا فِي نَوْعٍ مِنْ الْمَالِ فَالْحُكْمُ بِخِلَافِهِ، وَنَقَلُوا عَنْ الذَّخِيرَةِ مَا نَقَلْنَاهُ عَنْ الْمُحِيطِ وَالذَّخِيرَةِ مِنْ التَّفْصِيلِ فِيمَا مَرَّ آنِفًا.

وَقَوْلُهُ وَبِدَلِيلِ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْمُحِيطِ نَقْلًا عَنْ الْأَصْلِ أَنَّهُ إذَا أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِبَنِي فُلَانٍ وَلَيْسَ لِفُلَانٍ ابْنٌ يَوْمَ الْوَصِيَّةِ ثُمَّ حَدَثَ لَهُ بَنُونَ بَعْدَ ذَلِكَ وَمَاتَ الْمُوصِي كَانَ الثُّلُثُ لِلَّذِينَ حَدَثُوا مِنْ بَنِيهِ لَيْسَ بِتَامٍّ، لِأَنَّ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْمُحِيطِ هُنَاكَ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ فِي غَيْرِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَيْضًا كَذَلِكَ سِيَّمَا عِنْدَ الطَّحَاوِيِّ، فَمِنْ أَيْنَ يَثْبُتُ الِاتِّفَاقُ بِذَلِكَ وَعَنْ هَذَا قَالَ صَاحِبُ الْبَدَائِعِ: ثُمَّ يُعْتَبَرُ ذَلِكَ مِنْ وَقْتِ الْمَوْتِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَعِنْدَ الطَّحَاوِيِّ مِنْ وَقْتِ وُجُودِ الْوَصِيَّةِ انْتَهَى.

وَقَوْلُهُ فَتَبَيَّنَ أَنَّ مَنْشَأَ الِاخْتِلَافِ لَيْسَ بِذَاكَ بَلْ خُصُوصِيَّةٌ فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي اعْتَبَرَهَا الطَّحَاوِيُّ وَلَمْ يَتَنَبَّهْ لَهَا غَيْرُهُ، وَهُوَ أَنَّ الْمَفْهُومَ عُرْفًا وَلُغَةً إذَا قِيلَ أَوْصَيْت لِمَا فِي بَطْنهَا بِكَذَا كَوْنُهُ مَوْجُودًا فِي بَطْنِهَا وَقْتَئِذٍ لَا يَكَادُ يَصِحُّ، إذْ لَا نُسَلِّمُ جِدًّا أَنَّ الْمَفْهُومَ عُرْفًا وَلُغَةً إذَا قِيلَ أَوْصَيْت لِمَا فِي بَطْنِهَا بِكَذَا كَوْنُهُ مَوْجُودًا وَقْتَئِذٍ، بَلْ يَكْفِي كَوْنُهُ مَوْجُودًا وَقْتَ مَوْتِ الْمُوصِي لِثُبُوتِ حُكْمِ الْوَصِيَّةِ عِنْدَ مَوْتِهِ، وَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ مِنْ أَسَاطِينِ الْفُقَهَاءِ سِيَّمَا أَصْحَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنْ لَا يَنْتَبِهُوا لِمَا يُفْهَمُ مِنْ الْكَلَامِ عُرْفًا وَلُغَةً، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُنْسَبَ إلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ الْغَفْلَةُ عَنْ شَيْءٍ مِنْ اللُّغَةِ وَالْعُرْفِ فَضْلًا عَنْ الْغَفْلَةِ عَنْهُمَا مَعًا. وَقَوْلُهُ لِأَنَّ الْمَعْنَى لِمَا ثَبَتَ وَتَحَقَّقَ فِي بَطْنِهَا فِي هَذَا الْوَقْتِ تَحَكُّمٌ بَحْتٌ، بَلْ الْمَعْنَى لِمَا ثَبَتَ وَتَحَقَّقَ فِي بَطْنِهَا.

وَأَمَّا كَوْنُ ثُبُوتِهِ فِي وَقْتِ الْوَصِيَّةِ أَوْ فِي وَقْتِ الْمَوْتِ فَأَمْرٌ خَارِجٌ عَنْ مَفْهُومِ نَفْسِ اللَّفْظِ، وَإِنَّمَا الْمُعَيَّنُ لَهُ شَيْءٌ آخَرُ هُوَ مَحِلُّ الِاجْتِهَادِ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ، وَقَدْ بَيَّنَهُ صَاحِبُ الْبَدَائِعِ بِأَنْ قَالَ: وَجْهُ مَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ سَبَبَ الِاسْتِحْقَاقِ هُوَ الْوَصِيَّةُ فَيُعْتَبَرُ وَقْتُ وُجُودِهِ. وَوَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ وَقْتَ نُفُوذِ الْوَصِيَّةِ وَاعْتِبَارِهَا فِي الْحُكْمِ وَقْتُ الْمَوْتِ فَيُعْتَبَرُ وُجُودُهُ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ انْتَهَى. ثُمَّ إنَّ ذَلِكَ الْبَعْضَ قَالَ: وَاعْلَمْ أَنَّ فِي كَلَامِ صَاحِبِ الْكَافِي هُنَا اضْطِرَابًا لِأَنَّهُ دَلَّ أَوَّلُهُ عَلَى أَنَّ اعْتِبَارَ الْمُدَّةِ مِنْ وَقْتِ الْوَصِيَّةِ فِيهِمَا: أَيْ فِي الْمُوصَى لَهُ وَبِهِ، وَآخِرُهُ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ وَقْتِ الْمَوْتِ إذَا كَانَتْ الْوَصِيَّةُ لِلْحَمْلِ وَلَمْ يَظْهَرْ لِي وَجْهُهُ انْتَهَى. أَقُولُ: إنَّ صَاحِبَ الْكَافِي. قَالَ فِي أَوَّلِ كَلَامِهِ: وَتَجُوزُ الْوَصِيَّةُ لِلْحَمْلِ وَبِالْحَمْلِ إنْ وَلَدَتْ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْوَصِيَّةِ، ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِهِ: وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّهُ تَجْرِي فِيهِ الْوِرَاثَةُ فَتَجْرِي فِيهِ الْوِصَايَةُ لِمَا مَرَّ مِنْ أَنَّ الْوَصِيَّةَ أُخْتُ الْمِيرَاثِ وَقَدْ تَيَقَّنَّا بِوُجُودِهِ يَوْمَ الْمَوْتِ مَتَى جَاءَتْ بِالْوَلَدِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ يَوْمِ انْتَهَى.

فَيَجُوزُ فِيهِ الْوَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ الْمُضَافُ مُقَدَّرًا فِي قَوْلِهِ مِنْ وَقْتِ الْوَصِيَّةِ فَيَكُونَ الْمَعْنَى مِنْ وَقْتِ وُجُوبِ الْوَصِيَّةِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ وَقْتَ وُجُوبِ الْوَصِيَّةِ هُوَ وَقْتُ مَوْتِ الْمُوصِي فَيُوَافِقُ أَوَّلُ كَلَامِهِ آخِرَهُ، وَقَدْ أَشَارَ صَاحِبُ مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ إلَى تَأْوِيلِ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ بِهَذَا الْوَجْهِ لِيُوَافِقَ كَلَامُهُ مَا ذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ. وَثَانِيهُمَا أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ بِإِيرَادِ آخِرِ كَلَامِهِ مُخَالِفًا لِأَوَّلِهِ هُوَ الْإِشَارَةُ إلَى وُقُوعِ الرِّوَايَتَيْنِ فِي تَعْيِينِ أَوَّلِ الْمُدَّةِ الَّتِي يُعْلَمُ فِيهَا وُجُودُ الْحَمْلِ فِي الْبَطْنِ، وَقَدْ خَفِيَ عَلَى ذَلِكَ الْبَعْضِ كُلٌّ مِنْ ذَيْنِك الْوَجْهَيْنِ حَيْثُ قَالَ: لَمْ يَظْهَرْ لِي وَجْهُهُ.

ثُمَّ إنَّهُ أَخْطَأَ فِي قَوْلِهِ وَآخِرُهُ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ وَقْتِ الْمَوْتِ إذَا كَانَتْ الْوَصِيَّةُ لِلْحَمْلِ، فَإِنَّ الَّذِي فِي آخِرِهِ إنَّمَا هُوَ الْوَصِيَّةُ بِالْحَمْلِ لَا الْوَصِيَّةُ لِلْحَمْلِ لِأَنَّهُ قَالَ فِيهِ: وَأَمَّا الثَّانِي وَلَا رَيْبَ أَنَّ الثَّانِيَ فِي قَوْلِهِ وَتَجُوزُ الْوَصِيَّةُ لِلْحَمْلِ وَبِالْحَمْلِ هُوَ الْوَصِيَّةُ بِالْحَمْلِ. ثُمَّ إنَّ الزَّيْلَعِيَّ قَالَ فِي شَرْحِ الْكَنْزِ: وَذَكَرَ فِي الْكَافِي مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إنْ أَوْصَى لَهُ يُعْتَبَرُ مِنْ وَقْتِ الْوَصِيَّةِ، وَإِنْ أَوْصَى بِهِ يُعْتَبَرُ مِنْ وَقْتِ الْمَوْتِ انْتَهَى. أَقُولُ: لَيْسَ ذَاكَ أَيْضًا بِسَدِيدٍ، لِأَنَّ عِبَارَةَ الْكَافِي فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ هَكَذَا: وَتَجُوزُ الْوَصِيَّةُ لِلْحَمْلِ وَبِالْحَمْلِ إنْ وَلَدَتْ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْوَصِيَّةِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ قَوْلَهُ مِنْ وَقْتِ الْوَصِيَّةِ إنْ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِقَوْلِهِ بِالْحَمْلِ فَقَطْ لِكَوْنِهِ قَرِيبًا مِنْهُ فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِمَجْمُوعِ قَوْلِهِ لِلْحَمْلِ وَبِالْحَمْلِ، فَمِنْ أَيْنَ يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى اخْتِصَاصِ الِاعْتِبَارِ مِنْ وَقْتِ الْوَصِيَّةِ بِمَا إذَا أَوْصَى لَهُ.

نَعَمْ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْكَافِي فِي آخِرِ كَلَامِهِ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ الِاعْتِبَارِ مِنْ وَقْتِ الْمَوْتِ فِيمَا إذَا أَوْصَى بِالْحَمْلِ، وَبِهَذَا تُرَدُّ الْمُخَالَفَةُ بَيْنَ أَوَّلِ كَلَامِهِ وَآخِرِهِ وَالْمَخْلَصُ مَا بَيَّنَّاهُ آنِفًا مِنْ أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ فَتَبَصَّرْ.

(قَوْلُهُ وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّهُ بِعَرْضِ الْوُجُودِ إذْ الْكَلَامُ فِيمَا إذَا عُلِمَ وُجُودُهُ وَقْتَ الْوَصِيَّةِ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: فِي شَرْحِ هَذَا الْمَحِلِّ: وَأَمَّا الثَّانِي وَهُوَ الْوَصِيَّةُ بِهِ فَلِأَنَّهُ

ص: 434

وَبَابُهَا أَوْسَعُ لِحَاجَةِ الْمَيِّتِ وَعَجْزِهِ، وَلِهَذَا تَصِحُّ فِي غَيْرِ الْمَوْجُودِ كَالثَّمَرَةِ فَلَأَنْ تَصِحَّ فِي الْمَوْجُودِ أَوْلَى.

قَالَ (وَمَنْ أَوْصَى بِجَارِيَةٍ إلَّا حَمْلَهَا صَحَّتْ الْوَصِيَّةُ وَالِاسْتِثْنَاءُ) لِأَنَّ اسْمَ الْجَارِيَةِ لَا يَتَنَاوَلُ الْحَمْلَ لَفْظًا وَلَكِنَّهُ يَسْتَحِقُّ

أَيْ الْحَمْلَ بِعَرْضِيَّةِ الْوُجُودِ، إذْ الْكَلَامُ فِيمَا إذَا عُلِمَ وُجُودُهُ وَقْتَ الْوَصِيَّةِ، فَإِنَّ وَضْعَ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا إذَا وَضَعَتْ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْوَصِيَّةِ أَوْ الْمَوْتِ وَبِذَلِكَ يُعْلَمُ وُجُودُهُ وَقْتَ الْوَصِيَّةِ لَا مَحَالَةَ انْتَهَى.

أَقُولُ: فِيهِ خَلَلٌ ظَاهِرٌ، فَإِنَّ زِيَادَةَ قَوْلِهِ أَوْ الْمَوْتِ فِي قَوْلِهِ مِنْ وَقْتِ الْوَصِيَّةِ أَوْ الْمَوْتِ مَعَ كَوْنِهَا غَيْرَ مُطَابِقَةٍ لِلْمَشْرُوحِ تَقْتَضِي أَنْ لَا يَصِحَّ قَوْلُهُ وَبِذَلِكَ يُعْلَمُ وُجُودُهُ وَقْتَ الْوَصِيَّةِ لَا مَحَالَةَ، إذْ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ وَضَعَتْ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ مَوْتِ الْمُوصِي لَا يُعْلَمُ وُجُودُهُ وَقْتَ الْوَصِيَّةِ أَصْلًا فِيمَا إذَا مَضَتْ بَيْنَ الْوَصِيَّةِ وَالْمَوْتِ مُدَّةٌ يَصِيرُ بِهَا زَمَانُ وَضْعِ الْحَمْلِ أَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْوَصِيَّةِ، وَهَذَا مِمَّا لَا سُتْرَةَ بِهِ.

(قَوْلُهُ وَمَنْ أَوْصَى بِجَارِيَةٍ إلَّا حَمْلَهَا صَحَّتْ الْوَصِيَّةُ وَالِاسْتِثْنَاءُ لِأَنَّ اسْمَ الْجَارِيَةِ لَا يَتَنَاوَلُ الْحَمْلَ لَفْظًا وَلَكِنَّهُ يُسْتَحَقُّ بِالْإِطْلَاقِ تَبَعًا، فَإِذَا أَفْرَدَ الْأُمَّ بِالْوَصِيَّةِ صَحَّ إفْرَادُهَا) أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَذَا التَّعْلِيلُ يُنْتَقَضُ بِصُورَةِ الْبَيْعِ، فَإِنَّهُ إذَا بَاعَ جَارِيَةً إلَّا حَمْلَهَا فَسَدَ الْبَيْعُ مَعَ إمْكَانِ جَرَيَانِ هَذَا التَّعْلِيلِ هُنَاكَ أَيْضًا. لَا يُقَالُ: إنَّمَا فَسَدَ الْبَيْعُ لِأَصْلٍ وَهُوَ أَنَّ مَا لَا يَصِحُّ إفْرَادُهُ بِعَقْدٍ لَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاؤُهُ مِنْ ذَلِكَ الْعَقْدِ وَالْحَمْلُ مِمَّا لَا يَصِحُّ إفْرَادُهُ بِالْبَيْعِ فَلَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاؤُهُ مِنْهُ كَمَا مَرَّ فِي بَابِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ مِنْ كِتَابِ الْبُيُوعِ، بِخِلَافِ الْأَمْرِ فِي الْوَصِيَّةِ: فَإِنَّ إفْرَادَ الْحَمْلِ بِالْوَصِيَّةِ يَصِحُّ فَكَذَا اسْتِثْنَاؤُهُ مِنْهَا كَمَا سَيَأْتِي فِي التَّعْلِيلِ الثَّانِي. لِأَنَّا نَقُولُ: ذَلِكَ الْفَرْقُ مُوجِبُ التَّعْلِيلِ الْآتِي وَكَلَامُنَا فِي هَذَا التَّعْلِيلِ الْأَوَّلِ فَلَا مَعْنَى لِلْخَلْطِ.

ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ الْعِنَايَةِ قَالَ فِي شَرْحِ أَوَّلِ هَذَا التَّعْلِيلِ: لِأَنَّ اسْمَ الْجَارِيَةِ

ص: 435

بِالْإِطْلَاقِ تَبَعًا، فَإِذَا أَفْرَدَ الْأُمَّ بِالْوَصِيَّةِ صَحَّ إفْرَادُهَا، وَلِأَنَّهُ يَصِحُّ إفْرَادُ الْحَمْلِ بِالْوَصِيَّةِ فَجَازَ اسْتِثْنَاؤُهُ، وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ أَنَّ مَا يَصِحُّ إفْرَادُهُ بِالْعَقْدِ يَصِحُّ اسْتِثْنَاؤُهُ مِنْهُ، إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا، وَمَا لَا يَصِحُّ إفْرَادُهُ بِالْعَقْدِ لَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاؤُهُ مِنْهُ، وَقَدْ مَرَّ فِي الْبُيُوعِ.

قَالَ (وَيَجُوزُ لِلْمُوصِي الرُّجُوعُ عَنْ الْوَصِيَّةِ) لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ لَمْ يَتِمَّ فَجَازَ الرُّجُوعُ عَنْهُ كَالْهِبَةِ وَقَدْ حَقَقْنَاهُ فِي كِتَابِ الْهِبَةِ، وَلِأَنَّ الْقَبُولَ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْمَوْتِ وَالْإِيجَابُ يَصِحُّ إبْطَالُهُ قَبْلَ الْقَبُولِ كَمَا فِي الْبَيْعِ.

قَالَ (وَإِذَا صَرَّحَ بِالرُّجُوعِ أَوْ فَعَلَ مَا يَدُلُّ عَلَى الرُّجُوعِ كَانَ رُجُوعًا) أَمَّا الصَّرِيحُ فَظَاهِرٌ، وَكَذَا الدَّلَالَةُ لِأَنَّهَا تَعْمَلُ عَمَلَ الصَّرِيحِ فَقَامَ مَقَامَ قَوْلِهِ قَدْ أُبْطِلَتْ، وَصَارَ كَالْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ فَإِنَّهُ يَبْطُلُ الْخِيَارُ فِيهِ بِالدَّلَالَةِ، ثُمَّ كُلُّ فِعْلٍ لَوْ فَعَلَهُ الْإِنْسَانُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ يَنْقَطِعُ بِهِ حَقُّ الْمَالِكِ، فَإِذَا فَعَلَهُ الْمُوصِي كَانَ رُجُوعًا، وَقَدْ عَدَدْنَا هَذِهِ الْأَفَاعِيلَ فِي كِتَابِ الْغَصْبِ.

وَكُلُّ فِعْلٍ يُوجِبُ زِيَادَةً فِي الْمُوصَى بِهِ وَلَا يُمْكِنُ تَسْلِيمُ الْعَيْنِ إلَّا بِهَا فَهُوَ رُجُوعٌ إذَا فَعَلَهُ، مِثْلُ السَّوِيقِ يَلُتُّهُ بِالسَّمْنِ وَالدَّارِ يَبْنِي فِيهِ الْمُوصِي وَالْقُطْنِ يَحْشُو بِهِ وَالْبِطَانَةِ يُبَطِّنُ بِهَا وَالظِّهَارَةِ يُظَهِّرُ بِهَا، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ تَسْلِيمُهُ بِدُونِ الزِّيَادَةِ، وَلَا يُمْكِنُ نَقْضُهَا لِأَنَّهُ حَصَلَ فِي مِلْكِ الْمُوصِي مِنْ جِهَتِهِ، بِخِلَافِ تَخْصِيصِ الدَّارِ الْمُوصَى بِهَا وَهَدْمِ بِنَائِهَا لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي التَّابِعِ، وَكُلُّ تَصَرُّفٍ أَوْجَبَ زَوَالَ مِلْكِ الْمُوصِي فَهُوَ رُجُوعٌ، كَمَا إذَا بَاعَ الْعَيْنَ الْمُوصَى بِهِ ثُمَّ اشْتَرَاهُ أَوْ وَهَبَهُ تَمَّ رَجَعَ فِيهِ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لَا تَنْفُذُ إلَّا فِي مِلْكِهِ، فَإِذَا أَزَالَهُ كَانَ رُجُوعًا.

وَذَبْحُ الشَّاةِ الْمُوصَى بِهَا رُجُوعٌ لِأَنَّهُ لِلصَّرْفِ إلَى حَاجَتِهِ عَادَةً، فَصَارَ هَذَا الْمَعْنَى أَصْلًا أَيْضًا، وَغَسْلُ الثَّوْبِ الْمُوصَى بِهِ لَا يَكُونُ رُجُوعًا لِأَنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُعْطِيَ ثَوْبَهُ غَيْرَهُ يَغْسِلُهُ عَادَةً فَكَانَ تَقْرِيرًا.

قَالَ (وَإِنْ جَحَدَ الْوَصِيَّةَ لَمْ يَكُنْ رُجُوعًا) كَذَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ.

لَا يَتَنَاوَلُ الْحَمْلَ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَوْضُوعٍ لَهُ وَلَا هُوَ دَاخِلٌ فِي الْمَوْضُوعِ، وَمَا لَا يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ الْجَارِيَةِ يَصِحُّ اسْتِثْنَاؤُهُ مِنْ الْجَارِيَةِ كَقَمِيصِهَا وَسَرَاوِيلِهَا مِمَّا يَلْتَبِسُ بِهَا انْتَهَى.

أَقُولُ: مُقْتَضَى تَقْرِيرِهِ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ لِأَنَّ اسْمَ الْجَارِيَةِ لَا يَتَنَاوَلُ الْحَمْلَ لَفْظًا صُغْرَى لِقِيَاسٍ مِنْ الشَّكْلِ الْأَوَّلِ كُبْرَاهُ مَطْوِيَّةٌ وَهِيَ قَوْلُهُ وَمَا لَا يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ الْجَارِيَةِ صَحَّ اسْتِثْنَاؤُهُ مِنْ الْجَارِيَةِ، وَأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْقِيَاسُ وَحْدَهُ دَلِيلًا مُسْتَقِلًّا عَلَى صِحَّةِ اسْتِثْنَاءِ الْحَمْلِ فِي مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ، لَكِنْ فِيهِ بَحْثٌ وَهُوَ أَنَّهُ كَيْفَ يَتِمُّ الِاسْتِدْلَال بِعَدَمِ تَنَاوُلِ اسْمِ الْجَارِيَةِ لِلْحَمْلِ عَلَى صِحَّةِ اسْتِثْنَائِهِ مِنْهَا، وَمَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ يَقْتَضِي خِلَافَ ذَلِكَ، فَإِنَّ مَعْنَاهُ هُوَ الْإِخْرَاجُ عَمَّا يَتَنَاوَلُهُ صَدْرُ الْكَلَامِ كَمَا هُوَ الْمُتَعَارَفُ أَوْ الْمَنْعُ مِنْ دُخُولِ بَعْضِ مَا تَنَاوَلَهُ صَدْرُ الْكَلَامِ كَمَا اخْتَارَهُ صَاحِبُ التَّوْضِيحِ، وَقَالَ الْمُصَنِّفُ فِي بَابِ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ

ص: 436

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

كِتَابِ الْإِقْرَارِ: الِاسْتِثْنَاءُ مَا لَوْلَاهُ لَدَخَلَ تَحْتَ اللَّفْظِ، وَعَلَى كُلٍّ مِنْ التَّعْبِيرَاتِ فَتَنَاوُلُ صَدْرِ الْكَلَامِ لِلْمُسْتَثْنَى مِمَّا لَا بُدَّ مِنْهُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ الْحَقِيقِيِّ الَّذِي هُوَ الْمُتَّصِلُ. وَأَمَّا الْمُنْقَطِعُ فَصِيغَةُ الِاسْتِثْنَاءِ مَجَازٌ فِيهِ كَمَا عُرِفَ فِي مَحِلِّهِ سِيَّمَا فِي كُتُبِ الْأُصُولِ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إنَّ صِيغَةَ الِاسْتِثْنَاءِ وَإِنْ كَانَتْ مَجَازًا فِي الْمُنْقَطِعِ إلَّا أَنَّ لَفْظَ الِاسْتِثْنَاءِ حَقِيقَةٌ اصْطِلَاحِيَّةٌ فِي الْقِسْمَيْنِ مَعًا كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ صَاحِبُ التَّلْوِيحِ فِي فَصْلِ الِاسْتِثْنَاءِ، فَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالِاسْتِثْنَاءِ الْمَذْكُورِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هُوَ الِاسْتِثْنَاءُ الْمُنْقَطِعُ وَهُوَ لَا يَقْتَضِي تَنَاوُلَ صَدْرِ الْكَلَامِ لِلْمُسْتَثْنَى بَلْ يُنَافِي ذَلِكَ فَيَتِمُّ التَّقْرِيبُ. وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ كَلَامِهِ السَّابِقِ: وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى مَا يُقَالُ الْحَمْلُ جُزْءٌ مِنْ الْأُمِّ قَبْلَ الِانْفِصَالِ كَالْيَدِ وَالرِّجْلِ، وَلَوْ اسْتَثْنَى الْيَدَ أَوْ الرِّجْلَ لَمْ يَجُزْ فَكَذَلِكَ الْحَمْلُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ اسْمَ الْجَارِيَةِ يَتَنَاوَلُهُمَا اهـ.

وَاعْتَرَضَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ عَلَى قَوْلِهِ لِأَنَّ اسْمَ الْجَارِيَةِ يَتَنَاوَلُهُمَا حَيْثُ قَالَ: إنْ أَرَادَ مَقْصُودًا فَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَإِنْ أَرَادَ تَبَعًا فَالْحَمْلُ كَذَلِكَ انْتَهَى.

أَقُولُ: هَذَا فِي غَايَةِ السُّقُوطِ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ اسْمَهَا يَتَنَاوَلُهُمَا مَقْصُودًا، وَقَوْلُهُ فَلَيْسَ كَذَلِكَ لَيْسَ بِشَيْءٍ إذْ لَا رَيْبَ أَنَّ اسْمَ الْجَارِيَةِ فِيمَا إذَا أَوْصَيْت بِهَذِهِ الْجَارِيَةِ يَتَنَاوَلُهَا بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا الْحَقِيقِيَّةِ مَقْصُودًا، إذْ لَا مَعْنَى لِإِيصَاءِ الْجَارِيَةِ بِدُونِ يَدِهَا أَوْ رِجْلِهَا أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ لِامْتِنَاعِ الِانْتِفَاعِ بِهَا بِدُونِ أَجْزَائِهَا الْحَقِيقِيَّةِ لِعَدَمِ انْفِكَاكِهَا عَنْهَا بِخِلَافِ الْحَمْلِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِجُزْءٍ مِنْهَا حَقِيقَةً قَبْلَ الِانْفِصَالِ أَيْضًا، بَلْ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْجُزْءِ مِنْهَا عِنْدَ اتِّصَالِهِ بِهَا كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْمُصَنِّفُ فِي الْبُيُوعِ وَيُمْكِنُ انْفِكَاكُهَا عَنْهُ بِوَضْعِهَا إيَّاهُ فَجَازَ أَنْ لَا يَكُونَ مَقْصُودًا عِنْدَ إيصَائِهَا كَمَا لَا يَخْفَى.

ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ صَحَّ الِاسْتِثْنَاءُ وَهُوَ تَصَرُّفٌ لَفْظِيٌّ لَا يَرِدُ عَلَى مَا لَا يَتَنَاوَلُهُ اللَّفْظُ، فَالْجَوَابُ أَنَّ صِحَّتَهُ بِاعْتِبَارِ تَقْرِيرِ مِلْكِ الْمُوصَى فِيهِ كَمَا كَانَ قَبْلَ الْوَصِيَّةِ كَمَا لَوْ قَالَ أَوْصَيْت لِفُلَانٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ إلَّا فَرَسًا، فَإِنَّ الْوَصِيَّةَ فِي الْأَلْفِ صَحِيحَةٌ وَالِاسْتِثْنَاءُ أَيْضًا صَحِيحٌ فِي تَقْرِيرِ مِلْكِهِ فِي الْفَرَسِ لَا بِاعْتِبَارِ خُرُوجِهِ مِنْ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ دَاخِلًا انْتَهَى.

وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: فِيهِ بَحْثٌ، فَإِنَّهُ صَرَّحَ فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ أَنَّ مَا لَا يَتَنَاوَلُهُ اللَّفْظُ مَقْصُودًا بَلْ يَدْخُلُ فِيهِ تَبَعًا لَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاؤُهُ، لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ تَصَرُّفٌ لَفْظِيٌّ، وَلَوْ صَحَّ الِاسْتِثْنَاءُ بِاعْتِبَارِ تَقْرِيرِ الْمِلْكِ لَصَحَّ فِي الْإِقْرَارِ أَيْضًا اسْتِثْنَاءُ الْبِنَاءِ مِنْ الدَّارِ وَالْفَصِّ مِنْ الْخَاتَمِ وَالنَّخْلَةِ مِنْ الْبُسْتَانِ فَلْيُتَأَمَّلْ فِي الْفَرْقِ انْتَهَى. وَقَصَدَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ الْجَوَابَ عَنْهُ فَقَالَ: فَإِنْ قُلْت: يُشْكِلُ حِينَئِذٍ مَا ذُكِرَ فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ هَذِهِ الدَّارُ لِفُلَانٍ إلَّا بِنَاءَهَا فَإِنَّهُ لِي وَلِلْمُقَرِّ لَهُ الدَّارُ وَالْبِنَاءُ لِأَنَّ الدَّارَ اسْمٌ لِمَا أُدِيرَ عَلَيْهِ الْخَطُّ وَالْبِنَاءُ يَدْخُلُ تَبَعًا، وَالِاسْتِثْنَاءُ إنَّمَا يَصِحُّ مِمَّا يَتَنَاوَلُهُ الْكَلَامُ نَصًّا لَا تَبَعًا فَلِمَ حَكَمُوا بِبُطْلَانِ الِاسْتِثْنَاءِ هُنَاكَ وَلَمْ يُصَحِّحُوهُ بِاعْتِبَارِ تَقْرِيرِ الْمِلْكِ كَمَا صَحَّحُوا بِهِ هُنَا؟ قُلْت: إنَّمَا لَمْ يُصَحِّحُوا ذَلِكَ لِاسْتِلْزَامِهِ إبْطَالَ حَقٍّ ثَبَتَ بِالْإِقْرَارِ

وَلَا يَلْزَمُ ذَلِكَ فِي الْوَصِيَّةِ لِأَنَّهَا تَبَرُّعٌ يَصِحُّ الرُّجُوعُ عَنْهُ غَايَتُهُ أَنْ يُحْمَلَ الِاسْتِثْنَاءُ عَلَى الرُّجُوعِ عَنْهَا فِي حَقِّ التَّابِعِ انْتَهَى. أَقُولُ: جَوَابُهُ لَيْسَ بِمُسْتَقِيمٍ. فَإِنَّ إبْطَالَ حَقٍّ ثَبَتَ بِالْإِقْرَارِ إنَّمَا يَلْزَمُ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ لَا يَصِحَّ الِاسْتِثْنَاءُ فِيهَا وَلَا يُجْعَلُ الْبِنَاءُ لِلْمُقَرِّ لَهُ، وَأَمَّا عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَصِحَّ الِاسْتِثْنَاءُ فِيهَا فَلَا يَلْزَمُ إبْطَالُ ذَلِكَ أَصْلًا، إذْ يَصِيرُ الْإِقْرَارُ حِينَئِذٍ مَخْصُوصًا بِمَا عَدَا الْبِنَاءَ، إذْ قَدْ تَقَرَّرَ فِي مَبَاحِثِ الِاسْتِثْنَاءِ أَنَّ حُكْمَ الْكَلَامِ يَتَوَقَّفُ فِيمَا وَقَعَ فِيهِ الِاسْتِثْنَاءُ عَلَى تَمَامِ الْكَلَامِ بِذِكْرِ الْمُسْتَثْنَى فَيَثْبُتُ الْحُكْمُ فِيمَا عَدَا الْمُسْتَثْنَى فَيَصِيرُ مَعْنَى قَوْلِهِ مَثَلًا هَذِهِ الدَّارُ لِفُلَانٍ إلَّا بِنَاءَهَا عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَصِحَّ الِاسْتِثْنَاءُ غَيْرَ بِنَاءِ هَذِهِ الدَّارِ لِفُلَانٍ، وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ التَّنَاقُضُ الْمُتَوَهَّمُ بَيْنَ أَوَّلِ الْكَلَامِ وَآخِرِهِ فِي أَمْثِلَةِ الِاسْتِثْنَاءِ، فَظَهَرَ أَنَّهُ لَوْ صَحَّ الِاسْتِثْنَاءُ فِي مَسْأَلَةِ الْإِقْرَارِ لَمْ يَسْتَلْزِمْ ذَلِكَ إبْطَالَ حَقٍّ ثَبَتَ بِالْإِقْرَارِ قَطُّ، ثُمَّ إنَّ الْمَصِيرَ إلَى حَمْلِ الِاسْتِثْنَاءِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ عَلَى

ص: 437

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَكُونُ رُجُوعًا، لِأَنَّ الرُّجُوعَ نَفْيٌ فِي الْحَالِ وَالْجُحُودَ نَفْيٌ فِي الْمَاضِي وَالْحَالِ، فَأَوْلَى أَنْ يَكُونَ رُجُوعًا، وَلِمُحَمَّدٍ أَنَّ الْجُحُودَ نَفْيٌ فِي الْمَاضِي وَالِانْتِفَاءُ فِي الْحَالِ ضَرُورَةُ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ ثَابِتًا فِي الْحَالِ كَانَ الْجُحُودُ لَغْوًا،

الرُّجُوعِ عَنْ الْوَصِيَّةِ فِي حَقِّ التَّابِعِ لَيْسَ بِسَدِيدٍ أَيْضًا، إذْ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَمَا اُحْتِيجَ إلَى شَيْءٍ مِنْ التَّعْلِيلَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فِي الْكِتَابِ لِمَسْأَلَتِنَا هَذِهِ، وَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ الْتِزَامِ مَا لَا يَلْزَمُ، فَإِنَّ مَسْأَلَةَ جَوَازِ الرُّجُوعِ عَنْ الْوَصِيَّةِ سَتَجِيءُ بِتَفَاصِيلِهَا وَتَفَارِيعِهَا بَعْدَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.

(قَوْلُهُ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَكُونُ رُجُوعًا، لِأَنَّ الرُّجُوعَ نَفْيٌ فِي الْحَالِ، وَالْجُحُودُ نَفْيٌ فِي الْمَاضِي وَالْحَالِ، فَأَوْلَى أَنْ يَكُونَ رُجُوعًا) قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: قُلْت هَذَا كَلَامٌ ظَاهِرِيٌّ، وَإِلَّا فَالنَّفْي فِي الرُّجُوعِ عَنْهَا بِمَعْنَى فَسْخِهَا وَرَفْعِهَا وَفِي الْجُحُودِ بِمَعْنَى سَلْبِهَا وَنَفْيِ وُقُوعِهَا وَأَيْنَ هَذَا مِنْ ذَاكَ انْتَهَى.

أَقُولُ: لَيْسَ الْمُرَادُ بِقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ " إنَّ جُحُودَ الْوَصِيَّةِ يَكُونُ رُجُوعًا عَنْهَا " أَنَّ الْجُحُودَ وَالرُّجُوعَ مُتَّحِدَانِ مَعْنًى، بَلْ الْمُرَادُ أَنَّهُمَا مُتَّحِدَانِ حُكْمًا وَهُوَ إبْطَالُ الْوَصِيَّةِ بِأَنْ لَا يَثْبُتَ الْمِلْكُ لِلْمُوصَى لَهُ فِي تَرِكَةِ الْمُوصِي فَكَوْنُ النَّفْيِ فِي الرُّجُوعِ بِمَعْنَى الْفَسْخِ وَفِي الْجُحُودِ بِمَعْنَى سَلْبِ الْوُقُوعِ إنَّمَا يُنَافِي الِاتِّحَادَ فِي الْمَعْنَى لَا الِاتِّحَادَ فِي الْحُكْمِ، وَمَبْنَى اسْتِدْلَالِهِ الْمَذْكُورِ عَلَى الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ فَلَا مَحْذُورَ عَلَى أَنَّ مَا ذَكَرَهُ ذَلِكَ الْبَعْضُ عَلَى تَقْدِيرِ وُرُودِهِ إنَّمَا يَئُولُ إلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي التَّعْلِيلِ الثَّانِي لِمُحَمَّدٍ رحمه الله لَا يَخْفَى عَلَى الْمُتَأَمِّلِ فَلَا وَجْهَ لِنِسْبَتِهِ إلَى نَفْسِهِ بِقَوْلِهِ قُلْت (قَوْلُهُ وَلِمُحَمَّدٍ أَنَّ الْجُحُودَ نَفْيٌ فِي الْمَاضِي وَالِانْتِفَاءَ فِي الْحَالِ ضَرُورَةُ ذَلِكَ، وَإِذَا كَانَ ثَابِتًا فِي الْحَالِ كَانَ الْجُحُودُ لَغْوًا) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا التَّعْلِيلِ: وَلِمُحَمَّدٍ أَنَّ الْجُحُودَ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ لَمْ أُوصِ لِفُلَانٍ أَوْ مَا أَوْصَيْت لَهُ نَفْيٌ فِي الْمَاضِي لِكَوْنِهِ مَوْضُوعًا لِذَلِكَ، وَالِانْتِفَاءُ فِي الْحَالِ ضَرُورَةُ ذَلِكَ لِاسْتِمْرَارِ ذَلِكَ إنْ ثَبَتَ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ، وَإِذَا كَانَ الْكَذِبُ ثَابِتًا فِي الْحَالِ لِكَوْنِهِ كَاذِبًا فِي جُحُودِهِ، إذْ الْفَرْضُ أَنَّهُ أَوْصَى ثُمَّ جَحَدَ كَانَ النَّفْيُ فِي الْمَاضِي بَاطِلًا فَيَبْطُلُ مَا هُوَ مِنْ ضَرُورَتِهِ وَهُوَ الِانْتِفَاءُ فِي الْحَالِ فَكَانَ الْجُحُودُ لَغْوًا انْتَهَى.

أَقُولُ: فِيهِ خَلَلٌ. أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُ جَعَلَ اسْمَ كَانَ فِي قَوْلِ الْمُصَنِّفِ وَإِذَا كَانَ ثَابِتًا فِي الْحَالِ الْكَذِبَ، وَلَيْسَ بِمُسْتَقِيمٍ لِأَنَّ الْكَذِبَ مِمَّا لَمْ يَتَقَدَّمْ ذِكْرُهُ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ لَا لَفْظًا وَلَا مَعْنًى وَلَا حُكْمًا، فَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ اسْمُ كَانَ فِي قَوْلِهِ الْمَذْكُورِ ضَمِيرًا رَاجِعًا إلَى الْكَذِبِ. وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ ذَلِكَ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ فِي الْحَالِ فِي قَوْلِهِ وَإِذَا كَانَ ثَابِتًا فِي الْحَالِ مُسْتَدْرَكًا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ، فَإِنَّ ثُبُوتَ الْكَذِبِ فِي الْجُحُودِ يَقْتَضِي كَوْنَ الْجُحُودِ لَغْوًا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ ثُبُوتُ ذَلِكَ فِي الْحَالِ أَوْ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْأَزْمَانِ. وَأَمَّا ثَالِثًا فَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمَعْنَى ذَلِكَ لَمَا تَحَقَّقَ الْفَائِدَةُ مِنْ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ وَالِانْتِفَاءُ فِي الْحَالِ ضَرُورَةُ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ إذَا كَانَ الْكَذِبُ فِي جُحُودِهِ ثَابِتًا بِنَاءً عَلَى كَوْنِ الْفَرْضِ أَنَّهُ أَوْصَى ثُمَّ جَحَدَ كَانَ جُحُودُهُ لَغْوًا بَاطِلًا لَا حُكْمَ لَهُ أَصْلًا سَوَاءٌ كَانَ الِانْتِفَاءُ فِي الْحَالِ مِنْ ضَرُورَةِ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ ضَرُورَتِهِ. ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَفِي بَعْضِ

ص: 438

أَوْ لِأَنَّ الرُّجُوعَ إثْبَاتٌ فِي الْمَاضِي وَنَفْيٌ فِي الْحَالِ وَالْجُحُودَ نَفْيٌ فِي الْمَاضِي وَالْحَالِ فَلَا يَكُونُ رُجُوعًا حَقِيقَةً وَلِهَذَا لَا يَكُونُ جُحُودُ النِّكَاحِ فُرْقَةً

الشُّرُوحِ جَعَلَ اسْمَ كَانَ فِي قَوْلِهِ وَإِذَا كَانَ ثَابِتًا فِي الْحَالِ الْوَصِيَّةَ وَفِي بَعْضِهَا الْحَقَّ وَكِلَاهُمَا مُصَادَرَةٌ عَلَى الْمَطْلُوبِ فَتَأَمَّلْ انْتَهَى. أَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ الْمُصَادَرَةَ عَلَى الْمَطْلُوبِ إنَّمَا تَلْزَمُ أَنْ لَوْ كَانَ مَعْنَى كَلَامِ الْمُصَنِّفِ: وَإِذَا كَانَ الْوَصِيَّةُ أَوْ الْحَقُّ ثَابِتًا فِي الْحَالِ لِعَدَمِ كَوْنِ الْجُحُودِ رُجُوعًا كَانَ الْجُحُودُ لَغْوًا، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ ذَاكَ بَلْ مَعْنَاهُ: وَإِذَا كَانَ الْإِيصَاءُ أَوْ الْحَقُّ ثَابِتًا فِي الْحَالِ لِكَوْنِهِ كَاذِبًا فِي جُحُودِهِ، إذْ الْفَرْضُ أَنَّهُ أَوْصَى فِيمَا مَضَى ثُمَّ جَحَدَ كَانَ الْجُحُودُ لَغْوًا حَيْثُ كَانَ النَّفْيُ فِي الْمَاضِي بَاطِلًا لِظُهُورِ الْكَذِبِ فَبَطَلَ مَا هُوَ مِنْ ضَرُورَتِهِ وَهُوَ الِانْتِفَاءُ فِي الْحَالِ، وَلَا مُصَادَرَةَ فِي هَذَا كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى ذِي مُسْكَةٍ.

(قَوْلُهُ أَوْ لِأَنَّ الرُّجُوعَ إثْبَاتٌ فِي الْمَاضِي وَنَفْيٌ فِي الْحَالِ وَالْجُحُودَ نَفْيٌ فِي الْمَاضِي وَالْحَالِ فَلَا يَكُونُ رُجُوعًا حَقِيقَةً وَلِهَذَا لَا يَكُونُ جُحُودُ النِّكَاحِ فُرْقَةً.) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ: فِيهِ نَظَرٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَالَ فِي الدَّلِيلِ الْأَوَّلِ: إنَّ الْجُحُودَ نَفْيٌ فِي الْمَاضِي وَالِانْتِفَاءُ فِي الْحَالِ ضَرُورَةُ ذَلِكَ، وَهُنَا قَالَ: وَالْجُحُودُ نَفْيٌ فِي الْمَاضِي وَالْحَالِ وَبَيْنَهُمَا تَنَافٍ. وَالثَّانِي أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ كَوْنِ الْجُحُودِ رُجُوعًا حَقِيقَةً عَدَمُ جَوَازِ اسْتِعْمَالِهِ فِيهِ مَجَازًا صَوْنًا لِكَلَامِ الْعَاقِلِ عَنْ الْإِلْغَاءِ. وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ قَوْلَهُ نَفْيٌ فِي الْمَاضِي وَالْحَالِ مَعْنَاهُ نَفْيٌ فِي الْمَاضِي وَضْعًا وَحَقِيقَةً وَفِي الْحَالِ ضَرُورَةً لَا وَضْعًا وَهُوَ الْأَوَّلُ فَلَا تَنَافِي. وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ الرُّجُوعَ وَالْجُحُودَ بِالنَّظَرِ إلَى الْمَاضِي مُتَضَادَّانِ وَالتَّضَادُّ لَيْسَ مِنْ مُجَوِّزَاتِ الْمَجَازِ فِي الْأَلْفَاظِ الشَّرْعِيَّةِ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ فِي الْأَنْوَارِ وَالتَّقْرِيرِ انْتَهَى.

أَقُولُ: يُرَدُّ عَلَى جَوَابِهِ عَنْ النَّظَرِ الثَّانِي أَنَّ جَوَازَ اسْتِعْمَالِ الْجُحُودِ فِي الرُّجُوعِ مَجَازًا لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى اعْتِبَارِ عَلَاقَةِ الْمَجَازِ التَّضَادَّ بَيْنَهُمَا حَتَّى يَلْزَمَ مِنْ عَدَمِ كَوْنِ التَّضَادِّ مِنْ مُجَوِّزَاتِ الْمَجَازِ فِي الْأَلْفَاظِ الشَّرْعِيَّةِ أَنْ لَا يَجُوزَ اسْتِعْمَالُ الْجُحُودِ فِي الرُّجُوعِ مَجَازًا أَصْلًا، بَلْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْعَلَاقَةُ بَيْنَهُمَا اشْتِرَاكَهُمَا فِي مَعْنًى خَاصٍّ وَهُوَ كَوْنُهُمَا نَافِيَيْنِ فِي الْحَالِ وَإِنْ كَانَ الْجُحُودُ نَافِيًا فِي الْمَاضِي أَيْضًا كَمَا أَفْصَحَ عَنْهُ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ. وَعَنْ هَذَا قَالَ فِي الذَّخِيرَةِ وَالْمَبْسُوطِ: وَالْأَصَحُّ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله. وَوَجْهُهُ أَنَّ الْجُحُودَ كَذِبٌ حَقِيقَةً إلَّا أَنَّهُ يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ مَجَازًا فَيُحْمَلُ عَلَى الْمَجَازِ وَهُوَ الْفَسْخُ صِيَانَةً لِكَلَامِ الْعَاقِلِ عَنْ الْإِلْغَاءِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، وَأَمْكَنَ حَمْلُهُ عَلَى الْفَسْخِ لِأَنَّ الْمُوصِيَ يَنْفَرِدُ بِفَسْخِ الْوَصِيَّةِ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ وَالْإِجَازَةِ إذَا جَحَدَ أَحَدُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ لِأَنَّ هُنَاكَ تَعَذَّرَ حَمْلُهُ عَلَى الْفَسْخِ لِأَنَّ أَحَدَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ هُنَاكَ لَا يَنْفَرِدُ بِالْفَسْخِ حَتَّى لَوْ تَجَاحَدَا نَقُولُ بِانْفِسَاخِ الْعَقْدِ وَبِخِلَافِ مَا لَوْ جَحَدَ الزَّوْجُ مِنْ الْأَصْلِ بِأَنْ قَالَ لَمْ أَتَزَوَّجْك لِأَنَّ هُنَاكَ أَيْضًا

ص: 439

وَلَوْ قَالَ كُلُّ وَصِيَّةٍ أَوْصَيْت بِهَا لِفُلَانٍ فَهُوَ حَرَامٌ وَرِبَا لَا يَكُونُ رُجُوعًا) لِأَنَّ الْوَصْفَ يَسْتَدْعِي بَقَاءَ الْأَصْلِ (بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ فَهِيَ بَاطِلَةٌ) لِأَنَّهُ الذَّاهِبُ الْمُتَلَاشِي (وَلَوْ قَالَ أَخَّرْتهَا لَا يَكُونُ رُجُوعًا) لِأَنَّ التَّأْخِيرَ لَيْسَ لِلسُّقُوطِ كَتَأْخِيرِ الدَّيْنِ (بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ تَرَكْت) لِأَنَّهُ إسْقَاطٌ (وَلَوْ قَالَ الْعَبْدُ الَّذِي أَوْصَيْت بِهِ لِفُلَانٍ فَهُوَ لِفُلَانٍ كَانَ رُجُوعًا) لِأَنَّ اللَّفْظَ يَدُلُّ عَلَى قَطْعِ الشَّرِكَةِ (بِخِلَافِ مَا إذَا أَوْصَى بِهِ لِرَجُلٍ ثُمَّ أَوْصَى بِهِ لِآخَرَ) لِأَنَّ الْمَحِلَّ يَحْتَمِلُ الشَّرِكَةَ وَاللَّفْظَ صَالِحٌ لَهَا (وَكَذَا إذَا قَالَ فَهُوَ لِفُلَانٍ وَارِثِي يَكُونُ رُجُوعًا عَنْ الْأَوَّلِ) لِمَا بَيَّنَّا وَيَكُونُ وَصِيَّةً لِلْوَارِثِ.

وَقَدْ ذَكَرْنَا حُكْمَهُ (وَلَوْ كَانَ فُلَانٌ الْآخَرُ مَيِّتًا حِينَ أَوْصَى فَالْوَصِيَّةُ الْأُولَى عَلَى حَالِهَا) لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ الْأُولَى إنَّمَا تَبْطُلُ ضَرُورَةَ كَوْنِهَا لِلثَّانِي وَلَمْ يَتَحَقَّقْ فَبَقِيَ لِلْأَوَّلِ (وَلَوْ كَانَ فُلَانٌ حِينَ قَالَ ذَلِكَ حَيًّا ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي فَهِيَ لِلْوَرَثَةِ) لِبُطْلَانِ الْوَصِيَّتَيْنِ الْأُولَى بِالرُّجُوعِ وَالثَّانِيَةِ بِالْمَوْتِ.

(بَابُ الْوَصِيَّةِ بِثُلُثِ الْمَالِ)

قَالَ (وَمَنْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِثُلُثِ مَالِهِ وَلِآخَرَ بِثُلُثِ مَالِهِ وَلَمْ تُجِزْ الْوَرَثَةُ فَالثُّلُثُ بَيْنَهُمَا) لِأَنَّهُ يَضِيقُ الثُّلُثُ عَنْ حَقِّهِمَا إذْ لَا يُزَادُ عَلَيْهِ عِنْدَ عَدَمِ الْإِجَازَةِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَقَدْ تَسَاوَيَا فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ فَيَسْتَوِيَانِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ، وَالْمَحِلُّ يَقْبَلُ الشَّرِكَةَ فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا (وَإِنْ أَوْصَى لِأَحَدِهِمَا بِالثُّلُثِ وَلِلْآخَرِ بِالسُّدُسِ فَالثُّلُثُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا) لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُدْلِي بِسَبَبٍ صَحِيحٍ وَضَاقَ الثُّلُثُ عَنْ حَقَّيْهِمَا فَيَقْتَسِمَانِهِ عَلَى قَدْرِ حَقَّيْهِمَا كَمَا فِي أَصْحَابِ الدُّيُونِ فَيُجْعَلُ الْأَقَلُّ سَهْمًا وَالْأَكْثَرُ سَهْمَيْنِ فَصَارَ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ: سَهْمٌ لِصَاحِبِ الْأَقَلِّ وَسَهْمَانِ لِصَاحِبِ الْأَكْثَرِ (وَإِنْ أَوْصَى لِأَحَدِهِمَا بِجَمِيعِ مَالِهِ وَلِلْآخَرِ بِثُلُثِ مَالِهِ وَلَمْ تُجِزْ الْوَرَثَةُ، فَالثُّلُثُ بَيْنَهُمَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ عِنْدَهُمَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، وَلَا يَضْرِبُ أَبُو حَنِيفَةَ لِلْمُوصَى لَهُ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ إلَّا فِي الْمُحَابَاةِ وَالسِّعَايَةِ

تَعَذَّرَ حَمْلُهُ عَلَى الْفَسْخِ، لِأَنَّ النِّكَاحَ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ كِنَايَةً عَنْ الطَّلَاقِ، إذْ لَا مُشَابَهَةَ بَيْنَهُمَا، لِأَنَّ الْجُحُودَ يَنْفِي الْعَقْدَ وَالطَّلَاقَ يَقْطَعُ الْعَقْدَ وَلَا يَنْفِيهِ انْتَهَى، تَبَصَّرْ.

لَمَّا كَانَ أَقْصَى مَا يَدُورُ عَلَيْهِ مَسَائِلُ الْوَصَايَا عِنْدَ عَدَمِ إجَازَةِ الْوَرَثَةِ ثُلُثَ الْمَالِ ذَكَرَ تِلْكَ الْمَسَائِلَ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِهِ فِي هَذَا الْبَابِ

ص: 440

وَالدَّرَاهِمِ الْمُرْسَلَةِ)

لَهُمَا فِي الْخِلَافِيَّةِ أَنَّ الْمُوصِي قَصَدَ شَيْئَيْنِ الِاسْتِحْقَاقَ وَالتَّفْضِيلَ، وَامْتَنَعَ الِاسْتِحْقَاقُ لِحَقِّ الْوَرَثَةِ وَلَا مَانِعَ مِنْ التَّفْضِيلِ فَيَثْبُتُ كَمَا فِي الْمُحَابَاةِ وَأُخْتَيْهَا.

وَلَهُ أَنَّ الْوَصِيَّةَ وَقَعَتْ بِغَيْرِ الْمَشْرُوعِ عِنْدَ عَدَمِ الْإِجَازَةِ مِنْ الْوَرَثَةِ، إذْ لَا نَفَاذَ لَهَا بِحَالٍ فَيَبْطُلُ أَصْلًا، وَالتَّفْضِيلُ يَثْبُتُ فِي ضِمْنِ الِاسْتِحْقَاقِ فَبَطَلَ بِبُطْلَانِهِ كَالْمُحَابَاةِ الثَّابِتَةِ فِي ضِمْنِ الْبَيْعِ، بِخِلَافِ مَوَاضِعِ الْإِجْمَاعِ لِأَنَّ لَهَا نَفَاذًا فِي الْجُمْلَةِ بِدُونِ إجَازَةِ الْوَرَثَةِ بِأَنْ كَانَ فِي الْمَالِ سَعَةٌ فَتُعْتَبَرُ فِي التَّفَاضُلِ لِكَوْنِهِ مَشْرُوعًا فِي الْجُمْلَةِ، بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ.

وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا أَوْصَى بِعَيْنٍ مِنْ تَرِكَتِهِ وَقِيمَتُهُ تَزِيدُ عَلَى الثُّلُثِ فَإِنَّهُ يَضْرِبُ بِالثُّلُثِ وَإِنْ احْتَمَلَ أَنْ يَزِيدَ الْمَالُ فَيَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ،

بَعْدَ ذِكْرِ مُقَدِّمَاتِ هَذَا الْكِتَابِ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَالْعِنَايَةِ.

(قَوْلُهُ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا أَوْصَى بِعَيْنِ تَرِكَتِهِ وَقِيمَتُهُ تَزِيدُ عَلَى الثُّلُثِ فَإِنَّهُ يُضْرَبُ بِالثُّلُثِ وَإِنْ احْتَمَلَ أَنْ يَزِيدَ الْمَالُ فَيَخْرُجَ مِنْ الثُّلُثِ) أَشَارَ بِهَذَا الْكَلَامِ إلَى صُورَةِ نَقْضٍ تَرِدُ عَلَى وَجْهِ الْفَرْقِ لِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله بَيْنَ الْمَسَائِلِ الثَّلَاثِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا وَبَيْنَ الْخِلَافِيَّةِ، وَهِيَ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْكَافِي وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ مَا إذَا أَوْصَى بِعَبْدٍ بِعَيْنِهِ لِإِنْسَانٍ قِيمَتُهُ أَلْفٌ وَبِعَبْدٍ آخَرَ بِعَيْنِهِ لِإِنْسَانٍ آخَرَ قِيمَتُهُ أَلْفَانِ وَلَا مَالَ لَهُ سِوَاهُمَا فَإِنَّ الْخِلَافَ الْمَذْكُورَ ثَابِتٌ فِيهِ أَيْضًا مَعَ أَنَّهُ يُتَصَوَّرُ هُنَاكَ تَنْفِيذُ الْوَصِيَّةِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي جَمِيعِ مَا سَمَّاهُ لَهُ بِدُونِ إجَازَةِ الْوَرَثَةِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَزِيدَ مَالُ الْمَيِّتِ فَيَخْرُجَ الْعَبْدَانِ مِنْ الثُّلُثِ، وَقَالَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ وَصَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي تَصْوِيرِ صُورَةِ النَّقْضِ هُنَا بِأَنْ كَانَ عَبْدًا أَوْصَى بِهِ لِرَجُلٍ وَبِثُلُثِ مَالِهِ لِآخَرَ وَلَا

ص: 441

لِأَنَّ هُنَاكَ الْحَقُّ تَعَلَّقَ بِعَيْنِ التَّرِكَةِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ هَلَكَ وَاسْتَفَادَ مَالًا آخَرَ تَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ، وَفِي الْأَلْفِ الْمُرْسَلَةِ لَوْ هَلَكَتْ التَّرِكَةُ تَنْفُذُ فِيمَا يُسْتَفَادُ فَلَمْ يَكُنْ مُتَعَلِّقًا بِعَيْنِ مَا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْوَرَثَةِ. قَالَ (وَإِذَا أَوْصَى بِنَصِيبِ ابْنِهِ فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ. وَلَوْ أَوْصَى بِمِثْلِ نَصِيبِ ابْنِهِ جَازَ) لِأَنَّ الْأَوَّلَ وَصِيَّةٌ بِمَالِ الْغَيْرِ، لِأَنَّ نَصِيبَ الِابْنِ مَا يُصِيبُهُ بَعْدَ الْمَوْتِ وَالثَّانِيَ وَصِيَّةٌ بِمِثْلِ نَصِيبِ الِابْنِ وَمِثْلُ الشَّيْءِ غَيْرُهُ وَإِنْ كَانَ يَتَقَدَّرُ بِهِ فَيَجُوزُ، وَقَالَ زُفَرُ: يَجُوزُ فِي الْأَوَّلِ أَيْضًا فَيُنْظَرُ إلَى الْحَالِ وَالْكُلُّ مَالُهُ فِيهِ وَجَوَابُهُ مَا قُلْنَا.

قَالَ (وَمَنْ أَوْصَى بِسَهْمٍ مِنْ مَالِهِ فَلَهُ أَخَسُّ سِهَامِ الْوَرَثَةِ إلَّا أَنْ يَنْقُصَ عَنْ السُّدُسِ فَيَتِمَّ لَهُ السُّدُسُ وَلَا يُزَادُ عَلَيْهِ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ،

مَالَ سِوَى الْعَبْدِ وَلَمْ يُجِزْ الْوَرَثَةُ فَالثُّلُثُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، وَإِنْ احْتَمَلَ أَنْ يَكْتَسِبَ هَذَا الْعَبْدُ مَالًا فَتَصِيرُ رَقَبَتُهُ مُسَاوِيَةً لِثُلُثِ الْمَالِ أَوْ يَظْهَرَ لَهُ مَالٌ بِحَيْثُ يَصِيرُ الْعَبْدُ ثُلُثَ الْمَالِ اهـ. أَقُولُ: فِيهِ خَلَلٌ، لِأَنَّ الْمُوصَى بِهِ يَصِيرُ إذْ ذَاكَ هُوَ الْعَبْدُ وَثُلُثُ الْمَالِ، وَلَا يُتَصَوَّرُ حِينَئِذٍ تَنْفِيذُ الْوَصِيَّةِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُوصَى لَهُ فِي جَمِيعِ مَا سَمَّاهُ لَهُ بِدُونِ إجَازَةِ الْوَرَثَةِ وَإِنْ زَادَ مَالُ الْمَيِّتِ جِدًّا، لِأَنَّ الْعَبْدَ يَكُونُ زَائِدًا عَلَى الثُّلُثِ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ لَا مَحَالَةَ، وَلَا يَصِحُّ تَنْفِيذُ مَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ بِدُونِ إجَازَةِ الْوَرَثَةِ فَتَكُونُ تِلْكَ الصُّورَةُ مُخَالِفَةً لِلْمَسَائِلِ الثَّلَاثِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا حَيْثُ أَمْكَنَ فِي هَاتِيك الْمَسَائِلِ الثَّلَاثِ تَنْفِيذُ الْوَصِيَّةِ فِي جَمِيعِ مَا سَمَّاهُ لَهُمَا فِي الْجُمْلَةِ، بِخِلَافِ تِلْكَ الصُّورَةِ فَلَا تَصْلُحُ لَأَنْ تَكُونَ صُورَةَ نَقْضٍ لِلْفَرْقِ الْمَذْكُورِ مِنْ قِبَلِ أَبِي حَنِيفَةَ هُنَا بَلْ إنَّمَا تَكُونُ نَظِيرَ الْخِلَافِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ مِنْ قَبْلُ.

(قَوْلُهُ لِأَنَّ هُنَاكَ الْحَقَّ تَعَلَّقَ بِعَيْنِ التَّرِكَةِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ هَلَكَ وَاسْتَفَادَ مَالًا آخَرَ تَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ، وَفِي الْأَلْفِ الْمُرْسَلَةِ لَوْ هَلَكَتْ التَّرِكَةُ تَنْفُذُ فِيمَا يُسْتَفَادُ فَلَمْ يَكُنْ مُتَعَلِّقًا بِعَيْنِ مَا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْوَرَثَةِ) هَذَا هُوَ الْجَوَابُ عَنْ النَّقِيضِ الَّذِي أَشَارَ إلَيْهِ آنِفًا. قَالَ الزَّيْلَعِيُّ: فِي التَّبْيِينِ بَعْدَمَا نَقَلَ مَا فِي الْهِدَايَةِ هُنَا: وَهَذَا يُنْتَقَضُ بِالْمُحَابَاةِ فَإِنَّهَا تَعَلَّقَتْ بِالْعَيْنِ مِثْلَهُ وَمَعَ هَذَا يُضْرَبُ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ اهـ. أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا النَّقْضُ بِوَارِدٍ لِأَنَّ الْمُحَابَاةَ مُتَعَلِّقَةٌ بِالثَّمَنِ لَا بِالْعَيْنِ، وَقَدْ أَفْصَحَ عَنْهُ صَاحِبُ الْكَافِي حَيْثُ قَالَ: وَالْوَصِيَّةُ بِالسِّعَايَةِ بِمَنْزِلَةِ الدَّرَاهِمِ الْمُرْسَلَةِ، وَكَذَا بِالْمُحَابَاةِ لِأَنَّهَا وَصِيَّةٌ بِالثَّمَنِ فَصَارَتْ بِمَنْزِلَةِ الْمَالِ الْمُرْسَلِ اهـ

(قَوْلُهُ وَلَوْ أَوْصَى بِسَهْمٍ مِنْ مَالِهِ فَلَهُ أَخَسُّ سِهَامِ الْوَرَثَةِ إلَّا أَنْ يَنْقُصَ عَنْ السُّدُسِ فَيَتِمَّ لَهُ السُّدُسُ وَلَا يُزَادُ عَلَيْهِ) اعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْمَحِلَّ مِنْ مَدَاحِضِ هَذَا الْكِتَابِ وَلِهَذَا

ص: 442

وَقَالَا: لَهُ مِثْلُ نَصِيبِ أَحَدِ الْوَرَثَةِ وَلَا يُزَادُ عَلَى الثُّلُثِ إلَّا أَنْ يُجِيزَ الْوَرَثَةُ) لِأَنَّ السَّهْمَ يُرَادُ بِهِ أَحَدَ سِهَامِ الْوَرَثَةِ عُرْفًا لَا سِيَّمَا فِي الْوَصِيَّةِ، وَالْأَقَلُّ مُتَيَقَّنٌ بِهِ فَيُصْرَفُ إلَيْهِ، إلَّا إذَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ فَيُرَدُّ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ عِنْدَ عَدَمِ إجَازَةِ الْوَرَثَةِ.

وَلَهُ أَنَّ السَّهْمَ هُوَ السُّدُسُ هُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، وَقَدْ رَفَعَهُ إلَى النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام فِيمَا يُرْوَى،

تَحَيَّرَ الشُّرَّاحُ فِي حَلِّهِ؛ فَقَالَ أَكْثَرُهُمْ مِنْهُمْ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: مَعْنَاهُ فَلَهُ السُّدُسُ لَا يُزَادُ عَلَيْهِ وَلَا يُنْقَصُ عَنْهُ. أَقُولُ: لَا يَخْفَى عَلَى ذِي فِطْرَةٍ سَلِيمَةٍ أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ هَذَا الْمَعْنَى لَمَا كَانَ لِأَدَائِهِ بِمِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ الْمُعْضِلِ الْمُشَوِّشِ وَجْهٌ، وَهَلْ يَلِيقُ هَذَا بِمَنْصِبِ الْمُصَنِّفِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَى قَوْلِهِ وَلَا يُزَادُ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ الْمُسْتَثْنَاةِ فِي الْكِتَابِ وَهِيَ مَا إذَا كَانَ أَخَسُّ السِّهَامِ أَنْقَصَ مِنْ السُّدُسِ لِيُوَافِقَ رِوَايَةَ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَا فِي الْكِتَابِ سَاكِتًا عَنْ بَيَانِ الْحُكْمِ إذَا كَانَ أَخَسُّ السِّهَامِ أَزْيَدَ مِنْ السُّدُسِ اهـ.

أَقُولُ: لَا يَخْفَى عَلَى الْفَطِنِ أَنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ رحمه الله فِي تَعْلِيلِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: وَلَهُ أَنَّ السَّهْمَ هُوَ السُّدُسُ إلَخْ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مَا لِلْمُوصَى لَهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عِنْدَهُ هُوَ السُّدُسُ مُطْلَقًا: أَيْ سَوَاءٌ كَانَ أَخَسُّ السِّهَامِ هُوَ السُّدُسُ أَوْ نَاقِصًا عَنْهُ أَوْ زَائِدًا عَلَيْهِ، فَلَا مَجَالَ لَأَنْ يَكُونَ مَا فِي الْكِتَابِ مُوَافِقًا لِرِوَايَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ عَلَى مُقْتَضَى التَّعْلِيلِ الْمَذْكُورِ، فَإِنَّ فِي رِوَايَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى السُّدُسِ دُونَ النُّقْصَانِ عَنْهُ، وَالتَّعْلِيلُ الْمَذْكُورُ يُنَافِي ذَلِكَ. وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: فَإِنْ قِيلَ: أَخَسُّ الْأَنْصِبَاءِ أَقَلُّهُ وَالثُّمُنُ أَقَلُّ مِنْ السُّدُسِ فَكَيْفَ جَعَلَهُ بِمَعْنَى السُّدُسِ؟ قُلْت: جَعَلَهُ بِمَعْنَاهُ لِمَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ مِنْ الْأَثَرِ وَاللُّغَةِ اهـ.

أَقُولُ: الْجَوَابُ مَنْظُورٌ فِيهِ، لِأَنَّ مَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ إنَّمَا يَسْتَدْعِي جَعْلَ السَّهْمِ بِمَعْنَى السُّدُسِ لَا جَعْلَ أَخَسِّ الْأَنْصِبَاءِ الَّذِي هُوَ أَقَلُّهُمَا بِمَعْنَى السُّدُسِ، وَكَلَامُ الْمَسَائِلِ فِي الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ كَمَا تَرَى. وَالْحَقُّ فِي الْجَوَابِ مَا يُفْهَمُ مِمَّا ذُكِرَ فِي النِّهَايَةِ نَقْلًا عَنْ الْمَبْسُوطِ وَهُوَ أَنَّ أَقَلَّ الْأَنْصِبَاءِ بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ وَهُوَ الْقَرَابَةُ إنَّمَا هُوَ السُّدُسُ، وَأَمَّا الثُّمُنُ فَإِنَّمَا هُوَ أَقَلُّهَا بِاعْتِبَارِ الْعَارِضِ وَهُوَ الزَّوْجِيَّةُ، وَمَا يَكُونُ عَارِضًا فِي مُزَاحَمَةِ مَا هُوَ أَصْلٌ كَالْمَعْدُومِ فَيُحْمَلُ اللَّفْظُ عَلَى أَقَلِّ مَا يَسْتَحِقُّ مِنْ السِّهَامِ بِالْقَرَابَةِ وَهُوَ السُّدُسُ. ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَاعْلَمْ أَنَّ عِبَارَةَ الْمَشَايِخِ وَالشَّارِحِينَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ اخْتَلَفَتْ اخْتِلَافًا لَا يَكَادُ يُعْلَمُ مِنْهُ شَيْءٌ، وَسَبَبُ ذَلِكَ اخْتِلَافُ رِوَايَةِ الْمَبْسُوطِ وَالْجَامِعِ الصَّغِيرِ، قَالَ فِي الْكَافِي: فَعَلَى رِوَايَةِ الْأَصْلِ جَوَّزَ أَبُو حَنِيفَةَ النُّقْصَانَ عَنْ السُّدُسِ وَلَمْ يُجَوِّزْ الزِّيَادَةَ عَلَى السُّدُسِ، وَعَلَى رِوَايَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ جَوَّزَ الزِّيَادَةَ عَلَى السُّدُسِ وَلَمْ يُجَوِّزْ النُّقْصَانَ عَنْ السُّدُسِ، وَرِوَايَةُ الْمُصَنِّفِ تُخَالِفُ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا لِأَنَّ قَوْلَهُ إلَّا أَنْ يَنْقُصَ عَنْ السُّدُسِ فَيَتِمُّ لَهُ السُّدُسُ لَيْسَ فِي رِوَايَةِ الْمَبْسُوطِ، وَقَوْلُهُ وَلَا يُزَادُ عَلَيْهِ لَيْسَ فِي رِوَايَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، فَإِمَّا أَنَّهُ اطَّلَعَ عَلَى رِوَايَةِ غَيْرِهِمَا، وَإِمَّا أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَهُمَا، إلَى هُنَا لَفْظُ الْعِنَايَةِ.

أَقُولُ: كَيْفَ يُتَصَوَّرُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا وَقَدْ صَرَّحَ فِي الْكَافِي بِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ جَوَّزَ عَلَى رِوَايَةِ الْأَصْلِ النُّقْصَانَ عَنْ السُّدُسِ وَلَمْ يُجَوِّزْ الزِّيَادَةَ عَلَى السُّدُسِ، وَجَوَّزَ عَلَى رِوَايَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ الزِّيَادَةَ عَلَى السُّدُسِ وَلَمْ يُجَوِّزْ النُّقْصَانَ عَنْ السُّدُسِ، وَنَقَلَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ مَا فِي الْكَافِي عَلَى وَجْهِ الِارْتِضَاءِ. وَمَعْنَى رِوَايَةِ الْمُصَنِّفِ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ الشَّارِحُ الْمَزْبُورُ فِي صَدْرِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رحمه الله لَمْ يُجَوِّزْ النُّقْصَانَ عَنْ السُّدُسِ وَلَا الزِّيَادَةَ عَلَيْهِ، فَلَا جَرَمَ تَكُونُ هَذِهِ الرِّوَايَةُ مُنَافِيَةً لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ رِوَايَتَيْ الْمَبْسُوطِ وَالْجَامِعِ الصَّغِيرِ لَا تَتَحَمَّلُ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا كَمَا لَا يَخْفَى، فَلَا وَجْهَ لِقَوْلِهِ وَإِمَّا أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَهُمَا. وَأَوْرَدَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ عَلَى قَوْلِهِ وَقَوْلُهُ وَلَا يُزَادُ عَلَيْهِ: لَيْسَ فِي رِوَايَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ حَيْثُ قَالَ فِيهِ تَأَمُّلٌ، فَإِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْمُرَادَ نَفْيُ الزِّيَادَةِ عَلَى السُّدُسِ إذَا نَقَصَ أَخَسُّ السِّهَامِ عَنْ السُّدُسِ لَا مُطْلَقًا فَحِينَئِذٍ يَكُونُ مَا فِي الْكِتَابِ رِوَايَةَ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ اهـ.

ص: 443

وَلِأَنَّهُ يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ السُّدُسُ، فَإِنَّ إيَاسًا قَالَ: السَّهْمُ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ السُّدُسِ، وَيُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ سَهْمٌ مِنْ سِهَامِ الْوَرَثَةِ فَيُعْطَى مَا ذَكَرْنَا،

أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا بِمُسْتَقِيمٍ، فَإِنَّ التَّعْلِيلَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ قِبَلِ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله بِقَوْلِهِ وَلَهُ أَنَّ السَّهْمَ هُوَ السُّدُسُ إلَخْ يَقْتَضِي لَا مَحَالَةَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِمَا فِي الْكِتَابِ نَفْيَ الزِّيَادَةِ عَلَى السُّدُسِ مُطْلَقًا كَمَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ نَفْيَ النُّقْصَانِ عَنْ السُّدُسِ مُطْلَقًا، فَلَا مَجَالَ لَأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ رِوَايَةَ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، كَمَا لَا مَجَالَ لَأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ رِوَايَةَ الْأَصْلِ وَقَدْ كُنْت نَبَّهْت عَلَيْهِ فِيمَا مَرَّ آنِفًا.

(قَوْلُهُ وَلِأَنَّهُ يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ السُّدُسُ إلَخْ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: قَوْلُهُ وَلِأَنَّهُ يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ السُّدُسُ إلَخْ مُشْكِلٌ، لِأَنَّهُ وَقَعَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْهِدَايَةِ فَيُعْطَى مَا ذَكَرْنَا وَفِي بَعْضِهَا فَيُعْطَى الْأَقَلَّ مِنْهُمَا. وَفَسَّرَ الْأُولَى بَعْضُ الشَّارِحِينَ فَقَالَ: يَعْنِي إنْ كَانَ أَخَسُّ سِهَامِ الْوَرَثَةِ أَقَلَّ مِنْ السُّدُسِ يُعْطَى السُّدُسَ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ السَّهْمَ عِبَارَةٌ عَنْ السُّدُسِ، وَإِنْ كَانَ أَخَسُّ السِّهَامِ أَكْثَرَ يُعْطَى ذَلِكَ، لِأَنَّ السَّهْمَ يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ سَهْمٌ مِنْ سِهَامِ الْوَرَثَةِ عَمَلًا بِالدَّلِيلَيْنِ، فَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ بِقَوْلِهِ ذَلِكَ أَخَسُّ السِّهَامِ وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ السُّدُسِ فَلَيْسَ ذَلِكَ بِدَلِيلٍ لِمَا فِي الْكِتَابِ فَإِنَّ فِيهِ الزِّيَادَةَ عَلَى السُّدُسِ، وَقَدْ قَالَ فِي الْكِتَابِ: وَلَا يُزَادُ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ السُّدُسَ فَمَا ثَمَّةَ عَمَلٌ بِالدَّلِيلَيْنِ اهـ. وَاعْتَرَضَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ عَلَى قَوْلِهِ وَقَدْ قَالَ فِي الْكِتَابِ وَلَا يُزَادُ عَلَيْهِ حَيْثُ قَالَ: فِيهِ بَحْثٌ، إذْ لَيْسَ الْمُرَادُ نَفْيَ الزِّيَادَةِ مُطْلَقًا، بَلْ عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِ أَخَسِّ السِّهَامِ نَاقِصًا عَنْ السُّدُسِ فَيَصْلُحُ ذَلِكَ دَلِيلًا لِمَا فِي الْكِتَابِ اهـ. أَقُولُ: قَدْ مَرَّ مِنَّا غَيْرَ مَرَّةٍ أَنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ رحمه الله فِي تَعْلِيلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ قِبَلِ أَبِي حَنِيفَةَ بِقَوْلِهِ وَلَهُ أَنَّ السَّهْمَ هُوَ السُّدُسُ هُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، وَقَدْ رَفَعَهُ إلَى النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام يَقْتَضِي كَوْنَ الْمُرَادِ مِنْ

ص: 444

قَالُوا: هَذَا كَانَ فِي عُرْفِهِمْ، وَفِي عُرْفِنَا السَّهْمُ كَالْجُزْءِ.

قَالَ (وَلَوْ أَوْصَى بِجُزْءٍ مِنْ مَالِهِ قِيلَ لِلْوَرَثَةِ أَعْطُوهُ مَا شِئْتُمْ) لِأَنَّهُ مَجْهُولٌ يَتَنَاوَلُ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ، غَيْرَ أَنَّ الْجَهَالَةَ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْوَصِيَّةِ وَالْوَرَثَةُ قَائِمُونَ مُقَامَ الْمُوصِي فَإِلَيْهِمْ الْبَيَانُ.

مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ نَفْيَ الزِّيَادَةِ مُطْلَقًا فَلَا يَصْلُحُ مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الشَّارِحِينَ دَلِيلًا عَلَيْهِ كَمَا قَالَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ. ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَأَمَّا الثَّانِيَةُ وَهُوَ قَوْلُهُ فَيُعْطَى الْأَقَلَّ مِنْهُمَا فَتُؤَدِّي إلَى النُّقْصَانِ عَنْ السُّدُسِ وَفِي الْكِتَابِ إلَّا أَنْ يَنْقُصَ عَنْ السُّدُسِ فَيَتِمَّ لَهُ السُّدُسُ. وَأَيْضًا قَوْلُهُ مَا ذَكَرْنَا إنْ أَرَادَ بِهِ السُّدُسَ فَلَا تَعَلُّقَ لِقَوْلِهِ وَقَدْ يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ سَهْمٌ مِنْ سِهَامِ الْوَرَثَةِ بِالدَّلِيلِ لِأَنَّهُ يَتِمُّ بِقَوْلِ إيَاسٍ وَإِنْ أَرَادَ بِهِ الْأَقَلَّ مِنْهُمَا عَادَ الِاعْتِرَاضُ الْمَذْكُورُ وَهُوَ الْأَدَاءُ إلَى النُّقْصَانِ عَنْ السُّدُسِ اهـ.

وَقَصَدَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ أَنْ يُجِيبَ عَنْ قَوْلِهِ وَأَيْضًا قَوْلُهُ مَا ذَكَرْنَا إلَخْ حَيْثُ قَالَ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الْكَلَامِ أَنَّ السَّهْمَ يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ السُّدُسُ وَيُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ سَهْمٌ مِنْ سِهَامِ الْوَرَثَةِ فَيُعْطَى السُّدُسَ لِتَعَيُّنِهِ بِأَثَرِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه فَلْيُتَأَمَّلْ اهـ. أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ، لِأَنَّ أَثَرَ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه هُوَ الدَّلِيلُ الْأَوَّلُ، فَلَوْ كَانَ مَعْنَى الدَّلِيلِ الثَّانِي مَا ذَكَرَهُ ذَلِكَ الْقَائِلُ كَانَ مَدَارُ هَذَا الدَّلِيلِ أَيْضًا أَثَرَ ابْنِ مَسْعُودٍ فَيَلْزَمُ التَّكْرَارُ وَالِاسْتِدْرَاكُ كَمَا لَا يَخْفَى، ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَأَرَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ مَا ذَكَرْنَا هُوَ الْأَقَلُّ مِنْهُمَا لِيَكُونَ مَعْنَى النُّسْخَتَيْنِ وَاحِدًا، وَأَشَارَ بِذَلِكَ إلَى رِوَايَةِ الْمَبْسُوطِ وَهِيَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ جَوَازِ النُّقْصَانِ دُونَ الزِّيَادَةِ عَلَى السُّدُسِ تَنْبِيهًا بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمَذْكُورَ فِي الْكِتَابِ مِنْ قَوْلِهِ إلَّا أَنْ يَنْقُصَ عَنْ السُّدُسِ فَيَتِمَّ لَهُ السُّدُسُ وَلَا يُزَادُ عَلَيْهِ لَيْسَ رِوَايَةً وَاحِدَةً، وَإِنَّمَا هُوَ مُرَكَّبٌ مِنْ رِوَايَتَيْنِ اهـ.

أَقُولُ: هَذَا الَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ سَقِيمٌ جِدًّا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُرِيدَهُ الْعَاقِلُ فَضْلًا عَنْ مِثْلِ الْمُصَنِّفِ الْفَطِنِ الْكَامِلِ فَإِنَّ قَوْلَهُ فَيُعْطَى مَا ذَكَرْنَا مَذْكُورٌ بِصَدَدِ إقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَى مَا قَدَّمَهُ مِنْ الرِّوَايَةِ الْمُخَالِفَةِ لِرِوَايَةِ الْمَبْسُوطِ وَرِوَايَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ كَمَا اعْتَرَفَ بِهِ هَذَا الشَّارِحُ فِيمَا قَبْلُ، فَكَيْفَ يَصِحُّ مِنْهُ الْإِشَارَةُ فِي الدَّلِيلِ إلَى مَا يُخَالِفُ الْمُدَّعَى وَيُنَافِيهِ. ثُمَّ إنَّ كَوْنَ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ مُرَكَّبًا مِنْ رِوَايَتَيْ الْمَبْسُوطِ وَالْجَامِعِ الصَّغِيرِ مِمَّا لَا مَجَالَ لَهُ كَمَا بَيَّنَّاهُ قَبْلُ فَلَا وَجْهَ وَإِنَّمَا هُوَ مُرَكَّبٌ مِنْ رِوَايَتَيْنِ

(قَوْلُهُ وَلَوْ أَوْصَى بِجُزْءٍ مِنْ مَالِهِ قِيلَ لِلْوَرَثَةِ أَعْطُوهُ مَا شِئْتُمْ لِأَنَّهُ مَجْهُولٌ يَتَنَاوَلُ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ، غَيْرَ أَنَّ الْجَهَالَةَ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْوَصِيَّةِ وَالْوَرَثَةُ قَائِمُونَ مُقَامَ الْمُوصِي فَإِلَيْهِمْ الْبَيَانُ) قَالَ صَاحِبُ التَّسْهِيلِ: أَقُولُ: دَلَّتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى أَنَّ أَحَدًا لَوْ أَقَرَّ بِمَجْهُولٍ كَقَوْلِهِ لِفُلَانٍ عَلَيَّ دَيْنٌ وَلَمْ يُبَيِّنْ قَدْرَهُ فَمَاتَ مُجَهِّلًا يُجْبَرُ وَرَثَتُهُ عَلَى الْبَيَانِ، وَكَذَا لَوْ أُقِيمَ الْبَيِّنَةُ عَلَى إقْرَارِهِ بِمَجْهُولٍ يَنْبَغِي أَنْ يُقْبَلَ، وَيُجْبَرُ وَرَثَتُهُ عَلَى الْبَيَانِ اهـ.

وَرَدَّ عَلَيْهِ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ حَيْثُ قَالَ بَعْدَ نَقْلِ ذَلِكَ: قُلْت: مَا ذَكَرَهُ قِيَاسٌ مَعَ الْفَارِقِ، لِأَنَّ الْإِقْرَارَ وَلَوْ بِمَجْهُولٍ يُوجِبُ تَعَلُّقَ الْغَيْرِ بِهِ مِنْ وَقْتِ الْإِقْرَارِ فَيُجْبَرُ الْمُقِرُّ عَلَى بَيَانِهِ بِطَلَبِ الْمُقَرِّ لَهُ، فَإِذَا فَاتَ الْجَبْرُ فِي حَيَاتِهِ بِوَفَاتِهِ سَقَطَ سِيَّمَا إذَا كَانَ

ص: 445

قَالَ (وَمَنْ قَالَ سُدُسُ مَالِي لِفُلَانٍ ثُمَّ قَالَ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ أَوْ فِي مَجْلِسٍ آخَرَ لَهُ ثُلُثُ مَالِي وَأَجَازَتْ الْوَرَثَةُ فَلَهُ ثُلُثُ الْمَالِ وَيَدْخُلُ السُّدُسُ فِيهِ، وَمَنْ قَالَ سُدُسُ مَالِي لِفُلَانٍ ثُمَّ قَالَ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ أَوْ فِي غَيْرِهِ سُدُسُ مَالِي لِفُلَانٍ فَلَهُ سُدُسٌ وَاحِدٌ) لِأَنَّ السُّدُسَ ذُكِرَ مُعَرَّفًا بِالْإِضَافَةِ إلَى الْمَالِ، وَالْمَعْرِفَةُ إذَا أُعِيدَتْ يُرَادُ بِالثَّانِي عَيْنَ الْأَوَّلِ هُوَ الْمَعْهُودُ فِي اللُّغَةِ.

قَالَ (وَمَنْ أَوْصَى بِثُلُثِ دَرَاهِمِهِ أَوْ بِثُلُثِ غَنَمِهِ فَهَلَكَ ثُلُثَا ذَلِكَ وَبَقِيَ ثُلُثُهُ وَهُوَ يَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِ مَا بَقِيَ مِنْ مَالِهِ فَلَهُ جَمِيعُ مَا بَقِيَ) وَقَالَ زُفَرُ: لَهُ ثُلُثُ مَا بَقِيَ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمْ وَالْمَالُ الْمُشْتَرَكُ يُتْوَى مَا تُوِيَ مِنْهُ عَلَى الشَّرِكَةِ وَيَبْقَى مَا بَقِيَ عَلَيْهَا وَصَارَ كَمَا إذَا كَانَتْ التَّرِكَةُ أَجْنَاسًا مُخْتَلِفَةً. وَلَنَا أَنَّ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ يُمْكِنُ جَمِيعُ حَقِّ أَحَدِهِمْ فِي الْوَاحِدِ وَلِهَذَا يَجْرِي فِيهِ الْجَبْرُ عَلَى الْقِسْمَةِ وَفِيهِ جَمْعٌ وَالْوَصِيَّةُ

بِتَقْصِيرٍ مِنْ الْمُقَرِّ لَهُ فَلَمْ يَنُبْ عَنْهُ وَرَثَتُهُ، بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ بِمَجْهُولٍ لِعَدَمِ ثُبُوتِ حَقِّ الْغَيْرِ إلَّا بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي فَقَبْلَ مَوْتِهِ لَا يُجْبَرُ عَلَى بَيَانِهِ وَبَعْدَ مَوْتِهِ تَعَلَّقَ الْحَقُّ بِتَرِكَتِهِ وَلَا يُمْكِنُ جَبْرُهُ فَيُجْبَرُ مَنْ يَقُومُ مُقَامَهُ إحْيَاءً لِحَقٍّ ثَابِتٍ اهـ.

أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا بِسَدِيدٍ، لِأَنَّهُمْ صَرَّحُوا بِأَنْ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْقِيَاسِ أَنْ يَكُونَ الْمَقِيسُ فِي مَعْنَى الْمَقِيسِ عَلَيْهِ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ، بَلْ يَكْفِي الِاشْتِرَاكُ فِي عِلَّةٍ هِيَ مَدَارُ الْحُكْمِ فِي الْمَقِيسِ عَلَيْهِ، فَمُجَرَّدُ الْفَرْقِ بَيْنَ مَا نَحْنُ فِيهِ وَبَيْنَ الْإِقْرَارِ بِالْمَجْهُولِ فِي كَوْنِ تَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ بِهِ فِي الْإِقْرَارِ مِنْ وَقْتِ الْإِقْرَارِ وَفِي الْوَصِيَّةِ بَعْدَ الْمَوْتِ لَا يَضُرُّ بِصِحَّةِ الْقِيَاسِ الْمُنْفَهِمِ مِمَّا ذَكَرَهُ صَاحِبُ التَّسْهِيلِ، وَإِنَّمَا يَضُرُّ بِهَا الْفَرْقُ فِي الْعِلَّةِ الَّتِي هِيَ مَدَارُ الْحُكْمِ، وَهُوَ لَيْسَ بِمُتَحَقِّقٍ هُنَا، فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ مَدَارُ ثُبُوتِ الْجَبْرِ بِالْبَيَانِ لِوَرَثَةِ الْمُوصِي الَّذِينَ يَقُومُونَ مُقَامَ الْمُوصِي إحْيَاءَ حَقٍّ ثَابِتٍ بِالْوَصِيَّةِ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَثْبُتَ الْجَبْرُ بِالْبَيَانِ لِوَرَثَةِ الْمُقِرِّ بِالْمَجْهُولِ أَيْضًا إذَا مَاتَ مُجَهِّلًا إحْيَاءً لِحَقٍّ ثَابِتٍ بِالْإِقْرَارِ، فَقَوْلُ ذَلِكَ الْبَعْضِ فَإِذَا فَاتَ الْجَبْرُ فِي حَيَاةِ الْمُقِرِّ بِوَفَاتِهِ سَقَطَ إنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ سَقَطَ عَنْهُ الْحَقُّ أَصْلًا فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّهُ لَا تَسْقُطُ حُقُوقُ الْعِبَادِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْمَالِ بِمَوْتِ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ بَلْ تُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَتِهِ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ سَقَطَ عَنْهُ الْجَبْرُ لِعَدَمِ إمْكَانِهِ وَإِنْ كَانَ بَقِيَ أَصْلُ الْحَقِّ عَلَيْهِ فَهُوَ مُسَلَّمٌ، لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ قَوْلَهُ فَلَمْ يَنُبْ عَنْهُ وَرَثَتُهُ، فَإِنَّهُ لَمَّا بَقِيَ حَقُّ الْمُقِرِّ عَلَيْهِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَيْهِ مَجْهُولًا مُحْتَاجًا إلَى الْبَيَانِ لِعَدَمِ إمْكَانِ الْقَضَاءِ بِالْمَجْهُولِ وَكَانَ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ عَاجِزًا عَنْ الْبَيَانِ بَعْدَ مَوْتِهِ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَنُوبَ عَنْهُ وَرَثَتُهُ فِي الْبَيَانِ كَمَا فِي الْوَصِيَّةِ بِالْمَجْهُولِ تَأَمَّلْ تَقِفْ

(قَوْلُهُ وَمَنْ قَالَ سُدُسُ مَالِي لِفُلَانٍ ثُمَّ قَالَ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ أَوْ فِي مَجْلِسٍ آخَرَ لَهُ ثُلُثُ مَالِي وَأَجَازَتْ الْوَرَثَةُ فَلَهُ ثُلُثُ الْمَالِ وَيَدْخُلُ السُّدُسُ فِيهِ) لِأَنَّ الْكَلَامَ الثَّانِيَ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ زِيَادَةَ السُّدُسِ عَلَى الْأَوَّلِ حَتَّى يَتِمَّ لَهُ الثُّلُثُ،

ص: 446

مُقَدَّمَةٌ فَجَمَعْنَاهَا فِي الْوَاحِدِ الْبَاقِي وَصَارَتْ الدَّرَاهِمُ كَالدِّرْهَمِ، بِخِلَافِ الْأَجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ فِيهَا جَبْرًا فَكَذَا تَقْدِيمًا.

قَالَ (وَلَوْ أَوْصَى بِثُلُثِ ثِيَابِهِ فَهَلَكَ ثُلُثَاهَا وَبَقِيَ ثُلُثُهَا وَهُوَ يَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِ مَا بَقِيَ مِنْ مَالِهِ لَمْ يَسْتَحِقَّ إلَّا ثُلُثَ مَا بَقِيَ مِنْ الثِّيَابِ، قَالُوا: هَذَا) إذَا كَانَتْ الثِّيَابُ مِنْ أَجْنَاسٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَلَوْ كَانَتْ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الدَّرَاهِمِ، وَكَذَلِكَ الْمَكِيلُ وَالْمَوْزُونُ بِمَنْزِلَتِهَا لِأَنَّهُ يَجْرِي فِيهِ الْجَمْعُ جَبْرًا بِالْقِسْمَةِ (وَلَوْ أَوْصَى بِثُلُثِ ثَلَاثَةٍ مِنْ رَقِيقَةِ فَمَاتَ اثْنَانِ لَمْ يَكُنْ لَهُ إلَّا ثُلُثُ الْبَاقِي، وَكَذَا الدُّورُ الْمُخْتَلِفَةُ) وَقِيلَ هَذَا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَحْدَهُ لِأَنَّهُ لَا يَرَى الْجَبْرَ عَلَى الْقِسْمَةِ فِيهَا. وَقِيلَ هُوَ قَوْلُ الْكُلِّ لِأَنَّ عِنْدَهُمَا الْقَاضِي أَنْ يَجْتَهِدَ وَيَجْمَعَ وَبِدُونِ ذَلِكَ يَتَعَذَّرُ الْجَمْعُ، وَالْأَوَّلُ أَشْبَهُ لِلْفِقْهِ الْمَذْكُورِ.

وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ إيجَابَ ثُلُثٍ عَلَى السُّدُسِ حَتَّى يَصِيرَ الْمَجْمُوعُ نِصْفًا وَعِنْدَ الِاحْتِمَالِ لَا يَثْبُتُ لَهُ إلَّا الْقَدْرُ الْمُتَيَقَّنُ فَيُجْعَلُ السُّدُسُ دَاخِلًا فِي الثُّلُثِ حَمْلًا لِكَلَامِهِ عَلَى الْمُتَيَقَّنِ، هَذَا زُبْدَةُ مَا فِي الشُّرُوحِ. قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ بَعْدَ ذِكْرِ الدَّلِيلِ عَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ: هَكَذَا قَالُوا، وَهَذَا كَمَا تَرَى حَمْلٌ لِلْكَلَامِ عَلَى أَحَدِ مُحْتَمَلَيْهِ. وَلَك أَنْ تَقُولَ: لَمَّا كَانَ الْكَلَامُ مُحْتَمَلًا لِلْمَعْنَيَيْنِ وَكَانَ الْقَدْرُ الثَّابِتُ بِهِ بِيَقِينٍ عَلَى الِاحْتِمَالَيْنِ الثُّلُثَ. قُلْنَا: مَا ثَبَتَ بِهِ مِنْ الْوَصِيَّةِ هُوَ الثُّلُثُ لَكِنْ لَا بِطَرِيقِ حَمْلِهِ عَلَى أَحَدِ مُحْتَمَلَيْهِ كَمَا زَعَمُوا، بَلْ يَجْعَلُهُ بِمَنْزِلَةِ أَنْ يُقَالَ بَدَأَ ثُلُثُ مَالِي وَصِيَّةً لِأَنَّ الْمُتَيَقَّنَ ثُبُوتُ الثُّلُثِ بِمَجْمُوعِ الِاحْتِمَالَيْنِ لَا بِأَوَّلِهِمَا، إلَى هُنَا كَلَامُهُ. أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ إذْ لَا شَكَّ أَنَّ الْمُتَيَقَّنَ ثُبُوتُ الثُّلُثِ بِأَوَّلِ الِاحْتِمَالَيْنِ، فَإِنَّ زِيَادَةَ الثُّلُثِ عَلَى السُّدُسِ كَمَا هُوَ الِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ يَقْتَضِي ثُبُوتَ الثُّلُثِ بِلَا رَيْبٍ، وَانْضِمَامَ الِاحْتِمَالِ الثَّانِي إلَيْهِ إنَّمَا يُفِيدُ جَوَازَ إرَادَةِ النِّصْفِ وَلَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي ثُبُوتِ الثُّلُثِ لِثُبُوتِهِ بِدُونِ ذَلِكَ.

فَالْمَعْنَى الصَّحِيحُ هُنَا مَا ذَكَرَهُ الْجُمْهُورُ لَا مَا زَادَهُ ذَلِكَ الْبَعْضُ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ. وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: فَإِنْ قِيلَ: إذَا أَجَازَتْ الْوَرَثَةُ كَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يَكُونَ لَهُ نِصْفُ الْمَالِ وَإِلَّا لَمْ يَبْقَ لِقَوْلِهِ وَأَجَازَتْ الْوَرَثَةُ فَائِدَةٌ. فَالْجَوَابُ أَنَّ مَعْنَاهُ حَقُّهُ الثُّلُثُ وَإِنْ أَجَازَتْ الْوَرَثَةُ لِأَنَّ السُّدُسَ يَدْخُلُ فِي الثُّلُثِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِالثَّانِيَةِ زِيَادَةَ السُّدُسِ عَلَى الْأَوَّلِ حَتَّى يَتِمَّ لَهُ الثُّلُثُ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهَا

ص: 447

قَالَ (وَمَنْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَلَهُ مَالٌ عَيْنٌ وَدَيْنٌ، فَإِنْ خَرَجَ الْأَلْفُ مِنْ ثُلُثِ الْعَيْنِ دُفِعَ إلَى الْمُوصَى لَهُ) لِأَنَّهُ أَمْكَنَ إيفَاءُ كُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ مِنْ غَيْرِ بَخْسٍ فَيُصَارُ إلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ دُفِعَ إلَيْهِ ثُلُثُ الْعَيْنِ، وَكُلَّمَا خَرَجَ شَيْءٌ مِنْ الدَّيْنِ أَخَذَ ثُلُثَهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الْأَلْفَ لِأَنَّ الْمُوصَى لَهُ شَرِيكُ الْوَارِثِ، وَفِي تَخْصِيصِهِ بِالْعَيْنِ بَخْسٌ فِي حَقِّ الْوَرَثَةِ لِأَنَّ الْعَيْنَ فَضْلًا عَنْ الدَّيْنِ، وَلِأَنَّ الدَّيْنَ لَيْسَ بِمَالٍ فِي مُطْلَقِ الْحَالِ وَإِنَّمَا يَصِيرُ مَالًا عِنْدَ الِاسْتِيفَاءِ فَإِنَّمَا يَعْتَدِلُ النَّظَرُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ.

قَالَ (وَمَنْ أَوْصَى لِزَيْدٍ وَعَمْرٍو بِثُلُثِ مَالِهِ فَإِذَا عَمْرٌو مَيِّتٌ فَالثُّلُثُ كُلُّهُ لِزَيْدٍ) لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلْوَصِيَّةِ فَلَا يُزَاحِمُ الْحَيَّ الَّذِي هُوَ مِنْ أَهْلِهَا، كَمَا إذَا أَوْصَى لِزَيْدٍ وَجِدَارٍ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله

إيجَابَ ثُلُثٍ عَلَى السُّدُسِ فَيَجْعَلُ السُّدُسَ دَاخِلًا فِي الثُّلُثِ لِأَنَّهُ مُتَيَقَّنٌ وَحَمْلًا لِكَلَامِهِ عَلَى مَا يَمْلِكُهُ وَهُوَ الْإِيصَاءُ بِالثُّلُثِ اهـ. أَقُولُ: فِي قَوْلِهِ وَحَمْلًا لِكَلَامِهِ عَلَى مَا يَمْلِكُهُ وَهُوَ الْإِيصَاءُ بِالثُّلُثِ بَحْثٌ، لِأَنَّ مَا يَمْلِكُهُ إنَّمَا يَكُونُ هُوَ الْإِيصَاءُ بِالثُّلُثِ إذَا لَمْ تُجِزْ الْوَرَثَةُ. وَأَمَّا إذَا أَجَازَتْ كَمَا هُوَ الْمَفْرُوضُ هُنَا فَيَمْلِكُ الْإِيصَاءَ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ أَيْضًا، وَيَتَمَلَّكُهُ الْمَجَازُ لَهُ مِنْ قِبَلِ الْمُوصِي عِنْدَنَا كَمَا مَرَّ فِي أَوَائِلِ هَذَا الْكِتَابِ فَلَا يَتِمُّ هَذِهِ الْعِلَّةُ تَدَبَّرْ

(قَوْلُهُ لِأَنَّهُ أَمْكَنَ إيفَاءُ كُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ مِنْ غَيْرِ بَخْسٍ فَيُصَارُ إلَيْهِ) أَقُولُ: فِيهِ تَأَمُّلٌ فَإِنَّهُ إنَّمَا يَظْهَر أَنْ لَوْ كَانَ حَقُّ الْمُوصَى لَهُ فِي الْعَيْنِ خَاصَّةً وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هُوَ شَائِعٌ فِي الْعَيْن وَالدَّيْنِ مَعًا كَمَا صَرَّحُوا بِهِ. وَقَالُوا: الْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ الْوَصِيَّةَ الْمُرْسَلَةَ تَكُونُ شَائِعَةً فِي كُلِّ الْمَالِ لِكَوْنِ الْمُوصَى لَهُ إذْ ذَاكَ شَرِيكَ الْوَرَثَةِ، وَعَنْ هَذَا لَا يَأْخُذُ الْأَلْفَ كَمَلًا فِي صُورَةِ إنْ لَمْ يَخْرُجْ الْأَلْفُ مِنْ ثُلُثِ الْعَيْنِ، وَإِذَا كَانَ حَقُّ الْمُوصَى لَهُ شَائِعًا فِي جَمِيعِ التَّرِكَةِ الَّذِي هُوَ الْعَيْنُ وَالدَّيْنُ كَشُيُوعِ حَقِّ الْوَرَثَةِ فِيهِ كَانَ تَخْصِيصُ حَقِّ الْمُوصَى لَهُ بِالْعَيْنِ فِي صُورَةِ إنْ خَرَجَ الْأَلْفُ مِنْ ثُلُثِ الْعَيْنِ بَخْسًا فِي حَقِّ الْوَرَثَةِ كَمَا فِي الصُّورَةِ الْأُخْرَى، إذْ يَلْزَمُ حِينَئِذٍ أَنْ يَأْخُذَ الْمُوصَى لَهُ جَمِيعَ حَقِّهِ مِنْ الْعَيْنِ الَّذِي لَهُ فَضْلٌ عَلَى الدَّيْنِ وَيَأْخُذَ الْوَرَثَةُ بَعْضَ حَقِّهِمْ مِنْ الْعَيْنِ وَبَعْضَ حَقِّهِمْ مِنْ الدَّيْنِ. وَهَذَا بَخْسٌ فِي حَقِّهِمْ لَا مَحَالَةَ مُنَافٍ لِمَا يَقْتَضِيهِ حَقُّ الشَّرِكَةِ مِنْ تَعْدِيلِ النَّظَرِ لِلْجَانِبَيْنِ فَلْيُتَأَمَّلْ فِي الدَّفْعِ وَلَعَلَّهُ تُسْكَبُ فِيهِ الْعَبَرَاتُ

(قَوْلُهُ وَمَنْ أَوْصَى لِزَيْدٍ وَعَمْرٍو بِثُلُثِ مَالِهِ فَإِذَا عَمْرٌو مَيِّتٌ فَالثُّلُثُ كُلُّهُ لِزَيْدٍ، لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلْوَصِيَّةِ فَلَا يُزَاحِمُ الْحَيَّ الَّذِي هُوَ مِنْ أَهْلِهَا كَمَا إذَا أَوْصَى لِزَيْدٍ وَجِدَارٍ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ:

ص: 448

أَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ بِمَوْتِهِ فَلَهُ نِصْفُ الثُّلُثِ، لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ عِنْدَهُ صَحِيحَةٌ لِعَمْرٍو فَلَمْ يَرْضَ لِلْحَيِّ إلَّا نِصْفَ الثُّلُثِ بِخِلَافِ مَا إذَا عَلِمَ بِمَوْتِهِ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْمَيِّتِ لَغْوٌ فَكَانَ رَاضِيًا بِكُلِّ الثُّلُثِ لِلْحَيِّ، وَإِنْ قَالَ ثُلُثُ مَالِي بَيْنَ زَيْدٍ وَعَمْرٍو وَزَيْدٌ مَيِّتٌ كَانَ لِعَمْرٍو نِصْفُ الثُّلُثِ، لِأَنَّ قَضِيَّةَ هَذَا اللَّفْظِ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ الثُّلُثِ بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ قَالَ ثُلُثُ مَالِي لِزَيْدٍ وَسَكَتَ كَانَ لَهُ كُلُّ الثُّلُثِ، وَلَوْ قَالَ ثُلُثُ مَالِي بَيْنَ فُلَانٍ وَسَكَتَ لَمْ يَسْتَحِقَّ الثُّلُثَ.

قَالَ (وَمَنْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ وَلَا مَالَ لَهُ وَاكْتَسَبَ مَالًا اسْتَحَقَّ الْمُوصَى لَهُ ثُلُثَ مَا يَمْلِكُهُ عِنْدَ الْمَوْتِ) لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ عَقْدُ اسْتِخْلَافٍ مُضَافٌ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَيَثْبُتُ حُكْمُهُ بَعْدُ فَيُشْتَرَطُ وُجُودُ الْمَالِ عِنْدَ الْمَوْتِ لَا قَبْلَهُ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ لَهُ مَالٌ فَهَلَكَ ثُمَّ اكْتَسَبَ مَالًا لِمَا بَيَّنَّا. .

وَلَوْ أَوْصَى لَهُ بِثُلُثِ غَنَمِهِ فَهَلَكَ الْغَنَمُ قَبْلَ مَوْتِهِ أَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ غَنَمٌ فِي الْأَصْلِ فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ إيجَابٌ بَعْدَ الْمَوْتِ فَيُعْتَبَرُ قِيَامُهُ حِينَئِذٍ، وَهَذِهِ الْوَصِيَّةُ تَعَلَّقَتْ بِالْعَيْنِ فَتَبْطُلُ بِفَوَاتِهِ عِنْدَ الْمَوْتِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ غَنَمٌ فَاسْتَفَادَ ثُمَّ مَاتَ فَالصَّحِيحُ أَنَّ الْوَصِيَّةَ تَصِحُّ، لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ بِلَفْظِ الْمَالِ تَصِحُّ، فَكَذَا إذَا كَانَتْ بِاسْمِ نَوْعِهِ، وَهَذَا لِأَنَّ وُجُودَهُ قَبْلَ

وَانْدَفَعَ بِقَوْلِهِ فَلَا يُزَاحِمُ الْحَيَّ مَا إذَا أَوْصَى لِزَيْدٍ وَعَمْرٍو وَهُمَا بِالْحَيَاةِ فَمَاتَ ثُمَّ مَاتَ أَحَدُهُمَا فَإِنَّ لِلْبَاقِي نِصْفَ الثُّلُثِ لِوُجُودِ الْمُزَاحَمَةِ بَيْنَهُمَا حَالَ الْمِلْكِ، ثُمَّ بَعْدَ مَوْتِ أَحَدِهِمَا لَا يَبْطُلُ حَقُّهُ بَلْ يَقُومُ وَارِثُهُ فِيهِ مَقَامَهُ كَمَوْتِ أَحَدٍ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوَرِّثِ اهـ. أَقُولُ: فِي تَقْرِيرِ الشَّارِحِ الْمَذْكُورِ هُنَا قُصُورٌ. أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُ أَضَافَ انْدِفَاعَ الْإِشْكَالِ بِالْمَسْأَلَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا إلَى قَوْلِهِ فَلَا يُزَاحِمُ الْحَيَّ مَعَ أَنَّ انْدِفَاعَهُ بِمَجْمُوعِ التَّعْلِيلِ بَلْ بِقَوْلِهِ لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلْوَصِيَّةِ فِي الْحَقِيقَةِ، وَإِنَّمَا قَوْلُهُ فَلَا يُزَاحِمُ الْحَيَّ مُتَفَرِّعٌ عَلَى ذَلِكَ، وَالْأَصْلُ أَنْ يُضَافَ الْحُكْمُ إلَى الْأَصْلِ دُونَ الْفَرْعِ.

وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ قَوْلِهِ لِوُجُودِ الْمُزَاحَمَة بَيْنَهُمَا حَالَ الْمِلْكِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْمُزَاحَمَةِ الْمَنْفِيَّةِ فِي قَوْلِ الْمُصَنِّفِ فَلَا يُزَاحِمُ الْحَيَّ هُوَ الْمُزَاحَمَةُ حَالَ الْمِلْكِ وَهِيَ حَالَ مَوْتِ الْمُوصِي وَذَلِكَ مَعَ كَوْنِهِ غَيْرَ تَامٍّ فِي نَفْسِهِ، لِأَنَّهُ إذَا أَوْصَى لِزَيْدٍ وَعَمْرٍو بِثُلُثِ مَالِهِ وَهُمَا بِالْحَيَاةِ فَمَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي كَانَ لِلْبَاقِي مِنْهُمَا نِصْفُ الثُّلُثِ لَا كُلُّهُ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ، مَعَ أَنَّ الْعِلَّةَ هُنَاكَ أَيْضًا التَّزَاحُمُ، وَإِنَّ التَّزَاحُمَ فِيهِ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ فِي حَالِ إيجَابِ الْمُوصِي لَا فِي حَالِ الْمِلْكِ إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا مَيِّتًا فِي حَالِ الْمِلْكِ وَلَا تَزَاحُمَ لِلْمَيِّتِ غَيْرَ مُطَابِقٍ لِمَا ذَكَرَهُ الشَّارِحُ الْمَذْكُورُ فِي تَعْلِيلِ جَوَابِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ فِيمَا بَعْدُ حَيْثُ قَالَ: وَلَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَ عِلْمِ الْمُوصِي بِحَيَاتِهِ وَعَدَمِهِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْحَيِّ مِنْهُمَا لِجَمِيعِ الثُّلُثِ بِعَدَمِ الْمُزَاحَمَةِ عِنْدَ إيجَابِ الْمُوصِي، وَفِي هَذَا لَا فَرْقَ بَيْنَ الْعِلْمِ وَعَدَمِهِ اهـ.

وَأَمَّا ثَالِثًا فَلِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِبَيَانِ انْدِفَاعِ الْإِشْكَالِ بِمَسْأَلَةٍ أُخْرَى أَيْضًا بِعِبَارَةِ الْكِتَابِ، وَهِيَ أَيْ تِلْكَ الْمَسْأَلَةُ مَا إذَا أَوْصَى لِزَيْدٍ وَعَمْرٍو وَهُمَا بِالْحَيَاةِ فَمَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي فَإِنَّ لِلْبَاقِي نِصْفَ الثُّلُثِ هُنَاكَ أَيْضًا كَمَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ مَعَ أَنَّ التَّعْلِيلَ الْمَذْكُورَ فِي الْكِتَابِ يُفِيدُ انْدِفَاعَ ذَلِكَ أَيْضًا، فَالتَّقْرِيرُ الظَّاهِرُ الْوَاسِعُ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ مَا أَفَادَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ حَيْثُ قَالَ: وَبِهَذَا التَّعْلِيلِ خَرَجَ الْجَوَابُ عَمَّا لَوْ أَوْرَدُوا شُبْهَةً عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِأَنْ قَالُوا مَا الْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَبَيْنَ مَا أَوْصَى لِزَيْدٍ وَعَمْرٍو وَهُمَا بِالْحَيَاةِ ثُمَّ مَاتَ الْمُوصِي ثُمَّ مَاتَ أَحَدُهُمَا كَانَ لِلْبَاقِي نِصْفُ الثُّلُثِ وَالنِّصْفُ الْآخَرُ لِوَرَثَةِ الْمَيِّتِ مِنْهُمَا، وَكَذَلِكَ لَوْ مَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي كَانَ لِلْبَاقِي نِصْفُ الثُّلُثِ، وَلَكِنْ هُنَا كَانَ النِّصْفُ الْآخَرُ لِلْمُوصِي

ص: 449

الْمَوْتِ فَضْلٌ وَالْمُعْتَبَرُ قِيَامُهُ عِنْدَ الْمَوْتِ؛ وَلَوْ قَالَ لَهُ شَاةٌ مِنْ مَالِي وَلَيْسَ لَهُ غَنَمٌ يُعْطِي قِيمَةَ شَاةٍ لِأَنَّهُ لَمَّا أَضَافَهُ إلَى الْمَالِ عَلِمْنَا أَنَّ مُرَادَهُ الْوَصِيَّةُ بِمَالِيَّةِ الشَّاةِ إذْ مَالِيَّتُهَا تُوجَدُ فِي مُطْلَقِ الْمَالِ، وَلَوْ أَوْصَى بِشَاةٍ وَلَمْ يُضِفْهُ إلَى مَالِهِ وَلَا غَنَمَ لَهُ قِيلَ لَا يَصِحّ لِأَنَّ الْمُصَحَّحَ إضَافَتُهُ إلَى الْمَالِ وَبِدُونِهَا تُعْتَبَرُ صُورَةُ الشَّاةِ وَمَعْنَاهَا، وَقِيلَ تَصِحُّ لِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ الشَّاةَ وَلَيْسَ فِي مِلْكَهُ شَاةٌ عُلِمَ أَنَّ مُرَادَهُ الْمَالِيَّةُ؛ وَلَوْ قَالَ شَاةٌ مِنْ غَنَمِي وَلَا غَنَمَ لَهُ فَالْوَصِيَّة بَاطِلَةٌ، لِأَنَّهُ لَمَّا أَضَافَهُ إلَى الْغَنَمِ عَلِمْنَا أَنَّ مُرَادَهُ عَيْنُ الشَّاةِ حَيْثُ جَعَلَهَا جُزْءًا مِنْ الْغَنَمِ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَضَافَهُ إلَى الْمَالِ وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ كَثِيرٌ مِنْ الْمَسَائِلِ.

قَالَ (وَمَنْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِأُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِ وَهُنَّ ثَلَاثٌ وَلِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ فَلَهُنَّ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ مِنْ خَمْسَةِ أَسْهُمٍ) قَالَ رضي الله عنه: وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ.

لِمَا أَنَّ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى قَدْ تَمَّتْ الْوَصِيَّةُ لَهُمَا بِمَوْتِ الْمُوصِي ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ مَوْتُ أَحَدِهِمَا لَا يُبْطِلُ حَقَّهُ بَلْ يَقُومُ وَارِثُهُ فِيهِ مَقَامَهُ كَمَوْتِ أَحَدِ الْوَرَثَةِ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوَرِّثِ، وَفِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ لَمَّا مَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي بَطَلَتْ حِصَّتُهُ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ فِي مَعْنَى عَقْدٍ مُضَافٍ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ فَيُشْتَرَطُ بَقَاءُ مَنْ أَوْجَبَ لَهُ عِنْدَ وُجُودِ الْوَصِيَّةِ وَلَمْ يُوجَدْ حَيْثُ مَاتَ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي فَيَبْطُلُ نَصِيبُهُ، كَمَا لَوْ مَاتَ أَحَدُ الْوَرَثَةِ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوَرِّثِ وَلِلْآخَرِ نِصْفُ الثُّلُثِ، لِأَنَّ الِانْقِسَامَ قَدْ حَصَلَ بَيْنَهُمَا عِنْدَ الْإِيجَابِ لِكَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَهْلًا لِإِيجَابِ الْوَصِيَّةِ لَهُ فَبِبُطْلَانِ حَقِّ أَحَدِهِمَا لَا يَزْدَادُ نَصِيبُ الْآخَرِ، كَمَا لَوْ رَدَّ أَحَدُهُمَا الْوَصِيَّةَ كَانَ لِلْآخَرِ نِصْفُ الثُّلُثِ، وَهَذَا عَلَى خِلَافِ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ فَإِنَّ فِيهَا لِلْحَيِّ كُلَّ الثُّلُثِ، لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْوَصِيَّةِ لَهُ، فَإِنَّمَا يُنْتَقَصُ حَقُّهُ بِإِثْبَاتِ الْمُزَاحَمَةِ وَلَمْ تَثْبُتْ الْمُزَاحَمَةُ حَيْثُ كَانَ الْآخَرُ مَيِّتًا فَبَقِيَ الثُّلُثُ لِلْحَيِّ مِنْهُمَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَالَ ثُلُثُ مَالِي لِفُلَانٍ وَلِلْمَوْلَى فَالثُّلُثُ كُلُّهُ لِفُلَانٍ، إلَى هُنَا لَفْظُ النِّهَايَةِ فَتَبَصَّرْ

(قَوْلُهُ وَلَوْ قَالَ شَاةٌ مِنْ غَنَمِي وَلَا غَنَمَ لَهُ فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ لِأَنَّهُ لَمَّا أَضَافَهُ إلَى الْغَنَمِ أَنَّ مُرَادَهُ عَيْنُ الشَّاةِ حَيْثُ جَعَلَهُ جُزْءًا مِنْ الْغَنَمِ) اعْلَمْ أَنَّهُ وَقَعَ فِي عِبَارَةِ الْوِقَايَةِ وَلَا شَاةَ لَهُ مَوْضِعَ وَلَا غَنَمَ لَهُ الْوَاقِعِ فِي عِبَارَةِ الْهِدَايَةِ فِي وَضْعِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ فِي شَرْحِهِ لِلْوِقَايَةِ: وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَالَ فِي الْهِدَايَةِ وَلَا غَنَمَ لَهُ وَقَالَ فِي الْمَتْنِ وَلَا شَاةَ لَهُ، وَبَيْنَهُمَا فَرْقٌ لِأَنَّ الشَّاةَ فَرْدٌ مِنْ الْغَنَمِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ شَاةٌ لَا يَكُونُ لَهُ غَنَمٌ، لَكِنْ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ غَنَمٌ لَا يَلْزَمُ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ شَاةٌ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَاحِدٌ لَا كَثِيرٌ، فَعِبَارَةُ الْهِدَايَةِ تَنَاوَلَتْ صُورَتَيْنِ: مَا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ شَاةٌ أَصْلًا، وَمَا يَكُونُ لَهُ شَاةٌ لَا غَنَمَ لَهُ، فَفِي الصُّورَتَيْنِ تَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ، وَعِبَارَةُ الْمَتْنِ لَمْ تَتَنَاوَلْ إلَّا الصُّورَةَ الْأُولَى وَلَمْ يُعْلَمْ مِنْهَا الْحُكْمُ فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ، فَعِبَارَةُ الْهِدَايَةِ أَشْمَلُ لَكِنَّ هَذِهِ أَحْوَطُ اهـ كَلَامُهُ.

وَرَدَّ عَلَيْهِ صَاحِبُ الْإِصْلَاحِ وَالْإِيضَاحِ حَيْثُ قَالَ فِي شَرْحِهِ: إنَّمَا قَالَ وَلَا شَاةَ لَهُ وَلَمْ يَقُلْ وَلَا غَنَمَ لَهُ كَمَا قَالَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ، لِأَنَّ الشَّاةَ فَرْدٌ مِنْ الْغَنَمِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ شَاةٌ لَا يَكُونُ لَهُ غَنَمٌ بِدُونِ الْعَكْسِ، وَالشَّرْطُ عَدَمُ الْجِنْسِ لَا عَدَمُ الْجَمْعِ حَتَّى لَوْ وُجِدَ الْفَرْدُ تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ يُفْصِحُ عَنْ ذَلِكَ قَوْلُ الْحَاكِمِ الشَّهِيدِ فِي الْكَافِي: وَلَوْ قَالَ شَاةٌ مِنْ غَنَمِي أَوْ قَفِيزٌ مِنْ حِنْطَتِي فَإِنَّ الْحِنْطَةَ اسْمُ جِنْسٍ لَا اسْمُ جَمْعٍ اهـ. وَقَالَ فِي حَاشِيَتِهِ: أَخْطَأَ هُنَا صَدْرُ الشَّرِيعَةِ حَيْثُ قَالَ تَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ فِي الصُّورَتَيْنِ اهـ. وَقَصَدَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنْ يُجِيبَ عَنْهُ حَيْثُ قَالَ بَعْدَ نَقْلِ كَلَامِ صَدْرِ الشَّرِيعَةِ: وَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْأَفَاضِلِ بِمَا حَاصِلُهُ أَنَّ عِبَارَةَ الْوِقَايَةِ هِيَ الصَّوَابُ، وَأَنَّ الْحُكْمَ فِي وُجُودِ الْفَرْدِ صِحَّةُ الْوَصِيَّةِ، وَزَعَمَ أَنَّ الشَّرْطَ عَدَمُ الْجِنْسِ لَا عَدَمُ الْجَمْعِ. قُلْت: بَعْدَ تَسْلِيمِ أَنَّ الْغَنَمَ جَمْعٌ أَوْ اسْمُ جَمْعٍ لَا اسْمُ جِنْسٍ أَنَّ نَفْيَ الْغَنَمِ كَمَا وَقَعَ فِي عِبَارَةِ الْهِدَايَةِ وَعَامَّةِ الْكُتُبِ هُوَ الصَّوَابُ، وَأَنَّهُ لَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِوُجُودِ شَاةٍ وَاحِدَةٍ لِأَنَّ الشَّرْطَ عَدَمُ الْجَمْعِ لَا عَدَمُ الْجِنْسِ كَمَا زَعَمَهُ الْمُعْتَرِضُ لِأَنَّهُ أَوْصَى بِشَاةٍ مِنْ غَنَمِهِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ غَنَمٌ

ص: 450

وَعَنْ مُحَمَّدٍ رحمه الله أَنَّهُ يُقْسَمُ عَلَى سَبْعَةِ أَسْهُمٍ لَهُنَّ ثَلَاثَةٌ وَلِكُلِّ فَرِيقٍ سَهْمَانِ، وَأَصْلُهُ أَنَّ الْوَصِيَّةَ لِأُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ جَائِزَةٌ وَالْفُقَرَاءُ وَالْمَسَاكِينُ جِنْسَانِ، وَفَسَّرْنَاهُمَا فِي الزَّكَاةِ لِمُحَمَّدٍ رحمه الله أَنَّ الْمَذْكُورَ لَفْظُ الْجَمْعِ وَأَدْنَاهُ فِي الْمِيرَاثِ اثْنَانِ نَجِد ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ فَكَانَ مِنْ كُلِّ فَرِيقِ اثْنَانِ وَأُمَّهَاتُ الْأَوْلَادِ ثَلَاثٌ فَلِهَذَا يُقْسَمُ عَلَى سَبْعَةٍ.

وَلَهُمَا أَنَّ الْجَمْعَ

بَلْ فَرْدٌ لَمْ يَتَحَقَّقْ شَاةٌ مِنْ غَنَمِهِ فَتَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ فَهَذَا هُوَ السِّرُّ فِي تَعْمِيمِ الْغَنَمِ دُونَ الشَّاةِ إلَى هُنَا كَلَامُهُ.

أَقُولُ: الظَّاهِرُ عِنْدِي مِمَّا ذَكَرُوهُ فِي تَعْلِيلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنْ تَصِحَّ الْوَصِيَّةُ بِوُجُودِ شَاةٍ وَاحِدَةٍ، لِأَنَّ الْمُوصَى بِهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ الشَّاةُ يَصِيرُ مَوْجُودًا حِينَئِذٍ فَتَصِيرُ الْوَصِيَّةُ بِشَيْءٍ مَوْجُودٍ لَا مَعْدُومٍ، وَلَا مَانِعَ لِصِحَّةِ الْوَصِيَّةِ هُنَا سِوَى كَوْنِ الْمُوصَى بِهِ مَعْدُومًا، فَإِذَا وُجِدَتْ شَاةٌ وَاحِدَةٌ انْتَفَى الْمَانِعُ. نَعَمْ لَا يُوجَدُ حِينَئِذٍ مَا أُضِيفَتْ الشَّاةُ إلَيْهِ مِنْ الْغَنَمِ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الْغَنَمُ اسْمَ جَمْعٍ لَا اسْمَ جِنْسٍ لِكَوْنِ الْمَقْصُودِ مِنْ الْإِضَافَةِ إلَى الْغَنَمِ تَعْيِينُ أَنَّ مُرَادَهُ عَيْنُ الشَّاةِ لَا مَالِيَّتُهَا، وَيَحْصُلُ ذَلِكَ الْمَقْصُودُ مِنْ مُجَرَّدِ الْإِضَافَةِ إلَيْهَا، وَلَا يَقْتَضِي وُجُودَهَا أَلْبَتَّةَ كَوُجُودِ الشَّاةِ الَّتِي هِيَ الْمُوصَى بِهِ، وَمِمَّا يُرْشِدُ إلَى كَوْنِ جَوَابِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا إذَا لَوْ تُوجَدُ شَاةٌ أَصْلًا أَنَّهُ قَالَ الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ فِي الْكَافِي: وَلَوْ قَالَ شَاةٌ مِنْ غَنَمِي أَوْ قَفِيزٌ مِنْ حِنْطَتِي وَلَيْسَ لَهُ غَنَمٌ وَلَا حِنْطَةٌ فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ.

وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ عَلَاءُ الدِّينِ الْإِسْبِيجَابِيُّ فِي شَرْحِهِ: لِأَنَّهُ لَمَّا أَضَافَهُ إلَى الْغَنَمِ عَلِمْنَا أَنَّ مُرَادَهُ الْوَصِيَّةُ بِعَيْنِ الشَّاةِ لِأَنَّهُ جَعَلَهُ جُزْءًا مِنْ الْغَنَمِ. وَأَنَّهُ يَصْلُحُ جُزْءًا لِلْغَنَمِ بِصُورَتِهِ وَمَعْنَاهُ فَصَارَتْ الْوَصِيَّةُ بِشَيْءٍ مَعْدُومٍ وَلَا وُجُودَ لَهُ عِنْدَ الْمَوْتِ أَيْضًا فَلَا تَصِحُّ اهـ تَأَمَّلْ تَفْهَمْ

(قَوْلُهُ وَأَصْلُهُ أَنَّ الْوَصِيَّةَ لِأُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ جَائِزَةٌ) وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ، وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ لَا تَصِحَّ الْوَصِيَّةُ لِأُمِّ الْوَلَدِ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ تَمْلِيكٌ مُضَافٌ

ص: 451

الْمُحَلَّى بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ يُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ، وَأَنَّهُ بِتَنَاوُلِ الْأَدْنَى مَعَ احْتِمَالِ الْكُلِّ، لَا سِيَّمَا عِنْدَ تَعَذُّرِ صَرْفِهِ إلَى الْكُلِّ فَيُعْتَبَرُ مِنْ كُلِّ فَرِيقٍ وَاحِدٌ فَبَلَغَ الْحِسَابُ خَمْسَةً وَالثَّلَاثَةُ لِلثَّلَاثِ.

قَالَ (وَلَوْ أَوْصَى بِثُلُثِهِ لِفُلَانٍ وَلِلْمَسَاكِينِ فَنِصْفُهُ لِفُلَانِ وَنِصْفُهُ لِلْمَسَاكِينِ عِنْدَهُمَا) وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ ثُلُثُهُ لِفُلَانٍ وَثُلُثَانِ لِلْمَسَاكِينِ، وَلَوْ أَوْصَى لِلْمَسَاكِينِ لَهُ صَرْفُهُ إلَى مِسْكِينٍ وَاحِدٍ عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَهُ لَا يُصْرَفُ إلَّا إلَى مِسْكِينَيْنِ بِنَاءً عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ.

قَالَ (وَمَنْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَلِآخَرَ بِمِائَةٍ ثُمَّ قَالَ لِآخَرَ قَدْ أَشْرَكْتُك مَعَهُمَا فَلَهُ ثُلُثُ كُلِّ مِائَةٍ) لِأَنَّ الشَّرِكَةَ لِلْمُسَاوَاةِ لُغَةً، وَقَدْ أَمْكَنَ إثْبَاتُهُ

إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ فَهِيَ إنَّمَا تَسْتَحِقُّ الْوَصِيَّةَ بَعْدَ مَوْتِ مَوْلَاهَا، وَبَعْدَ مَوْتِ مَوْلَاهَا حَالَ حُلُولِ الْعِتْقِ بِهَا فَالْعِتْقُ يَحُلُّهَا وَهِيَ أَمَةٌ، وَالْوَصِيَّةُ لِأَمَتِهِ بِشَيْءٍ غَيْرِ رَقَبَتِهَا بَاطِلَةٌ، وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْوَصِيَّةَ مُضَافَةٌ إلَى مَا بَعْدَ عِتْقِهَا إلَى حَالِ حُلُولِ الْعِتْقِ بِهَا بِدَلَالَةِ حَالِ الْمُوصِي، لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِهِ أَنْ يَقْصِدَ بِإِيصَائِهِ وَصِيَّةً صَحِيحَةً لَا بَاطِلَةً، وَالصَّحِيحَةُ هِيَ الْمُضَافَةُ إلَى مَا بَعْدَ عِتْقِهَا، كَذَا فِي عَامَّةِ الشُّرُوحِ، وَعَزَاهُ جَمَاعَةٌ مِنْ الشُّرَّاحِ إلَى الذَّخِيرَةِ.

أَقُولُ: فِيمَا ذَكَرُوا مِنْ وَجْهِ الْقِيَاسِ نَظَرٌ، لِأَنَّ قَوْلَهُمْ وَبَعْدَ مَوْتِ مَوْلَاهَا حَالَ حُلُولِ الْعِتْقِ بِهَا مَمْنُوعٌ، بَلْ حَالُ حُلُولِ الْعِتْقِ بِهَا إنَّمَا هِيَ حَالَ مَوْتِ مَوْلَاهَا لَا بَعْدَ مَوْتِ مَوْلَاهَا، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ أُمَّ الْوَلَدِ تَعْتِقُ حِينَ مَوْتِ مَوْلَاهَا وَلَا يُنْتَظَرُ عِتْقُهَا إلَى مَا بَعْدَ مَوْتِهِ، فَهِيَ بَعْدَ مَوْتِ مَوْلَاهَا حُرَّةٌ فَلَمْ تَكُنْ الْوَصِيَّةُ لِأُمِّ الْوَلَدِ وَصِيَّةً لِلْأَمَةِ فِي شَيْءٍ، فَلَمْ يَتِمَّ وَجْهُ الْقِيَاسِ وَلَمْ يُحْتَجْ إلَى مَا تَكَلَّفُوهُ فِي وَجْهِ الِاسْتِحْسَانِ، وَلَعَلَّ الْإِمَامَ قَاضِي خَانْ وَالْإِمَامَ الْمَحْبُوبِيَّ عَنْ هَذَا قَالَا: أَمَّا جَوَازُ الْوَصِيَّةِ لِأُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِ فَلِأَنَّ أَوْ أَنَّ ثُبُوتَ الْوَصِيَّةِ وَعَمَلِهَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَهُنَّ حَرَائِرُ بَعْدَ الْمَوْتِ فَتَجُوزُ الْوَصِيَّةُ لَهُنَّ كَمَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ نَقْلًا عَنْهُمَا. ثُمَّ قَالَ فِي الْعِنَايَةِ: فَإِنْ قِيلَ: الْوَصِيَّةُ بِثُلُثِ الْمَالِ لِعَبْدِهِ جَائِزَةٌ وَلَمْ يَعْتِقْ بَعْدَ مَوْتِهِ وَأُمُّ الْوَلَدِ لَيْسَتْ أَقَلَّ حَالًا مِنْهُ فَكَيْفَ لَمْ تَصِحَّ لَهَا الْوَصِيَّةُ قِيَاسًا.

أُجِيبَ بِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِثُلُثِ الْمَالِ لِلْعَبْدِ إنَّمَا جَازَتْ لِتَنَاوُلِهِ ثُلُثَ رَقَبَتِهِ فَكَانَتْ وَصِيَّةً بِرَقَبَتِهِ، وَالْوَصِيَّةُ بِرَقَبَتِهِ إعْتَاقٌ وَهُوَ يَصِحُّ مُنَجَّزًا أَوْ مُضَافًا بِخِلَافِ أُمِّ الْوَلَدِ فَإِنَّ الْوَصِيَّةَ لَيْسَتْ إعْتَاقًا لِأَنَّهَا تَعْتِقُ بِمَوْتِ الْمَوْلَى وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّةَ وَصِيَّةٌ أَصْلًا، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الْوَصِيَّةُ بِثُلُثِ الْمَالِ أَمَّا إنْ صَادَفَتْهَا بَعْدَ مَوْتِ الْمَوْلَى وَهِيَ حُرَّةٌ أَوْ أَمَةٌ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَلَا وَجْهَ لِنَفْيِ الْقِيَاسِ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَكَذَلِكَ لِأَنَّهَا كَالْعَبْدِ الْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ الْمَالِ. وَالْجَوَابُ أَنَّهَا لَيْسَتْ كَالْعَبْدِ لِأَنَّ عِتْقَهَا لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ بِمَوْتِ الْمَوْلَى، فَلَوْ كَانَ بِالْوَصِيَّةِ أَيْضًا تَوَارَدَ عِلَّتَانِ مُسْتَقِلَّتَانِ عَلَى مَعْلُولٍ وَاحِدٍ بِالشَّخْصِ وَهُوَ ثُلُثُ رَقَبَتِهَا وَذَلِكَ بَاطِلٌ، إلَى هُنَا لَفْظُ الْعِنَايَةِ. أَقُولُ: لَا يَذْهَبُ عَلَى ذِي فِطْرَةٍ سَلِيمَةٍ أَنَّ السُّؤَالَ الثَّانِيَ وَجَوَابَهُ لَغْوٌ مِنْ الْكَلَامِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ مَا قَبْلَهُمَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قَرَّرَهُ، لِأَنَّ التَّرْدِيدَ الْوَاقِعَ فِي هَذَا السُّؤَالِ إنْ كَانَ عَلَى مُوجِبِ الِاسْتِحْسَانِ دُونَ الْقِيَاسِ فَالشِّقُّ الْأَوَّلُ مُتَعَيِّنٌ، وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ فَلَا وَجْهَ لِنَفْيِ الْقِيَاسِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى مُقْتَضَى الْقِيَاسِ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ فَالشِّقُّ الثَّانِي مُخْتَارٌ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ أُمِّ الْوَلَدِ وَالْعَبْدِ الْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ الْمَالِ قَدْ عُلِمَ فِي جَوَابِ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ قَطْعًا فَلَا مَعْنَى لِلْإِعَادَةِ

(وَقَوْلُهُ وَمَنْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَلِآخَرَ بِمِائَةٍ ثُمَّ قَالَ لِآخَرَ قَدْ أَشْرَكْتُك مَعَهُمَا فَلَهُ ثُلُثُ كُلِّ مِائَةٍ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ، وَفِي الْقِيَاسِ

ص: 452

بَيْنَ الْكُلِّ بِمَا قُلْنَاهُ لِاتِّحَادِ الْمَالِ لِأَنَّهُ يُصِيبُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثُلُثَا مِائَةٍ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَوْصَى لِرَجُلٍ بِأَرْبَعِمِائَةٍ وَلِآخَرَ بِمِائَتَيْنِ ثُمَّ كَانَ الْإِشْرَاكُ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَحْقِيقُ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْكُلِّ لِتَفَاوُتِ الْمَالَيْنِ فَحَمَلْنَاهُ عَلَى مُسَاوَاتِهِ كُلَّ وَاحِدٍ بِتَنْصِيفِ نَصِيبِهِ عَمَلًا بِاللَّفْظِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ.

قَالَ (وَمَنْ قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ دَيْنٌ فَصَدَّقُوهُ) مَعْنَاهُ قَالَ ذَلِكَ لِوَرَثَتِهِ (فَإِنَّهُ يُصَدَّقُ إلَى الثُّلُثِ) وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ. وَفِي الْقِيَاسِ لَا يُصَدَّقُ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْمَجْهُولِ وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا لَكِنَّهُ لَا يُحْكَمُ بِهِ إلَّا بِالْبَيَانِ وَقَوْلُهُ فَصَدَّقُوهُ صَدَرَ مُخَالِفًا لِلشَّرْعِ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ لَا يُصَدَّقُ إلَّا بِحُجَّةٍ فَتَعَذَّرَ إثْبَاتُهُ إقْرَارًا مُطْلَقًا فَلَا يُعْتَبَرُ، وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّا نَعْلَمُ أَنَّ مِنْ قَصْدِهِ تَقْدِيمَهُ عَلَى الْوَرَثَةِ وَقَدْ أَمْكَنَ تَنْفِيذُ قَصْدِهِ بِطَرِيقِ الْوَصِيَّةِ وَقَدْ يَحْتَاجُ إلَيْهِ مَنْ يَعْلَمُ بِأَصْلِ الْحَقِّ عَلَيْهِ دُونَ مِقْدَارِهِ سَعْيًا مِنْهُ فِي تَفْرِيغِ ذِمَّتِهِ فَيَجْعَلُهَا وَصِيَّةً جَعَلَ التَّقْدِيرَ فِيهَا إلَى الْمُوصَى لَهُ كَأَنَّهُ قَالَ إذَا جَاءَكُمْ فُلَانٌ وَادَّعَى شَيْئًا فَأَعْطُوهُ مِنْ مَالِي مَا شَاءَ، وَهَذِهِ مُعْتَبَرَةٌ مِنْ الثُّلُثِ فَلِهَذَا يُصَدَّقُ عَلَى الثُّلُثِ دُونَ الزِّيَادَةِ. قَالَ (وَإِنْ أَوْصَى بِوَصَايَا غَيْرِ ذَلِكَ يُعْزَلُ الثُّلُثُ لِأَصْحَابِ الْوَصَايَا وَالثُّلُثَانِ لِلْوَرَثَةِ) لِأَنَّ مِيرَاثَهُمْ مَعْلُومٌ. وَكَذَا الْوَصَايَا مَعْلُومَةٌ وَهَذَا مَجْهُولٌ فَلَا يُزَاحِمُ الْمَعْلُومَ فَيُقَدَّمُ عَزْلُ الْمَعْلُومِ، وَفِي الْإِفْرَازِ فَائِدَةٌ أُخْرَى وَهُوَ أَنَّ أَحَدَ الْفَرِيقَيْنِ قَدْ يَكُونُ أَعْلَمَ بِمِقْدَارِ هَذَا الْحَقِّ وَأَبْصَرَ بِهِ، وَالْآخَرُ أَلَدُّ

لَهُ نِصْفُ كُلِّ مِائَةٍ لِأَنَّ لَفْظَ الْإِشْرَاكِ يَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} وَقَدْ أَشْرَكَ الثَّالِثَ فِيمَا يُوصِي بِهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي اسْتِحْقَاقِ الْمِائَةِ وَذَلِكَ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ لَهُ نِصْفُ كُلِّ مِائَةٍ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ أَثْبَتَ الشَّرِكَةَ بَيْنَهُمْ وَهِيَ تَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ، وَإِنَّمَا تَثْبُتُ الْمُسَاوَاةُ إذَا أَخَذَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثُلُثَ الْمِائَةِ، أَمَّا إذَا أَخَذَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَ الْمِائَةِ حَصَلَ لَهُ مِائَةٌ فَلَا يَثْبُتُ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَهُمْ، فَعُلِمَ بِهَذَا أَنَّهُ أَشْرَكَهُ مَعَهُمَا جُمْلَةً وَاحِدَةً فَلَا يُعْتَبَرُ بِإِشْرَاكِهِ إيَّاهُ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَفَرِّقًا انْتَهَى. وَاقْتَفَى أَثَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ. أَقُولُ: فِيهِ بَحْثٌ، لِأَنَّ الشَّرِكَةَ لِلْمُسَاوَاةِ لُغَةً كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْمُصَنِّفُ فَيَقْتَضِي لَفْظُ الْإِشْرَاكِ التَّسْوِيَةَ بِلَا رَيْبٍ، فَإِنْ كَانَ مَعْنَى قَوْلِ الْمُوصِي لِلثَّالِثِ قَدْ أَشْرَكْتُك مَعَهُمَا إشْرَاكَهُ مَعَهُمَا جُمْلَةً وَاحِدَةً أَيْ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْكُلِّ لَا إشْرَاكَهُ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُنْفَرِدًا: أَيْ تَسْوِيَتَهُ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ بِنِصْفِ نَصِيبِهِ بِعَيْنِهِ فَلَا مَعْنَى لِوَجْهِ الْقِيَاسِ الْمَذْكُورِ، وَإِنْ كَانَ مَعْنَاهُ هُوَ الثَّانِيَ فَلَا مَعْنَى لِوَجْهِ الِاسْتِحْسَانِ الْمَذْكُورِ. وَبِالْجُمْلَةِ مَا ذَكَرَهُ الشَّارِحَانِ الْمَزْبُورَانِ مِنْ وَجْهَيْ الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ مَعْنَيَانِ مُتَضَادَّانِ لَا يُمْكِنُ اجْتِمَاعُهُمَا فِي مَحِلٍّ وَاحِدٍ، فَمَعْنَى كَلَامِ الْمُوصِي لُغَةً وَعُرْفًا أَحَدُهُمَا لَا غَيْرُ فَلَمْ يَصْلُحُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لِلْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ عَلَى مَا ذَكَرَاهُ، وَعَنْ هَذَا لَمْ أَرَ أَحَدًا ذَكَرَ الْقِيَاسَ وَالِاسْتِحْسَانَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ سِوَى ذَيْنِك الشَّارِحَيْنِ، وَاَلَّذِي يَظْهَرُ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ هُوَ أَنَّ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْكُلِّ هُوَ الْمَعْنَى فِيمَا أَمْكَنَ تَحَقُّقُ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْكُلِّ، وَإِلَّا يُحْمَلُ عَلَى الْمُسَاوَاةِ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ بِنِصْفِ نَصِيبِهِ عَمَلًا بِاللَّفْظِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، وَبِهَذَا فُرِّقَ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ كَمَا تَرَى وَلَا غُبَارَ فِيهِ

(قَوْلُهُ وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَصْدُقُ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْمَجْهُولِ وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا لَكِنَّهُ لَا يُحْكَمُ بِهِ إلَّا بِالْبَيَانِ) يَعْنِي لَا يُحْكَمُ بِهِ إلَّا إذَا قُرِنَ بِبَيَانٍ مِنْ جِهَةِ الْمُقِرِّ وَقَدْ فَاتَ بِمَوْتِهِ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ وَغَيْرِهَا. أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لِمَ لَا يَنُوبُ عَنْهُ الْوَرَثَةُ فِي الْبَيَانِ كَمَا فِي الْوَصِيَّةِ بِالْمَجْهُولِ، مِثْلُ إنْ أَوْصَى بِجُزْءٍ مِنْ مَالِهِ فَإِنَّهُ يُقَالُ هُنَاكَ لِلْوَرَثَةِ أَعْطُوا مَا شِئْتُمْ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ مَجْهُولٌ يَتَنَاوَلُ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ وَالْوَرَثَةُ قَائِمُونَ مَقَامَ الْمُوصِي فَإِلَيْهِمْ الْبَيَانُ كَمَا مَرَّ

ص: 453

خِصَامًا، وَعَسَاهُمْ يَخْتَلِفُونَ فِي الْفَضْلِ إذَا ادَّعَاهُ الْخَصْمُ وَبَعْدَ الْإِفْرَازِ يَصِحُّ إقْرَارُ كُلِّ وَاحِدٍ فِيمَا فِي يَدِهِ مِنْ غَيْرِ مُنَازَعَةٍ (وَإِذَا عَزَلَ يُقَالُ لِأَصْحَابِ الْوَصَايَا صَدِّقُوهُ فِيمَا شِئْتُمْ وَيُقَالُ لِلْوَرَثَةِ صَدِّقُوهُ فِيمَا شِئْتُمْ) لِأَنَّ هَذَا دَيْنٌ فِي حَقِّ الْمُسْتَحِقِّ وَصِيَّةً فِي حَقِّ التَّنْفِيذِ، فَإِذَا أَقَرَّ كُلُّ فَرِيقٍ بِشَيْءٍ ظَهَرَ أَنَّ فِي التَّرِكَةِ دَيْنًا شَائِعًا فِي النَّصِيبَيْنِ (فَيُؤْخَذُ أَصْحَابُ الثُّلُثِ بِثُلُثِ مَا أَقَرُّوا وَالْوَرَثَةُ بِثُلُثَيْ مَا أَقَرُّوا) تَنْفِيذًا لِإِقْرَارِ كُلِّ فَرِيقٍ فِي قَدْرِ حَقِّهِ

فِي الْكِتَابِ فَتَأَمَّلْ.

(قَوْلُهُ وَإِذَا عَزَلَ يُقَالُ لِأَصْحَابِ الْوَصَايَا صَدِّقُوهُ فِيمَا شِئْتُمْ وَيُقَالُ لِلْوَرَثَةِ صَدِّقُوهُ فِيمَا شِئْتُمْ لِأَنَّ هَذَا دَيْنٌ فِي حَقِّ الْمُسْتَحَقِّ وَصِيَّةً فِي حَقِّ التَّنْفِيذِ إلَخْ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: حَاصِلُهُ أَنَّهُ تَصَرُّفٌ يُشْبِهُ الْإِقْرَارَ لَفْظًا وَيُشْبِهُ الْوَصِيَّةَ تَنْفِيذًا، فَبِاعْتِبَارِ شَبَهِ الْوَصِيَّةِ لَا يُصَدَّقُ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى الثُّلُثِ، وَبِاعْتِبَارِ شَبَهِ الْإِقْرَارِ يُجْعَلُ شَائِعًا فِي الْأَثْلَاثِ، وَلَا يُخَصَّصُ بِالثُّلُثِ الَّذِي لِأَصْحَابِ الْوَصَايَا عَمَلًا بِالشَّبَهَيْنِ اهـ. وَقَدْ سَبَقَهُ تَاجُ الشَّرِيعَةِ إلَى بَيَانِ حَاصِلِ هَذَا الْمَقَامِ بِهَذَا الْوَجْهِ. أَقُولُ: فِيهِ كَلَامٌ، وَهُوَ أَنَّ الْعَمَلَ بِمَجْمُوعِ الشَّبَهَيْنِ إنْ كَانَ أَمْرًا وَاجِبًا كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ الْمَعْرُوفُ فَمَا بَالُهُمْ لَمْ يَعْمَلُوا بِشَبَهِ الْإِقْرَارِ فِي هَذَا التَّصَرُّفِ إذَا لَمْ يُوصِ بِوَصَايَا غَيْرِ ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ، بَلْ جَعَلُوهُ وَصِيَّةً جَعَلَ التَّقْدِيرَ فِيهَا إلَى الْمُوصَى لَهُ كَمَا إذَا قَالَ إذَا جَاءَكُمْ فُلَانٌ وَادَّعَى شَيْئًا فَأَعْطُوهُ مِنْ مَالِي وَلَمْ يَعْتَبِرُوا شَبَهَ الْإِقْرَارِ قَطُّ حَيْثُ لَمْ يَجْعَلُوا لَهُ حُكْمًا أَصْلًا فِي تِلْكَ الصُّورَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ أَمْرًا وَاجِبًا فَكَيْفَ يَصْلُحُ ذَلِكَ تَعْلِيلًا لِجَوَابِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ. وَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ بِوَجْهٍ آخَرَ حَيْثُ قَالَ: فِيهِ بَحْثٌ، فَإِنَّهُ لَا يُؤْخَذُ بِقَوْلِهِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لَا فِي الثُّلُثِ وَلَا فِي أَقَلَّ مِنْهُ، بَلْ يُؤْخَذُ بِقَوْلِ الْوَرَثَةِ وَأَصْحَابِ الْوَصَايَا فَتَأَمَّلْ اهـ.

وَقَصَدَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنْ يُجِيبَ عَنْهُ فَقَالَ فِي الْحَاشِيَةِ بَعْدَ نَقْلِ ذَلِكَ قُلْت بَعْدَ تَسْلِيمِ ذَلِكَ إنَّ عَدَمَ التَّصْدِيقِ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى الثُّلُثِ لَا يُوجِبُ التَّصْدِيقَ فِي الثُّلُثِ، فَالْمَعْنَى لَا يُصَدَّقُ فِي صُورَةِ دَعْوَى الزِّيَادَةِ بَلْ يُؤْخَذُ بِقَوْلِهِمْ فَلَا اعْتِبَارَ فِيهِ فَتَأَمَّلْ اهـ. أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا بِمُسْتَقِيمٍ، فَإِنَّ مُرَادَ ذَلِكَ الْمُعْتَرِضِ أَنَّهُ لَا يُؤْخَذُ بِقَوْلِ الْمُدَّعِي فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لَا فِي الثُّلُثِ وَلَا فِي أَقَلَّ مِنْهُ كَمَا لَا يُؤْخَذُ بِقَوْلِهِ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى الثُّلُثِ بَلْ يُؤْخَذُ بِقَوْلِ الْوَرَثَةِ وَأَصْحَابِ الْوَصَايَا بَالِغًا مَا بَلَغَ. فَمِنْ أَيْنَ يَظْهَرُ اعْتِبَارُ شَبَهِ الْوَصِيَّةِ، وَلَيْسَ مُرَادُهُ أَنَّ قَوْلَ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ فَبِاعْتِبَارِ شَبَهِ الْوَصِيَّةِ لَا يُصَدَّقُ فِي الزِّيَادَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنْ يُصَدَّقَ فِي الثُّلُثِ وَمَا دُونَهُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ حَتَّى يَتِمَّ الْجَوَابُ عَنْهُ بِمَا ذَكَرَهُ لَك الْمُجِيبُ تَأَمَّلْ تَقِفْ، ثُمَّ إنَّ الْإِمَامَ الزَّيْلَعِيَّ اسْتَشْكَلَ هَذَا الْمَحِلَّ بِوَجْهٍ آخَرَ حَيْثُ قَالَ فِي شَرْحِ الْكَنْزِ: هَذَا مُشْكِلٌ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْوَرَثَةَ كَانُوا يُصَدِّقُونَهُ إلَى الثُّلُثِ وَلَا يَلْزَمُهُمْ أَنْ يُصَدِّقُوهُ فِي أَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ وَهَاهُنَا لَزِمَهُمْ أَنْ يُصَدِّقُوهُ فِي أَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ لِأَنَّ أَصْحَابَ الْوَصَايَا أَخَذُوا الثُّلُثَ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ تَكُونَ الْوَصَايَا تَسْتَغْرِقُ الثُّلُثَ كُلَّهُ وَلَمْ يَبْقَ فِي أَيْدِيهِمْ مِنْ الثُّلُثِ شَيْءٌ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَلْزَمَهُمْ تَصْدِيقُهُ انْتَهَى.

أَقُولُ: الْإِشْكَالُ سَاقِطٌ جِدًّا، إذْ لَا يَلْزَمُ الْوَرَثَةَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَنْ يُصَدِّقُوهُ إلَى الثُّلُثِ، كَمَا لَا يَلْزَمُهُمْ أَنْ يُصَدِّقُوهُ فِي أَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ، وَإِنَّمَا اللَّازِمُ لَهُمْ وَلِأَصْحَابِ الْوَصَايَا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَنْ يُصَدِّقُوهُ فِيمَا شَاءُوا، وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ إلْزَامُ الْوَرَثَةِ أَنْ يُصَدِّقُوهُ فِي أَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ، فَإِنَّ أَصْحَابَ الْوَصَايَا فِيمَا إذَا كَانَتْ الْوَصَايَا تَسْتَغْرِقُ الثُّلُثَ كُلَّهُ لَا يَأْخُذُونَ الثُّلُثَ بِطَرِيقِ التَّمَلُّكِ التَّامِّ، بَلْ إنَّمَا يَأْخُذُونَهُ بِطَرِيقِ الْعَزْلِ وَالْإِفْرَازِ، فَكَانَ ذَلِكَ الثُّلُثُ بَاقِيًا عَلَى حُكْمِ جَوَازِ تَصَرُّفِ الْوَرَثَةِ فِيهِ

ص: 454

وَعَلَى كُلِّ فَرِيقٍ مِنْهُمَا الْيَمِينُ عَلَى الْعِلْمِ إنْ ادَّعَى الْمُقَرُّ لَهُ زِيَادَةً عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّهُ يَحْلِفُ عَلَى مَا جَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ. .

قَالَ (وَمَنْ أَوْصَى لِأَجْنَبِيٍّ وَلِوَارِثِهِ فَلِلْأَجْنَبِيِّ نِصْفُ الْوَصِيَّةِ وَتَبْطُلُ وَصِيَّةُ الْوَارِثِ) لِأَنَّهُ أَوْصَى بِمَا يَمْلِكُ الْإِيصَاءَ بِهِ وَبِمَا لَا يَمْلِكُ فَصَحَّ فِي الْأَوَّلِ وَبَطَلَ فِي الثَّانِي، بِخِلَافِ مَا إذَا أَوْصَى لِحَيٍّ وَمَيِّتٍ لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلْوَصِيَّةِ فَلَا يَصْلُحُ مُزَاحِمًا فَيَكُونُ الْكُلُّ لِلْحَيِّ وَالْوَارِثُ مِنْ أَهْلِهَا وَلِهَذَا تَصِحُّ بِإِجَازَةِ الْوَرَثَةِ فَافْتَرَقَا، وَعَلَى هَذَا إذَا أَوْصَى لِلْقَاتِلِ وَلِلْأَجْنَبِيِّ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا أَقَرَّ بِعَيْنٍ أَوْ دَيْنٍ لِوَارِثِهِ وَلِلْأَجْنَبِيِّ حَيْثُ لَا يَصِحُّ فِي حَقِّ الْأَجْنَبِيِّ أَيْضًا، لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ إنْشَاءُ تَصَرُّفٍ وَالشَّرِكَةَ تُثْبِتُ حُكْمًا لَهُ فَتَصِحُّ فِي حَقِّ مَنْ يَسْتَحِقُّهُ مِنْهُمَا وَأَمَّا الْإِقْرَارُ فَإِخْبَارٌ عَنْ كَائِنٍ، وَقَدْ أَخْبَرَ بِوَصْفِ الشَّرِكَةِ فِي الْمَاضِي، وَلَا وَجْهَ إلَى إثْبَاتِهِ بِدُونِ هَذَا الْوَصْفِ لِأَنَّهُ خِلَافُ مَا أَخْبَرَ بِهِ، وَلَا إلَى إثْبَاتِ الْوَصْفِ لِأَنَّهُ يَصِيرُ الْوَارِثُ فِيهِ شَرِيكًا وَلِأَنَّهُ لَوْ قَبَضَ الْأَجْنَبِيُّ شَيْئًا كَانَ لِلْوَارِثِ أَنْ يُشَارِكَهُ فَيَبْطُلَ فِي ذَلِكَ الْقَدْرِ ثُمَّ لَا يَزَالُ يَقْبِضُ وَيُشَارِكُهُ الْوَارِثُ حَتَّى يَبْطُلَ الْكُلُّ فَلَا يَكُونُ مُفِيدًا وَفِي الْإِنْشَاءِ

بِتَصْدِيقِهِمْ الْمُدَّعِي فِيمَا شَاءَ، وَلَا يَضُرُّ بِذَلِكَ عَدَمُ بَقَاءِ ذَلِكَ الثُّلُثِ فِي أَيْدِيهِمْ مِنْ جِهَةِ الْعَزْلِ وَالْإِفْرَازِ، وَلَئِنْ سَلِمَ عَدَمُ بَقَاءِ ذَلِكَ الثُّلُثِ الْمَخْصُوصِ فِي أَيْدِيهِمْ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ حَتَّى مِنْ جِهَةِ جَوَازِ تَصَرُّفِهِمْ فِيهِ بِتَصْدِيقِهِمْ الْمُدَّعِي أَيْضًا فَيَكْفِي جَوَازُ التَّصَرُّفِ لَهُمْ فِي مُطْلَقِ الثُّلُثِ الشَّائِعِ فِي جَمِيعِ الْمَالِ، وَعَنْ هَذَا قَالُوا: إنَّ هَذَا تَصَرُّفٌ يُشْبِهُ الْإِقْرَارَ وَالْوَصِيَّةَ، فَبِاعْتِبَارِ شَبَهِ الْوَصِيَّةِ لَا يَصْدُقُ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى الثُّلُثِ، وَبِاعْتِبَارِ شَبَهِ الْإِقْرَارِ يُجْعَلُ شَائِعًا فِي الْأَثْلَاثِ وَلَا يُخَصُّ بِالثُّلُثِ الَّذِي لِأَصْحَابِ الْوَصَايَا عَمَلًا بِالشَّبَهَيْنِ تَأَمَّلْ تَرْشُدْ.

(قَوْلُهُ وَعَلَى كُلِّ فَرِيقٍ مِنْهُمَا الْيَمِينُ عَلَى الْعِلْمِ إنْ ادَّعَى الْمُقَرُّ لَهُ زِيَادَةً عَلَى ذَلِكَ) قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: يَنْبَغِي أَنْ لَا يَحْلِفَ الْوَرَثَةُ إذَا بَلَغَ مَا أُخِذَ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ ثُلُثَ الْمَالِ إنْ كَانَ مَا ادَّعَاهُ زَائِدًا عَلَيْهِ وَيَحْلِفُ أَصْحَابُ الْوَصَايَا لِبَقَاءِ شَيْءٍ مِنْ الثُّلُثِ فِي أَيْدِيهِمْ فَتَأَمَّلْ اهـ. أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا بِكَلَامٍ صَحِيحٍ. أَمَّا قَوْلُهُ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَحْلِفَ الْوَرَثَةُ إذَا بَلَغَ مَا أُخِذَ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ ثُلُثَ الْمَالِ إنْ كَانَ مَا ادَّعَاهُ زَائِدًا عَلَيْهِ فَلِأَنَّ تَحْلِيفَ الْوَرَثَةِ فِيمَا إذَا كَانَ مَا ادَّعَاهُ زَائِدًا عَلَى الثُّلُثِ لَيْسَ بِمُوجِبِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، بَلْ لِكَوْنِ الْمُدَّعِي هُنَاكَ مِمَّنْ يَدَّعِي حَقًّا لِنَفْسِهِ مِنْ تَرِكَةِ الْمَيِّتِ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ ادِّعَاءَ مَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ مِنْ تَرِكَةِ الْمَيِّتِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الدَّعْوَى، فَإِذَا صَحَّتْ الدَّعْوَى فَلَا جَرَمَ يَحْلِفُ الْوَرَثَةُ إذَا أَنْكَرُوا. وَأَمَّا قَوْلُهُ وَيَحْلِفُ أَصْحَابُ الْوَصَايَا لِبَقَاءِ شَيْءٍ مِنْ الثُّلُثِ فِي أَيْدِيهِمْ فَلِأَنَّ دَعْوَى الدَّيْنِ لَا تَخْتَصُّ بِالثُّلُثِ الَّذِي فِي أَيْدِي أَصْحَابِ الْوَصَايَا، بَلْ يَخْتَصُّ بِثُلُثِ مَالِ الْمَيِّتِ مُطْلَقًا وَالْمُدَّعِي فِيمَا إذَا ادَّعَى زَائِدًا عَلَى الثُّلُثِ إنَّمَا يَدَّعِي الدَّيْنَ فِي حَقِّ

ص: 455

حِصَّةُ أَحَدِهِمَا مُمْتَازَةٌ عَنْ حِصَّةِ الْآخَرِ بَقَاءً وَبُطْلَانًا.

قَالَ (وَمَنْ كَانَ لَهُ ثَلَاثَةُ أَثْوَابٍ جَيِّدٌ وَوَسَطٌ وَرَدِيءٌ فَأَوْصَى بِكُلِّ وَاحِدٍ لِرَجُلٍ فَضَاعَ ثَوْبٌ وَلَا يَدْرِي أَيُّهَا هُوَ وَالْوَرَثَةُ تَجْحَدُ ذَلِكَ فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ) وَمَعْنَى جُحُودَهُمْ أَنْ يَقُولَ الْوَارِثُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِعَيْنِهِ الثَّوْبُ الَّذِي هُوَ حَقُّك قَدْ هَلَكَ فَكَانَ الْمُسْتَحَقُّ مَجْهُولًا وَجَهَالَتُهُ تَمْنَعُ صِحَّةَ الْقَضَاءِ وَتَحْصِيلَ الْمَقْصُودِ فَبَطَلَ.

قَالَ (إلَّا أَنْ يُسَلِّمَ الْوَرَثَةُ الثَّوْبَيْنِ الْبَاقِيَيْنِ، فَإِنْ سَلَّمُوا زَالَ الْمَانِعُ وَهُوَ الْجُحُودُ فَيَكُونُ لِصَاحِبِ الْجَيِّدِ ثُلُثَا الثَّوْبِ الْأَجْوَدِ، وَلِصَاحِبِ الْأَوْسَطِ ثُلُثُ الْجَيِّدِ وَثُلُثِ الْأَدْوَنِ فَثَبَتَ الْأَدْوَنُ، وَلِصَاحِبِ الْأَدْوَنِ ثُلُثَا الثَّوْبِ الْأَدْوَنِ) لِأَنَّ صَاحِبَ الْجَيِّدِ لَا حَقَّ لَهُ فِي الرَّدِيءِ بِيَقِينٍ، لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ وَسَطًا أَوْ رَدِيئًا وَلَا حَقَّ لَهُ فِيهِمَا، وَصَاحِبَ الرَّدِيءِ لَا حَقَّ لَهُ فِي الْجَيِّدِ الْبَاقِي بِيَقِينٍ، لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ جَيِّدًا أَوْ وَسَطًا وَلَا حَقَّ لَهُ فِيهِمَا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الرَّدِيءُ هُوَ الرَّدِيءُ الْأَصْلِيُّ فَيُعْطَى مِنْ مَحِلِّ الِاحْتِمَالِ، وَإِذَا ذَهَبَ ثُلُثَا الْجَيِّدِ وَثُلُثَا الْأَدْوَنِ لَمْ يَبْقَ إلَّا ثُلُثُ الْجَيِّدِ وَثُلُثُ الرَّدِيءِ فَيَتَعَيَّنُ حَقُّ صَاحِبِ الْوَسَطِ فِيهِ بِعَيْنِهِ ضَرُورَةً.

قَالَ (وَإِذَا كَانَتْ الدَّارُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَأَوْصَى أَحَدَهُمَا بِبَيْتٍ بِعَيْنِهِ لِرَجُلٍ فَإِنَّهَا تُقْسَمُ، فَإِنْ وَقَعَ الْبَيْتُ فِي نَصِيبِ الْمُوصِي فَهُوَ

الزِّيَادَةِ عَلَى الثُّلُثِ لَا الْوَصِيَّةِ، حَتَّى لَوْ ادَّعَى الْوَصِيَّةَ فِيهِ لَا تُسْمَعُ دَعْوَاهُ رَأْسًا فَضْلًا عَنْ التَّحْلِيفِ

(قَوْلُهُ وَمَعْنَى جُحُودِهِمْ أَنْ يَقُولَ الْوَارِثُ لِكُلِّ وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ الثَّوْبُ الَّذِي هُوَ حَقُّك قَدْ هَلَكَ) أَقُولُ: فِي ظَاهِرِ تَعْبِيرِ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا فَسَادٌ لِأَنَّ هَلَاكَ حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ فِيمَا إذَا ضَاعَ الْأَثْوَابُ الثَّلَاثَةُ مَعًا، وَالْمَفْرُوضُ فِي مَوْضِعِ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يَضِيعَ ثَوْبٌ وَاحِدٌ مِنْهَا غَيْرُ مَعْلُومِ الْخُصُوصِيَّةِ، فَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يَقُولَ الْوَارِثُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ الثَّوْبُ الَّذِي هُوَ حَقُّك قَدْ هَلَكَ فَإِنَّهُ كَذِبٌ ظَاهِرٌ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُسْمَعَ أَصْلًا،

ص: 456

لِلْمُوصَى لَهُ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ نِصْفُهُ لِلْمُوصَى لَهُ، وَإِنْ وَقَعَ فِي نَصِيبِ الْآخَرِ فَلِلْمُوصَى لَهُ مِثْلُ دِرْعِ الْبَيْتِ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ.

وَقَالَ مُحَمَّدٌ: مِثْلُ ذَرْعِ نِصْفِ الْبَيْتِ لَهُ أَنَّهُ أَوْصَى بِمِلْكِهِ وَبِمِلْكِ غَيْرِهِ، لِأَنَّ الدَّارَ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا مُشْتَرَكَةٌ فَيَنْفُذُ الْأَوَّلُ وَيُوقَفُ الثَّانِي، وَهُوَ أَنَّ مِلْكَهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِالْقِسْمَةِ الَّتِي هِيَ مُبَادَلَةٌ لَا تَنْفُذُ الْوَصِيَّةُ السَّالِفَةُ، كَمَا إذَا أَوْصَى بِمِلْكِ الْغَيْرِ ثُمَّ اشْتَرَاهُ، ثُمَّ إذَا اقْتَسَمُوهَا وَوَقَعَ الْبَيْتُ فِي نَصِيبِ الْمُوصِي تَنْفُذُ الْوَصِيَّةُ فِي عَيْنِ الْمُوصَى بِهِ وَهُوَ نِصْفُ الْبَيْتِ، وَإِنْ وَقَعَ فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ لَهُ مِثْلُ ذَرْعِ نِصْفِ الْبَيْتِ تَنْفِيذًا لِلْوَصِيَّةِ فِي بَدَلِ الْمُوصَى بِهِ عِنْدَ فَوَاتِهِ، كَالْجَارِيَةِ الْمُوصَى بِهَا إذَا قُتِلَتْ خَطَأً تَنْفُذُ الْوَصِيَّةُ فِي بَدَلِهَا، بِخِلَافِ مَا إذَا بِيعَ الْعَبْدُ الْمُوصَى بِهِ حَيْثُ لَا تَتَعَلَّقُ الْوَصِيَّةُ بِثَمَنِهِ، لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ تَبْطُلُ بِالْإِقْدَامِ عَلَى الْبَيْعِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ وَلَا تَبْطُلُ بِالْقِسْمَةِ.

وَلَهُمَا أَنَّهُ أَوْصَى بِمَا يَسْتَقِرُّ مِلْكُهُ فِيهِ بِالْقِسْمَةِ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ بِقَصْدِ الْإِيصَاءِ بِمِلْكٍ مُنْتَفَعٍ بِهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَذَلِكَ يَكُونُ بِالْقِسْمَةِ، لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِالْمُشَاعِ قَاصِرٌ وَقَدْ اسْتَقَرَّ مِلْكُهُ فِي جَمِيعِ الْبَيْتِ إذَا وَقَعَ فِي نَصِيبِهِ فَتَنْفُذُ الْوَصِيَّةُ فِيهِ، وَمَعْنَى الْمُبَادَلَةِ فِي هَذِهِ الْقِسْمَةِ تَابِعٌ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ الْإِفْرَازُ تَكْمِيلًا لِلْمَنْفَعَةِ وَلِهَذَا يُجْبَرُ عَلَى الْقِسْمَةِ فِيهِ، وَعَلَى اعْتِبَارِ الْإِفْرَازِ يَصِيرُ كَأَنَّ الْبَيْتَ مِلْكُهُ مِنْ الِابْتِدَاءِ.

فَضْلًا عَنْ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ بَلْ قَوْلُهُ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ بِعَيْنِهِ الثَّوْبُ الَّذِي هُوَ حَقُّك قَدْ هَلَكَ يَقْتَضِي الِاعْتِرَافَ بِكَوْنِ الثَّوْبَيْنِ الْبَاقِيَيْنِ لِصَاحِبَيْهِ، وَالْأَوْلَى فِي التَّعْبِيرِ مَا ذَكَرَهُ شَرْحُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ سِيَّمَا الصَّدْرُ الشَّهِيدُ وَالْإِمَامُ قَاضِي خَانْ وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِجُحُودِ الْوَرَثَةِ أَنْ يَقُولُوا: حَقٌّ وَاحِدٌ مِنْكُمْ بَطَلَ وَلَا نَدْرِي مَنْ بَطَلَ حَقُّهُ وَمَنْ بَقِيَ حَقُّهُ، فَلَا نُسَلِّمُ إلَيْكُمْ شَيْئًا. وَاَلَّذِي فِي تَوْجِيهِ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ مَعْنَى جُحُودِهِمْ أَنْ يَقُولَ الْوَارِثُ لِكُلِّ وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ: الثَّوْبُ الَّذِي قَدْ هَلَكَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ حَقَّك فَكَأَنَّهُ تَسَامَحَ فِي الْعِبَارَةِ بِنَاءً عَلَى ظُهُورِ الْمُرَادِ، وَوَافَقَهُ صَاحِبُ الْكَافِي فِي هَاتِيك الْعِبَارَةِ مَعَ ظُهُورِ رَكَاكَتِهَا

(قَوْلُهُ وَمَعْنَى الْمُبَادَلَةِ فِي هَذِهِ الْقِسْمَةِ تَابِعٌ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ الْإِفْرَازُ تَكْمِيلًا لِلْمَنْفَعَةِ وَلِهَذَا يُجْبَرُ عَلَى الْقِسْمَةِ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: فِيهِ بَحْثٌ، وَهُوَ أَنَّهُ قَالَ فِي كِتَابِ الْقِسْمَةِ: وَالْإِفْرَازُ هُوَ الظَّاهِرُ فِي الْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ، وَمَعْنَى الْمُبَادَلَةِ هُوَ الظَّاهِرُ فِي الْحَيَوَانَاتِ وَالْعَرُوضِ، وَمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ الْعَرُوضِ فَكَيْفَ كَانَتْ الْمُبَادَلَةُ فِيهِ تَابِعَةً؟ وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ قَالَ هُنَاكَ بَعْدَ قَوْلِهِ وَمَعْنَى الْمُبَادَلَةِ هُوَ الظَّاهِرُ فِي الْعَرُوضِ إلَّا أَنَّهَا إذَا كَانَتْ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ أَجْبَرَ الْقَاضِي عَلَى الْقِسْمَةِ عِنْدَ طَلَبِ أَحَدِ الشُّرَكَاءِ وَمَا نَحْنُ فِيهِ كَذَلِكَ، فَكَانَ مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ فِيهِ تَابِعًا كَمَا ذَكَرَ هَاهُنَا لِأَنَّ الْجَبْرَ لَا يَجْرِي فِي الْمُبَادَلَةِ، وَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ هُنَاكَ وَمَعْنَى الْمُبَادَلَةِ هُوَ الظَّاهِرُ فِي الْحَيَوَانَاتِ وَالْعَرُوضِ إذَا لَمْ تَكُنْ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ بِقَوْلِهِ: وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ الْإِفْرَازُ تَكْمِيلًا لِلْمَنْفَعَةِ وَلِهَذَا يُجْبَرُ عَلَى الْقِسْمَةِ فِيهِ اهـ. وَقَدْ سَبَقَهُ إلَى أَصْلِ هَذَا السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ صَاحِبُ النِّهَايَةِ.

أَقُولُ: قَدْ خَبَطَ الشَّارِحَانِ الْمَزْبُورَانِ فِي الْجَوَابِ الْمَذْكُورِ جِدًّا حَيْثُ قَصَدَا التَّوْفِيقَ بَيْنَ كَلَامَيْ الْمُصَنِّفِ فِي الْمَقَامَيْنِ، وَلَكِنْ خَالَفَا صَرِيحَ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي كِتَابِ الْقِسْمَةِ وَمَا أَطْبَقَا عَلَيْهِ مَعَ سَائِرِ الشُّرَّاحِ فِي بَيَانِ مُرَادِهِ هُنَاكَ، فَإِنَّ الْمُصَنِّفَ قَالَ هُنَاكَ بَعْدَ قَوْلِهِ وَمَعْنَى الْمُبَادَلَةِ هُوَ الظَّاهِرُ فِي الْحَيَوَانَاتِ وَالْعَرُوضِ: إلَّا أَنَّهَا إذَا كَانَتْ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ أَجْبَرَ الْقَاضِي عَلَى الْقِسْمَةِ عِنْدَ طَلَبِ أَحَدِ الشُّرَكَاءِ لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى الْإِفْرَازِ لِتَقَارُبِ الْمَقَاصِدِ. وَقَالَ: مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ

ص: 457

وَإِنْ وَقَعَ فِي نَصِيبِ الْآخَرِ تَنْفُذُ فِي قَدْرِ ذُرْعَانِ جَمِيعِهِ مِمَّا وَقَعَ فِي نَصِيبِهِ، إمَّا لِأَنَّهُ عِوَضُهُ كَمَا ذَكَرْنَاهُ، أَوْ لِأَنَّ مُرَادَ الْمُوصِي مِنْ ذِكْرِ الْبَيْتِ التَّقْدِيرُ بِهِ تَحْصِيلًا لِمَقْصُودِهِ مَا أَمْكَنَ، إلَّا أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ الْبَيْتُ إذَا وَقَعَ فِي نَصِيبِهِ جَمْعًا بَيْنَ الْجِهَتَيْنِ التَّقْدِيرِ وَالتَّمْلِيكِ، وَإِنْ وَقَعَ فِي نَصِيبِ الْآخَرِ عَمِلْنَا بِالتَّقْدِيرِ، أَوْ لِأَنَّهُ أَرَادَ التَّقْدِيرَ عَلَى اعْتِبَارِ أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ وَالتَّمْلِيكَ بِعَيْنِهِ عَلَى اعْتِبَارِ الْوَجْهِ الْآخَرِ، كَمَا إذَا عَلَّقَ عِتْقَ الْوَلَدِ وَطَلَاقَ الْمَرْأَةِ بِأَوَّلِ وَلَدٍ تَلِدُهُ أَمَتُهُ، فَالْمُرَادُ فِي جَزَاءِ الطَّلَاقِ مُطْلَقُ الْوَلَدِ وَفِي الْعِتْقِ وَلَدٌ حَيٌّ ثُمَّ إذَا وَقَعَ الْبَيْتُ فِي نَصِيبِ غَيْرِ الْمُوصِي وَالدَّارُ مِائَةُ ذِرَاعٍ وَالْبَيْتُ عَشَرَةُ أَذْرُعٍ يُقْسَمُ نَصِيبُهُ بَيْنَ الْمُوصَى لَهُ وَبَيْنَ الْوَرَثَةِ عَلَى عَشَرَةِ أَسْهُمٍ: تِسْعَةٌ مِنْهَا لِلْوَرَثَةِ وَسَهْمٌ لِلْمُوصَى لَهُ، وَهَذَا عِنْدَ مُحَمَّدٍ فَيَضْرِبُ الْمُوصَى لَهُ بِخَمْسَةِ أَذْرُعٍ نِصْفِ الْبَيْتِ وَهُمْ بِنِصْفِ الدَّارِ سِوَى الْبَيْتِ وَهُوَ خَمْسَةٌ وَأَرْبَعُونَ

مِمَّا يَجْرِي فِيهِ الْجَبْرُ كَمَا فِي قَضَاءِ الدُّيُونِ، وَقَالَ ذَلِكَ الشَّارِحَانِ وَسَائِرُ الشُّرَّاحِ فِي شَرْحِ ذَلِكَ الْمَقَامِ لَمَّا وَرَدَ عَلَى قَوْلِهِ وَمَعْنَى الْمُبَادَلَةِ هُوَ الظَّاهِرُ فِي الْحَيَوَانَاتِ وَالْعَرُوضِ أَنْ يُقَالَ: لَوْ كَانَ مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ هُوَ الظَّاهِرُ فِي الْحَيَوَانَاتِ وَالْعَرُوضِ لَمَا أَجْبَرَ الْقَاضِي عَلَى الْقِسْمَةِ فِي ذَلِكَ. أَجَابَ بِقَوْلِهِ إلَّا أَنَّهَا إذَا كَانَتْ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ أَجْبَرَ الْقَاضِي عَلَى الْقِسْمَةِ عِنْدَ طَلَبِ أَحَدِ الشُّرَكَاءِ لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى الْإِفْرَازِ لِتَفَاوُتِ الْمَقَاصِدِ. وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْجَبْرِ وَالْمُبَادَلَةِ، فَإِنَّ الْمُبَادَلَةَ مِمَّا يَجْرِي فِيهِ الْجَبْرُ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الْغَيْرِ، كَمَا فِي قَضَاءِ الدَّيْنِ فَإِنَّ الْمَدْيُونَ يُجْبَرُ عَلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ وَالدُّيُونُ تُقْضَى بِأَمْثَالِهَا فَصَارَ مَا يُؤَدِّي بَدَلًا عَمَّا فِي ذِمَّتِهِ اهـ.

وَلَا يَذْهَبُ عَلَى ذِي مُسْكَةٍ أَنَّ مَضْمُونَ الْجَوَابِ الْمَذْكُورِ هُنَا مِمَّا يُنَافِي ذَلِكَ، وَالصَّوَابُ فِي حَلِّ مُرَادِ الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ هُنَا وَمَعْنَى الْمُبَادَلَةِ فِي هَذِهِ الْقِسْمَةِ تَابِعٌ عَلَى وَجْهٍ يَنْدَفِعُ عَنْهُ السُّؤَالُ الَّذِي تَمَحَّلَ الشَّارِحَانِ الْمَزْبُورَانِ لِدَفْعِهِ مَا تَمَحَّلَاهُ أَنْ يُقَالَ: يَعْنِي أَنَّ مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرًا فِي غَيْرِ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ إلَّا أَنَّهُ يُجْعَلُ ذَلِكَ الْمَعْنَى فِي هَذِهِ الْقِسْمَةِ تَابِعًا وَيُجْعَلُ مَعْنَى الْإِفْرَازِ فِيهَا مَقْصُودًا تَصْحِيحًا لِتَصَرُّفِ الْمُوصِي وَقَصْدِهِ الَّذِي هُوَ تَكْمِيلُ الْمَنْفَعَةِ، فَإِنَّ مَبْنَى الْوَصِيَّةِ عَلَى الْمُسَاهَلَةِ وَسُرْعَةِ الثُّبُوتِ، وَقَدْ أَفْصَحَ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى الْإِمَامُ قَاضِي خَانْ حَيْثُ قَالَ: وَلَهُمَا أَنَّ الْقِسْمَةَ فِيمَا لَا يُكَالُ وَلَا يُوزَنُ وَإِنْ كَانَتْ مُبَادَلَةً مِنْ وَجْهٍ حَتَّى لَا يَنْفَرِدَ أَحَدُهُمَا بِالْقِسْمَةِ، وَلَوْ اشْتَرَيَا دَارًا وَاقْتَسَمَا لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَبِيعَ نَصِيبَهُ مُرَابَحَةً عَلَى مَا اشْتَرَى فَهِيَ إفْرَازٌ فِي حَقِّ بَعْضِ الْأَحْكَامِ؛ أَلَا يُرَدُّ أَنَّهُ يُجْبَرُ عَلَيْهَا.

وَلَوْ بَنَى أَحَدُهُمَا فِي نَصِيبِهِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ بِنَاءً ثُمَّ اسْتَحَقَّ الْأَرْضَ لَا يَرْجِعُ عَلَى شَرِيكِهِ بِقِيمَةِ الْبِنَاءِ وَلَا يَثْبُتُ لِلشَّفِيعِ الشُّفْعَةُ فِي الْقِسْمَةِ، وَالْمُشْتَرِي لَوْ قَاسَمَ الْبَائِعَ لَمْ يَكُنْ لِلشَّفِيعِ نَقْضُهُ، وَلَوْ كَانَتْ الْقِسْمَةُ مُبَادَلَةً مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لَكَانَتْ الْأَحْكَامُ عَلَى عَكْسِهَا فَثَبَتَ أَنَّهَا إفْرَازٌ مِنْ وَجْهٍ مُبَادَلَةٌ مِنْ وَجْهٍ فَتُجْعَلُ إفْرَازًا فِي حُكْمِ الْوَصِيَّةِ تَصْحِيحًا لِلْوَصِيَّةِ لِأَنَّ مَبْنَاهَا عَلَى الْمُسَاهَلَةِ وَسُرْعَةِ الثُّبُوتِ وَلِهَذَا صَحَّتْ الْوَصِيَّةُ بِالْمَعْدُومِ عَلَى خَطَرِ الْوُجُودِ كَالثَّمَرَةِ وَالْغَلَّةِ، وَإِذَا جُعِلَتْ الْقِسْمَةُ إفْرَازًا ظَهَرَ أَنَّهُ أَوْصَى بِمَا يَمْلِكُهُ اهـ تَدَبَّرْ.

(قَوْلُهُ وَإِنْ وَقَعَ فِي نَصِيبِ الْآخَرِ تَنْفُذُ فِي قَدْرِ ذُرْعَانِ جَمِيعِهِ مِمَّا وَقَعَ فِي نَصِيبِهِ، إمَّا لِأَنَّهُ عَوَّضَهُ كَمَا ذَكَرْنَاهُ) يَعْنِي فِي الْجَارِيَةِ الْمُوصَى بِهَا كَذَا فِي الْعِنَايَةِ وَغَيْرِهَا. أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَيْسَ قَدْرُ ذُرْعَانِ جَمِيعِهِ مِمَّا وَقَعَ فِي نَصِيبِهِ عَوَّضَهُ: أَيْ عَوَّضَ جَمِيعَ ذَلِكَ الْبَيْتِ الْوَاقِعِ فِي نَصِيبِ الْآخَرِ، بَلْ قَدْرَ ذُرْعَانِ نِصْفِهِ مِمَّا وَقَعَ فِي نَصِيبِهِ عَوَّضَ نِصْفَهُ، وَلَا مُعَاوَضَةَ فِي نِصْفِ الْآخَرِ لِأَنَّ الدَّارَ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا كَانَتْ مُشْتَرَكَةً بَيْنَ الْمُوصِي وَصَاحِبِهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ الْبَيْتُ وَمَا وَقَعَ فِي نَصِيبِ الْمُوصِي مُشْتَرَكَيْنِ بَيْنَهُمَا قَبْلَ الْقِسْمَةِ فَالْمُعَاوَضَةُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ إنَّمَا تُتَصَوَّرُ بَيْنَ نِصْفِ ذَلِكَ الْبَيْتِ الْوَاقِعِ فِي نَصِيبِ الْآخَرِ وَبَيْنَ قَدْرِ ذُرْعَانِ نِصْفِهِ ذَلِكَ مِمَّا وَقَعَ فِي نَصِيبِ الْمُوصِي، وَأَمَّا نِصْفُهُ الْآخَرُ وَقَدْرُ ذُرْعَانِ نِصْفِ ذَلِكَ مِمَّا وَقَعَ فِي نَصِيبِ الْمُوصِي فَبَاقِيَانِ عَلَى حَالَتِهِمَا الْأَصْلِيَّةِ فِي مِلْكِ الْمُوصِي وَصَاحِبِهِ، فَلَمْ يَكُنْ قَوْلُهُ إمَّا لِأَنَّهُ عَوَّضَهُ صَالِحًا لَأَنْ يَكُونَ دَلِيلًا مُسْتَقِلًّا فِي إفَادَةِ الْمَطْلُوبِ هَاهُنَا وَهُوَ أَنْ يَكُونَ قَدْرُ ذُرْعَانِ جَمِيعِ الْبَيْتِ الْمُوصَى بِهِ مِلْكًا لِلْمُوصَى لَهُ عِنْدَهُمَا فِيمَا إذَا وَقَعَ ذَلِكَ الْبَيْتُ فِي نَصِيبِ الْآخَرِ بِدُونِ مُلَاحَظَةِ أَحَدِ الدَّلِيلِينَ الْآتِيَيْنِ وَتَحْرِيرُ

ص: 458

فَيُجْعَلُ كُلُّ خَمْسَةٍ سَهْمًا فَيَصِيرُ عَشَرَةً، وَعِنْدَهُمَا يُقْسَمُ عَلَى أَحَدَ عَشَرَ سَهْمًا لِأَنَّ الْمُوصَى لَهُ يَضْرِبُ بِالْعَشَرَةِ وَهُمْ بِخَمْسَةٍ وَأَرْبَعِينَ فَتَصِيرُ السِّهَامُ أَحَدَ عَشَرَ لِلْمُوصَى لَهُ سَهْمَانِ وَلَهُمْ تِسْعَةٌ، وَلَوْ كَانَ مَكَانَ الْوَصِيَّةِ إقْرَارٌ قِيلَ هُوَ عَلَى الْخِلَافِ، وَقِيلَ لَا خِلَافَ فِيهِ لِمُحَمَّدٍ.

وَالْفَرْقُ لَهُ أَنَّ الْإِقْرَارَ بِمِلْكِ الْغَيْرِ صَحِيحٌ، حَتَّى إنَّ مَنْ أَقَرَّ بِمِلْكِ الْغَيْرِ لِغَيْرِهِ ثُمَّ مَلَكَهُ يُؤْمَرُ بِالتَّسْلِيمِ إلَى الْمُقَرِّ لَهُ، وَالْوَصِيَّةُ بِمِلْكِ الْغَيْرِ لَا تَصِحُّ، حَتَّى لَوْ مَلَكَهُ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ ثُمَّ مَاتَ لَا تَصِحُّ وَصِيَّتُهُ وَلَا تَنْفُذُ.

قَالَ (وَمَنْ أَوْصَى مِنْ مَالِ رَجُلٍ لِآخَرَ بِأَلْفٍ بِعَيْنِهِ فَأَجَازَ صَاحِبُ الْمَالِ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي فَإِنْ دَفَعَهُ فَهُوَ جَائِزٌ وَلَهُ أَنْ يَمْنَعَ) لِأَنَّ هَذَا تَبَرُّعٌ بِمَالِ الْغَيْرِ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَتِهِ، وَإِذَا أَجَازَ يَكُونُ تَبَرُّعًا مِنْهُ أَيْضًا فَلَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ التَّسْلِيمِ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَوْصَى بِالزِّيَادَةِ عَلَى الثُّلُثِ وَأَجَازَتْ الْوَرَثَةُ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ فِي مَخْرَجِهَا صَحِيحَةٌ لِمُصَادِفَتِهَا مِلْكَ نَفْسِهِ وَالِامْتِنَاعِ لِحَقِّ الْوَرَثَةِ، فَإِذَا أَجَازُوهَا سَقَطَ حَقُّهُمْ فَنَفَذَ مِنْ جِهَةِ الْمُوصِي.

قَالَ (وَإِذَا اقْتَسَمَ الِابْنَانِ تَرِكَةَ الْأَبِ أَلْفًا ثُمَّ أَقَرَّ أَحَدُهُمَا لِرَجُلٍ أَنَّ الْأَبَ أَوْصَى لَهُ بِثُلُثِ مَالِهِ فَإِنَّ الْمُقِرَّ يُعْطِيهِ ثُلُثَ مَا فِي يَدِهِ) وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ، وَالْقِيَاسُ أَنْ يُعْطِيَهُ نِصْفَ مَا فِي يَدِهِ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ رحمه الله، لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِالثُّلُثِ لَهُ تَضَمَّنَ إقْرَارَهُ بِمُسَاوَاتِهِ إيَّاهُ، وَالتَّسْوِيَةُ فِي إعْطَاءِ النِّصْفِ لِيَبْقَى لَهُ النِّصْفُ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ أَقَرَّ لَهُ بِثُلُثٍ شَائِعٍ فِي التَّرِكَةِ وَهِيَ فِي أَيْدِيهمَا فَيَكُونُ مُقِرًّا بِثُلُثِ مَا فِي يَدِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِدَيْنٍ

الْمُصَنِّفِ يَقْتَضِي اسْتِقْلَالَهُ فِيهَا كَمَا تَرَى فَتَأَمَّلْ.

(قَوْلُهُ وَالْفَرْقُ لَهُ أَنَّ الْإِقْرَارَ بِمِلْكِ الْغَيْرِ صَحِيحٌ حَتَّى إنَّ مَنْ أَقَرَّ بِمِلْكِ الْغَيْرِ لِغَيْرِهِ ثُمَّ مَلَكَهُ يُؤْمَرُ بِالتَّسْلِيمِ إلَى الْمُقَرِّ لَهُ إلَخْ) أَقُولُ: فِيهِ كَلَامٌ، وَهُوَ أَنَّ هَذَا الْفَرْقَ إنَّمَا يَتَمَشَّى فِي صُورَةِ إنْ وَقَعَ الْبَيْتُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ فِي نَصِيبِ الْمُوصِي، وَأَمَّا فِي صُورَةِ إنْ وَقَعَ بَعْدَهَا فِي نَصِيبِ الْآخَرِ فَلَا، لِأَنَّ الْمُوصِيَ حِينَئِذٍ كَانَ مُقِرًّا بِمِلْكِ الْغَيْرِ لِغَيْرِهِ وَلَمْ يَصِرْ مَالِكًا لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ حَتَّى يُؤْمَرَ بِتَسْلِيمِهِ إلَى الْمُقَرِّ لَهُ، وَمَسْأَلَتُنَا تَعُمُّ الصُّورَتَيْنِ فَلَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ

(قَوْلُهُ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ أَقَرَّ بِثُلُثٍ شَائِعٍ فِي التَّرِكَةِ وَهِيَ فِي أَيْدِيهِمَا فَيَكُونُ مُقِرًّا بِثُلُثِ مَا فِي يَدِهِ) قَالَ صَاحِبُ التَّسْهِيلِ: أَقُولُ مَضَى فِي فَصْلِ إقْرَارِ الْمَرِيضِ

ص: 459

لِغَيْرِهِ لِأَنَّ الدَّيْنَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمِيرَاثِ فَيَكُونُ مُقِرًّا بِتَقْدِيمِهِ فَيُقَدَّمُ عَلَيْهِ، أَمَّا الْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ شَرِيكُ الْوَارِثِ فَلَا يُسَلَّمُ لَهُ شَيْءٌ إلَّا أَنْ يُسَلَّمَ لِلْوَرَثَةِ مِثْلَاهُ، وَلِأَنَّهُ لَوْ أَخَذَ مِنْهُ نِصْفَ مَا فِي يَدِهِ فَرُبَّمَا يُقِرُّ الِابْنُ الْآخَرُ بِهِ أَيْضًا فَيَأْخُذُ نِصْفَ مَا فِي يَدِهِ فَيَصِيرُ نِصْفَ التَّرِكَةِ فَيُزَادُ عَلَى الثُّلُثِ.

قَالَ (وَمَنْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِجَارِيَةٍ فَوَلَدَتْ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي وَلَدًا وَكِلَاهُمَا يَخْرُجَانِ مِنْ الثُّلُثِ فَهُمَا لِلْمُوصَى لَهُ) لِأَنَّ الْأُمَّ دَخَلَتْ فِي الْوَصِيَّةِ أَصَالَةً وَالْوَلَدُ تَبَعًا حِينَ كَانَ مُتَّصِلًا بِالْأُمِّ، فَإِذَا وَلَدَتْ قَبْلَ الْقِسْمَةِ وَالتَّرِكَةُ قَبْلَهَا مُبْقَاةٌ عَلَى مِلْكِ الْمَيِّتِ حَتَّى يُقْضَى بِهَا دُيُونُهُ دَخَلَ فِي الْوَصِيَّةِ فَيَكُونَانِ لِلْمُوصِي لَهُ (وَإِنْ لَمْ يَخْرُجَا مِنْ الثُّلُثِ ضَرَبَ بِالثُّلُثِ وَأَخَذَ مَا يَخُصُّهُ مِنْهُمَا جَمِيعًا فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَأْخُذُ ذَلِكَ مِنْ الْأُمِّ، فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ أَخَذَهُ مِنْ الْوَلَدِ). وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ عَيَّنَ صُورَةً وَقَالَ: رَجُلٌ لَهُ سِتُّمِائَةِ دِرْهَمٍ وَأَمَةٌ تُسَاوِي ثَلَاثَمِائَةِ دِرْهَمٍ فَأَوْصَى بِالْجَارِيَةِ لِرَجُلٍ ثُمَّ مَاتَ فَوَلَدَتْ وَلَدًا يُسَاوِي ثَلَاثَمِائَةِ دِرْهَمٍ قَبْلَ الْقِسْمَةِ فَلِلْمُوصَى لَهُ الْأُمُّ وَثُلُثُ الْوَلَدِ عِنْدَهُ. وَعِنْدَهُمَا لَهُ ثُلُثَا كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. لَهُمَا مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْوَلَدَ دَخَلَ فِي الْوَصِيَّةِ تَبَعًا حَالَةَ الِاتِّصَالِ فَلَا يَخْرُجُ عَنْهَا بِالِانْفِصَالِ كَمَا فِي الْبَيْعِ وَالْعِتْقِ فَتَنْفُذُ الْوَصِيَّةُ فِيهِمَا عَلَى السَّوَاءِ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيمِ الْأُمِّ. وَلَهُ أَنَّ الْأُمَّ أَصْلٌ وَالْوَلَدُ تَبَعٌ وَالتَّبَعُ لَا يُزَاحِمُ الْأَصْلَ، فَلَوْ نَفَّذْنَا الْوَصِيَّةَ

أَنَّ ابْنَهُ لَوْ أَقَرَّ بِأَخٍ فَجَحَدَهُ أَخُوهُ الْآخَرُ دَفَعَ إلَيْهِ الْمُقِرُّ نِصْفَ نَصِيبِهِ كَمَا قَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - هُنَا لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِالْمُسَاوَاةِ. وَعِنْدَ مَالِكٍ يَدْفَعُ إلَيْهِ ثُلُثَ نَصِيبِهِ كَمَا قُلْنَا هُنَا نَحْنُ وَالْحَاصِلُ أَنَّنَا عَمِلْنَا هُنَا بِأَصْلِ مَالِكٍ ثَمَّةَ وَعَمِلَ زُفَرُ هُنَا بِأَصْلِنَا ثَمَّةَ، فَلَا بُدَّ لِلْأَئِمَّةِ الْحَنَفِيَّةِ مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ الْإِقْرَارِ وَالْوَصِيَّةِ أَوْ الِاتِّحَادِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ، إلَى هُنَا لَفْظُ التَّسْهِيلِ، وَقَصَدَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنْ يُجِيبَ عَنْهُ فَقَالَ بَعْدَ نَقْلِ ذَلِكَ. قُلْت: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا بَيِّنٌ فَإِنَّ الْمُسَاوَاةَ مِنْ اللَّوَازِمِ الْبَيِّنَةِ لِلْإِخْوَةِ دُونَ الْوَصِيَّةِ بِالثُّلُثِ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ لَوَازِمِهَا فَضْلًا عَنْ كَوْنِهَا بَيِّنَةً، فَالْإِقْرَارُ بِالْأَخِ يَتَضَمَّنُ الْقَرَارَ بِالْمُسَاوَاةِ، بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ بِالْوَصِيَّةِ فَإِنَّهُ لَا يَتَضَمَّنُ الْإِقْرَارَ بِهَا اهـ. أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ، فَإِنَّ الَّذِي مِنْ لَوَازِمِ الْإِخْوَةِ إنَّمَا هُوَ الْمُسَاوَاةُ فِي جُمْلَةِ التَّرِكَةِ لَا الْمُسَاوَاةُ فِيمَا فِي يَد أَحَد الْأَخَوَيْنِ فَقَطْ كَنِصْفِ التَّرِكَةِ مَثَلًا، وَإِلَّا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ حِصَّةُ أَحَدِ الْإِخْوَةِ النِّصْفَ وَحِصَّةُ مَجْمُوعِ الْأَخَوَيْنِ النِّصْفَ، وَهَذَا ظَاهِرُ الْبُطْلَانِ، وَالْمُسَاوَاةُ فِي جُمْلَةِ التَّرِكَةِ إنَّمَا تَقْتَضِي كَوْنَ حِصَّةِ الْأَخِ الْمُقَرِّ لَهُ ثُلُثَ مَا فِي يَدِ الْمُقِرِّ لَا نِصْفَهُ كَمَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ الْإِقْرَارِ بِوَصِيَّةِ ثُلُثِ الْمَالِ فَوَرَدَ مَا قَالَهُ صَاحِبُ التَّسْهِيلِ مِنْ مُطَالَبَةِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ. ثُمَّ إنَّ قَوْلَ ذَلِكَ الْبَعْضِ دُونَ الْوَصِيَّةِ بِالثُّلُثِ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ لَوَازِمِهَا فَضْلًا عَنْ كَوْنِهَا بَيِّنَةً لَيْسَ بِتَامٍّ أَيْضًا، لِأَنَّ الْمُسَاوَاةَ إنَّمَا لَا تَكُونُ مِنْ لَوَازِمِ مُطْلَقِ الْوَصِيَّةِ مَعَ مُطْلَقِ الْوَرَثَةِ، وَأَمَّا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ فَالْمُسَاوَاةُ لَازِمَةٌ قَطْعًا لِانْحِصَارِ الْوَارِثِ فِي الِابْنَيْنِ، وَكَوْنِ إقْرَارِ أَحَدِهِمَا بِوَصِيَّةِ الْمُوَرِّثِ لِرَجُلٍ بِثُلُثِ مَالِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ الْمُسَالَتَيْنِ بِوَجْهٍ آخَرَ كَمَا لَا يَخْفَى.

ص: 460

فِيهِمَا جَمِيعًا تَنْتَقِضُ الْوَصِيَّةُ فِي بَعْضِ الْأَصْلِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ بِخِلَافِ الْبَيْعِ لِأَنَّ تَنْفِيذَ الْبَيْعِ فِي التَّبَعِ لَا يُؤَدِّي إلَى نَقْضِهِ فِي الْأَصْلِ بَلْ يَبْقَى تَامًّا صَحِيحًا فِيهِ، إلَّا أَنَّهُ لَا يُقَابِلُهُ بَعْضُ الثَّمَنِ ضَرُورَةَ مُقَابِلَتِهِ إذَا اتَّصَلَ بِهِ الْقَبْضُ وَلَكِنَّ الثَّمَنَ تَابِعٌ فِي الْبَيْعِ حَتَّى يَنْعَقِدَ بِدُونِ ذِكْرِهِ وَإِنْ كَانَ فَاسِدًا (هَذَا إذَا وَلَدَتْ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، فَإِنْ وَلَدَتْ بَعْدَ الْقِسْمَةِ فَهُوَ لِلْمُوصَى لَهُ) لِأَنَّهُ نَمَاءُ خَالِصِ مِلْكِهِ لِتَقَرُّرِ مِلْكِهِ فِيهِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ.

(فَصْلٌ فِي اعْتِبَارِ حَالَةِ الْوَصِيَّةِ)

قَالَ (وَإِذَا أَقَرَّ الْمَرِيضُ لِامْرَأَةٍ بِدَيْنٍ أَوْ أَوْصَى لَهَا بِشَيْءٍ أَوْ وَهَبَ لَهَا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا ثُمَّ مَاتَ جَازَ الْإِقْرَارُ وَبَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ وَالْهِبَةُ) لِأَنَّ الْإِقْرَارَ مُلْزِمٌ بِنَفْسِهِ وَهِيَ أَجْنَبِيَّةٌ عِنْدَ صُدُورِهِ، وَلِهَذَا يُعْتَبَرُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ، وَلَا يَبْطُلُ بِالدَّيْنِ إذَا كَانَ فِي حَالَةِ الصِّحَّةِ أَوْ فِي حَالَةِ الْمَرَضِ، إلَّا أَنَّ الثَّانِيَ يُؤَخَّرُ عَنْهُ،

فَصْلٌ فِي اعْتِبَارِ حَالَةِ الْوَصِيَّةِ)

لَمَّا ذَكَرَ الْحُكْمَ الْكُلِّيَّ فِي الْوَصِيَّةِ وَهُوَ الْحُكْمُ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِثُلُثِ الْمَالِ ذَكَرَ فِي هَذَا الْفَصْلِ أَحْكَامًا تَتَعَلَّقُ بِالْأَحْوَالِ الْمُتَغَيِّرَةِ مِنْ وَصْفٍ إلَى وَصْفٍ لِمَا أَنَّ هَذِهِ الْأَحْوَالَ بِمَنْزِلَةِ الْعَوَارِضِ وَالْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِثُلُثِ الْمَالِ بِمَنْزِلَةِ الْأُصُولِ، وَالْأَصْلُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَارِضِ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ.

(قَوْلُهُ وَإِذَا أَقَرَّ الْمَرِيضُ لِامْرَأَةٍ بِدَيْنٍ أَوْ أَوْصَى لَهَا بِشَيْءٍ أَوْ وَهَبَ لَهَا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا ثُمَّ مَاتَ جَازَ الْإِقْرَارُ وَبَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ وَالْهِبَةُ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي جَوَازِ الْوَصِيَّةِ وَفَسَادِهَا كَوْنُ الْمُوصَى لَهُ وَارِثًا وَغَيْرَ وَارِثٍ

ص: 461

بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ لِأَنَّهَا إيجَابٌ عِنْدَ الْمَوْتِ وَهِيَ وَارِثَةٌ عِنْدَ ذَلِكَ، وَلَا وَصِيَّةَ لِلْوَارِثِ، وَالْهِبَةُ وَإِنْ كَانَتْ مُنَجَّزَةً صُورَةً فَهِيَ كَالْمُضَافِ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ حُكْمًا لِأَنَّ حُكْمَهَا يَتَقَرَّرُ عِنْدَ الْمَوْتِ؛ أَلَّا تَرَى أَنَّهَا تَبْطُلُ بِالدَّيْنِ الْمُسْتَغْرِقِ وَعِنْدَ عَدَمِ الدَّيْنِ تُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ.

قَالَ (وَإِذَا أَقَرَّ الْمَرِيضُ لِابْنِهِ بِدَيْنٍ وَابْنُهُ نَصْرَانِيٌّ أَوْ وَهَبَ لَهُ أَوْ أَوْصَى لَهُ فَأَسْلَمَ الِابْنُ قَبْلَ مَوْتِهِ بَطَلَ ذَلِكَ كُلُّهُ). أَمَّا الْهِبَةُ وَالْوَصِيَّةُ فَلِمَا قُلْنَا إنَّهُ وَارِثٌ عِنْدَ الْمَوْتِ وَهُمَا إيجَابَانِ عِنْدَهُ أَوْ بَعْدَهُ، وَالْإِقْرَارُ وَإِنْ كَانَ مُلْزِمًا بِنَفْسِهِ وَلَكِنَّ سَبَبَ الْإِرْثِ وَهُوَ الْبُنُوَّةُ قَائِمٌ وَقْتَ الْإِقْرَارِ فَيُعْتَبَرُ فِي إيرَاثِ تُهْمَةِ الْإِيثَارِ، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ لِأَنَّ سَبَبَ الْإِرْثِ الزَّوْجِيَّةُ وَهِيَ طَارِئَةٌ حَتَّى لَوْ كَانَتْ الزَّوْجِيَّةُ قَائِمَةً وَقْتَ الْإِقْرَارِ وَهِيَ نَصْرَانِيَّةٌ ثُمَّ أَسْلَمَتْ قَبْلَ مَوْتِهِ لَا يَصِحُّ الْإِقْرَارُ لِقِيَامِ السَّبَبِ حَالَ صُدُورِهِ، وَكَذَا لَوْ كَانَ الِابْنُ عَبْدًا أَوْ مُكَاتَبًا فَأُعْتِقَ لِمَا ذَكَرْنَا وَذَكَرَ فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ إنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ لِأَنَّهُ أَقَرَّ لِمَوْلَاهُ وَهُوَ أَجْنَبِيٌّ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ إقْرَارٌ لَهُ وَهُوَ ابْنُهُ، وَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِيهَا وَقْتُ الْمَوْتِ.

وَأَمَّا الْهِبَةُ فَيُرْوَى أَنَّهَا تَصِحُّ لِأَنَّهَا تَمْلِيكٌ فِي الْحَالِ وَهُوَ رَقِيقٌ، وَفِي عَامَّةِ الرِّوَايَاتِ هِيَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ فَلَا تَصِحُّ. قَالَ (وَالْمُقْعَدُ وَالْمَفْلُوجُ

يَوْمَ الْمَوْتِ لَا يَوْمَ الْوَصِيَّةِ، وَالْمُعْتَبَرُ فِي فَسَادِ الْإِقْرَارِ وَجَوَازِهِ كَوْنُ الْمُقَرِّ لَهُ وَارِثًا لِلْحَالِ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ تَمْلِيكٌ لِلْحَالِ، فَمَتَى كَانَ الْمُقَرُّ لَهُ وَارِثًا يَوْمَ الْإِقْرَارِ لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ إذَا كَانَ الْمُقِرُّ مَرِيضًا اهـ. وَاقْتَفَى أَثَرَهُ فِي هَذَا التَّقْرِيرِ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ. أَقُولُ: فِي عِبَارَتِهِمَا خَلَلٌ حَيْثُ قَالَا: لِأَنَّ الْإِقْرَارَ تَمْلِيكٌ لِلْحَالِ، مَعَ أَنَّهُمْ قَدْ صَرَّحُوا فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ بِأَنَّ الْإِقْرَارَ لَيْسَ بِتَمْلِيكٍ بَلْ هُوَ إظْهَارٌ لَلْمُقَرِّ بِهِ، وَقَالُوا: وَلِهَذَا لَوْ أَقَرَّ لِغَيْرِهِ بِالْمَالِ وَالْمُقَرُّ لَهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ كَاذِبٌ فِي إقْرَارِهِ لَا يَحِلُّ لَهُ أَخْذُهُ، وَفَرَّعُوا عَلَى ذَلِكَ مَسَائِلَ كَثِيرَةً: مِنْهَا أَنَّ الْمَرِيضَ إذَا أَقَرَّ بِجَمِيعِ مَالِهِ لِأَجْنَبِيٍّ صَحَّ إقْرَارُهُ وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَةِ الْوَرَثَةِ، وَلَوْ كَانَ تَمْلِيكًا مُبْتَدَأً لَمْ يَنْفُذْ إلَّا بِقَدْرِ الثُّلُثِ عِنْدَ عَدَمِ إجَازَتِهِمْ، فَحَقُّ الْعِبَارَةِ أَنْ يُقَالَ: لِأَنَّ الْإِقْرَارَ تَصَرُّفٌ فِي الْحَالِ كَمَا قَالَهُ الْمُصَنِّفُ رحمه الله فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الْوَصَايَا فَتَذَكَّرْ.

(قَوْلُهُ وَكَذَا لَوْ كَانَ الِابْنُ عَبْدًا أَوْ مُكَاتَبًا فَأُعْتِقَ لِمَا ذَكَرْنَا) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَالْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ: أَيْ لَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ وَالْهِبَةُ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ مُضَافَةٌ إلَى وَقْتِ الْمَوْتِ، أَمَّا إذَا أَقَرَّ لَهُ بِدَيْنٍ ثُمَّ أُعْتِقَ قَبْلَ الْمَوْتِ لَمْ يُذْكَرْ هُنَا وَذُكِرَ فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ أَنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ: أَيْ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ يَصِحُّ اهـ.

أَقُولُ: لَا يَخْفَى عَلَى ذِي فِطْرَةٍ سَلِيمَةٍ أَنَّ مَا ذَهَبْنَا إلَيْهِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ مِمَّا يَأْبَاهُ سَدَادُ الْمَعْنَى وَانْتِظَامُ الْكَلَامِ، فَإِنَّهُمَا حَمَلَا قَوْلَ الْمُصَنِّفِ وَكَذَا لَوْ كَانَ الِابْنُ عَبْدًا أَوْ مُكَاتَبًا عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ الْوَصِيَّةِ وَالْهِبَةِ فَقَطْ، مَعَ أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ قَوْلِهِ الْمَذْكُورِ عُمُومُ عَدَمِ الصِّحَّةِ لِلصُّوَرِ الثَّلَاثِ الْمَذْكُورَةِ فِيمَا قَبْلُ جَمِيعًا وَهِيَ الْإِقْرَارُ وَالْهِبَةُ وَالْوَصِيَّةُ، لِأَنَّهُ كَانَ عَامًّا لَهَا فِي الْمَسْأَلَةِ السَّابِقَةِ، فَانْتِظَامُ إطْلَاقِ التَّشْبِيهِ فِي قَوْلِهِ وَكَذَا لَوْ كَانَ الِابْنُ عَبْدًا أَوْ مُكَاتَبًا يَقْتَضِي الْعُمُومَ لَهُمَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَيْضًا سِيَّمَا مَعَ انْضِمَامِ قَوْلِهِ لِمَا ذَكَرْنَا إلَيْهَا، فَإِنَّ مَا ذَكَرَهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ الدَّلِيلِ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الصِّحَّةِ فِي الصُّوَرِ الثَّلَاثِ جَمِيعًا بِلَا رَيْبٍ.

ثُمَّ إنَّ قَوْلَهُمَا أَمَّا إذَا أَقَرَّ لَهُ بِدَيْنٍ ثُمَّ أُعْتِقَ قَبْلَ الْمَوْتِ لَمْ يُذْكَرْ هُنَا، إنْ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ صُورَةَ الْإِقْرَارِ لَمْ تُذْكَرْ هُنَا بِعَيْنِهَا صَرَاحَةً فَهُوَ مُسَلَّمٌ لَكِنْ صُورَتَا الْوَصِيَّةِ وَالْهِبَةِ أَيْضًا لَمْ تُذْكَرَا هُنَا بِعَيْنِهِمَا صَرَاحَةً بَلْ انْدَرَجَتَا فِي إشَارَةِ

ص: 462

وَالْأَشَلُّ وَالْمَسْلُولُ إذَا تَطَاوَلَ ذَلِكَ وَلَمْ يُخَفْ مِنْهُ الْمَوْتُ فَهِبَتُهُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ) لِأَنَّهُ إذَا تَقَادَمَ الْعَهْدُ صَارَ طَبْعًا مِنْ طِبَاعِهِ وَلِهَذَا لَا يَشْتَغِلُ بِالتَّدَاوِي، وَلَوْ صَارَ صَاحِبَ فِرَاشٍ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ كَمَرَضٍ حَادِثٍ (وَإِنْ وَهَبَ عِنْدَ مَا أَصَابَهُ ذَلِكَ وَمَاتَ مِنْ أَيَّامِهِ فَهُوَ مِنْ الثُّلُثِ إذَا صَارَ صَاحِبَ فِرَاشٍ) لِأَنَّهُ يُخَافُ مِنْهُ الْمَوْتُ وَلِهَذَا يَتَدَاوَى فَيَكُونُ مَرَضَ الْمَوْتِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

(بَابُ الْعِتْقِ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ)

الْإِعْتَاقُ فِي الْمَرَضِ مِنْ أَنْوَاعِ الْوَصِيَّةِ قَالَ: وَمَنْ أَعْتَقَ فِي مَرَضِهِ عَبْدًا أَوْ بَاعَ وَحَابَى أَوْ وَهَبَ فَذَلِكَ كُلُّهُ جَائِزٌ وَهُوَ مُعْتَبَرٌ مِنْ الثُّلُثِ، وَيُضْرَبُ بِهِ مَعَ أَصْحَابِ الْوَصَايَا

قَوْلِهِ وَكَذَا لَوْ كَانَ الِابْنُ عَبْدًا أَوْ مُكَاتَبًا فَأُعْتِقَ فَمَا مَعْنَى جَعْلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ شَامِلَةً لِصُورَتَيْ الْوَصِيَّةِ وَالْهِبَةِ دُونَ صُورَةِ الْإِقْرَارِ، وَإِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ صُورَةَ الْإِقْرَارِ لَمْ تُذْكَرْ هُنَا أَصْلًا لَا صَرَاحَةً بِعَيْنِهَا وَلَا انْدِرَاجًا فِي إطْلَاقِ إشَارَةِ شَيْءٍ فَهُوَ مَمْنُوعٌ، فَإِنَّ مَسْأَلَتَنَا هَذِهِ مَعَ مَا قَبْلَهَا مِنْ مَسَائِلِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَلَفْظُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ هُنَا عَلَى مَا نَقَلَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ هَكَذَا: وَقَالَ فِي الْمَرِيضِ أَقَرَّ لِابْنِهِ وَهُوَ نَصْرَانِيٌّ بِدَيْنٍ أَوْ وَهَبَ لَهُ هِبَةً فَقَبَضَهَا أَوْ أَوْصَى لَهُ وَصِيَّةً ثُمَّ أَسْلَمَ الِابْنُ ثُمَّ مَاتَ الرَّجُلُ قَالَ ذَلِكَ كُلُّهُ بَاطِلٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الِابْنُ عَبْدًا فَأُعْتِقَ فِي هَذَا اهـ. وَلَا يَذْهَبُ عَلَيْك أَنَّ صُورَةَ الْإِقْرَارِ وَصُورَتَيْ الْوَصِيَّةِ وَالْهِبَةِ سِيَّانِ فِي الِانْدِرَاجِ تَحْتَ إطْلَاقِ إشَارَةِ قَوْلِهِ كَذَلِكَ لَوْ كَانَ الِابْنُ عَبْدًا فَأُعْتِقَ فِي هَذَا. فَالْحَقُّ أَنَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ وَكَذَا لَوْ كَانَ الِابْنُ عَبْدًا أَوْ مُكَاتَبًا فَأُعْتِقَ لِمَا ذَكَرْنَا هُوَ أَنَّهُ يَبْطُلُ الْإِقْرَارُ وَالْهِبَةُ وَالْوَصِيَّةُ كُلُّهَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَيْضًا لِدَلِيلِ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْمَسْأَلَةِ السَّابِقَةِ، وَأَنَّ مُرَادَهُ بِقَوْلِهِ وَذَكَرَ فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ إلَى قَوْلِهِ قَالَ وَالْمُقَعَّدُ بَيَانُ أَنَّ فِي صُورَةِ الْإِقْرَارِ رِوَايَةً لِلصِّحَّةِ أَيْضًا، وَكَذَا فِي صُورَةِ الْهِبَةِ، وَأَمَّا فِي صُورَةِ الْوَصِيَّةِ فَلَا رِوَايَةَ لِلصِّحَّةِ أَصْلًا تَبَصَّرْ تَرْشُدْ.

(بَابُ الْعِتْقِ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ) قَالَ جُمْهُورُ الشُّرَّاحِ: الْإِعْتَاقُ فِي الْمَرَضِ مِنْ أَنْوَاعِ الْوَصِيَّةِ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ لَهُ أَحْكَامٌ مَخْصُوصَةٌ أَفْرَدَهُ بِبَابٍ عَلَى حِدَةٍ، وَأَخَّرَهُ عَنْ صَرِيحِ الْوَصِيَّةِ لِأَنَّ الصَّرِيحَ هُوَ الْأَصْلُ اهـ. أَقُولُ: فِيهِ فُتُورٌ، لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ فِي الْمَرَضِ لَيْسَ مِنْ أَنْوَاعِ الْوَصِيَّةِ بَلْ هُوَ أَمْرٌ مُغَايِرٌ لِلْوَصِيَّةِ حَقِيقَةً، فَإِنَّ الْوَصِيَّةَ إيجَابٌ بَعْدَ الْمَوْتِ وَهَذَا مُنَجَّزٌ غَيْرُ مُضَافٍ كَمَا سَيُصَرِّحُ بِهِ الْمُصَنِّفُ رحمه الله فَكَيْفَ

ص: 463

وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ فَهُوَ وَصِيَّةٌ مَكَانَ قَوْلِهِ جَائِزٌ، وَالْمُرَادُ الِاعْتِبَارُ مِنْ الثُّلُثِ وَالضَّرْبُ مَعَ أَصْحَابِ الْوَصَايَا لَا حَقِيقَةُ الْوَصِيَّةِ لِأَنَّهَا إيجَابٌ بَعْدَ الْمَوْتِ وَهَذَا مُنَجَّزٌ غَيْرُ مُضَافٍ، وَاعْتِبَارُهُ مِنْ الثُّلُثِ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْوَرَثَةِ، وَكَذَلِكَ مَا ابْتَدَأَ الْمَرِيضُ إيجَابَهُ عَلَى نَفْسِهِ كَالضَّمَانِ وَالْكَفَالَةِ فِي حُكْمِ الْوَصِيَّةِ لِأَنَّهُ يُتَّهَمُ فِيهِ كَمَا فِي الْهِبَةِ، وَكُلُّ مَا أَوْجَبَهُ بَعْدَ الْمَوْتِ فَهُوَ مِنْ الثُّلُثِ، وَإِنْ أَوْجَبَهُ فِي حَالِ صِحَّتِهِ اعْتِبَارًا بِحَالَةِ الْإِضَافَةِ دُونَ حَالَةِ الْعَقْدِ، وَمَا نَفَّذَهُ مِنْ التَّصَرُّفِ فَالْمُعْتَبَرُ فِيهِ حَالَةُ الْعَقْدِ، فَإِنْ كَانَ صَحِيحًا فَهُوَ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ وَإِنْ كَانَ مَرِيضًا فَمِنْ الثُّلُثِ، وَكُلُّ مَرَضٍ صَحَّ مِنْهُ فَهُوَ كَحَالِ الصِّحَّةِ لِأَنَّ بِالْبُرْءِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا حَقَّ فِي مَالِهِ.

قَالَ (وَإِنْ حَابَى ثُمَّ أَعْتَقَ وَضَاقَ الثُّلُثُ عَنْهُمَا) فَالْمُحَابَاةُ أَوْلَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَإِنْ أَعْتَقَ ثُمَّ حَابَى فَهُمَا سَوَاءٌ، (وَقَالَا: الْعِتْقُ أَوْلَى فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ) وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ الْوَصَايَا إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا مَا جَاوَزَ الثُّلُثَ فَكُلٌّ مِنْ أَصْحَابِهَا يَضْرِبُ بِجَمِيعِ وَصِيَّتِهِ فِي الثُّلُثِ لَا يُقَدَّمُ الْبَعْضُ عَلَى الْبَعْضِ إلَّا الْمُوقَعُ فِي الْمَرَضِ، وَالْعِتْقُ الْمُعَلَّقُ بِمَوْتِ الْمُوصِي كَالتَّدْبِيرِ الصَّحِيحِ وَالْمُحَابَاةُ فِي الْبَيْعِ إذَا وَقَعَتْ فِي الْمَرَضِ لِأَنَّ الْوَصَايَا قَدْ تَسَاوَتْ، وَالتَّسَاوِي فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ يُوجِبُ التَّسَاوِي فِي نَفْسِ الِاسْتِحْقَاقِ، وَإِنَّمَا قُدِّمَ الْعِتْقُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ

يَكُونُ هَذَا مِنْ أَنْوَاعِ الْوَصِيَّةِ؟ نَعَمْ إنَّهُ فِي حُكْمِ الْوَصِيَّةِ إذَا وُجِدَ فِي مَرَضٍ حَيْثُ يُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ لَا مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ كَمَا سَيَأْتِي أَيْضًا فِي الْكِتَابِ، فَالْوَجْهُ أَنْ يُقَالَ: لَمَّا كَانَ الْإِعْتَاقُ فِي الْمَرَضِ أَمْرًا يُغَايِرُ حَقِيقَةَ الْوَصِيَّةِ وَلَكِنْ كَانَ فِي حُكْمِهَا أَفْرَدَهُ بِبَابٍ عَلَى حِدَةٍ وَأَخَّرَهُ عَنْ حَقِيقَةِ الْوَصِيَّةِ لِكَوْنِهَا هِيَ الْأَصْلُ (قَوْلُهُ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ فَهُوَ وَصِيَّةٌ مَكَانَ قَوْلِهِ جَائِزٌ) أَقُولُ: فِي عِبَارَةِ الْمُصَنِّفِ هُنَا تَسَامُحٌ، فَإِنَّ قَوْلَهُ جَائِزٌ فِي النُّسْخَةِ الْأُولَى مَحْمُولٌ فِي الْكَلَامِ، وَقَوْلُهُ فَهُوَ وَصِيَّةٌ فِي هَذِهِ النُّسْخَةِ مَوْضُوعٌ وَمَحْمُولٌ فَكَيْفَ يَكُونُ الثَّانِي مَكَانَ الْأَوَّلِ، فَالظَّاهِرُ أَنْ يُقَالَ مَكَانَ قَوْلِهِ فَذَلِكَ كُلُّهُ جَائِزٌ

(قَوْلُهُ وَإِنَّمَا قَدَّمَ الْعِتْقَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ

ص: 464

آنِفًا لِأَنَّهُ أَقْوَى فَإِنَّهُ لَا يَلْحَقُهُ الْفَسْخُ مِنْ جِهَةِ الْمُوصِي، وَغَيْرُهُ يَلْحَقُهُ. وَكَذَلِكَ الْمُحَابَاةُ لَا يَلْحَقُهَا الْفَسْخُ مِنْ جِهَةِ الْمُوصِي، وَإِذَا تَقَدَّمَ ذَلِكَ فَمَا بَقِيَ مِنْ الثُّلُثِ بَعْدَ ذَلِكَ فِيهِ مِنْ سِوَاهُمَا مِنْ أَهْلِ الْوَصَايَا، وَلَا يُقَدَّمُ الْبَعْضُ عَلَى الْبَعْضِ. لَهُمَا فِي الْخِلَافِيَّةِ أَنَّ الْعِتْقَ أَقْوَى لِأَنَّهُ لَا يَلْحَقُهُ الْفَسْخُ وَالْمُحَابَاةُ يَلْحَقُهَا، وَلَا مُعْتَبَرَ بِتَقْدِيمِ الذِّكْرِ لِأَنَّهُ لَا يُوجِبُ التَّقَدُّمَ فِي الثُّبُوتِ. وَلَهُ أَنَّ الْمُحَابَاةَ أَقْوَى،

آنِفًا لِأَنَّهُ أَقْوَى، فَإِنَّهُ لَا يَلْحَقُهُ الْفَسْخُ مِنْ جِهَةِ الْمُوصِي وَغَيْرُهُ يَلْحَقُهُ الْفَسْخُ، وَكَذَلِكَ الْمُحَابَاةُ لَا يَلْحَقُهَا الْفَسْخُ مِنْ جِهَةِ الْمُوصِي) أَقُولُ: فِي هَذَا التَّحْرِيرِ قُصُورٌ بَلْ خَلَلٌ.

أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُ قَيْدٌ مِنْ جِهَةِ الْمُوصِي فِي قَوْلِهِ فَإِنَّهُ لَا يَلْحَقُهُ الْفَسْخُ مِنْ جِهَةِ الْمُوصِي حَشْوٌ مُفْسِدٌ لِأَنَّهُ يَدُلُّ بِطَرِيقِ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ الْمُعْتَبَرِ عِنْدَنَا أَيْضًا فِي الرِّوَايَاتِ، كَمَا صَرَّحُوا بِهِ عَلَى أَنْ يَلْحَقَهُ الْفَسْخُ مِنْ جِهَةِ غَيْرِ الْمُوصِي كَمَا فِي الْمُحَابَاةِ مَعَ أَنَّ الْفَسْخَ لَا يَلْحَقُ الْعِتْقَ مِنْ جِهَةِ أَحَدٍ أَصْلًا وَإِنْ لَحِقَ الْمُحَابَاةَ مِنْ جِهَةِ غَيْرِ الْمُوصِي وَهُوَ الْمُشْتَرِي. وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ قَوْلَهُ " وَغَيْرُهُ يَلْحَقُهُ الْفَسْخُ " يُوهِمُ بِإِطْلَاقِهِ أَنْ يَلْحَقَ الْفَسْخُ الْمُحَابَاةَ أَيْضًا مِنْ جِهَةِ الْمُوصِي مَعَ أَنَّهُ قَالَ وَكَذَا الْمُحَابَاةُ لَا يَلْحَقُهَا الْفَسْخُ مِنْ جِهَةِ الْمُوصِي. فَالْحَقُّ فِي تَحْرِيرِ هَذَا الْمَقَامِ أَنْ يُقَالَ: فَإِنَّهُ لَا يَلْحَقُهُ أَصْلًا وَالْمُحَابَاةُ لَا يَلْحَقُهَا الْفَسْخُ مِنْ جِهَةِ الْمُوصِي وَأَمَّا غَيْرُهُمَا فَيَلْحَقُهُ الْفَسْخُ مِنْ جِهَةِ الْمُوصِي وَغَيْرِ الْمُوصِي أَيْضًا. ثُمَّ إنَّ كَثِيرًا مِنْ الشُّرَّاحِ مِنْهُمْ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ قَالُوا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ هُنَا " وَغَيْرُهُ يَلْحَقُهُ الْفَسْخُ " أَيْ غَيْرُ الْعِتْقِ الْمُوقَعِ يَلْحَقُهُ الْفَسْخُ كَالْوَصِيَّةِ بِالْعِتْقِ وَالْوَصِيَّةِ بِالْمَالِ اهـ.

أَقُولُ: لَيْسَ ذَلِكَ بِسَدِيدٍ، فَإِنَّ الْعِتْقَ الْمُعَلَّقَ غَيْرُ الْعِتْقِ الْمُوقَعِ وَلِهَذَا عَطَفَهُ الْمُصَنِّفُ عَلَيْهِ فِيمَا قَبْلُ حَيْثُ قَالَ: إنَّ الْعِتْقَ الْمُوقَعَ فِي الْمَرَضِ وَالْعِتْقَ الْمُعَلَّقَ بِمَوْتِ الْمُوصِي كَالتَّدْبِيرِ الصَّحِيحِ مَعَ أَنَّهُ لَا يَخْفَى أَنَّ الْعِتْقَ الْمُعَلَّقَ أَيْضًا لَا يَلْحَقُهُ الْفَسْخُ عِنْدَنَا. فَالْحَقُّ أَنْ يُقَالَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ وَغَيْرُهُ يَلْحَقُهُ الْفَسْخُ: أَيْ غَيْرُ الْعِتْقِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ آنِفًا وَهُوَ الْعِتْقُ الْمُوقَعُ فِي الْمَرَضِ وَالْعِتْقُ الْمُعَلَّقُ بِمَوْتِ الْمُوصِي فَحِينَئِذٍ يَسْتَقِيمُ الْمَعْنَى جِدًّا كَمَا لَا يَخْفَى، وَاللَّفْظُ أَيْضًا يُسَاعِدُهُ لَا مَحَالَةَ، فَإِنَّ الْعِتْقَ الَّذِي يَعُمُّ الْعِتْقَ الْمُوقَعَ وَالْمُعَلَّقَ كَمَا تَرَى (قَوْلُهُ وَإِذَا قَدَّمَ ذَلِكَ فَمَا بَقِيَ مِنْ الثُّلُثِ بَعْدَ ذَلِكَ يَسْتَوِي فِيهِ مَنْ سِوَاهُمَا مِنْ أَهْلِ الْوَصَايَا) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ يَسْتَوِي فِيهِ مَنْ سِوَاهُمَا: أَيْ سِوَى الْعِتْقِ وَالْمُحَابَاةِ، وَاقْتَفَى أَثَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ.

أَقُولُ: فِيهِ سَمَاجَةٌ ظَاهِرَةٌ، فَإِنَّ كَلِمَةَ " مَنْ " فِي قَوْلِهِ " مَنْ سِوَاهُمَا " تَأْبَى هَذَا التَّفْسِيرَ جِدًّا كَمَا لَا يَخْفَى، وَكَذَا قَوْلُهُ مِنْ أَهْلِ الْوَصَايَا بَعْدَ قَوْلِهِ مَنْ سِوَاهُمَا يُنَافِي ذَلِكَ كَمَا تَرَى. فَالْوَجْهُ فِي تَفْسِيرِ ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: أَيْ سِوَى الْمُعْتَقِ وَاَلَّذِي حُوبِيَ لَهُ أَوْ سِوَى أَهْلِ الْعِتْقِ وَالْمُحَابَاةِ. نَعَمْ يُمْكِنُ تَقْدِيرُ الْمُضَافِ فِي تَفْسِيرِ الشَّارِحِينَ الْمَزْبُورِينَ وَهُوَ لَفْظُ الْأَهْلِ أَوْ لَفْظُ الصَّاحِبِ لَكِنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ فِي مَقَامِ التَّفْسِيرِ، إذْ الْمَقْصُودُ مِنْ التَّفْسِيرِ الْكَشْفُ وَالْبَيَانُ لَا الْإِخْفَاءُ وَالتَّعْمِيَةُ، فَبَقِيَتْ السَّمَاجَةُ فِي تَفْسِيرِهَا الْمَذْكُورِ لَا مَحَالَةَ (قَوْلُهُ لَهُمَا فِي الْخِلَافِيَّةِ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي بَيَانِ الْخِلَافِيَّةِ: وَهِيَ الَّتِي قُدِّمَ فِيهَا الْمُحَابَاةُ عَلَى الْعِتْقِ وَتَبِعَهُ الْعَيْنِيُّ. أَقُولُ: هَذَا شَرْحٌ فَاسِدٌ، لِأَنَّ الْخِلَافَ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ فِي كِلْتَا الْمَسْأَلَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ وَهُمَا الَّتِي قُدِّمَ فِيهَا الْمُحَابَاةُ عَلَى الْعِتْقِ وَاَلَّتِي قُدِّمَ فِيهَا الْعِتْقُ عَلَى الْمُحَابَاةِ وَالدَّلِيلُ الْمَذْكُورُ مِنْ قِبَلِهِمَا، وَكَذَا الدَّلِيلُ الْمَذْكُورُ مِنْ قِبَلِهِ يَتَمَشَّيَانِ فِي تَيْنِك الْمَسْأَلَتَيْنِ مَعًا بِلَا كُلْفَةٍ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى ذِي مُسْكَةٍ، فَلَا وَجْهَ لِتَفْسِيرِ الْخِلَافِيَّةِ هُنَا بِمَا يَخُصُّ الْمَسْأَلَةَ الْأُولَى مِنْهُمَا، وَالصَّوَابُ فِي بَيَانِهَا أَنْ يُقَالَ: وَهِيَ الَّتِي اجْتَمَعَ فِيهَا الْعِتْقُ وَالْمُحَابَاةُ سَوَاءٌ قُدِّمَ الْعِتْقُ عَلَى الْمُحَابَاةِ أَوْ قُدِّمَتْ الْمُحَابَاةُ عَلَى الْعِتْقِ (قَوْلُهُ وَلَا مُعْتَبَرَ بِالتَّقْدِيمِ فِي الذِّكْرِ لِأَنَّهُ لَا يُوجِبُ التَّقْدِيمَ فِي الثُّبُوتِ) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ:

ص: 465

لِأَنَّهَا تَثْبُتُ فِي ضِمْنِ عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ فَكَانَ تَبَرُّعًا بِمَعْنَاهُ لَا بِصِيغَتِهِ، وَالْإِعْتَاقُ تَبَرُّعٌ صِيغَةً وَمَعْنًى، فَإِذَا وُجِدَتْ الْمُحَابَاةُ أَوَّلًا دُفِعَ الْأَضْعَفُ، وَإِذَا وُجِدَ الْعِتْقُ أَوَّلًا وَثَبَتَ وَهُوَ لَا يَحْتَمِلُ الدَّفْعَ كَانَ مِنْ ضَرُورَتِهِ الْمُزَاحَمَةُ، وَعَلَى هَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله: إذَا حَابَى ثُمَّ أَعْتَقَ ثُمَّ حَابَى قُسِمَ الثُّلُثُ بَيْنَ الْمُحَابَاتَيْنِ نِصْفَيْنِ لِتَسَاوِيهِمَا، ثُمَّ مَا أَصَابَ الْمُحَابَاةَ الْأَخِيرَةَ قُسِمَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعِتْقِ لِأَنَّ الْعِتْقَ مُقَدَّمٌ عَلَيْهَا فَيَسْتَوِيَانِ، وَلَوْ أَعْتَقَ ثُمَّ حَابَى ثُمَّ أَعْتَقَ قُسِمَ الثُّلُثُ بَيْنَ الْعِتْقِ الْأَوَّلِ وَالْمُحَابَاةِ نِصْفَيْنِ، وَمَا أَصَابَ الْعِتْقَ قُسِمَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعِتْقِ الثَّانِي، وَعِنْدَهُمَا الْعِتْقُ أَوْلَى بِكُلِّ حَالٍ.

أَلَا يُرَى أَنَّهُ إذَا أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِفُلَانٍ وَلِفُلَانٍ وَلِفُلَانٍ كَانَ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا وَصَلَ أَوْ فَصَلَ وَلَا عِبْرَةَ لِلْبُدَاءَةِ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا اهـ، وَهَكَذَا ذَكَرَ فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ نَقْلًا عَنْ الْأَسْرَارِ.

أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: حُكْمُ الْإِيصَاءِ فِي صُورَةِ التَّنْوِيرِ نَازِلٌ وَقْتَ مَوْتِ الْمُوصِي فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ تَمْلِيكٌ مُضَافٌ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ فَكَانَ فِيهَا مَعْنَى التَّعْلِيقِ، وَالْحُكْمُ فِي التَّعْلِيقَاتِ يَنْزِلُ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ وَزَمَانِ تَحَقُّقِ الشَّرْطِ الَّذِي هُوَ الْمَوْتُ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي صُورَةِ التَّنْوِيرِ زَمَانٌ وَاحِدٌ فَلِهَذَا كَانَ الثُّلُثُ الْمُوصَى بِهِ لَهُمْ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا، بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ فَإِنَّ الْعِتْقَ الْمُوقَعَ فِي الْمَرَضِ مُنَجَّزٌ غَيْرُ مُضَافٍ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَكَذَا الْمُحَابَاةُ فِي الْبَيْعِ إذَا وَقَعَتْ فِي الْمَرَضِ وَالْمُنَجَّزُ يُوجِبُ الْحُكْمَ فِي الْحَالِ لَا مَحَالَةَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَثْبُتَ الْحُكْمُ فِي الْمُقَدَّمِ فِي الذِّكْرِ قَبْلَ أَنْ يَثْبُتَ فِي الْمُؤَخَّرِ فَافْتَرَقَتْ الصُّورَتَانِ فَتَأَمَّلْ.

(قَوْلُهُ وَعَلَى هَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: إذَا حَابَى ثُمَّ أَعْتَقَ ثُمَّ حَابَى قُسِمَ الثُّلُثُ بَيْنَ الْمُحَابَاتَيْنِ نِصْفَيْنِ لِتَسَاوِيهِمَا، ثُمَّ مَا أَصَابَ الْمُحَابَاةَ الْأَخِيرَةَ قُسِمَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْعِتْقِ لِأَنَّ الْعِتْقَ مُقَدَّمٌ عَلَيْهَا فَيَسْتَوِيَانِ) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ: فِيهِ بَحْثٌ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: الْمُحَابَاةُ الْأُولَى مُسَاوِيَةٌ لِلْمُحَابَاةِ الثَّانِيَةِ وَالْمُحَابَاةُ الثَّانِيَةُ مُسَاوِيَةٌ لِلْعِتْقِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَيْهَا، فَالْمُحَابَاةُ

ص: 466

قَالَ (وَمَنْ أَوْصَى بِأَنْ يَعْتِقَ عَنْهُ بِهَذِهِ الْمِائَةِ عَبْدٌ فَهَلَكَ مِنْهَا دِرْهَمٌ لَمْ يُعْتَقْ عَنْهُ بِمَا بَقِيَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَإِنْ كَانَتْ وَصِيَّتُهُ بِحَجَّةٍ يَحُجُّ عَنْهُ بِمَا بَقِيَ مِنْ حَيْثُ يَبْلُغُ، وَإِنْ لَمْ يَهْلِكْ مِنْهَا وَبَقِيَ شَيْءٌ مِنْ الْحَجَّةِ يُرَدُّ عَلَى الْوَرَثَةِ. وَقَالَا: يُعْتَقُ عَنْهُ بِمَا بَقِيَ) لِأَنَّهُ وَصِيَّةٌ بِنَوْعِ قُرْبَةٍ فَيَجِبُ تَنْفِيذُهَا مَا أَمْكَنَ اعْتِبَارًا بِالْوَصِيَّةِ بِالْحَجِّ. وَلَهُ أَنَّهُ وَصِيَّةٌ بِالْعِتْقِ لِعَبْدٍ يَشْتَرِي بِمِائَةٍ وَتَنْفِيذُهَا فِيمَنْ يَشْتَرِي بِأَقَلَّ مِنْهُ تَنْفِيذٌ لِغَيْرِ الْمُوصَى لَهُ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ، بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ بِالْحَجِّ لِأَنَّهَا قُرْبَةٌ مَحْضَةٌ وَهِيَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى وَالْمُسْتَحَقُّ لَمْ يَتَبَدَّلْ فَصَارَ كَمَا إذَا أَوْصَى لِرَجُلٍ بِمِائَةٍ فَهَلَكَ بَعْضُهَا يَدْفَعُ الْبَاقِيَ إلَيْهِ، وَقِيلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ بِنَاءً عَلَى أَصْلٍ آخَرَ مُخْتَلَفٍ فِيهِ وَهُوَ أَنَّ الْعِتْقَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَهُمَا حَتَّى تُقْبَلَ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ دَعْوَى فَلَمْ يَتَبَدَّلْ الْمُسْتَحَقُّ، وَعِنْدَهُ حَقُّ الْعَبْدِ حَتَّى لَا تُقْبَلَ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ دَعْوَى، فَاخْتَلَفَ الْمُسْتَحَقُّ وَهَذَا أَشْبَهُ.

قَالَ (وَمَنْ تَرَكَ ابْنَيْنِ وَمِائَةَ دِرْهَمٍ وَعَبْدًا قِيمَتُهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَقَدْ كَانَ أَعْتَقَهُ فِي مَرَضِهِ فَأَجَازَ الْوَارِثَانِ ذَلِكَ لَمْ يَسْعَ فِي شَيْءٍ) لِأَنَّ الْعِتْقَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ وَإِنْ كَانَ فِي حُكْمِ الْوَصِيَّةِ وَقَدْ

الْأُولَى مُسَاوِيَةٌ لِلْعِتْقِ الْمُتَأَخِّرِ عَنْهَا وَهُوَ يُنَاقِضُ الدَّلِيلَ الْمَذْكُورَ مِنْ جَانِبِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. وَأَيْضًا لَوْ حَابَى ثُمَّ حَابَى وَلَمْ يَخْرُجْ مِنْ الثُّلُثِ تَحَاصَّا، وَمَا ذَكَرْتُمْ مِنْ أَنَّ التَّقْدِيمَ يَقْتَضِي التَّرْجِيحَ يَسْتَدْعِي أَنْ يَنْفُذَ الْأُولَى ثُمَّ الثَّانِيَةَ. وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ شَرْطَ الْإِنْتَاجِ أَنْ يَلْزَمَ النَّتِيجَةَ الْقِيَاسُ لِذَاتِهِ، وَقِيَاسُ الْمُسَاوَاةِ لَيْسَ كَذَلِكَ عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ.

وَعَنْ الثَّانِي أَنَّهُ إنَّمَا تَحَاصَّا لِأَنَّ مَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ مِنْ تَبَرُّعَاتِ الْمَرِيضِ يَنْفُذُ ثُمَّ يُنْقَضُ إذَا لَمْ يَخْرُجْ مِنْ الثُّلُثِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ نَفَّذْنَاهُ جَمِيعًا ثُمَّ نَقَضْنَاهُ بَعْدَ الْمَوْتِ وَثَبَتَ لَهُمَا بِحُكْمِ الْوَصِيَّةِ وَهُمَا نَافِذَتَانِ فَاسْتَوَيَا كَذَا فِي النِّهَايَةِ، إلَى هُنَا لَفْظُ الْعِنَايَةِ. أَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ أَنَّ السُّؤَالَ الثَّانِيَ غَيْرُ مُتَّجَهٍ عَلَى كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَصْلًا، إذْ لَمْ يَقُلْ الْمُصَنِّفُ قَطُّ أَنَّ التَّقْدِيمَ مُطْلَقًا يَقْتَضِي التَّرْجِيحَ، بَلْ إنَّمَا قَالَ إنَّ تَقْدِيمَ الْأَقْوَى يَقْتَضِيَ التَّرْجِيحَ كَمَا فِي تَقْدِيمِ الْمُحَابَاةِ عَلَى الْإِعْتَاقِ لِكَوْنِ الْمُقَدَّمِ إذَا ذَاكَ دَافِعًا لِلْأَضْعَفِ الْمُؤَخَّرِ، وَأَمَّا تَقْدِيمُ غَيْرِ الْأَقْوَى فَلَا يَقْتَضِي التَّرْجِيحَ لِعَدَمِ احْتِمَالِهِ دَفْعَ الْمُؤَخَّرِ الْأَقْوَى كَمَا فِي تَقْدِيمِ الْعِتْقِ عَلَى الْمُحَابَاةِ، وَلَا دَفْعَ الْمُؤَخَّرِ الْمُسَاوِي كَمَا فِي تَقْدِيمِ إحْدَى الْمُحَابَاتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى عَلَى مَا هُوَ الْمَذْكُورُ فِي السُّؤَالِ الثَّانِي فَلَا اتِّجَاهَ لَهُ أَصْلًا عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ.

وَالثَّانِي أَنَّ الْجَوَابَ الْمَذْكُورَ عَنْ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ لَيْسَ بِسَدِيدٍ، لِأَنَّ لُزُومَ النَّتِيجَةِ الْقِيَاسُ لِذَاتِهِ إنَّمَا هُوَ شَرْطُ الْإِنْتَاجِ مُطْلَقًا لَا شَرْطُ الْإِنْتَاجِ فِي الْجُمْلَةِ، فَإِنَّهُمْ مُصَرِّحُونَ فِي عِلْمِ الْمِيزَانِ بِأَنَّ قِيَاسَ الْمُسَاوَاةِ وَإِنْ لَمْ يَسْتَلْزِمْ النَّتِيجَةَ لِذَاتِهِ إلَّا أَنَّهُ يَسْتَلْزِمُهَا بِوَاسِطَةِ مُقَدِّمَةٍ غَرِيبَةٍ إذَا صَدَقَتْ تِلْكَ الْمُقَدِّمَةُ كَمَا فِي قَوْلِنَا امساولب وب مساولج فَإِنَّهُ يُنْتِجُ، وَيَسْتَلْزِمُ امساولج بِوَاسِطَةِ مُقَدِّمَةٍ غَرِيبَةٍ صَادِقَةٍ وَهِيَ أَنَّ

ص: 467

وَقَعَتْ بِأَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ إلَّا أَنَّهَا تَجُوزُ بِإِجَازَةِ الْوَرَثَةِ، لِأَنَّ الِامْتِنَاعَ لَحِقَهُمْ وَقَدْ أَسْقَطُوهُ.

قَالَ (وَمَنْ أَوْصَى بِعِتْقِ عَبْدِهِ ثُمَّ مَاتَ فَجَنَى جِنَايَةً وَدَفَعَ بِهَا بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ) لِأَنَّ الدَّفْعَ قَدْ صَحَّ لِمَا أَنَّ حَقَّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الْمُوصِي، فَكَذَلِكَ عَلَى حَقِّ الْمُوصَى لَهُ لِأَنَّهُ يَتَلَقَّى الْمِلْكَ مِنْ جِهَتِهِ إلَّا أَنَّ مِلْكَهُ فِيهِ بَاقٍ، وَإِنَّمَا يَزُولُ بِالدَّفْعِ فَإِذَا خَرَجَ بِهِ عَنْ مِلْكِهِ بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ كَمَا إذَا بَاعَهُ الْمُوصِي أَوْ وَارِثُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَإِنْ فَدَاهُ الْوَرَثَةُ كَانَ الْفِدَاءُ فِي مَالِهِمْ لِأَنَّهُمْ هُمْ الَّذِينَ الْتَزَمُوهُ، وَجَازَتْ الْوَصِيَّةُ لِأَنَّ الْعَبْدَ طَهُرَ عَنْ الْجِنَايَةِ بِالْفِدَاءِ كَأَنَّهُ لَمْ يَجْنِ فَتَنْفُذُ الْوَصِيَّةُ.

قَالَ (وَمَنْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِآخَرَ فَأَقَرَّ الْمُوصَى لَهُ وَالْوَارِثُ أَنَّ الْمَيِّتَ أَعْتَقَ هَذَا الْعَبْدَ فَقَالَ الْمُوصَى لَهُ أَعْتَقَهُ فِي الصِّحَّةِ وَقَالَ الْوَارِثُ أَعْتَقَهُ فِي الْمَرَضِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَارِثِ، وَلَا شَيْءَ لِلْمُوصَى لَهُ إلَّا أَنْ يَفْضُلَ مِنْ الثُّلُثِ شَيْءٌ أَوْ تَقُومَ لَهُ الْبَيِّنَةُ أَنَّ الْعِتْقَ فِي الصِّحَّةِ) لِأَنَّ الْمُوصَى لَهُ يَدَّعِي اسْتِحْقَاقَ ثُلُثِ مَا بَقِيَ مِنْ التَّرِكَةِ بَعْدَ الْعِتْقِ لِأَنَّ الْعِتْقَ فِي الصِّحَّةِ لَيْسَ بِوَصِيَّةٍ وَلِهَذَا يَنْفُذُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ، وَالْوَارِثُ يُنْكِرُ لِأَنَّ مُدَّعَاهُ الْعِتْقُ فِي الْمَرَضِ وَهُوَ وَصِيَّةٌ، وَالْعِتْقُ فِي الْمَرَضِ مُقَدَّمٌ عَلَى الْوَصِيَّةِ بِثُلُثِ الْمَالِ فَكَانَ مُنْكِرًا، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ مَعَ الْيَمِينِ، وَلِأَنَّ الْعِتْقَ حَادِثٌ وَالْحَوَادِثُ تُضَافُ إلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ لِلتَّيَقُّنِ بِهَا فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لِلْوَارِثِ فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ الْيَمِينِ، إلَّا أَنْ يَفْضُلَ شَيْءٌ مِنْ الثُّلُثِ عَلَى قِيمَةِ الْعَبْدِ لِأَنَّهُ لَا مُزَاحِمَ لَهُ فِيهِ أَوْ تَقُومَ لَهُ الْبَيِّنَةُ أَنَّ الْعِتْقَ فِي الصِّحَّةِ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ مُعَايَنَةً وَهُوَ خَصْمٌ فِي إقَامَتِهَا لِإِثْبَاتِ حَقِّهِ.

قَالَ (وَمَنْ تَرَكَ عَبْدًا فَقَالَ لِلْوَارِثِ أَعْتَقَنِي أَبُوك فِي الصِّحَّةِ وَقَالَ رَجُلٌ لِي عَلَى أَبِيك أَلْفُ دِرْهَمٍ فَقَالَ صَدَقْتُمَا فَإِنَّ الْعَبْدَ يَسْعَى فِي قِيمَتِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ)، وَقَالَا: يَعْتِقُ وَلَا يَسْعَى فِي شَيْءٍ لِأَنَّ الدَّيْنَ وَالْعِتْقَ فِي الصِّحَّةِ ظَهَرَا مَعًا بِتَصْدِيقِ الْوَارِثِ فِي كَلَامٍ وَاحِدٍ فَصَارَا كَأَنَّهُمَا كَانَا مَعًا، وَالْعِتْقُ فِي الصِّحَّةِ لَا يُوجِبُ السِّعَايَةَ وَإِنْ كَانَ عَلَى الْمُعْتِقِ دَيْنٌ.

كُلَّ مُسَاوِي الْمُسَاوَى مُسَاوٍ، وَالسُّؤَالُ الْأَوَّلُ بِمِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ فَلَا يَدْفَعُهُ عَدَمُ اسْتِلْزَامِهِ النَّتِيجَةَ لِذَاتِهِ كَمَا لَا يَخْفَى. وَالثَّالِثُ أَنَّ الْجَوَابَ الْمَذْكُورَ عَنْ السُّؤَالِ الثَّانِي مِمَّا لَا حَاصِلَ لَهُ فَإِنَّهُ إنْ أُرِيدَ أَنَّ بِتَنْفِيذِ الْمُحَابَاتَيْنِ جَمِيعًا ثُمَّ بِنَقْضِهِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ يَرْتَفِعُ تَقَدُّمُ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَذَلِكَ أَمْرٌ لَا يُسَاعِدُهُ الْعَقْلُ، وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ أَنَّ التَّقَدُّمَ وَالتَّأَخُّرَ بَيْنَهُمَا بَاقِيَانِ وَلَكِنْ لَا تَأْثِيرَ لَهُمَا فِي تَرْجِيحِ الْمُقَدَّمِ عَلَى الْمُؤَخَّرِ فِي هَاتِيك الصُّورَةِ فَذَلِكَ لَا يَدْفَعُ ذَلِكَ السُّؤَالَ الْمَبْنِيَّ عَلَى كَوْنِ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ أَنَّ التَّقْدِيمَ يَقْتَضِي التَّرْجِيحَ مُطْلَقًا.

فَالصَّوَابُ فِي رَدِّ السُّؤَالِ الثَّانِي مَا نَبَّهْنَا عَلَيْهِ آنِفًا مِنْ أَنَّ الَّذِي ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ أَنَّ تَقْدِيمَ الْأَقْوَى يَقْتَضِي التَّرْجِيحَ، لَا أَنَّ التَّقْدِيمَ

ص: 468

وَلَهُ أَنَّ الْإِقْرَارَ بِالدَّيْنِ أَقْوَى لِأَنَّهُ يُعْتَبَرُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ، وَالْإِقْرَارُ بِالْعِتْقِ فِي الْمَرَضِ يُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ، وَالْأَقْوَى يَدْفَعُ الْأَدْنَى، فَقَضِيَّتُهُ أَنْ يَبْطُلَ الْعِتْقُ أَصْلًا إلَّا أَنَّهُ بَعْدَ وُقُوعِهِ لَا يَحْتَمِلُ الْبُطْلَانَ فَيُدْفَعُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى بِإِيجَابِ السِّعَايَةِ، وَلِأَنَّ الدَّيْنَ أَسْبَقُ لِأَنَّهُ لَا مَانِعَ لَهُ مِنْ الِاسْتِنَادِ فَيَسْتَنِدُ إلَى حَالَةِ الصِّحَّة، وَلَا يُمْكِنُ إسْنَادُ الْعِتْقِ إلَى تِلْكَ الْحَالَةِ لِأَنَّ الدَّيْنَ يَمْنَعُ الْعِتْقَ فِي حَالَةِ الْمَرَضِ مَجَّانًا فَتَجِبُ السِّعَايَةُ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافُ إذَا مَاتَ الرَّجُلُ وَتَرَكَ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَقَالَ رَجُلٌ لِي عَلَى الْمَيِّتِ أَلْفُ دِرْهَمٍ دَيْنٌ وَقَالَ الْآخَرُ كَانَ لِي عِنْدَهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَدِيعَةً فَعِنْدَهُ الْوَدِيعَةُ أَقْوَى وَعِنْدَهُمَا سَوَاءٌ. (فَصْلٌ)

مُطْلَقًا يَقْتَضِي ذَلِكَ فَلَا اتِّجَاهَ لِذَلِكَ السُّؤَالِ. وَفِي دَفْعِ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ نَقْلًا عَنْ الْفَوَائِدِ الْحُمَيْدِيَّةِ حَيْثُ قَالَ: فَإِنْ قِيلَ: يَنْبَغِي أَنْ يُقْسَمَ الثُّلُثُ بَيْنَ الْكُلِّ أَثْلَاثًا لِأَنَّ الْمُحَابَاةَ الثَّانِيَةَ مُسَاوِيَةٌ لِلْأُولَى وَالْعِتْقَ مُسَاوٍ لِلْمُحَابَاةِ الثَّانِيَةِ فَكَانَ مُسَاوِيًا لِلْأُولَى لِأَنَّ الْمُسَاوِيَ لِلْمُسَاوَى مُسَاوٍ. قُلْنَا: الْعِتْقُ مُسَاوٍ لِلثَّانِيَةِ بِمَعْنًى يَخُصُّهُ وَهُوَ تَقَدُّمُهُ عَلَيْهَا فَلَا يُسَاوِي الْأُولَى، وَبِهَذَا خَرَجَ الْجَوَابُ عَنْ إشْكَالٍ آخَرَ. وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: الْمُحَابَاةُ الْأُولَى تَرَجَّحَتْ عَلَى الْعِتْقِ وَالثَّانِيَةُ مُسَاوِيَةٌ لِلْأُولَى فَيَنْبَغِي أَنْ تَتَرَجَّحَ عَلَى الْعِتْقِ كَالْأُولَى لِأَنَّ الْمُسَاوِيَ لِلرَّاجِحِ رَاجِحٌ، لِمَا مَرَّ أَنَّ رُجْحَانَ الْأُولَى بِمَعْنًى يَخُصُّهَا وَهُوَ تَقَدُّمُهَا عَلَيْهِ، وَكَذَا لَوْ قَالَ: يَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ لِلْمُحَابَاةِ الثَّانِيَةِ شَيْءٌ لِأَنَّهَا مُسَاوِيَةٌ لِلْعِتْقِ وَالْعِتْقُ مَرْجُوحٌ وَالْمُسَاوِي لِلْمَرْجُوحِ مَرْجُوحٌ، كَذَا فِي الْفَوَائِدِ الْحُمَيْدِيَّةِ اهـ فَتَأَمَّلْ.

(فَصْلٌ) تَرْجَمَ هَذَا الْفَصْلَ فِي مُخْتَصَرِ الْكَرْخِيِّ بِبَابِ الْوَصَايَا إذَا ضَاقَ عَنْهَا الثُّلُثُ، كَذَا فِي غَايَةِ الْبَيَانِ. وَقَدَّمَ الْمُصَنِّفُ بَابَ الْعِتْقِ فِي الْمَرَضِ عَلَى هَذَا الْفَصْلِ لِقُوَّةِ الْعِتْقِ فِي الْمَرَضِ لِأَنَّهُ لَا يَلْحَقُهُ الْفَسْخُ بِخِلَافِ مَسَائِلِ هَذَا الْفَصْلِ، كَذَا فِي عَامَّةِ الشُّرُوحِ

ص: 469

قَالَ (وَمَنْ أَوْصَى بِوَصَايَا مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى قُدِّمَتْ الْفَرَائِضُ مِنْهَا قَدَّمَهَا الْمُوصِي أَوْ أَخَّرَهَا مِثْلَ الْحَجِّ وَالزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَاتِ) لِأَنَّ الْفَرِيضَةَ أَهَمُّ مِنْ النَّافِلَةِ، وَالظَّاهِرُ مِنْهُ الْبُدَاءَةُ بِمَا هُوَ الْأَهَمُّ (فَإِنْ تَسَاوَتْ فِي الْقُوَّةِ بُدِئَ بِمَا قَدَّمَهُ الْمُوصِي إذَا ضَاقَ عَنْهَا الثُّلُثُ) لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ يَبْتَدِئُ بِالْأَهَمِّ. وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ يَبْتَدِئُ بِالزَّكَاةِ وَيُقَدِّمُهَا عَلَى الْحَجِّ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ أَنَّهُ يُقَدِّمُ الْحَجَّ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ.

قَوْلُهُ وَمَنْ أَوْصَى بِوَصَايَا مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى قُدِّمَتْ الْفَرَائِضُ مِنْهَا قَدَّمَهَا الْمُوصِي أَوْ أَخَّرَهَا) أَقُولُ: يُشْكِلُ إطْلَاقُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِالْعِتْقِ الْمُوقَعِ فِي الْمَرَضِ وَالْعِتْقِ الْمُعَلَّقِ بِمَوْتِ الْمُوصِي عَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، فَإِنَّ الْعِتْقَ عِنْدَهُمَا مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى تُقْبَلَ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ عِنْدَهُمَا مِنْ غَيْرِ دَعْوَى كَمَا تَقَرَّرَ فِي مَحَلِّهِ وَمَرَّ فِي الْبَابِ السَّابِقِ أَيْضًا مَعَ أَنَّهُ يُقَدَّمُ عَلَى الْفَرَائِضِ مِنْهَا بِالِاتِّفَاقِ وَإِنْ كَانَ نَفْسُهُ مِنْ التَّطَوُّعَاتِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي عَامَّةِ الْمُعْتَبَرَاتِ وَذَكَرَ فِي النِّهَايَةِ وَغَايَةِ الْبَيَانِ أَيْضًا نَقْلًا عَنْ شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ فَتَأَمَّلْ.

(قَوْلُهُ لِأَنَّ الْفَرِيضَةَ أَهَمُّ مِنْ النَّافِلَةِ، وَالظَّاهِرُ مِنْهُ الْبُدَاءَةُ بِمَا هُوَ الْأَهَمُّ) أَقُولُ: يَرُدُّ عَلَى ظَاهِرِ هَذَا التَّعْلِيلِ أَنَّهُ يُنَافِي قَوْلَهُ فِي وَضْعِ الْمَسْأَلَةِ قَدَّمَهَا الْمُوصِي أَوْ أَخَّرَهَا إذْ عَلَى تَقْدِيرِ إنْ أَخَّرَ الْفَرَائِضَ تَكُونُ بُدَاءَتُهُ بِالنَّافِلَةِ لَا مَحَالَةَ فَلَا يَقَعُ مِنْهُ الْبُدَاءَةُ هُنَاكَ بِالْأَهَمِّ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ الْأَهَمَّ هُوَ الْفَرَائِضُ فَكَيْفَ يَتَمَشَّى هُنَاكَ أَنْ يُقَالَ الظَّاهِرُ مِنْهُ الْبُدَاءَةُ بِمَا هُوَ الْأَهَمُّ. وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْبُدَاءَةِ فِي قَوْلِهِ وَالظَّاهِرُ مِنْهُ الْبُدَاءَةُ بِمَا هُوَ الْأَهَمُّ هُوَ الْبُدَاءَةُ فِي الْإِعْطَاءِ وَالتَّمْلِيكِ لَا الْبُدَاءَةُ فِي الذِّكْرِ وَالتَّلَفُّظِ؛ فَالْمَعْنَى أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِ الْمُوصِي الْبُدَاءَةُ فِي الْإِعْطَاءِ وَالتَّمْلِيكِ بِمَا هُوَ الْأَهَمُّ فِي الشَّرْعِ وَإِنْ أَخَّرَهُ فِي الذِّكْرِ وَالتَّلَفُّظِ. وَوَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْبُدَاءَةِ الْمَذْكُورَةِ بُدَاءَةَ مَنْ يُنَفِّذُ وَصَايَاهُ وَيُؤَدِّيهَا إلَى مَحَلِّهَا مِنْ الْوَصِيِّ وَالْقَاضِي وَنَحْوِهِمَا لَا بُدَاءَةَ نَفْسِهِ. فَالْمَعْنَى أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِ الْمُوصِي أَنْ يَقْصِدَ بُدَاءَةَ مَنْ يُنَفِّذُ وَصَايَاهُ وَيَصْرِفُهَا إلَى مَحَلِّهَا بِمَا هُوَ الْأَهَمُّ فِي الشَّرْعِ مِنْ بَيْنِ مَا ذَكَرَهُ نَفْسَهُ.

(قَوْلُهُ فَإِنْ تَسَاوَتْ فِي الْقُوَّةِ بُدِئَ بِمَا قَدَّمَهُ الْمُوصِي إذَا ضَاقَ عَنْهَا الثُّلُثُ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ يَبْتَدِئُ بِالْأَهَمِّ) يَعْنِي إنْ تَسَاوَتْ الْوَصَايَا الَّتِي مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْقُوَّةِ بِأَنْ كَانَ كُلُّهَا فَرَائِضَ أَوْ وَاجِبَاتٍ أَوْ نَوَافِلَ بُدِئَ بِمَا قَدَّمَهُ الْمُوصِي إذَا ضَاقَ عَنْهَا الثُّلُثُ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِ

ص: 470

وَجْهُ الْأُولَى أَنَّهُمَا وَإِنْ اسْتَوَيَا فِي الْفَرِيضَةِ فَالزَّكَاةُ تَعَلَّقَ بِهَا حَقُّ الْعِبَادِ فَكَانَ أَوْلَى. وَجْهُ الْأُخْرَى أَنَّ الْحَجَّ يُقَامُ بِالْمَالِ وَالنَّفْسِ وَالزَّكَاةُ بِالْمَالِ قَصْرًا عَلَيْهِ فَكَانَ الْحَجُّ أَقْوَى، ثُمَّ تُقَدَّمُ الزَّكَاةُ وَالْحَجُّ عَلَى الْكَفَّارَاتِ لِمَزِيَّتِهِمَا عَلَيْهَا فِي الْقُوَّةِ، إذْ قَدْ جَاءَ فِيهِمَا مِنْ الْوَعِيدِ مَا لَمْ يَأْتِ فِي الْكَفَّارَاتِ، وَالْكَفَّارَةُ فِي الْقَتْلِ وَالظِّهَارِ وَالْيَمِينُ مُقَدَّمَةٌ عَلَى

الْإِنْسَانِ أَنْ يَبْتَدِئَ بِالْأَهَمِّ. أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: فِي تَمَامِ التَّعْلِيلِ نَظَرٌ، إذْ الظَّاهِرُ أَنَّ الْأَهَمَّ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى مَا هُوَ الْأَقْوَى مِنْهَا، وَالْمَفْرُوضُ فِي وَضْعِ مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ تَسَاوِي تِلْكَ الْحُقُوقِ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَهَمِّيَّةُ بَعْضِهَا مِنْ بَعْضٍ، وَإِنْ وُجِدَ التَّفَاوُتُ بَيْنَهَا فِي الْقُوَّةِ مِنْ جِهَةِ بُعْدِ تَسَاوِيهَا فِي الْقُوَّةِ مِنْ جِهَةِ الْفَرِيضَةِ أَوْ الْوُجُوبِ أَوْ التَّنَفُّلِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَهَمُّهَا مَا هُوَ أَقْوَاهَا فِي اعْتِبَارِ الشَّرْعِ دُونَ اعْتِبَارِ الْمُوصِي، فَإِنْ أُرِيدَ بِالْأَهَمِّ فِي قَوْلِهِ لِأَنَّهُ الظَّاهِرُ أَنَّهُ يَبْتَدِئُ بِالْأَهَمِّ مَا هُوَ الْأَهَمُّ: أَيْ الْأَقْوَى فِي اعْتِبَارِ الشَّرْعِ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الظَّاهِرَ أَنْ يَبْتَدِئَ بِهِ، إذْ لَا يَهْتَدِي كُلُّ أَحَدٍ إلَى مَعْرِفَةِ مَا هُوَ الْأَقْوَى فِي اعْتِبَارِ الشَّرْعِ مِنْ بَيْنِ الْفَرَائِضِ أَوْ الْوَاجِبَاتِ أَوْ النَّوَافِلِ فَكَيْفَ يُجْعَلُ ابْتِدَاؤُهُ بِشَيْءٍ مِنْهَا دَلِيلًا عَلَى كَوْنِهِ أَقْوَى مِنْ غَيْرِهِ فِي اعْتِبَارِ الشَّرْعِ، وَإِنْ أُرِيدَ بِالْأَهَمِّ فِي ذَلِكَ مَا هُوَ الْأَهَمُّ عِنْدَ الْمُبْتَدِئِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْكَافِي حَيْثُ قَالَ: لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِ الْإِنْسَانِ أَنْ يَبْدَأَ بِمَا هُوَ الْأَهَمُّ عِنْدَهُ فَيَكُونُ الظَّاهِرُ أَنْ يَبْتَدِئَ بِهِ فَمُسَلَّمٌ، لَكِنَّ كَوْنَ مِثْلِ هَذَا الظَّاهِرِ مُوجِبًا لِلْبُدَاءَةِ فِي التَّنْفِيذِ وَالْأَدَاءِ بِمَا قَدَّمَهُ الْمُوصِي فِي الذِّكْرِ مَعَ الْعِلْمِ بِكَوْنِ مَا أَخَّرَهُ أَهَمَّ فِي اعْتِبَارِ الشَّرْعِ غَيْرُ وَاضِحٍ، فَإِنَّ كَوْنَ الظَّاهِرِ مِنْ حَالِ الْإِنْسَانِ أَنْ يَبْدَأَ بِمَا هُوَ الْأَهَمُّ عِنْدَهُ مُتَحَقِّقٌ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ هُنَا أَيْضًا مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ بِهِ هُنَاكَ بَلْ عَمِلَ هُنَاكَ بِمَا هُوَ الْأَهَمُّ عِنْدَ الشَّرْعِ حَيْثُ قُدِّمَتْ الْفَرَائِضُ سَوَاءٌ قَدَّمَهَا الْمُوصِي أَوْ أَخَّرَهَا فَلْيَتَدَبَّرْ فِي الدَّفْعِ.

ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ الْعِنَايَةِ قَصَدَ تَفْصِيلَ الْمَسَائِلِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَذَا الْمَقَامِ وَضَبَطَهَا فَقَالَ: ثُمَّ الْوَصَايَا إمَّا أَنْ تَكُونَ كُلُّهَا لِلَّهِ تَعَالَى أَوْ كُلُّهَا لِلْعِبَادِ أَوْ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا، فَمَا لِلْعِبَادِ خَاصَّةً تُقَدَّمَ ذِكْرُهَا، وَمَا لِلَّهِ تَعَالَى إمَّا أَنْ يَكُونَ كُلُّهُ فَرَائِضَ كَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ، أَوْ وَاجِبَاتٍ كَالْكَفَّارَاتِ وَالنُّذُورِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ، أَوْ كُلُّهُ تَطَوُّعًا كَالْحَجِّ التَّطَوُّعِ وَالصَّدَقَةِ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَمَا أَشْبَهَهَا، أَوْ يَجْمَعَ بَيْنَ هَذِهِ الْوَصَايَا كُلِّهَا، فَإِنْ جَمَعَ بَيْنَهَا وَالثُّلُثُ يَحْتَمِلُ جَمِيعَ ذَلِكَ تَنْفُذُ وَصَايَاهُ كُلُّهَا مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ لَمْ يَحْتَمِلْ ذَلِكَ وَلَكِنْ أَجَازَهُ الْوَرَثَةُ، وَإِنْ لَمْ يُجِيزُوهَا فَإِنْ كَانَ كُلُّهَا لِلَّهِ وَهِيَ فَرَائِضُ كُلُّهَا أَوْ وَاجِبَاتٌ كُلُّهَا أَوْ تَطَوُّعٌ يَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ بِهِ الْمَيِّتُ، وَإِنْ اخْتَلَطَتْ يَبْدَأُ بِالْفَرَائِضِ قَدَّمَهَا الْمُوصِي أَوْ أَخَّرَهَا، مِثْلُ الْحَجِّ وَالزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَاتِ، لِأَنَّ الْفَرِيضَةَ أَهَمُّ مِنْ النَّافِلَةِ وَالظَّاهِرُ مِنْهُ الْبُدَاءَةُ بِمَا هُوَ الْأَهَمُّ اهـ كَلَامُهُ.

أَقُولُ: فِي تَقْرِيرِهِ خَلَلٌ، لِأَنَّ ضَمِيرَ الْمَفْعُولِ فِي قَوْلِهِ وَإِنْ لَمْ يُجِيزُوهَا إمَّا أَنْ يَرْجِعَ إلَى الْوَصَايَا الْجَامِعَةِ بَيْنَ الْفَرَائِضِ وَالْوَاجِبَاتِ وَالنَّوَافِلِ، أَوْ يَرْجِعَ إلَى مُطْلَقِ الْوَصَايَا جَامِعَةً كَانَتْ بَيْنَهَا أَوْ غَيْرَ جَامِعَةٍ، فَإِنْ رَجَعَ إلَى الْأُولَى كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ سِيَاقِ كَلَامِهِ حَيْثُ قَالَ: فَإِنْ جَمَعَ بَيْنَهَا فَسَاقَ كَلَامَهُ إلَخْ يَلْزَمُ أَنْ لَا يَصِحَّ قَوْلُهُ فَإِنْ كَانَ كُلُّهَا لِلَّهِ وَهِيَ فَرَائِضُ أَوْ وَاجِبَاتٌ كُلُّهَا أَوْ تَطَوُّعٌ يَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ بِهِ، لِأَنَّ الْوَصَايَا الَّتِي كُلُّهَا فَرَائِضُ وَاَلَّتِي كُلُّهَا وَاجِبَاتٌ وَاَلَّتِي كُلُّهَا تَطَوُّعٌ قَسِيمَاتٌ لِلْوَصَايَا الْجَامِعَةِ بَيْنَهَا كَمَا ذَكَرَهُ مِنْ قَبْلُ، فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ تَجْعَلَ هُنَا قِسْمًا مِنْهَا، وَإِنْ رَجَعَ إلَى الثَّانِيَةِ فَمَعَ كَوْنِهِ مِمَّا يَأْبَاهُ سِيَاقُ كَلَامِهِ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ كَثِيرٌ مِنْ الْأَقْسَامِ مَعَ أَحْكَامِهَا مُهْمَلًا مَتْرُوكًا فِي مَقَامِ التَّفْصِيلِ، وَذَلِكَ مِثْلُ أَنْ تَكُونَ الْوَصَايَا كُلُّهَا فَرَائِضَ أَوْ وَاجِبَاتٍ أَوْ نَوَافِلَ وَالثُّلُثُ يَحْتَمِلُ الْكُلَّ أَوْ لَا يَحْتَمِلُ ذَلِكَ.

وَلَكِنْ أَجَازَهُ الْوَرَثَةُ، فَإِنَّ كُلًّا مِنْهَا قَدْ خَرَجَ بِقَوْلِهِ فِيمَا قَبْلُ، فَإِنْ جَمَعَ بَيْنَهَا وَلَمْ يَذْكُرْ فِيمَا بَعْدُ أَصْلًا فَيَفُوتُ الْمَقْصُودُ مِنْ الْبَسْطِ وَالْبَيَانِ وَهُوَ الضَّبْطُ وَالْجَمْعُ، ثُمَّ إنَّ الشَّارِحَ الْمَذْكُورَ إنَّمَا وَقَعَ فِيمَا وَقَعَ بِزِيَادَةِ قَوْلِهِ فَإِنْ جَمَعَ بَيْنَهَا بَعْدَ قَوْلِهِ أَوْ يَجْمَعُ بَيْنَ هَذِهِ الْوَصَايَا كُلِّهَا، وَلَوْ سَلَكَ فِي التَّقْرِيرِ مَسْلَكَ غَيْرِهِ مِنْ شُرَّاحِ هَذَا الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ فَقَالَ بَعْدَ قَوْلِهِ أَوْ يَجْمَعُ بَيْنَ هَذِهِ الْوَصَايَا كُلِّهَا فَإِنْ كَانَ ثُلُثُ مَالِهِ يَحْتَمِلُ جَمِيعَ ذَلِكَ وَسَاقَ كَلَامَهُ إلَخْ لَسَلِمَ عَنْ

ص: 471

صَدَقَةِ الْفِطْرِ لِأَنَّهُ عُرِفَ وُجُوبُهَا دُونَ صَدَقَةِ الْفِطْرِ، وَصَدَقَةُ الْفِطْرِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْأُضْحِيَّةِ لِلِاتِّفَاقِ عَلَى وُجُوبِهَا بِالْقُرْآنِ وَالِاخْتِلَافِ فِي الْأُضْحِيَّةَ، وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ يُقَدَّمُ بَعْضُ الْوَاجِبَاتِ عَلَى الْبَعْضِ.

قَالَ (وَمَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ قُدِّمَ مِنْهُ مَا قَدَّمَهُ الْمُوصِي) لِمَا بَيَّنَّا وَصَارَ كَمَا إذَا صَرَّحَ بِذَلِكَ. قَالُوا: إنَّ الثُّلُثَ يُقْسَمُ عَلَى جَمِيعِ الْوَصَايَا مَا كَانَ لِلَّهِ تَعَالَى وَمَا كَانَ لِلْعَبْدِ، فَمَا أَصَابَ الْقُرَبَ صُرِفَ إلَيْهَا عَلَى التَّرْتِيبِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ وَيُقْسَمُ عَلَى عَدَدِ الْقُرَبِ وَلَا يُجْعَلُ الْجَمِيعُ كَوَصِيَّةٍ وَاحِدَةٍ، لِأَنَّهُ إنْ كَانَ الْمَقْصُودُ بِجَمِيعِهَا رِضًا لِلَّهِ تَعَالَى فَكُلُّ وَاحِدَةٍ فِي نَفْسِهَا مَقْصُودٌ فَتَنْفَرِدُ كَمَا تَنْفَرِدُ وَصَايَا الْآدَمِيِّينَ. قَالَ (وَمَنْ أَوْصَى بِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ أَحَجُّوا عَنْهُ رَجُلًا مِنْ بَلَدِهِ يَحُجُّ رَاكِبًا) لِأَنَّ الْوَاجِبَ لِلَّهِ تَعَالَى الْحَجُّ مِنْ بَلَدِهِ وَلِهَذَا يُعْتَبَرُ فِيهِ مِنْ الْمَالِ مَا يَكْفِيهِ مِنْ بَلَدِهِ وَالْوَصِيَّةُ لِأَدَاءِ مَا هُوَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا قَالَ رَاكِبًا لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَحُجَّ مَاشِيًا فَانْصَرَفَ إلَيْهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي وَجَبَ عَلَيْهِ. قَالَ (فَإِنْ لَمْ تَبْلُغْ الْوَصِيَّةُ النَّفَقَةَ أَحَجُّوا عَنْهُ حَيْثُ تَبْلُغُ) وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَحُجُّ عَنْهُ، لِأَنَّهُ أَمَرَ بِالْحَجَّةِ عَلَى صِفَةٍ عَدِمْنَاهَا فِيهِ، غَيْرَ أَنَّا جَوَّزْنَاهُ لِأَنَّا نَعْلَمُ أَنَّ الْمُوصِيَ قَصَدَ تَنْفِيذَ الْوَصِيَّةِ فَيَجِبُ تَنْفِيذُهَا مَا أَمْكَنَ وَالْمُمْكِنُ فِيهِ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَهُوَ أَوْلَى مِنْ إبْطَالِهَا رَأْسًا، وَقَدْ فَرَّقْنَا بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْوَصِيَّةِ بِالْعِتْقِ مِنْ قَبْلُ.

قَالَ (وَمَنْ خَرَجَ مِنْ بَلَدِهِ حَاجًّا فَمَاتَ

جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا فِي بَيَانِ الْخَلَلِ تَأَمَّلْ تَقِفْ.

(قَوْلُهُ وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ يُقَدَّمُ بَعْضُ الْوَاجِبَاتِ عَلَى الْبَعْضِ) قَالَ الشُّرَّاحُ: فَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يُقَدَّمَ صَدَقَةُ الْفِطْرِ عَلَى النُّذُورِ لِكَوْنِهَا وَاجِبَةً بِإِيجَابِ الشَّرْعِ وَكَوْنِ النُّذُورِ وَاجِبَةً بِإِيجَابِ الْعَبْدِ اهـ. أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يُعَارِضَ وَيَقُولَ عُرِفَ وُجُوبُ النُّذُورِ بِالْقُرْآنِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} وَعُرِفَ وُجُوبُ صَدَقَةِ الْفِطْرِ بِالسُّنَّةِ فَيَنْبَغِي أَنْ تُقَدَّمَ النُّذُورُ عَلَى صَدَقَةِ الْفِطْرِ بِنَاءً عَلَى ذَلِكَ كَمَا قُدِّمَ الْكَفَّارَةُ فِي الْقَتْلِ وَالظِّهَارِ وَالْيَمِينِ عَلَيْهَا لِذَلِكَ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ

(قَوْلُهُ قَالُوا: إنَّ الثُّلُثَ يُقْسَمُ عَلَى جَمِيعِ الْوَصَايَا مَا كَانَ لِلَّهِ تَعَالَى وَمَا كَانَ لِلْعَبْدِ إلَخْ) وَفِي غَايَةِ الْبَيَانِ: قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ فِي شَرْحِ الْكَافِي:

ص: 472

فِي الطَّرِيقِ وَأَوْصَى أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ يَحُجُّ عَنْهُ مِنْ بَلَدِهِ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ. يَحُجُّ عَنْهُ مِنْ حَيْثُ بَلَغَ اسْتِحْسَانًا، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا مَاتَ الْحَاجُّ عَنْ غَيْرِهِ فِي الطَّرِيقِ. لَهُمَا أَنَّ السَّفَرَ بِنِيَّةِ الْحَجِّ وَقَعَ قُرْبَةً وَسَقَطَ فَرْضُ قَطْعِ الْمَسَافَةِ بِقَدْرِهِ وَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ فَيَبْتَدِئُ مِنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ كَأَنَّهُ مِنْ أَهْلِهِ، بِخِلَافِ سَفَرِ التِّجَارَةِ لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ قُرْبَةً فَيَحُجُّ عَنْهُ مِنْ بَلَدِهِ. وَلَهُ أَنَّ الْوَصِيَّةَ تَنْصَرِفُ إلَى الْحَجِّ مِنْ بَلَدِهِ عَلَى مَا قَرَرْنَاهُ أَدَاءً لِلْوَاجِبِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي وَجَبَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

فَإِنْ قِيلَ: إذَا كَانَتْ الْوَصِيَّةُ بِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ فَيَنْبَغِي أَنْ تُقَدَّمَ عَلَى الْوَصِيَّةِ لِإِنْسَانٍ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِفَرْضٍ وَالْحَجُّ فَرِيضَةٌ. قُلْنَا: هَذَا إذَا اتَّحَدَ الْمُسْتَحَقُّ، فَأَمَّا عِنْدَ اخْتِلَافِ الْمُسْتَحَقِّ فَلَا تُعْتَبَرُ قُوَّةُ الْوَصِيَّةِ اهـ. أَقُولُ: فِي الْجَوَابِ نَظَرٌ، فَإِنَّهُ مَنْقُوضٌ بِالْعِتْقِ الْمُوقَعِ فِي الْمَرَضِ وَالْعِتْقِ بِمَوْتِ الْمُوصِي وَبِالْمُحَابَاةِ فِي الْبَيْعِ إذَا وَقَعَتْ فِي الْمَرَضِ، فَإِنَّ كُلًّا مِنْهَا يُقَدَّمُ عَلَى جَمِيعِ سَائِرِ الْوَصَايَا مَا كَانَ لِلَّهِ وَمَا كَانَ لِلْعَبْدِ لِقُوَّةِ الْعِتْقِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَا يَلْحَقُهُ الْفَسْخُ أَصْلًا، وَقُوَّةُ الْمُحَابَاةِ أَيْضًا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَا يَلْحَقُهَا الْفَسْخُ مِنْ جِهَةِ الْمُوصِي كَمَا مَرَّ فِي بَابِ الْعِتْقِ فِي الْمَرَضِ، وَلَوْ لَمْ تُعْتَبَرْ قُوَّةُ الْوَصِيَّةِ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْمُسْتَحَقِّ لَمَا قُدِّمَتْ الْمُحَابَاةُ عِنْدَ اجْتِمَاعِهَا مَعَ وَصَايَا مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ الْمُسْتَحِقَّ فِي الْمُحَابَاةِ هُوَ الْعَبْدُ، وَفِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى هُوَ اللَّهُ تَعَالَى فَقَدْ اخْتَلَفَ الْمُسْتَحَقُّ، وَكَذَا الْحَالُ فِي الْعِتْقِ الْمُوقَعِ فِي الْمَرَضِ أَوْ الْمُعَلَّقِ بِالْمَوْتِ عِنْدَ اجْتِمَاعِهِ مَعَ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، لِأَنَّ الْعِتْقَ حَقُّ الْعَبْدِ عِنْدَهُ وَعِنْدَ اجْتِمَاعِهِ مَعَ حُقُوقِ الْعِبَادِ عِنْدَ صَاحِبَيْهِ، لِأَنَّ الْعِتْقَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَهُمَا عَلَى مَا عُرِفَ تَدَبَّرْ

ص: 473

(بَابُ الْوَصِيَّةِ لِلْأَقَارِبِ وَغَيْرِهِمْ)

قَالَ (وَمَنْ أَوْصَى لِجِيرَانِهِ فَهُمْ الْمُلَاصِقُونَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: هُمْ الْمُلَاصِقُونَ وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ يَسْكُنُ مَحَلَّةَ الْمُوصِي وَيَجْمَعُهُمْ مَسْجِدُ الْمَحَلَّةِ) وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ. وَقَوْلُهُ قِيَاسٌ لِأَنَّ الْجَارَ مِنْ الْمُجَاوَرَةِ وَهِيَ الْمُلَاصَقَةُ حَقِيقَةً

قَوْلُهُ لَهُمَا أَنَّ السَّفَرَ بِنِيَّةِ الْحَجِّ وَقَعَ قُرْبَةً وَسَقَطَ فَرْضُ قَطْعِ الْمَسَافَةِ بِقَدْرِهِ إلَخْ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: قَوْلُهُ لَهُمَا أَنَّ السَّفَرَ بِنِيَّةِ الْحَجِّ وَقَعَ قُرْبَةً إلَخْ مَدْفُوعٌ بِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يَنْقَطِعُ بِمَوْتِهِ إلَّا ثَلَاثَةٌ» فَإِنَّ الْخُرُوجَ لِلْحَجِّ لَيْسَ مِنْهُ. وَرُدَّ بِأَنَّ الْمُكَفِّرَ إذَا أَطْعَمَ بَعْضَ الْمَسَاكِينِ فَمَاتَ وَأَوْصَى بِهِ وَجَبَ الْإِكْمَالُ بِمَا بَقِيَ بِالِاتِّفَاقِ وَلَمْ يَنْقَطِعْ مَا أَطْعَمَهُ بِالْمَوْتِ، ذَكَرَهُ فِي الْأَسْرَارِ، فَمَا هُوَ جَوَابُ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ ذَلِكَ فَهُوَ جَوَابُنَا عَنْ الْحَجِّ.

وَأُجِيبَ بِالْفَرْقِ بِأَنَّ سَفَرَ الْحَجِّ لَا يَتَجَزَّأُ فِي حَقِّ الْآمِرِ بِدَلِيلِ أَنَّ الْأَوَّلَ لَوْ بَدَا لَهُ فِي الطَّرِيقِ أَنْ لَا يَحُجَّ بِنَفْسِهِ بَعْدَمَا مَشَى بَعْضَ الطَّرِيقِ وَفَوَّضَ الْأَمْرَ إلَى غَيْرِهِ بِرِضَا الْوَصِيِّ لَمْ يَجُزْ وَلَزِمَهُ رَدُّ مَا أَنْفَقَهُ، وَأَمَّا الْإِطْعَامُ فَإِنَّهُ يَقْبَلُ التَّجَزِّي حَتَّى إنَّ الْمَأْمُورَ بِالْإِطْعَامِ إذَا أَطْعَمَ الْبَعْضَ ثُمَّ تَرَكَ الْبَعْضَ وَأَمَرَ بِهِ غَيْرَهُ فَإِنَّهُ يُجْزِئُهُ، كَذَا فِي الْأَسْرَارِ، وَهَذَا لَيْسَ بِدَافِعٍ لِأَنَّ الْحَدِيثَ لَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ الْمُتَجَزِّئِ وَغَيْرِهِ فِي الِانْقِطَاعِ، إلَّا أَنْ يُقَالَ: التَّجَزِّي فِي الْإِطْعَامِ مُسْتَنِدٌ إلَى الْكِتَابِ فَإِنَّهُ أَقْوَى وَإِنْ كَانَ دَلَالَةً فَعُمِلَ بِهِ، وَالْحَجُّ لَمْ يَكُنْ فِيهِ دَلِيلٌ أَقْوَى مِنْ الْحَدِيثِ فَعُمِلَ بِهِ، إلَى هُنَا لَفْظُ الْعِنَايَةِ.

أَقُولُ: السُّؤَالُ وَالْجَوَابُ اللَّذَانِ ذَكَرَهُمَا بِقَوْلِهِ وَرُدَّ وَأُجِيبَ مَذْكُورَانِ فِي النِّهَايَةِ وَغَيْرِهَا، وَتَصَرُّفُ هَذَا الشَّارِحِ نَفْسُهُ إنَّمَا هُوَ فِي قَوْلِهِ وَهَذَا لَيْسَ بِدَافِعٍ إلَخْ سَاقِطٌ، إذْ لَيْسَ مَدَارُ الْجَوَابِ الْمَذْكُورِ عَلَى أَنَّ الْمُتَجَزِّئَ لَا يَنْقَطِعُ وَغَيْرَ الْمُتَجَزِّئِ يَنْقَطِعُ حَتَّى يَرِدَ عَلَيْهِ مَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ الْحَدِيثَ لَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ الْمُتَجَزِّئِ وَغَيْرِهِ، بَلْ مَدَارُهُ عَلَى أَنَّ الِانْقِطَاعَ لَا يَضُرُّ فِي الْمُتَجَزِّئِ وَإِنَّمَا يَضُرُّ فِي غَيْرِ الْمُتَجَزِّئِ، فَإِنَّ كُلَّ عَمَلٍ غَيْرِ مُتَجَزٍّ إذَا انْقَطَعَ قَبْلَ التَّمَامِ يَبْطُلُ مِنْ الْأَصْلِ بِالضَّرُورَةِ وَيَلْحَقُ بِالْعَدَمِ كَمَا فِي الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ، وَالْحَجُّ غَيْرُ مُتَجَزٍّ؛ فَإِذَا انْقَطَعَ بِمَوْتِ الْحَاجِّ فِي الطَّرِيقِ وَجَبَ أَنْ يَحُجَّ مِنْ بَلَدِ الْمُوصِي أَدَاءً لِلْوَاجِبِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي وَجَبَ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ الْعَمَلِ الْمُتَجَزِّئِ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ انْقِطَاعِهِ قَبْلَ تَمَامِهِ أَنْ يَبْطُلَ مِنْ الْأَصْلِ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يُتَمِّمَ الْآخَرَ مَا بَقِيَ مِنْهُ، كَمَا إذَا أَطْعَمَ الْمَأْمُورُ بِالْإِطْعَامِ بَعْضَ الْمَسَاكِينِ ثُمَّ تَرَكَ الْبَعْضَ وَأَمَرَ بِهِ غَيْرَهُ فَإِنَّهُ يُجْزِئُهُ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْأَسْرَارِ. وَعَلَى هَذَا كَانَ الْجَوَابُ الْمَذْكُورُ دَافِعًا لِلسُّؤَالِ قَطْعًا، وَلِعَدَمِ فَرْقِ الشَّارِحِ الْمَزْبُورِ بَيْنَ الْمَدَارَيْنِ قَالَ فِي تَقْرِيرِ السُّؤَالِ: وَلَمْ يَنْقَطِعْ مَا أَطْعَمَهُ بِالْمَوْتِ وَالْوَاقِعُ فِي النِّهَايَةِ بَدَلُ ذَلِكَ وَلَمْ يَبْطُلْ هُنَاكَ مَا أَطْعَمَهُ بِالْمَوْتِ، وَفِي مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ بَدَلُهُ، وَلَمْ يَجِبْ الِاسْتِئْنَافُ هُنَاكَ بَلْ وَجَبَ الْإِكْمَالُ بِمَا بَقِيَ بِالِاتِّفَاقِ. ثُمَّ إنَّ مَدَارَ التَّوْجِيهِ الَّذِي ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بِقَوْلِهِ إلَّا أَنْ يُقَالَ التَّجَزِّي فِي الْإِطْعَامِ مُسْتَنَدٌ إلَى الْكِتَابِ إلَخْ، عَلَى أَنَّ التَّجَزِّيَ يُنَافِي الِانْقِطَاعَ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ وَالْكِتَابِ الدَّالِ عَلَى تَجَزِّي الْإِطْعَامِ تَعَارُضٌ أَصْلًا حَتَّى يَتْرُكَ الْعَمَلَ بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ فِي حَقِّ الْإِطْعَامِ وَيَعْمَلَ بِالْكِتَابِ فِيهِ لِقُوَّتِهِ، وَقَدْ عَرَفْت أَنَّ التَّجَزِّيَ لَا يُنَافِي الِانْقِطَاعَ بَلْ يَتَحَقَّقُ الِانْقِطَاعُ فِي الْمُتَجَزِّئِ وَغَيْرِهِ، إلَّا أَنَّ الْإِكْمَالَ بِمَا بَقِيَ مُتَصَوَّرٌ فِي الْمُتَجَزِّئِ دُونَ غَيْرِهِ فَلَا يَقْتَضِي الْعَمَلُ بِالْكِتَابِ فِي حَقِّ الْإِطْعَامِ تَرْكَ الْعَمَلِ بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ فِي حَقِّ ذَلِكَ كَمَا لَا يَخْفَى، فَمَا ارْتَكَبَهُ الشَّارِحُ الْمَزْبُورُ هُنَا مِنْ ضِيقِ الْعَطَنِ كَمَا تَرَى.

(بَابُ الْوَصِيَّةِ لِلْأَقَارِبِ وَغَيْرِهِمْ)

أَخَّرَ هَذَا الْبَابَ عَمَّا تَقَدَّمَهُ لِأَنَّهُ ذَكَرَ فِي هَذَا الْبَابِ أَحْكَامَ الْوَصِيَّةِ لِقَوْمٍ مَخْصُوصِينَ، وَذَكَرَ فِيمَا تَقَدَّمَهُ أَحْكَامَ الْوَصَايَا عَلَى وَجْهِ الْعُمُومِ، وَالْخُصُوصُ أَبَدًا يَتْلُو الْعُمُومَ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ.

(قَوْلُهُ وَمَنْ أَوْصَى لِجِيرَانِهِ فَهُمْ الْمُلَاصِقُونَ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ:

ص: 474

وَلِهَذَا يَسْتَحِقُّ الشُّفْعَةَ بِهَذَا الْجِوَارِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا صَرَفَهُ إلَى الْجَمِيعِ يُصْرَفُ إلَى أَخَصِّ الْخُصُوصِ وَهُوَ الْمُلَاصِقُ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ هَؤُلَاءِ كُلَّهُمْ يُسَمُّونَ جِيرَانًا عُرْفًا، وَقَدْ تَأَيَّدَ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «لَا صَلَاةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ إلَّا فِي الْمَسْجِدِ» وَفَسَّرَهُ بِكُلِّ مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ، وَلِأَنَّ الْمَقْصِدَ بِرُّ الْجِيرَانِ وَاسْتِحْبَابُهُ يَنْتَظِمُ الْمُلَاصِقَ وَغَيْرَهُ، إلَّا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الِاخْتِلَاطِ وَذَلِكَ عِنْدَ اتِّحَادِ الْمَسْجِدِ، وَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: الْجِوَارُ إلَى أَرْبَعِينَ دَارًا بَعِيدٌ، وَمَا يُرْوَى فِيهِ ضَعِيفٌ. قَالُوا: وَيَسْتَوِي فِيهِ السَّاكِنُ وَالْمَالِكُ وَالذَّكَرُ وَالْأُنْثَى وَالْمُسْلِمُ الذِّمِّيُّ لِأَنَّ اسْمَ الْجَارِ يَتَنَاوَلُهُمْ

كَانَ حَقُّ الْكَلَامِ أَنْ يُقَدِّرَ وَصِيَّةَ الْأَقَارِبِ نَظَرًا إلَى تَرْجَمَةِ الْبَابِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: الْوَاوُ لَا يَدُلُّ عَلَى التَّرْتِيبِ، وَأَنْ يُقَالَ: فَعَلَ ذَلِكَ اهْتِمَامًا بِأَمْرِ الْجَارِ اهـ كَلَامُهُ. أَقُولُ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ تَوْجِيهِهِ كَاسِدٌ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ الْوَاوَ إنَّمَا لَا يَدُلُّ عَلَى التَّرْتِيبِ الْخَارِجِيِّ: أَيْ لَا يَدُلُّ عَلَى وُقُوعِ مَدْخُولِهِ فِي الْخَارِجِ بَعْدَ وُقُوعِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فِيهِ، وَأَمَّا مَا تَأَخَّرَ مَدْخُولُهُ فِي الذِّكْرِ عَنْ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فَأَمْرٌ ضَرُورِيٌّ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَدَارَ قَوْلِهِ كَانَ حَقُّ الْكَلَامِ أَنْ يُقَدِّمَ وَصِيَّةَ الْأَقَارِبِ نَظَرًا إلَى تَرْجَمَةِ الْبَابِ عَلَى الثَّانِي: يَعْنِي لَمَّا قَدَّمَ ذِكْرَ الْوَصِيَّةِ لِلْأَقَارِبِ فِي تَرْجَمَةِ الْبَابِ كَانَ حَقُّ الْكَلَامِ أَنْ يُقَدِّمَ ذَلِكَ فِي بَسْطِ الْمَسَائِلِ أَيْضًا لِيَحْصُلَ التَّنَاسُبُ بَيْنَ الْإِجْمَالِ وَالتَّفْصِيلِ، وَعَدَمُ دَلَالَةِ الْوَاوِ عَلَى التَّرْتِيبِ فِي الْوُقُوعِ الْخَارِجِيِّ لَا يَدْفَعُ ذَلِكَ بِلَا رَيْبٍ. وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الِاهْتِمَامَ بِأَمْرِ الْجَارِ لَوْ كَانَ وَاجِبًا أَوْ مُسْتَحْسَنًا لَفَعَلَ ذَلِكَ فِي تَرْجَمَةِ الْبَابِ بِأَنْ قَالَ بَابُ الْوَصِيَّةِ لِلْجِيرَانِ وَغَيْرِهِمْ، وَلَمَّا لَمْ يَفْعَلْهُ هُنَاكَ عُلِمَ أَنَّ اهْتِمَامَهُ كَانَ بِأَمْرِ الْأَقَارِبِ، فَكَانَ حَقُّ الْكَلَامِ هُنَا أَنْ يُسَاقَ عَلَى مِنْوَالِهِ رِعَايَةً لِلتَّنَاسُبِ.

(قَوْلُهُ وَلِأَنَّهُ لَمَّا تَعَذَّرَ صَرْفُهُ إلَى الْجَمِيعِ يُصْرَفُ إلَى أَخَصِّ الْخُصُوصِ وَهُوَ الْمُلَاصِقُ إلَخْ) أَوْضَحَهُ فِي الْكَافِي حَيْثُ قَالَ: وَلِأَنَّهُ لَمَّا تَعَذَّرَ صَرْفُهُ إلَى الْجَمِيعِ؛ أَلَا يُرَى أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِيهِ جَارُ الْمَحَلَّةِ وَجَارُ الْأَرْضِ وَجَارُ الْقَرْيَةِ صُرِفَ إلَى أَخَصِّ الْخُصُوصِ وَهُوَ الْمُلَاصِقُ اهـ. وَعَنْ هَذَا قَالَ فِي الْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ لَمَّا تَعَذَّرَ صَرْفُهُ إلَى الْجَمِيعِ: يَعْنِي لِعَدَمِ دُخُولِ جَارِ الْمَحَلَّةِ وَجَارِ الْقَرْيَةِ وَجَارِ الْأَرْضِ. أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: عَدَمُ دُخُولِ جَارِ الْمَحَلَّةِ وَجَارِ الْقَرْيَةِ وَجَارِ الْأَرْضِ فِي الْوَصِيَّةِ لِجِيرَانِ الْمُوصِي لِعَدَمِ انْطِلَاقِ لَفْظِ الْجِيرَانِ الْمُضَافِ إلَى الْمُوصِي نَفْسِهِ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لَا حَقِيقَةً وَلَا عُرْفًا بِخِلَافِ مَنْ يَسْكُنُ مَحَلَّةَ الْمُوصِي وَيَجْمَعُهُمْ مَسْجِدُ مَحَلَّتِهِ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ كُلَّهُمْ يُسَمُّونَ جِيرَانَ الْمُوصِي عُرْفًا كَمَا سَيَأْتِي فِي وَجْهِ الِاسْتِحْسَانِ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَعَذُّرِ صَرْفِهِ إلَى الْجَمِيعِ تَعَذُّرُ صَرْفِهِ إلَى أَهْلِ مَسْجِدِ مَحَلَّتِهِ كَمَا قَالَهُ الْإِمَامَانِ حَتَّى يَتَعَيَّنَ صَرْفُهُ إلَى أَخَصِّ الْخُصُوصِ كَمَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ فَتَأَمَّلْ.

(قَوْلُهُ وَلِأَنَّ الْمَقْصِدَ بِرُّ الْجِيرَانِ فَاسْتِحْبَابُهُ يَنْتَظِمُ الْمُلَاصِقَ وَغَيْرَهُ) أَقُولُ: وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: نَعَمْ إنَّ مَقْصُودَ الْمُوصِي مِنْ إيصَائِهِ لِجِيرَانِهِ بِرُّ الْجِيرَانِ لَكِنَّ الْجِيرَانَ هُمْ الْمُلَاصِقُونَ لَا غَيْرُ لِأَنَّ الْجَارَ مِنْ الْمُجَاوَرَةِ وَهِيَ الْمُلَاصَقَةُ فَكَيْفَ يَنْتَظِمُ الْمُلَاصِقَ وَغَيْرَهُ، وَإِنْ صُيِّرَ إلَى كَوْنِ غَيْرِ الْمُلَاصِقِ أَيْضًا مِنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ جِيرَانًا عُرْفًا يَلْزَمُ الْمَصِيرُ إلَى الدَّلِيلِ الْأَوَّلِ، فَلَا يَكُونُ لِجَعْلِ هَذَا التَّعْلِيلِ دَلِيلًا ثَانِيًا كَمَا هُوَ مُقْتَضَى التَّحْرِيرِ وَجْهٌ كَمَا لَا يَخْفَى.

(قَوْلُهُ قَالُوا وَيَسْتَوِي فِيهِ السَّاكِنُ وَالْمَالِكُ وَالذَّكَرُ وَالْأُنْثَى وَالْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ لِأَنَّ اسْمَ الْجَارِ يَتَنَاوَلُهُمْ) أَقُولُ: التَّعْمِيمُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ قَوْلِهِمْ وَيَسْتَوِي فِيهِ السَّاكِنُ وَالْمَالِكُ يُنَافِي تَقْيِيدَ الْمُصَنِّفِ

ص: 475

وَيَدْخُلُ فِيهِ الْعَبْدُ السَّاكِنُ عِنْدَهُ لِإِطْلَاقِهِ، وَلَا يَدْخُلُ عِنْدَهُمَا لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لَهُ وَصِيَّةٌ لِمَوْلَاهُ وَهُوَ غَيْرُ سَاكِنٍ. .

قَالَ (وَمَنْ أَوْصَى لِأَصْهَارِهِ فَالْوَصِيَّةُ لِكُلِّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْ امْرَأَتِهِ) لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام لَمَّا تَزَوَّجَ صَفِيَّةَ أَعْتَقَ كُلَّ مَنْ مَلَكَ مِنْ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهَا إكْرَامًا لَهَا» وَكَانُوا يُسَمُّونَ أَصْهَارَ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام. وَهَذَا التَّفْسِيرُ اخْتِيَارُ مُحَمَّدٍ وَأَبِي عُبَيْدَةَ، وَكَذَا يَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْ زَوْجَةِ أَبِيهِ وَزَوْجَةِ ابْنِهِ وَزَوْجَةِ كُلِّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ لِأَنَّ الْكُلَّ أَصْهَارٌ. وَلَوْ مَاتَ الْمُوصِي وَالْمَرْأَةُ فِي نِكَاحِهِ

فِيمَا مَرَّ بِقَوْلِهِ مِمَّنْ يَسْكُنُ مَحَلَّةَ الْمُوصِي، إلَّا أَنْ يَكُونَ مَا نَقَلَهُ هَاهُنَا عَنْ الْمَشَايِخِ رِوَايَةٌ أُخْرَى، لَكِنَّ أُسْلُوبَ تَحْرِيرِهِ يَأْبَى ذَلِكَ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى الْفَطِنِ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: الْمَفْهُومُ مِنْ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ مِمَّنْ يَسْكُنُ مَحَلَّةَ الْمُوصِي إلَخْ اشْتِرَاكُ السُّكْنَى فِي اسْتِحْقَاقِهِمْ الْوَصِيَّةَ عِنْدَهُمَا مُلَّاكًا أَوْ غَيْرَهُمْ. وَمِمَّا نَقَلَهُ عَنْ الْمَشَايِخِ عَدَمُ اشْتِرَاطِ السُّكْنَى عِنْدَهُمَا إنْ كَانُوا مُلَّاكًا بِدَلِيلِ تَخْصِيصِ خِلَافِهِمَا بِالْعَبْدِ السَّاكِنِ فَتَأَمَّلْ اهـ كَلَامُهُ. أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا بِتَامٍّ لِأَنَّ تَخْصِيصَ خِلَافِهِمَا بِالْعَبْدِ السَّاكِنِ إنَّمَا يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى عَدَمِ الْخِلَافِ فِي الْحُرِّ السَّاكِنِ، لَا عَلَى عَدَمِ الْخِلَافِ فِي الْحُرِّ الْغَيْرِ السَّاكِنِ إذَا كَانُوا مُلَّاكًا حَتَّى يُفْهَمَ مِنْهُ عَدَمُ اشْتِرَاطِ السُّكْنَى عِنْدَهُمَا إنْ كَانُوا مُلَّاكًا، ثُمَّ إنَّ تَعْلِيلَ قَوْلِهِمَا فِي الْعَبْدِ السَّاكِنِ بِقَوْلِهِ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لَهُ وَصِيَّةٌ لِمَوْلَاهُ وَهُوَ غَيْرُ سَاكِنٍ بِمَنْزِلَةِ الصَّرِيحِ فِي اشْتِرَاطِ السُّكْنَى عِنْدَهُمَا فِي اسْتِحْقَاقِهِمَا الْوَصِيَّةَ وَإِنْ كَانُوا أَحْرَارًا وَمُلَّاكًا فَإِنَّهُ قَالَ وَهُوَ غَيْرُ سَاكِنٍ وَلَمْ يَقُلْ وَهُوَ غَيْرُ مَالِكٍ لِلدَّارِ، فَدَلَّ قَطْعًا عَلَى أَنَّ عَدَمَ دُخُولِ الْعَبْدِ السَّاكِنِ عِنْدَهُمَا لِعَدَمِ تَحَقُّقِ سُكْنَى مَوْلَاهُ الَّذِي هُوَ الْمُوصَى لَهُ فِي الْحَقِيقَةِ، وَهَذَا إنَّمَا يَتِمُّ بِاشْتِرَاطِ السُّكْنَى عِنْدَهُمَا فِي اسْتِحْقَاقِهِمْ الْوَصِيَّةَ فَلَا مَعْنَى لِاسْتِنْبَاطِ عَدَمِ اشْتِرَاطِ السُّكْنَى عِنْدَهُمَا إنْ كَانُوا مُلَّاكًا مِنْ الْخِلَافِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ كَمَا فَعَلَهُ ذَلِكَ الْبَعْضُ.

(قَوْلُهُ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لَهُ وَصِيَّةٌ لِمَوْلَاهُ وَهُوَ غَيْرُ سَاكِنٍ) قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَعَلَّهُ أَرَادَ بِدُخُولِهِ كَوْنَ نَفْسِهِ مُوصًى لَهُ وَمُسْتَحِقًّا لِلْوَصِيَّةِ فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ أُعْتِقَ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي صَارَ مُسْتَحِقًّا لَهُ، وَلَا يَضُرُّهُ كَوْنُهُ عَبْدًا وَقْتَ الْوَصِيَّةِ، إذْ الْعِبْرَةُ لِوَقْتِ الْمَوْتِ فَالْخِلَافُ بَيْنَهُمَا غَيْرُ حَقِيقِيٍّ، وَأَيْضًا الْوَصِيَّةُ بَدْءًا لِلْعَبْدِ ثُمَّ لِمَوْلَاهُ لِأَنَّ الْعَبْدَ وَمَا يَمْلِكُهُ لِمَوْلَاهُ فَسُكْنَاهُ كَافٍ فِي اسْتِحْقَاقِهِ الْوَصِيَّةَ فَتَأَمَّلْ إلَى هُنَا كَلَامُهُ. أَقُولُ: كُلٌّ مِنْ شِقَّيْ كَلَامِهِ غَيْرُ صَحِيحٍ. أَمَّا الْأَوَّلُ مِنْهُمَا فَلِأَنَّ الْعِبْرَةَ إذَا كَانَتْ لِوَقْتِ الْمَوْتِ دُونَ وَقْتِ إيجَابِ الْوَصِيَّةِ كَانَ الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ بَيْنَهُمَا فِيمَنْ كَانَ عَبْدًا وَقْتَ الْمَوْتِ وَكَانَ الْخِلَافُ فِي ذَلِكَ حَقِيقِيًّا لَا مَحَالَةَ. وَأَمَّا الَّذِي كَانَ عَبْدًا وَقْتَ الْإِيجَابِ ثُمَّ أُعْتِقَ قَبْلَ الْمَوْتِ فَصَارَ حُرًّا وَقْتَ الْمَوْتِ فَخَارِجٌ عَنْ مَحَلِّ الْخِلَافِ الْمَذْكُورِ قَطْعًا، لِأَنَّهُ لَمَّا صَارَ حُرًّا فِي الْوَقْتِ الَّذِي لَهُ الْعِبْرَةُ فِي أَحْكَامِ الْوَصِيَّةِ عَامَّةً وَهُوَ وَقْتُ مَوْتِ الْمُوصِي صَارَ مِنْ قَبِيلِ سَائِرِ الْأَحْرَارِ بِلَا تَفَاوُتٍ، فَلَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَحَلُّ الْخِلَافِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ بِلَا رَيْبٍ فَكَيْفَ يُحْمَلُ الْكَلَامُ عَلَيْهِ. وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّهُ لَا شَكَّ أَنْ لَيْسَ مَعْنَى الْوَصِيَّةِ لِلْعَبْدِ أَنْ يُمَلَّكَ شَيْءٌ لِلْعَبْدِ تَمْلِيكًا مُضَافًا إلَى الْمَوْتِ فَيَمْلِكُهُ الْعَبْدُ ابْتِدَاءً عِنْدَ الْمَوْتِ ثُمَّ يَنْتَقِلُ الْمِلْكُ مِنْ ذَلِكَ الْعَبْدِ إلَى مَوْلَاهُ ثَانِيًا، بَلْ مَعْنَاهَا تَمْلِيكُ شَيْءٍ لِمَوْلَى الْعَبْدِ كَمَا هُوَ الْحَالُ فِي سَائِرِ التَّمْلِيكَاتِ لِلْعَبْدِ عَلَى مَا صَرَّحُوا بِهِ، وَإِلَّا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ أَهْلًا لِلْمِلْكِ لِنَفْسِهِ ابْتِدَاءً وَلَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ، فَإِذَنْ كَانَتْ الْوَصِيَّةُ لِلْعَبْدِ وَصِيَّةً لِمَوْلَاهُ وَكَانَ التَّمْلِيكُ تَمْلِيكًا لِمَوْلَاهُ، فَلَا مَعْنَى لِقَوْلِ ذَلِكَ الْبَعْضِ فَسُكْنَاهُ كَافٍ فِي اسْتِحْقَاقِهِ الْوَصِيَّةَ تَأَمَّلْ تَرْشُدْ

الْوَصِيَّةَ (قَوْلُهُ وَمَنْ أَوْصَى لِأَصْهَارِهِ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ:

ص: 476

أَوْ فِي عِدَّتِهِ مِنْ طَلَاقٍ رَجْعِيٍّ فَالصِّهْرُ يَسْتَحِقُّ الْوَصِيَّةَ، وَإِنْ كَانَتْ فِي عِدَّةٍ مِنْ طَلَاقٍ بَائِنٍ لَا يَسْتَحِقُّهَا لِأَنَّ بَقَاءَ الصِّهْرِيَّةِ بِبَقَاءِ النِّكَاحِ وَهُوَ شَرْطٌ عِنْدَ الْمَوْتِ.

قَالَ (وَمَنْ أَوْصَى لِأَخْتَانِهِ فَالْوَصِيَّةُ لِزَوْجِ كُلِّ ذَاتِ رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ وَكَذَا مَحَارِمُ الْأَزْوَاجِ) لِأَنَّ الْكُلَّ يُسَمَّى خَتَنًا. قِيلَ هَذَا فِي عُرْفِهِمْ. وَفِي عُرْفِنَا لَا يَتَنَاوَلُ الْأَزْوَاجُ الْمَحَارِمَ، وَيَسْتَوِي فِيهِ الْحُرُّ وَالْعَبْدُ وَالْأَقْرَبُ وَالْأَبْعَدُ. لِأَنَّ اللَّفْظَ يَتَنَاوَلُ الْكُلَّ.

قَالَ (وَمَنْ أَوْصَى لِأَقَارِبِهِ فَهِيَ لِلْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ مِنْ كُلِّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ، وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ الْوَالِدَانِ وَالْوَلَدُ وَيَكُونُ ذَلِكَ لِلِاثْنَيْنِ فَصَاعِدًا، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ صَاحِبَاهُ: الْوَصِيَّةُ لِكُلِّ مَنْ يُنْسَبُ إلَى أَقْصَى أَبٍ لَهُ فِي الْإِسْلَامِ) وَهُوَ أَوَّلُ أَبٍ أَسْلَمَ أَوْ أَوَّلُ أَبٍ أَدْرَكَ الْإِسْلَامَ وَإِنْ لَمْ يُسْلِمْ عَلَى حَسَبِ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ الْمَشَايِخُ. وَفَائِدَةُ الِاخْتِلَافِ تَظْهَرُ فِي أَوْلَادِ أَبِي طَالِبٍ فَإِنَّهُ أَدْرَكَ الْإِسْلَامَ وَلَمْ يُسْلِمْ. لَهُمَا أَنَّ الْقَرِيبَ مُشْتَقٌّ مِنْ الْقَرَابَةِ فَيَكُونُ اسْمًا لِمَنْ قَامَتْ بِهِ فَيَنْتَظِمُ بِحَقِيقَةِ مَوَاضِعِ الْخِلَافِ. وَلَهُ أَنَّ الْوَصِيَّةَ أُخْتُ الْمِيرَاثِ، وَفِي الْمِيرَاثِ يُعْتَبَرُ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ، وَالْمُرَادُ بِالْجَمْعِ الْمَذْكُورِ فِيهِ اثْنَانِ فَكَذَا فِي الْوَصِيَّةِ، وَالْمَقْصِدُ مِنْ هَذِهِ الْوَصِيَّةُ تَلَاقِي مَا فَرَطَ فِي إقَامَةِ وَاجِبِ الصِّلَةِ وَهُوَ يَخْتَصُّ بِذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ مِنْهُ، وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ قَرَابَةُ الْوِلَادِ فَإِنَّهُمْ لَا يُسَمُّونَ أَقْرِبَاءَ، وَمَنْ سَمَّى وَالِدَهُ قَرِيبًا كَانَ مِنْهُ عُقُوقًا، وَهَذَا لِأَنَّ الْقَرِيبَ فِي عُرْفِ اللِّسَانِ مَنْ يَتَقَرَّبُ إلَى غَيْرِهِ بِوَسِيلَةِ غَيْرِهِ، وَتَقَرُّبُ الْوَالِدِ وَالْوَلَدِ بِنَفْسِهِ

أَيْ لِأَقْرِبَاءِ امْرَأَتِهِ. وَفِي الصِّحَاحِ: الْأَصْهَارُ أَهْلُ بَيْتِ الْمَرْأَةِ اهـ. وَاقْتَفَى أَثَرَهُ فِي هَذَا التَّفْسِيرِ وَالِاسْتِشْهَادِ بِمَا فِي الصِّحَاحِ صَاحِبَا الْعِنَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ. أَقُولُ: تَفْسِيرُ الْأَصْهَارِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِأَقْرِبَاءِ امْرَأَتِهِ لَا يُنَاسِبُ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ فِيمَا بَعْدُ، وَكَذَا يَدْخُلُ فِي كُلِّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْ زَوْجَةِ أَبِيهِ وَزَوْجَةِ ابْنِهِ وَزَوْجَةِ كُلِّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ لِأَنَّ الْكُلَّ أَصْهَارٌ، فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمْ لَيْسَ مِنْ أَقْرِبَاءِ امْرَأَتِهِ مَعَ أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ فِي الْإِيصَاءِ بِالْأَصْهَارِ بِنَاءً عَلَى كَوْنِ كُلِّهِمْ أَصْهَارًا كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْمُصَنِّفُ. فَالْوَجْهُ أَنْ يُفَسِّرَ الْأَصْهَارَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِمَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ أَقْرِبَاءِ امْرَأَتِهِ. وَقَدْ جَاءَ فِي اللُّغَةِ جَعْلُ الْأَصْهَارِ أَعَمَّ مِنْ أَقْرِبَاءِ الْمَرْأَةِ. قَالَ فِي الصِّحَاحِ: الْأَصْهَارُ أَهْلُ بَيْتِ الْمَرْأَةِ. عَنْ الْخَلِيلِ قَالَ: وَمِنْ الْعَرَبِ مَنْ يَجْعَلُ الصِّهْرَ مِنْ الْأَحْمَاءِ وَالْأُخْتَانِ جَمِيعًا اهـ. وَقَالَ فِي الْقَامُوسِ: الصِّهْرُ بِالْكَسْرِ الْقَرَابَةُ وَحُرْمَةُ الْخُتُونَةِ جَمْعُهُ أَصْهَارٌ. ثُمَّ قَالَ: وَزَوْجُ بِنْتِ الرَّجُلِ وَزَوْجُ أُخْتِهِ وَالْأُخْتَانِ أَصْهَارٌ أَيْضًا اهـ تَدَبَّرْ

(قَوْلُهُ وَلَهُ أَنَّ الْوَصِيَّةَ أُخْتُ الْمِيرَاثِ وَفِي الْمِيرَاثِ يُعْتَبَرُ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ، وَالْمُرَادُ بِالْجَمْعِ الْمَذْكُورِ فِيهِ اثْنَانِ فَكَذَا فِي الْوَصِيَّةِ) أَقُولُ: فِيهِ

ص: 477

لَا بِغَيْرِهِ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِظَاهِرِ اللَّفْظِ بَعْدَ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَى تَرْكِهِ، فَعِنْدَهُ يُقَيَّدُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَعِنْدَهُمَا بِأَقْصَى الْأَبِ فِي الْإِسْلَامِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ بِالْأَبِ الْأَدْنَى.

قَالَ (وَإِذَا أَوْصَى لِأَقَارِبِهِ وَلَهُ عَمَّانِ وَخَالَانِ فَالْوَصِيَّةُ لِعَمَّيْهِ) عِنْدَهُ اعْتِبَارٌ لِلْأَقْرَبِ كَمَا فِي الْإِرْثِ، وَعِنْدَهُمَا بَيْنَهُمْ أَرْبَاعًا إذْ هُمَا لَا يَعْتَبِرَانِ الْأَقْرَبَ (وَلَوْ تَرَكَ عَمًّا وَخَالَيْنِ فَلِلْعَمِّ نِصْفُ الْوَصِيَّةِ وَالنِّصْفُ لِلْخَالَيْنِ) لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ مَعْنَى الْجَمِيعِ وَهُوَ الِاثْنَانِ فِي الْوَصِيَّةِ كَمَا فِي الْمِيرَاثِ بِخِلَافِ مَا إذَا أَوْصَى لِذِي قَرَابَتِهِ حَيْثُ يَكُونُ لِلْعَمِّ كُلُّ الْوَصِيَّةِ، لِأَنَّ اللَّفْظَ لِلْفَرْدِ فَيُحْرِزُ الْوَاحِدُ كُلَّهَا إذْ هُوَ الْأَقْرَبُ، وَلَوْ كَانَ لَهُ عَمٌّ وَاحِدٌ فَلَهُ الثُّلُثُ لِمَا بَيَّنَّاهُ، وَلَوْ تَرَكَ عَمًّا وَعَمَّةً وَخَالًا وَخَالَةً فَالْوَصِيَّةُ لِلْعَمِّ وَالْعَمَّةِ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ لِاسْتِوَاءِ قَرَابَتِهِمَا وَهِيَ أَقْوَى، وَالْعَمَّةُ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ وَارِثَةً فَهِيَ مُسْتَحِقَّةٌ لِلْوَصِيَّةِ كَمَا لَوْ كَانَ

بَحْثٌ، وَهُوَ أَنَّهُ إنْ أَرَادَ أَنَّ الْوَصِيَّةَ أُخْتُ الْمِيرَاثِ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ فَهُوَ مَمْنُوعٌ، كَيْفَ وَقَدْ مَرَّ فِي الْكِتَابِ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُوصِيَ الْمُسْلِمُ لِلْكَافِرِ وَالْكَافِرُ لِلْمُسْلِمِ بِلَا خِلَافٍ وَلَا تَوَارُثَ بَيْنَهُمَا لِاخْتِلَافِ الدِّينَيْنِ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي مَحَلِّهِ، وَكَذَا قَدْ مَرَّ فِيهِ أَنَّهُ تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ لِلْقَاتِلِ عِنْدَ إجَازَةِ الْوَرَثَةِ إيَّاهَا عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي مَحَلِّهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ. وَلَا يَجُوزُ الْمِيرَاثُ لِلْقَاتِلِ عِنْدَ أَحْمَدَ وَلَوْ أَجَازَتْهُ الْوَرَثَةُ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ، وَكَذَا مَرَّ فِيهِ آنِفًا فِي مَسْأَلَةِ الْإِيصَاءِ لِأُخْتِهِ أَنَّهُ يَسْتَوِي فِيهِ الْحُرُّ وَالْعَبْدُ وَالْأَقْرَبُ وَالْأَبْعَدُ، وَلَا مِيرَاثَ لِلْعَبْدِ أَصْلًا، وَلَا يَسْتَوِي فِي الْمِيرَاثِ الْأَقْرَبُ وَالْأَبْعَدُ عَلَى مَا تَقَرَّرَ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ الْوَصِيَّةَ أُخْتُ الْمِيرَاثِ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ فَهُوَ مُسَلَّمٌ لَكِنَّهُ لَا يُفِيدُ الْمَطْلُوبَ، إذْ الْخَصْمُ لَا يُسَلِّمُ كَوْنَ مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ ذَلِكَ الْقَبِيلِ بَلْ هُوَ أَوَّلُ الْمَسْأَلَةِ.

ثُمَّ إنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رحمه الله لَمْ يَعْتَبِرْ الْأُخُوَّةَ بَيْنَ الْوَصِيَّةِ وَالْمِيرَاثِ فِي مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ أَيْضًا مِنْ جِهَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ حَيْثُ قَالَ فِيهَا بِاسْتِوَاءِ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَالْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ، كَمَا قَالَ بِهِ صَاحِبَاهُ عَلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ الزَّيْلَعِيُّ فِي التَّبْيِينِ حَيْثُ قَالَ: وَيَسْتَوِي الْحُرُّ وَالْعَبْدُ وَالْمُسْلِمُ وَالْكَافِرُ وَالصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ وَالذَّكَرُ وَالْأُنْثَى عَلَى الْمَذْهَبَيْنِ اهـ.

وَقَدْ أَفْصَحَ عَنْهُ فِي الْكَافِي وَغَيْرِهِ أَيْضًا. وَلَا مِيرَاثَ لِلْعَبْدِ وَالْكَافِرِ أَصْلًا فَضْلًا عَنْ

ص: 478

الْقَرِيبُ رَقِيقًا أَوْ كَافِرًا، وَكَذَا إذَا أَوْصَى لِذَوِي قَرَابَتِهِ أَوْ لِأَقْرِبَائِهِ أَوْ لِأَنْسِبَائِهِ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا، لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ لَفْظُ جَمْعٍ، وَلَوْ انْعَدَمَ الْمَحْرَمُ بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ لِأَنَّهَا مُقَيَّدَةٌ بِهَذَا الْوَصْفِ. قَالَ: وَمَنْ أَوْصَى لِأَهْلِ فُلَانٍ فَهِيَ عَلَى زَوْجَتِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ: يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَنْ يَعُولُهُمْ وَتَضُمُّهُمْ نَفَقَتُهُ اعْتِبَارًا لِلْعُرْفِ وَهُوَ مُؤَيَّدٌ بِالنَّصِّ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ} وَلَهُ أَنَّ اسْمَ الْأَهْلِ حَقِيقَةٌ فِي الزَّوْجَةِ يَشْهَدُ بِذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَسَارَ بِأَهْلِهِ} وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ تَأَهَّلَ بِبَلْدَةِ كَذَا، وَالْمُطْلَقُ يَنْصَرِفُ إلَى الْحَقِيقَةِ. قَالَ: وَلَوْ أَوْصَى لِآلِ فُلَانٍ فَهُوَ لِأَهْلِ بَيْتِهِ لِأَنَّ الْآلُ الْقَبِيلَةُ الَّتِي يُنْسَبُ إلَيْهَا، وَلَوْ أَوْصَى لِأَهْلِ بَيْتِ فُلَانٍ يَدْخُلُ فِيهِ أَبُوهُ وَجَدُّهُ لِأَنَّ الْأَبَ أَصْلُ الْبَيْتِ، وَلَوْ أَوْصَى لِأَهْلِ نَسَبِهِ أَوْ لِجِنْسِهِ فَالنَّسَبُ عِبَارَةٌ عَمَّنْ يُنْسَبُ إلَيْهِ، وَالنَّسَبُ يَكُونُ مِنْ جِهَةِ الْآبَاءِ، وَجِنْسُهُ أَهْلُ بَيْتِ أَبِيهِ دُونَ أُمِّهِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَتَجَنَّسُ بِأَبِيهِ، بِخِلَافِ قَرَابَتِهِ حَيْثُ تَكُونُ مِنْ جَانِبِ الْأُمِّ وَالْأَبِ، وَلَوْ أَوْصَى لِأَيْتَامِ بَنِي فُلَانٍ أَوْ لِعُمْيَانِهِمْ أَوْ لِزَمْنَاهُمْ أَوْ لِأَرَامِلِهِمْ إنْ كَانُوا قَوْمًا يُحْصَوْنَ دَخَلَ فِي الْوَصِيَّةِ فُقَرَاؤُهُمْ وَأَغْنِيَاؤُهُمْ

التَّسَاوِي مَعَ الْحُرِّ وَالْمُسْلِمِ. وَأَمَّا الْأُنْثَى فَإِنَّهَا وَإِنْ وَرِثَتْ إلَّا أَنَّهَا لَا تَسْتَوِي مَعَ الذَّكَرِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ أَلْبَتَّةَ، فَلَمْ يُعْتَبَرْ الْأُخُوَّةُ بَيْنَ الْوَصِيَّةِ وَالْمِيرَاثِ فِي هَاتِيك الْأُمُورِ فِي مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ أَيْضًا، فَكَيْفَ يَتِمُّ الِاسْتِدْلَال عَلَى مُدَّعِي أَبِي حَنِيفَةَ هَاهُنَا بِأَنَّ الْوَصِيَّةَ أُخْتُ الْمِيرَاثِ فَيُعْتَبَرُ فِيهَا مَا يُعْتَبَرُ فِيهِ، وَلَعَلَّ صَاحِبَ الْبَدَائِعِ تَفَطَّنَ لَهُ فَلَمْ يَتَعَرَّضْ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِحَدِيثِ الْأُخُوَّةِ بَيْنَ الْوَصِيَّةِ وَالْمِيرَاثِ، بَلْ اسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِوَجْهٍ آخَرَ ذَكَرَهُ وَفَصَّلَهُ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى النَّاظِرِ فِي كِتَابِهِ ذَلِكَ

(قَوْلُهُ وَلَهُ أَنَّ اسْمَ الْأَهْلِ حَقِيقَةٌ فِي الزَّوْجَةِ يَشْهَدُ بِذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَسَارَ بِأَهْلِهِ} وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ تَأَهَّلَ بِبَلْدَةِ كَذَا، وَالْمُطْلَقُ يَنْصَرِفُ إلَى الْحَقِيقَةِ) أَقُولُ: فِي الِاسْتِشْهَادِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَسَارَ بِأَهْلِهِ} نَظَرٌ، لِأَنَّهُ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَفْظَ الْأَهْلِ يُطْلَقُ عَلَى الزَّوْجَةِ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ، وَلَا

ص: 479

ذُكُورُهُمْ وَإِنَاثُهُمْ، لِأَنَّهُ أَمْكَنَ تَحْقِيقُ التَّمْلِيكِ فِي حَقِّهِمْ وَالْوَصِيَّةُ تَمْلِيكٌ. وَإِنْ كَانُوا لَا يُحْصَوْنَ فَالْوَصِيَّةُ فِي الْفُقَرَاءِ مِنْهُمْ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْوَصِيَّةِ الْقُرْبَةُ وَهِيَ فِي سَدِّ الْخَلَّةِ وَرَدِّ الْجَوْعَةِ.

وَهَذِهِ الْأَسَامِي تُشْعِرُ بِتَحَقُّقِ الْحَاجَةِ فَجَازَ حَمْلُهُ عَلَى الْفُقَرَاءِ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَوْصَى لِشُبَّانِ بَنِي فُلَانٍ وَهُمْ لَا يُحْصَوْنَ أَوْ لِأَيَامَى بَنِي فُلَانٍ وَهُمْ لَا يُحْصَوْنَ حَيْثُ تَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي اللَّفْظِ مَا يُنْبِئُ عَنْ الْحَاجَةِ فَلَا يُمْكِنُ صَرْفُهُ إلَى الْفُقَرَاءِ، وَلَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُهُ تَمْلِيكًا فِي حَقِّ الْكُلِّ لِلْجَهَالَةِ الْمُتَفَاحِشَةِ وَتَعَذَّرَ الصَّرْفُ إلَيْهِمْ، وَفِي الْوَصِيَّةِ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ يَجِبُ الصَّرْفُ إلَى اثْنَيْنِ مِنْهُمْ اعْتِبَارًا لِمَعْنَى الْجَمْعِ، وَأَقَلُّهُ اثْنَانِ فِي الْوَصَايَا عَلَى مَا مَرَّ.

يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُطْلَقُ عَلَى غَيْرِهَا أَيْضًا بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ، إذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ أَنْ يُرَادَ بِلَفْظٍ فِي مَوْضِعَ فَرْدٌ مَخْصُوصٌ مِنْ أَفْرَادِ مَعْنَاهُ أَنْ لَا يَجُوزَ إطْلَاقُ ذَلِكَ اللَّفْظِ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ عَلَى فَرْدٍ آخَرَ مِنْ أَفْرَادِ ذَاكَ الْمَعْنَى؛ أَلَا يُرَى أَنَّك إذَا قُلْت رَأَيْت إنْسَانًا يَفْعَلُ كَذَا وَأَرَدْت بِالْإِنْسَانِ هُنَاكَ فَرْدًا مَخْصُوصًا مِنْ أَفْرَادِهِ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ لَا يُطْلَقَ لَفْظُ الْإِنْسَانِ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ عَلَى فَرْدٍ آخَرَ مِنْ أَفْرَادِهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، فَإِذَنْ لَا يَثْبُتُ بِتِلْكَ الْآيَةِ مَطْلُوبُ أَبِي حَنِيفَةَ هُنَا وَهُوَ اخْتِصَاصُ الْوَصِيَّةِ لِأَهْلِ فُلَانٍ بِزَوْجَتِهِ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ تَتَنَاوَلَ غَيْرَهَا أَيْضًا كَمَا قَالَ صَاحِبَاهُ.

وَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ صَاحِبُ الْغَايَةِ بِوَجْهٍ آخَرَ حَيْثُ قَالَ: وَقَوْلُ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ وَغَيْرِهِ

ص: 480

وَلَوْ أَوْصَى لِبَنِي فُلَانٍ يَدْخُلُ فِيهِمْ الْإِنَاثُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَوَّلُ قَوْلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُهُمَا لِأَنَّ جَمْعَ الذُّكُورِ يَتَنَاوَلُ الْإِنَاثَ، ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ: يَتَنَاوَلُ الذُّكُورَ خَاصَّةً لِأَنَّ حَقِيقَةَ الِاسْمِ لِلذُّكُورِ وَانْتِظَامُهُ لِلْإِنَاثِ تَجَوُّزٌ وَالْكَلَامُ لِحَقِيقَتِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ بَنُو فُلَانٍ اسْمَ قَبِيلَةٍ أَوْ فَخِذٍ حَيْثُ يَتَنَاوَلُ الذُّكُورَ وَالْإِنَاثَ لِأَنَّهُ لَيْسَ يُرَادُ بِهَا أَعْيَانُهُمْ إذْ هُوَ مُجَرَّدُ الِانْتِسَابِ كَبَنِي آدَمَ وَلِهَذَا يَدْخُلُ فِيهِ مَوْلَى الْعَتَاقَةِ وَالْمُوَالَاةُ وَحُلَفَاؤُهُمْ.

قَالَ (وَمَنْ أَوْصَى لِوَلَدِ فُلَانٍ فَالْوَصِيَّةُ بَيْنَهُمْ وَالذَّكَرُ وَالْأُنْثَى فِيهِ سَوَاءٌ) لِأَنَّ اسْمَ الْوَلَدِ يَنْتَظِمُ الْكُلَّ انْتِظَامًا وَاحِدًا.

فِي الِاحْتِجَاجِ لِأَبِي حَنِيفَةَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَسَارَ بِأَهْلِهِ} فِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِي الْآيَةِ الزَّوْجَةُ خَاصَّةً، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا} أَلَا يَرَى أَنَّهُ خَاطَبَهُمْ بِخِطَابِ الْجَمْعِ اهـ.

وَأَجَابَ عَنْهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ حَيْثُ قَالَ بَعْدَ نَقْلِهِ: وَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَمْ يَنْقُلْ أَنَّهُ كَانَ مَعَهُ أَحَدٌ مِنْ أَقَارِبِهِ أَوْ أَقَارِبِهَا مِمَّنْ ضَمَّتْهُمْ نَفَقَتُهُ، فَإِنْ كَانَ مَعَهُ الْأَرِقَّاءُ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ أَحَدٌ بِالِاتِّفَاقِ اهـ. أَقُولُ: لَا يَخْفَى عَلَى ذِي فِطْرَةٍ سَلِيمَةٍ أَنَّ هَذَا كَلَامٌ خَالٍ عَنْ التَّحْصِيلِ فِي دَفْعِ نَظَرِ صَاحِبِ الْغَايَةِ، فَإِنَّ حَاصِلَ نَظَرِهِ الْقَدَحُ فِي الِاحْتِجَاجِ لِأَبِي حَنِيفَةَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَسَارَ بِأَهْلِهِ} بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَا وَقَعَ فِي سِيَاقِهِ مِنْ خِطَابِ الْأَهْلِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ يَأْبَى كَوْنَ الْمُرَادِ بِالْأَهْلِ هُنَاكَ الزَّوْجَةَ خَاصَّةً لَا الِاسْتِدْلَالَ عَلَى قَوْلِ صَاحِبَيْهِ بِتِلْكَ الْآيَةِ حَتَّى يَتِمَّ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ جَوَابًا عَنْهُ تَأَمَّلْ تَفْهَمْ. فَالْأَظْهَرُ فِي تَعْلِيلِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ هُنَا مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْبَدَائِعِ حَيْثُ قَالَ: وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ

ص: 481

(وَمَنْ أَوْصَى لِوَرَثَةِ فُلَانٍ فَالْوَصِيَّةُ بَيْنَهُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) لِأَنَّهُ لَمَّا نَصَّ عَلَى لَفْظِ الْوَرَثَةِ آذَنَ ذَلِكَ بِأَنَّ قَصْدَهُ التَّفْضِيلَ كَمَا فِي الْمِيرَاثِ. وَمَنْ أَوْصَى لِمَوَالِيهِ وَلَهُ مَوَالٍ أَعْتَقَهُمْ وَمَوَالٍ أَعْتَقُوهُ فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ: إنَّ الْوَصِيَّةَ لَهُمْ جَمِيعًا، وَذَكَرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّهُ يُوقَفُ حَتَّى يُصَالِحُوا. لَهُ أَنَّ الِاسْمَ يَتَنَاوَلُهُمْ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمْ يُسَمَّى مَوْلًى فَصَارَ كَالْإِخْوَةِ. وَلَنَا أَنَّ الْجِهَةَ مُخْتَلِفَةٌ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا يُسَمَّى مَوْلَى النِّعْمَةِ وَالْآخَرُ مُنْعَمٌ عَلَيْهِ فَصَارَ مُشْتَرَكًا فَلَا يَنْتَظِمُهُمَا لَفْظٌ وَاحِدٌ فِي مَوْضِعِ الْإِثْبَاتِ، بِخِلَافِ مَا إذَا حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ مَوَالِيَ فُلَانٍ حَيْثُ يَتَنَاوَلُ الْأَعْلَى وَالْأَسْفَلَ لِأَنَّهُ مَقَامُ النَّفْيِ وَلَا تَنَافِي فِيهِ، وَيَدْخُلُ فِي هَذِهِ الْوَصِيَّةِ مَنْ أَعْتَقَهُ فِي الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ، وَلَا يَدْخُلُ مُدَبَّرُوهُ وَأُمَّهَاتُ أَوْلَادِهِ لِأَنَّ عِتْقَ هَؤُلَاءِ يَثْبُتُ بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْوَصِيَّةُ تُضَافُ إلَى حَالَةِ الْمَوْتِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَحَقُّقِ الِاسْمِ قَبْلَهُ.

الْأَهْلَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يُرَادُ بِهِ الزَّوْجَةُ فِي مُتَعَارَفِ النَّاسِ، يُقَالُ فُلَانٌ مُتَأَهِّلٌ وَفُلَانٌ لَمْ يَتَأَهَّلْ وَفُلَانٌ لَهُ أَهْلٌ وَفُلَانٌ لَيْسَ لَهُ أَهْلٌ، وَيُرَادُ بِهِ الزَّوْجَةُ فَتُحْمَلُ الْوَصِيَّةُ عَلَى ذَلِكَ اهـ تَبَصَّرْ تَقِفْ

(قَوْلُهُ وَلَا يَدْخُلُ مُدَبَّرُوهُ وَأُمَّهَاتُ أَوْلَادِهِ، لِأَنَّ عِتْقَ هَؤُلَاءِ يَثْبُتُ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالْوَصِيَّةُ تُضَافُ إلَى حَالَةِ الْمَوْتِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَحَقُّقِ الِاسْمِ قَبْلَهُ) أَقُولُ: لَهُ فِي التَّعْلِيلِ كَلَامٌ، لِأَنَّ مُقْتَضَى قَوْلِهِ لِأَنَّ عِتْقَ هَؤُلَاءِ يَثْبُتُ بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْوَصِيَّةُ تُضَافُ إلَى حَالَةِ الْمَوْتِ أَنْ لَا تَجُوزَ الْوَصِيَّةُ لِأَحَدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ أَصْلًا، إذْ يَلْزَمُ حِينَئِذٍ أَنْ يَكُونُوا أَرِقَّاءَ فِي حَالَةٍ تُضَافُ الْوَصِيَّةُ إلَيْهَا وَهِيَ حَالَةُ الْمَوْتِ، فَإِنَّ الْمَفْرُوضَ كَوْنُ ثُبُوتِ عِتْقِهِمْ بَعْدَ الْمَوْتِ وَكَوْنُ إضَافَةِ الْوَصِيَّةِ إلَى حَالَةِ الْمَوْتِ وَالْوَصِيَّةُ لِلرَّقِيقِ بِشَيْءٍ غَيْرِ رَقَبَتُهَا لَا تَجُوزُ كَمَا نَصُّوا عَلَيْهِ، وَقَدْ مَرَّ فِي الْكِتَابِ أَنَّ الْوَصِيَّةَ لِأُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ بِثُلُثِ مَالِهِ جَائِزَةٌ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ تَتَعَلَّقَ تِلْكَ الْوَصِيَّةُ بِرَقَبَتِهَا لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالرَّقَبَةِ إعْتَاقٌ وَالْوَصِيَّةَ لَهَا لَا تَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ إعْتَاقًا لِأَنَّهَا تَعْتِقُ بِمَوْتِ مَوْلَاهَا وَإِنْ لَمْ تَكُنْ ثَمَّةَ وَصِيَّةٌ أَصْلًا كَمَا حَقَّقَهُ الشُّرَّاحُ هُنَاكَ، فَكَانَ بَيْنَ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ وَبَيْنَ هَذَا التَّعْلِيلِ تَدَافُعٌ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: جَوَابُ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ عَلَى مُوجِبِ الِاسْتِحْسَانِ كَمَا ذَكَرُوهُ هُنَاكَ، وَهَذَا التَّعْلِيلُ عَلَى مُوجِبِ الْقِيَاسِ. وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ

ص: 482

وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ لِأَنَّ سَبَبَ الِاسْتِحْقَاقِ لَازِمٌ، وَيَدْخُلُ فِيهِ عَبْدٌ قَالَ لَهُ مَوْلَاهُ إنْ لَمْ أَضْرِبْك فَأَنْتَ حُرٌّ لِأَنَّ الْعِتْقَ يَثْبُتُ قُبَيْلَ الْمَوْتِ عِنْدَ تَحَقُّقِ عَجْزِهِ، وَلَوْ كَانَ لَهُ مَوَالٍ وَأَوْلَادُهُ مَوَالٍ وَمَوَالِي مُوَالَاةٍ يَدْخُلُ فِيهَا مُعْتَقُوهُ وَأَوْلَادُهُمْ دُونَ مَوَالِي الْمُوَالَاةِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ أَيْضًا وَالْكُلُّ شُرَكَاءُ لِأَنَّ الِاسْمَ يَتَنَاوَلُهُمْ عَلَى السَّوَاءِ. وَمُحَمَّدٌ يَقُولُ: الْجِهَةُ مُخْتَلِفَةٌ، فِي الْمُعْتَقِ الْإِنْعَامُ، وَفِي الْمَوَالِي عَقْدُ الِالْتِزَامِ وَالْإِعْتَاقُ لَازِمٌ فَكَانَ الِاسْمُ لَهُ أَحَقَّ، وَلَا يَدْخُلُ فِيهِمْ مَوَالِي الْمَوَالِي لِأَنَّهُمْ مَوَالِي غَيْرِهِ حَقِيقَةً، بِخِلَافِ مَوَالِيهِ وَأَوْلَادِهِمْ لِأَنَّهُمْ يُنْسَبُونَ إلَيْهِ بِإِعْتَاقٍ وُجِدَ

الَّذِي ذَكَرُوا هُنَاكَ غَيْرُ مُتَمَشٍّ هَاهُنَا كَمَا يُعْرَفُ بِالتَّأَمُّلِ الصَّادِقِ فَلَا يُصَارُ إلَيْهِ هَاهُنَا.

(قَوْلُهُ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ أَيْضًا وَالْكُلُّ شُرَكَاءُ، لِأَنَّ الِاسْمَ يَتَنَاوَلُهُمْ عَلَى السَّوَاءِ) قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: قُلْت لَا يَخْفَى أَنَّ تَنَاوُلَ الِاسْمِ لِلْأَعْلَى وَالْأَسْفَلِ بِطَرِيقِ التَّوَاطُؤِ لَيْسَ بِأَبْعَدَ مِنْ كَوْنِ هَذَا التَّنَاوُلِ كَذَلِكَ، فَالْعَجَبُ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ جَوَّزَ هَذَا دُونَ ذَاكَ اهـ. أَقُولُ: إنَّ أَبَا يُوسُفَ جَوَّزَ ذَاكَ أَيْضًا فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ صَاحِبُ الْكَافِي هُنَاكَ حَيْثُ قَالَ: وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْوَصِيَّةُ لَهُمْ جَمِيعًا، وَهُوَ رِوَايَةً عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ لِأَنَّ الِاسْمَ يَتَنَاوَلُهُمْ اهـ. وَصَرَّحَ بِهِ صَاحِبُ مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ أَيْضًا هُنَاكَ حَيْثُ قَالَ: وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْوَصِيَّةَ لَهُمْ جَمِيعًا وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَأَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ فِي قَوْلٍ اهـ. وَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ رِوَايَةً أَيْضًا عَنْ أَبِي يُوسُفَ لَا قَوْلُهُ مُطْلَقًا كَمَا يُشِيرُ إلَيْهِ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ حَيْثُ ذَكَرَهُ بِكَلِمَةِ " عَنْ " وَلَمْ يَقُلْ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَيُرْشِدُ إلَيْهِ أَيْضًا أَنَّ شَمْسَ الْأَئِمَّةِ ذَكَرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الْكَبِيرِ وَلَمْ يَذْكُرْ الِاخْتِلَافَ فِيهَا، بَلْ ذَكَرَ فِيهَا الْقِيَاسَ وَالِاسْتِحْسَانَ، فَقَالَ فِي الْقِيَاسِ يَدْخُلُونَ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يَدْخُلُونَ، كَمَا ذَكَرَ تَفْصِيلَهُ فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ، فَالْعَجَبُ مِنْ ذَلِكَ الْبَعْضِ أَنَّهُ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى رِوَايَةِ تَجْوِيزِ أَبِي يُوسُفَ تَنَاوُلَ الِاسْمِ لِلْكُلِّ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ مَعًا مَعَ كَوْنِهَا مَذْكُورَةً فِي الْكُتُبِ الْمَشْهُورَةِ الْمُتَدَاوِلَةِ، فَتَعْجَبُ أَنَّهُ جَوَّزَ التَّنَاوُلَ لِلْكُلِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ دُونَ الْأُولَى وَمَفَاسِدُ قِلَّةِ التَّدْبِيرِ وَالتَّتَبُّعِ مِمَّا يَضِيقُ عَنْ الْإِحَاطَةِ بِهِ

ص: 483

مِنْهُ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَوَالٍ وَلَا أَوْلَادُ الْمَوَالِي لِأَنَّ اللَّفْظَ لَهُمْ مَجَازٌ فَيُصْرَفُ إلَيْهِ عِنْدَ تَعَذُّرِ اعْتِبَارِ الْحَقِيقَةِ. وَلَوْ كَانَ لَهُ مُعْتَقٌ وَاحِدٌ وَمَوَالِي الْمَوَالِي فَالنِّصْفُ لِمُعْتَقٍ وَالْبَاقِي لِلْوَرَثَةِ لِتَعَذُّرِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ، وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ مَوَالٍ أَعْتَقَهُمْ ابْنُهُ أَوْ أَبُوهُ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا بِمَوَالِيهِ لَا حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا، وَإِنَّمَا يُحْرِزُ مِيرَاثُهُمْ بِالْعُصُوبَةِ،

نِطَاقُ الْبَيَانِ.

(قَوْلُهُ وَبِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَوَالٍ وَلَا أَوْلَادُ الْمَوَالِي، لِأَنَّ اللَّفْظَ لَهُمْ مَجَازٌ فَيُصْرَفُ إلَيْهِ عِنْدَ تَعَذُّرِ اعْتِبَارِ الْحَقِيقَةِ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ: وَبِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَوَالٍ: أَيْ مَوَالِي الْعَتَاقَةِ وَلَا أَوْلَادِ الْمَوَالِي: أَيْ وَلَا أَوْلَادُ مَوَالِي الْعَتَاقَةِ يَعْنِي حِينَئِذٍ الثُّلُثُ لِمَوَالِي الْمُوَالَاةِ. وَقَالَ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ: وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إلَّا مَوَالِي الْمُوَالَاةِ كَانَ الثُّلُثُ لَهُمْ لِأَنَّ الْأَحَقَّ إذَا لَمْ يُوجَدْ وَجَبَ الْعَمَلُ بِمَا دُونَهُ انْتَهَى، وَاقْتَفَى أَثَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ. أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا بِشَرْحٍ صَحِيحٍ، إذْ لَوْ كَانَ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ ذَلِكَ لَمَا صَحَّ تَعْلِيلُهُ بِقَوْلِهِ لِأَنَّ اللَّفْظَ لَهُمْ مَجَازٌ فَيُصْرَفُ إلَيْهِ عِنْدَ تَعَذُّرِ اعْتِبَارِ الْحَقِيقَةِ، فَإِنَّ لَفْظَ الْمَوْلَى مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْمُعْتَقِ وَبَيْنَ مَوْلَى الْمُوَالَاةِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ آنِفًا، وَمُحَمَّدٌ يَقُولُ: الْجِهَةُ مُخْتَلِفَةٌ، فِي الْمُعْتَقِ الْإِنْعَامُ وَفِي الْمَوْلَى عَقْدُ الِالْتِزَامِ، وَقَدْ صَرَّحَ الشُّرَّاحُ قَاطِبَةً بِاشْتِرَاكِهِ بَيْنَهُمَا وَبَيَّنُوا مُرَادَ الْمُصَنِّفِ هُنَاكَ عَلَى وَفْقِ ذَاكَ، فَلَوْ كَانَ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا مَا ذَهَبَ إلَيْهِ صَاحِبَا النِّهَايَةِ وَالْعِنَايَةِ لَمَا صَحَّ قَوْلُهُ فِي التَّعْلِيلِ لِأَنَّ اللَّفْظَ لَهُمْ مَجَازًا، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ اللَّفْظَ الْمُشْتَرَكَ حَقِيقَةٌ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ مَعْنَيَيْهِ أَوْ مَعَانِيهِ.

وَالصَّوَابُ أَنَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا هُوَ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَوَالٍ وَلَا أَوْلَادُ الْمَوَالِي فَالثُّلُثُ لِمَوَالِي الْمَوَالِي فَحِينَئِذٍ يَرْتَبِطُ قَوْلُهُ وَبِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَوَالٍ وَلَا أَوْلَادُ الْمَوَالِي بِمَا قَبْلَهُ أَشَدُّ ارْتِبَاطٍ، وَيَنْتَظِمُ تَعْلِيلُهُ بِقَوْلِهِ لِأَنَّ اللَّفْظَ لَهُمْ مَجَازٌ إلَخْ انْتِظَامًا تَامًّا كَمَا لَا يَخْفَى، وَقَدْ صَرَّحَ فِي الْكَافِي بِعَيْنِ مَا قُلْنَا عِنْدَ تَقْرِيرِهِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ، وَفِي غَايَةِ الْبَيَانِ أَيْضًا عِنْدَ شَرْحِ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ هُنَا، وَكَأَنَّ صَاحِبَ النِّهَايَةِ إنَّمَا اغْتَرَّ بِمَا نَقَلَهُ عَنْ الْجَامِعِ الْكَبِيرِ، فَإِنَّ الْمَذْكُورَ فِيهِ مَوَالِي الْمُوَالَاةِ دُونَ مَوَالِي الْمَوَالِي، لَكِنَّ التَّعْلِيلَ الْمَذْكُورَ هُنَاكَ وَهُوَ قَوْلُهُ لِأَنَّ الْأَحَقَّ إذَا لَمْ يُوجِبْ وَجَبَ الْعَمَلُ بِمَا دُونَهُ مُطَابِقٌ لِلْمَسْأَلَةِ غَيْرَ آبٍ عَنْهَا، فَإِنَّهُ لَا يُنَافِي الِاشْتِرَاكَ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ أَحَدُ مَعْنَيَيْ الْمُشْتَرَكِ أَحَقُّ بِالْإِرَادَةِ مِنْ الْآخَرِ لِأَمْرٍ مُرَجَّحٍ، وَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ حَقِيقَةً فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ فِيمَا مَرَّ بِقَوْلِهِ وَالْإِعْتَاقُ لَازِمٌ فَكَانَ الِاسْمُ لَهُ أَحَقَّ، بِخِلَافِ تَعْلِيلِ الْمُصَنِّفِ هُنَا عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يُرَادَ بِالْمَسْأَلَةِ مَا ذُكِرَ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ كَمَا تَوَهَّمَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَتَبِعَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فَإِنَّهُ لَا يُطَابِقُ الْمَسْأَلَةَ حِينَئِذٍ بَلْ يَأْبَاهُ جِدًّا كَمَا بَيَّنَّاهُ آنِفًا.

(قَوْلُهُ وَلَوْ كَانَ لَهُ مُعْتَقٌ وَاحِدٌ وَمَوَالِي الْمَوَالِي فَالنِّصْفُ لِمُعْتَقِهِ وَالْبَاقِي لِلْوَرَثَةِ لِتَعَذُّرِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ) أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لِمَ لَا يُصَارُ هَاهُنَا إلَى عُمُومِ الْمَجَازِ صِيَانَةً لِكَلَامِ الْعَاقِلِ عَنْ الْإِلْقَاءِ فِي حَقِّ النِّصْفِ، وَالْمَصِيرُ إلَى عُمُومِ الْمَجَازِ مُخَلِّصٌ مَعْرُوفٌ فِي دَفْعِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ. وَطَرِيقُهُ هَاهُنَا أَنْ يُحْمَلَ الْمَوَالِي عَلَى مَنْ كَانَ لِلْمُوصِي مَدْخَلٌ فِي عِتْقِهِ أَعَمَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ بِطَرِيقِ الْمُبَاشَرَةِ كَمَا فِي مُعْتِقِ نَفْسِهِ أَوْ بِطَرِيقِ التَّسْبِيبِ كَمَا فِي مُعْتِقِ مُعْتِقِهِ فَلْيَتَأَمَّلْ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 484

بِخِلَافِ مُعْتَقِ الْبَعْضِ لِأَنَّهُ يُنْسَبُ إلَيْهِ بِالْوَلَاءِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

(بَابُ الْوَصِيَّةِ بِالسُّكْنَى وَالْخِدْمَةِ وَالثَّمَرَةِ)

قَالَ (وَتَجُوزُ الْوَصِيَّةُ بِخِدْمَةِ عَبْدِهِ وَسُكْنَى دَارِهِ سِنِينَ مَعْلُومَةً وَتَجُوزُ بِذَلِكَ أَبَدًا) لِأَنَّ الْمَنَافِعَ يَصِحُّ تَمْلِيكُهَا فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ بِبَدَلٍ وَغَيْرِ بَدَلٍ، فَكَذَا بَعْدَ الْمَمَاتِ لِحَاجَتِهِ كَمَا فِي الْأَعْيَانِ، وَيَكُونُ مَحْبُوسًا عَلَى مِلْكِهِ فِي حَقِّ الْمَنْفَعَةِ حَتَّى يَتَمَلَّكَهَا الْمُوصَى لَهُ عَلَى مِلْكِهِ كَمَا يَسْتَوْفِي الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ مَنَافِعَ الْوَقْفِ عَلَى حُكْمِ مِلْكِ الْوَاقِفِ، وَتَجُوزُ مُؤَقَّتًا وَمُؤَبَّدًا كَمَا فِي الْعَارِيَّةِ فَإِنَّهَا تَمْلِيكٌ عَلَى أَصْلِنَا، بِخِلَافِ الْمِيرَاثِ لِأَنَّهُ خِلَافُهُ فِيمَا يَتَمَلَّكُهُ الْمُوَرِّثُ وَذَلِكَ

(بَابُ الْوَصِيَّةِ بِالْمَنَافِعِ)

لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ أَحْكَامِ الْوَصَايَا الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْأَعْيَانِ شَرَعَ فِي بَيَانِ الْوَصَايَا الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْمَنَافِعِ، وَأَخَّرَ هَذَا الْبَابَ لِمَا أَنَّ الْمَنَافِعَ بَعْدَ الْأَعْيَانِ وُجُودًا فَأَخَّرَهَا عَنْهَا وَضْعًا، كَذَا فِي الشُّرُوحِ. أَقُولُ: فِيهِ شَيْءٌ، وَهُوَ أَنَّ هَذَا إنَّمَا يَتِمُّ فِي حَقِّ الْوَصِيَّةِ بِالسُّكْنَى وَالْوَصِيَّةِ بِالْخِدْمَةِ دُونَ الْوَصِيَّةِ بِالثَّمَرَةِ، لِأَنَّ الثَّمَرَةَ مِنْ قَبِيلِ الْأَعْيَانِ. وَالْبَابُ يَشْمَلُ الْأَقْسَامَ الثَّلَاثَةَ كُلَّهَا عُنْوَانًا وَأَحْكَامًا فَلَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ،

ص: 485

فِي عَيْنٍ تَبْقَى وَالْمَنْفَعَةُ عَرْضٌ لَا يَبْقَى، وَكَذَا الْوَصِيَّةُ بِغَلَّةِ الْعَبْدِ وَالدَّارِ لِأَنَّهُ بَدَلُ الْمَنْفَعَةِ فَأَخَذَ حُكْمَهَا وَالْمَعْنَى يَشْمَلُهُمَا.

قَالَ (فَإِنْ خَرَجَتْ رَقَبَةُ الْعَبْدِ مِنْ الثُّلُثِ يُسَلَّمُ إلَيْهِ لِيَخْدُمَهُ) لِأَنَّ حَقَّ الْمُوصَى لَهُ فِي الثُّلُثِ لَا يُزَاحِمُهُ الْوَرَثَةُ (وَإِنْ كَانَ لَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُ خَدَمَ الْوَرَثَةَ يَوْمَيْنِ وَالْمُوصَى لَهُ يَوْمًا) لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الثُّلُثِ وَحَقَّهُمْ فِي الثُّلُثَيْنِ كَمَا فِي الْوَصِيَّةِ فِي الْعَيْنِ وَلَا تُمْكِنُ قِسْمَةُ الْعَبْدِ أَجْزَاءً لِأَنَّهُ لَا يَتَجَزَّأُ فَصِرْنَا إلَى الْمُهَايَأَةِ إيفَاءً لِلْحَقَّيْنِ، بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ بِسُكْنَى الدَّارِ إذَا كَانَتْ لَا تَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ حَيْثُ تُقَسَّمُ عَيْنُ الدَّارِ ثَلَاثًا لِلِانْتِفَاعِ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ الْقِسْمَةُ بِالْأَجْزَاءِ وَهُوَ أَعْدَلُ لِلتَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا زَمَانًا وَذَاتًا، وَفِي الْمُهَايَأَةِ تَقْدِيمُ أَحَدِهِمَا زَمَانًا. وَلَوْ اقْتَسَمُوا الدَّارَ مُهَايَأَةً مِنْ حَيْثُ الزَّمَانُ تَجُوزُ أَيْضًا لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمْ، إلَّا أَنَّ الْأَوَّلَ وَهُوَ الْأَعْدَلُ أَوْلَى، وَلَيْسَ لِلْوَرَثَةِ أَنْ يَبِيعُوا مَا فِي أَيْدِيهِمْ مِنْ ثُلُثَيْ الدَّارِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله أَنَّ لَهُمْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ خَالِصُ مِلْكِهِمْ. وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ حَقَّ الْمُوصَى لَهُ ثَابِتٌ فِي سُكْنَى جَمِيعِ الدَّارِ بِأَنْ ظَهَرَ لِلْمَيِّتِ مَالٌ آخَرُ وَتَخْرُجُ الدَّارُ مِنْ الثُّلُثِ، وَكَذَا لَهُ حَقُّ الْمُزَاحَمَةِ فِيمَا فِي أَيْدِيهِمْ إذَا خَرِبَ مَا فِي يَدِهِ.

وَإِنْ صُيِّرَ إلَى التَّوْجِيهِ بِبِنَاءِ الْكَلَامِ عَلَى الْأَكْثَرِ يَبْقَى تَأْخِيرُ الْوَصِيَّةِ بِالثَّمَرَةِ خَالِيًا عَنْ بَيَانِ النُّكْتَةِ كَمَا لَا يَخْفَى.

(قَوْلُهُ إلَّا أَنَّ الْأَوَّلَ وَهُوَ الْأَعْدَلُ أَوْلَى) قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: فِيهِ أَنَّ الْمَفْرُوضَ كَوْنُ الْمُهَايَأَةِ بِاخْتِيَارِهِمْ، فَالْمُتَأَخِّرُ يَسْقُطُ حَقُّهُ فَلَا تَبْقَى الْأَوْلَوِيَّةُ إلَّا بِإِلْزَامِ الْحَاكِمِ حَتَّى يَكُونَ أَوْلَى انْتَهَى. أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا بِسَدِيدٍ. لِأَنَّ إسْقَاطَ الْمُتَأَخِّرِ حَقَّهُ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ بِطِيبِ خَاطِرِهِ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعَ الْكَرَاهَةِ لِأَمْرٍ يَدْعُو إلَيْهِ، فَكَيْفَ يُسَاوِي هَذَا اسْتِيفَاءَ حَقِّهِ كَامِلًا كَمَا فِي الْأَوَّلِ. ثُمَّ إنْ سَلِمَ كَوْنُ إسْقَاطِ حَقِّهِ عَلَى طِيبِ خَاطِرِهِ أَلْبَتَّةَ فَهُوَ لَا يَقْتَضِي إلَّا انْتِفَاءَ الظُّلْمِ لَهُ وَتَحَقُّقَ الْعَدْلِ فِي الْجُمْلَةِ وَذَلِكَ لَا يُنَافِي كَوْنَ الْأَوَّلِ أَعْدَلَ مِنْهُ لِلتَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمْ ذَاتًا وَزَمَانًا، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَعْدَلَ أَوْلَى.

(قَوْلُهُ وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ حَقَّ الْمُوصَى لَهُ ثَابِتٌ فِي سُكْنَى جَمِيعِ الدَّارِ بِأَنْ ظَهَرَ لِلْمَيِّتِ مَالٌ آخَرُ وَتَخْرُجُ الدَّارُ مِنْ الثُّلُثِ) أَقُولُ: فِيهِ بَحْثٌ. أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُ مَنْقُوضٌ بِمَا إذَا أَوْصَى لِرَجُلٍ بِعَيْنِ دَارِهِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرَهَا فَاقْتَسَمَهَا الْمُوصَى لَهُ مَعَ الْوَرَثَةِ عَلَى الثُّلُثِ وَالثُّلُثَيْنِ فَإِنَّ لِلْوَرَثَةِ هُنَاكَ أَنْ يَبِيعُوا مَا فِي أَيْدِيهمْ مِنْ ثُلُثَيْ تِلْكَ الدَّارِ بِلَا خِلَافٍ مَعَ جَرَيَانِ هَذَا الدَّلِيلِ هُنَاكَ أَيْضًا؛ بِأَنْ يُقَالَ: إنَّ حَقَّ الْمُوصَى لَهُ ثَابِتٌ فِي عَيْنِ جَمِيعِ الدَّارِ بِأَنْ ظَهَرَ لِلْمَيِّتِ مَالٌ آخَرُ وَتَخْرُجُ الدَّارُ مِنْ الثُّلُثِ. وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّهُ إنْ كَانَ حَقُّ الْمُوصَى لَهُ ثَابِتًا فِي سُكْنَى جَمِيعِ الدَّارِ بِمُجَرَّدِ احْتِمَالِ ظُهُورِ مَالٍ آخَرَ لِلْمَيِّتِ وَخُرُوجِ الدَّارِ مِنْ الثُّلُثِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ حَقُّ الْوَرَثَةِ أَيْضًا ثَابِتًا فِي سُكْنَى جَمِيعِ تِلْكَ الدَّارِ أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ يَلْزَمُ أَنْ يَثْبُتَ فِي سُكْنَى جَمِيعِ الدَّارِ

ص: 486

وَالْبَيْعُ يَتَضَمَّنُ إبْطَالَ ذَلِكَ فَمَنَعُوا عَنْهُ. قَالَ (فَإِنْ كَانَ مَاتَ الْمُوصَى لَهُ عَادَ إلَى الْوَرَثَةِ) لِأَنَّ الْمُوصِيَ أَوْجَبَ الْحَقَّ لِلْمُوصَى لَهُ لِيَسْتَوْفِيَ الْمَنَافِعَ عَلَى حُكْمِ مِلْكِهِ، فَلَوْ انْتَقَلَ إلَى وَارِثِ الْمُوصَى لَهُ اسْتَحَقَّهَا ابْتِدَاءً مِنْ مِلْكِ الْمُوصِي مِنْ غَيْرِ مَرْضَاتِهِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ

(وَلَوْ مَاتَ الْمُوصَى لَهُ فِي حَيَاةِ الْمُوصِي بَطَلَتْ) لِأَنَّ إيجَابَهَا تَعَلَّقَ بِالْمَوْتِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ. وَلَوْ أَوْصَى بِغَلَّةِ عَبْدِهِ أَوْ دَارِهِ فَاسْتَخْدَمَهُ بِنَفْسِهِ أَوْ سَكَنَهَا بِنَفْسِهِ قِيلَ يَجُوزُ ذَلِكَ لِأَنَّ قِيمَةَ الْمَنَافِعِ كَعَيْنِهَا فِي تَحْصِيلِ الْمَقْصُودِ. وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْغَلَّةَ دَرَاهِمُ أَوْ دَنَانِيرُ وَقَدْ وَجَبَتْ الْوَصِيَّةُ بِهَا، وَهَذَا اسْتِيفَاءُ الْمَنَافِعِ وَهُمَا مُتَغَايِرَانِ وَمُتَفَاوِتَانِ فِي حَقِّ الْوَرَثَةِ، فَإِنَّهُ لَوْ ظَهَرَ دَيْنٌ يُمْكِنُهُمْ أَدَاؤُهُ مِنْ الْغَلَّةِ بِالِاسْتِرْدَادِ مِنْهُ بَعْدَ اسْتِغْلَالِهَا وَلَا يُمْكِنُهُمْ مِنْ الْمَنَافِعِ بَعْدَ اسْتِيفَائِهَا بِعَيْنِهَا، وَلَيْسَ لِلْمُوصَى لَهُ بِالْخِدْمَةِ وَالسُّكْنَى أَنْ يُؤَاجِرَ الْعَبْدَ أَوْ الدَّارَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ بِالْوَصِيَّةِ مَلَكَ الْمَنْفَعَةَ فَيَمْلِكُ تَمْلِيكَهَا مِنْ غَيْرِهِ بِبَدَلٍ أَوْ غَيْرِ بَدَلٍ لِأَنَّهَا كَالْأَعْيَانِ عِنْدَهُ، بِخِلَافِ الْعَارِيَّةِ لِأَنَّهَا إبَاحَةٌ عَلَى أَصْلِهِ وَلَيْسَ بِتَمْلِيكٍ وَلَنَا أَنَّ الْوَصِيَّةَ تَمْلِيكٌ بِغَيْرِ بَدَلٍ مُضَافٍ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ فَلَا يَمْلِكُ تَمْلِيكَهُ بِبَدَلٍ اعْتِبَارًا بِالْإِعَارَةِ فَإِنَّهَا تَمْلِيكٌ بِغَيْرِ بَدَلٍ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ عَلَى أَصْلِنَا، وَلَا يَمْلِكُ الْمُسْتَعِيرُ الْإِجَارَةَ لِأَنَّهَا تَمْلِيكٌ بِبَدَلٍ، كَذَا هَذَا.

وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ التَّمْلِيكَ بِبَدَلٍ لَازِمٌ وَبِغَيْرِ بَدَلٍ غَيْرُ لَازِمٍ، وَلَا يَمْلِكُ الْأَقْوَى بِالْأَضْعَفِ وَالْأَكْثَرَ بِالْأَقَلِّ، وَالْوَصِيَّةُ تَبَرُّعٌ غَيْرُ لَازِمٍ إلَّا أَنَّ الرُّجُوعَ لِلْمُتَبَرِّعِ لَا لِغَيْرِهِ وَالْمُتَبَرِّعُ بَعْدَ الْمَوْتِ لَا يُمْكِنُهُ الرُّجُوعُ فَلِهَذَا انْقَطَعَ، أَمَّا هُوَ فِي وَضْعِهِ فَغَيْرُ لَازِمٍ، وَلِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ لَيْسَتْ بِمَالٍ عَلَى أَصْلِنَا وَفِي تَمْلِيكِهَا بِالْمَالِ إحْدَاثُ صِفَةِ الْمَالِيَّةِ فِيهَا تَحْقِيقًا لِلْمُسَاوَاةِ فِي عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ،

الْوَاحِدَةِ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ حُقُوقُ أَشْخَاصٍ، وَاللَّازِمُ بَاطِلٌ لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَسْكُنَ أَشْخَاصٌ مُتَعَدِّدَةٌ عَلَى حِدَةٍ فِي جَمِيعِ مَحَلٍّ وَاحِدٍ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ لِاسْتِلْزَامِهِ تَدَاخُلَ الْأَجْسَامِ وَظُهُورَ بُطْلَانِ تَعَلُّقِ الْحَقِّ بِأَمْرٍ مُحَالٍ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي يَلْزَمُ أَنْ لَا يُقْسَمَ عَيْنُ الدَّارِ بَيْنَ الْمُوصَى لَهُ وَالْوَرَثَةِ أَثْلَاثًا لِلِانْتِفَاعِ، وَأَنْ لَا يُقْسَمَ الدَّارُ بَيْنَهُمْ مُهَايَأَةً مِنْ حَيْثُ الزَّمَانُ أَثْلَاثًا لِثُبُوتِ حَقِّ الْمُوصَى لَهُ فِي سُكْنَى جَمِيعِ

ص: 487

فَإِنَّمَا تَثْبُتُ هَذِهِ الْوِلَايَةُ لِمَنْ يَمْلِكُهَا تَبَعًا لَمِلْكِ الرَّقَبَةِ، أَوْ لِمَنْ يَمْلِكُهَا بِعَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ حَتَّى يَكُونَ مُمَلَّكًا لَهَا بِالصِّفَةِ الَّتِي تَمَلَّكَهَا، أَمَّا إذَا تَمَلَّكَهَا مَقْصُودَةً بِغَيْرِ عِوَضٍ ثُمَّ مَلَكَهَا بِعِوَضٍ كَانَ مُمَلَّكًا أَكْثَرَ مِمَّا تَمَلَّكَهُ مَعْنًى وَهَذَا لَا يَجُوزُ، وَلَيْسَ لِلْمُوصَى لَهُ أَنْ يُخْرِجَ الْعَبْدَ مِنْ الْكُوفَةِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُوصَى لَهُ وَأَهْلُهُ فِي غَيْرِ الْكُوفَةِ فَيُخْرِجُهُ إلَى أَهْلِهِ لِلْخِدْمَةِ هُنَالِكَ إذَا كَانَ يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ، لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ إنَّمَا تَنْفُذُ عَلَى مَا يُعْرَفُ مِنْ مَقْصُودِ الْمُوصِي، فَإِذَا كَانُوا فِي مِصْرِهِ فَمَقْصُودُهُ أَنْ يُمَكِّنَهُ مِنْ خِدْمَتِهِ فِيهِ بِدُونِ أَنْ يَلْزَمَهُ مَشَقَّةُ السَّفَرِ، وَإِذَا كَانُوا فِي غَيْرِهِ فَمَقْصُودُهُ أَنْ يَحْمِلَ الْعَبْدَ إلَى أَهْلِهِ لِيَخْدُمَهُمْ.

وَلَوْ أَوْصَى بِغَلَّةِ عَبْدِهِ أَوْ بِغَلَّةِ دَارِهِ يَجُوزُ أَيْضًا لِأَنَّهُ بَدَلُ الْمَنْفَعَةِ فَأَخَذَ حُكْمَ الْمَنْفَعَةِ فِي جَوَازِ الْوَصِيَّةِ بِهِ، كَيْفَ وَأَنَّهُ عَيْنٌ حَقِيقَةً لِأَنَّهُ دَرَاهِمُ أَوْ دَنَانِيرُ فَكَانَ بِالْجَوَازِ أَوْلَى، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ كَانَ لَهُ ثُلُثُ غَلَّةِ تِلْكَ السَّنَةِ لِأَنَّهُ عَيْنُ مَالٍ يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ بِالْأَجْزَاءِ، فَلَوْ أَرَادَ الْمُوصَى لَهُ قِسْمَةَ الدَّارِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوَرَثَةِ لِيَكُونَ هُوَ الَّذِي يَسْتَغِلُّ ثُلُثَهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ إلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فَإِنَّهُ يَقُولُ: الْمُوصَى لَهُ شَرِيكُ الْوَارِثِ وَلِلشَّرِيكِ ذَلِكَ، فَكَذَلِكَ لِلْمُوصَى لَهُ، إلَّا أَنْ نَقُولَ: الْمُطَالَبَةُ بِالْقِسْمَةِ تُبْتَنَى عَلَى ثُبُوتِ الْحَقِّ لِلْمُوصَى لَهُ فِيمَا يُلَاقِيهِ الْقِسْمَةُ إذْ هُوَ الْمُطَالِبُ، وَلَا حَقَّ لَهُ فِي عَيْنِ الدَّارِ، وَإِنَّمَا حَقُّهُ فِي الْغَلَّةِ فَلَا يَمْلِكُ الْمُطَالَبَةَ بِقِسْمَةِ الدَّارِ، وَلَوْ أَوْصَى لَهُ بِخِدْمَةِ عَبْدِهِ وَلِآخَرَ بِرَقَبَتِهِ وَهُوَ يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ فَالرَّقَبَةُ لِصَاحِبِ الرَّقَبَةِ وَالْخِدْمَةُ عَلَيْهَا لِصَاحِبِ الْخِدْمَةِ، لِأَنَّهُ أَوْجَبَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَيْئًا مَعْلُومًا عَطْفًا مِنْهُ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ فَتُعْتَبَرُ هَذِهِ الْحَالَةُ بِحَالَةِ الِانْفِرَادِ.

الدَّارِ وَعَدَمِ ثُبُوتِ حَقِّ الْوَرَثَةِ فِي ذَلِكَ عَلَى الْفَرْضِ. مَعَ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ خِلَافُ ذَلِكَ كَمَا مَرَّ آنِفًا فِي الْكِتَابِ

(قَوْلُهُ فَإِنَّمَا تَثْبُتُ هَذِهِ الْوِلَايَةُ لِمَنْ تَمَلَّكَهَا تَبَعًا لِمِلْكِ الرَّقَبَةِ أَوْ لِمَنْ تَمَلَّكَهَا بِعَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ حَتَّى يَكُونَ مُمَلَّكًا لَهَا بِالصِّفَةِ الَّتِي تَمَلَّكَهَا) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ: وَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ بِإِجَارَةِ الْحُرِّ نَفْسَهُ فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُ مَنْفَعَتَهُ تَبَعًا لِمِلْكِ رَقَبَتِهِ وَلَا بِعَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَمْلِكَهَا بِبَدَلٍ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ كَلَامَ الْمُصَنِّفِ فِي الْوَصِيَّةِ فَمُرَادُهُ بِالْمَنْفَعَةِ مَنْفَعَةٌ تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ بِهَا وَمَنْفَعَةُ الْحُرِّ لَيْسَتْ كَذَلِكَ فَلَا يَكُونُ وَارِدًا عَلَيْهِ اهـ.

أَقُولُ: الْجَوَابُ مَنْظُورٌ فِيهِ، لِأَنَّ كَوْنَ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ فِي الْوَصِيَّةِ لَا يَقْتَضِي كَوْنَ مُرَادِهِ بِالْمَنْفَعَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي مُقَدِّمَاتِ دَلِيلِهِ مَنْفَعَةٌ تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ بِهَا،

ص: 488

ثُمَّ لَمَّا صَحَّتْ الْوَصِيَّةُ لِصَاحِبِ الْخِدْمَةِ، فَلَوْ لَمْ يُوصِ فِي الرَّقَبَةِ مِيرَاثًا لِلْوَرَثَةِ مَعَ كَوْنِ الْخِدْمَةِ لِلْمُوصَى لَهُ، فَكَذَا إذَا أَوْصَى بِالرَّقَبَةِ لِإِنْسَانٍ آخَرَ، إذْ الْوَصِيَّةُ أُخْتُ الْمِيرَاثِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ فِيهِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ. وَلَهَا نَظَائِرُ، وَهُوَ مَا إذَا أَوْصَى بِأَمَةٍ لِرَجُلٍ وَبِمَا فِي بَطْنِهَا لِآخَرَ وَهِيَ تَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ، أَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِخَاتَمٍ وَلِآخَرَ بِفَصِّهِ، أَوْ قَالَ هَذِهِ الْقَوْصَرَةِ لِفُلَانٍ وَمَا فِيهَا مِنْ التَّمْرِ لِفُلَانٍ كَانَ كَمَا أَوْصَى، وَلَا شَيْءَ لِصَاحِبِ الظَّرْفِ فِي الْمَظْرُوفِ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ كُلِّهَا، أَمَّا إذَا فَصَلَ أَحَدُ الْإِيجَابَيْنِ عَنْ الْآخَرِ فِيهَا فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ.

وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ الْأَمَةُ لِلْمُوصَى لَهُ بِهَا وَالْوَلَدُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، وَكَذَلِكَ فِي أَخَوَاتِهَا. لِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ بِإِيجَابِهِ فِي الْكَلَامِ الثَّانِي تَبَيَّنَ أَنَّ مُرَادَهُ مِنْ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ إيجَابُ الْأَمَةِ لِلْمُوصَى لَهُ بِهَا دُونَ الْوَلَدِ، وَهَذَا الْبَيَانُ مِنْهُ صَحِيحٌ وَإِنْ كَانَ مَفْصُولًا لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لَا تُلْزِمُ شَيْئًا فِي حَالِ حَيَاةِ الْمُوصِي فَكَانَ الْبَيَانُ الْمَفْصُولُ فِيهِ وَالْمَوْصُولُ سَوَاءً

فَإِنَّ مُقَدِّمَاتِ الدَّلِيلِ لَا يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ مُسَاوِيَةً لِلْمُدَّعَى، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ كُلِّيَّةِ الْكُبْرَى إذَا كَانَ إنْتَاجُ الدَّلِيلِ بِطَرِيقِ الشَّكْلِ الْأَوَّلِ وَهَاهُنَا كَذَلِكَ. إذْ حَاصِلُ هَذَا الدَّلِيلِ أَنَّ الْخِدْمَةَ وَالسُّكْنَى مِنْ قَبِيلِ الْمَنَافِعِ وَالْمَنَافِعُ لَيْسَتْ بِمَالٍ عَلَى أَصْلِنَا، وَمَا لَيْسَ بِمَالٍ فِي تَمْلِيكِهِ بِالْمَالِ إحْدَاثُ صِفَةِ الْمَالِيَّةِ فِيهِ تَحْقِيقًا لِلْمُسَاوَاةِ فِي عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ، وَمَا فِي تَمْلِيكِهِ إحْدَاثُ صِفَةِ الْمَالِيَّةِ فِيهِ لَا تَثْبُتُ الْوِلَايَةُ عَلَيْهِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ إلَّا لِمَنْ تَمَلَّكَهُ تَبَعًا لِمِلْكِ الرَّقَبَةِ أَوْ لِمَنْ تَمَلَّكَهُ بِعَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ حَتَّى يَكُونَ مُمَلَّكًا لَهَا بِالصِّفَةِ الَّتِي تَمَلَّكَهَا وَلَا يَكُونُ مُمَلَّكًا أَكْثَرَ مِمَّا تَمَلَّكَهُ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ شَرْعًا، وَلَا يَذْهَبُ عَلَى ذِي مُسْكَةٍ أَنَّ مَا عَدَا الصُّغْرَى مِنْ الْمُقَدِّمَاتِ الْمَذْكُورَةِ مَعَ اقْتِضَاءِ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ كُلِّيَّةً كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا فِي نَفْسِهَا لَا مَجَالَ لِتَقْيِيدِ شَيْءٍ مِنْهَا بِمَا يَخْرُجُ بِهِ مَنْفَعَةُ الْحُرِّ لِوُقُوعِهَا فِي مَحَلِّ الْكُبْرَى مِنْ الشَّكْلِ الْأَوَّلِ تَبَصَّرْ

(قَوْلُهُ ثُمَّ لَمَّا صَحَّتْ الْوَصِيَّةُ لِصَاحِبِ الْخِدْمَةِ إلَخْ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَقَوْلُهُ لَمَّا صَحَّتْ الْوَصِيَّةُ لِصَاحِبِ الْخِدْمَةِ كَالْبَيَانِ وَالتَّفْسِيرِ لِمَا قَبْلَهُ مِنْ حَالَةِ الِانْفِرَادِ: يَعْنِي لَوْ كَانَتْ الْوَصِيَّةُ بِالْخِدْمَةِ مُنْفَرِدَةً كَانَتْ الرَّقَبَةُ مِيرَاثًا لِلْوَرَثَةِ وَالْخِدْمَةُ لِلْمُوصَى لَهُ مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاكٍ فَكَذَا إذَا أَوْصَى بِالرَّقَبَةِ لِإِنْسَانٍ آخَرَ تَكُونُ الرَّقَبَةُ لَهُ وَالْخِدْمَةُ لِلْمُوصَى لَهُ بِهَا، إذْ الْوَصِيَّةُ أُخْتُ الْمِيرَاثِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْمِلْكَ فِيهِمَا يَثْبُتُ بَعْدَ الْمَوْتِ اهـ. أَقُولُ: إنَّ قَوْلَهُ السَّابِقَ كَالْبَيَانِ وَالتَّفْسِيرِ لِمَا قَبْلَهُ مِنْ حَالَةِ الِانْفِرَادِ لَيْسَ بِسَدِيدٍ. وَالْحَقُّ أَنْ يُقَالَ: كَالْبَيَانِ وَالتَّفْسِيرِ لِمَا قَبْلَهُ مِنْ اعْتِبَارِ هَذِهِ الْحَالَةِ بِحَالَةِ الِانْفِرَادِ، لِأَنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ ثُمَّ لَمَّا صَحَّتْ الْوَصِيَّةُ لِصَاحِبِ الْخِدْمَةِ إلَخْ، وَكَذَا مَا ذَكَرَهُ الشَّارِحُ الْمَزْبُورُ بِقَوْلِهِ يَعْنِي لَوْ كَانَتْ الْوَصِيَّةُ بِالْخِدْمَةِ إلَخْ إنَّمَا يُفِيدُ أَنَّ بَيَانَ اعْتِبَارِ هَذِهِ الْحَالَةِ بِحَالَةِ الِانْفِرَادِ لَا بَيَانِ حَالَةِ

ص: 489

كَمَا فِي وَصِيَّةِ الرَّقَبَةِ وَالْخِدْمَةِ. وَلِمُحَمَّدٍ أَنَّ اسْمَ الْخَاتَمِ يَتَنَاوَلُ الْحَلْقَةَ وَالْفَصَّ. وَكَذَلِكَ اسْمُ الْجَارِيَةِ يَتَنَاوَلُهَا وَمَا فِي بَطْنِهَا. وَاسْمُ الْقَوْصَرَةِ كَذَلِكَ، وَمِنْ أَصْلِنَا أَنَّ الْعَامَّ الَّذِي مُوجِبُهُ ثُبُوتُ الْحُكْمِ عَلَى سَبِيلِ الْإِحَاطَةِ بِمَنْزِلَةِ الْخَاصِّ فَقَدْ اجْتَمَعَ فِي الْفَصِّ وَصِيَّتَانِ وَكُلٌّ مِنْهُمَا وَصِيَّةٌ بِإِيجَابٍ عَلَى حِدَةٍ فَيُجْعَلُ الْفَصُّ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَلَا يَكُونُ إيجَابُ الْوَصِيَّةِ فِيهِ لِلثَّانِي رُجُوعًا عَنْ الْأَوَّلِ، كَمَا إذَا أَوْصَى لِلثَّانِي بِالْخَاتَمِ، بِخِلَافِ الْخِدْمَةِ مَعَ الرَّقَبَةِ لِأَنَّ اسْمَ الرَّقَبَةِ لَا يَتَنَاوَلُ الْخِدْمَةَ وَإِنَّمَا يَسْتَخْدِمُهُ الْمُوصَى لَهُ بِحُكْمِ أَنَّ الْمَنْفَعَةَ حَصَلَتْ عَلَى مِلْكِهِ، فَإِذَا أَوْجَبَ الْخِدْمَةَ لِغَيْرِهِ لَا يَبْقَى لِلْمُوصَى لَهُ فِيهِ حَقٌّ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْكَلَامُ مَوْصُولًا لِأَنَّ ذَلِكَ دَلِيلُ التَّخْصِيصِ وَالِاسْتِثْنَاءِ، فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ أَوْجَبَ لِصَاحِبِ الْخَاتَمِ الْحَلْقَةَ خَاصَّةً دُونَ الْفَصِّ.

قَالَ (وَمَنْ أَوْصَى لِآخَرَ بِثَمَرَةِ بُسْتَانِهِ ثُمَّ مَاتَ وَفِيهِ ثَمَرَةٌ فَلَهُ هَذِهِ الثَّمَرَةُ وَحْدَهَا، وَإِنْ قَالَ لَهُ ثَمَرَةُ بُسْتَانِي أَبَدًا فَلَهُ هَذِهِ الثَّمَرَةُ وَثَمَرَتُهُ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ مَا عَاشَ، وَإِنْ أَوْصَى

الِانْفِرَادِ وَحْدَهَا كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ لَهُ أَدْنَى مُسْكَةٍ.

(قَوْلُهُ وَلِمُحَمَّدٍ أَنَّ اسْمَ الْخَاتَمِ يَتَنَاوَلُ الْحَلْقَةَ وَالْفَصَّ، وَكَذَا اسْمُ الْجَارِيَةِ يَتَنَاوَلُهَا وَمَا فِي بَطْنِهَا) قُلْت: لَيْسَ الْمُرَادُ بِتَنَاوُلِ اسْمِ الْخَاتَمِ لِلْفَصِّ وَبِتَنَاوُلِ اسْمِ الْجَارِيَةِ لِمَا فِي بَطْنِهَا تَنَاوُلَهُمَا لَهُمَا لَفْظًا وَأَصَالَةً، وَإِلَّا يَلْزَمُ أَنْ يُخَالِفَ هَذَا مَا مَرَّ فِي مَسْأَلَةِ صِحَّةِ الْوَصِيَّةِ بِجَارِيَةٍ إلَّا حَمْلَهَا مِنْ أَنَّ اسْمَ الْجَارِيَةِ لَا يَتَنَاوَلُ الْحَمْلَ لَفْظًا وَلَكِنَّهُ يَسْتَحِقُّ بِالْإِطْلَاقِ تَبَعًا، فَإِذَا أَفْرَدَ الْأُمَّ بِالْوَصِيَّةِ صَحَّ إفْرَادُهَا، وَيَلْزَمُ أَنْ يُخَالِفَ أَيْضًا مَا مَرَّ فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ مِنْ أَنَّ الْفَصَّ لَا يَدْخُلُ فِي الْخَاتَمِ لَفْظًا بَلْ تَبَعًا، وَلِهَذَا لَوْ أَقَرَّ بِخَاتَمٍ لِرَجُلٍ وَاسْتَثْنَى فَصَّهُ لِنَفْسِهِ لَمْ يَصِحَّ الِاسْتِثْنَاءُ وَيَكُونُ الْحَلْقَةُ وَالْفَصُّ جَمِيعًا لِلْمُقَرِّ لَهُ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ تَصَرُّفٌ فِي الْمَلْفُوظِ. بَلْ إنَّمَا الْمُرَادُ هَاهُنَا بِتَنَاوُلِ اسْمِ الْخَاتَمِ لِلْفَصِّ وَاسْمِ الْجَارِيَةِ لِمَا فِي بَطْنِهَا تَنَاوُلُهُمَا لَهُمَا تَبَعًا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ فَتَرْتَفِعُ الْمُخَالَفَةُ كَمَا تَوَهَّمَهَا الْبَعْضُ (قَوْلُهُ وَمِنْ أَصْلِنَا أَنَّ الْعَامَّ الَّذِي مُوجِبُهُ ثُبُوتُ الْحُكْمِ عَلَى سَبِيلِ الْإِحَاطَةِ بِمَنْزِلَةِ الْخَاصِّ) أَقُولُ: لَا مَجَالَ لِلْعُمُومِ فِي الْأَلْفَاظِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَاتِيك الْمَسَائِلِ، لِأَنَّ الْحَلْقَةَ وَالْفَصَّ بِالنَّظَرِ إلَى اسْمِ الْخَاتَمِ، وَكَذَا الْجَارِيَةُ وَمَا فِي بَطْنِهَا بِالنَّظَرِ إلَى اسْمِ الْجَارِيَةِ، وَكَذَا الْقَوْصَرَةُ وَمَا فِيهَا بِالنَّظَرِ إلَى اسْمِ الْقَوْصَرَةِ بِمَنْزِلَةِ الْأَجْزَاءِ لِمَدْلُولَاتِ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ لَا جُزْئِيَّاتِ مَعَانِيهَا، إذْ لَا يَصْدُقُ مَعْنَى الْخَاتَمِ عَلَى الْفَصِّ وَحْدَهُ، وَلَا مَعْنَى الْجَارِيَةِ عَلَى مَا فِي بَطْنِهَا وَحْدَهُ، وَلَا مَعْنَى الْقَوْصَرَةِ عَلَى مَا فِي الْقَوْصَرَةِ مِنْ مِثْلِ الثَّمَرِ وَحْدَهُ، عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ فِي وَصِيَّةِ خَاتَمٍ بِعَيْنِهِ وَجَارِيَةٍ بِعَيْنِهَا وَقَوْصَرَةٍ بِعَيْنِهَا وَكُلٌّ مِنْ هَؤُلَاءِ جُزْئِيٌّ خَاصٌّ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ فِيهَا الْعُمُومُ، فَقَوْلُهُ وَمِنْ أَصْلِنَا أَنَّ الْعَامَّ بِمَنْزِلَةِ الْخَاصِّ بِمَنْزِلَةِ اللَّغْوِ هَاهُنَا كَمَا لَا يَخْفَى.

(قَوْلُهُ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْكَلَامُ مَوْصُولًا) لِأَنَّ ذَلِكَ دَلِيلُ التَّخْصِيصِ أَوْ الِاسْتِثْنَاءِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ أَوْجَبَ لِصَاحِبِ الْخَاتَمِ الْحَلْقَةَ خَاصَّةً دُونَ الْفَصِّ. أَقُولُ: فِيهِ شَيْءٌ، وَهُوَ أَنَّهُ

ص: 490

لَهُ بِغَلَّةِ بُسْتَانِهِ فَلَهُ الْغَلَّةُ الْقَائِمَةُ وَغَلَّتُهُ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ) وَالْفَرْقُ أَنَّ الثَّمَرَةَ اسْمٌ لِلْمَوْجُودِ عُرْفًا فَلَا يَتَنَاوَلُ الْمَعْدُومَ إلَّا بِدَلَالَةٍ زَائِدَةٍ، مِثْلُ التَّنْصِيصِ عَلَى الْأَبَدِ لِأَنَّهُ لَا يَتَأَبَّدُ إلَّا بِتَنَاوُلِ الْمَعْدُومِ وَالْمَعْدُومُ مَذْكُورٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا، أَمَّا الْغَلَّةُ فَتَنْتَظِمُ الْمَوْجُودَ وَمَا يَكُونُ بِعَرَضِ الْوُجُودِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى عُرْفًا، يُقَالُ فُلَانٌ يَأْكُلُ مِنْ غَلَّةِ بُسْتَانِهِ وَمِنْ غَلَّةِ أَرْضِهِ وَدَارِهِ، فَإِذَا أُطْلِقَتْ يَتَنَاوَلُهُمَا عُرْفًا غَيْرَ مَوْقُوفٍ عَلَى دَلَالَةٍ أُخْرَى. أَمَّا الثَّمَرَةُ إذَا أُطْلِقَتْ لَا يُرَادُ بِهَا إلَّا الْمَوْجُودُ فَلِهَذَا يَفْتَقِرُ الِانْصِرَافُ إلَى دَلِيلٍ زَائِدٍ.

قَالَ (وَمَنْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِصُوفِ غَنَمِهِ أَبَدًا أَوْ بِأَوْلَادِهَا أَوْ بِلَبَنِهَا ثُمَّ مَاتَ فَلَهُ مَا فِي بُطُونِهَا مِنْ الْوَلَدِ وَمَا فِي ضُرُوعِهَا مِنْ اللَّبَنِ وَمَا عَلَى ظُهُورِهَا مِنْ الصُّوفِ يَوْمَ يَمُوتُ الْمُوصِي سَوَاءٌ قَالَ أَبَدًا أَوْ لَمْ يَقُلْ) لِأَنَّهُ إيجَابٌ عِنْدَ الْمَوْتِ فَيُعْتَبَرُ قِيَامُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ يَوْمَئِذٍ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ. وَالْفَرْقُ أَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَى تَمْلِيكَ الْمَعْدُومِ لِأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ الْمِلْكَ، إلَّا أَنَّ فِي الثَّمَرَةِ وَالْغَلَّةِ الْمَعْدُومَةِ جَاءَ الشَّرْعُ بِوُرُودِ الْعَقْدِ عَلَيْهَا كَالْمُعَامَلَةِ وَالْإِجَارَةِ، فَاقْتَضَى ذَلِكَ جَوَازَهُ فِي الْوَصِيَّةِ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى لِأَنَّ بَابَهَا أَوْسَعُ. أَمَّا الْوَلَدُ الْمَعْدُومُ وَأُخْتَاهُ فَلَا يَجُوزُ إيرَادُ الْعَقْدِ عَلَيْهَا أَصْلًا، وَلَا تُسْتَحَقُّ بِعَقْدٍ مَا، فَكَذَلِكَ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْوَصِيَّةِ، بِخِلَافِ الْمَوْجُودِ مِنْهَا لِأَنَّهُ يَجُوزُ اسْتِحْقَاقُهَا بِعَقْدِ الْبَيْعِ تَبَعًا وَبِعَقْدِ الْخُلْعِ مَقْصُودًا، فَكَذَا بِالْوَصِيَّةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ ..

قَدْ تَقَرَّرَ فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ أَنَّ اسْتِثْنَاءَ الْفَصِّ مِنْ الْخَاتَمِ غَيْرُ صَحِيحٍ لِكَوْنِ الِاسْتِثْنَاءِ تَصَرُّفًا لَفْظِيًّا غَيْرَ عَامِلٍ فِيمَا يَتَنَاوَلُهُ الِاسْمُ لَفْظًا كَالْفَصِّ فِي الْخَاتَمِ وَالنَّخْلَةِ فِي الْبُسْتَانِ وَالْبِنَاءِ فِي الدَّارِ، فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ أَوْ الِاسْتِثْنَاءِ فِي قَوْلِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ دَلِيلُ التَّخْصِيصِ أَوْ الِاسْتِثْنَاءِ

(قَوْلُهُ وَمَنْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِصُوفِ غَنَمِهِ أَبَدًا أَوْ بِأَوْلَادِهَا أَوْ بِلَبَنِهَا ثُمَّ مَاتَ فَلَهُ مَا فِي بَطْنِهَا مِنْ الْوَلَدِ وَمَا فِي ضُرُوعِهَا مِنْ اللَّبَنِ وَمَا عَلَى ظُهُورِهَا مِنْ الصُّوفِ يَوْمَ يَمُوتُ الْمُوصِي سَوَاءٌ قَالَ أَبَدًا أَوْ لَمْ يَقُلْ) أَقُولُ: فِي تَحْرِيرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِهَذَا الْوَجْهِ سَمَاجَةٌ، فَإِنَّ الْإِطْلَاقَ الْمُسْتَفَادَ مِنْ قَوْلِهِ فِي ذَيْلِهَا سَوَاءٌ قَالَ أَبَدًا أَوْ لَمْ يَقُلْ لَا يُنَاسِبُ تَقْيِيدَ صَدْرِهَا بِقَوْلِهِ أَبَدًا حَيْثُ قَالَ وَمَنْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِصُوفِ غَنَمِهِ أَبَدًا، فَالْأَوْلَى مَا ذُكِرَ فِي الْكَافِي حَيْثُ تَرَكَ فِيهِ قَيْدَ أَبَدًا فِي صَدْرِ الْمَسْأَلَةِ، أَوْ مَا ذُكِرَ فِي الْبِدَايَةِ حَيْثُ تَرَكَ فِيهَا قَوْلَهُ فِي ذَيْلِهَا سَوَاءٌ قَالَ أَبَدًا أَوْ لَمْ يَقُلْ تَدَبَّرْ.

(قَوْلُهُ لِأَنَّهُ إيجَابٌ عِنْدَ الْمَوْتِ فَيُعْتَبَرُ قِيَامُ الْأَشْيَاءِ يَوْمَئِذٍ) أَقُولُ: لَا يَخْفَى عَلَى الْفَطِنِ أَنَّ هَذَا التَّعْلِيلَ يُنْتَقَضُ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ مَسْأَلَتَيْ الثَّمَرَةِ وَالْغَلَّةِ، فَإِنَّ الْإِيصَاءَ إيجَابٌ بَعْدَ الْمَوْتِ فِي كُلِّ الصُّوَرِ مَعَ أَنَّهُ يَقَعُ فِيمَا تَقَدَّمَ عَلَى الْقَائِمِ يَوْمَئِذٍ وَعَلَى الْحَادِثِ بَعْدَهُ أَيْضًا بِذِكْرِ قَيْدِ الْأَبَدِ فِي الثَّمَرَةِ وَبِدُونِ ذِكْرِهِ أَيْضًا فِي الْغَلَّةِ، نَعَمْ كَأَنَّ الْمُصَنِّفَ قَصَدَ تَدَارُكَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ هَذَا بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ إلَخْ إلَّا أَنَّ هَذَا التَّعْلِيلَ هَاهُنَا بَقِيَ خَالِيًا عَنْ الْفَائِدَةِ، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ وَجْهُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِمَّا ذَكَرَهُ فِي الْفَرْقِ الْآتِي.

(قَوْلُهُ إلَّا أَنَّ فِي الثَّمَرَةِ وَالْغَلَّةِ الْمَعْدُومَةِ جَاءَ الشَّرْعُ بِوُرُودِ الْعَقْدِ عَلَيْهَا كَالْمُعَامَلَةِ وَالْإِجَارَةِ فَاقْتَضَى ذَلِكَ جَوَازَهُ فِي الْوَصِيَّةِ لِطَرِيقِ الْأَوْلَى) قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: يَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّ لَنَا أَصْلًا آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ الثَّابِتَ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ مَقْصُورٌ عَلَى مَوْرِدِهِ، وَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ فَكَيْفَ أَلْحَقْت بِهِ اهـ. أَقُولُ: لَا وُرُودَ لِمَا تَوَهَّمَهُ بَلْ هُوَ سَاقِطٌ جِدًّا، فَإِنَّ مَبْنَاهُ أَنْ يَكُونَ إلْحَاقُ الْوَصِيَّةِ بِالثَّمَرَةِ

ص: 491

(بَابُ وَصِيَّةِ الذِّمِّيِّ)

قَالَ (وَإِذَا صَنَعَ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ بِيعَةً أَوْ كَنِيسَةً فِي صِحَّتِهِ ثُمَّ مَاتَ فَهُوَ مِيرَاثٌ) لِأَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْوَقْفِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالْوَقْفُ عِنْدَهُ يُورَثُ وَلَا يَلْزَمُ فَكَذَا هَذَا. وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَلِأَنَّ هَذِهِ مَعْصِيَةٌ فَلَا تَصِحُّ عِنْدَهُمَا. قَالَ (وَلَوْ أَوْصَى بِذَلِكَ لِقَوْمٍ مُسَمِّينَ فَهُوَ الثُّلُثُ) مَعْنَاهُ إذَا أَوْصَى أَنْ تُبْنَى دَارُهُ بِيعَةً أَوْ كَنِيسَةً فَهُوَ جَائِزٌ مِنْ الثُّلُثِ

وَالْغَلَّةِ بِالْمُعَامَلَةِ وَالْإِجَارَةِ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هُوَ بِطَرِيقِ دَلَالَةِ النَّصِّ عَلَيْهِ، يُرْشِدُ إلَيْهِ قَطْعًا قَوْلُ الْمُصَنِّفِ رحمه الله بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى، وَفِي قَوْلِهِ فَاقْتَضَى ذَلِكَ جَوَازَهُ فِي الْوَصِيَّةِ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى لِأَنَّ الْأَوْلَوِيَّةَ إنَّمَا تُتَصَوَّرُ فِي الدَّلَالَةِ دُونَ الْقِيَاسِ، وَكَوْنُ الشَّيْءِ ثَابِتًا بِخِلَافِ الْقِيَاسِ إنَّمَا يُنَافِي الْقِيَاسَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ الْقِيَاسِ أَنْ لَا يَكُونَ الْمَقِيسُ عَلَيْهِ مَعْدُولًا عَنْ سُنَنِ الْقِيَاسِ دُونَ الْإِلْحَاقِ بِهِ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ، وَقَدْ مَرَّ مِرَارًا نَظَائِرَ هَذَا فِي الْكِتَابِ وَشُرُوحِهِ فَكَيْفَ خَفِيَ عَلَى ذَلِكَ الْبَعْضِ. ثُمَّ أَقُولُ: بَقِيَ لَنَا شَيْءٌ فِيمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ رحمه الله، وَهُوَ أَنَّ عَقْدَ الْمُعَامَلَةِ بَاطِلٌ غَيْرُ مَشْرُوعٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ كَمَا تَقَرَّرَ فِي مَوْضِعِهِ، فَقَوْلُهُ هَاهُنَا جَاءَ الشَّرْعُ بِوُرُودِ الْعَقْدِ عَلَيْهَا كَالْمُعَامَلَةِ لَا يَتَمَشَّى عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَإِنَّمَا يَتَمَشَّى عَلَى قَوْلِ صَاحِبَيْهِ، فَإِنَّ عَقْدَ الْمُعَامَلَةِ مَشْرُوعٌ عِنْدَهُمَا، وَالْمَسْأَلَةُ الَّتِي نَحْنُ فِيهَا مِمَّا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ فَكَيْفَ يُبْنَى دَلِيلُهَا عَلَى مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ فَتَأَمَّلْ.

(بَابُ وَصِيَّةِ الذِّمِّيِّ)

ذَكَرَ وَصِيَّةَ الذِّمِّيِّ بَعْدَ وَصِيَّةِ الْمُسْلِمِ لِأَنَّ الْكُفَّارَ مُلْحَقُونَ بِالْمُسْلِمِينَ فِي أَحْكَامِ الْمُعَامَلَاتِ بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ، فَذَكَرَ التَّابِعَ بَعْدَ الْمَتْبُوعِ كَذَا قَالُوا. أَقُولُ: أَكْثَرُ مَا ذُكِرَ فِي هَذَا الْبَابِ لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ الْمُعَامَلَاتِ كَمَا تَرَى، فَتَغْلِيبُ الْأَقَلِّ عَلَى الْأَكْثَرِ غَيْرُ مَعْقُولٍ، وَالْأَظْهَرُ أَنْ يُقَالَ: لَمَّا كَانَ لِبَعْضِ وَصَايَا الْكُفَّارِ أَحْكَامٌ خَاصَّةٌ ذَكَرَ وَصِيَّتَهُمْ فِي بَابٍ عَلَى حِدَةٍ وَأَخَّرَهُ لِخَسَاسَتِهِمْ.

(قَوْلُهُ وَإِذَا صَنَعَ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ بِيعَةً أَوْ كَنِيسَةً فِي صِحَّتِهِ ثُمَّ مَاتَ فَهُوَ مِيرَاثٌ، لِأَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْوَقْفِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَالْوَقْفُ عِنْدَهُ يُورَثُ وَلَا يَلْزَمُ فَكَذَا هَذَا. وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَلِأَنَّ هَذِهِ مَعْصِيَةٌ فَلَا تَصِحُّ عِنْدَهُمَا) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَحَلِّ: إذَا صَنَعَ يَهُودِيٌّ بِيعَةً أَوْ نَصْرَانِيٌّ كَنِيسَةً فِي حِصَّتِهِ ثُمَّ مَاتَ فَهُوَ مِيرَاثٌ بِالِاتِّفَاقِ فِيمَا بَيْنَ أَصْحَابِنَا عَلَى اخْتِلَافِ التَّخْرِيجِ، أَمَّا عِنْدَهُ فَلِأَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْوَقْفِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله إذَا كَانَ لِمُسْلِمٍ، فَإِنَّ وَقْفَ الْمُسْلِمِ فِي حَالِ الْحَيَاةِ مَوْرُوثٌ بَعْدَ مَوْتِهِ لِكَوْنِهِ غَيْرَ لَازِمٍ فَهَذَا أَوْلَى، وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَلِأَنَّ هَذِهِ الْوَصِيَّةَ مَعْصِيَةٌ فَلَا تَصِحُّ، إلَى هُنَا لَفْظُهُ. أَقُولُ: فِيهِ خَلَلٌ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ أَنَّهُ صَرَفَ الْبِيعَةَ إلَى الْيَهُودِيِّ وَالْكَنِيسَةَ إلَى النَّصْرَانِيِّ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِمَا ذَكَرَهُ نَفْسُهُ وَسَائِرُ الشُّرَّاحِ فِي كِتَابِ الْجِهَادِ مِنْ أَنَّ الْكَنِيسَةَ اسْمٌ لِمَعْبَدِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَكَذَلِكَ الْبِيعَةُ اسْمٌ لِمَعْبَدِهِمْ مُطْلَقًا فِي الْأَصْلِ، ثُمَّ غَلَبَ اسْتِعْمَالُ الْكَنِيسَةِ لِمَعْبَدِ الْيَهُودِ وَالْبِيعَةِ

ص: 492

لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ فِيهَا مَعْنَى الِاسْتِخْلَافِ وَمَعْنَى التَّمْلِيكِ، وَلَهُ وِلَايَةُ ذَلِكَ فَأَمْكَنَ تَصْحِيحُهُ عَلَى اعْتِبَارِ الْمَعْنَيَيْنِ.

قَالَ (وَإِنْ أَوْصَى بِدَارِهِ كَنِيسَةً لِقَوْمٍ غَيْرِ مُسَمِّينَ جَازَتْ الْوَصِيَّةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: الْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ) لِأَنَّ هَذِهِ مَعْصِيَةٌ حَقِيقَةً وَإِنْ كَانَ فِي مُعْتَقَدِهِمْ قُرْبَةٌ، وَالْوَصِيَّةُ بِالْمَعْصِيَةِ بَاطِلَةٌ لِمَا فِي تَنْفِيذِهَا مِنْ تَقْرِيرِ الْمَعْصِيَةِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ هَذِهِ قُرْبَةٌ فِي مُعْتَقَدِهِمْ وَنَحْنُ أُمِرْنَا بِأَنْ نَتْرُكَهُمْ وَمَا يَدِينُونَ فَتَجُوزُ بِنَاءً عَلَى اعْتِقَادِهِمْ؛ أَلَا يُرَى أَنَّهُ لَوْ أَوْصَى بِمَا هُوَ قُرْبَةٌ حَقِيقَةً مَعْصِيَةٌ فِي مُعْتَقَدِهِمْ لَا تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ اعْتِبَارًا لِاعْتِقَادِهِمْ فَكَذَا عَكْسُهُ.

لِمَعْبَدِ النَّصَارَى.

وَعِبَارَةُ الْكِتَابِ هُنَا تَحْتَمِلُ صَرْفَ الْبِيعَةِ إلَى النَّصَارَى وَالْكَنِيسَةِ إلَى الْيَهُودِ بِطَرِيقِ اللَّفِّ وَالنَّشْرِ الْغَيْرِ الْمُرَتَّبِ. وَالثَّانِي أَنَّهُ قَالَ: أَمَّا عِنْدَهُ وَقَالَ بَعْدَهُ فَلِأَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْوَقْفِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَأَضْمَرَ أَبَا حَنِيفَةَ أَوَّلًا وَأَظْهَرَهُ ثَانِيًا، وَكَانَ الْأَوَّلُ مَقَامَ الْإِظْهَارِ وَالثَّانِي مَقَامَ الْإِضْمَارِ، بِخِلَافِ عِبَارَةِ الْمُصَنِّفِ فَإِنَّهَا عَلَى الْأَصْلِ السَّدِيدِ حَيْثُ قَالَ: لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْوَقْفِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَالْوَقْفُ عِنْدَهُ يُورَثُ فَأَظْهَرَ أَبَا حَنِيفَةَ أَوَّلًا وَأَضْمَرَهُ ثَانِيًا. وَالثَّالِثُ أَنَّهُ خَصَّ كَوْنَ الْوَقْفِ مَوْرُوثًا عِنْدَهُ بِالْمُسْلِمِ حَيْثُ قَالَ: فَإِنَّ وَقْفَ الْمُسْلِمِ فِي حَالِ الْحَيَاةِ مَوْرُوثٌ وَبَعْدَ مَوْتِهِ مَعَ أَنَّ وَقْفَ الْكَافِرِ أَيْضًا مَوْرُوثٌ عِنْدَهُ بِلَا تَفَاوُتٍ، بِخِلَافِ عِبَارَةِ الْمُصَنِّفِ فَإِنَّهَا مُطْلَقَةٌ حَيْثُ قَالَ: وَالْوَقْفُ عِنْدَهُ مَوْرُوثٌ بِلَا تَخْصِيصٍ بِالْمُسْلِمِ. وَالرَّابِعُ أَنَّهُ قَالَ: فَلِأَنَّ هَذِهِ الْوَصِيَّةَ مَعْصِيَةٌ مَعَ أَنَّهُ لَا وَصِيَّةَ فِي مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ، فَإِنَّ الْمَذْكُورَ فِيهَا صُنْعُ الْيَهُودِيِّ أَوْ النَّصْرَانِيِّ فِي حَالِ حَيَاتِهِ بِدُونِ إضَافَةِ شَيْءٍ إلَى مَا بَعْدَ مَوْتِهِ، وَالْوَصِيَّةُ تَمْلِيكٌ مُضَافٌ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ، بِخِلَافِ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ فَإِنَّ هَذِهِ مَعْصِيَةٌ، إذْ الْمُشَارُ إلَيْهِ بِهَذِهِ فِي قَوْلِهِ الْمَذْكُورِ هِيَ الصَّنِيعَةُ دُونَ الْوَصِيَّةِ فَلَا غُبَارَ عَلَيْهِ.

(قَوْلُهُ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ فِيهَا مَعْنَى الِاسْتِخْلَافِ وَمَعْنَى التَّمْلِيكِ، وَلَهُ وِلَايَةُ ذَلِكَ فَأَمْكَنَ تَصْحِيحُهُ عَلَى اعْتِبَارِ الْمَعْنَيَيْنِ) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ وَغَايَةِ الْبَيَانِ: وَإِذَا صَارَ مِلْكًا لِلْمُسْلِمِينَ صَنَعُوا مَا شَاءُوا اهـ. أَقُولُ: هَذَا عَلَى أَصْلِهِمَا ظَاهِرٌ، فَإِنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْمَعْصِيَةِ بَاطِلَةٌ عِنْدَهُمَا وَإِنْ كَانَتْ فِي مُعْتَقِدِهِمْ قُرْبَةً كَمَا سَيَجِيءُ، فَإِذَا بَطَلَتْ حَقِيقَةُ الْوَصِيَّةِ عِنْدَهُمَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ لِكَوْنِ بِنَاءِ الْبِيعَةِ وَالْكَنِيسَةِ مَعْصِيَةً حَقِيقَةً وَإِنْ كَانَ قُرْبَةً فِي مُعْتَقَدِ الْكُفَّارِ لَزِمَهُمَا الْمَصِيرُ إلَى مَا فِي الْوَصِيَّةِ مِنْ مَعْنَى الِاسْتِخْلَافِ وَالتَّمْلِيكِ تَصْحِيحًا لِكَلَامِ الْعَاقِلِ مَهْمَا أَمْكَنَ. وَأَمَّا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله فَغَيْرُ ظَاهِرٍ، لِأَنَّ كَوْنَ الْمُوصَى بِهِ قُرْبَةً فِي مُعْتَقَدِ الْمُوصِي كَافٍ عِنْدَهُ فِي صِحَّةِ الْوَصِيَّةِ كَمَا سَيَجِيءُ أَيْضًا وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ كَذَلِكَ فَيَنْبَغِي أَنْ تَصِحَّ حَقِيقَةُ الْوَصِيَّةِ عِنْدَهُ هُنَا كَمَا تَصِحُّ فِيمَا إذَا أَوْصَى بِذَلِكَ لِقَوْمٍ غَيْرِ مُسَمَّيْنَ مَا سَيَأْتِي بِدُونِ الْمَصِيرِ إلَى اعْتِبَارِ مَعْنَى الِاسْتِخْلَافِ وَالتَّمْلِيكِ فِي تَصْحِيحِهَا. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الظَّاهِرَ أَنْ يَكُونَ تَخْرِيجُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى الِاخْتِلَافِ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله وَصَاحِبَيْهِ وَإِنْ كَانَ جَوَابُهَا عَلَى الِاتِّفَاقِ بَيْنَهُمْ كَمَا فِي الْمَسْأَلَةِ السَّابِقَةِ، وَأُسْلُوبُ تَحْرِيرِ مَا فِي الْكِتَابِ وَشُرُوحِهِ يُشْعِرُ بِاتِّفَاقِهِمْ فِي التَّخْرِيجِ أَيْضًا فَلْيُتَأَمَّلْ

ص: 493

ثُمَّ الْفَرْقُ لِأَبِي حَنِيفَةَ بَيْنَ بِنَاءِ الْبِيعَةِ وَالْكَنِيسَةِ وَبَيْنَ الْوَصِيَّةِ بِهِ أَنَّ الْبِنَاءَ نَفْسُهُ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِزَوَالِ مِلْكِ الْبَانِي. وَإِنَّمَا يَزُولُ مِلْكُهُ بِأَنْ يَصِيرَ مُحَرَّرًا خَالِصًا لِلَّهِ تَعَالَى كَمَا فِي مَسَاجِدِ الْمُسْلِمِينَ، وَالْكَنِيسَةُ لَمْ تَصِرْ مُحَرَّرَةً لِلَّهِ تَعَالَى حَقِيقَةً فَتَبْقَى مِلْكًا لِلِبَانِي فَتُورَثُ عَنْهُ، وَلِأَنَّهُمْ يَبْنُونَ فِيهَا الْحُجُرَاتِ وَيَسْكُنُونَهَا فَلَمْ يَتَحَرَّرْ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْعِبَادِ بِهِ، وَفِي هَذِهِ الصُّورَةِ يُورَثُ الْمَسْجِدُ أَيْضًا لِعَدَمِ تَحَرُّرِهِ، بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ لِأَنَّهُ وُضِعَ لِإِزَالَةِ الْمِلْكِ إلَّا أَنَّهُ امْتَنَعَ ثُبُوتُ مُقْتَضَاهُ فِي غَيْرِ مَا هُوَ قُرْبَةٌ عِنْدَهُمْ فَبَقِيَ فِيمَا هُوَ قُرْبَةٌ عَلَى مُقْتَضَاهُ فَيَزُولُ مِلْكُهُ فَلَا يُورَثُ.

ثُمَّ الْحَاصِلُ أَنَّ وَصَايَا الذِّمِّيِّ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: مِنْهَا أَنْ تَكُونَ قُرْبَةً فِي مُعْتَقَدِهِمْ وَلَا تَكُونَ قُرْبَةً فِي حَقِّنَا وَهُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَمَا إذَا أَوْصَى الذِّمِّيُّ بِأَنْ تُذْبَحَ خَنَازِيرُهُ وَتُطْعَمَ الْمُشْرِكِينَ، وَهَذِهِ عَلَى الْخِلَافِ إذَا كَانَ لِقَوْمٍ غَيْرِ مُسَمِّينَ كَمَا ذَكَرْنَاهُ وَالْوَجْهُ مَا بَيَّنَّاهُ. وَمِنْهَا إذَا أَوْصَى بِمَا يَكُونُ قُرْبَةً فِي حَقِّنَا وَلَا يَكُونُ قُرْبَةً فِي مُعْتَقَدِهِمْ، كَمَا إذَا أَوْصَى بِالْحَجِّ أَوْ بِأَنْ يُبْنَى مَسْجِدٌ لِلْمُسْلِمِينَ أَوْ بِأَنْ يُسْرَجَ فِي مَسَاجِدِ الْمُسْلِمِينَ، فَهَذِهِ الْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ بِالْإِجْمَاعِ اعْتِبَارًا لِاعْتِقَادِهِمْ، إلَّا إذَا كَانَ لِقَوْمٍ بِأَعْيَانِهِمْ لِوُقُوعِهِ تَمْلِيكًا لِأَنَّهُمْ مَعْلُومُونَ وَالْجِهَةُ مَشُورَةٌ.

وَمِنْهَا إذَا أَوْصَى بِمَا يَكُونُ قُرْبَةً فِي حَقِّنَا وَفِي حَقِّهِمْ، كَمَا إذَا أَوْصَى بِأَنْ يُسْرَجَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ أَوْ يُغْزَى التَّرْكُ وَهُوَ مِنْ الرُّومِ، وَهَذَا جَائِزٌ سَوَاءٌ كَانَتْ لِقَوْمٍ بِأَعْيَانِهِمْ أَوْ بِغَيْرِ أَعْيَانِهِمْ لِأَنَّهُ وَصِيَّةٌ بِمَا هُوَ قُرْبَةٌ حَقِيقَةً وَفِي مُعْتَقَدِهِمْ أَيْضًا. وَمِنْهَا إذَا أَوْصَى بِمَا لَا يَكُونُ قُرْبَةً لَا فِي حَقِّنَا وَلَا فِي حَقِّهِمْ، كَمَا إذَا أَوْصَى لِلْمُغَنِّيَاتِ وَالنَّائِحَاتِ، فَإِنَّ هَذَا غَيْرُ جَائِزٍ لِأَنَّهُ مَعْصِيَةٌ فِي حَقِّنَا وَفِي حَقِّهِمْ، إلَّا أَنْ يَكُونَ لِقَوْمٍ بِأَعْيَانِهِمْ فَيَصِحُّ تَمْلِيكًا وَاسْتِخْلَافًا، وَصَاحِبُ الْهَوَى إنْ كَانَ لَا يَكْفُرُ فَهُوَ فِي حَقِّ الْوَصِيَّةِ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْلِمِ لِأَنَّا أُمِرْنَا بِبِنَاءِ الْأَحْكَامِ عَلَى الظَّاهِرِ، وَإِنْ كَانَ يَكْفُرُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُرْتَدِّ فَيَكُونُ

قَوْلُهُ ثُمَّ الْفَرْقُ لِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله. إلَى قَوْلِهِ: وَالْكَنِيسَةُ لَمْ تَصِرْ مُحَرَّرَةً لِلَّهِ تَعَالَى حَقِيقَةً) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ بَلْ تَحَرَّرَ عَلَى مُعْتَقَدِهِمْ. أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إنَّ أَصْلَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّ كَوْنَ الشَّيْءِ قُرْبَةً فِي مُعْتَقَدِهِمْ كَافٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّا أُمِرْنَا بِأَنْ نَتْرُكَهُمْ وَمَا يَعْتَقِدُونَ، فَالِاعْتِبَارُ عِنْدَهُ لِاعْتِقَادِهِمْ دُونَ الْحَقِيقَةِ كَمَا مَرَّ آنِفًا، فَلِمَ لَمْ يَعْتَبِرْ هُنَا كَوْنَ الْكَنِيسَةِ أَوْ الْبِيعَةِ مُحَرَّرَةً فِي مُعْتَقَدِهِمْ حَتَّى يَزُولَ مِلْكُ الْبَانِي عَنْهَا. فَإِنْ قُلْتَ: إنَّهُمْ يَبْنُونَ فِيهَا الْحُجُرَاتِ وَيَسْكُنُونَ فَلَمْ تُحَرَّرْ لِلَّهِ تَعَالَى لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْعِبَادِ بِهَا. قُلْتُ: هَذَا مَصِيرٌ إلَى التَّعْلِيلِ الثَّانِي الَّذِي ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ وَلِأَنَّهُمْ يَبْنُونَ فِيهَا الْحُجُرَاتِ إلَى آخِرِهِ، وَالْكَلَامُ فِي التَّعْلِيلِ الْأَوَّلِ فَلَا مَعْنَى لِلْخَطِّ.

(قَوْلُهُ وَلِأَنَّهُمْ يَبْنُونَ فِيهَا الْحُجُرَاتِ وَيَسْكُنُونَهَا فَلَمْ يَتَحَرَّرْ لِلَّهِ تَعَالَى لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْعِبَادِ بِهِ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: قَوْلُهُ وَلِأَنَّهُمْ يَبْنُونَ فِيهَا الْحُجُرَاتِ دَلِيلٌ آخَرُ عَلَى عَدَمِ التَّحَرُّرِ لِلَّهِ تَعَالَى اهـ. أَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ كَوْنَ هَذَا دَلِيلًا آخَرَ عَلَى عَدَمِ

ص: 494

عَلَى الْخِلَافِ الْمَعْرُوفِ فِي تَصَرُّفَاتِهِ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ.

وَفِي الْمُرْتَدَّةِ الْأَصَحُّ أَنَّهُ تَصِحُّ وَصَايَاهَا لِأَنَّهَا تَبْقَى عَلَى الرِّدَّةِ، بِخِلَافِ الْمُرْتَدِّ لِأَنَّهُ يُقْتَلُ أَوْ يُسْلِمُ. قَالَ (وَإِذَا دَخَلَ الْحَرْبِيُّ دَارَنَا بِأَمَانٍ فَأَوْصَى لِمُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ بِمَالِهِ كُلِّهِ جَازَ) لِأَنَّ امْتِنَاعَ الْوَصِيَّةِ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ لِحَقِّ الْوَرَثَةِ وَلِهَذَا تَنْفُذُ بِإِجَازَتِهِمْ، وَلَيْسَ لِوَرَثَتِهِ حَقٌّ مَرْعِيٌّ لِكَوْنِهِمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ إذْ هُمْ أَمْوَاتٌ فِي حَقِّنَا، وَلِأَنَّ حُرْمَةَ مَالِهِ بِاعْتِبَارِ الْأَمَانِ، وَالْأَمَانُ كَانَ لِحَقِّهِ لَا لِحَقِّ وَرَثَتِهِ، وَلَوْ كَانَ أَوْصَى بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ أُخِذَتْ الْوَصِيَّةُ وَيُرَدُّ الْبَاقِي عَلَى وَرَثَتِهِ وَذَلِكَ مِنْ حَقِّ الْمُسْتَأْمَنِ أَيْضًا. وَلَوْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ عِنْدَ الْمَوْتِ أَوْ دَبَّرَ عَبْدَهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَذَلِكَ صَحِيحٌ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ الثُّلُثِ لِمَا بَيَّنَّا، وَكَذَلِكَ لَوْ أَوْصَى لَهُ مُسْلِمٌ أَوْ ذِمِّيٌّ بِوَصِيَّةٍ جَازَ لِأَنَّهُ مَا دَامَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَهُوَ فِي الْمُعَامَلَاتِ بِمَنْزِلَةِ الذِّمِّيِّ، وَلِهَذَا تَصِحُّ عُقُودُ التَّمْلِيكَاتِ مِنْهُ فِي حَالِ حَيَاتِهِ، وَيَصِحُّ تَبَرُّعُهُ فِي حَيَاتِهِ فَكَذَا بَعْدَ مَمَاتِهِ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ مُسْتَأْمَنٌ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ إذْ هُوَ عَلَى قَصْدِ الرُّجُوعِ وَيُمَكَّنُ مِنْهُ، وَلَا يُمَكَّنُ مِنْ زِيَادَةِ الْمُقَامِ عَلَى السَّنَةِ إلَّا بِالْجِزْيَةِ. وَلَوْ أَوْصَى الذِّمِّيُّ بِأَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ أَوْ لِبَعْضِ وَرَثَتِهِ لَا يَجُوزُ اعْتِبَارًا بِالْمُسْلِمِينَ لِأَنَّهُمْ الْتَزَمُوا أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْمُعَامَلَاتِ.

وَلَوْ أَوْصَى لِخِلَافِ مِلَّتِهِ جَازَ اعْتِبَارًا بِالْإِرْثِ إذْ الْكُفْرُ كُلُّهُ مِلَّةٌ

التَّحَرُّرِ لِلَّهِ تَعَالَى يَقْتَضِي سَبْقَ دَلِيلٍ أَوَّلَ عَلَيْهِ، وَلَا يَذْهَبُ عَلَى النَّاظِرِ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ قَبْلَ هَذَا مَا يَكُونُ دَلِيلًا عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا قَالَ مِنْ قَبْلُ وَالْكَنِيسَةُ لَمْ تَصِرْ مُحَرَّرَةً لِلَّهِ تَعَالَى حَقِيقَةً، وَهَذَا دَعْوَى بِلَا دَلِيلٍ. ثُمَّ أَقُولُ: الْحَقُّ عِنْدِي أَنَّ قَوْلَهُ وَلِأَنَّهُمْ يَبْنُونَ فِيهَا الْحُجُرَاتِ إلَخْ دَلِيلٌ آخَرُ عَلَى الْفَرْقِ لِأَبِي حَنِيفَةَ بَيْنَ بِنَاءِ الْبِيعَةِ وَالْكَنِيسَةِ وَبَيْنَ الْوَصِيَّةِ عُطِفَ بِحَسَبِ الْمَعْنَى عَلَى قَوْلِهِ إنَّ الْبِنَاءَ نَفْسَهُ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِزَوَالِ مِلْكِ الْبَانِي إلَخْ، كَأَنَّهُ قَالَ: ثُمَّ الْفَرْقُ لِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بَيْنَهُمَا لِأَنَّ الْبِنَاءَ نَفْسَهُ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِزَوَالِ مِلْكِ الْبَانِي، وَلِأَنَّهُمْ يَبْنُونَ فِيهَا الْحُجُرَاتِ وَيَسْكُنُونَهَا إلَخْ تَبَصَّرْ

(قَوْلُهُ وَفِي الْمُرْتَدَّةِ الْأَصَحُّ أَنَّهُ تَصِحُّ وَصَايَاهَا لِأَنَّهَا تَبْقَى عَلَى الرِّدَّةِ، بِخِلَافِ الْمُرْتَدِّ لِأَنَّهُ يُقْتَلُ أَوْ يُسْلِمُ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: وَذَكَرَ صَاحِبُ الْكِتَابِ فِي الزِّيَادَاتِ عَلَى خِلَافِ هَذَا، وَقَالَ: قَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّهَا لَا تَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الذِّمِّيَّةِ وَهُوَ الصَّحِيحُ حَتَّى لَا تَصِحَّ مِنْهَا وَصِيَّةٌ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الذِّمِّيَّةِ

ص: 495

وَاحِدَةٌ، وَلَوْ أَوْصَى لِحَرْبِيٍّ. فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْإِرْثَ مُمْتَنَعٌ لِتَبَايُنِ الدَّارَيْنِ وَالْوَصِيَّةُ أُخْتُهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

(بَابُ الْوَصِيِّ وَمَا يَمْلِكُهُ)

قَالَ (وَمَنْ أَوْصَى إلَى رَجُلٍ فَقَبِلَ الْوَصِيُّ فِي وَجْهِ الْمُوصِي وَرَدَّهَا فِي غَيْرِ وَجْهِهِ فَلَيْسَ بِرَدٍّ) لِأَنَّ الْمَيِّتَ مَضَى

أَنَّ الذِّمِّيَّةَ تُقَرُّ عَلَى اعْتِقَادِهَا، وَأَمَّا الْمُرْتَدَّةُ فَلَا تُقَرُّ عَلَى اعْتِقَادِهَا اهـ. وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ نَقْلِ هَذَا عَنْ النِّهَايَةِ: وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ كَلَامَيْهِ لِأَنَّهُ قَالَ هُنَاكَ الصَّحِيحُ وَهُنَا الْأَصَحُّ وَهُمَا يَصْدُقَانِ اهـ. أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا بِتَوْفِيقٍ صَحِيحٍ، إذَا لَا شَكَّ أَنَّ مُرَادَ مَنْ قَالَ فِي الْخِلَافِيَّاتِ هُوَ الصَّحِيحُ يَرْجِعُ هَذَا الْقَوْلُ عَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ لَا بَيَانَ مُجَرَّدِ صِحَّتِهِ مَعَ رُجْحَانِ الْآخَرِ، كَمَا أَنَّ مُرَادَ مَنْ قَالَ هُوَ الْأَصَحُّ تَرْجِيحُهُ عَلَى الْآخَرِ بَلْ قَوْلُهُ هُوَ الصَّحِيحُ دَلَّ عَلَى التَّرْجِيحِ مِنْ قَوْلِهِ هُوَ الْأَصَحُّ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ تَرْجِيحَ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ يُنَافِي تَرْجِيحَ الْآخَرِ عَلَيْهِ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَصْدُقَا مَعًا

(قَوْلُهُ وَلَوْ أَوْصَى لِحَرْبِيٍّ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ الْإِرْثَ مُمْتَنِعٌ لِتَبَايُنِ الدَّارَيْنِ وَالْوَصِيَّةُ أُخْتُهُ) أَقُولُ: هَذَا التَّعْلِيلُ الَّذِي حَاصِلُهُ قِيَاسُ الْوَصِيَّةِ عَلَى الْإِرْثِ مَنْقُوضٌ بِمَسَائِلَ مُتَعَدِّدَةٍ مَرَّتْ فِي الْكِتَابِ آنِفًا: مِنْهَا مَا إذَا دَخَلَ الْحَرْبِيُّ دَارَنَا بِأَمَانٍ فَأَوْصَى لِمُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ بِمَالِهِ كُلِّهِ فَإِنَّهُ جَائِزٌ، مَعَ أَنَّ الْإِرْثَ مُمْتَنَعٌ بَيْنَ الذِّمِّيِّ وَالْحَرْبِيِّ لِتَبَايُنِ الدَّارَيْنِ. وَبَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْحَرْبِيِّ لِاخْتِلَافِ الدِّينَيْنِ وَلِتَبَايُنِ الدَّارَيْنِ حُكْمًا. وَمِنْهَا مَا إذَا أَوْصَى ذِمِّيٌّ لِحَرْبِيٍّ مُسْتَأْمَنٍ بِوَصِيَّةٍ فَإِنَّهُ جَائِزٌ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، مَعَ أَنَّهُ لَا تَوَارُثَ بَيْنَهُمَا لِتَبَايُنِ الدَّارَيْنِ حُكْمًا. وَمِنْهَا مَا إذَا أَوْصَى مُسْلِمٌ لِمُسْتَأْمَنٍ بِشَيْءٍ فَإِنَّهُ أَيْضًا جَائِزٌ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ مَعَ أَنَّهُ لَا تَوَارُثَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ أَصْلًا لِاخْتِلَافِ الدِّينَيْنِ وَلِتَبَايُنِ الدَّارَيْنِ أَيْضًا إذَا كَانَ الْكَافِرُ حَرْبِيًّا وَلَوْ كَانَ مُسْتَأْمَنًا.

(بَابُ الْوَصِيِّ وَمَا يَمْلِكُهُ)

لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ أَحْكَامِ الْمُوصَى لَهُ شَرَعَ فِي بَيَانِ أَحْكَامِ الْمُوصَى إلَيْهِ وَهُوَ الْوَصِيُّ، وَقَدَّمَ أَحْكَامَ الْمُوصَى لَهُ لِكَثْرَتِهَا وَكَثْرَةِ

ص: 496

مُعْتَمِدًا عَلَيْهِ، فَلَوْ صَحَّ رَدُّهُ فِي غَيْرِ وَجْهِهِ فِي حَيَاتِهِ أَوْ بَعْدَ مَمَاتِهِ صَارَ مَغْرُورًا مِنْ جِهَتِهِ فَرَدٌّ رَدَّهُ، بِخِلَافِ الْوَكِيلِ بِشِرَاءِ عَبْدٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ أَوْ بِبَيْعِ مَالِهِ حَيْثُ يَصِحُّ رَدُّهُ فِي غَيْرِ وَجْهِهِ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ هُنَاكَ لِأَنَّهُ حَيٌّ قَادِرٌ عَلَى التَّصَرُّفِ بِنَفْسِهِ (فَإِنْ رَدَّهَا فِي وَجْهِهِ فَهُوَ رَدٌّ) لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْمُوصِي وِلَايَةُ إلْزَامِهِ التَّصَرُّفَ، وَلَا غُرُورَ فِيهِ

وُقُوعِهَا فَكَانَتْ الْحَاجَةُ إلَى مَعْرِفَتِهَا أَمَسَّ.

(قَوْلُهُ بِخِلَافِ الْوَكِيلِ بِشِرَاءِ عَبْدٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ أَوْ بِبَيْعِ مَالِهِ حَيْثُ يَصِحُّ رَدُّهُ فِي غَيْرِ وَجْهِهِ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مُخَالِفٌ لِعَامَّةِ رِوَايَاتِ الْكُتُبِ مِنْ الذَّخِيرَةِ وَالتَّتِمَّةِ وَأَدَبِ الْقَاضِي لِلصَّدْرِ الشَّهِيدِ وَالْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِلْإِمَامِ الْمَحْبُوبِيِّ وَفَتَاوَى قَاضِي خَانْ، لِأَنَّهُ ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْكُتُبِ أَنَّ الْوَكِيلَ إذَا عَزَلَ نَفْسَهُ عَنْ الْوَكَالَةِ حَالَ غَيْبَةِ الْمُوَكِّلِ لَا يَصِحُّ. حَتَّى لَوْ عَزَلَ نَفْسَهُ مِنْ غَيْرِ عِلْمِ الْمُوَكِّلِ لَا يَخْرُجُ عَنْ الْوَكَالَةِ، وَمَوْضِعُهُ فِي الذَّخِيرَةِ الْفَصْلُ الثَّانِي مِنْ وَكَالَتِهَا، وَالْفَصْلُ الْعَاشِرُ مِنْ التَّتِمَّةِ، وَالْبَابُ السَّابِعُ وَالسِّتُّونَ مِنْ آدَابِ الْقَاضِي، وَبَابِ بَيْعِ الْأَوْصِيَاءِ مِنْ وَصَايَا الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، وَفَصْلِ التَّوْكِيلِ بِالْخُصُومَةِ مِنْ فَتَاوَى قَاضِي خَانْ، إلَى هُنَا لَفْظُ صَاحِبِ النِّهَايَةِ.

وَقَالَ صَاحِبُ الْغَايَةِ: وَهَذَا الْقَيْدُ وَهُوَ قَوْلُهُ بِغَيْرِ عَيْنِهِ احْتِرَازٌ عَنْ الْوَكِيلِ بِشِرَاءِ عَبْدٍ بِعَيْنِهِ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ عَزْلَ نَفْسِهِ ثَمَّةَ أَيْضًا بِغَيْرِ عِلْمِ الْمُوَكِّلِ كَمَا فِي الْوَصِيِّ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى تَغْرِيرِ الْمُوَكِّلِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ وَكِيلًا بِشِرَاءِ عَبْدٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ حَيْثُ يَمْلِكُ عَزْلَ نَفْسِهِ لِأَنَّهُ لَا يُؤَدِّي إلَى تَغْرِيرِ الْآمِرِ، وَهَذَا فِيمَا إذَا وَكَّلَهُ بِشِرَاءِ شَيْءٍ بَيَّنَهُ لَهُ أَنْ يَعْزِلَ نَفْسَهُ بِغَيْرِ مَحْضَرِ الْمُوَكِّلِ عَلَى قَوْلِ بَعْضِ الْمَشَايِخِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ فِي فَصْلِ الشِّرَاءِ بِقَوْلِهِ وَلَا يَمْلِكُهُ عَلَى مَا قِيلَ إلَّا بِمَحْضَرٍ مِنْ الْمُوَكِّلِ: أَيْ لَا يَمْلِكُ الْوَكِيلُ عَزْلَ نَفْسِهِ بِغَيْرِ عِلْمِ الْمُوَكِّلِ عَلَى قَوْلِ بَعْضِ الْمَشَايِخِ، فَعَنْ هَذَا عَرَفْت أَنَّ مَا قَالَ بَعْضُهُمْ فِي شَرْحِهِ هَذَا الَّذِي قَالَهُ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ مُخَالِفٌ لِعَامَّةِ رِوَايَاتِ الْكُتُبِ كَالتَّتِمَّةِ وَالذَّخِيرَةِ وَغَيْرِهِمَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّ الْمُرَادَ بِمَا ذُكِرَ فِي التَّتِمَّةِ وَغَيْرِهَا مِنْ قَوْلِهِمْ الْوَكِيلُ لَا يَمْلِكُ إخْرَاجَ نَفْسِهِ عَنْ الْوَكَالَةِ بِغَيْرِ عِلْمِ الْمُوَكِّلِ مَا إذَا كَانَ وَكِيلًا بِشِرَاءِ شَيْءٍ بِعَيْنِهِ لَا بِشِرَاءِ شَيْءٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ، وَمُرَادُ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ هُنَا مَا إذَا كَانَ وَكِيلًا بِشِرَاءِ شَيْءٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ فَتَوَافَقَتْ الرِّوَايَاتُ جَمِيعًا وَلَمْ تَخْتَلِفْ، إلَى هُنَا كَلَامُ صَاحِبِ الْغَايَةِ، وَإِلَى هَذَا مَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ أَيْضًا كَمَا يَظْهَرُ مِنْ تَقْرِيرِهِ فِي شَرْحِهِ.

أَقُولُ: بَلْ لَيْسَ هَذَا التَّوْفِيقُ بِشَيْءٍ لِأَنَّهُمْ عَقَدُوا فِي أَكْثَرِ الْمُعْتَبَرَاتِ لِعَزْلِ الْوَكِيلِ فَصْلًا عَلَى حِدَةٍ أَوْ بَابًا عَلَى حِدَةٍ وَبَيَّنُوا فِيهِ عَدَمَ صِحَّةِ عَزْلِ الْمُوَكِّلِ لِلْوَكِيلِ بِغَيْرِ عِلْمِ الْوَكِيلِ، وَكَذَا عَدَمُ صِحَّةِ عَزْلِ الْوَكِيلِ نَفْسَهُ بِغَيْرِ عِلْمِ الْمُوَكِّلِ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِشَيْءٍ، فَهَلْ يُجَوِّزُ الْعَقْلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُمْ بِذَلِكَ مَا إذَا كَانَ وَكِيلًا بِشِرَاءِ شَيْءٍ بِعَيْنِهِ فَيَكُونُ عَقْدُ الْفَصْلِ أَوْ الْبَابِ لِبَيَانِ حُكْمِ الْعَزْلِ فِي مَسْأَلَةٍ بِعَيْنِهَا مِنْ مَسَائِلِ الْوَكَالَاتِ بِعِبَارَةٍ مُطْلَقَةٍ، وَيَكُونُ حُكْمُ الْعَزْلِ فِي سَائِرِهَا مَتْرُوكُ الذِّكْرِ بِالْكُلِّيَّةِ فِي عَامَّةِ رِوَايَاتِ الْكُتُبِ، وَلِعَمْرِي إنْ حَمْلَ كَلَامُ الثِّقَاتِ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ سَفْسَطَةٌ لَا تَخْفَى. وَلْنَذْكُرْ مِنْ بَيْنِهَا عِبَارَةَ الذَّخِيرَةِ لَعَلَّك تَأْخُذُ مِنْهَا حِصَّةً قَالَ فِيهَا: الْفَصْلُ الثَّانِي فِي رَدِّ الْوَكَالَةِ مِنْ الْوَكِيلِ وَفِي عَزْلِ الْوَكِيلِ، وَقَالَ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْوَكِيلَ إذَا رَدَّ الْوَكَالَةَ تَرْتَدُّ، وَلَكِنْ هَذَا إذَا عَلِمَ الْمُوَكِّلُ بِالرَّدِّ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ فَلَا تَرْتَدُّ حَتَّى إنَّ مَنْ وَكَّلَ غَائِبًا فَبَلَغَهُ الْخَبَرُ فَرَدَّ الْوَكَالَةَ وَلَمْ يَعْلَمْ الْمُوَكِّلُ بِهِ ثُمَّ قَبِلَ الْوَكِيلُ الْوَكَالَةَ صَحَّ قَبُولُهُ وَصَارَ وَكِيلًا. ثُمَّ قَالَ: وَلَا يَصِحُّ عَزْلُ الْوَكِيلِ مِنْ غَيْرِ عِلْمِ الْوَكِيلِ، وَلَا يَخْرُجُ عَنْ الْوَكَالَةِ عِنْدَنَا الْوَكِيلُ بِالْخُصُومَةِ وَالْوَكِيلُ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَسَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ فِي ذَلِكَ عَلَى السَّوَاءِ. ثُمَّ قَالَ: وَكَذَلِكَ إذَا عَزَلَ نَفْسَهُ لَا يَصِحُّ عَزْلُهُ مِنْ غَيْرِ عِلْمِ الْمُوَكِّلِ وَلَا يَخْرُجُ عَنْ الْوَكَالَةِ انْتَهَى. اُنْظُرْ بِعَيْنِ الْبَصِيرَةِ هَلْ فِيهِ مَا يُسَاعِدُ التَّقْيِيدَ بِمَا إذَا كَانَ وَكِيلًا بِشِرَاءِ شَيْءٍ بِعَيْنِهِ، عَنْ هَذَا قَالَ صَاحِبُ الْكَافِي هَاهُنَا يَدُلُّ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ بِخِلَافِ الْوَكِيلِ بِشِرَاءِ عَبْدٍ بِعَيْنِهِ إلَخْ؛ أَلَا يُرَى أَنَّ الْوَكِيلَ إذَا أَخْرَجَ نَفْسَهُ مِنْ الْوَكَالَةِ لَا يَصِحُّ إلَّا بِعِلْمِ الْمُوَكِّلِ دَفْعًا لِلْغَرَرِ وَالضَّرَرِ الْمَنْهِيَّيْنِ، فَإِنْ يَجِبَ نَفْيُ الْغَرَرِ وَالضَّرَرِ عَنْ الْمَيِّتِ وَهُوَ أَحَقُّ بِالنَّظَرِ أَوْلَى انْتَهَى.

(قَوْلُهُ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ هُنَاكَ لِأَنَّهُ حَيٌّ قَادِرٌ عَلَى التَّصَرُّفِ بِنَفْسِهِ) أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَذَا

ص: 497

لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يُنِيبَ غَيْرَهُ (وَإِنْ لَمْ يَقْبَلْ وَلَمْ يَرُدَّ حَتَّى مَاتَ الْمُوصِي فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ قَبِلَ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَقْبَلْ) لِأَنَّ الْمُوصِيَ لَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ الْإِلْزَامِ فَبَقِيَ مُخَيَّرًا، فَلَوْ أَنَّهُ بَاعَ شَيْئًا مِنْ تَرِكَتِهِ فَقَدْ لَزِمَتْهُ، لِأَنَّ ذَلِكَ دَلَالَةُ الِالْتِزَامِ وَالْقَبُولُ وَهُوَ مُعْتَبَرٌ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَيَنْفُذُ الْبَيْعُ لِصُدُورِهِ مِنْ الْوَصِيِّ، وَسَوَاءٌ عَلِمَ بِالْوِصَايَةِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ، بِخِلَافِ الْوَكِيلِ إذَا لَمْ يَعْلَمْ بِالتَّوْكِيلِ فَبَاعَ حَيْثُ لَا يَنْفُذُ لِأَنَّ الْوِصَايَةَ خِلَافَةٌ لِأَنَّهُ يَخْتَصُّ بِحَالِ انْقِطَاعِ وِلَايَةِ الْمَيِّتِ فَتَنْتَقِلُ الْوِلَايَةُ إلَيْهِ، وَإِذَا كَانَتْ خِلَافَةً لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى الْعِلْمِ كَالْوِرَاثَةِ.

أَمَّا التَّوْكِيلُ إنَابَةٌ لِثُبُوتِهِ فِي حَالِ قِيَامِ وِلَايَةِ الْمُنِيبِ فَلَا يَصِحُّ مِنْ غَيْرِ عِلْمِهِ كَإِثْبَاتِ الْمِلْكِ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَقَدْ بَيَّنَّا طَرِيقَ الْعِلْمِ وَشَرْطَ الْإِخْبَارِ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْكُتُبِ.

التَّعْلِيلُ يُنْتَقَضُ بِصُورَةِ رَدِّ الْوَصِيِّ الْوَصِيَّةَ فِي غَيْرِ وَجْهِ الْمُوصِي فِي حَيَاتِهِ، فَإِنَّ الْمُوصِيَ حَيٌّ قَادِرٌ عَلَى التَّصَرُّفِ بِنَفْسِهِ فِي حَالِ حَيَاتِهِ، مَعَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ رَدُّ الْوَصِيِّ الْوَصِيَّةَ فِي غَيْرِ وَجْهِ الْمُوصِي بَعْدَ أَنْ قَبِلَهَا فِي وَجْهِهِ لَا فِي حَيَاتِهِ وَلَا بَعْدَ مَمَاتِهِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا. وَالْجَوَابُ أَنَّ مَعْنَى الْإِيصَاءِ إلَى أَحَدٍ اسْتِخْلَافُهُ بَعْدَ الْمَوْتِ لَا فِي حَالِ الْحَيَاةِ، فَالتَّصَرُّفُ الَّذِي يَرْفَعُهُ الْمُوصِي إلَى الْوَصِيِّ إنَّمَا هُوَ التَّصَرُّفُ الْكَائِنُ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَيْسَ بِقَادِرٍ فِي حَيَاتِهِ عَلَى التَّصَرُّفِ الْحَاصِلِ بَعْدَ مَمَاتِهِ، كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ بِقَادِرٍ عَلَيْهِ بَعْدَ مَمَاتِهِ بِلَا شُبْهَةٍ فَلَا انْتِقَاضَ. نَعَمْ إنَّهُ يَقْدِرُ فِي حَيَاتِهِ عَلَى الْإِيصَاءِ إلَى الْآخَرِ بَدَلَ الْأَوَّلِ إذَا عَلِمَ رَدَّ الْأَوَّلِ، لَكِنَّ الْكَلَامَ هُنَا فِي عَدَمِ صِحَّةِ رَدِّ الْوَصِيِّ بِغَيْرِ عِلْمِ الْمُوصِي فَإِنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ فِي غَيْرِ وَجْهِهِ بِغَيْرِ عِلْمِهِ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ بِوَجْهِهِ بِعِلْمِهِ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الذَّخِيرَةِ وَذَكَرَ فِي الشُّرُوحِ أَيْضًا.

(قَوْلُهُ وَإِذَا كَانَتْ خِلَافَةً لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى الْعِلْمِ كَالْوِرَاثَةِ) أَقُولُ: يَرِدُ عَلَيْهِ أَنْ يُقَالَ: هَبْ أَنَّ الْوِصَايَةَ خِلَافَةٌ لَكِنَّهَا لَيْسَتْ بِخِلَافَةٍ ضَرُورِيَّةٍ كَالْوِرَاثَةِ بَلْ هِيَ خِلَافَةٌ اخْتِيَارِيَّةٌ؛ أَلَا يُرَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَقْبَلْهَا الْمُوصِي إلَيْهِ وَلَمْ يَرُدَّهَا حَتَّى مَاتَ الْمُوصِي فَهُوَ بِالْخِيَارِ، إنْ شَاءَ قَبِلَ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَقْبَلْ كَمَا مَرَّ فِي الْكِتَابِ آنِفًا، فَإِذَا كَانَتْ خِلَافَةً يَتَوَقَّفَ ثُبُوتُهَا عَلَى اخْتِيَارِ الْمُوصِي إلَيْهِ إيَّاهَا فَعَدَمُ تَوَقُّفِ ثُبُوتِهَا عَلَى عِلْمِ الْمُوصِي إلَيْهِ بِهَا مُشْكِلٌ جِدًّا، إذْ لَا يَخْفَى أَنَّ اخْتِيَارَ شَيْءٍ وَقَبُولَهُ بِدُونِ الْعِلْمِ بِهِ مُتَعَسِّرٌ بَلْ مُتَعَذِّرٌ فَلْيُتَأَمَّلْ.

(قَوْلُهُ وَقَدْ بَيَّنَّا طَرِيقَ الْعِلْمِ وَشَرْطَ الْإِخْبَارِ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْكُتُبِ) قَالَ جُمْهُورُ الشُّرَّاحِ: وَمِنْ تِلْكَ الْكُتُبِ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي فَصْلِ الْقَضَاءِ بِالْمَوَارِيثِ مِنْ كِتَابِ أَدَبِ الْقَاضِي بِقَوْلِهِ وَمَنْ أَعْلَمَهُ النَّاسُ بِالْوَكَالَةِ يَجُوزُ تَصَرُّفُهُ، وَلَا يَكُونُ النَّهْيُ

ص: 498

(وَإِنْ لَمْ يَقْبَلْ حَتَّى مَاتَ الْمُوصِي فَقَالَ لَا أَقْبَلُ ثُمَّ قَالَ أَقْبَلُ فَلَهُ ذَلِكَ إنْ لَمْ يَكُنْ الْقَاضِي أَخْرَجَهُ مِنْ الْوَصِيَّةِ حِينَ قَالَ لَا أَقْبَلُ) لِأَنَّ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ لَا أَقْبَلُ لَا يَبْطُلُ الْإِيصَاءُ، لِأَنَّ فِي إبْطَالِهِ ضَرَرًا بِالْمَيِّتِ وَضَرَرُ الْوَصِيِّ فِي الْإِبْقَاءِ مَجْبُورٌ بِالثَّوَابِ، وَدَفْعُ الْأَوَّلِ وَهُوَ أَعْلَى أَوْلَى، إلَّا أَنَّ الْقَاضِيَ إذَا أَخْرَجَهُ عَنْ الْوِصَايَةِ يَصِحُّ ذَلِكَ لِأَنَّهُ مُجْتَهَدٌ فِيهِ، إذْ لِلْقَاضِي وِلَايَةُ دَفْعِ الضَّرَرِ، وَرُبَّمَا يَعْجِزُ عَنْ ذَلِكَ فَيَتَضَرَّرُ بِبَقَاءِ الْوِصَايَةِ فَيَدْفَعُ الْقَاضِي الضَّرَرَ عَنْهُ وَيُنَصِّبُ حَافِظًا لِمَالِ الْمَيِّتِ مُتَصَرِّفًا فِيهِ فَيَنْدَفِعُ الضَّرَرُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فَلِهَذَا يَنْفُذُ إخْرَاجُهُ، فَلَوْ قَالَ بَعْدَ إخْرَاجِ الْقَاضِي إيَّاهُ أَقْبَلُ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَيْهِ لِأَنَّهُ قَبِلَ بَعْدَ بُطْلَانِ الْوِصَايَةِ بِإِبْطَالِ الْقَاضِي.

قَالَ (وَمَنْ أَوْصَى إلَى عَبْدٍ أَوْ كَافِرٍ أَوْ فَاسِقٍ أَخْرَجَهُمْ الْقَاضِي عَنْ الْوِصَايَةِ وَنَصَّبَ غَيْرَهُمْ) وَهَذَا اللَّفْظُ يُشِيرُ إلَى صِحَّةِ الْوَصِيَّةِ، لِأَنَّ الْإِخْرَاجَ يَكُونُ بَعْدَهَا. وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ أَنَّ الْوَصِيَّةَ بَاطِلَةٌ. قِيلَ مَعْنَاهُ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الصُّوَرِ أَنَّ الْوَصِيَّةَ

عَنْ الْوَكَالَةِ حَتَّى يَشْهَدَ عِنْدَهُ شَاهِدَانِ أَوْ رَجُلٌ عَدْلٌ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: هُوَ وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ: أَيْ الْوَاحِدُ فِيهِمَا يَكْفِي انْتَهَى. وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: قَوْلُهُ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْكُتُبِ " مَا " عِبَارَةٌ عَنْ الْكُتُبِ، وَمِنْ لِلتَّبْعِيضِ: أَيْ بَيَّنَّاهُ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَرَادَ كِتَابَ الْقَضَاءِ وَلَيْسَ مَا عِبَارَةً عَنْ الْكُتُبِ، وَمِنْ لِلتَّبْيِينِ كَمَا فُهِمَ ذَلِكَ مِنْ تَقْرِيرِ بَعْضِ الشُّرَّاحِ، إذْ لَيْسَ لِمَا ذَكَرَهُ أَثَرٌ فِي غَيْرِ كِتَابِ الْقَضَاءِ أَصْلًا انْتَهَى. أَقُولُ: لَيْسَ مَا قَالَهُ هَذَا الْبَعْضُ بِصَحِيحٍ، لِأَنَّ الْمُصَنِّفَ كَمَا ذَكَرَهُ فِي كِتَابِ أَدَبِ الْقَاضِي ذَكَرَهُ فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ وَفِي كِتَابِ الشُّفْعَةِ أَيْضًا، فَإِنَّهُ قَالَ فِي بَابِ عَزْلِ الْوَكِيلِ مِنْ كِتَابِ الْوَكَالَةِ: فَإِنْ لَمْ يَبْلُغْهُ الْعَزْلُ فَهُوَ عَلَى وَكَالَتِهِ وَتَصَرُّفُهُ جَائِزٌ حَتَّى يَعْلَمَ، ثُمَّ قَالَ فِيهِ: وَقَدْ ذَكَرْنَا اشْتِرَاطَ الْعَدَدِ أَوْ الْعَدَالَةَ فِي الْمُخْبِرِ فَلَا نُعِيدُهُ. وَقَالَ فِي بَابِ طَلَبِ الشُّفْعَةِ وَالْخُصُومَةِ فِيهَا مِنْ كِتَابِ الشُّفْعَةِ: وَإِذَا بَلَغَ الشَّفِيعُ بَيْعَ الدَّارِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْإِشْهَادُ حَتَّى يُخْبِرَهُ رَجُلَانِ أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ أَوْ وَاحِدٌ عَدْلٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُشْهِدَ إذَا أَخْبَرَهُ وَاحِدٌ حُرًّا كَانَ أَوْ عَبْدًا صَبِيًّا أَوْ امْرَأَةً إذَا كَانَ الْخَبَرُ حَقًّا، وَأَصْلُ الِاخْتِلَافِ فِي عَزْلِ الْوَكِيلِ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ بِدَلَائِلِهِ وَأَخَوَاتِهِ فِيمَا تَقَدَّمَ انْتَهَى. وَالْعَجَبُ مِنْ ذَلِكَ الْقَائِلُ أَنَّهُ كَيْفَ اجْتَرَأَ عَلَى الْحُكْمِ بِأَنْ لَيْسَ لِمَا ذَكَرَهُ أَثَرٌ فِي غَيْرِ كِتَابِ الْقَضَاءِ أَصْلًا بِدُونِ التَّتَبُّعِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْكُتُبِ.

(قَوْلُهُ إلَّا أَنَّ الْقَاضِيَ إذَا أَخْرَجَهُ عَنْ الْوِصَايَةِ يَصِحُّ ذَلِكَ) قَالَ عَامَّةُ الشُّرَّاحِ: قَوْلُهُ " إلَّا أَنَّ الْقَاضِيَ إذَا أَخْرَجَهُ " اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ ثُمَّ قَالَ اقْبَلْ

ص: 499

سَتَبْطُلُ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ فِي الْعَبْدِ بَاطِلٌ حَقِيقَةً لِعَدَمِ وِلَايَتِهِ وَاسْتِبْدَادِهِ، وَفِي غَيْرِهِ مَعْنَاهُ سَتَبْطُلُ، وَقِيلَ فِي الْكَافِرِ بَاطِلٌ أَيْضًا لِعَدَمِ وِلَايَتِهِ عَلَى الْمُسْلِمِ. وَوَجْهُ الصِّحَّةِ ثُمَّ الْإِخْرَاجُ أَنَّ الْأَصْلَ النَّظَرُ ثَابِتٌ لِقُدْرَةِ الْعَبْدِ حَقِيقَةً، وَوِلَايَةُ الْفَاسِقِ عَلَى أَصْلِنَا وَوِلَايَةُ الْكَافِرِ فِي الْجُمْلَةِ، إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَتِمَّ النَّظَرُ لِتَوَقُّفِ وِلَايَةِ الْعَبْدِ عَلَى إجَازَةِ الْمَوْلَى وَتَمَكُّنِهِ مِنْ الْحَجْرِ بَعْدَهَا وَالْمُعَادَاةِ الدِّينِيَّةِ الْبَاعِثَةِ لِلْكَافِرِ عَلَى تَرْكِ النَّظَرِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ وَاتِّهَامِ الْفَاسِقِ بِالْخِيَانَةِ فَيُخْرِجُهُ الْقَاضِي مِنْ الْوِصَايَةِ وَيُقِيمُ غَيْرَهُ مُقَامَهُ إتْمَامًا لِلنَّظَرِ. وَشَرَطَ فِي الْأَصْلِ أَنْ يَكُونَ الْفَاسِقُ مَخُوفًا عَلَيْهِ فِي الْمَالِ، وَهَذَا يَصْلُحُ عُذْرًا فِي إخْرَاجِهِ وَتَبْدِيلِهِ بِغَيْرِهِ.

قَالَ (وَمَنْ أَوْصَى إلَى عَبْدِ نَفْسِهِ وَفِي الْوَرَثَةِ كِبَارٌ لَمْ تَصِحَّ الْوَصِيَّةُ) لِأَنَّ لِلْكَبِيرِ أَنْ يَمْنَعَهُ أَوْ يَبِيعَ نَصِيبَهُ فَيَمْنَعَهُ الْمُشْتَرِي فَيَعْجِزُ عَنْ الْوَفَاءِ بِحَقِّ الْوِصَايَةِ فَلَا يُفِيدُ فَائِدَتَهُ وَإِنْ كَانُوا صِغَارًا كُلُّهُمْ فَالْوَصِيَّةُ إلَيْهِ جَائِزَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلَا تَجُوزُ عِنْدَهُمَا وَهُوَ الْقِيَاسُ. وَقِيلَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ مُضْطَرِبٌ، يَرْوِي مَرَّةً مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَتَارَةً مَعَ أَبِي يُوسُفَ. وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الْوِلَايَةَ مُنْعَدِمَةٌ لِمَا أَنَّ

فَلَهُ ذَلِكَ: يَعْنِي أَنَّ الْقَاضِيَ إذَا أَخْرَجَهُ عَنْهَا حِينَ قَالَ لَا أَقْبَلُ لَا يَصِحُّ قَبُولُهُ بَعْدَ ذَلِكَ انْتَهَى. أَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ الْمُصَنِّفَ قَيَّدَ قَوْلَهُ فَلَهُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ إنْ لَمْ يَكُنْ الْقَاضِي أَخْرَجَهُ حِينَ قَالَ لَا أَقْبَلُ، وَذَلِكَ الْقَيْدُ يُفِيدُ بِمَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ أَنَّ الْقَاضِيَ إذَا أَخْرَجَهُ عَنْ الْوِصَايَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ: أَيْ لَمْ يَصِحَّ قَبُولُهُ، وَالْمَفْهُومُ مُعْتَبَرٌ فِي الرِّوَايَاتِ بِالْإِجْمَاعِ كَمَا نَصُّوا عَلَيْهِ، فَلَمْ يَبْقَ احْتِيَاجُ إلَى اسْتِثْنَاءِ مَا إذَا أَخْرَجَهُ الْقَاضِي عَنْ الْوَصَايَا مِنْ قَوْلِهِ فَلَهُ ذَلِكَ، فَلَوْ كَانَ قَوْلُهُ هُنَا إلَّا أَنَّ الْقَاضِيَ إذَا أَخْرَجَهُ اسْتِثْنَاءً مِنْ قَوْلِهِ فَلَهُ ذَلِكَ يَلْزَمُ الِاسْتِدْرَاكُ فِي الْكَلَامِ كَمَا لَا يَخْفَى، فَالْوَجْهُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ هُنَا إلَّا أَنَّ الْقَاضِيَ إذَا أَخْرَجَهُ اسْتِثْنَاءً مِنْ قَوْلِهِ فِي قُرْبِهِ وَدَفْعُ الْأَوَّلِ وَهُوَ الْأَعْلَى أَوْلَى، فَيَكُونُ هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ دَاخِلًا فِي حَيِّزِ تَعْلِيلِ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ وَيَكُونُ نَاظِرًا إلَى مَفْهُومِ قَيْدِهَا وَهُوَ قَوْلُهُ إنْ لَمْ يَكُنْ الْقَاضِي أَخْرَجَهُ حِينَ قَالَ لَا أَقْبَلُ، كَمَا أَنَّ مَا قَبْلَ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ كَانَ نَاظِرًا إلَى مَنْطُوقِ أَصْلِهَا، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ هَذَا الِاسْتِثْنَاءَ لَمْ يَكُنْ مَذْكُورًا فِي الْبِدَايَةِ أَصْلًا مَعَ كَوْنِ الْمَسْأَلَةِ مَذْكُورَةً هُنَاكَ أَيْضًا بِحَالِهَا

(قَوْلُهُ وَقِيلَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ مُضْطَرِبٌ يَرْوِي مَرَّةً مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَرَّةً مَعَ أَبِي يُوسُفَ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَلَنَا فِي هَذَا الْقِيلِ نَظَرٌ، لِأَنَّ كِبَارَ الثِّقَاتِ الْمُتَقَدِّمِينَ عَلَى صَاحِبِ

ص: 500

الرِّقَّ يُنَافِيهَا، وَلِأَنَّ فِيهِ إثْبَاتَ الْوِلَايَةِ لِلْمَمْلُوكِ عَلَى الْمَالِكِ، وَهَذَا قَلْبُ الْمَشْرُوعِ، وَلِأَنَّ الْوِلَايَةَ الصَّادِرَةَ مِنْ الْأَبِ لَا تَتَجَزَّأُ، وَفِي اعْتِبَارِ هَذِهِ تَجْزِئَتُهَا لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ بَيْعَ رَقَبَتِهِ وَهَذَا نَقْضُ الْمَوْضُوعِ. وَلَهُ أَنَّهُ مُخَاطَبٌ مُسْتَبِدٌّ بِالتَّصَرُّفِ فَيَكُونُ أَهْلًا لِلْوِصَايَةِ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ وِلَايَةٌ، فَإِنَّ الصِّغَارَ وَإِنْ كَانُوا مُلَّاكًا لَيْسَ لَهُمْ وِلَايَةُ الْمَنْعِ فَلَا مُنَافَاةَ، وَإِيصَاءُ الْمَوْلَى إلَيْهِ يُؤْذِنُ بِكَوْنِهِ نَاظِرًا لَهُمْ وَصَارَ كَالْمُكَاتَبِ، وَالْوِصَايَةُ قَدْ تَتَجَزَّأُ عَلَى مَا هُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، أَوْ نَقُولُ: يُصَارُ إلَيْهِ كَيْ لَا يُؤَدِّيَ إلَى إبْطَالِ أَصْلِهِ، وَتَغْيِيرِ الْوَصْفِ لِتَصْحِيحِ الْأَصْلِ أَوْلَى.

قَالَ (وَمَنْ يَعْجِزُ عَنْ الْقِيَامِ بِالْوَصِيَّةِ ضَمَّ إلَيْهِ الْقَاضِي غَيْرَهُ) رِعَايَةً لِحَقِّ الْمُوصِي وَالْوَرَثَةِ، وَهَذَا لِأَنَّ تَكْمِيلَ النَّظَرِ يَحْصُلُ بِضَمِّ الْآخَرِ إلَيْهِ لِصِيَانَتِهِ وَنَقْصِ كِفَايَتِهِ فَيَتِمُّ النَّظَرُ بِإِعَانَةِ غَيْرِهِ، وَلَوْ شَكَا إلَيْهِ الْوَصِيُّ ذَلِكَ لَا يُجِيبُهُ حَتَّى يَعْرِفَ ذَلِكَ حَقِيقَةً، لِأَنَّ الشَّاكِيَ قَدْ يَكُونُ كَاذِبًا تَخْفِيفًا عَلَى نَفْسِهِ، وَإِذَا ظَهَرَ عِنْدَ الْقَاضِي عَجْزُهُ أَصْلًا

الْهِدَايَةِ كُلُّهُمْ ذَكَرُوا قَوْلَ مُحَمَّدٍ مَعَ أَبِي يُوسُفَ بِلَا اضْطِرَابٍ، كَالطَّحَاوِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ وَالْكَرْخِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ وَأَبِي اللَّيْثِ فِي نُكَتِ الْوَصَايَا وَالْقُدُورِيِّ فِي التَّقْرِيبِ وَشَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ فِي شَرْحِ الْكَافِي وَصَاحِبِ الْمَنْظُومَةِ فِيهَا وَفِي شَرْحِهَا وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَصْحَابِنَا اهـ.

أَقُولُ: نَظَرُهُ سَاقِطٌ، إذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ أَنْ يَذْكُرَ قَوْلَ مُحَمَّدٍ مَعَ أَبِي يُوسُفَ فِي كُتُبِ هَؤُلَاءِ الْمَشَايِخِ الَّذِينَ عَدَّهُمْ أَنْ لَا يَكُونَ قَوْلُهُ مُضْطَرِبًا فِي نَقْلِ أَحَدٍ أَصْلًا، كَيْفَ وَقَدْ قَالَ فِي الْمُحِيطِ الْبُرْهَانِيِّ: وَإِنْ كَانَتْ الْوَرَثَةُ صِغَارًا كُلُّهُمْ فَإِنْ أَوْصَى إلَى عَبْدِ غَيْرِهِ فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ، وَإِنْ أَوْصَى إلَى عَبْدِ نَفْسِهِ فَالْوَصِيَّةُ جَائِزَةٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إنَّهَا بَاطِلَةٌ عَلَى التَّفْسِيرِ الَّذِي قُلْنَا، وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ فِي الْكِتَابِ مُضْطَرِبٌ ذَكَرَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ وَفِي بَعْضِهَا مَعَ أَبِي يُوسُفَ انْتَهَى. نَعَمْ الَّذِي وَقَعَ فِي كُتُبِ كَثِيرٍ مِنْ الْمَشَايِخِ كَوْنُ قَوْلِهِ مَعَ أَبِي يُوسُفَ وَلِهَذَا اخْتَارَهُ الْمُصَنِّفُ حَيْثُ ذَكَرَ قَوْلَهُ مَعَ أَبِي يُوسُفَ أَوَّلًا، وَأَشَارَ إلَى وُقُوعِ رِوَايَةٍ أُخْرَى فِي كَلَامِ بَعْضِهِمْ حَيْثُ قَالَ: وَقِيلَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ مُضْطَرِبٌ فَلَا غُبَارَ فِيهِ.

(قَوْلُهُ وَلَهُ أَنَّهُ مُخَاطَبٌ مُسْتَبِدٌّ بِالتَّصَرُّفِ فَيَكُونُ أَهْلًا لِلْوِصَايَةِ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ وِلَايَةٌ، فَإِنَّ الصِّغَارَ وَإِنْ كَانُوا مُلَّاكًا لَيْسَ لَهُمْ وِلَايَةُ الْمَنْعِ فَلَا مُنَافَاةَ) قِيلَ: عَلَيْهِ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ ذَلِكَ، فَلِلْقَاضِي أَنْ يَبِيعَهُ فَيَتَحَقَّقَ الْمَنْعُ وَالْمُنَافَاةُ. وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ إذَا ثَبَتَ الْإِيصَاءُ إلَيْهِ لَمْ يَبْقَ لِلْقَاضِي وِلَايَةُ الْبَيْعِ، كَذَا

ص: 501

اسْتَبْدَلَ بِهِ رِعَايَةً لِلنَّظَرِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ؛ وَلَوْ كَانَ قَادِرًا عَلَى التَّصَرُّفِ أَمِينًا فِيهِ لَيْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يُخْرِجَهُ، لِأَنَّهُ لَوْ اخْتَارَ غَيْرَهُ كَانَ دُونَهُ لِمَا أَنَّهُ كَانَ مُخْتَارَ الْمَيِّتِ وَمَرْضِيَّهُ فَإِبْقَاؤُهُ أَوْلَى وَلِهَذَا قُدِّمَ عَلَى أَبِي الْمَيِّتِ مَعَ وُفُورِ شَفَقَتِهِ فَأَوْلَى أَنْ يُقَدَّمَ عَلَى غَيْرِهِ، وَكَذَا إذَا شَكَا الْوَرَثَةُ أَوْ بَعْضُهُمْ الْوَصِيَّ إلَى الْقَاضِي فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَعْزِلَهُ حَتَّى يَبْدُوَ لَهُ مِنْهُ خِيَانَةٌ لِأَنَّهُ اسْتَفَادَ الْوِلَايَةَ مِنْ الْمَيِّتِ، غَيْرَ أَنَّهُ إذَا ظَهَرَتْ الْخِيَانَةُ فَالْمَيِّتُ إنَّمَا نَصَّبَهُ وَصِيًّا لِأَمَانَتِهِ وَقَدْ فَاتَتْ، وَلَوْ كَانَ فِي الْأَحْيَاءِ لَأَخْرَجَهُ مِنْهَا، فَعِنْدَ عَجْزِهِ يَنُوبُ الْقَاضِي مَنَابَهُ كَأَنَّهُ لَا وَصِيَّ لَهُ.

قَالَ (وَمَنْ أَوْصَى إلَى اثْنَيْنِ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَتَصَرَّفَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ دُونَ صَاحِبِهِ) إلَّا فِي أَشْيَاءَ مَعْدُودَةٍ نُبَيِّنُهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَنْفَرِدُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالتَّصَرُّفِ فِي جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ لِأَنَّ الْوِصَايَةَ سَبِيلُهَا الْوِلَايَةُ وَهِيَ وَصْفٌ شَرْعِيٌّ لَا تَتَجَزَّأُ فَيَثْبُتُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا كَامِلًا كَوِلَايَةِ الْإِنْكَاحِ لِلْأَخَوَيْنِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْوِصَايَةَ خِلَافَةٌ، وَإِنَّمَا تَتَحَقَّقُ إذَا انْتَقَلَتْ الْوِلَايَةُ إلَيْهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي كَانَ ثَابِتًا لِلْمُوصِي وَقَدْ كَانَ بِوَصْفِ الْكَمَالِ، وَلِأَنَّ اخْتِيَارَ الْأَبِ إيَّاهُمَا يُؤْذِنُ بِاخْتِصَاصِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالشَّفَقَةِ فَيَنْزِلُ ذَلِكَ مَنْزِلَةَ قَرَابَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَلَهُمَا أَنَّ الْوِلَايَةَ تَثْبُتُ بِالتَّفْوِيضِ فَيُرَاعَى وَصْفُ التَّفْوِيضِ وَهُوَ وَصْفُ الِاجْتِمَاعِ إذْ هُوَ شَرْطٌ مُقَيَّدٌ، وَمَا رَضِيَ

السُّؤَالُ وَالْجَوَابُ فِي أَكْثَرِ الشُّرُوحِ، وَعَزَاهُمَا فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ إلَى الْأَسْرَارِ. أَقُولُ: فِي هَذَا الْجَوَابِ بَحْثٌ، لِأَنَّ عَدَمَ بَقَاءِ وِلَايَةِ الْبَيْعِ لِلْقَاضِي مَوْقُوفٌ عَلَى جَوَازِ الْوَصِيَّةِ إلَيْهِ شَرْعًا، وَهُوَ أَوَّلُ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي نَحْنُ فِيهَا وَالْمَقَامُ مَقَامُ إقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ مِنْ قِبَلِ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، فَلَوْ بَنَى تَمَامَ هَذَا الدَّلِيلِ عَلَيْهِ لَزِمَ الْمُصَادَرَةُ عَلَى الْمَطْلُوبِ لَا مَحَالَةَ، فَالْحَقُّ فِي الْجَوَابِ عَنْ السُّؤَالِ الْمَذْكُورِ مَا نَقَلَهُ صَاحِبُ الْغَايَةِ عَنْ شَرْحِ الْأَقْطَعِ حَيْثُ قَالَ: وَأَوْرَدَ فِي شَرْحِ الْأَقْطَعِ سُؤَالًا وَجَوَابًا فَقَالَ: فَإِنْ قِيلَ: إذَا كَانُوا صِغَارًا فَالْقَاضِي يَلِي عَلَى بَيْعِهِ إذَا رَأَى ذَلِكَ. قِيلَ وِلَايَةُ الْقَاضِي عَلَى الْوَصِيِّ لَا تَمْنَعُ جَوَازَ الْوَصِيَّةِ، لِأَنَّهُ يَلِي عَلَى الْأَحْرَارِ مَعَ

ص: 502

الْمُوصِي إلَّا بِالْمُثَنَّى وَلَيْسَ الْوَاحِدُ كَالْمُثَنَّى، بِخِلَافِ الْأَخَوَيْنِ فِي الْإِنْكَاحِ لِأَنَّ السَّبَبَ هُنَالِكَ الْقَرَابَةُ وَقَدْ قَامَتْ بِكُلٍّ مِنْهُمَا كَمُلَا، وَلِأَنَّ الْإِنْكَاحَ حَقٌّ مُسْتَحَقٌّ لَهَا عَلَى الْوَلِيِّ، حَتَّى لَوْ طَالَبَتْهُ بِإِنْكَاحِهَا مِنْ كُفُؤٍ يَخْطُبُهَا يَجِبُ عَلَيْهِ وَهَاهُنَا حَقُّ التَّصَرُّفِ لِلْوَصِيِّ، وَلِهَذَا يَبْقَى مُخَيَّرًا فِي التَّصَرُّفِ، فَفِي الْأَوَّلِ أَوْفَى حَقًّا عَلَى صَاحِبِهِ فَصَحَّ، وَفِي الثَّانِي اسْتَوْفَى حَقًّا لِصَاحِبِهِ فَلَا يَصِحُّ أَصْلُهُ الدَّيْنُ الَّذِي عَلَيْهِمَا وَلَهُمَا، بِخِلَافِ الْأَشْيَاءِ الْمَعْدُودَةِ لِأَنَّهَا مِنْ بَابِ الضَّرُورَةِ لَا مِنْ بَابِ الْوِلَايَةِ، وَمَوَاضِعُ الضَّرُورَةِ مُسْتَثْنَاةٌ أَبَدًا، وَهِيَ مَا اسْتَثْنَاهُ فِي الْكِتَابِ وَأَخَوَاتِهَا.

فَقَالَ (إلَّا فِي شِرَاءِ كَفَنِ الْمَيِّتِ وَتَجْهِيزِهِ) لِأَنَّ فِي التَّأْخِيرِ فَسَادَ الْمَيِّتِ وَلِهَذَا يَمْلِكُهُ الْجِيرَانُ عِنْدَ ذَلِكَ (وَطَعَامِ الصِّغَارِ وَكِسْوَتِهِمْ) لِأَنَّهُ يَخَافُ مَوْتَهُمْ جُوعًا وَعُرْيًا (وَرَدُّ الْوَدِيعَةِ بِعَيْنِهَا وَرَدِّ الْمَغْصُوبِ وَالْمُشْتَرَى شِرَاءً فَاسِدًا وَحِفْظِ الْأَمْوَالِ وَقَضَاءِ الدُّيُونِ) لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ بَابِ الْوِلَايَةِ فَإِنَّهُ يَمْلِكُهُ الْمَالِكُ، وَصَاحِبُ الدَّيْنِ إذَا ظَفِرَ بِجِنْسِ حَقِّهِ

وُجُودِ الْوَصِيَّةِ إلَيْهِمْ انْتَهَى

(قَوْلُهُ وَهِيَ مَا اسْتَثْنَاهُ فِي الْكِتَابِ وَأَخَوَاتُهَا) يَعْنِي وَهِيَ: أَيْ الْأَشْيَاءُ الْمَعْدُودَةُ مَا اسْتَثْنَاهُ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ بِقَوْلِهِ إلَّا فِي شِرَاءِ كَفَنِ الْمَيِّتِ وَتَجْهِيزِهِ، وَطَعَامِ الصِّغَارِ وَكِسْوَتِهِمْ، وَرَدِّ وَدِيعَةٍ بِعَيْنِهَا، وَقَضَاءِ دَيْنٍ وَتَنْفِيذِ وَصِيَّةٍ بِعَيْنِهَا، وَعِتْقِ عَبْدٍ بِعَيْنِهِ، وَالْخُصُومَةِ فِي حُقُوقِ الْمَيِّتِ انْتَهَى.

وَهَذِهِ تِسْعَةُ أَشْيَاءَ كَمَا تَرَى قَصَرَ الْقُدُورِيُّ الِاسْتِثْنَاءَ عَلَيْهَا فِي مُخْتَصَرِهِ، وَاقْتَفَى أَثَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الْبِدَايَةِ، وَقَوْلُهُ هُنَا وَأَخَوَاتُهَا بِالرَّفْعِ عَطْفٌ عَلَى " مَا " فِي قَوْلِهِ مَا اسْتَثْنَاهُ فِي الْكِتَابِ: أَيْ وَالْمَسَائِلُ الَّتِي هِيَ أَخَوَاتُ الْمَسَائِلِ الْمُسْتَثْنَاةِ فِي الْكِتَابِ وَهِيَ مَا زَادَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الْهِدَايَةِ بِقَوْلِهِ وَرَدِّ الْمَغْصُوبِ وَالْمُشْتَرَى شِرَاءً فَاسِدًا وَحِفْظِ الْأَمْوَالِ، ثُمَّ بِقَوْلِهِ وَقَبُولِ الْهِبَةِ وَبَيْعِ مَا يَخْشَى عَلَيْهِ التَّوَى وَالتَّلَفَ وَجَمْعِ الْأَمْوَالِ الضَّائِعَةِ، وَهَذِهِ الَّتِي زَادَهَا الْمُصَنِّفُ عَلَى مَا فِي الْكِتَابِ سِتَّةُ أَشْيَاءَ، فَيَصِيرُ مَجْمُوعُ الْأَشْيَاءِ الْمَعْدُودَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ كَمَا لَا يَخْفَى. قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَحَلِّ: قَوْلُهُ وَهِيَ مَا اسْتَثْنَاهُ فِي الْكِتَابِ: أَيْ فِي مُخْتَصَرِ الْقُدُورِيِّ كَمَا سَبَقَ، وَقَوْلُهُ وَأَخَوَاتُهَا بِالرَّفْعِ عَطْفٌ عَلَى " مَا " إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ يُزَادُ عَلَيْهِ أَشْيَاءُ أُخَرُ وَهِيَ مَا ذَكَرْته فِيمَا سَبَقَ: يَعْنِي قَوْلَهُ وَزَادَ عَلَيْهَا الْمُصَنِّفُ رَدَّ الْمَغْصُوبِ وَالْمُشْتَرَى شِرَاءً فَاسِدًا وَحِفْظِ الْأَمْوَالِ.

وَقَالَ: ثُمَّ إنْ جَعَلْنَا شِرَاءَ الْكَفَنِ وَالتَّجْهِيزَ وَاحِدًا كَمَا جُعِلَ فِي الْأَسْرَارِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَوَّلَ دَاخِلٌ فِي الثَّانِي، وَكَذَا رَدُّ الْمَغْصُوبِ الْوَدِيعَةِ وَالْمُشْتَرَى شِرَاءً فَاسِدًا يَكُونُ الْمُسْتَثْنَى فِيمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ أَحَدَ عَشَرَ، وَمَا زَادَهُ ثَلَاثَةٌ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ لَفْظِ الْأَخَوَاتِ انْتَهَى كَلَامُهُ. أَقُولُ: هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مَعَ كَوْنِهِ نَاشِئًا عَنْ الْغَفْلَةِ عَمَّا زَادَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الْآخَرِ مِنْ أَشْيَاءَ ثَلَاثَةٍ: وَهِيَ قَبُولُ الْهِبَةِ، وَبَيْعُ مَا يُخْشَى عَلَيْهِ التَّوَى وَالتَّلَفُ، وَجَمْعُ الْأَمْوَالِ الضَّائِعَةِ مُخْتَلٌّ فِي ذَاتِهِ، إذْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَجْمُوعُ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ أَحَدَ عَشَرَ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ مَا زَادَهُ اثْنَيْنِ، وَأَرْبَعَةَ عَشَرَ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ مَا زَادَهُ ثَلَاثَةً، لِأَنَّ زِيَادَةَ الثَّلَاثَةِ عَلَى الِاثْنَيْنِ بِوَاحِدٍ فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمَجْمُوعُ بِزِيَادَةِ الِاثْنَيْنِ أَحَدَ عَشَرَ وَبِزِيَادَةِ الثَّلَاثَةِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ، بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ بِزِيَادَةِ الثَّلَاثَةِ اثْنَيْ عَشَرَ كَمَا لَا يَخْفَى.

(قَوْلُهُ وَطَعَامُ الصِّغَارِ وَكِسْوَتُهُمْ) قَالَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ: وَطَعَامُ الصِّغَارِ وَكِسْوَتُهُمْ بِالْجَرِّ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ فِي شِرَاءِ الْكَفَنِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ وَرَدُّ الْوَدِيعَةِ بِعَيْنِهَا، وَرَدُّ الْمَغْصُوبِ، وَالْمُشْتَرَى شِرَاءً فَاسِدًا، وَحِفْظُ الْأَمْوَالِ، وَقَضَاءُ الدُّيُونِ، كُلُّ ذَلِكَ بِالْجَرِّ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ وَتَنْفِيذُ وَصِيَّةٍ بِعَيْنِهَا، وَعِتْقُ عَبْدٍ بِعَيْنِهِ، وَالْخُصُومَةُ، وَقَبُولُ الْهِبَةِ، وَبَيْعُ مَا يُخْشَى عَلَيْهِ التَّوَى، وَجَمْعُ الْأَمْوَالِ الضَّائِعَةِ، كُلُّ ذَلِكَ بِالْجَرِّ انْتَهَى. أَقُولُ: لَا يَخْفَى أَنَّ مَا يُسَاعِدُهُ تَحْرِيرُ الْمُصَنِّفِ مِنْ الْإِعْرَابِ هُوَ الَّذِي ذَكَرَ فِي الشَّرْحِ الْمَزْبُورِ، لَكِنَّهُ مَنْظُورٌ فِيهِ عِنْدِي لِأَنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ فِي شِرَاءِ الْكَفَنِ فِي كِتَابِهِ هَذَا وَاقِعٌ فِي حَيِّزِ قَالَ فِي قَوْلِهِ فَقَالَ فِي شِرَاءِ الْكَفَنِ: وَلَا رَيْبَ أَنَّ الضَّمِيرَ الْمُسْتَتِرَ فِي قَوْلِهِ فَقَالَ رَاجِعٌ إلَى مَا رَجَعَ إلَيْهِ الضَّمِيرُ الْمُسْتَتِرُ فِيمَا اسْتَثْنَاهُ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ الْقُدُورِيُّ، وَالْمُرَادُ بِالْكِتَابِ مُخْتَصَرُهُ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ الْأُمُورِ الْمَعْطُوفَةِ عَلَى شِرَاءِ الْكَفَنِ بِالْجَرِّ فِي الْهِدَايَةِ مِنْ مَقُولِ الْقُدُورِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ قَطْعًا كَمَا عَرَفْته مِمَّا بَيَّنَّاهُ فِيمَا مَرَّ آنِفًا، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُهُ فَقَالَ إلَّا

ص: 503

وَحِفْظُ الْمَالِ يَمْلِكُهُ مَنْ يَقَعُ فِي يَدِهِ فَكَانَ مِنْ بَابِ الْإِعَانَةِ. وَلِأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى الرَّأْيِ (وَتَنْفِيذِ وَصِيَّةٍ بِعَيْنِهَا وَعِتْقِ عَبْدٍ بِعَيْنِهِ) لِأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى الرَّأْيِ (وَالْخُصُومَةِ فِي حَقِّ الْمَيِّتِ) لِأَنَّ الِاجْتِمَاعَ فِيهَا مُتَعَذِّرٌ وَلِهَذَا يَنْفَرِدُ بِهَا أَحَدُ الْوَكِيلَيْنِ (وَقَبُولِ الْهِبَةِ) لِأَنَّ فِي التَّأْخِيرِ خِيفَةَ الْفَوَاتِ، وَلِأَنَّهُ يُمَلِّكُهُ الْأُمَّ وَاَلَّذِي فِي حِجْرِهِ فَلَمْ يَكُنْ مِنْ بَابِ الْوِلَايَةِ (وَبَيْعِ مَا يَخْشَى عَلَيْهِ التَّوَى وَالتَّلَفَ) لِأَنَّ فِيهِ ضَرُورَةً لَا تُخْفَى (وَجَمْعِ الْأَمْوَالِ الضَّائِعَةِ) لِأَنَّ فِي التَّأْخِيرِ خَشْيَةَ الْفَوَاتِ، وَلِأَنَّهُ يُمَلِّكُهُ كُلَّ مَنْ وَقَعَ فِي يَدِهِ فَلَمْ يَكُنْ مِنْ بَابِ الْوِلَايَةِ.

وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: وَلَيْسَ لِأَحَدِ الْوَصِيَّيْنِ أَنْ يَبِيعَ وَيَتَقَاضَى، وَالْمُرَادُ بِالتَّقَاضِي الِاقْتِضَاءُ، كَذَا كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ فِي عُرْفِهِمْ، وَهَذَا لِأَنَّهُ رَضِيَ بِأَمَانَتِهِمَا جَمِيعًا فِي الْقَبْضِ، وَلِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ لَا سِيَّمَا عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ عَلَى مَا عُرِفَ فَكَانَ مِنْ بَابِ الْوِلَايَةِ وَلَوْ أَوْصَى إلَى كُلِّ وَاحِدٍ عَلَى الِانْفِرَادِ قِيلَ يَنْفَرِدُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالتَّصَرُّفِ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلَيْنِ إذَا وَكَّلَ كُلُّ وَاحِدٍ عَلَى الِانْفِرَادِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَمَّا أَفْرَدَ فَقَدْ رَضِيَ بِرَأْيِ الْوَاحِدِ. وَقِيلَ الْخِلَافُ فِي الْفَصْلَيْنِ وَاحِدٌ، وَهُوَ

فِي شِرَاءِ الْكَفَنِ إلَخْ عَلَى تَغْلِيبِ مَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ عَلَى مَا زَادَ عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ هُنَا بِطَرِيقِ الْإِلْحَاقِ بِهِ تَأَمَّلْ.

(قَوْلُهُ وَحِفْظُ الْمَالِ يَمْلِكُهُ مَنْ يَقَعُ فِي يَدِهِ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ: قَوْلُهُ وَحِفْظُ الْمَالِ بِالرَّفْعِ هَذَا عَلَى وَجْهِ التَّعْلِيلِ لِقَوْلِهِ وَقَضَاءُ الدَّيْنِ: يَعْنِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْوَصِيَّيْنِ يَمْلِكُ قَضَاءَ الدَّيْنِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي قَضَاءِ الدَّيْنِ إلَّا حِفْظُ الْمَالِ إلَى أَنْ يَقْضِيَ صَاحِبُ الدَّيْنِ، وَكُلُّ مَنْ يَقَعُ الْمَالُ فِي يَدِهِ فَهُوَ يَمْلِكُ حَقَّهُ انْتَهَى. أَقُولُ: لَا يَذْهَبُ عَلَى ذِي فِطْرَةٍ سَلِيمَةٍ أَنَّ هَذَا الَّذِي ذَهَبَا إلَيْهِ تَكَلُّفٌ بَارِدٌ، بَلْ تَعَسُّفٌ فَاسِدٌ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ فِي قَوْلِهِ وَقَضَاءُ الَّذِي هُوَ نَفْسُ الْقَضَاءِ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ الْحِفْظِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ قَبِيلَهُ وَحِفْظِ الْأَمْوَالِ، فَكَيْفَ يَتِمُّ حِينَئِذٍ تَوْجِيهُ التَّعْلِيلِ بِمَا ذَكَرَهُ الشَّارِحَانِ الْمَزْبُورَانِ. وَالصَّوَابُ أَنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ هُنَا وَحِفْظُ الْمَالِ يَمْلِكُهُ مَنْ يَقَعُ فِي يَدِهِ مَسُوقٌ عَلَى وَجْهِ التَّعْلِيلِ كَقَوْلِهِ مِنْ قَبْلُ وَحِفْظُ الْأَمْوَالِ كَمَا لَا يَخْفَى.

(قَوْلُهُ وَالْمُرَادُ بِالتَّقَاضِي الِاقْتِضَاءُ كَذَا كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ فِي عُرْفِهِمْ) أَقُولُ: فِيهِ شَيْءٌ وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ كَذَا كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ فِي عُرْفِهِمْ يُوهِمُ أَنْ لَا يَكُونَ الِاقْتِضَاءُ الَّذِي هُوَ الْقَبْضُ مَعْنَى التَّقَاضِي فِي الْوَضْعِ وَاللُّغَةِ، بَلْ كَانَ مَعْنَاهُ فِي الْعُرْفِ، مَعَ أَنَّ الْأَمْرَ لَيْسَ كَذَلِكَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْمُصَنِّفُ فِي بَابِ الْوَكَالَةِ بِالْخُصُومَةِ مِنْ كِتَابِ الْوَكَالَةِ حَيْثُ قَالَ: الْوَكِيلُ بِالتَّقَاضِي يَمْلِكُ الْقَبْضَ عَلَى أَصْلِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَاهُ وَضْعًا، إلَّا أَنَّ الْعُرْفَ بِخِلَافِهِ وَهُوَ قَاضٍ عَلَى الْوَضْعِ انْتَهَى. وَيَدُلُّ عَلَى كَوْنِ مَعْنَاهُ ذَلِكَ فِي الْوَضْعِ مَا ذُكِرَ فِي كُتُبِ اللُّغَةِ. قَالَ فِي الْقَامُوسِ: تَقَاضَاهُ الدَّيْنَ: قَبَضَهُ مِنْهُ. وَقَالَ فِي الْأَسَاسِ: تَقَاضَيْته دَيْنِي وَبِدَيْنِي وَاقْتَضَيْته دَيْنِي وَاقْتَضَيْت مِنْهُ حَقِّي: أَيْ أَخَذْته انْتَهَى. ثُمَّ أَقُولُ فِي الْجَوَابِ: لَيْسَ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا بِقَوْلِهِ كَذَا كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ فِي عُرْفِهِمْ نَفْيَ كَوْنِهِ كَذَلِكَ فِي اللُّغَةِ وَالْوَضْعِ، بَلْ بَيَانُ أَنَّ عُرْفَهُمْ يُطَابِقُ اللُّغَةَ وَالْوَضْعَ. وَفَائِدَتُهُ دَفْعُ تَوَهُّمِ أَنْ يُقَالَ كَوْنُ مَعْنَى التَّقَاضِي الِاقْتِضَاءُ فِي الْوَضْعِ غَيْرُ كَافٍ لِأَنَّ الْعُرْفَ قَاضٍ عَلَى الْوَضْعِ: أَيْ رَاجِحٌ عَلَيْهِ. فَإِنْ قُلْت: بَقِيَ الْمُخَالَفَةُ حِينَئِذٍ بَيْنَ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ هُنَا وَبَيْنَ كَلَامِهِ هُنَاكَ إلَّا أَنَّ الْعَارِفَ بِخِلَافِهِ. قُلْت: مُرَادُ الْمُصَنِّفِ هُنَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ كَانَ كَذَا فِي عُرْفِ الْمُجْتَهِدِينَ، وَمُرَادُهُ هُنَاكَ أَنَّ الْعُرْفَ بِخِلَافِهِ فِي زَمَانِنَا أَوْ فِي دِيَارِنَا، وَلَا غَرْوَ فِي اخْتِلَافِ الْعُرْفَيْنِ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الزَّمَانَيْنِ أَوْ الْمَكَانَيْنِ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ صَاحِبَ الْمُحِيطِ قَالَ فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ: الْوَكِيلُ بِالتَّقَاضِي يَمْلِكُ الْقَبْضَ عِنْدَ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ كَمَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ. ثُمَّ قَالَ: وَذَكَرَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الزَّاهِدُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ الْبَزْدَوِيُّ فِي شَرْحِ هَذَا الْكِتَابِ أَنَّ الْوَكِيلَ بِالتَّقَاضِي فِي عُرْفِ دِيَارِنَا لَا يَمْلِكُ الْقَبْضَ كَذَا جَرَتْ الْعَادَةُ فِي دِيَارِنَا، وَجَعَلَ التَّقَاضِي مُسْتَعْمَلًا فِي الْمُطَالَبَةِ مَجَازًا لِأَنَّهُ سَبَبُ الِاقْتِضَاءِ وَصَارَتْ الْحَقِيقَةُ مَهْجُورَةً انْتَهَى تَدَبَّرْ تَفْهَمْ.

(قَوْلُهُ وَلِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ لَا سِيَّمَا عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ عَلَى مَا عُرِفَ فَكَانَ مِنْ بَابِ الْوِلَايَةِ) أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إنْ كَانَ الِاقْتِضَاءُ فِي مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ كَانَ

ص: 504

وَهُوَ الْأَصَحُّ لِأَنَّ وُجُوبَ الْوَصِيَّةِ عِنْدَ الْمَوْتِ بِخِلَافِ الْوَكِيلَيْنِ، لِأَنَّ الْوَكَالَةَ تَتَعَاقَبُ، فَإِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا جَعَلَ الْقَاضِيَ مَكَانَهُ وَصِيًّا آخَرَ، أَمَّا عِنْدَهُمَا فَلِأَنَّ الْبَاقِيَ عَاجِزٌ عَنْ التَّفَرُّدِ بِالتَّصَرُّفِ فَيَضُمُّ الْقَاضِي إلَيْهِ وَصِيًّا آخَرَ نَظَرًا لِلْمَيِّتِ عِنْدَ عَجْزِهِ. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ الْحَيُّ مِنْهُمَا وَإِنْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى التَّصَرُّفِ فَالْمُوصِي قَصَدَ أَنْ يَخْلُفَهُ مُتَصَرِّفًا فِي حُقُوقِهِ، وَذَلِكَ مُمْكِنُ التَّحَقُّقِ بِنَصْبِ وَصِيٍّ آخَرَ مَكَانَ الْمَيِّتِ.

وَلَوْ أَنَّ الْمَيِّتَ مِنْهُمَا أَوْصَى إلَى الْحَيِّ فَلِلْحَيِّ أَنْ يَتَصَرَّفَ وَحْدَهُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ بِمَنْزِلَةِ مَا إذَا أَوْصَى إلَى شَخْصٍ آخَرَ. وَلَا يَحْتَاجُ الْقَاضِي إلَى نَصْبِ وَصِيٍّ آخَرَ لِأَنَّ رَأْيَ الْمَيِّتِ بَاقٍ حُكْمًا بِرَأْيِ مَنْ يَخْلُفُهُ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَنْفَرِدُ بِالتَّصَرُّفِ لِأَنَّ الْمُوصِيَ مَا رَضِيَ بِتَصَرُّفِهِ وَحْدَهُ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَوْصَى إلَى غَيْرِهِ لِأَنَّهُ يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ بِرَأْيِ الْمُثَنَّى كَمَا رَضِيَهُ الْمُتَوَفَّى.

وَإِذَا مَاتَ الْوَصِيُّ وَأَوْصَى إلَى آخَرَ فَهُوَ وَصِيُّهُ فِي تَرِكَتِهِ وَتَرِكَةِ الْمَيِّتِ الْأَوَّلِ عِنْدَنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَكُونُ وَصِيًّا فِي تَرِكَةِ الْمَيِّتِ الْأَوَّلِ اعْتِبَارًا بِالتَّوْكِيلِ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ، الْجَامِعُ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ رَضِيَ بِرَأْيِهِ لَا بِرَأْيِ غَيْرِهِ. وَلَنَا أَنَّ الْوَصِيَّ يَتَصَرَّفُ بِوِلَايَةٍ مُنْتَقِلَةٍ إلَيْهِ فَيَمْلِكُ الْإِيصَاءَ إلَى غَيْرِهِ كَالْجَدِّ؛ أَلَا يُرَى أَنَّ الْوِلَايَةَ الَّتِي كَانَتْ ثَابِتَةً لِلْمُوصِي تَنْتَقِلُ إلَى الْوَصِيِّ فِي الْمَالِ وَإِلَى الْجَدِّ فِي النَّفْسِ، ثُمَّ الْجَدُّ قَائِمٌ مُقَامَ الْأَبِ فِيمَا انْتَقَلَ إلَيْهِ فَكَذَا الْوَصِيُّ، وَهَذَا لِأَنَّ الْإِيصَاءَ إقَامَةُ غَيْرِهِ مُقَامَهُ فِيمَا لَهُ وِلَايَتُهُ، وَعِنْدَ الْمَوْتِ كَانَتْ لَهُ وِلَايَةٌ فِي التَّرِكَتَيْنِ فَيَنْزِلُ الثَّانِي مَنْزِلَتَهُ فِيهِمَا. وَلِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَعَانَ بِهِ فِي ذَلِكَ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُ قَدْ تَعْتَرِيهِ الْمَنِيَّةُ قَبْلَ تَتْمِيمِ مَقْصُودِهِ بِنَفْسِهِ وَهُوَ تَلَافِي مَا فَرَّطَ مِنْهُ صَارَ رَاضِيًا بِإِيصَائِهِ إلَى غَيْرِهِ، بِخِلَافِ الْوَكِيلِ لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ حَيٌّ يُمْكِنُهُ أَنْ يُحَصِّلَ مَقْصُودَهُ بِنَفْسِهِ فَلَا يَرْضَى بِتَوْكِيلِ غَيْرِهِ وَالْإِيصَاءُ إلَيْهِ.

قَالَ (وَمُقَاسَمَةُ الْوَصِيِّ الْمُوصَى لَهُ عَنْ الْوَرَثَةِ جَائِزَةٌ وَمُقَاسَمَتُهُ الْوَرَثَةَ عَنْ الْمُوصَى لَهُ بَاطِلَةٌ)

الْقَضَاءُ أَيْضًا فِي مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ ضَرُورَةَ أَنَّ الْمُبَادَلَةَ إنَّمَا تَتَحَقَّقُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، وَإِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا مُقْتَضِيًا كَانَ الْآخَرُ قَاضِيًا أَلْبَتَّةَ فَيَلْزَمُ

ص: 505

لِأَنَّ الْوَارِثَ خَلِيفَةُ الْمَيِّتِ حَتَّى يَرُدَّ بِالْعَيْبِ وَيَرُدَّ عَلَيْهِ بِهِ وَيَصِيرَ مَغْرُورًا بِشِرَاءِ الْمُورِثِ وَالْوَصِيُّ خَلِيفَةُ الْمَيِّتِ أَيْضًا فَيَكُونُ خَصْمًا عَنْ الْوَارِثِ إذَا كَانَ غَائِبًا فَصَحَّتْ قِسْمَتُهُ عَلَيْهِ، حَتَّى لَوْ حَضَرَ وَقَدْ هَلَكَ مَا فِي يَدِ الْوَصِيِّ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُشَارِكَ الْمُوصَى لَهُ، أَمَّا الْمُوصَى لَهُ فَلَيْسَ بِخَلِيفَةٍ عَنْ الْمَيِّتِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِسَبَبٍ جَدِيدٍ، وَلِهَذَا لَا يُرَدُّ بِالْعَيْبِ وَلَا يُرَدُّ عَلَيْهِ، وَلَا يَصِيرُ مَغْرُورًا بِشِرَاءِ الْمُوصِي فَلَا يَكُونُ الْوَصِيُّ خَلِيفَةً عَنْهُ عِنْدَ غَيْبَتِهِ، حَتَّى لَوْ هَلَكَ مَا أَفْرَزَ لَهُ عِنْدَ الْوَصِيِّ كَانَ لَهُ ثُلُثُ مَا بَقِيَ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ لَمْ تَنْفُذْ عَلَيْهِ، غَيْرَ أَنَّ الْوَصِيَّ لَا يَضْمَنُ لِأَنَّهُ أَمِينٌ فِيهِ، وَلَهُ وِلَايَةُ الْحِفْظِ فِي التَّرِكَةِ فَصَارَ كَمَا إذَا هَلَكَ بَعْضُ التَّرِكَةِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ فَيَكُونُ لَهُ ثُلُثُ الْبَاقِي لِأَنَّ الْمُوصَى لَهُ شَرِيكُ الْوَارِثِ فَيَتْوَى مَا تَوِيَ مِنْ الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ عَلَى الشَّرِكَةِ وَيَبْقَى مَا بَقِيَ عَلَى الشَّرِكَةِ. قَالَ (فَإِنْ قَاسَمَ الْوَرَثَةَ وَأَخَذَ نَصِيبَ الْمُوصَى لَهُ فَضَاعَ رَجَعَ الْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ مَا بَقِيَ) لِمَا بَيَّنَّا. .

قَالَ (وَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ أَوْصَى بِحَجَّةٍ فَقَاسَمَ فِي الْوَرَثَةِ فَهَلَكَ مَا فِي - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - يَدِهِ حَجَّ عَنْ الْمَيِّتِ مِنْ ثُلُثِ مَا بَقِيَ، وَكَذَلِكَ إنْ دَفَعَهُ إلَى رَجُلٍ لِيَحُجَّ

أَنْ يَكُونَ الْقَضَاءُ أَيْضًا مِنْ بَابِ الْوِلَايَةِ مَعَ أَنَّ الْمُصَنِّفَ صَرَّحَ بِخِلَافِهِ فِيمَا قَبْلُ

(قَوْلُهُ غَيْرَ أَنَّ الْوَصِيَّ لَا يَضْمَنُ لِأَنَّهُ أَمِينٌ وَلَهُ وِلَايَةُ الْحِفْظِ فِي التَّرِكَةِ فَصَارَ كَمَا إذَا هَلَكَ بَعْضُ التَّرِكَةِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: فِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ إذَا كَانَ مَا أَفْرَزَهُ لِلْوَرَثَةِ فِي يَدِهِ، لِأَنَّ الْحِفْظَ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ فِي ذَلِكَ، أَمَّا لَوْ سَلَّمَهُ إلَيْهِمْ فَالْمُوصَى لَهُ بِالْخِيَارِ، إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْقَابِضَ بِالْقَبْضِ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الدَّافِعَ بِالدَّفْعِ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ، إلَى هُنَا لَفْظُ الْعِنَايَةِ. أَقُولُ فِيهِ خَلَلٌ، لِأَنَّ مُقْتَضَى تَحْرِيرِهِ أَنْ يَثْبُتَ لِلْمُوصِي لَهُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ تَضْمِينِ الْقَابِضِ وَتَضْمِينِ الدَّافِعِ فِيمَا إذَا سَلَّمَ الْوَصِيُّ مَا أَفْرَزَهُ لِلْوَرَثَةِ إلَيْهِمْ عَلَى الْإِطْلَاقِ: أَيْ سَوَاءٌ كَانَ مَا سَلَّمَهُ إلَيْهِمْ بَاقِيًا فِي أَيْدِيهِمْ أَوْ هَالِكًا، وَلَيْسَتْ الْمَسْأَلَةُ كَذَلِكَ لَا فِي النِّهَايَةِ وَلَا فِي غَيْرِهَا، فَإِنَّهُ قَالَ فِي النِّهَايَةِ: ثُمَّ إنْ كَانَ مَا أَعْطَاهُ الْوَصِيُّ لِلْوَرَثَةِ بَاقِيًا فِي أَيْدِيهِمْ كَانَ لِلْمُوصَى لَهُ الرُّجُوعُ عَلَيْهِمْ بِقَدْرِ نَصِيبِهِ وَهُوَ ثُلُثُ مَا أَعْطَاهُمْ، وَإِنْ كَانَ هَالِكًا كَانَ الْمُوصَى لَهُ بِالْخِيَارِ فِي تَضْمِينِ الْحِصَّةِ الَّتِي دَفَعَهَا الْوَصِيُّ إلَى الْوَرَثَةِ، إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْقَابِضَ بِالْقَبْضِ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الدَّافِعَ بِالدَّفْعِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ دَفَعَ حِصَّةَ الْوَرَثَةِ إلَيْهِمْ حَتَّى هَلَكَ الْكُلُّ فِي يَدِ الْوَصِيِّ لَمْ يَكُنْ لِلْمُوصَى لَهُ أَنْ يُضَمِّنَ الْوَصِيَّ شَيْئًا لِبَقَاءِ حُكْمِ الْأَمَانَةِ فِي الْمَالِ فَكَذَا فِي هَلَاكِ قَدْرِ نَصِيبِهِ، إلَى هَذَا أَشَارَ الْإِمَامُ الْمَحْبُوبِيُّ، إلَى هُنَا لَفْظُ النِّهَايَةِ. وَقَالَ فِي الْمُحِيطِ الْبُرْهَانِيِّ: فَإِنْ هَلَكَ حِصَّةُ الْمُوصَى لَهُ فِي يَدِ الْوَصِيِّ وَبَقِيَ نَصِيبُ الْوَرَثَةِ كَانَ لِلْمُوصَى لَهُ أَنْ يَأْخُذَ ثُلُثَ مَا بَقِيَ فِي يَدِ الْوَرَثَةِ، وَإِنْ هَلَكَ حِصَّةُ الْوَرَثَةِ فِي يَدِ الْوَرَثَةِ وَهَلَكَ حِصَّةُ الْمُوصَى لَهُ فِي يَدِ الْوَصِيِّ أَيْضًا فَمَا هَلَكَ فِي يَدِ الْوَرَثَةِ مِنْ حِصَّةِ الْمُوصَى لَهُ فَالْمُوصَى لَهُ بِالْخِيَارِ، إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْوَصِيَّ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْوَارِثَ انْتَهَى

(قَوْلُهُ وَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ أَوْصَى بِحَجَّةٍ فَقَاسَمَ الْوَرَثَةُ فَهَلَكَ مَا فِي يَدِهِ إلَخْ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ فِي شَرْحِ

ص: 506

عَنْهُ فَضَاعَ فِي يَدِهِ) وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إنْ كَانَ مُسْتَغْرِقًا لِلثُّلُثِ لَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ، وَإِلَّا يَرْجِعُ بِتَمَامِ الثُّلُثِ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَرْجِعُ بِشَيْءٍ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ حَقُّ الْمُوصِي، وَلَوْ أَفْرَزَ الْمُوصِي بِنَفْسِهِ مَالًا لِيَحُجَّ عَنْهُ فَهَلَكَ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ وَبَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ، فَكَذَا إذَا أَفْرَزَهُ وَصِيُّهُ الَّذِي قَامَ مَقَامَهُ. وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ مَحَلَّ الْوَصِيَّةِ الثُّلُثُ فَيَجِبُ تَنْفِيذُهَا مَا بَقِيَ مَحَلُّهَا، وَإِذَا لَمْ يَبْقَ بَطَلَتْ لِفَوَاتِ مَحَلِّهَا. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْقِسْمَةَ لَا تُرَادُ لِذَاتِهَا بَلْ لِمَقْصُودِهَا وَهُوَ تَأْدِيَةُ الْحَجِّ فَلَمْ تُعْتَبَرْ دُونَهُ وَصَارَ كَمَا إذَا هَلَكَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ فَيَحُجُّ بِثُلُثِ مَا بَقِيَ، وَلِأَنَّ تَمَامَهَا بِالتَّسْلِيمِ إلَى الْجِهَةِ الْمُسَمَّاةِ، إذْ لَا قَابِضَ لَهَا، فَإِذَا لَمْ يُصْرَفْ إلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ لَمْ يَتِمَّ فَصَارَ كَهَلَاكِهِ قَبْلَهَا. .

قَالَ (وَمَنْ أَوْصَى بِثُلُثِ أَلْفِ دِرْهَمٍ فَدَفَعَهَا الْوَرَثَةُ إلَى الْقَاضِي فَقَسَمَهَا وَالْمُوصَى لَهُ غَائِبٌ فَقِسْمَتُهُ جَائِزَةٌ) لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ صَحِيحَةٌ، وَلِهَذَا لَوْ مَاتَ الْمُوصَى لَهُ قَبْلَ الْقَبُولِ تَصِيرُ الْوَصِيَّةُ مِيرَاثًا لِوَرَثَتِهِ وَالْقَاضِي نَصَّبَ نَاظِرًا لَا سِيَّمَا فِي حَقِّ الْمَوْتَى وَالْغُيَّبِ، وَمِنْ النَّظَرِ إفْرَازُ نَصِيبِ الْغَائِبِ وَقَبْضِهِ فَنَفَذَ ذَلِكَ وَصَحَّ، حَتَّى لَوْ حَضَرَ الْغَائِبُ وَقَدْ هَلَكَ الْمَقْبُوضُ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَى الْوَرَثَةِ سَبِيلٌ.

قَالَ (وَإِذَا بَاعَ الْوَصِيُّ عَبْدًا مِنْ التَّرِكَةِ بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنْ الْغُرَمَاءِ فَهُوَ جَائِزٌ) لِأَنَّ الْوَصِيَّ قَائِمٌ مُقَامَ

هَذَا الْمَحَلِّ: وَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ أَوْصَى بِحَجَّةٍ فَقَاسَمَ الْوَرَثَةَ: أَيْ قَاسَمَ الْوَصِيُّ الْوَرَثَةَ فَهَلَكَ مَا فِي يَدِهِ: أَيْ مَا فِي يَدِ الْحَاجِّ فَالْوَصِيُّ وَالْحَاجُّ مَدْلُولٌ عَلَيْهِمَا غَيْرُ مَذْكُورٍ بِهِمَا. وَاقْتَفَى أَثَرَهُ صَاحِبُ مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ. أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا الشَّرْحُ بِصَحِيحٍ، إذْ لَوْ رَجَعَ ضَمِيرُ مَا فِي يَدِهِ إلَى الْحَاجِّ فَصَارَ الْمَعْنَى فَهَلَكَ مَا فِي يَدِ الْحَاجِّ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الشَّارِحَانِ الْمَذْكُورَانِ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ فِيمَا بَعْدُ وَكَذَلِكَ إنْ دَفَعَهُ إلَى رَجُلٍ لِيَحُجَّ عَنْهُ فَضَاعَ مِنْ يَدِهِ مُسْتَدْرِكًا مَحْضًا كَمَا لَا يَخْفَى. وَالصَّوَابُ أَنَّ ضَمِيرَ مَا فِي يَدِهِ فِي قَوْلِهِ فَهَلَكَ مَا فِي يَدِهِ رَاجِعٌ إلَى الْوَصِيِّ، فَحِينَئِذٍ يَنْتَظِمُ الْمَعْنَى وَلَا يَلْزَمُ الِاسْتِدْرَاكُ فِي قَوْلِهِ الْآتِي كَمَا تَرَى.

(قَوْلُهُ وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَرْجِعُ بِشَيْءٍ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ حَقُّ الْمُوصِي، وَلَوْ أَفْرَزَ الْمُوصِي بِنَفْسِهِ مَالًا لِيَحُجَّ عَنْهُ فَهَلَكَ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ وَبَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ، فَكَذَلِكَ إذَا أَفْرَزَهُ وَصِيُّهُ الَّذِي قَامَ مَقَامَهُ) قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: قُلْت هَذَا قِيَاسٌ مَعَ الْفَارِقِ، لِأَنَّ الْمُوصِيَ غَيْرُ مُلْزَمٍ بِشَيْءٍ إذْ لَهُ الرُّجُوعُ عَنْ الْوَصِيَّةِ رَأْسًا، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ لُزُومِ شَيْءٍ لِهَذَا عَدَمُ لُزُومِهِ لِذَاكَ انْتَهَى. أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ، فَإِنَّ الْمُوصِيَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُلْزَمًا بِشَيْءٍ فِي حَالِ حَيَاتِهِ إلَّا أَنَّهُ تَلْزَمُ وَصِيَّتُهُ بَعْدَ مَمَاتِهِ فَتَنْفُذُ مِنْ ثُلُثِ تَرِكَتِهِ أَلْبَتَّةَ، وَالْمُرَادُ بِمَا ذُكِرَ فِي دَلِيلِ مُحَمَّدٍ هُوَ أَنَّ الْمُوصِيَ لَوْ أَفْرَزَ بِنَفْسِهِ مَالًا لِيَحُجَّ عَنْهُ فَهَلَكَ ذَلِكَ الْمَالُ لَا يُؤْخَذُ بِشَيْءٍ مِنْ تَرِكَتِهِ بَعْدَ مَمَاتِهِ بَلْ تَبْطُلُ وَصِيَّتُهُ أَصْلًا. وَقَدْ أَفْصَحَ عَنْهُ صَاحِبُ الْغَايَةِ حَيْثُ قَالَ فِي تَقْرِيرِهِ: وَأَمَّا مَذْهَبُ مُحَمَّدٍ فَهُوَ أَنَّ دَفْعَ الْوَصِيِّ بِمَنْزِلَةِ دَفْعِ الْمَيِّتِ، وَلَوْ أَنَّ الْمَيِّتَ هُوَ الَّذِي دَفَعَ

ص: 507

الْمُوصِي، وَلَوْ تَوَلَّى حَيًّا بِنَفْسِهِ يَجُوزُ بَيْعُهُ بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنْ الْغُرَمَاءِ وَإِنْ كَانَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ فَكَذَا إذَا تَوَلَّاهُ مَنْ قَامَ مَقَامَهُ، وَهَذَا لِأَنَّ حَقَّ الْغُرَمَاءِ مُتَعَلِّقٌ بِالْمَالِيَّةِ لَا بِالصُّورَةِ وَالْبَيْعُ لَا يُبْطِلُ الْمَالِيَّةَ لِفَوَاتِهَا إلَى خَلَفٍ وَهُوَ الثَّمَنُ. بِخِلَافِ الْعَبْدِ الْمَدْيُونِ لِأَنَّ لِلْغُرَمَاءِ حَقَّ الِاسْتِسْعَاءِ وَأَمَّا هَاهُنَا فَبِخِلَافِهِ.

قَالَ (وَمَنْ أَوْصَى بِأَنْ يُبَاعَ عَبْدُهُ وَيَتَصَدَّقَ بِثَمَنِهِ عَلَى الْمَسَاكِينِ فَبَاعَهُ الْوَصِيُّ وَقَبَضَ الثَّمَنَ فَضَاعَ فِي يَدِهِ فَاسْتَحَقَّ الْعَبْدُ ضَمِنَ الْوَصِيُّ) لِأَنَّهُ هُوَ الْعَاقِدُ فَتَكُونُ الْعُهْدَةُ عَلَيْهِ، وَهَذِهِ عُهْدَةٌ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ مِنْهُ مَا رَضِيَ بِبَذْلِ الثَّمَنِ إلَّا لِيُسَلِّمَ لَهُ الْمَبِيعَ وَلَمْ يُسَلِّمْ فَقَدْ أَخَذَ الْوَصِيُّ الْبَائِعُ مَالَ الْغَيْرِ بِغَيْرِ رِضَاهُ فَيَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّهُ. قَالَ (وَيَرْجِعُ فِيمَا تَرَكَ الْمَيِّتُ) لِأَنَّهُ عَامِلٌ لَهُ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ كَالْوَكِيلِ. وَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ أَوَّلًا: لَا يَرْجِعُ لِأَنَّهُ ضَمِنَ بِقَبْضِهِ، ثُمَّ رَجَعَ إلَى مَا ذَكَرْنَا وَيَرْجِعُ فِي جَمِيعِ التَّرِكَةِ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَرْجِعُ فِي الثُّلُثِ لِأَنَّ الرُّجُوعَ بِحُكْمِ الْوَصِيَّةِ فَأَخَذَ حُكْمَهَا، وَمَحَلُّ الْوَصِيَّةِ الثُّلُثُ. وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّهُ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِحُكْمِ الْغُرُورِ وَذَلِكَ دَيْنٌ عَلَيْهِ وَالدَّيْنُ يُقْضَى مِنْ جَمِيعِ التَّرِكَةِ، بِخِلَافِ الْقَاضِي أَوْ أَمِينِهِ إذَا تَوَلَّى الْبَيْعَ حَيْثُ لَا عُهْدَةَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ فِي إلْزَامِهَا الْقَاضِيَ تَعْطِيلُ الْقَضَاءِ، إذْ يَتَحَامَى عَنْ تَقَلُّدِ هَذِهِ الْأَمَانَةِ حَذَرًا عَنْ لُزُومِ الْغَرَامَةِ فَتَتَعَطَّلُ مَصْلَحَةُ الْعَامَّةِ وَأَمِينُهُ سَفِيرٌ عَنْهُ كَالرَّسُولِ، وَلَا كَذَلِكَ الْوَصِيُّ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ وَقَدْ مَرَّ فِي كِتَابِ الْقَضَاءِ، فَإِنْ كَانَتْ التَّرِكَةُ قَدْ هَلَكَتْ أَوْ لَمْ يَكُنْ بِهَا وَفَاءٌ لَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ كَمَا إذَا كَانَ عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ آخَرُ.

قَالَ (وَإِنْ قَسَمَ الْوَصِيُّ الْمِيرَاثَ فَأَصَابَ صَغِيرًا مِنْ الْوَرَثَةِ عَبْدٌ فَبَاعَهُ وَقَبَضَ الثَّمَنَ فَهَلَكَ وَاسْتَحَقَّ الْعَبْدَ رَجَعَ فِي مَالِ الصَّغِيرِ) لِأَنَّهُ عَامِلٌ لَهُ، وَيَرْجِعُ الصَّغِيرُ عَلَى الْوَرَثَةِ بِحِصَّتِهِ لِانْتِقَاضِ الْقِسْمَةِ بِاسْتِحْقَاقِ مَا أَصَابَهُ.

قَالَ (وَإِذَا احْتَالَ الْوَصِيُّ بِمَالِ الْيَتِيمِ فَإِنْ كَانَ خَيْرًا لِلْيَتِيمِ جَازَ) وَهُوَ أَنْ يَكُونَ أَمْلَأَ،

قَبْلَ مَوْتِهِ إلَى رَجُلٍ مَالًا لِيَحُجَّ عَنْهُ فَسَرَقَ الْمَالَ لَا يُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَتِهِ مَرَّةً أُخْرَى، كَذَلِكَ هَذَا انْتَهَى. فَكَأَنَّ ذَلِكَ الْقَائِلَ فَهِمَ مِنْ ظَاهِرِ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ فِي تَقْرِيرِ دَلِيلِ مُحَمَّدٍ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ لَا يُؤْخَذُ مِنْ نَفْسِ الْمُوصِي شَيْءٌ فِي حَالِ حَيَاتِهِ فَوَقَعَ

ص: 508

إذْ الْوِلَايَةُ نَظَرِيَّةٌ، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ أَمْلَأَ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ فِيهِ تَضْيِيعَ مَالِ الْيَتِيمِ عَلَى بَعْضِ الْوُجُوهِ.

قَالَ (وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْوَصِيِّ وَلَا شِرَاؤُهُ إلَّا بِمَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهِ) لِأَنَّهُ لَا نَظَرَ فِي الْغَبْنِ الْفَاحِشِ، بِخِلَافِ الْيَسِيرِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ، فَفِي اعْتِبَارِهِ انْسِدَادِ بَابِهِ. وَالصَّبِيُّ الْمَأْذُونُ وَالْعَبْدُ الْمَأْذُونُ وَالْمُكَاتَبُ يَجُوزُ بَيْعُهُمْ وَشِرَاؤُهُمْ بِالْغَبْنِ الْفَاحِشِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُمْ يَتَصَرَّفُونَ بِحُكْمِ الْمَالِكِيَّةِ، وَالْإِذْنُ فَكُّ الْحَجْرِ، بِخِلَافِ الْوَصِيِّ لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ بِحُكْمِ النِّيَابَةِ الشَّرْعِيَّةِ نَظَرًا فَيَتَقَيَّدُ بِمَوْضِعِ النَّظَرِ. وَعِنْدَهُمَا لَا يَمْلِكُونَهُ لِأَنَّ التَّصَرُّفَ بِالْفَاحِشِ مِنْهُ تَبَرُّعٌ لَا ضَرُورَةَ فِيهِ وَهُمْ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِهِ (وَإِذَا كَتَبَ كِتَابَ الشِّرَاءِ عَلَى وَصِيٍّ كَتَبَ كِتَابَ الْوَصِيَّةِ عَلَى حِدَةٍ وَكِتَابَ الشِّرَاءِ عَلَى حِدَةٍ) لِأَنَّ ذَلِكَ أَحْوَطُ، وَلَوْ كَتَبَ جُمْلَةً عَسَى أَنْ يَكْتُبَ الشَّاهِدُ شَهَادَتَهُ فِي آخِرِهِ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ فَيَصِيرُ ذَلِكَ حَمْلًا لَهُ عَلَى الْكَذِبِ. ثُمَّ قِيلَ: يَكْتُبُ اشْتَرَى مِنْ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ وَلَا يَكْتُبُ مِنْ فُلَانٍ وَصِيِّ فُلَانٍ لِمَا بَيَّنَّا. وَقِيلَ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ لِأَنَّ الْوِصَايَةَ تُعْلَمُ ظَاهِرًا.

قَالَ (وَبَيْعُ الْوَصِيِّ عَلَى الْكَبِيرِ الْغَائِبِ جَائِزٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ إلَّا فِي الْعَقَارِ)

فِيمَا وَقَعَ

(قَوْلُهُ لِأَنَّهُمْ يَتَصَرَّفُونَ بِحُكْمِ الْمَالِكِيَّةِ، وَالْإِذْنُ فَكُّ الْحَجْرِ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي حَلِّ هَذَا التَّعْلِيلِ: لِأَنَّهُمْ يَتَصَرَّفُونَ بِحُكْمِ الْمَالِكِيَّةِ: أَيْ يَتَصَرَّفُونَ بِأَهْلِيَّتِهِمْ لَا بِأَمْرِ الْمَوْلَى، لِأَنَّ الْإِذْنَ فَكُّ الْحَجْرِ، فَلَمْ يَكُنْ تَصَرُّفُهُمْ نِيَابَةً عَنْ أَحَدٍ انْتَهَى. وَأَوْرَدَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ عَلَى قَوْلِهِ لِأَنَّ الْإِذْنَ فَكُّ الْحَجْرِ بِأَنْ قَالَ: فِيهِ بَحْثٌ، فَإِنَّ الْكَلَامَ كَانَ عَامًّا لِلصَّبِيِّ الْمَأْذُونِ وَالْمُكَاتَبِ انْتَهَى.

أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا بِوَارِدٍ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ الْمُدَّعِيَ كَانَ عَامًّا لِلصَّبِيِّ الْمَأْذُونِ وَالْمُكَاتَبِ، إلَّا أَنَّ قَوْلَهُ لِأَنَّ الْإِذْنَ فَكُّ الْحَجْرِ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ تَعْلِيلًا فِي حَقِّهِمَا أَيْضًا. أَمَّا فِي حَقِّ الصَّبِيِّ الْمَأْذُونِ فَظَاهِرٌ، لِأَنَّ الْإِذْنَ فِي حَقِّهِ فَكُّ الْحَجْرِ الثَّابِتِ لَهُ بِسَبَبِ صِبَاهُ، كَمَا أَنَّ الْإِذْنَ فِي حَقِّ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ فَكُّ الْحَجْرِ الثَّابِتِ لَهُ بِسَبَبِ رِقِّهِ كَمَا تَقَرَّرَ فِي كِتَابِ الْمَأْذُونِ. وَأَمَّا فِي حَقِّ الْمُكَاتَبِ فَلِأَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَأْذُونًا صَرَاحَةً إلَّا أَنْ صَارَ مَأْذُونًا فِي ضِمْنِ عَقْدِ الْكِتَابَةِ لَا مَحَالَةَ، فَإِنَّ أَدَاءَ بَدَلِ الْكِتَابَةِ بِدُونِ ثُبُوتِ الْإِذْنِ لَهُ فِي الْكَسْبِ مُحَالٌ، وَالْإِذْنُ فِي الشَّرْعِ فَكُّ الْحَجْرِ وَإِسْقَاطُ الْحَقِّ لَا غَيْرُ عِنْدَنَا كَمَا مَرَّ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْمَأْذُونِ فَلَا غُبَارَ فِي التَّعْلِيلِ الْمَزْبُورِ

ص: 509

لِأَنَّ الْأَبَ يَلِي مَا سِوَاهُ وَلَا يَلِيهِ، فَكَذَا وَصِيُّهُ فِيهِ. وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ لَا يَمْلِكَ الْوَصِيُّ غَيْرَ الْعَقَارِ أَيْضًا لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ الْأَبُ عَلَى الْكَبِيرِ، إلَّا أَنَّا اسْتَحْسَنَاهُ لِمَا أَنَّهُ حُفِظَ لِتَسَارُعِ الْفَسَادِ إلَيْهِ، وَحِفْظُ الثَّمَنِ أَيْسَرُ وَهُوَ يَمْلِكُ الْحِفْظَ، أَمَّا الْعَقَارُ فَمُحْصَنٌ بِنَفْسِهِ. قَالَ (وَلَا يَتْجُرُ فِي الْمَالِ) لِأَنَّ الْمُفَوَّضَ إلَيْهِ الْحِفْظُ دُونَ التِّجَارَةِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: وَصِيُّ الْأَخِ فِي الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ الْغَائِبِ بِمَنْزِلَةِ وَصِيِّ الْأَبِ فِي الْكَبِيرِ الْغَائِبِ، وَكَذَا وَصِيُّ الْأُمِّ وَوَصِيُّ الْعَمِّ. وَهَذَا الْجَوَابُ فِي تَرِكَةِ هَؤُلَاءِ لِأَنَّ وَصِيَّهُمْ قَائِمٌ مُقَامَهُمْ وَهُمْ يَمْلِكُونَ مَا يَكُونُ مِنْ بَابِ الْحِفْظِ فَكَذَا وَصِيُّهُمْ.

قَوْلُهُ وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ لَا يَمْلِكَ الْوَصِيُّ غَيْرَ الْعَقَارِ أَيْضًا لِأَنَّهُ يَمْلِكُهُ الْأَبُ عَلَى الْكَبِيرِ) قَالَ صَاحِبُ الْكِفَايَةِ: قَوْلُهُ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ الْأَبُ عَلَى الْكَبِيرِ فِي صُورَةِ التَّنَاقُضِ لِقَوْلِهِ لِأَنَّ الْأَبَ يَلِي مَا سِوَاهُ وَيَتَقَصَّى عَنْهُ بِأَنَّ الْأَبَ لَا يَمْلِكُهُ بِالْوِلَايَةِ الْحَقِيقِيَّةِ وَيَمْلِكُهُ بِجِهَةِ الْحِفْظِ وَالنَّظَرِ انْتَهَى.

أَقُولُ: مَا ذَكَرَهُ فِي وَجْهِ التَّقَصِّي عَنْ التَّنَاقُضِ لَيْسَ بِتَامٍّ، لِأَنَّ الْوَصِيَّ أَيْضًا لَا يَمْلِكُ غَيْرَ الْعِقَابِ عَلَى الْكَبِيرِ بِالْوِلَايَةِ الْحَقِيقِيَّةِ، بَلْ إنَّمَا يَمْلِكُهُ عَلَيْهِ بِجِهَةِ الْحِفْظِ وَالنَّظَرِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ، فَإِنْ كَانَ مَعْنَى قَوْلِ الْمُصَنِّفِ وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ لَا يَمْلِكَ الْوَصِيُّ غَيْرَ الْعَقَارِ أَيْضًا أَنَّهُ كَانَ الْقِيَاسُ أَنْ لَا يَمْلِكَهُ الْوَصِيُّ بِجِهَةِ الْحِفْظِ وَالنَّظَرِ أَيْضًا كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ السِّيَاقِ وَالسِّيَاقُ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ الْأَبُ عَلَى الْكَبِيرِ: أَيْ لَا يَمْلِكُهُ عَلَيْهِ بِجِهَةِ الْحِفْظِ وَالنَّظَرِ أَيْضًا، وَهَذَا يُنَافِي مَا ذَكَرَهُ الشَّارِحُ الْمَزْبُورُ فِي وَجْهِ التَّقَصِّي عَنْ التَّنَاقُضِ كَمَا لَا يَخْفَى، وَإِنْ كَانَ مَعْنَى ذَلِكَ كَانَ الْقِيَاسُ أَنْ لَا يَمْلِكَهُ الْوَصِيُّ بِالْوِلَايَةِ الْحَقِيقِيَّةِ وَهُوَ يُشْعِرُ بِأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْقِيَاسُ مَتْرُوكًا مَعَ أَنَّهُ لَمْ يُتْرَكْ قَطُّ، إذْ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِأَنَّ الْوَصِيَّ يَمْلِكُهُ

ص: 510

قَالَ (وَالْوَصِيُّ أَحَقُّ بِمَالِ الصَّغِيرِ مِنْ الْجَدِّ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْجَدُّ أَحَقُّ لِأَنَّ الشَّرْعَ أَقَامَهُ مُقَامَ الْأَبِ حَالَ عَدَمِهِ حَتَّى أَحْرَزَ الْمِيرَاثَ فَيُقَدَّمُ عَلَى وَصِيِّهِ. وَلَنَا أَنَّ بِالْإِيصَاءِ تَنْتَقِلُ وِلَايَةُ الْأَبِ إلَيْهِ فَكَانَتْ وِلَايَتُهُ قَائِمَةً مَعْنًى فَيُقَدَّمُ عَلَيْهِ كَالْأَبِ نَفْسِهِ، وَهَذَا لِأَنَّ اخْتِيَارَهُ الْوَصِيَّ مَعَ عِلْمِهِ بِقِيَامِ الْجَدِّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَصَرُّفَهُ أَنْظَرُ لِبَنِيهِ مِنْ تَصَرُّفِ أَبِيهِ (فَإِنْ لَمْ يُوصِ الْأَبُ فَالْجَدُّ بِمَنْزِلَةِ الْأَبِ) لِأَنَّهُ أَقْرَبُ النَّاسِ إلَيْهِ وَأَشْفَقُهُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمْلِكَ الْإِنْكَاحَ دُونَ وَصِيٍّ، غَيْرَ أَنَّهُ يُقَدَّمُ عَلَيْهِ وَصِيُّ الْأَبِ فِي التَّصَرُّفِ لِمَا بَيَّنَّاهُ.

(فَصْلٌ فِي الشَّهَادَةِ)

قَالَ (وَإِذَا شَهِدَ الْوَصِيَّانِ أَنَّ الْمَيِّتَ أَوْصَى إلَى فُلَانٍ مَعَهُمَا فَالشَّهَادَةُ بَاطِلَةٌ) لِأَنَّهُمَا مُتَّهَمَانِ فِيهَا لِإِثْبَاتِهِمَا

عَلَى الْكَبِيرِ بِالْوِلَايَةِ الْحَقِيقِيَّةِ.

فَالْوَجْهُ فِي تَقْرِيرِ هَذَا الْمَحَلِّ مَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ الزَّيْلَعِيُّ فِي التَّبْيِينِ حَيْثُ قَالَ: وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ لَا يَمْلِكَ الْوَصِيُّ غَيْرَ الْعَقَارِ أَيْضًا وَلَا الْأَبُ كَمَا لَا يَمْلِكُهُ عَلَى الْكَبِيرِ الْحَاضِرِ، إلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ فِيهِ حِفْظُ مَالِهِ جَازَ اسْتِحْسَانًا فِيمَا يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ، لِأَنَّ حِفْظَ ثَمَنِهِ أَيْسَرُ وَهُوَ يَمْلِكُ الْحِفْظَ فَكَذَا وَصِيُّهُ. وَأَمَّا الْعَقَارُ فَمَحْفُوظٌ بِنَفْسِهِ فَلَا حَاجَةَ فِيهِ إلَى الْبَيْعِ انْتَهَى. ثُمَّ إنَّ بَعْضَ الْفُضَلَاءِ بَعْدَ أَنْ نَقَلَ مَا فِي الْكِفَايَةِ رَدَّهُ بِوَجْهٍ آخَرَ حَيْثُ قَالَ: وَلَا يُوَافِقُهُ قَوْلُهُ وَلَا يَلِيهِ انْتَهَى. أَقُولُ: هَذَا سَاقِطٌ إذْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ فِيمَا قَبْلُ وَلَا يَلِيهِ لَا يُوَافِقُ مَا فِي الْكِفَايَةِ مِنْ التَّوْجِيهِ، فَإِنَّ مَعْنَاهُ وَلَا يَلِي الْأَبُ الْعَقَارَ كَمَا يَلِي غَيْرُهُ إذْ فِي غَيْرِهِ حِفْظُ مَالِهِ وَهُوَ يَمْلِكُ الْحِفْظَ، وَأَمَّا الْعَقَارُ فَمَحْفُوظٌ بِنَفْسِهِ فَلَا يَلِيهِ، وَهَذَا لَا يُنَافِي مَا فِي الْكِفَايَةِ بَلْ يُوَافِقُهُ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى ذِي فِطْنَةٍ.

(فَصْلُ الشَّهَادَةِ فِي الْوَصِيَّةِ)

قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: لَمَّا لَمْ تَكُنْ الشَّهَادَةُ فِي الْوَصِيَّةِ أَمْرًا مُخْتَصًّا بِالْوَصِيَّةِ أَخَّرَ ذِكْرَهَا لِعَدَمِ عِلَاقَتِهَا فِيهَا انْتَهَى. وَاقْتَفَى أَثَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ نَقْلًا عَنْهُ. أَقُولُ: لَيْسَ ذَلِكَ بِسَدِيدٍ، لِأَنَّ الَّذِي لَا يَخْتَصُّ بِالْوَصِيَّةِ إنَّمَا هُوَ مُطْلَقُ الشَّهَادَةِ، وَأَمَّا الشَّهَادَةُ فِي الْوَصِيَّةِ فَمُخْتَصَّةٌ بِهَا قَطْعًا فَلَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ لَمَّا لَمْ تَكُنْ الشَّهَادَةُ فِي الْوَصِيَّةِ أَمْرًا مُخْتَصًّا بِالْوَصِيَّةِ كَمَا لَا يَخْفَى. وَالظَّاهِرُ فِي وَجْهِ التَّأْخِيرِ مَا ذَكَرَهُ

ص: 511

مُعَيَّنًا لِأَنْفُسِهِمَا. قَالَ (إلَّا أَنْ يَدَّعِيَهَا الْمَشْهُودُ لَهُ) وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ، وَهُوَ فِي الْقِيَاسِ كَالْأَوَّلِ لِمَا بَيَّنَّا مِنْ التُّهْمَةِ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ لِلْقَاضِي وِلَايَةَ نَصْبِ الْوَصِيِّ ابْتِدَاءً أَوْ ضَمَّ آخَرَ إلَيْهِمَا بِرِضَاهُ بِدُونِ شَهَادَتِهِمَا فَيَسْقُطُ بِشَهَادَتِهِمَا مُؤْنَةُ التَّعْيِينِ عَنْهُ، أَمَّا الْوِصَايَةُ تَثْبُتُ بِنَصْبِ الْقَاضِي.

صَاحِبُ الْغَايَةِ حَيْثُ قَالَ: وَإِنَّمَا أَخَّرَ ذِكْرَ الشَّهَادَةِ فِي الْوَصِيَّةِ لِكَوْنِهَا عَارِضَةً غَيْرَ أَصْلِيَّةٍ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْعَارِضِ انْتَهَى.

(قَوْلُهُ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ لِلْقَاضِي وِلَايَةَ نَصْبِ الْوَصِيِّ ابْتِدَاءً أَوْ ضَمِّ آخَرَ إلَيْهِمَا بِرِضَاهُ بِدُونِ شَهَادَتِهِمَا فَيَسْقُطُ بِشَهَادَتِهِمَا مُؤْنَةُ التَّعْيِينِ عَنْهُ، أَمَّا الْوِصَايَةُ تَثْبُتُ بِنَصْبِ الْقَاضِي) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: فَإِنْ قِيلَ: إذَا كَانَ لِلْمَيِّتِ وَصِيَّانِ فَالْقَاضِي لَا يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يُنَصِّبَ عَنْ الْمَيِّتِ وَصِيًّا آخَرَ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ شَهَادَةٍ فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ إذَا تَمَكَّنَتْ التُّهْمَةُ فِيهِ. قُلْنَا: الْقَاضِي وَإِنْ كَانَ لَا يَحْتَاجُ إلَى نَصْبِ الْوَصِيِّ لَكِنَّ الْمُوصَى إلَيْهِمَا مَتَى شَهِدَا بِذَلِكَ كَانَ مِنْ زَعْمِهِمَا أَنَّهُ لَا تَدْبِيرَ لَنَا فِي هَذَا الْمَالِ إلَّا بِالثَّالِثِ. فَأَشْبَهَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مَا لَمْ يَكُنْ ثَمَّةَ وَصِيٌّ وَهُنَاكَ تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ فَكَذَلِكَ هُنَا. كَذَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ الْمَحْبُوبِيُّ فِي بَابِ الْقَضَاءِ بِالشَّهَادَةِ مِنْ قَضَاءِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، إلَى هُنَا لَفْظُ النِّهَايَةِ. وَاقْتَفَى أَثَرَ ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ الشُّرَّاحِ مِنْهُمْ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ. أَقُولُ: كُلٌّ مِنْ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ مَنْظُورٌ فِيهِ عِنْدِي.

أَمَّا السُّؤَالُ فَلَا اتِّجَاهَ لَهُ أَصْلًا، فَإِنَّ الْوَصِيَّيْنِ اللَّذَيْنِ نَصَّبَهُمَا الْمَيِّتُ إذَا كَانَا عَاجِزَيْنِ عَنْ الْقِيَامِ بِالْوَصِيَّةِ فَلِلْقَاضِي أَنْ يَضُمَّ إلَيْهِمَا وَصِيًّا آخَرَ بِلَا رَيْبٍ كَمَا تَقَرَّرَ فِي أَوَائِلِ بَابِ الْوَصِيِّ وَمَا يَمْلِكُهُ، وَإِذَا لَمْ يَكُونَا عَاجِزَيْنِ عَنْهُ وَلَكِنْ سَأَلَا الْقَاضِي أَنْ يَضُمَّ إلَيْهِمَا الْآخَرَ وَرَضِيَ بِهِ الْآخَرُ فَلَهُ أَيْضًا أَنْ يَضُمَّ إلَيْهِمَا الْآخَرَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمُعْتَبَرَاتِ، وَأَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ هُنَا بِقَوْلِهِ أَوْ ضَمَّ آخَرَ إلَيْهِمَا بِرِضَاهُ. قَالَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ فِي شَرْحِهِ: يَعْنِي لَوْ سَأَلَا مِنْ الْقَاضِي أَنْ يَجْعَلَ هَذَا الرَّجُلَ وَصِيًّا مَعَهُمَا بِرِضَاهُ فَعَلَى الْقَاضِي أَنْ يُجِيبَهُمَا فِي ذَلِكَ انْتَهَى.

ثُمَّ إنَّ هَذَا حَالَ الضَّمِّ إلَى الْوَصِيَّيْنِ مُطْلَقًا، وَأَمَّا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ فَيَجِبُ عَلَى الْقَاضِي أَنْ يَضُمَّ الثَّالِثَ إلَيْهِمَا أَلْبَتَّةَ وَإِنْ بَطَلَتْ شَهَادَتُهُمَا كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي عَامَّةِ الْمُعْتَبَرَاتِ، مِنْهَا التَّبْيِينُ فَإِنَّهُ قَالَ فِيهِ: فَإِذَا رُدَّتْ شَهَادَتُهُمَا ضَمَّ الْقَاضِي إلَيْهِمَا ثَالِثًا، لِأَنَّ فِي ضِمْنِ شَهَادَتِهِمَا إقْرَارٌ مِنْهُمَا بِوَصِيٍّ آخَرَ مَعَهُمَا لِلْمَيِّتِ، وَإِقْرَارُهُمَا حُجَّةٌ عَلَى أَنْفُسِهِمَا فَلَا يَتَمَكَّنَانِ مِنْ التَّصَرُّفِ بَعْدَ ذَلِكَ بِدُونِهِ فَصَارَ فِي حَقِّهِمَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ مَاتَ أَحَدُ الْأَوْصِيَاءِ الثَّلَاثَةِ. ثُمَّ قَالَ فِي بَيَانِ وَجْهِ الِاسْتِحْسَانِ فِي صُورَةِ قَبُولِ شَهَادَتِهِمَا: وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْقَاضِي أَنْ يَضُمَّ إلَيْهِمَا ثَالِثًا عَلَى مَا بَيَّنَّا آنِفًا فَيَسْقُطُ بِشَهَادَتِهِمَا مُؤْنَةُ التَّعْيِينِ عَنْهُ فَيَكُونُ وَصِيًّا مَعَهُمَا بِنَصْبِ الْقَاضِي إيَّاهُ انْتَهَى. وَمِنْهَا الْمُحِيطُ فَإِنَّهُ قَالَ فِيهِ: قَالَ فِي الْأَصْلِ: وَإِذَا كَذَّبَهُمَا الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ أَدْخَلْت مَعَهُمَا رَجُلًا آخَرَ سِوَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، مِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ قَالَ مَا ذُكِرَ أَنَّهُ يَدْخُلُ مَعَهُمَا ثَالِثًا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَدْخُلُ مَعَهُمَا ثَالِثًا.

وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ لَا، بَلْ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ قَوْلُهُمْ جَمِيعًا وَهُوَ الظَّاهِرُ، فَإِنَّهُ لَمْ يَحْكِ فِيهِ خِلَافًا. وَإِنْ صَدَّقَهُمَا وَقَالَ لَا أَقْبَلُ الْوَصِيَّةَ قَالَ أَدْخَلْت مَعَهُمَا ثَالِثًا. بِخِلَافِ مَا لَوْ قَبِلَ ثُمَّ أَبَى فَإِنَّهُ لَا يَعْمَلُ رَدُّهُ وَإِبَاؤُهُ، إلَى هُنَا لَفْظُ الْمُحِيطِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ فَلِأَنَّ قِيَاسَ مَا نَحْنُ فِيهِ عَلَى مَا لَمْ يَكُنْ ثَمَّةَ وَصِيٌّ بِقَوْلِهِ وَهُنَاكَ تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ فَكَذَلِكَ هُنَا قِيَاسٌ مَعَ الْفَارِقِ إذْ لَا تُهْمَةَ هُنَاكَ وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ تُهْمَةٌ كَمَا بَيَّنُوا، وَأَيْضًا الْقَاضِي يَحْتَاجُ هُنَاكَ إلَى نَصْبِ الْوَصِيِّ وَهُنَا لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي زَعْمِ الْمُجِيبِ. فَأَيْنَ هَذَا مِنْ ذَاكَ، وَمُجَرَّدُ الْمُشَابَهَةِ فِي جِهَةٍ لَا يُصَحِّحُ الْقِيَاسَ كَمَا لَا يَخْفَى. ثُمَّ إنَّ بَعْضَ الْمُتَأَخِّرِينَ اسْتَشْكَلَ هَذَا الْمَقَامَ بِوَجْهٍ آخَرَ فَقَالَ فِيهِ: إنَّ وُجُوبَ كَوْنِ الْمَضْمُونِ هَذَا الْمُدَّعَى أَثَرُ شَهَادَةِ الْمُتَّهَمِ مَعَ أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمُتَّهَمِ فَكَيْفَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا أَثَرٌ انْتَهَى. أَقُولُ: هَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّ شَهَادَةَ الْمُتَّهَمِ إنَّمَا لَا تُقْبَلُ فِي إثْبَاتِ حَقٍّ شَرْعِيٍّ وَإِيجَابِهِ، لَا فِي إسْقَاطِ شَيْءٍ كَمُؤْنَةِ التَّعْيِينِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ فَإِنَّ شَهَادَتَهُمَا تُسْقِطُ عَنْ الْقَاضِي مُؤْنَةَ التَّعْيِينِ وَإِنْ لَمْ تَثْبُتْ الْوِصَايَةُ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ

ص: 512

قَالَ (وَكَذَلِكَ الِابْنَانِ) مَعْنَاهُ إذَا شَهِدَ أَنَّ الْمَيِّتَ أَوْصَى إلَى رَجُلٍ وَهُوَ يُنْكِرُ لِأَنَّهُمَا يَجُرَّانِ إلَى أَنْفُسِهِمَا نَفْعًا بِنَصْبِ حَافِظٍ لِلتَّرِكَةِ

(وَلَوْ شَهِدَا) يَعْنِي الْوَصِيَّيْنِ (لِوَارِثٍ صَغِيرٍ بِشَيْءٍ مِنْ مَالِ الْمَيِّتِ أَوْ غَيْرِهِ)(فَشَهَادَتُهُمَا بَاطِلَةٌ) لِأَنَّهُمَا يُظْهِرَانِ وِلَايَةَ التَّصَرُّفِ لِأَنْفُسِهِمَا فِي الْمَشْهُودِ بِهِ.

قَالَ (وَإِنْ شَهِدَ لِوَارِثٍ كَبِيرٍ فِي مَالِ الْمَيِّتِ لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ مَالِ الْمَيِّتِ جَازَ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: إنْ شَهِدَا لِوَارِثٍ كَبِيرٍ تَجُوزُ فِي الْوَجْهَيْنِ، لَأَنْ لَا يَثْبُتَ لَهُمَا وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ فِي التَّرِكَةِ إذَا كَانَتْ الْوَرَثَةُ كِبَارًا فَعَرِيَتْ عَنْ التُّهْمَةِ. وَلَهُ أَنَّهُ يَثْبُتُ لَهُمَا وِلَايَةُ الْحِفْظِ وَوِلَايَةُ بَيْعِ الْمَنْقُولِ عِنْدَ غَيْبَةِ الْوَارِثِ فَتَحَقَّقَتْ التُّهْمَةُ بِخِلَافِ شَهَادَتِهَا فِي غَيْرِ التَّرِكَةِ لِانْقِطَاعِ وِلَايَةِ وَصِيِّ الْأَبِ عَنْهُ، لِأَنَّ الْمَيِّتَ أَقَامَهُ مُقَامَ نَفْسِهِ فِي تَرِكَتِهِ لَا فِي غَيْرِهَا. .

قَالَ (وَإِذَا شَهِدَ رَجُلَانِ لِرَجُلَيْنِ عَلَى مَيِّتٍ بِدَيْنِ

الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ فَتَسْقُطُ بِشَهَادَتِهِمَا مُؤْنَةُ التَّعْيِينِ عَنْهُ. أَمَّا الْوِصَايَةُ تَثْبُتُ بِنَصْبِ الْقَاضِي، وَكَمْ مِنْ شَيْءٍ يَكُونُ حُجَّةً فِي الدَّفْعِ وَلَا يَكُونُ حُجَّةً فِي الْإِثْبَاتِ كَالِاسْتِصْحَابِ وَنَحْوِهِ فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ شَهَادَةُ الْمُتَّهَمِ أَيْضًا كَذَلِكَ فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا أَثَرُ الدَّفْعِ، وَلَقَدْ أَفْصَحَ عَنْهُ صَاحِبُ الْغَايَةِ هُنَا حَيْثُ قَالَ: وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْقَاضِيَ مَلَكَ نَصْبَ الْوَصِيِّ إذَا كَانَ طَالِبًا وَالْمَوْتُ مَعْرُوفًا فَلَا يُثْبِتُ الْقَاضِي بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ وِلَايَةً لَمْ تَكُنْ، وَإِنَّمَا أُسْقِطَتْ عَنْهُ مُؤْنَةُ التَّعْيِينِ. وَمِثَالُهُ أَنَّ الْقُرْعَةَ لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ، وَيَجُوزُ اسْتِعْمَالُهَا فِي تَعْيِينِ الْأَنْصِبَاءِ لِدَفْعِ التُّهْمَةِ عَنْ الْقَاضِي فَصَلَحَتْ دَافِعَةً لَا مُوجِبَةً، فَكَذَلِكَ هَذِهِ الشَّهَادَةُ تَدْفَعُ عَنْهُ مُؤْنَةَ التَّعْيِينِ انْتَهَى.

(قَوْلُهُ وَكَذَلِكَ الِابْنَانِ) قَالَ الشُّرَّاحُ: قَوْلُهُ وَكَذَلِكَ الِابْنَانِ مَعْطُوفٌ عَلَى الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ وَهُوَ قَوْلُهُ فَالشَّهَادَةُ بَاطِلَةٌ اهـ. أَقُولُ: تَفْسِيرُ الْمُصَنِّفِ قَوْلُهُ وَكَذَلِكَ الِابْنَانِ بِقَوْلِهِ مَعْنَاهُ إذَا شَهِدَا أَنَّ الْمَيِّتَ أَوْصَى إلَى رَجُلٍ وَهُوَ يُنْكِرُ يَقْتَضِي أَيْضًا بِظَاهِرِهِ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ وَكَذَلِكَ الِابْنَانِ مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ فَالشَّهَادَةُ بَاطِلَةٌ، لِأَنَّ الْحُكْمَ فِي صُورَةِ الْإِنْكَارِ بُطْلَانُ الشَّهَادَةِ لَا غَيْرُ، لَكِنْ لَمْ يَظْهَرْ لِي مَا دَعَاهُمْ إلَى جَعْلِ قَوْلِهِ وَكَذَلِكَ الِابْنَانِ مَعْطُوفًا عَلَى الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ فَقَطْ دُونَ مَجْمُوعِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ مَعَ صِحَّةِ الْمَعْنَى فِي الثَّانِي أَيْضًا وَزِيَادَةُ الْإِفَادَةِ إذْ يَصِيرُ الْمَعْنَى إذْ ذَاكَ وَكَذَلِكَ حُكْمُ شَهَادَةِ الِابْنَيْنِ فِي صُورَةِ أَنْ يُنْكِرَ الْمَشْهُودُ لَهُ مَا شَهِدَا بِهِ، وَفِي صُورَةِ أَنْ يَدَّعِيَهُ فَإِنَّ شَهَادَتَهُمَا تَبْطُلُ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى وَتُقْبَلُ فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ اسْتِحْسَانًا وَهَذَا جَيِّدٌ جِدًّا فَإِنَّ جَوَابَ مَسْأَلَةِ الِابْنَيْنِ كَجَوَابِ مَسْأَلَةِ شَهَادَةِ الْوَصِيَّيْنِ فِي الصُّورَتَيْنِ مَعًا كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي عَامَّةِ الْكُتُبِ، وَأَمَّا إذَا جَعَلَ قَوْلَهُ وَكَذَلِكَ الِابْنَانِ مَعْطُوفًا عَلَى الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ فَقَطْ يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ إحْدَى صُورَتَيْ مَسْأَلَةِ شَهَادَةِ الِابْنَيْنِ مَتْرُوكَةَ الْبَيَانِ فِي الْكِتَابِ بِالْكُلِّيَّةِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ. فَالْحَقُّ عِنْدِي أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى الْمَجْمُوعِ لَا مَحَالَةَ (قَوْلُهُ بِخِلَافِ شَهَادَتِهِمَا فِي غَيْرِ التَّرِكَةِ لِانْقِطَاعِ وِلَايَةِ وَصِيِّ الْأَبِ عَنْهُ، لِأَنَّ الْمَيِّتَ أَقَامَهُ مُقَامَ نَفْسِهِ فِي تَرِكَتِهِ لَا فِي غَيْرِهَا) أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَذَا التَّعْلِيلُ يَقْتَضِي أَنْ تَجُوزَ شَهَادَتُهُمَا لِوَارِثٍ صَغِيرٍ أَيْضًا فِي غَيْرِ تَرِكَةٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِجَرَيَانِهِ بِعَيْنِهِ هُنَاكَ أَيْضًا مَعَ أَنَّ عَدَمَ جَوَازِ شَهَادَتِهِمَا لِوَارِثٍ صَغِيرٍ بِشَيْءٍ مِنْ تَرِكَةِ الْمَيِّتِ وَغَيْرُهَا مُتَّفِقٌ فِي الْكِتَابِ آنِفًا فَلْيَتَأَمَّلْ فِي الدَّفْعِ

(قَوْلُهُ وَإِذَا شَهِدَ رَجُلَانِ لِرَجُلَيْنِ عَلَى مَيِّتٍ إلَى آخِرِ الْفَصْلِ) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ: جِنْسُ

ص: 513

أَلْفِ دِرْهَمٍ وَشَهِدَ الْآخَرَانِ لِلْأَوَّلَيْنِ بِمِثْلِ ذَلِكَ جَازَتْ شَهَادَتُهُمَا، فَإِنْ كَانَتْ شَهَادَةُ كُلِّ فَرِيقٍ لِلْآخَرِ بِوَصِيَّةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ لَمْ تَجُزْ) وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا تُقْبَلُ فِي الدَّيْنِ أَيْضًا. وَأَبُو حَنِيفَةَ فِيمَا ذَكَرَ الْخَصَّافُ مَعَ أَبِي يُوسُفَ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ مِثْلُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ. وَجْهُ الْقَبُولِ أَنَّ الدَّيْنَ يَجِبُ فِي الذِّمَّةِ وَهِيَ قَابِلَةٌ لِحُقُوقٍ شَتَّى فَلَا شَرِكَةَ، وَلِهَذَا لَوْ تَبَرَّعَ أَجْنَبِيٌّ بِقَضَاءِ دَيْنِ أَحَدِهِمَا لَيْسَ لِلْآخَرِ حَقُّ الْمُشَارَكَةِ. وَجْهُ الرَّدِّ أَنَّ الدَّيْنَ بِالْمَوْتِ يَتَعَلَّقُ بِالتَّرِكَةِ إذْ الذِّمَّةُ خَرِبَتْ بِالْمَوْتِ، وَلِهَذَا لَوْ اسْتَوْفَى أَحَدُهُمَا حَقَّهُ مِنْ التَّرِكَةِ يُشَارِكُهُ الْآخَرُ فِيهِ فَكَانَتْ الشَّهَادَةُ مُثْبِتَةً حَقَّ الشَّرِكَةِ فَتَحَقَّقَتْ التُّهْمَةُ، بِخِلَافِ حَالِ حَيَاةِ الْمَدْيُونِ لِأَنَّهُ فِي الذِّمَّةِ لِبَقَائِهَا لَا فِي الْمَالِ فَلَا تَتَحَقَّقُ الشَّرِكَةُ.

قَالَ (وَلَوْ شَهِدَا أَنَّهُ أَوْصَى لِهَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ بِجَارِيَتِهِ وَشَهِدَ الْمَشْهُودُ لَهُمَا أَنَّ الْمَيِّتَ أَوْصَى لِلشَّاهِدَيْنِ بِعَبْدِهِ جَازَتْ الشَّهَادَةُ بِالِاتِّفَاقِ) لِأَنَّهُ لَا شَرِكَةَ فَلَا تُهْمَةَ

(وَلَوْ شَهِدَا أَنَّهُ أَوْصَى لِهَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ بِثُلُثِ مَالِهِ وَشَهِدَ الْمَشْهُودُ لَهُمَا أَنَّهُ أَوْصَى لِلشَّاهِدَيْنِ بِثُلُثِ مَالِهِ فَالشَّهَادَةُ بَاطِلَةٌ، وَكَذَا إذَا شَهِدَ الْأَوَّلَانِ أَنَّ الْمَيِّتَ أَوْصَى لِهَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ بِعَبْدٍ وَشَهِدَ الْمَشْهُودُ لَهُمَا أَنَّهُ أَوْصَى لِلْأَوَّلَيْنِ بِثُلُثِ مَالِهِ فَهِيَ بَاطِلَةٌ) لِأَنَّ الشَّهَادَةَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ مُثْبِتَةٌ لِلشَّرِكَةِ. .

هَذِهِ الْمَسَائِلِ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُوَ الشَّهَادَةُ بِالدَّيْنِ. وَالثَّانِي مَا اتَّفَقُوا عَلَى عَدَمِ جَوَازِهِ وَهُوَ الشَّهَادَةُ بِالْوَصِيَّةِ بِجُزْءٍ شَائِعٍ مِنْ التَّرِكَةِ كَالشَّهَادَةِ بِأَلْفٍ مُرْسَلَةٍ أَوْ بِثُلُثِ الْمَالِ. وَالثَّالِثُ مَا اتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِهِ وَهُوَ أَنْ يَشْهَدَا لِرَجُلَيْنِ بِجَارِيَةٍ وَيَشْهَدَ الْمَشْهُودُ لَهُمَا لِلشَّاهِدَيْنِ بِوَصِيَّةِ عَبْدٍ. وَالرَّابِعُ وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ آخِرًا هُوَ أَنْ يَشْهَدَا لِرَجُلَيْنِ بِعَيْنٍ وَيَشْهَدَ الْمَشْهُودُ لَهُمَا لِلشَّاهِدَيْنِ بِأَلْفٍ مُرْسَلَةٍ أَوْ بِثُلُثِ الْمَالِ، وَمَبْنَى ذَلِكَ كُلِّهِ عَلَى تُهْمَةِ الشَّرِكَةِ، فَمَا ثَبَتَ فِيهِ التُّهْمَةُ لَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ فِيهِ وَهُوَ الثَّانِي وَالرَّابِعُ، وَمَا لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ التُّهْمَةُ قُبِلَتْ كَمَا فِي الثَّالِثِ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ.

وَأَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ فَقَدْ وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِيهِ بِنَاءً عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا انْتَهَى. أَقُولُ: تَقْسِيمُ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ وَتَقْرِيرُهُ هُنَا مُخْتَلٌّ؛ لِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ بِالْأَوْجُهِ الْأَقْسَامَ الْكُلِّيَّةَ فَهِيَ ثَلَاثَةٌ لَا غَيْرُ: أَحَدُهَا مَا اتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِهِ. وَثَانِيهَا مَا اتَّفَقُوا عَلَى عَدَمِ جَوَازِهِ. وَثَالِثُهَا مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ. وَمَا عَدَّهُ وَجْهًا رَابِعًا دَاخِلٌ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي لَا مَحَالَةَ. وَإِنْ أَرَادَ بِهَا الْأَمْثِلَةَ فَهِيَ خَمْسَةٌ لَا أَرْبَعَةٌ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ عِبَارَةُ الْكِتَابِ، فَلَا وَجْهَ لِجَعْلِ الِاثْنَيْنِ مِنْهَا وَجْهًا وَاحِدًا، عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ الْأَوَّلَ مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ، وَالثَّانِي مَا اتَّفَقُوا عَلَى عَدَمِ جَوَازِهِ، وَالثَّالِثُ مَا اتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِهِ لَا يُسَاعِدُ كَوْنَ مُرَادِهِ بِالْأَوْجُهِ هُوَ الْأَمْثِلَةُ، بَلْ يَقْتَضِي كَوْنَ مُرَادِهِ بِهَا هُوَ الْأَقْسَامُ الْكُلِّيَّةُ الْمَذْكُورَةُ كَمَا لَا يَخْفَى.

ثُمَّ إنَّ صَاحِبَيْ النِّهَايَةِ وَالْكِفَايَةِ وَإِنْ ذَهَبَا أَيْضًا إلَى كَوْنِ الْأَوْجُهِ فِي جِنْسِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ الْأَرْبَعَةِ، إلَّا أَنَّ تَقْرِيرَهُمَا لَا يُنَافِي كَوْنَ الْمُرَادِ بِالْأَوْجُهِ هُوَ الْأَمْثِلَةُ وَالْمَسَائِلُ دُونَ الْأَقْسَامِ الْكُلِّيَّةِ وَالْأُصُولِ كَمَا يُنَافِيهِ تَقْرِيرُ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ فَإِنَّهُمَا قَالَا فِيهِ: وَجِنْسُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ بِالْإِجْمَاعِ، وَهُوَ أَنْ يَشْهَدَ الرَّجُلَانِ بِوَصِيَّةِ عَيْنٍ لِرَجُلَيْنِ كَالْعَبْدِ وَيَشْهَدَ الْمُوصَى لَهُمَا لِهَذَيْنِ الشَّاهِدَيْنِ بِوَصِيَّةِ عَيْنٍ أُخْرَى كَالْجَارِيَةِ لِأَنَّهُ لَا شَرِكَةَ لِلْمَشْهُودِ فِيهِ فَلَا تَتَمَكَّنُ التُّهْمَةُ. وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي لَا تُقْبَلُ بِالْإِجْمَاعِ، هُوَ أَنْ يَشْهَدَ الرَّجُلَانِ بِالْوَصِيَّةِ بِجُزْءٍ شَائِعٍ كَالْوَصِيَّةِ بِثُلُثِ مَالِهِ وَيَشْهَدَ الْمَشْهُودُ لَهُمَا لِلشَّاهِدَيْنِ بِأَلْفٍ مُرْسَلَةٍ أَيْضًا.

وَفِي الْوَجْهِ الثَّالِثِ لَا تُقْبَلُ أَيْضًا. وَهُوَ أَنْ يَشْهَدَ الرَّجُلَانِ أَنَّ الْمَيِّتَ أَوْصَى لِهَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ بِعَيْنٍ كَالْعَبْدِ وَيَشْهَدَ الْمَشْهُودُ لَهُمَا أَنَّ الْمَيِّتَ أَوْصَى لِلشَّاهِدَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ بِثُلُثِ مَالِهِ، لِأَنَّ الشَّهَادَةَ

ص: 514

(كِتَابُ الْخُنْثَى)

مُثْبِتَةٌ لِلشَّرِكَةِ. وَفِي الْوَجْهِ الرَّابِعِ اخْتَلَفُوا فِيهِ، وَهُوَ الشَّهَادَةُ بِالدَّيْنِ انْتَهَى تَدَبَّرْ تَفْهَمْ. ثُمَّ إنَّ الْحَقَّ أَنْ تُثَلَّثَ الْقِسْمَةُ هُنَا كَمَا فَعَلَهُ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ فِي كِتَابِ نُكَتِ الْوَصَايَا حَيْثُ قَالَ: وَإِذَا شَهِدَ أَرْبَعَةُ نَفَرٍ شَهِدَ هَذَانِ لِهَذَيْنِ وَهَذَانِ لِهَذَيْنِ عَلَى الْمَيِّتِ فَإِنَّ هَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: فِي وَجْهٍ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا بِالِاتِّفَاقِ، وَفِي وَجْهٍ لَا تُقْبَلُ بِالِاتِّفَاقِ، وَفِي وَجْهٍ اخْتَلَفُوا فِيهِ، ثُمَّ فَصَّلَ كُلَّ وَجْهٍ بِأَمْثِلَتِهِ وَدَلِيلِهِ. وَكَمَا فَصَّلَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ فِي شَرْحِ الْكَافِي لِلْحَاكِمِ الشَّهِيدِ حَيْثُ قَالَ: وَهَاهُنَا ثَلَاثَةُ فُصُولٍ: أَحَدُهَا مَا لَا تُقْبَلُ فِيهِ الشَّهَادَةُ بِالِاتِّفَاقِ، وَالثَّانِي مَا تُقْبَلُ فِيهِ الشَّهَادَةُ بِالِاتِّفَاقِ، وَالثَّالِثُ مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ بَيْنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا تَأَمَّلْ

(فَصْلٌ فِي أَحْكَامِهِ)

قَالَ فِي النِّهَايَةِ: لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ أَحْكَامِ مَنْ لَهُ آلَةٌ وَاحِدَةٌ فِي الْمَبَالِ مِنْ آلَتَيْ النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ شَرَعَ فِي بَيَانِ أَحْكَامِ مَنْ لَهُ آلَتَانِ فِيهِ، وَقَدَّمَ ذِكْرَ الْأَوَّلِ لِمَا أَنَّ الْوَاحِدَ قَبْلَ الِاثْنَيْنِ، أَوْ لِأَنَّ الْأَوَّلَ هُوَ الْأَعَمُّ وَالْأَغْلَبُ وَهَذَا كَالنَّادِرِ فِيهِ انْتَهَى. أَقُولُ: فِيهِ بَحْثٌ. أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ مَا ذُكِرَ فِي الْكُتُبِ السَّالِفَةِ مِنْ الْأَحْكَامِ لَيْسَ بِمَخْصُوصٍ بِمَنْ لَهُ آلَةٌ وَاحِدَةٌ، بَلْ يَعُمُّ مَنْ لَهُ آلَةٌ وَاحِدَةٌ وَمَنْ لَهُ آلَتَانِ؛ أَلَا يُرَى أَنَّ الْأَحْكَامَ الْمَارَّةَ فِي كِتَابِ الْوَصَايَا مَثَلًا جَارِيَةٌ بِأَسْرِهَا فِي حَقِّ الْخُنْثَى أَيْضًا، وَكَذَلِكَ الْحَالُ فِي أَحْكَامِ سَائِرِ الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ كُلِّهَا أَوْ جُلِّهَا، فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ أَحْكَامِ مَنْ لَهُ آلَةٌ وَاحِدَةٌ شَرَعَ فِي بَيَانِ أَحْكَامِ مَنْ لَهُ آلَتَانِ. وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ قَوْلَهُ شَرَعَ فِي بَيَانِ أَحْكَامِ مَنْ لَهُ آلَتَانِ لَيْسَ بِتَامٍّ، إذْ جَعَلَ الْمُصَنِّفُ لِكِتَابِ الْخُنْثَى فَصْلَيْنِ، وَوَضَعَ الْفَصْلَ الْأَوَّلَ لِبَيَانِهِ وَالْفَصْلَ الثَّانِيَ لِأَحْكَامِهِ حَيْثُ قَالَ: فَصْلٌ فِي بَيَانِهِ. ثُمَّ قَالَ: فَصْلٌ فِي أَحْكَامِهِ، فَهُوَ فِي هَذَا الْكِتَابِ إنَّمَا شَرَعَ حَقِيقَةً فِي بَيَانِ مَنْ لَهُ آلَتَانِ لَا فِي بَيَانِ أَحْكَامِهِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ أَحْكَامَهُ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ بَيَانَ نَفْسِهِ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ، وَإِنْ صَحَّ أَنْ يُقَالَ شَرَعَ فِي أَحْكَامِهِ أَيْضًا بِتَأْوِيلٍ مَا فَمَا مَعْنَى تَخْصِيصِ الشُّرُوعِ بِالثَّانِي فِي قَوْلِهِ شَرَعَ فِي بَيَانِ حُكْمِ مَنْ لَهُ آلَتَانِ، وَيُمْكِنُ التَّوْجِيهُ بِعِنَايَةٍ فَتَأَمَّلْ. وَقَالَ فِي الْعِنَايَةِ: لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ أَحْكَامِ مَنْ غَلَبَ وُجُودُهُ ذَكَرَ أَحْكَامَ مَنْ هُوَ نَادِرُ الْوُجُودِ اهـ.

أَقُولُ: يَتَّجِهُ عَلَيْهِ أَيْضًا مَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا مِنْ الْبَحْثِ الْأَوَّلِ بَلْ بَعْضُ الْبَحْثِ الثَّانِي أَيْضًا فَتَأَمَّلْ. وَقَالَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ: أَخَّرَ كِتَابَ الْخُنْثَى لِوُقُوعِهِ نَادِرًا لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ شَخْصٍ آلَةٌ وَاحِدَةٌ، إمَّا آلَةُ الرَّجُلِ، وَإِمَّا آلَةُ الْأُنْثَى، وَاجْتِمَاعُ الْآلَتَيْنِ فِي شَخْصٍ وَاحِدٍ فِي غَايَةِ النُّدْرَةِ، وَلَكِنْ قَدْ يَقَعُ ذَلِكَ فَيَحْتَاجُ إلَى بَيَانِ حُكْمِهِ، فَلِأَجْلِ هَذَا ذَكَرَهُ وَأَخَّرَهُ عَنْ سَائِرِ الْكُتُبِ لِنُدْرَتِهِ وَقِلَّةِ الِاحْتِيَاجِ إلَيْهِ بَيَانُهُ اهـ.

أَقُولُ: هَذَا جَيِّدٌ إلَّا قَوْلُهُ وَقِلَّةُ الِاحْتِيَاجِ إلَى بَيَانِهِ، فَإِنَّ مَا يَكُونُ نَادِرَ الْوُقُوعِ وَخِلَافَ الْمُعْتَادِ يَكُونُ أَحْوَجَ إلَى الْبَيَانِ لِكَوْنِهِ بَعِيدًا عَنْ الْأَذْهَانِ مَوْقُوفًا حَالُهُ عَلَى أَمْرٍ خَفِيٍّ. وَعَنْ هَذَا قَالَ فِي النِّهَايَةِ: وَمِنْ مَحَاسِنِ أَحْكَامِ الْخُنْثَى تَرْكُ الْإِهْمَالِ فِي الْبَيَانِ وَإِنْ نَدَرَ وُجُودُهُ فِي الْأَزْمَانِ.

ص: 515

(فَصْلٌ فِي بَيَانِهِ)

قَالَ (وَإِذَا كَانَ لِلْمَوْلُودِ فَرْجٌ وَذَكَرٌ فَهُوَ خُنْثَى، فَإِنْ كَانَ يَبُولُ مِنْ الذَّكَرِ فَهُوَ غُلَامٌ، وَإِنْ كَانَ يَبُولُ مِنْ الْفَرْجِ فَهُوَ أُنْثَى)«لِأَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام سُئِلَ عَنْهُ كَيْفَ يُورَثُ؟ فَقَالَ مِنْ حَيْثُ يَبُولُ» وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه مِثْلُهُ. وَلِأَنَّ الْبَوْلَ مِنْ أَيِّ عُضْوٍ كَانَ فَهُوَ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ هُوَ الْعُضْوُ الْأَصْلِيُّ الصَّحِيحُ وَالْآخَرُ بِمَنْزِلَةِ الْعَيْبِ (وَإِنْ بَال مِنْهُمَا فَالْحُكْمِ لِلْأَسْبَقِ) لِأَنَّ ذَلِكَ دَلَالَةً أُخْرَى عَلَى أَنَّهُ هُوَ الْعُضْوُ الْأَصْلِيُّ (وَإِنْ كَانَا فِي السَّبْقِ عَلَى السَّوَاءِ فَلَا مُعْتَبَرَ بِالْكَثْرَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَا: يُنْسَبُ إلَى أَكْثَرِهِمَا بَوْلًا) لِأَنَّهُ عَلَامَةُ قُوَّةِ

(فَصْلٌ فِي بَيَانِهِ)

قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: فَإِنْ قِيلَ الْفَصْلُ إنَّمَا يَذْكُرُ لِقَطْعِ شَيْءٍ مِنْ شَيْءٍ آخَرَ بِاعْتِبَارِ نَوْعِ مُغَايِرَةٍ بَيْنَهُمَا، وَهَاهُنَا لَمْ يَتَقَدَّمْ شَيْءٌ فَمَا وَجْهُ ذِكْرِ الْفَصْلِ. قُلْت: كَلَامُهُ فِي قُوَّةِ أَنْ يُقَالَ: هَذَا الْكِتَابُ فِيهِ فَصْلَانِ: فَصْلٌ فِي بَيَانِ الْخُنْثَى وَفَصْلٌ فِي أَحْكَامِهِ، وَمَا ذَكَرْت فَإِنَّمَا هُوَ فِي وُقُوعِهِ فِي التَّفْصِيلِ لَا فِي الْإِجْمَالِ اهـ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ بَعْدَ نَقْلِ هَذَا السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ: وَلَك أَنْ تَقُولَ انْفِصَالُ طَائِفَةٍ مِنْ الْمَسَائِلِ عَنْ أُخْرَى مِنْهَا يَسْتَلْزِمُ انْفِصَالَ الْأُخْرَى عَنْ الْأُولَى، فَإِذَا عُنْوِنَتْ الثَّانِيَةُ بِالْفَصْلِ كَمَا هُوَ الْمُعْتَادُ كَانَ ذَلِكَ فِي قُوَّةِ تَعْنُونِ الْأُولَى بِهِ أَيْضًا وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ فِي الْعَادَةِ، لَكِنْ صَرَّحَ بِهِ هُنَا إشَارَةً فِي أَوَّلِ الْوَهْلَةِ إلَى أَنَّ هُنَا فَصْلًا آخَرَ يُذْكَرُ بُعَيْدَهُ وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ فَصْلٌ فِي أَحْكَامِهِ فَتَأَمَّلْ انْتَهَى. أَقُولُ: هَذَا كَلَامٌ خَارِجٌ عَنْ سُنَنِ السَّدَادِ. أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ الْفَصْلَ إنَّمَا يُذْكَرُ لِقَطْعِ شَيْءٍ مِنْ شَيْءٍ آخَرَ تَقَدَّمَ عَلَيْهِ لِقَطْعِهِ مِنْ شَيْءٍ آخَرَ مُطْلَقًا، وَقَدْ أَشَارَ إلَيْهِ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بِقَوْلِهِ وَهُنَا لَمْ يَتَقَدَّمْ شَيْءٌ فَمَا وَجْهُ ذِكْرِ الْفَصْلِ؟ فَاسْتِلْزَامُ انْفِصَالِ طَائِفَةٍ مِنْ الْمَسَائِلِ عَنْ أُخْرَى مِنْهَا انْفِصَالُ الْأُخْرَى عَنْ الْأُولَى إنَّمَا يَقْتَضِي تَحَقُّقَ مَعْنَى الِانْفِصَالِ مُطْلَقًا فِي الْأُولَى لَا تَحَقُّقَ الِانْفِصَالِ عَمَّا تَقَدَّمَ فِي الْأُولَى أَيْضًا كَمَا لَا يَخْفَى، وَالْفَصْلُ إنَّمَا يُذْكَرُ لِقَطْعِ شَيْءٍ مِنْ شَيْءٍ آخَرَ تَقَدَّمَ عَلَيْهِ فَلَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ. وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّهُ كَيْفَ يَحْصُلُ بِالتَّصْرِيحِ بِالْفَصْلِ هُنَا الْإِشَارَةُ فِي أَوَّلِ الْوَهْلَةِ إلَى هُنَا فَصْلًا آخَرَ يُذْكَرُ بُعَيْدَهُ وَذِكْرُ فَصْلٍ لَا يَقْتَضِي ذِكْرَ فَصْلٍ آخَرَ لَا فِي اللُّغَةِ وَلَا فِي الْعُرْفِ، وَإِلَّا لَزِمَ أَنْ يَقْتَضِيَ ذِكْرُ فَصْلٍ فِي أَحْكَامِهِ ذِكْرَ فَصْلٍ آخَرَ أَيْضًا بُعَيْدَهُ وَلَمْ يُذْكَرْ بَعْدَهُ فَصْلٌ آخَرُ قَطْعًا، وَعَنْ هَذَا تَرَاهُمْ يَذْكُرُونَ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَوَاضِعِ فَصْلًا وَاحِدًا وَلَا يَذْكُرُونَ بَعْدَهُ فَصْلًا آخَرَ أَصْلًا.

ص: 516

ذَلِكَ الْعُضْوِ وَكَوْنُهُ عُضْوًا أَصْلِيًّا، وَلِأَنَّ لِلْأَكْثَرِ حُكْمَ الْكُلِّ فِي أُصُولِ الشَّرْعِ فَيَتَرَجَّحُ بِالْكَثْرَةِ. وَلَهُ أَنَّ كَثْرَةَ الْخُرُوجِ لَيْسَ يَدُلُّ عَلَى الْقُوَّةِ، لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ لِاتِّسَاعٍ فِي أَحَدِهِمَا وَضِيقٍ فِي الْآخَرِ، وَإِنْ كَانَ يَخْرُجُ مِنْهُمَا عَلَى السَّوَاءِ فَهُوَ مُشْكِلٌ بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّهُ لَا مُرَجِّحَ.

قَالَ (وَإِذَا بَلَغَ الْخُنْثَى وَخَرَجَتْ لَهُ اللِّحْيَةُ أَوْ وَصَلَ إلَى النِّسَاءِ فَهُوَ رَجُلٌ) وَكَذَا إذَا احْتَلَمَ كَمَا يَحْتَلِمُ الرَّجُلُ أَوْ كَانَ لَهُ ثَدْيٌ مُسْتَوٍ، لِأَنَّ هَذِهِ مِنْ عَلَامَاتِ الذُّكْرَانِ (وَلَوْ ظَهَرَ لَهُ ثَدْيٌ كَثَدْيِ الْمَرْأَةِ أَوْ نَزَلَ لَهُ لَبَنٌ فِي ثَدْيِهِ أَوْ حَاضَ أَوْ حَبِلَ أَوْ أَمْكَنَ الْوُصُولُ إلَيْهِ مِنْ الْفَرْجِ فَهُوَ امْرَأَةٌ) لِأَنَّ هَذِهِ مِنْ عَلَامَاتِ النِّسَاءِ (وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ إحْدَى هَذِهِ الْعَلَامَاتِ فَهُوَ خُنْثَى مُشْكِلٌ) وَكَذَا إذَا تَعَارَضَتْ هَذِهِ الْمَعَالِمُ.

(فَصْلٌ فِي أَحْكَامِهِ)

قَالَ رضي الله عنه: الْأَصْلُ فِي الْخُنْثَى الْمُشْكِلِ أَنْ يُؤْخَذَ فِيهِ بِالْأَحْوَطِ وَالْأَوْثَقِ فِي أُمُورِ الدِّينِ، وَأَنْ لَا يَحْكُمَ بِثُبُوتِ حُكْمٍ وَقَعَ الشَّكُّ فِي ثُبُوتِهِ. قَالَ (وَإِذَا وَقَفَ خَلْفَ الْإِمَامِ قَامَ بَيْنَ صَفِّ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ) لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ امْرَأَةٌ فَلَا يَتَخَلَّلُ الرِّجَالَ كَيْ لَا يُفْسِدَ صَلَاتَهُمْ وَلَا النِّسَاءَ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ رَجُلٌ فَتَفْسُدُ صَلَاتُهُ.

(فَإِنْ قَامَ فِي صَفِّ النِّسَاءِ فَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يُعِيدَ صَلَاتَهُ) لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ رَجُلٌ (وَإِنْ قَامَ فِي صَفِّ الرِّجَالِ فَصَلَاتُهُ تَامَّةٌ وَيُعِيدُ الَّذِي عَنْ

أَيْ فِي أَحْكَامِ الْخُنْثَى الْمُشْكِلِ، وَهُوَ الَّذِي لَمْ تَظْهَرْ فِيهِ إحْدَى الْعَلَامَاتِ، وَتَعَارَضَتْ اللَّامَّاتُ لِأَنَّ غَيْرَ الْمُشْكِلِ إمَّا أَنْ يَكُونَ رَجُلًا أَوْ امْرَأَةً، وَحُكْمُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعْلُومٌ فِيمَا مَضَى مِنْ الْكُتُبِ عَلَى وَجْهِ التَّفْصِيلِ.

(قَوْلُهُ وَإِذَا وَقَفَ خَلْفَ الْإِمَامِ قَامَ بَيْنَ صَفِّ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ) هَذَا لَفْظُ الْقُدُورِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِهِ (لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ امْرَأَةٌ فَلَا يَتَخَلَّلُ الرِّجَالَ كَيْ لَا يُفْسِدَ صَلَاتَهُمْ، وَلَا النِّسَاءَ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ رَجُلٌ فَتَفْسُدَ صَلَاتُهُ) أَقُولُ: فِي تَحْرِيرِ هَذَا التَّعْلِيلِ نَوْعُ خَلَلٍ، لِأَنَّ قَوْلَهُ وَلَا النِّسَاءَ عَطْفٌ عَلَى الرِّجَالِ فِي قَوْلِهِ فَلَا يَتَخَلَّلُ الرِّجَالَ. وَقَوْلُهُ فَلَا يَتَخَلَّلُ الرِّجَالَ مُتَفَرِّعٌ عَلَى قَوْلِهِ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ امْرَأَةٌ لِأَنَّهُ مَعْطُوفٌ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ وَلَا النِّسَاءَ مُتَفَرِّعًا أَيْضًا عَلَى قَوْلِهِ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ امْرَأَةٌ، لِأَنَّ الْمَعْطُوفَ فِي حُكْمِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ بِالنَّظَرِ إلَى مَا قَبْلَهُ، فَيَصِيرُ الْحَاصِلُ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ امْرَأَةٌ فَلَا يَتَخَلَّلُ الرِّجَالَ وَلَا النِّسَاءَ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَا مَعْنَى لِتَفَرُّعِ عَدَمِ تَخَلُّلِهِ النِّسَاءَ عَلَى قَوْلِهِ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ امْرَأَةٌ، إذْ لَا تَأْثِيرَ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ امْرَأَةٌ فِي عَدَمِ تَخَلُّلِهِ النِّسَاءَ، بَلْ مُجَرَّدُ احْتِمَالِ أَنَّهُ امْرَأَةٌ مِمَّا يُجَوِّزُ تَخَلُّلَهُ النِّسَاءَ، وَإِنَّمَا التَّأْثِيرُ فِي عَدَمِ تَخَلُّلِهِ النِّسَاءَ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ رَجُلٌ، وَكَأَنَّ صَاحِبَ الْكَافِي ذَاقَ هَذِهِ الْبَشَاعَةَ فَغَيَّرَ تَحْرِيرَ الْمُصَنِّفِ فِي التَّعْلِيلِ حَيْثُ قَالَ: وَإِنْ وَقَفَ خَلْفَ الْإِمَامِ قَامَ بَيْنَ صَفِّ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فَلَا يَتَخَلَّلُ الرِّجَالَ حَتَّى لَا يُفْسِدَ صَلَاتَهُمْ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ امْرَأَةٌ، وَلَا يَتَخَلَّلُ النِّسَاءَ حَتَّى تَفْسُدَ صَلَاتُهُ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ رَجُلٌ انْتَهَى

(قَوْلُهُ فَإِنْ قَامَ فِي صَفِّ النِّسَاءِ فَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يُعِيدَ صَلَاتهُ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ رَجُلٌ) هَذَا لَفْظُ مُحَمَّدٍ فِي الْأَصْلِ

ص: 517

يَمِينِهِ وَعَنْ يَسَارِهِ وَاَلَّذِي خَلْفَهُ بِحِذَائِهِ صَلَاتَهُمْ احْتِيَاطًا) لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ امْرَأَةٌ.

قَالَ (وَأَحَبُّ إلَيْنَا أَنْ يُصَلِّيَ بِقِنَاعٍ) لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ امْرَأَةٌ (وَيَجْلِسَ فِي صَلَاتِهِ جُلُوسَ الْمَرْأَةِ) لِأَنَّهُ إنْ كَانَ رَجُلًا فَقَدْ تَرَكَ سُنَّةً وَهُوَ جَائِزٌ فِي الْجُمْلَةِ، وَإِنْ كَانَ امْرَأَةً فَقَدْ ارْتَكَبَ مَكْرُوهًا لِأَنَّ السِّتْرَ عَلَى النِّسَاءِ وَاجِبٌ مَا أَمْكَنَ (وَإِنْ صَلَّى بِغَيْرِ قِنَاعٍ أَمَرْته أَنْ يُعِيدَ) لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ امْرَأَةٌ وَهُوَ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ وَإِنْ لَمْ يُعِدْ أَجْزَأَهُ (وَتَبْتَاعُ لَهُ أَمَةٌ تَخْتِنُهُ إنْ كَانَ لَهُ مَالٌ) لِأَنَّهُ يُبَاحُ لِمَمْلُوكَتِهِ النَّظَرُ إلَيْهِ رَجُلًا كَانَ أَوْ امْرَأَةً. وَيُكْرَهُ أَنْ يَخْتِنَهُ رَجُلٌ لِأَنَّهُ عَسَاهُ أُنْثَى أَوْ تَخْتِنُهُ امْرَأَةٌ لِأَنَّهُ لَعَلَّهُ رَجُلٌ فَكَانَ الِاحْتِيَاطُ فِيمَا قُلْنَا (وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ ابْتَاعَ لَهُ الْإِمَامُ أَمَةً مِنْ بَيْتِ الْمَالِ) لِأَنَّهُ أُعِدَّ لِنَوَائِب الْمُسْلِمِينَ

قَالَ جُمْهُورُ الشُّرَّاحِ: إنَّمَا قَالَ بِاسْتِحْبَابِ إعَادَةِ الصَّلَاةِ دُونَ الْوُجُوبِ وَالْأَخْذُ بِالِاحْتِيَاطِ فِي بَابِ الْعِبَادَاتِ وَاجِبٌ، لِأَنَّ الْمُسْقِطَ وَهُوَ الْأَدَاءُ مَعْلُومٌ، وَالْمُفْسِدَ وَهُوَ مُحَاذَاةُ الرَّجُلِ الْمَرْأَةَ فِي صَلَاةٍ مُشْتَرَكَةٍ مَوْهُومٌ، فَلِلتَّوَهُّمِ أُحِبُّ لَهُ أَنْ يُعِيدَ الصَّلَاةَ انْتَهَى. وَعَزَاهُ فِي النِّهَايَةِ وَالْكِفَايَةِ إلَى الْمَبْسُوطِ. أَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ، إذْ لَا يَذْهَبُ عَلَى ذِي فَطَانَةٍ أَنَّ كَوْنَ الْمُفْسِدِ مَوْهُومًا لَا يَرْفَعُ وُجُوبَ إعَادَةِ الصَّلَاةِ عِنْدَ تَقَرُّرِ كَوْنِ الْأَخْذِ بِالِاحْتِيَاطِ وَاجِبًا فِي بَابِ الْعِبَادَاتِ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ، فَإِنَّ الِاحْتِيَاطَ يَقْتَضِي الِاحْتِرَازَ عَنْ الْمَوْهُومِ أَيْضًا، فَالظَّاهِرُ عِنْدِي مَا ذُكِرَ فِي الذَّخِيرَةِ وَنَقَلَهُ الشُّرَّاحُ هُنَا عَنْهَا، وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ فَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يُعِيدَ صَلَاتَهُ فِيمَا إذَا كَانَ الْخُنْثَى الْمُشْكِلُ مُرَاهِقًا، فَإِنَّ الْإِعَادَةَ مُسْتَحَبَّةٌ فِي حَقِّهِ تَخَلُّقًا وَاعْتِيَادًا. وَأَمَّا إذَا كَانَ بَالِغًا فَالْإِعَادَةُ وَاجِبَةٌ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ ذَكَرًا كَانَ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ، وَإِنْ كَانَ أُنْثَى لَمْ تَلْزَمْهُ الْإِعَادَةُ فَتَجِبُ الْإِعَادَةُ احْتِيَاطًا عَلَى مَا هُوَ الْحُكْمُ فِي بَابِ الْعِبَادَةِ.

(قَوْلُهُ وَيَجْلِسُ فِي صَلَاتِهِ جُلُوسَ الْمَرْأَةِ، لِأَنَّهُ إنْ كَانَ رَجُلًا فَقَدْ تَرَكَ سُنَّةً وَهُوَ جَائِزٌ فِي الْجُمْلَةِ، وَإِنْ كَانَ امْرَأَةً فَقَدْ ارْتَكَبَ مَكْرُوهًا لِأَنَّ السَّتْرَ عَلَى النِّسَاءِ وَاجِبٌ مَا أَمْكَنَ) أَقُولُ: فِي هَذَا التَّعْلِيلِ كَلَامٌ، وَهُوَ أَنَّهُ إنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ وَهُوَ جَائِزٌ فِي الْجُمْلَةِ أَنَّهُ جَائِزٌ بِلَا عُذْرٍ فَهُوَ مَمْنُوعٌ بَلْ مَكْرُوهٌ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ جَائِزٌ بِعُذْرٍ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْكَافِي حَيْثُ قَالَ: وَهُوَ جَائِزٌ فِي الْجُمْلَةِ عِنْدَ الْعُذْرِ، وَكَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْمَبْسُوطِ وَالذَّخِيرَةِ، وَبَيَّنَ وَجْهَ الْعُذْرِ هُنَا حَيْثُ قَالَ: لِأَنَّ الرَّجُلَ يَجْلِسُ كَذَلِكَ عِنْدَ الْعُذْرِ وَاشْتِبَاهُ الْحَالِ مِنْ أَبْيَنِ الْأَعْذَارِ اهـ. فَهُوَ مُسَلَّمٌ لَكِنْ يُرَدُّ حِينَئِذٍ عَلَى قَوْلِهِ وَإِنْ كَانَ امْرَأَةً فَقَدْ ارْتَكَبَ مَكْرُوهًا أَنْ يُقَالَ: ارْتِكَابُ الْمَكْرُوهِ أَيْضًا جَائِزٌ عِنْدَ الْعُذْرِ، وَاشْتِبَاهُ الْحَالِ مِنْ أَبْيَنِ الْأَعْذَارِ فَمَا الرُّجْحَانُ فِي جُلُوسِهِ جُلُوسَ الْمَرْأَةِ فَتَأَمَّلْ فِي الدَّفْعِ.

(قَوْلُهُ وَتُبْتَاعُ لَهُ أَمَةٌ تَخْتِنُهُ إنْ كَانَ لَهُ مَالٌ لِأَنَّهُ يُبَاحُ لِمَمْلُوكَتِهِ النَّظَرُ إلَيْهِ رَجُلًا كَانَ أَوْ امْرَأَةً) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: هَذَا التَّعْلِيلُ وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا فِي حَقِّ الرَّجُلِ وَلَكِنْ هُوَ فَاسِدٌ

ص: 518

(فَإِذَا خَتَنَتْهُ بَاعَهَا وَرَدَّ ثَمَنَهَا فِي بَيْتِ الْمَالِ) لِوُقُوعِ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهَا

(وَيُكْرَهُ لَهُ فِي حَيَاتِهِ لُبْسُ الْحُلِيِّ وَالْحَرِيرِ، وَأَنْ يَتَكَشَّفَ قُدَّامَ الرِّجَالِ أَوْ قُدَّامَ النِّسَاءِ.

فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ، لِأَنَّ الْأَمَةَ لَا يُبَاحُ لَهَا النَّظَرُ إلَى مَوَاضِعِ الْعَوْرَةِ مِنْ سَيِّدَتِهَا مُطْلَقًا، لِأَنَّهُ ذَكَرَ فِي اسْتِحْبَابِ الْمَبْسُوطِ أَنَّ لِلْأَمَةِ أَنْ تَنْظُرَ إلَى مَوْلَاتِهَا كَمَا لِلْأَجْنَبِيَّاتِ، فَعَلِمَ بِهَذَا أَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِلْمِلْكِ فِي إبَاحَةِ النَّظَرِ إلَى سَيِّدَتِهَا. وَالْأَوْلَى فِي التَّعْلِيلِ هُنَا مَا ذَكَرَهُ فِي الْمَبْسُوطِ وَالذَّخِيرَةِ فَقَالَ: لِأَنَّهُ مَتَى اشْتَرَى الْوَلِيُّ جَارِيَةً لِلْخُنْثَى فَإِنَّهُ يَمْلِكُهَا الْخُنْثَى، ثُمَّ إنْ كَانَ الْخُنْثَى ذَكَرًا فَهَذَا نَظَرُ الْمَمْلُوكَةِ إلَى مَالِكِهَا، وَإِنْ كَانَ الْخُنْثَى أُنْثَى فَإِنَّهُ نَظَرُ الْجِنْسِ إلَى الْجِنْسِ وَإِنَّهُ مُبَاحٌ حَالَةَ الْعُذْرِ، فَعُلِمَ بِهَذَا أَنَّ شِرَاءَ الْجَارِيَةِ لَهُ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الْخُنْثَى أُنْثَى، بِاعْتِبَارِ أَنَّ نَظَرَ الْجِنْسِ إلَى الْجِنْسِ أَخَفُّ مِنْ نَظَرِهِ إلَى خِلَافِ الْجِنْسِ، لَا أَنْ يَكُونَ الْمِلْكُ تَأْثِيرًا فِي إبَاحَةِ نَظَرِ الْمَمْلُوكَةِ إلَى سَيِّدَتِهَا، إلَى هُنَا لَفْظُ النِّهَايَةِ. وَقَالَ صَاحِبُ الْغَايَةِ بَعْدَ أَنْ نَقَلَ اعْتِرَاضَ صَاحِبِ النِّهَايَةِ عَلَى تَعْلِيلِ الْمُصَنِّفِ: وَفِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ ذَلِكَ فِي حَالَةِ الِاخْتِيَارِ لَا فِي حَالَةِ الْعُذْرِ، وَلِهَذَا لَوْ أَصَابَ الْمَرْأَةَ قُرْحٌ أَوْ جُرْحٌ فِي مَوْضِعٍ لَا يَحِلُّ النَّظَرُ إلَيْهِ تُدَاوِيهِ الْمَرْأَةُ، وَكَذَا نَظَرُ الْقَابِلَةِ إلَى فَرْجِ الْمَرْأَةِ وَقْتَ الْوِلَادَةِ يَحِلُّ، فَإِذَا جَازَ النَّظَرُ بِالْعُذْرِ فَإِقَامَة السُّنَّةُ أَيْضًا عُذْرٌ جَازَ لَهَا أَنْ تَنْظُرَ إلَى فَرْجِهَا انْتَهَى. أَقُولُ: نَظَرُهُ سَاقِطٌ، إذْ يَشْتَرِكُ فِي جَوَازِ النَّظَرِ بِالْعُذْرِ إلَى مَوْضِعِ الْعَوْرَةِ مِنْ الْأَمَةِ الْمَرْأَةُ وَالْحُرَّةُ وَالْمَمْلُوكَةُ وَغَيْرُ الْمَمْلُوكَةِ، فَلَمْ يَكُنْ لِلْمِلْكِ تَأْثِيرٌ فِي إبَاحَةِ نَظَرِ الْمَمْلُوكَةِ إلَى سَيِّدَتِهَا أَصْلًا. وَتَعْلِيلُ الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ لِأَنَّهُ يُبَاحُ لِمَمْلُوكَتِهِ النَّظَرُ إلَيْهِ رَجُلًا كَانَ أَوْ امْرَأَةً يُشْعِرُ لَا مَحَالَةَ بِتَأْثِيرِ الْمِلْكِ فِي إبَاحَةِ النَّظَرِ إلَى سَيِّدَتِهَا كَتَأْثِيرِهِ فِي إبَاحَةِ النَّظَرِ إلَى سَيِّدِهَا، فَيُرَدُّ عَلَيْهِ مَا قَالَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ مِنْ أَنَّ هَذَا صَحِيحٌ فِي حَقِّ الرَّجُلِ فَاسِدٌ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ، وَعَنْ هَذَا أَمْضَاهُ جَمَاعَةٌ مِنْ الشُّرَّاحِ مِنْهُمْ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ، وَقَالَ صَاحِبُ الْكَافِي فِي التَّعْلِيلِ: لِأَنَّهُ يُبَاحُ لِمَمْلُوكَتِهِ النَّظَرُ إلَى ذَكَرِهِ إنْ كَانَ رَجُلًا

(قَوْلُهُ وَيُكْرَهُ لَهُ فِي حَيَاتِهِ لُبْسُ الْحُلِيِّ وَالْحَرِيرِ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: وَلَيْسَ فِي قَيْدِ قَوْلِهِ فِي حَيَاتِهِ زِيَادَةُ فَائِدَةٍ، لِأَنَّ الْحَيَاةَ تُسْتَفَادُ مِنْ ذِكْرِ اللُّبْسِ وَمِنْ ذِكْرِ اخْتِصَاصِ الْكَرَاهَةِ لِمَا أَنَّ بَعْدَ الْمَوْتِ لَوْ وُجِدَ ذَاكَ اللِّبَاسُ لَا لَبِسَ، وَالْكَرَاهَةُ بَعْدَ الْمَوْتِ لِلْمُلْبِسِ لَا لِلْمَيِّتِ، وَقَدْ اقْتَفَى أَثَرَهُ صَاحِبَا الْكِفَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ وَقَصَدَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ رَدَّ ذَلِكَ فَقَالَ بَعْدَ نَقْلِهِ وَهُوَ مُنَاقَشَةٌ سَهْلَةٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَا يُذْكَرُ فِي التَّرَاكِيبِ يَكُونُ قَيْدًا لِلْإِخْرَاجِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهَا بَيَانًا لِلْوَاقِعِ انْتَهَى. أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ لِأَنَّ حَاصِلَ دَخَلَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ أَنَّ قَوْلَهُ فِي حَيَاتِهِ قَيْدٌ مُسْتَدْرَكٌ لَا فَائِدَةَ فِيهِ هُنَا لَا نَفْهَمُ مَعْنَاهُ مِمَّا ذُكِرَ فِيمَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ، وَلَا يَذْهَبُ عَلَيْك أَنَّ كَوْنَهُ بَيَانًا لِلْوَاقِعِ لَا يَدْفَعُ اسْتِدْرَاكَهُ وَعَدَمُ الْفَائِدَةِ فِي ذِكْرِهِ إذَا كَانَ الْوَاقِعُ مُبَيَّنًا بِدُونِهِ، فَالْوَجْهُ فِي الِاعْتِذَارِ عَنْ ذِكْرِهِ مَا ذَكَرَهُ هَؤُلَاءِ الشُّرَّاحُ أَنْفُسُهُمْ حَيْثُ قَالُوا: إلَّا أَنَّ الْمُصَنِّفَ تَبِعَ فِي ذَلِكَ لَفْظَ الْمَبْسُوطِ، وَإِنَّمَا وَقَعَ فِي لَفْظِ الْمَبْسُوطِ ذَلِكَ لِأَنَّهُ ذَكَرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ بَعْدَ ذِكْرِ تَكْفِينِ الْخُنْثَى إذَا مَاتَ فَكَانَ ذِكْرُ الْحَيَاةِ هُنَاكَ لِتَبْيِينِ الْمُقَابَلَةِ لَا لِلْقَيْدِ انْتَهَى.

(قَوْلُهُ وَأَنْ يَتَكَشَّفَ قُدَّامَ الرِّجَالِ أَوْ قُدَّامَ النِّسَاءِ) قَالَ جُمْهُورُ الشُّرَّاحِ: وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ نَظَرَ الْمَرْأَةِ إلَى الْمَرْأَةِ كَنَظَرِ الرَّجُلِ إلَى ذَوَاتِ مَحَارِمِهِ لَا كَنَظَرِ الرَّجُلِ إلَى

ص: 519

وَأَنْ يَخْلُوَ بِهِ غَيْرُ مَحْرَمٍ مِنْ رَجُلٍ أَوْ امْرَأَةٍ، وَأَنْ يُسَافِرَ مِنْ غَيْرِ مَحْرَمٍ مِنْ الرِّجَالِ) تَوَقِّيًا عَنْ احْتِمَالِ الْمَحْرَمِ (وَإِنْ أَحْرَمَ وَقَدْ رَاهَقَ قَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا عِلْمَ لِي فِي لِبَاسِهِ) لِأَنَّهُ إنْ كَانَ ذَكَرًا يُكْرَهُ لَهُ لُبْسُ الْمِخْيَطِ، وَإِنْ كَانَ أُنْثَى يُكْرَهُ لَهُ تَرْكُهُ (وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَلْبَسُ لِبَاسَ الْمَرْأَةِ) لِأَنَّ تَرْكَ لُبْسِ الْمِخْيَطِ وَهُوَ امْرَأَةٌ أَفْحَشُ مِنْ لُبْسِهِ وَهُوَ رَجُلٌ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْ

(وَمَنْ حَلَفَ بِطَلَاقٍ أَوْ عَتَاقٍ إنْ كَانَ أَوَّلُ وَلَدٍ تَلِدِينَهُ غُلَامًا فَوَلَدَتْ خُنْثَى لَمْ يَقَعْ حَتَّى يَسْتَبِينَ أَمْرُ الْخُنْثَى) لِأَنَّ الْخَنَثَ لَا يَثْبُتُ بِالشَّكِّ (وَلَوْ قَالَ كُلُّ عَبْدٍ لِي حُرٌّ أَوْ قَالَ كُلُّ أَمَةٍ لِي حُرَّةٌ وَلَهُ مَمْلُوكٌ خُنْثَى لَمْ يُعْتَقْ حَتَّى يَسْتَبِينَ أَمْرُهُ) لِمَا قُلْنَا (وَإِنْ قَالَ الْقَوْلَيْنِ جَمِيعًا عَتَقَ) لِلتَّيَقُّنِ بِأَحَدِ الْوَصْفَيْنِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُهْمَلٍ (وَإِنْ قَالَ الْخُنْثَى أَنَا رَجُلٌ أَوْ أَنَا امْرَأَةٌ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ إذَا كَانَ مُشْكِلًا) لِأَنَّهُ دَعْوَى يُخَالِفُ قَضِيَّةَ الدَّلِيلِ (وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُشْكِلًا يَنْبَغِي أَنْ يُقْبَلَ قَوْلُهُ) لِأَنَّهُ أَعْلَمُ بِحَالِهِ مِنْ غَيْرِهِ (وَإِنْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَسْتَبِينَ أَمْرُهُ لَمْ يُغَسِّلْهُ رَجُلٌ وَلَا امْرَأَةٌ) لِأَنَّ حَلَّ الْغُسْلِ غَيْرُ ثَابِتٍ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ (فَيَتَوَقَّى لِاحْتِمَالِ الْحُرْمَةِ وَيُيَمَّمُ بِالصَّعِيدِ) لِتَعَذُّرِ الْغُسْلِ (وَلَا يَحْضُرُ إنْ كَانَ مُرَاهِقًا غُسْلَ رَجُلٍ وَلَا امْرَأَةٍ) لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ ذَكَرٌ أَوْ أُنْثَى (وَإِنْ سَجَّى قَبْرَهُ فَهُوَ أَحَبُّ) لِأَنَّهُ إنْ كَانَ أُنْثَى يُقِيمُ وَاجِبًا، وَإِنْ كَانَ ذَكَرًا فَالتَّسْجِيَةُ لَا تَضُرُّهُ.

الرَّجُلِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَنَظَرِ الرَّجُلِ إلَى الرَّجُلِ لَجَازَ لِلْخُنْثَى التَّكَشُّفُ لِلنِّسَاءِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ التَّكَشُّفِ إبْدَاءَ مَوْضِعِ الْعَوْرَةِ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَحِلُّ لِغَيْرِ الْخُنْثَى أَيْضًا، وَلَكِنَّ الْمُرَادَ أَنْ يَكُونَ فِي إزَارٍ وَاحِدٍ انْتَهَى. وَهَكَذَا ذَكَرَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ فِي شَرْحِ الْكَافِي لِلْحَاكِمِ الشَّهِيدِ كَمَا نَقَلَهُ صَاحِبُ الْغَايَةِ. أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا بِتَامٍّ عِنْدِي إذْ عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِ نَظَرِ الْمَرْأَةِ إلَى الْمَرْأَةِ كَنَظَرِ الرَّجُلِ إلَى الرَّجُلِ عَلَى مَا هُوَ الْأَصَحُّ مِنْ الرِّوَايَتَيْنِ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ فِي كِتَابِ الْكَرَاهِيَةِ يَصِحُّ الْحُكْمُ عَلَى الْخُنْثَى الْمُشْكِلِ بِعَدَمِ جَوَازِ أَنْ يَتَكَشَّفَ لِلنِّسَاءِ أَيْضًا بِنَاءً عَلَى رِوَايَةِ كَوْنِ نَظَرِ الْمَرْأَةِ إلَى الرَّجُلِ كَنَظَرِ الرَّجُلِ إلَى ذَوَاتِ مَحَارِمِهِ كَمَا ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ فِي كِتَابِ الْكَرَاهِيَةِ نَقْلًا عَنْ كِتَابِ الْخُنْثَى مِنْ الْأَصْلِ، إذْ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ لَا يَجُوزُ لَهُ التَّكَشُّفُ لِلنِّسَاءِ لِاحْتِمَالِ كَوْنِهِ رَجُلًا، كَمَا لَا يَجُوزُ لَهُ التَّكَشُّفُ لِلرِّجَالِ لِاحْتِمَالِ كَوْنِهِ امْرَأَةً، فَلَمْ يَكُنْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ نَظَرَ الْمَرْأَةِ إلَى الْمَرْأَةِ كَنَظَرِ الرَّجُلِ إلَى ذَوَاتِ مَحَارِمِهِ لَا كَنَظَرِ الرَّجُلِ إلَى الرَّجُلِ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مَبْنَاهَا كَوْنُ نَظَرِ الْمَرْأَةِ إلَى الرَّجُلِ كَنَظَرِ الرَّجُلِ إلَى ذَوَاتِ مَحَارِمِهِ لَا كَوْنُ نَظَرِ الْمَرْأَةِ إلَى الْمَرْأَةِ كَنَظَرِ الرَّجُلِ إلَى ذَوَاتِ مَحَارِمِهِ كَمَا زَعَمُوا تَبَصَّرْ

(قَوْلُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُشْكِلًا يَنْبَغِي أَنْ يُقْبَلَ قَوْلُهُ لِأَنَّهُ أَعْلَمُ بِحَالِهِ مِنْ غَيْرِهِ) قَالَ صَاحِبُ الْغَايَةِ: وَفِي هَذَا التَّعْلِيلِ نَظَرٌ، لِأَنَّهُ إنَّمَا لَا يَكُونُ مُشْكِلًا إذَا ظَهَرَتْ فِيهِ إحْدَى الْعَلَامَاتِ، فَعِنْدَ ظُهُورِهَا

ص: 520

(وَإِذَا مَاتَ فَصُلِّيَ عَلَيْهِ وَعَلَى رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ وُضِعَ الرَّجُلُ مِمَّا يَلِي الْإِمَامَ وَالْخُنْثَى خَلْفَهُ وَالْمَرْأَةُ خَلْفَ الْخُنْثَى فَيُؤَخَّرُ عَنْ الرَّجُلِ) لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ امْرَأَةٌ (وَيُقَدَّمُ عَلَى الْمَرْأَةِ) لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ رَجُلٌ

(وَلَوْ دُفِنَ مَعَ رَجُلٍ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ مِنْ عُذْرٍ جُعِلَ الْخُنْثَى خَلْفَ الرَّجُلِ) لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ امْرَأَةٌ (وَيُجْعَلُ بَيْنهمَا حَاجِزٌ مِنْ صَعِيدٍ، وَإِنْ كَانَ مَعَ امْرَأَةٍ قُدِّمَ الْخُنْثَى) لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ رَجُلٌ (وَإِنْ جُعِلَ عَلَى السَّرِيرِ نَعْشُ الْمَرْأَةِ فَهُوَ أَحَبُّ إلَيَّ) لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ عَوْرَةٌ، (وَيُكَفَّنُ كَمَا تُكَفَّنُ الْجَارِيَةُ وَهُوَ أَحَبُّ إلَيَّ) يَعْنِي يُكَفَّنُ فِي خَمْسِ أَثْوَابٍ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ أُنْثَى فَقَدْ أُقِيمَتْ سُنَّةٌ، وَإِنْ كَانَ ذَكَرًا فَقَدْ زَادُوا عَلَى الثَّلَاثِ وَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ.

(وَلَوْ مَاتَ أَبُوهُ وَخَلَفَ ابْنًا فَالْمَالُ بَيْنَهُمَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَثْلَاثًا لِلِابْنِ سَهْمَانِ، وَلِلْخُنْثَى سَهْمٌ وَهُوَ أُنْثَى عِنْدَهُ فِي الْمِيرَاثِ إلَّا أَنْ يَتَبَيَّنَ غَيْرَ ذَلِكَ) وَقَالَا: لِلْخُنْثَى نِصْفُ مِيرَاثِ ذَكَرٍ وَنِصْفُ مِيرَاثِ أُنْثَى وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ. وَاخْتَلَفَا فِي قِيَاسِ قَوْلِهِ قَالَ مُحَمَّدٌ: الْمَالُ بَيْنَهُمَا عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ سَهْمًا لِلِابْنِ سَبْعَةٌ

يُحْكَمُ بِأَنَّهُ ذَكَرٌ أَوْ أُنْثَى، فَلَا حَاجَةَ إلَى قَوْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ انْتَهَى. أَقُولُ: مَدَارُ هَذَا النَّظَرِ عَلَى عَدَمِ فَهْمِ مُرَادِ الْمُصَنِّفِ فَإِنَّ مُرَادَهُ بِقَوْلِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُشْكِلًا، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ مُشْكِلٌ لَا عِلْمَ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُشْكِلٍ، لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ فِيمَا قَبْلُ إذَا كَانَ مُشْكِلًا: إذَا كَانَ قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ مُشْكِلٌ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الشَّارِحُ الْمَذْكُورُ نَقْلًا عَنْ الْحَاكِمِ الشَّهِيدِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْلُ الْمُصَنِّفِ فِي تَعْلِيلِ ذَلِكَ لِأَنَّهُ دَعْوَى تُخَالِفُ قَضِيَّةِ الدَّلِيلِ، فَإِنَّ مُخَالَفَةَ دَعْوَاهُ قَضِيَّةَ الدَّلِيلِ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ فِيمَا إذَا كَانَ قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ مُشْكِلٌ، فَإِذَا كَانَ مَعْنَى قَوْلِهِ فِيمَا قَبْلُ إذَا كَانَ مُشْكِلًا، إذَا كَانَ قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ مُشْكِلٌ يَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ هُنَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُشْكِلًا: وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ مُشْكِلٌ، لِأَنَّهُ هُوَ الْمُقَابِلُ لِمَا قَبْلَهُ فَيَسْقُطُ النَّظَرُ قَطْعًا، إذَا لَا يَلْزَمُ مِنْ أَنْ لَا يَعْلَمَ أَنَّهُ مُشْكِلٌ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُشْكِلٍ حَتَّى يَحْكُمَ بِأَنَّهُ ذَكَرٌ أَوْ أُنْثَى بِلَا

ص: 521

وَلِلْخُنْثَى خَمْسَةٌ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: الْمَالُ بَيْنَهُمَا عَلَى سَبْعَةٍ لِلِابْنِ أَرْبَعَةٌ وَلِلْخُنْثَى ثَلَاثَةٌ، لِأَنَّ الِابْنَ يَسْتَحِقُّ كُلَّ الْمِيرَاثِ عِنْدَ الِانْفِرَادِ وَالْخُنْثَى ثَلَاثَةُ الْأَرْبَاعِ، فَعِنْدَ الِاجْتِمَاعِ يُقْسَمُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ حَقَّيْهِمَا هَذَا يَضْرِبُ بِثَلَاثَةٍ وَذَلِكَ يَضْرِبُ بِأَرْبَعَةٍ فَيَكُونُ سَبْعَةً. وَلِمُحَمَّدٍ أَنَّ الْخُنْثَى لَوْ كَانَ ذَكَرًا يَكُونُ الْمَالُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَإِنْ كَانَ أُنْثَى يَكُونُ الْمَالُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا احْتَجْنَا إلَى حِسَابٍ لَهُ نِصْفٌ وَثُلُثٌ، وَأَقَلُّ ذَلِكَ سِتَّةٌ، فَفِي حَالٍ يَكُونُ الْمَالُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ ثَلَاثَةٌ، وَفِي حَالٍ يَكُونُ أَثْلَاثًا لِلْخُنْثَى سَهْمَانِ وَلِلِابْنِ أَرْبَعَةٌ، فَسَهْمَانِ لِلْخُنْثَى ثَابِتَانِ بِيَقِينٍ. وَوَقَعَ الشَّكُّ فِي السَّهْمِ الزَّائِدِ فَيَتَنَصَّفُ فَيَكُونُ لَهُ سَهْمَانِ وَنِصْفٌ فَانْكَسَرَ فَيُضَعَّفُ لِيَزُولَ الْكَسْرُ فَصَارَ الْحِسَابُ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ لِلْخُنْثَى خَمْسَةٌ وَلِلِابْنِ سَبْعَةٌ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْحَاجَةَ هَاهُنَا إلَى إثْبَاتِ الْمَالِ ابْتِدَاءً، وَالْأَقَلُّ وَهُوَ مِيرَاثُ الْأُنْثَى مُتَيَقَّنٌ بِهِ، وَفِيمَا زَادَ عَلَيْهِ شَكٌّ، فَأَثْبَتْنَا الْمُتَيَقَّنَ قَصْرًا عَلَيْهِ لِأَنَّ الْمَالَ لَا يَجِبُ بِالشَّكِّ وَصَارَ كَمَا

حَاجَةٍ إلَى قَوْلِ نَفْسِهِ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ لَا يَعْلَمَ أَنَّهُ مُشْكِلٌ أَمْ لَا بِأَنْ لَا يَعْلَمَ ظُهُورَ إحْدَى الْعَلَامَاتِ وَلَا عَدَمَ ظُهُورِهَا، فَحِينَئِذٍ تَتَحَقَّقُ الْحَاجَةُ إلَى قَوْلِ نَفْسِهِ وَهُوَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ هُنَا، وَمَحَلُّ التَّعْلِيلِ بِقَوْلِهِ لِأَنَّهُ أَعْلَمُ بِحَالِهِ مِنْ غَيْرِهِ فَلَا غُبَارَ فِيهِ. وَالْعَجَبُ مِنْهُ أَنَّهُ بَعْدَ أَنْ حَسِبَ مَعْنَى الْمَقَامِ مَا يُبْتَنَى عَلَيْهِ نَظَرُهُ كَيْفَ أَوْرَدَ النَّظَرَ عَلَى التَّعْلِيلِ دُونَ نَفْسِ الْمَسْأَلَةِ وَهِيَ أَحَقُّ بِوُرُودِهِ عَلَيْهَا عَلَى مَدَارِ فَهْمِهِ مَعْنَى الْمَقَامِ بِأَنْ يُقَالَ لَا مَعْنَى لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، لِأَنَّهُ إنَّمَا لَا يَكُونُ مُشْكِلًا إذَا ظَهَرَتْ فِيهِ إحْدَى الْعَلَامَاتِ، فَبَعْدَ ظُهُورِهَا يُحْكَمُ بِأَنَّهُ

ص: 522

إذَا كَانَ الشَّكُّ فِي وُجُوبِ الْمَالِ بِسَبَبٍ آخَرَ فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ فِيهِ بِالْمُتَيَقَّنِ، كَذَا هَذَا، إلَّا أَنْ يَكُونَ نَصِيبُهُ الْأَقَلَّ لَوْ قَدَّرْنَاهُ ذَكَرًا فَحِينَئِذٍ يُعْطَى نَصِيبَ الِابْنِ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ لِكَوْنِهِ مُتَيَقَّنًا بِهِ وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الْوَرَثَةُ زَوْجًا، وَأُمًّا وَأُخْتًا لِأَبٍ وَأُمٍّ هِيَ خُنْثَى أَوْ امْرَأَةً وَأَخَوَيْنِ لِأُمٍّ وَأُخْتًا لِأَبٍ وَأُمٍّ هِيَ خُنْثَى. فَعِنْدَنَا فِي الْأُولَى لِلزَّوْجِ النِّصْفُ وَلِلْأُمِّ الثُّلُثُ وَالْبَاقِي لِلْخُنْثَى، وَفِي الثَّانِيَةِ لِلْمَرْأَةِ الرُّبْعُ وَلِلْأَخَوَيْنِ لِأُمٍّ الثُّلُثُ وَالْبَاقِي لِلْخُنْثَى لِأَنَّهُ أَقَلُّ النَّصِيبَيْنِ فِيهِمَا.

ذَكَرٌ أَوْ أُنْثَى، فَلَا حَاجَةَ إلَى قَوْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ فَمَا مَعْنَى قَوْلِ الْمُصَنِّفِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُشْكِلًا يَنْبَغِي أَنْ يُقْبَلَ قَوْلُهُ

(قَوْلُهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ نَصِيبُهُ الْأَقَلَّ لَوْ قَدَّرْنَاهُ ذَكَرًا) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ: وَهَذَا اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ وَهُوَ مِيرَاثُ الْأُنْثَى مُتَيَقَّنٌ بِهِ: يَعْنِي أَوْجَبْنَا لِلْخُنْثَى مِيرَاثَ الْأُنْثَى لِلتَّيَقُّنِ، وَمَا تَجَاوَزْنَا عَنْهُ إلَى نَصِيبِ الذَّكَرِ لِأَنَّ الْمَالَ ابْتِدَاءً لَا يَجِبُ بِالشَّكِّ، إلَّا أَنْ يُصِيبَ الْخُنْثَى أَقَلُّ مِنْ نَصِيبِ الْأُنْثَى إنْ قَدَّرْنَاهُ ذَكَرًا فَحِينَئِذٍ يُعْطَى نَصِيبَ الِابْنِ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ لِكَوْنِهِ مُتَيَقِّنًا بِهِ انْتَهَى. أَقُولُ: فِيهِ نَوْعُ اخْتِلَالٍ. لِأَنَّ تَفْسِيرَهُ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ يَعْنِي أَوْجَبْنَا لِلْخُنْثَى مِيرَاثَ الْأُنْثَى لِلتَّيَقُّنِ إلَخْ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ إلَّا أَنْ يُصِيبَهُ الْأَقَلُّ لَوْ قَدَّرْنَاهُ ذَكَرًا اسْتِثْنَاءً مِنْ قَوْلِهِ فَأَوْجَبْنَا الْمُتَيَقَّنَ بِهِ قَصْرًا عَلَيْهِ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ وَالْمُصَرَّحُ بِهِ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ، فَيُخَالِفُ هَذَا قَوْلَهُ فِي أَوَّلِ كَلَامِهِ وَهَذَا اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ وَهُوَ مِيرَاثُ الْأُنْثَى مُتَيَقَّنٌ بِهِ تَدَبَّرْ. .

ص: 523

(مَسَائِلُ شَتَّى)

قَالَ (وَإِذَا قُرِئَ عَلَى الْأَخْرَسِ كِتَابُ وَصِيَّتِهِ فَقِيلَ لَهُ أَنَشْهَدُ عَلَيْك بِمَا فِي هَذَا الْكِتَابِ فَأَوْمَأَ بِرَأْسِهِ: أَيْ نَعَمْ أَوْ كَتَبَ، فَإِذَا جَاءَ مِنْ ذَلِكَ مَا يُعْرَفُ أَنَّهُ إقْرَارٌ فَهُوَ جَائِزٌ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الَّذِي يُعْتَقَلُ لِسَانُهُ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَجُوزُ فِي الْوَجْهَيْنِ لِأَنَّ الْمُجَوِّزَ إنَّمَا هُوَ الْعَجْزُ وَقَدْ شَمِلَ الْفَصْلَيْنِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْأَصْلِيِّ وَالْعَارِضِيِّ كَالْوَحْشِيِّ وَالْمُتَوَحِّشِ مِنْ الْأَهْلِيِّ فِي حَقِّ الذَّكَاةِ، وَالْفَرْقُ لِأَصْحَابِنَا رحمهم الله أَنَّ الْإِشَارَةَ إنَّمَا تُعْتَبَرُ إذَا صَارَتْ مَعْهُودَةً مَعْلُومَةً وَذَلِكَ فِي الْأَخْرَسِ دُونَ الْمُعْتَقَلِ لِسَانُهُ. حَتَّى لَوْ امْتَدَّ ذَلِكَ وَصَارَتْ لَهُ إشَارَاتٌ مَعْلُومَةٌ قَالُوا هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْأَخْرَسِ، وَلِأَنَّ التَّفْرِيطَ جَاءَ مِنْ قِبَلِهِ حَيْثُ أَخَّرَ الْوَصِيَّةَ إلَى هَذَا الْوَقْتِ، أَمَّا الْأَخْرَسُ فَلَا تَفْرِيطَ مِنْهُ، وَلِأَنَّ الْعَارِضِيَّ عَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ دُونَ الْأَصْلِيِّ فَلَا يَنْقَاسَانِ، وَفِي الْآبِدَةِ عَرَفْنَاهُ بِالنَّصِّ.

مَسَائِلُ شَتَّى)

قَدْ كَانَتْ عَادَةُ الْمُصَنِّفِينَ أَنْ يَذْكُرُوا فِي آخِرِ الْكِتَابِ مَا شَذَّ ذِكْرُهُ فِي الْأَبْوَابِ السَّالِفَةِ مِنْ الْمَسَائِلِ اسْتِدْرَاكًا لِلْفَائِتِ، وَيُتَرْجِمُونَ تِلْكَ الْمَسَائِلَ بِمَسَائِلَ شَتَّى أَوْ بِمَسَائِلَ مُتَفَرِّقَةٍ أَوْ بِمَسَائِلَ مَنْثُورَةٍ، فَعَمِلَ الْمُصَنِّفُ هُنَا أَيْضًا كَذَلِكَ جَرْيًا عَلَى عَادَتِهِمْ.

(قَوْلُهُ وَإِذَا قُرِئَ عَلَى الْأَخْرَسِ كِتَابُ وَصِيَّتِهِ فَقِيلَ لَهُ نَشْهَدُ عَلَيْك بِمَا فِي الْكِتَابِ فَأَوْمَأَ بِرَأْسِهِ: أَيْ نَعَمْ أَوْ كَتَبَ، فَإِذَا جَاءَ مِنْ ذَلِكَ مَا يُعْرَفُ أَنَّهُ إقْرَارٌ فَهُوَ جَائِزٌ) قَالَ الشُّرَّاحُ: وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِقَوْلِهِ فَإِذَا جَاءَ مِنْ ذَلِكَ مَا يُعْرَفُ أَنَّهُ إقْرَارٌ لِأَنَّ مَا يَجِيءُ مِنْ الْأَخْرَسِ وَمُعْتَقَلِ اللِّسَانِ عَلَى نَوْعَيْنِ: أَحَدُهُمَا مَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْهُ دَلَالَةً لِإِنْكَارٍ، مِثْلُ أَنْ يُحَرِّكَ رَأْسَهُ عَرْضًا. وَالثَّانِي مَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْهُ دَلَالَةَ الْإِقْرَارِ بِأَنْ يُحَرِّكَ رَأْسَهُ طُولًا إذَا كَانَ ذَلِكَ مَعْهُودًا مِنْهُ فِي نَعَمْ انْتَهَى. أَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّهُ لَمَّا فَسَّرَ الْإِيمَاءَ بِرَأْسِهِ فِي تَقْرِيرِ الْمَسْأَلَةِ بِقَوْلِهِ: أَيْ نَعَمْ تَعَيَّنَ أَنَّ وَضْعَهَا فِيمَا جَاءَ مِنْهُ دَلَالَةُ الْإِقْرَارِ فَلَمْ يَبْقَ حَاجَةٌ فِي تَقْرِيرِ جَوَابِهَا إلَى قَوْلِهِ فَإِذَا جَاءَ مِنْ ذَلِكَ مَا يُعْرَفُ أَنَّهُ إقْرَارٌ، بَلْ كَانَ يَكْفِي قَوْلُهُ فَهُوَ جَائِزٌ كَمَا لَا يَخْفَى.

(قَوْلُهُ وَلِأَنَّ التَّفْرِيطَ جَاءَ مِنْ قِبَلِهِ حَيْثُ أَخَّرَ الْوَصِيَّةَ إلَى هَذَا الْوَقْتِ، أَمَّا الْأَخْرَسُ فَلَا تَفْرِيطَ مِنْهُ) أَقُولُ: لَا يَذْهَبُ عَلَيْك أَنَّ هَذَا التَّعْلِيلَ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَجُوزَ إشَارَةُ الْمُعْتَقَلِ لِسَانُهُ، وَلَوْ امْتَدَّ اعْتِقَالُهُ، لِأَنَّ تَأْخِيرَ الْوَصِيَّةِ قَدْ جَاءَ مِنْ قِبَلِهِ هُنَاكَ أَيْضًا مَعَ أَنَّهُمْ قَالُوا هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْأَخْرَسِ فِي الْحُكْمِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْمُصَنِّفُ فِيمَا

ص: 524

قَالَ (وَإِذَا كَانَ الْأَخْرَسُ يَكْتُبُ كِتَابًا أَوْ يُومِئُ إيمَاءً يُعْرَفُ بِهِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ نِكَاحُهُ وَطَلَاقُهُ وَعَتَاقُهُ وَبَيْعُهُ وَشِرَاؤُهُ وَيُقْتَصُّ لَهُ وَمِنْهُ، وَلَا يُحَدُّ وَلَا يُحَدُّ لَهُ) أَمَّا الْكِتَابَةُ فَلِأَنَّهَا مِمَّنْ نَأَى بِمَنْزِلَةِ الْخِطَابِ مِمَّنْ دَنَا؛ أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام أَدَّى وَاجِبَ التَّبْلِيغِ مَرَّةً بِالْعِبَارَةِ وَتَارَةً بِالْكِتَابَةِ إلَى الْغُيَّبِ، وَالْمُجَوِّزُ فِي حَقِّ الْغَائِبِ الْعَجْزُ وَهُوَ فِي حَقِّ الْأَخْرَسِ أَظْهَرُ وَأَلْزَمُ.

ثُمَّ الْكِتَابُ عَلَى ثَلَاثِ مَرَاتِبَ: مُسْتَبِينٌ مَرْسُومٌ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ النُّطْقِ فِي الْغَائِبِ وَالْحَاضِرِ عَلَى مَا قَالُوا. وَمُسْتَبِينٌ غَيْرُ مَرْسُومٍ كَالْكِتَابَةِ عَلَى الْجِدَارِ وَأَوْرَاقِ الْأَشْجَارِ، وَيَنْوِي فِيهِ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ صَرِيحِ الْكِتَابَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ النِّيَّةِ. وَغَيْرُ مُسْتَبِينٍ كَالْكِتَابَةِ عَلَى الْهَوَاءِ وَالْمَاءِ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ كَلَامٍ غَيْرِ مَسْمُوعٍ فَلَا يَثْبُتُ بِهِ الْحُكْمُ. وَأَمَّا الْإِشَارَةُ فَجُعِلَتْ حُجَّةً فِي حَقِّ الْأَخْرَسِ فِي حَقِّ هَذِهِ الْأَحْكَامِ لِلْحَاجَةِ إلَى ذَلِكَ لِأَنَّهَا مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ وَلَا تَخْتَصُّ بِلَفْظٍ دُونَ لَفْظٍ، وَقَدْ تَثْبُتُ بِدُونِ اللَّفْظِ. وَالْقِصَاصُ حَقُّ الْعَبْدِ أَيْضًا، وَلَا حَاجَةَ إلَى الْحُدُودَ لِأَنَّهَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، وَلِأَنَّهَا تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ، وَلَعَلَّهُ كَانَ مُصَدِّقًا لِلْقَاذِفِ فَلَا يُحَدُّ لِلشُّبْهَةِ،

قِيلَ آنِفًا، وَلَعَلَّ صَاحِبَ الْكَافِي تَفَطَّنَ لَهُ حَيْثُ طَرَحَ هَذَا التَّعْلِيلَ مِنْ الْبَيِّنِ (قَوْلُهُ أَمَّا الْكِتَابَةُ فَلِأَنَّهَا مِمَّنْ نَأَى بِمَنْزِلَةِ الْخِطَابُ مِمَّنْ دَنَا إلَخْ) أَقُولُ: فِيهِ شَيْءٌ. وَهُوَ أَنَّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى بَعْضِ الْمُدَّعِي وَلَا يَدُلُّ عَلَى بَعْضِهِ الْآخَرِ، بَلْ يَدُلُّ عَلَى خِلَافِهِ، فَإِنَّ الْمُدَّعِيَ أَنَّ كِتَابَةَ الْأَخْرَسِ حُجَّةٌ فِيمَا سِوَى الْحُدُودِ وَلَيْسَتْ بِحُجَّةٍ فِي الْحُدُودِ، وَهَذَا الدَّلِيلُ الْمَذْكُورُ لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ كَوْنِهَا حُجَّةً فِي الْحُدُودِ، إذْ لَا فَارِقَ فِيهِ بَيْنَ الْحُدُودِ وَمَا سِوَاهَا، بَلْ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهَا حُجَّةً فِي الْحُدُودِ أَيْضًا إذَا كَانَتْ مُسْتَبِينَةً مَرْسُومَةً بِاقْتِضَاءِ قَوْلِهِ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ النُّطْقِ فِي الْغَائِبِ وَالْحَاضِرِ عَلَى مَا قَالُوا، فَإِنَّهُ إذَا كَانَ بِمَنْزِلَةِ النُّطْقِ فِي حَقِّ الْحَاضِرِ أَيْضًا لَمْ يَكُنْ حُجَّةً ضَرُورِيَّةً فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ حُجَّةً فِي الْحُدُودِ أَيْضًا كَمَا كَانَ النُّطْقُ حُجَّةً فِيهَا أَيْضًا فَلْيُتَأَمَّلْ فِي الْمُخْلَصِ.

(قَوْلُهُ وَأَمَّا الْإِشَارَةُ فَجُعِلَتْ حُجَّةً فِي حَقِّ الْأَخْرَسِ فِي حَقِّ هَذِهِ الْأَحْكَامِ لِلْحَاجَةِ إلَى ذَلِكَ لِأَنَّهَا مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ) أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: مِنْ هَذِهِ الْأَحْكَامِ الطَّلَاقُ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ فِي وَضْعِ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ فِيهِ تَحْرِيمَ الْفَرْجِ وَهُوَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى لِهَذَا لَمْ تُشْتَرَطْ الدَّعْوَى فِي الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ بِالِاتِّفَاقِ. كَمَا لَمْ تُشْتَرَطْ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى عِتْقِ الْأَمَةِ أَيْضًا بِالِاتِّفَاقِ بِنَاءً عَلَى ذَلِكَ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ قَاطِبَةً وَمَرَّ فِي الْكِتَابِ أَيْضًا فِي بَابِ عِتْقِ أَحَدِ الْعَبْدَيْنِ مِنْ كِتَابِ الْعَتَاقِ. فَإِنْ قُلْت: لَيْسَ الطَّلَاقُ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى الصِّرْفَةِ، بَلْ فِيهِ حَقُّ الْعَبْدِ أَيْضًا لِتَعَلُّقِ حَقِّ الزَّوْجَيْنِ بِهِ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ مَدَارُ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ لِأَنَّهَا مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ عَلَى ذَلِكَ. قُلْت: مُجَرَّدُ تَحَقُّقِ حَقِّ الْعَبْدِ فِي شَيْءٍ لَا يَكْفِي فِي كَوْنِ إشَارَةِ الْأَخْرَسِ حُجَّةً فِيهِ؛ أَلَا يُرَى أَنَّ إشَارَتَهُ لَا تَكُونُ حُجَّةً فِي حَقِّ حَدِّ الْقَذْفِ مَعَ أَنَّ فِيهِ حَقَّ الْعَبْدِ وَهُوَ دَفْعُ الْعَارِ عَنْ الْمَقْذُوفِ. كَمَا أَنَّ فِيهِ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى، بَلْ لَا بُدَّ فِي كَوْنِ إشَارَتِهِ حُجَّةً مِنْ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ فَقَطْ أَوْ مِمَّا غَلَبَ فِيهِ حَقُّ الْعَبْدِ عَلَى حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى كَالْقِصَاصِ، لَا مِمَّا غَلَبَ فِيهِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى حَقِّ الْعَبْدِ كَحَدِّ الْقَذْفِ عِنْدَ عَامَّةِ عُلَمَائِنَا عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ، وَكَوْنُ الطَّلَاقِ مِمَّا غَلَبَ فِيهِ حَقُّ الْعَبْدِ عَلَى حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى مَمْنُوعٌ. كَيْفَ وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا قُبِلَتْ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ بِدُونِ الدَّعْوَى، فَإِنَّ الدَّعْوَى شَرْطٌ فِي قَبُولِ الشَّهَادَةِ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ، حَتَّى أَنَّ مُطَالَبَةَ

ص: 525

وَلَا يُحَدُّ أَيْضًا بِالْإِشَارَةِ فِي الْقَذْفِ لِانْعِدَامِ الْقَذْفِ صَرِيحًا وَهُوَ الشَّرْطُ. ثُمَّ الْفَرْقُ بَيْنَ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ أَنَّ الْحَدَّ لَا يَثْبُتُ بِبَيَانٍ فِيهِ شُبْهَةٌ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَوْ شَهِدُوا بِالْوَطْءِ الْحَرَامِ أَوْ أَقَرَّ بِالْوَطْءِ الْحَرَامِ لَا يَجِبُ الْحَدُّ، وَلَوْ شَهِدُوا بِالْقَتْلِ الْمُطْلَقِ أَوْ أَقَرَّ بِمُطْلَقِ الْقَتْلِ يَجِبُ الْقِصَاصُ وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ لَفْظُ التَّعَمُّدِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْقِصَاصَ فِيهِ مَعْنَى الْعِوَضِيَّةِ لِأَنَّهُ شُرِعَ جَابِرًا فَجَازَ أَنْ يَثْبُتَ مَعَ الشُّبْهَةِ كَسَائِرِ الْمُعَاوَضَاتِ الَّتِي هِيَ حَقُّ الْعَبْدِ.

أَمَّا الْحُدُودُ الْخَالِصَةُ لِلَّهِ تَعَالَى فَشُرِعَتْ زَوَاجِرَ وَلَيْسَ فِيهَا مَعْنَى الْعِوَضِيَّةِ فَلَا تَثْبُتُ مَعَ الشُّبْهَةِ لِعَدَمِ الْحَاجَةِ.

وَذَكَرَ فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ أَنَّ الْكِتَابَ مِنْ الْغَائِبِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فِي قِصَاصٍ يَجِبُ عَلَيْهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ هُنَا كَذَلِكَ فَيَكُونُ فِيهِمَا رِوَايَتَانِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُفَارِقًا لِذَلِكَ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ الْوُصُولُ إلَى نُطْقِ الْغَائِبِ فِي الْجُمْلَةِ لِقِيَامِ أَهْلِيَّةِ النُّطْقِ، وَلَا كَذَلِكَ الْأَخْرَسُ لِتَعَذُّرِ الْوُصُولِ إلَى النُّطْقِ لِلْآفَةِ الْمَانِعَةِ، وَدَلَّتْ الْمَسْأَلَةُ عَلَى أَنَّ الْإِشَارَةَ مُعْتَبَرَةٌ وَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْكِتَابَةِ، بِخِلَافِ مَا تَوَهَّمَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا رحمهم الله أَنَّهُ لَا تُعْتَبَرُ الْإِشَارَةُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْكِتَابَةِ.

الْمَقْذُوفِ شَرْطٌ فِي ثُبُوتِ حَقِّ الْقَذْفِ وَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ فِيهِ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَنَا، وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ عَفْوُ الْمَقْذُوفِ وَلَا يَجُوزُ الِاعْتِيَاصُ عَنْهُ وَلَا يَجْرِي الْإِرْثُ فِيهِ عِنْدَنَا كَمَا مَرَّ فِي الْحُدُودِ، فَمَا ظَنُّك بِعَدَمِ اشْتِرَاطِ الدَّعْوَى فِي ثُبُوتِ الطَّلَاقِ لَوْ كَانَ حَقُّ الْعَبْدِ فِيهِ غَالِبًا عَلَى حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى تَفَكَّرْ.

(قَوْلُهُ وَهَذَا لِأَنَّ الْقِصَاصَ فِيهِ مَعْنَى الْعِوَضِيَّةِ لِأَنَّهُ شُرِعَ جَابِرًا فَجَازَ أَنْ يَثْبُتَ مَعَ الشُّبْهَةِ كَسَائِرِ الْمُعَاوَضَاتِ الَّتِي هِيَ حَقُّ الْعَبْدِ، أَمَّا الْحُدُودُ الْخَالِصَةُ لِلَّهِ تَعَالَى فَشُرِعَتْ زَوَاجِرَ، وَلَيْسَ فِيهَا مَعْنَى الْعِوَضِيَّةِ فَلَا تَثْبُتُ مَعَ الشُّبْهَةِ لِعَدَمِ الْحَاجَةِ) أَقُولُ: فِيهِ بَحْثٌ. أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ مَا ذَكَرَهُ هُنَا مِنْ جَوَازِ ثُبُوتِ الْقِصَاصِ مَعَ الشُّبْهَةِ مُخَالِفٌ لِمَا صَرَّحَ بِهِ فِيمَا مَرَّ فِي عِدَّةِ مَوَاقِعَ: مِنْهَا كِتَابُ الْكَفَالَةِ فَإِنَّهُ قَالَ فِيهِ: فَلَا تَجُوزُ الْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، لِأَنَّ مَبْنَى الْكُلِّ عَلَى الدَّرْءِ فَلَا يَجِبُ فِيهَا الِاسْتِيثَاقُ. وَمِنْهَا كِتَابُ الشَّهَادَاتِ فَإِنَّهُ قَالَ فِيهِ: وَلَا تُقْبَلُ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ، لِأَنَّ فِيهَا شُبْهَةَ الْبَدَلِيَّةِ لِقِيَامِهَا مَقَامَ شَهَادَةِ الرِّجَالِ فَلَا تُقْبَلُ فِيمَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ. ثُمَّ قَالَ فِيهِ فِي بَابِ الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ: الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ جَائِزَةٌ عِنْدَنَا فِي كُلِّ حَقٍّ لَا يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ وَلَا تُقْبَلُ فِيمَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ كَالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ وَمِنْهَا كِتَابُ الْوَكَالَةِ فَإِنَّهُ قَالَ فِيهِ: وَتَجُوزُ الْوَكَالَةُ بِالْخُصُومَةِ فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ، وَكَذَا بِإِيفَائِهَا وَاسْتِيفَائِهَا إلَّا فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ.

فَإِنَّ الْوَكَالَةَ لَا تَصِحُّ بِاسْتِيفَائِهَا مَعَ غَيْبَةِ الْمُوَكِّلِ عَنْ الْمَجْلِسِ لِأَنَّهَا تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ وَشُبْهَةُ الْعَفْوِ ثَابِتَةٌ حَالَ غَيْبَتِهِ. وَمِنْهَا كِتَابُ الدَّعْوَى فَإِنَّهُ قَالَ فِيهِ فِي بَابِ الْيَمِينِ: وَمَنْ ادَّعَى قِصَاصًا عَلَى غَيْرِهِ فَجَحَدَ اُسْتُحْلِفَ بِالْإِجْمَاعِ، ثُمَّ إنْ نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ يَلْزَمُهُ الْقِصَاصُ، وَإِنْ نَكَلَ فِي النَّفْسِ حُبِسَ حَتَّى يَحْلِفَ أَوْ يُقِرَّ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لَزِمَهُ الْأَرْشُ فِيهِمَا، لِأَنَّ النُّكُولَ إقْرَارٌ فِيهِ شُبْهَةٌ فَلَا يَثْبُتُ بِهِ الْقِصَاصُ وَيَجِبُ بِهِ الْمَالُ. وَمِنْهَا كِتَابُ الْجِنَايَاتِ، فَإِنَّهُ صَرَّحَ فِيهِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْهُ بِعَدَمِ ثُبُوتِ الْقِصَاصِ بِالشُّبْهَةِ بَلْ جَعَلَهَا أَصْلًا مُؤَثِّرًا فِي سُقُوطِ الْقِصَاصِ، وَفَرَّعَ عَلَيْهِ كَثِيرًا مِنْ مَسَائِلِ سُقُوطِ الْقِصَاصِ بِتَحَقُّقِ نَوْعٍ مِنْ الشُّبْهَةِ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى النَّاظِرِ فِي تَمَامِ ذَلِكَ الْكِتَابِ.

وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ قَيْدَ الْخَالِصَةِ فِي قَوْلِهِ أَمَّا الْحُدُودُ الْخَالِصَةُ لِلَّهِ تَعَالَى فَشُرِعَتْ زَوَاجِرَ مُسْتَدْرَكٌ بَلْ مُخِلٌّ هُنَا، فَإِنَّ حَدَّ الْقَذْفِ غَيْرُ خَالِصٍ لِلَّهِ تَعَالَى، بَلْ فِيهِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى وَحَقُّ الْعَبْدِ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ مَعَ أَنَّهُ أَيْضًا زَاجِرٌ لَا يَثْبُتُ بِالشُّبْهَةِ، وَلَا تَكُونُ إشَارَةُ الْأَخْرَسِ حُجَّةً فِيهِ أَيْضًا كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِيهِ مَرَّ آنِفًا فَلَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ بِالنَّظَرِ إلَيْهِ عَلَى التَّقْيِيدِ الْمَزْبُورِ.

(قَوْلُهُ وَدَلَّتْ الْمَسْأَلَةُ عَلَى أَنَّ الْإِشَارَةَ مُعْتَبَرَةٌ وَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْكِتَابَةِ.

ص: 526

لِأَنَّهُ حُجَّةٌ ضَرُورِيَّةٌ، وَلَا ضَرُورَةَ لِأَنَّهُ جَمَعَ هَاهُنَا بَيْنَهُمَا فَقَالَ: أَشَارَ أَوْ كَتَبَ، وَإِنَّمَا اسْتَوَيَا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُجَّةٌ ضَرُورِيَّةٌ، وَفِي الْكِتَابَةِ زِيَادَةُ بَيَانٍ لَمْ يُوجَدْ فِي الْإِشَارَةِ، وَفِي الْإِشَارَةِ زِيَادَةُ أَثَرٍ لَمْ يُوجَدْ فِي الْكِتَابِ لَمَّا أَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى النُّطْقِ مِنْ آثَارِ الْأَقْلَامِ فَاسْتَوَيَا (وَكَذَلِكَ الَّذِي صَمَتَ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ لِعَارِضٍ) لِمَا بَيَّنَّا فِي الْمُعْتَقَلِ لِسَانُهُ أَنَّ آلَةَ النُّطْقِ قَائِمَةٌ، وَقِيلَ هَذَا تَفْسِيرٌ لِمُعْتَقَلِ اللِّسَانِ.

قَالَ (وَإِذَا كَانَتْ الْغَنَمُ مَذْبُوحَةً وَفِيهَا مَيْتَةٌ فَإِنْ كَانَتْ الْمَذْبُوحَةُ أَكْثَرَ تَحَرَّى فِيهَا وَأَكَلَ، وَإِنْ كَانَتْ الْمَيْتَةُ أَكْثَرَ أَوْ كَانَا نِصْفَيْنِ لَمْ يَأْكُلْ) وَهَذَا إذَا كَانَتْ الْحَالَةُ حَالَةَ الِاخْتِيَارِ. أَمَّا فِي حَالَةِ الضَّرُورَةِ يَحِلُّ لَهُ التَّنَاوُلُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ. لِأَنَّ الْمَيْتَةَ الْمُتَيَقَّنَةَ تَحِلُّ لَهُ فِي حَالَةِ الضَّرُورَةِ، فَاَلَّتِي تَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ ذَكِيَّةً أَوْلَى، غَيْرَ أَنَّهُ يَتَحَرَّى لِأَنَّهُ طَرِيقٌ يُوَصِّلُهُ إلَى الذَّكِيَّةِ فِي الْجُمْلَةِ فَلَا

إلَى قَوْلِهِ: لِأَنَّهُ جَمَعَ هَاهُنَا بَيْنَهُمَا فَقَالَ أَشَارَ أَوْ كَتَبَ) قَالَ صَاحِبُ الْغَايَةِ: وَلَنَا فِي دَعْوَى الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا نَظَرٌ، لِأَنَّهُ قَالَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: وَإِذَا كَانَ الْأَخْرَسُ يَكْتُبُ أَوْ يُومِئُ وَكَلِمَةٌ أَوْ لِأَحَدِ الشَّيْئَيْنِ لَا لِلْجَمْعِ، عَلَى أَنْ نَقُولَ: قَالَ فِي الْأَصْلِ: وَإِنْ كَانَ الْأَخْرَسُ لَا يَكْتُبُ وَكَانَتْ لَهُ إشَارَةٌ تُعْرَفُ فِي نِكَاحِهِ وَطَلَاقِهِ وَشِرَائِهِ وَبَيْعِهِ فَهُوَ جَائِزٌ، فَيُعْلَمُ مِنْ إشَارَةِ رِوَايَةِ الْأَصْلِ أَنَّ الْإِشَارَةَ مِنْ الْأَخْرَسِ لَا تُعْتَبَرُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْكِتَابَةِ لِأَنَّهُ بَيَّنَ حُكْمَ إشَارَةِ الْأَخْرَسِ بِشَرْطِ أَنْ يَكْتُبَ، فَافْهَمْ إلَى هُنَا لَفْظُهُ.

أَقُولُ: نَظَرُهُ سَاقِطٌ جِدًّا، إذْ لَيْسَ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ بِالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي كُلِّ مَادَّةٍ مِنْ مَوَادِّ إعْلَامِ الْأَخْرَسِ، بَلْ مُرَادُهُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي جَوَازِ إعْلَامِ الْأَخْرَسِ مُرَادُهُ بِأَيِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَلَا شَكَّ فِي دَلَالَةِ كَلِمَةٍ أَوْ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى لِأَنَّهَا لِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ بِلَا تَعْيِينٍ، فَإِذَا أَتَى الْأَخْرَسُ بِأَيِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى انْفِرَادِهِ يَتَحَقَّقُ الْإِتْيَانُ بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ، وَيَجُوزُ ذَلِكَ بِحَسَبِ الشَّرْعِ، أَيْ يُقْبَلُ وَيَعْمَلُ بِهِ بِمُوجَبِ قَوْلِ مُحَمَّدٍ فِي جَوَابِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَهُوَ جَائِزٌ، وَأَمَّا عِلَاوَتُهُ الَّتِي ذَكَرَهَا بِقَوْلِهِ عَلَى أَنَّا نَقُولُ إلَخْ فَلَيْسَتْ بِشَيْءٍ أَيْضًا، لِأَنَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ دَلَالَةُ مَسْأَلَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ عَلَى اسْتِوَاءِ الْإِشَارَةِ وَالْكِتَابَةِ مِنْ الْأَخْرَسِ وَمَعْنَى قَوْلِهِ لِأَنَّهُ جَمَعَ هَاهُنَا بَيْنَهُمَا أَنَّهُ جَمَعَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بَيْنَهُمَا كَمَا صَرَّحَ بِهِ الشَّارِحُ الْمَذْكُورُ حَيْثُ قَالَ فِي شَرْحِ قَوْلِهِ لِأَنَّهُ جَمَعَ هُنَا بَيْنَهُمَا: أَيْ جَمَعَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بَيْنَ الْإِشَارَةِ وَالْكِتَابَةِ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا لَا يُنَافِي إشَارَةَ مَسْأَلَةِ الْأَصْلِ إلَى أَنَّ إشَارَةَ الْأَخْرَسِ لَا تُعْتَبَرُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْكِتَابَةِ، غَايَةُ الْأَمْرِ أَنْ يَكُونَ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ وَمِثْلُ ذَلِكَ كَثِيرٌ.

فَإِنْ قُلْت: فَعَلَى هَذَا كَيْفَ يَتِمُّ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ بِخِلَافِ مَا تَوَهَّمَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا تُعْتَبَرُ الْإِشَارَةُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْكِتَابَةِ فَإِنَّ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ ذَلِكَ الْبَعْضُ مِنْ أَصْحَابِنَا يَكُونُ حِينَئِذٍ مَبْنِيًّا عَلَى رِوَايَةِ الْأَصْلِ، فَمَا مَعْنَى نِسْبَةِ التَّوَهُّمِ إلَيْهِمْ؟ قُلْت: مُرَادُ الْمُصَنِّفِ بِخِلَافِ مَا تَوَهَّمَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا تُعْتَبَرُ الْإِشَارَةُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْكِتَابَةِ أَصْلًا: أَيْ فِي رِوَايَةٍ مَا. وَلَك أَنْ تَقُولَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نِسْبَةُ التَّوَهُّمِ إلَيْهِمْ بِالنَّظَرِ إلَى الدِّرَايَةِ دُونَ الرِّوَايَةِ تَأَمَّلْ

(قَوْلُهُ وَإِذَا كَانَتْ الْغَنَمُ مَذْبُوحَةً وَفِيهَا مَيْتَةٌ فَإِنْ كَانَتْ الْمَذْبُوحَةُ أَكْثَرَ تَحَرَّى فِيهَا وَأَكَلَ، وَإِنْ كَانَتْ الْمَيْتَةُ أَكْثَرَ أَوْ كَانَا نِصْفَيْنِ لَمْ يَأْكُلْ) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ أَخْذًا مِنْ النِّهَايَةِ: طُولِبَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ

ص: 527

يَتْرُكُهُ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ الْأَكْلُ فِي حَالَةِ الِاخْتِيَارِ وَإِنْ كَانَتْ الْمَذْبُوحَةُ أَكْثَرَ لِأَنَّ التَّحَرِّيَ دَلِيلٌ ضَرُورِيٌّ فَلَا يُصَارُ إلَيْهِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، وَلَا ضَرُورَةَ لِأَنَّ الْحَالَةَ حَالَةُ الِاخْتِيَارِ. وَلَنَا أَنَّ الْغَلَبَةَ تَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الضَّرُورَةِ فِي إفَادَةِ الْإِبَاحَةِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ أَسْوَاقَ الْمُسْلِمِينَ لَا تَخْلُو عَنْ الْمُحَرَّمِ الْمَسْرُوقِ وَالْمَغْصُوبِ وَمَعَ ذَلِكَ يُبَاحُ التَّنَاوُلُ اعْتِمَادًا عَلَى الْغَالِبِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْقَلِيلَ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ وَلَا يُسْتَطَاعُ الِامْتِنَاعُ مِنْهُ فَسَقَطَ اعْتِبَارُهُ دَفْعًا لِلْحَرَجِ كَقَلِيلِ النَّجَاسَةِ وَقَلِيلِ الِانْكِشَافِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَا نِصْفَيْنِ أَوْ كَانَتْ الْمَيْتَةُ أَغْلَبَ لِأَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ فِيهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ، وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ.

هَذَا وَبَيْنَ الثِّيَابِ، فَإِنَّ الْمُسَافِرَ إذَا كَانَ مَعَهُ ثَوْبَانِ أَحَدُهُمَا نَجَسٌ وَالْآخَرُ طَاهِرٌ وَلَا يُمَيِّزُ بَيْنَهُمَا وَلَيْسَ مَعَهُ ثَوْبٌ غَيْرَهُمَا فَإِنَّهُ يَتَحَرَّى وَيُصَلِّي فِي الَّذِي يَقَعُ تَحَرِّيهِ أَنَّهُ طَاهِرٌ، فَقَدْ جَوَّزَ التَّحَرِّيَ هُنَاكَ فِيمَا إذَا كَانَ الثَّوْبُ النَّجَسُ وَالطَّاهِرُ نِصْفَيْنِ وَفِي الذَّكِيَّةِ وَالْمَيْتَةِ لَمْ يُجَوِّزْ.

وَأُجِيبَ بِأَنَّ وَجْهَ الْفَرْقِ هُوَ أَنَّ حُكْمَ الثِّيَابِ أَخَفُّ مِنْ غَيْرِهَا، لِأَنَّ الثِّيَابَ لَوْ كَانَتْ كُلُّهَا نَجِسَةً كَانَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ فِي بَعْضِهَا ثُمَّ لَا يُعِيدُ صَلَاتَهُ لِأَنَّهُ مُضْطَرٌّ إلَى الصَّلَاةِ فِيهَا، بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ الْغَنَمِ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ إلَّا ثَوْبٌ نَجَسٌ فَإِنْ كَانَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ نَجَسًا وَرُبْعُهُ طَاهِرٌ يُصَلِّي فِيهِ وَلَا يُصَلِّي عُرْيَانًا بِالْإِجْمَاعِ، فَلَمَّا جَازَتْ صَلَاتُهُ فِيهِ وَهُوَ نَجَسٌ بِيَقِينٍ فَلَأَنْ تَجُوزَ بِالتَّحَرِّي حَالَةَ الِاشْتِبَاهِ أَوْلَى انْتَهَى.

أَقُولُ: لَا الشُّبْهَةُ شَيْءٌ وَلَا الْجَوَابُ عِنْدِي. أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ تَجْوِيزَ التَّحَرِّي فِيمَا إذَا كَانَ الثَّوْبُ النَّجَسُ وَالطَّاهِرُ نِصْفَيْنِ إنَّمَا هُوَ فِي حَالَةِ الِاضْطِرَارِ بِأَنْ لَا يَكُونَ مَعَهُ ثَوْبٌ غَيْرُهُمَا كَمَا صَرَّحُوا بِهِ، وَعَدَمُ تَجْوِيزِهِ فِيمَا إذَا كَانَتْ الْمَيْتَةُ وَالذَّكِيَّةُ نِصْفَيْنِ إنَّمَا هُوَ فِي حَالَةِ الِاخْتِيَارِ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ فِي شُرُوحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَصَرَّحَ بِهِ الْمُصَنِّفُ هُنَا بِقَوْلِهِ وَهَذَا إذَا كَانَتْ الْحَالَةُ حَالَةَ الِاخْتِيَارِ، أَمَّا فِي حَالَةِ الضَّرُورَةِ يَحِلُّ لَهُ التَّنَاوُلُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ فَلَا تَتَوَجَّهُ الْمُطَالَبَةُ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ رَأْسًا لِظُهُورِ اخْتِلَافِ حُكْمَيْ حَالَتَيْ الِاخْتِيَارِ وَالِاضْطِرَارِ قَطْعًا. وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ مَا ذُكِرَ فِيهِ لَا يَقْتَضِي كَوْنَ حُكْمِ الثِّيَابِ أَخَفَّ مِنْ حُكْمِ غَيْرِهَا. لِأَنَّ جَوَازَ الصَّلَاةِ فِي بَعْضِ الثِّيَابِ عِنْدَ كَوْنِ كُلِّهَا نَجِسَةً وَعَدَمَ لُزُومِ إعَادَةِ الصَّلَاةِ إذْ ذَاكَ إنَّمَا هُوَ فِي حَالَةِ الِاضْطِرَارِ كَمَا أَفْصَحَ عَنْهُ الْمُجِيبُ بِقَوْلِهِ لِأَنَّهُ مُضْطَرٌّ إلَى الصَّلَاةِ فِيهَا، وَكَوْنُ مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ الْغَنَمِ بِخِلَافِ ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ فِي حَالَةِ الِاخْتِيَارِ كَمَا تَحَقَّقْته، فَمِنْ أَيْنَ يَثْبُتُ كَوْنُ حُكْمِ الثِّيَابِ أَخَفَّ مِنْ حُكْمِ غَيْرِهَا مُطْلَقًا حَتَّى يَصْلُحَ أَنْ يُجْعَلُ مَدَارَ الْفَرْقِ بَيْنَ تَيْنِك الْمَسْأَلَتَيْنِ.

قَالَ مُؤَلِّفُ الْكِتَابِ رحمه الله هَذَا آخِرُ مَا تَيَسَّرَ لَنَا مِنْ شَرْحِ الْهِدَايَةِ بِتَوْفِيقٍ مِنْ اللَّهِ وَهِدَايَةٍ، أَلَّفْتُهُ مَعَ تَوَزُّعِ الْخَاطِرِ وَتَشَتُّتِ الْبَالِ مِنْ تَرَاكُمِ الْهُمُومِ وَكَثْرَةِ الْبَلْبَالِ، وَسَمَّيْتُهُ:(نَتَائِجُ الْأَفْكَارِ فِي كَشْفِ الرُّمُوزِ وَالْأَسْرَارِ) لِاشْتِمَالِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي لَمْ يَسْبِقْنِي إلَيْهَا أَحَدٌ مِنْ الثِّقَاتِ، ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ، فَلَهُ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةِ وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالْأَنْصَارِ

تَمَّ.

ص: 528

بحمد الله تعالى وحسن توفيقه قد تم طبع كتاب «شرح فتح القدير» للمحقق الكمال بن الهمام الحنفي. وتكملته المسماة «نتائج الأفكار في كشف الرموز والأسرار» لشمس الدين أحمد بن قودر.

مصححا بمعرفة لجنة التصحيح بشركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر.

القاهرة في

24 ربيع الأول سنة 1392 هـ

8 مايو سنة 1972 م

ملاحظ المطبعة: رجب أحمد علام

مدير عام الشركة: محمد محمود الحلبي

ص: 9