المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

. . . . . . . . . . - تكملة فتح القدير نتائج الأفكار في كشف الرموز والأسرار - جـ ٨

[قاضي زاده]

فهرس الكتاب

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

بسم الله الرحمن الرحيم

‌كِتَابُ الْوَكَالَةِ

لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ أَحْكَامِ الشَّهَادَاتِ بِأَنْوَاعِهَا وَمَا يَتْبَعُهَا مِنْ الرُّجُوعِ عَنْهَا شَرَعَ فِي بَيَانِ أَحْكَامِ الْوَكَالَةِ، إمَّا لِمُنَاسِبَةِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّهَادَةِ وَالْوَكَالَةِ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى {ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ} وقَوْله تَعَالَى حِكَايَةً حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، وَإِمَّا؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا إيصَالُ النَّفْعِ إلَى الْغَيْرِ بِالْإِعَانَةِ فِي حَقِّهِ، وَإِمَّا؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَصْلُح سَبَبًا لِاكْتِسَابِ الثَّوَابِ وَالصِّيَانَةِ عَنْ الْعِقَابِ فِي الْمُعَامَلَاتِ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ. قَالَ صَاحِب الْعِنَايَةِ عَقِبَ الشَّهَادَةِ بِالْوَكَالَةِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ مَدَنِيًّا بِالطَّبْعِ يَحْتَاج فِي مَعَاشِهِ إلَى تَعَاضُدٍ وَتَعَاوُضٍ، وَالشَّهَادَةُ مِنْ التَّعَاضُدِ وَالْوَكَالَةِ مِنْهُ؛ وَقَدْ يَكُونُ فِيهَا التَّعَاوُضُ أَيْضًا فَصَارَتْ كَالْمُرَكَّبِ مِنْ الْمُفْرَدِ فَآثَرَ تَأْخِيرَهَا انْتَهَى. وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ فِي بَيَانِ قَوْلِهِ وَقَدْ يَكُونُ فِيهَا التَّعَاوُضُ أَيْضًا كَمَا إذَا كَانَ وَكِيلًا بِالْبَيْعِ أَوْ الشِّرَاءِ مَثَلًا انْتَهَى.

أَقُولُ: هَذَا سَهْوٌ ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ التَّعَاوُضَ فِيمَا ذَكَرَهُ مِنْ الْمِثَالِ إنَّمَا هُوَ فِي مُتَعَلَّقِ الْوَكَالَةِ، أَعْنِي الْمُوَكَّلَ بِهِ، وَهُوَ الْبَيْعُ أَوْ الشِّرَاءُ لَا نَفْسُ الْوَكَالَةِ، وَالْكَلَامُ فِيهَا لَا فِي الْأَوَّلِ، وَإِلَّا فَقَدْ يَكُونُ التَّعَاوُضُ فِي مُتَعَلَّقِ الشَّهَادَةِ أَيْضًا كَمَا إذَا شَهِدَ بِالْبَيْعِ أَوْ الشِّرَاءِ مَثَلًا.

وَالصَّوَابُ أَنَّ مُرَادَ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ هُوَ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِي نَفْسِ الْوَكَالَةِ التَّعَاوُضُ كَمَا إذَا أَخَذَ الْوَكِيلُ الْأُجْرَةَ لِإِقَامَةِ الْوَكَالَةِ فَإِنَّهُ غَيْرُ مَمْنُوعٍ شَرْعًا، إذْ الْوَكَالَةُ عَقْدٌ جَائِزٌ لَا يَجِبُ عَلَى الْوَكِيلِ إقَامَتُهَا فَيَجُوزُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ فِيهَا، بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ فَإِنَّهَا فَرْضٌ يَجِبُ عَلَى الشَّاهِدِ أَدَاؤُهَا فَلَا يَجُوزُ فِيهَا التَّعَاوُضُ أَصْلًا. ثُمَّ إنَّ مَحَاسِنَ شَرْعِيَّةِ الْوَكَالَةِ ظَاهِرَةٌ، إذْ فِيهَا قَضَاءُ حَوَائِجِ الْمُحْتَاجِينَ إلَى مُبَاشَرَةِ أَفْعَالٍ لَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهَا بِأَنْفُسِهِمْ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْخَلَائِقَ عَلَى هِمَمٍ شَتَّى وَطَبَائِعَ مُخْتَلِفَةٍ وَأَقْوِيَاءَ وَضُعَفَاءَ، وَلَيْسَ كُلُّ أَحَدٍ يَرْضَى أَنْ يُبَاشِرَ الْأَعْمَالَ بِنَفْسِهِ، وَلَا كُلُّ أَحَدٍ يَهْتَدِي إلَى الْمُعَامَلَاتِ، فَمَسَّتْ الْحَاجَةُ إلَى شَرْعِيَّةِ الْوَكَالَةِ، فَنَبِيُّنَا صلى الله عليه وسلم بَاشَرَ بَعْضَ الْأُمُورِ بِنَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ تَعْلِيمًا لِسُنَّةِ التَّوَاضُعِ، وَفَوَّضَ بَعْضَهَا إلَى غَيْرِهِ تَرْفِيهًا لِأَصْحَابِ الْمُرُوءَاتِ. ثُمَّ إنَّ هَاهُنَا أُمُورًا يُحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَتِهَا تَفْسِيرًا لِلْوَكَالَةِ لُغَةً وَشَرْعًا. وَدَلِيلُ جَوَازِهَا وَسَبَبِهَا وَرُكْنِهَا وَشَرْطِهَا وَصِفَتِهَا وَحُكْمِهَا.

أَمَّا تَفْسِيرُهَا لُغَةً: فَالْوَكَالَةُ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَكَسْرِهَا اسْمٌ لِلتَّوْكِيلِ، مِنْ وَكَّلَهُ بِكَذَا إذَا فَوَّضَ إلَيْهِ ذَلِكَ. وَالْوَكِيلُ هُوَ الْقَائِمُ بِمَا فُوِّضَ إلَيْهِ، وَالْجَمْعُ الْوُكَلَاءُ كَأَنَّهُ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ؛ لِأَنَّهُ مَوْكُولٌ إلَيْهِ الْأَمْرُ: أَيْ مُفَوَّضٌ إلَيْهِ. وَأَمَّا شَرْعًا: فَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ إقَامَةِ الْإِنْسَانِ غَيْرَهُ مَقَامَ نَفْسِهِ فِي تَصَرُّفٍ مَعْلُومٍ. وَأَمَّا دَلِيلُ جَوَازِهَا فَالْكِتَابُ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ}

ص: 3

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

لِأَنَّ ذَاكَ كَانَ تَوْكِيلًا وَقَدْ قَصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ أَصْحَابِ الْكَهْفِ بِلَا نَكِيرٍ فَكَانَ شَرِيعَةً لَنَا.

وَالسُّنَّةُ وَهِيَ مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَكَّلَ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ بِشِرَاءِ الْأُضْحِيَّةِ وَعُرْوَةَ الْبَارِقِيَّ بِهِ أَيْضًا، وَوَكَّلَ عُمَرَ بْنَ أُمِّ سَلَمَةَ بِالتَّزْوِيجِ» .

وَالْإِجْمَاعُ فَإِنَّ الْأُمَّةَ أَجْمَعَتْ عَلَى جَوَازِهَا مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى يَوْمِنَا هَذَا، وَكَذَا الْمَعْقُولُ يَدُلُّ عَلَيْهِ عَلَى مَا سَيَأْتِي فِي الْكِتَابِ.

وَأَمَّا سَبَبُهَا فَتَعَلُّقُ الْبَقَاءِ الْمُقَدَّرِ بِتَعَاطِيهَا كَمَا فِي سَائِرِ الْمُعَامَلَاتِ.

وَأَمَّا رُكْنُهَا: فَالْأَلْفَاظُ الَّتِي تَثْبُتُ بِهَا الْوَكَالَةُ كَلَفْظِ وَكَّلْت وَأَشْبَاهِهِ. رَوَى بِشْرُ بْنُ غِيَاثٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله: إذَا قَالَ الرَّجُلُ لِغَيْرِهِ أَحْبَبْت أَنْ تَبِيعَ عَبْدِي هَذَا أَوْ هَوَيْت أَوْ رَضِيت أَوْ شِئْت أَوْ أَرَدْت فَذَاكَ تَوْكِيلٌ وَأَمْرٌ بِالْبَيْعِ.

وَأَمَّا شَرْطُهَا: فَأَنْ يَكُونَ الْمُوَكِّلُ مِمَّنْ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ وَتَلْزَمُهُ الْأَحْكَامُ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْكِتَابِ، وَسَتَعْرِفُهُ مَشْرُوحًا.

وَأَمَّا صِفَتُهَا: فَهِيَ أَنَّهَا عَقْدٌ جَائِزٌ غَيْرُ لَازِمٍ حَتَّى يَمْلِكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُوَكِّلِ وَالْوَكِيلِ الْعَزْلَ بِدُونِ رِضَا صَاحِبِهِ.

وَأَمَّا حُكْمُهَا: فَجَوَازُ مُبَاشَرَةِ الْوَكِيلِ مَا فُوِّضَ إلَيْهِ (قَالَ) أَيْ الْقُدُورِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي مُخْتَصَرِهِ (كُلُّ عَقْدٍ جَازَ أَنْ يَعْقِدَهُ الْإِنْسَانُ بِنَفْسِهِ جَازَ أَنْ يُوَكِّلَ بِهِ غَيْرَهُ) هَذِهِ ضَابِطَةٌ يَتَبَيَّنُ بِهَا مَا يَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِهِ لِأَحَدٍ، فَلَا يُرَدُّ عَلَيْهَا أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَجُوزُ لَهُ عَقْدُ بَيْعِ الْخَمْرِ وَشِرَائِهَا بِنَفْسِهِ. وَلَوْ وَكَّلَ ذِمِّيًّا بِذَلِكَ جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله؛ لِأَنَّ إبْطَالَ الْقَوَاعِدِ بِإِبْطَالِ الطَّرْدِ لَا الْعَكْسِ عَلَى مَا نَصُّوا عَلَيْهِ. وَالْعَجَبُ هَاهُنَا أَنَّ صَاحِبَ الْعِنَايَةِ مَعَ اعْتِرَافِهِ بِذَلِكَ حَيْثُ أَجَابَ عَنْ الِاعْتِرَاضِ بِالصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ بِأَنَّ الْعَكْسَ غَيْرُ لَازِمٍ وَلَيْسَ بِمَقْصُودٍ.

قَالَ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ: هَذِهِ ضَابِطَةٌ يَتَبَيَّنُ بِهَا مَا يَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِهِ وَمَا لَا يَجُوزُ انْتَهَى، فَإِنَّ الْعَكْسَ إذَا لَمْ يَكُنْ لَازِمًا وَلَا مَقْصُودًا فِي الضَّوَابِطِ كَيْفَ يَتَبَيَّنُ بِهَذِهِ الضَّابِطَةِ مَا لَا يَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِهِ، وَقَدْ اُعْتُرِضَ عَلَى طَرْدِ هَذِهِ الضَّابِطَةِ بِوُجُوهٍ:

الْأَوَّلُ: أَنَّ الْوَكِيلَ جَازَ لَهُ أَنْ يَعْقِدَ بِنَفْسِهِ، وَإِذَا وَكَّلَ غَيْرَهُ وَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِي ذَلِكَ لَا يَجُوزُ.

وَالثَّانِي: أَنَّ الْإِنْسَانَ جَازَ لَهُ أَنْ يَسْتَقْرِضَ بِنَفْسِهِ، وَلَوْ وَكَّلَ غَيْرَهُ بِالِاسْتِقْرَاضِ لَا يَجُوزُ.

وَالثَّالِثُ: أَنَّ الذِّمِّيَّ يَمْلِكُ بَيْعَ الْخَمْرِ بِنَفْسِهِ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُوَكِّلَ الْمُسْلِمَ بِبَيْعِهَا.

وَأُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ يَعْقِدُهُ الْإِنْسَانُ بِنَفْسِهِ هُوَ أَنْ يَكُونَ مُسْتَبِدًّا بِهِ وَالْوَكِيلُ لَيْسَ كَذَلِكَ.

وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ مَحَلَّ الْعَقْدِ مِنْ شُرُوطِهِ لِكَوْنِ الْمَحَالِّ شُرُوطًا عَلَى مَا عُرِفَ، وَذَاكَ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ فِي التَّوْكِيلِ بِالِاسْتِقْرَاضِ؛ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ الَّتِي اسْتَقْرَضَهَا الْوَكِيلُ مِلْكَ الْمُقْرِضِ وَالْأَمْرُ بِالتَّصَرُّفِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ بَاطِلٌ، وَرُدَّ هَذَا بِأَنَّهُ مُقَرِّرٌ لِلنَّقْضِ لَا دَافِعٌ. وَدُفِعَ بِأَنَّهُ مِنْ بَابِ التَّخَلُّفِ لِمَانِعٍ، وَقَيْدُ عَدَمِ الْمَانِعِ فِي الْأَحْكَامِ الْكُلِّيَّةِ غَيْرُ لَازِمٍ، وَنُقِضَ بِالتَّوْكِيلِ بِالشِّرَاءِ فَإِنَّهُ جَائِزٌ وَمَا ذَكَرْتُمْ مَوْجُودٌ فِيهِ. وَفُرِّقَ بِأَنَّ مَحَلَّ عَقْدِ الْوَكَالَةِ فِي الشِّرَاءِ هُوَ الثَّمَنُ وَهُوَ مِلْكُ الْمُوَكِّلِ، وَفِي الِاسْتِقْرَاضِ الدَّرَاهِمُ الْمُسْتَقْرَضَةُ وَهِيَ لَيْسَتْ مِلْكَهُ.

وَقِيلَ: هَلَّا جَعَلْتُمْ الْمَحَلَّ فِيهِ بَدَلَهَا وَهُوَ مِلْكُ الْمُوَكِّلِ؟ وَدُفِعَ بِأَنَّ ذَاكَ مَحَلُّ التَّوْكِيلِ بِإِيفَاءِ الْقَرْضِ لَا بِالِاسْتِقْرَاضِ، هَذَا نِهَايَةُ مَا فِي الْعِنَايَةِ. أَقُولُ: وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ كَمَا أَنَّ الْأَمْرَ بِالتَّصَرُّفِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ بَاطِلٌ كَذَلِكَ التَّصَرُّفُ بِنَفْسِهِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ بَاطِلٌ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِقْرَاضُ بِنَفْسِهِ أَيْضًا بَاطِلًا بِنَاءً عَلَى هَذَا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ. ثُمَّ أَقُولُ: يُمْكِنُ أَنْ يُدْفَعَ ذَلِكَ بِأَنَّ الْمُسْتَقْرِضَ بِنَفْسِهِ مُتَصَرِّفٌ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ وَهُوَ عِبَارَتُهُ دُونَ مِلْكِ غَيْرِهِ وَهُوَ الدَّرَاهِمُ الْمُسْتَقْرَضَةُ. وَأَمَّا الْمَأْمُورُ بِالِاسْتِقْرَاضِ فَإِنْ تَصَرَّفَ فِي عِبَارَةِ نَفْسِهِ بِأَنْ قَالَ لِلْمُقْرِضِ مَثَلًا أَقْرِضْنِي عَشَرَةَ دَرَاهِمَ كَانَ الِاسْتِقْرَاضُ لِنَفْسِهِ لَا لِلْآمِرِ فَلَهُ أَنْ يَمْنَعَ الْعَشَرَةَ مِنْ الْآمِرِ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ، وَإِنْ تَصَرَّفَ فِي عِبَارَةِ الْآمِرِ بِأَنْ قَالَ مَثَلًا: إنَّ فُلَانًا يَسْتَقْرِضُ مِنْك عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فَفَعَلَ الْمُقْرِضُ كَانَتْ الْعَشَرَةُ لِلْآمِرِ، وَلَكِنَّ الْمَأْمُورَ يَصِيرُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ رَسُولًا لَا وَكِيلًا، وَالْبَاطِلُ هُوَ الْوَكَالَةُ فِي الِاسْتِقْرَاضِ دُونَ الرِّسَالَةِ فِيهِ، فَإِنَّ الرِّسَالَةَ مَوْضُوعَةٌ لِنَقْلِ عِبَارَةِ الْمُرْسِلِ، فَالرَّسُولُ مُعَبِّرٌ وَالْعِبَارَةُ مِلْكُ الْمُرْسِلِ، فَقَدْ أَمَرَهُ بِالتَّصَرُّفِ فِي مِلْكِهِ بِاعْتِبَارِ الْعِبَارَةِ فَيَصِحُّ فِيمَا هُوَ حَقُّهُ.

وَأَمَّا الْوَكَالَةُ فَغَيْرُ مَوْضُوعَةٍ لِنَقْلِ عِبَارَةِ الْمُوَكِّلِ بَلْ الْعِبَارَةُ لِلْوَكِيلِ فَلَا يُمْكِنُنَا تَصْحِيحُ هَذَا الْأَمْرِ بِاعْتِبَارِ الْعِبَارَةِ كَمَا نُصَّ عَلَيْهِ فِي الذَّخِيرَةِ. بَقِيَ هَاهُنَا شَيْءٌ وَهُوَ أَنَّ مَا ذُكِرَ مَنْقُوضٌ بِجَوَازِ التَّوْكِيلِ بِالِاسْتِيهَابِ وَالِاسْتِعَارَةِ؛ وَسَيَأْتِي تَمَامُ بَحْثِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَأُجِيبَ عَنْ الثَّالِثِ بِأَنَّ الذِّمِّيَّ كَمَا يَمْلِكُ بَيْعَ الْخَمْرِ بِنَفْسِهِ يَمْلِكُ تَوْكِيلَ غَيْرِهِ بِبَيْعِهَا أَيْضًا، حَتَّى أَنَّهُ لَوْ وَكَّلَ ذِمِّيًّا آخَرَ بِبَيْعِهَا يَجُوزُ، وَإِنَّمَا لَمْ يَجُزْ تَوْكِيلُ الْمُسْلِمِ هَاهُنَا لِمَعْنًى فِي الْمُسْلِمِ، وَهُوَ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالِاجْتِنَابِ عَنْهَا وَفِي جَوَازِ التَّوْكِيلِ بِبَيْعِهَا اقْتِرَابُهَا فَكَانَ ذَلِكَ أَمْرًا عَارِضًا فِي الْوَكِيلِ، وَالْعَوَارِضُ لَا تَقْدَحُ فِي الْقَوَاعِدِ، حَتَّى أَنَّ قَائِلًا لَوْ قَالَ: كُلُّ مَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً بِنِكَاحٍ صَحِيحٍ حَلَّ لَهُ وَطْؤُهَا لَا يَرِدُ عَلَيْهِ الْحَائِضُ وَالْمُحَرَّمَةُ، هَذَا زُبْدَةُ مَا فِي أَكْثَرِ الشُّرُوحِ. وَأَجَابَ عَنْهُ صَاحِبُ

ص: 4

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الْعِنَايَةِ بِوَجْهٍ آخَرَ حَيْثُ قَالَ: وَالذِّمِّيُّ جَازَ لَهُ تَوْكِيلُ الْمُسْلِمِ وَالْمُمْتَنِعُ تَوَكُّلُ الْمُسْلِمِ عَنْهُ، وَلَيْسَ كَلَامُنَا فِي ذَلِكَ لِجَوَازِ أَنْ يَمْنَعَ مَانِعٌ عَنْ التَّوَكُّلِ وَإِنْ صَحَّ التَّوْكِيلُ، وَقَدْ وُجِدَ الْمَانِعُ وَهُوَ حُرْمَةُ اقْتِرَابِهِ مِنْهَا انْتَهَى. وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: هَذَا عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِ يَكُونُ جَوَابًا عَنْ النَّقْضِ بِالِاسْتِقْرَاضِ أَيْضًا، إلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ مُخَالِفًا لِمَا سَيَجِيءُ مِنْ الْمُصَنِّفِ مِنْ أَنَّ التَّوْكِيلَ بِالِاسْتِقْرَاضِ بَاطِلٌ لَمْ يَذْكُرْهُ الشَّارِحُ فِي مَعْرِضِ الْجَوَابِ، وَلَمْ يُجِبْ بِمَا أَجَابَ بِهِ غَيْرُهُ مِنْ الشُّرَّاحِ لِذَلِكَ أَيْضًا انْتَهَى. أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا بِسَدِيدٍ، أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ هَاهُنَا لَا يَكَادُ يَكُونُ جَوَابًا عَنْ النَّقْضِ بِالِاسْتِقْرَاضِ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ هُنَاكَ فِي نَفْسِ التَّوْكِيلِ وَهُوَ بُطْلَانُ الْأَمْرِ بِالتَّصَرُّفِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ، وَالْمَانِعُ هَاهُنَا عَلَى رَأْيِهِ إنَّمَا هُوَ حَقُّ التَّوَكُّلِ وَهُوَ حُرْمَةُ اقْتِرَابِ الْمُسْلِمِ مِنْ الْخَمْرِ فَأَيْنَ هَذَا مِنْ ذَاكَ.

وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ وَلَمْ يُجِبْ بِمَا أَجَابَ بِهِ غَيْرُهُ مِنْ الشُّرَّاحِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مُنَافٍ لِمَا سَيَجِيءُ مِنْ الْمُصَنِّفِ رحمه الله مِنْ أَنَّ التَّوْكِيلَ بِالِاسْتِقْرَاضِ بَاطِلٌ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى الْفَطِنِ، فَلَا وَجْهَ لِدَرْجِ قَوْلِهِ الْمَذْكُورِ فِي حَيِّزِ جَوَابٍ لِمَا فِي قَوْلِهِ إلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ مُخَالِفًا لِمَا سَيَجِيءُ مِنْ الْمُصَنِّفِ إلَخْ. ثُمَّ قَالَ ذَلِكَ الْقَائِلُ: بَقِيَ فِيهِ بَحْثٌ، إذْ التَّوْكِيلُ وَالتَّوَكُّلُ كَالْكَسْرِ وَالِانْكِسَارِ، ثُمَّ لَيْتَ شِعْرِي مَا مَعْنَى جَوَازِهِ انْتَهَى. أَقُولُ: هَذَا سَاقِطٌ جِدًّا، إذْ لَا يَذْهَبُ عَلَى ذِي مُسْكَةٍ أَنَّ الِانْكِسَارَ مُطَاوِعُ الْكَسْرِ فَلَا يَتَحَقَّقُ أَحَدُهُمَا بِدُونِ الْآخَرِ، بِخِلَافِ التَّوْكِيلِ وَالتَّوَكُّلِ، فَإِنَّ التَّوْكِيلَ تَفْوِيضُ الْأَمْرِ إلَى الْغَيْرِ، وَالتَّوَكُّلُ قَبُولُ الْوَكَالَةِ عَلَى مَا صَرَّحُوا بِهِ، وَلَا شَكَّ فِي جَوَازِ تَحَقُّقِ الْأَوَّلِ بِدُونِ الثَّانِي، ثُمَّ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُتَوَهَّمَ لُزُومُ مُطَاوِعٍ لِكُلِّ فِعْلٍ مُتَعَدٍّ، أَلَا يَرَى إلَى صِحَّةِ قَوْلِك خَيَّرْته فَلَمْ يَخْتَرْ، وَصِحَّةُ قَوْلِك نَبَّهْته فَلَمْ يَتَنَبَّهْ وَمَا أَشْبَهَهُمَا، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُك وَكَّلْته فَلَمْ يَتَوَكَّلْ فَلَا إشْكَالَ أَصْلًا.

قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله فِي تَعْلِيلِ جَوَازِ الْوَكَالَةِ فِيمَا ذَكَرَهُ (لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَعْجِزُ عَنْ الْمُبَاشَرَةِ بِنَفْسِهِ عَلَى اعْتِبَارِ بَعْضِ الْأَحْوَالِ) بِأَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ شَيْخًا فَانِيًا أَوْ رَجُلًا ذَا وَجَاهَةٍ لَا يَتَوَلَّى الْأُمُورَ بِنَفْسِهِ (فَيَحْتَاجُ إلَى أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ) فَلَوْ لَمْ يَجُزْ التَّوْكِيلُ لَزِمَ الْحَرَجُ وَهُوَ مُنْتَفٍ بِالنَّصِّ (فَيَكُونُ) أَيْ الْإِنْسَانُ (بِسَبِيلٍ مِنْهُ) أَيْ مِنْ التَّوْكِيلِ (دَفْعًا لِحَاجَتِهِ) وَنَفْيًا لِلْحَرَجِ. وَاعْتُرِضَ عَلَى هَذَا بِأَنَّهُ دَلِيلٌ أَخَصُّ مِنْ الْمَدْلُولِ وَهُوَ جَوَازُ الْوَكَالَةِ فَإِنَّهَا جَائِزَةٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّةَ عَجْزٌ أَصْلًا. وَأُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ بَيَانُ حِكْمَةِ الْحُكْمِ وَهِيَ تُرَاعَى فِي الْجِنْسِ لَا فِي الْأَفْرَادِ. قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ ذِكْرِ ذَلِكَ الِاعْتِرَاضِ مَعَ جَوَابِهِ الْمَزْبُورِ: وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ ذَكَرَ الْخَاصَّ وَأَرَادَ الْعَامَّ، وَهُوَ الْحَاجَةُ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ لِلْعَجْزِ حَاجَةٌ خَاصَّةٌ وَهُوَ مَجَازٌ شَائِعٌ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْمَنَاطُ هُوَ الْحَاجَةُ وَقَدْ تُوجَدُ بِلَا عَجْزٍ انْتَهَى.

أَقُولُ: وُجُودُ الْحَاجَةِ بِدُونِ الْعَجْزِ فِي بَابِ الْوَكَالَةِ مَمْنُوعٌ، فَإِنَّهُمْ صَرَّحُوا وَمِنْهُمْ الشَّارِحُ ابْنُ الْهُمَامِ بِأَنَّ الْوَكَالَةَ أَبَدًا إمَّا لِلْعَجْزِ وَإِمَّا لِلتَّرَفُّهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ لَيْسَ فِي صُورَةِ التَّرَفُّهِ حَاجَةً فَتَأَمَّلْ (وَقَدْ صَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَكَّلَ بِالشِّرَاءِ) أَيْ بِشِرَاءِ الْأُضْحِيَّةِ (حَكِيمَ بْنِ حِزَامٍ) وَيُكَنَّى أَبَا خَالِدٍ. وُلِدَ قَبْلَ الْفِيلِ بِثَلَاثَ عَشَرَةَ سَنَةً أَوْ بِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً عَلَى اخْتِلَافِ الرِّوَايَتَيْنِ، أَسْلَمَ يَوْمَ الْفَتْحِ وَشَهِدَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُسْلِمًا، وَكَانَ مِنْ وُجُوهِ قُرَيْشٍ وَأَشْرَافِهَا، وَعَاشَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ سِتِّينَ سَنَةً وَفِي الْإِسْلَامِ سِتِّينَ سَنَةً، وَمَاتَ بِالْمَدِينَةِ فِي خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ رضي الله عنه سَنَةَ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ وَهُوَ ابْنُ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً، كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ شَاهِينِ فِي كِتَابِ الْمُعْجَمِ.

وَقَالَ الْكَرْخِيُّ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْوَكَالَةِ فِي مُخْتَصَرِهِ: حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى الْجَوْزِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ الدَّوْرَقِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبْزَى عَنْ سُفْيَانَ عَنْ أَبِي حُصَيْنٍ عَنْ شَيْخٍ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ «عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَعْطَاهُ دِينَارًا يَشْتَرِي لَهُ بِهِ أُضْحِيَّةً، فَاشْتَرَى لَهُ أُضْحِيَّةً بِدِينَارٍ فَبَاعَهَا بِدِينَارَيْنِ، ثُمَّ اشْتَرَى أُضْحِيَّةً بِدِينَارٍ فَجَاءَهُ بِدِينَارٍ وَأُضْحِيَّةٍ، فَتَصَدَّقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالدِّينَارِ وَدَعَا لَهُ بِالْبَرَكَةِ» (وَبِالتَّزْوِيجِ عُمَرَ بْنَ أُمِّ سَلَمَةَ) أَيْ وَكَّلَهُ بِتَزْوِيجِ أُمِّهِ أُمِّ سَلَمَةَ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَذَا فِي الشُّرُوحِ. قَالَ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ: وَلَنَا فِي تَوْكِيلِ عُمَرَ بْنِ أُمِّ سَلَمَةَ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَزَوَّجَ أُمَّ سَلَمَةَ بَعْدَ وَقْعَةِ بَدْرٍ فِي سَنَةِ اثْنَتَيْنِ، كَذَا قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَكَانَ عُمَرُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ يَوْمَ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ابْنَ تِسْعِ سِنِينَ، قَالَهُ الْوَاقِدِيُّ. وَيَكُونُ عَلَى هَذَا الْحِسَابِ سِنُّ عُمَرَ بْنِ أُمِّ سَلَمَةَ يَوْمَ تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أُمَّهُ سَنَةً وَاحِدَةً فَكَيْفَ يُوَكِّلُهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ طِفْلٌ لَا يَعْقِلُ؟ انْتَهَى. وَقَدْ سَبَقَهُ إلَى هَذَا النَّظَرِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ حَيْثُ قَالَ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ عُمَرَ بْنَ أُمِّ سَلَمَةَ كَانَ لَهُ مِنْ الْعُمْرِ يَوْمَ تَزَوَّجَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثُ سِنِينَ، وَكَيْفَ يُقَالُ لِمِثْلِ هَذَا زَوْجٌ. بَيَانُهُ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام

ص: 5

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

تَزَوَّجَهَا فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ، وَمَاتَ عليه الصلاة والسلام وَلِعُمَرَ تِسْعُ سِنِينَ انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْهَادِي صَاحِبُ التَّنْقِيحِ: قَوْلُهُ إنَّهُ عليه الصلاة والسلام مَاتَ وَلِعُمَرَ تِسْعُ سِنِينَ بَعِيدٌ وَإِنْ كَانَ قَدْ قَالَهُ الْكَلَابَاذِيُّ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ: قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: إنَّهُ وُلِدَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ الْهِجْرَةِ إلَى الْحَبَشَةِ. وَيُقَوِّي هَذَا مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ «عَنْ عُمَرَ بْنِ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْقُبْلَةِ لِلصَّائِمِ فَقَالَ عليه الصلاة والسلام: سَلْ هَذِهِ، فَأَخْبَرَتْهُ أُمُّهُ أُمُّ سَلَمَةَ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام يَصْنَعُ ذَلِكَ، فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَك مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِك وَمَا تَأَخَّرَ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: أَمَا وَاَللَّهِ إنِّي لَأَتْقَاكُمْ لِلَّهِ تَعَالَى وَأَخْشَاكُمْ» وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ كَانَ كَبِيرًا.

وَأَقُولُ: ظَاهِرُ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ رحمه الله وَقَدْ صَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَكَّلَ إلَخْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ ذِكْرُ الدَّلِيلِ النَّقْلِيِّ عَلَى قَوْلِهِ كُلُّ عَقْدٍ جَازَ أَنْ يَعْقِدَهُ الْإِنْسَانُ بِنَفْسِهِ جَازَ أَنْ يُوَكِّلَ بِهِ غَيْرَهُ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ دَلِيلًا عَقْلِيًّا عَلَيْهِ، فَيُتَّجَهُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ تَوْكِيلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَادَّتَيْنِ الْمَخْصُوصَتَيْنِ لَا يَدُلُّ عَلَى مَا فِي الدَّعْوَى الْمَذْكُورَةِ مِنْ الْكُلِّيَّةِ، فَلَعَلَّ الْوَجْهَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ مُجَرَّدَ تَأْيِيدِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ التَّعْلِيلِ الْعَقْلِيِّ الَّذِي مَبْنَاهُ دَفْعُ الْحَاجَةِ بِوُقُوعِ التَّوْكِيلِ عِنْدَ الْحَاجَةِ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَا إقَامَةُ دَلِيلٍ مُسْتَقِلٍّ عَلَى دَعْوَى الْكُلِّيَّةِ السَّابِقَةِ، وَكَأَنَّهُ عَنْ هَذَا قَالَ: وَقَدْ صَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَكَّلَ إلَخْ، وَلَمْ يَقُلْ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَكَّلَ إلَخْ

(قَالَ) أَيْ الْقُدُورِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي مُخْتَصَرِهِ: (وَتَجُوزُ الْوَكَالَةُ بِالْخُصُومَةِ فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ) أَيْ فِي جَمِيعِهَا (لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ الْحَاجَةِ) يُشِيرُ إلَى قَوْلِهِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَعْجِزُ عَنْ الْمُبَاشَرَةِ بِنَفْسِهِ عَلَى اعْتِبَارِ بَعْضِ الْأَحْوَالِ فَيَحْتَاجُ إلَى أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ (إذْ لَيْسَ كُلُّ أَحَدٍ يَهْتَدِي إلَى وُجُوهِ الْخُصُومَاتِ) تَعْلِيلٌ لِجَرَيَانِ مَا قَدَّمَهُ هَاهُنَا. قَالَ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ: أَمَّا التَّوْكِيلُ بِالْخُصُومَةِ فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ فَإِنَّمَا جَازَ لِمَا رَوَيْنَا قَبْلَ هَذَا «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَكَّلَ فِي الشِّرَاءِ» ، فَإِذَا جَازَ التَّوْكِيلُ فِيهِ جَازَ فِي غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ كُلَّ عَقْدٍ يَجُوزُ أَنْ يَتَوَلَّاهُ الْمُوَكِّلُ بِنَفْسِهِ جَازَ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ كَالْبَيْعِ، وَلِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَعْجِزُ عَنْ الْمُبَاشَرَةِ بِنَفْسِهِ فَجَازَ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ لِمَا قَدَّمْنَا انْتَهَى. أَقُولُ: تَعْلِيلُهُ الثَّانِي الَّذِي هُوَ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ رحمه الله بِقَوْلِهِ لِمَا قَدَّمْنَا صَحِيحٌ لَا رَيْبَ فِيهِ، وَأَمَّا تَعْلِيلُهُ الْأَوَّلُ فَغَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ هَاهُنَا فِي التَّوْكِيلِ بِالْخُصُومَاتِ لَا فِي التَّوْكِيلِ فِي الْعُقُودِ، وَمَا ذَكَرَهُ فِي تَعْلِيلِهِ الْأَوَّلِ إنَّمَا يَتَمَشَّى فِي الْعُقُودِ دُونَ الْخُصُومَاتِ، وَلِذَلِكَ قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله (وَقَدْ صَحَّ أَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَكَّلَ عَقِيلًا) أَيْ وَكَّلَهُ فِي الْخُصُومَاتِ، وَإِنَّمَا كَانَ يَخْتَارُ عَقِيلًا؛ لِأَنَّهُ كَانَ ذَكِيًّا حَاضِرَ الْجَوَابِ؛ حَتَّى حُكِيَ أَنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه اسْتَقْبَلَهُ يَوْمًا وَمَعَهُ عَنْزٌ فَقَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه عَلَى سَبِيلِ الدُّعَابَةِ أَحَدُ الثَّلَاثَةِ أَحْمَقُ، فَقَالَ عَقِيلٌ: أَمَّا أَنَا وَعَنْزِي فَعَاقِلَانِ (وَبَعْدَمَا أَسَنَّ عَقِيلٌ وَكَّلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ) الطَّيَّارَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، إمَّا؛ لِأَنَّهُ وَقَّرَ عَقِيلًا رضي الله عنه لِكِبَرِ سِنِّهِ، أَوْ لِأَنَّهُ انْتَقَصَ ذِهْنَهُ فَوَكَّلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ رضي الله عنه وَكَانَ شَابًّا ذَكِيًّا، كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ.

أَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ: كَانَ عَلِيٌّ رضي الله عنه يَكْرَهُ الْخُصُومَةَ، وَكَانَ إذَا كَانَتْ لَهُ خُصُومَةٌ وَكَّلَ فِيهَا عَقِيلَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ فَلَمَّا كَبِرَ عَقِيلٌ وَكَّلَنِي. وَأُخْرِجَ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه أَنَّهُ كَانَ وَكَّلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ بِالْخُصُومَةِ. وَقَالَ الْخَصَّافُ فِي أَدَبِ الْقَاضِي: حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ أَسَدٍ الْخُرَاسَانِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ جَهْمِ بْنِ أَبِي الْجَهْمِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ أَنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه كَانَ لَا يَحْضُرُ الْخُصُومَةَ وَكَانَ يَقُولُ: إنَّ لَهَا قُحَمًا تَحْضُرُهَا الشَّيَاطِينُ، فَجَعَلَ عَلِيٌّ رضي الله عنه الْخُصُومَةَ إلَى عَقِيلٍ، فَلَمَّا كَبِرَ وَرَقَّ حَوَّلَهَا إلَيَّ، فَكَانَ عَلِيٌّ رضي الله عنه يَقُولُ: مَا قُضِيَ لِوَكِيلِي فَلِي وَمَا قُضِيَ عَلَى وَكِيلِي فَعَلَيَّ انْتَهَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْفَائِقِ: إنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه وَكَّلَ أَخَاهُ عَقِيلًا بِالْخُصُومَةِ، ثُمَّ وَكَّلَ بَعْدَهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ رضي الله عنه، وَكَانَ لَا يَحْضُرُ الْخُصُومَةَ وَيَقُولُ: إنَّ لَهَا لَقُحَمًا، وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ تَحْضُرُهَا: أَيْ مَهَالِكَ وَشَدَائِدَ. وَقُحَمُ الطَّرِيقِ مَا صَعُبَ مِنْهُ وَشَقَّ عَلَى سَالِكِهِ انْتَهَى. وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ التَّوْكِيلِ بِالْخُصُومَةِ. وَفِيهِ دَلِيلٌ أَيْضًا عَلَى أَنْ لَا يَحْضُرَ مَجْلِسَ الْخُصُومَةِ بِنَفْسِهِ، وَهُوَ مَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ لِصُنْعِ عَلِيٍّ رضي الله عنه.

وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْأَوْلَى أَنْ يَحْضُرَ بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّ الِامْتِنَاعَ مِنْ الْحُضُورِ إلَى مَجْلِسِ الْقَاضِي مِنْ عَلَامَاتِ الْمُنَافِقِينَ، وَقَدْ وَرَدَ الذَّمُّ عَلَى ذَلِكَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ} ، {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} وَجَوَابُهُ أَنَّ تَأْوِيلَ الْآيَةِ الرَّدُّ مِنْ الْمُنَافِقِ وَالْإِجَابَةُ مِنْ الْمُؤْمِنِ اعْتِقَادًا، كَذَا فِي شَرْحِ أَدَبِ الْقَاضِي. وَذُكِرَ فِي

ص: 6

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

غَايَةِ الْبَيَانِ

(وَكَذَا بِإِيفَائِهَا وَاسْتِيفَائِهَا) أَيْ وَكَذَا تَجُوزُ الْوَكَالَةُ بِإِيفَاءِ الْحُقُوقِ وَاسْتِيفَائِهَا لِمَا مَرَّ مِنْ دَفْعِ الْحَاجَةِ (إلَّا فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ فَإِنَّ الْوَكَالَةَ لَا تَصِحُّ بِاسْتِيفَائِهَا) أَيْ بِاسْتِيفَاءِ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ (مَعَ غَيْبَةِ الْمُوَكِّلِ عَنْ الْمَجْلِسِ) وَأَمَّا الْوَكَالَةُ بِإِيفَاءِ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ فَعَدَمُ صِحَّتِهَا مُطْلَقًا: أَيْ مَعَ غَيْبَةِ الْمُوَكِّلِ وَمَعَ حُضُورِهِ أَمْرٌ بَيِّنٌ؛ لِأَنَّ إيفَاءَهَا إنَّمَا يَكُونُ بِتَسْلِيمِ النَّفْسِ أَوْ الْبَدَنِ لِإِقَامَةِ الْعُقُوبَةِ الْوَاجِبَةِ، وَهَذَا لَا يَصِحُّ إلَّا مِنْ الْجَانِي، إذْ إقَامَةُ الْعُقُوبَةِ عَلَى غَيْرِ الْجَانِي ظُلْمٌ صَرِيحٌ. فَلِذَلِكَ اكْتَفَى الْمُصَنِّفُ رحمه الله بِنَفْيِ صِحَّةِ الْوَكَالَةِ بِاسْتِيفَائِهَا مَعَ غَيْبَةِ الْمُوَكِّلِ، وَقَالَ فِي تَعْلِيلِهِ (لِأَنَّهَا) أَيْ الْحُدُودَ وَالْقِصَاصَ (تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ) فَلَا تُسْتَوْفَى بِمَنْ يَقُومُ مَقَامَ الْغَيْرِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ ضَرْبِ شُبْهَةٍ كَمَا فِي كِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي وَالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ وَشَهَادَةِ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ (وَشُبْهَةُ الْعَفْوِ ثَابِتَةٌ حَالَ غَيْبَتِهِ) أَيْ غَيْبَةِ الْمُوَكِّلِ، وَهَذَا الْوَجْهُ مَخْصُوصٌ بِالْقِصَاصِ، إذْ الْحُدُودُ لَا يُعْفَى عَنْهَا، فَالْمُرَادُ أَنَّ فِي الْقِصَاصِ ثُبُوتَ شُبْهَةٍ أُخْرَى حَالَ غَيْبَةِ الْمُوَكِّلِ وَهِيَ شُبْهَةُ الْعَفْوِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمُوَكِّلُ قَدْ عَفَا وَلَمْ يَشْعُرْ بِهِ الْوَكِيلُ (بَلْ هُوَ الظَّاهِرُ) أَيْ بَلْ الْعَفْوُ هُوَ الظَّاهِرُ (لِلنَّدْبِ الشَّرْعِيِّ) لِقَوْلِهِ {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} وَفِي الْقِصَاصِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ رحمه الله فَإِنَّهُ يَقُولُ: هُوَ خَالِصُ حَقِّ الْعَبْدِ فَيُسْتَوْفَى بِالتَّوْكِيلِ كَسَائِرِ حُقُوقِهِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: هَذِهِ عُقُوبَةٌ تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ، بِخِلَافِ سَائِرِ حُقُوقِهِ فَافْتَرَقَا (بِخِلَافِ غَيْبَةِ الشَّاهِدِ) حَيْثُ يَسْتَوْفِيَ الْحُدُودَ وَالْقِصَاصَ عِنْدَ غَيْبَتِهِ (لِأَنَّ الظَّاهِرَ عَدَمُ الرُّجُوعِ) يَعْنِي أَنَّ الشُّبْهَةَ فِي حَقِّ الشَّاهِدِ هِيَ الرُّجُوعُ وَالظَّاهِرُ فِي حَقِّهِ عَدَمُ الرُّجُوعِ، إذْ الصِّدْقُ هُوَ الْأَصْلُ لَا سِيَّمَا فِي الْعُدُولِ فَلَمْ يَعْتَبِرْ مِثْلَ هَاتَيْكَ الشُّبْهَةِ.

أَقُولُ: يُرَدُّ عَلَيْهِ أَنَّ الرَّجْمَ مِنْ الْحُدُودِ وَلَا يُسْتَوْفَى عِنْدَ غَيْبَةِ الشُّهُودِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ كَمَا مَرَّ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ، وَيَقْتَضِي ذَلِكَ اعْتِبَارَ شُبْهَةِ الرُّجُوعِ فِي حَقِّ الشُّهُودِ هُنَاكَ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُقَالَ: عَدَمُ اسْتِيفَاءِ الْحَدِّ إذْ ذَاكَ لِفَوَاتِ الشَّرْطِ وَهُوَ بُدَاءَةُ الشُّهُودِ بِالرَّجْمِ لَا بِمُجَرَّدِ شُبْهَةِ الرُّجُوعِ فَتَأَمَّلْ (وَبِخِلَافِ حَالَةِ الْحَضْرَةِ) أَيْ حَضْرَةِ الْمُوَكِّلِ فِي الْمَجْلِسِ حَيْثُ يُسْتَوْفَى ذَلِكَ عِنْدَهَا (لِانْتِفَاءِ هَذِهِ الشُّبْهَةِ) أَيْ شُبْهَةِ الْعَفْوِ، فَإِنَّ الْعَفْوَ عِنْدَ حُضُورِ الْمُوَكِّلِ مِمَّا لَا يَخْفَى فَلَا شُبْهَةَ، أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ إنَّ انْتِفَاءَ الشُّبْهَةِ الْمُعَيَّنَةِ لَا يَقْتَضِي انْتِفَاءَ الشُّبْهَةِ مُطْلَقًا، وَالْحُدُودُ وَالْقِصَاصُ تَنْدَرِئُ بِمُطْلَقِ الشُّبُهَاتِ فَلَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ عَلَى أَنَّ شُبْهَةَ الْعَفْوِ مَخْصُوصَةٌ بِالْقِصَاصِ، فَلَمْ يَظْهَرْ الْفَرْقُ بَيْنَ الْحَضْرَةِ وَالْغَيْبَةِ فِي اسْتِيفَاءِ الْحُدُودِ أَصْلًا. وَلَمَا اُسْتُشْعِرَ أَنْ يُقَالَ إذَا كَانَ الْمُوَكِّلُ حَاضِرًا لَمْ يَحْتَجْ إلَى التَّوْكِيلِ بِالِاسْتِيفَاءِ رَأْسًا إذْ هُوَ يَسْتَوْفِيهِ بِنَفْسِهِ أَجَابَ بِقَوْلِهِ (وَلَيْسَ كُلُّ أَحَدٍ يُحْسِنُ الِاسْتِيفَاءَ) إمَّا لِقِلَّةِ هِدَايَتِهِ، أَوْ لِأَنَّ قَلْبَهُ لَا يَتَحَمَّلُ ذَلِكَ (فَلَوْ مُنِعَ عَنْهُ) أَيْ عَنْ التَّوْكِيلِ بِالِاسْتِيفَاءِ (يَنْسَدُّ بَابُ الِاسْتِيفَاءِ أَصْلًا) أَيْ يَنْسَدُّ بَابُهُ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ بِالْكُلِّيَّةِ فَجَازَ التَّوْكِيلُ بِالِاسْتِيفَاءِ عِنْدَ حُضُورِهِ اسْتِحْسَانًا لِئَلَّا يَنْسَدَّ بَابُهُ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله (وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله) وَقَالَ جُمْهُورُ الشُّرَّاحِ فِي تَفْسِيرِ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ: هَذَا أَيْ جَوَازُ التَّوْكِيلِ بِإِثْبَاتِ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله. وَقَالُوا فِي تَوْجِيهِ تَفْسِيرِهِمْ إيَّاهُ بِهَذَا الْمَعْنَى: لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ وَتَجُوزُ الْوَكَالَةُ بِالْخُصُومَةِ فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ: أَيْ جَمِيعِهَا وَبِإِيفَائِهَا وَاسْتِيفَائِهَا، وَاسْتَثْنَى إيفَاءَ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ وَاسْتِيفَاءَهَا بَقِيَتْ الْخُصُومَةُ بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ دَاخِلَةً فِي قَوْلِهِ بِالْخُصُومَةِ فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ فَقَالَ: هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله. أَقُولُ: لَا يَذْهَبُ عَلَى ذِي فِطْرَةٍ سَلِيمَةٍ أَنَّ هَذَا الَّذِي ارْتَكَبُوهُ فِي حِلِّ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ رحمه الله هَاهُنَا تَكَلُّفٌ بَارِدٌ وَتَعَسُّفٌ شَارِدٌ، حَيْثُ جَعَلُوا الْبَعْضَ الْغَيْرَ الْمُعَيَّنَ فِي الْكَلَامِ السَّابِقِ بَلْ الدَّاخِلَ فِي مُجَرَّدِ كُلِّيَّتِهِ مُشَارًا إلَيْهِ بِلَفْظِ هَذَا الَّذِي يُشَارُ بِهِ إلَى الْمَحْسُوسِ الْمُشَاهَدِ، أَوْ إلَى مَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمَحْسُوسِ الْمُشَاهَدِ. ثُمَّ إنَّ هَاهُنَا لَمَنْدُوحَةٌ عَنْ ذَلِكَ بِحَمْلِ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ رحمه الله عَلَى مَعْنًى ظَاهِرٍ مِنْهُ، وَهُوَ أَنَّ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ صَرِيحًا فِيمَا مَرَّ آنِفًا مِنْ قَوْلِنَا وَتَجُوزُ الْوَكَالَةُ بِالْخُصُومَةِ فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله.

(وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رحمه الله: لَا تَجُوزُ الْوَكَالَةُ بِإِثْبَاتِ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ بِإِقَامَةِ الشُّهُودِ أَيْضًا) أَيْ قَالَ أَبُو يُوسُفَ رحمه الله: لَا تَجُوزُ الْوَكَالَةُ بِالْخُصُومَةِ فِي بَعْضٍ مِنْ تِلْكَ الْحُقُوقِ وَهُوَ إثْبَاتُ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ أَيْضًا: أَيْ كَمَا لَا تَجُوزُ الْوَكَالَةُ بِإِيفَاءِ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ وَاسْتِيفَائِهَا بِالِاتِّفَاقِ. (وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى، وَقِيلَ مَعَ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله) يَعْنِي أَنَّ قَوْلَ مُحَمَّدٍ مُضْطَرِبٌ يُذْكَرُ تَارَةً مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ وَتَارَةً مَعَ أَبِي يُوسُفَ، وَلَكِنَّ الظَّاهِرَ مِنْ تَحْرِيرِ الْمُصَنِّفِ تَرْجِيحُ الْأَوَّلِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى الْفَطِنِ. قَالَ فِي الْكَافِي بَعْدَ قَوْلِهِ وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ مُضْطَرِبٌ: وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ (وَقِيلَ هَذَا الِاخْتِلَافُ) بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ (فِي غَيْبَتِهِ) أَيْ

ص: 7

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

غَيْبَةِ الْمُوَكِّلِ (دُونَ حَضْرَتِهِ) أَيْ هُوَ جَائِزٌ فِي حَضْرَتِهِ بِالِاتِّفَاقِ (لِأَنَّ كَلَامَ الْوَكِيلِ يَنْتَقِلُ إلَى الْمُوَكِّلِ عِنْدَ حُضُورِهِ) فَصَارَ كَأَنَّهُ مُتَكَلِّمٌ بِنَفْسِهِ. (لَهُ) أَيْ لِأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - (أَنَّ التَّوْكِيلَ إنَابَةٌ) وَالْإِنَابَةُ فِيهَا شُبْهَةٌ لَا مَحَالَةَ (وَشُبْهَةُ النِّيَابَةِ يُتَحَرَّزُ عَنْهَا فِي هَذَا الْبَابِ) أَيْ فِي بَابِ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ (كَمَا فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ) أَيْ كَالشُّبْهَةِ الَّتِي فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ حَتَّى لَا يَثْبُتَ بِهَا الْحُدُودُ وَالْقِصَاصُ بِالِاتِّفَاقِ، كَمَا لَا يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ وَلَا بِكِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي (وَكَمَا فِي الِاسْتِيفَاءِ) أَيْ وَكَالشُّبْهَةِ الَّتِي فِي التَّوْكِيلِ بِاسْتِيفَاءِ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ عِنْدَ غَيْبَةِ الْمُوَكِّلِ فَإِنَّهَا مَانِعَةٌ لِصِحَّةِ التَّوْكِيلِ بِالِاتِّفَاقِ (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّ الْخُصُومَةَ شَرْطٌ مَحْضٌ) أَيْ لَا حَظَّ لَهَا فِي الْوُجُوبِ وَلَا فِي الظُّهُورِ (لِأَنَّ الْوُجُوبَ مُضَافٌ إلَى الْجِنَايَةِ وَالظُّهُورَ إلَى الشَّهَادَةِ) وَالشَّرْطُ الْمَحْضُ حَقٌّ مِنْ الْحُقُوقِ يَجُوزُ لِلْمُوَكِّلِ مُبَاشَرَتُهُ بِنَفْسِهِ (فَيَجْرِي فِيهِ التَّوْكِيلُ كَمَا فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ) أَيْ بَاقِيهَا لِقِيَامِ الْمُقْتَضَى وَانْتِفَاءِ الْمَانِعِ. لَا يُقَالُ: الْمَانِعُ مَوْجُودٌ وَهُوَ الشُّبْهَةُ كَمَا فِي الِاسْتِيفَاءِ وَالشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ عَلَى مَا مَرَّ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: الشُّبْهَةُ فِي الشَّرْطِ لَا تَصْلُحُ لِلْمَنْعِ، إذْ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْوُجُوبُ وَلَا الْوُجُودُ وَلَا الظُّهُورُ، بِخِلَافِ الِاسْتِيفَاءِ فَإِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهِ الْوُجُودُ بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ فَإِنَّهَا يَتَعَلَّقُ بِهَا الظُّهُورُ (وَعَلَى هَذَا خِلَافُ) الْمَذْكُورِ

(التَّوْكِيلُ بِالْجَوَابِ مِنْ جَانِبِ مَنْ عَلَيْهِ) أَيْ مِنْ جِهَةِ مَنْ عَلَيْهِ (الْحَدُّ) أَوْ الْقِصَاصُ؛ فَأَجَازَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَنَعَهُ أَبُو يُوسُفَ وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ مُضْطَرِبٌ. قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَكَلَامُ أَبِي حَنِيفَةَ فِيهِ) أَيْ فِي التَّوْكِيلِ بِالْجَوَابِ (أَظْهَرُ؛ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ لَا تَمْنَعُ الدَّفْعَ) يَعْنِي أَنَّ التَّوْكِيلَ بِالْجَوَابِ إنَّمَا يَكُونُ لِلدَّفْعِ، وَدَفْعُ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ يَثْبُتُ بِالشُّبُهَاتِ حَتَّى يَثْبُتَ الْعَفْوُ عَنْ الْقِصَاصِ بِالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ وَبِشَهَادَةِ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ، فَالشُّبْهَةُ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي دَلِيلِ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهَا مُعْتَبَرَةً لَا تُمْنَعُ هَاهُنَا (غَيْرَ أَنَّ إقْرَارَ الْوَكِيلِ غَيْرُ مَقْبُولٍ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى مُوَكِّلِهِ: يَعْنِي لَوْ أَقَرَّ الْوَكِيلُ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ بِوُجُوبِ الْحَدِّ وَالْقِصَاصِ عَلَى مُوَكِّلِهِ لَمْ يُقْبَلْ إقْرَارُهُ اسْتِحْسَانًا (لِمَا فِيهِ) أَيْ لِمَا فِي إقْرَارِهِ (مِنْ شُبْهَةِ عَدَمِ الْأَمْرِ بِهِ) فَلَمْ يُعْتَبَرْ فِيمَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ. وَالْقِيَاسُ أَنْ يُقْبَلَ إقْرَارُهُ لِقِيَامِهِ مَقَامَ مُوَكِّلِهِ بَعْدَ صِحَّةِ التَّوْكِيلِ كَمَا فِي الْإِقْرَارِ بِسَائِرِ الْحُقُوقِ. وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ رحمه الله. وَتَوْضِيحُهُ أَنَّا حَمَلْنَا التَّوْكِيلَ بِالْخُصُومَةِ عَلَى الْجَوَابِ؛ لِأَنَّ جَوَابَ الْخَصْمِ مِنْ الْخُصُومَةِ، وَلَكِنَّ هَذَا نَوْعٌ مِنْ الْمَجَازِ، فَأَمَّا فِي الْحَقِيقَةِ فَالْإِقْرَارُ ضِدُّ الْخُصُومَةِ، وَالْمَجَازِ وَإِنْ اُعْتُبِرَ لِقِيَامِ الدَّلِيلِ فَالْحَقِيقَةُ شُبْهَةٌ مُعْتَبَرَةٌ فِيمَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ دُونَ مَا يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ. كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ، وَذُكِرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ الشُّرُوحِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ جَوَازَ التَّوْكِيلِ بِإِثْبَاتِ الْحُدُودِ عِنْدَ مَنْ جَوَّزَهُ إنَّمَا هُوَ فِي حَدِّ الْقَذْفِ وَحْدِ السَّرِقَةِ. وَأَمَّا التَّوْكِيلُ بِإِثْبَاتِ حَدِّ الزِّنَا وَحَدِّ الشُّرْبِ فَلَا يَصِحُّ اتِّفَاقًا؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ فِيهِمَا لِأَحَدٍ مِنْ الْعِبَادِ، وَإِنَّمَا تُقَامُ الْبَيِّنَةُ عَلَى وَجْهِ الْحِسْبَةِ، فَإِذَا كَانَ أَجْنَبِيًّا عَنْهُ لَا يَصِحُّ تَوْكِيلُهُ بِهِ، نُصَّ عَلَيْهِ فِي الْكَافِي وَالتَّبْيِينِ

(وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِالْخُصُومَةِ) سَوَاءٌ كَانَ التَّوْكِيلُ مِنْ قِبَلِ الطَّالِبِ أَوْ مِنْ قِبَلِ الْمَطْلُوبِ (بِغَيْرِ رِضَا الْخَصْمِ) وَيَسْتَوِي فِيهِ الشَّرِيفُ وَالْوَضِيعُ وَالرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ وَالْبِكْرُ وَالثَّيِّبُ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ وَالْفَتَاوَى (إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُوَكِّلُ مَرِيضًا أَوْ غَائِبًا مَسِيرَةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَصَاعِدًا) يَعْنِي إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُوَكِّلُ مَعْذُورًا بِعُذْرِ الْمَرَضِ أَوْ السَّفَرِ فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِالْخُصُومَةِ بِدُونِ رِضَا الْخَصْمِ عِنْدَهُ أَيْضًا (وَقَالَا) أَيْ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ (يَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِغَيْرِ رِضَا الْخَصْمِ) أَيْ يَجُوزُ ذَلِكَ عِنْدَهُمَا فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ سَوَاءٌ رَضِيَ الْخَصْمُ أَمْ لَا، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمُوَكِّلُ مَعْذُورًا أَمْ لَا، وَكَانَ أَبُو يُوسُفَ يَقُولُ: أَوْ لَا يُقْبَلُ ذَلِكَ مِنْ النِّسَاءِ دُونَ الرِّجَالِ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ وَقَالَ: يُقْبَلُ مِنْ النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ جَمِيعًا (وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رحمه الله) أَيْضًا، وَفِي الْخُلَاصَةِ: وَالْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ يُفْتِي بِقَوْلِهِمَا.

وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ. وَبِهِ أَخَذَ أَبُو الْقَاسِمِ الصَّفَّارُ. وَقَالَ: شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ: الصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّ الْقَاضِيَ إذَا عَلِمَ بِالْمُدَّعِي التَّعَنُّتَ فِي إبَاءِ الْوَكِيلِ يَقْبَلُ التَّوْكِيلَ وَلَا يَلْتَفِتُ إلَيْهِ، وَإِنْ عَلِمَ مِنْ الْمُوَكِّلِ الْقَصْدَ إلَى الْإِضْرَارِ بِالْمُدَّعِي لِيَشْتَغِلَ الْوَكِيلُ بِالْحِيَلِ وَالْأَبَاطِيلِ وَالتَّلْبِيسِ لَا يَقْبَلُ مِنْهُ التَّوْكِيلَ.

وَذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيُّ أَنَّ ذَلِكَ يُفَوَّضُ إلَى رَأْيِ الْقَاضِي، وَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ الْأَوَّلِ انْتَهَى. قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله (وَلَا خِلَافَ فِي الْجَوَازِ) أَيْ لَا خِلَافَ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَبَيْنَ صَاحِبَيْهِ وَالشَّافِعِيِّ رحمهم الله فِي الْجَوَازِ، حَتَّى إذَا وَكَّلَ فَرَضِيَ الْخَصْمُ لَا يَحْتَاجُ فِي سَمَاعِ خُصُومَةِ الْوَكِيلِ إلَى تَجْدِيدِ وَكَالَةٍ (إنَّمَا الْخِلَافُ فِي اللُّزُومِ) مَعْنَاهُ إذَا وَكَّلَ مِنْ غَيْرِ رِضَا الْخَصْمِ هَلْ يَرْتَدُّ بِرَدِّهِ أَمْ لَا؟ عِنْدَهُ يَرْتَدُّ خِلَافًا لَهُمْ، فَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ يَكُونُ مَعْنَى قَوْلِ الْقُدُورِيِّ. قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِالْخُصُومَةِ إلَّا

ص: 8

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

بِرِضَا الْخَصْمِ: أَيْ لَا يَلْزَمُ ذِكْرُ الْجَوَازِ، وَأَرَادَ اللُّزُومَ؛ لِأَنَّ الْجَوَازَ مِنْ لَوَازِمِ اللُّزُومِ فَيَجُوزُ ذِكْرُ اللَّازِمِ وَإِرَادَةُ الْمَلْزُومِ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ. وَقَدْ تَصَرَّفَ فِيهِ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ تَحْرِيرًا وَإِيرَادًا حَيْثُ قَالَ: فَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَوْلُهُ لَا يَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِالْخُصُومَةِ إلَّا بِرِضَا الْخَصْمِ مَجَازًا لِقَوْلِهِ وَلَا يَلْزَمُ ذِكْرُ الْجَوَازِ، وَأَرَادَ اللُّزُومَ فَإِنَّ الْجَوَازَ لَازِمُ اللُّزُومِ فَيَكُونُ مِنْ ذِكْرِ اللَّازِمِ وَإِرَادَةِ الْمَلْزُومِ، وَقَالَ: فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْجَوَازَ لَازِمُ اللُّزُومِ عُرِفَ ذَلِكَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ. سَلَّمْنَا لَكِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمَجَازٍ انْتَهَى.

أَقُولُ: الظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَهُ بِقَوْلِهِ لَكِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمَجَازٍ الرَّدُّ عَلَى قَوْلِهِ مَجَازًا بِأَنَّ مَا ذَكَرَهُ لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ الْمَجَازِ بَلْ هُوَ مِنْ قَبِيلِ الْكِنَايَةِ بِنَاءً عَلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْكَاكِيُّ مِنْ أَنَّ الِانْتِقَالَ فِي الْمَجَازِ مِنْ الْمَلْزُومِ إلَى اللَّازِمِ، وَفِي الْكِنَايَةِ مِنْ اللَّازِمِ إلَى الْمَلْزُومِ لَكِنَّهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ. أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ لَفْظَ الْمَجَازِ لَمْ يُذْكَرْ فِي تَحْرِيرِ غَيْرِهِ مِنْ الشُّرَّاحِ وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ صِحَّةُ التَّأْوِيلِ الْمَذْكُورِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ سَوَاءٌ كَانَ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ أَوْ بِطَرِيقِ الْكِنَايَةِ فَكَانَ مَدَارُ رَدِّهِ الْمَزْبُورَ عَلَى لَفْظٍ زَادَهُ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ فِي بَيَانِ التَّأْوِيلِ الْمَذْكُورِ. وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّهُمْ حَقَّقُوا أَنَّ الِانْتِقَالَ فِي الْمَجَازِ وَالْكِنَايَةِ كِلَيْهِمَا مِنْ الْمَلْزُومِ إلَى اللَّازِمِ. وَرَدُّوا مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْكَاكِيُّ بِأَنَّ اللَّازِمَ مَا لَمْ يَكُنْ مَلْزُومًا لَمْ يُنْتَقَلْ مِنْهُ إلَى الْمَلْزُومِ، وَجَعَلُوا الْعُمْدَةَ فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا جَوَازَ إرَادَةِ الْمَعْنَى الْمَوْضُوعِ لَهُ وَعَدَمَ جَوَازِهَا، فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ لَفْظُ يَجُوزُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ مَجَازًا عَنْ مَعْنًى يَلْزَمُ بِلَا مَحْذُورٍ أَصْلًا.

ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَالْحَقُّ أَنَّ قَوْلَهُ لَا يَجُوزُ لَهُ التَّوْكِيلُ بِالْخُصُومَةِ إلَّا بِرِضَا الْخَصْمِ فِي قُوَّةِ قَوْلِنَا: التَّوْكِيلُ بِالْخُصُومَةِ غَيْرُ لَازِمٍ، بَلْ إنْ رَضِيَ بِهِ الْخَصْمُ وَإِلَّا فَلَا فَلَا حَاجَةَ إلَى قَوْلِهِ وَلَا خِلَافَ فِي الْجَوَازِ وَإِلَى التَّوْجِيهِ بِجَعْلِهِ مَجَازًا انْتَهَى. أَقُولُ: لَا يَخْفَى عَلَى الْفَطِنِ أَنَّ هَذَا كَلَامٌ خَالٍ عَنْ التَّحْصِيلِ؛ لِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ إنَّ قَوْلَهُ لَا يَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِالْخُصُومَةِ إلَّا بِرِضَا الْخَصْمِ فِي قُوَّةِ قَوْلِنَا التَّوْكِيلُ بِالْخُصُومَةِ غَيْرُ لَازِمٍ أَنَّ مَعْنَى الْأَوَّلِ مِنْ حَيْثُ الْحَقِيقَةُ هُوَ مَعْنَى الثَّانِي بِعَيْنِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ إذْ لَا شَكَّ أَنَّ مَعْنَى الْجَوَازِ مِنْ حَيْثُ الْحَقِيقَةُ يُغَايِرُ مَعْنَى اللُّزُومِ، فَنَفْيُ الْأَوَّلِ يُغَايِرُ نَفْيَ الثَّانِي قَطْعًا، وَإِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ الثَّانِيَ هُوَ الْمُرَادُ مِنْ الْأَوَّلِ مَجَازًا أَوْ كِنَايَةً فَلَا وَجْهَ لِقَوْلِهِ فَلَا حَاجَةَ إلَى قَوْلِهِ وَلَا خِلَافَ فِي الْجَوَازِ، فَإِنَّ الْمُتَبَادَرَ مِنْ الْأَلْفَاظِ مَعَانِيهَا الْحَقِيقِيَّةُ فَيَتَبَادَرُ إلَى ذِهْنِ النَّاظِرِ فِي مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ أَنْ يَكُونَ الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ فِي نَفْسِ الْجَوَازِ، فَدَفَعَ الْمُصَنِّفُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ وَلَا خِلَافَ فِي الْجَوَازِ إنَّمَا الْخِلَافُ فِي اللُّزُومِ فَهَذَا الْكَلَامُ لَا غُبَارَ عَلَيْهِ. ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الْمُصَنِّفَ رحمه الله لَيْسَ بِأَوَّلِ مَنْ حَمَلَ الْخِلَافَ الْمَذْكُورَ عَلَى اللُّزُومِ، بَلْ سَبَقَهُ إلَى ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ الْمَشَايِخِ مِنْهُمْ الْإِمَامُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ حَيْثُ قَالَ فِي شَرْحِ أَدَبِ الْقَاضِي: إنَّ التَّوْكِيلَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بِغَيْرِ رِضَا الْخَصْمِ صَحِيحٌ، وَلَكِنَّ لِلْخَصْمِ أَنْ يُطَالِبَ الْمُوَكِّلَ بِأَنْ يَحْضُرَ بِنَفْسِهِ وَيُجِيبَ، وَمِنْهُمْ الْإِمَامُ عَلَاءُ الدِّينِ الْعَالِمُ حَيْثُ قَالَ فِي طَرِيقَةِ الْخِلَافِ: التَّوْكِيلُ بِغَيْرِ رِضَا الْخَصْمِ لَا يَقَعُ لَازِمًا. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ رحمهم الله: يَقَعُ لَازِمًا. وَذُكِرَ فِي الْمُحِيطِ الْبُرْهَانِيِّ أَنَّ رِضَا الْخَصْمِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ التَّوْكِيلِ وَلُزُومِهِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ.

وَقَدْ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ. بَعْضُهُمْ قَالُوا: رِضَا الْخَصْمِ عِنْدَهُ لَيْسَ بِشَرْطِ صِحَّةِ التَّوْكِيلِ بَلْ هُوَ شَرْطُ لُزُومِهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا بَلْ رِضَا الْخَصْمِ عِنْدَهُ شَرْطُ صِحَّةِ التَّوْكِيلِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا بِاخْتِلَافِ أَلْفَاظِ الْكِتَابِ. ذُكِرَ فِي شُفْعَةِ الْأَصْلِ أَنَّ التَّوْكِيلَ بِغَيْرِ رِضَا الْخَصْمِ بَاطِلٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَذُكِرَ فِي وَكَالَةِ الْأَصْلِ: لَا يُقْبَلُ التَّوْكِيلُ بِغَيْرِ رِضَا الْخَصْمِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ التَّوْكِيلَ عِنْدَهُ صَحِيحٌ غَيْرُ لَازِمٍ حَتَّى لَا يَلْزَمَ الْخَصْمَ الْحُضُورُ. وَالْجَوَابُ لِخُصُومَةِ الْوَكِيلِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُوَكِّلُ مَرِيضًا مَرَضًا لَا يُمْكِنُهُ الْحُضُورُ بِنَفْسِهِ مَجْلِسَ الْحُكْمِ، أَوْ غَائِبًا مَسِيرَةَ سَفَرٍ فَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ عِنْدَهُ انْتَهَى.

وَهَكَذَا ذُكِرَ فِي الذَّخِيرَةِ أَيْضًا (لَهُمَا) أَيْ لِأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ (أَنَّ التَّوْكِيلَ تَصَرُّفٌ فِي خَالِصِ حَقِّهِ) أَيْ فِي خَالِصِ حَقِّ الْمُوَكِّلِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يُوَكِّلَهُ بِالْخُصُومَةِ أَوْ بِالْجَوَابِ وَكِلَاهُمَا مِنْ خَالِصِ حَقِّهِ. أَمَّا الْخُصُومَةُ فَلِأَنَّهَا الدَّعْوَى وَهِيَ خَالِصُ حَقِّ الْمُدَّعِي حَتَّى لَا يُجْبَرَ عَلَيْهَا. وَأَمَّا الْجَوَابُ فَلِأَنَّهُ إمَّا إنْكَارٌ أَوْ إقْرَارٌ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَالِصُ حَقِّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ (فَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى رِضَا غَيْرِهِ) فَصَارَ (كَالتَّوْكِيلِ بِتَقَاضِي الدُّيُونِ) وَقَبْضِهَا وَإِيفَائِهَا (وَلَهُ) أَيْ لِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله (أَنَّ الْجَوَابَ مُسْتَحَقٌّ عَلَى الْخَصْمِ) يَعْنِي أَنَّ الْجَوَابَ حَقٌّ وَاجِبٌ لِلْمُدَّعِي عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ (وَلِهَذَا يَسْتَحْضِرُهُ) أَيْ يَسْتَحْضِرُ الْمُدَّعِي الْخَصْمَ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي قَبْلَ أَنْ يَثْبُتَ لَهُ عَلَيْهِ شَيْءٌ لِيُجِيبَهُ عَمَّا يَدَّعِيهِ عَلَيْهِ، وَغَايَةُ مَا فِي الْبَابِ أَنْ يَكُونَ التَّوْكِيلُ تَصَرُّفًا فِي خَالِصِ حَقِّ الْمُوَكِّلِ، لَكِنَّ تَصَرُّفَ الْإِنْسَانِ فِي خَالِصِ حَقِّهِ إنَّمَا يَنْفُذُ إذَا لَمْ يَتَعَدَّ إلَى الْإِضْرَارِ بِالْغَيْرِ (وَ) هَاهُنَا لَيْسَ كَذَلِكَ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ (النَّاسَ

ص: 9

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

مُتَفَاوِتُونَ فِي الْخُصُومَةِ) أَيْ مِنْ جِهَةِ الدَّعْوَى وَالْإِثْبَاتِ، وَمِنْ جِهَةِ الدَّفْعِ وَالْجَوَابِ. فَرُبَّ إنْسَانٍ يُصَوِّرُ الْبَاطِلَ فِي صُورَةِ الْحَقِّ، وَرُبَّ إنْسَانٍ لَا يُمْكِنُهُ تَمْشِيَةُ الْحَقِّ عَلَى وَجْهِهِ، وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «إنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ. فَمَنْ قَضَيْت لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ مَالِ أَخِيهِ فَلَا يَأْخُذْهُ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ نَارٍ» ذَكَرَهُ فِي أَدَبِ الْقَاضِي وَالْأَسْرَارِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يُوَكَّلُ عَادَةً إلَّا مَنْ هُوَ أَلَدُّ وَأَشَدُّ فِي الْخُصُومَاتِ لِيَغْلِبَ عَلَى الْخَصْمِ (فَلَوْ قُلْنَا بِلُزُومِهِ) أَيْ بِلُزُومِ التَّوْكِيلِ بِالْخُصُومَةِ بِلَا رِضَا الْخَصْمِ (يَتَضَرَّرُ بِهِ) أَيْ يَتَضَرَّرُ الْخَصْمُ بِهِ (فَيَتَوَقَّفُ عَلَى رِضَاهُ) فَصَارَ (كَالْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ إذَا كَاتَبَهُ أَحَدُهُمَا) أَيْ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ (يَتَخَيَّرُ الْآخَرُ) أَيْ يَتَخَيَّرُ الشَّرِيكُ الْآخَرُ بَيْنَ إمْضَاءِ الْكِتَابَةِ وَفَسْخِهَا، فَكَانَ تَصَرُّفُ أَحَدِهِمَا مُتَوَقِّفًا عَلَى رِضَا الْآخَرِ، وَإِنْ كَانَ تَصَرُّفًا فِي خَالِصِ حَقِّهِ لِمَكَانِ ضَرَرِ شَرِيكِهِ.

قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ فِي شَرْحِ الدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ مِنْ قِبَلِ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله: وَمَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ الْحُضُورَ وَالْجَوَابَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ بِدَلِيلِ أَنَّ الْقَاضِيَ يَقْطَعُهُ عَنْ أَشْغَالِهِ وَيُحْضِرُهُ لِيُجِيبَ خَصْمَهُ، وَالنَّاسُ يَتَفَاوَتُونَ فِي هَذَا الْجَوَابِ؛ فَرُبَّ إنْكَارٍ يَكُونُ أَشَدَّ دَفْعًا لِلْمُدَّعِي مِنْ إنْكَارٍ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُوَكِّلَ إنَّمَا يَطْلُبُ مِنْ الْوَكِيلِ ذَلِكَ الْأَشَدَّ، فَإِنَّ النَّاسَ إنَّمَا يَقْصِدُونَ بِهَذَا التَّوْكِيلِ أَنْ يَشْتَغِلَ الْوَكِيلُ بِالْحِيَلِ وَالْأَبَاطِيلِ لِيَدْفَعَ حَقَّ الْخَصْمِ عَنْ الْمُوَكِّلِ وَفِيهِ إضْرَارٌ بِالْخَصْمِ، وَأَكْثَرُ مَا فِي هَذَا الْبَابِ أَنْ يَكُونَ تَوْكِيلُهُ بِمَا هُوَ مِنْ خَالِصِ حَقِّهِ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ يَتَّصِلُ بِهِ ضَرَرٌ بِالْغَيْرِ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي قُلْنَا لَا يُمْلَكُ بِدُونِ رِضَاهُ انْتَهَى. كَلَامُهُ.

وَعَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ سَبَقَ الدَّلِيلُ الْمَزْبُورُ فِي الْكَافِي وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ أَيْضًا. أَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ أَصْلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَامٌّ لِصُورَةِ التَّوْكِيلِ مِنْ جَانِبِ الْمُدَّعِي، وَلِصُورَةِ التَّوْكِيلِ مِنْ جَانِبِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ كَمَا أَفْصَحَ عَنْهُ الشُّرَّاحُ قَاطِبَةً فِي صَدْرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَصُرِّحَ بِهِ فِي عَامَّةِ كُتُبِ الْفَتَاوَى أَيْضًا. وَفِي تَقْرِيرِ الدَّلِيلِ الْمَزْبُورِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرَهُ هَؤُلَاءِ الشُّرَّاحِ تَخْصِيصُ ذَلِكَ بِصُورَةِ التَّوْكِيلِ مِنْ جَانِبِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ كَمَا تَرَى فَكَانَ تَقْصِيرًا مِنْهُمْ لِتَحَمُّلِهِ التَّقْرِيرَ بِوَجْهٍ يَعُمُّ الصُّورَتَيْنِ مَعًا كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي شَرْحِنَا. وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ: وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي خَالِصِ حَقِّهِ، فَإِنَّ الْجَوَابَ مُسْتَحَقٌّ عَلَى الْخَصْمِ وَلِهَذَا يَسْتَحْضِرُهُ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي، وَالْمُسْتَحَقُّ لِلْغَيْرِ لَا يَكُونُ خَالِصًا لَهُ. سَلَّمْنَا خُلُوصَهُ لَهُ لَكِنَّ تَصَرُّفَ الْإِنْسَانِ فِي خَالِصِ حَقِّهِ إنَّمَا يَصِحُّ إذَا لَمْ يَتَضَرَّرْ بِهِ غَيْرُهُ، وَهَا هُنَا لَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ النَّاسَ يَتَفَاوَتُونَ فِي الْخُصُومَةِ، فَلَوْ قُلْنَا بِلُزُومِهِ لَتَضَرَّرَ بِهِ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى رِضَاهُ انْتَهَى. أَقُولُ: فِيهِ أَيْضًا نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ مِنْ قِبَلِ أَبِي حَنِيفَةَ دَلِيلَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: مَنْعِيٌّ لِمَا قَالَاهُ، وَالْآخَرُ: تَسْلِيمِيٌّ لَهُ، فَيَرِدُ حِينَئِذٍ عَلَى الدَّلِيلِ الْأَوَّلِ مَا يَرِدُ عَلَى تَقْرِيرِ صَاحِبِ النِّهَايَةِ وَغَيْرِهِ مِنْ كَوْنِ الدَّلِيلِ مَخْصُوصًا بِإِحْدَى صُورَتَيْ الْمَسْأَلَةِ الْعَامَّةِ الْمُدَّعَاةِ تَأَمَّلْ تَقِفُ.

فَالْوَجْهُ أَنْ يُجْعَلَ الْمَجْمُوعُ دَلِيلًا وَاحِدًا وَيُقَرَّرَ بِوَجْهٍ يَعُمُّ الصُّورَتَيْنِ مَعًا كَمَا فَعَلْنَاهُ فِي شَرْحِنَا، لَكِنَّ الْإِنْصَافَ أَنَّ تَأْثِيرَ الْمُقَدِّمَةِ الْقَائِلَةِ إنَّ الْجَوَابَ مُسْتَحَقٌّ عَلَى الْخَصْمِ إنَّمَا هُوَ فِي صُورَةِ التَّوْكِيلِ مِنْ جَانِبِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى الْفَطِنِ الْمُتَأَمِّلِ (بِخِلَافِ الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ) مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُوَكِّلُ مَرِيضًا أَوْ غَائِبًا، وَالْمُرَادُ بَيَانُ وَجْهِ مُخَالَفَةِ الْمُسْتَثْنَى لِلْمُسْتَثْنَى مِنْهُ وَذَلِكَ (لِأَنَّ الْجَوَابَ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ) أَيْ غَيْرُ وَاجِبٍ (عَلَيْهِمَا) أَيْ عَلَى الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ (هُنَالِكَ) أَيْ فِيمَا إذَا كَانَ الْمُوَكِّلُ مَرِيضًا أَوْ مُسَافِرًا لِعَجْزِ الْمَرِيضِ بِالْمَرَضِ وَعَجْزِ الْمُسَافِرِ بِالْغَيْبَةِ، فَلَوْ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُمَا الْجَوَابُ لَزِمَ الْحَرَجُ وَهُوَ مُنْتَفٍ بِالنَّصِّ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} أَقُولُ: هَاهُنَا شَيْءٌ، وَهُوَ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ الْفَرْقِ إنَّمَا يَنْفُذُ فِي صُورَةِ إنْ كَانَ التَّوْكِيلُ مِنْ جَانِبِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَأَمَّا فِي صُورَةِ إنْ كَانَ مِنْ جَانِبِ الْمُدَّعِي فَلَا؛ لِأَنَّ الْجَوَابَ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ عَلَى الْمُدَّعِي سَوَاءٌ كَانَ صَحِيحًا مُقِيمًا أَوْ مَرِيضًا مُسَافِرًا، فَإِنَّ الْجَوَابَ إنَّمَا يَجِبُ عَلَى مَنْ يُجْبَرُ عَلَى الْخُصُومَةِ لَا عَلَى مَنْ لَا يُجْبَرُ عَلَيْهَا، مَعَ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ عَامَّةٌ لِلصُّورَتَيْنِ مَعًا كَمَا تَحَقَّقْته، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُزَادَ عَلَيْهِ أَنْ يُقَالَ: إنَّ تَوَقُّعَ الضَّرَرِ اللَّازِمِ بِالْمَرَضِ وَالسَّفَرِ مِنْ الْمَوْتِ وَآفَاتِ التَّأْخِيرِ أَشَدُّ مِنْ الضَّرَرِ اللَّازِمِ بِتَفَاوُتِ النَّاسِ فِي الْخُصُومَةِ فَيُتَحَمَّلُ الْأَدْنَى دُونَ الْأَعْلَى.

وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ: وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُوَكِّلَ لَوْ كَانَ غَائِبًا أَدْنَى مُدَّةِ السَّفَرِ أَوْ كَانَ مَرِيضًا فِي الْمِصْرِ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَمْشِيَ عَلَى قَدَمَيْهِ إلَى بَابِ الْقَاضِي كَانَ لَهُ أَنْ يُوَكِّلَ مُدَّعِيًا كَانَ أَوْ مُدَّعًى عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَمْشِيَ عَلَى قَدَمَيْهِ وَلَكِنَّهُ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَمْشِيَ عَلَى ظَهْرِ دَابَّةٍ أَوْ ظَهْرِ إنْسَانٍ، فَإِنْ ازْدَادَ مَرَضُهُ بِذَلِكَ صَحَّ التَّوْكِيلُ، وَإِنْ كَانَ لَا يَزْدَادُ اخْتَلَفُوا فِيهِ، قَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ عَلَى الْخِلَافِ أَيْضًا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَهُ أَنْ يُوَكِّلَ وَهُوَ الصَّحِيحُ انْتَهَى (ثُمَّ كَمَا يَلْزَمُ التَّوْكِيلُ

ص: 10

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

عِنْدَهُ) أَيْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ (مِنْ الْمُسَافِرِ يَلْزَمُ إذَا أَرَادَ السَّفَرَ لِتَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ) إذْ لَوْ لَمْ يَلْزَمْ يَلْحَقُهُ الْحَرَجُ بِالِانْقِطَاعِ عَنْ مَصَالِحِهِ. وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ: وَكَمَا يَجُوزُ لِلْمُسَافِرِ أَدْنَى مُدَّةِ السَّفَرِ أَنْ يُوَكِّلَ بِغَيْرِ رِضَا الْخَصْمِ يَجُوزُ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ إلَى السَّفَرِ لَكِنْ لَا يُصَدَّقُ أَنَّهُ يُرِيدُ السَّفَرَ، وَلَكِنَّ الْقَاضِيَ يَنْظُرُ إلَى زِيِّهِ وَعِدَّةِ سَفَرِهِ أَوْ يَسْأَلُ عَمَّنْ يُرِيدُ أَنْ يَخْرُجَ مَعَهُ فَيَسْأَلُ عَنْ رُفَقَائِهِ كَمَا فِي فَسْخِ الْإِجَارَةِ انْتَهَى

(وَلَوْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ مُخَدَّرَةً) اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ الْمَشَايِخِ فِي تَفْسِيرِ الْمُخَدَّرَةِ؛ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ الَّتِي لَمْ تَجْرِ عَادَتُهَا بِالْبُرُوزِ وَحُضُورِ الْمَجْلِسِ الْقَاضِي. وَقَالَ الْإِمَامُ الْبَزْدَوِيُّ: هِيَ الَّتِي لَا يَرَاهَا غَيْرُ الْمَحَارِمِ، وَأَمَّا الَّتِي جَلَسَتْ عَلَى الْمِنَصَّةِ فَرَآهَا الْأَجَانِبُ لَا تَكُونُ مُخَدَّرَةً، فَاخْتَارَ الْمُصَنِّفُ التَّفْسِيرَ الْأَوَّلَ حَيْثُ قَالَ (لَمْ تَجْرِ عَادَتُهَا بِالْبُرُوزِ وَحُضُورِ مَجْلِسِ الْحَاكِمِ) فَإِنَّ هَذَا صِفَةٌ كَاشِفَةٌ لِمُخَدَّرَةٍ جَارِيَةٍ مَجْرَى التَّفْسِيرِ لَهَا (قَالَ الرَّازِيّ) أَرَادَ بِهِ الْإِمَامَ أَبَا بَكْرٍ الْجَصَّاصَ أَحْمَدَ بْنَ عَلِيٍّ الرَّازِيّ صَاحِبَ التَّصَانِيفِ الْكَثِيرَةِ فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ وَأَحْكَامِ الْقُرْآنِ، وَإِلَيْهِ انْتَهَتْ رِيَاسَةُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ بِبَغْدَادَ بَعْدَ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ الْكَرْخِيِّ، وَكَانَتْ وِلَادَتُهُ سَنَةَ خَمْسٍ وَثَلَثِمِائَةٍ وَمَاتَ سَنَةَ سَبْعِينَ وَثَلَثِمِائَةٍ (يَلْزَمُ التَّوْكِيلُ) أَيْ يَلْزَمُ التَّوْكِيلُ مِنْهَا بِلَا رِضَا الْخَصْمِ وَبِدُونِ عُذْرِ الْمَرَضِ وَالسَّفَرِ (لِأَنَّهَا لَوْ حَضَرَتْ لَا يُمْكِنُهَا أَنْ تَنْطِقَ بِحَقِّهَا لِحَيَائِهَا فَيَلْزَمُ تَوْكِيلُهَا) دَفْعًا لِلْحَرَجِ، فَلَوْ وَكَّلَتْ بِالْخُصُومَةِ فَوَجَبَ عَلَيْهَا الْيَمِينُ وَهِيَ لَا تُعْرَفُ بِالْخُرُوجِ وَمُخَالَطَةِ الرِّجَالِ فِي الْحَوَائِجِ يَبْعَثُ إلَيْهَا الْحَاكِمُ ثَلَاثَةً مِنْ الْعُدُولِ يَسْتَحْلِفُهَا أَحَدُهُمْ وَيَشْهَدُ الْآخَرَانِ عَلَى حَلِفِهَا، وَكَذَا فِي الْمَرِيضَةِ إذَا وَجَبَ عَلَيْهَا يَمِينٌ؛ لِأَنَّ النِّيَابَةَ لَا تَجْرِي فِي الْأَيْمَانِ، هَكَذَا ذَكَرَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ فِي أَدَبِ الْقَاضِي، وَذَكَرَ فِيهِ وَإِنْ كَانَ يَبْعَثُ إلَى الْمُخَدَّرَةِ وَالْمَرِيضَةِ أَوْ إلَى الْمَرِيضِ خَلِيفَةً فَيَفْصِلُ الْخُصُومَةَ هُنَالِكَ يَجُوزُ؛ لِأَنَّ مَجْلِسَ الْخَلِيفَةِ كَمَجْلِسِهِ كَذَا فِي مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ وَغَيْرِهِ (قَالَ رضي الله عنه) أَيْ قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَهَذَا) أَيْ مَا قَالَهُ الرَّازِيّ (شَيْءٌ اسْتَحْسَنَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ) وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ: وَيَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ الْمُخَدَّرَةِ أَنْ تُوَكِّلَ وَهِيَ الَّتِي لَمْ تُخَالِطْ الرِّجَالَ بِكْرًا كَانَتْ أَوْ ثَيِّبًا، كَذَا ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ. وَقَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْمَعْرُوفُ بِخُوَاهَرْ زَادَهْ: ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا عَلَى الِاخْتِلَافِ أَيْضًا، وَعَامَّةُ الْمَشَايِخِ أَخَذُوا بِمَا ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى انْتَهَى

(قَالَ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ (وَمِنْ شَرْطِ الْوَكَالَةِ أَنْ يَكُونَ الْمُوَكِّلُ مِمَّنْ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ) قِيلَ هَذَا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَالشَّرْطُ أَنْ يَكُونَ التَّوْكِيلُ حَاصِلًا بِمَا يَمْلِكُهُ الْوَكِيلُ، فَأَمَّا كَوْنُ الْمُوَكِّلِ مَالِكًا لِلتَّصَرُّفِ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ حَتَّى يَجُوزَ عِنْدَهُ تَوْكِيلُ الْمُسْلِمِ الذِّمِّيَّ بِشِرَاءِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَتَوْكِيلُ الْمُحْرِمِ الْحَلَالَ بِبَيْعِ الصَّيْدِ.

وَقِيلَ الْمُرَادُ بِهِ أَنْ يَكُونَ مَالِكًا لِلتَّصَرُّفِ نَظَرًا إلَى أَصْلِ التَّصَرُّفِ وَإِنْ امْتَنَعَ لِعَارِضٍ، وَبَيْعُ الْخَمْرِ يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ فِي الْأَصْلِ، وَإِنَّمَا امْتَنَعَ بِعَارِضِ النَّهْيِ، كَذَا فِي الْكَافِي وَالْكِفَايَةِ وَالتَّبْيِينِ. قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ مِمَّنْ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ: أَيْ مِمَّنْ يَمْلِكُ ذَلِكَ التَّصَرُّفَ الَّذِي وَكَّلَ الْوَكِيلَ بِهِ، وَقَالَ: قَدْ ذَكَرْنَا فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الْوَكَالَةِ مِنْ رِوَايَةِ الذَّخِيرَةِ أَنَّ هَذَا الْقَيْدَ وَقَعَ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ. وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَمِنْ شَرْطِ الْوَكَالَةِ كَوْنُ التَّوْكِيلِ حَاصِلًا بِمَا يَمْلِكُهُ الْوَكِيلُ، فَأَمَّا كَوْنُ الْمُوَكِّلِ مَالِكًا لِذَلِكَ التَّصَرُّفِ الَّذِي وَكَّلَ الْوَكِيلَ بِهِ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ، ثُمَّ قَالَ: فَإِنْ قُلْت: يُشْكِلُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْكِتَابِ مَا ذَكَرَهُ فِي الذَّخِيرَةِ بِقَوْلِهِ وَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِغَيْرِهِ خُذْ عَبْدِي هَذَا وَبِعْهُ بِعَبْدٍ أَوْ قَالَ اشْتَرِ لِي بِهِ عَبْدًا صَحَّ التَّوْكِيلُ بِهَذَا، وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ مُبَاشَرَةُ الْمُوَكِّلِ فِي مِثْلِ هَذَا التَّصَرُّفِ، فَإِنَّ مَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ بِعْتُك هَذَا الْعَبْدَ بِعَبْدٍ أَوْ قَالَ اشْتَرَيْت مِنْك بِهَذَا الْعَبْدِ عَبْدًا لَا يَجُوزُ. قُلْت: إنَّمَا جَازَ ذَلِكَ فِي التَّوْكِيلِ بِهَذَا وَلَمْ يَجُزْ فِي مُبَاشَرَةِ نَفْسِهِ لِوُجُودِ الْمَعْنَى الْفَارِقِ بَيْنَهُمَا وَهُوَ أَنَّ الْجَهَالَةَ إنَّمَا تَمْنَعُ عَنْ الْجَوَازِ لِإِفْضَائِهَا إلَى الْمُنَازَعَةِ.

وَأَمَّا إذَا لَمْ تُؤَدِّ إلَيْهَا فَلَا تَمْنَعُ كَمَا فِي بَيْعِ قَفِيزٍ مِنْ صُبْرَةِ طَعَامٍ أَوْ شِرَائِهِ ثُمَّ جَهَالَةُ الْوَصْفِ فِي التَّوْكِيلِ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ؛ لِأَنَّ التَّوْكِيلَ لَيْسَ بِأَمْرٍ لَازِمٍ، وَلَا كَذَلِكَ الْمُبَاشَرَةُ؛ لِأَنَّهَا لَازِمَةٌ فَتُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ، وَالْمَانِعُ مِنْ الصِّحَّةِ الْمُنَازَعَةُ لَا نَفْسُ الْجَهَالَةِ انْتَهَى كَلَامُهُ. أَقُولُ: فِي جَوَابِهِ بَحْثٌ؛ لِأَنَّ الْفَارِقَ الْمَذْكُورَ فِيهِ إنَّمَا أَفَادَ كَمِّيَّةَ صِحَّةِ التَّوْكِيلِ فِي مَسْأَلَةِ الذَّخِيرَةِ وَعَدَمِ صِحَّةِ الْمُبَاشَرَةِ بِنَفْسِهِ فِي مِثْلِهَا، وَهَذَا الْقَدْرُ لَا يَدْفَعُ السُّؤَالَ الْمَذْكُورَ بَلْ يُقَوِّيهِ؛ لِأَنَّهُ حَاصِلُهُ أَنَّ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ مِنْ شَرْطِ الْوَكَالَةِ غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ فِي مَسْأَلَةِ الذَّخِيرَةِ مَعَ تَحَقُّقِ الْمَشْرُوطِ فِيهَا. وَالْفَارِقُ الْمَذْكُورُ يُقَرِّرُ هَذَا الْمَعْنَى كَمَا لَا يَخْفَى. وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: إنَّ هَذَا الْقَيْدَ وَقَعَ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ. وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَمِنْ شَرْطِهَا أَنْ يَكُونَ الْوَكِيلُ مِمَّنْ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي الْخَمْرِ، وَلَوْ وَكَّلَ بِهِ جَازَ عِنْدَهُ

ص: 11

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وَمَنْشَأُ هَذَا التَّوَهُّمِ أَنَّهُ جَعَلَ اللَّامَ فِي قَوْلِهِ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ لِلْعَهْدِ: أَيْ لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ الَّذِي وَكَّلَ بِهِ، وَأَمَّا إذَا جُعِلَتْ لِلْجِنْسِ حَتَّى يَكُونَ مَعْنَاهُ يَمْلِكُ جِنْسَ التَّصَرُّفِ احْتِرَازًا عَنْ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ فَيَكُونُ عَلَى مَذْهَبِ الْكُلِّ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ مِمَّنْ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ حَيْثُ لَمْ يَقُلْ أَنْ يَكُونَ الْمُوَكِّلُ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فَإِنَّ الْأَنْسَبَ لِكَلِمَةِ " مَنْ " جِنْسُ التَّصَرُّفِ انْتَهَى. وَأَوْرَدَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ عَلَى قَوْلِهِ فَإِنَّ الْأَنْسَبَ لِكَلِمَةِ " مَنْ " جِنْسُ التَّصَرُّفِ، وَأَجَابَ حَيْثُ قَالَ: لَا يَخْفَى عَلَيْك أَنَّ مَدْخُولَ كَلِمَةِ " مَنْ " هُوَ قَوْلُهُ مَنْ يَمْلِكُ دُونَ التَّصَرُّفِ. وَالْجَوَابُ أَنَّ مُرَادَهُ أَنَّ الْمَالِكَ لِلتَّصَرُّفِ الْمَخْصُوصِ لَا يَتَعَدَّدُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ إدْخَالُ " مَنْ " فِي مَنْ يَمْلِكُ انْتَهَى.

أَقُولُ: لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا زَعَمَهُ، فَإِنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمَالِكَ لِلتَّصَرُّفِ الْمَخْصُوصِ لَا يَتَعَدَّدُ، أَلَا يَرَى إلَى الْحُقُوقِ الْمُشْتَرَكَةِ مَالًا كَانَتْ أَوْ غَيْرَهُ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِنَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِيهَا تَصَرُّفًا مَخْصُوصًا، وَإِنْ وَصَلَ مَبْلَغُهُمْ فِي التَّعَدُّدِ إلَى الْأَلْفِ، مَثَلًا إذَا كَانَتْ دَارٌ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ كَثِيرِينَ فَلَا شَكَّ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِيهَا بِسُكْنَى أَوْ غَيْرِهِ. وَلَئِنْ سَلَّمْنَا ذَلِكَ فَلَا نُسَلِّمُ عَدَمَ اسْتِقَامَةِ إدْخَالِ " مَنْ " حِينَئِذٍ فِي مَنْ يَمْلِكُ، فَإِنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يُتَوَهَّمُ لَوْ كَانَتْ كَلِمَةُ " مَنْ " هَاهُنَا لِلتَّبْعِيضِ، وَأَمَّا إذَا كَانَتْ لِلتَّبْيِينِ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ فِي الْمَقَامِ فَيَسْتَقِيمُ جِدًّا كَمَا لَا يَخْفَى. ثُمَّ إنَّ مَا ذَكَرَهُ كُلَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى فَهْمِ أَنْ يَكُونَ مُرَادُ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ بِكَلِمَةِ " مَنْ " فِي قَوْلِهِ فَإِنَّ الْأَنْسَبَ لِكَلِمَةِ " مَنْ " جِنْسُ التَّصَرُّفِ حَرْفُ الْجَرِّ الدَّاخِلَةُ عَلَى الِاسْمِ الْمَوْصُولِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَهُ بِهَا نَفْسُ الِاسْمِ الْمَوْصُولِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي قَوْلِهِ حَيْثُ لَمْ يَقُلْ أَنْ يَكُونَ الْمُوَكِّلُ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ. إذْ لَوْ كَانَ مَدَارُ كَلَامِهِ زِيَادَةَ حَرْفِ الْجَرِّ لَقَالَ حَيْثُ لَمْ يَقُلْ أَنْ يَكُونَ الْمُوَكِّلُ مَنْ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ بِحَذْفِ حَرْفِ الْجَرِّ فَقَطْ، فَوَجْهُ الْأَنْسَبِيَّةِ حِينَئِذٍ أَنَّ الِاسْمَ الْمَذْكُورَ مِنْ مُبْهَمَاتِ الْمَعَارِفِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي النَّحْوِ وَمِنْ أَلْفَاظِ الْعَامِّ عَلَى مَا عُرِفَ فِي الْأُصُولِ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِهِ جِنْسَ الْمَالِكِ لَا الْفَرْدَ الْمُعَيَّنَ مِنْهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الَّذِي يَمْلِكُهُ جِنْسُ الْمَالِكِ هُوَ جِنْسُ التَّصَرُّفِ دُونَ التَّصَرُّفِ الْمَعْهُودِ، ثُمَّ قَالَ ذَلِكَ الْبَعْضُ: إنَّ الْأَنْسَبِيَّةَ قَدْ فَاتَتْ فِي قَوْلِهِ وَيَقْصِدُهُ كَمَا لَا يَخْفَى.

أَقُولُ: هَذَا أَيْضًا لَيْسَ بِسَدِيدٍ، فَإِنَّ قَوْلَهُ وَيَقْصِدُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَقْرُونًا بِكَلِمَةِ مَنْ صَرَاحَةً لَكِنَّهُ مَقْرُونٌ بِهَا حُكْمًا فَإِنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا هُوَ فِي حَيِّزِ كَلِمَةِ مَنْ وَهُوَ قَوْلُهُ يَعْقِلُ الْعَقْدَ فِي قَوْلِهِ مِمَّنْ يَعْقِلُ الْعَقْدَ. وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَعْطُوفَ فِي حُكْمِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ بِالنَّظَرِ إلَى مَا قَبْلَهُ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْأَدَبِ، فَقَدْ حَصَلَتْ الْأَنْسَبِيَّةُ الْمَذْكُورَةُ هُنَاكَ أَيْضًا. ثُمَّ إنَّ حَمْلَ التَّصَرُّفِ فِي قَوْلِ الْقُدُورِيِّ: وَمِنْ شَرْطِ الْوَكَالَةِ أَنْ يَكُونَ الْمُوَكِّلُ مِمَّنْ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ عَلَى جِنْسِ التَّصَرُّفِ دُونَ التَّصَرُّفِ الَّذِي وَكَّلَ بِهِ مِمَّا سَبَقَ إلَيْهِ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ حَيْثُ قَالَ: قِيلَ لَا يَسْتَقِيمُ هَذَا الشَّرْطُ إلَّا عَلَى مَذْهَبِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ شَرْطُ الْوَكَالَةِ أَنْ يَكُونَ الْمُوَكِّلُ مَالِكًا لِلتَّصَرُّفِ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُوَكِّلَ الْمُسْلِمُ الذِّمِّيَّ بِبَيْعِ الْخَمْرِ وَشِرَائِهَا، وَهُوَ جَائِزٌ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ مَعَ أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ بِنَفْسِهِ. فَعُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ عَلَى مَذْهَبِهِ، بَلْ الشَّرْطُ عِنْدَهُ أَنْ يَكُونَ الْوَكِيلُ مَالِكًا لِذَلِكَ التَّصَرُّفِ الَّذِي وُكِّلَ بِهِ.

ثُمَّ قَالَ: قُلْت هَذَا الشَّرْطُ الَّذِي شَرَطَهُ الْقُدُورِيُّ يَسْتَقِيمُ عَلَى مَذْهَبِ الْكُلِّ، وَإِنَّمَا خَصَّ هَذَا الْقَائِلُ الِاسْتِقَامَةَ عَلَى مَذْهَبِهِمَا؛ لِأَنَّهُ لَا يُدْرِكُ كُنْهَ كَلَامِ الْقُدُورِيِّ، إذْ مَضْمُونُ كَلَامِهِ أَنَّ الْوَكَالَةَ لَهَا شَرْطٌ فِي الْمُوَكِّلِ وَشَرْطٌ فِي الْوَكِيلِ.

فَالْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْمُوَكِّلُ مِمَّنْ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ وَيَلْزَمُهُ الْأَحْكَامُ.

وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْوَكِيلُ مِمَّنْ يَعْقِلُ الْعَقْدَ وَيَقْصِدُهُ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ أَنْ يَكُونَ لَهُ وِلَايَةٌ شَرْعًا فِي جِنْسِ التَّصَرُّفِ بِأَهْلِيَّةِ نَفْسِهِ بِأَنْ يَكُونَ بَالِغًا عَاقِلًا عَلَى وَجْهٍ يُلْزِمُهُ حُكْمَ التَّصَرُّفِ، وَهَذَا الْمَعْنَى حَاصِلٌ فِي تَوْكِيلِ الْمُسْلِمِ الذِّمِّيَّ فِي الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ بَيْعًا وَشِرَاءً؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ الْمُوَكِّلَ عَاقِلٌ بَالِغٌ لَهُ وِلَايَةٌ شَرْعًا فِي جِنْسِ التَّصَرُّفِ عَلَى وَجْهٍ يُلْزِمُهُ حُكْمُ التَّصَرُّفِ فِيمَا تَصَرَّفَ بِوِلَايَتِهِ.

وَالشَّرْطُ الْآخَرُ وَهُوَ أَنْ يَعْقِلَ الْعَقْدَ وَيَقْصِدَهُ حَاصِلٌ فِي الْوَكِيلِ أَيْضًا وَهُوَ الذِّمِّيُّ؛ لِأَنَّهُ يَعْقِلُ مَعْنَى الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَيَقْصِدُهُ، فَصَحَّ الشَّرْطُ إذَنْ عَلَى مَذْهَبِ الْكُلِّ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ.

وَرَدَّ عَلَيْهِ الشَّارِحُ ابْنُ الْهُمَامِ حَيْثُ قَالَ: قِيلَ إنَّمَا يَسْتَقِيمُ الشَّرْطُ الْأَوَّلُ عَلَى قَوْلِهِمَا أَمَّا عَلَى قَوْلِهِ فَلَا؛ لِأَنَّهُ يُجِيزُ تَوْكِيلَ الْمُسْلِمِ الذِّمِّيَّ بِبَيْعِ خَمْرٍ وَشِرَائِهَا وَالْمُسْلِمُ لَا يَمْلِكُهُ. أَجَابَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِمُلْكِهِ التَّصَرُّفَ أَنْ يَكُونَ لَهُ وِلَايَةٌ شَرْعِيَّةٌ فِي جِنْسِ التَّصَرُّفِ بِأَهْلِيَّةِ نَفْسِهِ بِأَنْ يَكُونَ عَاقِلًا بَالِغًا، وَهَذَا حَاصِلٌ فِي تَوْكِيلِ الْمُسْلِمِ الذِّمِّيَّ بِبَيْعِ خَمْرٍ وَشِرَائِهَا، ثُمَّ حَمِدَ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاهُ لِذَلِكَ، وَهُوَ خَطَأٌ إذْ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَصِحَّ تَوْكِيلُ الصَّبِيِّ الْمَأْذُونِ لِعَدَمِ الْبُلُوغِ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، بَلْ إذَا وَكَّلَ الصَّبِيُّ الْمَأْذُونَ يَصِحُّ بَعْدَ أَنْ يَعْقِلَ مَعْنَى الْبَيْعِ انْتَهَى كَلَامُهُ. أَقُولُ: مَا ذَهَبَ إلَيْهِ

ص: 12

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

صَاحِبُ الْغَايَةِ هَاهُنَا لَيْسَ بِمَثَابَةِ أَنْ يُقَالَ لَهُ هُوَ خَطَأٌ بِمُجَرَّدِ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْهُمَامِ، فَإِنَّ الَّذِي يُهِمُّهُ فِي تَوْجِيهِ الْمَقَامِ هُوَ قَوْلُهُ الْمُرَادُ بِمِلْكِهِ التَّصَرُّفَ أَنْ يَكُونَ لَهُ وِلَايَةٌ شَرْعِيَّةٌ فِي جِنْسِ التَّصَرُّفِ بِأَهْلِيَّةِ نَفْسِهِ، وَهَذَا لَا يَقْتَضِي أَنْ لَا يَصِحَّ تَوْكِيلُ الصَّبِيِّ الْمَأْذُونِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى الْعَارِفِ بِحُكْمِ الصَّبِيِّ الْمَأْذُونِ عَلَى مَذْهَبِنَا فِي فَصْلِهِ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ بِأَنْ يَكُونَ بَالِغًا عَاقِلًا فَفَضْلَةٌ مِنْ التَّوْجِيهِ ذَكَرَهُ لِبَيَانِ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالشَّرْطِ الْمَذْكُورِ هُوَ الِاحْتِرَازُ مِنْ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الْمَحْجُورِ. وَأَمَّا الصَّبِيُّ الْمَأْذُونُ فَكَوْنُهُ بِمَنْزِلَةِ الْبَالِغِ فِي عَامَّةِ التَّصَرُّفَاتِ مَعْلُومٌ فِي مَحَلِّهِ فَهُوَ فِي حُكْمِ الْمُسْتَثْنَى، وَعَنْ هَذَا تَرَى الْفُقَهَاءَ فِي كُلِّ عَقْدٍ جَعَلُوا الْعَقْلَ وَالْبُلُوغَ شَرْطًا فِيهِ وَقَصَدُوا بِهِ الِاحْتِرَازَ عَنْ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ لَمْ يَسْتَثْنُوا الصَّبِيَّ الْمَأْذُونَ عَنْهُ صَرَاحَةً (وَتَلْزَمُهُ الْأَحْكَامُ) قِيلَ هَذَا احْتِرَازٌ عَنْ الْوَكِيلِ فَإِنَّ الْوَكِيلَ مِمَّنْ لَا يَثْبُتُ لَهُ حُكْمُ تَصَرُّفِهِ وَهُوَ الْمِلْكُ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ بِالشِّرَاءِ لَا يَمْلِكُ الْمَبِيعَ وَالْوَكِيلُ بِالْبَيْعِ لَا يَمْلِكُ الثَّمَنَ فَلِذَلِكَ لَا يَصِحُّ تَوْكِيلُ الْوَكِيلِ غَيْرَهُ.

وَقِيلَ هُوَ احْتِرَازٌ عَنْ الصَّبِيِّ وَالْعَبْدِ الْمَحْجُورَيْنِ؛ فَإِنَّهُمَا لَوْ اشْتَرَيَا شَيْئًا لَا يَمْلِكَانِهِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ تَوْكِيلُهُمَا، كَذَا فِي أَكْثَرِ الشُّرُوحِ. قَالَ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ لِلْقِيلِ الثَّانِي: وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ مِنْ الْأَوَّلِ وَلَمْ يُبَيِّنْ وَجْهَهُ.

وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: قَوْلُهُ وَيَلْزَمُهُ الْأَحْكَامُ يَحْتَمِلُ أَحْكَامَ ذَلِكَ التَّصَرُّفِ وَجِنْسَ الْأَحْكَامِ. فَالْأَوَّلُ احْتِرَازٌ عَنْ الْوَكِيلِ إذَا وَكَّلَ فَإِنَّهُ يَمْلِكُ ذَلِكَ التَّصَرُّفَ دُونَ التَّوْكِيلِ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ تَلْزَمْهُ الْأَحْكَامُ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ فِي الْكَلَامِ شَرْطَانِ. وَالثَّانِي: احْتِرَازٌ عَنْ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَيَكُونُ مِلْكُ التَّصَرُّفِ وَلُزُومُ الْأَحْكَامِ شَرْطًا وَاحِدًا، وَهَذَا أَصَحُّ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ إذَا أُذِنَ لَهُ بِالتَّوْكِيلِ صَحَّ وَلَمْ يَلْزَمْهُ أَحْكَامُ ذَلِكَ التَّصَرُّفِ. فَإِنْ قُلْت: إذَا جَعَلْتهمَا شَرْطًا وَاحِدًا لَزِمَك الْوَكِيلُ فَإِنَّهُ مِمَّنْ يَمْلِكُ جِنْسَ التَّصَرُّفِ وَيَلْزَمُهُ جِنْسُ الْأَحْكَامِ وَلَا يَجُوزُ تَوْكِيلُهُ قُلْت: غَلَطٌ؛ لِأَنَّ وُجُودَ الشَّرْطِ لَا يَسْتَلْزِمُ وُجُودَ الْمَشْرُوطِ لَا سِيَّمَا مَعَ وُجُودِ الْمَانِعِ وَهُوَ فَوَاتُ رَأْيِهِ انْتَهَى كَلَامُهُ (لِأَنَّ الْوَكِيلَ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ مِنْ جِهَةِ الْمُوَكِّلِ) تَعْلِيلٌ لِاشْتِرَاطِ مَا شُرِطَتْ الْوَكَالَةُ بِهِ: يَعْنِي أَنَّ الْوَكِيلَ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ مِنْ جِهَةِ الْمُوَكِّلِ لِكَوْنِهِ نَائِبًا عَنْهُ فَيَكُونُ التَّوْكِيلُ تَمْلِيكَ التَّصَرُّفِ وَتَمْلِيكُ التَّصَرُّفِ مِمَّنْ لَا يَمْلِكُهُ مُحَالٌ (فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمُوَكِّلُ مَالِكًا) أَيْ لِلتَّصَرُّفِ (لِيَمْلِكَهُ مِنْ غَيْرِهِ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الْوَكِيلُ يَمْلِكُ جِنْسَ التَّصَرُّفِ مِنْ جِهَةِ الْمُوَكِّلِ أَوْ التَّصَرُّفَ الَّذِي وُكِّلَ فِيهِ، وَالثَّانِي مُسْلِمٌ وَيَنْتَقِضُ بِتَوْكِيلِ الْمُسْلِمِ الذِّمِّيَّ بِبَيْعِ الْخَمْرِ، وَالْأَوَّلُ مَمْنُوعٌ فَإِنَّهُ يَمْلِكُهُ بِأَهْلِيَّتِهِ وَلِهَذَا لَوْ تَصَرَّفَ لِنَفْسِهِ صَحَّ. وَالْجَوَابُ أَنَّ الْوَكِيلَ مِنْ حَيْثُ هُوَ وَكِيلٌ يَمْلِكُ جِنْسَ التَّصَرُّفِ مِنْ جِهَةِ الْمُوَكِّلِ عَلَى أَنَّ الْمَالِكَ يَثْبُتُ لَهُ خِلَافَةٌ عَنْ الْمُوَكِّلِ فِيمَا تَصَرَّفَ فِيهِ بِطَرِيقِ الْوَكَالَةِ. وَتَصَرُّفُهُ لِنَفْسِهِ لَيْسَ بِطَرِيقِ الْوَكَالَةِ وَلَا الْكَلَامِ فِيهِ، وَلَا يُنَافِيهِ أَيْضًا لِجَوَازِ ثُبُوتِ شَيْءٍ بِأَمْرَيْنِ عَلَى الْبَدَلِ انْتَهَى أَقُولُ: فِي جَوَابِهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ كَوْنَ الْوَكِيلِ مِنْ حَيْثُ هُوَ وَكِيلٌ مَالِكًا لِجِنْسِ التَّصَرُّفِ مِنْ جِهَةِ الْمُوَكِّلِ إنَّمَا يُتَوَهَّمُ فِي التَّوْكِيلِ بِتَصَرُّفٍ لَا بِعَيْنِهِ بِأَنْ قَالَ: اصْنَعْ مَا شِئْت أَوْ اعْمَلْ بِرَأْيِك، وَأَمَّا فِي التَّوْكِيلِ بِتَصَرُّفٍ بِعَيْنِهِ كَمَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ مَادَّةِ النَّقْضِ بِتَوْكِيلِ مُسْلِمٍ ذِمِّيًّا بِبَيْعِ خَمْرٍ فَلَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ قَطْعًا، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ الْوَكِيلَ هُنَاكَ إنَّمَا يَمْلِكُ مِنْ جِهَةِ الْمُوَكِّلِ التَّصَرُّفَ الْمُعَيَّنَ الْمَعْهُودَ الَّذِي وُكِّلَ بِهِ وَهُوَ بَيْعُ الْخَمْرِ لَا جِنْسُ التَّصَرُّفِ مُطْلَقًا وَإِلَّا لَصَحَّ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ هُنَاكَ بِتَصَرُّفٍ آخَرَ، كَأَنْ يَهَبَ الْخَمْرَ الَّتِي وُكِّلَ بِبَيْعِهَا لِذِمِّيٍّ أَوْ يَشْتَرِيَ بِهَا مِنْهُ شَيْئًا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِنْ جِنْسِ التَّصَرُّفَاتِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ قَطْعًا. وَالْحَقُّ عِنْدِي فِي الْجَوَابِ أَنْ يَخْتَارَ الشِّقَّ الثَّانِيَ وَهُوَ أَنَّ الْوَكِيلَ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ الَّذِي وُكِّلَ بِهِ مِنْ جِهَةِ الْمُوَكِّلِ.

وَيُدْفَعُ النَّقْضُ الْمَذْكُورُ بِحَمْلِ مَا فِي الْكِتَابِ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ أَوْ بِنَاءِ ذَلِكَ عَلَى الْأَصْلِ فَإِنَّ بَيْعَ الْخَمْرِ جَائِزٌ لِلْمُسْلِمِ فِي الْأَصْلِ. وَإِنَّمَا امْتَنَعَ بِعَارِضِ النَّهْيِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا كِلَا الْوَجْهَيْنِ فِي صَدْرِ الْكَلَامِ نَقْلًا عَنْ الْكُتُبِ الْمُعْتَبَرَةِ (وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْوَكِيلُ مِمَّنْ يَعْقِلُ الْعَقْدَ) بِأَنْ يَعْرِفَ مَثَلًا أَنَّ الْبَيْعَ سَالِبٌ وَالشِّرَاءَ جَالِبٌ وَيَعْرِفَ الْغَبْنَ الْيَسِيرَ مِنْ الْغَبْنِ الْفَاحِشِ، كَذَا ذَكَرَهُ فِي مَأْذُونِ الذَّخِيرَةِ وَفِي أَكْثَرِ الْمُعْتَبَرَاتِ، وَهُوَ احْتِرَازٌ عَنْ الصَّبِيِّ الَّذِي لَمْ يَعْقِلْ وَالْمَجْنُونِ (وَيَقْصِدُهُ) أَيْ يَقْصِدُ الْعَقْدَ، وَالْمُرَادُ أَنْ لَا يَكُونَ هَازِلًا فِيهِ، كَذَا رَأَى جُمْهُورُ الشُّرَّاحِ. وَرَدَّ عَلَيْهِمْ الشَّارِحُ ابْنُ الْهُمَامِ حَيْثُ قَالَ بَعْدَ نَقْلِ قَوْلِهِمْ: أَيُّ ارْتِبَاطٍ بَيْنَ صِحَّةِ الْوَكَالَةِ وَكَوْنِ الْوَكِيلِ هَازِلًا فِي الْبَيْعِ وَلَوْ كَانَ فِي بَيْعِ مَا وُكِّلَ بِبَيْعِهِ غَايَتُهُ أَنْ لَا يَصِحَّ ذَلِكَ الْبَيْعُ وَالْوَكَالَةُ صَحِيحَةٌ انْتَهَى.

أَقُولُ: يَخْرُجُ الْجَوَابُ عَنْهُ مِمَّا ذَكَرَهُ الشَّارِحُ تَاجُ الشَّرِيعَةِ هَاهُنَا حَيْثُ قَالَ: الْقَصْدُ شَرْطٌ فِي وُقُوعِ الْعَقْدِ عَنْ الْآمِرِ، حَتَّى لَوْ تَصَرَّفَ هَازِلًا لَا يَقَعُ عَنْهُ انْتَهَى فَتَأَمَّلْ، وَإِنَّمَا اُشْتُرِطَ ذَلِكَ فِي الْوَكِيلِ (لِأَنَّهُ يَقُومُ مَقَامَ الْمُوَكِّلِ فِي الْعِبَارَةِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْعِبَارَةِ) وَأَهْلِيَّةُ الْعِبَارَةِ لَا تَكُونُ إلَّا بِالْعَقْلِ وَالتَّمْيِيزِ؛ لِأَنَّ كَلَامَ غَيْرِ الْمُمَيِّزِ

ص: 13

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

كَأَلْحَانِ الطُّيُورِ (حَتَّى لَوْ كَانَ) أَيْ الْوَكِيلُ (صَبِيًّا لَا يَعْقِلُ أَوْ مَجْنُونًا كَانَ التَّوْكِيلُ بَاطِلًا) إذْ لَيْسَ لَهُمَا أَهْلِيَّةُ الْعِبَارَةِ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِمَا حُكْمٌ. قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَهَذَا يُشِيرُ إلَى أَنَّ مَعْرِفَةَ الْغَبْنِ الْيَسِيرِ مِنْ الْفَاحِشِ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي صِحَّةِ التَّوْكِيلِ، لَكِنْ ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ أَنَّ ذَلِكَ شَرْطٌ، وَهُوَ مُشْكِلٌ؛ لِأَنَّهُمْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ تَوْكِيلَ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ صَحِيحٌ، وَمَعْرِفَةُ مَا زَادَ عَلَى " ده نيم " فِي الْمَتَاعِ وَ " ده يازده " فِي الْحَيَوَانِ وَ " ده دوازده " فِي الْعَقَارِ، أَوْ مَا يَدْخُلُ تَحْتَ تَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ مِمَّا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ أَحَدٌ إلَّا بَعْدَ الِاشْتِغَالِ بِعِلْمِ الْفِقْهِ. انْتَهَى.

أَقُولُ: فِيهِ بَحْثٌ؛ لِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ أَنَّ مَعْرِفَةَ نَفْسِ الْغَبْنِ الْفَاحِشِ الدَّاخِلِ تَحْتَ أَحَدِ التَّفْسِيرَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ مِمَّا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ أَحَدٌ إلَّا بَعْدَ الِاشْتِغَالِ بِعِلْمِ الْفِقْهِ فَمَمْنُوعٌ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ مَنْ لَا يُمَارِسُ الْعِلْمَ أَصْلًا فَضْلًا عَنْ الِاشْتِغَالِ بِعِلْمِ الْفِقْهِ يُعْرَفُ بِاخْتِلَاطِهِ بِالنَّاسِ وَتَعَامُلِهِ مَعَهُمْ أَنَّ مَا زَادَ عَلَى مَا يَدْخُلُ تَحْتَ تَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ أَوْ مَا زَادَ عَلَى " ده نيم " فِي الْمَتَاعِ وَ " ده يازده " فِي الْحَيَوَانِ، وَ " ده دوازده " فِي الْعَقَارِ غَبْنٌ فَاحِشٌ، وَمَا دُونَ ذَلِكَ غَبْنٌ يَسِيرٌ كَمَا هُوَ حَالُ أَكْثَرِ أَهْلِ السُّوقِ. وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ مَعْرِفَةَ عِبَارَاتِ أَهْلِ الشَّرْعِ فِي الْغَبْنِ الْفَاحِشِ وَالْيَسِيرِ وَاصْطِلَاحَاتِهِمْ فِيهِ مِمَّا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ أَحَدٌ إلَّا بَعْدَ الِاشْتِغَالِ بِعِلْمِ الْفِقْهِ فَمُسَلَّمٌ، لَكِنْ لَا يُجْدِي ذَلِكَ شَيْئًا، إذْ لَا يَخْفَى أَنَّ الْمُرَادَ بِمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ مَعْرِفَةُ الْغَبْنِ الْيَسِيرِ مِنْ الْفَاحِشِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي

(وَإِذَا وَكَّلَ الْحُرُّ الْبَالِغُ أَوْ الْمَأْذُونُ مِثْلَهُمَا جَازَ) هَذَا لَفْظُ الْقُدُورِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُقَيَّدَ بِالْعَاقِلِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْمَجْنُونَ إذَا وَكَّلَ غَيْرَهُ لَا يَجُوزُ، وَكَأَنَّهُ إنَّمَا لَمْ يُقَيَّدْ بِذَلِكَ بِنَاءً عَلَى الْغَالِبِ؛ لِأَنَّ غَالِبَ أَحْوَالِ الْإِنْسَانِ أَنْ يَكُونَ عَاقِلًا، أَوْ بِنَاءً عَلَى أَنَّ اشْتِرَاطَ الْعَقْلِ مِمَّا يَعْرِفُهُ كُلُّ أَحَدٍ، وَإِنَّمَا أُطْلِقَ الْمَأْذُونُ لِيَشْمَلَ الْعَبْدَ وَالصَّبِيَّ الْمَأْذُونَ، فَإِنَّ تَوْكِيلَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيْرَهُ جَائِزٌ كَسَائِرِ تَصَرُّفَاتِهِمَا. ثُمَّ إنَّ هَذَا غَيْرُ مُنْحَصِرٍ فِي الْمِثْلِيَّةِ فِي صِفَةِ الْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّيَّةِ، بَلْ يَجُوزُ لِلْمُوَكِّلِ أَنْ يُوَكِّلَ مَنْ فَوْقَهُ كَتَوْكِيلِ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ الْحُرَّ أَوْ مَنْ دُونَهُ كَتَوْكِيلِ الْحُرِّ الْعَبْدَ الْمَأْذُونَ؛ أَلَا يُرَى أَنَّ التَّعْلِيلَ بِقَوْلِهِ (لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ مَالِكٌ لِلتَّصَرُّفِ وَالْوَكِيلَ مِنْ أَهْلِ الْعِبَارَةِ) يَشْمَلُ الْأَوْجُهَ الثَّلَاثَةَ مِنْ الْمِثْلِيَّةِ وَالْفَوْقِيَّةِ وَالدُّونِيَّةِ كَمَا ذُكِرَ فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ، وَعَنْ هَذَا قَالَ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ فِي شَرْحِ الْوِقَايَةِ: وَلَوْ قَالَ كُلًّا مِنْهُمَا كَانَ أَشْمَلَ لِتَنَاوُلِهِ تَوْكِيلَ الْحُرِّ الْبَالِغِ مِثْلَهُ أَوْ الْمَأْذُونَ، وَتَوْكِيلُ الْمَأْذُونِ مِثْلَهُ أَوْ الْحُرَّ الْبَالِغَ انْتَهَى. وَصَاحِبُ الْعِنَايَةِ قَدْ رَامَ تَوْجِيهَ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْمَقَامِ حَيْثُ قَالَ: وَيُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ مِثْلَهُمَا جَوَازُ تَوْكِيلِ مَنْ كَانَ فَوْقَهُمَا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. أَقُولُ: لَا يَذْهَبُ عَلَيْك أَنَّهُ لَا يُجْدِي كَثِيرٌ طَائِلٌ، إذْ يَبْقَى حِينَئِذٍ جَوَازُ تَوْكِيلِ مَنْ كَانَ دُونَ الْمُوَكِّلِ مَحَلًّا لِلْكَلَامِ، عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ مَنْ كَانَ فَوْقَهُمَا لَا يَخْلُو عَنْ سَمَاجَةٍ إذْ لَا أَحَدَ فَوْقَ الْحُرِّ الْبَالِغِ

(وَإِنْ وَكَّلَ) أَيْ الْحُرُّ الْبَالِغُ أَوْ الْمَأْذُونُ (صَبِيًّا مَحْجُورًا يَعْقِلُ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ أَوْ عَبْدًا مَحْجُورًا عَلَيْهِ جَازَ) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رحمه الله (وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِمَا الْحُقُوقُ) أَيْ حُقُوقُ مَا بَاشَرَاهُ مِنْ الْعَقْدِ كَالْقَاضِي وَأَمِينِهِ حَيْثُ لَا عُهْدَةَ عَلَيْهِمَا فِيمَا فَعَلَاهُ (وَتَتَعَلَّقُ بِمُوَكَّلِهِمَا) وَإِنَّمَا جَازَ تَوْكِيلُهُمَا عِنْدَنَا لِانْتِفَاءِ مَا يَمْنَعُهُ، أَمَّا مِنْ جَانِبِ الْمُوَكِّلِ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا مِنْ جَانِبِ الْوَكِيلِ فَلِمَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ (لِأَنَّ الصَّبِيَّ مِنْ أَهْلِ الْعِبَارَةِ؛ أَلَا يُرَى أَنَّهُ يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ بِإِذْنِ وَلِيِّهِ وَالْعَبْدُ مِنْ أَهْلِ التَّصَرُّفِ عَلَى نَفْسِهِ مَالِكٌ لَهُ) أَيْ لِلتَّصَرُّفِ عَلَى نَفْسِهِ وَلِهَذَا صَحَّ طَلَاقُهُ وَإِقْرَارُهُ بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ (وَإِنَّمَا لَا يَمْلِكُهُ) أَيْ التَّصَرُّفَ (فِي حَقِّ الْمَوْلَى) دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ (وَالتَّوْكِيلُ لَيْسَ تَصَرُّفًا فِي حَقِّهِ) أَيْ فِي حَقِّ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ صِحَّةَ التَّوْكِيلِ تَتَعَلَّقُ بِصِحَّةِ الْعِبَارَةِ وَالْعَبْدُ بَاقٍ عَلَى أَصْلِ الْحُرِّيَّةِ فِي حَقِّ صِحَّةِ الْعِبَارَةِ، فَإِنَّ صِحَّتَهَا بِكَوْنِهِ آدَمِيًّا (إلَّا أَنَّهُ لَا يَصِحُّ مِنْهُمَا) أَيْ مِنْ الصَّبِيِّ وَالْعَبْدِ الْمَحْجُورِ (الْتِزَامُ الْعُهْدَةِ، أَمَّا الصَّبِيُّ لِقُصُورِ أَهْلِيَّتِهِ) أَيْ أَمَّا الصَّبِيُّ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ فَلِقُصُورِ أَهْلِيَّتِهِ بِعَدَمِ الْبُلُوغِ (وَالْعَبْدُ لِحَقِّ سَيِّدِهِ) أَيْ وَأَمَّا الْعَبْدُ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ فَلِثُبُوتِ حَقِّ سَيِّدِهِ فِي مَالِيَّتِهِ، فَلَوْ لَزِمَهُ الْعُهْدَةُ لَتَضَرَّرَ بِهِ الْمَوْلَى، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ (فَتَلْزَمُ) أَيْ الْعُهْدَةُ (الْمُوَكِّلَ)؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ النَّاسِ إلَيْهِمَا حَيْثُ انْتَفَعَ بِتَصَرُّفِهِمَا.

وَيُفْهَمُ مِنْ هَذَا التَّعْلِيلِ أَنَّ الْعَبْدَ إذَا أُعْتِقَ لَزِمَهُ الْعُهْدَةُ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ لُزُومِهَا كَانَ حَقَّ الْمَوْلَى وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ بِالْعِتْقِ، وَأَنَّ الصَّبِيَّ إذَا بَلَغَ لَمْ يَلْزَمْهُ الْعُهْدَةُ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ لُزُومِهَا كَانَ قُصُورَ أَهْلِيَّتِهِ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ قَوْلُهُ مُلْزِمًا فِي حَقِّ نَفْسِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَلَمْ تَلْزَمْهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ أَيْضًا.

وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا بِهَذَا الْوَجْهِ مِمَّا ذُكِرَ صَرِيحًا فِي الْمَبْسُوطِ وَشَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِلْإِمَامِ قَاضِي خَانْ. ثُمَّ إنَّ فِي تَقْيِيدِ الصَّبِيِّ وَالْعَبْدِ بِقَوْلِهِ مَحْجُورًا عَلَيْهِ إشَارَةً إلَى أَنَّهُمَا لَوْ كَانَا مَأْذُونَيْنِ تَعَلَّقُ الْحُقُوقُ بِهِمَا لَكِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمُطْلَقٍ بَلْ فِيهِ تَفْصِيلٌ ذُكِرَ فِي الذَّخِيرَةِ. وَهُوَ أَنَّ الصَّبِيَّ الْمَأْذُونَ إذَا وُكِّلَ بِالْبَيْعِ فَبَاعَ لَزِمَهُ الْعُهْدَةُ سَوَاءٌ كَانَ الثَّمَنُ حَالًّا أَوْ مُؤَجَّلًا وَإِذَا وَكَّلَ بِالشِّرَاءِ؛ فَإِنْ وَكَّلَ بِالشِّرَاءِ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ لَمْ تَلْزَمْهُ الْعُهْدَةُ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا بَلْ تَكُون الْعُهْدَةُ عَلَى

ص: 14

قَالَ (وَالْعَقْدُ الَّذِي يَعْقِدُهُ الْوُكَلَاءُ عَلَى ضَرْبَيْنِ): كُلُّ عَقْدٍ يُضِيفُهُ الْوَكِيلُ إلَى نَفْسِهِ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ فَحُقُوقُهُ تَتَعَلَّقُ بِالْوَكِيلِ دُونَ الْمُوَكِّلِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: تَتَعَلَّقُ بِالْمُوَكِّلِ؛ لِأَنَّ الْحُقُوقَ تَابِعَةٌ لِحُكْمِ التَّصَرُّفِ، وَالْحُكْمُ وَهُوَ الْمِلْكُ يَتَعَلَّقُ بِالْمُوَكِّلِ، فَكَذَا تَوَابِعُهُ وَصَارَ كَالرَّسُولِ وَالْوَكِيلِ بِالنِّكَاحِ.

الْآمِرِ حَتَّى إنَّ الْبَائِعَ يُطَالِبُ الْآمِرَ بِالثَّمَنِ؛ لِأَنَّ مَا يَلْزَمُهُ مِنْ الْعُهْدَةِ ضَمَانُ كَفَالَةٍ لَا ضَمَانُ ثَمَنٍ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الثَّمَنِ مَا يُفِيدُ الْمِلْكَ لِلضَّامِنِ فِي الْمُشْتَرِي، وَهَذَا لَيْسَ كَذَلِكَ إنَّمَا هَذَا الْتَزَمَ مَالًا فِي ذِمَّتِهِ اسْتَوْجَبَ مِثْلَ ذَلِكَ عَلَى مُوَكِّلِهِ وَهَذَا هُوَ مَعْنَى الْكَفَالَةِ، وَالصَّبِيُّ الْمَأْذُونُ يَلْزَمُهُ ضَمَانُ الثَّمَنِ لَا ضَمَانُ الْكَفَالَةِ.

وَأَمَّا إذَا وُكِّلَ بِالشِّرَاءِ بِثَمَنٍ حَالٍّ فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ الْعُهْدَةُ. وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّ مَا الْتَزَمَهُ ضَمَانُ ثَمَنٍ حَيْثُ مَلَّكَ الْمُشْتَرِيَ مِنْ حَيْثُ الْحُكْمُ فَإِنَّهُ يَحْبِسُهُ بِالثَّمَنِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ مِنْ الْمُوَكِّلِ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى لِنَفْسِهِ ثُمَّ بَاعَ مِنْهُ وَالصَّبِيُّ الْمَأْذُونُ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الثَّمَنُ مُؤَجَّلًا؛ لِأَنَّهُ بِمَا يَضْمَنُ مِنْ الثَّمَنِ لَا يُمَلِّكُ الْمُشْتَرِيَ لَا مِنْ حَيْثُ الْحَقِيقَةُ وَلَا مِنْ حَيْثُ الْحُكْمُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ حَبْسَهُ بِذَلِكَ فَكَانَ ضَمَانَ كَفَالَةٍ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى. وَالْجَوَابُ فِي الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ إذَا وُكِّلَ بِالْبَيْعِ أَوْ الشِّرَاءِ عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ. ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الصَّبِيَّ وَالْعَبْدَ الْمَحْجُورَيْنِ وَإِنْ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِمَا الْحُقُوقُ فَلِقَبْضِهِمَا الثَّمَنَ وَتَسْلِيمِهِمَا الْمَبِيعَ اعْتِبَارٌ لِمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ مِنْ بَعْدُ فِي فَصْلِ الشِّرَاءِ فِي التَّوْكِيلِ بِعَقْدِ السَّلَمِ حَيْثُ قَالَ: وَالْمُسْتَحَقُّ بِالْعَقْدِ قَبْضُ الْعَاقِدِ وَهُوَ الْوَكِيلُ فَيَصِحُّ قَبْضُهُ وَإِنْ كَانَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحُقُوقُ كَالصَّبِيِّ وَالْعَبْدِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ انْتَهَى.

(وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ إذَا لَمْ يَعْلَمْ بِحَالِ الْبَائِعِ ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ صَبِيٌّ أَوْ عَبْدٌ مَحْجُورٌ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: أَوْ مَجْنُونٌ، فَقِيلَ الْمُرَادُ بِهِ مَنْ يُجَنُّ وَيُفِيقُ، وَقِيلَ عَلَى حَاشِيَةِ نُسْخَةِ الْمُصَنِّفِ مَحْجُورٌ مَقَامَ مَجْنُونٍ. قَالَ صَاحِبُ الْكِفَايَةِ عِنْدَ نَقْلِ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ: وَفِي الْكَافِي لِلْعَلَّامَةِ النَّسَفِيِّ: ثُمَّ عُلِمَ أَنَّهُ صَبِيٌّ مَحْجُورٌ أَوْ عَبْدٌ مَحْجُورٌ فَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ مَجْنُونٌ تَصْحِيفٌ انْتَهَى (لَهُ خِيَارُ الْفَسْخِ) أَيْ لِلْمُشْتَرِي خِيَارُ الْفَسْخِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ (لِأَنَّهُ) أَيْ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ (دَخَلَ فِي الْعَقْدِ عَلَى) ظَنِّ (أَنَّ حُقُوقَهُ تَتَعَلَّقُ بِالْعَاقِدِ) يَعْنِي أَنَّ الْمُشْتَرِيَ مَا رَضِيَ بِالْعَقْدِ إلَّا عَلَى اعْتِقَادِ أَنَّ حُقُوقَهُ تَتَعَلَّقُ بِالْعَاقِدِ (فَإِذَا ظَهَرَ خِلَافُهُ يَتَخَيَّرُ)؛ لِأَنَّهُ فَاتَ عَنْهُ وَصْفٌ مَرْغُوبٌ فِيهِ، فَصَارَ (كَمَا إذَا عَثَرَ) أَيْ اطَّلَعَ (عَلَى عَيْبٍ) أَيْ عَلَى عَيْبٍ لَمْ يَرْضَ بِهِ وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا عَدَمُ الرِّضَا. وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لَا خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي وَلَا لِلْبَائِعِ ذَكَرَهُ تَاجُ الشَّرِيعَةِ.

(قَالَ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ (وَالْعُقُودُ الَّتِي يَعْقِدُهَا الْوُكَلَاءُ عَلَى ضَرْبَيْنِ) وَقَالَ فِي بَعْضِ نُسَخِهِ: وَالْعَقْدُ الَّذِي يَعْقِدُهُ الْوُكَلَاءُ: أَيْ جِنْسُ الْعَقْدِ كَذَا فِي غَايَةِ الْبَيَانِ (كُلُّ عَقْدٍ يُضِيفُهُ الْوَكِيلُ إلَى نَفْسِهِ) أَيْ تَصِحُّ إضَافَتُهُ إلَى نَفْسِهِ وَيُسْتَغْنَى عَنْ إضَافَتِهِ إلَى الْمُوَكِّلِ (كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ فَحُقُوقُهُ تَتَعَلَّقُ بِالْوَكِيلِ دُونَ الْمُوَكِّلِ) أَقُولُ: هَذِهِ الْكُلِّيَّةُ تَنْتَقِضُ بِمَا إذَا كَانَ الْوَكِيلُ صَبِيًّا مَحْجُورًا عَلَيْهِ أَوْ عَبْدًا مَحْجُورًا عَلَيْهِ، فَإِنَّ حُقُوقَ عَقْدِهِمَا تَتَعَلَّقُ بِالْمُوَكِّلِ وَإِنْ كَانَ الْعَقْدُ مِمَّا يُضِيفُهُ الْوَكِيلُ إلَى نَفْسِهِ كَمَا عَرَفْته فِيمَا مَرَّ.

(وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تَتَعَلَّقُ بِالْمُوَكِّلِ) وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ (لِأَنَّ الْحُقُوقَ تَابِعَةٌ لِحُكْمِ التَّصَرُّفِ وَالْحُكْمُ وَهُوَ الْمِلْكُ يَتَعَلَّقُ بِالْمُوَكِّلِ فَكَذَا تَوَابِعُهُ وَصَارَ) أَيْ صَارَ الْوَكِيلُ فِي هَذَا الضَّرْبِ (كَالرَّسُولِ) فَإِنْ قَالَ رَجُلٌ لِآخَرَ: كُنْ رَسُولِي فِي بَيْعِ عَبْدِي وَحُقُوقُ الْعَقْدِ لَا تَتَعَلَّقُ بِالرَّسُولِ بِلَا خِلَافٍ (وَالْوَكِيلِ بِالنِّكَاحِ) أَيْ وَصَارَ كَالْوَكِيلِ بِالنِّكَاحِ مِنْ الضَّرْبِ الثَّانِي فَإِنَّ حُقُوقَ عَقْدِ النِّكَاحِ تَتَعَلَّقُ بِالْمُوَكِّلِ اتِّفَاقًا كَمَا سَيَجِيءُ

ص: 15

وَلَنَا أَنَّ الْوَكِيلَ هُوَ الْعَاقِدُ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ يَقُومُ بِالْكَلَامِ، وَصِحَّةُ عِبَارَتِهِ لِكَوْنِهِ آدَمِيًّا وَكَذَا حُكْمًا؛ لِأَنَّهُ يَسْتَغْنِي عَنْ إضَافَةِ الْعَقْدِ إلَى الْمُوَكِّلِ، وَلَوْ كَانَ سَفِيرًا عَنْهُ لَمَا اسْتَغْنَى عَنْ ذَلِكَ كَالرَّسُولِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ أَصِيلًا فِي الْحُقُوقِ فَتَتَعَلَّقُ بِهِ وَلِهَذَا قَالَ فِي الْكِتَابِ (يُسَلِّمُ الْمَبِيعَ وَيَقْبِضُ الثَّمَنَ وَيُطَالِبُ بِالثَّمَنِ إذَا اشْتَرَى، وَيَقْبِضُ الْمَبِيعَ وَيُخَاصِمُ فِي الْعَيْبِ وَيُخَاصِمُ فِيهِ)؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مِنْ الْحُقُوقِ وَالْمِلْكُ يَثْبُتُ لِلْمُوَكِّلِ خِلَافَةً عَنْهُ،

وَلَنَا أَنَّ الْوَكِيلَ هُوَ الْعَاقِدُ) يَعْنِي أَنَّ الْوَكِيلَ فِي هَذَا الضَّرْبِ هُوَ الْعَاقِدُ (حَقِيقَةً) أَيْ مِنْ حَيْثُ الْحَقِيقَةُ (لِأَنَّ الْعَقْدَ يَقُومُ بِالْكَلَامِ وَصِحَّةُ عِبَارَتِهِ) أَيْ وَصِحَّةُ عِبَارَةِ الْعَاقِدِ: أَيْ صِحَّةُ كَلَامِهِ (لِكَوْنِهِ آدَمِيًّا لَهُ أَهْلِيَّةُ الْإِيجَابِ وَالِاسْتِيجَابِ لَا لِكَوْنِهِ وَكِيلًا)، فَكَانَ الْعَقْدُ الْوَاقِعُ مِنْهُ وَلِغَيْرِهِ سَوَاءً.

وَفِي الْكَافِي: فَقَضِيَّتُهُ تَسْتَدْعِي أَنْ يَكُونَ الْحَاصِلُ بِالتَّصَرُّفِ وَاقِعًا لَهُ غَيْرَ أَنَّ الْمُوَكِّلَ لَمَّا اسْتَنَابَهُ فِي تَحْصِيلِ الْحُكْمِ جَعَلْنَاهُ نَائِبًا فِي حَقِّ الْحُكْمِ وَرَاعَيْنَا الْأَصْلَ فِي حَقِّ الْحُقُوقِ (وَكَذَا حُكْمًا) أَيْ وَكَذَا الْوَكِيلُ فِي هَذَا الضَّرْبِ هُوَ الْعَاقِدُ مِنْ حَيْثُ الْحُكْمُ (لِأَنَّهُ) أَيْ الْوَكِيلَ (يَسْتَغْنِي عَنْ إضَافَةِ الْعَقْدِ إلَى الْمُوَكِّلِ لَوْ كَانَ سَفِيرًا) عَنْهُ (لَمَا اسْتَغْنَى عَنْ ذَلِكَ) أَيْ عَنْ إضَافَةِ الْعَقْدِ إلَى الْمُوَكِّلِ (كَالرَّسُولِ) وَالْوَكِيلِ بِالنِّكَاحِ فَإِنَّهُمَا لَا يَسْتَغْنِيَانِ عَنْ الْإِضَافَةِ إلَيْهِ (وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ) أَيْ إذَا كَانَ الْوَكِيلُ فِي هَذَا الضَّرْبِ هُوَ الْعَاقِدُ حَقِيقَةً وَحُكْمًا (كَانَ أَصِيلًا فِي الْحُقُوقِ فَتَتَعَلَّقُ) حُقُوقُ الْعَقْدِ (بِهِ) أَيْ تَتَعَلَّقُ الْحُقُوقُ بِالْوَكِيلِ دُونَ الْمُوَكِّلِ (فَلِهَذَا) أَيْ فَلِكَوْنِ الْوَكِيلِ فِي هَذَا الضَّرْبِ أَصْلًا فِي الْحُقُوقِ (قَالَ فِي الْكِتَابِ) أَيْ قَالَ الْقُدُورِيُّ فِي الْمُخْتَصَرِ. وَقِيلَ: أَيْ قَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَوْ الْمَبْسُوطِ (يُسَلِّمُ الْمَبِيعَ) أَيْ يُسَلِّمُ الْوَكِيلُ الْمَبِيعَ (وَيَقْبِضُ الثَّمَنَ) إذَا بَاعَ (وَيُطَالَبُ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ: أَيْ يُطَالَبُ الْوَكِيلُ (بِالثَّمَنِ إذَا اشْتَرَى وَيَقْبِضُ الْمَبِيعَ) أَيْ وَيَقْبِضُ الْمَبِيعَ إذَا اشْتَرَى (وَيُخَاصَمُ فِي الْعَيْبِ وَيُخَاصِمُ فِيهِ) بِفَتْحِ الصَّادِ فِي الْأَوَّلِ وَكَسْرِهَا فِي الثَّانِي، فَالْأَوَّلُ فِيمَا إذَا بَاعَ، وَالثَّانِي فِيمَا إذَا اشْتَرَى عَلَى التَّرْتِيبِ السَّابِقِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ هَاهُنَا فَائِدَةً جَلِيلَةً يَجِبُ التَّنَبُّهُ لَهَا قَدْ ذَكَرَهَا صَدْرُ الشَّرِيعَةِ فِي شَرْحِ الْوِقَايَةِ حَيْثُ قَالَ: يَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الْحُقُوقَ نَوْعَانِ: حَقٌّ يَكُونُ لِلْوَكِيلِ، وَحَقٌّ يَكُونُ عَلَى الْوَكِيلِ. فَالْأَوَّلُ كَقَبْضِ الْمَبِيعِ وَمُطَالَبَةِ ثَمَنِ الْمُشْتَرِي وَالْمُخَاصَمَةِ فِي الْعَيْبِ وَالرُّجُوعِ بِثَمَنٍ مُسْتَحَقٍّ. فَفِي هَذَا النَّوْعِ لِلْوَكِيلِ وِلَايَةُ هَذِهِ الْأُمُورِ لَكِنْ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ، فَإِنْ امْتَنَعَ لَا يُجْبِرُهُ الْمُوَكِّلُ عَلَى هَذِهِ الْأَفْعَالِ؛ لِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ فِي الْعَمَلِ بَلْ يُوَكِّلُ الْمُوَكِّلُ بِهَذِهِ الْأَفْعَالِ، وَسَيَأْتِي فِي كِتَابِ الْمُضَارَبَةِ بَعْضُ هَذَا، وَإِنْ مَاتَ الْوَكِيلُ فَوِلَايَةُ هَذِهِ الْأَفْعَالِ لِوَرَثَتِهِ، فَإِنْ امْتَنَعُوا وَكَّلُوا مُوَكِّلَ مُورِثِهِمْ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لِلْمُوَكَّلِ وِلَايَةُ هَذِهِ الْأَفْعَالِ بِلَا تَوْكِيلٍ مِنْ الْوَكِيلِ أَوْ وَارِثِهِ. وَفِي النَّوْعِ الْآخَرِ يَكُونُ الْوَكِيلُ مُدَّعًى عَلَيْهِ فَلِلْمُدَّعِي أَنْ يُجْبِرَ الْوَكِيلَ عَلَى تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ وَتَسْلِيمِ الثَّمَنِ وَأَخَوَاتِهِمَا إلَى هُنَا كَلَامُهُ (وَالْمِلْكُ يَثْبُتُ لِلْمُوَكِّلِ خِلَافَةً عَنْهُ) أَيْ عَنْ الْوَكِيلِ، هَذَا جَوَابٌ عَمَّا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ إنَّ الْحُقُوقَ تَابِعَةٌ لِحُكْمِ التَّصَرُّفِ، وَالْحُكْمُ وَهُوَ الْمِلْكُ يَتَعَلَّقُ

ص: 16

اعْتِبَارًا لِلتَّوْكِيلِ السَّابِقِ كَالْعَبْدِ يُتَّهَبُ وَيُصْطَادُ هُوَ الصَّحِيحُ.

بِالْمُوَكِّلِ فَكَذَا تَوَابِعُهُ. تَقْرِيرُهُ أَنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ لِلْمُوَكِّلِ ابْتِدَاءً، لَكِنْ لَا أَصَالَةَ حَتَّى يَثْبُتَ لَهُ تَوَابِعُهُ أَيْضًا بَلْ خِلَافَةٌ عَنْ الْوَكِيلِ، وَمَعْنَى الْخِلَافِ أَنْ يَثْبُتَ الْمِلْكُ لِلْمُوَكِّلِ ابْتِدَاءً وَيَنْعَقِدَ السَّبَبُ مُوجِبًا حُكْمَهُ لِلْوَكِيلِ فَكَانَ الْمُوَكِّلُ قَائِمًا مَقَامَ الْوَكِيلِ فِي ثُبُوتِ الْمِلْكِ (اعْتِبَارًا لِلتَّوْكِيلِ السَّابِقِ) وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْوَكِيلَ خَلَفٌ عَنْ الْمُوَكِّلِ فِي حَقِّ اسْتِفَادَةِ التَّصَرُّفِ وَالْمُوَكِّلَ خَلَفٌ عَنْ الْوَكِيلِ فِي حَقِّ ثُبُوتِ الْمِلْكِ (كَالْعَبْدِ يُتَّهَبُ وَيُصْطَادُ) فَإِنَّهُ إذَا اُتُّهِبَ: أَيْ قَبِلَ الْهِبَةَ وَاصْطَادَ يَثْبُتُ الْمِلْكُ لِلْمَوْلَى ابْتِدَاءً خِلَافَةً عَنْ الْعَبْدِ، فَإِنْ وَلَّاهُ يَقُومُ مَقَامَهُ فِي الْمِلْكِ بِذَلِكَ السَّبَبِ كَمَا ذُكِرَ فِي الْمَبْسُوطِ.

وَتَحْقِيقُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ لِتَصَرُّفِ الْوَكِيلِ جِهَتَيْنِ: جِهَةُ حُصُولِهِ بِعِبَارَتِهِ وَجِهَةُ نِيَابَتِهِ، وَإِعْمَالُهُمَا وَلَوْ بِوَجْهٍ أَوْلَى مِنْ إهْمَالِ أَحَدِهِمَا، فَلَوْ أَثْبَتْنَا الْمِلْكَ وَالْحُقُوقَ لِلْوَكِيلِ عَلَى مَا هُوَ مُقْتَضَى الْقِيَاسِ لِحُصُولِهِمَا بِعِبَارَتِهِمْ وَأَهْلِيَّتِهِ بَطَلَ تَوْكِيلُ الْمُوَكِّلِ، وَلَوْ أَثْبَتْنَاهُمَا لِلْمُوَكِّلِ بَطَلَ عِبَارَةُ الْوَكِيلِ. فَأَثْبَتْنَا الْمِلْكَ لِلْمُوَكِّلِ؛ لِأَنَّهُ الْغَرَضُ مِنْ التَّوْكِيلِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ اعْتِبَارًا لِلتَّوْكِيلِ السَّابِقِ فَتُعَيَّنُ الْحُقُوقُ لِلْوَكِيلِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ الْحُكْمُ لِغَيْرِ مَنْ انْعَقَدَ لَهُ السَّبَبُ كَالْعَبْدِ يَقْبَلُ الْهِبَةَ وَالصَّدَقَةَ وَيَصْطَادُ فَإِنَّ مَوْلَاهُ يَقُومُ مَقَامَهُ فِي الْمِلْكِ بِذَلِكَ السَّبَبِ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ. ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْمِلْكَ طَرِيقَةُ أَبِي طَاهِرٍ الدَّبَّاسِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا.

قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ: قَوْلُ أَبِي طَاهِرٍ أَصَحُّ. وَقَالَ الْمُصَنِّفُ (هُوَ الصَّحِيحُ) وَاحْتُرِزَ بِهِ عَنْ طَرِيقَةِ أَبِي الْحَسَنِ الْكَرْخِيِّ وَهِيَ أَنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ لِلْوَكِيلِ أَوَّلًا ثُمَّ يَنْتَقِلُ إلَى الْمُوَكِّلِ، وَإِلَيْهَا ذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا وَهِيَ اخْتِيَارُ الْإِمَامِ قَاضِي خَانْ كَمَا ذُكِرَ فِي التَّحْرِيرِ، وَإِنَّمَا قَالَ هُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ إذَا اشْتَرَى مَنْكُوحَتَهُ أَوْ قَرِيبَهُ لَا يَفْسُدُ النِّكَاحُ وَلَا يُعْتَقُ عَلَيْهِ، وَلَوْ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ الْمِلْكُ لَمَا كَانَ كَذَلِكَ. قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَجَوَابُهُ أَنَّ نُفُوذَ الْعِتْقِ يَحْتَاجُ إلَى مِلْكٍ مُسْتَقِرٍّ دَائِمٍ وَمِلْكُ الْوَكِيلِ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ وَلَا دَائِمٍ فِيهِ بَلْ يَزُولُ عَنْهُ فِي ثَانِي الْحَالِ وَيَنْتَقِلُ إلَى الْمُوَكِّلِ بِاعْتِبَارِ الْوَكَالَةِ السَّابِقَةِ.

قَالَ فِي الزِّيَادَاتِ فِيمَنْ تَزَوَّجَ أَمَةً ثُمَّ حُرَّةً عَلَى رَقَبَتِهَا فَأَجَازَ مَوْلَاهَا فَإِنَّهُ تَصِيرُ الْأَمَةُ مَهْرًا لِلْحُرَّةِ وَلَا يَفْسُدُ النِّكَاحُ وَإِنْ ثَبَتَ الْمِلْكُ لِلزَّوْجِ فِيهَا؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ غَيْرُ مُسْتَقَرٍّ حَيْثُ يَنْتَقِلُ مِنْهُ إلَى الْحُرَّةِ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا انْتَهَى. قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ ذِكْرِ هَذَا الْجَوَابِ: وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ يُخَالِفُ إطْلَاقَ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ عَتَقَ عَلَيْهِ الْحَدِيثَ انْتَهَى. أَقُولُ: الْجَوَابُ عَنْ هَذَا النَّظَرِ

ص: 17

قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ: وَفِي مَسْأَلَةِ الْعَيْبِ تَفْصِيلٌ نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَالَ (وَكُلُّ عَقْدٍ يُضِيفُهُ إلَى مُوَكِّلِهِ كَالنِّكَاحِ وَالْخُلْعِ وَالصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ فَإِنَّ حُقُوقَهُ تَتَعَلَّقُ بِالْمُوَكِّلِ دُونَ الْوَكِيلِ فَلَا يُطَالَبُ وَكِيلُ الزَّوْجِ بِالْمَهْرِ وَلَا يَلْزَمُ وَكِيلَ الْمَرْأَةِ تَسْلِيمُهَا)؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ فِيهَا سَفِيرٌ مَحْضٌ؛ أَلَا يُرَى أَنَّهُ لَا يُسْتَغْنَى عَنْ إضَافَةِ الْعَقْدِ إلَى الْمُوَكِّلِ، وَلَوْ أَضَافَهُ إلَى نَفْسِهِ كَانَ النِّكَاحُ لَهُ فَصَارَ كَالرَّسُولِ،

ظَاهِرٌ، إذْ قَدْ تَقَرَّرَ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْمُطْلَقَ يَنْصَرِفُ إلَى الْكَامِلِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمِلْكَ الْكَامِلَ هُوَ الْمِلْكُ الْمُسْتَقِرُّ فَلَا مُخَالَفَةَ. قَالَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ: إنَّ الْقَاضِيَ أَبَا زَيْدٍ خَالَفَهُمَا وَقَالَ: الْوَكِيلُ نَائِبٌ فِي حَقِّ الْحُكْمِ أَصِيلٌ فِي حَقِّ الْحُقُوقِ، فَإِنَّ الْحُقُوقَ تَثْبُتُ لَهُ ثُمَّ تَنْتَقِلُ إلَى الْمُوَكِّلِ مِنْ قِبَلِهِ فَوَافَقَ أَبَا الْحَسَنِ فِي حَقِّ الْحُقُوقِ، وَوَافَقَ أَبَا طَاهِرٍ فِي حَقِّ الْحُكْمِ وَهَذَا حَسَنٌ، كَذَا ذُكِرَ فِي الْإِيضَاحِ وَالْفَتَاوَى الصُّغْرَى (قَالَ رضي الله عنه) أَيْ قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله (وَفِي مَسْأَلَةِ الْعَيْبِ تَفْصِيلٌ نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى) أَرَادَ بِهِ مَا ذَكَرَهُ فِي بَابِ الْوَكَالَةِ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ بِقَوْلِهِ: وَإِذَا اشْتَرَى الْوَكِيلُ ثُمَّ اطَّلَعَ عَلَى عَيْبٍ فَلَهُ أَنْ يَرُدَّهُ بِالْعَيْبِ مَا دَامَ الْمَبِيعُ فِي يَدِهِ، وَإِنْ سَلَّمَهُ إلَى الْمُوَكِّلِ لَمْ يَرُدَّهُ إلَّا بِإِذْنِهِ، كَذَا فِي عَامَّةِ الشُّرُوحِ.

قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: الْقَصْرُ عَلَيْهِ قُصُورٌ بَلْ الظَّاهِرُ عُمُومُ الْحَوَالَةِ لِمَا يَذْكُرُهُ فِي فَصْلٍ فِي الْبَيْعِ بِقَوْلِهِ وَمَنْ أَمَرَ رَجُلًا بِبَيْعِ عَبْدِهِ فَبَاعَهُ وَقَبَضَ الثَّمَنَ أَوْ لَمْ يَقْبِضْ فَرَدَّهُ عَلَيْهِ الْمُشْتَرِي بِعَيْبٍ إلَخْ. أَقُولُ: الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ تَعَلُّقِ حُقُوقِ الْعَقْدِ بِالْوَكِيلِ دُونَ الْمُوَكِّلِ مِنْ الْمَسَائِلِ الْآتِيَةِ فِي الْكِتَابِ إنَّمَا هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الشُّرَّاحُ هَاهُنَا، فَإِنَّ الْوَكِيلَ إذَا اشْتَرَى شَيْئًا ثُمَّ اطَّلَعَ عَلَى عَيْبٍ فَلَهُ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى بَائِعِهِ بِمُقْتَضَى تَعَلُّقِ حُقُوقِ عَقْدِ الشِّرَاءِ بِالْوَكِيلِ. ثُمَّ بَعْدَ هَذَا إنْ بَقِيَ الْمَبِيعُ فِي يَدِهِ يَبْقَى حَقُّ الرَّدِّ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَبْقَ فِي يَدِهِ بَلْ كَانَ سَلَّمَهُ إلَى الْمُوَكِّلِ يَسْقُطُ ذَلِكَ الْحَقُّ عَنْهُ لِانْتِهَاءِ حُكْمِ الْوَكَالَةِ بِالتَّسْلِيمِ فَيَتَوَقَّفُ الرَّدُّ عَلَى إذْنِ الْمُوَكِّلِ. وَلَمَّا لَمْ يُعْلَمْ هَذَا التَّفْصِيلُ هَاهُنَا وَكَانَ مِمَّا يُحْتَاجُ إلَى بَيَانِهِ أَحَالَهُ الْمُصَنِّفُ رحمه الله عَلَى مَا سَيَذْكُرُهُ فِي فَصْلِ الْوَكَالَةِ بِالشِّرَاءِ مِنْ بَابِ الْوَكَالَةِ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ.

وَأَمَّا الَّذِي يَذْكُرُهُ فِي فَصْلِ الْوَكَالَةِ بِالْبَيْعِ بِقَوْلِهِ وَمَنْ أَمَرَ رَجُلًا بِبَيْعِ عَبْدِهِ فَبَاعَهُ وَقَبَضَ الثَّمَنَ أَوْ لَمْ يَقْبِضْ فَرَدَّهُ عَلَيْهِ الْمُشْتَرِي بِعَيْبٍ إلَخْ فَمِمَّا لَا مِسَاسَ لَهُ بِمَا نَحْنُ فِيهِ، فَإِنَّ حَاصِلَ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا رُدَّ الْعَبْدُ عَلَى الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ بِعَيْبٍ فَإِنْ رُدَّ عَلَيْهِ بِحُجَّةٍ كَامِلَةٍ يَرُدُّهُ عَلَى الْمُوَكِّلِ، وَإِنْ رُدَّ عَلَيْهِ بِحُجَّةٍ قَاصِرَةٍ لَا يَرُدُّهُ عَلَيْهِ، وَهَذَا أَمْرٌ وَرَاءَ تَعَلُّقِ حُقُوقِ الْعَقْدِ بِالْوَكِيلِ يَجْرِي بَيْنَ الْمُوَكِّلِ وَالْوَكِيلِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْحَوَالَةِ مَا يَتَعَلَّقُ بِمَا نَحْنُ فِيهِ لَا مَا يَتَعَلَّقُ بِمُجَرَّدِ الْعَيْبِ، فَلِهَذَا لَمْ يُعَمِّمْهَا الشُّرَّاحُ كَمَا تَوَهَّمَهُ ذَلِكَ الْقَائِلُ

(قَالَ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ (وَكُلُّ عَقْدٍ يُضِيفُهُ) أَيْ يُضِيفُهُ الْوَكِيلُ (إلَى مُوَكِّلِهِ) هَذِهِ ضَابِطَةُ الضَّرْبِ الثَّانِي: أَيْ كُلُّ عَقْدٍ لَا يَسْتَغْنِي الْوَكِيلُ فِيهِ عَنْ الْإِضَافَةِ إلَى الْمُوَكِّلِ (كَالنِّكَاحِ وَالْخُلْعِ وَالصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ فَإِنَّ حُقُوقَهُ تَتَعَلَّقُ بِالْمُوَكِّلِ دُونَ الْوَكِيلِ) فَفَرَّعَ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ (فَلَا يُطَالَبُ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (وَكِيلُ الزَّوْجِ بِالْمَهْرِ وَلَا يَلْزَمُ وَكِيلَ الْمَرْأَةِ تَسْلِيمُهَا) أَيْ تَسْلِيمُ الْمَرْأَةِ إلَى زَوْجِهَا (لِأَنَّ الْوَكِيلَ فِيهَا) أَيْ فِي هَذِهِ الْعُقُودِ (سَفِيرٌ مَحْضٌ) أَيْ مُعَبِّرٌ مَحْضٌ حَاكٍ قَوْلَ الْمُوَكِّلِ، وَمَنْ حَكَى قَوْلَ الْغَيْرِ لَا يَلْزَمُهُ حُكْمُ قَوْلِ ذَلِكَ الْغَيْرِ (أَلَا يُرَى أَنَّهُ) أَيْ الْوَكِيلَ (لَا يَسْتَغْنِي عَنْ إضَافَةِ الْعَقْدِ إلَى الْمُوَكِّلِ) كَيْفَ (وَلَوْ أَضَافَهُ إلَى نَفْسِهِ كَانَ النِّكَاحُ) مَثَلًا (لَهُ) أَيْ لِلْوَكِيلِ نَفْسِهِ فَيَخْرُجُ عَنْ حُكْمِ الْوَكَالَةِ وَالْكَلَامِ فِيهِ (فَصَارَ كَالرَّسُولِ) يَعْنِي إذَا كَانَ الْوَكِيلُ فِي هَذَا الضَّرْبِ سَفِيرًا مَحْضًا فَقَدْ صَارَ كَالرَّسُولِ فِي بَابِ الْبَيْعِ وَنَحْوِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْحُكْمَ

ص: 18

وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ فِيهَا لَا يَقْبَلُ الْفَصْلَ عَنْ السَّبَبِ؛ لِأَنَّهُ إسْقَاطٌ فَيَتَلَاشَى فَلَا يُتَصَوَّرُ صُدُورُهُ مِنْ شَخْصٍ وَثُبُوتُ حُكْمِهِ لِغَيْرِهِ فَكَانَ سَفِيرًا.

وَالضَّرْبُ الثَّانِي مِنْ أَخَوَاتِهِ الْعِتْقُ عَلَى مَالٍ

فِي الرِّسَالَةِ يَرْجِعُ إلَى الْمُرْسِلِ دُونَ الرَّسُولِ (وَهَذَا) يَعْنِي كَوْنَ الْحُقُوقِ فِي هَذِهِ الْعُقُودِ مُتَعَلِّقَةً بِالْمُوَكِّلِ دُونَ الْوَكِيلِ، وَهَذَا عَلَى مَا هُوَ دَأْبُ الْمُصَنِّفِ رحمه الله فِي كِتَابِهِ هَذَا مِنْ أَنَّهُ يَقُولُ بَعْدَ ذِكْرِ دَلِيلٍ عَلَى مُدَّعٍ: وَهَذَا؛ لِأَنَّ إلَخْ، وَيُرِيدُ بِهِ بِذِكْرِ دَلِيلٍ آخَرَ لَمِّيٍّ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ دَلِيلًا إنِّيًّا فَهَاهُنَا لَمَّا بَيَّنَ إنِّيَّةَ كَوْنِ الْحُقُوقِ فِي هَذِهِ الْعُقُودِ مُتَعَلِّقَةً بِالْمُوَكِّلِ دُونَ الْوَكِيلِ بِكَوْنِ الْوَكِيلِ فِيهَا سَفِيرًا مَحْضًا غَيْرَ مُسْتَغْنٍ عَنْ إضَافَةِ الْعَقْدِ إلَى الْمُوَكِّلِ أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ لَمِّيَّتَهُ أَيْضًا بِقَوْلِهِ (لِأَنَّ الْحُكْمَ فِيهَا) أَيْ فِي هَذِهِ الْعُقُودِ (لَا يَقْبَلُ الْفَصْلَ عَنْ السَّبَبِ) حَتَّى لَمْ يَدْخُلْ فِيهَا خِيَارُ الشَّرْطِ، إذْ الْخِيَارُ يَدْخُلُ عَلَى الْحُكْمِ فَيُوجِبُ تَرَاخِيَهُ عَنْ السَّبَبِ، وَهَذِهِ الْعُقُودُ لَا تَقْبَلُ ذَلِكَ (لِأَنَّهُ) أَيْ لِأَنَّ السَّبَبَ فِي هَذِهِ الْعُقُودِ (إسْقَاطٌ) أَيْ مِنْ قَبِيلِ الْإِسْقَاطَاتِ.

أَمَّا فِي غَيْرِ النِّكَاحِ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا فِي النِّكَاحِ فَلِأَنَّ مَحَلَّ النِّكَاحِ الْأُنْثَى مِنْ بَنَاتِ آدَمَ، وَهُنَّ فِي الْأَصْلِ خُلِقْنَ حَرَائِرَ وَالْحُرِّيَّةُ تَسْتَدْعِي انْتِفَاءَ وُرُودِ الْمِلْكِ عَلَى مَنْ اتَّصَفَ بِهَا، إلَّا أَنَّ الشَّارِعَ أَثْبَتَ نَوْعَ مِلْكٍ عَلَى الْحُرِّيَّةِ بِالنِّكَاحِ تَحْقِيقًا لِمَعْنَى النَّسْلِ، فَكَانَ ذَلِكَ إسْقَاطًا لِمَعْنَى الْمَالِكِيَّةِ الَّذِي كَانَ ثَابِتًا لِلْحُرِّيَّةِ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ، كَذَا نُقِلَ عَنْ الْعَلَّامَةِ شَمْسِ الدِّينِ الْكُرْدِيِّ، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَبْضَاعِ الْحُرْمَةُ فَكَانَ النِّكَاحُ إسْقَاطًا لِلْحُرْمَةِ نَظَرًا إلَى الْأَصْلِ كَذَا ذُكِرَ فِي الْكَافِي. وَإِذَا كَانَ السَّبَبُ فِي هَذِهِ الْعُقُودِ إسْقَاطًا (فَيَتَلَاشَى) أَيْ فَيَضْمَحِلُّ (فَلَا يُتَصَوَّرُ صُدُورُهُ) أَيْ صُدُورُ السَّبَبِ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ (مِنْ شَخْصٍ وَثُبُوتُ حُكْمِهِ لِغَيْرِهِ) كَمَا فِي الضَّرْبِ الْأَوَّلِ (فَكَانَ سَفِيرًا) أَيْ فَكَانَ الْوَكِيلُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ سَفِيرًا مَحْضًا.

فَإِنْ قُلْت: لَيْسَ الْكَلَامُ فِي الْحُكْمِ بَلْ فِي الْحُقُوقِ فَمَا فَائِدَةُ قَوْلِهِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ فِيمَا لَا يَقْبَلُ الْفَصْلَ عَنْ السَّبَبِ؟ قُلْت: إنَّهُمْ قَالُوا فِي الضَّرْبِ الْأَوَّلِ إنَّ الْحُكْمَ يَثْبُتُ لِلْمُوَكِّلِ خِلَافَةً عَنْ الْوَكِيلِ اعْتِبَارًا لِلتَّوْكِيلِ السَّابِقِ، وَتَتَعَلَّقُ الْحُقُوقُ بِالْوَكِيلِ اعْتِبَارًا لِعِبَارَتِهِ، وَهَا هُنَا إذَا لَمْ يَنْفَصِلْ الْحُكْمُ عَنْ الْعِبَارَةِ لِكَوْنِهَا لِلْإِسْقَاطِ، فَإِمَّا أَنْ يَثْبُتَ الْحُكْمُ لِلْوَكِيلِ أَوْ تَنْتَقِلَ الْعِبَارَةُ إلَى الْمُوَكِّلِ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ يُبْطِلُ التَّوْكِيلَ وَيُنَافِي الْإِضَافَةَ إلَى الْمُوَكِّلِ فَتَعَيَّنَ الثَّانِي، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ فَكَانَ سَفِيرًا

(وَالضَّرْبُ الثَّانِي) وَهُوَ كُلُّ عَقْدٍ يُضِيفُهُ الْوَكِيلُ إلَى مُوَكِّلِهِ (مِنْ أَخَوَاتِهِ) أَيْ مِنْ أَفْرَادِهِ الَّتِي بَيْنَهُنَّ أُخُوَّةٌ: أَيْ مُشَارَكَةٌ فِي الْحُكْمِ (الْعِتْقُ عَلَى مَالٍ).

ص: 19

وَالْكِتَابَةُ وَالصُّلْحُ عَلَى الْإِنْكَارِ. فَأَمَّا الصُّلْحُ الَّذِي هُوَ جَارٍ مَجْرَى الْبَيْعِ فَهُوَ مِنْ الضَّرْبِ الْأَوَّلِ، وَالْوَكِيلُ بِالْهِبَةِ وَالتَّصَدُّقِ وَالْإِعَارَةِ وَالْإِيدَاعِ وَالرَّهْنِ وَالْإِقْرَاضِ سَفِيرٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ فِيمَا يَثْبُتُ بِالْقَبْضِ،

قَوْلُهُ وَالضَّرْبُ الثَّانِي مُبْتَدَأٌ مَوْصُوفٌ. وَقَوْلُهُ مِنْ أَخَوَاتِهِ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ لِمُبْتَدَإٍ ثَانٍ وَهُوَ قَوْلُهُ الْعِتْقُ عَلَى مَالٍ. وَالْجُمْلَةُ أَعْنِي الْمُبْتَدَأَ الثَّانِيَ مَعَ خَبَرِهِ خَبَرٌ لِلْمُبْتَدَأِ الْأَوَّلِ، فَحَاصِلُ الْمَعْنَى وَمِنْ أَخَوَاتِ الضَّرْبِ الثَّانِي الْعِتْقُ عَلَى مَالٍ.

قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ فِي تَفْسِيرِ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا: أَيْ الْعُقُودُ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي الضَّرْبِ الثَّانِي مِنْ أَخَوَاتِهَا الْعِتْقُ عَلَى مَالٍ، وَقَالَ: إنَّمَا فَسَّرْنَا بِهِ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ عَلَى مَالٍ وَأَخَوَاتِهِ مِنْ مَشْمُولَاتِ الضَّرْبِ الثَّانِي لَا مِنْ أَخَوَاتِهِ. أَقُولُ: لَا يَذْهَبُ عَلَى ذِي مُسْكَةٍ أَنَّ التَّفْسِيرَ الَّذِي ذَكَرَهُ ذَلِكَ الْقَائِلُ مِمَّا لَا يُسَاعِدُهُ التَّرْكِيبُ مِنْ حَيْثُ الْعَرَبِيَّةُ أَصْلًا فَكَيْفَ يُحْمَلُ الْمَعْنَى عَلَيْهِ، وَأَمَّا كَوْنُ الْعِتْقِ عَلَى مَالٍ وَأَخَوَاتِهِ مِنْ مَشْمُولَاتِ الضَّرْبِ الثَّانِي لَا مِنْ أَخَوَاتِهِ فَإِنَّمَا يُنَافِي اعْتِبَارَ الْأُخُوَّةِ بَيْنَ الضَّرْبِ الثَّانِي وَمَشْمُولَاتِهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ ضَرُورَاتِ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إضَافَةُ الْأَخَوَاتِ إلَى ضَمِيرِ الضَّرْبِ الثَّانِي لِكَوْنِهَا مِنْ أَفْرَادِهِ، وَيَكُونُ التَّعْبِيرُ عَنْهَا بِالْأَخَوَاتِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى مُشَارَكَتِهَا فِي الْحُكْمِ كَمَا أَشَرْنَا إلَيْهِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ مِنْ أَخَوَاتِهِ. نَعَمْ الْمُتَبَادَرُ مِنْ الْإِضَافَةِ اعْتِبَارُ الْأُخُوَّةِ بَيْنَ الْمُضَافِ وَالْمُضَافِ إلَيْهِ كَمَا فِي نَظَائِرِهِ، لَكِنَّ قَرِينَةَ الْمَقَامِ صَارِفَةٌ عَنْهُ إلَى مَا قُلْنَا فَتَدَبَّرْ (وَالْكِتَابَةُ) عَطْفٌ عَلَى الْعِتْقِ عَلَى مَالٍ دَاخِلٍ فِي حُكْمِ الْكَلَامِ السَّابِقِ؛ وَكَذَا قَوْلُهُ (وَالصُّلْحُ عَلَى الْإِنْكَارِ) وَإِنَّمَا جَعَلَ هَذِهِ الْعُقُودَ مِنْ قَبِيلِ الضَّرْبِ الثَّانِي؛ لِأَنَّهَا مِنْ الْإِسْقَاطَاتِ دُونَ الْمُعَاوَضَاتِ.

أَمَّا الْعِتْقُ عَلَى مَالٍ وَالْكِتَابَةُ فَلِأَنَّ الْبَدَلَ فِيهِمَا بِمُقَابَلَةِ إزَالَةِ الرِّقِّ وَفَكِّ الْحَجْرِ. وَأَمَّا الصُّلْحُ عَلَى الْإِنْكَارِ فَلِأَنَّ الْبَدَلَ فِيهِ بِمُقَابَلَةِ دَفْعِ الْخُصُومَةِ وَافْتِدَاءِ الْيَمِينِ فِي حَقِّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ (فَأَمَّا الصُّلْحُ الَّذِي هُوَ جَارٍ مَجْرَى الْبَيْعِ فَهُوَ مِنْ الضَّرْبِ الْأَوَّلِ) أَرَادَ بِالصُّلْحِ الَّذِي هُوَ جَارٍ مَجْرَى الْبَيْعِ الصُّلْحَ عَنْ إقْرَارٍ فِيمَا إذَا كَانَ عَنْ مَالٍ بِمَالٍ فَإِنَّهُ مُبَادَلَةُ مَالٍ بِمَالٍ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ، وَأَمَّا إذَا كَانَ الصُّلْحُ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ أَوْ كَانَ عَلَى بَعْضِ مَا يَدَّعِيهِ مِنْ الدَّيْنِ فَهُوَ مِنْ الضَّرْبِ الثَّانِي وَإِنْ كَانَ عَنْ إقْرَارٍ؛ لِأَنَّهُ إسْقَاطٌ مَحْضٌ فَكَانَ الْوَكِيلُ فِيهِ سَفِيرًا مَحْضًا كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْمُصَنِّفُ رحمه الله فِي بَابِ التَّبَرُّعِ بِالصُّلْحِ وَالتَّوْكِيلُ مِنْ كِتَابِ الصُّلْحِ.

أَقُولُ: فَبِهَذَا ظَهَرَ أَنَّ مَا وَقَعَ هَاهُنَا فِي الشُّرُوحِ مِنْ تَفْسِيرِ الصُّلْحِ الَّذِي هُوَ جَارٍ مَجْرَى الْبَيْعِ بِالصُّلْحِ عَنْ إقْرَارٍ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِمَا ذَكَرْنَاهُ تَقْصِيرٌ فِي تَعْيِينِ الْمَرَامِ وَتَحْقِيقِ الْمَقَامِ، كَيْفَ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ كَافِيًا هَاهُنَا لَمَا بَدَّلَ الْمُصَنِّفُ اللَّفْظَ الْيَسِيرَ بِاللَّفْظِ الْكَثِيرِ (وَالْوَكِيلُ بِالْهِبَةِ وَالتَّصَدُّقِ وَالْإِعَارَةِ وَالْإِيدَاعِ وَالرَّهْنِ وَالْإِقْرَاضِ سَفِيرٌ أَيْضًا) وَتَفْسِيرُ هَذَا مَا ذَكَرَهُ فِي الْإِيضَاحِ حَيْثُ قَالَ: وَلَوْ وَكَّلَ وَكِيلًا بِأَنْ يَهَبَ عَبْدَهُ لِفُلَانٍ أَوْ يَتَصَدَّقَ بِهِ عَلَيْهِ أَوْ يُعِيرَهُ إيَّاهُ أَوْ يُودِعَهُ أَوْ يُرْهِنَهُ فَقَبَضَ الْوَكِيلُ وَفَعَلَ مَا أَمَرَهُ فَهُوَ جَائِزٌ عَلَى الْمُوَكِّلِ، وَلَيْسَ لِلْوَكِيلِ الْمُطَالَبَةُ بِرَدِّ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إلَى يَدِهِ، وَلَا أَنْ يَقْبِضَ الْوَدِيعَةَ وَالْعَارِيَّةَ وَلَا الرَّهْنَ وَلَا الْقَرْضَ مِمَّنْ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ أَحْكَامَ هَذِهِ الْعُقُودِ إنَّمَا تَثْبُتُ بِالْقَبْضِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْوَكِيلُ فِيهِ أَصِيلًا؛ لِأَنَّهُ أَجْنَبِيٌّ عَنْ الْمَحَلِّ الَّذِي يُلَاقِيهِ الْقَبْضُ فَكَانَ سَفِيرًا وَمُعَبِّرًا عَنْ الْمَالِكِ انْتَهَى. وَأَشَارَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله إلَى التَّعْلِيلِ الْمَذْكُورِ فِيهِ أَيْضًا بِقَوْلِهِ (لِأَنَّ الْحُكْمَ فِيهَا) أَيْ فِي الْعُقُودِ الْمَذْكُورَةِ (يَثْبُتُ بِالْقَبْضِ) أَيْ

ص: 20

وَأَنَّهُ يُلَاقِي مَحَلًّا مَمْلُوكًا لِلْغَيْرِ فَلَا يُجْعَلُ أَصِيلًا، وَكَذَا إذَا كَانَ الْوَكِيلُ مِنْ جَانِبِ الْمُلْتَمِسِ، وَكَذَا الشَّرِكَةُ وَالْمُضَارَبَةُ، إلَّا أَنَّ التَّوْكِيلَ بِالِاسْتِقْرَاضِ بَاطِلٌ حَتَّى لَا يَثْبُتَ الْمِلْكُ لِلْمُوَكِّلِ

بِقَبْضِ الْمَوْهُوبِ لَهُ وَالْمُتَصَدَّقِ عَلَيْهِ وَنَظَائِرِهِمَا (وَأَنَّهُ) أَيْ الْقَبْضَ (يُلَاقِي مَحَلًّا مَمْلُوكًا لِلْغَيْرِ) أَيْ لِغَيْرِ الْوَكِيلِ، فَالْحُكْمُ أَيْضًا يُلَاقِي مَحَلًّا مَمْلُوكًا لِغَيْرِ الْوَكِيلِ وَهُوَ الْمُوَكِّلُ (فَلَا يُجْعَلُ) أَيْ الْوَكِيلُ (أَصِيلًا) لِكَوْنِهِ أَجْنَبِيًّا عَنْ ذَلِكَ الْمَحَلِّ، بِخِلَافِ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي تَقُومُ بِالْقَبُولِ وَلَا تَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَبْضِ كَالْبَيْعِ وَغَيْرِهِ، فَإِنَّ الْوَكِيلَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ أَصِيلًا فِيهَا؛ لِأَنَّهُ أَصْلٌ فِي التَّكَلُّمِ وَكَلَامُهُ مَمْلُوكٌ لَهُ. قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: فَقَوْلُهُ فَلَا يُجْعَلُ أَصِيلًا مُقْتَضَاهُ أَصِيلًا فِي الْحُكْمِ وَلَيْسَ الْكَلَامُ فِيهِ. وَيَدْفَعُ ذَلِكَ بِأَنَّ الْحُكْمَ إذَا لَاقَى مَحَلًّا مَمْلُوكًا لِغَيْرِ الْوَكِيلِ كَانَ ثَابِتًا لِمَنْ لَهُ الْمَحَلُّ وَالْحُقُوقُ فِيمَا يُثْبِتُ الْحُكْمَ بِالْعِبَارَةِ وَحْدَهَا فِيمَا لَا يَقْبَلُ الْحُكْمُ الِانْفِصَالَ عَنْهَا انْتَقَلَتْ إلَى الْمُوَكِّلِ بِجَعْلِ الْعِبَارَةِ سِفَارَةً فَفِيمَا احْتَاجَ إلَى الْقَبْضِ أَوْلَى لِضَعْفِهَا فِي الْعَلِيَّةِ انْتَهَى.

أَقُولُ: مَا اسْتِشْكَالُهُ بِشَيْءٍ وَلَا دَفْعُهُ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُ إذَا ثَبَتَ أَنَّ الْوَكِيلَ فِي هَذِهِ الْعُقُودِ لَمْ يُجْعَلْ أَصِيلًا فِي الْحُكْمِ ثَبَتَ أَيْضًا مَا فِيهِ الْكَلَامُ وَهُوَ عَدَمُ تَعَلُّقِ الْحُقُوقِ بِالْوَكِيلِ فِي هَذِهِ الْعُقُودِ، إذْ قَدْ كَانَ مَبْنَى تَعَلُّقِ الْحُقُوقِ بِالْوَكِيلِ فِي الضَّرْبِ الْأَوَّلِ ثُبُوتَ الْحُكْمِ الَّذِي هُوَ الْمِلْكُ لِلْمُوَكِّلِ خِلَافَةً عَنْ الْوَكِيلِ، وَهَذَا إنَّمَا يَكُونُ بِأَنْ يُجْعَلَ الْوَكِيلُ أَصِيلًا فِي الْحُكْمِ، فَإِذَا لَمْ يُجْعَلْ فِي الْعُقُودِ الْمَذْكُورَةِ أَصِيلًا فِيهِ تَعَيَّنَ عَدَمُ تَعَلُّقِ الْحُقُوقِ بِهِ فِيهَا. وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الْبَاعِثَ عَلَى انْتِقَالِ الْحُقُوقِ إلَى الْمُوَكِّلِ فِيمَا لَا يَقْبَلُ الْحُكْمُ الِانْفِصَالَ عَنْ الْعِبَارَةِ لَيْسَ إلَّا كَوْنُ السَّبَبِ إسْقَاطًا مُتَلَاشِيًا، وَالسَّبَبُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ الْإِسْقَاطَاتِ كَمَا لَا يَخْفَى فَلَا مُسَاوَاةَ فَضْلًا عَنْ الْأَوْلَوِيَّةِ. وَأَمَّا الضَّعْفُ فِي الْعَلِيَّةِ فَإِنْ كَانَ لَهُ مَدْخَلٌ فَإِنَّمَا هُوَ فِي حَقِّ نَفْسِ ثُبُوتِ الْحُكْمِ لَا فِي حَقِّ الِانْتِقَالِ فَتَأَمَّلْ.

(وَكَذَا إذَا كَانَ الْوَكِيلُ مِنْ جَانِبِ الْمُلْتَمِسِ) يَعْنِي إذَا كَانَ الْوَكِيلُ مِنْ جَانِبِ الْمُلْتَمِسِ لِلتَّصَرُّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ بِأَنْ وَكَّلَهُ بِالِاسْتِيهَابِ أَوْ الِاسْتِعَارَةِ أَوْ الِارْتِهَانِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ يَكُونُ الْوَكِيلُ سَفِيرًا أَيْضًا فَيَتَعَلَّقُ الْحُكْمُ وَالْحُقُوقُ كُلُّهَا بِالْمُوَكِّلِ دُونَ الْوَكِيلِ؛ لِأَنَّهُ يُضِيفُ الْعَقْدَ إلَى مُوَكِّلِهِ. وَفِي الْعِنَايَةِ: أَمَّا إذَا قَبَضَ الْمُوَكِّلُ فَلَا إشْكَالَ، وَأَمَّا إذَا قَبَضَ الْوَكِيلُ فَالْوَاجِبُ أَنْ يَثْبُتَ الْحُكْمُ لِلْمُوَكِّلِ، وَتَتَعَلَّقُ الْحُقُوقُ بِالْوَكِيلِ لِاجْتِمَاعِ الْقَوْلِ وَالْقَبْضِ. وَيُدْفَعُ بِأَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ إضَافَةِ الْعَقْدِ إلَى مُوَكِّلِهِ وَهِيَ تَجْعَلُ الْقَبْضَ لَهُ فَصَارَ كَمَا إذَا قَبَضَهُ بِنَفْسِهِ انْتَهَى (وَكَذَا الشَّرِكَةُ وَالْمُضَارَبَةُ) يَعْنِي إذَا وَكَّلَ بِعَقْدِ الشَّرِكَةِ أَوْ الْمُضَارَبَةِ يَكُونُ الْوَكِيلُ سَفِيرًا أَيْضًا وَتَتَعَلَّقُ حُقُوقُ الْعَقْدِ بِالْمُوَكِّلِ دُونَ الْوَكِيلِ، إذْ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ إضَافَةِ الْعَقْدِ إلَى مُوَكِّلِهِ، حَتَّى لَوْ أَضَافَهُ إلَى نَفْسِهِ يَقَعُ عَنْهُ لَا عَنْ مُوَكِّلِهِ (إلَّا أَنَّ التَّوْكِيلَ بِالِاسْتِقْرَاضِ بَاطِلٌ) اسْتِثْنَاءً مِنْ قَوْلِهِ:" وَكَذَا إذَا كَانَ الْوَكِيلُ مِنْ جَانِبِ الْمُلْتَمِسِ "(حَتَّى لَا يَثْبُتَ الْمِلْكُ لِلْمُوَكِّلِ) فَلِلْوَكِيلِ أَنْ يَمْنَعَ الَّذِي اسْتَقْرَضَهُ مِنْ الْآمِرِ، وَلَوْ هَلَكَ هَلَكَ مِنْ

ص: 21

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

مَالِهِ. قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَاعْلَمْ أَنِّي أُعِيدُ لَك هَاهُنَا مَا ذَكَرْته فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْوَكَالَةِ وَأَزِيدُك مَا يَسَّرَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرَهُ لِكَوْنِ الْمَقَامِ مِنْ مَعَارِكِ الْآرَاءِ، فَإِنْ ظَهَرَ لَك فَاحْمَدْ اللَّهَ تَعَالَى، وَإِنْ سَمَحَ ذِهْنُك بِخِلَافِهِ فَلَا مَلُومَةَ فَإِنَّ جَهْدَ الْمُقِلِّ دُمُوعُهُ: التَّوْكِيلُ بِالِاسْتِقْرَاضِ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ بِالتَّصَرُّفِ فِي مَالِ الْغَيْرِ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ. وَرُدَّ بِالتَّوْكِيلِ بِالشِّرَاءِ فَإِنَّهُ أَمْرٌ بِقَبْضِ الْمَبِيعِ وَهُوَ مِلْكُ الْغَيْرِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ مَحَلَّهُ هُوَ الثَّمَنُ فِي ذِمَّةِ الْمُوَكِّلِ وَهُوَ مِلْكُهُ. وَأُورِدَ بِأَنَّهُ هَلَّا جُعِلَ مَحَلُّهُ فِي الِاسْتِقْرَاضِ الْبَدَلَ فِي ذِمَّةِ الْمُوَكِّلِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ مَحَلُّ إيفَاءِ الْقَرْضِ لَا الِاسْتِقْرَاضِ. وَأُورِدَ التَّوْكِيلُ بِالِاتِّهَابِ وَالِاسْتِعَارَةِ فَإِنَّهُ صَحِيحٌ وَلَا مَحَلَّ لَهُ سِوَى الْمُسْتَعَارِ وَالْمَوْهُوبِ إذْ لَيْسَ ثَمَّةَ بَدَلٌ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ وَالْمَوْهُوبِ لَهُ فَيُجْعَلُ مَحَلًّا لِلتَّوْكِيلِ.

وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُسْتَعَارَ وَالْمَوْهُوبَ مَحَلُّ التَّوْكِيلِ بِالْإِعَارَةِ وَالْهِبَةِ لَا الِاسْتِعَارَةُ وَالِاتِّهَابُ، وَإِنَّمَا مَحَلُّهُ فِيهِمَا عِبَارَةُ الْمُوَكِّلِ فَإِنَّهُ يَتَصَرَّفُ فِيهَا بِجَعْلِهَا مُوجِبَةً لِلْمِلْكِ عِنْدَ الْقَبْضِ بِإِقَامَةِ الْمُوَكِّلِ مَقَامَ نَفْسِهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَلْيَكُنْ فِي الِاسْتِقْرَاضِ كَذَلِكَ. فَالْجَوَابُ أَنَّا اعْتَبَرْنَا الْعِبَارَةَ مَحَلًّا لِلتَّوْكِيلِ فِي الِاسْتِعَارَةِ وَنَحْوِهَا ضَرُورَةَ صِحَّةِ الْعَقْدِ خَلَفًا عَنْ بَدَلٍ يَلْزَمُ فِي الذِّمَّةِ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا بَدَلٌ فِي الذِّمَّةِ، فَلَوْ اعْتَبَرْنَاهَا مَحَلًّا لَهُ فِي الِاسْتِقْرَاضِ وَفِيهِ بَدَلٌ مُعْتَبَرٌ لِلْإِيفَاءِ فِي الذِّمَّةِ لَزِمَ اجْتِمَاعُ الْأَصْلِ وَالْخَلَفِ فِي شَخْصٍ وَاحِدٍ مِنْ جِهَةِ عَقْدٍ وَاحِدٍ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ، وَإِلَى هُنَا كَلَامُهُ. أَقُولُ: فِيهِ بَحْثٌ أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ الدَّلِيلَ الَّذِي ذَكَرَهُ لِبُطْلَانِ التَّوْكِيلِ بِالِاسْتِقْرَاضِ وَهُوَ الدَّلِيلُ الْمَأْخُوذُ مِنْ الذَّخِيرَةِ وَمُخْتَارِ جُمْهُورِ الشُّرَّاحِ عَلَى مَا ذَكَرُوا فِي صَدْرِ كِتَابِ الْوَكَالَةِ لَيْسَ بِتَامٍّ عِنْدِي؛ لِأَنَّ التَّصَرُّفَ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ وَالْأَمْرَ بِهِ إنَّمَا لَا يَجُوزُ لَوْ كَانَ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَالِكِ وَرِضَاهُ، كَمَا لَوْ غَصَبَ مِلْكَ الْغَيْرِ أَوْ أَمَرَ بِغَصْبِهِ.

وَأَمَّا إذَا كَانَ بِإِذْنِهِ وَرِضَاهُ فَيَجُوزُ قَطْعًا؛ أَلَا يُرَى أَنَّ الْمُسْتَقْرِضَ لِنَفْسِهِ يَقْبِضُ الْمَالَ الْمُسْتَقْرَضَ الَّذِي هُوَ مِلْكُ الْمُقْرِضِ وَيَتَصَرَّفُ فِيهِ، وَكَذَا الْمُسْتَعِيرُ يَقْبِضُ الْمُسْتَعَارَ الَّذِي هُوَ مِلْكُ الْمُعِيرِ وَيَسْتَعْمِلُهُ، وَلَا خِلَافَ لِأَحَدٍ فِي جَوَازِ ذَلِكَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ التَّوْكِيلَ بِالِاسْتِقْرَاضِ إنَّمَا هُوَ الْأَمْرُ بِالتَّصَرُّفِ فِي مِلْكِ الْمُقْرِضِ بِإِذْنِهِ وَرِضَاهُ لَا بِالْجَبْرِ وَالْغَصْبِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ أَيْضًا. وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ مَا ذَكَرَهُ فِي الرَّدِّ لَهُ بِالتَّوْكِيلِ فِي الشِّرَاءِ مِنْ أَنَّهُ أَمْرٌ بِقَبْضِ الْمَبِيعِ وَهُوَ مِلْكُ الْغَيْرِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، إذْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ التَّوْكِيلَ بِالشِّرَاءِ أَمْرٌ بِقَبْضِ الْمَبِيعِ بَلْ هُوَ أَمْرٌ بِإِيجَادِ الْعَقْدِ، وَقَبْضُ الْمَبِيعِ مِنْ مُتَفَرِّعَاتِ الْعَقْدِ غَيْرُ دَاخِلٍ فِيهِ فَلَا يَكُونُ الْأَمْرُ بِالشِّرَاءِ أَمْرًا بِقَبْضِ الْمَبِيعِ. سَلَّمْنَا أَنَّ التَّوْكِيلَ بِالشِّرَاءِ أَمْرٌ بِقَبْضِ الْمَبِيعِ أَيْضًا لَكِنَّهُ أَمْرٌ بِهِ بَعْدَ إيجَادِ

ص: 22

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الْعَقْدِ لَا قَبْلَهُ كَمَا لَا يَخْفَى، وَالْمَبِيعُ بَعْدَ إيجَادِ الْعَقْدِ مِلْكُ الْمُشْتَرِي لَا مِلْكُ الْغَيْرِ، بِخِلَافِ الِاسْتِقْرَاضِ فَإِنَّ الْمُسْتَقْرَضَ لَا يَكُونُ مِلْكَ الْمُسْتَقْرِضِ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ بَلْ بِالْقَبْضِ عَلَى مَا صَرَّحُوا بِهِ. فَالصَّوَابُ فِي تَمْشِيَةِ النَّقْضِ بِالتَّوْكِيلِ بِالشِّرَاءِ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ أَمْرٌ بِتَمَلُّكِ الْمَبِيعِ الَّذِي هُوَ مِلْكُ الْغَيْرِ كَمَا ذُكِرَ فِي الذَّخِيرَةِ وَغَيْرِهَا. وَأَمَّا ثَالِثًا فَلِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ فِي الْجَوَابِ عَنْ النَّقْضِ الْمَذْكُورِ إنَّ مَحَلَّهُ هُوَ الثَّمَنُ فِي ذِمَّةِ الْمُوَكِّلِ أَنَّ مَحَلَّ التَّوْكِيلِ بِالشِّرَاءِ هُوَ نَفْسُ الثَّمَنِ فَلَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ نَفْسَ الثَّمَنِ إنَّمَا هُوَ مَحَلُّ التَّوْكِيلِ بِإِيفَاءِ الثَّمَنِ بَعْدَ تَمَامِ عَقْدِ الشِّرَاءِ لَا مَحَلُّ التَّوْكِيلِ بِالشِّرَاءِ نَفْسِهِ، وَإِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ مَحَلَّهُ هُوَ إيجَابُ الثَّمَنِ فِي ذِمَّةِ الْمُوَكِّلِ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِ فِي ذِمَّةِ الْمُوَكِّلِ وَالْمُصَرَّحُ بِهِ فِي الذَّخِيرَةِ وَغَيْرِهَا فَهُوَ مُسَلَّمٌ، لَكِنْ لَا يَتِمُّ حِينَئِذٍ جَوَابُهُ عَنْ الْإِيرَادِ الْآتِي فَإِنَّ مَعْنَاهُ حِينَئِذٍ هُوَ أَنَّهُ هَلَّا جُعِلَ مَحَلُّهُ فِي الِاسْتِقْرَاضِ أَيْضًا إيجَابَ الْبَدَلِ فِي ذِمَّةِ الْمُوَكِّلِ، وَلَا يَتَيَسَّرُ الْجَوَابُ عَنْهُ بِأَنَّ ذَلِكَ مَحَلُّ إيفَاءِ الْقَرْضِ؛ لِأَنَّ مَحَلَّ إيفَائِهِ هُوَ نَفْسُ الْبَدَلِ لَا إيجَابُهُ فِي ذِمَّةِ الْمُوَكِّلِ.

بَلْ الْجَوَابُ الصَّحِيحُ عَنْهُ مَا ذُكِرَ فِي الذَّخِيرَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ أَنَّ الْبَدَلَ فِي بَابِ الْقَرْضِ إنَّمَا يَجِبُ فِي ذِمَّةِ الْمُسْتَقْرِضِ بِالْقَبْضِ لَا بِعَقْدِ الْقَرْضِ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَصْحِيحِ الْأَمْرِ بِالْقَبْضِ أَوَّلًا حَتَّى يَسْتَقِيمَ الْأَمْرُ بِإِيجَابِ الْمِثْلِ فِي ذِمَّتِهِ، وَالْأَمْرُ بِالْقَبْضِ لَمْ يَصِحَّ بَعْدُ لِكَوْنِ الْمَقْبُوضِ مِلْكَ الْغَيْرِ. وَأَمَّا رَابِعًا فَلِأَنَّ قَوْلَهُ فِي الْجَوَابِ عَنْ النَّقْضِ بِالِاتِّهَابِ وَالِاسْتِعَارَةِ: إنَّ الْمُسْتَعَارَ وَالْمَوْهُوبَ مَحَلُّ التَّوْكِيلِ بِالْإِعَارَةِ وَالْهِبَةِ لَا الِاسْتِعَارَةِ وَالِاتِّهَابِ، وَإِنَّمَا مَحَلُّهُ فِيهِمَا عِبَارَةُ الْمُوَكِّلِ غَيْرُ تَامٍّ، فَإِنَّهُ إنْ قَالَ الْوَكِيلُ بِالِاسْتِعَارَةِ: إنَّ فُلَانًا أَرْسَلَنِي إلَيْك يَسْتَعِيرُ مِنْك كَذَا، وَقَالَ الْوَكِيلُ بِالِاتِّهَابِ: إنَّ فُلَانًا أَرْسَلَنِي إلَيْك يَتَّهِبُ مِنْك كَذَا، فَإِنَّهُمَا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ كَانَا مُتَصَرِّفَيْنِ فِي عِبَارَةِ الْمُوَكِّلِ وَلَكِنَّهُمَا لَمْ يُخْرِجَا الْكَلَامَ حِينَئِذٍ مَخْرَجَ الْوَكَالَةِ بَلْ أَخْرَجَاهُ مَخْرَجَ الرِّسَالَةِ، وَالْكَلَامُ هُنَا فِي حُكْمِ الْوَكَالَةِ دُونَ الرِّسَالَةِ، فَإِنَّ الرِّسَالَةَ صَحِيحَةٌ فِي الِاسْتِقْرَاضِ أَيْضًا حَتَّى أَنَّ الْوَكِيلَ بِالِاسْتِقْرَاضِ لَوْ أَخْرَجَ كَلَامَهُ مَخْرَجَ الرِّسَالَةِ فَقَالَ إنَّ فُلَانًا أَرْسَلَنِي إلَيْك يَسْتَقْرِضُ مِنْك كَذَا كَانَ مَا اسْتَقْرَضَهُ لِلْمُوَكِّلِ، وَلَا يَكُونُ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَمْنَعَ ذَلِكَ مِنْهُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الذَّخِيرَةِ وَغَيْرِهَا.

وَإِنْ قَالَ الْوَكِيلُ بِالِاسْتِعَارَةِ: أَسْتَعِيرُ مِنْك كَذَا لِفُلَانٍ الْمُوَكِّلِ، وَقَالَ الْوَكِيلُ بِالِاتِّهَابِ أَتَّهِبُ مِنْك كَذَا لِفُلَانٍ الْمُوَكِّلِ، فَإِنَّمَا فِي هَاتِيكَ الصُّورَةِ جَرْيًا عَلَى حُكْمِ وَكَالَتِهِمَا وَلَكِنَّهُمَا لَمْ يَكُونَا مُتَصَرِّفَيْنِ فِي عِبَارَةِ الْمُوَكِّلِ أَصْلًا حَيْثُ لَمْ يَحْكِيَا عَنْهُ كَلَامًا، بَلْ إنَّمَا تَكَلَّمَا بِكَلَامِ أَنْفُسِهِمَا إلَّا أَنَّهُمَا أَضَافَا الْعَقْدَ إلَى مُوَكِّلِهِمَا كَمَا فِي سَائِرِ صُوَرِ الضَّرْبِ الثَّانِي، فَأَيْنَ يَتَمَشَّى الْقَوْلُ بِأَنَّ مَحَلَّ التَّوْكِيلِ فِيهِمَا عِبَارَةُ الْمُوَكِّلِ، عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْقَوْلَ مِنْهُ يُخَالِفُ صَرِيحَ مَا ذُكِرَ فِي الذَّخِيرَةِ وَارْتَضَاهُ كِبَارُ الشُّرَّاحِ فِي صَدْرِ كِتَابِ الْوَكَالَةِ مِنْ أَنَّ الْمَوْضُوعَ لِنَقْلِ الْعِبَارَةِ إنَّمَا هُوَ الرِّسَالَةُ، فَإِنَّ الرَّسُولَ مُعَبِّرٌ وَالْعِبَارَةُ مِلْكُ الْمُرْسِلِ فَقَدْ أَمَرَهُ بِالتَّصَرُّفِ فِي مِلْكِهِ بِاعْتِبَارِ الْعِبَارَةِ.

وَأَمَّا الْوَكَالَةُ فَغَيْرُ مَوْضُوعَةٍ لِنَقْلِ عِبَارَةِ الْمُوَكِّلِ فَإِنَّ الْعِبَارَةَ فِيهَا لِلْوَكِيلِ. وَأَمَّا خَامِسًا فَلِأَنَّ قَوْلَهُ فَالْجَوَابُ إنَّا اعْتَبَرْنَا الْعِبَارَةَ مَحَلًّا لِلتَّوْكِيلِ فِي الِاسْتِعَارَةِ وَنَحْوِهَا ضَرُورَةَ صِحَّةِ الْعَقْدِ خَلَفًا عَنْ بَدَلٍ يَلْزَمُ فِي الذِّمَّةِ إلَخْ لَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ الْخَلَفِ عَنْ الْبَدَلِ عَلَى تَقْدِيرِ لُزُومِهِ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ فِي التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي هِيَ مِنْ قَبِيلِ الْمُعَاوَضَاتِ، وَأَمَّا فِي التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي هِيَ مِنْ قَبِيلِ التَّبَرُّعَاتِ فَلَا، وَمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ الِاسْتِعَارَةِ وَنَحْوِهَا مِنْ قَبِيلِ الثَّانِيَةِ فَلَا مَعْنَى لِحَدِيثِ الْخَلْفِيَّةِ هَاهُنَا.

وَأَيْضًا اسْتِحَالَةُ اجْتِمَاعِ الْأَصْلِ وَالْخَلَفِ إنَّمَا تَقْتَضِي عَدَمَ جَوَازِ اعْتِبَارِ الْعِبَارَةِ فِي الِاسْتِقْرَاضِ خَلَفًا عَنْ بَدَلٍ لَا عَدَمَ جَوَازِ اعْتِبَارِهَا مُطْلَقًا، فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ تُعْتَبَرَ مَحَلًّا لِلتَّوْكِيلِ فِي الِاسْتِقْرَاضِ أَيْضًا لِضَرُورَةِ صِحَّةِ الْعَقْدِ وَإِنْ لَمْ تُجْعَلْ خَلَفًا عَنْ بَدَلٍ؟ أَلَا يُرَى أَنَّهَا اُعْتُبِرَتْ مَحَلًّا لِلرِّسَالَةِ فِي الِاسْتِقْرَاضِ وَلِهَذَا صَحَّتْ الرِّسَالَةُ فِيهِ تَأَمُّلٌ. وَقَالَ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ: قَالَ بَعْضُهُمْ فِي بَيَانِ بُطْلَانِ اسْتِقْرَاضِ الْوَكِيلِ: إنَّ الْعِبَارَةَ لِلْوَكِيلِ وَالْمَحَلَّ الَّذِي أَمَرَهُ بِالتَّصَرُّفِ مِلْكُ الْغَيْرِ، فَإِنَّ الدَّرَاهِمَ الَّتِي يَسْتَقْرِضُهَا الْوَكِيلُ مِلْكَ الْمُقْرِضِ، وَالْأَمْرُ بِالتَّصَرُّفِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ بَاطِلٌ.

قُلْت: هَذَا الَّذِي قَالَ يَبْطُلُ بِالتَّوْكِيلِ بِالِاسْتِعَارَةِ، فَإِنَّهُ صَحِيحٌ مَعَ أَنَّ الْمُوَكِّلَ أَمَرَهُ بِالتَّصَرُّفِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ، وَلَيْسَ مَعْنَى كَلَامِ الْمُصَنِّفِ مَا فَهِمَهُ هَذَا الْقَائِلُ، بَلْ مَعْنَاهُ أَنَّ الْوَكِيلَ بِالِاسْتِقْرَاضِ إذَا أَضَافَ الْعَقْدَ إلَى نَفْسِهِ، وَقَالَ أَقْرِضْنِي كَانَ التَّوْكِيلُ بَاطِلًا حَتَّى لَا يَكُونَ الْقَرْضُ لِلْمُوَكِّلِ بَلْ يَكُونُ لِلْوَكِيلِ، إلَّا إذَا أَضَافَ الْعَقْدَ إلَى الْمُوَكِّلِ وَبَلَّغَ

ص: 23

بِخِلَافِ الرِّسَالَةِ فِيهِ.

قَالَ (وَإِذَا طَالَبَ الْمُوَكِّلُ الْمُشْتَرِيَ بِالثَّمَنِ فَلَهُ أَنْ يَمْنَعَهُ إيَّاهُ)؛ لِأَنَّهُ أَجْنَبِيٌّ عَنْ الْعَقْدِ وَحُقُوقِهِ لِمَا أَنَّ الْحُقُوقَ إلَى الْعَاقِدِ (فَإِنْ دَفَعَهُ إلَيْهِ جَازَ وَلَمْ يَكُنْ لِلْوَكِيلِ أَنْ يُطَالِبَهُ بِهِ ثَانِيًا)؛ لِأَنَّ نَفْسَ الثَّمَنِ الْمَقْبُوضِ حَقُّهُ وَقَدْ وَصَلَ إلَيْهِ،

عَلَى وَجْهِ الرِّسَالَةِ فَقَالَ: أَرْسَلَنِي فُلَانٌ إلَيْك يَسْتَقْرِضُ كَذَا فَحِينَئِذٍ يَصِحُّ الِاسْتِقْرَاضُ وَيَقَعُ الْقَرْضُ لِلْمُوَكِّلِ، وَلَيْسَ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَمْنَعَ الْمُوَكِّلَ عَنْهُ فَافْهَمْهُ فَفِيهِ غِنًى عَنْ تَطْوِيلٍ لَا طَائِلَ تَحْتَهُ، انْتَهَى كَلَامُهُ.

أَقُولُ: وَفِيهِ بَحْثٌ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِ الْمُصَنِّفِ وَكَذَا إذَا كَانَ الْوَكِيلُ مِنْ جَانِبِ الْمُلْتَمِسِ أَنَّ الْوَكِيلَ هَاهُنَا سَفِيرٌ أَيْضًا لَا تَتَعَلَّقُ حُقُوقُ الْعَقْدِ بِهِ بَلْ بِمُوَكِّلِهِ لِإِضَافَتِهِ الْعَقْدَ إلَى مُوَكِّلِهِ دُونَ نَفْسِهِ، وَإِنَّ قَوْلَهُ إلَّا أَنَّ التَّوْكِيلَ بِالِاسْتِقْرَاضِ بَاطِلٌ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ وَكَذَا إذَا كَانَ التَّوْكِيلُ مِنْ جَانِبِ الْمُلْتَمِسِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الشُّرَّاحُ قَاطِبَةً، وَمِنْهُمْ هَذَا الشَّارِحُ، وَلَوْ كَانَ مَعْنَى كَلَامِ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا مَا فَهِمَهُ هَذَا الشَّارِحُ لَمَا كَانَ لِتَخْصِيصِ الِاسْتِثْنَاءِ بِبُطْلَانِ صُورَةِ التَّوْكِيلِ بِالِاسْتِقْرَاضِ مَعْنًى، إذْ عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ يَصِيرُ الْحُكْمُ كَذَلِكَ فِي جَمِيعِ صُوَرِ مَا إذَا كَانَ الْوَكِيلُ مِنْ جَانِبِ الْمُلْتَمِسِ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُسْتَعِيرِ وَالْمُسْتَوْهِبِ وَالْمُرْتَهِنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ إذَا أَضَافَ الْعَقْدَ إلَى نَفْسِهِ لَا إلَى الْمُوَكِّلِ تَبْطُلُ الْوَكَالَةُ وَيَكُونُ مَا أَخَذَهُ لِنَفْسِهِ لَا لِمُوَكِّلِهِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْعُقُودَ كُلَّهَا مِنْ الضَّرْبِ الثَّانِي، وَمِنْ شَرْطِ هَذَا الضَّرْبِ أَنْ يُضِيفَ الْوَكِيلُ الْعَقْدَ إلَى مُوَكِّلِهِ، فَإِذَا انْتَفَى بَطَلَتْ الْوَكَالَةُ قَطْعًا، وَلَعَمْرِي إنَّ هَذَا الشَّارِحَ قَدْ هَرَبَ هَاهُنَا عَنْ وَرْطَةٍ وَوَقَعَ فِي وَرْطَةٍ أُخْرَى أَشَدَّ مِنْ الْأُولَى حَتَّى أَفْسَدَ مَعْنَى كَلَامِ الْمُصَنِّفِ بِالْكُلِّيَّةِ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ (بِخِلَافِ الرِّسَالَةِ فِيهِ) أَيْ فِي الِاسْتِقْرَاضِ فَإِنَّهَا تَصِحُّ. قَالَ فِي الْإِيضَاحِ: التَّوْكِيلُ بِالِاسْتِقْرَاضِ لَا يَصِحُّ، وَلَا يُثْبِتُ الْمِلْكَ فِيمَا إذَا اسْتَقْرَضَ لِلْآمِرِ إلَّا إذَا بَلَّغَ عَلَى سَبِيلِ الرِّسَالَةِ فَيَقُولُ أَرْسَلَنِي إلَيْك فُلَانٌ يَسْتَقْرِضُ مِنْك فَحِينَئِذٍ يَثْبُتُ الْمِلْكُ لِلْمُسْتَقْرِضِ: أَيْ الْمُرْسِلِ. وَقَالَ الْإِمَامُ الزَّيْلَعِيُّ فِي التَّبْيِينِ: وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ التَّوْكِيلَ بِالِاسْتِقْرَاضِ جَائِزٌ

(قَالَ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ (وَإِذَا طَالَبَ الْمُوَكِّلُ الْمُشْتَرِيَ بِالثَّمَنِ فَلَهُ أَنْ يَمْنَعَهُ إيَّاهُ) أَيْ فَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَمْنَعَ الثَّمَنَ مِنْ الْمُوَكِّلِ (لِأَنَّهُ) أَيْ الْمُوَكِّلَ (أَجْنَبِيٌّ عَنْ الْعَقْدِ وَحُقُوقِهِ، لِمَا) تَقَدَّمَ (أَنَّ الْحُقُوقَ تَعُودُ إلَى الْعَاقِدِ) فِي الْبَيْعِ وَأَمْثَالِهِ، وَلِهَذَا إذَا نَهَاهُ الْوَكِيلُ عَنْ قَبْضِ الثَّمَنِ وَنَحْوِهِ صَحَّ، وَإِنْ نَهَاهُ الْمُوَكِّلُ عَنْ ذَلِكَ لَا يَصِحُّ.

وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَجُزْ مُطَالَبَةُ الْمُوَكِّلِ إلَّا بِإِذْنِ الْوَكِيلِ (فَإِنْ دَفَعَهُ إلَيْهِ) أَيْ إنْ دَفَعَ الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ إلَى الْمُوَكِّلِ (جَازَ) يَعْنِي وَمَعَ ذَلِكَ لَوْ دَفَعَ الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ إلَى الْمُوَكِّلِ جَازَ دَفْعُهُ إلَيْهِ اسْتِحْسَانًا.

فَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ فَإِنْ دَفَعَهُ لِلْعَطْفِ لَا لِلسَّبَبِيَّةِ، وَلَكِنْ لَوْ بُدِّلَتْ بِالْوَاوِ لَكَانَ أَحْسَنَ كَمَا لَا يَخْفَى (وَلَمْ يَكُنْ لِلْوَكِيلِ أَنْ يُطَالِبَهُ بِهِ) أَيْ بِالثَّمَنِ (ثَانِيًا؛ لِأَنَّ نَفْسَ الثَّمَنِ الْمَقْبُوضِ حَقُّهُ) أَيْ حَقُّ الْمُوَكِّلِ وَإِنْ كَانَتْ مُطَالَبَتُهُ حَقَّ الْوَكِيلِ (وَقَدْ وَصَلَ إلَيْهِ)

ص: 24

وَلَا فَائِدَةَ فِي الْأَخْذِ مِنْهُ ثُمَّ الدَّفْعِ إلَيْهِ، وَلِهَذَا لَوْ كَانَ لِلْمُشْتَرِي عَلَى الْمُوَكِّلِ دَيْنٌ يَقَعُ الْمُقَاصَّةُ، وَلَوْ كَانَ لَهُ عَلَيْهِمَا دَيْنٌ يَقَعُ الْمُقَاصَّةُ بِدَيْنِ الْمُوَكِّلِ أَيْضًا دُونَ دَيْنِ الْوَكِيلِ وَبِدَيْنِ الْوَكِيلِ إذَا كَانَ وَحْدَهُ إنْ كَانَ يَقَعُ الْمُقَاصَّةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لِمَا أَنَّهُ يَمْلِكُ الْإِبْرَاءَ عَنْهُ عِنْدَهُمَا وَلَكِنَّهُ يَضْمَنُهُ لِلْمُوَكِّلِ فِي الْفَصْلَيْنِ.

وَقَدْ وَصَلَ حَقُّ الْمُوَكِّلِ إلَى نَفْسِهِ (فَلَا فَائِدَةَ فِي الْأَخْذِ مِنْهُ) أَيْ مِنْ الْمُوَكِّلِ (ثُمَّ فِي الدَّفْعِ إلَيْهِ) أَيْ إلَى الْوَكِيلِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا فِي غَيْرِ الصَّرْفِ، وَأَمَّا فِي الصَّرْفِ فَقَبْضُ الْمُوَكِّلِ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ جَوَازَ الْبَيْعِ فِي الصَّرْفِ بِالْقَبْضِ فَكَانَ الْقَبْضُ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ؛ وَلَوْ ثَبَتَ لِلْوَكِيلِ حَقُّ الْقَبُولِ وَقَبِلَ الْمُوَكِّلُ لَمْ يَجُزْ. فَكَذَا إذَا ثَبَتَ لَهُ حَقُّ الْقَبْضِ وَقَبَضَ الْمُوَكِّلُ، أُشِيرَ إلَى هَذَا فِي الذَّخِيرَةِ وَذُكِرَ فِي الشُّرُوحِ (وَلِهَذَا) أَيْ وَلِكَوْنِ نَفْسِ الثَّمَنِ الْمَقْبُوضِ حَقَّ الْمُوَكِّلِ (لَوْ كَانَ لِلْمُشْتَرِي عَلَى الْمُوَكِّلِ دَيْنٌ تَقَعُ الْمُقَاصَّةُ، وَلَوْ كَانَ لَهُ عَلَيْهِمَا دَيْنٌ تَقَعُ الْمُقَاصَّةُ بِدَيْنِ الْمُوَكِّلِ أَيْضًا دُونَ دَيْنِ الْوَكِيلِ) حَتَّى لَا يَرْجِعَ الْمُوَكِّلُ عَلَى الْوَكِيلِ بِشَيْءٍ مِنْ الثَّمَنِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمُقَاصَّةَ إبْرَاءٌ بِعِوَضٍ فَتُعْتَبَرُ بِالْإِبْرَاءِ بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَلَوْ أَبْرَآهُ جَمِيعًا بِغَيْرِ عِوَضٍ وَخَرَجَ الْكَلَامَانِ مَعًا بَرِئَ الْمُشْتَرِي بِإِبْرَاءِ الْمُوَكِّلِ دُونَ الْوَكِيلِ حَتَّى لَا يَرْجِعَ الْمُوَكِّلُ عَلَى الْوَكِيلِ بِشَيْءٍ فَكَذَا هَاهُنَا، وَلِأَنَّا لَوْ جَعَلْنَاهُ قِصَاصًا بِدَيْنِ الْوَكِيلِ احْتَجْنَا إلَى قَضَاءٍ آخَرَ فَإِنَّ الْوَكِيلَ يَقْضِي لِلْمُوَكِّلِ، وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قِصَاصًا بِدَيْنِ الْمُوَكِّلِ لَمْ نَحْتَجْ إلَى قَضَاءٍ آخَرَ فَجَعَلْنَاهُ قِصَاصًا بِدَيْنِ الْمُوَكِّلِ قَصْرًا لِلْمَسَافَةِ فَقَدْ أَثْبَتْنَا حُكْمًا مُجْمَعًا عَلَيْهِ، فَإِنَّ الْمُوَكِّلَ يَمْلِكُ إسْقَاطَ الثَّمَنِ عَنْ الْمُشْتَرِي بِالْإِجْمَاعِ، وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قِصَاصًا بِدَيْنِ الْوَكِيلِ لَأَثْبَتْنَا حُكْمًا مُخْتَلَفًا فِيهِ فَكَانَ مَا قُلْنَاهُ أَوْلَى، كَذَا ذَكَرَهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ الْمَعْرُوفُ بِخُوَاهَرْ زَادَهْ. وَلَمَا اُسْتُشْعِرَ أَنْ يُقَالَ الْمُقَاصَّةُ لَا تَدُلُّ عَلَى كَوْنِ نَفْسِ الثَّمَنِ حَقًّا لِلْمُوَكِّلِ دُونَ الْوَكِيلِ فَإِنَّهَا تَقَعُ بِدَيْنِ الْوَكِيلِ إذَا كَانَ لِلْمُشْتَرِي دَيْنٌ عَلَى الْوَكِيلِ وَحْدَهُ.

أَجَابَ بِقَوْلِهِ (وَبِدَيْنِ الْوَكِيلِ إذَا كَانَ وَحْدَهُ) إنْ كَانَ (تَقَعُ الْمُقَاصَّةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ لِمَا أَنَّهُ) أَيْ الْوَكِيلَ (يَمْلِكُ الْإِبْرَاءَ عَنْهُ) أَيْ عَنْ الْمُشْتَرِي (عِنْدَهُمَا) أَيْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ: يَعْنِي أَنَّهُ إنْ كَانَ تَقَعُ الْمُقَاصَّةُ عِنْدَهُمَا بِدَيْنِ الْوَكِيلِ وَحْدَهُ لِعِلَّةِ أَنَّ الْوَكِيلَ يَمْلِكُ الْإِبْرَاءَ بِغَيْرِ عِوَضٍ عَنْ الْمُشْتَرِي عِنْدَهُمَا فَيَمْلِكُ الْمُقَاصَّةَ أَيْضًا؛ لِأَنَّهَا إبْرَاءٌ بِعِوَضٍ فَتُعْتَبَرُ بِالْإِبْرَاءِ بِغَيْرِ عِوَضٍ (وَلَكِنَّهُ يَضْمَنُهُ) أَيْ وَلَكِنَّ الْوَكِيلَ يَضْمَنُ الثَّمَنَ (لِلْمُوَكِّلِ فِي الْفَصْلَيْنِ) أَيْ فِي فَصْلِ الْإِبْرَاءِ وَالْمُقَاصَّةِ، بِخِلَافِ الْمُوَكِّلِ فَإِنَّهُ لَا يَضْمَنُ لِأَحَدٍ فِي شَيْءٍ

ص: 25

(بَابُ الْوَكَالَةِ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ)

(فَصْلٌ فِي الشِّرَاءِ)

مِنْ الْفَصْلَيْنِ فَافْتَرَقَا. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يَجُوزُ إبْرَاءُ الْوَكِيلِ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ فِي ذِمَّةِ الْمُشْتَرِي مِلْكُ الْمُوَكِّلِ، فَإِبْرَاءُ الْوَكِيلِ تَصَرُّفٌ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ عَلَى خِلَافِ مَا أَمَرَ بِهِ فَلَا يَنْفُذُ، كَمَا لَوْ قَبَضَ الثَّمَنَ ثُمَّ وَهَبَهُ لِلْمُشْتَرِي. وَحُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ الْإِبْرَاءَ إسْقَاطٌ لِحَقِّ الْقَبْضِ، وَالْقَبْضُ خَالِصُ حَقِّ الْوَكِيلِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُوَكِّلَ لَا يَمْنَعُهُ عَنْ ذَلِكَ، وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَقْبِضَ بِنَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ فَكَانَ هُوَ فِي الْإِبْرَاءِ عَنْ الْقَبْضِ مُسْقِطًا حَقَّ نَفْسِهِ فَيَصِحُّ مِنْهُ.

ثُمَّ أَنَّهُ لَمَّا أُسْقِطَ حَقُّ الْقَبْضِ انْسَدَّ عَلَى الْمُوَكِّلِ بَابُ الِاسْتِيفَاءِ إذْ لَيْسَ لَهُ حَقُّ الْقَبْضِ فَصَارَ ضَامِنًا لَهُ بِمَنْزِلَةِ الرَّاهِنِ يَعْتِقُ الْمَرْهُونَ يَنْفُذُ إعْتَاقُهُ لِمُصَادَفَتِهِ مِلْكَهُ وَلَكِنْ يَضْمَنُ لِلْمُرْتَهِنِ لِانْسِدَادِ بَابِ الِاسْتِيفَاءِ مِنْ مَالِيَّةِ الْعَبْدِ عَلَيْهِ، كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ. فَإِنْ قِيلَ: يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ مِنْ الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ مِثْلُ هَذَا الْبَيْعِ الَّذِي يُوجِبُ مُقَاصَّةَ ثَمَنِ الْمَبِيعِ بِدَيْنِ الْمُوَكِّلِ؛ لِأَنَّهُ خَالَفَ الْمُوَكِّلَ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا وَكَّلَهُ بِبَيْعٍ يَصِلُ إلَيْهِ ثَمَنُهُ وَهَا هُنَا لَا يَصِلُ. قُلْت: إنْ لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ الثَّمَنُ بَعْدَ الْبَيْعِ فَقَدْ وَصَلَ إلَيْهِ قَبْلَ الْبَيْعِ فَيَصِيرُ الثَّمَنُ قِصَاصًا بِدَيْنِ الْآمِرِ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْآمِرَ يَمْلِكُ إبْرَاءَ الْمُشْتَرِي عَنْ الثَّمَنِ بِغَيْرِ عِوَضٍ عِنْدَهُمْ فَيَمْلِكُ الْإِبْرَاءَ بِعِوَضٍ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. كَذَا فِي الذَّخِيرَةِ.

(بَابُ الْوَكَالَةِ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ)

(فَصْلٌ فِي الشِّرَاءِ)

قَدَّمَ مِنْ أَبْوَابِ الْوَكَالَةِ مَا هُوَ أَكْثَرُ وُقُوعًا وَأَمَسُّ حَاجَةً وَهُوَ الْوَكَالَةُ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، وَقَدَّمَ فَصْلَ الشِّرَاءِ؛ لِأَنَّهُ يُنْبِئُ عَنْ إثْبَاتِ الْمِلْكِ. وَالْبَيْعُ يُنْبِئُ عَنْ إزَالَتِهِ، وَالْإِزَالَةُ بَعْدَ الْإِثْبَاتِ كَذَا فِي الشُّرُوحِ. أَقُولُ: هَذَا الَّذِي ذَكَرُوهُ لِتَقْدِيمِ فَصْلِ الشِّرَاءِ

ص: 26

(قَالَ: وَمَنْ وَكَّلَ رَجُلًا بِشِرَاءِ شَيْءٍ فَلَا بُدَّ مِنْ تَسْمِيَةِ جِنْسِهِ وَصِفَتِهِ

ضَعِيفُ جِدًّا، بَلْ هُوَ أَمْرٌ وَهْمِيٌّ لَا تَحْقِيقِيٌّ؛ لِأَنَّ الشِّرَاءَ كَمَا يُنْبِئُ عَنْ إثْبَاتِ الْمِلْكِ فِي الْمَبِيعِ يُنْبِئُ أَيْضًا عَنْ إزَالَةِ الْمِلْكِ عَنْ الثَّمَنِ، وَإِنَّ الْبَيْعَ كَمَا يُنْبِئُ عَنْ إزَالَةِ الْمِلْكِ عَنْ الْمَبِيعِ يُنْبِئُ أَيْضًا عَنْ إثْبَاتِ الْمِلْكِ فِي الثَّمَنِ، وَعَنْ هَذَا قَالُوا إنَّ الشِّرَاءَ جَالِبٌ لِلْمَبِيعِ سَالِبٌ لِلثَّمَنِ وَالْبَيْعُ عَلَى عَكْسِهِ، فَهُمَا سِيَّانِ فِي الْإِنْبَاءِ عَنْ الْإِثْبَاتِ وَالْإِزَالَةِ.

وَإِنْ وُجِّهَ بِأَنَّ الْأَصْلَ وَالْعُمْدَةَ فِي عَقْدِ الْمُبَايَعَةِ هُوَ الْمَبِيعُ فَيَكْفِي إنْبَاءُ الشِّرَاءِ عَنْ الْإِثْبَاتِ وَالْبَيْعِ عَنْ الْإِزَالَةِ بِالنَّظَرِ إلَيْهِ. قُلْنَا: لَا شَكَّ أَنَّ ثُبُوتَ مِلْكِ الْمُشْتَرِي فِي الْمَبِيعِ لَيْسَ بِمُقَدَّمٍ عَلَى زَوَالِ مِلْكِ الْبَائِعِ عَنْهُ، وَإِلَّا يَلْزَمُ أَنْ يَجْتَمِعَ فِي كُلِّ مَبِيعٍ فِي آنٍ وَاحِدٍ هُوَ قَبْلَ زَوَالِ مِلْكِ الْبَائِعِ عَنْهُ مِلْكَانِ مُسْتَقِلَّانِ لِلْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي وَلَا يَخْفَى بُطْلَانُهُ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ ثُبُوتَ الْمِلْكِ وَزَوَالَهُ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ إنَّمَا يَتَحَقَّقَانِ مَعًا بِالنِّسْبَةِ إلَى الشَّخْصَيْنِ. وَأَمَّا قَضِيَّةُ كَوْنِ الْإِزَالَةِ بَعْدَ الْإِثْبَاتِ فَإِنَّمَا تُجْرَى فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ بِالنِّسْبَةِ إلَى شَخْصٍ وَاحِدٍ فَهِيَ بِمَعْزِلٍ عَمَّا نَحْنُ فِيهِ. فَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْوَجْهَ فِي تَقْدِيمِ فَصْلِ الشِّرَاءِ عَلَى فَصْلِ الْبَيْعِ مَا هُوَ الْوَجْهُ فِي تَقْدِيمِ بَابِ الْوَكَالَةِ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ عَلَى سَائِرِ أَبْوَابِ الْوَكَالَةِ مِنْ كَوْنِهِ أَكْثَرَ وُقُوعًا وَأَمَسَّ حَاجَةً، فَإِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ يُوَكِّلُ الْآخَرَ بِالشِّرَاءِ فِي مَأْكِلِهِ وَمَشَارِبِهِ وَمَلَابِسِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ الْمُهِمَّةِ الَّتِي قَلَّمَا يَخْلُو الْإِنْسَانُ فِي أَوْقَاتِهِ مِنْ الِاحْتِيَاجِ إلَيْهَا، وَقَلَّمَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَتَوَلَّى شِرَاءَهَا بِنَفْسِهِ.

بِخِلَافِ التَّوْكِيلِ فِي بَابِ الْبَيْعِ كَمَا لَا يَخْفَى (قَالَ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ (وَمَنْ وَكَّلَ رَجُلًا بِشِرَاءِ شَيْءٍ أَيِّ شَيْءٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ؛ لِأَنَّ فِي الْعَيْنِ لَا يَحْتَاجُ إلَى تَسْمِيَةِ الْجِنْسِ وَالصِّفَةِ) كَذَا فِي الشُّرُوحِ (فَلَا بُدَّ مِنْ تَسْمِيَةِ جِنْسِهِ) كَالْعَبْدِ وَالْجَارِيَةِ، فَإِنَّ الْعَبْدَ جِنْسٌ عِنْدَ أَهْلِ الشَّرْعِ، وَكَذَا الْجَارِيَةُ بِاعْتِبَارِ اخْتِلَافِ الْأَحْكَامِ (وَصِفَتُهُ) أَيْ نَوْعُهُ عَلَى مَا سَيَأْتِي فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ كَالتُّرْكِيِّ وَالْهِنْدِيِّ. قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: فَيَحْتَاجُ إلَى تَعْرِيفِ الْجِنْسِ وَالنَّوْعِ، فَقِيلَ الْجِنْسُ هُوَ مَا يَدْخُلُ تَحْتَهُ أَنْوَاعٌ مُتَغَايِرَةٌ، وَالنَّوْعُ اسْمٌ لِأَحَدِ مَا يَدْخُلُ تَحْتَ اسْمٍ فَوْقَهُ. وَذَكَرَ فِي الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ مُحَالًا إلَى أَهْلِ الْمَنْطِقِ: الْجِنْسُ اسْمٌ دَالٌّ عَلَى كَثِيرِينَ مُخْتَلِفِينَ بِالنَّوْعِ، وَالنَّوْعُ اسْمٌ دَالٌّ عَلَى كَثِيرِينَ مُخْتَلِفِينَ بِالشَّخْصِ انْتَهَى.

أَقُولُ: لَا يَذْهَبُ عَلَى ذِي فِطْرَةٍ سَلِيمَةٍ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِشَيْءٍ يُعَرِّفُ بِهِ مَا هُوَ الْمُرَادُ بِالْجِنْسِ وَالنَّوْعِ هَاهُنَا؛ لِأَنَّ الَّذِي ذَكَرَهُ أَوَّلًا لَا حَاصِلَ لَهُ بَلْ هُوَ أَمْرٌ مُبْهَمٌ مُتَنَاوِلٌ لِأُمُورٍ كَثِيرَةٍ غَيْرِ مُرَادَةٍ بِالْجِنْسِ وَالنَّوْعِ هَاهُنَا قَطْعًا. وَاَلَّذِي ذَكَرَهُ ثَانِيًا لَا يُطَابِقُ مُرَادَ الْفُقَهَاءِ وَيَشْهَدُ بِذَلِكَ قَطْعًا مَا ذَكَرُوهُ مِنْ أَمْثِلَةِ الْجِنْسِ وَالنَّوْعِ. وَقَالَ صَاحِبُ الْغَايَةِ: وَأَرَادَ بِالْجِنْسِ النَّوْعَ لَا مُصْطَلَحَ أَهْلِ الْمَنْطِقِ وَهُوَ الْكُلِّيُّ الْمَقُولُ عَلَى كَثِيرِينَ مُخْتَلِفِينَ بِالنَّوْعِ فِي جَوَابِ مَا هُوَ، وَالنَّوْعُ هُوَ الْمَقُولُ عَلَى كَثِيرِينَ مُخْتَلِفِينَ بِالْعَدَدِ فِي جَوَابِ مَا هُوَ، أَوْ أَرَادَ مُصْطَلَحَ أَهْلِ النَّحْوِ وَهُوَ مَا عُلِّقَ عَلَى شَيْءٍ وَعَلَى كُلِّ مَا أَشْبَهَهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ بِالْجِنْسِ مَا يَنْدَرِجُ تَحْتَهُ أَشْخَاصٌ، وَقَدْ مَرَّ بَيَانُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ فِي بَابِ الْمَهْرِ انْتَهَى.

أَقُولُ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَعَانِي الثَّلَاثَةِ الَّتِي جَوَّزَ كَوْنَهَا مُرَادَةً بِالْجِنْسِ هَاهُنَا مَنْظُورٌ فِيهِ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ بِالنَّوْعِ فِي قَوْلِهِ وَأَرَادَ بِالْجِنْسِ النَّوْعَ الْمَنْطِقِيَّ كَمَا هُوَ الْمُتَبَادَرُ مِنْ سِيَاقِ كَلَامِهِ يُرَدُّ عَلَيْهِ أَنَّ مِنْ الْأَجْنَاسِ الشَّرْعِيَّةِ مَا لَيْسَ بِنَوْعٍ عِنْدَ أَهْلِ الْمَنْطِقِ كَالْعَبْدِ وَالْجَارِيَةِ فَإِنَّهُمَا لَيْسَا بِنَوْعَيْنِ عِنْدَهُمْ بَلْ هُمَا عِنْدَهُمْ مِنْ أَصْنَافِ نَوْعِ الْإِنْسَانِ، وَإِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ النَّوْعَ اللُّغَوِيَّ بِمَعْنَى الْقِسْمِ يَلْزَمُ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ جَمِيعُ الْأَنْوَاعِ الشَّرْعِيَّةِ بَلْ أَصْنَافُهَا أَيْضًا، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا قِسْمٌ مِمَّا هُوَ الْأَعَمُّ مِنْهُ، فَلَا يَتَمَيَّزُ الْجِنْسُ الشَّرْعِيُّ عَنْ النَّوْعِ الشَّرْعِيِّ وَمَا دُونَهُ فَيُخْتَلَ مَعْنَى الْمَقَامِ. وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ ذَلِكَ الْمَعْنَى الَّذِي هُوَ مُصْطَلَحُ أَهْلِ النَّحْوِ فِي اسْمِ الْجِنْسِ. وَحَاصِلُهُ مَا عُلِّقَ عَلَى شَيْءٍ لَا بِعَيْنِهِ كَمَا ذَكَرَهُ فِي بَابِ الْمَهْرِ مِنْ كِتَابِ النِّكَاحِ يَصْدُقُ عَلَى مَا فَرَّقَ الْأَجْنَاسَ الشَّرْعِيَّةَ كَالدَّابَّةِ وَالثَّوْبِ وَالرَّقِيقِ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا مِمَّا يَجْمَعُ الْأَجْنَاسَ الشَّرْعِيَّةَ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ، وَيَصْدُقُ أَيْضًا عَلَى مَا تَحْتَ الْأَجْنَاسِ الشَّرْعِيَّةِ مِنْ الْأَنْوَاعِ الشَّرْعِيَّةِ وَمَا دُونَهَا، فَلَا يَتَمَيَّزُ الْجِنْسُ الشَّرْعِيُّ حِينَئِذٍ مِنْ غَيْرِهِ فَيَخْتَلُّ مَعْنَى

ص: 27

أَوْ جِنْسِهِ وَمَبْلَغِ ثَمَنِهِ) لِيَصِيرَ الْفِعْلُ الْمُوَكَّلُ بِهِ مَعْلُومًا فَيُمْكِنُهُ الِائْتِمَارُ،

الْمَقَامِ. وَأَمَّا الثَّالِثُ فَلِأَنَّ ذَلِكَ الْمَعْنَى الَّذِي هُوَ مُصْطَلَحُ حُكَمَاءِ الْيُونَانِ فِي الْجِنْسِ عَلَى مَا نُقِلَ عَنْ أَبِي عَلِيِّ بْنِ سِينَا يَصْدُقُ عَلَى كُلِّ مَفْهُومٍ كُلِّيٍّ يَنْدَرِجُ تَحْتَهُ أَشْخَاصٌ فَيَعُمُّ مَا فَوْقَ الْأَجْنَاسِ الشَّرْعِيَّةِ وَمَا تَحْتَهَا مِنْ الْأَنْوَاعِ الشَّرْعِيَّةِ وَأَصْنَافِهَا، فَلَا يَتَمَيَّزُ الْجِنْسُ الشَّرْعِيُّ حِينَئِذٍ مِنْ غَيْرِهِ أَيْضًا فَيَخْتَلُّ مَعْنَى الْمَقَامِ. وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَالْمُرَادُ بِالْجِنْسِ وَالنَّوْعِ هَاهُنَا غَيْرُ مَا اصْطَلَحَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْمَنْطِقِ، فَإِنَّ الْجِنْسَ عِنْدَهُمْ هُوَ الْمَقُولُ عَلَى كَثِيرِينَ مُخْتَلِفِينَ بِالْحَقِيقَةِ فِي جَوَابِ مَا هُوَ كَالْحَيَوَانِ، وَالنَّوْعُ هُوَ الْمَقُولُ عَلَى كَثِيرِينَ مُتَّفِقِينَ بِالْحَقِيقَةِ فِي جَوَابِ مَا هُوَ كَالْإِنْسَانِ مَثَلًا، وَالصِّنْفُ هُوَ النَّوْعُ الْمُقَيَّدُ بِقَيْدٍ عَرَضِيٍّ كَالتُّرْكِيِّ وَالْهِنْدِيِّ، وَالْمُرَادُ هَاهُنَا بِالْجِنْسِ مَا يَشْمَلُ أَصْنَافًا عَلَى اصْطِلَاحِ أُولَئِكَ وَبِالنَّوْعِ الصِّنْفُ انْتَهَى.

أَقُولُ: لَا يَخْفَى عَلَى الْعَارِفِ بِالْفِقْهِ أَنَّ مَا قَالَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ أَقْرَبُ إلَى ضَبْطِ مَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ الْجِنْسِ وَالنَّوْعِ عِنْدَ أَهْلِ الشَّرْعِ، لَكِنَّ فِيهِ أَيْضًا إشْكَالٌ؛ لِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ بِالصِّنْفِ فِي قَوْلِهِ وَبِالنَّوْعِ الصِّنْفِ الصِّنْفَ الْمَنْطِقِيَّ كَمَا هُوَ الْمُتَبَادَرُ مِنْ سِيَاقِ كَلَامِهِ، يُرَدُّ عَلَيْهِ أَنَّ الْحِمَارَ نَوْعٌ عِنْدَ أَهْلِ الشَّرْعِ عَلَى مَا سَيَجِيءُ فِي الْكِتَابِ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ بِصِنْفٍ مَنْطِقِيٍّ، بَلْ هُوَ نَوْعٌ عِنْدَ أَهْلِ الْمَنْطِقِ أَيْضًا، وَإِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ الصِّنْفَ اللُّغَوِيَّ بِمَعْنَى الضَّرْبِ وَالْقِسْمِ يُرَدُّ عَلَيْهِ أَنَّ الرَّقِيقَ مَثَلًا صِنْفٌ بِهَذَا الْمَعْنَى؛ لِأَنَّهُ ضَرْبٌ مِنْ الْإِنْسَانِ وَلَيْسَ بِنَوْعٍ عِنْدَ أَهْلِ الشَّرْعِ، بَلْ هُوَ عِنْدَهُمْ مِمَّا يَجْمَعُ الْأَجْنَاسَ الشَّرْعِيَّةَ كَالْعَبْدِ وَالْجَارِيَةِ عَلَى مَا صَرَّحُوا بِهِ، وَإِنَّ الْعَبْدَ وَالْجَارِيَةَ مَثَلًا صِنْفَانِ بِالْمَعْنَى الْمَذْكُورِ وَلَيْسَا بِنَوْعَيْنِ عِنْدَهُمْ بَلْ هُمَا عِنْدَهُمْ جِنْسَانِ كَمَا نَصُّوا عَلَيْهِ (أَوْ جِنْسِهِ وَمَبْلَغِ ثَمَنِهِ) أَيْ أَوْ تَسْمِيَةِ جِنْسِهِ وَمِقْدَارِ ثَمَنِهِ (لِيَصِيرَ الْفِعْلُ الْمُوَكَّلُ بِهِ مَعْلُومًا فَيُمْكِنُهُ الِائْتِمَارُ) أَيْ فَيُمْكِنُ الْوَكِيلُ الِامْتِثَالَ لِأَمْرِ الْمُوَكِّلِ، فَإِنَّ ذِكْرَ الْجِنْسِ مُجَرَّدًا عَنْ الصِّفَةِ أَوْ الثَّمَنِ لَا يُفِيدُ الْمَعْرِفَةَ فَلَا يَتَمَكَّنُ الْوَكِيلُ مِنْ الْإِتْيَانِ بِمَا أَمَرَهُ الْمُوَكِّلُ بِهِ. وَاعْتَرَضَ عَلَى قَوْلِهِ لِيَصِيرَ الْفِعْلُ الْمُوَكَّلُ بِهِ مَعْلُومًا بِأَنَّ الْفِعْلَ الْمُوَكَّلَ بِهِ مَعْلُومٌ وَهُوَ الشِّرَاءُ.

وَالْجَوَابُ: إنَّ الْفِعْلَ الْمُوَكَّلَ بِهِ فِي هَذَا الْقِسْمِ لَيْسَ هُوَ الشِّرَاءَ، بَلْ هُوَ شِرَاءُ نَوْعٍ مِنْ جِنْسٍ، وَإِذَا لَمْ يُعْلَمْ النَّوْعُ لَمْ يُعْلَمْ الْفِعْلُ الْمُضَافُ إلَيْهِ كَذَا فِي الْعِنَايَةِ. أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إنْ أَرَادَ أَنَّ الْفِعْلَ الْمُوَكَّلَ بِهِ فِي هَذَا الْقِسْمِ شِرَاءُ نَوْعٍ مُعَيَّنٍ مِنْ جِنْسٍ فَهُوَ مَمْنُوعٌ، كَيْفَ وَمَعْنَى الدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُسَمِّ الْمُوَكِّلُ بِشِرَاءِ شَيْءٍ نَوْعَهُ مَعَ جِنْسِهِ أَوْ مَبْلَغَ ثَمَنِهِ مَعَ جِنْسِهِ لَمْ يَصِرْ الْفِعْلُ الْمُوَكَّلُ بِهِ مَعْلُومًا فَلَمْ يُمْكِنْ لِلْوَكِيلِ الِائْتِمَارُ بِمَا أَمَرَ بِهِ، وَعَلَى هَذَا لَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ الْمُوَكَّلُ بِهِ شِرَاءَ نَوْعٍ مُعَيَّنٍ لِكَوْنِهِ خِلَافَ الْمَفْرُوضِ.

وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ الْفِعْلَ الْمُوَكَّلَ بِهِ فِي هَذَا الْقِسْمِ شِرَاءُ نَوْعٍ مَا مِنْ أَنْوَاعِ جِنْسٍ فَهُوَ مُسَلَّمٌ، لَكِنْ يُرَدُّ عَلَيْهِ الِاعْتِرَاضُ بِأَنَّ الْفِعْلَ الْمُوَكَّلَ بِهِ حِينَئِذٍ مَعْلُومٌ، وَهُوَ شِرَاءُ نَوْعٍ مَا مِنْ جِنْسٍ، فَإِذَا اشْتَرَى الْوَكِيلُ أَيَّ نَوْعٍ كَانَ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ يَصِيرُ مُؤْتَمَرًا بِمَا أُمِرَ بِهِ. وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ بِأَنَّ الْفِعْلَ الْمُوَكَّلَ بِهِ حِينَئِذٍ وَإِنْ كَانَ شِرَاءَ نَوْعٍ مُطْلَقٍ مِنْ جِنْسٍ نَظَرًا إلَى ظَاهِرِ لَفْظِ الْمُوَكِّلِ لَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُ الْمُوَكِّلِ شِرَاءَ نَوْعٍ مَخْصُوصٍ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ، فَإِذَا لَمْ يُعْلَمْ ذَلِكَ النَّوْعُ الْمُرَادُ لَمْ يُمْكِنْ لِلْوَكِيلِ

ص: 28

(إلَّا أَنْ يُوَكِّلَهُ وَكَالَةً عَامَّةً فَيَقُولَ: ابْتَعْ لِي مَا رَأَيْت)؛ لِأَنَّهُ فَوَّضَ الْأَمْرَ إلَى رَأْيِهِ، فَأَيُّ شَيْءٍ يَشْتَرِيهِ يَكُونُ مُمْتَثِلًا. وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ الْجَهَالَةَ الْيَسِيرَةَ تَتَحَمَّلُ فِي الْوَكَالَةِ كَجَهَالَةِ الْوَصْفِ اسْتِحْسَانًا،

الِائْتِمَارُ بِأَمْرِهِ عَلَى وَفْقِ مُرَادِهِ، فَمَعْنَى كَلَامِ الْمُصَنِّفِ لِيَصِيرَ الْفِعْلُ الْمُوَكَّلُ بِهِ مَعْلُومًا عَلَى وَفْقِ مُرَادِ الْمُوَكِّلِ فَيُمَكِّنُ لِلْوَكِيلِ الِائْتِمَارُ بِأَمْرِهِ عَلَى وَفْقِ ذَلِكَ وَيُرْشِدُ إلَيْهِ قَوْلُهُ فِيمَا سَيَأْتِي فَلَا يَدْرِي مُرَادَ الْآمِرِ لِتَفَاحُشِ الْجَهَالَةِ (إلَّا أَنْ يُوَكِّلَهُ وَكَالَةً عَامَّةً) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَسْمِيَةِ جِنْسِهِ وَصِفَتِهِ أَوْ جِنْسِهِ وَمَبْلَغِ ثَمَنِهِ: يَعْنِي إذَا وَكَّلَهُ وَكَالَةً عَامَّةً (فَيَقُولُ ابْتَعْ لِي مَا رَأَيْت) فَلَا يَحْتَاجُ إلَى ذِكْرِ شَيْءٍ مِنْهَا (لِأَنَّهُ) أَيْ الْمُوَكِّلَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ (فَوَّضَ الْأَمْرَ إلَى رَأْيِهِ) أَيْ إلَى رَأْيِ الْوَكِيلِ (فَأَيَّ شَيْءٍ يَشْتَرِيهِ يَكُونُ مُمْتَثِلًا) لِأَمْرِ الْمُوَكِّلِ فَيَقَعُ عَنْهُ. أَعْلَمْ أَنَّ الْجَهَالَةَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: فَاحِشَةٌ وَهِيَ جَهَالَةُ الْجِنْسِ كَالتَّوْكِيلِ بِشِرَاءِ الثَّوْبِ وَالدَّابَّةِ وَالرَّقِيقِ وَهِيَ تَمْنَعُ صِحَّةَ الْوَكَالَةِ وَإِنْ بَيَّنَ الثَّمَنَ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ لَا يَقْدِرُ عَلَى الِامْتِثَالِ. وَيَسِيرَةٌ وَهِيَ جَهَالَةُ النَّوْعِ كَالتَّوْكِيلِ بِشِرَاءِ الْحِمَارِ وَالْفَرَسِ وَالْبَغْلِ وَالثَّوْبِ الْهَرَوِيِّ وَالْمَرْوِيِّ فَإِنَّهَا لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْوَكَالَةِ وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ الثَّمَنَ.

وَقَالَ بِشْرُ بْنُ غِيَاثٍ: لَا تَصِحُّ الْوَكَالَةُ؛ لِأَنَّ التَّوْكِيلَ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ مُعْتَبَرٌ بِنَفْسِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فَلَا يَصِحُّ إلَّا بِبَيَانِ وَصْفِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ. وَلَنَا «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام وَكَّلَ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ بِشِرَاءِ شَاةٍ لِلْأُضْحِيَّةِ» وَلَمْ يُبَيِّنْ صِفَتَهَا. وَمَبْنَى الْوَكَالَةِ عَلَى التَّوَسُّعِ لِكَوْنِهَا اسْتِعَانَةً فَيَتَحَمَّلُ فِيهَا الْجَهَالَةُ الْيَسِيرَةُ اسْتِحْسَانًا. وَفِي اشْتِرَاطِ بَيَانِ الْوَصْفِ بَعْضُ الْحَرَجِ فَسَقَطَ اعْتِبَارُهُ، وَجَهَالَةٌ مُتَوَسِّطَةٌ وَهِيَ بَيْنَ النَّوْعِ وَالْجِنْسِ كَالتَّوْكِيلِ بِشِرَاءِ عَبْدٍ أَوْ شِرَاءِ أَمَةٍ أَوْ دَارٍ، فَإِنْ بَيَّنَ الثَّمَنَ أَوْ النَّوْعَ وَيُجْعَلُ مُلْحَقًا بِجَهَالَةِ النَّوْعِ، وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ الثَّمَنَ أَوْ النَّوْعَ لَا يَصِحُّ وَيُلْحَقُ بِجَهَالَةِ الْجِنْسِ؛ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ الِامْتِثَالَ.

كَذَا ذَكَرَ فِي الْكَافِي أَخْذًا مِنْ الْمَبَاسِيطِ وَالْجَوَامِعِ. فَأَرَادَ الْمُصَنِّفُ أَنْ يُشِيرَ إلَى هَذِهِ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ مِنْ الْجَهَالَةِ، وَأَنْ يُبَيِّنَ حُكْمَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا فِي بَابِ الْوَكَالَةِ. فَقَالَ (وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ الْجَهَالَةَ الْيَسِيرَةَ تَتَحَمَّلُ فِي الْوَكَالَةِ كَجَهَالَةِ الْوَصْفِ اسْتِحْسَانًا) هَذَا بَيَانٌ لِحُكْمِ الْجَهَالَةِ الْيَسِيرَةِ، وَإِنَّمَا قُيِّدَ بِالِاسْتِحْسَانِ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ لَا تَتَحَمَّلَ الْجَهَالَةُ فِي الْوَكَالَةِ وَإِنْ قَلَّتْ بِنَاءً عَلَى أَنَّ التَّوْكِيلَ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ مُعْتَبَرٌ بِنَفْسِ الْبَيْعِ أَوْ الشِّرَاءِ؛ أَلَا يَرَى أَنَّا نَجْعَلُ الْوَكِيلَ كَالْمُشْتَرِي لِنَفْسِهِ ثُمَّ كَالْبَائِعِ مِنْ

ص: 29

لِأَنَّ مَبْنَى التَّوْكِيلِ عَلَى التَّوَسُّعَةِ؛ لِأَنَّهُ اسْتِعَانَةٌ. وَفِي اعْتِبَارِ هَذَا الشَّرْطِ بَعْضُ الْحَرَجِ وَهُوَ مَدْفُوعٌ

(ثُمَّ إنْ كَانَ اللَّفْظُ يَجْمَعُ أَجْنَاسًا أَوْ مَا هُوَ فِي مَعْنَى الْأَجْنَاسِ لَا يَصِحُّ التَّوْكِيلُ وَإِنْ بَيَّنَ الثَّمَنَ)؛ لِأَنَّ بِذَلِكَ الثَّمَنِ يُوجَدُ مِنْ كُلِّ جِنْسٍ فَلَا يُدْرَى مُرَادُ الْآمِرِ لِتَفَاحُشِ الْجَهَالَةِ (وَإِنْ كَانَ جِنْسًا يَجْمَعُ أَنْوَاعًا لَا يَصِحُّ إلَّا بِبَيَانِ الثَّمَنِ أَوْ النَّوْعِ)؛ لِأَنَّهُ بِتَقْدِيرِ الثَّمَنِ يَصِيرُ النَّوْعُ مَعْلُومًا، وَبِذِكْرِ النَّوْعِ تَقِلُّ الْجَهَالَةُ فَلَا تَمْنَعُ الِامْتِثَالَ. مِثَالُهُ: إذَا وَكَّلَهُ بِشِرَاءِ عَبْدٍ أَوْ جَارِيَةٍ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ يَشْمَلُ أَنْوَاعًا فَإِنْ بَيَّنَ النَّوْعَ كَالتُّرْكِيِّ وَالْحَبَشِيِّ أَوْ الْهِنْدِيِّ أَوْ السِّنْدِيِّ أَوْ الْمُوَلِّدِ جَازَ، وَكَذَا إذَا بَيَّنَ الثَّمَنَ لِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَلَوْ بَيَّنَ النَّوْعَ أَوْ الثَّمَنَ وَلَمْ يُبَيِّنْ الصِّفَةَ وَالْجَوْدَةَ وَالرَّدَاءَةَ وَالسِّطَةَ جَازَ؛ لِأَنَّهُ جَهَالَةٌ مُسْتَدْرَكَةٌ، وَمُرَادُهُ مِنْ الصِّفَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْكِتَابِ النَّوْعُ

(وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: وَمَنْ قَالَ لِآخَرَ اشْتَرِ لِي ثَوْبًا أَوْ دَابَّةً أَوْ دَارًا فَالْوَكَالَةُ بَاطِلَةٌ) لِلْجَهَالَةِ الْفَاحِشَةِ، فَإِنَّ الدَّابَّةَ فِي حَقِيقَةِ اللُّغَةِ اسْمٌ لِمَا يَدِبُّ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ. وَفِي الْعُرْفِ يُطْلَقُ عَلَى الْخَيْلِ

الْمُوَكِّلِ فَلَا يَجُوزُ إلَّا بِبَيَانِ وَصْفِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ مَا ذَكَرَهُ قَوْلُهُ (لِأَنَّ مَبْنَى التَّوْكِيلِ عَلَى التَّوَسُّعَةِ؛ لِأَنَّهُ اسْتِعَانَةٌ وَفِي اعْتِبَارِ هَذَا الشَّرْطِ) يَعْنِي اشْتِرَاطُ بَيَانِ الْوَصْفِ أَوْ اشْتِرَاطُ عَدَمِ الْجَهَالَةِ الْيَسِيرَةِ (بَعْضُ الْحَرَجِ وَهُوَ مَدْفُوعٌ) شَرْعًا بِالنَّصِّ

(ثُمَّ إنْ كَانَ اللَّفْظُ) أَيْ لَفْظُ الْمُوَكِّلِ (يَجْمَعُ أَجْنَاسًا) كَالدَّابَّةِ وَالثَّوْبِ (أَوْ مَا هُوَ فِي مَعْنَى الْأَجْنَاسِ) كَالدَّارِ وَالرَّقِيقِ (لَا يَصِحُّ التَّوْكِيلُ وَإِنْ بَيَّنَ الثَّمَنَ) هَذَا بَيَانٌ لِحُكْمِ الْجَهَالَةِ الْفَاحِشَةِ، وَإِنَّمَا كَانَ الْحُكْمُ فِيهَا كَذَلِكَ (لِأَنَّ بِذَلِكَ الثَّمَنِ يُوجَدُ مِنْ كُلِّ جِنْسٍ) أَيْ يُوجَدُ فَرْدٌ مِنْ كُلِّ جِنْسٍ (فَلَا يُدْرَى مُرَادُ الْآمِرِ لِتَفَاحُشِ الْجَهَالَةِ) فَالْوَكِيلُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الِامْتِثَالِ (وَإِنْ كَانَ) أَيْ اللَّفْظُ (جِنْسًا يَجْمَعُ أَنْوَاعًا) كَالْعَبْدِ وَالْأَمَةِ (لَا يَصِحُّ) أَيْ التَّوْكِيلُ (إلَّا بِبَيَانِ الثَّمَنِ أَوْ النَّوْعِ) هَذَا بَيَانٌ لِحُكْمِ الْجَهَالَةِ الْمُتَوَسِّطَةِ وَإِنَّمَا كَانَ الْحُكْمُ فِيهَا كَذَلِكَ (لِأَنَّهُ بِتَقْدِيرِ الثَّمَنِ يَصِيرُ النَّوْعُ مَعْلُومًا وَبِذِكْرِ النَّوْعِ تَقِلُّ الْجَهَالَةُ فَلَا يَمْنَعُ الِامْتِثَالَ) أَيْ امْتِثَالَ أَمْرِ الْآمِرِ (مِثَالُهُ) أَيْ مِثَالُ هَذَا النَّوْعِ مِنْ أَنْوَاعِ الْجَهَالَةِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْمِثَالَ لِهَذَا النَّوْعِ دُونَ النَّوْعَيْنِ السَّابِقَيْنِ؛ لِأَنَّ مِثَالَ ذَيْنِك النَّوْعَيْنِ سَيَأْتِي فِي أَثْنَاءِ مَسْأَلَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، بِخِلَافِ هَذَا النَّوْعِ وَهَذَا سِرٌّ تَفَرَّدْت بِبَيَانِهِ.

(إذَا وَكَّلَهُ) أَيْ إذَا وَكَّلَ رَجُلٌ رَجُلًا (بِشِرَاءِ عَبْدٍ أَوْ جَارِيَةٍ لَا يَصِحُّ) أَيْ لَا يَصِحُّ التَّوْكِيلُ بِمُجَرَّدِ هَذَا اللَّفْظِ (لِأَنَّهُ يَشْمَلُ أَنْوَاعًا) أَيْ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ: يَعْنِي اللَّفْظَ عَبْدٌ وَجَارِيَةٌ يَشْمَلُ أَنْوَاعًا فَلَا يُدْرَى الْمُرَادُ (فَإِنْ بَيَّنَ النَّوْعَ كَالتُّرْكِيِّ أَوْ الْحَبَشِيِّ أَوْ الْهِنْدِيِّ أَوْ السِّنْدِيِّ أَوْ الْمُوَلَّدِ) وَفِي الْمُغْرِبِ: " الْمُوَلَّدَةُ الَّتِي وُلِدَتْ بِبِلَادِ الْإِسْلَامِ "(جَازَ) أَيْ التَّوْكِيلُ وَكَذَا إذَا بَيَّنَ الثَّمَنَ (لِمَا ذَكَرْنَاهُ) أَرَادَ بِهِ قَوْلَهُ؛ لِأَنَّ بِتَقْدِيرِ الثَّمَنِ يَصِيرُ النَّوْعُ مَعْلُومًا قَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ: إنْ كَانَ يُوجَدُ بِمَا سَمَّى مِنْ الثَّمَنِ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ لَا يَصِحُّ بِبَيَانِ الثَّمَنِ مَا لَمْ يُبَيِّنْ النَّوْعَ كَذَا فِي الذَّخِيرَةِ (وَلَوْ بَيَّنَ النَّوْعَ أَوْ الثَّمَنَ وَلَمْ يُبَيِّنْ الصِّفَةَ) وَهِيَ (الْجَوْدَةُ وَالرَّدَاءَةُ وَالسِّطَةُ) أَيْ الْوَسَطُ، السِّطَةُ مَعَ الْوَسَطِ كَالْعِدَّةِ مَعَ الْوَعْدِ وَالْعِظَةِ مَعَ الْوَعْظِ فِي أَنَّ التَّاءَ فِي آخِرِهَا عُوِّضَتْ عَنْ الْوَاوِ السَّاقِطَةِ مِنْ أَوَّلِهَا فِي الْمَصْدَرِ وَالْفِعْلُ مِنْ حَدِّ ضَرَبَ (جَازَ) أَيْ التَّوْكِيلُ (لِأَنَّهُ) أَيْ هَذَا الْقَدْرَ مِنْ الْجَهَالَةِ (جَهَالَةٌ مُسْتَدْرَكَةٌ) أَيْ يَسِيرَةٌ فَلَا يُبَالِي بِهَا (وَمُرَادُهُ) أَيْ مُرَادُ الْقُدُورِيِّ (مِنْ الصِّفَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْكِتَابِ) أَيْ فِي مُخْتَصَرِهِ (النَّوْعُ) لِيُوَافِقَ كَلَامُهُ الْقَاعِدَةَ الشَّرْعِيَّةَ وَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي كُتُبِ سَائِرِ الْمَشَايِخِ

(وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: وَمَنْ قَالَ لِآخَرَ: اشْتَرِ لِي ثَوْبًا أَوْ دَابَّةً أَوْ دَارًا فَالْوَكَالَةُ بَاطِلَةٌ) أَيْ وَإِنْ بَيَّنَ الثَّمَنَ كَمَا ذَكَرَ فِيمَا مَرَّ، وَلَمَّا بَطَلَتْ الْوَكَالَةُ كَانَ الشِّرَاءُ وَاقِعًا عَلَى الْوَكِيلِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي نُسَخِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فَقَالَ: رَجُلٌ أَمَرَ رَجُلًا أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ ثَوْبًا أَوْ دَابَّةً فَاشْتَرَى فَهُوَ مُشْتَرٍ لِنَفْسِهِ وَالْوَكَالَةُ بَاطِلَةٌ (لِلْجَهَالَةِ الْفَاحِشَةِ، فَإِنَّ الدَّابَّةَ فِي حَقِيقَةِ اللُّغَةِ اسْمٌ لِمَا يَدُبُّ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ. وَفِي الْعُرْفِ عَلَى الْخَيْلِ

ص: 30

وَالْحِمَارِ وَالْبَغْلِ فَقَدْ جَمَعَ أَجْنَاسًا، وَكَذَا الثَّوْبُ؛ لِأَنَّهُ يَتَنَاوَلُ الْمَلْبُوسَ مِنْ الْأَطْلَسِ إلَى الْكِسَاءِ وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ تَسْمِيَتُهُ مَهْرًا وَكَذَا الدَّارُ تَشْمَلُ مَا هُوَ فِي مَعْنَى الْأَجْنَاسِ؛ لِأَنَّهَا تَخْتَلِفُ اخْتِلَافًا فَاحِشًا بِاخْتِلَافِ الْأَغْرَاضِ وَالْجِيرَانِ وَالْمَرَافِقِ وَالْمَحَالِّ وَالْبُلْدَانِ فَيَتَعَذَّرُ الِامْتِثَالُ (قَالَ: وَإِنْ سَمَّى ثَمَنَ الدَّارِ وَوَصَفَ جِنْسَ الدَّارِ وَالثَّوْبِ جَازَ) مَعْنَاهُ نَوْعُهُ، وَكَذَا إذَا سَمَّى نَوْعَ الدَّابَّةِ بِأَنْ قَالَ حِمَارًا أَوْ نَحْوَهُ.

وَالْحِمَارِ وَالْبَغْلِ فَقَدْ جَمَعَ أَجْنَاسًا) يَعْنِي أَنَّ لَفْظَ الدَّابَّةِ سَوَاءٌ حُمِلَ عَلَى اللُّغَةِ أَوْ عَلَى الْعُرْفِ قَدْ جَمَعَ أَجْنَاسًا فَكَانَتْ الْجَهَالَةُ فِيهِ فَاحِشَةً (وَكَذَا الثَّوْبُ) أَيْ هُوَ أَيْضًا يَجْمَعُ أَجْنَاسًا (لِأَنَّهُ يَتَنَاوَلُ الْمَلْبُوسَ مِنْ الْأَطْلَسِ إلَى الْكِسَاءِ) أَيْ مِنْ الْأَعْلَى إلَى الْأَدْنَى فَكَانَتْ الْجَهَالَةُ فِيهِ أَيْضًا فَاحِشَةً (وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ تَسْمِيَتُهُ) أَيْ تَسْمِيَةُ الثَّوْبِ (مَهْرًا) فَإِنَّ الْجَهَالَةَ الْفَاحِشَةَ تُبْطِلُ التَّسْمِيَةَ فِي بَابِ الْمَهْرِ أَيْضًا (وَكَذَا الدَّارُ تَشْمَلُ مَا هُوَ فِي مَعْنَى الْأَجْنَاسِ) يَعْنِي أَنَّ الدَّارَ وَإِنْ لَمْ تَجْمَعْ أَجْنَاسًا حَقِيقَةً إلَّا أَنَّهَا تَجْمَعُ مَا هُوَ فِي مَعْنَى الْأَجْنَاسِ (لِأَنَّهَا تَخْتَلِفُ اخْتِلَافًا فَاحِشًا بِاخْتِلَافِ الْأَغْرَاضِ وَالْجِيرَانِ وَالْمَرَافِقِ وَالْمَحَالِّ وَالْبُلْدَانِ فَيَتَعَذَّرُ الِامْتِثَالُ) أَيْ يَتَعَذَّرُ الِامْتِثَالُ لِأَمْرِ الْآمِرِ بِشِرَاءِ الْأَشْيَاءِ الْمَذْكُورَةِ لِتَفَاحُشِ الْجَهَالَةِ. قَالَ (وَإِنْ سَمَّى ثَمَنَ الدَّارِ وَوَصَفَ جِنْسَ الدَّارِ وَالثَّوْبِ جَازَ) أَيْ التَّوْكِيلُ هَذَا لَفْظُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ (مَعْنَاهُ) يَعْنِي مَعْنَى جِنْسِ الدَّارِ فِي قَوْلِهِ وَوَصَفَ جِنْسَ الدَّارِ (نَوْعُهُ) فَحِينَئِذٍ تَلْتَحِقُ بِجَهَالَةِ النَّوْعِ وَهِيَ جَهَالَةٌ يَسِيرَةٌ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْوَكَالَةِ كَمَا مَرَّ. قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: وَتَقْيِيدُهُ بِذِكْرِ نَوْعِ الدَّارِ مُخَالِفٌ لِرِوَايَةِ الْمَبْسُوطِ فَقَالَ فِيهِ: وَإِنْ وَكَّلَهُ بِأَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ دَارًا وَلَمْ يُسَمِّ ثَمَنًا لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: وَإِنْ سَمَّى الثَّمَنَ جَازَ؛ لِأَنَّ بِتَسْمِيَةِ الثَّمَنِ تَصِيرُ مَعْلُومَةً عَادَةً، وَإِنْ بَقِيَتْ جَهَالَةٌ فَهِيَ يَسِيرَةٌ مُسْتَدْرَكَةٌ. وَالْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ مَشَايِخِنَا يَقُولُونَ فِي دِيَارِنَا لَا يَجُوزُ إلَّا بِبَيَانِ الْمَحَلَّةِ انْتَهَى.

وَاقْتَفَى أَثَرَهُ صَاحِبُ مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ كَمَا هُوَ دَأْبُهُ فِي أَكْثَرِ الْمَوَاضِعِ. وَأَنَا أَقُولُ: فِي تَحْقِيقِ الْمَقَامِ: إنَّمَا حَمَلَ الْمُصَنِّفُ الْجِنْسَ الْوَاقِعَ فِي عِبَارَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ هَاهُنَا عَلَى النَّوْعِ لِئَلَّا يَخْتَلَّ مَعْنَى الْمَقَامِ، فَإِنْ لَوْ أَجْرَى الْجِنْسَ هَاهُنَا عَلَى مَعْنَاهُ الظَّاهِرِيِّ كَانَ ذِكْرُ وَصْفِ الْجِنْسِ مُسْتَدْرَكًا بِالنَّظَرِ إلَى مَسْأَلَةِ الدَّارِ وَمُخِلًّا بِالنَّظَرِ إلَى مَسْأَلَةِ الثَّوْبِ. وَأَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ الْمُوَكِّلَ إذَا سَمَّى ثَمَنَ الدَّارِ يَلْغُو هُنَاكَ وَصْفُ جِنْسِهَا، إذْ لَا مَدْخَلَ لِوَصْفِ جِنْسِ الْجِنْسِ فِي رَفْعِ الْجَهَالَةِ، وَإِنَّمَا تَرْتَفِعُ الْجَهَالَةُ بِتَسْمِيَةِ الثَّمَنِ أَوْ بِبَيَانِ النَّوْعِ كَمَا تَقَرَّرَ فِيمَا مَرَّ قَبْلُ. وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الثَّوْبَ مَعْطُوفٌ عَلَى الدَّارِ فَيَصِيرُ الْمَعْنَى: إنْ وَصَفَ الْمُوَكِّلُ جِنْسَ الثَّوْبِ جَازَ التَّوْكِيلُ، وَلَا صِحَّةَ لَهُ عَلَى تَقْدِيرٍ إنْ كَانَ الْجِنْسُ يَجْرِي عَلَى مَعْنَاهُ الظَّاهِرِيِّ؛ لِأَنَّ الثَّوْبَ مِنْ قَبِيلِ مَا يَجْمَعُ أَجْنَاسًا فَالْجَهَالَةُ فِيهِ فَاحِشَةٌ وَهِيَ لَا تَرْتَفِعُ. وَإِنْ بَيَّنَ الثَّمَنَ، فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ ارْتِفَاعُهَا بِمُجَرَّدِ وَصْفِ الْجِنْسِ.

وَأَمَّا إذَا حُمِلَ عَلَى مَعْنَى النَّوْعِ فَيَصِحُّ الْمَعْنَى فِي مَسْأَلَةِ الثَّوْبِ بِلَا غُبَارٍ، إذْ بِبَيَانِ النَّوْعِ تَرْتَفِعُ الْجَهَالَةُ الَّتِي تَمْنَعُ صِحَّةَ الْوَكَالَةِ قَطْعًا، وَإِنَّمَا يَبْقَى الْكَلَامُ فِي مَسْأَلَةِ الدَّارِ فَإِنَّهَا تَصِيرُ حِينَئِذٍ مُقَيَّدَةً بِتَسْمِيَةِ الثَّمَنِ وَوَصْفِ النَّوْعِ، مَعَ أَنَّ تَسْمِيَةَ الثَّمَنِ كَافِيَةٌ فِيهَا عَلَى مَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْمَبْسُوطِ، بَلْ فِي رِوَايَةِ عَامَّةِ الْكُتُبِ، فَتَصِيرُ رِوَايَةُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ مُخَالِفَةً لِرِوَايَةِ تِلْكَ الْكُتُبِ، وَلَكِنَّ وُقُوعَ الرِّوَايَتَيْنِ لَيْسَ بِعَزِيزٍ فِي الْمَسَائِلِ الشَّرْعِيَّةِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ هَاهُنَا أَيْضًا كَذَلِكَ، فَيَكُونُ مَدَارُ رِوَايَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ عَلَى أَنَّ الْجَهَالَةَ فِي الدَّارِ فَاحِشَةٌ كَمَا بَيَّنَهُ الْمُصَنِّفُ، وَمَدَارُ رِوَايَةِ تِلْكَ الْكُتُبِ عَلَى أَنَّ الْجَهَالَةَ فِيهَا مُتَوَسِّطَةٌ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ. ثُمَّ إنَّا إنْ جَعَلْنَا وَصْف النَّوْعِ فِي حَقِّ الدَّارِ بَيَانَ الْمَحَلَّةِ صَارَ مَا ذَكَرَهُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ عَيْنَ مَا قَالَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ مَشَايِخِنَا وَكَانَ مُوَافِقًا لِمَا ذُكِرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْكُتُبِ فَتَأَمَّلْ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَكَذَا إذَا سَمَّى نَوْعَ الدَّابَّةِ بِأَنْ قَالَ حِمَارًا وَنَحْوَهُ) أَيْ يَصِحُّ التَّوْكِيلُ بِشِرَاءِ الْحِمَارِ وَنَحْوِهِ وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ الثَّمَنَ، وَبِهِ صَرَّحَ فِي الْمَبْسُوطِ؛ لِأَنَّ الْجِنْسَ صَارَ مَعْلُومًا

ص: 31

(قَالَ: وَمَنْ دَفَعَ إلَى آخَرَ دَرَاهِمَ وَقَالَ اشْتَرِ لِي بِهَا طَعَامًا فَهُوَ عَلَى الْحِنْطَةِ وَدَقِيقِهَا) اسْتِحْسَانًا. وَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ عَلَى كُلِّ مَطْعُومٍ اعْتِبَارًا لِلْحَقِيقَةِ كَمَا فِي الْيَمِينِ عَلَى الْأَكْلِ إذْ الطَّعَامُ اسْمٌ لِمَا يُطْعَمُ.

وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْعُرْفَ أَمْلَكُ وَهُوَ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ إذَا ذُكِرَ مَقْرُونًا بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ

بِتَسْمِيَةِ النَّوْعِ، وَإِنَّمَا بَقِيَتْ الْجَهَالَةُ فِي الْوَصْفِ فَتَصِحُّ الْوَكَالَةُ بِدُونِ تَسْمِيَةِ الثَّمَنِ. فَإِنْ قِيلَ: الْحَمِيرُ أَنْوَاعٌ مِنْهَا مَا يَصْلُحُ لِرُكُوبِ الْعُظَمَاءِ، وَمِنْهَا مَا لَا يَصْلُحُ إلَّا لِلْحَمْلِ عَلَيْهِ. قُلْنَا: هَذَا اخْتِلَافُ الْوَصْفِ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ يَصِيرُ مَعْلُومًا بِمَعْرِفَةِ حَالِ الْمُوَكِّلِ حَتَّى قَالُوا: إنَّ الْقَاضِيَ أَوْ الْوَالِيَ إذَا أَمَرَ إنْسَانًا بِشِرَاءِ حِمَارٍ يَنْصَرِفُ إلَى مَا يَرْكَبُ مِثْلَهُ، حَتَّى لَوْ اشْتَرَاهُ مَقْطُوعَ الذَّنَبِ أَوْ الْأُذُنَيْنِ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ أَمَرَهُ الْفَالِيزِيُّ بِذَلِكَ، كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ وَذُكِرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ الشُّرُوحِ. أَقُولُ: بَقِيَ هَاهُنَا كَلَامٌ، وَهُوَ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ هَاهُنَا مُخَالِفٌ لِمَا ذَكَرَهُ فِي بَابِ الْمَهْرِ فِي مَسْأَلَةِ التَّزَوُّجِ عَلَى حَيَوَانٍ غَيْرِ مَوْصُوفٍ حَيْثُ قَالَ هُنَاكَ: مَعْنَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يُسَمِّيَ جِنْسَ الْحَيَوَانِ دُونَ الْوَصْفِ بِأَنْ يَتَزَوَّجَهَا عَلَى فَرَسٍ أَوْ حِمَارٍ انْتَهَى.

فَقَدْ جُعِلَ الْحِمَارُ هُنَاكَ جِنْسًا وَهُنَا نَوْعًا وَالتَّوْجِيهُ الَّذِي ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ هُنَاكَ مِنْ أَنَّهُ أَرَادَ بِالْجِنْسِ مَا هُوَ مُصْطَلَحُ الْفُقَهَاءِ دُونَ مُصْطَلَحِ أَهْلِ الْمَنْطِقِ لَيْسَ بِجَيِّدٍ، إذْ قَدْ صَرَّحَ الْمُصَنِّفُ هَاهُنَا بِأَنَّ الْحِمَارَ نَوْعٌ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مُرَادَهُ بِالنَّوْعِ هَاهُنَا مَا هُوَ مُصْطَلَحُ الْفُقَهَاءِ وَإِلَّا لَلَزِمَ بَيَانُ ثَمَنِ الْحِمَارِ أَيْضًا، وَقَدْ صَرَّحُوا بِعَدَمِ لُزُومِهِ فَلَمْ يَكُنْ الْحِمَارُ جِنْسًا عَلَى مُصْطَلَحِ الْفُقَهَاءِ أَيْضًا

(قَالَ) أَيْ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ (وَمَنْ دَفَعَ إلَى آخَرَ دَرَاهِمَ وَقَالَ اشْتَرِ لِي بِهَا طَعَامًا فَهُوَ عَلَى الْحِنْطَةِ وَدَقِيقِهَا) وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِدَفْعِ الدَّرَاهِمِ إلَخْ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَدْفَعْ إلَيْهِ دَرَاهِمَ، وَقَالَ اشْتَرَى لِي طَعَامًا لَمْ يَجُزْ عَلَى الْآمِرِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُبَيِّنْ لَهُ الْمِقْدَارَ وَجَهَالَةُ الْقَدْرِ فِي الْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ كَجَهَالَةِ الْجِنْسِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْوَكِيلَ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَحْصِيلِ مَقْصُودِ الْآمِرِ بِمَا سَمَّى لَهُ كَذَا فِي الْكَافِي وَغَيْرِهِ.

وَمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ اسْتِحْسَانٌ (وَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ عَلَى كُلِّ مَطْعُومٍ اعْتِبَارًا لِلْحَقِيقَةِ) أَيْ لِحَقِيقَةِ الطَّعَامِ (كَمَا فِي الْيَمِينِ عَلَى الْأَكْلِ) يَعْنِي إذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ طَعَامًا يَحْنَثُ بِأَكْلِ أَيِّ طَعَامٍ كَانَ (إذْ الطَّعَامُ اسْمٌ لِمَا يُطْعَمُ) بِحَسَبِ الْحَقِيقَةِ (وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْعُرْفَ أَمْلَكُ) أَيْ أَقْوَى وَأَرْجَحُ بِالِاعْتِبَارِ مِنْ الْحَقِيقَةِ (وَهُوَ) أَيْ الْعُرْفِ (عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ) أَيْ عَلَى الْحِنْطَةِ وَدَقِيقِهَا (إذَا ذُكِرَ) أَيْ الطَّعَامَ (مَقْرُونًا بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ) يَعْنِي أَنَّ الْعُرْفَ فِي شِرَاءِ الطَّعَامِ إنَّمَا يَقَعُ عَلَى الْحِنْطَةِ وَدَقِيقِهَا، وَبَائِعُ الطَّعَامِ فِي النَّاسِ مَنْ يَبِيعُ الْحِنْطَةَ وَدَقِيقَهَا دُونَ مَنْ يَبِيعُ الْفَوَاكِهَ فَصَارَ التَّقْيِيدُ الثَّابِتُ بِالْعُرْفِ كَالثَّابِتِ بِالنَّصِّ، وَكَذَا فِي الْمَبْسُوطِ. قَالَ فِي الْكَافِي: وَلِهَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يَشْتَرِي طَعَامًا لَا يَحْنَثُ إلَّا بِشِرَاءِ الْبُرِّ وَدَقِيقِهِ

ص: 32

وَلَا عُرْفَ فِي الْأَكْلِ فَبَقِيَ عَلَى الْوَضْعِ، وَقِيلَ إنْ كَثُرَتْ الدَّرَاهِمُ فَعَلَى الْحِنْطَةِ، وَإِنْ قَلَّتْ فَعَلَى الْخُبْزِ، وَإِنْ كَانَ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ فَعَلَى الدَّقِيقِ.

وَلَا عُرْفَ فِي الْأَكْلِ فَبَقِيَ عَلَى الْوَضْعِ) أَيْ فَبَقِيَ الطَّعَامُ فِي حَقِّ الْأَكْلِ عَلَى الْوَضْعِ وَالْحَقِيقَةِ، وَلِهَذَا يَحْنَثُ فِي الْيَمِينِ عَلَى الْأَكْلِ بِأَكْلِ أَيِّ مَطْعُومٍ كَانَ. قَالُوا: هَذَا الَّذِي ذُكِرَ فِي شِرَاءِ الطَّعَامِ مِنْ انْصِرَافِهِ إلَى الْحِنْطَةِ وَدَقِيقِهَا إنَّمَا هُوَ عُرْفُ أَهْلِ الْكُوفَةِ فَإِنَّ سُوقَ الْحِنْطَةِ وَدَقِيقِهَا عِنْدَهُمْ يُسَمَّى سُوقَ الطَّعَامِ، وَأَمَّا فِي عُرْفِ غَيْرِهِمْ فَيَنْصَرِفُ إلَى شِرَاءِ كُلِّ مَطْعُومٍ. وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ: الطَّعَامُ فِي عُرْفِ دِيَارِنَا مَا يُمْكِنُ أَكْلُهُ مِنْ غَيْرِ إدَامٍ كَاللَّحْمِ الْمَطْبُوخِ وَالْمَشْوِيِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَيَنْصَرِفُ التَّوْكِيلُ إلَيْهِ.

قَالَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ: وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى، كَذَا فِي الذَّخِيرَةِ وَغَيْرِهَا (وَقِيلَ إنْ كَثُرَتْ الدَّرَاهِمُ فَعَلَى الْحِنْطَةِ، وَإِنْ قَلَّتْ فَعَلَى الْخُبْزِ، وَإِنْ كَانَ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ فَعَلَى الدَّقِيقِ) هَذَا بِظَاهِرِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا ذَكَرَهُ أَوَّلًا مُطْلَقٌ: أَيْ سَوَاءٌ كَانَتْ الدَّرَاهِمُ قَلِيلَةً أَوْ كَثِيرَةً إذَا وَكَّلَ بِشِرَاءِ الطَّعَامِ يَنْصَرِفُ إلَى شِرَاءِ الْحِنْطَةِ وَدَقِيقِهَا، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ ثَانِيًا وَعَبَّرَ عَنْهُ بِلَفْظٍ قِيلَ مُخَالِفٍ لِلْأَوَّلِ وَهُوَ قَوْلُ الْفَقِيهِ أَبِي جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ كَمَا ذَكَرَهُ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ فِي أَوَّلِ بَابِ الْوَكَالَةِ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ مِنْ بُيُوعِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَعَزَاهُ الْإِمَامُ قَاضِي خَانْ فِي فَتَاوَاهُ إلَى شَيْخِ الْإِسْلَامِ الْمَعْرُوفِ بِخُوَاهَرْ زَادَهْ، وَلَكِنْ قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: إنَّهُ لَيْسَ بِقَوْلٍ مُخَالِفٍ لِلْأَوَّلِ بَلْ هُوَ دَاخِلٌ فِي الْأَوَّلِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي الْمَبْسُوطِ وَالذَّخِيرَةِ فَقَالَ فِي الْمَبْسُوطِ بَعْدَ ذِكْرِ مَا قُلْنَا: ثُمَّ إنْ قَلَّتْ الدَّرَاهِمُ فَلَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا خُبْزًا، وَإِنْ كَثُرَتْ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا الْخُبْزَ؛ لِأَنَّ ادِّخَارَهُ غَيْرُ مُمْكِنٍ، وَإِنَّمَا يُمْكِنُ الِادِّخَارُ فِي الْحِنْطَةِ.

وَذُكِرَ فِي الذَّخِيرَةِ: وَإِذَا وَكَّلَ رَجُلًا بِأَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ طَعَامًا وَدَفَعَ إلَيْهِ الدَّرَاهِمَ صَحَّ التَّوْكِيلُ اسْتِحْسَانًا. وَيَنْصَرِفُ التَّوْكِيلُ إلَى الْحِنْطَةِ وَدَقِيقِهَا وَخُبْزِهَا وَتُحَكَّمُ الدَّرَاهِمُ فِي تَعْيِينِ وَاحِدٍ مِنْهَا إنْ كَانَتْ الدَّرَاهِمُ قَلِيلَةً بِحَيْثُ لَا يَشْتَرِي بِمِثْلِهَا فِي الْعُرْفِ إلَّا الْخُبْزَ، فَالتَّوْكِيلُ يَنْصَرِفُ إلَى الْخُبْزِ إلَى آخِرِهِ. ثُمَّ قَالَ: قَالَ الْقُدُورِيُّ: إذَا كَانَ الرَّجُلُ قَدْ اتَّخَذَ وَلِيمَةً يَعْلَمُ أَنَّ مُرَادَهُ مِنْ التَّوْكِيلِ الْخُبْزُ وَإِنْ كَثُرَتْ الدَّرَاهِمُ، فَإِذَا اشْتَرَى الْخُبْزَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ يَجُوزُ عَلَى الْآمِرِ إلَى هَاهُنَا كَلَامُ صَاحِبِ النِّهَايَةِ.

وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ نَقْلِ رَأْيِ صَاحِبِ النِّهَايَةِ هَاهُنَا مِنْ أَنَّ الْمُعَبَّرَ عَنْهُ بِقِيلَ غَيْرُ مُخَالِفٍ لِلْأَوَّلِ بَلْ هُوَ دَاخِلٌ فِيهِ. وَأَقُولُ: فِي تَحْقِيقِ ذَلِكَ: الْعُرْفُ يَصْرِفُ إطْلَاقَ اللَّفْظِ الْمُتَنَاوَلِ لِكُلِّ مَطْعُومٍ إلَى الْحِنْطَةِ وَدَقِيقِهَا، وَالدَّرَاهِمُ بِقِلَّتِهَا وَكَثْرَتِهَا وَسِطَتِهَا تُعَيِّنُ أَفْرَادَ مَا عَيَّنَهُ الْعُرْفُ. وَقَدْ يَعْرِضُ مَا يَتَرَجَّحُ عَلَى ذَلِكَ وَيَصْرِفُهُ إلَى خِلَافِ مَا حُمِلَ عَلَيْهِ مِثْلَ الرَّجُلِ اتَّخَذَ الْوَلِيمَةَ وَدَفَعَ دَرَاهِمَ كَثِيرَةً لِيَشْتَرِيَ بِهَا طَعَامًا فَاشْتَرَى بِهَا خُبْزًا وَقَعَ عَلَى الْوَكَالَةِ لِلْعِلْمِ بِأَنَّ الْمُرَادَ ذَلِكَ انْتَهَى.

وَطَعَنَ فِيهِ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ حَيْثُ قَالَ: نِسْبَةُ هَذَا الْكَلَامِ إلَى نَفْسِهِ عَجِيبٌ، فَإِنَّ صَاحِبَ النِّهَايَةِ ذَكَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى مَا قَالَهُ مِنْ الْمَبْسُوطِ وَالذَّخِيرَةِ. وَلَا يَذْهَبُ عَلَيْك أَنَّ مَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ أَقُولُ هُوَ مَا فِي الذَّخِيرَةِ بِعَيْنِهِ انْتَهَى.

وَأَقُولُ: لَا يَذْهَبُ عَلَى الْمُتَأَمِّلِ فِي كَلَامِ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ أَنَّ نِسْبَتَهُ إلَى نَفْسِهِ لَيْسَتْ بِمَحَلِّ التَّعَجُّبِ؛ لِأَنَّهُ أَرَادَ بَيَانَ وَجْهِ مَا ذَكَرَ أَوَّلًا مِنْ أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ وَبَيَانَ طَرِيقِ دُخُولِ مَا ذَكَرَ ثَانِيًا بِقِيلَ فِي الْأَوَّلِ وَبَيَانَ التَّوْفِيقِ بَيْنَ مَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ وَبَيْنَ مَا ذُكِرَ هَاهُنَا بِقِيلَ. وَفِي الذَّخِيرَةِ بِتَحَكُّمِ الدَّرَاهِمِ، وَقَصْدُ إفَادَةِ هَذِهِ الْمَعَانِي الثَّلَاثَةِ بِقِيلَ دَاخِلٌ فِي الْأَوَّلِ، وَقَدْ ذُكِرَ فِيهِ الْخُبْزُ أَيْضًا دُونَ الْأَوَّلِ،

ص: 33

قَالَ (وَإِذَا اشْتَرَى الْوَكِيلُ وَقَبَضَ ثُمَّ اطَّلَعَ عَلَى عَيْبٍ فَلَهُ أَنْ يَرُدَّهُ بِالْعَيْبِ مَا دَامَ الْمَبِيعُ فِي يَدِهِ)؛ لِأَنَّهُ مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ وَهِيَ كُلُّهَا إلَيْهِ (فَإِنْ سَلَّمَهُ إلَى الْمُوَكِّلِ لَمْ يَرُدَّهُ إلَّا بِإِذْنِهِ)؛ لِأَنَّهُ انْتَهَى حُكْمُ الْوَكَالَةِ، وَلِأَنَّ فِيهِ إبْطَالَ يَدِهِ الْحَقِيقِيَّةِ فَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْهُ إلَّا بِإِذْنِهِ، وَلِهَذَا كَانَ خَصْمًا لِمَنْ يَدَّعِي فِي الْمُشْتَرِي دَعْوَى كَالشَّفِيعِ وَغَيْرِهِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ إلَى الْمُوَكِّلِ لَا بَعْدَهُ.

قَالَ (وَيَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِعَقْدِ الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ)؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ يَمْلِكُهُ بِنَفْسِهِ فَيَمْلِكُ التَّوْكِيلَ بِهِ عَلَى مَا مَرَّ،

وَكَيْفَ يَصِحُّ مَا ذَكَرَ فِي التَّحْقِيقِ الْمَزْبُورِ مِنْ أَنَّ الدَّرَاهِمَ بِقِلَّتِهَا وَكَثْرَتِهَا وَسِطَتِهَا تُعَيِّنُ أَفْرَادَ مَا عَيَّنَهُ الْعُرْفُ، وَالْخُبْزُ لَمْ يَدْخُلْ فِيمَا عَيَّنَهُ الْعُرْفُ عَلَى مَا ذَكَرَ فِيهِ. لَا يُقَالُ: يَجُوزُ أَنْ يُدْرَجَ الْخُبْزُ فِي الْحِنْطَةِ وَدَقِيقِهَا الْمَذْكُورَيْنِ أَوْ أَنْ يُجْعَلَ فِي حُكْمِهِمَا فَيَكْتَفِي بِذِكْرِهِمَا عَنْ ذِكْرِهِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: لَا مَجَالَ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ جَعَلُوا الْخُبْزَ قَسِيمًا لِلْحِنْطَةِ وَدَقِيقِهَا فِي الذِّكْرِ وَالْحُكْمِ حَيْثُ قَالُوا: إنْ كَثُرَتْ الدَّرَاهِمُ فَعَلَى الْحِنْطَةِ، وَإِنْ قَلَّتْ فَعَلَى الْخُبْزِ، وَإِنْ كَانَ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ فَعَلَى الدَّقِيقِ فَأَنَّى يَتَيَسَّرُ ذَلِكَ. نَعَمْ قَدْ ذَكَرَ الْخُبْزَ مَعَ الْحِنْطَةِ وَدَقِيقِهَا فِي الذَّخِيرَةِ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ وَبَيَانِ تَحْكِيمِ الدَّرَاهِمِ كَمَا مَرَّ تَفْصِيلُهُ عِنْدَ نَقْلِ كَلَامِ صَاحِبِ النِّهَايَةِ، فَحِينَئِذٍ لَا إشْكَالَ، وَلَكِنَّ الْكَلَامَ فِي تَصْحِيحِ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ وَمَسْأَلَةِ الْمَبْسُوطِ عَلَى الْقَوْلِ بِكَوْنِ الْكَلَامِ الثَّانِي دَاخِلًا فِي الْأَوَّلِ فَتَأَمَّلْ

(قَالَ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ (وَإِذَا اشْتَرَى الْوَكِيلُ وَقَبَضَ ثُمَّ اطَّلَعَ عَلَى عَيْبٍ فَلَهُ أَنْ يَرُدَّهُ بِالْعَيْبِ) أَيْ فَلِلْوَكِيلِ أَنْ يَرُدَّ مَا اشْتَرَاهُ عَلَى الْبَائِعِ بِسَبَبِ الْعَيْبِ فِيهِ (مَا دَامَ الْمَبِيعُ فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّهُ) أَيْ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ (مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ) أَيْ مِنْ حُقُوقِ عَقْدِ الشِّرَاءِ (وَهِيَ كُلُّهَا إلَيْهِ) أَيْ الْحُقُوقُ كُلُّهَا تَرْجِعُ إلَى الْوَكِيلِ فِي مِثْلِ هَذَا الْعَقْدِ (فَإِنْ سَلَّمَهُ إلَى الْمُوَكِّلِ) أَيْ فَإِنْ سَلَّمَ الْوَكِيلُ الْمَبِيعَ إلَى الْمُوَكِّلِ (لَمْ يَرُدَّهُ إلَّا بِإِذْنِهِ) أَيْ لَمْ يَرُدَّهُ عَلَى الْبَائِعِ إلَّا بِإِذْنِ الْمُوَكِّلِ (لِأَنَّهُ انْتَهَى حُكْمُ الْوَكَالَةِ) أَيْ انْتَهَى حُكْمُ الْوَكَالَةِ بِتَسْلِيمِهِ إلَى الْمُوَكِّلِ فَخَرَجَ مِنْ الْوَكَالَةِ وَالْقَطْعِ حَقُّهُ (وَلِأَنَّ فِيهِ) أَيْ فِي الرَّدِّ بِالْعَيْبِ بَعْدَ التَّسْلِيمِ إلَى الْمُوَكِّلِ (إبْطَالَ يَدِهِ) أَيْ يَدِ الْمُوَكِّلِ (الْحَقِيقِيَّةِ فَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْهُ إلَّا بِإِذْنِهِ) أَيْ بِإِذْنِ الْمُوَكِّلِ الَّذِي هُوَ صَاحِبُ الْيَدِ الْحَقِيقِيَّةِ (وَلِهَذَا) أَيْ وَلِأَجْلِ كَوْنِ الْحُقُوقِ كُلِّهَا إلَى الْوَكِيلِ كَذَا قِيلَ فِي كَثِيرٍ مِنْ الشُّرُوحِ.

أَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ هَذَا التَّفْسِيرَ إنَّمَا يَتِمُّ بِالنَّظَرِ إلَى قَوْلِ الْمُصَنِّفِ فِيمَا سَيَأْتِي قَبْلَ التَّسْلِيمِ إلَى الْمُوَكِّلِ لَا بِالنَّظَرِ إلَى قَوْلِهِ لَا بَعْدَهُ كَمَا لَا يَخْفَى، مَعَ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا فِي حَيِّزِ هَذَا التَّفْرِيعِ كَمَا تَرَى. فَالْحَقُّ فِي التَّفْسِيرِ أَنْ يُقَالَ: أَيْ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَدِلَّةِ عَلَى جَوَازِ الرَّدِّ فِي صُورَةٍ وَعَدَمِ جَوَازِهِ فِي أُخْرَى (كَانَ) أَيْ الْوَكِيلُ (خَصْمًا لِمَنْ يَدَّعِي فِي الْمُشْتَرِي دَعْوَى كَالشَّفِيعِ) إذَا ادَّعَى حَقَّ الشُّفْعَةِ فِي الْمُشْتَرِي (وَغَيْرِهِ) أَيْ وَغَيْرِ الشَّفِيعِ كَمَنْ يَدَّعِي الِاسْتِحْقَاقَ فِي الْمُشْتَرِي مِنْ حَيْثُ الْمِلْكُ (قَبْلَ التَّسْلِيمِ إلَى الْمُوَكِّلِ) مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ كَانَ خَصْمًا: أَيْ كَانَ الْوَكِيلُ خَصْمًا لِذَلِكَ الْمُدَّعِي قَبْلَ التَّسْلِيمِ إلَى الْمُوَكِّلِ (لَا بَعْدَهُ) أَيْ لَمْ يَكُنْ خَصْمًا لَهُ بَعْدَ التَّسْلِيمِ إلَيْهِ

(قَالَ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ (وَيَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِعَقْدِ الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ) يَعْنِي إذَا وَكَّلَ شَخْصًا أَنْ يَعْقِدَ عَقْدَ الصَّرْفِ أَوْ يُسَلِّمَ فِي مَكِيلٍ مَثَلًا فَفَعَلَ جَازَ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ يَمْلِكُهُ بِنَفْسِهِ فَيَمْلِكُ التَّوْكِيلَ بِهِ

دَفْعًا لِلْحَاجَةِ

(عَلَى مَا مَرَّ) فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْوَكَالَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ كُلُّ عَقْدٍ جَازَ أَنْ يَعْقِدَهُ الْإِنْسَانُ بِنَفْسِهِ جَازَ أَنْ يُوَكِّلَ بِهِ غَيْرَهُ. قَالَ جُمْهُورُ الشُّرَّاحِ: يَرُدُّ عَلَيْهِ مَسْأَلَةُ الْوَكَالَةِ

ص: 34

وَمُرَادُهُ التَّوْكِيلُ بِالْإِسْلَامِ دُونَ قَبُولِ السَّلَمِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ، فَإِنَّ الْوَكِيلَ يَبِيعُ طَعَامًا فِي ذِمَّتِهِ عَلَى أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ لِغَيْرِهِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ.

مِنْ جَانِبِ الْمُسَلَّمِ إلَيْهِ فَإِنَّهَا لَا تَجُوزُ مَعَ أَنَّ الْمُسَلَّمَ إلَيْهِ لَوْ بَاشَرَ بِنَفْسِهِ لِقَبُولِ السَّلَمِ يَجُوزُ، فَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَجِبْ عَنْهُ وَمِنْهُمْ مَنْ أَجَابَ عَنْهُ. فَقَالَ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ: فَجَوَابُهُ أَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ لَا يَمْلِكَهُ الْمُسَلَّمُ إلَيْهِ أَيْضًا لِكَوْنِهِ بَيْعَ الْمَعْدُومِ، إلَّا أَنَّهُ جَوَّزَ ذَلِكَ مِنْ الْمُسَلَّمِ إلَيْهِ رُخْصَةً لَهُ

دَفْعًا

لِحَاجَةِ الْمَفَالِيسِ.

وَقَدْ رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ وَرَخَّصَ فِي السَّلَمِ» وَمَا ثَبَتَ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ يَقْتَصِرُ فِيهِ عَلَى مَوْرِدِ النَّصِّ فَلَمْ يَجُزْ تَوْكِيلُهُ غَيْرَهُ. أَوْ نَقُولُ: جَازَ بَيْعُ الْمَعْدُومِ

ضَرُورَةَ

دَفْعِ حَاجَةِ الْمَفَالِيسِ. وَالثَّابِتُ بِالضَّرُورَةِ يَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ، فَلَمْ يَظْهَرْ أَثَرُهُ فِي التَّوْكِيلِ وَلَمْ يَرِدْ نَقْضًا عَلَى الْكُلِّيِّ الَّذِي قَالَهُ الْقُدُورِيُّ؛ لِأَنَّ تَمَلُّكَ الْمُسَلَّمِ إلَيْهِ الْعَقْدَ بِنَفْسِهِ لِعَارِضِ الضَّرُورَةِ، وَالْعَوَارِضُ لَا تَقْدَحُ فِي الْقَوَاعِدِ. وَقَالَ هَذَا مَا سَمَحَ بِهِ خَاطِرِي فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَقَدْ تَبِعَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي كِلَا وَجْهَيْ جَوَابِهِ وَلَكِنَّهُ أَجْمَلَهُمَا. أَقُولُ: فِي كُلِّ أَحَدٍ مِنْهُمَا نَظَرٌ. أَمَّا فِي الْأَوَّلِ فَلِأَنَّهُ مَنْقُوضٌ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ مَثَلًا؛ لِأَنَّهُ كَمَا يَجُوزُ أَنْ يُبَاشِرَهُ الْإِنْسَانُ بِنَفْسِهِ يَجُوزُ أَنْ يُوَكِّلَ بِهِ غَيْرَهُ بِلَا خِلَافٍ، مَعَ أَنَّهُ ثَابِتٌ أَيْضًا عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ بِالنَّصِّ كَمَا سَيَأْتِي فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْإِجَارَةِ.

ثُمَّ إنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ مَوْرِدَ النَّصِّ مُجَرَّدُ جَوَازِ عَقْدِ السَّلَمِ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِلْمُبَاشَرَةِ بِنَفْسِهِ، فَجَوَازُ التَّوْكِيلِ فِيهِ عَلَى فَرْضٍ لَا يُنَافِي الِاقْتِصَارَ عَلَى مَوْرِدِ النَّصِّ، كَمَا أَنَّ جَوَازَهُ فِي عَقْدِ الْإِجَارَةِ لَمْ يُنَافِ الِاقْتِصَارَ عَلَى مَوْرِدِ النَّصِّ لِأَجْلِ ذَلِكَ. وَأَمَّا فِي الثَّانِي فَلِأَنَّ مَعَ انْتِقَاضِهِ أَيْضًا بِمِثْلِ عَقْدِ الْإِجَارَةِ يَرُدُّ عَلَيْهِ أَنَّ فِي التَّوْكِيلِ أَيْضًا

ضَرُورَةَ

دَفْعِ الْحَاجَةِ سِيَّمَا إذَا كَانَ الْمُوَكِّلُ مَرِيضًا أَوْ شَيْخًا فَانِيًا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، فَيَكُونُ الثَّابِتُ بِالضَّرُورَةِ مُقَدَّرًا بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ لَا يَمْنَعُ جَوَازَ التَّوْكِيلِ مِنْ جَانِبِ الْمُسَلَّمِ إلَيْهِ أَيْضًا. لَا يُقَالُ: إنَّمَا جَازَ بَيْعُ الْمَعْدُومِ فِي عَقْدِ السَّلَمِ لِضَرُورَةِ دَفْعِ حَاجَةِ الْمَفَالِيسِ إلَى الثَّمَنِ لَا لِمُطْلَقِ الضَّرُورَةِ. وَاَلَّذِي يَتَحَقَّقُ فِي التَّوْكِيلِ ضَرُورَةُ دَفْعِ حَاجَةِ الْمُوَكِّلِ إلَى الْعَمَلِ لَا غَيْرُ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: بَلْ يَتَحَقَّقُ فِي التَّوْكِيلِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ ضَرُورَةُ دَفْعِ حَاجَةِ الْمَفَالِيسِ إلَى الثَّمَنِ أَيْضًا مَعَ زِيَادَةٍ، فَإِنَّ الْمُفْلِسَ الْعَاجِزَ عَنْ الْمُبَاشَرَةِ بِنَفْسِهِ إذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى تَوْكِيلِ غَيْرِهِ لِقَبُولِ السَّلَمِ تَشْتَدُّ حَاجَتُهُ إلَى الثَّمَنِ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَمُرَادُهُ التَّوْكِيلُ بِالْإِسْلَامِ) أَيْ مُرَادُ الْقُدُورِيِّ بِالتَّوْكِيلِ بِعَقْدِ السَّلَمِ التَّوْكِيلُ بِالْإِسْلَامِ، وَهُوَ تَوْكِيلُ رَبِّ السَّلَمِ غَيْرَهُ بِأَنْ يَعْقِدَ عَقْدَ السَّلَمِ، وَلَفْظُ الْإِسْلَامِ إنَّمَا يُسْتَعْمَلُ مِنْ جَانِبِ رَبِّ السَّلَمِ. يُقَالُ: أَسْلَمَ فِي كَذَا: إذَا اشْتَرَى شَيْئًا بِالسَّلَمِ (دُونَ قَبُولِ السَّلَمِ) أَيْ لَيْسَ مُرَادُهُ بِذَلِكَ التَّوْكِيلَ بِقَبُولِ السَّلَمِ وَهُوَ التَّوْكِيلُ مِنْ جَانِبِ الْمُسَلَّمِ إلَيْهِ (لِأَنَّ ذَلِكَ) أَيْ: لِأَنَّ التَّوْكِيلَ بِقَبُولِ السَّلَمِ (لَا يَجُوزُ فَإِنَّ الْوَكِيلَ حِينَئِذٍ يَبِيعُ طَعَامًا فِي ذِمَّتِهِ عَلَى أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ لِغَيْرِهِ) أَيْ الْمُوَكِّلِ (وَهَذَا لَا يَجُوزُ)

ص: 35

(فَإِنْ فَارَقَ الْوَكِيلُ صَاحِبَهُ قَبْلَ الْقَبْضِ بَطَلَ الْعَقْدُ) لِوُجُودِ الِافْتِرَاقِ مِنْ غَيْرِ قَبْضٍ (وَلَا يُعْتَبَرُ مُفَارَقَةُ الْمُوَكِّلِ)؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِعَاقِدٍ وَالْمُسْتَحِقُّ بِالْعَقْدِ قَبْضُ الْعَاقِدِ وَهُوَ الْوَكِيلُ فَيَصِحُّ قَبْضُهُ وَإِنْ كَانَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحُقُوقُ كَالصَّبِيِّ وَالْعَبْدِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ،

لِأَنَّ مَنْ بَاعَ مِلْكَ نَفْسِهِ مِنْ الْأَعْيَانِ عَلَى أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ لِغَيْرِهِ لَا يَجُوزُ فَكَذَلِكَ فِي الدُّيُونِ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ مُحَمَّدٌ فِي بَابِ الْوَكَالَةِ بِالسَّلَمِ مِنْ الْبُيُوعِ. وَإِذَا بَطَلَ التَّوْكِيلُ مِنْ الْمُسَلَّمِ إلَيْهِ بِقَبُولِ عَقْدِ السَّلَمِ كَانَ الْوَكِيلُ عَاقِدًا لِنَفْسِهِ فَيَجِبُ الطَّعَامُ فِي ذِمَّتِهِ وَرَأْسُ الْمَالِ مَمْلُوكٌ لَهُ، فَإِذَا سَلَّمَهُ إلَى الْآمِرِ عَلَى وَجْهِ التَّمْلِيكِ مِنْهُ كَانَ قَرْضًا لَهُ عَلَيْهِ، كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ وَغَيْرِهِ. فَإِنْ قِيلَ قَدْ يَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِشَيْءٍ يَجِبُ فِي ذِمَّةِ الْغَيْرِ كَمَا فِي التَّوْكِيلِ بِالشِّرَاءِ، فَإِنَّ الْوَكِيلَ هُوَ الْمُطَالَبُ بِالثَّمَنِ وَالثَّمَنُ يَجِبُ فِي ذِمَّةِ الْمُوَكِّلِ فَلِمَ لَا يَجُوزُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ تَوْكِيلُ الْمُسَلَّمِ إلَيْهِ غَيْرُهُ بِقَبُولِ السَّلَمِ عَلَى أَنْ يُطَالِبَ الْوَكِيلَ بِتَسْلِيمِ الْمُسَلَّمِ فِيهِ بِجَامِعِ مَعْنَى الدَّيْنِيَّةِ. فَإِنَّ الْمُسَلَّمَ فِيهِ دَيْنٌ فِي ذِمَّةِ الْمُسَلَّمِ إلَيْهِ كَالثَّمَنِ فِي ذِمَّةِ الْمُشْتَرِي.

قُلْنَا: بَيْنَ الدَّيْنَيْنِ فَرْقٌ، فَإِنَّ الْمُسَلِّمَ فِيهِ دَيْنٌ لَهُ حُكْمُ الْمَبِيعِ حَتَّى لَا يَجُوزَ الِاسْتِبْدَالُ بِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَلَيْسَ لِلثَّمَنِ حُكْمُ الْمَبِيعِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ الْجَوَازِ هُنَاكَ الْجَوَازُ هُنَا. كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ. وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي الْجَوَابِ عَنْ السُّؤَالِ الْمَذْكُورِ: إنَّ كَلَامَنَا فِيمَا إذَا كَانَ الْمُبْدَلُ فِي ذِمَّةِ شَخْصٍ وَآخَرُ يَمْلِكُ بَدَلَهُ، وَمَا ذَكَرْتُمْ لَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ الْمُوَكِّلَ بِالشِّرَاءِ يَمْلِكُ الْمُبْدَلَ وَيَلْزَمُ الْبَدَلُ فِي ذِمَّتِهِ. وَقَالَ: فَإِنْ قِيلَ: فَاجْعَلْ الْمُسَلِّمَ فِيهِ فِي ذِمَّةِ الْمُوَكِّلِ وَالْمَالَ لَهُ كَمَا فِي صُورَةِ الشِّرَاءِ. فَالْجَوَابُ هُوَ الْجَوَابُ عَنْ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ الْمَذْكُورِ آنِفًا انْتَهَى كَلَامُهُ.

أَقُولُ: إنَّهُ عَدَلَ هَاهُنَا عَنْ نَهْجِ الصَّوَابِ حَيْثُ قَصَدَ التَّصَرُّفَ الزَّائِدَ وَلَكِنْ أَفْسَدَ؛ لِأَنَّ مَآلَ جَوَابِهِ الِاعْتِرَافُ بِعَدَمِ تَمَامِ الدَّلِيلِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، وَالْمَصِيرُ إلَى دَلِيلٍ آخَرَ حَاصِلٌ مِنْ الْجَوَابِ عَنْ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ الَّذِي حَاصِلُهُ أَنَّ جَوَازَ قَبُولِ السَّلَمِ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ وَبِالضَّرُورَةِ، فَيَقْتَصِرُ عَلَى مَوْرِدِ النَّصِّ وَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ فَلَا يَتَعَدَّى إلَى الْآمِرِ بِهِ. وَالدَّلِيلُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِمَّا تَلَقَّتْهُ السَّلَفُ وَالْخَلَفُ بِالْقَبُولِ فَلَا وَجْهَ لِلِاعْتِرَافِ بِعَدَمِ تَمَامِهِ مَعَ تَحْقِيقِ الْمُخْلِصِ عَنْ السُّؤَالِ الْمَذْكُورِ بِالْجَوَابِ الَّذِي ذَكَرَهُ غَيْرُهُ. عَلَى أَنَّ الْجَوَابَ عَنْ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ قَدْ عَرَفْت عَدَمَ تَمَامِهِ بِمَا أَوْرَدْنَا عَلَيْهِ فِيمَا قَبْلُ

(فَإِنْ فَارَقَ الْوَكِيلُ صَاحِبَهُ قَبْلَ الْقَبْضِ بَطَلَ الْعَقْدُ) هَذَا لَفْظُ الْقُدُورِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ: أَيْ إنْ فَارَقَ الْوَكِيلُ بِعَقْدِ الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ صَاحِبَهُ الَّذِي عَقَدَ مَعَهُ قَبْلَ الْقَبْضِ بَطَلَ الْعَقْدُ (لِوُجُودِ الِافْتِرَاقِ مِنْ غَيْرِ قَبْضٍ) يَعْنِي أَنَّ مِنْ شَرْطِ الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ قَبْضَ الْبَدَلِ فِي الْمَجْلِسِ، فَإِذَا وُجِدَ الِافْتِرَاقُ فِيهِمَا مِنْ غَيْرِ قَبْضٍ لَمْ يُوجَدْ الشَّرْطُ فَبَطَلَ الْعَقْدُ.

قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: هَذَا إذَا كَانَ الْمُوَكِّلُ غَائِبًا عَنْ مَجْلِسِ الْعَقْدِ، وَأَمَّا إذَا كَانَ حَاضِرًا فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ يَصِيرُ كَأَنَّ الْمُوَكِّلَ صَارِفٌ بِنَفْسِهِ فَلَا تُعْتَبَرُ مُفَارَقَةُ الْوَكِيلِ، كَذَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ خُوَاهَرْ زَادَهْ.

قَالَ الزَّيْلَعِيُّ فِي التَّبْيِينِ: وَهَذَا مُشْكِلٌ فَإِنَّ الْوَكِيلَ أَصِيلٌ فِي بَابِ الْبَيْعِ حَضَرَ الْمُوَكِّلُ الْعَقْدَ أَوْ لَمْ يَحْضُرْ انْتَهَى (وَلَا تُعْتَبَرُ مُفَارَقَةُ الْمُوَكِّلِ) أَيْ لَا تُعْتَبَرُ مُفَارَقَتُهُ قَبْلَ الْقَبْضِ (لِأَنَّهُ لَيْسَ بِعَاقِدٍ وَالْمُسْتَحِقُّ بِالْعَقْدِ قَبْضُ الْعَاقِدِ وَهُوَ الْوَكِيلُ فَيَصِحُّ قَبْضُهُ) أَيْ قَبْضُ الْوَكِيلِ بَدَلَ الصَّرْفِ (وَإِنْ كَانَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحُقُوقُ) أَيْ وَإِنْ كَانَ الْوَكِيلُ مِمَّنْ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُقُوقُ الْعَقْدِ (كَالصَّبِيِّ وَالْعَبْدِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ)؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ فِي الصَّرْفِ مِنْ تَتِمَّةِ الْعَقْدِ فَيَصِحُّ مِمَّنْ يُصْدَرُ عَنْهُ الْعَقْدُ: أَقُولُ: لَوْ قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي أَثْنَاءِ التَّعْلِيلِ وَالْمُسْتَحَقُّ بِالْعَقْدِ قَبْضُ الْعَاقِدِ وَالْقَبْضُ مِنْ الْعَاقِدِ وَهُوَ الْوَكِيلُ

ص: 36

بِخِلَافِ الرَّسُولِ؛ لِأَنَّ الرِّسَالَةَ فِي الْعَقْدِ لَا فِي الْقَبْضِ، وَيَنْتَقِلُ كَلَامُهُ إلَى الْمُرْسِلِ فَصَارَ قَبْضُ الرَّسُولِ قَبْضَ غَيْرِ الْعَاقِدِ فَلَمْ يَصِحَّ.

فَيَصِحُّ قَبْضُهُ وَالْقَبْضُ مِنْهُ لَكَانَ أَوْلَى وَأَلْيَقَ، إذْ لَا يَخْفَى أَنَّ الْمُدَّعِيَ هَاهُنَا وَهُوَ قَوْلُهُ وَلَا تُعْتَبَرُ مُفَارَقَةُ الْوَكِيلِ عَامٌّ لِبَابَيْ الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ، كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ فِيمَا قَبْلَهُ فَإِنْ فَارَقَ الْوَكِيلُ صَاحِبَهُ قَبْلَ الْقَبْضِ بَطَلَ الْعَقْدُ عَامُّ لَهُمَا. وَالدَّلِيلُ الَّذِي ذَكَرَهُ هَاهُنَا خَاصٌّ بِبَابِ الصَّرْفِ؛ لِأَنَّ التَّوْكِيلَ فِي بَابِ السَّلَمِ إنَّمَا يَصِحُّ مِنْ جَانِبِ رَبِّ السَّلَمِ لَا مِنْ جَانِبِ الْمُسَلَّمِ إلَيْهِ كَمَا مَرَّ، وَالْوَكِيلُ مِنْ جَانِبِ رَبِّ السَّلَمِ لَيْسَ بِقَابِضِ الْبَدَلِ بَلْ هُوَ الْمَقْبُوضُ مِنْهُ فَلَمْ يَتَنَاوَلْهُ قَوْلُهُ وَالْمُسْتَحَقُّ بِالْعَقْدِ الْعَاقِدُ وَهُوَ الْوَكِيلُ فَيَصِحُّ قَبْضُهُ فَكَانَ الدَّلِيلُ قَاصِرًا عَنْ إفَادَةِ تَمَامِ الْمُدَّعِي، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ مِثْلَ مَا ذَكَرْنَا فَتَدَبَّرْ (بِخِلَافِ الرَّسُولِ) مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ فَيَصِحُّ قَبْضُهُ.

وَمَعْنَاهُ أَنَّ الرَّسُولَ إذَا قَبَضَ لَا يَصِحُّ قَبْضُهُ فَلَا يَتِمُّ الْعَقْدُ بِهِ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِخِلَافِ الرَّسُولَيْنِ: أَيْ الرَّسُولِ فِي بَابِ الصَّرْفِ وَالرَّسُولِ فِي بَابِ السَّلَمِ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ الرَّسُولَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فِي الصَّرْفِ وَالرَّسُولَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فِي السَّلَمِ: أَيْ مِنْ جَانِبِ رَسُولِ السَّلَمِ وَمِنْ جَانِبِ الْمُسَلَّمِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ كَمَا لَا يَجُوزُ الْوَكَالَةُ مِنْ جَانِبِ الْمُسَلَّمِ إلَيْهِ فَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ الرِّسَالَةُ مِنْ جَانِبِهِ كَذَا فِي الشُّرُوحِ (لِأَنَّ الرِّسَالَةَ فِي الْعَقْدِ لَا فِي الْقَبْضِ) وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ هَاهُنَا فِي مُخَالَفَةِ الرَّسُولِ فِي الْعَقْدِ لِلْوَكِيلِ فِي الْعَقْدِ فِي بَابَيْ الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ، وَرِسَالَةُ الرَّسُولِ فِي الْعَقْدِ إنَّمَا تَثْبُتُ فِي الْعَقْدِ لَا فِي الْقَبْضِ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ خَارِجٌ عَنْ الْعَقْدِ فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ الرِّسَالَةِ فِيهِ هَذَا. وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي تَوْضِيحِ قَوْلِهِ؛ لِأَنَّ الرِّسَالَةَ فِي الْعَقْدِ لَا فِي الْقَبْضِ: وَإِلَّا لَكَانَ افْتِرَاقٌ بِلَا قَبْضٍ، وَفَصَّلَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ مُرَادَهُ بِأَنْ قَالَ: فَإِنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ إذَا عَقَدَ الْمُرْسِلُ بِنَفْسِهِ وَلَمْ يَقْبِضْ وَفَارَقَ صَاحِبَهُ ثُمَّ أَرْسَلَهُ إذْ لَا مَعْنَى لِلْإِرْسَالِ قَبْلَ الْمُفَارَقَةِ انْتَهَى.

أَقُولُ: فِيهِ بَحْثُ؛ لِأَنَّ هَذَا إنَّمَا يُفِيدُ أَنْ لَا تَكُونَ الرِّسَالَةُ فِي الْقَبْضِ فَقَطْ، لَا أَنْ تَكُونَ فِي الْعَقْدِ وَالْقَبْضِ مَعًا، وَبِدُونِ دَفْعِ هَذَا الِاحْتِمَالِ أَيْضًا لَا يَتِمُّ الْمَطْلُوبُ هَاهُنَا كَمَا لَا يَخْفَى تَأَمَّلْ (وَيَنْتَقِلُ كَلَامُهُ إلَى الْمُرْسِلِ) أَيْ وَيَنْتَقِلُ كَلَامُ الرَّسُولِ فِي الْعَقْدِ إلَى الْمُرْسِلِ (فَصَارَ قَبْضُ الرَّسُولِ قَبْضَ غَيْرِ الْعَاقِدِ فَلَمْ يَصِحَّ) أَيْ لَمْ يَصِحَّ قَبْضُ الرَّسُولِ فَلَمْ يَتِمُّ الْعَقْدُ بِهِ. وَأَقُولُ: هَاهُنَا إشْكَالٌ، وَهُوَ أَنَّ الرِّسَالَةَ فِي السَّلَمِ إنَّمَا تَجُوزُ مِنْ جَانِبِ رَبِّ السَّلَمِ لَا مِنْ جَانِبِ الْمُسَلَّمِ إلَيْهِ كَالْوَكَالَةِ فِيهِ عَلَى مَا صَرَّحُوا بِهِ، فَالْمُرَادُ بِالرَّسُولِ فِي بَابِ السَّلَمِ هُوَ الرَّسُولُ مِنْ جَانِبِ رَبِّ السَّلَمِ فَقَطْ، وَلَا شَكَّ أَنَّ وَظِيفَةَ رَبِّ السَّلَمِ هِيَ الْعَقْدُ وَتَسْلِيمُ رَأْسِ الْمَالِ لَا قَبْضُهُ الَّذِي هُوَ شَرْطُ عَقْدِ السَّلَمِ، وَإِنَّمَا الْقَبْضُ وَظِيفَةُ الْمُسَلَّمِ إلَيْهِ فَلَا يَتِمُّ الْكَلَامُ بِالنَّظَرِ إلَى الرَّسُولِ فِي بَابِ السَّلَمِ كَمَا لَا يَخْفَى. ثُمَّ إنَّ هَذَا الْإِشْكَالَ ظَاهِرٌ عَلَى نُسْخَةِ، بِخِلَافِ الرَّسُولَيْنِ وَهِيَ نُسْخَةٌ أَطْبَقَ عَلَيْهَا الشُّرَّاحُ حَتَّى أَنَّ صَاحِبَيْ النِّهَايَةِ وَالْكِفَايَةِ شَرَحَا هَذِهِ النُّسْخَةَ وَلَمْ يَذْكُرَا النُّسْخَةَ الْأُخْرَى أَصْلًا، وَصَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ جَعَلَهَا أَصْلًا وَذَكَرَ الْأُخْرَى نُسْخَةً وَفَسَّرَ كُلُّهُمْ الرَّسُولَيْنِ بِالرَّسُولِ فِي الصَّرْفِ وَالرَّسُولِ فِي السَّلَمِ.

وَأَمَّا عَلَى نُسْخَةِ بِخِلَافِ الرَّسُولِ فَكَذَلِكَ إنْ جَعَلَ الرَّسُولَ عَامًّا لِلرَّسُولِ فِي الصَّرْفِ وَالرَّسُولِ فِي السَّلَمِ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ كَثِيرٌ مِنْ الشُّرَّاحِ حَيْثُ فَسَرُّوا الرَّسُولَ بِالرَّسُولِ فِي الصَّرْفِ وَالرَّسُولِ فِي السَّلَمِ. وَكَمَا أَفْصَحَ عَنْهُ صَاحِبُ الْكَافِي حَيْثُ قَالَ: بِخِلَافِ الرَّسُولِ: أَيْ فِي الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ

ص: 37

(قَالَ: وَإِذَا دَفَعَ الْوَكِيلُ بِالشِّرَاءِ الثَّمَنَ مِنْ مَالِهِ وَقَبَضَ الْمَبِيعَ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ عَلَى الْمُوَكِّلِ)؛ لِأَنَّهُ انْعَقَدَتْ بَيْنَهُمَا مُبَادَلَةٌ حُكْمِيَّةٌ وَلِهَذَا إذَا اخْتَلَفَا فِي الثَّمَنِ يَتَحَالَفَانِ وَيَرُدُّ الْمُوَكِّلُ بِالْعَيْبِ عَلَى الْوَكِيلِ وَقَدْ سَلَّمَ الْمُشْتَرِي لِلْمُوَكِّلِ مِنْ جِهَةِ الْوَكِيلِ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ وَلِأَنَّ الْحُقُوقَ لَمَّا كَانَتْ رَاجِعَةً إلَيْهِ وَقَدْ عَلِمَهُ الْمُوَكِّلُ يَكُونُ رَاضِيًا بِدَفْعِهِ مِنْ مَالِهِ (فَإِنْ هَلَكَ الْمَبِيعُ فِي يَدِهِ قَبْلَ حَبْسِهِ هَلَكَ مِنْ مَالِ الْمُوَكِّلِ وَلَمْ يَسْقُطْ الثَّمَنُ)؛ لِأَنَّ يَدَهُ كَيَدِ الْمُوَكِّلِ، فَإِذَا لَمْ يَحْبِسْهُ يَصِيرُ الْمُوَكِّلُ قَابِضًا بِيَدِهِ

انْتَهَى. وَأَمَّا إذَا جُعِلَ مَخْصُوصًا بِالرَّسُولِ فِي الصَّرْفِ لِيَكُونَ قَوْلُهُ بِخِلَافِ الرَّسُولِ مُطَابِقًا لِمُتَعَلِّقِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ فَيَصِحُّ قَبْضُهُ، فَإِنَّ الْمَعْنَى هُنَاكَ فَيَصِحُّ قَبْضُ الْوَكِيلِ بَدَلَ الصَّرْفِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ أَكْثَرُ الشُّرَّاحِ فَيَرْتَفِعُ الْإِشْكَالُ

(قَالَ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ (وَإِذَا دَفَعَ الْوَكِيلُ بِالشِّرَاءِ الثَّمَنَ مِنْ مَالِهِ وَقَبَضَ الْمَبِيعَ) لَمْ يَكُنْ مُتَبَرِّعًا (فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ) أَيْ بِالثَّمَنِ (عَلَى الْمُوَكِّلِ؛ لِأَنَّهُ انْعَقَدَتْ بَيْنَهُمَا) أَيْ بَيْنَ الْوَكِيلِ وَالْمُوَكِّلِ (مُبَادَلَةٌ حُكْمِيَّةٌ) أَيْ بَيْعٌ حُكْمِيٌّ فَصَارَ الْوَكِيلُ كَالْبَائِعِ مِنْ الْمُوَكِّلِ.

قَالَ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ فِي تَعْلِيلِ هَذَا؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ يَنْتَقِلُ إلَى الْوَكِيلِ أَوَّلًا ثُمَّ يَنْتَقِلُ مِنْهُ إلَى الْمُوَكِّلِ انْتَهَى، أَقُولُ: هَذَا شَرْحٌ لِكَلَامِ الْمُصَنِّفِ بِمَا لَا يَرْتَضِيهِ صَاحِبُهُ؛ لِأَنَّ انْتِقَالَ الْمِلْكِ أَوَّلًا إلَى الْوَكِيلِ ثُمَّ إلَى الْمُوَكِّلِ طَرِيقَةُ الْكَرْخِيِّ. وَالْمُصَنِّفُ قَدْ اخْتَارَ فِيمَا مَرَّ طَرِيقَةَ أَبِي طَاهِرٍ، وَقَالَ: هُوَ الصَّحِيحُ احْتِرَازًا عَنْ طَرِيقَةِ الْكَرْخِيِّ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الشُّرَّاحُ قَاطِبَةً هُنَاكَ، وَمِنْهُمْ هَذَا الشَّارِحُ. وَطَرِيقَةُ أَبِي طَاهِرٍ ثُبُوتُ الْمِلْكِ ابْتِدَاءً لِلْمُوَكِّلِ، لَكِنْ خِلَافَةً عَنْ الْوَكِيلِ عَلَى مَا مَرَّ تَفْصِيلُهُ، فَالْوَجْهُ أَنْ يُحْمَلَ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ هُنَا أَيْضًا عَلَى ذَلِكَ، فَإِنَّ الْمِلْكَ وَإِنْ ثَبَتَ لِلْمُوَكَّلِ ابْتِدَاءً عَلَى طَرِيقَةِ أَبِي طَاهِرٍ إلَّا أَنَّهُ يَثْبُتُ لَهُ خِلَافَةً عَنْ الْوَكِيلِ لَا أَصَالَةً كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الشَّافِعِيُّ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا الْقَدْرَ كَافٍ فِي انْعِقَادِ الْمُبَادَلَةِ الْحُكْمِيَّةِ بَيْنَهُمَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَافِيًا فِي الْمُبَادَلَةِ الْحَقِيقِيَّةِ (وَلِهَذَا) أَيْ وَلِانْعِقَادِ الْمُبَادَلَةِ الْحُكْمِيَّةِ بَيْنَهُمَا (إذَا اخْتَلَفَا فِي الثَّمَنِ يَتَحَالَفَانِ) وَالتَّحَالُفُ مِنْ خَوَاصِّ الْمُبَادَلَةِ (وَيَرُدُّ الْمُوَكِّلُ بِالْعَيْبِ عَلَى الْوَكِيلِ) أَيْ وَإِذَا وَجَدَ الْمُوَكِّلُ عَيْبًا بِالْمُشْتَرَى رَدَّهُ عَلَى الْوَكِيلِ، وَهَذَا أَيْضًا مِنْ خَصَائِصِ الْمُبَادَلَةِ.

لَا يُقَالُ: مَا ذَكَرْتُمْ فَرْعٌ عَلَى الْمُبَادَلَةِ فَكَيْفَ يَكُونُ دَلِيلًا عَلَيْهَا؟؛ لِأَنَّا نَقُولُ: هَذَا دَلِيلٌ إنِّيٌّ لَا دَلِيلٍ لَمِّيٌّ فَلَا يُنَافِي الْفَرْعِيَّةَ تَأَمَّلْ (وَقَدْ سَلَّمَ الْمُشْتَرَى لِلْمُوَكِّلِ) أَيْ وَالْحَالُ أَنَّهُ قَدْ سَلَّمَ الْمُشْتَرَى لِلْمُوَكِّلِ (مِنْ جِهَةِ الْوَكِيلِ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ) أَيْ فَيَرْجِعُ الْوَكِيلُ عَلَى الْمُوَكِّلِ بِالثَّمَنِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمُوَكِّلُ كَالْمُشْتَرِي مِنْ الْوَكِيل وَقَدْ سَلَّمَ الْمُشْتَرَى لِلْمُوَكِّلِ مِنْ جِهَةِ الْوَكِيلِ رَجَعَ الْوَكِيلُ بِالثَّمَنِ عَلَى الْمُوَكِّلِ قَطْعًا (وَلِأَنَّ الْحُقُوقَ) دَلِيلٌ آخَرُ (لَمَّا كَانَتْ إلَيْهِ) أَيْ لَمَّا كَانَتْ رَاجِعَةً إلَى الْوَكِيلِ (وَقَدْ عَلِمَهُ الْمُوَكِّلُ) أَيْ عَلِمَ رُجُوعَهَا إلَيْهِ (فَيَكُونُ) أَيْ الْمُوَكِّلُ (رَاضِيًا بِدَفْعِهِ) أَيْ بِدَفْعِ الثَّمَنِ (مِنْ مَالِهِ) أَيْ مِنْ مَالِ الْمُوَكِّلُ.

وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ التَّبَرُّعَ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ إذَا كَانَ الدَّفْعُ بِغَيْرِ أَمْرِ الْمُوَكِّلِ، وَالْأَمْرُ ثَابِتٌ هُنَا دَلَالَةً؛ لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ لَمَّا عَلِمَ أَنَّ الْحُقُوقَ تَرْجِعُ إلَى الْوَكِيلِ وَمِنْ جُمْلَتِهَا دَفْعُ الثَّمَنِ عَلِمَ أَنَّهُ مُطَالَبٌ بِدَفْعِ الثَّمَنِ لِقَبْضِ الْمَبِيعِ فَكَانَ رَاضِيًا بِذَلِكَ آمِرًا بِهِ دَلَالَةً (فَإِنْ هَلَكَ الْمَبِيعُ فِي يَدِهِ) أَيْ فِي يَدِ الْوَكِيلِ (قَبْلَ حَبْسِهِ) أَيْ قَبْلَ حَبْسِ الْوَكِيلِ الْمَبِيعَ (هَلَكَ مِنْ مَالِ الْمُوَكِّلِ وَلَمْ يَسْقُطْ الثَّمَنُ) أَيْ لَمْ يَسْقُطْ عَنْ الْمُوَكَّلِ، هَذَا لَفْظُ الْقُدُورِيِّ: يَعْنِي أَنَّ هَلَاكَ الْمَبِيعِ فِي يَدِ الْوَكِيلِ قَبْلَ حَبْسِهِ إيَّاهُ لَا يَسْقُطُ الرُّجُوعُ عَلَى الْمُوَكِّلِ (لِأَنَّ يَدَهُ) أَيْ يَدَ الْوَكِيلِ (كَيَدِ الْمُوَكِّلِ، فَإِذَا لَمْ يَحْبِسْهُ) أَيْ الْوَكِيلُ (يَصِيرُ الْمُوَكِّلُ قَابِضًا بِيَدِهِ) أَيْ بِيَدِ الْوَكِيلِ، فَالْهَلَاكُ فِي يَدِ الْوَكِيلِ

ص: 38

(وَلَهُ أَنْ يَحْبِسَهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الثَّمَنَ) لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْبَائِعِ مِنْ الْمُوَكِّلِ. وَقَالَ زُفَرُ: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ صَارَ قَابِضًا بِيَدِهِ فَكَأَنَّهُ سَلَّمَهُ إلَيْهِ فَيَسْقُطُ حَقُّ الْحَبْسِ. قُلْنَا: هَذَا لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ

كَالْهَلَاكِ فِي يَدِ الْمُوَكِّلِ فَلَا يَسْقُطُ الرُّجُوعُ

(وَلَهُ) أَيْ لِلْوَكِيلِ (أَنْ يَحْبِسَهُ) أَيْ يَحْبِسَ الْمَبِيعَ عَنْ الْمُوَكِّلِ (حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الثَّمَنَ) سَوَاءٌ كَانَ الْوَكِيلُ دَفَعَ الثَّمَنَ إلَى الْبَائِعِ أَوْ لَمْ يَدْفَعْ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ نَقْلًا عَنْ الْمَبْسُوطِ. قَالَ فِي الذَّخِيرَةِ: لَمْ يَذْكُرْ مُحَمَّدٌ فِي شَيْءٍ مِنْ الْكُتُبِ أَنَّ الْوَكِيلَ إذَا لَمْ يَنْقُدْ الثَّمَنَ وَسَامَحَهُ الْبَائِعُ وَسَلَّمَ الْمَبِيعَ إلَيْهِ هَلْ لَهُ حَقُّ الْحَبْسِ عَنْ الْمُوَكِّلِ إلَى أَنْ يَسْتَوْفِيَ الدَّرَاهِمَ مِنْهُ. وَحُكِيَ عَنْ الشَّيْخِ الْإِمَامِ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيِّ أَنَّ لَهُ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْحَبْسِ لِلْوَكِيلِ فِي مَوْضِعِ نَقْدِ الثَّمَنِ لِأَجْلِ بَيْعٍ حُكْمِيٍّ انْعَقَدَ بَيْنَ الْوَكِيلِ وَالْمُوَكِّلِ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَخْتَلِفُ بَيْنَ النَّقْدِ وَعَدَمِهِ انْتَهَى.

وَقَالَ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ: قُلْت هَذَا كَلَامٌ عَجِيبٌ مِنْ صَاحِبِ الذَّخِيرَةِ، وَكَيْفَ خَفِيَ عَلَيْهِ هَذَا؟ وَقَدْ صَرَّحَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ فِي بَابِ الْوَكَالَةِ فِي الشِّرَاءِ فَقَالَ: وَإِذَا وَكَّلَ الرَّجُلُ رَجُلًا أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ عَبْدًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ بِعَيْنِهِ فَاشْتَرَاهُ الْوَكِيلُ وَقَبَضَهُ فَطَلَبَ الْآمِرُ أَخْذَ الْعَبْدِ مِنْ الْوَكِيلِ وَأَبَى الْوَكِيلُ أَنْ يَدْفَعَهُ فَلِلْوَكِيلِ أَنْ يَمْنَعَهُ ذَلِكَ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الثَّمَنَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَإِنْ كَانَ الْوَكِيلُ نَقَدَ الثَّمَنَ أَوْ لَمْ يَنْقُدْ فَهُوَ سَوَاءٌ، إلَى هُنَا لَفْظُ مُحَمَّدٍ فِي الْأَصْلِ انْتَهَى.

قَالَ الْمُصَنِّفُ (لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ) أَيْ الْوَكِيلَ (بِمَنْزِلَةِ الْبَائِعِ مِنْ الْمُوَكِّلِ) أَشَارَ بِهِ إلَى قَوْلِهِ؛ لِأَنَّهُ انْعَقَدَتْ بَيْنَهُمَا مُبَادَلَةٌ حُكْمِيَّةٌ وَلِلْبَائِعِ حَقُّ حَبْسِ الْمَبِيعِ عَنْ الْمُشْتَرِي بِقَبْضِ الثَّمَنِ فَكَذَا لِلْوَكِيلِ، وَهَذَا لَا يُفَصِّلُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْوَكِيلُ دَفَعَ الثَّمَنَ إلَى الْبَائِعِ أَوْ لَا (وَقَالَ زَفَرٌ: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ) أَيْ لَيْسَ لِلْوَكِيلِ حَبْسُ الْمَبِيعِ لِاسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ (لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ صَارَ قَابِضًا بِيَدِهِ) أَيْ بِيَدِ الْوَكِيلِ: يَعْنِي أَنَّ الْمُوَكِّلَ صَارَ قَابِضًا بِقَبْضِ الْوَكِيلِ بِدَلِيلِ أَنَّ هَلَاكَهُ فِي يَدِ الْوَكِيلِ كَهَلَاكِهِ فِي يَدِ الْمُوَكِّلِ (فَكَأَنَّهُ سَلَّمَهُ إلَيْهِ) أَيْ فَكَأَنَّ الْوَكِيلَ سَلَّمَ الْمَبِيعَ إلَى الْمُوَكِّلِ (فَيَسْقُطُ حَقُّ الْحَبْسِ) تَشْرِيحُهُ أَنَّ يَدَ الْوَكِيلِ يَدُ الْمُوَكِّلِ حُكْمًا، فَلَوْ وَقَعَ فِي يَدِ الْمُوَكِّلِ حَقِيقَةً لَمْ يَكُنْ لِلْوَكِيلِ حَقُّ الْحَبْسِ، وَكَذَا إذَا وَقَعَ فِي يَدِهِ حُكْمًا (قُلْنَا) لَنَا طَرِيقَانِ فِي الْجَوَابِ عَنْهُ: مَدَارُ أَحَدِهِمَا تَسْلِيمُ أَنَّ الْمُوَكِّلَ صَارَ قَابِضًا بِقَبْضِ الْوَكِيلِ. وَمَدَارُ الْآخَرِ مَنْعُ ذَلِكَ.

فَأَشَارَ إلَى الْأَوَّلِ بِقَوْلِهِ (هَذَا) أَيْ هَذَا الْقَبْضُ (مِمَّا لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ) يَعْنِي سَلَّمْنَا أَنَّ الْمُوَكِّلَ صَارَ قَابِضًا بِقَبْضِ الْوَكِيلِ لَكِنَّ هَذَا الْقَبْضَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ لَا يَتَوَسَّلُ إلَى الْحَبْسِ مَا لَمْ يَقْبِضْ، وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَقْبِضَ عَلَى وَجْهٍ لَا يَصِيرُ الْمُوَكِّلُ قَابِضًا، وَمَا لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ فَهُوَ عَفْوٌ فَلَا يَسْقُطُ بِهِ حَقُّ الْوَكِيلِ فِي الْحَبْسِ؛ لِأَنَّ سُقُوطَ

ص: 39

فَلَا يَكُونُ رَاضِيًا بِسُقُوطِ حَقِّهِ فِي الْحَبْسِ، عَلَى أَنَّ قَبْضَهُ مَوْقُوفٌ فَيَقَعُ لِلْمُوَكِّلِ إنْ لَمْ يَحْبِسْهُ وَلِنَفْسِهِ عِنْدَ حَبْسِهِ (فَإِنْ حَبَسَهُ فَهَلَكَ كَانَ مَضْمُونًا ضَمَانَ الرَّهْنِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَضَمَانَ الْمَبِيعِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ) وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَضَمَانَ الْغَصْبِ عِنْدَ زُفَرَ رحمه الله؛ لِأَنَّهُ مَنْعٌ بِغَيْرِ حَقٍّ، لَهُمَا أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْبَائِعِ مِنْهُ فَكَانَ حَبْسُهُ لِاسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ فَيَسْقُطُ بِهَلَاكِهِ

حَقِّهِ بِاعْتِبَارِ رِضَاهُ بِتَسْلِيمِهِ، وَلَا يَتَحَقَّقُ مِنْهُ الرِّضَا فِيمَا لَا طَرِيقَ لَهُ إلَى التَّحَرُّزِ عَنْهُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ (فَلَا يَكُونُ رَاضِيًا بِسُقُوطِ حَقِّهِ فِي الْحَبْسِ) وَأَشَارَ إلَى الطَّرِيقِ الثَّانِي بِقَوْلِهِ (عَلَى أَنَّ قَبْضَهُ مَوْقُوفٌ) يَعْنِي عَلَى أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمُوَكِّلَ صَارَ قَابِضًا بِقَبْضِ الْوَكِيلِ بَلْ قَبْضُ الْوَكِيلِ فِي الِابْتِدَاءِ مَوْقُوفٌ: أَيْ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ لِتَتْمِيمِ مَقْصُودِ الْمُوَكِّلِ وَأَنْ يَكُونَ لِإِحْيَاءِ حَقِّ نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا يَتَبَيَّنُ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ بِحَبْسِهِ (فَيَقَعُ لِلْمُوَكِّلِ إنْ لَمْ يَحْبِسْهُ وَلِنَفْسِهِ عِنْدَ حَبْسِهِ) يَعْنِي إنْ لَمْ يَحْبِسْهُ عَنْ الْمُوَكِّلِ عَرَفْنَا أَنَّهُ كَانَ عَامِلًا لِلْمُوَكِّلِ فَيَقَعُ لَهُ، وَإِنْ حَبَسَهُ عَنْهُ عَرَفْنَا أَنَّهُ كَانَ عَامِلًا لِنَفْسِهِ وَإِنَّ الْمُوَكِّلَ لَمْ يَصِرْ قَابِضًا بِقَبْضِهِ (فَإِنْ حَبَسَهُ) أَيْ حَبَسَ الْوَكِيلُ الْمَبِيعَ (فَهَلَكَ) أَيْ الْمَبِيعُ (كَانَ مَضْمُونًا ضَمَانَ الرَّهْنِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ) يَعْنِي يُعْتَبَرُ الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ الدَّيْنِ، فَإِذَا كَانَ الثَّمَنُ خَمْسَةَ عَشَرَ مَثَلًا وَقِيمَةُ الْمَبِيعِ عَشَرَةٌ رَجَعَ الْوَكِيلُ عَلَى الْمُوَكِّلِ بِخَمْسَةٍ (وَضَمَانُ الْمَبِيعِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ) يَعْنِي يَسْقُطُ بِهِ الثَّمَنُ قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ كَمَا لَمْ يَذْكُرْ فِي الْمُخْتَلَفِ وَالْحَصْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَلَكِنْ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو نَصْرٍ الْبَغْدَادِيُّ: ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ مِثْلَ قَوْلِ مُحَمَّدٍ، فَلِذَلِكَ قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَهُوَ) أَيْ قَوْلُ مُحَمَّدٍ.

(قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ) وَلَمْ يَقُلْ رَأْسًا وَضَمَانُ الْمَبِيعِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ عَلَى مَا هُوَ اللَّائِقُ الْمُعْتَادُ فِيمَا إذَا اتَّحَدَ قَوْلُهُمَا (وَضَمَانُ الْغَصْبِ عِنْدَ زَفَرٍ) يَعْنِي يَجِبُ مِثْلُهُ أَوْ قِيمَتُهُ بَالِغَةٌ مَا بَلَغَتْ. قَالَ فِي الْعِنَايَةِ: فَلَا يَرْجِعُ الْوَكِيلُ عَلَى الْمُوَكِّلِ إنْ كَانَ ثَمَنُهُ أَكْثَرَ، وَيَرْجِعُ الْمُوَكِّلُ عَلَى الْوَكِيلِ إذَا كَانَتْ قِيمَتُهُ أَكْثَرَ انْتَهَى. وَهُوَ الْمَفْهُومُ مِمَّا ذُكِرَ فِي أَكْثَرِ الشُّرُوحِ. وَقَالَ الشَّارِحُ تَاجُ الشَّرِيعَةِ: فَيَرْجِعُ الْوَكِيلُ عَلَى الْمُوَكِّلِ إنْ كَانَ ثَمَنُهُ أَكْثَرَ، وَيَرْجِعُ الْمُوَكِّلُ عَلَى الْوَكِيلِ إنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَكْثَرَ انْتَهَى.

وَهُوَ الْمَفْهُومُ مِمَّا ذَكَرَهُ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ فِي شَرْحِ الْوِقَايَةِ. وَهُوَ الظَّاهِرُ عِنْدِي عَلَى قَوْلِ زَفَرٍ تَأَمَّلْ تَقَفْ (لِأَنَّهُ) أَيْ الْحَبْسَ (مَنْعٌ بِغَيْرِ حَقٍّ) لِمَا مَرَّ أَنَّ قَبْضَ الْوَكِيلِ قَبْضُ الْمُوَكِّلِ، وَلَيْسَ لَهُ حَقُّ الْحَبْسِ فِيهِ فَصَارَ غَاصِبًا (لَهُمَا) أَيْ لِأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ (أَنَّهُ) أَيْ الْوَكِيلَ (بِمَنْزِلَةِ الْبَائِعِ مِنْهُ) أَيْ مِنْ الْمُوَكِّلِ كَمَا تَقَدَّمَ (فَكَانَ حَبْسُهُ لِاسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ) إذْ لِلْبَائِعِ حَقُّ حَبْسِ الْمَبِيعِ لِاسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ (فَيَسْقُطُ) أَيْ الثَّمَنُ (بِهَلَاكِهِ) أَيْ بِهَلَاكِ الْمَبِيعِ.

وَاعْتِرَاضٌ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَزِمَ الضَّمَانُ حَبَسَ أَوْ لَمْ يَحْبِسْ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ مَضْمُونٌ عَلَى الْبَائِعِ وَإِنْ لَمْ يَحْبِسْ. وَأُجِيبُ بِأَنَّهُ إذَا حَبَسَ تَعَيَّنَ أَنَّهُ بِالْقَبْضِ كَانَ عَامِلًا لِنَفْسِهِ فَتَقْوَى جِهَةُ كَوْنِهِ بَائِعًا فَلَزِمَ الضَّمَانُ، وَأَمَّا إذَا لَمْ يَحْبِسْ فَقَبَضَهُ كَانَ لِمُوَكِّلِهِ فَأَشْبَهَ الرَّسُولَ فَهَلَكَ عِنْدَهُ أَمَانَةً كَذَا فِي الْعِنَايَةِ. أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ كَمَا أَنَّهُ يُشْبِهُ الرَّسُولَ يُشْبِهُ الْبَائِعَ أَيْضًا

ص: 40

وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ مَضْمُونٌ بِالْحَبْسِ لِلِاسْتِيفَاءِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ وَهُوَ الرَّهْنُ بِعَيْنِهِ بِخِلَافِ الْمَبِيعِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ يَنْفَسِخُ بِهَلَاكِهِ وَهَا هُنَا لَا يَنْفَسِخُ أَصْلُ الْعَقْدِ. قُلْنَا: يَنْفَسِخُ فِي حَقِّ الْمُوَكِّلِ وَالْوَكِيلِ، كَمَا إذَا رَدَّهُ الْمُوَكِّلُ بِعَيْبٍ وَرَضِيَ الْوَكِيلُ بِهِ.

(قَالَ: وَإِذَا وَكَّلَهُ بِشِرَاءِ عَشَرَةِ أَرْطَالِ لَحْمٍ بِدِرْهَمٍ فَاشْتَرَى عِشْرِينَ رِطْلًا بِدِرْهَمٍ مِنْ لَحْمٍ يُبَاعُ مِنْهُ عَشَرَةُ أَرْطَالٍ بِدِرْهَمٍ

لِانْعِقَادِ الْمُبَادَلَةِ الْحُكْمِيَّةِ بَيْنَهُمَا كَمَا مَرَّ، فَإِنْ لَمْ تَجْعَلْ جِهَةَ مُشَابَهَتِهِ بِالْبَائِعِ سَاقِطَةً عَنْ حَيِّزِ الِاعْتِبَارِ فِيمَا إذَا لَمْ يَحْبِسْ الْمَبِيعَ لَمْ يَظْهَرْ وَجْهُ عَدَمِ الضَّمَانِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ كَمَا لَا يَخْفَى، وَإِنْ جَعَلْت تِلْكَ الْجِهَةَ سَاقِطَةً عَنْ حَيِّزِ الِاعْتِبَارِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ فَمَعَ عَدَمِ ظُهُورِ عِلَّةِ الْإِسْقَاطِ فِيمَا يَلْزَمُ أَنْ لَا يَتَمَشَّى فِيهَا مَا ذَكَرَ فِيمَا سَبَقَ مِنْ تَعْلِيلِ مَسْأَلَةِ رُجُوعِ الْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ بِالثَّمَنِ عَلَى الْمُوَكِّلِ فِيمَا إذَا دَفَعَهُ مِنْ مَالِهِ وَقَبَضَ الْمَبِيعَ بِانْعِقَادِ الْمُبَادَلَةِ الْحُكْمِيَّةِ بَيْنَهُمَا مَعَ أَنَّ تِلْكَ الْمَسْأَلَةَ شَامِلَةٌ لِصُورَتَيْ الْحَبْسِ وَعَدَمِ الْحَبْسِ، وَعِلَّتُهَا انْعِقَادُ الْمُبَادَلَةِ الْحُكْمِيَّةِ بَيْنَهُمَا فَتَأَمَّلْ (وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ) أَيْ الْهَالِكُ (مَضْمُونٌ بِالْحَبْسِ لِلِاسْتِيفَاءِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ) أَيْ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ مَضْمُونًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَضْمُونًا قَبْلَ الْحَبْسِ كَمَا تَقَدَّمَ وَصَارَ مَضْمُونًا بَعْدَ الْحَبْسِ، وَكُلُّ مَا هُوَ كَذَلِكَ فَهُوَ بِمَعْنَى الرَّهْنِ، أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ (وَهُوَ الرَّهْنُ بِعَيْنِهِ) يَعْنِي هُوَ بِمَعْنَى الرَّهْنِ، وَهَذَا لِإِثْبَاتِ مُدَّعَاهُ، وَقَوْلُهُ (بِخِلَافِ الْمَبِيعِ) لِنَفْيِ قَوْلِهِمَا: يَعْنِي أَنَّ الْمُشْتَرِيَ الْمَحْبُوسَ هَاهُنَا لَيْسَ كَالْمَبِيعِ (لِأَنَّ الْبَيْعَ يَنْفَسِخُ بِهَلَاكِهِ) أَيْ بِهَلَاكِ الْمَبِيعِ (وَهَا هُنَا لَا يَنْفَسِخُ أَصْلُ الْعَقْدِ) يَعْنِي الَّذِي بَيْنَ الْوَكِيلِ وَبَائِعِهِ. وَأَجَابَ الْمُصَنِّفُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ (قُلْنَا يَنْفَسِخُ) أَيْ الْعَقْدُ (فِي حَقِّ الْمُوَكِّلِ وَالْوَكِيلِ) وَإِنْ لَمْ يَنْفَسِخْ فِي حَقِّ الْبَائِعِ وَالْوَكِيلِ وَمِثْلُهُ لَا يُمْتَنَعُ (كَمَا إذَا رَدَّهُ الْمُوَكِّلُ بِعَيْبٍ) أَيْ إذَا وَجَدَ الْمُوَكِّلُ عَيْبًا بِالْمُشْتَرَى فَرَدَّهُ إلَى الْوَكِيلِ (وَرَضِيَ الْوَكِيلُ بِهِ) فَإِنَّهُ يَلْزَمُ الْوَكِيلُ وَيَنْفَسِخُ الْعَقْدُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُوَكِّلِ وَإِنْ لَمْ يَنْفَسِخْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ بَائِعِهِ.

قَالَ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ: وَهَذِهِ مُغَالَطَةٌ عَلَى أَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّهُ يُفَرِّقُ بَيْنَ هَلَاكِ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ فِي يَدِ الْبَائِعِ وَبَيْنَ هَلَاكِهِ فِي يَدِ الْوَكِيلِ بَعْدَ الْحَبْسِ؛ فَفِي الْأَوَّلِ يَنْفَسِخُ الْبَيْعُ وَفِي الثَّانِي لَا، وَانْفِسَاخُ الْبَيْعِ بَيْنَ الْوَكِيلِ وَالْمُوَكِّلِ بِالرَّدِّ بِالْعَيْبِ لَا يَدُلُّ عَلَى انْفِسَاخِهِ مِنْ الْأَصْلِ إذَا هَلَكَ فِي يَدِ الْوَكِيلِ فَخَرَجَ الْجَوَابُ عَنْ مَوْضِعِ النِّزَاعِ انْتَهَى.

وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ نَقْلِ ذَلِكَ: وَإِنَّهُ كَمَا تَرَى فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ إذَا فُرِضَ أَنَّ الْوَكِيلَ بَائِعٌ كَانَ الْهَلَاكُ فِي يَدِهِ كَالْهَلَاكِ فِي يَدِ بَائِعٍ لَيْسَ بِوَكِيلٍ فَاسْتَوَيَا فِي وُجُودِ الْفَسْخِ وَبَطَلَ الْفَرْقُ، بَلْ إذَا تَأَمَّلْت وَجَدْت مَا ذُكِرَ مِنْ جَانِبِ أَبِي يُوسُفَ غَلَطًا أَوْ مُغَالَطَةً، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ عَنْ الْوَكِيلِ بِمَنْزِلَةِ بَائِعِ الْبَائِعِ، وَإِذَا انْفَسَخَ الْعَقْدُ بَيْنَ الْمُشْتَرِي وَبَائِعِهِ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ الْفَسْخُ بَيْنَ الْبَائِعِ وَبَائِعِهِ فَكَانَ ذِكْرُهُ أَحَدَهُمَا: يَعْنِي غَلَطًا أَوْ مُغَالَطَةً

(قَالَ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ (وَإِذَا وَكَّلَهُ بِشِرَاءِ عَشَرَةِ أَرْطَالِ لَحْمٍ بِدِرْهَمٍ فَاشْتَرَى عِشْرِينَ رِطْلًا بِدِرْهَمٍ مِنْ لَحْمٍ يُبَاعُ مِنْهُ عَشَرَةُ أَرْطَالٍ بِدِرْهَمٍ) أَيْ إذَا كَانَتْ عَشَرَةُ أَرْطَالٍ مِنْ ذَلِكَ اللَّحْمِ يُسَاوِي قِيمَتُهُ

ص: 41

لَزِمَ الْمُوَكِّلَ مِنْهُ عَشْرَةٌ بِنِصْفِ دِرْهَمٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: يَلْزَمُهُ الْعِشْرُونَ بِدِرْهَمٍ) وَذَكَرَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ قَوْلَ مُحَمَّدٍ مَعَ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ لَمْ يَذْكُرْ الْخِلَافَ فِي الْأَصْلِ. لِأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ أَمَرَهُ بِصَرْفِ الدِّرْهَمِ فِي اللَّحْمِ وَظَنَّ أَنَّ سِعْرَهُ عَشَرَةُ أَرْطَالٍ، فَإِذَا اشْتَرَى بِهِ عِشْرِينَ فَقَدْ زَادَهُ خَيْرًا وَصَارَ كَمَا إذَا وَكَّلَهُ بِبَيْعِ عَبْدِهِ بِأَلْفٍ فَبَاعَهُ بِأَلْفَيْنِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَمَرَهُ بِشِرَاءِ عَشَرَةِ أَرْطَالٍ وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِشِرَاءِ الزِّيَادَةِ فَيَنْفُذُ شِرَاؤُهَا عَلَيْهِ وَشِرَاءُ الْعَشَرَةِ عَلَى الْمُوَكِّلِ

دِرْهَمًا، وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَتْ عَشَرَةُ أَرْطَالٍ مِنْهُ لَا تُسَاوِي دِرْهَمًا نَفَذَ الْكُلُّ عَلَى الْوَكِيلِ بِالْإِجْمَاعِ، كَذَا فِي الذَّخِيرَةِ وَسَيَأْتِي فِي الْكِتَابِ (لَزِمَ الْمُوَكِّلَ مِنْهُ عَشَرَةٌ بِنِصْفِ دِرْهَمٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَا: يَلْزَمُهُ الْعِشْرُونَ بِدِرْهَمٍ) إلَى هُنَا لَفْظُ الْقُدُورِيِّ. قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَذُكِرَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ) أَيْ فِي بَعْضِ نُسَخِ مُخْتَصَرِ الْقُدُورِيِّ (قَوْلُ مُحَمَّدٍ مَعَ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ) وَقَالَ الْمُصَنِّفُ (وَمُحَمَّدٌ لَمْ يَذْكُرْ الْخِلَافَ فِي الْأَصْلِ) أَيْ فِي الْمَبْسُوطِ فَإِنَّهُ قَالَ فِي آخِرِ بَابِ الْوَكَالَةِ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ مِنْهُ: وَإِذَا وَكَّلَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ عَشَرَةَ أَرْطَالِ لَحْمٍ بِدِرْهَمٍ لَزِمَ الْآمِرَ مِنْهَا عَشَرَةٌ بِنِصْفِ دِرْهَمٍ وَالْبَاقِي لِلْمَأْمُورِ؛ لِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِشِرَاءِ قَدْرٍ مُسَمًّى، فَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ الْقَدْرِ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ أَمْرُهُ فَكَانَ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ، وَفِي الْقَدْرِ الَّذِي يَتَنَاوَلُهُ أَمْرُهُ قَدْ حَصَلَ مَقْصُودُهُ وَزَادَهُ مَنْفَعَةً بِالشِّرَاءِ بِأَقَلَّ مِمَّا سَمَّى لَهُ فَكَانَ مُشْتَرِيًا لِلْآمِرِ.

إلَى هُنَا لَفْظُ الْأَصْلِ وَلَمْ يَذْكُرْ الْخِلَافَ كَمَا تَرَى (لِأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ أَمَرَهُ) أَيْ أَنَّ الْمُوَكِّلَ أَمَرَ الْوَكِيلَ (بِصَرْفِ الدِّرْهَمِ فِي اللَّحْمِ وَظَنَّ أَنَّ سِعْرَهُ عَشَرَةُ أَرْطَالٍ، فَإِذَا اشْتَرَى بِهِ عِشْرِينَ فَقَدْ زَادَهُ خَيْرًا) يَعْنِي أَنَّ الْوَكِيلَ لَمْ يُخَالِفْ لِلْمُوَكِّلِ فِيمَا أَمَرَهُ، وَإِنَّمَا جَاءَ ظَنُّهُ مُخَالِفًا لِلْوَاقِعِ فَلَيْسَ عَلَى الْوَكِيلِ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ سِيَّمَا إذَا زَادَهُ خَيْرًا (وَصَارَ كَمَا إذَا وَكَّلَهُ بِبَيْعِ عَبْدِهِ بِأَلْفٍ فَبَاعَهُ بِأَلْفَيْنِ) حَيْثُ جَازَ ذَلِكَ فَكَذَا هَذَا (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ أَمَرَهُ بِشِرَاءِ عَشَرَةِ) أَيْ بِشِرَاءِ عَشَرَةِ أَرْطَالِ لَحْمٍ (وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِشِرَاءِ الزِّيَادَةِ) وَظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ الْمِقْدَارَ يُسَاوِي دِرْهَمًا وَقَدْ خَالَفَهُ فِيمَا أَمَرَهُ بِهِ (فَيَنْفُذُ شِرَاؤُهَا) أَيْ شِرَاءُ الزِّيَادَةِ (عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الْوَكِيلِ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مَأْمُورٍ بِهِ (وَشِرَاءُ الْعَشَرَةِ عَلَى الْمُوَكِّلِ) أَيْ وَيَنْفُذُ شِرَاءُ الْعَشَرَةِ عَلَى الْمُوَكِّلِ؛ لِأَنَّهُ إتْيَانٌ بِالْمَأْمُورِ بِهِ.

ص: 42

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

فَإِنْ قِيلَ: يَنْبَغِي أَنْ لَا يُلْزِمَ الْآمِرَ عِنْدَهُ عَشَرَةً بِنِصْفِ دِرْهَمٍ أَيْضًا؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْعَشَرَةَ تَثْبُتُ ضِمْنًا لِلْعِشْرِينِ لَا قَصْدًا وَقَدْ وَكَّلَهُ بِشِرَاءِ عَشَرَةٍ قَصْدًا، وَمِثْلُ هَذَا لَا يَجُوزُ عَلَى قَوْلِهِ كَمَا إذَا قَالَ لِرَجُلٍ: طَلِّقْ امْرَأَتِي وَاحِدَةً فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا لَا يَقَعُ عِنْدَهُ الْوَاحِدَةُ لِثُبُوتِهَا فِي ضِمْنِ الثَّلَاثِ، وَالْمُتَضَمَّنُ لَمْ يَثْبُتْ لِعَدَمِ التَّوْكِيلِ بِهِ فَلَا يَثْبُتُ مَا فِي ضِمْنِهِ أَيْضًا تَبَعًا لَهُ. قُلْنَا: ذَاكَ مُسَلَّمٌ فِي الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّ الْمُتَضَمَّنَ لَمْ يَثْبُتْ هُنَاكَ لَا مِنْ الْمُوَكِّلِ لِعَدَمِ التَّوْكِيلِ بِهِ، وَلَا مِنْ الْوَكِيلِ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ امْرَأَةُ الْمُوَكِّلِ لَا امْرَأَةُ الْوَكِيلِ، وَأَمَّا هُنَا إذَا لَمْ يَثْبُتْ الشِّرَاءُ مِنْ الْمُوَكِّلِ ثَبَتَ مِنْ الْوَكِيلِ؛ لِأَنَّ الشِّرَاءَ إذَا وَجَدَ نَفَاذًا لَا يَتَوَقَّفُ بَلْ يَنْفُذُ عَلَى الْوَكِيلِ كَمَا فِي سَائِرِ الصُّوَرِ الَّتِي خَالَفَ الْوَكِيلُ بِالشِّرَاءِ فَلَمَّا ثَبَتَ الْمُتَضَمَّنُ وَهُوَ الْعِشْرُونَ ثَبَتَ مَا فِي ضِمْنِهِ وَهُوَ الْعَشَرَةُ، وَإِلَّا أَنَّ الْوَكِيلَ خَالَفَ الْمُوَكِّلَ حَيْثُ اشْتَرَى الْعَشَرَةَ بِنِصْفِ دِرْهَمٍ فَهُوَ مُخَالَفَةٌ إلَى خَيْرٍ فَيَنْفُذُ عَلَى الْمُوَكِّلِ، وَلِأَنَّ الثَّمَنَ يَتَوَزَّعُ عَلَى أَجْزَاءِ الْمَبِيعِ فَحِينَئِذٍ كَانَ الْكُلُّ مَقْصُودًا فَلَا يَتَحَقَّقُ الضِّمْنُ فِي الشِّرَاءِ كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ نَقْلًا عَنْ الْإِمَامِ الْمُحَقِّقِ مَوْلَانَا حَمِيدِ الدِّينِ.

أَقُولُ: الْوَجْهُ الثَّانِي مِنْ الْجَوَابِ الْمَذْكُورِ وَهُوَ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ يَتَوَزَّعُ إلَخْ وَاضِحٌ لَا غُبَارَ عَلَيْهِ. وَأَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ مِنْهُ فَمُشْكِلٌ لَا يُعْقَلُ إذَا بَعُدَ الِاعْتِرَافُ بِأَنَّ الشِّرَاءَ فِي الْمُتَضَمَّنِ وَهُوَ الْعِشْرُونَ يَثْبُتُ مِنْ الْوَكِيلِ دُونَ الْمُوَكِّلِ فَكَيْفَ يَتِمُّ الْقَوْلُ بِأَنَّ مَا فِي ضِمْنِهِ وَهُوَ الْعَشَرَةُ يَثْبُتُ مِنْ الْمُوَكِّل، وَلَا شَكَّ أَنَّ حُكْمَ مَا فِي ضِمْنِ الشَّيْءِ يَتْبَعُ حُكْمَ ذَلِكَ الشَّيْءِ دَائِمًا، فَثُبُوتُ شِرَاءِ الْعِشْرِينَ مِنْ الْوَكِيلِ نَفْسِهِ يَسْتَلْزِمُ ثُبُوتَ شِرَاءِ الْعَشَرَةِ الَّتِي فِي ضِمْنِهِ مِنْهُ أَيْضًا، فَلَا وَجْهَ لِنَفَاذِ شِرَاءِ الْعِشْرِينَ عَلَى الْوَكِيلِ، وَنَفَاذِ شِرَاءِ الْعَشَرَةِ الَّتِي فِي ضِمْنِهِ عَلَى الْمُوَكِّلِ كَمَا لَا يَخْفَى. فَإِنْ قُلْت: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَبَيْنَ مَا ذُكِرَ فِي الذَّخِيرَةِ وَالتَّتِمَّةِ مُحَالًا إلَى الْمُنْتَقَى، وَهُوَ أَنَّهُ إذَا أَمَرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ ثَوْبًا هَرَوِيًّا بِعَشَرَةٍ فَاشْتَرَى لَهُ هَرَوِيَّيْنِ بِعَشَرَةٍ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُسَاوِي عَشَرَةَ.

قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَهُنَا أَيْضًا حَصَلَ مَقْصُودُ الْآمِرِ وَزَادَهُ خَيْرًا، وَمَعَ ذَلِكَ لَا يَنْفُذُ مَا اشْتَرَاهُ عَلَى الْآمِرِ فِي شَيْءٍ مِنْهُمَا فَكَيْفَ نَفَذَ هَاهُنَا شِرَاءُ الْعَشَرَةِ عَلَى الْمُوَكِّلِ. قُلْت: يُحْتَمَلُ أَنَّ الْفَرْقَ إنَّمَا نَشَأَ مِنْ حَيْثُ إنَّ اللَّحْمَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ كَمَا اخْتَارَهُ صَاحِبُ الْمُحِيطِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْمَوْزُونَاتِ.

وَالْأَصْلُ فِي الْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ أَنْ تَكُونَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ، وَهِيَ لَا تَتَفَاوَتُ فِي الْقِيمَةِ إذَا كَانَتْ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ وَصِفَةٍ وَاحِدَةٍ، وَكَلَامُنَا فِيهِ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِيمَا إذَا كَانَ اللَّحْمُ مِمَّا يُبَاعُ عَشَرَةُ أَرْطَالٍ مِنْهُ بِدِرْهَمٍ فَحِينَئِذٍ كَانَ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَجْعَلَ لِلْمُوَكِّلِ: أَيَّ عَشَرَةٍ شَاءَ، بِخِلَافِ الثَّوْبِ فَإِنَّهُ مِنْ ذَوَاتِ الْقِيَمِ، وَالثَّوْبَانِ وَإِنْ كَانَا مُتَسَاوِيَيْنِ فِي الْقِيمَةِ، لَكِنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يُعْرَفُ بِالْحَزْرِ وَالظَّنِّ وَذَلِكَ لَا يُعَيِّنُ حَقَّ الْمُوَكِّلِ فَيَثْبُتُ حَقُّهُ مَجْهُولًا فَلَا يَنْفُذُ عَلَيْهِ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ فِي التَّتِمَّةِ فَقَالَ: لِأَنِّي لَا أَدْرِي أَيُّهُمَا أُعْطِيهِ بِحِصَّتِهِ مِنْ الْعَشَرَةِ؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ لَا تُعْرَفُ إلَّا

ص: 43

بِخِلَافِ مَا اسْتَشْهَدَ بِهِ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ هُنَاكَ بَدَلُ مِلْكِ الْمُوَكِّلِ فَيَكُونُ لَهُ، بِخِلَافِ مَا إذَا اشْتَرَى مَا يُسَاوِي عِشْرِينَ رِطْلًا بِدِرْهَمٍ حَيْثُ يَصِيرُ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ الْآمِرَ يَتَنَاوَلُ السَّمِينَ وَهَذَا مَهْزُولٌ فَلَمْ يَحْصُلْ مَقْصُودُ الْآمِرِ.

قَالَ (وَلَوْ وَكَّلَهُ بِشِرَاءِ شَيْءٍ بِعَيْنِهِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَهُ لِنَفْسِهِ)

بِالْحِرْزِ وَالظَّنِّ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ. قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ هَذَا الْجَوَابَ وَنَسَبَهُ إلَى صَاحِبِ النِّهَايَةِ: وَهَذَا لَا يَتَمَشَّى إلَّا عَلَى طَرِيقَةِ مَنْ جَعَلَ اللَّحْمَ مِثْلِيًّا، وَأَمَّا عِنْدَ غَيْرِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَعْلِيلٍ آخَرَ، وَلَعَلَّ ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ اللَّحْمُ أَيْضًا مِنْ ذَوَاتِ الْقِيَمِ، لَكِنَّ التَّفَاوُتَ فِيهِ قَلِيلٌ إذَا كَانَ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ مَفْرُوضِ التَّسَاوِي فِي الْقَدْرِ وَالْقِيمَةِ وَقَدْ اخْتَلَطَ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ، بِخِلَافِ الثَّوْبِ فَإِنَّ فِي تَطَرُّقِ الْخَلَلِ فِي احْتِمَالِ التَّسَاوِي كَثْرَةً مَادَّةً وَصُورَةً وَطُولًا وَعَرْضًا وَرِفْعَةً وَرُقْعَةً، وَأَجَلُهُ كَوْنُهُ حَاصِلًا بِصُنْعِ الْعِبَادِ مَحَلَّ السَّهْوِ وَالنِّسْيَانِ فَلَا يَلْزَمُ تَحَمُّلَهُ مَنْ تَحَمَّلَ مَا هُوَ أَقَلُّ مِنْهُ خَلَلًا انْتَهَى كَلَامُهُ (بِخِلَافِ مَا اسْتَشْهَدَ بِهِ) جَوَابٌ عَنْ تَمْثِيلِ أَبِي يُوسُفَ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ بِمَا إذَا وَكَّلَهُ بِبَيْعِ عَبْدِهِ بِأَلْفٍ فَبَاعَهُ بِأَلْفَيْنِ (لِأَنَّ الزِّيَادَةَ هُنَاكَ) أَيْ فِيمَا اسْتَشْهَدَ بِهِ (بَدَلُ مِلْكِ الْمُوَكِّلِ) وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَحِقَّهُ الْوَكِيلُ لَا بِإِذْنِ الْمُوَكِّلِ وَلَا بِغَيْرِ إذْنِهِ، وَلِهَذَا لَوْ قَالَ بِعْ ثَوْبِي هَذَا عَلَى أَنَّ ثَمَنَهُ لَك لَا يَصِحُّ (فَتَكُونُ لَهُ) أَيْ فَتَكُونُ الزِّيَادَةُ لِلْمُوَكِّلِ.

قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَرُدَّ بِأَنَّ الدِّرْهَمَ مِلْكُ الْمُوَكِّلِ فَتَكُونُ الزِّيَادَةُ مِلْكَهُ فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا حِينَئِذٍ. وَالْجَوَابُ أَنَّ الزِّيَادَةَ ثَمَّةَ مُبْدَلُ مِنْهُ لَا بَدَلٌ فَكَانَ الْفَرْقُ ظَاهِرًا. وَالْحَاصِلُ أَنَّ ذَلِكَ قِيَاسُ الْمَبِيعِ عَلَى الثَّمَنِ وَهُوَ فَاسِدٌ لِوُجُودِ الْفَارِقِ، وَأَقَلُّ ذَلِكَ أَنَّ الْأَلْفَ الزَّائِدَ لَا يَفْسُدُ بِطُولِ الْمُكْثِ، بِخِلَافِ اللَّحْمِ، وَيَجُوزُ صَرْفُهَا إلَى حَاجَةٍ أُخْرَى نَاجِزَةٍ وَقَدْ يَتَعَذَّرُ ذَلِكَ فِي اللَّحْمِ فَيُتْلَفُ انْتَهَى كَلَامُهُ. أَقُولُ: فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الرَّدِّ وَالْجَوَابِ شَيْءٌ فَتَأَمَّلْ (بِخِلَافِ مَا إذَا اشْتَرَى مَا يُسَاوِي عِشْرِينَ رِطْلًا بِدِرْهَمٍ) مُتَعَلِّقٌ بِأَصْلِ الْمَسْأَلَةِ (حَيْثُ يَصِيرُ) أَيْ يَصِيرُ الْوَكِيلُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ (مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ بِالْإِجْمَاعِ) لِوُجُودِ الْمُخَالَفَةِ (لِأَنَّ الْأَمْرَ يَتَنَاوَلُ السَّمِينَ، وَهَذَا) أَيْ مَا اشْتَرَاهُ (مَهْزُولٌ فَلَمْ يَحْصُلْ مَقْصُودُ الْآمِرِ) فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَهُ

. (قَالَ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ (وَلَوْ وَكَّلَهُ بِشِرَاءِ شَيْءٍ بِعَيْنِهِ فَلَيْسَ لَهُ) أَيْ الْوَكِيلِ (أَنْ يَشْتَرِيَهُ لِنَفْسِهِ) أَيْ لَا يَجُوزُ، حَتَّى لَوْ اشْتَرَاهُ لِنَفْسِهِ يَقَعُ الشِّرَاءُ لِلْمُوَكِّلِ سَوَاءٌ نَوَى عِنْدَ الْعَقْدِ الشِّرَاءَ لِنَفْسِهِ أَوْ صَرَّحَ بِهِ لِشِرَاءٍ لِنَفْسِهِ بِأَنْ قَالَ: اشْهَدُوا أَنِّي قَدْ اشْتَرَيْت لِنَفْسِي، هَذَا إذَا كَانَ الْمُوَكِّلُ غَائِبًا، فَإِنْ كَانَ حَاضِرًا وَصَرَّحَ الْوَكِيلُ بِالشِّرَاءِ لِنَفْسِهِ يَصِيرُ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ. كَذَا فِي الشُّرُوحِ نَقْلًا عَنْ التَّتِمَّةِ. وَوَضَعَ الْمَسْأَلَةَ فِي الْعَبْدِ فِي الذَّخِيرَةِ ثُمَّ قَالَ: وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ إذَا كَانَ بِعَيْنِهِ فَشِرَاؤُهُ دَاخِلٌ تَحْتَ الْوَكَالَةِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَمَتَى أَتَى بِهِ عَلَى مُوَافَقَةِ

ص: 44

لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى تَغْرِيرِ الْآمِرِ حَيْثُ اعْتَمَدَ عَلَيْهِ وَلِأَنَّ فِيهِ عَزْلَ نَفْسِهِ وَلَا يَمْلِكُهُ عَلَى مَا قِيلَ إلَّا بِمَحْضَرٍ مِنْ الْمُوَكِّلِ،

الْآمِرِ وَقَعَ الشِّرَاءُ لِلْمُوَكِّلِ نَوَى أَوْ لَمْ يَنْوِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ (لِأَنَّهُ) أَيْ لِأَنَّ الشِّرَاءَ لِنَفْسِهِ (يُؤَدِّي إلَى تَعْزِيرِ الْآمِرِ حَيْثُ اعْتَمَدَ عَلَيْهِ) وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ (وَلِأَنَّ فِيهِ) أَيْ فِي اشْتِرَائِهِ لِنَفْسِهِ (عَزْلَ نَفْسِهِ) عَنْ الْوَكَالَةِ (وَلَا يَمْلِكُهُ عَلَى مَا قِيلَ إلَّا بِمَحْضَرٍ مِنْ الْمُوَكِّلِ)؛ لِأَنَّهُ فَسْخُ عَقْدٍ فَلَا يَصِحُّ بِدُونِ عِلْمِ صَاحِبِهِ كَسَائِرِ الْعُقُودِ كَذَا فِي الْعِنَايَةِ وَغَايَةِ الْبَيَانِ.

أَقُولُ: يُرَدُّ عَلَيْهِ أَنَّ الْعِلْمَ بِالْعَزْلِ فِي بَابِ الْوَكَالَةِ يَحْصُلُ بِأَسْبَابِ مُتَعَدِّدَةٍ: مِنْهَا حُضُورُ صَاحِبِهِ، وَمِنْهَا بَعْثُ الْكِتَابِ وَوُصُولُهُ إلَيْهِ، وَمِنْهَا إرْسَالُ الرَّسُولِ إلَيْهِ وَتَبْلِيغُهُ الرِّسَالَةَ إيَّاهُ، وَمِنْهَا إخْبَارُ وَاحِدٍ عَدْلٍ أَوْ اثْنَيْنِ غَيْرِ عَدْلَيْنِ بِالْإِجْمَاعِ وَإِخْبَارُ وَاحِدٍ عَدْلًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَقَدْ صَرَّحَ بِهَا فِي عَامَّةِ الْمُعْتَبَرَاتِ سِيَّمَا فِي الْبَدَائِعِ. فَاشْتِرَاطُ عِلْمِ الْآخَرِ فِي صِحَّةِ فَسْخِ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ الْعَقْدَ الْقَائِمَ بَيْنَهُمَا لَا يَقْتَضِي أَنْ لَا يَمْلِكَ الْوَكِيلُ عَزْلَ نَفْسِهِ إلَّا بِمَحْضَرٍ مِنْ الْمُوَكِّلِ؛ لِأَنَّ انْتِفَاءَ سَبَبِ وَاحِدٍ لَا يَسْتَلْزِمُ انْتِفَاءَ سَائِرِ الْأَسْبَابِ فَلَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُحْمَلَ وَضْعُ الْمَسْأَلَةِ عَلَى انْتِفَاءِ سَائِرِ أَسْبَابِ الْعِلْمِ بِالْعَزْلِ أَيْضًا، لَكِنَّهُ غَيْرُ ظَاهِرٍ مِنْ عِبَارَاتِ الْكُتُبِ أَصْلًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ السِّرُّ فِي إقْحَامِ الْمُصَنِّفِ قَوْلَهُ عَلَى مَا قِيلَ الْإِيمَاءُ إلَى ذَلِكَ فَتَأَمَّلْ.

وَاعْلَمْ أَنَّ صَاحِبَ الْبَدَائِعِ قَالَ فِي بَيَانِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: الْوَكِيلُ بِشِرَاءِ شَيْءٍ بِعَيْنِهِ لَا يَمْلِكُ أَنْ يَشْتَرِيَهُ لِنَفْسِهِ، وَإِذَا اشْتَرَى يَقَعُ الشِّرَاءُ لِلْمُوَكِّلِ؛ لِأَنَّ شِرَاءَهُ لِنَفْسِهِ عَزْلٌ لِنَفْسِهِ عَنْ الْوَكَالَةِ، وَهُوَ لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ إلَّا بِمَحْضَرٍ مِنْ الْمُوَكِّلِ، كَمَا لَا يَمْلِكُ الْمُوَكِّلُ عَزْلَهُ إلَّا بِمَحْضَرٍ مِنْهُ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ثُمَّ قَالَ فِي مَوْضِعِهِ وَهُوَ فَصْلُ مَا يَخْرُجُ بِهِ الْوَكِيلُ عَنْ الْوَكَالَةِ أَنَّ الْوَكِيلَ يَخْرُجُ مِنْ الْوَكَالَةِ بِأَشْيَائِهِ: مِنْهَا عَزْلُ الْمُوَكِّلِ إيَّاهُ وَنَهْيُهُ بِأَنَّ الْوَكَالَةَ عَقْدٌ غَيْرُ لَازِمٍ فَكَانَ مُحْتَمِلًا لِلْفَسْخِ بِالْعَزْلِ وَالنَّهْيِ.

وَلِصِحَّةِ الْعَزْلِ شَرْطَانِ: أَحَدُهُمَا: عِلْمُ الْوَكِيلِ بِأَنَّ الْعَزْلَ فَسْخٌ فَلَا يَلْزَمُ حُكْمُهُ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْفَسْخِ، فَإِذَا عَزَلَهُ وَهُوَ حَاضِرٌ انْعَزَلَ، وَكَذَا لَوْ كَانَ غَائِبًا فَكَتَبَ إلَيْهِ كِتَابَ الْعَزْلِ فَبَلَغَهُ الْكِتَابُ وَعَلِمَ مَا فِيهِ مِنْ الْعَزْلِ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَ مِنْ الْغَائِبِ كَالْخِطَابِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَرْسَلَ إلَيْهِ رَسُولًا فَبَلَغَ الرِّسَالَةَ وَقَالَ: إنَّ فُلَانًا أَرْسَلَنِي إلَيْك يَقُولُ إنِّي عَزَلْتُك عَنْ الْوَكَالَةِ فَإِنَّهُ يَنْعَزِلُ كَائِنًا مَنْ كَانَ الرَّسُولُ عَدْلًا كَانَ أَوْ غَيْرَ عَدْلٍ حُرًّا كَانَ أَوْ عَبْدًا صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا بَعْدَ أَنْ بَلَّغَ الرِّسَالَةَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا؛ لِأَنَّ الرَّسُولَ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُرْسِلِ وَسَفِيرٌ عَنْهُ فَتَصِحُّ سِفَارَتُهُ بَعْدَ أَنْ صَحَّتْ عِبَارَتُهُ عَلَى أَيِّ صِفَةٍ كَانَ، وَإِنْ لَمْ يَكْتُبْ كِتَابًا وَلَا أَرْسَلَ إلَيْهِ رَسُولًا وَلَكِنْ أَخْبَرَهُ بِالْعَزْلِ رَجُلَانِ عَدْلَانِ كَانَا أَوْ غَيْرُ عَدْلَيْنِ أَوْ رَجُلٌ وَاحِدٌ عَدْلٌ يَنْعَزِلُ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا سَوَاءٌ صَدَّقَهُ الْوَكِيلُ أَوْ لَمْ يُصَدِّقْهُ إذَا ظَهَرَ صِدْقُ الْخَبَرِ؛ لِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ مَقْبُولٌ فِي الْمُعَامَلَاتِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَدْلًا فَخَبَرُ الْعَدَدِ أَوْ الْعَدْلِ أَوْلَى. وَإِنْ أَخْبَرَهُ وَاحِدٌ غَيْرُ عَدْلٍ، فَإِنْ صَدَّقَهُ يَنْعَزِلُ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ كَذَّبَهُ لَا يَنْعَزِلُ، وَإِنْ ظَهَرَ صِدْقُ الْخَبَرِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَعِنْدَهُمَا يَنْعَزِلُ إذَا ظَهَرَ صِدْقُ الْخَبَرِ وَإِنْ كَذَّبَهُ إلَى هُنَا كَلَامُهُ.

أَقُولُ: لَا يَذْهَبُ عَلَيْك أَنَّ بَيْنَ كَلَامَيْهِ الْمَذْكُورَيْنِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ تَدَافُعًا، فَإِنَّ مَا ذَكَرَهُ فِي فَصْلِ مَا يَخْرُجُ بِهِ الْوَكِيلُ عَنْ الْوَكَالَةِ صَرِيحٌ فِي صِحَّةِ عَزْلِ الْمُوَكِّلِ الْوَكِيلَ بِشَرْطِ عِلْمِ الْوَكِيلِ سَوَاءٌ عَزَلَهُ بِمَحْضَرٍ مِنْهُ أَوْ عَزَلَهُ بِغَيْبَتِهِ مِنْهُ، وَلَكِنَّ عِلْمَ الْعَزْلِ بِسَبَبٍ مِنْ أَسْبَابٍ شَتَّى عَلَى مَا فَصَّلَهُ، وَمَا ذَكَرَهُ أَوَّلًا مِنْ قَوْلِهِ كَمَا لَا يَمْلِكُ الْمُوَكِّلُ عَزْلَهُ إلَّا بِمَحْضَرٍ مِنْهُ يَدُلُّ عَلَى حَصْرِ صِحَّةِ عَزْلِ الْمُوَكِّلِ لِلْوَكِيلِ فِي صُورَةِ إنْ عَزَلَهُ بِمَحْضَرٍ مِنْهُ كَمَا تَرَى. وَالْعَجَبُ أَنَّهُ أَحَالَ الْأَوَّلَ عَلَى الثَّانِي بِقَوْلِهِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ. قِيلَ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَبَيْنَ الْوَكِيلِ بِنِكَاحِ امْرَأَةٍ بِعَيْنِهَا إذَا نَكَحَهَا مِنْ نَفْسِهِ بِمِثْلِ الْمَهْرِ الْمَأْمُورِ بِهِ فَإِنَّهُ يَقَعُ

ص: 45

فَلَوْ كَانَ الثَّمَنُ مُسَمًّى فَاشْتَرَى بِخِلَافِ جِنْسِهِ أَوْ لَمْ يَكُنْ مُسَمًّى فَاشْتَرَى بِغَيْرِ النُّقُودِ أَوْ وَكَّلَ وَكِيلًا بِشِرَائِهِ فَاشْتَرَى الثَّانِي وَهُوَ غَائِبٌ يَثْبُتُ الْمِلْكُ لِلْوَكِيلِ الْأَوَّلِ فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ؛ لِأَنَّهُ خَالَفَ أَمْرَ الْآمِرِ فَيَنْفُذُ عَلَيْهِ. وَلَوْ اشْتَرَى الثَّانِيَ بِحَضْرَةِ الْوَكِيلِ الْأَوَّلِ نَفَذَ عَلَى الْمُوَكِّلِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ حَضَرَهُ رَأْيُهُ فَلَمْ يَكُنْ مُخَالِفًا.

عَلَى الْوَكِيلِ لَا عَلَى الْمُوَكِّلِ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يُخَالِفْ فِي الْمَهْرِ الْمَأْمُورِ بِهِ. وَأُجِيبُ بِأَنَّ النِّكَاحَ الْمُوَكَّلَ بِهِ نِكَاحٌ مُضَافٌ إلَى الْمُوَكِّلِ، فَإِنَّ الْوَكِيلَ بِالنِّكَاحِ لَا بُدَّ أَنْ يُضِيفَ النِّكَاحَ إلَى مُوَكِّلِهِ فَيَقُولُ زَوَّجْتُك لِفُلَانٍ، وَالْمَوْجُودُ فِيمَا إذَا نَكَحَهَا مِنْ نَفْسِهِ لَيْسَ بِمُضَافٍ إلَى الْمُوَكِّلِ، فَإِنَّ النِّكَاحَ مِنْ نَفْسِهِ هُوَ أَنْ يَقُولَ تَزَوَّجْتُك فَكَانَتْ الْمُخَالَفَةُ مَوْجُودَةٌ فَوَقَعَ عَلَى الْوَكِيلِ، بِخِلَافِ التَّوْكِيلِ بِشِرَاءِ شَيْءٍ بِعَيْنِهِ فَإِنَّ الْمُوَكَّلَ بِهِ هُنَا شِرَاءٌ مُطْلَقٌ بِمِثْلِ الثَّمَنِ الْمَأْمُورِ بِهِ لَا شِرَاءٌ مُضَافٌ إلَى الْمُوَكِّلِ، فَإِذَا أَتَى بِذَلِكَ يَقَعُ عَلَى الْمُوَكِّلِ.

(فَلَوْ كَانَ الثَّمَنُ مُسَمًّى) يَعْنِي لَوْ وَكَّلَهُ بِالشِّرَاءِ بِثَمَنِ مُسَمَّى (فَاشْتَرَى بِخِلَافِ جِنْسِهِ) أَيْ بِخِلَافِ جِنْسِ الْمُسَمَّى بِأَنْ سَمَّى دَرَاهِمَ مَثَلًا فَاشْتَرَى بِدَنَانِيرَ (أَوْ لَمْ يَكُنْ مُسَمًّى فَاشْتَرَى بِغَيْرِ النُّقُودِ) كَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ (أَوْ وَكَّلَ) أَيْ الْوَكِيلُ (وَكِيلًا بِشِرَائِهِ فَاشْتَرَى الثَّانِي) أَيْ فَاشْتَرَى الْوَكِيلُ الثَّانِي وَهُوَ وَكِيلُ الْوَكِيلِ (وَهُوَ غَائِبٌ) أَيْ وَالْحَالُ أَنَّ الْوَكِيلَ الْأَوَّلَ غَائِبٌ (يَثْبُتُ الْمِلْكُ لِلْوَكِيلِ الْأَوَّلِ فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ) أَيْ فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ تَفْرِيعًا عَلَى مَسْأَلَةِ الْقُدُورِيِّ: يَعْنِي إنَّمَا لَا يَكُونُ الشِّرَاءُ لِلْوَكِيلِ فِيمَا وُكِّلَ بِشِرَاءِ شَيْءٍ بِعَيْنِهِ فَاشْتَرَاهُ لِنَفْسِهِ إذَا لَمْ يُوجَدْ أَحَدُ هَذِهِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ: أَمَّا إذَا وُجِدَ فَيَكُونُ الشِّرَاءُ لِلْوَكِيلِ الْأَوَّلِ (لِأَنَّهُ) أَيْ الْوَكِيلُ الْأَوَّلُ (خَالَفَ أَمْرَ الْآمِرِ) وَهُوَ الْمُوَكِّلُ. أَمَّا إذَا اشْتَرَى بِخِلَافِ جِنْسِ مَا سَمَّى فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا إذَا اشْتَرَى بِغَيْرِ النُّقُودِ فَلِأَنَّ الْمُتَعَارَفَ نَقْدُ الْبَلَدِ فَالْأَمْرُ يَنْصَرِفُ إلَيْهِ، وَأَمَّا إذَا وَكَّلَ وَكِيلًا بِشِرَاءٍ فَلِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِأَنْ يُحْضِرَ رَأْيَهُ وَلَمْ يَتَحَقَّقْ ذَلِكَ حَالَ غَيْبَتِهِ (فَنَفَذَ) أَيْ الشِّرَاءُ (عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الْوَكِيلِ الْأَوَّلِ (وَلَوْ اشْتَرَى الثَّانِي) أَيْ الْوَكِيلُ الثَّانِي (بِحَضْرَةِ الْوَكِيلِ الْأَوَّلِ نَفَذَ) أَيْ الشِّرَاءُ (عَلَى الْمُوَكِّلِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ حَضَرَهُ رَأْيُهُ) أَيْ رَأْيُ الْوَكِيلِ الْأَوَّلِ (فَلَمْ يَكُنْ مُخَالِفًا) أَيْ لَمْ يَكُنْ الْوَكِيلُ الْأَوَّلُ مُخَالِفًا لِأَمْرِ آمِرِهِ، وَذَلِكَ إذَا كَانَ حَاضِرًا يَصِيرُ كَأَنَّهُ هُوَ الْمُبَاشِرُ لِلْعَقْدِ.

أَلَا يَرَى أَنَّ الْأَبَ إذَا زَوَّجَ ابْنَتَهُ الْبَالِغَةَ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَاحِدٍ بِحَضْرَتِهَا جَازَ؟ فَيُجْعَلُ كَأَنَّهَا هِيَ الَّتِي بَاشَرَتْ الْعَقْدَ وَكَانَ الْأَبُ مَعَ ذَلِكَ الرَّجُلِ شَاهِدَيْنِ، كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ.

قِيلَ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالنِّكَاحِ وَالْخُلْعِ وَالْكِتَابَةِ إذَا وَكَّلَ غَيْرَهُ فَفَعَلَ الثَّانِي بِحَضْرَةِ الْأَوَّلِ أَوْ فَعَلَ ذَلِكَ أَجْنَبِيٌّ فَبَلَغَ الْوَكِيلُ فَأَجَازَهُ يَجُوزُ، وَبَيْنَ الْوَكِيلِ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ؟ فَإِنَّهُ لَوْ وَكَّلَ غَيْرَهُ فَطَلَّقَ أَوْ أَعْتَقَ الثَّانِي لَا يَقَعُ وَإِنْ كَانَ بِحَضْرَةِ الْوَكِيلِ الْأَوَّلِ، وَالرِّوَايَةُ فِي التَّتِمَّةِ وَالذَّخِيرَةِ.

وَأُجِيبُ بِأَنَّ الْعَمَلَ بِحَقِيقَةِ الْوَكَالَةِ فِي التَّوْكِيلِ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ مُتَعَذَّرٌ؛ لِأَنَّ التَّوْكِيلَ تَفْوِيضُ الرَّأْيِ إلَى الْوَكِيلِ، وَتَفْوِيضُ الرَّأْيِ إلَى الْوَكِيلِ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ فِيمَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى الرَّأْيِ، وَلَا حَاجَةَ فِيهِمَا إذَا انْفَرَدَا عَنْ مَالٍ إلَى الرَّأْيِ فَجَعَلْنَا الْوَكَالَةَ فِيهِمَا مَجَازًا عَنْ الرِّسَالَةِ؛ لِأَنَّهَا تَتَضَمَّنُ مَعْنَى الرِّسَالَةِ وَالرَّسُولُ يَنْقُلُ عِبَارَةَ الْمُرْسِلِ، فَصَارَ الْمَأْمُورُ فِيهِمَا مَأْمُورًا بِنَقْلِ عِبَارَةِ الْآمِرِ لَا بِشَيْءٍ آخَرَ، وَتَوْكِيلُ الْآخَرِ أَوْ الْإِجَازَةُ لَيْسَ مِنْ النَّقْلِ فِي شَيْءٍ فَلَمْ يَمْلِكْهُ الْوَكِيلُ. وَأَمَّا فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَغَيْرِهِمَا فَالْعَمَلُ

ص: 46

قَالَ (وَإِنْ وَكَّلَهُ بِشِرَاءِ عَبْدٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ: فَاشْتَرَى عَبْدًا فَهُوَ لِلْوَكِيلِ إلَّا أَنْ يَقُولَ نَوَيْت الشِّرَاءَ لِلْمُوَكِّلِ أَوْ يَشْتَرِيَهُ بِمَالِ الْمُوَكِّلِ) قَالَ: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى وُجُوهٍ: إنْ أَضَافَ الْعَقْدَ إلَى دَرَاهِمِ الْآمِرِ كَانَ لِلْآمِرِ وَهُوَ الْمُرَادُ عِنْدِي بِقَوْلِهِ أَوْ يَشْتَرِيهِ بِمَالِ الْمُوَكِّلِ دُونَ النَّقْدِ مِنْ مَالِهِ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَفْصِيلًا وَخِلَافًا، وَهَذَا بِالْإِجْمَاعِ وَهُوَ مُطْلَقٌ.

بِحَقِيقَةِ الْوَكَالَةِ مُمْكِنٌ؛ لِأَنَّهَا مِمَّا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى الرَّأْيِ، فَاعْتُبِرَ الْمَأْمُورُ وَكِيلًا وَالْمَأْمُورُ بِهِ حُضُورُ رَأْيِهِ وَقَدْ حَضَرَ بِحُضُورِهِ أَوْ بِإِجَازَتِهِ

(قَالَ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ (وَإِنْ وَكَّلَهُ بِشِرَاءِ عَبْدٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ فَاشْتَرَى عَبْدًا فَهُوَ لِلْوَكِيلِ إلَّا أَنْ يَقُولَ نَوَيْت الشِّرَاءَ لِلْمُوَكِّلِ أَوْ يَشْتَرِيه بِمَالِ الْمُوَكِّلِ) إلَى هُنَا لَفْظُ الْقُدُورِيِّ (قَالَ) أَيْ الْمُصَنِّفُ (هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى وُجُوهٍ: إنْ أَضَافَ) أَيْ الْوَكِيلُ (الْعَقْدَ إلَى دَرَاهِمِ الْآمِرِ كَانَ لِلْآمِرِ) هَذَا هُوَ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ مِنْ وُجُوهِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.

وَقَالَ الْمُصَنِّفُ (وَهُوَ الْمُرَادُ عِنْدِي بِقَوْلِهِ أَوْ يَشْتَرِيهِ بِمَالِ الْمُوَكِّلِ دُونَ النَّقْدِ مِنْ مَالِهِ) يَعْنِي أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِ الْقُدُورِيِّ أَوْ يَشْتَرِيهِ بِمَالِ الْمُوَكِّلِ هُوَ الْإِضَافَةُ عِنْدَ الْعَقْدِ إلَى دَرَاهِمِ الْمُوَكِّلِ دُونَ النَّقْدِ مِنْ مَالِ الْمُوَكِّلِ بِغَيْرِ إضَافَةٍ إلَيْهِ (لِأَنَّ فِيهِ) أَيْ؛ لِأَنَّ فِي النَّقْدِ مِنْ مَالِ الْمُوَكِّلِ (تَفْصِيلًا) فَإِنَّهُ بَعْدَ أَنْ يَشْتَرِيَهُ بِدَرَاهِمَ مُطْلَقَةً، إنْ نَقَدَ مِنْ دَرَاهِمَ الْمُوَكِّلِ كَانَ الشِّرَاءُ لِلْمُوَكِّلِ، وَإِنْ نَقَدَ مِنْ دَرَاهِمِ الْوَكِيلِ كَانَ الشِّرَاءُ لِلْوَكِيلِ (وَخِلَافًا) فَإِنَّهُ إذَا تَصَادَقَا عَلَى أَنَّهُ لَمْ تَحْضُرْهُ النِّيَّةُ وَقْتَ الشِّرَاءِ فَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ الْعَقْدُ لِلْوَكِيلِ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ يَحْكُمُ النَّقْدُ عَلَى مَا سَيَجِيءُ (وَهَذَا بِالْإِجْمَاعِ) أَيْ لَوْ أَضَافَ الْعَقْدَ إلَى دَرَاهِمِ الْآمِرِ يَقَعُ لَهُ بِالْإِجْمَاعِ (وَهُوَ مُطْلَقٌ) أَيْ قَوْلُهُ أَوْ يَشْتَرِيهِ بِمَالِ الْمُوَكِّلِ مُطْلَقٌ لَا تَفْصِيلَ فِيهِ فَيُحْمَلُ عَلَى الْإِضَافَةِ إلَى مَالِ الْمُوَكِّلِ، كَذَا قَالَ جُمْهُورُ الشُّرَّاحِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ.

أَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُمْ حَمَلُوا التَّفْصِيلَ الْمَذْكُورَ فِي قَوْلِ الْمُصَنِّفِ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَفْصِيلًا، عَلَى أَنَّهُ إنْ نَقَدَ مِنْ دَرَاهِمِ الْمُوَكِّلِ كَانَ الشِّرَاءُ لَهُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ دَرَاهِمِ الْوَكِيلِ كَانَ الشِّرَاءُ لَهُ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَفْصِيلٌ لِلنَّقْدِ الْمُطْلَقِ لَا لِلنَّقْدِ مِنْ مَالِ الْمُوَكِّلِ كَمَا لَا يَخْفَى، وَمَا يَصْلُحُ لِتَرْجِيحِ كَوْنِ الْمُرَادِ بِقَوْلِ الْقُدُورِيِّ أَوْ يَشْتَرِيهِ بِمَالِ الْمُوَكِّلِ الْإِضَافَةَ إلَى دَرَاهِمِ الْمُوَكِّلِ دُونَ النَّقْدِ مِنْ مَالِهِ إنَّمَا هُوَ وُقُوعُ التَّفْصِيلِ فِي النَّقْدِ مِنْ مَالِ الْمُوَكِّلِ لَا وُقُوعُهُ فِي النَّقْدِ الْمُطْلَقِ، إذْ لَا مِسَاسَ لَهُ بِكَلَامِ الْقُدُورِيِّ، فَإِنَّ الْمَذْكُورَ فِيهِ مَالُ الْمُوَكِّلِ دُونَ مُطْلَقِ الْمَالِ. ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ الْعِنَايَةِ قَدْ سَلَكَ الْمَسْلَكَ الْمَذْكُورَ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ وَزَادَ إخْلَالًا حَيْثُ قَالَ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ وُجُوهَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: وَإِذَا عَلِمْت هَذِهِ الْوُجُوهَ ظَهَرَ لَك أَنَّ فِي النَّقْدِ مِنْ مَالِ الْمُوَكِّلِ تَفْصِيلًا إذَا اشْتَرَى بِدَرَاهِمَ مُطْلَقَةٍ وَلَمْ يَنْوِ لِنَفْسِهِ، إنْ نَقَدَ مِنْ دَرَاهِمِ الْمُوَكِّلِ كَانَ الشِّرَاءُ لَهُ، وَإِنْ نَقَدَ مِنْ دَرَاهِمِ الْوَكِيلِ كَانَ لَهُ، وَإِنْ نَوَاهُ لِلْمُوَكِّلِ لَا مُعْتَبَرَ بِالنَّقْدِ انْتَهَى.

فَإِنَّ قَوْلَهُ: " وَلَمْ يَنْوِ لِنَفْسِهِ " قَيْدٌ مُفْسِدٌ هَاهُنَا؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَنْوِ لِنَفْسِهِ، فَإِنْ نَوَى لِلْمُوَكِّلِ لَا يُعْتَبَرُ النَّقْدُ أَصْلًا كَمَا صَرَّحَ بِهِ، فَلَا يَصِحُّ التَّفْصِيلُ الَّذِي ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ إنْ نَقَدَ مِنْ دَرَاهِمِ الْمُوَكِّلِ كَانَ الشِّرَاءُ لَهُ، وَإِنْ نَقَدَ مِنْ دَرَاهِمِ الْوَكِيلِ كَانَ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ لِلْمُوَكِّلِ أَيْضًا كَانَ لَهُ صِدْقُ ذَلِكَ التَّفْصِيلِ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله فَقَطْ، إذْ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ يَكُونُ الْعَقْدُ حِينَئِذٍ لِلْوَكِيلِ كَمَا سَيَجِيءُ، فَكَانَ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ مُنَاسِبًا لِشَرْحِ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ وَخِلَافًا لِشَرْحِ قَوْلِهِ تَفْصِيلًا. وَأَيْضًا أَنَّهُ بَعْدَمَا صَرَّحَ أَنَّ التَّفْصِيلَ إنَّمَا هُوَ فِي النَّقْدِ مِنْ مَالِ الْمُوَكِّلِ حَيْثُ قَالَ ظَهَرَ لَك أَنَّ فِي النَّقْدِ مِنْ مَالِ الْمُوَكِّلِ تَفْصِيلًا كَيْفَ يَتَيَسَّرُ لَهُ بَيَانُ ذَلِكَ التَّفْسِيرِ فِي النَّقْدِ الْمُطْلَقِ بِأَنْ قَالَ: إنْ نَقَدَ مِنْ دَرَاهِمِ الْمُوَكِّلِ كَانَ الشِّرَاءُ لَهُ، وَإِنْ نَقَدَ مِنْ دَرَاهِمِ الْوَكِيلِ كَانَ لَهُ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الرَّكَاكَةَ تَقْرِيرُ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ أَفْحَشُ. وَأَقُولُ: الْحَقُّ فِي هَذَا الْمَقَامِ أَنَّ الْمُصَنِّفَ أَرَادَ بِالتَّفْصِيلِ فِي قَوْلِهِ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَفْصِيلًا وَخِلَافًا صُورَتَيْ التَّكَاذُبِ وَالتَّوَافُقِ، وَبِالْخِلَافِ الْخِلَافُ الْوَاقِعُ فِي صُورَتَيْ التَّوَافُقِ؛ فَالْمَعْنَى أَنَّ فِي النَّقْدِ مِنْ مَالِ الْمُوَكِّلِ تَفْصِيلًا، فَإِنَّهُ إذَا نَقَدَ مِنْ مَالِهِ فَإِذَا تَكَاذَبَا فِي النِّيَّةِ يَحْكُمُ النَّقْدُ

ص: 47

وَإِنْ أَضَافَهُ إلَى دَرَاهِمِ نَفْسِهِ كَانَ لِنَفْسِهِ حَمْلًا لِحَالِهِ عَلَى مَا يَحِلُّ لَهُ شَرْعًا أَوْ يَفْعَلُهُ عَادَةً

بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ تَوَافَقَا عَلَى أَنَّهُ لَمْ تَحْضُرْهُ النِّيَّةُ فَعِنْدَ مُحَمَّدٍ هُوَ لِلْعَاقِدِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَحْكُمُ النَّقْدُ أَيْضًا، وَخِلَافًا فَإِنَّهُ إذَا نَقَدَ مِنْ مَالِهِ وَتَوَافَقَا عَلَى عَدَمِ النِّيَّةِ لِأَحَدِهِمَا، فَعِنْدَ مُحَمَّدٍ هُوَ لِلْعَاقِدِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَحْكُمُ النَّقْدُ، بِخِلَافِ الْإِضَافَةِ إلَى دَرَاهِمِ الْآمِرِ فَإِنَّهُ لَا تَفْصِيلَ وَلَا خِلَافَ فِيهَا، فَكَانَ حَمْلُ كَلَامِ الْقُدُورِيِّ عَلَيْهَا أَوْلَى.

ثُمَّ أَقُولُ: بَقِيَ لَنَا بَحْثٌ فِيمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ هَاهُنَا، وَهُوَ أَنَّ فِيهِ إخْلَالًا بِأَصْلِ الْمَسْأَلَةِ، فَإِنَّ صُورَةَ إنْ أَضَافَ الْعَقْدُ إلَى دَرَاهِمَ مُطْلَقَةٍ وَتَكَاذَبَا فِي النِّيَّةِ لَا تَكُونُ دَاخِلَةً حِينَئِذٍ فِي شَيْءٍ مِنْ قِسْمَيْ الِاسْتِثْنَاءِ الْمَذْكُورِ فِي كَلَامِ الْقُدُورِيِّ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْعَقْدُ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ لِلْوَكِيلِ أَلْبَتَّةَ بِمُوجِبِ مَا بَقِيَ فِي الْكَلَامِ بَعْدَ الِاسْتِثْنَاءِ مَعَ أَنَّهُ يَحْكُمُ النَّقْدُ فِيهَا بِالْإِجْمَاعِ. فَفِيمَا نَقَدَ مِنْ مَالِ الْمُوَكِّلِ يَصِيرُ الْعَقْدُ لَهُ قَطْعًا، وَإِنَّ صُورَةَ إنْ أَضَافَ الْعَقْدَ إلَى دَرَاهِمَ مُطْلَقَةٍ وَتَوَافَقَا عَلَى أَنَّهُ لَمْ تَحْضُرْهُ النِّيَّةُ لَا تَكُونُ دَاخِلَةً أَيْضًا حِينَئِذٍ فِي شَيْءٍ مِنْ قِسْمَيْ الِاسْتِثْنَاءِ الْمَذْكُورِ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْعَقْدُ فِيهَا أَيْضًا لِلْوَكِيلِ بِمُوجِبِ مَا بَقِيَ بَعْدَ الِاسْتِثْنَاءِ مَعَ أَنَّ فِيهَا خِلَافًا كَمَا سَيَأْتِي، فَيَلْزَمُ حَمْلُ كَلَامِ الْقُدُورِيِّ عَلَى مَا فِيهِ الْخِلَافُ وَلَمْ يَقْبَلْهُ الْمُصَنِّفُ.

وَبِالْجُمْلَةِ قَدْ هَرَبَ الْمُصَنِّفُ فِي حَلِّ كَلَامِ الْقُدُورِيِّ هَاهُنَا عَنْ وَرْطَةٍ وَوَقَعَ فِي وَرْطَةٍ أُخْرَى مِثْلِ الْأُولَى بَلْ أَشَدَّ مِنْهَا فَمَا الْفَائِدَةُ فِيهِ؟ وَلَعَلَّ صَاحِبَ الْكَافِي تَفَطَّنَ لِذَلِكَ حَيْثُ زَادَ الِاسْتِثْنَاءَ فِي وَضْعِ الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ: وَلَوْ وَكَّلَهُ بِشِرَاءِ عَبْدٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ فَاشْتَرَى عَبْدًا فَهُوَ لِلْوَكِيلِ إلَّا أَنْ يَقُولَ نَوَيْت الشِّرَاءَ لِلْمُوَكِّلِ أَوْ يَشْتَرِيَهُ بِمَالِ الْمُوَكِّلِ أَوْ يَنْقُدَ مِنْ مَالِهِ، وَقَالَ: فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى وُجُوهٍ: إنْ أَضَافَ الْعَقْدَ إلَى دَرَاهِمِ الْآمِرِ كَانَ لِلْآمِرِ وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ أَوْ يَشْتَرِيَهُ مِنْ مَالِ الْمُوَكِّلِ إلَى آخِرِهِ (وَإِنْ أَضَافَهُ إلَى دَرَاهِمِ نَفْسِهِ) أَيْ إنْ أَضَافَ الْوَكِيلُ الْعَقْدَ إلَى دَرَاهِمِ نَفْسِهِ (كَانَ) أَيْ الْعَقْدُ (لِنَفْسِهِ) هَذَا هُوَ الْوَجْهُ الثَّانِي مِنْ وُجُوهِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ (حَمْلًا لِحَالِهِ) أَيْ حَالِ الْوَكِيلِ (عَلَى مَا يَحِلُّ لَهُ شَرْعًا) تَعْلِيلٌ لِقَوْلِهِ إنْ أَضَافَ الْعَقْدَ إلَى دَرَاهِمِ الْآمِرِ كَانَ لِلْآمِرِ: يَعْنِي أَنَّهُ إذَا أَضَافَ الْعَقْدَ إلَى دَرَاهِمِ الْآمِرِ يَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ لِلْآمِرِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَقَعْ لِلْآمِرِ لَكَانَ وَاقِعًا لِلْوَكِيلِ، فَلَوْ وَقَعَ لَهُ كَانَ غَاصِبًا لِدَرَاهِمِ الْآمِرِ، وَهُوَ لَا يَحِلُّ شَرْعًا. كَذَا قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَعَلَيْهِ عَامَّةُ الشُّرَّاحِ.

أَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الْغَصْبَ إنَّمَا يَلْزَمُ لَوْ نَقَدَ مِنْ دَرَاهِمِ الْآمِرِ، وَأَمَّا إذَا أَضَافَ إلَى دَرَاهِمِ الْآمِرِ وَلَكِنْ لَمْ يَنْقُدْ مِنْ دَرَاهِمِهِ بَلْ نَقَدَ مِنْ دَرَاهِمِ نَفْسِهِ فَلَا يَلْزَمُ الْغَصْبُ قَطْعًا. وَجَوَابُ مَسْأَلَةِ الْإِضَافَةِ إلَى دَرَاهِمِ الْآمِرِ مُتَّحِدٍ فِي الصُّورَتَيْنِ نَصَّ عَلَيْهِ فِي الذَّخِيرَةِ وَنُقِلَ عَنْهَا فِي النِّهَايَةِ فَلَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ (أَوْ يَفْعَلُهُ عَادَةً) عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ يَحِلُّ لَهُ شَرْعًا وَتَعْلِيلٌ لِقَوْلِهِ وَإِنْ أَضَافَهُ إلَى دَرَاهِمِ نَفْسِهِ كَانَ لِنَفْسِهِ: يَعْنِي أَنَّ الْعَادَةَ جَرَتْ بِأَنَّ الشِّرَاءَ إذَا كَانَ مُضَافًا إلَى دَرَاهِمَ مُعَيَّنَةٍ يَقَعُ لِصَاحِبِ الدَّرَاهِمِ فَلَمَّا أَضَافَ الْعَقْدَ هَاهُنَا إلَى دَرَاهِمِ نَفْسِهِ وَقَعَ لَهُ حَمْلًا لِأَمْرِهِ عَلَى وَفْقِ الْعَادَةِ فِي النِّهَايَةِ وَعَلَيْهِ الْعَامَّةُ.

قَالَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ بَعْدَ أَنْ جَرَى فِي شَرْحِ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا عَلَى الطَّرِيقَةِ الْمَذْكُورَةِ: وَهِيَ تَوْزِيعُ التَّعْلِيلِ الْمَزْبُورِ عَلَى الْمَسْأَلَتَيْنِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّعْلِيلَانِ لِلْمَسْأَلَةِ الْأُولَى، وَالْحُكْمُ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ يَثْبُتُ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ؛ لِأَنَّهُ كَمَا لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ لِنَفْسِهِ وَيُضِيفُ الْعَقْدَ إلَى دَرَاهِمِ غَيْرِهِ شَرْعًا فَكَذَا لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ لِغَيْرِهِ وَيُضِيفَهُ إلَى دَرَاهِمِ نَفْسِهِ. وَأَمَّا الْعَادَةُ

ص: 48

إذْ الشِّرَاءُ لِنَفْسِهِ بِإِضَافَةِ الْعَقْدِ إلَى دَرَاهِمِ غَيْرِهِ مُسْتَنْكَرٌ شَرْعًا وَعُرْفًا. وَإِنْ أَضَافَهُ إلَى دَرَاهِمَ مُطْلَقَةٍ، فَإِنْ نَوَاهَا لِلْآمِرِ فَهُوَ لِلْآمِرِ، وَإِنْ نَوَاهَا لِنَفْسِهِ فَلِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ لِنَفْسِهِ وَيَعْمَلَ لِلْآمِرِ فِي هَذَا التَّوْكِيلِ، وَإِنْ تَكَاذَبَا فِي النِّيَّةِ يَحْكُمُ النَّقْدُ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهُ دَلَالَةٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَإِنْ تَوَافَقَا عَلَى أَنَّهُ لَمْ تَحْضُرْهُ النِّيَّةُ قَالَ مُحَمَّدٌ رحمه الله: هُوَ لِلْعَاقِدِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَعْمَلُ لِنَفْسِهِ إلَّا إذَا ثَبَتَ جَعَلَهُ لِغَيْرِهِ وَلَمْ يَثْبُتْ. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله: يَحْكُمُ النَّقْدُ؛ لِأَنَّ مَا أَوْقَعَهُ مُطْلَقًا يَحْتَمِلُ الْوَجْهَيْنِ

فَجَارِيَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَشْتَرِي لِغَيْرِهِ وَيُضِيفُهُ إلَى دَرَاهِمِ نَفْسِهِ، وَكَذَا عَلَى الْعَكْسِ انْتَهَى. وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ أَنْ سَلَكَ الطَّرِيقَةَ الْمَذْكُورَةَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ حَمْلًا لِحَالِهِ عَلَى مَا يَحِلُّ لَهُ شَرْعًا أَوْ يَفْعَلُهُ عَادَةً دَلِيلًا عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، وَالثَّانِي يُعْلَمُ بِالدَّلَالَةِ، فَإِنَّهُ، كَمَا لَا يَحِلَّ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ لِنَفْسِهِ وَيُضِيفَ الْعَقْدَ إلَى دَرَاهِمِ غَيْرِهِ شَرْعًا فَكَذَا لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ لِغَيْرِهِ وَيُضِيفَهُ إلَى دَرَاهِمِ نَفْسِهِ وَالْعَادَةُ مُشْتَرِكَةٌ لَا مَحَالَةَ. ثُمَّ قَالَ: وَالْأَوَّلُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ بِالْأَوَّلِ يَصِيرُ غَاصِبًا دُونَ الثَّانِي فَلَا امْتِنَاعَ فِيهِ شَرْعًا انْتَهَى.

أَقُولُ: إنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ (إذْ الشِّرَاءُ لِنَفْسِهِ بِإِضَافَةِ الْعَقْدِ إلَى دَرَاهِمِ غَيْرِهِ مُسْتَنْكَرٌ شَرْعًا وَعُرْفًا) يُنَادِي بِأَعْلَى الصَّوْتِ عَلَى أَنَّ التَّعْلِيلَ الْمَزْبُورَ بِشِقَّيْهِ مَعًا لِلْوَجْهِ الْأَوَّلِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى ذِي فِطْرَةٍ سَلِيمَةٍ؛ فَالْأَوْلَى أَنْ يُجْعَلَ مَجْمُوعُ قَوْلِهِ حَمْلًا لِحَالِهِ عَلَى مَا يَحِلَّ لَهُ شَرْعًا أَوْ يَفْعَلُهُ عَادَةً دَلِيلًا عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، وَيَكْتَفِي فِي الْعِلْمِ بِالْوَجْهِ الثَّانِي بِدَلَالَةِ شِقِّهِ الثَّانِي: أَعْنِي قَوْلَهُ أَوْ يَفْعَلُهُ عَادَةً عَلَى ذَلِكَ. وَالْإِنْصَافُ أَنَّ فِي تَحْرِيرِ الْمُصَنِّفِ هُنَا تَعْقِيدًا وَاضْطِرَابًا كَمَا تَرَى، وَلِهَذَا تَحَيَّرَ الشُّرَّاحُ فِي حَلِّهِ الْوَافِي وَشَرْحِهِ الْكَافِي (وَإِنْ أَضَافَهُ) أَيْ الْعَقْدَ (إلَى دَرَاهِمَ مُطْلَقَةٍ) هَذَا هُوَ الْوَجْهُ الثَّالِثُ مِنْ وُجُوهِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَفِيهِ تَفْصِيلٌ أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ (فَإِنْ نَوَاهَا) أَيْ الدَّرَاهِمَ الْمُطْلَقَةَ (لِلْآمِرِ فَهُوَ) أَيْ الْعَقْدُ (لِلْآمِرِ، وَإِنْ نَوَاهَا لِنَفْسِهِ فَلِنَفْسِهِ) أَيْ فَالْعَقْدُ لِنَفْسِهِ (لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ لِنَفْسِهِ وَيَعْمَلَ لِلْآمِرِ فِي هَذَا التَّوْكِيلِ) أَيْ فِي التَّوْكِيلِ بِشِرَاءِ عَبْدٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ فَكَانَتْ نِيَّتُهُ مُعْتَبَرَةً.

أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إذَا نَوَاهَا لِنَفْسِهِ وَلَكِنْ نَقَدَ مِنْ دَرَاهِمِ الْآمِرِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْعَقْدُ لِلْآمِرِ لِئَلَّا يَلْزَمَ الْمَحْذُورُ الَّذِي ذَكَرُوهُ فِيمَا إذَا أَضَافَ الْعَقْدَ إلَى دَرَاهِمِ الْآمِرِ مِنْ كَوْنِهِ غَاصِبًا لِدَرَاهِمِ الْآمِرِ. فَإِنْ قُلْت: الْغَصْبُ فِي صُورَةِ الْإِضَافَةِ إلَى دَرَاهِمِ الْآمِرِ فِي ضِمْنِ نَفْسِ الْعَقْدِ فَيَبْطُلُ الْعَقْدُ بِبُطْلَانِهِ، وَأَمَّا فِي الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ فَفِي النَّقْدِ مِنْ دَرَاهِمِ الْآمِرِ وَهُوَ خَارِجٌ عَنْ نَفْسِ الْعَقْدِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ بُطْلَانِهِ بُطْلَانُ الْعَقْدِ فَافْتَرَقَتْ الصُّورَتَانِ. قُلْت: الْغَصْبُ إزَالَةُ الْيَدِ الْمُحِقَّةِ بِإِثْبَاتِ الْيَدِ الْمُبْطِلَةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا لَا يَتَحَقَّقُ فِي نَفْسِ الْإِضَافَةِ إلَى دَرَاهِمِ الْآمِرِ بَلْ يَتَحَقَّقُ فِي النَّقْدِ مِنْ دَرَاهِمِهِ فَهُوَ لَمْ يُوجَدْ فِي ضِمْنِ نَفْسِ الْعَقْدِ فِي شَيْءٍ مِنْ الصُّورَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ، بَلْ إنَّمَا وُجِدَ فِي النَّقْدِ مِنْ دَرَاهِمِ الْآمِرِ وَهُوَ خَارِجٌ عَنْ نَفْسِ الْعَقْدِ فِي تَيْنِك الصُّورَتَيْنِ مَعًا فَلَا يَتِمُّ الْفَرْقُ تَدَبَّرْ (وَإِنْ تَكَاذَبَا) أَيْ الْوَكِيلُ وَالْمُوَكِّلُ (فِي النِّيَّةِ) فَقَالَ الْوَكِيلُ نَوَيْت لِنَفْسِي وَقَالَ الْمُوَكِّلُ نَوَيْت لِي (يَحْكُمُ النَّقْدُ بِالْإِجْمَاعِ) فَمِنْ مَالِ مَنْ نَقَدَ الثَّمَنَ كَانَ الْمَبِيعُ لَهُ (لِأَنَّهُ) أَيْ النَّقْدَ (دَلَالَةٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ) مِنْ حَمْلِ حَالِهِ عَلَى مَا يَحِلُّ لَهُ شَرْعًا أَوْ يَفْعَلُهُ عَادَةً (وَإِنْ تَوَافَقَا عَلَى أَنَّهُ لَمْ تَحْضُرْهُ النِّيَّةُ) فَفِيهِ اخْتِلَافٍ بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ.

(قَالَ مُحَمَّدٌ: هُوَ) أَيْ الْعَقْدُ (لِلْعَاقِدِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَعْمَلُ لِنَفْسِهِ) يَعْنِي أَنَّ الْأَصْلَ أَنْ يَعْمَلَ كُلُّ أَحَدٍ لِنَفْسِهِ (إلَّا إذَا ثَبَتَ جَعَلَهُ) أَيْ جَعَلَ الْعَمَلَ (لِغَيْرِهِ) بِالْإِضَافَةِ إلَى مَالِهِ أَوْ بِالنِّيَّةِ لَهُ (وَلَمْ يَثْبُتْ) أَيْ وَالْفَرْضُ أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ (وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَحْكُمُ النَّقْدُ؛ لِأَنَّ مَا أَوْقَعَهُ مُطْلَقًا) أَيْ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ بِنِيَّتِهِ (يَحْتَمِلُ الْوَجْهَيْنِ) وَهُمَا أَنْ يَكُونَ الْعَقْدُ لِلْآمِرِ وَأَنْ يَكُونَ

ص: 49

فَيَبْقَى مَوْقُوفًا، فَمِنْ أَيِّ الْمَالَيْنِ نَقَدَ فَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ الْمُحْتَمَلَ لِصَاحِبِهِ وَلِأَنَّ مَعَ تَصَادُقِهِمَا يَحْتَمِلُ النِّيَّةَ لِلْآمِرِ، وَفِيمَا قُلْنَا حَمْلُ حَالِهِ عَلَى الصَّلَاحِ كَمَا فِي حَالَةِ التَّكَاذُبِ.

لِنَفْسِهِ (فَيَبْقَى مَوْقُوفًا، فَمِنْ أَيِّ الْمَالَيْنِ نَقَدَ فَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ الْمُحْتَمَلَ لِصَاحِبِهِ) فَتَعَيَّنَ أَحَدُ الْمُحْتَمَلَيْنِ (وَلِأَنَّ مَعَ تَصَادُقِهِمَا) عَلَى أَنَّهُ لَمْ تَحْضُرْهُ النِّيَّةُ (يَحْتَمِلُ النِّيَّةُ لِلْآمِرِ) بِأَنْ نَوَى لَهُ وَنَسِيَهُ (وَفِيمَا قُلْنَا) أَيْ فِي تَحْكِيمِ النَّقْدِ (حَمَلَ) أَيْ حَالَ الْوَكِيلِ (عَلَى الصَّلَاحِ) وَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ غَاصِبًا عَلَى تَقْدِيرِ النَّقْدِ مِنْ مَالِ الْآمِرِ (كَمَا فِي حَالَةِ التَّكَاذُبِ) بَقِيَ الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ أَنَّ الْإِضَافَةَ إلَى أَيِّ نَقْدٍ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا تُقَيِّدَ شَيْئًا؛ لِأَنَّ النُّقُودَ لَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ. وَأُجِيبُ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّا لَا نَقُولُ إنَّ الشِّرَاءَ بِتِلْكَ الدَّرَاهِمِ يَتَعَيَّنُ، وَإِنَّمَا نَقُولُ الْوَكَالَةُ تَتَقَيَّدُ بِمَا عَلَى مَا سَيَجِيءُ مِنْ أَنَّ النُّقُودَ تَتَعَيَّنُ فِي الْوَكَالَاتِ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَوْ هَلَكَتْ قَبْلَ الشِّرَاءِ بِهَا بَطَلَتْ الْوَكَالَةُ، وَإِذَا تَقَيَّدَتْ بِهَا لَمْ يَكُنْ الشِّرَاءُ بِغَيْرِهَا مِنْ مُوجِبَاتِ الْوَكَالَةِ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ الشُّرَّاحِ، وَمَأْخَذُهُمْ الْمَبْسُوطُ.

أَقُولُ: فِي الْجَوَابِ بَحْثٌ وَهُوَ أَنَّ النُّقُودَ لَا تَتَعَيَّنُ فِي الْوَكَالَاتِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ بِالْإِجْمَاعِ، وَكَذَا بَعْدَهُ عِنْدَ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ، وَإِنَّمَا تَتَعَيَّنُ بَعْدَهُ عِنْدَ بَعْضِهِمْ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، صَرَّحَ بِهِ فِي عَامَّةِ الْمُعْتَبَرَاتِ، وَسَيَظْهَرُ لَك فِيمَا سَيَجِيءُ عَنْ قَرِيبٍ. وَجَوَابُ مَسْأَلَةِ الْإِضَافَةِ إلَى دَرَاهِمِ الْآمِرِ وَإِلَى دَرَاهِمِ نَفْسِهِ غَيْرُ مُقَيَّدٍ بِكَوْنِ الْإِضَافَةِ بَعْدَ التَّسْلِيمِ وَغَيْرُ مُخْتَصٍّ بِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ بَلْ هُوَ مُطْلَقٌ، وَبِالْإِجْمَاعِ كَمَا تَقَرَّرَ فِيمَا مَرَّ فَكَيْفَ يَتِمُّ أَنْ يُجْعَلَ مَدَارُهُ مَا هُوَ الْمُقَيَّدُ وَالْمُخْتَلَفُ فِيهِ؟ وَكَأَنَّ الْإِمَامَ الزَّيْلَعِيَّ تَنَبَّهَ لِهَذَا حَيْثُ قَالَ فِي شَرْحِ الْكَنْزِ فِي تَعْلِيلِ مَسْأَلَةِ الْإِضَافَةِ إلَى ثَمَنٍ مُعَيَّنٍ: لِأَنَّ الثَّمَنَ وَإِنْ كَانَ لَا يَتَعَيَّنُ لَكِنْ فِيهِ شُبْهَةُ التَّعَيُّنِ مِنْ حَيْثُ سَلَامَةُ الْمَبِيعِ بِهِ، وَقَدْ تَعَيَّنَ قَدْرُهُ وَوَصْفُهُ وَلِهَذَا لَا يَطِيبُ لَهُ الرِّبْحُ إذَا اشْتَرَى بِالدَّرَاهِمِ الْمَغْصُوبَةِ انْتَهَى. لَكِنَّهُ لَمْ يَأْتِ أَيْضًا بِمَا يَشْفِي الْغَلِيلَ هَاهُنَا كَمَا تَرَى.

ثُمَّ أَقُولُ: الْأَوْلَى فِي الْجَوَابِ أَنْ يُقَالَ: لَيْسَ الْعِلَّةُ فِي كَوْنِ الْعَقْدِ لِمَنْ أَضَافَهُ إلَى دَرَاهِمِهِ تَعَيُّنَ النُّقُودِ بِالتَّعْيِينِ بَلْ حُمِلَ حَالُهُ عَلَى مَا يَحِلُّ لَهُ شَرْعًا أَوْ يَفْعَلُهُ عَادَةً كَمَا مَرَّ مُبَيَّنًا وَمَشْرُوحًا، فَلَا ضَيْرَ لِعَدَمِ تَعَيُّنِ النُّقُودِ بِالتَّعْيِينِ فِي مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ، وَقَدْ أَشَارَ إلَيْهِ صَاحِبُ الْكَافِي حَيْثُ قَالَ: وَالدَّرَاهِمُ وَإِنْ لَمْ تَتَعَيَّنْ لَكِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يُضِيفُ شِرَاءَ الشَّيْءِ لِنَفْسِهِ إلَى دَرَاهِمِ الْغَيْرِ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَنْكَرٌ

ص: 50

وَالتَّوْكِيلُ بِالْإِسْلَامِ فِي الطَّعَامِ عَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ

قَالَ (وَمَنْ أَمَرَ رَجُلًا بِشِرَاءِ عَبْدٍ بِأَلْفٍ فَقَالَ قَدْ فَعَلْت وَمَاتَ عِنْدِي وَقَالَ الْآمِرُ اشْتَرَيْته لِنَفْسِك فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْآمِرِ، فَإِنْ كَانَ دَفَعَ إلَيْهِ الْأَلْفَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَأْمُورِ)؛ لِأَنَّ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ أَخْبَرَ عَمَّا لَا يَمْلِكُ اسْتِئْنَافَهُ وَهُوَ الرُّجُوعُ بِالثَّمَنِ عَلَى الْآمِرِ وَهُوَ يُنْكِرُ وَالْقَوْلُ لِلْمُنْكِرِ.

شَرْعًا وَعُرْفًا انْتَهَى. قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَالتَّوْكِيلُ بِالْإِسْلَامِ فِي الطَّعَامِ عَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ) الْمَذْكُورَةِ فِي التَّوْكِيلِ بِالشِّرَاءِ وِفَاقًا وَخِلَافًا؛ وَإِنَّمَا خَصَّهُ بِالذِّكْرِ مَعَ اسْتِفَادَةِ حُكْمِهِ مِنْ التَّوْكِيلِ بِالشِّرَاءِ نَفْيًا لِقَوْلِ بَعْضِ مَشَايِخِنَا: فَإِنَّهُمْ قَالُوا فِي مَسْأَلَةِ الشِّرَاءِ إذَا تَصَادَقَا أَنَّهُ لَمْ تَحْضُرْهُ النِّيَّةُ فَالْعَقْدُ لِلْوَكِيلِ إجْمَاعًا وَلَا يَحْكُمُ النَّقْدُ. وَإِنَّمَا الْخِلَافُ بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي مَسْأَلَةِ التَّوْكِيلِ بِالْإِسْلَامِ وَهُمْ فَرَّقُوا بَيْنَ مَسْأَلَةِ الشِّرَاءِ وَالسَّلَمِ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ بِأَنَّ لِلنَّقْدِ أَثَرًا فِي تَنْفِيذِ السَّلَمِ، فَإِنَّ الْمُفَارَقَةَ بِلَا نَقْدٍ تُبْطِلُ السَّلَمَ، فَإِذَا جَهِلَ مَنْ لَهُ الْعَقْدُ يُسْتَبَانُ بِالنَّقْدِ، وَلَيْسَ الشِّرَاءُ كَذَلِكَ فَكَانَ الْعَقْدُ لِلْعَاقِدِ عَمَلًا بِقَضِيَّةِ الْأَصْلِ. كَذَا فِي الشُّرُوحِ. وَفَرَّقَ أَبُو يُوسُفَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْمَأْمُورِ بِالْحَجِّ عَنْ الْغَيْرِ إذَا أَطْلَقَ النِّيَّةَ عِنْدَ الْإِحْرَامِ فَإِنَّهُ يَكُونُ عَاقِدًا لِنَفْسِهِ فَإِنَّ الْحَجَّ عِبَادَةٌ وَالْعِبَادَاتُ لَا تَتَأَدَّى إلَّا بِالنِّيَّةِ فَكَانَ مَأْمُورًا بِأَنْ يَنْوِيَ الْحَجَّ عَنْ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ وَلَمْ يَفْعَلْ فَصَارَ مُخَالِفًا بِتَرْكِ مَا هُوَ الشَّرْطُ.

وَأَمَّا فِي الْمُعَامَلَاتِ فَالنِّيَّةُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فَلَا يَصِيرُ بِتَرْكِ النِّيَّةِ عَنْ الْآمِرِ مُخَالِفًا فَيَبْقَى حُكْمُ عَقْدِهِ مَوْقُوفًا عَلَى النَّقْدِ كَذَا فِي بَابِ الْوَكَالَةِ بِالسَّلَمِ مِنْ بُيُوعِ الْمَبْسُوطِ

(قَالَ) أَيْ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ (وَمَنْ أَمَرَ رَجُلًا بِشِرَاءِ عَبْدٍ بِأَلْفٍ فَقَالَ) أَيْ الْمَأْمُورُ (قَدْ فَعَلْت وَمَاتَ عِنْدِي وَقَالَ الْآمِرُ اشْتَرَيْتَهُ لِنَفْسِك فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْآمِرِ، فَإِنْ كَانَ) أَيْ الْآمِرُ (دَفَعَ إلَيْهِ) أَيْ إلَى الْمَأْمُورِ (الْأَلْفَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَأْمُورِ؛ لِأَنَّ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ) وَهُوَ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ الثَّمَنُ مَنْقُودًا إلَى الْمَأْمُورِ (أَخْبَرَ) أَيْ الْمَأْمُورُ (عَمَّا لَا يَمْلِكُ اسْتِئْنَافَهُ) أَيْ اسْتِئْنَافَ سَبَبِهِ (وَهُوَ الرُّجُوعُ بِالثَّمَنِ عَلَى الْآمِرِ) فَإِنَّ سَبَبَ الرُّجُوعِ عَلَى الْآمِرِ هُوَ الْعَقْدُ وَهُوَ لَا يَقْدِرُ عَلَى اسْتِئْنَافِهِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ مَيْتٌ إذْ الْكَلَامُ فِيهِ، وَالْمَيْتُ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلْعَقْدِ فَكَانَ قَوْلُ الْوَكِيلِ فَعَلْت وَمَاتَ عِنْدِي لِإِرَادَةِ الرُّجُوعِ عَلَى الْآمِرِ (وَهُوَ) أَيْ الْآمِرُ (يُنْكِرُ) ذَلِكَ (وَالْقَوْلُ لِلْمُنْكِرِ) فَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ لَا يَمْلِكُ اسْتِئْنَافَهُ مَعْنَاهُ لَا يَمْلِكُ اسْتِئْنَافَ سَبَبِهِ عَلَى طَرِيقِ الْمَجَازِ بِالْحَذْفِ، وَالضَّمِيرُ الْمَرْفُوعُ

ص: 51

وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي هُوَ أَمِينٌ يُرِيدُ الْخُرُوجَ عَنْ عُهْدَةِ الْأَمَانَةِ فَيُقْبَلُ قَوْلُهُ.

وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ حَيًّا حِينَ اخْتَلَفَا، إنْ كَانَ الثَّمَنُ مَنْقُودًا فَالْقَوْلُ لِلْمَأْمُورِ؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَنْقُودًا فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ اسْتِئْنَافَ الشِّرَاءِ فَلَا يُتَّهَمُ فِي الْإِخْبَارِ عَنْهُ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله: الْقَوْلُ لِلْأَمْرِ؛ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ تُهْمَةٍ بِأَنْ اشْتَرَاهُ لِنَفْسِهِ، فَإِذَا رَأَى الصَّفْقَةَ خَاسِرَةً أَلْزَمَهَا الْآمِرَ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الثَّمَنُ مَنْقُودًا؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ فِيهِ فَيُقْبَلُ قَوْلُهُ تَبَعًا لِذَلِكَ وَلَا ثَمَنَ فِي يَدِهِ هَاهُنَا،

فِي قَوْلِهِ وَهُوَ الرُّجُوعُ بِالثَّمَنِ رَاجِعٌ إلَى " مَا " فِي عَمَّا لَا يَمْلِكُ اسْتِئْنَافَهُ، وَهَذَا هُوَ الْوَجْهُ الْأَحْسَنُ فِي حَلِّ عِبَارَةِ الْمُصَنِّفِ هُنَا، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ. وَقِيلَ: إنَّمَا قَالَ وَهُوَ الرُّجُوعُ وَلَمْ يَقُلْ وَهُوَ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ الْوَكِيلِ مِنْ ذِكْرِ الْعَقْدِ الرُّجُوعُ بِالثَّمَنِ عَلَى الْآمِرِ لَا الْعَقْدِ لِأَجْلِ الْآمِرِ، فَتَرَكَ الْوَاسِطَةَ وَهِيَ الْعَقْدُ وَصَرَّحَ بِالْمَقْصُودِ وَهُوَ الرُّجُوعُ فَكَانَ ذِكْرًا لِلْمُسَبَّبِ وَإِرَادَةً لِلسَّبَبِ، وَجَازَ هَذَا؛ لِأَنَّ الرُّجُوعَ بِالثَّمَنِ عَلَى الْآمِرِ مُخْتَصٌّ بِالشِّرَاءِ لِأَجْلِ الْآمِرِ، وَإِلَى هَذَا التَّوْجِيهِ ذَهَبَ أَكْثَرُ الشُّرَّاحِ. قَالَ فِي الْكِفَايَةِ بَعْدَ ذِكْرِ هَذَا: وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ لَا يَمْلِكُ اسْتِئْنَافَهُ، وَهُوَ بِهَذَا يُرِيدُ الرُّجُوعَ بِالثَّمَنِ عَلَى الْآمِرِ، وَهَذَا ظَاهِرٌ انْتَهَى.

(وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي) وَهُوَ مَا إذَا كَانَ الثَّمَنُ مَنْقُودًا إلَى الْمَأْمُورِ (هُوَ) أَيْ الْمَأْمُورُ (أَمِينٌ يُرِيدُ الْخُرُوجَ عَنْ عُهْدَةِ الْأَمَانَةِ فَيُقْبَلُ قَوْلُهُ) قَالَ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ فِي شَرْحِ الْوِقَايَةِ: عَلَّلَ فِي الْهِدَايَةِ فِيمَا إذَا لَمْ يَدْفَعْ الْآمِرُ الثَّمَنَ بِأَنَّ الْوَكِيلَ أَخْبَرَ بِأَمْرٍ لَا يَمْلِكُ اسْتِئْنَافَهُ، وَفِيمَا إذَا دَفَعَ بِأَنَّ الْوَكِيلَ أَمِينٌ يُرِيدُ الْخُرُوجَ عَنْ عُهْدَةِ الْأَمَانَةِ. أَقُولُ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ التَّعْلِيلَيْنِ شَامِلٌ لِلصُّورَتَيْنِ فَلَمْ يَتِمَّ بِهِ الْفَرْقُ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ انْضِمَامِ أَمْرٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ فِيمَا إذَا لَمْ يَدْفَعْ الثَّمَنَ يَدَّعِي الثَّمَنَ عَلَى الْآمِرِ وَهُوَ يُنْكِرُهُ فَالْقَوْلُ لِلْمُنْكِرِ، وَفِيمَا إذَا دَفَعَ الثَّمَنَ يَدَّعِي الْآمِرُ الثَّمَنَ عَلَى الْمَأْمُورِ فَالْقَوْلُ لِلْمُنْكِرِ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ.

أَقُولُ: لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا زَعَمَهُ، بَلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ التَّعْلِيلَيْنِ مَخْصُوصٌ بِصُورَتِهِ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ كَوْنَ الْمُصَنِّفِ فِيهِ وَهُوَ الرُّجُوعُ بِالثَّمَنِ عَلَى الْآمِرِ وَهُوَ يُنْكِرُ، وَالْقَوْلُ لِلْمُنْكِرِ لَا يَشْمَلُ الصُّورَةَ الثَّانِيَةَ إذْ الثَّمَنُ فِيهَا مَقْبُوضٌ لِلْوَكِيلِ فَلَا يُرِيدُ الرُّجُوعَ بِهِ عَلَى الْآمِرِ قَطْعًا، وَقَدْ لَبَّسَ هَذَا الْقَائِلُ فِي تَعْلِيلِهِ حَيْثُ ذَكَرَ أَوَّلَ التَّعْلِيلِ الْأَوَّلِ وَتَرَكَ آخِرَهُ الْفَارِقَ بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ. وَالْعَجَبُ أَنَّهُ ضَمَّ إلَى مَا ذَكَرَهُ مَا هُوَ فِي مَعْنَى مَا تَرَكَهُ.

وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الثَّمَنَ لَيْسَ بِمَقْبُوضِ الْوَكِيلِ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ فِيهَا إنَّهُ أَمِينٌ يُرِيدُ الْخُرُوجَ عَنْ عُهْدَةِ الْأَمَانَةِ فَيُقْبَلُ قَوْلُهُ كَمَا لَا يَخْفَى (وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ حَيًّا حِينَ اخْتَلَفَا) فَقَالَ الْمَأْمُورُ اشْتَرَيْتُهُ لَكَ، وَقَالَ الْآمِرُ بَلْ اشْتَرَيْتَهُ لِنَفْسِك (إنْ كَانَ الثَّمَنُ مَنْقُودًا فَالْقَوْلُ لِلْمَأْمُورِ؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ) يُرِيدُ الْخُرُوجَ عَنْ عُهْدَةِ الْأَمَانَةِ فَيُقْبَلُ قَوْلُهُ كَمَا مَرَّ (وَإِنْ لَمْ يَكُنْ) أَيْ الثَّمَنُ (مَنْقُودًا فَكَذَلِكَ) أَيْ فَالْقَوْلُ لِلْمَأْمُورِ أَيْضًا (عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ اسْتِئْنَافَ الشِّرَاءِ) لِلْآمِرِ إذْ الْعَبْدُ حَيٌّ وَالْحَيُّ مَحَلُّ الشِّرَاءِ فَيَمْلِكُ أَنْ يَشْتَرِيَهُ فِي الْحَالِ لِأَجْلِ الْآمِرِ (فَلَا يُتَّهَمُ فِي الْإِخْبَارِ عَنْهُ) أَيْ عَنْ الشِّرَاءِ لِأَجْلِ الْآمِرِ فَإِنْ قِيلَ: إنْ وَقَعَ الشِّرَاءُ أَوَّلًا لِلْوَكِيلِ كَيْفَ يَقَعُ بَعْدَ ذَلِكَ لِلْمُوَكِّلِ حَتَّى يَمْلِكَ اسْتِئْنَافَهُ؟ أُجِيبُ بِأَنَّ تَمَلُّكَ اسْتِئْنَافِ الشِّرَاءِ دَائِرٌ مَعَ التَّصَوُّرِ فَيُمْكِنُ أَنْ يَتَفَاسَخَ الْوَكِيلُ بِالشِّرَاءِ مَعَ بَائِعِهِ ثُمَّ يَشْتَرِيَهُ لِأَجْلِ الْمُوَكِّلِ.

كَذَا فِي الشُّرُوحِ (وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ الْقَوْلُ قَوْلُ الْآمِرِ؛ لِأَنَّهُ) أَيْ؛ لِأَنَّ الْإِخْبَارَ عَنْ الشِّرَاءِ لِأَجْلِ الْآمِرِ (مَوْضِعُ تُهْمَةٍ بِأَنْ اشْتَرَاهُ لِنَفْسِهِ) أَيْ بِأَنْ اشْتَرَى الْوَكِيلُ الْعَبْدَ لِنَفْسِهِ (فَإِذَا رَأَى الصَّفْقَةَ خَاسِرَةً أَلْزَمَهَا الْآمِرَ) أَيْ أَرَادَ أَنْ يُلْزِمَهَا الْآمِرَ (بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الثَّمَنُ مَنْقُودًا؛ لِأَنَّهُ) أَيْ الْوَكِيلُ (أَمِينٌ فِيهِ) أَيْ فِي هَذَا الثَّمَنِ أَوْ فِي هَذَا الْوَجْهِ (فَيُقْبَلُ قَوْلُهُ تَبَعًا لِذَلِكَ) أَيْ لِلْخُرُوجِ عَنْ عُهْدَةِ الْأَمَانَةِ، وَكَمْ مِنْ شَيْءٍ يَثْبُتُ تَبَعًا وَلَا يَثْبُتُ قَصْدًا (وَلَا ثَمَنَ فِي يَدِهِ هَاهُنَا) أَيْ لَا ثَمَنَ فِي يَدِ الْوَكِيلِ فِيمَا إذَا كَانَ الْعَبْدُ حَيًّا

ص: 52

وَإِنْ كَانَ أَمَرَهُ بِشِرَاءِ عَبْدٍ بِعَيْنِهِ ثُمَّ اخْتَلَفَا وَالْعَبْدُ حَيٌّ فَالْقَوْلُ لِلْمَأْمُورِ سَوَاءٌ كَانَ الثَّمَنُ مَنْقُودًا أَوْ غَيْرَ مَنْقُودٍ، وَهَذَا بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ عَمَّا يَمْلِكُ اسْتِئْنَافَهُ، وَلَا تُهْمَةَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ بِشِرَاءِ شَيْءٍ بِعَيْنِهِ لَا يَمْلِكُ شِرَاءَهُ لِنَفْسِهِ بِمِثْلِ ذَلِكَ الثَّمَنِ فِي حَالِ غَيْبَتِهِ عَلَى مَا مَرَّ، بِخِلَافِ غَيْرِ الْمُعَيَّنِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ لِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله.

وَالثَّمَنُ غَيْرَ مَنْقُودٍ حَتَّى يَكُونَ أَمِينًا فَيُقْبَلُ قَوْلُهُ تَبَعًا لِلْخُرُوجِ عَنْ عُهْدَةِ الْأَمَانَةِ فَافْتَرَقَا (وَإِنْ كَانَ أَمَرَهُ بِشِرَاءِ عَبْدٍ بِعَيْنِهِ) يَعْنِي إنْ كَانَ التَّوْكِيلُ بِشِرَاءِ عَبْدٍ بِعَيْنِهِ (ثُمَّ اخْتَلَفَا وَالْعَبْدُ حَيٌّ) أَيْ وَالْحَالُ أَنَّ الْعَبْدَ حَيٌّ (فَالْقَوْلُ لِلْمَأْمُورِ سَوَاءٌ كَانَ الثَّمَنُ مَنْقُودًا أَوْ غَيْرَ مَنْقُودٍ، وَهَذَا بِالْإِجْمَاعِ) أَيْ هَذَا الْوَجْهُ مِنْ وُجُوهِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِالْإِجْمَاعِ بَيْنَ أَئِمَّتِنَا الثَّلَاثَةِ (لِأَنَّهُ) أَيْ الْمَأْمُورَ (أَخْبَرَ عَمَّا يَمْلِكُ اسْتِئْنَافَهُ فِي الْحَالِ وَلَا تُهْمَةَ فِيهِ) أَيْ فِي إخْبَارِهِ عَنْ ذَلِكَ (لِأَنَّ الْوَكِيلَ بِشِرَاءِ شَيْءٍ بِعَيْنِهِ لَا يَمْلِكُ شِرَاءَهُ لِنَفْسِهِ بِمِثْلِ ذَلِكَ الثَّمَنِ فِي حَالِ غَيْبَتِهِ) أَيْ فِي حَالِ غَيْبَةِ الْمُوَكِّلِ، قَيَّدَ بِهِ، إذْ فِي حَالِ حَضْرَةِ الْمُوَكِّلِ يَمْلِكُ شِرَاءَهُ لِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ عَزْلَ نَفْسِهِ حَالَ حَضْرَتِهِ (عَلَى مَا مَرَّ) أَشَارَ بِهِ إلَى قَوْلِهِ وَلِأَنَّ فِيهِ عَزْلَ نَفْسِهِ وَلَا يَمْلِكُهُ عَلَى مَا قِيلَ إلَّا بِمَحْضَرٍ مِنْ الْمُوَكِّلِ (بِخِلَافِ غَيْرِ الْمُعَيَّنِ) أَيْ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ التَّوْكِيلُ بِشِرَاءِ عَبْدٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ فَاخْتَلَفَا (عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ لِأَبِي حَنِيفَةَ) يَعْنِي مَا ذَكَرَهُ فِيمَا مَرَّ آنِفًا مِنْ جَانِبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ تُهْمَةٍ بِأَنْ اشْتَرَاهُ لِنَفْسِهِ، فَإِذَا رَأَى الصَّفْقَةَ خَاسِرَةً أَلْزَمَهَا الْآمِرَ.

أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: التُّهْمَةُ مُتَحَقِّقَةٌ فِي صُورَةِ الْمُعَيَّن أَيْضًا بِأَنْ اشْتَرَاهُ لِنَفْسِهِ لَكِنْ لَا عَلَى وَجْهِ الْمُوَافَقَةِ لِلْآمِرِ بَلْ عَلَى وَجْهِ الْمُخَالَفَةِ لَهُ، كَأَنْ اشْتَرَاهُ بِخِلَافِ جِنْسِ الثَّمَنِ الْمُسَمَّى أَوْ بِغَيْرِ النُّقُودِ أَوْ وَكَّلَ وَكِيلًا بِشِرَائِهِ فَاشْتَرَاهُ الثَّانِي بِغَيْبَةِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ لَمَّا رَأَى الصَّفْقَةَ خَاسِرَةً قَالَ لِلْآمِرِ اشْتَرَيْته لَك بِمِثْلِ الثَّمَنِ الْمُسَمَّى وَالْوَكِيلُ بِشِرَاءِ شَيْءٍ بِعَيْنِهِ فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُ شِرَاءَهُ لِنَفْسِهِ عَلَى وَجْهِ الْمُوَافَقَةِ لِلْآمِرِ. وَأَمَّا عَلَى وَجْهِ الْمُخَالَفَةِ لَهُ بِأَحَدِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورَةِ فَيَمْلِكُهُ قَطْعًا عَلَى مَا مَرَّ فِي مَحَلِّهِ، فَمَا الدَّافِعُ لِهَذِهِ التُّهْمَةِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؟ ثُمَّ أَقُولُ فِي الْجَوَابِ عَنْهُ: إنَّ

ص: 53

(وَمَنْ قَالَ لِآخَرَ بِعْنِي هَذَا الْعَبْدَ لِفُلَانٍ فَبَاعَهُ ثُمَّ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ فُلَانٌ أَمَرَهُ ثُمَّ جَاءَ فُلَانٌ وَقَالَ أَنَا أَمَرْته بِذَلِكَ فَإِنَّ فُلَانًا يَأْخُذُهُ)؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ السَّابِقَ إقْرَارٌ مِنْهُ بِالْوَكَالَةِ عَنْهُ فَلَا يَنْفَعُهُ الْإِنْكَارُ اللَّاحِقُ.

احْتِمَالَ أَنَّ اشْتِرَاءَهُ لِنَفْسِهِ شُبْهَةٌ، وَبَعْدَ ذَلِكَ احْتِمَالُ أَنَّ اشْتِرَاءَهُ لِنَفْسِهِ عَلَى وَجْهِ الْمُخَالَفَةِ لَا عَلَى وَجْهِ الْمُوَافَقَةِ شُبْهَةُ شُبْهَةٍ، وَقَدْ تَقَرَّرَ عِنْدَهُ أَنَّ الشُّبْهَةَ تُعْتَبَرُ وَشُبْهَةُ الشُّبْهَةِ لَا تُعْتَبَرُ، وَالتُّهْمَةُ فِي صُورَةِ غَيْرِ الْمُعَيَّنِ نَفْسُ الشُّبْهَةِ وَفِي صُورَةِ الْمُعَيَّنِ شُبْهَةُ الشُّبْهَةِ، فَاعْتُبِرَتْ فِي الْأُولَى وَلَمْ تُعْتَبَرْ فِي الثَّانِيَةِ. قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَالْكِفَايَةِ: فَإِنْ قِيلَ الْوَلِيُّ إذَا أَقَرَّ بِتَزْوِيجِ الصَّغِيرَةِ لَا يُقْبَلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله مَعَ أَنَّهُ يَمْلِكُ اسْتِئْنَافَ النِّكَاحِ فِي الْحَالِ. قُلْنَا: قَوْلُهُ يَمْلِكُ اسْتِئْنَافَهُ وَقَعَ عَلَى قَوْلِهِمَا، وَقَوْلُهُ وَلَا تُهْمَةَ فِيهِ وَقَعَ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَكَانَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ اتِّفَاقُ الْجَوَابِ مَعَ اخْتِلَافِ التَّخْرِيجِ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ قَوْلُهُ يَمْلِكُ اسْتِئْنَافَهُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لَمْ يُرَدَّ الْإِشْكَالُ عَلَى قَوْلِهِ. أَوْ نَقُولُ: لَوْ كَانَ فِي تَزْوِيجِ الصَّغِيرَةِ إخْبَارٌ عِنْدَ حُضُورِ شَاهِدَيْنِ يُقْبَلُ قَوْلُهُ عِنْدَهُ أَيْضًا، فَكَانَ ذَلِكَ إنْشَاءً لِلنِّكَاحِ ابْتِدَاءً فَلَا يُرَدُّ الْإِشْكَالُ لِمَا أَنَّهُ إنَّمَا لَا يُقْبَلُ هُنَاكَ إقْرَارٌ بِتَزْوِيجِ الصَّغِيرَةِ عِنْدَ عَدَمِ الشَّاهِدَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ إنْشَاؤُهُ شَرْعًا لِعَدَمِ الشُّهُودِ فَكَانَ لَا يَمْلِكُ اسْتِئْنَافَهُ فَاطَّرَدَ الْجَوَابُ عِنْدَهُ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ انْتَهَى كَلَامُهُمَا.

وَقَالَ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ: فَإِنْ قُلْت: الْأَصْلُ فِي الدَّلَائِلِ الِاطِّرَادُ. وَهَذَا لَا يَطَّرِدُ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الْأَبَ إذَا أَقَرَّ عَلَى الصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ بِالنِّكَاحِ لَمْ يَصِحَّ الْإِقْرَارُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ، وَكَذَا وَكِيلُ الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ وَمَوْلَى الْعَبْدِ إذَا أَقَرَّ بِالنِّكَاحِ لَا يَصِحُّ إلَّا بِبَيِّنَةٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لِصَاحِبَيْهِ مَعَ أَنَّ الْمُقِرَّ يَمْلِكُ اسْتِئْنَافَ الْعَقْدِ؟ قُلْت: لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ يَمْلِكُ اسْتِئْنَافَ الْعَقْدِ مُطْلَقًا بَلْ يَمْلِكُ مُقَيَّدًا بِحَالِ حَضْرَةِ الشُّهُودِ وَلَمْ يَكُنْ شُهُودُ النِّكَاحِ حُضُورًا وَقْتَ الْإِقْرَارِ فَلَمْ يَكُنْ الْإِنْشَاءُ بِلَا شُهُودٍ، وَهَذَا هُوَ الْجَوَابُ الثَّانِي. وَقَوْلُ بَعْضِ الشَّارِحِينَ: إنَّ قَوْلَهُ يَمْلِكُ اسْتِئْنَافَهُ وَقَعَ عَلَى قَوْلِهِمَا، وَقَوْلُهُ وَلَا تُهْمَةَ فِيهِ وَقَعَ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ بَعِيدٌ عَنْ التَّحْقِيقِ؛ لِأَنَّ الْمَجْمُوعَ دَلِيلُ أَبِي حَنِيفَةَ لَا قَوْلُهُ وَلَا تُهْمَةَ فِيهِ وَحْدَهُ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَرَدَّ عَلَيْهِ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ حَيْثُ قَالَ: وَفِي قَوْلِهِ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ يَمْلِكُ اسْتِئْنَافَ الْعَقْدِ مُطْلَقًا بَلْ يَمْلِكُهُ مُقَيَّدًا بَحْثٌ، فَإِنَّ تَمَلُّكَ الِاسْتِئْنَافِ دَائِرٌ مَعَ التَّصَوُّرِ كَمَا ذَكَرُوا انْتَهَى.

أَقُولُ: هَذَا سَاقِطٌ جِدًّا؛ لِأَنَّ مُرَادَهُمْ بِالدَّوَرَانِ مَعَ التَّصَوُّرِ الْإِمْكَانُ الشَّرْعِيُّ، وَمَا لَمْ يَحْضُرْ الشُّهُودُ لَمْ يُمْكِنْ إنْشَاءُ النِّكَاحِ شَرْعًا. وَقَدْ أَفْصَحَ عَنْهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَالْكِفَايَةِ حَيْثُ قَالَ: لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ إنْشَاءٌ شَرْعًا لِعَدَمِ الشُّهُودِ. وَأَفْصَحَ عَنْهُ صَاحِبُ الْغَايَةِ أَيْضًا حَيْثُ قَالَ: وَلَمْ يَكُنْ شُهُودُ النِّكَاحِ حُضُورًا وَقْتَ الْإِقْرَارِ فَلَمْ يَكُنْ الْإِنْشَاءُ بِلَا شُهُودٍ فَكَوْنُ تَمَلُّكِ الِاسْتِئْنَافِ دَائِرًا مَعَ التَّصَوُّرِ لَا يَقْدَحُ أَصْلًا فِي قَوْلِ صَاحِبِ الْغَايَةِ. لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ يَمْلِكُ اسْتِئْنَافَ الْعَقْدِ مُطْلَقًا بَلْ يَمْلِكُهُ مُقَيَّدًا بِحَالِ حَضْرَةِ الشُّهُودِ. ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ عَلَى ثَمَانِيَةِ أَوْجُهٍ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْكَافِي وَغَيْرِهِ؛؛ لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ التَّوْكِيلُ بِشِرَاءِ عَبْدٍ بِعَيْنِهِ أَوْ بِغَيْرِ عَيْنِهِ، وَكُلُّ ذَلِكَ عَلَى وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ مَنْقُودًا أَوْ غَيْرَ مَنْقُودٍ. وَكُلُّ ذَلِكَ عَلَى وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ حَيًّا حِينَ اخْتَلَفَا أَوْ هَالِكًا.

وَقَدْ ذَكَرَ سِتَّةَ أَوْجُهٍ مِنْهَا فِي الْكِتَابِ مُدَلِّلًا وَمُفَصِّلًا كَمَا عَرَفْت فَبَقِيَ مِنْهَا وَجْهَانِ، وَهُمَا أَنْ يَكُونَ التَّوْكِيلُ بِشِرَاءِ عَبْدٍ بِعَيْنِهِ، وَيَكُونَ الْعَبْدُ هَالِكًا وَالثَّمَنُ مَنْقُودًا أَوْ غَيْرَ مَنْقُودٍ، وَقَدْ ذَكَرَهُمَا مَعَ دَلِيلِهِمَا صَاحِبُ الْعِنَايَةِ حَيْثُ قَالَ فِي تَقْسِيمِ التَّوْكِيلِ بِشِرَاءِ عَبْدٍ بِعَيْنِهِ: وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ هَالِكًا وَالثَّمَنُ مَنْقُودًا فَالْقَوْلُ لِلْمَأْمُورِ؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ يُرِيدُ الْخُرُوجَ عَنْ عُهْدَةِ الْأَمَانَةِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَنْقُودٍ فَالْقَوْلُ لِلْآمِرِ؛ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ عَمَّا لَا يَمْلِكُ اسْتِئْنَافَهُ وَيُرِيدُ بِذَلِكَ الرُّجُوعَ عَلَى الْآمِرِ وَهُوَ مُنْكِرٌ فَالْقَوْلُ لَهُ انْتَهَى.

أَقُولُ: دَلِيلُ الْوَجْهِ الْأَخِيرِ مِنْهَا مَحَلُّ إشْكَالٍ، فَإِنَّ الْآمِرَ وَإِنْ كَانَ مُنْكِرًا لِاشْتِرَاءِ الْمَأْمُورِ لِلْآمِرِ لَكِنَّهُ مُعْتَرِفٌ بِاشْتِرَائِهِ لِنَفْسِهِ حَيْثُ قَالَ لِلْمَأْمُورِ بَلْ اشْتَرَيْته لِنَفْسِك. وَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ الْوَكِيلَ بِشِرَاءِ شَيْءٍ بِعَيْنِهِ لَا يَمْلِكُ شِرَاءَهُ لِنَفْسِهِ بِمِثْلِ ذَلِكَ الثَّمَنِ بَلْ يَقَعُ الشِّرَاءُ لِلْمُوَكِّلِ أَلْبَتَّةَ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ لِإِنْكَارِ الْآمِرِ شِرَاءَ الْمَأْمُورِ حُكْمٌ فِي هَذَا الْوَجْهِ أَيْضًا فَتَأَمَّلْ

(وَمَنْ قَالَ لِآخَرَ: بِعْنِي هَذَا الْعَبْدَ لِفُلَانٍ) أَيْ لِأَجْلِ فُلَانٍ (فَبَاعَهُ ثُمَّ أَنْكَرَ) أَيْ الْمُشْتَرِي (أَنْ يَكُونَ فُلَانٌ أَمَرَهُ ثُمَّ جَاءَ فُلَانٌ وَقَالَ أَنَا أَمَرْته بِذَلِكَ فَإِنَّ فُلَانًا يَأْخُذُهُ) يَعْنِي أَنَّ لِفُلَانٍ وِلَايَةَ أَخْذِهِ مِنْ الْمُشْتَرِي، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ مَسَائِلِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِهَا (لِأَنَّ قَوْلَهُ السَّابِقَ) أَيْ قَوْلَ الْمُشْتَرِي السَّابِقَ وَهُوَ قَوْلُهُ لِفُلَانٍ (إقْرَارٌ مِنْهُ بِالْوَكَالَةِ عَنْهُ فَلَا يَنْفَعُهُ الْإِنْكَارُ اللَّاحِقُ)؛ لِأَنَّ

ص: 54

(فَإِنْ قَالَ فُلَانٌ لَمْ آمُرْهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ)؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ يَرْتَدُّ بِرَدِّهِ (إلَّا أَنْ يُسَلِّمَهُ الْمُشْتَرَى لَهُ فَيَكُونُ بَيْعًا عَنْهُ وَعَلَيْهِ الْعُهْدَةُ)؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُشْتَرِيًا بِالتَّعَاطِي، كَمَنْ اشْتَرَى لِغَيْرِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ حَتَّى لَزِمَهُ ثُمَّ سَلَّمَهُ الْمُشْتَرَى لَهُ، وَدَلَّتْ الْمَسْأَلَةُ عَلَى أَنَّ التَّسْلِيمَ عَلَى وَجْهِ الْبَيْعِ يَكْفِي لِلتَّعَاطِي وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ نَقْدُ الثَّمَنِ، وَهُوَ يَتَحَقَّقُ فِي النَّفِيسِ وَالْخَسِيسِ لِاسْتِتْمَامِ التَّرَاضِي وَهُوَ الْمُعْتَبَرُ فِي الْبَابِ.

الْإِقْرَارَ بِالشَّيْءِ لَا يَبْطُلُ بِالْإِنْكَارِ اللَّاحِقِ. فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ لِفُلَانٍ لَيْسَ بِنَصٍّ فِي الْوَكَالَةِ بَلْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ لِشَفَاعَةِ فُلَانٍ كَمَا قَالَ مُحَمَّدٌ فِي كِتَابِ الشُّفْعَةِ: أَوْ أَنَّ أَجْنَبِيًّا طَلَبَ مِنْ الشَّفِيعِ تَسْلِيمَ الشُّفْعَةِ فَقَالَ الشَّفِيعُ سَلَّمْتهَا لَك بَطَلَتْ الشُّفْعَةُ اسْتِحْسَانًا كَأَنَّهُ قَالَ سَلَّمْت هَذِهِ الشُّفْعَةَ لِأَجْلِك. قُلْنَا: اللَّامُ لِلتَّمْلِيكِ وَالِاحْتِمَالُ الْمَذْكُورُ خِلَافُ الظَّاهِرِ لَا يُصَارُ إلَيْهِ بِلَا قَرِينَةٍ، وَسُؤَالُ التَّسْلِيمِ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ قَرِينَةٌ فِي مَسْأَلَةِ الشُّفْعَةِ، وَلِهَذَا لَوْ قَالَ الشَّفِيعُ ذَلِكَ بِغَيْرِ سَبْقِ سُؤَالِ التَّسْلِيمِ لَا يَصِحُّ التَّسْلِيمُ وَلَيْسَتْ الْقَرِينَةُ بِمَوْجُودَةٍ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ.

كَذَا فِي الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ وَذَكَرَ فِي الشُّرُوحِ (فَإِنْ قَالَ فُلَانٌ لَمْ آمُرْهُ بِذَلِكَ) ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ (لَمْ يَكُنْ لَهُ) أَيْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَى الْعَبْدِ سَبِيلٌ (لِأَنَّ الْإِقْرَارَ) أَيْ إقْرَارَ الْمُشْتَرِي (ارْتَدَّ بِرَدِّهِ) أَيْ بِرَدِّ فُلَانٍ، فَإِذَا عَادَ إلَى تَصْدِيقِهِ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَنْفَعْهُ؛ لِأَنَّهُ عَادَ حِينَ انْتَفَى الْإِقْرَارُ فَلَمْ يَصِحَّ تَصْدِيقُهُ (إلَّا أَنْ يُسَلِّمَهُ الْمُشْتَرِي لَهُ) رُوِيَ لَفْظُ الْمُشْتَرِي بِرِوَايَتَيْنِ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَفَتْحِهَا فَعَلَى الْكَسْرِ يَكُونُ الْمُشْتَرِي فَاعِلًا، وَقَوْلُهُ لَهُ: أَيْ لِأَجْلِهِ وَيَكُونُ الْمَفْعُولُ الثَّانِي مَحْذُوفًا وَهُوَ إلَيْهِ، فَالْمَعْنَى: إلَّا أَنْ يُسَلِّمَ الْفُضُولِيُّ الْعَبْدَ الَّذِي اشْتَرَاهُ لِأَجْلِ فُلَانٍ إلَيْهِ. وَعَلَى الْفَتْحِ يَكُونُ الْمُشْتَرَى لَهُ مَفْعُولًا ثَانِيًا بِدُونِ حَرْفِ الْجَرِّ وَهُوَ فُلَانٌ، وَيَكُونُ الْفَاعِلُ مُضْمَرًا يَعُودُ إلَى الْمُشْتَرِي، فَالْمَعْنَى: إلَّا أَنْ يُسَلِّمَ الْفُضُولِيُّ الْعَبْدَ إلَى الْمُشْتَرَى لَهُ وَهُوَ فُلَانٌ. ثُمَّ إنَّ هَذَا الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ قَوْلِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ: أَيْ لَمْ يَكُنْ لِفُلَانٍ إلَّا فِي صُورَةِ التَّسْلِيمِ إلَيْهِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ صُورَةَ التَّسْلِيمِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ فُلَانًا لَوْ قَالَ أَجَزْت بَعْدَ قَوْلِهِ لَمْ آمُرْهُ بِهِ لَمْ يُعْتَبَرْ ذَلِكَ، بَلْ يَكُونُ الْعَبْدُ لِلْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ الْإِجَازَةَ تَلْحَقُ الْمَوْقُوفَ دُونَ الْجَائِزِ، وَهَذَا عَقْدٌ جَائِزٌ نَافِذٌ عَلَى الْمُشْتَرِي.

كَذَا ذَكَرَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ (فَيَكُونُ بَيْعًا عَنْهُ) أَيْ فَيَكُونُ تَسْلِيمُ الْعَبْدِ بَيْعًا مُبْتَدَأً (وَعَلَيْهِ الْعُهْدَةُ) أَيْ وَعَلَى فُلَانٍ عُهْدَةُ الْأَخْذِ بِتَسْلِيمِ الثَّمَنِ، كَذَا فَسَّرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ الْبَزْدَوِيُّ وَفَخْرُ الدِّينِ قَاضِي خَانْ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ (لِأَنَّهُ صَارَ مُشْتَرِيًا بِالتَّعَاطِي) كَمَا لَا يَخْفَى (كَمَنْ اشْتَرَى لِغَيْرِهِ) أَيْ كَالْفُضُولِيِّ الَّذِي اشْتَرَى لِغَيْرِهِ (بِغَيْرِ أَمْرِهِ حَتَّى لَزِمَهُ) أَيْ لَزِمَ الْعَقْدُ الْمُشْتَرِيَ (ثُمَّ سَلَّمَهُ الْمُشْتَرَى لَهُ) حَيْثُ كَانَ بَيْعًا بِالتَّعَاطِي. قَالَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ وَغَيْرُهُ فِي شُرُوحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: وَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ بَيْعَ التَّعَاطِي كَمَا يَكُونُ بِأَخْذٍ وَإِعْطَاءٍ فَقَدْ يَنْعَقِدُ بِالتَّسْلِيمِ عَلَى جِهَةِ الْبَيْعِ وَالتَّمْلِيكِ، وَإِنْ كَانَ أَخْذًا بِلَا إعْطَاءٍ لِعَادَةِ النَّاسِ وَثَبَتَ بِهِ أَنَّ النَّفِيسَ مِنْ الْأَمْوَالِ وَالْخَسِيسَ فِي بَيْعِ التَّعَاطِي سَوَاءٌ.

وَأَشَارَ الْمُصَنِّفُ إلَى مَا قَالَهُ هَؤُلَاءِ الشُّرَّاحُ بِقَوْلِهِ (وَدَلَّتْ الْمَسْأَلَةُ) أَيْ دَلَّتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ (عَلَى أَنَّ التَّسْلِيمَ عَلَى وَجْهِ الْبَيْعِ يَكْفِي لِلتَّعَاطِي وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ نَقْدُ الثَّمَنِ وَهُوَ) أَيْ الْبَيْعُ بِالتَّعَاطِي (يَتَحَقَّقُ فِي النَّفِيسِ وَالْخَسِيسِ) أَيْ نَفِيسِ الْأَمْوَالِ وَخَسِيسِهَا (لِاسْتِتْمَامِ التَّرَاضِي) أَيْ لِاسْتِتْمَامِ التَّرَاضِي فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا (وَهُوَ الْمُعْتَبَرُ فِي الْبَابِ) أَيْ التَّرَاضِي

ص: 55

قَالَ (وَمَنْ أَمَرَ رَجُلًا أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ عَبْدَيْنِ بِأَعْيَانِهِمَا وَلَمْ يُسَمِّ لَهُ ثَمَنًا فَاشْتَرَى لَهُ أَحَدَهُمَا جَازَ)؛ لِأَنَّ التَّوْكِيلَ مُطْلَقٌ، وَقَدْ لَا يَتَّفِقُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي الْبَيْعِ (إلَّا فِيمَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ)؛ لِأَنَّهُ تَوْكِيلٌ بِالشِّرَاءِ، وَهَذَا كُلُّهُ بِالْإِجْمَاعِ (وَلَوْ أَمَرَهُ بِأَنْ يَشْتَرِيَهُمَا بِأَلْفٍ وَقِيمَتُهُمَا سَوَاءٌ، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله إنْ اشْتَرَى أَحَدَهُمَا بِخَمْسِمِائَةٍ أَوْ أَقَلَّ جَازَ، وَإِنْ اشْتَرَى بِأَكْثَرَ لَمْ يَلْزَمْ الْآمِرَ)؛ لِأَنَّهُ قَابَلَ الْأَلْفَ بِهِمَا وَقِيمَتُهُمَا سَوَاءٌ فَيُقَسَّمُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ دَلَالَةً،

هُوَ الْمُعْتَبَرُ فِي بَابِ الْبَيْعِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ} فَلَمَّا وُجِدَ التَّرَاضِي فِي النَّفِيسِ وَالْخَسِيسِ انْعَقَدَ الْبَيْعُ بِالتَّعَاطِي فِيهِمَا خِلَافًا لِمَا يَقُولُهُ الْكَرْخِيُّ إنَّ الْبَيْعَ بِالتَّعَاطِي لَا يَنْعَقِدُ إلَّا فِي الْأَشْيَاءِ الْخَسِيسَةِ، وَقَدْ مَرَّ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْبُيُوعِ

(قَالَ) أَيْ مُحَمَّدٌ رحمه الله فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ (وَمَنْ أَمَرَ رَجُلًا أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ عَبْدَيْنِ بِأَعْيَانِهِمَا وَلَمْ يُسَمِّ لَهُ ثَمَنًا فَاشْتَرَى لَهُ أَحَدَهُمَا جَازَ؛ لِأَنَّ التَّوْكِيلَ مُطْلَقٌ) يَعْنِي أَنَّ التَّوْكِيلَ مُطْلَقٌ عَنْ قَيْدِ اشْتِرَائِهِمَا مُتَفَرِّقَيْنِ أَوْ مُجْتَمِعَيْنِ فَيَجْرِي عَلَى إطْلَاقِهِ.

(وَقَدْ لَا يَتَّفِقُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا) أَيْ بَيْنَ الْعَبْدَيْنِ (فِي الْبَيْعِ) فَوَجَبَ أَنْ يَنْفُذَ عَلَى الْمُوَكِّلِ (إلَّا فِيمَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ جَازَ: أَيْ جَازَ اشْتِرَاءُ أَحَدِهِمَا إلَّا فِيمَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ فِيهِ (لِأَنَّهُ) أَيْ؛ لِأَنَّ التَّوْكِيلَ الْمَذْكُورَ (تَوْكِيلٌ بِالشِّرَاءِ) وَهُوَ لَا يَتَحَمَّلُ الْغَبْنَ الْفَاحِشَ بِالْإِجْمَاعِ، بِخِلَافِ التَّوْكِيلِ بِالْبَيْعِ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يُجَوِّزُ الْبَيْعَ مِنْ الْوَكِيلِ بِالْغَبْنِ الْفَاحِشِ (وَهَذَا كُلُّهُ بِالْإِجْمَاعِ) أَيْ مَا ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كُلُّهُ بِالْإِجْمَاعِ، وَهُوَ احْتِرَازٌ عَمَّا ذَكَرْنَاهُ مِنْ التَّوْكِيلِ بِالْبَيْعِ وَعَنْ التَّوْكِيلِ بِشِرَاءِ الْعَبْدَيْنِ بِأَعْيَانِهِمَا، وَقَدْ سَمَّى لَهُ ثَمَنَهُمَا وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ (وَلَوْ أَمَرَهُ بِأَنْ يَشْتَرِيَهُمَا بِأَلْفٍ) أَيْ لَوْ أَمَرَ رَجُلًا بِأَنْ يَشْتَرِيَ الْعَبْدَيْنِ بِأَلْفٍ (وَقِيمَتُهُمَا سَوَاءٌ) أَيْ وَالْحَالُ أَنَّ قِيمَتَهُمَا سَوَاءٌ (فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إنْ اشْتَرَى أَحَدَهُمَا بِخَمْسِمِائَةٍ أَوْ أَقَلَّ جَازَ) أَيْ جَازَ الشِّرَاءُ وَيَقَعُ عَنْ الْمُوَكِّلِ (وَإِنْ اشْتَرَى بِأَكْثَرَ) قَلَّتْ الزِّيَادَةُ أَوْ كَثُرَتْ (لَمْ يَلْزَمْ الْآمِرُ) بَلْ يَقَعُ عَنْ الْوَكِيلِ (لِأَنَّهُ) أَيْ الْآمِرُ (قَابَلَ الْأَلْفَ بِهِمَا) أَيْ بِالْعَبْدَيْنِ (وَقِيمَتُهُمَا سَوَاءٌ فَيُقَسَّمُ) أَيْ الْأَلْفُ (بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ دَلَالَةً) أَيْ مِنْ حَيْثُ الدَّلَالَةُ وَيَعْمَلُ بِهَا عِنْدَ عَدَمِ التَّصْرِيحِ

ص: 56

فَكَانَ آمِرًا بِشِرَاءِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِخَمْسِمِائَةٍ ثُمَّ الشِّرَاءُ بِهَا مُوَافَقَةً وَبِأَقَلَّ مِنْهَا مُخَالَفَةً إلَى خَيْرٍ وَالزِّيَادَةُ إلَى شَرٍّ قَلَّتْ الزِّيَادَةُ أَوْ كَثُرَتْ فَلَا يَجُوزُ (إلَّا أَنْ يَشْتَرِيَ الْبَاقِيَ بِبَقِيَّةِ الْأَلْفِ قَبْلَ أَنْ يَخْتَصِمَا اسْتِحْسَانًا)؛ لِأَنَّ شِرَاءَ الْأَوَّلِ قَائِمٌ وَقَدْ حَصَلَ غَرَضُهُ الْمُصَرَّحُ بِهِ وَهُوَ تَحْصِيلُ الْعَبْدَيْنِ بِالْأَلْفِ وَمَا ثَبَتَ الِانْقِسَامُ إلَّا دَلَالَةً وَالصَّرِيحُ يَفُوقُهَا (وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: إنْ اشْتَرَى أَحَدَهُمَا بِأَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ الْأَلْفِ بِمَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ وَقَدْ بَقِيَ مِنْ الْأَلْفِ مَا يُشْتَرَى بِمِثْلِهِ الْبَاقِي جَازَ)؛ لِأَنَّ التَّوْكِيلَ مُطْلَقٌ لَكِنَّهُ يَتَقَيَّدُ بِالْمُتَعَارَفِ وَهُوَ فِيمَا قُلْنَا، وَلَكِنْ لَا بُدَّ أَنْ يَبْقَى مِنْ الْأَلْفِ بَاقِيَةٌ يُشْتَرَى بِمِثْلِهَا الْبَاقِي لِيُمْكِنَهُ تَحْصِيلُ غَرَضِ الْآمِرِ.

فَكَانَ آمِرًا بِشِرَاءِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِخَمْسِمِائَةِ، ثُمَّ الشِّرَاءُ بِهَا) أَيْ بِخَمْسِمِائَةِ (مُوَافَقَةً) لِأَمْرِ الْآمِرِ (وَبِأَقَلَّ مِنْهَا) أَيْ بِالشِّرَاءِ بِأَقَلَّ مِنْ خَمْسِمِائَةٍ (مُخَالَفَةً إلَى خَيْرٍ) فَيَجُوزُ (وَبِالزِّيَادَةِ إلَى شَرٍّ) أَيْ الشِّرَاءُ بِالزِّيَادَةِ مُخَالَفَةٌ إلَى شَرٍّ (قَلَّتْ الزِّيَادَةُ أَوْ كَثُرَتْ فَلَا يَجُوزُ) قَالَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: احْتَمَلَ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا اخْتِلَافَ فِيهَا؛ لِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ إنَّمَا قَالَ لَمْ يَجُزْ شِرَاؤُهُ عَلَى الْآمِرِ إذَا زَادَ زِيَادَةً لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهَا. وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ قَالَا فِي الَّذِي يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهِ أَنَّهُ يَلْزَمُ الْآمِرُ، فَإِذَا حُمِلَتْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا يَكُونُ فِي الْمَسْأَلَةِ اخْتِلَافٌ، وَاحْتُمِلَ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ فِيهَا اخْتِلَافٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ إذَا زَادَ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا لَا يَجُوزُ عَلَى الْآمِرِ، وَفِي قَوْلِهِمَا يَجُوزُ إذَا كَانَتْ الزِّيَادَةُ قَلِيلَةً انْتَهَى كَلَامُهُ.

وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: إنَّ بَعْضَ مَشَايِخِنَا قَالُوا: لَيْسَ فِي الْمَسْأَلَةِ اخْتِلَافٌ فِي الْحَقِيقَةِ، فَإِنَّ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا كَانَتْ الزِّيَادَةُ كَثِيرَةً بِحَيْثُ لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهَا، فَأَمَّا إذَا كَانَتْ قَلِيلَةً بِحَيْثُ يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهَا يَجُوزُ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ لَا تَسْمِيَةَ فِي حَقِّ هَذَا الْوَاحِدِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ وَكَّلَهُ بِشِرَاءِ عَبْدٍ لَهُ وَلَمْ يُسَمِّ ثَمَنًا فَاشْتَرَاهُ بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ بِمَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهِ جَازَ كَذَا هَاهُنَا. ثُمَّ قَالَ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ عَلَى الِاخْتِلَافِ، فَإِنَّهُ أَطْلَقَ الْجَوَابَ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَفَصَّلَهُ عَلَى قَوْلِهِمَا انْتَهَى. وَالْمُصَنِّفُ اخْتَارَ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ شَيْخُ الْإِسْلَامِ حَيْثُ قَالَ: وَبِالزِّيَادَةِ إلَى شَرٍّ قَلَّتْ الزِّيَادَةُ أَوْ كَثُرَتْ فَلَا يَجُوزُ (إلَّا أَنْ يَشْتَرِيَ الْبَاقِيَ بِبَقِيَّةِ الْأَلْفِ قَبْلَ أَنْ يَخْتَصِمَا) فَيَجُوزُ حِينَئِذٍ وَيَلْزَمُ الْآمِرُ (اسْتِحْسَانًا) قَيَّدَ بِهِ؛ لِأَنَّ جَوَابَ الْقِيَاسِ أَنْ لَا يَلْزَمَ الْآمِرُ لِثُبُوتِ الْمُخَالَفَةِ، وَبِهِ أَخَذَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ.

وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ مَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ (لِأَنَّ شِرَاءَ الْأَوَّلِ قَائِمٌ) يَعْنِي أَنَّ شِرَاءَ الْعَبْدِ الْأَوَّلِ قَائِمٌ لَمْ يَتَغَيَّرْ حَالُهُ بِالْخُصُومَةِ (وَقَدْ حَصَلَ غَرَضُهُ الْمُصَرَّحُ بِهِ) أَيْ وَقَدْ حَصَلَ عِنْدَ اشْتِرَاءِ الْبَاقِي غَرَضُ الْأَوَّلِ الَّذِي صَرَّحَ بِهِ (وَهُوَ تَحْصِيلُ الْعَبْدَيْنِ بِأَلْفٍ وَمَا ثَبَتَ الِانْقِسَامُ) أَيْ لَمْ يَثْبُتْ (إلَّا دَلَالَةً وَالصَّرِيحُ يَفُوقُهَا) أَيْ يَفُوقُ الدَّلَالَةَ: يَعْنِي أَنَّ الِانْقِسَامَ بِالسَّوِيَّةِ إنَّمَا كَانَ ثَابِتًا بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ، وَإِذَا جَاءَ الصَّرِيحُ وَأَمْكَنَ الْعَمَلُ بِهِ بَطَلَتْ الدَّلَالَةُ (وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: إنْ اشْتَرَى أَحَدَهُمَا بِأَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ الْأَلْفِ بِمَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ وَقَدْ بَقِيَ) أَيْ وَالْحَالُ أَنَّهُ قَدْ بَقِيَ (مِنْ الْأَلْفِ مَا يُشْتَرَى بِمِثْلِهِ الْبَاقِي جَازَ) وَلَزِمَ الْآمِرُ (لِأَنَّ التَّوْكِيلَ مُطْلَقٌ) أَيْ غَيْرُ مُقَيَّدٍ بِخَمْسِمِائَةٍ (لَكِنَّهُ يَتَقَيَّدُ بِالْمُتَعَارَفِ وَهُوَ) أَيْ الْمُتَعَارَفُ (فِيمَا قُلْنَا) أَيْ فِيمَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ (وَلَكِنْ لَا بُدَّ أَنْ يَبْقَى مِنْ الْأَلْفِ بَاقِيَةٌ يُشْتَرَى بِمِثْلِهَا الْبَاقِي) مِنْ الْعَبْدَيْنِ (لِيُمْكِنَهُ) أَيْ لِيُمْكِنَ الْمَأْمُورُ (تَحْصِيلَ غَرَضِ الْآمِرِ) وَهُوَ تَمَلُّكُ

ص: 57

قَالَ (وَمَنْ لَهُ عَلَى آخَرَ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَأَمَرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا هَذَا الْعَبْدَ فَاشْتَرَاهُ جَازَ)؛ لِأَنَّ فِي تَعْيِينِ الْمَبِيعِ تَعْيِينَ الْبَائِعِ؛ وَلَوْ عَيَّنَ الْبَائِعَ يَجُوزُ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ (وَإِنْ أَمَرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا عَبْدًا بِغَيْرِ عَيْنِهِ فَاشْتَرَاهُ فَمَاتَ فِي يَدِهِ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُ الْآمِرُ مَاتَ مِنْ مَالِ الْمُشْتَرِي، وَإِنْ قَبَضَهُ الْآمِرُ فَهُوَ لَهُ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله (وَقَالَا: هُوَ لَازِمٌ لِلْآمِرِ إذَا قَبَضَهُ الْمَأْمُورُ) وَعَلَى هَذَا إذَا أَمَرَهُ أَنْ يُسَلِّمَ مَا عَلَيْهِ أَوْ يَصْرِفَ مَا عَلَيْهِ. لَهُمَا أَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ لَا يَتَعَيَّنَانِ فِي الْمُعَاوَضَاتِ دَيْنًا كَانَتْ أَوْ عَيْنًا، أَلَا يَرَى أَنَّهُ لَوْ تَبَايَعَا عَيْنًا بِدَيْنٍ ثُمَّ تَصَادَقَا أَنْ لَا دَيْنَ لَا يَبْطُلُ الْعَقْدُ فَصَارَ الْإِطْلَاقُ وَالتَّقْيِيدُ فِيهِ سَوَاءً فَيَصِحُّ التَّوْكِيلُ وَيَلْزَمُ الْآمِرَ؛ لِأَنَّ يَدَ الْوَكِيلِ كَيَدِهِ.

الْعَبْدَيْنِ مَعًا

(قَالَ) أَيْ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ (وَمَنْ لَهُ عَلَى آخَرَ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَأَمَرَهُ) أَيْ الْآخَرُ (بِأَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا) أَيْ بِتِلْكَ الْأَلْفِ (هَذَا الْعَبْدَ) يَعْنِي الْعَبْدَ الْمُعَيَّنَ (فَاشْتَرَاهُ جَازَ) وَلَزِمَ الْآمِرَ قَبْضُهُ أَوْ مَاتَ قَبْلَهُ عِنْدَ الْمَأْمُورِ (لِأَنَّ فِي تَعْيِينِ الْمَبِيعِ تَعْيِينَ الْبَائِعِ، وَلَوْ عُيِّنَ الْبَائِعُ يَجُوزُ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى) يُشِيرُ إلَى مَا سَيَذْكُرُهُ بِقَوْلِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا عُيِّنَ الْبَائِعُ إلَخْ (وَإِنْ أَمَرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا) أَيْ بِالْأَلْفِ الَّتِي عَلَيْهِ (عَبْدًا بِغَيْرِ عَيْنِهِ فَاشْتَرَاهُ فَمَاتَ فِي يَدِهِ) أَيْ فَمَاتَ الْعَبْدُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي (قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُ الْآمِرُ مَاتَ مِنْ مَالِ الْمُشْتَرِي) فَالْأَلْفُ عَلَيْهِ (وَإِنْ قَبَضَهُ الْآمِرُ فَهُوَ) أَيْ الْعَبْدُ (لَهُ) أَيْ لِلْآمِرِ (وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَقَالَا) أَيْ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ (هُوَ) أَيْ الْعَبْدُ (لَازِمٌ لِلْآمِرِ إذَا قَبَضَهُ الْمَأْمُورُ) سَوَاءٌ قَبَضَهُ الْآمِرُ أَوْ مَاتَ فِي يَدِ الْمَأْمُورِ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَعَلَى هَذَا) أَيْ عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ (إذَا أَمَرَهُ) أَيْ إذَا أَمَرَ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ (أَنْ يُسَلِّمَ مَا عَلَيْهِ) أَيْ يَعْقِدَ عَقْدَ السَّلَمِ (أَوْ يَصْرِفَ مَا عَلَيْهِ) أَيْ أَوْ يَعْقِدَ عَقْدَ الصَّرْفِ فَإِنَّ عَيَّنَ الْمُسَلَّمَ إلَيْهِ وَمَنْ يَعْقِدُ بِهِ عَقْدَ الصَّرْفِ صَحَّ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِلَّا فَعَلَى الِاخْتِلَافِ. قَالَ الشُّرَّاحُ: وَإِنَّمَا خَصَّهُمَا بِالذِّكْرِ لِدَفْعِ مَا عَسَى يُتَوَهَّمُ أَنَّ التَّوْكِيلَ فِيهِمَا لَا يَجُوزُ لِاشْتِرَاطِ الْقَبْضِ فِي الْمَجْلِسِ. أَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ، إذْ قَدْ سَبَقَ فِي أَوَائِلِ هَذَا الْفَصْلِ مَسْأَلَةُ جَوَازِ التَّوْكِيلِ بِعَقْدِ الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ مُدَلَّلَةً وَمُفَصَّلَةً مَعَ التَّعَرُّضِ لِأَحْوَالِ الْقَبْضِ مُسْتَوْفًى، فَكَيْفَ يُتَوَهَّمُ بَعْدَ ذَلِكَ عَدَمُ جَوَازِ التَّوْكِيلِ فِيهِمَا، وَهَلْ يَلِيقُ بِشَأْنِ الْمُصَنِّفِ دَفْعُ مِثْلِ ذَلِكَ التَّوَهُّمِ.

فَالْحَقُّ عِنْدِي أَنَّ تَخْصِيصَهُمَا بِالذِّكْرِ إنَّمَا هُوَ لِإِزَالَةِ مَا يَتَرَدَّدُ فِي الذِّهْنِ مِنْ أَنَّ التَّفْصِيلَ الْمَذْكُورَ هَلْ هُوَ جَارٍ بِعَيْنِهِ فِي بَابَيْ السَّلَمِ وَالصَّرْفِ أَيْضًا أَمْ لَا، بِنَاءً عَلَى أَنَّ لَهُمَا شَأْنًا مَخْصُوصًا فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ، فَقَوْلُهُ هَذَا عَلَى نَهْجِ قَوْلِهِ فِيمَا مَرَّ فِي آخِرِ مَسْأَلَةِ التَّوْكِيلِ بِشِرَاءِ شَيْءٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ، وَالتَّوْكِيلُ فِي الْإِسْلَامِ بِالطَّعَامِ عَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ (لَهُمَا) أَيْ لِأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ (أَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ لَا يَتَعَيَّنَانِ فِي الْمُعَاوَضَاتِ دَيْنًا كَانَتْ أَوْ عَيْنًا) يَعْنِي سَوَاءٌ كَانَتْ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ دَيْنًا ثَابِتًا فِي الذِّمَّةِ أَوْ عَيْنًا غَيْرَ ثَابِتَةٍ فِي الذِّمَّةِ، وَنُورُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ (أَلَا يَرَى أَنَّهُ لَوْ تَبَايَعَا عَيْنًا بِدَيْنٍ ثُمَّ تَصَادَقَا أَنْ لَا دَيْنَ لَا يَبْطُلُ الْعَقْدُ) وَيَجِبُ مِثْلُ الدَّيْنِ وَكُلُّ مَا لَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ كَانَ الْإِطْلَاقُ وَالتَّقْيِيدُ فِيهِ سَوَاءٌ (فَصَارَ الْإِطْلَاقُ) بِأَنْ قَالَ بِأَلْفٍ وَلَمْ يُضِفْهُ إلَى مَا عَلَيْهِ (وَالتَّقْيِيدُ) بِأَنْ أَضَافَهُ إلَى مَا عَلَيْهِ (فِيهِ) أَيْ فِي الْعَقْدِ الْمَزْبُورِ (سَوَاءٌ فَيَصِحُّ التَّوْكِيلُ وَيَلْزَمُ الْآمِرَ) أَيْ وَيَلْزَمُ الْعَقْدُ الْآمِرَ، وَصَارَ كَمَا لَوْ قَالَ تَصَدَّقْ بِمَالِي عَلَيْك عَلَى الْمَسَاكِينِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ

ص: 58

وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّهَا تَتَعَيَّنُ فِي الْوَكَالَاتِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَيَّدَ الْوَكَالَةَ بِالْعَيْنِ مِنْهَا أَوْ بِالدَّيْنِ مِنْهَا ثُمَّ اسْتَهْلَكَ الْعَيْنَ أَوْ أَسْقَطَ الدَّيْنَ بَطَلَتْ الْوَكَالَةُ،

وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّهَا) أَيْ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ (تَتَعَيَّنُ فِي الْوَكَالَاتِ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: لَكِنَّ هَذَا عَلَى قَوْلِ بَعْضِ الْمَشَايِخِ بَعْدَ التَّسْلِيمِ إلَى الْوَكِيلِ.

وَأَمَّا قَبْلَ التَّسْلِيمِ إلَيْهِ فَلَا تَتَعَيَّنُ فِي الْوَكَالَاتِ أَيْضًا بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ فِي الذَّخِيرَةِ. وَقَالَ: قَالَ مُحَمَّدٌ فِي الزِّيَادَاتِ: رَجُلٌ قَالَ لِغَيْرِهِ اشْتَرِ لِي بِهَذِهِ الْأَلْفِ الدِّرْهَمِ جَارِيَةً وَأَرَاهُ الدَّرَاهِمَ فَلَمْ يُسَلِّمْهَا إلَى الْوَكِيلِ حَتَّى سُرِقَتْ الدَّرَاهِمُ، ثُمَّ اشْتَرَى الْوَكِيلُ جَارِيَةً بِأَلْفِ دِرْهَمٍ لَزِمَ الْمُوَكِّلُ. ثُمَّ قَالَ: وَالْأَصْلُ أَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ لَا يَتَعَيَّنَانِ فِي الْوَكَالَاتِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّ الْوَكَالَاتِ وَسِيلَةٌ إلَى الشِّرَاءِ فَتُعْتَبَرُ بِنَفْسِ الشِّرَاءِ، وَالدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ لَا يَتَعَيَّنَانِ فِي الشِّرَاءِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ فَكَذَا فِيمَا هُوَ وَسِيلَةٌ إلَى الشِّرَاءِ. وَأَمَّا بَعْدَ التَّسْلِيمِ إلَى الْوَكِيلِ هَلْ تَتَعَيَّنُ؟ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ. بَعْضُهُمْ قَالَ: تَتَعَيَّنُ حَتَّى تَبْطُلَ الْوَكَالَةُ بِهَلَاكِهَا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْوَكَالَةَ وَسِيلَةٌ إلَى الشِّرَاءِ وَالدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ يَتَعَيَّنَانِ فِي الشِّرَاءِ بَعْدَ التَّسْلِيمِ، فَكَذَا فِيمَا هُوَ وَسِيلَةٌ إلَيْهِ، وَلِأَنَّ يَدَ الْوَكِيلِ يَدُ أَمَانَةٍ، وَالدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ يَتَعَيَّنَانِ فِي الْأَمَانَاتِ. وَعَامَّتُهُمْ عَلَى أَنَّهَا لَا تَتَعَيَّنُ.

وَفَائِدَةُ النَّقْدِ وَالتَّسْلِيمِ عَلَى قَوْلِ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا يُؤَقَّتُ بَقَاءَ الْوَكِيلِ بِبَقَاءِ الدَّرَاهِمِ الْمَنْقُودَةِ، فَإِنَّ الْعُرْفَ الظَّاهِرَ فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ أَنَّ الْمُوَكِّلَ إذَا دَفَعَ الدَّرَاهِمَ إلَى الْوَكِيلِ يُرِيدُ شِرَاءَهُ حَالَ قِيَامِ الدَّرَاهِمِ فِي يَدِ الْوَكِيلِ. وَالثَّانِي قَطَعَ رُجُوعَ الْوَكِيلِ عَلَى الْمُوَكِّلِ فِيمَا وَجَبَ لِلْوَكِيلِ عَلَى الْمُوَكِّلِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ شِرَاءَ الْوَكِيلِ يُوجِبُ دَيْنَيْنِ، دَيْنًا لِلْبَائِعِ عَلَى الْوَكِيلِ، وَدَيْنًا لِلْوَكِيلِ عَلَى الْمُوَكِّلِ، إلَى هُنَا لَفْظُ النِّهَايَةِ. وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ نَقْلِ مَا فِي النِّهَايَةِ بِنَوْعِ إجْمَالٍ: وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: فَعَلَى هَذَا فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ بِقَوْلِ بَعْضِ الْمَشَايِخِ الَّذِينَ حَدَّثُوا بَعْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بِمِائَتَيْ سَنَةٍ. وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُصَنِّفَ لَمْ يَتَعَرَّضْ بِأَنَّ ذَلِكَ قَوْلُ بَعْضِ الْمَشَايِخِ، فَلَعَلَّ اعْتِمَادَهُ فِي ذَلِكَ كَانَ عَلَى مَا نُقِلَ عَنْ مُحَمَّدٍ رحمه الله فِي الزِّيَادَاتِ مِنْ التَّقْيِيدِ بَعْدَ التَّسْلِيمِ انْتَهَى.

أَقُولُ: لَيْسَ السُّؤَالُ بِشَيْءٍ وَلَا الْجَوَابُ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ بَعْضَ الْمَشَايِخِ الَّذِينَ حَدَّثُوا بَعْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَمْ يَقُولُوا مَا ذَهَبُوا إلَيْهِ مِنْ تَعَيُّنِ النُّقُودِ فِي الْوَكَالَاتِ بَعْدَ التَّسْلِيمِ إلَى الْوَكِيلِ بِاجْتِهَادِهِمْ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ بَلْ بِتَخْرِيجِهِمْ إيَّاهُ مِنْ أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ كَمَا هُوَ حَالُ أَصْحَابِ التَّخْرِيجِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَسَائِلِ فَكَانَ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ هَاهُنَا مِنْ قَبِيلِ إثْبَاتِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ بِأَصْلِهِ عَلَى تَخْرِيجِ بَعْضِ الْمَشَايِخِ، وَأَمْثَالُ هَذَا أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى. وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ حَاصِلَهُ أَنَّ الْمُصَنِّفَ أَخَذَ مَا ذَكَرَهُ هَاهُنَا مِنْ مَفْهُومِ قَوْلِ مُحَمَّدٍ فِي الزِّيَادَاتِ فَلَمْ يُسَلِّمْهَا إلَى الْوَكِيلِ. فَيَرُدُّ عَلَيْهِ أَنَّ مُحَمَّدًا لَمْ يَذْكُرْ الْخِلَافَ هُنَاكَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَا ذَكَرَهُ عَلَى قَوْلِ نَفْسِهِ فَقَطْ فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِمَّا قَالَ بِهِ أَيْضًا، فَلَوْ عَمِلَ بِمَفْهُومِ الْقَيْدِ الْمَذْكُورِ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرَى لِلْوَكِيلِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ فِيمَا إذَا سَلَّمَ الْمُوَكِّلُ الدَّرَاهِمَ إلَى الْوَكِيلِ وَقَالَ لَهُ اشْتَرِ لِي بِهَا عَيْنًا فَاشْتَرَاهُ وَقَبَضَهُ فَهَلَكَ فِي يَدِهِ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُ الْآمِرُ مَعَ أَنَّ قَوْلَ مُحَمَّدٍ وَقَوْلَ أَبِي يُوسُفَ بِخِلَافِهِ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ قَاطِبَةً، وَذَكَرَ فِي مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ، وَأَوْرَدَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ عَلَى الْجَوَابِ الْمَذْكُورِ بِوَجْهٍ آخَرَ حَيْثُ قَالَ فِيهِ نَظَرٌ، إذْ لَا يُفَصِّلُ مَا فِي الْكِتَابِ بَيْنَ مَا قَبْلَ الْقَبْضِ وَمَا بَعْدَهُ كَمَا مَرَّ انْتَهَى.

أَقُولُ: هُوَ مَدْفُوعٌ بِحَمْلِ إطْلَاقِ مَا فِي الْكِتَابِ عَلَى مَا هُوَ الْمُقَيَّدُ فِي كَلَامِ الثِّقَاتِ، إذْ قَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ الْمُطْلَقَ وَالْمُقَيَّدَ إذَا وَرَدَا وَاتَّحَدَ الْحُكْمُ وَالْحَادِثَةُ يُحْمَلُ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ وَهَا هُنَا كَذَلِكَ فَتَدَبَّرْ (أَلَا تَرَى) تَنْوِيرٌ لِتَعَيُّنِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فِي الْوَكَالَاتِ (أَنَّهُ) أَيْ الْآمِرُ (لَوْ قَيَّدَ الْوَكَالَةَ بِالْعَيْنِ مِنْهَا) أَيْ مِنْ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ (أَوْ بِالدَّيْنِ مِنْهَا ثُمَّ اسْتَهْلَكَ) أَيْ الْآمِرُ أَوْ الْوَكِيلُ (الْعَيْنَ) كَذَا فِي مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْتَهْلَكَ عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ (أَوْ أَسْقَطَ) أَيْ الْمُوَكِّلُ (الدَّيْنَ) بِأَنْ أَبْرَأهُ عَنْ الدَّيْنِ بَعْدَ التَّوْكِيلِ كَذَا فِي مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ أَيْضًا. وَيَجُوزُ فِيهِ أَيْضًا بِنَاءُ الْمَفْعُولِ (بَطَلَتْ الْوَكَالَةُ) جَوَابُ

ص: 59

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

لَوْ قَيَّدَ الْوَكَالَةَ. وَنَقَلَ النَّاطِفِيُّ فِي الْأَجْنَاسِ عَنْ الْأَصْلِ أَنَّ الْوَكِيلَ بِالشِّرَاءِ إذَا قَبَضَ الدَّنَانِيرَ مِنْ الْمُوَكِّلِ وَقَدْ أَمَرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا طَعَامًا فَاشْتَرَى بِدَنَانِيرَ غَيْرِهَا ثُمَّ نَقَدَ دَنَانِيرَ الْمُوَكِّلِ فَالطَّعَامُ لِلْوَكِيلِ وَهُوَ ضَامِنٌ لِدَنَانِيرِ الْمُوَكِّلِ. ثُمَّ قَالَ: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ يَتَعَيَّنَانِ فِي الْوَكَالَةِ. قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: إنَّمَا قَيَّدَ: يَعْنِي الْمُصَنِّفُ بِالِاسْتِهْلَاكِ دُونَ الْهَلَاكِ؛ لِأَنَّ بُطْلَانَ الْوَكَالَةِ مَخْصُوصٌ بِالِاسْتِهْلَاكِ دُونَ الْهَلَاكِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا مَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ قَاضِي خَانْ فِي السَّلَمِ مِنْ بُيُوعِ فَتَاوَاهُ فَقَالَ: رَجُلٌ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ عَشَرَةَ دَرَاهِمِ لِيَشْتَرِيَ بِهَا ثَوْبًا قَدْ سَمَّاهُ فَأَنْفَقَ الْوَكِيلُ عَلَى نَفْسِهِ دَرَاهِمَ الْمُوَكِّلِ وَاشْتَرَى ثَوْبًا لِلْآمِرِ بِدَرَاهِمِ نَفْسِهِ فَإِنَّ الثَّوْبَ لِلْمُشْتَرِي لَا لِلْآمِرِ؛ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ تَقَيَّدَتْ بِتِلْكَ الدَّرَاهِمِ فَبَطَلَتْ الْوَكَالَةُ بِهَلَاكِهَا، وَلَوْ اشْتَرَى ثَوْبًا لِلْآمِرِ وَنَقَدَ الثَّمَنَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ أَمْسَكَ دَرَاهِمَ الْآمِرِ كَانَ الثَّوْبُ لِلْآمِرِ وَتَطِيبُ لَهُ دَرَاهِمُ الْمُوَكِّلِ اسْتِحْسَانًا، كَالْوَارِثِ وَالْوَصِيِّ إذَا قَضَى دَيْنَ الْمَيِّتِ بِمَالِ نَفْسِهِ انْتَهَى كَلَامُهُ.

أَقُولُ: دَلَالَةُ مَا نَقَلَهُ عَنْ الْإِمَامِ قَاضِي خَانْ عَلَى أَنَّ بُطْلَانَ الْوَكَالَةِ مَخْصُوصٌ بِالِاسْتِهْلَاكِ مَمْنُوعَةٌ. غَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّهُ صَوَّرَ الْمَسْأَلَةَ بِمَا إذَا أَنْفَقَ الْوَكِيلُ عَلَى نَفْسِهِ دَرَاهِمَ الْمُوَكِّلِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ لَا يَكُونَ الْحُكْمُ كَذَلِكَ فِيمَا إذَا هَلَكَتْ دَرَاهِمُ الْمُوَكِّلِ بِغَيْرِ صُنْعِ الْوَكِيلِ، أَلَا يَرَى أَنَّهُ قَالَ فَبَطَلَتْ الْوَكَالَةُ بِهَلَاكِهَا وَلَمْ يَقُلْ بِاسْتِهْلَاكِهَا، وَلَوْ كَانَ مُرَادُهُ الْفَرْقَ بَيْنَ الِاسْتِهْلَاكِ وَالْهَلَاكِ لَمَا قَالَ كَذَلِكَ. وَقَالَ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ: قَالَ بَعْضُ الشَّارِحِينَ: إنَّمَا قَيَّدَ بِالِاسْتِهْلَاكِ دُونَ الْهَلَاكِ؛ لِأَنَّ بُطْلَانَ الْوَكَالَةِ مَخْصُوصٌ

ص: 60

وَإِذَا تَعَيَّنَتْ كَانَ هَذَا تَمْلِيكُ الدَّيْنِ مَنْ غَيْرَ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ مِنْ دُونِ أَنْ يُوَكِّلَهُ بِقَبْضِهِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ، كَمَا إذَا اشْتَرَى بِدَيْنٍ عَلَى غَيْرِ الْمُشْتَرِي أَوْ يَكُونُ أَمْرًا بِصَرْفِ مَا لَا يَمْلِكُهُ إلَّا بِالْقَبْضِ قَبْلَهُ وَذَلِكَ بَاطِلٌ كَمَا إذَا قَالَ أَعْطِ مَالِي عَلَيْك

بِالِاسْتِهْلَاكِ دُونَ الْهَلَاكِ، هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مُخَالِفٌ لِمَا ذَكَرُوا فِي شُرُوحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ حَيْثُ قَالُوا: لَوْ هَلَكَتْ الدَّرَاهِمُ الْمُسَلَّمَةُ إلَى الْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ بَطَلَتْ الْوَكَالَةُ. فَأَقُولُ: كَأَنَّ الْمُصَنِّفَ قَيَّدَ بِالِاسْتِهْلَاكِ حَتَّى لَا يَتَوَهَّمَ مُتَوَهِّمٌ أَنَّ الْوَكَالَةَ لَا تَبْطُلُ إذَا اسْتَهْلَكَ الْوَكِيلُ الدَّرَاهِمَ الْمُسَلَّمَةَ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يَضْمَنُ الدَّرَاهِمَ كَمَا فِي هَلَاكِ الْمَبِيعِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ. وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: إنَّمَا قَيَّدَ بِالِاسْتِهْلَاكِ؛ لِأَنَّ بُطْلَانَ الْوَكَالَةِ مَخْصُوصٌ بِهِ. وَنُقِلَ عَنْ كُلٍّ مِنْ الذَّخِيرَةِ وَفَتَاوَى قَاضِي خَانْ مَسْأَلَةً تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ. وَرُدَّ بِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَا ذَكَرُوا فِي شُرُوحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ حَيْثُ قَالُوا: لَوْ هَلَكَتْ الدَّرَاهِمُ الْمُسَلَّمَةُ إلَى الْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ بَطَلَتْ الْوَكَالَةُ، بَلْ إنَّمَا قَيَّدَ الْمُصَنِّفُ بِذَلِكَ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ الْوَكَالَةَ لَا تَبْطُلُ إذَا اسْتَهْلَكَ الْوَكِيلُ الدَّرَاهِمَ الْمُسَلَّمَةَ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يَضْمَنُ الدَّرَاهِمَ فَيَقُومُ مِثْلُهَا مَقَامَهَا فَتَصِيرُ كَأَنَّ عَيْنَهَا بَاقِيَةٌ، فَذَكَرَ الِاسْتِهْلَاكَ لِبَيَانِ تَسَاوِيهِمَا فِي بُطْلَانِ الْوَكَالَةِ بِهِمَا انْتَهَى.

أَقُولُ: هَذَا حَاصِلُ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ خَلَا قَوْلِهِ وَنَقَلَ عَنْ كُلٍّ مِنْ الذَّخِيرَةِ وَفَتَاوَى قَاضِي خَانْ مَسْأَلَةً تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَأَنَّهُ لَيْسَ بِسَدِيدٍ، إذْ لَمْ نَجِدْ فِي نُسَخِ النِّهَايَةِ هُنَا مَسْأَلَةً مَنْقُولَةً عَنْ الذَّخِيرَةِ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، بَلْ الْمَذْكُورُ فِيهَا هَاهُنَا إنَّمَا هِيَ مَسْأَلَةُ فَتَاوَى قَاضِي خَانْ كَمَا نَقَلْنَاهُ فِيمَا قَبْلُ (فَإِذَا تَعَيَّنَتْ) أَيْ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ، وَهَذَا مِنْ تَتِمَّةِ الدَّلِيلِ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ تَتَعَيَّنُ فِي الْوَكَالَاتِ، وَإِذَا تَعَيَّنَتْ (كَانَ هَذَا) أَيْ التَّوْكِيلُ الْمَذْكُورُ (تَمْلِيكَ الدَّيْنِ مَنْ غَيْرَ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُوَكِّلَهُ) أَيْ ذَلِكَ الْغَيْرُ (بِقَبْضِهِ) أَيْ بِقَبْضِ الدَّيْنِ (وَذَلِكَ) أَيْ تَمْلِيكُ الدَّيْنِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَزْبُورِ (لَا يَجُوزُ) لِعَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّسْلِيمِ (كَمَا إذَا اشْتَرَى بِدَيْنٍ عَلَى غَيْرِ الْمُشْتَرِي) بِأَنْ كَانَ لِزَيْدٍ عَلَى عَمْرٍو مَثَلًا دَيْنٌ فَاشْتَرَى زَيْدٌ مِنْ آخَرَ شَيْئًا بِذَلِكَ الدَّيْنِ الَّذِي لَهُ عَلَى عَمْرٍو فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ، فَكَانَ تَقْدِيرُهُ كَمَا إذَا اشْتَرَى الْمُشْتَرِي شَيْئًا بِدَيْنٍ عَلَى غَيْرِ نَفْسِهِ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الشُّرَّاحِ. وَقَالَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ: أَيْ كَمَا إذَا اشْتَرَى هَذَا الْمَأْمُورُ بِدَيْنٍ هُوَ حَقَّ الْآمِرِ عَلَى غَيْرِ هَذَا الْمَأْمُورِ انْتَهَى.

وَوَافَقَهُ صَاحِبُ الْغَايَةِ حَيْثُ قَالَ: يَعْنِي كَمَا إذْ اشْتَرَى الْوَكِيلُ بِدَيْنٍ عَلَى غَيْره كَمَا إذَا أَمَرَهُ زَيْدٌ مَثَلًا أَنْ يَشْتَرِيَ بِدَيْنٍ لِزَيْدٍ عَلَى عَمْرٍو شَيْئًا مِنْ آخَرَ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِكَوْنِهِ تَمْلِيكَ الدَّيْنِ مَنْ غَيْرَ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ، فَكَذَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ انْتَهَى.

وَبَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ تَغَايُرٌ لَا يَخْفَى (أَوْ يَكُونُ أَمْرًا بِصَرْفِ) أَيْ بِدَفْعِ (مَا لَا يَمْلِكُهُ إلَّا بِالْقَبْضِ قَبْلَهُ) أَيْ قَبْلَ الْقَبْضِ مُتَعَلِّقٌ بِصَرْفٍ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ كَانَ هَذَا تَمْلِيكَ الدَّيْنِ لِغَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ، وَالْمَعْنَى: أَوْ يَكُونُ التَّوْكِيلُ الْمَذْكُورُ أَمْرًا مِنْ رَبِّ الدَّيْنِ لِلْمَدْيُونِ بِدَفْعِ مَا لَا يَمْلِكُهُ رَبُّ الدَّيْنِ إلَّا بِالْقَبْضِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الدُّيُونَ تُقْضَى بِأَمْثَالِهَا فَكَانَ مَا أَدَّى الْمَدْيُونُ إلَى الْبَائِعِ أَوْ إلَى رَبِّ الدَّيْنِ مِلْكَ الْمَدْيُونِ وَلَا يَمْلِكُهُ الدَّائِنُ قَبْلَ الْقَبْضِ (وَذَلِكَ بَاطِلٌ) أَيْ أَمْرُ الْإِنْسَانِ بِدَفْعِ مَا لَا يَمْلِكُهُ بَاطِلٌ (كَمَا إذَا قَالَ أَعْطِ مَا لِي عَلَيْك

ص: 61

مَنْ شِئْت، بِخِلَافِ مَا إذَا عَيَّنَ الْبَائِعُ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ وَكِيلًا عَنْهُ فِي الْقَبْضِ ثُمَّ يَتَمَلَّكُهُ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا أَمَرَهُ بِالتَّصَدُّقِ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْمَالَ لِلَّهِ وَهُوَ مَعْلُومٌ.

مَنْ شِئْت) فَإِنَّهُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ بِصَرْفِ مَا لَا يَمْلِكُهُ الْآمِرُ إلَّا بِالْقَبْضِ إلَى مَنْ يَخْتَارُهُ الْمَدْيُونُ بِنَفْسِهِ (بِخِلَافِ مَا إذَا عَيَّنَ الْبَائِعَ) يَعْنِي بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْمُوَكِّلُ عَيَّنَ الْبَائِعَ، فَإِنَّ التَّوْكِيلَ صَحِيحٌ هُنَاكَ (لِأَنَّهُ) أَيْ الْبَائِعَ (يَصِيرُ) أَوَّلًا (وَكِيلًا عَنْهُ) أَيْ عَنْ الْمُوَكِّلِ (فِي الْقَبْضِ) تَصْحِيحًا لِتَصَرُّفِهِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ (ثُمَّ يَتَمَلَّكُهُ) أَيْ ثُمَّ يَتَمَلَّكُهُ الْبَائِعُ فَيَصِيرُ قَابِضًا لِرَبِّ الدَّيْنِ أَوَّلًا ثُمَّ يَصِيرُ قَابِضًا لِنَفْسِهِ كَمَا لَوْ وَهَبَ دَيْنَهُ عَلَى غَيْرِهِ وَوَكَّلَ الْمَوْهُوبَ لَهُ بِقَبْضِهِ، وَكَذَا إذَا عَيَّنَ الْمَبِيعَ؛ لِأَنَّ فِي تَعْيِينِ الْمَبِيعِ تَعْيِينَ الْبَائِعِ كَمَا مَرَّ فِي صَدْرِ الْمَسْأَلَةِ فَصَارَ كَمَا لَوْ عَيَّنَ الْبَائِعَ، وَمَتَى أُبْهِمَ الْمَبِيعُ أَوْ الْبَائِعُ يَكُونُ الْبَائِعُ مَجْهُولًا وَالْمَجْهُولُ لَا يَصْلُحُ وَكِيلًا. قِيلَ: يُشْكِلُ بِمَا لَوْ آجَرَ حَمَّامًا بِأُجْرَةٍ مَعْلُومَةٍ وَأَمَرَ الْمُسْتَأْجِرَ بِالْمَرَمَّةِ مِنْ الْأُجْرَةِ أَجَّرَ فَإِنَّهُ يَجُوزُ، وَإِنْ كَانَ هَذَا أَمْرًا بِتَمْلِيكِ الدَّيْنِ مَنْ غَيْرَ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ وَهُوَ الْأَجِيرُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُوَكِّلَهُ بِقَبْضِهِ؛ لِأَنَّ الْأَجِيرَ مَجْهُولٌ وَتَوْكِيلُ الْمَجْهُولِ لَا يَصِحُّ.

وَأُجِيبُ بِأَنَّ ذَاكَ قَوْلُهُمَا، وَلَئِنْ كَانَ قَوْلَ الْكُلِّ فَإِنَّمَا جَازَ بِاعْتِبَارِ الضَّرُورَةِ، فَإِنَّ الْمُسْتَأْجِرَ لَا يَجِدُ الْآجِرَ فِي كُلِّ وَقْتٍ فَجَعَلْنَا الْحَمَّامَ قَائِمًا مَقَامَ الْآجِرِ فِي الْقَبْضِ، كَذَا فِي الْكِفَايَةِ وَغَيْرِهَا. وَاعْتُرِضَ بِأَنْ لَوْ اشْتَرَى شَيْئًا بِدَيْنٍ عَلَى آخَرَ يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ أَنْ يَجْعَلَ الْبَائِعَ وَكِيلًا بِالْقَبْضِ أَوَّلًا لِكَوْنِهِ مُعَيَّنًا. وَأُجِيبُ بِأَنَّ عَدَمَ الْجَوَازِ هُنَا لِكَوْنِهِ بَيْعًا بِشَرْطٍ وَهُوَ أَدَاءُ الثَّمَنِ عَلَى الْغَيْرِ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ وَبَعْضِ الشُّرَّاحِ. أَقُولُ: فِي هَذَا الْجَوَابِ بَحْثٌ، أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ الْبَائِعَ لَوْ جَعَلَ هُنَا وَكِيلًا بِالْقَبْضِ لَمْ يَكُنْ الْعَقْدُ بَيْعًا بِشَرْطِ أَدَاءِ الثَّمَنِ عَلَى الْغَيْرِ، بَلْ يَكُونُ أَدَاءُ الثَّمَنِ عَلَى الْمُشْتَرِي بِيَدِ وَكِيلِهِ كَمَا فِيمَا إذَا كَانَ الْمُوَكِّلُ عَيَّنَ الْبَائِعَ. وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ النُّقُودَ لَمَّا لَمْ تَتَعَيَّنْ فِي الْمُعَاوَضَاتِ لَمْ يَلْزَمْ الِاشْتِرَاطُ الْمَذْكُورُ هُنَا أَصْلًا. وَأَمَّا ثَالِثًا فَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عَدَمُ الْجَوَازِ هُنَا لِكَوْنِهِ بَيْعًا بِشَرْطٍ لَا لِكَوْنِ تَمْلِيكِ الدَّيْنِ مَنْ غَيْرَ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُوَكِّلَهُ بِقَبْضِهِ لَمَا كَانَ لِقَوْلِ الْمُصَنِّفِ فِيمَا مَرَّ آنِفًا كَمَا إذَا اشْتَرَى بِدَيْنٍ عَلَى غَيْرِ الْمُشْتَرِي ارْتِبَاطٌ بِمَا قَبْلَهُ، وَلَمَا كَانَ لِقَوْلِ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِذَلِكَ مَعْنَى، فَإِنْ أَمْكَنَ تَخْلِيصُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ بِحَمْلِ مُرَادِهِ بِقَوْلِهِ كَمَا إذَا اشْتَرَى بِدَيْنٍ عَلَى غَيْرِ الْمُشْتَرِي عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ بَعْضُ الشُّرَّاحِ دُونَ الْمَعْنَى الَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ أَكْثَرُهُمْ كَمَا عَرَفْته فِيمَا قَبْلُ لَا يُمْكِنُ تَخْلِيصُ كَلَامِ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ فَإِنَّهُ ذَهَبَ إلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْأَكْثَرُ فَتَأَمَّلْ.

وَأُجِيبُ عَنْ الِاعْتِرَاضِ الْمَذْكُورِ فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ بِوَجْهٍ آخَرَ أَيْضًا، وَهُوَ أَنَّ الْبَائِعَ لَوْ صَارَ وَكِيلًا فَإِنَّمَا يَصِيرُ وَكِيلًا فِي ضِمْنِ الْمُبَايَعَةِ، وَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَثْبُتَ الْمُتَضَمِّنُ لِيَثْبُتَ الْمُتَضَمَّنُ، وَالْمُبَايَعَةُ لَمْ تَثْبُتْ لِمَا فِيهِ مِنْ تَمْلِيكِ الدَّيْنِ مَنْ غَيْرَ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنِ فَلَا يَثْبُتُ الْمُتَضَمَّنُ، بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ؛ لِأَنَّ التَّوْكِيلَ بِالْقَبْضِ يَثْبُتُ فِيهِ بِأَمْرِ الْآمِرِ، وَأَنَّهُ يَسْبِقُ الشِّرَاءُ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا وَهَبَ الدَّيْنَ مَنْ غَيْرَ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ حَيْثُ تَصِحُّ الْهِبَةُ وَيَثْبُتُ الْأَمْرُ مِنْ الْوَاهِبِ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ بِالْقَبْضِ فِي ضِمْنِ الْهِبَةِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ يَتَوَقَّفُ إلَى زَمَانِ الْقَبْضِ فَيَكُونُ التَّوْكِيلُ بِالْقَبْضِ سَابِقًا عَلَى التَّمْلِيكِ مَعْنَى (وَبِخِلَافِ مَا إذَا أَمَرَهُ بِالتَّصَدُّقِ) جَوَابٌ عَنْ قِيَاسِهِمَا عَلَى الْآمِرِ بِالتَّصَدُّقِ وَلَمْ يُذْكَرْ فِي الْكِتَابِ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي سِيَاقِ دَلِيلِهِمَا (لِأَنَّهُ) أَيْ الْآمِرَ بِالتَّصَدُّقِ (جَعَلَ الْمَالَ لِلَّهِ تَعَالَى) وَنَصَبَ الْفَقِيرَ وَكِيلًا عَنْ اللَّهِ عز وجل فِي قَبْضِ حَقِّهِ، كَذَا فِي الْكَافِي وَغَيْرِهِ (وَهُوَ مَعْلُومٌ) أَيْ اللَّهُ تبارك وتعالى مَعْلُومٌ فَكَانَ كَتَعْيِينِ الْبَائِعِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى.

وَأَمَّا مَسْأَلَةُ التَّصَادُقِ فِي الشِّرَاءِ بِأَنْ لَا دَيْنَ لَهُ

ص: 62

وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ التَّوْكِيلُ نَفَذَ الشِّرَاءُ عَلَى الْمَأْمُورِ فَيَهْلِكُ مِنْ مَالِهِ إلَّا إذَا قَبَضَهُ الْآمِرُ مِنْهُ لِانْعِقَادِ الْبَيْعِ تَعَاطَيَا.

قَالَ (وَمَنْ دَفَعَ إلَى آخَرَ أَلْفًا وَأَمَرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا جَارِيَةً فَاشْتَرَاهَا فَقَالَ الْآمِرُ اشْتَرَيْتَهَا بِخَمْسِمِائَةٍ. وَقَالَ الْمَأْمُورُ اشْتَرَيْتُهَا بِأَلْفٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَأْمُورِ) وَمُرَادُهُ إذَا كَانَتْ تُسَاوِي أَلْفًا؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ فِيهِ وَقَدْ ادَّعَى الْخُرُوجَ عَنْ عُهْدَةِ الْأَمَانَةِ وَالْآمِرُ يَدَّعِي عَلَيْهِ

عَلَيْهِ فَلِأَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ لَا يَتَعَيَّنَانِ فِي الشِّرَاءِ عَيْنًا أَوْ دَيْنًا وَلَكِنْ يَتَعَيَّنَانِ فِي الْوَكَالَاتِ، فَلَمَّا لَمْ يَتَعَيَّنَا فِي الشِّرَاءِ لَمْ يَبْطُلْ الشِّرَاءُ بِبُطْلَانِ الدَّيْنِ، كَذَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ الْمَرْغِينَانِيُّ وَالْمَحْبُوبِيُّ وَقَاضِي خَانْ (وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ التَّوْكِيلُ) رُجُوعٌ إلَى أَوَّلِ الْبَحْثِ: يَعْنِي لَمَّا ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ أَنَّ التَّوْكِيلَ بِشِرَاءِ عَبْدٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ لَمْ يُعْلَمْ بَائِعُهُ غَيْرُ صَحِيحٍ (نَفَذَ الشِّرَاءُ عَلَى الْمَأْمُورِ فَهَلَكَ مِنْ مَالِهِ) يَعْنِي إذَا هَلَكَ هَلَكَ مِنْ مَالِ الْمَأْمُورِ (إلَّا إذَا قَبَضَهُ الْآمِرُ مِنْهُ) فَإِنَّهُ إذَا هَلَكَ حِينَئِذٍ هَلَكَ مِنْ مَالِ الْآمِرِ (لِانْعِقَادِ الْبَيْعِ) بَيْنَهُمَا (تَعَاطِيًا) فَكَانَ هَالِكًا فِي مِلْكِ الْآمِرِ.

قَالَ الْإِمَامُ الزَّيْلَعِيُّ فِي التَّبْيِينِ: وَذَكَرَ فِي النِّهَايَةِ أَنَّ النُّقُودَ لَا تَتَعَيَّنُ فِي الْوَكَالَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ بِالْإِجْمَاعِ، وَكَذَا بَعْدَهُ عِنْدَ عَامَّتِهِمْ؛ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ وَسِيلَةٌ إلَى الشِّرَاءِ فَتُعْتَبَرُ بِالشِّرَاءِ، وَعَزَاهُ إلَى الزِّيَادَاتِ وَالذَّخِيرَةِ، فَعَلَى هَذَا لَا يَلْزَمُهُمَا مَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ. وَالتَّعْلِيلُ الصَّحِيحُ لَهُ أَنْ يُقَالَ: إنَّ تَمْلِيكَ الدَّيْنِ مَنْ غَيْرَ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ لَا يَجُوزُ، فَكَذَا التَّوْكِيلُ بِهِ، وَإِنَّمَا جَازَ فِي الْمُعَيَّنِ لِكَوْنِهِ أَمْرًا لَهُ بِالْقَبْضِ ثُمَّ بِالتَّمْلِيكِ لَا تَوْكِيلًا لِلْمَدِينِ بِالتَّمْلِيكِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُعَيَّنًا لَا يَصِحُّ الْأَمْرُ لِلْمَجْهُولِ فَكَانَ تَوْكِيلًا لِلْمَدِينِ بِالتَّمْلِيكِ فِي الْإِسْلَامِ وَالشِّرَاءِ وَالصَّرْفِ وَلَا يَجُوزُ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ.

أَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ إذْ لَا يَلْزَمُهُمَا التَّعْلِيلُ الَّذِي ذَكَرَهُ أَيْضًا، إذْ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ مِنْ قِبَلِهِمَا إنَّ عَدَمَ جَوَازِ تَمْلِيكِ الدَّيْنِ مَنْ غَيْرَ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ لَا يَقْتَضِي عَدَمَ صِحَّةِ التَّوْكِيلِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ، فَإِنَّهُ لَمَّا لَمْ تَتَعَيَّنْ النُّقُودُ فِي الْوَكَالَاتِ لَمْ يَكُنْ لِتَعْيِينِ الْآمِرِ الْأَلْفَ الَّتِي عَلَى الْمَأْمُورِ تَأْثِيرٌ فِيمَا أَمَرَهُ بِهِ مِنْ اشْتِرَاءِ عَبْدٍ لَهُ، بَلْ صَحَّ اشْتِرَاءُ الْمَأْمُورِ عَبْدًا لَهُ بِأَيَّةِ أَلْفٍ كَانَتْ، فَكَانَ ذِكْرُ تِلْكَ الْأَلْفِ فِي التَّوْكِيلِ بِشِرَاءِ عَبْدٍ لَهُ وَعَدَمُ ذِكْرِهَا فِيهِ سَوَاءٌ فَصَحَّ التَّوْكِيلُ. وَقَدْ أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ فِي أَثْنَاءِ دَلِيلِهِمَا حَيْثُ قَالَ: فَكَانَ الْإِطْلَاقُ وَالتَّقْيِيدُ فِيهِ سَوَاءٌ فَيَصِحُّ التَّوْكِيلُ، وَلَا بُدَّ فِي تَمَامِ التَّعْلِيلِ مِنْ قِبَلِ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله مِنْ الْمَصِيرِ إلَى تَعْيِينِ النُّقُودِ فِي الْوَكَالَاتِ وَإِنْ كَانَ عَلَى قَوْلِ بَعْضِ الْمَشَايِخِ كَمَا فَعَلَهُ الْمُصَنِّفُ، فَلِلَّهِ دَرُّهُ فِي تَدْقِيقِهِ وَتَحْقِيقِهِ

(قَالَ) أَيْ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ (وَمَنْ دَفَعَ إلَى آخَرَ أَلْفًا وَأَمَرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا جَارِيَةً فَاشْتَرَاهَا فَقَالَ الْآمِرُ اشْتَرَيْتهَا بِخَمْسِمِائَةٍ وَقَالَ الْمَأْمُورُ اشْتَرَيْتُهَا بِأَلْفٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَأْمُورِ) إلَى هُنَا لَفْظُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَمُرَادُهُ) أَيْ مُرَادُ مُحَمَّدٍ (إذَا كَانَتْ) أَيْ الْجَارِيَةُ (تُسَاوِي أَلْفًا) يَعْنِي أَنَّ الْحُكْمَ الْمَذْكُورَ وَهُوَ كَوْنُ الْقَوْلِ قَوْلَ الْمَأْمُورِ فِيمَا إذَا كَانَتْ قِيمَةُ الْجَارِيَةِ أَلْفًا (لِأَنَّهُ) أَيْ الْمَأْمُورَ (أَمِينٌ فِيهِ) أَيْ فِي الْخُصُوصِ الْمَزْبُورِ (وَقَدْ ادَّعَى الْخُرُوجَ عَنْ عُهْدَةِ الْأَمَانَةِ وَالْآمِرُ يَدَّعِيْ عَلَيْهِ

ص: 63

ضَمَانَ خَمْسِمِائَةٍ وَهُوَ يُنْكِرُ، فَإِنْ كَانَتْ تُسَاوِي خَمْسَمِائَةٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْآمِرِ؛ لِأَنَّهُ خَالَفَ حَيْثُ اشْتَرَى جَارِيَةً تُسَاوِي خَمْسَمِائَةٍ وَالْأَمْرُ تَنَاوَلَ مَا يُسَاوِي أَلْفًا فَيَضْمَنُ.

قَالَ (وَإِنْ لَمْ يَكُنْ دَفَعَ إلَيْهِ الْأَلْفَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْآمِرِ) أَمَّا إذَا كَانَتْ قِيمَتُهَا خَمْسَمِائَةٍ فَلِلْمُخَالَفَةِ وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهَا أَلْفًا فَمَعْنَاهُ أَنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ؛ لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ وَالْوَكِيلَ فِي هَذَا يَنْزِلَانِ مَنْزِلَةَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي وَقَدْ وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي الثَّمَنِ وَمُوجِبُهُ التَّحَالُفُ. ثُمَّ يُفْسَخُ الْعَقْدُ الَّذِي جَرَى بَيْنَهُمَا فَتَلْزَمُ الْجَارِيَةُ الْمَأْمُورَ.

قَالَ (وَلَوْ أَمَرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ هَذَا الْعَبْدَ وَلَمْ يُسَمِّ لَهُ ثَمَنًا فَاشْتَرَاهُ فَقَالَ الْآمِرُ اشْتَرَيْته بِخَمْسِمِائَةٍ وَقَالَ الْمَأْمُورُ بِأَلْفٍ وَصَدَّقَ الْبَائِعُ الْمَأْمُورَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَأْمُورِ مَعَ يَمِينِهِ) قِيلَ لَا تَحَالُفَ هَاهُنَا؛ لِأَنَّهُ ارْتَفَعَ الْخِلَافُ بِتَصْدِيقِ الْبَائِعِ،

ضَمَانَ خَمْسِمِائَةٍ وَهُوَ) أَيْ الْمَأْمُورُ (يُنْكِرُ) وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ (فَإِنْ كَانَتْ) أَيْ الْجَارِيَةُ (تُسَاوِي خَمْسَمِائَةٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْآمِرِ؛ لِأَنَّهُ) أَيْ الْوَكِيلُ (خَالَفَ) أَيْ خَالَفَ الْآمِرَ إلَى شَرٍّ (حَيْثُ اشْتَرَى جَارِيَةً تُسَاوِي خَمْسَمِائَةٍ وَالْأَمْرُ يَتَنَاوَلُ مَا يُسَاوِي أَلْفًا) وَأَيْضًا فِيهِ غَبْنٌ فَاحِشٌ (فَيَضْمَنُ) أَيْ الْمَأْمُورُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ أَنْ يُخَالِفَ الْآمِرَ إلَى شَرٍّ وَلَا أَنْ يَشْتَرِيَ بِغَبَنٍ فَاحِشٍ.

(قَالَ) أَيْ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ (وَإِنْ لَمْ يَكُنْ دَفَعَ إلَيْهِ الْأَلْفَ) وَاخْتَلَفَا (فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْآمِرِ، أَمَّا إذَا كَانَتْ قِيمَتُهَا) أَيْ قِيمَةُ الْجَارِيَةِ (خَمْسَمِائَةٍ فَلِلْمُخَالَفَةِ) وَلِتَحْقِيقِ الْغَبْنِ الْفَاحِشِ كَمَا مَرَّ آنِفًا (وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهَا أَلْفًا، فَمَعْنَاهُ) أَيْ فَمَعْنَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْآمِرِ (أَنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ) وَيَنْدَفِعُ بِهِ مَا قِيلَ فِي شُرُوحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: إنَّ الْجَارِيَةَ إذَا كَانَتْ تُسَاوِي أَلْفًا وَجَبَ أَنْ تَلْزَمَ الْآمِرَ سَوَاءٌ قَالَ الْمَأْمُورُ اشْتَرَيْتهَا بِأَلْفٍ أَوْ بِأَقَلَّ مِنْهَا؛ لِأَنَّهُ إنْ اشْتَرَاهَا بِأَلْفٍ كَانَ مُوَافِقًا لِلْآمِرِ، وَإِنْ اشْتَرَاهَا بِأَقَلَّ مِنْهَا كَانَ مُخَالِفًا إلَى خَيْرٍ، وَكُلُّ ذَلِكَ يَلْزَمُ الْآمِرَ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ وَغَيْرِهَا. أَقُولُ: بَقِيَ هَاهُنَا شَيْءٌ، وَهُوَ أَنَّ الْمَذْكُورَ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْآمِرِ وَالتَّحَالُفُ يُخَالِفُهُ فَكَيْفَ يَكُونُ هَذَا مَعْنَى ذَاكَ؟ وَالْجَوَابُ الَّذِي أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْآتِيَةِ بِقَوْلِهِ وَقَدْ ذَكَرَ مُعْظَمَ يَمِينِ التَّحَالُفِ وَهُوَ يَمِينُ الْبَائِعِ لَا يَتَمَشَّى هُنَا كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى الْمُتَأَمِّلِ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ (لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ وَالْوَكِيلَ فِي هَذَا) أَيْ فِي هَذَا الْفَصْلِ (يَنْزِلَانِ مَنْزِلَةَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي) لِلْمُبَادَلَةِ الْحُكْمِيَّةِ بَيْنَهُمَا (وَقَدْ وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي الثَّمَنِ وَمُوجِبُهُ التَّحَالُفُ ثُمَّ يُفْسَخُ) يَعْنِي فَإِذَا تَحَالَفَا يُفْسَخُ (الْعَقْدُ الَّذِي جَرَى بَيْنَهُمَا) أَيْ بَيْنَ الْمُوَكِّلِ وَالْوَكِيلِ وَهُوَ الْعَقْدُ الْحُكْمِيُّ (فَتَلْزَمُ الْجَارِيَةُ الْمَأْمُورَ) قِيلَ هُنَا مُطَالَبَةٌ وَهِيَ أَنَّ الْوَكِيلَ إذَا قَبَضَ الثَّمَنَ فَوَقَعَ الِاخْتِلَافُ اُعْتُبِرَ فِيهِ الْمُخَالَفَةُ وَالْأَمَانَةُ، وَإِذَا لَمْ يَقْبِضْ اُعْتُبِرَ فِيهِ الْمُخَالَفَةُ وَالْمُبَادَلَةُ فَمَا الْحُكْمُ فِي ذَلِكَ؟ وَأُجِيبُ بِأَنَّ فِي الْأَوَّلِ سَبَقَتْ الْأَمَانَةُ الْمُبَادَلَةَ، وَالسَّبَقُ مِنْ أَسْبَابِ التَّرْجِيحِ فَاعْتُبِرَتْ فِيهِ بِخِلَافِ الثَّانِي

(قَالَ) أَيْ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ (وَلَوْ أَمَرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ هَذَا الْعَبْدَ وَلَمْ يُسَمِّ لَهُ ثَمَنًا فَاشْتَرَاهُ) وَوَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي الثَّمَنِ (فَقَالَ الْآمِرُ اشْتَرَيْتَهُ بِخَمْسِمِائَةٍ وَقَالَ الْمَأْمُورُ) اشْتَرَيْتُهُ (بِأَلْفٍ وَصَدَّقَ الْبَائِعُ) أَيْ بَائِعُ الْعَبْدِ (الْمَأْمُورَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَأْمُورِ مَعَ يَمِينِهِ) إلَى هُنَا لَفْظُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ (قِيلَ لَا تَحَالُفَ هَاهُنَا) وَهُوَ قَوْلُ الْفَقِيهِ أَبِي جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ (لِأَنَّهُ ارْتَفَعَ الْخِلَافُ بِتَصْدِيقِ الْبَائِعِ

ص: 64

إذْ هُوَ حَاضِرٌ وَفِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى هُوَ غَائِبٌ، فَاعْتُبِرَ الِاخْتِلَافُ، وَقِيلَ يَتَحَالَفَانِ كَمَا ذَكَرْنَا، وَقَدْ ذَكَرَ مُعْظَمَ يَمِينِ التَّحَالُفِ وَهُوَ يَمِينُ الْبَائِعِ وَالْبَائِعُ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ أَجْنَبِيٌّ عَنْهُمَا وَقَبْلَهُ أَجْنَبِيٌّ عَنْ الْمُوَكِّلِ إذْ لَمْ يَجْرِ بَيْنَهُمَا بَيْعٌ فَلَا يُصَدَّقُ عَلَيْهِ فَيَبْقَى الْخِلَافُ، وَهَذَا قَوْلُ الْإِمَامِ أَبِي مَنْصُورٍ رحمه الله وَهُوَ أَظْهَرُ.

إذْ هُوَ) أَيْ الْبَائِعُ (حَاضِرٌ) فَيَجْعَلُ تَصَادُقَهُمَا بِمَنْزِلَةِ إنْشَاءِ الْعَقْدِ، وَلَوْ أَنْشَأَ الْعَقْدُ لَزِمَ الْآمِرُ فَكَذَا هَاهُنَا (وَفِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى هُوَ) أَيْ الْبَائِعُ (غَائِبٌ فَاعْتُبِرَ الِاخْتِلَافُ) لِعَدَمِ مَا يَرْفَعُهُ وَوَجَبَ التَّحَالُفُ (وَقِيلَ يَتَحَالَفَانِ) فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَيْضًا وَهُوَ قَوْلُ الشَّيْخِ أَبِي مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيِّ (كَمَا ذَكَرْنَا) أَيْ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى مِنْ أَنَّهُمَا يَنْزِلَانِ مَنْزِلَةَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي، وَقَدْ وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي الثَّمَنِ وَمُوجِبُهُ التَّحَالُفُ، وَلَمَّا اسْتَشْعَرَ أَنْ يُقَالَ كَيْفَ قِيلَ إنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ وَقَدْ نَصَّ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمَأْمُورِ مَعَ يَمِينِهِ وَالتَّحَالُفَ مُخَالَفَةٌ أَجَابَ بِقَوْلِهِ (وَقَدْ ذَكَرَ مُعْظَمَ يَمِينِ التَّحَالُفِ وَهُوَ يَمِينُ الْبَائِعِ) يَعْنِي أَنَّ مُحَمَّدًا اكْتَفَى بِذِكْرِ مُعْظَمِ الْيَمِينِ مِنْ يَمِينَيْ التَّحَالُفِ. وَهُوَ يَمِينُ الْبَائِعِ: أَيْ الْمَأْمُورِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْبَائِعِ فِي الْعَقْدِ الَّذِي جَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْآمِرِ حُكْمًا، وَإِنَّمَا قَالَ إنَّ يَمِينَ الْبَائِعِ الَّذِي هُوَ الْمَأْمُورُ مُعْظَمُ يَمِينَيْ التَّحَالُفِ؛ لِأَنَّهُ مُدَّعٍ هَاهُنَا وَلَا يَمِينَ عَلَى الْمُدَّعِي إلَّا فِي صُورَةِ التَّحَالُفِ، وَأَمَّا الْمُشْتَرِي وَهُوَ الْآمِرُ فَمُنْكِرٌ، وَعَلَى الْمُنْكِرِ الْيَمِينَ فِي كُلِّ حَالٍ، فَلَمَّا كَانَ يَمِينُ الْمَأْمُورِ هُوَ الْمُخْتَصُّ بِالتَّحَالُفِ كَانَتْ أَعْظَمَ الْيَمِينَيْنِ، ثُمَّ إذَا وَجَبَ الْيَمِينُ عَلَى الْمَأْمُورِ وَهُوَ الْمُدَّعِي فَلَأَنْ تَجِبَ عَلَى الْآمِرِ وَهُوَ الْمُنْكِرُ أَوْلَى، كَذَا فِي الشُّرُوحِ.

قَالَ الْإِمَامُ الزَّيْلَعِيُّ فِي التَّبْيِينِ بَعْدَمَا بَيَّنَ الْمَقَامَ عَلَى هَذَا النَّمَطِ: هَكَذَا ذَكَرَ الْمَشَايِخُ إلَّا أَنَّ فِيهِ إشْكَالًا؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرُوا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى لَكِنَّ لَفْظَهُ لَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنَّ قَوْلَهُ إنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمَأْمُورِ مَعَ يَمِينِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَأْمُورَ يُصَدَّقُ فِيمَا قَالَهُ، وَفِي التَّحَالُفِ لَا يُصَدَّقُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، فَلَوْ كَانَ مُرَادُهُ التَّحَالُفَ لَمَا قَالَ ذَلِكَ انْتَهَى كَلَامُهُ فَتَأَمَّلْ (وَالْبَائِعُ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ أَجْنَبِيٌّ عَنْهُمَا) هَذَا جَوَابٌ عَنْ تَعْلِيلِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ بِقَوْلِهِ؛ لِأَنَّهُ ارْتَفَعَ الْخِلَافُ بِتَصْدِيقِ الْبَائِعِ إذْ هُوَ حَاضِرٌ: يَعْنِي أَنَّ بَائِعَ الْعَبْدِ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ أَجْنَبِيٌّ عَنْ الْمُوَكِّلِ وَالْوَكِيلِ مَعًا (وَقَبْلَهُ) أَيْ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ (أَجْنَبِيٌّ عَنْ الْمُوَكِّلِ إذْ لَمْ يَجْرِ بَيْنَهُمَا) أَيْ بَيْنَ الْبَائِعِ وَالْمُوَكِّلِ (بَيْعٌ) فَلَمْ يَكُنْ كَلَامُهُ مُعْتَبَرًا (فَلَا يُصَدَّقُ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الْمُوَكِّلِ (فَبَقِيَ الْخِلَافُ) بَيْنَ الْآمِرِ وَالْمَأْمُورِ فَلَزِمَ التَّحَالُفُ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَهَذَا) أَيْ الْقَوْلُ بِالتَّحَالُفِ (قَوْلُ الْإِمَامِ أَبِي مَنْصُورٍ وَهُوَ أَظْهَرُ) وَقَالَ صَاحِبُ الْكَافِي: وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَلَكِنْ جَعَلَ الْإِمَامُ قَاضِي خَانْ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ قَوْلَ الْفَقِيهِ أَبِي جَعْفَرٍ أَصَحَّ. قَالَ الْإِمَامُ الْمَحْبُوبِيُّ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بَعْدَ هَذَا: هَذَا إذَا تَصَادَقَا عَلَى الثَّمَنِ عِنْدَ التَّوَكُّلِ، وَإِنْ اخْتَلَفَا فَقَالَ الْوَكِيلُ أَمَرْتنِي بِالشِّرَاءِ بِأَلْفٍ وَقَالَ الْمُوَكِّلُ لَا بَلْ بِخَمْسِمِائَةٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْآمِرِ مَعَ يَمِينِهِ، وَيَلْزَمُ الْعَبْدَ الْوَكِيلُ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ يُسْتَفَادُ مِنْ جِهَتِهِ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ، فَلَوْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَبَيِّنَةُ الْوَكِيلِ أَوْلَى لِمَا فِيهَا مِنْ زِيَادَةِ الْإِثْبَاتِ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ. أَقُولُ: يُرَدُّ عَلَى ظَاهِرِهِ أَنَّ وَضْعَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا إذَا لَمْ يُسَمِّ عِنْدَ التَّوْكِيلِ الثَّمَنَ لِلْعَبْدِ فَكَيْفَ يَصِحُّ

ص: 65

(فَصْلٌ فِي التَّوْكِيلِ بِشِرَاءِ نَفْسِ الْعَبْدِ)

أَنْ يَقُولَ الْإِمَامُ الْمَحْبُوبِيُّ بَعْدَ ذَلِكَ هَذَا إذَا تَصَادَقَا عَلَى الثَّمَنِ؟ وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ بِأَنَّ التَّصَادُقَ فِي الثَّمَنِ خِلَافُ التَّحَالُفِ فِيهِ، فَيُصَوِّرُ بِأَنْ يَتَصَادَقَا عَلَى تَسْمِيَةِ الثَّمَنِ الْمُعَيَّنِ، وَبِأَنْ يَتَصَادَقَا عَلَى عَدَمِ تَسْمِيَةِ الثَّمَنِ أَصْلًا. وَبِالْجُمْلَةِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّصَادُقُ عَلَى الثَّمَنِ مِنْ حَيْثُ تَسْمِيَةُ الثَّمَنِ وَمِنْ حَيْثُ تَسْمِيَتِهِ، وَالثَّانِي هُوَ الْمُرَادُ فِي قَوْلِ الْإِمَامِ الْمَحْبُوبِيِّ

(فَصْلٌ فِي التَّوْكِيلِ بِشِرَاءِ نَفْسِ الْعَبْدِ)

لَمَّا كَانَ شِرَاءُ الْعَبْدِ نَفْسَهُ مِنْ مَوْلَاهُ إعْتَاقًا عَلَى مَالٍ لَمْ يَكُنْ مِنْ مَسَائِلِ فَصْلِ التَّوْكِيلِ بِالشِّرَاءِ لَكِنَّهُ شِرَاءُ صُورَةٍ فَنَاسَبَ أَنْ يُذْكَرَ فِي فَصْلٍ عَلَى حِدَةٍ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ وَكَثِيرٍ مِنْ الشُّرُوحِ. وَاسْتَشْكَلَهُ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ بِأَنَّ الْكَلَامَ لَا يُتَنَاوَلُ إلَّا لِلْمَسْأَلَةِ الْأُولَى إنْ أُرِيدَ الشِّرَاءُ وَكَالَةً، وَإِلَّا فَلِلثَّانِيَةِ لَا غَيْرُ فَيَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَكُونَ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ فِي قَوْلِهِ لَمْ يَكُنْ مِنْ مَسَائِل لَمْ يَكُنْ التَّوْكِيلُ بِهِ مِنْ مَسَائِل إلَخْ انْتَهَى.

أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ، إذْ الْمُرَادُ بِالشِّرَاءِ مَا هُوَ عَامٌّ لِلشِّرَاءِ وَكَالَةً وَلِلشِّرَاءِ أَصَالَةً فَيَتَنَاوَلُ الْكَلَامُ الْمَسْأَلَتَيْنِ مَعًا. وَأَمَّا الِاحْتِيَاجُ إلَى أَنْ يَكُونَ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ فِي قَوْلِهِ لَمْ يَكُنْ التَّوْكِيلُ بِهِ مِنْ مَسَائِلِ فَصْلِ التَّوْكِيلِ بِالشِّرَاءِ فَأَمْرٌ ضَرُورِيٌّ عَلَى كُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّ الْمَحْذُورَ أَنْ لَا يَكُونَ التَّوْكِيلُ بِهِ مِنْ مَسَائِلِ فَصْلِ التَّوْكِيلِ بِالشِّرَاءِ لَا أَنْ يَكُونَ نَفْسُ شِرَاءِ الْعَبْدِ نَفْسَهُ مِنْ مَسَائِلِ ذَلِكَ، إذْ نَفْسُ الشِّرَاءِ مُطْلَقًا لَيْسَ مِنْ مَسَائِلِ التَّوْكِيلِ بِالشِّرَاءِ قَطْعًا. ثُمَّ أَقُولُ فِي اسْتِشْكَالِ مَا فِي الشُّرُوحِ: التَّوْجِيهُ الَّذِي ذَكَرُوهُ لَا يَتَنَاوَلُ الْمَسْأَلَةَ الثَّانِيَةَ، بَلْ إنَّمَا يَتَمَشَّى فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى؛ لِأَنَّ شِرَاءَ الْعَبْدِ نَفْسَهُ مِنْ مَوْلَاهُ إنَّمَا يَصِيرُ إعْتَاقًا عَلَى مَالٍ أَنْ لَوْ كَانَ شِرَاؤُهُ نَفْسَهُ مِنْ مَوْلَاهُ لِنَفْسِهِ. وَأَمَّا إذَا كَانَ لِغَيْرِهِ فَلَا.

وَالتَّوْكِيلُ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ إنَّمَا هُوَ بِشِرَاءِ الْعَبْدِ نَفْسَهُ مِنْ مَوْلَاهُ لِلْمُوَكِّلِ، فَإِنْ وَافَقَ الْعَبْدُ أَمْرَ الْآمِرِ فَشِرَاؤُهُ لَيْسَ بِإِعْتَاقٍ عَلَى مَالٍ لَا صُورَةً وَلَا مَعْنًى بَلْ هُوَ شِرَاءٌ مَحْضٌ، وَإِنْ خَالَفَ أَمْرَهُ فَيَكُونُ شِرَاؤُهُ إعْتَاقًا عَلَى مَالٍ، وَلَا يُنَافِي كَوْنَ التَّوْكِيلِ فِي هَاتِيك الْمَسْأَلَةِ مِنْ مَسَائِلِ فَصْلِ التَّوْكِيلِ بِالشِّرَاءِ، إذْ الْمَسْأَلَةُ لَا تَتَغَيَّرُ عَنْ وَضْعِهَا بِمُخَالَفَةِ الْمَأْمُورِ؛ لِأَمْرِ الْآمِرَ كَمَا فِي كَثِيرٍ مِنْ مَسَائِلِ هَذَا الْفَصْلِ وَغَيْرِهِ. وَأَمَّا التَّوْكِيلُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى فَإِنَّمَا هُوَ بِشِرَاءِ رَجُلٍ نَفْسَ الْعَبْدِ الْمُوَكَّلِ مِنْ مَوْلَاهُ لِذَلِكَ الْعَبْدِ، فَإِذَا وَافَقَ وَكِيلُهُ أَمْرَهُ فَاشْتَرَى نَفْسَهُ مِنْ مَوْلَاهُ لَهُ يَصِيرُ ذَلِكَ الشِّرَاءُ إعْتَاقًا عَلَى مَالٍ مَعْنِيٍّ، وَإِنْ كَانَ شِرَاءَ صُورَةٍ فَجَرَى التَّوْجِيهُ الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ دُونَ الْأُخْرَى فَكَانَ قَاصِرًا. قَالَ فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ: ثُمَّ إنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ فِي قَوْلِ الْمُصَنِّفِ فِي التَّوْكِيلِ بِشِرَاءِ نَفْسِ الْعَبْدِ بَدَلُ الْإِضَافَةِ وَتِلْكَ الْإِضَافَةُ إضَافَةُ الْمَصْدَرِ إلَى الْفَاعِلِ وَالْفَاعِلُ

ص: 66

قَالَ (وَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ لِرَجُلٍ: اشْتَرِ لِي نَفْسِي مِنْ الْمَوْلَى بِأَلْفٍ وَدَفَعَهَا إلَيْهِ، فَإِنْ قَالَ الرَّجُلُ لِلْمَوْلَى: اشْتَرَيْته لِنَفْسِهِ فَبَاعَهُ عَلَى هَذَا فَهُوَ حُرٌّ وَالْوَلَاءُ لِلْمَوْلَى)؛ لِأَنَّ بَيْعَ نَفْسِ الْعَبْدِ مِنْهُ إعْتَاقٌ وَشِرَاءُ الْعَبْدِ نَفْسَهُ قَبُولُ الْإِعْتَاقِ بِبَدَلٍ وَالْمَأْمُورُ سَفِيرٌ عَنْهُ إذْ لَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ الْحُقُوقَ فَصَارَ كَأَنَّهُ اشْتَرَى بِنَفْسِهِ، وَإِذَا كَانَ إعْتَاقًا أَعْقَبَ الْوَلَاءَ (وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْ لِلْمَوْلَى فَهُوَ عَبْدٌ لِلْمُشْتَرِي)

هُوَ الْعَبْدُ بِالنَّظَرِ إلَى الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى: أَيْ تَوْكِيلُ الْعَبْدِ الْأَجْنَبِيَّ بِشِرَاءِ نَفْسِهِ، وَالْأَجْنَبِيُّ بِالنَّظَرِ إلَى الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ: أَيْ تَوْكِيلُ الْأَجْنَبِيِّ الْعَبْدَ بِشِرَاءِ نَفْسِهِ انْتَهَى. وَقَالَ فِي الْعِنَايَةِ: وَالتَّوْكِيلُ بِشِرَاءِ نَفْسِ الْعَبْدِ مِنْ مَوْلَاهُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَنْ يُوَكِّلَ الْعَبْدُ رَجُلًا لِيَشْتَرِيَهُ مِنْ مَوْلَاهُ وَهُوَ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى، وَأَنْ يُوَكِّلَ الْعَبْدَ رَجُلٌ لِيَشْتَرِيَ نَفْسَهُ مِنْ مَوْلَاهُ. فَالْعَبْدُ فِي الْأَوَّلِ مُوَكِّلٌ، وَفِي الثَّانِي وَكِيلٌ. وَكَلَامُ الْمُصَنِّفِ يَتَنَاوَلُهُمَا بِجَعْلِ الْأَلْفِ وَاللَّامِ بَدَلًا مِنْ الْمُضَافِ إلَيْهِ، وَجَعْلِ الْمَصْدَرِ مُضَافًا إلَى الْفَاعِلِ أَوْ الْمَفْعُولِ، وَذِكْرُ أَحَدِهِمَا مَتْرُوكٌ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ فِي تَوْكِيلِ الْعَبْدِ رَجُلًا أَوْ فِي تَوْكِيلِ الْعَبْدِ رَجُلٌ انْتَهَى.

أَقُولُ: تَنَاوُلُ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ فَصْلٌ فِي التَّوْكِيلِ بِشِرَاءِ نَفْسِ الْعَبْدِ لِلْمَسْأَلَتَيْنِ عَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ إنَّمَا يَكُونُ عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ وَفِي ذَلِكَ تَعَسُّفٌ لَا يَخْفَى، فَالْأَوْجَهُ أَنْ يُقَدِّرَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُضَافِ إلَيْهِ وَالْمَتْرُوكِ أَمْرًا عَامًّا، مِثْلُ أَنْ يُقَالَ: فَصْلٌ فِي تَوْكِيلِ أَحَدٍ آخَرَ بِشِرَاءِ نَفْسِ الْعَبْدِ لِيَتَنَاوَلَ عُنْوَانَ هَذَا الْفَصْلِ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْمَسْأَلَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ فِيهِ عَلَى سَبِيلِ الشُّمُولِ لَا عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ (قَالَ) أَيْ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ (وَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ لِرَجُلٍ اشْتَرِ لِي نَفْسِي مِنْ الْمَوْلَى) أَيْ مِنْ مَوْلَايَ (بِأَلْفٍ وَدَفَعَهَا) أَيْ دَفَعَ الْعَبْدُ الْأَلْفَ (إلَيْهِ) أَيْ إلَى الرَّجُلِ الَّذِي وَكَّلَهُ (فَإِنْ قَالَ الرَّجُلُ) أَيْ الْوَكِيلُ (لِلْمَوْلَى اشْتَرَيْته أَيْ الْعَبْدَ لِنَفْسِهِ) أَيْ لِنَفْسِ الْعَبْدِ (فَبَاعَهُ عَلَى هَذَا) أَيْ فَبَاعَ الْمَوْلَى ذَلِكَ الْعَبْدَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ (فَهُوَ حُرٌّ) أَيْ فَذَلِكَ الْعَبْدُ حُرٌّ يَعْنِي صَارَ حُرًّا (وَالْوَلَاءُ لِلْمَوْلَى) أَيْ وَوَلَاءُ ذَلِكَ الْعَبْدِ لِلْمَوْلَى (لِأَنَّ بَيْعَ نَفْسِ الْعَبْدِ مِنْهُ) أَيْ مِنْ الْعَبْدِ (إعْتَاقٌ) أَيْ إعْتَاقٌ عَلَى مَالِ، وَالْإِعْتَاقُ عَلَى الْمَالِ يَتَوَقَّفُ عَلَى وُجُودِ الْقَبُولِ مِنْ الْمُعْتِقِ، وَقَدْ وَجَدَ ذَلِكَ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ.

(وَشِرَاءُ الْعَبْدِ نَفْسَهُ قَبُولُ الْإِعْتَاقِ بِبَدَلٍ وَالْمَأْمُورُ سَفِيرٌ عَنْهُ) أَيْ عَنْ الْعَبْدِ حَيْثُ أَضَافَ الْعَقْدَ إلَيْهِ (إذْ لَا يُرْجِعُ إلَيْهِ الْحُقُوقَ) أَيْ لَا يُرْجِعُ إلَى الْمَأْمُورِ حُقُوقَ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُ مَتَى أَضَافَ الْعَقْدَ إلَى الْعَبْدِ فَقَدْ جَعَلَ نَفْسَهُ رَسُولًا، وَلَا عُهْدَةَ عَلَى الرَّسُولِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ (فَصَارَ كَأَنَّهُ) أَيْ الْعَبْدَ (اشْتَرَى) نَفْسَهُ (بِنَفْسِهِ) أَيْ بِلَا وَاسِطَةٍ (وَإِذَا كَانَ إعْتَاقًا) أَيْ وَإِذَا كَانَ بَيْعُ نَفْسِ الْعَبْدِ مِنْ الْعَبْدِ إعْتَاقًا لِذَلِكَ الْعَبْدِ (أَعْقَبَ الْوَلَاءَ) أَيْ أَعْقَبَ الْوَلَاءُ لِلْمُعْتَقِ فَثَبَتَ أَنَّ الْعَبْدَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ صَارَ حُرًّا وَكَانَ وَلَاؤُهُ لِلْمَوْلَى (وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْ لِلْمَوْلَى) أَيْ وَإِنْ لَمْ يَقُلْ الْوَكِيلُ اشْتَرَيْت الْعَبْدَ لِنَفْسِ الْعَبْدِ (فَهُوَ عَبْدٌ لِلْمُشْتَرِي) يَعْنِي صَارَ مِلْكًا لَهُ

ص: 67

لِأَنَّ اللَّفْظَ حَقِيقَةٌ لِلْمُعَاوَضَةِ وَأَمْكَنَ الْعَمَلُ بِهَا إذَا لَمْ يُعَيِّنْ فَيُحَافِظْ عَلَيْهَا. بِخِلَافِ شِرَاءِ الْعَبْدِ نَفْسَهُ؛ لِأَنَّ الْمَجَازَ فِيهِ مُتَعَيَّنٌ، وَإِذَا كَانَ مُعَاوَضَةً يَثْبُتُ الْمِلْكُ لَهُ (وَالْأَلْفُ لِلْمَوْلَى)؛ لِأَنَّهُ كَسْبُ عَبْدِهِ (وَعَلَى الْمُشْتَرِي أَلْفٌ مِثْلُهُ) ثَمَنًا لِلْعَبْدِ فَإِنَّهُ فِي ذِمَّتِهِ حَيْثُ لَمْ يَصِحَّ الْأَدَاءُ، بِخِلَافِ الْوَكِيلِ بِشِرَاءِ الْعَبْدِ مِنْ غَيْرِهِ حَيْثُ لَا يُشْتَرَطُ بَيَانُهُ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَيْنِ هُنَاكَ عَلَى نَمَطٍ وَاحِدٍ، وَفِي الْحَالَيْنِ الْمُطَالَبَةُ تَتَوَجَّهُ نَحْوَ الْعَاقِدِ، أَمَّا هَاهُنَا فَأَحَدُهُمَا إعْتَاقٌ مُعَقِّبٌ لِلْوَلَاءِ وَلَا مُطَالَبَةَ عَلَى الْوَكِيلِ وَالْمَوْلَى عَسَاهُ لَا يَرْضَاهُ وَيَرْغَبُ فِي الْمُعَارَضَةِ الْمَحْضَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْبَيَانِ

لِأَنَّ اللَّفْظَ) أَيْ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ اشْتَرَيْت عَبْدَك بِكَذَا (حَقِيقَةٌ لِلْمُعَاوَضَةِ) أَيْ مَوْضُوعٌ لِلْمُعَاوَضَةِ دُونَ الْإِعْتَاقِ (وَأَمْكَنَ الْعَمَلُ بِهَا) يَعْنِي أَنَّ الْحَقِيقَةَ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهَا مَهْمَا أَمْكَنَ وَقَدْ أَمْكَنَ الْعَمَلُ بِهَا (إذَا لَمْ يُبَيِّنْ) أَيْ إذَا لَمْ يُعَيِّنْ فَلَمْ يَقُلْ اشْتَرَيْت عَبْدَك لِأَجْلِ نَفْسِهِ (فَيُحَافَظُ عَلَيْهَا) أَيْ فَيُحَافَظُ اللَّفْظُ عَلَى الْحَقِيقَةِ. فَإِنْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْعَمَلَ بِالْحَقِيقَةِ مُمْكِنٌ هُنَا؛ لِأَنَّهُ تَوْكِيلٌ بِشِرَاءِ شَيْءٍ بِعَيْنِهِ فَلَيْسَ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَشْتَرِيَهُ لِنَفْسِهِ. قُلْنَا: قَدْ أَتَى الْوَكِيلُ هَاهُنَا بِجِنْسِ تَصَرُّفٍ آخَرَ؛ لِأَنَّ مَا وَكَّلَ بِهِ كَانَ مِنْ جِنْسِ الْإِعْتَاقِ عَلَى مَالٍ، وَمَا أَتَى بِهِ إنَّمَا هُوَ مِنْ جِنْسِ الشِّرَاءِ الْمَحْضِ فَكَانَ مُخَالِفًا لِلْآمِرِ فَيَنْفُذُ عَلَيْهِ.

وَسَتَجِيءُ الْإِشَارَةُ مِنْ الْمُصَنِّفِ إلَى نَظِيرِ هَذَا فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ (بِخِلَافِ شِرَاءِ الْعَبْدِ نَفْسَهُ) حَيْثُ يُجْعَلُ لِلْإِعْتَاقِ لِتَعَذُّرِ الْعَمَلِ بِالْحَقِيقَةِ (لِأَنَّ الْمَجَازَ) وَهُوَ كَوْنُ الشِّرَاءِ مُسْتَعَارًا لِلْإِعْتَاقِ (فِيهِ) أَيْ فِي شِرَاءِ الْعَبْدِ نَفْسَهُ (مُتَعَيَّنٌ)؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ بِأَهْلٍ أَنْ يَمْلِكَ مَالًا فَصَارَ شِرَاؤُهُ نَفْسَهُ مَجَازًا عَنْ الْإِعْتَاقِ، أَوْ لِأَنَّ نَفْسَ الْعَبْدِ لَيْسَتْ بِمَالٍ فِي حَقِّهِ حَتَّى يَمْلِكَ نَفْسَهُ ثُمَّ يَعْتِقَ؛ لِأَنَّهُ آدَمِيٌّ فِي حَقِّ نَفْسِهِ حَتَّى وَجَبَ الْحَدُّ وَالْقِصَاصُ عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ، وَالْمَالُ غَيْرُ الْآدَمِيِّ خُلِقَ لِمَصَالِحِ الْآدَمِيِّ فَلَمْ يُمْكِنْ الْعَمَلُ بِالْمُعَاوَضَةِ فَجُعِلَ مَجَازًا عَنْ الْإِعْتَاقِ وَالْمُجَوَّزُ مَعْنَى إزَالَةِ الْمِلْكِ فَإِنَّ الْبَيْعَ يُزِيلُ الْمِلْكَ بِعِوَضٍ إلَى آخَرَ، وَالْإِعْتَاقُ يُزِيلُهُ لَا إلَى آخَرَ (وَإِذَا كَانَ مُعَاوَضَةً) يَعْنِي إذَا كَانَ الْعَقْدُ مُعَاوَضَةً فِيمَا إذَا لَمْ يُعَيِّنْ لِلْمَوْلَى (يَثْبُتُ الْمِلْكُ لَهُ) أَيْ لِلْمُشْتَرِي (وَالْأَلْفُ لِلْمَوْلَى) أَيْ وَالْأَلْفُ الَّتِي دَفَعَهَا الْعَبْدُ إلَى الْمُشْتَرِي حِينَ أَنْ وَكَّلَهُ تَكُونُ لِلْمَوْلَى (لِأَنَّهُ كَسْبُ عَبْدِهِ وَعَلَى الْمُشْتَرِي أَلْفٌ مِثْلُهُ) أَيْ مِثْلُ ذَلِكَ الْأَلْفِ (ثَمَنًا لِلْعَبْدِ) قَوْلُهُ ثَمَنًا نُصِبَ عَلَى التَّمْيِيزِ: أَيْ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ ثَمَنٌ لِلْعَبْدِ (فَإِنَّهُ) أَيْ الثَّمَنَ (فِي ذِمَّةٍ) أَيْ فِي ذِمَّةِ الْمُشْتَرِي (حَيْثُ لَمْ يَصِحَّ الْأَدَاءُ) لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ أَدَّى تِلْكَ الْأَلْفَ إلَى الْمَوْلَى مِنْ كَسْبِ عَبْدِهِ وَكَسْبُهُ مِلْكُ الْمَوْلَى فَلَا يَقَعُ ثَمَنًا.

قَالَ فِي النِّهَايَةِ: وَهَذَا ظَاهِرٌ فِيمَا إذَا وَقَعَ الشِّرَاءُ لِلْمُشْتَرِي، وَأَمَّا إذَا وَقَعَ الشِّرَاءُ لِلْعَبْدِ نَفْسِهِ حَتَّى عَتَقَ هَلْ يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ أَلْفٌ أُخْرَى؟ قَالَ الْإِمَامُ قَاضِي خَانْ: وَفِيمَا إذَا بَيَّنَ الْوَكِيلُ لِلْمَوْلَى أَنَّهُ يَشْتَرِيهِ لِلْعَبْدِ هَلْ يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ أَلْفٌ أُخْرَى؟ لَمْ يَذْكُرْ فِي الْكِتَابِ. وَيَنْبَغِي أَنْ تَجِبَ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ مَالُ الْمَوْلَى فَلَا يَصْلُحُ بَدَلًا عَنْ مِلْكِهِ انْتَهَى.

وَقَالَ فِي الْعِنَايَةِ بَعْدَ نَقْلِ ذَلِكَ عَنْ النِّهَايَةِ: قُلْت وَفِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ مَا يُشِيرُ إلَيْهِ فَإِنَّهُ جَعَلَ شِرَاءَ نَفْسِهِ قَبُولَهُ الْإِعْتَاقَ بِبَدَلٍ، فَلَوْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ أَلْفٌ أُخْرَى كَانَ إعْتَاقًا بِلَا بَدَلٍ انْتَهَى فَتَأَمَّلْ.

(بِخِلَافِ الْوَكِيلِ بِشِرَاءِ الْعَبْدِ مِنْ غَيْرِهِ) أَيْ مِنْ غَيْرِ الْعَبْدِ بِأَنْ يُوَكِّلَ أَجْنَبِيٌّ أَجْنَبِيًّا بِشِرَاءِ الْعَبْدِ مِنْ مَوْلَاهُ (حَيْثُ لَا يَشْتَرِطُ بَيَانَهُ) أَيْ بَيَانَ الشِّرَاءِ: يَعْنِي لَا يَشْتَرِطُ عَلَى الْوَكِيلِ أَنْ يَقُولَ وَقْتَ الشِّرَاءِ اشْتَرَيْته لِمُوَكِّلِي فِي وُقُوعِ الشِّرَاءِ لِلْمُوَكِّلِ (لِأَنَّ الْعَقْدَيْنِ) يَعْنِي الَّذِي يَقَعُ لَهُ وَاَلَّذِي يَقَعُ لِلْمُوَكِّلِ (هُنَاكَ) أَيْ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ (عَلَى نَمَطٍ وَاحِدٍ) أَيْ عَلَى نَوْعٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الْمُبَايَعَةُ، وَالنَّمَطُ النَّوْعُ وَالطَّرِيقَةُ أَيْضًا (وَفِي الْحَالَيْنِ) أَيْ حَالِ الْإِضَافَةِ إلَى نَفْسِهِ وَحَالِ الْإِضَافَةِ إلَى مُوَكِّلِهِ (الْمُطَالَبَةُ تَتَوَجَّهُ نَحْوَ الْعَاقِدِ) فَلَا يَحْتَاجُ إلَى الْبَيَانِ (وَأَمَّا هَاهُنَا) أَيْ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ (فَأَحَدُهُمَا) أَيْ أَحَدُ الْعَقْدَيْنِ (إعْتَاقٌ مُعَقِّبٌ لِلْوَلَاءِ وَلَا مُطَالَبَةَ عَلَى الْوَكِيلِ) أَيْ لَا مُطَالَبَةَ فِي الْإِعْتَاقِ عَلَى الْوَكِيلِ؛ لِأَنَّهُ سَفِيرٌ (وَالْمَوْلَى عَسَاهُ) أَيْ لَعَلَّهُ (لَا يَرْضَاهُ) أَيْ لَا يَرْضَى الْإِعْتَاقَ؛ لِأَنَّهُ يُعْقِبُ الْوَلَاءَ وَمُوجِبُ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ فَرُبَّمَا يَتَضَرَّرُ بِهِ (وَيَرْغَبُ فِي الْمُعَاوَضَةِ الْمَحْضَةِ) أَيْ وَالْمَوْلَى عَسَاهُ يَرْغَبُ فِي الْمُعَاوَضَةِ الْمَحْضَةِ (فَلَا بُدَّ مِنْ الْبَيَانِ) اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ وَلَا مُطَالَبَةَ عَلَى الْوَكِيلِ عَلَى رِوَايَةِ كِتَابِ الْوَكَالَةِ فِي بَابِ الْوَكَالَةِ بِالْعِتْقِ، فَإِنَّ

ص: 68

(وَمَنْ قَالَ لِعَبْدٍ اشْتَرِ لِي نَفْسَك مِنْ مَوْلَاك فَقَالَ لِمَوْلَاهُ بِعْنِي نَفْسِي لِفُلَانٍ بِكَذَا فَفَعَلَ فَهُوَ لِلْآمِرِ)؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ يَصْلُحُ وَكِيلًا عَنْ غَيْرِهِ فِي شِرَاءِ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ أَجْنَبِيٌّ عَنْ مَالِيَّتِهِ، وَالْبَيْعُ يُرَدُّ عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَالٌ إلَّا أَنَّ مَالِيَّتَهُ فِي يَدِهِ حَتَّى لَا يَمْلِكَ الْبَائِعُ الْحَبْسَ بَعْدَ الْبَيْعِ

مُحَمَّدًا رحمه الله ذَكَرَ فِيهِ أَنَّ الْعَبْدَ يُعْتَقُ وَالْمَالُ عَلَى الْعَبْدِ دُونَ الْوَكِيلِ. وَذَكَرَ فِي بَابِ وَكَالَةِ الْمَأْذُونِ وَالْمُكَاتَبِ مِنْ كِتَابِ الْوَكَالَةِ أَنَّ الْعَبْدَ يُعْتَقُ وَالْمَالُ عَلَى الْوَكِيلِ، وَهَكَذَا فِي وَكَالَةِ الْجَامِعِ الْكَبِيرِ.

وَجْهُ رِوَايَةِ الْجَامِعِ أَنَّ تَوَكُّلَهُ بِشِرَاءِ الْعَبْدِ لِلْعَبْدِ كَتَوَكُّلِهِ بِشِرَائِهِ لِغَيْرِهِ، وَهُنَاكَ يَصِيرُ هُوَ الْمُطَالَبُ بِتَسْلِيمِ الثَّمَنِ فَكَذَا هَاهُنَا. وَعَنْ عِيسَى بْنِ أَبَانَ قَالَ: الصَّحِيحُ أَنَّ الثَّمَنَ عَلَى الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ مِنْ جَانِبِ الْعَبْدِ فِي الْعِتْقِ سَفِيرٌ وَمُعَبِّرٌ، فَإِنَّهُ لَا يُسْتَغْنَى عَنْ إضَافَةِ الْعَقْدِ إلَى الْآمِرِ، وَلَيْسَ إلَيْهِ مِنْ قَبْضِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ شَيْءٌ فَلَا تَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ الْمُطَالَبَةُ بِتَسْلِيمِ الْبَدَلِ، أَلَا يَرَى أَنَّ الْمَوْلَى لَوْ كَانَ هُوَ الَّذِي أَمَرَ الرَّجُلَ بِبَيْعِ نَفْسِ الْعَبْدِ مِنْ الْعَبْدِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ إلَى الْعَطَاءِ فَبَاعَهُ الْوَكِيلُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ يَجُوزُ الْبَيْعُ وَالْأَلْفُ عَلَيْهِ إلَى ذَلِكَ الْأَجَلِ، وَاَلَّذِي يَلِي قَبْضَ الْأَلْفِ هُوَ الْمَوْلَى دُونَ الْوَكِيلِ فَكَذَا هَاهُنَا، كَذَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ الْمَحْبُوبِيُّ

(قَالَ) أَيْ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ (وَمَنْ قَالَ لِعَبْدٍ اشْتَرِ لِي نَفْسَك مِنْ مَوْلَاك) هَذِهِ هِيَ الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ مِنْ الْمَسْأَلَتَيْنِ اللَّتَيْنِ يَشْمَلُهُمَا هَذَا الْفَصْلُ.

فَمَنْ وَكَّلَ عَبْدًا بِشِرَاءِ نَفْسِهِ مِنْ مَوْلَاهُ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يُضِيفَ الْعَبْدُ الْعَقْدَ إلَى مُوَكِّلِهِ أَوْ إلَى نَفْسِهِ، أَوْ أَطْلَقَ فَإِنْ أَضَافَهُ إلَى مُوَكِّلِهِ (فَقَالَ لِمَوْلَاهُ بِعْنِي نَفْسِي لِفُلَانٍ بِكَذَا فَفَعَلَ) أَيْ فَفَعَلَ الْمَوْلَى ذَلِكَ (فَهُوَ) أَيْ الْعَقْدُ أَوْ الْعَبْدُ (لِلْآمِرِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ يَصْلُحُ وَكِيلًا عَنْ غَيْرِهِ فِي شِرَاءِ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ) أَيْ الْعَبْدَ (أَجْنَبِيٌّ عَنْ مَالِيَّتِهِ)؛ لِأَنَّهَا لِمَوْلَاهُ، حَتَّى لَوْ أَقَرَّ بِهَا لِغَيْرِهِ لَمْ يَصِحَّ (وَالْبَيْعُ يُرَدُّ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الْعَبْدِ (مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَالٌ) لَا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ آدَمِيٌّ فَكَانَ تَوْكِيلُهُ بِشِرَاءِ نَفْسِهِ كَتَوْكِيلِهِ بِغَيْرِهِ مِنْ أَمْوَالِ الْمَوْلَى أَوْ كَتَوْكِيلِ أَجْنَبِيٍّ بِشِرَاءِ نَفْسِهِ.

قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ: أَمَّا صِحَّةُ هَذَا التَّوْكِيلِ فَلِأَنَّ الْعَبْدَ مُخَاطَبٌ لَهُ عِبَارَةٌ مُلْزِمَةٌ كَالْحُرِّ، وَإِنَّمَا يَصْلُحُ الْحُرُّ أَنْ يَكُونَ وَكِيلًا لِغَيْرِهِ بِالشِّرَاءِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ لَهُ عِبَارَةً صَحِيحَةً فَكَذَلِكَ الْعَبْدُ (إلَّا أَنَّ مَالِيَّتَهُ فِي يَدِهِ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ؛ لِأَنَّهُ أَجْنَبِيٌّ عَنْ مَالِيَّتِهِ: يَعْنِي أَنَّ مَالِيَّةَ الْعَبْدِ فِي يَدِ نَفْسِهِ (حَتَّى لَا يَمْلِكَ الْبَائِعُ الْحَبْسَ بَعْدَ الْبَيْعِ) فَإِنَّهُ لَوْ أَرَادَ الْبَائِعُ أَنْ يَحْبِسَهُ بَعْدَ

ص: 69

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الْبَيْعِ لِاسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَالِيَّتَهُ فِي يَدِهِ لِكَوْنِهِ مَأْذُونًا لَهُ فَصَارَ كَالْمُودِعِ إذَا اشْتَرَى الْوَدِيعَةَ وَهِيَ بِحَضْرَتِهِ لَمْ يَكُنْ لِلْبَائِعِ حَبْسُهَا (لِاسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ) لِكَوْنِهَا مُسَلَّمَةً إلَيْهِ. قَالَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ: فَإِنْ قُلْت: الِاحْتِرَازُ عَنْ هَذَا غَيْرُ مُمْكِنٍ فَلَا يَصِيرُ تَسْلِيمُهَا يُسْقِطُ حَقَّ الْحَبْسِ، كَمَا قُلْنَا إنَّ قَبْضَ الْوَكِيلِ لَيْسَ بِقَبْضٍ فِي الْمُوَكِّلِ حَتَّى يَثْبُتَ لِلْوَكِيلِ حَقُّ الْحَبْسِ عِنْدَنَا لِعَدَمِ الِاحْتِرَازِ قُلْت: الشَّرْعُ لَا يَرُدُّ بِالْمُحَالِ، وَكَوْنُ الْمَالِيَّةِ هَاهُنَا فِي يَدِ الْعَبْدِ أَمْرٌ حِسِّيٍّ لَا مَرَدَّ لَهُ، وَكَوْنُ قَبْضِ الْوَكِيلِ قَبْضَ الْمُوَكِّلِ أَمْرٌ اعْتِبَارِيٌّ فَجَازَ أَنْ لَا يُعْتَبَرَ انْتَهَى.

أَقُولُ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ سُؤَالِهِ وَجَوَابِهِ مَنْظُورٌ فِيهِ. أَمَّا السُّؤَالُ فَلِأَنَّ قَوْلَهُ كَمَا قُلْنَا إنَّ قَبْضَ الْوَكِيلِ لَيْسَ بِقَبْضِ الْمُوَكِّلِ فِي أَثْنَاءِ هَذَا السُّؤَالِ مُخِلٌّ بِالْمَقْصُودِ؛ لِأَنَّ حَاصِلَ هَذَا السُّؤَالِ أَنَّ التَّسْلِيمَ الْكَائِنَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ لَا يُسْقِطُ حَقَّ الْحَبْسِ؛ لِأَنَّهُ تَسْلِيمٌ ضَرُورِيٌّ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ، وَمَا هُوَ كَذَلِكَ فَهُوَ عَفْوٌ لَا يُسْقِطُ حَقَّ الْحَبْسِ كَمَا مَرَّ فِي حَبْسِ الْوَكِيلِ الْمَبِيعَ لِاسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ لَا يَكُونَ قَبْضُ الْوَكِيلِ قَبْضَ الْمُوَكِّلِ لَا يَتَحَقَّقُ التَّسْلِيمُ إلَى الْمُوَكِّلِ هُنَاكَ فَلَا يَكُونُ نَظِيرًا لِمَا نَحْنُ فِيهِ. فَالْوَجْهُ أَنْ يُقَالَ: بَدَلُ ذَلِكَ كَمَا قُلْنَا فِي قَبْضِ الْوَكِيلِ. وَتَوْضِيحُ الْمَقَامِ أَنَّ لَنَا قَوْلَيْنِ فِي قَبْضِ الْوَكِيلِ عَلَى مَا مَرَّ: أَحَدُهُمَا أَنَّ قَبْضَ الْوَكِيلِ قَبْضُ الْمُوَكِّلِ وَتَسْلِيمٌ إلَيْهِ لَكِنَّهُ تَسْلِيمٌ ضَرُورِيٌّ لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ فَلَا يُسْقِطُ حَقَّ الْحَبْسِ. وَثَانِيهِمَا أَنَّ قَبْضَ الْوَكِيلِ لَيْسَ بِقَبْضِ الْمُوَكِّلِ فِي الِابْتِدَاءِ بَلْ هُوَ مَوْقُوفٌ فَيَقَعُ لِلْمُوَكِّلِ إنْ لَمْ يَحْبِسْهُ وَلِنَفْسِهِ إنْ حَبَسَهُ، وَصِحَّةُ التَّنْظِيرِ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي.

وَأَمَّا الْجَوَابُ فَلِأَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ مَالِيَّةِ الْعَبْدِ فِي يَدِهِ وَبَيْنَ كَوْنِ قَبْضِ الْوَكِيلِ قَبْضَ الْمُوَكِّلِ بِأَنَّ الْأَوَّلَ أَمْرٌ حِسِّيٌّ لَا مَرَدَّ لَهُ، وَالثَّانِي أَمْرٌ اعْتِبَارِيٌّ، فَجَازَ أَنْ لَا يُعْتَبَرَ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ مِمَّا لَا يُجْدِي طَائِلًا فِي قَطْعِ مَادَّةِ السُّؤَالِ الْمَذْكُورِ؛ لِأَنَّ خُلَاصَتَهُ مَنْعُ كَوْنِ التَّسْلِيمِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ مُسْقِطًا لِحَقِّ الْحَبْسِ بِنَاءً عَلَى كَوْنِهِ تَسْلِيمًا ضَرُورِيًّا لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ لَا مَنْعَ تَحَقُّقِ التَّسْلِيمِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ، وَكَوْنُ مَالِيَّةِ الْعَبْدِ مِمَّا لَا مَرَدَّ لَهُ إنَّمَا يَدْفَعُ مَنْعَ تَحَقُّقِ التَّسْلِيمِ فِيهِ لَا مَنْعَ كَوْنِ التَّسْلِيمِ فِيهِ مُسْقِطًا لِحَقٍّ الْحَبْسِ كَمَا لَا يَخْفَى.

وَإِنَّمَا تَأْثِيرُ الْفَرْقِ الْمَزْبُورِ بِالنَّظَرِ إلَى مَا أَدْرَجَهُ فِي أَثْنَاءِ السُّؤَالِ الْمَذْكُورِ مِنْ الْمُقَدَّمَةِ الْمُسْتَدْرَكَةِ الْمُخِلَّةِ بِالْمَقْصُودِ كَمَا عَرَفْته لَا بِالنَّظَرِ إلَى مَا هُوَ الْمَقْصُودُ. وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ ذَلِكَ السُّؤَالَ وَالْجَوَابَ: وَفِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّ مَالِيَّةَ الْعَبْدِ أَمْرٌ اعْتِبَارِيٌّ وَكَوْنُهَا بِيَدِهِ كَذَلِكَ، وَقَبْضُ الْوَكِيلِ أَمْرٌ حِسِّيٌّ لَا مَرَدَّ لَهُ فَكَانَ الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ. وَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ: الْقَبْضُ أَمْرٌ حِسِّيٌّ إذَا قَامَ بِمَكَانٍ

ص: 70

فَإِذَا أَضَافَهُ إلَى الْآمِرِ صَلَحَ فِعْلُهُ امْتِثَالًا فَيَقَعُ. الْعَقْدُ لِلْآمِرِ.

لَا يُجْعَلُ فِي غَيْرِهِ إلَّا بِالِاعْتِبَارِ، وَجَازَ تَرْكُ الِاعْتِبَارِ إذَا اقْتَضَاهُ ضَرُورَةً، أَمَّا مَالِيَّةُ الْعَبْدِ فَإِنَّهَا لَا تَنْفَكُّ عَنْ نَفْسِهِ، فَإِذَا خَرَّجَ نَفْسَهُ عَنْ مِلْكِ الْبَائِعِ وَمَالِيَّتُهُ لَا تَنْفَكُّ سُلِّمَتْ إلَيْهِ، وَلَا حَبْسَ بَعْدَ التَّسْلِيمِ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ.

أَقُولُ: فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ نَظَرِهِ وَجَوَابِهِ الَّذِي اسْتَصْوَبَهُ بَحْثٌ. أَمَّا فِي الْأَوَّلِ فَلِأَنَّ الْأَمْرَ الْحِسِّيَّ الَّذِي لَا مَرَدَّ لَهُ إنَّمَا هُوَ قَبْضُ الْوَكِيلِ، وَاَلَّذِي عَدَاهُ تَاجُ الشَّرِيعَةِ فِي جَوَابِهِ أَمْرًا اعْتِبَارِيًّا إنَّمَا هُوَ كَوْنُهُ قَبْضُ الْوَكِيلِ قَبْضَ الْمُوَكِّلِ، وَأَيْنَ هَذَا مِنْ ذَاكَ فَلَمْ يَكُنْ الْآمِرُ بِالْعَكْسِ كَمَا لَا يَخْفَى.

وَأَمَّا فِي الثَّانِي فَلِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ بِعَدَمِ انْفِكَاكِ مَالِيَّةِ الْعَبْدِ عَنْ نَفْسِهِ عَدَمَ انْفِكَاكِهَا عَنْهَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَهُوَ مَعَ كَوْنِهِ مَمْنُوعًا فِي نَفْسِهِ مُنَافٍ لِمَا قَالَهُ سَابِقًا فِي النَّظَرِ مِنْ أَنَّ مَالِيَّةَ الْعَبْدِ أَمْرٌ اعْتِبَارِيٌّ وَكَوْنُهَا بِيَدِهِ كَذَلِكَ، وَإِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ عَدَمَ انْفِكَاكِهَا عَنْهَا فِي اعْتِبَارِ أَهْلِ الشَّرْعِ فَلِلسَّائِلِ أَنْ يَقُولَ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتْرُكَ أَهْلُ الشَّرْعِ هَذَا الِاعْتِبَارَ عِنْدَ اقْتِضَاءِ الضَّرُورَةِ كَمَا فِي قَبْضِ الْوَكِيلِ؟ عَلَى أَنَّ حَاصِلَ هَذَا الْجَوَابِ أَيْضًا الْفَرْقُ بَيْنَ قَبْضِ الْوَكِيلِ وَبَيْنَ مَالِيَّةِ الْعَبْدِ بِأَنَّ الِانْفِكَاكَ جَائِزٌ فِي الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي، فَتَعَيَّنَ التَّسْلِيمُ هَاهُنَا دُونَ الْأَوَّلِ، وَهَذَا إنَّمَا يَدْفَعُ مَنْعَ تَحَقُّقِ التَّسْلِيمِ هَاهُنَا، وَقَدْ عَرَفْت أَنْ خُلَاصَةَ السُّؤَالِ الْمَذْكُورِ مَنْعُ كَوْنِ التَّسْلِيمِ هُنَا مُسْقِطًا لِحَقِّ الْحَبْسِ لَا مَنْعُ تَحَقُّقِ التَّسْلِيمِ هَاهُنَا، فَلَا يَتِمُّ مَا ذَكَرَهُ جَوَابًا عَنْهُ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ الصَّوَابَ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ أَنْ يُقَالَ كَمَا ذَكَرَهُ، لَا الصَّوَابُ فِي الْجَوَابِ عَنْ أَصْلِ السُّؤَالِ أَنْ يُقَالَ كَذَا لَكِنَّهُ بَعِيدٌ عَنْ إيفَاءِ حَقِّ الْمَقَامِ.

وَالْأَشْبَهُ فِي تَقْرِيرِ ذَلِكَ السُّؤَالِ وَتَعْيِينِ الْجَوَابِ عَنْهُ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْكِفَايَةِ حَيْثُ قَالَ: فَإِنْ قِيلَ: وُقُوعُ الْمَالِيَّةِ فِي يَدِ الْعَبْدِ ضَرُورِيٌّ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ لِلْمَوْلَى فَكَانَ كَالْوَكِيلِ لَهُ وِلَايَةُ حَبْسِ الْمَبِيعِ عَنْ الْمُوَكِّلِ وَإِنْ كَانَتْ يَدُهُ كَيَدِ الْمُوَكِّلِ حُكْمًا؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ. قُلْنَا: لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ لِلْوَكِيلِ عَنْ هَذَا فِي جِنْسِ الْوَكَالَاتِ، وَلَكِنْ يُمْكِنُ لِلْبَائِعِ التَّحَرُّزُ عَنْهُ فِي جِنْسِ الْوَكَالَةِ بِأَنْ بَاعَ عَبْدَهُ لِوَكِيلٍ لَا يَشْتَرِي نَفْسَهُ انْتَهَى (فَإِذَا أَضَافَهُ) أَيْ أَضَافَ الْعَبْدُ الْعَقْدَ (إلَى الْآمِرِ صَلُحَ فِعْلُهُ امْتِثَالًا فَيَقَعُ الْعَقْدُ لِلْآمِرِ) هَذَا نَتِيجَةُ الدَّلِيلِ. تَقْرِيرُهُ أَنَّ الْعَبْدَ يَصْلُحُ وَكِيلًا عَنْ غَيْرِهِ فِي شِرَاءِ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ، وَكُلُّ مَنْ صَلُحَ وَكِيلًا عَنْ غَيْرِهِ فِي شِرَاءِ مَالٍ إذَا أَضَافَ الْعَقْدَ إلَى الْآمِرِ صَلُحَ فِعْلُهُ امْتِثَالًا، فَالْعَبْدُ إذَا أَضَافَهُ إلَى الْآمِرِ صَلُحَ فِعْلُهُ امْتِثَالًا فَيَقَعُ الْعَقْدُ لِلْآمِرِ.

ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ فِي الْكِتَابِ فَفَعَلَ فَهُوَ لِلْآمِرِ يُشِيرُ إلَى أَنَّ الْعَقْدَ يَتِمُّ بِقَوْلِ الْمَوْلَى بِعْتُ، وَهُوَ يُخَالِفُ مَا ذُكِرَ فِي الْجَامِعِ مِنْ أَنَّ إضَافَةَ الْعَقْدِ إلَى الْمُوَكِّلِ إنَّمَا تُفِيدُهُ الْمِلْكَ إذَا وُجِدَ الْإِيجَابُ مِنْ الْمَوْلَى وَالْقَبُولُ مِنْ الْعَبْدِ، حَتَّى لَوْ قَالَ الْعَبْدُ: بِعْنِي نَفْسِي مِنْ فُلَانٍ فَقَالَ: بِعْتُ، لَا يَتِمُّ الْعَقْدُ حَتَّى يَقُولَ الْعَبْدُ قَبِلْتُ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْوَاحِدَ لَا يَتَوَلَّى طَرَفَيْ الْبَيْعِ، بِخِلَافِ مَا إذَا اشْتَرَى لِنَفْسِهِ كَمَا سَيَأْتِي فَإِنَّهُ إعْتَاقٌ عَلَى مَالٍ مُقَدَّرٍ، وَالْوَاحِدُ يَتَوَلَّى طَرَفَيْ الْإِعْتَاقِ إذَا كَانَ الْمَالُ مُقَدَّرًا فَيَتِمُّ بِقَوْلِ الْمَوْلَى بِعْتُ مَسْبُوقًا بِقَوْلِ الْعَبْدِ بِعْنِي نَفْسِي. فَإِنْ قِيلَ: إذَا أَضَافَ الْعَبْدُ الْعَقْدَ إلَى الْآمِرِ فَمَنْ الْمُطَالَبِ بِالثَّمَنِ؟ قُلْنَا: الْعَبْدُ؛ لِأَنَّهُ الْعَاقِدُ، فَيَجِبُ الثَّمَنُ عَلَيْهِ إلَّا أَنَّهُ يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْآمِرِ.

فَإِنْ قُلْت: قَدْ يَكُونُ الْعَبْدُ مَحْجُورًا عَلَيْهِ وَمِثْلُهُ لَا تَرْجِعُ إلَيْهِ الْحُقُوقُ. قُلْت: زَالَ الْحَجْرُ هَاهُنَا بِالْعَقْدِ الَّذِي بَاشَرَهُ مَعَ مَوْلَاهُ، فَإِنَّ الْمُبَاشَرَةَ تَسْتَدْعِي تَصَوُّرَ صِحَّةِ الْمُبَاشَرَةِ وَهُوَ إذْنٌ

ص: 71

(وَإِنْ عَقَدَ لِنَفْسِهِ فَهُوَ حُرٌّ)؛ لِأَنَّهُ إعْتَاقٌ وَقَدْ رَضِيَ بِهِ الْمَوْلَى دُونَ الْمُعَاوَضَةِ، وَالْعَبْدُ وَإِنْ كَانَ وَكِيلًا بِشِرَاءِ شَيْءٍ مُعَيَّنٍ وَلَكِنَّهُ أَتَى بِجِنْسِ تَصَرُّفٍ آخَرَ وَفِي مِثْلِهِ يَنْفُذُ عَلَى الْوَكِيلِ (وَكَذَا لَوْ قَالَ بِعْنِي نَفْسِي وَلَمْ يَقُلْ لِفُلَانٍ فَهُوَ حُرٌّ)؛ لِأَنَّ الْمُطْلَقَ يَحْتَمِلُ الْوَجْهَيْنِ فَلَا يَقَعُ امْتِثَالًا بِالشَّكِّ فَيَبْقَى التَّصَرُّفُ وَاقِعًا لِنَفْسِهِ.

وَإِنْ عَقَدَ لِنَفْسِهِ) أَيْ إنْ أَضَافَ الْعَقْدَ إلَى نَفْسِهِ فَقَالَ بِعْنِي نَفْسِي مِنِّي فَقَالَ الْمَوْلَى بِعْت (فَهُوَ حُرٌّ؛ لِأَنَّهُ إعْتَاقٌ) لِمَا تَقَدَّمَ (وَقَدْ رَضِيَ بِهِ الْمَوْلَى)؛ لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ بَيْعَ الْعَبْدِ مِنْهُ إعْتَاقٌ (دُونَ الْمُعَاوَضَةِ) أَيْ لَمْ يَرْضَ بِهَا فَلَا يَقَعُ الْعَقْدُ لِلْآمِرِ. وَلَمَّا اسْتَشْعَرَ أَنْ يُقَالَ الْعَبْدُ وَكِيلٌ بِشِرَاءِ شَيْءٍ بِعَيْنِهِ فَكَيْفَ جَازَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ لِنَفْسِهِ. أَجَابَ بِقَوْلِهِ (وَالْعَبْدُ وَإِنْ كَانَ وَكِيلًا بِشِرَاءِ شَيْءٍ مُعَيَّنٍ وَلَكِنَّهُ أَتَى بِجِنْسِ تَصَرُّفٍ آخَرَ) وَهُوَ الْإِعْتَاقُ عَلَى مَالٍ فَكَانَ مُخَالِفًا (وَفِي مِثْلِهِ يَنْفُذُ عَلَى الْوَكِيلِ) فَإِنَّ الْوَكِيلَ بِشِرَاءِ شَيْءٍ بِعَيْنِهِ إذَا خَالَفَ فَأَتَى بِجِنْسِ تَصَرُّفٍ آخَرَ يَنْفُذُ الْعَقْدُ عَلَى الْوَكِيلِ دُونَ الْمُوَكِّلِ كَمَا تَقَرَّرَ فِيمَا مَرَّ (وَكَذَا لَوْ قَالَ بِعْنِي نَفْسِي وَلَمْ يَقُلْ لِفُلَانٍ) أَيْ وَكَذَا لَوْ أَطْلَقَ الْعَبْدُ الْعَقْدَ فَقَالَ بِعْنِي نَفْسِي وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ (فَهُوَ حُرٌّ؛ لِأَنَّ الْمُطْلَقَ يَحْتَمِلُ الْوَجْهَيْنِ) يَعْنِي الِامْتِثَالَ وَغَيْرَهُ (فَلَا يَقَعُ امْتِثَالًا) أَيْ فَلَا يُجْعَلُ امْتِثَالًا (بِالشَّكِّ فَيَبْقَى التَّصَرُّفُ وَاقِعًا لِنَفْسِهِ) أَيْ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي التَّصَرُّفِ أَنْ يَقَعَ عَمَّنْ بَاشَرَهُ.

قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَعُورِضَ بِأَنَّ اللَّفْظَ حَقِيقَةٌ لِلْمُعَاوَضَةِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَإِذَا تَرَدَّدَ اللَّفْظُ بَيْنَ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَعَلَى مَجَازِهِ حُمِلَ عَلَى الْحَقِيقَةِ أَلْبَتَّةَ. وَأُجِيبُ بِأَنَّ اللَّفْظَ لِلْحَقِيقَةِ إذَا لَمْ يَكُنْ ثَمَّةَ قَرِينَةٌ لِلْمَجَازِ وَقَدْ وُجِدَتْ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ وَهِيَ إضَافَةُ الْعَبْدِ الْعَقْدَ إلَى نَفْسِهِ فَإِنَّ حَقِيقَتَهُ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ غَيْرُ مُتَصَوَّرَةٍ وَرَضِيَ الْمَوْلَى بِذَلِكَ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ وَقَدْ رَضِيَ بِهِ الْمَوْلَى دُونَ الْمُعَاوَضَةِ انْتَهَى.

أَقُولُ: هَذَا الْجَوَابُ مِمَّا لَا يَكَادُ يَصِحُّ هَاهُنَا؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ الْآنَ إنَّمَا هُوَ فِي مَسْأَلَةِ الْإِطْلَاقِ عَنْ الْإِضَافَةِ إلَى نَفْسِهِ وَإِلَى الْمُوَكِّلِ وَالْقَرِينَةُ الْمَذْكُورَةُ إنَّمَا وُجِدَتْ فِي مَسْأَلَةِ الْإِضَافَةِ إلَى نَفْسِهِ، وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ وَقَدْ رَضِيَ بِهِ دُونَ الْمُعَاوَضَةِ إنَّمَا وَقَعَ فِيهَا وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمَوْرِدِ الِاعْتِرَاضِ وَلَا مِسَاسَ لِهَذَا الْجَوَابِ بِمَا نَحْنُ فِيهِ أَصْلًا. لَا يُقَالُ: لَيْسَ الْمُرَادُ بِالْإِضَافَةِ إلَى نَفْسِهِ الَّتِي عُدَّتْ قَرِينَةً هَاهُنَا الْإِضَافَةُ الْمَارَّةُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ الْحَاصِلَةِ مِنْ قَوْلِهِ بِعْنِي، بَلْ الْإِضَافَةُ الْحَاصِلَةُ مِنْ قَوْلِهِ نَفْسِي فِي قَوْلِهِ بِعْنِي نَفْسِي، وَهَذِهِ الْإِضَافَةُ مَوْجُودَةٌ فِي مَسْأَلَةِ الْإِطْلَاقِ أَيْضًا؛ لِأَنَّا نَقُولُ: هَذِهِ الْإِضَافَةُ لَا تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ قَرِينَةً لِلْمَجَازِ،

ص: 72

(فَصْلٌ فِي الْبَيْعِ)

قَالَ (وَالْوَكِيلُ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ لَا يَجُوزُ لَهُ

إذْ لَا شَكَّ أَنَّ مُجَرَّدَ قَوْلِهِ بِعْنِي نَفْسِي لَا يُنَافِي الْمُعَاوَضَةَ، بَلْ يَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ بَيْعُ نَفْسِهِ مِنْ نَفْسِهِ وَهُوَ الْإِعْتَاقُ عَلَى مَالٍ وَبَيْعُ نَفْسِهِ لِغَيْرِهِ وَهُوَ الْمُعَاوَضَةُ، بَلْ الثَّانِي هُوَ الظَّاهِرُ نَظَرًا إلَى الْحَقِيقَةِ. وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: لَا يُقَالُ فَعَلَى هَذَا لَا يَكُونُ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّ الْمُطْلَقَ يَحْتَمِلُ الْوَجْهَيْنِ صَحِيحًا؛ لِأَنَّا نَقُولُ: الِاحْتِمَالُ إنَّمَا هُوَ مِنْ حَيْثُ إطْلَاقُ اللَّفْظِ، وَذَلِكَ لَا يَحْتَمِلُ الْإِنْكَارَ وَالتَّرْجِيحَ مِنْ حَيْثُ الْإِضَافَةُ إلَى نَفْسِهِ وَهِيَ خَارِجَةٌ عَنْ مَفْهُومِ اللَّفْظِ انْتَهَى.

أَقُولُ: هَذَا أَيْضًا لَيْسَ بِصَحِيحٍ إذْ لَا إضَافَةَ إلَى نَفْسِهِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ؛ لِأَنَّ وَضْعَهُ فِيمَا أُطْلِقَ وَلَمْ يُضِفْ إلَى أَحَدٍ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ التَّرْجِيحُ فِيهِ مِنْ حَيْثُ الْإِضَافَةُ إلَى نَفْسِهِ. وَأَيْضًا إنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ وَهِيَ خَارِجَةٌ عَنْ مَفْهُومِ اللَّفْظِ أَنَّهَا خَارِجَةٌ عَنْ مَفْهُومِ مَجْمُوعِ اللَّفْظِ الصَّادِرِ عَنْ الْعَبْدِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ بِعْنِي نَفْسِي فَأَيْنَ تُوجَدُ الْإِضَافَةُ إلَى نَفْسِهِ حَتَّى تَكُونَ قَرِينَةً لِلْمَجَازِ؟ وَإِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّهَا خَارِجَةٌ عَنْ مَفْهُومِ بَعْضِ اللَّفْظِ الصَّادِرِ عَنْهُ فِيهَا، وَهُوَ قَوْلُهُ بِعْنِي فَقَطْ فَلَا يُجْدِي شَيْئًا؛ لِأَنَّ وَضْعَ الْمَسْأَلَةِ فِي الْإِطْلَاقِ مَجْمُوعُ مَا صَدَرَ عَنْ الْعَبْدِ، إذْ بِهِ تَمْتَازُ هَذِهِ الصُّورَةُ عَنْ صُورَتَيْ الْإِضَافَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ خُرُوجِ قَيْدِ الْإِضَافَةِ عَنْ مَجْمُوعِ ذَلِكَ حَتَّى يُوجَدَ الْإِطْلَاقُ الْمَفْرُوضُ وَيَصِحُّ الِاحْتِمَالُ الْمَذْكُورُ. وَبِالْجُمْلَةِ لَا حَاصِلَ لِهَذَا الْجَوَابِ وَلَا مُطَابَقَةَ فِيهِ لِمَا فِي الْكِتَابِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى ذَوِي الْأَلْبَابِ.

وَالْجَوَابُ الصَّحِيحُ عَنْ أَصْلِ الْمُعَاوَضَةِ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَالْكِفَايَةِ حَيْثُ قَالَا: فَإِنْ قِيلَ يَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ الشِّرَاءُ لِلْمُوَكِّلِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ لِحَقِيقَتِهِ فِي الْأَصْلِ، فَلَمَّا تَرَدَّدَ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْحَقِيقَةِ كَمَا هُوَ الْأَصْلُ، وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ لَوْ وَقَعَ الشِّرَاءُ لِمُوَكِّلِهِ كَانَ الشِّرَاءُ مَعْمُولًا عَلَى حَقِيقَتِهِ وَهِيَ الْمُعَاوَضَةُ، وَلَوْ وَقَعَ لِلْعَبْدِ كَانَ مَعْمُولًا بِمَجَازِهِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَوْضُوعٍ لِلْإِعْتَاقِ بَلْ هُوَ مَوْضُوعٌ لِلْمُعَاوَضَةِ. قُلْنَا: عَارَضَتْ جِهَةُ أَصَالَةِ الْحَقِيقَةِ جِهَةَ أَصَالَةٍ أُخْرَى وَهِيَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي تَصَرُّفِ الْإِنْسَانِ أَنْ يَقَعَ لِنَفْسِهِ ثُمَّ رَجَّحْنَا هَذِهِ الْجِهَةَ بِحَسَبِ مَقْصُودِ الْبَائِعِ ظَاهِرًا وَهُوَ أَنْ لَا يَفُوتَ وَلَاءُ الْعَبْدِ مِنْهُ، فَإِنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ وُقُوعِ الشِّرَاءِ لِلْمُوَكِّلِ يَفُوتُ هَذَا الْغَرَضُ، أَوْ نَقُولُ: لَمَّا وَقَعَ التَّعَارُضُ بَيْنَ الْأَصْلَيْنِ رَجَّحْنَا جَانِبَ الْإِعْتَاقِ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ، وَالْمُعَاوَضَةُ مُبَاحَةٌ مَحْضَةٌ انْتَهَى.

(فَصْلٌ فِي الْبَيْعِ)

لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ أَحْكَامِ التَّوْكِيلِ بِالشِّرَاءِ شَرَعَ فِي بَيَانِ أَحْكَامِ التَّوْكِيلِ بِالْبَيْعِ، وَمَا ذَكَرَ لِتَقْدِيمِ فَصْلِ الشِّرَاءِ ثَمَّةَ فَهُوَ وَجْهُ تَأْخِيرِ فَصْلِ الْبَيْعِ هُنَا، كَذَا فِي الشُّرُوحِ. أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُول: قَدْ ذُكِرَ فِي هَذَا الْفَصْلِ كَثِيرٌ مِنْ أَحْكَامِ التَّوْكِيلِ بِالشِّرَاءِ، وَلِمَ لَمْ يُذْكَرْ ذَلِكَ فِي الْفَصْلِ الْمُتَقَدِّمِ: مِنْهَا قَوْلُهُ وَالْوَكِيلُ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَعْقِدَ مَعَ أَبِيهِ وَجَدِّهِ إلَخْ، فَإِنَّ الْحُكْمَ فِيهِ حُكْمٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ التَّوْكِيلِ بِالْبَيْعِ وَالتَّوْكِيلِ بِالشِّرَاءِ. وَمِنْهَا قَوْلُهُ وَالتَّوْكِيلُ بِالشِّرَاءِ يَجُوزُ عَقْدُهُ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ وَزِيَادَةٍ يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهَا، وَلَا يَجُوزُ بِمَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهِ فَإِنَّ الْحُكْمَ فِيهِ حُكْمُ التَّوْكِيلِ بِالشِّرَاءِ. وَمِنْهَا قَوْلُهُ وَإِنْ وَكَّلَهُ بِشِرَاءِ عَبْدٍ فَاشْتَرَى نِصْفَهُ فَالشِّرَاءُ مَوْقُوفٌ إلَخْ، فَإِنَّ الْحُكْمَ فِيهِ أَيْضًا حُكْمُ التَّوْكِيلِ بِالشِّرَاءِ؛ فَقَوْلُهُمْ لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ أَحْكَامِ التَّوْكِيلِ بِالشِّرَاءِ شَرَعَ فِي بَيَانِ أَحْكَامِ التَّوْكِيلِ بِالْبَيْعِ مَحَلُّ مُنَاقَشَةٍ. وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ بِنَوْعِ عِنَايَةٍ فَتَأَمَّلْ.

(قَالَ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ (وَالْوَكِيلُ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ لَا يَجُوزُ لَهُ

ص: 73

أَنْ يَعْقِدَ مَعَ أَبِيهِ وَجَدِّهِ وَمَنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَا: يَجُوزُ بَيْعُهُ مِنْهُمْ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ إلَّا مِنْ عَبْدِهِ أَوْ مُكَاتَبِهِ)

أَنْ يَعْقِدَ مَعَ أَبِيهِ وَجَدِّهِ وَمَنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَهُ) أَيْ وَسَائِرُ مَنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَهُ كَوَلَدِهِ وَوَلَدِ وَلَدِهِ وَزَوْجَتِهِ وَعَبِيدِهِ وَمُكَاتَبِهِ، صَرَّحَ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ بِهَذِهِ الْأَمْثِلَةِ. إلَّا أَنَّ الْمُصَنِّفَ قَصَدَ الْإِجْمَالَ فَقَالَ بَدَلَهَا: وَمَنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَهُ. قَالَ الشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ فِي تَمْثِيلِ قَوْلِهِ وَمَنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَهُ مِثْلُ ابْنِهِ وَأَخِيهِ. أَقُولُ: فِي تَمْثِيلِهِ الثَّانِي خَبْطٌ ظَاهِرٌ، فَإِنَّهُ تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْأَخِ لِأَخِيهِ بِلَا خِلَافٍ كَمَا مَرَّ فِي كِتَابِ الشَّهَادَةِ (عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله) وَالْمُرَادُ بِعَدَمِ جَوَازِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ مَعَ هَؤُلَاءِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ عَدَمُ جَوَازِ ذَلِكَ عِنْدَهُ فِي مُطْلَقِ الْوَكَالَةِ. وَأَمَّا إذَا قَيَّدَ الْوَكَالَةَ بِعُمُومِ الْمَشِيئَةِ بِأَنْ قَالَ بِعْ مِمَّنْ شِئْت فَيَجُوزُ بَيْعُهُ وَشِرَاؤُهُ مَعَ هَؤُلَاءِ بِلَا خِلَافٍ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ مِنْ نَفْسِهِ أَوْ مِنْ ابْنٍ صَغِيرٍ لَهُ حَيْثُ لَا يَجُوزُ وَإِنْ قَالَ ذَلِكَ، كَذَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْمَبْسُوطِ، وَنُقِلَ عَنْهُ فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ.

(وَقَالَا: يَجُوزُ بَيْعُهُ مِنْهُمْ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ) قَالَ بَعْضُهُمْ: تَخْصِيصُ الْبَيْعِ بِالذِّكْرِ مِنْ قَبِيلِ الِاكْتِفَاءِ بِذِكْرِهِ مِنْ الشِّرَاءِ وَإِلَّا فَفِيهِ خِلَافٌ أَيْضًا. وَقَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: خُصَّ قَوْلُهُمَا فِي الْكِتَابِ فِي حَقِّ جَوَازِ الْبَيْعِ مِنْهُمْ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ، وَكَذَلِكَ فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ فَكَانَ فِيهِ إشَارَةٌ إلَّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُمَا أَيْضًا فِي الْغَبْنِ الْيَسِيرِ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِتَخْصِيصِ مِثْلِ الْقِيمَةِ فَائِدَةٌ. وَلَكِنْ ذَكَرَ فِي الذَّخِيرَةِ أَنَّ الْبَيْعَ مِنْهُمْ بِالْغَبْنِ الْيَسِيرِ يَجُوزُ عِنْدَهُمَا فَكَانَ الْغَبْنُ الْيَسِيرُ مُلْحَقًا بِمِثْلِ الْقِيمَةِ عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ فَقَالَ فِيهَا الْوَكِيلُ بِالْبَيْعِ إذَا بَاعَ مِمَّنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَهُ إنْ كَانَ بِأَكْثَرَ مِنْ الْقِيمَةِ يَجُوزُ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ كَانَ بِأَقَلَّ مِنْ الْقِيمَةِ بِغَبْنٍ فَاحِشٍ لَا يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ كَانَ بِغَبْنٍ يَسِيرٍ لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ، وَإِنْ كَانَ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ؛ فَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رِوَايَتَانِ، فِي رِوَايَةِ الْوَكَالَةِ وَالْبُيُوعِ لَا يَجُوزُ، وَفِي رِوَايَةِ الْمُضَارَبَةِ يَجُوزُ، وَبَيْعُ الْمُضَارِبِ وَشِرَاؤُهُ مِمَّنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَهُ بِغَبْنٍ يَسِيرٍ لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَبَيْعُهُ مِنْهُ بِأَكْبَرَ مِنْ الْقِيمَةِ وَشِرَاؤُهُ مِنْهُ بِأَقَلَّ مِنْ الْقِيمَةِ يَجُوزُ بِلَا خِلَافٍ، وَبِمِثْلِ الْقِيمَةِ يَجُوزُ عِنْدَهُمَا، وَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بِاتِّفَاقِ الرِّوَايَاتِ. فَأَبُو حَنِيفَةَ فَرَّقَ عَلَى رِوَايَةِ الْوَكَالَةِ وَالْبُيُوعِ بَيْنَ الْمُضَارِبِ وَبَيْنَ الْوَكِيلِ انْتَهَى كَلَامُهُ.

فَإِنْ قِيلَ: مَا وَجْهُ الْفَرْقِ لِأَبِي حَنِيفَةَ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ بَيْنَ الْمُضَارِبِ وَالْوَكِيلِ حَيْثُ جَوَّزَ بَيْعَ الْمُضَارِبِ مِنْ هَؤُلَاءِ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ ظَهَرَ الرِّبْحُ أَوْ لَمْ يَظْهَرْ مَعَ أَنَّ لَهُ قَبْلَ ظُهُورِ الرِّبْحِ حُكْمَ الْوَكِيلِ. أُجِيبُ بِأَنَّ وَجْهَهُ أَنَّ الْمُضَارِبَ أَعَمُّ تَصَرُّفًا مِنْ الْوَكِيلِ فَقَدْ يَسْتَبِدُّ بِالتَّصَرُّفِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَمْلِكُ رَبُّ الْمَالِ نَهْيُهُ، وَقَدْ يَكُونُ نَائِبًا مَحْضًا فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ فَلِشَبَهِهِ بِالْمُسْتَبِدِّ بِالتَّصَرُّفِ جَازَ تَصَرُّفُهُ مَعَ هَؤُلَاءِ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ، وَلِشَبَهِهِ بِالنَّائِبِ لَمْ يَجُزْ تَصَرُّفُهُ مَعَهُمْ بِغَبْنٍ يَسِيرٍ، فَأَمَّا الْوَكِيلُ فَنَائِبٌ مَحْضٌ فِي تَصَرُّفٍ خَاصٍّ فَيَكُونُ مُتَّهَمًا فِي تَصَرُّفِهِ مَعَ هَؤُلَاءِ فِي حَقِّ الْمُوَكِّلِ وَإِنْ كَانَ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ (إلَّا مِنْ عَبْدِهِ أَوْ مُكَاتَبِهِ) فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُمَا أَيْضًا، قَيَّدَ فِي الْمَبْسُوطِ بِقَوْلِهِ إلَّا مِنْ عَبْدِهِ الَّذِي

ص: 74

لِأَنَّ التَّوْكِيلَ مُطْلَقٌ وَلَا تُهْمَةَ إذْ الْأَمْلَاكُ مُتَبَايِنَةٌ وَالْمَنَافِعُ مُنْقَطِعَةٌ، بِخِلَافِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ بَيْعٌ مِنْ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ مَا فِي يَدِ الْعَبْدِ لِلْمَوْلَى

لَا دَيْنَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ كَسْبَهُ مِلْكُ مَوْلَاهُ فَبَيْعَهُ مِنْهُ كَبَيْعِهِ مِنْ نَفْسِهِ، فَكَانَ فِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ يَجُوزُ بَيْعُهُ مِنْهُ عِنْدَ تَعْمِيمِ الْمُشَبَّهِ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ. قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: فِيهِ تَأَمُّلٌ، فَإِنَّ الْعَبْدَ الَّذِي عَلَيْهِ دَيْنٌ مُحِيطٌ بِمَا فِي يَدِهِ مِلْكٌ لِمَوْلَاهُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فَلَا يَظْهَرُ لِلتَّقْيِيدِ فَائِدَةٌ انْتَهَى.

أَقُولُ: نَعَمْ إنَّ الْعَبْدَ الَّذِي عَلَيْهِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِمَالِهِ وَرَقَبَتِهِ يَمْلِكُ مَوْلَاهُ مَا فِي يَدِهِ عِنْدَهُمَا إلَّا أَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْغُرَمَاءِ، حَتَّى لَوْ أَعْتَقَ مَوْلَاهُ مِنْ كَسْبِهِ عَبْدًا يَعْتِقُ عِنْدَهُمَا وَلَكِنْ يَضْمَنُ قِيمَتَهُ لِلْغُرَمَاءِ، وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَلَا يَمْلِكُ مَوْلَاهُ مَا فِي يَدِهِ، وَلَوْ أَعْتَقَ مِنْ كَسْبِهِ عَبْدًا لَا يَعْتِقُ. فَفَائِدَةُ التَّقْيِيدِ تَظْهَرُ بِنَاءً عَلَى تَعَلُّقِ حَقِّ الْغُرَمَاءِ بِمَا فِي يَدِهِ عِنْدَهُمَا أَيْضًا حَتَّى يَصِيرَ مَوْلَاهُ مَمْنُوعًا عَنْ أَنْ يَنْتَزِعَهُ مِنْ يَدِهِ، وَلِهَذَا جَازَ بَيْعُ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ الَّذِي عَلَيْهِ دَيْنٌ مِنْ مَوْلَاهُ شَيْئًا مِنْ أَكْسَابِهِ وَبَيْعُ مَوْلَاهُ مِنْهُ شَيْئًا مِنْ أَمْوَالِهِ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا وَلَمْ يَجُزْ بَيْعُ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ الْغَيْرِ الْمَدْيُونِ شَيْئًا مِنْ مَوْلَاهُ وَلَا يَبِيعُ مَوْلَاهُ شَيْئًا مِنْهُ عِنْدَهُمْ أَصْلًا، وَسَيَنْكَشِفُ ذَلِكَ كُلُّهُ فِي كِتَابِ الْمَأْذُونِ، فَقَوْلُهُ فِي الْمَبْسُوطِ؛ لِأَنَّ كَسْبَهُ مِلْكُ مَوْلَاهُ فَبَيْعُهُ مِنْهُ كَبَيْعِهِ مِنْ نَفْسِهِ مَعْنَاهُ أَنَّ كَسْبَهُ مِلْكٌ خَالِصٌ لِمَوْلَاهُ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقُّ الْغَيْرِ فَبَيْعُهُ مِنْهُ كَبَيْعِهِ مِنْ نَفْسِهِ، بِخِلَافِ الْعَبْدِ الْمَدْيُونِ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ مِنْ جَانِبِهِمَا (لِأَنَّ التَّوْكِيلَ مُطْلَقٌ) أَيْ عَنْ التَّقْيِيدِ بِشَخْصِ دُونَ آخَرَ، وَالْمُطْلَقُ يُعْمَلُ بِإِطْلَاقِهِ فَكَانَ الْمُقْتَضَى مَوْجُودًا وَالْمَانِعُ مُنْتَفٍ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ هُوَ التُّهْمَةُ (وَلَا تُهْمَةَ هَاهُنَا)؛ لِأَنَّهَا إمَّا أَنْ تَكُونَ مِنْ حَيْثُ إيثَارُ الْعَيْنِ أَوْ مِنْ حَيْثُ إيثَارُ الْمَالِيَّةِ وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْهُمَا بِمَوْجُودٍ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَلَمَّا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ (إذْ الْأَمْلَاكُ مُتَبَايِنَةٌ) أَلَا يَرَى أَنَّهُ يَحِلُّ لِلِابْنِ وَطْءُ جَارِيَةِ نَفْسِهِ وَلَا يَحِلُّ لَهُ وَطْءُ جَارِيَةِ أَبِيهِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِلْكُهُ مُتَبَايِنًا عَنْ مِلْكِ أَبِيهِ لَكَانَتْ جَارِيَتُهُ جَارِيَةً مُشْتَرَكَةً وَلَمَا حَلَّ لَهُ وَطْؤُهَا كَمَا لَا يَحِلُّ لَهُ وَطِئَ جَارِيَةَ أَبِيهِ (وَالْمَنَافِعُ مُنْقَطِعَةٌ)؛ لِأَنَّ تَبَايُنَ الْأَمْلَاكِ يُوجِبُ انْقِطَاعَ الْمَنَافِعِ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَلَا نَفْعَ لَهُ مِنْ حَيْثُ إيثَارُ الْعَيْنِ فَلَا تُهْمَةَ.

وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ التَّقْدِيرَ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ يَنْفِيهِ، فَإِذَا وُجِدَ الْمُقْتَضَى وَانْتَفَى الْمَانِعُ وَجَبَ الْقَوْلُ بِالْجَوَازِ كَمَا فِي الْبَيْعِ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ (بِخِلَافِ الْعَبْدِ) يَعْنِي الَّذِي لَا دَيْنَ عَلَيْهِ لِمَا عَرَفْتَ (لِأَنَّهُ بَيْعٌ مِنْ نَفْسِهِ) أَيْ؛ لِأَنَّ بَيْعَ الْوَكِيلِ مِنْ مِثْلِ ذَلِكَ الْعَبْدِ بَيْعٌ مِنْ نَفْسِهِ (لِأَنَّ مَا فِي يَدِ الْعَبْدِ) أَيْ مَا فِي يَدِ مِثْلِ ذَلِكَ الْعَبْدِ (لِلْمَوْلَى) أَيْ مِلْكٌ خَالِصٌ لِلْمَوْلَى لَا حَقَّ فِيهِ لِلْغَيْرِ، فَصَارَ الْبَيْعُ

ص: 75

وَكَذَا لِلْمَوْلَى حَقٌّ فِي كَسْبِ الْمُكَاتَبِ وَيَنْقَلِبُ حَقِيقَةً بِالْعَجْزِ. وَلَهُ أَنَّ مَوَاضِعَ التُّهْمَةِ مُسْتَثْنَاةٌ عَنْ الْوَكَالَاتِ، وَهَذَا مَوْضِعُ التُّهْمَةِ بِدَلِيلِ عَدَمِ قَبُولِ الشَّهَادَةِ وَلِأَنَّ الْمَنَافِعَ بَيْنَهُمْ مُتَّصِلَةٌ فَصَارَ بَيْعًا مِنْ نَفْسِهِ مِنْ وَجْهٍ، وَالْإِجَارَةُ وَالصَّرْفُ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ.

مِنْهُ بَيْعًا مِنْ نَفْسِهِ، وَالْبَيْعُ مِنْ نَفْسِهِ غَيْرُ جَائِزٍ؛ لِأَنَّ الْوَاحِدَ إذَا تَوَلَّى طَرَفَيْ الْبَيْعِ كَانَ مُسْتَزِيدًا مُسْتَنْقِصًا قَابِضًا مُسَلِّمًا مُخَاصَمًا مُخَاصِمًا فِي الْعَيْبِ، وَفِيهِ مِنْ التَّضَادِّ مَا لَا يَخْفَى (وَكَذَا لِلْمَوْلَى حَقٌّ فِي كَسْبِ الْمُكَاتَبِ) حَتَّى لَا تَصِحَّ تَبَرُّعَاتُهُ وَلَا تَزْوِيجُ عَبْدِهِ (وَيَنْقَلِبُ حَقِيقَةً بِالْعَجْزِ) يَعْنِي وَقَدْ يَنْقَلِبُ حَقُّ الْمَوْلَى فِي كَسْبِ الْمُكَاتَبِ إلَى حَقِيقَةِ الْمِلْكِ بِعَجْزِ الْمُكَاتَبِ عَنْ أَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ فَصَارَ كَالْعَبْدِ (وَلَهُ) أَيْ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ (أَنَّ مَوَاضِعَ التُّهْمَةِ مُسْتَثْنَاةٌ مِنْ الْوَكَالَاتِ) يَعْنِي مَنْ سَلَّمْنَا أَنَّ التَّوْكِيلَ مُطْلَقٌ لَكِنَّ مَوَاضِعَ التُّهْمَةِ مُسْتَثْنَاةٌ مِنْ الْوَكَالَاتِ؛ لِأَنَّهَا شُرِعَتْ لِلْإِعَانَةِ فَكَانَتْ مَوَاضِعَ أَمَانَةٍ (وَهَذَا) أَيْ مَا نَحْنُ فِيهِ (مَوْضِعُ التُّهْمَةِ بِدَلِيلِ عَدَمِ قَبُولِ الشَّهَادَةِ) أَيْ فِيمَا بَيْنَهُمْ (وَلِأَنَّ الْمَنَافِعَ بَيْنَهُمْ مُتَّصِلَةٌ)؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَنْتَفِعُ بِمَالِ الْآخَرِ عَادَةً فَصَارَ مَالُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ كَمَالِ صَاحِبِهِ مِنْ وَجْهٍ (فَصَارَ) أَيْ بَيْعُ الْوَكِيلِ مِنْ هَؤُلَاءِ (بَيْعًا مِنْ نَفْسِهِ مِنْ وَجْهٍ) فَكَانَ فِيهِ تُهْمَةُ إيثَارِ الْعَيْنِ. قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ دَلِيلِ أَبِي حَنِيفَةَ هَاهُنَا: وَلِأَبِي حَنِيفَةَ الْقَوْلُ بِالْمُوجَبِ.

أَقُولُ: لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ بِالْمُوجَبِ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ الْتِزَامُ مَا يَلْزَمُهُ الْمُعَلِّلُ مَعَ بَقَاءِ الْخِلَافِ، وَهَا هُنَا لَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ حَاصِلَ التَّعْلِيلِ الْمَذْكُورِ مِنْ قِبَلِهِمَا أَنَّ التَّوْكِيلَ مُطْلَقٌ وَالتُّهْمَةَ مُنْتَفِيَةٌ لِتَبَايُنِ الْأَمْلَاكِ وَانْقِطَاعِ الْمَنَافِعِ.

وَحَاصِلُ مَا ذُكِرَ مِنْ قِبَلِهِ أَنَّ التُّهْمَةَ مُتَحَقِّقَةٌ وَالْمَنَافِعَ مُتَّصِلَةٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَآلَ هَذَا مَنْعٌ لِمَا عُلِّلَ بِهِ مِنْ قِبَلِهِمَا لَا تَسْلِيمَ وَالْتِزَامَ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْ الْقَوْلِ بِالْمُوجَبِ فِي شَيْءٍ. نَعَمْ فِيهِ تَسْلِيمٌ لِمُقَدَّمَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ التَّعْلِيلِ الْمَذْكُورِ وَهِيَ أَنَّ التَّوْكِيلَ مُطْلَقٌ لَكِنْ لَا يَتِمُّ بِهَا وَحْدَهَا مَطْلُوبُهُمَا فَلَا يَكُونُ تَسْلِيمُهَا تَسْلِيمًا لِلتَّعْلِيلِ الْمَذْكُورِ مِنْ قِبَلِهِمَا كَمَا لَا يَخْفَى. قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَالْإِجَارَةُ وَالصَّرْفُ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ) يَعْنِي أَنَّ الْوَكَالَةَ بِالْإِجَارَةِ وَالصَّرْفِ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ الْمَذْكُورِ، وَإِنَّمَا خَصَّهُمَا بِالذِّكْرِ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ شُرِعَتْ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ وَهُوَ الْمَنَافِعُ مَعْدُومَةً، وَالصَّرْفَ مَشْرُوطٌ بِشُرُوطٍ عَرِيَ عَنْهَا غَيْرُهُ فَكَانَا مِمَّا يَظُنُّ عَدَمُ جَوَازِهِ مَعَ هَؤُلَاءِ بِالْإِجْمَاعِ، فَبَيَّنَ أَنَّ الْحُكْمَ فِيهِمَا كَالْحُكْمِ فِيمَا سِوَاهُمَا، كَذَا فِي الشُّرُوحِ.

أَقُولُ: السَّلَمُ أَيْضًا شُرِعَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ وَلَهُ شُرُوطٌ مُخَالِفَةٌ لِلْغَيْرِ، فَكَانَ الْأَحْسَنُ أَنْ يَذْكُرَهُ الْمُصَنِّفُ مَعَهُمَا، كَمَا قَالَ فِي الْمُخْتَلِفِ حَيْثُ

ص: 76

قَالَ (وَالْوَكِيلُ بِالْبَيْعِ يَجُوزُ بَيْعُهُ بِالْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ وَالْعَرَضَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله. وَقَالَا: لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ بِنُقْصَانٍ لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ، وَلَا يَجُوزُ إلَّا بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ)؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ الْأَمْرِ يَتَقَيَّدُ بِالْمُتَعَارَفِ؛ لِأَنَّ التَّصَرُّفَاتِ لِدَفْعِ الْحَاجَاتِ فَتَتَقَيَّدُ بِمَوَاقِعِهَا، وَالْمُتَعَارَفُ الْبَيْعُ بِثَمَنِ الْمِثْلِ وَبِالنُّقُودِ وَلِهَذَا يَتَقَيَّدُ التَّوْكِيلُ بِشِرَاءِ الْفَحْمِ وَالْجُمْدِ وَالْأُضْحِيَّةِ بِزَمَانِ الْحَاجَةِ، وَلِأَنَّ الْبَيْعَ بِغَبْنٍ فَاحِشٍ بَيْعٌ مِنْ وَجْهٍ هِبَةٌ مِنْ وَجْهٍ، وَكَذَا الْمُقَايَضَةُ بَيْعٌ مِنْ وَجْهٍ شِرَاءٌ مِنْ وَجْهٍ فَلَا يَتَنَاوَلُهُ مُطْلَقُ اسْمِ الْبَيْعِ وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُهُ الْأَبُ وَالْوَصِيُّ. وَلَهُ أَنَّ التَّوْكِيلَ بِالْبَيْعِ مُطْلَقٌ فَيَجْرِي عَلَى إطْلَاقِهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ التُّهْمَةِ،

قَالَ فِيهِ بَعْدَ بَيَانِ الْخِلَافِ الْمَذْكُورِ: وَالسَّلَمُ وَالصَّرْفُ وَالْإِجَارَةُ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ

(قَالَ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ (وَالْوَكِيلُ بِالْبَيْعِ يَجُوزُ بَيْعُهُ بِالْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ وَالْعَرْضِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) وَيَجُوزُ بَيْعُهُ بِأَجَلٍ غَيْرِ مُتَعَارَفٍ أَيْضًا عِنْدَهُ، صَرَّحَ بِهِ فِي الذَّخِيرَةِ وَغَيْرِهَا، وَلَقَبُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْوَكِيلُ بِالْبَيْعِ مُطْلَقًا يَمْلِكُ الْبَيْعَ بِمَا عَزَّ وَهَانَ وَبِأَيِّ مَنْ كَانَ وَإِلَى أَجَلٍ كَانَ مُتَعَارَفًا وَغَيْرَ مُتَعَارَفٍ كَذَا قَالُوا (وَقَالَا) أَيْ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ (لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ بِنُقْصَانٍ لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ) أَيْ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ بِغَبْنٍ فَاحِشٍ وَيَجُوزُ بِغَبْنٍ يَسِيرٍ (وَلَا يَجُوزُ إلَّا بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ) أَيْ لَا يَجُوزُ إلَّا بِالنُّقُودِ، وَكَذَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ عِنْدَهُمَا إلَّا بِأَجَلٍ مُتَعَارَفٍ. قَالَ فِي الذَّخِيرَةِ: وَإِذَا بَاعَ بِأَجَلٍ مُتَعَارَفٍ فِيمَا بَيْنَ التُّجَّارِ فِي تِلْكَ السِّلْعَةِ جَازَ عِنْدَ عُلَمَائِنَا، وَإِنْ بَاعَ بِأَجَلٍ غَيْرِ مُتَعَارَفٍ فِيمَا بَيْنَ التُّجَّارِ فِي تِلْكَ السِّلْعَةِ بِأَنْ بَاعَ مَثَلًا إلَى خَمْسِينَ سَنَةٍ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ يَجُوزُ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ وَقَالَ: إنَّمَا يَجُوزُ الْبَيْعُ بِالنَّسِيئَةِ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي لَفْظِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْبَيْعِ بِالنَّقْدِ، فَأَمَّا إذَا كَانَ فِي لَفْظِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْبَيْعِ بِالنَّقْدِ لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ بِالنَّسِيئَةِ نَحْوُ أَنْ يَقُولَ بِعْ هَذَا الْعَبْدَ فَاقْضِ دَيْنِي، أَوْ قَالَ بِعْ فَإِنَّ الْغُرَمَاءَ يُلَازِمُونَنِي، أَوْ قَالَ بِعْ فَإِنِّي أَحْتَاجُ إلَى نَفَقَةِ عِيَالِي فَفِي هَذِهِ الصُّوَرِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ بِالنَّسِيئَةِ انْتَهَى.

قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِ مَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ مِنْ جَانِبِهِمَا (لِأَنَّ مُطْلَقَ الْأَمْرِ يَتَقَيَّدُ بِالْمُتَعَارَفِ) أَيْ بِمَا هُوَ مُتَعَارَفٌ بَيْنَ النَّاسِ (لِأَنَّ التَّصَرُّفَاتِ لِدَفْعِ الْحَاجَاتِ فَتَتَقَيَّدُ بِمَوَاقِعِهَا) أَيْ فَتَتَقَيَّدُ التَّصَرُّفَاتُ بِمَوَاقِعِ الْحَاجَاتِ (وَالْمُتَعَارَفُ الْبَيْعُ بِثَمَنِ الْمِثْلِ وَبِالنُّقُودِ وَلِهَذَا) أَيْ وَلِأَجْلٍ تَقَيُّدِ التَّصَرُّفَاتِ بِمَوَاقِعِهَا (يَتَقَيَّدُ التَّوْكِيلُ بِشِرَاءِ الْفَحْمِ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ اللَّحْمِ مَكَانَ الْفَحْمِ، لَكِنَّ الْفَحْمَ أَلْيَقُ لِقِرَانِ قَوْلِهِ بِزَمَانِ الْحَاجَةِ، إذْ كُلُّ الْأَزْمَانِ زَمَانُ الْحَاجَةِ إلَى اللَّحْمِ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ (وَالْجَمْدُ) بِسُكُونِ الْمِيمِ لَا غَيْرُ هُوَ مَا جَمَدَ مِنْ الْمَاءِ فَكَانَ فِيهِ تَسْمِيَةٌ لِلِاسْمِ بِالْمَصْدَرِ، كَذَا فِي الصِّحَاحِ وَالدِّيوَانِ (وَالْأُضْحِيَّةُ بِزَمَانِ الْحَاجَةِ) مُتَعَلِّقٌ بِيَتَقَيَّد: أَيْ يَتَقَيَّدُ التَّوْكِيلُ بِشِرَاءِ هَذِهِ الْأُمُورِ بِزَمَانِ الْحَاجَةِ فَيَتَقَيَّدُ التَّوْكِيلُ بِشِرَاءِ الْفَحْمِ بِأَيَّامِ الْبَرْدِ، وَبِشِرَاءِ الْجَمْدِ بِأَيَّامِ الصَّيْفِ، وَبِشِرَاءِ الْأُضْحِيَّةِ بِأَيَّامِ النَّحْرِ أَوْ قَبْلَهَا، كُلُّ ذَلِكَ مِنْ تِلْكَ السَّنَةِ، حَتَّى لَوْ اشْتَرَى ذَلِكَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ لَمْ يَلْزَمْ الْآمِرُ (وَلِأَنَّ الْبَيْعَ بِغَبْنٍ فَاحِشٍ بَيْعٌ مِنْ وَجْهٍ) وَهُوَ ظَاهِرٌ (وَهِبَةٌ مِنْ وَجْهٍ) وَلِهَذَا لَوْ حَصَلَ مِنْ الْمَرِيضِ كَانَ مُعْتَبَرًا مِنْ الثُّلُثِ، وَالْأَبُ وَالْوَصِيُّ لَا يَمْلِكَانِهِ، وَهُوَ وَكِيلٌ بِالْبَيْعِ دُونَ الْهِبَةِ.

(وَكَذَا الْمُقَايَضَةُ) أَيْ الْبَيْعُ بِالْعَرَضِ (بَيْعٌ مِنْ وَجْهٍ وَشِرَاءٌ مِنْ وَجْهٍ)؛ لِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ إنَّ فِيهِ إخْرَاجَ السِّلْعَةِ مِنْ الْمِلْكِ بَيْعٌ، وَمِنْ حَيْثُ إنَّ فِيهِ تَحْصِيلَ السِّلْعَةِ فِي الْمِلْكِ شِرَاءٌ (فَلَا يَتَنَاوَلُهُ) أَيْ فَلَا يَتَنَاوَلُ الْبَيْعَ بِغَبْنٍ فَاحِشٍ وَبَيْعَ الْمُقَايَضَةِ (مُطْلَقُ اسْمِ الْبَيْعِ وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُهُ الْأَبُ وَالْوَصِيُّ)؛ لِأَنَّ الْمُطْلَقَ يَنْصَرِفُ إلَى الْكَامِلِ (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ التَّوْكِيلَ بِالْبَيْعِ مُطْلَقٌ) أَيْ غَيْرُ مُقَيَّدٍ بِشَيْءٍ (فَيَجْرِي) أَيْ يَجْرِي الْمُطْلَقُ (عَلَى إطْلَاقِهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ التُّهْمَةِ) فَيَتَنَاوَلُ كُلَّ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ الْبَيْعُ.

قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ: وَلِأَبِي حَنِيفَةَ الْقَوْلُ بِالْمُوجَبِ: أَيْ سَلَّمْنَا أَنَّ

ص: 77

وَالْبَيْعُ بِالْغَبْنِ أَوْ بِالْعَيْنِ مُتَعَارَفٌ عِنْدَ شِدَّةِ الْحَاجَةِ إلَى الثَّمَنِ وَالتَّبَرُّمِ مِنْ الْعَيْنِ، وَالْمَسَائِلُ مَمْنُوعَةٌ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله عَلَى مَا هُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْهُ

التَّوْكِيلَ بِالْبَيْعِ مُطْلَقٌ لَكِنَّ الْمُطْلَقَ يَجْرِي عَلَى إطْلَاقِهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ التُّهْمَةِ.

أَقُولُ: هَذَا أَقْبَحُ مِمَّا قَالَهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى، إذْ لَمْ يَقُلْ الْخَصْمُ هُنَا قَطُّ إنَّ التَّوْكِيلَ بِالْبَيْعِ مُطْلَقٌ، بَلْ قَالَ إنَّ مُطْلَقَ الْأَمْرِ يَتَقَيَّدُ بِالْمُتَعَارَفِ: يَعْنِي أَنَّ مَا هُوَ فِي صُورَةِ الْإِطْلَاقِ مِنْ الْآمِرِ فَهُوَ مُقَيَّدٌ فِي الْحَقِيقَةِ بِالْمُتَعَارَفِ، فَلَمْ يَقَعْ مِنْهُ الْحُكْمُ بِأَنَّ التَّوْكِيلَ بِالْبَيْعِ مُطْلَقٌ حَتَّى يَصِيرَ مَحَلًّا لِلْمَنْعِ أَوْ التَّسْلِيمِ، فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ مَا ذُكِرَ مِنْ قِبَلِ أَبِي حَنِيفَةَ هَاهُنَا قَوْلًا بِالْمُوجَبِ بِتَسْلِيمِ أَنَّ التَّوْكِيلَ بِالْبَيْعِ مُطْلَقٌ.

وَالْحَقُّ أَنَّ حَاصِلَ مَعْنَى الْكَلَامِ الْمَذْكُورِ مَنْعٌ لِكَوْنِ مُطْلَقِ الْأَمْرِ هَاهُنَا مُقَيَّدًا بِالْمُتَعَارَفِ بِنَاءً عَلَى قَاعِدَةِ لُزُومِ إجْرَاءِ الْمُطْلَقِ عَلَى إطْلَاقِهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ التُّهْمَةِ، وَأَنَّ حَاصِلَ مَعْنَى قَوْلِهِ (وَالْبَيْعُ بِالْغَبْنِ أَوْ بِالْعَيْنِ) أَيْ الْعَرَضِ (مُتَعَارَفٌ عِنْدَ شِدَّةِ الْحَاجَةِ إلَى الثَّمَنِ وَالتَّبَرُّمِ) أَيْ السَّآمَةِ (مِنْ الْعَيْنِ) تَنْزِلُ فِي الْجَوَابِ مِنْ الْمَنْعِ الْمَذْكُورِ: يَعْنِي سَلَّمْنَا أَنَّ مُطْلَقَ الْأَمْرِ يَتَقَيَّدُ بِالْمُتَعَارَفِ، لَكِنَّ الْبَيْعَ بِالْغَبْنِ أَوْ الْعَيْنِ مُتَعَارَفٌ عِنْدَ شِدَّةِ الْحَاجَةِ إلَى الثَّمَنِ لِتِجَارَةٍ رَابِحَةٍ أَوْ لِغَيْرِهَا، وَعِنْدَ التَّبَرُّمِ مِنْ الْعَيْنِ، وَفِي هَذَا لَا يُبَالِي بِقِلَّةِ الثَّمَنِ وَكَثْرَتِهِ وَنَقْدِيَّةِ الثَّمَنِ وَعَرْضِيَّتِهِ فَكَانَ الْعُرْفُ مُشْتَرَكًا فَلَمْ يَصْلُحْ حُجَّةً لِأَحَدِ الْخَصْمَيْنِ عَلَى الْآخَرِ (وَالْمَسَائِلُ مَمْنُوعَةٌ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى مَا هُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْهُ) أَيْ مِنْ الْمَسَائِلِ الْمُسْتَشْهَدِ بِهَا مِنْ قِبَلِ الْخَصْمِ، وَهِيَ مَسَائِلُ شِرَاءِ الْفَحْمِ وَالْجَمْدِ وَالْأُضْحِيَّةِ لَيْسَتْ بِمُسَلَّمَةٍ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، بَلْ هِيَ مَرْوِيَّةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ. وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَهِيَ عَلَى إطْلَاقِهَا لَا تَتَقَيَّدُ بِزَمَانِ الْحَاجَةِ.

قَالَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ: وَلَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهَا تَتَقَيَّدُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْضًا فَنَقُولُ: إنَّمَا تَتَقَيَّدُ بِدَلَالَةِ الْغَرَضِ لَا بِدَلَالَةِ الْعَادَةِ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنْ شِرَاءِ الْفَحْمِ دَفْعُ ضَرَرِ الْبَرْدِ وَذَلِكَ يَخْتَصُّ بِالشِّتَاءِ، وَالْغَرَضُ مِنْ شِرَاءِ الْجُمْدِ دَفْعُ ضَرَرِ الْحَرِّ وَذَلِكَ يَخْتَصُّ بِالصَّيْفِ، حَتَّى لَوْ انْعَدَمَتْ هَذِهِ الدَّلَالَةُ بِأَنْ وُجِدَ التَّوْكِيلُ مِمَّنْ يَعْتَادُ تَرَبُّصَ الْفَحْمِ كَالْحَدَّادِينَ أَوْ تَرَبُّصَ الْجَمْدِ كَالْفَقَّاعِينَ لَا يَتَقَيَّدُ التَّوْكِيلُ، كَذَا قَالَ الْإِمَامُ عَلَاءُ الدِّينِ الْعَالِمُ فِي طَرِيقَةِ الْخِلَافِ. وَكَذَا التَّوْكِيلُ بِالْأُضْحِيَّةِ يَتَقَيَّدُ بِأَيَّامِ النَّحْرِ بِالْغَرَضِ لَا بِالْعَادَةِ؛ لِأَنَّ غَرَضَ الْمُوَكِّلِ خُرُوجُهُ عَنْ عُهْدَةِ الْوُجُوبِ الَّذِي يَلْحَقُهُ فِي أَيَّامِ تِلْكَ السَّنَةِ انْتَهَى. وَقَالَ فِي الْكَافِي: وَلِأَنَّهُ مُطْلَقٌ فِي حَقِّ الْوَقْتِ لَا عَامٌّ فَلَمْ يَتَنَاوَلْ إلَّا وَاحِدًا،

ص: 78

وَأَنَّهُ بَيْعٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، حَتَّى أَنَّ مَنْ حَلَفَ لَا يَبِيعُ يَحْنَثُ بِهِ، غَيْرَ أَنَّ الْأَبَ وَالْوَصِيَّ لَا يَمْلِكَانِهِ مَعَ أَنَّهُ بَيْعٌ؛ لِأَنَّ وِلَايَتَهُمَا نَظَرِيَّةٌ وَلَا نَظَر فِيهِ، وَالْمُقَايَضَةُ شِرَاءٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَبَيْعٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لِوُجُودِ حَدِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا.

وَقَدْ صَارَ الْمُتَعَارَفُ مُرَادًا فَلَمْ يَبْقَ غَيْرُهُ مُرَادًا، فَأَمَّا هَذَا فَعَامٌّ انْتَهَى. وَهَكَذَا ذَكَرَ فِي الْكِفَايَةِ أَيْضًا (وَأَنَّهُ) أَيْ الْبَيْعُ بِالْغَبْنِ (بَيْعٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمَا وَلِأَنَّ الْبَيْعَ بِغَبْنٍ فَاحِشٍ بَيْعٌ مِنْ وَجْهٍ وَهِبَةٌ مِنْ وَجْهٍ: يَعْنِي لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ كَذَلِكَ بَلْ هُوَ بَيْعٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ (حَتَّى أَنَّ مَنْ حَلَفَ لَا يَبِيعُ يَحْنَثُ بِهِ) أَيْ بِالْبَيْعِ بِغَبْنٍ فَاحِشٍ، فَلَمَّا جُعِلَ هَذَا بَيْعًا مُطْلَقًا فِي الْيَمِينِ جُعِلَ فِي الْوَكَالَةِ كَذَلِكَ. وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ جَرَيَانِ الْعُرْفِ فِي الْيَمِينِ فِي نَوْعِ جَرَيَانِهِ فِي الْبَيْعِ فِي ذَلِكَ النَّوْعِ؛ أَلَا يَرَى أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَحْمًا فَأَكَلَ قَدِيدًا حَنِثَ، وَفِي التَّوْكِيلِ بِشِرَاءِ اللَّحْمِ لَوْ اشْتَرَى الْوَكِيلُ لَحْمًا قَدِيدًا وَقَعَ عَلَى الْمُشْتَرِي لَا عَلَى الْآمِرِ. وَأُجِيبُ بِأَنَّ التَّوْكِيلَ بِشِرَاءِ اللَّحْمِ إنَّمَا يَقَعُ عَلَى لَحْمٍ يُبَاعُ فِي الْأَسْوَاقِ وَالْقَدِيدُ لَا يُبَاعُ بِهَا عَادَةً فَلَا يَقَعُ التَّوْكِيلُ عَلَيْهِ، فَعُلِمَ بِهَذَا أَنَّ الْعُرْفَ قَدْ اخْتَلَفَ فِي حَقِّهِمَا فَاخْتَلَفَ الْجَوَابُ لِذَلِكَ. وَأَمَّا الْبَيْعُ بِالْغَبْنِ فَلَا يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ بَيْعًا حَقِيقَةً وَعُرْفًا، أَمَّا حَقِيقَةً فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا عُرْفًا فَيُقَالُ بَيْعٌ رَابِحٌ وَبَيْعٌ خَاسِرٌ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ أَخْذًا مِنْ النِّهَايَةِ.

وَأَقُولُ: فِي الْجَوَابِ بَحْثٌ؛ لِأَنَّ حَاصِلَهُ الِاعْتِرَافُ بِاخْتِلَافِ الْعُرْفِ فِي حَقِّ الْيَمِينِ وَالْبَيْعِ وَالتَّشَبُّثِ بِادِّعَاءِ أَنَّ الْبَيْعَ بِغَبْنٍ فَاحِشٍ لَا يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ بَيْعًا لَا حَقِيقَةً وَلَا عُرْفًا، فَيُرَدُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ إنْ أُرِيدَ أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ بَيْعًا مِنْ وَجْهٍ فَهُوَ مُسَلَّمٌ، لَكِنْ لَا يَحْصُلُ بِهِ الْجَوَابُ عَمَّا قَالَاهُ وَالْكَلَامُ فِيهِ، وَإِنْ أُرِيدَ أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ بَيْعًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَهُوَ مَمْنُوعٌ إذْ هُوَ أَوَّلُ الْمَسْأَلَةِ حَيْثُ لَا يَقُولُ بِهِ الْخَصْمُ بَلْ يَدَّعِي أَنَّهُ بَيْعٌ مِنْ وَجْهٍ وَهِبَةٌ مِنْ وَجْهٍ، وَنَحْنُ بِصَدَدِ الْجَوَابِ عَنْهُ بِمَسْأَلَةِ الْيَمِينِ، فَإِذَا وَرَدَ الِاعْتِرَاضُ عَلَيْهِ بِاخْتِلَافِ الْعُرْفِ وَالْحُكْمِ مِنْ حَقِّ الْيَمِينِ وَالْبَيْعِ فَكَيْفَ يَصِحُّ الْجَوَابُ عَنْهُ بِالْمَصِيرِ إلَى الْأَصْلِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ (غَيْرَ أَنَّ الْأَبَ وَالْوَصِيَّ لَا يَمْلِكَانِهِ) جَوَابٌ عَنْ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ تَقْرِيرُهُ لَوْ كَانَ الْبَيْعُ بِغَبْنٍ فَاحِشٍ بَيْعًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لَمَلَكَهُ الْأَبُ وَالْوَصِيُّ: يَعْنِي أَنَّ الْأَبَ وَالْوَصِيَّ إنَّمَا لَا يَمْلِكَانِ الْبَيْعَ بِغَبْنٍ فَاحِشٍ (مَعَ أَنَّهُ بَيْعٌ) أَيْ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ (لِأَنَّ وِلَايَتَهُمَا) أَيْ وِلَايَةَ الْأَبِ وَالْوَصِيِّ عَلَى الصَّغِيرِ (نَظَرِيَّةٌ) أَيْ بِشَرْطِ النَّظَرِ فِي أَمْرِ الصَّغِيرِ بِالشَّفَقَةِ وَإِيصَالِ النَّفْعِ إلَيْهِ (وَلَا نَظَرَ فِيهِ) أَيْ فِي الْبَيْعِ بِغَبْنٍ فَاحِشٍ.

(وَالْمُقَايَضَةُ شِرَاءٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَبَيْعٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمَا، وَكَذَا الْمُقَايَضَةُ بَيْعٌ مِنْ وَجْهٍ وَشِرَاءٌ مِنْ وَجْهٍ: يَعْنِي لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمُقَايَضَةَ بَيْعٌ مِنْ وَجْهٍ وَشِرَاءٌ مِنْ وَجْهٍ، بَلْ هِيَ بَيْعٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَشِرَاءٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ (لِوُجُودِ حَدِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَهِيَ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ عَلَى وَجْهِ

ص: 79

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

التَّرَاضِي بِطَرِيقِ الِاكْتِسَابِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْبُيُوعِ. قَالَ: وَكُلُّ مَا صَدَقَ عَلَيْهِ هَذَا الْحَدُّ فَهُوَ بَيْعٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَشِرَاءٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ.

أَقُولُ: فِيهِ خَلَلٌ، أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْبَيْعِ فِي قَوْلِهِ وَالْمُقَايَضَةُ بَيْعٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَشِرَاءٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ هُوَ الْبَيْعُ الْمُقَابِلُ لِلشِّرَاءِ وَهُوَ وَصْفُ الْبَائِعِ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالشِّرَاءِ فِي قَوْلِهِ الْمَزْبُورُ هُوَ الشِّرَاءُ الْمُقَابِلُ لِلْبَيْعِ وَهُوَ وَصْفٌ لِلْمُشْتَرِي، وَالْحَدُّ الْمَذْكُورُ: أَعْنِي مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ عَلَى وَجْهِ التَّرَاضِي بِطَرِيقِ الِاكْتِسَابِ إنَّمَا هُوَ حَدُّ الْبَيْعِ الَّذِي هُوَ عَقْدٌ شَرْعِيٌّ وَهُوَ الْمَجْمُوعُ الْمُرَكَّبُ مِنْ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ مَعَ الِارْتِبَاطِ الشَّرْعِيِّ الْحَاصِلِ بَيْنَهُمَا، فَذَلِكَ بِمَعْزِلٍ عَنْ قَوْلِهِ لِوُجُودِ حَدِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ قَوْلَهُ وَكُلُّ مَا صَدَقَ عَلَيْهِ هَذَا الْحَدُّ فَهُوَ بَيْعٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَشِرَاءٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ بَعْدَ أَنْ جَعَلَ هَذَا الْحَدَّ حَدًّا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ كُلُّ الْبِيَاعَاتِ الْغَيْرِ الِاضْطِرَارِيَّةِ بَيْعًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَشِرَاءً مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، إذْ لَا يَخْلُو شَيْءٌ مِنْهَا عَنْ صِدْقِ هَذَا الْحَدِّ عَلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْبُيُوعِ وَلَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ قَطُّ. وَاعْتَرَضَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ بِوَجْهٍ آخَرَ عَلَى قَوْلِهِ وَهُوَ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ عَلَى وَجْهِ التَّرَاضِي بِطَرِيقِ الِاكْتِسَابِ حَيْثُ قَالَ فِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّ الْبَاءَ فِي قَوْلِهِ بِمَالٍ هِيَ بَاءُ الْمُقَابَلَةِ وَالْعِوَضِ فَلَا يَتَنَاوَلُ الْحَدُّ الشِّرَاءَ انْتَهَى. أَقُولُ: هَذَا سَاقِطٌ؛ لِأَنَّ بَاءَ الْمُقَابَلَةِ وَالْعِوَضِ لَا تُنَافِي تَنَاوُلَ الْحَدِّ الْمَذْكُورِ الشِّرَاءَ، فَإِنَّ الْمُقَابَلَةَ وَالْمُعَاوَضَةَ يَتَحَقَّقَانِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْبَدَلَيْنِ بِلَا تَفَاوُتٍ، وَإِنَّمَا بَقِيَ حَدِيثُ دُخُولِ الْبَاءِ عَلَى الثَّمَنِ وَسَيَجِيءُ الْكَلَامُ فِيهِ. ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ الْبَيْعُ فِي الْحَقِيقَةِ عِبَارَةٌ عَنْ إخْرَاجِ مِلْكِهِ مُتَوَصِّلًا بِهِ إلَى تَحْصِيلِ مِلْكِ غَيْرِهِ، وَالشِّرَاءُ عِبَارَةٌ عَنْ تَحْصِيلِ مِلْكِ غَيْرِهِ مُتَوَصِّلًا إلَيْهِ بِإِخْرَاجِ مِلْكِهِ، وَكِلَاهُمَا صَادِقٌ عَلَى الْمُقَايَضَةِ انْتَهَى.

أَقُولُ: هَذَا هُوَ الصَّوَابُ، وَإِنْ كَانَ مُقْتَضَى تَحْرِيرِهِ أَنْ يَكُونَ ضَعِيفًا عِنْدَهُ، إلَّا أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ وَكِلَاهُمَا صَادِقٌ عَلَى الْمُقَايَضَةِ أَنَّهُمَا صَادِقَانِ عَلَى بَدَلَيْ الْمُقَايَضَةِ مَعًا فَلَا يُنْتَقَضُ بِسَائِرِ الْبِيَاعَاتِ، فَإِنَّ صِدْقَ الْبَيْعِ بِالْمَعْنَى الْمَزْبُورِ فِي سَائِرِهَا مُخْتَصٌّ بِالسِّلْعَةِ وَصِدْقَ الشِّرَاءِ فِيهَا مُخْتَصٌّ بِالثَّمَنِ فَيَسْقُطُ مَا قَالَهُ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ عَلَى قَوْلِهِ وَكِلَاهُمَا صَادِقٌ عَلَى الْمُقَايَضَةِ بَلْ عَلَى جَمِيعِ الْبِيَاعَاتِ فَفِي تَقْرِيرِهِ قُصُورٌ انْتَهَى فَتَدَبَّرْ.

ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: فَالْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ يُطْلَقَانِ عَلَى عَقْدٍ شَرْعِيٍّ يُرَدُّ عَلَى مَجْمُوعِ مَالَيْنِ بِاعْتِبَارَيْنِ يَتَعَيَّنُ كُلٌّ مِنْهُمَا بِإِطْلَاقِ لَفْظٍ يَخُصُّهُ

ص: 80

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

عَلَيْهِ، وَبِذَلِكَ يَتَمَيَّزُ الْبَائِعُ عَنْ الْمُشْتَرِي وَالْوَكِيلُ بِالْبَيْعِ عَنْ الْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ انْتَهَى. أَقُولُ: وَفِيهِ خَلَلٌ؛ لِأَنَّ حَاصِلَهُ أَنَّ مَعْنَى الْبَيْعِ وَمَعْنَى الشِّرَاءِ مُتَّحِدَانِ بِالذَّاتِ وَمُتَغَايِرَانِ بِالِاعْتِبَارِ يَتَعَيَّنُ كُلٌّ مِنْهُمَا بِإِطْلَاقِ لَفْظٍ يَخُصُّهُ عَلَيْهِ وَهُوَ لَفْظُ الْبَيْعِ فِي الْبَيْعِ وَلَفْظُ الشِّرَاءِ فِي الشِّرَاءِ، فَيَمْتَازُ بِهِ الْبَائِعُ عَنْ الْمُشْتَرِي لَكِنَّهُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ. أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُ قَدْ تَقَرَّرَ فِي كُتُبِ اللُّغَةِ أَنَّ لَفْظَ الْبَيْعِ وَلَفْظَ الشِّرَاءِ مِنْ الْأَضْدَادِ يُطْلَقُ كُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى كُلٍّ مِنْ مَعْنَيَيْ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، وَصَرَّحُوا بِهِ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْبُيُوعِ حَتَّى صَرَّحَ نَفْسَهُ أَيْضًا هُنَاكَ بِأَنَّ لَفْظَ الْبَيْعِ مِنْ الْأَضْدَادِ لُغَةً وَاصْطِلَاحًا.

وَقَالَ: يُقَالُ بَاعَ الشَّيْءَ إذَا شَرَاهُ أَوْ اشْتَرَاهُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَكَيْفَ يَتَيَسَّرُ اخْتِصَاصُ أَحَدِ اللَّفْظَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ بِأَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ الْمَزْبُورَيْنِ، وَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ تَعَيُّنُ أَحَدِ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ بِإِطْلَاقِ أَحَدِ ذَيْنِك اللَّفْظَيْنِ عَلَيْهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَا هُوَ مِنْ الْأَضْدَادِ يَصِحُّ إطْلَاقَةُ عَلَى كُلٍّ مِنْ مَعْنَيَيْهِ، عَلَى أَنَّ اتِّحَادَ مَعْنَيَيْ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ بِالذَّاتِ مِمَّا لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِنْ الثِّقَاتِ وَلَا يُرَى لَهُ وَجْهٌ سَدِيدٌ. وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ الْبَيْعَ كَمَا يَنْعَقِدُ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ يَنْعَقِدُ أَيْضًا بِالتَّعَاطِي كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْبُيُوعِ، وَفِي صُورَةِ التَّعَاطِي لَا يَلْزَمُ إطْلَاقُ لَفْظٍ عَلَى شَيْءٍ مِنْهُمَا، فَكَيْفَ يَتِمُّ قَوْلُهُ يَتَعَيَّنُ كُلٌّ مِنْهُمَا بِإِطْلَاقِ لَفْظٍ يَخُصُّهُ عَلَيْهِ وَبِذَلِكَ يَتَمَيَّزُ الْبَائِعُ عَنْ الْمُشْتَرِي وَالْوَكِيلُ بِالْبَيْعِ عَنْ الْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ. وَأَمَّا ثَالِثًا فَلِأَنَّهُ لَوْ تَعَيَّنَ كُلٌّ مِنْهُمَا بِلَفْظٍ يَخُصُّهُ وَامْتَازَ بِهِ الْبَائِعُ عَنْ الْمُشْتَرِي لَكَانَ الصَّادِرُ مِنْ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ بَيْعًا وَمِنْ الْآخَرِ شِرَاءً أَلْبَتَّةَ فَلَمْ يَصِحَّ الْقَوْلُ بِأَنَّ الْمُقَايَضَةَ بَيْعٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَشِرَاءٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، بَلْ هِيَ حِينَئِذٍ إمَّا بَيْعٌ وَإِمَّا شِرَاءٌ لَا غَيْرُ. اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُحْمَلَ الْمُرَادُ بِكَوْنِهَا بَيْعًا وَشِرَاءً مِنْ كُلِّ وَجْهٍ عَلَى أَنَّهَا صَالِحَةٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَبْلَ صُدُورِ الْعَقْدِ، وَأَمَّا بَعْدَ صُدُورِهِ فَيَتَعَيَّنُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا لَكِنَّهُ تَعَسُّفٌ.

ثُمَّ إنَّهُ فَرْعٌ عَلَى مَا ذَكَرَهُ سُقُوطُ بَعْضِ مَا قِيلَ هَاهُنَا. وَلَمَّا لَمْ يَصِحَّ الْأَصْلُ كَمَا عَرَفْته لَمْ يَصِحَّ الْفَرْعُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ صِحَّةَ الْفَرْعِ فَرْعُ صِحَّةِ الْأَصْلِ كَمَا لَا يَخْفَى.

وَاعْلَمْ أَنَّ هَاهُنَا أَسْئِلَةً وَأَجْوِبَةً يَسْتَدْعِي بَسْطُهَا تَحْقِيقَ الْمَقَامِ فَنَقُولُ: إنْ قِيلَ مِنْ الْمُحَالِ أَنْ يُوصَفَ الشَّيْءُ الْوَاحِدُ بِصِفَةٍ وَبِضِدِّهَا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، فَلَوْ قُلْنَا بِأَنَّ بَيْعَ الْمُقَايَضَةِ بَيْعٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَشِرَاءٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لَزِمَ هَذَا الْمُحَالُ. قُلْنَا إنَّمَا يَلْزَمُ الْمُحَالُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ بِجِهَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ بَيْعٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ بِالنِّسْبَةِ إلَى غَرَضِ نَفْسِهِ وَشِرَاءٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ بِالنِّسْبَةِ إلَى غَرَضِ صَاحِبِهِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا هَكَذَا؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مَبِيعٍ وَثَمَنٍ، وَلَيْسَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ فِي أَنْ يُجْعَلَ هُوَ مَبِيعًا أَوْ ثَمَنًا، فَجُعِلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَبِيعًا بِمُقَابَلَةِ الْآخَرِ وَثَمَنًا بِمُقَابَلَةِ الْآخَرِ. فَإِنْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ عَدَمَ الْأَوْلَوِيَّةِ فِي أَحَدِهِمَا؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إدْخَالِ الْبَاءِ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِتَحَقُّقِ إلْصَاقِ الْبَدَلِ بِالْمُبْدَلِ وَمَا دَخَلَ عَلَيْهِ الْبَاءُ يَتَعَيَّنُ لِلثَّمَنِيَّةِ لِمَا عُرِفَ أَنَّ الْبَاءَ تَصْحَبُ الْأَثْمَانَ فَحِينَئِذٍ يَتَعَيَّنُ الْآخَرُ لِكَوْنِهِ مَبِيعًا بِحِيَالِهِ. قُلْنَا: قَدْ ذَكَرَ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الْبُيُوعِ أَنَّ الْبَاءَ إنَّمَا تُعَيِّنُ مَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ بِالثَّمَنِيَّةِ إذَا كَانَ ذَلِكَ الشَّيْءُ مِنْ الْمَكِيلَاتِ أَوْ الْمَوْزُونَاتِ مِنْ غَيْرِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، فَإِنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ مُتَعَيِّنَةٌ لِلثَّمَنِيَّةِ سَوَاءٌ دَخَلَتْ عَلَيْهَا الْبَاءُ أَوْ لَمْ تَدْخُلْ، وَالْعُرُوضُ الْمُعَيَّنَةُ مُتَعَيِّنَةٌ لِلْمَبِيعِيَّةِ سَوَاءٌ دَخَلَتْ عَلَيْهَا الْبَاءُ أَوْ لَمْ تَدْخُلْ. أَمَّا الْمَكِيلَاتُ وَالْمَوْزُونَاتُ إذَا كَانَتْ غَيْرَ مُعَيَّنَةٍ وَهِيَ مَوْصُوفَةٌ بِصِفَةٍ، فَإِنْ دَخَلَتْ عَلَيْهَا الْبَاءُ تَتَعَيَّنُ لِلثَّمَنِيَّةِ، كَمَا إذَا قَالَ اشْتَرَيْت هَذَا الْعَبْدَ بِكَذَا حِنْطَةٍ جَيِّدَةٍ، وَأَمَّا إذَا لَمْ تَدْخُلْ عَلَيْهَا الْبَاءُ فَلَا تَتَعَيَّنُ لَهَا أَيْضًا. ثُمَّ إنَّ كَلَامَنَا هَاهُنَا فِي بَيْعِ الْمُقَايَضَةِ وَهِيَ تُنَبِّئُ عَنْ الْمُسَاوَاةِ يُقَالُ هُمَا قَيْضَانِ: أَيْ مُسَاوِيَانِ، فَكَانَ كِلَا الْبَدَلَيْنِ مُتَعَيَّنًا فَلَا يَتَعَيَّنُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا لِلْمَبِيعِيَّةِ وَلَا لِلثَّمَنِيَّةِ فَلِذَلِكَ جُعِلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَبِيعًا وَثَمَنًا، وَإِنْ دَخَلَتْ الْبَاءُ فِي أَحَدِهِمَا.

فَإِنْ قِيلَ: إذَا كَانَ بَيْعُ الْمُقَايَضَةِ شِرَاءً مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَبَيْعًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَمِنْ أَيِّ وَجْهٍ رَجَّحَ أَبُو حَنِيفَةَ جَانِبَ الْبَيْعِ فِيهِ حَتَّى نَفِدَ الْبَيْعُ عَلَى الْآمِرِ عِنْدَهُ إذَا بَاعَ الْوَكِيلُ بِالْبَيْعِ بِعَرْضٍ مَعَ الْغَبْنِ الْفَاحِشِ؟ قُلْنَا: رَجَّحَ هُوَ جَانِبَ الْبَيْعِ اسْتِدْلَالًا بِمَا ذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ فِي بَابِ الْوَكَالَةِ بِالسَّلَمِ مِنْ كِتَابِ الْبُيُوعِ مِنْ أَنَّ جَانِبَ الْبَيْعِ يَتَرَجَّحُ عَلَى جَانِبِ الشِّرَاءِ فِي الْبَيْعِ بِعَرَضٍ، أَلَا يُرَى أَنَّ أَحَدَ الْمُضَارِبَيْنِ لَوْ اشْتَرَى بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهِ كَانَ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ، وَلَوْ بَاعَ بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهِ شَيْئًا مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ تَوَقَّفَ عَلَى إجَازَةِ صَاحِبِهِ؟ فَإِنْ بَاعَهُ بِعَرَضٍ يَتَوَقَّفُ أَيْضًا، حَتَّى لَوْ أَجَازَ صَاحِبُهُ كَانَ تَصَرُّفُهُ عَلَى الْمُضَارَبَةِ فَعَرَفْنَا أَنَّ جَانِبَ الْبَيْعِ يَتَرَجَّحُ فِيهِ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ

ص: 81

قَالَ (وَالْوَكِيلُ بِالشِّرَاءِ يَجُوزُ عَقْدُهُ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ وَزِيَادَةٍ يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهَا، وَلَا يَجُوزُ بِمَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهِ)

فَإِنْ قُلْت: كَمَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ عَاقِدَيْ عَقْدِ الْمُقَايَضَةِ بَائِعٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى عَرْضِ نَفْسِهِ مُشْتَرِيًا بِالنِّسْبَةِ إلَى عَرْضِ الْآخَرِ كَذَلِكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ عَاقِدَيْ عَقْدِ الصَّرْفِ بَائِعٌ وَمُشْتَرٍ لِمَا أَنَّ عَقْدَ الصَّرْفِ بَيْعٌ وَالْبَيْعُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مَبِيعٍ وَثَمَنٍ، وَلَيْسَ أَحَدُ الْبَدَلَيْنِ أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ فِي جَعْلِهِ مَبِيعًا أَوْ ثَمَنًا، فَجُعِلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَبِيعًا وَثَمَنًا، ثُمَّ الْغَبْنُ الْفَاحِشُ يُتَحَمَّلُ فِي بَيْعِ الْمُقَايَضَةِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ خِلَافًا لِرِوَايَةِ الْحَسَنِ كَمَا ذَكَرَهُ فِي الذَّخِيرَةِ وَالْمَبْسُوطِ، وَلَا يَتَحَمَّلُ فِي بَيْعِ الصَّرْفِ عَلَى قَوْلِ الْكُلِّ بِاتِّفَاقِ الرِّوَايَاتِ كَمَا ذَكَرَ فِي بَابِ الْوَكَالَةِ بِالصَّرْفِ مِنْ صَرْفِ الْمَبْسُوطِ، فَمَا وَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا مَعَ اتِّحَادِهِمَا فِي الْعِلَّةِ؟ قُلْت: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا إنَّمَا نَشَأَ مِنْ حَيْثُ وُرُودُ عِلَّةِ عَدَمِ جَوَازِ بَيْعِ الْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ بِالْغَبْنِ الْفَاحِشِ هُنَا أَيْضًا، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ بِالْغَبْنِ الْفَاحِشِ إنَّمَا لَا يَنْفُذُ عَلَى الْمُوَكِّلِ لِلتُّهْمَةِ، فَإِنَّ مِنْ الْجَائِزِ أَنَّهُ عَقَدَ لِنَفْسِهِ، فَلَمَّا عَلِمَ بِالْغَبْنِ أَرَادَ أَنْ يُلْزِمَ ذَلِكَ الْمُوَكِّلَ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ هُنَا فَإِنَّ الْوَكِيلَ يَمْلِكُ عَقْدَ الصَّرْفِ لِنَفْسِهِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْمَبْسُوطِ.

وَأَمَّا فِي بَيْعِ الْمُقَايَضَةِ فَلَيْسَ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَبِيعَ مِنْ نَفْسِهِ وَلَا أَنْ يَشْتَرِيَ لِنَفْسِهِ عَرَضَ الْآخَرِ بِمُقَابَلَةِ عَرَضِ الْمُوَكِّلِ، فَلَمْ تُرَدَّ التُّهْمَةُ الَّتِي وَرَدَتْ فِي حَقِّ الْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ فَلَمْ يُمْنَعْ الْجَوَازُ لِذَلِكَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَذَكَرَ فِي الذَّخِيرَةِ أَنَّ الْوَكِيلَ بِالصَّرْفِ إذَا اشْتَرَى بِمَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ لَا يَجُوزُ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّ الْغَبْنَ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ إنْ كَانَ يَجُوزُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ بَيْعٌ مِنْ وَجْهٍ لَا يَجُوزُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ شِرَاءٌ مِنْ وَجْهٍ، إلَّا أَنَّ الشِّرَاءَ أَصْلٌ فِي هَذَا الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ الثَّمَنِيَّةَ فِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ أَصْلٌ وَالْعِبْرَةُ لِلْأَصْلِ فَكَانَ شِرَاءً مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَالْغَبْنُ الْفَاحِشُ لَا يَتَحَمَّلُ فِي الشِّرَاءِ بِالِاتِّفَاقِ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةُ. وَلَا يَلْزَمُ الْوَكِيلُ بِالصَّرْفِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَبِيعَ بِالْأَقَلِّ أَصْلًا؛ لِأَنَّ مُوَكِّلَهُ لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ بِالنَّصِّ فَكَذَا وَكِيلُهُ انْتَهَى.

أَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ مُوَكِّلَهُ إنَّمَا لَا يَمْلِكُ الْبَيْعَ بِالْأَقَلِّ فِيمَا إذَا اتَّحَدَ الْبَدَلَانِ فِي الْجِنْسِ، وَأَمَّا إذَا اخْتَلَفَا فِيهِ فَيَمْلِكُهُ قَطْعًا كَمَا تَقَرَّرَ فِي كِتَابِ الصَّرْفِ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ عَدَمَ جَوَازِ بَيْعِ الْوَكِيلِ بِالصَّرْفِ بِغَبْنٍ فَاحِشٍ عَلَى قَوْلِ الْكُلِّ بِاتِّفَاقِ الرِّوَايَاتِ غَيْرُ مُنْحَصِرٍ فِي صُورَةِ اتِّحَادِ الْجِنْسِ، بَلْ يَعُمُّ صُورَتَيْ اتِّحَادِ الْجِنْسِ وَاخْتِلَافِهِ، بَلْ الْمَسْأَلَةُ مُصَوَّرَةٌ فِي صَرْفِ الْمَبْسُوطِ بِصُورَةِ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ حَيْثُ قَالَ فِيهِ: وَإِنْ وَكَّلَهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ يَصْرِفُهَا لَهُ فَبَاعَهَا بِدَنَانِيرَ وَحَطَّ عَنْهُ مَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهِ لَمْ يَجُزْ عَلَى الْآمِرِ انْتَهَى.

فَتَلْزَمُ هَذِهِ الصُّورَةُ قَطْعًا وَتَكْفِي فِي وُرُودِ السُّؤَالِ عَلَى مَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ، وَلَعَمْرِي إنَّ صَاحِبَ الْعِنَايَةِ قَدْ خَرَجَ فِي شَرْحِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَنْ سُنَنِ الصَّوَابِ، وَغَبَنَ فِي تَصَرُّفَاتِهِ غَبْنًا فَاحِشًا، وَمَعَ ذَلِكَ قَالَ فِي آخِرِ كَلَامِهِ: فَعَلَيْك بِهَذَا وَتَطْبِيقِهِ عَلَى مَا فِي الْكُتُبِ مُلَاحَظًا بِعَيْنِ الْبَصِيرَةِ تُحْمَدُ الْمُتَصَدِّي لِتَلْفِيقِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى

(قَالَ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ (وَالْوَكِيلُ بِالشِّرَاءِ يَجُوزُ عَقْدُهُ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ وَزِيَادَةٍ يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهَا) وَهِيَ الْغَبْنُ الْيَسِيرُ (وَلَا يَجُوزُ بِمَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهِ) وَهُوَ الْغَبْنُ الْفَاحِشُ. وَقَالَ فِي شَرْحِ الْأَقْطَعِ: وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّهُ يَجُوزُ بِالْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ

ص: 82

لِأَنَّ التُّهْمَةَ فِيهِ مُتَحَقِّقَةٌ فَلَعَلَّهُ اشْتَرَاهُ لِنَفْسِهِ، فَإِذَا لَمْ يُوَافِقْهُ أَلْحَقَهُ بِغَيْرِهِ عَلَى مَا مَرَّ، حَتَّى لَوْ كَانَ وَكِيلًا بِشِرَاءِ شَيْءٍ بِعَيْنِهِ قَالُوا يَنْفُذُ عَلَى الْآمِرِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ شِرَاءَهُ لِنَفْسِهِ، وَكَذَا الْوَكِيلُ بِالنِّكَاحِ إذَا زَوَّجَهُ امْرَأَةً بِأَكْثَرَ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا جَازَ عِنْدَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْإِضَافَةِ إلَى الْمُوَكِّلِ فِي الْعَقْدِ فَلَا تَتَمَكَّنُ هَذِهِ التُّهْمَةُ، وَلَا كَذَلِكَ الْوَكِيلُ بِالشِّرَاءِ؛ لِأَنَّهُ يُطْلَقُ الْعَقْدُ.

لِعُمُومِ الْأَمْرِ، كَذَا فِي غَايَةِ الْبَيَانِ. عَلَّلَ الْمُصَنِّفُ مَا فِي الْكِتَابِ بِقَوْلِهِ (لِأَنَّ التُّهْمَةَ فِيهِ) أَيْ فِي الشِّرَاءِ (مُتَحَقِّقَةٌ فَلَعَلَّهُ) أَيْ فَلَعَلَّ الْوَكِيلَ (اشْتَرَاهُ) أَيْ اشْتَرَى الشَّيْءَ الَّذِي وَكَّلَ بِهِ (لِنَفْسِهِ) أَيْ لِأَجْلِ نَفْسِهِ (فَإِذَا لَمْ يُوَافِقْهُ أَلْحَقَهُ بِغَيْرِهِ) وَهُوَ الْمُوَكِّلُ (عَلَى مَا مَرَّ) إشَارَةً إلَى مَا ذَكَرَهُ فِي فَصْلِ الشِّرَاءِ بِقَوْلِهِ؛ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ تُهْمَةٍ بِأَنْ اشْتَرَاهُ لِنَفْسِهِ، فَإِذَا رَأَى الصَّفْقَةَ خَاسِرَةً أَلْزَمَهَا الْآمِرَ انْتَهَى.

وَالتُّهْمَةُ فِي بَابِ الْوَكَالَةِ مُعْتَبَرَةٌ، وَلِأَنَّ الْوَكِيلَ بِالشِّرَاءِ يَسْتَوْجِبُ الثَّمَنَ فِي ذِمَّةِ نَفْسِهِ وَيُوجِبُ لِنَفْسِهِ مِثْلَهُ فِي ذِمَّةِ الْآمِرِ، وَالْإِنْسَانُ مُتَّهَمٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ فَلَا يَمْلِكُ أَنْ يَلْزَمَ الْآمِرَ الثَّمَنُ مَا لَمْ يَدْخُلْ فِي مِلْكِهِ بِإِزَائِهِ مَا يَعْدِلُهُ، وَلِهَذَا لَوْ قَالَ: اشْتَرَيْتُ وَقَبَضْتُ وَهَلَكَ فِي يَدِي فَهَاتِ الثَّمَنَ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ، بِخِلَافِ الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ، فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ: بِعْتُ وَقَبَضْتُ الثَّمَنَ وَهَلَكَ عِنْدِي كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ، وَلِأَنَّ أَمْرَهُ بِالشِّرَاءِ يُلَاقِي مِلْكَ الْغَيْرِ، وَلَيْسَ لِلْإِنْسَانِ وِلَايَةٌ مُطْلَقَةٌ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ فَلَا يُعْتَبَرُ إطْلَاقُ أَمْرِهِ فِيهِ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّ أَمْرَهُ يُلَاقِي مِلْكَ نَفْسِهِ وَلَهُ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ وِلَايَةٌ مُطْلَقَةٌ وَلِأَنَّ اعْتِبَارَ الْعُمُومِ أَوْ الْإِطْلَاقَ فِي التَّوْكِيلِ بِالشِّرَاءِ غَيْرُ مُمْكِنٍ؛ لِأَنَّهُ لَوْ اُعْتُبِرَ ذَلِكَ لَاشْتَرَى ذَلِكَ الْمَتَاعَ بِجَمِيعِ مَا يَمْلِكُهُ الْمُوَكِّلُ وَبِمَا لَا يَمْلِكُهُ مِنْ الْمَالِ، وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَقْصِدُ ذَلِكَ فَحَمَلْنَاهُ عَلَى أَخَصِّ الْخُصُوصِ وَهُوَ الشِّرَاءُ بِالنَّقْدِ بِغَبْنٍ يَسِيرٍ، وَفِي جَانِبِ الْبَيْعِ اعْتِبَارُ الْعُمُومِ، وَالْإِطْلَاقُ مُمْكِنٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَسَلَّطُ بِهِ عَلَى شَيْءٍ مِنْ مَالِهِ سِوَى الْمَبِيعِ الَّذِي رَضِيَ بِزَوَالِ مِلْكِهِ عَنْهُ.

وَهَذِهِ فُرُوقٌ أَرْبَعَةٌ بَيْنَ الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ وَالْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ فِي الْغَبْنِ الْفَاحِشِ ذُكِرَتْ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ مِنْ الْمَبْسُوطِ (حَتَّى لَوْ كَانَ وَكِيلًا بِشِرَاءِ شَيْءٍ بِعَيْنِهِ قَالُوا) أَيْ الْمَشَايِخُ (يَنْفُذُ عَلَى الْآمِرِ) أَيْ يَنْفُذُ الْعَقْدُ عَلَى الْآمِرِ وَإِنْ كَانَ الْغَبْنُ الْفَاحِشُ لِانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ (لِأَنَّهُ) أَيْ الْوَكِيلَ (لَا يَمْلِكُ شِرَاءَهُ) أَيْ شِرَاءَ ذَلِكَ الشَّيْءِ الْمُعَيَّنِ (لِنَفْسِهِ) وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ قَالُوا عَامَّةَ الْمَشَايِخِ فَإِنَّ بَعْضَهُمْ قَالَ: يَتَحَمَّلُ فِيهِ الْغَبْنُ الْيَسِيرُ لَا الْفَاحِشُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَتَحَمَّلُ فِيهِ الْغَبْنُ الْيَسِيرُ أَيْضًا كَمَا فِي الذَّخِيرَةِ وَغَيْرِهَا (وَكَذَا الْوَكِيلُ بِالنِّكَاحِ إذَا زَوَّجَهُ) أَيْ زَوَّجَ مُوَكِّلَهُ (امْرَأَةً بِأَكْثَرَ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا جَازَ عِنْدَهُ) أَيْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ فِي أَوَّلِ بَابِ الْوَكَالَةِ فِي النِّكَاحِ حَيْثُ قَالَ: وَإِذَا وَكَّلَ رَجُلٌ رَجُلًا أَنْ يُزَوِّجَهُ امْرَأَةً بِعَيْنِهَا فَزَوَّجَهَا إيَّاهُ فَهُوَ جَائِزٌ، فَإِنْ زَادَهَا عَلَى مَهْرِ مِثْلِهَا فَهُوَ جَائِزٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ إذَا زَوَّجَهَا بِمَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهِ فَهُوَ جَائِزٌ، وَإِنْ زَادَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْ الزَّوْجَ النِّكَاحُ إلَّا أَنْ يَرْضَاهُ، وَإِذَا وَكَّلَ رَجُلٌ رَجُلًا أَنْ يُزَوِّجَ امْرَأَةً بِعَيْنِهَا فَتَزَوَّجَهَا الْوَكِيلُ فَهُوَ جَائِزٌ وَهِيَ امْرَأَتُهُ، وَلَا يُشْبِهُ هَذَا الشِّرَاءُ لَوْ أَمَرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ عَبْدًا بِعَيْنِهِ فَاشْتَرَاهُ الْوَكِيلُ لِنَفْسِهِ كَانَ الْعَبْدُ لِلْآمِرِ، إلَى هُنَا لَفْظُ الْأَصْلِ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِ مَا فِي الْكِتَابِ (لِأَنَّهُ) أَيْ الْوَكِيلَ بِالنِّكَاحِ (لَا بُدَّ مِنْ الْإِضَافَةِ إلَى الْمُوَكِّلِ فِي الْعَقْدِ) أَيْ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ (فَلَا تَتَمَكَّنُ هَذِهِ التُّهْمَةُ) أَيْ تُهْمَةُ أَنْ يَعْقِدَ أَوَّلًا لِنَفْسِهِ ثُمَّ يَلْحَقُهُ بِغَيْرِهِ (وَلَا كَذَلِكَ الْوَكِيلُ بِالشِّرَاءِ؛ لِأَنَّهُ يُطْلِقُ الْعَقْدَ) أَيْ لَا يُضِيفُهُ إلَى الْمُوَكِّلِ حَيْثُ يَقُولُ اشْتَرَيْتُ وَلَا يَقُولُ اشْتَرَيْتُ لِفُلَانٍ، يَعْنِي يَجُوزُ لَهُ الْإِطْلَاقُ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِضَافَةُ إلَى الْمُوَكِّلِ فَتَتَمَكَّنُ تِلْكَ التُّهْمَةُ. قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ خُوَاهَرْ زَادَهْ: جَوَازُ عَقْدِ الْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ بِزِيَادَةٍ يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهَا فِيمَا لَيْسَ لَهُ قِيمَةٌ مَعْلُومَةٌ عِنْدَ أَهْلِ الْبَلَدِ كَالْعَبِيدِ وَالدَّوَابِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَأَمَّا مَالَهُ قِيمَةٌ مَعْلُومَةٌ عِنْدَهُمْ كَالْخُبْزِ

ص: 83

قَالَ (وَاَلَّذِي لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ مَا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ تَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ، وَقِيلَ فِي الْعُرُوضِ " ده نيم " وَفِي الْحَيَوَانَاتِ " ده يازده " وَفِي الْعَقَارَاتِ " ده دوازده ")

وَاللَّحْمِ وَغَيْرِهِمَا، فَإِذَا زَادَ الْوَكِيلُ بِالشِّرَاءِ عَلَى ذَلِكَ لَا يَلْزَمُ الْآمِرُ وَإِنْ قَلَّتْ الزِّيَادَةُ كَالْفَلْسِ مَثَلًا (قَالَ) فِي بُيُوعِ التَّتِمَّةِ وَبِهِ يُفْتِي (وَاَلَّذِي لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ تَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ) هَذَا لَفْظُ الْقُدُورِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ. وَيُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ مُقَابِلَهُ مِمَّا يَتَغَابَنُ فِيهِ. قَالَ فِي الذَّخِيرَةِ: تَكَلَّمُوا فِي الْحَدِّ الْفَاصِلِ بَيْنَ الْغَبْنِ الْيَسِيرِ وَالْغَبْنِ الْفَاحِشِ، وَالصَّحِيحُ مَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ رحمه الله فِي النَّوَادِرِ أَنَّ كُلَّ غَبْنٍ يَدْخُلُ تَحْتَ تَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ فَهُوَ يَسِيرٌ، وَمَا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ تَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ فَهُوَ فَاحِشٌ. قَالَ: وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي الْجَامِعِ فِي تَعْلِيلِ مَسْأَلَةِ الزَّكَاةِ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَقِيلَ فِي الْعُرُوضِ " ده نيم " وَفِي الْحَيَوَانَاتِ " ده يازده " وَفِي الْعَقَارَاتِ " ده دوازده ") اعْلَمْ أَنَّ ظَاهِرَ سَوْقِ الْكَلَامِ هَاهُنَا يُشْعِرُ بِأَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ بِذِكْرِ هَذَا الْقَوْلِ تَفْسِيرَ الْغَبْنِ الْفَاحِشِ؛ لِأَنَّ صَرِيحَ مَا ذَكَرَهُ سَابِقًا كَانَ تَفْسِيرًا لِلْغَبْنِ الْفَاحِشِ، فَإِذَا قَالَ بَعْدَهُ: وَقِيلَ فِي الْعُرُوضِ إلَخْ كَانَ الْمُتَبَادَرُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا أَيْضًا تَفْسِيرًا لِلْغَبْنِ الْفَاحِشِ، وَأَمَّا الَّذِي يَقْتَضِيهِ التَّطْبِيقُ لِمَا عَيَّنَ فِي سَائِرِ الْمُعْتَبَرَاتِ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ بِذَلِكَ تَفْسِيرًا لِلْغَبْنِ الْيَسِيرِ، وَعَنْ هَذَا كَانَ الشُّرَّاحُ هَاهُنَا فِرْقَتَيْنِ: فَمِنْهُمْ مَنْ تَرَدَّدَ فِي تَعْيِينِ مُرَادِهِ وَجَعَلَ كَلَامَهُ مُحْتَمِلًا لِلْمَعْنَيَيْنِ وَلَكِنْ ذَكَرَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِقِيلَ لَا مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَزَمَ بِالثَّانِي فَقَالَ هَذَا بَيَانُ الْغَبْنِ الْيَسِيرِ وَلَمْ يَذْكُرْ الِاحْتِمَالَ الْآخَرَ.

وَقَالَ الشَّارِحُ الْكَاكِيُّ مِنْ هَذِهِ الْفِرْقَةِ: وَكَانَ قَوْلُهُ وَقِيلَ مَعْطُوفًا عَلَى مَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ مَا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ تَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ، فَإِنَّهُ إذَا كَانَ الْغَبْنُ الْفَاحِشُ مَا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ تَقْوِيمِهِمْ كَانَ مَا يَدْخُلُ تَحْتَ تَقْوِيمِهِمْ غَبْنًا يَسِيرًا. وَالْحَقُّ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ تَفْسِيرًا لِلْغَبْنِ الْيَسِيرِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُوَافِقُ لِمَا ذَكَرَهُ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ. وَعَامَّةُ الْمَشَايِخِ فِي كُتُبِهِمْ الْمُعْتَبَرَةِ، مِنْهُمْ الْإِمَامُ الْبَارِعُ عَلَاءُ الدِّينِ الْإِسْبِيجَابِيُّ فَإِنَّهُ قَالَ فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ: وَرُوِيَ عَنْ نُصَيْرِ بْنِ يَحْيَى أَنَّهُ قَالَ: قَدْرُ مَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي الْعُرُوضِ " ده نيم " وَفِي الْحَيَوَانِ " ده يازده " وَفِي الْعَقَارِ " ده دوازده " انْتَهَى. وَمِنْهُمْ الشَّيْخُ أَبُو الْمُعِينِ النَّسَفِيُّ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الْكَبِيرِ: اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي الْحَدِّ الْفَاصِلِ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ: مِنْهُمْ مَنْ قَالَ مَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ قَلِيلٌ

ص: 84

لِأَنَّ التَّصَرُّفَ يَكْثُرُ وُجُودُهُ فِي الْأَوَّلِ وَيَقِلُّ فِي الْأَخِيرِ وَيَتَوَسَّطُ فِي الْأَوْسَطِ وَكَثْرَةُ الْغَبْنِ لِقِلَّةِ التَّصَرُّفِ.

قَالَ (وَإِذَا وَكَّلَهُ بِبَيْعِ عَبْدٍ فَبَاعَ نِصْفَهُ جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله)؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ مُطْلَقٌ عَنْ قَيْدِ الِافْتِرَاقِ وَالِاجْتِمَاعِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ بَاعَ الْكُلَّ بِثَمَنِ النِّصْفِ يَجُوزُ عِنْدَهُ فَإِذَا بَاعَ النِّصْفَ بِهِ أَوْلَى (وَقَالَا: لَا يَجُوزُ)؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَارَفٍ لِمَا فِيهِ مِنْ ضَرَرِ الشَّرِكَةِ (إلَّا أَنْ يَبِيعَ النِّصْفَ الْآخَرَ قَبْلَ أَنْ يَخْتَصِمَا)؛ لِأَنَّ بَيْعَ النِّصْفِ قَدْ يَقَعُ وَسِيلَةً إلَى الِامْتِثَالِ بِأَنْ لَا يَجِدَ مَنْ يَشْتَرِيهِ جُمْلَةً فَيَحْتَاجُ إلَى أَنْ يُفَرِّقَ، فَإِذَا بَاعَ الْبَاقِيَ قَبْلَ نَقْضِ الْبَيْعِ الْأَوَّلِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ وَقَعَ وَسِيلَةً، وَإِذَا لَمْ يَبِعْ ظَهَرَ أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ وَسِيلَةً فَلَا يَجُوزُ، وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ عِنْدَهُمَا.

وَمَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ كَثِيرٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ مَا يَدْخُلُ تَحْتَ تَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ فَهُوَ قَلِيلٌ وَمَا لَا يَدْخُلُ فَهُوَ كَثِيرٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ ذَلِكَ مُفَوَّضٌ إلَى رَأْيِ الْقَاضِي. وَمُحَمَّدٌ قَدَّرَ فِي هَذَا الْكِتَابِ: يَعْنِي فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ بِدَهٍ نيم وَمَشَايِخُ بَلْخٍ فَصَلُّوا ذَلِكَ عَلَى مَا قَالَ الْفَقِيهُ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ شُعَيْبٍ. حُكِيَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَدَّرُوا الْيَسِيرَ فِي الْعَقَارِ بِدَهٍ دوازده، وَفِي الْحَيَوَانِ بِدَهٍ يازده، وَفِي الْعُرُوضِ بِدَهٍ نيم انْتَهَى كَلَامُهُ. إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْكِبَارِ الْمُتَّفِقِينَ عَلَى جَعْلِ ذَلِكَ تَفْسِيرًا لِلْغَبْنِ الْيَسِيرِ.

هَذَا وَإِنَّمَا كَانَ التَّقْدِيرُ فِي الْأَقْسَامِ الْمَذْكُورَةِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ (لِأَنَّ التَّصَرُّفَ يَكْثُرُ وُجُودُهُ فِي الْأَوَّلِ) وَهُوَ الْعُرُوض (وَيَقِلُّ فِي الْأَخِيرِ) وَهُوَ الْعَقَارَاتُ (وَيَتَوَسَّطُ فِي الْأَوْسَطِ) وَهُوَ الْحَيَوَانُ (وَكَثْرَةُ الْغَبْنِ لِقِلَّةِ التَّصَرُّفِ)؛ لِأَنَّ الْغَبْنَ يَزِيدُ بِقِلَّةِ التَّجْرِبَةِ وَيَنْقُصُ بِكَثْرَتِهَا، وَقِلَّتُهَا وَكَثْرَتُهَا بِقِلَّةِ التَّصَرُّفِ وَكَثْرَتِهِ، ثُمَّ إنَّ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ نِصَابٌ تُقْطَعُ بِهِ يَدٌ مُحْتَرَمَةٌ فَجُعِلَتْ أَصْلًا وَالدِّرْهَمُ مَالٌ يُحْبَسُ لِأَجْلِهِ فَقَدْ لَا يُتَسَامَحُ بِهِ فِي الْمُمَاكَسَةِ فَلَمْ يُعْتَبَرْ فِيمَا كَثُرَ وُقُوعُهُ يَسِيرًا وَالنِّصْفُ مِنْ النَّصَفَةِ فَكَانَ يَسِيرًا وَضُوعِفَ بَعْدَ ذَلِكَ بِحَسَبِ الْوُقُوعِ، فَمَا كَانَ أَقَلَّ وُقُوعًا مِنْهُ اُعْتُبِرَ فِيهِ ضِعْفُهُ، وَمَا كَانَ أَقَلَّ مِنْ الْأَقَلِّ اُعْتُبِرَ فِيهِ ضِعْفُ ضِعْفِهِ

(قَالَ) أَيْ مُحَمَّدٌ رحمه الله فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ (وَإِذَا وَكَّلَهُ) أَيْ إذَا وَكَّلَ رَجُلٌ رَجُلًا (بِبَيْعِ عَبْدٍ) أَيْ بِبَيْعِ عَبْدٍ لَهُ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِبَيْعِ عَبْدِهِ (فَبَاعَ نِصْفَهُ جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) إنَّمَا وَضَعَ الْمَسْأَلَةَ فِي الْعَبْدِ لِيَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ الِاخْتِلَافُ الْمَذْكُورُ،؛ لِأَنَّهُ إذَا بَاعَ نِصْفَ مَا وَكَّلَ بَيْعَهُ وَلَيْسَ فِي تَفْرِيقِهِ ضَرَرٌ كَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ يَجُوزُ بِالِاتِّفَاقِ، ذَكَرَهُ فِي الْإِيضَاحِ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ (لِأَنَّ اللَّفْظَ مُطْلَقٌ عَنْ قَيْدِ الِافْتِرَاقِ وَالِاجْتِمَاعِ) فَيَجْرِي عَلَى إطْلَاقِهِ، وَنَوَّرَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ (أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ بَاعَ الْكُلَّ) أَيْ كُلَّ الْعَبْدِ (بِثَمَنِ النِّصْفِ يَجُوزُ عِنْدَهُ) أَيْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ (فَإِذَا بَاعَ النِّصْفَ بِهِ) أَيْ بِذَلِكَ الثَّمَنِ (أَوْلَى) أَيْ فَهُوَ أَوْلَى؛ لِأَنَّ إمْسَاكَ الْبَعْضِ مَعَ بَيْعِ الْبَعْضِ بِمِقْدَارٍ مِنْ الثَّمَنِ أَنْفَعُ لِلْآمِرِ مِنْ بَيْعِ الْكُلِّ بِذَلِكَ الثَّمَنِ. وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِقَوْلِهِ عِنْدَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُمَا لِكَوْنِهِ غَبْنًا فَاحِشًا.

فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا جَازَ بَيْعُ الْكُلِّ بِثَمَنِ النِّصْفِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَضَمَّنْ عَيْبَ الشَّرِكَةِ، وَأَمَّا بَيْعُ النِّصْفِ فَيَتَضَمَّنُ ذَلِكَ فَكَانَ هَذَا مُخَالَفَةً مِنْ الْوَكِيلِ إلَى شَرٍّ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَنْفُذُ عَلَى الْمُوَكِّلِ. قُلْنَا: ضَرَرُ الشَّرِكَةِ أَقَلُّ وَأَهْوَنُ مِنْ ضَرَرِ بَيْعِ الْكُلِّ بِثَمَنِ النِّصْفِ، فَإِذَا جَازَ هَذَا عَلَى قَوْلِهِ فَلَأَنْ يَجُوزَ ذَلِكَ وَهُوَ أَهْوَنُ أَوْلَى (وَقَالَا: لَا يَجُوزُ) أَيْ لَا يَجُوزُ بَيْعُ نِصْفِ ذَلِكَ الْعَبْدِ (لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَارَفٍ) يَعْنِي أَنَّ التَّوْكِيلَ بِبَيْعِ الْعَبْدِ يَنْصَرِفُ إلَى الْمُتَعَارَفِ، وَبَيْعُ النِّصْفِ غَيْرُ مُتَعَارَفٍ (وَلِمَا فِيهِ مِنْ ضَرَرِ الشَّرِكَةِ)؛ لِأَنَّهَا عَيْبٌ (إلَّا أَنْ يَبِيعَ النِّصْفَ الْآخَرَ قَبْلَ أَنْ يَخْتَصِمَا) أَيْ الْمُوَكِّلُ وَالْوَكِيلُ (لِأَنَّ بَيْعَ النِّصْفِ قَدْ يَقَعُ وَسِيلَةً إلَى الِامْتِثَالِ بِأَنْ لَا يَجِدَ مَنْ يَشْتَرِيَهُ جُمْلَةً فَيَحْتَاجُ إلَى أَنْ يُفَرِّقَ، فَإِذَا بَاعَ الْبَاقِيَ قَبْلَ نَقْضِ الْبَيْعِ الْأَوَّلِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ) أَيْ الْبَيْعَ الْأَوَّلَ (وَقَعَ وَسِيلَةً) إلَى الِامْتِثَالِ (وَإِذَا لَمْ يَبِعْ) الْبَاقِيَ (ظَهَرَ أَنَّهُ) أَيْ الْبَيْعَ الْأَوَّلَ (لَمْ يَقَعْ وَسِيلَةً) إلَى الِامْتِثَالِ (فَلَا يَجُوزُ، وَهَذَا) أَيْ كَوْنُ الْبَيْعِ مَوْقُوفًا إلَى أَنْ يَبِيعَ النِّصْفَ الْآخَرَ قَبْلَ الْخُصُومَةِ (اسْتِحْسَانٌ عِنْدَهُمَا) إذْ الْقِيَاسُ أَنْ لَا يَتَوَقَّفَ لِثُبُوتِ الْمُخَالَفَةِ بِبَيْعِ النِّصْفِ، كَذَا فِي مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ.

وَقَالَ الزَّيْلَعِيُّ فِي التَّبْيِينِ: وَقَوْلُهُمَا اسْتِحْسَانٌ، وَالْقِيَاسُ مَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ

ص: 85

(وَإِنْ وَكَّلَهُ بِشِرَاءِ عَبْدٍ فَاشْتَرَى نِصْفَهُ فَالشِّرَاءُ مَوْقُوفٌ، فَإِنْ اشْتَرَى بَاقِيَهُ لَزِمَ الْمُوَكِّلَ)؛ لِأَنَّ شِرَاءَ الْبَعْضِ قَدْ يَقَعُ وَسِيلَةً إلَى الِامْتِثَالِ بِأَنْ كَانَ مَوْرُوثًا بَيْنَ جَمَاعَةٍ فَيَحْتَاجُ إلَى شِرَائِهِ شِقْصًا شِقْصًا، فَإِذَا اشْتَرَى الْبَاقِيَ قَبْلَ رَدِّ الْآمِرِ الْبَيْعَ تَبَيَّنَ أَنَّهُ وَقَعَ وَسِيلَةً فَيَنْفُذُ عَلَى الْآمِرِ، وَهَذَا بِالِاتِّفَاقِ. وَالْفَرْقُ لِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ فِي الشِّرَاءِ تَتَحَقَّقُ التُّهْمَةُ عَلَى مَا مَرَّ. وَآخَرُ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْبَيْعِ يُصَادِفُ مِلْكَهُ فَيَصِحُّ فَيُعْتَبَرُ فِيهِ إطْلَاقُهُ وَالْأَمْرُ بِالشِّرَاءِ صَادَفَ مِلْكَ الْغَيْرِ فَلَمْ يَصِحَّ فَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ التَّقْيِيدُ وَالْإِطْلَاقُ.

- رحمه الله اهـ. وَالْمَعْنَى الْأَوَّلُ أَنْسَبُ بِعِبَارَةِ الْهِدَايَةِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى الْفَطِنِ

(وَإِنْ وَكَّلَهُ بِشِرَاءِ عَبْدٍ فَاشْتَرَى نِصْفَهُ فَالشِّرَاءُ مَوْقُوفٌ، فَإِنْ اشْتَرَى بَاقِيَهُ لَزِمَ الْمُوَكِّلَ؛ لِأَنَّ شِرَاءَ الْبَعْضِ قَدْ يَقَعُ وَسِيلَةً إلَى الِامْتِثَالِ بِأَنْ كَانَ مَوْرُوثًا بَيْنَ جَمَاعَةٍ فَيَحْتَاجُ إلَى شِرَائِهِ شِقْصًا شِقْصًا) الشِّقْصُ: الْجُزْءُ مِنْ الشَّيْءِ وَالنَّصِيبِ، كَذَا فِي الْمُغْرِبِ (فَإِذَا اشْتَرَى الْبَاقِيَ قَبْلَ رَدِّ الْآمِرِ الْبَيْعَ تَبَيَّنَ أَنَّهُ وَقَعَ) أَيْ شِرَاءُ الْبَعْضِ (وَسِيلَةً) إلَى الِامْتِثَالِ (فَيَنْفُذُ عَلَى الْآمِرِ)؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ كَأَنَّهُ اشْتَرَاهُ جُمْلَةً. قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَهَذَا) أَيْ جَوَابُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ كَوْنُ الشِّرَاءِ مَوْقُوفًا (بِالِاتِّفَاقِ) بَيْنَ أَئِمَّتِنَا الثَّلَاثَةِ. ثُمَّ اخْتَلَفَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فِي التَّوْكِيلِ بِشِرَاءِ عَبْدٍ إذَا اشْتَرَى نِصْفَهُ، فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إنْ أَعْتَقَهُ الْآمِرُ جَازَ، وَإِنْ أَعْتَقَهُ الْوَكِيلُ لَمْ يَجُزْ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: إنْ أَعْتَقَهُ الْوَكِيلُ جَازَ، وَإِنْ أَعْتَقَهُ الْمُوَكِّلُ لَمْ يَجُزْ.

فَأَبُو يُوسُفَ يَقُولُ إنَّ الْعَقْدَ مَوْقُوفٌ عَلَى إجَازَةِ الْمُوَكِّلِ، أَلَا يَرَى أَنَّهُ لَوْ أَجَازَ صَرِيحًا نَفَذَ عَلَيْهِ وَالْإِعْتَاقُ إجَازَةٌ مِنْهُ فَيَنْفُذُ عَلَيْهِ، وَلَا يَنْفُذُ إعْتَاقُ الْوَكِيلِ؛ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ تَنَاوَلَتْ مَحَلًّا بِعَيْنِهِ فَلَمْ يَمْلِكْ الْوَكِيلُ شِرَاءَهُ لِنَفْسِهِ وَلَمْ يَتَوَقَّفْ عَلَى إجَازَتِهِ فَلَمْ يَنْفُذْ إعْتَاقُهُ. وَمُحَمَّدٌ يَقُولُ: إنَّهُ قَدْ خَالَفَ فِيمَا أَمَرَهُ بِهِ، وَإِنَّمَا التَّوَقُّفُ عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْخِلَافَ يُتَوَهَّمُ رَفْعُهُ بِأَنْ يَشْتَرِيَ الْبَاقِيَ فَيَرْتَفِعُ الْخِلَافُ، وَقَبْلَ أَنْ يَشْتَرِيَهُ بَقِيَ مُخَالِفًا فَإِذَا أَعْتَقَهُ الْآمِرُ لَمْ يَجُزْ.

كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَالْكِفَايَةِ نَقْلًا عَنْ الْإِيضَاحِ (وَالْفَرْقُ لِأَبِي حَنِيفَةَ) أَيْ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ (أَنَّ فِي الشِّرَاءِ تَتَحَقَّقُ التُّهْمَةُ عَلَى مَا مَرَّ) إشَارَةً إلَى قَوْلِهِ؛ لِأَنَّ التُّهْمَةَ فِيهِ مُتَحَقِّقَةٌ فَلَعَلَّهُ اشْتَرَاهُ لِنَفْسِهِ إلَخْ: يَعْنِي أَنَّ التُّهْمَةَ مُتَحَقِّقَةٌ فِي الشِّرَاءِ دُونَ الْبَيْعِ فَافْتَرَقَا مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ (وَآخَرُ) أَيْ وَفَرْقٌ آخَرُ لِأَبِي حَنِيفَةَ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ (أَنَّ الْأَمْرَ بِالْبَيْعِ) فِي صُورَةِ التَّوْكِيلِ بِالْبَيْعِ (يُصَادِفُ مِلْكَهُ) أَيْ مِلْكَ الْآمِرِ (فَيَصِحُّ) أَيْ الْأَمْرُ بِالْبَيْعِ لِوِلَايَةِ الْآمِرِ عَلَى مِلْكِهِ (فَيُعْتَبَرُ فِيهِ إطْلَاقُهُ) أَيْ إطْلَاقُ الْأَمْرِ (وَالْأَمْرُ بِالشِّرَاءِ) فِي صُورَةِ التَّوْكِيلِ بِالشِّرَاءِ (صَادَفَ مِلْكَ الْغَيْرِ) وَهُوَ مِلْكُ الْبَائِعِ (فَلَمْ يَصِحَّ) أَيْ الْأَمْرُ بِالشِّرَاءِ (فَلَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِ التَّقْيِيدُ وَالْإِطْلَاقُ) أَيْ تَقْيِيدُ الْأَمْرِ وَإِطْلَاقُهُ فَيُعْتَبَرُ فِيهِ الْمُتَعَارَفُ، وَالْمُتَعَارَفُ فِيهِ أَنْ يَشْتَرِيَ

ص: 86

قَالَ (وَمَنْ أَمَرَ رَجُلًا بِبَيْعِ عَبْدِهِ فَبَاعَهُ وَقَبَضَ الثَّمَنَ أَوْ لَمْ يَقْبِضْ فَرَدَّهُ الْمُشْتَرِي عَلَيْهِ بِعَيْبٍ لَا يَحْدُثْ مِثْلُهُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي بِبَيِّنَةٍ أَوْ بِإِبَاءِ يَمِينٍ أَوْ بِإِقْرَارٍ فَإِنَّهُ يَرُدُّهُ عَلَى الْآمِرِ)

الْعَبْدَ جُمْلَةً كَذَا فِي الْعِنَايَةِ، وَهُوَ الَّذِي يُسَاعِدُهُ ظَاهِرُ لَفْظِ الْمُصَنِّفِ.

قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَمَا اكْتَفَى بِهَذَا الْقَدْرِ مِنْ الشَّرْحِ: وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَذَا التَّعْلِيلُ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَصِحَّ التَّوْكِيلُ بِالشِّرَاءِ؛ لِأَنَّ التَّوْكِيلَ بِالشِّرَاءِ أَمْرٌ بِالشِّرَاءِ، وَقَدْ قَالَ الْأَمْرُ بِالشِّرَاءِ صَادَفَ مِلْكَ الْغَيْرِ فَلَمْ يَصِحَّ. وَالْجَوَابُ أَنَّ الْقِيَاسَ يَقْتَضِي ذَلِكَ وَلَكِنَّهُ صَحَّ بِحَدِيثِ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَكَّلَهُ بِشِرَاءِ الْأُضْحِيَّةِ، وَإِذَا صَحَّ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مَحَلٍّ فَجَعَلْنَاهُ الثَّمَنَ الَّذِي فِي ذِمَّةِ الْمُوَكِّلِ لِكَوْنِهِ مِلْكَهُ وَصَرَفْنَاهُ إلَى الْمُتَعَارَفِ عَمَلًا بِالدَّلَائِلِ بِقَدْرِ الْإِمْكَان، وَلَوْ عَمِلْنَا بِإِطْلَاقِهِ كَانَ ذَلِكَ إبْطَالًا لِلْقِيَاسِ وَالْعُرْفِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَالْإِعْمَالُ وَلَوْ بِوَجْهٍ أَوْلَى، إلَى هُنَا كَلَامُهُ. أَقُولُ: فِي الْجَوَابِ شَيْءٌ، وَهُوَ أَنَّ حَاصِلَهُ أَنَّا لَمْ نَعْمَلْ بِالْإِطْلَاقِ فِي صُورَةِ التَّوْكِيلِ بِالشِّرَاءِ لِئَلَّا يَبْطُلَ الْعَمَلُ بِالْعُرْفِ مَعَ كَوْنِهِ مِنْ الدَّلَائِلِ، فَيَتَّجِهُ عَلَيْهِ أَنَّ مُقْتَضَى هَذَا أَنْ لَا يَعْمَلَ بِالْإِطْلَاقِ فِي صُورَةِ التَّوْكِيلِ بِالْبَيْعِ أَيْضًا لِئَلَّا يَبْطُلَ الْعَمَلُ بِالْعُرْفِ كَذَلِكَ. فَإِنْ قُلْت: لَمْ يَعْمَلْ بِالْقِيَاسِ فِي صُورَةِ الشِّرَاءِ، فَلَوْ لَمْ يَعْمَلْ بِالْعُرْفِ أَيْضًا لَزِمَ إبْطَالُ الدَّلِيلَيْنِ مَعًا، بِخِلَافِ صُورَةِ الْبَيْعِ حَيْثُ عَمِلَ فِيهَا بِالْقِيَاسِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ فِيهَا صَادَفَ مِلْكَ الْآمِرِ. قُلْت: لَا تَأْثِيرَ لِهَذَا الْفَرْقِ هَاهُنَا؛ لِأَنَّا إنَّمَا تَرَكْنَا الْقِيَاسَ فِي صُورَةِ الشِّرَاءِ بِالنَّصِّ وَهُوَ أَقْوَى مِنْ الْقِيَاسِ فَبَقِيَ الْكَلَامُ فِي الْعُرْفِ، فَلَوْ جَازَ تَقْيِيدُ الْإِطْلَاقِ بِهِ فِي صُورَةِ الشِّرَاءِ بِنَاءً عَلَى وُجُوبِ الْعَمَلِ بِالدَّلَائِلِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ لَجَازَ تَقْيِيدُهُ بِهِ فِي صُورَةِ الْبَيْعِ أَيْضًا بِنَاءً عَلَى ذَلِكَ.

وَقَالَ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ فِي شَرْحِ الْفَرْقِ الثَّانِي: إنَّ الْأَمْرَ فِي صُورَةِ التَّوْكِيلِ بِالْبَيْعِ صَادَفَ مِلْكَ الْآمِرِ فَصَحَّ أَمْرُهُ لِوِلَايَتِهِ عَلَى مِلْكِهِ فَاعْتُبِرَ إطْلَاقُ الْأَمْرِ فَجَازَ بَيْعُ النِّصْفِ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ وَقَعَ مُطْلَقًا عَنْ الْجَمْعِ وَالتَّفْرِيقِ. وَأَمَّا الْأَمْرُ فِي صُورَةِ التَّوْكِيلِ بِالشِّرَاءِ فَصَادَفَ مِلْكَ الْغَيْرِ وَهُوَ مَالُ الْبَائِعِ فَلَمْ يَصِحَّ الْأَمْرُ مَقْصُودًا؛ لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ لِلْآمِرِ فِي مَالِ الْغَيْرِ، وَإِنَّمَا صَحَّ لِضَرُورَةِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ، وَلَا عُمُومَ لِمَا ثَبَتَ ضَرُورَةً فَلَمْ يُعْتَبَرْ إطْلَاقُهُ فَلَمْ يَجُزْ شِرَاءُ الْبَعْضِ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالضَّرُورَةِ يَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ، وَذَلِكَ يَتَأَدَّى بِالْمُتَعَارَفِ وَهُوَ شِرَاءُ الْكُلِّ لَا الْبَعْضِ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ الْمَطْلُوبَ مِنْ الْكُلِّ لَا يَحْصُلُ بِشِرَاءِ الْبَعْضِ إلَّا إذَا اشْتَرَى الْبَاقِيَ قَبْلَ أَنْ يَخْتَصِمَا فَيَجُوزَ عَلَى الْآمِرِ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ مَقْصُودُهُ انْتَهَى.

أَقُولُ: هَذَا الْقَدْرُ مِنْ الْبَيَانِ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَفْهُومٍ مِنْ ظَاهِرِ لَفْظِ الْمُصَنِّفِ إلَّا أَنَّهُ حِينَئِذٍ لَا يَتَوَجَّهُ السُّؤَالُ الَّذِي ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ وَلَا يَحْتَاجُ إلَى مَا ارْتَكَبَهُ فِي جَوَابِهِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى الْمُتَأَمِّلِ

(قَالَ) أَيْ مُحَمَّدٌ فِي بُيُوعِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ (وَمَنْ أَمَرَ رَجُلًا بِبَيْعِ عَبْدِهِ فَبَاعَهُ) وَسَلَّمَهُ (وَقَبَضَ الثَّمَنَ أَوْ لَمْ يَقْبِضْ فَرَدَّهُ الْمُشْتَرِي عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الْبَائِعِ الْمُشْتَرِي (بِعَيْبٍ لَا يَحْدُثُ مِثْلُهُ) أَيْ لَا يَحْدُثْ مِثْلُهُ أَصْلًا كَالْأُصْبُعِ الزَّائِدَةِ وَالسِّنِّ الشَّاغِيَةِ، أَوْ لَا يَحْدُثُ مِثْلُهُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمُدَّةِ (بِقَضَاءِ الْقَاضِي) مُتَعَلِّقٌ بِرَدِّهِ: أَيْ رَدِّهِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي، وَهُوَ احْتِرَازٌ عَمَّا إذَا كَانَ الرَّدُّ بِغَيْرِ قَضَاءٍ كَمَا سَيَأْتِي (بِبَيِّنَةٍ) مُتَعَلِّقٌ بِقَضَاءِ الْقَاضِي أَيْ قَضَائِهِ بِبَيِّنَةِ الْمُشْتَرِي (أَوْ بِإِبَاءِ يَمِينٍ) أَيْ أَوْ قَضَائِهِ بِإِبَاءِ الْبَائِعِ عَنْ الْيَمِينِ عِنْدَ تَوَجُّهِهَا إلَيْهِ (أَوْ بِإِقْرَارِهِ) أَيْ أَوْ قَضَائِهِ بِإِقْرَارِ الْبَائِعِ (فَإِنَّهُ) أَيْ الْبَائِعَ وَهُوَ الْمَأْمُورُ (يَرُدُّهُ) أَيْ يَرُدُّ الْعَبْدَ الَّذِي رُدَّ عَلَيْهِ (عَلَى الْآمِرِ) بِلَا حَاجَةٍ إلَى خُصُومَةٍ، إذْ الرَّدُّ عَلَى الْوَكِيلِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ رَدٌّ

ص: 87

لِأَنَّ الْقَاضِيَ تَيَقَّنَ بِحُدُوثِ الْعَيْبِ فِي يَدِ الْبَائِعِ فَلَمْ يَكُنْ قَضَاؤُهُ مُسْتَنِدًا إلَى هَذِهِ الْحُجَجِ. وَتَأْوِيلُ اشْتِرَاطِهَا فِي الْكِتَابِ أَنَّ الْقَاضِيَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَحْدُثُ مِثْلُهُ فِي مُدَّةِ شَهْرٍ مَثَلًا لَكِنَّهُ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ تَارِيخُ الْبَيْعِ فَيَحْتَاجُ إلَى هَذِهِ الْحُجَجِ لِظُهُورِ التَّارِيخِ، أَوْ كَانَ عَيْبًا لَا يَعْرِفُهُ إلَّا النِّسَاءُ أَوْ الْأَطِبَّاءُ،

عَلَى الْمُوَكِّلِ. فَإِنْ قِيلَ: إذَا أَقَرَّ الْوَكِيلُ بِالْعَيْبِ فَلَا حَاجَةَ حِينَئِذٍ إلَى قَضَاءِ الْقَاضِي؛ لِأَنَّهُ يَقْبَلُهُ لَا مَحَالَةَ، فَمَا مَعْنَى ذِكْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي مَعَ الْإِقْرَارِ؟ قُلْنَا: يُمْكِنُ أَنْ يُقِرَّ الْوَكِيلُ بِالْعَيْبِ وَيَمْتَنِعَ بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ الْقَبُولِ، فَقَضَاءُ الْقَاضِي كَانَ إجْبَارًا عَلَى الْقَبُولِ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَكَثِيرٍ مِنْ الشُّرُوحِ. وَأَجَابَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ عَنْ السُّؤَالِ الْمَذْكُورِ بِوَجْهٍ آخَرَ حَيْثُ قَالَ: فَإِنْ قُلْت: إنْ كَانَ الْوَكِيلُ مُقِرًّا بِالْعَيْبِ يُرَدُّ عَلَيْهِ فَلَا حَاجَةَ إلَى قَضَاءِ الْقَاضِي فَمَا فَائِدَةُ ذِكْرِهِ؟ قُلْت: الْكَلَامُ وَقَعَ فِي الرَّدِّ عَلَى الْمُوَكِّلِ، فَإِذَا كَانَ الرَّدُّ عَلَى الْوَكِيلِ بِإِقْرَارِهِ بِلَا قَضَاءٍ لَا يُرَدُّ عَلَى الْمُوَكِّلِ، وَإِنْ كَانَ عَيْبًا لَا يَحْدُثُ مِثْلُهُ فِي عَامَّةِ رِوَايَاتِ الْمَبْسُوطِ فَظَهَرَتْ الْفَائِدَةُ إذًا فَافْهَمْهُ وَاغْتَنِمْهُ. انْتَهَى كَلَامُهُ.

أَقُولُ: هَذَا الْجَوَابُ لَيْسَ بِشَافٍ، إذْ هُوَ لَا يَحْسِمْ عِرْقَ السُّؤَالِ؛ لِأَنَّ هَاتِيَك الْفَائِدَةَ مُتَرَتِّبَةٌ عَلَى وُقُوعِ الْقَضَاءِ: أَيْ حَاصِلَةٌ بَعْدَ حُصُولِهِ، وَكَلَامُ السَّائِلِ فِي سَبَبِ وُقُوعِ الْقَضَاءِ ابْتِدَاءً. يَعْنِي أَنَّ الْقَضَاءَ إنَّمَا شُرِعَ لِفَصْلِ الْخُصُومَاتِ وَرَفْعِ الْمُنَازَعَاتِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ فَصْلَ الْخُصُومَةِ وَرَفْعَ الْمُنَازَعَةِ فَرْعُ تَحَقُّقِ الْخُصُومَةِ وَالْمُنَازَعَةِ، وَفِيمَا إذَا أَقَرَّ الْوَكِيلُ بِالْعَيْبِ لَا خُصُومَةَ وَلَا مُنَازَعَةَ فَلَا حَاجَةَ إلَى الْقَضَاءِ رَأْسًا فَبِأَيِّ سَبَبٍ يَقَعُ الْقَضَاءُ حَتَّى تَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ تِلْكَ الْفَائِدَةَ؟ فَالْجَوَابُ الشَّافِي هُوَ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ امْتِنَاعَ الْمُقِرِّ بِالْعَيْبِ عَنْ قَبُولِ الْمَعِيبِ يَقْتَضِي الِاحْتِيَاجَ إلَى وُقُوعِ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ بِالْجَبْرِ عَلَى الْقَبُولِ.

قَالَ الْمُصَنِّفِ فِي تَعْلِيلِ الْمَسْأَلَةِ الْمَذْكُورَةِ (لِأَنَّ الْقَاضِيَ تَيَقَّنَ بِحُدُوثِ الْعَيْبِ فِي يَدِ الْبَائِعِ) إذْ الْكَلَامُ فِي عَيْبٍ لَا يَحْدُثُ مِثْلُهُ (فَلَمْ يَكُنْ قَضَاؤُهُ مُسْتَنِدًا إلَى هَذِهِ الْحُجَجِ) يَعْنِي الْبَيِّنَةَ وَالنُّكُولَ وَالْإِقْرَارَ. قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الشُّرَّاحِ: هَذَا جَوَابٌ عَنْ سُؤَالِ سَائِلٍ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: لَمَّا كَانَ الْعَيْبُ لَا يَحْدُثُ مِثْلُهُ كَالْأُصْبُعِ الزَّائِدَةِ لَمْ يَتَوَقَّفْ قَضَاءُ الْقَاضِي عَلَى وُجُودِ هَذِهِ الْحُجَجِ، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَقْضِيَ الْقَاضِي بِدُونِهَا لِعِلْمِهِ قَطْعًا بِوُجُودِ هَذَا الْعَيْبِ عِنْدَ الْبَائِعِ. فَأَجَابَ بِأَنْ قَالَ: لَمْ يَكُنْ قَضَاؤُهُ مُسْتَنِدًا إلَى هَذِهِ الْحُجَجِ إلَخْ. أَقُولُ: لَا يَذْهَبُ عَلَى مَنْ لَهُ ذَوْقٌ صَحِيحٌ أَنَّ مَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ وَإِنْ كَانَ صَالِحًا لَأَنْ يَكُونَ جَوَابًا عَنْ ذَلِكَ السُّؤَالِ، إلَّا أَنَّ تَفْرِيعَ قَوْلِهِ وَلَمْ يَكُنْ قَضَاؤُهُ مُسْتَنِدًا إلَى هَذِهِ الْحُجَجِ عَلَى مَا قَبْلَهُ بِإِدْخَالِ الْفَاءِ عَلَيْهِ يَأْبَى ذَلِكَ جِدًّا؛ لِأَنَّ مَنْشَأَ السُّؤَالِ مَا سَبَقَ قَبْلَ هَذَا الْقَوْلِ فَكَيْفَ يَتِمُّ تَفْرِيعُ الْجَوَابِ عَلَيْهِ؟ وَكَأَنَّ صَاحِبَ النِّهَايَةِ ذَاقَ هَذِهِ الْبَشَاعَةَ حَيْثُ قَالَ فِي شَرْحِ قَوْلِهِ فَلَمْ يَكُنْ قَضَاؤُهُ مُسْتَنِدًا إلَى هَذِهِ الْحُجَجِ. هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ دَفْعٌ لِسُؤَالِ سَائِلٍ فَقَرَّرَ السُّؤَالُ بِالْوَجْهِ الْمَذْكُورِ. ثُمَّ لَمَّا جَاءَ إلَى تَقْرِيرِ الْجَوَابِ قَالَ: فَأَجَابَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ وَتَأْوِيلُ اشْتِرَاطِهَا فِي الْكِتَابِ أَنَّ الْقَاضِيَ يَعْلَمُ إلَخْ، فَجَعَلَ الْجَوَابَ قَوْلَهُ: وَتَأْوِيلُ اشْتِرَاطِهَا فِي الْكِتَابِ إلَخْ دُونَ قَوْلِهِ فَلَمْ يَكُنْ قَضَاؤُهُ مُسْتَنِدًا إلَى هَذِهِ الْحُجَجِ، لَكِنْ لَا يُجْدِي ذَلِكَ طَائِلًا، أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُ قَدْ اعْتَرَفَ ابْتِدَاءً فِي شَرْحِ قَوْلِهِ فَلَمْ يَكُنْ قَضَاؤُهُ إلَى آخِرِهِ بِأَنَّ هَذَا دَفْعٌ لِذَلِكَ السُّؤَالِ وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّهُ لَا مَجَالَ لِإِخْرَاجِ قَوْلِهِ فَلَمْ يَكُنْ قَضَاؤُهُ مُسْتَنِدًا إلَى هَذِهِ الْحُجَجِ عَنْ جَوَابِ ذَلِكَ السُّؤَالِ وَإِدْخَالُهُ فِي التَّعْلِيلِ السَّابِقِ؛ لِأَنَّ التَّعْلِيلَ الْمَذْكُورَ قَدْ تَمَّ بِدُونِ الْقَوْلِ الْمَزْبُورِ. وَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ السُّؤَالِ لَا يَتِمُّ بِدُونِ هَذَا كَمَا لَا يَخْفَى.

وَأَمَّا صَاحِبُ مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ وَغَيْرُهُ لَمَّا رَأَوْا مَعْنَى الْكَلَامِ بِمُقْتَضَى الْمَقَامِ غَيْرَ قَابِلٍ لِلصَّرْفِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ صَرَّحُوا بِأَنَّ قَوْلَهُ فَلَمْ يَكُنْ قَضَاؤُهُ مُسْتَنِدًا إلَخْ جَوَابٌ عَنْ ذَلِكَ السُّؤَالِ، وَلَكِنْ لَمْ يَتَعَرَّضْ أَحَدٌ مِنْهُمْ لِبَيَانِ رَكَاكَةِ الْفَاءِ حِينَئِذٍ، فَتَلَخَّصَ مِمَّا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَوْ قَالَ الْمُصَنِّفُ وَلَمْ يَكُنْ قَضَاؤُهُ مُسْتَنِدًا إلَى هَذِهِ الْحُجَجِ بِتَبْدِيلِ الْفَاءِ بِالْوَاوِ لَكَانَ كَلَامُهُ أَسْلَمَ وَأَوْفَى (وَتَأْوِيلُ اشْتِرَاطِهَا) أَيْ اشْتِرَاطُ هَذِهِ الْحُجَجِ (فِي الْكِتَابِ) يَعْنِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ (أَنَّ الْقَاضِيَ يَعْلَمُ أَنَّهُ) أَيْ الْعَيْبَ الْمَذْكُورَ (لَا يَحْدُثُ مِثْلُهُ فِي مُدَّةِ شَهْرٍ مَثَلًا لَكِنَّهُ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الْقَاضِي (تَارِيخُ الْبَيْعِ فَيَحْتَاجُ إلَى هَذِهِ الْحُجَجِ) أَيْ إلَى وَاحِدَةٍ مِنْهَا (لِظُهُورِ التَّارِيخِ) أَيْ لِأَجْلِ ظُهُورِ التَّارِيخِ عِنْدَهُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ هَذَا الْعَيْبَ كَانَ فِي يَدِ الْبَائِعِ فَيَرُدُّ الْمَبِيعَ عَلَيْهِ (أَوْ كَانَ عَيْبًا) إشَارَةً إلَى تَأْوِيلٍ آخَرَ: أَيْ أَوْ كَانَ الْعَيْبُ الَّذِي يُرِيدُ الْمُشْتَرِي الرَّدَّ بِهِ عَيْبًا (لَا يَعْرِفُهُ إلَّا النِّسَاءُ) كَالْقَرَنِ فِي الْفَرْجِ وَنَحْوِهِ (أَوْ الْأَطِبَّاءُ) أَيْ أَوْ عَيْبًا لَا يَعْرِفُهُ إلَّا الْأَطِبَّاءُ

ص: 88

وَقَوْلُهُنَّ وَقَوْلُ الطَّبِيبِ حُجَّةٌ فِي تَوَجُّهِ الْخُصُومَةِ لَا فِي الرَّدِّ فَيَفْتَقِرُ إلَيْهَا فِي الرَّدِّ، حَتَّى لَوْ كَانَ الْقَاضِي عَايَنَ الْبَيْعَ وَالْعَيْبُ ظَاهِرٌ لَا يَحْتَاجُ إلَى شَيْءٍ مِنْهَا وَهُوَ رَدٌّ عَلَى الْمُوَكِّلِ فَلَا يَحْتَاجُ الْوَكِيلُ إلَى رَدٍّ وَخُصُومَةٍ. قَالَ (وَكَذَلِكَ إنْ رَدَّهُ عَلَيْهِ بِعَيْبٍ يَحْدُثُ مِثْلُهُ بِبَيِّنَةٍ أَوْ بِإِبَاءِ يَمِينٍ)؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ حُجَّةٌ مُطْلَقَةٌ، وَالْوَكِيلُ مُضْطَرٌّ فِي النُّكُولِ

كَالدِّقِّ وَالسُّعَالِ الْقَدِيمِ (وَقَوْلُهُنَّ) أَيْ قَوْلُ النِّسَاءِ.

(وَقَوْلُ الطَّبِيبِ حُجَّةٌ فِي تَوَجُّهِ الْخُصُومَةِ) لِلْمُشْتَرِي (لَا فِي الرَّدِّ) أَيْ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فِي الرَّدِّ عَلَى الْبَائِعِ (فَيَفْتَقِرُ) أَيْ الْقَاضِي (إلَيْهَا) أَيْ إلَى الْحُجَجِ الْمَذْكُورَةِ (فِي الرَّدِّ) عَلَى الْبَائِعِ. أَقُولُ: فِي هَذَا التَّأْوِيلِ نَظَرٌ، إذْ عَلَى هَذَا لَا يَتِمُّ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ فِيمَا مَرَّ آنِفًا، فَلَمْ يَكُنْ قَضَاؤُهُ مُسْتَنِدًا إلَى هَذِهِ الْحُجَجِ وَالِاحْتِيَاجِ، إلَى التَّأْوِيلِ إنَّمَا كَانَ لِأَجْلِ تَتْمِيمِ ذَلِكَ بَلْ عَلَى هَذَا لَا يَتِمُّ جَوَابُ أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ أَيْضًا، إذْ يَنْبَغِي حِينَئِذٍ أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ فِي الرَّدِّ عَلَى الْمَأْمُورِ بِعَيْبٍ لَا يَحْدُثُ مِثْلُهُ مِثْلَ الْجَوَابِ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِ بِعَيْبٍ يَحْدُثُ مِثْلُهُ فِي صُورَةِ إنْ كَانَ ذَلِكَ بِإِقْرَارٍ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ قَوْلُ النِّسَاءِ وَلَا قَوْلُ الْأَطِبَّاءِ حُجَّةً فِي حَقِّ الرَّدِّ بَلْ كَانَ الْقَاضِي فِيهِ مُفْتَقِرًا إلَى إحْدَى الْحُجَجِ الْمَذْكُورَةِ فِيمَا لَا يَحْدُثُ مِثْلُهُ أَيْضًا كَانَ قَضَاؤُهُ عَلَى الْمَأْمُورِ بِإِقْرَارِهِ قَضَاءً بِحُجَّةٍ قَاصِرَةٍ لَمْ يُضْطَرَّ الْمَأْمُورُ إلَيْهَا، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا تَتَعَدَّى إلَى الْآمِرِ بِعَيْنٍ مَا ذَكَرُوا فِيمَا يَحْدُثُ مِثْلُهُ فَتَأَمَّلْ.

ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ الْكَافِي زَادَ هَاهُنَا تَأْوِيلًا ثَالِثًا وَقَدَّمَهُ عَلَى التَّأْوِيلَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرَهُمَا الْمُصَنِّفُ حَيْثُ قَالَ: وَمَعْنَى شَرْطُ الْبَيِّنَةِ وَالنُّكُولِ وَالْإِقْرَارِ أَنْ يُشْتَبَهَ عَلَى الْقَاضِي أَنَّ هَذَا الْعَيْبَ قَدِيمٌ أَمْ لَا. أَوْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَحْدُثُ فِي مُدَّةِ شَهْرٍ مَثَلًا، وَلَكِنْ لَا يَعْلَمْ تَارِيخَ الْبَيْعِ فَاحْتَاجَ إلَى هَذِهِ الْحُجَجِ لِيُظْهِرَ التَّارِيخَ، أَوْ كَانَ عَيْبًا لَا يَعْرِفُهُ إلَّا النِّسَاءُ أَوْ الْأَطِبَّاءُ كَالْقَرَنِ فِي الْفَرْجِ وَنَحْوِهِ. وَقَوْلُهُنَّ وَقَوْلُ الطَّبِيبِ حُجَّةٌ فِي تَوَجُّهِ الْخُصُومَةِ، وَلَكِنْ لَا يَثْبُتُ الرَّدُّ بِقَوْلِهِنَّ فَيَفْتَقِرُ إلَى هَذِهِ الْحُجَجِ لِلرَّدِّ انْتَهَى.

وَذَكَرَهُ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ أَيْضًا: أَقُولُ: ذَلِكَ التَّأْوِيلُ مِمَّا لَا يُرَى لَهُ وَجْهُ صِحَّةٍ هَاهُنَا؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي الرَّدِّ بِعَيْبٍ لَا يَحْدُثُ مِثْلُهُ، وَالْعَيْبُ الَّذِي يُشْتَبَهُ عَلَى الْقَاضِي أَنَّهُ قَدِيمٌ أَمْ لَا مِمَّا يَحْدُثُ مِثْلُهُ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ الْمُرَادَ بِمَا يَحْدُثُ مِثْلُهُ مَا يَجُوزُ أَنْ يَحْدُثَ مِثْلُهُ عِنْدَ الْمُشْتَرِي لَا مَا يَتَعَيَّنُ حُدُوثُهُ عِنْدَهُ وَإِلَّا لَمَا صَحَّ رَدُّهُ عَلَى الْبَائِعِ وَلَوْ بِحُجَّةٍ، وَإِنَّ الْمُرَادَ بِمَا لَا يَحْدُثُ مِثْلُهُ مَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَحْدُثَ مِثْلُهُ عِنْدَ الْمُشْتَرِي، فَاَلَّذِي يُشْتَبَهُ أَنَّهُ قَدِيمٌ أَمْ لَا مِمَّا يَجُوزُ أَنْ يَحْدُثَ مِثْلُهُ وَإِلَّا لَمَا اشْتَبَهَ حَالُهُ، فَإِنَّ مَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَحْدُثَ مِثْلُهُ قَدِيمٌ أَلْبَتَّةَ (حَتَّى لَوْ كَانَ الْقَاضِي عَايَنَ الْبَيْعَ وَالْعَيْبُ ظَاهِرٌ لَا يَحْتَاجُ) أَيْ الْقَاضِي (إلَى شَيْءٍ مِنْهَا) أَيْ مِنْ تِلْكَ الْحُجَجِ (وَهُوَ) أَيْ الرَّدُّ عَلَى الْوَكِيلِ (رَدٌّ عَلَى الْمُوَكِّلِ فَلَا يَحْتَاجُ الْوَكِيلُ إلَى رَدٍّ وَخُصُومَةٍ) مَعَ الْمُوَكِّلِ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ بِالْقَضَاءِ فَسْخٌ لِعُمُومِ وِلَايَةِ الْقَاضِي، وَالْفَسْخُ بِالْحُجَّةِ الْكَامِلَةِ عَلَى الْوَكِيلِ فَسْخٌ عَلَى الْمُوَكِّلِ (قَالَ: وَكَذَلِكَ إذَا رَدَّهُ) أَيْ وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ إذَا رَدَّ الْمُشْتَرِي الْعَبْدَ (عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الْوَكِيلِ (بِعَيْبٍ) أَيْ بِسَبَبِ عَيْبٍ (يَحْدُثُ مِثْلُهُ بِبَيِّنَةٍ) مُتَعَلِّقٌ بِرَدِّهِ: أَيْ رَدِّهِ عَلَيْهِ بِبَيِّنَهٍ (أَوْ بِإِبَاءِ يَمِينٍ) أَيْ بِالنُّكُولِ عَنْ الْيَمِينِ (لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ حُجَّةٌ مُطْلَقَةٌ) أَيْ كَامِلَةٌ فَتَتَعَدَّى، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ وَهُوَ الظَّاهِرُ.

وَقِيلَ: أَيْ مُثَبَّتَةٌ عِنْدَ النَّاسِ كَافَّةً فَيَثْبُتُ بِهَا قِيَامُ الْعَيْبِ عِنْدَ الْمُوَكِّلِ فَيَنْفُذُ الرَّدُّ عَلَى الْمُوَكِّلِ، كَذَا فِي مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ أَخْذًا مِنْ الْكَافِي (وَالْوَكِيلُ مُضْطَرٌّ فِي النُّكُولِ) هَذَا جَوَابٌ عَنْ خِلَافِ زُفَرٍ فِي إبَاءٍ عَنْ يَمِينٍ، فَإِنَّهُ قَالَ: لَوْ رَدَّ

ص: 89

لِبُعْدِ الْعَيْبِ عَنْ عِلْمِهِ بِاعْتِبَارِ عَدَمِ مُمَارَسَتِهِ الْمَبِيعَ فَلَزِمَ الْآمِرَ. قَالَ (فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِإِقْرَارِهِ لَزِمَ الْمَأْمُورَ)؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ حُجَّةٌ قَاصِرَةٌ وَهُوَ غَيْرُ مُضْطَرٍّ إلَيْهِ لِإِمْكَانِهِ السُّكُوتَ وَالنُّكُولَ، إلَّا أَنَّ لَهُ أَنْ يُخَاصِمَ الْمُوَكِّلَ فَيُلْزِمَهُ بِبَيِّنَةٍ أَوْ بِنُكُولِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الرَّدُّ بِغَيْرِ قَضَاءٍ وَالْعَيْبُ يَحْدُثُ مِثْلُهُ حَيْثُ لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يُخَاصِمَ بَائِعَهُ؛ لِأَنَّهُ بَيْعٌ جَدِيدٌ فِي حَقِّ ثَالِثٍ وَالْبَائِعُ ثَالِثُهُمَا، وَالرَّدُّ بِالْقَضَاءِ فَسْخٌ

عَلَى الْوَكِيلِ بِنُكُولِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى الْمُوَكِّلِ كَمَنْ اشْتَرَى شَيْئًا وَبَاعَهُ مِنْ غَيْرِهِ، ثُمَّ إنَّ الْمُشْتَرِيَ الثَّانِيَ وَجَدَ عَيْبًا فَرَدَّهُ عَلَى الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ بِنُكُولِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى بَائِعِهِ، فَجَعَلَ هَذَا وَمَا لَوْ رَدَّ عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ سَوَاءً فِي حَقِّ الْبَائِعِ، فَكَذَا فِي حَقِّ الْوَكِيلِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: الْوَكِيلُ مُضْطَرٌّ فِي هَذَا النُّكُولِ (لِبُعْدِ الْعَيْبِ عَنْ عِلْمِهِ) أَيْ عَنْ عِلْمِ الْوَكِيلِ (اعْتِبَارُ عَدَمِ مُمَارَسَةِ الْمَبِيعِ) فَإِنَّهُ لَمْ يُمَارِسْ أَحْوَالَ الْمَبِيعِ وَهُوَ الْعَبْدُ فَلَا يَعْرِفُ بِعَيْبِ مِلْكِ الْغَيْرِ فَيَخَافُ أَنْ يَحْلِفَ كَاذِبًا فَيَنْكُلَ، وَالْمُوَكِّلُ هُوَ الَّذِي أَوْقَعَهُ فِي هَذِهِ الْوَرْطَةِ فَكَانَ الْخَلَاصُ عَلَيْهِ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الْعُهْدَةِ (فَيَلْزَمُ الْآمِرَ) أَيْ فَيَلْزَمُ الْعَبْدُ الْآمِرَ أَوْ فَيَلْزَمُ حُكْمُ النُّكُولِ الْآمِرَ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَقَرَّ فَإِنَّهُ غَيْرُ مُضْطَرٍّ إلَى الْإِقْرَارِ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَسْكُتَ حَتَّى يَعْرِضَ عَلَيْهِ الْيَمِينَ وَيَقْضِيَ عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ فَيَكُونَ هُوَ فِي الْإِقْرَارِ مُخْتَارًا لَا مُضْطَرًّا، بِخِلَافِ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ مُضْطَرٌّ إلَى النُّكُولِ، وَلَكِنْ فِي عَمَلٍ بَاشَرَهُ لِنَفْسِهِ فَلَا يَرْجِعْ بِعُهْدَةِ عَمَلِهِ عَلَى غَيْرِهِ.

كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ وَالْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ (قَالَ) أَيْ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِع الصَّغِيرِ (فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ) أَيْ الرَّدُّ عَلَى الْوَكِيلِ (بِإِقْرَارٍ) أَيْ بِإِقْرَارِهِ (لَزِمَ الْمَأْمُورَ) أَيْ لَزِمَ الْعَبْدُ الْمَأْمُورَ وَهُوَ الْوَكِيلُ (لِأَنَّ الْإِقْرَارَ حُجَّةٌ قَاصِرَةٌ) فَيَظْهَرُ فِي حَقِّ الْمُقِرِّ دُونَ غَيْرِهِ (وَهُوَ) أَيْ الْمَأْمُورُ (غَيْرُ مُضْطَرٍّ إلَيْهِ) أَيْ إلَى الْإِقْرَارِ (لِإِمْكَانِهِ السُّكُوتُ وَالنُّكُولُ) بِرَفْعِ السُّكُوتِ وَالنُّكُولِ: يَعْنِي يُمْكِنُهُ السُّكُوتُ وَالنُّكُولُ حَتَّى يَعْرِضَ عَلَيْهِ الثَّمَنُ وَيَقْضِي عَلَيْهِ بِالسُّكُوتِ وَالنُّكُولِ (إلَّا أَنَّ لَهُ أَنْ يُخَاصِمَ الْمُوَكِّلَ) يَعْنِي لَكِنَّ لِلْوَكِيلِ أَنْ يُخَاصِمَ الْمُوَكِّلَ (فَيُلْزِمَهُ بِبَيِّنَةٍ أَوْ بِنُكُولِهِ) أَيْ بِنُكُولِ الْمُوَكِّلِ. قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: لَمْ يَذْكُرْ الْإِقْرَارَ إذْ لَا فَائِدَةَ فِي الْمُخَاصَمَةِ هُنَا إذَا كَانَ مُقِرًّا بِخِلَافِ الْوَكِيلِ انْتَهَى.

أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا بِتَامٍّ، إذْ يَجُوزُ أَنْ يُقِرَّ الْمُوَكِّلُ بِالْعَيْبِ وَيَمْتَنِعَ بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ الْقَبُولِ، فَفَائِدَةُ الْخُصُومَةِ أَنْ يُجْبِرَهُ الْقَاضِي عَلَى الْقَبُولِ كَمَا قَالُوا فِي إقْرَارِ الْوَكِيلِ، عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَظْهَرَ إقْرَارُ الْمُوَكِّلِ بَعْدَ مُخَاصَمَةِ الْوَكِيلِ لَا قَبْلَهَا، فَلَا مَعْنًى لِقَوْلِهِ إذْ لَا فَائِدَةَ فِي الْمُخَاصَمَةِ هَاهُنَا إذَا كَانَ مُقِرًّا فَتَدَبَّرْ (بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الرَّدُّ) أَيْ الرَّدُّ بِإِقْرَارِ الْوَكِيلِ (بِغَيْرِ قَضَاءٍ) يَعْنِي أَنَّ مَا سَبَقَ مِنْ أَنَّ الْوَكِيلَ أَنْ يُخَاصِمَ الْمُوَكِّلَ فِيمَا إذَا كَانَ الرَّدُّ عَلَى الْوَكِيلِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي بِإِقْرَارِهِ، وَأَمَّا إذَا كَانَ ذَلِكَ بِغَيْرِ قَضَاءٍ (وَالْعَيْبُ يَحْدُثُ مِثْلُهُ) فَبِخِلَافِهِ (حَيْثُ لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يُخَاصِمَ بَائِعَهُ) يَعْنِي الْمُوَكِّلَ (لِأَنَّهُ) أَيْ الرَّدَّ بِالْإِقْرَارِ وَالرِّضَا مِنْ غَيْرِ قَضَاءٍ (بَيْعٌ جَدِيدٌ فِي حَقٍّ ثَالِثٍ) وَإِنْ كَانَ فَسْخًا فِي حَقِّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ (وَالْبَائِعُ) يَعْنِي الْمُوَكِّلَ (ثَالِثُهُمَا) أَيْ ثَالِثُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَهُمَا الْوَكِيلُ وَالْمُشْتَرِي. قَالَ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ: وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ أَنْ يُخَاصِمَ مُوَكِّلَهُ أَوْ يَقُولَ آمُرَهُ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَيْضًا أَنْ يَقُولَ مَكَانَ قَوْلِهِ وَالْبَائِعُ ثَالِثُهُمَا وَالْمُوَكِّلُ ثَالِثُهُمَا أَوْ الْآمِرُ ثَالِثُهُمَا؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي مُخَاصَمَةِ الْوَكِيلِ مَعَ الْمُوَكِّلِ وَهُوَ لَيْسَ بِبَائِعٍ انْتَهَى.

وَاعْتَذَرَ عَنْهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بِأَنْ قَالَ: عَبَّرَ عَنْهُ بِالْبَائِعِ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ لَمَّا انْتَقَلَ إلَى الْوَكِيلِ وَتَقَرَّرَ عَلَيْهِ بِأَمْرٍ قَدْ حَصَلَ مِنْ جِهَتِهِ فَكَأَنَّهُ بَاعَهُ إيَّاهُ انْتَهَى (وَالرَّدُّ بِالْقَضَاءِ فَسْخٌ) هَذَا جَوَابُ سُؤَالٍ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: يَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ لِلْوَكِيلِ حَقُّ الْخُصُومَةِ مَعَ الْمُوَكِّلِ أَصْلًا فِيمَا إذَا حَصَلَ الرَّدُّ بِإِقْرَارِ الْوَكِيلِ لِكَوْنِهِ بَيْعًا جَدِيدًا فِي حَقِّ الْمُوَكِّلِ، فَقَالَ الرَّدُّ بِالْقَضَاءِ فَسْخٌ

ص: 90

لِعُمُومِ وِلَايَةِ الْقَاضِي، غَيْرَ أَنَّ الْحُجَّةَ قَاصِرَةٌ وَهِيَ الْإِقْرَارُ، فَمِنْ حَيْثُ الْفَسْخُ كَانَ لَهُ أَنْ يُخَاصِمَهُ، وَمِنْ حَيْثُ الْقُصُورُ لَا يَلْزَمُ الْمُوَكِّلَ إلَّا بِحُجَّةٍ، وَلَوْ كَانَ الْعَيْبُ لَا يَحْدُثُ مِثْلُهُ وَالرَّدُّ بِغَيْرِ قَضَاءٍ بِإِقْرَارِهِ يَلْزَمُ الْمُوَكِّلَ مِنْ غَيْرِ خُصُومَةٍ فِي رِوَايَةٍ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ مُتَعَيَّنٌ

لِعُمُومِ وِلَايَةِ الْقَاضِي) يَعْنِي أَنَّ الرَّدَّ بِالْقَضَاءِ لَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَقْدًا مُبْتَدَأً لِفَقْدِ شَرْطِهِ وَهُوَ التَّرَاضِي؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ يَرُدُّهُ عَلَى كُرْهٍ مِنْهُ فَيُجْعَلُ فَسْخًا لِعُمُومِ وِلَايَةِ الْقَاضِي (غَيْرَ أَنَّ الْحُجَّةَ قَاصِرَةٌ وَهِيَ الْإِقْرَارُ) يَعْنِي لَكِنَّ الْفَسْخَ اسْتَنَدَ إلَى حُجَّةٍ قَاصِرَةٍ وَهِيَ الْإِقْرَارُ فَعَمِلْنَا بِالْجِهَتَيْنِ (فَمِنْ حَيْثُ الْفَسْخُ) أَيْ مِنْ حَيْثُ إنَّ الرَّدَّ بِالْقَضَاءِ فَسْخٌ (كَانَ لَهُ) أَيْ لِلْوَكِيلِ (أَنْ يُخَاصِمَ) أَيْ مَعَ الْمُوَكِّلِ (وَمِنْ حَيْثُ الْقُصُورُ فِي الْحُجَّةِ) أَيْ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْإِقْرَارَ حُجَّةٌ قَاصِرَةٌ (لَا يَلْزَمُ الْمُوَكِّلُ إلَّا بِحُجَّةٍ) أَيْ إلَّا بِإِقَامَةِ الْوَكِيلِ الْحُجَّةَ عَلَى الْمُوَكِّلِ.

قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَهَذِهِ فَائِدَةُ الْحَاجَةِ إلَى الْقَضَاءِ مَعَ الْإِقْرَارِ فَيَسْقُطُ مَا قَالَ فِي النِّهَايَةِ إذَا أَقَرَّ الْوَكِيلُ بِالْعَيْبِ، لَا حَاجَةَ حِينَئِذٍ إلَى قَضَاءٍ؛ لِأَنَّهُ يَقْبَلُهُ لَا مَحَالَةَ انْتَهَى.

أَقُولُ: فِيهِ بَحْثٌ، إذْ قَدْ عَرَفْت فِيمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ أَنَّ هَذِهِ الْفَائِدَةَ فَائِدَةٌ مُتَرَتِّبَةٌ عَلَى تَحَقُّقِ الْقَضَاءِ حَاصِلَةٌ بَعْدَ حُصُولِهِ، وَمَا قَالَ فِي النِّهَايَةِ إنَّمَا هُوَ فِي أَصْلِ تَحَقُّقِ الْقَضَاءِ وَحُصُولِهِ ابْتِدَاءً، فَإِنَّهُ إذَا أَقَرَّ الْوَكِيلُ بِالْعَيْبِ لَمْ يَبْقَ هُنَاكَ حَاجَةٌ إلَى قَضَاءٍ، فَمِنْ أَيِّ وَجْهٍ يَتَحَقَّقُ الْقَضَاءُ حَتَّى تَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ الْفَائِدَةُ الْمَذْكُورَةُ، وَهَذَا كَلَامٌ جَيِّدٌ لَا يَسْقُطُ بِمَا تَوَهَّمَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ، فَإِنَّ لِلسَّائِلِ أَنْ يَقُولَ ثَبِّتْ الْعُرْسَ ثُمَّ اُنْقُشْ. ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ النِّهَايَةِ لَمْ يَثْبُتْ عَلَى ذَلِكَ الْقَوْلِ بَلْ ذَكَرَهُ بِطَرِيقِ السُّؤَالِ، وَأَجَابَ عَنْهُ بِأَنْ قَالَ: يُمْكِنُ أَنْ يُقِرَّ الْوَكِيلُ بِالْعَيْبِ وَيَمْتَنِعَ بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ الْقَبُولِ، فَقَضَاءُ الْقَاضِي كَانَ جَبْرًا عَلَيْهِ عَلَى الْقَبُولِ انْتَهَى.

وَقَدْ ذَكَرْنَا السُّؤَالَ وَالْجَوَابَ فِي أَوَّلِ الْمَسْأَلَةِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ ذَلِكَ الْجَوَابَ جَوَابٌ حَسَنٌ وَوَجْهٌ وَجِيهٌ، فَإِنَّ فِيهِ لَمَنْدُوحَةً عَنْ التَّوْجِيهِ الَّذِي تَمَحَّلَ بِهِ الْمُصَنِّفُ فِي بَابِ خِيَارِ الْعَيْبِ فِي مَسْأَلَةِ رَدِّ الْمُشْتَرِي الثَّانِي عَلَى الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ بِعَيْبٍ بِقَضَاءِ الْقَاضِي بِإِقْرَارٍ أَوْ بِبَيِّنَةٍ أَوْ بِإِبَاءِ يَمِينٍ حَيْثُ قَالَ هُنَاكَ: وَمَعْنَى الْقَضَاءِ بِالْإِقْرَارِ أَنَّهُ أَنْكَرَ الْإِقْرَارَ فَأَثْبَتَ بِالْبَيِّنَةِ انْتَهَى فَتَفَكَّرْ.

فَإِنْ قِيلَ إذَا كَانَ الرَّدُّ بِإِقْرَارِ الْوَكِيلِ بِغَيْرِ قَضَاءٍ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لَهُ وِلَايَةُ الرَّدِّ عَلَى الْمُوَكِّلِ كَمَا فِي الْوَكِيلِ بِالْإِجَارَةِ، فَإِنَّهُ إذَا أَجَّرَ وَسَلَّمَ ثُمَّ طَعَنَ الْمُسْتَأْجِرُ فِيهِ بِعَيْبٍ فَقَبِلَ الْوَكِيلُ بِغَيْرِ قَضَاءٍ فَإِنَّهُ يَلْزَمُ الْمُوَكِّلَ وَلَمْ يُعْتَبَرْ إجَارَةً جَدِيدَةً فِي حَقِّ الْمُوَكِّلِ، فَكَذَا هَذَا. قُلْنَا: مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي الْحَقِيقَةِ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ فِي إجَارَةِ الدَّارِ لَا يَصِيرُ مَقْبُوضًا بِقَبْضِ الدَّارِ، وَلِهَذَا لَوْ تَلِفَ بِانْهِدَامِ الدَّارِ كَانَ فِي ضَمَانِ الْمُؤَجِّرِ، فَيَكُونُ هَذَا مِنْ الْمَبِيعِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَبِلَهُ الْوَكِيلُ بِالْعَيْبِ قَبْلَ الْقَبْضِ بِغَيْرِ قَضَاءٍ وَهُنَاكَ يَلْزَمُ الْآمِرَ فَكَذَا فِي الْإِجَارَةِ. وَقَالَ: شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ: وَفِي الْكِتَابِ عَلَّلَ لِلْفَرْقِ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ، وَقَالَ: إنَّ فَسْخَ الْإِجَارَةِ لَيْسَ بِإِجَارَةٍ فِي حَقِّ أَحَدٍ؛ لِأَنَّ عَلَى إحْدَى الطَّرِيقَتَيْنِ الْإِجَارَةُ عُقُودٌ مُتَفَرِّقَةٌ يَتَجَدَّدُ انْعِقَادُهَا بِحَسَبِ مَا يَحْدُثُ مِنْ الْمَنَافِعِ، فَبَعْدَ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ يُمْتَنَعُ الِانْعِقَادُ إلَّا أَنْ يُجْعَلَ ذَلِكَ عَقْدًا مُبْتَدَأً.

وَعَلَى الطَّرِيقَةِ الْأُخْرَى الْعَقْدُ مُنْعَقِدٌ بِاعْتِبَارِ إقَامَةِ الدَّارِ مَقَامَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَهُوَ الْمَنْفَعَةُ، وَهَذَا حُكْمٌ قَدْ ثَبَتَ بِالضَّرُورَةِ فَلَا يَعْدُو مَوْضِعَهَا، وَلَا ضَرُورَةَ إلَى أَنْ يُجْعَلَ الرَّدُّ بِالْعَيْبِ عَقْدًا مُبْتَدَأً لِقِيَامِ الدَّارِ مَقَامَ الْمَنْفَعَةِ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ (وَلَوْ كَانَ الْعَيْبُ لَا يَحْدُثُ مِثْلُهُ وَالرَّدُّ بِغَيْرِ قَضَاءٍ) أَيْ وَكَانَ الرَّدُّ بِغَيْرِ قَضَاءٍ (بِإِقْرَارِهِ) أَيْ بِإِقْرَارِ الْوَكِيلِ (يَلْزَمُ الْمُوَكِّلَ مِنْ غَيْرِ خُصُومَةٍ فِي رِوَايَةٍ) أَيْ فِي رِوَايَةِ كِتَابِ الْبُيُوعِ مِنْ الْأَصْلِ (لِأَنَّ الرَّدَّ مُتَعَيَّنٌ) وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمَا فَعَلَا غَيْرَ مَا يَفْعَلُهُ الْقَاضِي لَوْ رُفِعَ الْأَمْرُ إلَيْهِ، فَإِنَّهُمَا لَوْ رَفَعَا الْأَمْرَ إلَيْهِ فِي عَيْبٍ لَا يَحْدُثُ مِثْلُهُ رَدَّهُ عَلَى الْوَكِيلِ وَلَا يُكَلِّفُهُ إقَامَةَ الْحُجَّةِ عَلَى ذَلِكَ وَكَانَ ذَلِكَ رَدًّا عَلَى الْمُوَكِّلِ.

قَالَ فِي الْكَافِي: فَإِذَا تَعَيَّنَ الرَّدُّ صَارَ تَسْلِيمُ الْخَصْمِ وَتَسْلِيمُ

ص: 91

وَفِي عَامَّةِ الرِّوَايَاتِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُخَاصِمَهُ لِمَا ذَكَرْنَا وَالْحَقُّ فِي وَصْفِ السَّلَامَةِ ثُمَّ يَنْتَقِلُ إلَى الرَّدِّ ثُمَّ إلَى الرُّجُوعِ بِالنُّقْصَانِ فَلَمْ يَتَعَيَّنْ الرَّدُّ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْكِفَايَةِ بِأَطْوَلَ مِنْ هَذَا.

قَالَ (وَمَنْ قَالَ لِآخَرَ أَمَرْتُك بِبَيْعِ عَبْدِي بِنَقْدٍ فَبِعْته بِنَسِيئَةٍ وَقَالَ الْمَأْمُورُ أَمَرْتنِي بِبَيْعِهِ وَلَمْ تَقُلْ شَيْئًا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْآمِرِ)؛ لِأَنَّ الْآمِرَ يُسْتَفَادُ مِنْ جِهَتِهِ وَلَا دَلَالَةَ عَلَى الْإِطْلَاقِ. قَالَ (وَإِنْ اخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ الْمُضَارِبُ وَرَبُّ الْمَالِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُضَارِبِ)

الْقَاضِي سَوَاءً كَتَسْلِيمِ الشُّفْعَةِ وَقَضَاءِ الدَّيْنِ وَالرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ (وَفِي عَامَّةِ الرِّوَايَاتِ) أَيْ عَامَّةِ رِوَايَاتِ الْمَبْسُوطِ (لَيْسَ لَهُ) أَيْ لِلْوَكِيلِ (أَنْ يُخَاصِمَهُ) يَعْنِي لَا يَلْزَمُ الْمُوَكِّلُ وَلَيْسَ لِلْوَكِيلِ أَنْ يُخَاصِمَهُ (لِمَا ذَكَرْنَا) إشَارَةً إلَى قَوْلِهِ؛ لِأَنَّهُ بَيْعٌ جَدِيدٌ فِي حَقِّ ثَالِثٍ (وَالْحَقُّ) أَيْ حَقُّ الْمُشْتَرِي (فِي وَصْفِ السَّلَامَةِ) هَذَا جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ فِي رِوَايَةِ كِتَابِ الْبُيُوعِ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ مُتَعَيَّنٌ: يَعْنِي لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الرَّدَّ مُتَعَيَّنٌ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمُشْتَرِي يَثْبُتُ أَوَّلًا فِي الْجُزْءِ الْفَائِتِ وَهُوَ وَصْفُ السَّلَامَةِ (ثُمَّ يَنْتَقِلُ) بِضَرُورَةِ الْعَجْزِ عَنْ ذَلِكَ (إلَى الرَّدِّ، ثُمَّ) يَنْتَقِلُ بِامْتِنَاعِ الرَّدِّ بِحُدُوثِ عَيْبٍ أَوْ بِحُدُوثِ زِيَادَةٍ فِي الْمَبِيعِ (إلَى الرُّجُوعِ بِالنُّقْصَانِ فَلَمْ يَتَعَيَّنْ الرَّدُّ) وَفِيمَا ذُكِرَ مِنْ الْمَسَائِلِ الْحَقُّ مُتَعَيَّنٌ لَا يَحْتَمِلُ التَّحَوُّلَ إلَى غَيْرِهِ فَلَا يَتِمَّ الْقِيَاسُ لِعَدَمِ الْجَامِعِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْكِفَايَةِ بِأَطْوَلَ مِنْ هَذَا) يُرِيدُ بِالْكِفَايَةِ كِفَايَةَ الْمُنْتَهَى وَهِيَ شَرْحٌ لِلْبِدَايَةِ: أَلَّفَهَا الْمُصَنِّفُ قَبْلَ الْهِدَايَةِ كَمَا ذَكَرَهُ فِي الدِّيبَاجَةِ، وَلَمْ نَعْلَمْ وُجُودَ نُسَخِهَا الْآنَ وَلَمْ نَسْمَعْ أَنَّ أَحَدًا رَآهَا. قَالَ الْإِمَامُ الزَّيْلَعِيُّ فِي التَّبْيِينِ بَعْدَ بَيَانِ الْمَقَامِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ: وَهَكَذَا ذُكِرَ الرِّوَايَتَانِ فِي شُرُوحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَغَيْرِهَا، وَبَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ تَفَاوُتٌ كَثِيرٌ؛ لِأَنَّ فِيهِ نُزُولًا مِنْ اللُّزُومِ إلَى أَنْ لَا يُخَاصِمَ بِالْكُلِّيَّةِ. وَكَانَ الْأَقْرَبُ أَنْ يُقَالَ: لَا يَلْزَمُهُ وَلَكِنْ لَهُ أَنْ يُخَاصِمَ انْتَهَى.

أَقُولُ: وَلَعَمْرِي إنَّ رُتْبَتَهُ لَا تَتَحَمَّلُ الْإِقْدَامَ عَلَى مِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ؛ لِأَنَّ مَا عَدَّهُ أَقْرَبَ قَوْلٌ ثَالِثٌ لَا رِوَايَةَ فِيهِ عَنْ الْمُجْتَهِدِينَ فَكَيْفَ يَصِحُّ الْجَرَاءَةُ عَلَيْهِ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ سِيَّمَا بَعْدَ الِاطِّلَاعِ عَلَى الْأَدِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ فَإِنَّهَا تَقْتَضِي مَا فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ أَلْبَتَّةَ لَا غَيْرُ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى الْمُتَأَمِّلِ

(قَالَ) أَيْ قَالَ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ (وَمَنْ قَالَ لِأَخَرَ أَمَرْتُكَ بِبَيْعِ عَبْدِي بِنَقْدٍ فَبِعْته بِنَسِيئَةٍ وَقَالَ الْمَأْمُورُ أَمَرْتَنِي بِبَيْعِهِ وَلَمْ تَقُلْ شَيْئًا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْآمِرِ) يَعْنِي إذَا اخْتَلَفَ الْآمِرُ وَالْمَأْمُورُ فِي إطْلَاقِ التَّصَرُّفِ وَتَقْيِيدِهِ فَقَالَ الْآمِرُ أَمَرْتُك بِبَيْعِ عَبْدِي بِنَقْدٍ فَبِعْته بِنَسِيئَةٍ وَقَالَ الْمَأْمُورُ بَلْ أَمَرْتَنِي بِبَيْعِهِ وَلَمْ تَقُلْ شَيْئًا زَائِدًا عَلَيْهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْآمِرِ (لِأَنَّ الْأَمْرَ يُسْتَفَادُ مِنْ جِهَتِهِ) أَيْ مِنْ جِهَةِ الْآمِرِ، وَمَنْ يُسْتَفَادُ الْأَمْرُ مِنْ جِهَتِهِ فَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا قَالَهُ فَكَانَ هُوَ الْمُعْتَبَرَ، إلَّا إذَا كَانَ فِي الْعَقْدِ مَا يُخَالِفُ مُدَّعَاهُ وَلَيْسَ بِمَوْجُودٍ، وَقَدْ أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ (وَلَا دَلَالَةَ عَلَى الْإِطْلَاقِ) إذْ الْأَمْرُ بِالْبَيْعِ قَدْ يَكُونُ مُقَيَّدًا وَقَدْ يَكُونُ مُطْلَقًا وَلَا دَلِيلَ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ.

عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي عَقْدِ الْوَكَالَةِ التَّقْيِيدُ؛ لِأَنَّ مَبْنَاهُ عَلَى التَّقْيِيدِ حَيْثُ لَا يَثْبُتُ بِدُونِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ مَا لَمْ يَقُلْ وَكَّلْتُك بِبَيْعِ هَذَا الشَّيْءِ لَا يَكُونُ وَكِيلًا بِبَيْعِهِ؛ أَلَا يَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِغَيْرِهِ وَكَّلْتُك بِمَالِي أَوْ فِي مَالِي لَا يَمْلِكُ إلَّا الْحِفْظَ وَكَانَ مُدَّعِيًا لِمَا هُوَ الْأَصْلُ فِيهِ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ (قَالَ) أَيْ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ (وَإِنْ اخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ) أَيْ فِي الْإِطْلَاقِ وَالتَّقْيِيدِ (الْمُضَارِبُ وَرَبُّ الْمَالِ) فَقَالَ رَبُّ الْمَالِ أَمَرْتُك بِالنَّقْدِ وَقَالَ الْمُضَارِبُ بَلْ دَفَعْت مُضَارَبَةً وَلَمْ تُعَيِّنْ شَيْئًا (فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُضَارِبِ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي تَصْوِيرِ الِاخْتِلَافِ هَاهُنَا: فَقَالَ رَبُّ الْمَالِ أَمَرْتُك أَنْ تَعْمَلَ فِي الْبَزِّ وَقَالَ

ص: 92

لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْمُضَارَبَةِ الْعُمُومُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ بِذِكْرِ لَفْظِ الْمُضَارَبَةِ فَقَامَتْ دَلَالَةُ الْإِطْلَاقِ، بِخِلَافِ مَا إذَا ادَّعَى رَبُّ الْمَالِ الْمُضَارَبَةَ فِي نَوْعٍ وَالْمُضَارِبُ فِي نَوْعٍ آخَرَ حَيْثُ يَكُونُ الْقَوْلُ لِرَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ سَقَطَ الْإِطْلَاقُ بِتَصَادُقِهِمَا فَنَزَلَ إلَى الْوَكَالَةِ الْمَحْضَةِ ثُمَّ مُطْلَقُ الْأَمْرِ بِالْبَيْعِ يَنْتَظِمُهُ نَقْدًا وَنَسِيئَةً إلَى أَيِّ أَجَلٍ كَانَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا يَتَقَيَّدُ بِأَجَلٍ مُتَعَارَفٍ وَالْوَجْهُ قَدْ تَقَدَّمَ.

قَالَ (وَمَنْ أَمَرَ رَجُلًا بِبَيْعِ عَبْدِهِ فَبَاعَهُ وَأَخَذَ بِالثَّمَنِ رَهْنًا فَضَاعَ فِي يَدِهِ أَوْ أَخَذَ بِهِ كَفِيلًا فَتَوِيَ الْمَالُ عَلَيْهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ)

الْمُضَارِبُ دَفَعْت إلَيَّ الْمَالَ مُضَارَبَةً وَلَمْ تَقُلْ شَيْئًا. أَقُولُ: هَذَا التَّصْوِيرُ لَا يُطَابِقُ الْمَشْرُوحَ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ. فَإِنَّ صُورَتَهَا هَكَذَا: مُحَمَّدٌ عَنْ يَعْقُوبَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي رَجُلٍ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ مَالًا مُضَارَبَةً فَاخْتَلَفَا فَقَالَ رَبُّ الْمَالِ: أَمَرْتُك أَنْ تَبِيعَهُ بِالنَّقْدِ دُونَ مَا سِوَاهُ، وَقَالَ الْمُضَارِبُ أَعْطَيْتنِي الْمَالَ مُضَارَبَةً وَلَمْ تَقُلْ شَيْئًا. قَالَ الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُضَارِبِ الَّذِي أَخَذَ الْمَالَ. انْتَهَى لَفْظُ مُحَمَّدٍ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ (لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْمُضَارَبَةِ الْعُمُومُ) يَعْنِي أَنَّ الْأَمْرَ وَإِنْ كَانَ مُسْتَفَادًا مِنْ جِهَةِ رَبِّ الْمَالِ إلَّا أَنَّ فِي الْعَقْدِ مَا يُخَالِفُ دَعْوَاهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْمُضَارَبَةِ الْعُمُومُ وَالْإِطْلَاقُ (أَلَا تَرَى أَنَّهُ) أَيْ الْمُضَارِبَ (يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ بِذِكْرِ لَفْظِ الْمُضَارَبَةِ) يَعْنِي أَنَّ الْمُضَارَبَةَ تَصِحُّ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ وَيَثْبُتُ الْإِذْنُ عَامًّا (فَقَامَتْ دَلَالَةُ الْإِطْلَاقِ) أَيْ فَقَامَتْ الدَّلَالَةُ عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَمَنْ ادَّعَى الْإِطْلَاقَ فِي الْمُضَارَبَةِ كَانَ مُدَّعِيًا لِمَا هُوَ الْأَصْلُ فِيهَا، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ (بِخِلَافِ مَا إذَا ادَّعَى رَبُّ الْمَالِ الْمُضَارَبَةَ فِي نَوْعٍ) أَيْ فِي نَوْعٍ مُسَمًّى (وَالْمُضَارِبُ فِي نَوْعٍ آخَرَ) أَيْ وَادَّعَى الْمُضَارِبُ الْمُضَارَبَةَ فِي نَوْعٍ آخَرَ (حَيْثُ يَكُونُ الْقَوْلُ لِرَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ سَقَطَ الْإِطْلَاقُ فِيهِ بِتَصَادُقِهِمَا فَنَزَلَ) أَيْ عَقْدُ الْمُضَارَبَةِ (إلَى الْوَكَالَةِ الْمَحْضَةِ) وَفِيهَا الْقَوْلُ لِلْآمِرِ كَمَا مَرَّ آنِفًا (ثُمَّ مُطْلَقُ الْأَمْرِ بِالْبَيْعِ) فِي صُورَةِ الْوَكَالَةِ (يَنْتَظِمُهُ) أَيْ يَنْتَظِمُ الْبَيْعَ (نَقْدًا وَنَسِيئَةً إلَى أَيِّ أَجَلٍ كَانَ) مُتَعَارَفٍ عِنْدَ التُّجَّارِ فِي تِلْكَ السِّلْعَةِ أَوْ غَيْرِ مُتَعَارَفٍ فِيهَا (عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَعِنْدَهُمَا يَتَقَيَّدُ بِأَجَلٍ مُتَعَارَفٍ) حَتَّى لَوْ بَاعَ بِأَجَلٍ غَيْرِ مُتَعَارَفٍ عِنْدَ التُّجَّارِ بِأَنْ بَاعَ إلَى خَمْسِينَ سَنَةٍ جَازَ عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا (وَالْوَجْهُ قَدْ تَقَدَّمَ) أَيْ الْوَجْهُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ قَدْ تَقَدَّمَ فِي مَسْأَلَةِ الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ، فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ عَمِلَ بِالْإِطْلَاقِ وَهُمَا بِالْمُتَعَارَفِ.

قَالَ صَاحِبُ الْغَايَةِ: وَكَانَ الْأَنْسَبُ أَنْ يَذْكُرَ مَسْأَلَةَ النَّسِيئَةِ فِي أَوَائِلِ الْفَصْلِ عِنْدَ قَوْلِهِ وَالْوَكِيلُ بِالْبَيْعِ يَجُوزُ بَيْعُهُ بِالْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ كَمَا أَشَارَ إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ بِقَوْلِهِ وَالْوَجْهُ قَدْ تَقَدَّمَ

(قَالَ) أَيْ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ (وَمَنْ أَمَرَ رَجُلًا بِبَيْعِ عَبْدِهِ فَبَاعَهُ وَأَخَذَ بِالثَّمَنِ رَهْنًا فَضَاعَ) أَيْ الرَّهْنُ (فِي يَدِهِ أَوْ أَخَذَ بِهِ) أَيْ بِالثَّمَنِ (كَفِيلًا فَتَوْيُ الْمَالِ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الْكَفِيلِ (فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الْمَأْمُورِ. قَالَ الْكَاكِيُّ فِي مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ: فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ: أَيْ عَلَى الْكَفِيلِ

ص: 93

لِأَنَّ الْوَكِيلَ أَصِيلٌ فِي الْحُقُوقِ وَقَبْضِ الثَّمَنِ مِنْهَا وَالْكَفَالَةُ تُوثَقُ بِهِ، وَالِارْتِهَانُ وَثِيقَةٌ لِجَانِبِ الِاسْتِيفَاءِ فَيَمْلِكُهُمَا بِخِلَافِ الْوَكِيلِ بِقَبْضِ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّهُ يَفْعَلُ نِيَابَةً وَقَدْ أَنَابَهُ فِي قَبْضِ الدَّيْنِ دُونَ الْكَفَالَةِ وَأَخْذِ الرَّهْنِ وَالْوَكِيلُ بِالْبَيْعِ يَقْبِضُ أَصَالَةً وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ الْمُوَكِّلُ حَجْرَهُ عَنْهُ.

وَتَبِعَهُ الشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ. أَقُولُ: لَا وَجْهَ لَهُ أَصْلًا، إذْ الضَّمَانُ عَلَى الْكَفِيلِ أَمْرٌ مُقَرَّرٌ لَيْسَ بِمَحَلِّ الشَّكِّ فَضْلًا عَنْ الْحُكْمِ بِخِلَافِهِ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي عَدَمِ الضَّمَانِ عَلَى الْوَكِيلِ إذْ هُوَ مَحَلُّ شُبْهَةٍ فَهُوَ مَوْرِدُ الْبَيَانِ؛ أَلَا يَرَى قَوْلَ الْمُصَنِّفِ فِي تَعْلِيلِ الْمَسْأَلَةِ (لِأَنَّ الْوَكِيلَ أَصِيلٌ فِي الْحُقُوقِ) أَيْ فِي حُقُوقِ الْعَقْدِ (وَقَبْضِ الثَّمَنِ مِنْهَا) أَيْ مِنْ الْحُقُوقِ (وَالْكَفَالَةُ تُوثَقُ بِهِ) أَيْ بِالثَّمَنِ (وَالِارْتِهَانُ وَثِيقَةٌ لِجَانِبِ الِاسْتِيفَاءِ) أَيْ لِجَانِبِ اسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ فَقَدْ ازْدَادَ بِالْكَفَالَةِ وَالرَّهْنِ مَعْنَى الْوَثِيقَةِ فَكَانَا مُؤَكَّدَيْنِ لِحَقِّ اسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ (فَيَمْلِكُهُمَا) أَيْ فَيَمْلِكُهُمَا الْوَكِيلُ، فَإِذَا ضَاعَ الرَّهْنُ فِي يَدِهِ لَمْ يَضْمَنْ؛ لِأَنَّ اسْتِيفَاءَ الرَّهْنِ كَاسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ بَدَلُهُ أُقِيمَ مَقَامَهُ. وَلَوْ هَلَكَ الثَّمَنُ فِي يَدِهِ هَلَكَ أَمَانَةً فَكَذَلِكَ الرَّهْنُ. وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالْكَفَالَةِ هَاهُنَا الْحَوَالَةُ؛ لِأَنَّ التَّوْيِ لَا يَتَحَقَّقُ فِي الْكَفَالَةِ؛ لِأَنَّ الْأَصِيلَ لَا يَبْرَأُ. وَقِيلَ بَلْ هِيَ عَلَى حَقِيقَتِهَا، وَالتَّوَى فِيهَا بِأَنْ يَمُوتَ الْكَفِيلُ وَالْأَصِيلُ مُفْلِسَيْنِ، وَقِيلَ التَّوَى فِيهَا بِأَنْ يُرْفَعَ الْأَمْرُ إلَى حَاكِمٍ يَرَى بَرَاءَةَ الْأَصِيلِ فَيَحْكُمَ عَلَى مَا يَرَاهُ أَوْ يَمُوتَ الْكَفِيلُ مُفْلِسًا، كَذَا فِي الشُّرُوحِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَوْلَ الثَّالِثَ هُوَ الَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ صَاحِبُ الْكَافِي حَيْثُ قَالَ: فَتَوْيِ الْمَالِ عَلَى الْكَفِيلِ بِأَنْ رَفَعَ الْأَمْرَ إلَى قَاضٍ يَرَى بَرَاءَةَ الْأَصِيلِ بِنَفْسِ الْكَفَالَةِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ فَيَحْكُمُ بِبَرَاءَةِ الْأَصِيلِ فَتَوْيِ الْمَالِ عَلَى الْكَفِيلِ انْتَهَى.

وَإِنَّ الْإِمَامَ الزَّيْلَعِيَّ قَدْ اخْتَارَ ذَلِكَ، وَزَيَّفَ الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ حَيْثُ قَالَ فِي التَّبْيِينِ: وَفِي النِّهَايَةِ الْمُرَادُ بِالْكَفَالَةِ هَاهُنَا الْحَوَالَةُ؛ لِأَنَّ التَّوَى لَا يَتَحَقَّقُ فِي الْكَفَالَةِ، وَقِيلَ الْكَفَالَةُ عَلَى حَقِيقَتِهَا، فَإِنَّ التَّوَى يَتَحَقَّقُ فِيهَا بِأَنْ مَاتَ الْكَفِيلُ وَالْمَكْفُولُ عَنْهُ مُفْلِسَيْنِ، وَهَذَا كُلُّهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ هَاهُنَا تَوَى مُضَافٌ إلَى أَخْذِهِ الْكَفِيلَ بِحَيْثُ إنَّهُ لَوْ لَمْ يَأْخُذْ كَفِيلًا أَيْضًا لَمْ يَتْوَ دَيْنُهُ كَمَا فِي الرَّهْنِ، وَالتَّوْيِ الَّذِي ذَكَرَهُ هَاهُنَا غَيْرُ مُضَافٍ إلَى أَخْذِ الْكَفِيلِ بِدَلِيلٍ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَأْخُذْ كَفِيلًا أَيْضًا لَتَوِيَ بِمَوْتِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ مُفْلِسًا، وَحَمْلُهُ عَلَى الْحَوَالَةِ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ لَا يَتْوَى فِيهَا بِمَوْتِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ مُفْلِسًا بَلْ يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْمُحِيلِ، وَإِنَّمَا يَتْوَى بِمَوْتِهِمَا مُفْلِسَيْنِ فَصَارَ كَالْكَفَالَةِ. وَالْأَوْجَهُ أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ بِالتَّوْيِ تَوًى مُضَافٌ إلَى أَخْذِهِ الْكَفِيلَ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالْمُرَافَعَةِ إلَى حَاكِمٍ يَرَى بَرَاءَةَ الْأَصِيلِ عَنْ الدَّيْنِ بِالْكَفَالَةِ وَلَا يَرَى الرُّجُوعَ عَلَى الْأَصِيلِ بِمَوْتِهِ مُفْلِسًا مِثْلَ أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي مَالِكِيًّا وَيَحْكُمَ بِهِ ثُمَّ يَمُوتَ الْكَفِيلُ مُفْلِسًا إلَى هَاهُنَا كَلَامُهُ فَتَأَمَّلْ.

(بِخِلَافِ الْوَكِيلِ بِقَبْضِ الدَّيْنِ) إذَا أَخَذَ بِالدَّيْنِ رَهْنًا أَوْ كَفِيلًا فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ (لِأَنَّهُ) أَيْ الْوَكِيلَ بِقَبْضِ الدَّيْنِ (يَفْعَلُ نِيَابَةً) أَيْ يَتَصَرَّفُ نِيَابَةً عَنْ الْمُوَكِّلِ حَتَّى إذَا نَهَاهُ الْمُوَكِّلُ عَنْ الْقَبْضِ صَحَّ نَهْيُهُ (وَقَدْ أَنَابَهُ فِي قَبْضِ الدَّيْنِ دُونَ الْكَفَالَةِ وَأَخَذَ الرَّهْنَ) فَيَقْتَصِرُ عَلَى قَدْرِ الْمَأْمُورِ بِهِ دُونَ غَيْرِهِ (وَالْوَكِيلُ بِالْبَيْعِ يَقْبِضُ) أَيْ يَقْبِضُ الثَّمَنَ (أَصَالَةً) لَا نِيَابَةً (وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ الْمُوَكِّلُ حَجْرَهُ عَنْهُ) أَيْ عَنْ قَبْضِ الثَّمَنِ، فَيَنْزِلُ الْوَكِيلُ فِي ذَلِكَ مَنْزِلَةَ الْمَالِكِ، وَالْمَالِكُ لَوْ أَخَذَ بِالثَّمَنِ رَهْنًا أَخَذَ بِهِ كَفِيلًا جَازَ فَكَذَلِكَ الْوَكِيلُ بِالْبَيْعِ.

ص: 94

(فَصْلٌ)

قَالَ (وَإِذَا وَكَّلَ وَكِيلَيْنِ)(فَلَيْسَ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيمَا وُكِّلَا بِهِ دُونَ الْآخَرِ) وَهَذَا فِي تَصَرُّفٍ يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى الرَّأْيِ كَالْبَيْعِ وَالْخُلْعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ

فَصْلٌ)

لَمَّا ذَكَرَ حُكْمَ وِكَالَةِ الْوَاحِدِ ذَكَرَ فِي هَذَا الْفَصْلِ حُكْمَ وِكَالَةِ الِاثْنَيْنِ لِمَا أَنَّ الِاثْنَيْنِ بَعْدَ الْوَاحِدِ فَكَذَلِكَ حُكْمُهُمَا، كَذَا فِي الشُّرُوحِ. قَالَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ بَعْدَ ذِكْرِ هَذَا الْوَجْهِ: وَلَكِنْ مَعَ هَذَا لَمْ يَكُنْ لِذِكْرِ الْفَصْلِ كَبِيرُ حَاجَةٍ، إلَّا أَنْ يُقَالَ: يُفْهَمُ هُنَا شَيْءٌ آخَرُ غَيْرُ الْوِكَالَةِ بِالْبَيْعِ وَهُوَ الْوِكَالَةُ بِالْخُلْعِ وَالطَّلَاقِ وَالتَّزْوِيجِ وَالْكِتَابَةِ وَالْإِعْتَاقِ وَالْإِجَارَةِ، وَهَذَا حَسَنٌ انْتَهَى (وَإِذَا وَكَّلَ وَكِيلَيْنِ فَلَيْسَ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيمَا وُكِّلَا بِهِ دُونَ الْآخِرِ) هَذَا لَفْظُ الْقُدُورِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ. اعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ فِيمَا إذَا وَكَّلَهُمَا بِكَلَامٍ وَاحِدٍ بِأَنْ قَالَ وَكَّلْتهمَا بِبَيْعِ عَبْدِي أَوْ بِخُلْعِ امْرَأَتِي، وَأَمَّا إذَا وَكَّلَهُمَا بِكَلَامَيْنِ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَنْفَرِدَ بِالتَّصَرُّفِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْمَبْسُوطِ حَيْثُ قَالَ فِي بَابِ الْوِكَالَةِ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ: وَإِذَا وَكَّلَ رَجُلًا بِبَيْعِ عَبْدِهِ وَوَكَّلَ آخَرَ بِهِ أَيْضًا فَأَيُّهُمَا بَاعَ جَازَ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِرَأْيِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ حَيْثُ وَكَّلَهُ بِبَيْعِهِ وَحْدَهُ، بِخِلَافِ الْوَصِيَّيْنِ إذَا أَوْصَى إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي عَقْدٍ عَلَى حِدَةِ حَيْثُ لَا يَنْفَرِدُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا بِالتَّصَرُّفِ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ لِأَنَّ وُجُوبَ الْوَصِيَّةِ بِالْمَوْتِ، وَعِنْدَ الْمَوْتِ صَارَا وَصِيَّيْنِ جُمْلَةً وَاحِدَةً، وَهَاهُنَا حُكْمُ الْوِكَالَةِ يَثْبُتُ بِنَفْسِ التَّوْكِيلِ، فَإِذَا أَفْرَدَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْعَقْدِ اسْتَبَدَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالتَّصَرُّفِ انْتَهَى. قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَهَذَا) أَيْ الْحُكْمُ الْمَذْكُورُ فِي مُخْتَصَرِ الْقُدُورِيِّ وَهُوَ عَدَمُ جَوَازِ تَصَرُّفِ أَحَدِ الْوَكِيلَيْنِ بِدُونِ الْآخَرِ (فِي تَصَرُّفٍ يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى الرَّأْيِ كَالْبَيْعِ وَالْخُلْعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ) أَقُولُ: فِيهِ شَيْءٌ.

وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ مُقَيَّدًا بِتَصَرُّفٍ يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى الرَّأْيِ لَمَا احْتَاجَ إلَى اسْتِثْنَاءِ أُمُورٍ أَرْبَعَةٍ مِنْ الْأُمُورِ الْخَمْسَةِ الَّتِي اسْتَثْنَى التَّوْكِيلَ بِهَا مِنْ الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ، وَهِيَ مَا سِوَى الْخُصُومَةِ لِأَنَّهَا مِمَّا لَا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى الرَّأْيِ كَمَا سَيَأْتِي التَّصْرِيحُ بِهِ مِنْ الْمُصَنِّفِ، وَمَعَ ذَلِكَ لَمَّا تَمَّمَ الْجَمْعَ بَيْنَ تِلْكَ الْأُمُورِ الْخَمْسَةِ فِي الِاسْتِثْنَاءِ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ، لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَصِيرُ حِينَئِذٍ مُتَّصِلًا بِالنَّظَرِ إلَى التَّوْكِيلِ بِالْخُصُومَةِ وَمُنْقَطِعًا بِالنَّظَرِ إلَى التَّوْكِيلِ بِمَا سِوَاهَا، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ أَنَّ صِيغَةَ الِاسْتِثْنَاءِ حَقِيقَةٌ فِي الْمُتَّصِلِ مَجَازٌ فِي الْمُنْقَطِعِ، فَيَلْزَمُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ، فَالْأَظْهَرُ أَنَّ كَلَامَ الْقُدُورِيِّ هَاهُنَا مُطْلَقٌ، وَبَعْدَ الِاسْتِثْنَاءِ الْآتِي يَخْرُجُ مِنْهُ مَا لَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى الرَّأْيِ، وَمَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى الرَّأْيِ وَلَكِنْ يَتَعَذَّرُ الِاجْتِمَاعُ عَلَيْهِ كَالْخُصُومَةِ وَيَصِيرُ الِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلًا بِالنَّظَرِ إلَى الْكُلِّ فَيَنْتَظِمُ الْمَقَامُ وَيَتَّضِحُ الْمَرَامُ. فَإِنْ قُلْت: لَيْسَ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ أَنَّ كَلَامَ الْقُدُورِيِّ هَاهُنَا مُقَيَّدٌ بِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ قَبْلَ دُخُولِ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَيْهِ

ص: 95

لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ رَضِيَ بِرَأْيِهِمَا لَا بِرَأْيِ أَحَدِهِمَا، وَالْبَدَلُ وَإِنْ كَانَ مُقَدَّرًا وَلَكِنَّ التَّقْدِيرَ لَا يَمْنَعُ اسْتِعْمَالَ الرَّأْيِ فِي الزِّيَادَةِ وَاخْتِيَارِ الْمُشْتَرِي. قَالَ (إلَّا أَنْ يُوَكِّلَهُمَا بِالْخُصُومَةِ) لِأَنَّ الِاجْتِمَاعَ فِيهَا مُتَعَذَّرٌ لِلْإِفْضَاءِ إلَى الشَّغْبِ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ وَالرَّأْيُ يَحْتَاجُ إلَيْهِ سَابِقًا لِتَقْوِيمِ الْخُصُومَةِ

حَتَّى يَرِدَ عَلَيْهِ مَا ذَكَرَ، بَلْ مُرَادُهُ بَيَانُ حَاصِلِ الْمَعْنَى بِمُلَاحَظَةِ دُخُولِ الِاسْتِثْنَاءِ الْآتِي عَلَيْهِ.

قُلْت: حَاصِلُ الْمَعْنَى هَاهُنَا بِمُلَاحَظَةِ الِاسْتِثْنَاءِ الْآتِي أَنْ يَكُونَ التَّوْكِيلُ فِي تَصَرُّفٍ يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى الرَّأْيِ وَلَا يَتَعَذَّرُ الِاجْتِمَاعُ عَلَيْهِ، وَهَذَا أَخَصُّ مِمَّا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، فَبَيَانُ الْمَعْنَى هَاهُنَا بِمَا ذَكَرَهُ لَا يُطَابِقُ الْحَاصِلَ مِنْ كَلَامِ الْقُدُورِيِّ لَا قَبْلَ الِاسْتِثْنَاءِ وَلَا بَعْدَهُ فَلَا يُجْدِي كَبِيرَ طَائِلٍ كَمَا لَا يَخْفَى. وَقَالَ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِ أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ (لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ رَضِيَ بِرَأْيِهِمَا لَا بِرَأْيِ أَحَدِهِمَا) إذْ لَا يَنَالُ بِرَأْيِ أَحَدِهِمَا مَا يَنَالُ بِرَأْيِهِمَا، حَتَّى إنَّ رَجُلًا لَوْ وَكَّلَ رَجُلَيْنِ بِبَيْعٍ أَوْ بِشِرَاءٍ فَبَاعَ أَحَدُهُمَا أَوْ اشْتَرَى وَالْآخَرُ حَاضِرٌ لَمْ يَجُزْ إلَّا أَنْ يُجِيزَ الْآخَرُ، وَفِي الْمُنْتَقَى: وَكَّلَ رَجُلَيْنِ بِبَيْعِ عَبْدِهِ فَبَاعَهُ أَحَدُهُمْ وَالْآخَرُ حَاضِرٌ فَأَجَازَ بَيْعَهُ جَازَ، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا عَنْهُ فَأَجَازَهُ لَمْ يَجُزْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، كَذَا فِي الذَّخِيرَةِ.

وَذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ: لَوْ وَكَّلَ رَجُلَيْنِ بِبَيْعِ شَيْءٍ وَأَحَدُهُمَا عَبْدٌ مَحْجُورٌ أَوْ صَبِيٌّ لَمْ يَجُزْ لِلْآخَرِ أَنْ يَنْفَرِدَ بِبَيْعِهِ لِأَنَّهُ مَا رَضِيَ بِبَيْعِهِ وَحْدَهُ حِينَ ضَمَّ إلَيْهِ رَأْيَ الْآخَرِ، وَلَوْ كَانَا حُرَّيْنِ فَبَاعَ أَحَدُهُمَا وَالْآخَرُ حَاضِرٌ فَأَجَازَ كَانَ جَائِزًا لِأَنَّ تَمَامَ الْعَقْدِ بِرَأْيِهِمَا، وَلَوْ مَاتَ أَحَدُهُمَا أَوْ ذَهَبَ عَقْلُهُ لَمْ يَكُنْ لِلْآخَرِ أَنْ يَبِيعَهُ وَحْدَهُ لِأَنَّهُ مَا رَضِيَ بِرَأْيِهِ وَحْدَهُ (وَالْبَدَلُ وَإِنْ كَانَ مُقَدَّرًا) هَذَا جَوَابُ شُبْهَةٍ، وَهِيَ أَنَّهُ إذَا قَدَّرَ الْمُوَكِّلُ الْبَدَلَ فِي الْبَيْعِ وَنَحْوِهِ لَا يَحْتَاجُ إلَى الرَّأْيِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَنْفَرِدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالتَّصَرُّفِ فِي ذَلِكَ كَمَا فِي التَّوْكِيلِ بِالْإِعْتَاقِ بِغَيْرِ عِوَضٍ، فَأَجَابَ عَنْهَا بِأَنَّ الْبَدَلَ وَإِنْ كَانَ مُقَدَّرًا (وَلَكِنَّ التَّقْدِيرَ لَا يَمْنَعُ اسْتِعْمَالَ الرَّأْيِ فِي الزِّيَادَةِ وَاخْتِيَارِ الْمُشْتَرِي) يَعْنِي أَنَّ تَقْدِيرَ الْبَدَلِ إنَّمَا يَمْنَعُ النُّقْصَانَ لَا الزِّيَادَةَ، وَرُبَّمَا يَزْدَادُ الثَّمَنُ عِنْدَ اجْتِمَاعِهِمَا لِذَكَاءِ أَحَدِهِمَا وَهِدَايَتِهِ دُونَ الْآخَرِ فَيَحْتَاجُ إلَى رَأْيِهِمَا مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ، وَكَذَا يَخْتَارُ أَحَدُهُمَا الْمُشْتَرِيَ الَّذِي يُمَاطِلُ فِي الثَّمَنِ دُونَ الْآخَرِ فَيَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ أَيْضًا (قَالَ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ (إلَّا أَنْ يُوَكِّلَهُمَا بِالْخُصُومَةِ) هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ فَلَيْسَ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيمَا وُكِّلَا بِهِ دُونَ الْآخَرِ: يَعْنِي أَنَّ أَحَدَ الْوَكِيلَيْنِ لَا يَتَصَرَّفُ بِانْفِرَادِهِ إلَّا فِي الْخُصُومَةِ، فَإِنَّهُ لَوْ خَاصَمَ أَحَدُهُمَا بِدُونِ الْآخَرِ جَازَ.

وَذَكَرَ فِي الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ: فَإِذَا انْفَرَدَ أَحَدُهُمَا بِالْخُصُومَةِ هَلْ يُشْتَرَطُ حُضُورُ صَاحِبِهِ فِي خُصُومَتِهِ؟ بَعْضُ مَشَايِخِنَا قَالُوا: يُشْتَرَطُ، وَعَامَّةُ مَشَايِخِنَا عَلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ، وَإِطْلَاقُ مُحَمَّدٍ يَدُلُّ عَلَى هَذَا. قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِ مَا فِي الْكِتَابِ (لِأَنَّ الِاجْتِمَاعَ فِيهَا) أَيْ فِي الْخُصُومَةِ (مُتَعَذِّرٌ لِلْإِفْضَاءِ إلَى الشَّغْبِ) الشَّغْبُ بِالتَّسْكِينِ تَهْيِيجُ الشَّرِّ، وَلَا يُقَالُ شَغَبٌ بِالتَّحْرِيكِ، كَذَا فِي الصِّحَاحِ (فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ) وَلَا بُدَّ مِنْ صِيَانَةِ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ عَنْ الشَّغْبِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ فِيهِ إظْهَارُ الْحَقِّ وَبِالشَّغْبِ لَا يَحْصُلُ، وَلِأَنَّ فِيهِ ذَهَابَ مَهَابَةِ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ، فَلَمَّا وَكَّلَهُمَا بِالْخُصُومَةِ مَعَ عِلْمِهِ بِتَعَذُّرِ اجْتِمَاعِهِمَا صَارَ رَاضِيًا بِخُصُومَةِ أَحَدِهِمَا (وَالرَّأْيُ يَحْتَاجُ إلَيْهِ سَابِقًا لِتَقْوِيمِ الْخُصُومَةِ) إشَارَةً إلَى دَفْعِ قَوْلِ زُفَرَ، فَإِنَّهُ قَالَ: لَيْسَ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يُخَاصِمَ دُونَ صَاحِبِهِ لِأَنَّ الْخُصُومَةَ يُحْتَاجُ فِيهَا إلَى الرَّأْيِ

ص: 96

(قَالَ: أَوْ بِطَلَاقِ زَوْجَتِهِ بِغَيْرِ عِوَضٍ أَوْ بِعِتْقِ عَبْدِهِ بِغَيْرِ عِوَضٍ أَوْ بِرَدِّ وَدِيعَةٍ عِنْدَهُ أَوْ قَضَاءِ دَيْنٍ عَلَيْهِ) لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَا يُحْتَاجُ فِيهَا إلَى الرَّأْيِ بَلْ هُوَ تَعْبِيرٌ مَحْضٌ، وَعِبَارَةُ الْمَثْنَى وَالْوَاحِدُ سَوَاءٌ. وَهَذَا

وَالْمُوَكِّلُ إنَّمَا رَضِيَ بِرَأْيِهِمَا.

وَجْهُ الدَّفْعِ أَنَّ الْمَقْصُودَ وَهُوَ اجْتِمَاعُ الرَّأْيَيْنِ يَحْصُلُ فِي تَقْوِيمِ الْخُصُومَةِ سَابِقًا عَلَيْهَا فَيَكْتَفِي بِذَلِكَ

(قَالَ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ (أَوْ بِطَلَاقِ زَوْجَتِهِ بِغَيْرِ عِوَضٍ) هَذَا وَمَا بَعْدَهُ مَعْطُوفٌ عَلَى الْمُسْتَثْنَى وَهُوَ قَوْلُهُ بِالْخُصُومَةِ أَيْ أَوْ أَنْ يُوَكِّلَهُمَا بِطَلَاقِ زَوْجَتِهِ بِغَيْرِ عِوَضٍ، فَإِنَّ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يُطَلِّقَهَا بِانْفِرَادِهِ (أَوْ بِعِتْقِ عَبْدِهِ بِغَيْرِ عِوَضٍ) أَيْ أَوْ أَنْ يُوَكِّلَهُمَا بِعِتْقِ عَبْدِهِ بِغَيْرِ عِوَضٍ، فَإِنَّ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَعْتِقَهُ وَحْدَهُ (أَوْ يَرُدَّ وَدِيعَةً عِنْدَهُ) أَيْ أَوْ أَنْ يُوَكِّلَهُمَا بِرَدِّ وَدِيعَةٍ، فَإِنَّ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَرُدَّهَا مُنْفَرِدًا. قَيَّدَ بِرَدِّهَا، إذْ لَوْ وَكَّلَهُمَا بِقَبْضِ وَدِيعَةٍ لَهُ لَمْ يَكُنْ لِوَاحِدٍ مِنْهَا أَنْ يَنْفَرِدَ بِالْقَبْضِ، صَرَّحَ بِهِ فِي الذَّخِيرَةِ، فَقَالَ: قَالَ مُحَمَّدٌ رحمه الله فِي الْأَصْلِ: إذَا وَكَّلَ رَجُلَيْنِ بِقَبْضِ وَدِيعَةٍ لَهُ فَقَبَضَ أَحَدُهُمَا بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهِ كَانَ ضَامِنًا لِأَنَّهُ شَرَطَ اجْتِمَاعَهُمَا عَلَى الْقَبْضِ، وَاجْتِمَاعُهُمَا عَلَيْهِ مُمْكِنٌ وَلِلْمُوَكِّلِ فِيهِ فَائِدَةٌ، لِأَنَّ حِفْظَ اثْنَيْنِ أَنْفَعُ، فَإِذَا قَبَضَ أَحَدُهُمَا صَارَ قَابِضًا بِغَيْرِ إذْنِ الْمَالِكِ فَيَصِيرُ ضَامِنًا. ثُمَّ قَالَ: فَإِنْ قِيلَ: يَنْبَغِي أَنْ يَصِيرَ ضَامِنًا لِلنِّصْفِ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَأْمُورٌ بِقَبْضِ النِّصْفِ. قُلْنَا: كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَأْمُورٌ بِقَبْضِ النِّصْفِ إذَا قَبَضَ مَعَ صَاحِبِهِ، وَأَمَّا فِي حَالَةِ الِانْفِرَادِ فَغَيْرُ مَأْمُورٍ بِقَبْضِ شَيْءٍ مِنْهُ انْتَهَى.

وَذَكَرَ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ مَضْمُونَ مَا فِي الذَّخِيرَةِ هَاهُنَا. وَلَكِنْ مَا عَزَاهُ إلَى الذَّخِيرَةِ. وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ بَعْدَ نَقْلِ ذَلِكَ عَنْ الْعِنَايَةِ: وَفِيهِ كَلَامٌ، وَهُوَ أَنَّ هَذَا إنَّمَا يَتِمُّ فِيمَا يُقَسَّمُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى مَا سَيَجِيءُ فِي الْوَدِيعَةِ انْتَهَى. أَقُولُ: لَيْسَ كَلَامُهُ بِشَيْءٍ، إذْ مَنْشَؤُهُ الْغُفُولُ عَنْ قَيْدِ الْإِذْنِ، فَإِنَّ الَّذِي سَيَجِيءُ فِي الْوَدِيعَةِ هُوَ أَنَّهُ إنْ أَوْدَعَ رَجُلٌ عِنْدَ رَجُلَيْنِ شَيْئًا مِمَّا يُقَسَّمُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَدْفَعَهُ أَحَدُهُمَا إلَى الْآخَرِ وَلَكِنَّهُمَا يَقْتَسِمَانِهِ فَيَحْفَظُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَهُ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُقَسَّمُ جَازَ أَنْ يَحْفَظَهُ أَحَدُهُمَا بِإِذْنِ الْآخَرِ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَا: لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَحْفَظَهُ بِإِذْنِ الْآخَرِ فِي الْوَجْهَيْنِ انْتَهَى.

وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْهُ أَنْ لَا يَجُوزَ حِفْظُ أَحَدِهِمَا الْكُلَّ بِلَا إذْنِ صَاحِبِهِ فِي الْوَجْهَيْنِ مَعًا بِلَا خِلَافٍ، وَأَنْ لَا يَجُوزَ ذَلِكَ بِإِذْنِ الْآخَرِ أَيْضًا فِيمَا يُقَسَّمُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا. وَمَا ذَكَرَ فِي الذَّخِيرَةِ وَفِي الْعِنَايَةِ إنَّمَا هُوَ فِيمَا إذَا قَبَضَ أَحَدُهُمَا الْكُلَّ بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهِ، فَهُوَ تَامٌّ فِي الْوَجْهَيْنِ مَعًا بِالِاتِّفَاقِ (أَوْ بِقَضَاءِ دَيْنٍ عَلَيْهِ) أَيْ أَوْ أَنْ يُوَكِّلَهُمَا بِقَضَاءِ دَيْنٍ عَلَى الْمُوَكِّلِ، فَإِنَّ لِأَحَدِهِمَا الِانْفِرَادَ فِيهِ أَيْضًا (لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ) يَعْنِي الطَّلَاقَ بِغَيْرِ عِوَضٍ وَالْعَتَاقَ بِغَيْرِ عِوَضٍ وَرَدَّ الْوَدِيعَةِ وَقَضَاءَ الدَّيْنِ (لَا يَحْتَاجُ فِيهَا إلَى الرَّأْيِ بَلْ هُوَ) أَيْ بَلْ أَدَاءُ الْوِكَالَةِ فِيهَا (تَعْبِيرٌ مَحْضٌ) أَيْ تَعْبِيرٌ مَحْضٌ لِكَلَامِ الْمُوَكِّلِ (وَعِبَارَةُ الْمَثْنَى وَالْوَاحِدِ سَوَاءٌ) لِعَدَمِ الِاخْتِلَافِ فِي الْمَعْنَى (وَهَذَا) أَيْ جَوَازُ

ص: 97

بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ لَهُمَا طَلَّقَاهَا إنْ شِئْتُمَا أَوْ قَالَ أَمْرُهَا بِأَيْدِيكُمَا لِأَنَّهُ تَفْوِيضٌ إلَى رَأْيِهِمَا؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَمْلِيكٌ مُقْتَصِرٌ عَلَى الْمَجْلِسِ، وَلِأَنَّهُ عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِفِعْلِهِمَا فَاعْتَبَرَهُ بِدُخُولِهِمَا.

انْفِرَادِ أَحَدِهِمَا (بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ لَهُمَا طَلَّقَاهَا إنْ شِئْتُمَا، أَوْ قَالَ أَمْرُهَا بِأَيْدِيكُمَا) حَيْثُ لَا يَجُوزُ انْفِرَادُ أَحَدِهِمَا فِي هَاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ (لِأَنَّهُ) أَيْ لِأَنَّ مَا قَالَهُ لَهُمَا فِيهِمَا (تَفْوِيضٌ إلَى رَأْيِهِمَا) فَلَا بُدَّ مِنْ اجْتِمَاعِهِمَا، وَنَوَّرَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ (أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَمْلِيكٌ مُقْتَصِرٌ عَلَى الْمَجْلِسِ) كَمَا مَرَّ فِي بَابِ تَفْوِيضِ الطَّلَاقِ.

وَإِذَا كَانَ تَمْلِيكًا صَارَ التَّطْلِيقُ مَمْلُوكًا لَهُمَا فَلَا يَقْدِرُ أَحَدُهُمَا عَلَى التَّصَرُّفِ فِي مِلْكِ الْآخَرِ. قِيلَ يَنْبَغِي أَنْ يَقْدِرَ أَحَدُهُمَا عَلَى إيقَاعِ نِصْفِ تَطْلِيقَةٍ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ فِيهِ إبْطَالَ حَقِّ الْآخَرِ، إذْ بِإِيقَاعِ النِّصْفِ تَقَعُ تَطْلِيقَةً كَامِلَةً. فَإِنْ قِيلَ: الْإِبْطَالُ هُنَا ضِمْنِيٌّ فَلَا يُعْتَبَرُ. وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى ذَلِكَ الْإِبْطَالِ مَعَ قُدْرَتِهِمَا إلَى الِاجْتِمَاعِ. وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: قَوْلُهُ أَلَا يَرَى أَنَّهُ تَمْلِيكٌ مُقْتَصِرٌ عَلَى الْمَجْلِسِ مَنْقُوضٌ بِقَوْلِهِ طَلَّقَاهَا فَإِنَّهُ تَمْلِيكٌ أَيْضًا كَمَا سَبَقَ فِي بَابِ الِاخْتِلَافِ فِي الشَّهَادَةِ، وَلَا مَدْخَلَ لِلِاقْتِصَارِ عَلَى الْمَجْلِسِ فِي كَوْنِهِ تَمْلِيكًا انْتَهَى.

أَقُولُ: جَمِيعُ مُقَدِّمَاتِ دَلِيلِهِ عَلَى النَّقْضِ سَقِيمٌ، أَمَّا قَوْلُهُ فَإِنَّهُ تَمْلِيكٌ أَيْضًا فَلِأَنَّهُ خِلَافُ الْمُقَرَّرِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ طَلَّقَاهَا بِدُونِ التَّعْلِيقِ بِالْمَشِيئَةِ تَوْكِيلٌ لَا تَمْلِيكٌ، وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ الْمُصَنِّفُ فِي بَابِ تَفْوِيضِ الطَّلَاقِ حَيْثُ قَالَ: وَإِنْ قَالَ لِرَجُلٍ طَلِّقْ امْرَأَتِي فَلَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي الْمَجْلِسِ وَبَعْدَهُ، وَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ لِأَنَّهُ تَوْكِيلٌ وَأَنَّهُ اسْتِعَانَةٌ فَلَا يَلْزَمُ وَلَا يَقْتَصِرُ عَلَى الْمَجْلِسِ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ لِامْرَأَتِهِ طَلِّقِي نَفْسَك لِأَنَّهَا عَامِلَةٌ لِنَفْسِهَا فَكَانَ تَمْلِيكًا لَا تَوْكِيلًا اهـ. وَأَمَّا قَوْلُهُ كَمَا سَبَقَ فِي بَابِ الِاخْتِلَافِ فِي الشَّهَادَةِ فَلِأَنَّهُ خِلَافُ الْوَاقِعِ كَمَا يَظْهَرُ بِمُرَاجَعَةِ مَحَلِّهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ وَلَا مَدْخَلَ لِلِاقْتِصَارِ عَلَى الْمَجْلِسِ فِي كَوْنِهِ تَمْلِيكًا فَلِأَنَّهُ خِلَافُ الْمُصَرَّحِ بِهِ أَلَا يَرَى إلَى قَوْلِ الْمُصَنِّفِ فِي أَوَّلِ فَصْلِ الِاخْتِيَارِ مِنْ بَابِ تَفْوِيضِ الطَّلَاقِ، وَلِأَنَّهُ تَمْلِيكُ الْفِعْلِ مِنْهَا وَالتَّمْلِيكَاتُ تَقْتَضِي جَوَابًا فِي الْمَجْلِسِ كَمَا فِي الْبَيْعِ انْتَهَى. وَإِلَى قَوْلِهِ فِي أَوَاسِطِ فَصْلِ الْأَمْرِ بِالْيَدِ مِنْ ذَلِكَ الْبَابِ وَالتَّمْلِيكُ يَقْتَصِرُ عَلَى الْمَجْلِسِ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ انْتَهَى (وَلِأَنَّهُ) أَيْ الْآمِرَ (عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِفِعْلِهِمَا) أَيْ بِفِعْلِ الْمَأْمُورَيْنِ (فَاعْتَبَرَهُ) صِيغَةَ أَمْرٍ مِنْ الِاعْتِبَارِ (بِدُخُولِهِمَا) أَيْ فَاعْتَبَرَ تَعْلِيقَ الطَّلَاقِ بِفِعْلِ الرَّجُلَيْنِ بِتَعْلِيقِ الطَّلَاقِ بِدُخُولِ الرَّجُلَيْنِ: أَيْ بِدُخُولِهِمَا الدَّارَ مَثَلًا. يَعْنِي يُشْتَرَطُ ثَمَّةَ لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ دُخُولُهُمَا جَمِيعًا، حَتَّى لَوْ قَالَ: إنْ دَخَلْتُمَا الدَّارَ فَهِيَ طَالِقٌ لَا تَطْلُقُ مَا لَمْ يُوجَدْ الدُّخُولُ مِنْهُمَا جَمِيعًا، فَكَذَلِكَ هَاهُنَا لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ مَا لَمْ يُوجَدْ فِعْلُ التَّطْلِيقِ مِنْهُمَا جَمِيعًا.

قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: قَوْلُهُ وَلِأَنَّهُ عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِفِعْلِهِمَا رَاجِعٌ إلَى قَوْلِهِ طَلَّقَاهَا إنْ شِئْتُمَا، وَقَوْلُهُ لِأَنَّهُ تَفْوِيضٌ إلَى رَأْيِهِمَا رَاجِعٌ إلَيْهِ. وَإِلَى قَوْلِهِ أَمْرُهَا بِأَيْدِيكُمَا وَقَدْ تَبِعَهُ فِي جَعْلِ قَوْلَهُ، وَلِأَنَّهُ عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِفِعْلِهِمَا رَاجِعًا إلَى قَوْلِهِ طَلَّقَاهَا إنْ شِئْتُمَا كَثِيرٌ مِنْ الشُّرَّاحِ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ صَرَّحَ بِهِ كَصَاحِبِ الْعِنَايَةِ حَيْثُ قَالَ: قَوْلُهُ وَلِأَنَّهُ عَلَّقَ الطَّلَاقَ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ طَلَّقَاهَا إنْ شِئْتُمَا، وَمِنْهُمْ مَنْ أَظْهَرَهُ فِي أَثْنَاءِ التَّحْرِيرِ وَهُوَ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ وَغَيْرُهُ حَيْثُ قَالُوا بِصَدَدِ بَيَانِ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ فَاعْتَبَرَهُ بِدُخُولِهِمَا، حَتَّى لَوْ قَالَ إنْ دَخَلْتُمَا الدَّارَ فَهِيَ طَالِقٌ لَا تَطْلُقُ مَا لَمْ يُوجَدْ الدُّخُولُ مِنْهُمَا جَمِيعًا، فَكَذَا هُنَا فِي قَوْلِهِ طَلَّقَاهَا إنْ شِئْتُمَا لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ مَا لَمْ يُوجَدْ فِعْلُ التَّطْلِيقِ مِنْهُمَا جَمِيعًا.

أَقُولُ: وَأَنَا لَا أَرَى بَأْسًا فِي إبْقَاءِ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا عَلَى ظَاهِرِ حَالِهِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ تَعْلِيلَيْهِ عَامًا لِلصُّورَتَيْنِ مَعًا بِنَاءً عَلَى أَنَّ التَّعْلِيقَ كَمَا يُوجَدُ فِي صُورَةِ إنْ قَالَ لَهُمَا طَلَّقَاهَا إنْ شِئْتُمَا يُوجَدُ أَيْضًا فِي صُورَةِ إنْ قَالَ لَهُمَا أَمْرُهَا بِأَيْدِيكُمَا، وَقَدْ صَرَّحَ الْمُصَنِّفُ فِي فَصْلِ الْأَمْرِ بِالْيَدِ مِنْ بَابِ تَفْوِيضِ الطَّلَاقِ بِأَنْ جَعَلَ الْأَمْرَ بِالْيَدِ فِيهِ مَعْنَى التَّعْلِيقِ. وَقَالَ الشُّرَّاحُ فِي بَيَانِهِ: وَهَذَا لِأَنَّ مَعْنَى أَمْرُك بِيَدِك إنْ أَرَدْت طَلَاقَك فَأَنْتِ

ص: 98

قَالَ (وَلَيْسَ لِلْوَكِيلِ أَنْ يُوَكِّلَ فِيمَا وُكِّلَ بِهِ) لِأَنَّهُ فُوِّضَ إلَيْهِ التَّصَرُّفُ دُونَ التَّوْكِيلِ بِهِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ رَضِيَ بِرَأْيِهِ وَالنَّاسُ مُتَفَاوِتُونَ فِي الْآرَاءِ

طَالِقٌ انْتَهَى. وَلِذَلِكَ لَمْ أُخَصِّصْ قَوْلَهُ وَلِأَنَّهُ عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِفِعْلِهِمَا إلَخْ بِصُورَةِ إنْ قَالَ لَهُمَا طَلَّقَاهَا إنْ شِئْتُمَا، بَلْ شَرَحْته بِوَجْهٍ يَعُمُّ الصُّورَتَيْنِ مَعًا كَمَا رَأَيْته

(قَالَ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ (وَلَيْسَ لِلْوَكِيلِ أَنْ يُوَكِّلَ فِيمَا وُكِّلَ بِهِ، لِأَنَّهُ) أَيْ الْمُوَكِّلَ (فَوَّضَ إلَيْهِ) أَيْ إلَى الْوَكِيلِ (التَّصَرُّفَ) أَيْ التَّصَرُّفَ الَّذِي وُكِّلَ بِهِ (دُونَ التَّوْكِيلِ بِهِ) أَيْ لَمْ يُفَوِّضْ إلَيْهِ التَّوْكِيلَ بِذَلِكَ التَّصَرُّفِ فَلَا يَمْلِكُهُ (وَهَذَا) أَيْ عَدَمُ جَوَازِ تَوْكِيلِ الْوَكِيلِ فِيمَا وُكِّلَ بِهِ (لِأَنَّهُ) أَيْ لِعِلَّةِ أَنَّ الْمُوَكِّلَ (رَضِيَ بِرَأْيِهِ) أَيْ بِرَأْيِ الْوَكِيلِ (وَالنَّاسُ مُتَفَاوِتُونَ فِي الْآرَاءِ) فَلَا يَكُونُ الرِّضَا بِرَأْيِهِ رِضًا بِرَأْيِ غَيْرِهِ فَيَكُونُ الْوَكِيلُ فِي تَوْكِيلِ الْغَيْرِ مُبَاشِرًا غَيْرَ مَا أَمَرَ بِهِ الْمُوَكِّلُ وَلَا تَجُوزُ.

قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَفِيهِ تَشْكِيكٌ، وَهُوَ أَنَّ تَفَاوُتَ الْآرَاءِ مُدْرَكٌ بِيَقِينٍ وَإِلَّا لَمَا جَازَ التَّعْلِيلُ بِهِ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ الْوَكِيلُ الثَّانِي أَقْوَى مِنْ الْأَوَّلِ. وَأَيْضًا الرِّضَا بِرَأْيِ الْوَكِيلِ وَرَدُّ تَوْكِيلِهِ تَنَاقُضٌ، لِأَنَّ الْوَكِيلَ الثَّانِيَ لَوْ لَمْ يَكُنْ أَقْوَى رَأْيًا أَوْ قَوِيَّهُ فِي رَأْيِ الْأَوَّلِ لَمَا وَكَّلَهُ فَرَدُّ تَوْكِيلَهُ مَعَ الرِّضَا بِرَأْيِهِ مِمَّا لَا يَجْتَمِعَانِ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ الْعِبْرَةَ فِي الْقُوَّةِ فِي الرَّأْيِ لِمَا يَكُونُ بِحَسَبِ ظَنِّ الْمُوَكِّلِ، وَحَيْثُ اخْتَارَهُ لِلتَّوْكِيلِ مِنْ بَيْنِ مَنْ يَعْرِفُهُ بِالرَّأْيِ وَالتَّصَرُّفُ فِي الْأُمُورِ وَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ بِالتَّوْكِيلِ كَانَ الظَّاهِرُ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَا ثَمَّةَ مَنْ يَفُوقُهُ فِي هَذَا التَّصَرُّفِ، فَقَبُولُ تَوْكِيلِهِ حِينَئِذٍ مُنَاقِضٌ لِظَنِّهِ فَلَا يَجُوزُ انْتَهَى. أَقُولُ: الْجَوَابُ الَّذِي ذَكَرَهُ إنَّمَا يَدْفَعُ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ مِنْ التَّشْكِيكِ الْمَذْكُورِ دُونَ الْوَجْهِ الثَّانِي مِنْهُ، لِأَنَّ قَبُولَ تَوْكِيلِ الْأَوَّلِ وَإِنْ كَانَ مُنَاقِضًا لِظَنِّ الْمُوَكِّلِ، إلَّا أَنَّ رَدَّ تَوْكِيلِهِ أَيْضًا مُنَاقِضٌ لِرِضَا الْمُوَكِّلِ بِرَأْيِ الْوَكِيلِ كَمَا ذَكَرَهُ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي مِنْهُ، فَمَا الرُّجْحَانُ فِي إيثَارِ هَذَا التَّنَاقُضِ عَلَى ذَاكَ التَّنَاقُضِ؟ ثُمَّ أَقُولُ فِي الْجَوَابِ عَنْ الْوَجْهِ الثَّانِي مِنْهُ: إنَّ الْمُوَكِّلَ إنَّمَا رَضِيَ بِرَأْيِ الْوَكِيلِ فِي تَصَرُّفٍ خَاصٍّ وَهُوَ مَا وُكِّلَ بِهِ مِنْ الْبَيْعِ أَوْ الشِّرَاءِ أَوْ الْإِجَارَةِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، وَالتَّوْكِيلُ لَيْسَ بِدَاخِلٍ فِي ذَلِكَ التَّصَرُّفِ فَلَا تَنَاقُضَ فِي رَدِّ تَوْكِيلِهِ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ ذَلِكَ تَنَاقُضًا لَوْ كَانَ رِضَا الْمُوَكِّلِ بِرَأْيِ الْوَكِيلِ فِي التَّوْكِيلِ أَوْ بِرَأْيِهِ مُطْلَقًا، وَلِهَذَا إذَا أَذِنَ لَهُ الْمُوَكِّلُ فِي التَّوْكِيلِ أَوْ قَالَ لَهُ اعْمَلْ بِرَأْيِك يَجُوزُ تَوْكِيلُهُ كَمَا سَيَأْتِي.

وَاعْتَرَضَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ عَلَى قَوْلِ الْمُصَنِّفِ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِرَأْيِهِ وَالنَّاسُ مُتَفَاوِتُونَ فِي الْآرَاءِ بِأَنَّ الدَّلِيلَ خَاصٌّ بِمَا يَحْتَاجُ إلَى الرَّأْيِ وَالْمُدَّعَى عَامٌّ لِغَيْرِهِ أَيْضًا. أَقُولُ: أَصْلُ الدَّلِيلِ أَنَّهُ رَضِيَ بِفِعْلِهِ دُونَ فِعْلِ غَيْرِهِ، وَالنَّاسُ مُتَفَاوِتُونَ فِي الْأَفْعَالِ

ص: 99

قَالَ (إلَّا أَنْ يَأْذَنَ لَهُ الْمُوَكِّلُ) لِوُجُودِ الرِّضَا (أَوْ يَقُولَ لَهُ اعْمَلْ بِرَأْيِك) لِإِطْلَاقِ التَّفْوِيضِ إلَى رَأْيِهِ، وَإِذَا جَازَ فِي هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ الثَّانِي وَكِيلًا عَنْ الْمُوَكَّلِ حَتَّى لَا يَمْلِكَ الْأَوَّلُ عَزْلَهُ وَلَا يَنْعَزِلُ بِمَوْتِهِ وَيَنْعَزِلَانِ بِمَوْتِ الْأَوَّلِ، وَقَدْ مَرَّ نَظِيرُهُ فِي أَدَبِ الْقَاضِي.

فَيَعُمُّ مَا يَعُمُّهُ الْمُدَّعَى، إلَّا أَنَّهُ أَخْرَجَ الْكَلَامَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ فَقَالَ: لِأَنَّهُ رَضِيَ بِرَأْيِهِ وَالنَّاسُ مُتَفَاوِتُونَ فِي الْآرَاءِ (قَالَ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ (إلَّا أَنْ يَأْذَنَ لَهُ الْمُوَكِّلُ) اسْتِثْنَاءً مِنْ قَوْلِهِ وَلَيْسَ لِلْوَكِيلِ أَنْ يُوَكِّلَ فِيمَا وُكِّلَ بِهِ، فَإِنَّهُ إذَا أُذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ (لِوُجُودِ الرِّضَا) أَيْ لِوُجُودِ الرِّضَا حِينَئِذٍ بِرَأْيِ غَيْرِهِ أَيْضًا (أَوْ يَقُولَ لَهُ) عَطْفٌ عَلَى يَأْذَنَ لَهُ الْمُوَكِّلُ: أَيْ أَوْ إلَّا أَنْ يَقُولَ لِلْوَكِيلِ (اعْمَلْ بِرَأْيِك) فَيَجُوزَ أَيْضًا أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ (لِإِطْلَاقِ التَّفْوِيضِ إلَى رَأْيِهِ) أَيْ إلَى رَأْيِ الْوَكِيلِ فَيَدْخُلَ تَوْكِيلُهُ الْغَيْرَ تَحْتَ الْإِجَازَةِ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَإِذَا جَازَ فِي هَذَا الْوَجْهِ) أَيْ إذَا جَازَ تَوْكِيلُ الْوَكِيلِ غَيْرَهُ فِي هَذَا الْوَجْهِ الَّذِي يَجُوزُ التَّوْكِيلُ فِيهِ وَذَلِكَ بِأَنْ يَأْذَنَ لَهُ الْمُوَكِّلُ أَوْ يَقُولَ لَهُ اعْمَلْ بِرَأْيِك فَوَكَّلَ غَيْرَهُ (يَكُونُ الثَّانِي) أَيْ الْوَكِيلُ الثَّانِي وَهُوَ وَكِيلُ الْوَكِيلِ (وَكِيلًا عَنْ الْمُوَكِّلِ) لَا عَنْ الْوَكِيلِ الْأَوَّلِ (حَتَّى لَا يَمْلِكَ الْأَوَّلُ) أَيْ الْوَكِيلُ الْأَوَّلُ (عَزْلَهُ) أَيْ عَزْلَ الْوَكِيلِ الثَّانِي (وَلَا يَنْعَزِلُ) أَيْ الْوَكِيلُ الثَّانِي (بِمَوْتِهِ) أَيْ بِمَوْتِ الْوَكِيلِ الْأَوَّلِ (وَيَنْعَزِلَانِ) أَيْ الْوَكِيلُ الْأَوَّلُ وَالْوَكِيلُ الثَّانِي (بِمَوْتِ الْأَوَّلِ) أَيْ بِمَوْتِ الْمُوَكِّلِ الْأَوَّلِ (وَقَدْ مَرَّ نَظِيرُهُ فِي أَدَبِ الْقَاضِي) وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ فِي فَصْلٍ آخَرَ قَبْلَ بَابِ التَّحْكِيمِ بِقَوْلِهِ وَلَيْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يَسْتَخْلِفَ عَلَى الْقَضَاءِ إلَّا أَنْ يُفَوَّضَ إلَيْهِ ذَلِكَ، إلَى أَنْ قَالَ: وَإِذَا فُوِّضَ إلَيْهِ يَمْلِكُهُ فَيَصِيرُ الثَّانِي نَائِبًا عَنْ الْأَصْلِ حَتَّى لَا يَمْلِكَ الْأَوَّلُ عَزْلَهُ. أَقُولُ: وَالْعَجَبُ مِنْ الشُّرَّاحِ هَاهُنَا سِيَّمَا مِنْ فُحُولِهِمْ كَصَاحِبِ الْعِنَايَةِ وَصَاحِبِ غَايَةِ الْبَيَانِ وَصَاحِبِ مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ أَنَّهُمْ قَالُوا فِي بَيَانِ مَا مَرَّ نَظِيرُهُ فِي أَدَبِ الْقَاضِي وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ هُنَاكَ بِقَوْلِهِ وَلَيْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يَسْتَخْلِفَ عَلَى الْقَضَاءِ إلَّا أَنْ يُفَوَّضَ إلَيْهِ ذَلِكَ، إلَى أَنْ قَالَ: وَلَوْ قَضَى الثَّانِي بِمَحْضَرٍ مِنْ الْأَوَّلِ أَوْ قَضَى الثَّانِي فَأَجَازَهُ الْأَوَّلُ جَازَ كَمَا فِي الْوِكَالَةِ، فَحَقَّقُوا

ص: 100

قَالَ (فَإِنْ وَكَّلَ بِغَيْرِ إذْنِ مُوَكِّلِهِ فَعَقَدَ وَكِيلُهُ بِحَضْرَتِهِ جَازَ) لِأَنَّ الْمَقْصُودَ حُضُورُ رَأْيِ الْأَوَّلِ وَقَدْ حَضَرَ

الْكَلَامَ فِي قَوْلِهِ كَمَا فِي الْوِكَالَةِ مَعَ أَنَّ نَظِيرَ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ هُنَا إنَّمَا هُوَ مَا تَرَكُوهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ هُنَاكَ بَعْدَ ذِكْرِ مَا ذَكَرُوهُ: وَإِذَا فُوِّضَ إلَيْهِ يَمْلِكُهُ يَصِيرُ الثَّانِي نَائِبًا عَنْ الْأَصْلِ حَتَّى لَا يَمْلِكَ الْأَوَّلُ عَزْلَهُ، وَكَأَنَّهُمْ إنَّمَا اغْتَرُّوا بِمَا فِي قَوْلِهِ كَمَا فِي الْوِكَالَةِ مِنْ التَّشْبِيهِ بِالْوِكَالَةِ، لَكِنَّ مُرَادَهُ بِذَلِكَ إنَّمَا هُوَ التَّشْبِيهُ بِمَا سَيَأْتِي مِنْ أَنَّهُ إنْ وَكَّلَ بِغَيْرِ إذْنِ مُوَكِّلِهِ فَعَقَدَ وَكِيلُهُ بِحَضْرَتِهِ جَازَ لَا التَّشْبِيهُ بِمَا نَحْنُ فِيهِ كَمَا لَا يَخْفَى.

بَقِيَ هَاهُنَا بَحْثٌ، وَهُوَ أَنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ حَتَّى لَا يَمْلِكَ الْأَوَّلُ عَزْلَهُ ظَاهِرٌ فِي صُورَةِ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ الْمُوَكِّلُ فِي التَّوْكِيلِ لِأَنَّ الْإِذْنَ لَهُ فِي ذَلِكَ لَا يَقْتَضِي الْإِذْنَ لَهُ فِي الْعَزْلِ أَيْضًا، وَأَمَّا فِي صُورَةِ أَنْ يَقُولَ لَهُ اعْمَلْ بِرَأْيِك فَهُوَ مُشْكِلٌ لِأَنَّهُمْ صَرَّحُوا بِأَنَّ قَوْلَهُ اعْمَلْ بِرَأْيِك تَوْكِيلٌ عَامٌّ فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِهِ تَوْكِيلُ الْوَكِيلِ غَيْرَهُ، وَأَنَّهُ إثْبَاتُ صِفَةِ الْمَالِكِيَّةِ لِلْوَكِيلِ فَيَمْلِكُ تَوْكِيلَ غَيْرِهِ كَالْمَالِكِ، فَحِينَئِذٍ يَنْبَغِي أَنْ يَمْلِكَ الْوَكِيلُ الْأَوَّلُ عَزْلَ الْوَكِيلِ الثَّانِي أَيْضًا بِعُمُومِ وِكَالَتِهِ عَنْ الْمُوَكِّلِ الْأَوَّلِ، وَبِكَوْنِهِ كَالْمَالِكِ بِإِثْبَاتِ صِفَةِ الْمَالِكِيَّةِ لَهُ، كَمَا أَنَّ لِلْقَاضِي أَنْ يَسْتَخْلِفَ عَلَى الْقَضَاءِ وَأَنْ يَعْزِلَ عَنْهُ إذَا فُوِّضَ إلَيْهِ النَّصْبُ وَالْعَزْلُ مِنْ قِبَلِ الْخَلِيفَةِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَحَلِّهِ.

وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ قَاضِي خَانْ فِي فَتَاوَاهُ حَيْثُ قَالَ: رَجُلٌ وَكَّلَ رَجُلًا بِالْخُصُومَةِ وَقَالَ لَهُ مَا صَنَعْت مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ جَائِزٌ فَوَكَّلَ الْوَكِيلُ بِذَلِكَ غَيْرَهُ جَازَ تَوْكِيلُهُ، وَيَكُونُ الْوَكِيلُ الثَّانِي وَكِيلَ الْمُوَكَّلِ الْأَوَّلِ لَا وَكِيلَ الْوَكِيلِ، حَتَّى لَوْ مَاتَ الْوَكِيلُ الْأَوَّلُ أَوْ عُزِلَ أَوْ جُنَّ أَوْ ارْتَدَّ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ لَا يَنْعَزِلُ الْوَكِيلُ الثَّانِي؛ وَلَوْ مَاتَ الْمُوَكِّلُ الْأَوَّلُ أَوْ جُنَّ أَوْ ارْتَدَّ أَوْ لَحِقَ بِدَارٍ الْحَرْبِ يَنْعَزِلُ الْوَكِيلَانِ، وَلَوْ عَزَلَ الْوَكِيلُ الْأَوَّلُ الْوَكِيلَ الثَّانِيَ جَازَ عَزْلُهُ لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ الْأَوَّلَ رَضِيَ بِصَنِيعِ الْأَوَّلِ وَعَزْلُ الْأَوَّلِ الثَّانِي مِنْ صَنِيعِ الْأَوَّلِ، إلَى هَاهُنَا كَلَامُهُ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْمُوَكِّلَ الْأَوَّلَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ أَيْضًا رَضِيَ بِعَمَلِ الْوَكِيلِ الْأَوَّلِ بِرَأْيِهِ، وَأَنَّ عَزْلَ الْوَكِيلِ الْأَوَّلِ الثَّانِيَ مِنْ عَمَلِهِ بِرَأْيِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ عَزْلُهُ إيَّاهُ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مُشْكِلٌ دُونَهُ خَرْطُ الْقَتَادِ

(قَالَ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ (فَإِنْ وَكَّلَ) أَيْ الْوَكِيلُ (بِغَيْرِ إذْنِ مُوَكِّلِهِ فَعَقَدَ وَكِيلُهُ) أَيْ وَكِيلُ الْوَكِيلِ (بِحَضْرَتِهِ) أَيْ بِحَضْرَةِ الْوَكِيلِ الْأَوَّلِ (جَازَ) أَيْ جَازَ الْعَقْدُ (لِأَنَّ الْمَقْصُودَ) أَيْ مَقْصُودَ الْمُوَكِّلِ الْأَوَّلِ (حُضُورُ رَأْيِ الْأَوَّلِ) أَيْ حُضُورُ رَأْيِ الْوَكِيلِ الْأَوَّلِ (وَقَدْ حَضَرَ) أَيْ وَقَدْ حَضَرَ رَأْيُهُ فِي الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ فَحَصَلَ مَقْصُودُهُ فَجَازَ الْعَقْدُ.

قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: فَإِنْ قُلْت: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ أَحَدِ الْوَكِيلَيْنِ بِالْبَيْعِ إذَا بَاعَ بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهِ فَإِنَّهُ لَمْ يَكْتَفِ هُنَاكَ بِمُجَرَّدِ حَضْرَةِ صَاحِبِهِ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ الْإِجَازَةِ صَرِيحًا كَمَا ذَكَرَ فِي الذَّخِيرَةِ وَالْمَبْسُوطِ. قُلْت: مَا ذَكَرَهُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ مِنْ أَنَّ عَقْدَ وَكِيلِ الْوَكِيلِ جَائِزٌ عِنْدَ حَضْرَةِ الْوَكِيلِ الْأَوَّلِ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا أَجَازَ الْوَكِيلُ الْأَوَّلُ عَقْدَ الْوَكِيلِ الثَّانِي لَا مُطْلَقَ الْحَضْرَةِ.

هَكَذَا ذَكَرَ فِي الذَّخِيرَةِ وَقَالَ:

ص: 101

وَتَكَلَّمُوا فِي حُقُوقِهِ

ثُمَّ إنَّ مُحَمَّدًا رحمه الله قَالَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: إذَا بَاعَ الْوَكِيلُ الثَّانِي بِحَضْرَةِ الْوَكِيلِ الْأَوَّلِ جَازَ وَلَمْ يَشْتَرِطْ لِلْجَوَازِ إجَازَةَ الْوَكِيلِ الْأَوَّلِ، وَهَكَذَا ذَكَرَ فِي وِكَالَةِ الْأَصْلِ فِي مَوْضِعٍ، وَذَكَرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ وِكَالَةِ الْأَصْلِ وَشَرْطِ إجَازَتِهِ فَقَالَ: إذَا بَاعَ الْوَكِيلُ الثَّانِي وَالْوَكِيلُ الْأَوَّلُ حَاضِرٌ أَوْ غَائِبٌ فَأَجَازَ الْوَكِيلُ الْأَوَّلُ جَازَ. وَحَكَى عَنْ الْكَرْخِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: لَيْسَ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ، وَلَكِنْ مَا ذَكَرَ مُطْلَقًا فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ أَنَّهُ يَجُوزُ إذَا بَاعَ بِحَضْرَةِ الْأَوَّلِ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا أَجَازَ، فَكَانَ يَحْمِلُ الْمُطْلَقَ عَلَى الْمُقَيَّدِ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ عَامَّةُ الْمَشَايِخِ، وَهَذَا لِأَنَّ تَوْكِيلَ الْوَكِيلِ الْأَوَّلِ لَمَّا لَمْ يَصِحَّ لِأَنَّهُ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِي ذَلِكَ صَارَ وُجُودِ هَذَا التَّوْكِيلِ وَعَدَمِهِ بِمَنْزِلَةٍ، وَلَوْ عَدِمَ التَّوْكِيلَ مِنْ الْأَوَّلِ حَتَّى بَاعَهُ هَذَا الرَّجُلَ وَالْوَكِيلُ غَائِبٌ أَوْ حَاضِرٌ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ عَقْدُ هَذَا الْفُضُولِيِّ إلَّا بِإِجَازَتِهِ، لِأَنَّ الْإِجَازَةَ لِبَيْعِ الْفُضُولِيِّ لَا تَثْبُتُ بِالسُّكُوتِ لِكَوْنِ السُّكُوتِ مُحْتَمَلًا، كَذَا هَاهُنَا. وَمَتَى أَجَازَ فَإِنَّمَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْوَكِيلَ يَمْلِكُ مُبَاشَرَتَهُ بِنَفْسِهِ فَيَمْلِكُ إجَارَتَهُ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى. وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ رِوَايَتَيْنِ. وَجْهُ رِوَايَةِ الْجَوَازِ مِنْ غَيْرِ إجَازَةِ الْأَوَّلِ أَنَّ بَيْعَ الثَّانِي حَالَ غَيْبَةِ الْأَوَّلِ إنَّمَا لَا يَصِحُّ لِتَعَرِّي الْعَقْدِ عَنْ رَأْيِ الْأَوَّلِ، وَمَتَى بَاعَ بِحَضْرَتِهِ فَقَدْ حَضَرَ هَذَا الْعَقْدَ رَأْيُ الْأَوَّلِ، وَعَلَى هَذَا أَحَدُ وَكِيلَيْ الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ إذَا أَمَرَ صَاحِبَهُ بِالْبَيْعِ أَوْ الْإِجَارَةِ فَبَاعَ بِحَضْرَتِهِ، فِي رِوَايَةٍ لَا يَجُوزُ إلَّا بِإِجَازَتِهِ، وَفِي رِوَايَةٍ يَجُوزُ مِنْ غَيْرِ إجَازَتِهِ انْتَهَى، وَاقْتَفَى أَثَرَهُ صَاحِبُ مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ كَمَا هُوَ دَأَبُهُ فِي أَكْثَرِ الْمَوَاضِعِ.

قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ نَقْلِ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ: وَفِيهِ نَظَرٌ، أَمَّا فِيمَا نَقَلَ عَنْ مُحَمَّدٍ فَإِنَّهُ قَالَ: وَالْوَكِيلُ الْأَوَّلُ حَاضِرٌ أَوْ غَائِبٌ، فَأَجَازَ الْوَكِيلُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ نَصًّا فِي اشْتِرَاطِ الْإِجَازَةِ لِلْحَاضِرِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ فَأَجَازَ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ أَوْ غَائِبٌ فَقَطْ، أَمَّا فِي تَعْلِيلِهِمْ فَلِأَنَّهُ مُعَارِضٌ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ وَهُوَ الرَّأْيُ وَقَدْ حَضَرَ كَمَا ذَكَرَهُ انْتَهَى. وَأَجَابَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ عَنْ نَظَرِهِ فِيمَا نُقِلَ عَنْ مُحَمَّدٍ حَيْثُ قَالَ: أَنْتَ خَبِيرٌ بِأَنَّ قَوْلَهُ فَأَجَازَ الْوَكِيلُ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ إذَا بَاعَ الْوَكِيلُ الثَّانِي إلَخْ فَيَكُونُ مُتَعَلِّقًا بِكُلٍّ مِنْهُمَا. نَعَمْ لَوْ كَانَتْ الْعِبَارَةُ وَأَجَازَ بِالْوَاوِ فَيَجُوزُ كَوْنُهَا حَالِيَّةً لَاحْتَمَلَ مَا ذَكَرَهُ انْتَهَى. أَقُولُ: وَفِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ فَأَجَازَ الْوَكِيلُ لِلسَّبَبِيَّةِ لَا لِلْعَطْفِ، كَمَا فِي قَوْلِك: زَيْدٌ فَاضِلٌ فَأَكْرِمْهُ، وَنَحْوُ الَّذِي يَطِيرُ فَيَغْضَبَ زَيْدٌ الذُّبَابُ عَلَى مَا ذَكَرُوا فِي مَوْضِعِهِ؛ وَلَئِنْ سَلِمَ كَوْنُهَا لِلْعَطْفِ وَكَوْنُ قَوْلِهِ فَأَجَازَ الْوَكِيلُ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ إذَا بَاعَ الْوَكِيلُ الثَّانِي إلَخْ فَلَا يَسْلَمُ كَوْنُ قَوْلِهِ فَأَجَازَ الْوَكِيلُ مُتَعَلِّقًا بِكُلٍّ مِنْ قَيْدَيْ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ: أَعْنِي قَوْلَهُ وَالْوَكِيلُ الْأَوَّلُ حَاضِرٌ أَوْ غَائِبٌ، إذْ قَدْ تَقَرَّرَ فِي مَحَلِّهِ أَنَّ الْعَطْفَ عَلَى مُقَيَّدٍ بِشَيْءٍ إنَّمَا يُوجِبُ تَقْيِيدَ الْمَعْطُوفِ بِذَلِكَ الشَّيْءِ فِيمَا إذَا كَانَ الْقَيْدُ مُقَدَّمًا عَلَى الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، كَمَا فِي قَوْلِنَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ سِرْت وَضَرَبْت زَيْدًا، وَقَوْلِنَا إنْ جِئْتنِي أُعْطِك وَأَكْسُك، وَأَمَّا فِيمَا لَا يَتَقَدَّمُ عَلَيْهِ فَلَا يُوجِبُ تَقْيِيدَهُ بِذَلِكَ فِي شَيْءٍ، وَمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ كَمَا لَا يَخْفَى، فَلَمْ يَجِبْ فِيهِ أَنْ يَتَقَيَّدَ الْمَعْطُوفُ بِقَيْدَيْ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ بَلْ جَازَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا فَقَطْ.

ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَلَعَلَّ الصَّوَابَ أَنَّ الْإِجَازَةَ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ عَقْدِ وَكِيلِ الْوَكِيلِ عِنْدَ حُضُورِهِ وَشَرْطٌ لِصِحَّةِ عَقْدِ أَحَدِ الْوَكِيلَيْنِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ وَكِيلَ الْوَكِيلِ لَمَّا كَانَ يَتَصَرَّفُ بِتَوْكِيلِهِ وَرِضَاهُ بِالتَّصَرُّفِ كَانَ سُكُوتُهُ رِضًا لَا مَحَالَةَ، وَأَمَّا أَحَدُ الْوَكِيلَيْنِ فَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَلَمْ يَكُنْ سُكُوتُهُ رِضًا لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ غَيْظًا مِنْهُ عَلَى اسْتِبْدَادِهِ بِالتَّصَرُّفِ مِنْ غَيْرِ إذْنٍ مِنْ صَاحِبِهِ انْتَهَى قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَتَكَلَّمُوا فِي حُقُوقِهِ) أَيْ فِي حُقُوقِ عَقْدِ الثَّانِي بِحَضْرَةِ الْأَوَّلِ: يَعْنِي إذَا بَاعَ بِحَضْرَةِ الْأَوَّلِ حَتَّى جَازَ فَالْعُهْدَةُ عَلَى مَنْ تَكُونُ؟ لَمْ يَذْكُرْهُ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَتَكَلَّمَ الْمَشَايِخُ فِيهِ.

قَالَ الْإِمَامُ الْمَحْبُوبِيُّ: مِنْهُمْ مَنْ قَالَ الْعُهْدَةُ عَلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ

ص: 102

(وَإِنْ عَقَدَ فِي حَالِ غَيْبَتِهِ لَمْ يَجُزْ) لِأَنَّهُ فَاتَ رَأْيَهُ إلَّا أَنْ يُبْلِغَهُ فَيُجِيزَهُ (وَكَذَا لَوْ بَاعَ غَيْرُ الْوَكِيلِ فَبَلَغَهُ فَأَجَازَهُ) لِأَنَّهُ حَضَرَ رَأْيُهُ (وَلَوْ قَدَّرَ الْأَوَّلُ الثَّمَنَ لِلثَّانِي فَعَقَدَ بِغِيبَتِهِ يَجُوزُ) لِأَنَّ الرَّأْيَ فِيهِ يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِتَقْدِيرِ الثَّمَنِ ظَاهِرًا وَقَدْ حَصَلَ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا وَكَّلَ وَكِيلَيْنِ وَقَدَّرَ الثَّمَنَ، لِأَنَّهُ لَمَا فَوَّضَ إلَيْهِمَا مَعَ تَقْدِيرِ الثَّمَنِ ظَهَرَ أَنَّ غَرَضَهُ اجْتِمَاعُ رَأْيِهِمَا فِي الزِّيَادَةِ وَاخْتِيَارِ الْمُشْتَرِي عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ، أَمَّا إذَا لَمْ يُقَدِّرْ الثَّمَنَ وَفَوَّضَ إلَى الْأَوَّلِ كَانَ غَرَضُهُ رَأْيَهُ فِي مُعْظَمِ الْأَمْرِ وَهُوَ التَّقْدِيرُ فِي الثَّمَنِ.

إنَّمَا رَضِيَ بِلُزُومِ الْعُهْدَةِ عَلَى الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ الْعُهْدَةُ عَلَى الثَّانِي إذْ السَّبَبُ وَهُوَ الْعَقْدُ وُجِدَ مِنْ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ، وَالثَّانِي كَالْوَكِيلِ لِلْمُوَكِّلِ الْأَوَّلِ، حَتَّى لَوْ مَاتَ الْمُوَكِّلُ الْأَوَّلُ يَنْعَزِلُ الْوَكِيلُ الثَّانِي بِمَوْتِهِ، وَلَا يَنْعَزِلُ بِمَوْتِ الْمُوَكِّلِ الثَّانِي وَهُوَ الْوَكِيلُ الْأَوَّلُ، كَذَا فِي الْمُلْتَقَطِ. وَقَالَ فِي الذَّخِيرَةِ: ثُمَّ إذَا بَاعَ أَوْ اشْتَرَى بِحَضْرَةِ الْأَوَّلِ حَتَّى جَازَ فَالْعُهْدَةُ عَلَى مَنْ؟ لَمْ يَذْكُرْ مُحَمَّدٌ رحمه الله هَذَا الْفَصْلَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، وَذَكَرَ الْبَقَّالِيُّ فِي فَتَاوَاهُ أَنَّ الْحُقُوقَ تَرْجِعُ إلَى الْأَوَّلِ، وَفِي حِيَلِ الْأَصْلِ وَالْعُيُونِ أَنَّ الْحُقُوقَ تَرْجِعُ إلَى الثَّانِي انْتَهَى. وَقَالَ فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ: فَإِنْ وَكَّلَ غَيْرَهُ فَبَاعَ الْوَكِيلُ الثَّانِي بِحَضْرَةِ الْأَوَّلِ جَازَ، وَحُقُوقُ الْعَقْدِ تَرْجِعُ إلَى الْوَكِيلِ الْأَوَّلِ عِنْدَ الْبَعْضِ، وَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّ الْحُقُوقَ تَرْجِعُ إلَى الْوَكِيلِ الثَّانِي وَهُوَ الصَّحِيحُ انْتَهَى (وَإِنْ عَقَدَ) أَيْ الْوَكِيلُ الثَّانِي (فِي حَالِ غِيبَتِهِ) أَيْ فِي حَالِ غِيبَةِ الْوَكِيلِ الْأَوَّلِ (لَمْ يَجُزْ) أَيْ لَمْ يَجُزْ الْعَقْدُ (لِأَنَّهُ فَاتَ رَأْيَهُ) أَيْ رَأْيَ الْوَكِيلِ الْأَوَّلِ فَلَمْ يَحْصُلْ مَقْصُودُ الْمُوَكِّلِ وَهُوَ حُضُورُ رَأْيِهِ (إلَّا أَنْ يَبْلُغَهُ) أَيْ إلَّا أَنْ يَبْلُغَ خَبَرُ عَقْدِ الْوَكِيلِ الثَّانِي الْوَكِيلَ الْأَوَّلَ (فَيُجِيزَهُ) أَيْ فَيُجِيزَ الْوَكِيلُ الْأَوَّلُ ذَلِكَ الْعَقْدَ فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ لِتَحَقُّقِ رَأْيِهِ (وَكَذَا لَوْ بَاعَ غَيْرُ الْوَكِيلِ) أَيْ وَكَذَا يَجُوزُ لَوْ بَاعَ الْأَجْنَبِيُّ (فَبَلَغَهُ) أَيْ فَبَلَغَ خَبَرُ الْبَيْعِ الْوَكِيلَ (فَأَجَازَهُ) أَيْ فَأَجَازَ الْبَيْعَ بَعْدَ بُلُوغِ الْخَبَرِ (لِأَنَّهُ حَضَرَهُ رَأْيُهُ) أَيْ بِإِجَازَتِهِ (وَلَوْ قَدَّرَ الْأَوَّلُ) أَيْ الْوَكِيلُ الْأَوَّلُ (الثَّمَنَ) أَيْ ثَمَنَ مَا أُمِرَ بِبَيْعِهِ (لِلثَّانِي) أَيْ لِلْوَكِيلِ الثَّانِي الَّذِي وَكَّلَهُ بِغَيْرِ إذْنِ مُوَكِّلِهِ بِأَنْ قَالَ لَهُ بِعْهُ بِكَذَا (فَعَقَدَ بِغِيبَتِهِ) أَيْ فَعَقَدَ الثَّانِي بِذَلِكَ الثَّمَنِ الْمُقَدَّرِ بِغِيبَةِ الْأَوَّلِ (يَجُوزُ) أَيْ الْعَقْدُ (لِأَنَّ الرَّأْيَ يَحْتَاجُ إلَيْهِ فِيهِ لِتَقْدِيرِ الثَّمَنِ ظَاهِرًا) إنَّمَا قَالَ ظَاهِرًا احْتِرَازًا عَمَّا إذَا وَكَّلَ وَكِيلَيْنِ وَقَدَّرَ الثَّمَنَ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ (وَقَدْ حَصَلَ) أَيْ وَقَدْ حَصَلَ تَقْدِيرُ الثَّمَنِ الَّذِي هُوَ الْمَقْصُودُ بِالرَّأْيِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ رِوَايَةُ كِتَابِ الرَّهْنِ اخْتَارَهَا الْمُصَنِّفُ، وَعَلَى رِوَايَةِ كِتَابِ الْوِكَالَةِ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ تَقْدِيرَ الثَّمَنِ إنَّمَا يَمْنَعُ النُّقْصَانَ لَا الزِّيَادَةَ، فَلَوْ بَاشَرَ الْأَوَّلُ رُبَّمَا بَاعَ بِالزِّيَادَةِ عَلَى الْمِقْدَارِ الْمُعَيَّنِ لِذَكَاتِهِ وَهِدَايَتِهِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا وَكَّلَ وَكِيلَيْنِ وَقَدَّرَ الثَّمَنَ) فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ أَحَدِهِمَا بِذَلِكَ الْمِقْدَارِ (لِأَنَّهُ لَمَّا فَوَّضَ إلَيْهِمَا) أَيْ لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ لَمَّا فَوَّضَ الرَّأْيَ إلَى الْوَكِيلَيْنِ (مَعَ تَقْدِيرِ الثَّمَنِ ظَهَرَ أَنَّ غَرَضَهُ اجْتِمَاعُ رَأْيِهِمَا فِي الزِّيَادَةِ وَاخْتِيَارِ الْمُشْتَرِي) الَّذِي لَا يُمَاطِلُ فِي تَسْلِيمِ الثَّمَنِ (عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ) إشَارَةً إلَى قَوْلِهِ فِيمَا مَرَّ وَالْبَدَلُ وَإِنْ كَانَ مُقَدَّرًا، وَلَكِنَّ التَّقْدِيرَ لَا يَمْنَعُ اسْتِعْمَالَ الرَّأْيِ فِي الزِّيَادَةِ وَاخْتِيَارِ الْمُشْتَرِي (أَمَّا إذَا لَمْ يُقَدِّرْ) أَيْ الْمُوَكِّلُ (الثَّمَنَ وَفَوَّضَ إلَى الْأَوَّلِ) أَيْ وَفَوَّضَ الرَّأْيَ إلَى الْوَكِيلِ الْأَوَّلِ (كَانَ غَرَضُهُ) أَيْ غَرَضُ الْمُوَكِّلِ (رَأْيَهُ) أَيْ رَأْيَ الْوَكِيلِ الْأَوَّلِ (فِي مُعْظَمِ الْأَمْرِ) أَيْ مُعْظَمِ أَمْرِ عَقْدِ الْبَيْعِ (وَهُوَ التَّقْدِيرُ فِي الثَّمَنِ) وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ

ص: 103

قَالَ (وَإِذَا زَوَّجَ الْمُكَاتَبُ أَوْ الْعَبْدُ أَوْ الذِّمِّيُّ ابْنَتَهُ وَهِيَ صَغِيرَةٌ حُرَّةٌ مُسْلِمَةٌ أَوْ بَاعَ أَوْ اشْتَرَى لَهَا لَمْ يَجُزْ) مَعْنَاهُ التَّصَرُّفُ فِي مَالِهَا لِأَنَّ الرِّقَّ وَالْكُفْرَ يَقْطَعَانِ الْوِلَايَةَ؛ أَلَا يَرَى أَنَّ الْمَرْقُوقَ لَا يَمْلِكُ إنْكَاحَ نَفْسِهِ فَكَيْفَ يَمْلِكُ إنْكَاحَ غَيْرِهِ، وَكَذَا الْكَافِرُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى الْمُسْلِمِ حَتَّى لَا تُقْبَلَ شَهَادَتُهُ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ هَذِهِ وِلَايَةٌ نَظَرِيَّةٌ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّفْوِيضِ إلَى الْقَادِرِ الْمُشْفِقِ لِيَتَحَقَّقَ مَعْنَى النَّظَرِ، وَالرِّقُّ يُزِيلُ الْقُدْرَةَ وَالْكُفْرُ يَقْطَعُ الشَّفَقَةَ عَلَى الْمُسْلِمِ فَلَا تُفَوَّضُ إلَيْهِمَا

الْبِيَاعَاتِ الِاسْتِرْبَاحُ، وَالْعَادَةُ جَرَتْ فِي الْوِكَالَةِ أَنْ يُوَكِّلَ الْأَهْدَى فِي تَحْصِيلِ الْأَرْبَاحِ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ فِي التَّوْكِيلِ بِتَقْدِيرِ ثَمَنٍ صَالِحٍ لِزِيَادَةِ الرِّبْحِ وَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ بِتَقْدِيرِ الْوَكِيلِ الْأَوَّلِ، فَبَعْدَ ذَلِكَ لَا يُبَالِي بِنِيَابَةِ الْآخَرِ عَنْهُ فِي مُجَرَّدِ الْعِبَارَةِ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ.

أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: اخْتِيَارُ الْمُشْتَرِي الَّذِي لَا يُمَاطِلُ فِي تَسْلِيمِ الثَّمَنِ مِنْ مُهِمَّاتِ الْبِيَاعَاتِ وَمُعْظَمَاتِ أُمُورِهَا أَيْضًا كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ فِيمَا مَرَّ بِقَوْلِهِ وَالْبَدَلُ وَإِنْ كَانَ مُقَدَّرًا، وَلَكِنَّ التَّقْدِيرَ لَا يَمْنَعُ اسْتِعْمَالَ الرَّأْيِ فِي الزِّيَادَةِ وَاخْتِيَارِ الْمُشْتَرِي، فَكَيْفَ يَتِمُّ أَنْ يُقَالَ هَاهُنَا: فَبَعْدَ ذَلِكَ لَا يُبَالِي بِنِيَابَةِ الْآخَرِ عَنْهُ فِي مُجَرَّدِ الْعِبَارَةِ

(قَالَ) أَيْ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ (وَإِذَا زَوَّجَ الْمُكَاتَبُ أَوْ الْعَبْدُ أَوْ الذِّمِّيُّ ابْنَتَهُ وَهِيَ صَغِيرَةٌ حُرَّةٌ مُسْلِمَةٌ أَوْ بَاعَ) أَيْ أَوْ بَاعَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ (أَوْ اشْتَرَى لَهَا) أَيْ الصَّغِيرَةِ الْمَوْصُوفَةِ الْمَذْكُورَةِ (لَمْ يَجُزْ) أَيْ لَمْ يَجُزْ شَيْءٌ مِنْ تَصَرُّفَاتِهِمْ الْمَذْكُورَةِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ (مَعْنَاهُ) أَيْ مَعْنَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ: أَوْ بَاعَ أَوْ اشْتَرَى لَهَا (التَّصَرُّفُ فِي مَالِهَا) أَيْ فِي مَالِ الصَّغِيرَةِ الْمَذْكُورَةِ بِالْبَيْعِ أَوْ الشِّرَاءِ، وَإِنَّمَا احْتَاجَ إلَى هَذَا التَّأْوِيلِ لِأَنَّ قَوْلَهُ أَوْ اشْتَرَى لَهَا يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدَهُمَا أَنْ يَشْتَرِيَ لَهَا شَيْئًا مِنْ مَالِ نَفْسِهِ، وَالْآخَرَ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهَا بِمَالِهَا. وَلَمَّا كَانَ الْأَوَّلُ جَائِزًا لَا مَحَالَةَ كَانَ الْمُرَادُ هَاهُنَا هُوَ الثَّانِي.

وَقَالَ فِي تَعْلِيلِ الْمَسْأَلَةِ (لِأَنَّ الرِّقَّ وَالْكُفْرَ يَقْطَعَانِ الْوِلَايَةَ) يَعْنِي أَنَّ التَّصَرُّفَاتِ الْمَذْكُورَةَ مِنْ بَابِ الْوِلَايَةِ، وَالرِّقُّ فِي الْعَبْدِ وَالْمُكَاتَبِ، وَالْكُفْرُ فِي الذِّمِّيِّ يَقْطَعَانِ الْوِلَايَةَ (أَلَا يَرَى أَنَّ الْمَرْقُوقَ لَا يَمْلِكُ إنْكَاحَ نَفْسِهِ فَكَيْفَ يَمْلِكُ إنْكَاحَ غَيْرِهِ) يَعْنِي إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وِلَايَةٌ عَلَى نَفْسِهِ لَمْ تَكُنْ لَهُ وِلَايَةٌ عَلَى غَيْرِهِ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى، لِأَنَّ الْوِلَايَةَ الْمُتَعَدِّيَةَ فَرْعُ الْوِلَايَةِ الْقَاصِرَةِ (وَكَذَا الْكَافِرُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى الْمُسْلِمِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا} (حَتَّى لَا تُقْبَلَ شَهَادَتُهُ) أَيْ شَهَادَةُ الْكَافِرِ (عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الْمُسْلِمِ (وَلِأَنَّ هَذِهِ) أَيْ هَذِهِ الْوِلَايَةَ (وِلَايَةٌ نَظَرِيَّةٌ) أَيْ وِلَايَةٌ ثَابِتَةٌ نَظَرًا لِلضُّعَفَاءِ وَالصِّغَارِ لِعَجْزِهِمْ (فَلَا بُدَّ مِنْ التَّفْوِيضِ) أَيْ تَفْوِيضِ هَذِهِ الْوِلَايَةِ (إلَى الْقَادِرِ الْمُشْفِقِ لِيَتَحَقَّقَ مَعْنَى النَّظَرِ) بِالْقُدْرَةِ وَالشُّفْعَةِ (وَالرِّقُّ يُزِيلُ الْقُدْرَةَ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} (وَالْكُفْرُ يَقْطَعُ الشَّفَقَةَ عَلَى الْمُسْلِمِ) كَمَا لَا يَخْفَى (فَلَا تُفَوَّضُ إلَيْهِمَا)

ص: 104

(قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: وَالْمُرْتَدُّ إذَا قُتِلَ عَلَى رِدَّتِهِ وَالْحَرْبِيُّ كَذَلِكَ) لِأَنَّ الْحَرْبِيَّ أَبْعَدُ مِنْ الذِّمِّيِّ فَأَوْلَى بِسَلْبِ الْوِلَايَةِ، وَأَمَّا الْمُرْتَدُّ فَتَصَرُّفُهُ فِي مَالِهِ وَإِنْ كَانَ نَافِذًا عِنْدَهُمَا لَكِنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى وَلَدِهِ وَمَالِ وَلَدِهِ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهَا وِلَايَةٌ نَظَرِيَّةٌ وَذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْمِلَّةِ وَهِيَ مُتَرَدِّدَةٌ، ثُمَّ تَسْتَقِرُّ جِهَةُ الِانْقِطَاعِ إذَا قُتِلَ عَلَى الرِّدَّةِ فَيَبْطُلُ وَبِالْإِسْلَامِ يُجْعَلُ كَأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُسْلِمًا فَيَصِحَّ.

أَيْ فَلَا تُفَوَّضُ هَذِهِ الْوِلَايَةُ النَّظَرِيَّةُ إلَى الْعَبْدِ وَالْكَافِرِ.

قَالَ الشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ: وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: إلَى الْعَاقِدِ الْمُشْفِقِ مَكَانَ الْقَادِرِ الْمُشْفِقِ، وَجَعَلَ الشَّارِحُ الْكَاكِيُّ هَذِهِ النُّسْخَةَ أَصْلًا. وَقَالَ: وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ إلَى الْقَادِرِ مَكَانَ الْعَاقِدِ. أَقُولُ: وَأَنَا لَمْ أَرَ نُسْخَةً إلَى الْعَاقِدِ قَطُّ وَلَمْ أَجِدْ لَهَا وَجْهًا هَاهُنَا، إذْ لَا يُوجَدُ حِينَئِذٍ لِقَوْلِ الْمُصَنِّفِ وَالرِّقُّ يُزِيلُ الْقُدْرَةَ مُتَعَلِّقٌ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى الْفَطِنِ (قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: وَالْمُرْتَدُّ إذَا قُتِلَ عَلَى رِدَّتِهِ وَالْحَرْبِيُّ كَذَلِكَ) أَيْ لَا يَجُوزُ تَصَرُّفُهُمَا عَلَى وَلَدِهِمَا الْمُسْلِمِ وَمَالِهِ. قَالَ الشُّرَّاحُ: إنَّمَا خَصَّ قَوْلَهُمَا بِالذِّكْرِ مَعَ أَنَّ هَذَا حُكْمٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ إنَّمَا تَرِدُ عَلَى قَوْلِهِمَا لِأَنَّ تَصَرُّفَاتِ الْمُرْتَدِّ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَنَحْوِهِمَا نَافِذَةٌ، وَإِنْ قُتِلَ عَلَى الرِّدَّةِ عِنْدَهُمَا بِنَاءً عَلَى الْمِلْكِ وَقَدْ تَرَكَا أَصْلَهُمَا فِي تَصَرُّفَاتِهِ عَلَى وَلَدِهِ وَمَالِ وَلَدِهِ فَإِنَّهَا مَوْقُوفَةٌ بِالْإِجْمَاعِ.

أَقُولُ: قَدْ أُدْرِجَ فِي قَوْلِهِمَا الْحَرْبِيُّ أَيْضًا، وَالْعُذْرُ الَّذِي ذَكَرُوهُ لَا يَجْرِي فِيهِ قَطْعًا فَلَا يَتِمُّ (لِأَنَّ الْحَرْبِيَّ) وَإِنْ كَانَ مُسْتَأْمَنًا (أَبْعَدُ مِنْ الذِّمِّيِّ) لِأَنَّ الذِّمِّيَّ صَارَ مِنَّا دَارًا وَإِنْ لَمْ يَصِرْ مِنَّا دِينًا، وَقَدْ تَحَقَّقَ مِنْهُ مَا هُوَ خَلَفٌ عَنْ الْإِسْلَامِ وَهُوَ الْجِزْيَةُ، بِخِلَافِ الْحَرْبِيِّ فَإِنَّهُ لَمْ يَتَحَقَّقْ فِي حَقِّهِ شَيْءٌ مِنْ الْأَصْلِ وَالْخَلَفِ (فَأَوْلَى بِسَلْبِ الْوِلَايَةِ) أَيْ فَالْحَرْبِيُّ أَوْلَى بِسَلْبِ الْوِلَايَةِ: يَعْنِي إذَا سُلِبَتْ وِلَايَةُ الذِّمِّيِّ كَمَا عَرَفْت فَالْحَرْبِيُّ أَوْلَى بِسَلْبِهَا (وَأَمَّا الْمُرْتَدُّ فَتُصَرِّفُهُ فِي مَالِهِ وَإِنْ كَانَ نَافِذًا عِنْدَهُمَا) أَيْ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ (لَكِنَّهُ) أَيْ لَكِنَّ تَصَرُّفَهُ (مَوْقُوفٌ) أَيْ مَوْقُوفٌ عَلَى إسْلَامِهِ؛ إنْ أَسْلَمَ صَحَّ، وَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ بَطَلَ (وَعَنْ وَلَدِهِ وَمَالِ وَلَدِهِ) مُتَعَلِّقٌ بِمَا يَرْجِعُ إلَيْهِ ضَمِيرُ لَكِنَّهُ وَهُوَ التَّصَرُّفُ بِمَعْنَى الْوِلَايَةِ: يَعْنِي لَكِنَّ تَصَرُّفَهُ: أَيْ وِلَايَتَهُ عَلَى وَلَدِهِ وَمَالِ وَلَدِهِ مَوْقُوفٌ عَلَى إسْلَامِهِ (بِالْإِجْمَاعِ) مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ مَوْقُوفٌ. أَقُولُ: لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ لَهُ فِطْرَةٌ سَلِيمَةٌ وَوُقُوفٌ عَلَى الْعَرَبِيَّةِ وَمَسَائِلِ الْمُرْتَدِّ أَنَّ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا تَعْقِيدًا قَبِيحًا وَاحْتِيَاجًا إلَى بَيَانِ مَعْنَاهُ بِالْوَجْهِ الَّذِي شَرَحْنَاهُ بِهِ.

وَأَنَا أَتَعَجَّبُ مِنْ الشُّرَّاحِ كَيْفَ لَمْ يَتَعَرَّضُوا لَهُ أَصْلًا مَعَ تَقَيُّدِهِمْ بِكَثِيرٍ مِنْ الْأُمُورِ الْجُزْئِيَّةِ الْبَيِّنَةِ فِي مَوَاضِعَ شَتَّى. فَحَقُّ الْعِبَارَةِ هَاهُنَا مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْكَافِي حَيْثُ قَالَ: وَأَمَّا الْمُرْتَدُّ فَإِنَّ وِلَايَتَهُ عَلَى أَوْلَادِهِ وَأَمْوَالِهِمْ مَوْقُوفَةٌ بِالْإِجْمَاعِ (لِأَنَّهَا) أَيْ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْأَبِ عَلَى وَلَدِهِ وَمَالِ وَلَدِهِ (وِلَايَةٌ نَظَرِيَّةٌ وَذَلِكَ) أَيْ الْوِلَايَةُ النَّظَرِيَّةُ بِتَأْوِيلِ الْمَذْكُورِ، أَوْ بِأَنَّ اسْتِعْمَالَ ذَلِكَ مُشْتَرَكٌ (بِاتِّفَاقِ الْمِلَّةِ) أَيْ بِسَبَبِ اتِّفَاقِ الْمِلَّةِ بَيْنَ الْأَبِ وَالْوَلَدِ (وَهِيَ) أَيْ الْمِلَّةُ (مُتَرَدِّدَةٌ) فِي حَقِّ الْمُرْتَدِّ لِكَوْنِهَا مَعْدُومَةً فِي الْحَالِ لَكِنَّهَا مَرْجُوُّ الْوُجُودِ لِأَنَّ الْمُرْتَدَّ مَجْبُورٌ عَلَيْهَا فَيَجِبُ التَّوَقُّفُ (ثُمَّ تَسْتَقِرُّ جِهَةُ الِانْقِطَاعِ إذَا قُتِلَ عَلَى الرِّدَّةِ فَيَبْطُلُ) أَيْ تَصَرُّفُهُ (وَبِالْإِسْلَامِ) أَيْ بِالْعَوْدِ إلَى الْإِسْلَامِ (يُجْعَلُ) أَيْ الْمُرْتَدُّ (كَأَنَّهُ لَمْ يَزُلْ مُسْلِمًا فَيَصِحُّ) أَيْ تَصَرُّفُهُ.

أَقُولُ: بَقِيَ فِي هَذَا الْمُقَامِ شَيْءٌ، وَهُوَ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ مِنْ قَوْلِهِ وَإِذَا زَوَّجَ الْمُكَاتَبُ أَوْ الْعَبْدُ أَوْ الذِّمِّيُّ ابْنَتَهُ إلَى هَاهُنَا لَيْسَ مِنْ مَسَائِلِ الْوِكَالَةِ قَطُّ، وَقَدْ وُجِدَ ذِكْرُهُ مَرَّةً فِي بَابِ الْأَوْلِيَاءِ وَالْأَكْفَاءِ مِنْ كِتَابِ النِّكَاحِ حَيْثُ قَالَ فِيهِ: وَلَا وِلَايَةَ لِعَبْدٍ وَلَا صَغِيرٍ وَلَا مَجْنُونٍ، لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَأَوْلَى أَنْ لَا تَثْبُتَ عَلَى غَيْرِهِمْ، وَلِأَنَّ هَذِهِ وِلَايَةٌ نَظَرِيَّةٌ، وَلَا نَظَرَ فِي التَّفْوِيضِ إلَى هَؤُلَاءِ، وَلَا وِلَايَةَ لِكَافِرٍ عَلَى مُسْلِمٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى

ص: 105

(بَابُ الْوِكَالَةِ بِالْخُصُومَةِ وَالْقَبْضِ)

قَالَ (الْوَكِيلُ بِالْخُصُومَةِ وَكِيلٌ بِالْقَبْضِ) عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ. هُوَ يَقُولُ رَضِيَ بِخُصُومَتِهِ وَالْقَبْضُ غَيْرُ الْخُصُومَةِ وَلَمْ يَرْضَ بِهِ

{وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا} وَلِهَذَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ عَلَيْهِ وَلَا يَتَوَارَثَانِ انْتَهَى. فَذِكْرُهُ مَرَّةً أُخْرَى سِيَّمَا فِي كِتَابِ الْوِكَالَةِ بَعِيدُ الْمُنَاسَبَةِ.

(بَابُ الْوِكَالَةِ بِالْخُصُومَةِ وَالْقَبْضِ)

أَخَّرَ الْوِكَالَةَ بِالْخُصُومَةِ عَنْ الْوِكَالَةِ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ لِأَنَّ الْخُصُومَةَ تَقَعُ بِاعْتِبَارِ مَا يَجِبُ اسْتِيفَاؤُهُ مِمَّنْ هُوَ فِي ذِمَّتِهِ، وَذَلِكَ فِي الْأَغْلَبِ يَكُونُ بِمُطَالَبَةِ الْمَبِيعِ أَوْ الثَّمَنِ، أَوْ لِأَنَّهَا مَهْجُورَةٌ شَرْعًا فَاسْتَحَقَّتْ التَّأْخِيرَ عَمَّا لَيْسَ بِمَهْجُورٍ، وَكَذَا فِي الْعِنَايَةِ.

وَذُكِرَ الْوَجْهُ الثَّانِي فِي سَائِرِ الشُّرُوحِ أَيْضًا. وَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ حَيْثُ قَالَ فِيهِ بَحْثٌ، لِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ، كَيْفَ وَقَدْ وَقَعَتْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم وَالصَّحَابَةِ رضي الله عنهم، وَانْظُرْ إلَى تَفْسِيرِ الْخُصُومَةِ هَلْ فِيهِ مَا يُوجِبُ هَجْرَهَا اهـ. أَقُولُ: هَذَا سَاقِطٌ جِدًّا لِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ الْخُصُومَةَ بِحَقِيقَتِهَا وَهِيَ الْمُنَازَعَةُ مَهْجُورَةٌ شَرْعًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا} وَإِنَّمَا شُرِعَتْ وَوَقَعَتْ مِنْ الْأَشْرَافِ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهَا مَجَازًا عَنْ جَوَابِ الْخَصْمِ بِنَعَمْ أَوْ لَا كَمَا سَيَأْتِي بَحْثُهُ عَنْ قَرِيبٍ مُفَصَّلًا وَمَشْرُوحًا، وَقَدْ وَقَعَ التَّصْرِيحُ بِهِ هَاهُنَا أَيْضًا فِي عِبَارَةِ كَثِيرٍ مِنْ الشُّرَّاحِ حَيْثُ قَالُوا: لَمَّا كَانَتْ الْخُصُومَةُ مَهْجُورَةً شَرْعًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا} حَتَّى تُرِكَتْ حَقِيقَتُهَا إلَى مُطْلَقِ الْجَوَابِ مَجَازًا أَخَّرَ ذِكْرَ الْوِكَالَةِ بِالْخُصُومَةِ عَمَّا لَيْسَ بِمَهْجُورٍ شَرْعًا بَلْ هُوَ مُقَرَّرٌ عَلَى حَقِيقَتِهِ (قَالَ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ (الْوَكِيلُ بِالْخُصُومَةِ وَكِيلٌ بِالْقَبْضِ) أَطْلَقَ كَلَامَهُ فِي رِوَايَةٍ لِيَتَنَاوَلَ الْوَكِيلَ بِالْخُصُومَةِ فِي الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ جَمِيعًا، فَإِنَّ الْإِمَامَ الْمَحْبُوبِيَّ قَدْ ذَكَرَ أَنَّ الْوَكِيلَ بِالْخُصُومَةِ فِي الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ جَمِيعًا وَكِيلٌ بِالْقَبْضِ (عِنْدَنَا) أَيْ عِنْدَ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ (خِلَافًا لِزُفَرَ) فَإِنَّهُ يَقُولُ: الْوَكِيلُ بِالْخُصُومَةِ لَا يَكُونُ وَكِيلًا بِالْقَبْضِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأَظْهَرِ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ، وَعَنْ الشَّافِعِيِّ فِي وَجْهٍ أَنَّهُ يَمْلِكُ الْقَبْضَ كَمَا قُلْنَا (هُوَ) أَيْ زُفَرُ (يَقُولُ) إنَّهُ (رَضِيَ) أَيْ الْمُوَكِّلُ (بِخُصُومَتِهِ) أَيْ بِخُصُومَةِ الْوَكِيلِ (وَالْقَبْضُ غَيْرُ الْخُصُومَةِ) لِأَنَّ الْخُصُومَةَ قَوْلٌ يُسْتَعْمَلُ فِي إظْهَارِ الْحُقُوقِ وَالْقَبْضُ فِعْلٌ حِسِّيٌّ (وَلَمْ يَرْضَ بِهِ) أَيْ وَلَمْ يَرْضَ الْمُوَكِّلُ بِالْقَبْضِ إذْ يَخْتَارُ لِلْخُصُومَةِ فِي الْعَادَةِ أَلَحَّ النَّاسِ وَلِلْقَبْضِ آمَنَ النَّاسِ، فَمَنْ يَصْلُحُ

ص: 106

وَلَنَا أَنْ مَنْ مَلَكَ شَيْئًا مَلَكَ إتْمَامَهُ وَإِتْمَامُ الْخُصُومَةِ وَانْتِهَاؤُهَا بِالْقَبْضِ، وَالْفَتْوَى الْيَوْمَ عَلَى قَوْلِ زُفَرَ رحمه الله لِظُهُورِ الْخِيَانَةِ فِي الْوُكَلَاءِ، وَقَدْ يُؤْتَمَنُ عَلَى الْخُصُومَةِ مَنْ لَا يُؤْتَمَنُ عَلَى الْمَالِ، وَنَظِيرُهُ الْوَكِيلُ بِالتَّقَاضِي يَمْلِكُ الْقَبْضَ عَلَى أَصْلِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَاهُ وَضْعًا

لِلْخُصُومَةِ لَا يُرْضَى بِأَمَانَتِهِ عَادَةً.

(وَلَنَا أَنَّ مَنْ مَلَكَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا مَلَكَ إتْمَامَهُ وَإِتْمَامُ الْخُصُومَةِ وَانْتِهَاؤُهَا بِالْقَبْضِ) يَعْنِي أَنَّ الْوَكِيلَ بِالشَّيْءِ مَأْمُورٌ بِإِتْمَامِ ذَلِكَ الشَّيْءِ، وَإِتْمَامُ الْخُصُومَةِ يَكُونُ بِالْقَبْضِ لِأَنَّ الْخُصُومَةَ بَاقِيَةٌ مَا لَمْ يَقْبِضْ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مَا لَمْ يَقْبِضْ يُتَوَهَّمُ عَلَيْهِ الْإِنْكَارُ بَعْدَ ذَلِكَ وَالْمَطْلُ، وَيَحْتَاجُ إلَى الْمُرَافَعَةِ بِإِثْبَاتِ الْخُصُومَةِ فَلَمَّا وَكَّلَهُ بِفَصْلِهَا وَالْفَصْلُ بِالْقَبْضِ دَخَلَ تَحْتَهُ ضِمْنًا، كَذَا قَرَّرَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَعَزَاهُ إلَى الْمَبْسُوطِ وَالْأَسْرَارِ. وَاقْتَفَى أَثَرَهُ صَاحِبُ مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ، وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي تَقْرِيرِهِ: وَلَنَا أَنَّ الْوَكِيلَ مَا دَامَ وَكِيلًا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِيَامُ بِمَا أُمِرَ بِهِ، وَقَدْ أُمِرَ بِالْخُصُومَةِ وَالْخُصُومَةُ لَا تَتِمُّ إلَّا بِالْقَبْضِ لِتَوَهُّمِ الْإِنْكَارِ بَعْدَ ذَلِكَ وَتَعَذُّرِ الْإِثْبَاتِ بِعَارِضٍ مِنْ مَوْتِ الْقَاضِي أَوْ غَيْرِهِ وَالْمَطْلِ وَالْإِفْلَاسِ، وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ اهـ. وَرَدَّ عَلَيْهِ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ بِأَنَّ قَوْلَهُ: وَلَنَا أَنَّ الْوَكِيلَ مَا دَامَ وَكِيلًا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِيَامُ بِمَا أُمِرَ بِهِ مُخَالِفٌ لِمَا أَسْلَفَهُ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الْوِكَالَةِ مِنْ قَوْلِهِ وَحُكْمُ الْوِكَالَةِ جَوَازُ مُبَاشَرَةِ الْوَكِيلِ مَا فُوِّضَ إلَيْهِ.

أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ، فَإِنَّ مَنْشَأَهُ الْغَفْلَةُ عَنْ فَائِدَةِ قَوْلِهِ مَا دَامَ وَكِيلًا فِي قَوْلِهِ إنَّ الْوَكِيلَ مَا دَامَ وَكِيلًا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِيَامُ بِمَا أُمِرَ بِهِ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ الْوَكِيلَ مَا دَامَ ثَابِتًا عَلَى وِكَالَتِهِ يَجِبُ عَلَيْهِ أَدَاءُ مَا أُمِرَ بِهِ وَإِلَّا يَلْزَمُ تَغْرِيرُ الْآمِرِ وَهُوَ مَمْنُوعٌ شَرْعًا، وَمَعْنَى مَا ذَكَرَهُ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الْوِكَالَةِ أَنَّ الْوِكَالَةَ عَقْدٌ جَائِزٌ غَيْرُ لَازِمٍ فَحُكْمُهَا جَوَازُ أَنْ يُبَاشِرَ الْوَكِيلُ مَا فُوِّضَ إلَيْهِ وَأَنْ لَا يُبَاشِرَهُ بِشَرْطِ عَزْلِ الْمُوَكِّلِ إيَّاهُ أَوْ عَزْلِ الْوَكِيلِ نَفْسَهُ وَإِعْلَامِهِ الْمُوَكِّلَ، ثُمَّ رَدَّ عَلَيْهِ أَيْضًا ذَلِكَ الْبَعْضُ فِي قَوْلِهِ وَالْخُصُومَةُ لَا تَتِمُّ إلَّا بِالْقَبْضِ بِأَنَّهُ إنْ أُرِيدَ قَبْضُ الْوَكِيلِ فَغَيْرُ مُسَلَّمٌ، وَإِنْ أُرِيدَ مَا يَعُمُّهُ وَقَبَضَ الْمُوَكِّلُ فَمُسَلَّمٌ، وَلَكِنْ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَطْلُوبُهُ. أَقُولُ: الْمُرَادُ بِذَلِكَ قَبْضَ الْوَكِيلِ أَوْ الْمُوَكِّلِ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَطْلُوبُهُ قَطْعًا بِمُقْتَضَى مُقَدِّمَتِهِ الْقَائِلَةِ: وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ، لِأَنَّهُ لَمَّا فَوَّضَ الْمُوَكِّلُ الْخُصُومَةَ إلَى الْوَكِيلِ وَالْتَزَمَ الْوَكِيلُ إقَامَتَهَا دَخَلَ فِي ضِمْنِ ذَلِكَ مَا لَا تَتِمُّ الْخُصُومَةُ إلَّا بِهِ وَهُوَ الْقَبْضُ فَمَلَكَهُ الْوَكِيلُ قَطْعًا وَوَجَبَ عَلَيْهِ الْقِيَامُ بِهِ مَا دَامَ عَلَى وِكَالَتِهِ (وَالْفَتْوَى الْيَوْمَ عَلَى قَوْلِ زُفَرَ لِظُهُورِ الْخِيَانَةِ فِي الْوُكَلَاءِ، وَقَدْ يُؤْتَمَنُ عَلَى الْخُصُومَةِ مَنْ لَا يُؤْتَمَنُ عَلَى الْمَالِ) وَمَشَايِخُ بَلْخٍ أَفْتَوْا بِقَوْلِ زُفَرَ لِأَنَّ التَّوْكِيلَ بِالْقَبْضِ غَيْرُ ثَابِتٍ نَصًّا وَلَا دَلَالَةً.

أَمَّا نَصًّا فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا دَلَالَةً فَلِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يُوَكِّلُ غَيْرَهُ بِالْخُصُومَةِ وَالتَّقَاضِي وَلَا يَرْضَى بِأَمَانَتِهِ وَقَبْضِهِ، وَبِهِ أَفْتَى الصَّدْرُ الشَّهِيدُ أَيْضًا، كَذَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ الْمَحْبُوبِيُّ فِي جَامِعِهِ، وَذُكِرَ فِي الشُّرُوحِ أَيْضًا إلَّا أَنَّ صَاحِبَ الْعِنَايَةِ قَالَ بَعْدَ ذِكْرِ ذَلِكَ: وَفِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّ الدَّلَالَةَ قَدْ وَقَعَتْ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَنَظِيرُهُ) أَيْ نَظِيرُ الْوَكِيلِ بِالْخُصُومَةِ (الْوَكِيلُ بِالتَّقَاضِي) فَإِنَّهُ (يَمْلِكُ الْقَبْضَ عَلَى أَصْلِ الرِّوَايَةِ) وَهُوَ رِوَايَةُ الْأَصْلِ (لِأَنَّهُ فِي مَعْنَاهُ وَضْعًا) أَيْ لِأَنَّ التَّقَاضِيَ فِي مَعْنَى الْقَبْضِ مِنْ حَيْثُ الْوَضْعُ، وَعَنْ هَذَا قَالَ فِي الْأَسَاسِ تَقَاضَيْته دَيْنِي وَبِدَيْنِي، وَاقْتَضَيْته دَيْنِي وَاقْتَضَيْت مِنْهُ حَقِّي: أَيْ أَخَذْته. وَقَالَ فِي الْقَامُوسِ: وَتَقَاضَاهُ الدَّيْنَ قَبَضَهُ مِنْهُ. ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ غَايَةِ الْبَيَانِ بَعْدَ أَنْ فَسَّرَ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ لِأَنَّهُ

ص: 107

إلَّا أَنَّ الْعُرْفَ بِخِلَافِهِ وَهُوَ قَاضٍ عَلَى الْوَضْعِ وَالْفَتْوَى عَلَى أَنْ لَا يَمْلِكَ.

فِي مَعْنَاهُ وَضْعًا بِقَوْلِهِ: أَيْ لِأَنَّ التَّقَاضِيَ فِي مَعْنَى الْقَبْضِ قَالَ فِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّهُ قَالَ فِي الْمُغْرِبِ: تَقَاضَيْته دَيْنِي وَتَقَاضَيْته بِدَيْنِي وَاسْتَقْضَيْته طَلَبْت قَضَاءَهُ، وَاقْتَضَيْت مِنْهُ حَقِّي أَخَذْته. وَقَالَ الشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ بَعْدَ نَقْلِ النَّظَرِ الْمَذْكُورِ عَنْهُ: قُلْت لَمْ أَدْرِ وَجْهَ النَّظَرِ فِيهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ التَّقَاضِي هُوَ الْقَبْضُ بَلْ قَالَ فِي مَعْنَى الْقَبْضِ.

أَقُولُ: بَلْ لَا وَجْهَ لِمَا قَالَ لِأَنَّ وَجْهَ النَّظَرِ هُوَ أَنَّ الْمَفْهُومَ مِمَّا فِي الْمُغْرِبِ كَوْنُ التَّقَاضِي فِي اللُّغَةِ بِمَعْنَى طَلَبِ الْقَضَاءِ لَا بِمَعْنَى الْقَبْضِ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، وَلَا يَدْفَعُهُ قَوْلُهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ التَّقَاضِي هُوَ الْقَبْضُ بَلْ قَالَ فِي مَعْنَى الْقَبْضِ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ إنَّهُ فِي مَعْنَاهُ وَضْعًا أَنَّهُمَا مُتَّحِدَانِ مَعْنًى مِنْ حَيْثُ الْوَضْعُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ، وَلَوْ كَانَ مَعْنَى التَّقَاضِي فِي اللُّغَةِ طَلَبَ الْقَضَاءِ لَا غَيْرُ لَمْ يَتَحَقَّقْ ذَلِكَ الِاتِّحَادُ فَلَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَى الْقَبْضِ قَطْعًا. ثُمَّ أَقُولُ فِي الْجَوَابِ عَنْ النَّظَرِ الْمَذْكُورِ: لَعَلَّ صَاحِبَ الْمُغْرِبِ فَسَّرَ التَّقَاضِي بِطَلَبِ الْقَضَاءِ الَّذِي هُوَ الْمَعْنَى الْعُرْفِيُّ لِلَّفْظِ التَّقَاضِي لِكَوْنِهِ غَالِبًا عَلَى مَعْنَاهُ الْوَضْعِيِّ الْأَصْلِيِّ كَمَا سَتَعْرِفُهُ، فَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ مُخَالِفًا لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، وَمَا صَرَّحَ بِهِ عَامَّةُ ثِقَاتِ أَرْبَابِ اللُّغَةِ فِي كُتُبِهِمْ الْمُعْتَبَرَةِ مِنْ كَوْنِ مَعْنَى التَّقَاضِي هُوَ الْأَخْذُ وَالْقَبْضُ بِنَاءً عَلَى أَصْلِ الْوَضْعِ، وَيُرْشِدُ إلَيْهِ أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ الِاقْتِضَاءِ وَالتَّقَاضِي، فَفَسَّرَ الِاقْتِضَاءَ بِالْأَخْذِ عَلَى أَصْلِهِ لِعَدَمِ جَرَيَانِ الْعُرْفِ الْمَذْكُورِ فِيهِ، وَإِلَّا فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي أَصْلِ اللُّغَةِ كَمَا عَرَفْته مِمَّا نَقَلْنَاهُ فِيمَا مَرَّ آنِفًا عَنْ الْأَسَاسِ وَصَرَّحَ بِهِ الْجَوْهَرِيُّ فِي صِحَاحِهِ حَيْثُ قَالَ: وَاقْتَضَى دَيْنَهُ وَتَقَاضَاهُ بِمَعْنًى فَتَدَبَّرْ (إلَّا أَنَّ الْعُرْفَ بِخِلَافِهِ) أَيْ بِخِلَافِ الْوَضْعِ لِأَنَّ النَّاسَ لَا يَفْهَمُونَ مِنْ التَّقَاضِي الْقَبْضَ بَلْ يَفْهَمُونَ مِنْهُ الْمُطَالَبَةَ (وَهُوَ) أَيْ الْعُرْفُ (قَاضٍ عَلَى الْوَضْعِ) أَيْ رَاجِحٌ عَلَيْهِ لِأَنَّ وَضْعَ الْأَلْفَاظِ لِحَاجَةِ النَّاسِ وَهُمْ لَا يَفْهَمُونَ الْمَعْنَى الْمَوْضُوعَ لَهُ بَلْ يَفْهَمُونَ الْمَجَازَ، فَصَارَ الْمَجَازُ بِمَنْزِلَةِ الْحَقِيقَةِ الْعُرْفِيَّةِ لِتَسَارُعِ أَفْهَامِ النَّاسِ إلَيْهِ (وَالْفَتْوَى عَلَى أَنْ لَا يَمْلِكَ) يَعْنِي فَتْوَى الْمَشَايِخِ الْيَوْمَ عَلَى أَنْ لَا يَمْلِكَ الْوَكِيلُ بِالتَّقَاضِي الْقَبْضَ بِنَاءً عَلَى الْعُرْفِ.

قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَفِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ الْحَقِيقَةَ مُسْتَعْمَلَةٌ وَالْمَجَازُ مُتَعَارَفٌ وَهِيَ أَوْلَى مِنْهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ وَجْهٌ لِأَصْلِ الرِّوَايَةِ وَلَا كَلَامَ فِيهِ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي أَنَّ الْفَتْوَى عَلَى أَصْلِ الرِّوَايَةِ أَوْ عَلَى الْعُرْفِ لِظُهُورِ الْخِيَانَةِ فِي الْوُكَلَاءِ قَالُوا عَلَى الْعُرْفِ فَلَا يَمْلِكُ الْقَبْضَ اهـ كَلَامُهُ. أَقُولُ: لَا النَّظَرُ شَيْءٌ وَلَا الْجَوَابُ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ الْحَقِيقَةَ فِي لَفْظِ التَّقَاضِي غَيْرُ مُسْتَعْمَلَةٍ بَلْ هِيَ مَهْجُورَةٌ كَمَا صَرَّحَ بِهِ ثِقَاتُ الْمَشَايِخِ كَالْإِمَامِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ الْبَزْدَوِيِّ وَصَاحِبِ الْمُحِيطِ وَغَيْرِهِمَا. قَالَ فِي الْمُحِيطِ الْبُرْهَانِيِّ: الْوَكِيلُ بِالتَّقَاضِي يَمْلِكُ الْقَبْضَ عِنْدَ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ، هَكَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ. ثُمَّ قَالَ: وَذَكَرَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الزَّاهِدُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ عَلِيٌّ الْبَزْدَوِيُّ فِي شَرْحِ هَذَا الْكِتَابِ أَنَّ الْوَكِيلَ بِالتَّقَاضِي فِي عُرْفِ دِيَارِنَا لَا يَمْلِكُ الْقَبْضَ، كَذَا جَرَتْ الْعَادَةُ فِي دِيَارِنَا، وَجُعِلَ التَّقَاضِي مُسْتَعْمَلًا فِي الْمُطَالَبَةِ مَجَازًا لِأَنَّهُ سَبَبَ الِاقْتِضَاءِ وَصَارَتْ الْحَقِيقَةُ مَهْجُورَةً إلَى هُنَا كَلَامُهُ.

وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ كَوْنَ الْحَقِيقَةِ الْمُسْتَعْمَلَةِ أَوْلَى مِنْ الْمَجَازِ الْمُتَعَارَفِ أَصْلٌ مُقَرَّرٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَمْ يَرْجِعْ عَنْهُ قَطُّ، فَلَوْ كَانَتْ الْحَقِيقَةُ فِي لَفْظِ التَّقَاضِي مُسْتَعْمَلَةً لَمْ يَصِحَّ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ، وَهُوَ قَاضٍ عَلَى الْوَضْعِ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ قَطْعًا، وَلَمْ يَكُنْ لِلْمَشَايِخِ الْفَتْوَى عَلَى الْعُرْفِ فِي مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ، إذْ يَلْزَمُ حِينَئِذٍ تَرْكُ أَصْلِ إمَامِهِمْ الْمُجْتَهِدِ، وَلَيْسَتْ وَظِيفَتُهُمْ إلَّا الْجَرَيَانُ عَلَى أَصْلِهِ الْكُلِّيِّ، وَإِنْ جَازَ لَهُمْ بَعْضٌ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ

ص: 108

قَالَ (فَإِنْ كَانَا وَكِيلَيْنِ بِالْخُصُومَةِ لَا يَقْبِضَانِ إلَّا مَعًا) لِأَنَّهُ رَضِيَ بِأَمَانَتِهِمَا لَا بِأَمَانَةِ أَحَدِهِمَا، وَاجْتِمَاعُهُمَا مُمْكِنٌ بِخِلَافِ الْخُصُومَةِ عَلَى مَا مَرَّ. قَالَ (وَالْوَكِيلُ بِقَبْضِ الدَّيْنِ يَكُونُ وَكِيلًا بِالْخُصُومَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله) حَتَّى لَوْ أُقِيمَتْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ عَلَى اسْتِيفَاءِ الْمُوَكِّلِ أَوْ إبْرَائِهِ تُقْبَلُ عِنْدَهُ، وَقَالَا: لَا يَكُونُ خَصْمًا وَهُوَ

فِي الْفُرُوعِ الْجُزْئِيَّةِ. لَا يُقَالُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَدَارُ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ وَمَدَارُ فَتْوَاهُمْ عَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، فَإِنَّ الْمَجَازَ الْمُتَعَارَفَ أَوْلَى مِنْ الْحَقِيقَةِ الْمُسْتَعْمَلَةِ عِنْدَهُمَا.

لِأَنَّا نَقُولُ: الَّذِي يَظْهَرُ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ وَمِنْ سَائِرِ الْكُتُبِ أَنْ لَا يَقَعَ خِلَافٌ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَيْنَ أَئِمَّتِنَا الثَّلَاثَةِ؛ أَلَا يَرَى إلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ فِي الْأَصْلِ: الْوَكِيلُ بِالتَّقَاضِي يَمْلِكُ الْقَبْضَ عِنْدَ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ، وَلَوْ كَانَ لِأَصْلِنَا الْمَذْكُورِ تَأْثِيرٌ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَمَا وَقَعَ الِاتِّفَاقُ بَيْنَهُمْ فِيهَا، عَلَى أَنَّ صَاحِبَ التَّلْوِيحِ قَالَ: وَفِي كَلَامِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ وَغَيْرِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَجَازَ الْمُتَعَارَفَ إنَّمَا يَتَرَجَّحُ عِنْدَهُمَا إذَا تَنَاوَلَ الْحَقِيقَةَ بِعُمُومِهِ كَمَا فِي مَسْأَلَةِ أَكْلِ الْحِنْطَةِ اهـ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْأَمْرَ لَيْسَ كَذَلِكَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ فَلَا تَمْشِيَةَ لِأَصْلِهِمَا الْمَذْكُورِ هَاهُنَا رَأْسًا، فَلَا مَجَالَ لَأَنْ يُجْعَلَ مَدَارُ الصِّحَّةِ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ وَفَتْوَى الْمَشَايِخِ فَالتَّحْقِيقُ فِي هَذَا الْمَقَامِ أَنَّ التَّوْكِيلَ بِالتَّقَاضِي كَانَ مُسْتَعْمَلًا عَلَى حَقِيقَتِهِ فِي الْأَوَائِلِ، وَلَمْ يَجْرِ الْعُرْفُ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ، فَكَانَ الْوَكِيلُ بِالتَّقَاضِي يَمْلِكُ الْقَبْضَ بِالِاتِّفَاقِ عَلَى مَا وَقَعَ فِي أَصْلِ الرِّوَايَةِ. وَأَمَّا الْيَوْمَ فَلَمَّا ظَهَرَتْ الْخِيَانَةُ فِي الْوُكَلَاءِ وَجَرَى الْعُرْفُ عَلَى أَنْ جَعَلُوا التَّقَاضِيَ فِي التَّوْكِيلِ بِالتَّقَاضِي مُسْتَعْمَلًا فِي الْمُطَالَبَةِ مَجَازًا وَصَارَتْ الْحَقِيقَةُ مَهْجُورَةً أَفْتَى مَشَايِخُنَا الْمُتَأَخِّرُونَ بِأَنَّ الْوَكِيلَ بِالتَّقَاضِي لَا يَمْلِكُ الْقَبْضَ بِالِاتِّفَاقِ بِنَاءً عَلَى الْأَصْلِ الْمُقَرَّرِ الْمُتَّفِقِ عَلَيْهِ عِنْدَ الْمُجْتَهِدِينَ مِنْ أَنَّ الْمَجَازَ الْمُتَعَارَفَ أَوْلَى مِنْ الْحَقِيقَةِ الْمَهْجُورَةِ فَلَمْ يَبْقَ فِي الْمَقَامِ غُبَارٌ أَصْلًا.

(قَالَ) أَيْ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ (فَإِنْ كَانَا) أَيْ الرَّجُلَانِ (وَكِيلَيْنِ بِالْخُصُومَةِ لَا يَقْبِضَانِ إلَّا مَعًا) أَيْ لَا يَقْبِضَانِ حَقَّ الْمُوَكِّلِ إلَّا مُجْتَمِعَيْنِ (لِأَنَّهُ) أَيْ الْمُوَكِّلَ (رَضِيَ بِأَمَانَتِهِمَا لَا بِأَمَانَةِ أَحَدِهِمَا) وَحْدَهُ (وَاجْتِمَاعُهُمَا مُمْكِنٌ) أَيْ اجْتِمَاعُ الْوَكِيلَيْنِ عَلَى الْقَبْضِ مُمْكِنٌ شَرْعًا فَإِنَّهُمَا يَصِيرَانِ قَابِضَيْنِ بِالتَّخْلِيَةِ بِلَا مَحْذُورٍ (بِخِلَافِ الْخُصُومَةِ) فَإِنَّ اجْتِمَاعَهُمَا عَلَيْهَا غَيْرُ مُمْكِنٍ شَرْعًا (عَلَى مَا مَرَّ) أَشَارَ بِهِ إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّ الِاجْتِمَاعَ فِيهَا مُتَعَذِّرٌ لِلْإِفْضَاءِ إلَى الشَّغْبِ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ (قَالَ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ (وَالْوَكِيلُ بِقَبْضِ الدَّيْنِ يَكُونُ وَكِيلًا بِالْخُصُومَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) قَيَّدَ بِقَبْضِ الدَّيْنِ لِأَنَّ الْوَكِيلَ بِقَبْضِ الْعَيْنِ لَا يَكُونُ وَكِيلًا بِالْخُصُومَةِ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى مَا سَيَجِيءُ، وَالْكَلَامُ فِيهِ يَرْجِعُ إلَى أَصْلِهِ. وَهُوَ أَنَّ التَّوْكِيلَ إذَا وَقَعَ بِاسْتِيفَاءِ عَيْنِ حَقِّ الْمُوَكِّلِ لَمْ يَكُنْ وَكِيلًا بِالْخُصُومَةِ؛ لِأَنَّ التَّوْكِيلَ بِالْخُصُومَةِ وَقَعَ بِالْقَبْضِ لَا غَيْرُ، وَإِذَا وَقَعَ التَّوْكِيلُ بِالتَّمَلُّكِ كَانَ وَكِيلًا بِالْخُصُومَةِ لِأَنَّ التَّمَلُّكَ إنْشَاءُ تَصَرُّفٍ وَحُقُوقُ الْعَقْدِ تَتَعَلَّقُ بِالْعَاقِدِ، كَذَا قَالُوا وَسَيَظْهَرُ حُكْمُ هَذَا الْأَصْلِ فِي دَلِيلِ الْمَسْأَلَةِ.

وَنَقَلَ فِي الْفَتَاوَى الصُّغْرَى عَنْ مَفْقُودِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ خُوَاهَرْ زَادَهْ أَنَّ الْوَكِيلَ بِقَبْضِ الدَّيْنِ لَا يَمْلِكُ الْخُصُومَةَ إجْمَاعًا إنْ كَانَ الْوَكِيلُ مِنْ الْقَاضِي كَمَا لَوْ وَكَّلَ وَكِيلًا بِقَبْضِ دُيُونِ الْغَائِبِ، كَذَا فِي غَايَةِ الْبَيَانِ. ثُمَّ إنَّ الْمُصَنِّفَ أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ ثَمَرَةَ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ (حَتَّى لَوْ أُقِيمَتْ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الْوَكِيلِ بِقَبْضِ الدَّيْنِ (الْبَيِّنَةُ عَلَى اسْتِيفَاءِ الْمُوَكَّلِ) أَيْ عَلَى اسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ مِنْ الْمَدْيُونِ (أَوْ إبْرَائِهِ) أَيْ أَوْ عَلَى إبْرَاءِ الْمُوَكِّلِ الْمَدْيُونَ عَنْ الدَّيْنِ (تُقْبَلُ عِنْدَهُ) أَيْ تُقْبَلُ الْبَيِّنَةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَفِي الذَّخِيرَةِ: إذَا جَحَدَ الْغَرِيمُ الدَّيْنَ وَأَرَادَ الْوَكِيلُ بِالْقَبْضِ أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الدَّيْنِ هَلْ تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ؟ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ تُقْبَلُ، وَعَلَى قَوْلِهِمَا لَا تُقْبَلُ (وَقَالَا: لَا يَكُونُ خَصْمًا) أَيْ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: لَا يَكُونُ الْوَكِيلُ بِقَبْضِ الدَّيْنِ خَصْمًا (وَهُوَ) أَيْ قَوْلُهُمَا

ص: 109

رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّ الْقَبْضَ غَيْرُ الْخُصُومَةِ، وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ يُؤْتَمَنُ عَلَى الْمَالِ يَهْتَدِي فِي الْخُصُومَاتِ فَلَمْ يَكُنْ الرِّضَا بِالْقَبْضِ رِضًا بِهَا. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّهُ وَكَّلَهُ بِالتَّمَلُّكِ لِأَنَّ الدُّيُونَ تُقْضَى بِأَمْثَالِهَا، إذْ قَبْضُ الدَّيْنِ نَفْسِهِ لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا أَنَّهُ جَعَلَ اسْتِيفَاءَ الْعَيْنِ حَقَّهُ مِنْ وَجْهٍ

رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ) وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأَصَحِّ وَأَحْمَدُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ (لِأَنَّ الْقَبْضَ غَيْرُ الْخُصُومَةِ) فَلَمْ يَكُنْ التَّوْكِيلُ بِالْقَبْضِ تَوْكِيلًا بِالْخُصُومَةِ (وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ يُؤْتَمَنُ عَلَى الْمَالِ يَهْتَدِي فِي الْخُصُومَاتِ فَلَمْ يَكُنْ الرِّضَا بِالْقَبْضِ رِضًا بِهَا) أَيْ بِالْخُصُومَةِ (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ) أَيْ الْمُوَكِّلُ (وَكَّلَهُ بِالتَّمَلُّكِ) أَيْ وَكَّلَ الْوَكِيلَ بِقَبْضِ الدَّيْنِ بِتَمَلُّكِ الْمَقْبُوضِ بِمُقَابِلَةِ مَا فِي ذِمَّةِ الْمَدْيُونِ قِصَاصًا (لِأَنَّ الدُّيُونَ تُقْضَى بِأَمْثَالِهَا) لَا بِأَعْيَانِهَا (إذْ قَبَضَ الدَّيْنَ نَفْسَهُ) أَيْ قَبَضَ نَفْسَ الدَّيْنِ (لَا يُتَصَوَّرُ) لِأَنَّهُ وَصْفٌ ثَابِتٌ فِي ذِمَّةِ مَنْ عَلَيْهِ (إلَّا أَنَّهُ جَعَلَ اسْتِيفَاءَ الْعَيْنِ حَقَّهُ مِنْ وَجْهٍ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ لِأَنَّ الدُّيُونَ تُقْضَى بِأَمْثَالِهَا: يَعْنِي أَنَّ الدُّيُونَ وَإِنْ كَانَتْ تُقْضَى بِأَمْثَالِهَا لَا بِأَعْيَانِهَا لِمَا ذَكَرْنَا آنِفًا، إلَّا أَنَّ قَبْضَ الْمِثْلِ جُعِلَ اسْتِيفَاءً لِعَيْنِ حَقِّ الدَّائِنِ مِنْ وَجْهٍ وَلِهَذَا يُجْبَرُ الْمَدْيُونُ عَلَى الْأَدَاءِ، وَلَوْ كَانَ تَمَلُّكًا مَحْضًا لَمَا أُجْبِرَ عَلَيْهِ، وَكَذَا إذَا ظَفَرَ الدَّائِنُ بِجِنْسِ حَقِّهِ حَلَّ لَهُ الْأَخْذُ.

هَذَا خُلَاصَةُ مَا ذَكَرَهُ الْجُمْهُورُ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ. وَأَمَّا صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فَقَالَ فِي شَرْحِهِ: لَكِنَّ الشَّرْعَ جَعَلَ قَبْضَهُ اسْتِيفَاءً لِعَيْنِ حَقِّهِ مِنْ وَجْهٍ لِئَلَّا يَمْتَنِعَ قَضَاءُ دُيُونٍ لَا يَجُوزُ الِاسْتِبْدَالُ بِهَا، وَالتَّوْكِيلُ بِقَبْضِ الدَّيْنِ، فَإِنَّهُ إذَا كَانَ تَوْكِيلًا بِالتَّمَلُّكِ كَانَ تَوْكِيلًا بِالِاسْتِقْرَاضِ، إذْ التَّوْكِيلُ بِقَبْضِ مِثْلِ مَالِ الْمُوَكِّلِ لَا عَيْنِ مَالِهِ ثُمَّ يَتَقَاصَّانِ، وَالتَّوْكِيلُ بِالِاسْتِقْرَاضِ بَاطِلٌ اهـ. أَقُولُ: فِيهِ بَحْثٌ، إذْ لِمَانِعٍ أَنْ يَمْنَعَ امْتِنَاعَ التَّوْكِيلِ بِقَبْضِ الدَّيْنِ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ لَا يَجْعَلَ قَبْضَهُ اسْتِيفَاءً لِعَيْنِ حَقِّهِ مِنْ وَجْهٍ لِجَوَازِ تَصْحِيحِ التَّوْكِيلِ بِقَبْضِ الدَّيْنِ عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ يَجْعَلُهُ رِسَالَةً بِالِاسْتِقْرَاضِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَالرِّسَالَةُ بِالِاسْتِقْرَاضِ جَائِزَةٌ، وَقَدْ أَفْصَحَ عَنْهُ صَاحِبُ الذَّخِيرَةِ حَيْثُ قَالَ: وَفِي الْمَسْأَلَةِ نَوْعُ إشْكَالٍ، لِأَنَّ التَّوْكِيلَ بِقَبْضِ الدَّيْنِ تَوْكِيلٌ بِالِاسْتِقْرَاضِ مَعْنًى، لِأَنَّ الدُّيُونَ تُقْضَى بِأَمْثَالِهَا، فَمَا قَبَضَهُ رَبُّ الدَّيْنِ مِنْ الْمَدْيُونِ يَصِيرُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ وَلَهُ عَلَى الْغَرِيمِ مِثْلُهُ فَيَلْتَقِيَانِ قِصَاصًا.

وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ التَّوْكِيلَ بِالِاسْتِقْرَاضِ غَيْرُ صَحِيحٍ. وَالْجَوَابُ أَنَّ التَّوْكِيلَ بِقَبْضِ الدَّيْنِ رِسَالَةٌ بِالِاسْتِقْرَاضِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَلَيْسَ بِتَوْكِيلِ بِالِاسْتِقْرَاضِ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ لِلْوَكِيلِ بِقَبْضِ الدَّيْنِ مِنْ إضَافَةِ الْقَبْضِ إلَى مُوَكِّلِهِ بِأَنْ يَقُولَ: إنَّ فُلَانًا وَكَّلَنِي بِقَبْضِ مَالِهِ عَلَيْك مِنْ الدَّيْنِ كَمَا لَا بُدَّ لِلرَّسُولِ فِي الِاسْتِقْرَاضِ مِنْ إضَافَةِ الْمُرْسِلِ بِأَنْ يَقُولَ: أَرْسَلَنِي فُلَانٌ إلَيْك يَقُولُ لَك أَقْرِضْنِي كَذَا، بِخِلَافِ الْوَكِيلِ بِالِاسْتِقْرَاضِ فَإِنَّهُ يُضِيفُ إلَى نَفْسِهِ فَيَقُولُ أَقْرَضَنِي فَصَحَّ مَا ادَّعَيْنَاهُ أَنَّهُ رِسَالَةٌ مَعْنًى، وَالرِّسَالَةُ بِالِاسْتِقْرَاضِ جَائِزَةٌ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ.

ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الْإِمَامَ الزَّيْلَعِيَّ قَدْ ذَكَرَ فِي شَرْحِ الْكَنْزِ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الذَّخِيرَةِ مِنْ الْإِشْكَالِ وَالْجَوَابِ الْمَزْبُورَيْنِ وَقَالَ: هَكَذَا ذَكَرَهُ فِي النِّهَايَةِ وَعَزَاهُ إلَى الذَّخِيرَةِ، ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا سُؤَالٌ حَسَنٌ، وَالْجَوَابُ غَيْرُ مُخَلِّصٌ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ رَسُولًا لَمَا كَانَ لَهُ أَنْ يُخَاصِمَ اهـ. أَقُولُ: لَيْسَ ذَاكَ بِسَدِيدٍ، إذْ لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ الْوَكِيلَ بِقَبْضِ الدَّيْنِ رَسُولٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ حَتَّى لَا يَكُونَ خَصْمًا، بَلْ الْمُرَادُ أَنَّهُ رَسُولٌ

ص: 110

فَأَشْبَهَ الْوَكِيلَ بِأَخْذِ الشُّفْعَةِ وَالرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ وَالْوَكِيلُ بِالشِّرَاءِ وَالْقِسْمَةِ وَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ، وَهَذِهِ أَشْبَهُ بِأَخْذِ الشُّفْعَةِ حَتَّى يَكُونَ خَصْمًا قَبْلَ الْقَبْضِ كَمَا يَكُونُ خَصْمًا قَبْلَ الْأَخْذِ هُنَالِكَ. وَالْوَكِيلُ بِالشِّرَاءِ لَا يَكُونُ خَصْمًا قَبْلَ مُبَاشَرَةِ الشِّرَاءِ

بِالِاسْتِقْرَاضِ بِالنَّظَرِ إلَى قَبْضِ مِثْلِ الدَّيْنِ ابْتِدَاءً وَوَكِيلٌ بِالتَّمَلُّكِ بِالنَّظَرِ إلَى الْمُقَاصَّةِ الْحَاصِلَةِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَكَوْنُهُ خَصْمًا حُكْمٌ مُتَرَتِّبٌ عَلَى الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ فَلَا غُبَارَ عَلَى الْجَوَابِ (فَأَشْبَهَ) أَيْ الْوَكِيلَ بِقَبْضِ الدَّيْنِ (الْوَكِيلُ بِأَخْذِ الشُّفْعَةِ) يَعْنِي أَنَّهُ أَشْبَهَ ذَلِكَ فِي كَوْنِهِ خَصْمًا، فَإِنَّهُ إذَا أَقَامَ الْمُشْتَرِي الْبَيِّنَةَ عَلَى الْوَكِيلِ بِأَخْذِ الشُّفْعَةِ عَلَى تَسْلِيمِ الْمُوَكِّلِ الشُّفْعَةَ تُقْبَلُ (وَالرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ) بِالْجَرِّ عَطْفٌ عَلَى أَخْذِ الشُّفْعَةِ: أَيْ فَأَشْبَهَ أَيْضًا الْوَكِيلَ بِالرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ، فَإِنَّهُ إذَا أَقَامَ الْمَوْهُوبُ لَهُ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْوَكِيلِ بِالرُّجُوعِ عَلَى أَنَّ الْمُوَكِّلَ الْوَاهِبَ أَخَذَ الْعِوَضَ تُقْبَلُ (وَالْوَكِيلَ بِالشِّرَاءِ) بِالنَّصْبِ عَطْفٌ عَلَى الْوَكِيلِ بِأَخْذِ الشُّفْعَةِ: أَيْ فَأَشْبَهَ أَيْضًا الْوَكِيلَ بِالشِّرَاءِ فَإِنَّهُ خَصْمٌ يُطَالِبُ بِحُقُوقِ الْعَقْدِ وَلَا يَرَى لِفَصْلِهِ عَمَّا قَبْلَهُ بِإِعَادَةِ لَفْظِ الْوَكِيلِ كَثِيرَ فَائِدَةٍ (وَالْقِسْمَةِ) بِالْجَرِّ عَطْفٌ عَلَى الشِّرَاءِ: أَيْ فَأَشْبَهَ أَيْضًا الْوَكِيلُ بِالْقِسْمَةِ.

فَإِنَّ أَحَدَ الشَّرِيكَيْنِ إذَا وَكَّلَ رَجُلًا بِأَنْ يُقَاسِمَ مَعَ شَرِيكِهِ وَأَقَامَ الشَّرِيكُ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهِ بِأَنَّ الْمُوَكِّلَ قَبَضَ نَصِيبَهُ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ (وَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ) بِالْجَرِّ عَطْفٌ عَلَى الشِّرَاءِ أَيْضًا: أَيْ فَأَشْبَهَ أَيْضًا الْوَكِيلُ بِالرَّدِّ بِالْعَيْبِ عَلَى الْبَائِعِ، فَإِنَّ الْبَائِعَ إذَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهِ بِأَنَّ الْمُوَكِّلَ رَضِيَ بِالْعَيْبِ تُقْبَلُ (وَهَذِهِ) أَيْ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْوَكِيلِ بِقَبْضِ الدَّيْنِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ وَهَذَا: أَيْ الْوَكِيلُ بِقَبْضِ الدِّينِ (أَشْبَهَ بِأَخْذِ الشُّفْعَةِ) أَيْ أَشْبَهَ بِالْوَكِيلِ بِأَخْذِ الشُّفْعَةِ مِنْهَا بِالْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ، كَذَا صَرَّحُوا بِهِ فِي شُرُوحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ شُرَّاحَ الْهِدَايَةِ قَدْ افْتَرَقُوا فِي تَفْسِيرِ مَعْنَى كَلَامِ الْمُصَنِّفِ هَذَا وَتَبْيِينِ الْمُرَادِ بِالْمُفَضَّلِ عَلَيْهِ هَاهُنَا فَقَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: أَيْ الْوَكِيلُ بِقَبْضِ الدَّيْنِ أَشْبَهَ بِالْوَكِيلِ بِأَخْذِ الشُّفْعَةِ مِنْ الْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ، وَذَكَرَ هَذَا الْمَعْنَى صَاحِبُ الْعِنَايَةِ وَغَايَةِ الْبَيَانِ أَيْضًا، لَكِنْ بِطَرِيقِ النَّقْلِ عَنْ شُرُوحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِعِبَارَتَيْنِ، فَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: قَالُوا فِي شُرُوحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: وَهَذِهِ أَيْ مَسْأَلَةُ الْوَكِيلِ بِالْقَبْضِ أَشْبَهَ بِالْوَكِيلِ بِأَخْذِ الشُّفْعَةِ مِنْهَا بِالْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ. وَقَالَ صَاحِبُ الْغَايَةِ: قَالُوا فِي شُرُوحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: إنَّ الْوَكِيلَ بِقَبْضِ الدَّيْنِ أَشْبَهَ بِالْوَكِيلِ بِأَخْذِ الشُّفْعَةِ مِنْ الْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ.

وَقَالَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ: أَيْ مَسْأَلَةُ الْوَكِيلِ بِقَبْضِ الدَّيْنِ أَشْبَهَ بِمَسْأَلَةِ الْوَكِيلِ بِأَخْذِ الشُّفْعَةِ مِنْ الْمَسَائِلِ الثَّلَاثِ الْأُخَرِ، وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِأَنَّ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ مَا لَمْ تُوجَدْ الْمُبَادَلَةُ لَا تَثْبُتُ الْوِكَالَةِ بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الشُّفْعَةِ وَقَبْضِ الدَّيْنِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ صَاحِبُ مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ وَالشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ أَيْضًا، وَلَكِنْ لَمْ يُعَيِّنُوا تِلْكَ الثَّلَاثَ الْأُخَرَ مِنْ بَيْنِ الْمَسَائِلِ الْأَرْبَعِ الْبَاقِيَةِ بَعْدَ مَسْأَلَةِ الْوَكِيلِ بِأَخْذِ الشُّفْعَةِ. ثُمَّ إنَّ الْمُصَنِّفَ بَيَّنَ وَجْهَ الْأَشْبَهِيَّةِ بِقَوْلِهِ (حَتَّى يَكُونَ خَصْمًا قَبْلَ الْقَبْضِ) أَيْ حَتَّى يَكُونَ الْوَكِيلُ بِقَبْضِ الدَّيْنِ خَصْمًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ قَبْلَ قَبْضِ الدَّيْنِ (كَمَا يَكُونُ) أَيْ كَمَا يَكُونُ الْوَكِيلُ (خَصْمًا قَبْلَ الْأَخْذِ) أَيْ قَبْلَ أَخْذِ الْعَقَارِ (هُنَالِكَ) أَيْ فِي التَّوْكِيلِ بِأَخْذِ الشُّفْعَةِ (وَالْوَكِيلُ بِالشِّرَاءِ لَا يَكُونُ خَصْمًا قَبْلَ مُبَاشَرَةِ الشِّرَاءِ) فَافْتَرَقَا.

أَقُولُ: لَا يَذْهَبُ عَلَيْك أَنَّ تَخْصِيصَ الْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ بِالذِّكْرِ هَاهُنَا يُشْعِرُ بِكَوْنِ الْمُرَادِ بِالْمُفَضَّلِ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ فِيمَا مَرَّ، وَهَذِهِ أَشْبَهَ بِأَخْذِ الشُّفْعَةِ هُوَ الْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ، فَيَكُونُ مَعْنَاهُ: أَنَّ مَسْأَلَةَ الْوَكِيلِ بِقَبْضِ الدَّيْنِ أَشْبَهَ بِمَسْأَلَةِ الْوَكِيلِ بِأَخْذِ الشُّفْعَةِ لِأَنَّهَا بِالْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ شُرَّاحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَذَهَبَ إلَيْهِ فِرْقَةٌ مِنْ شُرَّاحِ الْهِدَايَةِ، وَاخْتَرْنَاهُ أَيْضًا فِي شَرْحِنَا هُنَالِكَ بِنَاءً عَلَى هَذَا، وَلَكِنْ بَقِيَتْ شُبْهَةٌ، وَهِيَ أَنَّ الْوَكِيلَ إنْ لَمْ يَكُنْ خَصْمًا قَبْلَ الْمُبَاشَرَةِ لِمَا وُكِّلَ بِهِ فِي الْمَسَائِلِ الْأَرْبَعِ الْبَاقِيَةِ أَيْضًا لَا يَظْهَرُ لِتَخْصِيصِ مَسْأَلَةِ الْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ بِالذِّكْرِ وَجَعْلِ الْمُفَضَّلِ عَلَيْهِ إيَّاهَا فَقَطْ وَجْهٌ وَإِنْ كَانَ خَصْمًا قَبْلَ ذَلِكَ فِي تِلْكَ الْمَسَائِلِ أَيْضًا كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ سِيَّمَا فِي مَسْأَلَةِ التَّوْكِيلِ بِالْقِسْمَةِ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ الشَّرِيكَ الْآخَرَ لَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ قَبْلَ أَنْ يُقَسِّمَ الْوَكِيلُ

ص: 111

وَهَذَا لِأَنَّ الْمُبَادَلَةَ تَقْتَضِي حُقُوقًا وَهُوَ أَصِيلٌ فِيهَا فَيَكُونُ خَصْمًا فِيهَا

قَالَ (وَالْوَكِيلُ بِقَبْضِ الْعَيْنِ لَا يَكُونُ وَكِيلًا بِالْخُصُومَةِ) بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّهُ أَمِينٌ مَحْضٌ، وَالْقَبْضُ لَيْسَ بِمُبَادَلَةٍ فَأَشْبَهَ الرَّسُولَ (حَتَّى أَنَّ مَنْ وَكَّلَ وَكِيلًا بِقَبْضِ عَبْدٍ لَهُ فَأَقَامَ الَّذِي هُوَ فِي يَدِهِ الْبَيِّنَةَ أَنَّ الْمُوَكِّلَ بَاعَهُ إيَّاهُ وَقَفَ الْأَمْرُ حَتَّى يَحْضُرَ الْغَائِبُ) وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ، وَالْقِيَاسُ أَنْ يَدْفَعَ إلَى الْوَكِيلِ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ قَامَتْ لِأَعْلَى خَصْمٍ فَلَمْ تُعْتَبَرْ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ خَصْمٌ فِي قَصْرِ يَدِهِ لِقِيَامِهِ مَقَامَ الْمُوَكِّلِ فِي الْقَبْضِ فَتَقْصُرُ يَدُهُ حَتَّى لَوْ حَضَرَ الْبَائِعُ تُعَادُ الْبَيِّنَةُ عَلَى الْبَيْعِ

بِالْقِسْمَةِ مَا وُكِّلَ بِتَقْسِيمِهِ عَلَى أَنَّ الْمُوَكِّلَ قَبَضَ نَصِيبَهُ مِنْهُ تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ، لَا يَظْهَرُ لِتَخْصِيصِ أَشْبَهِيَّةِ الْوَكِيلِ بِقَبْضِ الدَّيْنِ بِالْوَكِيلِ بِأَخْذِ الشُّفْعَةِ وَجْهٌ، إذْ يَصِيرُ الْوَكِيلُ بِقَبْضِ الدَّيْنِ حِينَئِذٍ أَشْبَهَ بِتِلْكَ الْمَسَائِلِ أَيْضًا مِنْ الْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ فَتَأَمَّلْ (وَهَذَا) إشَارَةٌ إلَى مَطْلَعِ نُكْتَةِ أَبِي حَنِيفَةَ بِقَوْلِهِ إنَّهُ وَكَّلَهُ بِالتَّمَلُّكِ (لِأَنَّ الْمُبَادَلَةَ تَقْتَضِي حُقُوقًا) كَالتَّسْلِيمِ وَالتَّسَلُّمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ (وَهُوَ) أَيْ الْوَكِيلُ بِالتَّمَلُّكِ (أَصِيلٌ فِيهَا) أَيْ فِي الْحُقُوقِ (فَيَكُونُ خَصْمًا فِيهَا) أَيْ فِي الْحُقُوقِ: يَعْنِي كَأَنَّ الْمُوَكِّلَ أَمَرَ الْوَكِيلَ بِتَمَلُّكِ مِثْلِ الدَّيْنِ الَّذِي عَلَى الْمَدْيُونِ وَذَلِكَ مُبَادَلَةٌ، وَالْمَأْمُورُ بِالْمُبَادَلَةِ يَكُونُ أَصِيلًا فِي حُقُوقِ الْمُبَادَلَةِ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَأَكْثَرِ الشُّرُوحِ. وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: قَوْلُهُ وَهَذَا إشَارَةٌ إلَى مَا أَشَرْنَا إلَيْهِ مِمَّا يَتِمُّ بِهِ دَلِيلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ أَنَّ الْوَكِيلَ بِالتَّمَلُّكِ أَصِيلٌ فِي الْحُقُوقِ اهـ.

فَعَلَيْك الِاخْتِبَارُ ثُمَّ الِاخْتِيَارُ. وَاعْتَرَضَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ عَلَى كَلَامِ الْمُصَنَّفِ هُنَا حَيْثُ قَالَ: فِيهِ بَحْثٌ، فَإِنَّ الْمُبَادَلَةَ لَمْ تَقَعْ مِنْ الْوَكِيلِ بَلْ مِنْ مُوَكِّلِهِ، فَكَيْفَ يَكُونُ الْوَكِيلُ أَصِيلًا فِي حُقُوقِهَا. وَقَالَ: فَإِنْ قِيلَ: الْمُبَادَلَةُ فِي التَّمَلُّكِ بِأَخْذِ الدَّيْنِ.

قُلْنَا: ذَلِكَ لَمْ يَقَعْ بَعْدٌ فَتَأَمَّلْ اهـ. أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا بِمُتَوَجِّهٍ، لِأَنَّ تَعَلُّقَ بَعْضِ الْحُقُوقِ بِشَيْءٍ قَبْلَ وُقُوعِهِ لَيْسَ بِعَزِيزٍ؛ أَلَا يَرَى أَنَّ حَقَّ الْخُصُومَةِ يَثْبُتُ لِلْوَكِيلِ بِأَخْذِ الشُّفْعَةِ قَبْلَ وُقُوعِ الْأَخْذِ، فَكَذَا هَاهُنَا، وَقَدْ أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ وَهَذِهِ أَشْبَهَ بِأَخْذِ الشُّفْعَةِ حَتَّى يَكُونَ خَصْمًا قَبْلَ الْقَبْضِ كَمَا يَكُونُ خَصْمًا قَبْلَ الْأَخْذِ هُنَالِكَ. ثُمَّ إنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ قَبْضَ الدَّيْنِ وَإِنْ كَانَ مُبَادَلَةً مِنْ جِهَةِ كَوْنِ الدُّيُونِ تُقْضَى بِأَمْثَالِهَا إلَّا أَنَّهُ اسْتِيفَاءٌ لِعَيْنِ الْحَقِّ مِنْ وَجْهٍ كَمَا مَرَّ، فَلِشَبَهِهِ بِالْمُبَادَلَةِ تَعَلَّقَ حَقُّ الْخُصُومَةِ بِالْوَكِيلِ، وَلِشَبَهِهِ بِأَخْذِ عَيْنِ الْحَقِّ جَازَتْ الْخُصُومَةُ قَبْلَ وُقُوعِ التَّمَلُّكِ بِقَبْضِ الدَّيْنِ وَيُرْشِدُ إلَيْهِ مَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ قَاضِي خَانْ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ حَيْثُ قَالَ: لَا يُقَالُ لَوْ كَانَ وَكِيلًا بِالْمُبَادَلَةِ وَجَبَ أَنْ تَلْحَقَهُ الْعُهْدَةُ فِي الْمَقْبُوضِ.

لِأَنَّا نَقُولُ: إنَّمَا لَا تَلْحَقُهُ الْعُهْدَةُ فِي الْمَقْبُوضِ لِأَنَّ قَبْضَ الدَّيْنِ وَإِنْ كَانَ مُبَادَلَةً مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فَهُوَ اسْتِيفَاءُ عَيْنِ الْحَقِّ مِنْ وَجْهٍ؛ لِأَنَّ مِنْ الدُّيُونِ مَا لَا يَجُوزُ الِاسْتِبْدَالُ بِهِ، فَلِشَبَهِهِ بِالْمُبَادَلَةِ جَعَلْنَاهُ خَصْمًا، وَلِشَبَهِهِ بِأَخْذِ الْعَيْنِ لَا تَلْحَقُهُ الْعُهْدَةُ فِي الْمَقْبُوضِ عَمَلًا بِهَا اهـ

(قَالَ) أَيْ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ (وَالْوَكِيلُ بِقَبْضِ الْعَيْنِ لَا يَكُونُ وَكِيلًا بِالْخُصُومَةِ بِالِاتِّفَاقِ) أَيْ بِاتِّفَاقِ أَصْحَابِنَا.

وَلِلشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ فِيهِ قَوْلَانِ كَمَا فِي قَبْضِ الدَّيْنِ (لِأَنَّهُ) أَيْ لِأَنَّ الْوَكِيلَ بِقَبْضِ الْعَيْنِ (أَمِينٌ مَحْضٌ) حَيْثُ لَا مُبَادَلَةَ هَاهُنَا لِأَنَّهُ يَقْبِض عَيْنِ حَقِّ الْمُوَكِّلِ (وَالْقَبْضُ) أَيْ قَبْضُ الْعَيْنِ (لَيْسَ بِمُبَادَلَةٍ فَأَشْبَهَ الرَّسُولُ، حَتَّى إنَّ مَنْ وَكَّلَ وَكِيلًا بِقَبْضِ عَبْدٍ لَهُ) أَيْ لِلْمُوَكِّلِ (فَأَقَامَ الَّذِي هُوَ فِي يَدِهِ) أَيْ فَأَقَامَ ذُو الْيَدِ (الْبَيِّنَةَ) عَلَى (أَنَّ الْمُوَكِّلِ بَاعَهُ) أَيْ بَاعَ الْعَبْدَ (إيَّاهُ) أَيْ ذَا الْيَدِ (وَقَفَ الْأَمْرُ حَتَّى يَحْضُرَ الْغَائِبُ) أَيْ الْمُوَكِّلُ (وَهَذَا) أَيْ وُقُوفُ الْأَمْرِ (اسْتِحْسَانٌ) أَيْ مُقْتَضَى الِاسْتِحْسَانِ (وَالْقِيَاسُ) أَيْ مُقْتَضَاهُ (أَنْ يَدْفَعَ) أَيْ الْعَبْدَ (إلَى الْوَكِيلِ) وَلَا يَلْتَفِتُ إلَى بَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ (لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ قَامَتْ لِأَعْلَى خَصْمٍ) بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْوَكِيلَ بِقَبْضِ الْعَيْنِ لَا يَكُونُ وَكِيلًا بِالْخُصُومَةِ (فَلَمْ تُعْتَبَرْ) أَيْ الْبَيِّنَةُ (وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ) أَيْ الْوَكِيلَ (خَصْمٌ فِي قَصْرِ يَدِهِ) أَيْ فِي حَقِّ قَصْرِ يَدِ نَفْسِهِ عَنْ الْعَبْدِ (لِقِيَامِهِ مَقَامَ الْمُوَكِّلِ فِي الْقَبْضِ فَتَقْصُرُ يَدُهُ) أَيْ يَدُ الْوَكِيلِ: يَعْنِي يَصِيرُ أَثَرُ الْبَيِّنَةِ مُجَرَّدَ قَصْرِ يَدِهِ لَا إثْبَاتَ الْبَيْعِ (وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ الْبَيْعُ، حَتَّى لَوْ حَضَرَ الْغَائِبُ) وَهُوَ الْمُوَكِّلُ (تُعَادُ الْبَيِّنَةُ عَلَى الْبَيْعِ) يَعْنِي لَوْ حَضَرَ

ص: 112

فَصَارَ كَمَا إذَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّ الْمُوَكِّلَ عَزَلَهُ عَنْ ذَلِكَ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ فِي قَصْرِ يَدِهِ كَذَا هَذَا

. قَالَ (وَكَذَلِكَ الْعَتَاقُ وَالطَّلَاقُ وَغَيْرُ ذَلِكَ) وَمَعْنَاهُ إذَا أَقَامَتْ الْمَرْأَةُ الْبَيِّنَةَ عَلَى الطَّلَاقِ وَالْعَبْدُ وَالْأَمَةُ عَلَى الْعَتَاقِ عَلَى الْوَكِيلِ بِنَقْلِهِمْ تُقْبَلُ فِي قَصْرِ يَدِهِ حَتَّى يَحْضُرَ الْغَائِبُ اسْتِحْسَانًا دُونَ الْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ.

قَالَ (وَإِذَا أَقَرَّ الْوَكِيلُ بِالْخُصُومَةِ عَلَى مُوَكِّلِهِ عِنْدَ الْقَاضِي جَازَ إقْرَارُهُ عَلَيْهِ

الْمُوَكِّلُ لَا بُدَّ لِذِي الْيَدِ مِنْ إعَادَةِ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى الْبَيْعِ فِي مَحْضَرِ الْمُوَكِّلِ، وَلَا يَكْتَفِي بِالْبَيِّنَةِ السَّابِقَةِ فِي إثْبَاتِ الْبَيْعِ لِعَدَمِ كَوْنِ الْوَكِيلِ خَصْمًا مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ (فَصَارَ) هَذَا (كَمَا إذَا أَقَامَ) أَيْ ذُو الْيَدِ (الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّ الْمُوَكِّلَ عَزَلَهُ) أَيْ عَزَلَ الْوَكِيلَ (عَنْ ذَلِكَ) أَيْ عَنْ التَّوْكِيلِ بِقَبْضِ الْعَيْنِ (فَإِنَّهَا تُقْبَلُ) أَيْ فَإِنَّ الْبَيِّنَةَ تُقْبَلُ هُنَاكَ (فِي قَصْرِ يَدِهِ) أَيْ فِي حَقِّ قَصْرِ يَدِهِ (كَذَا هَذَا) أَيْ مَا نَحْنُ فِيهِ

(قَالَ) أَيْ مُحَمَّدٌ فِي مُخْتَصَرِهِ (وَكَذَلِكَ الْعَتَاقُ وَالطَّلَاقُ وَغَيْرُ ذَلِكَ) كَالِارْتِهَانِ، فَإِنَّهُ إذَا ادَّعَى صَاحِبُ الْيَدِ الِارْتِهَانَ مِنْ الْمُوَكِّلِ وَأَقَامَ بَيِّنَةً عَلَى ذَلِكَ تُقْبَلُ فِي حَقِّ قَصْرِ يَدِهِ لَا فِي ثُبُوتِ الِارْتِهَانِ فِي حَقِّ الْمُوَكِّلِ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَمَعْنَاهُ) أَيْ مَعْنَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ: وَكَذَلِكَ الْعَتَاقُ وَالطَّلَاقُ (إذَا أَقَامَتْ الْمَرْأَةُ الْبَيِّنَةَ عَلَى الطَّلَاقِ وَالْعَبْدُ وَالْأَمَةُ) أَيْ وَإِذَا أَقَامَ الْعَبْدُ وَالْأَمَةُ الْبَيِّنَةَ (عَلَى الْعَتَاقِ عَلَى الْوَكِيلِ بِنَقْلِهِمْ) مُتَعَلِّقٌ بِالْإِقَامَةِ: أَيْ وَإِذَا أَقَامُوا الْبَيِّنَةَ عَلَى الْوَكِيلِ بِنَقْلِهِمْ إلَى الْمُوَكِّلِ يَعْنِي إذَا أَرَادَ الْوَكِيلُ بِنَقْلِ الْمَرْأَةِ إلَى زَوْجِهَا الْمُوَكِّلِ نَقَلَهَا إلَيْهِ وَأَرَادَ الْوَكِيلُ بِقَبْضِ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ نَقْلَهُمَا إلَى مَوْلَاهُمَا الْمُوَكِّلِ قَبَضَهُمَا وَنَقَلَهُمَا إلَيْهِ، فَأَقَامَتْ الْمَرْأَةُ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْوَكِيلِ بِنَقْلِهَا عَلَى أَنَّ زَوْجَهَا طَلَّقَهَا، وَأَقَامَ الْعَبْدُ وَالْأَمَةُ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْوَكِيلِ بِنَقْلِهِمَا عَلَى أَنَّ مَوْلَاهُمَا أَعْتَقَهُمَا (فَإِنَّهَا تُقْبَلُ فِي قَصْرِ يَدِهِ) أَيْ فِي حَقِّ قَصْرِ يَدِ الْوَكِيلِ عَنْهُمْ (حَتَّى يَحْضُرَ الْغَائِبُ) أَيْ إلَى أَنْ يَحْضُرَ الْغَائِبُ (اسْتِحْسَانًا) أَيْ تُقْبَلُ اسْتِحْسَانًا، وَأَمَّا قِيَاسًا فَلَا تُقْبَلُ لِقِيَامِهَا لِأَعْلَى خَصْمٍ (دُونَ الْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ) أَيْ لَا تُقْبَلُ فِي حَقِّ ثُبُوتِ الْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ لَا قِيَاسًا وَلَا اسْتِحْسَانًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْوَكِيلَ لَيْسَ بِخَصْمٍ فِي إثْبَاتِ الْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ وَإِنْ كَانَ خَصْمًا فِي قَصْرِ يَدِهِ، وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ قَصْرِ يَدِهِ الْقَضَاءُ بِالْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ عَلَى الْغَائِبِ فَتُقْبَلُ فِي الْقَصْرِ دُونَ غَيْرِهِ.

وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْبَيِّنَةَ قَامَتْ عَلَى شَيْئَيْنِ: عَلَى الْبَيْعِ وَالْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ، وَعَلَى قَصْرِ يَدِ الْوَكِيلِ. فَفِي حَقِّ زَوَالِ الْمِلْكِ عَنْ الْمُوَكِّلِ قَامَتْ لِأَعْلَى خَصْمٍ، وَفِي حَقِّ قَصْرِ يَدِ الْوَكِيلِ قَامَتْ عَلَى خَصْمٍ فَتُقْبَلُ فِي حَقِّ قَصْرِ يَدِهِ لَا فِي حَقِّ إزَالَةِ مِلْكِ الْمُوَكِّلِ

(قَالَ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ (وَإِذَا أَقَرَّ الْوَكِيلُ بِالْخُصُومَةِ عَلَى مُوَكِّلِهِ عِنْدَ الْقَاضِي) مُتَعَلِّقٌ بِأَقَرَّ أَيْ أَقَرَّ عِنْدَ الْقَاضِي (جَازَ إقْرَارُهُ عَلَيْهِ) أَطْلَقَ الْإِقْرَارَ وَالْمُوَكِّلَ لِيَتَنَاوَلَ اسْمُ الْمُوَكِّلِ لِلْمُدَّعِي

ص: 113

وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ غَيْرِ الْقَاضِي) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ اسْتِحْسَانًا إلَّا أَنَّهُ يَخْرُجُ عَنْ الْوِكَالَةِ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَجُوزُ إقْرَارُهُ عَلَيْهِ وَإِنْ أَقَرَّ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ. وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: لَا يَجُوزُ فِي الْوَجْهَيْنِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله أَوَّلًا، وَهُوَ الْقِيَاسُ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْخُصُومَةِ وَهِيَ مُنَازَعَةٌ وَالْإِقْرَارُ يُضَادُّهُ لِأَنَّهُ مُسَالَمَةٌ، وَالْأَمْرُ بِالشَّيْءِ لَا يَتَنَاوَلُ ضِدَّهُ وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ الصُّلْحَ وَالْإِبْرَاءَ وَيَصِحُّ إذَا اسْتَثْنَى الْإِقْرَارَ

وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَإِنَّ هَذَا الْحُكْمَ وَهُوَ جَوَازُ إقْرَارِ الْوَكِيلِ عَلَى مُوَكِّلِهِ لَا يَتَفَاوَتُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مُوَكِّلُهُ مُدَّعِيًا أَوْ مُدَّعًى عَلَيْهِ، سِوَى أَنَّ مَعْنَى الْإِقْرَارِ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْمُوَكِّلِ، فَإِقْرَارُ وَكِيلِ الْمُدَّعِي هُوَ أَنْ يُقِرَّ أَنَّ مُوَكِّلَهُ قَبَضَ هَذَا الْمَالَ وَإِقْرَارُ وَكِيلِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ هُوَ أَنْ يُقِرَّ بِوُجُوبِ الْمَالِ عَلَى مُوَكِّلِهِ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ.

وَخُلَاصَةُ هَذَا مَا قَالَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ سَوَاءٌ كَانَ مُوَكِّلُهُ الْمُدَّعِيَ فَأَقَرَّ بِاسْتِيفَاءِ الْحَقِّ أَوْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَأَقَرَّ بِثُبُوتِهِ عَلَيْهِ. وَيَقْرُبُ مِنْهُ مَا قَالَهُ صَاحِبُ الْكَافِي: وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْوَكِيلُ بِالْخُصُومَةِ مِنْ الْمُدَّعِي فَأَقَرَّ بِالْقَبْضِ أَوْ الْإِبْرَاءِ، أَوْ مِنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَأَقَرَّ عَلَيْهِ بِالْحَقِّ (وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ غَيْرِ الْقَاضِي) أَيْ لَا يَجُوزُ إقْرَارُ الْوَكِيلِ بِالْخُصُومَةِ عَلَى مُوَكِّلِهِ عِنْدَ غَيْرِ الْقَاضِي (عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ اسْتِحْسَانًا) وَقَوْلُهُ اسْتِحْسَانًا يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ جَازَ وَبِقَوْلِهِ لَمْ يَجُزْ كَمَا ذَكَرَ فِي النِّهَايَةِ فَتَأَمَّلْ (إلَّا أَنَّهُ يَخْرُجُ عَنْ الْوِكَالَةِ) فَلَا يَدْفَعُ الْمَالَ إلَيْهِ. وَلَوْ ادَّعَى بَعْدَ ذَلِكَ وَأَقَامَ بَيِّنَةً عَلَى ذَلِكَ لَا تُسْمَعُ بَيِّنَتُهُ. وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِلْإِمَامِ الْمَحْبُوبِيُّ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ تَبْطُلُ الْوِكَالَةُ عَلَى رِوَايَةِ الْأَصْلِ لِأَنَّهُ زَعَمَ أَنَّهُ مُبْطِلٌ فِي دَعْوَاهُ (وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَجُوزُ إقْرَارُهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَقَرَّ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ. وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ فِي الْوَجْهَيْنِ)

أَيْ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي وَفِي غَيْرِ مَجْلِسِهِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى رحمهم الله (وَهُوَ) أَيْ قَوْلُ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ (قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ أَوَّلًا وَهُوَ الْقِيَاسُ) أَيْ مُقْتَضَاهُ (لِأَنَّهُ) أَيْ الْوَكِيلَ (مَأْمُورٌ بِالْخُصُومَةِ وَهِيَ) أَيْ الْخُصُومَةُ (مُنَازَعَةٌ) وَمُشَاجَرَةٌ (وَالْإِقْرَارُ يُضَادُّهُ) أَيْ يُضَادُّ الْخُصُومَةَ الَّتِي هِيَ مُنَازَعَةٌ وَتَذْكِيرُ الضَّمِيرِ بِتَأْوِيلِ مَا أَمَرَ بِهِ (لِأَنَّهُ) أَيْ الْإِقْرَارَ (مُسَالَمَةٌ) وَمُسَاعَدَةٌ (وَالْأَمْرُ بِالشَّيْءِ لَا يَتَنَاوَلُ ضِدَّهُ، وَلِهَذَا) أَيْ وَلِأَجْلِ عَدَمِ تَنَاوُلِ الْأَمْرِ بِالشَّيْءِ ضِدَّ ذَلِكَ الشَّيْءِ (لَا يَمْلِكُ) أَيْ الْوَكِيلُ بِالْخُصُومَةِ (الصُّلْحَ وَالْإِبْرَاءَ) وَكَذَا لَا يَمْلِكُ الْهِبَةَ وَالْبَيْعَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْكَافِي وَغَيْرُهُ، فَإِنَّ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَفْعَالِ مَا يُضَادُّ الْخُصُومَةَ (وَيَصِحُّ) أَيْ يَصِحُّ التَّوْكِيلُ بِالْخُصُومَةِ (إذَا اسْتَثْنَى الْإِقْرَارَ) بِأَنْ قَالَ وَكَّلْتُك بِالْخُصُومَةِ غَيْرُ جَائِزٍ الْإِقْرَارُ، أَوْ بِأَنْ قَالَ وَكَّلْتُك بِالْخُصُومَةِ بِشَرْطِ أَنْ لَا تُقِرَّ عَلَيَّ.

قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ دَلِيلُ مَنْ يَقُولُ إنَّ التَّوْكِيلَ بِالْخُصُومَةِ لَا يَتَنَاوَلُ الْإِقْرَارَ، فَوَجْهُ الدَّلَالَةِ هُوَ أَنَّ التَّوْكِيلَ بِالْخُصُومَةِ لَوْ كَانَ مَجَازًا لِمُطْلَقِ الْجَوَابِ لَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَصِحَّ اسْتِثْنَاءُ الْإِقْرَارِ مِنْ التَّوْكِيلِ

ص: 114

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

بِالْخُصُومَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْجَوَابِ إمَّا الْإِقْرَارُ أَوْ الْإِنْكَارُ لَا كِلَاهُمَا بِالِاتِّفَاقِ. ثُمَّ فِي صِحَّةِ اسْتِثْنَاءِ الْإِقْرَارِ عَنْ الْجَوَابِ يَلْزَمُ اسْتِثْنَاءُ الْكُلِّ مِنْ الْكُلِّ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا أَنَّ التَّوْكِيلَ بِالْخُصُومَةِ غَيْرُ جَائِزِ الْإِنْكَارِ لَا يَصِحُّ لِمَا قُلْنَا. فَعُلِمَ بِهَذَا أَنَّ التَّوْكِيلَ بِالْخُصُومَةِ لَيْسَ بِمَجَازٍ لِمُطْلَقِ الْجَوَابِ اهـ كَلَامُهُ. أَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْجَوَابِ إمَّا الْإِقْرَارُ أَوْ الْإِنْكَارُ لَا كِلَاهُمَا بِالِاتِّفَاقِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْجَوَابِ إمَّا الْإِقْرَارُ وَحْدَهُ أَوْ الْإِنْكَارُ وَحْدَهُ لَا مَا يَعُمُّهُمَا بِالِاتِّفَاقِ، فَلَا نُسَلِّمَ أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ، إذْ الْمُرَادُ مِنْ الْجَوَابِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ مَا يَعُمُّ الْإِقْرَارَ وَالْإِنْكَارَ بِطَرِيقِ عُمُومِ الْمَجَازِ دُونَ أَحَدِهِمَا عَيْنًا كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ مُفَصَّلًا وَمَشْرُوحًا سِيَّمَا مِنْ الشَّارِحِ الْمَذْكُورِ، وَإِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ أَحَدُهُمَا لَا بِعَيْنِهِ لَا مَجْمُوعِهِمَا مَعًا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ فَهُوَ مُسَلَّمٌ، إذْ لَا يَصِحُّ جَمْعُ الْإِنْكَارِ وَالْإِقْرَارِ مَعًا فِي جَوَابِ قَضِيَّةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ حِينَئِذٍ قَوْلَهُ ثُمَّ فِي صِحَّةِ اسْتِثْنَاءِ الْإِقْرَارِ عَنْ الْجَوَابِ يَلْزَمُ اسْتِثْنَاءُ الْكُلِّ مِنْ الْكُلِّ، إذْ اللَّازِمُ فِيهِمَا حِينَئِذٍ إنَّمَا هُوَ اسْتِثْنَاءُ الْجُزْئِيِّ مِنْ الْكُلِّيِّ كَمَا لَا يَخْفَى.

وَقَوْلُهُ وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا أَنَّ التَّوْكِيلَ بِالْخُصُومَةِ غَيْرُ جَائِزِ الْإِنْكَارِ لَا يَصِحُّ لِمَا قُلْنَا لَيْسَ بِتَامٍّ أَيْضًا، إذْ يَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ الْإِنْكَارِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ كَمَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ الْإِقْرَارِ، نَصَّ عَلَيْهِ فِي الذَّخِيرَةِ وَغَيْرِهِمَا. ثُمَّ أَقُولُ: وَبِهَذَا يَظْهَرُ فَسَادُ مَا فِي كَلَامِ غَايَةِ الْبَيَانِ أَيْضًا فِي هَذَا الْمَقَامِ حَيْثُ قَالَ فِي تَقْرِيرِ الْمَحَلِّ: وَكَمَا لَوْ وَكَّلَهُ بِالْخُصُومَةِ وَاسْتَثْنَى الْإِقْرَارَ فَأَقَرَّ الْوَكِيلُ لَمْ يَصِحَّ إقْرَارُهُ، لِأَنَّ لَفْظَ التَّوْكِيلِ بِالْخُصُومَةِ لَمْ يَتَنَاوَلْ الْإِقْرَارَ، فَلَوْ تَنَاوَلَهُ بَطَلَ الِاسْتِثْنَاءُ. وَصَحَّ الْإِقْرَارُ لِأَنَّ الْخُصُومَةَ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ شَيْءٍ وَاحِدٍ لَا يَجُوزُ اهـ. فَإِنَّهُ إنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ لِأَنَّ الْخُصُومَةَ شَيْءٌ وَاحِدٌ أَنَّهَا أَمْرٌ جُزْئِيٌّ لَا تَعَدُّدَ فِيهِ أَصْلًا فَلَيْسَ كَذَلِكَ قَطْعًا، وَإِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّهَا وَاحِدٌ مِنْ حَيْثُ الْمَفْهُومُ فَهُوَ لَا يُنَافِي تَعَدُّدَهَا مِنْ حَيْثُ الْأَفْرَادُ وَصِحَّةُ اسْتِثْنَاءِ بَعْضِ أَفْرَادِهَا مِنْهَا عِنْدَ التَّوْكِيلِ بِهَا كَمَا لَا يَخْفَى.

وَقَالَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ فِي حَلِّ هَذَا الْمُقَامِ: مَعْنَاهُ أَنَّ الْإِقْرَارَ لَوْ كَانَ مِنْ حُقُوقِ التَّوْكِيلِ بِالْخُصُومَةِ لَمَا صَحَّ اسْتِثْنَاؤُهُ كَمَا لَوْ اسْتَثْنَى الْإِنْكَارَ وَكَمَا لَوْ وُكِّلَ بِالْبَيْعِ عَلَى أَنْ لَا يَقْبِضَ الثَّمَنَ أَوْ لَا يُسْلِمَ الْمَبِيعَ انْتَهَى. وَاقْتَفَى أَثَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي حَلِّ الْمَقَامِ، وَلَكِنْ أَوْرَدَ عَلَيْهِ حَيْثُ قَالَ: وَلَوْ كَانَ الْإِقْرَارُ مِنْ حُقُوقِ التَّوْكِيلِ بِالْخُصُومَةِ لَمَا صَحَّ اسْتِثْنَاؤُهُ كَمَا لَوْ اسْتَثْنَى الْإِنْكَارَ، وَكَمَا لَوْ وُكِّلَ بِالْبَيْعِ عَلَى أَنْ لَا يَقْبِضَ الثَّمَنَ أَوْ لَا يُسْلِمَ الْمَبِيعَ. ثُمَّ قَالَ: وَفِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ لَمَا صَحَّ الِاسْتِثْنَاءُ انْتَهَى. أَقُولُ: نَظَرُهُ سَاقِطٌ جِدًّا لِأَنَّ عَدَمَ التَّنَاوُلِ إنَّمَا يُنَافِي صِحَّةَ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُتَّصِلِ دُونَ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَدَارُ صِحَّةِ اسْتِثْنَاءِ الْإِقْرَارِ مِنْ التَّوْكِيلِ بِالْخُصُومَةِ شَرْعًا هُوَ الِاسْتِثْنَاءُ الْمُنْقَطِعُ فَلَا يَلْزَمُ الْمَحْذُورُ. نَعَمْ يَرِدُ عَلَى الْمَحَلِّ الْمَذْكُورِ أَنَّ مَنْ يَقُولُ بِصِحَّةِ اسْتِثْنَاءِ الْإِقْرَارِ مِنْ التَّوْكِيلِ بِالْخُصُومَةِ مِمَّنْ يَقُولُ بِجَوَازِ إقْرَارِ الْوَكِيلِ بِالْخُصُومَةِ عَلَى مُوَكِّلِهِ لَا يَقُولُ بِكَوْنِ الْإِقْرَارِ مِنْ حُقُوقِ التَّوْكِيلِ بِالْخُصُومَةِ، بَلْ يَقُولُ بِكَوْنِهِ مِنْ جُزْئِيَّاتِهِ كَمَا سَيَظْهَرُ مِنْ تَقْرِيرِ الْمُصَنِّفِ فَلَا يَكُونُ قَوْلُهُ وَيَصِحُّ إذَا اسْتَثْنَى الْإِقْرَارَ عَلَى الْمَعْنَى الْمَذْكُورِ حُجَّةً عَلَيْهِ فَلَا يَتِمُّ التَّقْرِيبَ.

وَاعْلَمْ أَنَّ الشَّارِحَ الْكَاكِيَّ وَالشَّارِحَ الْعَيْنِيَّ جَعَلَا قَوْلَ الْمُصَنِّفِ: وَيَصِحُّ إذَا اسْتَثْنَى الْإِقْرَارَ جَوَابًا عَنْ سُؤَالٍ يَرِدُ عَلَى قَوْلِهِمْ: أَيْ عَلَى قَوْلِ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ وَقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَوَّلًا، وَقَرَّرَ السُّؤَالَ وَالْجَوَابَ بِمَا لَا حَاصِلَ لَهُ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى الْفَطِنِ النَّاظِرِ فِي كَلَامِهِمَا. وَلَمَّا رَأَيْنَا تَفْصِيلَ ذَلِكَ إطْنَابًا مُمِلًّا أَعْرَضْنَا عَنْهُ، عَلَى أَنَّ مَآلَ مَا ذَكَرَهُ

ص: 115

وَكَذَا لَوْ وَكَّلَهُ بِالْجَوَابِ مُطْلَقًا يَتَقَيَّدُ بِجَوَابٍ هُوَ خُصُومَةٌ لِجَرَيَانِ الْعَادَةِ بِذَلِكَ وَلِهَذَا يَخْتَارُ فِيهَا الْأَهْدَى فَالْأَهْدَى.

الْكَاكِيُّ فِي تَقْرِيرِ الْجَوَابِ مَا ذُكِرَ فِي النِّهَايَةِ، وَمَآلُ مَا ذَكَرَهُ الْعَيْنِيُّ فِي تَقْرِيرِهِ مَا ذُكِرَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ وَقَدْ عَرَفْت حَالَهُمَا (وَكَذَا لَوْ وَكَّلَهُ بِالْجَوَابِ مُطْلَقًا يَتَقَيَّدُ بِجَوَابٍ هُوَ خُصُومَةٌ) يَعْنِي الْإِنْكَارَ (إذْ الْعَادَةُ) فِي التَّوْكِيلِ (جَرَتْ بِذَلِكَ وَلِهَذَا يَخْتَارُ فِيهَا) أَيْ فِي الْخُصُومَةِ (الْأَهْدَى فَالْأَهْدَى) وَالْإِقْرَارُ لَا يَحْتَاجُ إلَى زِيَادَةِ الْهِدَايَةِ. قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مُبْتَدَأَةٌ خِلَافِيَّةٌ، لَيْسَ إيرَادُهَا عَلَى وَجْهِ الِاسْتِشْهَادِ: يَعْنِي لَوْ وَكَّلَهُ بِالْجَوَابِ مُطْلَقًا فَهُوَ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ أَيْضًا، كَذَا فِي الْمُخْتَلِفَاتِ الْبُرْهَانِيَّةِ اهـ.

وَقَدْ اقْتَفَى أَثَرَهُ فِي ذَلِكَ أَكْثَرُ الشُّرَّاحِ، إلَّا أَنَّ صَاحِبَ الْعِنَايَةِ ذَكَرَهُ بِطَرِيقِ النَّقْلِ عَنْ النِّهَايَةِ. وَقَالَ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ: وَكَانَ هَذَا سَهْوَ الْقَلَمِ مِنْ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ، وَظَنِّي أَنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ فَكَذَا فِيمَا وَكَّلَهُ بِالْخُصُومَةِ يَتَقَيَّدُ بِجَوَابِ هُوَ خُصُومَةٌ عَلَى وَجْهِ النَّتِيجَةِ: يَعْنِي لَمَّا كَانَ الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ لَا يَتَنَاوَلُ ضِدَّهُ حَتَّى لَا يَمْلِكَ الْوَكِيلُ الصُّلْحَ وَصَحَّ اسْتِثْنَاءُ الْمُوَكِّلِ الْإِقْرَارَ أَنْتَجَ أَنَّ التَّوْكِيلَ بِالْخُصُومَةِ يَتَقَيَّدُ بِجَوَابِ هُوَ خُصُومَةٌ وَهُوَ الْإِنْكَارُ لَا بِجَوَابِ هُوَ مُسَالَمَةٌ وَهُوَ الْإِقْرَارُ، وَلِأَجْلِ أَنَّ التَّوْكِيلَ بِالْخُصُومَةِ يَتَقَيَّدُ بِجَوَابِ هُوَ خُصُومَةٌ يَخْتَارُ فِي التَّوْكِيلِ بِخُصُومَةٍ الْأَهْدَى فِي الْخُصُومَةِ فَالْأَهْدَى، وَلَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُ كَلَامِ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ بِإِجْرَائِهِ عَلَى ظَاهِرِهِ، لِأَنَّهُ لَوْ وَكَّلَهُ بِالْجَوَابِ مُطْلَقًا لَا يَتَقَيَّدُ بِجَوَابِ هُوَ خُصُومَةٌ وَهُوَ الْإِنْكَارُ، لِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ هُوَ مُطْلَقُ الْجَوَابِ وَهُوَ يَشْمَلُ الْإِنْكَارَ وَالْإِقْرَارَ جَمِيعًا، بِخِلَافِ الْمَأْمُورِ بِالْخُصُومَةِ، إذْ يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ زُفَرُ بَيْنَ الْخُصُومَةِ وَالْإِقْرَارِ مُضَادَّةٌ، وَلِهَذَا صَرَّحَ عَلَاءُ الدِّينِ الْعَالِمُ فِي طَرِيقَةِ الْخِلَافِ أَنَّهُ لَوْ وَكَّلَهُ بِالْجَوَابِ الْمُطْلَقِ فَأَقَرَّ يَصِحُّ؛ فَعُلِمَ أَنَّهُ إذَا وَكَّلَهُ بِالْجَوَابِ الْمُطْلَقِ لَا يَتَقَيَّدُ بِجَوَابِ هُوَ خُصُومَةٌ، وَقَدْ تَحَيَّرَ بَعْضُ الشَّارِحِينَ فِي هَذَا الْمَقَامِ فَقَالَ: هَذِهِ مَسْأَلَةٌ مُبْتَدَأَةٌ لَا لِلِاسْتِشْهَادِ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ.

أَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ، أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ كَوْنَ الْكَلَامِ الْمَذْكُورِ مِنْ قَبِيلِ سَهْوِ الْقَلَمِ عَمَّا ظُنَّ أَنَّهُ مُرَادٌ بِذَلِكَ مِمَّا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُنْسَبَ إلَى مَنْ لَهُ أَدْنَى تَمْيِيزٍ فَضْلًا عَنْ أَنْ يُنْسَبَ إلَى صَاحِبِ الْهِدَايَةِ ذَلِكَ الْإِمَامُ الَّذِي لَنْ تَسْمَحَ بِمِثْلِهِ الْأَدْوَارُ مَا دَارَ الْفَلَكُ الدُّوَّارُ، فَإِنَّ بَيْنَ الْكَلَامِ الْمَذْكُورِ وَمَا ظَنَّهُ مُرَادًا بِذَلِكَ بَوْنًا بَعِيدًا مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ وَالْمَعْنَى، فَأَنَّى يَتَيَسَّرُ الْحَمْلُ عَلَى أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا سَهْوًا عَنْ الْآخَرِ. وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ عَدَمَ إمْكَانِ تَصْحِيحِ كَلَامِ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ بِإِجْرَائِهِ عَلَى ظَاهِرِهِ. قَوْلُهُ لِأَنَّهُ لَوْ وَكَّلَهُ بِالْجَوَابِ مُطْلَقًا لَا يَتَقَيَّدُ بِجَوَابِ هُوَ خُصُومَةٌ وَهُوَ الْإِنْكَارُ. قُلْنَا: إنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ لَوْ وَكَّلَهُ بِالْجَوَابِ مُطْلَقًا لَا يَتَقَيَّدُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ آخِرًا بِجَوَابِ هُوَ خُصُومَةٌ فَهُوَ مُسَلَّمٌ، لَكِنْ لَا يَضُرُّ بِتَصْحِيحِ كَلَامِ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ بِإِجْرَائِهِ عَلَى ظَاهِرِهِ بِنَاءً عَلَى قَوْلِ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَوَّلًا كَمَا هُوَ مُرَادُهُ قَطْعًا، وَإِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّهُ وَكَّلَهُ بِالْجَوَابِ مُطْلَقًا لَا يَتَقَيَّدُ عَلَى قَوْلِ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ وَقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَوَّلًا أَيْضًا بِجَوَابِ هُوَ خُصُومَةٌ فَهُوَ مَمْنُوعٌ، كَيْفَ وَقَدْ صَرَّحَ فِي الْمُخْتَلِفَاتِ الْبُرْهَانِيَّةِ بِأَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ أَيْضًا عَلَى الِاخْتِلَافِ الْمَذْكُورِ فِي التَّوْكِيلِ بِالْخُصُومَةِ.

قَوْلُهُ لِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ هُوَ مُطْلَقُ الْجَوَابِ وَهُوَ يَشْمَلُ الْإِنْكَارَ وَالْإِقْرَارَ جَمِيعًا، بِخِلَافِ الْمَأْمُورِ بِالْخُصُومَةِ إذْ يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ زُفَرُ بَيْنَ الْخُصُومَةِ وَالْإِقْرَارِ مُضَادَّةٌ. قُلْنَا: لِزُفَرَ أَنْ يَقُولَ فِي مَسْأَلَةِ التَّوْكِيلِ بِالْجَوَابِ مُطْلَقًا أَنَّ الْأَمْرَ يَنْصَرِفُ إلَى جَوَابِ هُوَ خُصُومَةٌ، إذْ الْعَادَةُ فِي التَّوْكِيلِ جَرَتْ بِذَلِكَ وَلِهَذَا يَخْتَارُ الْأَهْدَى فَالْأَهْدَى، وَالْوِكَالَةُ تَتَقَيَّدُ بِدَلَالَةِ الْعُرْفِ، وَصَرَّحَ بِهَذَا التَّقْرِيرِ فِي الْكَافِي وَالتَّبْيِينِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ اتِّفَاقَ جَوَابِ الْمَسْأَلَتَيْنِ لَا يَقْتَضِي اتِّحَادَ دَلِيلِهِمَا.

قَوْلُهُ وَلِهَذَا صَرَّحَ عَلَاءُ الدِّينِ الْعَالِمُ فِي طَرِيقَةِ الْخِلَافِ أَنَّهُ لَوْ وَكَّلَهُ بِالْجَوَابِ الْمُطْلَقِ فَأَقَرَّ يَصِحُّ. قُلْنَا: لَا يَدُلُّ مَا صَرَّحَ بِهِ عَلَاءُ الدِّينِ الْعَالِمُ فِي طَرِيقَةِ الْخِلَافِ

ص: 116

وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْوَكِيلَ صَحِيحٌ قَطْعًا وَصِحَّتُهُ بِتَنَاوُلِهِ مَا يَمْلِكُهُ قَطْعًا وَذَلِكَ مُطْلَقُ الْجَوَابِ دُونَ أَحَدِهِمَا عَيْنًا

عَلَى أَنَّهُ لَوْ وَكَّلَهُ بِالْجَوَابِ الْمُطْلَقِ فَأَقَرَّ يَصِحُّ عِنْدَ جَمِيعِ الْأَئِمَّةِ حَتَّى زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ فَلَا يَتِمُّ مَطْلُوبُهُ. وَأَمَّا صِحَّةُ ذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ عَلَى قَوْلِهِ الْآخَرِ فَمِمَّا لَا يَشُكُّ فِيهِ أَحَدٌ فَانْدَفَعَ مَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ هَاهُنَا بِحَذَافِيرِهِ. ثُمَّ أَقُولُ: الْإِنْصَافُ أَنَّ كَوْنَ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ هَاهُنَا مَسْأَلَةٌ مُبْتَدَأَةٌ خِلَافِيَّةٌ غَيْرُ مُورَدَةٍ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِشْهَادِ كَمَا اخْتَارَهُ جُمْهُورُ الشُّرَّاحِ مِمَّا لَا يَلِيقُ بِشَأْنِ الْمُصَنِّفِ إذْ هُوَ بِصَدَدِ بَيَانِ أَدِلَّةِ أَقْوَالِ الْمُجْتَهِدِينَ فِي مَسْأَلَةِ التَّوْكِيلِ بِالْخُصُومَةِ، فَمَا الضَّرُورَةُ فِي شُرُوعِ مَسْأَلَةٍ أُخْرَى أَثْنَاءَ ذِكْرِ أَدِلَّةِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَبْلَ تَمَامِهَا؟ فَالْوَجْهُ عِنْدِي أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ ذُكِرَتْ هَاهُنَا عَلَى وَجْهِ الِاسْتِشْهَادِ: يَعْنِي لَوْ وَكَّلَهُ بِالْجَوَابِ الْمُطْلَقِ صَرِيحًا لَا يَتَنَاوَلُ الْإِقْرَارَ بَلْ يَتَقَيَّدُ بِجَوَابِ هُوَ خُصُومَةٌ وَهُوَ الْإِنْكَارُ بِدَلَالَةِ الْعُرْفِ، وَلِهَذَا يَخْتَارُ فِيهَا الْأَهْدَى فَالْأَهْدَى. فَكَيْفَ يَتَنَاوَلُ الْإِقْرَارَ مَا إذَا وَكَّلَهُ بِالْخُصُومَةِ بِمُجَرَّدِ احْتِمَالِ أَنْ يُرَادَ بِالْخُصُومَةِ مُطْلَقُ الْجَوَابِ مَجَازًا.

نَعَمْ مَسْأَلَةُ التَّوْكِيلِ بِالْجَوَابِ مُطْلَقًا أَيْضًا عَلَى الِاخْتِلَافِ الْمَذْكُورِ فِي التَّوْكِيلِ بِالْخُصُومَةِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْمُخْتَلِفَاتِ الْبُرْهَانِيَّةِ فَلَا يَحْصُلُ بِهَا إلْزَامُ الْخَصْمِ. إلَّا أَنَّ ذِكْرَهَا هَاهُنَا مِنْ قَبِيلِ رَدِّ الْمُخْتَلَفِ عَلَى الْمُخْتَلِفِ، فَيَصِيرُ اسْتِشْهَادًا تَحْقِيقِيًّا عِنْدَ الْمُسْتَدِلِّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ إلْزَامِيًّا. وَنَظِيرُ هَذَا أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَى فَتَدَبَّرْ. (وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ التَّوْكِيلَ) يَعْنِي أَنَّ التَّوْكِيلَ الْمَعْهُودَ الْمَذْكُورَ وَهُوَ التَّوْكِيلُ بِالْخُصُومَةِ (صَحِيحٌ قَطْعًا) أَيْ صَحِيحٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ بِالْإِجْمَاعِ (وَصِحَّتُهُ بِتَنَاوُلِهِ مَا يَمْلِكُهُ قَطْعًا) أَيْ صِحَّةُ هَذَا التَّوْكِيلِ بِتَنَاوُلِهِ مَا يَمْلِكُهُ الْمُوَكِّلُ قَطْعًا لِأَنَّ التَّوْكِيلَ بِغَيْرِ الْمَمْلُوكِ تَصَرُّفٌ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ. قَالَ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ: وَلَا يَلْزَمُ عَلَى هَذَا تَوْكِيلُ الْمُسْلِمِ الذِّمِّيَّ بِبَيْعِ الْخَمْرِ أَوْ شِرَائِهَا فَإِنَّهُ يَجُوزُ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ مَعَ أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ. لِأَنَّا نَقُولُ: إنَّ ذَلِكَ مَمْلُوكٌ لِلْمُسْلِمِ ضِمْنًا وَحُكْمًا لِتَصَرُّفِ الْوَكِيلِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَمْلُوكًا قَصْدًا عَلَى وَجْهٍ لَا يَلْحَقُهُ اللُّوَّمُ وَالْإِثْمُ فِي ذَلِكَ.

عَلَى أَنَّا نَقُولُ: إنَّ لِلْمُسْلِمِ وِلَايَةً فِي جِنْسِ التَّصَرُّفِ لِكَوْنِهِ حُرًّا عَاقِلًا بَالِغًا عَلَى وَجْهٍ يَلْزَمُهُ حُكْمُ التَّصَرُّفِ فِيمَا تَصَرَّفَ بِوِلَايَتِهِ. لَا يَشْتَرِطُ أَنْ يَكُونَ لِلْمُوَكِّلِ وِلَايَةٌ فِي كُلِّ الْأَفْرَادِ، وَقَدْ مَضَى بَيَانُ ذَلِكَ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الْوِكَالَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ وَمِنْ شَرْطِ الْوِكَالَةِ أَنْ يَكُونَ الْمُوَكِّلُ مِمَّنْ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ وَتَلْزَمُهُ الْأَحْكَامُ اهـ كَلَامُهُ. أَقُولُ: فِي جَوَابِهِ الثَّانِي بَحْثٌ، لِأَنَّهُ لَا يَدْفَعُ النَّقْضَ اللَّازِمَ هَاهُنَا بِصِحَّةِ تَوْكِيلِ الْمُسْلِمِ الذِّمِّيَّ بِبَيْعِ الْخَمْرِ وَشِرَائِهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بَلْ يُؤَيِّدُهُ، فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَشْتَرِطْ أَنْ يَكُونَ لِلْمُوَكِّلِ وِلَايَةٌ فِي كُلِّ الْأَفْرَادِ فَجَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بِنَاءً عَلَى ذَلِكَ تَوْكِيلُ الْمُسْلِمِ الذِّمِّيَّ بِمَا لَا يَمْلِكُهُ بِنَفْسِهِ وَهُوَ بَيْعُ الْخَمْرِ وَشِرَاؤُهَا يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ عِنْدَهُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ أَيْضًا صِحَّةُ التَّوْكِيلِ بِمَا لَا يَمْلِكُهُ الْمُوَكِّلُ بِنَاءً عَلَى ذَلِكَ، فَلَا يَتِمُّ قَوْلُهُ وَصِحَّتُهُ بِتَنَاوُلِهِ مَا يَمْلِكُهُ قَطْعًا. وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَإِنْ اخْتَلَجَ فِي ذِهْنِك صِحَّةُ تَوْكِيلِ الْمُسْلِمِ الذِّمِّيَّ بِبَيْعِ الْخَمْرِ فَتَذَكَّرْ مَا تَقَدَّمَ فِيهِ اهـ.

أَقُولُ: الَّذِي تَقَدَّمَ فِيهِ مِنْ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ هُوَ قَوْلُهُ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الْوِكَالَةِ بِصَدَدِ شَرْحِ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ وَمِنْ شَرْطِ الْوِكَالَةِ أَنْ يَكُونَ الْمُوَكِّلُ مِمَّنْ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ. قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: إنَّ هَذَا الْقَيْدَ وَقَعَ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَمِنْ شَرْطِهَا أَنْ يَكُونَ الْوَكِيلُ مِمَّنْ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي الْخَمْرِ، وَلَوْ وَكَّلَ بِهِ جَازَ عِنْدَهُ، وَمَنْشَأُ هَذَا التَّوَهُّمِ أَنْ جَعَلَ اللَّامَ فِي قَوْلِهِ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ لِلْعَهْدِ: أَيْ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ الَّذِي وُكِّلَ بِهِ، وَأَمَّا إذَا جُعِلَتْ لِلْجِنْسِ حَتَّى يَكُونَ مَعْنَاهُ يَمْلِكُ جِنْسَ التَّصَرُّفِ احْتِرَازًا عَنْ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ فَيَكُونَ عَلَى مَذْهَبِ الْكُلِّ وَهُوَ الْمُرَادُ اهـ.

وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَآلَ هَذَا مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ فِي جَوَابِهِ الثَّانِي، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا يَدْفَعُ النَّقْصَ هَاهُنَا بَلْ يُؤَيِّدُهُ (وَذَلِكَ) أَيْ مَا يَمْلِكُهُ الْمُوَكِّلُ (مُطْلَقُ الْجَوَابِ) الْمُتَنَاوِلِ لِلْإِنْكَارِ وَالْإِقْرَارِ جَمِيعًا (دُونَ أَحَدِهِمَا عَيْنًا) أَيْ دُونَ أَحَدِ

ص: 117

وَطَرِيقُ الْمَجَازِ مَوْجُودٌ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَيُصْرَفُ إلَيْهِ تَحَرِّيًا لِلصِّحَّةِ قَطْعًا؛ وَلَوْ اسْتَثْنَى الْإِقْرَارَ، فَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله أَنَّهُ لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ رحمه الله أَنَّهُ يَصِحُّ

الْجَوَابَيْنِ بِعَيْنِهِ لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَكُونُ أَحَدُهُمَا بِعَيْنِهِ حَرَامًا لِأَنَّ خَصْمَهُ إنْ كَانَ مُحِقًّا يَجِبُ عَلَيْهِ الْجَوَابُ بِالْإِقْرَارِ وَإِنْ كَانَ مُبْطِلًا يَجِبُ عَلَيْهِ الْجَوَابُ بِالْإِنْكَارِ فَلَا يُمْلَكُ الْمُعَيَّنُ مِنْهُمَا قَطْعًا فَلَا يَصِحُّ التَّوْكِيلُ بِهِ قَطْعًا بَلْ يَصِحُّ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ، وَحَيْثُ صَحَّ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ عُلِمَ أَنَّهُ يَتَنَاوَلُ مَمْلُوكَهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَهُوَ مُطْلَقُ الْجَوَابِ الدَّاخِلِ تَحْتَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا (وَطَرِيقُ الْمَجَازِ) أَيْ بَيْنَ الْخُصُومَةِ وَمُطْلَقِ الْجَوَابِ (مَوْجُودٌ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى) عَلَى مَا سَيَأْتِي عَنْ قَرِيبٍ عِنْدَ بَيَانِ وَجْهِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ (فَيُصْرَفُ إلَيْهِ) أَيْ فَيُصْرَفُ التَّوْكِيلُ بِالْخُصُومَةِ إلَى التَّوْكِيلِ بِمُطْلَقِ الْجَوَابِ (تَحَرِّيًا لِلصِّحَّةِ قَطْعًا) أَيْ تَحَرِّيًا لِصِحَّةِ كَلَامِ الْمُوَكِّلِ قَطْعًا، فَإِنَّ كَلَامَ الْعَاقِلِ يُصَانُ عَنْ الْإِلْغَاءِ.

(وَلَوْ اسْتَثْنَى الْإِقْرَارَ؛ فَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ) جَوَابٌ عَنْ مُسْتَشْهَدِ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ: يَعْنِي لَا نُسَلِّمُ صِحَّةَ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ، بَلْ لَا يَصِحُّ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ كَمَا ذَكَرَهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَيْضًا (لِأَنَّهُ) أَيْ لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ (لَا يَمْلِكُهُ) أَيْ لَا يَمْلِكُ الِاسْتِثْنَاءَ لِأَنَّ مِلْكَهُ يَسْتَلْزِمُ بَقَاءَ الْإِنْكَارِ عَيْنًا، وَقَدْ لَا يَحِلُّ ذَلِكَ كَمَا مَرَّ آنِفًا، كَذَا ذُكِرَ فِي الْعِنَايَةِ وَكَثِيرٍ مِنْ الشُّرُوحِ، أَوْ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ بِاعْتِبَارِ قِيَامِهِ مَقَامَ الْمُوَكِّلِ لَا لِأَنَّهُ مِنْ الْخُصُومَةِ فَيَصِيرُ ثَابِتًا بِالْوِكَالَةِ حُكْمًا لَهَا فَلَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاؤُهُ، كَمَا لَوْ وَكَّلَ بِالْبَيْعِ عَلَى أَنْ لَا يَقْبِضَ الْوَكِيلُ الثَّمَنَ أَوْ لَا يُسْلِمَ الْمَبِيعَ، فَإِنَّ ذَاكَ الِاسْتِثْنَاءَ بَاطِلٌ كَذَا هَذَا، كَذَا ذُكِرَ فِي الْكَافِي وَفِي بَعْضِ الشُّرُوحِ (وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَصِحُّ) يَعْنِي وَلَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ

ص: 118

لِأَنَّ لِلتَّنْصِيصِ زِيَادَةَ دَلَالَةٍ عَلَى مِلْكِهِ إيَّاهُ؛ وَعِنْدَ الْإِطْلَاقِ يُحْمَلُ عَلَى الْأَوْلَى. وَعَنْهُ أَنَّهُ فَصَلَ بَيْنَ الطَّالِبِ وَالْمَطْلُوبِ وَلَمْ يُصَحِّحْهُ فِي الثَّانِي لِكَوْنِهِ مَجْبُورًا عَلَيْهِ وَيُخَيَّرُ الطَّالِبُ فِيهِ؛

اسْتِثْنَاءَ الْإِقْرَارِ يَصِحُّ كَمَا قَالَ مُحَمَّدٌ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لَكِنَّهُ إنَّمَا يَصِحُّ (لِأَنَّ لِلتَّنْصِيصِ) أَيْ لِتَنْصِيصِ الْمُوَكِّلِ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ (زِيَادَةُ دَلَالَةٍ عَلَى مِلْكِهِ إيَّاهُ) أَيْ عَلَى تَمَلُّكِهِ الْإِنْكَارَ.

وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّهُ إنَّمَا لَمْ يَحِلَّ لَهُ الْإِنْكَارُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ خَصْمُهُ مُحِقًّا، فَإِذَا نَصَّ عَلَى اسْتِثْنَاءِ الْإِقْرَارِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ يَعْلَمُ بِيَقِينٍ أَنَّ خَصْمَهُ مُبْطِلٌ حَمْلًا لِأَمْرِ الْمُسْلِمِ عَلَى الصَّلَاحِ فَتَعَيَّنَ الْإِنْكَارُ (وَعِنْدَ الْإِطْلَاقِ) أَيْ عِنْدَ إطْلَاقِ التَّوْكِيلِ بِالْخُصُومَةِ مِنْ غَيْرِ اسْتِثْنَاءِ الْإِقْرَارِ (يُحْمَلُ عَلَى الْأَوْلَى) أَيْ يُحْمَلُ كَلَامُهُ عَلَى مَا هُوَ الْأَوْلَى بِحَالِ الْمُسْلِمِ وَهُوَ مُطْلَقُ الْجَوَابِ (وَعَنْهُ) أَيْ عَنْ مُحَمَّدٍ (أَنَّهُ فَصَلَ بَيْنَ الطَّالِبِ وَالْمَطْلُوبِ) أَيْ فَصَلَ بَيْنَ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي اسْتِثْنَاءِ الْإِقْرَارِ عِنْدَ التَّوْكِيلِ بِالْخُصُومَةِ فَصَحَّحَ اسْتِثْنَاءَهُ فِي الْأَوَّلِ وَهُوَ الطَّالِبُ (وَلَمْ يُصَحِّحْهُ فِي الثَّانِي) وَهُوَ الْمَطْلُوبُ (لِكَوْنِهِ) أَيْ لِكَوْنِ الْمَطْلُوبِ (مَجْبُورًا عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الْإِقْرَارِ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَفِي الْعِنَايَةِ أَيْضًا نَقْلًا عَنْ النِّهَايَةِ، أَوْ عَلَى تَرْكِ الْإِنْكَارِ كَذَا فِي كَثِيرٍ مِنْ الشُّرُوحِ.

وَقَالَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ بَعْدَ ذِكْرِ ذَلِكَ: أَوْ يُقَالُ لِكَوْنِ الْمَطْلُوبِ شَخْصًا يُجْبَرُ عَلَيْهِ فِي الْخُصُومَةِ (وَيُخَيَّرُ الطَّالِبُ فِيهِ) أَيْ فِي أَصْلِ الْخُصُومَةِ فَلَهُ تَرْكُ أَحَدِ وَجْهَيْهَا، كَذَا فِي الْكِفَايَةِ. وَذَكَرَ فِي التَّتِمَّةِ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ الْإِقْرَارِ مِنْ الطَّالِبِ لِأَنَّهُ مُخَيَّرٌ، وَلَا يَصِحُّ مِنْ الْمَطْلُوبِ لِأَنَّهُ مَجْبُورٌ عَلَيْهِ: يَعْنِي أَنَّ الْوَكِيلَ إذَا كَانَ مِنْ جَانِبِ الْمُدَّعِي صَحَّ اسْتِثْنَاءُ الْإِقْرَارِ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ لَمَّا كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ الْإِقْرَارِ وَالْإِنْكَارِ أَدَّى الِاسْتِثْنَاءُ فَائِدَتَهُ فِي حَقِّهِ وَأَمَّا إذَا كَانَ مِنْ جَانِبِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَلَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ الْإِقْرَارِ لِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ يَثْبُتُ مَا ادَّعَاهُ بِالْبَيِّنَةِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، أَوْ يَضْطَرُّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إلَى الْإِقْرَارِ بِعَرْضِ الْيَمِينِ عَلَيْهِ فَيَكُونُ مَجْبُورًا عَلَى الْإِقْرَارِ فَكَذَلِكَ وَكِيلُهُ، إلَّا أَنَّ التَّوْكِيلَ عِنْدَ تَوَجُّهِ الْيَمِينِ عَلَى مُوَكِّلِهِ لِأَنَّ النِّيَابَةَ لَا تَجْرِي فِي الْأَيْمَانِ فَلَا يُفِيدُ اسْتِثْنَاءُ الْإِقْرَارِ فَائِدَتَهُ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ. وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ ذِكْرِ ذَلِكَ مُجْمَلًا. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الْمُدَّعِي قَدْ يَعْجِزُ عَنْ إثْبَاتِ دَعْوَاهُ بِالْبَيِّنَةِ، وَقَدْ لَا يَضْطَرُّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إلَى الْإِقْرَارِ بِعَرْضِ الْيَمِينِ لِكَوْنِهِ مُحِقًّا فَيَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ مُفِيدًا.

وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمَطْلُوبَ مَجْبُورٌ عَلَى الْإِقْرَارِ إذَا عُرِضَ عَلَيْهِ الْيَمِينُ وَهُوَ مُبْطِلٌ فَكَانَ مَجْبُورًا فِي الْجُمْلَةِ فَلَمْ يَكُنْ اسْتِثْنَاؤُهُ مُقَيَّدًا فِيهِ، بِخِلَافِ الطَّالِبِ فَإِنَّهُ مُخَيَّرٌ فِي كُلِّ حَالٍ فَكَانَ اسْتِثْنَاؤُهُ مُفِيدًا إلَى هُنَا كَلَامُهُ.

أَقُولُ: فِي الْجَوَابِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَتَعَيَّنْ كَوْنُ الْمَطْلُوبِ مَجْبُورًا عَلَى الْإِقْرَارِ بَلْ كَانَ ذَلِكَ احْتِمَالًا مَحْضًا مَوْقُوفًا عَلَى كَوْنِهِ مُبْطِلًا لَمْ يَتَعَيَّنْ عَدَمُ الْفَائِدَةِ فِي اسْتِثْنَائِهِ الْإِقْرَارَ، بَلْ كَانَ ذَلِكَ أَيْضًا احْتِمَالًا مَحْضًا، فَبِمُجَرَّدِ الِاحْتِمَالِ كَيْفَ يَجُوزُ إسَاءَةُ الظَّنِّ بِالْمُسْلِمِ وَإِلْغَاءُ كَلَامِ الْعَاقِلِ مَعَ وُجُوبِ حَمْلِ أَمْرِ الْمُسْلِمِ عَلَى الصَّلَاحِ وَصِيَانَةِ كَلَامِ الْعَاقِلِ عَنْ الْإِلْغَاءِ؟ أَقُولُ: بَقِيَ هَاهُنَا بَحْثٌ، وَهُوَ أَنَّ الطَّالِبَ أَيْضًا قَدْ يَكُونُ مَجْبُورًا عَلَى الْإِقْرَارِ لِأَنَّ إقْرَارَ الطَّالِبِ لَا يُتَصَوَّرُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مُدَّعٍ، إذَا الدَّعْوَى وَالْإِقْرَارُ مُتَبَايِنَانِ.

بَلْ مُتَضَادَّانِ، وَإِنَّمَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مُدَّعًى عَلَيْهِ بِاسْتِيفَاءِ حَقِّهِ مِنْ خَصْمِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الطَّالِبَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مُدَّعًى عَلَيْهِ يُعْرَضُ عَلَيْهِ الْيَمِينُ فَيَكُونُ مَجْبُورًا عَلَى الْإِقْرَارِ، لَا يُقَالُ: الْمُرَادُ أَنَّ

ص: 119

فَبَعْدَ ذَلِكَ يَقُولُ أَبُو يُوسُفَ رحمه الله: إنَّ الْوَكِيلَ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُوَكِّلِ، وَإِقْرَارُهُ لَا يَخْتَصُّ بِمَجْلِسِ الْقَضَاءِ فَكَذَا إقْرَارُ نَائِبِهِ. وَهُمَا يَقُولَانِ: إنَّ التَّوْكِيلَ يَتَنَاوَلُ جَوَابَ يُسَمَّى خُصُومَةً حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا، وَالْإِقْرَارُ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ خُصُومَةٌ مَجَازًا، إمَّا لِأَنَّهُ خَرَجَ فِي مُقَابَلَةِ الْخُصُومَةِ

الطَّالِبَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ طَالِبٌ: أَيْ مُدَّعٍ يَصِحُّ مِنْهُ اسْتِثْنَاءُ الْإِقْرَارِ لِعَدَمِ كَوْنِهِ مَجْبُورًا عَلَى الْإِقْرَارِ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ بَلْ مُخَيَّرٌ، بِخِلَافِ الْمَطْلُوبِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَطْلُوبٌ: أَيْ مُدَّعًى عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يَكُونُ مَجْبُورًا عَلَيْهِ. لِأَنَّا نَقُولُ: الطَّالِبُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ طَالِبٌ لَمَّا لَمْ يُتَصَوَّرْ مِنْهُ الْإِقْرَارُ قَطُّ لَمْ يُمْكِنْ اسْتِثْنَاءُ الْإِقْرَارِ هُنَاكَ أَصْلًا فَضْلًا عَنْ صِحَّتِهِ فَلْيُتَأَمَّلْ. ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَلَمْ يَذْكُرْ الْمُصَنِّفُ الْجَوَابَ مِنْ صُورَةِ الصُّلْحِ وَالْإِبْرَاءِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ إنَّمَا لَمْ يَصِحَّ صُلْحُ الْوَكِيلِ بِالْخُصُومَةِ لِأَنَّ الْخُصُومَةَ لَيْسَتْ بِسَبَبٍ دَاعٍ إلَى الصُّلْحِ أَوْ إلَى الْإِبْرَاءِ فَلَمْ يُوجَدْ مُجَوِّزُ الْمَجَازِ، وَفِيهِ نَظَرٌ فَإِنَّ إفْضَاءَهَا إلَى الصُّلْحِ وَالْإِبْرَاءِ إنْ لَمْ يَكُنْ أَشَدَّ مِنْ إفْضَائِهَا إلَى الْإِقْرَارِ فَهُوَ مِثْلُهُ لَا مَحَالَةَ، وَأَيْضًا الْخُصُومَةُ وَالصُّلْحُ مُتَقَابِلَانِ فَيَنْبَغِي أَنْ تَجُوزَ الِاسْتِعَارَةُ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: التَّوْكِيلُ بِالْخُصُومَةِ يَنْصَرِفُ إلَى مُطْلَقِ الْجَوَابِ لِمَا ذَكَرْنَا، وَمُطْلَقُ الْجَوَابِ إمَّا بِلَا أَوْ بِنَعَمْ، وَالصُّلْحُ عَقْدٌ آخَرُ يَحْتَاجُ إلَى عِبَارَةٍ أُخْرَى خِلَافُ مَا وُضِعَ جَوَابًا، وَكَذَلِكَ الْإِبْرَاءُ فَلَا يَتَنَاوَلُهُ اللَّفْظُ الْمَوْضُوعُ لِمُطْلَقِ الْجَوَابِ لَا حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا، إلَى هُنَا كَلَامُهُ.

أَقُولُ: فَنَظَرُهُ الْأَوَّلُ سَاقِطٌ جِدًّا، إذْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ إفْضَاءَ الْخُصُومَةِ إلَى الصُّلْحِ وَالْإِبْرَاءِ أَشَدُّ مِنْ إفْضَائِهَا إلَى الْإِقْرَارِ أَوْ مِثْلِ إفْضَائِهَا إلَيْهِ، كَيْفَ وَالْخَصْمُ قَدْ يُضْطَرُّ إلَى الْإِقْرَارِ عِنْدَ عَرْضِ الْيَمِينِ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ الصُّلْحِ وَالْإِبْرَاءِ فَإِنَّ الْخَصْمَ لَا يُضْطَرُّ إلَيْهِمَا أَصْلًا بَلْ هُوَ مُخْتَارٌ فِيهِمَا مُطْلَقًا، عَلَى أَنَّهُمَا لَا يَتَحَقَّقَانِ بِاخْتِيَارِ الْخَصْمِ فَقَطْ بَلْ لَا بُدَّ فِيهِمَا مِنْ اخْتِيَارِ الْمُتَخَاصِمَيْنِ مَعًا، وَإِلَى هَذَا كُلِّهِ أَشَارَ الْمُجِيبُ وَهُوَ الشَّارِحُ الْأَتْقَانِيُّ فِي تَقْرِيرِ جَوَابِهِ حَيْثُ قَالَ: وَالْجَوَابُ عَنْ الْقِيَاسِ عَلَى الصُّلْحِ فَنَقُولُ: إنَّمَا لَمْ يَصِحَّ صُلْحُ الْوَكِيلِ لِأَنَّ الْخُصُومَةَ لَيْسَتْ بِسَبَبٍ دَاعٍ إلَى الصُّلْحِ، بَلْ هُوَ تَصَرُّفٌ ابْتِدَاءً يَتَعَلَّقُ بِاخْتِيَارِهِمَا اهـ (فَبَعْدَ ذَلِكَ) شُرُوعٌ فِي بَيَانِ مَأْخَذِ الِاخْتِلَافِ الْوَاقِعِ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ: أَيْ بَعْدَمَا ثَبَتَ أَنَّ التَّوْكِيلَ بِالْخُصُومَةِ يَنْصَرِفُ إلَى مُطْلَقِ الْجَوَابِ أَوْ بَعْدَمَا ثَبَتَ جَوَازُ إقْرَارِ الْوَكِيلِ بِالْخُصُومَةِ عَلَى مُوَكِّلِهِ (يَقُولُ أَبُو يُوسُفَ) فِي التَّسْوِيَةِ بَيْنَ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ وَغَيْرِهِ (إنَّ الْوَكِيلَ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُوَكِّلِ) فَيَقْتَضِي هَذَا أَنْ يَمْلِكَ مَا كَانَ الْمُوَكِّلُ مَالِكًا لَهُ (وَإِقْرَارُهُ) أَيْ إقْرَارُ الْمُوَكِّلِ (لَا يَخْتَصُّ بِمَجْلِسِ الْقَضَاءِ) لِأَنَّ الْإِقْرَارَ مُوجِبٌ بِنَفْسِهِ، وَإِنَّمَا يَخْتَصُّ بِمَجْلِسِ الْقَضَاءِ مَا لَا يَكُونُ مُوجِبًا إلَّا بِانْضِمَامِ الْقَضَاءِ إلَيْهِ كَالْبَيِّنَةِ وَالنُّكُولِ (فَكَذَا إقْرَارُ نَائِبِهِ) أَيْ هُوَ أَيْضًا لَا يَخْتَصُّ بِمَجْلِسِ الْقَضَاءِ (وَهُمَا) أَيْ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ (يَقُولَانِ) فِي الْفَرْقِ بَيْنَ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ وَغَيْرِهِ (أَنَّ التَّوْكِيلَ) أَيْ التَّوْكِيلَ بِالْخُصُومَةِ (يَتَنَاوَلُ جَوَابًا يُسَمَّى خُصُومَةً حَقِيقَةً) وَهُوَ الْإِنْكَارُ (أَوْ مَجَازًا) وَهُوَ الْإِقْرَارُ لِمَا مَرَّ أَنَّهُ يَنْصَرِفُ إلَى مُطْلَقِ الْجَوَابِ، وَمُطْلَقُ الْجَوَابِ مَجَازٌ عَامٌّ يَتَنَاوَلُ بِعُمُومِهِ الْحَقِيقَةَ وَهِيَ الْخُصُومَةُ وَالْمَجَازَ وَهُوَ الْإِقْرَارُ، وَالْإِقْرَارُ لَا يَكُونُ خُصُومَةً مَجَازًا إلَّا فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ، فَمَا كَانَ مِنْهُ فِي غَيْرِهِ فَلَيْسَ بِخُصُومَةٍ لَا حَقِيقَةً وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَلَا مَجَازًا إذْ الْإِقْرَارُ إنَّمَا يَكُونُ خُصُومَةً مَجَازًا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ جَوَابٌ، وَلَا جَوَابَ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ فَلَا إقْرَارَ يَكُونُ خُصُومَةً مَجَازًا فِي غَيْرِهِ فَلَا يَتَنَاوَلُهُ الْجَوَابُ الْمُوَكَّلِ بِهِ.

، ثُمَّ إنَّ طَرِيقَ كَوْنِ الْإِقْرَارِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ جَوَابُ خُصُومَةٍ مَجَازًا كَمَا وَعَدَ الْمُصَنِّفُ بَيَانَهُ فِيمَا مَرَّ مَا ذَكَرَهُ هَاهُنَا بِقَوْلِهِ (وَالْإِقْرَارُ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ خُصُومَةٌ مَجَازًا إمَّا لِأَنَّهُ) أَيْ الْإِقْرَارَ (خَرَجَ فِي مُقَابَلَةِ الْخُصُومَةِ) جَوَابًا عَنْهَا فَسُمِّيَ بِاسْمِهَا كَمَا سُمِّيَ جَزَاءُ الْعُدْوَانِ عُدْوَانًا فِي قَوْله تَعَالَى {فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} وَكَمَا سُمِّيَ جَزَاءُ السَّيِّئَةِ سَيِّئَةً فِي قَوْله تَعَالَى {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ

ص: 120

أَوْ لِأَنَّهُ سَبَبٌ لَهُ لِأَنَّ الظَّاهِرَ إتْيَانُهُ بِالْمُسْتَحَقِّ وَهُوَ الْجَوَابُ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ فَيَخْتَصُّ بِهِ

وَالْأَسْرَارِ. قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: فَكَانَ مُجَوِّزُهُ التَّضَادَّ وَهُوَ مُجَوِّزٌ لُغَوِيٌّ لِمَا قَرَّرْنَا فِي التَّقْرِيرِ أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ مُجَوِّزًا شَرْعِيًّا. وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: بَلْ الظَّاهِرُ أَنَّ مُجَوِّزَهُ الْمُشَاكَلَةُ.

أَقُولُ: لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ يَعْرِفُ حَقِيقَةَ الْمُشَاكَلَةِ وَيُتْقِنُ النَّظَرَ فِي مَبَاحِثِهَا أَنَّ الْمُشَاكَلَةَ بِمَعْزِلٍ عَمَّا نَحْنُ فِيهِ، وَإِنَّمَا غَرَّهُ تَمْثِيلُهُمْ مَا نَحْنُ فِيهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} قَوْله تَعَالَى {فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} وَلَكِنَّ جَوَازَ الْمُشَاكَلَةِ أَيْضًا فِي ذَيْنِك الْمَوْضِعَيْنِ مِنْ النَّظْمِ الشَّرِيفِ لَا يَقْتَضِي جَوَازَهُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ، تَأَمَّلْ تَقِفْ (أَوْ لِأَنَّهُ) أَيْ الْخُصُومَةُ عَلَى تَأْوِيلِ التَّخَاصُمِ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَغَيْرِهَا. وَقَالَ فِي مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ: وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: أَوْ لِأَنَّهَا (سَبَبٌ لَهُ) أَيْ لِإِقْرَارٍ، وَقَدْ سُمِّيَ الْمُسَبَّبُ بِاسْمِ السَّبَبِ كَمَا يُقَالُ صَلَاةُ الْعِيدِ سُنَّةٌ مَعَ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا تَثْبُتُ بِالسُّنَّةِ، وَكَمَا يُسَمَّى جَزَاءُ السَّيِّئَةِ سَيِّئَةً إطْلَاقًا لِاسْمِ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبَّبِ فَكَانَ الْمُجَوِّزُ السَّبَبِيَّةَ. قَالَ فِي الْعِنَايَةِ: وَهُوَ مُجَوِّزٌ شَرْعِيٌّ نَظِيرُ الِاتِّصَالِ الصُّورِيِّ فِي اللُّغَوِيِّ كَمَا عُرِفَ (لِأَنَّ الظَّاهِرَ إتْيَانُهُ) أَيْ إتْيَانُ الْخَصْمِ (بِالْمُسْتَحَقِّ) فَتَكُونُ الْخُصُومَةُ سَبَبًا لَهُ حَيْثُ أَفْضَى إلَيْهِ ظَاهِرًا، كَذَا ذَكَرَهُ تَاجُ الشَّرِيعَةِ وَاخْتَارَهُ الْعَيْنِيُّ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ قَوْلُهُ لِأَنَّ الظَّاهِرَ إلَخْ تَعْلِيلًا لِقَوْلِهِ أَوْ لِأَنَّهُ سَبَبٌ لَهُ.

وَقِيلَ هُوَ تَعْلِيلٌ لِقَوْلِهِ وَالْإِقْرَارُ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ خُصُومَةٌ مَجَازًا بِمُلَاحَظَةِ الْقَصْرِ فِي التَّقْيِيدِ بِقَوْلِهِ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ: يَعْنِي لَا الْإِقْرَارُ فِي غَيْرِهِ فَتَأَمَّلْ اهـ. وَيُشْعِرُ بِهِ تَحْرِيرُ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ حَيْثُ قَالَ: وَأَمَّا اخْتِصَاصُهُ بِمَجْلِسِ الْقَضَاءِ فَلِأَنَّ الظَّاهِرَ إتْيَانُهُ بِالْمُسْتَحَقِّ إلَخْ فَتَفَكَّرْ (وَهُوَ) أَيْ الْمُسْتَحَقُّ (الْجَوَابُ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ) لَا غَيْرُ (فَيَخْتَصُّ بِهِ) أَيْ فَيَخْتَصُّ جَوَابُ الْخُصُومَةِ بِمَجْلِسِ الْقَضَاءِ. قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَلَوْ قَالَ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ إتْيَانُهُ بِالْمُسْتَحَقِّ بَدَلٌ لِأَنَّ الظَّاهِرَ كَانَ أَوْ فِي تَأْدِيَةٍ لِلْمَقْصُودِ انْتَهَى. وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: إنَّمَا لَمْ يَقُلْ لِأَنَّ الْوَاجِبَ إلَخْ لِتَطَرُّقِ الْمَنْعِ عَلَى دَعْوَى الْوُجُوبِ، وَسَنَدُهُ مَا مَرَّ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْوِكَالَةِ مِنْ الشَّارِحِ حَيْثُ بَيَّنَ حُكْمَهَا انْتَهَى.

أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ مَدَارَهُ عَلَى زَعْمِ أَنَّ ضَمِيرَ " عَلَيْهِ " وَ " إتْيَانُهُ " فِي قَوْلِهِ " لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ إتْيَانُهُ بِالْمُسْتَحَقِّ " رَاجِعٌ إلَى الْوَكِيلِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ وَكِيلٌ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هُوَ رَاجِعٌ إلَى الْخَصْمِ وَهُوَ الْمُوَكِّلُ حَقِيقَةً، وَإِنْ عُدَّ الْوَكِيلُ أَيْضًا خَصْمًا لِقِيَامِهِ مَقَامَ الْمُوَكِّلِ فَالْوُجُوبُ هَاهُنَا يَصِيرُ حُكْمُ الْخُصُومَةِ لَا حُكْمُ الْوِكَالَةِ، وَوُجُوبُ الْجَوَابِ عَلَى الْخَصْمِ بِمَا لَا يَقْبَلُ الْمَنْعَ قَطْعًا، وَمَا مَرَّ مِنْ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْوِكَالَةِ وَهُوَ جَوَازُ مُبَاشَرَةِ الْوَكِيلِ مَا فُوِّضَ إلَيْهِ إنَّمَا هُوَ حُكْمُ الْوِكَالَةِ، وَذَلِكَ لَا يُنَافِي كَوْنَ الْوُجُوبِ الْمَذْكُورِ هَاهُنَا حُكْمُ الْخُصُومَةِ فَلَا يَكَادُ يَصْلُحُ سَنَدًا لِمَنْعِ ذَلِكَ؛ أَلَا يَرَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْوَكِيلِ كَثِيرٌ مِنْ أَحْكَامِ مَا بَاشَرَهُ

ص: 121

لَكِنْ إذَا أُقِيمَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى إقْرَارِهِ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ يَخْرُجُ مِنْ الْوِكَالَةِ حَتَّى لَا يُؤْمَرَ بِدَفْعِ الْمَالِ إلَيْهِ لِأَنَّهُ صَارَ مُنَاقِضًا وَصَارَ كَالْأَبِ أَوْ الْوَصِيِّ إذَا أَقَرَّ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ لَا يَصِحُّ وَلَا يَدْفَعُ الْمَالَ إلَيْهِمَا.

بِالْوِكَالَةِ كَمَا قَالُوا كُلُّ عَقْدٍ يُضِيفُهُ الْوَكِيلُ إلَى نَفْسِهِ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَغَيْرِهِمَا فَحُقُوقُهُ تَجِبُ عَلَى الْوَكِيلِ دُونَ الْمُوَكِّلِ مَعَ إطْبَاقِهِمْ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْوِكَالَةِ جَوَازُ مُبَاشَرَةِ الْوَكِيلِ مَا فُوِّضَ إلَيْهِ.

فَالتَّوْفِيقُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ أَنَّ الْوُجُوبَ حُكْمُ مَا بَاشَرَهُ، وَالْجَوَازُ حُكْمُ أَصْلِ الْوِكَالَةِ فَلَا تَغْفُلْ (لَكِنْ إذَا أُقِيمَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى إقْرَارِهِ) أَيْ عَلَى إقْرَارِ الْوَكِيلِ (فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ يَخْرُجُ مِنْ الْوِكَالَةِ) هَذَا اسْتِدْرَاكٌ مِنْ قَوْلِهِ فَيَخْتَصُّ بِهِ، وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى دَفْعِ مَا يُقَالُ إذَا لَمْ يَكُنْ الْإِقْرَارُ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ جَوَابًا كَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يَكُونَ مُعْتَبَرًا وَلَا يَخْرُجُ بِهِ عَنْ الْوِكَالَةِ، وَمَعْنَاهُ لَكِنْ إذَا ثَبَتَ أَنَّهُ أَقَرَّ عِنْدَ غَيْرِ الْقَاضِي خَرَجَ مِنْ الْوِكَالَةِ (حَتَّى لَا يُؤْمَرَ) أَيْ لَا يُؤْمَرَ الْخَصْمُ (بِدَفْعِ الْمَالِ إلَيْهِ) أَيْ إلَى الْوَكِيلِ (لِأَنَّهُ صَارَ مُنَاقِضًا) فِي كَلَامِهِ حَيْثُ كَذَّبَ نَفْسَهُ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَالْمُنَاقِضُ لَا دَعْوَى لَهُ.

قَالَ فِي الْكَافِي: حَتَّى لَا يُؤْمَرَ بِدَفْعِ الْمَالِ إلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَبْقَى وَكِيلًا بِمُطْلَقِ الْجَوَابِ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْإِنْكَارَ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُنَاقِضًا فِي كَلَامِهِ، فَلَوْ بَقِيَ وَكِيلًا بَقِيَ وَكِيلًا بِجَوَابٍ مُقَيَّدٍ وَهُوَ الْإِقْرَارُ وَمَا وَكَّلَهُ بِجَوَابٍ مُقَيَّدٍ وَإِنَّمَا وَكَّلَهُ بِالْجَوَابِ مُطْلَقًا انْتَهَى (وَصَارَ) أَيْ صَارَ الْوَكِيلُ الْمُقِرُّ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ (كَالْأَبِ وَالْوَصِيِّ إذَا أَقَرَّ) أَيْ أَقَرَّ وَاحِدٌ مِنْهُمَا (فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ) فَإِنَّهُ (لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ وَلَا يَدْفَعُ الْمَالَ إلَيْهِ)، بَيَانُ أَنَّ الْأَبَ أَوْ الْوَصِيَّ إذَا ادَّعَى شَيْئًا لِلصَّغِيرِ فَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَصَدَّقَهُ الْأَبُ أَوْ الْوَصِيُّ ثُمَّ جَاءَ يَدَّعِي الْمَالَ فَإِنَّ إقْرَارَهُمَا لَا يَصِحُّ (وَلَا يَدْفَعُ الْمَالَ إلَيْهِمَا) لِأَنَّهُمَا خَرَجَا مِنْ الْوِلَايَةِ وَالْوِصَايَةِ فِي حَقِّ ذَلِكَ الْمَالِ بِسَبَبِ إقْرَارِهِمَا بِمَا قَالَهُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَكَذَلِكَ هَاهُنَا، كَذَا ذُكِرَ فِي أَكْثَرِ الشُّرُوحِ، وَالْأَحْسَنُ مَا ذُكِرَ فِي الْكِفَايَةِ مِنْ أَنَّ الْأَبَ وَالْوَصِيَّ إذَا أَقَرَّا عَلَى الْيَتِيمِ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ أَنَّهُ اسْتَوْفَى حَقَّهُ لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُمَا عَلَيْهِ، وَلَكِنْ لَا يَدْفَعُ الْمَالَ إلَيْهِمَا لِزَعْمِهِمَا بُطْلَانَ حَقِّ الْآخِذِ، وَإِنَّمَا لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُمَا لِأَنَّ وِلَايَتَهُمَا نَظَرِيَّةٌ وَلَا نَظَرَ فِي الْإِقْرَارِ عَلَى الصَّغِيرِ انْتَهَى.

وَاعْلَمْ أَنَّ حَاصِلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَعْنِي مَسْأَلَةَ التَّوْكِيلِ بِالْخُصُومَةِ عَلَى خَمْسَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلِ أَنْ يُوَكِّلَهُ بِالْخُصُومَةِ وَلَا يَتَعَرَّضُ لِشَيْءٍ آخَرَ، وَفِي هَذَا الْوَجْهِ يَصِيرُ وَكِيلًا بِالْإِنْكَارِ بِالْإِجْمَاعِ وَيَصِيرُ وَكِيلًا بِالْإِقْرَارِ أَيْضًا عِنْدَ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ. الثَّانِي أَنْ يُوَكِّلَهُ بِالْخُصُومَةِ غَيْرَ جَائِزِ الْإِقْرَارِ، وَفِي هَذَا الْوَجْهِ يَصِيرُ وَكِيلًا بِالْإِنْكَارِ، لِأَنَّ بِاسْتِثْنَاءِ الْإِقْرَارِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْوَكِيلَ مَا يَتَنَاوَلُ نَفْسَ الْجَوَابِ إنَّمَا يَتَنَاوَلُ جَوَابًا مُقَيَّدًا بِالْإِنْكَارِ، هَكَذَا ذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ فِي الْأَصْلِ، وَذَكَرَ الْإِمَامُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ الْبَزْدَوِيُّ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ أَنَّ هَذَا الِاسْتِثْنَاءَ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ لَا يَصِحُّ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَصِحُّ.

وَهَكَذَا ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ فِي شَرْحِ وِكَالَةِ الْأَصْلِ، وَفِي الْفَتَاوَى الصُّغْرَى أَنَّ اسْتِثْنَاءَ الْإِقْرَارِ مِنْ الطَّالِبِ يَصِحُّ وَمِنْ الْمَطْلُوبِ لَا يَصِحُّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ. الثَّالِثِ أَنْ يُوَكِّلَهُ بِالْخُصُومَةِ غَيْرَ جَائِزِ الْإِنْكَارِ، وَفِي هَذَا الْوَجْهِ يَصِيرُ وَكِيلًا بِالْإِقْرَارِ، وَيَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ؛ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ لَا يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ.

الرَّابِعِ أَنْ يُوَكِّلَهُ بِالْخُصُومَةِ جَائِزَ الْإِقْرَارِ عَلَيْهِ وَفِي هَذَا الْوَجْهِ يَصِيرُ وَكِيلًا بِالْخُصُومَةِ وَالْإِقْرَارِ، حَتَّى لَوْ أَقَرَّ صَحَّ إقْرَارُهُ عَلَى الْمُوَكِّلِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رحمه الله، وَيَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ التَّوْكِيلَ بِالْإِقْرَارِ صَحِيحٌ عِنْدَنَا، وَلَا يَصِيرُ الْمُوَكِّلُ مُقِرًّا بِنَفْسِ التَّوْكِيلِ عِنْدَنَا، ذَكَرَ مُحَمَّدٌ الْمَسْأَلَةَ فِي بَابِ الْوِكَالَةِ بِالصُّلْحِ. الْخَامِسِ أَنْ يُوَكِّلَهُ بِالْخُصُومَةِ غَيْرَ جَائِزِ الْإِقْرَارِ وَالْإِنْكَارِ، وَلَا رِوَايَةَ فِي هَذَا الْوَجْهِ عَنْ أَصْحَابِنَا، وَقَدْ اخْتَلَفَ الْمُتَأَخِّرُونَ فِيهِ: بَعْضُهُمْ قَالُوا لَا يَصِحُّ هَذَا التَّوْكِيلُ أَصْلًا لِأَنَّ التَّوْكِيلَ بِالْخُصُومَةِ تَوْكِيلٌ بِجَوَابِ الْخُصُومَةِ، وَجَوَابُ الْخُصُومَةِ إقْرَارٌ وَإِنْكَارٌ، فَإِذَا اسْتَثْنَى كِلَاهُمَا لَمْ يُفَوِّضْ إلَيْهِ شَيْئًا.

وَحَكَى عَنْ الْقَاضِي الْإِمَامِ صَاعِدٍ النَّيْسَابُورِيِّ أَنَّهُ

ص: 122

قَالَ (وَمَنْ كَفَلَ بِمَالٍ عَنْ رَجُلٍ فَوَكَّلَهُ صَاحِبُ الْمَالِ بِقَبْضِهِ عَنْ الْغَرِيمِ لَمْ يَكُنْ وَكِيلًا فِي ذَلِكَ أَبَدًا) لِأَنَّ الْوَكِيلَ مَنْ يَعْمَلُ لِغَيْرِهِ، وَلَوْ صَحَّحْنَاهَا صَارَ عَامِلًا لِنَفْسِهِ فِي إبْرَاءِ ذِمَّتِهِ فَانْعَدَمَ الرُّكْنُ

قَالَ: يَصِحُّ التَّوْكِيلُ وَيَصِيرُ الْوَكِيلُ وَكِيلًا بِالسُّكُوتِ مَتَى حَضَرَ مَجْلِسَ الْحُكْمِ حَتَّى يَسْمَعَ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ التَّوْكِيلُ بِهَذَا الْقَدْرِ لِأَنَّ مَا هُوَ مَقْصُودُ الطَّالِبِ وَهُوَ الْوُصُولُ إلَى حَقِّهِ بِوَاسِطَةِ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ يَحْصُلُ بِهِ، كُلُّ ذَلِكَ مِنْ الذَّخِيرَةِ. ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ الْوَكِيلُ بِالْخُصُومَةِ فِي حَدِّ الْقَذْفِ وَالْقِصَاصِ لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ؛ لِأَنَّ التَّوْكِيلَ بِالْخُصُومَةِ جُعِلَ تَوْكِيلًا بِالْجَوَابِ مَجَازًا بِالِاجْتِهَادِ فَتَمَكَّنَتْ فِيهِ شُبْهَةُ الْعَدَمِ فِي إقْرَارِ الْوَكِيلِ فَيُورِثُ شُبْهَةً فِي دَرْءِ مَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ، كَذَا فِي التَّبْيِينِ

. (قَالَ) أَيْ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ (وَمَنْ كَفَلَ بِمَالٍ عَنْ رَجُلٍ فَوَكَّلَهُ صَاحِبُ الْمَالِ بِقَبْضِهِ) أَيْ بِقَبْضِ الْمَالِ (عَنْ الْغَرِيمِ لَمْ يَكُنْ وَكِيلًا فِي ذَلِكَ) أَيْ لَمْ يَكُنْ الْكَفِيلُ وَكِيلًا فِي قَبْضِ الْمَالِ عَنْ الْغَرِيمِ (أَبَدًا) أَيْ لَا بَعْدَ بَرَاءَةِ الْكَفِيلِ وَلَا قَبْلَهَا، حَتَّى لَوْ هَلَكَ الْمَالُ فِي يَدِهِ لَمْ يَهْلِكْ عَلَى الْمُوَكِّلِ، أَمَّا بَعْدَ الْبَرَاءَةِ فَلِأَنَّهَا لَمَّا لَمْ تَصِحَّ حَالَ التَّوْكِيلِ لِمَا سَيَذْكُرُ لَمْ تَنْقَلِبْ صَحِيحَةً كَمَنْ كَفَلَ لِغَائِبٍ فَأَجَازَهَا بَعْدَمَا بَلَغَتْهُ فَإِنَّهَا لَا تَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَصِحَّ ابْتِدَاءً لِعَدَمِ الْقَبُولِ فَلَا تَنْقَلِبُ صَحِيحَةً، وَأَمَّا قَبْلَ الْبَرَاءَةِ فَلِمَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ (لِأَنَّ الْوَكِيلَ مَنْ يَعْمَلُ لِغَيْرِهِ) وَهُوَ ظَاهِرٌ وَالْكَفِيلُ لَيْسَ مَنْ يَعْمَلُ لِغَيْرِهِ فَإِنَّهُ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ فِي إبْرَاءِ ذِمَّتِهِ (وَلَوْ صَحَّحْنَاهَا) أَيْ وَلَوْ صَحَّحْنَا الْوِكَالَةَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ (صَارَ) أَيْ صَارَ الْوَكِيلُ (عَامِلًا لِنَفْسِهِ فِي إبْرَاءِ ذِمَّتِهِ) لِأَنَّ قَبْضَهُ يَقُومُ مَقَامَ قَبْضِ الْمُوَكِّلِ وَبِقَبْضِهِ تَبْرَأُ ذِمَّةُ الْكَفِيلِ فَكَذَا بِقَبْضِ وَكِيلِهِ (فَانْعَدَمَ الرُّكْنُ) أَيْ رُكْنُ الْوِكَالَةِ وَهُوَ الْعَمَلُ لِلْغَيْرِ فَانْعَدَمَ عَقْدُ الْوِكَالَةِ لِانْعِدَامِ رُكْنِهِ وَصَارَ

ص: 123

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

هَذَا كَالْمُحْتَالِ إذَا وَكَّلَ الْمُحِيلَ بِقَبْضِ الدَّيْنِ مِنْ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ لَا يَصِيرُ وَكِيلًا لِمَا قُلْنَا. فَإِنْ قِيلَ: يُشْكِلُ هَذَا بِرَبِّ الدَّيْنِ إذَا وُكِّلَ الْمَدْيُونُ بِإِبْرَاءِ نَفْسِهِ عَمَّا عَلَيْهِ مِنْ الدَّيْنِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ، وَإِنْ كَانَ الْمَدْيُونُ فِي إبْرَاءِ نَفْسِهِ سَاعِيًا فِي فِكَاكِ رَقَبَتِهِ.

قُلْنَا: ذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ فِي تَعْلِيلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْمَدْيُونَ لَا يَصْلُحُ وَكِيلًا عَنْ الطَّالِبِ بِإِبْرَاءِ نَفْسِهِ عَلَى خِلَافِ مَا ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ فَكَانَ لِلْمَنْعِ فِيهِ مَجَالٌ، كَذَا فِي الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ. وَلَئِنْ سَلَّمْنَا ذَلِكَ فَنَقُولُ: إنَّ الْإِبْرَاءَ تَمْلِيكٌ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ، فَلَا يُرَدُّ عَلَيْنَا نَقْضًا لِأَنَّ كَلَامَنَا فِي التَّوْكِيلِ لَا فِي التَّمْلِيكِ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَأَكْثَرِ الشُّرُوحِ. أَقُولُ: فِي الْجَوَابِ نَظَرٌ، أَمَّا فِي الْمَنْعِيِّ فَلِأَنَّ مَا ذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ كَيْفَ يَصْلُحُ لِلْمُعَارَضَةِ لِمَا نَصَّ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ حَتَّى يَكُونَ لِلْمَنْعِ فِيهِ مَجَالٌ، وَأَمَّا فِي التَّسْلِيمِيِّ فَلِأَنَّ النَّقْضَ لَيْسَ بِنَفْسِ الْإِبْرَاءِ بَلْ بِالتَّوْكِيلِ بِالْإِبْرَاءِ، فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ إنَّ كَلَامَنَا فِي التَّوْكِيلِ لَا فِي التَّمْلِيكِ عَلَى أَنَّ الْمَنْقُوضَ هَاهُنَا لَيْسَ نَفْسَ الْمَسْأَلَةِ بَلْ دَلِيلَهَا الْمَذْكُورَ فَإِنَّهُ جَارٍ بِعَيْنِهِ فِي صُورَةِ تَوْكِيلِ الْمَدْيُونِ بِإِبْرَاءِ نَفْسِهِ عَمَّا عَلَيْهِ مِنْ الدَّيْنِ مَعَ تَخَلُّفِ الْحُكْمِ وَهُوَ عَدَمُ الصِّحَّةِ هُنَاكَ فَلَا فَائِدَةَ فِي دَفْعِ ذَلِكَ لِلْفَرْقِ الْمَذْكُورِ أَصْلًا كَمَا لَا يَخْفَى.

اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُقَالَ: مُرَادُهُمْ أَنَّ التَّوْكِيلَ بِالْإِبْرَاءِ فِي الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ تَمْلِيكٌ حَقِيقَةً وَإِنْ كَانَ تَوْكِيلًا صُورَةً، وَكَلَامُنَا فِي التَّوْكِيلِ الْحَقِيقِيِّ لَا فِيمَا هُوَ تَوْكِيلٌ صُورَةً تَمْلِيكٌ حَقِيقَةً، وَالدَّلِيلُ الْمَذْكُورُ أَيْضًا إنَّمَا يَجْرِي فِي التَّوْكِيلِ الْحَقِيقِيِّ لِأَنَّ كَوْنَ الْوَكِيلِ عَامِلًا لِغَيْرِهِ إنَّمَا هُوَ فِي ذَلِكَ، وَيَمِيلُ إلَى هَذَا التَّوْجِيهِ تَقْرِيرُ صَاحِبِ الْكَافِي فِي الْجَوَابِ عَنْ السُّؤَالِ الْمَذْكُورِ حَيْثُ قَالَ: فَإِنْ قِيلَ: الدَّائِنُ إذَا وَكَّلَ الْمَدْيُونُ بِإِبْرَاءِ نَفْسِهِ عَنْ الدَّيْنِ يَصِحُّ نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْجَامِعِ، وَإِنْ كَانَ الْمَدْيُونُ فِي إبْرَاءِ نَفْسِهِ سَاعِيًا فِي فِكَاكِ رَقَبَتِهِ. قُلْنَا: إنَّمَا يَصِحُّ ثَمَّةَ لِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ لَا لِأَنَّهُ تَوْكِيلٌ كَمَا قَوْلِهِ طَلِّقِي نَفْسَك انْتَهَى فَتَأَمَّلْ. قَالَ صَاحِبُ الْكِفَايَةِ بَعْدَ نَقْلِ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ عَنْ الْكَافِي: قُلْت لَوْ كَانَ تَمْلِيكًا لَاقْتَصَرَ عَلَى الْمَجْلِسِ وَلَا يَقْتَصِرُ اهـ. أَقُولُ: يُمْكِنُ أَنْ يُعَارَضَ هَذَا بِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ تَمْلِيكًا لَمَا ارْتَدَّ بِالرَّدِّ كَمَا أُشِيرَ إلَيْهِ فِي سَائِرِ الشُّرُوحِ حَيْثُ قِيلَ: إنَّ الْإِبْرَاءَ تَمْلِيكٌ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ فَتَدَبَّرْ.

ثُمَّ إنَّ الْإِمَامَ الزَّيْلَعِيَّ ذَكَرَ السُّؤَالَ الْمَذْكُورَ وَجَوَابَهُ فِي شَرْحِ الْكَنْزِ عَلَى نَهْجِ مَا ذَكَرَ فِي الْكَافِي بِنَوْعِ تَغْيِيرِ عِبَارَةٍ فِي السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ حَيْثُ قَالَ: فَإِنْ قِيلَ الدَّائِنُ إذَا وَكَّلَ الْمَدْيُونَ بِإِبْرَاءِ نَفْسِهِ عَنْ الدَّيْنِ يَصِحُّ وَإِنْ كَانَ عَامِلًا لِنَفْسِهِ سَاعِيًا فِي بَرَاءَةِ ذِمَّتِهِ. قُلْنَا ذَلِكَ تَمْلِيكٌ وَلَيْسَ بِتَوْكِيلٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ طَلِّقِي نَفْسَك اهـ. وَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ حَيْثُ قَالَ بَعْدَ نَقْلِ ذَلِكَ عَنْهُ: فِيهِ بَحْثٌ؛ لِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ أَنَّهُ تَمْلِيكٌ لِلدَّيْنِ فَمَمْنُوعٌ لِظُهُورِ أَنَّهُ لَيْسَ بِتَمْلِيكٍ، إلَّا أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ مِنْ قَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ فِي التَّشْبِيهِ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ تَمْلِيكٌ لِلْإِبْرَاءِ كَمَا فِي طَلِّقِي نَفْسَك فَإِنَّهُ تَمْلِيكٌ لِلطَّلَاقِ، فَالتَّوْكِيلُ أَيْضًا تَمْلِيكٌ لِلتَّصَرُّفِ الْمُوَكَّلِ بِهِ كَمَا عُلِمَ ذَلِكَ مِنْ الدَّرْسِ السَّابِقِ أَيْضًا اهـ. أَقُولُ: يَجُوزُ أَنْ يَخْتَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ شِقَّيْ تَرْدِيدِهِ.

أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِسُقُوطِ مَنْعِ ذَلِكَ بِإِقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ لَوْ لَمْ يَكُنْ تَمْلِيكًا لِلدَّيْنِ بَلْ كَانَ إسْقَاطُهُ لَهُ لَمَّا ارْتَدَّ بِالرَّدِّ، فَإِنَّ الْإِسْقَاطَ يَتَلَاشَى لَا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ عَلَى مَا عُرِفَ، وَقَدْ أَشَارَ إلَيْهِ الشُّرَّاحُ بِقَوْلِهِمْ: الْإِبْرَاءُ تَمْلِيكٌ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ. وَأَمَّا الثَّانِي فَلِسُقُوطِ نَقْضِ ذَلِكَ بِالتَّوْكِيلِ فَإِنَّ التَّوْكِيلَ عَلَى مَا مَرَّ فِي صَدْرِ كِتَابِ الْوِكَالَةِ إقَامَةُ الْإِنْسَانِ غَيْرَهُ مَقَامَ نَفْسِهِ فِي تَصَرُّفٍ مَعْلُومٍ فَهُوَ إنَابَةٌ مَحْضَةٌ لَا تَمْلِيكُ شَيْءٍ أَصْلًا. فَقَوْلُهُ فَالتَّوْكِيلُ أَيْضًا تَمْلِيكٌ لِلتَّصَرُّفِ الْمُوَكَّلِ بِهِ كَمَا عُلِمَ فِي الدَّرْسِ السَّابِقِ أَيْضًا سَاقِطٌ جِدًّا، إذْ لَمْ يُعْلَمْ قَطُّ لَا فِي الدَّرْسِ السَّابِقِ وَلَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ التَّوْكِيلَ تَمْلِيكُ شَيْءٍ، بَلْ هُمْ مُصَرِّحُونَ بِكَوْنِهِ مُقَابِلًا لِلتَّمْلِيكِ فِي مَوَاضِعَ شَتَّى سِيَّمَا فِي بَابِ تَفْوِيضِ الطَّلَاقِ مِنْ كِتَابِ الطَّلَاقِ. ثُمَّ قِيلَ: يَنْبَغِي أَنْ تَصِحَّ وِكَالَةُ الْكَفِيلِ فِي مَسْأَلَتِنَا لِأَنَّهُ عَامِلٌ لِرَبِّ الدِّينِ قَصْدًا، وَعَمَلُهُ لِنَفْسِهِ كَانَ وَاقِعًا فِي ضِمْنِ عَمَلِهِ لِغَيْرِهِ، وَالضِّمْنِيَّاتُ قَدْ لَا تُعْتَبَرُ. وَأُجِيبَ بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ بَلْ الْعَمَلُ لِنَفْسِهِ أَصْلٌ، إذْ الْأَصْلُ أَنْ يَقَعَ تَصَرُّفُ كُلِّ عَامِلٍ لِنَفْسِهِ لَا لِغَيْرِهِ.

وَقِيلَ لَمَّا اسْتَوَيَا فِي جِهَةِ الْأَصَالَةِ يَنْبَغِي أَنْ تَبْطُلَ الْكَفَالَةُ بِالْوِكَالَةِ؛ لِأَنَّ الْوِكَالَةَ كَانَتْ طَارِئَةً عَلَى الْكَفَالَةِ فَكَانَتْ نَاسِخَةً لِلْكَفَالَةِ، كَمَا إذَا تَأَخَّرَتْ الْكَفَالَةُ عَنْ الْوِكَالَةِ فَإِنَّهَا تَكُونُ نَاسِخَةً لِلْوِكَالَةِ، فَإِنَّ الْإِمَامَ الْمَحْبُوبِيَّ ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّ الْوَكِيلَ بِقَبْضِ الدَّيْنِ إذَا ضَمِنَ الْمَالَ لِلْمُوَكِّلِ يَصِحُّ الضَّمَانُ وَتَبْطُلُ الْوِكَالَةُ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْكَفَالَةَ تَصْلُحُ نَاسِخَةً لِلْوِكَالَةِ وَمُبْطِلَةً لَهَا لَا عَلَى الْعَكْسِ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ جَازَ أَنْ يَكُونَ مَنْسُوخًا بِمَا هُوَ مِثْلُهُ أَوْ فَوْقَهُ لَا بِمَا هُوَ دُونَهُ، وَالْوِكَالَةُ دُونَ

ص: 124

وَلِأَنَّ قَبُولَ قَوْلِهِ مُلَازِمٌ لِلْوِكَالَةِ لِكَوْنِهِ أَمِينًا، وَلَوْ صَحَّحْنَاهَا لَا يُقْبَلُ لِكَوْنِهِ مُبَرِّئًا نَفْسَهُ فَيَنْعَدِمُ بِانْعِدَامِ لَازِمِهِ، وَهُوَ نَظِيرُ عَبْدٍ مَدْيُونٍ أَعْتَقَهُ مَوْلَاهُ حَتَّى ضَمِنَ قِيمَتَهُ لِلْغُرَمَاءِ وَيُطَالَبُ الْعَبْدُ بِجَمِيعِ الدَّيْنِ، فَلَوْ وَكَّلَهُ الطَّالِبُ بِقَبْضِ الْمَالِ عَنْ الْعَبْدِ كَانَ بَاطِلًا لِمَا بَيَّنَّاهُ

. قَالَ (وَمَنْ ادَّعَى أَنَّهُ وَكِيلُ الْغَائِبِ فِي قَبْضِ دَيْنِهِ فَصَدَّقَهُ الْغَرِيمُ أُمِرَ بِتَسْلِيمِ الدَّيْنِ إلَيْهِ) لِأَنَّهُ إقْرَارٌ عَلَى نَفْسِهِ لِأَنَّ مَا يَقْضِيهِ خَالِصُ مَالِهِ (فَإِنْ حَضَرَ الْغَائِبُ

الْكَفَالَةِ فِي الرُّتْبَةِ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ عَقْدٌ لَازِمٌ لَا يَتَمَكَّنُ الْكَفِيلُ مِنْ عَزْلِ نَفْسِهِ، بِخِلَافِ الْوِكَالَةِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَكُونَ الْوِكَالَةُ نَاسِخَةً لِلْكَفَالَةِ وَإِنْ جَازَ عَكْسُهُ (وَلِأَنَّ قَبُولَ قَوْلِهِ) أَيْ قَبُولَ قَوْلِ الْوَكِيلِ (مُلَازِمٌ لِلْوِكَالَةِ) هَذَا دَلِيلٌ آخَرُ عَلَى الْمَسْأَلَةِ. تَقْرِيرُهُ أَنَّ الْوِكَالَةَ تَسْتَلْزِمُ قَبُولَ قَوْلِ الْوَكِيلِ (لِكَوْنِهِ أَمِينًا، وَلَوْ صَحَّحْنَاهَا) أَيْ لَوْ صَحَّحْنَا الْوِكَالَةَ هَاهُنَا (لَا يُقْبَلُ) أَيْ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ (لِكَوْنِهِ مُبَرِّئًا نَفْسَهُ) عَمَّا لَزِمَهُ بِحُكْمِ كَفَالَتِهِ فَانْتَفَى اللَّازِمُ وَهُوَ قَبُولُ قَوْلِهِ (فَيَنْعَدِمُ) أَيْ التَّوْكِيلُ الَّذِي هُوَ الْمَلْزُومُ (بِانْعِدَامِ لَازِمِهِ) الَّذِي هُوَ قَبُولُ قَوْلِهِ لِأَنَّ انْتِفَاءَ اللَّازِمِ يَسْتَلْزِمُ انْتِفَاءَ الْمَلْزُومِ فَيَلْزَمُ عَدَمُهُ حَالَ فَرْضِ وُجُودِهِ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ مَعْدُومٌ (وَهُوَ نَظِيرُ عَبْدٍ مَدْيُونٍ) أَيْ مَا ذَكَرَ مِنْ مَسْأَلَتِنَا نَظِيرُ مَسْأَلَةِ عَبْدٍ مَدْيُونٍ أَوْ بُطْلَانُ الْوِكَالَةِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ نَظِيرُ بُطْلَانِهَا فِي عَبْدٍ مَدْيُونٍ.

وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: وَنَظِيرُهُ عَبْدٌ مَدْيُونٌ (أَعْتَقَهُ مَوْلَاهُ حَتَّى ضَمِنَ قِيمَتَهُ) أَيْ ضَمِنَ الْمَوْلَى قَدْرَ قِيمَةِ الْعَبْدِ سَوَاءٌ كَانَ مُوسِرًا أَوْ مُعْسِرًا (لِلْغُرَمَاءِ وَيُطَالَبُ الْعَبْدُ بِجَمِيعِ الدَّيْنِ، فَلَوْ وَكَّلَهُ الطَّالِبُ) أَيْ فَلَوْ وَكَّلَ الْمَوْلَى الطَّالِبُ وَهُوَ رَبُّ الدَّيْنِ (بِقَبْضِ الْمَالِ عَنْ الْعَبْدِ كَانَ بَاطِلًا) أَيْ كَانَ التَّوْكِيلُ بَاطِلًا (لِمَا بَيَّنَّاهُ) مِنْ أَنَّ الْوَكِيلَ مَنْ يَعْمَلُ لِغَيْرِهِ وَهَاهُنَا لَمَّا كَانَ الْمَوْلَى ضَامِنًا لِقِيمَةِ الْعَبْدِ كَانَ فِي مِقْدَارِهَا عَامِلًا لِنَفْسِهِ لِأَنَّهُ يُبَرِّئُ بِهِ نَفْسَهُ فَكَانَ التَّوْكِيلُ بَاطِلًا

(قَالَ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ (وَمَنْ ادَّعَى أَنَّهُ وَكِيلُ الْغَائِبِ) أَيْ وَكِيلُ فُلَانٍ الْغَائِبِ (فِي قَبْضِ دَيْنِهِ فَصَدَّقَهُ الْغَرِيمُ) أَيْ الْمَدْيُونُ (أُمِرَ) أَيْ الْغَرِيمُ (بِتَسْلِيمِ الدَّيْنِ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِتَسْلِيمِ الْمَالِ (إلَيْهِ) أَيْ إلَى مُدَّعِي الْوِكَالَةِ (لِأَنَّهُ) أَيْ لِأَنَّ تَصْدِيقَ الْغَرِيمِ إيَّاهُ (إقْرَارٌ عَلَى نَفْسِهِ لِأَنَّ مَا يَقْضِيهِ خَالِصُ مَالِهِ) أَيْ لِأَنَّ مَا يَقْضِيهِ الْمَدْيُونُ خَالِصُ مَالِ الْمَدْيُونِ، إذْ الدُّيُونُ تُقْضَى بِأَمْثَالِهَا لَا بِأَعْيَانِهَا كَمَا تَقَدَّمَ وَتَقَرَّرَ، فَمَا أَدَّاهُ الْمَدْيُونُ مِثْلَ مَالِ رَبِّ الدَّيْنِ لَا عَيْنَهُ، فَكَانَ تَصْدِيقُهُ إقْرَارًا عَلَى نَفْسِهِ، وَمَنْ أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِشَيْءٍ أُمِرَ بِتَسْلِيمِهِ إلَى الْمَقَرِّ لَهُ (فَإِنْ حَضَرَ الْغَائِبُ) أَيْ رَبُّ الدَّيْنِ

ص: 125

فَصَدَّقَهُ وَإِلَّا دَفَعَ إلَيْهِ الْغَرِيمُ الدَّيْنَ ثَانِيًا) لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ الِاسْتِيفَاءُ حَيْثُ أَنْكَرَ الْوِكَالَةَ، وَالْقَوْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ فَيَفْسُدُ الْأَدَاءُ (وَيَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْوَكِيلِ إنْ كَانَ بَاقِيًا فِي يَدِهِ) لِأَنَّ غَرَضَهُ مِنْ الدَّفْعِ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ وَلَمْ تَحْصُلْ فَلَهُ أَنْ يَنْقُضَ قَبْضُهُ (وَإِنْ كَانَ) ضَاعَ (فِي يَدِهِ لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ) لِأَنَّهُ بِتَصْدِيقِهِ اعْتَرَفَ أَنَّهُ مُحِقٌّ فِي الْقَبْضِ وَهُوَ مَظْلُومٌ فِي هَذَا الْأَخْذِ، وَالْمَظْلُومُ لَا يَظْلِمُ غَيْرَهُ

(فَصَدَّقَهُ) أَيْ صَدَّقَ الْوَكِيلُ فِيهَا (وَإِلَّا) أَيْ وَإِنْ لَمْ يُصَدِّقْهُ (دَفَعَ إلَيْهِ) أَيْ إلَى رَبِّ الدَّيْنِ (الْغَرِيمُ الدَّيْنَ ثَانِيًا لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ الِاسْتِيفَاءُ) أَيْ اسْتِيفَاءُ رَبِّ الدَّيْنِ حَقَّهُ (حَيْثُ أَنْكَرَ الْوِكَالَةَ، وَالْقَوْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ) أَيْ الْقَوْلُ فِي إنْكَارِ الْوِكَالَةِ قَوْلُ رَبِّ الدَّيْنِ (مَعَ يَمِينِهِ) لِأَنَّ الدَّيْنَ كَانَ ثَابِتًا وَالْمَدْيُونُ يَدَّعِي أَمْرًا عَارِضًا وَهُوَ سُقُوطُ الدَّيْنِ بِأَدَائِهِ إلَى الْوَكِيلِ وَرَبُّ الدَّيْنِ يُنْكِرُ الْوِكَالَةَ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ مَعَ يَمِينِهِ، وَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ الِاسْتِيفَاءُ (فَيَفْسُدُ الْأَدَاءُ) أَيْ يَفْسُدُ الْأَدَاءُ إلَى مُدَّعِي الْوِكَالَةِ، وَأَدَاءُ الدَّيْنِ وَاجِبٌ عَلَى الْمَدْيُونِ فَيَجِبُ الدَّفْعُ ثَانِيًا إلَى رَبِّ الدَّيْنِ (وَيَرْجِعُ بِهِ) أَيْ وَيَرْجِعُ الْمَدْيُونُ بِمَا دَفَعَهُ أَوَّلًا (عَلَى الْوَكِيلِ) أَيْ عَلَى مُدَّعِي الْوِكَالَةِ (إنْ كَانَ بَاقِيًا فِي يَدِهِ) أَيْ إنْ كَانَ مَا دَفَعَهُ إلَى الْوَكِيلِ بَاقِيًا فِي يَدِهِ (لِأَنَّ غَرَضَهُ) أَيْ غَرَضَ الْمَدْيُونِ (مِنْ الدَّفْعِ) أَيْ مِنْ الدَّفْعِ إلَى الْوَكِيلِ (بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ) مِنْ الدَّيْنِ (وَلَمْ تَحْصُلْ) أَيْ لَمْ تَحْصُلْ الْبَرَاءَةُ (فَلَهُ أَنْ يَنْقُضَ قَبْضَهُ) أَيْ فَلِلْمَدْيُونِ أَنْ يَنْقُضَ قَبْضَ الْوَكِيلِ (وَإِنْ كَانَ ضَاعَ) أَيْ إنْ كَانَ مَا دَفَعَهُ إلَى الْوَكِيلِ ضَاعَ (فِي يَدِهِ لَمْ يَرْجِعْ) أَيْ الْمَدْيُونُ (عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الْوَكِيلِ (لِأَنَّهُ) أَيْ الْمَدْيُونَ (بِتَصْدِيقٍ) أَيْ بِتَصْدِيقِ الْوَكِيلِ (اعْتَرَفَ أَنَّهُ) أَيْ الْوَكِيلَ (مُحِقٌّ فِي الْقَبْضِ) وَالْمُحِقُّ فِي الْقَبْضِ لَا رُجُوعَ عَلَيْهِ (وَهُوَ) أَيْ الْمَدْيُونُ (مَظْلُومٌ فِي هَذَا الْأَخْذِ) أَيْ فِي الْأَخْذِ الثَّانِي، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ أَعْنِي قَوْلَهُ " وَهُوَ مَظْلُومٌ فِي هَذَا الْأَخْذِ " مَعْطُوفٌ عَلَى مَا فِي حَيِّزِ " أَنَّ " فِي قَوْلِهِ " اعْتَرَفَ أَنَّهُ مُحِقٌّ فِي الْقَبْضِ " فَالْمَعْنَى أَنَّ الْمَدْيُونَ بِتَصْدِيقِ الْوَكِيلِ اعْتَرَفَ أَيْضًا أَنَّهُ زَعَمَ أَنَّهُ مَظْلُومٌ فِي هَذَا الْأَخْذِ الثَّانِي (وَالْمَظْلُومُ لَا يَظْلِمُ غَيْرَهُ) فَلَا يَأْخُذُ الْمَدْيُونُ مِنْ الْوَكِيلِ بَعْدَ الْإِهْلَاكِ.

قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: فَإِنْ قِيلَ: هَذَا الْوَجْهُ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَرْجِعَ عَلَيْهِ إذَا كَانَتْ الْعَيْنُ فِي يَدِهِ بَاقِيَةً أَيْضًا. فَالْجَوَابُ أَنَّ الْعَيْنَ إذَا كَانَتْ بَاقِيَةً أَمْكَنَ نَقْضُ الْقَبْضِ فَيَرْجِعُ بِنَقْضِهِ إذَا لَمْ يَحْصُلْ غَرَضُهُ مِنْ التَّسْلِيمِ، وَأَمَّا إذَا هَلَكَتْ فَلَمْ يُمْكِنْ نَقْضُهُ فَلَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ انْتَهَى. أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إنَّ الْمُحِقَّ فِي الْقَبْضِ كَمَا لَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ ابْتِدَاءً لَا يَتَيَسَّرُ نَقْضُ قَبْضِهِ أَيْضًا بِلَا رِضَاهُ فَكَيْفَ يَرْجِعُ بِنَقْضِهِ وَإِنَّ الْمَظْلُومَ كَمَا لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَظْلِمَ غَيْرَهُ ابْتِدَاءً كَذَلِكَ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَوَسَّلَ إلَيْهِ بِوَسِيلَةٍ كَنَقْضِ الْقَبْضِ هَاهُنَا فَلَا يَتِمُّ الْجَوَابُ الْمَذْكُورُ. فَالْجَوَابُ الْوَاضِحُ أَنَّ الْوَكِيلَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا فِي الْقَبْضِ عَلَى زَعْمِ الْمَدْيُونِ إلَّا أَنَّ قَبْضَهُ لَمْ يَكُنْ لِنَفْسِهِ أَصَالَةً، بَلْ كَانَ لِأَجْلِ الْإِيصَالِ إلَى مُوَكِّلِهِ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ، فَلَمْ يَكُنْ مَا قَبَضَهُ مِلْكَ نَفْسِهِ، فَإِذَا أَخَذَ الدَّائِنُ مِنْ الْمَدْيُونِ ثَانِيًا وَلَوْ كَانَ ظُلْمًا فِي زَعْمِ الْمَدْيُونِ لَمْ يَبْقَ لِلْوَكِيلِ حَقُّ إيصَالِ مَا قَبَضَهُ إلَى الْمُوَكِّلِ لِوُصُولِ حَقِّ الْمُوَكِّلِ إلَى نَفْسِهِ مِنْ الْغَرِيمِ، فَإِنْ كَانَ عَيْنُ مَا قَبَضَهُ الْوَكِيلُ بَاقِيًا فِي يَدِهِ لَمْ يَكُنْ رُجُوعُ الْمَدْيُونِ عَلَيْهِ ظُلْمًا لَهُ أَصْلًا لِأَنَّ مَا قَبَضَهُ لَمْ يَكُنْ مِلْكَ نَفْسِهِ بَلْ كَانَ مَقْبُوضًا لِأَجْلِ الْإِيصَالِ إلَى مُوَكِّلِهِ؛ وَإِذَا لَمْ يَبْقَ لَهُ حَقُّ الْإِيصَالِ إلَى الْمُوَكِّلِ فَلِلْمَدْيُونِ نَقْضُ قَبْضِهِ بَعْدَ ذَلِكَ لِعَدَمِ حُصُولِ غَرَضِهِ مِنْ الدَّفْعِ إلَيْهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ عَيْنُ مَا قَبَضَهُ هَالِكًا، فَإِنَّ مَا قَبَضَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِلْكَ نَفْسِهِ إلَّا أَنَّ يَدَهُ كَانَتْ يَدَ أَمَانَةٍ عَلَى زَعْمِ الْمَدْيُونِ حَيْثُ صَدَّقَهُ فِي الْوِكَالَةِ، وَتَضْمِينُ الْأَمِينِ ظُلْمٌ لَا يَخْفَى.

ثُمَّ إنَّ الْإِمَامَ الزَّيْلَعِيَّ قَالَ فِي التَّبْيِينِ: وَيَرِدُ عَلَى هَذَا مَا لَوْ كَانَ لِرَجُلٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ مَثَلًا وَلَهُ أَلْفٌ آخَرُ دَيْنٌ عَلَى رَجُلٍ فَمَاتَ وَتَرَكَ ابْنَيْنِ فَاقْتَسَمَا

ص: 126

قَالَ (إلَّا أَنْ يَكُونَ ضَمِنَهُ عِنْدَ الدَّفْعِ) لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ ثَانِيًا مَضْمُونٌ عَلَيْهِ فِي زَعْمِهِمَا، وَهَذِهِ كَفَالَةٌ أُضِيفَتْ إلَى حَالَةِ الْقَبْضِ فَتَصِحُّ بِمَنْزِلَةِ الْكَفَالَةِ بِمَا ذَابَ لَهُ عَلَى فُلَانٍ، وَلَوْ كَانَ الْغَرِيمُ لَمْ يُصَدِّقْهُ عَلَى الْوِكَالَةِ وَدَفَعَهُ إلَيْهِ عَلَى ادِّعَائِهِ، فَإِنْ رَجَعَ صَاحِبُ الْمَالِ عَلَى الْغَرِيمِ رَجَعَ الْغَرِيمُ عَلَى الْوَكِيلِ لِأَنَّهُ لَمْ يُصَدِّقْهُ عَلَى الْوِكَالَةِ، وَإِنَّمَا دَفَعَهُ إلَيْهِ عَلَى رَجَاءِ الْإِجَازَةِ، فَإِذَا انْقَطَعَ رَجَاؤُهُ رَجَعَ عَلَيْهِ، وَكَذَا إذَا دَفَعَهُ إلَيْهِ

الْأَلْفَ الْعَيْنَ نِصْفَيْنِ فَادَّعَى الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ أَنَّ الْمَيِّتَ اسْتَوْفَى مِنْهُ الْأَلْفَ مِنْ حَيَاتِهِ فَصَدَّقَهُ أَحَدُهُمَا وَكَذَّبَهُ الْآخَرُ فَالْمُكَذِّبُ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِخَمْسِمِائَةِ وَيَرْجِعُ بِهَا الْغَرِيمُ عَلَى الْمُصَدِّقِ وَهُوَ فِي زَعْمِهِ أَنَّ الْمُكَذِّبَ ظَلَمَهُ فِي الرُّجُوعِ عَلَيْهِ فَظَلَمَ هُوَ الْمُصَدِّقَ بِالرُّجُوعِ بِمَا أَخَذَ الْمُكَذِّبُ.

وَذَكَرَ فِي الْأَمَالِي أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ، لِأَنَّ الْغَرِيمَ زَعَمَ أَنَّهُ بَرِئَ عَنْ جَمِيعِ الْأَلْفِ، وَإِلَّا أَنَّ الِابْنَ الْجَاحِدَ ظَلَمَهُ، وَمِنْ ظَلَمَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَظْلِمَ غَيْرَهُ، وَمَا أَخَذَهُ الْجَاحِدُ دَيْنٌ عَلَى الْجَاحِدِ وَدَيْنُ الْوَارِثِ لَا يُقْضَى مِنْ التَّرِكَةِ.

وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ الْمُصَدِّقَ أَقَرَّ عَلَى أَبِيهِ بِالدَّيْنِ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالِاسْتِيفَاءِ إقْرَارٌ بِالدَّيْنِ؛ لِأَنَّ الدُّيُونَ تُقْضَى بِأَمْثَالِهِمَا فَإِذَا كَذَّبَهُ الْآخَرُ مِنْهُ خَمْسَمِائَةٍ لَمْ تَسْلَمْ لَهُ الْبَرَاءَةُ إلَّا عَنْ خَمْسِمِائَةٍ فَبَقِيَتْ خَمْسُمِائَةٍ دَيْنًا عَلَى الْمَيِّتِ فَيَرْجِعُ بِهَا عَلَى الْمُصَدِّقِ فَيَأْخُذُ مَا أَصَابَهُ بِالْإِرْثِ حَتَّى يُسْتَوْفَى، لِأَنَّ الدَّيْنَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْإِرْثِ، وَإِلَى هُنَا كَلَامُهُ فَتَأَمَّلْ (قَالَ) أَيْ الْمُصَنِّفُ فِي الْبِدَايَةِ (إلَّا أَنْ يَكُونَ ضَمِنَهُ عِنْدَ الدَّفْعِ) هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ: يَعْنِي إذَا ضَاعَ فِي يَدِهِ لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ ضَمِنَهُ عِنْدَ الدَّفْعِ، وَهَذَا اللَّفْظُ مَرْوِيٌّ بِالتَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيفِ، فَفِي التَّشْدِيدِ كَانَ الضَّمِيرُ الْمُسْتَكِنُّ فِي ضَمَّنَهُ مُسْنَدًا إلَى الْمَدْيُونِ وَالضَّمِيرُ الْبَارِزُ رَاجِعًا إلَى الْوَكِيلِ، وَفِي التَّخْفِيفِ عَلَى الْعَكْسِ، فَإِنَّ مَعْنَى التَّشْدِيدِ هُوَ أَنْ يَجْعَلَ الْمَدْيُونُ الْوَكِيلَ ضَامِنًا عِنْدَ دَفْعِ الْمَالِ إلَى الْوَكِيلِ بِأَنْ يَقُولَ لَهُ اضْمَنْ لِي مَا دَفَعْته إلَيْك عَنْ الطَّالِبِ، حَتَّى لَوْ أَخَذَ الطَّالِبُ مِنِّي مَالَهُ آخُذُ مِنْك مَا دَفَعْته إلَيْك، وَمَعْنَى التَّخْفِيفِ هُوَ أَنْ يَقُولَ الْوَكِيلُ لِلْمَدْيُونِ أَنَا ضَامِنٌ لَك إنْ أَخَذَ مِنْك الطَّالِبُ ثَانِيًا فَأَنَا أَرُدُّ عَلَيْك مَا قَبَضْته مِنْك.

وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ يَرْجِعُ الْمَدْيُونُ عَلَى الْوَكِيلِ (لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ) مِنْهُ (ثَانِيًا مَضْمُونٌ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى رَبِّ الدَّيْنِ (فِي زَعْمِهِمَا) أَيْ فِي زَعْمِ الْوَكِيلِ وَالْمَدْيُونِ، لِأَنَّ رَبَّ الدَّيْنِ فِي حَقِّهِمَا غَاصِبٌ فِيمَا يَقْبِضُهُ ثَانِيًا (وَهَذِهِ) أَيْ هَذِهِ الْكَفَالَةُ (كَفَالَةٌ أُضِيفَتْ إلَى حَالَةِ الْقَبْضِ) أَيْ إلَى حَالَةِ قَبْضِ رَبِّ الدَّيْنِ ثَانِيًا (فَتَصِحُّ) أَيْ فَتَصِحُّ هَذِهِ الْكَفَالَةُ لِإِضَافَتِهَا إلَى سَبَبِ الْوُجُوبِ وَهُوَ قَبْضُ رَبِّ الدَّيْنِ فَصَارَتْ (بِمَنْزِلَةِ الْكَفَالَةِ بِمَا ذَابَ لَهُ عَلَى فُلَانٍ) أَيْ بِمَا يَذُوبُ: أَيْ يَجِبُ لَهُ عَلَيْهِ، وَهَذَا مَاضٍ أُرِيدَ بِهِ الْمُسْتَقْبَلُ، وَقَدْ مَرَّ تَقْدِيرُهُ فِي كِتَابِ الْكَفَالَةِ، فَوَجْهُ الْمُشَابَهَةِ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ كَوْنُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا كَفَالَةً أُضِيفَتْ إلَى حَالِ وُجُوبٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ (وَلَوْ كَانَ الْغَرِيمُ لَمْ يُصَدِّقْهُ) أَيْ لَمْ يُصَدِّقْ الْوَكِيلَ (عَلَى الْوِكَالَةِ) يَعْنِي وَلَمْ يَكْذِبْهُ أَيْضًا بَلْ كَانَ سَاكِتًا، لِأَنَّ فَرْعَ التَّكْذِيبِ سَيَأْتِي عَقِيبَ هَذَا (وَدَفَعَهُ إلَيْهِ) أَيْ دَفَعَ الْمَالَ إلَى الْوَكِيلِ (عَلَى ادِّعَائِهِ) أَيْ بِنَاءً عَلَى مُجَرَّدِ دَعْوَى الْوَكِيلِ (فَإِنْ رَجَعَ صَاحِبُ الْمَالِ عَلَى الْغَرِيمِ رَجَعَ الْغَرِيمُ عَلَى الْوَكِيلِ لِأَنَّهُ) أَيْ الْغَرِيمَ (لَمْ يُصَدِّقْهُ) أَيْ الْوَكِيلَ (عَلَى الْوِكَالَةِ، وَإِنَّمَا دَفَعَهُ إلَيْهِ عَلَى رَجَاءِ الْإِجَازَةِ) أَيْ عَلَى رَجَاءِ أَنْ يُجِيزَهُ صَاحِبُ الْمَالِ.

(فَإِذَا انْقَطَعَ رَجَاؤُهُ) أَيْ رَجَاءُ الْغَرِيمِ بِرُجُوعِ صَاحِبِ الْمَالِ عَلَيْهِ (رَجَعَ عَلَيْهِ) أَيْ رَجَعَ الْغَرِيمُ أَيْضًا عَلَى الْوَكِيلِ (وَكَذَا إذَا دَفَعَهُ إلَيْهِ)

ص: 127

عَلَى تَكْذِيبِهِ إيَّاهُ فِي الْوِكَالَةِ. وَهَذَا أَظْهَرُ لِمَا قُلْنَا، وَفِي الْوُجُوهِ كُلِّهَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّ الْمَدْفُوعَ حَتَّى يَحْضُرَ الْغَائِبُ لِأَنَّ الْمُؤَدَّى صَارَ حَقًّا لِلْغَائِبِ، إمَّا ظَاهِرًا أَوْ مُحْتَمَلًا فَصَارَ كَمَا إذَا دَفَعَهُ إلَى فُضُولِيٍّ عَلَى رَجَاءِ الْإِجَازَةِ لَمْ يَمْلِكْ الِاسْتِرْدَادَ لِاحْتِمَالِ الْإِجَازَةِ، وَلِأَنَّ مَنْ بَاشَرَ التَّصَرُّفَ لِغَرَضٍ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْقُضَهُ مَا لَمْ يَقَعْ الْيَأْسُ عَنْ غَرَضِهِ.

أَيْ وَكَذَا الْحُكْمُ إذَا دَفَعَ الْغَرِيمُ الْمَالَ إلَى الْوَكِيلِ (عَلَى تَكْذِيبِهِ) أَيْ عَلَى تَكْذِيبِ الْغَرِيمِ (إيَّاهُ) أَيْ الْوَكِيلَ (فِي الْوِكَالَةِ) أَيْ فِي دَعْوَى الْوِكَالَةِ (وَهَذَا) أَيْ جَوَازُ رُجُوعِ الْمَدْيُونِ عَلَى الْوَكِيلِ فِي صُورَةِ التَّكْذِيبِ (أَظْهَرُ) أَيْ أَظْهَرُ مِنْ جَوَازِ رُجُوعِهِ عَلَيْهِ فِي الصُّورَتَيْنِ الْأَوَّلِيَّيْنِ وَهُمَا صُورَةُ التَّصْدِيقِ مَعَ التَّضْمِينِ وَصُورَةُ السُّكُوتِ، لِأَنَّهُ لَمَّا رَجَعَ عَلَيْهِ فِي تِينِك الصُّورَتَيْنِ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يُكَذِّبْهُ فِيهِمَا فَلَأَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ وَقَدْ كَذَّبَهُ فِيهَا أَوْلَى بِالطَّرِيقِ لِأَنَّهُ إذَا كَذَّبَهُ صَارَ الْوَكِيلُ فِي حَقِّهِ بِمَنْزِلَةِ الْغَاصِبِ وَلِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ حَقُّ الرُّجُوعِ بِهِ عَلَى الْغَاصِبِ قَطْعًا (لِمَا قُلْنَا) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ وَإِنَّمَا دَفَعَ إلَيْهِ عَلَى رَجَاءِ الْإِجَازَةِ لَكِنَّهُ دَلِيلُ الرُّجُوعِ لَا دَلِيلُ الْأَظْهَرِيَّةِ كَمَا لَا يَخْفَى (وَفِي الْوُجُوهِ كُلِّهَا) يَعْنِي الْوُجُوهَ الْأَرْبَعَةَ الْمَذْكُورَةَ وَهِيَ دَفْعُهُ مَعَ التَّصْدِيقِ مِنْ غَيْرِ تَضْمِينٍ.

وَدَفْعُهُ بِالتَّصْدِيقِ مَعَ التَّضْمِينِ، وَدَفْعُهُ سَاكِتًا مِنْ غَيْرِ تَصْدِيقٍ وَلَا تَكْذِيبٍ، وَدَفْعُهُ مَعَ التَّكْذِيبِ (لَيْسَ لَهُ) أَيْ لَيْسَ لِلْغَرِيمِ (أَنْ يَسْتَرِدَّ الْمَدْفُوعَ حَتَّى يَحْضُرَ الْغَائِبُ؛ لِأَنَّ الْمُؤَدَّى صَارَ حَقًّا لِلْغَائِبِ، إمَّا ظَاهِرًا) وَهُوَ فِي حَالَةِ التَّصْدِيقِ (أَوْ مُحْتَمَلًا) وَهُوَ فِي حَالَةِ التَّكْذِيبِ، كَذَا فِي عَامَّةِ الشُّرُوحِ.

أَقُولُ: الْحَقُّ فِي بَيَانِ قَوْلِهِ أَوْ مُحْتَمَلًا أَنْ يُقَالَ وَهُوَ فِي حَالَةِ التَّكْذِيبِ وَحَالَةِ السُّكُوتِ لِيَتَنَاوَلَ كَلَامُهُ الْوُجُوهَ الْمَذْكُورَةَ كُلَّهَا. وَقِيلَ ظَاهِرًا إنْ كَانَ الْوَكِيلُ ظَاهِرَ الْعَدَالَةِ، أَوْ مُحْتَمَلًا إنْ كَانَ فَاسِقًا أَوْ مَسْتُورَ الْحَالِ (فَصَارَ) أَيْ صَارَ الْحُكْمُ فِي الْوُجُوهِ كُلِّهَا (كَمَا إذَا دَفَعَهُ) أَيْ كَمَا إذَا دَفَعَ الْغَرِيمُ الْمَالَ (إلَى فُضُولِيٍّ عَلَى رَجَاءِ الْإِجَازَةِ) مِنْ صَاحِبِ الْمَالِ فَإِنَّ الدَّافِعَ هُنَاكَ (لَمْ يَمْلِكْ الِاسْتِرْدَادَ لِاحْتِمَالِ الْإِجَازَةِ) فَكَذَا هَاهُنَا (وَلِأَنَّ مَنْ بَاشَرَ التَّصَرُّفَ لِغَرَضٍ) عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ لِأَنَّ الْمُؤَدَّى صَارَ حَقًّا لِلْغَائِبِ (لَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْقُضَهُ مَا لَمْ يَقَعْ الْيَأْسُ عَنْ غَرَضِهِ) أَيْ عَنْ حُصُولِ غَرَضِهِ لِأَنَّ سَعْيَ الْإِنْسَانِ فِي نَقْضِ مَا تَمَّ مِنْ جِهَتِهِ مَرْدُودٌ كَمَا إذَا كَانَ الشَّفِيعُ وَكِيلَ الْمُشْتَرِي لَيْسَ لَهُ الشُّفْعَةُ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ الشُّفْعَةُ كَانَ سَعْيًا فِي نَقْضِ مَا تَمَّ مِنْ جِهَتِهِ وَهُوَ الْبَيْعُ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْمُصَنِّفُ أَنَّ الْغَرِيمَ إذَا أَنْكَرَ الْوِكَالَةَ هَلْ يَحْلِفُ أَوْ لَا؟ قَالَ الْخَصَّافُ: لَا يَحْلِفُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَيَحْلِفُ عَلَى قَوْلِهِمَا لِأَنَّهُ ادَّعَى عَلَيْهِ مَا لَوْ أَقَرَّ بِهِ لَزِمَهُ فَإِذَا أَنْكَرَهُ يَحْلِفُ، لَكِنَّهُ عَلَى الْعِلْمِ لِأَنَّهُ عَلَى فِعْلِ الْغَيْرِ

ص: 128

(وَمَنْ قَالَ إنِّي وَكِيلٌ بِقَبْضِ الْوَدِيعَةِ فَصَدَّقَهُ الْمُودِعُ) لَمْ يُؤْمَرْ بِالتَّسْلِيمِ إلَيْهِ لِأَنَّهُ أَقَرَّ لَهُ بِمَالِ الْغَيْرِ، بِخِلَافِ الدَّيْنِ. وَلَوْ ادَّعَى أَنَّهُ مَاتَ أَبُوهُ وَتَرَكَ الْوَدِيعَةَ مِيرَاثًا لَهُ وَلَا وَارِثَ لَهُ

وَلَهُ أَنَّ الِاسْتِحْلَافَ يَنْبَنِي عَلَى دَعْوَى صَحِيحَةٍ، وَمَا لَمْ تَثْبُتْ نِيَابَتُهُ عَنْ الْآمِرِ لَمْ تَصِحَّ دَعْوَاهُ فَلَا يُسْتَحْلَفُ، وَكَذَا لَمْ يَذْكُرْ مَا إذَا أَقَرَّ بِالْوِكَالَةِ وَأَنْكَرَ الدَّيْنَ، وَالْحُكْمُ فِيهِ عَلَى عَكْسِ ذَلِكَ يَسْتَحْلِفُ عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْوَكِيلَ بِقَبْضِ الدَّيْنِ يَمْلِكُ الْخُصُومَةَ عِنْدَهُ، وَقَدْ تَثْبُتُ الْوِكَالَةُ فِي حَقِّهِ بِإِقْرَارِهِ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ أَخْذًا مِنْ النِّهَايَةِ.

وَذَكَرَ فِي الْكَافِي أَنَّهُ إنْ دَفَعَ الْغَرِيمُ الْمَالَ إلَى الْوَكِيلِ ثُمَّ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِوَكِيلٍ أَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى إقْرَارِهِ أَنَّ الطَّالِبَ مَا وَكَّلَهُ لَا تُقْبَلُ، وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَسْتَحْلِفَهُ عَلَى ذَلِكَ لَا يَحْلِفُ عَلَيْهِ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ يَنْبَنِي عَلَى دَعْوَى صَحِيحَةٍ وَلَمْ تُوجَدْ لِكَوْنِهِ سَاعِيًا فِي نَقْضِ مَا أَوْجَبَهُ الْغَائِبُ، فَإِنْ أَقَامَ الْغَرِيمُ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّ الطَّالِبَ جَحَدَ الْوِكَالَةَ وَقَبَضَ الْمَالَ مِنِّي تُقْبَلُ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ لِنَفْسِهِ حَقَّ الرُّجُوعِ عَلَى الْوَكِيلِ بِنَاءً عَلَى إثْبَاتِ سَبَبِ انْقِطَاعِ حَقِّ الطَّالِبِ عَنْ الْمَدْفُوعِ وَهُوَ قَبْضُهُ الْمَالَ بِنَفْسِهِ، فَانْتَصَبَ الْحَاضِرُ خَصْمًا مِنْ الْغَائِبِ فِي إثْبَاتِ السَّبَبِ فَيَثْبُتُ قَبْضُ الْمُوَكِّلِ فَيَنْتَقِضُ قَبْضُ الْوَكِيلِ ضَرُورَةً، وَجَازَ أَنْ يَثْبُتَ الشَّيْءُ ضِمْنًا وَضَرُورَةً وَلَا يَثْبُتُ مَقْصُودًا اهـ

(وَمَنْ قَالَ إنِّي وَكِيلٌ بِقَبْضِ الْوَدِيعَةِ فَصَدَّقَهُ الْمُودَعُ لَمْ يُؤْمَرْ بِالتَّسْلِيمِ إلَيْهِ) هَذَا لَفْظُ الْقُدُورِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ، عَلَّلَهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ (لِأَنَّهُ) أَيْ الْمُودَعَ بِفَتْحِ الدَّالِ (أَقَرَّ لَهُ) أَيْ لِلْوَكِيلِ (بِمَالِ الْغَيْرِ) وَهُوَ الْمُودِعُ بِكَسْرِ الدَّالِ، فَإِنَّهُ أَقَرَّ بِبَقَاءِ الْوَدِيعَةِ عَلَى مِلْكِ الْمُودَعِ، وَالْإِقْرَارُ بِمَالِ الْغَيْرِ بِحَقِّ الْقَبْضِ غَيْرُ صَحِيحٍ (بِخِلَافِ الدَّيْنِ) حَيْثُ يُؤْمَرُ الْمَدْيُونُ بِالتَّسْلِيمِ إلَى الْوَكِيلِ الَّذِي صَدَّقَهُ فِي وِكَالَتِهِ عَلَى مَا مَرَّ، فَإِنَّ الدُّيُونَ تُقْضَى بِأَمْثَالِهَا فَكَانَ إقْرَارُ الْمَدْيُونِ إقْرَارًا عَلَى نَفْسِهِ بِحَقِّ الْمُطَالَبَةِ وَالْقَبْضِ، كَذَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ قَاضِي خَانْ.

ثُمَّ إنَّ الْوُجُوهَ الْأَرْبَعَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي الْوَكِيلِ بِقَبْضِ الدَّيْنِ وَارِدَةٌ فِي الْوَكِيلِ بِقَبْضِ الْوَدِيعَةِ أَيْضًا؛ فَإِنَّهُ قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ: وَإِذَا قَبَضَ رَجُلٌ وَدِيعَةَ رَجُلٍ فَقَالَ رَبُّ الْوَدِيعَةِ مَا وَكَّلْتُك وَحَلَفَ عَلَى ذَلِكَ وَضَمَّنَ مَالَهَا الْمُسْتَوْدَعَ رَجَعَ الْمُسْتَوْدَعُ بِالْمَالِ عَلَى الْقَابِضِ إنْ كَانَ عِنْدَهُ بِعَيْنِهِ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ، وَإِنْ قَالَ هَلَكَ مِنِّي أَوْ دَفَعْته إلَى الْمُوَكِّلِ فَهُوَ عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي قُلْنَا إنْ صَدَّقَهُ الْمُسْتَوْدَعَ فِي الْوِكَالَةِ لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ، وَإِنْ كَذَّبَهُ أَوْ لَمْ يُصَدِّقْهُ وَلَمْ يُكَذِّبْهُ أَوْ صَدَّقَهُ وَضَمَّنَهُ كَانَ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ لِمَا قُلْنَا اهـ. وَذَكَرَ فِي الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ فِي فَصْلِ الْوَدِيعَةِ إذَا لَمْ يُؤْمَرْ بِالتَّسْلِيمِ، وَمَعَ هَذَا سَلَّمَ ثُمَّ أَرَادَ الِاسْتِرْدَادَ هَلْ لَهُ ذَلِكَ؟ ذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ عَلَاءُ الدِّينِ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الِاسْتِرْدَادَ لِأَنَّهُ سَاعٍ فِي نَقْضِ مَا أَوْجَبَهُ.

وَقَالَ أَيْضًا: وَإِذَا لَمْ يُؤْمَرْ بِالتَّسْلِيمِ وَلَمْ يُسَلِّمْ حَتَّى ضَاعَتْ فِي يَدِهِ هَلْ يَضْمَنُ؟ قِيلَ لَا يَضْمَنُ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَضْمَنَ لِأَنَّ الْمَنْعَ مِنْ وَكِيلِ الْمُودِعِ فِي زَعْمِهِ بِمَنْزِلَةِ الْمَنْعِ مِنْ الْمُودِعِ، وَالْمَنْعُ مِنْ الْمُودِعِ يُوجِبُ الضَّمَانَ فَكَذَا مِنْ وَكِيلِهِ اهـ (وَلَوْ ادَّعَى) أَيْ وَلَوْ ادَّعَى أَحَدٌ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: فَلَوْ ادَّعَى ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ تَفْرِيعًا عَلَى مَسْأَلَةِ الْقُدُورِيِّ (أَنَّهُ) الضَّمِيرُ لِلشَّأْنِ (مَاتَ أَبُوهُ) أَيْ أَبُو الْمُدَّعِي (وَتَرَكَ الْوَدِيعَةَ مِيرَاثًا لَهُ) أَيْ لِلْمُدَّعِي (وَلَا وَارِثَ لَهُ) أَيْ لِلْمَيِّتِ

ص: 129

غَيْرُهُ، وَصَدَّقَهُ الْمُودِعُ أُمِرَ بِالدَّفْعِ إلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا يَبْقَى مَالُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ

غَيْرُهُ) أَيْ غَيْرُ الْمُدَّعِي (وَصَدَّقَهُ الْمُودَعُ أُمِرَ بِالدَّفْعِ إلَيْهِ) أَيْ أُمِرَ الْمُودَعُ بِدَفْعِ الْوَدِيعَةِ إلَى ذَلِكَ الْمُدَّعِي. أَقُولُ: مِنْ الْعَجَائِبِ هَاهُنَا أَنَّ الشَّارِحَ الْعَيْنِيَّ قَالَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: أَيْ فَلَوْ ادَّعَى مَنْ قَالَ إنِّي وَكِيلٌ أَنَّهُ أَيْ فُلَانًا مَاتَ أَبُوهُ إلَخْ.

وَلَا يَخْفَى عَلَى مَنْ لَهُ أَدْنَى مُسْكَةٍ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مَسْأَلَةَ الْوِرَاثَةِ ذُكِرَتْ تَفْرِيعًا عَلَى مَسْأَلَةِ الْوِكَالَةِ لِبَيَانِ الِاخْتِلَافِ بَيْنَهُمَا فِي الْحُكْمِ، وَأَنَّهُ لَا مَجَالَ لَأَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ الْمُسْتَكِنُّ فِي وَلَوْ ادَّعَى أَوْ فَلَوْ ادَّعَى رَاجِعًا إلَى مَنْ قَالَ إنِّي وَكِيلٌ؛ لِأَنَّ الْمُودَعَ لَا يُؤْمَرُ بِالتَّسْلِيمِ إلَى مُدَّعِي الْوِكَالَةِ أَصْلًا. قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِ هَاتِيك الْمَسْأَلَةِ (لِأَنَّهُ) أَيْ لِأَنَّ مَالَ الْوَدِيعَةِ (لَا يَبْقَى مَالُهُ) أَيْ لَا يَبْقَى مَالُ الْمُودِعِ (بَعْدَ مَوْتِهِ) أَيْ بَعْدَ مَوْتِ الْمُودِعِ. قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: مَالَهُ بِالنَّصْبِ، وَقَالَ هَكَذَا كَانَ مُعْرَبًا بِإِعْرَابِ شَيْخِي: أَيْ لَا يَبْقَى مَالُ الْوَدِيعَةِ مَالً الْمُودِعِ بَعْدَ مَوْتِهِ: أَيْ مَنْسُوبًا إلَيْهِ وَمَمْلُوكًا لَهُ، فَكَانَ انْتِصَابُهُ عَلَى تَأْوِيلِ الْحَالِ كَمَا فِي كَلَّمْته فَاهُ إلَى فِي: أَيْ مُشَافِهًا اهـ. وَقَالَ صَاحِبُ مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ بَعْدَ نَقْلِ مَا فِي النِّهَايَةِ بِعَيْنِهِ: وَيَجُوزُ الرَّفْعُ. وَقَالَ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ: قَوْلُهُ لَا يَبْقَى مَالَهُ بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ حَالٌ كَمَا فِي قَوْلِهِ كَلَّمْته فَاهُ إلَى فِي: يَعْنِي لَا يَبْقَى مَالُ الْوَدِيعَةِ مَالَ أَبِيهِ بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهِ اهـ.

وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَرَوَى صَاحِبُ النِّهَايَةِ عَنْ خَطِّ شَيْخِهِ نَصْبَ مَالِهِ وَوَجَّهَهُ بِكَوْنِهِ حَالًا كَمَا فِي كَلَّمْته فَاهُ إلَى فِي: أَيْ مُشَافِهًا، وَمَعْنَاهُ لَا يَبْقَى مَالُ الْوَدِيعَةِ مَالَ الْمُودِعِ بَعْدَ مَوْتِهِ مَنْسُوبًا إلَيْهِ وَمَمْلُوكًا لَهُ وَتَبِعَهُ غَيْرُهُ مِنْ الشَّارِحِينَ. وَرَأَى أَنَّهُ ضَعِيفٌ لِأَنَّ الْحَالَ مُقَيَّدٌ لِلْعَامِلِ، فَكَلَّمْته يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُقَيَّدًا بِالْمُشَافَهَةِ: أَيْ كَلَّمْته فِي حَالِ الْمُشَافَهَةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ لَا يَبْقَى مَالُ الْوَدِيعَةِ حَالَ كَوْنِهِ مَالًا مَمْلُوكًا لَهُ مَنْسُوبًا إلَيْهِ فَلَيْسَ لَهُ مَعْنًى ظَاهِرٌ، وَالظَّاهِرُ فِي إعْرَابِهِ الرَّفْعُ عَلَى أَنَّهُ فَاعِلُ لَا يَبْقَى: أَيْ لِأَنَّ الْمُودِعَ لَا يَبْقَى مَالُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ لِانْتِقَالِهِ إلَى الْوَارِثِ اهـ كَلَامُهُ. أَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ.

أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُ قَدْ تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْبَلَاغَةِ أَنَّهُ يَجُوزُ فِي أَمْثَالِ هَذَا التَّرْكِيبِ أَنْ يُعْتَبَرَ الْقَيْدُ أَوَّلًا فَيَئُولَ الْمَعْنَى إلَى نَفْيِ الْقَيْدِ، وَأَنْ يُعْتَبَرَ النَّفْيُ أَوَّلًا فَيَئُولَ الْمَعْنَى إلَى تَقْيِيدِ النَّفْيِ وَيَتَعَيَّنُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الِاعْتِبَارَيْنِ بِقَرِينَةٍ تَشْهَدُ لَهُ، فَإِنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ " وَأَمَّا قَوْلُهُ لَا يَبْقَى مَالُ الْمُودِعِ حَالَ كَوْنِهِ مَالًا مَمْلُوكًا لَهُ مَنْسُوبًا إلَيْهِ فَلَيْسَ لَهُ مَعْنًى ظَاهِرٌ " أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مَعْنًى ظَاهِرٌ عَلَى الِاعْتِبَارِ الْأَوَّلِ فَمَمْنُوعٌ، إذْ لَا يَخْفَى أَنَّ نَفْيَ بَقَاءِ مَمْلُوكِيَّةِ مَالِ الْوَدِيعَةِ لِلْمُودِعِ وَانْتِسَابِهِ إلَيْهِ بَعْدَ مَوْتِهِ مَعْنًى ظَاهِرٌ مَقْبُولٌ، وَإِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مَعْنًى ظَاهِرٌ عَلَى الِاعْتِبَارِ الثَّانِي فَمُسَلَّمٌ، لَكِنَّ الْمُرَادَ هَاهُنَا هُوَ الِاعْتِبَارُ الْأَوَّلُ كَمَا لَا يَخْفَى. وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ رَفْعِ مَالُهُ عَلَى أَنَّهُ فَاعِلُ لَا يَبْقَى يَصِيرُ الْمَعْنَى لَا يَبْقَى عَيْنُ مَالِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَلَيْسَ هَذَا بِمَعْنًى صَحِيحٍ إذَا الْمَالُ بَاقٍ بِعَيْنِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَإِنَّمَا الْمُنْتَفَى بَعْدَ مَوْتِهِ مَمْلُوكِيَّتُهُ وَانْتِسَابُهُ إلَيْهِ، وَذَلِكَ مِنْ أَوْصَافِ الْمَالِ وَأَحْوَالِهِ يُفْهَمُ مِنْ النَّصْبِ عَلَى الْحَالِيَّةِ، وَلَا يُفْهَمُ مِنْ الرَّفْعِ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْ إضَافَةِ الْمَالِ إلَى الضَّمِيرِ الرَّاجِعِ إلَى الْمُودِعِ لَكِنَّهُ بَعِيدٌ جِدًّا، فَالظَّاهِرُ فِي إفَادَةِ الْمَعْنَى الْمَقْصُودِ هُوَ النَّصْبُ كَمَا لَا يَخْفَى.

ثُمَّ إنَّ الشَّارِحَ الْعَيْنِيَّ قَدْ زَادَ فِي الطُّنْبُورِ نَغْمَةً حَيْثُ قَالَ بَعْدَ نَقْلِ مَا فِي النِّهَايَةِ وَمَا الْعِنَايَةِ: وَالصَّوَابُ هُوَ الرَّفْعُ عَلَى مَا قَالَهُ الْأَكْمَلُ. وَقَدْ فَاتَهُ شَيْءٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ مِنْ شَرْطِ الْحَالِ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْمُشْتَقَّاتِ وَالْمَالُ لَيْسَ مِنْهَا، إلَّا أَنَّهُ يَجُوزُ بِالتَّأْوِيلِ. وَلَوْ قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَمَنْ تَبِعَهُ فِي أَنَّهُ نُصِبَ عَلَى الْحَالِ إنَّهُ حَالٌ عَلَى تَأْوِيلِ مُتَمَوَّلًا: أَيْ لَا يَبْقَى الْمَيِّتُ بَعْدَ مَوْتِهِ مُتَمَوَّلًا

ص: 130

فَقَدْ اتَّفَقَا عَلَى أَنَّهُ مَالُ الْوَارِثِ

. وَلَوْ ادَّعَى أَنَّهُ اشْتَرَى الْوَدِيعَةَ مِنْ صَاحِبِهَا فَصَدَّقَهُ الْمُودَعُ لَمْ يُؤْمَرْ بِالدَّفْعِ إلَيْهِ لِأَنَّهُ مَا دَامَ حَيًّا كَانَ إقْرَارًا بِمِلْكِ الْغَيْرِ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِهِ فَلَا يُصَدِّقَانِ فِي دَعْوَى الْبَيْعِ عَلَيْهِ.

قَالَ (فَإِنْ وَكَّلَ وَكِيلًا يَقْبِضُ مَالَهُ فَادَّعَى الْغَرِيمُ أَنَّ صَاحِبَ الْمَالِ قَدْ اسْتَوْفَاهُ فَإِنَّهُ

لَكَانَ أَوْجَهَ اهـ. أَقُولُ: لَيْسَ مَا زَادَهُ بِشَيْءٍ، أَمَّا قَوْلُهُ إنَّ مِنْ شَرْطِ الْحَالِ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْمُشْتَقَّاتِ فَمَمْنُوعٌ، أَلَا يَرَى إلَى قَوْلِ ابْنِ الْحَاجِبِ وَكُلُّ مَا دَلَّ عَلَى هَيْئَةٍ صَحَّ أَنْ يَقَعَ حَالًا مِثْلُ هَذَا بُسْرًا أَطْيَبُ مِنْهُ رُطَبًا.

وَلَئِنْ سَلِمَ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى قَوْلِ جُمْهُورِ النُّحَاةِ فَجَوَازُ كَوْنِ غَيْرِ الْمُشْتَقِّ حَالًا بِالتَّأْوِيلِ بِالْمُشْتَقِّ مِمَّا لَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ مِنْ النُّحَاةِ، وَقَدْ اعْتَرَفَ بِهِ نَفْسُهُ أَيْضًا حَيْثُ قَالَ: إلَّا أَنَّهُ يَجُوزُ بِالتَّأْوِيلِ، وَقَدْ بَيَّنَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ التَّأْوِيلَ هَاهُنَا حَيْثُ قَالَ مَنْسُوبًا إلَيْهِ مَمْلُوكًا لَهُ، فَبَعْدَ ذَلِكَ كَانَ الْقَدَحُ فِيهِ بِاشْتِرَاطِ كَوْنِ الْحَالِ مِنْ الْمُشْتَقَّاتِ لَغْوًا مِنْ الْكَلَامِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ وَلَوْ قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَمَنْ تَبِعَهُ فِي أَنَّهُ نُصِبَ عَلَى الْحَالِ إنَّهُ حَالٌ عَلَى تَأْوِيلِ مُتَمَوَّلًا: أَيْ لَا يَبْقَى الْمَيِّتُ بَعْدَ مَوْتِهِ مُتَمَوَّلًا لَكَانَ أَوْجَهَ فَمِمَّا لَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَفَوَّهَ بِهِ الْعَاقِلُ لِأَنَّ الْمُتَمَوِّلَ إنَّمَا هُوَ الْمَالِكُ لَا الْمَالُ قَطْعًا فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ تَأْوِيلُ الْمَالِ بِمَا لَا يَصِحُّ حَمْلُهُ عَلَيْهِ وَجَعْلُهُ صِفَةً لَهُ، بَلْ عَلَى تَقْدِيرِ إرْجَاعِ ضَمِيرٍ لَا يَبْقَى إلَى الْمَيِّتِ لَا يَبْقَى لَهُ ارْتِبَاطٌ بِالْمَقَامِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى ذَوِي الْأَفْهَامِ (فَقَدْ اتَّفَقَا) أَيْ مُدَّعِي الْوِرَاثَةِ وَالْمُودَعُ. وَقَالَ الْعَيْنِيُّ: أَيْ الَّذِي ادَّعَى الْوِكَالَةَ وَالْمُودَعُ.

أَقُولُ: هَذَا بِنَاءً عَلَى ضَلَالِهِ السَّابِقِ وَقَدْ عَرَفْت (عَلَى أَنَّهُ) مُتَعَلِّقٌ بِاتَّفَقَا: أَيْ فَقَدْ اتَّفَقَا عَلَى أَنَّ مَالَ الْوَدِيعَةِ (مَالُ الْوَارِثِ) فَلَا بُدَّ مِنْ الدَّفْعِ إلَيْهِ قَالَ صَاحِبُ التَّسْهِيلِ: أَقُولُ فِيهِ إقْرَارٌ عَلَى الْغَيْرِ بِالْمَوْتِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُؤْمَرَ بِالدَّفْعِ حَتَّى يَثْبُتَ مَوْتُهُ عِنْدَ الْقَاضِي انْتَهَى فَتَأَمَّلْ

(وَلَوْ ادَّعَى) أَيْ وَلَوْ ادَّعَى أَحَدٌ (أَنَّهُ اشْتَرَى الْوَدِيعَةَ مِنْ صَاحِبِهَا فَصَدَّقَهُ الْمُودَعُ لَمْ يُؤْمَرْ) أَيْ لَمْ يُؤْمَرْ الْمُودَعُ (بِالدَّفْعِ إلَيْهِ) أَيْ إلَى مُدَّعِي الشِّرَاءِ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ أَيْضًا ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ تَفْرِيعًا عَلَى مَسْأَلَةِ الْقُدُورِيِّ وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْهَا فِي الْبِدَايَةِ، وَقَالَ فِي تَعْلِيلِهَا (لِأَنَّهُ) أَيْ لِأَنَّ صَاحِبَ الْوَدِيعَةِ (مَا دَامَ حَيًّا كَانَ إقْرَارًا بِمِلْكِ الْغَيْرِ): أَيْ كَانَ إقْرَارُ الْمُودَعِ لِمُدَّعِي الشِّرَاءِ إقْرَارًا بِمِلْكِ الْغَيْرِ وَهُوَ صَاحِبُ الْوَدِيعَةِ (لِأَنَّهُ) أَيْ الْحَيَّ (مِنْ أَهْلِهِ) أَيْ مِنْ أَهْلِ الْمِلْكِ (فَلَا يُصَدِّقَانِ) أَيْ مُدَّعِي الشِّرَاءِ وَالْمُودَعُ الْمُصَدِّقُ إيَّاهُ (فِي دَعْوَى الْبَيْعِ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى صَاحِبِ الْوَدِيعَةِ، قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: قَدْ تَقَدَّمَ هَاتَانِ الْمَسْأَلَتَانِ فِي فَصْلِ الْقَضَاءِ بِالْمَوَارِيثِ فَكَانَ ذِكْرُهُمَا تَكْرَارًا.

وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّهُ ذَكَرَهُمَا هُنَالِكَ بِاعْتِبَارِ الْقَضَاءِ وَهَاهُنَا بِاعْتِبَارِ الدَّعْوَى، وَلِهَذَا صَدَّرَهُمَا هَاهُنَا بِقَوْلِهِ " وَلَوْ ادَّعَى " وَهُنَاكَ بِقَوْلِهِ " وَمَنْ أَقَرَّ "، وَمَعَ هَذَا فَلَا يَخْلُو عَنْ ضَعْفٍ لِأَنَّ إيرَادَهُمَا فِي بَابِ الْوِكَالَةِ بِالْخُصُومَةِ وَالْقَبْضِ بَعِيدُ الْمُنَاسَبَةِ، إلَى هَاهُنَا كَلَامُهُ.

أَقُولُ: تَضْعِيفُهُ سَاقِطٌ لِأَنَّ ذِكْرَ الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَلَيْهِمَا وَهِيَ مَسْأَلَةُ ادِّعَاءِ الْوِكَالَةِ بِقَبْضِ الْوَدِيعَةِ اقْتَضَى ذِكْرَهُمَا عَقِيبَهَا؛ لِأَنَّ ذِكْرَهَا لَمَّا أَوْقَعَ فِي ذِهْنِ السَّامِعِ أَنَّ الْحُكْمَ فِيهِمَا أَيْضًا كَالْحُكْمِ فِيهَا أَمْ لَا ذَكَرَهُمَا الْمُصَنِّفُ عَقِيبَهَا فِي بَابِهَا عَلَى سَبِيلِ التَّفْرِيعِ عَلَيْهَا إزَالَةً لِلِاشْتِبَاهِ بِبَيَانِ الْفَرْقِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ إحْدَاهُمَا وَبَيَانِ الِاشْتِرَاكِ فِي الْحُكْمِ مَعَ الْأُخْرَى فَكَانَ إيرَادُهُمَا فِي هَذَا الْبَابِ قَرِيبَ الْمُنَاسَبَةِ

(قَالَ) أَيْ مُحَمَّدٌ فِي بُيُوعِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ (فَإِنْ وَكَّلَ وَكِيلًا بِقَبْضِ مَالِهِ) أَيْ إنْ وَكَّلَ رَجُلٌ وَكِيلًا بِقَبْضِ مَالٍ لَهُ عَلَى غَرِيمِهِ (فَادَّعَى الْغَرِيمُ أَنَّ صَاحِبَ الْمَالِ قَدْ اسْتَوْفَاهُ فَإِنَّهُ) أَيْ فَإِنَّ الْغَرِيمَ

ص: 131

يَدْفَعُ الْمَالَ إلَيْهِ) لِأَنَّ الْوِكَالَةَ قَدْ ثَبَتَتْ وَالِاسْتِيفَاءُ لَمْ يَثْبُتْ بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُ فَلَا يُؤَخَّرُ الْحَقُّ. قَالَ (وَيَتْبَعُ رَبُّ الْمَالِ فَيَسْتَحْلِفُهُ)

يَدْفَعُ الْمَالَ إلَيْهِ) أَيْ يُؤْمَرُ بِدَفْعِ الْمَالِ إلَى الْوَكِيلِ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِهِ (لِأَنَّ الْوِكَالَةَ قَدْ ثَبَتَتْ وَالِاسْتِيفَاءُ لَمْ يَثْبُتْ بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُ) أَيْ بِمُجَرَّدِ دَعْوَى الْغَرِيمِ بِلَا حُجَّةٍ (فَلَا يُؤَخَّرُ الْحَقُّ) أَيْ حَقُّ الْقَبْضِ إلَى تَحْلِيفِ رَبِّ الدِّينِ. قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: فَإِنْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْوِكَالَةَ قَدْ ثَبَتَتْ فَبِأَيِّ دَلِيلٍ ثُبُوتُ الْوِكَالَةِ؟ وَلَوْ قِيلَ بِسَبَبِ ادِّعَاءِ الْمَدْيُونِ أَنَّ صَاحِبَ الْمَالِ قَدْ اسْتَوْفَاهُ فَذَلِكَ لَا يَصْلُحُ دَلِيلًا عَلَى صِحَّةِ ثُبُوتِ الْوِكَالَةِ، بَلْ هُوَ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ الْوِكَالَةِ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ إذَا كَانَ مُسْتَوْفًى مِنْ جَانِبِ مَنْ لَهُ الْحَقُّ كَانَ التَّوْكِيلُ بِالِاسْتِيفَاءِ بَاطِلًا لَا مَحَالَةَ فَكَيْفَ تَثْبُتُ الْوِكَالَةُ بِهَذِهِ الدَّعْوَى؟ قُلْنَا: لَمَّا ادَّعَى الْغَرِيمُ اسْتِيفَاءَ رَبِّ الدِّينِ دَيْنَهُ كَانَ هُوَ مُعْتَرِفًا بِأَصْلِ الْحَقِّ؛ أَلَا يَرَى أَنَّ قَوْلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ قَدْ قَضَيْتُكَهَا إقْرَارٌ بِالدَّيْنِ عِنْدَ دَعْوَى الْمُدَّعِي ذَلِكَ، فَلَمَّا ثَبَتَ الدَّيْنُ بِإِقْرَارِهِ وَلَمْ يُنْكِرْ الْوِكَالَةَ كَانَ لِلْوَكِيلِ وِلَايَةُ الطَّلَبِ فَيُقْضَى عَلَيْهِ بِالْإِيفَاءِ، كَمَا لَوْ ادَّعَى اسْتِيفَاءَ رَبِّ الدَّيْنِ عِنْدَ دَعْوَاهُ بِنَفْسِهِ كَانَ يُقْضَى عَلَيْهِ بِالْإِيفَاءِ، فَكَذَا عِنْدَ دَعْوَى وَكِيلِهِ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُوَكِّلِ اهـ.

أَقُولُ: جَوَابُهُ مَنْظُورٌ فِيهِ، إذْ لَا كَلَامَ فِي أَنَّ ادِّعَاءِ الْغَرِيمِ اسْتِيفَاءَ رَبِّ الدِّينِ دَيْنَهُ يَتَضَمَّنُ الِاعْتِرَافَ بِأَصْلِ الْحَقِّ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي أَنَّ الْوِكَالَةَ بِأَيِّ دَلِيلٍ ثَبَتَتْ، وَمُجَرَّدُ عَدَمِ إنْكَارِ الْوِكَالَةِ لَا يَقْتَضِي الِاعْتِرَافَ بِثُبُوتِهَا، أَلَا يَرَى أَنَّهُ لَوْ سَكَتَ أَوْ تَكَلَّمَ بِكَلَامٍ لَا يُنَاسَبُ الْحَالَ لَا يُعَدُّ مُقِرًّا لِلْوِكَالَةِ، فَكَيْفَ إذَا تَكَلَّمَ بِمَا يُشْعِرُ بِإِنْكَارِ الْوِكَالَةِ، وَقَدْ أَشَارَ إلَيْهِ السَّائِلُ بِقَوْلِهِ: بَلْ هُوَ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ الْوِكَالَةِ إلَى قَوْلِهِ: فَكَيْفَ تَثْبُتُ الْوِكَالَةُ بِهَذِهِ الدَّعْوَى، فَكَأَنَّ الْغَرِيمَ قَالَ أَنْتَ لَا تَصْلُحُ لِلْوِكَالَةِ أَصْلًا بَعْدَ اسْتِيفَاءِ صَاحِبِ الْمَالِ حَقَّهُ فَضْلًا عَنْ أَنْ تَقَعَ وَكِيلًا عَنْهُ تَدَبَّرْ. وَقَصَدَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ دَفْعَ السُّؤَالِ الْمَزْبُورِ بِوَجْهٍ آخَرُ حَيْثُ قَالَ فِي بَيَانِ الْمَسْأَلَةِ: ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ مُحَمَّدٌ عَنْ يَعْقُوبَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الرَّجُلِ لَهُ عَلَى الرَّجُلِ مَالٌ فَوَكَّلَ وَكِيلًا بِذَلِكَ الْمَالِ وَأَقَامَ الْوَكِيلُ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهِ وَقَالَ الَّذِي عَلَيْهِ الْمَالُ قَدْ اسْتَوْفَاهُ صَاحِبُهُ فَإِنَّهُ يُقَالُ لَهُ ادْفَعْ الْمَالَ ثُمَّ ادْفَعْ رَبَّ الْمَالِ فَاسْتَحْلِفْهُ.

ثُمَّ قَالَ فِي شَرْحِ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ لِأَنَّ الْوِكَالَةَ قَدْ ثَبَتَتْ: يَعْنِي بِالْبَيِّنَةِ؛ لِأَنَّ وَضْعَ الْمَسْأَلَةِ كَذَلِكَ انْتَهَى. أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَوْ كَانَ مَدَارُ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ لِأَنَّ الْوِكَالَةَ قَدْ ثَبَتَتْ بَلْ مَدَارُ نَفْسِ جَوَابِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى اعْتِبَارِ قَيْدِ إقَامَةِ الْوَكِيلِ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْوِكَالَةِ فِي وَضْعِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَمَا وَسِعَ لِلْمُصَنِّفِ فِي بِدَايَتِهِ وَهِدَايَتِهِ وَلِعَامَّةِ الْمَشَايِخِ فِي تَصَانِيفِهِمْ الْمُعْتَبَرَةِ تَرْكُ ذَلِكَ الْقَيْدِ الْمُهِمِّ عِنْدَ تَحْرِيرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَدَّعِيَ كَوْنَ تَرْكِهِمْ إيَّاهُ بِنَاءً عَلَى ظُهُورِ اعْتِبَارِهِ، كَيْفَ وَقَدْ ذَهَبَ اعْتِبَارُ ذَلِكَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ الثِّقَاتِ كَصَاحِبِ النِّهَايَةِ وَصَاحِبِ التَّبْيِينِ وَغَيْرِهِمَا، حَتَّى ذَهَبُوا إلَى تَوْجِيهٍ آخَرَ فِي دَفْعِ السُّؤَالِ الْمَذْكُورِ، فَلَوْ كَانَ اعْتِبَارُهُ مِنْ الظُّهُورِ بِحَيْثُ يُسْتَغْنَى عَنْ ذِكْرِهِ فِي عَامَّةِ الْكُتُبِ لَمَا خَفِيَ عَلَى مِثْلِ هَؤُلَاءِ الْأَجِلَّاءِ (قَالَ وَيَتْبَعُ) أَيْ يَتْبَعُ الْغَرِيمُ (رَبَّ الْمَالِ فَيَسْتَحْلِفُهُ) أَيْ فَيَسْتَحْلِفُ الْغَرِيمُ رَبَّ الْمَالِ عَلَى عَدَمِ الِاسْتِيفَاءِ

ص: 132

رِعَايَةً لِجَانِبِهِ، وَلَا يَسْتَحْلِفُ الْوَكِيلَ لِأَنَّهُ نَائِبٌ

. قَالَ (وَإِنْ وَكَّلَهُ بِعَيْبٍ فِي جَارِيَةٍ فَادَّعَى الْبَائِعُ رِضَا الْمُشْتَرِي لَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ حَتَّى يَحْلِفَ الْمُشْتَرِي) بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الدَّيْنِ لِأَنَّ التَّدَارُكَ مُمْكِنٌ هُنَالِكَ بِاسْتِرْدَادِ مَا قَبَضَهُ الْوَكِيلُ إذَا ظَهَرَ الْخَطَأُ عِنْدَ نُكُولِهِ، وَهَاهُنَا غَيْرُ مُمْكِنٍ لِأَنَّ الْقَضَاءَ بِالْفَسْخِ مَاضٍ عَلَى الصِّحَّةِ وَإِنْ ظَهَرَ الْخَطَأُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله كَمَا هُوَ مَذْهَبُهُ، وَلَا يَسْتَحْلِفُ الْمُشْتَرِيَ عِنْدَهُ بَعْدَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ

رِعَايَةً لِجَانِبِهِ) أَيْ جَانِبِ الْغَرِيمِ. فَإِنْ حَلَفَ مَضَى الْأَدَاءُ، وَإِنْ نَكَلَ يَتْبَعُ الْغَرِيمُ الْقَابِضَ فَيَسْتَرِدُّ مَا قَبَضَهُ (وَلَا يُسْتَحْلَفُ الْوَكِيلُ لِأَنَّهُ نَائِبٌ) وَالنِّيَابَةُ: لَا تَجْرِي فِي الْأَيْمَانِ. وَقَالَ زُفَرُ رحمه الله: أَحْلَفَهُ عَلَى الْعِلْمِ، فَإِنْ نَكَلَ خَرَجَ عَنْ الْوِكَالَةِ وَالطَّالِبُ عَلَى حُجَّتِهِ لِأَنَّ الْوَكِيلَ لَوْ أَقَرَّ بِذَلِكَ بَطَلَتْ وِكَالَتُهُ فَجَازَ أَنْ يَحْلِفَ عَلَيْهِ.

وَالْجَوَابُ أَنَّ الْغَرِيمَ يَدَّعِي حَقًّا عَلَى الْمُوَكِّلِ لَا عَلَى الْوَكِيلِ، فَتَحْلِيفُ الْوَكِيلِ يَكُونُ نِيَابَةً وَهِيَ لَا تَجْرِي فِي الْأَيْمَانِ. بِخِلَافِ الْوَارِثِ حَيْثُ يَحْلِفُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ اسْتِيفَاءَ مُوَرِّثِهِ لِأَنَّ الْحَقَّ ثَبَتَ لِلْوَارِثِ فَالدَّعْوَى عَلَيْهِ وَالْيَمِينُ بِالْأَصَالَةِ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ أَخْذًا مِنْ الْإِيضَاحِ

(قَالَ) أَيْ مُحَمَّدٌ فِي بُيُوعِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ (وَإِنْ وَكَّلَهُ بِعَيْبٍ فِي جَارِيَةٍ) أَيْ إنْ وَكَّلَهُ بِرَدِّ جَارِيَةٍ بِسَبَبِ عَيْبٍ (فَادَّعَى الْبَائِعُ رِضَا الْمُشْتَرَى) أَيْ رِضَاهُ بِالْعَيْبِ (لَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ) أَيْ لَمْ يَرُدَّ الْوَكِيلُ عَلَى الْبَائِعِ (حَتَّى يَحْلِفَ الْمُشْتَرِي) يَعْنِي لَا يَقْضِي الْقَاضِي بِالرَّدِّ عَلَيْهِ حَتَّى يَحْضُرَ الْمُشْتَرِي وَيَحْلِفُ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَرْضَ بِالْعَيْبِ (بِخِلَافِ مَا مَرَّ مِنْ مَسْأَلَةِ الدَّيْنِ) حَيْثُ يُؤْمَرُ الْغَرِيمُ بِدَفْعِ الدَّيْنِ إلَى الْوَكِيلِ قَبْلَ تَحْلِيفِ رَبِّ الدَّيْنِ. قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الشُّرَّاحِ حَيْثُ يُؤْمَرُ بِدَفْعِ الدَّيْنِ إلَى الْوَكِيلِ بِدُونِ تَحْلِيفِ الْوَكِيلِ. أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا بِمَعْنَى الْمَقَامِ قَطْعًا، إذْ لَا مَدْخَلَ لِعَدَمِ تَحْلِيفِ الْوَكِيلِ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ، فَإِنَّ الْوَكِيلَ لَا يَحْلِفُ فِي شَيْءٍ مِنْهُمَا أَصْلًا. ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّهُ ذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ الْفَرْقَ بَيْنَ مَسْأَلَةِ الدَّيْنِ وَمَسْأَلَةِ الْعَيْبِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا أَنَّ فِي الدَّيْنِ حَقَّ الطَّالِبِ ثَابِتٌ بِيَقِينٍ، إذْ لَيْسَ فِي دَعْوَى الِاسْتِيفَاءِ وَالْإِبْرَاءِ مَا يُنَافِي ثُبُوتَ أَصْلِ حَقِّهِ، لَكِنَّهُ يَدَّعِي الِاسْتِيفَاءَ بَعْدَ تَقَرُّرِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ فَلَا يَمْتَنِعُ عَلَى الْوَكِيلِ الِاسْتِيفَاءُ مَا لَمْ يَثْبُتْ الْمُسْقِطُ.

وَأَمَّا فِي الْعَيْبِ فَإِنْ عَلِمَ الْمُشْتَرِي بِالْعَيْبِ وَقْتَ الْعَقْدِ يَمْنَعُ ثُبُوتَ حَقِّهِ فِي الرَّدِّ أَصْلًا، فَالْبَائِعُ لَا يَدَّعِي مُسْقِطًا بَلْ يَزْعُمُ أَنَّ حَقَّهُ فِي الرَّدِّ لَمْ يَثْبُتْ أَصْلًا، فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَحْضُرَ الْمُوَكِّلُ وَيَحْلِفُ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ الرَّدِّ عَلَيْهِ. وَالثَّانِي أَنَّ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَسْخٌ لِلْعَقْدِ، وَالْعَقْدُ إذَا انْفَسَخَ لَا يَعُودُ، فَلَوْ أَثْبَتْنَا لَهُ حَقَّ الرَّدِّ تَضَرَّرَ بِهِ الْخَصْمُ فِي انْفِسَاخِ عَقْدِهِ عَلَيْهِ، وَأَمَّا قَضَاءُ الدَّيْنِ فَلَيْسَ فِيهِ فَسْخُ عَقْدِهِ، فَإِذَا حَضَرَ الْمُوَكِّلُ فَأَبَى أَنْ يَحْلِفَ يَتَوَصَّلُ الْمَطْلُوبُ إلَى قَضَاءِ حَقِّهِ فَلِهَذَا أُمِرَ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ، وَهَذَا الْوَجْهُ الثَّانِي مِنْ الْفَرْقِ هُوَ الَّذِي أَرَادَهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ (لِأَنَّ التَّدَارُكَ مُمْكِنٌ هُنَالِكَ) أَيْ فِي مَسْأَلَةِ الدَّيْنِ (بِاسْتِرْدَادِ مَا قَبَضَهُ الْوَكِيلُ إذَا ظَهَرَ الْخَطَأُ عِنْدَ نُكُولِهِ) أَيْ نُكُولِ الْمُوَكِّلِ عَنْ الْيَمِينِ، إذْ الْقَضَاءُ لَمْ يَنْفُذْ بَاطِنًا لِأَنَّهُ مَا قَضَى إلَّا بِمُجَرَّدِ التَّسْلِيمِ فَكَانَ كَالْقَضَاءِ بِالْأَمْلَاكِ الْمُرْسَلَةِ، كَذَا فِي الْكَافِي وَالْكِفَايَةِ (وَهَاهُنَا) أَيْ فِي مَسْأَلَةِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: وَفِي الثَّانِيَةِ أَيْ وَفِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ (غَيْرُ مُمْكِنٍ) أَيْ التَّدَارُكُ غَيْرُ مُمْكِنٍ (لِأَنَّ الْقَضَاءَ بِالْفَسْخِ مَاضٍ عَلَى الصِّحَّةِ) وَإِنْ ظَهَرَ الْخَطَأُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ كَمَا هُوَ مَذْهَبُهُ لِأَنَّ الْقَضَاءَ فِي الْعُقُودِ وَالْفُسُوخِ يَنْفُذُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا عِنْدَهُ كَمَا مَرَّ فِي كِتَابِ الْقَضَاءِ، وَفِي كِتَابِ النِّكَاحِ أَيْضًا (وَلَا يُسْتَحْلَفُ الْمُشْتَرِي عِنْدَهُ بَعْدَ ذَلِكَ) أَيْ بَعْدَ أَنْ مَضَى الْقَضَاءُ بِالْفَسْخِ عَلَى الصِّحَّةِ (لِأَنَّهُ) أَيْ لِأَنَّ الِاسْتِحْلَافَ (لَا يُفِيدُ) فَإِنَّهُ لَمَّا مَضَى الْفَسْخُ وَلَا يُرَدُّ بِالنُّكُولِ

ص: 133

وَأَمَّا عِنْدَهُمَا قَالُوا: يَجِبُ أَنْ يَتَّحِدَ الْجَوَابُ عَلَى هَذَا فِي الْفَصْلَيْنِ وَلَا يُؤَخَّرُ، لِأَنَّ التَّدَارُكَ مُمْكِنٌ عِنْدَهُمَا لِبُطْلَانِ الْقَضَاءِ

لَمْ يَبْقَ فِي الِاسْتِحْلَافِ فَائِدَةٌ قَطْعًا، قَالَ صَاحِبُ مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ بَعْدَ ذَلِكَ: أَيْ بَعْدَ نُكُولِ الْمُوَكِّلِ، وَتَبِعَهُ الشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ: أَقُولُ: هَذَا تَفْسِيرٌ فَاسِدٌ، إذْ يَصِيرُ مَعْنَى الْمَقَامِ حِينَئِذٍ وَلَا يُسْتَحْلَفُ الْمُشْتَرِي عِنْدَهُ بَعْدَ نُكُولِ الْمُشْتَرِي، وَهَذَا مِنْ قَبِيلِ اللَّغْوِ مِنْ الْكَلَامِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى الْفَطِنِ.

وَفِي الذَّخِيرَةِ: وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْبَائِعِ بَيِّنَةٌ عَلَى رِضَا الْآمِرِ بِالْعَيْبِ وَرَدَّ الْوَكِيلُ الْجَارِيَةَ عَلَى الْبَائِعِ بِالْعَيْبِ ثُمَّ حَضَرَ الْآمِرُ وَادَّعَى الرِّضَا وَأَرَادَ أَخْذَ الْجَارِيَةِ فَأَبَى الْبَائِعُ أَنْ يَدْفَعَهَا وَقَالَ نَقَضَ الْقَاضِي الْبَيْعَ فَلَا سَبِيلَ لَك، فَإِنَّ الْقَاضِيَ لَا يَلْتَفِتُ إلَى قَوْلِ الْبَائِعِ وَيَرُدُّ الْجَارِيَةَ عَلَى الْآمِرِ؛ لِأَنَّ الْآمِرَ مَعَ الْبَائِعِ تَصَادَقَا عَلَى أَنَّ الْجَارِيَةَ مِلْكُ الْآمِرِ لِأَنَّ الْبَائِعَ ادَّعَى رِضَا الْآمِرِ بِالْعَيْبِ وَلُزُومَ الْجَارِيَةِ إيَّاهُ وَصَدَّقَهُ الْآمِرُ فِي ذَلِكَ فَاسْتَنَدَ التَّصْدِيقُ إلَى وَقْتِ الْإِقْرَارِ، وَيَثْبُتُ بِهَذَا التَّصَادُقِ أَنَّ الْقَاضِيَ أَخْطَأَ فِي قَضَائِهِ بِالرَّدِّ وَأَنَّ قَضَاءَهُ بِالرَّدِّ نَفَذَ ظَاهِرًا لَا بَاطِنًا فَبَقِيَتْ الْجَارِيَةُ عَلَى حُكْمِ مِلْكِ الْآمِرِ فِي الْبَاطِنِ فَكَانَ لِلْآمِرِ أَنْ يَأْخُذَهَا. بَعْضُ مَشَايِخِنَا قَالُوا: هَذَا عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لَا سَبِيلَ لِلْآمِرِ عَلَى الْجَارِيَةِ، وَبَعْضُهُمْ قَالُوا: هَذَا قَوْلُ الْكُلِّ وَهُوَ الْأَصَحُّ.

وَوَجْهُهُ أَنَّ نَقْضَ الْقَاضِي هَاهُنَا الْبَيْعَ لَمْ يَكُنْ بِنَاءً عَلَى دَلِيلٍ مُوجِبٍ لِلنَّقْضِ، وَإِنَّمَا كَانَ لِجَهْلِهِ بِالدَّلِيلِ الْمُسْقِطِ لِلرَّدِّ وَهُوَ رِضَا الْآمِرِ بِالْعَيْبِ ثُمَّ ظَهَرَ الدَّلِيلُ بِخِلَافِهِ، وَفِي مِثْلِ هَذَا لَا يَنْفُذُ الْقَضَاءُ بَاطِنًا كَمَا لَوْ قَضَى فِي حَادِثَةٍ بِاجْتِهَادِهِ وَثَمَّةَ نَصٌّ بِخِلَافِهِ انْتَهَى. وَهَكَذَا ذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ وَشُرُوحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَيْضًا، وَنَقَلَ فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ عَنْ تِلْكَ الْكُتُبِ، ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ الْعِنَايَةِ ذَكَرَ ذَلِكَ هَاهُنَا عَلَى وَجْهِ الِاعْتِرَاضِ وَالْجَوَابُ حَيْثُ قَالَ: وَاعْتَرَضَ بِأَنَّ الْوَكِيلَ إذْ رَدَّهَا عَلَى الْبَائِعِ بِالْعَيْبِ ثُمَّ حَضَرَ الْمُشْتَرِي وَادَّعَى الرِّضَا بِالْعَيْبِ وَاسْتَرَدَّ الْجَارِيَةَ وَقَالَ الْبَائِعُ لَا سَبِيلَ لَك عَلَيْهَا لِأَنَّ الْقَاضِيَ نَقَضَ الْبَيْعَ فَإِنَّهُ لَا يَلْتَفِتُ إلَى قَوْلِ الْبَائِعِ، وَلَوْ كَانَ الْقَضَاءُ مَاضِيًا عَلَى الصِّحَّةِ لَمْ تُرَدَّ الْجَارِيَةُ عَلَى الْمُشْتَرَى. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الرَّدَّ مَذْهَبُ مُحَمَّدٍ، فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَلَا سَبِيلَ لِلْآمِرِ عَلَى الْجَارِيَةِ. سَلَّمْنَا أَنَّ هَذَا قَوْلُ الْكُلِّ، لَكِنَّ النَّقْضَ هَاهُنَا لَمْ يُوجِبْهُ دَلِيلٌ، وَإِنَّمَا كَانَ لِلْجَهْلِ بِالدَّلِيلِ الْمُسْقِطِ لِلرَّدِّ وَهُوَ رِضَا الْآمِرِ بِالْعَيْبِ ثُمَّ ظَهَرَ الدَّلِيلُ بِخِلَافِهِ بِتَصَادُقِهِمَا فِي الْآخِرَةِ عَلَى وُجُودِ الرِّضَا مِنْ الْمُشْتَرِي، وَفِي مِثْلِهِ لَا يَنْفُذُ الْقَضَاءُ بَاطِنًا كَمَا لَوْ قَضَى بِاجْتِهَادِهِ فِي حَادِثَةٍ وَثَمَّةَ نَصٌّ بِخِلَافِهِ، قَالُوا: هَذَا أَصَحُّ انْتَهَى كَلَامُهُ.

أَقُولُ: فِيهِ بَحْثٌ، لِأَنَّ مَا ذَكَرَهُ فِي الْجَوَابِ بَعْدَ التَّسْلِيمِ لَا يَدْفَعُ الِاعْتِرَاضَ بَلْ يُقَوِّيهِ لِأَنَّهُ إذَا جَازَ نَقْضُ الْقَضَاءِ هَاهُنَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْضًا بِأَيِّ سَبَبٍ كَانَ تَعَيَّنَ أَنَّ الْقَضَاءَ بِالْفَسْخِ هَاهُنَا لَمْ يَكُنْ مَاضِيًا عَلَى الصِّحَّةِ عِنْدَهُ أَيْضًا فَلَا يَتِمُّ الدَّلِيلُ الْمَذْكُورُ لِلْفَرْقِ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ فَتَأَمَّلْ (وَأَمَّا عِنْدَهُمَا) أَيْ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ (قَالُوا) أَيْ الْمَشَايِخُ (يَجِبُ أَنْ يَتَّحِدَ الْجَوَابُ عَلَى هَذَا) أَيْ عَلَى الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ (فِي الْفَصْلَيْنِ) أَيْ فِي فَصْلِ الدَّيْنِ وَفِي فَصْلِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ (وَلَا يُؤَخَّرُ) أَيْ لَا يُؤَخَّرُ الْقَضَاءُ بِالرَّدِّ إلَى تَحْلِيفِ الْمُشْتَرِي كَمَا لَا يُؤَخَّرُ الْقَضَاءُ بِدَفْعِ الدَّيْنِ إلَى تَحْلِيفِ رَبِّ الدَّيْنِ (لِأَنَّ التَّدَارُكَ مُمْكِنٌ) أَيْ فِي الْفَصْلَيْنِ مَعًا (عِنْدَهُمَا لِبُطْلَانِ الْقَضَاءِ) يَعْنِي أَنَّ عَدَمَ التَّأْخِيرِ إلَى تَحْلِيفِ رَبِّ الدَّيْنِ فِي فَصْلِ الدَّيْنِ إنَّمَا كَانَ لِأَنَّ التَّدَارُكَ مُمْكِنٌ عِنْدَ ظُهُورِ الْخَطَإِ فِي الْقَضَاءِ بِاسْتِرْدَادِ مَا قَبَضَهُ الْوَكِيلُ

ص: 134

وَقِيلَ الْأَصَحُّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله أَنْ يُؤَخَّرَ فِي الْفَصْلَيْنِ لِأَنَّهُ يَعْتَبِرُ حَتَّى النَّظَرَ حَتَّى يَسْتَحْلِفَ الْمُشْتَرِيَ لَوْ كَانَ حَاضِرًا مِنْ غَيْرِ دَعْوَى الْبَائِعِ فَيَنْتَظِرُ لِلنَّظَرِ.

قَالَ (وَمَنْ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ يُنْفِقُهَا عَلَى أَهْلِهِ فَأَنْفَقَ عَلَيْهِمْ عَشَرَةً مِنْ عِنْدِهِ فَالْعَشَرَةُ بِالْعَشَرَةِ) لِأَنَّ الْوَكِيلَ بِالْإِنْفَاقِ وَكِيلٌ بِالشِّرَاءِ وَالْحُكْمُ فِيهِ مَا ذَكَرْنَاهُ وَقَدْ قَرَرْنَاهُ فَهَذَا كَذَلِكَ

وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي فَصْلِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ أَيْضًا لِأَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي فِي مِثْلِ ذَلِكَ عِنْدَهُمَا إنَّمَا يَنْفُذُ ظَاهِرًا لَا بَاطِنًا، فَإِذَا ظَهَرَ خَطَأُ الْقَضَاءِ عِنْدَ نُكُولِ الْمُشْتَرِي رُدَّتْ الْجَارِيَةُ عَلَيْهِ فَلَا يُؤَخَّرُ إلَى التَّحْلِيفِ (وَقِيلَ الْأَصَحُّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ أَنْ يُؤَخَّرَ) أَيْ الْقَضَاءُ (فِي الْفَصْلَيْنِ لِأَنَّهُ) أَيْ لِأَنَّ أَبَا يُوسُفَ (يَعْتَبِرُ النَّظَرَ) أَيْ النَّظَرَ لِلْبَائِعِ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ.

أَقُولُ: الْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: أَيْ النَّظَرُ لِلْخَصْمِ لِيَكُونَ أَنْسَبَ بِالتَّعْمِيمِ لِلْفَصْلَيْنِ كَمَا سَيَنْكَشِفُ لَك (حَتَّى يَسْتَحْلِفَ) أَيْ أَبُو يُوسُفَ (الْمُشْتَرِيَ لَوْ كَانَ حَاضِرًا مِنْ غَيْرِ دَعْوَى الْبَائِعِ) يَعْنِي أَنَّ مِنْ مَذْهَبِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَرُدُّ الْمَبِيعَ عَلَى الْبَائِعِ إذَا كَانَ الْمُشْتَرِي حَاضِرًا وَأَرَادَ الرَّدَّ مَا لَمْ يُسْتَحْلَفْ بِاَللَّهِ مَا رَضِيت بِهَذَا الْعَيْبِ وَإِنْ لَمْ يَدَّعِ الْبَائِعُ، فَإِذَا كَانَ الْمُشْتَرِي أَوْ رَبُّ الدَّيْنِ غَائِبًا فَأَوْلَى أَنْ لَا يُرَدَّ عَلَيْهِ مَا لَمْ يُسْتَحْلَفْ صِيَانَةً لِقَضَائِهِ عَنْ الْبُطْلَانِ وَنَظَرًا لِلْبَائِعِ وَالْمَدْيُونِ (فَيَنْتَظِرُ لِلنَّظَرِ) أَيْ فَيَنْتَظِرُ فِي الْفَصْلَيْنِ نَظَرًا لِلْبَائِعِ وَالْمَدْيُونِ. قَالَ فِي النِّهَايَةِ فَيَنْتَظِرُ لِلنَّظَرِ: أَيْ لِلْبَائِعِ، فَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَنْتَظِرَ فِي الدَّيْنِ نَظَرًا لِلْغَرِيمِ انْتَهَى.

وَقَالَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ: فَعَلَى هَذَا يَنْتَظِرُ عِنْدَهُ فِي الدَّيْنِ أَيْضًا نَظَرًا لِلْغَرِيمِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ فَيَنْتَظِرُ لِلنَّظَرِ انْتَهَى. وَقَالَ فِي الْعِنَايَةِ: لِأَنَّهُ يَعْتَبِرُ النَّظَرَ لِلْبَائِعِ حَتَّى يَسْتَحْلِفَ الْمُشْتَرِيَ إنْ كَانَ حَاضِرًا مِنْ غَيْرِ دَعْوَى الْبَائِعِ فَيَنْتَظِرُ لِلنَّظَرِ لَهُ إنْ كَانَ غَائِبًا انْتَهَى أَقُولُ: لَا يَخْفَى مَا فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا مِنْ تَخْصِيصِ مَعْنَى نَفْسِ الْكَلَامِ بِصُورَةٍ مِنْ الْفَصْلَيْنِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ دَاعِيَةٍ إلَيْهِ، فَالْوَجْهُ مَا قَرَّرْنَاهُ فَتَبَصَّرْ

(قَالَ) أَيْ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ (وَمَنْ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ يُنْفِقُهَا عَلَى أَهْلِهِ) أَيْ لِيُنْفِقَهَا عَلَيْهِمْ (فَأَنْفَقَ عَلَيْهِمْ عَشَرَةً مِنْ عِنْدِهِ) أَيْ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ (فَالْعَشَرَةُ بِالْعَشَرَةِ) أَيْ فَالْعَشَرَةُ الَّتِي أَنْفَقَهَا الْوَكِيلُ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ بِمُقَابَلَةِ الْعَشَرَةِ الَّتِي أَخَذَهَا مِنْ الْمُوَكِّلِ: يَعْنِي لَا يَكُونُ الْوَكِيلُ مُتَبَرِّعًا فِيمَا أَنْفَقَ بَلْ مَا أَخَذَهُ مِنْ الْمُوَكِّلِ يَصِيرُ مِلْكًا لَهُ. قَالَ الْإِمَامُ التُّمُرْتَاشِيُّ: هَذَا إذَا كَانَتْ عَشَرَةُ الدَّفْعِ قَائِمَةً وَقْتَ شِرَائِهِ النَّفَقَةَ وَكَانَ يُضِيفُ الْعَقْدَ إلَيْهَا، أَوْ كَانَ مُطْلَقًا لَكِنْ يَنْوِي تِلْكَ الْعَشَرَةَ، أَمَّا إذَا كَانَتْ عَشَرَةُ الدَّافِعِ مُسْتَهْلَكَةً أَوْ كَانَ يَشْتَرِي النَّفَقَةَ بِعَشَرَةِ نَفْسِهِ وَيُضِيفُ الْعَقْدَ إلَيْهَا يَصِيرُ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ وَيَكُونُ مُتَبَرِّعًا بِالْإِنْفَاقِ؛ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ تَتَعَيَّنُ فِي الْوِكَالَةِ، وَكَذَا لَوْ أَضَافَ الْعَقْدَ إلَى غَيْرِهَا، كَذَا ذَكَرَ فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ.

وَقَالَ فِي الْكِفَايَةِ بَعْدَ ذَلِكَ: وَقِيلَ لَا تَتَعَيَّنُ عِنْدَ الْعَامَّةِ لَكِنْ تَتَعَلَّقُ الْوِكَالَةُ بِبَقَائِهَا، بِخِلَافِ الْمُضَارَبَةِ وَالشَّرِكَةِ حَيْثُ تَتَعَيَّنُ اتِّفَاقًا فِيهِمَا. قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِ مَا فِي الْكِتَابِ (لِأَنَّ الْوَكِيلَ بِالْإِنْفَاقِ وَكِيلٌ بِالشِّرَاءِ، وَالْحُكْمُ فِيهِ) أَيْ فِي الْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ (مَا ذَكَرْنَاهُ) مِنْ رُجُوعِ الْوَكِيلِ عَلَى الْمُوَكِّلِ بِمَا أَدَّى مِنْ الثَّمَنِ (وَقَدْ قَرَّرْنَاهُ) يَعْنِي فِي بَابِ الْوِكَالَةِ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ عِنْدَ قَوْلِهِ وَإِذَا دَفَعَ الْوَكِيلُ بِالشِّرَاءِ الثَّمَنَ مِنْ مَالِهِ وَقَبَضَ الْمَبِيعَ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ عَلَى الْمُوَكِّلِ لِأَنَّهُ انْعَقَدَتْ بَيْنَهُمَا مُبَادَلَةٌ حُكْمِيَّةٌ (فَهَذَا) أَيْ مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ التَّوْكِيلِ بِالْإِنْفَاقِ (كَذَلِكَ) لِأَنَّ الْوَكِيلَ بِالْإِنْفَاقِ عَلَى الْأَهْلِ قَدْ يُضْطَرُّ إلَى

ص: 135

وَقِيلَ هَذَا اسْتِحْسَانٌ وَفِي الْقِيَاسِ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ وَيَصِيرُ مُتَبَرِّعًا. وَقِيلَ الْقِيَاسُ وَالِاسْتِحْسَانُ فِي قَضَاءِ الدَّيْنِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِشِرَاءٍ، فَأَمَّا الْإِنْفَاقُ يَتَضَمَّنُ الشِّرَاءَ فَلَا يَدْخُلَانِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

شِرَاءِ شَيْءٍ يَصْلُحُ لِنَفَقَتِهِمْ وَلَا يَكُونُ مَالُ الْمُوَكِّلِ مَعَهُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ فَيَحْتَاجُ إلَى أَنْ يُؤَدِّيَ ثَمَنَهُ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ فَكَانَ فِي التَّوْكِيلِ بِذَلِكَ تَجْوِيزُ الِاسْتِبْدَالِ، وَاعْلَمْ أَنَّ مُحَمَّدًا لَمْ يَذْكُرْ فِي الْأَصْلِ مَسْأَلَةَ الْإِنْفَاقِ، بَلْ ذَكَرَ فِيهِ مَسْأَلَةَ قَضَاءِ الدَّيْنِ فَقَالَ: وَإِذَا دَفَعَ الرَّجُلُ إلَى الرَّجُلِ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَقَالَ ادْفَعْهَا إلَى فُلَانٍ قَضَاءً عَنِّي فَدَفَعَ الْوَكِيلُ غَيْرَهَا وَاحْتَبَسَ الْأَلْفَ عِنْدَهُ كَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يَدْفَعَ الَّتِي حَبَسَهَا إلَى الْمُوَكِّلِ وَيَكُونَ مُتَطَوِّعًا فِي الَّتِي دَفَعَ، وَلَكِنِّي أَدَعُ الْقِيَاسَ فِي ذَلِكَ وَأَسْتَحْسِنُ أَنْ أُجِيزَهُ، إلَى هُنَا لَفْظُ الْأَصْلِ.

وَإِنَّمَا ذَكَرَ مَسْأَلَةَ الْإِنْفَاقِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَلَكِنْ لَمْ يَذْكُرْ الْقِيَاسَ وَالِاسْتِحْسَانَ فِيهِ فَقَالُوا فِي شُرُوحِهِ: هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ اسْتِحْسَانٌ، وَالْقِيَاسُ أَنْ يَرُدَّهَا عَلَى الْمُوَكِّلِ إنْ كَانَتْ قَائِمَةً وَيَضْمَنُ إنْ كَانَ اسْتَهْلَكَهَا، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الْمُصَنِّفِ (وَقِيلَ هَذَا اسْتِحْسَانٌ، وَفِي الْقِيَاسِ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ وَيَصِيرُ مُتَبَرِّعًا) أَيْ لَيْسَ لِلْوَكِيلِ إنْفَاقُ عَشَرَةِ نَفْسِهِ بِمُقَابَلَةِ عَشَرَةِ الْمُوَكِّلِ، بَلْ إذَا أَنْفَقَ عَشَرَةَ نَفْسِهِ يَصِيرُ مُتَبَرِّعًا فِيمَا أَنْفَقَ وَيَرُدُّ الدَّرَاهِمَ الْمَأْخُوذَةَ مِنْ الْمُوَكِّلِ عَلَيْهِ، وَإِنْ اسْتَهْلَكَهَا ضَمِنَ. وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الدَّرَاهِمَ تَتَعَيَّنُ فِي الْوِكَالَاتِ حَتَّى لَوْ هَلَكَتْ قَبْلَ الْإِنْفَاقِ بَطَلَتْ الْوِكَالَةُ، فَإِذَا أَنْفَقَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ فَقَدْ أَنْفَقَ بِغَيْرِ أَمْرِ الْمُوَكِّلِ فَيَصِيرُ مُتَبَرِّعًا.

وَأَمَّا وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ فَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِيمَا مَرَّ آنِفًا بِقَوْلِهِ لِأَنَّ الْوَكِيلَ بِالْإِنْفَاقِ وَكِيلٌ بِالشِّرَاءِ إلَخْ، وَقَالُوا فِي شُرُوحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَيْضًا: مِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ قَالَ: لَيْسَ فِي قَضَاءِ الدَّيْنِ مَعْنَى الشِّرَاءِ فَوَرَدَ فِيهِ الْقِيَاسُ وَالِاسْتِحْسَانُ اللَّذَانِ ذَكَرَهُمَا مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ. أَمَّا الْإِنْفَاقُ فَفِيهِ شِرَاءٌ فَلَمْ يَخْتَلِفْ فِيهِ وَجْهُ الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ، بَلْ صَحَّ ذَلِكَ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا حَتَّى رَجَعَ الْوَكِيلُ عَلَى الْمُوَكِّلِ بِمَا أَنْفَقَ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الْمُصَنِّفِ (وَقِيلَ الْقِيَاسُ وَالِاسْتِحْسَانُ فِي قَضَاءِ الدَّيْنِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِشِرَاءٍ) هَذَا وَجْهُ الْقِيَاسِ: يَعْنِي لَمَّا لَمْ يَكُنْ قَضَاءُ الدَّيْنِ شِرَاءً لَمْ يَكُنْ الْآمِرُ رَاضِيًا بِثُبُوتِ الدَّيْنِ فِي ذِمَّتِهِ لِلْوَكِيلِ فَلَوْ لَمْ نَجْعَلْهُ مُتَبَرِّعًا لَأَلْزَمْنَاهُ دَيْنًا لَمْ يَرْضَ بِهِ فَجَعَلْنَاهُ مُتَبَرِّعًا قِيَاسًا. وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ مَا ذَكَرَهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ عَلَاءُ الدِّينِ الْإِسْبِيجَابِيُّ فِي شَرْحِ الْكَافِي لِلْحَاكِمِ الشَّهِيدِ بِقَوْلِهِ: لِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ مَأْمُورٌ بِشِرَاءِ مَا فِي ذِمَّةِ الْآمِرِ بِالدَّرَاهِمِ، وَالْوَكِيلُ بِالشِّرَاءِ إذَا اشْتَرَى وَنَقَدَ الثَّمَنَ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ سُلِّمَ الْمَقْبُوضُ لَهُ اهـ (فَأَمَّا الْإِنْفَاقُ) فَإِنَّهُ (يَتَضَمَّنُ الشِّرَاءَ) لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْإِنْفَاقِ أَمَرَ بِشِرَاءِ الطَّعَامِ، وَالشِّرَاءُ لَا يَتَعَلَّقُ بِعَيْنِ الدَّرَاهِمِ الْمَدْفُوعَةِ بَلْ بِمِثْلِهَا فِي الذِّمَّةِ، ثُمَّ ثَبَتَ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَى الْآمِرِ فَكَانَ رَاضِيًا بِثُبُوتِ الدَّيْنِ فَلَمْ يُجْعَلْ مُتَبَرِّعًا قِيَاسًا أَيْضًا (فَلَا يَدْخُلَانِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ) أَيْ فَلَا يَدْخُلُ الْقِيَاسُ وَالِاسْتِحْسَانُ فِي الْإِنْفَاقِ، بَلْ يَكُونُ فِيهِ حُكْمِ الْقِيَاسِ كَحُكْمِ الِاسْتِحْسَانِ فِي أَنَّ الْوَكِيلَ لَا يَكُونُ مُتَبَرِّعًا بِالْإِنْفَاقِ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ.

ص: 136

(بَابُ عَزْلِ الْوَكِيلِ)

قَالَ (وَلِلْمُوَكِّلِ أَنْ يَعْزِلَ الْوَكِيلَ عَنْ الْوَكَالَةِ) لِأَنَّ الْوَكَالَةَ حَقُّهُ فَلَهُ أَنْ يُبْطِلَهُ، إلَّا إذَا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْغَيْرِ بِأَنْ كَانَ وَكِيلًا بِالْخُصُومَةِ يُطْلَبُ مِنْ جِهَةِ الطَّالِبِ لِمَا فِيهِ مِنْ إبْطَالِ حَقِّ الْغَيْرِ

بَابُ عَزْلِ الْوَكِيلِ)

أَخَّرَ بَابَ الْعَزْلِ، إذْ الْعَزْلُ يَقْتَضِي سَبْقَ الثُّبُوتِ فَنَاسَبَ ذِكْرُهُ آخِرًا (قَالَ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ (وَلِلْمُوَكِّلِ أَنْ يَعْزِلَ الْوَكِيلَ عَنْ الْوَكَالَةِ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ حَقُّهُ) أَيْ حَقُّ الْمُوَكِّلِ (فَلَهُ أَنْ يُبْطِلَهُ) أَيْ فَلِلْمُوَكِّلِ الَّذِي هُوَ صَاحِبُ الْحَقِّ أَنْ يُبْطِلَ حَقَّهُ (إلَّا إذَا تَعَلَّقَ بِهِ) أَيْ بِالْوَكَالَةِ ذَكَرَ الضَّمِيرَ بِتَأْوِيلِ كَوْنِهَا حَقًّا (حَقُّ الْغَيْرِ) فَحِينَئِذٍ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْزِلَهُ بِلَا رِضَا ذَلِكَ الْغَيْرِ، وَذَلِكَ (بِأَنْ كَانَ وَكِيلًا بِالْخُصُومَةِ بِطَلَبٍ مِنْ جِهَةِ الطَّالِبِ) أَيْ بِالْتِمَاسٍ مِنْ جِهَةِ الْمُدَّعِي (لِمَا فِيهِ) أَيْ لِمَا فِي الْعَزْلِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ (مِنْ إبْطَالِ حَقِّ الْغَيْرِ) وَهُوَ أَنْ يُحْضِرَهُ مَجْلِسَ الْحُكْمِ وَيُخَاصِمَهُ وَيُثْبِتَ حَقَّهُ عَلَيْهِ، وَإِبْطَالُ حَقِّ الْغَيْرِ لَا يَجُوزُ، قُيِّدَ بِالطَّلَبِ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ وَكِيلًا بِالطَّلَبِ يَمْلِكُ الْمُوَكِّلُ عَزْلَهُ، سَوَاءٌ كَانَ الْخَصْمُ حَاضِرًا أَوْ غَائِبًا، وَقُيِّدَ بِكَوْنِ الطَّلَبِ مِنْ جِهَةِ الطَّالِبِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مِنْ جِهَةِ الْمَطْلُوبِ: أَيْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَوَكَّلَ الطَّالِبَ فَلَهُ عَزْلُهُ سَوَاءٌ كَانَ الْمَطْلُوبُ حَاضِرًا أَوْ غَائِبًا. ثُمَّ إنَّ عَدَمَ صِحَّةِ الْعَزْلِ إذَا كَانَ

ص: 137

وَصَارَ كَالْوَكَالَةِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا عَقْدُ الرَّهْنِ.

بِطَلَبٍ مِنْ جِهَةِ الطَّالِبِ فِيمَا إذَا كَانَ الْعَزْلُ عِنْدَ غَيْبَةِ الطَّالِبِ. وَأَمَّا إذَا كَانَ عِنْدَ حُضُورِهِ فَيَصِحُّ الْعَزْلُ سَوَاءٌ رَضِيَ بِهِ الطَّالِبُ أَوْ لَا، وَهَذِهِ الْقُيُودُ مُسْتَفَادَةٌ مِنْ صَرِيحِ مَا ذَكَرَهُ فِي الذَّخِيرَةِ. فَإِنَّهُ قَالَ فِيهَا: وَإِذَا عُزِلَ الْوَكِيلُ حَالَ غَيْبَةِ الْخَصْمِ فَهُوَ عَلَى وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ أَنْ يَكُونَ الْوَكِيلُ وَكِيلَ الطَّالِبِ. وَفِي هَذَا الْوَجْهِ الْعَزْلُ صَحِيحٌ وَإِنْ كَانَ الْمَطْلُوبُ غَائِبًا لِأَنَّ الطَّالِبَ بِالْعَزْلِ يُبْطِلُ حَقَّ نَفْسِهِ، لِأَنَّ خُصُومَةَ الْوَكِيلِ حَقُّ الطَّالِبِ وَإِبْطَالُ الْإِنْسَانِ حَقَّ نَفْسِهِ صَحِيحٌ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَوَقَّفَ عَلَى حَضْرَةِ غَيْرِهِ.

وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنْ يَكُونَ الْوَكِيلُ وَكِيلَ الْمَطْلُوبِ، وَأَنَّهُ عَلَى وَجْهَيْنِ أَيْضًا: الْأَوَّلُ أَنْ يَكُونَ الْوَكِيلُ مِنْ غَيْرِ الْتِمَاسِ أَحَدٍ، وَفِي هَذَا الْوَجْهِ الْعَزْلُ صَحِيحٌ وَإِنْ كَانَ الطَّالِبُ غَائِبًا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي إذَا كَانَ التَّوْكِيلُ بِالْتِمَاسِ أَحَدٍ إمَّا الطَّالِبَ وَإِمَّا الْقَاضِيَ، وَفِي هَذَا الْوَجْهِ إنْ كَانَ الْوَكِيلُ غَائِبًا وَقْتَ التَّوْكِيلِ وَلَمْ يَعْلَمْ بِالتَّوْكِيلِ صَحَّ عَزْلُهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْوَكَالَةَ غَيْرُ نَافِذَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَا نَفَاذَ لَهَا قَبْلَ عِلْمِ الْوَكِيلِ فَكَانَ الْعَزْلُ رُجُوعًا وَامْتِنَاعًا فَيَصِحُّ. وَهَذَا عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي شَرَطَتْ عِلْمَ الْوَكِيلِ لِصَيْرُورَتِهِ وَكِيلًا. وَإِنْ كَانَ الْوَكِيلُ حَاضِرًا وَقْتَ التَّوْكِيلِ أَوْ كَانَ غَائِبًا وَلَكِنْ قَدْ عَلِمَ بِالْوَكَالَةِ وَلَمْ يَرُدَّهَا فَإِنْ كَانَتْ الْوَكَالَةُ بِالْتِمَاسٍ لَا يَصِحُّ عَزْلُهُ حَالَ غَيْبَةِ الطَّالِبِ وَيَصِحُّ حَالَ حَضْرَتِهِ رَضِيَ بِهِ الطَّالِبُ أَوْ سَخِطَ؛ لِأَنَّ بِالتَّوْكِيلِ ثَبَتَ نَوْعُ حَقٍّ لِلطَّالِبِ قَبْلَ الْوَكِيلِ وَهُوَ حَقُّ أَنْ يُحْضِرَهُ مَجْلِسَ الْحُكْمِ فَيُخَاصِمَهُ وَيُثْبِتَ حَقَّهُ عَلَيْهِ. وَبِالْعَزْلِ حَالَ غَيْبَةِ الطَّالِبِ لَوْ صَحَّ الْعَزْلُ يَبْطُلُ هَذَا الْحَقُّ أَصْلًا؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الْخُصُومَةُ مَعَ الْوَكِيلِ وَالْمَطْلُوبُ رُبَّمَا يَغِيبُ قَبْلَ أَنْ يَحْضُرَ الطَّالِبُ فَلَا يُمْكِنُهُ الْخُصُومَةُ مَعَهُ أَيْضًا فَيَبْطُلُ حَقُّهُ أَصْلًا.

وَأَمَّا إذَا كَانَ الطَّالِبُ حَاضِرًا فَحَقُّهُ لَا يَبْطُلُ أَصْلًا؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ لَا يُمْكِنُهُ الْخُصُومَةُ مَعَ الْوَكِيلِ يُمْكِنُهُ مَعَ الْمَطْلُوبِ وَيُمْكِنُهُ أَنْ يُطَالِبَ مِنْ الْمَطْلُوبِ أَنْ يَنْصِبَ وَكِيلًا آخَرَ إلَى هُنَا لَفْظُ الذَّخِيرَةِ، قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ: وَاعْلَمْ أَنَّ الْوَكِيلَ إنْ كَانَ لِلطَّالِبِ فَعَزْلُهُ صَحِيحٌ حَضَرَ الْمَطْلُوبُ أَوْ لَا؛ لِأَنَّ الطَّالِبَ بِالْعَزْلِ يَبْطُلُ حَقُّهُ وَهُوَ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى حُضُورِ غَيْرِهِ وَهُوَ الْمَذْكُورُ أَوَّلًا. وَإِنْ كَانَ لِلْمَطْلُوبِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِطَلَبٍ مِنْ جِهَةِ الطَّالِبِ أَوْ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ مِثْلُ الْقَاضِي فَكَذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ فَأَمَّا إنْ عَلِمَ الْوَكِيلُ بِالْوَكَالَةِ أَوْ لَا، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا نَفَاذَ لِلْوَكَالَةِ قَبْلَ عِلْمِ الْوَكِيلِ فَكَانَ الْعَزْلُ امْتِنَاعًا وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْهُ الْمُصَنِّفُ، وَإِنْ عَلِمَ وَلَمْ يَرُدَّهَا لَمْ يَصِحَّ فِي غَيْبَةِ الطَّالِبِ؛ لِأَنَّ بِالتَّوْكِيلِ ثَبَتَ لَهُ حَقُّ إحْضَارِهِ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ وَإِثْبَاتُ الْحَقِّ عَلَيْهِ، وَبِالْعَزْلِ حَالَ غَيْبَتِهِ يَبْطُلُ ذَلِكَ وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ مُسْتَثْنًى، وَصَحَّ بِحَضْرَتِهِ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَا يَبْطُلُ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ لَا يُمْكِنُهُ الْخُصُومَةُ مَعَ الْوَكِيلِ يُمْكِنُهُ الْخُصُومَةُ مَعَ الْمُوَكِّلِ وَيُمْكِنُهُ طَلَبُ نَصْبِ وَكِيلٍ آخَرَ مِنْهُ، وَلَمْ يَذْكُرْهَا الْمُصَنِّفُ؛ لِأَنَّ دَلِيلَهُ يَلُوحُ إلَيْهِ لِأَنَّهُ قَالَ لِمَا فِيهِ مِنْ إبْطَالِ حَقِّ الْغَيْرِ وَهَاهُنَا لَا إبْطَالَ كَمَا ذَكَرْنَاهُ اهـ. كَلَامُهُ.

وَاعْتَرَضَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ عَلَى قَوْلِهِ وَهُوَ الْمَذْكُورُ أَوَّلًا، وَأَجَابَ حَيْثُ قَالَ: فِيهِ بَحْثٌ، فَإِنَّ الْمَذْكُورَ أَوَّلًا يَعُمُّهُ، وَعَزْلُ الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ مَثَلًا لِعُمُومِ كَلَامِ الْقُدُورِيِّ: وَجَوَابُهُ أَنَّ الْقَصْرَ إضَافِيٌّ: أَيْ لَا عَزْلَ وَكِيلِ الْمَطْلُوبِ اهـ.

أَقُولُ: جَوَابُهُ لَيْسَ بِتَامٍّ فَإِنَّ الْمَذْكُورَ أَوَّلًا وَهُوَ قَوْلُهُ وَلِلْمُوَكِّلِ أَنْ يَعْزِلَ الْوَكِيلَ عَنْ الْوَكَالَةِ يَعُمُّ عَزْلَ وَكِيلِ الْمَطْلُوبِ أَيْضًا سِيَّمَا الَّذِي لَمْ يَكُنْ بِطَلَبٍ مِنْ جِهَةِ الطَّالِبِ أَوْ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ فَلَا يَتِمُّ التَّوْجِيهُ بِحَمْلِ الْقَصْرِ عَلَى الْإِضَافِيِّ بِمَعْنَى لَا عَزْلَ وَكِيلِ الْمَطْلُوبِ.

ثُمَّ أَقُولُ: الْحَقُّ الصَّرِيحُ أَنَّ كَلَامَ الْقُدُورِيِّ الَّذِي ذَكَرَهُ هَاهُنَا أَوَّلًا، وَهُوَ قَوْلُهُ وَلِلْمُوَكِّلِ أَنْ يَعْزِلَ الْوَكِيلَ عَنْ الْوَكَالَةِ يَعُمُّ جَمِيعَ الصُّوَرِ الَّتِي ذَكَرَهَا صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بِطَرِيقِ التَّقْسِيمِ وَالتَّفْصِيلِ، وَقَدْ اسْتَثْنَى الْمُصَنِّفُ مِنْ ذَلِكَ صُورَةً وَاحِدَةً وَهِيَ عَزْلُ مَنْ كَانَ وَكِيلًا لِلْمَطْلُوبِ بِطَلَبٍ مِنْ جِهَةِ الطَّالِبِ فَبَقِيَ مَا عَدَاهَا مِنْ الصُّوَرِ تَحْتَ عُمُومِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ بِلَا رَيْبٍ، وَيَمْشِي فِي ذَلِكَ كُلِّهِ التَّعْلِيلُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ حَقُّهُ فَلَهُ أَنْ يُبْطِلَهُ، فَمَا زَعَمَهُ الشَّارِحُ الْمَذْكُورُ مِنْ كَوْنِ الْمَذْكُورِ أَوَّلًا مَقْصُورًا عَلَى صُورَةِ عَزْلِ وَكِيلِ الطَّالِبِ، وَكَوْنِ بَعْضِ صُوَرِ عَزْلِ الْوَكِيلِ الْمَطْلُوبِ غَيْرَ مَذْكُورٍ فِي الْكِتَابِ أَصْلًا سَهْوٌ بَيِّنٌ (وَصَارَ) أَيْ صَارَ التَّوْكِيلُ الَّذِي كَانَ بِطَلَبٍ مِنْ جِهَةِ الطَّالِبِ (كَالْوَكَالَةِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا عَقْدُ الرَّهْنِ) أَيْ كَالْوَكَالَةِ الْمَشْرُوطَةِ فِي عَقْدِ الرَّهْنِ بِأَنْ وَضَعَ

ص: 138

قَالَ (فَإِنْ لَمْ يَبْلُغْهُ الْعَزْلُ فَهُوَ عَلَى وَكَالَتِهِ وَتَصَرُّفُهُ جَائِزٌ حَتَّى يَعْلَمَ) لِأَنَّ فِي الْعَزْلِ إضْرَارًا بِهِ مِنْ حَيْثُ إبْطَالُ وِلَايَتِهِ أَوْ مِنْ حَيْثُ رُجُوعُ الْحُقُوقِ إلَيْهِ فَيَنْقُدُ مِنْ مَالِ الْمُوَكِّلِ وَيُسَلِّمُ الْمَبِيعَ

الرَّهْنَ عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ، وَشَرْطٌ فِي الرَّهْنِ أَنْ يَكُونَ الْعَدْلُ أَوْ الْمُرْتَهِنُ مُسَلَّطًا عَلَى بَيْعِ الرَّهْنِ عِنْدَ حُلُولِ الدَّيْنِ، فَإِنَّهُ إذَا أَرَادَ الرَّاهِنُ أَنْ يَعْزِلَ الْوَكِيلَ عَنْ الْوَكَالَةِ بِالْبَيْعِ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ صَارَ حَقًّا لِلْمُرْتَهِنِ، وَبِالْعَزْلِ يَبْطُلُ هَذَا الْحَقُّ كَمَا يَأْتِي تَفْصِيلُهُ فِي كِتَابِ الرَّهْنِ، وَكَذَا إذَا تَعَلَّقَ حَقُّ الْوَكِيلِ بِعَيْنٍ مِنْ أَعْيَانِ الْمُوَكِّلِ لَا يَمْلِكُ إخْرَاجَهُ عَنْ الْوَكَالَةِ نَحْوُ إنْ أَمَرَهُ أَنْ يَبِيعَ وَيَسْتَوْفِيَ الدَّيْنَ مِنْ ثَمَنِهِ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ نَقْلًا عَنْ الذَّخِيرَةِ.

قِيلَ: مِنْ أَيْنَ وَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْوَكِيلِ فِي الْخُصُومَةِ بِطَلَبٍ مِنْ جِهَةِ الطَّالِبِ وَبَيْنَ الْوَكِيلِ الَّذِي تَثْبُتُ وَكَالَتُهُ فِي ضِمْنِ عَقْدِ الرَّهْنِ حَيْثُ يَمْلِكُ الْمُوَكِّلُ فِي الْأَوَّلِ عَزْلَ الْوَكِيلِ حَالَ حَضْرَةِ الْخَصْمِ وَإِنْ لَمْ يَرْضَ بِهِ الْخَصْمُ وَلَا يَمْلِكُ فِي الثَّانِي عَزْلَهُ حَالَ حَضْرَةِ الْمُرْتَهِنِ إذَا لَمْ يَرْضَ بِهِ الْمُرْتَهِنُ مَعَ أَنَّهُ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا تَعَلَّقَ حَقُّ الْغَيْرِ بِوَكَالَةِ الْوَكِيلِ، وَمَعَ وُجُودِ هَذِهِ الْمُفَارَقَةِ كَيْفَ شَبَّهَ هَذَا بِذَاكَ؟ وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ إنَّ الْعَزْلَ لَوْ صَحَّ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ حَالَ حَضْرَةِ الطَّالِبِ لَمْ يَبْطُلْ حَقُّ الطَّالِبِ أَصْلًا لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يُخَاصِمَ الْمَطْلُوبَ. وَأَمَّا فِي مَسْأَلَةِ الرَّهْنِ، فَلَوْ صَحَّ الْعَزْلُ حَالَ حَضْرَةِ الْمُرْتَهِنِ بَطَلَ حَقُّهُ فِي الْبَيْعِ إذْ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُطَالِبَ الرَّاهِنَ بِالْبَيْعِ. وَأَمَّا وَجْهُ التَّشْبِيهِ فَهُوَ تَعَلُّقُ حَقِّ الْغَيْرِ بِوَكَالَةِ الْوَكِيلِ وَبُطْلَانُ حَقِّ ذَلِكَ الْغَيْرِ عِنْدَ صِحَّةِ الْعَزْلِ فِي غَيْبَتِهِ

(قَالَ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ (فَإِنْ لَمْ يَبْلُغْهُ الْعَزْلُ) أَيْ فَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ الْوَكِيلَ خَبَرُ عَزْلِ الْمُوَكِّلِ إيَّاهُ (فَهُوَ عَلَى وَكَالَتِهِ وَتَصَرُّفُهُ جَائِزٌ حَتَّى يَعْلَمَ) أَيْ حَتَّى يَعْلَمَ الْوَكِيلُ عَزْلَهُ، وَهَذَا عِنْدَنَا وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي قَوْلٍ وَمَالِكٌ فِي رِوَايَةٍ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأَصَحِّ: يَنْعَزِلُ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ فِي رِوَايَةٍ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ؛ لِأَنَّ نُفُوذَ الْوَكَالَةِ لِحَقِّ الْمُوَكِّلِ لَهُ فَهُوَ بِالْعَزْلِ يُسْقِطُ حَقَّ نَفْسِهِ، وَالْمَرْءُ يَنْفَرِدُ بِإِسْقَاطِ حَقِّ نَفْسِهِ؛ أَلَا يَرَى أَنَّهُ يُطَلِّقُ زَوْجَتَهُ وَيُعْتِقُ عَبْدَهُ بِغَيْرِ عِلْمٍ مِنْهُمَا، وَلِأَنَّ الْوَكَالَةَ لِلْمُوَكِّلِ لَا عَلَيْهِ، فَلَوْ لَمْ يَنْفَرِدْ الْمُوَكِّلُ قَبْلَ عِلْمِ الْوَكِيلِ بِهِ كَانَ ذَلِكَ عَلَيْهِ مِنْ وَجْهٍ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ. وَلَكِنَّا نَقُولُ: الْعَزْلُ خِطَابٌ مُلْزِمٌ لِلْوَكِيلِ بِأَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ التَّصَرُّفِ، وَحُكْمُ الْخِطَابِ لَا يَثْبُتُ فِي حَقِّ الْمُخَاطَبِ مَا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ كَخِطَابِ الشَّرْعِ، فَإِنَّ أَهْلَ قُبَاءَ كَانُوا يُصَلُّونَ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ بَعْدَ الْأَمْرِ بِالتَّوَجُّهِ إلَى الْكَعْبَةِ، وَجَوَّزَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ لَمْ يَعْلَمُوا، وَكَذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم شَرِبُوا الْخَمْرَ بَعْدَ نُزُولِ تَحْرِيمِهَا قَبْلَ عِلْمِهِمْ بِذَلِكَ، وَفِيهِ نَزَلَ قَوْله تَعَالَى {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} وَهَذَا لِأَنَّ الْخِطَابَ مَقْصُودٌ لِلْعَمَلِ، وَلَا يُتَمَكَّنُ مِنْ الْعَمَلِ مَا لَمْ يُعْلَمْ بِهِ، ثُمَّ إنَّ الْفِقْهَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ (لِأَنَّ فِي الْعَزْلِ) أَيْ فِي عَزْلِ الْوَكِيلِ مِنْ غَيْرِ عِلْمِهِ (إضْرَارًا بِهِ) أَيْ بِالْوَكِيلِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ (مِنْ حَيْثُ إبْطَالُ وِلَايَتِهِ) فَإِنَّ فِي إبْطَالِ وِلَايَتِهِ تَكْذِيبًا لَهُ لِأَنَّ الْوَكِيلَ يَتَصَرَّفُ لِمُوَكِّلِهِ عَلَى ادِّعَاءِ أَنَّ لَهُ وِلَايَةَ ذَلِكَ بِالْوَكَالَةِ، وَفِي عَزْلِهِ مِنْ غَيْرِ عِلْمِهِ تَكْذِيبٌ لَهُ فِيمَا ادَّعَاهُ لِبُطْلَانِ وِلَايَتِهِ بِالْعَزْلِ، وَتَكْذِيبُ الْإِنْسَانِ فِيمَا يَقُولُ ضَرَرٌ عَلَيْهِ لَا مَحَالَةَ.

وَالثَّانِي مَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ (أَوْ مِنْ حَيْثُ رُجُوعُ الْحُقُوقِ إلَيْهِ) أَيْ إلَى الْوَكِيلِ فَإِنَّهُ يَتَصَرَّفُ فِيهَا بِنَاءً عَلَى رُجُوعِهَا إلَيْهِ (فَيَنْقُدُ مِنْ مَالِ الْمُوَكِّلِ) إنْ كَانَ وَكِيلًا بِالشِّرَاءِ (وَيُسَلِّمُ الْمَبِيعَ) إنْ كَانَ وَكِيلًا بِالْبَيْعِ، فَلَوْ كَانَ مَعْزُولًا قَبْلَ الْعِلْمِ كَانَ التَّصَرُّفُ

ص: 139

فَيَضْمَنُهُ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ، وَيَسْتَوِي الْوَكِيلُ بِالنِّكَاحِ وَغَيْرُهُ لِلْوَجْهِ الْأَوَّلِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا اشْتِرَاطَ الْعَدَدِ أَوْ الْعَدَالَةِ فِي الْمُخْبِرِ فَلَا نُعِيدُهُ

. قَالَ (وَتَبْطُلُ الْوَكَالَةُ بِمَوْتِ الْمُوَكِّلِ وَجُنُونِهِ جُنُونًا مُطْبِقًا وَلَحَاقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ مُرْتَدًّا)

وَاقِعًا لَهُ (فَيَضْمَنُهُ) أَيْ فَيَضْمَنُ مَا نَقَدَهُ وَمَا سَلَّمَهُ (فَيَتَضَرَّرُ بِهِ) وَالضَّرَرُ مَدْفُوعٌ شَرْعًا. ثُمَّ إنَّ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ عَامٌّ يَشْمَلُ جَمِيعَ التَّصَرُّفَاتِ مِنْ النِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.

وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي فَمُخْتَصٌّ بِالتَّصَرُّفَاتِ الَّتِي تَرْجِعُ فِيهَا الْحُقُوقُ إلَى الْوَكِيلِ دُونَ الْمُوَكِّلِ كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَنَحْوِهِمَا. وَعَنْ هَذَا قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَيَسْتَوِي الْوَكِيلُ بِالنِّكَاحِ وَغَيْرِهِ لِلْوَجْهِ الْأَوَّلِ) يَعْنِي أَنَّ الْوَكِيلَ بِالنِّكَاحِ وَغَيْرِهِ سِيَّانِ فِي الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ وَهُوَ عَدَمُ انْعِزَالِ الْوَكِيلِ قَبْلَ الْعِلْمِ بِالْعَزْلِ نَظَرًا إلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ. وَفِي الذَّخِيرَةِ: وَكَذَلِكَ الْوَكِيلُ إذَا عَزَلَ نَفْسَهُ لَا يَصِحُّ عَزْلُهُ مِنْ غَيْرِ عِلْمِ الْمُوَكِّلِ وَلَا يَخْرُجُ عَنْ الْوَكَالَةِ انْتَهَى. وَهَكَذَا ذُكِرَ فِي سَائِرِ مُعْتَبَرَاتِ الْفَتَاوَى. قَالَ فِي الْمُحِيطِ الْبُرْهَانِيِّ: وَإِذَا جَحَدَ الْمُوَكِّلُ الْوَكَالَةَ وَقَالَ لَمْ أُوَكِّلْهُ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَزْلًا، هَكَذَا ذُكِرَ فِي الْأَجْنَاسِ فِي مَسَائِلِ الْبُيُوعِ، وَفِي مَسَائِلِ الْغَصْبِ مِنْ الْأَجْنَاسِ أَيْضًا: إذَا قَالَ اشْهَدُوا أَنِّي لَمْ أُوَكِّلْ فُلَانًا فَهَذَا كَذِبٌ وَهُوَ وَكِيلٌ لَا يَنْعَزِلُ، وَبَعْضُ مَشَايِخِنَا ذَكَرُوا فِي شُرُوحِهِمْ أَنَّ جُحُودَ الْمُوَكِّلِ الْوَكَالَةَ عَزْلٌ لِلْوَكِيلِ.

وَذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ فِي شَرْحِ كِتَابِ الشَّرِكَةِ أَنَّ جُحُودَ مَا عَدَا النِّكَاحَ فَسْخٌ لَهُ انْتَهَى. وَهَكَذَا ذُكِرَ فِي الذَّخِيرَةِ أَيْضًا. قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَقَدْ ذَكَرْنَا اشْتِرَاطَ الْعَدَدِ أَوْ الْعَدَالَةِ فِي الْمُخْبِرِ) أَشَارَ بِهِ إلَى مَا ذَكَرَهُ فِي فَصْلِ الْقَضَاءِ بِالْمَوَارِيثِ مِنْ كِتَابِ أَدَبِ الْقَاضِي بِقَوْلِهِ وَلَا يَكُونُ النَّهْيُ عَنْ الْوَكَالَةِ حَتَّى يَشْهَدَ عِنْدَهُ شَاهِدَانِ أَوْ رَجُلٌ عَدْلٌ إلَخْ (فَلَا نُعِيدُهُ) لِعَدَمِ الِاحْتِيَاجِ إلَى الْإِعَادَةِ. اعْلَمْ أَنَّ الْوَكَالَةَ تَثْبُتُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ حُرًّا كَانَ أَوْ عَبْدًا عَدْلًا كَانَ أَوْ فَاسِقًا، وَرَجُلًا كَانَ أَوْ امْرَأَةً، صَبِيًّا كَانَ أَوْ بَالِغًا، وَكَذَلِكَ الْعَزْلُ عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَثْبُتُ الْعَزْلُ إلَّا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ أَوْ بِخَبَرِ الِاثْنَيْنِ إذَا لَمْ يَكُونَا عَدْلَيْنِ. ثُمَّ إنَّ هَذَا الِاخْتِلَافَ فِيمَا إذَا لَمْ يَكُنْ الْخَبَرُ عَلَى وَجْهِ الرِّسَالَةِ. وَأَمَّا إذَا كَانَ عَلَى وَجْهِهَا فَيَثْبُتُ بِهِ الْعَزْلُ بِالِاتِّفَاقِ، كَائِنًا مَنْ كَانَ الرَّسُولُ، عَدْلًا كَانَ أَوْ غَيْرَ عَدْلٍ، حُرًّا كَانَ أَوْ عَبْدًا، صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا، نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْبَدَائِعِ.

وَقَالَ فِي تَعْلِيلِهِ: لِأَنَّ الرَّسُولَ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُرْسِلِ وَسَفِيرٌ عَنْهُ فَتَصِحُّ سِفَارَتُهُ بَعْدَ أَنْ صَحَّتْ عِبَارَتُهُ عَلَى أَيِّ صِفَةٍ كَانَ

(قَالَ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ (وَتَبْطُلُ الْوَكَالَةُ بِمَوْتِ الْمُوَكِّلِ وَجُنُونِهِ جُنُونًا مُطْبِقًا) بِالْبَاءِ الْمَسْكُورَةِ: أَيْ دَائِمًا، وَمِنْهُ الْحُمَّى الْمُطْبِقَةُ: أَيْ الدَّائِمَةُ الَّتِي لَا تُفَارِقُ لَيْلًا وَلَا نَهَارًا، وَقِيلَ مُطْبِقًا: أَيْ مُسْتَوْعِبًا، مِنْ أَطْبَقَ الْغَيْمُ السَّمَاءَ، إذَا اسْتَوْعَبَهَا (وَلَحَاقِهِ) بِفَتْحِ اللَّامِ: أَيْ وَتَبْطُلُ بِلَحَاقِ الْمُوَكِّلِ (بِدَارِ الْحَرْبِ مُرْتَدًّا) وَفِي الذَّخِيرَةِ قَالُوا: مَا ذُكِرَ مِنْ الْجَوَابِ فِي الْجُنُونِ الْمُطْبِقِ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا كَانَتْ الْوَكَالَةُ غَيْرَ لَازِمَةٍ بِحَيْثُ يَمْلِكُ الْمُوَكِّلُ الْعَزْلَ فِي كُلِّ سَاعَةٍ وَزَمَانٍ كَالْوَكِيلِ بِالْخُصُومَةِ مِنْ جَانِبِ الطَّالِبِ، وَأَمَّا إذَا كَانَتْ الْوَكَالَةُ لَازِمَةً بِحَيْثُ لَا يَمْلِكُ الْمُوَكِّلُ الْعَزْلَ كَالْعَدْلِ إذَا سُلِّطَ عَلَى بَيْعِ الرَّهْنِ وَكَانَ التَّسْلِيطُ مَشْرُوطًا فِي عَقْدِ الرَّهْنِ فَلَا يَنْعَزِلُ الْوَكِيلُ بِجُنُونِ الْمُوَكِّلِ وَإِنْ كَانَ الْجُنُونُ مُطْبِقًا، وَهَذَا لِأَنَّ الْوَكَالَةَ إذَا كَانَتْ غَيْرَ لَازِمَةٍ يَكُونُ لِبَقَائِهَا حُكْمُ الْإِنْشَاءِ، وَلَوْ أَنْشَأَ الْمُوَكِّلُ الْوَكَالَةَ بَعْدَمَا جُنَّ جُنُونًا مُطْبِقًا لَا يَصِحُّ، فَكَذَا لَا تَبْقَى الْوَكَالَةُ إذَا صَارَ الْمُوَكِّلُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ.

وَأَمَّا إذَا

ص: 140

لِأَنَّ التَّوْكِيلَ تَصَرُّفٌ غَيْرُ لَازِمٍ فَيَكُونُ لِدَوَامِهِ حُكْمُ ابْتِدَائِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ قِيَامِ الْأَمْرِ وَقَدْ بَطَلَ بِهَذِهِ الْعَوَارِضِ، وَشَرْطٌ أَنْ يَكُونَ الْجُنُونُ مُطْبِقًا لِأَنَّ قَلِيلَهُ

كَانَتْ الْوَكَالَةُ لَازِمَةً بِحَيْثُ لَا يَقْدِرُ الْمُوَكِّلُ عَلَى عَزْلِهِ لَا يَكُونُ لِبَقَاءِ الْوَكَالَةِ حُكْمُ الْإِنْشَاءِ، وَكَانَ الْوَكِيلُ فِي هَذِهِ الْوَكَالَةِ بِمَنْزِلَةِ الْمَالِكِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْمُوَكِّلُ عَزْلَهُ. وَمَنْ مَلَكَ شَيْئًا مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى ثُمَّ جُنَّ الْمُمَلِّكُ فَإِنَّهُ لَا يَبْطُلُ مِلْكُهُ، كَمَا لَوْ مَلَكَ عَيْنًا فَكَذَا إذَا مَلَكَ التَّصَرُّفَ، وَبِهَذَا الطَّرِيقِ إذَا جَعَلَ أَمْرَ امْرَأَتِهِ بِيَدِهَا ثُمَّ جُنَّ الزَّوْجُ لَا يَبْطُلُ الْأَمْرُ انْتَهَى، وَفِي غَايَةِ الْبَيَانِ قَالَ فِي التَّتِمَّةِ وَالْفَتَاوَى الصُّغْرَى: وَهَذَا كُلُّهُ فِي مَوْضِعٍ يَمْلِكُ الْمُوَكِّلُ عَزْلَهُ، أَمَّا فِي مَوْضِعٍ لَا يَمْلِكُ عَزْلَهُ كَالْعَدْلِ فِي بَابِ الرَّهْنِ وَالْأَمْرِ بِالْيَدِ لِلْمَرْأَةِ فَإِنَّهُ لَا يَنْعَزِلُ الْوَكِيلُ بِمَوْتِ الْمُوَكِّلِ وَجُنُونِهِ، وَالْوَكِيلُ بِالْخُصُومَةِ بِالْتِمَاسِ الْخَصْمِ يَنْعَزِلُ بِمَوْتِ الْمُوَكِّلِ وَجُنُونِهِ، وَالْوَكِيلُ بِالطَّلَاقِ يَنْعَزِلُ بِجُنُونِ الْمُوَكِّلِ اسْتِحْسَانًا وَلَا يَنْعَزِلُ قِيَاسًا انْتَهَى. أَقُولُ: فِي الْمَنْقُولِ عَنْ التَّتِمَّةِ وَالْفَتَاوَى الصُّغْرَى إشْكَالٌ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ عِبَارَتِهِ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ بِالْيَدِ لِلْمَرْأَةِ مِنْ بَابِ التَّوْكِيلِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ مِنْ بَابِ التَّمْلِيكِ لَا التَّوْكِيلِ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِيمَا مَرَّ فِي بَابِ تَفْوِيضِ الطَّلَاقِ مِنْ كِتَابِ الطَّلَاقِ، بِخِلَافِ عِبَارَةِ الذَّخِيرَةِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى الْمُتَأَمِّلِ.

ثُمَّ أَقُولُ: فِيمَا بَقِيَ هَاهُنَا شَيْءٌ، وَهُوَ أَنَّ تَقْسِيمَهُمْ الْوَكَالَةَ عَلَى اللَّازِمَةِ وَغَيْرِ اللَّازِمَةِ وَحَمْلَهُمْ الْجَوَابَ فِي الْجُنُونِ الْمُطْبِقِ عَلَى الثَّانِيَةِ دُونَ الْأُولَى يُنَافِي مَا ذَكَرُوا فِي صَدْرِ كِتَابِ الْوَكَالَةِ مِنْ أَنَّ صِفَةَ الْوَكَالَةِ هِيَ أَنَّهَا عَقْدٌ جَائِزٌ غَيْرُ لَازِمٍ حَتَّى يَمْلِكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُوَكِّلِ وَالْوَكِيلِ الْعَزْلَ بِدُونِ رِضَا صَاحِبِهِ، إذْ الظَّاهِرُ أَنَّ الْمَذْكُورَ هُنَاكَ صِفَتُهَا الْعَامَّةُ لِجَمِيعِ أَنْوَاعِهَا، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُقَالَ: الْأَصْلُ فِي الْوَكَالَةِ عَدَمُ اللُّزُومِ، وَاللُّزُومُ فِي أَحَدِ الْقِسْمَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ لِعَارِضٍ وَهُوَ تَعَلُّقُ حَقِّ الْغَيْرِ بِهِ عَلَى عَكْسِ مَا قَالُوا فِي الْبَيْعِ بِالْخِيَارِ كَمَا سَيَأْتِي فَتَأَمَّلْ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ (لِأَنَّ التَّوْكِيلَ تَصَرُّفٌ غَيْرُ لَازِمٍ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي تَعْلِيلِ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ: إذْ اللُّزُومُ عِبَارَةٌ عَمَّا يَتَوَقَّفُ وُجُودُهُ عَلَى الرِّضَا مِنْ الْجَانِبَيْنِ، وَهَاهُنَا لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَنْفَرِدُ فِي فَسْخِهَا، فَإِنَّ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَمْنَعَ نَفْسَهُ عَنْ الْوَكَالَةِ وَلِلْمُوَكِّلِ أَنْ يَمْنَعَ الْوَكِيلَ عَنْهَا انْتَهَى. وَقَدْ سَبَقَهُ تَاجُ الشَّرِيعَةِ إلَى هَذَا التَّعْلِيلِ. أَقُولُ: فِيهِ خَلَلٌ؛ لِأَنَّ تَوَقُّفَ الْوُجُودِ عَلَى الرِّضَا مِنْ الْجَانِبَيْنِ مُتَحَقِّقٌ فِي كُلِّ عَقْدٍ لَازِمًا كَانَ أَوْ غَيْرَ لَازِمٍ، وَإِنَّمَا اللَّازِمُ مَا يَتَوَقَّفُ فَسْخُهُ عَلَى الرِّضَا مِنْ الْجَانِبَيْنِ؛ فَقَوْلُهُمَا إذًا لِلُّزُومِ عِبَارَةٌ عَمَّا يَتَوَقَّفُ وُجُودُهُ عَلَى الرِّضَا مِنْ الْجَانِبَيْنِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ.

وَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ: إذْ التَّصَرُّفُ اللَّازِمُ عِبَارَةٌ عَمَّا يَتَوَقَّفُ فَسْخُهُ عَلَى الرِّضَا مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَهَاهُنَا لَيْسَ كَذَلِكَ (فَيَكُونُ لِدَوَامِهِ) أَيْ لِدَوَامِ التَّوْكِيلِ (حُكْمُ ابْتِدَائِهِ) لِأَنَّ التَّصَرُّفَ إذَا كَانَ غَيْرَ لَازِمٍ كَانَ الْمُتَصَرِّفُ بِسَبِيلٍ مِنْ فَسْخِهِ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ مِنْ لَحَظَاتِ دَوَامِهِ، فَلَمَّا لَمْ يَنْفَسِخْ جُعِلَ امْتِنَاعُهُ عَنْ الْفَسْخِ عِنْدَ تَمَكُّنِهِ مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ ابْتِدَاءِ تَصَرُّفٍ آخَرَ مِنْ جِنْسِهِ إنْزَالًا لِلْمُتَمَكِّنِ مَكَانَ الْمُبْتَدِئِ وَالْمُنْشِئِ كَمَا قَالُوا فِي قَوْله تَعَالَى {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى} فَصَارَ كَأَنَّهُ يَتَجَدَّدُ عَقْدُ الْوَكَالَةِ فِي كُلِّ سَاعَةٍ فَيَنْتَهِي، فَكَانَ كُلُّ جُزْءٍ مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ (فَلَا بُدَّ مِنْ قِيَامِ الْأَمْرِ) أَيْ فَلَا بُدَّ مِنْ قِيَامِ أَمْرِ الْمُوَكِّلِ بِالتَّوْكِيلِ فِي كُلِّ سَاعَةٍ إذَا كَانَ لَا بُدَّ مِنْ أَمْرِهِ بِذَلِكَ فِي ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ، فَكَذَا فِيمَا هُوَ بِمَنْزِلَتِهِ (وَقَدْ بَطَلَ) أَيْ أَمْرُ الْمُوَكِّلِ (بِهَذِهِ الْعَوَارِضِ) وَهِيَ الْمَوْتُ وَالْجُنُونُ وَالِارْتِدَادُ.

فَإِنْ قِيلَ: الْبَيْعُ بِالْخِيَارِ غَيْرُ لَازِمٍ وَمَعَ ذَلِكَ لَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ بِالْمَوْتِ بَلْ يَتَقَرَّرُ وَيَبْطُلُ الْخِيَارُ. قُلْنَا: الْأَصْلُ فِي الْبَيْعِ اللُّزُومُ وَعَدَمُ اللُّزُومِ بِسَبَبِ الْعَارِضِ وَهُوَ الْخِيَارُ، فَإِذَا مَاتَ تَقَرَّرَ الْأَصْلُ وَبَطَلَ الْعَارِضُ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ (وَشَرْطٌ) أَيْ شَرْطٌ فِي بُطْلَانِ الْوَكَالَةِ (أَنْ يَكُونَ الْجُنُونُ مُطْبِقًا لِأَنَّ قَلِيلَهُ) أَيْ قَلِيلَ

ص: 141

بِمَنْزِلَةِ الْإِغْمَاءِ، وَحَدُّ الْمُطْبِقِ شَهْرٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ اعْتِبَارًا بِمَا يَسْقُطُ بِهِ الصَّوْمُ. وَعَنْهُ أَكْثَرُ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لِأَنَّهُ تَسْقُطُ بِهِ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ فَصَارَ كَالْمَيِّتِ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: حَوْلٌ كَامِلٌ لِأَنَّهُ يَسْقُطُ بِهِ جَمِيعُ الْعِبَادَاتِ فَقَدَّرَ بِهِ احْتِيَاطًا. قَالُوا: الْحُكْمُ الْمَذْكُورُ فِي اللَّحَاقِ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّ تَصَرُّفَاتِ الْمُرْتَدِّ مَوْقُوفَةٌ عِنْدَهُ فَكَذَا وَكَالَتُهُ

الْجُنُونِ (بِمَنْزِلَةِ الْإِغْمَاءِ) فَلَا تَبْطُلُ بِهِ الْوَكَالَةُ لَا تَبْطُلُ بِالْإِغْمَاءِ (وَحَدُّ الْمُطْبِقِ) أَيْ حَدُّ الْجُنُونِ الْمُطْبِقِ (شَهْرٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ) وَرَوَى ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ (اعْتِبَارًا بِمَا يَسْقُطُ بِهِ الصَّوْمُ) أَيْ صَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ.

وَقَالَ فِي الْوَاقِعَاتِ الْحُسَامِيَّةِ فِي بَابِ الْبُيُوعِ الْجَائِزَةِ: وَالْمُخْتَارُ مَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ أَنَّهُ مُقَدَّرٌ بِالشَّهْرِ؛ لِأَنَّ مَا دُونَ الشَّهْرِ فِي حُكْمِ الْعَاجِلِ فَكَانَ قَصِيرًا، وَالشَّهْرُ فَصَاعِدًا فِي حُكْمِ الْآجِلِ فَكَانَ طَوِيلًا (وَعَنْهُ) أَيْ عَنْ أَبِي يُوسُفَ (أَكْثَرُ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لِأَنَّهُ تَسْقُطُ بِهِ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ فَصَارَ) أَيْ فَصَارَ مَنْ جُنَّ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ (كَالْمَيِّتِ) فَلَا يَصْلُحُ لِلْوَكَالَةِ (وَقَالَ مُحَمَّدٌ: حَوْلٌ كَامِلٌ) قَالَ النَّاطِفِيُّ فِي الْأَجْنَاسِ: قَالَ ابْنُ سِمَاعَةَ فِي نَوَادِرِهِ: قَالَ مُحَمَّدٌ فِي قَوْلِهِ الْأَوَّلِ: حَتَّى يُجَنَّ يَوْمًا وَلَيْلَةً فَيَخْرُجَ الْوَكِيلُ مِنْ الْوَكَالَةِ، ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ: حَتَّى يُجَنَّ شَهْرًا، ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ: حَتَّى يُجَنَّ سَنَةً (لِأَنَّهُ يَسْقُطُ بِهِ) أَيْ بِالْحَوْلِ الْكَامِلِ (جَمِيعُ الْعِبَادَاتِ) وَأَمَّا دُونَ الْحَوْلِ فَلَا تَسْقُطُ بِهِ الزَّكَاةُ لِأَنَّ وُجُوبَهَا مُقَدَّرٌ بِالْحَوْلِ فَلَا يَكُونُ فِي مَعْنَى الْمَوْتِ (فَقُدِّرَ بِهِ) أَيْ فَقُدِّرَ حَدُّ الْجُنُونِ الْمُطْبِقِ بِالْحَوْلِ الْكَامِلِ (احْتِيَاطًا) قَالَ فِي الْكَافِي: وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَكَذَا قَالَ فِي التَّبْيِينِ (قَالُوا) أَيْ الْمَشَايِخُ (الْحُكْمُ الْمَذْكُورُ فِي اللَّحَاقِ) أَيْ الْحُكْمُ الْمَذْكُورُ فِي اللَّحَاقِ فِي مُخْتَصَرِ الْقُدُورِيِّ، وَهُوَ مَا ذُكِرَ قَبْلَ هَذَا بِقَوْلِهِ: وَلَحَاقُهُ بِدَارِ الْحَرْبِ مُرْتَدًّا (قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّ تَصَرُّفَاتِ الْمُرْتَدِّ مَوْقُوفَةٌ عِنْدَهُ فَكَذَا وَكَالَتُهُ) قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي بَابِ أَحْكَامِ الْمُرْتَدِّينَ مِنْ كِتَابِ السِّيَرِ: اعْلَمْ أَنَّ تَصَرُّفَاتِ الْمُرْتَدِّ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: نَافِذٌ بِالِاتِّفَاقِ كَالِاسْتِيلَادِ وَالطَّلَاقِ لِأَنَّهُ لَا يَفْتَقِرُ إلَى حَقِيقَةِ الْمِلْكِ وَتَمَامِ الْوِلَايَةِ، وَبَاطِلٌ بِالِاتِّفَاقِ كَالنِّكَاحِ وَالذَّبِيحَةِ لِأَنَّهُ يَعْتَمِدُ الْمِلَّةَ وَلَا مِلَّةَ لَهُ، وَمَوْقُوفٌ بِالِاتِّفَاقِ كَالْمُفَاوَضَةِ لِأَنَّهَا تَعْتَمِدُ الْمُسَاوَاةَ وَلَا مُسَاوَاةَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْمُرْتَدِّ مَا لَمْ يُسْلِمْ، وَمُخْتَلَفٌ فِي تَوَقُّفِهِ وَهُوَ مَا عَدَّدْنَاهُ اهـ.

وَقَالَ الشُّرَّاحُ هُنَاكَ: يَعْنِي بِقَوْلِهِ مَا عَدَّدْنَاهُ مَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ وَمَا بَاعَهُ أَوْ اشْتَرَاهُ أَوْ أَعْتَقَهُ أَوْ وَهَبَهُ أَوْ تَصَرَّفَ فِيهِ مِنْ أَمْوَالِهِ فِي حَالِ رِدَّتِهِ فَهُوَ مَوْقُوفٌ. أَقُولُ: فَقَدْ تَلَخَّصَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ مُرَادَهُ هَاهُنَا أَنَّ بَعْضَ تَصَرُّفَاتِ الْمُرْتَدِّ

ص: 142

فَإِنْ أَسْلَمَ نَفَذَ، وَإِنْ قُتِلَ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ بَطَلَتْ الْوَكَالَةُ، فَأَمَّا عِنْدَهُمَا تَصَرُّفَاتُهُ نَافِذَةٌ فَلَا تَبْطُلُ وَكَالَتُهُ إلَّا أَنْ يَمُوتَ أَوْ يُقْتَلَ عَلَى رِدَّتِهِ أَوْ يُحْكَمَ بِلَحَاقِهِ وَقَدْ مَرَّ فِي السِّيَرِ

وَإِنْ كَانَ الْمُوَكِّلُ امْرَأَةً فَارْتَدَّتْ فَالْوَكِيلُ عَلَى وَكَالَتِهِ حَتَّى تَمُوتَ أَوْ تَلْحَقَ بِدَارِ الْحَرْبِ لِأَنَّ رِدَّتَهَا لَا تُؤَثِّرُ فِي عُقُودِهَا عَلَى مَا عُرِفَ

مَوْقُوفٌ عِنْدَهُ. فَكَذَا وَكَالَتُهُ لِكَوْنِهَا فِي حُكْمِ ذَلِكَ. وَلَكِنَّ عِبَارَتَهُ غَيْرُ وَاضِحَةٍ فِي إفَادَةِ الْمُرَادِ (فَإِنْ أَسْلَمَ نَفَذَ) أَيْ فَإِنْ أَسْلَمَ الْمُرْتَدُّ نَفَذَ تَصَرُّفُهُ السَّابِقُ (وَإِنْ قُتِلَ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ بَطَلَتْ الْوَكَالَةُ، فَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَتَصَرُّفَاتُهُ نَافِذَةٌ فَلَا تَبْطُلُ وَكَالَتُهُ إلَّا أَنْ يَمُوتَ أَوْ يُقْتَلَ عَلَى رِدَّتِهِ أَوْ يُحْكَمَ بِلَحَاقِهِ) حَتَّى يَسْتَقِرَّ أَمْرُ اللَّحَاقِ (وَقَدْ مَرَّ فِي السِّيَرِ) أَيْ مَرَّ كَوْنُ تَصَرُّفِ الْمُرْتَدِّ مَوْقُوفًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ نَافِذًا عِنْدَهُمَا مَعَ ذِكْرِ دَلِيلِ الطَّرَفَيْنِ مُسْتَوْفًى فِي بَابِ أَحْكَامِ الْمُرْتَدِّينَ مِنْ كِتَابِ السِّيَرِ.

وَاسْتَشْكَلَ صَاحِبُ التَّسْهِيلِ هَذَا الْمَقَامَ حَيْثُ قَالَ: فِيمَا نُسِبَ إلَى أَبِي حَنِيفَةَ نَظَرٌ. إذْ الْمُرْتَدُّ إذَا لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ وَلَمْ يَحْكُمْ بِهِ الْحَاكِمُ حَتَّى عَادَ مُسْلِمًا صَارَ كَأَنْ لَمْ يَزَلْ مُسْلِمًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْضًا فَكَيْفَ يَبْطُلُ تَوْكِيلُهُ وَسَائِرُ تَصَرُّفَاتِهِ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى بِذَلِكَ. وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي السِّيَرِ إنَّهُ حَرْبِيٌّ مَقْهُورٌ غَيْرَ أَنَّهُ يُرْجَى إسْلَامُهُ فَتَوَقَّفْنَا، فَإِنْ أَسْلَمَ جُعِلَ الْعَارِضُ كَالْعَدَمِ وَلَمْ يَعْمَلْ السَّبَبُ، وَإِنْ مَاتَ أَوْ لَحِقَ وَحُكِمَ بِلَحَاقِهِ اسْتَقَرَّ كُفْرُهُ فَعَمَلُ السَّبَبِ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ بُطْلَانِ تَصَرُّفِهِ بِمُجَرَّدِ اللَّحَاقِ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ الْحُكْمِ بِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْمُوَكِّلِ كَذَلِكَ لَا يَبْطُلُ تَوْكِيلُهُ بِمُجَرَّدِ لَحَاقِهِ عِنْدَهُ اهـ كَلَامُهُ. وَأَقُولُ: هُنَا كَلَامٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ الْإِمَامَ قَاضِي خَانْ ذَكَرَ فِي فَتَاوَاهُ مَا يُنَافِي مَا نَقَلَهُ الْمُصَنِّفُ هَاهُنَا عَنْ الْمَشَايِخِ حَيْثُ قَالَ فِي فَصْلِ مَا يُبْطِلُهُ الِارْتِدَادُ مِنْ بَابِ الرِّدَّةِ وَأَحْكَامِ أَهْلِهَا مِنْ كِتَابِ السِّيَرِ: وَإِنْ وَكَّلَ رَجُلًا ثُمَّ ارْتَدَّ الْمُوَكِّلُ وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ يَنْعَزِلُ وَكِيلُهُ فِي قَوْلِهِمْ اهـ، فَإِنَّهُ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْحُكْمَ الْمَذْكُورَ فِي اللَّحَاقِ قَوْلُهُمْ جَمِيعًا لَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فَقَطْ.

فَإِنْ قُلْت: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِاللَّحَاقِ لِدَارِ الْحَرْبِ فِيمَا ذُكِرَ فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ أَنْ يَحْكُمَ الْحَاكِمُ بِلَحَاقِهِ بِهَا. قُلْت: ظَاهِرُ اللَّفْظِ لَا يُسَاعِدُ ذَلِكَ. فَإِنْ جَازَ حَمْلُهُ عَلَيْهِ بِدَلَالَةِ الْقَرَائِنِ وَالْقَوَاعِدِ فَلِمَ لَا يَجُوزُ الْحَمْلُ عَلَيْهِ فِي مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ أَيْضًا حَتَّى تَكُونَ الْمَسْأَلَةُ إجْمَاعِيَّةً وَيَتَلَخَّصُ عَنْ التَّكَلُّفِ الَّذِي ارْتَكَبُوهُ فِي تَخْصِيصِهَا بِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ. ثُمَّ أَقُولُ: الْحَقُّ عِنْدِي أَنَّ الْمُرَادَ بِمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ اللَّحَاقُ مَعَ قَضَاءِ الْقَاضِي بِهِ دُونَ مُجَرَّدِ اللَّحَاقِ فَالْمَسْأَلَةُ إجْمَاعِيَّةٌ، وَعَنْ هَذَا قَالَ الْإِمَامُ الزَّيْلَعِيُّ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ مِنْ الْكَنْزِ: وَالْمُرَادُ بِلَحَاقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ مُرْتَدًّا أَنْ يَحْكُمَ الْحَاكِمُ بِلَحَاقِهِ؛ لِأَنَّ لَحَاقَهُ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِحُكْمِ الْحَاكِمِ، فَإِذَا حَكَمَ بِهِ بَطَلَتْ الْوَكَالَةُ بِالْإِجْمَاعِ اهـ. وَمِمَّا يُؤَيِّدُ كَوْنَ الْمُرَادِ بِاللَّحَاقِ الْمُبْطِلِ لِلْوَكَالَةِ اللَّحَاقُ مَعَ قَضَاءِ الْقَاضِي بِهِ دُونَ مُجَرَّدِ اللَّحَاقِ أَنَّ أَسَاطِينَ الْمَشَايِخِ قَيَّدُوا اللَّحَاقَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي بِهِ عِنْدَ بَيَانِهِمْ بُطْلَانَ تَصَرُّفَاتِ الْمُرْتَدِّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بِالْمَوْتِ وَالْقَتْلِ وَاللَّحَاقِ بِدَارِ الْحَرْبِ، مِنْهُمْ صَاحِبُ الْمُحِيطِ؛ فَإِنَّهُ قَالَ بِصَدَدِ بَيَانِ الْأَنْوَاعِ الْأَرْبَعَةِ لِتَصَرُّفَاتِ الْمُرْتَدِّ وَنَوْعٌ مِنْهَا اخْتَلَفُوا فِي نَفَاذِهِ وَتَوَقُّفِهِ وَذَلِكَ كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالْإِجَارَةِ وَالتَّدْبِيرِ وَالْكِتَابَةِ وَالْوَصِيَّةِ وَقَبْضِ الدُّيُونِ، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ تُوقَفُ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتُ، فَإِنْ أَسْلَمَ تَنْفُذُ، وَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ عَلَى رِدَّتِهِ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ وَقَضَى الْقَاضِي بِلَحَاقِهِ تَبْطُلُ، وَعِنْدَهُمَا تَنْفُذُ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتُ اهـ.

وَمِنْهُمْ الْإِمَامُ قَاضِي خَانْ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي فَتَاوَاهُ أَثْنَاءَ بَيَانِ الْوُجُوهِ الْأَرْبَعَةِ لِتَصَرُّفِ الْمُرْتَدِّ: وَمِنْهَا مَا اخْتَلَفُوا فِي تَوَقُّفِهِ نَحْوِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالْإِجَارَةِ وَالْإِعْتَاقِ وَالتَّدْبِيرِ وَالْكِتَابَةِ وَالْوَصِيَّةِ وَقَبْضِ الدُّيُونِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ: هَذِهِ التَّصَرُّفَاتُ مَوْقُوفَةٌ، فَإِنْ أَسْلَمَ نَفَذَتْ، وَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ أَوْ قُضِيَ بِلَحَاقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ تَبْطُلُ، وَعِنْدَ صَاحِبَيْهِ تَنْفُذُ فِي الْحَالِ اهـ.

إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الثِّقَاتِ، حَتَّى أَنَّ صَاحِبَ الْوِقَايَةِ قَالَ فِي بَابِ الْمُرْتَدِّ: وَتُوقَفُ مُفَاوَضَتُهُ وَبَيْعُهُ وَشِرَاؤُهُ وَهِبَتُهُ وَإِجَارَتُهُ وَتَدْبِيرُهُ وَوَصِيَّتُهُ، إنْ أَسْلَمَ نَفَذَ، وَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ أَوْ لَحِقَ وَحُكِمَ بِهِ بَطَلَ اهـ

(وَإِنْ كَانَ الْمُوَكِّلُ امْرَأَةً فَارْتَدَّتْ فَالْوَكِيلُ عَلَى وَكَالَتِهِ) أَيْ بِالْإِجْمَاعِ (حَتَّى تَمُوتَ أَوْ تَلْحَقَ بِدَارِ الْحَرْبِ لِأَنَّ رِدَّتَهَا لَا تُؤَثِّرُ فِي عُقُودِهَا) لِأَنَّهَا لَا تُقْتَلُ (عَلَى مَا عُرِفَ) فِي السِّيَرِ. قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بَعْدَ نَقْلِ هَذَا مِنْ الْهِدَايَةِ: وَيُعْلَمُ مِنْ هَذَا أَنَّ الرَّجُلَ

ص: 143

قَالَ (وَإِذَا وَكَّلَ الْمُكَاتَبُ ثُمَّ عَجَزَ أَوْ الْمَأْذُونُ لَهُ ثُمَّ حُجِرَ عَلَيْهِ أَوْ الشَّرِيكَانِ فَافْتَرَقَا، فَهَذِهِ الْوُجُوهُ تُبْطِلُ الْوَكَالَةَ عَلَى الْوَكِيلِ، عَلِمَ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ) لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ بَقَاءَ الْوَكَالَةِ يَعْتَمِدُ قِيَامَ الْأَمْرِ وَقَدْ بَطَلَ بِالْحَجْرِ وَالْعَجْزِ وَالِافْتِرَاقِ

الْمُوَكِّلَ إذَا ارْتَدَّ تَبْطُلُ وَكَالَتُهُ بِمُجَرَّدِ الِارْتِدَادِ بِدُونِ اللَّحَاقِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ فِي قَوْلِهِ السَّابِقِ وَارْتِدَادُهُ بَدَلُ قَوْلِهِ " وَلَحَاقُهُ بِدَارِ الْحَرْبِ مُرْتَدًّا " انْتَهَى.

أَقُولُ: هَذَا خَبْطٌ مِنْهُ، فَإِنَّهُ زَعَمَ أَنَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ فَالْوَكِيلُ عَلَى وَكَالَتِهِ حَتَّى تَمُوتَ أَوْ تَلْحَقَ بِدَارِ الْحَرْبِ أَنَّ وَكَالَتَهُ لَا تَبْطُلُ قَبْلَ مَوْتِ مُوَكِّلَتِهِ الْمُرْتَدَّةِ أَوْ لُحُوقِهَا بِدَارِ الْحَرْبِ، وَأُخِذَ مِنْهُ بِطَرِيقِ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ أَنَّ الرَّجُلَ الْمُوَكِّلَ إذَا ارْتَدَّ تَبْطُلُ وَكَالَتُهُ بِمُجَرَّدِ الِارْتِدَادِ بِدُونِ اللَّحَاقِ، وَلَيْسَ مُرَادُهُ ذَلِكَ، بَلْ مُرَادُهُ أَنَّ تَصَرُّفَ الْوَكِيلِ نَافِذٌ قَبْلَ مَوْتِ مُوَكِّلَتِهِ الْمُرْتَدَّةِ أَوْ لُحُوقِهَا بِدَارِ الْحَرْبِ بِالْإِجْمَاعِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْمُوَكِّلُ رَجُلًا فَارْتَدَّ فَإِنَّ تَصَرُّفَ الْوَكِيلِ لَيْسَ بِنَافِذٍ هُنَاكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بَعْدَ ارْتِدَادِ مُوَكِّلِهِ، بَلْ هُوَ مَوْقُوفٌ عِنْدَهُ عَلَى مَا مَرَّ بَيَانُهُ فَافْتَرَقَا. وَأَمَّا بُطْلَانُ الْوَكَالَةِ فَلَا يَتَحَقَّقُ فِي الصُّورَتَيْنِ مَعًا قَبْلَ الْمَوْتِ أَوْ اللُّحُوقِ بِدَارِ الْحَرْبِ فَانْتَظَمَ السِّبَاقُ وَاللَّحَاقُ. ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ كَوْنَ الْوَكِيلِ عَلَى وَكَالَتِهِ فِي صُورَةِ إنْ كَانَ الْمُوَكِّلُ امْرَأَةً فَارْتَدَّتْ فِيمَا خَلَا التَّوْكِيلَ بِالتَّزْوِيجِ فَإِنَّ رِدَّتَهَا تُخْرِجُ الْوَكِيلَ بِالتَّزْوِيجِ مِنْ الْوَكَالَةِ لِأَنَّهَا حِينَ كَانَتْ مَالِكَةً لِلْعَقْدِ وَقْتَ التَّوْكِيلِ تَثْبُتُ الْوَكَالَةُ فِي الْحَالِ، ثُمَّ بِرِدَّتِهَا تَخْرُجُ مِنْ أَنْ تَكُونَ مَالِكَةً لِلْعَقْدِ فَيَكُونُ ذَلِكَ عَزْلًا مِنْهَا لِوَكِيلِهَا، فَبَعْدَمَا انْعَزَلَ لَا يَعُودُ وَكِيلًا إلَّا بِالتَّجْدِيدِ، كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ.

وَذُكِرَ فِي الشُّرُوحِ

(قَالَ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ (وَإِذَا وَكَّلَ الْمُكَاتَبُ ثُمَّ عَجَزَ) أَيْ عَجَزَ عَنْ أَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ فَعَادَ إلَى الرِّقِّ (أَوْ الْمَأْذُونُ لَهُ) أَيْ أَوْ وَكَّلَ الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ لَهُ (ثُمَّ حُجِرَ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الْمَأْذُونِ لَهُ وَكَانَ التَّوْكِيلُ فِي هَاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ بِالْعُقُودِ أَوْ الْخُصُومَات (أَوْ الشَّرِيكَانِ) أَيْ أَوْ وَكَّلَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ ثَالِثًا بِشَيْءٍ مِمَّا لَمْ يَلِهِ بِنَفْسِهِ (فَافْتَرَقَا) أَيْ فَافْتَرَقَ الشَّرِيكَانِ بَعْدَ التَّوْكِيلِ (فَهَذِهِ الْوُجُوهُ) أَيْ الْعَجْزُ وَالْحَجْرُ وَالِافْتِرَاقُ (تُبْطِلُ الْوَكَالَةَ عَلَى الْوَكِيلِ عَلِمَ). أَيْ عَلِمَ الْوَكِيلُ بِذَلِكَ (أَوْ لَمْ يَعْلَمْ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ بَقَاءَ الْوَكَالَةِ يَعْتَمِدُ قِيَامَ الْأَمْرِ وَقَدْ بَطَلَ) أَيْ قِيَامُ الْأَمْرِ (بِالْحَجْرِ) فِي الْمَأْذُونِ لَهُ (وَالْعَجْزُ) فِي الْمُكَاتَبِ (وَالِافْتِرَاقُ) فِي الشَّرِيكَيْنِ، وَأَمَّا إذَا كَانَ تَوْكِيلُ الْمُكَاتَبِ أَوْ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ لَهُ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ أَوْ التَّقَاضِي فَلَا يَبْطُلُ ذَلِكَ التَّوْكِيلُ بِعَجْزِ الْمُكَاتَبِ وَلَا بِالْحَجْرِ عَلَى الْمَأْذُونِ لَهُ؛ لِأَنَّ فِي كُلِّ شَيْءٍ وَلِيَهُ الْعَبْدُ لَا تَسْقُطُ الْمُطَالَبَةُ عَنْهُ بِالْحَجْرِ عَلَيْهِ بَلْ يَبْقَى هُوَ مُطَالِبًا بِإِيفَائِهِ، وَلَهُ وِلَايَةُ مُطَالَبَةِ اسْتِيفَاءِ مَا وَجَبَ لَهُ لِأَنَّ وُجُوبَهُ كَانَ بِعَقْدِهِ، فَإِذَا بَقِيَ حَقُّهُ بَقِيَ وَكِيلُهُ عَلَى الْوَكَالَةِ كَمَا لَوْ وَكَّلَهُ ابْتِدَاءً بَعْدَ الْعَجْزِ أَوْ الْحَجْرِ بَعْدَ انْعِقَادِ الْعَقْدِ بِمُبَاشَرَةٍ، وَكَذَا إذَا وَكَّلَ أَحَدُ الْمُتَفَاوِضَيْنِ وَكِيلًا بِشَيْءٍ هُوَ وَلِيَهُ ثُمَّ افْتَرَقَا وَاقْتَسَمَا وَأَشْهَدَا أَنَّهُ لَا شَرِكَةَ بَيْنَهُمَا ثُمَّ أَمْضَى الْوَكِيلُ مَا وُكِّلَ بِهِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَوْ لَا يَعْلَمُ جَازَ ذَلِكَ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّ تَوْكِيلَ أَحَدِهِمَا فِي حَالِ بَقَاءِ عَقْدِ الْمُفَاوَضَةِ كَتَوْكِيلِهِمَا فَصَارَ وَكِيلًا مِنْ جِهَتِهِمَا جَمِيعًا فَلَا يَنْعَزِلُ بِنَقْضِهِمَا الشَّرِكَةَ بَيْنَهُمَا، كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ.

قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ نَقْلِ هَذَا عَنْ الْمَبْسُوطِ: وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَذَا لَا يَفْصِلُ بَيْنَ مَا وَلِيَهُ وَبَيْنَ مَا لَمْ يَلِهِ، فَمَا الْفَارِقُ؟ وَالْجَوَابُ أَنَّ أَحَدَ الْمُتَفَاوِضَيْنِ إذَا وُكِّلَ فِيمَا وَلِيَهُ كَانَ لِتَوْكِيلِهِ جِهَتَانِ: جِهَةُ مُبَاشَرَتِهِ، وَجِهَةُ كَوْنِهِ شَرِيكًا، فَإِنْ بَطَلَتْ جِهَةُ كَوْنِهِ شَرِيكًا بِفَسْخِ الشَّرِكَةِ لَمْ تَبْطُلْ الْأُخْرَى وَهِيَ مُسْتَنِدَةٌ إلَى حَالِ الْمُفَاوَضَةِ، وَتَوْكِيلُ أَحَدِهِمَا فِيهَا كَتَوْكِيلِهِمَا فَتَبْقَى فِي حَقِّهِمَا، وَإِذَا وُكِّلَ فِيمَا لَمْ يَلِهِ كَانَ لِتَوْكِيلِهِ جِهَةُ كَوْنِهِ شَرِيكًا لَا غَيْرُ قَدْ بَطَلَتْ بِفَسْخِ الشَّرِكَةِ فَتَبْطُلُ فِي حَقِّهِمَا جَمِيعًا إلَى هُنَا كَلَامُهُ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ إذَا وَكَّلَ أَحَدُ شَرِيكَيْ الْعِنَانِ وَكِيلًا بِبَيْعِ شَيْءٍ مِنْ شَرِكَتِهِمَا جَازَ عَلَيْهِ وَعَلَى صَاحِبِهِ اسْتِحْسَانًا، وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ وَكِيلٌ مِنْ جِهَةِ صَاحِبِهِ فِي التَّصَرُّفِ، وَلَيْسَ لِلْوَكِيلِ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ إذَا لَمْ يَأْمُرْهُ الْمُوَكِّلُ بِذَلِكَ.

وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ كُلًّا مِنْ الشَّرِيكَيْنِ فِي حَقِّ صَاحِبِهِ بِمَنْزِلَةِ وَكِيلٍ فُوِّضَ الْأَمْرُ إلَيْهِ عَلَى الْعُمُومِ، لِأَنَّ مَقْصُودَهُمَا تَحْصِيلُ الرِّبْحِ وَذَلِكَ قَدْ لَا يَحْصُلُ بِتَصَرُّفٍ

ص: 144

وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْعِلْمِ وَعَدَمِهِ لِأَنَّ هَذَا عَزْلٌ حُكْمِيٌّ فَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْعِلْمِ

وَاحِدٍ فَصَارَ مَأْذُونًا مِنْ جِهَةِ صَاحِبِهِ بِالتَّوْكِيلِ.

قَالَ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ: قَالَ الشَّيْخُ أَبُو نَصْرٍ الْبَغْدَادِيُّ: وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ جَمِيعُهُ جَارٍ عَلَى الْأَصْلِ إلَّا فِي الشَّرِيكَيْنِ. وَفِيمَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْكِتَابِ نَظَرٌ. إلَى هُنَا لَفْظُهُ، يَعْنِي أَنَّ أَحَدَ شَرِيكَيْ الْعِنَانِ أَوْ الْمُفَاوَضَةِ إذَا وَكَّلَ وَكِيلًا ثُمَّ افْتَرَقَا بَطَلَتْ الْوَكَالَةُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ خِلَافُ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى؛ أَلَا يَرَى إلَى مَا قَالَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ: وَإِذَا وَكَّلَ أَحَدُ الْمُتَفَاوِضَيْنِ وَكِيلًا بِشَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْت لَك وَهُوَ الَّذِي وَلِيَ ذَلِكَ ثُمَّ افْتَرَقَا وَاقْتَسَمَا وَأَشْهَدَا أَنَّهُ لَا شَرِكَةَ بَيْنَهُمَا ثُمَّ إنَّ الْوَكِيلَ أَمْضَى الَّذِي كَانَ وُكِّلَ بِهِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَوْ لَا يَعْلَمُ فَإِنَّهُ يَجُوزُ ذَلِكَ كُلُّهُ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا.

وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَا وَكَّلَاهُ جَمِيعًا لِأَنَّ وَكَالَةَ أَحَدِهِمَا جَائِزَةٌ عَلَى الْآخَرِ، وَلَيْسَ تَفَرُّقُهُمَا يَنْقُضُ الْوَكَالَةَ، إلَى هُنَا لَفْظُ مُحَمَّدٍ فِي بَابِ وَكَالَةِ أَحَدِ الْمُتَفَاوِضَيْنِ. ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الْغَايَةِ: وَالْعَجَبُ مِنْ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ أَنَّهُ أَبْهَمَ الْأَمْرَ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِكَلَامِ الْقُدُورِيِّ، وَالْغَالِبُ عَلَى ظَنِّي أَنَّ الْقُدُورِيَّ أَرَادَ بِذَلِكَ الْوَكَالَةَ الثَّانِيَةَ فِي عَقْدِ الشَّرِكَةِ لَا الْوَكَالَةَ الِابْتِدَائِيَّةَ الْقَصْدِيَّةَ؛ لِأَنَّ الْمُتَضَمِّنَ وَهُوَ عَقْدُ الشَّرِكَةِ إذَا بَطَلَ بَطَلَ مَا فِي ضِمْنِهِ لَا مَحَالَةَ، وَإِلَّا يَلْزَمْ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ مُخَالِفًا لِلرِّوَايَةِ لَا مَحَالَةَ انْتَهَى، أَقُولُ: إنَّ قَوْلَهُ وَإِلَّا يَلْزَمْ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ مُخَالِفًا لِلرِّوَايَةِ لَا مَحَالَةَ لَيْسَ بِتَامٍّ لَا مَحَالَةَ، إذْ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ الْوَكَالَةَ الِابْتِدَائِيَّةَ كَمَا هُوَ الْمُتَبَادَرُ مِنْ كَلَامِهِ لَا يَكُونُ مُخَالِفًا لِلرِّوَايَةِ الْمَذْكُورَةِ بِحَمْلِهِ عَلَى التَّوْكِيلِ بِشَيْءٍ لَمْ يَلِهِ الْمُوَكِّلُ بِنَفْسِهِ كَمَا فَصَّلْنَاهُ مِنْ قَبْلُ. وَفِي الرِّوَايَةِ الْمَذْكُورَةِ أَيْضًا إشَارَةٌ إلَى ذَلِكَ، فَإِنَّ قَوْلَ مُحَمَّدٍ فِي الْأَصْلِ: إذَا وَكَّلَ أَحَدُ الْمُتَفَاوِضَيْنِ وَكِيلًا بِشَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْت لَك وَهُوَ الَّذِي وَلِيَ ذَلِكَ احْتِرَازٌ عَنْ التَّوْكِيلِ بِشَيْءٍ لَمْ يَلِهِ الْمُوَكِّلُ بِنَفْسِهِ كَمَا لَا يَخْفَى. لَا يُقَالُ: مُرَادُ صَاحِبِ الْغَايَةِ وَإِلَّا يَلْزَمْ أَنْ يَكُونَ ظَاهِرُ إطْلَاقِ قَوْلِهِ مُخَالِفًا لِلرِّوَايَةِ فَلَا يُنَافِيهِ التَّطْبِيقُ بِتَقْيِيدٍ وَتَأْوِيلِهِ.

لِأَنَّا نَقُولُ: هَذَا الْمَعْنَى مُشْتَرَكُ الِالْتِزَامِ، فَلَا وَجْهَ لِذَلِكَ الْقَوْلِ بَعْدَ أَنْ قَيَّدَهُ أَيْضًا، وَأَوَّلَهُ بِتَأْوِيلٍ بَعِيدٍ كَمَا تَرَى (وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْعِلْمِ وَعَدَمِهِ) أَيْ لَا فَرْقَ فِي الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ بَيْنَ عِلْمِ الْوَكِيلِ بِسَبَبِ بُطْلَانِ الْوَكَالَةِ وَعَدَمِ عِلْمِهِ بِذَلِكَ (لِأَنَّ هَذَا عَزْلٌ حُكْمِيٌّ) أَيْ عَزْلٌ عَنْ طَرِيقِ الْحُكْمِ (فَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْعِلْمِ) إذْ الْعِلْمُ شَرْطٌ لِلْعَزْلِ الْقَصْدِيِّ

ص: 145

كَالْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ إذَا بَاعَهُ الْمُوَكِّلُ.

قَالَ (وَإِذَا مَاتَ الْوَكِيلُ أَوْ جُنَّ جُنُونًا مُطْبِقًا بَطَلَتْ الْوَكَالَةُ) لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَمْرُهُ بَعْدَ جُنُونِهِ وَمَوْتِهِ

(وَإِنْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ مُرْتَدًّا) لَمْ يَجُزْ لَهُ التَّصَرُّفُ إلَّا أَنْ يَعُودَ مُسْلِمًا قَالَ: وَهَذَا عِنْدَ مُحَمَّدٍ، فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا تَعُودُ الْوَكَالَةُ. لِمُحَمَّدٍ أَنَّ الْوَكَالَةَ إطْلَاقٌ لِأَنَّهُ

دُونَ الْعَزْلِ الْحُكْمِيِّ (كَالْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ إذَا بَاعَهُ الْمُوَكِّلُ) أَيْ إذَا بَاعَ مَا وَكَّلَ بِبَيْعِهِ الْمُوَكِّلُ حَيْثُ يَصِيرُ الْوَكِيلُ مَعْزُولًا حُكْمًا لِفَوَاتِ مَحَلِّ تَصَرُّفِ الْوَكِيلِ

(قَالَ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ (وَإِذَا مَاتَ الْوَكِيلُ أَوْ جُنَّ جُنُونًا مُطْبِقًا بَطَلَتْ الْوَكَالَةُ) لَمَّا فَرَّغَ مِنْ الْعَوَارِضِ الْمُبْطِلَةِ لِلْوَكَالَةِ مِنْ جَانِبِ الْمُوَكِّلِ شَرَعَ فِي الْعَوَارِضِ الْمُبْطِلَةِ لَهَا مِنْ جَانِبِ الْوَكِيلِ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِ مَا ذُكِرَ (لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَمْرُهُ) أَيْ أَمْرُ الْوَكِيلِ (بَعْدَ جُنُونِهِ وَمَوْتِهِ) وَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ لَا يَصِحُّ أَمْرُهُ مَصْدَرٌ مُضَافٌ إلَى الْمَفْعُولِ، وَمَعْنَاهُ الْأَمْرُ الَّذِي كَانَ مَأْمُورًا بِهِ لَمْ يَبْقَ صَحِيحًا، وَإِنَّمَا عَبَّرَ عَنْهُ بِذَلِكَ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ لِدَوَامِهِ حُكْمَ الِابْتِدَاءِ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ.

أَقُولُ: هَاهُنَا شَائِبَةُ الِاسْتِدْرَاكِ، إذْ لَا يَخْفَى عَلَى أُولِي النُّهَى أَنَّ ذِكْرَ كَوْنِ مَوْتِ الْوَكِيلِ مُبْطِلًا لِلْوَكَالَةِ قَلِيلُ الْجَدْوَى لِأَنَّهُ بَيِّنٌ غَنِيٌّ عَنْ الْبَيَانِ. لَا يُقَالُ: الْمُرَادُ بِذَلِكَ دَفْعُ احْتِمَالِ جَرَيَانِ الْإِرْثِ مِنْ الْوَكِيلِ فِي حَقِّ الْوَكَالَةِ. لِأَنَّا نَقُولُ: احْتِمَالُ ذَلِكَ مَعَ كَوْنِهِ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ فِي نَفْسِهِ بِنَاءً عَلَى ظُهُورِ أَنَّ الْمُوَكِّلَ رَضِيَ بِرَأْيِ الْوَكِيلِ لَا بِرَأْيِ غَيْرِهِ لَا يَنْدَفِعُ بِالتَّعْلِيلِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْوَكَالَةِ وَإِنْ لَمْ يَبْقَ صَحِيحًا بِالنَّظَرِ إلَى الْوَكِيلِ الْمَيِّتِ إلَّا أَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَبْقَى صَحِيحًا بِالنَّظَرِ إلَى وَارِثِهِ الْحَيِّ فَلَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ

(وَإِنْ لَحِقَ) أَيْ الْوَكِيلُ (بِدَارِ الْحَرْبِ مُرْتَدًّا لَمْ يَجُزْ لَهُ التَّصَرُّفُ إلَّا أَنْ يَعُودَ) مِنْ دَارِ الْحَرْبِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ (مُسْلِمًا) هَذَا إذَا حَكَمَ الْقَاضِي بِلَحَاقِهِ فَإِنَّهُ قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ فِي الْمَبْسُوطِ: وَإِنْ لَحِقَ الْوَكِيلُ بِدَارِ الْحَرْبِ مُرْتَدًّا فَإِنَّهُ لَا يَخْرُجُ عَنْ الْوَكَالَةِ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا مَا لَمْ يَقْضِ الْقَاضِي بِلَحَاقِهِ وَهَكَذَا أَشَارَ إلَيْهِ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ فِي مَبْسُوطِهِ حَيْثُ قَالَ: وَلَوْ ارْتَدَّ الْوَكِيلُ وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ انْتَقَضَتْ الْوَكَالَةُ لِانْقِطَاعِ الْعِصْمَةِ بَيْنَ مَنْ هُوَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَبَيْنَ مَنْ هُوَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَإِذَا قَضَى الْقَاضِي بِلَحَاقِهِ فَقَدَّرَ مَوْتَهُ أَوْ جَعَلَهُ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ فَتَبْطُلُ الْوَكَالَةُ انْتَهَى.

كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَغَيْرِهَا (قَالَ) أَيْ قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَهَذَا) أَيْ جَوَازُ التَّصَرُّفِ لِلْوَكِيلِ عِنْدَ عَوْدِهِ مُسْلِمًا (عِنْدَ مُحَمَّدٍ، فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا تَعُودُ الْوَكَالَةُ) أَيْ وَإِنْ عَادَ مُسْلِمًا (لِمُحَمَّدٍ أَنَّ الْوَكَالَةَ إطْلَاقٌ) أَيْ إطْلَاقُ التَّصَرُّفِ (لِأَنَّهُ) أَيْ الْوَكَالَةَ

ص: 146

رُفِعَ الْمَانِعُ. أَمَّا الْوَكِيلُ يَتَصَرَّفُ بِمَعَانٍ قَائِمَةٍ بِهِ وَإِنَّمَا عَجَزَ بِعَارِضِ اللَّحَاقِ لِتَبَايُنِ الدَّارَيْنِ، فَإِذَا زَالَ الْعَجْزُ وَالْإِطْلَاقُ بَاقٍ عَادَ وَكِيلًا. وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إثْبَاتُ وِلَايَةِ التَّنْفِيذِ، لِأَنَّ وِلَايَةَ أَصْلِ التَّصَرُّفِ بِأَهْلِيَّتِهِ وَوِلَايَةُ التَّنْفِيذِ بِالْمِلْكِ وَبِاللَّحَاقِ لَحِقَ بِالْأَمْوَاتِ وَبَطَلَتْ الْوِلَايَةُ فَلَا تَعُودُ كَمِلْكِهِ فِي أُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرِ

بِتَأْوِيلِ التَّوْكِيلِ أَوْ الْعَقْدِ أَوْ بِاعْتِبَارِ الْخَبَرِ (رُفِعَ الْمَانِعُ) فَإِنَّ الْوَكِيلَ كَانَ مَمْنُوعًا شَرْعًا عَنْ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي شَيْءٍ لِمُوَكِّلِهِ، فَإِذَا وَكَّلَهُ رُفِعَ الْمَانِعُ (أَمَّا الْوَكِيلُ يَتَصَرَّفُ بِمَعَانٍ قَائِمَةٍ بِهِ) أَيْ بِالْوَكِيلِ: يَعْنِي أَنَّ الْوَكِيلَ لَا يَحْدُثُ فِيهِ أَهْلِيَّةٌ وَوِلَايَةٌ، بَلْ إنَّمَا يَتَصَرَّفُ بِمَعَانٍ قَائِمَةٍ بِهِ وَهِيَ الْعَقْلُ وَالْقَصْدُ إلَى ذَلِكَ التَّصَرُّفِ وَالذِّمَّةُ الصَّالِحَةُ لَهُ.

(وَإِنَّمَا عَجَزَ) أَيْ وَإِنَّمَا عَجَزَ الْوَكِيلُ عَنْ التَّصَرُّفِ (بِعَارِضِ اللَّحَاقِ لِتَبَايُنِ الدَّارَيْنِ) يَعْنِي أَنَّ الْإِطْلَاقَ بَاقٍ مِنْ جِهَةِ الْمُوَكِّلِ بَعْدَ عُرُوضِ هَذَا الْعَارِضِ، وَلَكِنْ إنَّمَا عَجَزَ الْوَكِيلُ عَنْ التَّصَرُّفِ بِهَذَا الْعَارِضِ (فَإِذَا زَالَ الْعَجْزُ وَالْإِطْلَاقُ بَاقٍ عَادَ وَكِيلًا) وَفِي الْمَبْسُوطِ: وَمُحَمَّدٌ يَقُولُ: صَحَّتْ الْوَكَالَةُ لِحَقِّ الْمُوَكِّلِ وَحَقُّهُ قَائِمٌ بَعْدَ لَحَاقِ الْوَكِيلِ بِدَارِ الْحَرْبِ، وَلَكِنَّهُ عَجَزَ عَنْ التَّصَرُّفِ بِعَارِضٍ وَالْعَارِضُ عَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ، فَإِذَا زَالَ يَصِيرُ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ فَبَقِيَ الْوَكِيلُ عَلَى وَكَالَتِهِ فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ زَمَانًا ثُمَّ أَفَاقَ (وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ) أَيْ التَّوْكِيلَ (إثْبَاتُ وِلَايَةِ التَّنْفِيذِ) أَيْ تَمْلِيكُ وِلَايَةِ تَنْفِيذِ التَّصَرُّفِ فِي حَقِّ الْمُوَكِّلِ لِلْوَكِيلِ لَا إثْبَاتُ وِلَايَةِ أَصْلِ التَّصَرُّفِ لَهُ (لِأَنَّ وِلَايَةَ أَصْلِ التَّصَرُّفِ) ثَابِتَةٌ لَهُ (بِأَهْلِيَّتِهِ) لِجِنْسِ التَّصَرُّفِ فِي حَدِّ ذَاتِهِ (وَوِلَايَةُ التَّنْفِيذِ بِالْمِلْكِ) أَيْ وَتَمْلِيكُ وِلَايَةِ التَّنْفِيذِ مُلْصَقٌ بِالْمِلْكِ لِأَنَّ التَّمْلِيكَ بِلَا مِلْكٍ غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ فَكَانَ الْوَكِيلُ مَالِكًا لِلتَّنْفِيذِ بِالْوَكَالَةِ (وَبِاللَّحَاقِ) أَيْ بِاللَّحَاقِ بِدَارِ الْحَرْبِ (لَحِقَ) أَيْ الْوَكِيلُ (بِالْأَمْوَاتِ) فَبَطَلَ الْمِلْكُ (وَبَطَلَتْ الْوِلَايَةُ) أَيْ إذَا بَطَلَتْ الْوِلَايَةُ بَطَلَ التَّوْكِيلُ لِئَلَّا يَلْزَمَ تَخَلُّفُ الْمَعْلُولِ عَنْ الْعِلَّةِ (فَلَا تَعُودُ) أَيْ الْوِلَايَةُ: يَعْنِي إذَا بَطَلَتْ الْوِلَايَةُ فَلَا تَعُودُ (كَمِلْكِهِ فِي أُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرِ) فَإِنَّهُ إذَا لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ وَقَضَى الْقَاضِي بِلَحَاقِهِ تَعْتِقُ أُمُّ وَلَدِهِ وَمُدَبَّرُهُ ثُمَّ بِعَوْدِهِ مُسْلِمًا لَا يَعُودُ مِلْكُهُ فِيهِمَا وَلَا يَرْتَفِعُ الْعِتْقُ، فَكَذَلِكَ الْوِلَايَةُ الَّتِي بَطَلَتْ لَا تَعُودُ، وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ لَحِقَ بِالْأَمْوَاتِ إلَى أَنَّ وَضْعَ الْمَسْأَلَةَ فِيمَا إذَا قَضَى الْقَاضِي بِلَحَاقِهِ.

وَأَمَّا إذَا لَمْ يَقْضِ بِذَلِكَ فَلَا يَخْرُجُ الْوَكِيلُ عَنْ الْوَكَالَةِ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا كَمَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ: قَالَ صَاحِبُ

ص: 147

وَلَوْ عَادَ الْمُوَكِّلُ مُسْلِمًا وَقَدْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ مُرْتَدًّا لَا تَعُودُ الْوَكَالَةُ فِي الظَّاهِرِ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهَا تَعُودُ كَمَا قَالَ فِي الْوَكِيلِ. وَالْفَرْقُ لَهُ عَلَى الظَّاهِرِ أَنَّ مَبْنَى الْوَكَالَةِ فِي حَقِّ الْمُوَكِّلِ عَلَى الْمِلْكِ وَقَدْ زَالَ وَفِي حَقِّ الْوَكِيلِ عَلَى مَعْنًى قَائِمٍ بِهِ وَلَمْ يَزَلْ بِاللَّحَاقِ

الْعِنَايَةِ: بَقِيَ الْكَلَامُ فِي قَوْلِهِ: لِأَنَّ وِلَايَةَ أَصْلِ التَّصَرُّفِ بِأَهْلِيَّتِهِ فَإِنَّهُ بَعِيدُ التَّعَلُّقِ عَمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُهُ أَنَّهُ إثْبَاتُ وِلَايَةِ التَّنْفِيذِ إلَّا أَنْ يَتَكَلَّفَ فَيُقَالَ: الْوَكِيلُ لَهُ وِلَايَتَانِ: وِلَايَةُ أَصْلِ التَّصَرُّفِ، وَوِلَايَةُ التَّنْفِيذِ، وَالْأُولَى ثَابِتَةٌ لَهُ قَبْلَ التَّوْكِيلِ وَبَعْدَهُ، وَالثَّانِيَةُ لَمْ تَكُنْ ثَابِتَةً قَبْلَهُ، وَإِنَّمَا حَدَثَتْ بَعْدَهُ وَلَمْ يَتَجَدَّدْ عَلَيْهِ شَيْءٌ سِوَى التَّوْكِيلِ فَكَانَتْ ثَابِتَةً بِهِ انْتَهَى.

أَقُولُ: إنَّ قَوْلَهُ لِأَنَّ وِلَايَةَ أَصْلِ التَّصَرُّفِ بِأَهْلِيَّتِهِ لَيْسَ بِدَلِيلٍ عَلَى مَنْطُوقِ قَوْلِهِ إنَّهُ إثْبَاتُ وِلَايَةِ التَّنْفِيذِ حَتَّى يُتَوَهَّمَ أَنَّهُ بَعِيدُ التَّعَلُّقِ عَمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَيْهِ، بَلْ هُوَ دَلِيلٌ عَلَى مَفْهُومِ ذَلِكَ، وَهُوَ لَا إثْبَاتَ وِلَايَةِ أَصْلِ التَّصَرُّفِ كَمَا أَشَرْنَا إلَيْهِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ مِنْ قَبْلُ، فَالْمَعْنَى أَنَّ التَّوْكِيلَ إثْبَاتُ وِلَايَةِ التَّنْفِيذِ لِلْوَكِيلِ لَا إثْبَاتُ وِلَايَةِ أَصْلِ التَّصَرُّفِ لَهُ، حَتَّى يَجُوزَ أَنْ تَعُودَ الْوَكَالَةُ بِعَوْدِ الْوَكِيلِ مُسْلِمًا كَمَا قَالَهُ مُحَمَّدٌ؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ أَصْلِ التَّصَرُّفِ ثَابِتَةٌ لَهُ بِأَهْلِيَّتِهِ فِي حَدِّ ذَاتِهِ، فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يُثْبِتَهَا الْمُوَكِّلُ لَهُ بِالتَّوْكِيلِ، وَإِنْ لَمْ يَسْلَمْ اعْتِبَارُ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ فَنَقُولُ: هُوَ دَلِيلٌ عَلَى مُقَدِّمَةٍ مَطْوِيَّةٍ مَفْهُومَةٍ مِنْ الْكَلَامِ بِمَعُونَةِ قَرِينَةِ الْمَقَامِ وَهِيَ لَا إثْبَاتُ وِلَايَةِ التَّصَرُّفِ لَهُ فَلَا إشْكَالَ عَلَى كُلِّ حَالٍ

. (وَلَوْ عَادَ الْمُوَكِّلُ مُسْلِمًا وَقَدْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ مُرْتَدًّا) أَيْ وَقَدْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ مُرْتَدًّا وَقَضَى الْقَاضِي بِلَحَاقِهِ، صَرَّحَ بِهِ فِي الْمَبْسُوطِ وَغَيْرِهِ (لَا تَعُودُ الْوَكَالَةُ فِي الظَّاهِرِ) أَيْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ (وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهَا) أَيْ الْوَكَالَةَ (تَعُودُ كَمَا قَالَ فِي الْوَكِيلِ) وَفِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ يَقُولُ مُحَمَّدٌ: يَعُودُ الْوَكِيلُ عَلَى وَكَالَتِهِ فِي هَذَا الْفَصْلِ أَيْضًا لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ إذَا عَادَ مُسْلِمًا عَادَ إلَيْهِ مَالُهُ عَلَى قَدِيمِ مِلْكِهِ، وَقَدْ تَعَلَّقَتْ الْوَكَالَةُ بِقَدِيمِ مِلْكِهِ فَيَعُودُ الْوَكِيلُ عَلَى وَكَالَتِهِ، كَمَا لَوْ وُكِّلَ بِبَيْعِ عَبْدِهِ ثُمَّ بَاعَهُ الْمُوَكِّلُ بِنَفْسِهِ وَرُدَّ عَلَيْهِ بِعَيْبٍ بِقَضَاءِ الْقَاضِي عَادَ الْوَكِيلُ عَلَى وَكَالَتِهِ فَهَذَا مِثْلُهُ، كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ (وَالْفَرْقُ لَهُ عَلَى الظَّاهِرِ) يَعْنِي أَنَّ مُحَمَّدًا فَرَّقَ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ: أَيْ بَيْنَ ارْتِدَادِ الْوَكِيلِ وَبَيْنَ ارْتِدَادِ الْمُوَكِّلِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ حَيْثُ قَالَ بِعَوْدِ الْوَكَالَةِ فِي ارْتِدَادِ الْوَكِيلِ إذَا عَادَ مُسْلِمًا فِي جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ، وَبِعَدَمِ عَوْدِهَا فِي ارْتِدَادِ الْمُوَكِّلِ إذَا عَادَ مُسْلِمًا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ.

فَوَجْهُ الْفَرْقِ لَهُ عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ (أَنَّ مَبْنَى الْوَكَالَةِ فِي حَقِّ الْمُوَكِّلِ عَلَى الْمِلْكِ وَقَدْ زَالَ) أَيْ وَقَدْ زَالَ مِلْكُ الْمُوَكِّلِ بِرِدَّتِهِ وَالْقَضَاءِ بِلَحَاقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ فَبَطَلَتْ الْوَكَالَةُ عَلَى الْبَتَاتِ (وَفِي حَقِّ الْوَكِيلِ) أَيْ وَمَبْنَى الْوَكَالَةِ فِي حَقِّ الْوَكِيلِ (عَلَى مَعْنًى قَائِمٍ بِهِ) أَيْ بِالْوَكِيلِ كَمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ (وَلَمْ يَزَلْ) أَيْ وَلَمْ يَزَلْ الْمَعْنَى الْقَائِمُ بِهِ (بِاللَّحَاقِ) أَيْ بِلَحَاقِ الْوَكِيلِ بِدَارِ الْحَرْبِ وَقَضَاءِ الْقَاضِي بِهِ فَكَانَ مَحَلُّ تَصَرُّفِ الْوَكِيلِ بَاقِيًا، وَلَكِنَّهُ عَجَزَ عَنْ التَّصَرُّفِ بِعَارِضٍ عَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ، فَإِذَا زَالَ الْعَارِضُ صَارَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ كَمَا ذَكَرْنَا فِيمَا مَرَّ. وَأَمَّا أَبُو يُوسُفَ فَسَوَّى بَيْنَ

ص: 148

قَالَ (وَمَنْ وَكَّلَ آخَرَ بِشَيْءٍ ثُمَّ تَصَرَّفَ بِنَفْسِهِ فِيمَا وَكَّلَ بِهِ بَطَلَتْ الْوَكَالَةُ) وَهَذَا اللَّفْظُ يَنْتَظِمُ وُجُوهًا: مِثْلَ أَنْ يُوَكِّلَهُ بِإِعْتَاقِ عَبْدِهِ أَوْ بِكِتَابَتِهِ فَأَعْتَقَهُ أَوْ كَاتَبَهُ الْمُوَكِّلُ بِنَفْسِهِ أَوْ يُوَكِّلَهُ بِتَزْوِيجِ امْرَأَةٍ أَوْ بِشِرَاءِ شَيْءٍ فَفَعَلَهُ بِنَفْسِهِ أَوْ يُوَكِّلَهُ بِطَلَاقِ امْرَأَتِهِ فَطَلَّقَهَا الزَّوْجُ ثَلَاثًا أَوْ وَاحِدَةً وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا أَوْ بِالْخُلْعِ فَخَالَعَهَا، بِنَفْسِهِ لِأَنَّهُ لَمَّا

الْفَصْلَيْنِ حَيْثُ قَالَ بِعَدَمِ عَوْدِ الْوَكَالَةِ فِيهِمَا مَعًا

(قَالَ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ (وَمَنْ وَكَّلَ آخَرَ بِشَيْءٍ) مِنْ الْإِثْبَاتَاتِ أَوْ الْإِسْقَاطَاتِ (ثُمَّ تَصَرَّفَ) أَيْ الْمُوَكِّلُ (بِنَفْسِهِ فِيمَا وَكَّلَ بِهِ بَطَلَتْ الْوَكَالَةُ) إلَى هُنَا لَفْظُ الْقُدُورِيِّ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَهَذَا اللَّفْظُ يَنْتَظِمُ وُجُوهًا كَثِيرَةً) مِنْ الْمَسَائِلِ (مِثْلَ أَنْ يُوَكِّلَهُ) أَيْ الْآخَرُ (بِإِعْتَاقِ عَبْدِهِ) أَيْ عَبْدِ الْمُوَكِّلِ (أَوْ بِكِتَابَتِهِ) أَيْ بِكِتَابَةِ عَبْدِهِ (فَأَعْتَقَهُ) أَيْ أَعْتَقَ ذَلِكَ الْعَبْدَ (أَوْ كَاتَبَهُ الْمُوَكِّلُ بِنَفْسِهِ) فَإِنَّ الْوَكَالَةَ تَبْطُلُ حِينَئِذٍ (أَوْ يُوَكِّلَهُ بِتَزْوِيجِ امْرَأَةٍ) أَيْ أَوْ أَنْ يُوَكِّلَهُ بِتَزْوِيجِ امْرَأَةٍ مُعَيَّنَةٍ إيَّاهُ (أَوْ بِشِرَاءِ شَيْءٍ) أَيْ أَوْ أَنْ يُوَكِّلَهُ بِشِرَاءِ شَيْءٍ بِعَيْنِهِ لَهُ (فَفَعَلَهُ بِنَفْسِهِ) أَيْ فَفَعَلَ الْمُوَكِّلُ مَا وَكَّلَ بِهِ بِنَفْسِهِ بِأَنْ يَتَزَوَّجَهَا بِنَفْسِهِ أَوْ يَشْتَرِيَهُ بِنَفْسِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ كَانَ عَزْلًا لِلْوَكِيلِ فَتَبْطُلُ الْوَكَالَةُ (أَوْ يُوَكِّلَهُ بِطَلَاقِ امْرَأَتِهِ فَطَلَّقَهَا الزَّوْجُ) وَهُوَ الْمُوَكِّلُ (ثَلَاثًا) أَيْ ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ (أَوْ وَاحِدَةً) أَيْ أَوْ طَلَّقَهَا طَلْقَةً وَاحِدَةً (وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا) فَإِنَّ الْوَكَالَةَ تَبْطُلُ هُنَاكَ أَيْضًا، وَلَا يَكُونُ لِلْمُوَكِّلِ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يُطَلِّقَهَا، وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِالثَّلَاثِ وَقَيَّدَ الْوَاحِدَةَ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَالْمُرَادُ بِهَا مَا دُونَ الثَّلَاثِ لِأَنَّهُ إذَا وَكَّلَهُ بِالطَّلَاقِ ثُمَّ طَلَّقَهَا الْمُوَكِّلُ تَطْلِيقَةً وَاحِدَةً أَوْ ثِنْتَيْنِ بَائِنَةً كَانَتْ أَوْ رَجْعِيَّةً. فَإِنَّ لِلْوَكِيلِ أَنْ يُطَلِّقَهَا مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ، وَأَمَّا إذَا طَلَّقَهَا الْمُوَكِّلُ تَطْلِيقَاتٍ ثَلَاثًا فَلَا يَمْلِكُ الْوَكِيلُ طَلَاقَهَا لَا فِي الْعِدَّةِ وَلَا بَعْدَهَا، وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ مَا كَانَ الْمُوَكِّلُ فِيهِ قَادِرًا عَلَى الطَّلَاقِ كَانَ وَكِيلُهُ أَيْضًا قَادِرًا عَلَيْهِ، وَمَا لَا فَلَا، كَذَا ذَكَرَهُ فِي النِّهَايَةِ وَالْعِنَايَةِ.

أَقُولُ: فِي هَذَا الْأَصْلِ نَوْعُ إشْكَالٍ إذْ لِطَالِبٍ أَنْ يَطْلُبَ الْفَرْقَ حِينَئِذٍ بَيْنَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَبَيْنَ مَسْأَلَةِ التَّوْكِيلِ بِتَزْوِيجِ امْرَأَةٍ، فَإِنَّ الْمُوَكِّلَ هُنَاكَ لَوْ تَزَوَّجَهَا بِنَفْسِهِ ثُمَّ أَبَانَهَا لَمْ يَكُنْ لِلْوَكِيلِ أَنْ يُزَوِّجَهَا مِنْهُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي عَامَّةِ الْكُتُبِ، وَذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ أَيْضًا فِيمَا بَعْدُ، مَعَ أَنَّ الْمُوَكِّلَ قَادِرٌ عَلَى تَزَوُّجِهَا بِنَفْسِهِ مَرَّةً أُخْرَى فَلِمَ لَمْ يَقْدِرْ الْوَكِيلُ أَيْضًا عَلَى أَنْ يُزَوِّجَهَا مِنْهُ مَرَّةً أُخْرَى؟ وَعَلَّلَ فِي الْبَدَائِعِ عَدَمَ قُدْرَةِ الْوَكِيلِ عَلَيْهِ بِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْفِعْلِ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ، فَإِذَا فَعَلَ مَرَّةً حَصَلَ الِامْتِثَالُ فَانْتَهَى حُكْمُ الْأَمْرِ كَمَا فِي الْأَوَامِرِ الشَّرْعِيَّةِ.

وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا التَّعْلِيلَ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَقْدِرَ الْوَكِيلُ عَلَى التَّطْلِيقِ بَعْدَ تَطْلِيقِ الْمُوَكِّلِ مُطْلَقًا فِي مَسْأَلَةِ التَّوْكِيلِ بِالطَّلَاقِ أَيْضًا. فَإِنْ قِيلَ: بُطْلَانُ الْوَكَالَةِ فِي مَسْأَلَةِ التَّوْكِيلِ بِالتَّزْوِيجِ بِتَزْوِيجِ الْمُوَكِّلِ بِنَفْسِهِ بِنَاءً عَلَى انْقِضَاءِ الْحَاجَةِ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِيمَا بَعْدُ. قُلْنَا: قَدْ انْقَضَتْ الْحَاجَةُ فِي مَسْأَلَةِ التَّوْكِيلِ بِالطَّلَاقِ أَيْضًا بِتَطْلِيقِ الْمُوَكِّلِ بِنَفْسِهِ. لَا يُقَالُ: قَدْ تَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى تَكْرَارِ الطَّلَاقِ تَشْدِيدًا لِلْفُرْقَةِ. لِأَنَّا نَقُولُ: قَدْ تَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى التَّزَوُّجِ مَرَّةً أُخْرَى أَيْضًا فَلَمْ يَتَّضِحْ الْفَرْقُ فَتَأَمَّلْ (أَوْ بِالْخُلْعِ) أَيْ أَوْ أَنْ يُوَكِّلَهُ بِأَنْ يُخَالِعَ امْرَأَتَهُ (فَخَالَعَهَا) أَيْ فَخَالَعَهَا الْمُوَكِّلُ (بِنَفْسِهِ) فَإِنَّ الْوَكَالَةَ تَبْطُلُ هُنَاكَ أَيْضًا.

قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِ الْمَسَائِلِ الْمَذْكُورَةِ كُلِّهَا (لِأَنَّهُ) أَيْ الْمُوَكِّلَ (لَمَّا

ص: 149

تَصَرَّفَ بِنَفْسِهِ تَعَذَّرَ عَلَى الْوَكِيلِ التَّصَرُّفُ فَبَطَلَتْ الْوَكَالَةُ، حَتَّى لَوْ تَزَوَّجَهَا بِنَفْسِهِ وَأَبَانَهَا لَمْ يَكُنْ لِلْوَكِيلِ أَنْ يُزَوِّجَهَا مِنْهُ لِأَنَّ الْحَاجَةَ قَدْ انْقَضَتْ، بِخِلَافِ مَا إذَا تَزَوَّجَهَا الْوَكِيلُ وَأَبَانَهَا لَهُ أَنْ يُزَوِّجَ الْمُوَكِّلَ لِبَقَاءِ الْحَاجَةِ، وَكَذَا لَوْ وَكَّلَهُ بِبَيْعِ عَبْدِهِ فَبَاعَهُ بِنَفْسِهِ، فَلَوْ رُدَّ عَلَيْهِ بِعَيْبٍ بِقَضَاءِ قَاضٍ؛ فَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله أَنَّهُ لَيْسَ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَبِيعَهُ مَرَّةً أُخْرَى لِأَنَّ بَيْعَهُ بِنَفْسِهِ مَنْعٌ لَهُ مِنْ التَّصَرُّفِ فَصَارَ كَالْعَزْلِ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ رحمه الله: لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ مَرَّةً أُخْرَى لِأَنَّ الْوَكَالَةَ بَاقِيَةٌ لِأَنَّهُ إطْلَاقٌ وَالْعَجْزُ قَدْ زَالَ

تَصَرَّفَ) فِيمَا وَكَّلَ بِهِ (بِنَفْسِهِ تَعَذَّرَ عَلَى الْوَكِيلِ التَّصَرُّفُ) فِي ذَلِكَ لِامْتِنَاعِ تَحْصِيلِ الْحَاصِلِ (فَبَطَلَتْ الْوَكَالَةُ) فِي جَمِيعِ مَا ذُكِرَ (حَتَّى لَوْ تَزَوَّجَهَا) أَيْ لَوْ تَزَوَّجَ الْمُوَكِّلُ الْمَرْأَةَ الَّتِي وَكَّلَ الْآخَرَ بِتَزْوِيجِهَا مِنْهُ (بِنَفْسِهِ وَأَبَانَهَا) أَيْ أَبَانَهَا بَعْدَ أَنْ تَزَوَّجَهَا بِنَفْسِهِ. (لَمْ يَكُنْ لِلْوَكِيلِ أَنْ يُزَوِّجَهَا مِنْهُ) أَيْ لَمْ يَكُنْ لِلْوَكِيلِ أَنْ يُزَوِّجَ تِلْكَ الْمَرْأَةَ الْمُبَانَةَ مِنْ الْمُوَكِّلِ مَرَّةً أُخْرَى (لِأَنَّ الْحَاجَةَ قَدْ انْقَضَتْ) أَيْ لِأَنَّ حَاجَةَ الْمُوَكِّلِ قَدْ انْقَضَتْ بِتَزَوُّجِهَا بِنَفْسِهِ. أَقُولُ: هَاهُنَا كَلَامٌ: أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ تَفْرِيعَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِحَتَّى عَلَى التَّعْلِيلِ الَّذِي ذَكَرَهُ لِبُطْلَانِ الْوَكَالَةِ فِي الْمَسَائِلِ الْمَذْكُورَةِ لَيْسَ بِتَامٍّ؛ لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ إنَّمَا تَصَرَّفَ بِنَفْسِهِ فِي تَزَوُّجِهَا مَرَّةً أُولَى، فَهُوَ الَّذِي تَعَذَّرَ عَلَى الْوَكِيلِ التَّصَرُّفُ فِيهِ عَلَى مُوجِبِ التَّعْلِيلِ الْمَذْكُورِ.

وَفَحْوَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنْ لَا يَكُونَ لِلْوَكِيلِ تَزْوِيجُهَا مِنْ الْمُوَكِّلِ مَرَّةً أُخْرَى، وَلَا تَأْثِيرَ فِيهِ لِلتَّعْلِيلِ الْمَذْكُورِ لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ لَمْ يَتَصَرَّفْ بِنَفْسِهِ فِي هَذِهِ الْمَرَّةِ حَتَّى يَتَعَذَّرَ عَلَى الْوَكِيلِ التَّصَرُّفُ فِيهَا، فَالْأَوْلَى أَنْ يَتْرُكَ أَدَاةَ التَّفْرِيعِ وَيَذْكُرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِقْلَالِ كَمَا وَقَعَ فِي سَائِرِ الْمُعْتَبَرَاتِ.

وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ لِأَنَّ الْحَاجَةَ قَدْ انْقَضَتْ أَنَّ الْحَاجَةَ إلَى تَزَوُّجِهَا مَرَّةً أُولَى قَدْ انْقَضَتْ فَهُوَ مُسَلَّمٌ، وَلَكِنْ هَذَا لَا يُنَافِي بَقَاءَ الْحَاجَةِ إلَى تَزَوُّجِهَا مَرَّةً أُخْرَى فَلَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ، وَإِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ الْحَاجَةَ إلَى تَزَوُّجِهَا مُطْلَقًا قَدْ انْقَضَتْ فَهُوَ مَمْنُوعٌ، إذْ قَدْ يَحْتَاجُ الرَّجُلُ إلَى تَزَوُّجِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ مِرَارًا مُتَعَدِّدَةً لِأَسْبَابٍ دَاعِيَةٍ إلَيْهِ.

فَالْأَوْلَى فِي تَعْلِيلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَا ذُكِرَ فِي الْبَدَائِعِ مِنْ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْفِعْلِ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ، فَإِذَا فَعَلَ مَرَّةً حَصَلَ الِامْتِثَالُ فَانْتَهَى حُكْمُ الْأَمْرِ كَمَا فِي الْأَوَامِرِ الشَّرْعِيَّةِ (بِخِلَافِ مَا إذَا تَزَوَّجَهَا الْوَكِيلُ) أَيْ بِخِلَافِ مَا إذَا تَزَوَّجَ الْوَكِيلُ الْمَرْأَةَ الَّتِي وُكِّلَ بِتَزْوِيجِهَا مِنْ الْمُوَكِّلِ (وَأَبَانَهَا) أَيْ وَأَبَانَهَا بَعْدَ أَنْ تَزَوَّجَهَا حَيْثُ يَكُونُ (لَهُ أَنْ يُزَوِّجَ الْمُوَكِّلَ) تِلْكَ الْمَرْأَةَ الْمُبَانَةَ (لِبَقَاءِ الْحَاجَةِ) أَيْ لِبَقَاءِ حَاجَةِ الْمُوَكِّلِ إلَى تَزَوُّجِهَا (وَكَذَا لَوْ وَكَّلَهُ بِبَيْعِ عَبْدِهِ فَبَاعَهُ بِنَفْسِهِ) أَيْ فَبَاعَ الْمُوَكِّلُ ذَلِكَ الْعَبْدَ بِنَفْسِهِ يَعْنِي بَطَلَتْ الْوَكَالَةُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَيْضًا (فَلَوْ رُدَّ عَلَيْهِ) أَيْ فَلَوْ رُدَّ الْعَبْدُ عَلَى الْمُوَكِّلِ (بِعَيْبٍ بِقَضَاءِ قَاضٍ؛ فَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَبِيعَهُ مَرَّةً أُخْرَى) رَوَى ذَلِكَ عَنْهُ ابْنُ سِمَاعَةَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الذَّخِيرَةِ (لِأَنَّ بَيْعَهُ بِنَفْسِهِ) أَيْ لِأَنَّ بَيْعَ الْمُوَكِّلِ ذَلِكَ الْعَبْدَ بِنَفْسِهِ (مَنْعٌ لَهُ مِنْ التَّصَرُّفِ) حُكْمًا (فَصَارَ كَالْعَزْلِ) أَيْ فَصَارَ ذَلِكَ كَعَزْلِ الْوَكِيلِ عَنْ الْوَكَالَةِ فَلَا يَعُودُ وَكِيلًا إلَّا بِتَجْدِيدِ الْوَكَالَةِ (وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَهُ) أَيْ لِلْوَكِيلِ (أَنْ يَبِيعَهُ) أَيْ أَنْ يَبِيعَ ذَلِكَ الْعَبْدَ (مَرَّةً أُخْرَى لِأَنَّ الْوَكَالَةَ بَاقِيَةٌ لِأَنَّهُ) أَيْ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ بِتَأْوِيلِ التَّوْكِيلِ أَوْ الْعَقْدِ أَوْ بِاعْتِبَارِ الْخَبَرِ وَقَدْ مَرَّ غَيْرَ مَرَّةٍ (إطْلَاقُ) أَيْ إطْلَاقُ التَّصَرُّفِ وَهُوَ بَاقٍ وَالِامْتِنَاعُ إنَّمَا كَانَ لِعَجْزِ الْوَكِيلِ عَنْ التَّصَرُّفِ بِخُرُوجِ الْعَبْدِ عَنْ مِلْكِ الْمُوَكِّلِ (وَالْعَجْزُ قَدْ زَالَ) أَيْ وَعَجْزُ الْوَكِيلِ قَدْ

ص: 150

بِخِلَافِ مَا إذَا وَكَّلَهُ بِالْهِبَةِ فَوَهَبَ بِنَفْسِهِ ثُمَّ رَجَعَ لَمْ يَكُنْ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَهَبَ لِأَنَّهُ مُخْتَارٌ فِي الرُّجُوعِ فَكَانَ ذَلِكَ دَلِيلُ عَدَمِ الْحَاجَةِ. أَمَّا الرَّدُّ بِقَضَاءٍ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ فَلَمْ يَكُنْ دَلِيلُ زَوَالِ الْحَاجَةِ، فَإِذَا عَادَ إلَيْهِ قَدِيمُ مِلْكِهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

زَالَ بِعَوْدِ الْعَبْدِ إلَى قَدِيمِ مِلْكِ الْمُوَكِّلِ فَعَادَتْ الْوَكَالَةُ، وَإِنَّمَا قَيَّدَ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ عَلَى الْمُوَكِّلِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ إذَا قَبِلَهُ بِالْعَيْبِ بَعْدَ الْبَيْعِ بِغَيْرِ الْقَضَاءِ فَلَيْسَ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَبِيعَهُ مَرَّةً أُخْرَى بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ بِغَيْرِ الْقَضَاءِ كَالْعَقْدِ الْمُبْتَدَإِ فِي حَقِّ غَيْرِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَالْوَكِيلُ غَيْرُهُمَا، فَكَانَ فِي حَقِّ الْوَكِيلِ كَأَنَّ الْمُوَكِّلَ اشْتَرَاهُ ابْتِدَاءً.

وَاعْلَمْ أَنَّهُ ذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ مَسْأَلَةَ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ فِي جَوَازِ الْبَيْعِ لِلْوَكِيلِ، وَوَضَعَ الْمَسْأَلَةَ فِي الْأَمَةِ فَقَالَ: وَلَوْ بَاعَهَا الْوَكِيلُ أَوْ الْآمِرُ ثُمَّ رُدَّتْ بِعَيْبٍ بِقَضَاءِ قَاضٍ فَلِلْوَكِيلِ أَنْ يَبِيعَهَا لِأَنَّ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ بِقَضَاءِ قَاضٍ فَسْخٌ مِنْ الْأَصْلِ وَعَادَتْ إلَى قَدِيمِ مِلْكِ الْمُوَكِّلِ، وَإِنْ قَبِلَهَا الْمُوَكِّلُ بِالْعَيْبِ بِغَيْرِ قَضَاءٍ بَعْدَ قَبْضِ الْمُشْتَرِي لَمْ يَكُنْ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَبِيعَهَا، وَكَذَلِكَ إنْ تَقَايَلَا الْبَيْعَ فِيهَا لِأَنَّ هَذَا السَّبَبَ كَالْعَقْدِ الْمُبْتَدَإِ فِي حَقِّ غَيْرِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَالْوَكِيلُ غَيْرُهُمَا فَكَانَ فِي حَقِّ الْوَكِيلِ كَأَنَّ الْمُوَكِّلَ اشْتَرَاهَا ابْتِدَاءً، وَكَذَلِكَ إنْ رَجَعَتْ إلَى الْمُوَكِّلِ بِمِيرَاثٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ غَيْرِهِمَا بِمِلْكٍ جَدِيدٍ لَمْ يَكُنْ لِلْوَكِيلِ بَيْعُهَا؛ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ تَعَلَّقَتْ بِالْمِلْكِ الْأَوَّلِ، وَهَذَا مِلْكٌ جَدِيدٌ سِوَى الْأَوَّلِ فَلَا يَثْبُتُ فِيهِ حُكْمُ الْوَكَالَةِ إلَّا بِتَجْدِيدِ تَوْكِيلٍ مِنْ الْمَالِكِ انْتَهَى.

وَلَمْ يَذْكُرْ الْخِلَافَ أَيْضًا فِي الْمَسْأَلَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْأَصْلِ وَلَا فِي الْكَافِي لِلْحَاكِمِ الشَّهِيدِ وَلَا فِي شَرْحِهِ لِلْإِمَامِ عَلَاءِ الدِّينِ الْإِسْبِيجَابِيّ، وَلَكِنْ ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ فَقَالَ: قَالَ أَبُو يُوسُفَ رحمه الله: لَيْسَ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَبِيعَهُ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ.

ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ صَاحِبَ الْبَدَائِعِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الْخِلَافَ بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمَذْكُورَةِ قَالَ: وَلَوْ وَكَّلَهُ أَنْ يَهَبَ عَبْدَهُ فَوَهَبَهُ الْمُوَكِّلُ بِنَفْسِهِ ثُمَّ رَجَعَ فِي هِبَتِهِ لَا تَعُودُ الْوَكَالَةُ حَتَّى لَا يَمْلِكَ الْوَكِيلُ أَنْ يَهَبَهُ، مُحَمَّدٌ يَحْتَاجُ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ لَهُ لَمْ يَتَّضِحْ انْتَهَى.

فَقَدْ أَرَادَ الْمُصَنِّفُ بَيَانَ وَجْهِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ فَقَالَ (بِخِلَافِ مَا إذَا وَكَّلَهُ بِالْهِبَةِ فَوَهَبَ) أَيْ الْمُوَكِّلُ (بِنَفْسِهِ ثُمَّ رَجَعَ) عَنْ هِبَتِهِ حَيْثُ (لَمْ يَكُنْ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَهَبَ) مَرَّةً أُخْرَى بِالْإِجْمَاعِ (لِأَنَّهُ) أَيْ لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ الْوَاهِبَ بِنَفْسِهِ (مُخْتَارٌ فِي الرُّجُوعِ فَكَانَ ذَلِكَ) أَيْ كَانَ رُجُوعُهُ مُخْتَارًا (دَلِيلَ عَدَمِ الْحَاجَةِ) إلَى الْهِبَةِ، إذْ لَوْ كَانَ مُحْتَاجًا إلَيْهَا لَمَا رَجَعَ عَنْهَا فَكَانَ دَلِيلًا عَلَى نَقْضِ الْوَكَالَةِ (أَمَّا الرَّدُّ بِقَضَاءٍ) أَيْ أَمَّا رَدُّ الْمَبِيعِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي عَلَى الْمُوَكِّلِ الْبَائِعِ بِنَفْسِهِ فَهُوَ (بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ) أَيْ بِغَيْرِ اخْتِيَارِ الْمُوَكِّلِ الْبَائِعِ (فَلَمْ يَكُنْ دَلِيلَ زَوَالِ الْحَاجَةِ) إلَى الْبَيْعِ. أَقُولُ: مِنْ الْعَجَائِبِ هَاهُنَا أَنَّ الشَّارِحَ الْعَيْنِيَّ قَالَ فِي شَرْحِ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ: أَمَّا الرَّدُّ بِقَضَاءٍ: أَيْ أَمَّا رَدُّ الْهِبَةِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي، وَفِي شَرْحِ قَوْلِهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ: أَيْ اخْتِيَارِ الْوَاهِبِ حَيْثُ زَعَمَ أَنَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ بَيَانُ الْفَرْقِ بَيْنَ رَدِّ الْهِبَةِ بِالِاخْتِيَارِ وَبَيْنَ رَدِّهَا بِقَضَاءِ الْقَاضِي وَهَذَا مَعَ كَوْنِهِ غَيْرَ صَحِيحٍ فِي نَفْسِهِ كَيْفَ غَفَلَ عَنْ تَعَلُّقِ قَوْلِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا وَكَّلَهُ بِالْهِبَةِ بِمَا سَبَقَ مِنْ مَسْأَلَةِ تَوْكِيلِهِ بِالْبَيْعِ، وَمَاذَا يَقُولُ فِي قَوْلِهِ (فَإِذَا عَادَ إلَيْهِ) أَيْ إلَى الْمُوَكِّلِ (قَدِيمُ مِلْكِهِ كَانَ لَهُ) أَيْ لِلْوَكِيلِ (أَنْ يَبِيعَهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ) فَإِنَّهُ صَرِيحٌ فِي أَنَّ مُرَادَهُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ.

وَذُكِرَ فِي التَّتِمَّةِ قَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يُشْبِهُ الْهِبَةَ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ بِالْبَيْعِ لَا تَنْقَضِي بِمُبَاشَرَةِ الْبَيْعِ لِأَنَّ الْوَكِيلَ بَعْدَمَا بَاعَ يَتَوَلَّى حُقُوقَ الْعَقْدِ وَيَتَصَرَّفُ فِيهَا بِحُكْمِ الْوَكَالَةِ، فَإِذَا انْفَسَخَ الْبَيْعُ وَالْوَكَالَةُ بَاقِيَةٌ جَازَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ لَهُ ثَانِيًا بِحُكْمِهَا، أَمَّا الْوَكَالَةُ بِالْهِبَةِ فَتَنْقَضِي بِمُبَاشَرَةِ الْهِبَةِ حَتَّى لَا يَمْلِكَ الْوَكِيلُ الْوَاهِبُ الرُّجُوعَ وَلَا يَصِحُّ تَسْلِيمُهُ، فَإِذَا رَجَعَ الْمُوَكِّلُ فِي هِبَتِهِ عَادَ إلَيْهِ الْعَبْدُ وَلَا وَكَالَةَ فَلَا يَتَمَكَّنُ الْوَكِيلُ مِنْ الْهِبَةِ ثَانِيًا انْتَهَى. قَالَ فِي الْبَدَائِعِ: ثُمَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ الَّتِي ذَكَرْنَا أَنَّهُ يَخْرُجُ بِهَا الْوَكِيلُ عَنْ الْوَكَالَةِ سِوَى الْعَزْلِ وَالنَّهْيِ لَا يَفْتَرِقُ الْحَالُ فِيهَا بَيْنَ مَا إذَا عَلِمَ الْوَكِيلُ بِهَا أَوْ إذَا لَمْ يَعْلَمْ فِي حَقِّ الْخُرُوجِ عَنْ الْوَكَالَةِ، لَكِنْ تَقَعُ الْمُفَارَقَةُ فِيهَا بَيْنَ الْبَعْضِ

ص: 151

(كِتَابُ الدَّعْوَى)

وَالْبَعْضِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ الْمُوَكِّلَ إذَا بَاعَ الْعَبْدَ الْمُوَكَّلَ بِبَيْعِهِ بِنَفْسِهِ وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ الْوَكِيلُ وَقَبَضَ الثَّمَنَ فَهَلَكَ الثَّمَنُ فِي يَدِهِ وَمَاتَ الْعَبْدُ قَبْلَ التَّسْلِيمِ إلَى الْمُشْتَرِي يَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْوَكِيلِ بِالثَّمَنِ وَيَرْجِعُ الْوَكِيلُ عَلَى الْمُوَكِّلِ، فَكَذَا لَوْ دَبَّرَهُ وَأَعْتَقَهُ أَوْ اُسْتُحِقَّ أَوْ كَانَ حُرَّ الْأَصْلِ، وَفِيمَا إذَا مَاتَ الْمُوَكِّلُ أَوْ جُنَّ أَوْ هَلَكَ الْعَبْدُ الَّذِي وَكَّلَ بِبَيْعِهِ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ لَا يَرْجِعُ.

وَالْفَرْقُ أَنَّ الْوَكِيلَ هُنَاكَ وَإِنْ صَارَ مَعْزُولًا بِتَصَرُّفِ الْمُوَكِّلِ لَكِنَّهُ صَارَ مَغْرُورًا مِنْ جِهَتِهِ بِتَرْكِ إعْلَامِهِ إيَّاهُ فَصَارَ كَفِيلًا لَهُ بِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الضَّمَانِ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِضَمَانِ الْكَفَالَةِ أَوْ ضَمَانُ الْغُرُورِ فِي الْحَقِيقَةِ ضَمَانُ الْكَفَالَةِ، وَمَعْنَى الْغُرُورِ لَا يَتَقَرَّرُ فِي الْمَوْتِ وَهَلَاكِ الْعَبْدِ وَالْجُنُونِ وَأَخَوَاتِهَا فَهُوَ الْفَرْقُ.

وَلَوْ وَكَّلَهُ بِقَبْضِ دَيْنٍ لَهُ عَلَى رَجُلٍ ثُمَّ إنَّ الْمُوَكِّلَ وَهَبَ الْمَالَ لِلَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ وَالْوَكِيلُ لَا يَعْلَمُ بِذَلِكَ فَقَبَضَ الْوَكِيلُ الْمَالَ فَهَلَكَ فِي يَدِهِ كَانَ لِدَافِعِ الدَّيْنِ أَنْ يَأْخُذَ بِهِ الْمُوَكِّلَ وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْوَكِيلِ؛ لِأَنَّ يَدَ الْوَكِيلِ يَدُ نِيَابَةٍ عَنْ الْمُوَكِّلِ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ بِأَمْرِهِ وَقَبْضُ النَّائِبِ كَقَبْضِ الْمَنُوبِ عَنْهُ فَكَأَنَّهُ قَبَضَهُ بِنَفْسِهِ بَعْدَمَا وَهَبَهُ مِنْهُ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَرَجَعَ عَلَيْهِ، فَكَذَا هَذَا، إلَى هُنَا لَفْظُ الْبَدَائِعِ.

(كِتَابُ الدَّعْوَى)

لَمَّا كَانَتْ الْوَكَالَةُ بِالْخُصُومَةِ الَّتِي هِيَ أَشْهَرُ أَنْوَاعِ الْوَكَالَاتِ سَبَبًا دَاعِيًا إلَى الدَّعْوَى ذَكَرَ كِتَابَ الدَّعْوَى عَقِيبَ كِتَابِ الْوَكَالَةِ لِأَنَّ الْمُسَبِّبَ يَتْلُو السَّبَبَ. ثُمَّ إنَّ هَاهُنَا أُمُورًا مِنْ دَأْبِ الشُّرَّاحِ بَيَانُ أَمْثَالِهَا فِي أَوَائِلِ الْكُتُبِ، وَهِيَ مَعْنَى الدَّعْوَى لُغَةً وَشَرْعًا وَسَبَبُهَا وَشَرْطُهَا وَحُكْمُهَا وَنَوْعُهَا، فَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَهِيَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ قَوْلٍ يَقْصِدُ بِهِ الْإِنْسَانُ إيجَابَ حَقٍّ عَلَى غَيْرِهِ، وَفِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ: مُطَالَبَةُ حَقٍّ فِي مَجْلِسِ مَنْ لَهُ الْخَلَاصُ عِنْدَ ثُبُوتِهِ انْتَهَى. وَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ بِأَنَّ الْمُطَالَبَةَ مِنْ شَرَائِطِ صِحَّةِ الدَّعْوَى كَمَا سَيَجِيءُ فَلَا يَسْتَقِيمُ تَعْرِيفُهَا بِهَا لِلْمُبَايَنَةِ إلَّا أَنْ تُؤَوَّلَ بِالْمَشْرُوطِ بِالْمُطَالَبَةِ. أَقُولُ: هَذَا سَاقِطٌ لِأَنَّ كَوْنَ الْمُطَالَبَةِ مِنْ شَرَائِطِ صِحَّةِ الدَّعْوَى لَا يُنَافِي اسْتِقَامَةَ تَعْرِيفِ نَفْسِ الدَّعْوَى بِهَا، إذْ الْمُبَايَنَةُ لِصِحَّةِ الشَّيْءِ لَا تَقْتَضِي الْمُبَايَنَةَ لِذَلِكَ الشَّيْءِ؛ أَلَا يَرَى أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ مُبَايِنٌ لِصِحَّتِهِ لِكَوْنِهَا وَصْفًا مُغَايِرًا لَهُ وَلَيْسَ بِمُبَايِنٍ لِنَفْسِهِ قَطْعًا غَايَةُ مَا لَزِمَ هَاهُنَا أَنْ يَكُونَ صِحَّةُ الدَّعْوَى مَشْرُوطًا بِالْمُطَالَبَةِ الَّتِي هِيَ نَفْسُ الدَّعْوَى وَلَا مَحْذُورَ فِيهِ، فَإِنَّ صِحَّةَ الدَّعْوَى وَصْفٌ لَهَا وَتَحَقُّقُ الْوَصْفِ مَشْرُوطٌ بِتَحَقُّقِ الْمَوْصُوفِ دَائِمًا

ص: 152

قَالَ (الْمُدَّعِي مَنْ لَا يُجْبَرُ عَلَى الْخُصُومَةِ إذَا تَرَكَهَا وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَنْ يُجْبَرُ عَلَى الْخُصُومَةِ)

وَقَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ بَعْدَ بَيَانِ مَعْنَاهَا اللُّغَوِيِّ وَالشَّرْعِيِّ عَلَى وَجْهِ الْبَسْطِ وَالتَّفْصِيلِ: وَأَمَّا سَبَبُهَا فَمَا هُوَ السَّبَبُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي النِّكَاحِ وَالْبُيُوعِ؛ لِأَنَّ دَعْوَى الْمُدَّعِي لَا تَخْلُو إمَّا أَنْ تَكُونَ أَمْرًا رَاجِعًا إلَى إبْقَاءِ نَسْلِهِ أَوْ أَمْرًا رَاجِعًا إلَى بَقَاءِ نَفْسِهِ وَمَا يَتْبَعُهُمَا، وَكِلَاهُمَا قَدْ ذُكِرَا، وَأَمَّا شَرْطُ صِحَّتِهَا عَلَى الْخُصُوصِ فَمَجْلِسُ الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ الدَّعْوَى لَا تَصِحُّ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَجْلِسِ حَتَّى لَا يَجِبَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ جَوَابُ الْمُدَّعِي.

وَمِنْ شَرَائِطِ صِحَّتِهَا أَيْضًا أَنْ يَكُونَ دَعْوَى الْمُدَّعِي عَلَى خَصْمٍ حَاضِرٍ، وَأَنْ يَكُونَ الْمُدَّعَى بِهِ شَيْئًا مَعْلُومًا، وَأَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ حُكْمٌ عَلَى الْمَطْلُوبِ لِمَا أَنَّ الْفَاسِدَةَ مِنْ الدَّعْوَى هِيَ أَنْ لَا يَكُونَ الْخَصْمُ حَاضِرًا وَأَنْ يَكُونَ الْمُدَّعَى بِهِ مَجْهُولًا، لِأَنَّ عِنْدَ الْجَهَالَةِ لَا يُمْكِنُ لِلشُّهُودِ الشَّهَادَةُ وَلَا لِلْقَاضِي الْقَضَاءُ بِهِ، وَأَنْ لَا يَلْزَمَ عَلَى الْمَطْلُوبِ شَيْءٌ بِدَعْوَاهُ نَحْوُ أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّهُ وَكِيلُ هَذَا الْخَصْمِ الْحَاضِرِ فِي أَمْرٍ مِنْ أُمُورِهِ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ لَا يَسْمَعُ دَعْوَاهُ هَذِهِ إذَا أَنْكَرَ آخَرُ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ عَزْلُهُ فِي الْحَالِ. وَأَمَّا حُكْمُهَا فَوُجُوبُ الْجَوَابِ عَلَى الْخَصْمِ بِنَعَمْ أَوْ بِلَا، وَلِهَذَا وَجَبَ عَلَى الْقَاضِي إحْضَارُهُ مَجْلِسَ الْحُكْمِ حَتَّى يُوفِيَ مَا اُسْتُحِقَّ عَلَيْهِ مِنْ الْجَوَابِ. وَأَمَّا أَنْوَاعُهَا فَشَيْئَانِ: دَعْوَى صَحِيحَةٌ، وَدَعْوَى فَاسِدَةٌ.

فَالصَّحِيحَةُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا أَحْكَامُهَا وَهِيَ إحْضَارُ الْخَصْمِ وَالْمُطَالَبَةُ بِالْجَوَابِ وَالْيَمِينِ إذَا أَنْكَرَ، وَفِي مِثْلِ هَذِهِ الدَّعْوَى يُمْكِنُ إثْبَاتُ الْمُدَّعَى بِالْبَيِّنَةِ أَوْ بِالنُّكُولِ، وَالدَّعْوَى الْفَاسِدَةُ مَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا هَذِهِ الْأَحْكَامُ، وَفَسَادُ الدَّعْوَى بِأَحَدِ مَعْنَيَيْنِ: إمَّا أَنْ لَا يَكُونَ مُلْزِمًا لِلْخَصْمِ شَيْئًا وَإِنْ ثَبَتَتْ عَلَى مَا قُلْنَا مِنْ أَنْ يَدَّعِيَ عَلَى غَيْرِهِ أَنَّهُ وَكِيلُهُ. وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ مَجْهُولًا فِي نَفْسِهِ وَالْمَجْهُولُ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ بِالْبَيِّنَةِ فَلَا يَتَمَكَّنُ الْقَاضِي مِنْ الْقَضَاءِ بِالْمَجْهُولِ لَا بِالْبَيِّنَةِ وَلَا بِالنُّكُولِ انْتَهَى. أَقُولُ: فِي تَحْرِيرِهِ نَوْعُ اخْتِلَالٍ وَاضْطِرَابٍ. فَإِنَّ قَوْلَهُ وَأَمَّا شَرْطُ صِحَّتِهَا عَلَى الْخُصُوصِ إلَى قَوْلِهِ وَأَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ حُكْمٌ عَلَى الْمَطْلُوبِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِصِحَّتِهَا شُرُوطًا أَرْبَعَةً: وَهِيَ مَجْلِسُ الْقَضَاءِ، وَحُضُورُ الْخَصْمِ، وَكَوْنُ الْمُدَّعَى بِهِ شَيْئًا مَعْلُومًا وَأَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ حُكْمٌ عَلَى الْمَطْلُوبِ.

وَيَقْتَضِي هَذَا أَنْ يَكُونَ فَسَادُهَا بِأَحَدِ أُمُورٍ أَرْبَعَةٍ وَهِيَ: انْتِفَاءَاتُ هَذِهِ الشُّرُوطِ الْأَرْبَعَةِ، وَأَنَّ قَوْلَهُ لِمَا أَنَّ الْفَاسِدَةَ مِنْ الدَّعْوَى هِيَ أَنْ لَا يَكُونَ الْخَصْمُ حَاضِرًا إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ عَزْلُهُ فِي الْحَالِ يُشْعِرُ بِأَنَّ فَسَادَهَا إنَّمَا هُوَ بِأُمُورٍ ثَلَاثَةٍ، وَهِيَ عَدَمُ حُضُورِ الْخَصْمِ، وَأَنْ يَكُونَ الْمُدَّعَى بِهِ مَجْهُولًا، وَأَنْ لَا يَلْزَمَ عَلَى الْمَطْلُوبِ شَيْءٌ بِالدَّعْوَى بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُعَرَّفَ فَاللَّامُ الْجِنْسِ إذَا جُعِلَ مُبْتَدَأً كَمَا فِي قَوْلِهِ إنَّ الْفَاسِدَةَ مِنْ الدَّعْوَى فَهُوَ مَقْصُورٌ عَلَى الْخَبَرِ نَحْوُ: الْكَرَمُ التَّقْوَى. وَالْإِمَامُ مِنْ قُرَيْشٍ.

عَلَى مَا عُرِفَ فِي عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ، وَأَنَّ قَوْلَهُ وَفَسَادُ الدَّعْوَى بِأَحَدِ مَعْنَيَيْنِ إلَخْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فَسَادَهَا بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ لَا غَيْرُ؛ لِأَنَّ إضَافَةَ الْمَصْدَرِ كَمَا فِي قَوْلِهِ وَفَسَادُ الدَّعْوَى تُفِيدُ الْقَصْدَ نَحْوُ ضَرْبِي زَيْدًا فِي الدَّارِ عَلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ الْعَلَّامَةُ التَّفْتَازَانِيُّ فِي شَرْحِ التَّلْخِيصِ. ثُمَّ إنَّ قَوْلَهُ وَأَمَّا أَنْوَاعُهَا فَشَيْئَانِ لَا يَخْلُو عَنْ سَمَاجَةٍ ظَاهِرَةٍ حَيْثُ حَمَلَ التَّثْنِيَةَ عَلَى الْجَمْعِ بِالْمُوَاطَأَةِ (قَالَ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ (الْمُدَّعِي مَنْ لَا يُجْبَرُ عَلَى الْخُصُومَةِ إذَا تَرَكَهَا، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَنْ يُجْبَرُ عَلَى الْخُصُومَةِ) وَرَدَّ عَلَيْهِ صَاحِبُ الْإِصْلَاحِ وَالْإِيضَاحِ

ص: 153

وَمَعْرِفَةُ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا مِنْ أَهَمِّ مَا يُبْتَنَى عَلَيْهِ مَسَائِلُ الدَّعْوَى، وَقَدْ اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ الْمَشَايِخِ رحمهم الله فِيهِ، فَمِنْهَا مَا قَالَ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ حَدٌّ عَامٌّ صَحِيحٌ. وَقِيلَ الْمُدَّعِي مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ إلَّا بِحُجَّةٍ كَالْخَارِجِ، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَنْ يَكُونُ مُسْتَحِقًّا بِقَوْلِهِ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ كَذِي الْيَدِ

حَيْثُ قَالَ فِي مَتْنِهِ: الْمُدَّعِي مَنْ لَا يُجْبَرُ عَلَى الْخُصُومَةِ، وَقَالَ فِي شَرْحِهِ لَمْ يَقُلْ إذَا تَرَكَهَا كَمَا قَالَ الْقُدُورِيُّ وَمَنْ تَبِعَهُ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَجْبُورٍ حَالَتَيْ التَّرْكِ وَالْفِعْلِ، وَالْقَيْدُ الْمَذْكُورُ يُوهِمُ الِاخْتِصَاصَ انْتَهَى.

أَقُولُ: فِيهِ بَحْثٌ إذْ عَلَى تَقْدِيرِ تَرْكِ قِيلَ التَّرْكُ يَلْزَمُ أَنْ يُنْتَقَضَ تَعْرِيفُ الْمُدَّعِي بِالْمُدَّعَى عَلَيْهِ حَالَةَ الْفِعْلِ فَإِنَّهُ يَصْدُقُ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَنَّهُ لَا يُجْبَرُ عَلَى الْخُصُومَةِ ضَرُورَةَ عَدَمِ تَصَوُّرِ الْجَبْرِ عَلَى الْفِعْلِ حَالَةَ حُصُولِهِ، وَأَمَّا إيهَامُ الْقَيْدِ الْمَذْكُورِ الِاخْتِصَاصَ فَمَمْنُوعٌ لِانْدِفَاعِهِ بِشَهَادَةِ ضَرُورَةِ الْعَقْلِ عَلَى عَدَمِ تَصَوُّرِ الْجَبْرِ حَالَةَ الْفِعْلِ (وَمَعْرِفَةُ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا) أَيْ بَيْنَ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ (مِنْ أَهَمِّ مَا يُبْتَنَى عَلَيْهِ مَسَائِلُ الدَّعْوَى) فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» وَالْإِنْسَانُ قَدْ يَكُونُ مُدَّعِيًا صُورَةً وَمَعَ ذَلِكَ يَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ كَمَا فِي الْمُودَعِ إذَا ادَّعَى رَدَّ الْوَدِيعَةِ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ فَلَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَتِهِمَا (وَقَدْ اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ الْمَشَايِخِ رحمهم الله فِيهِ) أَيْ فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا (فَمِنْهَا مَا قَالَ فِي الْكِتَابِ) يَعْنِي مُخْتَصَرَ الْقُدُورِيِّ (وَهُوَ حَدٌّ عَامٌّ صَحِيحٌ، وَقِيلَ الْمُدَّعِي مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ إلَّا بِحُجَّةٍ) وَهِيَ الْبَيِّنَةُ أَوْ الْإِقْرَارُ أَوْ النُّكُولُ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَرَى أَنَّهُ لَيْسَ بِإِقْرَارٍ كَمَا سَيُعْلَمُ فِي بَابِ الْيَمِينِ (كَالْخَارِجِ، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَنْ يَكُونُ مُسْتَحَقًّا بِقَوْلِهِ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ كَذِي الْيَدِ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَهُوَ لَيْسَ بِعَامٍّ: أَيْ جَامِعٍ لِعَدَمِ تَنَاوُلِهِ صُورَةَ الْمُودَعِ إذَا ادَّعَى رَدَّ الْوَدِيعَةِ انْتَهَى.

أَقُولُ: يُمْكِنُ تَوْضِيحُ كَلَامِهِ وَتَقْرِيرُ مَرَامِهِ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ يُقْبَلُ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ قَوْلُ الْمُودَعِ مَعَ يَمِينِهِ كَمَا سَيَجِيءُ فِي الْكِتَابِ فَلَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا يُسْتَحَقُّ إلَّا بِحُجَّةٍ، وَثَانِيهِمَا أَنَّ الْمُودَعَ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا، فَلَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ بِحُجَّةٍ. ثُمَّ أَقُولُ: يُمْكِنُ الْجَوَابُ عَنْ الْوَجْهَيْنِ مَعًا أَنَّهُ سَيَجِيءُ فِي الْكِتَابِ أَنَّ الِاعْتِبَارَ عِنْدَ الْحُذَّاقِ مِنْ أَصْحَابِنَا لِلْمَعَانِي دُونَ الصُّوَرِ، فَلِهَذَا أَنَّ الْمُودَعَ إذَا قَالَ رَدَدْت الْوَدِيعَةَ فَالْقَوْلُ مَعَ الْيَمِينِ، وَإِنْ كَانَ مُدَّعِيًا لِلرَّدِّ صُورَةً لِأَنَّهُ يُنْكِرُ الضَّمَانَ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَدَارُ التَّعْرِيفِ الْمَذْكُورِ عَلَى الْمَعْنَى الْمُعْتَبَرِ دُونَ الصُّورَةِ، فَحِينَئِذٍ لَا ضَيْرَ فِي عَدَمِ تَنَاوُلِ تَعْرِيفِ الْمُدَّعِي صُورَةَ الْمُودَعِ إذَا ادَّعَى رَدَّ الْوَدِيعَةِ لِعَدَمِ كَوْنِهِ مُدَّعِيًا حَقِيقَةً أَوْ مَعْنًى. وَيُمْكِنُ جَوَابٌ آخَرُ عَنْ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الْمُودَعَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مُدَّعٍ رَدَّ الْوَدِيعَةِ لَا يَسْتَحِقُّ إلَّا بِحُجَّةٍ، وَأَمَّا اسْتِحْقَاقُهُ بِقَوْلِهِ فَإِنَّمَا هُوَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مُدَّعًى عَلَيْهِ، وَبِالْجُمْلَةِ قَيْدُ الْحَيْثِيَّةِ مُعْتَبَرٌ.

وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ قَوْلِهِ الْمَذْكُورِ: وَلَعَلَّهُ غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَنْ يَدْفَعُ اسْتِحْقَاقَ غَيْرِهِ انْتَهَى. أَقُولُ: وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ عَنْ هَذَا أَيْضًا بِأَنَّ دَفْعَ اسْتِحْقَاقِ غَيْرِهِ لَا يُنَافِي اسْتِحْقَاقَ نَفْسِهِ، بَلْ يَقْتَضِيهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْحُقُوقَ لَا تَتَحَقَّقُ بِدُونِ الْمُسْتَحِقِّ، فَكَوْنُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَنْ يَدْفَعُ اسْتِحْقَاقَ غَيْرِهِ لَا يُنَافِي صِحَّةَ تَعْرِيفِهِ بِمَنْ يَكُونُ مُسْتَحِقًّا بِقَوْلِهِ، وَعَنْ هَذَا قَالَ صَاحِبُ الْكَافِي وَصَاحِبُ الْكِفَايَةِ فِي بَيَانِ تَعْرِيفِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِمَنْ يَكُونُ مُسْتَحِقًّا بِقَوْلِهِ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ، فَإِنَّهُ إذَا قَالَ هُوَ لِي كَانَ مُسْتَحِقًّا لَهُ مَا لَمْ يُثْبِتْ الْغَيْرُ اسْتِحْقَاقَهُ. فَإِنْ قُلْت: صِيغَةُ الْفِعْلِ تُفِيدُ التَّجَدُّدَ وَالْحُدُوثَ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ فَيَكُونُ مَعْنَى

ص: 154

وَقِيلَ الْمُدَّعِي مَنْ يَتَمَسَّكُ بِغَيْرِ الظَّاهِرِ وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَنْ يَتَمَسَّكُ بِالظَّاهِرِ

مَنْ يَكُونُ مُسْتَحِقًّا بِقَوْلِهِ مَنْ يَتَجَدَّدُ وَيَحْدُثُ اسْتِحْقَاقُهُ بِقَوْلِهِ مَعَ أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَا يَتَجَدَّدُ وَلَا يَحْدُثُ بِقَوْلِهِ بَلْ يَكُونُ بَاقِيًا عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ الدَّعْوَى.

قُلْت: هَذِهِ مُنَاقَشَةٌ لَفْظِيَّةٌ يُمْكِنُ دَفْعُهَا أَيْضًا بِأَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ بِمَنْ يَكُونُ مُسْتَحِقًّا بِقَوْلِهِ مَنْ يَكُونُ ثَابِتًا عَلَى الِاسْتِحْقَاقِ بِقَوْلِهِ عَلَى أَنْ يَكُونَ مُسْتَحِقًّا مَجَازًا ثَابِتًا عَلَى الِاسْتِحْقَاقِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ كَذِي الْيَدِ، وَنَظِيرُ هَذَا مَا ذَكَرَهُ الْمُفَسِّرُونَ فِي قَوْله تَعَالَى {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} مِنْ أَنَّ مَعْنَاهُ ثَبِّتْنَا عَلَى هُدَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ؛ فَاَلَّذِي يَلْزَمُ حِينَئِذٍ مِنْ صِيغَةِ الْفِعْلِ فِي تَعْرِيفِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِمَا ذُكِرَ أَنْ يَتَجَدَّدَ الثَّبَاتُ عَلَى الِاسْتِحْقَاقِ لَا أَنْ يَتَجَدَّدَ نَفْسُ الِاسْتِحْقَاقِ وَلَا مَحْذُورَ فِيهِ. وَأَجَابَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ عَمَّا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بِوَجْهٍ آخَرَ حَيْثُ قَالَ: قَدْ مَرَّ فِي الدَّرْسِ السَّابِقِ أَنَّ لِدَوَامِ الْأُمُورِ الْمُسْتَمِرَّةِ الْغَيْرِ اللَّازِمَةِ حُكْمَ الِابْتِدَاءِ، مَعَ أَنَّ فِي الْعُدُولِ مِنْ أَنْ يَقُولَ مَنْ يَسْتَحِقُّ بِقَوْلِهِ إلَى قَوْلِهِ مَنْ يَكُونُ مُسْتَحِقًّا بِقَوْلِهِ إيمَاءً إلَى دَفْعِ هَذَا الْكَلَامِ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ مَنْ يَكُونُ اسْتِحْقَاقُهُ دَائِمًا لِدَلَالَةِ الِاسْمِ عَلَى الدَّوَامِ وَالثَّبَاتِ اهـ.

أَقُولُ: فِي كُلٍّ مِنْ شِقَّيْ جَوَابِهِ نَظَرٌ: أَمَّا فِي شِقِّهِ الْأَوَّلِ فَلِأَنَّا سَلَّمْنَا أَنَّ لِدَوَامِ التَّصَرُّفَاتِ الْغَيْرِ اللَّازِمَةِ حُكْمَ الِابْتِدَاءِ عَلَى مَا مَرَّ فِي أَوَائِلِ الْبَابِ السَّابِقِ، وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ ذَلِكَ الْقَبِيلِ فَتَأَمَّلْ. وَأَمَّا فِي شِقِّهِ الثَّانِي لَا يَذْهَبُ عَلَى مَنْ لَهُ دُرْبَةٌ بِالْعُلُومِ الْأَدَبِيَّةِ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَقُولَ مَنْ يَسْتَحِقُّ بِقَوْلِهِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ مَنْ يَكُونُ مُسْتَحِقًّا بِقَوْلِهِ فِي إفَادَةِ التَّجَدُّدِ وَالْحُدُوثِ، لِأَنَّ صِلَةَ مَنْ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جُمْلَةٌ فِعْلِيَّةٌ فَتَدُلُّ عَلَى التَّجَدُّدِ وَالْحُدُوثِ قَطْعًا، وَكَوْنُ الْخَبَرِ اسْمًا فِي الثَّانِيَةِ مِمَّا لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي إفَادَةِ الدَّوَامِ وَالثَّبَاتِ أَصْلًا، عَلَى أَنَّ الثِّقَاتِ مِنْ مُحَقِّقِي النُّحَاةِ كَالرَّضِيِّ وَأَضْرَابِهِ صَرَّحُوا بِأَنَّ ثُبُوتَ خَبَرِ بَابِ كَانَ مُقْتَرِنٌ بِالزَّمَانِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ صِيغَةُ الْفِعْلِ النَّاقِصِ، إمَّا مَاضِيًا أَوْ حَالًا أَوْ اسْتِقْبَالًا، فَكَانَ لِلْمَاضِي وَيَكُونُ لِلْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ وَكُنْ لِلِاسْتِقْبَالِ. وَقَالَ الْفَاضِلُ الرَّضِيُّ: وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّ كَانَ يَدُلُّ عَلَى اسْتِمْرَارِ مَضْمُونِ الْخَبَرِ فِي جَمِيعِ الزَّمَنِ الْمَاضِي، وَشُبْهَتُهُ قَوْله تَعَالَى {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} وَذَهِلَ أَنَّ الِاسْتِمْرَارَ مُسْتَفَادٌ مِنْ قَرِينَةِ وُجُوبِ كَوْنِ اللَّهِ سَمِيعًا بَصِيرًا لَا مِنْ لَفْظِ كَانَ؛ أَلَا يَرَى أَنَّهُ يَجُوزُ كَانَ زَيْدٌ نَائِمًا فَاسْتَيْقَظَ، وَكَانَ قِيَاسُ مَا قَالَ أَنْ يَكُونَ كُنْ وَيَكُونُ لِلِاسْتِمْرَارِ أَيْضًا.

وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ فَكَانَ تَكُونُ نَاقِصَةً لِثُبُوتِ خَبَرِهَا دَائِمًا أَوْ مُنْقَطِعًا رَدٌّ عَلَى ذَلِكَ الْقَائِلِ يَعْنِي أَنَّهُ يَجِيءُ دَائِمًا كَمَا فِي الْآيَةِ، وَمُنْقَطِعًا كَمَا فِي قَوْلِك كَانَ زَيْدٌ قَائِمًا، وَلَمْ يَدُلَّ لَفْظُ كَانَ عَلَى أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ بَلْ ذَلِكَ إلَى الْقَرِينَةِ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ. فَقَدْ تَقَرَّرَ مِنْ هَذَا أَنَّهُ لَا دَوَامَ فِي مَضْمُونِ خَبَرِ كَانَ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ، وَإِنَّمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْبَعْضُ ذُهُولًا. وَأَمَّا الدَّوَامُ فِي خَبَرِ يَكُونُ الَّذِي كَلَامُنَا فِيهِ فَمِمَّا لَمْ يَذْهَبْ إلَيْهِ أَحَدٌ قَطُّ، فَمَا ذَكَرَهُ ذَلِكَ الْمُجِيبُ خَارِجٌ عَنْ قَوَاعِدِ الْعَرَبِيَّةِ بِالْكُلِّيَّةِ، نَعَمْ لَوْ كَانَ الْمَذْكُورُ فِي التَّعْرِيفِ مَنْ هُوَ مُسْتَحِقٌّ بِقَوْلِهِ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ لَتَمَّ الْفَرْقُ وَلَيْسَ فَلَيْسَ (وَقِيلَ الْمُدَّعِي مَنْ يَتَمَسَّكُ بِغَيْرِ الظَّاهِرِ وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَنْ يَتَمَسَّكُ بِالظَّاهِرِ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَلَعَلَّهُ مَنْقُوضٌ بِالْمُودَعِ فَإِنَّهُ مُدَّعًى عَلَيْهِ، وَلَيْسَ بِمُتَمَسِّكٍ بِالظَّاهِرِ إذْ رَدُّ الْوَدِيعَةِ لَيْسَ بِظَاهِرٍ؛ لِأَنَّ الْفَرَاغَ لَيْسَ بِأَصْلٍ بَعْدَ الِاشْتِغَالِ، وَلِهَذَا قُلْنَا: إذَا ادَّعَى الْمَدْيُونُ بَرَاءَةَ ذِمَّتِهِ بِدَفْعِ الدَّيْنِ إلَى وَكِيلِ رَبِّ الْمَالِ وَهُوَ يُنْكِرُ الْوَكَالَةَ فَالْقَوْلُ لِرَبِّ الْمَالِ لِأَنَّ الْمَدْيُونَ يَدَّعِي بَرَاءَةً بَعْدَ الشُّغْلِ فَكَانَتْ عَارِضَةً، وَالشُّغْلُ أَصْلٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يُورِدَ بِالْعَكْسِ بِأَنَّهُ مُدَّعٍ وَيَتَمَسَّكُ بِالظَّاهِرِ وَهُوَ عَدَمُ الضَّمَانِ اهـ.

أَقُولُ: فِيهِ بَحْثٌ، إذْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمُودَعَ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُدَّعًى عَلَيْهِ

ص: 155

وَقَالَ مُحَمَّدٌ رحمه الله فِي الْأَصْلِ: الْمُدَّعَى عَلَيْهِ هُوَ الْمُنْكِرُ، وَهَذَا صَحِيحٌ لَكِنَّ الشَّأْنَ فِي مَعْرِفَتِهِ وَالتَّرْجِيحُ بِالْفِقْهِ عِنْدَ الْحُذَّاقِ مِنْ أَصْحَابِنَا رحمهم الله لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ لِلْمَعَانِي دُونَ الصُّوَرِ، فَإِنَّ الْمُودَعَ إذَا قَالَ رَدَدْت الْوَدِيعَةَ فَالْقَوْلُ لَهُ مَعَ الْيَمِينِ وَإِنْ كَانَ مُدَّعِيًا لِلرَّدِّ صُورَةً لِأَنَّهُ يُنْكِرُ الضَّمَانَ.

لَيْسَ هُوَ بِمُتَمَسِّكٍ بِالظَّاهِرِ. قَوْلُهُ إذْ رَدُّ الْوَدِيعَةِ لَيْسَ بِظَاهِرٍ. قُلْنَا: مُسَلَّمٌ لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ تَمَسُّكَهُ بِهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُدَّعًى عَلَيْهِ، بَلْ هُوَ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ مُتَمَسِّكٌ بِعَدَمِ الضَّمَانِ وَهُوَ الظَّاهِرُ، وَكَذَا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُدَّعٍ يَتَمَسَّكُ بِالظَّاهِرِ بَلْ هُوَ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ مُلْتَمِسٌ غَيْرَ الظَّاهِرِ وَهُوَ رَدُّ الْوَدِيعَةِ.

وَالْحَاصِلُ أَنَّ صَاحِبَ الْعِنَايَةِ زَعَمَ حَيْثِيَّةَ كَوْنِ الْمُودَعِ مُدَّعِيًا حَيْثِيَّةَ كَوْنِهِ مُدَّعًى عَلَيْهِ وَبِالْعَكْسِ فَأَوْرَدَ النَّقْضَ عَلَى تَعْرِيفِهِمَا، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا زَعَمَهُ، كَيْفَ وَلَوْ تَمَّ مَا زَعَمَهُ لَوْ رُدَّ النَّقْضُ بِالْمُودَعِ إذَا ادَّعَى رَدَّ الْوَدِيعَةِ عَلَى التَّعْرِيفِ الْأَوَّلِ أَيْضًا بِأَنَّهُ مُدَّعٍ رَدَّ الْوَدِيعَةِ وَيُجْبَرُ عَلَى الْخُصُومَةِ مَعَ أَنَّهُمْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ حَدٌّ عَامٌّ صَحِيحٌ.

ثُمَّ إنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ كُلَّهُ عَلَى تَسْلِيمِ اعْتِبَارِ جَانِبِ الصُّورَةِ أَيْضًا فِيمَا إذَا ادَّعَى الْمُودَعُ رَدَّ الْوَدِيعَةِ، وَأَمَّا عَلَى تَقْدِيرِ إنْ كَانَ الْمُعْتَبَرُ هُوَ جَانِبُ الْمَعْنَى دُونَ جَانِبِ الصُّورَةِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَسَيَجِيءُ فِي الْكِتَابِ فَلَا يَتَوَجَّهُ النَّقْضُ بِالْعَكْسِ أَصْلًا. وَاعْتَرَضَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ عَلَى بَعْضِ مُقَدِّمَاتِ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ هَاهُنَا حَيْثُ قَالَ: فِيهِ كَلَامٌ، وَهُوَ أَنَّ فِي صُورَةِ الْوَدِيعَةِ لَيْسَ فِي ذِمَّةِ الْمُودَعِ شَيْءٌ مِنْ الْمَالِ حَتَّى يَكُونَ دَعْوَى الرَّدِّ مِنْهُ دَعْوَى الْبَرَاءَةِ بَعْدَ الشُّغْلِ، بَلْ إنَّمَا هِيَ مُجَرَّدُ إنْكَارِ الضَّمَانِ وَثُبُوتُ الشَّيْءِ فِي ذِمَّتِهِ، بِخِلَافِ صُورَةِ الدَّيْنِ، وَأُشِيرَ إلَى هَذَا فِي الْكَافِي اهـ. أَقُولُ: نَعَمْ قَدْ أُشِيرَ إلَيْهِ، بَلْ صَرَّحَ بِهِ فِي الْكَافِي وَعَامَّةِ الشُّرُوحِ.

وَالظَّاهِرُ أَنَّ صَاحِبَ الْعِنَايَةِ رَآهُ وَاطَّلَعَ عَلَيْهِ وَلَكِنْ بَعْدَ ذَلِكَ لَهُ أَنْ يَقُولَ سَلَّمْنَا أَنَّ فِي صُورَةِ الْوَدِيعَةِ لَيْسَ فِي ذِمَّةِ الْمُودَعِ شَيْءٌ مِنْ الْمَالِ، وَلَكِنْ فِي عُهْدَتِهِ حِفْظُ مَالِ الْوَدِيعَةِ، إذْ قَدْ تَقَرَّرَ فِي كِتَابِ الْوَدِيعَةِ أَنَّهَا عَقْدُ اسْتِحْفَاظٍ، وَأَنَّ حُكْمَهَا وُجُوبُ الْحِفْظِ عَلَى الْمُودَعِ فَكَانَ دَعْوَى الرَّدِّ مِنْهُ دَعْوَى الْبَرَاءَةِ بَعْدَ اشْتِغَالِ ذِمَّتِهِ بِالْحِفْظِ، وَالْفَرَاغُ لَيْسَ بِأَصْلٍ بَعْدَ الِاشْتِغَالِ فَيَتَمَشَّى كَلَامُهُ، وَيَتِمُّ مَرَامُهُ وَأَمَّا قَوْلُهُ وَلِهَذَا قُلْنَا إذَا ادَّعَى الْمَدْيُونُ بَرَاءَةَ ذِمَّتِهِ بِدَفْعِ الدَّيْنِ إلَخْ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَبْنِيًّا عَلَى مُجَرَّدِ الِاشْتِرَاكِ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ فِي كَوْنِ الْفَرَاغِ لَيْسَ بِأَصْلٍ بَعْدَ الِاشْتِغَالِ، وَإِنْ كَانَتَا مُخْتَلِفَتَيْنِ بِكَوْنِ الِاشْتِغَالِ فِي إحْدَاهُمَا بِالْمَالِ وَفِي الْأُخْرَى بِالْحِفْظِ، فَاَلَّذِي يَقْطَعُ عِرْقَ إيرَادِ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ هَاهُنَا مَا قَدَّمْنَاهُ لَا غَيْرُ (وَقَالَ مُحَمَّدٌ رحمه الله: فِي الْأَصْلِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ هُوَ الْمُنْكِرُ، وَهَذَا صَحِيحٌ) لِمَا وَرَدَ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» وَرُوِيَ «الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ» (لَكِنَّ الشَّأْنَ فِي مَعْرِفَتِهِ) أَيْ مَعْرِفَةِ الْمُنْكِرِ (وَالتَّرْجِيحِ بِالْفِقْهِ) أَيْ بِالْمَعْنَى دُونَ الصُّورَةِ (عِنْدَ الْحُذَّاقِ مِنْ أَصْحَابِنَا رحمهم الله لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ لِلْمَعَانِي دُونَ الصُّوَرِ فَإِنَّ الْمُودَعَ إذَا قَالَ رَدَدْت الْوَدِيعَةَ فَالْقَوْلُ لَهُ مَعَ الْيَمِينِ وَإِنْ كَانَ مُدَّعِيًا لِلرَّدِّ صُورَةً لِأَنَّهُ يُنْكِرُ الضَّمَانَ) تَعْلِيلٌ لِقَوْلِهِ فَالْقَوْلُ لَهُ مَعَ الْيَمِينِ.

قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: يَعْنِي إذَا تَعَارَضَ الْجِهَتَانِ فِي صُورَةٍ فَالتَّرْجِيحُ لِإِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى يَكُونُ بِالْفِقْهِ: أَيْ بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى دُونَ الصُّورَةِ، فَإِنَّ الْمُودَعَ إذَا قَالَ رَدَدْت الْوَدِيعَةَ فَهُوَ يَدَّعِي الرَّدَّ صُورَةً، فَلَوْ أَقَامَ عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةً قُبِلَتْ، وَالْقَوْلُ لَهُ مَعَ يَمِينِهِ أَيْضًا فَكَانَ مُدَّعًى عَلَيْهِ، فَإِذَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ اعْتَبَرَ الصُّورَةَ، وَإِذَا عَجَزَ عَنْهَا اعْتَبَرَ مَعْنَاهَا، فَإِنَّهُ يُنْكِرُ الضَّمَانَ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ مَعَ يَمِينِهِ اهـ. أَقُولُ: شَرْحُ هَذَا الْمَقَامِ بِهَذَا الْوَجْهِ لَا يَكَادُ يَصِحُّ. أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُ غَيْرُ مُطَابِقٍ لِلْمَشْرُوحِ لِأَنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ وَالتَّرْجِيحُ

ص: 156

قَالَ (وَلَا تُقْبَلُ الدَّعْوَى حَتَّى يَذْكُرَ شَيْئًا مَعْلُومًا فِي جِنْسِهِ وَقَدْرِهِ)

بِالْفِقْهِ عِنْدَ الْحُذَّاقِ مِنْ أَصْحَابِنَا رحمهم الله؛ لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ لِلْمَعَانِي دُونَ الصُّوَرِ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ الْمَعَانِي لَا غَيْرُ، وَقَوْلُ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ: فَإِذَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ اعْتَبَرَ الصُّورَةَ وَإِذَا عَجَزَ عَنْهَا اعْتَبَرَ مَعْنَاهُ مُخَالِفٌ لَهُ لِأَنَّهُ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الصُّورَةَ أَيْضًا مُعْتَبَرَةٌ فَيَصِيرُ هَذَا مِنْ قَبِيلِ الْعَمَلِ بِالْجِهَتَيْنِ لَا مِنْ قَبِيلِ تَرْجِيحِ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى.

وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ أَوَّلَ هَذَا الشَّرْحِ مُخَالِفٌ لِآخِرِهِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ فِي الْأَوَّلِ إذَا تَعَارَضَ الْجِهَتَانِ فِي صُورَةٍ فَالتَّرْجِيحُ لِإِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى يَكُونُ بِالْفِقْهِ: أَيْ بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى دُونَ الصُّورَةِ، صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْمُعْتَبَرَ جِهَةُ الْمَعْنَى دُونَ جِهَةِ الصُّورَةِ، وَقَوْلُهُ فِي الْآخَرِ فَإِذَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ اعْتَبَرَ الصُّورَةَ وَإِذَا عَجَزَ عَنْهَا اعْتَبَرَ مَعْنَاهَا، صَرِيحٌ فِي أَنَّ كِلْتَا الْجِهَتَيْنِ مُعْتَبَرَتَانِ. ثُمَّ إنَّ بَعْضَ الْفُضَلَاءِ قَصَدَ تَوْجِيهَ كَلَامِ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ هَاهُنَا وَتَبْيِينَ مَرَامِهِ فَقَالَ: الْمُرَادُ بِالْجِهَتَيْنِ الْإِنْكَارُ الصُّورِيُّ وَالْإِنْكَارُ الْمَعْنَوِيُّ لَا الِادِّعَاءُ الصُّورِيُّ وَالْإِنْكَارُ الْمَعْنَوِيُّ عَلَى مَا يُتَوَهَّمُ مِنْ ظَاهِرِ كَلَامِهِ، فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مُعْتَبَرٌ حَيْثُ تُقْبَلُ بَيِّنَةُ الرَّدِّ أَيْضًا فَلَا يَظْهَرُ تَرْجِيحُ الْمَعْنَوِيِّ اهـ.

أَقُولُ: هَذَا أَيْضًا غَيْرُ صَحِيحٍ. أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ الشَّرْحَ لَا يُطَابِقُ الْمَشْرُوحَ حِينَئِذٍ أَيْضًا، فَإِنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ لِلْمَعَانِي دُونَ الصُّوَرِ فَإِنَّ الْمُودَعَ إذَا قَالَ رَدَدْت الْوَدِيعَةَ فَالْقَوْلُ لَهُ مَعَ الْيَمِينِ، وَإِنْ كَانَ مُدَّعِيًا لِلرَّدِّ صُورَةً يَدُلُّ قَطْعًا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالصُّورَةِ هَاهُنَا الِادِّعَاءُ الصُّورِيُّ حَيْثُ جَعَلَ الصُّورَةَ قَيْدًا لِلِادِّعَاءِ فِي قَوْلِهِ وَإِنْ كَانَ مُدَّعِيًا لِلرَّدِّ صُورَةً. وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَلِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِلتَّعَارُضِ بَيْنَ الْإِنْكَارِ الصُّورِيِّ وَالْإِنْكَارِ الْمَعْنَوِيِّ؛ لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يُرَادَ بِالتَّعَارُضِ هَاهُنَا مُجَرَّدُ التَّخَالُفِ فِي الْحَقِيقَةِ أَوْ التَّنَافِي فِي الصِّدْقِ، وَكِلَاهُمَا غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ بَيْنَ الْإِنْكَارِ الصُّورِيِّ وَالْإِنْكَارِ الْمَعْنَوِيِّ. أَمَّا عَدَمُ تَحَقُّقِ الْأَوَّلِ بَيْنَهُمَا فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا عَدَمُ تَحَقُّقِ الثَّانِي بَيْنَهُمَا فَلِأَنَّ الْمُنْكِرَ الْمَعْنَوِيَّ فِيمَا إذَا قَالَ الْمُودَعُ رَدَدْت الْوَدِيعَةَ هُوَ الْمُودَعُ بِالْفَتْحِ حَيْثُ يُنْكِرُ الضَّمَانَ، وَالْمُنْكِرُ الصُّورِيُّ هُوَ الْمُودِعُ بِالْكَسْرِ حَيْثُ يُنْكِرُ الرَّدَّ، وَلَا تَنَافِي بَيْنَ إنْكَارَيْهِمَا فِي الصِّدْقِ لِجَوَازِ أَنْ يَصْدُقَا مَعًا بِأَنْ لَا يَرُدَّ الْمُودَعُ الْوَدِيعَةَ وَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَيْهِ لِهَلَاكِ الْوَدِيعَةِ فِي يَدِهِ مِنْ غَيْرِ تَعَدٍّ مِنْهُ، فَإِذَا لَمْ يَتَحَقَّقْ شَيْءٌ مِنْ مَعْنَى التَّعَارُضِ بَيْنَهُمَا فَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ الْجِهَتَانِ فِي قَوْلِهِ: يَعْنِي إذَا تَعَارَضَ الْجِهَتَانِ.

وَأَيْضًا إنَّمَا يُتَصَوَّرُ التَّعَارُضُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ عِنْدَ اجْتِمَاعِهِمَا فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ، وَمَحَلُّ الْإِنْكَارِ الصُّورِيِّ مُغَايِرٌ لِمَحَلِّ الْإِنْكَارِ الْمَعْنَوِيِّ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ لِقِيَامِ أَحَدِهِمَا بِالْمُودِعِ بِالْكَسْرِ وَالْآخَرِ بِالْمُودَعِ بِالْفَتْحِ فَلَا يُتَصَوَّرُ التَّعَارُضُ بَيْنَهُمَا، بِخِلَافِ الِادِّعَاءِ الصُّورِيِّ وَالْإِنْكَارِ الْمَعْنَوِيِّ فَإِنَّهُ يَتَحَقَّقُ بَيْنَهُمَا التَّعَارُضُ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ قَطْعًا، وَمَحَلُّهُمَا وَاحِدٌ وَهُوَ الْمُودَعُ بِالْفَتْحِ فَكَانَ مَوْقِعًا لِلتَّعَارُضِ وَنِعْمَ مَا قِيلَ وَلَنْ يُصْلِحَ الْعَطَّارُ مَا أَفْسَدَ الدَّهْرُ ثُمَّ إنَّ الْحَقَّ عِنْدِي أَنْ يُشْرَحَ هَذَا الْمُقَامَ عَلَى مَا تَقْتَضِيهِ عِبَارَةُ الْمُصَنِّفِ، وَهُوَ أَنَّهُ إذَا تَعَارَضَتْ الْجِهَتَانِ: أَيْ جِهَةُ الِادِّعَاءِ الصُّورِيِّ وَجِهَةُ الْإِنْكَارِ الْمَعْنَوِيِّ فَالتَّرْجِيحُ بِالْفِقْهِ: أَيْ بِالْمَعْنَى عِنْدَ الْحُذَّاقِ مِنْ أَصْحَابِنَا، فَإِنَّ الِاعْتِبَارَ لِلْمَعَانِي دُونَ الصُّوَرِ، فَإِنَّ الْمُودَعَ إذَا قَالَ رَدَدْت الْوَدِيعَةَ فَالْقَوْلُ لَهُ مَعَ يَمِينِهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ يُنْكِرُ الضَّمَانَ مَعْنًى وَلَا يُعْتَبَرُ كَوْنُهُ مُدَّعِيًا لِلرَّدِّ صُورَةً، وَأَنْ يُقَالَ فِي وَجْهِ قَبُولِ بَيِّنَةِ الْمُودِعِ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ: إنَّمَا تُقْبَلُ بَيِّنَةُ الْمُودِعِ إذَا أَقَامَهَا عَلَى الرَّدِّ لِدَفْعِ الْيَمِينِ عَنْهُ، فَإِنَّ الْبَيِّنَةَ قَدْ تُقْبَلُ لِدَفْعِ الْيَمِينِ عَلَى مَا صَرَّحُوا بِهِ فِي مَوَاضِعَ شَتَّى مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ، مِنْهَا مَا ذَكَرَهُ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ فِي شَرْحِ الْوِقَايَةِ فِي مَسْأَلَةِ اخْتِلَافِ الزَّوْجَيْنِ فِي قَدْرِ الْمَهْرِ حَيْثُ قَالَ: إنَّ الْمَرْأَةَ تَدَّعِي الزِّيَادَةَ، فَإِنْ أَقَامَتْ بَيِّنَةً قُبِلَتْ، وَإِنْ أَقَامَ الزَّوْجُ تُقْبَلُ أَيْضًا لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ تُقْبَلُ لِدَفْعِ الْيَمِينِ كَمَا إذَا أَقَامَ الْمُودَعُ بَيِّنَةً عَلَى رَدِّ الْوَدِيعَةِ عَلَى الْمَالِكِ تُقْبَلُ اهـ.

فَحِينَئِذٍ يَتَّضِحُ الْمُرَادُ وَيَرْتَفِعُ الْفَسَادُ

(قَالَ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ (وَلَا تُقْبَلُ الدَّعْوَى حَتَّى يَذْكُرَ شَيْئًا مَعْلُومًا فِي جِنْسِهِ) كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَالْحِنْطَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ (وَقَدْرَهُ) مِثْلَ كَذَا وَكَذَا دِرْهَمًا أَوْ دِينَارًا أَوْ كُرًّا.

وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا فِي دَعْوَى الدَّيْنِ لَا فِي دَعْوَى الْعَيْنِ، فَإِنَّ الْعَيْنَ إذَا كَانَتْ حَاضِرَةً تَكْفِي الْإِشَارَةُ إلَيْهَا بِأَنَّ هَذِهِ مِلْكٌ لِي، وَإِنْ كَانَتْ غَائِبَةً يَجِبُ أَنْ يَذْكُرَ قِيمَتَهَا عَلَى مَا سَيُفَصَّلُ. فَإِنْ قُلْتَ: عِبَارَةُ الْكِتَابِ لَا تَدُلُّ عَلَى التَّقْيِيدِ

ص: 157

لِأَنَّ فَائِدَةَ الدَّعْوَى الْإِلْزَامُ بِوَاسِطَةِ إقَامَةِ الْحُجَّةِ، وَالْإِلْزَامُ فِي الْمَجْهُولِ لَا يَتَحَقَّقُ (فَإِنْ كَانَ عَيْنًا فِي يَدِ الْمُدَّعَى) عَلَيْهِ كُلِّفَ إحْضَارَهَا لِيُشِيرَ إلَيْهَا بِالدَّعْوَى، وَكَذَا فِي الشَّهَادَةِ وَالِاسْتِحْلَافِ، لِأَنَّ الْإِعْلَامَ بِأَقْصَى مَا يُمْكِنُ شَرْطٌ وَذَلِكَ بِالْإِشَارَةِ فِي الْمَنْقُولِ لِأَنَّ النَّقْلَ مُمْكِنٌ وَالْإِشَارَةُ أَبْلَغُ فِي التَّعْرِيفِ، وَيَتَعَلَّقُ بِالدَّعْوَى وُجُوبُ الْحُضُورِ، وَعَلَى هَذَا الْقُضَاةُ مِنْ آخِرِهِمْ فِي كُلِّ عَصْرٍ

قُلْتُ: نَعَمْ، إلَّا أَنَّ الْعِبَارَةَ وَقَعَتْ كَذَلِكَ فِي عَامَّةِ مُعْتَبَرَاتِ الْمُتُونِ فَلَعَلَّهَا بِنَاءً عَلَى انْفِهَامِ الْمُرَادِ بِهَا مِمَّا يُذْكَرُ بَعْدَهَا مِنْ تَفْصِيلِ أَحْوَالِ دَعْوَى الْأَعْيَانِ، وَمَعَ هَذَا قَدْ تَصَدَّى صَدْرُ الشَّرِيعَةِ فِي شَرْحِ الْوِقَايَةِ لِبَيَانِ الْمُرَادِ بِهَا عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ إيضَاحًا لِلْمَقَامِ. وَأَمَّا بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ فَلَمَّا فَهِمُوا الْخَفَاءَ فِيهَا غَيَّرُوهَا فِي مُتُونِهِمْ إلَى التَّصْرِيحِ بِكُلِّ نَوْعٍ مِنْ الدَّعَاوَى عَلَى حِدَةٍ مَعَ بَيَانِ شَرَائِطِهِ الْمَخْصُوصَةِ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِ الْمَسْأَلَةِ الْمَذْكُورَةِ (لِأَنَّ فَائِدَةَ الدَّعْوَى الْإِلْزَامُ) أَيْ الْإِلْزَامُ عَلَى الْخَصْمِ (بِوَاسِطَةِ إقَامَةِ الْحُجَّةِ، وَالْإِلْزَامُ فِي الْمَجْهُولِ لَا يَتَحَقَّقُ.) أَقُولُ: فِيهِ بَحْثٌ. وَهُوَ أَنَّ عَدَمَ تَحَقُّقِ الْإِلْزَامِ فِي الْمَجْهُولِ مَمْنُوعٌ، إذْ قَدْ تَقَرَّرَ فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ أَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْمَجْهُولِ صَحِيحٌ، وَقَدْ مَرَّ فِي صَدْرِ كِتَابِ الدَّعْوَى أَنَّ حُكْمَ الدَّعْوَى الصَّحِيحَةِ وُجُوبُ الْجَوَابِ عَلَى الْخَصْمِ إمَّا بِالْإِقْرَارِ وَإِمَّا بِالْإِنْكَارِ، فَعَلَى تَقْدِيرِ إنْ أَجَابَ الْخَصْمُ بِالْإِقْرَارِ يُمْكِنُ الْإِلْزَامُ عَلَيْهِ فِي الْمَجْهُولِ أَيْضًا لِكَوْنِهِ مُؤَاخَذًا بِإِقْرَارِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ تَصِحَّ الدَّعْوَى فِيهِ أَيْضًا لِظُهُورِ فَائِدَتِهَا عَلَى تَقْدِيرِ الْجَوَابِ بِالْإِقْرَارِ. وَبِالْجُمْلَةِ إنَّ الْإِلْزَامَ كَمَا يَتَحَقَّقُ بِوَاسِطَةِ حُجَّةِ الْبَيِّنَةِ كَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ بِوَاسِطَةِ حُجَّةِ الْإِقْرَارِ، فَإِنْ لَمْ يُتَصَوَّرْ الْأَوَّلُ فِي دَعْوَى الْمَجْهُولِ يُتَصَوَّرْ الثَّانِي فِيهَا فَلَا يَتِمُّ الْمَطْلُوبُ. لَا يُقَالُ: إقْرَارُ الْخَصْمِ مُحْتَمَلٌ لَا مُحَقَّقٌ فَلَا يَتَحَقَّقُ الْإِلْزَامُ فِي دَعْوَى الْمَجْهُولِ بَلْ يُحْتَمَلُ. لِأَنَّا نَقُولُ: الْمُرَادُ بِتَحَقُّقِ الْإِلْزَامِ الَّذِي عُدَّ فَائِدَةَ الدَّعْوَى إمْكَانُ تَحَقُّقِهِ دُونَ وُقُوعِهِ بِالْفِعْلِ، وَإِلَّا يَلْزَمْ أَنْ لَا تَتَحَقَّقَ الْفَائِدَةُ فِي كَثِيرٍ مِنْ دَعَاوَى الْمَعْلُومِ أَيْضًا، كَمَا إذَا عَجَزَ الْمُدَّعِي عَنْ الْبَيِّنَةِ وَلَمْ يُقِرَّ الْخَصْمُ بِمَا ادَّعَاهُ بَلْ أَنْكَرَ وَحَلَفَ إذًا حِينَئِذٍ لَا يَقَعُ الْإِلْزَامُ بِالْفِعْلِ قَطْعًا (فَإِنْ كَانَ) أَيْ الْمُدَّعَى (عَيْنًا فِي يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ كُلِّفَ إحْضَارَهَا) أَيْ كُلِّفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إحْضَارَ الْعَيْنِ الْمُدَّعَاةِ إلَى مَجْلِسِ الْحُكْمِ (لِيُشِيرَ) أَيْ الْمُدَّعِي (إلَيْهَا بِالدَّعْوَى) هَذَا الَّذِي ذُكِرَ لَفْظُ الْقُدُورِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَكَذَا فِي الشَّهَادَةِ وَالِاسْتِحْلَافِ) يَعْنِي إذَا شَهِدَ الشُّهُودُ عَلَى الْعَيْنِ الْمُدَّعَاةِ أَوْ اُسْتُحْلِفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَلَيْهَا كُلِّفَ إحْضَارَهُ إلَى مَجْلِسِ الْحُكْمِ لِيُشِيرَ الشُّهُودُ إلَيْهَا عِنْدَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ، وَلِيُشِيرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إلَيْهَا عِنْدَ الْحَلِفِ (لِأَنَّ الْإِعْلَامَ بِأَقْصَى مَا يُمْكِنُ شَرْطٌ، وَذَلِكَ بِالْإِشَارَةِ فِي الْمَنْقُولِ لِأَنَّ النَّقْلَ مُمْكِنٌ وَالْإِشَارَةُ أَبْلَغُ فِي التَّعْرِيفِ) حَتَّى قَالُوا فِي الْمَنْقُولَاتِ الَّتِي يَتَعَذَّرُ نَقْلُهَا كَالرَّحَى وَنَحْوِهِ حَضَرَ الْقَاضِي عِنْدَهَا أَوْ بَعَثَ أَمِينًا، كَذَا فِي الْكَافِي وَغَيْرِهِ (وَيَتَعَلَّقُ بِالدَّعْوَى) أَيْ بِالدَّعْوَى الصَّحِيحَةِ: أَيْ بِمُجَرَّدِهَا، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ (وُجُوبُ الْحُضُورِ) أَيْ وُجُوبُ حُضُورِ الْخَصْمِ مَجْلِسَ الْقَاضِي (وَعَلَى هَذَا الْقُضَاةُ) أَيْ عَلَى وُجُوبِ حُضُورِ الْخَصْمِ مَجْلِسَ الْقَاضِي بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى الصَّحِيحَةِ الْقُضَاةُ. وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ} إلَى قَوْلِهِ {بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} سَمَّاهُمْ ظَالِمِينَ لِإِعْرَاضِهِمْ عِنْدَ الطَّلَبِ (مِنْ آخِرِهِمْ) أَيْ مِنْ آخِرِهِمْ إلَى أَوَّلِهِمْ وَقَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: أَيْ بِأَجْمَعِهِمْ، وَهَذَا أَيْضًا صَحِيحٌ بِالنَّظَرِ إلَى الْمَآلِ.

وَقَالَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ: أَيْ مِنْ أَوَّلِهِمْ إلَى آخِرِهِمْ وَاقْتَفَى أَثَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ، وَهَذَا بَعِيدٌ عَنْ عِبَارَةِ الْمُصَنِّفِ كَمَا لَا يَخْفَى (فِي كُلِّ عَصْرٍ) فَإِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَعَلَهُ، وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ رضي الله عنهما فَعَلَا ذَلِكَ، وَالتَّابِعُونَ بَعْدَ

ص: 158

وَوُجُوبُ الْجَوَابِ إذَا حَضَرَ لِيُفِيدَ حُضُورُهُ وَلُزُومُ إحْضَارِ الْعَيْنِ الْمُدَّعَاةِ لِمَا قُلْنَا وَالْيَمِينِ إذَا أَنْكَرَهُ، وَسَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى

قَالَ (وَإِنْ لَمْ تَكُنْ حَاضِرَةً ذَكَرَ قِيمَتَهَا لِيَصِيرَ الْمُدَّعَى مَعْلُومًا) لِأَنَّ الْعَيْنَ لَا تُعْرَفُ بِالْوَصْفِ، وَالْقِيمَةُ تُعْرَفُ بِهِ وَقَدْ تَعَذَّرَ مُشَاهَدَةُ الْعَيْنِ

الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ - فَعَلُوا ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ نَكِيرِ مُنْكِرٍ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ فَحَلَّ مَحَلَّ الْإِجْمَاعِ (وَوُجُوبُ الْجَوَابِ إذَا حَضَرَ) عَطْفٌ عَلَى وُجُوبِ الْحُضُورِ: أَيْ وَيَتَعَلَّقُ بِالدَّعْوَى الصَّحِيحَةِ أَيْضًا وُجُوبُ الْجَوَابِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِنَعَمْ أَوْ بِلَا (لِيُفِيدَ حُضُورُهُ) أَيْ حُضُورَ الْخَصْمِ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ حُضُورِهِ الْجَوَابُ (وَلُزُومُ إحْضَارِ الْعَيْنِ الْمُدَّعَاةِ) أَيْ وَيَتَعَلَّقُ بِالدَّعْوَى الصَّحِيحَةِ أَيْضًا لُزُومُ أَنْ يُحْضِرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْعَيْنَ الْمُدَّعَاةَ إلَى مَجْلِسِ الْقَاضِي (لِمَا قُلْنَا) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ لِيُشِيرَ إلَيْهَا بِالدَّعْوَى (وَالْيَمِينِ) بِالْجَرِّ عَطْفٌ عَلَى إحْضَارِ الْعَيْنِ الْمُدَّعَاةِ، فَالْمَعْنَى: وَيَتَعَلَّقُ بِالدَّعْوَى الصَّحِيحَةِ أَيْضًا لُزُومُ الْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ (إذَا أَنْكَرَهُ) أَيْ إذَا أَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَا ادَّعَاهُ الْمُدَّعِي وَعَجَزَ الْمُدَّعِي عَنْ الْبَيِّنَةِ (وَسَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى) أَيْ وَسَنَذْكُرُ لُزُومَ الْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي آخِرِ هَذَا الْبَابِ

(قَالَ: وَإِنْ لَمْ تَكُنْ حَاضِرَةً ذَكَرَ قِيمَتَهَا) هَذَا لَفْظُ الْقُدُورِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ: أَيْ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ الْعَيْنُ الْمُدَّعَاةُ حَاضِرَةً فِي يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَلْ كَانَتْ غَائِبَةً لَا يَدْرِي مَكَانَهَا ذَكَرَ الْمُدَّعِي قِيمَةَ الْعَيْنِ الْمُدَّعَاةِ الْغَائِبَةِ (لِيَصِيرَ الْمُدَّعِي مَعْلُومًا) فَتَصِحُّ الدَّعْوَى بِوُقُوعِهَا عَلَى مَعْلُومٍ (لِأَنَّ الْعَيْنَ لَا تُعْرَفُ بِالْوَصْفِ) لِإِمْكَانِ مُشَارَكَةِ أَعْيَانٍ كَثِيرَةٍ فِيهِ، وَإِنْ بُولِغَ فِيهِ فَذَكَرَ الْوَصْفَ لَا يُفِيدُ (وَالْقِيمَةُ تُعْرَفُ بِهِ) أَيْ وَالْقِيمَةُ شَيْءٌ تُعْرَفُ الْعَيْنُ بِهِ فَذِكْرُهَا يُفِيدُ (وَقَدْ تَعَذَّرَ مُشَاهَدَةُ الْعَيْنِ) جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ مِنْ قَوْلِهِ وَالْقِيمَةُ تُعْرَفُ بِهِ: أَيْ وَالْقِيمَةُ شَيْءٌ تُعْرَفُ بِهِ: يَعْنِي وَالْحَالُ أَنَّ الْمُشَاهَدَةَ مُتَعَذِّرَةٌ فَيَكُونُ ذِكْرُ الْقِيمَةِ إذْ ذَاكَ أَقْصَى مَا يُمْكِنُ الْإِعْلَامُ.

وَقَدْ جَعَلَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ

ص: 159

وَقَالَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ: يُشْتَرَطُ مَعَ بَيَانِ الْقِيمَةِ ذِكْرُ الذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ.

الْجُمْلَةَ الْمَزْبُورَةَ حَالِيَّةً مِنْ قَوْلِهِ لِأَنَّ الْعَيْنَ لَا تُعْرَفُ بِالْوَصْفِ فَعَلَيْك الِاخْتِبَارُ ثُمَّ الِاخْتِيَارُ (وَقَالَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ: يُشْتَرَطُ مَعَ بَيَانِ الْقِيمَةِ ذِكْرُ الذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ) قَالَ صَاحِبُ الْكَافِي نَقْلًا عَنْ الْقَاضِي فَخْرِ الدِّينِ وَصَاحِبِ الذَّخِيرَةِ: وَإِنْ كَانَ الْعَيْنُ غَائِبًا وَادَّعَى أَنَّهُ فِي يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَأَنْكَرَ أَنْ بَيَّنَ الْمُدَّعِي قِيمَتَهُ وَصِفَتَهُ تُسْمَعُ دَعْوَاهُ وَتُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ، وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ الْقِيمَةَ وَقَالَ غَصَبَ مِنِّي عَيْنَ كَذَا وَلَا أَدْرِي أَنَّهُ هَالِكٌ أَمْ قَائِمٌ وَلَا أَدْرِي كَمْ كَانَتْ قِيمَتُهُ ذُكِرَ فِي عَامَّةِ الْكُتُبِ أَنَّهُ تُسْمَعُ دَعْوَاهُ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ رُبَّمَا لَا يَعْرِفُ قِيمَةَ مَالِهِ، فَلَوْ كُلِّفَ بَيَانَ الْقِيمَةِ لَتَضَرَّرَ بِهِ اهـ.

وَقَالَ صَاحِبَا النِّهَايَةِ وَالْكِفَايَةِ نَقْلًا عَنْ الْإِمَامِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ الْبَزْدَوِيِّ: إذَا كَانَتْ الْمَسْأَلَةُ مُخْتَلَفًا فِيهَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يُكَلِّفَ الْمُدَّعِيَ بَيَانَ الْقِيمَةِ، وَإِذَا كَلَّفَهُ وَلَمْ يُبَيِّنْ تُسْمَعُ دَعْوَاهُ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ لَا يَعْرِفُ قِيمَةَ مَالِهِ، فَلَوْ كَلَّفَهُ بَيَانَ الْقِيمَةِ فَقَدْ أَضَرَّ بِهِ، إذْ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ الْوُصُولُ إلَى حَقِّهِ، ثُمَّ قَالَ: وَإِذَا سَقَطَ بَيَانُ الْقِيمَةِ مِنْ الْمُدَّعِي سَقَطَ عَنْ الشُّهُودِ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى اهـ. وَقَالَ الْإِمَامُ الزَّيْلَعِيُّ فِي شَرْحِ الْكَنْزِ بَعْدَ نَقْلِ مَا ذُكِرَ فِي الْكَافِي: فَإِذَا سَقَطَ بَيَانُ الْقِيمَةِ عَنْ الْمُدَّعِي سَقَطَ عَنْ الشُّهُودِ أَيْضًا، بَلْ أَوْلَى لِأَنَّهُمْ أَبْعَدُ عَنْ مُمَارَسَتِهِ اهـ. وَقَالَ صَاحِبُ الدُّرَرِ وَالْغُرَرِ بَعْدَ نَقْلِ مَا فِي الْكَافِي: أَقُولُ فَائِدَةُ صِحَّةِ الدَّعْوَى مَعَ هَذِهِ الْجَهَالَةِ الْفَاحِشَةِ تَوَجُّهُ الْيَمِينِ عَلَى الْخَصْمِ إذَا أَنْكَرَ، وَالْجَبْرُ عَلَى الْبَيَانِ إذَا أَقَرَّ أَوْ نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ فَلْيُتَأَمَّلْ، فَإِنَّ كَلَامَ الْكَافِي لَا يَكُونُ كَافِيًا إلَّا بِهَذَا التَّحْقِيقِ، الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى التَّوْفِيقِ انْتَهَى.

أَقُولُ: يُرَدُّ عَلَيْهِ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ مِنْ الْفَائِدَةِ جَارٍ فِي جَمِيعِ صُوَرِ دَعْوَى الْمَجْهُولِ دَيْنًا كَانَ أَوْ عَيْنًا، فَيَقْتَضِي صِحَّةَ دَعْوَى الْمَجْهُولِ مُطْلَقًا مَعَ أَنَّهُمْ صَرَّحُوا بِأَنَّ مِنْ شَرَائِطِ صِحَّةِ الدَّعْوَى كَوْنَ الْمُدَّعَى مَعْلُومًا غَيْرَ مَجْهُولٍ، وَأَنَّ رِوَايَةَ صِحَّةِ دَعْوَى الْعَيْنِ مَعَ جَهَالَةِ الْقِيمَةِ إنَّمَا وَرَدَتْ فِي دَعْوَى الْعَيْنِ الْغَائِبَةِ فَقَطْ.

وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِي دَفْعِهِ إنَّ مُجَرَّدَ جَرَيَانِ الْفَائِدَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي جَمِيعِ صُوَرِ دَعْوَى الْمَجْهُولِ لَا يَقْتَضِي صِحَّةَ دَعْوَى الْمَجْهُولِ مُطْلَقًا، بَلْ لَا بُدَّ لِصِحَّةِ الدَّعْوَى مِنْ عِلَّةٍ مُقْتَضِيَةٍ لَهَا غَيْرِ فَائِدَةٍ مُتَرَتِّبَةٍ عَلَيْهَا، وَقَدْ بَيَّنُوا تَحَقُّقَ الْعِلَّةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِصِحَّةِ الدَّعْوَى فِي صُورَةِ دَعْوَى الْعَيْنِ الْغَائِبَةِ الْمَجْهُولَةِ، وَهِيَ أَنَّ الْإِنْسَانَ رُبَّمَا لَا يَعْرِفُ قِيمَةَ مَالِهِ، فَلَوْ كُلِّفَ بَيَانَ الْقِيمَةِ لَتَضَرَّرَ بِهِ. وَبَقِيَ بَيَانُ الْفَائِدَةِ فِيهَا فَبَيَّنَهَا صَاحِبُ الدُّرَرِ وَالْغَرَرِ، بِخِلَافِ سَائِرِ صُوَرِ دَعْوَى الْمَجْهُولِ إذْ لَمْ يَتَحَقَّقْ فِيهَا عِلَّةٌ مُقْتَضِيَةٌ لِصِحَّةِ الدَّعْوَى فَلَا يُفِيدُ جَرَيَانَ الْفَائِدَةِ الْمَذْكُورَةِ فِيهَا، وَلَكِنْ يَرِدُ حِينَئِذٍ أَنْ يُقَالَ: إنَّ مِثْلَ تِلْكَ الْعِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ يَتَحَقَّقُ فِي غَيْرِ تِلْكَ الصُّورَةِ أَيْضًا مِنْ صُوَرِ دَعْوَى الْمَجْهُولِ، كَمَا إذَا كَانَ لِمُوَرِّثِ رَجُلٍ دُيُونٌ فِي ذِمَمِ النَّاسْ وَلَمْ يَعْرِفْ الْوَارِثُ جِنْسَ تِلْكَ الدُّيُونِ وَلَا قَدْرَهَا أَوْ لَمْ يَعْرِفْ أَحَدَهُمَا، فَلَوْ كُلِّفَ ذَلِكَ الْوَارِثُ فِي دَعْوَى تِلْكَ الدُّيُونِ عَلَى الْمَدْيُونِ بِبَيَانِ جِنْسِهَا أَوْ قَدْرِهَا لَتَضَرَّرَ بِهِ، إذْ الْإِنْسَانُ رُبَّمَا لَا يَعْرِفُ قَدْرَ مَالِ مُوَرِّثِهِ وَلَا جِنْسَهُ عِنْدَ كَوْنِ ذَلِكَ الْمَالِ فِي يَدِ مُوَرِّثِهِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَعْرِفَهُمَا عِنْدَ كَوْنِهِ فِي ذِمَمِ النَّاسِ، فَيَنْبَغِي أَنْ تَصِحَّ دَعْوَى مِثْلِ تِلْكَ الدُّيُونِ الْمَجْهُولَةِ مِثْلُ مَا قِيلَ فِي صِحَّةِ دَعْوَى الْأَعْيَانِ الْغَائِبَةِ الْمَجْهُولَةِ مَعَ أَنَّهُ مِمَّا لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ.

ثُمَّ أَقُولُ: الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِمْ: وَإِذَا سَقَطَ بَيَانُ الْقِيمَةِ عَنْ الْمُدَّعِي سَقَطَ عَنْ الشُّهُودِ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى أَنَّ فِي دَعْوَى الْعَيْنِ الْغَائِبَةِ تُسْمَعُ الدَّعْوَى مَعَ جَهَالَةِ قِيمَةِ الْمُدَّعَى وَتُقْبَلُ الشَّهَادَةُ مَعَ جَهَالَةِ قِيمَةِ الْمَشْهُودِ بِهِ، لَكِنَّهُ مُشْكِلٌ جِدًّا، فَإِنَّ الْقَاضِيَ بَعْدَ أَنْ سَمِعَ هَذِهِ الدَّعْوَى وَقَبِلَ هَذِهِ الشَّهَادَةَ لَمْ يَحْكُمْ لِلْمُدَّعِي عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَالْقَضَاءُ بِالْمَجْهُولِ غَيْرُ مُمْكِنٍ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ فِي صَدْرِ كِتَابِ الدَّعْوَى حَيْثُ

ص: 160

قَالَ (وَإِنْ ادَّعَى عَقَارًا حَدَّدَهُ وَذَكَرَ أَنَّهُ فِي يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَأَنَّهُ يُطَالِبُهُ بِهِ)

قَالُوا: إنَّ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الدَّعْوَى كَوْنَ الْمُدَّعَى مَعْلُومًا، وَعَلَّلُوهُ بِعَدَمِ إمْكَانِ الْقَضَاءِ بِالْمَجْهُولِ، لَا يُقَالُ: الْقَاضِي يُجْبِرُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِبَيَانِ قِيمَةِ مَا ادَّعَى عَلَيْهِ فَيَحْكُمُ عَلَيْهِ بِمَا بَيَّنَ فَلَا يَكُونُ الْقَضَاءُ بِالْمَجْهُولِ. لِأَنَّا نَقُولُ: الْجَبْرُ عَلَيْهِ إنَّمَا يَصِحُّ لَوْ أَقَرَّ بِمَا ادَّعَى عَلَيْهِ عَلَى الْجَهَالَةِ، فَإِنَّ التَّجْهِيلَ حِينَئِذٍ يَصِيرُ مِنْ جِهَتِهِ حَيْثُ أَجْمَلَ مَا اعْتَرَفَ بِلُزُومِهِ عَلَيْهِ فَعَلَيْهِ الْبَيَانُ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ.

وَأَمَّا إذَا لَمْ يُقِرَّ بِهِ بَلْ ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ كَمَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ فَلَمْ يَكُنْ التَّجْهِيلُ مِنْ جِهَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَلَمْ يَحْمِلْ شَيْئًا فَلَا وَجْهَ لِإِجْبَارِهِ عَلَى الْبَيَانِ بِمُقْتَضَى قَوَاعِدِ الْفِقْهِ فَبَقِيَ الْإِشْكَالُ.

فَإِنْ قُلْت: الْقَاضِي لَا يَحْكُمُ بِقِيمَةِ الْعَيْنِ الْغَائِبَةِ بَلْ يَحْكُمُ بِرَدِّ تِلْكَ الْعَيْنِ نَفْسِهَا إلَى صَاحِبِهَا وَالْجَهَالَةُ فِي قِيمَةِ تِلْكَ الْعَيْنِ لَا فِي نَفْسِهَا فَلَا يَلْزَمُ الْقَضَاءُ بِالْمَجْهُولِ.

قُلْت: قَدْ مَرَّ فِي الْكِتَابِ أَنَّ الْعَيْنَ إنَّمَا تُعْرَفُ بِالْقِيمَةِ لَا بِغَيْرِهَا فَالْجَهَالَةُ فِي قِيمَةِ الْعَيْنِ جَهَالَةٌ فِي نَفْسِهَا، وَأَيْضًا إذَا حَكَمَ الْقَاضِي بِرَدِّ الْعَيْنِ الْغَائِبَةِ إلَى صَاحِبِهَا فَعَجَزَ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ عَنْ رَدِّهَا إلَى صَاحِبِهَا وَلَمْ يَرُدَّهَا إلَيْهِ فَالْقَاضِي إنْ حَكَمَ بَعْدَ ذَلِكَ بِقِيمَةِ تِلْكَ الْعَيْنِ يَعُودُ الْإِشْكَالُ، وَإِنْ لَمْ يَحْكُمْ بِهَا يُضَيِّعُ حَقَّ الْمُدَّعِي وَلَا يَظْهَرُ لِسَمَاعِ دَعْوَاهُ وَقَبُولِ بَيِّنَتِهِ فَائِدَةٌ.

فَإِنْ قِيلَ: الْقَاضِي لَا يَحْكُمُ عَلَى الْخَصْمِ بِشَيْءٍ مِنْ الْمَالِ بَلْ يَحْبِسُهُ لِيَرُدَّ الْعَيْنَ الْمُدَّعَاةَ إلَى الْمُدَّعِي فَفَائِدَةُ سَمَاعِ الدَّعْوَى وَقَبُولِ الْبَيِّنَةِ هِيَ الْحَبْسُ. قُلْنَا: إلَى مَتَى يَحْبِسُهُ، إنْ حَبَسَهُ أَبَدًا يَصِيرُ ظَالِمًا لَهُ بَعْدَ أَنْ ظَهَرَ عَجْزُهُ عَنْ رَدِّهَا إلَى الْمُدَّعِي بِأَنْ يَمْضِيَ عَلَى الْحَبْسِ مُدَّةٌ يَعْلَمُ بِهَا أَنَّهُ لَوْ بَقِيَتْ الْعَيْنُ الْمُدَّعَاةُ لَأَظْهَرَهَا عَلَى مَا ذُكِرَ فِي كِتَابِ الْغَصْبِ، وَإِنْ حَبَسَهُ إلَى مُدَّةِ ظُهُورِ عَجْزِهِ عَنْ رَدِّهَا إلَى الْمُدَّعِي ثُمَّ خَلَّى سَبِيلَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُلْزِمَهُ الضَّمَانَ فَمِثْلُ ذَلِكَ لَمْ يُعْهَدْ فِي الشَّرْعِ عِنْدَ إثْبَاتِ الْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ.

وَبِالْجُمْلَةِ لَا يَخْلُو الْمَقَامُ عَلَى كُلِّ حَالٍ عَنْ ضَرْبٍ مِنْ الْإِشْكَالِ

(قَالَ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ (وَإِنْ ادَّعَى عَقَارًا حَدَّدَهُ) أَيْ ذَكَرَ الْمُدَّعِي حُدُودَهُ (وَذَكَرَ أَنَّهُ) أَيْ الْعَقَارَ (فِي يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَأَنَّهُ يُطَالِبُهُ بِهِ) أَيْ وَذَكَرَ أَنَّ الْمُدَّعِيَ يُطَالِبُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْمُدَّعَى.

أَقُولُ: هَكَذَا وَقَعَ وَضْعُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي عَامَّةِ مُعْتَبَرَاتِ الْمُتُونِ، وَلَكِنْ فِيهِ قُصُورٌ إذْ الْمُتَبَادَرُ مِنْهُ أَنَّ ذِكْرَ حُدُودِ الْعَقَارِ كَافٍ فِي تَعْرِيفِهِ عِنْدَ الدَّعْوَى، وَلَيْسَ كَذَلِكَ إذْ قَدْ صَرَّحَ فِي مُعْتَبَرَاتِ الْفَتَاوَى بَلْ فِي بَعْضِ شُرُوحِ الْهِدَايَةِ أَيْضًا بِأَنَّهُ إذَا وَقَعَتْ الدَّعْوَى فِي الْعَقَارِ فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ الْبَلْدَةِ الَّتِي فِيهَا الدَّارُ وَمِنْ ذِكْرِ الْمَحَلَّةِ وَمِنْ ذِكْرِ السِّكَّةِ وَمِنْ ذِكْرِ الْحُدُودِ. وَقَالَ فِي الْخُلَاصَةِ: تَصِحُّ الدَّعْوَى إذَا بَيَّنَ الْمِصْرَ وَالْمَحَلَّةَ وَالْمَوْضِعَ وَالْحُدُودَ. وَقِيلَ ذِكْرُ الْمَحَلَّةِ وَالسُّوقِ وَالسِّكَّةِ لَيْسَ بِلَازِمٍ، وَذِكْرُ الْمِصْرِ أَوْ الْقَرْيَةِ لَازِمٌ انْتَهَى.

وَقَدْ صَرَّحَ فِي مُعْتَبَرَاتِ الْفَتَاوَى أَيْضًا بِأَنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا فِي الْبُدَاءَةِ، فَقَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْفَقِيهُ الْحَاكِمُ أَبُو نَصْرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ السَّمَرْقَنْدِيُّ فِي شُرُوطِهِ: إذَا وَقَعَ الدَّعْوَى فِي الْعَقَارِ فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ الْبَلْدَةِ الَّتِي فِيهَا الدَّارُ، ثُمَّ مِنْ ذِكْرِ الْمَحَلَّةِ، ثُمَّ مِنْ ذِكْرِ السِّكَّةِ، فَيَبْدَأُ أَوَّلًا بِذِكْرِ الْكُورَةِ ثُمَّ بِالْمَحَلَّةِ اخْتِيَارًا لِقَوْلِ مُحَمَّدٍ، فَإِنَّ الْمَذْهَبَ عِنْدَهُ أَنْ يَبْدَأَ بِالْأَعَمِّ ثُمَّ يَنْزِلَ مِنْهُ إلَى الْأَخَصِّ.

وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ الْبَغْدَادِيُّ: يَبْدَأُ بِالْأَخَصِّ ثُمَّ بِالْأَعَمِّ، فَيَقُولُ دَارٌ فِي سِكَّةِ كَذَا فِي مَحَلَّةِ كَذَا فِي كُورَةِ كَذَا

ص: 161

لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ التَّعْرِيفُ بِالْإِشَارَةِ لِتَعَذُّرِ النَّقْلِ فَيُصَارُ إلَى التَّجْدِيدِ فَإِنَّ الْعَقَارَ يُعْرَفُ بِهِ، وَيَذْكُرُ الْحُدُودَ الْأَرْبَعَةَ، وَيَذْكُرُ أَسْمَاءَ أَصْحَابِ الْحُدُودِ وَأَنْسَابَهُمْ، وَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ الْجَدِّ لِأَنَّ تَمَامَ التَّعْرِيفِ بِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى مَا عُرِفَ هُوَ الصَّحِيحُ، وَلَوْ كَانَ الرَّجُلُ مَشْهُورًا يَكْتَفِي بِذِكْرِهِ، فَإِنْ ذَكَرَ ثَلَاثَةً مِنْ الْحُدُودِ يُكْتَفَى بِهَا عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ لِوُجُودِ الْأَكْثَرِ، بِخِلَافِ مَا إذَا غَلِطَ فِي الرَّابِعَةِ لِأَنَّهُ يُخْتَلَفُ بِهِ الْمُدَّعَى وَلَا كَذَلِكَ بِتَرْكِهَا، وَكَمَا يُشْتَرَطُ التَّحْدِيدُ فِي الدَّعْوَى يُشْتَرَطُ فِي الشَّهَادَةِ.

وَقَوْلُهُ فِي الْكِتَابِ وَذَكَرَ أَنَّهُ فِي يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَا بُدَّ مِنْهُ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَنْتَصِبُ خَصْمًا إذَا كَانَ فِي يَدِهِ، وَفِي الْعَقَارِ لَا يُكْتَفَى بِذِكْرِ الْمُدَّعِي وَتَصْدِيقِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهُ فِي يَدِهِ بَلْ لَا تَثْبُتُ الْيَدُ فِيهِ إلَّا بِالْبَيِّنَةِ

وَقَاسَهُ عَلَى النَّسَبِ حَيْثُ يَقُولُ فُلَانٌ ثُمَّ يَقُولُ ابْنُ فُلَانٍ ثُمَّ يَذْكُرُ الْجَدَّ. فَيَبْدَأُ بِمَا هُوَ الْأَقْرَبُ ثُمَّ يَتَرَقَّى إلَى الْأَبْعَدِ. قَالَ: فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْفُصُولَيْنِ بَعْدَ ذِكْرِ هَذَا الِاخْتِلَافِ مَا قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ أَحْسَنُ، لِأَنَّ الْعَامَّ يُعْرَفُ بِالْخَاصِّ وَلَا يُعْرَفُ الْخَاصُّ بِالْعَامِّ وَفَصْلُ النَّسَبِ حُجَّةٌ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْأَعَمَّ اسْمُهُ، فَإِنَّ جَعْفَرًا فِي الدُّنْيَا كَثِيرٌ، فَإِنْ عُرِفَ فِيهَا وَإِلَّا تَرَقَّى إلَى الْأَخَصِّ فَيَقُولُ ابْنُ مُحَمَّدٍ وَهَذَا أَخَصُّ، فَإِنْ عُرِفَ فِيهَا وَإِلَّا تَرَقَّى إلَى الْجَدِّ انْتَهَى. وَقَالَ فِي الْمُحِيطِ: اخْتَلَفَ أَهْلُ الشُّرُوطِ فِي الْبُدَاءَةِ بِالْأَعَمِّ أَوْ بِالْأَخَصِّ، وَأَهْلُ الْعِلْمِ بِالْخِيَارِ فِي الْبُدَاءَةِ بِأَيِّهِمَا شَاءَ انْتَهَى. وَقَالَ عِمَادُ الدِّينِ فِي فُصُولِهِ: قُلْت اخْتِلَافَاتُ أَهْلِ الشُّرُوطِ أَنَّهُ يَنْزِلُ مِنْ الْأَعَمِّ إلَى الْأَخَصِّ، أَوْ مِنْ الْأَخَصِّ إلَى الْأَعَمِّ إجْمَاعٌ مِنْهُمْ عَلَى شَرْطِيَّةِ الْبَيَانِ انْتَهَى.

فَقَدْ تَلَخَّصَ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ كُلِّهِ أَنَّ ذِكْرَ الْحُدُودِ لَيْسَ بِكَافٍ فِي تَعْرِيفِ الْعَقَارِ، بَلْ لَا بُدَّ أَيْضًا مِنْ ذِكْرِ الْبَلْدَةِ وَالْمَحَلَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ عَلَى مَا قُرِّرَ. قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِ لُزُومِ التَّحْدِيدِ فِي دَعْوَى الْعَقَارِ (لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ التَّعْرِيفُ بِالْإِشَارَةِ لِتَعَذُّرِ النَّقْلِ) أَيْ نَقْلِ الْعَقَارِ (فَيُصَارُ إلَى التَّحْدِيدِ، فَإِنَّ الْعَقَارَ يُعْرَفُ بِهِ) أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إنَّ تَعَذَّرَ النَّقْلِ لَا يَقْتَضِي تَعَذُّرَ التَّعْرِيفِ بِالْإِشَارَةِ لِجَوَازِ أَنْ يَحْضُرَ الْقَاضِي عِنْدَ الْعَقَارِ أَوْ يَبْعَثَ أَمِينَهُ إلَيْهِ فَيُشِيرَ الْمُدَّعَى إلَيْهِ فِي مَحْضَرِ الْقَاضِي أَوْ أَمِينِهِ بِعَيْنِ مَا قَالُوا فِي الْمَنْقُولَاتِ الَّتِي يَتَعَذَّرُ نَقْلُهَا كَالرَّحَى وَنَحْوِهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِيمَا مَرَّ.

وَيُمْكِنُ أَنْ يَدْفَعَ بِأَنَّ الْمَنْقُولَاتِ الَّتِي يُتَعَذَّرُ نَقْلُهَا نَادِرَةٌ فَالْتُزِمَ فِيهَا حُضُورُ الْقَاضِي أَوْ أَمِينِهِ عِنْدَهَا لِعَدَمِ تَأَدِّيهِ إلَى الْحَرَجِ، بِخِلَافِ الْعَقَارَاتِ فَإِنَّهَا كَثِيرَةٌ، فَلَوْ كُلِّفَ الْقَاضِي بِحُضُورِهِ عِنْدَهَا أَوْ بَعَثَ أَمِينَهُ إلَيْهَا لَأَدَّى إلَى الْحَرَجِ فَافْتَرَقَا (وَيَذْكُرُ الْحُدُودَ الْأَرْبَعَةَ وَيَذْكُرُ أَسْمَاءَ أَصْحَابِ الْحُدُودِ وَأَنْسَابَهُمْ، وَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ الْجَدِّ لِأَنَّ تَمَامَ التَّعْرِيفِ بِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى مَا عُرِفَ هُوَ الصَّحِيحُ) احْتِرَازٌ عَمَّا رُوِيَ عَنْهُمَا أَنَّ ذِكْرَ الْأَبِ يَكْفِي (وَلَوْ كَانَ الرَّجُلُ مَشْهُورًا) مِثْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى (يَكْتَفِي بِذِكْرِهِ) يَعْنِي لَا حَاجَةَ إلَى ذِكْرِ الْأَبِ وَالْجَدِّ حِينَئِذٍ لِحُصُولِ التَّعْرِيفِ بِالِاسْمِ بِلَا ذِكْرِ النَّسَبِ. وَفِي الدَّارِ لَا بُدَّ مِنْ التَّحْدِيدِ وَإِنْ كَانَتْ مَشْهُورَةً عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا لَا يُشْتَرَطُ لِأَنَّ الشُّهْرَةَ مُغْنِيَةٌ عَنْهُ، وَلَهُ إنْ قَدَّرَهَا لَا يَصِيرُ مَعْلُومًا إلَّا بِالتَّحْدِيدِ، كَذَا فِي الْكَافِي وَغَيْرِهِ (فَإِنْ ذَكَرَ ثَلَاثَةً مِنْ الْحُدُودِ يَكْتَفِي بِهَا عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ لِوُجُودِ الْأَكْثَرِ) دَلِيلٌ لَنَا: يَعْنِي أَنَّ إقَامَةَ الْأَكْثَرِ مَقَامَ الْكُلِّ أَصْلٌ فِي الشَّرْعِ فَنَعْمَلُ بِهِ هَاهُنَا أَيْضًا (بِخِلَافِ مَا إذَا غَلِطَ فِي الرَّابِعَةِ) أَيْ فِي الْحَدِّ الرَّابِعِ وَأَنَّثَهُ الْمُصَنِّفُ بِاعْتِبَارِ الْجِهَةِ يَعْنِي إذَا ذَكَرَ الْحُدُودَ الثَّلَاثَةَ وَسَكَتَ عَنْ الرَّابِعِ جَازَ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ.

وَأَمَّا إذَا ذَكَرَ الْحَدَّ الرَّابِعَ أَيْضًا وَغَلِطَ فِيهِ فَلَا يَجُوزُ بِاتِّفَاقٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَ زُفَرَ (لِأَنَّهُ يَخْتَلِفُ بِهِ) أَيْ بِالْغَلَطِ (الْمُدَّعِي وَلَا كَذَلِكَ بِتَرْكِهَا) وَنَظِيرُ مَا إذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ بِالْبَيْعِ وَقَبْضِ الثَّمَنِ وَتَرَكَا ذِكْرَ الثَّمَنِ جَازَ، وَلَوْ غَلِطَا فِي الثَّمَنِ لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُمَا لِأَنَّهُ صَارَ عَقْدًا آخَرَ بِالْغَلَطِ، وَبِهَذَا الْفَرْقِ بَطَلَ قِيَاسُ زُفَرَ التَّرْكَ عَلَى الْغَلَطِ (وَكَمَا يُشْتَرَطُ التَّحْدِيدُ فِي الدَّعْوَى يُشْتَرَطُ فِي الشَّهَادَةِ) فَيَجْرِي فِي الثَّانِيَةِ مَا يَجْرِي فِي الْأُولَى (وَقَوْلُهُ فِي الْكِتَابِ) أَيْ قَوْلُ الْقُدُورِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ (وَذَكَرَ أَنَّهُ) يَعْنِي الْعَقَارَ (فِي يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَا بُدَّ مِنْهُ لِأَنَّهُ) أَيْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ (إنَّمَا يَنْتَصِبُ خَصْمًا) أَيْ فِي دَعْوَى الْعَيْنِ (إذَا كَانَ فِي يَدِهِ) أَيْ إذَا كَانَ الْمُدَّعَى فِي يَدِهِ (وَفِي الْعَقَارِ لَا يُكْتَفَى بِذِكْرِ الْمُدَّعِي وَتَصْدِيقِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهُ) أَيْ الْعَقَارَ (فِي يَدِهِ بَلْ لَا تَثْبُتُ الْيَدُ فِيهِ إلَّا بِالْبَيِّنَةِ) بِأَنْ يَشْهَدَ الشُّهُودُ أَنَّهُمْ عَايَنُوا أَنَّ ذَلِكَ الْعَقَارَ الْمُدَّعَى فِي يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، حَتَّى لَوْ قَالُوا سَمِعْنَا إقْرَارَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِأَنَّهُ فِي يَدِهِ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمْ، وَكَذَا الْحَالُ فِي غَيْرِ هَذِهِ الصُّورَةِ، وَقَدْ لَا يُفَرِّقُ الشُّهُودُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَسْأَلَهُمْ الْقَاضِي

ص: 162

أَوْ عِلْمِ الْقَاضِي هُوَ الصَّحِيحُ نَفْيًا لِتُهْمَةِ الْمُوَاضَعَةِ إذْ الْعَقَارُ عَسَاهُ فِي يَدِ غَيْرِهِمَا

أَعَنْ مُعَايَنَةٍ تَشْهَدُونَ أَمْ عَنْ سَمَاعٍ، كَذَا ذُكِرَ فِي مُعْتَبَرَاتِ الْفَتَاوَى (أَوْ عِلْمِ الْقَاضِي) عَطْفٌ عَلَى الْبَيِّنَةِ أَيْ أَوْ بِعِلْمِ الْقَاضِي أَنَّ ذَلِكَ الْعَقَارَ الْمُدَّعَى فِي يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ (هُوَ الصَّحِيحُ) احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ بَعْضِ الْمَشَايِخِ فَإِنَّ عِنْدَهُمْ يَكْفِي تَصْدِيقُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهُ فِي يَدِهِ، وَإِنَّمَا لَا تَثْبُتُ الْيَدُ فِي الْعَقَارِ إلَّا بِالْبَيِّنَةِ أَوْ عِلْمِ الْقَاضِي عَلَى الْقَوْلِ الصَّحِيحِ (نَفْيًا لِتُهْمَةِ الْمُوَاضَعَةِ إذْ الْعَقَارُ عَسَاهُ) أَيْ لَعَلَّهُ (فِي يَدِ غَيْرِهِمَا) أَيْ غَيْرِ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ.

قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: أَيْ يَحْتَمِلُ أَنَّهُمَا تَوَاضَعَا عَلَى أَنْ يُصَدِّقَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْمُدَّعِيَ بِأَنَّ الْعَقَارَ فِي يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِيَحْكُمَ الْقَاضِي بِالْيَدِ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ حَتَّى يَتَصَرَّفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِيهِ، وَهُوَ فِي الْوَاقِعِ فِي يَدِ الثَّالِثِ فَكَانَ ذَلِكَ قَضَاءً بِالتَّصَرُّفِ فِي مَالِ الْغَيْرِ، وَيُؤَدِّي ذَلِكَ إلَى نَقْضِ الْقَضَاءِ عِنْدَ ظُهُورِهِ أَنَّهُ فِي يَدِ الثَّالِثِ اهـ كَلَامُهُ.

وَقَدْ اقْتَفَى أَثَرَهُ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ بِهَذَا الْمَعْنَى صَاحِبُ مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ ثُمَّ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ ثُمَّ الشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ. أَقُولُ: هَذَا خَبْطٌ عَظِيمٌ مِنْهُمْ، أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي الصُّورَةِ الْمَزْبُورَةِ لَا يَدَّعِي عَلَى أَحَدٍ شَيْئًا بَلْ يُصَدِّقُ الْمُدَّعِي فِي قَوْلِهِ إنَّ الْعَقَارَ فِي يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ تَصْدِيقَ الْآخَرِ لَيْسَ بِدَعْوَى عَلَيْهِ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ هُنَاكَ مِنْ الْقَاضِي الْحُكْمُ بِالْيَدِ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَالْحُكْمُ بِحُقُوقِ الْعِبَادِ يَقْتَضِي سَابِقَةَ الدَّعْوَى. وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ الْحُكْمَ مِنْ الْقَاضِي لَا يَصِحُّ إلَّا بِحُجَّةٍ مِنْ الْبَيِّنَةِ أَوْ الْإِقْرَارِ وَقَدْ انْتَفَتْ بِقِسْمَيْهَا فِي تِلْكَ الصُّورَةِ. أَمَّا انْتِفَاءُ الْبَيِّنَةِ فَلِأَنَّ الْمَفْرُوضَ أَنْ لَا تَقُومَ بَيِّنَةٌ عَلَى ثُبُوتِ الْيَدِ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ. وَأَمَّا انْتِفَاءُ الْإِقْرَارِ فَلِأَنَّ الْإِقْرَارَ هُوَ الْإِخْبَارُ بِحَقٍّ لِلْغَيْرِ عَلَى نَفْسِهِ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ مِنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَلَا مِنْ الْمُدَّعِي بِالنِّسْبَةِ إلَى حَقِّ الْيَدِ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ، فَإِذَا لَمْ تَتَحَقَّقْ الْحُجَّةُ أَصْلًا لِثُبُوتِ الْيَدِ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ لَمْ يَصِحَّ الْحُكْمُ مِنْ الْقَاضِي بِالْيَدِ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ هُنَاكَ، فَبَطَلَ قَوْلُهُمْ لِيَحْكُمَ الْقَاضِي بِالْيَدِ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ إلَخْ.

وَالصَّوَابُ أَنَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا هُوَ أَنَّ الْعَقَارَ قَدْ يَكُونُ فِي يَدِ غَيْرِهِمَا، وَهُمَا يَتَوَاضَعَانِ عَلَى أَنْ يُصَدَّقَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي أَنَّ ذَلِكَ الْعَقَارَ فِي يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَيُقِيمُ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِأَنَّ ذَلِكَ الْعَقَارَ لَهُ فَيَحْكُمُ الْقَاضِي لِلْمُدَّعِي بِكَوْنِهِ لَهُ فَيَصِيرُ هَذَا قَضَاءً لَهُ بِمَالِ الْغَيْرِ الَّذِي كَانَ ذَلِكَ الْعَقَارُ فِي يَدِهِ فِي الْوَاقِعِ وَيُفْضِي ذَلِكَ إلَى نَقْضِ الْقَضَاءِ عِنْدَ ظُهُورِهِ فِي يَدِ ذَلِكَ الْغَيْرِ، وَلَقَدْ أَفْصَحَ الْإِمَامُ قَاضِي خَانْ فِي فَتَاوَاهُ عَنْ هَذَا حَيْثُ قَالَ: وَذَكَرَ الْخَصَّافُ عَنْ أَصْحَابِنَا أَنَّ رَجُلًا لَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى رَجُلٍ أَنَّ فِي يَدِهِ الدَّارَ الَّتِي حَدُّهَا كَذَا وَبَيَّنَ حُدُودَهَا فَإِنَّ الْقَاضِيَ لَا يَسْمَعُ دَعْوَاهُ وَلَا يَقْبَلُ بَيِّنَتَهُ عَلَى الْمِلْكِ مَا لَمْ يُقِمْ الْبَيِّنَةَ أَنَّ الدَّارَ فِي يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُقِيمُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا لَهُ لِتَوَهُّمِ أَنَّهُمَا تَوَاضَعَا فِي مَحْدُودٍ فِي يَدِ ثَالِثٍ عَلَى أَنْ يَدَّعِيَهُ أَحَدُهُمَا فَيَقُولَ الْآخَرُ بِأَنَّهَا فِي يَدِهِ وَيُقِيمَ الْمُدَّعِي بَيِّنَتَهُ عَلَيْهِ أَنَّهَا لَهُ وَالدَّارُ فِي يَدِ غَيْرِهِمَا، وَهَذَا بَاطِلٌ لِأَنَّ هَذَا

ص: 163

بِخِلَافِ الْمَنْقُولِ لِأَنَّ الْيَدَ فِيهِ مُشَاهَدَةٌ.

وَقَوْلُهُ وَأَنَّهُ يُطَالِبُهُ بِهِ لِأَنَّ الْمُطَالَبَةَ حَقُّهُ فَلَا بُدَّ مِنْ طَلَبِهِ، وَلِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَرْهُونًا فِي يَدِهِ أَوْ مَحْبُوسًا بِالثَّمَنِ فِي يَدِهِ، وَبِالْمُطَالَبَةِ يَزُولُ هَذَا الِاحْتِمَالُ، وَعَنْ هَذَا قَالُوا فِي الْمَنْقُولِ يَجِبُ أَنْ يَقُولَ فِي يَدِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ.

قَضَاءٌ عَلَى الْمُسَخَّرِ اهـ (بِخِلَافِ الْمَنْقُولِ لِأَنَّ الْيَدَ فِيهِ مُشَاهَدَةٌ) فَلَا مَجَالَ لِلْمُوَاضَعَةِ الْمَذْكُورَةِ (وَقَوْلُهُ) أَيْ قَوْلُ الْقُدُورِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ (وَأَنَّهُ يُطَالِبُهُ بِهِ لِأَنَّ الْمُطَالَبَةَ حَقُّهُ فَلَا بُدَّ مِنْ طَلَبِهِ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: فِي عِبَارَتِهِ تَسَامُحٌ لِأَنَّهُ يَئُولُ إلَى تَقْدِيرٍ فَلَا بُدَّ مِنْ طَلَبِ الْمُطَالَبَةِ فَتَأَمَّلْ.

وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ الْمُطَالَبَةَ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ فَكَانَ مَعْنَاهُ الْمُطَالَبُ حَقُّهُ فَلَا بُدَّ مِنْ طَلَبِهِ اهـ كَلَامُهُ.

أَقُولُ: كُلٌّ مِنْ إيرَادِهِ وَجَوَابِهِ سَاقِطٌ. أَمَّا سُقُوطُ الْأَوَّلِ فَلِأَنَّ الضَّمِيرَ فِي طَلَبِهِ لَيْسَ بِرَاجِعٍ إلَى حَقِّهِ كَمَا تَوَهَّمَهُ، بَلْ هُوَ رَاجِعٌ إلَى مَا يَرْجِعُ إلَيْهِ ضَمِيرُ حَقِّهِ وَهُوَ الْمُدَّعِي؛ فَالْمَعْنَى الْمُطَالَبَةُ حَقُّ الْمُدَّعِي فَلَا بُدَّ مِنْ طَلَبِ الْمُدَّعِي حَتَّى يَجِبَ عَلَى الْقَاضِي إعَانَتُهُ فَلَا مُسَامَحَةَ أَصْلًا. وَأَمَّا سُقُوطُ الثَّانِي فَمِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ أَنَّ الْمُطَالَبَةَ مِنْ طَالَبَهُ بِكَذَا فَالْمُطَالَبُ الْمَفْعُولُ هَاهُنَا هُوَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَاَلَّذِي دَخَلَ عَلَيْهِ الْبَاءُ هُوَ الْمُدَّعِي، فَلَوْ كَانَ الْمَعْنَى الْمُطَالَبُ حَقُّ الْمُدَّعِي صَارَ الْمَعْنَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ حَقُّ الْمُدَّعِي، وَلَا خَفَاءَ فِي فَسَادِهِ.

وَالثَّانِي أَنَّ الْمُدَّعَى أَيْضًا لَيْسَ بِحَقِّ الْمُدَّعِي أَلْبَتَّةَ، بَلْ إنْ ثَبَتَ دَعْوَى الْمُدَّعِي يَكُونُ الْمُدَّعَى حَقَّهُ وَإِلَّا فَلَا، فَفِي ابْتِدَاءِ الْأَمْرِ مِنْ أَيْنَ ثَبَتَ أَنَّهُ حَقُّهُ حَتَّى يَتِمَّ أَنْ يُقَالَ هُوَ حَقُّهُ فَلَا بُدَّ مِنْ طَلَبِهِ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُقَالَ إنَّهُ حَقُّهُ فِي ابْتِدَاءِ الْأَمْرِ أَيْضًا عَلَى زَعْمِهِ، لَكِنَّهُ يَحْتَاجُ حِينَئِذٍ إلَى تَقْدِيرِ قَيْدٍ عَلَى زَعْمِهِ كَمَا يَحْتَاجُ إلَى جَعْلِ الْمَصْدَرِ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ شَأْنَ الْمُصَنِّفِ بِمَعْزِلٍ عَنْ مِثْلِ هَذَا التَّعَسُّفِ وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: وَلَا يَبْعُدُ أَنْ تَكُونَ الْمُطَالَبَةُ اسْمَ مَفْعُولٍ وَالتَّأْنِيثُ بِتَأْوِيلِ الْأَرْضِ وَنَحْوِهَا اهـ.

أَقُولُ: هَذَا بَعِيدٌ عَنْ الْحَقِّ، وَأَبْعَدُ مِمَّا قَالَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي جَوَابِهِ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي سُقُوطِ جَوَابِ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ مِنْ الْوَجْهَيْنِ. وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ مُقْتَضَاهُ التَّعْبِيرُ عَنْ كُلِّ مَطْلُوبٍ بِصِيغَةِ التَّأْنِيثِ وَتَأْوِيلُ كُلِّ مَطْلُوبٍ مُذَكَّرٌ بِمُؤَنَّثٍ، وَهَذَا مِمَّا لَا تَقْبَلُهُ الْفِطْرَةُ السَّلِيمَةُ، بِخِلَافِ مَا قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ (وَلِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ) أَيْ الْمُدَّعَى (مَرْهُونًا فِي يَدِهِ) أَيْ فِي يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ (أَوْ مَحْبُوسًا بِالثَّمَنِ فِي يَدِهِ) فَلَا تَصِحُّ الدَّعْوَى قَبْلَ أَدَاءِ الدَّيْنِ أَوْ قَبْلَ أَدَاءِ الثَّمَنِ (وَبِالْمُطَالَبَةِ يَزُولُ هَذَا الِاحْتِمَالُ) إذْ لَوْ كَانَ مَرْهُونًا أَوْ مَحْبُوسًا بِالثَّمَنِ لَمَا طَالَبَ بِالِانْتِزَاعِ مِنْ ذِي الْيَدِ قَبْلَ أَدَاءِ الدَّيْنِ أَوْ الثَّمَنِ (وَعَنْ هَذَا) أَيْ بِسَبَبِ هَذَا الِاحْتِمَالِ (قَالُوا) أَيْ الْمَشَايِخُ (فِي الْمَنْقُولِ) أَيْ فِي دَعْوَى الْمَنْقُولِ (يَجِبُ أَنْ يَقُولَ فِي يَدِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ) أَيْ يَجِبُ أَنْ يَقُولَ الْمُدَّعِي هَذَا الشَّيْءُ الَّذِي أَدَّعِيهِ فِي يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِغَيْرِ حَقٍّ

ص: 164

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

إزَالَةً لِهَذَا الِاحْتِمَالِ، فَإِنَّ الْعَيْنَ فِي يَدِ ذِي الْيَدِ فِي تَيْنِكَ الصُّورَتَيْنِ بِحَقٍّ.

أَقُولُ: يُرَدُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ إنْ كَانَ ذَكَرَ الْمُطَالَبَةَ مِمَّا لَا بُدَّ مِنْهُ فِي دَعْوَى الْمَنْقُولِ أَيْضًا فَقَدْ حَصَلَ زَوَالُ الِاحْتِمَالِ الْمَذْكُورِ فِيهَا بِذِكْرِ الْمُطَالَبَةِ، كَمَا فِي دَعْوَى الْعَقَارِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا تَجِبَ زِيَادَةٌ بِغَيْرِ حَقٍّ فِي دَعْوَى الْمَنْقُولِ، كَمَا لَا تَجِبُ فِي دَعْوَى الْعَقَارِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَكَرَ الْمُطَالَبَةَ مِمَّا لَا بُدَّ مِنْهُ فِي دَعْوَى الْمَنْقُولِ يَكُونُ الدَّلِيلُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي وُجُوبِ ذِكْرِ الْمُطَالَبَةِ فِي دَعْوَى الْعَقَارِ وَدَعْوَى الدَّيْنِ وَهُوَ قَوْلُهُ لِأَنَّ الْمُطَالَبَةَ حَقُّ الْمُدَّعِي فَلَا بُدَّ مِنْ طَلَبِهِ مَنْقُوضًا بِصُورَةِ دَعْوَى الْمَنْقُولِ.

وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِنَوْعِ بَسْطٍ فِي الْكَلَامِ وَتَحْقِيقٍ فِي الْمَقَامِ، وَهُوَ أَنَّ ذِكْرَ الْمُطَالَبَةِ مِمَّا لَا بُدَّ مِنْهُ فِي دَعْوَى الْمَنْقُولِ أَيْضًا عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ الدَّلِيلُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي دَعْوَى الْعَقَارِ وَفِي دَعْوَى الدَّيْنِ، لَكِنْ لَا يَجِبُ ذِكْرُهَا قَبْلَ إحْضَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْمَنْقُولَ إلَى مَجْلِسِ الْقَاضِي، بَلْ إنَّمَا يَجِبُ ذِكْرُهَا بَعْدَ إحْضَارِهِ إلَيْهِ لِأَنَّ إعْلَامَ الْمُدَّعِي بِأَقْصَى مَا يُمْكِنُ شَرْطٌ، وَذَلِكَ فِي الْمَنْقُولِ لَا يَكُونُ إلَّا بِالْإِشَارَةِ كَمَا مَرَّ، فَمَا لَمْ يُحْضِرْ الْمَنْقُولَ إلَى مَجْلِسِ الْقَاضِي لَمْ تَحْصُلْ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ، وَمَا لَمْ يَحْصُلْ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ لَمْ يَصِرْ مَعْلُومًا بِمَا يَجِبُ إعْلَامُهُ بِهِ، وَمَا لَمْ يَصِرْ مَعْلُومًا بِهَذَا لَمْ تَتَحَقَّقْ الْفَائِدَةُ فِي ذِكْرِ الْمُطَالَبَةِ بِهِ، يُرْشِدُ إلَيْهِ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ فِيمَا سَيَأْتِي، لِأَنَّ صَاحِبَ الذِّمَّةِ قَدْ حَضَرَ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا الْمُطَالَبَةُ حَيْثُ يُشِيرُ إلَى أَنَّهُ مَا بَقِيَ شَيْءٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ تَمَامُ الدَّعْوَى لَمْ يَجِبْ ذِكْرُ الْمُطَالَبَةِ.

وَلَا شَكَّ أَنَّ إحْضَارَ الْمَنْقُولِ إلَى مَجْلِسِ الْقَاضِي مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهِ تَمَامُ الدَّعْوَى، فَلَمْ يَجِبْ قَبْلَهُ عَلَى الْمُدَّعِي ذِكْرُ الْمُطَالَبَةِ، فَلَمَّا لَمْ يَجِبْ قَبْلَهُ عَلَيْهِ ذِكْرُهَا وَجَبَ عَلَيْهِ إذْ ذَاكَ أَنْ يَقُولَ فِي يَدِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ إزَالَةً لِلِاحْتِمَالِ الْمَذْكُورِ حَتَّى يَجِبَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إحْضَارُ الْمُدَّعَى الْمَنْقُولِ إلَى مَجْلِسِ الْقَاضِي، وَيَصِحُّ لِلْقَاضِي تَكْلِيفُهُ بِإِحْضَارِهِ إلَيْهِ.

وَالْحَاصِلُ أَنَّ الِاحْتِيَاجَ إلَى زِيَادَةِ قَيْدِ بِغَيْرِ حَقٍّ فِي دَعْوَى الْمَنْقُولِ لِأَجْلِ أَنْ يَجِبَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إحْضَارُ الْمُدَّعَى إلَى مَجْلِسِ الْحُكْمِ، وَوُجُوبُ إحْضَارِ الْمُدَّعَى إلَى مَجْلِسِ الْقَاضِي مُخْتَصٌّ بِدَعْوَى الْمَنْقُولِ كَمَا مَرَّ فِي الْكِتَابِ فَوَجَبَ زِيَادَةُ الْقَيْدِ الْمَذْكُورِ فِي دَعْوَى الْمَنْقُولِ دُونَ غَيْرِهَا. ثُمَّ لَمَّا زِيدَ الْقَيْدُ الْمَذْكُورُ فِي دَعْوَى الْمَنْقُولِ قَبْلَ إحْضَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْمُدَّعَى إلَى مَجْلِسِ الْقَاضِي وَزَالَ الِاحْتِمَالُ الْمَذْكُورُ بِهِ لَمْ يَبْقَ لِذِكْرِ الْمُطَالَبَةِ فِيهَا بَعْدَ إحْضَارِهِ

ص: 165

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

إلَيْهِ إلَّا عِلَّةٌ وَاحِدَةٌ، وَهِيَ أَنَّ الْمُطَالَبَةَ حَقُّهُ فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِهِ كَمَا هِيَ الْعِلَّةُ فَقَطْ فِي دَعْوَى الدَّيْنِ، بِخِلَافِ دَعْوَى الْعَقَارِ فَإِنَّ لِذِكْرِ الْمُطَالَبَةِ فِيهَا عِلَّتَيْنِ كَمَا ذَكَرَهُمَا الْمُصَنِّفُ، وَبِهَذَا الْبَسْطِ وَالتَّحْقِيقِ تَبَيَّنَ انْدِفَاعُ اعْتِرَاضِ صَدْرِ الشَّرِيعَةِ عَلَى الْقَوْمِ حَيْثُ قَالَ فِي شَرْحِهِ لِلْوِقَايَةِ: أَقُولُ هَذِهِ الْعِلَّةُ تَشْمَلُ الْعَقَارَ أَيْضًا، فَلَا أَدْرِي مَا وَجْهُ تَخْصِيصِ الْمَنْقُولِ بِهَذَا الْحُكْمِ اهـ.

ثُمَّ إنَّ هَاهُنَا كَلِمَاتٍ أُخْرَى لِلْفُضَلَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ، فَلَا عَلَيْنَا أَنْ نَنْقُلَهَا وَنَتَكَلَّمَ عَلَيْهَا. فَاعْلَمْ أَنَّ صَاحِبَ الدُّرَرِ وَالْغُرَرِ أَجَابَ عَنْ اعْتِرَاضِ صَدْرِ الشَّرِيعَةِ بِوَجْهٍ آخَرَ حَيْثُ قَالَ: إنَّ دِرَايَةَ وَجْهِهِ مَوْقُوفَةٌ عَلَى مُقَدِّمَتَيْنِ مُسَلَّمَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا أَنَّ دَعْوَى الْأَعْيَانِ لَا تَصِحُّ إلَّا عَلَى ذِي الْيَدِ، كَمَا قَالَ فِي الْهِدَايَةِ: إنَّمَا يَنْتَصِبُ خَصْمًا إذَا كَانَ فِي يَدِهِ. وَالثَّانِيَةُ أَنَّ الشُّبْهَةَ مُعْتَبَرَةٌ يَجِبُ دَفْعُهَا لَا شُبْهَةُ الشُّبْهَةِ، كَمَا قَالُوا إنَّ شُبْهَةَ الرِّبَا مُلْحَقَةٌ بِالْحَقِيقَةِ لَا شُبْهَةُ الشُّبْهَةِ. إذَا عَرَفْتهمَا فَاعْلَمْ أَنَّ فِي ثُبُوتِ الْيَدِ عَلَى الْعَقَارِ شُبْهَةً لِكَوْنِهِ غَيْرَ مُشَاهَدٍ، بِخِلَافِ الْمَنْقُولِ فَإِنَّهُ فِيهِ مُشَاهَدَةٌ فَوَجَبَ دَفْعُهَا فِي دَعْوَى الْعَقَارِ بِإِثْبَاتِهِ بِالْبَيِّنَةِ لِتَصِحَّ الدَّعْوَى، وَبَعْدَ ثُبُوتِهِ يَكُونُ احْتِمَالُ كَوْنِ الْيَدِ لِغَيْرِ الْمَالِكِ بِحَقِّ شُبْهَةِ الشُّبْهَةِ فَلَا تُعْتَبَرُ.

وَأَمَّا الْيَدُ فِي الْمَنْقُولِ فَلِكَوْنِهِ مُشَاهَدًا لَا يَحْتَاجُ إلَى إثْبَاتِهِ لَكِنْ فِيهِ شُبْهَةُ كَوْنِ الْيَدِ لِغَيْرِ الْمَالِكِ فَوَجَبَ دَفْعُهَا لِتَصِحَّ الدَّعْوَى اهـ. وَرَدَّ عَلَيْهِ هَذَا الْجَوَابَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ قَدْ صَرَّحَ فِي الْهِدَايَةِ وَالشُّرُوحِ بِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْمُطَالَبَةِ فِي الْعَقَارِ أَيْضًا لِيَزُولَ احْتِمَالُ كَوْنِهِ مَرْهُونًا أَوْ مَحْبُوسًا بِالثَّمَنِ، وَيُعْلَمُ مِنْ هَذَا أَنَّهُمْ اعْتَبَرُوا ذَلِكَ الِاحْتِمَالَ وَأَوْجَبُوا دَفْعَهُ فِي الْعَقَارِ أَيْضًا، وَهَذَا لَيْسَ مِنْ شُبْهَةِ الشُّبْهَةِ الَّتِي لَمْ يَعْتَبِرُوهَا كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى الْمُتَدَبِّرِ فَتَدَبَّرْ اهـ.

وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: وَإِنْ أَرَدْت تَحْقِيقَ الْمَقَامِ وَتَلْخِيصَ الْكَلَامِ، فَاسْتَمِعْ لِمَا يُتْلَى عَلَيْك مُسْتَعِينًا بِالْمَلِكِ الْعَلَّامِ، وَمُسْتَمِدًّا مِنْ وَلِيِّ الْفَيْضِ وَالْإِلْهَامِ، فَأَقُولُ: لَا شَكَّ أَنَّ فِي الْعَقَارِ شُبْهَةً فِي ثُبُوتِ الْيَدِ عَلَى الْمُدَّعِي ثُمَّ شُبْهَةً فِي كَوْنِهَا بِغَيْرِ حَقٍّ، وَأَنَّ الثَّانِيَةَ شُبْهَةُ الشُّبْهَةِ، وَذَلِكَ ظَاهِرٌ لِمَنْ تَتَبَّعَ أَقَاوِيلَهُمْ، وَأَنَّ شُبْهَةَ الشُّبْهَةِ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ إلَّا إذَا انْدَفَعَتْ الشُّبْهَةُ فَإِنَّ شُبْهَةَ الشُّبْهَةِ حِينَئِذٍ تَكُونُ مُعْتَبَرَةً؛ أَلَا يَرَى أَنَّهُمْ إذَا شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا بِامْرَأَةٍ غَائِبَةٍ فَإِنَّهُ يُحَدُّ لِأَنَّ الَّذِي فِيهِ هُوَ شُبْهَةُ دَعْوَى النِّكَاحِ إذَا حَضَرَتْ ثُمَّ شُبْهَةُ صِدْقِهَا فِي تِلْكَ الدَّعْوَى فَلَا تُعْتَبَرُ لِكَوْنِهَا شُبْهَةَ الشُّبْهَةِ.

وَأَمَّا إذَا حَضَرَتْ قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ وَادَّعَتْ النِّكَاحَ لَا يُحَدُّ الرَّجُلُ اعْتِبَارًا لِشُبْهَةِ الصِّدْقِ. إذَا تَحَقَّقَتْ هَذِهِ الْمُقَدِّمَاتُ فَنَقُولُ: لَوْ أَتَى مُدَّعِي الْعَقَارِ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ وَقَالَ هُوَ فِي يَدِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَدْ قَرَعَ سَمْعَك مِنْ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّهُ إذَا كَانَ فِي كَلَامٍ مُثْبَتٍ أَوْ مَنْفِيٍّ تَقْيِيدٌ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ فَمَنَاطُ الْإِفَادَةِ هُوَ ذَلِكَ الْقَيْدُ يَلْزَمُ عَكْسُ الْمَقْصُودِ، وَهُوَ الِاهْتِمَامُ بِدَفْعِ شُبْهَةِ الشُّبْهَةِ مَعَ بَقَاءِ الشُّبْهَةِ بِحَالِهَا، فَأَحَالُوا دَفْعَهَا إلَى كَلَامٍ مُسْتَقِلٍّ مُتَأَخِّرٍ بِحَسَبِ الرُّتْبَةِ عَنْ ثُبُوتِ الْيَدِ وَهُوَ قَوْلُ الْمُدَّعِي أُطَالِبُهُ فَإِنَّ فِي تِلْكَ الرُّتْبَةِ انْدَفَعَتْ الشُّبْهَةُ بِطَرِيقِهَا وَبَقِيَتْ شُبْهَةُ الشُّبْهَةِ شُبْهَةً مُعْتَبَرَةً بِخِلَافِ الْمَنْقُولِ فَإِنَّ ثُبُوتَ الْيَدِ فِيهِ مُشَاهَدَةٌ لَا شُبْهَةَ فِيهِ فَأَوْجَبُوا تِلْكَ الزِّيَادَةِ لِتَنْدَفِعَ بِهَا شُبْهَةُ كَوْنِ الْيَدِ بِحَقٍّ. أَوْ نَقُولُ: لَوْ زَادَ الْمُدَّعِي قَوْلَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ فِي دَعْوَى الْعَقَارِ وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِالْكَلَامِ الْأَوَّلِ وَمِنْ جُمْلَتِهِ، وَلَمْ يَنْدَفِعْ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ، شُبْهَةُ كَوْنِهِ فِي يَدِ غَيْرِهِ يَلْزَمُ اعْتِبَارُ شُبْهَةِ الشُّبْهَةِ وَالْمُطَالَبَةُ مُتَأَخِّرَةٌ مَرْتَبَةً عَنْ ثُبُوتِ الْيَدِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ انْدِفَاعِهَا بِهِ مَحْذُورٌ كَمَا نَبَّهْت عَلَيْهِ، بِخِلَافِ الْمَنْقُولِ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ شُبْهَةُ كَوْنِهِ فِي يَدِ غَيْرِهِ، فَاغْتَنِمْ هَذَا فَإِنَّهُ هُوَ الْكَلَامُ الْفَصْلُ وَالْقَوْلُ الْجَزْلُ.

ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الْمُطَالَبَةَ فِي الْمَنْقُولِ كَالْمُطَالَبَةِ فِي الدُّيُونِ لَيْسَ لِدَفْعِ الِاحْتِمَالِ بَلْ ذَلِكَ مَخْصُوصٌ بِالْعَقَارِ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ.

وَأَقُولُ: مَا ذَكَرَهُ ذَلِكَ الْفَاضِلُ هَاهُنَا وَسَمَّاهُ بِالتَّحْقِيقِ مِمَّا لَا يُجْدِي طَائِلًا وَمَا هُوَ بِذَلِكَ التَّلْقِيبِ بِحَقِيقٍ. أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ خُلَاصَةَ كَلَامِهِ هِيَ أَنَّ مُدَّعِي الْعَقَارِ لَوْ أَتَى بِتِلْكَ الزِّيَادَةِ وَجَعَلَهَا قَيْدًا لِلْكَلَامِ الْأَوَّلِ وَقَصَدَ بِهَا دَفْعَ شُبْهَةِ كَوْنِ الْيَدِ بِحَقٍّ لَزِمَ اعْتِبَارُ شُبْهَةِ الشُّبْهَةِ وَالِاهْتِمَامُ بِدَفْعِهَا مَعَ بَقَاءِ الشُّبْهَةِ وَهِيَ شُبْهَةُ كَوْنِهِ فِي يَدِ الْغَيْرِ بِحَالِهَا إذَا لَمْ تَنْدَفِعْ هَذِهِ الشُّبْهَةُ قَبْلَ ثُبُوتِ الْيَدِ، وَقَدْ تَقَرَّرَ عِنْدَهُمْ أَنَّ شُبْهَةَ الشُّبْهَةِ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ قَبْلُ انْدِفَاعِ الشُّبْهَةِ، فَأَحَالُوا دَفْعَ شُبْهَةِ الشُّبْهَةِ إلَى كَلَامٍ مُسْتَقِلٍّ مُتَأَخِّرٍ فِي الرُّتْبَةِ عَنْ ثُبُوتِ الْيَدِ وَهُوَ قَوْلُ الْمُدَّعِي أُطَالِبُهُ، فَإِنَّ فِي تِلْكَ الْمَرْتَبَةِ انْدَفَعَتْ الشُّبْهَةُ وَبَقِيَتْ شُبْهَةُ الشُّبْهَةِ مُعْتَبَرَةً، بِخِلَافِ الْمَنْقُولِ فَإِنَّ ثُبُوتَ الْيَدِ فِيهِ مُشَاهَدٌ فَلَيْسَ فِيهِ شُبْهَةُ كَوْنِهِ فِي يَدِ غَيْرِهِ فَأَوْجَبُوا

ص: 166

قَالَ (وَإِنْ كَانَ حَقًّا فِي الذِّمَّةِ ذُكِرَ أَنَّهُ يُطَالِبُهُ بِهِ) لِمَا قُلْنَا، وَهَذَا لِأَنَّ صَاحِبَ الذِّمَّةِ قَدْ حَضَرَ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا الْمُطَالَبَةُ لَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ تَعْرِيفِهِ بِالْوَصْفِ لِأَنَّهُ يُعْرَفُ بِهِ

قَالَ (وَإِذَا صَحَّتْ الدَّعْوَى سَأَلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَنْهَا) لِيَنْكَشِفَ لَهُ وَجْهُ الْحُكْمِ (فَإِنْ اعْتَرَفَ قُضِيَ عَلَيْهِ بِهَا)

تِلْكَ الزِّيَادَةَ لِيَنْدَفِعَ بِهَا شُبْهَةُ كَوْنِ الْيَدِ بِحَقٍّ لَكِنَّهَا لَيْسَتْ بِتَامَّةٍ؛ لِأَنَّ الْحَاصِلَ مِنْهَا أَنْ لَا يَصِحَّ الْإِتْيَانُ بِتِلْكَ الزِّيَادَةِ فِي دَعْوَى الْعَقَارِ عَلَى أَنْ تُجْعَلَ تِلْكَ الزِّيَادَةُ قَيْدًا لِلْكَلَامِ الْأَوَّلِ، وَهَذَا لَا يُنَافِي صِحَّةَ الْإِتْيَانِ بِهَا عَلَى أَنْ تُجْعَلَ كَلَامًا مُسْتَقِلًّا بِأَنْ يَقُولَ الْمُدَّعِي إنَّهُ فِي يَدِهِ وَإِنَّ يَدَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَإِنَّ الزِّيَادَةَ حِينَئِذٍ تَصِيرُ كَلَامًا مُسْتَقِلًّا كَمَا تَرَى وَتَصِيرُ مُتَأَخِّرًا فِي الرُّتْبَةِ عَنْ ثُبُوتِ الْيَدِ كَقَوْلِهِ أُطَالِبُهُ لِأَنَّهُ كَمَا أَنَّ حَقَّ ذِكْرِ الْمُطَالَبَةِ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ ثُبُوتِ الْيَدِ، كَذَلِكَ حَقُّ ذِكْرِ أَنَّ يَدَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ بَعْدَ ثُبُوتِهَا، إذْ قَبْلَ ثُبُوتِ الْيَدِ كَمَا لَا فَائِدَةَ فِي الْمُطَالَبَةِ لَا فَائِدَةَ أَيْضًا فِي بَيَانِ أَنَّ يَدَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَهَذَا مِمَّا لَا سُتْرَةَ بِهِ فَلَمْ يَظْهَرْ وَجْهُ عَدَمِ تِلْكَ الزِّيَادَةِ مُطْلَقًا فِي دَعْوَى الْمَنْقُولِ.

وَبِالْجُمْلَةِ إنَّ مَا ذَكَرَهُ وَجْهٌ لَفْظِيٌّ مَخْصُوصٌ بِصُورَةِ كَوْنِ الزِّيَادَةِ قَيْدًا لِلْكَلَامِ الْأَوَّلِ لَا وَجْهٌ فِقْهِيٌّ عَامٌّ لِجَمِيعِ صُوَرِ الزِّيَادَةِ فَلَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ قَطْعًا.

وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَبْقَى الْإِشْكَالُ فِي الْمَقَامِ بِأَنَّ شُبْهَةَ كَوْنِ الْيَدِ بِحَقٍّ تَنْدَفِعُ فِي دَعْوَى الْمَنْقُولِ أَيْضًا بِالْمُطَالَبَةِ، فَيَنْبَغِي أَنْ تُتْرَكَ الزِّيَادَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي دَعْوَى الْمَنْقُولِ كَمَا تُتْرَكُ فِي دَعْوَى الْعَقَارِ، وَلَا يَنْحَلُّ هَذَا الْإِشْكَالُ بِمَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الْمُطَالَبَةَ فِي الْمَنْقُولِ كَالْمُطَالَبَةِ فِي الدُّيُونِ لَيْسَ لِدَفْعِ الِاحْتِمَالِ بَلْ ذَلِكَ مَخْصُوصٌ بِالْعَقَارِ انْتَهَى؛ لِأَنَّ دَفْعَ الِاحْتِمَالِ الْمَذْكُورِ يَحْصُلُ قَطْعًا مِنْ ذِكْرِ الْمُطَالَبَةِ فِي الْمَنْقُولِ أَيْضًا فَلَا يُدْفَعُ: أَيْ لَا يُقْصَدُ بِهَا دَفْعُ ذَلِكَ الِاحْتِمَالِ فِي الْمَنْقُولِ اسْتِدْرَاكُ الزِّيَادَةِ الْمَذْكُورَةِ فِيهِ. وَأَمَّا مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ التَّحْقِيقِ فَيَنْدَفِعُ بِهِ هَذَا الْإِشْكَالُ كَمَا يَنْدَفِعُ بِهِ اعْتِرَاضُ صَدْرِ الشَّرِيعَةِ كَمَا تَحَقَّقْته مِنْ قَبْلُ. الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هُدَانَا اللَّهُ

(قَالَ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ (وَإِنْ كَانَ حَقًّا فِي الذِّمَّةِ) أَيْ وَإِنْ كَانَ الْمُدَّعَى حَقًّا ثَابِتًا فِي الذِّمَّةِ: يَعْنِي إنْ كَانَ دَيْنًا لَا عَيْنًا (ذُكِرَ أَنَّهُ يُطَالِبُهُ بِهِ) يَعْنِي ذُكِرَ أَنَّهُ يُطَالِبُهُ بِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُشْتَرَطَ فِيهِ مَا يُشْتَرَطُ فِي الْعَيْنِ عَلَى مَا فَصَّلَ فِيمَا مَرَّ (لِمَا قُلْنَا) تَعْلِيلٌ لِمُجَرَّدِ ذِكْرِ الْمُطَالَبَةِ فِيهِ وَإِشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّ الْمُطَالَبَةَ حَقُّهُ فَلَا بُدَّ مِنْ طَلَبِهِ (وَهَذَا) أَيْ الِاكْتِفَاءُ فِيهِ بِذِكْرِ الْمُطَالَبَةِ (لِأَنَّ صَاحِبَ الذِّمَّةِ قَدْ حَضَرَ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا الْمُطَالَبَةُ كَمَا لَا بُدَّ مِنْ تَعْرِيفِهِ) أَيْ تَعْرِيفِ مَا فِي الذِّمَّةِ وَهُوَ الدَّيْنُ (بِالْوَصْفِ) أَيْ بِالصِّفَةِ؛ فَالْمَعْنَى: لَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ تَعْرِيفِهِ بِالْوَصْفِ كَمَا لَا بُدَّ مِنْ تَعْرِيفِهِ بِالْجِنْسِ وَالْقَدْرِ عَلَى مَا عُرِفَ فِيمَا مَرَّ مِنْ قَوْلِ الْقُدُورِيِّ، وَلَا تُقْبَلُ الدَّعْوَى حَتَّى يَذْكُرَ شَيْئًا مَعْلُومًا فِي جِنْسِهِ وَقَدْرِهِ (لِأَنَّهُ يُعْرَفُ بِهِ) أَيْ لِأَنَّ مَا فِي الذِّمَّةِ يُعْرَفُ بِالْوَصْفِ: أَيْ الصِّفَةِ، بِأَنْ يُقَالَ إنَّهُ جَيِّدٌ أَوْ وَسَطٌ أَوْ رَدِيءٌ بَعْدَ أَنْ يَذْكُرَ جِنْسَهُ وَقَدْرَهُ، وَلَكِنْ إنَّمَا يَحْتَاجُ إلَى ذِكْرِ الصِّفَةِ فِيمَا إذَا كَانَ الْمُدَّعَى دَيْنًا وَزْنِيًّا إنْ كَانَ فِي الْبَلَدِ نُقُودٌ مُخْتَلِفَةٌ.

أَمَّا إذَا كَانَ فِي الْبَلَدِ نَقْدٌ وَاحِدٌ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ كَمَا ذُكِرَ فِي الشُّرُوحِ وَمُعْتَبَرَاتِ الْفَتَاوَى، وَهَذَا كُلُّهُ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ بِالْوَصْفِ هَاهُنَا مَعْنَى الصِّفَةِ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ، لَكِنَّ الْأَظْهَرَ مِنْ حَيْثُ مَعْنَى الْمَقَامِ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ بِهِ مَعْنَى الْبَيَانِ، فَالْمَعْنَى: لَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ تَعْرِيفِ مَا فِي الذِّمَّةِ أَيْضًا بِالْبَيَانِ: أَيْ بِبَيَانِ مَا يَحْتَاجُ إلَى ذِكْرِهِ مِنْ جِنْسِهِ وَقَدْرِهِ مُطْلَقًا، وَمِنْ نَوْعِهِ وَصِفَتِهِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ عَلَى مَا فَصَّلَ فِي النِّهَايَةِ وَالْكِفَايَةِ نَقْلًا عَنْ الذَّخِيرَةِ وَفُصُولِ الْأُسْرُوشَنِيِّ. وَبِالْجُمْلَةِ لَا بُدَّ فِي كُلِّ جِنْسٍ مِنْ الْإِعْلَامِ بِأَقْصَى مَا يُمْكِنُ بِهِ التَّعْرِيفُ

(قَالَ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ (وَإِذَا صَحَّتْ الدَّعْوَى) أَيْ وَإِذَا صَحَّتْ الدَّعْوَى بِشُرُوطِهَا (سَأَلَ) أَيْ الْقَاضِي (الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَنْهَا) أَيْ عَنْ الدَّعْوَى (لِيَنْكَشِفَ لَهُ وَجْهُ الْحُكْمِ) أَيْ لِيَنْكَشِفَ لِلْقَاضِي وَجْهُ الْحُكْمِ: أَيْ طَرِيقُهُ إنْ ثَبَتَ حَقُّ الْمُدَّعِي فَإِنَّ الْحُكْمَ مِنْهُ يَكُونُ بِأَحَدِ أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ: الْبَيِّنَةُ وَالْإِقْرَارُ وَالنُّكُولُ.

وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا طَرِيقٌ مَخْصُوصٌ مِنْ الْقَضَاءِ فَلَا بُدَّ مِنْ السُّؤَالِ لِيَنْكَشِفَ لَهُ طَرِيقُ حُكْمِهِ (فَإِنْ اعْتَرَفَ قُضِيَ عَلَيْهِ بِهَا) أَيْ فَإِنْ اعْتَرَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ قَضَى الْقَاضِي عَلَيْهِ بِالدَّعْوَى بِمَعْنَى الْمُدَّعَى

ص: 167

لِأَنَّ الْإِقْرَارَ مُوجِبٌ بِنَفْسِهِ فَيَأْمُرُهُ بِالْخُرُوجِ عَنْهُ (وَإِنْ أَنْكَرَ سَأَلَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام " أَلَك بَيِّنَةٌ؟ فَقَالَ لَا، فَقَالَ: لَك يَمِينُهُ " سَأَلَ وَرَتَّبَ الْيَمِينَ عَلَى فَقْدِ الْبَيِّنَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ السُّؤَالِ لِيُمْكِنَهُ الِاسْتِحْلَافُ

. قَالَ (فَإِنْ أَحْضَرَهَا قُضِيَ بِهَا) لِانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ عَنْهَا (وَإِنْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ وَطَلَبَ يَمِينَ خَصْمِهِ) اسْتَحْلَفَهُ (عَلَيْهَا) لِمَا رَوَيْنَا، وَلَا بُدَّ مِنْ طَلَبِهِ لِأَنَّ الْيَمِينَ حَقُّهُ؛ أَلَا يَرَى أَنَّهُ كَيْفَ أُضِيفَ إلَيْهِ بِحَرْفِ اللَّامِ فَلَا بُدَّ مِنْ طَلَبِهِ.

أَوْ بِمُوجِبِ الدَّعْوَى.

ثُمَّ إنَّ إطْلَاقَ لَفْظِ الْقَضَاءِ هَاهُنَا تَوَسُّعٌ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ حُجَّةٌ بِنَفْسِهِ فَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَضَاءِ، فَكَانَ الْحُكْمُ مِنْ الْقَاضِي إلْزَامًا لِلْخُرُوجِ عَنْ مُوجِبِ مَا أَقَرَّ بِهِ، بِخِلَافِ الْبَيِّنَةِ لِأَنَّهَا إنَّمَا تَصِيرُ حُجَّةً بِاتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهَا، فَإِنَّ الشَّهَادَةَ خَبَرٌ يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ، وَقَدْ جَعَلَهَا الْقَاضِي حُجَّةً بِالْقَضَاءِ بِهَا وَأَسْقَطَ جَانِبَ احْتِمَالِ الْكَذِبِ فِي حَقِّ الْعَمَلِ بِهَا، كَذَا فِي الشُّرُوحِ وَغَيْرِهَا، وَقَدْ أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ (لِأَنَّ الْإِقْرَارَ مُوجِبٌ بِنَفْسِهِ فَيَأْمُرُهُ) أَيْ يَأْمُرُ الْقَاضِي الْمُدَّعَى عَلَيْهِ (بِالْخُرُوجِ عَنْهُ) أَيْ عَمَّا يُوجِبُهُ الْإِقْرَارُ (وَإِنْ أَنْكَرَ) أَيْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ (سَأَلَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ) أَيْ طَلَبَ الْقَاضِي مِنْ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ (لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام) أَيْ لِقَوْلِ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام لِلْمُدَّعِي (أَلَك الْبَيِّنَةُ؟ فَقَالَ لَا) أَيْ قَالَ الْمُدَّعِي لَا بَيِّنَةَ لِي (فَقَالَ) أَيْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (لَك يَمِينُهُ) أَيْ يَمِينُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ (سَأَلَ) أَيْ سَأَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمُدَّعِيَ عَنْ الْبَيِّنَةِ (وَرَتَّبَ الْيَمِينَ عَلَى فَقْدِ الْبَيِّنَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ السُّؤَالِ) أَيْ فَلَا بُدَّ لِلْقَاضِي مِنْ السُّؤَالِ عَنْ الْبَيِّنَةِ (لِيُمْكِنَهُ الِاسْتِحْلَافُ) أَيْ لِيُمْكِنَ الْقَاضِيَ اسْتِحْلَافُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عِنْدَ فَقْدِ الْبَيِّنَةِ

(قَالَ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ (فَإِنْ أَحْضَرَهَا) أَيْ فَإِنْ أَحْضَرَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ عَلَى وَفْقِ دَعْوَاهُ (قَضَى بِهَا) أَيْ قَضَى الْقَاضِي بِالْبَيِّنَةِ (لِانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ عَنْهَا) أَيْ عَنْ الدَّعْوَى لِتَرَجُّحِ جَانِبِ الصِّدْقِ عَلَى الْكَذِبِ بِالْبَيِّنَةِ وَهِيَ: أَيْ الْبَيِّنَةُ فَعِيلَةٌ مِنْ الْبَيَانِ لِأَنَّهَا دَلَالَةٌ وَاضِحَةٌ يَظْهَرُ بِهَا الْحَقُّ مِنْ الْبَاطِلِ، وَقِيلَ فَيْعَلَةٌ مِنْ الْبَيْنِ إذْ بِهَا يَقَعُ الْفَصْلُ بَيْنَ الصَّادِقِ وَالْكَاذِبِ كَذَا فِي الْكَافِي (وَإِنْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ) أَيْ وَإِنْ عَجَزَ الْمُدَّعِي عَنْ إحْضَارِ الْبَيِّنَةِ (وَطَلَبَ يَمِينَ خَصْمِهِ) وَهُوَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ (اسْتَحْلَفَهُ عَلَيْهَا) أَيْ اسْتَحْلَفَ الْقَاضِي خَصْمَهُ عَلَى دَعْوَاهُ (لِمَا رَأَيْنَا) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَك يَمِينُهُ بَعْدَ أَنْ قَالَ الْمُدَّعِي لَا (وَلَا بُدَّ مِنْ طَلَبِهِ) أَيْ مِنْ طَلَبِ الْمُدَّعِي اسْتِحْلَافَ خَصْمِهِ (لِأَنَّ الْيَمِينَ حَقُّهُ) أَيْ حَقُّ الْمُدَّعِي (أَلَا يَرَى أَنَّهُ كَيْفَ أُضِيفَ إلَيْهِ بِحَرْفِ اللَّامِ) أَيْ كَيْفَ أُضِيفَ الْيَمِينُ إلَى الْمُدَّعِي بِحَرْفِ اللَّامِ فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «لَك يَمِينُهُ» وَالْإِضَافَةُ إلَيْهِ بِحَرْفِ اللَّامِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلِاخْتِصَاصِ تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّ الْيَمِينَ حَقُّهُ، وَإِنَّمَا قَالَ الْمُصَنِّفُ أُضِيفَ بِتَذْكِيرِ الْفِعْلِ مَعَ كَوْنِهِ مُسْنَدًا إلَى ضَمِيرِ الْيَمِينِ الَّتِي هِيَ مُؤَنَّثٌ عَلَى تَأْوِيلِ الْقَسَمِ أَوْ الْحَلِفِ.

قَالَ صَاحِبُ الْكَافِي: وَالْفِقْهُ فِيهِ: أَيْ فِي كَوْنِ الْيَمِينِ حَقَّ الْمُدَّعِي أَنَّ الْمُدَّعِيَ يَزْعُمُ أَنَّهُ أَتْوَى حَقَّهُ بِإِنْكَارِهِ فَشُرِعَ الِاسْتِحْلَافُ، حَتَّى لَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا زَعَمَ يَكُونُ إتْوَاءً بِمُقَابَلَةِ إتْوَاءً، فَإِنَّ الْيَمِينَ الْفَاجِرَةَ تَدَعُ الدِّيَارَ بَلَاقِعَ

ص: 168

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وَأَلَّا يَنَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الثَّوَابَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى سَبِيلِ التَّعْظِيمِ صَادِقًا، وَلَا يَتَضَرَّرُ بِهِ بِوَجْهٍ انْتَهَى. وَقَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ بَعْدَ ذِكْرِ مَا فِي الْكَافِي: ثُمَّ إنَّمَا رَتَّبَ الْيَمِينَ عَلَى الْبَيِّنَةِ لَا عَلَى الْعَكْسِ؛ لِأَنَّ نَفْسَ الدَّعْوَى لَيْسَتْ بِمُوجِبَةٍ اسْتِحْقَاقَ الْمُدَّعِي لِلْمُدَّعَى لِأَنَّ فِيهِ إسَاءَةَ الظَّنِّ بِالْآخَرِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ فَوَجَبَ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَى الْمُدَّعِي لِإِثْبَاتِ اسْتِحْقَاقِهِ بِهَا، فَيُطَالِبُهُ الْقَاضِي بِذَلِكَ لَا عَلَى وَجْهِ الْإِلْزَامِ عَلَيْهِ بَلْ عَلَى وَجْهِ التَّذْكِيرِ لَهُ، فَلَوْ قَدَّمْنَا الْيَمِينَ لَمْ يَكُنْ فِيهِ نَظَرٌ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ، إذْ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ مَشْرُوعَةٌ بَعْدَ الْيَمِينِ، فَلَوْ حَلَّفْنَاهُ أَوَّلًا ثُمَّ أَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ افْتَضَحَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ انْتَهَى.

وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ نَقْلِ مَا فِي النِّهَايَةِ: وَفِيهِ نَظَرٌ، وَبَيَّنَ وَجْهَ النَّظَرِ فِيمَا نُقِلَ عَنْهُ حَيْثُ قَالَ: وَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الشَّرْعَ لَوْ وَرَدَ بِتَقْدِيمِ الْيَمِينِ لَمَا كَانَتْ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ بَعْدَ ذَلِكَ مَشْرُوعَةً، كَمَا إذَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ فَإِنَّ الْيَمِينَ بَعْدَهَا لَيْسَتْ بِمَشْرُوعَةٍ اهـ. وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: قَوْلُهُ لَمَّا كَانَتْ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ بَعْدَ ذَلِكَ مَشْرُوعَةً فِيهِ بَحْثٌ، بَلْ تَكُونُ مَشْرُوعِيَّةُ الْبَيِّنَةِ إذَا عَجَزَ عَنْ الْيَمِينِ بِأَنْ نَكَلَ فَلْيُتَأَمَّلْ اهـ.

أَقُولُ: بَحْثُهُ هَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّ مُرَادَ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ بِقَوْلِهِ الْمَذْكُورِ لَمَّا كَانَتْ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ بَعْدَ تَحَقُّقِ الْيَمِينِ وَصُدُورِهِ مِنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَشْرُوعَةً يُرْشِدُ إلَيْهِ قَطْعًا قَوْلُهُ كَمَا إذَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ فَإِنَّ الْيَمِينَ بَعْدَهَا لَيْسَتْ بِمَشْرُوعَةٍ، وَمُرَادُ صَاحِبِ النِّهَايَةِ أَيْضًا بِقَوْلِهِ إذْ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ مَشْرُوعَةٌ بَعْدَ الْيَمِينِ مَشْرُوعِيَّةَ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ بَعْدَ تَحَقُّقِ الْيَمِينِ وَصُدُورِهِ مِنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ افْتِضَاحَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ إنَّمَا يَلْزَمُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، فَاحْتِمَالُ كَوْنِ مَشْرُوعِيَّةِ الْبَيِّنَةِ إذَا عَجَزَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَنْ الْيَمِينِ بِأَنْ نَكَلَ لَا يُفِيدُ فِي دَفْعِ نَظَرِ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ عَمَّا قَالَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ، عَلَى أَنَّ هَذَا الِاحْتِمَالَ لَيْسَ بِصَحِيحٍ فِي نَفْسِهِ لِأَنَّ النُّكُولَ عَنْ الْيَمِينِ لَيْسَ بِعَجْزٍ عَنْهَا، إذْ هُوَ حَالَةٌ اخْتِيَارِيَّةٌ دَالَّةٌ عَلَى صِدْقِ الْمُدَّعِي، بِخِلَافِ الْعَجْزِ عَنْ الْبَيِّنَةِ عَلَى مَا لَا يَخْفَى.

ثُمَّ أَقُولُ: بَقِيَ نَظَرٌ آخَرُ فِي كَلَامِ صَاحِبِ النِّهَايَةِ، وَهُوَ مَشْرُوعِيَّةُ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ بَعْدَ الْيَمِينِ تَقْتَضِي أَنْ لَا يَكُونَ افْتِضَاحُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ مَحْذُورًا شَرْعِيًّا؛ لِأَنَّ إقَامَةَ الْبَيِّنَةِ بَعْدَ الْيَمِينِ تَسْتَلْزِمُ الِافْتِضَاحَ الْمَزْبُورَ، وَمَشْرُوعِيَّةُ إقَامَتِهَا بَعْدَ الْيَمِينِ تَقْتَضِي حُسْنَهَا، فَإِنَّ كُلَّ مَا هُوَ مَشْرُوعٌ فَهُوَ حَسَنٌ عِنْدَنَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا يَسْتَلْزِمُ الْحُسْنَ الشَّرْعِيَّ فَهُوَ حُسْنٌ شَرْعِيُّ أَيْضًا فَلَا يَصِيرُ الِافْتِضَاحُ الْمَزْبُورُ مَحْذُورًا شَرْعِيًّا فَلَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ فَتَأَمَّلْ.

ص: 169

(بَابُ الْيَمِينِ)

(وَإِذَا قَالَ الْمُدَّعِي لِي بَيِّنَةٌ حَاضِرَةٌ وَطَلَبَ الْيَمِينَ لَمْ يُسْتَحْلَفْ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، مَعْنَاهُ حَاضِرَةٌ فِي الْمِصْرِ

بَابُ الْيَمِينِ)

قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: وَهَذَا التَّرْتِيبُ مِنْ التَّرْتِيبِ الْوُجُودِيِّ لِمَا أَنَّ مَشْرُوعِيَّةَ الْيَمِينِ بَعْدَ الْعَجْزِ عَنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ، فَلَمَّا ذَكَرَ حُكْمَ الْبَيِّنَةِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ ذَكَرَ فِي هَذَا الْبَابِ حُكْمَ الْيَمِينِ اهـ. أَقُولُ: فِيهِ شَيْءٌ، وَهُوَ أَنَّ كَوْنَ مَشْرُوعِيَّةِ الْيَمِينِ بَعْدَ الْعَجْزِ عَنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ لَا يَجْرِي عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله، وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ رحمه الله فِي رِوَايَةٍ كَمَا سَيَظْهَرُ فِي صَدْرِ هَذَا الْبَابِ، فَلَمْ يَكُنْ مَا ذَكَرَهُ وَجْهًا جَامِعًا لِأَقْوَالِ أَئِمَّتِنَا، عَلَى أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ فِيمَا تَقَدَّمَ حَالَ الْبَيِّنَةِ إجْمَالًا ذَكَرَ فِيهِ أَيْضًا حَالَ الْيَمِينِ إجْمَالًا، فَهُمَا مُشْتَرِكَانِ فِي الذِّكْرِ الْإِجْمَالِيِّ فِيمَا قَبْلَ هَذَا الْبَابِ، وَأَمَّا تَفَاصِيلُ أَحْكَامِ الْبَيِّنَاتِ فَتُذْكَرُ فِيمَا بَعْدَ هَذَا الْبَابِ كَمَا تُذْكَرُ تَفَاصِيلُ أَحْكَامِ الْيَمِينِ فِي هَذَا الْبَابِ، فَلَمْ يَظْهَرْ كَوْنُ تَرْتِيبِ الْكِتَابِ عَلَى التَّرْتِيبِ الْوُجُودِيِّ؛ فَالْأَوْلَى مَا قَالَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ مِنْ أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ الْخَصْمَ إذَا أَنْكَرَ الدَّعْوَى وَعَجَزَ الْمُدَّعِي عَنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ وَطَلَبِ الْيَمِينِ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَحْلِفَ أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ الْأَحْكَامَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالْيَمِينِ انْتَهَى.

وَقَالَ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ: أَقُولُ مَا كَانَ يَحْتَاجُ هَاهُنَا إلَى الْفَصْلِ بِالْبَابِ، بَلْ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَسُوقَ الْكَلَامَ مُتَوَالِيًا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ صِحَّةَ الدَّعْوَى رَتَّبَ عَلَيْهَا الْحُكْمَ بِالْإِقْرَارِ وَالْبَيِّنَةِ وَالْيَمِينِ انْتَهَى. وَقَالَ الشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ بَعْدَ نَقْلِ مَا فِي غَايَةِ الْبَيَانِ: قُلْت الَّذِي رَتَّبَهُ الْمُصَنِّفُ هُوَ الْأَصْلُ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَتْ الْيَمِينُ مَشْرُوعَةً بَعْدَ فَقْدِ الْبَيِّنَةِ تَعَيَّنَ ذِكْرُهَا بَعْدَهَا بِأَحْكَامِهَا وَشَرَائِطِهَا انْتَهَى.

أَقُولُ: هَذَا الْكَلَامُ مِنْهُ فِي مَعْرِضِ الْجَوَابِ عَمَّا نَقَلَهُ مِنْ الْعَجَائِبِ؛ لِأَنَّ مَا اسْتَقْبَحَهُ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ إنَّمَا هُوَ الْفَصْلُ بِالْبَابِ لَا ذِكْرُ الْيَمِينِ بَعْدَ الْبَيِّنَةِ، كَيْفَ وَقَدْ قَالَ: بَلْ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَسُوقَ الْكَلَامَ مُتَوَالِيًا، فَمَا ذَكَرَهُ الشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ مِمَّا لَا مِسَاسَ لَهُ بِدَفْعِ مَا اسْتَقْبَحَهُ صَاحِبُ الْغَايَةِ فَكَأَنَّهُ مَا فَهِمَ مَعْنَى صَرِيحِ كَلَامِهِ.

ثُمَّ أَقُولُ فِي دَفْعِ ذَلِكَ: إنَّ إفْرَادَ بَعْضِ الْمَسَائِلِ مِنْ بَيْنِ أَخَوَاتِهَا بِوَضْعِ بَابٍ مُسْتَقِلٍّ لَهَا أَوْ كِتَابٍ أَوْ فَصْلٍ لِكَثْرَةِ مَبَاحِثِهَا وَأَحْكَامِهَا، أَوْ لِتَعَلُّقِ غَرَضٍ آخَرَ بِاسْتِقْلَالِهَا كَإِفْرَادِ الطَّهَارَةِ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ شُرُوطِ الصَّلَاةِ بِوَضْعِ كِتَابٍ مُسْتَقِلٍّ لَهَا وَغَيْرِهَا مِمَّا لَهُ بَابٌ مُسْتَقِلٌّ أَوْ فَصْلٌ مُسْتَقِلٌّ شَائِعٌ ذَائِعٌ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَهَذَا الْبَابُ أَيْضًا مِنْ ذَلِكَ الْقَبِيلِ، وَلِهَذَا تَرَى الثِّقَاتِ مِنْ أَصْحَابِ الْكُتُبِ الْمُعْتَبَرَةِ مِنْ الْفَتَاوَى وَغَيْرِهَا جَرَوْا عَلَى إفْرَادِ مَسَائِلِ الْيَمِينِ بِبَابٍ أَوْ فَصْلٍ مُسْتَقِلٍّ فَلَيْسَ مَا صَنَعَهُ الْمُصَنِّفُ هَاهُنَا بِمَحَلِّ اسْتِقْبَاحٍ وَلَا اسْتِبْعَادٍ كَمَا لَا يَخْفَى (وَإِذَا قَالَ الْمُدَّعِي لِي بَيِّنَةٌ حَاضِرَةٌ وَطَلَبَ الْيَمِينَ لَمْ يُسْتَحْلَفْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) هَذَا لَفْظُ الْقُدُورِيِّ. قَالَ الْمُصَنِّفُ (مَعْنَاهُ حَاضِرَةً فِي الْمِصْرِ) أَيْ مَعْنَى قَوْلِ الْقُدُورِيِّ: إذَا قَالَ الْمُدَّعِي لِي بَيِّنَةٌ حَاضِرَةٌ فِي الْمِصْرِ. وَاحْتُرِزَ بِهَذَا الْقَيْدِ عَنْ الْبَيِّنَةِ الْحَاضِرَةِ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ، فَإِنَّ الْبَيِّنَةَ إذَا حَضَرَتْ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ لَمْ يُسْتَحْلَفْ بِالِاتِّفَاقِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ (فِيمَا سَيَأْتِي) كَمَا إذَا كَانَتْ الْبَيِّنَةُ حَاضِرَةً فِي الْمَجْلِسِ، وَاحْتُرِزَ بِقَوْلِهِ (حَاضِرَةً) عَنْ الْبَيِّنَةِ الْغَائِبَةِ عَنْ الْغَائِبَةِ عَنْ الْمِصْرِ، فَإِنَّهَا إذَا غَابَتْ عَنْ الْمِصْرِ يُسْتَحْلَفُ بِالِاتِّفَاقِ، ثُمَّ إنَّ الظَّاهِرَ كَانَ أَنْ يَقْرِنَ الْمُصَنِّفُ قَوْلَهُ (مَعْنَاهُ حَاضِرَةً فِي الْمِصْرِ) بِذِكْرِ قَوْلِ الْقُدُورِيِّ (إذَا قَالَ الْمُدَّعِي لِي بَيِّنَةٌ حَاضِرَةٌ)(وَقَدْ أَخَّرَهُ عَنْ ذِكْرِ قَوْلِهِ) وَطَلَبَ الْيَمِينَ لَمْ يُسْتَحْلَفْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله

ص: 170

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُسْتَحْلَفُ لِأَنَّ الْيَمِينَ حَقُّهُ بِالْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ، فَإِذَا طَالَبَهُ بِهِ يُجِيبُهُ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّ ثُبُوتَ الْحَقِّ فِي الْعَيْنِ مُرَتَّبٌ عَلَى الْعَجْزِ عَنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ لِمَا رَوَيْنَا فَلَا يَكُونُ حَقُّهُ دُونَهُ، كَمَا إذَا كَانَتْ الْبَيِّنَةُ حَاضِرَةً فِي الْمَجْلِسِ

فَلَعَلَّ وَجْهَهُ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمُصَنِّفَ اسْتَقْبَحَ قَطْعَ كَلَامِ الْقُدُورِيِّ بِكَلَامِ نَفْسِهِ فَانْتَظَرَ أَنْ يَتِمَّ جَوَابُ مَسْأَلَةِ الْقُدُورِيِّ ثُمَّ فَسَّرَ مُرَادَهُ بِالْحُضُورِ فِي الْمِصْرِ.

وَثَانِيهمَا أَنَّ فَائِدَةَ هَذَا التَّفْسِيرِ الِاحْتِرَازُ عَنْ صُورَةِ الْحُضُورِ فِي الْمَجْلِسِ حَيْثُ كَانَ عَدَمُ الِاسْتِحْلَافِ هُنَاكَ بِالِاتِّفَاقِ وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ بِالِاخْتِلَافِ، فَمَا لَمْ يُذْكَرْ الْقَوْلُ الْمُشْعِرُ بِالْخِلَافِ فِي مَسْأَلَتِنَا وَهُوَ قَوْلُ الْقُدُورِيِّ: لَمْ يُسْتَحْلَفْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، لَمْ تَظْهَرْ فَائِدَةُ هَذَا التَّفْسِيرِ، فَاقْتَضَى هَذَا السِّرُّ تَأْخِيرَ الْمُصَنِّفِ قَوْلَهُ الْمَزْبُورَ عَنْ ذِكْرِ قَوْلِ الْقُدُورِيِّ لَمْ يُسْتَحْلَفْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله (وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُسْتَحْلَفُ لِأَنَّ الْيَمِينَ حَقُّهُ) أَيْ حَقُّ الْمُدَّعِي (بِالْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ) فَسَّرَ عَامَّةُ الشُّرَّاحِ الْحَدِيثَ الْمَعْرُوفَ بِمَا مَرَّ قُبَيْلَ هَذَا الْبَابِ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «لَك يَمِينُهُ» وَلَكِنْ قَالَ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ بَعْدَمَا فَسَّرَ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ بِالْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ بِمَا فَسَّرَ بِهِ سَائِرُ الشُّرَّاحِ: وَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم «وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» أَقُولُ: لَا يَذْهَبُ عَلَى مَنْ تَتَبَّعَ أَسَالِيبَ تَحْرِيرِ الْمُصَنِّفِ فِي كِتَابِهِ هَذَا أَنَّهُ يُعَبِّرُ عَنْ الْحَدِيثِ الَّذِي ذَكَرَهُ فِيمَا قَبْلُ بِمَا رَوَيْنَا كَمَا يُعَبِّرُ عَنْ الْآيَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا فِيمَا قَبْلُ بِمَا تَلَوْنَا، وَعَنْ الدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ الَّذِي ذَكَرَهُ فِيمَا قَبْلُ بِمَا ذَكَرْنَا، فَلَوْ كَانَ مُرَادُهُ بِالْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ مَا ذَكَرَهُ فِيمَا قَبْلُ مِنْ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام لَك يَمِينُهُ لَمَا عَدَلَ عَنْ أُسْلُوبِهِ الْمُقَرَّرِ؛ أَلَا يَرَى أَنَّهُ كَيْفَ جَرَى عَلَى ذَلِكَ الْأُسْلُوبِ فِي ذِكْرِ دَلِيلِ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله حَيْثُ قَالَ: إنَّ ثُبُوتَ الْحَقِّ فِي الْيَمِينِ مُرَتَّبٌ عَلَى الْعَجْزِ عَنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ بِمَا رَوَيْنَا مُرِيدًا بِهِ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ فِيمَا قَبْلُ.

فَالْحَقُّ أَنَّ مُرَادَهُ بِالْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ إنَّمَا هُوَ قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» أَيْ مَا جَوَّزَهُ صَاحِبُ الْغَايَةِ لَا غَيْرُ. وَيُؤَيِّدُهُ تَحْرِيرُ صَاحِبِ الْكَافِي هَاهُنَا حَيْثُ قَالَ: وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رحمه الله: يُسْتَحْلَفُ لِعُمُومِ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» انْتَهَى. فَإِنْ قُلْت: الَّذِي حَمَلَ الشُّرَّاحَ عَلَى تَفْسِيرِهِمْ الْحَدِيثَ الْمَعْرُوفَ بِمَا ذُكِرَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ لِأَنَّ الْيَمِينَ حَقُّهُ، فَإِنَّ كَوْنَ الْيَمِينِ حَقَّ الْمُدَّعِي يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَك يَمِينُهُ» حَيْثُ أَضَافَ إلَيْهِ الْيَمِينَ فَاللَّامُ الْمِلْكِ وَالِاخْتِصَاصِ.

قُلْت: نَعَمْ وَلَكِنْ يُفْهَمُ ذَلِكَ أَيْضًا مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» فَإِنَّ كَلِمَةَ عَلَى فِي قَوْلِهِ «عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُنْكِرَ هُوَ الْمُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ بِالْيَمِينِ فَالْمُسْتَحِقُّ لَهُ هُوَ الْمُدَّعِي. نَعَمْ انْفِهَامُهُ مِنْ الْأَوَّلِ أَظْهَرُ، لَكِنْ هَذَا لَا يُوجِبُ حَمْلَ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ رحمه الله عَلَى خِلَافِ مَا جَرَتْ عَلَيْهِ عَادَتُهُ الْمُطَّرِدَةُ (فَإِذَا طَالَبَهُ بِهِ يُجِيبُهُ) أَيْ إذَا طَالَبَ الْمُدَّعِي الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْيَمِينِ يُجِيبُ الْقَاضِي الْمُدَّعِيَ: أَيْ يَحْكُمُ لَهُ بِيَمِينِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَوْ يُجِيبُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْمُدَّعِيَ: أَيْ يَحْلِفُ (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ ثُبُوتَ الْحَقِّ فِي الْيَمِينِ مُرَتَّبٌ عَلَى الْعَجْزِ عَنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ لِمَا رَوَيْنَا) مِنْ «قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام لِلْمُدَّعِي أَلَك بَيِّنَةٌ؟ فَقَالَ لَا، فَقَالَ: لَك يَمِينُهُ» فَإِنَّهُ ذَكَرَ الْيَمِينَ بَعْدَمَا عَجَزَ الْمُدَّعِي عَنْ الْبَيِّنَةِ (فَلَا يَكُونُ حَقُّهُ دُونَهُ) أَيْ لَا يَكُونُ الْيَمِينُ حَقَّ الْمُدَّعِي دُونَ الْعَجْزِ عَنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ: أَيْ بِغَيْرِ الْعَجْزِ عَنْهَا.

أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إنَّ كَوْنَ ثُبُوتِ الْحَقِّ فِي الْيَمِينِ مُرَتَّبًا عَلَى الْعَجْزِ عَنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ فِيمَا رَوَاهُ مِنْ الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنْ لَا يَكُونَ الْيَمِينُ حَقَّ الْمُدَّعِي دُونَ الْعَجْزِ عَنْهَا إلَّا بِطَرِيقِ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ وَهُوَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عِنْدَنَا، فَكَيْفَ يَتِمُّ الِاسْتِدْلَال بِهِ فِي مُقَابَلَةِ عُمُومِ الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ وَهُوَ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» (كَمَا إذَا كَانَتْ الْبَيِّنَةُ حَاضِرَةً فِي الْمَجْلِسِ) أَيْ مَجْلِسِ الْحُكْمِ حَيْثُ لَا يَثْبُتُ حَقُّ الْيَمِينِ هُنَاكَ فَكَذَا هَاهُنَا وَالْجَامِعُ الْقُدْرَةُ عَلَى إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ.

أَقُولُ: لِأَبِي يُوسُفَ رحمه الله أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ

ص: 171

وَمُحَمَّدٌ مَعَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِيمَا ذَكَرَهُ الْخَصَّافُ، وَمَعَ أَبِي حَنِيفَةَ فِيمَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ. قَالَ (وَلَا تُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعِي) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» قَسَمَ وَالْقِسْمَةُ تُنَافِي الشَّرِكَةَ، وَجَعَلَ جِنْسَ الْأَيْمَانِ عَلَى الْمُنْكِرِينَ

الصُّورَتَيْنِ بِأَنْ يَقُولَ: إذَا لَمْ تَكُنْ الْبَيِّنَةُ حَاضِرَةً فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ فَلِلْمُدَّعِي غَرَضٌ صَحِيحٌ فِي الِاسْتِحْلَافِ، وَهُوَ أَنْ يَقْصُرَ الْمَسَافَةَ وَالْمُؤْنَةَ عَلَيْهِ بِإِقْرَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَوْ بِنُكُولِهِ عَنْ الْيَمِينِ فَيَتَوَصَّلَ إلَى حَقِّهِ فِي الْحَالِ فَكَانَ لَهُ حَقُّ الْيَمِينِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ الْبَيِّنَةُ حَاضِرَةً فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ، فَإِنَّ هَذَا الْغَرَضَ: أَعْنِي قَصْرَ الْمَسَافَةِ وَالْمُؤْنَةِ عَلَيْهِ وَالتَّوَصُّلُ إلَى حَقِّهِ فِي الْحَالِ يَحْصُلُ بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ، فَلَمْ يَبْقَ لَهُ غَرَضٌ صَحِيحٌ فِي الِاسْتِحْلَافِ قَبْلَ إقَامَتِهَا فَلَمْ يَكُنْ لَهُ حَقُّ الْيَمِينِ قَبْلَهَا فَلَمْ يَتِمَّ الِاسْتِدْلَال عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله هَاهُنَا بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ أَيْضًا كَمَا يُشْعِرُ بِهِ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ (وَمُحَمَّدٌ مَعَ أَبِي يُوسُفَ فِيمَا ذَكَرَهُ الْخَصَّافُ وَمَعَ أَبِي حَنِيفَةَ فِيمَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ) قَالَ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ: وَهَذِهِ رِوَايَةٌ عَجِيبَةٌ؛ لِأَنَّ الشَّيْخَ أَبَا جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيَّ قَالَ فِي مُخْتَصَرِهِ: وَمَنْ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ مَالًا ذَكَرَهُ وَطَلَبَ مِنْ الْقَاضِي اسْتِحْلَافَهُ لَهُ عَلَى ذَلِكَ بَعْدَ إنْكَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عِنْدَ الْقَاضِي مَا ادَّعَاهُ الْمُدَّعِي، فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رحمه الله قَدْ رَوَى عَنْهُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَسْتَحْلِفُ لَهُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إنْ ذَكَرَ الْمُدَّعِي أَنَّ لَهُ عَلَى دَعْوَاهُ بَيِّنَةً حَاضِرَةً، وَلَمْ نَجِدْ هَذِهِ الرِّوَايَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ رحمه الله، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رحمه الله: يُسْتَحْلَفُ لَهُ عَلَى ذَلِكَ، وَلَا يَمْنَعُهُ مِنْ اسْتِحْلَافِهِ لَهُ ذِكْرُهُ أَنَّ لَهُ بَيِّنَةً حَاضِرَةً تَشْهَدُ لَهُ عَلَى دَعْوَاهُ، إلَى هُنَا لَفْظُ الطَّحَاوِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ، وَقَدْ أَنْكَرَ الرِّوَايَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَصْلًا كَمَا تَرَى، وَمَعَ هَذَا كَيْفَ يَدَّعِي صَاحِبُ الْهِدَايَةِ أَنَّ مُحَمَّدًا مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِيمَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْقُدُورِيَّ قَالَ فِي كِتَابِ التَّقْرِيبِ: قَالَ الطَّحَاوِيُّ لَمْ تُوجَدْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ عَنْ مُحَمَّدٍ انْتَهَى كَلَامُ صَاحِبِ الْغَايَةِ.

وَقَالَ الشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ إنْكَارَ صَاحِبِ الْغَايَةِ عَلَى الْمُصَنِّفِ فِي جَعْلِهِ مُحَمَّدًا مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ فِيمَا ذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ وَبَعْدَ أَنْ نَقَلَ مَا قَالَهُ صَاحِبُ الْغَايَةِ إجْمَالًا.

قُلْت: لَا وَجْهَ لِهَذَا الْإِنْكَارِ لِأَنَّ عَدَمَ وُقُوفِ الطَّحَاوِيِّ عَلَى أَنَّ مُحَمَّدًا مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ وُقُوفِ غَيْرِهِ مِنْ الْمُصَنِّفِ وَغَيْرِهِ انْتَهَ ى.

أَقُولُ: هَذَا الْكَلَامُ مِنْهُ عَجِيبٌ، لِأَنَّ الَّذِي أَنْكَرَ فِيهِ صَاحِبُ الْغَايَةِ عَلَى الْمُصَنِّفِ إنَّمَا هُوَ إسْنَادُ الْمُصَنِّفِ رِوَايَةَ كَوْنِ مُحَمَّدٍ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ إلَى الطَّحَاوِيِّ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الطَّحَاوِيَّ قَدْ أَنْكَرَ هَذِهِ الرِّوَايَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ بِالْكُلِّيَّةِ فِي مُخْتَصَرِهِ، فَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يُسْنِدَهَا الْمُصَنِّفُ إلَيْهِ، وَلَيْسَ الَّذِي أَنْكَرَ فِيهِ صَاحِبُ الْغَايَةِ عَلَى الْمُصَنِّفِ صِحَّةُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ عَنْ مُحَمَّدٍ رحمه الله فِي أَصْلِهَا، حَتَّى يَتَمَشَّى مَا قَالَهُ الْعَيْنِيُّ مِنْ أَنَّ عَدَمَ وُقُوفِ الطَّحَاوِيِّ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ لَا يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ وُقُوفِ غَيْرِهِ عَلَيْهَا، وَكَوْنُ مَحِلِّ إنْكَارِ صَاحِبِ الْغَايَةِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِمَّا يَتَأَدَّى عَلَيْهِ أَلْفَاظُ تَحْرِيرِهِ فَكَيْفَ خَفِيَ عَلَى الشَّارِحِ الْعَيْنِيِّ (قَالَ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ (وَلَا تُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعِي لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ») وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ مَا أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ (قَسَمَ) أَيْ قَسَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ حَيْثُ جَعَلَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينَ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ (وَالْقِسْمَةُ تُنَافِي الشَّرِكَةَ) لِأَنَّ الشَّرِكَةَ تَقْتَضِي عَدَمَ التَّمْيِيزِ وَالْقِسْمَةُ تَقْتَضِي التَّمْيِيزَ وَهُمَا مُتَنَافِيَانِ.

وَبِقَوْلِهِ (وَجَعَلَ جِنْسَ الْأَيْمَانِ عَلَى الْمُنْكِرِينَ) إذْ الْأَلِفُ وَاللَّامُ لِاسْتِغْرَاقِ الْجِنْسِ بِنَاءً عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ أَنَّ لَامَ التَّعْرِيفِ تُحْمَلُ عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ، وَيُقَدَّمُ عَلَى تَعْرِيفِ الْحَقِيقَةِ إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ

ص: 172

وَلَيْسَ وَرَاءَ الْجِنْسِ شَيْءٌ، وَفِيهِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ رحمه الله

قَالَ (وَلَا تُقْبَلُ بَيِّنَةُ صَاحِبِ الْيَدِ فِي الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ

مَعْهُودٌ، وَهَاهُنَا كَذَلِكَ (وَلَيْسَ وَرَاءَ الْجِنْسِ شَيْءٌ) أَيْ شَيْءٌ مِنْ أَفْرَادِ ذَلِكَ الْجِنْسِ فَيَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّ جَمِيعَ الْأَيْمَانِ عَلَى الْمُنْكِرِينَ، فَلَوْ رُدَّ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعِي لَزِمَ الْمُخَالَفَةُ لِهَذَا النَّصِّ فَقَدْ حَصَلَ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ الِاسْتِدْلَال بِالْحَدِيثِ الْمَزْبُورِ عَلَى الْمَسْأَلَةِ الْمَذْكُورَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ كَمَا تَرَى (وَفِيهِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ) أَيْ فِي عَدَمِ رَدِّ الْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعِي خِلَافُ الشَّافِعِيِّ.

قَالَ صَاحِبُ الْكَافِي: وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمُدَّعِي بَيِّنَةٌ أَصْلًا وَحَلَّفَ الْقَاضِي الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَنَكَلَ يُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعِي، فَإِنْ حَلَفَ قُضِيَ بِهِ وَإِلَّا لَا؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ صَارَ شَاهِدًا لِلْمُدَّعِي بِنُكُولِهِ فَيُعْتَبَرُ يَمِينُهُ كَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَكَذَا إذَا أَقَامَ الْمُدَّعِي شَاهِدًا وَاحِدًا وَعَجَزَ عَنْ إقَامَةِ شَاهِدٍ آخَرَ فَإِنَّهُ يُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَيْهِ، فَإِنْ حَلَفَ قُضِيَ لَهُ بِمَا ادَّعَى، وَإِنْ نَكَلَ لَا يُقْضَى لَهُ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَضَى بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ، ثُمَّ قَالَ: وَحَدِيثُ الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ غَرِيبٌ، وَمَا رَوَيْنَاهُ مَشْهُورٌ تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ حَتَّى صَارَ فِي حَيِّزِ التَّوَاتُرِ فَلَا يُعَارِضُهُ، عَلَى أَنَّ يَحْيَى بْنَ مَعِينٍ قَدْ رَدَّهُ انْتَهَى. وَقَالَ الْإِمَامُ الزَّيْلَعِيُّ فِي التَّبْيِينِ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمُدَّعِي بَيِّنَةٌ يَحْلِفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَإِذَا نَكَلَ تُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعِي، فَإِنْ حَلَفَ قُضِيَ لَهُ، وَإِنْ نَكَلَ لَا يُقْضَى لَهُ لِأَنَّ الظَّاهِرَ صَارَ شَاهِدًا لِلْمُدَّعِي بِنُكُولِهِ فَيُعْتَبَرُ يَمِينُهُ كَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لَهُ اُعْتُبِرَ يَمِينُهُ. وَقَالَ أَيْضًا: إذَا أَقَامَ الْمُدَّعِي شَاهِدًا وَاحِدًا وَعَجَزَ عَنْ الْآخَرِ يَحْلِفُ الْمُدَّعِي وَيُقْضَى لَهُ، لِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَضَى بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ» وَيُرْوَى «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ» . وَلَنَا مَا رَوَيْنَا وَمَا رَوَاهُ ضَعِيفٌ رَدَّهُ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ فَلَا يُعَارِضُ مَا رَوَيْنَاهُ، وَلِأَنَّهُ يَرْوِيهِ رَبِيعَةُ عَنْ سَهْلِ بْن أَبِي صَالِحٍ وَأَنْكَرَهُ سَهْلٌ فَلَا يَبْقَى حُجَّةً بَعْدَمَا أَنْكَرَهُ الرَّاوِي فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ مُعَارِضًا لِلْمَشَاهِيرِ، وَلِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ قَضَى تَارَةً بِشَاهِدٍ: يَعْنِي بِجِنْسِهِ وَتَارَةً بِيَمِينٍ، فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا، وَهَذَا كَمَا يُقَالُ رَكِبَ زَيْدٌ الْفَرَسَ وَالْبَغْلَةَ، وَالْمُرَادُ عَلَى التَّعَاقُبِ، وَلَئِنْ سَلَّمَ أَنْ يَقْتَضِيَ الْجَمْعَ فَلَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ يَمِينُ الْمُدَّعِي، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ يَمِينَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَنَحْنُ نَقُولُ بِهِ لِأَنَّ الشَّاهِدَ الْوَاحِدَ لَا يُعْتَبَرُ، فَوُجُودُهُ كَعَدَمِهِ فَيَرْجِعُ إلَى يَمِينِ الْمُنْكِرِ عَمَلًا بِالْمَشَاهِيرِ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ

(قَالَ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ (وَلَا تُقْبَلُ بَيِّنَةُ صَاحِبِ الْيَدِ فِي الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ) أَرَادَ بِالْمِلْكِ الْمُطْلَقِ أَنْ يَدَّعِيَ الْمِلْكَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِلسَّبَبِ

ص: 173

وَبَيِّنَةُ الْخَارِجِ أَوْلَى)

بِأَنْ يَقُولَ هَذَا مِلْكِي وَلَا يَقُولُ هَذَا مِلْكِي بِسَبَبِ الشِّرَاءِ أَوْ الْإِرْثِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمُطْلَقَ مَا يَتَعَرَّضُ لِلذَّاتِ دُونَ الصِّفَاتِ لَا بِالنَّفْيِ وَلَا بِالْإِثْبَاتِ، وَقَيَّدَ الْمِلْكَ بِالْمُطْلَقِ احْتِرَازٌ عَنْ الْمُقَيَّدِ بِدَعْوَى النِّتَاجِ، وَعَنْ الْمُقَيَّدِ بِمَا إذَا ادَّعَيَا تَلَقِّي الْمِلْكِ مِنْ وَاحِدٍ وَأَحَدُهُمَا قَابِضٌ، وَبِمَا إذَا ادَّعَيَا الشِّرَاءَ مِنْ اثْنَيْنِ وَأَرَّخَا وَتَارِيخُ ذِي الْيَدِ أَسْبَقُ، فَإِنَّ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ تُقْبَلُ بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ بِالْإِجْمَاعِ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ.

قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ هَذَا، فَإِنْ قِيلَ: أَمَا انْتَقَضَ مُقْتَضَى الْقِسْمَةِ حَيْثُ قُبِلَتْ بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ وَهُوَ مُدَّعًى عَلَيْهِ؟ قُلْت نَعَمْ؛ لِأَنَّ قَبُولَهَا مِنْ حَيْثُ مَا ادَّعَى مِنْ زِيَادَةِ النِّتَاجِ وَالْقَبْضِ وَسَبْقِ التَّارِيخِ فَهُوَ مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ مُدَّعٍ وَالْبَيِّنَةُ لِلْمُدَّعِي. فَإِنْ قُلْت: فَهَلْ يَجِبُ عَلَى الْخَارِجِ الْيَمِينُ لِكَوْنِهِ إذْ ذَاكَ مُدَّعًى عَلَيْهِ؟ قُلْت: لَا؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ إنَّمَا تَجِبُ عِنْدَ عَجْزِ الْمُدَّعِي عَنْ الْبَيِّنَةِ، وَهَاهُنَا لَمْ يَعْجِزْ، إلَى هَاهُنَا كَلَامُهُ. وَقَدْ أَوْرَدَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ عَلَى جَوَابِهِ عَنْ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُدَّعِيًا لَصَدَقَ تَعْرِيفُهُ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يُجْبَرُ الْخَارِجُ عَلَى الْخُصُومَةِ وَيُجْبَرُ هُوَ عَلَيْهِ.

وَعَلَى جَوَابِهِ عَنْ السُّؤَالِ الثَّانِي بِأَنَّ مُرَادَ السَّائِلِ فَهَلْ يَجِبُ عَلَى الْخَارِجِ الْيَمِينُ عِنْدَ عَجْزِ ذِي الْيَدِ عَنْ الْبَيِّنَةِ وَإِلَّا فَلَا تَمْشِيَةَ لِسُؤَالِهِ أَصْلًا؟ أَقُولُ: إيرَادُهُ الثَّانِي مُتَوَجِّهٌ ظَاهِرٌ، وَقَدْ كُنْت كَتَبْته فِي مُسَوَّدَاتِي قَبْلَ أَنْ أَرَى مَا كَتَبَهُ، وَأَمَّا إيرَادُهُ الْأَوَّلُ فَمُنْدَفِعٌ لِأَنَّ ذَا الْيَدِ لَا يُجْبَرُ عَلَى الْخُصُومَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مُدَّعٍ الزِّيَادَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي الصُّوَرِ الْمَزْبُورَةِ، وَإِنَّمَا يُجْبَرُ عَلَيْهَا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مُدَّعًى عَلَيْهِ بِاسْتِحْقَاقِ الْخَارِجِ لِمَا فِي يَدِهِ. وَهَذَا ظَاهِرٌ وَكَذَا الْخَارِجُ إنَّمَا لَا يُجْبَرُ عَلَى الْخُصُومَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مُدَّعٍ عَلَى ذِي الْيَدِ اسْتِحْقَاقَهُ لِمَا فِي يَدِهِ. وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مُدَّعًى عَلَيْهِ بِالزِّيَادَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الصُّورَةِ الْمَزْبُورَةِ فَيُجْبَرُ عَلَيْهَا. وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ دَعْوَى ذِي الْيَدِ فِي الصُّورَةِ الْمَزْبُورَةِ دَعْوَى تَابِعَةٌ لِدَعْوَى الْخَارِجِ حَيْثُ يَقْصِدُ بِهَا ذُو الْيَدِ دَفْعَ دَعْوَى الْخَارِجِ لَا دَعْوَى مُبْتَدَأَةٍ مَقْصُودَةٍ بِالْأَصَالَةِ، فَمَتَى جَرَى الْخَارِجُ عَلَى دَعْوَاهُ يَدَّعِي عَلَيْهِ ذُو الْيَدِ الزِّيَادَةَ الْمَذْكُورَةَ، وَيُجْبَرُ الْخَارِجُ عَلَى الْجَوَابِ عَنْ دَعْوَى ذِي الْيَدِ وَالْخُصُومَةُ مَعَهُ مِنْ حَيْثِيَّةِ كَوْنِهِ مُدَّعًى عَلَيْهِ، وَإِنْ تَرَكَ الْخَارِجُ دَعْوَاهُ لَا يَدَّعِي عَلَيْهِ ذُو الْيَدِ شَيْئًا لِكَوْنِ دَعْوَاهُ تَابِعَةً لِدَعْوَى الْخَارِجِ، وَتَرْكُ الْمَتْبُوعِ يَسْتَلْزِمُ تَرْكَ التَّابِعِ فَلَا يُجْبَرُ الْخَارِجُ عَلَى الْخُصُومَةِ مَعَهُ أَصْلًا، وَلَوْلَا هَذَا التَّحْقِيقُ لَانْتَقَضَ تَعْرِيفُ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ حَدٌّ عَامٌّ صَحِيحٌ عَلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ فِيمَا قَبْلَ وَتَقَرَّرَ عِنْدَهُمْ، وَهُوَ أَنَّ الْمُدَّعِيَ مَنْ لَا يُجْبَرُ عَلَى الْخُصُومَةِ إذَا تَرَكَهَا، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَنْ يُجْبَرُ عَلَى الْخُصُومَةِ بِصُوَرٍ كَثِيرَةٍ غَيْرِ الصُّورَةِ الْمَزْبُورَةِ، كَمَا إذَا ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى آخَرَ دَيْنًا مُعَيَّنًا فَادَّعَى الْآخَرُ عَلَيْهِ إيفَاءَ ذَلِكَ الدَّيْنِ إيَّاهُ أَوْ إبْرَاءَهُ عَنْ ذَلِكَ الدَّيْنِ فَإِنَّ الْأَوَّلَ لَوْ تَرَكَ الْخُصُومَةَ لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهَا مَعَ كَوْنِهِ مُدَّعًى عَلَيْهِ بِالْإِيفَاءِ أَوْ الْإِبْرَاءِ، وَكَذَا الْحَالُ فِي جَمِيعِ صُوَرِ دَعَاوَى الدَّفْعِ فَالْمُخَلِّصُ فِي الْكُلِّ مَا بَيَّنَّاهُ وَحَقَّقْنَاهُ.

ثُمَّ أَقُولُ: بَقِيَ لَنَا كَلَامٌ فِي أَثْنَاءِ جَوَابِ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ عَنْ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ أَنَّهُ بَيَّنَ الزِّيَادَةَ الَّتِي يَدَّعِيهَا ذُو الْيَدِ فِي الصُّوَرِ الْمَزْبُورَةِ بِالنِّتَاجِ وَالْقَبْضِ وَسَبْقِ التَّارِيخِ، فَالْأَوَّلُ وَالثَّالِثُ صَحِيحَانِ، وَالثَّانِي لَيْسَ بِظَاهِرِ الصِّحَّةِ لِأَنَّ مَعْنَى كَوْنِ أَحَدِهِمَا قَابِضًا فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ أَنْ يَكُونَ الْمُدَّعِي فِي يَدِهِ بِالْفِعْلِ لَا أَنْ يَثْبُتَ قَبْضُهُ بِالْبَيِّنَةِ عَلَى مَا سَيَجِيءُ تَفْسِيرُهُ وَبَيَانُهُ فِي الْكِتَابِ، وَشُرُوحِهِ فِي بَابِ مَا يَدَّعِيهِ الرَّجُلَانِ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ كَوْنَ الْمُدَّعَى فِي يَدِ الْقَابِضِ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ أَمْرٌ مُعَايَنٌ لَا يَدَّعِيهِ ذُو الْيَدِ أَصْلًا فَضْلًا عَنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ وَقَبُولِ بَيِّنَتِهِ بِالْإِجْمَاعِ فَظَهَرَ أَنَّ بَيَانَ مَا ادَّعَاهُ ذُو الْيَدِ مِنْ الزِّيَادَةِ فِي الصُّورَةِ الْمَزْبُورَةِ بِالْقَبْضِ لَيْسَ بِتَامٍّ. فَالْحَقُّ أَنْ يَقُولَ بَدَلَ قَوْلِهِ وَالْقَبْضُ: وَتَلَقِّي الْمِلْكِ مِنْ شَخْصٍ مَخْصُوصٍ فَتَدَبَّرْ (وَبَيِّنَةُ الْخَارِجِ أَوْلَى) يَعْنِي أَنَّ بَيِّنَةَ الْخَارِجِ وَبَيِّنَةَ ذِي الْيَدِ إذَا تَعَارَضَتَا عَلَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ فَبَيِّنَةُ الْخَارِجِ أَوْلَى بِالْقَبُولِ عِنْدَنَا، وَفِي أَحَدِ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ تَهَاتَرَتْ الْبَيِّنَتَانِ وَيَكُونُ الْمُدَّعِي لِذِي الْيَدِ تَارِكًا فِي يَدِهِ وَهَذَا قَضَاءُ تَرْكٍ.

لَا قَضَاءُ مِلْكٍ، وَفِي الْقَوْلِ الْآخَرِ تُرَجَّحُ بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ فَيُقْضَى بِهَا لِذِي الْيَدِ قَضَاءَ مِلْكٍ بِالْبَيِّنَةِ وَهُوَ الَّذِي

ص: 174

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُقْضَى بِبَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ لِاعْتِضَادِهَا بِالْيَدِ فَيَتَقَوَّى الظُّهُورُ وَصَارَ كَالنِّتَاجِ وَالنِّكَاحِ وَدَعْوَى الْمِلْكِ مَعَ الْإِعْتَاقِ وَالِاسْتِيلَادِ وَالتَّدْبِيرِ. وَلَنَا أَنَّ بَيِّنَةَ الْخَارِجِ أَكْثَرُ إثْبَاتًا أَوْ إظْهَارًا لِأَنَّ قَدْرَ مَا أَثْبَتَتْهُ الْيَدُ لَا يُثْبِتُهُ بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ، إذْ الْيَدُ دَلِيلُ مُطْلَقِ الْمِلْكِ

ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُقْضَى بِبَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ لِاعْتِضَادِهَا بِالْيَدِ) أَيْ لِتَأَكُّدِ الْبَيِّنَةِ بِالْيَدِ لِأَنَّ الْيَدَ دَلِيلُ الْمِلْكِ (فَيَتَقَوَّى الظُّهُورُ) أَيْ فَيَتَقَوَّى ظُهُورُ الْمُدَّعِي (وَصَارَ) أَيْ صَارَ حُكْمُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ (كَالنِّتَاجِ) أَيْ كَحُكْمِ مَسْأَلَةِ النِّتَاجِ بِأَنْ ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْخَارِجِ وَذِي الْيَدِ أَنَّ هَذِهِ الدَّابَّةَ نَتَجَتْ عِنْدَهُ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ وَلِأَحَدِهِمَا يَدٌ فَإِنَّهُ يُقْضَى لِذِي الْيَدِ (وَالنِّكَاحُ) أَيْ وَكَحُكْمِ مَسْأَلَةِ النِّكَاحِ بِأَنْ تَنَازَعَا فِي نِكَاحِ امْرَأَةٍ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ وَلِأَحَدِهِمَا يَدٌ فَبَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ أَوْلَى (وَدَعْوَى الْمِلْكِ مَعَ الْإِعْتَاقِ) أَيْ وَكَحُكْمِ مَسْأَلَةِ دَعْوَى الْمِلْكِ مَعَ الْإِعْتَاقِ بِأَنْ يَكُونَ عَبْدٌ فِي يَدِ رَجُلٍ أَقَامَ الْخَارِجُ الْبَيِّنَةَ أَنَّ عَبْدَهُ أَعْتَقَهُ وَأَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ أَعْتَقَهُ وَهُوَ يَمْلِكُهُ فَبَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ أَوْلَى (أَوْ الِاسْتِيلَادِ) عَطْفٌ عَلَى الْإِعْتَاقِ، فَالْمَعْنَى: أَوْ دَعْوَى الْمِلْكِ مَعَ الِاسْتِيلَادِ بِأَنْ تَكُونَ أَمَةٌ فِي يَدِ رَجُلٍ فَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْخَارِجِ وَذِي الْيَدِ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا أَمَتُهُ اسْتَوْلَدَهَا فَبَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ أَوْلَى (أَوْ التَّدْبِيرِ) أَيْ أَوْ دَعْوَى الْمِلْكِ مَعَ التَّدْبِيرِ بِأَنْ يَكُونَ عَبْدٌ فِي يَدِ رَجُلٍ فَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْخَارِجِ وَذِي الْيَدِ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ عَبْدُهُ دَبَّرَهُ فَبَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ أَوْلَى (وَلَنَا أَنَّ بَيِّنَةَ الْخَارِجِ أَكْثَرُ إثْبَاتًا) أَيْ فِي عِلْمِ الْقَاضِي (أَوْ إظْهَارًا) أَيْ فِي الْوَاقِعِ فَإِنَّ بَيِّنَتَهُ تُظْهِرُ مَا كَانَ ثَابِتًا فِي الْوَاقِعِ (لِأَنَّ قَدْرَ مَا أَثْبَتَتْهُ الْيَدُ لَا تُثْبِتُهُ بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ، إذْ الْيَدُ دَلِيلُ مُطْلَقِ الْمِلْكِ) أَلَا يَرَى أَنَّ مَنْ رَأَى شَيْئًا فِي يَدِ إنْسَانٍ جَازَ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ بِأَنَّهُ مِلْكٌ لَهُ، فَبَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ غَيْرُ مُثْبِتَةٍ لِلْمِلْكِ لِئَلَّا يَلْزَمَ تَحْصِيلُ الْحَاصِلِ، وَإِنَّمَا هِيَ مُؤَكِّدَةٌ لِلْمِلْكِ الثَّابِتِ بِالْيَدِ، وَالتَّأْكِيدُ إثْبَاتُ وَصْفٍ لِلْمَوْجُودِ لَا إثْبَاتُ أَصْلِ الْمِلْكِ.

وَأَمَّا بَيِّنَةُ الْخَارِجِ فَمُثْبِتَةٌ لِأَصْلِ الْمِلْكِ، فَصَحَّ قَوْلُنَا إنَّهَا أَكْثَرُ إثْبَاتًا، وَمَا هُوَ أَكْثَرُ إثْبَاتًا فِي الْبَيِّنَةِ فَهُوَ أَوْلَى بِالْقَبُولِ لِتَوَفُّرِ مَا شُرِعَتْ الْبَيِّنَاتُ لِأَجْلِهِ فِيهِ. هَذَا زُبْدَةُ مَا فِي الشُّرُوحِ فِي حَلِّ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا.

فَإِنْ قِيلَ: بَيِّنَةُ الْخَارِجِ تُزِيلُ مَا أَثْبَتَهُ الْيَدُ مِنْ الْمِلْكِ فَبَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ تُفِيدُ الْمِلْكَ وَلَا يَلْزَمُ تَحْصِيلُ الْحَاصِلِ.

أُجِيبَ بِأَنَّ الْبَيِّنَةَ لَيْسَتْ مُوجِبَةً بِنَفْسِهَا حَتَّى تَزِيدَ بَيِّنَةُ الْخَارِجِ مَا ثَبَتَ بِالْيَدِ، وَإِنَّمَا تَصِيرُ مُوجِبَةً عِنْدَ اتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهَا كَمَا تَقَدَّمَ، فَقَبْلَهُ يَكُونُ الْمِلْكُ ثَابِتًا لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَإِثْبَاتُ الثَّابِتِ لَا يُتَصَوَّرُ فَلَا تَكُونُ بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ مُثْبِتَةً بَلْ مُؤَكِّدَةً لِمِلْكٍ ثَابِتٍ، وَالتَّأْسِيسُ أَوْلَى مِنْ التَّأْكِيدِ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ. أَقُولُ: بَقِيَ هَاهُنَا شَيْءٌ، وَهُوَ أَنَّ الْمُتَبَادَرَ مِنْ قَوْلِهِمْ إنَّ بَيِّنَةَ الْخَارِجِ أَكْثَرُ إثْبَاتًا وَمِنْ قَوْلِهِمْ إنَّ بَيِّنَةَ الْخَارِجِ أَوْلَى بِالْقَبُولِ مِنْ بَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ فِي الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ أَنَّ لِذِي الْيَدِ أَيْضًا بَيِّنَةً وَأَنَّ مِنْ حَقِّهِ إقَامَتَهَا عَلَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ أَيْضًا، إلَّا أَنَّ بَيِّنَةَ الْخَارِجِ أَوْلَى بِالْقَبُولِ مِنْ بَيِّنَتِهِ لِكَوْنِهَا أَكْثَرَ إثْبَاتًا، لَكِنَّ التَّحْقِيقَ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَكُونَ لِذِي الْيَدِ بَيِّنَةٌ شَرْعِيَّةٌ فِي الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ، وَأَنْ لَا يَكُونَ مِنْ حَقِّهِ إقَامَتُهَا عَلَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ أَصْلًا لِأَنَّهُ مُدَّعًى عَلَيْهِ مَحْضٌ، وَلَيْسَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ غَيْرُ الْيَمِينِ بِالْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ وَهُوَ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام

ص: 175

بِخِلَافِ النِّتَاجِ لِأَنَّ الْيَدَ لَا تَدُلُّ عَلَيْهِ، وَكَذَا عَلَى الْإِعْتَاقِ وَأُخْتَيْهِ وَعَلَى الْوَلَاءِ الثَّابِتِ بِهَا

. قَالَ (وَإِذَا نَكَلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَنْ الْيَمِينِ قُضِيَ عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ وَأَلْزَمَهُ مَا ادَّعَى عَلَيْهِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يُقْضَى بِهِ بَلْ يَرُدُّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعِي، فَإِذَا حَلَفَ يَقْضِي بِهِ لِأَنَّ النُّكُولَ يَحْتَمِلُ التَّوَرُّعَ عَنْ الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ وَالتَّرَفُّعَ عَنْ الصَّادِقَةِ وَاشْتِبَاهَ الْحَالِ فَلَا يَنْتَصِبُ حُجَّةً مَعَ الِاحْتِمَالِ، وَيَمِينُ الْمُدَّعِي دَلِيلُ الظُّهُورِ فَيُصَارُ إلَيْهِ. وَلَنَا أَنَّ النُّكُولَ دَلَّ عَلَى كَوْنِهِ بَاذِلًا أَوْ مُقِرًّا، إذْ لَوْلَا ذَلِكَ لَأَقْدَمَ عَلَى الْيَمِينِ إقَامَةً لِلْوَاجِبِ وَدَفْعًا

«الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» كَمَا مَرَّ بَيَانُهُ.

فَالْأَظْهَرُ فِي الِاسْتِدْلَالِ مِنْ قَبْلِنَا عَلَى مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ مَا ذُكِرَ فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ مِنْ أَنَّ لَنَا قَوْلَهُ عليه الصلاة والسلام «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» فَإِنَّهُ عليه الصلاة والسلام جَعَلَ جَمِيعَ الْبَيِّنَةِ فِي جَانِبِ الْمُدَّعِي، لِأَنَّ اللَّامَ فِي الْبَيِّنَةِ لِاسْتِغْرَاقِ الْجِنْسِ لِعَدَمِ الْعَهْدِ فَلَمْ يَبْقَ فِي جَانِبِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إلَّا الْيَمِينُ، وَالْمُدَّعِي اسْمٌ لِمَنْ يَدَّعِي الشَّيْءَ وَلَا دَلَالَةَ مَعَهُ، وَلِهَذَا يُقَالُ لِمُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ مُدَّعِي النُّبُوَّةِ وَالْخَارِجُ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ لِأَنَّهُ لَا دَلَالَةَ مَعَهُ عَلَى الْمِلْكِ، بِخِلَافِ ذِي الْيَدِ فَإِنَّ الْيَدَ دَلِيلُ الْمِلْكِ انْتَهَى (بِخِلَافِ النِّتَاجِ لِأَنَّ الْيَدَ لَا تَدُلُّ عَلَيْهِ) فَكَانَتْ بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ كَبَيِّنَةِ الْخَارِجِ مُثْبِتَةً لَهُ لَا مُؤَكِّدَةً فَكَانَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْبَيِّنَتَيْنِ لِلْإِثْبَاتِ فَتَرَجَّحَتْ إحْدَاهُمَا بِالْيَدِ، وَكَذَا الْحَالُ فِي النِّكَاحِ، إلَّا أَنَّ الْمُصَنِّفَ لَمْ يَذْكُرْهُ مِنْ بَيْنِ أَخَوَاتِهِ إمَّا نِسْيَانًا وَإِمَّا اعْتِمَادًا عَلَى مَعْرِفَةِ حَالِهِ مِمَّا ذَكَرَهُ فِي النِّتَاجِ (وَكَذَا عَلَى الْإِعْتَاقِ وَأُخْتَيْهِ) أَيْ وَكَذَا الْيَدُ لَا تَدُلُّ عَلَى الْإِعْتَاقِ وَأُخْتَيْهِ وَهُمَا الِاسْتِيلَادُ وَالتَّدْبِيرُ، فَاسْتَوَتْ الْبَيِّنَتَانِ فِي الْإِثْبَاتِ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ أَيْضًا فَتَرَجَّحَتْ إحْدَاهُمَا بِالْيَدِ (وَعَلَى الْوَلَاءِ الثَّابِتِ بِهَا) أَيْ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ وَهِيَ: الْإِعْتَاقُ، وَالِاسْتِيلَادُ، وَالتَّدْبِيرُ: يَعْنِي أَنَّ الْيَدَ لَا تَدُلُّ عَلَى الْوَلَاءِ الثَّابِتِ بِهَا أَيْضًا فَاسْتَوَتْ الْبَيِّنَتَانِ فِي ذَلِكَ أَيْضًا فَتَرَجَّحَتْ إحْدَاهُمَا بِالْيَدِ

(قَالَ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ (وَإِذَا نَكَلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَنْ الْيَمِينِ قُضِيَ عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ) أَيْ قَضَى الْقَاضِي عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ (وَأَلْزَمَهُ مَا ادَّعَى عَلَيْهِ) أَيْ وَأَلْزَمَ الْقَاضِي الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَا ادَّعَى عَلَيْهِ الْمُدَّعِي.

وَفِي بَعْضِ نُسَخِ مُخْتَصَرِ الْقُدُورِيِّ: وَلَزِمَهُ بَدَلٌ وَأَلْزَمَهُ: أَيْ وَلَزِمَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَا ادَّعَى عَلَيْهِ الْمُدَّعِي (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَقْضِي بِهِ) أَيْ بِالنُّكُولِ (بَلْ يَرُدُّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعِي، فَإِذَا حَلَفَ) الْمُدَّعِي (يَقْضِي بِهِ) أَيْ يَقْضِي لَهُ بِمَا ادَّعَاهُ، وَإِنْ نَكَلَ الْمُدَّعِي أَيْضًا انْقَطَعَتْ الْمُنَازَعَةُ (لِأَنَّ النُّكُولَ) تَعْلِيلٌ لِقَوْلِهِ لَا يُقْضَى بِهِ (يَحْتَمِلُ التَّوَرُّعَ عَنْ الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ وَالتَّرَفُّعَ عَنْ الصَّادِقَةِ) أَيْ عَنْ الْيَمِينِ الصَّادِقَةِ، كَمَا رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ رضي الله عنه أَنَّهُ نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ وَقَالَ: أَخَافُ أَنْ يُوَافِقَهَا قَضَاءٌ فَيُقَالُ إنَّ عُثْمَانَ حَلَفَ كَاذِبًا، كَذَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ خُوَاهَرْ زَادَهْ فِي مَبْسُوطِهِ (وَاشْتِبَاهَ الْحَالِ) أَيْ وَيَحْتَمِلُ اشْتِبَاهُ الْحَالِ عَلَيْهِ بِأَنْ لَا يَدْرِيَ أَنَّهُ صَادِقٌ فِي إنْكَارِهِ فَيَحْلِفَ أَوْ كَاذِبٌ فِيهِ فَيَمْتَنِعَ (فَلَا يَنْتَصِبُ) أَيْ لَا يَنْتَصِبُ نُكُولُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ (حُجَّةً مَعَ الِاحْتِمَالِ) الْمَذْكُورِ (وَيَمِينُ الْمُدَّعِي دَلِيلُ الظُّهُورِ) أَيْ دَلِيلُ ظُهُورِ كَوْنِ الْمُدَّعِي مُحِقًّا (فَيُصَارُ إلَيْهِ) أَيْ فَيَرْجِعُ إلَى يَمِينِ الْمُدَّعِي (وَلَنَا أَنَّ النُّكُولَ) أَيْ نُكُولَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ (دَلَّ عَلَى كَوْنِهِ بَاذِلًا) أَيْ دَلَّ عَلَى كَوْنِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَاذِلًا إنْ كَانَ النُّكُولُ بَذْلًا كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ (أَوْ مُقِرًّا) أَيْ عَلَى كَوْنِهِ مُقِرًّا إنْ كَانَ النُّكُولُ إقْرَارًا كَمَا هُوَ مَذْهَبُهُمَا (وَلَوْلَا ذَلِكَ) أَيْ وَلَوْلَا كَوْنُهُ بَاذِلًا أَوْ مُقِرًّا (لَأَقْدَمَ عَلَى الْيَمِينِ إقَامَةً لِلْوَاجِبِ) وَهُوَ الْيَمِينُ لِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» وَكَلِمَةُ عَلَى لِلْوُجُوبِ (وَدَفْعًا

ص: 176

لِلضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ فَتَرَجَّحَ هَذَا الْجَانِبُ

لِلضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ) أَيْ دَفْعًا لِضَرَرِ الدَّعْوَى عَنْ نَفْسِهِ (فَتَرَجَّحَ هَذَا الْجَانِبُ) وَاعْلَمْ أَنَّ حَلَّ الْمُرَادِ بِهَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ مِنْ دَلِيلِنَا وَرَبْطَهُ بِمَا قَبْلَهَا مِنْ مَدَاحِضِ هَذَا الْكِتَابِ، وَلِهَذَا لَمْ يَخْلُ كَلَامُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الشُّرَّاحِ هَاهُنَا عَنْ اخْتِلَالٍ وَاضْطِرَابٍ، فَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: فَتَرَجَّحَ هَذَا الْجَانِبُ: أَيْ جَانِبُ كَوْنِهِ بَاذِلًا إنْ تَرَفَّعَ أَوْ مُقِرًّا إنْ تَوَرَّعَ؛ لِأَنَّ التَّرَفُّعَ وَالتَّوَرُّعَ إنَّمَا يَحِلُّ إذَا لَمْ يُفْضِ إلَى الضَّرَرِ بِالْغَيْرِ انْتَهَى.

أَقُولُ: فِيهِ بَحْثٌ، أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ تَوْزِيعَ كَوْنِهِ بَاذِلًا أَوْ مُقِرًّا إلَى التَّوَرُّعِ وَالتَّرَفُّعِ مِمَّا لَا يَكَادُ يَصِحُّ هَاهُنَا؛ لِأَنَّ النُّكُولَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بَذْلٌ لَا غَيْرُ، وَعِنْدَهُمَا إقْرَارٌ لَا غَيْرُ، فَعَلَى التَّوْزِيعِ الْمَزْبُورِ لَا يَثْبُتُ الرُّجْحَانُ فِي هَذَا الْجَانِبِ عَلَى التَّرَفُّعِ وَالتَّوَرُّعِ مَعًا فِي وَاحِدٍ مِنْ الْمَذْهَبَيْنِ، بَلْ إنَّمَا يَثْبُتُ رُجْحَانُ كَوْنِهِ بَاذِلًا فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى التَّرَفُّعِ فَقَطْ، وَرُجْحَانُ كَوْنِهِ مُقِرًّا فِي مَذْهَبِهِمَا عَلَى التَّوَرُّعِ فَقَطْ، وَبِهِ لَا يَتِمُّ الْمَطْلُوبُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ الْمَذْهَبَيْنِ؛ لِأَنَّ التَّرَفُّعَ وَحْدَهُ أَوْ التَّوَرُّعَ وَحْدَهُ يَحْتَمِلُ وَاحِدًا مِنْ الْمُحْتَمَلَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي دَلِيلِ الشَّافِعِيِّ، وَبِمُجَرَّدِ رُجْحَانِ هَذَا الْجَانِبِ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْمُحْتَمَلَاتِ لَا يَتَعَيَّنُ كَوْنُهُ مُرَادًا لِلنَّاكِلِ حَتَّى يَتِمَّ الْمَطْلُوبُ.

وَالْحَاصِلُ أَنَّ فِي تَقْرِيرِ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ خَلْطَ الْمَذْهَبَيْنِ كَمَا تَرَى. وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ التَّوَرُّعَ عَنْ الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ سِيَّمَا عَنْ الْيَمِينِ الْغَمُوسِ كَمَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ، إنَّمَا يَحِلُّ إذَا لَمْ يُفْضِ إلَى الضَّرَرِ بِالْغَيْرِ بَلْ الظَّاهِرُ أَنَّ التَّوَرُّعَ عَنْهَا وَاجِبٌ فِي كُلِّ حَالٍ. وَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ بِوَجْهٍ آخَرَ حَيْثُ قَالَ: فِيهِ بَحْثٌ، فَإِنَّ مَا ذَكَرَهُ مِنْ الْإِفْضَاءِ إلَى الضَّرَرِ بِالْغَيْرِ غَيْرُ ظَاهِرٍ انْتَهَى. أَقُولُ: هَذَا غَيْرُ وَارِدٍ، فَإِنَّ الْإِفْضَاءَ إلَيْهِ فِي صُورَةِ التَّوَرُّعِ عَنْ الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ ظَاهِرٌ جِدًّا؛ لِأَنَّ كَوْنَ الْمُنْكِرِ كَاذِبًا فِي يَمِينِهِ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ فِيمَا إذَا كَانَ لِلْمُدَّعِي حَقٌّ عَلَيْهِ فِي الْوَاقِعِ، فَحِينَئِذٍ لَوْ تَوَرَّعَ عَنْ الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ بِدُونِ الْبَذْلِ أَوْ الْإِقْرَارِ أَفْضَى إلَى الضَّرَرِ بِالْمُدَّعِي قَطْعًا لِتَضْيِيعِ حَقِّهِ وَهُوَ مَا ادَّعَاهُ، وَكَذَا الْإِفْضَاءُ إلَيْهِ فِي صُورَةِ التَّرَفُّعِ عَنْ الْيَمِينِ الصَّادِقَةِ يَظْهَرُ بِأَدْنَى تَأَمُّلٍ؛ لِأَنَّ يَمِينَ

ص: 177

وَلَا وَجْهَ لِرَدِّ الْيَمِينِ

الْمُنْكِرِ حَقُّ الْمُدَّعِي لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَك يَمِينُهُ» كَمَا مَرَّ، فَلَوْ تَرَفَّعَ عَنْ الْيَمِينِ وَلَوْ عَنْ الصَّادِقَةِ بِدُونِ رِضَا الْمُدَّعِي بِالْبَذْلِ وَنَحْوِهِ أَفْضَى إلَى الضَّرَرِ بِالْمُدَّعِي بِمَنْعِ حَقِّهِ وَهُوَ يَمِينُ خَصْمِهِ.

وَقَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَصَاحِبُ الْكِفَايَةِ: فَتَرَجَّحَ هَذَا الْجَانِبُ: أَيْ جَانِبُ كَوْنِهِ بَاذِلًا أَوْ مُقِرًّا عَلَى جَانِبِ التَّوَرُّعِ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ أَلْزَمَهُ التَّوَرُّعَ عَنْ الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ دُونَ التَّرَفُّعِ عَنْ الْيَمِينِ الصَّادِقَةِ فَلِذَلِكَ تَرَجَّحَ هَذَا الْجَانِبُ فِي نُكُولِهِ انْتَهَى.

أَقُولُ: وَفِيهِ أَيْضًا بَحْثٌ، أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ مَا ذَكَرَاهُ مِنْ الدَّلِيلِ إنَّمَا أَفَادَ رُجْحَانَ هَذَا الْجَانِبِ: أَيْ جَانِبِ كَوْنِهِ بَاذِلًا أَوْ مُقِرًّا عَلَى التَّرَفُّعِ عَنْ الْيَمِينِ الصَّادِقَةِ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ التَّرَفُّعُ عَنْهَا مِمَّا أَلْزَمَهُ الشَّرْعُ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَلْتَزِمَهُ النَّاكِلُ، وَلَمْ يُفِدْ رُجْحَانُهُ عَلَى التَّوَرُّعِ عَنْ الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ فَلَا مَعْنَى لِقَوْلِهِمَا عَلَى جَانِبِ التَّوَرُّعِ، وَإِنْ أُرِيدَ بِجَانِبِ التَّوَرُّعِ الْجَانِبُ الْمُقَابِلُ لِجَانِبِ الْبَذْلِ وَالْإِقْرَارِ لَا التَّوَرُّعُ نَفْسُهُ فَيَكُونُ التَّرَفُّعُ أَيْضًا دَاخِلًا فِي ذَلِكَ الْجَانِبِ، يَبْقَى أَنْ يُقَالَ: مَا ذَكَرَاهُ مِنْ الدَّلِيلِ إنَّمَا أَفَادَ رُجْحَانَ جَانِبِ كَوْنِهِ بَاذِلًا أَوْ مُقِرًّا عَلَى التَّرَفُّعِ عَنْ الْيَمِينِ الصَّادِقَةِ فَقَطْ، وَهُوَ يَحْتَمِلُ وَاحِدًا مِنْ الْمُحْتَمَلَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي دَلِيلِ الْخَصْمِ، وَبِمُجَرَّدِ الرُّجْحَانِ عَلَيْهِ لَا يَتِمُّ مَطْلُوبُنَا كَمَا مَرَّ آنِفًا.

وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ مَا ذَكَرَاهُ مِنْ الدَّلِيلِ غَيْرُ مَذْكُورٍ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ وَغَيْرُ مُنْفَهِمٍ مِنْهُ، فَكَيْفَ يَتِمُّ بِنَاءُ شَرْحِ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ، فَتَرَجَّحَ هَذَا الْجَانِبُ عَلَيْهِ، وَالْفَاءُ فِي فَتَرَجَّحَ تَقْتَضِي التَّفْرِيعَ عَلَى مَا سَبَقَ مِنْ كَلَامِهِ كَمَا لَا يَخْفَى. وَقَالَ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ: فَتَرَجَّحَ هَذَا الْجَانِبُ: أَيْ تَرَجَّحَ جَانِبُ كَوْنِ النَّاكِلِ بَاذِلًا أَوْ مُقِرًّا عَلَى الْوَجْهِ الْمُحْتَمَلِ، وَهُوَ كَوْنُهُ مُتَوَرِّعًا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ لِأَنَّ النُّكُولَ امْتِنَاعٌ عَنْ الْيَمِينِ الَّتِي وَجَبَتْ عَلَيْهِ، فَلَوْلَا أَنَّ النُّكُولَ بَذْلٌ أَوْ إقْرَارٌ لَكَانَ النُّكُولُ امْتِنَاعًا عَنْ الْوَاجِبِ وَظُلْمًا عَلَى الْمُدَّعِي، وَالْعَاقِلُ الدَّيِّنُ لَا يَتْرُكُ الْوَاجِبَ وَلَا يُقْدِمُ عَلَى الظُّلْمِ.

وَالْحَاصِلُ أَنَّ النُّكُولَ إنْ كَانَ امْتِنَاعًا عَنْ الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ يَكُونُ إقْرَارًا، وَإِنْ كَانَ امْتِنَاعًا عَنْ الْيَمِينِ الصَّادِقَةِ يَكُونُ بَذْلًا انْتَهَى. أَقُولُ: وَفِيهِ أَيْضًا بَحْثٌ، أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ قَوْلَهُ وَظُلْمًا عَلَى الْمُدَّعِي لَيْسَ بِتَامٍّ، إذْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ النُّكُولَ لَوْ لَمْ يَكُنْ بَذْلًا أَوْ إقْرَارًا لَكَانَ ظُلْمًا عَلَى الْمُدَّعِي لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ لِلتَّرَفُّعِ عَنْ الْيَمِينِ الصَّادِقَةِ، فَحِينَئِذٍ لَا يَتَحَقَّقُ الظُّلْمُ عَلَى الْمُدَّعِي لِأَنَّ صِدْقَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي إنْكَارِهِ يَسْتَلْزِمُ كَذِبَ الْمُدَّعِي فِي دَعْوَاهُ وَالْكَاذِبُ لَيْسَ بِمَظْلُومٍ بَلْ هُوَ ظَالِمٌ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُقَالَ: يَجُوزُ أَنْ يُعَدَّ النُّكُولُ ظُلْمًا عَلَى الْمُدَّعِي فِي صُورَةِ صِدْقِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَيْضًا مِنْ جِهَةِ أَنَّ يَمِينَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ حَقُّ الْمُدَّعِي بِمُوجِبِ الْحَدِيثِ عَلَى مَا مَرَّ، وَأَنَّ فِي النُّكُولِ عَنْهَا مَنْعَ هَذَا الْحَقِّ فَصَارَ النَّاكِلُ ظَالِمًا عَلَى الْمُدَّعِي فِي الْجُمْلَةِ.

وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ فِي التَّوْزِيعِ الْحَاصِلِ مِنْ قَوْلِهِ وَالْحَاصِلُ أَنَّ النُّكُولَ إنْ كَانَ امْتِنَاعًا عَنْ الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ يَكُونُ إقْرَارًا، وَإِنْ كَانَ امْتِنَاعًا عَنْ الْيَمِينِ الصَّادِقَةِ يَكُونُ بَذْلًا خَلَلًا حَيْثُ لَا يَكُونُ الْمَطْلُوبُ حِينَئِذٍ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ الْمَذْهَبَيْنِ، بَلْ يَحْتَاجُ إلَى خَلْطِهِمَا عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي بَحْثِنَا الْأَوَّلِ فِي كَلَامِ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ، فَالصَّوَابُ عِنْدِي فِي حَلِّ مُرَادِ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا أَنْ يُقَالَ: فَتَرَجَّحَ هَذَا الْجَانِبُ: أَيْ جَانِبُ كَوْنِ النَّاكِلِ بَاذِلًا أَوْ مُقِرًّا عَلَى جَمِيعِ الْوُجُوهِ الْمُحْتَمَلَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي دَلِيلِ الشَّافِعِيِّ بِنَاءً عَلَى مُقْتَضَى مَا سَبَقَ مِنْ قَوْلِهِ إذْ لَوْلَا ذَلِكَ لَأَقْدَمَ عَلَى الْيَمِينِ إقَامَةً لِلْوَاجِبِ وَدَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ.

وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْعَاقِلَ الدَّيِّنَ لَا يَتْرُكُ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ وَلَا يَتْرُكُ دَفْعَ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ بِشَيْءٍ مِنْ تِلْكَ الْوُجُوهِ الْمُحْتَمَلَةِ. أَمَّا بِالتَّرَفُّعِ عَنْ الْيَمِينِ الصَّادِقَةِ فَظَاهِرٌ، إذْ هُوَ لَيْسَ بِأَمْرٍ ضَرُورِيٍّ أَصْلًا حَتَّى يَتْرُكَ بِهِ الْوَاجِبَ وَدَفْعَ الضَّرَرِ عَنْ النَّفْسِ، وَأَمَّا بِالتَّوَرُّعِ عَنْ الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ فَلِأَنَّ الْمُتَوَرِّعَ لَا يَتْرُكُ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ بَلْ يُعْطِي حَقَّ خَصْمِهِ فَيَسْقُطُ الْوَاجِبُ عَنْ عُهْدَتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ النَّاكِلُ بَاذِلًا أَوْ مُقِرًّا وَلَمْ يُقْدِمْ عَلَى الْيَمِينِ انْتَفَى احْتِمَالُ كَوْنِهِ مُتَوَرِّعًا. وَأَمَّا بِاشْتِبَاهِ الْحَالِ فَلِأَنَّ مَنْ يُشْتَبَهُ عَلَيْهِ الْحَالُ لَا يَتْرُكُ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ أَيْضًا بَلْ يَتَحَرَّى فَيُقْدِمُ عَلَى إقَامَةِ الْوَاجِبِ أَوْ يُعْطِي حَقَّ خَصْمِهِ فَيَسْقُطُ عَنْ عُهْدَتِهِ الْوَاجِبُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ النَّاكِلُ بَاذِلًا أَوْ مُقِرًّا وَلَمْ يُقْدِمْ عَلَى الْيَمِينِ انْتَفَى هَذَا الِاحْتِمَالُ أَيْضًا.

وَبِالْجُمْلَةِ إنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ إذْ لَوْلَا ذَلِكَ لَأَقْدَمَ عَلَى الْيَمِينِ إقَامَةً لِلْوَاجِبِ وَدَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ يَنْدَفِعُ بِهَا الْوُجُوهُ الْمُحْتَمَلَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي دَلِيلِ الشَّافِعِيِّ بِأَسْرِهَا فَيَتَرَجَّحُ كَوْنُ النَّاكِلِ بَاذِلًا أَوْ مُقِرًّا بِالضَّرَرِ (وَلَا وَجْهَ لِرَدِّ الْيَمِينِ

ص: 178

عَلَى الْمُدَّعِي لِمَا قَدَّمْنَاهُ.

قَالَ (وَيَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَقُولَ لَهُ إنِّي أَعْرِضُ عَلَيْك الْيَمِينَ ثَلَاثًا، فَإِنْ حَلَفْت وَإِلَّا قَضَيْت عَلَيْك بِمَا ادَّعَاهُ) وَهَذَا الْإِنْذَارُ لِإِعْلَامِهِ بِالْحُكْمِ إذْ هُوَ مَوْضِعُ الْخَفَاءِ

. قَالَ (فَإِذَا كَرَّرَ الْعَرْضَ عَلَيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ قُضِيَ عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ) وَهَذَا التَّكْرَارُ ذَكَرَهُ الْخَصَّافُ رحمه الله لِزِيَادَةِ الِاحْتِيَاطِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي إبْلَاءِ الْعُذْرِ، فَأَمَّا الْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَوْ قُضِيَ بِالنُّكُولِ بَعْدَ الْعَرْضِ مَرَّةً جَازَ لِمَا قَدَّمْنَاهُ هُوَ الصَّحِيحُ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى

عَلَى الْمُدَّعِي لِمَا قَدَّمْنَاهُ) أَشَارَ بِهِ إلَى قَوْلِهِ وَلَا تُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعِي لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» إلَخْ، وَنَحْنُ أَيْضًا قَدَّمْنَا وَاسْتَوْفَيْنَا هُنَاكَ دَلِيلَ الشَّافِعِيِّ فِي رَدِّ الْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعِي وَأَجْوِبَتَنَا عَنْهُ نَقْلًا عَنْ الْكَافِي وَالتَّبْيِينِ بِمَا لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ فَتَذَكَّرْ

(قَالَ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ (وَيَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَقُولَ لَهُ) أَيْ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ (إنِّي أَعْرِضُ عَلَيْك الْيَمِينَ ثَلَاثًا) أَيْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ (فَإِنْ حَلَفْت) أَيْ إنْ حَلَفْت خَلَصْتَ أَوْ تَرَكْتُك (وَإِلَّا قَضَيْت عَلَيْك بِمَا ادَّعَاهُ) أَيْ بِمَا ادَّعَاهُ الْمُدَّعِي.

قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَهَذَا الْإِنْذَارُ) أَيْ قَوْلُ الْقَاضِي وَإِلَّا قَضَيْت عَلَيْك بِمَا ادَّعَاهُ (لِإِعْلَامِهِ بِالْحُكْمِ) أَيْ الْحُكْمِ بِالنُّكُولِ (إذْ هُوَ مَوْضِعُ الْخَفَاءِ) لِكَوْنِهِ مُجْتَهِدًا فِيهِ، فَإِنَّ لِلشَّافِعِيِّ خِلَافًا فِيهِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَلْتَبِسَ عَلَيْهِ مَا يَلْزَمُهُ بِالنُّكُولِ فَوَجَبَ أَنْ يُعَرِّفَهُ حَتَّى يَحْلِفَ أَوْ يَنْكُلَ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ

(قَالَ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ (فَإِذَا كَرَّرَ الْعَرْضَ عَلَيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ قُضِيَ عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ) قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَهَذَا التَّكْرَارُ ذَكَرَهُ الْخَصَّافُ لِزِيَادَةِ الِاحْتِيَاطِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي إبْلَاءِ الْأَعْذَارِ) أَيْ فِي إظْهَارِهَا: يَعْنِي أَنَّ هَذَا التَّكْرَارَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْخَصَّافُ لِلِاسْتِحْبَابِ لَا لِأَنَّهُ شَرْطٌ لِجَوَازِ الْقَضَاءِ بِالنُّكُولِ، وَنَظِيرُهُ إمْهَالُ الْمُرْتَدِّ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَإِنَّهُ مُسْتَحَبٌّ لَا وَاجِبٌ؛ وَأَوْضَحَ هَذَا بِقَوْلِهِ (فَأَمَّا الْمَذْهَبُ فَإِنَّهُ لَوْ قُضِيَ بِالنُّكُولِ بَعْدَ الْعَرْضِ مَرَّةً جَازَ لِمَا قَدَّمْنَاهُ) مِنْ أَنَّ النُّكُولَ بَذْلٌ أَوْ إقْرَارٌ وَلَيْسَ التَّكْرَارُ بِشَرْطٍ فِي شَيْءٍ مِنْهُمَا (هُوَ الصَّحِيحُ) احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ بَعْضِهِمْ إنَّهُ لَوْ قَضَى بِالنُّكُولِ مَرَّةً وَاحِدَةً لَا يَنْفُذُ، كَذَا فِي أَكْثَرِ الشُّرُوحِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ صَاحِبِ الْكَافِي وَالتَّقْدِيرُ بِالثَّلَاثِ فِي عَرْضِ الْيَمِينِ لَازِمٌ فِي الْمَرْوِيِّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لِلِاحْتِيَاطِ، حَتَّى لَوْ قَضَى بِالنُّكُولِ مَرَّةً نَفَذَ قَضَاؤُهُ فِي الصَّحِيحِ انْتَهَى.

وَقَالَ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ: احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ الْخَصَّافِ فَإِنَّهُ يُشْتَرَطُ التَّكْرَارُ انْتَهَى.

أَقُولُ: هَذَا لَيْسَ بِشَرْطٍ صَحِيحٍ، فَإِنَّ الْمُصَنِّفَ بَعْدَمَا صَرَّحَ بِأَنَّ الْخَصَّافَ ذَكَرَ التَّكْرَارَ لِزِيَادَةِ الِاحْتِيَاطِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي إبْلَاءِ الْأَعْذَارِ كَيْفَ يَزْعُمُ أَنَّهُ اشْتَرَطَ التَّكْرَارَ فَيُحْتَرَزُ عَنْ قَوْلِهِ (وَالْأَوَّلُ أَوْلَى) أَيْ الْعَرْضُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ أَوْلَى: يَعْنِي أَنَّ الْقَضَاءَ بِالنُّكُولِ بَعْدَ الْعَرْضِ مَرَّةً جَائِزٌ وَلَكِنَّ الْأَوْلَى هُوَ الْقَضَاءُ بِالنُّكُولِ بَعْدَ الْعَرْضِ ثَلَاثَ

ص: 179

ثُمَّ النُّكُولُ قَدْ يَكُونُ حَقِيقِيًّا كَقَوْلِهِ لَا أَحْلِفُ، وَقَدْ يَكُونُ حُكْمِيًّا بِأَنْ يَسْكُتَ، وَحُكْمُهُ حُكْمُ الْأَوَّلِ إذَا عَلِمَ أَنَّهُ لَا آفَةَ بِهِ مِنْ طَرَشٍ أَوْ خَرَسٍ هُوَ الصَّحِيحُ

مَرَّاتٍ. وَفِي النِّهَايَةِ: وَذَكَرَ فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ صُورَةَ الْمَسْأَلَةِ قَالَ: رَجُلٌ قَدَّمَ رَجُلًا إلَى الْقَاضِي فَادَّعَى عَلَيْهِ مَالًا أَوْ ضَيْعَةً فِي يَدِهِ أَوْ حَقًّا مِنْ الْحُقُوقِ فَأَنْكَرَ فَاسْتَحْلَفَهُ الْقَاضِي فَأَبَى أَنْ يَحْلِفَ، فَإِنَّهُ يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَقُولَ لَهُ إنِّي أَعْرِضُ عَلَيْك الْيَمِينَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَإِنْ حَلَفْت وَإِلَّا أَلْزَمْتُك الْمُدَّعَى، ثُمَّ يَقُولُ لَهُ الْقَاضِي: احْلِفْ بِاَللَّهِ مَا لِهَذَا عَلَيْك هَذَا الْمَالُ الَّذِي يَدَّعِي وَهُوَ كَذَا وَكَذَا وَلَا شَيْءَ مِنْهُ، فَإِنْ أَبَى أَنْ يَحْلِفَ بِاَللَّهِ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى يَقُولُ لَهُ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ كَذَلِكَ، فَإِنْ أَبَى أَنْ يَحْلِفَ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ يَقُولُ لَهُ بَقِيَتْ الثَّالِثَةُ ثُمَّ أَقْضِي عَلَيْك إنْ لَمْ تَحْلِفْ، ثُمَّ يَقُولُ لَهُ ثَالِثًا احْلِفْ بِاَللَّهِ مَا لِهَذَا عَلَيْك هَذَا الْمَالُ وَلَا شَيْءَ مِنْهُ، فَإِنْ أَبَى أَنْ يَحْلِفَ يَقْضِي عَلَيْهِ بِدَعْوَى الْمُدَّعِي، وَإِنْ قَضَى الْقَاضِي بِالنُّكُولِ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى نَفَذَ قَضَاؤُهُ انْتَهَى.

قَالَ صَاحِبُ الْكَافِي: وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ النُّكُولُ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ، وَهَلْ يُشْتَرَطُ الْقَضَاءُ عَلَى فَوْرِ النُّكُولِ؟ فِيهِ اخْتِلَافٌ انْتَهَى. وَقَالَ الْإِمَامُ الزَّيْلَعِيُّ فِي شَرْحِ الْكَنْزِ: وَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ النُّكُولُ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ يَمِينٌ قَاطِعٌ لِلْخُصُومَةِ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِالْيَمِينِ عِنْدَ غَيْرِهِ فِي حَقِّ الْخُصُومَةِ فَلَا يُعْتَبَرُ، وَهَلْ يُشْتَرَطُ الْقَضَاءُ عَلَى فَوْرِ النُّكُولِ؟ فِيهِ اخْتِلَافٌ. ثُمَّ إذَا حَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَالْمُدَّعِي عَلَى دَعْوَاهُ وَلَا يَبْطُلُ حَقُّهُ بِيَمِينِهِ، إلَّا أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُخَاصِمَهُ مَا لَمْ يُقِمْ الْبَيِّنَةَ عَلَى وَفْقِ دَعْوَاهُ، فَإِنْ وَجَدَ بَيِّنَةً أَقَامَهَا عَلَيْهِ وَقَضَى لَهُ بِهَا، وَبَعْضُ الْقُضَاةِ مِنْ السَّلَفِ كَانُوا لَا يَسْمَعُونَ الْبَيِّنَةَ بَعْدَ الْحَلِفِ وَيَقُولُونَ تَرَجَّحَ جَانِبُ صِدْقِهِ بِالْيَمِينِ فَلَا تُقْبَلُ بَيِّنَةُ الْمُدَّعِي بَعْدَ ذَلِكَ كَمَا تَرَجَّحَ جَانِبُ صِدْقِ الْمُدَّعِي بِالْبَيِّنَةِ حَتَّى لَا يُعْتَبَرَ يَمِينُ الْمُنْكِرِ مَعَهَا، وَهَذَا الْقَوْلُ مَهْجُورٌ غَيْرُ مَأْخُوذٍ بِهِ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ أَصْلًا لِأَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه قَبِلَ الْبَيِّنَةَ مِنْ الْمُدَّعِي بَعْدَ يَمِينِ الْمُنْكِرِ.

وَكَانَ شُرَيْحٌ رحمه الله يَقُولُ: الْيَمِينُ الْفَاجِرَةُ أَحَقُّ أَنْ تُرَدَّ مِنْ الْبَيِّنَةِ الْعَادِلَةِ، وَهَلْ يَظْهَرُ كَذِبُ الْمُنْكِرِ بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ؟ وَالصَّوَابُ أَنَّهُ لَا يَظْهَرُ كَذِبُهُ حَتَّى لَا يُعَاقَبَ عُقُوبَةَ شَاهِدِ الزُّورِ وَلَا يَحْنَثُ فِي يَمِينِهِ: إنْ كَانَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَادَّعَى عَلَيْهِ فَأَنْكَرَ فَحَلَفَ ثُمَّ أَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ أَنَّ لَهُ عَلَيْهِ أَلْفًا، وَقِيلَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَظْهَرُ كَذِبُهُ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَظْهَرُ، إلَى هَاهُنَا كَلَامُهُ (ثُمَّ النُّكُولُ قَدْ يَكُونُ حَقِيقِيًّا كَقَوْلِهِ لَا أَحْلِفُ وَقَدْ يَكُونُ حُكْمِيًّا بِأَنْ يَسْكُتَ، وَحُكْمُهُ) أَيْ حُكْمُ الثَّانِي وَهُوَ الْحُكْمِيُّ (حُكْمُ الْأَوَّلِ) وَهُوَ الْحَقِيقِيُّ (إذَا عَلِمَ أَنَّهُ لَا آفَةَ بِهِ) أَيْ بِالْمُدَّعَى عَلَيْهِ (مِنْ طَرَشٍ) الطَّرَشُ بِفَتْحَتَيْنِ أَهْوَنُ الصَّمَمِ يُقَالُ هُوَ مُوَلَّدٌ (أَوْ خَرَسٍ) بِفَتْحَتَيْنِ أَيْضًا: آفَةٌ بِاللِّسَانِ تَمْنَعُ الْكَلَامَ أَصْلًا (هُوَ الصَّحِيحُ) اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ فِيمَا إذَا سَكَتَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَعْدَ عَرْضِ الْيَمِينِ عَلَيْهِ وَلَمْ يَقُلْ لَا أَحْلِفُ.

فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: إذَا سَكَتَ سَأَلَ الْقَاضِي عَنْهُ هَلْ بِهِ خَرَسٌ أَوْ طَرَشٌ، فَإِنْ قَالُوا لَا جَعَلَهُ نَاكِلًا وَقَضَى عَلَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ يَجْلِسُ حَتَّى يُجِيبَ، وَالْأَوَّلُ صَحِيحٌ كَذَا فِي

ص: 180

قَالَ (وَإِنْ كَانَتْ الدَّعْوَى نِكَاحًا لَمْ يُسْتَحْلَفْ الْمُنْكِرُ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَلَا يُسْتَحْلَفُ عِنْدَهُ فِي النِّكَاحِ وَالرَّجْعَةِ وَالْفَيْءِ فِي الْإِيلَاءِ وَالرِّقِّ وَالِاسْتِيلَادِ وَالنَّسَبِ وَالْوَلَاءِ وَالْحُدُودِ وَاللِّعَانِ. وَقَالَا: يُسْتَحْلَفُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ إلَّا فِي الْحُدُودِ وَاللِّعَانِ

غَايَةِ الْبَيَانِ نَقْلًا عَنْ شَرْحِ الْأَقْطَعِ

(قَالَ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ (وَإِنْ كَانَتْ الدَّعْوَى نِكَاحًا لَمْ يُسْتَحْلَفْ الْمُنْكِرُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَلَا يُسْتَحْلَفُ عِنْدَهُ) يُرِيدُ بِهِ التَّعْمِيمَ بَعْدَ تَخْصِيصِ النِّكَاحِ بِالذِّكْرِ (فِي النِّكَاحِ) أَيْ لَا يُسْتَحْلَفُ عِنْدَهُ فِي دَعْوَى النِّكَاحِ بِأَنْ ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى امْرَأَةٍ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا أَوْ بِالْعَكْسِ (وَالرَّجْعَةِ) أَيْ لَا يُسْتَحْلَفُ عِنْدَهُ فِي دَعْوَى الرَّجْعَةِ أَيْضًا بِأَنْ ادَّعَى بَعْدَ الطَّلَاقِ وَانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ أَنَّهُ كَانَ رَاجَعَهَا فِي الْعِدَّةِ وَأَنْكَرَتْ أَوْ بِالْعَكْسِ (وَالْفَيْءِ فِي الْإِيلَاءِ) أَيْ فِي دَعْوَى الْفَيْءِ بِالْإِيلَاءِ أَيْضًا بِأَنْ ادَّعَى بَعْدَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ الْإِيلَاءِ أَنَّهُ كَانَ فَاءَ إلَيْهَا فِي الْمُدَّةِ وَأَنْكَرَتْ أَوْ بِالْعَكْسِ (وَالرِّقِّ) أَيْ وَفِي دَعْوَى الرِّقِّ أَيْضًا بِأَنْ ادَّعَى عَلَى مَجْهُولِ النَّسَبِ أَنَّهُ عَبْدُهُ وَأَنْكَرَ الْمَجْهُولُ أَوْ بِالْعَكْسِ (وَالِاسْتِيلَادِ) أَيْ وَفِي دَعْوَى الِاسْتِيلَادِ أَيْضًا بِأَنْ ادَّعَتْ أَمَةٌ عَلَى مَوْلَاهَا أَنَّهَا وَلَدَتْ مِنْهُ وَلَدًا وَأَنْكَرَ الْمَوْلَى وَلَا يَجْرِي فِيهِ الْعَكْسُ كَمَا سَيَذْكُرُهُ الْمُصَنِّفُ (وَالنَّسَبِ) أَيْ وَفِي دَعْوَى النَّسَبِ أَيْضًا بِأَنْ ادَّعَى عَلَى مَجْهُولٍ أَنَّهُ وَلَدُهُ أَوْ وَالِدُهُ وَأَنْكَرَ الْمَجْهُولُ أَوْ بِالْعَكْسِ.

(وَالْوَلَاءِ) أَيْ وَفِي دَعْوَى الْوَلَاءِ أَيْضًا بِأَنْ ادَّعَى عَلَى مَجْهُولِ النَّسَبِ أَنَّهُ مُعْتِقُهُ وَمَوْلَاهُ وَأَنْكَرَ الْمَجْهُولُ أَوْ بِالْعَكْسِ أَوْ كَانَ ذَلِكَ فِي وَلَاءِ الْمُوَالَاةِ، إذْ الْوَلَاءُ يَشْمَلُ وَلَاءَ الْعَتَاقَةِ وَوَلَاءَ الْمُوَالَاةِ (وَالْحُدُودِ) أَيْ وَفِي دَعْوَى الْحُدُودِ أَيْضًا بِأَنْ ادَّعَى عَلَى آخَرَ مَا يُوجِبُ حَدًّا مِنْ الْحُدُودِ وَأَنْكَرَهُ الْآخَرُ (وَاللِّعَانِ) أَيْ وَفِي دَعْوَى اللِّعَانِ أَيْضًا بِأَنْ ادَّعَتْ عَلَى زَوْجِهَا أَنَّهُ قَذَفَهَا بِمَا يُوجِبُ اللِّعَانَ وَأَنْكَرَ الزَّوْجُ.

وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا مَذْكُورَةٌ فِي مُخْتَصَرِ الْقُدُورِيِّ هَاهُنَا، إلَّا اللِّعَانَ فَإِنَّهُ غَيْرُ مَذْكُورٍ فِيهِ وَلَكِنَّهُ مَذْكُورٌ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فِي كِتَابِ الْقَضَاءِ (وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: يُسْتَحْلَفُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ إلَّا فِي الْحُدُودِ وَاللِّعَانِ) فَتَقَرَّرَ أَنَّهُ لَا يُسْتَحْلَفُ فِي الْحُدُودِ وَاللِّعَانِ عَلَى قَوْلِهِمْ جَمِيعًا، وَإِنَّمَا اخْتِلَافُهُمْ فِي الْأَشْيَاءِ السَّبْعَةِ الْبَاقِيَةِ.

وَفِي الْكَافِي قَالَ الْقَاضِي فَخْرُ الدِّينِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: وَالْفَتْوَى عَلَى قَوْلِهِمَا، وَقِيلَ يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَنْظُرَ فِي حَالِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَإِنْ رَآهُ مُتَعَنِّتًا يُحَلِّفُهُ وَيَأْخُذُهُ بِقَوْلِهِمَا، وَإِنْ كَانَ مَظْلُومًا لَا يُحَلِّفُهُ أَخْذًا بِقَوْلِهِ انْتَهَى. وَفِي النِّهَايَةِ: هَذَا كُلُّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ الْمَقْصُودُ مَالًا، وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ دَعْوَى مَالٍ بِأَنْ ادَّعَتْ الْمَرْأَةُ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا وَطَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ وَلَهَا عَلَيْهِ نِصْفُ الْمَهْرِ وَأَنْكَرَ يُسْتَحْلَفُ فِي قَوْلِهِمْ، فَإِنْ نَكَلَ يُقْضَى عَلَيْهِ بِبَيِّنَةٍ بِنِصْفِ الْمَهْرِ عَلَى مَا يَجِيءُ بَعْدَ هَذَا فِي الْكِتَابِ. وَسُئِلَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ عَبْدُ الْوَاحِدِ الشَّيْبَانِيُّ عَنْ الْمَرْأَةِ إذَا كَانَتْ تَعْلَمُ بِالنِّكَاحِ وَلَا تَجِدُ بَيِّنَةً تُقِيمُهَا لِإِثْبَاتِ النِّكَاحِ وَالزَّوْجُ يُنْكِرُ مَاذَا يَصْنَعُ الْقَاضِي حَتَّى لَا تَبْقَى هَذِهِ الْمَرْأَةُ مُعَلَّقَةً أَبَدَ الدَّهْرِ؟ قَالَ يَسْتَحْلِفُهُ الْقَاضِي إنْ كَانَتْ هَذِهِ امْرَأَةً لَك فَهِيَ طَالِقٌ حَتَّى يَقَعَ الطَّلَاقُ إنْ كَانَتْ امْرَأَتَهُ فَتَتَخَلَّصُ مِنْهُ وَتَحِلُّ لِلْأَزْوَاجِ.

وَذَكَرَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ فِي أَدَبِ الْقَاضِي فِي بَابِ الْيَمِينِ أَنَّ الْفَقِيهَ أَبَا اللَّيْثِ أَخَذَ بِقَوْلِهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَهَكَذَا

ص: 181

وَصُورَةُ الِاسْتِيلَادِ أَنْ تَقُولَ الْجَارِيَةُ أَنَا أُمُّ وَلَدٍ لِمَوْلَايَ وَهَذَا ابْنِي مِنْهُ وَأَنْكَرَ الْمَوْلَى، لِأَنَّهُ لَوْ ادَّعَى الْمَوْلَى ثَبَتَ الِاسْتِيلَادُ بِإِقْرَارِهِ وَلَا يُلْتَفَتُ إلَى إنْكَارِهَا. لَهُمَا أَنَّ النُّكُولَ إقْرَارٌ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ كَاذِبًا فِي الْإِنْكَارِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ، إذْ لَوْلَا ذَلِكَ لَأَقْدَمَ عَلَى الْيَمِينِ الصَّادِقَةِ إقَامَةً لِلْوَاجِبِ فَكَانَ إقْرَارًا أَوْ بَدَلًا عَنْهُ، وَالْإِقْرَارُ يَجْرِي فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَكِنَّهُ إقْرَارٌ فِيهِ شُبْهَةٌ، وَالْحُدُودُ تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ، وَاللِّعَانُ فِي مَعْنَى الْحَدِّ

فِي الْوَاقِعَاتِ أَيْضًا. وَكَيْفِيَّةُ الِاسْتِحْلَافِ عِنْدَهُمَا أَنْ يَحْلِفَ عَلَى الْحَاصِلِ إنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ هِيَ الْمُدَّعِيَةُ بِاَللَّهِ مَا هَذِهِ امْرَأَتُك بِهَذَا النِّكَاحِ الَّذِي ادَّعَتْهُ، وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ هُوَ الْمُدَّعِي تَحْلِفُ بِاَللَّهِ مَا هَذَا زَوْجُك عَلَى مَا ادَّعَى. وَالْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ مَشَايِخِنَا عَلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَنْظُرَ فِي حَالِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَإِنْ رَآهُ مُتَعَنِّتًا يُحَلِّفُهُ وَيَأْخُذُ بِقَوْلِهِمَا، وَإِنْ رَآهُ مَظْلُومًا لَا يُحَلِّفُهُ أَخْذًا بِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ كَمَا اخْتَارَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ فِي التَّوْكِيلِ بِالْخُصُومَةِ بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنْ الْخَصْمِ وَبِغَيْرِ رِضَاهُ أَنَّ الْقَاضِيَ إنْ عَلِمَ بِالْمُدَّعِي التَّعَنُّتَ فِي إبَاءِ التَّوْكِيلِ لَا يُمَكِّنُهُ مِنْ ذَلِكَ وَيَقْبَلُ التَّوْكِيلَ بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنْ الْخَصْمِ، وَإِنْ عَلِمَ بِالْمُوَكِّلِ الْقَصْدَ إلَى الْإِضْرَارِ بِالْمُدَّعِي فِي التَّوْكِيلِ لَا يَقْبَلُ ذَلِكَ إلَّا بِرِضَا الْخَصْمِ حَتَّى يَكُونَ دَافِعًا لِلضَّرَرِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، كَذَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِقَاضِي خَانْ وَالْمَحْبُوبِيِّ.

وَفِي الْحُدُودِ: لَا يُسْتَحْلَفُ بِالْإِجْمَاعِ إلَّا إذَا تَضَمَّنَ حَقًّا بِأَنْ عَلَّقَ عِتْقَ عَبْدِهِ بِالزِّنَا وَقَالَ إنْ زَنَيْت فَأَنْتَ حُرٌّ فَادَّعَى الْعَبْدُ أَنَّهُ قَدْ زَنَى وَلَا بَيِّنَةَ لَهُ عَلَيْهِ يُسْتَحْلَفُ الْمَوْلَى، حَتَّى إذَا نَكَلَ ثَبَتَ الْعِتْقُ دُونَ الزِّنَا، كَذَا ذَكَرَهُ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ فِي أَدَبِ الْقَاضِي، إلَى هُنَا لَفْظُ النِّهَايَةِ (وَصُورَةُ الِاسْتِيلَادِ أَنْ تَقُولَ الْجَارِيَةُ أَنَا أُمُّ وَلَدٍ لِمَوْلَايَ وَهَذَا ابْنِي مِنْهُ وَأَنْكَرَ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ لَوْ ادَّعَى الْمَوْلَى يَثْبُتُ الِاسْتِيلَادُ بِإِقْرَارِهِ وَلَا يُلْتَفَتُ إلَى إنْكَارِهَا) وَإِنَّمَا خَصَّ صُورَةَ الِاسْتِيلَادِ بِالذِّكْرِ مِنْ بَيْنِ أَخَوَاتِهِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ لَا مَسَاغَ لِلدَّعْوَى فِي هَذِهِ الصُّورَةِ إلَّا مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ، بِخِلَافِ أَخَوَاتِهِ الْخِلَافِيَّةِ فَإِنَّ لِلدَّعْوَى فِيهَا مَسَاغًا مِنْ الْجَانِبَيْنِ كَمَا صَوَّرْنَاهُ فِيمَا مَرَّ (لَهُمَا) أَيْ لِأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ (أَنَّ النُّكُولَ إقْرَارٌ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ كَاذِبًا فِي الْإِنْكَارِ) أَيْ فِي إنْكَارِهِ السَّابِقِ (عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ) يَعْنِي قَوْلَهُ إذْ لَوْلَا ذَلِكَ لَأَقْدَمَ عَلَى الْيَمِينِ إقَامَةً لِلْوَاجِبِ وَدَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ، وَفِيهَا تَحْصِيلُ الثَّوَابِ بِإِجْرَاءِ ذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى لِسَانِهِ تَعْظِيمًا لَهُ وَدَفْعُ تُهْمَةِ الْكَذِبِ عَنْ نَفْسِهِ وَإِبْقَاءُ مَالِهِ عَلَى مِلْكِهِ، فَلَوْلَا هُوَ كَاذِبٌ فِي يَمِينِهِ لَمَا تَرَكَ هَذِهِ الْفَوَائِدَ الثَّلَاثَ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ وَغَيْرِهَا (فَكَانَ) أَيْ النُّكُولُ (إقْرَارًا أَوْ بَدَلًا عَنْهُ) بِفَتْحِ الدَّالِ: أَيْ خَلَفًا عَنْ الْإِقْرَارِ: يَعْنِي أَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْإِقْرَارِ.

أَقُولُ: لَا يَخْفَى عَلَى ذِي فِطْرَةٍ سَلِيمَةٍ رَكَاكَةُ تَحْرِيرِ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا، عَيَّنَ أَوَّلًا كَوْنَ النُّكُولِ إقْرَارًا، ثُمَّ فَرَّعَ عَلَى دَلِيلِهِ كَوْنَهُ إقْرَارًا أَوْ بَدَلًا عَنْهُ بِالتَّرْدِيدِ، وَلَا يَدْفَعُهَا مَا ذُكِرَ فِي النِّهَايَةِ وَالْكِفَايَةِ مِنْ أَنَّهُ جَازَ أَنْ يَكُونَ هَذَا التَّرْدِيدُ لِدَفْعِ بَعْضِ الشُّبُهَاتِ الَّتِي تَرِدُ عَلَيْهِمَا فِي الْقَوْلِ بِالْإِقْرَارِ انْتَهَى. إذْ كَانَ يُمْكِنُ دَفْعُ ذَلِكَ بِذِكْرِ التَّرْدِيدِ أَوَّلًا أَيْضًا أَوْ بِالِاكْتِفَاءِ بِذِكْرِ كَوْنِهِ بَدَلًا عَنْهُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ مَعًا، بَلْ كَانَ هَذَا: أَيْ الِاكْتِفَاءُ بِهِ هُوَ الَّذِي يَنْبَغِي كَمَا سَتَقِفُ عَلَيْهِ (وَالْإِقْرَارُ يَجْرِي فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ) هَذَا كُبْرَى دَلِيلِهِمَا عَلَى جَوَازِ الِاسْتِحْلَافِ فِي الْأَشْيَاءِ الْمَذْكُورَةِ، تَقْرِيرُهُ أَنَّ النُّكُولَ إقْرَارٌ وَالْإِقْرَارُ يَجْرِي فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ يَنْتُجُ أَنَّ النُّكُولَ يَجْرِي فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، فَإِذَا جَرَى النُّكُولُ فِيهَا جَرَى الِاسْتِحْلَافُ فِيهَا أَيْضًا لِحُصُولِ فَائِدَةِ الِاسْتِحْلَافِ وَهِيَ الْقَضَاءُ بِالنُّكُولِ كَمَا فِي سَائِرِ مَوَاضِعِ الِاسْتِحْلَافِ (لَكِنَّهُ) أَيْ لَكِنَّ النُّكُولَ (إقْرَارٌ فِيهِ شُبْهَةٌ) لِأَنَّهُ فِي نَفْسِهِ سُكُوتٌ (وَالْحُدُودُ تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ) فَلَا يَجْرِي النُّكُولُ فِيهَا (وَاللِّعَانُ فِي مَعْنَى الْحَدِّ) لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ حَدِّ الْقَذْفِ فِي حَقِّ الزَّوْجِ، حَتَّى أَنَّ كُلَّ قَذْفٍ يُوجِبُ حَدَّ الْقَذْفِ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ إذَا قَذَفَ الْأَجْنَبِيَّاتِ فَكَذَلِكَ يُوجِبُ اللِّعَانَ عَلَى الزَّوْجِ، وَقَائِمٌ مَقَامَ حَدِّ الزِّنَا فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ كَمَا تَقَرَّرَ

ص: 182

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

فِي بَابِ اللِّعَانِ فَلَا يَجْرِي النُّكُولُ فِيهِ أَيْضًا. قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَعَلَيْهِ نُقَوِّضُ إجْمَالِيَّةً: الْأَوَّلُ مَا ذَكَرَهُ فِي الْجَامِعِ: رَجُلٌ اشْتَرَى نِصْفَ عَبْدٍ ثُمَّ اشْتَرَى النِّصْفَ الْبَاقِيَ ثُمَّ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا فَخَاصَمَهُ فِي النِّصْفِ الْأَوَّلِ فَأَنْكَرَ الْبَائِعُ وَنَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ فَرُدَّ عَلَيْهِ ثُمَّ خَاصَمَهُ فِي النِّصْفِ الثَّانِي فَأَنْكَرَ لَمْ يَلْزَمْهُ وَيُسْتَحْلَفُ، وَلَوْ كَانَ النُّكُولُ إقْرَارًا لَزِمَهُ النِّصْفُ الْآخَرُ بِنُكُولِهِ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى كَمَا لَوْ أَقَرَّ فِي تِلْكَ الْمَرَّةِ. وَالثَّانِي الْوَكِيلُ بِالْبَيْعِ إذَا ادَّعَى عَلَيْهِ عَيْبًا فِي الْمَبِيعِ وَاسْتُحْلِفَ فَنَكَلَ لَزِمَ الْمُوَكِّلَ، وَلَوْ كَانَ إقْرَارًا لَزِمَ الْوَكِيلَ.

الثَّالِثُ مَا ذَكَرَهُ فِي الْمَبْسُوطِ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا قَالَ تَكَفَّلْت لَك بِمَا يُقِرُّ لَك بِهِ فُلَانٌ فَادَّعَى الْمَكْفُولُ لَهُ عَلَى فُلَانٍ مَالًا فَأَنْكَرَ وَنَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ فَقَضَى عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ لَا يُقْضَى بِهِ عَلَى الْكَفِيلِ، وَلَوْ كَانَ النُّكُولُ إقْرَارًا لَقَضَى بِهِ. وَالْجَوَابُ أَنَّ النُّكُولَ إمَّا إقْرَارٌ أَوْ بَدَلٌ مِنْهُ. فَوَجْهُ الْإِقْرَارِ مَا تَقَدَّمَ، وَوَجْهُ كَوْنِهِ بَدَلًا أَنَّ الْمُدَّعِيَ يَسْتَحِقُّ بِدَعْوَاهُ جَوَابًا يَفْصِلُ الْخُصُومَةَ وَذَكَرَ بِالْإِقْرَارِ وَالْإِنْكَارِ، فَإِنْ أَقَرَّ فَقَدْ انْقَطَعَتْ، وَإِنْ أَنْكَرَ لَمْ تَنْقَطِعْ إلَّا بِيَمِينٍ، فَإِذَا نَكَلَ كَانَ بَدَلًا عَنْ الْإِقْرَارِ بِقَطْعِ الْخُصُومَةِ. فَالنُّقُوضُ الْمَذْكُورَةُ إنْ وَرَدَتْ عَلَى اعْتِبَارِ كَوْنِهِ إقْرَارًا لَا تُرَدُّ عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهِ بَدَلًا مِنْهُ، وَمِثْلُ هَذَا يُسَمَّى فِي عِلْمِ النَّظَرِ تَغْيِيرَ الْمُدَّعِي، إلَى هَاهُنَا كَلَامُهُ.

أَقُولُ: مَا ذَكَرَهُ فِي الْجَوَابِ مَنْظُورٌ فِيهِ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ قَوْلِهِ فَوَجْهُ الْإِقْرَارِ مَا تَقَدَّمَ، وَوَجْهُ كَوْنِهِ بَدَلًا كَيْتَ وَكَيْتَ أَنَّ مَا تَقَدَّمَ إنَّمَا يَصْلُحُ لَأَنْ يَكُونَ وَجْهَ الْإِقْرَارِ لَا لَأَنْ يَكُونَ وَجْهَ كَوْنِهِ بَدَلًا مِنْهُ مَعَ أَنَّهُ صَالِحٌ لَهُمَا، وَلِهَذَا فَرَّعَهُمَا الْمُصَنِّفُ عَلَيْهِ حَيْثُ قَالَ: فَكَانَ إقْرَارًا أَوْ بَدَلًا عَنْهُ. الثَّانِي أَنَّ الْوَجْهَ الَّذِي ذَكَرَهُ لِكَوْنِهِ بَدَلًا مِنْهُ غَيْرُ تَامٍّ، إذْ يَرِدُ عَلَيْهِ مَنْعُ قَوْلِهِ فَإِذَا نَكَلَ كَانَ بَدَلًا عَنْ الْإِقْرَارِ بِقَطْعِ الْخُصُومَةِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ بَذْلًا كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله لَا بَدَلًا عَنْ الْإِقْرَارِ، وَقَطْعُهُ الْخُصُومَةَ لَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ بَدَلًا عَنْهُ لِتَحَقُّقِ الْقَطْعِ الْمَزْبُورِ بِكَوْنِهِ بَذْلًا أَيْضًا، وَلِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ نَفْسُ الْإِقْرَارِ بَدَلًا عَنْهُ، فَحِينَئِذٍ أَيْضًا لَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ. الثَّالِثُ أَنَّ الْإِقْرَارَ إذَا كَانَ مُخَالِفًا فِي الْأَحْكَامِ لِمَا هُوَ بَدَلٌ عَنْهُ كَمَا هُوَ فِي صُورَةِ النُّقُوضِ الْمَذْكُورَةِ فَمِنْ أَيْنَ يُعْرَفُ جَرَيَانُ بَدَلِ الْإِقْرَارِ أَيْضًا فِي الْأَشْيَاءِ الْمَذْكُورَةِ حَتَّى يَتِمَّ دَلِيلُهُمَا الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ.

الرَّابِعُ أَنَّ قَوْلَهُ وَمِثْلُ هَذَا يُسَمَّى فِي عِلْمِ النَّظَرِ تَغْيِيرَ الْمُدَّعِي إنَّمَا يَتِمُّ لَوْ كَانَ الْمَذْكُورُ فِي دَلِيلِهِمَا الْمَسْفُورِ كَوْنَ النُّكُولِ إقْرَارًا فَقَطْ. وَلَمَّا كَانَ الْمَذْكُورُ فِيهِ كَوْنُهُ إقْرَارًا أَوْ بَدَلًا عَنْهُ بِالتَّرْدِيدِ كَمَا تَرَى لَمْ يَحْتَجَّ فِي دَفْعِ النُّقُوضِ الْمَزْبُورَةِ بِمَا ذُكِرَ إلَى تَغْيِيرِ شَيْءٍ أَصْلًا فَلَمْ يَتِمَّ قَوْلُهُ الْمَذْكُورُ. ثُمَّ إنَّ لِبَعْضِ الْفُضَلَاءِ كَلَامَيْنِ فِي تَحْرِيرِ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ هَاهُنَا: أَحَدُهُمَا فِي جَانِبِ السُّؤَالِ وَالْآخَرُ فِي جَانِبِ الْجَوَابِ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَفِي قَوْلِهِ وَعَلَيْهِ نُقُوضٌ إجْمَالِيَّةٌ حَيْثُ قَالَ: بَلْ الظَّاهِرُ أَنَّ تِلْكَ الْأَسْئِلَةَ الثَّلَاثَةَ مُعَارَضَاتٌ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ لَهُ أَدْنَى تَأَمُّلٍ وَدِرَايَةٍ انْتَهَى. وَأَمَّا الثَّانِي فَفِي قَوْلِهِ وَمِثْلُ هَذَا يُسَمَّى فِي عِلْمِ النَّظَرِ تَغْيِيرَ الْمُدَّعِي حَيْثُ قَالَ: بَلْ هُوَ تَغْيِيرُ الدَّلِيلِ وَالْمُدَّعِي جَوَازَ الِاسْتِحْلَافِ انْتَهَى. أَقُولُ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَاقِطٌ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ كَوْنَ تِلْكَ الْأَسْئِلَةِ مُعَارَضَاتٌ مِمَّا لَا يَكَادُ يَحْسُنُ لِأَنَّ حَاصِلَ كُلِّ وَاحِدٍ

ص: 183

وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ بَذْلٌ لِأَنَّ مَعَهُ لَا تَبْقَى الْيَمِينُ وَاجِبَةً لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ وَإِنْزَالُهُ بَاذِلًا أَوْلَى كَيْ لَا يَصِيرَ كَاذِبًا فِي الْإِنْكَارِ

مِنْهَا بَيَانُ تَخَلُّفِ الْحُكْمِ وَهُوَ كَوْنُ النُّكُولِ إقْرَارًا فِي صُورَةٍ جُزْئِيَّةٍ عَنْ الدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ مِنْ قِبَلِ الْإِمَامَيْنِ، وَهُوَ صَرِيحُ نَقْضٍ إجْمَالِيٍّ، وَلَا لُطْفَ لِلْحَمْلِ عَلَى الْمُعَارَضَةِ فِي شَيْءٍ مِنْهَا لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ هَاهُنَا وَهُوَ كَوْنُ النُّكُولِ إقْرَارًا كُلِّيًّا، وَمَا ذُكِرَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا صُورَةٌ جُزْئِيَّةٌ لَا تَدُلُّ عَلَى خِلَافِ الْمُدَّعِي بِالْكُلِّيَّةِ، وَإِنَّمَا غَرَّ ذَلِكَ الْبَعْضَ قَوْلُ السَّائِلِ فِي ذَيْلِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْأَسْئِلَةِ، وَلَوْ كَانَ النُّكُولُ إقْرَارًا لَكَانَ جَوَابُ الْمَسْأَلَةِ خِلَافَ مَا ذُكِرَ، وَالْحَالُ أَنَّ الْمُرَادَ مُجَرَّدُ بَيَانِ تَخَلُّفِ الْحُكْمِ عَنْ الدَّلِيلِ لَا إقَامَةُ الدَّلِيلِ عَلَى خِلَافِ الْمُدَّعِي كَمَا لَا يَخْفَى.

وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ مُرَادَ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ بِالْمُدَّعِي هَاهُنَا قَوْلُهُمَا إنَّ النُّكُولَ إقْرَارُ الْمُسْتَدِلِّ عَلَيْهِ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ كَاذِبًا فِي الْإِنْكَارِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ، فَإِذَا صَيَّرَ فِي الْجَوَابِ عَنْ النُّقُوضِ الْمَذْكُورَةِ إلَى كَوْنِ النُّكُولِ بَدَلًا عَنْ الْإِقْرَارِ لَا نَفْسَ الْإِقْرَارِ فَقَدْ غَيَّرَ ذَلِكَ الْمُدَّعِي قَطْعًا، وَكَوْنُ قَوْلِهِمَا إنَّ النُّكُولَ إقْرَارٌ مُقَدِّمَةَ الدَّلِيلِ بِالنَّظَرِ إلَى أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ جَوَازُ الِاسْتِحْلَافِ عِنْدَهُمَا لَا يُنَافِي كَوْنَهُ مُدَّعِي بِالنَّظَرِ إلَى كَوْنِهِ مُسْتَدِلًّا عَلَيْهِ بِالدَّلِيلِ الْمُسْتَقِلِّ. وَالْعَجَبُ مِنْ ذَلِكَ الْقَائِلِ أَنَّهُ جَعَلَ الْأَسْئِلَةَ الْمَذْكُورَةَ مُعَارَضَاتٍ وَالْمُعَارَضَةُ إقَامَةُ الدَّلِيلِ عَلَى خِلَافِ مُدَّعِي الْخَصْمِ، وَهَذَا لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا بِأَنْ يَكُونَ الْمُدَّعِي هَاهُنَا قَوْلُهُمَا إنَّ النُّكُولَ إقْرَارٌ، إذَا لَا مِسَاسَ لِتِلْكَ الْأَسْئِلَةِ بِأَصْلِ الْمَسْأَلَةِ كَمَا لَا يَخْفَى (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ) أَيْ النُّكُولَ (بَذْلٌ) وَتَفْسِيرُ الْبَذْلِ عِنْدَهُ تَرْكُ الْمُنَازَعَةِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْهَا لَا الْهِبَةُ وَالتَّمْلِيكُ، وَلِهَذَا قُلْنَا: إنَّ الرَّجُلَ إذَا ادَّعَى نِصْفَ الدَّارِ شَائِعًا فَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَقْضِي فِيهِ بِالنُّكُولِ، وَهِبَةُ نِصْفِ الدَّارِ شَائِعًا لَا تَصِحُّ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ نَقْلًا عَنْ الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ (لِأَنَّ مَعَهُ) أَيْ مَعَ الْبَذْلِ (لَا تَبْقَى الْيَمِينُ وَاجِبَةً لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِهِ) أَيْ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ مِنْ الْيَمِينِ وَهُوَ قَطْعُ الْخُصُومَةِ بِالْبَذْلِ فَيَكُونُ ذَلِكَ بَاعِثًا عَلَى تَرْكِ الْإِقْدَامِ عَلَى الْيَمِينِ، هَذَا هُوَ الْعِلَّةُ الْمُجَوِّزَةُ لِكَوْنِ النُّكُولِ بَذْلًا، وَأَمَّا الْعِلَّةُ الْمُرَجِّحَةُ لِكَوْنِهِ بَذْلًا عَلَى كَوْنِهِ إقْرَارًا فَهِيَ مَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ (وَإِنْزَالُهُ بَاذِلًا أَوْلَى) أَيْ مِنْ إنْزَالِهِ مُقِرًّا (كَيْ لَا يَصِيرُ كَاذِبًا فِي الْإِنْكَارِ) أَيْ فِي إنْكَارِهِ السَّابِقِ: يَعْنِي لَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الْإِقْرَارِ لَكَذَّبْنَاهُ فِي إنْكَارِهِ السَّابِقِ، وَلَوْ جَعَلْنَاهُ بَذْلًا لَقَطَعْنَا الْخُصُومَةَ بِلَا تَكْذِيبٍ، فَكَانَ هَذَا أَوْلَى صِيَانَةً لِلْمُسْلِمِ عَنْ أَنْ يُظَنَّ بِهِ الْكَذِبُ.

قِيلَ عَلَيْهِ لَوْ كَانَ النُّكُولُ بَذْلًا لَمَا ضَمِنَ شَيْئًا آخَرَ إذَا اسْتَحَقَّ مَا أَدَّى بِقَضَاءٍ، كَمَا لَوْ صَالَحَ عَنْ إنْكَارٍ وَاسْتَحَقَّ بَدَلَ الصُّلْحِ فَإِنَّهُ لَا يَضْمَنُ شَيْئًا وَلَكِنَّ الْمُدَّعِيَ يَرْجِعُ إلَى الدَّعْوَى. وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ بَذْلَ الصُّلْحِ وَجَبَ بِالْعَقْدِ، فَإِذَا اُسْتُحِقَّ بَطَلَ الْعَقْدُ فَعَادَ الْحُكْمُ إلَى الْأَصْلِ وَهُوَ الدَّعْوَى، وَأَمَّا هَاهُنَا فَالْمُدَّعِي يَقُولُ أَنَا آخُذُ هَذَا بِإِزَاءِ مَا وَجَبَ لِي فِي ذِمَّتِهِ بِالْقَضَاءِ، فَإِذَا اُسْتُحِقَّ رَجَعْت بِمَا فِي الذِّمَّةِ. وَقِيلَ عَلَيْهِ إنَّ الْحُكْمَ وَاجِبٌ عَلَى الْحَاكِمِ بِالنُّكُولِ، وَالْبَذْلُ لَا يَجِبُ بِهِ الْحُكْمُ عَلَيْهِ فَلَمْ يَكُنْ النُّكُولُ بَذْلًا. وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ الْحُكْمَ لَا يَجِبُ بِالْبَذْلِ الصَّرِيحِ. وَأَمَّا مَا كَانَ بَذْلًا بِحُكْمِ الشَّرْعِ كَالنُّكُولِ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ بِهِ بَلْ هُوَ مُوجِبٌ لَهُ قَطْعًا لِلْمُنَازَعَةِ. وَقِيلَ عَلَيْهِ يَقْضِي بِالْقِصَاصِ فِي الْأَطْرَافِ بِالنُّكُولِ، وَلَوْ كَانَ بَذْلًا لَمَا قَضَى بِهِ لِأَنَّ الْبَذْلَ لَا يَعْمَلُ فِيهَا.

وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْبَذْلَ فِيهَا غَيْرُ عَامِلٍ بَلْ هُوَ عَامِلٌ إذَا كَانَ مُفِيدًا نَحْوُ أَنْ يَقُولَ اقْطَعْ يَدَيَّ وَبِهَا أَكَلَةٌ حَيْثُ لَمْ يَأْثَمْ بِقَطْعِهَا، وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ النُّكُولُ مُفِيدٌ لِأَنَّهُ يُحْتَرَزُ بِهِ عَنْ الْيَمِينِ وَلَهُ وِلَايَةُ الِاحْتِرَازِ عَنْ الْيَمِينِ

ص: 184

وَالْبَذْلُ لَا يَجْرِي فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ. وَفَائِدَةُ الِاسْتِحْلَافِ الْقَضَاءُ بِالنُّكُولِ فَلَا يُسْتَحْلَفُ، إلَّا أَنَّ هَذَا بَذْلٌ لِدَفْعِ الْخُصُومَةِ فَيَمْلِكُهُ الْمُكَاتَبُ وَالْعَبْدُ الْمَأْذُونُ بِمَنْزِلَةِ الضِّيَافَةِ الْيَسِيرَةِ،

هَذِهِ خُلَاصَةُ مَا فِي الشُّرُوحِ هَاهُنَا مِنْ الْأَسْئِلَةِ وَالْأَجْوِبَةِ (وَالْبَذْلُ لَا يَجْرِي فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ) فَإِنَّهُ لَوْ قَالَتْ مَثَلًا لَا نِكَاحَ بَيْنِي وَبَيْنَك وَلَكِنِّي بَذَلْت لَك نَفْسِي لَمْ يَصِحَّ بَذْلُهَا؛ وَكَذَا لَوْ قَالَ أَنَا حُرُّ الْأَصْلِ وَلَكِنْ هَذَا يُؤْذِينِي بِالدَّعْوَى فَبَذَلْت لَهُ نَفْسِي لِيَسْتَرِقَّنِي، أَوْ قَالَ أَنَا ابْنُ فُلَانٍ وَلَكِنَّ هَذَا يُؤْذِينِي بِالدَّعْوَى فَأَبَحْت لَهُ أَنْ يَدَّعِيَ نَسَبِي لَمْ يَصِحَّ بَذْلُهُ، بِخِلَافِ الْأَمْوَالِ فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ هَذَا الْمَالُ لَيْسَ لَهُ وَلَكِنِّي أَبَحْته وَبَذَلْته لَهُ لِأَتَخَلَّصَ مِنْ خُصُومَتِهِ صَحَّ بَذْلُهُ (وَفَائِدَةُ الِاسْتِحْلَافِ الْقَضَاءُ بِالنُّكُولِ) وَلَمَّا لَمْ يَجُزْ الْبَذْلُ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَمْ يُتَصَوَّرْ فِيهَا الْقَضَاءُ بِالنُّكُولِ الَّذِي هُوَ الْبَذْلُ (فَلَا يُسْتَحْلَفُ) فِيهَا لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ.

قَالَ صَاحِبُ الْكَافِي: فَإِنْ قِيلَ: هَذَا التَّعْلِيلُ مُخَالِفٌ لِلْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ وَهُوَ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» قُلْنَا: خَصَّ مِنْهُ الْحُدُودَ وَاللِّعَانَ، فَجَازَ تَخْصِيصُ هَذِهِ الصُّوَرِ بِالْقِيَاسِ انْتَهَى. وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: لَا يُقَالُ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله تَرَكَ الْحَدِيثَ الْمَشْهُورَ وَهُوَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «الْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» بِالرَّأْيِ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رحمه الله لَمْ يَنْفِ وُجُوبَ الْيَمِينِ فِيهَا، لَكِنَّهُ يَقُولُ: لَمَّا لَمْ تُفِدْ الْيَمِينُ فَائِدَتَهَا وَهُوَ الْقَضَاءُ بِالنُّكُولِ لِكَوْنِهِ بَذْلًا لَا يَجْرِي فِيهَا سَقَطَتْ كَسُقُوطِ الْوُجُوبِ عَنْ مَعْذُورٍ لَا يَتَحَقَّقُ مِنْهُ أَدَاءُ الصَّلَاةِ لِفَوَاتِ الْمَقْصُودِ انْتَهَى.

وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: وَأَجَابَ الْعَلَّامَةُ الْكَاكِيُّ بِأَنَّهُ خَصَّ مِنْ الْحَدِيثِ الْحُدُودَ بِالْإِجْمَاعِ، فَجَازَ تَخْصِيصُ هَذِهِ الصُّوَرِ بِالْقِيَاسِ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ الشَّارِحُ: يَعْنِي الْعِنَايَةَ لِأَنَّ الْمُخَصِّصَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُقَارِنًا وَالْإِجْمَاعُ لَيْسَ كَذَلِكَ انْتَهَى. أَقُولُ: مَدَارُ كَلَامِهِ عَلَى مَا فَهِمَهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُرَادُ الْعَلَّامَةِ الْكَاكِيِّ أَنَّ تَخْصِيصَ الْحُدُودِ مِنْ الْحَدِيثِ هُوَ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَهُ بِالْإِجْمَاعِ اتِّفَاقُ الْأَئِمَّةِ، فَالْمَعْنَى كَوْنُ الْحَدِيثِ مِمَّا خُصَّ مِنْهُ الْبَعْضُ وَهُوَ الْحُدُودُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَلَا يُنَافِي هَذَا كَوْنَ الْمُخَصِّصِ نَصًّا وَمُقَارِنًا، عَلَى أَنَّ قَاعِدَةَ الْأُصُولِ هِيَ أَنَّهُ إذَا لَمْ يُعْلَمْ الْمُقَارَنَةُ وَعَدَمُهَا يُحْمَلُ عَلَى الْمُقَارَنَةِ فَيَتِمُّ الْمَطْلُوبُ، وَيُؤَيِّدُ كَوْنَ مُرَادِهِ بِالْإِجْمَاعِ اتِّفَاقَ الْأَئِمَّةِ فِي كَوْنِ الْحَدِيثِ مَخْصُوصًا أَنَّ الْجَوَابَ الَّذِي ذَكَرَهُ وَقَعَ فِي الْكَافِي وَالْكِفَايَةِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ قَيْدِ الْإِجْمَاعِ فَتَأَمَّلْ (إلَّا أَنَّ هَذَا بَذْلٌ لِدَفْعِ الْخُصُومَةِ فَيَمْلِكُهُ الْمُكَاتَبُ وَالْعَبْدُ الْمَأْذُونُ بِمَنْزِلَةِ الضِّيَافَةِ الْيَسِيرَةِ) هَذَا جَوَابُ سُؤَالٍ

ص: 185

وَصِحَّتُهُ فِي الدَّيْنِ بِنَاءً عَلَى زَعْمِ الْمُدَّعِي وَهُوَ مَا يَقْبِضُهُ حَقًّا لِنَفْسِهِ، وَالْبَذْلُ مَعْنَاهُ هَاهُنَا تَرْكُ الْمَنْعِ وَأَمْرُ الْمَالِ هَيِّنٌ

قَالَ (وَيُسْتَحْلَفُ السَّارِقُ

مُقَدَّرٍ، وَهُوَ أَنَّ النُّكُولَ لَوْ كَانَ بَذْلًا لَمَا مَلَكَهُ الْمُكَاتَبُ وَالْعَبْدُ الْمَأْذُونُ لِمَا أَنَّ فِي الْبَذْلِ مَعْنَى التَّبَرُّعِ وَهُمَا لَا يَمْلِكَانِهِ.

فَأَجَابَ بِأَنَّهُمَا يَمْلِكَانِ مَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْ التِّجَارَةِ كَمَا فِي الضِّيَافَةِ الْيَسِيرَةِ، وَبَذْلُهُمَا بِالنُّكُولِ مِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ، كَذَا فِي عَامَّةِ الشُّرُوحِ. أَقُولُ: لِمَانِعٍ أَنْ يَمْنَعَ كَوْنَ بَذْلِهِمَا مِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ إذْ الْخُصُومَةُ تَنْدَفِعُ بِدُونِ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ بِأَنْ أَقْدَمَا عَلَى الْيَمِينِ إنْ كَانَا صَادِقَيْنِ فِي إنْكَارِهِمَا، وَبِأَنْ أَقَرَّا إنْ كَانَ الْمُدَّعِي هُوَ الصَّادِقُ فَلْيُتَأَمَّلْ (وَصِحَّتُهُ) أَيْ حِصَّةِ الْبَذْلِ (فِي الدَّيْنِ بِنَاءً عَلَى زَعْمِ الْمُدَّعِي وَهُوَ مَا يَقْبِضُهُ حَقًّا لِنَفْسِهِ، وَالْبَذْلُ مَعْنَاهُ هَاهُنَا تَرْكُ الْمَنْعِ وَأَمْرُ الْمَالِ هَيِّنٌ) هَذَا أَيْضًا جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ وَهُوَ أَنَّ النُّكُولَ لَوْ كَانَ بَذْلًا لَمَا جَرَى فِي الدَّيْنِ لِأَنَّ مَحَلَّهُ الْأَعْيَانُ لَا الدُّيُونُ، إذْ الدَّيْنُ وَصْفٌ فِي الذِّمَّةِ وَالْبَذْلُ وَالْإِعْطَاءُ لَا يَجْرِيَانِ فِي الْأَوْصَافِ. فَأَجَابَ بِأَنَّ مَعْنَى الْبَذْلِ هَاهُنَا تَرْكُ الْمَنْعِ، فَكَانَ الْمُدَّعِي يَأْخُذُهُ مِنْهُ بِنَاءً عَلَى زَعْمِهِ أَنَّهُ يَأْخُذُ حَقَّ نَفْسِهِ وَلَا مَانِعَ لَهُ، وَتَرْكُ الْمَنْعِ جَائِزٌ فِي الْأَمْوَالِ لِأَنَّ أَمْرَ الْمَالِ هَيِّنٌ حَيْثُ تَجْرِي فِيهِ الْإِبَاحَةُ، بِخِلَافِ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ فَإِنَّهُ لَا تَجْرِي فِيهَا الْإِبَاحَةُ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ وَسَائِرِ الْمُعْتَبَرَاتِ، حَتَّى أَنَّ صَاحِبَ الْكَافِي أَتَى بِصَرِيحِ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ حَيْثُ قَالَ: فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ بَذْلًا لَمَا جَرَى فِي الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ مَحَلَّهُ الْأَعْيَانُ لَا الدُّيُونُ، إذْ الْبَذْلُ وَالْإِعْطَاءُ لَا يَجْرِيَانِ فِي الْأَوْصَافِ وَالدَّيْنُ وَصْفٌ فِي الذِّمَّةِ.

قُلْنَا: الْبَذْلُ هَاهُنَا تَرْكُ الْمَنْعِ كَأَنَّ الْمُدَّعِيَ يَأْخُذُهُ مِنْهُ بِنَاءً عَلَى زَعْمِهِ أَنَّهُ يَأْخُذُ حَقَّ نَفْسِهِ وَلَا مَانِعَ لَهُ، وَأَمْرُ الْمَالِ هَيِّنٌ، بِخِلَافِ النِّكَاحِ وَنَحْوِهِ انْتَهَى.

وَأَقُولُ: لَا يَخْفَى عَلَى ذِي فِطْرَةٍ سَلِيمَةٍ بَعْدَ التَّأَمُّلِ الصَّادِقِ أَنَّ الْجَوَابَ الْمَذْكُورَ لَا يَدْفَعُ السُّؤَالَ الْمَزْبُورَ وَإِنْ تَلَقَّتْهُ الثِّقَاتُ بِالْقَبُولِ، لِأَنَّ الدَّيْنَ لَمَّا كَانَ وَصْفًا ثَابِتًا فِي الذِّمَّةِ غَيْرَ مُنْتَقِلٍ عَنْهَا لَمْ يَكُنْ قَابِلًا لِلْأَخْذِ وَالْإِعْطَاءِ، وَأَنَّ تَرْكَ الْمَنْعِ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ فِي الْأَمْوَالِ الْمُتَحَقِّقَةِ فِي الْأَعْيَانِ لَا فِي الْأَوْصَافِ الثَّابِتَةِ فِي الذِّمَمِ؛ لِأَنَّ تَرْكَ الْمَنْعِ فَرْعُ جَوَازِ الْأَخْذِ، فَمَا لَمْ يَكُنْ قَابِلًا لِلْأَخْذِ لَمْ يُتَصَوَّرْ فِيهِ تَرْكُ الْمَنْعِ، فَلَمْ يَكُنْ الَّذِي يَأْخُذُهُ الْمُدَّعِي مِنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِنَاءً عَلَى زَعْمِهِ أَنَّهُ حَقُّ نَفْسِهِ الدَّيْنَ بَلْ كَانَ الْعَيْنَ، وَكَذَا لَمْ يَكُنْ الَّذِي تَرَكَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَنْعَهُ أَخْذَ الدَّيْنِ بَلْ كَانَ أَخْذَ الْعَيْنِ وَالسُّؤَالُ بِالدَّيْنِ لَا بِالْعَيْنِ، فَالْجَوَابُ الْمَذْكُورُ لَا يَدْفَعُهُ.

وَالْحَقُّ عِنْدِي فِي الْجَوَابِ أَنْ يُقَالَ: مَعْنَى الْبَذْلِ فِي الدَّيْنِ إحْدَاثُ مِثْلِهِ فِي ذِمَّةِ الْمُدَّعِي بِإِعْطَاءِ عَيْنٍ يُمَاثِلُ مِعْيَارُهُ مِعْيَارَ الدَّيْنِ الْمُدَّعَى وَحُصُولُ الْمُقَاصَّةِ بِهِ مِنْ الطَّرَفَيْنِ، كَمَا أَنَّ مَعْنَى قَضَاءِ الدَّيْنِ هَذَا وَلِهَذَا قَالُوا: الدُّيُونُ تُقْضَى بِأَمْثَالِهَا عَلَى مَا حُقِّقَ فِي مَوْضِعِهِ، فَإِذَا قَالَ الْمُدَّعِي مَثَلًا لِي عَلَيْهِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ كَانَ مَعْنَاهُ حَصَلَ لِي فِي ذِمَّتِهِ وَصْفٌ مِعْيَارُهُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، فَاَلَّذِي يَلْزَمُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عِنْدَ نُكُولِهِ عَنْ الْيَمِينِ إعْطَاءُ عَيْنٍ يُمَاثِلُ مِعْيَارُهُ مِعْيَارَ مَا ادَّعَاهُ الْمُدَّعِي مِنْ الدَّيْنِ وَهُوَ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، فَالْمَبْذُولُ حَقِيقَةً هُوَ الْعَيْنُ الَّذِي يُعْطَى لَا الدَّيْنُ نَفْسُهُ وَإِنْ كَانَ الْمُدَّعَى دَيْنًا

(قَالَ) أَيْ مُحَمَّدٌ رحمه الله فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ (وَيُسْتَحْلَفُ السَّارِقُ) يُرِيدُ بِهِ أَنَّهُ إذَا أَرَادَ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ أَخْذَ الْمَالِ دُونَ الْقَطْعِ

ص: 186

فَإِنْ نَكَلَ ضَمِنَ وَلَمْ يُقْطَعْ) لِأَنَّ الْمَنُوطَ بِفِعْلِهِ شَيْئَانِ: الضَّمَانُ وَيَعْمَلُ فِيهِ النُّكُولُ. وَالْقَطْعُ وَلَا يَثْبُتُ بِهِ فَصَارَ كَمَا إذَا شَهِدَ عَلَيْهَا رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ

. قَالَ (وَإِذَا ادَّعَتْ الْمَرْأَةُ طَلَاقًا قَبْلَ الدُّخُولِ اُسْتُحْلِفَ الزَّوْجُ، فَإِنْ نَكَلَ ضَمِنَ نِصْفَ الْمَهْرِ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا) لِأَنَّ الِاسْتِحْلَافَ يَجْرِي فِي الطَّلَاقِ عِنْدَهُمْ لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ الْمَقْصُودُ هُوَ الْمَالُ،

يُسْتَحْلَفُ السَّارِقُ بِاَللَّهِ مَا لَهُ عَلَيْك هَذَا الْمَالُ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ بِالشُّبُهَاتِ؛ أَلَا يَرَى أَنَّهُ يَثْبُتُ بِكِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي وَالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ، فَجَازَ أَنْ يَثْبُتَ بِالنُّكُولِ الَّذِي هُوَ بَذْلٌ أَوْ إقْرَارٌ فِيهِ شُبْهَةٌ، وَالْحُدُودُ لَا تُقَامُ بِحُجَّةٍ فِيهَا شُبْهَةٌ فَكَذَلِكَ لَا تُقَامُ بِالنُّكُولِ، فَلِهَذَا لَا يَجْرِي الْيَمِينُ فِي الْحُدُودِ.

وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ: الْقَاضِي يَقُولُ لِلْمُدَّعِي مَاذَا تُرِيدُ؟ فَإِنْ قَالَ أُرِيدُ الْقَطْعَ، فَالْقَاضِي يَقُولُ لَهُ: إنَّ الْحُدُودَ لَا يُسْتَحْلَفُ فِيهَا فَلَيْسَتْ لَك يَمِينٌ، وَإِنْ قَالَ أُرِيدُ الْمَالَ، فَالْقَاضِي يَقُولُ لَهُ: دَعْ دَعْوَى السَّرِقَةِ وَانْبَعِثْ عَلَى دَعْوَى الْمَالِ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ نَقْلًا عَنْ الْإِمَامِ الْمَرْغِينَانِيِّ وَالْمَحْبُوبِيِّ. قَالَ الْمُصَنِّفُ (فَإِنْ نَكَلَ ضَمِنَ وَلَمْ يُقْطَعْ لِأَنَّ الْمَنُوطَ بِفِعْلِهِ) أَيْ بِفِعْلِ السَّارِقِ وَهُوَ السَّرِقَةُ (شَيْئَانِ: الضَّمَانُ) أَيْ أَحَدُهُمَا ضَمَانُ الْمَالِ (وَيَعْمَلُ فِيهِ النُّكُولُ. وَالْقَطْعُ) أَيْ وَثَانِيهمَا قَطْعُ الْيَدِ (وَلَا يَثْبُتُ بِهِ) أَيْ لَا يَثْبُتُ الْقَطْعُ بِالنُّكُولِ. وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: يُرِيدُ الْمُصَنِّفُ بِفِعْلِهِ فِي قَوْلِهِ لِأَنَّ الْمَنُوطَ بِفِعْلِهِ شَيْئَانِ: النُّكُولُ، ثُمَّ قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ فِعْلُ السَّرِقَةِ.

أَقُولُ: الثَّانِي هُوَ الصَّحِيحُ، وَالْأَوَّلُ فَاسِدٌ لِأَنَّ الْمُصَنِّفَ صَرَّحَ بِأَنَّ الْقَطْعَ لَا يَثْبُتُ بِالنُّكُولِ فَحِينَئِذٍ لَا يُنَاطُ الْقَطْعُ بِالنُّكُولِ قَطْعًا فَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يُحْمَلَ الْفِعْلُ فِي قَوْلِهِ لِأَنَّ الْمَنُوطَ بِفِعْلِهِ شَيْئَانِ عَلَى النُّكُولِ وَأَحَدُ الشَّيْئَيْنِ هُوَ الْقَطْعُ.

ثُمَّ أَقُولُ: بَقِيَ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ شَيْءٌ، وَهُوَ أَنَّ التَّعْلِيلَ الَّذِي ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ لِأَنَّ الْمَنُوطَ بِفِعْلِهِ شَيْئَانِ إلَى آخِرِهِ لَا يُفِيدُ شَيْئًا يُعْتَدُّ بِهِ، إذْ لَيْسَ فِيهِ بَيَانُ لَمِّيَّةِ الْمُدَّعِي هَاهُنَا، بَلْ هُوَ مُجَرَّدُ تَفْصِيلٍ لِمَا قَبْلَهُ، فَإِنَّ قَوْلَهُ الضَّمَانُ وَيَعْمَلُ فِيهِ النُّكُولُ تَفْصِيلٌ لِقَوْلِهِ فَإِنْ نَكَلَ ضَمِنَ مِنْ غَيْرِ إشَارَةٍ إلَى عِلَّةِ كَوْنِ النُّكُولِ عَامِلًا فِيهِ، وَقَوْلُهُ وَالْقَطْعُ وَلَا يَثْبُتُ بِهِ تَفْصِيلٌ لِقَوْلِهِ وَلَمْ يُقْطَعْ مِنْ غَيْرِ إشَارَةٍ إلَى عِلَّةِ عَدَمِ ثُبُوتِ الْقَطْعِ بِهِ فَبَقِيَ الْمُدَّعَى غَيْرَ مَعْلُومِ اللِّمِّيَّةِ. وَالْأَوْجَهُ فِي التَّعْلِيلِ مَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ الزَّيْلَعِيُّ فِي شَرْحِ الْكَنْزِ حَيْثُ قَالَ: لِأَنَّ مُوجِبَ فِعْلِهِ شَيْئَانِ الضَّمَانُ، وَهُوَ يَجِبُ مَعَ الشُّبْهَةِ فَيَجِبُ بِالنُّكُولِ، وَالْقَطْعُ وَهُوَ لَا يَجِبُ مَعَ الشُّبْهَةِ فَلَا يَجِبُ بِالنُّكُولِ انْتَهَى.

وَكَذَا مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْكَافِي حَيْثُ قَالَ: لِأَنَّهُ فِي السَّرِقَةِ يَدَّعِي الْمَالَ وَالْحَدُّ وَإِيجَابُ الْحَدِّ لَا تُجَامِعُهُ الشُّبْهَةُ، وَإِيجَابُ الْمَالِ يُجَامِعُهُ الشُّبْهَةُ فَيَثْبُتُ بِهِ انْتَهَى، تُبْصِرُ تَقِفُ (فَصَارَ) أَيْ صَارَ حُكْمُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ (كَمَا إذَا شَهِدَ عَلَيْهَا) أَيْ عَلَى السَّرِقَةِ (رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ) فَإِنَّهُ يَثْبُتُ هُنَاكَ الْمَالُ دُونَ الْقَطْعِ، فَكَذَا هَاهُنَا وَصَارَ كَمَا إذَا أَقَرَّ بِالسَّرِقَةِ ثُمَّ رَجَعَ فَإِنَّهُ يَسْقُطُ بِالرُّجُوعِ الْحَدُّ وَهُوَ الْقَطْعُ، وَيَثْبُتُ الْمَالُ بِالْإِقْرَارِ وَلَا يَسْقُطُ بِالرُّجُوعِ

(قَالَ) أَيْ مُحَمَّدٌ رحمه الله فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ (وَإِذَا ادَّعَتْ الْمَرْأَةُ طَلَاقًا قَبْلَ الدُّخُولِ اُسْتُحْلِفَ الزَّوْجُ، فَإِنْ نَكَلَ ضَمِنَ نِصْفَ الْمَهْرِ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا لِأَنَّ الِاسْتِحْلَافَ يَجْرِي فِي دَعْوَى الطَّلَاقِ عِنْدَهُمْ لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ الْمَقْصُودُ هُوَ الْمَالُ) وَفَائِدَةُ تَعْيِينِ صُورَةِ الْمَسْأَلَةِ فِي الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ هِيَ تَعْلِيمُ

ص: 187

وَكَذَا فِي النِّكَاحِ إذَا ادَّعَتْ هِيَ الصَّدَاقَ لِأَنَّ ذَلِكَ دَعْوَى الْمَالِ، ثُمَّ يَثْبُتُ الْمَالُ بِنُكُولِهِ وَلَا يَثْبُتُ النِّكَاحُ، وَكَذَا فِي النَّسَبِ إذَا ادَّعَى حَقًّا كَالْإِرْثِ وَالْحِجْرِ فِي اللَّقِيطِ

أَنَّ دَعْوَى الْمَهْرِ لَا تَتَفَاوَتُ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ الدَّعْوَى فِي كُلِّ الْمَهْرِ أَوْ نِصْفِهِ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ. قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الْإِطْلَاقَ يُغْنِي عَنْ ذَلِكَ، وَلَيْسَ فِيهِ تَوَهُّمُ التَّقْيِيدِ بِذَلِكَ انْتَهَى.

وَأَجَابَ عَنْهُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ لَوْ أَطْلَقَ لِرُبَّمَا ذَهَبَ الْوَهْمُ إلَى الطَّلَاقِ بَعْدَ الدُّخُولِ لِغَلَبَتِهِ فَقُيِّدَ بِهِ لِيُعْلَمَ حُكْمُهُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَوِيَّةِ، فَإِنَّهُ إذَا اُسْتُحْلِفَ قَبْلَ تَأَكُّدِ الْمَهْرِ فَبَعْدَهُ أَوْلَى كَمَا لَا يَخْفَى قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَكَذَا فِي النِّكَاحِ إذَا ادَّعَتْ هِيَ الصَّدَاقَ) أَيْ وَكَذَا يُسْتَحْلَفُ الزَّوْجُ بِالْإِجْمَاعِ فِيمَا إذَا ادَّعَتْ الْمَرْأَةُ مَعَ النِّكَاحِ الصَّدَاقَ (لِأَنَّ ذَلِكَ دَعْوَى الْمَالِ) أَيْ الْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ دَعْوَى الْمَالِ (ثُمَّ يَثْبُتُ الْمَالُ بِنُكُولِهِ وَلَا يَثْبُتُ النِّكَاحُ) يَعْنِي يَثْبُتُ الْمَالُ بِنُكُولِهِ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا لِأَنَّ الْمَالَ يَجْرِي فِيهِ الْإِقْرَارُ وَالْبَذْلُ، وَلَا يَثْبُتُ النِّكَاحُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله لِأَنَّ النِّكَاحَ لَا يَجْرِي فِيهِ الْبَذْلُ.

قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: فَإِنْ قِيلَ: يَلْزَمُ عَلَى هَذَا أَنْ يَتَحَقَّقَ الْمَلْزُومُ بِدُونِ اللَّازِمِ. قُلْنَا: يَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ بِثُبُوتِ النِّكَاحِ فِي حَقِّ الْمَهْرِ بِالنُّكُولِ لَا مُطْلَقًا، عَلَى أَنَّ الْمَهْرَ لَيْسَ يَسْتَلْزِمُ النِّكَاحَ الْقَائِمَ لِبَقَائِهِ حَالَ الْفُرْقَةِ وَالطَّلَاقِ انْتَهَى. أَقُولُ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أَصْلِ جَوَابِهِ وَعِلَاوَتِهِ مُخْتَلٌّ.

أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُ لَوْ جَازَ أَنْ يَحْكُمَ بِثُبُوتِ النِّكَاحِ فِي حَقِّ الْمَهْرِ بِالنُّكُولِ لَجَازَ الْبَذْلُ فِي النِّكَاحِ فِي الْجُمْلَةِ: أَيْ فِي بَعْضِ الْحَالَاتِ وَلَمْ يَقُلْ بِهِ صَاحِبُ مَذْهَبٍ قَطُّ. وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الْمَهْرَ وَإِنْ لَمْ يَسْتَلْزِمْ قِيَامَ النِّكَاحِ فِي الْبَقَاءِ وَلَكِنْ يَسْتَلْزِمُ تَحَقُّقَ النِّكَاحِ فِي الِابْتِدَاءِ كَمَا لَا يَخْفَى. وَمَعْنَى الْمَسْأَلَةِ الَّتِي نَحْنُ فِيهَا أَنَّ النِّكَاحَ لَا يَثْبُتُ بِالنُّكُولِ لَا فِي الِابْتِدَاءِ وَلَا فِي الْبَقَاءِ لِعَدَمِ جَرَيَانِ الْبَذْلِ فِيهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ فَلَمْ يَنْدَفِعْ السُّؤَالُ. ثُمَّ أَقُولُ فِي الْجَوَابِ عَنْ سُؤَالِهِ: إنَّ ثُبُوتَ الْمَهْرِ فِي الْوَاقِعِ يَسْتَلْزِمُ ثُبُوتَ النِّكَاحِ فِيهِ، وَأَمَّا ثُبُوتُهُ عِنْدَ الْقَاضِي فَلَا يَسْتَلْزِمُ ثُبُوتَ النِّكَاحِ عِنْدَهُ لِأَنَّ مَعْنَى ثُبُوتِهِ عِنْدَهُ ظُهُورُهُ لَهُ، إذْ قَدْ مَرَّ أَنَّ الْحُجَجَ الشَّرْعِيَّةَ مُثْبَتَةٌ فِي عِلْمِ الْقَاضِي مُظْهَرَةٌ فِي الْوَاقِعِ، وَلَا يَسْتَلْزِمُ ظُهُورُ الْمَلْزُومِ ظُهُورَ اللَّازِمِ لِجَوَازِ أَنْ تَقُومَ الْحُجَّةُ عَلَى الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي كَمَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ.

فَاَلَّذِي يَلْزَمُ مِنْ الْمَسْأَلَةِ الْمَذْكُورَةِ ثُبُوتُ الْمَهْرِ عِنْدَ الْقَاضِي بِدُونِ ثُبُوتِ النِّكَاحِ عِنْدَهُ، وَلَا مَحْذُورَ فِيهِ لِعَدَمِ الِاسْتِلْزَامِ كَمَا عَرَفْت، وَقِسْ عَلَى هَذَا أَحْوَالَ نَظَائِرِهِ مِنْ الْمَسَائِلِ الْآتِيَةِ الْمُتَّصِلَةِ بِهِ فِي الْكِتَابِ، فَإِنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ مُخَلِّصٌ فِي الْجَمِيعِ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَكَذَا فِي النَّسَبِ) أَيْ وَكَذَا يُسْتَحْلَفُ فِي النَّسَبِ بِالْإِجْمَاعِ (إذَا ادَّعَى حَقًّا) أَيْ إذَا ادَّعَى مَعَ النَّسَبِ حَقًّا آخَرَ (كَالْإِرْثِ) بِأَنْ ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ أَخٌ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَاتَ أَبُوهُمَا وَتَرَكَ مَالًا فِي يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يُسْتَحْلَفُ بِالْإِجْمَاعِ، فَإِنْ حَلَفَ بَرِئَ، وَإِنْ نَكَلَ يُقْضَى بِالْمَالِ دُونَ النَّسَبِ (وَالْحِجْرِ فِي اللَّقِيطِ) بِأَنْ ادَّعَتْ امْرَأَةٌ حُرَّةُ الْأَصْلِ صَبِيًّا لَا يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ كَانَ فِي يَدِ رَجُلٍ الْتَقَطَهُ أَنَّهُ أَخُوهَا وَأَنَّهَا أَوْلَى بِحَضَانَتِهِ فَإِنَّهُ يُسْتَحْلَفُ بِالْإِجْمَاعِ، فَإِنْ نَكَلَ ثَبَتَ لَهَا حَقُّ نَقْلِ

ص: 188

وَالنَّفَقَةِ وَامْتِنَاعِ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هَذِهِ الْحُقُوقُ

الصَّبِيِّ إلَى حِجْرِهَا دُونَ النَّسَبِ (وَالنَّفَقَةِ) بِأَنْ ادَّعَى زَمِنٌ عَلَى مُوسِرٍ أَنَّهُ أَخُوهُ وَأَنَّ نَفَقَتَهُ عَلَيْهِ فَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْأُخُوَّةَ يُسْتَحْلَفُ بِالْإِجْمَاعِ، فَإِنْ نَكَلَ يُقْضَى بِالنَّفَقَةِ دُونَ النَّسَبِ (وَامْتِنَاعِ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ) بِأَنْ أَرَادَ الْوَاهِبُ الرُّجُوعَ فِي الْهِبَةِ فَقَالَ الْمَوْهُوبُ لَهُ أَنْتَ أَخِي يُرِيدُ بِذَلِكَ إبْطَالَ حَقِّ الرُّجُوعِ فَإِنَّهُ يُسْتَحْلَفُ بِالْإِجْمَاعِ، فَإِنْ نَكَلَ ثَبَتَ امْتِنَاعُ الرُّجُوعِ دُونَ النَّسَبِ (لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هَذِهِ الْحُقُوقُ) دَلِيلٌ لِلْمَجْمُوعِ: يَعْنِي أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالدَّعْوَى فِي الْمَسَائِلِ الْمَذْكُورَةِ هَذِهِ الْحُقُوقُ: أَيْ دُونَ النَّسَبِ الْمُجَرَّدِ، ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ الْعِنَايَةِ بَعْدَمَا فَسَّرَ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هَذِهِ الْحُقُوقُ بِقَوْلِهِ: أَيْ دُونَ النَّسَبِ الْمُجَرَّدِ قَالَ فِي تَعْلِيلِهِ فَإِنَّ فِيهِ تَحْمِيلَهُ عَلَى الْغَيْرِ وَهُوَ لَا يَجُوزُ انْتَهَى.

أَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ تَحْمِيلَ النَّسَبِ عَلَى الْغَيْرِ لَا يَلْزَمُ فِي الْمَسَائِلِ الْمَذْكُورَةِ مُطْلَقًا بَلْ إنَّمَا يَلْزَمُ فِيمَا إذَا كَانَ النَّسَبُ مِمَّا لَا يَثْبُتُ بِالْإِقْرَارِ كَالْأُخُوَّةِ وَنَحْوِهَا، وَأَمَّا فِيمَا إذَا كَانَ مِمَّا يَثْبُتُ بِالْإِقْرَارِ كَالْأُبُوَّةِ وَالْبُنُوَّةِ فَلَا، وَالْمَسَائِلُ الْمَذْكُورَةُ تَعُمُّ الصُّورَتَيْنِ مَعًا، أَلَا يَرَى أَنَّ الْمُدَّعِيَ فِي صُورَةِ النَّفَقَةِ إذَا قَالَ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنْتَ أَبِي فَإِنَّ الْمَسْأَلَةَ بِحَالِهَا وَكَذَا الْحَالُ فِي صُورَةِ امْتِنَاعِ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ، وَكَذَا الْمُدَّعِيَةُ فِي صُورَةِ الْحِجْرِ فِي اللَّقِيطِ إذَا قَالَتْ إنَّ الصَّبِيَّ ابْنُهَا فَإِنَّ الْمَسْأَلَةَ بِحَالِهَا أَيْضًا وَكَانَ التَّعْلِيلُ الْمَذْكُورُ قَاصِرًا عَنْ إفَادَةِ كُلِّيَّةِ الْمُدَّعِي. وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: الْأَظْهَرُ أَنْ يَقُولَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَدَلَ التَّعْلِيلِ الَّذِي ذَكَرَهُ: فَإِنَّ الْبَذْلَ لَا يَجْرِي فِيهِ كَمَا قَالَ آنِفًا فِي صُورَةِ دَعْوَى النِّكَاحِ انْتَهَى.

أَقُولُ: وَفِيهِ أَيْضًا نَظَرٌ، فَإِنَّ الْمُعَلَّلَ هَاهُنَا أَنْ لَا يَكُونَ الْمَقْصُودُ بِالدَّعْوَى فِي الْمَسَائِلِ الْمَذْكُورَةِ النَّسَبَ الْمُجَرَّدَ، وَعَدَمُ جَرَيَانِ الْبَذْلِ فِي النَّسَبِ الْمُجَرَّدِ لَا يُفِيدُهُ لِأَنَّ الْحُجَجَ عَلَى الدَّعْوَى غَيْرُ مُنْحَصِرَةٍ فِي النُّكُولِ، بَلْ مِنْهَا أَيْضًا إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ وَإِقْرَارُ الْخَصْمِ، وَالْبَذْلُ إنَّمَا هُوَ لِلنُّكُولِ مِنْ بَيْنِهَا فَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ جَرَيَانِهِ فِي النَّسَبِ الْمُجَرَّدِ عَدَمُ جَرَيَانِ سَائِرِ الْحُجَجِ فِيهِ حَتَّى لَا يَصِحَّ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودًا بِالدَّعْوَى فِي الْمَسَائِلِ الْمَذْكُورَةِ، بِخِلَافِ مَا قَالَهُ فِي صُورَةِ دَعْوَى النِّكَاحِ فَإِنَّ الْمُعَلَّلَ هُنَاكَ عَدَمُ ثُبُوتِ النِّكَاحِ بِالنُّكُولِ، وَعَدَمُ جَرَيَانِ الْبَذْلِ فِي النِّكَاحِ يُفِيدُهُ قَطْعًا. لَا يُقَالُ: التَّعْلِيلُ الصَّحِيحُ هُنَا أَنْ يُقَالَ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ الْمَقْصُودُ بِالدَّعْوَى فِي الْمَسَائِلِ الْمَذْكُورَةِ هُوَ النَّسَبُ الْمُجَرَّدُ لَمَّا ادَّعَى الْمُدَّعِي فِيهَا مَعَ النَّسَبِ حَقًّا آخَرَ وَالْمَفْرُوضُ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ تِلْكَ الْمَسَائِلِ ادِّعَاءُ الْمُدَّعِي مَعَهُ حَقًّا آخَرَ كَمَا يُنَادِي عَلَيْهِ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ وَكَذَا فِي النَّسَبِ إذَا ادَّعَى حَقًّا كَالْإِرْثِ إلَخْ.

لِأَنَّا نَقُولُ: هَذَا إنَّمَا يَتِمُّ فِيمَا إذَا كَانَ النَّسَبُ مِمَّا يَثْبُتُ بِالْإِقْرَارِ كَالْبُنُوَّةِ وَنَحْوِهَا، فَإِنَّ دَعْوَى النَّسَبِ الْمُجَرَّدِ تُسْمَعُ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ، فَلَوْ كَانَ مَقْصُودُ الْمُدَّعِي فِيهَا دَعْوَى النَّسَبِ الْمُجَرَّدِ لَمَّا ادَّعَى مَعَهُ حَقًّا آخَرَ، وَأَمَّا إذَا كَانَ النَّسَبُ مِمَّا لَا يَثْبُتُ بِالْإِقْرَارِ كَالْأُخُوَّةِ وَنَحْوِهَا فَلَا؛ لِأَنَّ دَعْوَى النَّسَبِ الْمُجَرَّدِ لَا تُسْمَعُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، بَلْ يَتَوَقَّفُ فِيهَا اسْتِمَاعُ الدَّعْوَى وَقَبُولُ الْبَيِّنَةِ عَلَى أَنْ يَدَّعِيَ الْمُدَّعِي مَعَ النَّسَبِ حَقًّا آخَرَ لِنَفْسِهِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي عَامَّةِ مُعْتَبَرَاتِ الْفَتَاوَى فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودُ الْمُدَّعِي فِي هَذِهِ الصُّورَةِ النَّسَبَ الْمُجَرَّدَ وَيَدَّعِيَ مَعَ النَّسَبِ حَقًّا آخَرَ لِمُجَرَّدِ التَّوَسُّلِ بِهِ إلَى مَقْصُودِهِ وَهُوَ النَّسَبُ الْمُجَرَّدُ، وَالْمَسَائِلُ

ص: 189

وَإِنَّمَا يُسْتَحْلَفُ فِي النَّسَبِ الْمُجَرَّدِ عِنْدَهُمَا إذَا كَانَ يَثْبُتُ بِإِقْرَارِهِ كَالْأَبِ وَالِابْنِ فِي حَقِّ الرَّجُلِ وَالْأَبِ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ، لِأَنَّ فِي دَعْوَاهَا الِابْنَ تَحْمِيلَ النَّسَبِ عَلَى الْغَيْرِ وَالْمَوْلَى وَالزَّوْجِ فِي حَقِّهِمَا.

قَالَ (وَمَنْ ادَّعَى قِصَاصًا عَلَى غَيْرِهِ فَجَحَدَهُ اُسْتُحْلِفَ) بِالْإِجْمَاعِ (ثُمَّ إنْ نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ يَلْزَمُهُ الْقِصَاصُ، وَإِنْ نَكَلَ فِي النَّفْسِ حُبِسَ حَتَّى يَحْلِفَ أَوْ يُقِرَّ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَقَالَا: لَزِمَهُ الْأَرْشُ فِيهِمَا لِأَنَّ النُّكُولَ إقْرَارٌ فِيهِ شُبْهَةٌ عِنْدَهُمَا فَلَا يَثْبُتُ بِهِ الْقِصَاصُ وَيَجِبُ بِهِ الْمَالُ، خُصُوصًا إذَا كَانَ امْتِنَاعُ الْقِصَاصِ لِمَعْنًى مِنْ جِهَةِ مَنْ عَلَيْهِ

الْمَذْكُورَةُ تَعُمُّ الصُّورَتَيْنِ مَعًا كَمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ، فَكَانَ هَذَا التَّعْلِيلُ أَيْضًا قَاصِرًا عَلَى إفَادَةِ كُلِّيَّةِ الْمُدَّعِي.

وَبِالْجُمْلَةِ لَمْ يَظْهَرْ لِقَوْلِ الْمُصَنِّفِ (لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هَذِهِ الْحُقُوقُ) عِلَّةٌ وَاضِحَةٌ شَامِلَةٌ لِجَمِيعِ صُوَرِ تِلْكَ الْمَسَائِلِ الْعَامَّةِ فَكَانَ هَذَا هُوَ السِّرُّ فِي أَنَّ صَاحِبَ الْكَافِي لَمْ يَذْكُرْ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ هَذَا أَصْلًا مَعَ أَنَّ عَادَتَهُ اقْتِفَاءُ أَثَرِ الْمُصَنِّفِ فِي أَمْثَالِهِ، وَأَنَّ أَكْثَرَ الشُّرَّاحِ لَمْ يَتَعَرَّضُوا لِشَرْحِهِ وَبَيَانِهِ بِالْكُلِّيَّةِ (وَإِنَّمَا يُسْتَحْلَفُ فِي الْمُجَرَّدِ) قَيَّدَ بِهِ احْتِرَازًا عَمَّا هُوَ مَقْرُونٌ بِدَعْوَى حَقٍّ آخَرَ كَمَا مَرَّ آنِفًا (عِنْدَهُمَا) أَيْ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ (إذَا كَانَ يَثْبُتُ بِإِقْرَارِهِ) أَيْ إذَا كَانَ يَثْبُتُ النَّسَبُ بِمُجَرَّدِ إقْرَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَإِنَّ النُّكُولَ عِنْدَهُمَا إقْرَارٌ فَكُلُّ نَسُبَّ لَوْ أَقَرَّ بِهِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ثَبَتَ يَثْبُتُ بِالنُّكُولِ أَيْضًا (كَالْأَبِ وَالِابْنِ فِي حَقِّ الرَّجُلِ) فَإِنَّهُ إذَا أَقَرَّ بِالْأَبِ وَالِابْنِ يَصِحُّ إقْرَارُهُ وَيَثْبُتُ نَسَبُ الْمُقَرِّ لَهُ مِنْهُ بِمُجَرَّدِ إقْرَارِهِ (وَالْأَبِ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ) فَإِنَّهَا إذَا أَقَرَّتْ بِالْأَبِ يَصِحُّ إقْرَارُهَا وَيَثْبُتُ نَسَبُ الْمُقَرِّ لَهُ مِنْهَا بِمُجَرَّدِ إقْرَارِهَا، وَأَمَّا لَوْ أَقَرَّتْ بِالِابْنِ فَلَا يَصِحُّ إقْرَارُهَا وَلَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهَا (لِأَنَّ فِي دَعْوَاهَا الِابْنَ) أَيْ فِي ادِّعَائِهَا الِابْنَ: أَيْ فِي إقْرَارِهَا بِهِ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَغَايَةِ الْبَيَانِ تَأَمَّلْ (تَحْمِيلَ النَّسَبِ عَلَى الْغَيْرِ) وَهُوَ لَا يَجُوزُ (وَالْمَوْلَى) أَيْ وَكَالْوَلِيِّ: يَعْنِي السَّيِّدَ (وَالزَّوْجِ فِي حَقِّهِمَا) أَيْ فِي حَقِّ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، وَهَذَا الْقَيْدُ: أَعْنِي قَوْلَهُ فِي حَقِّهِمَا مُتَعَلِّقٌ بِالْمَوْلَى وَالزَّوْجِ جَمِيعًا، فَإِنَّ إقْرَارَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ بِالْمَوْلَى وَالزَّوْجِ يَصِحُّ.

وَحَاصِلُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا أَنَّ إقْرَارَ الرَّجُلِ يَصِحُّ بِأَرْبَعَةٍ: بِالْأَبِ وَالِابْنِ وَالْمَوْلَى وَالزَّوْجَةِ، وَإِقْرَارُ الْمَرْأَةِ يَصِحُّ بِثَلَاثَةٍ: بِالْأَبِ وَالْمَوْلَى وَالزَّوْجِ، وَلَا يَصِحُّ بِالْوَلَدِ لِأَنَّ فِيهِ تَحْمِيلَ النَّسَبِ عَلَى الْغَيْرِ. وَكَانَ أَصْلُ الْمَسْأَلَةِ فِي مَحَلِّهَا أَنَّ إقْرَارَ الرَّجُلِ يَصِحُّ بِخَمْسَةٍ: بِالْوَالِدَيْنِ وَالْوَلَدِ وَالزَّوْجَةِ وَالْمَوْلَى. وَإِقْرَارُ الْمَرْأَةِ يَصِحُّ بِأَرْبَعَةٍ: بِالْوَالِدَيْنِ وَالزَّوْجِ وَالْمَوْلَى، وَلَا يَصِحُّ بِالْوَلَدِ لِمَا مَرَّ، فَكَأَنَّ الْمُصَنِّفَ اكْتَفَى بِذِكْرِ الْأَبِ عَنْ ذِكْرِ الْأُمِّ لِظُهُورِ اشْتِرَاكِهِمَا فِي الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ.

قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ خُوَاهَرْ زَادَهْ فِي مَبْسُوطِهِ: الْأَصْلُ فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّ الْمُدَّعَى قِبَلَهُ النَّسَبُ إذَا أَنْكَرَ هَلْ يُسْتَحْلَفُ إنْ كَانَ بِحَيْثُ لَوْ أَقَرَّ بِهِ لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَا يُسْتَحْلَفُ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا لِأَنَّ الْيَمِينَ لَا تُفِيدُ، فَإِنَّ فَائِدَةَ الْيَمِينِ النُّكُولُ حَتَّى يُجْعَلَ النُّكُولُ بَذْلًا أَوْ إقْرَارًا فَيُقْضَى عَلَيْهِ، فَإِذَا كَانَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِ لَوْ أَقَرَّ فَإِنَّهُ لَا يُسْتَحْلَفُ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا، وَإِنْ كَانَ الْمُدَّعَى قِبَلَهُ بِحَيْثُ لَوْ أَقَرَّ لَزِمَهُ مَا أَقَرَّ بِهِ، فَإِذَا أَنْكَرَ هَلْ يُسْتَحْلَفُ عَلَى ذَلِكَ؟ فَالْمَسْأَلَةُ عَلَى الِاخْتِلَافِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله لَا يُسْتَحْلَفُ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يُسْتَحْلَفُ، فَإِنْ حَلَفَ بَرِئَ، وَإِنْ نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ لَزِمَهُ الدَّعْوَى، فَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ تُخَرَّجُ مَسَائِلُ الْبَابِ انْتَهَى.

(قَالَ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ (وَمَنْ ادَّعَى قِصَاصًا عَلَى غَيْرِهِ فَجَحَدَهُ) وَلَيْسَ لِلْمُدَّعِي بَيِّنَةٌ (اُسْتُحْلِفَ) الْمُدَّعَى عَلَيْهِ (بِالْإِجْمَاعِ) سَوَاءٌ كَانَتْ الدَّعْوَى فِي النَّفْسِ بِهَا أَوْ فِيمَا دُونَهَا، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَذْكُورَةٌ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَيْضًا فِي كِتَابِ الْقَضَاءِ (ثُمَّ إنْ نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ لَزِمَهُ الْقِصَاصُ، وَإِنْ نَكَلَ فِي النَّفْسِ حُبِسَ حَتَّى يَحْلِفَ أَوْ يُقِرَّ، وَهَذَا) أَيْ الْحُكْمُ الْمَذْكُورُ (عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: لَزِمَهُ الْأَرْشُ فِيهِمَا) أَيْ فِي النَّفْسِ وَفِيمَا دُونَهَا (لِأَنَّ النُّكُولَ إقْرَارٌ فِيهِ شُبْهَةٌ عِنْدَهُمَا) لِأَنَّهُ إنْ امْتَنَعَ عَنْ الْيَمِينِ تَوَرُّعًا عَنْ الْيَمِينِ الصَّادِقَةِ لَا يَكُونُ إقْرَارًا بَلْ يَكُونُ بَذْلًا، كَذَا فِي الْكَافِي (فَلَا يَثْبُتُ بِهِ الْقِصَاصُ وَيَجِبُ بِهِ الْمَالُ خُصُوصًا) أَيْ خَاصَّةً (إذَا كَانَ امْتِنَاعُ الْقِصَاصِ لِمَعْنًى مِنْ جِهَةِ مَنْ عَلَيْهِ) أَيْ مِنْ جِهَةِ مَنْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ، وَقَيَّدَ امْتِنَاعَ الْقِصَاصِ لِمَعْنًى

ص: 190

كَمَا إذَا أَقَرَّ بِالْخَطَأِ وَالْوَلِيُّ يَدَّعِي الْعَمْدَ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّ الْأَطْرَافَ يُسْلَكُ بِهَا مَسْلَكَ الْأَمْوَالِ فَيَجْرِي فِيهَا الْبَذْلُ، بِخِلَافِ الْأَنْفُسِ فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ اقْطَعْ يَدِي فَقَطَعَهَا لَا يَجِبُ الضَّمَانُ، وَهَذَا إعْمَالٌ لِلْبَذْلِ إلَّا أَنَّهُ لَا يُبَاحُ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ، وَهَذَا الْبَذْلُ مُفِيدٌ لِانْدِفَاعِ الْخُصُومَةِ بِهِ فَصَارَ كَقَطْعِ الْيَدِ لِلْآكِلَةِ وَقَلْعِ السِّنِّ لِلْوَجَعِ

مِنْ جِهَةِ مَنْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ امْتِنَاعُهُ مِنْ جِهَةِ مَنْ لَهُ الْقِصَاصُ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ وَلَا الْمَالُ أَيْضًا، كَمَا إذَا أَقَامَ مُدَّعِي الْقِصَاصِ رَجُلًا وَامْرَأَتَيْنِ أَوْ الشَّهَادَةَ عَلَى الشَّهَادَةِ حَيْثُ لَا يُقْضَى بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ الْحُجَّةَ قَامَتْ بِالْقِصَاصِ وَلَكِنْ تَعَذَّرَ اسْتِيفَاؤُهُ فَلَا يَجِبُ شَيْءٌ كَذَا فِي الشُّرُوحِ، وَنَظِيرُ هَذَا مَا أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ (كَمَا إذَا أَقَرَّ بِالْخَطَإِ وَالْوَلِيُّ يَدَّعِي الْعَمْدَ) فَإِنَّهُ يَجِبُ فِيهِ الْمَالُ وَبِالْعَكْسِ لَا يَجِبُ فِيهِ شَيْءٌ (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْأَطْرَافَ يُسْلَكُ بِهَا مَسْلَكَ الْأَمْوَالِ) لِأَنَّهَا خُلِقَتْ وِقَايَةً لِلنَّفْسِ كَالْأَمْوَالِ (فَيَجْرِي فِيهَا الْبَذْلُ) كَمَا يَجْرِي فِي الْأَمْوَالِ (بِخِلَافِ الْأَنْفُسِ) حَيْثُ لَا يَجْرِي فِيهَا الْبَذْلُ (فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ: اقْطَعْ يَدِي) أَيْ لَوْ قَالَ الْآخَرُ اقْطَعْ يَدَيَّ (فَقَطَعَهَا لَا يَجِبُ الضَّمَانُ) أَيْ عَلَى الْقَاطِعِ (وَهَذَا) أَيْ عَدَمُ وُجُودِ الضَّمَانِ (إعْمَالٌ لِلْبَذْلِ) فِي الْأَطْرَافِ، وَأَمَّا لَوْ قَالَ اُقْتُلْنِي فَقَتَلَهُ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ فِي رِوَايَةٍ وَالدِّيَةُ فِي أُخْرَى، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ جَرَيَانِ الْبَذْلِ فِي الْأَنْفُسِ.

وَلَمَّا اسْتَشْعَرَ أَنْ يُقَالَ لَوْ كَانَتْ الْأَطْرَافُ يُسْلَكُ بِهَا مَسْلَكَ الْأَمْوَالِ لَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُبَاحَ قَطْعُ يَدِهِ إذَا قَالَ اقْطَعْ يَدِي كَمَا يُبَاحُ أَخْذُ مَالِهِ إذَا قَالَ خُذْ مَالِي، أَجَابَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ (إلَّا أَنَّهُ لَا يُبَاحُ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ) أَيْ لَا يُبَاحُ الْقَطْعُ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ فِيهِ كَمَا أَنَّ إتْلَافَ الْمَالِ لَا يُبَاحُ عِنْدَ عَدَمِ الْفَائِدَةِ بِأَنْ قَالَ أَلْقِ مَالِي فِي الْبَحْرِ أَوْ أَحْرِقْهُ بِالنَّارِ (وَهَذَا الْبَذْلُ) أَيْ الَّذِي بِالنُّكُولِ (مُفِيدٌ لِانْدِفَاعِ الْخُصُومَةِ بِهِ فَصَارَ كَقَطْعِ الْيَدِ لِلْآكِلَةِ وَقَطْعِ السِّنِّ لِلْوَجَعِ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَفِيهِ بَحْثٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ مُنَاقِضٌ لِمَا قَالَ فِي السَّرِقَةِ إنَّ الْقَطْعَ

ص: 191

وَإِذَا امْتَنَعَ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ وَالْيَمِينُ حَقٌّ مُسْتَحَقٌّ يُحْبَسُ بِهِ كَمَا فِي الْقَسَامَةِ

. قَالَ (وَإِذَا قَالَ الْمُدَّعِي لِي بَيِّنَةٌ حَاضِرَةٌ قِيلَ

لَا يَثْبُتُ بِالنُّكُولِ. وَالثَّانِي أَنَّ الْخُصُومَةَ تَنْدَفِعُ بِالْأَرْشِ وَهُوَ أَهْوَنُ، فَالْمَصِيرُ إلَيْهِ أَوْلَى. وَأُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الْأَطْرَافَ يُسْلَكُ بِهَا مَسْلَكَ الْأَمْوَالِ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ لِأَنَّهُمْ الْمُحْتَاجُونَ إلَيْهَا فَتَثْبُتُ بِالشُّبُهَاتِ كَالْأَمْوَالِ، وَالْقَطْعُ فِي السَّرِقَةِ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ لَا يَثْبُتُ بِالشُّبُهَاتِ.

وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ دَفْعَ الْخُصُومَةِ بِالْأَرْشِ إنَّمَا يُصَارُ إلَيْهِ بَعْدَ تَعَذُّرِ مَا هُوَ الْأَصْلُ وَهُوَ الْقِصَاصُ وَلَمْ يَتَعَذَّرْ فَلَا يُعْدَلُ عَنْهُ انْتَهَى.

وَاعْتَرَضَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ عَلَى قَوْلِهِ فِي جَوَابِ الْبَحْثِ الْأَوَّلِ وَالْقَطْعُ فِي السَّرِقَةِ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ لَا يَثْبُتُ بِالشُّبُهَاتِ بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ الْمُرَادَ حَيْثُ قَالَ: يَعْنِي أَنَّ فِي كَوْنِ النُّكُولِ بَذْلًا شُبْهَةً لَكِنْ فِيهِ بَحْثٌ، فَإِنَّهُ لَوْ صَرَّحَ بِالْبَذْلِ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَثْبُتُ الْقَطْعُ أَيْضًا، فَالْأَوْلَى طَرْحُ الشُّبْهَةِ مِنْ الْبَيِّنِ وَالِاكْتِفَاءُ بِعَدَمِ تَأَتِّي الْبَذْلِ فِيهِ انْتَهَى.

أَقُولُ: مَدَارُ بَحْثِهِ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَا بَيَّنَهُ، وَذَلِكَ مَمْنُوعٌ إذْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ فِي كَوْنِ الْأَطْرَافِ مِمَّا يُسْلَكُ بِهِ مَسْلَكَ الْأَمْوَالِ شُبْهَةً لِاحْتِمَالِ كَوْنِهَا فِي حُكْمِ الْأَنْفُسِ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الشَّافِعِيُّ رحمه الله وَبَنَى عَلَيْهِ تَجْوِيزَهُ الْقِصَاصَ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ وَبَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ وَبَيْنَ الْعَبْدَيْنِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ عَلَى مَا يَأْتِي فِي كِتَابِ الْجِنَايَاتِ، فَمَعَ هَذِهِ الشُّبْهَةِ لَا يَتَأَتَّى الْبَذْلُ فِي قَطْعِ الْأَطْرَافِ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، بِخِلَافِ حُقُوقِ الْعَبْدِ فَيَتِمُّ الْجَوَابُ.

ثُمَّ إنَّ فِي ذِكْرِ هَذِهِ الشُّبْهَةِ إيمَاءً إلَى سَبَبِ عَدَمِ تَأَتِّي الْبَذْلِ فِيهِ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى فَكَانَ ذِكْرُهَا أَوْلَى مِنْ طَرْحِهَا وَالِاكْتِفَاءُ بِعَدَمِ تَأَتِّي الْبَذْلِ فِيهِ كَمَا لَا يَخْفَى (وَإِذَا امْتَنَعَ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ) أَيْ بِالنُّكُولِ لِعَدَمِ جَرَيَانِ الْبَذْلِ فِيهَا كَمَا مَرَّ (وَالْيَمِينُ حَقٌّ مُسْتَحَقٌّ) أَيْ وَالْحَالُ أَنَّ الْيَمِينَ حَقٌّ مُسْتَحَقٌّ (يُحْبَسُ بِهِ) أَيْ يُحْبَسُ النَّاكِلُ بِذَلِكَ الْحَقِّ (كَمَا فِي الْقَسَامَةِ) فَإِنَّهُمْ إذَا نَكَلُوا عَنْ الْيَمِينِ يُحْبَسُونَ حَتَّى يُقِرُّوا أَوْ يَحْلِفُوا

(قَالَ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ (وَإِذَا قَالَ الْمُدَّعِي لِي بَيِّنَةٌ حَاضِرَةٌ قِيلَ

ص: 192

لِخَصْمِهِ أَعْطِهِ كَفِيلًا بِنَفْسِك ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ) كَيْ لَا يَغِيبَ نَفْسُهُ فَيَضِيعَ حَقُّهُ وَالْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ جَائِزَةٌ عِنْدَنَا وَقَدْ مَرَّ مِنْ قَبْلُ، وَأَخْذُ الْكَفِيلِ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى اسْتِحْسَانٌ عِنْدَنَا لِأَنَّ فِيهِ نَظَرًا لِلْمُدَّعِي وَلَيْسَ فِيهِ كَثِيرُ ضَرَرٍ بِالْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَهَذَا لِأَنَّ الْحُضُورَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى حَتَّى يُعَدَّى عَلَيْهِ وَيُحَالُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَشْغَالِهِ فَصَحَّ التَّكْفِيلُ بِإِحْضَارِهِ وَالتَّقْدِيرُ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَلَا فَرْقَ فِي الظَّاهِرِ بَيْنَ الْخَامِلِ وَالْوَجِيهِ

لِخَصْمِهِ أَعْطِهِ كَفِيلًا بِنَفْسِك ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ كَيْ لَا يَغِيبَ نَفْسُهُ) أَيْ كَيْ لَا يَغِيبَ خَصْمُهُ نَفْسُهُ (فَيَضِيعَ حَقُّهُ) أَيْ حَقُّ الْمُدَّعِي، وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْكَفِيلُ ثِقَةً مَعْرُوفَ الدَّارِ حَتَّى تَحْصُلَ فَائِدَةُ التَّكْفِيلِ وَهِيَ الِاسْتِيثَاقُ، كَذَا فِي الْكَافِي وَغَيْرِهِ (وَالْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ جَائِزَةٌ عِنْدَنَا) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ (وَقَدْ مَرَّ مِنْ قَبْلُ) أَيْ وَقَدْ مَرَّ جَوَازُ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ مِنْ قَبْلُ: أَيْ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْكَفَالَةِ (وَأَخْذُ الْكَفِيلِ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى اسْتِحْسَانٌ عِنْدَنَا.)

اعْلَمْ أَنَّ أَخْذَ الْكَفِيلِ مِمَّا اخْتَلَفَ فِيهِ السَّلَفُ. رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ وَالشَّعْبِيِّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ. وَرُوِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَنَّهُ يَجُوزُ، وَهَذَا هُوَ الِاسْتِحْسَانُ أَخَذَ بِهِ عُلَمَاؤُنَا، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ. وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ مُجَرَّدَ الدَّعْوَى لَيْسَ بِسَبَبٍ لِلِاسْتِحْقَاقِ كَيْفَ وَقَدْ عَارَضَهُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْإِنْكَارِ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ إعْطَاءُ الْكَفِيلِ.

وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ مَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ (لِأَنَّ فِيهِ) أَيْ فِي أَخْذِ الْكَفِيلِ (نَظَرًا لِلْمُدَّعِي) إذْ لَا يَغِيبُ حِينَئِذٍ خَصْمُهُ فَيَتَمَكَّنُ مِنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ (وَلَيْسَ فِيهِ كَثِيرُ ضَرَرٍ بِالْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْحُضُورَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ (بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى حَتَّى يُعَدَّى عَلَيْهِ) مِنْ الْإِعْدَاءِ عَلَى لَفْظِ الْمَجْهُولِ.

يُقَالُ اسْتَعْدَى فُلَانٌ الْأَمِيرَ عَلَى مَنْ ظَلَمَهُ: أَيْ اسْتَعَانَ بِهِ فَأَعْدَاهُ الْأَمِيرُ عَلَيْهِ: أَيْ أَعَانَهُ الْأَمِيرُ عَلَيْهِ وَنَصَرَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:

وَنَسْتَعْدِي الْأَمِيرَ إذَا ظُلِمْنَا

وَمَنْ يُعْدِي إذَا ظَلَمَ الْأَمِيرُ

كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَغَيْرِهَا (وَيُحَالُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَشْغَالِهِ) مِنْ الْحَيْلُولَةِ عَلَى لَفْظِ الْمَجْهُولِ أَيْضًا (فَيَصِحُّ التَّكْفِيلُ بِإِحْضَارِهِ) بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى (وَالتَّقْدِيرُ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ الصَّحِيحُ) احْتِرَازًا عَمَّا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُؤْخَذُ الْكَفِيلُ إلَى الْمَجْلِسِ الثَّانِي (وَلَا فَرْقَ فِي الظَّاهِرِ) أَيْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ (بَيْنَ الْخَامِلِ وَالْوَجِيهِ) يُقَالُ خَمَلَ الرَّجُلُ خُمُولًا: إذَا كَانَ سَاقِطَ

ص: 193

وَالْحَقِيرِ مِنْ الْمَالِ وَالْخَطِيرِ، ثُمَّ لَا بُدَّ مِنْ قَوْلِهِ لِي بَيِّنَةٌ حَاضِرَةٌ لِلتَّكْفِيلِ وَمَعْنَاهُ فِي الْمِصْرِ، حَتَّى لَوْ قَالَ الْمُدَّعِي لَا بَيِّنَةَ لِي أَوْ شُهُودِي غُيَّبٌ لَا يُكْفَلُ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ. قَالَ (فَإِنْ فَعَلَ وَإِلَّا أُمِرَ بِمُلَازَمَتِهِ) كَيْ لَا يَذْهَبَ حَقُّهُ (إلَّا أَنْ يَكُونَ غَرِيبًا فَيُلَازِمَ مِقْدَارَ مَجْلِسِ الْقَاضِي) وَكَذَا لَا يُكْفَلُ إلَّا إلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ، فَالِاسْتِثْنَاءُ مُنْصَرِفٌ إلَيْهِمَا لِأَنَّ فِي أَخْذِ الْكَفِيلِ وَالْمُلَازَمَةِ زِيَادَةً عَلَى ذَلِكَ إضْرَارًا بِهِ بِمَنْعِهِ عَنْ السَّفَرِ وَلَا ضَرَرَ فِي هَذَا الْمِقْدَارِ ظَاهِرًا، وَكَيْفِيَّةُ الْمُلَازَمَةِ نَذْكُرُهَا فِي كِتَابِ الْحَجْرِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

الْقَدْرِ (وَالْحَقِيرِ مِنْ الْمَالِ وَالْخَطِيرِ) أَيْ وَبَيْنَ الْحَقِيرِ مِنْ الْمَالِ وَالْخَطِيرِ: أَيْ الشَّرِيفِ.

وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ إذَا كَانَ مَعْرُوفًا أَوْ الظَّاهِرُ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ لَا يَخْفَى نَفْسُهُ بِذَلِكَ الْقَدْرِ لَا يُجْبَرُ عَلَى إعْطَاءِ الْكَفِيلِ، وَكَذَا لَوْ كَانَ الْمُدَّعِي حَقِيرًا لَا يَخْفَى الْمَرْءُ نَفْسُهُ بِذَلِكَ الْقَدْرِ لَا يُجْبَرُ عَلَى إعْطَاءِ الْكَفِيلِ (ثُمَّ لَا بُدَّ مِنْ قَوْلِهِ لِي بَيِّنَةٌ حَاضِرَةٌ لِلتَّكْفِيلِ وَمَعْنَاهُ فِي الْمِصْرِ) أَيْ مَعْنَى قَوْلِهِ حَاضِرَةٌ: حَاضِرَةٌ فِي الْمِصْرِ (حَتَّى لَوْ قَالَ الْمُدَّعِي لَا بَيِّنَةَ لِي أَوْ شُهُودِي غُيَّبٌ) بِفَتْحَتَيْنِ مُخَفَّفَةِ الْيَاءِ أَوْ بِضَمِّ الْغَيْنِ مُشَدَّدَةِ الْيَاءِ (لَا يُكْفَلُ) أَيْ لَا يُكْفَلُ خَصْمُهُ (لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ) لِأَنَّ الْفَائِدَةَ هِيَ الْحُضُورُ عِنْدَ حُضُورِ الشُّهُودِ وَذَلِكَ فِي الْهَالِكِ مُحَالٌ، وَالْغَائِبُ كَالْهَالِكِ مِنْ وَجْهٍ، إذْ لَيْسَ كُلُّ غَائِبٍ يَئُوبُ (قَالَ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ (فَإِنْ فَعَلَ) أَيْ فَإِنْ أَعْطَى خَصْمُهُ الْكَفِيلَ فِيهَا (وَإِلَّا) أَيْ وَإِنْ لَمْ يُعْطِ (أُمِرَ بِمُلَازَمَتِهِ) أَيْ أُمِرَ الْمُدَّعِي بِمُلَازَمَةِ خَصْمِهِ (كَيْ لَا يَذْهَبَ حَقُّهُ) أَيْ حَقُّ الْمُدَّعِي (إلَّا أَنْ يَكُونَ غَرِيبًا) أَيْ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ غَرِيبًا (عَلَى الطَّرِيقِ) أَيْ مُسَافِرًا (فَيُلَازَمُ) أَيْ فَيُلَازِمُ الْمُدَّعِي الْمُدَّعَى عَلَيْهِ (مِقْدَارَ مَجْلِسِ الْقَاضِي، وَكَذَا لَا يُكْفَلُ إلَّا إلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ) أَيْ وَكَذَا لَا يُكْفَلُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إذَا كَانَ مُسَافِرًا إلَّا إلَى آخِرِ مَجْلِسِ الْقَاضِي (فَالِاسْتِثْنَاءُ مُنْصَرِفٌ إلَيْهِمَا) أَيْ الِاسْتِثْنَاءُ الْمَذْكُورُ فِي مُخْتَصَرِ الْقُدُورِيِّ بِقَوْلِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ غَرِيبًا مُنْصَرِفٌ إلَى التَّكْفِيلِ وَالْمُلَازَمَةِ جَمِيعًا (لِأَنَّ فِي أَخْذِ الْكَفِيلِ وَالْمُلَازَمَةِ زِيَادَةً عَلَى ذَلِكَ) أَيْ عَلَى مِقْدَارِ مَجْلِسِ الْقَاضِي (إضْرَارًا بِهِ) أَيْ بِالْمُدَّعَى عَلَيْهِ (بِمَنْعِهِ عَنْ السَّفَرِ، وَلَا ضَرَرَ فِي هَذَا الْمِقْدَارِ) أَيْ فِي مِقْدَارِ مَجْلِسِ الْقَاضِي (ظَاهِرًا) أَيْ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ لِأَنَّ بِهَذَا الْقَدْرِ لَا يَنْقَطِعُ عَنْ الرُّفْقَةِ.

فَإِذَا جَاءَ أَوَانُ قِيَامِ الْقَاضِي عَنْ مَجْلِسِهِ وَلَمْ يُحْضِرْ الْمُدَّعِي بَيِّنَتَهُ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يُحَلِّفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَيُخَلِّي سَبِيلَهُ لِيَذْهَبَ حَيْثُ شَاءَ، فَإِنْ اخْتَلَفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ فَقَالَ الْمَطْلُوبُ أَنَا مُسَافِرٌ وَقَالَ الطَّالِبُ إنَّهُ لَا يُرِيدُ السَّفَرَ تَكَلَّمُوا فِيهِ بِأَقْوَالٍ. قَالَ بَعْضُهُمْ: الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُدَّعِي لِأَنَّهُ مُتَمَسِّكٌ بِالْأَصْلِ فَإِنَّ الْأَصْلَ هُوَ الْإِقَامَةُ وَالسَّفَرُ عَارِضٌ فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ مَنْ تَمَسَّكَ بِالْأَصْلِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْقَاضِي يَسْأَلُهُ مَعَ مَنْ يُرِيدُ السَّفَرَ؟ فَإِنْ أَخْبَرَهُ مَعَ فُلَانٍ وَالْقَاضِي يَبْعَثُ إلَى الرُّفْقَةِ أَمِينًا مِنْ أُمَنَائِهِ يَسْأَلُ إنَّ فُلَانًا هَلْ اسْتَعَدَّ لِلْخُرُوجِ مَعَكُمْ، فَإِنَّ مَنْ أَرَادَ السَّفَرَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُسْتَعِدًّا لِذَلِكَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً} فَإِنْ قَالُوا نَعَمْ قَدْ اسْتَعَدَّ لِذَلِكَ انْضَمَّ قَوْلُهُمْ إلَى قَوْلِهِ فَيُقْبَلُ ذَلِكَ مِنْهُ فَيُمْهِلُهُ إلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ، فَإِنْ أَحْضَرَ الْمُدَّعِي بَيِّنَتَهُ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ وَإِلَّا خُلِّيَ سَبِيلُ الْمَطْلُوبِ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمُوا مِنْ حَالِهِ فَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّهُ يَبْقَى ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لِأَجْلِ الِاسْتِعْدَادِ فَقُلْنَا بِأَنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى إعْطَاءِ الْكَفِيلِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، كَذَا فِي غَايَةِ الْبَيَانِ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَكَيْفِيَّةُ الْمُلَازَمَةِ نَذْكُرُهَا فِي كِتَابِ الْحَجْرِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى) وَاَلَّذِي يَذْكُرُهُ الْمُصَنِّفُ هُنَاكَ هُوَ أَنَّهُ يَدُورُ مَعَهُ أَيْنَمَا دَارَ وَلَا يُجْلِسُهُ فِي مَوْضِعٍ لِأَنَّهُ حَبْسَ، وَلَوْ دَخَلَ دَارِهِ لَا يَتْبَعُهُ بَلْ يَجْلِسُ عَلَى بَابِ دَارِهِ إلَى أَنْ يَخْرُجَ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَوْضِعُ خَلْوَةٍ انْتَهَى. وَقَالَ فِي الْفَتَاوَى الصُّغْرَى: وَتَفْسِيرُ الْمُلَازَمَةِ أَنْ يَدُورَ مَعَهُ حَيْثُ دَارَ وَيَبْعَثَ أَمِينًا حَتَّى يَدُورَ مَعَهُ أَيْنَمَا دَارَ، لَكِنْ لَا يُجْلِسُهُ فِي مَوْضِعٍ لِأَنَّ ذَلِكَ حَبْسٌ وَهُوَ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِ بِنَفْسِ الدَّعْوَى وَلَا يَشْغَلُهُ عَنْ التَّصَرُّفِ بَلْ هُوَ يَتَصَرَّفُ وَالْمُدَّعِي يَدُورُ مَعَهُ، وَإِذَا انْتَهَى الْمَطْلُوبُ إلَى دَارِهِ فَإِنَّ الطَّالِبَ لَا يَمْنَعُهُ مِنْ الدُّخُولِ عَلَى أَهْلِهِ، بَلْ يَدْخُلُ الْمَطْلُوبُ عَلَى أَهْلِهِ وَالطَّالِبُ الْمُلَازِمُ يَجْلِسُ عَلَى بَابِ دَارِهِ.

ثُمَّ قَالَ: رَأَيْت فِي الزِّيَادَاتِ فِي الْبَابِ الْخَامِسِ وَالْأَرْبَعِينَ أَنَّ الْمَطْلُوبَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَدْخُلَ بَيْتَهُ فَإِمَّا أَنْ يَأْذَنَ الْمُدَّعِيَ بِالدُّخُولِ مَعَهُ أَوْ يَجْلِسَ مَعَهُ عَلَى بَابِ الدَّارِ لِأَنَّهُ لَوْ تَرَكَهُ حَتَّى دَخَلَ الدَّارَ وَحْدَهُ فَرُبَّمَا يَهْرُبُ مِنْ جَانِبٍ آخَرَ فَيَفُوتُ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ الْمُلَازَمَةِ انْتَهَى.

ص: 194

(فَصْلٌ فِي كَيْفِيَّةِ الْيَمِينِ وَالِاسْتِحْلَافِ)

قَالَ (وَالْيَمِينُ بِاَللَّهِ عز وجل دُونَ غَيْرِهِ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «مَنْ كَانَ مِنْكُمْ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَذَرْ» وَقَالَ عليه الصلاة والسلام «مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ» (وَقَدْ تُؤَكَّدُ بِذِكْرِ أَوْصَافِهِ) وَهُوَ التَّغْلِيظُ، وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِهِ: قُلْ وَاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ عَالَمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، الَّذِي يَعْلَمُ مِنْ السِّرِّ مَا يَعْلَمُ مِنْ الْعَلَانِيَةِ، مَا لِفُلَانٍ هَذَا عَلَيْك وَلَا قِبَلَك هَذَا الْمَالُ الَّذِي ادَّعَاهُ وَهُوَ كَذَا وَكَذَا وَلَا شَيْءَ مِنْهُ. وَلَهُ أَنْ يَزِيدَ فِي التَّغْلِيظِ عَلَى هَذَا وَلَهُ أَنْ يَنْقُصَ مِنْهُ، إلَّا أَنَّهُ يَحْتَاطُ فِيهِ كَيْ لَا يَتَكَرَّرَ عَلَيْهِ الْيَمِينُ

فَصْلٌ فِي كَيْفِيَّةِ الْيَمِينِ وَالِاسْتِحْلَافِ).

لَمَّا ذَكَرَ نَفْسَ الْيَمِينِ أَيْ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ يَحْلِفُ ذَكَرَ فِي هَذَا الْفَصْلِ صِفَتَهَا لِأَنَّ كَيْفِيَّةَ الشَّيْءِ وَهِيَ مَا يَقَعُ بِهِ الْمُشَابَهَةُ واللَّامُشَابَهَةُ صِفَتُهُ وَالصِّفَةُ تَقْتَضِي سَبْقَ الْمَوْصُوفِ (قَالَ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ: (وَالْيَمِينُ بِاَللَّهِ دُونَ غَيْرِهِ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «مَنْ كَانَ مِنْكُمْ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَذَرْ») أَقُولُ: هَاهُنَا كَلَامٌ وَهُوَ أَنَّهُ قَالَ فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ: الْيَمِينُ بِاَللَّهِ أَوْ بِاسْمٍ آخَرَ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ كَالرَّحْمَنِ وَالرَّحِيمِ أَوْ بِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ الَّتِي يَحْلِفُ بِهَا عُرْفًا كَعِزَّةِ اللَّهِ وَجَلَالِهِ وَكِبْرِيَائِهِ، وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْيَمِينَ كَمَا تَكُونُ بِاَللَّهِ تَعَالَى تَكُونُ أَيْضًا بِصِفَاتِهِ الَّتِي يُحْلَفُ بِهَا فِي الْمُتَعَارَفِ، وَالْحَصْرُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ قَوْلِهِ هَاهُنَا وَالْيَمِينُ بِاَللَّهِ تَعَالَى دُونَ غَيْرِهِ يَقْتَضِي اخْتِصَاصَ الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى. وَأَيْضًا قَالَ هُنَاكَ: وَإِنْ قَالَ: إنْ فَعَلْت هَذَا فَهُوَ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ أَوْ كَافِرٌ يَكُونُ يَمِينًا، وَالْحَصْرُ الْمُسْتَفَادُ هَاهُنَا يُنَافِيهِ أَيْضًا. وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّهُ قَدْ اُشْتُهِرَ مِنْ مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى لَيْسَتْ عَيْنَ الذَّاتِ وَلَا غَيْرَهَا، فَعَلَى هَذَا لَا يُنَافِي قَوْلُهُ دُونَ غَيْرِهِ صِحَّةَ الْيَمِينِ بِصِفَاتِهِ الْمَذْكُورَةِ وَلَا يُنَافِيهَا أَيْضًا اخْتِصَاصُ الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى بِمَعْنًى لَا بِغَيْرِهِ كَمَا يُفِيدُهُ قَوْلُهُ دُونَ غَيْرِهِ.

وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ الْيَمِينَ فِي الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ بِاَللَّهِ تَعَالَى فِي ظَاهِرِ الْحَالِ إلَّا أَنَّهَا كَانَتْ بِهِ فِي الْمَآلِ فَتَأَمَّلْ. وَفِي الْمَبْسُوطِ: إنَّ الْحُرَّ وَالْمَمْلُوكَ وَالرَّجُلَ وَالْمَرْأَةَ وَالْفَاسِقَ وَالصَّالِحَ وَالْكَافِرَ وَالْمُسْلِمَ فِي الْيَمِينِ سَوَاءٌ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْقَضَاءُ بِالنُّكُولِ، وَهَؤُلَاءِ فِي اعْتِقَادِ الْحُرْمَةِ فِي الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ سَوَاءٌ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ (وَقَدْ تُؤَكَّدُ) أَيْ الْيَمِينُ (بِذِكْرِ أَوْصَافِهِ) أَيْ بِذِكْرِ أَوْصَافِ اللَّهِ تَعَالَى، هَذَا لَفْظُ الْقُدُورِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ، قَالَ الْمُصَنِّفُ:(وَهُوَ التَّغْلِيظُ، وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِهِ قُلْ: وَاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الَّذِي يَعْلَمُ مِنْ السِّرِّ) وَالْخَفَاءِ (مَا يَعْلَمُ مِنْ الْعَلَانِيَةِ مَا لِفُلَانٍ هَذَا عَلَيْك وَلَا قِبَلَك هَذَا الْمَالُ الَّذِي ادَّعَاهُ، وَهُوَ كَذَا وَكَذَا وَلَا شَيْءَ مِنْهُ وَلَهُ) أَيْ وَلِلْقَاضِي (أَنْ يَزِيدَ فِي التَّغْلِيظِ عَلَى هَذَا) أَيْ عَلَى الْمَذْكُورِ (وَلَهُ أَنْ يَنْقُصَ مِنْهُ) أَيْ مِنْ الْمَذْكُورِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الِاسْتِحْلَافِ النُّكُولُ، وَأَحْوَالُ النَّاسِ فِيهِ مُخْتَلِفَةٌ؛ مِنْهُمْ مَنْ يَمْتَنِعُ إذَا غُلِّظَ عَلَيْهِ الْيَمِينُ وَيَتَجَاسَرُ إذَا حَلَفَ بِاَللَّهِ فَقَطْ، ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَمْتَنِعُ بِأَدْنَى تَغْلِيظٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَمْتَنِعُ إلَّا بِزِيَادَةِ تَغْلِيظٍ، فَلِلْقَاضِي أَنْ يُرَاعِيَ أَحْوَالَ النَّاسِ.

وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه فِي «الَّذِي حَلَفَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: وَاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْك الْكِتَابَ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» (إلَّا أَنَّهُ يَحْتَاطُ كَيْ لَا يَتَكَرَّرَ عَلَيْهِ الْيَمِينُ) وَالْمُرَادُ بِالِاحْتِيَاطِ أَنْ يَذْكُرَ بِغَيْرِ وَاوٍ، إذْ لَوْ ذَكَرَ:

ص: 195

لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ يَمِينٌ وَاحِدَةٌ، وَالْقَاضِي بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ غَلَّظَ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يُغَلِّظْ فَيَقُولُ: قُلْ بِاَللَّهِ أَوْ وَاَللَّهِ، وَقِيلَ: لَا يُغَلِّظُ عَلَى الْمَعْرُوفِ بِالصَّلَاحِ وَيُغَلِّظُ عَلَى غَيْرِهِ، وَقِيلَ: يُغَلِّظُ فِي الْخَطِيرِ مِنْ الْمَالِ دُونَ الْحَقِيرِ.

قَالَ (وَلَا يَسْتَحْلِفُ بِالطَّلَاقِ وَلَا بِالْعَتَاقِ) لِمَا رَوَيْنَا، وَقِيلَ فِي زَمَانِنَا إذَا أَلَحَّ الْخَصْمُ سَاغَ لِلْقَاضِي أَنْ يَحْلِفَ بِذَلِكَ لِقِلَّةِ الْمُبَالَاةِ بِالْيَمِينِ بِاَللَّهِ وَكَثْرَةِ الِامْتِنَاعِ بِسَبَبِ الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ.

وَاَللَّهِ وَالرَّحْمَنِ وَالرَّحِيمِ بِالْوَاوَاتِ صَارَتْ ثَلَاثَةَ أَيْمَانٍ، وَتَكْرَارُ الْيَمِينِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ نَقْلًا عَنْ الْمَبْسُوطِ (لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ عَلَيْهِ يَمِينٌ وَاحِدَةٌ وَالْقَاضِي بِالْخِيَارِ، إنْ شَاءَ غَلَّظَ) فَلَا يُزَادُ عَلَيْهَا (وَإِنْ شَاءَ) الْقَاضِي (لَمْ يُغَلِّظْ فَيَقُولُ: قُلْ بِاَللَّهِ أَوْ وَاَللَّهِ) لِمَا مَرَّ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْيَمِينِ النُّكُولُ وَأَحْوَالُ النَّاسِ فِيهِ شَتَّى: فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْتَنِعُ بِدُونِ التَّغْلِيظِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ فَالرَّأْيُ فِيهِ إلَى الْقَاضِي (وَقِيلَ: لَا يُغَلَّظُ عَلَى الْمَعْرُوفِ بِالصَّلَاحِ) إذْ الظَّاهِرُ مِنْهُ أَنْ يَمْتَنِعَ بِدُونِ التَّغْلِيظِ (وَيُغَلِّظُ عَلَى غَيْرِهِ) لِكَوْنِ أَمْرِهِ عَلَى خِلَافِ الْأَوَّلِ (وَقِيلَ يُغَلِّظُ فِي الْخَطِيرِ مِنْ الْمَالِ دُونَ الْحَقِيرِ) لِمِثْلِ مَا قُلْنَا فِي الْقِيلِ الْأَوَّلِ

. (قَالَ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ (وَلَا يَسْتَحْلِفُ بِالطَّلَاقِ وَلَا بِالْعَتَاقِ لِمَا رَوَيْنَا) وَهُوَ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَذَرْ» (وَقِيلَ فِي زَمَانِنَا إذَا أَلَحَّ الْخَصْمُ سَاغَ لِلْقَاضِي أَنْ يُحَلِّفَ بِذَلِكَ) أَيْ بِالطَّلَاقِ أَوْ بِالْعَتَاقِ (لِقِلَّةِ الْمُبَالَاةِ بِالْيَمِينِ بِاَللَّهِ وَكَثْرَةِ الِامْتِنَاعِ بِسَبَبِ الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ) أَقُولُ: يَرُدُّ عَلَيْهِ أَنَّ هَذَا تَعْلِيلٌ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ وَهُوَ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَذَرْ» فَلَا يَصِحُّ عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ. وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ: وَإِنْ أَرَادَ الْمُدَّعِي تَحْلِيفَهُ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لَا يُجِيبُهُ الْقَاضِي إلَى ذَلِكَ لِأَنَّ التَّحْلِيفَ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ حَرَامٌ. وَبَعْضُهُمْ جَوَّزُوا ذَلِكَ فِي زَمَانِنَا، وَالصَّحِيحُ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ انْتَهَى. وَفِي الذَّخِيرَةِ: التَّحْلِيفُ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالْأَيْمَانِ الْمُغَلَّظَةِ لَمْ يُجَوِّزْهُ أَكْثَرُ مَشَايِخِنَا وَأَجَازَهُ الْبَعْضُ، فَيُفْتَى بِأَنَّهُ يَجُوزُ إنْ مَسَّتْهُ الضَّرُورَةُ، وَإِذَا بَالَغَ الْمُسْتَفْتِي فِي الْفَتْوَى يُفْتِي بِأَنَّ الرَّأْيَ إلَى الْقَاضِي انْتَهَى.

وَفِي فُصُولِ الْأُسْرُوشَنِيِّ: وَلَوْ حَلَّفَ الْقَاضِي بِالطَّلَاقِ فَنَكَلَ لَا يَقْضِي عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ لِأَنَّهُ نَكَلَ عَمَّا هُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ شَرْعًا انْتَهَى. وَفِي الْخُلَاصَةِ: التَّحْلِيفُ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالْأَيْمَانِ الْمُغَلَّظَةِ لَا يُجَوِّزُهُ أَكْثَرُ مَشَايِخِنَا فَإِنْ مَسَّتْ الضَّرُورَةُ يُفْتَى بِأَنَّ الرَّأْيَ إلَى الْقَاضِي، فَلَوْ حَلَّفَ الْقَاضِي بِالطَّلَاقِ فَنَكَلَ وَقَضَى بِالْمَالِ لَا يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ انْتَهَى. أَقُولُ: قَدْ تَلَخَّصَ مِنْ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ كُلِّهَا أَنَّ لِلْقَاضِي أَنْ يُحَلِّفَ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ عِنْدَ إلْحَاحِ الْخَصْمِ، وَأَنْ يُفْتِيَ بِجَوَازِ ذَلِكَ إنْ مَسَّتْهُ الضَّرُورَةُ، وَلَكِنْ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ بِالنُّكُولِ عَنْهُ، وَإِنْ قَضَى بِهِ لَا يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ وَعَنْ هَذَا قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَلَكِنَّهُمْ قَالُوا: إنْ نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ بِهِ لَا يَقْضِي عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ لِأَنَّهُ نَكَلَ عَمَّا هُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ شَرْعًا، وَلَوْ قَضَى بِهِ لَا يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ انْتَهَى.

لَكِنْ فِيهِ إشْكَالٌ لِأَنَّ فَائِدَةَ التَّحْلِيفِ الْقَضَاءُ بِالنُّكُولِ، فَإِذَا لَمْ يَجُزْ الْقَضَاءُ بِالنُّكُولِ عَمَّا ذُكِرَ فَكَيْفَ يَجُوزُ التَّحْلِيفُ بِهِ، أَلَّا يَرَى إلَى مَا مَرَّ فِي بَيَانِ دَلِيلِ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ الِاسْتِحْلَافِ فِي الْأَشْيَاءِ الْعَدِيدَةِ عِنْدَهُ مِنْ أَنَّ النُّكُولَ بَذْلٌ وَالْبَذْلُ لَا يَجْرِي فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَفَائِدَةُ الِاسْتِحْلَافِ الْقَضَاءُ بِالنُّكُولِ فَلَا يَسْتَحْلِفُ فِيهَا حَيْثُ جَعَلُوا عَدَمَ

ص: 196

قَالَ (وَيَسْتَحْلِفُ الْيَهُودِيَّ بِاَللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى عليه السلام، وَالنَّصْرَانِيَّ بِاَللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ الْإِنْجِيلَ عَلَى عِيسَى عليه السلام)«لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام لِابْنِ صُورِيَّا الْأَعْوَرِ أَنْشُدُك بِاَللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى أَنَّ حُكْمَ الزِّنَا فِي كِتَابِكُمْ هَذَا» وَلِأَنَّ الْيَهُودِيَّ يَعْتَقِدُ نُبُوَّةَ مُوسَى وَالنَّصْرَانِيَّ نُبُوَّةَ عِيسَى عليهما السلام فَيُغَلِّظُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِذِكْرِ الْمُنَزَّلِ عَلَى نَبِيِّهِ (وَ) يَسْتَحْلِفُ (الْمَجُوسِيُّ بِاَللَّهِ الَّذِي خَلَقَ النَّارَ) وَهَكَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ رحمه الله فِي الْأَصْلِ. يُرْوَى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله فِي النَّوَادِرِ أَنَّهُ لَا يَسْتَحْلِفُ أَحَدًا إلَّا بِاَللَّهِ خَالِصًا. وَذَكَرَ الْخَصَّافُ رحمه الله أَنَّهُ لَا يَسْتَحْلِفُ غَيْرَ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ إلَّا بِاَللَّهِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ بَعْضِ مَشَايِخِنَا لِأَنَّ فِي ذِكْرِ النَّارِ مَعَ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى تَعْظِيمًا وَمَا يَنْبَغِي أَنْ تُعَظَّمَ، بِخِلَافِ الْكِتَابَيْنِ لِأَنَّ كُتُبَ اللَّهِ مُعَظَّمَةٌ (وَالْوَثَنِيُّ لَا يَحْلِفُ إلَّا بِاَللَّهِ) لِأَنَّ الْكَفَرَةَ بِأَسْرِهِمْ يَعْتَقِدُونَ اللَّهَ تَعَالَى، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} قَالَ (وَلَا يَحْلِفُونَ فِي بُيُوتِ عِبَادَتِهِمْ) لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَحْضُرُهَا

تَرَتُّبِ فَائِدَةِ الِاسْتِحْلَافِ وَهُوَ الْقَضَاءُ بِالنُّكُولِ عِلَّةً لِعَدَمِ جَوَازِ الِاسْتِحْلَافِ فِي الْأَشْيَاءِ الْمَذْكُورَةِ عِنْدَهُ فَتَأَمَّلْ.

(قَالَ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ (وَيَسْتَحْلِفُ الْيَهُودِيَّ بِاَللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى، وَالنَّصْرَانِيَّ بِاَللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ الْإِنْجِيلَ عَلَى عِيسَى لِقَوْلِهِ) أَيْ لِقَوْلِ نَبِيِّنَا (صلى الله عليه وسلم لِابْنِ صُورِيَّا الْأَعْوَرِ) وَفِي الْمُغْرِبِ: ابْنُ صُورِيَّا بِالْقَصْرِ اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ «أَنْشُدُك بِاَللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى أَنَّ حُكْمَ الزِّنَا فِي كِتَابِكُمْ هَذَا» أَيْ التَّحْمِيمُ، هَذَا الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي الْحُدُودِ مُسْنَدًا إلَى الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنه قَالَ «مَرَّ النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام بِيَهُودِيٍّ مُحَمَّمٍ، فَدَعَاهُمْ فَقَالَ: هَكَذَا تَجِدُونَ حَدَّ الزِّنَا فِي كِتَابِكُمْ؟ قَالُوا: نَعَمْ، فَدَعَا رَجُلًا فَقَالَ: نَشَدْتُك اللَّهَ الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى عليه السلام هَكَذَا تَجِدُونَ حَدَّ الزِّنَا فِي كِتَابِكُمْ؟ فَقَالَ: اللَّهُمَّ لَا، فَلَوْلَا أَنَّك نَشَدْتَنِي بِهَذَا لَمْ أُخْبِرْك، حَدُّ الزِّنَا فِي كِتَابِنَا الرَّجْمُ، وَلَكِنَّهُ كَثُرَ فِي أَشْرَافِنَا فَكُنَّا إذَا أَخَذْنَا الرَّجُلَ الشَّرِيفَ تَرَكْنَاهُ وَإِذَا أَخَذْنَا الضَّعِيفَ أَقَمْنَا عَلَيْهِ الْحَدَّ فَقُلْنَا: تَعَالَوْا فَنَجْتَمِعَ عَلَى شَيْءٍ نُقِيمُهُ عَلَى الشَّرِيفِ وَالْوَضِيعِ، فَاجْتَمَعْنَا عَلَى التَّحْمِيمِ وَالْجَلْدِ وَتَرَكْنَا الرَّجْمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: اللَّهُمَّ إنِّي أَوَّلُ مَنْ أَحْيَا أَمْرَك إذْ أَمَاتُوهُ، فَأُمِرَ بِهِ فَرُجِمَ» وَقَالَ شُرَّاحُهُ: وَهَذَا الرَّجُلُ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صُورِيَّا، وَقَدْ صَرَّحَ بِاسْمِهِ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ سَعِيدٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ: يَعْنِي لِابْنِ صُورِيَّا، الْحَدِيثُ.

وَهَذَا مُرْسَلٌ (وَلِأَنَّ الْيَهُودِيَّ يَعْتَقِدُ نُبُوَّةَ مُوسَى وَالنَّصْرَانِيَّ نُبُوَّةَ عِيسَى) أَيْ يَعْتَقِدُ نُبُوَّةَ عِيسَى عليه السلام (فَيُغَلِّظُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِذِكْرِ الْمُنَزَّلِ عَلَى نَبِيِّهِ) لِيَكُونَ رَادِعًا لَهُ عَنْ الْإِقْدَامِ عَلَى الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ (وَيَحْلِفُ الْمَجُوسِيُّ بِاَللَّهِ الَّذِي خَلَقَ النَّارَ، هَكَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ) وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَجُوسِيَّ يَعْتَقِدُ الْحُرْمَةَ فِي النَّارِ فَيَمْتَنِعُ عَنْ الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ فَيَحْصُلُ الْمَقْصُودُ (وَيُرْوَى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَسْتَحْلِفُ أَحَدًا إلَّا بِاَللَّهِ خَالِصًا) تَفَادِيًا عَنْ تَشْرِيكِ الْغَيْرِ مَعَهُ فِي التَّعْظِيمِ (وَذَكَرَ الْخَصَّافُ أَنَّهُ لَا يَسْتَحْلِفُ غَيْرَ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ إلَّا بِاَللَّهِ وَهُوَ اخْتِيَارُ بَعْضِ مَشَايِخِنَا، لِأَنَّ فِي ذِكْرِ النَّارِ مَعَ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى تَعْظِيمَهَا وَمَا يَنْبَغِي أَنْ تُعَظَّمَ) لِأَنَّ النَّارَ كَغَيْرِهَا مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ، فَكَمَا لَا يَسْتَحْلِفُ الْمُسْلِمَ بِاَللَّهِ الَّذِي خَلَقَ الشَّمْسَ، فَكَذَلِكَ لَا يَسْتَحْلِفُ الْمَجُوسِيَّ بِاَللَّهِ الَّذِي خَلَقَ النَّارَ.

وَفِي الْمَبْسُوطِ: وَكَأَنَّهُ وَقَعَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ أَنَّهُمْ يُعَظِّمُونَ النَّارَ تَعْظِيمَ الْعِبَادَةِ، فَلِمَقْصُودِ النُّكُولِ قَالَ: تُذْكَرُ النَّارُ فِي الْيَمِينِ انْتَهَى (بِخِلَافِ الْكِتَابَيْنِ) أَيْ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ (لِأَنَّ كُتُبَ اللَّهِ مُعَظَّمَةٌ) فَجَازَ أَنْ تُذْكَرَ مَعَ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى (وَالْوَثَنِيُّ لَا يَحْلِفُ إلَّا بِاَللَّهِ، لِأَنَّ الْكَفَرَةَ بِأَسْرِهِمْ يَعْتَقِدُونَ اللَّهَ تَعَالَى، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَئِنْ سَأَلْتهمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) لَا يُقَالُ: لَوْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَعْبُدُوا الْأَوْثَانَ. لِأَنَّا نَقُولُ: إنَّمَا يَعْبُدُونَهَا تَقَرُّبًا إلَى اللَّهِ تَعَالَى عَلَى زَعْمِهِمْ؛ أَلَا يَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُمْ {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ اللَّهَ تَعَالَى يَمْتَنِعُونَ عَلَى الْإِقْدَامِ عَلَى الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ بِاَللَّهِ تَعَالَى فَتَحْصُلُ الْفَائِدَةُ الْمَطْلُوبَةُ مِنْ الْيَمِينِ وَهِيَ النُّكُولُ (قَالَ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ: (وَلَا يَحْلِفُونَ فِي بُيُوتِ عِبَادَتِهِمْ لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَحْضُرُهَا) أَيْ لَا يَحْضُرُ بُيُوتَ عِبَادَتِهِمْ لِلْحَرَجِ

ص: 197

بَلْ هُوَ مَمْنُوعٌ عَنْ ذَلِكَ. .

قَالَ (وَلَا يَجِبُ تَغْلِيظُ الْيَمِينِ عَلَى الْمُسْلِمِ بِزَمَانٍ وَلَا مَكَانٍ) لِأَنَّ الْمَقْصُودَ تَعْظِيمُ الْمُقْسَمِ بِهِ وَهُوَ حَاصِلٌ بِدُونِ ذَلِكَ، وَفِي إيجَابِ ذَلِكَ حَرَجٌ عَلَى الْقَاضِي حَيْثُ يُكَلَّفُ حُضُورَهَا وَهُوَ مَدْفُوعٌ.

قَالَ (وَمَنْ ادَّعَى أَنَّهُ ابْتَاعَ مِنْ هَذَا عَبْدَهُ بِأَلْفٍ فَجَحَدَ اسْتَحْلَفَ بِاَللَّهِ مَا بَيْنَكُمَا بَيْعٌ قَائِمٌ فِيهِ وَلَا يَسْتَحْلِفُ بِاَللَّهِ مَا بِعْت) لِأَنَّهُ قَدْ يُبَاعُ الْعَيْنُ ثُمَّ يُقَالُ فِيهِ

(وَيَسْتَحْلِفُ فِي الْغَصْبِ بِاَللَّهِ مَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْك رَدَّهُ وَلَا يَحْلِفُ بِاَللَّهِ مَا غَصَبْت) لِأَنَّهُ قَدْ يَغْصِبُ ثُمَّ يَفْسَخُ بِالْهِبَةِ وَالْبَيْعِ (وَفِي النِّكَاحِ بِاَللَّهِ مَا بَيْنَكُمَا نِكَاحٌ قَائِمٌ فِي الْحَالِ)

بَلْ هُوَ مَمْنُوعٌ عَنْ ذَلِكَ) لِأَنَّ فِيهِ تَعْظِيمَ ذَلِكَ الْمَكَانِ، وَالْحَلِفُ يَقَعُ بِاَللَّهِ تَعَالَى لَا بِالْمَكَانِ، فَفِي أَيِّ مَكَان حَلَّفَهُ جَازَ.

وَفِي الْأَجْنَاسِ قَالَ فِي الْمَأْخُوذِ لِلْحَسَنِ: وَإِنْ سَأَلَ الْمُدَّعِي الْقَاضِيَ أَنْ يَبْعَثَ بِهِ إلَى بَيْعَةٍ أَوْ كَنِيسَةٍ فَيُحَلِّفُهُ هُنَاكَ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَفْعَلَهُ إذَا اتَّهَمَهُ، كَذَا فِي غَايَةِ الْبَيَانِ.

(قَالَ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ (وَلَا يَجِبُ تَغْلِيظُ الْيَمِينِ عَلَى الْمُسْلِمِ بِزَمَانٍ وَلَا مَكَانٍ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ تَعْظِيمُ الْمُقْسَمِ بِهِ وَهُوَ حَاصِلٌ بِدُونِ ذَلِكَ) أَيْ بِدُونِ تَعْيِينِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ (وَفِي إيجَابِ ذَلِكَ حَرَجٌ عَلَى الْقَاضِي حَيْثُ يُكَلِّفُ حُضُورَهَا) أَيْ حُضُورُ الْأَزْمَانِ الْمُعَيَّنَةِ وَالْأَمَاكِنِ الْمَخْصُوصَةِ (وَهُوَ مَدْفُوعٌ) أَيْ الْحَرَجُ مَدْفُوعٌ بِالنَّصِّ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إذَا كَانَتْ الْيَمِينُ فِي قَسَامَةٍ أَوْ فِي لِعَانٍ أَوْ فِي مَالٍ عَظِيمٍ فَإِنَّهَا تَخْتَصُّ بِمَكَانٍ؛ إنْ كَانَ بِمَكَّةَ فَبَيْنَ الرُّكْنِ وَالْمَقَامِ، وَإِنْ كَانَ بِالْمَدِينَةِ فَعِنْدَ قَبْرِ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام، وَفِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ عِنْدَ الصَّخْرَةِ، وَفِي سَائِرِ الْبِلَادِ فِي الْجَوَامِعِ، وَكَذَلِكَ يُشْتَرَطُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ وَبَعْدَ الْعَصْرِ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ نَقْلًا عَنْ الْمَبْسُوطِ وَشَرْحِ الْأَقْطَعِ

(قَالَ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ (وَمَنْ ادَّعَى أَنَّهُ ابْتَاعَ مِنْ هَذَا عَبْدَهُ بِأَلْفٍ فَجَحَدَ اسْتَحْلَفَ بِاَللَّهِ مَا بَيْنَكُمَا بَيْعٌ قَائِمٌ فِيهِ وَلَا يَسْتَحْلِفُ بِاَللَّهِ مَا بِعْت) يَعْنِي يَسْتَحْلِفُ عَلَى الْحَاصِلِ دُونَ السَّبَبِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا نَوْعٌ آخَرُ مِنْ كَيْفِيَّةِ الْيَمِينِ وَهُوَ الْيَمِينُ عَلَى الْحَاصِلِ أَوْ السَّبَبِ، وَالضَّابِطُ فِي ذَلِكَ أَنَّ السَّبَبَ، إمَّا إنْ كَانَ مِمَّا يَرْتَفِعُ بِرَافِعٍ أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَالتَّحْلِيفُ عَلَى السَّبَبِ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَإِنْ تَضَرَّرَ الْمُدَّعِي بِالتَّحْلِيفِ عَلَى الْحَاصِلِ فَكَذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَتَضَرَّرْ يَحْلِفُ عَلَى الْحَاصِلِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَعَلَى السَّبَبِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله إلَّا إذَا عَرَضَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِرَفْعِ السَّبَبِ وَسَيَظْهَرُ الْكُلُّ مِنْ الْكِتَابِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِ الْمَسْأَلَةِ الْمَذْكُورَةِ (لِأَنَّهُ قَدْ يُبَاعُ الْعَيْنُ ثُمَّ يُقَالُ فِيهِ) مِنْ الْإِقَالَةِ: أَيْ ثُمَّ تَطْرَأُ عَلَيْهِ الْإِقَالَةُ فَلَا يَبْقَى الْبَيْعُ عَلَى حَالِهِ، فَلَوْ اسْتَحْلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَلَى السَّبَبِ الَّذِي هُوَ الْبَيْعُ هَاهُنَا لَتَضَرَّرَ بِهِ فَاسْتَحْلَفَ عَلَى الْحَاصِلِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ.

(وَيَسْتَحْلِفُ فِي الْغَصْبِ بِاَللَّهِ مَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ رَدَّهُ) أَيْ رَدُّ الْمُدَّعِي (وَلَا يَحْلِفُ بِاَللَّهِ مَا غَصَبْت) هَذَا أَيْضًا مِنْ قَوْلِ الْقُدُورِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِهِ (لِأَنَّهُ قَدْ يُغْصَبُ) أَيْ قَدْ يُغْصَبُ الشَّيْءُ (ثُمَّ يُفْسَخُ) أَيْ يُفْسَخُ الْغَصْبُ (بِالْهِبَةِ وَالْبَيْعِ) فَلَوْ حَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَلَى السَّبَبِ الَّذِي هُوَ الْغَصْبُ هَاهُنَا لَتَضَرَّرَ بِهِ فَيَحْلِفُ عَلَى الْحَاصِلِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُ (وَفِي النِّكَاحِ بِاَللَّهِ مَا بَيْنَكُمَا نِكَاحٌ قَائِمٌ فِي الْحَالِ) وَهَذَا أَيْضًا مِنْ قَوْلِ الْقُدُورِيِّ. وَقَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَأَكْثَرُ الشُّرَّاحِ: هَذَا عَلَى قَوْلِهِمَا لِمَا أَنَّ الِاسْتِحْلَافَ فِي النِّكَاحِ قَوْلُهُمَا.

أَقُولُ: الْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ هَذَا عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ، لِأَنَّ الِاسْتِحْلَافَ فِي النِّكَاحِ مُطْلَقًا، وَإِنْ كَانَ يَجْرِي عَلَى قَوْلِهِمَا مَعًا إلَّا أَنَّ الِاسْتِحْلَافَ فِيهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ وَهُوَ الِاسْتِحْلَافُ عَلَى الْحَاصِلِ إنَّمَا يَجْرِي عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ فَقَطْ، إذْ الِاسْتِحْلَافُ فِيهِ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ إنَّمَا هُوَ عَلَى السَّبَبِ كَمَا يُنَادِي عَلَيْهِ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ فِيمَا سَيَأْتِي، أَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ يَحْلِفُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ عَلَى السَّبَبِ. نَعَمْ سَيَقُولُ الْمُصَنِّفُ هُنَاكَ أَيْضًا إلَّا إذَا عَرَضَ

ص: 198

لِأَنَّهُ قَدْ يَطْرَأُ عَلَيْهِ الْخُلْعُ (وَفِي دَعْوَى الطَّلَاقِ بِاَللَّهِ مَا هِيَ بَائِنٌ مِنْك السَّاعَةَ بِمَا ذَكَرْت وَلَا يَسْتَحْلِفُ بِاَللَّهِ مَا طَلَّقَهَا) لِأَنَّ النِّكَاحَ قَدْ يُجَدَّدُ بَعْدَ الْإِبَانَةِ فَيَحْلِفُ عَلَى الْحَاصِلِ فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ، لِأَنَّهُ لَوْ حَلَفَ عَلَى السَّبَبِ يَتَضَرَّرُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ. أَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله يَحْلِفُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ

بِمَا ذَكَرْنَا فَحِينَئِذٍ يَحْلِفُ عَلَى الْحَاصِلِ، لَكِنَّ الْكَلَامَ هُنَا فِي الِاسْتِحْلَافِ عَلَى الْحَاصِلِ مُطْلَقًا أَيْ سَوَاءٌ عَرَضَ أَوْ لَمْ يَعْرِضْ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَطْعًا بَيَانُ الْخِلَافِ فِيهِ بِقَوْلِهِ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، أَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ إلَخْ إذْ لَا خِلَافَ فِي صُورَةِ التَّعْرِيضِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي التَّعْلِيلِ (لِأَنَّهُ قَدْ يَطْرَأُ عَلَيْهِ الْخُلْعُ) أَيْ يَطْرَأُ عَلَى النِّكَاحِ الْخُلْعُ، فَلَوْ حَلَفَ عَلَى السَّبَبِ الَّذِي هُوَ أَصْلُ النِّكَاحِ هَاهُنَا لَتَضَرَّرَ بِهِ فَحَلَفَ عَلَى الْحَاصِلِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُ (وَفِي دَعْوَى الطَّلَاقِ بِاَللَّهِ مَا هِيَ بَائِنٌ مِنْك السَّاعَةَ بِمَا ذَكَرْت وَلَا يَسْتَحْلِفُ بِاَللَّهِ مَا طَلَّقَهَا) وَهَذَا أَيْضًا مِنْ قَوْلِ الْقُدُورِيِّ، فَكَأَنَّهُ زَادَ ذِكْرَ دَعْوَى فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي هِيَ أُخْرَى الْمَسَائِلِ الْمُتَنَاسِبَةِ الْمَذْكُورَةِ هَاهُنَا إيمَاءً إلَى أَنَّهَا مُعْتَبَرَةٌ فِي الْمَسَائِلِ السَّابِقَةِ أَيْضًا، إلَّا أَنَّهَا تَرَكَتْ فِيهَا اعْتِمَادًا عَلَى انْفِهَامِهَا بِمَعُونَةِ الْمَقَامِ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ (لِأَنَّ النِّكَاحَ قَدْ يُجَدَّدُ بَعْدَ الْإِبَانَةِ) وَفَرَّعَ عَلَى جُمْلَةِ مَا ذَكَرَهُ فِي تِلْكَ الْمَسَائِلِ قَوْلَهُ (فَيَحْلِفُ عَلَى الْحَاصِلِ فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ لِأَنَّهُ لَوْ حَلَفَ عَلَى السَّبَبِ لَتَضَرَّرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ) عَلَى مَا مَرَّ تَقْرِيرُهُ (وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ) أَيْ التَّحْلِيفُ عَلَى الْحَاصِلِ فِي الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ قَوْلُهُمَا. قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: هَاهُنَا كَلَامٌ وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَحْلِفُ فِي النِّكَاحِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَلَا يَكُونُ التَّحْلِيفُ فِيهِ عَلَى الْحَاصِلِ عِنْدَهُ كَمَا لَا يُخْفَى انْتَهَى. أَقُولُ: هَذَا ظَاهِرٌ، وَلَكِنَّ الظَّاهِرَ أَيْضًا أَنْ يُحْمَلَ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ هَذَا عَلَى التَّغْلِيبِ: أَيْ تَغْلِيبُ حُكْمِ سَائِرِ الْوُجُوهِ عَلَى حُكْمِ وَجْهِ النِّكَاحِ اعْتِمَادًا عَلَى ظُهُورِ عَدَمِ جَرَيَانِ الِاسْتِحْلَافِ فِي النِّكَاحِ مِمَّا مَرَّ.

ثُمَّ إنَّ بَعْضَ الْفُضَلَاءِ قَصَدَ تَوْجِيهَ الْكَلَامِ وَدَفْعَ الِاعْتِرَاضِ عَنْ الْمَقَامِ حَيْثُ قَالَ: أَيْ التَّحْلِيفُ عَلَى الْحَاصِلِ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ التَّحْلِيفَ عَلَى الْحَاصِلِ فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ حَتَّى يَعْتَرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَا سَبَقَ مِنْ أَنَّهُ لَا يَحْلِفُ عِنْدَهُ فِي النِّكَاحِ انْتَهَى. أَقُولُ: لَا يُخْفَى عَلَى ذِي فِطْرَةٍ سَلِيمَةٍ أَنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ أَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ يَحْلِفُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ عَلَى السَّبَبِ يَأْبَى مَا قَالَهُ هَذَا الْقَائِلُ، إذْ قَدْ صَرَّحَ الْمُصَنِّفُ هَاهُنَا بِلَفْظِ الْجَمْعِ تَعْيِينًا لِكَوْنِ الْخِلَافِ بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ وَصَاحِبَيْهِ فِي جَمِيعِ الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ لَا فِي كَيْفِيَّةِ التَّحْلِيفِ فِي الْجُمْلَةِ فَتَدَبَّرْ (أَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ يَحْلِفُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ) أَيْ فِي جَمِيعِ مَا ذُكِرَ

ص: 199

عَلَى السَّبَبِ إلَّا إذَا عَرَّضَ بِمَا ذَكَرْنَا فَحِينَئِذٍ يَحْلِفُ عَلَى الْحَاصِلِ. وَقِيلَ: يَنْظُرُ إلَى إنْكَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إنْ أَنْكَرَ السَّبَبَ يَحْلِفُ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَنْكَرَ الْحُكْمَ يَحْلِفُ عَلَى الْحَاصِلِ. فَالْحَاصِلُ هُوَ الْأَصْلُ عِنْدَهُمَا إذَا كَانَ سَبَبًا يَرْتَفِعُ إلَّا إذَا كَانَ فِيهِ تَرْكُ النَّظَرِ فِي جَانِبِ الْمُدَّعِي فَحِينَئِذٍ يَحْلِفُ عَلَى السَّبَبِ بِالْإِجْمَاعِ، وَذَلِكَ أَنْ تَدَّعِيَ مَبْتُوتَةٌ نَفَقَةَ الْعِدَّةِ وَالزَّوْجُ مِمَّنْ لَا يَرَاهَا، أَوْ ادَّعَى شُفْعَةً بِالْجِوَارِ وَالْمُشْتَرِي لَا يَرَاهَا، لِأَنَّهُ لَوْ حَلَفَ عَلَى الْحَاصِلِ يَصْدُقُ فِي يَمِينِهِ فِي مُعْتَقَدِهِ فَيَفُوتُ النَّظَرُ فِي حَقِّ الْمُدَّعِي، وَإِنْ كَانَ سَبَبًا لَا يَرْتَفِعُ بِرَافِعٍ فَالتَّحْلِيفُ عَلَى السَّبَبِ بِالْإِجْمَاعِ (كَالْعَبْدِ الْمُسْلِمِ إذَا ادَّعَى الْعِتْقَ عَلَى مَوْلَاهُ،

مِنْ الْوُجُوهِ (عَلَى السَّبَبِ إلَّا إذَا عَرَّضَ بِمَا ذَكَرْنَا) أَيْ إلَّا إذَا عَرَّضَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ ارْتِفَاعِ السَّبَبِ.

وَصِفَةُ التَّعْرِيضِ أَنْ يَقُولَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِلْقَاضِي إذَا عَرَضَ الْقَاضِي الْيَمِينَ عَلَيْهِ بِاَللَّهِ مَا بِعْت أَيَّهَا الْقَاضِي أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَبِيعُ شَيْئًا ثُمَّ يُقِيلُ فِيهِ، وَعَلَى هَذَا بَاقِي أَخَوَاتِ الْبَيْعِ فَتَدَبَّرْ (فَحِينَئِذٍ يَحْلِفُ عَلَى الْحَاصِلِ) أَيْ فَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ الْقَاضِيَ الِاسْتِحْلَافُ عَلَى حُكْمِ الشَّيْءِ فِي الْحَالِ، وَصَارَ الْعُدُولُ عَنْ الْيَمِينِ عَلَى مُقْتَضَى الدَّعْوَى حَقًّا لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ حِينَ طَالَبَ بِهِ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ نَقْلًا عَنْ شَرْحِ الْأَقْطَعِ (وَقِيلَ يَنْظُرُ إلَى إنْكَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ) أَيْ رُوِيَ عَنْهُ إنَّهُ يَنْظُرُ إلَى إنْكَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ (إنْ أَنْكَرَ السَّبَبَ يَحْلِفُ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَنْكَرَ الْحُكْمَ يَحْلِفُ عَلَى الْحَاصِلِ) وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ: قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ: هَذَا أَحْسَنُ الْأَقَاوِيلِ عِنْدِي وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْقُضَاةِ.

وَفِي الْكَافِي: قَالَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ: يُفَوَّضُ إلَى رَأْيِ الْقَاضِي (فَالْحَاصِلُ هُوَ الْأَصْلُ عِنْدَهُمَا) أَيْ التَّحْلِيفُ عَلَى الْحَاصِلِ هُوَ الْأَصْلُ عِنْدَهُمَا (إذَا كَانَ سَبَبًا) أَيْ إذَا كَانَ سَبَبُ ذَلِكَ سَبَبًا (يَرْتَفِعُ بِرَافِعٍ إلَّا إذَا كَانَ فِيهِ) أَيْ فِي التَّحْلِيفِ عَلَى الْحَاصِلِ (تَرْكُ النَّظَرِ فِي جَانِبِ الْمُدَّعِي فَحِينَئِذٍ يَحْلِفُ عَلَى السَّبَبِ بِالْإِجْمَاعِ، وَذَلِكَ) أَيْ مَا كَانَ فِي التَّحْلِيفِ عَلَى السَّبَبِ فِيهِ تَرْكُ النَّظَرِ فِي جَانِبِ الْمُدَّعِي (مِثْلُ أَنْ تَدَّعِيَ مَبْتُوتَةٌ نَفَقَةَ الْعِدَّةِ وَالزَّوْجُ مِمَّنْ لَا يَرَاهَا) أَيْ لَا يَرَى نَفَقَةَ الْعِدَّةِ لِلْمَبْتُوتَةِ (أَوْ ادَّعَى شُفْعَةً بِالْجِوَارِ وَالْمُشْتَرِي لَا يَرَاهَا) بِأَنْ كَانَ شَافِعِيًّا (لِأَنَّهُ لَوْ حَلَفَ عَلَى الْحَاصِلِ يَصْدُقُ فِي يَمِينِهِ فِي مُعْتَقِدِهِ فَيَفُوتُ النَّظَرُ فِي حَقِّ الْمُدَّعِي) فَإِنْ قِيلَ: فِي التَّحْلِيفِ عَلَى السَّبَبِ ضَرَرٌ بِالْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَيْضًا لِجَوَازِ أَنَّهُ اشْتَرَى وَلَا شُفْعَةَ لَهُ بِأَنْ سَلَّمَ أَوْ سَكَتَ عَنْ الطَّلَبِ. قُلْنَا: الْقَاضِي لَا يَجِدُ بُدًّا مِنْ إلْحَاقِ الضَّرَرِ بِأَحَدِهِمَا، فَكَانَ مُرَاعَاةُ جَانِبِ الْمُدَّعِي أَوْلَى لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلْحَقِّ وَهُوَ الشِّرَاءُ إذَا ثَبَتَ يَثْبُتُ الْحَقُّ لَهُ، وَسُقُوطُهُ إنَّمَا يَكُونُ بِأَسْبَابٍ عَارِضَةٍ فَيَجِبُ التَّمَسُّكُ بِالْأَصْلِ حَتَّى يَقُومَ الدَّلِيلُ عَلَى الْعَارِضِ، كَذَا ذَكَرَهُ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ فِي أَدَبِ الْقَاضِي، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ (وَإِنْ كَانَ سَبَبًا) أَيْ إنْ كَانَ سَبَبُ ذَلِكَ سَبَبًا (لَا يَرْتَفِعُ بِرَافِعٍ فَالتَّحْلِيفُ عَلَى السَّبَبِ بِالْإِجْمَاعِ كَالْعَبْدِ الْمُسْلِمِ إذَا ادَّعَى الْعِتْقَ عَلَى مَوْلَاهُ) وَجَحَدَ الْمَوْلَى فَإِنَّهُ يَحْلِفُ عَلَى السَّبَبِ بِاَللَّهِ مَا أَعْتَقَهُ لِأَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ إلَى التَّحْلِيفِ

ص: 200

بِخِلَافِ الْأَمَةِ وَالْعَبْدِ الْكَافِرِ) لِأَنَّهُ يُكَرِّرُ الرِّقَّ عَلَيْهَا بِالرِّدَّةِ وَاللِّحَاقِ وَعَلَيْهِ بِنَقْضِ الْعَهْدِ وَاللِّحَاقِ، وَلَا يُكَرِّرُ عَلَى الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ. .

قَالَ: (وَمَنْ وَرِثَ عَبْدًا وَادَّعَاهُ آخَرُ يَسْتَحْلِفُ عَلَى عِلْمِهِ) لِأَنَّهُ لَا عِلْمَ لَهُ بِمَا صَنَعَ الْمُوَرِّثُ فَلَا يَحْلِفُ عَلَى الْبَتَاتِ (وَإِنْ وَهَبَ لَهُ أَوْ اشْتَرَاهُ يَحْلِفُ عَلَى الْبَتَاتِ) لِوُجُودِ الْمُطْلَقِ لِلْيَمِينِ إذْ الشِّرَاءُ سَبَبٌ لِثُبُوتِ الْمِلْكِ وَضْعًا وَكَذَا الْهِبَةُ.

عَلَى الْحَاصِلِ، إذْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ رَقِيقًا بَعْدَ الْإِعْتَاقِ، كَيْفَ وَلَوْ تَصَوَّرَ عَوْدَ الرِّقِّ فَإِنَّمَا يُتَصَوَّرُ عَلَى تَقْدِيرِ وُقُوعِ الِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهِ بَعْدَ الِارْتِدَادِ.

وَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ لِأَنَّهُ يُقْتَلُ بِالِارْتِدَادِ (بِخِلَافِ الْأَمَةِ وَالْعَبْدِ الْكَافِرِ) حَيْثُ يَحْلِفُ فِيهِمَا عَلَى الْحَاصِلِ: أَيْ مَا هِيَ حُرَّةٌ أَوْ مَا هُوَ حُرٌّ فِي الْحَالِ كَذَا فِي الْكَافِي (لِأَنَّهُ يُكَرِّرُ الرِّقَّ عَلَيْهَا) أَيْ عَلَى الْأَمَةِ (بِالرِّدَّةِ وَاللِّحَاقِ) بِدَارِ الْحَرْبِ وَالسَّبْيِ (وَعَلَيْهِ) أَيْ وَيُكَرِّرُ الرِّقَّ عَلَى الْعَبْدِ الْكَافِرِ (بِنَقْضِ الْعَهْدِ وَاللِّحَاقِ) بِدَارِ الْحَرْبِ وَالسَّبْيِ أَيْضًا (وَلَا يُكَرِّرُ عَلَى الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ) لِمَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا.

(قَالَ) أَيْ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فِي كِتَابِ الْقَضَاءِ: (وَمَنْ وَرِثَ عَبْدًا وَادَّعَاهُ آخَرُ) وَلَا بَيِّنَةَ لَهُ (اُسْتُحْلِفَ) أَيْ الْوَارِثُ (عَلَى عِلْمِهِ) أَيْ بِاَللَّهِ مَا يَعْلَمُ أَنَّ هَذَا عَبْدُ الْمُدَّعِي (لِأَنَّهُ لَا عِلْمَ لَهُ) أَيْ لِلْوَارِثِ (بِمَا صَنَعَ الْمُوَرِّثُ فَلَا يَحْلِفُ عَلَى الْبَتَاتِ) إذْ لَوْ حَلَّفْنَا عَلَيْهِ لَامْتَنَعَ عَنْ الْيَمِينِ مَعَ كَوْنِهِ صَادِقًا فِيهَا فَيَتَضَرَّرُ بِهِ، كَذَا فِي الْكَافِي (وَإِنْ وُهِبَ لَهُ أَوْ اشْتَرَاهُ يَحْلِفُ عَلَى الْبَتَاتِ) يَعْنِي إنْ وَهَبَ لَهُ عَبْدًا أَوْ اشْتَرَاهُ وَادَّعَاهُ آخَرُ وَلَا بَيِّنَةَ لَهُ يَحْلِفُ عَلَى الْبَتَاتِ (لِوُجُودِ الْمُطْلَقِ) أَيْ الْمُجَوِّزِ (لِلْيَمِينِ) أَيْ لِلْيَمِينِ عَلَى الْبَتَاتِ (إذْ الشِّرَاءُ سَبَبٌ لِثُبُوتِ الْمِلْكِ وَضْعًا وَكَذَا الْهِبَةُ) فَإِنْ قِيلَ: بِهَذَا التَّعْلِيلِ لَا يَقَعُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْإِرْثِ وَغَيْرِهِ فَإِنَّ الْإِرْثَ أَيْضًا سَبَبٌ مَوْضُوعٌ لِلْمِلْكِ شَرْعًا كَالْهِبَةِ فَكَيْفَ يُسْتَحْلَفُ فِيهِ عَلَى الْعِلْمِ؟ قُلْنَا: إنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ الشِّرَاءُ سَبَبٌ لِثُبُوتِ الْمِلْكِ وَضْعًا أَنَّ ذَلِكَ سَبَبٌ يُثْبِتُ الْمِلْكَ بِاخْتِيَارِهِ الْمُشْتَرِيَ وَمُبَاشَرَتِهِ، وَلَوْ لَمْ يَعْلَمْ الْمُشْتَرِي أَنَّ الْعَيْنَ الَّذِي

ص: 201

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

اشْتَرَاهُ مِلْكُ الْبَائِعِ لَمَا بَاشَرَ الشِّرَاءَ اخْتِيَارًا وَكَذَا الْمَوْهُوبُ لَهُ فِي قَبُولِ الْهِبَةِ، بِخِلَافِ الْإِرْثِ فَإِنَّهُ يُثْبِتُ الْمِلْكَ لِلْوَارِثِ جَبْرًا مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارِهِ وَلَا عِلْمَ لَهُ بِحَالِ مِلْكِ الْمُوَرِّثِ فَلِذَلِكَ يَحْلِفُ الْوَارِثُ بِالْعِلْمِ وَالْمُشْتَرِي وَالْمَوْهُوبُ لَهُ بِالْبَتَاتِ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ.

ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ هَذَا نَوْعٌ آخَرُ أَيْضًا مِنْ كَيْفِيَّةِ الْيَمِينِ، وَهُوَ الْيَمِينُ عَلَى الْعِلْمِ أَوْ الْبَتَاتِ، وَالضَّابِطُ فِي ذَلِكَ أَنَّ التَّحْلِيفَ إنْ كَانَ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ يَكُونُ عَلَى الْبَتَاتِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى فِعْلِ غَيْرِهِ يَكُونُ عَلَى الْعِلْمِ. فَإِنْ قِيلَ: أَنَّى يَسْتَقِيمُ هَذَا. لَوْ ادَّعَى عَلَيْهِ رَجُلٌ إبَاقَ عَبْدٍ قَدْ بَاعَهُ وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ يُنْكِرُ الْإِبَاقَ فَإِنَّهُ يَحْلِفُ عَلَى الْبَتَاتِ مَعَ أَنَّ الْإِبَاقَ فِعْلُ غَيْرِهِ؟ قُلْنَا: لِلْمُدَّعِي يَدَّعِي عَلَيْهِ تَسْلِيمَ غَيْرِ السَّلِيمِ عَنْ الْعَيْبِ وَهُوَ يُنْكِرُهُ، وَأَنَّهُ فِعْلُ نَفْسِهِ، كَذَا فِي الْكَافِي.

قَالَ الْإِمَامُ الْأُسْرُوشَنِيُّ فِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ مِنْ فُصُولِهِ: وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ التَّحْلِيفِ فَنَقُولُ: إنْ وَقَعَتْ الدَّعْوَى عَلَى فِعْلِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ بِأَنْ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ أَنَّك سَرَقْت هَذَا الْعَيْنَ مِنِّي أَوْ غَصَبْت هَذَا الْعَيْنَ مِنِّي يُسْتَحْلَفُ عَلَى الْبَتَاتِ، وَإِنْ وَقَعَتْ الدَّعْوَى عَلَى فِعْلِ الْغَيْرِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ يَحْلِفُ عَلَى الْعِلْمِ، حَتَّى لَوْ ادَّعَى دَيْنًا عَلَى مَيِّتٍ بِحَضْرَةِ وَارِثِهِ بِسَبَبِ الِاسْتِهْلَاكِ أَوْ ادَّعَى أَنَّ أَبَاك سَرَقَ هَذَا الْعَيْنَ مِنِّي أَوْ غَصَبَ هَذَا الْعَيْنَ مِنِّي يَحْلِفُ عَلَى الْعِلْمِ، وَهَذَا مَذْهَبُنَا. قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيُّ: هَذَا الْأَصْلُ مُسْتَقِيمٌ فِي الْمَسَائِلِ كُلِّهَا أَنَّ التَّحْلِيفَ عَلَى فِعْلِ الْغَيْرِ يَكُونُ عَلَى الْعِلْمِ إلَّا فِي الرَّدِّ بِالْعَيْبِ يُرِيدُ بِهِ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ إذَا ادَّعَى أَنَّ الْعَبْدَ سَارِقٌ أَوْ آبِقٌ وَأَثْبَتَ إبَاقَهُ أَوْ سَرِقَتَهُ فِي يَدِ نَفْسِهِ وَادَّعَى أَنَّهُ أَبَقَ أَوْ سَرَقَ فِي يَدِ الْبَائِعِ وَأَرَادَ تَحْلِيفَ الْبَائِعِ يَحْلِفُ عَلَى الْبَتَاتِ بِاَللَّهِ مَا أَبَقَ بِاَللَّهِ مَا سَرَقَ فِي يَدِك، وَهَذَا تَحْلِيفٌ عَلَى فِعْلِ الْغَيْرِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْبَائِعَ ضَمِنَ تَسْلِيمَ الْمَبِيعِ سَلِيمًا عَنْ الْعُيُوبِ وَالتَّحْلِيفُ يَرْجِعُ إلَى مَا ضَمِنَ بِنَفْسِهِ فَيَكُونُ عَلَى الْبَتَاتِ.

وَكَانَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ الْبَزْدَوِيُّ يَزِيدُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ حَرْفًا، وَهُوَ أَنَّ التَّحْلِيفَ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ عَلَى الْبَتَاتِ وَعَلَى فِعْلِ الْغَيْرِ عَلَى الْعِلْمِ، إلَّا إذَا كَانَ شَيْئًا يَتَّصِلُ بِهِ فَحِينَئِذٍ يَحْلِفُ عَلَى الْبَتَاتِ، خَرَجَ عَلَى هَذَا فَصْلُ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَتَّصِلُ بِهِ، لِأَنَّ تَسْلِيمَ الْعَبْدِ سَلِيمًا وَاجِبٌ عَلَى الْبَائِعِ، فَإِنْ وَقَعَتْ الدَّعْوَى عَلَى فِعْلِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مِنْ وَجْهٍ وَعَلَى فِعْلِ غَيْرِهِ مِنْ وَجْهٍ بِأَنْ قَالَ: اشْتَرَيْت مِنِّي اسْتَأْجَرْت مِنِّي اسْتَقْرَضْت مِنِّي، فَإِنَّ هَذِهِ الْأَفْعَالَ فِعْلُهُ وَفِعْلُ غَيْرِهِ فَإِنَّهَا تَقُومُ بِاثْنَيْنِ، فَفِي هَذِهِ الصُّوَرِ يَحْلِفُ عَلَى الْبَتَاتِ.

وَقَدْ قِيلَ: إنَّ التَّحْلِيفَ عَلَى فِعْلِ الْغَيْرِ إنَّمَا يَكُونُ عَلَى الْعِلْمِ إذَا قَالَ الَّذِي اُسْتُحْلِفَ: لَا عِلْمَ لِي بِذَلِكَ، فَأَمَّا إذَا قَالَ: لِي عِلْمٌ بِذَلِكَ يَحْلِفُ عَلَى الْبَتَاتِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُودَعَ إذَا قَالَ: قَبَضَ صَاحِبُ الْوَدِيعَةِ الْوَدِيعَةَ مِنِّي فَإِنَّهُ يُحَلِّفُ الْمُودِعَ عَلَى الْبَتَاتِ، وَكَذَا الْوَكِيلُ بِالْبَيْعِ إذَا بَاعَ وَسَلَّمَ إلَى الْمُشْتَرِي ثُمَّ أَقَرَّ الْبَائِعُ أَنَّ الْمُوَكِّلَ قَبَضَ الثَّمَنَ وَجَحَدَ الْمُوَكِّلُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَكِيلِ مَعَ يَمِينِهِ، فَإِذَا حَلَفَ بَرِئَ الْمُشْتَرِي وَيَحْلِفُ الْوَكِيلُ عَلَى الْبَتَاتِ بِاَللَّهِ لَقَدْ قَبَضَ الْمُوَكِّلُ، وَهَذَا تَحْلِيفٌ عَلَى فِعْلِ الْغَيْرِ، وَلَكِنَّ الْوَكِيلَ يَدَّعِي أَنَّهُ لَهُ عِلْمًا بِذَلِكَ فَإِنَّهُ قَالَ: قَبَضَ الْمُوَكِّلُ فَكَانَ لَهُ عِلْمٌ بِذَلِكَ فَيَحْلِفُ عَلَى الْبَتَاتِ، إلَى هُنَا لَفْظُ الْفُصُولِ. كَذَا فِي غَايَةِ الْبَيَانِ، ذَكَرَ الْإِمَامُ اللَّامِشْتِيُّ أَنَّ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ وَجَبَتْ الْيَمِينُ عَلَى الْبَتَاتِ فَحَلَفَ عَلَى الْعِلْمِ لَا يَكُونُ مُعْتَبَرًا، وَإِذَا نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ عَلَى الْعِلْمِ لَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ النُّكُولُ، وَلَوْ وَجَبَتْ عَلَى الْعِلْمِ وَحَلَفَ عَلَى الْبَتَاتِ سَقَطَ عَنْهُ الْحَلِفُ عَلَى الْعِلْمِ، وَلَوْ نَكَلَ يَقْضِي عَلَيْهِ لِأَنَّ الْحَلِفَ عَلَى الْبَتَاتِ أَقْوَى، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ نَقْلًا عَنْ الْفُصُولِ.

وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: قَالَ الزَّيْلَعِيُّ أَخْذًا مِنْ النِّهَايَةِ: ثُمَّ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ وَجَبَ الْيَمِينُ فِيهِ عَلَى الْبَتَاتِ فَحَلَفَ عَلَى الْعِلْمِ لَا يَكُونُ مُعْتَبَرًا حَتَّى لَا يَقْضِيَ عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ وَلَا يَسْقُطُ الْيَمِينُ عَنْهُ، وَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ وَجَبَ فِيهِ الْيَمِينُ عَلَى الْعِلْمِ فَحَلَفَ عَلَى الْبَتَاتِ يُعْتَبَرُ الْيَمِينُ حَتَّى يَسْقُطَ عَنْهُ الْيَمِينُ عَلَى الْعِلْمِ، وَيَقْضِيَ عَلَيْهِ إذَا نَكَلَ لِأَنَّ الْحَلِفَ عَلَى الْبَتَاتِ آكَدُ فَيُعْتَبَرُ مُطْلَقًا، بِخِلَافِ الْعَكْسِ انْتَهَى. وَفِيهِ بَحْثٌ؛ أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ قَوْلَهُ لَا يَقْضِي عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ وَلَا يَسْقُطُ الْيَمِينُ عَنْهُ لَيْسَ كَمَا يَنْبَغِي، بَلْ اللَّائِقُ أَنْ يَقْضِيَ بِالنُّكُولِ، فَإِنَّهُ إذَا نَكَلَ عَنْ الْحَلِفِ عَلَى الْعِلْمِ فَفِي الْحَلِفِ عَلَى الْبَتَاتِ أَوْلَى. وَالْجَوَابُ الْمَنْعُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ نُكُولُهُ لِعِلْمِهِ بِعَدَمِ فَائِدَةِ الْيَمِينِ عَلَى الْعِلْمِ فَلَا يَحْلِفُ حَذَرًا عَنْ التَّكْرَارِ. وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ قَوْلَهُ وَيَقْضِي عَلَيْهِ إذَا نَكَلَ مَحَلُّ تَأَمُّلٍ، فَإِنَّهَا إذْ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ كَيْفَ يَقْضِي عَلَيْهِ إذَا نَكَلَ، إلَى هُنَا كَلَامُ ذَلِكَ الْقَائِلِ. وَأَقُولُ: بَحْثُهُ الثَّانِي مُتَوَجِّهٌ فِي الظَّاهِرِ، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ بِمُسْتَقِلٍّ بِإِيرَادِهِ، بَلْ قَدْ سَبَقَهُ إلَيْهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ حَيْثُ

ص: 202

قَالَ (وَمَنْ ادَّعَى عَلَى آخَرَ مَالًا فَافْتَدَى يَمِينَهُ أَوْ صَالَحَهُ مِنْهَا عَلَى عَشْرَةٍ فَهُوَ جَائِزٌ) وَهُوَ مَأْثُورٌ عَنْ عُثْمَانَ رضي الله عنه.

ذَكَرَ مَا فِي النِّهَايَةِ وَقَالَ: وَفِيهِ كَلَامٌ، وَهُوَ أَنَّ الظَّاهِرَ عَدَمُ الْحُكْمِ بِالنُّكُولِ لِعَدَمِ وُجُوبِ الْيَمِينِ عَلَى الْبَتَاتِ كَمَا لَا يَخْفَى انْتَهَى. وَقَدْ سَبَقَهُمَا إلَيْهِ الْإِمَامُ عِمَادُ الدِّينِ حَيْثُ قَالَ فِي فُصُولِهِ: وَرَأَيْت فِيمَا كَتَبْتُهُ مِنْ نُسْخَةِ الْمُحِيطِ فِي فَصْلِ الْمُتَفَرِّقَاتِ مِنْ أَدَبِ الْقَاضِي مِنْهُ: فِي كُلِّ مَوْضِعٍ وَجَبَ الْيَمِينُ عَلَى الْبَتَاتِ فَحَلَّفَهُ الْقَاضِي عَلَى الْعِلْمِ لَا يَكُونُ مُعْتَبَرًا، وَإِذَا نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ عَلَى الْعِلْمِ لَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ النُّكُولُ، وَلَوْ وَجَبَ عَلَى الْعِلْمِ فَحَلَّفَهُ عَلَى الْبَتَاتِ سَقَطَ عَنْهُ الْحَلِفُ لِأَنَّ الْبَتَاتَ أَقْوَى، وَلَوْ نَكَلَ عَنْهُ يَقْضِي عَلَيْهِ.

قُلْت: وَهَذَا الْفَرْعُ مُشْكِلٌ انْتَهَى. وَلَا يَخْفَى أَنَّ مُرَادَهُ بِهَذَا الْفَرْعِ هُوَ قَوْلُهُ وَلَوْ نَكَلَ عَنْهُ يَقْضِي عَلَيْهِ وَإِنَّ وَجْهَ إشْكَالِهِ تَوَجُّهُ مَا ذَكَرَاهُ. وَأَمَّا بَحْثُهُ الْأَوَّلُ وَجَوَابُهُ فَمَنْظُورٌ فِيهِمَا: أَمَّا الْبَحْثُ فَلِأَنَّ اللَّازِمَ مِنْ النُّكُولِ عَنْ الْحَلِفِ عَنْ الْعِلْمِ أَنْ يَفْهَمَ نُكُولَهُ عَنْ الْحَلِفِ عَلَى الْبَتَاتِ لَوْ حَلَفَ عَلَيْهِ لَا أَنْ يَتَحَقَّقَ النُّكُولُ عَنْ الْحَلِفِ عَلَى الْبَتَاتِ بِالْفِعْلِ، وَاَلَّذِي مِنْ أَسْبَابِ الْقَضَاءِ هُوَ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ كَمَا لَا يَخْفَى. وَأَمَّا الْجَوَابُ فَلِأَنَّهُ لَوْ عَلِمَ بِيَقِينٍ كَوْنَ نُكُولِهِ لِعِلْمِهِ بِعَدَمِ فَائِدَةِ الْيَمِينِ عَلَى الْعِلْمِ فَالْحُكْمُ أَيْضًا مَا ذُكِرَ، وَلَا يَجْرِي الْجَوَازُ الْمَذْكُورُ هُنَاكَ، عَلَى أَنَّهُ لَا وَجْهَ لِقَوْلِهِ فَلَا يَحْلِفُ حَذَرًا عَنْ التَّكْرَارِ، إذْ الْمَحْذُورُ تَكْرَارُ التَّحْلِيفِ لَا تَكْرَارُ الْحَلِفِ كَمَا لَا يَخْفَى.

(قَالَ) أَيْ مُحَمَّدٌ رحمه الله فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فِي كِتَابِ الْقَضَاءِ (وَمَنْ ادَّعَى عَلَى آخَرَ مَالًا فَافْتَدَى يَمِينَهُ) أَيْ افْتَدَى الْآخَرُ عَنْ يَمِينِهِ (أَوْ صَالَحَهُ مِنْهَا) أَيْ صَالَحَ الْآخَرُ الْمُدَّعِيَ مِنْ الْيَمِينِ (عَلَى عَشَرَةِ دَرَاهِمَ مَثَلًا فَهُوَ) أَيْ الِافْتِدَاءُ أَوْ الصُّلْحُ (جَائِزٌ) فَالِافْتِدَاءُ قَدْ يَكُونُ بِمَالٍ هُوَ مِثْلُ الْمُدَّعِي، وَقَدْ يَكُونُ بِمَالٍ هُوَ أَقَلُّ مِنْ الْمُدَّعِي. وَأَمَّا الصُّلْحُ مِنْ الْيَمِينِ فَإِنَّمَا يَكُونُ عَلَى مَالٍ أَقَلَّ مِنْ الْمُدَّعِي فِي الْغَالِبِ لِأَنَّ الصُّلْحَ يُنْبِئُ عَنْ الْحَطِيطَةِ، وَكِلَاهُمَا مَشْرُوعٌ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ (وَهُوَ) أَيْ الِافْتِدَاءُ عَنْ الْيَمِينِ (مَأْثُورٌ عَنْ عُثْمَانَ رضي الله عنه) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَلَفْظُ الْكِتَابِ يُشِيرُ إلَى أَنَّهُ كَانَ مُدَّعًى عَلَيْهِ.

ذَكَرَ فِي الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ أَنَّهُ ادَّعَى عَلَيْهِ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا فَأَعْطَى شَيْئًا وَافْتَدَى يَمِينَهُ وَلَمْ يَحْلِفْ، فَقِيلَ أَلَا تَحْلِفُ وَأَنْتَ صَادِقٌ؟ فَقَالَ: أَخَافُ أَنْ يُوَافِقَ قَدْرَ يَمِينِي فَيُقَالُ هَذَا بِسَبَبِ يَمِينِهِ الْكَاذِبَةِ، وَذَكَرَ أَنَّ الْمِقْدَادَ بْنَ الْأَسْوَدِ اسْتَقْرَضَ مِنْ عُثْمَانَ رضي الله عنه سَبْعَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ ثُمَّ قَضَاهُ أَرْبَعَةَ آلَافٍ، فَتَرَافَعَا إلَى عُمَرَ رضي الله عنه فِي خِلَافَتِهِ، فَقَالَ الْمِقْدَادُ: لِيَحْلِفْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ الْأَمْرَ كَمَا يَقُولُ وَلْيَأْخُذْ سَبْعَةَ آلَافٍ، فَقَالَ عُمَرُ لِعُثْمَانَ: أَنْصَفَك الْمِقْدَادُ احْلِفْ إنَّهَا كَمَا تَقُولُ وَخُذْهَا، فَلَمْ يَحْلِفْ عُثْمَانُ رضي الله عنه، فَلَمَّا خَرَجَ الْمِقْدَادُ قَالَ عُثْمَانُ لِعُمَرَ رضي الله عنهما: إنَّهَا كَانَتْ سَبْعَةَ آلَافٍ، قَالَ: فَمَا مَنَعَك أَنْ تَحْلِفَ

ص: 203

(وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَحْلِفَهُ عَلَى تِلْكَ الْيَمِينِ أَبَدًا) لِأَنَّهُ أَسْقَطَ حَقَّهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. .

وَقَدْ جَعَلَ ذَلِكَ إلَيْك؟ فَقَالَ عُثْمَانُ رضي الله عنه عِنْدَ ذَلِكَ مَا قَالَهُ. فَيَكُونُ دَلِيلًا لِلشَّافِعِيِّ عَلَى جَوَازِ رَدِّ الْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعِي. وَالْجَوَابُ أَنَّهُ كَانَ يَدَّعِي الْإِيفَاءَ عَلَى عُثْمَانَ رضي الله عنه وَبِهِ نَقُولُ انْتَهَى.

وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: فِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّ الْمِقْدَادَ رضي الله عنه إذَا قَضَاهُ أَرْبَعَةَ آلَافٍ كَيْفَ قَالَ عُثْمَانُ رضي الله عنه إنَّهَا كَانَتْ سَبْعَةَ آلَافٍ، ثُمَّ إنَّ قِصَّةَ الْمِقْدَادِ لَيْسَتْ مِمَّا نَحْنُ بِصَدَدِهِ، إذْ لَيْسَ فِيهَا إلَّا النُّكُولُ لَا الِافْتِدَاءُ وَالصُّلْحُ انْتَهَى. وَأَقُولُ: نَظَرُهُ سَاقِطٌ بِشِقَّيْهِ، أَمَّا شِقُّهُ الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِ عُثْمَانَ رضي الله عنه إنَّهَا كَانَتْ سَبْعَةَ آلَافٍ، أَنَّهَا كَانَتْ فِي الْأَصْلِ سَبْعَةَ آلَافٍ كَمَا يُرْشِدُ إلَيْهِ لَفْظُ كَانَتْ، لَا أَنَّ الْبَاقِيَ فِي ذِمَّتِهِ الْآنَ سَبْعَةُ آلَافٍ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ قَضَاءَ أَرْبَعَةِ آلَافٍ إنَّمَا يُنَافِي الْأَوَّلَ دُونَ الثَّانِي. فَإِنْ قُلْت: يُشْكِلُ حِينَئِذٍ قَوْلُهُ.

وَالْجَوَابُ أَنَّهُ كَانَ يَدَّعِي الْإِيفَاءَ عَلَى عُثْمَانَ رضي الله عنه إذْ النِّزَاعُ حِينَئِذٍ يَكُونُ فِي الْإِيفَاءِ وَالْقَبْضِ دُونَ مِقْدَارِ أَصْلِ الْقَرْضِ كَمَا ذَكَرْتُهُ. قُلْت: الْمُرَادُ بِهِ أَنَّهُ كَانَ يَدَّعِي إيفَاءَ تَمَامِ الدَّيْنِ وَهُوَ أَرْبَعَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ عَلَى عُثْمَانَ رضي الله عنه وَهُوَ يُنْكِرُ ذَلِكَ وَيَقُولُ: بَلْ أَوْفَيْت الْبَعْضَ مِنْهُ وَهُوَ أَرْبَعَةُ آلَافٍ وَبَقِيَ الْبَعْضُ مِنْهُ فِي ذِمَّتِك وَهُوَ ثَلَاثَةُ آلَافٍ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ النِّزَاعُ فِي الْإِيفَاءِ فَرْعَ النِّزَاعِ فِي أَصْلِ مِقْدَارِ الْقَرْضِ، فَتَسْلَمُ الْقِصَّةُ عَنْ تَعَارُضِ طَرَفَيْهَا كَمَا تَوَهَّمَهُ النَّاظِرُ، وَيَخْرُجُ الْجَوَابُ عَمَّا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ. وَأَمَّا شِقُّهُ الثَّانِي فَلِأَنَّهُ لَمْ يَدَّعِ أَحَدٌ أَنَّ الْقِصَّةَ مِمَّا نَحْنُ بِصَدَدِهِ، بَلْ صَرَّحُوا بِأَنَّ عُثْمَانَ رضي الله عنه كَانَ مُدَّعِيًا فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ فَصَلَحَ أَنْ يَتَّخِذَهُ الشَّافِعِيُّ دَلِيلًا عَلَى مَذْهَبِهِ وَهُوَ جَوَازُ رَدِّ الْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعِي، وَإِنْ أَمْكَنَ الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ قِبَلِنَا، وَإِنَّمَا كَانَ مُدَّعًى عَلَيْهِ وَمُفْتَدِيًا عَنْ يَمِينِهِ بِمَالٍ فِي رِوَايَةٍ مَذْكُورَةٍ فِي الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ، وَالْمَقْصُودُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ وَهُوَ مَأْثُورٌ عَنْ عُثْمَانَ رضي الله عنه إنَّمَا يَتِمُّ عَلَى رِوَايَةِ بَعْضِ الْكُتُبِ دُونَ رِوَايَةِ بَعْضِهَا، وَقَدْ أَشَارَ إلَيْهِ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ حَيْثُ قَالَ أَوَّلًا: وَلَفْظُ الْكِتَابِ يُشِيرُ إلَى أَنَّهُ كَانَ مُدَّعًى عَلَيْهِ فَذَكَرَ مَا ذَكَرَ فِي الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ، ثُمَّ نَقَلَ هَذِهِ الْقِصَّةَ فَقَالَ: فَيَكُونُ دَلِيلًا لِلشَّافِعِيِّ عَلَى جَوَازِ رَدِّ الْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعِي.

وَاعْلَمْ أَنَّ صَاحِبَ النِّهَايَةِ: قَدْ أَوْضَحَ الْمَرَامَ بِتَفْصِيلِ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْمَقَامِ فَقَالَ: قَدْ اخْتَلَفَتْ رِوَايَاتُ الْكِتَابِ فِي أَنَّ عُثْمَانَ رضي الله عنه كَانَ مُدَّعًى عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ أَوْ مُدَّعِيًا، فَفِي الْفَتَاوَى الظَّهِيرِيَّةِ أَنَّهُ ادَّعَى عَلَيْهِ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا فَأَعْطَى شَيْئًا وَافْتَدَى يَمِينَهُ وَلَمْ يَحْلِفْ، فَقِيلَ: أَلَا تَحْلِفُ وَأَنْتَ صَادِقٌ؟ فَقَالَ: أَخَافُ أَنْ يُوَافِقَ قَدْرَ يَمِينِي فَيُقَالُ هَذَا بِسَبَبِ يَمِينِهِ الْكَاذِبَةِ. وَذَكَرَ فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ مِنْ دَعْوَى الْمَبْسُوطِ فِي احْتِجَاجِ الشَّافِعِيِّ فِي مَسْأَلَةِ رَدِّ الْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعِي أَنَّ عُثْمَانَ رضي الله عنه كَانَ مُدَّعِيًا فَقَالَ: وَحُجَّتُهُ فِي رَدِّ الْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعِي مَا رُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ ادَّعَى مَالًا عَلَى الْمِقْدَادِ بَيْنَ يَدَيْ عُمَرَ رضي الله عنهم، إلَى أَنْ قَالَ: لِيَحْلِفْ لِي عُثْمَانُ. وَذَكَرَ الْإِمَامُ الْمَحْبُوبِيُّ تَمَامَ الْقِصَّةِ فَقَالَ: رُوِيَ أَنَّ الْمِقْدَادَ بْنَ الْأَسْوَدِ اسْتَقْرَضَ مِنْ عُثْمَانَ رضي الله عنهما سَبْعَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ ثُمَّ قَضَاهُ أَرْبَعَةَ آلَافٍ. فَتَرَافَعَا إلَى عُمَرَ رضي الله عنه فِي خِلَافَتِهِ، فَقَالَ الْمِقْدَادُ: لِيَحْلِفْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ الْأَمْرَ كَمَا يَقُولُ وَلْيَأْخُذْ سَبْعَةَ آلَافٍ، فَقَالَ عُمَرُ لِعُثْمَانَ: أَنْصَفَك الْمِقْدَادُ لِتَحْلِفْ أَنَّهَا كَمَا تَقُولُ وَخُذْهَا، فَلَمْ يَحْلِفْ عُثْمَانُ، فَلَمَّا خَرَجَ الْمِقْدَادُ قَالَ عُثْمَانُ لِعُمَرَ: إنَّهَا كَانَتْ سَبْعَةَ آلَافٍ، قَالَ: فَمَا مَنَعَك أَنْ تَحْلِفَ وَقَدْ جَعَلَ ذَلِكَ إلَيْك؟ فَقَالَ عُثْمَانُ عِنْدَ ذَلِكَ مَا قَالَهُ. ثُمَّ قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ: وَتَأْوِيلُ حَدِيثِ الْمِقْدَادِ أَنَّهُ ادَّعَى الْإِيفَاءَ عَلَى عُثْمَانَ رضي الله عنه وَبِهِ نَقُولُ، إلَى هُنَا كَلَامُ صَاحِبِ النِّهَايَةِ (وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَحْلِفَهُ عَلَى تِلْكَ الْيَمِينِ) أَيْ لَيْسَ لِلْمُدَّعِي أَنْ يَسْتَحْلِفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَلَى تِلْكَ الْيَمِينِ الَّتِي افْتَدَى عَنْهَا أَوْ صَالَحَ عَنْهَا عَلَى مَالٍ (أَبَدًا) أَيْ فِي وَقْتٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ (لِأَنَّهُ أَسْقَطَ حَقَّهُ) أَيْ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ أَسْقَطَ حَقَّهُ فِي يَمِينِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الِافْتِدَاءِ أَوْ الصُّلْحِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ اشْتَرَى يَمِينَهُ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ لَمْ يُجْبَرْ، وَكَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَحْلِفَهُ لِأَنَّ الشِّرَاءَ عَقْدُ تَمْلِيكِ الْمَالِ بِالْمَالِ وَالْيَمِينُ لَيْسَتْ بِمَالٍ كَذَا فِي الشُّرُوحِ وَسَائِرِ الْمُعْتَبَرَاتِ. .

ص: 204

(بَابُ التَّحَالُفِ)

قَالَ: (وَإِذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ فِي الْبَيْعِ فَادَّعَى أَحَدُهُمَا ثَمَنًا وَادَّعَى الْبَائِعُ أَكْثَرَ مِنْهُ أَوْ اعْتَرَفَ الْبَائِعُ بِقَدْرٍ مِنْ الْمَبِيعِ وَادَّعَى الْمُشْتَرِي أَكْثَرَ مِنْهُ فَأَقَامَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ قَضَى لَهُ بِهَا) لِأَنَّ فِي الْجَانِبِ الْآخَرِ مُجَرَّدَ الدَّعْوَى وَالْبَيِّنَةُ أَقْوَى مِنْهَا (وَإِنْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةً كَانَتْ الْبَيِّنَةُ الْمُثْبِتَةُ لِلزِّيَادَةِ أَوْلَى) لِأَنَّ الْبَيِّنَاتِ لِلْإِثْبَاتِ وَلَا تَعَارُضَ فِي الزِّيَادَةِ (وَلَوْ كَانَ الِاخْتِلَافُ فِي الثَّمَنِ وَالْمَبِيعِ جَمِيعًا فَبَيِّنَةُ الْبَائِعِ أَوْلَى فِي الثَّمَنِ وَبَيِّنَةُ الْمُشْتَرِي أَوْلَى فِي الْمَبِيعِ) نَظَرًا إلَى زِيَادَةِ الْإِثْبَاتِ.

بَابُ التَّحَالُفِ)

لَمَّا ذَكَرَ حُكْمَ يَمِينِ الْوَاحِدِ شَرَعَ فِي بَيَانِ حُكْمِ يَمِينِ الِاثْنَيْنِ لِأَنَّ الِاثْنَيْنِ بَعْدَ الْوَاحِدِ طَبْعًا فَرَاعَاهُ فِي الْوَضْعِ لِيُنَاسِبَ الْوَضْعُ الطَّبْعَ (قَالَ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ (وَإِذْ اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ فِي الْبَيْعِ فَادَّعَى أَحَدُهُمَا) أَيْ الْمُشْتَرِي (ثَمَنًا) بِأَنْ قَالَ مَثَلًا: اشْتَرَيْتُهُ بِمِائَةٍ (وَادَّعَى الْبَائِعُ أَكْثَرَ مِنْهُ) بِأَنْ قَالَ: بِعْتُهُ بِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ (أَوْ اعْتَرَفَ الْبَائِعُ بِقَدْرٍ مِنْ الْمَبِيعِ) بِأَنْ قَالَ مَثَلًا: الْمَبِيعُ كُرٌّ مِنْ الْحِنْطَةِ (وَادَّعَى الْمُشْتَرِي أَكْثَرَ مِنْهُ) بِأَنْ قَالَ: هُوَ كُرَّانِ مِنْ الْحِنْطَةِ. وَالْحَاصِلُ إذَا وَقَعَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَهُمَا فِي قَدْرِ الثَّمَنِ كَمَا فِي الصُّورَةِ الْأُولَى أَوْ فِي قَدْرِ الْمَبِيعِ كَمَا فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ (فَأَقَامَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ قُضِيَ لَهُ بِهَا) أَيْ بِالْبَيِّنَةِ (لِأَنَّ فِي الْجَانِبِ الْآخَرِ مُجَرَّدَ الدَّعْوَى وَالْبَيِّنَةُ أَقْوَى مِنْهَا) لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ تُوجِبُ مِنْهُ الْحُكْمَ عَلَى الْقَاضِي وَمُجَرَّدُ الدَّعْوَى لَا يُوجِبُهُ عَلَيْهِ (وَإِنْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةً كَانَتْ الْبَيِّنَةُ الْمُثْبِتَةُ لِلزِّيَادَةِ أَوْلَى لِأَنَّ الْبَيِّنَاتِ لِلْإِثْبَاتِ) أَيْ وُضِعَتْ فِي الشَّرْعِ لِلْإِثْبَاتِ فَكُلُّ مَا كَانَ أَكْثَرَ إثْبَاتًا كَانَ أَوْلَى (وَلَا تَعَارُضَ فِي الزِّيَادَةِ) لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ الْمُثْبِتَةَ لِلْأَقَلِّ لَا تَتَعَرَّضُ لِلزِّيَادَةِ، فَكَانَتْ الْبَيِّنَةُ الْمُثْبِتَةُ لِلزِّيَادَةِ سَالِمَةً عَنْ الْمُعَارِضِ، كَذَا فِي غَايَةِ الْبَيَانِ.

قَالَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ: فَإِنْ قُلْت: الْبَيِّنَةُ الَّتِي تُثْبِتُ الْأَقَلَّ تَنْفِي الزِّيَادَةَ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ أَنَّ كُلَّ الثَّمَنِ هَذَا الْقَدْرُ. قُلْت: الْمُثْبِتَةُ لِلزِّيَادَةِ تُثْبِتُهَا قَصْدًا وَتِلْكَ لَا تَنْفِيهَا قَصْدًا فَكَانَتْ الْأُولَى أَوْلَى لِمَا قَامَتْ بَيْنَهَا مُعَارَضَةٌ انْتَهَى. أَقُولُ: جَوَابُهُ هَذَا وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا فِي نَفْسِهِ إلَّا أَنَّهُ غَيْرُ مُطَابِقٍ لِظَاهِرِ تَقْرِيرِ الْمُصَنِّفِ، فَإِنَّ الْمَفْهُومَ مِنْهُ انْتِفَاءُ التَّعَارُضِ بَيْنَ الْبَيِّنَتَيْنِ فِي الزِّيَادَةِ، وَالْمَفْهُومُ مِنْ هَذَا الْجَوَابِ تَحَقُّقُ التَّعَارُضِ بَيْنَهُمَا فِي الزِّيَادَةِ مَعَ رُجْحَانِ الْبَيِّنَةِ الْمُثْبِتَةِ لِلزِّيَادَةِ عَلَى الْبَيِّنَةِ النَّافِيَةِ لَهَا فَتَأَمَّلْ (وَلَوْ كَانَ الِاخْتِلَافُ فِي الثَّمَنِ وَالْمَبِيعِ جَمِيعًا) بِأَنْ قَالَ الْبَائِعُ مَثَلًا: بِعْتُك هَذِهِ الْجَارِيَةَ بِمِائَةِ دِينَارٍ وَقَالَ الْمُشْتَرِي: بِعْتَنِيهَا وَهَذَا الْعَبْدُ مَعَهَا بِخَمْسِينَ دِينَارًا وَأَقَامَا بَيِّنَةً (فَبَيِّنَةُ الْبَائِعِ أَوْلَى فِي الثَّمَنِ وَبَيِّنَةُ الْمُشْتَرِي أَوْلَى فِي الْمَبِيعِ نَظَرًا إلَى زِيَادَةِ الْإِثْبَاتِ) فَالْجَارِيَةُ وَالْعَبْدُ جَمِيعًا لِلْمُشْتَرِي بِمِائَةِ دِينَارٍ فِي الْمِثَالِ الْمَذْكُورِ.

ص: 205

(وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةٌ قِيلَ لِلْمُشْتَرِي إمَّا أَنْ تَرْضَى بِالثَّمَنِ الَّذِي ادَّعَاهُ الْبَائِعُ وَإِلَّا فَسَخْنَا الْبَيْعَ، وَقِيلَ لِلْبَائِعِ إمَّا أَنْ تُسَلِّمَ مَا ادَّعَاهُ الْمُشْتَرِي مِنْ الْمَبِيعِ وَإِلَّا فَسَخْنَا الْبَيْعَ) لِأَنَّ الْمَقْصُودَ قَطْعُ الْمُنَازَعَةِ، وَهَذِهِ جِهَةٌ فِيهِ لِأَنَّهُ رُبَّمَا لَا يَرْضَيَانِ بِالْفَسْخِ فَإِذَا عَلِمَا بِهِ يَتَرَاضَيَانِ بِهِ (فَإِنْ لَمْ يَتَرَاضَيَا اسْتَحْلَفَ الْحَاكِمُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى دَعْوَى الْآخَرِ)

وَقِيلَ: هَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ آخِرًا، وَكَانَ يَقُولُ أَوَّلًا وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ: يَقْضِي لِلْمُشْتَرِي بِمِائَةِ وَخَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ دِينَارًا، وَنَظِيرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي الْإِجَارَاتِ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ. ثُمَّ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ وَلَوْ كَانَ الِاخْتِلَافُ فِي الثَّمَنِ وَالْمَبِيعِ جَمِيعًا: أَيْ فِي قَدْرِهِمَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي صُورَةِ الْمَسْأَلَةِ. وَأَمَّا إذَا اخْتَلَفَا فِي جِنْسِ الثَّمَنِ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةٌ مِنْ الِاتِّفَاقِ عَلَى قَوْلِهِ؛ كَمَا لَوْ قَالَ الْبَائِعُ: بِعْتُك هَذِهِ الْجَارِيَةَ بِعَبْدِك هَذَا وَقَالَ الْمُشْتَرِي: اشْتَرَيْتُهَا مِنْك بِمِائَةِ دِينَارٍ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ يَلْزَمُ الْبَيْعُ بِالْعَبْدِ وَتُقْبَلُ بَيِّنَةُ الْبَائِعِ دُونَ حَقِّ الْمُشْتَرِي، لِأَنَّ حَقَّ الْمُشْتَرِي فِي الْجَارِيَةِ ثَابِتٌ بِاتِّفَاقِهِمَا، وَإِنَّمَا الِاخْتِلَافُ فِي حَقِّ الْبَائِعِ فَبَيِّنَتُهُ عَلَى حَقِّهِ أَوْلَى بِالْقَبُولِ، وَلِأَنَّهُ يَثْبُتُ بِبَيِّنَتِهِ الْحَقُّ لِنَفْسِهِ فِي الْعَبْدِ وَالْمُشْتَرِي يَنْفِي ذَلِكَ وَالْبَيِّنَاتُ لِلْإِثْبَاتِ لَا لِلنَّفْيِ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ نَقْلًا عَنْ الْمَبْسُوطِ.

أَقُولُ: فِي التَّعْلِيلِ الثَّانِي بَحْثٌ، أَمَّا أَوَّلًا فَبِالْمُعَارَضَةِ فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ يُثْبِتُ بِبَيِّنَتِهِ الْحَقَّ لِلْبَائِعِ فِي مِائَةِ دِينَارٍ وَالْبَائِعُ يَنْفِي ذَلِكَ، وَالْبَيِّنَاتُ لِلْإِثْبَاتِ لَا لِلنَّفْيِ فَيَنْبَغِي أَنْ تُقْبَلَ بَيِّنَةُ الْمُشْتَرِي دُونَ الْبَائِعِ. وَأَمَّا ثَانِيًا فَبِالنَّقْضِ، فَإِنَّهُ لَوْ سَلِمَ هَذَا التَّعْلِيلُ لَأَفَادَ عَدَمَ قَبُولِ بَيِّنَةِ الْمُشْتَرِي عِنْدَ انْفِرَادِهِ بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ أَيْضًا، إذْ حِينَئِذٍ يَنْفِي الْمُشْتَرِي أَيْضًا بِبَيِّنَتِهِ حَقَّ الْبَائِعِ فِيمَا ادَّعَاهُ، وَالْبَيِّنَاتُ لِلْإِثْبَاتِ لَا لِلنَّفْيِ مَعَ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ عَلَى أَنَّهُ إذَا أَقَامَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ قُضِيَ لَهُ بِهَا قَطْعًا. وَأَمَّا ثَالِثًا فَبِالْمَنْعِ، فَإِنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَنْفِي بِبَيِّنَتِهِ مَا يُثْبِتُهُ الْبَائِعُ بَلْ هُوَ يُثْبِتُ بِهَا مَا يَدَّعِيهِ لِنَفْسِهِ وَهُوَ كَوْنُ حَقِّ الْبَائِعِ فِي مِائَةِ دِينَارٍ وَيَسْكُتُ عَمَّا يُثْبِتُهُ الْبَائِعُ وَهُوَ كَوْنُ حَقِّهِ فِي الْعَبْدِ، فَإِنْ حَصَلَ مِمَّا يُثْبِتُهُ الْمُشْتَرِي نَفْيَ مَا يُثْبِتُهُ الْبَائِعُ فَإِنَّمَا هُوَ بِالتَّبَعِ وَالتَّضَمُّنِ لَا بِالْأَصَالَةِ وَالْقَصْدِ، وَذَلِكَ لَا يُنَافِي كَوْنَ وَضْعِ الْبَيِّنَاتِ لِلْإِثْبَاتِ دُونَ النَّفْيِ (وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةٌ قِيلَ لِلْمُشْتَرِي) أَيْ يَقُولُ الْحَاكِمُ لِلْمُشْتَرِي:(إمَّا أَنْ تَرْضَى بِالثَّمَنِ الَّذِي ادَّعَاهُ الْبَائِعُ وَإِلَّا فَسَخْنَا الْبَيْعَ، وَقِيلَ لِلْبَائِعِ) أَيْ وَيَقُولُ لِلْبَائِعِ: (إمَّا أَنْ تُسَلِّمَ مَا ادَّعَاهُ الْمُشْتَرِي مِنْ الْمَبِيعِ وَإِلَّا فَسَخْنَا الْبَيْعَ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ) أَيْ الْمَقْصُودَ مِنْ شَرْعِ الْأَسْبَابِ (قَطْعُ الْمُنَازَعَةِ) وَدَفْعُ الْخُصُومَةِ (وَهَذَا جِهَةٌ فِيهِ) أَيْ الْقَوْلُ الْمَذْكُورُ لِلْبَائِعِ وَلِلْمُشْتَرِي جِهَةٌ فِي قَطْعِ الْمُنَازَعَةِ (لِأَنَّهُ رُبَّمَا لَا يَرْضَيَانِ) أَيْ الْمُتَبَايِعَانِ (بِالْفَسْخِ فَإِذَا عَلِمَا بِهِ) أَيْ بِالْفَسْخِ (يَتَرَاضَيَانِ بِهِ) أَيْ بِمُدَّعِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا.

أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: كَمَا أَنَّ مَا ذُكِرَ جِهَةٌ فِي قَطْعِ الْمُنَازَعَةِ كَذَلِكَ عَكْسُ ذَلِكَ جِهَةٌ فِيهِ بِأَنْ يُقَالَ لِلْبَائِعِ: إمَّا أَنْ تَرْضَى بِالثَّمَنِ الَّذِي ادَّعَاهُ الْمُشْتَرِي وَإِلَّا فَسَخْنَا الْبَيْعَ، وَأَنْ يُقَالَ لِلْمُشْتَرِي إمَّا أَنْ تَقْبَلَ مَا اعْتَرَفَ بِهِ الْبَائِعُ مِنْ الْمَبِيعِ وَإِلَّا فَسَخْنَا الْبَيْعَ. وَبِالْجُمْلَةِ أَنَّ قَطْعَ الْمُنَازَعَةِ كَمَا يُمْكِنُ بِأَنْ يُكَلِّفَ مُدَّعِي الْأَقَلِّ بِالرِّضَا بِالْأَكْثَرِ يُمْكِنُ أَيْضًا بِعَكْسِهِ، وَهُوَ أَنْ يُكَلِّفَ مُدَّعِيَ الْأَكْثَرِ بِالرِّضَا بِالْأَقَلِّ، فَمَا الرُّجْحَانُ فِي اخْتِيَارِهِمْ الْجِهَةَ الْمَذْكُورَةَ دُونَ عَكْسِهَا فَتَأَمَّلْ (فَإِنْ لَمْ يَتَرَاضَيَا اسْتَحْلَفَ الْحَاكِمُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى دَعْوَى الْآخَرِ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ

ص: 206

وَهَذَا التَّحَالُفُ قَبْلَ الْقَبْضِ عَلَى وِفَاقِ الْقِيَاسِ، لِأَنَّ الْبَائِعَ يَدَّعِي زِيَادَةَ الثَّمَنِ وَالْمُشْتَرِيَ يُنْكِرُهُ، وَالْمُشْتَرِيَ يَدَّعِي وُجُوبَ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ بِمَا نَقَدَ وَالْبَائِعَ يُنْكِرُهُ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُنْكِرٌ فَيَحْلِفُ؛ فَأَمَّا بَعْدَ الْقَبْضِ فَمُخَالِفٌ لِلْقِيَاسِ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَا يَدَّعِي شَيْئًا لِأَنَّ الْمَبِيعَ سَالِمٌ لَهُ فَبَقِيَ دَعْوَى الْبَائِعِ فِي زِيَادَةِ الثَّمَنِ وَالْمُشْتَرِي يُنْكِرُهَا فَيُكْتَفَى بِحَلِفِهِ،

فِي شَرْحِ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ فَإِنْ لَمْ يَتَرَاضَيَا: أَيْ بِأَنْ يُعْطِيَ كُلُّ وَاحِدٍ مَا يَدَّعِي صَاحِبُهُ انْتَهَى.

أَقُولُ: فِيهِ قُصُورٌ، لِأَنَّ هَذَا لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا فِي الصُّورَةِ الثَّالِثَةِ مِنْ الصُّوَرِ الثَّلَاثِ الْمَذْكُورَةِ، وَهِيَ مَا إذَا اخْتَلَفَا فِي الثَّمَنِ وَالْمَبِيعِ جَمِيعًا دُونَ الصُّورَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ، إذْ قَدْ مَرَّ فِي الْكِتَابِ أَنَّ صُورَةَ الِاخْتِلَافِ فِي الثَّمَنِ أَنْ يَدَّعِيَ أَحَدُهُمَا ثَمَنًا وَيَدَّعِيَ الْآخَرُ أَكْثَرَ مِنْهُ، وَأَنَّ صُورَةَ الِاخْتِلَافِ فِي الْمَبِيعِ أَنْ يَدَّعِيَ أَحَدُهُمَا قَدْرًا مِنْ الْمَبِيعِ وَيَدَّعِيَ الْآخَرُ أَكْثَرَ مِنْهُ، فَلَوْ أَعْطَى كُلَّ وَاحِدٍ مَا يَدَّعِي صَاحِبُهُ فِي هَاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ لَزِمَ إعْطَاءُ الثَّمَنَيْنِ مَعًا أَوْ إعْطَاءُ الْمَبِيعَيْنِ مَعًا وَهَذَا خَلَفٌ. وَلَا يُخْفَى أَنَّ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ هَاهُنَا حُكْمٌ عَامٌّ لِلصُّوَرِ الثَّلَاثَةِ جَمِيعًا فَلَا يُنَاسِبُهُ التَّفْسِيرُ الْمَذْكُورُ، وَقَالَ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ: أَيْ إنْ لَمْ يَتَرَاضَ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي: يَعْنِي لَمْ يَرْضَ الْبَائِعُ بِمَا ادَّعَاهُ الْمُشْتَرِي مِنْ الْمَبِيعِ وَلَمْ يَرْضَ الْمُشْتَرِي بِمَا ادَّعَاهُ الْبَائِعُ مِنْ الثَّمَنِ يَسْتَحْلِفُ الْقَاضِي كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي عَلَى دَعْوَى صَاحِبِهِ انْتَهَى.

أَقُولُ: وَفِيهِ أَيْضًا قُصُورٌ، لِأَنَّ هَذَا أَيْضًا لَا يَجْرِي إلَّا فِي الصُّورَةِ الثَّالِثَةِ مِنْ تِلْكَ الصُّوَرِ الثَّلَاثِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى ذِي مُسْكَةٍ، فَلَا يُنَاسِبُ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ هَاهُنَا فِي الْحُكْمِ الْعَامِّ لِلصُّوَرِ الثَّلَاثِ كُلِّهَا. وَأَمَّا سَائِرُ الشُّرَّاحِ فَلَمْ يَتَعَرَّضُوا هَاهُنَا لِلشَّرْحِ وَالْبَيَانِ. فَالْحَقُّ عِنْدِي فِي شَرْحِ الْمَقَامِ أَنْ يُقَالَ: أَيْ إنْ لَمْ يَتَرَاضَ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي عَلَى الزِّيَادَةِ سَوَاءٌ كَانَتْ مِمَّا يَدَّعِيهِ أَحَدُهُمَا كَمَا فِي الصُّورَةِ الْأُولَى وَالصُّورَةِ الثَّانِيَةِ، أَوْ مِمَّا يَدَّعِيهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَمَا فِي الصُّورَةِ الثَّالِثَةِ اسْتَحْلَفَ الْحَاكِمُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى دَعْوَى الْآخَرِ، فَحِينَئِذٍ يَجْرِي مَعْنَى الْكَلَامِ وَفَحْوَى الْمَقَامِ فِي كُلِّ صُورَةٍ كَمَا تَرَى (وَهَذَا التَّحَالُفُ قَبْلَ الْقَبْضِ) أَيْ قَبْلَ قَبْضِ الْمُشْتَرِي السِّلْعَةَ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ (عَلَى وِفَاقِ الْقِيَاسِ لِأَنَّ الْبَائِعَ يَدَّعِي زِيَادَةَ الثَّمَنِ وَالْمُشْتَرِيَ يُنْكِرُهُ) أَيْ يُنْكِرُ مَا ادَّعَاهُ الْبَائِعُ (وَالْمُشْتَرِي يَدَّعِي وُجُوبَ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ بِمَا نَقَدَ وَالْبَائِعُ يُنْكِرُهُ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُنْكِرٌ فَيَحْلِفُ) لِأَنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُنْكِرِ بِالْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ (فَأَمَّا بَعْدَ الْقَبْضِ فَمُخَالِفٌ لِلْقِيَاسِ، لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَا يَدَّعِي شَيْئًا لِأَنَّ الْمَبِيعَ سَالِمٌ لَهُ فَبَقِيَ دَعْوَى الْبَائِعِ فِي زِيَادَةِ الثَّمَنِ وَالْمُشْتَرِي يُنْكِرُهَا فَيُكْتَفَى بِحَلِفِهِ) أَيْ كَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يُكْتَفَى بِحَلِفِهِ.

فَإِنْ قُلْت: إذَا لَمْ يَدَّعِ الْمُشْتَرِي شَيْئًا فِيمَا بَعْدَ الْقَبْضِ يَنْبَغِي أَنْ لَا تُقْبَلَ بَيِّنَتُهُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ إذَا أَقَامَهَا، لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ لِلْمُدَّعِي مَعَ أَنَّهُ قَالَ فِيمَا قَبْلُ: فَأَقَامَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ فَقَضَى لَهُ بِهَا. قُلْت: الْمُرَادُ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَا يَدَّعِي شَيْئًا ادِّعَاءً مَعْنَوِيًّا فِيمَا بَعْدَ الْقَبْضِ، وَهَذَا لَا يُنَافِي أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرِي مُدَّعِيًا ادِّعَاءً صُورِيًّا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، وَبَيِّنَةُ الْمُدَّعِي صُورَةٌ تُسْمَعُ عَلَى مَا صَرَّحُوا بِهِ كَمَا إذَا ادَّعَى الْمُودِعُ رَدَّ الْوَدِيعَةِ عَلَى مَا مَرَّ.

لَا يُقَالُ: إنْ كَانَ الْمُشْتَرِي مُدَّعِيًا صُورَةً فِيمَا بَعْدَ الْقَبْضِ يَكُونُ الْبَائِعُ مُنْكِرًا لِمَا ادَّعَاهُ صُورَةً فَيَصِيرُ التَّحَالُفُ هَاهُنَا أَيْضًا مُوَافِقًا لِلْقِيَاسِ. لِأَنَّا نَقُولُ: لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِتَحْلِيفِ الْمُنْكِرِ الصُّورِيِّ، بَلْ إنَّمَا الْيَمِينُ إيذَاءٌ عَلَى الْمُنْكِرِ الْحَقِيقِيِّ، بِخِلَافِ الْمُدَّعِي الصُّورِيِّ فَإِنَّ الْبَيِّنَةَ تُسْمَعُ مِنْهُ عَلَى مَا ذَكَرُوا. وَلَك أَنْ تَقُولَ فِي الْجَوَابِ عَنْ أَصْلِ السُّؤَالِ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَا يَدَّعِي شَيْئًا فِيمَا بَعْدَ الْقَبْضِ وَقَبُولُ بَيِّنَتِهِ فِيهِ لِدَفْعِ الْيَمِينِ عَنْهُ لَا لِكَوْنِهِ مُدَّعِيًا، وَهَذَا أَيْ قَبُولُ الْبَيِّنَةِ مِنْ غَيْرِ الْمُدَّعِي لِدَفْعِ الْيَمِينِ كَثِيرٌ فِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ يَعْرِفُهُ مَنْ يَتَتَبَّعُ الْكُتُبَ، وَهَذَا الْوَجْهُ مِنْ

ص: 207

لَكِنَّا عَرَفْنَاهُ بِالنَّصِّ وَهُوَ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ وَالسِّلْعَةُ قَائِمَةٌ بِعَيْنِهَا تَحَالَفَا وَتَرَادَّا» .

(وَيَبْتَدِئُ بِيَمِينِ الْمُشْتَرِي) وَهَذَا قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَأَبِي يُوسُفَ آخِرًا، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَهُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ أَشَدُّهُمَا إنْكَارًا لِأَنَّهُ يُطَالِبُ أَوَّلًا بِالثَّمَنِ

الْجَوَابِ هُوَ الْأَوْفَقُ لِمَا رَأَيْنَاهُ حَقًّا فِي شَرْحِ مُرَادِ الْمُصَنِّفِ مِنْ كَلَامِهِ الْمَذْكُورِ فِي صَدْرِ كِتَابِ الدَّعْوَى فَتَذَكَّرْ. أَقُولُ: بَقِيَ هَاهُنَا شَيْءٌ، وَهُوَ أَنَّهُ إنْ أَرَادَ الْمُصَنِّفُ بِكَلِمَةِ هَذَا فِي قَوْلِهِ وَهَذَا التَّحَالُفُ قَبْلَ الْقَبْضِ عَلَى وِفَاقِ الْقِيَاسِ الْإِشَارَةَ إلَى مَا فِي صُورَةِ الِاخْتِلَافِ فِي الثَّمَنِ فَقَطْ مِنْ الصُّوَرِ الثَّلَاثِ الْمَذْكُورَاتِ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ اخْتِصَاصِ الدَّلِيلِ الَّذِي ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ لِأَنَّ الْبَائِعَ يَدَّعِي زِيَادَةَ الثَّمَنِ إلَخْ بِتِلْكَ الصُّورَةِ فَلَا يَخْلُو الْكَلَامُ عَنْ الرَّكَاكَةِ لَفْظًا وَمَعْنًى.

أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ تِلْكَ الصُّورَةَ أَبْعَدُ الصُّوَرِ الْمَذْكُورَةِ، فَالْإِشَارَةُ إلَى مَا فِيهَا بِلَفْظِ الْقَرِيبِ بَعِيدٌ. وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الْأَصْلَ الْمَذْكُورَ: أَعْنِي كَوْنَ التَّحَالُفِ قَبْلَ الْقَبْضِ عَلَى وِفَاقِ الْقِيَاسِ وَبَعْدَهُ عَلَى خِلَافِهِ غَيْرُ مَخْصُوصٍ بِتِلْكَ الصُّورَةِ، بَلْ هُوَ جَارٍ أَيْضًا فِي صُورَةِ الِاخْتِلَافِ فِي الْمَبِيعِ، فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ يَدَّعِي فِيهَا قَبْلَ قَبْضِ الْبَائِعِ الثَّمَنَ زِيَادَةَ الْمَبِيعِ وَالْبَائِعُ يُنْكِرُهُ، وَالْبَائِعُ يَدَّعِي وُجُوبَ تَسْلِيمِ الثَّمَنِ بِمَا اعْتَرَفَ مِنْ الْمَبِيعِ وَالْمُشْتَرِي يُنْكِرُهُ فَكُلٌّ مِنْهُمَا مُنْكِرٌ فَيَحْلِفُ. وَأَمَّا بَعْدَ قَبْضِ الْبَائِعِ الثَّمَنَ فَلَا يَدَّعِي عَلَى الْبَائِعِ شَيْئًا لِأَنَّ الثَّمَنَ سَالِمٌ لَهُ. بَقِيَ دَعْوَى الْمُشْتَرِي فِي زِيَادَةِ الْمَبِيعِ وَالْبَائِعُ يُنْكِرُهُ فَيَكْتَفِي بِحَلِفِهِ، وَلَقَدْ أَفْصَحَ الْإِمَامُ الزَّيْلَعِيُّ عَنْ عَدَمِ اخْتِصَاصِهِ بِتِلْكَ الصُّورَةِ حَيْثُ قَالَ فِي التَّبْيِينِ: وَهَذَا إذَا كَانَ قَبْلَ قَبْضِ أَحَدِ الْبَدَلَيْنِ فَظَاهِرٌ وَهُوَ قِيَاسٌ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ فَمُخَالِفٌ لِلْقِيَاسِ لِأَنَّ الْقَابِضَ مِنْهُمَا لَا يَدَّعِي شَيْئًا عَلَى صَاحِبِهِ، وَإِنَّمَا يُنْكِرُ مَا ادَّعَاهُ الْآخَرُ انْتَهَى.

فَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْأَصْلُ الْمَذْكُورُ مَخْصُوصًا بِتِلْكَ الصُّورَةِ لَمْ يَظْهَرْ لِتَخْصِيصِ الْإِشَارَةِ إلَى مَا فِيهَا وَجْهٌ، وَإِنْ أَرَادَ بِهَا الْإِشَارَةَ إلَى جِنْسِ التَّحَالُفِ فَلَا يَخْلُو الْمَقَامُ عَنْ الرَّكَاكَةِ لَفْظًا وَمَعْنًى أَيْضًا. أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ لَفْظَ هَذَا يَصِيرُ حِينَئِذٍ زَائِدًا، لَا مَوْقِعَ لَهُ فِي الظَّاهِرِ، وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الدَّلِيلَ الَّذِي ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ لِأَنَّ الْبَائِعَ يَدَّعِي زِيَادَةَ الثَّمَنِ إلَخْ يَصِيرُ حِينَئِذٍ أَخَصَّ مِنْ الْمُدَّعِي.

ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ صَاحِبَ الْكَافِي وَكَثِيرًا مِنْ الثِّقَاتِ تَرَكُوا كَلِمَةَ هَذَا فِي بَيَانِ الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ، وَلَكِنَّهُمْ ذَكَرُوا أَيْضًا فِي دَلِيلِ مُخَالَفَةِ الْقِيَاسِ بَعْضَ الْقَبْضِ مَا يَخْتَصُّ بِصُورَةِ الِاخْتِلَافِ فِي الثَّمَنِ فَقَطْ، وَيُمْكِنُ تَوْجِيهُ الْكُلِّ بِعِنَايَةٍ فَتَأَمَّلْ (وَلَكِنَّا عَرَفْنَاهُ بِالنَّصِّ) اسْتِدْرَاكٌ مِنْ قَوْلِهِ فَيُكْتَفَى بِحَلِفِهِ. يَعْنِي كَانَ الْقِيَاسُ فِي صُورَةِ الِاخْتِلَافِ بَعْدَ الْقَبْضِ أَنْ يُكْتَفَى بِحَلِفِ الْمُشْتَرِي لَكِنَّا عَرَفْنَا التَّحَالُفَ بِالنَّصِّ (وَهُوَ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ وَالسِّلْعَةُ قَائِمَةٌ بِعَيْنِهَا تَحَالَفَا وَتَرَادَّا») قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَذَا الْحَدِيثُ مُخَالِفٌ لِلْمَشْهُورِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَشْهُورًا فَهُوَ مَرْجُوحٌ، وَإِنْ كَانَ فَكَذَلِكَ لِعُمُومِ الْمَشْهُورِ أَوْ يَتَعَارَضَانِ وَلَا تَرْجِيحَ انْتَهَى. أَقُولُ: فِي الْجَوَابِ عَنْهُ قَدْ تَقَرَّرَ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ أَنَّ عِبَارَةَ النَّصِّ تُرَجَّحُ عَلَى إشَارَةِ النَّصِّ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ هَذَا الْحَدِيثُ رَاجِحًا عَلَى الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ، لِأَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ يَدُلُّ بِعِبَارَتِهِ عَلَى اسْتِحْلَافِ الْمُدَّعِي أَيْضًا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ.

وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ فَلَا يَدُلُّ بِعِبَارَتِهِ عَلَى عَدَمِ اسْتِحْلَافِ الْمُدَّعِي مُطْلَقًا، بَلْ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ بِإِشَارَتِهِ حَيْثُ يُفْهَمُ مِنْ تَقْسِيمِ الْحُجَّتَيْنِ لِلْخَصْمَيْنِ أَوْ مِنْ جَعْلِ جِنْسِ الْأَيْمَانِ عَلَى الْمُنْكَرَيْنِ كَمَا بَيَّنَ فِيمَا مَرَّ فَهُوَ إذَنْ مَرْجُوعٌ

(قَالَ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ (وَيَبْتَدِئُ) أَيْ الْقَاضِي (بِيَمِينِ الْمُشْتَرِي) قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَهَذَا قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَأَبِي يُوسُفَ آخِرًا وَرِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ الصَّحِيحُ) احْتِرَازًا عَنْ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ لِأَبِي يُوسُفَ كَمَا سَيَجِيءُ (لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ أَشَدُّهُمَا إنْكَارًا لِأَنَّهُ يُطَالِبُ أَوَّلًا بِالثَّمَنِ) فَهُوَ الْبَادِئُ بِالْإِنْكَارِ.

قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى تَقَدُّمِ الْإِنْكَارِ دُونَ شِدَّتِهِ، وَلَعَلَّهُ أَرَادَ بِالشِّدَّةِ التَّقَدُّمَ وَهُوَ أَنْسَبُ بِالْمَقَامِ، لِأَنَّهُ لَمَّا تَقَدَّمَ فِي الْإِنْكَارِ تَقَدَّمَ فِي الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ انْتَهَى. أَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ مَدَارَ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ عَلَى كَوْنِ الْبَادِي أَظْلَمُ لِكَوْنِهِ مُنْشَأً لِلثَّانِي أَيْضًا فَيَكُونُ أَشَدَّ كَمَا يَكُونُ أَقْدَمَ، وَيَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ مَدَارُهُ عَلَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَمَّا كَانَ مُطَالَبًا أَوَّلًا بِالثَّمَنِ كَانَ مُنْكِرًا لِلشَّيْئَيْنِ أَصْلُ

ص: 208

وَلِأَنَّهُ يَتَعَجَّلُ فَائِدَةَ النُّكُولِ وَهُوَ إلْزَامُ الثَّمَنِ، وَلَوْ بُدِئَ بِيَمِينِ الْبَائِعِ تَتَأَخَّرُ الْمُطَالَبَةُ بِتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ إلَى زَمَانِ اسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ. وَكَانَ أَبُو يُوسُفَ رحمه الله يَقُولُ أَوَّلًا: يَبْدَأُ بِيَمِينِ الْبَائِعِ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ فَالْقَوْلُ مَا قَالَهُ الْبَائِعُ» خَصَّهُ بِالذِّكْرِ، وَأَقَلُّ فَائِدَتِهِ التَّقْدِيمُ.

الْوُجُوبِ وَوُجُوبُ الْأَدَاءِ فِي الْحَالِ فَكَانَ أَشَدَّ إنْكَارًا، وَعِنْدَ هَذَيْنِ الْمَحْمَلَيْنِ الصَّحِيحَيْنِ لِإِجْرَاءِ الْكَلَامِ عَلَى الْحَقِيقَةِ كَيْفَ يَجُوزُ حَمْلُ الْأَشَدِّ عَلَى الْأَقْدَمِ تَجَوُّزًا مَعَ عَدَمِ ظُهُورِ الْعَلَاقَةِ بَيْنَهُمَا (وَلِأَنَّهُ يَتَعَجَّلُ فَائِدَةَ النُّكُولِ) أَيْ بِالِابْتِدَاءِ بِيَمِينِ الْمُشْتَرِي (وَهُوَ) أَيْ فَائِدَةُ النُّكُولِ إلْزَامُ الثَّمَنِ ذَكَرَ الضَّمِيرَ الرَّاجِعَ إلَى الْفَائِدَةِ، وَإِمَّا بِاعْتِبَارِ الْخَبَرِ وَهُوَ (إلْزَامُ الثَّمَنِ) أَوْ بِتَأْوِيلِ الْفَائِدَةِ بِالنَّفْعِ (وَلَوْ بُدِئَ بِيَمِينِ الْبَائِعِ تَتَأَخَّرُ الْمُطَالَبَةُ بِتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ إلَى زَمَانِ اسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ) لِأَنَّ تَسْلِيمَ الْمَبِيعِ يُؤَخَّرُ إلَى زَمَانِ اسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ لِأَنَّهُ يُقَالُ لَهُ: امْسِكْ الْمَبِيعَ إلَى أَنْ تَسْتَوْفِيَ الثَّمَنَ فَكَانَ تَقْدِيمُ مَا تَتَعَجَّلُ فَائِدَتُهُ أَوْلَى، كَذَا فِي الْكَافِي (وَكَانَ أَبُو يُوسُفَ يَقُولُ أَوَّلًا: يَبْدَأُ بِيَمِينِ الْبَائِعِ) وَذَكَرَ فِي الْمُنْتَقَى وَفِي جَامِعِ أَبِي الْحَسَنِ أَنَّهُ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ وَغَيْرِهَا (لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ فَالْقَوْلُ مَا قَالَهُ الْبَائِعُ») وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام (خَصَّهُ بِالذِّكْرِ) أَيْ خَصَّ الْبَائِعَ بِالذِّكْرِ حَيْثُ قَالَ: فَالْقَوْلُ مَا قَالَهُ الْبَائِعُ (وَأَقَلُّ فَائِدَتِهِ) أَيْ فَائِدَةُ التَّخْصِيصِ (التَّقْدِيمُ) يَعْنِي أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام جَعَلَ الْقَوْلَ قَوْلَ الْبَائِعِ، وَهَذَا بِظَاهِرِهِ يَقْتَضِي الِاكْتِفَاءَ بِيَمِينِهِ، فَإِذَا كَانَ لَا يُكْتَفَى بِيَمِينِهِ فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ يَبْدَأَ بِيَمِينِهِ.

وَفِي غَايَةِ الْبَيَانِ قَالَ فِي شَرْحِ الْأَقْطَعِ جَوَابًا عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ: إنَّمَا خَصَّ الْبَائِعَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ يَمِينَ الْمُشْتَرِي مَعْلُومَةٌ لَا تُشْكِلُ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» فَسَكَتَ صلى الله عليه وسلم عَمَّا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ وَبَيْنَ مَا يُشْكِلُ وَلَمْ يَتَقَدَّمْ بَيَانُهُ انْتَهَى.

أَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ عليه الصلاة والسلام «وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» كَمَا أَنَّهُ دَلِيلٌ فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي دَلِيلٌ أَيْضًا فِي حَقِّ الْبَائِعِ، فَإِنَّهُ قَدْ مَرَّ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُنْكِرُ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الصُّوَرِ الثَّلَاثِ الْمَذْكُورَةِ فِيمَا إذَا اخْتَلَفَا قَبْلَ الْقَبْضِ وَفِيمَا إذَا اخْتَلَفَا بَعْدَ الْقَبْضِ. فَفِي صُورَةِ الِاخْتِلَافِ فِي الثَّمَنِ بَعْدَ قَبْضِ الْمَبِيعِ الْمُنْكِرُ هُوَ الْمُشْتَرِي، وَفِي صُورَةِ الِاخْتِلَافِ فِي الْمَبِيعِ بَعْدَ قَبْضِ الثَّمَنِ الْمُنْكِرُ هُوَ الْبَائِعُ، فَاسْتَوَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي فِي الِانْدِرَاجِ تَحْتَ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» فِي أَكْثَرِ الصُّوَرِ وَعَدَمِ الِانْدِرَاجِ تَحْتَهُ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي إشْكَالِ الْيَمِينِ وَعَدَمِ إشْكَالِهَا، وَتَقَدُّمُ الْبَيَانِ وَعَدَمُ تَقَدُّمِهِ فَلَمْ يَتِمَّ الْجَوَابُ الْمَذْكُورُ.

ثُمَّ إنَّ هَذَا الَّذِي ذُكِرَ مِنْ لُزُومِ الِابْتِدَاءِ بِيَمِينِ الْمُشْتَرِي عَلَى الْقَوْلِ الصَّحِيحِ، أَوْ بِيَمِينِ الْبَائِعِ عَلَى الْقَوْلِ

ص: 209

(وَإِنْ كَانَ بَيْعُ عَيْنٍ بِعَيْنٍ أَوْ ثَمَنٍ بِثَمَنٍ بَدَأَ الْقَاضِي بِيَمِينِ أَيِّهِمَا شَاءَ) لِاسْتِوَائِهِمَا

(وَصِفَةُ الْيَمِينِ أَنْ يَحْلِفَ الْبَائِعُ بِاَللَّهِ مَا بَاعَهُ بِأَلْفٍ وَيَحْلِفَ الْمُشْتَرِي بِاَللَّهِ مَا اشْتَرَاهُ بِأَلْفَيْنِ) وَقَالَ فِي الزِّيَادَاتِ: يَحْلِفُ بِاَللَّهِ مَا بَاعَهُ بِأَلْفٍ وَلَقَدْ بَاعَهُ بِأَلْفَيْنِ، يَحْلِفُ الْمُشْتَرِي بِاَللَّهِ مَا اشْتَرَاهُ بِأَلْفَيْنِ وَلَقَدْ اشْتَرَاهُ بِأَلْفٍ يَضْمَنُ الْإِثْبَاتُ إلَى النَّفْيِ تَأْكِيدًا، وَالْأَصَحُّ الِاقْتِصَارُ عَلَى النَّفْيِ لِأَنَّ الْأَيْمَانَ عَلَى ذَلِكَ وُضِعَتْ، دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ الْقَسَامَةِ «بِاَللَّهِ مَا قَتَلْتُمْ وَلَا عَلِمْتُمْ لَهُ قَاتِلًا». قَالَ (فَإِنْ حَلَفَا فَسَخَ الْقَاضِي الْبَيْعَ بَيْنَهُمَا) وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْفَسِخُ بِنَفْسِ التَّحَالُفِ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ مَا ادَّعَاهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَيَبْقَى بَيْعُ مَجْهُولٍ فَيَفْسَخُهُ الْقَاضِي قَطْعًا لِلْمُنَازَعَةِ. أَوْ يُقَالُ إذَا لَمْ يَثْبُتْ الْبَدَلُ يَبْقَى بَيْعًا بِلَا بَدَلٍ وَهُوَ فَاسِدٌ وَلَا بُدَّ مِنْ الْفَسْخِ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ. قَالَ:(وَإِنْ نَكَلَ أَحَدُهُمَا عَنْ الْيَمِينِ لَزِمَهُ دَعْوَى الْآخَرِ) لِأَنَّهُ جُعِلَ بَاذِلًا فَلَمْ يَبْقَ دَعْوَاهُ مُعَارِضًا لِدَعْوَى الْآخَرِ فَلَزِمَ الْقَوْلُ بِثُبُوتِهِ. .

الْآخَرِ إذَا كَانَ الْبَيْعُ بَيْعَ عَيْنٍ بِثَمَنٍ (وَإِنْ كَانَ بَيْعَ عَيْنٍ بِعَيْنٍ) وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْمُقَايَضَةِ (أَوْ ثَمَنٍ بِثَمَنٍ) أَيْ بَيْعَ ثَمَنٍ بِثَمَنٍ وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالصَّرْفِ (بَدَأَ الْقَاضِي بِيَمِينِ أَيِّهِمَا شَاءَ) مِنْ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي (لِاسْتِوَائِهِمَا) أَيْ فِي الْإِنْكَارِ وَفِي فَائِدَةِ النُّكُولِ.

(وَصِفَةُ الْيَمِينِ أَنْ يَحْلِفَ الْبَائِعُ بِاَللَّهِ مَا بَاعَهُ بِأَلْفٍ وَيَحْلِفَ الْمُشْتَرِي بِاَللَّهِ مَا اشْتَرَاهُ بِأَلْفَيْنِ) كَذَا ذَكَرَهُ فِي الْأَصْلِ (وَقَالَ فِي الزِّيَادَاتِ: يَحْلِفُ) أَيْ الْبَائِعُ (بِاَللَّهِ مَا بَاعَهُ بِأَلْفٍ وَلَقَدْ بَاعَهُ بِأَلْفَيْنِ وَيَحْلِفُ الْمُشْتَرِي بِاَللَّهِ مَا اشْتَرَاهُ بِأَلْفَيْنِ وَلَقَدْ اشْتَرَاهُ بِأَلْفٍ يَضُمُّ الْإِثْبَاتَ إلَى النَّفْيِ تَأْكِيدًا) قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَالْأَصَحُّ الِاقْتِصَارُ عَلَى النَّفْيِ لِأَنَّ الْأَيْمَانَ عَلَى ذَلِكَ وُضِعَتْ) أَيْ عَلَى النَّفْيِ وُضِعَتْ لَا عَلَى الْإِثْبَاتِ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ (دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ الْقَسَامَةِ «بِاَللَّهِ مَا قَتَلْتُمْ وَلَا عَلِمْتُمْ لَهُ قَاتِلًا») وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَفِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُنَافِي التَّأْكِيدَ انْتَهَى.

أَقُولُ: بَلْ يُنَافِيهِ، لِأَنَّ وَضْعَ الْأَيْمَانِ لَمَّا كَانَ مَقْصُورًا عَلَى النَّفْيِ كَمَا يُرْشِدُ إلَيْهِ تَفْسِيرُنَا الْمَنْقُولُ عَنْ النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ وَدَلَّ عَلَيْهِ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ حَيْثُ قَالَ: عَلَى ذَلِكَ وُضِعَتْ، بِتَقْدِيمِ عَلَى ذَلِكَ عَلَى وُضِعَتْ دُونَ تَأْخِيرِهِ عَنْهُ عَلَى مَا هُوَ حَقُّهُ إفَادَةً لِقَصْرِ وَضْعِهَا عَلَى النَّفْيِ الْمُشَارِ إلَيْهِ بِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ إدْرَاجُ الْيَمِينِ وَلَوْ بِطَرِيقِ التَّأْكِيدِ، وَإِلَّا يَلْزَمُ الظُّلْمُ لِلْمُنْكِرِ بِإِلْزَامِ الزَّائِدِ عَلَى مَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَرْعًا، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ شَرْعًا وَيَكُونُ حَقًّا لِلْمُدَّعِي إنَّمَا هُوَ الْإِتْيَانُ بِمَا وُضِعَتْ لَهُ الْيَمِينُ دُونَ مَا هُوَ خَارِجٌ عَنْهُ زَائِدٌ عَلَيْهِ وَهُوَ الْإِثْبَاتُ، فَلَا بُدَّ مِنْ الِاقْتِصَارِ عَلَى النَّفْيِ كَمَا ذُكِرَ. وَلِبَعْضِ الْفُضَلَاءِ بِصَدَدِ الْجَوَابِ عَنْ النَّظَرِ الْمَزْبُورِ كَلِمَاتٌ طَوِيلَةُ الذَّيْلِ، جُلُّهَا بَلْ كُلُّهَا مَدْخُولٌ وَمَجْرُوحٌ، تَرَكْنَا ذِكْرَهَا وَرَدَّهَا مَخَافَةَ التَّطْوِيلِ بِلَا طَائِلٍ (قَالَ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ (فَإِنْ حَلَفَا فَسَخَ الْقَاضِي الْبَيْعَ بَيْنَهُمَا) أَيْ إنْ طَلَبَا أَوْ طَلَبَ أَحَدُهُمَا، كَذَا فِي الْكَافِي وَالشُّرُوحِ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَهَذَا) أَيْ الَّذِي ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ (يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ) أَيْ الْبَيْعُ (لَا يَنْفَسِخُ بِنَفْسِ التَّحَالُفِ) وَقَالَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ: وَبِهِ صَرَّحَ فِي كِتَابِ الِاسْتِحْلَافِ لِأَبِي حَازِمٍ الْقَاضِي حَيْثُ قَالَ: إذَا تَحَالَفَا فَسَخَ الْحَاكِمُ الْبَيْعَ بَيْنَهُمَا وَلَمْ يَنْفَسِخْ بِالتَّحَالُفِ انْتَهَى. وَقَالَ فِي الْكَافِي: وَقِيلَ يَنْفَسِخُ بِنَفْسِ التَّحَالُفِ، وَالصَّحِيحُ هُوَ الْأَوَّلُ انْتَهَى (لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ مَا ادَّعَاهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَبَقِيَ بَيْعٌ مَجْهُولٌ) أَيْ بَقِيَ بَيْعًا بِثَمَنٍ مَجْهُولٍ، كَذَا فِي الْكَافِي وَالْكِفَايَةِ.

أَقُولُ: هَذَا لَا يَتِمُّ فِي صُورَةِ كَوْنِ الِاخْتِلَافِ فِي الْمَبِيعِ دُونَ الثَّمَنِ، فَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ أَعَمَّ مِنْ ذَلِكَ: أَيْ بَقِيَ بَيْعُ الْمَجْهُولِ إمَّا بِجَهَالَةِ الْمَبِيعِ فِيمَا إذَا اخْتَلَفَا فِي الْمَبِيعِ، وَإِمَّا بِجَهَالَةِ الثَّمَنِ فِيمَا إذَا اخْتَلَفَا فِي الثَّمَنِ، وَإِمَّا بِجَهَالَةِ الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ مَعًا فِيمَا إذَا اخْتَلَفَا فِيهِمَا (فَيَفْسَخُهُ الْقَاضِي قَطْعًا لِلْمُنَازَعَةِ) بَيْنَهُمَا (أَوْ يُقَالُ إذَا لَمْ يَثْبُتْ الْبَدَلُ) لِلتَّعَارُضِ بَيْنَ قَوْلَيْهِمَا (يَبْقَى بَيْعًا بِلَا بَدَلٍ وَهُوَ فَاسِدٌ، وَلَا بُدَّ مِنْ الْفَسْخِ فِي فَاسِدِ الْبَيْعِ) أَيْ الْبَيْعُ الْفَاسِدُ وَهُمَا لَمْ يَفْسَخَاهُ فَلَا بُدَّ أَنْ يَقُومَ الْقَاضِي مَقَامَهُمَا. وَفِي الْمَبْسُوطِ: حَلَّ لِلْمُشْتَرِي وَطْءُ الْجَارِيَةِ إذَا كَانَتْ الْمَبِيعَةَ، فَلَوْ فُسِخَ الْبَيْعُ بِالتَّحَالُفِ لَمَا حَلَّ لِلْمُشْتَرِي وَطْؤُهَا، كَذَا فِي الشُّرُوحِ (قَالَ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ (وَإِنْ نَكَلَ أَحَدُهُمَا عَنْ الْيَمِينِ لَزِمَهُ دَعْوَى الْآخَرِ لِأَنَّهُ) أَيْ النَّاكِلُ (جُعِلَ بَاذِلًا) لِصِحَّةِ الْبَذْلِ فِي الْأَعْوَاضِ (فَلَمْ يَبْقَ دَعْوَاهُ مُعَارِضًا لِدَعْوَى الْآخَرِ فَلَزِمَ الْقَوْلُ بِثُبُوتِهِ) أَيْ بِثُبُوتِ مَا ادَّعَاهُ الْآخَرُ لِعَدَمِ الْمُعَارَضَةِ.

أَقُولُ: فِي تَقْرِيرِ الْمُصَنِّفِ شَيْءٌ، وَهُوَ أَنَّهُ سَاقَ الدَّلِيلَ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ

ص: 210

قَالَ (وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الْأَجَلِ أَوْ فِي شَرْطِ الْخِيَارِ أَوْ فِي اسْتِيفَاءِ بَعْضِ الثَّمَنِ فَلَا تَحَالُفَ بَيْنَهُمَا) لِأَنَّ هَذَا اخْتِلَافٌ فِي غَيْرِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَالْمَعْقُودِ بِهِ،

فَقَطْ حَيْثُ قَالَ: وَجُعِلَ بَاذِلًا، وَالنُّكُولُ عِنْدَهُمَا إقْرَارٌ لَا بَذْلٌ كَمَا مَرَّ، فَلَا يَتَمَشَّى مَا ذَكَرَهُ عَلَى أَصْلِهِمَا مَعَ أَنَّ مَسْأَلَتَنَا هَذِهِ اتِّفَاقِيَّةٌ بَيْنَ أَئِمَّتِنَا، فَكَانَ الْأَحْسَنُ أَنْ يَقُولَ: لِأَنَّهُ صَارَ مُقِرًّا بِمَا يَدَّعِيهِ الْآخَرُ أَوْ بَاذِلًا كَمَا قَالَ صَاحِبُ الْكَافِي وَالْإِمَامُ الزَّيْلَعِيُّ. ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الْإِمَامَ الزَّيْلَعِيَّ زَادَ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ مِنْ الْكَنْزِ قَيْدًا آخَرَ حَيْثُ قَالَ فَلَزِمَهُ إذَا اتَّصَلَ بِهِ الْقَضَاءُ. وَقَالَ وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِ الْمُصَنِّفِ لَزِمَهُ دَعْوَى الْآخَرِ، لِأَنَّهُ بِدُونِ اتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهِ لَا يُوجِبُ شَيْئًا، أَمَّا عَلَى اعْتِبَارِ الْبَذْلِ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا عَلَى اعْتِبَارِ أَنَّهُ إقْرَارٌ فَلِأَنَّهُ إقْرَارٌ فِيهِ شُبْهَةُ الْبَذْلِ فَلَا يَكُونُ مُوجِبًا بِانْفِرَادِهِ انْتَهَى.

(قَالَ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ (وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الْأَجَلِ) أَيْ فِي أَصْلِهِ أَوْ قَدْرِهِ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ (أَوْ فِي شَرْطِ الْخِيَارِ) أَيْ فِي أَصْلِهِ أَوْ قَدْرِهِ أَيْضًا. كَذَا فِي مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ وَغَايَةِ الْبَيَانِ (أَوْ فِي اسْتِيفَاءِ بَعْضِ الثَّمَنِ) وَكَذَا الْحُكْمُ فِيمَا إذَا اخْتَلَفَا فِي اسْتِيفَاءِ كُلِّ الثَّمَنِ، لَكِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ الْمُصَنِّفُ لِأَنَّ ذَلِكَ مَفْرُوغٌ عَنْهُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ صَارَ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الدَّعَاوَى، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ (فَلَا تَحَالُفَ بَيْنَهُمَا) عِنْدَنَا، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ، وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ: يَتَحَالَفَانِ.

وَلَوْ اخْتَلَفَا فِي أَصْلِ الْبَيْعِ لَمْ يَتَحَالَفَا بِالْإِجْمَاعِ، كَذَا فِي مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ. ثُمَّ إنَّ الْقَوْلَ فِي مَسَائِلِ الْكِتَابِ لِمُنْكِرِ الْأَجَلِ وَلِمُنْكِرِ شَرْطِ الْخِيَارِ وَلِمُنْكِرِ الِاسْتِيفَاءِ، وَفِي مَسْأَلَةِ الِاخْتِلَافِ فِي أَصْلِ الْمَبِيعِ لِمُنْكِرِ الْعَقْدِ ذَكَرَ كُلَّهَا هَاهُنَا فِي الْكَافِي وَسَيَجِيءُ بَعْضُهَا فِي الْكِتَابِ. قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَإِذَا اخْتَلَفَا فِي الْأَجَلِ فِي أَصْلِهِ أَوْ فِي قَدْرِهِ أَوْ فِي شَرْطِ الْخِيَارِ أَوْ فِي اسْتِيفَاءِ بَعْضِ الثَّمَنِ فَلَا تَحَالُفَ بَيْنَهُمَا وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ انْتَهَى. وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: هَذَا لَيْسَ بِسَدِيدٍ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُشْتَرِي إذَا كَانَ مُنْكِرًا كَمَا إذَا كَانَ مُدَّعِي الْخِيَارِ هُوَ الْبَائِعُ انْتَهَى. أَقُولُ: هَذَا ظَاهِرٌ، وَلَكِنَّ الْغَالِبَ أَنَّ صَاحِبَ الْعِنَايَةِ سَلَكَ هَاهُنَا مَسْلَكَ التَّغْلِيبِ اعْتِمَادًا عَلَى ظُهُورِ هَذِهِ الصُّورَةِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِ الْمَسَائِلِ الْمَذْكُورَةِ (لِأَنَّ هَذَا) أَيْ الِاخْتِلَافُ فِي الْأَجَلِ أَوْ شَرْطِ الْخِيَارِ أَوْ اسْتِيفَاءِ بَعْضِ الثَّمَنِ (اخْتِلَافٌ فِي غَيْرِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ) وَهُوَ الْمَبِيعُ (وَالْمَعْقُودُ بِهِ) وَهُوَ الثَّمَنُ وَالِاخْتِلَافُ

ص: 211

فَأَشْبَهَ الِاخْتِلَافَ فِي الْحَطِّ وَالْإِبْرَاءِ، وَهَذَا لِأَنَّ بِانْعِدَامِهِ لَا يَخْتَلُّ مَا بِهِ قِوَامُ الْعَقْدِ، بِخِلَافِ الِاخْتِلَافِ فِي وَصْفِ الثَّمَنِ وَجِنْسِهِ حَيْثُ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الِاخْتِلَافِ فِي الْقَدْرِ فِي جَرَيَانِ التَّحَالُفِ لِأَنَّ ذَلِكَ يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الثَّمَنِ فَإِنَّ الثَّمَنَ دَيْنٌ وَهُوَ يُعْرَفُ بِالْوَصْفِ، وَلَا كَذَلِكَ الْأَجَلُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِوَصْفٍ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الثَّمَنَ مَوْجُودٌ بَعْدَ مُضِيِّهِ (وَالْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ يُنْكِرُ الْخِيَارَ وَالْأَجَلَ مَعَ يَمِينِهِ) لِأَنَّهُمَا يَثْبُتَانِ بِعَارِضِ الشَّرْطِ وَالْقَوْلُ لِمُنْكِرِ الْعَوَارِضِ.

فِي غَيْرِهِمَا لَا يُوجِبُ التَّحَالُفَ لِأَنَّ التَّحَالُفَ عُرِفَ بِالنَّصِّ، وَالنَّصُّ إنَّمَا وَرَدَ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ فِيمَا يَتِمُّ بِهِ الْعَقْدُ، إذْ قَدْ عَلَّقَ فِيهِ وُجُوبَ التَّحَالُفِ بِاخْتِلَافِ الْمُتَبَايِعِينَ، وَهُوَ اسْمٌ مُشْتَقٌّ مِنْ الْبَيْعِ فَيَتَعَلَّقُ وُجُوبُ التَّحَالُفِ بِاخْتِلَافِهِمَا فِيمَا يَثْبُتُ بِهِ الْبَيْعُ، وَالْبَيْعُ إنَّمَا يَثْبُتُ بِالْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ لَا بِالْأَجَلِ وَشَرَطَ الْخِيَارَ وَاسْتِيفَاءَ الثَّمَنِ، وَكَأَنَّهُ قِيلَ: إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ فِي الْمَبِيعِ أَوْ فِي الثَّمَنِ تَحَالَفَا، فَالِاخْتِلَافُ فِيمَا ذُكِرَ مِنْ الْأَجَلِ وَشَرْطُ الْخِيَارِ وَاسْتِيفَاءِ بَعْضِ الثَّمَنِ لَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فَلَمْ يَلْحَقْ بِهِ، هَذَا زُبْدَةُ مَا فِي الشُّرُوحِ وَالْكَافِي هَاهُنَا (فَأَشْبَهَ الِاخْتِلَافَ فِي الْحَطِّ) أَيْ فِي الْحَطِّ مِنْ الثَّمَنِ (وَالْإِبْرَاءِ) أَيْ الْإِبْرَاءُ عَنْ الثَّمَنِ، وَلَا تَحَالُفَ فِي الِاخْتِلَافِ فِيهِمَا، بَلْ الْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ أَنْكَرَ مَعَ يَمِينِهِ فَكَذَا فِي الِاخْتِلَافِ فِي الْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ (وَهَذَا) أَيْ كَوْنُ الِاخْتِلَافِ فِي الْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ اخْتِلَافًا فِي غَيْرِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَالْمَعْقُودِ بِهِ.

وَيَجُوزُ أَنْ يُشَارَ بِهِ إلَى الْأَقْرَبِ: أَيْ شِبْهُ الِاخْتِلَافِ فِي الْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ لِلِاخْتِلَافِ فِي الْحَطِّ وَالْإِبْرَاءِ (لِأَنَّ بِانْعِدَامِهِ) أَيْ بِانْعِدَامِ مَا ذُكِرَ مِنْ الْأَجَلِ وَشَرْطِ الْخِيَارِ وَاسْتِيفَاءِ بَعْضِ الثَّمَنِ (لَا يَخْتَلُّ مَا بِهِ قِوَامُ الْعَقْدِ) لِأَنَّ الْعَقْدَ بِلَا شَرْطٍ وَأَجَلٍ جَائِزٌ، فَإِذَا اخْتَلَفَا فِي الشَّرْطِ أَوْ فِي الْأَجَلِ وَحَالَفَا بَقِيَ الْعَقْدُ بِلَا شَرْطٍ وَأَجَلٍ، وَأَنَّهُ لَا يُوجِبُ الْفَسَادَ. وَأَمَّا إذَا اخْتَلَفَ فِي الْمُثَمَّنِ أَوْ الثَّمَنِ وَحَالَفَا لَمْ يَثْبُتْ مَا ادَّعَاهُ أَحَدُهُمَا فَيَبْقَى الثَّمَنُ أَوْ الْمُثَمَّنُ مَجْهُولًا، وَذَلِكَ يُوجِبُ الْفَسَادَ. وَوَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي الثَّمَنِ أَوْ الْمُثَمَّنِ يُوجِبُ الِاخْتِلَافَ فِي الْعَقْدِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ اخْتَلَفَ الشَّاهِدَانِ فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا بِالْبَيْعِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَالْأَخِيرُ بِالدَّنَانِيرِ لَا يُقْبَلُ، وَإِذَا اخْتَلَفَا فِي الْعَقْدِ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا مُدَّعِيًا وَمُنْكِرًا.

أَمَّا الِاخْتِلَافُ فِي الشَّرْطِ وَالْأَجَلِ فَلَا يُوجِبُ الِاخْتِلَافَ فِي الْعَقْدِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ بَاعَهُ بِأَلْفٍ إلَى شَهْرٍ وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ بَاعَهُ بِأَلْفٍ يَقْضِي بِالْعَقْدِ بِأَلْفٍ حَالَّةٍ، وَكَذَا لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ بَاعَهُ بِشَرْطِ الْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ بَاعَهُ وَلَمْ يَذْكُرْ الْخِيَارَ جَازَتْ الشَّهَادَةُ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ نَقْلًا عَنْ جَامِعِ الْإِمَامِ قَاضِي خَانْ (بِخِلَافِ الِاخْتِلَافِ فِي وَصْفِ الثَّمَنِ) كَالْجَوْدَةِ وَالرَّدَاءَةِ (أَوْ جِنْسِهِ) كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ (حَيْثُ يَكُونُ) الِاخْتِلَافُ فِيهِمَا (بِمَنْزِلَةِ الْخِلَافِ فِي الْقَدْرِ) أَيْ فِي قَدْرِ الثَّمَنِ (فِي جَرَيَانِ التَّحَالُفِ لِأَنَّ ذَلِكَ) أَيْ الِاخْتِلَافَ فِي وَصْفِ الثَّمَنِ (يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الثَّمَنِ) أَيْ الِاخْتِلَافِ فِي نَفْسِ الثَّمَنِ (فَإِنَّ الثَّمَنَ دَيْنٌ وَهُوَ) أَيْ الدَّيْنُ (يُعْرَفُ بِالْوَصْفِ) فَلَمَّا اخْتَلَفَا فِي الْوَصْفِ وَهُوَ مُعَرَّفٌ صَارَ اخْتِلَافُهُمَا فِي الْمُعَرَّفِ وَهُوَ الثَّمَنُ (وَلَا كَذَلِكَ الْأَجَلُ) أَيْ لَيْسَ الِاخْتِلَافُ فِيهِ مَنْزِلَةَ الِاخْتِلَافِ فِي قَدْرِ الثَّمَنِ (لِأَنَّهُ) أَيْ الْأَجَلَ (لَيْسَ بِوَصْفٍ) بَلْ هُوَ أَصْلٌ بِنَفْسِهِ لَكِنَّهُ يَثْبُتُ بِوَاسِطَةِ الشَّرْطِ، وَنَوَّرَ هَذَا بِقَوْلِهِ (أَلَا تَرَى أَنَّ الثَّمَنَ مَوْجُودٌ بَعْدَ مُضِيِّهِ) أَيْ بَعْدَ مُضِيِّ الْأَجَلِ وَلَوْ كَانَ وَصْفًا لِتَبَعِهِ كَذَا فِي الْكَافِي.

قَالَ فِي مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ: كَذَا قِيلَ وَفِيهِ نَوْعُ تَأَمُّلٍ انْتَهَى (قَالَ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ (وَالْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ يُنْكِرُ الْخِيَارَ وَالْأَجَلَ مَعَ يَمِينِهِ لِأَنَّهُمَا) أَيْ الْخِيَارُ وَالْأَجَلُ (يَثْبُتَانِ بِعَارِضِ الشَّرْطِ) أَيْ بِشَرْطٍ عَارِضٍ عَلَى أَصْلِ الْعَقْدِ (وَالْقَوْلُ لِمُنْكِرِ الْعَوَارِضِ) وَالْحُكْمُ فِي اسْتِيفَاءِ بَعْضِ الثَّمَنِ كَذَلِكَ،

ص: 212

قَالَ: (فَإِنْ هَلَكَ الْمَبِيعُ ثُمَّ اخْتَلَفَا لَمْ يَتَحَالَفَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي. وَقَالَ مُحَمَّدٌ رحمه الله: يَتَحَالَفَانِ وَيُفْسَخُ الْبَيْعُ عَلَى قِيمَةِ الْهَالِكِ) وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رحمه الله، وَعَلَى هَذَا إذَا خَرَجَ الْمَبِيعُ عَنْ مِلْكِهِ أَوْ صَارَ بِحَالٍ لَا يَقْدِرُ عَلَى رَدِّهِ بِالْعَيْبِ. لَهُمَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي غَيْرَ الْعَقْدِ الَّذِي يَدَّعِيهِ صَاحِبُهُ وَالْآخَرُ يُنْكِرُهُ وَأَنَّهُ يُفِيدُ دَفْعَ زِيَادَةِ الثَّمَنِ

لِأَنَّ بِانْعِدَامِهِ لَا يَخْتَلُّ مَا بِهِ قِوَامُ الْعَقْدِ لِبَقَاءِ مَا يَحْصُلُ ثَمَنًا، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ

(قَالَ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ (فَإِنْ هَلَكَ الْمَبِيعُ ثُمَّ اخْتَلَفَا) أَيْ فَإِنْ هَلَكَ الْمَبِيعُ بَعْدَ قَبْضِ الْمُشْتَرِي ثُمَّ اخْتَلَفَا فِي مِقْدَارِ الثَّمَنِ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ، وَعَزَاهُ فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ إلَى الْمَبْسُوطِ (لَمْ يَتَحَالَفَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي) أَيْ مَعَ يَمِينِهِ (وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَتَحَالَفَانِ وَيُفْسَخُ الْبَيْعُ عَلَى قِيمَةِ الْهَالِكِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَعَلَى هَذَا) أَيْ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ (إذَا خَرَجَ الْمَبِيعُ عَنْ مِلْكِهِ) أَيْ مِلْكُ الْمُشْتَرِي (أَوْ صَارَ) أَيْ الْمَبِيعُ (بِحَالٍ لَا يَقْدِرُ) أَيْ الْمُشْتَرِي (عَلَى رَدِّهِ بِالْعَيْبِ) بِحُدُوثِ عَيْبٍ فِي يَدِهِ (لَهُمَا) أَيْ لِمُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ (أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا) أَيْ مِنْ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي (يَدَّعِي غَيْرَ الْعَقْدِ الَّذِي يَدَّعِيهِ صَاحِبُهُ وَالْآخَرُ يُنْكِرُهُ) فَإِنَّ الْبَيْعَ بِأَلْفٍ غَيْرُ الْبَيْعِ بِأَلْفَيْنِ؛ أَلَا يَرَى أَنَّ شَاهِدَيْ الْبَيْعِ إذَا اخْتَلَفَا فِي مِقْدَارِ الثَّمَنِ لَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ (وَأَنَّهُ يُفِيدُ دَفْعَ زِيَادَةِ الثَّمَنِ) اعْلَمْ أَنَّ حَلَّ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ وَرَبْطَهَا بِالْمَقَامِ مِنْ مُشْكِلَاتِ هَذَا الْكِتَابِ، وَلِهَذَا كَانَ لِلشُّرَّاحِ هَاهُنَا طَرَائِقُ قِدَدٌ وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِمَا يَشْفِي الْغَلِيلَ.

فَقَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: أَيْ وَأَنَّ التَّحَالُفَ يُفِيدُ إعْطَاءَ الْمُشْتَرِي زِيَادَةَ الثَّمَنِ الَّتِي يَدَّعِيهَا الْبَائِعُ عَلَى تَقْدِيرِ نُكُولِ الْمُشْتَرِي عَنْ الْحَلِفِ، فَإِنَّ فَائِدَةَ الْيَمِينِ النُّكُولُ، وَهَذَا جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: مَا فَائِدَةُ التَّحْلِيفِ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ بَعْدَ الْهَلَاكِ مَعَ عَدَمِ حُكْمِهِ فَإِنَّ حُكْمَ التَّحَالُفِ التَّرَادُّ وَامْتَنَعَ التَّرَادُّ بِالْهَلَاكِ فَلَا فَائِدَةَ فِي التَّحَالُفِ. فَأَجَابَ عَنْهُ وَقَالَ: بَلْ فِيهِ فَائِدَةٌ وَهِيَ دَفْعُ الْمُشْتَرِي الزِّيَادَةَ الَّتِي يَدَّعِيهَا الْبَائِعُ عَلَى تَقْدِيرِ نُكُولِ الْمُشْتَرِي فَلِذَلِكَ يَتَحَالَفَانِ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا يَحْصُلُ بِتَحْلِيفِ الْمُشْتَرِي حِينَئِذٍ فَمَا

ص: 213

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

فَائِدَةُ تَحْلِيفِ الْبَائِعِ؟ قُلْنَا: لَمْ يَحْصُلْ تَمَامُ الْفَائِدَةِ بِتَحْلِيفِ الْمُشْتَرِي، فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ إذَا نَكَلَ يَجِبُ الثَّمَنُ الَّذِي ادَّعَاهُ الْبَائِعُ، وَالْبَائِعُ إذَا نَكَلَ يَنْدَفِعُ عَنْ الْمُشْتَرِي مَا ادَّعَاهُ الْبَائِعُ عَلَيْهِ مِنْ الزِّيَادَةِ فَيَتَحَالَفَانِ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ. وَقَدْ اقْتَفَى أَثَرَهُ صَاحِبُ مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ كَمَا هُوَ دَأْبُهُ فِي أَكْثَرِ الْمَحَالِّ.

أَقُولُ: فِيهِ بَحْثٌ، أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُ لَمَّا فَسَّرَ الدَّفْعَ الْوَاقِعَ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ بِالْإِعْطَاءِ عَلَى الْبَائِعِ أَنْ يَكُونَ مَنْ دَفَعَ إلَيْهِ لَا مَنْ دَفَعَ عَنْهُ حَيْثُ قَالَ: أَيْ وَإِنَّ التَّحَالُفَ يُفِيدُ إعْطَاءَ الْمُشْتَرِي زِيَادَةَ الثَّمَنِ الَّتِي يَدَّعِيهَا الْبَائِعُ عَلَى تَقْدِيرِ نُكُولِ الْمُشْتَرِي عَنْ الْحَلِفِ وَجُعِلَ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ أَنَّ فَائِدَةَ التَّحَالُفِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ هِيَ إعْطَاءُ الْمُشْتَرِي الزِّيَادَةَ الَّتِي يَدَّعِيهَا الْبَائِعُ عَلَى تَقْدِيرِ نُكُولِ الْمُشْتَرِي اتَّجَهَ عَلَيْهِ السُّؤَالُ الَّذِي ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ: فَإِنْ قِيلَ بِالضَّرُورَةِ، وَلَمْ يَدْفَعْهُ مَا ذَكَرَهُ جَوَابًا عَنْهُ أَصْلًا؛ لِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ أَنْ لَا تَحْصُلَ تَمَامُ الْفَائِدَةِ الَّتِي حُمِلَ عَلَيْهِ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا بِتَحْلِيفِ الْمُشْتَرِي فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّهُ إذَا حَلَفَ الْمُشْتَرِي وَحْدَهُ وَنَكَلَ عَنْ الْحَلِفِ يَجِبُ عَلَيْهِ إعْطَاؤُهُ زِيَادَةَ الثَّمَنِ الَّتِي يَدَّعِيهَا الْبَائِعُ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ تَمَامُ الْفَائِدَةِ الْحَقِيقِيَّةِ بِتَحْلِيفِ الْمُشْتَرِي فَلَا يُفِيدُ شَيْئًا فِي دَفْعِ السُّؤَالِ لِأَنَّ مَوْرِدَهُ مَا حُمِلَ عَلَيْهِ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا، وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ فِي الْجَوَابِ وَالْبَائِعُ إذَا نَكَلَ إلَخْ أَنَّهُ إذَا نَكَلَ بَعْدَ نُكُولِ الْمُشْتَرِي يَنْدَفِعُ عَنْ الْمُشْتَرِي مَا ادَّعَى عَلَيْهِ الْبَائِعُ مِنْ الزِّيَادَةِ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، إذْ قَدْ تَقَرَّرَ فِيمَا مَرَّ أَنَّهُ إذَا نَكَلَ أَحَدُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ عَنْ الْيَمِينِ لَزِمَهُ دَعْوَى الْآخَرِ، فَبَعْدَ نُكُولِ الْمُشْتَرِي يَلْزَمُهُ دَعْوَى الْبَائِعِ فَلَا يَجُوزُ تَحْلِيفُهُ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ نُكُولُهُ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ إذَا نَكَلَ بَعْدَ حَلِفِ الْمُشْتَرِي يَنْدَفِعُ عَنْ الْمُشْتَرِي مَا ادَّعَى عَلَيْهِ الْبَائِعُ مِنْ الزِّيَادَةِ يَتَّجِهُ عَلَيْهِ أَنَّ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ يَنْدَفِعُ عَنْ الْمُشْتَرِي ذَلِكَ بِحَلِفِهِ السَّابِقِ فَلَا تَأْثِيرَ فِيهِ لِنُكُولِ الْبَائِعِ.

وَأَيْضًا يَتَّجِهُ عَلَى مَجْمُوعِ الْجَوَابِ أَنَّ الْأَمْرَ الثَّانِيَ وَهُوَ انْدِفَاعُ الزِّيَادَةِ عَنْ الْمُشْتَرِي يَحْصُلُ بِتَحْلِيفِ الْمُشْتَرِي إنْ حَلَفَ، كَمَا أَنَّ الْأَمْرَ الْأَوَّلَ هُوَ وُجُوبُ إعْطَاءِ الزِّيَادَةِ عَلَى الْمُشْتَرِي يَحْلِفُ بِتَحْلِيفِهِ إنْ نَكَلَ، فَتَمَامُ الْفَائِدَةِ الَّذِي ذَكَرَهُ وَهُوَ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ لَا بِعَيْنِهِ يَحْصُلُ بِتَحْلِيفِ الْمُشْتَرِي وَحْدَهُ فَلَمْ تَظْهَرْ فَائِدَةُ تَحْلِيفِ الْبَائِعِ قَطُّ. وَقَالَ صَاحِبُ الْكِفَايَةِ وَتَاجِ الشَّرِيعَةِ: يَعْنِي أَنَّ التَّحَالُفَ يُفِيدُ دَفْعَ زِيَادَةِ الثَّمَنِ عَنْ الْمُشْتَرِي عِنْدَ نُكُولِ الْبَائِعِ فَكَانَ التَّحَالُفُ مُفِيدًا انْتَهَى. أَقُولُ: فِيهِ أَيْضًا بَحْثٌ، لِأَنَّهُمَا حَمَلَا الدَّفْعَ الْوَاقِعَ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ عَلَى مَعْنَى الْمَنْعِ حَيْثُ جَعَلَاهُ مَنْ دَفَعَ عَنْهُ كَمَا تَرَى، وَاعْتَبَرَا ظُهُورَ الْفَائِدَةِ عِنْدَ نُكُولِ الْبَائِعِ، فَيَتَّجِهُ عَلَى مَا ذَهَبَا إلَيْهِ أَنَّ نُكُولَ الْبَائِعِ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ بَعْدَ حَلِفِ الْمُشْتَرِي لَا بَعْدَ نُكُولِهِ لِمَا بَيَّنَّاهُ آنِفًا، وَعِنْدَ حَلِفِ الْمُشْتَرِي قَدْ حَصَلَتْ هَذِهِ الْفَائِدَةُ: أَعْنِي دَفْعَ زِيَادَةِ الثَّمَنِ عَنْ الْمُشْتَرِي فَمَا الْفَائِدَةُ فِي تَحْلِيفِ الْبَائِعِ وَنُكُولِهِ بَعْدَ ذَلِكَ.

وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَإِنَّهُ يَعْنِي التَّحَالُفَ يُفِيدُ دَفْعَ زِيَادَةِ الثَّمَنِ: يَعْنِي أَنَّ التَّحَالُفَ يَدْفَعُ عَنْ الْمُشْتَرِي زِيَادَةَ الثَّمَنِ الَّتِي يَدَّعِيهَا الْبَائِعُ عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ، وَإِذَا حَلَفَ الْبَائِعُ انْدَفَعَتْ الزِّيَادَةُ الْمُدَّعَاةُ فَكَانَ مُفِيدًا انْتَهَى. أَقُولُ: وَفِيهِ أَيْضًا بَحْثٌ لِأَنَّهُ جَعَلَ الدَّفْعَ الْوَاقِعَ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ مَنْ دَفَعَ عَنْهُ كَمَا تَرَى، فَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ بِالنُّكُولِ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ يَدْفَعُ عَنْ الْمُشْتَرِي، وَأَنَّ مُرَادَهُ بِالنُّكُولِ نُكُولُ الْبَائِعِ دُونَ نُكُولِ الْمُشْتَرِي، لِأَنَّ الَّذِي يَقْتَضِي دَفْعَ زِيَادَةِ الثَّمَنِ عَنْ الْمُشْتَرِي إنَّمَا هُوَ نُكُولُ الْبَائِعِ، وَأَمَّا نُكُولُ الْمُشْتَرِي فَيَقْتَضِي دَفْعُهُ زِيَادَةَ الثَّمَنِ بِمَعْنَى إعْطَائِهِ إيَّاهَا فَإِذًا يَئُولُ قَوْلُهُ: يَعْنِي أَنَّ التَّحَالُفَ يَدْفَعُ عَنْ الْمُشْتَرِي زِيَادَةَ الثَّمَنِ الَّتِي يَدَّعِيهَا الْبَائِعُ عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ إلَى مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْكِفَايَةِ وَتَاجُ الشَّرِيعَةِ كَمَا مَرَّ فَيَرُدُّ عَلَيْهِ مَا يَرُدُّ عَلَى ذَلِكَ وَيَزْدَادُ إشْكَالُ قَوْلِهِ وَإِذَا حَلَفَ الْبَائِعُ انْدَفَعَتْ الزِّيَادَةُ الْمُدَّعَاةُ، لِأَنَّ مَدْلُولَهُ أَنْ يَكُونَ انْدِفَاعُ الزِّيَادَةِ الْمُدَّعَاةِ بِحَلِفِ الْبَائِعِ، وَمَدْلُولُهُ قَوْلُهُ السَّابِقُ أَنْ يَكُونَ انْدِفَاعُهَا بِنُكُولِ الْبَائِعِ فَيَلْزَمُ أَنْ يَتَّحِدَ حَلِفُ الْبَائِعِ وَنُكُولُهُ حُكْمًا وَهَذَا ظَاهِرُ الْفَسَادِ.

فَإِنْ قُلْت: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ اللَّاحِقِ وَإِذَا حَلَفَ الْبَائِعُ بَعْدَ حَلِفِ الْمُشْتَرِي انْدَفَعَتْ الزِّيَادَةُ الْمُدَّعَاةُ بِأَنْ يُفْسَخَ الْبَيْعُ عَلَى قِيمَةِ الْهَالِكِ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ السَّابِقِ إذَا نَكَلَ الْبَائِعُ تَنْدَفِعُ الزِّيَادَةُ الْمُدَّعَاةُ عَنْ الْمُشْتَرِي بِأَنْ يَقْضِيَ بِمَا ادَّعَاهُ الْمُشْتَرِي وَهُوَ أَقَلُّ الثَّمَنَيْنِ لَا بِأَنْ يَفْسَخَ الْبَيْعَ عَلَى قِيمَةِ الْهَالِكِ، فَاخْتَلَفَ حُكْمُ حَلِفِ الْبَائِعِ وَحُكْمُ نُكُولِهِ بِهَاتَيْنِ الْجِهَتَيْنِ وَهُوَ كَافٍ. قُلْت: لَا يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ قِيمَةُ الْهَالِكِ أَنْقَصَ مِمَّا ادَّعَاهُ الْبَائِعُ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُسَاوِيَةً لَهُ بَلْ أَزِيدَ مِنْهُ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ فَسْخِ الْبَيْعِ عَلَى قِيمَةِ الْهَالِكِ انْدِفَاعُ

ص: 214

فَيَتَحَالَفَانِ؛ كَمَا إذَا اخْتَلَفَا فِي جِنْسِ الثَّمَنِ بَعْدَ هَلَاكِ السِّلْعَةِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ التَّحَالُفَ بَعْدَ الْقَبْضِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ لِأَنَّهُ سَلَّمَ لِلْمُشْتَرِي مَا يَدَّعِيهِ وَقَدْ وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ فِي حَالِ قِيَامِ السِّلْعَةِ،

الزِّيَادَةِ الْمُدَّعَاةِ، فَلَا يَتِمُّ حَمْلُ مَعْنَى قَوْلِهِ اللَّاحِقِ عَلَى مَا ذُكِرَ. فَإِنْ قِيلَ: يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ كَلِمَةُ حَلَفَ فِي قَوْلِهِ وَإِذَا حَلَفَ الْبَائِعُ إلَخْ عَلَى صِيغَةِ الْمَبْنِيِّ لِلْمَفْعُولِ مِنْ التَّفْصِيلِ، وَأَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى إذَا حَلَفَ الْبَائِعُ انْدَفَعَتْ الزِّيَادَةُ الْمُدَّعَاةُ: أَيْ بِنُكُولِ الْبَائِعِ لَا بِحَلِفِهِ فَلَا يَلْزَمُ الْمَذْكُورُ وَهُوَ اتِّحَادُ حُكْمِ حَلِفِ الْبَائِعِ وَنُكُولِهِ.

قُلْنَا: فَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ اسْتِدْرَاكُ قَوْلِهِ اللَّاحِقِ لِحُصُولِ هَذَا الْمَعْنَى بِعَيْنِهِ مِنْ قَوْلِهِ السَّابِقِ كَمَا لَا يَخْفَى.

ثُمَّ إنَّ بَعْضَ الْفُضَلَاءِ قَصَدَ حَلَّ كَلَامِ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ هَاهُنَا فَقَالَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ بِالنُّكُولِ: أَيْ بِنُكُولِ الْمُشْتَرِي، وَقَالَ: وَقَوْلُهُ بِالنُّكُولِ مُتَعَلِّقٌ بِزِيَادَةٍ فِي قَوْلِهِ يَدْفَعُ عَنْ الْمُشْتَرِي زِيَادَةَ الثَّمَنِ، وَقَالَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ وَإِذَا حَلَفَ الْبَائِعُ: يَعْنِي بَعْدَ حَلِفِ الْمُشْتَرِي، وَقَالَ: فَإِنْ قِيلَ: دَافِعُ زِيَادَةِ الثَّمَنِ الْمُدَّعَاةِ حَلِفُ الْمُشْتَرِي لَيْسَ إلَّا. قُلْنَا: إذَا حَلَفَ الْبَائِعُ بَعْدَ حَلِفِ الْمُشْتَرِي يُفْسَخُ عَلَى الْقِيمَةِ وَتَنْدَفِعُ الزِّيَادَةُ الْمُدَّعَاةُ انْتَهَى.

أَقُولُ: جُمْلَةُ مَا ذَكَرَهُ لَيْسَتْ بِشَيْءٍ، أَمَّا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ بِالنُّكُولِ بِنُكُولِ الْمُشْتَرِي وَجُعِلَ قَوْلُهُ بِالنُّكُولِ مُتَعَلِّقًا بِزِيَادَةٍ فِي قَوْلِهِ يَدْفَعُ عَنْ الْمُشْتَرِي زِيَادَةَ الثَّمَنِ فَلِأَنَّهُ لَا يَكُونُ لِلْكَلَامِ حِينَئِذٍ مَعْنًى مَعْقُولٍ أَصْلًا، لِأَنَّهُ إنْ كَانَ الْمَعْنَى يَدْفَعُ عَنْ الْمُشْتَرِي زِيَادَةَ الثَّمَنِ الْكَائِنَةِ: أَيْ الثَّابِتَةُ فِي الْوَاقِعِ بِنُكُولِ الْمُشْتَرِي فَلَا وَجْهَ لَهُ لِأَنَّ زِيَادَةَ الثَّمَنِ إنْ ثَبَتَتْ فِي الْوَاقِعِ ثَبَتَتْ بِالْعَقْدِ لَا غَيْرُ، وَإِنْ كَانَ الْمَعْنَى يَدْفَعُ عَنْ الْمُشْتَرِي زِيَادَةَ الثَّمَنِ الثَّابِتِ فِي عِلْمِ الْقَاضِي بِنُكُولِ الْمُشْتَرِي فَلَا صِحَّةَ لَهُ، لِأَنَّ زِيَادَةَ الثَّمَنِ إذًا ثَبَتَتْ فِي عِلْمِ الْقَاضِي بِنُكُولِ الْمُشْتَرِي يَجِبُ عَلَى الْمُشْتَرِي فَكَيْفَ يَدْفَعُهَا التَّحَالُفُ عَنْهُ، بَلْ لَا يُتَصَوَّرُ التَّحَالُفُ عِنْدَ نُكُولِ الْمُشْتَرِي أَصْلًا عَلَى مَا مَرَّ غَيْرَ مَرَّةٍ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ يَعْنِي بَعْدَ حَلِفِ الْمُشْتَرِي فَلِوُرُودِ السُّؤَالِ الَّذِي ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ فَإِنْ قِيلَ إلَخْ عَلَيْهِ. وَأَمَّا جَوَابُهُ عَنْ السُّؤَالِ فَلِسُقُوطِهِ بِمَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا مِنْ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ فَسْخِ الْبَيْعِ عَلَى الْقِيمَةِ انْدِفَاعُ الزِّيَادَةِ الْمُدَّعَاةِ لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ الْقِيمَةُ الْمُسَاوِيَةُ لِلزِّيَادَةِ الْمُدَّعَاةِ بَلْ أَزْيَدَ مِنْهَا.

وَقَالَ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ: قَوْلُهُ وَإِنَّهُ يُفِيدُ دَفْعَ زِيَادَةِ الثَّمَنِ: أَيْ إنَّ دَعْوَى الْمُشْتَرِي يُفِيدُ ذَلِكَ وَتَذْكِيرُ الضَّمِيرِ بِتَأْوِيلِ الِادِّعَاءِ انْتَهَى. أَقُولُ: وَفِيهِ أَيْضًا بَحْثٌ، لِأَنَّ دَعْوَى الْمُشْتَرِي لَا تُفِيدُ دَفْعَ زِيَادَةِ الثَّمَنِ سَوَاءٌ كَانَ الْمُرَادُ بِالدَّفْعِ مَعْنَى الْإِعْطَاءِ أَوْ مَعْنَى الْمَنْعِ، وَإِنَّمَا الَّذِي يُفِيدُ دَفْعَهَا بِنِيَّةِ الْمُشْتَرِي أَوْ حَلِفِهِ إنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالدَّفْعِ مَعْنَى الْمَنْعِ، وَنُكُولُهُ إنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ مَعْنَى الْإِعْطَاءِ، عَلَى أَنَّ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْمَقَامُ بَيَانُ فَائِدَةِ التَّحَالُفِ لَا بَيَانُ فَائِدَةِ دَعْوَى الْمُشْتَرِي وَلَا بَيَانُ فَائِدَةِ تَحْلِيفِهِ فَقَطْ، فَلَوْ كَانَ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ مَا ذَكَرَهُ فَاتَ مُقْتَضَى الْمَقَامِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى ذَوِي الْأَفْهَامِ (فَيَتَحَالَفَانِ) هَذَا نَتِيجَةُ الدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ (كَمَا إذَا اخْتَلَفَا فِي جِنْسِ الثَّمَنِ بَعْدَ هَلَاكِ السِّلْعَةِ) بِأَنْ ادَّعَى أَحَدُهُمَا الْعَقْدَ بِالدَّرَاهِمِ وَالْآخَرُ بِالدَّنَانِيرِ فَإِنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ وَيَلْزَمُ الْمُشْتَرِي رَدَّ الْقِيمَةِ (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّ التَّحَالُفَ بَعْدَ الْقَبْضِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ لِمَا أَنَّهُ سَلَّمَ لِلْمُشْتَرِي مَا يَدَّعِيهِ وَقَدْ وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ) أَيْ التَّحَالُفُ (فِي حَالِ قِيَامِ السِّلْعَةِ) وَهُوَ قَوْلُهُ

ص: 215

وَالتَّحَالُفُ فِيهِ يُفْضِي إلَى الْفَسْخِ، وَلَا كَذَلِكَ بَعْدَ هَلَاكِهَا لِارْتِفَاعِ الْعَقْدِ فَلَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَاهُ وَلِأَنَّهُ لَا يُبَالِي بِالِاخْتِلَافِ فِي السَّبَبِ بَعْدَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ، وَإِنَّمَا يُرَاعَى مِنْ الْفَائِدَةِ مَا يُوجِبُهُ الْعَقْدُ، وَفَائِدَةُ دَفْعِ زِيَادَةِ الثَّمَنِ لَيْسَتْ مِنْ مُوجِبَاتِهِ

- صلى الله عليه وسلم «إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ وَالسِّلْعَةُ قَائِمَةٌ بِعَيْنِهَا تَحَالَفَا وَتَرَادَّا» فَلَا يَتَعَدَّى إلَى حَالِ هَلَاكِ السِّلْعَةِ.

فَإِنْ قِيلَ: فَلْيَكُنْ حَالُ هَلَاكِ السِّلْعَةِ مُلْحَقًا بِحَالِ قِيَامِ السِّلْعَةِ بِالدَّلَالَةِ. أَجَابَ بِقَوْلِهِ (وَالتَّحَالُفُ فِيهِ) أَيْ فِي حَالِ قِيَامِ السِّلْعَةِ (يُفْضِي إلَى الْفَسْخِ) فَيَنْدَفِعُ بِهِ الضَّرَرُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِرَدِّ رَأْسِ مَالِهِ بِعَيْنِهِ إلَيْهِ (وَلَا كَذَلِكَ بَعْدَ هَلَاكِهَا) أَيْ بَعْدَ هَلَاكِ السِّلْعَةِ (لِارْتِفَاعِ الْعَقْدِ) أَيْ بِالْهَلَاكِ؛ أَلَا يَرَى أَنَّهُ لَا يُفْسَخُ بِالْإِقَالَةِ وَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ بَعْدَ هَلَاكِ السِّلْعَةِ فَكَذَا بِالتَّحَالُفِ إذْ الْفَسْخُ لَا يَرِدُ إلَّا عَلَى مَا وَرَدَ عَلَيْهِ الْعَقْدُ (فَلَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَاهُ) أَيْ فَلَمْ يَكُنْ وَقْتَ هَلَاكِ السِّلْعَةِ فِي مَعْنَى وَقْتِ قِيَامِ السِّلْعَةِ فَبَطَلَ الْإِلْحَاقُ أَيْضًا (وَلِأَنَّهُ لَا يُبَالِي بِالِاخْتِلَافِ فِي السَّبَبِ بَعْدَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ) هَذَا جَوَابٌ عَنْ قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي غَيْرَ الْعَقْدِ الَّذِي يَدَّعِيهِ صَاحِبُهُ وَالْآخَرُ يُنْكِرُهُ: أَيْ لَا يُبَالِي بِاخْتِلَافِ السَّبَبِ بَعْدَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ وَهُوَ سَلَامَةُ الْمَبِيعِ لِلْمُشْتَرِي حَيْثُ سَلِمَ لَهُ وَهَلَكَ عَلَى مِلْكِهِ، سَوَاءٌ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا زَعَمَ هُوَ أَوْ الْبَائِعُ، فَلَغَا ذِكْرُ السَّبَبِ وَصَارَ بِمَنْزِلَةِ اخْتِلَافِهِمَا فِي أَلْفٍ وَأَلْفَيْنِ بِلَا سَبَبٍ فَيَكُونُ الْيَمِينُ عَلَى مُنْكِرِ الْأَلْفِ الزَّائِدِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ اخْتَلَفَا فِي جِنْسِ الثَّمَنِ لِأَنَّ الْبَائِعَ يَدَّعِي الدَّنَانِيرَ وَالْمُشْتَرِيَ يُنْكِرُ، وَالْمُشْتَرِي يَدَّعِي الشِّرَاءَ بِالدَّرَاهِمِ وَالْبَائِعُ يُنْكِرُ، وَإِنْكَارُهُ صَحِيحٌ لِأَنَّ الْمَبِيعَ لَا يُسَلَّمُ لِلْمُشْتَرِي إلَّا بِثَمَنٍ وَلَمْ يَتَّفِقَا عَلَى ثَمَنٍ وَهُنَا اتَّفَقَا عَلَى الْأَلْفِ وَهُوَ يَكْفِي لِلصِّحَّةِ، كَذَا قَرَّرَ الْمَقَامُ فِي الْكِفَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ أَخْذًا مِنْ الْكَافِي.

وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي تَقْرِيرِهِ: قَوْلُهُ وَلِأَنَّهُ لَا يُبَالِي إلَخْ جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمَا إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي غَيْرَ الْعَقْدِ الَّذِي يَدَّعِيهِ صَاحِبُهُ وَهُوَ قَوْلٌ بِمُوجَبِ الْعِلْمِ: أَيْ سَلَّمْنَا ذَلِكَ لَكِنْ لَا يَضُرُّنَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ، لِأَنَّ اخْتِلَافَ السَّبَبِ إنَّمَا يُعْتَبَرُ إذَا أَفْضَى إلَى التَّنَاكُرِ وَهَاهُنَا لَيْسَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ مَقْصُودَ الْمُشْتَرِي وَهُوَ تَمَلُّكُ الْمَبِيعِ قَدْ حَصَلَ بِقَبْضِهِ وَتَمَّ بِهَلَاكِهِ وَلَيْسَ يَدَّعِي عَلَى الْبَائِعِ شَيْئًا يُنْكِرُهُ لِيَجِبَ عَلَيْهِ الْيَمِينُ. ثُمَّ قَالَ: وَنُوقِضَ بِحَالِ قِيَامِ السِّلْعَةِ وَبِمَا إذَا اخْتَلَفَا بَيْعًا وَهِبَةً، فَإِنَّ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْمَقْصُودَ حَاصِلٌ وَالتَّحَالُفَ مَوْجُودٌ لِاخْتِلَافِ السَّبَبِ.

وَأُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ بِثُبُوتِهِ بِالنَّصِّ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ، وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّهُ عَلَى الِاخْتِلَافِ، وَالْمَذْكُورُ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ قَوْلُ مُحَمَّدٍ انْتَهَى (وَإِنَّمَا يُرَاعَى مِنْ الْفَائِدَةِ مَا يُوجِبُهُ الْعَقْدُ، وَفَائِدَةُ دَفْعِ زِيَادَةِ الثَّمَنِ لَيْسَتْ مِنْ مُوجِبَاتِهِ) هَذَا أَيْضًا جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمَا وَأَنَّهُ يُفِيدُ دَفْعَ زِيَادَةِ الثَّمَنِ: يَعْنِي أَنَّ الْمُرَاعَى مِنْ الْفَائِدَةِ مَا يَكُونُ مِنْ مُوجِبَاتِ الْعَقْدِ، وَفَائِدَةُ دَفْعِ زِيَادَةِ الثَّمَنِ لَيْسَتْ مِنْهَا بَلْ مِنْ مُوجِبَاتِ النُّكُولِ،

ص: 216

وَهَذَا إذَا كَانَ الثَّمَنُ دَيْنًا، فَإِنْ كَانَ عَيْنًا يَتَحَالَفَانِ لِأَنَّ الْمَبِيعَ فِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ قَائِمٌ فَتُوَفَّرُ فَائِدَةُ الْفَسْخِ ثُمَّ يَرُدُّ مِثْلَ الْهَالِكِ إنْ كَانَ لَهُ مِثْلٌ أَوْ قِيمَتَهُ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِثْلٌ. .

قَالَ (وَإِنْ هَلَكَ أَحَدُ

وَلَيْسَتْ الْيَمِينُ مِنْ مُوجِبَاتِ الْعَقْدِ حَتَّى يَكُونَ النُّكُولُ مِنْ مُوجِبَاتِهِ فَلَا يَتْرُكُ بِهَا مَا هُوَ مِنْ مُوجِبَاتِهِ وَهُوَ مِلْكُ الْمَبِيعِ وَقَبْضُهُ.

هَذَا زُبْدَةُ مَا فِي الشُّرُوحِ. وَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ بِأَنَّ مِلْكَ الْمَبِيعِ وَقَبْضَهُ بَاقٍ عَلَى حَالِهِ عَلَى تَقْدِيرِ التَّحَالُفِ، غَايَتُهُ أَنَّهُ يَمْلِكُهُ بِالْقِيمَةِ فَلَا يَلْزَمُ تَرْكُ مُوجِبِ الْعَقْدِ بِهِ انْتَهَى. أَقُولُ: مَدَارُ هَذَا الِاعْتِرَاضِ عَلَى عَدَمِ فَهْمِ مَعْنَى الْمَقَامِ وَزَعَمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِمِلْكِ الْمَبِيعِ وَقَبْضِهِ مِلْكُ الْبَائِعِ الْمَبِيعَ وَقَبْضُهُ إيَّاهُ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ ذَلِكَ قَطْعًا، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ الَّذِي مِنْ مُوجِبَاتِ الْعَقْدِ هُوَ مِلْكُ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ وَقَبْضُهُ إيَّاهُ. وَأَمَّا مِلْكُ الْبَائِعِ الْمَبِيعَ وَقَبْضُهُ إيَّاهُ فَمِنْ مُوجِبَاتِ الْفَسْخِ دُونَ الْعَقْدِ، وَهَذَا مِمَّا لَا سُتْرَةَ بِهِ.

ثُمَّ أَنَّ قَوْلَهُ غَايَتُهُ أَنْ يَمْلِكَهُ بِالْقِيمَةِ إلَخْ كَلَامٌ سَاقِطٌ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ ذَلِكَ تَأَمَّلْ تَقِفْ. ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ الْعِنَايَةِ بَعْدَ شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ قَالَ: وَفِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّا قَدْ اعْتَبَرْنَا حَالَ قِيَامِ السِّلْعَةِ التَّرَادَّ فَائِدَةُ التَّحَالُفِ وَلَيْسَ مِنْ مُوجِبَاتِ الْعَقْدِ. وَالْجَوَابُ أَنَّهُ ثَبَتَ بِالنَّصِّ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ انْتَهَى. وَاعْتَرَضَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ عَلَى الْجَوَابِ بِأَنْ قَالَ فِيهِ تَأَمُّلٌ فَإِنَّهُ قَبْلَ الْقَبْضِ عَلَى وِفَاقِ الْقِيَاسِ انْتَهَى.

أَقُولُ: لَمْ يُعْتَبَرْ التَّرَادُّ فَائِدَةً لِلتَّحَالُفِ إلَّا بَعْدَ الْقَبْضِ، إذْ الرَّدُّ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ بَعْدَ الْقَبْضِ فَكَانَ الْجَوَابُ الْمَزْبُورُ دَافِعًا لِلنَّظَرِ الْمَذْكُورِ. نَعَمْ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الظَّاهِرُ أَنَّ لِلتَّحَالُفِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَائِدَةً مَا، فَأَيُّ شَيْءٍ اُعْتُبِرَ فَائِدَةً لِلتَّحَالُفِ قَبْلَ الْقَبْضِ لَمْ يَكُنْ مِنْ مُوجِبَاتِ الْعَقْدِ أَلْبَتَّةَ، لِأَنَّ مُوجِبَ التَّحَالُفِ فَسْخُ الْعَقْدِ وَحُكْمُ الْفَسْخِ يُخَالِفُ حُكْمَ الْعَقْدِ قَطْعًا فَيُنْتَقَضُ بِهِ قَوْلُهُمْ وَإِنَّمَا يُرَاعَى مِنْ الْفَائِدَةِ مَا يُوجِبُهُ الْعَقْدُ (وَهَذَا) أَيْ وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ الِاخْتِلَافِ فِي التَّحَالُفِ عِنْدَ صُورَةِ هَلَاكِ الْمَبِيعِ (إذَا كَانَ الثَّمَنُ دَيْنًا) أَيْ ثَابِتًا فِي الذِّمَّةِ بِأَنْ كَانَ مِنْ الدَّرَاهِمِ أَوْ الدَّنَانِيرِ أَوْ الْمَكِيلَاتِ أَوْ الْمَوْزُونَاتِ الْمَوْصُوفَةِ الثَّابِتَةِ فِي الذِّمَّةِ (فَإِنْ كَانَ عَيْنًا) أَيْ فَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ عَيْنًا كَالثَّوْبِ وَالْفَرَسِ وَنَحْوِ ذَلِكَ بِأَنْ كَانَ الْعَقْدُ مُقَايَضَةً وَهَلَكَ أَحَدُ الْعِوَضَيْنِ (يَتَحَالَفَانِ) أَيْ بِالِاتِّفَاقِ (لِأَنَّ الْمَبِيعَ فِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ قَائِمٌ) فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْعِوَضَيْنِ فِي بَيْعِ الْمُقَايَضَةِ مَبِيعٌ وَثَمَنٌ، وَلَا يَتَعَيَّنُ أَحَدُهُمَا لِلثَّمَنِيَّةِ بِدُخُولِ الْبَاءِ كَمَا تَقَرَّرَ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ (فَتُوَفَّرُ فَائِدَةُ الْفَسْخِ) وَهُوَ التَّرَادُّ فَيَرُدُّ الْقَائِمُ (ثُمَّ يَرُدُّ مِثْلَ الْهَالِكِ إنْ كَانَ لَهُ مِثْلٌ أَوْ قِيمَتَهُ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِثْلٌ) هَذَا إذَا اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ الْبَدَلِ، وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي كَوْنِ الْبَدَلِ دَيْنًا أَوْ عَيْنًا إنْ ادَّعَى الْمُشْتَرِي أَنَّهُ كَانَ عَيْنًا يَتَحَالَفَانِ عِنْدَهُمَا، وَإِنْ ادَّعَى الْبَائِعُ أَنَّهُ كَانَ عَيْنًا وَادَّعَى الْمُشْتَرِي أَنَّهُ كَانَ دَيْنًا لَا يَتَحَالَفَانِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي، كَذَا فِي الْكِفَايَةِ.

(قَالَ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ (وَإِنْ هَلَكَ أَحَدُ

ص: 217

الْعَبْدَيْنِ ثُمَّ اخْتَلَفَا فِي الثَّمَنِ لَمْ يَتَحَالَفَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إلَّا أَنْ يَرْضَى الْبَائِعُ أَنْ يَتْرُكَ حِصَّةَ الْهَالِكِ مِنْ الثَّمَنِ. وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي مَعَ يَمِينِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إلَّا أَنْ يَشَاءَ الْبَائِعُ أَنْ يَأْخُذَ الْعَبْدَ الْحَيَّ وَلَا شَيْءَ لَهُ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَتَحَالَفَانِ فِي الْحَيِّ وَيُفْسَخُ الْعَقْدُ فِي الْحَيِّ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي

الْعَبْدَيْنِ) أَيْ بَعْدَ قَبْضِهِمَا: كَذَا فِي الشُّرُوحِ (ثُمَّ اخْتَلَفَا فِي الثَّمَنِ لَمْ يَتَحَالَفَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إلَّا أَنْ يَرْضَى الْبَائِعُ أَنْ يَتْرُكَ حِصَّةَ الْهَالِكِ) يَعْنِي إذَا بَاعَ الرَّجُلُ عَبْدَيْنِ صَفْقَةً وَاحِدَةً وَقَبَضَهُمَا الْمُشْتَرِي فَهَلَكَ أَحَدُهُمَا ثُمَّ اخْتَلَفَا فِي الثَّمَنِ فَقَالَ الْبَائِعُ: بِعْتُهُمَا مِنْك بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ وَقَالَ الْمُشْتَرِي: اشْتَرَيْتُهُمَا مِنْك بِأَلْفِ دِرْهَمٍ لَمْ يَتَحَالَفَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إلَّا أَنْ يَرْضَى الْبَائِعُ أَنْ يَتْرُكَ حِصَّةَ الْهَالِكِ (وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي) أَيْ فِيهِمَا، كَذَا فِي كَثِيرٍ مِنْ الشُّرُوحِ (مَعَ يَمِينِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إلَّا أَنْ يَشَاءَ الْبَائِعُ أَنْ يَأْخُذَ الْعَبْدَ الْحَيَّ وَلَا شَيْءَ لَهُ مِنْ قِيمَةِ الْهَالِكِ) وَإِنَّمَا أَعَادَ ذِكْرَ لَفْظِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، لِأَنَّ لَفْظَهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ يَمِينَ الْمُشْتَرِي وَلَفْظُ الْقُدُورِيِّ الَّذِي هُوَ لَفْظُ الْمَبْسُوطِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ عَدَمَ التَّحَالُفِ، لِأَنَّ الْمَذْكُورَ قَبْلَ الِاسْتِثْنَاءِ هُنَاكَ قَوْلُهُ لَمْ يَتَحَالَفَا (وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَتَحَالَفَانِ فِي الْحَيِّ وَيُفْسَخُ الْعَقْدُ فِي الْحَيِّ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَقَوْلُهُ فِي تَحْرِيرِ الْمَذَاهِبِ يَتَحَالَفَانِ فِي الْحَيِّ لَيْسَ بِالصَّحِيحِ عَلَى مَا سَيَأْتِي انْتَهَى.

أَقُولُ: يَعْنِي أَنَّ قَوْلَهُ هَاهُنَا يَتَحَالَفَانِ فِي الْحَيِّ لَيْسَ بِمُلَابِسٍ بِالتَّفْسِيرِ الصَّحِيحِ لِلتَّحَالُفِ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ عَلَى مَا سَيَأْتِي، وَهُوَ أَنْ يَتَحَالَفَا عَلَى الْقَائِمِ وَالْهَالِكِ مَعًا لَا أَنْ يَتَحَالَفَا عَلَى الْقَائِمِ فَقَطْ كَمَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ، وَلَكِنْ فِيهِ نَظَرٌ، إذْ يُمْكِنُ تَطْبِيقُ قَوْلِهِ هَذَا عَلَى مَا سَيَأْتِي مِنْ التَّفْسِيرِ الصَّحِيحِ، فَإِنْ لَمْ يَقُلْ هَاهُنَا يَتَحَالَفَانِ عَلَى الْحَيِّ حَتَّى تَكُونَ كَلِمَةُ عَلَى صِلَةَ التَّحَالُفِ فَيَئُولُ الْمَعْنَى إلَى التَّفْسِيرِ الْغَيْرِ صَحِيحٍ، بَلْ قَالَ: يَتَحَالَفَانِ فِي الْحَيِّ فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ كَلِمَةُ فِي بِمَعْنَى اللَّامِ وَيَصِيرَ الْمَعْنَى يَتَحَالَفَانِ لِأَجْلِ الْحَيِّ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ} وَكَمَا فِي الْحَدِيثِ «إنَّ امْرَأَةً دَخَلَتْ النَّارَ فِي هِرَّةٍ حَبَسَتْهَا» عَلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي مُغْنِي اللَّبِيبِ.

وَلَا يَخْفَى أَنْ يَكُونَ تَحَالُفُهُمَا لِأَجْلِ الْحَيِّ: أَيْ كَوْنُ الْمَقْصُودِ مِنْ تَحَالُفِهِمَا فَسْخَ الْعَقْدِ فِي الْحَيِّ لَا يُنَافِي أَنْ يَتَحَالَفَا عَلَى الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ مَعًا كَمَا هُوَ الصَّحِيحُ لِيُفِيدَ التَّحَالُفَ عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ (وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي

ص: 218

فِي قِيمَةِ الْهَالِكِ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَتَحَالَفَانِ عَلَيْهِمَا وَيَرُدُّ الْحَيَّ وَقِيمَةَ الْهَالِكِ) لِأَنَّ هَلَاكَ كُلِّ السِّلْعَةِ لَا يَمْنَعُ التَّحَالُفَ عِنْدَهُ فَهَلَاكُ الْبَعْضِ أَوْلَى. وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ امْتِنَاعَ التَّحَالُفِ لِلْهَلَاكِ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهِ.

وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ التَّحَالُفَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فِي حَالِ قِيَامِ السِّلْعَةِ وَهِيَ اسْمٌ لِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا فَلَا تَبْقَى السِّلْعَةُ بِفَوَاتِ بَعْضِهَا، وَلِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ التَّحَالُفُ فِي الْقَائِمِ إلَّا عَلَى اعْتِبَارِ حِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْقِسْمَةِ وَهِيَ تُعْرَفُ بِالْحَذَرِ وَالظَّنِّ فَيُؤَدِّي إلَى التَّحَالُفِ مَعَ الْجَهْلِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ

فِي قِيمَةِ الْهَالِكِ) هَذَا مِنْ تَتِمَّةِ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ.

أَقُولُ: فِي عِبَارَةِ الْكِتَابِ هَاهُنَا قُصُورٌ، لِأَنَّ قَوْلَ الْمُشْتَرِي إنَّمَا يُعْتَبَرُ فِي حِصَّةِ الْهَالِكِ مِنْ الثَّمَنِ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ الْمُشْتَرِي كَمَا سَيَجِيءُ تَفْصِيلُهُ، لَا فِي قِيمَةِ الْهَالِكِ فَإِنَّ الْقَوْلَ فِيهَا لِلْبَائِعِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْمُصَنِّفُ فِيمَا سَيَأْتِي حَيْثُ قَالَ: فَإِنْ اخْتَلَفَا فِي قِيمَةِ الْهَالِكِ يَوْمَ الْقَبْضِ فَالْقَوْلُ لِلْبَائِعِ انْتَهَى. وَعَنْ هَذَا قَالَ صَاحِبُ الْكَافِي: وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ يَتَحَالَفَانِ فِي الْحَيِّ وَيَفْسُدُ الْعَقْدُ فِي الْحَيِّ وَالْقَوْلُ لِلْمُشْتَرِي فِي حِصَّةِ الْهَالِكِ مِنْ الثَّمَنِ مَعَ يَمِينِهِ انْتَهَى (وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَتَحَالَفَانِ عَلَيْهِمَا) أَيْ عَلَى الْحَيِّ وَالْهَالِكِ (وَيَرُدُّ لُحَيُّ وَقِيمَةُ الْهَالِكِ، لِأَنَّ هَلَاكَ كُلِّ السِّلْعَةِ لَا يَمْنَعُ التَّحَالُفَ عِنْدَهُ فَهَلَاكُ الْبَعْضِ أَوْلَى) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَالْجَوَابُ أَنَّ هَلَاكَ الْبَعْضِ مُحْوِجٌ إلَى مَعْرِفَةِ الْقِيمَةِ بِالْحَزْرِ وَذَلِكَ مُجْهَلٌ فِي الْمُقْسَمِ عَلَيْهِ فَلَا يَجُوزُ انْتَهَى.

وَرَدَّ عَلَيْهِ بِأَنَّ الْمُقْسَمَ عَلَيْهِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ لَيْسَ الْقِيمَةَ حَتَّى يَلْزَمَ ذَلِكَ عَلَيْهِ (وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ امْتِنَاعَ التَّحَالُفِ لِلْهَلَاكِ) أَيْ لِأَجْلِ الْهَالِكِ (فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهِ) أَيْ يَتَقَدَّرُ امْتِنَاعُ التَّحَالُفِ بِقَدْرِ الْهَالِكِ لِأَنَّ الْحُكْمَ لَا يَزِيدُ عَلَى الْعِلَّةِ (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ التَّحَالُفَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فِي حَالِ قِيَامِ السِّلْعَةِ) يَعْنِي أَنَّ التَّحَالُفَ بَعْدَ الْقَبْضِ ثَبَتَ بِالنَّصِّ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فِي حَالِ قِيَامِ السِّلْعَةِ (وَهِيَ) أَيْ السِّلْعَةُ (اسْمٌ لِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا فَلَا تَبْقَى السِّلْعَةُ بِفَوَاتِ بَعْضِهَا) لِانْعِدَامِ الْكُلِّ بِانْعِدَامِ جُزْئِهِ، وَمَا يَثْبُتُ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ لَا يَتَعَدَّى إلَى الْغَيْرِ، فَحَصَلَ مِنْ هَذَا الدَّلِيلِ نَفْيُ الْقِيَاسِ.

وَالْجَوَابُ عَنْ قَوْلِ مُحَمَّدٍ رحمه الله كَمَا لَا يَخْفَى (وَلِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ التَّحَالُفُ فِي الْقَائِمِ إلَّا عَلَى اعْتِبَارِ حِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْقِسْمَةِ) أَيْ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ كَمَا سَيَأْتِي (وَهِيَ) أَيْ الْقِسْمَةُ (تُعْرَفُ بِالْحِرْزِ وَالظَّنِّ فَيُؤَدِّي إلَى التَّحَالُفِ مَعَ الْجَهْلِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ) فَلَا يُلْحَقُ بِالتَّحَالُفِ حَالَ قِيَامِ السِّلْعَةِ بِتَمَامِهَا، فَحَصَلَ مِنْ هَذَا الدَّلِيلِ نَفْيُ الدَّلَالَةِ. وَالْجَوَابُ عَنْ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ كَمَا تَرَى. فَإِنْ قُلْت: مَا الْفَرْقُ لِأَبِي حَنِيفَةَ بَيْنَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَبَيْنَ مَسْأَلَةِ الْإِجَارَةِ فِيمَا إذَا أَقَامَ الْقَصَّارُ بَعْضَ الْعَمَلِ فِي الثَّوْبِ ثُمَّ اخْتَلَفَا فِي مِقْدَارِ الْأُجْرَةِ، فَفِي حِصَّةِ مَا أَقَامَ الْعَمَلَ الْقَوْلُ لِرَبِّ الثَّوْبِ مَعَ يَمِينِهِ، وَفِي حِصَّةِ مَا بَقِيَ يَتَحَالَفَانِ بِالْإِجْمَاعِ اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ وَاسْتِيفَاءُ بَعْضِ الْمَنْفَعَةِ بِمَنْزِلَةِ هَلَاكِ بَعْضِ الْمَبِيعِ، وَفِيهِ التَّحَالُفُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْضًا دُونَ هَلَاكِ بَعْضِ الْمَبِيعِ.

قُلْت: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ إنَّ عَقْدَ الْبَيْعِ فِي الْعَبْدَيْنِ عَقْدٌ وَاحِدٌ، فَإِذَا تَعَذَّرَ فَسْخُهُ فِي الْبَعْضِ فِي الْهَلَاكِ تَعَذَّرَ فِي الْبَاقِي.

ص: 219

إلَّا أَنْ يَرْضَى الْبَائِعُ أَنْ يَتْرُكَ حِصَّةَ الْهَالِكِ أَصْلًا لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ الثَّمَنُ كُلُّهُ بِمُقَابِلِ الْقَائِمِ وَيَخْرُجُ الْهَالِكُ عَنْ الْعَقْدِ فَيَتَحَالَفَانِ. هَذَا تَخْرِيجُ بَعْضِ الْمَشَايِخِ وَيُصْرَفُ الِاسْتِثْنَاءُ عِنْدَهُمْ إلَى التَّحَالُفِ كَمَا ذَكَرْنَا وَقَالُوا: إنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ يَأْخُذُ الْحَيَّ وَلَا شَيْءَ لَهُ، مَعْنَاهُ: لَا يَأْخُذُ مِنْ ثَمَنِ الْهَالِكِ شَيْئًا أَصْلًا. وَقَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ: يَأْخُذُ مِنْ ثَمَنِ الْهَالِكِ بِقَدْرِ مَا أَقَرَّ بِهِ الْمُشْتَرِي، وَإِنَّمَا لَا يَأْخُذُ الزِّيَادَةَ.

وَعَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ يَنْصَرِفُ الِاسْتِثْنَاءُ إلَى يَمِينِ الْمُشْتَرِي لَا إلَى التَّحَالُفِ، لِأَنَّهُ لَمَّا أَخَذَ الْبَائِعُ بِقَوْلِ الْمُشْتَرِي فَقَدْ صَدَّقَهُ فَلَا يَحْلِفُ الْمُشْتَرِي،

وَأَمَّا عَقْدُ الْإِجَارَةِ فَفِي حُكْمِ عُقُودٍ مُتَفَرِّقَةٍ تَتَجَدَّدُ بِحَسَبِ مَا يُقِيمُ مِنْ الْعَمَلِ فَبِتَعَذُّرِ فَسْخِهِ فِي الْبَعْضِ لَا يَتَعَذَّرُ فَسْخُهُ فِي الْبَاقِي، كَذَا فِي الشُّرُوحِ وَنَقَلَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ عَنْ إجَارَاتِ الْمَبْسُوطِ. أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَذَا الْفَرْقُ إنَّمَا يَتَمَشَّى بِالنَّظَرِ إلَى الدَّلِيلِ الْأَوَّلِ وَأَمَّا بِالنَّظَرِ إلَى الدَّلِيلِ الثَّانِي فَلَا، لِأَنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ وَإِنْ كَانَ فِي حُكْمِ عُقُودٍ مُتَفَرِّقَةٍ إلَّا أَنَّهُ فِي الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ كَانَ بِصَفْقَةٍ وَاحِدَةٍ لَمْ يُعَيَّنْ فِيهَا لِكُلِّ جُزْءٍ مِنْ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ أُجْرَةٌ مَعْلُومَةٌ فَلَا بُدَّ مِنْ الْقِسْمَةِ وَهِيَ بِالْحِرْزِ وَالظَّنِّ فَيُؤَدِّي إلَى التَّحَالُفِ مَعَ الْجَهْلِ بِعَيْنِ مَا قِيلَ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ أَيْضًا (إلَّا أَنْ يَرْضَى الْبَائِعُ أَنْ يَتْرُكَ حِصَّةَ الْهَالِكِ أَصْلًا) أَيْ بِالْكُلِّيَّةِ (لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ) أَيْ حِينَ أَنْ يَرْضَى الْبَائِعُ بِتَرْكِ حِصَّةِ الْهَالِكِ بِالْكُلِّيَّةِ (وَيَكُونُ الثَّمَنُ كُلُّهُ بِمُقَابَلَةِ الْقَائِمِ وَيَخْرُجُ الْهَالِكُ عَنْ الْعَقْدِ فَيَتَحَالَفَانِ) أَيْ إذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَيَتَحَالَفَانِ (وَهَذَا) أَيْ تَوْجِيهُ قَوْلِهِ إلَّا أَنْ يَرْضَى الْبَائِعُ أَنْ يَتْرُكَ حِصَّةَ الْهَالِكِ بِمَا ذُكِرَ (تَخْرِيجُ بَعْضِ الْمَشَايِخِ) أَيْ عَامَّتُهُمْ (وَيُصْرَفُ الِاسْتِثْنَاءُ عِنْدَهُمْ إلَى التَّحَالُفِ) لِأَنَّهُ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْكَلَامِ، فَكَانَ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ: لَمْ يَتَحَالَفَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إلَّا إذَا تَرَكَ الْبَائِعُ حِصَّةَ الْهَالِكِ فَيَتَحَالَفَانِ (كَمَا ذَكَرْنَاهُ) أَرَادَ بِهِ قَوْلَهُ فَيَتَحَالَفَانِ (وَقَالُوا) أَيْ قَالَ هَؤُلَاءِ الْمَشَايِخُ: (إنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ يَأْخُذُ الْحَيَّ وَلَا شَيْءَ لَهُ مَعْنَاهُ: لَا يَأْخُذُ مِنْ ثَمَنِ الْهَالِكِ شَيْئًا أَصْلًا) أَقُولُ: كَانَ الظَّاهِرُ فِي التَّحْرِيرِ مِنْ حَيْثُ الْعَرَبِيَّةُ، وَالْمَعْنَى أَنْ يَتْرُكَ اللَّفْظُ مَعْنَاهُ مِنْ الْبَيِّنِ.

أَوْ أَنْ يُقَالَ: إنَّ قَوْلَهُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ يَأْخُذُ الْحَيَّ وَلَا شَيْءَ لَهُ، مَعْنَاهُ: لَا يَأْخُذُ مِنْ ثَمَنِ الْهَالِكِ شَيْئًا أَصْلًا، وَوَجْهُ الظُّهُورِ ظَاهِرٌ (وَقَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ: يَأْخُذُ مِنْ ثَمَنِ الْهَالِكِ بِقَدْرِ مَا أَقَرَّ بِهِ الْمُشْتَرِي، وَإِنَّمَا لَا يَأْخُذُ الزِّيَادَةَ، وَعَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ يَنْصَرِفُ الِاسْتِثْنَاءُ إلَى يَمِينِ الْمُشْتَرِي لَا إلَى التَّحَالُفِ) فَيَصِيرُ مَعْنَى الْكَلَامِ لَمْ يَتَحَالَفَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي مَعَ يَمِينِهِ، إلَّا أَنْ يَشَاءَ الْبَائِعُ أَنْ يَأْخُذَ الْحَيَّ وَلَا يَأْخُذَ مِنْ ثَمَنِ الْهَالِكِ شَيْئًا زَائِدًا عَلَى مَا أَقَرَّ بِهِ الْمُشْتَرِي فَحِينَئِذٍ لَا يَمِينَ عَلَى الْمُشْتَرِي (لِأَنَّهُ لَمَّا أَخَذَ الْبَائِعُ بِقَوْلِ الْمُشْتَرِي فَقَدْ صَدَّقَهُ فَلَا يَحْلِفُ الْمُشْتَرِي) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَكَلَامُ الْمُصَنِّفِ يُشِيرُ إلَى أَنَّ أَخْذَ الْحَيِّ لَمْ يَكُنْ بِطَرِيقِ الصُّلْحِ كَمَا نَقَلَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ عَنْ الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ بَلْ بِطَرِيقِ تَصْدِيقِ الْمُشْتَرِي فِي قَوْلِهِ وَتَرْكِ مَا يَدَّعِيهِ عَلَيْهِ، وَهُوَ أَوْلَى لِمَا قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: إنَّهُ لَوْ كَانَ بِطَرِيقِ الصُّلْحِ لَكَانَ مُعَلَّقًا بِمَشِيئَتِهِمَا انْتَهَى.

وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ فِيهِ: إنَّ أَخْذَ الْحَيِّ يَكُونُ مُعَلَّقًا بِمَشِيئَتِهِمَا أَلْبَتَّةَ، وَإِنَّمَا الَّذِي لَا يَتَعَلَّقُ بِمَشِيئَةِ الْمُشْتَرِي أَخْذُ مَا أَقَرَّ بِهِ مِنْ ثَمَنِ الْهَالِكِ انْتَهَى. أَقُولُ: هَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ إنَّ أَخْذَ الْحَيِّ يَكُونُ مُعَلَّقًا بِمَشِيئَتِهِمَا أَلْبَتَّةَ أَنَّهُ كَانَ فِي الْكِتَابِ مُعَلَّقًا بِمَشِيئَتِهِمَا أَلْبَتَّةَ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، لِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِي الْكِتَابِ إلَّا أَنْ يَشَاءَ الْبَائِعُ أَنْ يَأْخُذَ الْحَيَّ وَلَا شَيْءَ لَهُ، وَلَمْ يُعَلِّقْ فِيهِ أَخْذَ الْحَيِّ إلَّا بِمَشِيئَةِ الْبَائِعِ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ أَنْ يَكُونَ فِي الصُّلْحِ مُعَلَّقًا بِمَشِيئَتِهِمَا أَلْبَتَّةَ فَلَيْسَ بِمُفِيدٍ لَهُ أَصْلًا بَلْ هُوَ مُؤَيِّدٌ لِمَا قَالَهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ،

ص: 220

ثُمَّ تَفْسِيرُ التَّحَالُفِ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ مَا بَيَّنَّاهُ فِي الْقَائِمِ. وَإِذَا حَلَفَا وَلَمْ يَتَّفِقَا عَلَى شَيْءٍ فَادَّعَى أَحَدُهُمَا الْفَسْخَ أَوْ كِلَاهُمَا يُفْسَخُ الْعَقْدُ بَيْنَهُمَا وَيَأْمُرُ الْقَاضِي الْمُشْتَرِيَ بِرَدِّ الْبَاقِي وَقِيمَةِ الْهَالِكِ.

وَاخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِهِ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَحْلِفُ الْمُشْتَرِي بِاَللَّهِ مَا اشْتَرَيْتُهُمَا بِمَا يَدَّعِيهِ الْبَائِعُ،

فَإِنَّ مُرَادَهُ أَنَّ أَخْذَ الْحَيِّ لَوْ كَانَ بِطَرِيقِ الصُّلْحِ لَكَانَ مُعَلَّقًا فِي الْكِتَابِ بِمَشِيئَتِهِمَا كَمَا يَكُونُ فِي الصُّلْحِ مُتَعَلِّقًا بِمَشِيئَتِهِمَا أَلْبَتَّةَ وَلَمْ يَتَعَلَّقْ فِيهِ إلَّا بِمَشِيئَةِ الْبَائِعِ (ثُمَّ تَفْسِيرُ التَّحَالُفِ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ مَا بَيَّنَّاهُ فِي الْقَائِمِ) أَيْ فِي الْبَيْعِ الْقَائِمِ عَلَى حَالِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ وَصِفَةُ الْيَمِينِ أَنْ يَحْلِفَ الْبَائِعُ بِاَللَّهِ مَا بَاعَهُ بِأَلْفٍ إلَخْ، وَإِنَّمَا لَمْ تَخْتَلِفْ صِفَةُ التَّحَالُفِ عِنْدَهُ فِي الصُّورَتَيْنِ لِأَنَّ قِيَامَ السِّلْعَةِ عِنْدَهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِلتَّحَالُفِ (وَإِذَا حَلَفَا وَلَمْ يَتَّفِقَا عَلَى شَيْءٍ) كَانَ الْأَحْسَنُ فِي التَّحْرِيرِ أَنْ يَقُولَ: وَإِذَا لَمْ يَتَّفِقَا عَلَى شَيْءٍ وَحَلَفَا بِتَقْدِيمٍ لَمْ يَتَّفِقَا عَلَى شَيْءٍ عَلَى حَلَفَا فِي الْوَضْعِ لِتَقَدُّمِهِ عَلَيْهِ فِي الطَّبْعِ (فَادَّعَى أَحَدُهُمَا الْفَسْخَ أَوْ كِلَاهُمَا) أَيْ أَوْ ادَّعَى كِلَاهُمَا (يُفْسَخُ الْعَقْدُ بَيْنَهُمَا وَيَأْمُرُ الْقَاضِي الْمُشْتَرِي بِرَدِّ الْبَاقِي وَقِيمَةِ الْهَالِكِ) وَالْقَوْلُ فِي الْقِيمَةِ قَوْلُ الْمُشْتَرِي لِأَنَّ الْبَائِعَ يَدَّعِي عَلَيْهِ زِيَادَةَ قِيمَةٍ وَهُوَ يُنْكِرُهُ فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ، كَمَا لَوْ اخْتَلَفَا فِي قِيمَةِ الْمَغْصُوبِ أَوْ الْمَقْبُوضِ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ (وَاخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِهِ) أَيْ فِي تَفْسِيرِ التَّحَالُفِ (عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ: لَمْ يَذْكُرْ تَفْسِيرَ التَّحَالُفِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّ عِنْدَهُ هَلَاكُ الْبَعْضِ يَمْنَعُ التَّحَالُفَ كَهَلَاكِ الْكُلِّ.

أَقُولُ: فِيهِ شَيْءٌ، وَهُوَ أَنَّ هَلَاكَ الْبَعْضِ لَا يَمْنَعُ التَّحَالُفَ عِنْدَهُ مُطْلَقًا بَلْ إنْ رَضِيَ الْبَائِعُ أَنْ يَتْرُكَ حِصَّةَ الْهَالِكِ أَصْلًا يَتَحَالَفَانِ عِنْدَهُ أَيْضًا عَلَى تَخْرِيجِ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ، وَقَدْ ارْتَضَى الْمُصَنِّفُ هَذَا التَّخْرِيجَ حَيْثُ بَنَى عَلَيْهِ شَرْحَ مَعْنَى الْكِتَابِ أَوَّلًا كَمَا مَرَّ آنِفًا، فَكَانَ لِذِكْرِ تَفْسِيرِ التَّحَالُفِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْضًا مَسَاغٌ.

وَعَنْ هَذَا أَنَّ الْإِمَامَ الزَّيْلَعِيَّ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ فِي التَّبْيِينِ تَفْسِيرَ التَّحَالُفِ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ قَالَ: وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْبَائِعَ إذَا رَضِيَ أَنْ يَتْرُكَ حِصَّةَ الْهَالِكِ مِنْ الثَّمَنِ يَتَحَالَفَانِ عِنْدَ بَعْضِهِمْ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ لِأَبِي يُوسُفَ انْتَهَى. وَقَالَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ: لَمَّا كَانَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ عَدَمَ وُجُوبِ التَّحَالُفِ اسْتَغْنَى عَنْ التَّفْسِيرِ فَفَسَّرَهُ عَلَى قَوْلِهِمَا انْتَهَى. أَقُولُ: هَذَا أَقْرَبُ إلَى الْحَقِّ مِمَّا سَبَقَ، وَلَكِنْ فِيهِ أَيْضًا شَيْءٌ لَا يَخْفَى. فَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: لَمَّا كَانَ جَرَيَانُ التَّحَالُفِ عِنْدَ هَلَاكِ بَعْضِ الْمَبِيعِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ مَخْصُوصًا بِتَخْرِيبِ بَعْضِ الْمَشَايِخِ وَبِصُورَةٍ نَادِرَةٍ هِيَ صُورَةُ الِاسْتِثْنَاءِ لَمْ يَذْكُرْ تَفْسِيرَ التَّحَالُفِ عِنْدَهُ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِقْلَالِ، بَلْ اكْتَفَى بِمَا يُفْهَمُ مِنْ بَيَانِ تَفْسِيرِهِ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ (وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَحْلِفُ الْمُشْتَرِي بِاَللَّهِ مَا اشْتَرَيْتُهُمَا بِمَا يَدَّعِيهِ الْبَائِعُ) وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَتَحَالَفَانِ عَلَى الْقَائِمِ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ دُونَ الْهَالِكِ لِأَنَّ التَّحَالُفَ لِلْفَسْخِ وَالْعَقْدُ يَنْفَسِخُ فِي الْقَائِمِ لَا فِي الْهَالِكِ، وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَوْ حَلَفَ بِاَللَّهِ مَا اشْتَرَيْت الْقَائِمَ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ الَّذِي يَدَّعِيهِ الْبَائِعُ كَانَ صَادِقًا، وَكَذَا لَوْ حَلَفَ الْبَائِعُ

ص: 221

فَإِنْ نَكَلَ لَزِمَهُ دَعْوَى الْبَائِعِ، وَإِنْ حَلَفَ يَحْلِفُ الْبَائِعُ بِاَللَّهِ مَا بِعْتُهُمَا بِالثَّمَنِ الَّذِي يَدَّعِيهِ الْمُشْتَرِي، فَإِنْ نَكَلَ لَزِمَهُ دَعْوَى الْمُشْتَرِي، وَإِنْ حَلَفَ يَفْسَخَانِ الْعَقْدَ فِي الْقَائِمِ وَتَسْقُطُ حِصَّتُهُ مِنْ الثَّمَنِ وَيَلْزَمُ الْمُشْتَرِي حِصَّةَ الْهَالِكِ وَيُعْتَبَرُ قِيمَتُهُمَا فِي الِانْقِسَامِ يَوْمَ الْقَبْضِ (وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي قِيمَةِ الْهَالِكِ يَوْمَ الْقَبْضِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ،

بِاَللَّهِ مَا بِعْت الْقَائِمَ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ الَّذِي يَدَّعِيهِ الْمُشْتَرِي صُدِّقَ فَلَا يُفِيدُ التَّحَالُفَ، فَالصَّحِيحُ أَنْ يَحْلِفَ الْمُشْتَرِي عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ (فَإِنْ نَكَلَ لَزِمَهُ دَعْوَى الْبَائِعِ، وَإِنْ حَلَفَ يَحْلِفُ الْبَائِعُ بِاَللَّهِ مَا بِعْتُهُمَا بِالثَّمَنِ الَّذِي يَدَّعِيهِ الْمُشْتَرِي، فَإِنْ نَكَلَ لَزِمَهُ دَعْوَى الْمُشْتَرِي، وَإِنْ حَلَفَ يَفْسَخَانِ الْعَقْدَ فِي الْقَائِمِ) فَإِنْ قُلْت: أَسْنَدَ فَسْخَ الْعَقْدِ هَاهُنَا إلَيْهِمَا كَمَا تَرَى وَفِيمَا سَبَقَ إلَى الْقَاضِي حَيْثُ قَالَ: وَإِنْ حَلَفَا فَسَخَ الْقَاضِي الْبَيْعَ بَيْنَهُمَا فَمَا التَّوْفِيقُ؟ قُلْت: مَعْنَى مَا سَبَقَ فَسَخَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا إنْ لَمْ يَفْسَخَا بِأَنْفُسِهِمَا، يُرْشِدُ إلَيْهِ أَنَّ الشُّرَّاحَ قَالُوا فِي شَرْحِ ذَلِكَ الْمَقَامِ فَسَخَ الْقَاضِي الْعَقْدَ بَيْنَهُمَا إنْ طَلَبَا أَوْ طَلَبَ أَحَدُهُمَا، لِأَنَّ الْفَسْخَ حَقُّهُمَا فَلَا بُدَّ مِنْ الطَّلَبِ انْتَهَى.

إذْ لَا يَخْفَى أَنَّ الْفَسْخَ إذَا كَانَ حَقَّهُمَا فَهُمَا يَقْدِرَانِ عَلَى إحْدَاثِهِ بِأَنْفُسِهِمَا. وَمَعْنَى مَا ذُكِرَ هَاهُنَا يَفْسَخَانِ الْعَقْدَ إنْ أَرَادَا الْفَسْخَ بِأَنْفُسِهِمَا عَلَى نَهْجِ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «تَحَالَفَا وَتَرَادَّا» وَهَذَا لَا يُنَافِي أَنْ يَفْسَخَهُ الْقَاضِي أَيْضًا فِيمَا إذَا لَمْ يَفْسَخَاهُ بِأَنْفُسِهِمَا بَلْ طَلَبَاهُ أَوْ طَلَبَهُ أَحَدُهُمَا مِنْ الْقَاضِي، وَسَيَأْتِي التَّصْرِيحُ مِنْ الشُّرَّاحِ فِي مَسْأَلَةِ التَّحَالُفِ بِالْإِقَالَةِ بِتَسَاوِي فَسْخِ الْقَاضِي وَفَسْخِهِمَا بِأَنْفُسِهِمَا (وَتَسْقُطُ حِصَّتُهُ) أَيْ حِصَّةُ الْقَائِمِ (مِنْ الثَّمَنِ وَيَلْزَمُ الْمُشْتَرِيَ حِصَّةُ الْهَالِكِ) مِنْ الثَّمَنِ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ الْمُشْتَرِي، وَلَا يَلْزَمُهُ قِيمَةُ الْهَالِكِ لِأَنَّ الْقِيمَةَ تَجِبُ إذَا انْفَسَخَ الْعَقْدُ وَالْعَقْدُ فِي الْهَالِكِ لَمْ يَنْفَسِخْ عِنْدَهُ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ (وَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُمَا فِي الِانْقِسَامِ يَوْمَ الْقَبْضِ) يَعْنِي يُقْسَمُ الثَّمَنُ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ الْمُشْتَرِي عَلَى الْعَبْدِ الْقَائِمِ وَالْهَالِكِ عَلَى قَدْرِ قِيَمِهِمَا يَوْمَ الْقَبْضِ، فَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى أَنَّ قِيمَتَهُمَا يَوْمَ الْقَبْضِ كَانَتْ عَلَى السَّوَاءِ يَجِبُ عَلَى الْمُشْتَرِي نِصْفُ الثَّمَنِ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ الْمُشْتَرِي وَيَسْقُطُ عَنْهُ نِصْفُ ذَلِكَ الثَّمَنِ، وَإِنْ تَصَادَقَا أَنَّ قِيمَتَهُمَا يَوْمَ الْقَبْضِ كَانَتْ عَلَى التَّفَاوُتِ، فَإِنْ تَصَادَقَا عَلَى أَنَّ قِيمَةَ الْهَالِكِ يَوْمَ الْقَبْضِ كَانَتْ كَذَا يَجِبُ عَلَى الْمُشْتَرِي بِقَدْرِهَا حِصَّةً مِنْ الثَّمَنِ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ وَيَسْقُطُ عَنْهُ الْبَاقِي مِنْ ذَلِكَ الثَّمَنِ (وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي قِيمَةِ الْهَالِكِ يَوْمَ الْقَبْضِ) فَقَالَ الْمُشْتَرِي كَانَتْ قِيمَةُ الْقَائِمِ يَوْمَ الْقَبْضِ أَلْفًا وَقِيمَةُ الْهَالِكِ خَمْسَمِائَةٍ وَقَالَ الْبَائِعُ عَلَى الْعَكْسِ (فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ) مَعَ يَمِينِهِ لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى وُجُوبِ الثَّمَنِ الَّذِي

ص: 222

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

أَقَرَّ بِهِ الْمُشْتَرِي ثُمَّ الْمُشْتَرِي يَدَّعِي سُقُوطَ زِيَادَةٍ مِنْ الثَّمَنِ بِنُقْصَانِ قِيمَةِ الْهَالِكِ وَالْبَائِعُ يُنْكِرُهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ مَعَ يَمِينِهِ.

فَإِنْ قِيلَ: لِمَاذَا تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُمَا يَوْمَ الْقَبْضِ دُونَ الْعَقْدِ فِي حَقِّ انْقِسَامِ الْقِيمَةِ وَمَسَائِلُ الزِّيَادَاتِ تَدُلُّ عَلَى هَذَا؛ حَتَّى قَالَ مُحَمَّدٌ: قِيمَةُ الْأُمِّ تُعْتَبَرُ يَوْمَ الْعَقْدِ وَقِيمَةُ الزِّيَادَةِ يَوْمَ الزِّيَادَةِ وَقِيمَةُ الْوَلَدِ يَوْمَ الْقَبْضِ، لِأَنَّ الْأُمَّ صَارَتْ مَقْصُودَةً بِالْعَقْدِ وَالزِّيَادَةُ بِالزِّيَادَةِ وَالْوَلَدُ بِالْقَبْضِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَبْدَيْنِ هَاهُنَا صَارَ مَقْصُودًا بِالْعَقْدِ فَوَجَبَ اعْتِبَارُ قِيمَتِهِمَا يَوْمَ الْعَقْدِ لَا يَوْمَ الْقَبْضِ. قَالَ الْإِمَامُ ظَهِيرُ الدِّينِ صَاحِبُ الْفَوَائِدِ: هَذَا إشْكَالٌ هَائِلٌ أَوْرَدْتُهُ عَلَى كُلِّ قَرْمٍ نِحْرِيرٍ فَلَمْ يَهْتَدِ أَحَدٌ إلَى جَوَابِهِ، ثُمَّ قَالَ: وَاَلَّذِي يُخَايِلُ لِي بَعْدَ طُولِ التَّجَشُّمِ أَنَّ فِيمَا ذُكِرَ عَنْ الْمَسَائِلِ لَمْ يَتَحَقَّقْ مَا يُوجِبُ الْفَسْخَ فِيمَا صَارَ مَقْصُودًا بِالْعَقْدِ، وَفِيمَا نَحْنُ بِصَدَدِهِ تَحَقُّقُ مَا يُوجِبُ الْفَسْخَ فِيمَا صَارَ مَقْصُودًا بِالْعَقْدِ وَهُوَ التَّحَالُفُ، أَمَّا فِي الْحَيِّ مِنْهُمَا فَظَاهِرٌ وَكَذَلِكَ فِي الْمَيِّتِ مِنْهُمَا، لِأَنَّهُ إنْ تَعَذَّرَ الْفَسْخُ فِي الْهَالِكِ لِمَكَانِ الْهَلَاكِ لَمْ يَتَعَذَّرْ اعْتِبَارُ مَا هُوَ مِنْ لَوَازِمِ الْفَسْخِ فِي الْهَالِكِ وَهُوَ اعْتِبَارُ قِيمَتِهِ يَوْمَ الْقَبْضِ لِأَنَّ الْهَالِكَ مَضْمُونٌ بِالْقِيمَةِ يَوْمَ الْقَبْضِ عَلَى تَقْدِيرِ الْفَسْخِ كَمَا هُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ، حَتَّى قَالَ: يَضْمَنُ الْمُشْتَرِي قِيمَةَ الْهَالِكِ عَلَى تَقْدِيرِ التَّحَالُفِ عِنْدَهُ فَيَجِبُ إعْمَالُ التَّحَالُفِ فِي اعْتِبَارِ قِيمَةِ الْهَالِكِ يَوْمَ الْقَبْضِ فَلِهَذَا يُعْتَبَرُ قِيمَتُهُمَا يَوْمَ الْقَبْضِ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَأَكْثَرِ الشُّرُوحِ، أَقُولُ: فِي التَّوْجِيهِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْإِمَامُ ظَهِيرُ الدِّينِ نَظَرٌ، لِأَنَّ تَحَقُّقَ مَا يُوجِبُ الْفَسْخَ فِيمَا صَارَ مَقْصُودًا بِالْعَقْدِ فِي حَقِّ الْمَيِّتِ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ مَمْنُوعٌ، لِأَنَّ مَا يُوجِبُ ذَلِكَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ إنَّمَا هُوَ التَّحَالُفُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ، وَالتَّحَالُفُ إنَّمَا يَجْرِي عِنْدَهُ فِي الْحَيِّ دُونَ الْمَيِّتِ، وَتَعَذَّرَ الْفَسْخُ فِي الْهَالِكِ عِنْدَهُ لِامْتِنَاعِ جَرَيَانِ التَّحَالُفِ فِيهِ لِلْهَلَاكِ لَا لِمُجَرَّدِ الْهَلَاكِ بِدُونِ امْتِنَاعِ جَرَيَانِ التَّحَالُفِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ مُحَمَّدًا لَمَّا أَجَازَ التَّحَالُفَ عَلَى الْهَالِكِ أَيْضًا أَجَازَ الْفَسْخَ فِي الْهَالِكِ عَلَى قِيمَتِهِ وَلَمْ يَكُنْ الْهَلَاكُ مَانِعًا عَنْهُ.

فَإِذَا لَمْ يَتَحَقَّقْ التَّحَالُفُ فِي الْهَالِكِ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَتَعَذَّرَ الْفَسْخُ فِيهِ أَيْضًا فَمَا الْبَاعِثُ عَلَى اعْتِبَارِ مَا هُوَ مِنْ لَوَازِمِ الْفَسْخِ فِيهِ وَمُجَرَّدُ عَدَمِ تَعَذُّرِ اعْتِبَارِهِ لَا يَقْتَضِي اعْتِبَارَهُ سِيَّمَا عِنْدَ تَحَقُّقِ مَا يَقْتَضِي اعْتِبَارَ الْقِيمَةِ يَوْمَ الْعَقْدِ وَهُوَ كَوْنُهُ مَقْصُودًا بِالْعَقْدِ. ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ الْعِنَايَةِ قَالَ بَعْدَ نَقْلِ مَا فِي تِلْكَ الشُّرُوحِ وَأَقُولُ: الْأَصْلُ فِيمَا هَلَكَ وَكَانَ مَقْصُودًا بِالْعَقْدِ أَنْ تُعْتَبَرَ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْعَقْدِ؛ إلَّا إذَا وُجِدَ مَا يُوجِبُ فَسْخَ الْعَقْدِ فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ حِينَئِذٍ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْقَبْضِ، لِأَنَّهُ لَمَّا انْفَسَخَ الْعَقْدُ وَهُوَ مَقْبُوضٌ عَلَى جِهَةِ الضَّمَانِ تَعَيَّنَ اعْتِبَارُ قِيمَتِهِ يَوْمَ قَبْضِهِ، فِيمَا نَحْنُ فِيهِ لَمَّا كَانَتْ الصَّفْقَةُ وَاحِدَةً وَانْفَسَخَ الْعَقْدُ فِي الْقَائِمِ دُونَ الْهَالِكِ صَارَ الْعَقْدُ مَفْسُوخًا فِي الْهَالِكِ نَظَرًا إلَى اتِّخَاذِ الصَّفْقَةِ غَيْرَ مَفْسُوخٍ نَظَرًا إلَى وُجُودِ الْمَانِعِ وَهُوَ الْهَلَاكُ، فَعَمِلْنَا فِيهِ بِالْوَجْهَيْنِ وَقُلْنَا بِلُزُومِ الْحِصَّةِ مِنْ الثَّمَنِ نَظَرًا إلَى عَدَمِ الِانْفِسَاخِ، وَبِانْقِسَامِهِ عَلَى قِيمَتِهِ يَوْمَ الْقَبْضِ نَظَرًا إلَى الِانْفِسَاخِ انْتَهَى.

أَقُولُ: وَفِيهِ أَيْضًا نَظَرٌ، لِأَنَّ قَوْلَهُ وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ لَمَّا كَانَتْ الصَّفْقَةُ وَاحِدَةً وَانْفَسَخَ الْعَقْدُ فِي الْقَائِمِ صَارَ الْعَقْدُ مَفْسُوخًا فِي الْهَالِكِ نَظَرًا إلَى اتِّحَادِ الصَّفْقَةِ غَيْرُ تَامٍّ، لِأَنَّ اتِّحَادَ الصَّفْقَةِ إنَّمَا يَقْتَضِي انْفِسَاخَ الْعَقْدِ فِي الْهَالِكِ بِانْفِسَاخِهِ فِي الْقَائِمِ لَوْ وَقَعَ الْفَسْخُ قَبْلَ قَبْضِهِمَا فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَلْزَمُ تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ قَبْلَ تَمَامِهَا وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ. وَأَمَّا إذَا وَقَعَ الْفَسْخُ بَعْدَ قَبْضِهِمَا

ص: 223

وَأَيُّهُمَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ. وَإِنْ أَقَامَاهَا فَبَيِّنَةُ الْبَائِعِ أَوْلَى)

وَهُوَ قِيَاسُ مَا ذُكِرَ فِي بُيُوعِ الْأَصْلِ (اشْتَرَى عَبْدَيْنِ وَقَبَضَهُمَا ثُمَّ رَدَّ أَحَدَهُمَا بِالْعَيْبِ وَهَلَكَ الْآخَرُ عِنْدَهُ يَجِبُ عَلَيْهِ ثَمَنُ مَا هَلَكَ عِنْدَهُ وَيَسْقُطُ عَنْهُ ثَمَنُ مَا رَدَّهُ وَيَنْقَسِمُ الثَّمَنُ عَلَى قِيمَتِهِمَا. فَإِنْ اخْتَلَفَا فِي قِيمَةِ الْهَالِكِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ) لِأَنَّ الثَّمَنَ قَدْ وَجَبَ بِاتِّفَاقِهِمَا ثُمَّ الْمُشْتَرِي يَدَّعِي زِيَادَةَ السُّقُوطِ بِنُقْصَانِ قِيمَةِ الْهَالِكِ وَالْبَائِعُ يُنْكِرُهُ وَالْقَوْلُ لِلْمُنْكِرِ (وَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَبَيِّنَةُ الْبَائِعِ أَوْلَى) لِأَنَّهَا أَكْثَرُ إثْبَاتًا ظَاهِرًا لِإِثْبَاتِهَا الزِّيَادَةَ فِي قِيمَةِ الْهَالِكِ وَهَذَا لِفِقْهٍ. وَهُوَ أَنَّ فِي الْأَيْمَانِ تُعْتَبَرُ الْحَقِيقَةُ لِأَنَّهَا تَتَوَجَّهُ عَلَى أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ وَهُمَا يَعْرِفَانِ حَقِيقَةَ الْحَالِ فَبُنِيَ الْأَمْرُ عَلَيْهَا وَالْبَائِعُ مُنْكِرٌ حَقِيقَةً فَلِذَا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ،

فَلَا يَقْتَضِي ذَلِكَ، فَإِنَّ اللَّازِمَ حِينَئِذٍ تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ بَعْدَ تَمَامِهَا إذْ هِيَ تَتِمُّ بِالْقَبْضِ وَهُوَ جَائِزٌ؛ أَلَا يَرَى إلَى مَا مَرَّ فِي بَابِ خِيَارِ الْعَيْبِ مِنْ أَنَّ مَنْ اشْتَرَى عَبْدَيْنِ صَفْقَةً وَاحِدَةً فَقَبَضَهُمَا ثُمَّ وَجَدَ بِأَحَدِهِمَا عَيْبًا فَإِنَّهُ يَفْسَخُ الْعَقْدَ فِي الْعُيُوبِ خَاصَّةً عِنْدَ أَئِمَّتِنَا الثَّلَاثَةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ بَعْدَ تَمَامِهَا بِالْقَبْضِ جَائِزٌ، وَالْمَسْأَلَةُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ مَفْرُوضَةٌ فِيمَا إذَا هَلَكَ أَحَدُ الْعَبْدَيْنِ بَعْدَ قَبْضِهِمَا كَمَا تَبَيَّنَ فِي صَدْرِ الْمَسْأَلَةِ فَلَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ (وَأَيُّهُمَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ) لِأَنَّهُ نَوَّرَ دَعْوَاهُ بِالْحُجَّةِ (وَإِنْ أَقَامَاهَا فَبَيِّنَةُ الْبَائِعِ أَوْلَى) لِأَنَّهَا أَكْثَرُ إثْبَاتًا لِإِثْبَاتِهَا الزِّيَادَةَ فِي قِيمَةِ الْهَالِكِ.

فَإِنْ قِيلَ: الْمُشْتَرِي يَدَّعِي زِيَادَةً فِي قِيمَةِ الْقَائِمِ فَوَجَبَ أَنْ تُقْبَلَ بَيِّنَتُهُ لِإِثْبَاتِهَا الزِّيَادَةَ. قُلْنَا: إنَّ الَّذِي وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِيهِ مَقْصُودًا قِيمَةُ الْهَالِكِ، وَالِاخْتِلَافُ فِي قِيمَةِ الْقَائِمِ يَثْبُتُ ضِمْنًا لِلِاخْتِلَافِ فِي قِيمَةِ الْهَالِكِ، وَبَيِّنَةُ الْبَائِعِ قَامَتْ عَلَى مَا وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِيهِ مَقْصُودًا فَكَانَتْ أَوْلَى بِالِاعْتِبَارِ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ نَقْلًا عَنْ الْإِمَامِ الْمَرْغِينَانِيِّ وَقَاضِي خَانْ (وَهُوَ) أَيْ مَا ذُكِرَ مِنْ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَتَفْرِيعَاتِهِ (قِيَاسُ مَا ذُكِرَ فِي بُيُوعِ الْأَصْلِ) أَيْ الْمَبْسُوطُ (اشْتَرَى عَبْدَيْنِ وَقَبَضَهُمَا ثُمَّ رَدَّ أَحَدَهُمَا بِالْعَيْبِ وَهَلَكَ الْآخَرُ عِنْدَهُ يَجِبُ عَلَيْهِ ثَمَنُ مَا هَلَكَ عِنْدَهُ وَيَسْقُطُ عَنْهُ ثَمَنُ مَا رَدَّهُ وَيَنْقَسِمُ الثَّمَنُ عَلَى قِيمَتِهِمَا) أَيْ يَوْمَ الْقَبْضِ.

كَذَا فِي النِّهَايَةِ (فَإِنْ اخْتَلَفَا فِي قِيمَةِ الْهَالِكِ) أَيْ فِي مَسْأَلَةِ الْأَصْلِ (فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ، لِأَنَّ الثَّمَنَ قَدْ وَجَبَ بِاتِّفَاقِهِمَا ثُمَّ الْمُشْتَرِي يَدَّعِي زِيَادَةَ السُّقُوطِ بِنُقْصَانِ قِيمَةِ الْهَالِكِ وَالْبَائِعُ يُنْكِرُهُ وَالْقَوْلُ لِلْمُنْكِرِ، وَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ) أَيْ فِي مَسْأَلَةِ الْأَصْلِ (فَبَيِّنَةُ الْبَائِعِ أَوْلَى) لِأَنَّهَا أَكْثَرُ إثْبَاتًا ظَاهِرًا لِإِثْبَاتِهَا الزِّيَادَةَ فِي قِيمَةِ الْهَالِكِ، وَالْبَيِّنَاتُ شُرِعَتْ لِلْإِثْبَاتِ فَمَا كَانَ أَكْثَرَ إثْبَاتًا كَانَ أَوْلَى، قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَهَذَا لِفِقْهٍ) أَيْ اعْتِبَارُ بَيِّنَةِ الْبَائِعِ وَيَمِينِهِ لِمَعْنًى فِقْهِيٍّ (وَهُوَ أَنَّ فِي الْأَيْمَانِ تُعْتَبَرُ الْحَقِيقَةُ) أَيْ حَقِيقَةُ الْحَالِ لِئَلَّا يَلْزَمَ الْإِقْدَامُ عَلَى الْقَسَمِ بِجَهَالَةٍ، وَاسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ (لِأَنَّهَا) أَيْ الْأَيْمَانَ (تَتَوَجَّهُ عَلَى أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ) أَيْ لَا عَلَى الْوَكِيلِ وَالنَّائِبِ (وَهُمَا) أَيْ الْمُتَعَاقِدَانِ (يَعْرِفَانِ حَقِيقَةَ الْحَالِ) لِأَنَّ الْعَقْدَ فِعْلُ أَنْفُسِهِمَا وَالْإِنْسَانُ أَعْرَفُ بِحَالِ نَفْسِهِ (فَيَبْنِي الْأَمْرَ عَلَيْهَا) أَيْ عَلَى الْحَقِيقَةِ (وَالْبَائِعُ مُنْكِرٌ حَقِيقَةً فَلِذَا كَانَ قَوْلُهُ) لِأَنَّهُ يُنْكِرُ سُقُوطَ الزِّيَادَةِ

ص: 224

وَفِي الْبَيِّنَاتِ يُعْتَبَرُ الظَّاهِرُ لِأَنَّ الشَّاهِدَيْنِ لَا يَعْلَمَانِ حَقِيقَةَ الْحَالِ فَاعْتُبِرَ الظَّاهِرُ فِي حَقِّهِمَا وَالْبَائِعُ مُدَّعٍ ظَاهِرًا فَلِهَذَا تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ أَيْضًا وَتَتَرَجَّحُ بِالزِّيَادَةِ الظَّاهِرَةِ عَلَى مَا مَرَّ، وَهَذَا يُبَيِّنُ لَك مَعْنَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ. .

قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً وَقَبَضَهَا ثُمَّ تَقَايَلَا ثُمَّ اخْتَلَفَا فِي الثَّمَنِ فَإِنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ وَيَعُودُ الْبَيْعُ الْأَوَّلُ) وَنَحْنُ مَا أَثْبَتْنَا التَّحَالُفَ فِيهِ بِالنَّصِّ لِأَنَّهُ وَرَدَ فِي الْبَيْعِ الْمُطْلَقِ وَالْإِقَالَةُ فَسْخٌ فِي حَقِّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ،

وَفِي الْبَيِّنَاتِ يُعْتَبَرُ الظَّاهِرُ لِأَنَّ الشَّاهِدَيْنِ لَا يَعْلَمَانِ حَقِيقَةَ الْحَالِ) لِأَنَّهُمَا يُخْبِرَانِ عَنْ فِعْلِ الْغَيْرِ لَا عَنْ فِعْلِ أَنْفُسِهِمَا، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْحَالُ فِي الْوَاقِعِ عَلَى خِلَافِ مَا ظَهَرَ عِنْدَهُمَا بِهَزْلٍ أَوْ تَلْجِئَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ (فَاعْتُبِرَ الظَّاهِرُ فِي حَقِّهِمَا وَالْبَائِعُ مُدَّعٍ ظَاهِرًا فَلِهَذَا تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ أَيْضًا) أَيْ كَمَا اُعْتُبِرَ يَمِينُهُ (وَتَتَرَجَّحُ) أَيْ تَتَرَجَّحُ بَيِّنَتُهُ عَلَى بَيِّنَةِ الْمُشْتَرِي (بِالزِّيَادَةِ الظَّاهِرَةِ عَلَى مَا مَرَّ) هُوَ قَوْلُهُ لِأَنَّهَا أَكْثَرُ إثْبَاتًا ظَاهِرًا (وَهَذَا) أَيْ مَا ذُكِرَ فِي بُيُوعِ الْأَصْلِ (يُبَيِّنُ لَك مَعْنَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ) رحمه الله فِي التَّحَالُفِ وَتَفْرِيعَاتِهِ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي بُيُوعِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ.

(قَالَ) أَيْ مُحَمَّدٌ فِي بُيُوعِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ (وَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً وَقَبَضَهَا) أَيْ وَنَقَدَ ثَمَنَهَا، كَذَا فِي الشُّرُوحِ وَفِي أَصْلِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ (ثُمَّ تَقَايَلَا) وَلَمْ يَقْبِضْ الْبَائِعُ الْمَبِيعَ بَعْدَ الْإِقَالَةِ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ، وَسَيُشِيرُ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ وَالْمَسْأَلَةُ مَفْرُوضَةٌ قَبْلَ الْقَبْضِ (ثُمَّ اخْتَلَفَا فِي الثَّمَنِ) فَقَالَ الْمُشْتَرِي: كَانَ الثَّمَنُ أَلْفًا فَعَلَيْك أَنْ تَرُدَّ الْأَلْفَ وَقَالَ الْبَائِعُ: كَانَ خَمْسَمِائَةٍ فَعَلَيَّ رَدُّ الْخَمْسِمِائَةِ (فَإِنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ وَيَعُودُ الْبَيْعُ الْأَوَّلُ) حَتَّى يَكُونَ حَقُّ الْبَائِعِ فِي الثَّمَنِ وَحَقُّ الْمُشْتَرِي فِي الْمَبِيعِ كَمَا كَانَ قَبْلَ الْإِقَالَةِ؛ مَعْنَاهُ: يَعُودُ الْبَيْعُ الْأَوَّلُ إذَا فَسَخَ الْقَاضِي أَوْ فَسَخَا بِأَنْفُسِهِمَا الْإِقَالَةَ لِأَنَّ الْإِقَالَةَ كَالْبَيْعِ لَا تَنْفَسِخُ إلَّا بِالْفَسْخِ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ نَقْلًا عَنْ صَدْرِ الْإِسْلَامِ.

وَلَمَّا اسْتَشْعَرَ أَنْ يُقَالَ النَّصُّ الْوَارِدُ فِي حَقِّ التَّحَالُفِ وَهُوَ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ وَالسِّلْعَةُ قَائِمَةٌ تَحَالَفَا وَتَرَادَّا» لَمْ يَتَنَاوَلْ الْإِقَالَةَ، فَمَا وَجْهُ جَرَيَانِ التَّحَالُفِ فِيهَا؟ أَجَابَ بِقَوْلِهِ (وَنَحْنُ مَا أَثْبَتْنَا التَّحَالُفَ فِيهِ) أَيْ فِي التَّقَايُلِ (بِالنَّصِّ لِأَنَّهُ وَرَدَ فِي الْبَيْعِ الْمُطْلَقِ) أَيْ فِي الْبَيْعِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ (وَالْإِقَالَةُ فَسْخٌ فِي حَقِّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ) وَإِنْ كَانَ بَيْعًا جَدِيدًا فِي حَقِّ غَيْرِهِمَا.

فَإِنْ قُلْت: قَوْلُهُ وَالْإِقَالَةُ فَسْخٌ فِي حَقِّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ إنَّمَا يَتَمَشَّى عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، فَإِنَّ الْإِقَالَةَ عِنْدَهُ بَيْعٌ فِي حَقِّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ أَيْضًا، وَالْمَسْأَلَةُ الَّتِي نَحْنُ فِيهَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا فَمَا وَجْهُ بِنَاءِ الْوِفَاقِيَّةِ عَلَى الْخِلَافِيَّةِ؟ قُلْت: كَلَامُ الْمُصَنِّفِ هَذَا جَوَابٌ عَنْ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ ذَكَرْنَاهُ آنِفًا، وَذَلِكَ السُّؤَالُ إنَّمَا

ص: 225

وَإِنَّمَا أَثْبَتْنَاهُ بِالْقِيَاسِ لِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ مَفْرُوضَةٌ قَبْلَ الْقَبْضِ وَالْقِيَاسُ يُوَافِقُهُ عَلَى مَا مَرَّ وَلِهَذَا نَقِيسُ الْإِجَارَةَ عَلَى الْبَيْعِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَالْوَارِثَ عَلَى الْعَاقِدِ وَالْقِيمَةَ عَلَى الْعَيْنِ فِيمَا إذَا اسْتَهْلَكَهُ فِي يَدِ الْبَائِعِ غَيْرُ الْمُشْتَرِي.

قَالَ (وَلَوْ قَبَضَ الْبَائِعُ الْمَبِيعَ بَعْدَ الْإِقَالَةِ فَلَا تَحَالُفَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ) لِأَنَّهُ يَرَى النَّصَّ مَعْلُولًا بَعْدَ الْقَبْضِ أَيْضًا.

يَكَادُ يَتَوَجَّهُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ كَمَا لَا يَخْفَى، فَبَنَى الْجَوَابَ أَيْضًا عَلَى أَصْلِهِمَا دُونَ أَصْلِهِ فَتَدَبَّرْ (وَإِنَّمَا أَثْبَتْنَاهُ بِالْقِيَاسِ لِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ مَفْرُوضَةٌ قَبْلَ الْقَبْضِ) أَيْ قَبْلَ قَبْضِ الْبَائِعِ الْجَارِيَةَ بِحُكْمِ الْإِقَالَةِ (وَالْقِيَاسُ يُوَافِقُهُ عَلَى مَا مَرَّ) أَيْ فِي أَوَّلِ الْبَابِ (وَلِهَذَا نَقِيسُ الْإِجَارَةَ عَلَى الْبَيْعِ قَبْلَ الْقَبْضِ) تَوْضِيحٌ لِقَوْلِهِ وَإِنَّمَا أَثْبَتْنَاهُ بِالْقِيَاسِ: يَعْنِي إذَا اخْتَلَفَ الْمُؤَجِّرُ وَالْمُسْتَأْجِرُ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فِي الْأُجْرَةِ يَجْرِي التَّحَالُفُ بَيْنَهُمَا (وَالْوَارِثُ عَلَى الْعَاقِدِ) أَيْ وَنَقِيسُ الْوَارِثَ عَلَى الْعَاقِدِ: يَعْنِي إذَا اخْتَلَفَ وَارِثُ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي فِي الثَّمَنِ قَبْلَ الْقَبْضِ يَجْرِي التَّحَالُفُ بَيْنَهُمَا (وَالْقِيمَةُ عَلَى الْعَيْنِ) أَيْ نَقِيسُ الْقِيمَةَ عَلَى الْعَيْنِ (فِيمَا إذَا اسْتَهْلَكَهُ فِي يَدِ الْبَائِعِ غَيْرُ الْمُشْتَرِي) يَعْنِي إذَا اسْتَهْلَكَ غَيْرُ الْمُشْتَرِي الْعَيْنَ الْمَبِيعَةَ فِي يَدِ الْبَائِعِ وَضَمِنَ الْقِيمَةَ قَامَتْ الْقِيمَةُ مَقَامَ الْعَيْنِ الْمُسْتَهْلَكَةِ، فَإِنْ اخْتَلَفَ الْعَاقِدَانِ فِي الثَّمَنِ قَبْلَ الْقَبْضِ يَجْرِي التَّحَالُفُ بَيْنَهُمَا بِالْقِيَاسِ عَلَى جَرَيَانِ التَّحَالُفِ عِنْدَ بَقَاءِ الْعَيْنِ الْمُشْتَرَاةِ لِكَوْنِ النَّصِّ إذْ ذَاكَ مَعْقُولَ الْمَعْنَى.

وَفِي غَايَةِ الْبَيَانِ: وَهَذِهِ هِيَ النُّسْخَةُ الْمُقَابَلَةُ بِنُسْخَةِ الْمُصَنِّفِ. وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ فِيمَا إذَا اسْتَهْلَكَ الْمُشْتَرِي، وَفِي بَعْضِهَا فِيمَا إذَا اُسْتُهْلِكَ الْمَبِيعُ. قَالَ الْإِمَامُ حَافِظُ الدِّينِ الْكَبِيرُ الْبُخَارِيُّ عَلَى حَاشِيَةِ كِتَابِهِ الصَّحِيحِ: اسْتَهْلَكَ الْمُشْتَرِي الْمُشْتَرَى انْتَهَى. وَفِي مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ: الصَّوَابُ إذَا اسْتَهْلَكَهُ فِي يَدِ الْبَائِعِ غَيْرُ الْمُشْتَرِي، وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ عَلَى حَاشِيَةِ نُسْخَةٍ قُوبِلَتْ بِنُسْخَةِ الْمُصَنِّفِ، أَوْ الصَّوَابُ اُسْتُهْلِكَ الْمُشْتَرَى بِضَمِّ التَّاءِ عَلَى صِيغَةِ بِنَاءِ الْمَفْعُولِ وَالْمُشْتَرَى عَلَى صِيغَةِ الْمَفْعُولِ انْتَهَى

(وَلَوْ قَبَضَ الْبَائِعُ الْمَبِيعَ بَعْدَ الْإِقَالَةِ فَلَا تَخَالُفَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ لِأَنَّهُ يَرَى النَّصَّ مَعْلُولًا بَعْدَ الْقَبْضِ أَيْضًا) يَعْنِي أَنَّ مُحَمَّدًا يَرَى النَّصَّ وَهُوَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ وَالسِّلْعَةُ قَائِمَةٌ تَحَالَفَا وَتَرَادَّا» مَعْلُولًا بِوُجُودِ الْإِنْكَارِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَبَايِعَيْنِ لِمَا يَدَّعِيهِ الْآخَرُ مِنْ الْعَقْدِ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَتَفَاوَتُ بَيْنَ كَوْنِ الْمَبِيعِ مَقْبُوضًا أَوْ غَيْرَ مَقْبُوضٍ.

قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: فَإِنْ قِيلَ: الْإِقَالَةُ بَيْعٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فَيَكُونُ مُتَنَاوَلَ النَّصِّ فَيَنْبَغِي أَنْ يَجْرِيَ التَّحَالُفُ عِنْدَهُ بَعْدَ قَبْضِ الْبَائِعِ أَيْضًا، قُلْنَا: لَمَّا وَقَعَ الْخِلَافُ فِي كَوْنِهِ بَيْعًا لَا يَتَنَاوَلُهُ النَّصُّ الْوَارِدُ فِي الْبَيْعِ الْمُطَلَّقِ لِلشُّبْهَةِ انْتَهَى. أَقُولُ: جَوَابُهُ سَاقِطٌ جِدًّا، لِأَنَّ التَّحَالُفَ لَيْسَ مِمَّا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ كَالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ كَمَا لَا يَخْفَى، فَلَوْ كَانَ مُجَرَّدُ وُقُوعِ الْخِلَافِ فِي كَوْنِ الْإِقَالَةِ بَيْعًا مَانِعًا عِنْدَهُ مِنْ أَنْ يَتَنَاوَلَهَا النَّصُّ الْوَارِدُ فِي الْبَيْعِ الْمُطْلَقِ فِي حَقِّ حُكْمِ التَّحَالُفِ فَكَانَ ذَلِكَ مَانِعًا عِنْدَهُ عَنْ أَنْ يَتَنَاوَلَهَا النُّصُوصُ الْوَارِدَةُ فِي حَقِّ سَائِرِ أَحْكَامِ الْبَيْعِ الْمُطْلَقِ أَيْضًا مَعَ أَنَّ أَحْكَامَ الْبَيْعِ الْمُطْلَقِ جَارِيَةً بِأَسْرِهَا فِي الْإِقَالَةِ عِنْدَهُ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي بَابِهَا. ثُمَّ أَقُولُ فِي دَفْعِ سُؤَالِهِ: إنَّ أَصْلَ أَبِي يُوسُفَ الْإِقَالَةُ هُوَ أَنَّهَا بَيْعٌ إلَّا أَنْ لَا يُمْكِنُ جَعْلُهَا بَيْعًا كَالْإِقَالَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ

ص: 226

قَالَ (وَمَنْ أَسْلَمَ عَشْرَةَ دَرَاهِمَ فِي كُرِّ حِنْطَةٍ ثُمَّ تَقَايَلَا ثُمَّ اخْتَلَفَا فِي الثَّمَنِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسَلَّمِ إلَيْهِ وَلَا يَعُودُ السَّلَمُ) لِأَنَّ الْإِقَالَةَ فِي بَابِ السَّلَمِ لَا تَحْتَمِلُ النَّقْضَ لِأَنَّهُ إسْقَاطٌ فَلَا يَعُودُ السَّلَمُ، بِخِلَافِ الْإِقَالَةِ فِي الْبَيْعِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ رَأْسَ مَالِ السَّلَمِ لَوْ كَانَ عَرَضًا فَرَدَّهُ بِالْعَيْبِ وَهَلَكَ قَبْلَ التَّسْلِيمِ إلَى رَبِّ السَّلَمِ لَا يَعُودُ السَّلَمُ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ فِي بَيْعِ الْعَيْنِ يَعُودُ الْبَيْعُ دَلَّ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا.

قَالَ (وَإِذَا اخْتَلَفَ الزَّوْجَانِ فِي الْمَهْرِ فَادَّعَى الزَّوْجُ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا بِأَلْفٍ وَقَالَتْ تَزَوَّجَنِي بِأَلْفَيْنِ فَأَيُّهُمَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ) لِأَنَّهُ نَوَّرَ دَعْوَاهُ بِالْحُجَّةِ.

فِي الْمَنْقُولِ فَتُجْعَلُ فَسْخًا كَمَا بَيَّنُوا فِي بَابِ الْإِقَالَةِ، وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ لَمَّا اخْتَلَفَا فِي الثَّمَنِ وَلَمْ يَثْبُتْ قَوْلُ أَحَدِهِمَا صَارَ الثَّمَنُ مَجْهُولًا فَلَمْ يُمْكِنْ جَعْلُهُ بَيْعًا لِعَدَمِ جَوَازِ الْبَيْعِ بِالثَّمَنِ الْمَجْهُولِ كَعَدَمِ جَوَازِ.

بَيْعِ الْمَنْقُولِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَلَمْ يَتَنَاوَلْهُ النَّصُّ الْوَارِدُ فِي الْبَيْعِ الْمُطْلَقِ فَلَمْ يَجْرِ التَّحَالُفُ فِيهِ عِنْدَهُ أَيْضًا لَا بِالنَّصِّ وَلَا بِالْقِيَاسِ

(قَالَ) أَيْ مُحَمَّدٌ فِي بُيُوعِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ (وَمَنْ أَسْلَمَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فِي كُرِّ حِنْطَةٍ ثُمَّ تَقَايَلَا ثُمَّ اخْتَلَفَا فِي الثَّمَنِ) أَيْ فِي رَأْسِ الْمَالِ فَقَالَ الْمُسَلَّمُ إلَيْهِ: كَانَ رَأْسُ الْمَالِ خَمْسَةً وَقَالَ رَبُّ السَّلَمِ: كَانَ عَشْرَةً (فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسَلَّمِ إلَيْهِ) أَيْ مَعَ يَمِينِهِ، لِأَنَّ رَبَّ السَّلَمِ يَدَّعِي عَلَيْهِ زِيَادَةً وَهُوَ يُنْكِرُ (وَلَا يَعُودُ السَّلَمُ) أَيْ لَا يَتَحَالَفَانِ وَلَا يَعُودُ السَّلَمُ (لِأَنَّ الْإِقَالَةَ فِي بَابِ السَّلَمِ لَا تَحْتَمِلُ النَّقْضَ) أَيْ الْفَسْخَ: يَعْنِي أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ التَّحَالُفِ الْفَسْخُ. وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ النَّبَوِيَّةُ بِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «تَحَالَفَا وَتَرَادَّا» وَالْإِقَالَةُ فِي بَابِ السَّلَمِ لَا تَحْتَمِلُهُ (لِأَنَّهُ) أَيْ الْإِقَالَةَ فِي بَابِ السَّلَمِ ذَكَرَ الضَّمِيرَ بِتَأْوِيلِ التَّقَايُلِ (إسْقَاطٌ) لِلْمُسَلَّمِ فِيهِ وَهُوَ دَيْنٌ وَالدَّيْنُ السَّاقِطُ لَا يَعُودُ (فَلَا يَعُودُ السَّلَمُ، بِخِلَافِ الْإِقَالَةِ فِي الْبَيْعِ) فَإِنَّهَا تَحْتَمِلُ الْفَسْخَ وَيَعُودُ الْمَبِيعُ إلَى الْمُشْتَرِي بَعْدَ عَوْدِهِ إلَى الْبَائِعِ لِكَوْنِهِ مُعَيَّنًا قَائِمًا، (وَنَوَّرَ هَذَا بِقَوْلِهِ: أَلَا تَرَى أَنَّ رَأْسَ مَالِ السَّلَمِ لَوْ كَانَ عَرَضًا فَرَدَّهُ بِالْعَيْبِ) أَيْ فَقَضَى الْقَاضِي بِالرَّدِّ بِالْعَيْبِ عَلَى رَبِّ السَّلَمِ (وَهَلَكَ) أَيْ فِي يَدِ الْمُسَلَّمِ إلَيْهِ (قَبْلَ التَّسْلِيمِ إلَى رَبِّ السَّلَمِ لَا يَعُودُ السَّلَمُ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ فِي بَيْعِ الْعَيْنِ يَعُودُ الْبَيْعُ، دَلَّ) أَيْ دَلَّ هَذَا الَّذِي ذُكِرَ (عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا) أَيْ بَيْنَ السَّلَمِ وَالْبَيْعِ.

فَإِنْ قِيلَ: مَا الْفَرْقُ لِمُحَمَّدٍ بَيْنَ إقَالَةِ السَّلَمِ وَبَيْنَ مَا إذَا هَلَكَتْ السِّلْعَةُ ثُمَّ اخْتَلَفَا فِي مِقْدَارِ الثَّمَنِ فَإِنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ فِيمَا إذَا هَلَكَتْ السِّلْعَةُ، وَلَا يَتَحَالَفَانِ فِي إقَالَةِ السَّلَمِ إذَا اخْتَلَفَا فِي مِقْدَارِ رَأْسِ الْمَالِ وَإِنْ فَاتَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ فِي الْفَصْلَيْنِ جَمِيعًا؟ قُلْنَا: الْإِقَالَةُ فِي السَّلَمِ قِيلَ: قَبْضُ الْمُسَلَّمِ فِيهِ فُسِخَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَالتَّحَالُفُ بَعْدَ هَلَاكِ السِّلْعَةِ يَجْرِي فِي الْبَيْعِ لَا فِي الْفَسْخِ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ نَقْلًا عَنْ الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ.

(قَالَ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ (وَإِذَا اخْتَلَفَ الزَّوْجَانِ فِي الْمَهْرِ فَادَّعَى الزَّوْجُ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا بِأَلْفٍ وَقَالَتْ: تَزَوَّجَنِي بِأَلْفَيْنِ فَأَيُّهُمَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ) قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِهِ: (لِأَنَّهُ نَوَّرَ دَعْوَاهُ بِالْحُجَّةِ) قَالَ الشُّرَّاحُ: أَمَّا قَبُولُ بَيِّنَةِ الْمَرْأَةِ فَظَاهِرٌ

ص: 227

(وَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمَرْأَةِ) لِأَنَّهَا تُثْبِتُ الزِّيَادَةَ، مَعْنَاهُ إذَا كَانَ مَهْرُ مِثْلِهَا أَقَلَّ مِمَّا ادَّعَتْهُ (وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا بَيِّنَةٌ تَحَالَفَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَلَا يُفْسَخُ النِّكَاحُ) لِأَنَّ أَثَرَ التَّحَالُفِ فِي انْعِدَامِ التَّسْمِيَةِ، وَأَنَّهُ لَا يُخِلُّ بِصِحَّةِ النِّكَاحِ لِأَنَّ الْمَهْرَ تَابِعٌ فِيهِ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ لِأَنَّ عَدَمَ التَّسْمِيَةِ يُفْسِدُهُ عَلَى مَا مَرَّ فَيُفْسَخُ،

لِأَنَّهَا تَدَّعِي الزِّيَادَةَ، وَإِنَّمَا الْإِشْكَالُ فِي قَبُولِهِ بَيِّنَةَ الزَّوْجِ لِأَنَّهُ مُنْكِرُ الزِّيَادَةِ فَكَانَ عَلَيْهِ الْيَمِينُ لَا الْبَيِّنَةُ، وَإِنَّمَا قَبِلَتْ لِأَنَّهُ مُدَّعٍ فِي الصُّورَةِ وَهِيَ كَافِيَةٌ لِقَبُولِهَا انْتَهَى (فَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمَرْأَةِ) هَذَا مِنْ تَمَامِ كَلَامِ الْقُدُورِيِّ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِهِ (لِأَنَّهَا) أَيْ لِأَنَّ بَيِّنَةَ الْمَرْأَةِ (تُثْبِتُ الزِّيَادَةَ) وَقَالَ فِي تَوْجِيهِهِ (مَعْنَاهُ إذَا كَانَ مَهْرُ مِثْلِهَا) أَيْ مَهْرُ مِثْلِ الْمَرْأَةِ (أَقَلَّ مِمَّا ادَّعَتْهُ) وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي تَفْصِيلِ الْمَسْأَلَةِ: وَإِنْ أَقَامَا فَلَا يَخْلُوا إمَّا أَنْ يَكُونَ مَهْرُ الْمِثْلِ أَقَلَّ مِمَّا ادَّعَتْهُ أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَالْبَيِّنَةُ لِلْمَرْأَةِ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ الزِّيَادَةَ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَالْبَيِّنَةُ لِلزَّوْجِ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ الْحَطَّ وَبَيِّنَتُهَا لَا تُثْبِتُ شَيْئًا لِثُبُوتِ مَا ادَّعَتْهُ بِشَهَادَةِ مَهْرِ الْمِثْلِ انْتَهَى.

أَقُولُ: فِي تَحْرِيرِهِ خَلَلٌ، حَيْثُ حَكَمَ فِي الْأَوَّلِ عَلَى الْإِطْلَاقِ بِكَوْنِ الْبَيِّنَةِ لِلْمَرْأَةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ الْأَوَّلُ أَيْضًا لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ مَهْرُ الْمِثْلِ مِثْلَ مَا اعْتَرَفَ بِهِ الزَّوْجُ أَوْ أَقَلَّ مِنْهُ. وَمِنْ أَنْ يَكُونَ أَكْثَرَ مِمَّا اعْتَرَفَ بِهِ الزَّوْجُ وَأَقَلَّ مِمَّا ادَّعَتْهُ الْمَرْأَةُ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَالْبَيِّنَةُ لِلْمَرْأَةِ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ الزِّيَادَةَ. وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَتَتَعَارَضُ بَيِّنَتَاهُمَا حَيْثُ تُثْبِتُ بَيِّنَتُهَا الزِّيَادَةَ وَتُثْبِتُ بَيِّنَتُهُ الْحَطَّ فَيَتَهَاتَرَانِ فَيَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ. وَقَدْ صَرَّحَ بِهَذَا التَّفْصِيلِ فِي عَامَّةِ الْكُتُبِ الْمُعْتَبَرَةِ حَتَّى الْمُتُونِ فِي بَابِ الْمَهْرِ، بَلْ صَرَّحَ بِهِ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ أَيْضًا فِي ذَلِكَ الْبَابِ مِنْ شَرْحِ هَذَا الْكِتَابِ.

وَأَمَّا قَوْلُ الْمُصَنِّفِ: مَعْنَاهُ إذَا كَانَ مَهْرُ مِثْلِهَا أَقَلَّ مِمَّا ادَّعَتْهُ فَلَيْسَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ مِنْ الْخَلَلِ، إذْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ بِهِ مُجَرَّدَ الِاحْتِرَازِ عَمَّا إذَا كَانَ أَكْثَرَ مِمَّا ادَّعَتْهُ لَا التَّعْمِيمَ لِقَسَمِي كَوْنِ مَهْرِ مِثْلِهَا أَقَلَّ مِمَّا ادَّعَتْهُ، بِخِلَافِ تَحْرِيرِ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ فَإِنَّ عِبَارَةَ لَا يَخْلُو فِي قَوْلِهِ وَإِنْ أَقَامَا فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مَهْرُ الْمِثْلِ أَقَلَّ مِمَّا ادَّعَتْهُ أَوْ لَا تَقْتَضِي شُمُولَ الْأَقْسَامِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى ذَوِي الْأَفْهَامِ. وَلَقَدْ أَحْسَنَ الْإِمَامُ الزَّيْلَعِيُّ فِي هَذَا الْمَقَامِ حَيْثُ قَالَ فِي شَرْحِ قَوْلِ صَاحِبِ الْكَنْزِ: وَإِنْ بَرْهَنَّا فَلِلْمَرْأَةِ، هَذَا إذَا كَانَ مَهْرُ الْمِثْلِ يَشْهَدُ لِلزَّوْجِ بِأَنْ كَانَ مِثْلَ مَا يَدَّعِي الزَّوْجُ أَوْ أَقَلَّ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ يَشْهَدُ لِلزَّوْجِ وَبَيِّنَةُ الْمَرْأَةِ تُثْبِتُ خِلَافَ الظَّاهِرِ فَكَانَتْ أَوْلَى، وَإِنْ كَانَ مَهْرُ الْمِثْلِ يَشْهَدُ لَهَا بِأَنْ كَانَ مِثْلَ مَا تَدَّعِيهِ الْمَرْأَةُ أَوْ أَكْثَرَ كَانَتْ بَيِّنَةُ الزَّوْجِ أَوْلَى لِأَنَّهَا تُثْبِتُ الْحَطَّ وَهُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ وَالْبَيِّنَاتُ لِلْإِثْبَاتِ، وَإِنْ كَانَ مَهْرُ مِثْلِهَا لَا يَشْهَدُ لَهَا وَلَا لَهُ بِأَنْ كَانَ أَقَلَّ مِمَّا ادَّعَتْهُ الْمَرْأَةُ وَأَكْثَرَ مِمَّا ادَّعَاهُ الزَّوْجُ فَالصَّحِيحُ أَنَّهُمَا يَتَهَاتَرَانِ لِأَنَّهُمَا اسْتَوَيَا فِي الْإِثْبَاتِ، لِأَنَّ بَيِّنَتَهَا تُثْبِتُ الزِّيَادَةَ وَبَيِّنَتَهُ تُثْبِتُ الْحَطَّ فَلَا تَكُونُ إحْدَاهُمَا أَوْلَى مِنْ الْأُخْرَى انْتَهَى.

(وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا بَيِّنَةٌ) أَيْ عَجَزَا مِنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ (تَحَالَفَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلَا يُفْسَخُ النِّكَاحُ لِأَنَّ أَثَرَ التَّحَالُفِ فِي انْعِدَامِ التَّسْمِيَةِ، وَإِنَّهُ لَا يُخِلُّ بِصِحَّةِ النِّكَاحِ لِأَنَّ الْمَهْرَ تَابِعٌ فِيهِ) أَيْ فِي النِّكَاحِ فَلَا حَاجَةَ إلَى الْفَسْخِ (بِخِلَافِ الْبَيْعِ لِأَنَّ عَدَمَ التَّسْمِيَةِ يُفْسِدُهُ) لِبَقَائِهِ بَيْعًا بِلَا ثَمَنٍ وَهُوَ فَاسِدٌ (عَلَى مَا مَرَّ) أَيْ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ، بَلْ فِي هَذَا الْبَابِ أَيْضًا حَيْثُ قَالَ: وَيُقَالُ إذَا لَمْ يَثْبُتْ الْبَدَلُ بَقِيَ بَيْعًا بِلَا بَدَلٍ وَهُوَ فَاسِدٌ (فَيُفْسَخُ) أَيْ الْبَيْعُ، قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: فَإِنْ قُلْت: النَّصُّ

ص: 228

(وَلَكِنْ يَحْكُمُ مَهْرُ الْمِثْلِ، فَإِنْ كَانَ مِثْلَ مَا اعْتَرَفَ بِهِ الزَّوْجُ أَوْ أَقَلَّ قَضَى بِمَا قَالَ الزَّوْجُ) لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لَهُ (وَإِنْ كَانَ مِثْلَ مَا ادَّعَتْهُ الْمَرْأَةُ

بِشَرْعِيَّةِ التَّحَالُفِ إنَّمَا وَرَدَ فِي الْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ وَهُوَ ظَاهِرٌ فَكَيْفَ تَعَدَّى حُكْمُ النَّصِّ مِنْ الْبَيْعِ إلَى النِّكَاحِ، أَوْ نَقُولُ: إنَّ التَّحَالُفَ إنَّمَا شُرِعَ فِي عَقْدٍ يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ لِمَا أَنَّ الْفَسْخَ مِنْ أَحْكَامِ التَّحَالُفِ وَلَا فَسْخَ فِي النِّكَاحِ بَعْدَ التَّحَالُفِ بِالِاتِّفَاقِ فَيَجِبُ أَنْ لَا يُشْرَعَ فِيهِ التَّحَالُفُ لِعَدَمِ حُكْمِهِ.

قُلْت: أَمَّا الْأَوَّلُ وَهُوَ وُرُودُ النَّصِّ فِي الْبَيْعِ فَقُلْنَا: إنَّ الْمَعْنَى الْمُوجِبَ لِلتَّحَالُفِ هُنَاكَ مَوْجُودٌ هَاهُنَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَيَثْبُتُ التَّحَالُفُ فِي النِّكَاحِ أَيْضًا بِدَلَالَةِ النَّصِّ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُوجِبَ لِلتَّحَالُفِ هُنَاكَ هُوَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ مُدَّعٍ وَمُنْكِرٌ، وَلَمْ يُمْكِنْ تَرْجِيحُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ فِي الدَّعْوَى وَالْإِنْكَارِ لِتَسَاوِيهِمَا فِيهِمَا، فَلِذَلِكَ قُوبِلَتْ بَيِّنَتُهُمَا وَيَمِينُهُمَا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُنْكِرُ مَا يَدَّعِيهِ الْآخَرُ فَيَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى دَعْوَى صَاحِبِهِ تَمَسُّكًا بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» وَأَمَّا الثَّانِي وَهُوَ أَنَّ الْفَسْخَ حُكْمُ التَّحَالُفِ وَالْفَسْخُ لَيْسَ بِثَابِتٍ هَاهُنَا وَجَوَابُهُ مَذْكُورٌ فِي الْكِتَابِ. وَإِيضَاحُ ذَلِكَ هُوَ أَنَّ التَّحَالُفَ إنَّمَا أَوْجَبَ الْفَسْخَ فِي التَّحَالُفِ لِأَنَّهُ لَمَّا تَعَذَّرَ إثْبَاتُ دَعْوَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِسَبَبِ يَمِينِ الْآخَرِ لَزِمَ إخْلَاءُ الْعَقْدِ عَنْ الْبَدَلِ، وَالْبَدَلُ إذَا خَلَا فِي الْبَيْعِ يَفْسُدُ الْبَيْعُ وَالْفَاسِدُ يُفْسَخُ.

وَأَمَّا النِّكَاحُ إذَا خَلَا الْعِوَضُ عَنْهُ فَلَا يَفْسُدُ كَمَا لَوْ لَمْ يَذْكُرْ التَّسْمِيَةَ، وَإِذَا لَمْ يَفْسُدْ النِّكَاحُ لَا يُفْسَخُ إذْ الْفَسْخُ إنَّمَا كَانَ بِسَبَبِ الْفَسَادِ فَافْتَرَقَا، إلَى هَذَا أَشَارَ فِي الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ انْتَهَى. وَقَدْ اقْتَفَى أَثَرَهُ فِي هَذَيْنِ السُّؤَالَيْنِ وَهَذَيْنِ الْجَوَابَيْنِ صَاحِبُ مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ وَصَاحِبُ الْعِنَايَةِ. أَقُولُ: فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْجَوَابَيْنِ بَحْثٌ. أَمَّا فِي الْأَوَّلِ فَلِأَنَّ الْمَعْنَى الْمُوجِبَ لِلتَّحَالُفِ وَهُوَ كَوْنُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ مُدَّعِيًا وَمُنْكِرًا مَعَ عَدَمِ إمْكَانِ تَرْجِيحِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ إنَّمَا يُوجَدُ هَاهُنَا قَبْلَ تَسْلِيمِ الْمَرْأَةِ بُضْعَهَا إلَى الزَّوْجِ، وَأَمَّا بَعْدَ التَّسْلِيمِ فَلَا يُوجَدُ لِأَنَّ الزَّوْجَ لَا يَدَّعِي عَلَى الْمَرْأَةِ حِينَئِذٍ شَيْئًا إذْ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ سَالِمٌ لَهُ.

بَقِيَ دَعْوَى الْمَرْأَةِ فِي زِيَادَةِ الْمَهْرِ وَالزَّوْجُ يُنْكِرُهَا عَلَى قِيَاسِ مَا تَقَرَّرَ فِي الِاخْتِلَافِ فِي الْبَيْعِ بَعْدَ الْقَبْضِ، وَالْمَسْأَلَةُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ لَيْسَتْ بِمَفْرُوضَةٍ قَبْلَ الْقَبْضِ بَلْ هِيَ عَامَّةٌ لِمَا قَبْلَ الْقَبْضِ وَمَا بَعْدَهُ، بَلْ كَانَتْ مُصَوَّرَةً فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ بِصُورَةٍ تَخُصُّ بِمَا بَعْدَ الْقَبْضِ فَبَقِيَ السُّؤَالُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، إلَّا عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ فَإِنَّهُ يَرَى النَّصَّ مَعْلُومًا بَعْدَ الْقَبْضِ أَيْضًا كَمَا مَرَّ. وَأَمَّا فِي الثَّانِي فَلِأَنَّ حَاصِلَهُ بَيَانُ سَبَبِ عَدَمِ ثُبُوتِ الْفَسْخِ فِي النِّكَاحِ، وَهُوَ لَا يَدْفَعُ السُّؤَالَ إذْ لَيْسَ فِيهِ مَا يُشْعِرُ بِالنِّزَاعِ أَوْ التَّرَدُّدِ فِي عَدَمِ ثُبُوتِ الْفَسْخِ فِي النِّكَاحِ، بَلْ حَاصِلُهُ أَنَّ التَّحَالُفَ إنَّمَا شُرِعَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ الْفَسْخُ، فَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ الْفَسْخُ فِي النِّكَاحِ يَنْبَغِي أَيْ لَا يَجْرِي فِيهِ التَّحَالُفُ أَيْضًا، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ التَّحَالُفَ لَمْ يَجْرِ فِيمَا إذَا اخْتَلَفَا فِي الْإِقَالَةِ فِي السَّلَمِ لِعَدَمِ احْتِمَالِ الْإِقَالَةِ فِي بَابِ السَّلَمِ الْفَسْخَ كَمَا مَرَّ قُبَيْلَ مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ فَتَأَمَّلْ (وَلَكِنْ يَحْكُمُ مَهْرُ الْمِثْلِ) هَذَا اسْتِدْرَاكٌ مِنْ قَوْلِهِ وَلَا يُفْسَخُ النِّكَاحُ أَيْ لَكِنْ يَحْكُمُ مَهْرُ الْمِثْلِ لِقَطْعِ النِّزَاعِ (فَإِنْ كَانَ) أَيْ مَهْرُ الْمِثْلِ (مِثْلَ مَا اعْتَرَفَ بِهِ الزَّوْجُ أَوْ أَقَلَّ) أَيْ مِمَّا اعْتَرَفَ بِهِ الزَّوْجُ (قَضَى بِمَا قَالَ الزَّوْجُ لِأَنَّ الظَّاهِرَ) أَيْ ظَاهِرَ الْحَالِ (شَاهِدٌ لَهُ) أَمَّا فِي صُورَةِ كَوْنِ مَهْرِ الْمِثْلِ مِثْلَ مَا اعْتَرَفَ بِهِ الزَّوْجُ فَظَاهِرٌ لِمُوَافَقَةِ قَوْلِهِ مَهْرَ الْمِثْلِ.

وَأَمَّا فِي صُورَةِ كَوْنِ مَهْرِ الْمِثْلِ أَقَلَّ مِمَّا اعْتَرَفَ بِهِ الزَّوْجُ فَلِكَوْنِ قَوْلِهِ أَقْرَبَ إلَى مَهْرِ الْمِثْلِ مِنْ قَوْلِنَا (وَإِنْ كَانَ) أَيْ مَهْرُ الْمِثْلِ (مِثْلَ مَا ادَّعَتْهُ الْمَرْأَةُ أَوْ أَكْثَرَ) أَيْ مِمَّا ادَّعَتْهُ الْمَرْأَةُ (قَضَى بِمَا ادَّعَتْ الْمَرْأَةُ)

ص: 229

أَوْ أَكْثَرَ قَضَى بِمَا ادَّعَتْهُ الْمَرْأَةُ، وَإِنْ كَانَ مَهْرُ الْمِثْلِ أَكْثَرَ مِمَّا اعْتَرَفَ بِهِ الزَّوْجُ وَأَقَلَّ مِمَّا ادَّعَتْهُ الْمَرْأَةُ قَضَى لَهَا بِمَهْرِ الْمِثْلِ) لِأَنَّهُمَا لَمَّا تَحَالَفَا لَمْ تَثْبُتْ الزِّيَادَةُ عَلَى مَهْرِ الْمِثْلِ وَلَا الْحَطُّ عَنْهُ.

قَالَ رحمه الله: ذَكَرَ التَّحَالُفَ أَوَّلًا ثُمَّ التَّحْكِيمَ، وَهَذَا قَوْلُ الْكَرْخِيِّ رحمه الله لِأَنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ لَا اعْتِبَارَ لَهُ مَعَ وُجُودِ التَّسْمِيَةِ وَسُقُوطِ اعْتِبَارِهَا بِالتَّحَالُفِ وَلِهَذَا يُقَدَّمُ فِي الْوُجُوهِ كُلِّهَا، وَيَبْدَأُ بِيَمِينِ الزَّوْجِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ تَعْجِيلًا لِفَائِدَةِ النُّكُولِ كَمَا فِي الْمُشْتَرِي، وَتَخْرِيجُ الرَّازِيّ بِخِلَافِهِ

لِأَنَّ الظَّاهِرَ لَهَا شَاهِدٌ حِينَئِذٍ لِمِثْلِ مَا بَيَّنَّاهُ آنِفًا (وَإِنْ كَانَ مَهْرُ الْمِثْلِ أَكْثَرَ مِمَّا اعْتَرَفَ بِهِ الزَّوْجُ وَأَقَلَّ مِمَّا ادَّعَتْهُ الْمَرْأَةُ قَضَى لَهَا بِمَهْرِ الْمِثْلِ لِأَنَّهُمَا لَمَّا تَحَالَفَا لَمْ تَثْبُتْ الزِّيَادَةُ عَلَى مَهْرِ الْمِثْلِ) أَيْ بِسَبَبِ حَلِفِ الزَّوْجِ (وَلَا الْحَطِّ عَنْهُ) أَيْ بِسَبَبِ حَلِفِ الْمَرْأَةِ (قَالَ) أَيْ الْمُصَنِّفُ (ذَكَرَ) أَيْ الْقُدُورِيُّ (التَّحَالُفَ أَوَّلًا ثُمَّ التَّحْكِيمَ، وَهَذَا) أَيْ مَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ (قَوْلُ الْكَرْخِيِّ لِأَنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ لَا اعْتِبَارَ لَهُ مَعَ وُجُودِ التَّسْمِيَةِ) لِأَنَّهُ مُوجِبُ نِكَاحٍ لَا تَسْمِيَةَ فِيهِ (وَسُقُوطُ اعْتِبَارِهَا بِالتَّحَالُفِ) أَيْ سُقُوطُ اعْتِبَارِ التَّسْمِيَةِ إنَّمَا هُوَ بِالتَّحَالُفِ (فَلِهَذَا يُقَدَّمُ) أَيْ التَّحَالُفُ (فِي الْوُجُوهِ كُلِّهَا) يَعْنِي فِيمَا إذَا كَانَ مَهْرُ الْمِثْلِ مَا اعْتَرَفَ بِهِ الزَّوْجُ أَوْ أَقَلَّ مِنْهُ، أَوْ كَانَ مِثْلَ مَا ادَّعَتْهُ الْمَرْأَةُ أَوْ أَكْثَرَ مِنْهُ، أَوْ كَانَ أَكْثَرَ مِمَّا اعْتَرَفَ بِهِ الزَّوْجُ وَأَقَلَّ مَا ادَّعَتْهُ الْمَرْأَةُ فَهَذِهِ خَمْسَةُ وُجُوهٍ (وَيَبْدَأُ بِيَمِينِ الزَّوْجِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ تَعْجِيلًا لِفَائِدَةِ النُّكُولِ) لِأَنَّ أَوَّلَ التَّسْمِيَةِ عَلَيْهِ فَيَكُونُ أَوَّلُ الْيَمِينَيْنِ عَلَيْهِ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ نَقْلًا عَنْ الْفَتَاوَى الظَّهِيرِيَّةِ (كَمَا فِي الْمُشْتَرِي) أَيْ كَمَا يَبْدَأُ بِيَمِينِ الْمُشْتَرِي عَلَى الْقَوْلِ الصَّحِيحِ تَعْجِيلًا لِفَائِدَةِ النُّكُولِ كَمَا مَرَّ مِنْ تَخْرِيجِ الرَّازِيّ (بِخِلَافِهِ) أَيْ تَخْرِيجُ أَبِي بَكْرٍ الرَّازِيّ، بِخِلَافِ قَوْلِ الْكَرْخِيِّ فَإِنَّ الرَّازِيَّ يَقُولُ بِتَحْكِيمِ مَهْرِ الْمِثْلِ أَوَّلًا إذَا

ص: 230

وَقَدْ اسْتَقْصَيْنَاهُ فِي النِّكَاحِ وَذَكَرْنَا خِلَافَ أَبِي يُوسُفَ فَلَا نُعِيدُهُ

(وَلَوْ ادَّعَى الزَّوْجُ النِّكَاحَ عَلَى هَذَا الْعَبْدِ وَالْمَرْأَةُ تَدَّعِيهِ عَلَى هَذِهِ الْجَارِيَةِ فَهُوَ كَالْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، إلَّا أَنَّ قِيمَةَ الْجَارِيَةِ إذَا كَانَتْ مِثْلَ مَهْرِ الْمِثْلِ يَكُونُ لَهَا قِيمَتُهَا دُونَ عَيْنِهَا) لِأَنَّ تَمَلُّكَهَا لَا يَكُونُ

شَهِدَ مَهْرُ الْمِثْلِ لِأَحَدِهِمَا، ثُمَّ يَقُولُ بِالتَّحَالُفِ إذَا لَمْ يَشْهَدْ ذَلِكَ لِأَحَدِهِمَا.

قَالَ الْمُصَنِّفُ: (وَقَدْ اسْتَقْصَيْنَاهُ) أَيْ تَخْرِيجَ الرَّازِيّ (فِي النِّكَاحِ) أَيْ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ (وَذَكَرْنَا خِلَافَ أَبِي يُوسُفَ) هُوَ أَنَّ الْقَوْلَ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ قَوْلُ الزَّوْجِ إلَّا أَنْ يَأْتِيَ بِشَيْءٍ قَلِيلٍ، وَفِي رِوَايَةٍ: إلَّا أَنْ يَأْتِيَ بِشَيْءٍ مُسْتَنْكَرٍ، وَتَكَلَّمُوا فِي تَفْسِيرِهِ عَلَى مَا مَرَّ بَيَانُهُ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ (فَلَا نُعِيدُهُ) أَيْ لَا نُعِيدُ ذِكْرَ خِلَافِهِ هَاهُنَا. قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: وَهَذَا أَيْ قَوْلُ الرَّازِيّ هُوَ الْأَصَحُّ، لِأَنَّ تَحْكِيمَ مَهْرِ الْمِثْلِ هَاهُنَا لَيْسَ لِإِيجَابِ مَهْرِ الْمِثْلِ بَلْ لِمَعْرِفَةِ مَنْ يَشْهَدُ لَهُ الظَّاهِرُ، ثُمَّ الْأَصْلُ فِي الدَّعَاوَى أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ قَوْلَ مَنْ يَشْهَدُ لَهُ الظَّاهِرُ مَعَ يَمِينِهِ، كَذَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ قَاضِي خَانْ وَالْمَحْبُوبِيُّ انْتَهَى، وَقَالَ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ: قَالُوا: إنَّ قَوْلَ الْكَرْخِيِّ هُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ لَا يَثْبُتُ مَعَ وُجُودِ التَّسْمِيَةِ، وَإِنَّمَا تَنْعَدِمُ التَّسْمِيَةُ بِالتَّحَالُفِ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ كَأَنَّ الْعَقْدَ لَمْ يَكُنْ فِيهِ تَسْمِيَةٌ أَصْلًا فَيُصَارُ إلَى مَهْرِ الْمِثْلِ، فَلَمَّا لَمْ يَثْبُتْ مَهْرُ الْمِثْلِ مَعَ وُجُودِ التَّسْمِيَةِ كَيْفَ يَكُونُ الظَّاهِرُ مَعَ الَّذِي وَافَقَهُ مَهْرَ الْمِثْلِ انْتَهَى.

وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: أَقُولُ: إنْ أَرَادُوا بِقَوْلِهِمْ هُوَ الصَّحِيحُ أَنَّ غَيْرَهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَصَحَّ فَلَا كَلَامَ، وَإِنْ أَرَادُوا أَنَّ غَيْرَهُ فَاسِدٌ فَالْحَقُّ مَا قَالَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ، لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ تَمْنَعُ الْمَصِيرَ إلَى مَهْرِ الْمِثْلِ لِإِيجَابِهِ، وَأَمَّا لِتَحْكِيمِهِ لِمَعْرِفَةِ مَنْ يَشْهَدُ لَهُ الظَّاهِرُ فَمَمْنُوعٌ انْتَهَى، وَأَنَا أَقُولُ: إنَّ قَوْلَهُ إنْ أَرَادُوا بِقَوْلِهِمْ هُوَ الصَّحِيحُ أَنَّ غَيْرَهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَصَحَّ، فَلَا كَلَامَ لَيْسَ بِصَحِيحٍ إذْ لَا مَجَالَ لِإِرَادَةِ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ ذَلِكَ اللَّفْظِ، لِأَنَّهُمْ مَا قَالُوا هُوَ صَحِيحٌ حَتَّى لَا يُنَافِيَ كَوْنَ غَيْرِهِ أَصَحَّ، بَلْ قَالُوا: هُوَ الصَّحِيحُ بِقَصْرِ الْمُسْنَدِ عَلَى الْمُسْنَدِ إلَيْهِ وَهُوَ قَصْرُ الصِّفَةِ عَلَى الْمَوْصُوفِ كَمَا تَرَى، فَإِذَا كَانَتْ صِفَةُ الصِّحَّةِ مَقْصُورَةً عَلَيْهِ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَتَّصِفَ غَيْرُهُ بِالْأَصَحِّيَّةِ وَالِاتِّصَافُ بِالْأَصَحِّيَّةِ يَسْتَلْزِمُ الِاتِّصَافَ بِأَصْلِ الصِّحَّةِ لِأَنَّهَا زِيَادَةُ الصِّحَّةِ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ لَا كَلَامَ فِي الْمُرَادِ لَا فِي الْإِرَادَةِ فَتَأَمَّلْ.

ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: مَا بَالُهُمْ لَا يُحَكِّمُونَ قِيمَةَ الْمَبِيعِ إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ فِي الثَّمَنِ لِمَعْرِفَةِ مَنْ يَشْهَدُ لَهُ الظَّاهِرُ كَمَا فِي النِّكَاحِ فَإِنَّهُ لَا مَحْظُورَ فِيهِ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ مَعْلُومٌ ثَابِتٌ بِيَقِينٍ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ حُكْمًا، بِخِلَافِ الْقِيمَةِ فَإِنَّهَا تُعْلَمُ بِالْحِرْزِ وَالظَّنِّ فَلَا تُفِيدُ الْمَعْرِفَةَ فَلَا تُجْعَلُ حُكْمًا انْتَهَى. وَأَقُولُ: فِي جَوَابِهِ تَحْكُمُ، حَيْثُ جَعَلَ مَهْرَ الْمِثْلِ أَمْرًا مَعْلُومًا ثَابِتًا بِيَقِينٍ، وَالْقِيمَةَ أَمْرًا مَظْنُونًا غَيْرَ مُفِيدٍ لِلْمَعْرِفَةِ، وَالْحَالُ أَنَّهُمَا إنْ كَانَا مُتَفَاوِتَيْنِ فِي الْمَعْرِفَةِ فَمَهْرُ الْمِثْلِ أَخْفَى مِنْ الْقِيمَةِ، إذْ قَدْ تَقَرَّرَ فِي بَابِ الْمَهْرِ أَنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ يُعْتَبَرُ بِقَرَابَةِ الْمَرْأَةِ مِنْ قَوْمِ أَبِيهَا وَيُعْتَبَرُ فِيهِ التَّسَاوِي بَيْنَ الْمَرْأَتَيْنِ سِنًّا وَجَمَالًا وَمَالًا وَعَقْلًا وَدِينًا وَبَلَدًا وَعَصْرًا وَبَكَارَةً وَثِيَابَةً، وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَعْرِفَةَ هَذِهِ الشَّرَائِطِ عُسْرٌ جِدًّا، بِخِلَافِ الْقِيمَةِ إذْ يَكْفِي فِيهَا نَوْعُ خِبْرَةٍ بِأَحْوَالِ الْأَمْتِعَةِ كَمَا لَا يَخْفَى.

فَالصَّوَابُ فِي الْجَوَابِ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَالْكِفَايَةِ حَيْثُ قَالَا: قُلْنَا الْقَضَاءُ هُنَاكَ بِمَا يَدَّعِيهِ أَحَدُهُمَا غَيْرُ مُمْكِنٍ، وَإِنْ كَانَتْ الْقِيمَةُ مُطَابِقَةً لِمَا يَدَّعِيهِ أَحَدُهُمَا لِأَنَّ الْقِيمَةَ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهَا ثَمَنًا بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ، وَمَهْرُ الْمِثْلِ يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ مَهْرًا بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ، وَهَذَا هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا انْتَهَى، وَقَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: إلَى هَذَا أَشَارَ فِي الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ:

وَلَوْ ادَّعَى الزَّوْجُ النِّكَاحَ عَلَى هَذَا الْعَبْدِ (وَالْمَرْأَةُ تَدَّعِيهِ عَلَى هَذِهِ الْجَارِيَةِ فَهُوَ كَالْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ) يَعْنِي أَنَّهُ يَحْكُمُ مَهْرُ الْمِثْلِ أَوْ لَا، فَمَنْ شَهِدَ لَهُ فَالْقَوْلُ لَهُ وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا يَتَحَالَفَانِ وَإِلَيْهِ مَالَ الْإِمَامُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ وَهُوَ تَخْرِيجُ الرَّازِيّ، وَأَمَّا عَلَى تَخْرِيجِ الْكَرْخِيِّ فَيَتَحَالَفَانِ أَوَّلًا كَمَا تَقَدَّمَ كَذَا فِي الْعِنَايَةِ (إلَّا أَنَّ قِيمَةَ الْجَارِيَةِ إذَا كَانَتْ مِثْلَ مَهْرِ الْمِثْلِ يَكُونُ لَهَا) أَيْ لِلْمَرْأَةِ (قِيمَتُهَا) أَيْ قِيمَةُ الْجَارِيَةِ (دُونَ عَيْنِهَا لِأَنَّ تَمَلُّكَهَا لَا يَكُونُ

ص: 231

إلَّا بِالتَّرَاضِي وَلَمْ يُوجَدْ فَوَجَبَتْ الْقِيمَةُ

(وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الْإِجَارَةِ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ تَحَالَفَا وَتَرَادَّا) مَعْنَاهُ اخْتَلَفَا فِي الْبَدَلِ أَوْ فِي الْمُبْدَلِ لِأَنَّ التَّحَالُفَ فِي الْبَيْعِ قَبْلَ الْقَبْضِ عَلَى وِفَاقِ الْقِيَاسِ عَلَى مَا مَرَّ، وَالْإِجَارَةُ قَبْلَ قَبْضِ الْمَنْفَعَةِ نَظِيرُ الْبَيْعِ قَبْلَ قَبْضِ الْمَبِيعِ وَكَلَامُنَا قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ (فَإِنْ وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي الْأُجْرَةِ يَبْدَأُ بِيَمِينِ الْمُسْتَأْجِرِ) لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ لِوُجُوبِ الْأُجْرَةِ

إلَّا بِالتَّرَاضِي وَلَمْ يُوجَدْ) أَيْ التَّرَاضِي (فَوَجَبَتْ الْقِيمَةُ) أَيْ قِيمَةُ الْجَارِيَةِ.

(وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الْإِجَارَةِ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ تَحَالَفَا وَتَرَادَّا) هَذَا لَفْظُ الْقُدُورِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ: (مَعْنَاهُ اخْتَلَفَا فِي الْبَدَلِ) أَيْ الْأُجْرَةِ (أَوْ فِي الْمُبْدَلِ) أَيْ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَهُوَ الْمَنْفَعَةُ، وَهَذَا احْتِرَازٌ عَنْ اخْتِلَافِهِمَا فِي الْأَجَلِ، فَإِنَّهُ لَا يَجْرِي التَّحَالُفُ بَيْنَهُمَا فِيهِ. بَلْ الْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ مَنْ يُنْكِرُ الزِّيَادَةَ. كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ. ثُمَّ إنَّ الظَّاهِرَ كَانَ أَنْ يَزِيدَ الْمُصَنِّفُ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْبَدَلِ أَوْ الْمُبْدَلِ أَوْ فِيهِمَا كَمَا زَادَهُ صَاحِبُ الْكَافِي لِيَتَنَاوَلَ الصُّوَرَ الثَّلَاثَةَ الْآتِيَةَ، فَكَأَنَّهُ أَرَادَ بِقَوْلِهِ فِي الْبَدَلِ أَوْ الْمُبْدَلِ مَنْعَ الْخُلُوِّ احْتِرَازًا عَمَّا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا لَا مَنْعَ الْجَمْعِ فَيَتَنَاوَلُهُمَا أَيْضًا فَتَدَبَّرْ (لِأَنَّ التَّحَالُفَ فِي الْبَيْعِ قَبْلَ الْقَبْضِ عَلَى وِفَاقِ الْقِيَاسِ) مِنْ حَيْثُ إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَبَايِعَيْنِ مُنْكِرٌ لِمَا يَدَّعِيهِ صَاحِبُهُ فَكَانَ الْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ (عَلَى مَا مَرَّ) أَيْ مِنْ أَوَّلَ هَذَا الْبَابِ (وَالْإِجَارَةُ قَبْلَ قَبْضِ الْمَنْفَعَةِ نَظِيرُ الْبَيْعِ قَبْلَ قَبْضِ الْمَبِيعِ) مِنْ حَيْثُ إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَقْدُ مُعَاوَضَةِ يَلْحَقُهُ الْفَسْخُ لَيْسَ فِيهِ مَعْنَى التَّبَرُّعِ (وَكَلَامُنَا قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ) لِأَنَّ وَضْعَ مَسْأَلَتِنَا فِي الِاخْتِلَافِ فِي الْإِجَارَةِ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَصَارَ الِاخْتِلَافُ فِي الْإِجَارَةِ قَبْلَ قَبْضِ الْمَنْفَعَةِ كَالِاخْتِلَافِ فِي الْبَيْعِ قَبْلَ قَبْضِ الْمَبِيعِ فَجَرَى التَّحَالُفُ هَاهُنَا كَمَا جَرَى ثَمَّةَ.

فَإِنْ قِيلَ: قِيَامُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ شَرْطُ التَّحَالُفِ وَالْمَنْفَعَةُ مَعْدُومَةٌ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجْرِيَ فِيهَا التَّحَالُفُ. قُلْنَا: فِي مَعْدُومٍ يَجْرِي التَّحَالُفُ كَمَا فِي السَّلَمِ وَأَنَّ الْعَيْنَ الْمُسْتَأْجَرَةَ أُقِيمَتْ مَقَامَ الْمَنْفَعَةِ فِي حَقِّ إيرَادِ الْعَقْدِ عَلَيْهَا فَصَارَتْ كَأَنَّهَا قَائِمَةٌ، كَذَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ الزَّيْلَعِيُّ فِي التَّبْيِينِ (فَإِنْ وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي الْأُجْرَةِ يَبْدَأُ بِيَمِينِ الْمُسْتَأْجِرِ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ لِوُجُوبِ الْأُجْرَةِ) أَيْ لِوُجُوبِ زِيَادَةِ الْأُجْرَةِ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ. قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ أَخْذًا مِنْ شَرْحِ تَاجِ الشَّرِيعَةِ: فَإِنْ قِيلَ: كَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يَبْدَأَ بِيَمِينِ الْآجِرِ لِتَعْجِيلِ فَائِدَةِ النُّكُولِ، فَإِنَّ تَسْلِيمَ الْمَعْقُودِ وَاجِبٌ أَوَّلًا عَلَى الْآجِرِ ثُمَّ وَجَبَتْ الْأُجْرَةُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ بَعْدَهُ. أُجِيبَ بِأَنَّ الْأُجْرَةَ إنْ كَانَتْ مَشْرُوطَةَ التَّعْجِيلِ فَهُوَ الْأَسْبَقُ إنْكَارًا فَيَبْدَأُ بِهِ، وَإِنْ لَمْ تُشْتَرَطْ لَا يُمْتَنَعُ الْآجِرُ مِنْ تَسْلِيمِ الْعَيْنِ الْمُسْتَأْجَرَةِ لِأَنَّ تَسْلِيمَهُ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى قَبْضِ الْأُجْرَةِ فَبَقِيَ إنْكَارُ الْمُسْتَأْجِرِ لِزِيَادَةِ الْآجِرِ فَيَحْلِفُ انْتَهَى.

وَقَدْ اقْتَفَى أَثَرَ الشَّارِحِ الْعَيْنِيُّ. أَقُولُ: فِي الْجَوَابِ بَحْثٌ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ أَنَّ الْمُؤَجِّرَ وَإِنْ لَمْ يَمْتَنِعْ مِنْ تَسْلِيمِ الْعَيْنِ الْمُسْتَأْجَرَةِ بِمَا ادَّعَاهُ مِنْ الْأُجْرَةِ وَلَكِنْ يَمْتَنِعُ مِنْ تَسْلِيمِهَا بِمَا اعْتَرَفَ بِهِ الْمُسْتَأْجِرُ مِنْهَا فَإِنَّ تَسْلِيمَهُ إيَّاهَا وَإِنْ لَمْ يَتَوَقَّفْ عَلَى قَبْضِ الْأُجْرَةِ إلَّا أَنَّهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى تَعَيُّنِهَا وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ الْمُؤَجِّرُ مُنْكِرًا لِوُجُوبِ تَسْلِيمِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ بِمَا عَيَّنَهُ الْمُسْتَأْجِرُ فَيَلْزَمُ أَنْ لَا تَكُونَ الْإِجَارَةُ قَبْلَ قَبْضِ الْمَنْفَعَةِ نَظِيرَ الْبَيْعِ قَبْلَ قَبْضِ الْمَبِيعِ وَهَذَا خَلَفٌ. وَالثَّانِي أَنَّ مَا ذَكَرَهُ هَاهُنَا مَنْقُوضٌ بِمَا إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ فِي الْبَيْعِ دُونَ الثَّمَنِ فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ هُنَاكَ أَيْضًا لَا يَمْتَنِعُ مِنْ تَسْلِيمِ الثَّمَنِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ تَسْلِيمَهُ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى قَبْضِ الْمَبِيعِ مَعَ أَنَّهُ يَبْدَأُ فِيهِ بِيَمِينِ الْمُشْتَرِي كَمَا يَبْدَأُ بِيَمِينِهِ فِي صُورَةِ الِاخْتِلَافِ فِي الثَّمَنِ، وَيُعَلِّلُ بِتَعْجِيلِ فَائِدَةِ النُّكُولِ، وَالثَّالِثُ أَنَّ قَوْلَهُ فَبَقِيَ إنْكَارُ الْمُسْتَأْجِرِ لِزِيَادَةِ الْأُجْرَةِ فَيَحْلِفُ إنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ لَا إنْكَارَ لِلْمُؤَجِّرِ أَصْلًا كَمَا هُوَ الْمُتَبَادَرُ مِنْ الْعِبَارَةِ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، إذْ يَلْزَمُ حِينَئِذٍ أَنْ لَا يَحْلِفَ أَصْلًا فَيَخْتَلَّ وَضْعُ الْمَسْأَلَةِ لِأَنَّ وَضْعَهَا

ص: 232

(وَإِنْ وَقَعَ فِي الْمَنْفَعَةِ يَبْدَأُ بِيَمِينِ الْمُؤَجِّرِ، وَأَيُّهُمَا نَكَلَ لَزِمَهُ دَعْوَى صَاحِبِهِ، وَأَيُّهُمَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ قُبِلَتْ، وَلَوْ أَقَامَاهَا فَبَيِّنَةُ الْمُؤَجِّرِ أَوْلَى إنْ كَانَ الِاخْتِلَافُ فِي الْأُجْرَةِ، وَإِنْ كَانَ فِي الْمَنَافِعِ فَبَيِّنَةُ الْمُسْتَأْجِرِ أَوْلَى، وَإِنْ كَانَ فِيهِمَا قُبِلَتْ بَيِّنَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيمَا يَدَّعِيهِ مِنْ الْفَضْلِ) نَحْوُ أَنْ يَدَّعِيَ هَذَا شَهْرًا بِعَشْرَةٍ وَالْمُسْتَأْجِرُ شَهْرَيْنِ بِخَمْسَةٍ يَقْضِي بِشَهْرَيْنِ بِعَشْرَةٍ.

قَالَ (وَإِنْ اخْتَلَفَا بَعْدَ الِاسْتِيفَاءِ لَمْ يَتَحَالَفَا

فِي التَّحَالُفِ لَا فِي حَلِفِ الْوَاحِدِ.

وَإِنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّ لِلْمُؤَجِّرِ أَيْضًا إنْكَارَ الْمُسْتَأْجِرِ مَا يَقْتَضِي الْبَدْءَ بِيَمِينِهِ فَهُوَ أَوَّلُ الْمَسْأَلَةِ وَلَمْ يَظْهَرْ بَعْدُ. ثُمَّ إنَّ تَاجَ الشَّرِيعَةِ أَجَابَ بَعْدَ الْجَوَابِ الْمَذْكُورِ بِوَجْهٍ آخَرَ حَيْثُ قَالَ: وَلِأَنَّ الْإِجَارَةَ اُعْتُبِرَتْ بِالْبَيْعِ، وَمِنْ شَرْطِ الْقِيَاسِ أَنْ لَا يُغَيِّرَ حُكْمَ النَّصِّ فِي الْفَرْعِ بَلْ يُعَدِّي حُكْمَ الْأَصْلِ بِعَيْنِهِ وَذَلِكَ فِيمَا قُلْنَا انْتَهَى.

أَقُولُ: وَفِيهِ أَيْضًا بَحْثٌ لِأَنَّ هَذَا مَنْقُوضٌ بِالصُّورَةِ الثَّانِيَةِ الْآتِيَةِ، وَهِيَ مَا إذَا وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي الْمَنْفَعَةِ فَإِنَّهُ يَبْدَأُ فِيهَا بِيَمِينِ الْمُؤَجِّرِ فَيَلْزَمُ مِمَّا ذُكِرَ أَنْ يُغَيِّرَ فِيهَا حُكْمَ النَّصِّ، وَأَنْ لَا يُعَدِّيَ حُكْمَ الْأَصْلِ بِعَيْنِهِ فَإِنَّ حُكْمَهُ أَنْ يَبْدَأَ بِيَمِينِ الْمُشْتَرِي مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ أَنْ يَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي الْبَدَلِ وَأَنْ يَقَعَ فِي الْمُبْدَلِ عَلَى مَا مَرَّ. ثُمَّ إنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ حُكْمَ النَّصِّ مُجَرَّدُ ثُبُوتِ التَّحَالُفِ لِلْمُتَعَاقِدَيْنِ عِنْدَ اخْتِلَافِهِمَا فِي الْعَقْدِ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ مَنْ يَبْدَأُ بِيَمِينِهِ مِنْهُمَا، وَإِنَّمَا يُسْتَفَادُ ذَلِكَ مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ فَلَا يَلْزَمُ تَغْيِيرُ النَّصِّ فِي شَيْءٍ مِنْ الصُّورَتَيْنِ وَلَا يَتِمُّ الْجَوَابُ (وَإِنْ وَقَعَ) أَيْ الِاخْتِلَافُ (فِي الْمَنْفَعَةِ بُدِئَ بِيَمِينِ الْمُؤَجِّرِ) لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ لِزِيَادَةِ الْمَنْفَعَةِ (وَأَيُّهُمَا نَكَلَ لَزِمَهُ دَعْوَى صَاحِبِهِ) لِأَنَّ نُكُولَهُ بَدَلٌ أَوْ إقْرَارُهُ عَلَى مَا مَرَّ (وَأَيُّهُمَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ قُبِلَتْ) لِأَنَّهُ نَوَّرَ دَعْوَاهُ بِالْحُجَّةِ (وَلَوْ أَقَامَاهَا) أَيْ الْبَيِّنَةَ (فَبَيِّنَةُ الْمُؤَجِّرِ أَوْلَى إنْ كَانَ الِاخْتِلَافُ فِي الْأُجْرَةِ) لِأَنَّ بَيِّنَتَهُ تُثْبِتُ الزِّيَادَةَ حِينَئِذٍ (وَإِنْ كَانَ) أَيْ الِاخْتِلَافُ (فِي الْمَنَافِعِ فَبَيِّنَةُ الْمُسْتَأْجِرِ) أَيْ فَبَيِّنَةُ الْمُسْتَأْجِرِ أَوْلَى لِأَنَّهَا تُثْبِتُ الزِّيَادَةَ حِينَئِذٍ (وَإِنْ كَانَ فِيهِمَا) أَيْ وَإِنْ كَانَ الِاخْتِلَافُ فِي الْأُجْرَةِ وَالْمَنَافِعِ مَعًا (قُبِلَتْ بَيِّنَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَلَا يَدَّعِيهِ مِنْ الْفَضْلِ نَحْوُ أَنْ يَدَّعِيَ هَذَا) أَيْ الْمُؤَجَّرُ (شَهْرًا بِعَشْرَةٍ وَالْمُسْتَأْجِرُ شَهْرَيْنِ بِخَمْسَةٍ يَقْضِي بِشَهْرَيْنِ بِعَشْرَةٍ) لَا يُقَالُ: كَانَ الْأَحْسَنُ أَنْ يُقَدِّمَ ذِكْرَ أَحْوَالِ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى ذِكْرِ أَحْوَالِ الْيَمِينِ وَالنُّكُولِ لِأَنَّ الْمَصِيرَ إلَى الْيَمِينِ بَعْدَ الْعَجْزِ عَنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ وَالنُّكُولُ فَرْعُ تَكْلِيفِ الْيَمِينِ.

وَقَدْ عَكَسَ الْمُصَنِّفُ الْأَمْرَ، لِأَنَّا نَقُولُ: الْعُمْدَةُ فِي هَذَا الْبَابِ بَيَانُ أَمْرِ التَّحَالُفِ وَبَاقِي الْأَقْسَامِ اسْتِطْرَادِيٌّ، فَقَدَّمَ الْأَهَمَّ فِي هَذَا الْمَقَامِ، فَكَأَنَّ صَاحِبَ الْعِنَايَةِ لَمْ يَتَنَبَّهْ لِهَذِهِ النُّكْتَةِ حَيْثُ غَيَّرَ أُسْلُوبَ الْمُصَنِّفِ فَقَدَّمَ ذِكْرَ أَحْوَالِ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ (قَالَ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ (وَإِنْ اخْتَلَفَا بَعْدَ الِاسْتِيفَاءِ) أَيْ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ بِتَمَامِهِ (لَمْ يَتَحَالَفَا

ص: 233

وَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُسْتَأْجِرِ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ظَاهِرٌ، لِأَنَّ هَلَاكَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ يَمْنَعُ التَّحَالُفَ عِنْدَهُمَا، وَكَذَا عَلَى أَصْلِ مُحَمَّدٍ لِأَنَّ الْهَلَاكَ إنَّمَا لَا يُمْنَعُ عِنْدَهُ فِي الْمَبِيعِ لِمَا أَنَّ لَهُ قِيمَةً تَقُومُ مَقَامَهُ فَيَتَحَالَفَانِ عَلَيْهَا، وَلَوْ جَرَى التَّحَالُفُ هَاهُنَا وَفَسْخُ الْعَقْدِ فَلَا قِيمَةَ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ لَا تَتَقَوَّمُ بِنَفْسِهَا بَلْ بِالْعَقْدِ وَتَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا عَقْدَ. وَإِذَا امْتَنَعَ فَالْقَوْلُ لِلْمُسْتَأْجِرِ مَعَ يَمِينِهِ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ عَلَيْهِ (وَإِنْ اخْتَلَفَا بَعْدَ اسْتِيفَاءِ بَعْضِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ تَحَالَفَا وَفُسِخَ الْعَقْدُ فِيمَا بَقِيَ وَكَانَ الْقَوْلُ فِي الْمَاضِي قَوْلَ الْمُسْتَأْجِرِ) لِأَنَّ الْعَقْدَ يَنْعَقِدُ سَاعَةً فَسَاعَةً فَيَصِيرُ فِي كُلِّ جُزْءٍ مِنْ الْمَنْفَعَةِ كَأَنَّ ابْتِدَاءَ الْعَقْدِ عَلَيْهَا، بِخِلَافِ الْبَيْعِ لِأَنَّ الْعَقْدَ فِيهِ دَفْعَةٌ وَاحِدَةٌ، فَإِذَا تَعَذَّرَ فِي الْبَعْضِ تَعَذَّرَ فِي الْكُلِّ. .

قَالَ (وَإِذَا اخْتَلَفَ الْمَوْلَى وَالْمُكَاتَبُ فِي مَالِ الْكِتَابَةِ لَمْ يَتَحَالَفَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَا: يَتَحَالَفَانِ وَتُفْسَخُ الْكِتَابَةُ) وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ يَقْبَلُ الْفَسْخَ فَأَشْبَهَ الْبَيْعَ، وَالْجَامِعُ أَنَّ الْمَوْلَى يَدَّعِي بَدَلًا زَائِدًا يُنْكِرُهُ الْعَبْدُ وَالْعَبْدُ يَدَّعِي اسْتِحْقَاقَ الْعِتْقِ عَلَيْهِ

وَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُسْتَأْجِرِ، وَهَذَا) أَيْ عَدَمُ التَّحَالُفِ هَاهُنَا (عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ظَاهِرٌ، لِأَنَّ هَلَاكَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ يَمْنَعُ التَّحَالُفَ عِنْدَهُمَا) وَقَدْ هَلَكَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ هَاهُنَا بَعْدَ الِاسْتِيفَاءِ لِأَنَّهُ الْمَنْفَعَةُ وَهِيَ عَرَضٌ وَالْعَرَضُ لَا يَبْقَى زَمَانَيْنِ (وَكَذَا عَلَى أَصْلِ مُحَمَّدٍ لِأَنَّ الْهَلَاكَ إنَّمَا لَا يُمْنَعُ عِنْدَهُ فِي الْمَبِيعِ لِمَا أَنَّ لَهُ) أَيْ لِلْمَبِيعِ (قِيمَةً تَقُومُ مَقَامَهُ) لِأَنَّ الْعَيْنَ مُتَقَوِّمَةٌ بِنَفْسِهَا فَكَانَتْ الْقِيمَةُ قَائِمَةً مَقَامَهَا (فَيَتَحَالَفَانِ عَلَيْهَا) أَيْ الْمُتَعَاقِدَانِ عِنْدَهُ عَلَى الْقِيمَةِ (وَلَوْ جَرَى التَّحَالُفُ هَاهُنَا وَفُسِخَ الْعَقْدُ) بِنَاءً عَلَى أَنَّ فَائِدَةَ التَّحَالُفِ هِيَ الْفَسْخُ (فَلَا قِيمَةَ) أَيْ لِلْمَعْقُودِ عَلَيْهِ (لِأَنَّ الْمَنَافِعَ لَا تَتَقَوَّمُ بِنَفْسِهَا بَلْ بِالْعَقْدِ) أَيْ بَلْ تَتَقَوَّمُ بِالْعَقْدِ (وَتَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا عَقْدَ) أَيْ وَتَبَيَّنَ بِحَلِفِهِمَا أَنَّهُ لَا عَقْدَ بَيْنَهُمَا لِانْفِسَاخِهِ مِنْ الْأَصْلِ، فَظَهَرَ حِينَئِذٍ أَنَّهُ لَا قِيمَةَ لِلْمَنْفَعَةِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ الْمَبِيعُ غَيْرَ قَائِمٍ وَلَا الَّذِي يَقُومُ مَقَامَهُ فَامْتَنَعَ التَّحَالُفُ (وَإِذَا امْتَنَعَ فَالْقَوْلُ لِلْمُسْتَأْجِرِ مَعَ يَمِينِهِ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ) أَيْ وَهُوَ الَّذِي اسْتَحَقَّ عَلَيْهِ، وَمَتَى وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي الِاسْتِحْقَاقِ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُسْتَحَقِّ عَلَيْهِ، كَذَا فِي الْكَافِي (وَإِنْ اخْتَلَفَا بَعْدَ اسْتِيفَاءِ بَعْضِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ تَحَالَفَا وَفُسِخَ الْعَقْدُ فِيمَا بَقِيَ وَكَانَ الْقَوْلُ فِي الْمَاضِي قَوْلَ الْمُسْتَأْجِرِ) هَذَا لَفْظُ الْقُدُورِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ.

وَقَالَ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِهِ (لِأَنَّ الْعَقْدَ) أَيْ عَقْدَ الْإِجَارَةِ (يَنْعَقِدُ سَاعَةً فَسَاعَةً) عَلَى حَسَبِ حُدُوثِ الْمَنْفَعَةِ (فَيَصِيرُ) أَيْ الْعَقْدُ (فِي كُلِّ جُزْءٍ مِنْ الْمَنْفَعَةِ كَأَنَّ ابْتِدَاءَ الْعَقْدِ عَلَيْهَا) أَيْ عَلَى كُلِّ جُزْءٍ مِنْ الْمَنْفَعَةِ فَصَارَ مَا بَقِيَ مِنْ الْمَنَافِعِ كَالْمُنْفَرِدِ بِالْعَقْدِ فَكَانَ الِاخْتِلَافُ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَفِيهِ التَّحَالُفُ. وَأَمَّا الْمَاضِي فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ الْمُسْتَأْجِرِ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ الْمَاضِيَةَ هَالِكَةٌ، فَكَانَ الِاخْتِلَافُ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهَا بَعْدَ الِاسْتِيفَاءِ وَلَا تَحَالُفَ فِيهِ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْتَأْجِرِ بِالِاتِّفَاقِ كَمَا مَرَّ آنِفًا (بِخِلَافِ الْبَيْعِ لِأَنَّ الْعَقْدَ فِيهِ دَفْعَةٌ وَاحِدَةٌ، فَإِذَا تَعَذَّرَ فِي الْبَعْضِ تَعَذَّرَ فِي الْكُلِّ) ضَرُورَةً.

(قَالَ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ (وَإِذَا اخْتَلَفَ الْمَوْلَى وَالْمُكَاتَبُ فِي مَالِ الْكِتَابَةِ لَمْ يَتَحَالَفَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) وَالْقَوْلُ لِلْعَبْدِ مَعَ يَمِينِهِ، كَذَا فِي الْكَافِي وَغَيْرِهِ (وَقَالَا: يَتَحَالَفَانِ وَتُفْسَخُ الْكِتَابَةُ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ يَقْبَلُ الْفَسْخَ فَأَشْبَهَ الْبَيْعَ، وَالْجَامِعُ أَنَّ الْمَوْلَى يَدَّعِي بَدَلًا زَائِدًا يُنْكِرُهُ الْعَبْدُ وَالْعَبْدُ يَدَّعِي اسْتِحْقَاقَ الْعِتْقِ عَلَيْهِ)

ص: 234

عِنْدَ أَدَاءِ الْقَدْرِ الَّذِي يَدَّعِيهِ وَالْمَوْلَى يُنْكِرُهُ فَيَتَحَالَفَانِ كَمَا إذَا اخْتَلَفَا فِي الثَّمَنِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْبَدَلَ مُقَابَلٌ بِفَكِّ الْحَجْرِ فِي حَقِّ الْيَدِ وَالتَّصَرُّفِ لِلْحَالِ وَهُوَ سَالِمٌ لِلْعَبْدِ وَإِنَّمَا يَنْقَلِبُ مُقَابَلًا بِالْعِتْقِ عِنْدَ الْأَدَاءِ فَقَبْلَهُ لَا مُقَابَلَةَ فَبَقِيَ اخْتِلَافًا فِي قَدْرِ الْبَدَلِ لَا غَيْرُ فَلَا يَتَحَالَفَانِ. .

قَالَ (وَإِذَا اخْتَلَفَ الزَّوْجَانِ فِي مَتَاعِ الْبَيْتِ فَمَا يَصْلُحُ لِلرِّجَالِ فَهُوَ لِلرَّجُلِ كَالْعِمَامَةِ) لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لَهُ (وَمَا يَصْلُحُ

أَيْ عَلَى الْمَوْلَى (عِنْدَ أَدَاءِ الْقَدْرِ الَّذِي يَدَّعِيهِ وَالْمَوْلَى يُنْكِرُهُ فَيَتَحَالَفَانِ كَمَا إذَا اخْتَلَفَا) أَيْ الْمُتَبَايِعَانِ (فِي الثَّمَنِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْبَدَلَ) أَيْ بَدَلَ الْكِتَابَةِ (مُقَابِلٌ بِفَكِّ الْحَجْرِ) لِأَنَّ الْكِتَابَةَ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ، وَقَدْ وَجَبَ بَدَلُ الْكِتَابَةِ عَلَى الْعَبْدِ فَيَجِبُ أَنْ يَثْبُتَ لِلْعَبْدِ أَيْضًا شَيْءٌ وَمَا ذَاكَ إلَّا فَكُّ الْحَجْرِ (فِي بَدَلِ الْيَدِ وَالتَّصَرُّفِ لِلْحَالِ) اللَّامُ فِي الْحَالِ مُتَعَلِّقٌ بِمُقَابِلٍ أَيْ مُقَابِلٌ لِلْحَالِ.

الْيَدِ وَالتَّصَرُّفِ (سَالِمٌ لِلْعَبْدِ) لِاتِّفَاقِ الْعَبْدِ وَالْمَوْلَى عَلَى ثُبُوتِ الْكِتَابَةِ (وَإِنَّمَا يَنْقَلِبُ) أَيْ الْبَدَلُ (مُقَابِلًا بِالْعِتْقِ عِنْدَ الْأَدَاءِ) أَيْ عِنْدَ أَدَاءِ الْمُكَاتَبِ بَدَلَ الْكِتَابَةِ بِتَمَامِهِ (فَقَبِلَهُ) أَيْ قَبِلَ الْأَدَاءَ (لَا مُقَابَلَةً) أَيْ لَا مُقَابَلَةً بِالْعِتْقِ وَإِلَّا لِعِتْقٍ قَبْلَ الْأَدَاءِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ قَطْعًا، وَكَانَ هَذَا نَظِيرَ إجَارَةِ الدَّارِ حَيْثُ جَعَلْنَا رَقَبَةَ الدَّارِ فِي ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ فِي الْإِجَارَةِ أَصْلًا ثُمَّ يَنْتَقِلُ مِنْهَا إلَى الْمَنْفَعَةِ وَهِيَ الْمَطْلُوبَةُ آخِرًا، فَكَذَا فِي الْكِتَابَةِ جَعَلْنَا الْفَكَّ فِي حَقِّ الْيَدِ وَالتَّصَرُّفَ أَصْلًا فِي ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ، ثُمَّ عِنْدَ الْأَدَاءِ جَعَلْنَا الْعِتْقَ أَصْلًا وَانْتَقَلَ مِنْ فَكِّ الْحَجْرِ إلَى الْعِتْقِ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَالْكِفَايَةِ (فَبَقِيَ اخْتِلَافًا فِي قَدْرِ الْبَدَلِ لَا غَيْرُ) يَعْنِي إذَا كَانَ مَا يُقَابِلُ الْبَدَلَ فِي الْحَالِ سَالِمًا لِلْعَبْدِ فَقَدْ بَقِيَ أَمْرُهُمَا اخْتِلَافًا فِي قَدْرِ الْبَدَلِ لَا غَيْرُ (فَلَا يَتَحَالَفَانِ) لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَدَّعِي شَيْئًا عَلَى الْمَوْلَى، بَلْ هُوَ مُنْكِرٌ لِمَا يَدَّعِيهِ الْمَوْلَى مِنْ الزِّيَادَةِ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ مَعَ يَمِينِهِ، وَإِنْ أَقَامَ أَحَدُهُمَا بَيِّنَتَهُ تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ لِأَنَّهُ نَوَّرَ دَعْوَاهُ بِهَا، وَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ كَانَتْ بَيِّنَةُ الْمَوْلَى أَوْلَى لِأَنَّهَا تُثْبِتُ الزِّيَادَةَ، إلَّا أَنَّهُ إذَا أَدَّى قَدْرَ مَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهِ يُعْتَقُ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ الْحُرِّيَّةَ لِنَفْسِهِ عِنْدَ أَدَاءِ هَذَا الْقَدْرِ فَوَجَبَ قَبُولُ بَيِّنَتِهِ عَلَى ذَلِكَ فَصَارَ نَظِيرَ مَا لَوْ كَاتَبَهُ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنَّهُ إنْ أَدَّى خَمْسَمِائَةٍ يُعْتَقُ، وَلَا يُمْتَنَعُ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ بَدَلُ الْكِتَابَةِ بَعْدَ الْحُرِّيَّةِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ، وَلَوْ كَمَا اسْتَحَقَّ بَدَلَ الْكِتَابَةِ فَإِنَّ الْحُرِّيَّةَ لَا تَرْتَفِعُ بَعْدَ النُّزُولِ وَيَجِبُ عَلَيْهِ الْبَدَلُ، كَذَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ الزَّيْلَعِيُّ فِي التَّبْيِينِ.

(قَالَ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ (وَإِذَا اخْتَلَفَ الزَّوْجَانِ فِي مَتَاعِ الْبَيْتِ فَمَا يَصْلُحُ لِلرِّجَالِ فَهُوَ لِلرَّجُلِ) أَيْ مَعَ الْيَمِينِ، وَكَذَا فِي جَانِبِ الْمَرْأَةِ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ نَقْلًا عَنْ الْإِمَامِ قَاضِي خَانْ وَالْإِمَامِ التُّمُرْتَاشِيِّ (كَالْعِمَامَةِ) وَالْقَلَنْسُوَةِ وَالْقَبَاءِ وَالْكُتُبِ وَالْقَوْسِ وَالدِّرْعِ وَالْمِنْطَقَةِ وَنَحْوِهَا (لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لَهُ) وَفِي الدَّعَاوَى الْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ يَشْهَدُ لَهُ الظَّاهِرُ (وَمَا يَصْلُحُ

ص: 235

لِلنِّسَاءِ فَهُوَ لِلْمَرْأَةِ كَالْوِقَايَةِ) لِشَهَادَةِ الظَّاهِرِ لَهَا (وَمَا يَصْلُحُ لَهُمَا كَالْآنِيَةِ فَهُوَ لِلرَّجُلِ) لِأَنَّ الْمَرْأَةَ وَمَا فِي يَدِهَا فِي يَدِ الزَّوْجِ وَالْقَوْلُ فِي الدَّعَاوَى لِصَاحِبِ الْيَدِ، بِخِلَافِ مَا يَخْتَصُّ بِهَا لِأَنَّهُ يُعَارِضُهُ ظَاهِرٌ أَقْوَى مِنْهُ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَا إذَا كَانَ الِاخْتِلَافُ فِي حَالِ قِيَامِ النِّكَاحِ أَوْ بَعْدَمَا وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ.

(فَإِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا وَاخْتَلَفَتْ وَرَثَتُهُ مَعَ الْآخَرِ فَمَا يَصْلُحُ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فَهُوَ لِلْبَاقِي مِنْهُمَا) لِأَنَّ الْيَدَ لِلْحَيِّ دُونَ الْمَيِّتِ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ.

لِلنِّسَاءِ فَهُوَ لِلْمَرْأَةِ كَالْوِقَايَةِ) وَالدِّرْعِ وَالْخِمَارِ وَالْمِلْحَفَةِ وَالْمُلَاءَةِ وَنَحْوِهَا (لِشَهَادَةِ الظَّاهِرِ لَهَا) قَالَ الْإِمَامُ التُّمُرْتَاشِيُّ: إلَّا إذَا كَانَ الرَّجُلُ صَانِعًا وَلَهُ أَسَاوِرُ وَخَوَاتِيمُ النِّسَاءِ وَالْحُلِيُّ وَالْخَلْخَالُ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ، فَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ مِثْلُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَهَا، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ تَبِيعُ ثِيَابَ الرِّجَالِ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ (وَمَا يَصْلُحُ لَهُمَا كَالْآنِيَةِ) وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْأَمْتِعَةِ وَالْعَقَارِ وَنَحْوِهَا (فَهُوَ لِلرِّجَالِ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ وَمَا فِي يَدِهَا فِي يَدِ الزَّوْجِ) لِأَنَّهُ قِوَامٌ عَلَيْهَا وَالسُّكْنَى تُضَافُ إلَيْهِ (وَالْقَوْلُ فِي الدَّعَاوَى لِصَاحِبِ الْيَدِ) أَلَا يَرَى أَنَّهُ لَوْ تَنَازَعَ اثْنَانِ فِي شَيْءٍ وَهُوَ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ كَذَا هُنَا (بِخِلَافِ مَا يَخْتَصُّ بِهَا) أَيْ بِالنِّسَاءِ (لِأَنَّهُ يُعَارِضُهُ) أَيْ يُعَارِضُ ظَاهِرَ الزَّوْجِ بِالْيَدِ (ظَاهِرٌ أَقْوَى مِنْهُ) وَهُوَ يَدُ الِاخْتِصَاصِ بِالِاسْتِعْمَالِ فَجَعَلْنَا الْقَوْلَ قَوْلَهَا كَالرَّجُلَيْنِ اخْتَلَفَا فِي ثَوْبٍ أَحَدُهُمَا لَابِسُهُ وَالْآخَرُ مُتَعَلِّقٌ بِكُمِّهِ فَإِنَّ اللَّابِسَ أَوْلَى، كَذَا فِي الْكَافِي وَغَيْرِهِ.

قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَيَنْدَفِعُ بِهَذَا مَا إذَا اخْتَلَفَا الْعَطَّارُ وَالْإِسْكَافُ فِي آلَاتِ الْأَسَاكِفَةِ وَالْعَطَّارِينَ وَهِيَ فِي أَيْدِيهِمَا فَإِنَّهَا تَكُونُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ عِنْدَ عُلَمَائِنَا، وَلَمْ يُرَجَّحْ بِالِاخْتِصَاصِ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَا هُوَ بِالِاسْتِعْمَالِ، وَلَمْ نُشَاهِدْ اسْتِعْمَالَ الْأَسَاكِفَةِ وَالْعَطَّارِينَ وَشَاهَدْنَا كَوْنَ هَذِهِ الْآلَاتِ فِي أَيْدِيهِمَا عَلَى السَّوَاءِ فَجَعَلْنَاهَا نِصْفَيْنِ انْتَهَى. أَقُولُ: فِيهِ كَلَامٌ، وَهُوَ أَنَّ مُقْتَضَى هَذَا الْفَرْقِ لُزُومُ اسْتِعْمَالِ الزَّوْجِ وَالْمَرْأَةِ مُشَاهَدًا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ، مَعَ أَنَّ الظَّاهِرَ مِمَّا ذُكِرَ فِي هَذَا الْكِتَابِ، وَفِي سَائِرِ الْمُعْتَبَرَاتِ أَنَّ مُجَرَّدَ الصَّلَاحِيَّةِ لِأَحَدِهِمَا كَافٍ فِي التَّرْجِيحِ وَإِنْ لَمْ نُشَاهِدْ اسْتِعْمَالَهُ (وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَا إذَا كَانَ الِاخْتِلَافُ فِي حَالِ قِيَامِ النِّكَاحِ أَوْ بَعْدَمَا وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ) أَيْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِيمَا مَرَّ مِنْ الْجَوَابِ، ثُمَّ إنَّ مَا ذُكِرَ حُكْمُ الِاخْتِلَافِ قَبْلَ مَوْتِ أَحَدِهِمَا.

(فَإِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا وَاخْتَلَفَتْ وَرَثَتُهُ مَعَ الْآخَرِ فَمَا يَصْلُحُ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فَهُوَ لِلْبَاقِي مِنْهُمَا) أَيُّهُمَا كَانَ (لِأَنَّ الْيَدَ لِلْحَيِّ دُونَ الْمَيِّتِ) أَيْ لَا يَدَ لِلْمَيِّتِ (وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ) يَعْنِي مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ لَا مِنْ حَيْثُ التَّفْصِيلُ (قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ) لِأَنَّ الْمَذْكُورَ مِنْ حَيْثُ التَّفْصِيلُ لَيْسَ قَوْلُهُ خَاصَّةً، فَإِنَّ كَوْنَ مَا يَصْلُحُ لِلرِّجَالِ فَهُوَ لِلرَّجُلِ وَمَا

ص: 236

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَدْفَعُ إلَى الْمَرْأَةِ مَا يُجَهَّزُ بِهِ مِثْلُهَا، وَالْبَاقِي لِلزَّوْجِ مَعَ يَمِينِهِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْمَرْأَةَ تَأْتِي بِالْجِهَازِ وَهَذَا أَقْوَى فَيَبْطُلُ بِهِ ظَاهِرُ يَدِ الزَّوْجِ، ثُمَّ فِي الْبَاقِي لَا مُعَارِضَ لِظَاهِرٍ فَيُعْتَبَرُ (وَالطَّلَاقُ وَالْمَوْتُ سَوَاءٌ) لِقِيَامِ الْوَرَثَةِ مَقَامَ مُوَرِّثِهِمْ (وَقَالَ مُحَمَّدٌ: وَمَا كَانَ لِلرِّجَالِ فَهُوَ لِلرَّجُلِ، وَمَا كَانَ لِلنِّسَاءِ فَهُوَ لِلْمَرْأَةِ، وَمَا يَكُونُ لَهُمَا فَهُوَ لِلرَّجُلِ أَوْ لِوَرَثَتِهِ) لِمَا قُلْنَا لِأَبِي حَنِيفَةَ (وَالطَّلَاقُ وَالْمَوْتُ سَوَاءٌ) لِقِيَامِ الْوَارِثِ مَقَامَ الْمُوَرِّثِ (وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مَمْلُوكًا فَالْمَتَاعُ لِلْحُرِّ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ) لِأَنَّ يَدَ الْحُرِّ أَقْوَى (وَلِلْحَيِّ بَعْدَ الْمَمَاتِ)

يَصْلُحُ لِلنِّسَاءِ فَهُوَ لِلْمَرْأَةِ بِالْإِجْمَاعِ فَلَا اخْتِصَاصَ لَهُ بِذَلِكَ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ (وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَدْفَعُ إلَى الْمَرْأَةِ مَا يُجَهَّزُ بِهِ مِثْلُهَا) وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو يُوسُفَ فِي الْمُشْكِلِ، وَأَمَّا فِيمَا يَخْتَصُّ بِهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الزَّوْجَيْنِ فَقَوْلُهُ كَقَوْلِهِمَا مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ مِثْلِهَا، هَكَذَا ذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ وَشُرُوحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، وَفِي لَفْظِ الْكِتَابِ نَوْعُ تَخْلِيطٍ حَيْثُ لَمْ يَذْكُرْ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ هَذَا فِيمَا ذُكِرَ قَوْلُهُمَا فِي حَقِّ الْمُشْكِلِ، وَكَانَ مِنْ حَقِّهِ أَنْ يَقُولَ: وَمَا يَصْلُحُ لَهُمَا كَالْآنِيَةِ فَهُوَ لِلرَّجُلِ.

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَدْفَعُ لِلْمَرْأَةِ مَا يُجَهَّزُ بِهِ مِثْلُهَا، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ (وَالْبَاقِي) أَيْ مِنْ الْمُشْكِلِ (لِلزَّوْجِ مَعَ يَمِينِهِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْمَرْأَةَ تَأْتِي بِالْجِهَازِ) تَعْلِيلٌ لِقَوْلِهِ يَدْفَعُ إلَى الْمَرْأَةِ مَا يُجَهَّزُ بِهِ مِثْلُهَا (وَهَذَا أَقْوَى) أَيْ هَذَا الظَّاهِرُ، وَهُوَ أَنَّ الْمَرْأَةَ تَأْتِي بِالْجِهَازِ ظَاهِرٌ قَوِيٌّ لِجَرَيَانِ الْعَادَةِ بِذَلِكَ (فَيَبْطُلُ بِهِ ظَاهِرُ يَدِ الزَّوْجِ) وَهُوَ يَدُهُ (ثُمَّ فِي الْبَاقِي لَا مُعَارِضَ لِظَاهِرِهِ) أَيْ لِظَاهِرِ الزَّوْجِ (فَيُعْتَبَرُ) وَقَوْلُهُ ثُمَّ فِي الْبَاقِي إلَى هُنَا تَعْلِيلٌ لِقَوْلِهِ وَالْبَاقِي لِلزَّوْجِ مَعَ يَمِينِهِ (وَالطَّلَاقُ وَالْمَوْتُ سَوَاءٌ) أَيْ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ (لِقِيَامِ الْوَرَثَةِ مَقَامَ مُوَرِّثِهِمْ).

وَقَالَ مُحَمَّدٌ: مَا كَانَ لِلرِّجَالِ فَهُوَ لِلرَّجُلِ، وَمَا كَانَ لِلنِّسَاءِ فَهُوَ لِلْمَرْأَةِ، وَمَا يَكُونُ لَهُمَا فَهُوَ (لِلرَّجُلِ) أَيْ إنْ كَانَ حَيًّا (أَوْ لِوَرَثَتِهِ) إنْ كَانَ مَيِّتًا (لِمَا قُلْنَا لِأَبِي حَنِيفَةَ) مِنْ الدَّلِيلِ وَهُوَ أَنَّ الْمَرْأَةَ وَمَا فِي يَدِهَا فِي يَدِ الزَّوْجِ وَالْقَوْلُ لِصَاحِبِ الْيَدِ، وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْحَيَاةِ وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَمَاتِ فَقَوْلُهُ (وَالطَّلَاقُ وَالْمَوْتُ سَوَاءٌ لِقِيَامِ الْوَارِثِ مَقَامَ الْمُوَرِّثِ) وَذَكَرَ فِي الْفَوَائِدِ: مُحَمَّدٌ يَقُولُ: وَرَثَةُ الزَّوْجِ يَقُومُونَ مَقَامَ الزَّوْجِ لِأَنَّهُمْ خُلَفَاؤُهُ فِي مَالِهِ؛ فَكَمَا أَنَّ فِي الْمُشْكِلِ الْقَوْلَ فِي حَيَاتِهِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ مَمَاتِهِ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ وَرَثَتِهِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: يَدُ الْبَاقِي مِنْهُمَا إلَى الْمَتَاعِ أَسْبَقُ، لِأَنَّ الْوَارِثَ إنَّمَا يَثْبُتُ يَدَهُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوَرِّثِ، وَكَمَا يَقَعُ التَّرْجِيحُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ بِقُوَّةِ الْيَدِ نَظَرًا إلَى صَلَاحِيَّةِ الِاسْتِعْمَالِ فَكَذَا يَقَعُ التَّرْجِيحُ بِسَبْقِ الْيَدِ لِأَنَّ يَدَ الْبَاقِي مِنْهُمَا يَدُ نَفْسِهِ وَيَدَ الْوَارِثِ خَلَفٌ عَنْ يَدِ الْمُوَرِّثِ، فَهَذَا نَوْعٌ مِنْ التَّرْجِيحِ فَكَانَ الْمُشْكِلُ لِلْبَاقِي مِنْهُمَا، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ (وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا) أَيْ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ (مَمْلُوكًا) أَيْ سَوَاءٌ كَانَ مَحْجُورًا أَوْ مَأْذُونًا لَهُ أَوْ مُكَاتَبًا (فَالْمَتَاعُ لِلْحُرِّ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ لِأَنَّ يَدَ الْحُرِّ أَقْوَى) لِكَوْنِ الْيَدِ يَدَ نَفْسِهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَيَدُ الْمَمْلُوكِ لِغَيْرِهِ مِنْ وَجْهٍ وَهُوَ الْمَوْلَى وَالْأَقْوَى أَوْلَى، وَلِهَذَا قُلْنَا فِي الْحُرَّيْنِ، فَمَا يَصْلُحُ لِلرِّجَالِ فَهُوَ لِلرَّجُلِ لِقُوَّةِ يَدِهِ فِيهِ، وَمَا يَصْلُحُ لِلنِّسَاءِ فَهُوَ لِلْمَرْأَةِ لِذَلِكَ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ (وَلِلْحَيِّ بَعْدَ الْمَمَاتِ) أَيْ وَالْمَتَاعُ لِلْحَيِّ

ص: 237

لِأَنَّهُ لَا يَدَ لِلْمَيِّتِ فَخَلَتْ يَدُ الْحَيِّ عَنْ الْمُعَارِضِ (وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَقَالَا: الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ لَهُ فِي التِّجَارَةِ وَالْمُكَاتَبُ بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ) لِأَنَّ لَهُمَا يَدًا مُعْتَبَرَةً فِي الْخُصُومَاتِ.

(فَصْلٌ فِيمَنْ لَا يَكُونُ خَصْمًا)

(وَإِنْ قَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ هَذَا الشَّيْءُ أَوْدَعَنِيهِ فُلَانٌ الْغَائِبُ أَوْ رَهَنَهُ عِنْدِي أَوْ غَصَبْتُهُ مِنْهُ وَأَقَامَ بَيِّنَةً عَلَى ذَلِكَ فَلَا خُصُومَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُدَّعِي)

بَعْدَ الْمَمَاتِ حُرًّا كَانَ الْمَيِّتُ أَوْ مَمْلُوكًا، هَكَذَا وَقَعَ فِي عَامَّةِ نُسَخِ شُرُوحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ.

وَقَالَ الْإِمَامُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ: وَلِلْحُرِّ بَعْدَ الْمَمَاتِ، ثُمَّ قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ: وَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ: لِلْحَيِّ مِنْهُمَا وَهُوَ سَهْوٌ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ. وَاخْتَارَ الْمُصَنِّفُ مُخْتَارَ الْعَامَّةِ وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ (لِأَنَّهُ لَا يَدَ لِلْمَيِّتِ فَخَلَتْ يَدُ الْحَيِّ عَنْ الْمُعَارِضِ) فَكَانَ الْمَتَاعُ لَهُ (وَهَذَا) أَيْ مَا ذُكِرَ مِنْ جَوَابِ الْمَسْأَلَةِ بِلَا فَصْلٍ بَيْنَ الْعَبْدِ وَالْمَحْجُورِ وَالْعَبْدِ الْمَأْذُونِ وَالْمُكَاتَبِ (عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَا: الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ لَهُ فِي التِّجَارَةِ وَالْمُكَاتَبُ بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ لِأَنَّ لَهُمَا يَدًا مُعْتَبَرَةً فِي الْخُصُومَاتِ) وَلِهَذَا لَوْ اخْتَصَمَ الْحُرُّ وَالْمُكَاتَبُ فِي شَيْءٍ هُوَ فِي أَيْدِيهِمَا قَضَى بِهِ بَيْنَهُمَا لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْيَدِ، وَلَوْ كَانَ فِي يَدِ ثَالِثٍ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ اسْتَوَيَا فِيهِ، فَكَمَا لَا يَتَرَجَّحُ الْحُرُّ بِالْحُرِّيَّةِ فِي سَائِرِ الْخُصُومَاتِ فَكَذَا فِي مَتَاعِ الْبَيْتِ.

وَالْجَوَابُ أَنَّ الْيَدَ عَلَى مَتَاعِ الْبَيْتِ بِاعْتِبَارِ السُّكْنَى فِيهِ، وَالْحُرُّ فِي السُّكْنَى أَصْلٌ دُونَ الْمَمْلُوكِ فَلَا تَعَارُضَ بَيْنَهُمَا، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ.

. (فَصْلٌ فِيمَنْ لَا يَكُونُ خَصْمًا).

لَمَّا ذَكَرَ أَحْكَامَ مَنْ يَكُونُ خَصْمًا شَرَعَ فِي بَيَانِ مَنْ لَا يَكُونُ خَصْمًا لِمُنَاسِبَةِ الْمُضَادَّةِ بَيْنَهُمَا، وَقَدَّمَ الْأَوَّلَ لِكَوْنِ ذِكْرِهِ الْعُمْدَةَ فِي الْمَقَامِ لِأَنَّ الْكِتَابَ كِتَابُ الدَّعْوَى وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ الْخُصُومَةِ، وَأَمَّا ذِكْرُ الثَّانِي فَلْيَتَّضِحْ بِهِ الْأَوَّلُ، إذْ الْأَشْيَاءُ تَتَبَيَّنُ بِأَضْدَادِهَا فَإِنْ قِيلَ: الْفَصْلُ مُشْتَمِلٌ عَلَى ذِكْرِ مَنْ يَكُونُ خَصْمًا أَيْضًا. قُلْنَا: نَعَمْ، لَكِنْ مِنْ حَيْثُ الْفَرْقُ لَا مِنْ حَيْثُ الْقَصْدُ الْأَصْلِيُّ (وَإِنْ قَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ: هَذَا الشَّيْءُ أَوْدَعَنِيهِ فُلَانٌ الْغَائِبُ أَوْ رَهَنَهُ عِنْدِي أَوْ غَصَبْتُهُ مِنْهُ وَأَقَامَ بَيِّنَةً عَلَى ذَلِكَ فَلَا خُصُومَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُدَّعِي) هَذَا لَفْظُ الْقُدُورِيِّ: يَعْنِي إذَا ادَّعَى رَجُلٌ عَيْنًا فِي يَدِ رَجُلٍ أَنَّهُ مِلْكُهُ فَقَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الَّذِي هُوَ ذُو الْيَدِ: هَذَا الشَّيْءُ

ص: 238

وَكَذَا إذَا قَالَ: آجَرَنِيهِ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ بِبَيِّنَتِهِ أَنَّ يَدَهُ لَيْسَتْ بِيَدِ خُصُومَةٍ. وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ: لَا تَنْدَفِعُ الْخُصُومَةُ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ إثْبَاتُ الْمِلْكِ لِلْغَائِبِ لِعَدَمِ الْخَصْمِ عَنْهُ وَدَفْعِ الْخُصُومَةِ بِنَاءً عَلَيْهِ. قُلْنَا: مُقْتَضَى الْبَيِّنَةِ شَيْئَانِ ثُبُوتُ الْمِلْكِ لِلْغَائِبِ وَلَا خَصْمَ فِيهِ فَلَمْ يَثْبُتْ، وَدَفْعُ خُصُومَةِ الْمُدَّعِي وَهُوَ خَصْمٌ فِيهِ فَيَثْبُتُ وَهُوَ كَالْوَكِيلِ بِنَقْلِ الْمَرْأَةِ وَإِقَامَتِهَا الْبَيِّنَةَ عَلَى الطَّلَاقِ

أَوْدَعَنِيهِ فُلَانٌ الْغَائِبُ أَوْ رَهَنَهُ عِنْدِي أَوْ غَصَبْتُهُ مِنْهُ وَأَقَامَ عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةً فَلَا خُصُومَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُدَّعِي.

قَالَ الْمُصَنِّفُ: (وَكَذَا إذَا قَالَ: آجَرَنِيهِ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ) أَيْ إذَا قَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ: آجَرَنِيهِ فُلَانٌ الْغَائِبُ وَأَقَامَ عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةً فَلَا خُصُومَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُدَّعِي أَيْضًا. وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ: وَكَذَا إذَا قَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ: إنَّهُ عَارِيَّةٌ عِنْدِي أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، كَذَا فِي الذَّخِيرَةِ انْتَهَى (لِأَنَّهُ أَثْبَتَ بِبَيِّنَتَهُ أَنَّ يَدَهُ لَيْسَتْ بِيَدِ خُصُومَةٍ) تَعْلِيلٌ لِمَجْمُوعِ الْمَسَائِلِ الْمَذْكُورَةِ: يَعْنِي أَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَثْبَتَ بِبَيِّنَتَهُ أَنَّ يَدَهُ لَيْسَتْ بِيَدِ خُصُومَةٍ، وَكُلُّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ لَيْسَ بِخَصْمٍ. قَالَ الْإِمَامُ الزَّيْلَعِيُّ فِي التَّبْيِينِ بَعْدَ ذِكْرِ هَذَا الدَّلِيلِ: فَصَارَ كَمَا إذَا أَقَرَّ الْمُدَّعِي بِذَلِكَ أَوْ أَثْبَتَ ذُو الْيَدِ إقْرَارَهُ بِهِ، ثُمَّ قَالَ: وَالشَّرْطُ إثْبَاتُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ دُونَ الْمِلْكِ، حَتَّى لَوْ شَهِدُوا بِالْمِلْكِ لِلْغَائِبِ دُونَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَمْ تَنْدَفِعْ الْخُصُومَةُ وَبِالْعَكْسِ تَنْدَفِعُ انْتَهَى (وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ: لَا تَنْدَفِعُ) أَيْ الْخُصُومَةُ وَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى مَا قَالَ (لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ إثْبَاتُ الْمِلْكِ لِلْغَائِبِ لِعَدَمِ الْخَصْمِ عَنْهُ) أَيْ عَنْ الْغَائِبِ لِأَنَّ الْغَائِبَ لَمْ يُوَكِّلْهُ بِإِثْبَاتِ الْمِلْكِ لَهُ: يَعْنِي أَنَّ ذَا الْيَدِ أَثْبَتَ بِبَيِّنَتَهُ الْمِلْكَ لِلْغَائِبِ وَإِثْبَاتُ الْمِلْكِ لِلْغَائِبِ بِدُونِ خَصْمٍ عَنْهُ مُتَعَذَّرٌ، إذْ لَا وِلَايَةَ لِأَحَدٍ فِي إدْخَالِ الشَّيْءِ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ بِلَا رِضَاهُ (وَدَفْعُ الْخُصُومَةِ بِنَاءً عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى إثْبَاتِ الْمِلْكِ وَالْبِنَاءُ عَلَى الْمُتَعَذَّرِ مُتَعَذَّرٌ.

(قُلْنَا) أَيْ الْجَوَابُ عَمَّا قَالَهُ ابْنُ شُبْرُمَةَ (مُقْتَضَى الْبَيِّنَةِ شَيْئَانِ): أَحَدُهُمَا (ثُبُوتُ الْمِلْكِ لِلْغَائِبِ وَلَا خَصْمَ فِيهِ فَلَمْ يَثْبُتْ وَ) ثَانِيهِمَا (دَفْعُ خُصُومَةِ الْمُدَّعِي وَهُوَ) أَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ (خَصْمٌ فِيهِ فَيَثْبُتُ) أَيْ فَيَثْبُتُ دَفْعُ الْخُصُومَةِ فِي حَقِّهِ، وَبِنَاءُ الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ مَمْنُوعٌ لِانْفِكَاكِهِ عَنْهُ، وَقَدْ أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ (وَهُوَ كَالْوَكِيلِ بِنَقْلِ الْمَرْأَةِ) أَيْ إلَى زَوْجِهَا (وَإِقَامَتُهَا) عُطِفَ عَلَى الْوَكِيلِ أَيْ وَإِقَامَةُ الْمَرْأَةِ (الْبَيِّنَةَ عَلَى الطَّلَاقِ) يَعْنِي أَنَّ مَا نَحْنُ فِيهِ نَظِيرُ مَا إذَا وَكَّلَ وَكِيلًا بِنَقْلِ امْرَأَتِهِ إلَيْهِ

ص: 239

كَمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ، وَلَا تَنْدَفِعُ بِدُونِ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ كَمَا قَالَهُ ابْنُ أَبِي لَيْلَى لِأَنَّهُ صَارَ خَصْمًا بِظَاهِرِ يَدِهِ، فَهُوَ بِإِقْرَارِهِ يُرِيدُ أَنْ يُحَوِّلَ حَقًّا مُسْتَحَقًّا عَلَى نَفْسِهِ فَلَا يَصْدُقُ إلَّا بِالْحُجَّةِ، كَمَا إذَا ادَّعَى تَحَوُّلَ الدَّيْنِ مِنْ ذِمَّتِهِ إلَى ذِمَّةِ غَيْرِهِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رحمه الله: إنْ كَانَ الرَّجُلُ صَالِحًا فَالْجَوَابُ كَمَا قُلْنَاهُ، وَإِنْ كَانَ مَعْرُوفًا بِالْحِيَلِ لَا تَنْدَفِعُ عَنْهُ الْخُصُومَةُ لِأَنَّ الْمُحْتَالَ مِنْ النَّاسِ قَدْ يَدْفَعُ مَالَهُ إلَى مُسَافِرٍ يُودِعُهُ إيَّاهُ وَيَشْهَدُ عَلَيْهِ الشُّهُودُ فَيَحْتَالُ لِإِبْطَالِ حَقِّ غَيْرِهِ، فَإِذَا اتَّهَمَهُ الْقَاضِي بِهِ لَا يَقْبَلُهُ.

فَأَقَامَتْ الْمَرْأَةُ بَيِّنَةً أَنَّ الزَّوْجَ طَلَّقَهَا فَإِنَّ بَيِّنَتَهَا تُقْبَلُ لِقَصْرِ يَدِ الْوَكِيلِ عَنْهَا، وَلَا تُقْبَلُ فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ مَا لَمْ يَحْضُرْ الْغَائِبُ (كَمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ) أَيْ فِي بَابِ الْوَكَالَةِ بِالْخُصُومَةِ وَالْقَبْضِ، فَكَذَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ تُقْبَلُ الْبَيِّنَةُ لِدَفْعِ خُصُومَةِ الْمُدَّعِي عَنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَلَا تُقْبَلُ فِي إثْبَاتِ الْمِلْكِ لِلْغَائِبِ، وَهَذَا لِأَنَّ مَقْصُودَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ لَيْسَ إثْبَاتَ الْمِلْكِ لِلْغَائِبِ، إنَّمَا مَقْصُودٌ بِهَا إثْبَاتُ أَنَّ يَدَهُ يَدُ حِفْظٍ لَا يَدُ خُصُومَةٍ، وَفِي هَذَا الْمُدَّعِي خَصْمٌ لَهُ فَيُجْعَلُ إثْبَاتُهُ عَلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ إقْرَارِ خَصْمِهِ بِذَلِكَ (وَلَا تَنْدَفِعُ) أَيْ الْخُصُومَةُ (بِدُونِ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ كَمَا قَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى) فَإِنَّهُ قَالَ بِانْدِفَاعِهَا بِمُجَرَّدِ إقْرَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِلْغَائِبِ بِدُونِ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ.

وَجْهُ قَوْلِهِ إنَّ ذَا الْيَدِ أَقَرَّ بِالْمِلْكِ لِغَيْرِهِ وَالْإِقْرَارُ يُوجِبُ الْحَقَّ بِنَفْسِهِ لِخُلُوِّهِ عَنْ التُّهْمَةِ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ يَدَهُ يَدُ حِفْظٍ فَلَا حَاجَةَ إلَى الْبَيِّنَةِ. وَوَجْهُ الْجَوَابِ عَنْهُ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ (لِأَنَّهُ) أَيْ ذَا الْيَدِ (صَارَ خَصْمًا بِظَاهِرِ يَدِهِ) وَلِهَذَا كَانَ لِلْقَاضِي إحْضَارُهُ وَتَكْلِيفُهُ بِالْجَوَابِ (فَهُوَ بِإِقْرَارِهِ يُرِيدُ أَنْ يُحَوِّلَ حَقًّا مُسْتَحَقًّا عَلَى نَفْسِهِ) فَهُوَ مُتَّهَمٌ فِي إقْرَارِهِ (فَلَا يُصَدَّقُ إلَّا بِحُجَّةٍ كَمَا إذَا ادَّعَى تَحَوُّلَ الدَّيْنِ مِنْ ذِمَّتِهِ إلَى ذِمَّةِ غَيْرِهِ) بِالْحَوَالَةِ فَإِنَّهُ لَا يَصْدُقُ هُنَاكَ فَكَذَا هُنَا. لَا يُقَالُ: يَلْزَمُ إثْبَاتُ إقْرَارِ نَفْسِهِ بِبَيِّنَتِهِ وَهُوَ غَيْرُ مَعْهُودٍ فِي الشَّرْعِ لِأَنَّا نَقُولُ الْبَيِّنَةُ لِإِثْبَاتِ الْيَدِ الْحَافِظَةِ الَّتِي أَنْكَرَهَا الْمُدَّعِي لَا لِإِثْبَاتِ الْإِقْرَارِ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ، وَاسْتَشْكَلَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ قَوْلَهُ فِي السُّؤَالِ وَهُوَ غَيْرُ مَعْهُودٍ فِي الشَّرْعِ حَيْثُ قَالَ: قَدْ سَبَقَ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الدَّعْوَى أَنَّ الْيَدَ لَا تَثْبُتُ فِي الْعَقَارِ إلَّا بِالْبَيِّنَةِ، وَلَا يُعْتَبَرُ إقْرَارُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْيَدِ انْتَهَى.

وَأَقُولُ: هَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، إذْ لَيْسَ مُرَادُ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ أَنَّ عَدَمَ اعْتِبَارِ إقْرَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَمْ يُعْهَدْ فِي الشَّرْعِ. كَيْفَ وَلَا يَخْفَى عَلَى مِثْلِهِ أَنَّ عَدَمَ اعْتِبَارِ ذَلِكَ كَثِيرٌ فِي الْمَسَائِلِ الشَّرْعِيَّةِ لِعِلَلٍ شَتَّى، كَعَدَمِ اعْتِبَارِ إقْرَارِ الْمَرِيضِ لِلْوَارِثِ، وَعَدَمِ اعْتِبَارِ إقْرَارِهِ بِعَيْنٍ فِي يَدِهِ لِآخَرَ فِي حَقِّ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ، وَكَعَدِمِ اعْتِبَارِ إقْرَارِ غَيْرِ الْوَالِدَيْنِ كَالْأَخِ وَالْعَمِّ، وَكَعَدِمِ اعْتِبَارِ إقْرَارِ الْمَرْأَةِ بِالْوَلَدِ أَيْضًا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا مُرَادُهُ أَنَّ إثْبَاتَ إقْرَارِ نَفْسِهِ بِالْبَيِّنَةِ لَمْ يُعْهَدْ فِي الشَّرْعِ وَلَيْسَ فِيمَا ذُكِرَ مِنْ صُورَةِ دَعْوَى الْعَقَارِ إثْبَاتُ الْمُقِرِّ نَفْسَهُ بِالْبَيِّنَةِ لِأَنَّ إثْبَاتَ الْيَدِ بِالْبَيِّنَةِ فِي دَعْوَى الْعَقَارِ إنَّمَا يَجِبُ عَلَى الْمُدَّعِي لَا عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الَّذِي هُوَ الْمُقِرُّ (وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ آخِرًا: إنْ كَانَ الرَّجُلُ صَالِحًا فَالْجَوَابُ) أَيْ جَوَابُ الْمَسْأَلَةِ (كَمَا قُلْنَاهُ) أَيْ تَنْدَفِعُ عَنْهُ الْخُصُومَةُ بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ (وَإِنْ كَانَ مَعْرُوفًا بِالْحِيَلِ لَا تَنْدَفِعُ عَنْهُ الْخُصُومَةُ) وَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ كَمَا قَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ (لِأَنَّ الْمُحْتَالَ مِنْ النَّاسِ قَدْ يَدْفَعُ مَالَهُ) سِرًّا (إلَى مُسَافِرٍ يُودِعُهُ إيَّاهُ وَيَشْهَدُ عَلَيْهِ الشُّهُودُ) عَلَانِيَةً (فَيَحْتَالُ لِإِبْطَالِ حَقِّ غَيْرِهِ) أَيْ يَكُونُ مَقْصُودُهُ مِنْ ذَلِكَ الْإِضْرَارَ بِالْمُدَّعِي لِيَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ إثْبَاتُ حَقِّهِ بِالْبَيِّنَةِ (فَإِذَا اتَّهَمَهُ الْقَاضِي بِهِ) أَيْ بِالِاحْتِيَالِ (لَا يَقْبَلُهُ) أَيْ

ص: 240

(وَلَوْ قَالَ الشُّهُودُ: أَوْدَعَهُ رَجُلٌ لَا نَعْرِفُهُ لَا تَنْدَفِعُ عَنْهُ الْخُصُومَةُ) لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْمُودِعُ هُوَ هَذَا الْمُدَّعِي، وَلِأَنَّهُ مَا أَحَالَهُ إلَى مُعَيَّنٍ يُمْكِنُ لِلْمُدَّعِي اتِّبَاعُهُ، فَلَوْ انْدَفَعَتْ لَتَضَرَّرَ بِهِ الْمُدَّعِي،

أَيْ لَا يَقْبَلُ مَا صَنَعَهُ.

قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ خُوَاهَرْ زَادَهْ فِي مَبْسُوطِهِ: مَا ذَهَبَ إلَيْهِ أَبُو يُوسُفَ اسْتِحْسَانٌ ذَهَبَ إلَيْهِ بَعْدَمَا اُبْتُلِيَ بِالْقَضَاءِ لِأَنَّهُ مَارَسَ الْقَضَاءَ فَوَقَفَ عَلَى أَحْوَالِ النَّاسِ مَا لَمْ يَعْرِفْهُ غَيْرُهُ، وَمَا قَالَاهُ قِيَاسٌ لِأَنَّ الْبَيِّنَاتِ حِجَجٌ مَتَى قَامَتْ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهَا وَلَا يَجُوزُ إبْطَالُهَا بِمُجَرَّدِ الْوَهْمِ، كَذَا فِي غَايَةِ الْبَيَانِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الِاخْتِلَافَ إنَّمَا يَكُونُ إذَا كَانَتْ الْعَيْنُ قَائِمَةً فِي يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ هَذَا الشَّيْءُ أَوْدَعَنِيهِ، فَإِنَّ الْإِشَارَةَ الْحِسِّيَّةَ لَا تَكُونُ إلَّا إلَى مَوْجُودٍ فِي الْخَارِجِ، وَأَمَّا إذَا هَلَكَتْ فَلَا تَنْدَفِعُ الْخُصُومَةُ وَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ لِأَنَّهُ إذَا كَانَتْ قَائِمَةً فَذُو الْيَدِ يَنْتَصِبُ خَصْمًا بِظَاهِرِ الْيَدِ لِأَنَّهُ دَلِيلُ الْمِلْكِ، إلَّا أَنَّهُ يَحْتَمِلُ غَيْرَهُ فَيَنْدَفِعُ عَنْهُ الْخُصُومَةُ بِالْحُجَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْمُحْتَمَلِ، وَأَمَّا إذَا هَلَكَتْ فَالدَّعْوَى تَقَعُ فِي الدَّيْنِ وَمَحَلُّهُ الذِّمَّةُ فَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَنْتَصِبُ خَصْمًا لِلْمُدَّعِي بِذِمَّتِهِ وَبِمَا أَقَامَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مِنْ الْبَيِّنَةِ، وَعَلَى أَنَّ الْعَيْنَ كَانَتْ فِي يَدِهِ وَدِيعَةٌ لَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ ذِمَّتَهُ كَانَتْ لِغَيْرِهِ فَلَا تَتَحَوَّلُ عَنْهُ الْخُصُومَةُ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ وَكَثِيرٍ فِي الشُّرُوحِ.

ثُمَّ إنَّ الَّذِي ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ إذَا قَالَ الشُّهُودُ: أَوْدَعَهُ رَجُلٌ نَعْرِفُهُ بِاسْمِهِ وَنَسَبِهِ وَوَجْهِهِ (وَلَوْ قَالَ الشُّهُودُ: أَوْدَعَهُ رَجُلٌ لَا نَعْرِفُهُ) أَيْ أَصْلًا بِاسْمِهِ وَلَا نَسَبِهِ وَلَا بِوَجْهِهِ (وَلَا تَنْدَفِعُ عَنْهُ الْخُصُومَةُ) أَيْ بِالْإِجْمَاعِ، كَذَا فِي الْكَافِي وَالشُّرُوحِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَهُمْ بِالْإِجْمَاعِ هَاهُنَا إجْمَاعُ أَئِمَّتِنَا الثَّلَاثَةِ أَوْ إجْمَاعُ مَا عَدَا ابْنَ أَبِي لَيْلَى، فَإِنَّ شَهَادَةَ الشُّهُودِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ عِنْدَهُ فِي انْدِفَاعِ الْخُصُومَةِ كَمَا مَرَّ، قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِ الْمَسْأَلَةِ (لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْمُودِعُ هُوَ هَذَا الْمُدَّعِي) حَيْثُ لَمْ يَعْرِفُوهُ (وَلِأَنَّهُ) أَيْ ذَا الْيَدِ (مَا أَحَالَهُ) أَيْ مَا أَحَالَ الْمُدَّعِي (إلَى مُعَيَّنٍ يُمْكِنُ لِلْمُدَّعِي اتِّبَاعُهُ، فَلَوْ انْدَفَعَتْ) أَيْ الْخُصُومَةُ (وَلَتَضَرَّرَ بِهِ الْمُدَّعِي) أَقُولُ: فِي تَعْلِيلِهِ الثَّانِي قُصُورٌ: أَمَّا مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ فَلِأَنَّهُ أَضْمَرَ فِيهِ الْمُدَّعِي أَوَّلًا حَيْثُ قَالَ مَا أَحَالَهُ وَأَظْهَرَهُ ثَانِيًا حَيْثُ قَالَ: يُمْكِنُ لِلْمُدَّعِي اتِّبَاعُهُ. وَلَا يَخْفَى عَلَى مَنْ لَهُ مَعْرِفَةٌ بِأَسَالِيبِ الْكَلَامِ سَمَاجَةُ ذَلِكَ، وَكَوْنُ الْوَجْهِ إمَّا الْعَكْسُ وَإِمَّا الْإِضْمَارُ فِي الْمَقَامَيْنِ.

وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى فَلِأَنَّهُ جَعَلَهُ دَلِيلًا مُسْتَقِلًّا عَلَى الْمَسْأَلَةِ الْإِجْمَاعِيَّةِ، مَعَ أَنَّهُ مَنْقُوضٌ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ بِالْمَسْأَلَةِ الْآتِيَةِ وَهِيَ مَا لَوْ قَالَ الشُّهُودُ: نَعْرِفُهُ بِوَجْهِهِ وَلَا نَعْرِفُهُ بِاسْمِهِ وَنَسَبِهِ، فَإِنَّ الْحُكْمَ الْمَذْكُورَ يَتَخَلَّفُ عَنْهُ هُنَاكَ عِنْدَهُمَا كَمَا سَيَظْهَرُ، وَكَأَنَّ الْإِمَامَ الزَّيْلَعِيَّ تَنَبَّهْ لِهَذَا فَجَعَلَ الدَّلِيلَيْنِ دَلِيلًا وَاحِدًا حَيْثُ قَالَ فِي تَعْلِيلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي التَّبْيِينِ: لِأَنَّهُمْ مَا أَحَالُوا الْمُدَّعِيَ عَلَى رَجُلٍ مَعْرُوفٍ يُمْكِنُ مُخَاصَمَتُهُ، وَلَعَلَّ الْمُدَّعِيَ هُوَ ذَلِكَ الرَّجُلُ، فَلَوْ انْدَفَعَتْ لَبَطَلَ حَقُّهُ انْتَهَى. ثُمَّ إنَّ الظَّاهِرَ كَأَنْ يَقُولَ الْمُصَنِّفُ أَيْضًا لِأَنَّهُمْ مَا أَحَالُوهُ بَدَلَ قَوْلِهِ لِأَنَّهُ مَا أَحَالَهُ لِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ فِي أَنْ لَا يَعْرِفَهُ الشُّهُودُ لَا فِي أَنْ لَا يَعْرِفَهُ ذُو الْيَدِ كَمَا

ص: 241

وَلَوْ قَالُوا نَعْرِفُهُ بِوَجْهِهِ وَلَا نَعْرِفُهُ بِاسْمِهِ وَنَسَبِهِ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ لِلْوَجْهِ الثَّانِي، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ تَنْدَفِعُ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ بِبَيِّنَتِهِ أَنَّ الْعَيْنَ وَصَلَ إلَيْهِ مِنْ جِهَةِ غَيْرِهِ حَيْثُ عَرَفَهُ الشُّهُودُ بِوَجْهِهِ، بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ فَلَمْ تَكُنْ يَدُهُ يَدَ خُصُومَةٍ وَهُوَ الْمَقْصُودُ، وَالْمُدَّعِي هُوَ الَّذِي أَضَرَّ بِنَفْسِهِ حَيْثُ نَسِيَ خَصْمَهُ أَوْ أَضَرَّهُ شُهُودُهُ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مُخَمَّسَةُ كِتَابِ الدَّعْوَى وَقَدْ ذَكَرْنَا الْأَقْوَالَ الْخَمْسَةَ.

(وَإِنْ قَالَ: ابْتَعْتُهُ مِنْ الْغَائِبِ فَهُوَ خَصْمٌ)

لَا يَخْفَى.

وَتَوْجِيهُ مَا قَالَهُ الْمُصَنِّفُ أَنَّ شَهَادَةَ الشُّهُودِ لَمَّا كَانَتْ لِأَجْلِ ذِي الْيَدِ نُسِبَ حَالُهُمْ إلَيْهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ الْبَارِزُ فِي قَوْلِهِ لِأَنَّهُ وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ مَا أَحَالَهُ رَاجِعَيْنِ إلَى الشُّهُودِ بِتَأْوِيلِ مَنْ شَهِدَ (وَلَوْ قَالَ) أَيْ الشُّهُودُ:(نَعْرِفُهُ) أَيْ الرَّجُلَ الَّذِي أَوْدَعَهُ (بِوَجْهِهِ وَلَا نَعْرِفُهُ بِاسْمِهِ وَنَسَبِهِ، فَكَذَا الْجَوَابُ) أَيْ جَوَابُ الْمَسْأَلَةِ (عِنْدَ مُحَمَّدٍ لِلْوَجْهِ الثَّانِي) وَهُوَ قَوْلُهُ وَلِأَنَّهُ مَا أَحَالَهُ عَلَى مُعَيَّنٍ إلَخْ فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَالَ: أَوْدَعَهُ رَجُلٌ لَا نَعْرِفُهُ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمَعْرِفَةَ بِالْوَجْهِ لَيْسَتْ بِمَعْرِفَةٍ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «أَنَّهُ قَالَ لِرَجُلٍ: تَعْرِفُ فُلَانًا؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ: هَلْ تَعْرِفُ اسْمَهُ وَنَسَبَهُ؟ فَقَالَ: لَا، فَقَالَ: إذًا لَا تَعْرِفُهُ» وَمَنْ حَلَفَ لَا يَعْرِفُ فُلَانًا وَهُوَ يَعْرِفُ وَجْهَهُ وَلَا يَعْرِفُ اسْمَهُ وَنَسَبَهُ لَا يَحْنَثُ، كَذَا فِي الْكَافِي وَالشُّرُوحِ (وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ تَنْدَفِعُ لِأَنَّهُ) أَيْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ (وَأَثْبَتَ بَيِّنَتَهُ أَنَّ الْعَيْنَ وَصَلَ إلَيْهِ مِنْ جِهَةِ غَيْرِهِ) أَيْ غَيْرِ الْمُدَّعِي (حَيْثُ عَرَفَهُ الشُّهُودُ بِوَجْهِهِ) فَحَصَلَ الْعِلْمُ بِيَقِينٍ أَنَّ الْمُودِعَ غَيْرُ هَذَا الْمُدَّعِي (بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ) وَهُوَ مَا إذَا قَالَ الشُّهُودُ: أَوْدَعَهُ رَجُلٌ لَا نَعْرِفُهُ أَصْلًا (فَلَمْ تَكُنْ يَدُهُ) أَيْ لَمْ تَكُنْ يَدُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي (يَدَ خُصُومَةٍ) لِعَدَمِ كَوْنِهَا يَدَ مِلْكٍ بَلْ يَدَ حِفْظٍ (وَهُوَ الْمَقْصُودُ) أَيْ لَا تَكُونُ يَدُهُ يَدَ خُصُومَةٍ بَلْ يَدَ حِفْظٍ هُوَ مَقْصُودُهُ.

وَقَدْ أَفَادَتْهُ الشَّهَادَةُ، وَالْحَدِيثُ الْمَارُّ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْمَعْرِفَةِ التَّامَّةِ، وَلَيْسَ عَلَى ذِي الْيَدِ تَعْرِيفُ خَصْمِ الْمُدَّعِي تَعْرِيفًا تَامًّا، إنَّمَا عَلَيْهِ أَنْ يُثْبِتَ أَنَّهُ لَيْسَ بِخَصْمٍ وَقَدْ ثَبَتَ (وَالْمُدَّعِي هُوَ الَّذِي أَضَرَّ بِنَفْسِهِ حَيْثُ نَسِيَ خَصْمَهُ أَوْ أَضَرَّهُ شُهُودُهُ) أَيْ شُهُودُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَهُوَ ذُو الْيَدِ، وَهَذَا جَوَابٌ عَنْ قَوْلِ مُحَمَّدٍ فَلَوْ انْدَفَعَتْ الْخُصُومَةُ لَتَضَرَّرَ بِهِ الْمُدَّعِي، وَوَجْهُهُ أَنَّ الضَّرَرَ اللَّاحِقَ بِالْمُدَّعِي إنَّمَا لَحِقَهُ مِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ حَيْثُ نَسِيَ خَصْمَهُ، أَوْ مِنْ جِهَةِ شُهُودِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَا مِنْ جِهَةِ ذِي الْيَدِ (وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مُخَمَّسَةُ كِتَابِ الدَّعْوَى) أَيْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ بَيْنِ مَسَائِلِ الدَّعْوَى تُسَمَّى مُخَمَّسَةَ كِتَابٍ الدَّعْوَى، إمَّا لِأَنَّ فِيهَا خَمْسَةَ أَقْوَالٍ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ (وَذَكَرْنَا الْأَقْوَالَ الْخَمْسَةَ) وَهِيَ قَوْلُ ابْنِ شُبْرُمَةَ، وَقَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَقَوْلُ أَبِي يُوسُفَ، وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ، وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رحمهم الله؛ وَإِمَّا لِأَنَّ فِيهَا خَمْسَ صُوَرٍ وَهِيَ: الْإِيدَاعُ، وَالْإِعَارَةُ، وَالْإِجَارَةُ، وَالرَّهْنُ، وَالْغَصْبُ كَمَا ذَكَرُوهُ أَيْضًا

. (وَإِنْ قَالَ: ابْتَعْتُهُ مِنْ الْغَائِبِ فَهُوَ خَصْمٌ) هَذَا لَفْظُ الْقُدُورِيِّ: يَعْنِي إنْ قَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ

ص: 242

لِأَنَّهُ لَمَّا زَعَمَ أَنَّ يَدَهُ يَدُ مِلْكٍ اعْتَرَفَ بِكَوْنِهِ خَصْمًا (وَإِنْ قَالَ الْمُدَّعِي: غَصَبْتَهُ مِنِّي أَوْ سَرَقْتَهُ مِنِّي لَا تَنْدَفِعُ الْخُصُومَةُ وَإِنْ أَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْوَدِيعَةِ) لِأَنَّهُ إنَّمَا صَارَ خَصْمًا بِدَعْوَى الْفِعْلِ عَلَيْهِ لَا بِيَدِهِ، بِخِلَافِ دَعْوَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ لِأَنَّهُ خَصْمٌ فِيهِ بِاعْتِبَارِ يَدِهِ حَتَّى لَا يَصِحَّ دَعْوَاهُ عَلَى غَيْرِ ذِي الْيَدِ وَيَصِحُّ دَعْوَى الْفِعْلِ.

(وَإِنْ قَالَ الْمُدَّعِي: سَرَقَ مِنِّي وَقَالَ صَاحِبُ الْيَدِ: أَوْدَعَنِيهِ فُلَانٌ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ لَمْ تَنْدَفِعْ الْخُصُومَةُ) وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَهُوَ اسْتِحْسَانٌ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: تَنْدَفِعُ لِأَنَّهُ لَمْ يَدَّعِ الْفِعْلَ عَلَيْهِ فَصَارَ كَمَا إذَا قَالَ: غُصِبَ مِنِّي عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ. وَلَهُمَا أَنَّ ذِكْرَ الْفِعْلِ يَسْتَدْعِي الْفَاعِلَ لَا مَحَالَةَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي فِي يَدِهِ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يُعَيِّنْهُ دَرْءًا لِلْحَدِّ شَفَقَةً عَلَيْهِ وَإِقَامَةً لِحِسْبَةِ السِّرِّ

اشْتَرَيْت هَذَا الشَّيْءَ مِنْ الْغَائِبِ فَهُوَ خَصْمٌ لِلْمُدَّعِي (لِأَنَّهُ) أَيْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ (لَمَّا زَعَمَ أَنَّ يَدَهُ يَدُ مِلْكٍ اعْتَرَفَ بِكَوْنِهِ خَصْمًا) كَمَا لَوْ ادَّعَى مِلْكًا مُطْلَقًا (وَإِنْ قَالَ الْمُدَّعِي غَصَبْتَهُ مِنِّي) أَيْ غَصَبْتَ هَذَا الشَّيْءَ مِنِّي (أَوْ سَرَقْتَهُ مِنِّي لَا تَنْدَفِعُ الْخُصُومَةُ وَإِنْ أَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْوَدِيعَةِ، لِأَنَّهُ) أَيْ لِأَنَّ ذَا الْيَدِ (إنَّمَا صَارَ خَصْمًا بِدَعْوَى الْفِعْلِ عَلَيْهِ) أَيْ بِدَعْوَى الْمُدَّعِي الْفِعْلَ وَهُوَ الْغَصْبُ أَوْ السَّرِقَةُ عَلَى ذِي الْيَدِ (لَا بِيَدِهِ) أَيْ لَمْ يَصِرْ ذُو الْيَدِ فِي دَعْوَى الْفِعْلِ خَصْمًا بِيَدِهِ.

ثُمَّ إنَّ فِعْلَ ذِي الْيَدِ لَا يَتَرَدَّدُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلِغَيْرِهِ حَتَّى يُقَالَ: إنَّهُ أَثْبَتَ بِالْبَيِّنَةِ أَنَّ فِعْلَهُ فِعْلُ غَيْرِهِ بَلْ فِعْلُهُ مَقْصُورٌ عَلَيْهِ (بِخِلَافِ دَعْوَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ لِأَنَّهُ) أَيْ ذَا الْيَدِ (خَصْمٌ فِيهِ) أَيْ فِي دَعْوَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ بِتَأْوِيلِ الِادِّعَاءِ (بِاعْتِبَارِ يَدِهِ حَتَّى لَا تَصِحَّ دَعْوَاهُ) أَيْ دَعْوَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ (عَلَى غَيْرِ ذِي الْيَدِ) وَيَدُهُ مُتَرَدِّدَةٌ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ لَهُ فَيَكُونَ خَصْمًا وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ لِغَيْرِهِ فَلَا يَكُونَ خَصْمًا، وَبِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ أَثْبَتَ أَنَّ يَدَهُ لِغَيْرِهِ فَلَا يَكُونُ خَصْمًا (وَيَصِحُّ دَعْوَى الْفِعْلِ) أَيْ يَصِحُّ دَعْوَى الْفِعْلِ عَلَى غَيْرِ ذِي الْيَدِ كَمَا يَصِحُّ دَعْوَاهُ عَلَى ذِي الْيَدِ.

(وَإِنْ قَالَ الْمُدَّعِي سُرِقَ مِنِّي) أَيْ إنْ قَالَ الْمُدَّعِي سُرِقَ مِنِّي هَذَا الشَّيْءُ عَلَى صِيغَةِ الْمَجْهُولِ (وَقَالَ صَاحِبُ الْيَدِ: أَوْدَعَنِيهِ فُلَانٌ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ) أَيْ عَلَى أَنَّ فُلَانًا أَوْدَعَنِيهِ إيَّاهُ (لَمْ تَنْدَفِعْ الْخُصُومَةُ) هَذَا أَيْضًا لَفْظُ الْقُدُورِيِّ. قَالَ الْمُصَنِّفُ: (وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَهُوَ اسْتِحْسَانٌ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: تَنْدَفِعُ) أَيْ الْخُصُومَةُ وَهُوَ الْقِيَاسُ (لِأَنَّهُ) أَيْ الْمُدَّعِي (لَمْ يَدَّعِ الْفِعْلَ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى ذِي الْيَدِ (فَصَارَ كَمَا إذَا قَالَ) أَيْ الْمُدَّعِي (غُصِبَ مِنِّي عَلَى مَا لَمْ يُسَمِّ فَاعِلَهُ) يَعْنِي أَنَّ التَّجْهِيلَ أَفْسَدَ دَعْوَى السَّرِقَةِ فَبَقِيَ دَعْوَى الْمِلْكِ فَتَنْدَفِعُ الْخُصُومَةُ بِإِثْبَاتِ الْوَدِيعَةِ، كَمَا لَوْ جَهِلَ الْغَصْبَ وَقَالَ: غُصِبَ مِنِّي عَلَى مَا لَمْ يُسَمِّ فَاعِلَهُ وَأَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْوَدِيعَةِ مِنْ آخَرَ فَإِنَّهُ تَنْدَفِعُ الْخُصُومَةُ هُنَاكَ فَكَذَا هُنَا، كَذَا فِي غَايَةِ الْبَيَانِ (وَلَهُمَا) أَيْ لِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ (أَنَّ ذِكْرَ الْفِعْلِ) وَهُوَ السَّرِقَةُ (يَسْتَدْعِي الْفِعْلَ لَا مَحَالَةَ) لِأَنَّ الْفِعْلَ بِدُونِ الْفَاعِلِ لَا يُتَصَوَّرُ (وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ) أَيْ الْفَاعِلُ (وَهُوَ الَّذِي فِي يَدِهِ إلَّا أَنَّهُ) أَيْ الْمُدَّعِي (لَمْ يُعَيِّنْهُ) أَيْ لَمْ يُعَيِّنْ الْفَاعِلَ (دَرْءًا لِلْحَدِّ شَفَقَةً عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى ذِي الْيَدِ (وَإِقَامَةً لِحِسْبَةِ السِّتْرِ) أَيْ لَأَجْلِ السِّتْرِ.

قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: فَإِنْ قِيلَ: إذَا لَمْ تَنْدَفِعْ الْخُصُومَةُ فَرُبَّمَا يَقْضِي بِالْعَيْنِ عَلَيْهِ وَفِي ذَلِكَ جَعَلَهُ سَارِقًا فَمَا وَجْهُ الدَّرْءِ حِينَئِذٍ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ وَجْهَهُ أَنَّهُ إذَا جُعِلَ خَصْمًا وَقَضَى عَلَيْهِ بِتَسْلِيمِ الْعَيْنِ إلَى الْمُدَّعِي، وَإِنْ ظَهَرَ سَرِقَتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِيَقِينٍ لَمْ تُقْطَعْ يَدُهُ لِظُهُورِ سَرِقَتِهِ بَعْدَ وُصُولِ الْمَسْرُوقِ إلَى الْمَالِكِ، وَلَوْ لَمْ يُجْعَلْ سَارِقًا انْدَفَعَ الْخُصُومَةُ عَنْهُ وَلَمْ يَقْضِ بِالْعَيْنِ لِلْمُدَّعِي، فَمَتَى ظَهَرَتْ سَرِقَتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِيَقِينٍ قُطِعَتْ يَدُهُ لِظُهُورِهَا قَبْلَ أَنْ يَصِلَ الْعَيْنُ إلَى الْمَالِكِ، فَكَانَ فِي جَعْلِهِ سَارِقًا احْتِيَالًا لِلدَّرْءِ انْتَهَى، وَأَقُولُ: فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ نَظَرٌ.

أَمَّا فِي السُّؤَالِ فَلِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ وَفِي ذَلِكَ جَعَلَهُ سَارِقًا أَنَّ فِي ذَلِكَ الْحُكْمَ عَلَيْهِ بِمُوجِبِ السَّرِقَةِ وَهُوَ الْقَطْعُ فَهُوَ مَمْنُوعٌ، وَإِنَّمَا هُوَ عِنْدَ تَعْيِينِ كَوْنِهِ السَّارِقَ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّ فِي ذَلِكَ مُجَرَّدَ جَعْلِهِ خَصْمًا فِي دَعْوَى كَوْنِ ذَلِكَ الشَّيْءِ مَسْرُوقًا مِنْ الْمُدَّعِي فَهُوَ مُسَلَّمٌ، لَكِنْ لَا وَجْهَ حِينَئِذٍ لِقَوْلِهِ فَمَا وَجْهُ الدَّرْءِ حِينَئِذٍ إذْ وَجْهُهُ حِينَئِذٍ ظَاهِرٌ وَهُوَ سُقُوطُ الْقَطْعِ بِعَدَمِ

ص: 243

فَصَارَ كَمَا إذَا قَالَ: سَرَقْت، بِخِلَافِ الْغَصْبِ لِأَنَّهُ لَا حَدَّ فِيهِ فَلَا يُحْتَرَزُ عَنْ كَشْفِهِ

(وَإِنْ قَالَ الْمُدَّعِي: ابْتَعْتُهُ مِنْ فُلَانٍ وَقَالَ صَاحِبُ الْيَدِ: أَوْدَعَنِيهِ فُلَانٌ ذَلِكَ أُسْقِطَتْ الْخُصُومَةُ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ) لِأَنَّهُمَا تَوَافَقَا عَلَى أَنَّ أَصْلَ الْمِلْكِ فِيهِ لِغَيْرِهِ فَيَكُونُ وُصُولُهَا إلَى ذِي الْيَدِ مِنْ جِهَتِهِ فَلَمْ تَكُنْ يَدُهُ يَدَ خُصُومَةٍ إلَّا أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ أَنَّ فُلَانًا وَكَّلَهُ بِقَبْضِهِ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ بِبَيِّنَتِهِ كَوْنَهُ أَحَقَّ بِإِمْسَاكِهَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

التَّعْيِينِ لِشُبْهَةِ كَوْنِ السَّارِقِ غَيْرَهُ؟ وَأَمَّا فِي الْجَوَابِ فَلِأَنَّ مُقْتَضَاهُ أَنَّ جَعْلَ ذِي الْيَدِ خَصْمًا وَالْقَضَاءُ عَلَيْهِ بِتَسْلِيمِ الْعَيْنِ إلَى الْمُدَّعِي فِي مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ إنَّمَا كَانَ لِأَجْلِ الِاحْتِيَالِ لِدَرْءِ الْحَدِّ، وَأَنَّ الِاحْتِيَالَ لِدَرْئِهِ إنَّمَا نَشَأَ مِنْ قِبَلِ الشَّرْعِ لَا مِنْ قِبَلِ الْمُدَّعِي، وَهَذَا مَعَ كَوْنِهِ مُخَالِفًا لِمُقْتَضَى الدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ كَمَا تَرَى غَيْرَ تَامٍّ فِي نَفْسِهِ، لِأَنَّ ظُهُورَ سَرِقَةِ ذِي الْيَدِ بَعْدَ ذَلِكَ بِيَقِينٍ أَمْرٌ مَوْهُومٌ وَخُرُوجُ الْعَيْنِ الْمُدَّعَاةِ مِنْ يَدِهِ عَلَى تَقْدِيرِ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ بِهَا أَمْرٌ مُحَقَّقٌ فَكَيْفَ يَرْتَكِبُ الضَّرَرَ الْمُحَقَّقَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ الْمَوْهُومِ سِيَّمَا إذَا اعْتَرَفَ بِأَنَّهَا مِلْكُ الْغَيْرِ أُودَعَهَا عِنْدَهُ، فَإِنَّ إتْلَافَ مَالِ أَحَدٍ لِدَفْعِ ضَرَرٍ مَوْهُومٍ عَنْ آخَرَ غَيْرُ مَعْهُودٍ فِي الشَّرْعِ (فَصَارَ) أَيْ فَصَارَ مَا إذَا قَالَ سُرِقَ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (كَمَا إذَا سَرَقْت) بِالتَّعْيِينِ وَالْخِطَابِ (بِخِلَافِ الْغَصْبِ) أَيْ بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ: غُصِبَ مِنِّي بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ حَيْثُ تَنْدَفِعُ الْخُصُومَةُ بِإِثْبَاتِ الْوَدِيعَةِ بِالِاتِّفَاقِ (لِأَنَّهُ لَا حَدَّ فِيهِ) أَيْ فِي الْغَصْبِ (فَلَا يُحْتَرَزُ عَنْ كَشْفِهِ) فَلَمْ يَكُنْ الْمُدَّعِي مَعْذُورًا فِي التَّجْهِيلِ.

(وَلَوْ قَالَ الْمُدَّعِي: ابْتَعْتُهُ مِنْ فُلَانٍ وَقَالَ صَاحِبُ الْيَدِ: أَوْدَعَنِيهِ فُلَانٌ ذَلِكَ) أَيْ فُلَانٌ الَّذِي قَالَ الْمُدَّعِي: ابْتَعْتُهُ مِنْهُ (أَسْقَطَ الْخُصُومَةَ) أَيْ أَسْقَطَ صَاحِبُ الْيَدِ الْخُصُومَةَ عَنْ نَفْسِهِ (بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ) هَذَا لَفْظُ الْقُدُورِيِّ. قَالَ الْمُصَنِّفُ: (لِأَنَّهُمَا تَوَافَقَا عَلَى أَنَّ أَصْلَ الْمِلْكِ فِيهِ) أَيْ فِي الشَّيْءِ الْمُدَّعِي (لِغَيْرِهِ) أَيْ غَيْرِ صَاحِبِ الْيَدِ (فَيَكُونُ وُصُولُهَا) أَيْ وُصُولُ الْعَيْنِ الْمُدَّعَاةِ، وَكَانَ الْمُطَابِقُ لِلضَّمَائِرِ السَّابِقَةِ أَنْ يَقُولَ الْمُصَنِّفُ: فَيَكُونُ وُصُولُهُ كَمَا قَالَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ، وَلَكِنَّهُ يُشْبِهُ أَنَّهُ قَصَدَ التَّفَنُّنَ فِي الْعِبَارَةِ (إلَى يَدِ ذِي الْيَدِ مِنْ جِهَتِهِ) أَيْ مِنْ جِهَةِ الْغَيْرِ (فَلَمْ تَكُنْ يَدُهُ يَدَ خُصُومَةٍ إلَّا أَنْ يُقِيمَ) أَيْ الْمُدَّعِي (الْبَيِّنَةَ أَنَّ فُلَانًا) أَيْ فُلَانًا الْمَذْكُورَ (وَكَّلَهُ بِقَبْضِهِ) أَيْ بِقَبْضِ الشَّيْءِ الْمُدَّعَى (لِأَنَّهُ) أَيْ الْمُدَّعِي (أَثْبَتَ بِبَيِّنَتِهِ كَوْنَهُ أَحَقَّ بِإِمْسَاكِهَا) أَيْ بِإِمْسَاكِ الْعَيْنِ الْمُدَّعَاةِ كَأَنَّهُ قَصَدَ التَّفَنُّنَ هَاهُنَا أَيْضًا حَيْثُ قَالَ أَوَّلًا بِقَبْضِهِ بِالتَّذْكِيرِ، وَثَانِيًا بِإِمْسَاكِهَا بِالتَّأْنِيثِ.

ص: 244

(بَابُ مَا يَدَّعِيهِ الرَّجُلَانِ)

قَالَ (وَإِذَا ادَّعَى اثْنَانِ عَيْنًا فِي يَدِ آخَرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَزْعُمُ أَنَّهَا لَهُ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ بِهَا بَيْنَهُمَا) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي قَوْلٍ: تَهَاتَرَتَا، وَفِي قَوْلٍ يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ إحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ كَاذِبَةٌ بِيَقِينٍ لِاسْتِحَالَةِ اجْتِمَاعِ الْمِلْكَيْنِ فِي الْكُلِّ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ وَقَدْ تَعَذَّرَ التَّمْيِيزُ فَيَتَهَاتَرَانِ أَوْ يُصَارُ إلَى الْقُرْعَةِ «لِأَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام أَقْرَعَ فِيهِ وَقَالَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ الْحَكَمُ بَيْنَهُمَا» وَلَنَا حَدِيثُ تَمِيمِ بْنِ طَرْفَةَ

بَابُ مَا يَدَّعِيهِ الرَّجُلَانِ)

لَمَّا ذَكَرَ حُكْمَ دَعْوَى الْوَاحِدِ شَرَعَ فِي ذِكْرِ حُكْمِ دَعْوَى الِاثْنَيْنِ بَعْدَ الْوَاحِدِ (قَالَ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ (وَإِذَا ادَّعَى اثْنَانِ عَيْنًا فِي يَدِ آخَرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَزْعُمُ أَنَّهَا) أَيْ الْعَيْنَ (لَهُ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ) أَيْ عَلَى مَا ادَّعَاهُ (قَضَى بِهَا بَيْنَهُمَا) أَيْ نِصْفَيْنِ، وَإِنَّمَا وَضَعَ الْمَسْأَلَةَ فِي دَعْوَى مِلْكِ الْعَيْنِ لِأَنَّهُمَا لَوْ تَنَازَعَا فِي نِكَاحِ امْرَأَةٍ وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةً عَلَى أَنَّهَا امْرَأَتُهُ لَمْ يَقْضِ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالِاتِّفَاقِ وَفِي دَعْوَى الْخَارِجِينَ؛ لِأَنَّ الدَّعْوَى لَوْ كَانَتْ بَيْنَ الْخَارِجِ وَصَاحِبِ الْيَدِ وَأَقَامَا بَيِّنَةً فَبَيِّنَةُ الْخَارِجِ أَوْلَى عِنْدَنَا.

وَفِي أَحَدِ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ: تَهَاتَرَتْ الْبَيِّنَتَانِ وَيَكُونُ الْمُدَّعَى لِذِي الْيَدِ تَرْكًا فِي يَدِهِ وَهُوَ قَضَاءُ تَرْكٍ لَا قَضَاءُ مِلْكٍ. وَفِي الْقَوْلِ الْآخَرِ تُرَجَّحُ بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ فَيُقْضَى بِهِ لِذِي الْيَدِ قَضَاءَ مِلْكٍ وَفِي الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ؛ لِأَنَّ فِي الْمُقَيَّدِ بِالسَّبَبِ الْمُعَيَّنِ أَوْ بِالتَّارِيخِ تَفْصِيلًا وَخِلَافًا كَمَا سَيَجِيءُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ) أَيْ فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي نَحْنُ فِيهَا (فِي قَوْلِ تَهَاتَرَتَا) أَيْ الْبَيِّنَتَانِ: أَيْ تَسَاقَطَتَا وَبَطَلَتَا، مَأْخُوذٌ مِنْ الْهِتْرِ بِكَسْرِ الْهَاءِ وَهُوَ السَّقْطُ مِنْ الْكَلَامِ وَالْخَطَإِ فِيهِ، كَذَا فِي الْمُغْرِبِ (وَفِي قَوْلِ يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا) أَيْ بَيْنَ الْمُدَّعِيَيْنِ وَيَقْضِي لِمَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ (لِأَنَّ إحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ كَاذِبَةٌ بِيَقِينٍ لِاسْتِحَالَةِ اجْتِمَاعِ الْمِلْكَيْنِ فِي الْكُلِّ) أَيْ فِي كُلِّ الْعَيْنِ (فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ وَقَدْ تَعَذَّرَ التَّمْيِيزُ) أَيْ بَيْنَ الصَّادِقَةِ مِنْهَا وَالْكَاذِبَةِ فَيَمْتَنِعُ الْعَمَلُ بِهِمَا (فَيَتَهَاتَرَانِ) كَمَا لَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ يَوْمَ النَّحْرِ بِمَكَّةَ، وَآخَرَانِ أَنَّهُ أَعْتَقَ عَبْدَهُ بِالْكُوفَةِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَهَذَا لِأَنَّ تُهْمَةَ الْكَذِبِ تَمْنَعُ الْعَمَلَ بِالشَّهَادَةِ فَالتَّيَقُّنُ بِهِ أَوْلَى، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَالْكِفَايَة (أَوْ يُصَارُ إلَى الْقُرْعَةِ «لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام أَقَرَعَ فِيهِ وَقَالَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ الْحَكَمُ بَيْنَهُمَا») رَوَى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ «أَنَّ رَجُلَيْنِ تَنَازَعَا فِي أَمَةٍ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَأَقْرَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَهُمَا وَقَالَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ تَقْضِي بَيْنَ عِبَادِك بِالْحَقِّ، ثُمَّ قَضَى بِهَا لِمَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ» (وَلَنَا حَدِيثُ تَمِيمِ بْنِ طَرْفَةَ) الطَّائِيِّ رِوَايَةً عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ

ص: 245

«أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ عليه الصلاة والسلام فِي نَاقَةٍ وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ فَقَضَى بِهَا بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ» .

وَحَدِيثُ الْقُرْعَةِ كَانَ فِي الِابْتِدَاءِ ثُمَّ نُسِخَ، وَلِأَنَّ الْمُطْلَقَ لِلشَّهَادَةِ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُحْتَمَلُ الْوُجُودِ بِأَنْ يَعْتَمِدَ أَحَدُهُمَا سَبَبَ الْمِلْكِ وَالْآخَرُ الْيَدَ فَصَحَّتْ الشَّهَادَتَانِ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهِمَا مَا أَمْكَنَ، وَقَدْ أَمْكَنَ بِالتَّنْصِيفِ إذْ الْمَحِلُّ يَقْبَلُهُ، وَإِنَّمَا يُنَصَّفُ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ.

- رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -.

ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُد «أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي نَاقَةٍ وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةً فَقَضَى بِهَا بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ» )

وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه «أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي شَيْءٍ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ، فَقَالَ: مَا أَحْوَجَكُمَا إلَى سِلْسِلَةٍ كَسِلْسِلَةِ بَنِي إسْرَائِيلَ، كَانَ دَاوُد عليه السلام إذَا جَلَسَ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ نَزَلَتْ سِلْسِلَةٌ مِنْ السَّمَاءِ بِعِتْقِ الظَّالِمِ، ثُمَّ قَضَى بِهِ رَسُولُنَا صلى الله عليه وسلم بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ» (وَحَدِيثُ الْقُرْعَةِ كَانَ فِي الِابْتِدَاءِ ثُمَّ نُسِخَ) هَذَا جَوَابٌ عَنْ حَدِيثِ الْقُرْعَةِ: يَعْنِي أَنَّهُ كَانَ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ وَقْتَ إبَاحَةِ الْقِمَارِ ثُمَّ نُسِخَ بِحُرْمَةِ الْقِمَارِ لِأَنَّ تَعْيِينَ الْمُسْتَحِقِّ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِحْقَاقِ ابْتِدَاءً: فَكَمَا أَنَّ تَعْلِيقَ الِاسْتِحْقَاقِ بِخُرُوجِ قُرْعَةِ قِمَارٍ فَكَذَلِكَ تَعْيِينُ الْمُسْتَحِقِّ، بِخِلَافِ قِسْمَةِ الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ لِأَنَّ لِلْقَاضِي هُنَاكَ وِلَايَةَ التَّعْيِينِ مِنْ غَيْرِ قُرْعَةٍ، وَإِنَّمَا يَقْرَعُ تَطْيِيبًا لِلْقُلُوبِ، وَنَفْيًا لِتُهْمَةِ الْمَيْلِ عَنْ نَفْسِهِ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي مَعْنَى الْقِمَارِ، كَذَا فِي الْكَافِي وَسَائِرِ الشُّرُوحِ (وَلِأَنَّ الْمُطْلِقَ) بِكَسْرِ اللَّامِ أَيْ الْمُجَوِّزَ (لِلشَّهَادَةِ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُحْتَمَلُ الْوُجُودِ) بِفَتْحِ الْمِيمِ (بِأَنْ يَعْتَمِدَ أَحَدُهُمَا سَبَبَ الْمِلْكِ) كَالشِّرَاءِ (وَالْآخَرُ الْيَدَ فَصَحَّتْ الشَّهَادَتَانِ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي حَلِّ هَذَا الْمَقَامِ: وَلَا نُسَلِّمُ كَذِبَ إحْدَاهُمَا بِيَقِينٍ لِأَنَّ الْمُطْلِقَ لِلشَّهَادَةِ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُحْتَمَلُ الْوُجُودِ، فَإِنَّ صِحَّةَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ لَا تَعْتَمِدُ وُجُودَ الْمِلْكِ حَقِيقَةً لِأَنَّ ذَلِكَ غَيْبٌ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الْعِبَادُ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا اعْتَمَدَ سَبَبَ الْمِلْكِ بِأَنْ رَآهُ يَشْتَرِي فَشَهِدَ عَلَى ذَلِكَ وَالْآخَرُ اعْتَمَدَ الْيَدَ فَشَهِدَ عَلَى ذَلِكَ فَكَانَتْ الشَّهَادَتَانِ صَحِيحَتَيْنِ انْتَهَى.

أَقُولُ: الظَّاهِرُ مِنْ تَقْرِيرِهِ أَنَّهُ قَدْ حَمَلَ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ وَلِأَنَّ الْمُطْلِقَ لِلشَّهَادَةِ إلَخْ عَلَى مَنْعِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ: إنَّ إحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ كَاذِبَةٌ بِيَقِينٍ فَيُرَدُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا مَجَالَ لِمَنْعِ ذَلِكَ عَلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ جُمْهُورُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَنَّ مَعْنَى صِدْقِ الْخَبَرِ مُطَابِقَتُهُ لِلْوَاقِعِ، وَمَعْنَى كَذِبِهِ عَدَمُ مُطَابِقَتِهِ لِأَنَّ اسْتِحَالَةَ اجْتِمَاعِ الْمِلْكَيْنِ فِي كُلِّ الْعَيْنِ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ ضَرُورِيَّةٌ فَكَذَبَ إحْدَاهُمَا: أَيْ عَدَمُ مُطَابِقَتِهَا لِلْوَاقِعِ مُتَيَقَّنٌ بِلَا رَيْبٍ، وَمَا ذَكَرَهُ فِي مَعْرِضِ السَّنَدِ لِلْمَنْعِ لَا يُجْدِي طَائِلًا مِنْ دَفْعِ هَذَا كَمَا لَا يَخْفَى.

وَالْوَجْهُ عِنْدِي أَنْ لَا يَكُونَ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ الْمَذْكُورِ مَنْعَ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ ذَلِكَ، بَلْ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ بِهِ الْقَوْلَ بِالْمُوجِبِ: أَيْ إثْبَاتَ مُدَّعَانَا مَعَ الْتِزَامِ مَا قَالَهُ الْخَصْمُ. وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْمُطْلِقَ لِلشَّهَادَةِ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُحْتَمَلُ الْوُجُودِ بِأَنْ يَعْتَمِدَ أَحَدُهُمَا بِسَبَبِ الْمِلْكِ وَالْآخَرُ الْيَدَ، وَكُلُّ شَهَادَةٍ لَهَا مُطْلِقٌ كَذَلِكَ فَهِيَ صَحِيحَةٌ سَوَاءٌ طَابَقَتْ الْوَاقِعَ أَوْ لَمْ تُطَابِقْهُ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ الشَّهَادَةِ لَا تَعْتَمِدُ تَحَقُّقَ الْمَشْهُودِ بِهِ فِي الْوَاقِعِ، فَإِنَّ ذَلِكَ غَيْبٌ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الْعِبَادُ بَلْ إنَّمَا تَعْتَمِدُ ظَاهِرَ الْحَالِ فَصَحَّتْ الشَّهَادَتَانِ (فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهِمَا مَا أَمْكَنَ) لِأَنَّ الْبَيِّنَاتِ حِجَجُ اللَّهِ تَعَالَى وَالْعَمَلُ بِهَا وَاجِبٌ مَهْمَا أَمْكَنَ وَقَدْ أَمْكَنَ هَاهُنَا (بِالتَّنْصِيفِ إذْ الْمَحَلُّ يَقْبَلُهُ) أَيْ يَقْبَلُ التَّنْصِيفَ (وَإِنَّمَا يُنَصَّفُ لِاسْتِوَائِهِمَا) أَيْ لِاسْتِوَاءِ الْمُدَّعِيَيْنِ (فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ)

ص: 246

قَالَ (فَإِنْ ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِكَاحَ امْرَأَةٍ وَأَقَامَا بَيِّنَةً لَمْ يَقْضِ بِوَاحِدَةٍ مِنْ الْبَيِّنَتَيْنِ) لِتَعَذُّرِ الْعَمَلِ بِهِمَا؛ لِأَنَّ الْمَحِلَّ لَا يَقْبَلُ الِاشْتِرَاكَ. قَالَ (وَيَرْجِعُ إلَى تَصْدِيقِ الْمَرْأَةِ لِأَحَدِهِمَا) لِأَنَّ النِّكَاحَ مِمَّا يُحْكَمُ بِهِ بِتَصَادُقِ الزَّوْجَيْنِ، وَهَذَا إذَا لَمْ تُؤَقَّتْ الْبَيِّنَتَانِ، فَأَمَّا إذَا وَقَّتَا فَصَاحِبُ الْوَقْتِ الْأَوَّلِ أَوْلَى

وَهُوَ الشَّهَادَةُ.

فَحَاصِلُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا عَلَى مَا وَجَّهْنَاهُ أَنَّ مَدَارَ الْعَمَلِ بِالشَّهَادَتَيْنِ صِحَّتُهُمَا لَا صِدْقُهُمَا، فَإِنَّهُ مِمَّا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الْعِبَادُ، وَأَنَّ وَجْهَ صِحَّتِهِمَا مَا ذَكَرَهُ يُرْشِدُ إلَيْهِ أَنَّهُ قَالَ فِي التَّفْرِيعِ: فَصَحَّتْ الشَّهَادَتَانِ وَلَمْ يَقُلْ فَصَدَقَتْ الشَّهَادَتَانِ. ثُمَّ إنَّ بَعْضَ الْفُضَلَاءِ اعْتَرَضَ عَلَى قَوْلِ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ وَلَا نُسَلِّمُ كَذِبَ إحْدَاهُمَا بِيَقِينٍ. وَأَجَابَ عَنْهُ حَيْثُ قَالَ: فِيهِ بَحْثٌ، فَإِنَّ الْكَذِبَ هُوَ عَدَمُ مُطَابَقَةِ الْحُكْمِ لِلْوَاقِعِ وَعَدَمُ مُطَابَقَةِ كَلَامِ إحْدَاهُمَا لِنَفْسِ الْأَمْرِ مِنْ أَجْلَى الْوَاضِحَاتِ، فَكَيْفَ يَمْنَعُ وَلَيْسَ فِيمَا ذَكَرَهُ فِي مَعْرِضِ السَّنَدِ مَا يَدْفَعُ ذَلِكَ كَمَا لَا يَخْفَى؟ وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمَانِعَ عَنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ هُوَ كَذِبُهَا شَرْعًا وَهُوَ مَفْقُودٌ هَاهُنَا، وَإِلَّا لَزِمَ اجْتِمَاعُ إطْلَاقِ الشَّهَادَةِ وَتَكْذِيبُهَا شَرْعًا. فَاَلَّذِي لَا يُسَلِّمُهُ الشَّارِحُ هُوَ الْكَذِبُ الشَّرْعِيُّ فَلْيُتَأَمَّلْ انْتَهَى.

أَقُولُ: فِي الْجَوَابِ بَحْثٌ، إذْ الظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَهُ بِكَذِبِهَا شَرْعًا عَدَمُ مُطَابَقَتِهَا لِلِاعْتِقَادِ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِلَفْظِ الْكَذِبِ هَاهُنَا بَعْدَ أَنْ لَا يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ عَدَمَ مُطَابَقَةِ الْحُكْمِ لِلْوَاقِعِ وَلَكِنَّهُ لَيْسَ بِمُوَجِّهٍ لِأَنَّ كَوْنَ صِدْقِ الْخَبَرِ مُطَابَقَتَهُ لِاعْتِقَادِ الْمَخْبَرِ، وَكَذِبُهُ عَدَمُ مُطَابَقَتِهِ لِاعْتِقَادِهِ مَذْهَبُ النَّظَّامِ وَمَنْ تَابَعَهُ. وَقَدْ أَبْطَلَهُ الْمُحَقِّقُونَ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى تَصْدِيقِ الْيَهُودِيِّ فِي قَوْلِهِ: الْإِسْلَامُ حَقٌّ مَعَ مُخَالِفَتِهِ لِاعْتِقَادِهِ، وَتَكْذِيبِهِ فِي قَوْلِهِ: الْإِسْلَامُ بَاطِلٌ مَعَ مُطَابَقَتِهِ لِاعْتِقَادِهِ، فَكَيْفَ يُحْمَلُ الْكَذِبُ الشَّرْعِيُّ عَلَى مِثْلِ هَذَا الْمَذْهَبِ الْمُزَيَّفِ وَيَجْعَلُ مَبْنَى الِاسْتِدْلَالِ أَئِمَّتَنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ؟ وَأَيْضًا لَوْ لَمْ يَكُنْ الْكَذِبُ الشَّرْعِيُّ عَدَمَ الْمُطَابَقَةِ لِلْوَاقِعِ بَلْ كَانَ عَدَمَ الْمُطَابَقَةِ لِلِاعْتِقَادِ لَمَا كَانَ لِمَا وَرَدَ فِي قَوَاعِدِ الشَّرْعِ مِنْ أَنَّهُ تَعَمَّدَ الْكَذِبَ وَلَمْ يَتَعَمَّدْهُ مَعْنًى؛ لِأَنَّ الْكَذِبَ بِمَعْنَى عَدَمِ الْمُطَابَقَةِ لِلِاعْتِقَادِ لَا يُتَصَوَّرُ بِدُونِ التَّعَمُّدِ. وَأَيْضًا لَا يَنْدَفِعُ مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ بِمَنْعِ كَذِبِ إحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ بِيَقِينٍ بِمَعْنَى عَدَمِ الْمُطَابَقَةِ لِلِاعْتِقَادِ، إذْ يَكْفِي لَهُ كَذِبُ إحْدَاهُمَا بِيَقِينٍ بِمَعْنَى عَدَمِ الْمُطَابَقَةِ لِلْوَاقِعِ فَإِنْ الْتَزَمَ جَوَازَ الْعَمَلِ بِهِمَا عِنْدَ تَيَقُّنِ عَدَمِ مُطَابَقَةِ إحْدَاهُمَا لِلْوَاقِعِ فَلِمَ لَا يَلْتَزِمُ جَوَازَ الْعَمَلِ بِهِمَا عِنْدَ تَيَقُّنِ كَذِبِ إحْدَاهُمَا بِمَعْنَى عَدَمِ الْمُطَابَقَةِ لِلْوَاقِعِ.

وَالْفَرْقُ بِمُجَرَّدِ إطْلَاقِ لَفْظِ الْكَذِبِ وَعَدَمِ إطْلَاقِهِ لَا يُؤَثِّرُ فِي تَحْقِيقِ مَعْنَى الْمَسْأَلَةِ، فَإِنَّمَا هُوَ اعْتِبَارٌ لَفْظِيٌّ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَتْرُكَ بِهِ الْقَوْلَ الْمُعَوَّلَ عَلَيْهِ فِي مَعْنَى الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ. ثُمَّ إنَّ قَوْلَهُ: وَإِلَّا لَزِمَ اجْتِمَاعُ إطْلَاقِ الشَّهَادَةِ وَتَكْذِيبِهَا شَرْعًا إنْ أَرَادَ بِهِ أَنْ يَلْزَمَ اجْتِمَاعُ إطْلَاقِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّهَادَتَيْنِ، وَتَكْذِيبُهَا بِعَيْنِهَا مَمْنُوعٌ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ يَلْزَمُ اجْتِمَاعُ إطْلَاقِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَتَكْذِيبُ إحْدَاهُمَا لَا بِعَيْنِهَا فَمُسَلَّمٌ، لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ الْمَحْذُورَ فِيهِ، إذْ الْكَذِبُ بِالنِّسْبَةِ إلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِعَيْنِهَا كَانَ مُحْتَمَلًا لَا مُحَقَّقًا فَتَأَمَّلْ

(قَالَ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ (فَإِنْ ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا) أَيْ مِنْ الرَّجُلَيْنِ (نِكَاحَ امْرَأَةٍ وَأَقَامَا بَيِّنَةً لَمْ يَقْضِ بِوَاحِدَةٍ مِنْ الْبَيِّنَتَيْنِ لِتَعَذُّرِ الْعَمَلِ بِهَا لِأَنَّ الْمَحِلَّ لَا يَقْبَلُ الِاشْتِرَاكَ. قَالَ: وَيَرْجِعُ إلَى تَصْدِيقِ الْمَرْأَةِ لِأَحَدِهِمَا لِأَنَّ النِّكَاحَ مِمَّا يُحْكَمُ بِهِ بِتَصَادُقِ الزَّوْجَيْنِ) وَحُكِيَ عَنْ رُكْنِ الْإِسْلَامِ عَلِيٍّ السُّغْدِيِّ أَنَّهُ لَا تَتَرَجَّحُ إحْدَاهُمَا إلَّا بِإِحْدَى مَعَانٍ ثَلَاثٍ: إحْدَاهُمَا إقْرَارُ الْمَرْأَةِ، وَالثَّانِيَةُ كَوْنُهَا فِي يَدِ أَحَدِهِمَا، وَالثَّالِثَةُ دُخُولُ أَحَدِهِمَا بِهَا إلَّا أَنْ يُقِيمَ الْآخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّ نِكَاحَهُ أَسْبَقُ كَذَا فِي الشُّرُوحِ نَقْلًا عَنْ الْخُلَاصَةِ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَهَذَا) أَيْ الْحُكْمُ الْمَذْكُورُ (إذَا لَمْ تُؤَقَّتْ الْبَيِّنَتَانِ، فَأَمَّا إذَا وُقِّتَا فَصَاحِبُ الْوَقْتِ الْأَوَّلِ أَوْلَى) لِمَا فِيهِ مِنْ زِيَادَةِ الْإِثْبَاتِ، كَذَا فِي الْكَافِي. قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: قَوْلُهُ فَصَاحِبُ الْوَقْتِ الْأَوَّلِ أَوْلَى لَيْسَ بِجَلِيٍّ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ أَوْلَى إذَا كَانَ الثَّانِي بَعْدَهُ بِمُدَّةٍ لَا تَحْتَمِلُ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ فِيهَا، أَمَّا إذَا احْتَمَلَتْ ذَلِكَ فَيَتَسَاوَيَانِ

ص: 247

وَإِنْ أَقَرَّتْ لِأَحَدِهِمَا قَبْلَ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ فَهِيَ امْرَأَتُهُ) لِتَصَادُقِهِمَا (وَإِنْ أَقَامَ الْآخَرُ الْبَيِّنَةَ قُضِيَ بِهَا) لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ أَقْوَى مِنْ الْإِقْرَارِ

لِجَوَازِ أَنَّ الْأَوَّلَ طَلَّقَهَا فَتَزَوَّجَ بِهَا الثَّانِي. وَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يُعْتَبَرُ إذَا كَانَ دَعْوَى النِّكَاحِ بَعْدَ طَلَاقِ الْأَوَّلِ وَلَيْسَ الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ، وَأَيْضًا مَا ذَكَرْنَا آنِفًا أَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ عِيَانًا، وَلَوْ عَايَنَا تَقَدُّمَ الْأَوَّلِ حَكَمْنَا بِهِ، فَكَذَا إذَا ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ انْتَهَى.

أَقُولُ: فِي الْجَوَابِ الْأَوَّلِ نَظَرٌ، لِأَنَّهُ إذَا كَانَ دَعْوَى النِّكَاحِ بَعْدَ طَلَاقِ الْأَوَّلِ وَأُقِيمَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهَا كَانَ صَاحِبُ الْوَقْتِ الثَّانِي أَوْلَى قَطْعًا، وَلَيْسَ مَدَارُ السُّؤَالِ عَلَى دَعْوَى أَوْلَوِيَّةِ الثَّانِي بَلْ عَلَى مَنْعِ أَوْلَوِيَّةِ الْأَوَّلِ. وَهَذَا الْمَنْعُ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى كَوْنِ دَعْوَى النِّكَاحِ بَعْدَ طَلَاقِ الْأَوَّلِ بَلْ يَتَوَجَّهُ أَيْضًا عَلَى تَقْدِيرِ دَعْوَى النِّكَاحِ مُطْلَقًا: أَيْ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِكَوْنِهِ بَعْدَ طَلَاقِ الْأَوَّلِ فِيمَا إذَا احْتَمَلَتْ الْمُدَّةُ الَّتِي بَيْنَ الْوَقْتَيْنِ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ لِجَوَازِ أَنَّ الْأَوَّلَ طَلَّقَهَا وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَتَزَوَّجَ بِهَا الثَّانِي، كَمَا ذَكَرَ فِي السُّؤَالِ فَلَمْ تَثْبُتُ الْأَوْلَوِيَّةُ فِي الْأَوَّلِ مُطْلَقًا.

وَأَمَّا الْجَوَابُ الثَّانِي فَهُوَ وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا فِي نَفْسِهِ إلَّا أَنَّ فِيهِ نَوْعَ احْتِيَاجٍ إلَى بَيَانِ لَمِّيَّةِ الْحُكْمِ بِالْأَوَّلِ، فِيمَا عَايَنَا تَقَدَّمَهُ أَيْضًا مَعَ الِاحْتِمَالِ الْمَذْكُورِ، فَالْأَحْسَنُ هَاهُنَا مَا ذَكَرَهُ تَاجُ الشَّرِيعَةِ حَيْثُ قَالَ: فَإِنْ قُلْت: أَمْكَنَ الْعَمَلُ بِالْبَيِّنَتَيْنِ بِتَخَلُّلِ الطَّلَاقِ. قُلْت: لَا يُمْكِنُ لِأَنَّ النِّكَاحَ الثَّانِيَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الطَّلَاقِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَعَ بَقَاءِ الطَّلَاقِ فَلَا يَبْطُلُ النِّكَاحُ الثَّابِتُ لِلْأَوَّلِ بِالشَّكِّ، وَلَا يُقَالُ: يُحْمَلُ أَمْرُهُمَا عَلَى الصَّلَاحِ لِأَنَّ هَذَا إنَّمَا يُعْتَبَرُ فِي الدَّفْعِ لَا فِي إبْطَالِ حَقِّ الْغَيْرِ وَهَاهُنَا لِحَاجَةٍ إلَى الْإِبْطَالِ انْتَهَى.

(وَإِنْ أَقَرَّتْ لِأَحَدِهِمَا قَبْلَ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ فَهِيَ امْرَأَتُهُ لِتَصَادُقِهِمَا، فَإِنْ أَقَامَ الْآخَرُ الْبَيِّنَةَ قُضِيَ بِهَا؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ أَقْوَى مِنْ الْإِقْرَارِ) إذْ الْبَيِّنَةُ حُجَّةٌ مُتَعَدِّيَةٌ وَالْإِقْرَارُ حُجَّةٌ قَاصِرَةٌ. وَذَكَرَ فِي نِكَاحِ الْمَبْسُوطِ: وَلَوْ تَنَازَعَ رَجُلَانِ فِي امْرَأَةٍ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي أَنَّهَا امْرَأَتُهُ وَيُقِيمُ الْبَيِّنَةَ. فَإِنْ كَانَتْ فِي بَيْتِ أَحَدِهِمَا أَوْ كَانَ دَخَلَ بِهَا فَهِيَ امْرَأَتُهُ لِأَنَّ الْبَيِّنَتَيْنِ إذَا تَعَارَضَتَا عَلَى الْعَقْدِ تَتَرَجَّحُ إحْدَاهُمَا بِالْقَبْضِ. كَمَا لَوْ ادَّعَى رَجُلَانِ تَلَقِّيَ الْمِلْكِ فِي عَيْنٍ مِنْ ثَالِثٍ بِالشِّرَاءِ وَأَحَدُهُمَا قَابِضٌ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ كَانَتْ بَيِّنَةُ صَاحِبِ الْيَدِ أَوْلَى. لِأَنَّ فِعْلَ الْمُسْلِمِ مَحْمُولٌ عَلَى الصِّحَّةِ وَالْحِلِّ مَا أَمْكَنَ.

وَالْإِمْكَانُ ثَابِتٌ هُنَا بِأَنْ جَعَلَ نِكَاحَ الَّذِي دَخَلَ بِهَا

ص: 248

وَلَوْ تَفَرَّدَ أَحَدُهُمَا بِالدَّعْوَى وَالْمَرْأَةُ تَجْحَدُ فَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ وَقَضَى بِهَا الْقَاضِي لَهُ ثُمَّ ادَّعَى الْآخَرُ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ لَا يَحْكُمُ بِهَا) لِأَنَّ الْقَضَاءَ الْأَوَّلَ قَدْ صَحَّ فَلَا يُنْقَضُ بِمَا هُوَ مِثْلُهُ بَلْ هُوَ دُونَهُ (إلَّا أَنْ يُؤَقِّتَ شُهُودُ الثَّانِي سَابِقًا) لِأَنَّهُ ظَهَرَ الْخَطَأُ فِي الْأَوَّلِ بِيَقِينٍ. وَكَذَا إذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ فِي يَدِ الزَّوْجِ وَنِكَاحُهُ ظَاهِرٌ لَا تُقْبَلُ بَيِّنَةُ الْخَارِجِ إلَّا عَلَى وَجْهِ السَّبْقِ.

قَالَ (وَلَوْ ادَّعَى اثْنَانِ كُلُّ وَاحِدِ مِنْهُمَا أَنَّهُ اشْتَرَى مِنْهُ هَذَا الْعَبْدَ) مَعْنَاهُ مِنْ صَاحِبِ الْيَدِ وَأَقَامَا بَيِّنَةً

ثَابِتًا حِينَ دَخَلَ، وَهَذَا لِأَنَّ تَمَكُّنَهُ مِنْ الدُّخُولِ بِهَا أَوْ مِنْ نَقْلِهَا إلَى بَيْتِهِ دَلِيلُ سَبْقِ عَقْدِهِ، وَدَلِيلُ التَّارِيخِ كَالتَّصْرِيحِ بِالتَّارِيخِ، إلَّا أَنْ يُقِيمَ الْآخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا قَبْلَهُ فَحِينَئِذٍ سَقَطَ اعْتِبَارُ الدَّلِيلِ فِي مُقَابَلَةِ التَّصْرِيحِ بِالسَّبْقِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا فَأَيُّهُمَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ أَوَّلٌ فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا؛ لِأَنَّ الشُّهُودَ شَهِدُوا بِسَبْقِ التَّارِيخِ فِي عَقْدِهِ، وَالثَّابِتُ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ أَوْ بِإِقْرَارِ الْخَصْمِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةٌ فَأَيُّهُمَا أَقَرَّتْ الْمَرْأَةُ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا قَبْلَهُ أَوْ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا دُونَ الْآخَرِ فَهِيَ امْرَأَتُهُ، إمَّا لِأَنَّ بَيِّنَتَهُ تَتَرَجَّحُ بِإِقْرَارِهَا لَهُ كَمَا بَيَّنَّا فِي جَانِبِ الزَّوْجِ، أَوْ لِأَنَّ الْبَيِّنَتَيْنِ لَمَّا تَعَارَضَتَا وَتَعَذَّرَ الْعَمَلُ بِهِمَا بَقِيَ تَصَادُقُ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ مَعَ الْمَرْأَةِ عَلَى النِّكَاحِ فَيَثْبُتُ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا بِتَصَادُقِهِمَا، كَذَا فِي النِّهَايَةِ.

وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذِهِ بِمَنْزِلَةِ الشَّرْحِ لِمَا فِي الْكِتَابِ، وَأَنَّهُ يَظْهَرُ مِنْهُ أَنَّ قَوْلَ الْقُدُورِيِّ: فَإِنْ ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِكَاحَ امْرَأَةٍ وَأَقَامَا بَيِّنَةً لَمْ يَقْضِ بِوَاحِدَةٍ مِنْ الْبَيِّنَتَيْنِ فِيمَا إذَا لَمْ تَكُنْ الْمَرْأَةُ فِي بَيْتِ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا دَخَلَ بِهَا. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ إذَا كَانَ التَّنَازُعُ حَالَ حَيَاةِ الْمَرْأَةِ، وَأَمَّا إذَا كَانَ بَعْدَ وَفَاتِهَا فَهُوَ عَلَى وُجُوهٍ وَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْإِقْرَارُ وَالْيَدُ، فَإِنْ أَرَّخَا وَتَارِيخُ أَحَدِهِمَا أَسْبَقُ يُقْضَى بِالنِّكَاحِ وَالْمِيرَاثِ لَهُ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ تَمَامُ الْمَهْرِ، وَإِنْ لَمْ يُؤَرِّخَا أَوْ أَرَّخَا عَلَى السَّوَاءِ فَإِنَّهُ يُقْضَى بِالنِّكَاحِ بَيْنَهُمَا وَيَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الزَّوْجَيْنِ نِصْفُ الْمَهْرِ وَيَرِثَانِ مِنْهَا مِيرَاثَ زَوْجٍ وَاحِدٍ. فَرَّقَ بَيْنَ الدَّعْوَى حَالَةَ الْحَيَاةِ وَبَيْنَ الدَّعْوَى بَعْدَ الْوَفَاةِ.

وَالْفَرْقُ أَنَّ الْمَقْصُودَ فِي حَالِ الْحَيَاةِ هِيَ الْمَرْأَةُ وَهِيَ لَا تَصْلُحُ لِلشَّرِكَةِ بَيْنَهُمَا، وَالْمَقْصُودُ بَعْدَ الْوَفَاةِ هُوَ الْمِيرَاثُ وَهُوَ مَالٌ يَقْبَلُ الشَّرِكَةَ، فَإِنْ جَاءَتْ بِوَلَدٍ يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْ الْأَبَوَيْنِ وَيَرِثُ الِابْنُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِيرَاثَ ابْنٍ كَامِلٍ لِأَنَّ الْبُنُوَّةَ لَا تَتَجَزَّأُ. كَذَا فِي غَايَةِ الْبَيَانِ نَقْلًا عَنْ الْفُصُولِ، وَفِي الْفُصُولِ نَقْلًا عَنْ الْمُحِيطِ (وَلَوْ تَفَرَّدَ أَحَدُهُمَا بِالدَّعْوَى) يَعْنِي أَنَّ الَّذِي ذَكَرَ مِنْ قَبْلُ فِيمَا إذَا ادَّعَيَا مَعًا، وَلَوْ تَفَرَّدَ أَحَدُهُمَا بِالدَّعْوَى (وَالْمَرْأَةُ تَجْحَدُ فَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ وَقَضَى بِهَا الْقَاضِي لَهُ ثُمَّ ادَّعَى آخَرُ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ لَا يَحْكُمُ بِذَلِكَ) أَيْ بِمَا ادَّعَاهُ الثَّانِي (لِأَنَّ الْقَضَاءَ الْأَوَّلَ قَدْ صَحَّ فَلَا يُنْقَضُ بِمَا هُوَ مِثْلُهُ بَلْ هُوَ دُونَهُ) أَيْ لَا يُنْقَضُ الْقَضَاءُ بِالْبَيِّنَةِ الثَّانِيَةِ الَّتِي هِيَ مِثْلُ الْأُولَى، بَلْ دُونَهَا لِأَنَّ الْأُولَى تَأَكَّدَتْ بِالْقَضَاءِ، وَهَذَا لِأَنَّ فِي الظَّنِّيَّات لَا يُنْقَضُ الْمِثْلُ بِالْمِثْلِ وَلِهَذَا لَا يُهْدَمُ الرَّأْيُ بِالرَّأْيِ، كَذَا فِي غَايَةِ الْبَيَانِ (إلَّا أَنْ يُؤَقِّتَ شُهُودُ الثَّانِي سَابِقًا) أَيْ وَقْتًا سَابِقًا فَإِنَّهُ يَقْضِي حِينَئِذٍ بِمَا ادَّعَاهُ الثَّانِي (لِأَنَّهُ ظَهَرَ الْخَطَأُ الْأَوَّلُ بِيَقِينٍ) حَيْثُ ظَهَرَ أَنَّهُ تَزَوَّجَ مَنْكُوحَةَ الْغَيْرِ. أَقُولُ: فِي قَوْلِ الْمُصَنِّفِ بِيَقِينٍ تَسَامُحٌ. لِأَنَّ الْبَيِّنَاتِ مِنْ الظَّنِّيَّاتِ لَا مِنْ الْيَقِينِيَّاتِ عَلَى مَا صَرَّحُوا بِهِ، وَلَعَلَّ صَاحِبَ الْكَافِي تَنَبَّهَ لَهُ حَيْثُ تَرَكَ لَفْظَةَ بِيَقِينٍ فِي تَحْرِيرِهِ (وَكَذَا إذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ فِي يَدِ الزَّوْجِ وَنِكَاحُهُ ظَاهِرٌ لَا تُقْبَلُ بَيِّنَةُ الْخَارِجِ إلَّا عَلَى وَجْهِ السَّبْقِ) قَدْ مَرَّ بَيَانُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَتَمِّ فِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ نَقْلًا عَنْ الْمَبْسُوطِ

(قَالَ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ (وَلَوْ ادَّعَى اثْنَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهُ اشْتَرَى مِنْهُ هَذَا الْعَبْدَ) قَالَ الْمُصَنِّفُ (مَعْنَاهُ) أَيْ مَعْنَى قَوْلِهِ مِنْهُ (مِنْ صَاحِبِ الْيَدِ) وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِهِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَوْ ادَّعَى الشِّرَاءَ مِنْ غَيْرِ صَاحِبِ الْيَدِ فَهُوَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَدَّعِيَا الشِّرَاءَ مِنْ وَاحِدٍ أَوْ اثْنَيْنِ، فَالْحُكْمُ عَلَى التَّفْصِيلِ يَجِيءُ بَعْدَ هَذَا فِي الْكِتَابِ كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَغَيْرِهَا. ثُمَّ إنَّ تَمَامَ قَوْلِ الْقُدُورِيِّ (وَأَقَامَا بَيِّنَةً) أَيْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةً عَلَى مَا ادَّعَاهُ

ص: 249

فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ نِصْفَ الْعَبْدِ بِنِصْفِ الثَّمَنِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ) لِأَنَّ الْقَاضِيَ يَقْضِي بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي السَّبَبِ فَصَارَ كَالْفُضُولِيِّينَ إذَا بَاعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ رَجُلٍ وَأَجَازَ الْمَالِكُ الْبَيْعَيْنِ يُخَيَّرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِأَنَّهُ تَغَيَّرَ عَلَيْهِ شَرْطُ عَقْدِهِ، فَلَعَلَّ رَغْبَتَهُ فِي تَمَلُّكِ الْكُلِّ فَيَرُدُّهُ وَيَأْخُذُ كُلَّ الثَّمَنِ.

عَلَى صَاحِبِ الْعِنَايَةِ هَذَا الْقَوْلِ عَلَى مَا لَوْ أَقَامَاهَا مِنْ غَيْرِ تَوْقِيتٍ حَيْثُ قَالَ فِي شَرْحِ الْمَقَامِ: وَأَقَامَا عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةً مِنْ غَيْرِ تَوْقِيتٍ، فَكَأَنَّهُ أَخَذَ ذَلِكَ مِنْ تَصْرِيحِ صَاحِبِ الْكَافِي هَاهُنَا حَيْثُ قَالَ فِي شَرْحِ الْمَقَامِ: وَلَمْ تُؤَقِّتْ وَاحِدَةٌ مِنْ الْبَيِّنَتَيْنِ وَقْتًا. وَأَقُولُ: الْأَوْلَى تَعْمِيمُهُ لَمَّا لَمْ يُؤَقِّتَا وَلَمَّا وَقَّتَا وَوَقْتُهُمَا عَلَى السَّوَاءِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ هَاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ سَوَاءٌ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ فِي مَبْسُوطِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ وَالذَّخِيرَةِ وَفَتَاوَى قَاضِي خَانْ وَسَائِرِ الْمُعْتَبَرَاتِ، وَلَفْظُ الْكِتَابِ مُسَاعِدٌ لِلتَّعْمِيمِ لَهُمَا، وَلَوْ لَمْ يُعَمِّمْ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ صُورَةُ مَا وَقَّتَا وَوَقْتُهُمَا عَلَى السَّوَاءِ مَتْرُوكَةً فِي الْكِتَابِ بِالْكُلِّيَّةِ مِنْ بَيْنِ أَقْسَامِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِعَدَمِ دُخُولِهَا فِي الصُّوَرِ الْآتِيَةِ الْمُتَشَعِّبَةِ مِنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَلَا يَخْفَى بَعْدَ ذَلِكَ (فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ، إنْ شَاءَ أَخَذَ نِصْفَ الْعَبْدِ بِنِصْفِ الثَّمَنِ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ يَقْضِي بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي السَّبَبِ فَصَارَ كَالْفُضُولِيِّينَ إذَا بَاعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ رَجُلٍ وَأَجَازَ الْمَالِكُ الْبَيْعَيْنِ يُخَيَّرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا) قَالَ الْمُصَنِّفُ (لِأَنَّهُ تَغَيَّرَ عَلَيْهِ شَرْطُ عَقْدِهِ) وَهُوَ رِضَاهُ لِأَنَّهُ مَا رَضِيَ بِالْعَقْدِ إلَّا لِيُسَلِّمَ لَهُ كُلَّ الْمَبِيعِ، فَإِذَا لَمْ يُسَلِّمْ اخْتَلَّ رِضَاهُ بِتَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ عَلَيْهِ، كَذَا فِي مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ أَخْذًا مِنْ الْكَافِي.

وَفَسَّرَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ شَرْطَ عَقْدِهِ بِاتِّحَادِ الصَّفْقَةِ حَيْثُ قَالَ: لِأَنَّ شَرْطَ الْعَقْدِ الَّذِي يَدَّعِيهِ وَهُوَ اتِّحَادُ الصَّفْقَةِ قَدْ تَغَيَّرَ عَلَيْهِ (فَلَعَلَّ رَغْبَتَهُ فِي تَمَلُّكِ الْكُلِّ) وَلَمْ يَحْصُلْ (فَيَرُدُّهُ وَيَأْخُذُ كُلَّ الثَّمَنِ) وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ رَدًّا عَلَى صَاحِبِ الْعِنَايَةِ: الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ شَرْطِ الْعَقْدِ هُوَ الرِّضَا، وَقَدْ تَغَيَّرَ لِأَنَّهُ مَا رَضِيَ بِالْعَقْدِ إلَّا لِيُسَلِّمَ لَهُ كُلَّ الْبَيْعِ، وَإِذَا لَمْ يُسَلِّمْ اخْتَلَّ رِضَاهُ بِتَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْعَلَّامَةُ الْكَاكِيُّ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ فَلَعَلَّ رَغْبَتَهُ فِي تَمَلُّكِ الْكُلِّ وَأَيْضًا لِاتِّحَادِ وَصْفِ الْعَقْدِ فَكَيْفَ يَكُونُ شَرْطًا لَهُ انْتَهَى.

أَقُولُ: الَّذِي هُوَ تَصَرُّفُ نَفْسِ ذَلِكَ الْقَائِلِ هَاهُنَا سَاقِطٌ، أَمَّا قَوْلُهُ: وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ فَلَعَلَّ رَغْبَتَهُ فِي تَمَلُّكِ الْكُلِّ فَلِأَنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ هَذَا يُؤَيِّدُ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُؤَيِّدَهُ مَا ذَكَرَهُ الْعَلَّامَةُ الْكَاكِيُّ صَاحِبُ مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ كَمَا يَظْهَرُ بِالتَّأَمُّلِ الصَّادِقِ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَأَيْضًا لِاتِّحَادِ وَصْفِ الْعَقْدِ إلَخْ فَلِأَنَّ مُرَادَ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ أَنَّ اتِّحَادَ الصَّفْقَةِ شَرْطُ صِحَّةِ الْعَقْدِ لَا أَنَّهُ شَرْطُ نَفْسِ الْعَقْدِ، كَمَا أَنَّ الرِّضَا أَيْضًا كَذَلِكَ لِتَحَقُّقِ نَفْسِ الْعَقْدِ فَاسِدًا فِي بَيْعِ الْمُكْرَهِ مَعَ انْتِفَاءِ الرِّضَا فِيهِ، وَأَنَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ تَغَيَّرَ شَرْطُ صِحَّةِ عَقْدِهِ لَا أَنَّهُ تَغَيَّرَ شَرْطُ نَفْسِ عَقْدِهِ وَإِلَّا مَا سَاغَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ نِصْفَ الْعَبْدِ بِنِصْفِ الثَّمَنِ بِحُكْمِ ذَلِكَ الْعَقْدِ. ثُمَّ إنَّ صِحَّةَ الْعَقْدِ وَصْفٌ لِلْعَقْدِ كَاتِّحَادِ الصَّفْقَةِ وَأَنَّهُ لَا مَحْذُورَ فِي كَوْنِ أَحَدِ وَصْفَيْهِ شَرْطًا لِلْآخَرِ. وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: فَإِنْ قِيلَ: كَذِبُ إحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ مُتَيَقَّنٌ لِاسْتِحَالَةِ تَوَارُدِ الْعَقْدَيْنِ عَلَى

ص: 250

فَإِنْ قَضَى الْقَاضِي بِهِ بَيْنَهُمَا فَقَالَ أَحَدُهُمَا: لَا أَخْتَارُ لَمْ يَكُنْ لِلْآخَرِ أَنْ يَأْخُذَ جَمِيعَهُ) لِأَنَّهُ صَارَ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ فِي النِّصْفِ فَانْفَسَخَ الْبَيْعُ فِيهِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ خَصَمَ فِيهِ لِظُهُورِ اسْتِحْقَاقِهِ بِالْبَيِّنَةِ لَوْلَا بَيِّنَةُ صَاحِبِهِ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ ذَلِكَ قَبْلَ تَخْيِيرِ الْقَاضِي حَيْثُ يَكُونُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْجَمِيعَ لِأَنَّهُ يَدَّعِي الْكُلَّ وَلَمْ يَفْسَخْ سَبَبَهُ، وَالْعَوْدُ إلَى النِّصْفِ لِلْمُزَاحِمَةِ وَلَمْ تُوجَدْ، وَنَظِيرُهُ تَسْلِيمُ أَحَدِ الشَّفِيعَيْنِ قَبْلَ الْقَضَاءِ، وَنَظِيرُ الْأَوَّلِ تَسْلِيمُهُ بَعْدَ الْقَضَاءِ

عَيْنٍ وَاحِدَةٍ كَمُلَا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ فَيَنْبَغِي أَنْ تَبْطُلَ الْبَيِّنَتَانِ. أُجِيبُ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَشْهَدَا بِكَوْنِهِمَا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ بَلْ شَهِدُوا بِنَفْسِ الْعَقْدِ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهُمَا اعْتَمَدَ سَبَبًا فِي وَقْتِ أَطْلَقَ لَهُ الشَّهَادَةَ بِهِ اهـ. وَاعْتَرَضَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ عَلَى جَوَابِهِ حَيْثُ قَالَ: فِيهِ بَحْثٌ، فَإِنَّهُمَا إذَا شَهِدَا بِكَوْنِهِمَا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ فَالْجَوَابُ ذَلِكَ أَيْضًا، وَسَيَجِيءُ مِنْ الشَّارِحِ التَّصْرِيحُ بِهِ فِي الْوَرَقِ الْآتِي، وَذَكَرَهُ الْأَتْقَانِيُّ هَاهُنَا نَاقِلًا عَنْ مَبْسُوطِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ، فَجَوَابُ الشَّارِحِ لَا يَفِي بِدَفْعِ مَا إذَا أُورِدَ عَلَيْهِ انْتَهَى.

أَقُولُ: مَبْنَى جَوَابِ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ هَاهُنَا تَقْيِيدُهُ مَسْأَلَةَ الْكِتَابِ فِيمَا سَبَقَ بِقَوْلِهِ مِنْ غَيْرِ تَوْقِيتٍ، فَحِينَئِذٍ يَتِمُّ جَوَابُهُ، فَإِنَّ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ الْجَوَابِ هَاهُنَا إنَّمَا هُوَ مِقْدَارُ مَا يَدْفَعُ السُّؤَالَ عَنْ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ، وَقَدْ حَصَلَ هَذَا عَلَى ذَلِكَ التَّقْيِيدِ.

وَأَمَّا دَفْعُ السُّؤَالِ عَنْ مَسْأَلَةٍ أُخْرَى غَيْرِ مَذْكُورَةٍ فِي الْكِتَابِ فَفَضْلَةٌ مِنْ الْكَلَامِ هَاهُنَا فَلَا ضَيْرَ فِي عَدَمِ وَفَاءِ جَوَابِهِ بِذَلِكَ. نَعَمْ تَقْيِيدُهُ هُنَاكَ لَيْسَ بِمُنَاسِبٍ رَأْسًا كَمَا بَيَّنَّاهُ وَلَكِنَّهُ كَلَامٌ آخَرُ مَوْضِعُهُ ثَمَّةَ، ثُمَّ إنَّ هَاهُنَا جَوَابًا آخَرَ دَافِعًا لِلسُّؤَالِ عَنْ الْمَسْأَلَتَيْنِ مَعًا ذَكَرَهُ أَيْضًا صَاحِبُ الْكَافِي وَعَامَّةُ الشُّرَّاحِ، وَهُوَ أَنَّ الْبَيْعَيْنِ يُتَصَوَّرُ وُقُوعُهُمَا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ بِأَنْ وَكَّلَ الْمَالِكُ رَجُلَيْنِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ بِأَنْ يَبِيعَا عَبْدَهُ فَبَاعَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْوَكِيلَيْنِ مَعًا مِنْ رَجُلٍ فَإِنَّهُ يَجُوزُ، وَعَقْدُ الْوَكِيلِ كَعَقْدِ الْمُوَكِّلِ، وَيُضَافُ عَقْدُهُ إلَى الْمُوَكِّلِ مَجَازًا فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِيلُ وُرُودُ الْبَيْعَيْنِ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ مِنْ رَجُلٍ وَاحِدٍ عَلَى عَيْنٍ وَاحِدَةٍ كَمُلَا (فَإِنْ قَضَى الْقَاضِي بِهِ) أَيْ بِالْعَبْدِ (بَيْنَهُمَا) أَيْ بَيْنَ الْمُدَّعِيَيْنِ (فَقَالَ أَحَدُهُمَا: لَا أَخْتَارُ) أَيْ لَا أَخْتَارُ الْأَخْذَ (لَمْ يَكُنْ لِلْآخَرِ أَنْ يَأْخُذَ جَمِيعَهُ لِأَنَّهُ) أَيْ الْآخَرَ (صَارَ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ فِي النِّصْفِ فَانْفَسَخَ الْبَيْعُ فِيهِ) أَيْ فِي هَذَا النِّصْفِ. وَالْعَقْدُ مَتَى انْفَسَخَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي لَا يَعُودُ إلَّا بِتَجْدِيدٍ وَلَا يُوجَدْ.

فَإِنْ قِيلَ: هُوَ مُدَّعٍ فَكَيْفَ يَكُونُ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ؟ أَجَابَ بِقَوْلِهِ (وَهَذَا لِأَنَّهُ خَصْمٌ فِيهِ) أَيْ فِي النِّصْفِ الْمَقْضِيِّ بِهِ (لِظُهُورِ اسْتِحْقَاقِهِ بِالْبَيِّنَةِ لَوْلَا بَيِّنَةُ صَاحِبِهِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ ذَلِكَ) أَيْ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا لَا أَخْتَارُ الْأَخْذَ (قَبْلَ تَخْيِيرِ الْقَاضِي) أَيْ قَبْلَ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ بِالْخِيَارِ (حَيْثُ يَكُونُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْجَمِيعَ لِأَنَّهُ يَدَّعِي الْكُلَّ) وَحُجَّتُهُ قَامَتْ بِهِ (وَلَمْ يَفْسَخْ سَبَبَهُ) أَيْ لَمْ يَفْسَخْ سَبَبَ اسْتِحْقَاقِ الْكُلِّ فِي شَيْءٍ (وَالْعَوْدُ إلَى النِّصْفِ لِلْمُزَاحَمَةِ وَلَمْ تُوجَدْ) يَعْنِي إنَّمَا كَانَ الْقَضَاءُ لَهُ بِالنِّصْفِ لِمَانِعٍ وَهُوَ مُزَاحَمَةُ صَاحِبِهِ لَهُ، فَإِذَا زَالَ الْمَانِعُ حَيْثُ لَمْ تُوجَدْ الْمُزَاحَمَةُ قُضِيَ لَهُ بِالْكُلِّ (وَنَظِيرُهُ) أَيْ نَظِيرُ مَا قَالَ أَحَدُ مُدَّعِي الشِّرَاءِ لَا أَخْتَارُ الْأَخْذَ قَبْلَ تَخْيِيرِ الْقَاضِي (تَسْلِيمُ أَحَدِ الشَّفِيعَيْنِ قَبْلَ الْقَضَاءِ) أَيْ تَسْلِيمُ أَحَدِهِمَا الشُّفْعَةَ قَبْلَ قَضَاءِ الْقَاضِي بِهَا لَهُمَا حَيْثُ يَكُونُ لِلْآخَرِ أَنْ يَأْخُذَ جَمِيعَ الدَّارِ (وَنَظِيرُ الْأَوَّلِ) أَيْ نَظِيرُ مَا قَالَ أَحَدُ مُدَّعِي الشِّرَاءِ لَا أَخْتَارُ الْأَخْذَ بَعْدَ قَضَاءِ الْقَاضِي لَهُمَا بِالْخِيَارِ (تَسْلِيمُهُ بَعْدَ الْقَضَاءِ)

ص: 251

وَلَوْ ذَكَرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَارِيخًا فَهُوَ لِلْأَوَّلِ مِنْهُمَا) لِأَنَّهُ أَثْبَتَ الشِّرَاءَ فِي زَمَانٍ لَا يُنَازِعُهُ فِيهِ أَحَدٌ فَانْدَفَعَ الْآخَرُ بِهِ (وَلَوْ وَقَّتَتْ إحْدَاهُمَا وَلَمْ تُؤَقِّتْ الْأُخْرَى فَهُوَ لِصَاحِبِ الْوَقْتِ) لِثُبُوتِ مِلْكِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَاحْتَمَلَ الْآخَرُ أَنْ يَكُونَ قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ فَلَا يَقْضِي لَهُ بِالشَّكِّ (وَإِنْ لَمْ يَذْكُرَا تَارِيخًا وَمَعَ أَحَدِهِمَا قَبْضٌ فَهُوَ أَوْلَى) وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ فِي يَدِهِ لِأَنَّ تَمَكُّنَهُ مِنْ قَبْضِهِ يَدُلُّ عَلَى سَبْقِ شِرَائِهِ،

أَيْ تَسْلِيمُ أَحَدِ الشَّفِيعَيْنِ الشُّفْعَةَ بَعْدَ قَضَاءِ الْقَاضِي بِهَا لَهُمَا حَيْثُ لَا يَكُونُ لِلْآخَرِ إلَّا أَخْذُ نِصْفِ الدَّارِ.

وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْهِدَايَةِ قَوْلَهُ وَالْعَوْدُ إلَى النِّصْفِ لِلْمُزَاحَمَةِ إلَى هُنَا، وَذُكِرَ فِي بَعْضِهَا وَلِهَذَا لَمْ يَقَعْ شَرْحُهُ فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ، وَوَقَعَ فِي بَعْضِهَا وَنَحْنُ اخْتَرْنَا شَرْحَنَا وَالتَّنْبِيهَ عَلَى عَدَمِ وُجُودِهِ فِي بَعْضِ النُّسَخِ (وَلَوْ ذَكَرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَارِيخًا فَهُوَ لِلْأَوَّلِ مِنْهُمَا) هَذَا لَفْظُ الْقُدُورِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ (لِأَنَّهُ أَثْبَتَ الشِّرَاءَ فِي زَمَانٍ لَا يُنَازِعُهُ فِيهِ أَحَدٌ) فَاسْتِحْقَاقُهُ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ (فَانْدَفَعَ الْآخَرُ بِهِ) إذْ قَدْ تَبَيَّنَ بِهِ أَنَّ الْآخَرَ اشْتَرَاهُ مِنْ غَيْرِ الْمَالِكِ فَكَانَ شِرَاؤُهُ بَاطِلًا (وَلَوْ وُقِّتَتْ إحْدَاهُمَا) أَيْ إحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ (وَلَمْ تُؤَقَّتْ الْأُخْرَى فَهُوَ لِصَاحِبِ الْوَقْتِ لِثُبُوتِ مِلْكِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَاحْتَمَلَ الْآخَرُ أَنْ يَكُونَ قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ فَلَا يَقْضِي لَهُ بِالشَّكِّ) أَقُولُ: فِيهِ شَيْءٌ وَهُوَ أَنَّ الْآخَرَ أَثْبَتَ الْمِلْكَ أَيْضًا، وَإِنَّمَا الشَّكُّ فِي أَنَّهُ قَبْلَ ذَلِكَ الْوَقْتِ أَوْ بَعْدَهُ فَاحْتِمَالُ قَبْلِيَّتِهِ يَقْتَضِي رُجْحَانَهُ عَلَى صَاحِبِ الْوَقْتِ وَاحْتِمَالُ بَعْدِيَّتِهِ يَقْتَضِي الْعَكْسَ، فَمَا الْوَجْهُ فِي الْعَمَلِ بِالِاحْتِمَالِ الثَّانِي عَلَى أَنَّ الشَّكَّ فِي أَنَّ أَحَدَهُمَا مُقَدَّمٌ عَلَى الْآخَرِ أَوْ مُؤَخَّرٌ عَنْهُ يَسْتَلْزِمُ الشَّكَّ أَيْضًا فِي أَنَّ الْآخَرَ مُقَدَّمٌ عَلَيْهِ أَوْ مُؤَخَّرٌ عَنْهُ فَلَمْ يَظْهَرْ الرُّجْحَانُ فِي جَانِبٍ، فَالْوَجْهُ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْكَافِي حَيْثُ قَالَ: وَلَوْ وُقِّتَتْ إحْدَاهُمَا وَلَمْ تُؤَقَّتْ الْأُخْرَى قُضِيَ بِهِ لِصَاحِبِ الْوَقْتِ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ لَهُ الْمِلْكُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَاَلَّذِي لَمْ يُؤَقِّتْ يَثْبُتُ مِلْكُهُ فِي الْحَالِ لِأَنَّ شِرَاءَهُ حَادِثٌ فَيُضَافُ حُدُوثُهُ إلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ مَا لَمْ يَثْبُتُ التَّارِيخُ فَكَانَ شِرَاءُ الْمُؤَقَّتِ سَابِقًا فَكَانَ أَوْلَى انْتَهَى.

(وَإِنْ لَمْ يَذْكُرَا تَارِيخًا وَمَعَ أَحَدِهِمَا قَبْضٌ فَهُوَ أَوْلَى) هَذَا لَفْظُ الْقُدُورِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَمَعْنَاهُ) أَيْ وَمَعْنَى قَوْلِهِ: وَمَعَ أَحَدِهِمَا قَبْضٌ (أَنَّهُ فِي يَدِهِ) أَيْ الْقَبْضُ ثَابِتٌ فِي يَدِهِ مُعَايَنَةً، وَإِنَّمَا احْتَاجَ إلَى التَّفْسِيرِ بِهَذَا لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَمَعَ أَحَدِهِمَا قَبْضٌ يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلُ عَلَى أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَثْبَتَ قَبْضَهُ بِالْبَيِّنَةِ فِيمَا مَضَى مِنْ الزَّمَانِ وَهُوَ فِي الْحَالِ فِي يَدِ الْبَائِعِ، وَجَازَ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ هُنَاكَ عَلَى خِلَافِ هَذَا حَيْثُ ذَكَرَ فِي الذَّخِيرَةِ ثُبُوتَ الْيَدِ لِأَحَدِ الْمُدَّعِيَيْنِ بِالْمُعَايَنَةِ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَغَيْرِهَا.

أَقُولُ: بَقِيَ هَاهُنَا كَلَامٌ، وَهُوَ أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ وَالْمَسْأَلَةَ السَّابِقَةَ الَّتِي كَانَتْ مَذْكُورَةً أَيْضًا فِي مُخْتَصَرِ الْقُدُورِيِّ وَهِيَ قَوْلُهُ وَلَوْ ذَكَرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَارِيخًا فَهُوَ لِلْأَوَّلِ مِنْهُمَا، وَكَذَا الْمَسْأَلَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ فِي الْبَيِّنِ وَهُوَ قَوْلُهُ وَلَوْ وُقِّتَتْ إحْدَاهُمَا وَلَمْ تُؤَقَّتْ الْأُخْرَى فَهُوَ لِصَاحِبِ الْوَقْتِ كُلُّهَا مِنْ شُعَبِ الْمَسْأَلَةِ الْمَارَّةِ هِيَ قَوْلُهُ: وَلَوْ ادَّعَى اثْنَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهُ اشْتَرَى مِنْهُ هَذَا الْعَبْدَ وَمُتَفَرَّعَاتُهَا يُرْشِدُ إلَيْهِ أَنَّهُ لَمْ يَعُدْ فِي شَيْءٍ مِنْهَا لَفْظُ الِادِّعَاءِ وَلَا ذَكَرَ إقَامَةَ الْبَيِّنَةِ كَمَا كَانَ الْأُسْلُوبُ الْمُطَّرِدُ عِنْدَ الِانْتِقَالِ إلَى مَسْأَلَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ. وَقَدْ قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي صَدْرِ الْمَسْأَلَةِ مَعْنَاهُ مِنْ صَاحِبِ الْيَدِ، فَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ وَضَعَ الْمَسْأَلَةَ فِيمَا إذَا كَانَ الْمُدَّعِي فِي يَدِ الْبَائِعِ. وَقَالَ هَاهُنَا: وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ فِي يَدِهِ: أَيْ فِي يَدِ أَحَدِ الْمُدَّعِيَيْنِ فَاقْتَضَى هَذَا أَنْ يَكُونَ الْمُدَّعِي فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَكَانَ مُخَالِفًا لِوَضْعِ الْمَسْأَلَةِ فَلْيُتَأَمَّلْ فِي التَّوْجِيهِ (لِأَنَّ تَمَكُّنَهُ مِنْ قَبْضِهِ يَدُلُّ عَلَى سَبْقِ شِرَائِهِ) تَعْلِيلُ الْمَسْأَلَةِ الْمَذْكُورَةِ. قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ يَتَوَقَّفُ عَلَى مُقَدِّمَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا أَنَّ الْحَادِثَ يُضَافُ إلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ. وَالثَّانِيَةُ أَنَّ " مَا " مَعَ الْبَعْدِ بَعْدِيَّةٌ زَمَانِيَّةٌ فَهُوَ بَعْدُ، فَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَقَبْضٌ لِقَابِضٍ وَشِرَاءُ غَيْرِهِ حَادِثَانِ فَيُضَافَانِ إلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ فَيَحْكُمُ بِثُبُوتِهِمَا فِي الْحَالِ، وَقَبْضُ الْقَابِضِ مَبْنِيٌّ عَلَى شِرَائِهِ وَمُتَأَخِّرٌ عَنْهُ ظَاهِرًا فَكَانَ بَعْدَ شِرَائِهِ، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ شِرَاءُ غَيْرِ الْقَابِضِ بَعْدَ شِرَاءِ الْقَابِضِ فَكَانَ شِرَاؤُهُ أَقْدَمَ تَارِيخًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ التَّارِيخَ الْمُتَقَدِّمَ أَوْلَى انْتَهَى.

أَقُولُ: قَدْ أَخَذَ هَذَا التَّحْقِيقَ مِنْ تَقْرِيرِ صَاحِبِ الْكَافِي وَعَلَيْهِ عَامَّةُ الشُّرَّاحِ، لَكِنْ لَا يَخْفَى عَلَى ذِي فِطْرَةٍ سَلِيمَةٍ أَنَّ مَا جَرَتْ عَلَيْهِ عَادَةُ الْمُصَنِّفِ فِي أُسْلُوبِ تَحْرِيرِهِ مِنْ إيجَازِ الْكَلَامِ

ص: 252

وَلِأَنَّهُمَا اسْتَوَيَا فِي الْإِثْبَاتِ فَلَا تُنْقَضُ الْيَدُ الثَّابِتَةُ بِالشَّكِّ، وَكَذَا لَوْ ذَكَرَ الْآخَرُ وَقْتًا لِمَا بَيَّنَّا.

وَتَنْقِيحِ الْمُرَادِ مَا يَأْبَى أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ ذَلِكَ، إذْ لَوْ أَرَادَ ذَلِكَ لَاكْتَفَى بِأَنْ قَالَ لِأَنَّ قَبْضَهُ يَدُلُّ عَلَى سَبْقِ شِرَائِهِ، إذْ يَحْصُلُ بِهِ مَا هُوَ مَدَارُ ذَلِكَ التَّحْقِيقِ فَلَا يَبْقَى لِذِكْرِ تَمَكُّنِهِ مِنْ قَبْضِهِ مَوْقِعٌ حَسَنٌ، فَعِنْدِي أَنَّ تَحْقِيقَ مُرَادِهِ هُوَ أَنَّ تَمَكُّنَ أَحَدِهِمَا مِنْ قَبْضِ الْمُدَّعِي يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ شِرَائِهِ إيَّاهُ سَابِقًا، إذْ لَوْ كَانَ شِرَاءُ غَيْرِ الْقَابِضِ إيَّاهُ سَابِقًا لَمَا تَمَكَّنَ الْقَابِضُ مِنْ قَبْضِهِ.

فَإِنَّهُ يَصِيرُ حِينَئِذٍ مِلْكًا لِغَيْرِ الْقَابِضِ، وَالْإِنْسَانُ لَا يَتَمَكَّنُ عَادَةً مِنْ قَبْضِ مِلْكِ الْغَيْرِ بَلْ إنَّمَا يَتَمَكَّنُ مِنْ قَبْضِ مِلْكِ نَفْسِهِ، فَلَمَّا تَمَكَّنَ الْقَابِضُ مِنْ قَبْضِهِ دَلَّ تَمَكُّنُهُ مِنْهُ عَلَى سَبْقِ شِرَائِهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَعَ كَوْنِهِ ظَاهِرًا مِنْ عِبَارَةِ الْمُصَنِّفِ بِلَا كُلْفَةٍ وَبِلَا تَوَقُّفٍ عَلَى بَسْطِ مُقَدِّمَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ سَتَظْهَرُ ثَمَرَتُهُ الْجَلِيلَةُ عَنْ قَرِيبٍ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى (وَلِأَنَّهُمَا اسْتَوَيَا فِي الْإِثْبَاتِ) أَيْ وَلِأَنَّ الْقَابِضَ وَغَيْرَ الْقَابِضِ اسْتَوَيَا فِي إثْبَاتِ الشِّرَاءِ بِالْبَيِّنَةِ، وَلِلْقَابِضِ أَمْرٌ مُرَجِّحٌ وَهُوَ يَدُهُ الثَّابِتَةُ بِالْمُعَايَنَةِ لِأَنَّ غَيْرَ الْقَابِضِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الْقَابِضِ فِي الْعَقْدِ فَيَنْقُضُ يَدَ الْقَابِضِ وَأَنْ يَكُونَ بَعْدَهُ فِي الْعَقْدِ فَلَا يَنْقُصُ يَدَهُ فَصَارَ أَمْرُهُ مَشْكُوكًا (فَلَا تُنْقَضُ الْيَدُ الثَّابِتَةُ بِالشَّكِّ). لَا يُقَالُ: بَيِّنَةُ الْخَارِجِ أَوْلَى مِنْ بَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ فَيَنْبَغِي أَنْ تَرْجِعَ بَيِّنَةُ غَيْرِ الْقَابِضِ. لِأَنَّا نَقُولُ: بَيِّنَةُ الْخَارِجِ إنَّمَا تَكُونُ أَوْلَى مِنْ بَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ إذَا ادَّعَيَا مِلْكًا مُطْلَقًا.

أَمَّا إذَا ادَّعَيَا الْمِلْكَ بِسَبَبٍ فَهُمَا سِيَّانِ نَصَّ عَلَيْهِ صَاحِبُ الْكَافِي هَاهُنَا. وَقَدْ صَرَّحُوا بِهِ فِي مَوَاضِعَ مِنْهَا مَا مَرَّ فِي أَوَائِلِ بَابِ الْيَمِينِ. قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَطُولِبَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ هَذِهِ وَبَيْنَ مَا إذَا ادَّعَيَا الشِّرَاءِ مِنْ اثْنَيْنِ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ وَأَحَدُهُمَا قَابِضٌ فَإِنَّ الْخَارِجَ هُنَاكَ أَوْلَى. وَالْجَوَابُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُدَّعِيَيْنِ ثَمَّةَ يَحْتَاجُ إلَى إثْبَاتِ الْمِلْكِ لِبَائِعِهِ أَوَّلًا، فَاجْتَمَعَ فِي حَقِّ الْبَائِعَيْنِ بَيِّنَةُ الْخَارِجِ وَذِي الْيَدِ فَكَانَ بَيِّنَةُ الْخَارِجِ أَوْلَى، وَهَاهُنَا لَيْسَ كَذَلِكَ انْتَهَى. وَقَدْ سَبَقَهُ إلَى هَذَا السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ صَاحِبُ النِّهَايَةِ، وَزَادَ فِي الْبَيَانِ حَيْثُ قَالَ: فَأَمَّا هَاهُنَا فَلَا يَحْتَاجَانِ إلَى إثْبَاتِ الْمِلْكِ، بَلْ هُوَ ثَابِتٌ بِتَصَادُقِهِمَا عَلَيْهِ، إنَّمَا حَاجَتُهُمَا إلَى إثْبَاتِ سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ عَلَيْهِ وَسَبَبُ الْقَابِضِ أَقْوَى لِتَأَكُّدِهِ بِالْقَبْضِ فَكَانَ هُوَ أَوْلَى انْتَهَى. أَقُولُ: فِي الْجَوَابِ بَحْثٌ، وَهُوَ أَنَّ الَّذِي يَثْبُتُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُدَّعِيَيْنِ الْمِلْكُ لَهُ ثَمَّةَ وَهُوَ بَائِعٌ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَيْسَ بِذِي يَدٍ بَلْ هُوَ خَارِجٌ كَغَيْرِ الْقَابِضِ مِنْ الْمُدَّعِيَيْنِ، وَكَوْنُ بَيِّنَةِ الْخَارِجِ أَوْلَى مِنْ بِينَةِ ذِي الْيَدِ فِيمَا إذَا أَثْبَتَا الْمِلْكَ لِأَنْفُسِهِمَا مُسَلَّمٌ، وَأَمَّا فِيمَا إذَا أَثْبَتَاهُ لِخَارِجٍ آخَرَ فَمَمْنُوعٌ؛ أَلَا يَرَى أَنَّ الدَّلِيلَ الَّذِي ذَكَرُوا لِإِثْبَاتِ كَوْنِ بَيِّنَةِ الْخَارِجِ أَوْلَى مِنْ بَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ، وَهُوَ أَنَّ بَيِّنَةَ الْخَارِجِ أَكْثَرُ إثْبَاتًا أَوْ إظْهَارًا، فَإِنَّ قَدْرَ مَا أَثْبَتَتْهُ الْيَدُ لَا تُثْبِتُهُ بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ دَلِيلُ مُطْلَقِ الْمِلْكِ انْتَهَى.

إنَّمَا يَجْرِي فِيمَا إذَا أَثْبَتَا الْمِلْكَ لِأَنْفُسِهِمَا لَا فِيمَا إذَا أَثْبَتَاهُ لِخَارِجٍ آخَرَ كَمَا لَا يَخْفَى فَتَأَمَّلْ (وَكَذَا لَوْ ذَكَرَ الْآخَرُ وَقْتًا) أَيْ لَوْ ذَكَرَ غَيْرُ الْقَابِضِ وَقْتًا كَانَ الْعَبْدُ لِذِي الْيَدِ أَيْضًا (لِمَا بَيَّنَّا) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: بَلْ عَامَّةُ الشُّرَّاحِ قَوْلُهُ لِمَا بَيَّنَّا إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ: لِأَنَّ تَمَكُّنَهُ مِنْ قَبْضِهِ يَدُلُّ عَلَى سَبْقِ شِرَائِهِ. أَقُولُ: يُرَدُّ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ حَمَلُوا قَوْلَ الْمُصَنِّفِ فِيمَا مَرَّ لِأَنَّ تَمَكُّنَهُ مِنْ قَبْضِهِ يَدُلُّ عَلَى سَبْقِ شِرَائِهِ عَلَى التَّحْقِيقِ الْمَبْنِيِّ عَلَى الْمُقَدِّمَتَيْنِ كَمَا مَرَّ، وَذَلِكَ التَّحْقِيقُ لَا يُجْرَى فِيمَا إذَا ذَكَرَ الْآخَرُ

ص: 253

إلَّا أَنْ يَشْهَدُوا أَنَّ شِرَاءَهُ كَانَ قَبْلَ شِرَاءِ صَاحِبِ الْيَدِ لِأَنَّ الصَّرِيحَ يَفُوقُ الدَّلَالَةَ.

. قَالَ: (وَإِنْ ادَّعَى أَحَدُهُمَا شِرَاءً وَالْآخَرُ هِبَةً وَقَبَضَا) مَعْنَاهُ مِنْ وَاحِدٍ (وَأَقَامَا بَيِّنَةً وَلَا تَارِيخَ مَعَهُمَا فَالشِّرَاءُ أَوْلَى) لِأَنَّ الشِّرَاءَ أَقْوَى لِكَوْنِهِ مُعَاوَضَةً مِنْ الْجَانِبَيْنِ، وَلِأَنَّهُ يُثْبِتُ الْمِلْكَ بِنَفْسِهِ وَالْمِلْكُ فِي الْهِبَةِ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَبْضِ،

وَقْتًا لِأَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ شِرَاءُ الْآخَرِ الَّذِي هُوَ غَيْرُ الْقَابِضِ فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ لَمْ يَبْقَ مَجَالٌ لَأَنْ يُضَافَ إلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ؛ لِأَنَّ إضَافَةَ الْحَادِثِ إلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ إنَّمَا تُتَصَوَّرُ فِيمَا إذَا لَمْ يَثْبُتْ التَّارِيخُ فَلَمْ تَحْصُلْ الْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى. وَلَمَّا لَمْ يَثْبُتْ تَارِيخُ قَبْضِ الْقَابِضِ أُضِيفَ إلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ الَّذِي هُوَ الْحَالُ فَلَمْ يَكُنْ شِرَاءُ غَيْرِ الْقَابِضِ بَعْدَ شِرَاءِ الْقَابِض فَلَمْ تَحْصُلْ الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ.

وَأَمَّا شِرَاءُ الْقَابِضِ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ سَابِقًا عَلَى قَبْضِهِ فِي الظَّاهِرِ حَمْلًا لِفِعْلِ الْمُسْلِمِ عَلَى الصَّلَاحِ دُونَ الْغَصْبِ كَمَا ذَكَرُوا فِيمَا مَرَّ، إلَّا أَنَّهُ لَيْسَ بِمُتَعَيِّنِ السَّبْقِ عَلَى الْوَقْتِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْآخَرُ، بَلْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ فَلَا يَقْضِي بِالشَّكِّ مِثْلُ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِيمَا إذَا لَمْ يُوَقِّتْ أَحَدُهُمَا وَوَقَّتَ الْآخَرُ وَلَمْ يَكُنْ لِأَحَدِهِمَا قَبْضٌ فَالصَّوَابُ أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ فِيمَا مَرَّ؛ لِأَنَّ تَمَكُّنَهُ مِنْ قَبْضِهِ يَدُلُّ عَلَى سَبْقِ شِرَائِهِ عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَاهُ هُنَاكَ، ثُمَّ يُجْعَلُ قَوْلُهُ هَاهُنَا لِمَا بَيَّنَّا إشَارَةً إلَى ذَلِكَ الْقَوْلِ، إذْ الْمَعْنَى الْمَذْكُورُ يَتَمَشَّى فِيمَا نَحْنُ فِيهِ أَيْضًا كَمَا لَا يَخْفَى، وَهَذَا هُوَ الثَّمَرَةُ الَّتِي أَشَرْنَا إلَيْهَا فِيمَا مَرَّ آنِفًا (إلَّا أَنْ يَشْهَدُوا) أَيْ شُهُودُ الْخَارِجِ (أَنَّ شِرَاءَهُ) أَيْ شِرَاءَ الْخَارِجِ كَانَ (قَبْلَ شِرَاءِ صَاحِبِ الْيَدِ) فَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْخَارِجُ أَوْلَى (لِأَنَّ الصَّرِيحَ يَفُوقُ الدَّلَالَةَ) يَعْنِي أَنَّ تَقَدُّمَ عَقْدِ الْخَارِجِ حِينَئِذٍ يَثْبُتُ بِتَصْرِيحِ شُهُودِهِ. وَتَقَدُّمُ عَقْدِ الْآخَرِ بِالدَّلَالَةِ حَيْثُ دَلَّ تَمَكُّنُهُ مِنْ قَبْضِهِ عَلَى سَبْقِ شِرَاءِهِ كَمَا مَرَّ. وَلَا عِبْرَةَ لِلدَّلَالَةِ فِي مُقَابَلَةِ التَّصْرِيحِ

(قَالَ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ: (وَإِنْ ادَّعَى أَحَدُهُمَا شِرَاءً وَالْآخَرُ هِبَةً وَقَبْضًا) قَالَ الْمُصَنِّفُ (مَعْنَاهُ مِنْ وَاحِدٍ) أَيْ مَعْنَى مَا قَالَهُ الْقُدُورِيُّ ادَّعَى أَحَدُهُمَا شِرَاءً وَالْآخَرُ هِبَةً وَقَبْضًا مِنْ شَخْصٍ وَاحِدٍ، وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِهِ احْتِرَازًا عَمَّا إذَا كَانَ ذَلِكَ مِنْ اثْنَتَيْنِ، فَإِنَّ الْمُدَّعِيَيْنِ حِينَئِذٍ سَوَاءٌ وَلَا أَوْلَوِيَّةَ لِلشِّرَاءِ عَلَى الْهِبَةِ كَمَا سَيَجِيءُ بَعْدُ، ثُمَّ إنَّ تَمَامَ لَفْظِ الْقُدُورِيِّ (وَأَقَامَا بَيِّنَةً وَلَا تَارِيخَ مَعَهُمَا فَالشِّرَاءُ أَوْلَى) وَكَذَا الْحُكْمُ إذَا أَرَّخَا وَتَارِيخُهُمَا عَلَى السَّوَاءِ كَمَا ذَكَرَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ نَقْلًا عَنْ مَبْسُوطِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ (لِأَنَّ الشِّرَاءَ أَقْوَى) أَيْ مِنْ الْهِبَةِ (لِكَوْنِهِ مُعَاوَضَةً مِنْ الْجَانِبَيْنِ) وَالْهِبَةُ تَبَرُّعٌ يُوجِبُ الِاسْتِحْقَاقَ مِنْ جَانِبٍ فَكَانَتْ بَيِّنَةُ الشِّرَاءِ مُثْبَتَةً لِلْأَكْثَرِ فَكَانَتْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَاتِ تَتَرَجَّحُ بِكَثْرَةِ الْإِثْبَاتِ (وَلِأَنَّهُ يُثْبِتُ الْمِلْكَ بِنَفْسِهِ) عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: لِكَوْنِهِ مُعَاوَضَةً مِنْ الْجَانِبَيْنِ لَا عَلَى قَوْلِهِ: لِأَنَّ الشِّرَاءَ أَقْوَى: أَيْ وَلِأَنَّ الشِّرَاءَ يُثْبِتُ الْمِلْكَ بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى شَيْءٍ (وَالْمِلْكُ فِي الْهِبَةِ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَبْضِ) وَلَا شَكَّ أَنَّ مَا يُثْبِتُ الْمِلْكَ بِذَاتِهِ أَقْوَى مِمَّا يُثْبِتُهُ بِوَاسِطَةِ الْغَيْرِ، فَكَانَ هَذَا دَلِيلًا آخَرَ عَلَى كَوْنِ الشِّرَاءِ أَقْوَى مِنْ الْهِبَةِ، يَشْهَدُ بِذَلِكَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ فِيمَا سَيَأْتِي لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْقُوَّةِ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَيُثْبِتُ الْمِلْكَ بِنَفْسِهِ انْتَهَى.

قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ: لِأَنَّهُ لِكَوْنِهِ مُعَاوَضَةً مِنْ الْجَانِبَيْنِ كَانَ أَقْوَى، وَلِأَنَّ الشِّرَاءَ يُثْبِتُ الْمِلْكَ بِنَفْسِهِ وَالْهِبَةُ لَا تُثْبِتُهُ إلَّا بِالْقَبْضِ فَكَانَ الشِّرَاءُ وَالْهِبَةُ ثَابِتَيْنِ مَعًا، وَالشِّرَاءُ يُثْبِتُ الْمِلْكَ دُونَ الْهِبَةِ لِتَوَقُّفِهَا عَلَى الْقَبْضِ انْتَهَى. أَقُولُ: الظَّاهِرُ مِنْ تَحْرِيرِهِ هَذَا كَمَا تَرَى أَنَّهُ جَعَلَ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ وَلِأَنَّهُ يُثْبِتُ الْمِلْكَ بِنَفْسِهِ مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ: لِأَنَّ الشِّرَاءَ أَقْوَى، فَجَعَلَ كُلًّا مِنْهُمَا دَلِيلًا مُسْتَقِلًّا عَلَى أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ، وَهُوَ أَوْلَوِيَّةُ الشِّرَاءِ كَمَا هُوَ صَرِيحُ كَلَامِ صَاحِبِ الْكَافِي هَاهُنَا، لَكِنْ لَا يَخْفَى عَلَى ذِي مِسْكَةٍ أَنَّ قَوْلَ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ بَعِيدٌ هَذَا، وَقَوْلُهُ: لِمَا بَيَّنَّا أَشَارَ إلَى مَا ذَكَرَ مِنْ الْوَجْهَيْنِ فِي أَنَّ الشِّرَاءَ أَقْوَى انْتَهَى.

ظَاهِرُ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنْ يَكُونَ

ص: 254

وَكَذَا الشِّرَاءُ وَالصَّدَقَةُ مَعَ الْقَبْضِ لِمَا بَيَّنَّا (وَالْهِبَةُ وَالْقَبْضُ وَالصَّدَقَةُ مَعَ الْقَبْضِ سَوَاءٌ حَتَّى يَقْضِيَ بَيْنَهُمَا) لِاسْتِوَائِهِمَا فِي وَجْهِ التَّبَرُّعِ، وَلَا تَرْجِيحَ بِاللُّزُومِ لِأَنَّهُ يَرْجِعُ إلَى الْمَآلِ وَالتَّرْجِيحُ بِمَعْنًى قَائِمٍ فِي الْحَالِ، وَهَذَا فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ صَحِيحٌ، وَكَذَا فِيمَا يَحْتَمِلُهَا عِنْدَ الْبَعْضِ لِأَنَّ الشُّيُوعَ طَارِئٌ. وَعِنْدَ الْبَعْضِ لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ تَنْفِيذُ الْهِبَةِ فِي الشَّائِعِ وَصَارَ كَإِقَامَةِ الْبَيِّنَتَيْنِ عَلَى الِارْتِهَانِ وَهَذَا أَصَحُّ.

قَوْلُ الْمُصَنِّفِ وَلِأَنَّهُ يُثْبِتُ الْمِلْكَ إلَخْ مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ لِكَوْنِهِ مُعَاوَضَةً مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَيَكُونُ كُلٌّ مِنْهَا وَجْهًا مُسْتَقِلًّا لِكَوْنِ الشِّرَاءِ أَقْوَى كَمَا قَرَّرْنَاهُ (فِيمَا قَبْلُ، فَبَيْنَ كَلَامَيْهِ تَدَافُعٌ لَا يَخْفَى وَكَذَا الشِّرَاءُ وَالصَّدَقَةُ مَعَ الْقَبْضِ) أَيْ كَذَا الْحُكْمُ إذَا ادَّعَى أَحَدُهُمَا الشِّرَاءَ وَالْآخَرُ الصَّدَقَةَ مَعَ الْقَبْضِ (لِمَا بَيَّنَّا) إشَارَةً إلَى مَا ذَكَرَ فِي الْمَسْأَلَةِ السَّابِقَةِ مِنْ الْوَجْهَيْنِ لِكَوْنِ الشِّرَاءِ أَقْوَى (وَالْهِبَةُ وَالْقَبْضُ وَالصَّدَقَةُ مَعَ الْقَبْضِ سَوَاءٌ) يَعْنِي إذَا ادَّعَى أَحَدُهُمَا هِبَةً وَقَبْضًا وَالْآخَرُ صَدَقَةً وَقَبْضًا فَهُمَا سَوَاءٌ (حَتَّى يَقْضِيَ بَيْنَهُمَا) أَيْ نِصْفَيْنِ، كَذَا فِي الْكَافِي وَغَيْرِهِ (لِاسْتِوَائِهِمَا فِي وَجْهِ التَّبَرُّعِ) فَإِنْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ التَّسَاوِيَ فَإِنَّ الصَّدَقَةَ لَازِمَةٌ لَا تَقْبَلُ الرُّجُوعَ دُونَ الْهِبَةِ، أَجَابَ بِقَوْلِهِ:(وَلَا تَرْجِيحَ بِاللُّزُومِ لِأَنَّهُ يَرْجِعُ إلَى الْمَآلِ) أَيْ يَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي ثَانِي الْحَالِ، إذْ اللُّزُومُ عِبَارَةٌ عَنْ عَدَمِ صِحَّةِ الرُّجُوعِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ (وَالتَّرْجِيحُ بِمَعْنًى قَائِمٍ فِي الْحَالِ) أَيْ التَّرْجِيحُ إنَّمَا يَقَعُ بِمَعْنًى قَائِمٍ فِي الْحَالِ لَا بِمَعْنًى يَرْجِعُ إلَى الْمَآلِ.

وَأُجِيبُ أَيْضًا بِأَنَّ امْتِنَاعَ الرُّجُوعِ فِي الصَّدَقَةِ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِهَا وَهُوَ الثَّوَابُ لَا لِقُوَّةِ السَّبَبِ، وَلِهَذَا لَوْ وَقَعَتْ الْهِبَةُ لِذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ لَمْ يَرْجِعْ فِيهَا أَيْضًا لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ وَهُوَ صِلَةُ الرَّحِمِ (وَهَذَا) أَيْ الْقَضَاءُ بِالتَّنْصِيفِ بَيْنَهُمَا (فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ) كَالْحَمَامِ وَالرَّحَى (صَحِيحٌ، وَكَذَا فِيمَا يَحْتَمِلُهُ) أَيْ فِيمَا يَحْتَمِلُ الِانْقِسَامَ كَالدَّارِ وَالْبُسْتَانِ (عِنْدَ الْبَعْضِ لِأَنَّ الشُّيُوعَ طَارِئٌ) يَعْنِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَثْبَتَ قَبْضَهُ فِي الْكُلِّ، إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَسْلَمْ لَهُ الْبَعْضُ لِمُزَاحَمَةِ صَاحِبِهِ فَكَانَ الشُّيُوعُ طَارِئًا وَذَا لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ (وَعِنْدَ الْبَعْضِ لَا يَصِحُّ) وَلَا يَقْضِي لَهُمَا بِشَيْءٍ (لِأَنَّهُ تَنْفِيذُ الْهِبَةِ فِي الشَّائِعِ) فَصَارَ كَإِقَامَةِ الْبَيِّنَتَيْنِ عَلَى الِارْتِهَانِ. قِيلَ هَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ.

أَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَقْضِيَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالنِّصْفِ عَلَى قِيَاسِ هِبَةِ الدَّارِ لِرَجُلَيْنِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ

ص: 255

قَالَ (وَإِذَا ادَّعَى أَحَدُهُمَا الشِّرَاءَ وَادَّعَتْ امْرَأَتُهُ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا عَلَيْهِ فَهُمَا سَوَاءٌ) لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْقُوَّةِ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ يُثْبِتُ الْمِلْكَ بِنَفْسِهِ وَهَذَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: الشِّرَاءُ أَوْلَى وَلَهَا عَلَى الزَّوْجِ الْقِيمَةُ لِأَنَّهُ أَمْكَنَ الْعَمَلُ بِالْبَيِّنَتَيْنِ بِتَقْدِيمِ الشِّرَاءِ، إذْ التَّزَوُّجُ عَلَى عَيْنٍ مَمْلُوكَةٍ لِلْغَيْرِ صَحِيحٌ وَتَجِبُ قِيمَتُهُ عِنْدَ تَعَذُّرِ تَسْلِيمِهِ

لَا يَصِحُّ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّا لَوْ قَضَيْنَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالنِّصْفِ فَإِنَّمَا نَقْضِي لَهُ بِالْعَقْدِ الَّذِي شَهِدَ بِهِ شُهُودُهُ، وَعِنْدَ اخْتِلَافِ الْعَقْدَيْنِ لَا تَجُوزُ الْهِبَةُ لِرَجُلَيْنِ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي، وَتَمَكُّنُ الشُّيُوعِ فِي الْمِلْكِ الْمُسْتَفَادِ بِالْهِبَةِ مَانِعٌ صِحَّتَهَا، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ وَغَيْرِهَا

(قَالَ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ (وَإِذَا ادَّعَى أَحَدُهُمَا الشِّرَاءَ) أَيْ شِرَاءَ شَيْءٍ كَعَبْدٍ مَثَلًا مِنْ رَجُلٍ (وَادَّعَتْ امْرَأَتُهُ أَنَّهُ) أَيْ ذَلِكَ الرَّجُلَ (تَزَوَّجَهَا عَلَيْهِ) أَيْ تَزَوَّجَ الْمَرْأَةَ الْمُدَّعِيَةَ عَلَى ذَلِكَ الْمُدَّعِي (فَهُمَا سَوَاءٌ) أَيْ يَقْضِي بِذَلِكَ الْمُدَّعِي بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ (لِاسْتِوَائِهَا) أَيْ لِاسْتِوَاءِ الشِّرَاءِ وَالنِّكَاحِ (فِي الْقُوَّةِ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ يُثْبِتُ الْمِلْكَ بِنَفْسِهِ) هَذَا إذَا لَمْ يُؤَرِّخَا أَوْ أَرَّخَا وَتَارِيخُهُمَا عَلَى السَّوَاءِ، أَمَّا إذَا أَرَّخَا وَتَارِيخُ أَحَدِهِمَا أَسْبَقُ فَالْأَسْبَقُ أَوْلَى، كَذَا فِي غَايَةِ الْبَيَانِ نَقْلًا عَنْ مَبْسُوطِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ خُوَاهَرْ زَادَهْ. وَعَنْ هَذَا قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي تَقْرِيرِ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ: إذَا ادَّعَى أَحَدُهُمَا الشِّرَاءَ وَادَّعَتْ امْرَأَتُهُ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا عَلَيْهِ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ وَلَمْ يُؤَرِّخَا أَوْ أَرَّخَا وَتَارِيخُهُمَا عَلَى السَّوَاءِ يَقْضِي بِالْعَبْدِ بَيْنَهُمَا وَانْتَهَى.

وَفِي التَّبْيِينِ لِلْإِمَامِ الزَّيْلَعِيِّ: ثُمَّ لِلْمَرْأَةِ نِصْفُ الْعَيْنِ وَنِصْفُ قِيمَةِ الْعَيْنِ عَلَى الزَّوْجِ لِاسْتِحْقَاقِ الْآخَرِ نِصْفَ الْمُسَمَّى وَلِلْمُشْتَرِي نِصْفُ الْعَيْنِ وَيَرْجِعُ بِنِصْفِ الثَّمَنِ إنْ شَاءَ، وَإِنْ شَاءَ فَسَخَ الْعَقْدَ لِتَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ عَلَيْهِ انْتَهَى (وَهَذَا) أَيْ الْحُكْمُ الْمَذْكُورُ وَهُوَ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا (عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: الشِّرَاءُ أَوْلَى وَلَهَا عَلَى الزَّوْجِ الْقِيمَةُ) أَيْ وَلِلْمَرْأَةِ عَلَى الزَّوْجِ تَمَامُ قِيمَةِ الْعَيْنِ الْمُدَّعَاةِ (لِأَنَّهُ أَمْكَنَ الْعَمَلُ بِالْبَيِّنَتَيْنِ بِتَقْدِيمِ الشِّرَاءِ) يَعْنِي أَنَّ الْعَمَلَ بِالْبَيِّنَاتِ مَهْمَا أَمْكَنَ وَاجِبٌ لِكَوْنِهَا حُجَّةً مِنْ حُجَجِ الشَّرْعِ، فَإِنْ قَدَّمْنَا النِّكَاحَ بَطَلَ الْعَمَلُ بِهَا لِأَنَّ الشِّرَاءَ بَعْدَهُ يَبْطُلُ إذَا لَمْ تُجِزْهُ الْمَرْأَةُ، وَإِنْ قَدَّمْنَا الشِّرَاءَ صَحَّ الْعَمَلُ بِهَا (إذْ التَّزَوُّجُ عَلَى عَيْنٍ مَمْلُوكَةٍ لِلْغَيْرِ صَحِيحٌ وَيَجِبُ قِيمَتُهُ عِنْدَ تَعَذُّرِ تَسْلِيمِهِ) بِأَنْ لَا يُجِيزَهُ صَاحِبُهُ فَتَعَيَّنَ تَقْدِيمُ الشِّرَاءِ. أَقُولُ: هَاهُنَا إشْكَالٌ ظَاهِرٌ، وَهُوَ أَنَّ الْعَمَلَ بِالْبَيِّنَتَيْنِ بِتَقْدِيمِ الشِّرَاءِ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ فِيمَا إذَا لَمْ يُؤَرِّخَا. وَأَمَّا إذَا أَرَّخَا وَتَارِيخُهُمَا عَلَى السَّوَاءِ فَلَا كَمَا لَا يَخْفَى. وَالْمَسْأَلَةُ تَعُمُّ الصُّورَتَيْنِ كَمَا مَرَّ آنِفًا فَكَيْفَ يَتِمُّ خِلَافُ مُحَمَّدٍ. وَدَلِيلُهُ الْمَذْكُورُ فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ وَلَمْ يُرْوَ عَنْ أَحَدٍ تَخْصِيصُ الْخِلَافِ بِالصُّورَةِ الْأُولَى، وَقَدْ تَمَحَّلَ بَعْضُهُمْ فِي دَفْعِهِ فَقَالَ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ مَعْنَى الشَّهَادَةِ عَلَى التَّارِيخَيْنِ الْمُتَّحِدَيْنِ أَنْ يَقُولَ الشُّهُودُ مَثَلًا: كَانَ الْعَقْدُ فِي أَوَّلِ الظُّهْرِ مِنْ

ص: 256

وَإِذَا ادَّعَى أَحَدُهُمَا رَهْنًا وَقَبْضًا وَالْآخَرُ هِبَةً وَقَبْضًا وَأَقَامَا بَيِّنَةً فَالرَّهْنُ أَوْلَى) وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ، وَفِي الْقِيَاسِ الْهِبَةُ أَوْلَى لِأَنَّهَا تُثْبِتُ الْمِلْكَ وَالرَّهْنُ لَا يُثْبِتُهُ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْمَقْبُوضَ بِحُكْمِ الرَّهْنِ مَضْمُونٌ وَبِحُكْمِ الْهِبَةِ غَيْرُ مَضْمُونٍ وَعَقْدُ الضَّمَانِ أَقْوَى. بِخِلَافِ الْهِبَةِ بِشَرْطِ الْعِوَضِ لِأَنَّهُ بَيْعُ انْتِهَاءٍ وَالْبَيْعُ أَوْلَى مِنْ الرَّهْنِ لِأَنَّهُ عَقْدُ ضَمَانٍ يُثْبِتُ الْمِلْكَ صُورَةً وَمَعْنًى، وَالرَّهْنُ لَا يُثْبِتُهُ إلَّا عِنْدَ الْهَلَاكِ مَعْنًى لَا صُورَةً فَكَذَا الْهِبَةُ بِشَرْطِ الْعِوَضِ

(وَإِنْ أَقَامَ الْخَارِجَانِ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمِلْكِ وَالتَّارِيخِ فَصَاحِبُ التَّارِيخِ الْأَقْدَمِ أَوْلَى) لِأَنَّهُ أَثْبَتَ أَنَّهُ أَوَّلُ الْمَالِكَيْنِ فَلَا يَتَلَقَّى الْمِلْكَ إلَّا مِنْ جِهَتِهِ

الْيَوْمِ الْفُلَانِيِّ، وَظَاهِرٌ أَنَّهُ يَسَعُ فِيهِ الْعُقُودَ الْمُتَعَدِّدَةَ عَلَى التَّقَدُّمِ وَالتَّأَخُّرِ إذْ لَمْ نَرَ شَاهِدَيْنِ يَشْهَدَانِ عَلَى وَقْتٍ مُضَيَّقٍ لَا يَسَعُ فِيهِ عَقْدَانِ انْتَهَى. فَتَأَمَّلْ.

قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَذَكَرَ فِي الْأَسْرَارِ جَوَابَ أَبِي يُوسُفَ عَمَّا قَالَهُ مُحَمَّدٌ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ ذِكْرِ السَّبَبِ مِلْكُ الْعَيْنِ، وَالنِّكَاحُ إذَا تَأَخَّرَ لَمْ يُوجِبْ مِلْكَ الْمُسَمَّى كَمَا إذَا تَأَخَّرَ الشِّرَاءُ فَهُمَا سَوَاءٌ فِي حَقِّ تَمَلُّكِ الْعَيْنِ انْتَهَى. وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: فِيهِ بَحْثٌ، إذْ لَا يَنْدَفِعُ بِهَذَا مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ، فَإِنَّهُ إذَا تَأَخَّرَ النِّكَاحُ ثَبَتَ مِلْكُ الْعَيْنِ فِي الْمُسَمَّى لِمُدَّعِي الشِّرَاءِ صُورَةً وَمَعْنًى وَلِمُدَّعِيهِ الْمَهْرُ مَعْنًى فَوُجِدَ الْعَمَلُ بِالْبَيِّنَتَيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، بِخِلَافِ مَا إذَا سَوَّيْنَاهُمَا انْتَهَى.

أَقُولُ: هَذَا الْبَحْثُ سَاقِطٌ لِأَنَّهُ لَا يُثْبِتُ مِلْكَ الْعَيْنِ لِمُدَّعِيَةِ الْمَهْرِ عِنْدَ تَأَخُّرِ النِّكَاحِ لَا صُورَةً وَلَا مَعْنًى، إذْ لَمْ نَسْمَعْ جَعْلَ مِلْكِ الْقِيمَةِ مِلْكَ الْعَيْنِ لَا بِحَسَبِ اللُّغَةِ وَلَا بِحَسَبِ الْعُرْفِ. وَلَئِنْ سَلِمَ ذَلِكَ فَلِأَبِي يُوسُفَ أَنْ يَقُولَ: الْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ السَّبَبِ مِلْكُ الْعَيْنِ صُورَةً، إذْ لَوْلَاهُ لَاكْتَفَى فِي الدَّعْوَى بِذِكْرِ مَبْلَغِ الْقِيمَةِ فَهُمَا سَوَاءٌ فِي حَقِّ ذَلِكَ

(وَإِنْ ادَّعَى أَحَدُهُمَا رَهْنًا وَقَبْضًا وَالْآخَرُ هِبَةً وَقَبْضًا وَأَقَامَا بَيِّنَةً فَالرَّهْنُ أَوْلَى) هَذَا لَفْظُ الْقُدُورِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ قَالَ الْمُصَنِّفُ: (وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ، وَفِي الْقِيَاسِ الْهِبَةُ أَوْلَى) وَهُوَ رِوَايَةُ كِتَابِ الشَّهَادَاتِ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ. وَجْهُ الْقِيَاسِ قَوْلُهُ:(لِأَنَّهَا) أَيْ لِأَنَّ الْهِبَةَ (تُثْبِتُ الْمِلْكَ) أَيْ مِلْكَ الْعَيْنِ (وَالرَّهْنَ لَا يُثْبِتُهُ) فَكَانَتْ بَيِّنَةُ الْهِبَةِ أَكْثَرَ إثْبَاتًا فَهِيَ أَوْلَى (وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْمَقْبُوضَ بِحُكْمِ الرَّهْنِ مَضْمُونٌ) وَلِهَذَا قَالُوا: إنَّ الرَّهْنَ مَضْمُونٌ بِالْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ الدَّيْنِ (وَبِحُكْمِ الْهِبَةِ) أَيْ الْمَقْبُوضُ بِحُكْمِ الْهِبَةِ (غَيْرُ مَضْمُونٍ وَعَقْدُ الضَّمَانِ أَقْوَى) أَيْ مِنْ عَقْدِ التَّبَرُّعِ، وَلِأَنَّ بَيِّنَةَ الرَّهْنِ تُثْبِتُ بَدَلَيْنِ الْمَرْهُونَ وَالدَّيْنَ، وَالْهِبَةُ لَا تُثْبِتُ إلَّا بَدَلًا وَاحِدًا فَكَانَتْ أَكْثَرَ إثْبَاتًا فَكَانَتْ أَوْلَى، كَذَا فِي الشُّرُوحِ (بِخِلَافِ الْهِبَةِ بِشَرْطِ الْعِوَضِ) يَعْنِي لَا تُرَدُّ الْهِبَةُ بِشَرْطِ الْعِوَضِ نَقْضًا حَيْثُ كَانَتْ أَوْلَى مِنْ الرَّهْنِ (لِأَنَّهُ بَيْعُ انْتِهَاءٍ) أَيْ لِأَنَّ الْهِبَةَ بَيْعُ انْتِهَاءٍ، وَتَذْكِيرُ الضَّمِيرِ الرَّاجِعِ إلَى الْهِبَةِ بِاعْتِبَارِ الْخَبَرِ أَوْ بِتَأْوِيلِ الْعَقْدِ (وَالْبَيْعُ أَوْلَى مِنْ الرَّهْنِ لِأَنَّهُ) أَيْ الْبَيْعَ (عَقْدُ ضَمَانٍ يُثْبِتُ الْمِلْكَ صُورَةً وَمَعْنًى، وَالرَّهْنُ لَا يُثْبِتُهُ إلَّا عِنْدَ الْهَلَاكِ مَعْنًى لَا صُورَةً هَكَذَا الْهِبَةُ بِشَرْطِ الْعِوَضِ) أَيْ فَكَذَا الْهِبَةُ بِشَرْطِ الْعِوَضِ أَوْلَى مِنْ الرَّهْنِ لِكَوْنِهَا بَيْعًا انْتِهَاءً. فَإِنْ قُلْت: التَّرْجِيحُ بِمَعْنًى قَائِمٍ فِي الْحَالِ، وَالْهِبَةُ بِشَرْطِ الْعِوَضِ بَيْعٌ انْتِهَاءً تَبَرُّعٌ ابْتِدَاءً فَتَكُونُ كَالْهِبَةِ مَعَ الصَّدَقَةِ. قُلْت: نَعَمْ هِيَ مُعَاوَضَةٌ انْتِهَاءً، وَلَكِنَّ ذَلِكَ الْمَعْنَى مَقْصُودُ الْعَاقِدِ فِي الِابْتِدَاءِ عَادَةً فَتَكُونُ مُعَاوَضَةً ابْتِدَاءً نَظَرًا إلَى الْمَقْصُودِ، بِخِلَافِ اللُّزُومِ فِي الصَّدَقَةِ فَإِنَّهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ لِلْمُتَصَدِّقِ فَلَا يَكُونُ اللُّزُومُ قَائِمًا فِي الْحَالِ، لَا نَظَرًا إلَى الْعَقْدِ وَلَا إلَى الْعَاقِدِ وَمَقْصُودُهُ كَذَا فِي شَرْحِ تَاجِ الشَّرِيعَةِ

(وَإِنْ أَقَامَ الْخَارِجَانِ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمِلْكِ وَالتَّارِيخِ فَصَاحِبُ التَّارِيخِ الْأَقْدَمِ أَوْلَى) هَذَا لَفْظُ الْقُدُورِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِهِ (لِأَنَّهُ) أَيْ لِأَنَّ صَاحِبَ التَّارِيخِ الْأَقْدَمِ (أَثْبَتَ أَنَّهُ أَوَّلُ الْمَالِكَيْنِ فَلَا يُتَلَقَّى الْمِلْكُ إلَّا مِنْ جِهَتِهِ

ص: 257

وَلَمْ يَتَلَقَّ الْآخَرُ مِنْهُ.

قَالَ: (وَلَوْ ادَّعَيَا الشِّرَاءَ مِنْ وَاحِدٍ) مَعْنَاهُ مِنْ غَيْرِ صَاحِبِ الْيَدِ

وَلَمْ يَتَلَقَّ الْآخَرُ مِنْهُ) أَيْ الْفَرْضُ أَنَّ الْآخَرَ لَمْ يَتَلَقَّ مِنْهُ هَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَوْلُ أَبِي يُوسُفَ آخِرًا، وَبِهِ قَالَ مُحَمَّدٌ أَوَّلًا، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ آخِرًا فَيَقْضِي بَيْنَهُمَا وَلَا يَكُونُ لِلتَّارِيخِ عِبْرَةٌ، وَإِنْ أَرَّخَ أَحَدُهُمَا وَلَمْ يُؤَرِّخْ الْآخَرُ فَفِي النَّوَادِرِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَقْضِي بَيْنَهُمَا لِأَنَّهُ لَا عِبْرَةَ لِلتَّارِيخِ عِنْدَهُ حَالَةَ الِانْفِرَادِ فِي دَعْوَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَاتِ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ يَقْضِي لِلَّذِي أَرَّخَ، وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ يَقْضِي لِلَّذِي لَمْ يُؤَرِّخْ لِأَنَّهُ يَدَّعِي أَوَّلِيَّةَ الْمِلْكِ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ نَقْلًا عَنْ الذَّخِيرَةِ، وَسَيَأْتِي تَمَامُ بَيَانِهِ فِي الْكِتَابِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى

(قَالَ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ (وَلَوْ ادَّعَيَا الشِّرَاءَ مِنْ وَاحِدٍ) قَالَ الْمُصَنِّفُ (مَعْنَاهُ مِنْ غَيْرِ صَاحِبِ الْيَدِ) أَيْ مَعْنَى قَوْلِهِ مِنْ وَاحِدٍ مِنْ غَيْرِ صَاحِبِ الْيَدِ. قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: لَيْسَ فِي تَقْيِيدِهِ بِقَوْلِهِ مَعْنَاهُ مِنْ غَيْرِ صَاحِبِ الْيَدِ زِيَادَةُ فَائِدَةٍ، فَإِنَّ فِي هَذَا الْحُكْمِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَيْهِ وَفِي سَائِرِ الْأَحْكَامِ لَا يَتَفَاوَتُ أَنْ يَكُونَ دَعْوَاهُمَا الشِّرَاءَ مِنْ صَاحِبِ الْيَدِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ الْبَائِعُ وَاحِدًا لِأَنَّهُ ذَكَرَ فِي الذَّخِيرَةِ: دَارٌ فِي يَدِ رَجُلٍ ادَّعَاهَا رَجُلَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْ صَاحِبِ الْيَدِ بِكَذَا، فَإِنْ أَرَّخَا وَتَارِيخُهُمَا عَلَى السَّوَاءِ أَوْ لَمْ يُؤَرِّخَا فَالدَّارُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ لِأَنَّهُمَا اسْتَوَيَا فِي الدَّعْوَى وَالْحُجَّةِ، وَإِنْ أَرَّخَا وَتَارِيخُ أَحَدِهِمَا أَسْبَقُ فَالسَّابِقُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ شِرَاءَهُ فِي وَقْتٍ لَا يُنَازِعُهُ فِيهِ أَحَدٌ فَيَثْبُتُ شِرَاؤُهُ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَيَتَبَيَّنُ أَنَّ الْآخَرَ اشْتَرَاهَا مِنْ غَيْرِ الْمَالِكِ. وَإِنْ أَرَّخَ أَحَدُهُمَا وَلَمْ يُؤَرِّخْ الْآخَرُ فَالْمُؤَرِّخُ أَوْلَى تَقْلِيلًا لِنَقْصِ مَا هُوَ ثَابِتٌ؛ لِأَنَّا إذَا جَعَلْنَا الْمُؤَرِّخَ أَوْلَى فَقَدْ نَقَضْنَا شِرَاءَ الْآخَرِ لَا غَيْرُ. وَأَمَّا إذَا قَضَيْنَا لِلَّذِي لَا تَارِيخَ لَهُ لَنَقَضْنَا عَلَى صَاحِبِ التَّارِيخِ شِرَاءَهُ وَتَارِيخَهُ بَعْدَمَا ثَبَتَ الْأَمْرَانِ

ص: 258

وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ عَلَى تَارِيخَيْنِ فَالْأَوَّلُ أَوْلَى) لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ أَثْبَتَهُ فِي وَقْتٍ لَا مُنَازِعَ لَهُ فِيهِ (وَإِنْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ عَلَى الشِّرَاءِ مِنْ آخَرَ وَذَكَرَا تَارِيخًا) فَهُمَا سَوَاءٌ

بِالْبَيِّنَةِ، وَإِذَا ادَّعَى الْخَارِجَانِ تَلَقِّيَ الْمِلْكِ مِنْ وَاحِدٍ آخَرَ بِأَنْ ادَّعَى رَجُلٌ أَنَّهُ اشْتَرَى هَذِهِ الدَّارَ مِنْ فُلَانٍ بِكَذَا سَمَّى رَجُلًا وَجَاءَ رَجُلٌ آخَرُ وَادَّعَى أَنَّهُ اشْتَرَى هَذِهِ الدَّارَ مِنْ فُلَانٍ ذَلِكَ بِعَيْنِهِ، فَإِنْ لَمْ يُؤَرِّخَا أَوْ أَرَّخَا وَتَارِيخُهُمَا عَلَى السَّوَاءِ يَقْضِي بِالدَّارِ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ أَرَّخَا وَتَارِيخُ أَحَدِهِمَا أَسْبَقُ يَقْضِي لِأَسْبَقِهِمَا تَارِيخًا، وَإِنْ أَرَّخَ أَحَدُهُمَا وَلَمْ يُؤَرِّخْ الْآخَرُ فَالْمُؤَرِّخُ أَوْلَى لِمَا قُلْنَا انْتَهَى.

وَقَدْ اقْتَفَى أَكْثَرُ الشُّرَّاحِ أَثَرَ صَاحِبِ النِّهَايَةِ فِي مُؤَاخَذَةِ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا بِالْوَجْهِ الْمَذْكُورِ. وَقَالَ صَاحِبُ الْكِفَايَةِ: قَيَّدَ بِقَوْلِهِ مَعْنَاهُ مِنْ غَيْرِ صَاحِبِ الْيَدِ كَيْ لَا يَلْزَمَ التَّكْرَارُ، لِأَنَّهُ قَالَ أَوَّلًا: وَلَوْ ادَّعَى اثْنَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهُ اشْتَرَى مِنْهُ هَذَا الْعَبْدَ مَعْنَاهُ مِنْ صَاحِبِ الْيَدِ، وَرَتَّبَ عَلَيْهِ الْأَحْكَامَ وَذَكَرَ مِنْ جُمْلَتِهَا هَذَا الْحُكْمَ الْمَذْكُورَ هُنَا، فَيَثْبُتُ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَدَّعِيَا الشِّرَاءَ مِنْ صَاحِبِ الْيَدِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ فِي هَذَا الْحُكْمِ انْتَهَى. أَقُولُ: الْحَقُّ مَا قَالَهُ صَاحِبُ الْكِفَايَةِ. وَتَوْضِيحُهُ أَنَّ الْإِمَامَ الْقُدُورِيَّ لَمَّا ذَكَرَ هَذَا الْحُكْمَ فِي مُخْتَصَرِهِ مَرَّتَيْنِ إحْدَاهُمَا هَاهُنَا وَالْأُخْرَى فِي أَثْنَاءِ الْأَحْكَامِ الْمُتَشَعِّبَةِ مِنْ قَوْلِهِ فِيمَا مَرَّ وَلَوْ ادَّعَى اثْنَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهُ اشْتَرَى مِنْهُ حَيْثُ قَالَ هُنَاكَ: وَلَوْ ذَكَرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَارِيخًا فَهُوَ لِلْأَوَّلِ مِنْهُمَا فُهِمَ التَّكْرَارُ مِنْ كَلَامِهِ فِي الظَّاهِرِ فَصَرَفَ الْمُصَنِّفُ قَوْلَهُ الْأَوَّلَ إلَى مَا إذَا ادَّعَيَا مِنْ صَاحِبِ الْيَدِ، وَقَوْلَهُ الثَّانِيَ مَا إذَا ادَّعَيَا مِنْ غَيْرِ صَاحِبِ الْيَدِ احْتِرَازًا عَنْ التَّكْرَارِ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ حَمْلُ الْمُؤْمِنِ عَلَى الصَّلَاحِ فَلَا غُبَارَ فِيهِ أَصْلًا.

وَالْعَجَبُ مِمَّنْ طَعَنُوا فِيهِ أَنَّهُمْ قَالُوا بِصَدَدِ شَرْحِ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ فِيمَا مَرَّ مَعْنَاهُ مِنْ صَاحِبِ الْيَدِ، إنَّمَا قَيَّدَ بِهِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَوْ ادَّعَى الشِّرَاءَ مِنْ غَيْرِ صَاحِبِ الْيَدِ فَهُوَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ ادَّعَيَا الشِّرَاءَ مِنْ وَاحِدٍ أَوْ اثْنَيْنِ، فَالْحُكْمُ عَلَى التَّفْصِيلِ يَجِيءُ بَعْدَ هَذَا فِي الْكِتَابِ انْتَهَى، وَذَلِكَ الْكَلَامُ مِنْهُمْ اعْتِرَافًا بِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ هَاهُنَا وَلَوْ ادَّعَيَا الشِّرَاءَ مِنْ وَاحِدٍ ادَّعَيَاهُ مِنْ غَيْرِ صَاحِبِ الْيَدِ، إذْ لَا يَجِيءُ فِي الْكِتَابِ مَسْأَلَةُ إنْ ادَّعَيَا الشِّرَاءَ مِنْ وَاحِدٍ غَيْرَ قَوْلِهِ هَذَا، وَبِأَنَّ فَائِدَةَ التَّقْيِيدِ هُنَاكَ الِاحْتِرَازُ عَنْ التَّكْرَارِ فَكَيْفَ لَمْ يَتَنَبَّهُوا لِكَوْنِ فَائِدَةِ التَّقْيِيدِ هَاهُنَا أَيْضًا الِاحْتِرَازَ عَنْ التَّكْرَارِ (وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ عَلَى تَارِيخَيْنِ) هَذَا مِنْ تَتِمَّةِ مَا سَبَقَ: أَيْ لَوْ ادَّعَيَا الشِّرَاءَ مِنْ وَاحِدٍ غَيْرِ صَاحِبِ الْيَدِ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ عَلَى تَارِيخَيْنِ (فَالْأَوَّلُ أَوْلَى) أَيْ فَصَاحِبُ التَّارِيخِ الْأَوَّلِ أَوْلَى (لِمَا بَيَّنَّا) أَيْ فِي مَسْأَلَةِ إنْ ادَّعَيَا الشِّرَاءَ مِنْ صَاحِبِ الْيَدِ (أَنَّهُ أَثْبَتَهُ) أَيْ أَنَّ صَاحِبَ التَّارِيخِ الْأَوَّلِ أَثْبَتَ الشِّرَاءَ (فِي وَقْتٍ لَا مُنَازِعَ لَهُ فِيهِ) أَيْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَانْدَفَعَ الْآخَرُ بِهِ (وَإِنْ أَقَامَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ عَلَى الشِّرَاءِ مِنْ آخَرَ) كَأَنْ أَقَامَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ عَلَى الشِّرَاءِ مِنْ زَيْدٍ وَالْآخَرُ عَلَى الشِّرَاءِ مِنْ عَمْرٍو (وَذَكَرَا تَارِيخَهُمَا فَهُمَا سَوَاءٌ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ: أَيْ ذَكَرَا تَارِيخًا وَاحِدًا، وَأَمَّا لَوْ ذَكَرَا تَارِيخَيْنِ فَالسَّابِقُ أَوْلَى لِإِثْبَاتِ الْمِلْكِ لِبَائِعِهِ فِي وَقْتٍ لَا يُنَازِعُهُ الْآخَرُ فِيهِ وَيَرْجِعُ الْآخَرُ بِالثَّمَنِ عَلَى بَائِعِهِ لِاسْتِحْقَاقِ الْمَبِيعِ مِنْ يَدِهِ، كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ انْتَهَى.

وَقَدْ سَلَكَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ مَسْلَكَهُمَا فِي شَرْحِ الْمَقَامِ حَيْثُ قَالَ: وَذَكَرَا تَارِيخًا وَاحِدًا فَهُمَا سَوَاءٌ انْتَهَى. وَقَالَ صَاحِبُ الْكِفَايَةِ أَخْذًا مِنْ الْكَافِي: أَيْ سَوَاءٌ كَانَ تَارِيخُهُمَا وَاحِدًا أَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَسْبَقَ تَارِيخًا فَهُمَا سَوَاءٌ؛ لِأَنَّهُمَا يُثْبِتَانِ الْمِلْكَ لِبَائِعِهِمَا وَلَا تَارِيخَ لِمِلْكِ الْبَائِعَيْنِ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُمَا حَضَرَا

ص: 259

لِأَنَّهُمَا يُثْبِتَانِ الْمِلْكَ لِبَائِعَيْهِمَا فَيَصِيرُ كَأَنَّهُمَا حَضَرَا ثُمَّ يُخَيَّرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَمَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ (وَلَوْ وَقَّتَتْ إحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ وَقْتًا وَلَمْ تُؤَقِّتْ الْأُخْرَى قَضَى بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ) لِأَنَّ تَوْقِيتَ إحْدَاهُمَا لَا يَدُلُّ عَلَى تَقَدُّمِ الْمِلْكِ

وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمِلْكِ بِدُونِ التَّارِيخِ كَانَ الْمِلْكُ بَيْنَهُمَا، فَكَذَا فِيمَنْ تَلَقَّى الْمِلْكَ مِنْهُمَا، بِخِلَافِ مَا إذَا ادَّعَيَا الشِّرَاءَ مِنْ وَاحِدٍ مُعَيَّنٍ لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا أَنَّ الْمِلْكَ كَانَ لَهُ، وَإِنَّمَا يَخْتَلِفَانِ فِي التَّلَقِّي مِنْهُ وَأَسْبَقُهُمَا تَارِيخًا، أَثْبَتَ التَّلَقِّيَ لِنَفْسِهِ فِي زَمَانٍ لَا يُنَازِعُهُ فِيهِ صَاحِبُهُ فَيُقْضَى لَهُ بِذَلِكَ، وَلَا يُقْضَى لِلْغَيْرِ بَعْدَ ذَلِكَ إلَّا إذَا ادَّعَى التَّلَقِّيَ مِنْهُ وَالْآخَرُ لَا يَدَّعِي التَّلَقِّيَ مِنْهُ انْتَهَى.

وَقَدْ سَلَكَ الْإِمَامُ الزَّيْلَعِيُّ هَذَا الْمَسْلَكَ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ مِنْ الْكَنْزِ. أَقُولُ: السِّرُّ فِي اخْتِلَافِ كَلِمَاتِ الثِّقَاتِ مِنْ شُرَّاحِ هَذَا الْكِتَابِ وَغَيْرِهِ فِي حِلِّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هُوَ اخْتِلَافُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ الْمُجْتَهِدِينَ فِيمَا إذَا ادَّعَيَا الشِّرَاءَ مِنْ اثْنَيْنِ وَكَانَ أَحَدُهُمَا أَسْبَقَ تَارِيخًا كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي مُعْتَبَرَاتِ الْفَتَاوَى حَيْثُ قَالَ فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ: وَإِنْ ادَّعَيَا الشِّرَاءَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ رَجُلٍ آخَرَ أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْ فُلَانٍ وَهُوَ يَمْلِكُهَا وَأَقَامَ آخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْ فُلَانٍ آخَرَ وَهُوَ يَمْلِكُهَا فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَقْضِي بَيْنَهُمَا، وَإِنْ وَقَّتَا فَصَاحِبُ الْوَقْتِ الْأَوَّلِ أَوْلَى فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا يَعْتَبِرُ التَّارِيخَ، وَإِنْ أَرَّخَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ يَقْضِي بَيْنَهُمَا اتِّفَاقًا انْتَهَى. وَقَالَ فِي الْبَدَائِعِ: أَمَّا إذَا ادَّعَيَا الشِّرَاءَ مِنْ اثْنَيْنِ سِوَى صَاحِبِ الْيَدِ مُطْلَقًا مِنْ الْوَقْتِ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ يُقْضَى بَيْنَهُمَا فِي نِصْفَيْنِ، وَإِنْ كَانَ وَقْتُهُمَا وَاحِدًا فَكَذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَسْبَقَ مِنْ الْآخَرِ فَالْأَسْبَقُ تَارِيخًا أَوْلَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَكَذَا عِنْدَ مُحَمَّدٍ فِي رِوَايَةِ الْأُصُولِ، بِخِلَافِ الْمِيرَاثِ فَإِنَّهُ يَكُونُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ عِنْدَهُ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ فِي الْإِمْلَاءِ: أَنَّهُ سَوَّى بَيْنَ الْمِيرَاثِ وَبَيْنَ الشِّرَاءِ، وَقَالَ: لَا عِبْرَةَ بِالتَّارِيخِ فِي الشِّرَاءِ أَيْضًا إلَّا أَنْ يُؤَرِّخَا مِلْكَ الْبَائِعَيْنِ انْتَهَى.

وَذَكَرَ فِي الذَّخِيرَةِ أَيْضًا كَذَلِكَ مَعَ نَوْعِ تَفْصِيلٍ وَكَذَا فِي غَيْرِهَا. ثُمَّ أَقُولُ: الَّذِي يَظْهَرُ مِنْ نَقْلِ تِلْكَ الْمُعْتَبَرَاتِ أَنَّ كَوْنَ صَاحِبِ التَّارِيخِ الْأَسْبَقِ أَوْلَى فِيمَا إذَا ادَّعَيَا الشِّرَاءَ مِنْ اثْنَيْنِ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ، وَأَنَّهُ قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُجْتَهِدِينَ وَأَكْبَرِهِمْ، فَحَمْلُ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ عَلَى مَا لَا يُنَافِيهِ أَوْلَى كَمَا لَا يَخْفَى.

قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِ الْمَسْأَلَةِ الْمَذْكُورَةِ (لِأَنَّهُمَا يُثْبِتَانِ الْمِلْكَ لِبَائِعِهِمَا فَيَصِيرُ كَأَنَّهُمَا حَضَرَا) أَيْ فَيَصِيرُ كَأَنَّ الْبَائِعَيْنِ حَضَرَا وَادَّعَيَا وَأَرَّخَا تَارِيخًا وَاحِدًا (ثُمَّ يَتَخَيَّرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَمَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ) أَيْ مِنْ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ، إنْ شَاءَ أَخَذَ نِصْفَ الْعَبْدِ بِنِصْفِ الثَّمَنِ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ (وَلَوْ وَقَّتَتْ إحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ وَقْتًا وَلَمْ تُؤَقِّتْ الْأُخْرَى قَضَى بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ) يَعْنِي إذَا ادَّعَى الْخَارِجَانِ شِرَاءً كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ رَجُلٍ آخَرَ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ وَوَقَّتَتْ إحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ دُونَ الْأُخْرَى قَضَى بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ (لِأَنَّ تَوْقِيتَ إحْدَاهُمَا لَا يَدُلُّ عَلَى تَقَدُّمِ الْمِلْكِ) أَيْ عَلَى تَقَدُّمِ مِلْكِ بَائِعِهِ: يَعْنِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُدَّعِيَيْنِ هَاهُنَا خَصْمٌ عَنْ بَائِعِهِ فِي إثْبَاتِ الْمِلْكِ لَهُ، وَتَوْقِيتُ إحْدَاهُمَا لَا يَدُلُّ عَلَى تَقَدُّمِ

ص: 260

لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْآخَرُ أَقْدَمَ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْبَائِعُ وَاحِدًا لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى أَنَّ الْمِلْكَ لَا يُتَلَقَّى إلَّا مِنْ جِهَتِهِ، فَإِذَا أَثْبَتَ أَحَدُهُمَا تَارِيخًا يَحْكُمُ بِهِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ أَنَّهُ تَقَدَّمَ شِرَاءُ غَيْرِهِ.

مِلْكِ بَائِعِهِ (لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْآخَرُ أَقْدَمَ) أَيْ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْبَائِعُ الْآخَرُ أَقْدَمَ فِي الْمِلْكِ (بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْبَائِعُ وَاحِدًا لِأَنَّهُمَا) أَيْ الْمُدَّعِيَيْنِ (اتَّفَقَا) فِي هَذِهِ الصُّورَةِ (عَلَى أَنَّ الْمِلْكَ لَا يُتَلَقَّى) أَيْ لَا يُؤْخَذُ (إلَّا مِنْ جِهَتِهِ) أَيْ مِنْ جِهَةِ الْبَائِعِ الْوَاحِدِ، فَحَاجَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى إثْبَاتِ سَبَبِ الِانْتِقَالِ إلَيْهِ وَهُوَ الشِّرَاءُ لَا إلَى إثْبَاتِ الْمِلْكِ لِلْبَائِعِ (فَإِذَا أَثْبَتَ أَحَدُهُمَا تَارِيخًا يَحْكُمُ بِهِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ أَنَّهُ تَقَدَّمَهُ شِرَاءُ غَيْرِهِ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ عِيَانًا، وَلَوْ عَايَنَّا بِيَدِهِ الْمِلْكَ حَكَمْنَا بِهِ فَكَذَا إذَا ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ إلَّا إذَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ تَقَدَّمَ عَلَيْهِ شِرَاءُ غَيْرِهِ انْتَهَى.

أَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي تَوْقِيتِ إحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ لَا فِي إثْبَاتِهَا الْيَدَ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الثَّابِتِ بِالْبَيِّنَةِ الْمُؤَقَّتَةِ كَالْمِلْكِ الثَّابِتِ الْمُعَايَنِ بِالْيَدِ فَلَا تَعَلُّقَ لِقَوْلِهِ وَلَوْ عَايَنَّا بِيَدِهِ الْمِلْكَ حَكَمْنَا بِهِ بِالْمَقَامِ، وَإِنَّمَا اللَّازِمُ مِنْ كَوْنِ الثَّابِتِ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ عِيَانًا أَنْ يَكُونَ شِرَاءُ مَنْ وَقَّتَتْ بَيِّنَتُهُ كَالشِّرَاءِ الْمُعَايَنِ لِثُبُوتِهِ بِالْبَيِّنَةِ، وَلَكِنَّ الْآخَرَ مُشْتَرِكٌ فِي هَذَا اللَّازِمِ لِثُبُوتِ شِرَائِهِ أَيْضًا بِالْبَيِّنَةِ. نَعَمْ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْأَوَّلَ يَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ عَايَنَّا شِرَاءَهُ وَوَقْتُهُ مَعْلُومٌ مُتَعَيِّنٌ عِنْدَنَا الْآنَ. وَالثَّانِي يَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ عَايَنَّا شِرَاءَهُ أَيْضًا وَلَكِنَّ وَقْتَهُ غَيْرُ مَعْلُومٍ عِنْدَنَا الْآنَ، بَلْ مُحْتَمِلٌ لِلتَّقَدُّمِ عَلَى الْآخَرِ وَالتَّأَخُّرِ عَنْهُ، إلَّا أَنَّ هَذَا الْفَرْقَ لَا يُجْدِي نَفْعًا، إذْ الظَّاهِرُ أَنَّا لَا نَحْكُمُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَيْضًا لِصَاحِبِ الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ مَا لَمْ نَعْرِفْ أَنَّهُ أَسْبَقُ مِنْ الْآخَرِ. فَالْوَجْهُ فِي تَعْلِيلِ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا أَنْ يُقَالَ: لِأَنَّ الشِّرَاءَ أَمْرٌ حَادِثٌ، وَالْحَادِثُ يُضَافُ إلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ وَقْتُهُ عَلَى مَا هُوَ الْقَاعِدَةُ الْمُقَرَّرَةُ عِنْدَهُمْ، فَشِرَاءُ غَيْرِ الْمُؤَقَّتِ يُضَافُ إلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ وَهُوَ الْحَالُ فَيَتَأَخَّرُ عَنْ شِرَاءِ الْمُؤَقَّتِ حُكْمًا، وَقَدْ أُشِيرَ إلَى هَذَا الْوَجْهِ هَاهُنَا إجْمَالًا فِي غَايَةِ الْبَيَانِ وَشَرْحِ تَاجِ الشَّرِيعَةِ، وَمَرَّ مِنَّا تَفْصِيلُ نَظِيرِهِ فِيمَا سَبَقَ نَقْلًا عَنْ الْكَافِي فَتَذَكَّرْ. ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: حَاصِلُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ مَا ذَكَرَ مِنْ قَوْلِهِ لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى أَنَّ الْمِلْكَ لَا يُتَلَقَّى إلَّا مِنْ جِهَتِهِ.

وَأَمَّا الْبَاقِي فَمُشْتَرِكٌ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ، وَذَلِكَ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي الْفَرْقِ لِجَوَازِ أَنْ يُقَالَ: مَنْ ثَبَتَ لَهُ الْمِلْكُ بِالْبَيِّنَةِ فَهُوَ كَمَنْ ثَبَتَ لَهُ عِيَانًا فَيَحْكُمُ بِهِ، إلَّا إذَا تَبَيَّنَ تَقَدُّمُ شِرَاءِ غَيْرِهِ. وَالْجَوَابُ أَنَّ لِذَلِكَ مَدْخَلًا فِي الْفَرْقِ لِأَنَّ الْبَائِعَ إذَا كَانَ وَاحِدًا كَانَ التَّعَاقُبُ ضَرُورِيًّا. وَقَدْ ثَبَتَ لِأَحَدِهِمَا بِالْبَيِّنَةِ مِلْكٌ فِي وَقْتٍ وَمِلْكُ غَيْرِهِ مَشْكُوكٌ إنْ تَأَخَّرَ لَمْ يَضُرَّ وَإِنْ تَقَدَّمَ مِلْكٌ فَتَعَارَضَا فَيَرْجِعُ بِالْوَقْتِ. وَأَمَّا إذَا كَانَ مُتَعَدِّدًا فَكَمَا جَازَ أَنْ يَقَعَا مُتَعَاقِبَيْنِ جَازَ أَنْ يَقَعَا مَعًا، وَفِي ذَلِكَ تَعَارُضٌ أَيْضًا فَضَعْفُ قُوَّةِ الْوَقْتِ عَنْ التَّرْجِيعِ لِتَضَاعُفِ التَّفَاوُضِ انْتَهَى.

أَقُولُ: فِي الْجَوَابِ بَحْثٌ، أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ قَوْلَهُ: لِأَنَّ الْبَائِعَ إذَا كَانَ وَاحِدًا كَانَ التَّعَاقُبُ ضَرُورِيًّا مَمْنُوعٌ لِجَوَازِ أَنْ يُوَكِّلَ وَاحِدٌ رَجُلَيْنِ بِبَيْعِ عَبْدِهِ مَثَلًا فَيَبِيعُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ رَجُلٍ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ. وَعَقْدُ الْوَكِيلِ كَعَقْدِ الْمُوَكِّلِ فَيُضَافُ عَقْدُهُ إلَى الْمُوَكِّلِ مَجَازًا كَمَا ذَكَرْنَا فِيمَا مَرَّ نَقْلًا عَنْ الْكَافِي وَعَامَّةِ الشُّرَّاحِ لِدَفْعِ السُّؤَالِ بِتَيَقُّنِ كَذِبِ إحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ. وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ قَوْلَهُ: فَيُرَجَّحُ بِالْوَقْتِ غَيْرُ تَامٍّ لِأَنَّ الشَّكَّ فِي مِلْكِ غَيْرِ الْمُؤَقَّتِ يَسْتَلْزِمُ الشَّكَّ فِي مِلْكِ الْمُؤَقَّتِ لِأَنَّ تَقَدُّمَ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ يَسْتَلْزِمُ تَأَخُّرَ الْآخَرِ عَنْهُ وَكَذَا تَأَخُّرُهُ عَنْ الْآخَرِ يَسْتَلْزِمُ تَقَدُّمَ الْآخَرِ عَلَيْهِ فَاحْتِمَالُ تَقَدُّمِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ وَتَأَخُّرِهِ عَنْهُ وَهُوَ سَبَبُ الشَّكِّ فِي مِلْكِهِ يَسْتَلْزِمُ احْتِمَالَ تَقَدُّمِ الْآخَرِ عَلَيْهِ وَتَأَخُّرِهِ عَنْهُ فَيَلْزَمُ الشَّكُّ فِي مِلْكِهِ أَيْضًا وَلَا شَكَّ أَنَّ الْوَقْتَ مِنْ حَيْثُ هُوَ وَقْتٌ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي تَرْجِيحِ الْمِلْكِ لِأَحَدِهِمَا، بَلْ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ التَّرْجِيحُ بِهِ لِتَقَدُّمِهِ عَلَى وَقْتِ الْآخَرِ، فَإِذَا

ص: 261

وَلَوْ ادَّعَى أَحَدُهُمَا الشِّرَاءَ مِنْ رَجُلٍ وَالْآخَرُ الْهِبَةَ وَالْقَبْضَ مِنْ غَيْرِهِ وَالثَّالِثُ الْمِيرَاثَ مِنْ أَبِيهِ وَالرَّابِعُ الصَّدَقَةَ وَالْقَبْضَ مِنْ آخَرَ قَضَى بَيْنَهُمْ أَرْبَاعًا) لِأَنَّهُمْ يَتَلَقَّوْنَ الْمِلْكَ مِنْ بَاعَتِهِمْ فَيَجْعَلُ كَأَنَّهُمْ حَضَرُوا وَأَقَامُوا الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ.

قَالَ: (وَإِنْ أَقَامَ الْخَارِجُ الْبَيِّنَةَ عَلَى مِلْكٍ مُؤَرَّخٍ وَصَاحِبُ الْيَدِ بَيِّنَةً عَلَى مِلْكٍ أَقْدَمَ تَارِيخًا كَانَ أَوْلَى) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مُحَمَّدٍ. وَعَنْهُ أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ رَجَعَ إلَيْهِ لِأَنَّ الْبَيِّنَتَيْنِ قَامَتَا عَلَى مُطْلَقِ الْمِلْكِ وَلَمْ يَتَعَرَّضَا لِجِهَةِ الْمِلْكِ فَكَانَ التَّقَدُّمُ وَالتَّأَخُّرُ سَوَاءً.

كَانَ هَذَا مَشْكُوكًا فَلَا مَجَالَ لِلتَّرْجِيحِ بِهِ أَصْلًا. وَأَمَّا ثَالِثًا فَلِأَنَّ قَوْلَهُ: فَضَعْفُ قُوَّةِ الْوَقْتِ عَنْ التَّرْجِيحِ لِتَضَاعُفِ التَّعَارُضِ غَيْرُ مَعْقُولٍ؛ لِأَنَّ التَّعَارُضَ مَتَى تَضَاعَفَ لَا يُزِيدُ شَيْئًا عَلَى التَّسَاوِي وَالتَّسَاقُطِ، فَمَا يَصْلُحُ لِلتَّرْجِيحِ فِي مَرْتَبَةٍ مِنْ التَّعَارُضِ يَنْبَغِي أَنْ يَصْلُحَ لَهُ فِي سَائِرِ الْمَرَاتِبِ مِنْهُ، وَلَعَمْرِي إنَّ صَاحِبَ الْعِنَايَةِ قَدْ تَصَنَّعَ فِي حَلِّ هَذَا الْمَقَامِ زِيَادَةً عَلَى سَائِرِ الشُّرَّاحِ وَلَكِنْ مَا أَتَى بِشَيْءٍ يُعْتَدُّ بِهِ كَمَا عَرَفْت، وَإِنَّ فِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْوَجْهِ فِي تَعْلِيلِ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا لَمَنْدُوحَةً عَنْ جَمِيعِ مَا ذَكَرَهُ فَتَفَكَّرْ

(وَلَوْ ادَّعَى أَحَدُهُمَا الشِّرَاءَ مِنْ رَجُلٍ، وَالْآخَرُ الْهِبَةَ وَالْقَبْضَ مِنْ غَيْرِهِ، وَالثَّالِثُ الْمِيرَاثَ مِنْ أَبِيهِ، وَالرَّابِعُ الصَّدَقَةَ وَالْقَبْضَ مِنْ آخَرَ) وَأَقَامُوا الْبَيِّنَةَ (قَضَى بَيْنَهُمْ أَرْبَاعًا) وَهَذِهِ مِنْ مَسَائِلِ الْمَبْسُوطِ ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ تَفْرِيعًا، وَقَالَ فِي تَعْلِيلِهَا (لِأَنَّهُمْ يَتَلَقَّوْنَ الْمِلْكَ مِنْ بَاعَتِهِمْ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ مِنْ بَائِعِهِمْ، وَكِلَاهُمَا بِطَرِيقِ التَّغْلِيبِ لِأَنَّ الْبَائِعَ وَاحِدٌ مِنْ الْمُمَلِّكِينَ الْأَرْبَعَةِ فَكَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ مِنْ مُمَلِّكِيهِمْ. وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: مِنْ مُلْقِيهِمْ اسْتِدْلَالًا بِلَفْظِ يَتَلَقَّوْنَ كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ (فَيَجْعَلُ كَأَنَّهُمْ) أَيْ الْمُمَلِّكِينَ (حَضَرُوا وَأَقَامُوا الْبَيِّنَةَ) عَلَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ لِأَنْفُسِهِمْ، وَثَمَّةَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ أَرْبَاعًا فَكَذَا هَاهُنَا

(قَالَ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ (وَإِنْ أَقَامَ الْخَارِجُ الْبَيِّنَةَ عَلَى مِلْكٍ مُؤَرَّخٍ، وَصَاحِبُ الْيَدِ الْبَيِّنَةَ عَلَى مِلْكٍ أَقْدَمَ تَارِيخًا كَانَ أَوْلَى) أَيْ كَانَ صَاحِبُ الْيَدِ أَوْلَى. قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَهَذَا) أَيْ هَذَا الْحُكْمُ (عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مُحَمَّدٍ وَعَنْهُ) أَيْ عَنْ مُحَمَّدٍ (أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ رَجَعَ إلَيْهِ) يَعْنِي أَنَّ هَذَا قَوْلُهُ الْآخَرُ الْمَرْجُوعُ إلَيْهِ.

وَفِي الْمَبْسُوطِ ذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ فِي نَوَادِرِهِ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ هَذَا الْقَوْلِ، وَهُوَ أَنَّ بَيِّنَةَ ذِي الْيَدِ إذَا كَانَتْ أَقْدَمَ تَارِيخًا مِنْ بَيِّنَةِ الْخَارِجِ كَانَتْ أَوْلَى؛ بَعْدَ انْصِرَافِهِ مِنْ الرَّقَّةِ. وَقَالَ: لَا أَقْبَلُ مِنْ ذِي الْيَدِ بَيِّنَةً عَلَى تَارِيخٍ وَلَا غَيْرِهِ إلَّا لِلنِّتَاجِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ؛ لِأَنَّ التَّارِيخَ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِأَوَّلِيَّةِ الْمِلْكِ بِخِلَافِ النِّتَاجِ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِ ذَلِكَ (لِأَنَّ الْبَيِّنَتَيْنِ قَامَتَا عَلَى مُطْلَقِ الْمِلْكِ وَلَمْ تَتَعَرَّضَا لِجِهَةِ الْمِلْكِ فَكَانَ التَّقَدُّمُ وَالتَّأَخُّرُ سَوَاءً) قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: هَذَا يَحْتَاجُ إلَى الْبَيَانِ.

أَقُولُ: فِي الْبَيَانِ لَمَّا لَمْ تَتَعَرَّضْ الْبَيِّنَتَانِ لِجِهَةِ الْمِلْكِ وَجَازَ أَنْ تَكُونَ جِهَةُ الْمِلْكِ: أَيْ سَبَبِهِ فِي حَقِّ صَاحِبِ التَّارِيخِ الْمُؤَخَّرِ أَقْدَمَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَيَكُونُ صَاحِبُ التَّارِيخِ الْمُؤَخَّرِ أَسْبَقَ مِنْ الْآخَرِ فِي الْمِلْكِ لِتَقَدُّمِ سَبَبِ مِلْكِهِ عَلَى سَبَبِ

ص: 262

وَلَهُمَا أَنَّ الْبَيِّنَةَ مَعَ التَّارِيخِ مُتَضَمِّنَةٌ مَعْنَى الدَّفْعِ، فَإِنَّ الْمِلْكَ إذَا ثَبَتَ لِشَخْصٍ فِي وَقْتٍ فَثُبُوتُهُ لِغَيْرِهِ بَعْدَهُ لَا يَكُونُ إلَّا بِالتَّلَقِّي مِنْ جِهَتِهِ وَبَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ عَلَى الدَّفْعِ مَقْبُولَةٌ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ لَوْ كَانَتْ الدَّارُ فِي أَيْدِيهِمَا وَالْمَعْنَى مَا بَيَّنَّا، وَلَوْ أَقَامَ الْخَارِجُ وَذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ عَلَى مِلْكٍ مُطْلَقٍ وَوُقِّتَتْ إحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ الْخَارِجُ أَوْلَى.

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: صَاحِبُ الْوَقْتِ أَوْلَى لِأَنَّهُ أَقْدَمُ وَصَارَ كَمَا فِي دَعْوَى الشِّرَاءِ إذَا أُرِّخَتْ إحْدَاهُمَا كَانَ صَاحِبُ التَّارِيخِ أَوْلَى. وَلَهُمَا أَنَّ بَيِّنَةَ ذِي الْيَدِ إنَّمَا تُقْبَلُ

مِلْكِ الْآخَرِ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَامَتْ الْبَيِّنَتَانِ بِالتَّارِيخِ عَلَى الشِّرَاءِ وَإِحْدَاهُمَا أَسْبَقُ مِنْ الْأُخْرَى حَيْثُ كَانَ الْأَسْبَقُ أَوْلَى لِتَعَرُّضِهِ لِسَبْقِ سَبَبِ مِلْكِ أَحَدِ الْمُشْتَرِيَيْنِ وَهُوَ الشِّرَاءُ فَلَمْ يَبْقَ احْتِمَالُ أَنْ يَكُونَ الْآخَرُ أَسْبَقَ فِي الْمِلْكِ (وَلَهُمَا) أَيْ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ (أَنَّ الْبَيِّنَةَ مَعَ التَّارِيخِ مُتَضَمِّنَةٌ مَعْنَى الدَّفْعِ، فَإِنَّ الْمِلْكَ إذَا ثَبَتَ لِشَخْصٍ فِي وَقْتٍ فَثُبُوتُهُ لِغَيْرِهِ بَعْدَهُ لَا يَكُونُ إلَّا بِالتَّلَقِّي مِنْ جِهَتِهِ وَبَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ عَلَى الدَّفْعِ مَقْبُولَةٌ) فَإِنَّ مَنْ ادَّعَى عَلَى ذِي الْيَدِ عَيْنًا وَأَنْكَرَ ذُو الْيَدِ ذَلِكَ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ مِنْهُ تَنْدَفِعُ الْخُصُومَةُ، وَقَدْ مَرَّ قَبْلَ هَذَا قَبُولُ بَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ فِي أَنَّ الْعَيْنَ فِي يَدِهِ وَدِيعَةٌ حَتَّى يَنْدَفِعَ عَنْهُ دَعْوَى الْمُدَّعِي عِنْدَ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ، وَلَمَّا قُبِلَتْ بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ عَلَى الدَّفْعِ صَارَتْ هَاهُنَا بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ بِذِكْرِ التَّارِيخِ الْأَقْدَمِ مُتَضَمِّنَةً دَفْعَ بَيِّنَةِ الْخَارِجِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهَا لَا تَصِحُّ إلَّا بَعْدَ إثْبَاتِ التَّلَقِّي مِنْ قَبْلِهِ فَتُقْبَلُ لِكَوْنِهَا لِلدَّفْعِ كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَالْعِنَايَةِ (وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ لَوْ كَانَتْ الدَّارُ فِي أَيْدِيهِمَا) أَيْ لَوْ كَانَتْ الدَّارُ فِي أَيْدِيهِمَا كَانَ صَاحِبُ الْوَقْتِ الْأَوَّلِ أَوْلَى فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ: لَا يُعْتَبَرُ الْوَقْتُ وَكَأَنَّهُمَا قَامَتَا عَلَى مُطْلَقِ الْمِلْكِ فَتَكُونُ بَيْنَهُمَا، كَذَا فِي النِّهَايَةِ نَقْلًا عَنْ الْإِيضَاحِ (وَالْمَعْنَى مَا بَيَّنَّاهُ) وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ مِنْ الدَّلِيلِ فِي الطَّرَفَيْنِ (وَلَوْ أَقَامَ الْخَارِجُ وَذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ عَلَى مِلْكٍ مُطْلَقٍ) أَيْ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ سَبَبٍ (وَوَقَّتَتْ إحْدَاهُمَا) أَيْ إحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ (دُونَ الْأُخْرَى) فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ الْخَارِجُ أَوْلَى.

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: (صَاحِبُ الْوَقْتِ أَوْلَى) إنَّمَا قَيَّدَ بِالتَّوْقِيتِ؛ لِأَنَّ الْخَارِجَ وَذَا الْيَدِ إذَا أَقَامَا بَيِّنَةً عَلَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ بِلَا ذِكْرِ تَارِيخٍ لَا تُقْبَلُ بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ عِنْدَ عُلَمَائِنَا كُلِّهِمْ، وَإِنَّمَا وَقَعَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ عُلَمَائِنَا فِي دَعْوَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ بَيْنَ الْخَارِجِ وَذِي الْيَدِ عِنْدَ ذِكْرِ التَّارِيخِ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ (لِأَنَّهُ أَقْدَمُ) دَلِيلٌ عَلَى مَا قَالَهُ أَبُو يُوسُفَ: أَيْ لِأَنَّ صَاحِبَ الْوَقْتِ أَقْدَمُ (وَصَارَ كَمَا فِي دَعْوَى الشِّرَاءِ) أَيْ صَارَ الْجَوَابُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَالْجَوَابِ فِي دَعْوَى الشِّرَاءِ (إذَا أَرَّخَتْ إحْدَاهُمَا) أَيْ إذَا أَرَّخَتْ إحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ هُنَاكَ (كَانَ صَاحِبُ التَّارِيخِ أَوْلَى) فَكَذَا هُنَا.

وَالْجَوَابُ أَنَّ الشِّرَاءَ مَعْنًى حَادِثٌ، فَإِذَا لَمْ يُؤَرِّخْ حُكِمَ بِوُقُوعِهِ فِي الْحَالِ وَكَانَ الْمُقَدِّمُ أَوْلَى مِنْهُ، وَالْمِلْكُ لَيْسَ بِمَعْنًى حَادِثٍ فَلَا يُحْكَمُ بِوُقُوعِهِ فِي الْحَالِ. كَذَا فِي غَايَةِ الْبَيَانِ (وَلَهُمَا) أَيْ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ (أَنَّ بَيِّنَةَ ذِي الْيَدِ إنَّمَا تُقْبَلُ

ص: 263

لِتَضَمُّنِهَا مَعْنَى الدَّفْعِ، وَلَا دَفْعَ هَاهُنَا حَيْثُ وَقَعَ الشَّكُّ فِي التَّلَقِّي مِنْ جِهَتِهِ، وَعَلَى هَذَا إذَا كَانَتْ الدَّارُ فِي أَيْدِيهِمَا وَلَوْ كَانَتْ فِي يَدِ ثَالِثٍ،

لِتَضَمُّنِهِ) أَيْ لِتَضَمُّنِ الْبَيِّنَةِ بِتَأْوِيلِ الشَّاهِدِ (مَعْنَى الدَّفْعِ) لِمَا مَرَّ آنِفًا (وَلَا دَفْعَ هَاهُنَا حَيْثُ وَقَعَ الشَّكُّ فِي التَّلَقِّي مِنْ جِهَتِهِ) أَيْ مِنْ جِهَةِ ذِي الْيَدِ لِأَنَّ بِذِكْرِ تَارِيخِ إحْدَاهُمَا لَمْ يَحْصُلْ الْيَقِينُ بِأَنَّ الْآخَرَ تَلَقَّاهُ مِنْ جِهَتِهِ لِاحْتِمَالِ أَنَّ الْأُخْرَى لَوْ وَقَّتَتْ كَانَ أَقْدَمَ تَارِيخًا، بِخِلَافِ مَا إذَا أَرَّخَا وَكَانَ تَارِيخُ ذِي الْيَدِ أَقْدَمَ كَمَا تَقَدَّمَ. قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: قِيلَ الِاسْتِدْلَال بِقَوْلِهِ: إنَّ بَيِّنَةَ ذِي الْيَدِ إنَّمَا تُقْبَلُ لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى الدَّفْعِ لَا يَسْتَقِيمُ لِمُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقُولُ بِذَلِكَ إلَّا لَزِمَهُ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى. وَأُجِيبُ بِأَنَّ ذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى قَوْلِهِ الْأَوَّلِ انْتَهَى. وَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ حَيْثُ قَالَ: فِيهِ بَحْثٌ. فَإِنَّ أَوْلَوِيَّةَ الْخَارِجِ عَلَى قَوْلِهِ الْآخَرِ الَّذِي لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ التَّارِيخُ نَصَّ عَلَيْهِ الْعَلَّامَةُ الْأَتْقَانِيُّ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ فَرَاجِعْهُ انْتَهَى.

أَقُولُ: هَذَا الِاعْتِرَاضُ لَيْسَ بِشَيْءٍ، إذْ لَيْسَ مُرَادُ الْمُجِيبِ أَنَّ قَوْلَ مُحَمَّدٍ فِي مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ: أَعْنِي أَوْلَوِيَّةَ الْخَارِجِ فِيمَا إذَا وَقَّتَتْ إحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلَهُ الْأَوَّلَ حَتَّى يُنَافِيَهُ نَصَّ الْعَلَّامَةُ الْأَتْقَانِيُّ عَلَى أَنَّهُ قَوْلُهُ الْآخَرُ، بَلْ مُرَادُهُ أَنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ: إنَّ بَيِّنَةَ ذِي الْيَدِ إنَّمَا تُقْبَلُ لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى الدَّفْعِ بِصَدَدِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ فِي مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَبْنِيًّا عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ الْأَوَّلِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى فَلَا يَلْزَمُهُ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى عَلَى قَوْلِهِ الثَّانِي هُنَاكَ.

وَتَوْضِيحُ الْمَقَامِ أَنَّ لِمُحَمَّدٍ فِي مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ قَوْلَيْنِ: قَوْلُ الْأَوَّلِ أَنَّهُ يَقْضِي لِلَّذِي لَمْ يُؤَقِّتْ، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى اعْتِبَارِ التَّارِيخِ حَالَةَ الِانْفِرَادِ عَلَى خِلَافِ مَا عَلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ. وَوَجْهُهُ أَنَّ غَيْرَ الْمُؤَقَّتِ أَسْبَقُهُمَا تَارِيخًا بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى وَهُوَ دَعْوَى أَوَّلِيَّةِ الْمِلْكِ. وَقَوْلُهُ الْآخَرُ أَنَّ الْخَارِجَ أَوْلَى، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ لَا عِبْرَةَ بِالتَّارِيخِ فَكَانَ الْمُؤَقَّتُ لَمْ يُؤَقَّتْ فَتَكُونُ بَيِّنَةُ الْخَارِجِ أَوْلَى لِكَوْنِهَا أَكْثَرَ إثْبَاتًا عَلَى مَا هُوَ الْمَعْرُوفُ مِنْ مَذْهَبِنَا وَهُوَ فِي قَوْلِهِ الْآخَرِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ، كَمَا أَنَّهُ فِي قَوْلِهِ الْأَوَّلِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى مَعَهُ وَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا يُفْصِحُ عَنْهُ مَا ذَكَرَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ نَقْلًا عَنْ مَبْسُوطِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ.

فَإِذَا عَرَفْت هَذَا فَنَقُولُ: لَوْ أُرِيدَ الِاسْتِدْلَال عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ الثَّانِي فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَعَ رِعَايَةِ قَوْلِ الثَّانِي فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى لَمْ يَحْتَجْ إلَى ذِكْرِ الْمُقَدِّمَةِ الْقَائِلَةِ إنَّ بَيِّنَةَ ذِي الْيَدِ إنَّمَا تُقْبَلُ لِتَضَمُّنِهَا مَعْنَى الدَّفْعِ، بَلْ كَفَى أَنْ يُقَالَ: إنَّ بَيِّنَةَ ذِي الْيَدِ لَا تُقْبَلُ عِنْدَهُ أَصْلًا فِي غَيْرِ النِّتَاجِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ لِمَا مَرَّ لَهُ مِنْ الدَّلِيلِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى، وَلَكِنَّ الْمُصَنِّفَ لَمَّا قَصَدَ الْجَمْعَ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ فِي دَلِيلٍ وَاحِدٍ لِيُسْتَغْنَى عَنْ ذِكْرِ دَلِيلٍ آخَرَ لِمُحَمَّدٍ اسْتَدَلَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَوْلِ مُحَمَّدٍ الْآخَرِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِمَّا يَجْمَعُهُمَا مُرَاعِيًا قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَوْلَ مُحَمَّدٍ الْأَوَّلَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى فَاحْتَاجَ إلَى ذِكْرِ تِلْكَ الْمُقَدِّمَةِ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِالْجَوَابِ الَّذِي ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ، فَأَيْنَ هَذَا مِمَّا فَهِمَهُ الْمُعْتَرِضُ عَلَيْهِ. وَقَالَ ذَلِكَ الْبَعْضُ.

وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ النُّكْتَةُ لِأَبِي حَنِيفَةَ. وَوَجْهُ مُحَمَّدٍ غَيْرُ مَذْكُورٍ هُنَا، وَقَوْلُهُ لَهُمَا مِنْ قَبِيلِ {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} اهـ.

أَقُولُ: لَا يَخْفَى عَلَى ذِي فِطْرَةٍ سَلِيمَةٍ أَنَّ مِثْلَ هَذَا التَّوْجِيهِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ أَمْرٌ مُسْتَبْعَدٌ جِدًّا مِنْ وُجُوهٍ شَتَّى فَتَبَصَّرْ (وَعَلَى هَذَا) أَيْ الْخِلَافِ الْمَذْكُورِ (إذَا كَانَتْ الدَّارُ فِي أَيْدِيهِمَا) وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ فَوَقَّتَتْ بَيِّنَةُ أَحَدِهِمَا دُونَ بَيِّنَةِ الْآخَرِ: يَعْنِي لَا عِبْرَةَ لِلتَّارِيخِ عِنْدَهُمَا، وَالْمُرَادُ لِلْمُؤَرِّخِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ (وَلَوْ كَانَتْ فِي يَدِ ثَالِثٍ) أَيْ وَلَوْ كَانَتْ الدَّارُ الْمُدَّعَاةُ فِي يَدِ ثَالِثٍ

ص: 264

الْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا فَهُمَا سَوَاءٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: الَّذِي وَقَّتَ أَوْلَى. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: الَّذِي أَطْلَقَ أَوْلَى لِأَنَّهُ ادَّعَى أَوَّلِيَّةَ الْمِلْكِ بِدَلِيلِ اسْتِحْقَاقِ الزَّوَائِدِ وَرُجُوعِ الْبَاعَةِ بَعْضِهِمْ عَلَى الْبَعْضِ. وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ التَّارِيخَ يُوجِبُ الْمِلْكَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بِيَقِينٍ. وَالْإِطْلَاقُ يَحْتَمِلُ غَيْرَ الْأَوَّلِيَّةِ، وَالتَّرْجِيحُ بِالتَّيَقُّنِ؛ كَمَا لَوْ ادَّعَيَا الشِّرَاءَ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ التَّارِيخَ يُضَامُهُ احْتِمَالُ عَدَمِ التَّقَدُّمِ فَسَقَطَ اعْتِبَارُهُ فَصَارَ كَمَا لَوْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ عَلَى مِلْكٍ مُطْلَقٍ، بِخِلَافِ الشِّرَاءِ لِأَنَّهُ أَمْرٌ حَادِثٌ فَيُضَافُ إلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ فَيَتَرَجَّحُ جَانِبُ صَاحِبِ التَّارِيخِ.

قَالَ (وَإِنْ أَقَامَ الْخَارِجُ وَصَاحِبُ الْيَدِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةً عَلَى النِّتَاجِ فَصَاحِبُ الْيَدِ أَوْلَى)

وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا) أَيْ وَقَّتَتْ بَيِّنَةُ أَحَدِ الْخَارِجَيْنِ فِي الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ دُونَ الْأُخْرَى.

(فَهُمَا سَوَاءٌ) أَيْ فَالْخَارِجَانِ سَوَاءٌ: يَعْنِي يَقْضِي بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ (عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: الَّذِي وَقَّتَ أَوْلَى. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: الَّذِي أَطْلَقَ) أَيْ لَمْ يُؤَقِّتْ (أَوْلَى لِأَنَّهُ) أَيْ الْإِطْلَاقَ (دَعْوَى أَوَّلِيَّةِ الْمِلْكِ بِدَلِيلِ اسْتِحْقَاقِ الزَّوَائِدِ) كَالْأَوْلَادِ وَالْأَكْسَابِ (وَرُجُوعِ الْبَاعَةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ) أَيْ وَبِدَلِيلِ رُجُوعِ الْبَاعَةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، فَإِنَّ مَنْ أَقَامَ بَيِّنَةً عَلَى مُطْلَقِ الْمِلْكِ فِي جَارِيَةٍ مَثَلًا وَاسْتَحَقَّهَا وَزَوَائِدَهَا يَرْجِعُ بَاعَتُهَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ فَكَانَ مُدَّعِي مُطْلَقِ الْمِلْكِ كَانَ مُدَّعِيًا لِلْمِلْكِ مِنْ الْأَصْلِ، وَمِلْكُ الْأَصْلِ أَوْلَى مِنْ التَّارِيخِ (وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ التَّارِيخَ يُوجِبُ الْمِلْكَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بِيَقِينٍ، وَالْإِطْلَاقُ يَحْتَمِلُ غَيْرَ الْأَوَّلِيَّةِ، وَالتَّرْجِيحُ بِالتَّيَقُّنِ) يَعْنِي أَنَّ الْعَمَلَ بِالْمُتَيَقِّنِ رَاجِحٌ عَلَى الْعَمَلِ بِالْمُحْتَمَلِ (كَمَا لَوْ ادَّعَيَا الشِّرَاءَ) أَيْ ادَّعَيَاهُ مِنْ بَائِعٍ وَاحِدٍ وَأَرَّخَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ كَانَ صَاحِبُ التَّارِيخِ أَوْلَى كَمَا مَرَّ (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ التَّارِيخَ يُضَامُهُ) أَيْ يُزَاحِمُهُ (احْتِمَالُ عَدَمِ التَّقَدُّمِ فَسَقَطَ اعْتِبَارُهُ) أَيْ اعْتِبَارُ التَّارِيخِ: يَعْنِي أَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ تَارِيخُ الَّذِي أَرَّخَ سَابِقًا عَلَى تَارِيخِ صَاحِبِهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُتَأَخِّرًا عَنْهُ، فَنَزَّلْنَاهُ مُقَارِنًا لَهُ رِعَايَةً لِلِاحْتِمَالَيْنِ، كَذَا فِي شَرْحِ تَاجِ الشَّرِيعَةِ وَغَيْرِهِ (فَصَارَ) أَيْ فَصَارَ حُكْمُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ (كَمَا لَوْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ عَلَى مِلْكٍ مُطْلَقٍ) أَيْ بِدُونِ أَنْ يَذْكُرَ التَّارِيخَ أَصْلًا (بِخِلَافِ الشِّرَاءِ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ كَمَا لَوْ ادَّعَيَا الشِّرَاءَ (لِأَنَّهُ) أَيْ الشِّرَاءُ (أَمْرٌ حَادِثٌ فَيُضَافُ إلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ) وَهُوَ الْحَالُ (فَيَتَرَجَّحُ جَانِبُ صَاحِبِ التَّارِيخِ) لِكَوْنِ شِرَاءِ صَاحِبِ التَّارِيخِ حِينَئِذٍ سَابِقًا عَلَى شِرَاءِ الْآخَرِ مِنْ زَمَانِ التَّارِيخِ لَا مَحَالَةَ.

أَقُولُ: الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ مِنْ الْمُصَنِّفِ فَإِنَّهُ كَانَ قَدْ اسْتَدَلَّ عَلَى مَسْأَلَةِ الشِّرَاءِ فِيمَا مَرَّ بِمَا هُوَ فِي سَمْتِ دَلِيلِ أَبِي يُوسُفَ هَاهُنَا وَكُنْت اسْتَشْكَلْتُهُ هُنَاكَ، وَاخْتَرْت مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْكَافِي هُنَاكَ، مُوَافِقًا لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي خَاتِمَةِ الْكَلَامِ هَاهُنَا فَتَذَكَّرْ

(قَالَ) أَيْ الْقُدُورِيُّ: فِي مُخْتَصَرِهِ (وَإِنْ أَقَامَ الْخَارِجُ وَصَاحِبُ الْيَدِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةً عَلَى النِّتَاجِ فَصَاحِبُ الْيَدِ أَوْلَى) سَوَاءٌ أَقَامَ صَاحِبُ الْيَدِ بَيِّنَةً عَلَى دَعْوَاهُ قَبْلَ الْقَضَاءِ بِهَا لِلْخَارِجِ أَوْ بَعْدَهُ،

ص: 265

لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ قَامَتْ عَلَى مَا لَا تَدُلُّ عَلَيْهِ فَاسْتَوَيَا، وَتَرَجَّحَتْ بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ بِالْيَدِ فَيَقْضِي لَهُ

وَهَذَا جَوَابُ الِاسْتِحْسَانِ. وَأَمَّا جَوَابُ الْقِيَاسِ فَالْخَارِجُ أَوْلَى، وَبِهِ أَخَذَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى. وَوَجْهُهُ أَنَّ بِبِنَّةِ الْخَارِجِ أَكْثَرُ اسْتِحْقَاقًا مِنْ بَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ لِأَنَّ الْخَارِجَ بِبَيِّنَتِهِ كَمَا يَثْبُتُ اسْتِحْقَاقُ أَوَّلِيَّةِ الْمِلْكِ بِالنِّتَاجِ يَثْبُتُ اسْتِحْقَاقُ الْمِلْكِ الثَّابِتِ لِذِي الْيَدِ بِظَاهِرِ يَدِهِ، وَذُو الْيَدِ بِبَيِّنَتِهِ لَا يُثْبِتُ اسْتِحْقَاقَ الْمِلْكِ الثَّابِتِ لِلْخَارِجِ بِوَجْهٍ مَا، فَكَانَتْ بَيِّنَةُ الْخَارِجِ أَوْلَى بِالْقَبُولِ كَمَا فِي دَعْوَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَكَثِيرٍ مِنْ الشُّرُوحِ. وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ مَا أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ (لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ) أَيْ بَيِّنَةَ ذِي الْيَدِ (قَامَتْ عَلَى مَا لَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْيَدُ) وَهُوَ أَوَّلِيَّةُ الْمِلْكِ بِالنِّتَاجِ كَبَيِّنَةِ الْخَارِجِ (فَاسْتَوَيَا وَتَرَجَّحَتْ بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ بِالْيَدِ فَيَقْضِي لَهُ) أَيْ لِذِي الْيَدِ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الْقَضَاءِ بِهَا لِلْخَارِجِ أَوْ بَعْدَهُ. أَمَّا قَبْلَهُ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا بَعْدَهُ فَلِأَنَّ ذَا الْيَدِ لَمْ يَصِرْ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ لِأَنَّ بَيِّنَتَهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ دَافِعَةٌ لِبَيِّنَةِ الْخَارِجِ لِأَنَّ النِّتَاجَ لَا يَتَكَرَّرُ، فَإِذَا ظَهَرَتْ بَيِّنَةٌ دَافِعَةٌ تَبَيَّنَ أَنَّ الْحُكْمَ لَمْ يَكُنْ مُسْتَنِدًا إلَى حُجَّةٍ فَلَا يَكُونُ مُعْتَبَرًا، كَذَا قَرَّرَ فِي الْعِنَايَةِ وَاكْتَفَى بِهِ. أَقُولُ: يُرَدُّ عَلَيْهِ أَنَّ وَجْهَ الِاسْتِحْسَانِ بِهَذَا التَّقْرِيرِ لَا يَدْفَعُ مَا ذَكَرُوا مِنْ وَجْهِ الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ تَسَاوِيَ الْبَيِّنَتَيْنِ مِنْ جِهَةِ دَلَالَةِ كُلِّ وَجْهٍ مِنْهُمَا عَلَى أَوَّلِيَّةِ الْمِلْكِ بِالنِّتَاجِ لَا يُنَافِي أَنْ تَكُونَ بَيِّنَةُ الْخَارِجِ أَكْثَرَ إثْبَاتًا لِلِاسْتِحْقَاقِ مِنْ بَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ مِنْ جِهَةِ إثْبَاتِ بَيِّنَةِ الْخَارِجِ اسْتِحْقَاقَ الْمِلْكِ الثَّابِتِ لِذِي الْيَدِ بِظَاهِرِ يَدِهِ، وَعَدَمِ إثْبَاتِ بَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ اسْتِحْقَاقَ الْمِلْكِ الثَّابِتِ لِلْخَارِجِ بِوَجْهٍ مَا عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ فِي وَجْهِ الْقِيَاسِ، فَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ بَيِّنَةُ الْخَارِجِ أَوْلَى بِنَاءً عَلَى زِيَادَةِ الْإِثْبَاتِ.

وَقَدْ كَانَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَالْكِفَايَةِ تَدَارَكَا ذَلِكَ فَزَادَا فِي تَقْرِيرِهِمَا شَيْئًا لِدَفْعِهِ حَيْثُ قَالَا: وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّ بَيِّنَةَ الْخَارِجِ أَكْثَرُ اسْتِحْقَاقًا. قُلْنَا: نَعَمْ كَذَلِكَ، إلَّا أَنَّ فِي بَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ سَبْقُ التَّارِيخِ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ أَوَّلِيَّةَ الْمِلْكِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ مِنْ جِهَةِ الْغَيْرِ فَكَانَ أَوْلَى أَلَا يَرَى أَنَّهُمَا لَوْ ادَّعَيَا مِلْكًا مُطْلَقًا وَأَرَّخَا وَذُو الْيَدِ أَسْبَقُهُمَا تَارِيخًا يَقْضِي لِذِي الْيَدِ وَإِنْ كَانَتْ فِي بَيِّنَةِ الْخَارِجِ زِيَادَةُ اسْتِحْقَاقٍ عَلَى ذِي الْيَدِ انْتَهَى.

أَقُولُ: وَيُرَدُّ عَلَيْهِ أَنَّ كَوْنَ بَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ مُثْبِتَةً لِأَوَّلِيَّةِ الْمِلْكِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ مِنْ جِهَةِ الْغَيْرِ إنَّمَا نَشَأَ مِنْ إثْبَاتِهَا النِّتَاجَ الَّذِي لَا يَتَكَرَّرُ، وَهَذَا الْمَعْنَى بِعَيْنِهِ مَوْجُودٌ فِي بَيِّنَةِ الْخَارِجِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ كَلَامَنَا فِيمَا إذَا أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْخَارِجِ وَصَاحِبِ الْيَدِ بَيِّنَةً عَلَى النِّتَاجِ كَمَا هُوَ صَرِيحُ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ هَاهُنَا وَفِيمَا إذَا لَمْ يَذْكُرَا تَارِيخًا، فَإِنَّ مَا إذَا ذَكَرَا تَارِيخَا مَسْأَلَةٍ أُخْرَى لَهَا أَقْسَامٌ وَأَحْكَامٌ أُخَرُ كَمَا سَيَجِيءُ فِي آخِرِ هَذَا الْبَابِ، فَإِذًا لَا مَعْنَى لِسَبْقِ التَّارِيخِ فِي بَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ فِي مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ فَلَا تَمْشِيَةَ لِلتَّوْجِيهِ الَّذِي ذَكَرَاهُ هَاهُنَا. وَاعْلَمْ أَنَّ وَجْهَ الِاسْتِحْسَانِ الَّذِي لَا يَحُومُ حَوْلَهُ شَائِبَةُ إشْكَالٍ هَاهُنَا مَا رَوَى أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ الْهَيْثَمِ عَنْ رَجُلٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «أَنَّ رَجُلًا ادَّعَى نَاقَةً فِي يَدَيْ رَجُلٍ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا نَاقَتُهُ نَتَجَهَا وَأَقَامَ ذُو الْيَدِ

ص: 266

وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ خِلَافًا لِمَا يَقُولُهُ عِيسَى بْنُ أَبَانَ إنَّهُ تَتَهَاتَرُ الْبَيِّنَتَانِ وَيُتْرَكُ فِي يَدِهِ لَا عَلَى طَرِيقِ الْقَضَاءِ،

الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا نَاقَتُهُ نَتَجَهَا، فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِهَا لِلَّذِي هِيَ فِي يَدِهِ» ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّهُ ذَكَرَ فِي الشُّرُوحِ أَخْذًا مِنْ الذَّخِيرَةِ أَنَّ بَيِّنَةَ ذِي الْيَدِ عَلَى النِّتَاجِ إنَّمَا تَتَرَجَّحُ عَلَى بَيِّنَةِ الْخَارِجِ إذَا لَمْ يَدَّعِ الْخَارِجُ عَلَى ذِي الْيَدِ فِعْلًا نَحْوَ الْغَضَبِ أَوْ الْوَدِيعَةِ أَوْ الْإِجَارَةِ أَوْ الرَّهْنِ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.

وَأَمَّا إذَا ادَّعَى فَبَيِّنَةُ الْخَارِجِ أَوْلَى لِأَنَّ ذَا الْيَدِ بَيِّنَتُهُ تُثْبِتُ مَا هُوَ ثَابِتٌ ظَاهِرُ يَدِهِ مِنْ وَجْهٍ وَالْخَارِجُ بَيِّنَتُهُ تُثْبِتُ الْفِعْلَ وَهُوَ غَيْرُ ثَابِتٍ أَصْلًا فَكَانَتْ بَيِّنَةُ الْخَارِجِ أَكْثَرَ إثْبَاتًا فَهِيَ أَوْلَى انْتَهَى. وَلَكِنْ قَالَ عِمَادُ الدِّينِ فِي فُصُولِهِ بَعْدَ نَقْلِ مَا فِي الشُّرُوحِ عَنْ دَعْوَى الذَّخِيرَةِ: وَذَكَرَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ فِي بَابِ دَعْوَى النِّتَاجِ فِي الْمَبْسُوطِ مَا يُخَالِفُ الْمَذْكُورَ فِي الذَّخِيرَةِ فَقَالَ: دَابَّةٌ فِي يَدِ رَجُلٍ أَقَامَ آخَرُ بَيِّنَةً أَنَّهَا دَابَّتُهُ آجَرَهَا مِنْ ذِي الْيَدِ أَوْ أَعَارَهَا مِنْهُ أَوْ رَهَنَهَا إيَّاهُ وَصَاحِبُ الْيَدِ أَقَامَ بَيِّنَةً أَنَّهَا دَابَّتُهُ نَتَجَتْ عِنْدَهُ فَإِنَّهُ يَقْضِي بِهَا لِصَاحِبِ الْيَدِ لِأَنَّهُ يَدَّعِي مِلْكَ النِّتَاجِ وَالْآخَرُ يَدَّعِي الْإِعَارَةَ أَوْ الْإِجَارَةَ أَوْ الرَّهْنَ وَالنِّتَاجُ أَسْبَقُ مِنْ الْإِعَارَةِ أَوْ الْإِجَارَةِ وَالرَّهْنِ فَيَقْضِي لِذِي الْيَدِ، وَهَذَا خِلَافُ مَا ذَكَرَ فِي الذَّخِيرَةِ انْتَهَى (وَهَذَا) أَيْ مَا ذَكَرَ مِنْ الْقَضَاءِ لِذِي الْيَدِ (هُوَ الصَّحِيحُ) وَإِلَيْهِ ذَهَبَ عَامَّةُ الْمَشَايِخِ (خِلَافًا لِمَا يَقُولُهُ عِيسَى بْنُ أَبَانَ إنَّهُ تَتَهَاتَرُ الْبَيِّنَتَانِ وَيُتْرَكُ فِي يَدِهِ) أَيْ يُتْرَكُ الْمُتَنَازَعُ فِيهِ فِي يَدِ ذِي الْيَدِ (لَا عَلَى طَرِيقِ الْقَضَاءِ) أَيْ لَا عَلَى طَرِيقِ قَضَاءِ الِاسْتِحْقَاقِ بَلْ عَلَى طَرِيقِ قَضَاءِ التَّرْكِ.

وَجْهُ قَوْلِهِ: إنَّ الْقَاضِيَ يَتَيَقَّنُ بِكَذِبِ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ إذْ لَا يُتَصَوَّرُ نِتَاجُ دَابَّةٍ مِنْ دَابَّتَيْنِ، وَفِي مِثْلِ هَذَا تَتَهَاتَرُ الْبَيِّنَتَانِ كَمَا فِي مَسْأَلَةِ كُوفَةَ وَمَكَّةَ عَلَى مَا مَرَّ فِي أَوَّلِ هَذَا الْبَابِ. وَجْهُ صِحَّةِ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْعَامَّةُ أَنَّ مُحَمَّدًا رحمه الله ذَكَرَ فِي الْخَارِجَيْنِ: أَقَامَا الْبَيِّنَةَ عَلَى النِّتَاجِ أَنَّهُ يَقْضِي بِهِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَلَوْ كَانَ الطَّرِيقُ مَا قَالَهُ لَكَانَ يُتْرَكُ فِي يَدِ ذِي الْيَدِ، وَكَذَلِكَ قَالَ: لَوْ كَانَتْ الشَّاةُ الْمَذْبُوحَةُ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا وَسَوَاقِطُهَا فِي يَدِ الْآخَرِ وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ عَلَى النِّتَاجِ فِيهَا يَقْضِي بِهَا وَبِالسَّوَاقِطِ لِمَنْ فِي يَدِهِ أَصْلُ الشَّاةِ، وَلَوْ كَانَ الطَّرِيقُ تَهَاتُرُ الْبَيِّنَتَيْنِ لَكَانَ يُتْرَكُ فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا فِي يَدِهِ.

وَالْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: إنَّ الْقَاضِيَ تَيَقَّنَ بِكَذِبِ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي شَهَادَةِ الْفَرِيقَيْنِ عَلَى الْمِلْكَيْنِ بِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا اعْتَمَدَ سَبَبًا ظَاهِرًا مُطْلَقًا لِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ، وَهَذَا لِأَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى النِّتَاجِ لَا يَلْزَمُ فِيهَا مُعَايَنَةُ الِانْفِصَالِ مِنْ الْأُمِّ، بَلْ يَكْفِي رُؤْيَةُ الْفَصِيلِ يَتْبَعُ النَّاقَةَ فَكُلٌّ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ فِي شَهَادَتِهِ عَلَى النِّتَاجِ يَجُوزُ أَنْ يَعْتَمِدَ سَبَبًا ظَاهِرًا لِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهَا وَلَا يُصَارُ إلَى التَّهَاتُرِ بِمَنْزِلَةِ شَهَادَةِ الْفَرِيقَيْنِ عَلَى الْمِلْكَيْنِ حَيْثُ لَا تَتَهَاتَرُ الْبَيِّنَتَانِ مَعَ أَنَّ الْعَيْنَ الْوَاحِدَ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا لِشَخْصَيْنِ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِكَمَالِهِ، وَلَكِنْ لَمَّا وَجَدَ الْقَاضِي لِشَهَادَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ مَحْمَلًا يُطْلِقُ لَهُ أَدَاءَ الشَّهَادَةِ بِأَنْ عَايَنَ أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ يُبَاشِرُ سَبَبَ الْمِلْكِ وَعَايَنَ الْفَرِيقُ الْآخَرُ الْخَصْمَ الْآخَرَ يَتَصَرَّفُ فِيهِ تَصَرُّفَ الْمُلَّاكِ قَبْلَ شَهَادَةِ الْفَرِيقَيْنِ، كَذَا هَاهُنَا.

وَعَنْ هَذَا خَرَجَ الْجَوَابُ عَنْ مَسْأَلَةِ مَكَّةَ وَالْكُوفَةِ لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَمْ يَجِدْ لِشَهَادَةِ الْفَرِيقَيْنِ هُنَاكَ مَحْمَلًا يُطْلِقُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَدَاءَ الشَّهَادَةِ لِأَنَّ الْمُطْلِقَ لِلشَّهَادَةِ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ مُعَايَنَةُ الشُّهُودِ إيقَاعَ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ، وَلَا يُتَصَوَّرُ سَمَاعُ الْفَرِيقَيْنِ إيقَاعَ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ مِنْ شَخْصٍ وَاحِدٍ بِمَكَّةَ وَكُوفَةَ؛ لِأَنَّ الشَّخْصَ الْوَاحِدَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ لَا يَكُونُ فِي مِثْلِ ذَيْنِكَ الْمَكَانَيْنِ عَادَةً فَتَهَاتَرَتْ الْبَيِّنَتَانِ هُنَاكَ لِذَلِكَ، أَمَّا هَاهُنَا فَبِخِلَافِهِ. ثُمَّ إنَّ ثَمَرَةَ الْخِلَافِ إنَّمَا تَظْهَرُ فِي حَقِّ

ص: 267

وَلَوْ تَلْقَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْمِلْكَ مِنْ رَجُلٍ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى النِّتَاجِ عِنْدَهُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ إقَامَتِهَا عَلَى النِّتَاجِ فِي يَدِ نَفْسِهِ (وَلَوْ أَقَامَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمِلْكِ وَالْآخَرُ عَلَى النِّتَاجِ فَصَاحِبُ النِّتَاجِ أَوْلَى أَيُّهُمَا كَانَ) لِأَنَّ بَيِّنَتَهُ قَامَتْ عَلَى أَوَّلِيَّةِ الْمِلْكِ فَلَا يَثْبُتُ لِلْآخَرِ إلَّا بِالتَّلَقِّي مِنْ جِهَتِهِ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَتْ الدَّعْوَى بَيْنَ خَارِجَيْنِ فَبَيِّنَةُ النِّتَاجِ أَوْلَى لِمَا ذَكَرْنَا (وَلَوْ قَضَى بِالنِّتَاجِ لِصَاحِبِ الْيَدِ ثُمَّ أَقَامَ ثَالِثٌ الْبَيِّنَةَ عَلَى النِّتَاجِ يَقْضِي لَهُ إلَّا أَنْ يُعِيدَهَا ذُو الْيَدِ) لِأَنَّ الثَّالِثَ لَمْ يَصِرْ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ بِتِلْكَ الْقَضِيَّةِ،

تَحْلِيفِ ذِي الْيَدِ وَعَدَمِهِ، فَعِنْدَ عِيسَى بْنِ أَبَانَ يَحْلِفُ ذُو الْيَدِ لِلْخَارِجِ لِأَنَّ الْبَيِّنَتَيْنِ لَمَّا تَهَاتَرَتَا صَارَ كَأَنَّ الْبَيِّنَتَيْنِ لَمْ تَقُومَا بِالشَّهَادَةِ أَصْلًا فَيَقْضِي لِذِي الْيَدِ قَضَاءَ تَرْكٍ بَعْدَمَا حَلَفَ لِلْخَارِجِ، وَعِنْدَ الْعَامَّةِ لَا يَحْلِفُ، كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ وَالذَّخِيرَةِ

(لَوْ تَلَقَّى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا) أَيْ وَلَوْ أَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْخَارِجِ وَذِي الْيَدِ (الْمِلْكَ مِنْ رَجُلٍ) عَلَى حِدَةٍ فَكَانَ هُنَاكَ مُمَلِّكَانِ (وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى النِّتَاجِ عِنْدَهُ) أَيْ وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ عَلَى النِّتَاجِ عِنْدَ مَنْ تَلَقَّى الْمِلْكَ مِنْهُ (فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ إقَامَتِهَا عَلَى النِّتَاجِ فِي يَدِ نَفْسِهِ) فَيَقْضِي بِهِ لِذِي الْيَدِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَصْمٌ عَمَّنْ يَتَلَقَّى الْمِلْكَ مِنْهُ، فَكَأَنَّ الْمُمَلِّكَيْنِ قَدْ حَضَرَا وَأَقَامَا عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةً فَإِنَّهُ يَقْضِي ثَمَّةَ لِصَاحِبِ الْيَدِ كَذَلِكَ هَاهُنَا (وَلَوْ أَقَامَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمِلْكِ وَالْآخَرُ عَلَى النِّتَاجِ فَصَاحِبُ النِّتَاجِ أَوْلَى أَيُّهُمَا كَانَ) أَيْ خَارِجًا كَانَ صَاحِبُ النِّتَاجِ أَوْ ذَا الْيَدِ (لِأَنَّ بَيِّنَتَهُ) أَيْ لِأَنَّ بَيِّنَةَ صَاحِبِ الْيَدِ (قَامَتْ عَلَى أَوَّلِيَّةِ الْمِلْكِ فَلَا يَثْبُتُ) أَيْ فَلَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ (لِلْآخَرِ إلَّا بِالتَّلَقِّي مِنْ جِهَتِهِ) أَيْ مِنْ جِهَةِ صَاحِبِ النِّتَاجِ، وَالْفَرْضُ أَنَّ الْآخَرَ لَمْ يَتَلَقَّ مِنْهُ (وَكَذَا إذَا كَانَتْ الدَّعْوَى بَيْنَ خَارِجَيْنِ) بِأَنْ ادَّعَى أَحَدُهُمَا الْمِلْكَ وَالْآخَرُ النِّتَاجَ (فَبَيِّنَةُ النِّتَاجِ أَوْلَى لِمَا ذَكَرْنَا) مِنْ أَنَّ بَيِّنَتَهُ تَدُلُّ عَلَى أَوَّلِيَّةِ الْمِلْكِ فَلَا يَثْبُتُ لِلْآخَرِ إلَّا بِالتَّلَقِّي مِنْ جِهَتِهِ (وَلَوْ قَضَى بِالنِّتَاجِ لِصَاحِبِ الْيَدِ ثُمَّ أَقَامَ ثَالِثٌ الْبَيِّنَةَ عَلَى النِّتَاجِ يَقْضِي لَهُ) أَيْ لِلثَّالِثِ (إلَّا أَنْ يُعِيدَهَا) أَيْ الْبَيِّنَةَ (ذُو الْيَدِ) فَحِينَئِذٍ يَقْضِي لَهُ (لِأَنَّ الثَّالِثَ لَمْ يَصِرْ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ بِتِلْكَ الْقَضِيَّةِ) لِأَنَّ الْمَقْضِيَّ بِهِ الْمِلْكُ، وَثُبُوتُ الْمِلْكِ بِالْبَيِّنَةِ فِي حَقِّ شَخْصٍ لَا يَقْضِي بِثُبُوتِهِ فِي حَقِّ آخَرَ. فَإِنْ أَعَادَ ذُو الْيَدِ بَيِّنَتَهُ قَضَى لَهُ بِهَا تَقْدِيمًا لِبَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ عَلَى بَيِّنَةِ الْخَارِجِ فِي النِّتَاجِ وَإِنْ لَمْ يُعِدْ قَضَى بِهَا لِلثَّالِثِ. قَالَ فِي الْبَدَائِعِ: فَرَّقَ بَيْنَ الْمِلْكِ وَبَيْنَ الْعِتْقِ أَنَّ الْقَضَاءَ بِالْعِتْقِ عَلَى شَخْصٍ وَاحِدٍ يَكُونُ قَضَاءً عَلَى النَّاسِ كَافَّةً، وَالْقَضَاءُ بِالْمِلْكِ عَلَى شَخْصٍ وَاحِدٍ لَا يَكُونُ قَضَاءً عَلَى غَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَتْ بَيِّنَةُ النِّتَاجِ تُوجِبُ الْمِلْكَ بِصِفَةِ الْأَوَّلِيَّةِ وَأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ التَّكْرَارَ كَالْعِتْقِ.

وَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الْعِتْقَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى؛ أَلَا يَرَى أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَقْدِرُ عَلَى إبْطَالِهِ حَتَّى لَا يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُ الْحُرِّ بِرِضَاهُ، وَلَوْ كَانَ حَقُّ الْعَبْدِ لَقَدَرَ عَلَى إبْطَالِهِ، وَإِذَا كَانَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فَالنَّاسُ فِي إثْبَاتِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى خُصُومٌ عَنْهُ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ لِكَوْنِهِمْ عَبِيدَهُ، فَكَانَ حَضْرَةُ الْوَاحِدِ كَحَضْرَةِ الْكُلِّ وَالْقَضَاءُ عَلَى الْوَاحِدِ قَضَاءً عَلَى الْكُلِّ لِاسْتِوَائِهِمْ فِي الْعُبُودِيَّةِ بِمَنْزِلَةِ الْوَرَثَةِ لَمَّا قَامُوا مَقَامَ الْمَيِّتِ فِي إثْبَاتِ حُقُوقِهِ وَالدَّفْعِ عَنْهُ لِكَوْنِهِمْ خُلَفَاءَهُ قَامَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ مَقَامَ الْكُلِّ لِاسْتِوَائِهِمْ فِي الْخِلَافَةِ، بِخِلَافِ الْمِلْكِ فَإِنَّهُ خَالِصُ حَقِّ الْعَبْدِ فَالْحَاضِرُ فِيهِ لَا يَنْتَصِبُ خَصْمًا عَنْ الْغَائِبِ إلَّا بِالْإِنَابَةِ حَقِيقَةً أَوْ ثُبُوتِ النِّيَابَةِ شَرْعًا أَوْ اتِّصَالٍ بَيْنَ الْحَاضِرِ وَالْغَائِبِ فِيمَا وَقَعَ فِيهِ الدَّعْوَى عَلَى مَا عُرْفٍ وَلَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَالْقَضَاءُ عَلَى غَيْرِهِ يَكُونُ قَضَاءَ الْغَائِبِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ

ص: 268

وَكَذَا الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ بِالْمِلْكِ الْمُطْلَقِ إذَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى النِّتَاجِ تُقْبَلُ وَيُنْقَضُ الْقَضَاءُ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ النَّصِّ.

قَالَ (وَكَذَلِكَ النَّسْجُ فِي الثِّيَابِ الَّتِي لَا تُنْسَجُ إلَّا مَرَّةً) كَغَزْلِ الْقُطْنِ

عَنْهُ خَصْمٌ حَاضِرٌ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ انْتَهَى (وَكَذَا الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ بِالْمِلْكِ الْمُطْلَقِ) إنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى النِّتَاجِ تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ (وَيُنْقَضُ الْقَضَاءُ) أَيْ وَيُنْقَضُ الْقَضَاءُ الْأَوَّلُ. صُورَتُهُ مَا إذَا أَقَامَ الْخَارِجُ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذِي الْيَد فِي دَابَّةٍ مُعَيَّنَةٍ بِالْمِلْكِ الْمُطْلَقِ فَقَضَى الْقَاضِي بِهَا لَهُ ثُمَّ أَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ عَلَى النِّتَاجِ يَقْضِي بِهَا لَهُ وَيَنْقُضُ الْقَضَاءَ الْأَوَّلَ، وَكَذَا فِي النِّهَايَةِ وَالْكِفَايَةِ (لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ النَّصِّ) أَيْ لِأَنَّ إقَامَةَ الْبَيِّنَةِ عَلَى النِّتَاجِ بِمَنْزِلَةِ النَّصِّ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْأَوَّلِيَّةِ قَطْعًا، فَكَانَ الْقَضَاءُ الْوَاقِعُ عَلَى خِلَافِهِ كَالْقَضَاءِ الْوَاقِعِ عَلَى خِلَافِ النَّصِّ، وَالْقَضَاءُ يُنْقَضُ هُنَاكَ، كَذَا هُنَا، وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ. وَفِي الْقِيَاسِ: لَا تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ لِأَنَّهُ صَارَ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ بِالْمِلْكِ فَلَا تُقْبَلُ، إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ تَلَقِّيَ الْمِلْكِ مِنْ جِهَةِ الْمَقْضِيِّ لَهُ.

وَجَوَابُهُ أَنَّهُ لَمْ يَصِرْ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى النِّتَاجِ تَبَيَّنَ أَنَّ الدَّافِعَ لِبَيِّنَةِ الْمُدَّعِي كَانَ مَوْجُودًا وَالْقَضَاءُ كَانَ خَطَأً فَأَنَّى يَكُونُ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ وَغَيْرِهَا. أَقُولُ: فِيهِ شَيْءٌ، وَهُوَ أَنَّ فِي ظَاهِرِ هَذَا الْجَوَابِ خُرُوجًا عَنْ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِهَا، فَإِنَّ عِبَارَةَ الْمَسْأَلَةِ هَكَذَا: وَكَذَا الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ بِالْمِلْكِ الْمُطْلَقِ إذَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى النِّتَاجِ تُقْبَلُ، وَيُنْقَضُ الْقَضَاءُ، وَقَدْ صَرَّحَ فِيهَا بِكَوْنِهِ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ وَيُنْقَضُ الْقَضَاءُ. فَإِنْكَارُ كَوْنِهِ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ يُنَافِيهِ ظَاهِرًا، فَالْأَوْلَى فِي الْجَوَابِ أَنْ يُقَالَ: إنَّ كَوْنَهُ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ لَا يَضُرُّ بِقَبُولِ بَيِّنَتِهِ؛ لِأَنَّ بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى النِّتَاجِ تَبَيَّنَ أَنَّ الدَّافِعَ لِبَيِّنَةِ الْمُدَّعِي كَانَ مَوْجُودًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ ظَاهِرًا عِنْدَ الْقَاضِي، فَإِذَا ظَهَرَ تَبَيَّنَ خَطَأُ الْقَضَاءِ الْأَوَّلِ فَلَمْ يَكُنْ مُعْتَبَرًا فَيُنْقَضُ كَالْقَضَاءِ بِالظَّاهِرِ فِي خِلَافِهِ نَصٌّ. قَالَ الشُّرَّاحُ: فَإِنْ قِيلَ الْقَضَاءُ بِبَيِّنَةِ الْخَارِجِ مَعَ بَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ عَلَى النِّتَاجِ مُجْتَهَدٌ فِيهِ، فَإِنَّ ابْنَ أَبِي لَيْلَى يُرَجِّحُ بَيِّنَةَ الْخَارِجِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُنْقَضَ قَضَاءُ الْقَاضِي لِمُصَادَفَتِهِ مَوْضِعَ الِاجْتِهَادِ. قُلْنَا: إنَّمَا يَكُونُ قَضَاؤُهُ عَنْ اجْتِهَادٍ إذَا كَانَتْ بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ قَائِمَةً عِنْدَهُ وَقْتَ الْقَضَاءِ فَيُرَجِّحُ بِاجْتِهَادِهِ بَيِّنَةَ الْخَارِجِ عَلَيْهَا، وَهَذِهِ الْبَيِّنَةُ مَا كَانَتْ قَائِمَةً عِنْدَهُ حَالَ الْقَضَاءِ فَلَمْ يَكُنْ قَضَاؤُهُ عَنْ اجْتِهَادٍ بَلْ كَانَ لِعَدَمِ مَا يَدْفَعُ الْبَيِّنَةَ مِنْ ذِي الْيَدِ، فَإِذَا أَقَامَ مَا يَدْفَعُ بِهِ انْتَقَضَ الْقَضَاءُ الْأَوَّلُ انْتَهَى.

أَقُولُ: لَا يَتَوَجَّهُ السُّؤَالُ رَأْسًا لِأَنَّ كَلَامَنَا فِي أَنَّ الْمَقْضِيَّ عَلَيْهِ بِالْمِلْكِ الْمُطْلَقِ إذَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى النِّتَاجِ تُقْبَلُ وَيُنْقَضُ الْقَضَاءُ، وَتَرْجِيحُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى الْخَارِجَ فِيمَا إذَا ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْخَارِجِ وَذُو الْيَدِ النِّتَاجَ عَلَى مَا بَيَّنَ فِيمَا قَبْلُ وَذَلِكَ غَيْرُ مَا نَحْنُ فِيهِ، وَأَمَّا تَرْجِيحُهُ بَيِّنَةَ الْخَارِجِ فِيمَا إذَا ادَّعَى الْخَارِجُ الْمِلْكَ الْمُطْلَقَ وَذُو الْيَدِ النِّتَاجَ كَمَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ فَغَيْرُ ثَابِتٍ. وَقَدْ تَتَبَّعْت الْكُتُبَ وَلَمْ أَظْفَرْ بِالتَّصْرِيحِ بِذَلِكَ مِنْ أَحَدٍ قَطُّ، وَمَا ذَكَرُوا فِيمَا مَرَّ مِنْ وَجْهِ جَوَابِ الْقِيَاسِ الَّذِي أَخَذَ بِهِ ابْنُ أَبِي لَيْلَى لَا يُسَاعِدُ ذَلِكَ جِدًّا كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى الْمُتَأَمِّلِ

(قَالَ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ (وَكَذَلِكَ النَّسِيجُ) أَيْ النَّسْجُ كَالنِّتَاجِ فِي أَنَّهُ لَا يَتَكَرَّرُ، وَكُلُّ حُكْمٍ عَرَفْته فِي النِّتَاجِ فَهُوَ فِي النَّسِيجِ كَذَلِكَ. وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ: إذَا ادَّعَى رَجُلٌ ثَوْبًا فِي يَدِ رَجُلٍ أَنَّهُ مِلْكُهُ بِأَنَّهُ نَسَجَهُ فِي مِلْكِهِ وَأَقَامَ عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةً وَأَقَامَ صَاحِبُ الْيَدِ بَيِّنَةً عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ قُضِيَ بِالثَّوْبِ لِصَاحِبِ الْيَدِ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ (فِي الثِّيَابِ الَّتِي لَا تُنْسَجُ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً كَغَزْلِ الْقُطْنِ) هَذَا احْتِرَازٌ عَنْ الثِّيَابِ الَّتِي تُنْسَجُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى كَالْخَزِّ.

وَفِي الْمَبْسُوطِ: النَّسْخُ فِي الثَّوْبِ مُوجِبٌ لِأَوَّلِيَّةِ الْمِلْكِ فِيهِ وَهُوَ

ص: 269

وَكَذَلِكَ كُلُّ سَبَبٍ فِي الْمِلْكِ لَا يَتَكَرَّرُ) لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى النِّتَاجِ كَحَلْبِ اللَّبَنِ وَاِتِّخَاذِ الْجُبْنِ وَاللِّبَدِ وَالْمِرْعِزَّى وَجَزِّ الصُّوفِ، وَإِنْ كَانَ يَتَكَرَّرُ قُضِيَ بِهِ لِلْخَارِجِ بِمَنْزِلَةِ الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ

مِمَّا لَا يَتَكَرَّرُ كَالنِّتَاجِ فِي الدَّايَةِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الثَّوْبُ بِحَيْثُ يُنْسَجُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى كَالْخَزِّ يُنْسَجُ ثُمَّ يُنْكَثُ فَيُغْزَلُ وَيُنْسَجُ ثَانِيًا فَحِينَئِذٍ يَقْضِي لِلْخَارِجِ (وَكَذَلِكَ كُلُّ سَبَبٍ فِي الْمِلْكِ لَا يَتَكَرَّرُ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى النِّتَاجِ) قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْقِيَاسَ فِي دَعْوَى النِّتَاجِ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ ابْنُ أَبِي لَيْلَى مِنْ أَنَّ بَيِّنَةَ الْخَارِجِ أَوْلَى، وَأَنَّ مَا ذَهَبْنَا إلَيْهِ مِنْ كَوْنِ بَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ أَوْلَى اسْتِحْسَانٌ تَرَكْنَا الْقِيَاسَ فِيهِ بِالسُّنَّةِ، وَهِيَ حَدِيثُ جَابِرٍ رضي الله عنه كَمَا رَوَيْنَا مِنْ قَبْلُ فَلَا يُلْحَقُ بِالنِّتَاجِ إلَّا مَا كَانَ فِي مَعْنَاهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَكُلُّ مَا لَا يَتَكَرَّرُ مِنْ أَسْبَابِ الْمِلْكِ فَهُوَ فِي مَعْنَاهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَيُلْحَقُ بِهِ بِدَلَالَةِ النَّصِّ (كَحَلْبِ اللَّبَنِ وَاِتِّخَاذِ الْجُبْنِ وَاللِّبَدِ) أَيْ وَاِتِّخَاذِ اللِّبَدِ (وَالْمِرْعِزَّى) أَيْ وَجَزِّ الْمِرْعِزَّى إذَا شَدَّدْت الزَّايَ قَصَرْت وَإِذَا خَفَّفَتْ مَدَدْت، وَالْمِيمُ وَالْعَيْنُ مَكْسُورَتَانِ.

وَقَدْ يُقَالُ: مَرْعَزَاءُ بِفَتْحِ الْمِيمِ مُخَفَّفًا مَمْدُودًا وَهِيَ كَالصُّوفِ تَحْتَ شَعْرِ الْعَنْزِ، كَذَا فِي الْمُغْرِبِ (وَجَزِّ الصُّوفِ) فَإِذَا ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْخَارِجِ وَذِي الْيَدِ لَبَنًا أَنَّهُ مِلْكُهُ حَلَبَهُ مِنْ شَاتِه، أَوْ ادَّعَى جُبْنًا أَنَّهُ مِلْكُهُ صَنَعَهُ فِي مِلْكِهِ، أَوْ ادَّعَى لِبْدًا أَنَّهُ مِلْكُهُ صَنَعَهُ فِي مِلْكِهِ، أَوْ ادَّعَى مِرْعِزَّى أَنَّهَا مِلْكُهُ جَزّهَا مِنْ عَنْزِهِ، أَوْ ادَّعَى صُوفًا أَنَّهُ مِلْكُهُ جَزَّهُ مِنْ غَنَمِهِ وَأَقَامَا عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةً فَإِنَّهُ يَقْضِي بِذَلِكَ لِذِي الْيَدِ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ كُلِّهَا؛ لِأَنَّ أَسْبَابَ الْمِلْكِ فِيهَا لَا تَكُونُ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً فَكَانَتْ فِي مَعْنَى النِّتَاجِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَأُلْحِقَتْ بِهِ (وَإِنْ كَانَ يَتَكَرَّرُ) أَيْ وَإِنْ كَانَ سَبَبُ الْمِلْكِ يَتَكَرَّرُ (قُضِيَ بِهِ لِلْخَارِجِ بِمَنْزِلَةِ الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الثَّوْبَ الَّذِي يُنْسَجُ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ يَجُوزُ أَنْ يَصِيرَ لِذِي الْيَدِ بِالنَّسْجِ ثُمَّ يَغْصِبُهُ الْخَارِجُ وَيَنْقُضُهُ وَيَنْسِجُهُ مَرَّةً أُخْرَى فَيَصِيرُ مِلْكًا لَهُ بِهَذَا السَّبَبِ بَعْدَ مَا كَانَ مِلْكًا لِذِي الْيَدِ فَكَانَ بِمَعْنَى دَعْوَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ فَإِنَّ الثَّوْبَ الَّذِي لَا يُنْسَجُ إلَّا مَرَّةً إذَا صَارَ لِذِي الْيَدِ يَنْسِجُهُ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَصِيرَ لِلْخَارِجِ بِنَسْجِهِ فَكَانَ فِي مَعْنَى دَعْوَى النِّتَاجِ انْتَهَى.

وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: فِيهِ بَحْثٌ. أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ السَّبَبَ يُرَادُ لِحُكْمِهِ كَمَا سَيَجِيءُ بَعْدَ أَسْطُرٍ. وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّهُ يَلْزَمُ نَقْضُ الْيَدِ الثَّابِتَةِ بِالشَّكِّ انْتَهَى. أَقُولُ: كِلَا بَحْثَيْهِ سَاقِطٌ جِدًّا. أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُ لَا يَقْضِي هَاهُنَا بِالْبَيِّنَتَيْنِ بِنَاءً عَلَى اعْتِبَارِ السَّبَبَيْنِ حَتَّى يُقَالَ: إنَّ السَّبَبَ يُرَادُ لِحُكْمِهِ وَهُوَ الْمِلْكُ وَلَمْ يَثْبُتُ الْمِلْكُ بِالنِّسْبَةِ إلَى ذِي الْيَدِ حَيْثُ كَانَ الْمُدَّعَى لِلْخَارِجِ؛ بَلْ إنَّمَا يَقْضِي هَاهُنَا بِبَيِّنَةِ الْخَارِجِ فَقَطْ بِنَاءً عَلَى كَوْنِهَا أَكْثَرَ

ص: 270

وَهُوَ مِثْلُ الْخَزِّ وَالْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ وَزِرَاعَةِ الْحِنْطَةِ وَالْحُبُوبِ، فَإِنْ أَشْكَلَ يَرْجِعُ إلَى أَهْلِ الْخِبْرَةِ لِأَنَّهُمْ أَعْرَفُ بِهِ، فَإِنْ أَشْكَلَ عَلَيْهِمْ قُضِيَ بِهِ لِلْخَارِجِ لِأَنَّ الْقَضَاءَ بِبَيِّنَتِهِ هُوَ الْأَصْلُ وَالْعُدُولُ عَنْهُ بِخَبَرِ النِّتَاجِ،

إثْبَاتًا كَمَا فِي الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ فَلَمْ يُعْتَبَرْ إلَّا سَبَبٌ وَاحِدٌ هُوَ الْخَارِجُ، بِخِلَافِ مَا سَيَجِيءُ بَعْدَ أَسْطُرٍ حَيْثُ يَقْضِي هُنَاكَ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ بِالْبَيِّنَتَيْنِ عَلَى اعْتِبَارِ السَّبَبَيْنِ وَيَكُونُ الْمُدَّعَى لِلْخَارِجِ؛ فَيُتَّجَهُ عَلَيْهِ مِنْ قِبَلِ الْإِمَامَيْنِ أَنْ يُقَالَ: إنَّ السَّبَبَ يُرَادُ لِحُكْمِهِ وَهُوَ الْمِلْكُ، وَحَيْثُ لَمْ يَثْبُتْ الْمِلْكُ لِذِي الْيَدِ لَمْ يَكُنْ السَّبَبُ مُفِيدًا لِحُكْمِهِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ فَلَمْ يُعْتَبَرْ، وَسَيَتَّضِحُ لَك الْأَمْرُ هُنَاكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ مِنْ الْمَعْنَى لَيْسَ عِلَّةً لِلْقَضَاءِ لِلْخَارِجِ فِيمَا يَتَكَرَّرُ مِنْ الْأَسْبَابِ حَتَّى يُقَالَ: كَيْفَ تُنْقَضُ الْيَدُ الثَّابِتَةُ بِالْمُحْتَمَلِ الْمَشْكُوكِ، بَلْ هُوَ مُجَرَّدُ بَيَانِ كَوْنِ الدَّعْوَى بِسَبَبٍ يَتَكَرَّرُ فِي مَعْنَى دَعْوَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ دُونَ دَعْوَى النِّتَاجِ حَيْثُ لَا يَدُلُّ السَّبَبُ الَّذِي يَتَكَرَّرُ عَلَى أَوَّلِيَّةِ الْمِلْكِ كَالنِّتَاجِ، بَلْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَثْبُتَ بِهِ الْمِلْكُ أَوَّلًا وَثَانِيًا كَالْمِلْكِ الْمُطْلَقِ، وَإِنَّمَا عِلَّةُ الْقَضَاءِ لِلْخَارِجِ بَعْدَ تَقَرُّرِ ذَلِكَ الْمَعْنَى كَوْنُ بَيِّنَةِ الْخَارِجِ أَكْثَرَ إثْبَاتًا مِنْ بَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ كَمَا تَحَقَّقَ فِي مَسْأَلَةِ دَعْوَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ وَلَا حَاجَةَ إلَى بَيَانِهِ هَاهُنَا، وَمَفَاسِدُ قِلَّةِ التَّأَمُّلِ مِمَّا يَضِيقُ عَنْ الْإِحَاطَةِ بِهِ نِطَاقُ الْبَيَانِ، وَاسْتَشْكَلَ ذَلِكَ الْبَعْضُ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ وَإِنْ كَانَ يَتَكَرَّرُ قُضِيَ بِهِ لِلْخَارِجِ حَيْثُ قَالَ فِيهِ: إنَّ الشِّرَاءَ سَبَبٌ يَتَكَرَّرُ مَعَ أَنَّ بَيِّنَةَ ذِي الْيَدِ أَوْلَى فَلَا بُدَّ مِنْ الْفَرْقِ. أَقُولُ: إذَا ادَّعَى الْخَارِجُ الشِّرَاءَ مِنْ رَجُلٍ وَادَّعَاهُ ذُو الْيَدِ مِنْ رَجُلٍ آخَرَ فَالْحُكْمُ فِيهِ كَحُكْمِ مَا إذَا ادَّعَيَا الْمِلْكَ الْمُطْلَقَ فَلَا تَفَاوَتَ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ فِي عَامَّةِ الْمُعْتَبَرَاتِ، وَذَكَرَهُ الشَّارِحُ الْأَتْقَانِيُّ فِيمَا مَرَّ نَقْلًا عَنْ مَبْسُوطِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ فَلَا اشْتِبَاهَ هُنَاكَ.

وَأَمَّا إذَا ادَّعَيَا الشِّرَاءَ مِنْ وَاحِدٍ فَبَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ أَوْلَى كَمَا مَرَّ فِي الْكِتَابِ. فَوَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا نَحْنُ فِيهِ هُوَ أَنَّ كُلًّا مِنْ الْخَارِجِ وَذِي الْيَدِ هُنَاكَ أَثْبَتَ بِبَيِّنَتِهِ الِاسْتِحْقَاقَ عَلَى ثَالِثٍ حَيْثُ ادَّعَيَا تَلَقِّيَ الْمِلْكِ مِنْ جِهَتِهِ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ، فَكَانَ مَا ادَّعَيَاهُ سَبَبَ الِاسْتِحْقَاقِ عَلَى الْغَيْرِ لَا سَبَبَ الْمِلْكِ وَحْدَهُ فَلَمْ يَكُنْ مَعْنَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ، بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ، وَلَعَلَّ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ إيمَاءً إلَى ذَلِكَ حَيْثُ قَالَ: وَكَذَلِكَ كُلُّ سَبَبٍ فِي الْمِلْكِ لَا يَتَكَرَّرُ، ثُمَّ قَالَ: وَإِنْ كَانَ يَتَكَرَّرُ قُضِيَ بِهِ لِلْخَارِجِ فَاعْتَبَرَ اخْتِلَافَ حُكْمَيْ مَا يَتَكَرَّرُ وَمَا لَا يَتَكَرَّرُ فِي سَبَبِ الْمِلْكِ احْتِرَازًا عَنْ سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ (وَهُوَ) أَيْ السَّبَبُ الْمُتَكَرِّرُ فِي الْمِلْكِ (مِثْلُ الْخَزِّ) أَيْ مِثْلُ نَسْجِ الْخَزِّ: وَهُوَ اسْمُ دَابَّةٍ ثُمَّ سُمِّيَ الثَّوْبُ الْمُتَّخَذُ مِنْ وَبَرِهِ خَزًّا، كَذَا فِي الْمُغْرِبِ.

قِيلَ: هُوَ يُنْسَجُ فَإِذَا بَلِيَ يُغْزَلُ مَرَّةً أُخْرَى وَيُنْسَجُ (وَالْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ وَزِرَاعَةِ الْحِنْطَةِ وَالْحُبُوبِ) أَيْ وَزِرَاعَةِ الْحِنْطَةِ وَسَائِرِ الْحُبُوبِ، فَإِذَا ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْخَارِجِ وَذِي الْيَدِ ثَوْبًا أَنَّهُ مِلْكُهُ نَسَجَهُ مِنْ خَزِّهِ، أَوْ ادَّعَى دَارًا أَنَّهَا مِلْكُهُ بَنَاهَا بِمَالِهِ أَوْ ادَّعَى غَرْسًا أَنَّهُ مِلْكُهُ غَرَسَهُ. أَوْ ادَّعَى حِنْطَةً أَنَّهَا مِلْكُهُ زَرَعَهَا أَوْ حَبًّا آخَرَ مِنْ الْحُبُوبِ كَذَلِكَ وَأَقَامَا عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةً قُضِيَ بِذَلِكَ لِلْخَارِجِ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ كُلِّهَا لِأَنَّ أَسْبَابَ الْمِلْكِ فِيهَا لَيْسَتْ فِي مَعْنَى النِّتَاجِ لِتَكَرُّرِهَا أَمَّا الْخَزُّ فَلِمَا نَقَلْنَاهُ، وَأَمَّا الْبِنَاءُ فَلِأَنَّهُ يَكُونُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، وَأَمَّا الْغَرْسُ فَكَذَلِكَ، وَأَمَّا الْحِنْطَةُ وَالْحُبُوبُ فَلِأَنَّهَا تُزْرَعُ ثُمَّ يُغَرْبَلُ التُّرَابُ فَتَتَمَيَّزُ الْحِنْطَةُ وَالْحُبُوبُ ثُمَّ تُزْرَعُ ثَانِيَةً، فَإِذَا لَمْ تَكُنْ فِي مَعْنَاهُ لَمْ تُلْحَقْ بِهِ بَلْ صَارَتْ بِمَنْزِلَةِ الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ (فَإِنْ أَشْكَلَ) أَيْ فَإِنْ أَشْكَلَ شَيْءٌ لَا يَتَيَقَّنُ بِالتَّكْرَارِ وَعَدَمِهِ فِيهِ (يَرْجِعُ إلَى أَهْلِ الْخِبْرَةِ) أَيْ يَسْأَلُ الْقَاضِي أَهْلَ الْعِلْمِ عَنْ ذَلِكَ: يَعْنِي الْعُدُولَ مِنْهُمْ وَيَبْنِي حُكْمَهُ عَلَى قَوْلِهِمْ (لِأَنَّهُمْ أَعْرَفُ بِهِ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} الْوَاحِدُ مِنْهُمْ يَكْفِي وَالِاثْنَانِ أَحْوَطُ وَكَذَا فِي النِّهَايَةِ نَقْلًا عَنْ الْمَبْسُوطِ وَالذَّخِيرَةِ (فَإِنْ أَشْكَلَ عَلَيْهِمْ) أَيْ فَإِنْ أَشْكَلَ ذَلِكَ عَلَى أَهْلِ الْخِبْرَةِ أَيْضًا (قُضِيَ بِهِ) أَيْ بِالْمُشْكِلِ (لِلْخَارِجِ لِأَنَّ الْقَضَاءَ بِبَيِّنَتِهِ) أَيْ بَيِّنَةِ الْخَارِجِ (هُوَ الْأَصْلُ) لِأَنَّهُ الْقِيَاسُ (وَالْعُدُولُ عَنْهُ بِخَبَرِ النِّتَاجِ) أَيْ وَالْعُدُولُ عَنْ الْأَصْلِ كَانَ بِخَبَرِ النِّتَاجِ: أَيْ بِحَدِيثِ النِّتَاجِ، وَهُوَ حَدِيثُ جَابِرٍ رضي الله عنه كَمَا رَوَيْنَاهُ مِنْ قَبْلُ فِي وَجْهِ الِاسْتِحْسَانِ

ص: 271

فَإِذَا لَمْ يَعْلَمْ يَرْجِعُ إلَى الْأَصْلِ.

قَالَ (وَإِنْ أَقَامَ الْخَارِجُ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ وَصَاحِبُ الْيَدِ الْبَيِّنَةَ عَلَى الشِّرَاءِ مِنْهُ كَانَ صَاحِبُ الْيَدِ أَوْلَى) لِأَنَّ الْأَوَّلَ إنْ كَانَ يَدَّعِي أَوَّلِيَّةَ الْمِلْكِ فَهَذَا تَلَقَّى مِنْهُ، وَفِي هَذَا لَا تَنَافِي فَصَارَ كَمَا إذَا أَقَرَّ بِالْمِلْكِ لَهُ ثُمَّ ادَّعَى الشِّرَاءَ مِنْهُ.

قَالَ (وَإِنْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ عَلَى الشِّرَاءِ مِنْ الْآخَرِ وَلَا تَارِيخَ مَعَهُمَا تَهَاتَرَتْ الْبَيِّنَتَانِ وَتُتْرَكُ الدَّارُ فِي يَدِ ذِي الْيَدِ) قَالَ: وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ. وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ يَقْضِي بِالْبَيِّنَتَيْنِ وَيَكُونُ لِلْخَارِجِ لِأَنَّ الْعَمَلَ بِهِمَا مُمْكِنٌ فَيَجْعَلُ كَأَنَّهُ اشْتَرَى ذُو الْيَدِ مِنْ الْآخَرِ وَقَبَضَ ثُمَّ بَاعَ الدَّارَ لِأَنَّ الْقَبْضَ دَلَالَةُ السَّبْقِ عَلَى مَا مَرَّ،

فَإِذَا لَمْ يَعْلَمْ يَرْجِعْ إلَى الْأَصْلِ) الَّذِي هُوَ الْقِيَاسُ.

(قَالَ أَيْ الْقُدُورِيُّ) فِي مُخْتَصَرِهِ (وَإِنْ أَقَامَ الْخَارِجُ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ وَصَاحِبُ الْيَدِ الْبَيِّنَةَ عَلَى الشِّرَاءِ مِنْهُ) أَيْ مِنْ ذَلِكَ الْخَارِجِ (كَانَ صَاحِبُ الْيَدِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ) أَيْ الْخَارِجَ (وَإِنْ كَانَ يَدَّعِي أَوَّلِيَّةَ الْمِلْكِ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: إنْ كَانَ يُثْبِتُ أَوَّلِيَّةَ الْمِلْكِ (فَهَذَا) أَيْ فَصَاحِبُ الْيَدِ (تَلَقَّى مِنْهُ) أَيْ تَلَقَّى الْمِلْكَ مِنْ ذَلِكَ الْخَارِجِ (وَفِي هَذَا لَا تَنَافِيَ) كَمَا لَا يَخْفَى (فَصَارَ) أَيْ فَصَارَ حُكْمُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ (كَمَا إذَا أَقَرَّ بِالْمِلْكِ لَهُ) أَيْ كَمَا إذَا أَقَرَّ صَاحِبُ الْيَدِ بِالْمِلْكِ لِلْخَارِجِ (ثُمَّ ادَّعَى) أَيْ صَاحِبُ الْيَدِ (الشِّرَاءَ مِنْهُ) أَيْ مِنْ الْخَارِجِ. قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: ذَكَرَ فِي الْفُصُولِ: وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْخَارِجَ مَعَ ذِي الْيَدِ إذَا ادَّعَيَا مِلْكًا مُطْلَقًا فَفِي كُلِّ الصُّوَرِ الْخَارِجُ أَوْلَى. إلَّا إذَا أَقَامَ صَاحِبُ الْيَدِ بَيِّنَةً عَلَى النِّتَاجِ أَوْ أَرَّخَا وَتَارِيخُ صَاحِبِ الْيَدِ أَسْبَقُ، وَفِي هَذِهِ الصُّوَرِ الَّتِي ذَكَرَهَا فِي الْكِتَابِ تَتَرَجَّحُ بَيِّنَةُ صَاحِبِ الْيَدِ أَيْضًا، وَهِيَ فِيمَا إذَا أَقَامَ الْخَارِجُ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمِلْكِ وَأَقَامَ صَاحِبُ الْيَدِ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهُ اشْتَرَاهُ مِنْ الْمُدَّعِي، وَإِنْ كَانَ الْمُدَّعِي أَثْبَتَ أَوَّلِيَّةَ الْمِلْكِ فَهَذَا تَلَقَّى مِنْهُ، فَحَصَلَ مِنْ هَذَا أَنَّ بَيِّنَةَ ذِي الْيَدِ تَتَرَجَّحُ عَلَى بَيِّنَةِ الْخَارِجِ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ الثَّلَاثِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا انْتَهَى.

أَقُولُ: لَا مِسَاسَ لِهَذِهِ الصُّورَةِ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي الْكِتَابِ بِمَا ذَكَرَ فِي الْفُصُولِ؛ لِأَنَّهُ فِيمَا إذَا ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْخَارِجِ وَذِي الْيَدِ مِلْكًا مُطْلَقًا عَلَى مَا هُوَ مَدْلُولُ صَرِيحِ قَوْلِ صَاحِبِ الْفُصُولِ.

وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْخَارِجَ مَعَ ذِي الْيَدِ إذَا ادَّعَيَا مِلْكًا مُطْلَقًا إلَخْ، وَمَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ فِيمَا إذَا ادَّعَى الْخَارِجُ الْمِلْكَ الْمُطْلَقَ وَذُو الْيَدِ الْمِلْكَ الْمُقَيَّدَ بِالشِّرَاءِ فَضَمَّ هَذِهِ الصُّورَةَ إلَى الصُّورَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ فِي الْفُصُولِ بِطَرِيقِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَجَعَلَ مَا تَتَرَجَّحُ فِيهِ بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ عَلَى بَيِّنَةِ الْخَارِجِ صُوَرًا ثَلَاثًا كَمَا فَعَلَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ مِمَّا لَا حَاصِلَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ أَنَّ مَا يَتَرَجَّحُ فِيهِ بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ عَلَى بَيِّنَةِ الْخَارِجِ فِيمَا إذَا ادَّعَيَا الْمِلْكَ الْمُطْلَقَ هَذِهِ الصُّوَرَ الثَّلَاثَ لَيْسَ بِصَحِيحٍ كَمَا لَا يَخْفَى، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ مَا يَتَرَجَّحُ فِيهِ بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ عَلَى بَيِّنَةِ الْخَارِجِ فِيمَا إذَا ادَّعَيَا الْمِلْكَ الْمُطْلَقَ أَوْ غَيْرَهُ هَذِهِ الصُّوَرَ الثَّلَاثَ فَلَيْسَ بِتَامٍّ؛ لِأَنَّ مَا يَتَرَجَّحُ فِيهِ بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ عَلَى بَيِّنَةِ الْخَارِجِ مُطْلَقًا غَيْرُ مُنْحَصِرٍ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ الثَّلَاثِ بَلْ مُتَحَقِّقٌ فِي غَيْرِهَا أَيْضًا، كَمَا إذَا ادَّعَيَا الشِّرَاءَ مِنْ وَاحِدٍ وَلَمْ يَكُنْ تَارِيخُ أَحَدِهِمَا أَسْبَقَ عَلَى مَا سَبَقَ فِي الْكِتَابِ

(قَالَ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ: (وَإِنْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا) أَيْ مِنْ الْخَارِجِ وَذِي الْيَدِ (الْبَيِّنَةَ عَلَى الشِّرَاءِ مِنْ الْآخَرِ) أَيْ أَقَامَ الْخَارِجُ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهُ اشْتَرَى هَذِهِ الدَّارَ مَثَلًا مِنْ ذِي الْيَدِ وَأَقَامَهَا ذُو الْيَدِ عَلَى أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْ الْخَارِجِ (وَلَا تَارِيخَ مَعَهُمَا تَهَاتَرَتْ الْبَيِّنَتَانِ وَتُتْرَكُ الدَّارُ فِي يَدِ ذِي الْيَدِ) بِغَيْرِ قَضَاءٍ (قَالَ) أَيْ الْمُصَنِّفُ (وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ. وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ يَقْضِي بِالْبَيِّنَتَيْنِ وَتَكُونُ)

أَيْ وَتَكُونُ الدَّارُ (لِلْخَارِجِ لِأَنَّ الْعَمَلَ بِهِمَا) أَيْ بِالْبَيِّنَتَيْنِ (مُمْكِنٌ فَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ اشْتَرَى ذُو الْيَدِ مِنْ الْآخَرِ وَقَبَضَ ثُمَّ بَاعَ) أَيْ ثُمَّ بَاعَ ذُو الْيَدِ مِنْ الْخَارِجِ (وَلَمْ يَقْبِضْ) الْخَارِجُ (لِأَنَّ الْقَبْضَ دَلَالَةُ السَّبْقِ) أَيْ لِأَنَّ قَبْضَ ذِي الْيَدِ دَلِيلُ سَبْقِهِ فِي الشِّرَاءِ (كَمَا مَرَّ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرَا تَارِيخًا وَمَعَ

ص: 272

وَلَا يَعْكِسُ الْأَمْرَ لِأَنَّ الْبَيْعَ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَجُوزُ وَإِنْ كَانَ فِي الْعَقَارِ عِنْدَهُ. وَلَهُمَا أَنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى الشِّرَاءِ إقْرَارٌ مِنْهُ بِالْمِلْكِ لِلْبَائِعِ فَصَارَ كَأَنَّهُمَا قَامَتَا عَلَى الْإِقْرَارَيْنِ وَفِيهِ التَّهَاتُرُ بِالْإِجْمَاعِ، كَذَا هَاهُنَا، وَلِأَنَّ السَّبَبَ يُرَادُ لِحُكْمِهِ وَهُوَ الْمِلْكُ وَلَا يُمْكِنُ الْقَضَاءُ لِذِي الْيَدِ إلَّا بِمِلْكٍ مُسْتَحَقٍّ فَبَقِيَ الْقَضَاءُ لَهُ بِمُجَرَّدِ السَّبَبِ وَأَنَّهُ لَا يُفِيدُهُ.

ثُمَّ لَوْ شَهِدَتْ الْبَيِّنَتَانِ عَلَى نَقْدِ الثَّمَنِ فَالْأَلْفُ بِالْأَلْفِ قِصَاصٌ عِنْدَهُمَا إذَا اسْتَوَيَا لِوُجُودِ قَبْضٍ مَضْمُونٍ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَإِنْ لَمْ يَشْهَدُوا عَلَى نَقْدِ الثَّمَنِ فَالْقِصَاصُ مَذْهَبُ مُحَمَّدٍ لِلْوُجُوبِ عِنْدَهُ. وَلَوْ شَهِدَ الْفَرِيقَانِ بِالْبَيْعِ وَالْقَبْضِ تَهَاتَرَتَا بِالْإِجْمَاعِ،

أَحَدِهِمَا قَبْضٌ فَهُوَ أَوْلَى لِأَنَّ تَمَكُّنَهُ مِنْ قَبْضِهِ يَدُلُّ عَلَى سَبْقِ شِرَائِهِ انْتَهَى (وَلَا يَعْكِسُ الْأَمْرَ) أَيْ لَا يَجْعَلُ كَأَنَّ الْخَارِجَ اشْتَرَاهَا مِنْ ذِي الْيَدِ أَوَّلًا ثُمَّ بَاعَهَا إيَّاهُ (لِأَنَّ الْبَيْعَ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَجُوزُ) يَعْنِي أَنَّ الْعَكْسَ يَسْتَلْزِمُ الْبَيْعَ قَبْلَ الْقَبْضِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ (وَإِنْ كَانَ) أَيْ وَإِنْ كَانَ الْبَيْعُ (فِي الْعَقَارِ عِنْدَهُ) أَيْ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رحمه الله (وَلَهُمَا) أَيْ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ (أَنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى الشِّرَاءِ إقْرَارٌ مِنْهُ) أَيْ مِنْ الْمُشْتَرِي (بِالْمِلْكِ لِلْبَائِعِ فَصَارَ) أَيْ فَصَارَ أَمْرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ (كَأَنَّهُمَا) أَيْ الْبَيِّنَتَيْنِ (قَامَتَا عَلَى الْإِقْرَارَيْنِ) أَيْ عَلَى الْإِقْرَارَيْنِ مِنْ الطَّرَفَيْنِ (وَفِيهِ التَّهَاتُرُ بِالْإِجْمَاعِ فَكَذَا هُنَا) أَيْ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ (وَلِأَنَّ السَّبَبَ يُرَادُ لِحُكْمِهِ وَهُوَ الْمِلْكُ)، هَذَا دَلِيلٌ آخَرُ مُتَضَمِّنٌ لِلْجَوَابِ عَمَّا.

قَالَهُ مُحَمَّدٌ أَنَّ الْعَمَلَ بِالْبَيِّنَتَيْنِ مُمْكِنٌ: يَعْنِي أَنَّ السَّبَبَ لَا يُرَادُ لِنَفْسِهِ وَإِنَّمَا يُرَادُ لِحُكْمِهِ، فَإِذَا كَانَ مُفِيدًا لِحُكْمِهِ كَانَ مُعْتَبَرًا وَإِلَّا فَلَا لِكَوْنِهِ غَيْرَ مَقْصُودٍ بِالذَّاتِ (وَهَاهُنَا لَا يُمْكِنُ الْقَضَاءُ لِذِي الْيَدِ إلَّا بِمِلْكٍ مُسْتَحَقٍّ) أَيْ لِلْخَارِجِ؛ لِأَنَّا إذَا قَضَيْنَا بِبَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ فَإِنَّمَا نَقْضِي لِيَزُولَ مِلْكُهُ إلَى الْخَارِجِ فَلَمْ يَكُنْ السَّبَبُ الَّذِي هُوَ الْبَيِّنَةُ هَاهُنَا مُفِيدًا لِحُكْمِهِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ (فَبَقِيَ الْقَضَاءُ لَهُ بِمُجَرَّدِ السَّبَبِ وَأَنَّهُ لَا يُفِيدُهُ) فَلَمْ يَكُنْ مُعْتَبَرًا فَلَمْ يُمْكِنْ الْعَمَلُ بِالْبَيِّنَتَيْنِ.

أَقُولُ: لِمُطَالِبٍ أَنْ يُطَالِبَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ عَلَى قَوْلِهِمَا وَبَيْنَ مَا إذَا أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ؛ مِنْ الْخَارِجِ وَذِي الْيَدِ الْبَيِّنَةَ عَلَى النِّتَاجِ وَلَا تَارِيخَ مَعَهُمَا حَيْثُ لَمْ تَتَهَاتَرْ الْبَيِّنَتَانِ هُنَاكَ عِنْدَ أَئِمَّتِنَا الثَّلَاثَةِ عَلَى مَا هُوَ الصَّحِيحُ، بَلْ قَضَى بِبَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ لَهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْبَيِّنَتَيْنِ اسْتَوَتَا فِي الْإِثْبَاتِ وَتَرَجَّحَتْ بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ بِالْيَدِ كَمَا مَرَّ وَتَهَاتَرَتَا هَاهُنَا عِنْدَهُمَا مَعَ الِاشْتِرَاكِ فِي الْعِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ هُنَاكَ، فَتَأَمَّلْ فِي الْفَرْقِ

(ثُمَّ لَوْ شَهِدَتْ الْبَيِّنَتَانِ عَلَى نَقْدِ الثَّمَنِ فَالْأَلْفُ بِالْأَلْفِ قِصَاصٌ عِنْدَهُمَا إذَا اسْتَوَيَا) أَيْ إذَا اسْتَوَى الثَّمَنَانِ (لِوُجُودِ قَبْضٍ مَضْمُونٍ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ) لِعَدَمِ الْقَضَاءِ بِشَيْءٍ مِنْ الْعَقْدَيْنِ عِنْدَهُمَا وَإِنْ كَانَ أَحَدُ الثَّمَنَيْنِ أَكْثَرَ رَجَعَ بِالزِّيَادَةِ كَذَا فِي شَرْحِ الْكَنْزِ لِلزَّيْلَعِيِّ، ثُمَّ إنَّ هَذَا أَيْ الْقِصَاصَ إذَا كَانَ الْمَقْبُوضُ هَالِكًا وَإِنْ كَانَ قَائِمًا وَجَبَ رَدُّهُ، كَذَا فِي الْكَافِي.

فَإِنْ قُلْت: تَهَاتَرَتْ الْبَيِّنَتَانِ فِي الشِّرَاءِ عِنْدَهُمَا فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ فِي حَقِّ النَّقْدِ لِأَنَّهُ فِي ضِمْنِهِ. قُلْت: أَمْكَنَ أَنْ لَا تُقْبَلَ الْبَيِّنَةُ فِي حَقِّ شَيْءٍ وَتُقْبَلُ فِي حَقِّ شَيْءٍ آخَرَ، كَالْمَرْأَةِ إذَا أَقَامَتْ الْبَيِّنَةَ عَلَى وَكِيلِ زَوْجِهَا بِنَقْلِهَا عَلَى تَطْلِيقِ زَوْجِهَا لَا تُقْبَلُ فِي حَقِّ الطَّلَاقِ وَتُقْبَلُ فِي حَقِّ قَصْرِ يَدِ الْوَكِيلِ كَذَا فِي شَرْحِ تَاجِ الشَّرِيعَةِ (وَإِنْ لَمْ يَشْهَدَا عَلَى نَقْدِ الثَّمَنِ فَالْقِصَاصُ مَذْهَبُ مُحَمَّدٍ لِلْوُجُوبِ عِنْدَهُ) أَيْ لِوُجُوبِ الثَّمَنِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ فَإِنَّ الْبَيِّنَتَيْنِ لَمَّا ثَبَتَا عِنْدَهُ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُوجِبًا لِلثَّمَنِ عِنْدَ مُشْتَرِيهِ فَيُتَقَاصُّ الْوُجُوبُ بِالْوُجُوبِ (وَلَوْ شَهِدَ الْفَرِيقَانِ بِالْبَيْعِ وَالْقَبْضِ تَهَاتَرَتَا) أَيْ الْبَيِّنَتَانِ (بِالْإِجْمَاعِ) لَكِنْ عَلَى اخْتِلَافِ التَّخْرِيجِ؛ فَعِنْدَهُمَا بِاعْتِبَارِ أَنَّ دَعْوَاهُمَا مِثْلَ هَذَا الْبَيْعِ إقْرَارٌ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْمِلْكِ

ص: 273

لِأَنَّ الْجَمْعَ غَيْرُ مُمْكِنٍ عِنْدَ مُحَمَّدٍ لِجَوَازِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْبَيْعَيْنِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ.

وَإِنْ وُقِّتَتْ الْبَيِّنَتَانِ فِي الْعَقَارِ وَلَمْ تُثْبِتَا قَبْضًا وَوَقْتُ الْخَارِجِ أَسْبَقُ يُقْضَى لِصَاحِبِ الْيَدِ عِنْدَهُمَا فَيُجْعَلُ كَأَنَّ الْخَارِجَ اشْتَرَى أَوَّلًا ثُمَّ بَاعَ قَبْلَ الْقَبْضِ مِنْ صَاحِبِ الْيَدِ، وَهُوَ جَائِزٌ فِي الْعَقَارِ عِنْدَهُمَا.

وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَقْضِي لِلْخَارِجِ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ لَهُ بَيْعُهُ قَبْلَ الْقَبْضِ فَبَقِيَ عَلَى مِلْكِهِ، وَإِنْ أَثْبَتَا قَبْضًا

لِصَاحِبِهِ. وَفِي مِثْلِ هَذَا الْإِقْرَارِ تَتَهَاتَرُ الشُّهُودُ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ بِاعْتِبَارِ أَنَّ بَيْعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَائِزٌ لِوُجُودِ الْبَيْعِ بَعْدَ الْقَبْضِ، وَلَيْسَ فِي الْبَيْعَيْنِ ذِكْرُ تَارِيخٍ وَلَا دَلَالَةُ تَارِيخٍ حَتَّى يَجْعَلَ أَحَدَهُمَا سَابِقًا وَالْآخَرَ لَاحِقًا. فَإِذَا جَازَ الْبَيْعَانِ وَلَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ فِي الْقَبُولِ تَسَاقَطَا لِلتَّعَارُضِ فَبَقِيَ الْعَيْنُ عَلَى صَاحِبِ الْيَدِ كَمَا كَانَتْ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الْمُصَنِّفِ (لِأَنَّ الْجَمْعَ غَيْرُ مُمْكِنٍ عِنْدَ مُحَمَّدٍ) أَيْ لِأَنَّ الْعَمَلَ بِهِمَا غَيْرُ مُمْكِنٍ عِنْدَهُ (لِجَوَازِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْبَيْعَيْنِ) مَعَ عَدَمِ أَوْلَوِيَّةِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ لِعَدَمِ ذِكْرِ التَّارِيخِ وَلَا دَلَالَتِهِ، فَكَانَتْ شَهَادَةُ الْفَرِيقَيْنِ بِمَنْزِلَةِ تَعَارُضِ النَّصَّيْنِ بِحَيْثُ مَتَى لَمْ يُمْكِنْ التَّرْجِيحُ وَلَا الْحَمْلُ عَلَى الْحَالَتَيْنِ سَقَطَ الْعَمَلُ بِهِمَا، فَبَعْدَ ذَلِكَ كَانَ الْعَمَلُ مِنْ الْحُجَّةِ عَلَى مَا عُرِفَ، وَهَاهُنَا أَيْضًا لَمَّا سَقَطَتْ شَهَادَتُهُمَا بِالتَّعَارُضِ بَقِيَتْ الْعَيْنُ فِي يَدِ صَاحِبِ الْيَدِ كَمَا كَانَتْ (بِخِلَافِ الْأَوَّلِ) أَيْ بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَذْكُرْ الْقَبْضَ فِي شَهَادَتِهِمَا حَيْثُ يَجْعَلُ هُنَاكَ شِرَاءَ صَاحِبِ الْيَدَ سَابِقًا وَبَيْعَهُ لَاحِقًا لِدَلَالَةِ الْقَبْضِ عَلَى السَّبْقِ، إذْ لَوْ جَعَلَ شِرَاءَ الْخَارِجِ سَابِقًا لَزِمَ الْبَيْعُ قَبْلَ الْقَبْضِ كَمَا مَرَّ، هَذَا زُبْدَةُ مَا فِي جُمْلَةِ الشُّرُوحِ فِي حَلِّ هَذَا الْمَقَامِ.

أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لِمَ لَا يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا وَالْعَمَلُ بِهِمَا حَيْثُ يَجْعَلُ الْعَيْنَ الْمُدَّعَاةَ بَيْنَ الْمُدَّعِيَيْنِ نِصْفَيْنِ كَمَا جَعَلْنَاهَا كَذَلِكَ فِيمَا إذَا ادَّعَى اثْنَانِ عَيْنًا فِي يَدِ آخَرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَزْعُمُ أَنَّهَا لَهُ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ وَلَا تَارِيخَ مَعَهُمَا حَيْثُ قَضَيْنَا هُنَاكَ بِالْعَيْنِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ كَمَا مَرَّ فِي صَدْرِ هَذَا الْبَابِ. وَأَيْضًا قُلْنَا: إذَا ادَّعَى اثْنَانِ عَيْنًا فِي يَدِ ثَالِثٍ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْهُ وَأَقَامَا بَيِّنَةً وَلَا تَارِيخَ مَعَهُمَا فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ، إنْ شَاءَ أَخَذَ نِصْفَ الْعَيْنِ بِنِصْفِ الثَّمَنِ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ. وَقَدْ مَرَّتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ أَيْضًا فِي هَذَا الْبَابِ، وَقَدْ مَرَّتْ فِيهِ أَيْضًا مَسَائِلُ أُخْرَى مُشْتَرِكَةٌ فِي هَذَا الْحُكْمِ: أَعَنَى التَّنْصِيفَ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَئِمَّتِنَا. وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَا ذَكَرُوا هَاهُنَا لِتَخْرِيجِ مُحَمَّدٍ رحمه الله يَنْتَقِضُ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فَتَدَبَّرْ.

وَفِي الْكَافِي: وَمَا ذَكَرَهُ فِي الْهِدَايَةِ مِنْ أَنَّهُ لَوْ شَهِدَ الْفَرِيقَانِ بِالْبَيْعِ وَالْقَبْضِ تَهَاتَرَتَا بِالْإِجْمَاعِ، لِأَنَّ الْجَمْعَ غَيْرُ مُمْكِنٍ عِنْدَ مُحَمَّدٍ لِجَوَازِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْبَيْعَيْنِ يُخَالِفُ مَا ذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ وَالْجَامِعِ الْكَبِيرِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَنَّهُ لَوْ شَهِدُوا بِالْبَيْعِ وَالْقَبْضِ يَقْضِي بِالْبَيِّنَتَيْنِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ فَيَقْضِي بِالدَّارِ لِذِي الْيَدِ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَاتِ حُجَجُ الشَّرْعِ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهَا مَا أَمْكَنَ لِأَنَّهُمَا أَثْبَتَا الْعَقْدَيْنِ وَالْقَبْضَ فَيَجْعَلُ كَأَنَّ ذَا الْيَدِ بَاعَهَا وَسَلَّمَهَا انْتَهَى

(وَإِنْ وَقَّتَتْ الْبَيِّنَتَانِ فِي الْعَقَارِ) وَقْتَيْنِ، قَيَّدَ بِالْعَقَارِ لِيُظْهِرَ ثَمَرَةَ الْخِلَافِ كَمَا ذَكَرَ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدَّارِيَةِ (وَلَمْ تُثْبِتَا قَبْضًا) أَيْ وَلَمْ تُثْبِتْ الْبَيِّنَتَانِ قَبْضًا، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: وَلَمْ تُبَيِّنَا قَبْضًا (وَوَقْتُ الْخَارِجِ أَسْبَقُ) أَيْ وَالْحَالُ أَنَّ وَقْتَ الْخَارِجِ أَسْبَقُ (يَقْضِي لِصَاحِبِ الْيَدِ عِنْدَهُمَا) أَيْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ (فَيَجْعَلُ كَأَنَّ الْخَارِجَ اشْتَرَى أَوَّلًا ثُمَّ بَاعَ قَبْلَ الْقَبْضِ مِنْ صَاحِبِ الْيَدِ وَهُوَ جَائِزٌ فِي الْعَقَارِ عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَقْضِي لِلْخَارِجِ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ بَيْعُهُ) أَيْ بَيْعُ الْعَقَارِ (قَبْلَ الْقَبْضِ عِنْدَهُ فَيَبْقَى عَلَى مِلْكِهِ) أَيْ فَإِذَا لَمْ يَصِحَّ بَيْعُهُ قَبْلَ الْقَبْضِ بَقِيَ عَلَى مِلْكِ الْخَارِجِ (وَإِنْ أَثْبَتَا قَبْضًا) أَيْ وَإِنْ أَثْبَتَتْ

ص: 274

يَقْضِي لِصَاحِبِ الْيَدِ لِأَنَّ الْبَيْعَيْنِ جَائِزَانِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ، وَإِنْ كَانَ وَقْتُ صَاحِبِ الْيَدِ أَسْبَقَ يُقْضَى لِلْخَارِجِ فِي الْوَجْهَيْنِ فَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ اشْتَرَاهَا ذُو الْيَدِ وَقَبَضَ ثُمَّ بَاعَ وَلَمْ يُسَلِّمْ أَوْ سَلَّمَ ثُمَّ وَصَلَ إلَيْهِ بِسَبَبٍ آخَرَ.

قَالَ: (وَإِنْ أَقَامَ أَحَدُ الْمُدَّعِيَيْنِ شَاهِدَيْنِ وَالْآخَرُ أَرْبَعَةً فَهُمَا سَوَاءٌ) لِأَنَّ شَهَادَةَ كُلِّ الشَّاهِدِينَ عِلَّةٌ تَامَّةٌ كَمَا فِي حَالَةِ الِانْفِرَادِ، وَالتَّرْجِيحُ لَا يَقَعُ بِكَثْرَةِ الْعِلَلِ بَلْ بِقُوَّةٍ فِيهَا عَلَى مَا عُرِفَ.

قَالَ (وَإِذَا كَانَتْ دَارٌ فِي يَدِ رَجُلٍ ادَّعَاهَا اثْنَانِ أَحَدُهُمَا جَمِيعَهَا وَالْآخَرُ نِصْفَهَا وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَلِصَاحِبِ الْجَمِيعِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهَا وَلِصَاحِبِ النِّصْفِ رُبْعُهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) اعْتِبَارًا بِطَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ، فَإِنَّ صَاحِبَ النِّصْفِ لَا يُنَازِعُ الْآخَرَ فِي النِّصْفِ فَسَلَّمَ لَهُ بِلَا مُنَازَعٍ وَاسْتَوَتْ مُنَازَعَتُهُمَا

الْبَيِّنَتَانِ قَبْضًا وَبَاقِي الْمَسْأَلَةِ عَلَى حَالِهِ. وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: وَإِنْ بَيَّنَتَا قَبْضًا (يَقْضِي لِصَاحِبِ الْيَدِ) أَيْ بِالْإِجْمَاعِ فَيَجْعَلُ كَأَنَّ الْخَارِجَ بَاعَ ذَلِكَ مِنْ بَائِعِهِ بَعْدَمَا قَبَضَهُ (لِأَنَّ الْبَيْعَيْنِ) أَيْ بِالْوَجْهِ الْمَذْكُورِ (جَائِزَانِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ) أَيْ عَلَى قَوْلِهِمَا وَقَوْلِ مُحَمَّدٍ (وَإِنْ كَانَ وَقْتُ صَاحِبِ الْيَدِ أَسْبَقَ) وَبَاقِي الْمَسْأَلَةِ عَلَى حَالِهِ (يَقْضِي لِلْخَارِجِ فِي الْوَجْهَيْنِ) أَيْ سَوَاءٌ أَثْبَتَتْ الْبَيِّنَتَانِ الْقَبْضَ أَوْ لَمْ تُثْبِتَاهُ (فَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ اشْتَرَاهُ ذُو الْيَدِ وَقَبَضَ ثُمَّ بَاعَ وَلَمْ يُسَلِّمْ) أَيْ ثُمَّ بَاعَ ذُو الْيَدِ مِنْ الْخَارِجِ وَلَكِنْ لَمْ يُسَلِّمْ إلَيْهِ هَذَا بِاعْتِبَارِ عَدَمِ إثْبَاتِ الْقَبْضِ (أَوْ سَلَّمَ) أَيْ سَلَّمَ ذُو الْيَدِ إلَى الْخَارِجِ (ثُمَّ وَصَلَ إلَيْهِ) أَيْ إلَى ذِي الْيَدِ (بِسَبَبٍ آخَرَ) مِنْ إجَارَةٍ أَوْ إعَارَةٍ أَوْ غَيْرِهِمَا، وَهَذَا بِاعْتِبَارِ إثْبَاتِ الْقَبْضِ، فَقَدْ جَمَعَ الْمُصَنِّفُ الْوَجْهَيْنِ فِي تَقْرِيرِهِ هَذَا كَمَا تَرَى. فَإِنْ قُلْت: بَقِيَ مِنْ أَقْسَامِ الْمَسْأَلَةِ الْمَارَّةِ صُورَتَانِ لَمْ تُذْكَرْ فِي الْكِتَابِ: إحْدَاهُمَا أَنْ تُؤَقِّتَ الْبَيِّنَتَانِ وَقْتًا وَاحِدًا، وَثَانِيَتُهُمَا أَنْ تُؤَقِّتَ إحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ وَقْتًا وَلَمْ تُؤَقِّتْ الْأُخْرَى فَمَا حُكْمُهُمَا؟ قُلْت: حُكْمُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا كَحُكْمِ مَا إذَا لَمْ تُؤَقِّتَا أَصْلًا نَصَّ عَلَيْهِ غَايَةُ الْبَيَانِ نَقْلًا عَنْ مَبْسُوطِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ

(قَالَ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ (وَإِنْ أَقَامَ أَحَدُ الْمُدَّعِيَيْنِ شَاهِدَيْنِ وَالْآخَرُ أَرْبَعَةً فَهُمَا سَوَاءٌ) أَيْ الِاثْنَانِ وَالْأَرْبَعَةُ مِنْ الشُّهُودِ سَوَاءٌ (لِأَنَّ شَهَادَةَ كُلِّ شَاهِدَيْنِ عِلَّةٌ تَامَّةٌ) لِوُصُولِهَا إلَى حَدِّ النِّصَابِ الْكَامِلِ (كَمَا فِي حَالَةِ الِانْفِرَادِ) فِي غَيْرِ الشَّهَادَةِ فِي الزِّنَا (وَالتَّرْجِيحُ لَا يَقَعُ بِكَثْرَةِ الْعِلَلِ بَلْ) يَقَعُ (بِقُوَّةٍ فِيهَا) أَيْ فِي الْعِلَّةِ؛ أَلَا يَرَى أَنَّ الْخَبَرَ لَا يَتَرَجَّحُ بِخَبَرٍ أَوْ بِآخَرَ وَالْآيَةُ لَا تَتَرَجَّحُ بِآيَةٍ أُخْرَى لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِلَّةٌ بِنَفْسِهِ وَالْمُفَسَّرُ يَتَرَجَّحُ عَلَى النَّصِّ وَالنَّصُّ عَلَى الظَّاهِرِ بِاعْتِبَارِ الْقُوَّةِ (عَلَى مَا عُرِفَ) أَيْ فِي عِلْمِ أُصُولِ الْفِقْهِ، وَكَذَلِكَ الشَّهَادَتَانِ إذَا تَعَارَضَتَا وَإِحْدَاهُمَا مَسْتُورَةٌ وَالْأُخْرَى عَادِلَةٌ تَرَجَّحَتْ الْعَادِلَةُ عَلَى الْمَسْتُورَةِ بِالْعَدَالَةِ لِأَنَّهَا صِفَةُ الشَّهَادَةِ وَلَا تَتَرَجَّحُ بِزِيَادَةِ عَدَدِ الشُّهُودِ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِصِفَةٍ لِمَا هُوَ حُجَّةٌ مِنْ الشَّهَادَةِ بَلْ هِيَ مِثْلُهَا، وَشَهَادَةُ كُلِّ عَدَدٍ رُكْنٌ مِثْلُ شَهَادَةِ الْآخَرِ إلَّا أَنْ يَكُونَ بَعْضُهَا صِفَةً لِلْبَعْضِ، إلَى هَذَا أَشَارَ فِي التَّقْوِيمِ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ

(قَالَ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ (وَإِذَا كَانَتْ دَارٌ فِي يَدِ رَجُلٍ ادَّعَاهَا اثْنَانِ أَحَدُهُمَا جَمِيعًا وَالْآخَرُ نِصْفَهَا وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَلِصَاحِبِ الْجَمِيعِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهَا وَلِصَاحِبِ النِّصْفِ رُبْعُهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ اعْتِبَارًا لِطَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ، فَإِنَّ صَاحِبَ النِّصْفِ لَا يُنَازِعُ الْآخَرَ فِي النِّصْفِ فَسَلِمَ لَهُ بِلَا مُنَازِعٍ وَاسْتَوَتْ مُنَازَعَتُهُمَا

ص: 275

فِي النِّصْفِ الْآخَرِ فَيُنَصَّفُ بَيْنَهُمَا (وَقَالَا: هِيَ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا) فَاعْتَبَرَا طَرِيقَ الْعَوْلِ وَالْمُضَارَبَةِ، فَصَاحِبُ الْجَمِيعِ يَضْرِبُ بِكُلِّ حَقِّهِ سَهْمَيْنِ وَصَاحِبُ النِّصْفِ بِسَهْمٍ وَاحِدٍ فَتُقَسَّمُ أَثْلَاثًا،

فِي النِّصْفِ الْآخَرِ فَيُنَصَّفُ بَيْنَهُمَا) فَتُجْعَلُ الدَّارُ عَلَى أَرْبَعَةٍ لِحَاجَتِنَا إلَى حِسَابٍ لَهُ نِصْفُ وَلِنِصْفِهِ نِصْفٌ وَأَقَلُّهُ أَرْبَعَةٌ، كَذَا فِي الْكَافِي (وَقَالَا) أَيْ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ (هِيَ) أَيْ الدَّارُ (بَيْنَهُمَا) أَيْ بَيْنَ الْمُدَّعِيَيْنِ (أَثْلَاثًا فَاعْتَبَرَا طَرِيقَ الْعَوْلِ وَالْمُضَارَبَةِ فَصَاحِبُ الْجَمِيعِ يَضْرِبُ بِكُلِّ حَقِّهِ سَهْمَيْنِ) أَيْ يَأْخُذُ بِحَسَبِ كُلِّ حَقِّهِ سَهْمَيْنِ.

وَفِي الْمُغْرِبِ وَقَالَ الْفُقَهَاءُ: فُلَانٌ يَضْرِبُ فِيهِ بِالثُّلُثِ: أَيْ يَأْخُذُ مِنْهُ شَيْئًا بِحُكْمِ مَالِهِ مِنْ الثُّلُثِ

كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ (وَصَاحِبُ النِّصْفِ بِسَهْمٍ وَاحِدٍ) أَيْ وَصَاحِبُ النِّصْفِ يَضْرِبُ بِكُلِّ حَقِّهِ أَيْضًا وَهُوَ سَهْمٌ وَاحِدٌ إذْ الدَّارُ تُجْعَلُ سَهْمَيْنِ لِحَاجَتِنَا إلَى عَدَدٍ لَهُ نِصْفٌ صَحِيحٌ، وَأَقَلُّهُ اثْنَانِ فَيَضْرِبُ صَاحِبُ الْمِلْكِ بِذَلِكَ وَصَاحِبُ النِّصْفِ بِسَهْمٍ وَاحِدٍ (فَتُقَسَّمُ) بَيْنَهُمَا (أَثْلَاثًا) أَيْ فَتُقَسَّمُ الدَّارُ بَيْنَ الْمُدَّعِيَيْنِ أَثْلَاثًا ثُلُثَاهَا لِمُدَّعِي الْجَمِيعِ وَثُلُثُهَا لِمُدَّعِي النِّصْفِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ أَصْلَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمُدْلِيَ بِسَبَبٍ صَحِيحٍ وَهُوَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الِاسْتِحْقَاقُ مِنْ غَيْرِ انْضِمَامِ مَعْنًى آخَرَ إلَيْهِ يَضْرِبُ بِجَمِيعِ حَقِّهِ، كَأَصْحَابِ الْعَوْلِ وَالْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ فَمَا دُونَهُ، وَغُرَمَاءِ الْمَيِّتِ إذَا ضَاقَتْ التَّرِكَةُ عَنْ دُيُونِهِ، وَالْمُدْلِي بِسَبَبٍ غَيْرِ صَحِيحٍ يَضْرِبُ بِقَدْرِ مَا يُصِيبُهُ حَالَ الْمُزَاحَمَةِ كَمَسْأَلَتِنَا هَذِهِ، وَالْمُوصَى لَهُ بِأَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ.

وَأَصْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ قِسْمَةَ الْعَيْنِ مَتَى وَجَبَتْ بِسَبَبِ حَقٍّ كَانَ فِي الْعَيْنِ كَانَتْ الْقِسْمَةُ عَلَى طَرِيقِ الْعَوْلِ كَالتَّرِكَةِ بَيْنَ الْوَرَثَةِ، وَمَتَى وَجَبَتْ لَا بِسَبَبِ حَقٍّ كَانَ فِي الْعَيْنِ فَالْقِسْمَةُ عَلَى طَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ كَالْفُضُولِيِّ إذَا بَاعَ عَبْدَ رَجُلٍ بِغَيْرِ أَمْرِهِ وَفُضُولِيٍّ آخَرَ بَاعَ نِصْفَهُ وَأَجَازَ الْمَوْلَى الْبَيْعَيْنِ فَالْقِسْمَةُ بَيْنَ الْمُشْتَرِيَيْنِ بِطَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ، أَوْ بَاعَا فَعَلَى هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ أَمْكَنَ الِاتِّفَاقُ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ عَلَى الْعَوْلِ وَعَلَى الْمُنَازَعَةِ وَأَمْكَنَ الِافْتِرَاقُ، فَمِمَّا اتَّفَقُوا عَلَى الْعَوْلِ فِيهِ الْعَوْلُ فِي التَّرِكَةِ، أَمَّا عَلَى أَصْلِهِ فَلِأَنَّ السَّبَبَ لَا يَحْتَاجُ إلَى ضَمِّ شَيْءٍ، وَأَمَّا عَلَى أَصْلِهِمَا فَلِأَنَّهَا وَجَبَتْ بِسَبَبِ حَقٍّ فِي الْعَيْنِ لِأَنَّ حَقَّ الْوَرَثَةِ يَتَعَلَّقُ بِعَيْنِ التَّرِكَةِ، وَمِمَّا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ بِطَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ بَيْنَ الْفُضُولِيِّ، أَمَّا عَلَى أَصْلِهِ فَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِسَبَبٍ صَحِيحٍ لِاحْتِيَاجِهِ إلَى انْضِمَامِ الْإِجَازَةِ إلَيْهِ، وَأَمَّا عَلَى أَصْلِهِمَا فَلِأَنَّ حَقَّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُشْتَرِيَيْنِ كَانَ فِي الثَّمَنِ تَحَوَّلَ بِالشِّرَاءِ إلَى الْبَيْعِ.

وَمِمَّا افْتَرَقُوا فِيهِ مَسْأَلَتُنَا هَذِهِ، فَعَلَى أَصْلِهِ سَبَبُ اسْتِحْقَاقِ كُلٍّ مِنْهُمَا هُوَ الشَّهَادَةُ، وَهِيَ تَحْتَاجُ إلَى اتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهَا كَمَا تَقَدَّمَ فَلَمْ يَكُنْ سَبَبًا صَحِيحًا فَكَانَتْ الْقِسْمَةُ عَلَى طَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ كَمَا بَيَّنَ فِي الْكِتَابِ، وَعَلَى أَصْلِهِمَا حَقُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُدَّعِيَيْنِ فِي الْعَيْنِ، بِمَعْنَى أَنَّ حَقَّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَائِعٌ فِيهَا، فَمَا مِنْ جُزْءٍ إلَّا وَصَاحِبُ الْقَلِيلِ يُزَاحِمُ فِيهِ صَاحِبَ الْكَثِيرِ بِنَصِيبِهِ، فَلِهَذَا كَانَتْ الْقِسْمَةُ فِيهِ بِطَرِيقِ الْعَوْلِ كَمَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ.

ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ أَصْلَهُمَا يَنْتَقِضُ بِحَقِّ الْغُرَمَاءِ فِي التَّرِكَةِ، فَإِنَّ قِسْمَةَ الْعَيْنِ بَيْنَهُمْ بِسَبَبِ حَقٍّ كَانَ فِي الذِّمَّةِ لَا فِي الْعَيْنِ، وَمَعَ ذَلِكَ كَانَتْ الْقِسْمَةُ عَوْلِيَّةً

ص: 276

وَلِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ نَظَائِرُ وَأَضْدَادٌ لَا يَحْتَمِلُهَا هَذَا الْمُخْتَصَرُ وَقَدْ ذَكَرْنَاهَا فِي الزِّيَادَاتِ. قَالَ (وَلَوْ كَانَتْ فِي أَيْدِيهِمَا سَلِمَ لِصَاحِبِ الْجَمِيعِ نِصْفُهَا عَلَى وَجْهِ الْقَضَاءِ وَنِصْفُهَا لَا عَلَى وَجْهِ الْقَضَاءِ) لِأَنَّهُ خَارِجٌ فِي النِّصْفِ فَيَقْضِي بِبَيِّنَتِهِ، وَالنِّصْفُ الَّذِي فِي يَدَيْهِ صَاحِبُهُ لَا يَدَّعِيهِ لِأَنَّ مُدَّعَاهُ النِّصْفُ وَهُوَ فِي يَدِهِ سَالِمٌ لَهُ، وَلَوْ لَمْ يَنْصَرِفْ إلَيْهِ دَعْوَاهُ كَانَ ظَالِمًا بِإِمْسَاكِهِ وَلَا قَضَاءَ بِدُونِ الدَّعْوَى فَيُتْرَكُ فِي يَدِهِ.

كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَلِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ نَظَائِرُ وَأَضْدَادٌ) أَيْ لِلْمَسْأَلَةِ الْمَذْكُورَةِ أَشْبَاهٌ حَكَمَ فِيهَا أَبُو حَنِيفَةَ بِالْمُنَازَعَةِ وَصَاحِبَاهُ بِالْعَوْلِ كَمَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَأَضْدَادٌ حَكَمَ فِيهَا أَبُو حَنِيفَةَ بِالْعَوْلِ وَصَاحِبَاهُ بِالْمُنَازَعَةِ عَلَى عَكْسِ مَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ (لَا يَحْتَمِلُهَا) أَيْ النَّظَائِرَ وَالْأَضْدَادَ (هَذَا الْمُخْتَصَرُ) يَعْنِي الْهِدَايَةَ (وَقَدْ ذَكَرْنَاهَا فِي الزِّيَادَاتِ) فَمِنْ نَظَائِرِهَا: الْمُوصَى لَهُ بِجَمِيعِ الْمَالِ وَبِنِصْفِهِ عِنْدَ إجَازَةِ الْوَرَثَةِ، وَالْمُوصَى لَهُ بِعَيْنٍ مَعَ الْمُوصَى لَهُ بِنِصْفِ ذَلِكَ إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَيِّتِ مَالٌ سِوَاهُ.

وَمِنْ أَضْدَادِهَا الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ لَهُ الْمُشْتَرَكُ إذَا ادَّانَهُ أَحَدُ الْمَوْلَيَيْنِ مِائَةَ دِرْهَمٍ وَأَجْنَبِيٌّ مِائَةَ دِرْهَمٍ ثُمَّ بِيعَ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَالْقِسْمَةُ بَيْنَ الْمَوْلَى الْمَدِينِ وَالْأَجْنَبِيِّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بِطَرِيقِ الْعَوْلِ أَثْلَاثًا، وَعِنْدَهُمَا بِطَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ أَرْبَاعًا، وَكَذَا الْمُدَبَّرُ إذَا قَتَلَ رَجُلًا خَطَأً وَفَقَأَ عَيْنَ آخَرَ وَغَرِمَ الْمَوْلَى قِيمَتَهُ لَهُمَا، كَذَا فِي الْكَافِي وَالشُّرُوحِ، فَتَذَكَّرْ الْأَصْلَيْنِ الْمَذْكُورِينَ يَسْهُلْ عَلَيْك اسْتِخْرَاجُ هَذِهِ الصُّوَرِ (قَالَ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ (وَلَوْ كَانَتْ فِي أَيْدِيهِمَا) أَيْ وَلَوْ كَانَتْ الدَّارُ فِي أَيْدِي الْمُدَّعِيَيْنِ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا.

(سَلِمَ لِصَاحِبِ الْجَمِيعِ) أَيْ لِمُدَّعِي الْجَمِيعِ (نِصْفُهَا عَلَى وَجْهِ الْقَضَاءِ) وَهُوَ الَّذِي كَانَ بِيَدِ الْآخَرِ (وَنِصْفُهَا لَا عَلَى وَجْهِ الْقَضَاءِ) وَهُوَ الَّذِي كَانَ بِيَدِ نَفْسِهِ (لِأَنَّهُ خَارِجٌ فِي النِّصْفِ) أَيْ لِأَنَّ صَاحِبَ الْجَمِيعِ وَهُوَ مُدَّعِي الْجَمِيعِ خَارِجٌ فِي النِّصْفِ الَّذِي كَانَ فِي يَدِ مُدَّعِي النِّصْفِ (فَيَقْضِي بِبَيِّنَتِهِ) أَيْ فَيَقْضِي بِبَيِّنَةِ صَاحِبِ الْجَمِيعِ فِي حَقِّ ذَلِكَ النِّصْفِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ بَيِّنَةَ الْخَارِجِ أَوْلَى مِنْ بَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ فَتَمَّ دَلِيلُ قَوْلِهِ: نِصْفُهُمَا عَلَى وَجْهِ الْقَضَاءِ وَبَقِيَ دَلِيلُ قَوْلِهِ: وَنِصْفُهَا لَا عَلَى وَجْهِ الْقَضَاءِ وَهُوَ قَوْلُهُ (فَالنِّصْفُ الَّذِي فِي يَدَيْهِ) أَيْ فِي يَدَيْ صَاحِبِ الْجَمِيعِ (صَاحِبُهُ لَا يَدَّعِيهِ) أَيْ صَاحِبُ الْجَمِيعِ: أَيْ خَصْمُهُ وَهُوَ مُدَّعِي النِّصْفِ لَا يَدَّعِي ذَلِكَ النِّصْفَ (لِأَنَّهُ مُدَّعَاهُ) أَيْ مُدَّعَى صَاحِبِهِ وَهُوَ مُدَّعِي النِّصْفِ (النِّصْفُ وَهُوَ فِي يَدِهِ سَالِمٌ لَهُ) تَوْضِيحُهُ أَنَّ دَعْوَى مُدَّعِي النِّصْفِ مُنْصَرِفَةٌ إلَى مَا فِي يَدِهِ لِتَكُونَ يَدُهُ يَدًا مُحِقَّةً فِي حَقِّهِ؛ لِأَنَّ حَمْلَ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الصِّحَّةِ وَاجِبٌ، فَمُدَّعِي النِّصْفِ لَا يَدَّعِي شَيْئًا مِمَّا فِي يَدِ صَاحِبِ الْجَمِيعِ لِأَنَّ مُدَّعَاهُ النِّصْفُ وَهُوَ فِي يَدِهِ فَسَلِمَ النِّصْفَ لِمُدَّعِي الْجَمِيعِ بِلَا مُنَازَعَةٍ، وَكَذَا فِي الْكَافِي (وَلَوْ لَمْ يَنْصَرِفْ إلَيْهِ دَعْوَاهُ) أَيْ وَلَوْ لَمْ يَنْصَرِفْ دَعْوَى مُدَّعِي النِّصْفِ إلَى النِّصْفِ الَّذِي فِي يَدِهِ (كَانَ ظَالِمًا بِإِمْسَاكِهِ) أَيْ كَانَ مُدَّعِي النِّصْفِ ظَالِمًا بِإِمْسَاكِ مَا فِي يَدِهِ، وَقَضِيَّةُ وُجُوبِ حَمْلِ أَمْرِ الْمُسْلِمِ عَلَى الصِّحَّةِ قَاضِيَةٌ بِخِلَافِهِ (وَلَا قَضَاءَ بِدُونِ الدَّعْوَى فَيُتْرَكُ فِي يَدِهِ) أَيْ وَإِذَا لَمْ يَدَّعِ مُدَّعِي

ص: 277

قَالَ (وَإِذَا تَنَازَعَا فِي دَابَّةٍ وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةً أَنَّهَا نَتَجَتْ عِنْدَهُ، وَذَكَرَا تَارِيخًا وَسِنُّ الدَّابَّةِ يُوَافِقُ أَحَدَ التَّارِيخَيْنِ فَهُوَ أَوْلَى) لِأَنَّ الْحَالَ يَشْهَدُ لَهُ فَيَتَرَجَّحُ (وَإِنْ أَشْكَلَ ذَلِكَ كَانَتْ بَيْنَهُمَا) لِأَنَّهُ سَقَطَ التَّوْقِيتُ فَصَارَ كَأَنَّهُمَا لَمْ يَذْكُرَا تَارِيخًا.

النِّصْفِ النِّصْفَ الَّذِي فِي يَدَيْ مُدَّعِي الْجَمِيعِ، وَلَا قَضَاءَ بِدُونِ الدَّعْوَى فَيُتْرَكُ ذَلِكَ النِّصْفُ فِي يَدَيْ مُدَّعِي الْجَمِيعِ بِلَا قَضَاءٍ فَتَمَّ دَلِيلُ قَوْلِهِ: وَنِصْفُهَا لَا عَلَى وَجْهِ الْقَضَاءِ أَيْضًا فَيَثْبُتُ الْمُدَّعِي بِشِقَّيْهِ.

قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: الْأَصْلُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ دَعْوَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُدَّعِيَيْنِ تَنْصَرِفُ إلَى مَا فِي يَدِهِ كَيْ لَا يَكُونَ فِي إمْسَاكِهِ ظَالِمًا حَمْلًا لِأُمُورِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الصِّحَّةِ، وَأَنَّ بَيِّنَةَ الْخَارِجِ أَوْلَى مِنْ بَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ انْتَهَى. أَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ، وَهُوَ أَنَّ انْصِرَافَ دَعْوَى مُدَّعِي الْجَمِيعِ مِنْ الْمُدَّعِيَيْنِ إلَى مَا فِي يَدِهِ غَيْرُ مَعْقُولٍ لِأَنَّهُ إنْ جَعَلَ الَّذِي فِي يَدِهِ الْكُلَّ لَا يَبْقَى لِلْمُقَدِّمَةِ الْقَائِلَةِ: وَأَنَّ بَيِّنَةَ الْخَارِجِ أَوْلَى مِنْ بَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ مَحِلٌّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.

وَلَا يَصِحُّ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ لِأَنَّهُ خَارِجٌ فِي النِّصْفِ وَلَا قَوْلُ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ فِي أَثْنَاءِ الشَّرْحِ وَمُدَّعِي الْكُلِّ مُدَّعًى عَلَيْهِ النِّصْفُ وَهُوَ خَارِجٌ عَنْ النِّصْفِ، وَإِنْ جَعَلَ الَّذِي فِي يَدِهِ النِّصْفُ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ الْحَقَّ فَلَا مَعْنَى لِانْصِرَافِ دَعْوَاهُ إلَى مَا فِي يَدِهِ لِأَنَّهُ يَدَّعِي الْكُلَّ وَهُوَ لَيْسَ فِي يَدِهِ. وَأَيْضًا لَا يَتِمُّ قَوْلُهُ كَيْ لَا يَكُونَ فِي إمْسَاكِهِ ظَالِمًا بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَكُونُ ظَالِمًا بِإِمْسَاكِ حَقِّهِ وَإِنْ كَانَ فِي يَدِ غَيْرِهِ، وَمُدَّعِي الْكُلِّ يَدَّعِي أَنَّ جَمِيعَ مَا فِي أَيْدِيهِمَا حَقُّهُ، فَالْحَقُّ أَنَّ الَّذِي يَنْصَرِفُ دَعْوَاهُ إلَى مَا فِي يَدِهِ إنَّمَا هُوَ مُدَّعِي النِّصْفِ مِنْهُمَا كَمَا هُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْكَافِي وَغَيْرِهِ، وَقَدْ مَرَّ بِنَا فِي أَثْنَاءِ شَرْحِ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ

(قَالَ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ: (وَإِذَا تَنَازَعَا) أَيْ تَنَازَعَ اثْنَانِ (فِي دَابَّةٍ وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةً أَنَّهَا نَتَجَتْ وَذَكَرَا تَارِيخًا وَسِنُّ الدَّابَّةِ يُوَافِقُ أَحَدَ التَّارِيخَيْنِ فَهُوَ أَوْلَى) أَيْ الَّذِي يُوَافِقُ سِنُّ الدَّابَّةِ تَارِيخَهُ أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ (لِأَنَّ الْحَالَ يَشْهَدُ لَهُ) يَعْنِي أَنَّ عَلَامَةَ صِدْقِ شُهُودِهِ قَدْ ظَهَرَتْ بِشَهَادَةِ الْحَالِ لَهُ (فَيَتَرَجَّحُ) أَيْ فَيَتَرَجَّحُ مَنْ يُوَافِقُ سِنُّ الدَّابَّةِ تَارِيخَهُ.

وَاعْلَمْ أَنْ لَا فَرْقَ فِي هَذَا بَيْنَ أَنْ تَكُونَ الدَّابَّةُ فِي أَيْدِيهِمَا أَوْ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا أَوْ فِي يَدِ ثَالِثٍ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى لَا يَخْتَلِفُ؛ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ الدَّعْوَى فِي النِّتَاجِ مِنْ غَيْرِ تَارِيخٍ حَيْثُ يَحْكُمُ بِهَا لِذِي الْيَدِ إنْ كَانَتْ فِي يَدِ إحْدَاهُمَا أَوْ لَهُمَا إنْ كَانَتْ فِي أَيْدِيهِمَا أَوْ يَدِ ثَالِثٍ، كَذَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ الزَّيْلَعِيُّ فِي شَرْحِ الْكَنْزِ (وَإِنْ أَشْكَلَ ذَلِكَ) أَيْ سِنُّ الدَّابَّةِ (كَانَتْ بَيْنَهُمَا) أَيْ كَانَتْ الدَّابَّةُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ (لِأَنَّهُ سَقَطَ التَّوْقِيتُ فَصَارَ كَأَنَّهُمَا لَمْ يَذْكُرَا تَارِيخًا) هَذَا الْجَوَابُ فِي الْخَارِجَيْنِ وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَ الْيَدِ وَدَعْوَاهُمَا فِي النِّتَاجِ وَوَقَّتَتْ الْبَيِّنَتَانِ وَقْتَيْنِ، فَإِنْ كَانَتْ الدَّابَّةُ عَلَى وَقْتِ بَيِّنَةِ الْخَارِجِ قَضَيْت بِهَا لَهُ لِظُهُورِ عَلَامَةِ الصِّدْقِ فِي بَيِّنَتِهِ وَعَلَامَةِ الْكَذِبِ فِي بَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ، وَإِنْ كَانَتْ الدَّابَّةُ عَلَى وَقْتِ بَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ أَوْ كَانَتْ مُشْكِلَةً قَضَيْت بِهَا لِذِي الْيَدِ إمَّا لِظُهُورِ عَلَامَةِ الصِّدْقِ فِي بَيِّنَتِهِ أَوْ سُقُوطِ اعْتِبَارِ التَّوْقِيتِ إذَا كَانَتْ مُشْكِلَةً، كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ مَا إذَا كَانَ سِنُّ الدَّابَّةِ بَيْنَ الْوَقْتَيْنِ.

وَذَكَرَ فِي الذَّخِيرَةِ. فِي ذَلِكَ تَتَهَاتَرُ

ص: 278

وَإِنْ خَالَفَ سِنُّ الدَّابَّةِ الْوَقْتَيْنِ بَطَلَتْ الْبَيِّنَتَانِ، كَذَا ذَكَرَهُ الْحَاكِمُ رحمه الله لِأَنَّهُ ظَهَرَ كَذِبُ الْفَرِيقَيْنِ فَيُتْرَكُ فِي يَدِ مَنْ كَانَتْ فِي يَدِهِ.

الْبَيِّنَتَانِ عِنْدَ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ وَتُتْرَكُ الدَّابَّةُ فِي يَدِ صَاحِبِ الْيَدِ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدَّارِيَةِ (وَإِنْ خَالَفَ سِنُّ الدَّابَّةِ الْوَقْتَيْنِ) قَالَ الشُّرَّاحُ: أَيْ فِي دَعْوَى الْخَارِجَيْنِ. أَقُولُ: لَمْ يَظْهَرْ لِي فَائِدَةُ هَذَا التَّقْيِيدِ كَمَا سَأُبَيِّنُ (بَطَلَتْ الْبَيِّنَتَانِ، كَذَا ذَكَرَهُ الْحَاكِمُ لِأَنَّهُ ظَهَرَ كَذِبُ الْفَرِيقَيْنِ) وَذَلِكَ مَانِعٌ عَنْ قَوْلِ الشَّهَادَةِ حَالَةَ الِانْفِرَادِ فَيَمْنَعُ حَالَةَ الِاجْتِمَاعِ أَيْضًا (فَتُتْرَكُ) أَيْ الدَّابَّةُ (فِي يَدِ مَنْ كَانَتْ فِي يَدِهِ) وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا يَعُمُّ الصُّوَرَ الثَّلَاثَ: أَعْنِي مَا إذَا كَانَتْ الدَّابَّةُ فِي يَدِ ثَالِثٍ، وَمَا إذَا كَانَتْ فِي أَيْدِيهِمَا، وَمَا إذَا كَانَتْ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا، إذْ لَا فَارَقَ بَيْنَهُنَّ فِي الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرَ مِنْ قَبْلُ الْحَاكِمُ فَلَا فَائِدَةَ فِي التَّقْيِيدِ الْمَارِّ. وَفِي الْمَبْسُوطِ: مِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ قَالَ: تَبْطُلُ الْبَيِّنَتَانِ، وَالْأَصَحُّ مَا قَالَهُ مُحَمَّدٌ مِنْ الْجَوَابِ، وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الدَّابَّةُ بَيْنَهُمَا فِي الْفَصْلَيْنِ: يَعْنِي فِيمَا إذَا كَانَ سِنُّ الدَّابَّةِ مُشْكِلًا، وَفِيمَا إذَا كَانَ عَلَى غَيْرِ الْوَقْتَيْنِ فِي دَعْوَى الْخَارِجَيْنِ.

أَمَّا إذَا كَانَ مُشْكِلًا فَلَا شَكَّ فِيهِ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ عَلَى غَيْرِ الْوَقْتَيْنِ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ ذِكْرِ الْوَقْتِ لَحِقَهُمَا، وَفِي هَذَا الْمَوْضِعِ فِي اعْتِبَارِهِ إبْطَالَ حَقِّهِمَا فَسَقَطَ اعْتِبَارُ ذِكْرِ الْوَقْتِ أَصْلًا وَيَنْظُرُ إلَى مَقْصُودِهِمَا وَهُوَ إثْبَاتُ الْمِلْكِ فِي الدَّابَّةِ وَقَدْ اسْتَوَيَا فِي ذَلِكَ فَوَجَبَ الْقَضَاءُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَهَذَا لِأَنَّا لَوْ اعْتَبَرَنَا التَّوْقِيتَ بَطَلَتْ الْبَيِّنَتَانِ وَتُتْرَكُ هِيَ فِي يَدِ ذِي الْيَدِ، وَقَدْ اتَّفَقَ الْفَرِيقَانِ عَلَى اسْتِحْقَاقِهَا عَلَى ذِي الْيَدِ فَكَيْفَ تُتْرَكُ فِي يَدِهِ مَعَ قِيَامِ حُجَّةِ الِاسْتِحْقَاقِ، كَذَا ذُكِرَ فِي أَكْثَرِ الشُّرُوحِ. قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ نَقْلِ ذَلِكَ: وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ مُخَالِفَةٌ لِمَا رَوَى أَبُو اللَّيْثِ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ: إذَا كَانَ سِنُّ الدَّابَّةِ مُشْكِلًا يَقْضِي بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لِلْوَقْتَيْنِ لَا يَقْضِي لَهُمَا بِشَيْءٍ وَتُتْرَكُ فِي يَدِ ذِي الْيَدِ قَضَاءَ تَرْكٍ فَكَأَنَّهُمَا لَمْ يُقِيمَا الْبَيِّنَةَ، وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ الْأَصَحُّ. قَوْلُهُ يَنْظُرُ إلَى مَقْصُودِهِمَا لَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ الْمُدَّعِي لَيْسَ بِمُعْتَبَرِ الدَّعَاوَى بِلَا حُجَّةٍ، وَاتِّفَاقُ الْفَرِيقَيْنِ عَلَى اسْتِحْقَاقِهِمَا عَلَى ذِي الْيَدِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ مَعَ وُجُودِ الْمُكَذِّبِ انْتَهَى.

أَقُولُ: يُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْ قَوْلِهِ: وَقَوْلُهُ يَنْظُرُ إلَى مَقْصُودِهِمَا لَيْسَ بِشَيْءٍ إلَى قَوْلِهِ: لِأَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ مَعَ وُجُودِ الْمُكَذِّبِ بِأَنَّ الْمَوْجُودَ مُكَذِّبُ الْوَقْتَيْنِ لَا مُكَذِّبُ أَصْلِ الْبَيِّنَتَيْنِ، فَاللَّازِمُ مِنْهُ سُقُوطُ اعْتِبَارِ ذِكْرِ الْوَقْتِ لَا سُقُوطُ اعْتِبَارِ أَصْلِ الْبَيِّنَتَيْنِ وَهُوَ إثْبَاتُ الِاسْتِحْقَاقِ لِلْمُدَّعِيَيْنِ عَلَى ذِي الْيَدِ فَلَا قَادِحَ لِمَا فِي الْمَبْسُوطِ، وَيُرْشِدُ إلَى هَذَا مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْبَدَائِعِ حَيْثُ قَالَ: وَإِنْ خَالَفَ سِنُّهَا الْوَقْتَيْنِ جَمِيعًا سَقَطَ الْوَقْتُ، كَذَا ذَكَرَهُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّهُ ظَهَرَ بُطْلَانَ التَّوْقِيتِ فَكَأَنَّهُمَا لَمْ يُوَقِّتَا فَبَقِيَتْ الْبَيِّنَتَانِ قَائِمَتَيْنِ عَلَى مُطْلَقِ الْمِلْكِ مِنْ غَيْرِ تَوْقِيتٍ. وَذَكَرَ الْحَاكِمُ فِي مُخْتَصَرِهِ أَنَّ فِي رِوَايَةِ أَبِي اللَّيْثِ تَهَاتَرَتْ الْبَيِّنَتَانِ. قَالَ: وَهُوَ الصَّحِيحُ وَوَجْهُهُ أَنَّ سِنَّ الدَّابَّةِ إذَا خَالَفَ الْوَقْتَيْنِ فَقَدْ تَيَقَّنَّا بِكَذِبِ الْبَيِّنَتَيْنِ فَالْتَحَقَتَا بِالْعَدَمِ فَيُتْرَكُ الْمُدَّعَى فِي يَدِ صَاحِبِ الْيَدِ كَمَا كَانَ.

ص: 279

قَالَ (وَإِذَا كَانَ عَبْدٌ فِي يَدِ رَجُلٍ أَقَامَ رَجُلَانِ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ أَحَدُهُمَا بِغَصْبٍ وَالْآخَرُ بِوَدِيعَةٍ فَهُوَ بَيْنَهُمَا) لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الِاسْتِحْقَاقِ.

(فَصْلٌ فِي التَّنَازُعِ بِالْأَيْدِي)

قَالَ (وَإِذَا تَنَازَعَا فِي دَابَّةٍ أَحَدُهُمَا رَاكِبُهَا وَالْآخَرُ مُتَعَلِّقٌ بِلِجَامِهَا فَالرَّاكِبُ أَوْلَى) لِأَنَّ تَصَرُّفَهُ أَظْهَرُ فَإِنَّهُ يَخْتَصُّ بِالْمِلْكِ (وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا رَاكِبًا فِي السَّرْجِ وَالْآخَرُ رَدِيفُهُ فَالرَّاكِبُ أَوْلَى)

وَالْجَوَابُ أَنَّ مُخَالَفَةَ السِّنِّ فِي الْوَقْتَيْنِ تُوجِبُ كَذِبَ الْوَقْتَيْنِ لَا كَذِبَ الْبَيِّنَتَيْنِ أَصْلًا وَرَأْسًا انْتَهَى كَلَامُهُ، فَتَأَمَّلْ تَرْشُدْ

(قَالَ) أَيْ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فِي كِتَابِ الْقَضَاءِ (وَإِذَا كَانَ عَبْدٌ فِي يَدِ رَجُلٍ أَقَامَ رَجُلَانِ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ أَحَدُهُمَا بِغَصْبٍ وَالْآخَرُ بِوَدِيعَةٍ فَهُوَ بَيْنَهُمَا) أَيْ الْعَبْدُ بَيْنَ الْمُدَّعِيَيْنِ (لِاسْتِوَائِهِمَا) لِأَنَّ الْمُوَدَّعَ لَمَّا جَحَدَ الْوَدِيعَةَ صَارَ غَاصِبًا فَصَارَ دَعْوَى الْوَدِيعَةِ وَالْغَصْبِ سَوَاءً، وَالتَّسَاوِي فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ لَا يُوجِبُ التَّسَاوِي فِي نَفْسِ الِاسْتِحْقَاقِ فَيَكُونُ الْعَبْدُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ.

(فَصْلٌ فِي التَّنَازُعِ بِالْأَيْدِي)

لَمَّا فَرَغَ عَنْ بَيَانِ وُقُوعِ الْمِلْكِ بِالْبَيِّنَةِ شَرَعَ فِي بَيَانِ وُقُوعِهِ بِظَاهِرِ الْيَدِ فِي هَذَا الْفَصْلِ لِمَا أَنَّ الْأَوَّلَ أَقْوَى، وَلِهَذَا إذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ لَا يَلْتَفِتُ إلَى الْيَدِ (قَالَ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ (وَإِذَا تَنَازَعَا) أَيْ تَنَازَعَ اثْنَانِ (فِي دَابَّةٍ أَحَدُهُمَا رَاكِبُهَا وَالْآخَرُ مُتَعَلِّقٌ بِلِجَامِهَا فَالرَّاكِبُ أَوْلَى لِأَنَّ تَصَرُّفَهُ) أَيْ تَصَرُّفَ الرَّاكِبِ (أَظْهَرُ، فَإِنَّهُ) أَيْ الرُّكُوبَ (يَخْتَصُّ بِالْمِلْكِ) يَعْنِي غَالِبًا.

قَالَ الْإِمَامُ الزَّيْلَعِيُّ فِي شَرْحِ الْكَنْزِ: بِخِلَافِ مَا إذَا أَقَامَا الْبَيِّنَةَ حَيْثُ تَكُونُ بَيِّنَةُ الْخَارِجِ أَوْلَى لِأَنَّهَا حُجَّةٌ مُطْلَقَةٌ، وَبَيِّنَةُ الْخَارِجِ أَكْثَرُ إثْبَاتًا عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ. وَأَمَّا التَّعَلُّقُ فَلَيْسَ بِحُجَّةٍ، وَكَذَا التَّصَرُّفُ، لَكِنَّهُ يُسْتَدَلُّ التَّمَكُّنُ مِنْ التَّصَرُّفِ عَلَى أَنَّهُ كَانَ فِي يَدِهِ وَالْيَدُ دَلِيلُ الْمِلْكِ حَتَّى جَازَتْ الشَّهَادَةُ لَهُ بِالْمِلْكِ فَيُتْرَكُ فِي يَدِهِ حَتَّى تَقُومَ الْحُجَجُ وَالتَّرَاجِيحُ انْتَهَى (وَكَذَا إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا رَاكِبًا فِي السَّرْجِ وَالْآخَرُ رَدِيفَهُ فَالرَّاكِبُ) أَيْ فِي السَّرْجِ (أَوْلَى) لِأَنَّ الْعَادَةَ جَرَتْ بِأَنَّ الْمُلَّاكَ يَرْكَبُونَ فِي السَّرْجِ وَغَيْرُهُمْ يَكُونُ رَدِيفًا، كَذَا فِي الْكَافِي وَغَيْرِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ مِنْ أَنَّ كَوْنَ الرَّاكِبِ فِي السَّرْجِ أَوْلَى مِنْ رَدِيفِهِ عَلَى رِوَايَةٍ نَقَلَهَا النَّاطِفِيُّ فِي الْأَجْنَاسِ

ص: 280

بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَا رَاكِبَيْنِ حَيْثُ تَكُونُ بَيْنَهُمَا لِاسْتِوَائِهِمَا فِي التَّصَرُّفِ (وَكَذَا إذَا تَنَازَعَا فِي بَعِيرٍ وَعَلَيْهِ حِمْلٌ لِأَحَدِهِمَا فَصَاحِبُ الْحِمْلِ أَوْلَى) لِأَنَّهُ هُوَ الْمُتَصَرِّفُ (وَكَذَا إذَا تَنَازَعَا فِي قَمِيصٍ أَحَدُهُمَا لَابِسُهُ وَالْآخَرُ مُتَعَلِّقٌ بِكُمِّهِ فَاللَّابِسُ أَوْلَى) لِأَنَّهُ أَظْهَرُهُمَا تَصَرُّفًا (وَلَوْ تَنَازَعَا فِي بِسَاطٍ أَحَدُهُمَا جَالِسٌ عَلَيْهِ وَالْآخَرُ مُتَعَلِّقٌ بِهِ فَهُوَ بَيْنَهُمَا) مَعْنَاهُ لَا عَلَى طَرِيقِ الْقَضَاءِ لِأَنَّ الْقُعُودَ لَيْسَ بِيَدٍ عَلَيْهِ فَاسْتَوَيَا.

عَنْ نَوَادِرِ الْمُعَلَّى. وَأَمَّا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ فَالدَّابَّةُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، كَذَا فِي غَايَةِ الْبَيَانِ وَالْعِنَايَةِ (بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَا رَاكِبَيْنِ) يَعْنِي فِي السَّرْجِ (حَيْثُ تَكُونُ) أَيْ الدَّابَّةُ (بَيْنَهُمَا) قَوْلًا وَاحِدًا (لِاسْتِوَائِهِمَا فِي التَّصَرُّفِ) أَمَّا إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا مُمْسِكًا بِلِجَامِ الدَّابَّةِ وَالْآخَرُ مُتَعَلِّقَا بِذَنَبِهَا. قَالَ مَشَايِخُنَا: يَنْبَغِي أَنْ يَقْضِيَ لِلَّذِي هُوَ مُمْسِكٌ بِلِجَامِهَا لِأَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِاللِّجَامِ غَالِبًا إلَّا الْمَالِكُ، أَمَّا الذَّنَبُ فَإِنَّهُ كَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْمَالِكُ يَتَعَلَّقُ بِهِ غَيْرُهُ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَغَيْرِهَا نَقْلًا عَنْ الذَّخِيرَةِ (وَكَذَا إذَا تَنَازَعَا فِي بَعِيرٍ وَعَلَيْهِ حِمْلٌ لِأَحَدِهِمَا وَلِآخَرَ كُوزٌ مُتَعَلِّقٌ فَصَاحِبُ الْحِمْلِ أَوْلَى لِأَنَّهُ هُوَ الْمُتَصَرِّفُ) فَهُوَ ذُو الْيَدِ (وَكَذَا إذَا تَنَازَعَا فِي قَمِيصٍ أَحَدُهُمَا لَابِسُهُ وَالْآخَرُ مُتَعَلِّقٌ بِكُمِّهِ فَاللَّابِسُ أَوْلَى لِأَنَّهُ أَظْهَرُهُمَا تَصَرُّفًا) وَلِهَذَا يَصِيرُ بِهِ غَاصِبًا، كَذَا فِي الشُّرُوحِ (وَلَوْ تَنَازَعَا فِي بِسَاطٍ أَحَدُهُمَا جَالِسٌ عَلَيْهِ وَالْآخَرُ مُتَعَلِّق بِهِ فَهُوَ بَيْنَهُمَا) كَذَا لَوْ كَانَا جَالِسَيْنِ عَلَيْهِ وَادَّعَيَاهُ فَهُوَ بَيْنَهُمَا، كَذَا فِي الشُّرُوحِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ (مَعْنَاهُ لَا عَلَى طَرِيقِ الْقَضَاءِ) أَيْ مَعْنَى قَوْلِهِ فَهُوَ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ بَيْنَهُمَا لَا عَلَى طَرِيقِ الْقَضَاءِ، وَعَلَّلَ الْمَسْأَلَةَ بِقَوْلِهِ:(لِأَنَّ الْقُعُودَ لَيْسَ بِيَدٍ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الْبِسَاطِ حَتَّى لَا يَصِيرَ غَاصِبًا بِهِ (فَاسْتَوَيَا) أَيْ فَاسْتَوَيَا الْمُتَنَازِعَانِ فِيهِ فَيُجْعَلُ فِي أَيْدِيهِمَا لِعَدَمِ الْمُنَازِعِ لَهُمَا. هَذَا وَقَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ فِي حَلِّ هَذَا الْمَقَامِ: لِأَنَّ الْيَدَ عَلَى الْبِسَاطِ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِإِحْدَى الطَّرِيقَتَيْنِ؛ إمَّا بِإِثْبَاتِ الْيَدِ عَلَيْهِ حَسًّا بِالنَّقْلِ وَالتَّحْوِيلِ، وَإِمَّا بِكَوْنِهِ فِي يَدِهِ حُكْمًا بِأَنْ كَانَ فِي بَيْتِهِ وَلَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي الْبِسَاطِ فَإِنَّا نَرَاهُ مَوْضُوعًا عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ لَمَّا عَلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي يَدِ غَيْرِهِمَا وَلَا فِي يَدِهِمَا وَهُمَا مُدَّعِيَانِ يَقْضِي بَيْنَهُمَا لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الدَّعْوَى انْتَهَى.

أَقُولُ: يُرَدُّ عَلَيْهِ أَنَّ هَذَا الشَّرْحَ لَا يُطَابِقُ الْمَشْرُوحَ؛ لِأَنَّ الْمُصَنِّفَ قَالَ: مَعْنَاهُ لَا عَلَى طَرِيقِ قَضَاءٍ وَهُوَ يَقُولُ يَقْضِي بَيْنَهُمَا فَبَيْنَهُمَا تَدَافُعٌ ظَاهِرٌ. فَإِنْ قُلْت: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ لَا عَلَى طَرِيقِ الْقَضَاءِ وَالِاسْتِحْقَاقِ، وَمُرَادُ الشَّارِحِ يَقْضِي بَيْنَهُمَا قَضَاءَ التَّرْكِ فَلَا تَدَافُعَ بَيْنَهُمَا.

قُلْت: لَا مَجَالَ لَأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْقَضَاءِ بَيْنَهُمَا هَاهُنَا قَضَاءَ التَّرْكِ أَيْضًا، إذَا لَا بُدَّ فِي قَضَاءِ التَّرْكِ مِنْ أَنْ يَعْرِفَ كَوْنَ الْمُدَّعِي فِي يَدِ الْمُدَّعِي كَمَا يُفْصِحُ عَنْهُ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ أَيْضًا هُنَاكَ وَصَاحِبُ النِّهَايَةِ نَقْلًا عَنْ الذَّخِيرَةِ فِيمَا سَيَجِيءُ فِي مَسْأَلَةِ التَّنَازُعِ فِي الْحَائِطِ حَيْثُ قَالَ: وَمَعْنَى الْقَضَاءِ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ إذَا عَرَفَ كَوْنَهُ فِي أَيْدِيهِمَا قُضِيَ بَيْنَهُمَا قَضَاءَ تَرْكٍ، فَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ كَوْنَهُ فِي أَيْدِيهِمَا وَقَدْ ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهُ مِلْكُهُ وَفِي يَدَيْهِ يَجْعَلُ فِي أَيْدِيهِمَا مَعًا لِأَنَّهُ لَا مُنَازِعَ لَهُمَا لَا أَنَّهُ يَقْضِي بَيْنَهُمَا انْتَهَى. فَإِنَّهُ يَظْهَرُ مِنْهُ الْفَرْقُ بَيْنَ قَضَاءِ التَّرْكِ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْجَعْلِ فِي أَيْدِيهِمَا مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْأَوَّلَ فِيمَا عَرَفَ كَوْنَ الْمُدَّعِي فِي أَيْدِيهِمَا وَالثَّانِي فِيمَا لَمْ يَعْرِفْ ذَلِكَ

ص: 281

قَالَ: (وَإِذَا كَانَ ثَوْبٌ فِي يَدِ رَجُلٍ وَطَرَفٌ مِنْهُ فِي يَدِ آخَرَ فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ) لِأَنَّ الزِّيَادَةَ مِنْ جِنْسِ الْحُجَّةِ فَلَا تُوجِبُ زِيَادَةً فِي الِاسْتِحْقَاقِ.

وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ لَمْ تَتَحَقَّقْ يَدٌ لِوَاحِدٍ مِنْ الْمُدَّعِيَيْنِ عَلَى مَا تَقَرَّرَ آنِفًا فَلَمْ يُعْرَفْ كَوْنُ الْمُدَّعِي فِي أَيْدِيهِمَا فَلَمْ يُتَصَوَّرْ الْقَضَاءُ بَيْنَهُمَا قَضَاءَ التَّرْكِ أَيْضًا فَلَمْ يَتَيَسَّرْ التَّوْفِيقُ الْمَذْكُورُ، فَكَأَنَّ صَاحِبَ الْعِنَايَةِ تَنَبَّهَ لِهَذَا فَقَالَ: لِأَنَّ الْيَدَ عَلَى الْبِسَاطِ إمَّا بِالنَّقْلِ وَالتَّحْوِيلِ أَوْ بِكَوْنِهِ فِي بَيْتِهِ، وَالْجُلُوسُ عَلَيْهِ لَيْسَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَلَا يَكُونُ يَدًا عَلَيْهِ فَلَيْسَ بِأَيْدِيهِمَا وَلَا فِي يَدِ غَيْرِهِمَا وَهُمَا يَدَّعِيَانِهِ عَلَى السَّوَاءِ فَيُتْرَكُ فِي أَيْدِيهِمَا انْتَهَى.

حَيْثُ تَرَكَ ذِكْرَ الْقَضَاءِ بَيْنَهُمَا وَذَكَرَ التَّرْكَ فِي أَيْدِيهِمَا، لَكِنَّ هَذَا أَيْضًا لَا يَخْلُو عَنْ قُصُورٍ، لِأَنَّ اسْتِعْمَالَ التَّرْكِ فِي الْيَدِ يَقْتَضِي سَبْقَ تَحَقُّقِ الْيَدِ، وَهَاهُنَا لَيْسَ كَذَلِكَ كَمَا تَبَيَّنَ، فَحَقُّ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْمَقَامِ أَنْ يُقَالَ فَيُجْعَلُ فِي أَيْدِيهِمَا: أَيْ يُوضَعُ فِيهَا لِعَدَمِ الْمُنَازِعِ لَهُمَا كَمَا ذَكَرْته فِيمَا قَبْلُ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يُطَابِقُ الشَّرْحُ الْمَشْرُوحَ، وَيُطَابِقُ الْمَقَامُ مَا يَظْهَرُ مِمَّا سَيَجِيءُ فِي مَسْأَلَةِ التَّنَازُعِ عَنْ الْحَائِطِ مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ مَحِلِّ الْقَضَاءِ بَيْنَهُمَا قَضَاءَ تَرْكٍ وَبَيْنَ مَحِلِّ الْجَعْلِ فِي أَيْدِيهِمَا بِلَا قَضَاءٍ.

وَأَيْضًا لَا تَبْقَى الْحَاجَةُ حِينَئِذٍ إلَى مَا ذَكَرَهُ صَاحِبَا النِّهَايَةِ وَالْعِنَايَةِ وَغَيْرُهُمَا مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ وَبَيْنَ مَسْأَلَةِ الدَّارِ إذَا تَنَازَعَا فِيهَا وَكَانَا قَاعِدَيْنِ فِيهَا حَيْثُ لَا يَقْضِي بِهَا بَيْنَهُمَا وَلَا إلَى مَا ارْتَكَبُوا فِي وَجْهِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا مِنْ التَّكْلِيفِ عَلَى مَا لَا يَخْفَى عَلَى الْفَطِنِ النَّاظِرِ فِي كَلَامِهِمْ إذْ يَظْهَرُ حِينَئِذٍ أَنَّ حُكْمَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ أَنْ لَا يَقْضِيَ بَيْنَ الْمُدَّعِيَيْنِ بِالْمُدَّعِي بِنَاءً عَلَى أَنْ لَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْهُمَا يَدٌ عَلَيْهِ حَتَّى تَصِيرَ دَلِيلَ الْمِلْكِ وَسَبَبَ الْقَضَاءِ، بَلْ أَنْ يَجْعَلَ الْمُدَّعَى فِي أَيْدِيهِمَا بِلَا قَضَاءٍ لِعَدَمِ الْمُنَازِعِ لَهُمَا وَاسْتِوَائِهِمَا فِي الدَّعْوَى فَتَدَبَّرْ

(قَالَ) أَيْ مُحَمَّدٌ فِي كِتَابِ الْقَضَاءِ مِنْ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ (وَإِذَا كَانَ ثَوْبٌ فِي يَدِ رَجُلٍ وَطَرْفٌ مِنْهُ فِي يَدِ آخَرَ فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ مِنْ جِنْسِ الْحُجَّةِ) فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَمَسِّكٌ بِالْيَدِ، إلَّا أَنَّ أَحَدَهُمَا أَكْثَرُ اسْتِمْسَاكًا (فَلَا تُوجِبُ زِيَادَةً فِي الِاسْتِحْقَاقِ) يَعْنِي أَنَّ مِثْلَ تِلْكَ الزِّيَادَةِ لَا تُوجِبُ الرُّجْحَانَ، إذْ لَا تَرْجِيحَ بِكَثْرَةِ الْعِلَلِ كَمَا مَرَّ، فَصَارَ كَمَا لَوْ تَنَازَعَا فِي بَعِيرٍ وَلِأَحَدِهِمَا عَلَيْهِ خَمْسُونَ مَنًّا وَلِلْآخَرِ مِائَةُ مَنٍّ كَانَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَلَا يُعْتَبَرُ التَّفَاوُتُ بِالْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ، وَكَمَا لَوْ أَقَامَ أَحَدُهُمَا الِاثْنَيْنِ مِنْ الشُّهُودِ وَالْآخَرُ الْأَرْبَعَةَ، وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَسْأَلَةِ الْقَمِيصِ الَّتِي ذُكِرَتْ مِنْ قَبْلُ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ هُنَاكَ لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ الْحُجَّةِ؛ فَإِنَّ الْحُجَّةَ هِيَ الْيَدُ وَالزِّيَادَةُ هِيَ الِاسْتِعْمَالُ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ.

ثُمَّ إنَّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ الثَّوْبِ لَوْ كَانَ فِي يَدِ رَجُلٍ وَادَّعَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ لَكِنَّ هَذَا إذَا عَرَفَ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الثَّوْبِ كَانَ لَهُ فِي الْعَادَةِ وَإِلَّا فَلَا؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ فِي الْمُحِيطِ وَالذَّخِيرَةِ: لَوْ خَرَجَ مِنْ دَارِ رَجُلٍ وَعَلَى عَاتِقِهِ مَتَاعٌ فَإِنْ كَانَ هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي عَلَى عَاتِقِهِ هَذَا الْمَتَاعُ يُعْرَفُ بِبَيْعِهِ وَحَمْلِهِ فَهُوَ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ بِذَلِكَ فَهُوَ لِرَبِّ الدَّارِ. وَفِي الْقُدُورِيِّ: لَوْ أَنَّ خَيَّاطًا يَخِيطُ ثَوْبًا فِي دَارِ رَجُلٍ وَتَنَازَعَا فِي الثَّوْبِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ صَاحِبِ الدَّارِ.

وَفِي نَوَادِرِ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ: رَجُلٌ دَخَلَ دَارَ رَجُلٍ فَوُجِدَ مَعَهُ مَالٌ فَقَالَ رَبُّ الدَّارِ هَذَا مَالِي أَخَذْته مِنْ مَنْزِلِي، قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الدَّارِ، وَلَا يُصَدَّقُ الدَّاخِلُ فِي شَيْءٍ مَا خَلَا ثِيَابَهُ الَّتِي عَلَيْهِ إنْ كَانَتْ الثِّيَابُ مِمَّا يَلْبَسُهُ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إنْ كَانَ الدَّاخِلُ رَجُلًا يُعْرَفُ بِصِنَاعَةِ شَيْءٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ بِأَنْ كَانَ مَثَلًا حَمَّالًا يَحْمِلُ الزَّيْتَ فَدَخَلَ وَعَلَى رَقَبَتِهِ زِقُّ زَيْتٍ أَوْ كَانَ مِمَّنْ يَبِيعُ وَيَطُوفُ بِالْمَتَاعِ فِي الْأَسْوَاقِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ، وَلَا أُصَدِّقُ قَوْلَ رَبِّ الدَّارِ عَلَيْهِ وَإِلَّا فَلَا.

فَأَثْبَتَ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ أَنَّ صَاحِبَ الْيَدِ إنَّمَا تُعْتَبَرُ يَدُهُ وَإِنْ كَانَتْ فِي الْمَنْقُولَاتِ عِنْدَ دَلَالَةِ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَهُ عَادَةٌ وَإِلَّا فَلَا، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدَّارِيَةِ

ص: 282

قَالَ: (وَإِذَا كَانَ صَبِيٌّ فِي يَدِ رَجُلٍ وَهُوَ يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ فَقَالَ: أَنَا حُرٌّ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ) لِأَنَّهُ فِي يَدِ نَفْسِهِ (وَلَوْ قَالَ أَنَا عَبْدٌ لِفُلَانٍ فَهُوَ عَبْدٌ لِلَّذِي هُوَ فِي يَدِهِ) لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِأَنَّهُ لَا يَدَ لَهُ حَيْثُ أَقَرَّ بِالرِّقِّ (وَإِنْ كَانَ لَا يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ فَهُوَ عَبْدٌ لِلَّذِي هُوَ فِي يَدِهِ) لِأَنَّهُ لَا يَدَ لَهُ عَلَى نَفْسِهِ لَمَّا كَانَ لَا يُعَبِّرُ عَنْهَا وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمَتَاعِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ يُعَبِّرُ،

قَالَ) أَيْ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فِي كِتَابِ الْقَضَاءِ: (وَإِذَا كَانَ صَبِيٌّ فِي يَدِ رَجُلٍ وَهُوَ يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ) أَيْ يَعْقِلُ فَحَوَى مَا يَجْرِي عَلَى لِسَانِهِ، كَذَا فِي الْكَافِي. وَفِي مَعْنَاهُ قَوْلُ الشُّرَّاحِ: أَيْ يَتَكَلَّمُ وَيَعْقِلُ مَا يَقُولُ (فَقَالَ) أَيْ الصَّبِيُّ (أَنَا حُرٌّ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ لِأَنَّهُ فِي يَدِ نَفْسِهِ) فَكَانَ هُوَ صَاحِبَ الْيَدِ وَكَانَ الْمُدَّعِي خَارِجًا وَالْقَوْلُ قَوْلَ صَاحِبِ الْيَدِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ إنْسَانٍ يَدٌ عَلَى نَفْسِهِ إبَانَةً لِمَعْنَى الْكَرَامَةِ، إذْ كَوْنُهُ فِي يَدِ غَيْرِهِ دَلِيلُ الْإِهَابَةِ، وَمَعَ قِيَامِ يَدِهِ عَلَى نَفْسِهِ لَا تَثْبُتُ يَدُ الْغَيْرِ عَلَيْهِ لِلتَّنَافِي بَيْنَ الْيَدَيْنِ إلَّا إذَا سَقَطَ اعْتِبَارُ يَدِهِ شَرْعًا فَحِينَئِذٍ تُعْتَبَرُ يَدُ الْغَيْرِ عَلَيْهِ، وَسُقُوطُ اعْتِبَارِ يَدِهِ قَدْ يَكُونُ لِعَدَمِ أَهْلِيَّتِهِ بِأَنْ كَانَ صَغِيرًا لَا يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ: أَيْ لَا يَعْقِلُ مَا يَكُونُ، وَقَدْ يَكُونُ لِثُبُوتِ الرِّقِّ عَلَيْهِ لِأَنَّ الرِّقَّ عِبَارَةٌ عَنْ عَجْزٍ حُكْمِيٍّ، وَالْيَدُ عِبَارَةٌ عَنْ الْقُدْرَةِ وَبَيْنَهُمَا تَنَافٍ، فَإِذَا ثَبَتَ الضَّعْفُ انْتَفَتْ الْقُدْرَةُ، كَذَا فِي الْكَافِي (وَلَوْ قَالَ أَنَا عَبْدٌ لِفُلَانٍ) أَيْ لَوْ قَالَ الصَّبِيُّ الَّذِي يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ أَنَا عَبْدٌ لِفُلَانٍ غَيْرِ ذِي الْيَدِ وَقَالَ الَّذِي فِي يَدِهِ: إنَّهُ عَبْدِي (فَهُوَ عَبْدٌ لِلَّذِي هُوَ فِي يَدِهِ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِأَنَّهُ لَا يَدَ لَهُ حَيْثُ أَقَرَّ بِالرِّقِّ) فَكَانَ يَدُ صَاحِبِ الْيَدِ عَلَيْهِ مُعْتَبَرَةً شَرْعًا فَكَانَ الْقَوْلُ لِذِي الْيَدِ أَنَّهُ لَهُ، وَلَا تُقْطَعُ يَدُهُ إلَّا بِحُجَّةٍ وَشَهَادَةُ الْعَبْدِ لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ، كَذَا فِي الْكَافِي.

فَإِنْ قِيلَ: الْإِقْرَارُ بِالرِّقِّ مِنْ الْمَضَارِّ لَا مَحَالَةَ وَأَقْوَالُ الصَّبِيِّ فِيهَا غَيْرُ مُوجِبَةٍ وَإِنْ كَانَ عَاقِلًا كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالْهِبَةِ وَالْإِقْرَارِ بِالدَّيْنِ فَإِنَّ الصَّبِيَّ أَبَدًا يَبْعُدُ مِنْ الْمَضَارِّ وَيُقَرَّبُ مِنْ الْمَبَارِّ. قُلْنَا: الرِّقُّ هَاهُنَا لَا يَثْبُتُ بِإِقْرَارِهِ بَلْ بِدَعْوَى ذِي الْيَدِ، إلَّا أَنَّ عِنْدَ مُعَارَضَتِهِ إيَّاهُ بِدَعْوَى الْحُرِّيَّةِ لَا تَتَقَرَّرُ يَدُهُ عَلَيْهِ. وَعِنْدَ عَدَمِهَا تَتَقَرَّرُ كَمَا فِي الصَّبِيِّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِي رِقِّهِ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ (وَإِنْ كَانَ) أَيْ الصَّبِيُّ (لَا يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ فَهُوَ عَبْدٌ لِلَّذِي هُوَ فِي يَدِهِ لِأَنَّهُ لَا يَدَ لَهُ عَلَى نَفْسِهِ لَمَّا كَانَ لَا يُعَبِّرُ عَنْهَا) أَيْ عَنْ نَفْسِهِ (وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَتَاعٍ) فِي أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ يَدٌ عَلَى نَفْسِهِ فَكَانَتْ يَدُ صَاحِبِ الْيَدِ ثَابِتَةً عَلَيْهِ شَرْعًا فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ أَنَّهُ مِلْكُهُ (بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ يُعَبِّرُ) أَيْ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الصَّبِيُّ يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ وَلَمْ يُقِرَّ بِالرِّقِّ لِمَا مَرَّ. فَإِنْ قِيلَ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ اللَّقِيطِ الَّذِي لَا يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ فَإِنَّ الْمُلْتَقِطَ هُنَاكَ وَهُوَ صَاحِبُ الْيَدِ لَوْ ادَّعَى أَنَّهُ عَبْدُهُ لَا يُصَدَّقُ وَهُنَا قِيلَ.

قُلْنَا: الْفَرْقُ هُوَ أَنَّ صَاحِبَ الْيَدِ إنَّمَا يُصَدَّقُ فِي دَعْوَى الرِّقِّ بِاعْتِبَارِ يَدِهِ، وَيَدُ الْمُلْتَقِطِ عَلَى اللَّقِيطِ ثَابِتَةٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ لِأَنَّهَا ثَابِتَةٌ حَقِيقَةً وَلَيْسَتْ بِثَابِتَةٍ حُكْمًا لِأَنَّ الْمُلْتَقِطَ أَمِينٌ فِي اللَّقِيطِ وَيَدُ الْأَمِينِ فِي الْحُكْمِ يَدُ غَيْرِهِ فَإِذَا كَانَتْ ثَابِتَةً مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ لَمْ تَصِحَّ دَعْوَاهُ مَعَ الشَّكِّ. فَإِنْ قِيلَ: وَجَبَ أَنْ لَا يُصَدَّقَ فِي دَعْوَى الرِّقِّ لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ ثَابِتَةٌ بِالْأَصْلِ فِي بَنِي آدَمَ إذْ الْأَصْلُ فِي بَنِي آدَمَ الْحُرِّيَّةُ لِأَنَّهُمْ أَوْلَادُ آدَمَ وَحَوَّاءَ عليهما السلام وَهُمَا كَانَا حُرَّيْنِ فَكَانَ مَا يَدَّعِيهِ مِنْ الرِّقِّ أَمْرًا عَارِضًا فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ إلَّا بِحُجَّةٍ، قُلْنَا: مَا هُوَ الْأَصْلُ إذَا اعْتَرَضَ عَلَيْهِ مَا يَدُلُّ عَلَى خِلَافِهِ يَبْطُلُ، وَالْيَدُ عَلَى مَنْ هَذَا شَأْنُهُ دَلِيلٌ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ الْأَصْلِ لِأَنَّهَا دَلِيلُ الْمِلْكِ

ص: 283

فَلَوْ كَبِرَ وَادَّعَى الْحُرِّيَّةَ لَا يَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ لِأَنَّهُ ظَهَرَ الرِّقُّ عَلَيْهِ فِي حَالِ صِغَرِهِ.

قَالَ: (وَإِذَا كَانَ الْحَائِطُ لِرَجُلٍ عَلَيْهِ جُذُوعٌ أَوْ مُتَّصِلٌ بِبِنَائِهِ وَلِآخَرَ عَلَيْهِ هَرَادِيٌّ فَهُوَ لِصَاحِبِ الْجُذُوعِ وَالِاتِّصَالِ، وَالْهَرَادِيُّ لَيْسَتْ بِشَيْءٍ) لِأَنَّ صَاحِبَ الْجُذُوعِ صَاحِبُ اسْتِعْمَالٍ وَالْآخَرُ صَاحِبُ تَعَلُّقٍ فَصَارَ كَدَابَّةٍ تَنَازَعَا فِيهَا وَلِأَحَدِهِمَا حِمْلٌ عَلَيْهَا وَلِلْآخَرِ كُوزٌ مُعَلَّقٌ بِهَا، وَالْمُرَادُ بِالِاتِّصَالِ مُدَاخَلَةُ لَبِنِ جِدَارِهِ فِيهِ وَلَبِنِ هَذَا فِي جِدَارِهِ وَقَدْ يُسَمَّى اتِّصَالُ تَرْبِيعٍ،

فَيَبْطُلُ بِهِ ذَلِكَ الْأَصْلُ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَغَيْرِهَا نَقْلًا عَنْ الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ (فَلَوْ كَبِرَ وَادَّعَى الْحُرِّيَّةَ لَا يَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ لِأَنَّهُ ظَهَرَ الرِّقُّ عَلَيْهِ فِي حَالِ صِغَرِهِ) فَلَا يُنْقَضُ الْأَمْرُ الثَّابِتُ ظَاهِرًا بِلَا حُجَّةٍ

(قَالَ) أَيْ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فِي كِتَابِ الْقَضَاءِ: (وَإِذَا كَانَ الْحَائِطُ لِرَجُلٍ عَلَيْهِ جُذُوعٌ أَوْ مُتَّصِلٌ بِبِنَائِهِ) أَيْ أَوْ هُوَ مُتَّصِلٌ بِبِنَائِهِ (وَلِآخَرَ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الْحَائِطِ (هَرَادِيٌّ) بِفَتْحِ الْهَاءِ جَمْعُ هَرْدِيَّةٍ بِضَمِّهَا. وَفِي الْمُغْرِبِ: الْهُرْدِيَّةُ عَنْ اللَّيْثِ: قَصَبَاتٌ تُضَمُّ مَلْوِيَّةً بِطَاقَاتٍ مِنْ الْكَرْمِ يُرْسَلُ عَلَيْهَا قُضْبَانُ الْكَرْمِ. وَقَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: هُوَ الْحَرْدِيُّ وَلَا تَقُلْ هَرْدَى انْتَهَى. وَفِي الصَّحَّاحِ: الْحَرْدِيُّ مِنْ الْقَصَبِ نَبَطِيٌّ مُعَرَّبٌ وَلَا تَقُلْ هَرْدَى انْتَهَى. وَصَحَّحَ فِي الدِّيوَانِ الْهَاءَ وَالْحَاءَ جَمِيعًا، وَكَذَا الْقَامُوسُ.

قَالَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ: الرِّوَايَةُ فِي الْأَصْلِ وَالْكَافِي لِلْحَاكِمِ الشَّهِيدِ بِالْحَاءِ وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَشَرْحِ الْكَافِي وَقَعَتْ بِالْهَاءِ لَا غَيْرُ انْتَهَى

(فَهُوَ) أَيْ الْحَائِطُ (لِصَاحِبِ الْجُذُوعِ وَالِاتِّصَالِ، وَالْهَرَادِيُّ لَيْسَتْ بِشَيْءٍ لِأَنَّ صَاحِبَ الْجُذُوعِ صَاحِبُ اسْتِعْمَالٍ) أَيْ هُوَ صَاحِبُ اسْتِعْمَالٍ لِلْحَائِطِ بِوَضْعِ الْجُذُوعِ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْحَائِطَ إنَّمَا يُبْنَى لِلتَّسْقِيفِ وَذَا بِوَضْعِ الْجُذُوعِ عَلَيْهِ (وَالْآخَرُ) يَعْنِي صَاحِبَ الْهَرَادِيِّ (صَاحِبُ تَعَلُّقٍ) لَا صَاحِبُ اسْتِعْمَالٍ لِأَنَّ الْحَائِطَ لَا يُبْنَى لِوَضْعِ الْهَرَادِيِّ عَلَيْهِ وَالِاسْتِعْمَالُ يَدٌ، وَعِنْدَ تَعَارُضِ الدَّعْوَيَيْنِ الْقَوْلُ قَوْلُ صَاحِبِ الْيَدِ (فَصَارَ) أَيْ فَصَارَ الْحَائِطُ فِي مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ (كَدَابَّةٍ تَنَازَعَا فِيهَا وَلِأَحَدِهِمَا عَلَيْهَا حِمْلٌ وَلِلْآخَرِ كُوزٌ مُعَلَّقٌ) فَإِنَّهَا تَكُونُ لِصَاحِبِ الْحَمْلِ دُونَ صَاحِبِ الْكُوزِ كَذَا هَاهُنَا (وَالْمُرَادُ بِالِاتِّصَالِ) أَيْ الْمُرَادُ بِالِاتِّصَالِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ أَوْ مُتَّصِلٌ بِبِنَائِهِ (مُدَاخَلَةُ لَبِنِ جِدَارِهِ) أَيْ جِدَارِ صَاحِبِ الْبِنَاءِ (فِيهِ) أَيْ فِي الْحَائِطِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ (وَلَبِنِ هَذَا) أَيْ وَمُدَاخَلَةُ لَبِنِ هَذَا: أَيْ الْحَائِطِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ (فِي جِدَارِهِ) أَيْ فِي جِدَارِ صَاحِبِ الْبِنَاءِ (وَقَدْ يُسَمَّى اتِّصَالَ تَرْبِيعٍ) أَيْ وَيُسَمَّى اتِّصَالُ مُدَاخَلَةِ لَبِنٍ اتِّصَالَ تَرْبِيعٍ، وَتَفْسِيرُ التَّرْبِيعِ إذَا كَانَ الْحَائِطُ مِنْ مَدَرٍ أَوْ آجُرٍّ أَنْ تَكُونَ أَنْصَافُ لَبِنِ الْحَائِطِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ دَاخِلَةً فِي أَنْصَافِ لَبِنِ غَيْرِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ وَأَنْصَافُ لَبِنِ غَيْرِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ دَاخِلَةً

ص: 284

وَهَذَا شَاهِدٌ ظَاهِرٌ لِصَاحِبِهِ لِأَنَّ بَعْضَ بِنَائِهِ عَلَى بَعْضِ بِنَاءِ هَذَا الْحَائِطِ.

فِي الْمُتَنَازَعِ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ خَشَبٍ فَالتَّرْبِيعُ أَنْ تَكُونَ سَاحَةُ أَحَدِهِمَا مُرَكَّبَةً فِي الْأُخْرَى، وَأَمَّا إذَا ثَقَبَ فَأَدْخَلَ لَا يَكُونُ تَرْبِيعًا، كَذَا فِي غَايَةِ الْبَيَانِ نَقْلًا عَنْ مَبْسُوطِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ.

وَفِي النِّهَايَةِ وَغَيْرِهَا نَقْلًا عَنْ الذَّخِيرَةِ قَالَ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ: وَإِنَّمَا سُمِّيَ هَذَا اتِّصَالَ التَّرْبِيعِ لِأَنَّهُمَا إنَّمَا يُبْنَيَانِ لِيُحِيطَا مَعَ جِدَارَيْنِ آخَرَيْنِ بِمَكَانٍ مُرَبَّعٍ انْتَهَى. وَكَانَ الْكَرْخِيُّ يَقُولُ: صِفَةُ هَذَا الِاتِّصَالِ أَنْ يَكُونَ الْحَائِطُ الْمُتَنَازَعُ فِيهِ مُتَّصِلًا بِحَائِطَيْنِ لِأَحَدِهِمَا مِنْ الْجَانِبَيْنِ جَمِيعًا وَالْحَائِطَانِ مُتَّصِلَانِ بِحَائِطٍ لَهُ بِمُقَابَلَةِ الْحَائِطِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ حَتَّى يَصِيرَ مُرَبَّعًا شِبْهَ الْقُبَّةُ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْكُلُّ فِي حُكْمِ شَيْءٍ وَاحِدٍ. وَالْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ اتِّصَالَ جَانِبَيْ الْحَائِطِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ بِحَائِطَيْنِ لِأَحَدِهِمَا يَكْفِي، وَلَا يُشْتَرَطُ اتِّصَالُ الْحَائِطَيْنِ بِحَائِطٍ لَهُ بِمُقَابَلَةٍ الْحَائِطِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ، وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ مَشَايِخِنَا لِأَنَّ الرُّجْحَانَ يَقَعُ بِكَوْنِهِ مِلْكًا مُحِيطًا بِالْحَائِطِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَذَلِكَ يَتِمُّ بِالِاتِّصَالِ بِجَانِبَيْ الْحَائِطِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ، كَذَا فِي شَرْحِ الْكَنْزِ لِلْإِمَامِ الزَّيْلَعِيِّ.

وَفِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ لِتَاجِ الشَّرِيعَةِ (وَهَذَا) أَيْ اتِّصَالُ التَّرْبِيعِ (شَاهِدٌ ظَاهِرٌ لِصَاحِبِهِ لِأَنَّ بَعْضَ بِنَائِهِ) أَيْ بَعْضَ بِنَاءِ صَاحِبِهِ (وَعَلَى بَعْضِ هَذَا الْحَائِطِ) أَيْ عَلَى بَعْضِ هَذَا الْحَائِطِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ بِالِاتِّصَالِ فَصَارَ الْكُلُّ فِي حُكْمِ حَائِطٍ وَاحِدٍ بِهَذَا النَّوْعِ مِنْ الِاتِّصَالِ، وَبَعْضُهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ لِأَحَدِهِمَا فَيُرَدُّ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ إلَى الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي بَنَاهُ مَعَ حَائِطِهِ فَمُدَاخَلَةُ أَنْصَافِ اللَّبِنِ لَا تُتَصَوَّرُ إلَّا عِنْدَ بِنَاءِ الْحَائِطَيْنِ مَعًا فَكَانَ هُوَ أَوْلَى، كَذَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَعَزَاهُ إلَى الْمَبْسُوطِ. أَقُولُ: بَقِيَ لِي هَاهُنَا كَلَامٌ، وَهُوَ أَنَّ الْمُصَنِّفَ حَمَلَ الْمُرَادَ بِالِاتِّصَالِ الْمَذْكُورِ فِي مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ عَلَى اتِّصَالِ التَّرْبِيعِ، وَتَبِعَهُ فِي هَذَا عَامَّةُ ثِقَاتِ الْمُتَأَخِّرِينَ كَصَاحِبِ الْكَافِي وَالْإِمَامِ الزَّيْلَعِيِّ وَشُرَّاحِ الْهِدَايَةِ قَاطِبَةً وَغَيْرِهِمْ، حَتَّى أَنَّ كَثِيرًا مِنْ أَصْحَابِ الْمُتُونِ صَرَّحُوا بِتَقْيِيدِ الِاتِّصَالِ هَاهُنَا بِالتَّرْبِيعِ مِنْهُمْ صَاحِبُ الْوِقَايَةِ حَيْثُ قَالَ: وَالْحَائِطُ لِمَنْ جُذُوعُهُ عَلَيْهِ أَوْ مُتَّصِلٌ بِبِنَائِهِ اتِّصَالَ تَرْبِيعٍ لَا لِمَنْ لَهُ عَلَيْهِ هَرَادِيٌّ انْتَهَى. وَلَكِنْ لَمْ يَظْهَرْ لِي وَجْهُ هَذَا التَّقْيِيدِ هَاهُنَا لِأَنَّ مَعْنَى مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ أَنَّ صَاحِبَ الْجُذُوعِ أَوْلَى مِنْ صَاحِبِ الْهَرَادِيِّ، وَكَذَا صَاحِبُ الِاتِّصَالِ أَوْلَى مِنْ صَاحِبِ الْهَرَادِيِّ. وَفِي الْحُكْمِ يَكُونُ صَاحِبُ الِاتِّصَالِ أَوْلَى مِنْ صَاحِبِ الْهَرَادِيِّ لَا احْتِيَاجَ إلَى تَقْيِيدِ الِاتِّصَالِ بِالتَّرْبِيعِ، بَلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ ضَرْبَيْ الِاتِّصَالِ: أَعْنِي اتِّصَالَ التَّرْبِيعِ وَاتِّصَالَ الْمُلَازَقَةِ مُشْتَرِكَانِ فِي هَذَا الْحُكْمِ فَإِنَّ الْهَرَادِيَّ مِمَّا لَا اعْتِبَارَ لَهُ أَصْلًا بَلْ هِيَ فِي حُكْمِ الْمَعْدُومِ، حَتَّى لَوْ تَنَازَعَا فِي حَائِطٍ لِأَحَدِهِمَا عَلَيْهِ هَرَادِيٌّ وَلَيْسَ لِلْآخِرِ شَيْءٌ فَهُوَ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا سَيَأْتِي فِي الْكِتَابِ.

وَقَدْ ذَكَرَ فِي مُعْتَبَرَاتِ الْفَتَاوَى أَنَّهُ إذَا كَانَ لِأَحَدِهِمَا اتِّصَالُ مُلَازَقَةٍ وَلَمْ يَكُنْ لِلْآخَرِ اتِّصَالٌ وَلَا جُذُوعٌ فَهُوَ لِصَاحِبِ الِاتِّصَالِ، فَقَالَ فِي الذَّخِيرَةِ: وَذَكَرَ هَذَا أَيْضًا فِي النِّهَايَةِ نَقْلًا عَنْ الذَّخِيرَةِ. أَمَّا إذَا كَانَ الْحَائِطُ الْمُتَنَازَعُ فِيهِ مُتَّصِلًا بِبِنَائِهِمَا إنْ كَانَ اتِّصَالُهُمَا اتِّصَالَ تَرْبِيعٍ أَوْ اتِّصَالَ مُلَازَقَةٍ فَإِنَّهُ يَقْضِي بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لِأَنَّهُمَا اسْتَوَيَا فِي الدَّعْوَى وَالِاتِّصَالِ، وَأَمَّا إذَا كَانَ اتِّصَالُ أَحَدِهِمَا اتِّصَالَ تَرْبِيعٍ وَاتِّصَالُ الْآخَرِ اتِّصَالَ مُلَازَقَةٍ فَصَاحِبُ التَّرْبِيعِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ صَاحِبَ التَّرْبِيعِ مُسْتَعْمِلٌ لِلْحَائِطِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ؛ لِأَنَّ قِوَامَ حَائِطِهِ بِقَدْرِ التَّرْبِيعِ بِالْحَائِطِ الْمُتَنَازَعُ فِيهِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ تَفْسِيرِ التَّرْبِيعِ، فَكَانَ لِصَاحِبِ التَّرْبِيعِ عَلَى ذَلِكَ التَّفْسِيرِ مَعَ الِاتِّصَالِ نَوْعُ الِاسْتِعْمَالِ، وَلِلْآخَرِ مُجَرَّدُ اتِّصَالٍ مِنْ غَيْرِ اسْتِعْمَالٍ فَيَكُونُ الِاتِّصَالُ مَعَ الِاسْتِعْمَالِ أَوْلَى فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الرَّاكِبِ عَلَى الدَّابَّةِ وَالْمُتَعَلِّقِ بِاللِّجَامِ، وَلَوْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا اتِّصَالٌ بِبِنَاءٍ اتِّصَالَ مُلَازَقَةٍ أَوْ اتِّصَالَ تَرْبِيعٍ وَلَيْسَ لِلْآخَرِ اتِّصَالٌ وَلَا لَهُ عَلَيْهِ جُذُوعٌ فَإِنَّهُ يَقْضِي لِصَاحِبِ الِاتِّصَالِ لِأَنَّهُمَا اسْتَوَيَا فِي حَقِّ الِاتِّصَالِ بِالْأَرْضِ الْمَمْلُوكَةِ وَلِأَحَدِهِمَا زِيَادَةُ الِاتِّصَالِ مِنْ خِلَافِ الْجِنْسِ الْأَوَّلِ وَهُوَ الِاتِّصَالُ بِالْبِنَاءِ فَيَتَرَجَّحُ عَلَى الْآخَرِ انْتَهَى.

وَقَالَ فِي الْبَدَائِعِ: وَلَوْ كَانَ الْحَائِطُ مُتَّصِلًا بِبِنَاءِ إحْدَى الدَّارَيْنِ اتِّصَالَ الْتِزَاقٍ وَارْتِبَاطٍ فَهُوَ لِصَاحِبِ الِاتِّصَالِ لِأَنَّهُ كَالْمُتَعَلِّقِ بِهِ، وَلَوْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا اتِّصَالُ الْتِزَاقٍ وَلِلْآخَرِ جُذُوعٌ فَصَاحِبُ الْجُذُوعُ أَوْلَى لِأَنَّهُ مُسْتَعْمِلٌ لِلْحَائِطِ وَلَا اسْتِعْمَالَ مِنْ صَاحِبِ الِاتِّصَالِ، وَلَوْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا اتِّصَالُ الْتِزَاقٍ وَارْتِبَاطٍ وَلِلْآخَرِ اتِّصَالُ تَرْبِيعٍ فَصَاحِبُ التَّرْبِيعِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ اتِّصَالَ التَّرْبِيعِ أَقْوَى مِنْ اتِّصَالِ الِالْتِزَاقِ، وَلَوْ كَانَ

ص: 285

وَقَوْلُهُ الْهَرَادِيُّ لَيْسَتْ بِشَيْءٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا اعْتِبَارَ لِلْهَرَادِيِّ أَصْلًا، وَكَذَا الْبَوَارِي لِأَنَّ الْحَائِطَ لَا تُبْنَى لَهَا أَصْلًا حَتَّى لَوْ تَنَازَعَا فِي حَائِطٍ وَلِأَحَدِهِمَا عَلَيْهِ هَرَادِيٌّ وَلَيْسَ لِلْآخَرِ عَلَيْهِ شَيْءٌ فَهُوَ بَيْنَهُمَا

(وَلَوْ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَيْهِ جُذُوعٌ ثَلَاثَةٌ فَهُوَ بَيْنَهُمَا) لِاسْتِوَائِهِمَا وَلَا مُعْتَبَرَ بِالْأَكْثَرِ مِنْهَا بَعْدَ الثَّلَاثَةِ

لِأَحَدِهِمَا اتِّصَالُ تَرْبِيعٍ وَلِلْآخَرِ الْجُذُوعُ فَالْحَائِطُ لِصَاحِبِ التَّرْبِيعِ وَلِصَاحِبِ الْجُذُوعِ حَقُّ وَضْعِ الْجُذُوعِ انْتَهَى.

فَتَلَخَّصَ مِنْ هَذَا كُلِّهِ أَنَّ فَائِدَةَ تَقْيِيدِ الِاتِّصَالِ بِالتَّرْبِيعِ إنَّمَا تَظْهَرُ لَوْ كَانَ لِلْآخَرِ اتِّصَالُ مُلَازَقَةٍ كَمَا ذَكَرَ فِي الذَّخِيرَةِ، أَوْ كَانَ لِلْآخَرِ جُذُوعٌ كَمَا ذَكَرَ فِي الْبَدَائِعِ، وَأَمَّا إذَا كَانَ لِلْآخَرِ هَرَادِيٌّ كَمَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ فَلَا فَائِدَةَ فِي ذَلِكَ التَّقْيِيدِ بَلْ فِيهِ إخْلَالٌ بِعُمُومِ جَوَابِ الْمَسْأَلَةِ كَمَا تَبَيَّنَ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ فَتَنَبَّهْ، فَإِنَّ كَشْفَ الْقِنَاعِ عَنْ وَجْهِ هَذَا الْمَقَامِ مِمَّا تَفَرَّدْت بِهِ بِعَوْنِ الْمَلِكِ الْعَلَّامِ (وَقَوْلُهُ الْهَرَادِيُّ لَيْسَتْ بِشَيْءٍ) أَيْ قَوْلُ مُحَمَّدٍ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ الْهَرَادِيُّ لَيْسَتْ بِشَيْءٍ (يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا اعْتِبَارَ لِلْهَرَادِيِّ أَصْلًا) بَلْ هِيَ فِي الْحُكْمِ الْمَعْدُومِ (وَكَذَا الْبَوَارِي لِأَنَّ الْحَائِطَ لَا يُبْنَى لَهَا أَصْلًا) أَيْ لِأَنَّ الْحَائِطَ لَا يُبْنَى لِأَجْلِ الْهَرَادِيِّ وَالْبَوَارِي؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُبْنَى لِلتَّسْقِيفِ وَذَلِكَ بِوَضْعِ الْجُذُوعِ عَلَيْهِ لَا بِوَضْعِ الْهَرَادِيِّ وَالْبَوَارِي، وَإِنَّمَا تُوضَعُ الْهَرَادِيُّ وَالْبَوَارِي لِلِاسْتِظْلَالِ وَالْحَائِطُ لَا يُبْنَى لَهُ (حَتَّى لَوْ تَنَازَعَا فِي حَائِطٍ وَلِأَحَدِهِمَا عَلَيْهِ الْهَرَادِيُّ وَلَيْسَ لِلْآخَرِ شَيْءٌ فَهُوَ بَيْنَهُمَا) مَعْنَاهُ: إذَا عُرِفَ كَوْنُهُ فِي أَيْدِيهِمَا قُضِيَ بَيْنَهُمَا قَضَاءَ تَرْكٍ، وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ كَوْنُهُ فِي أَيْدِيهِمَا وَقَدْ ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا أَنَّهُ مِلْكُهُ وَفِي يَدَيْهِ يُجْعَلُ فِي أَيْدِيهِمَا لِأَنَّهُ لَا مُنَازِعَ لَهُمَا لَا أَنَّهُ يَقْضِي بَيْنَهُمَا كَذَا فِي الْعِنَايَةِ وَكَذَا فِي النِّهَايَةِ نَقْلًا عَنْ الذَّخِيرَةِ.

وَيُعْرَفُ الْفَرْقُ بَيْنَ قَضَاءِ التَّرْكِ وَالْجَعْلِ فِي الْيَدِ بِلَا قَضَاءٍ كَمَا نَبَّهْنَا عَلَيْهِ فِيمَا مَرَّ فَلَا تَغْفُلْ عَنْهُ

(وَلَوْ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جُذُوعٌ ثَلَاثَةٌ) أَيْ وَلَوْ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُدَّعِيَيْنِ عَلَى الْحَائِطِ جُذُوعٌ ثَلَاثَةٌ (فَهُوَ بَيْنَهُمَا لِاسْتِوَائِهِمَا) أَيْ فِي أَصْلِ الْعِلَّةِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَمَلٌ مَقْصُودٌ يُبْنَى الْحَائِطُ لِأَجْلِهِ وَفِي نِصَابِ الْحُجَّةِ وَهُوَ الثَّلَاثَةُ لِأَنَّهَا أَقَلُّ الْجَمْعِ (وَلَا مُعْتَبَرَ) أَيْ وَلَا اعْتِبَارَ (بِالْأَكْثَرِ مِنْهَا) أَيْ مِنْ الْجُذُوعِ (بَعْدَ الثَّلَاثَةِ) لِأَنَّ الزِّيَادَةَ مِنْ جِنْسِ الْحُجَّةِ فَإِنَّ الْحَائِطَ يُبْنَى لِلْجُذُوعِ الثَّلَاثَةِ كَمَا يُبْنَى لِأَكْثَرَ مِنْهَا.

قَالَ فِي مِعْرَاجِ الدَّارِيَةِ: وَقَوْلُهُ: وَلَا مُعْتَبَرَ بِالْأَكْثَرِ مِنْهَا: أَيْ مِنْ الثَّلَاثَةِ. أَقُولُ: تَفْسِيرُهُ لَيْسَ بِسَدِيدٍ؛ أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ كَلِمَةُ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ مِنْهَا تَفْصِيلِيَّةً فَيَلْزَمُ اجْتِمَاعُ لَامِ التَّعْرِيفِ وَمِنْ التَّفْضِيلِيَّةِ فِي اسْمِ التَّفْصِيلِ وَهُوَ لَا يَجُوزُ عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ.

وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ بَعْدَ الثَّلَاثَةِ لَغْوًا، لِأَنَّ مَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْ الثَّلَاثَةِ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ الثَّلَاثَةِ، فَالصَّوَابُ أَنَّ كَلِمَةَ مِنْ هَاهُنَا تَبْيِنِيَّةٌ لَا تَفْصِيلِيَّةٌ، وَأَنَّ ضَمِيرَ مِنْهَا رَاجِعٌ إلَى الْجُذُوعِ كَمَا أَشَرْنَا إلَيْهِ فِيمَا مَرَّ آنِفًا إلَى الثَّلَاثَةِ، فَيَصِيرُ الْمَعْنَى وَلَا اعْتِبَارَ بِالْأَكْثَرِ الْكَائِنِ مِنْ جِنْسِ الْجُذُوعِ بَعْدَ الثَّلَاثَةِ فَلَا يَلْزَمُ

ص: 286

وَإِنْ كَانَ جُذُوعُ أَحَدِهِمَا أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ فَهُوَ لِصَاحِبِ الثَّلَاثَةِ وَلِلْآخَرِ مَوْضِعُ جِذْعِهِ) فِي رِوَايَةٍ، وَفِي رِوَايَةٍ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا تَحْتَ خَشَبَتِهِ، ثُمَّ قِيلَ مَا بَيْنَ الْخَشَبِ بَيْنَهُمَا، وَقِيلَ عَلَى قَدْرِ خَشَبِهِمَا، وَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لِأَنَّهُ لَا مُعْتَبَرَ بِالْكَثْرَةِ فِي نَفْسِ الْحُجَّةِ.

وَجْهُ الثَّانِي

شَيْءٌ مِنْ الْمَحْذُورَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ (وَإِنْ كَانَ جُذُوعُ أَحَدِهِمَا أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ فَهُوَ) أَيْ الْحَائِطُ كُلُّهُ (لِصَاحِبِ الثَّلَاثَةِ وَلِلْآخَرِ) أَيْ وَلِصَاحِبِ الْجِذْعِ الْوَاحِدِ أَوْ الِاثْنَيْنِ (مَوْضِعُ جِذْعِهِ فِي رِوَايَةٍ) وَهِيَ رِوَايَةُ كِتَابِ الْإِقْرَارِ مِنْ الْأَصْلِ حَيْثُ قَالَ فِيهِ: الْحَائِطُ كُلُّهُ لِصَاحِبِ الْأَجْذَاعِ وَلِصَاحِبِ الْقَلِيلِ مَا تَحْتَ جِذْعِهِ. قَالُوا: يُرِيدُ بِهِ حَقَّ الْوَضْعِ.

وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ: ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ هَذَا فِيمَا إذَا ثَبَتَ مِلْكُهُ بِسَبَبِ الْعَلَامَةِ وَهِيَ الْجُذُوعُ الثَّلَاثَةُ لَا بِالْبَيِّنَةِ، أَمَّا إذَا ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ كَانَ لِصَاحِبِ الْمِلْكِ أَنْ يَمْنَعَ صَاحِبَ الْجِذْعِ الْوَاحِدِ مِنْ وَضْعِ جِذْعِهِ عَلَى جِدَارِهِ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ وَغَيْرِهِ انْتَهَى (وَفِي رِوَايَةٍ) وَهِيَ رِوَايَةُ كِتَابِ الدَّعْوَى مِنْ الْأَصْلِ (لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا تَحْتَ خَشَبَتِهِ) حَيْثُ قَالَ فِيهِ: إنَّ الْحَائِطَ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ الْأَجْذَاعِ، وَجَعَلَ فِي الْمُحِيطِ مَا ذَكَرَهُ فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ أَصَحَّ.

وَقَالَ قَاضِي خَانْ: وَالصَّحِيحُ أَنَّ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ يَكُونُ مِلْكًا لِصَاحِبِ الْخَشَبَةِ كَمَا ذَكَرَ فِي الدَّعْوَى، كَذَا فِي التَّبْيِينِ لِلْإِمَامِ الزَّيْلَعِيِّ (ثُمَّ قِيلَ) أَيْ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ: يَعْنَى اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ عَلَى رِوَايَةِ كِتَابِ الدَّعْوَى فِي حُكْمِ مَا بَيْنَ الْخَشَبِ فَقِيلَ (مَا بَيْنَ الْخَشَبِ بَيْنَهُمَا) أَيْ يَكُونُ بَيْنَ الْمُدَّعِيَيْنِ نِصْفَيْنِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي ذَلِكَ كَمَا فِي السَّاحَةِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَ صَاحِبِ بَيْتٍ وَصَاحِبِ أَبْيَاتٍ عَلَى مَا سَيَذْكُرُ (وَقِيلَ عَلَى قَدْرِ خَشَبِهِمَا) أَيْ وَقِيلَ مَا بَيْنَ الْخَشَبِ يَكُونُ عَلَى قَدْرِ خَشَبِهِمَا اعْتِبَارًا لِمَا بَيْنَ الْخَشَبَاتِ بِمَا هُوَ تَحْتَ كُلِّ خَشَبَةٍ، ثُمَّ إنَّ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ مُوَافِقَانِ لِمَا ذَكَرَهُ فِي الذَّخِيرَةِ.

وَقَالَ فِي الْمَبْسُوطِ فِي مَوْضِعِ الْقِيلِ الْأَوَّلِ: وَأَكْثَرُهُمْ عَلَى أَنَّهُ يَقْضِي بِهِ لِصَاحِبِ الْكَثِيرِ؛ لِأَنَّ الْحَائِطَ يُبْنَى لِلْخَشَبَاتِ لَا لِخَشَبَةٍ وَاحِدَةٍ (وَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ) هَذَا نَاظِرٌ إلَى قَوْلِهِ فَهُوَ لِصَاحِبِ الثَّلَاثَةِ إلَى آخِرِهِ: يَعْنِي أَنَّ ذَلِكَ اسْتِحْسَانًا. وَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ الْحَائِطُ بَيْنَ صَاحِبِ الْجِذْعِ وَالْجِذْعَيْنِ وَبَيْنَ صَاحِبِ الثَّلَاثَةِ نِصْفَيْنِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله كَمَا ذَكَرَ فِي الْكَافِي وَغَيْرِهِ (لِأَنَّهُ لَا مُعْتَبَرَ) أَيْ لَا اعْتِبَارَ (بِالْكَثْرَةِ فِي نَفْسِ الْحُجَّةِ) يَعْنِي أَنَّهُمَا اسْتَوَيَا فِي أَصْلِ الِاسْتِعْمَالِ وَالزِّيَادَةُ مِنْ جِنْسِ الْحُجَّةِ وَالتَّرْجِيحُ لَا يَقَعُ بِهَا كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَكِنَّهُمْ اسْتَحْسَنُوا عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ وَلَمْ يَجْعَلُوا بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ وَغَيْرِهَا (وَوَجْهُ الثَّانِي) يَعْنِي وَجْهَ الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا تَحْتَ خَشَبَتِهِ، وَلَكِنَّ ذِكْرَ الثَّانِي إمَّا بِتَأْوِيلِ الْمَصْدَرِ الَّذِي هُوَ الرِّوَايَةُ بِالْفِعْلِ وَأَنَّ كَمَا هُوَ الْمَشْهُورُ فِي نَظَائِرِهَا، وَإِمَّا

ص: 287

أَنَّ الِاسْتِعْمَالَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ بِقَدْرِ خَشَبَتِهِ. وَوَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّ الْحَائِطَ يُبْنَى لِوَضْعِ كَثِيرِ الْجُذُوعِ دُونَ الْوَاحِدِ وَالْمُثَنَّى فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لِصَاحِبِ الْكَثِيرِ، إلَّا أَنَّهُ يَبْقَى لَهُ حَقُّ الْوَضْعِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فِي اسْتِحْقَاقِ يَدِهِ

(وَلَوْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا جُذُوعٌ وَالْآخَرُ اتِّصَالٌ فَالْأَوَّلُ أَوْلَى) وَيُرْوَى الثَّانِي أَوْلَى. وَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّ لِصَاحِبِ الْجُذُوعِ التَّصَرُّفَ وَلِصَاحِبِ الِاتِّصَالِ الْيَدُ وَالتَّصَرُّفُ أَقْوَى.

بِتَأْوِيلِ الرِّوَايَةِ بِالنَّقْلِ أَوْ الْقَوْلِ (أَنَّ الِاسْتِعْمَالَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ بِقَدْرِ خَشَبَتِهِ) وَالِاسْتِحْقَاقُ بِحَسْبِ الِاسْتِعْمَالِ. قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ جَوَابُ وَجْهِ الْقِيَاسِ.

أَقُولُ: يَظْهَرُ ذَلِكَ بِالتَّأَمُّلِ فِيهِ فَإِنَّ الْمُرَادَ أَنَّ الِاسْتِعْمَالَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مُخْتَصٌّ بِقَدْرِ خَشَبَتِهِ، وَمَا تَحْتَ خَشَبَتِهِ لَا يَعْدُو الْغَيْرَ فَلَمْ يَكُونَا مُسْتَعْمَلَيْنِ بِشَيْءٍ وَاحِدٍ مَعَ زِيَادَةِ اسْتِعْمَالِ أَحَدِهِمَا بَلْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مُسْتَعْمِلًا لِمَا كَانَ تَحْتَ خَشَبَتِهِ فَقَطْ فَكَانَتْ حُجَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ قَائِمَةً عَلَى غَيْرِ مَا قَامَتْ عَلَيْهِ حُجَّةُ الْآخَرِ فَلَمْ يَكُنْ الْأَمْرُ مِنْ قَبِيلِ التَّرْجِيحِ بِالْكَثْرَةِ فِي نَفْسِ الْحُجَّةِ؛ لِأَنَّ هَذَا فِيمَا إذَا اتَّحَدَ مَحِلُّ الْحُجَّتَيْنِ، وَيُرْشِدُ إلَيْهِ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ حَيْثُ قَالَ: وَأَمَّا وَجْهُ رِوَايَةِ كِتَابِ الدَّعْوَى أَنَّ الْحَائِطَ إذَا كَانَ يُسْتَحَقُّ بِوَضْعِ الْجِذْعِ فَذَلِكَ الْمَوْضِعُ الَّذِي هُوَ مُسْتَحَقٌّ مَشْغُولٌ بِجِذْعِهِ فِي يَدِهِ حَقِيقَةً بِاعْتِبَارِ الِاسْتِعْمَالِ وَقَدْ انْعَدَمَ دَلِيلُ الِاسْتِعْمَالِ فِي الْبَاقِي فَيَثْبُتُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْمِلْكُ فِيمَا تَحْتَ خَشَبَتِهِ لِوُجُودِ سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ لَهُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَصَارَ هَذَا كَالدَّارِ الْوَاحِدَةِ إذَا كَانَ فِيهَا أَحَدَ عَشَرَ مَنْزِلًا: عَشَرَةُ مِنْهَا فِي يَدِ رَجُلٍ، وَوَاحِدٌ فِي يَدِ رَجُلٍ، وَتَنَازَعَا فِي الدَّارِ، فَإِنَّهُ يَقْضِي لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَا فِي يَدِهِ كَذَا هَاهُنَا اهـ

(وَوَجْهُ الْأَوَّلِ) أَيْ وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى وَهِيَ قَوْلُهُ فَهُوَ لِصَاحِبِ الثَّلَاثَةِ وَتَذْكِيرُ الْأَوَّلِ لِمِثْلِ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الثَّانِي (أَنَّ الْحَائِطَ يُبْنَى لِوَضْعِ كَثِيرِ الْجُذُوعِ دُونَ الْوَاحِدِ وَالْمُثَنَّى) بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْحَائِطَ يُبْنَى لِلتَّسْقِيفِ، وَالتَّسْقِيفُ لَا يَحْصُلُ بِخَشَبَةٍ وَلَا بِخَشَبَتَيْنِ وَإِنَّمَا يَحْصُلُ بِالْخَشَبَةِ وَالْخَشَبَتَيْنِ أُسْطُوَانَةٌ وَأُسْطُوَانَتَانِ (فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لِصَاحِبِ الْكَثِيرِ، إلَّا أَنَّهُ يَبْقَى لَهُ حَقُّ الْوَضْعِ) أَيْ يَبْقَى لِصَاحِبِ الْأَقَلِّ حَقُّ وَضْعِ جِذْعِهِ (لِأَنَّ الظَّاهِرَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فِي اسْتِحْقَاقِ يَدِهِ) يَعْنِي أَنَّ حُكْمَنَا بِالْحَائِطِ لِصَاحِبِ الْأَكْثَرِ بِالظَّاهِرِ، وَهُوَ يَصْلُحُ حَجَّةً لِلدَّفْعِ دُونَ الِاسْتِحْقَاقِ فَلَا يَسْتَحِقُّ بِهِ صَاحِبُ الْأَكْثَرِ يَدَ صَاحِبِ الْأَقَلِّ حَتَّى يَرْفَعَ خَشَبَتَهُ الْمَوْضُوعَةَ، وَمِنْ الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ أَصْلُ الْحَائِطِ لِرَجُلٍ وَيَثْبُتُ لِلْآخَرِ حَقُّ الْوَضْعِ، فَإِنَّ الْقِسْمَةَ لَوْ وَقَعَتْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَكَانَ جَائِزًا. ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ مَا اخْتَارَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ جَعْلِ الْجِذْعَيْنِ كَجِذْعٍ وَاحِدٍ وَهُوَ قَوْلٌ لِبَعْضِ الْمَشَايِخِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ التَّسْقِيفَ بِهِمَا نَادِرٌ كَجِذْعٍ وَاحِدٍ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْخَشَبَتَانِ بِمَنْزِلَةِ الثَّلَاثِ لِإِمْكَانِ التَّسْقِيفِ بِهَا، وَكَذَا فِي الْعِنَايَةِ وَغَيْرِهَا

(وَلَوْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا اتِّصَالٌ وَلِلْآخَرِ جُذُوعٌ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ لِأَحَدِهِمَا جُذُوعٌ وَلِلْآخَرِ اتِّصَالٌ فَعَلَى الْأُولَى وَقَعَ فِي الدَّلِيلِ بِوَجْهِ الْأَوَّلِ، وَعَلَى الثَّانِيَةِ وَقَعَ فِيهِ وَجْهُ الثَّانِي، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ. وَقَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: وَمَنْ يَحْذُو حَذْوَهُ مِنْ الشُّرَّاحِ مَا فِي النُّسْخَةِ الْأُولَى هُوَ الصَّحِيحُ لِيَكُونَ الدَّلِيلُ مُوَافِقًا لِلْمُدَّعِي، وَمَا فِي الثَّانِيَةِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّ الدَّلِيلَ لَا يُوَافِقُ ذَلِكَ التَّرْتِيبَ فَكَأَنَّهُمْ لَمْ يَصِلُوا إلَى نُسْخَةٍ وَقَعَ ذِكْرُ الدَّلِيلِ فِيهَا وَجْهُ الثَّانِي فَتَتَبَّعْ (فَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَيُرْوَى أَنَّ الثَّانِيَ أَوْلَى، وَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّ لِصَاحِبِ الْجُذُوعِ التَّصَرُّفَ وَلِصَاحِبِ الِاتِّصَالِ الْيَدَ، وَالتَّصَرُّفُ أَقْوَى) لِأَنَّهُ مَقْصُودٌ بِالْيَدِ، كَذَا فِي الْكَافِي، وَلِأَنَّ التَّصَرُّفَ

ص: 288

وَجْهُ الثَّانِي أَنَّ الْحَائِطَيْنِ بِالِاتِّصَالِ يَصِيرَانِ كَبِنَاءٍ وَاحِدٍ مِنْ ضَرُورَةِ الْقَضَاءِ لَهُ بِبَعْضِهِ الْقَضَاءُ بِكُلِّهِ ثُمَّ يَبْقَى لِلْآخَرِ حَقُّ وَضْعِ جُذُوعِهِ لِمَا قُلْنَا، وَهَذِهِ رِوَايَةُ الطَّحَاوِيِّ وَصَحَّحَهَا الْجُرْجَانِيُّ.

قَالَ: (وَإِذَا كَانَتْ دَارٌ مِنْهَا فِي يَدِ رَجُلٍ عَشْرَةُ أَبْيَاتٍ وَفِي يَدِ آخَرَ بَيْتٌ فَالسَّاحَةُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ) لِاسْتِوَائِهِمَا فِي اسْتِعْمَالِهَا

لَا يَكُونُ بِدُونِ الْيَدِ، وَالْيَدَانِ إذَا تَعَارَضَا سَلِمَ التَّصَرُّفُ عَنْ الْمُعَارِضِ فَصَلُحَ مُرَجِّحًا، كَذَا فِي شَرْحِ تَاجِ الشَّرِيعَةِ، وَيُرَجِّحُ هَذِهِ الرِّوَايَةَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ (وَجْهُ الْأَوَّلِ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: وَجْهُ الثَّانِي (أَنَّ الْحَائِطَيْنِ بِالِاتِّصَالِ يَصِيرَانِ كَبِنَاءٍ وَاحِدٍ، وَمِنْ ضَرُورَةِ الْقَضَاءِ لَهُ بِبَيْعِهِ الْقَضَاءُ بِكُلِّهِ) أَقُولُ: يُرَدُّ عَلَيْهِ مَنْعُ قَوْلِهِ وَمِنْ ضَرُورَةِ الْقَضَاءِ لَهُ بِبَعْضِهِ الْقَضَاءُ لَهُ بِكُلِّهِ لِجَوَازِ أَنْ يَقْضِيَ بِبَعْضِ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ لِرَجُلٍ وَبِبَعْضِهِ الْآخَرِ لِرَجُلٍ آخَرَ، وَإِمَّا بِالتَّجْزِئَةِ إنْ قِبَلَ الْقِسْمَةَ أَوْ بِالشُّيُوعِ إنْ لَمْ يَقْبَلْهَا، كَيْفَ وَلَوْ أَثْبَتَ صَاحِبُ الْجُذُوعِ بِالْبَيِّنَةِ كَوْنَ الْحَائِطِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ مِلْكَهُ قُضِيَ لَهُ بِلَا شُبْهَةٍ مَعَ بَقَاءِ الْحَائِطِ الْآخَرِ فِي مِلْكِ صَاحِبِ الِاتِّصَالِ، فَلَوْ تَمَّتْ تِلْكَ الضَّرُورَةُ لَمَا جَازَ هَذَا الْقَضَاءُ وَكَانَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ تَنَبَّهَ لِهَذَا وَقَصَدَ دَفْعَهُ فَعَلَّلَ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ وَمِنْ ضَرُورَةِ الْقَضَاءِ لَهُ بِبَعْضِهِ الْقَضَاءُ بِكُلِّهِ بِقَوْلِهِ لِعَدَمِ الْقَائِلِ بِالِاشْتِرَاكِ.

وَلَكِنْ يُرَدُّ عَلَيْهِ أَيْضًا أَنَّهُ إنْ أَرَادَ بِعَدَمِ الْقَائِلِ بِالِاشْتِرَاكِ وَعَدَمِ الْقَائِلِ بِهِ مِنْ الْمُتَنَازِعَيْنِ فَهُوَ مَمْنُوعٌ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْجُذُوعِ قَائِلٌ بِهِ، فَإِنَّهُ يَدَّعِي أَنَّ الْحَائِطَ الْمُتَنَازَعَ فِيهِ لَهُ، وَيَعْتَرِفُ بِأَنَّ الْحَائِطَ الْآخَرَ الْمُتَّصِلَ بِهِ لِصَاحِبِ الِاتِّصَالِ، فَيَصِيرُ الْبِنَاءُ الْمُرَكَّبُ مِنْ هَذَيْنِ الْحَائِطَيْنِ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا عِنْدَهُ، وَإِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ عَدَمَ الْقَائِلِ بِهِ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ فَهُوَ أَيْضًا مَمْنُوعٌ، فَإِنَّ مَنْ يَقُولُ بِكَوْنِ الْحَائِطِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ لِصَاحِبِ الْجُذُوعِ عَلَى مَا هُوَ مُوجِبُ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ يَقُولُ بِكَوْنِ الْبِنَاءِ الْمُرَكَّبِ مِنْ هَذَا الْحَائِطِ الْمُتَّصِلِ بِهِ مُشْتَرَكًا بَيْنَ صَاحِبِ الْجُذُوعِ وَصَاحِبِ الِاتِّصَالِ قَطْعًا (ثُمَّ يَبْقَى لِلْآخَرِ حَقُّ وَضْعِ جُذُوعِهِ) أَيْ عَلَى رِوَايَةِ أَنَّ الْحَائِطَ الْمُتَنَازَعَ فِيهِ لِصَاحِبِ الِاتِّصَالِ (لِمَا قُلْنَا) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ: لِأَنَّ الظَّاهِرَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فِي اسْتِحْقَاقِ يَدِهِ، حَتَّى قَالُوا: لَوْ ثَبَتَ ذَلِكَ بِالْبَيِّنَةِ أُمِرَ بِرَفْعِ الْجُذُوعِ لِكَوْنِ الْبَيِّنَةِ حُجَّةً مُطْلَقَةً صَالِحَةً لِلدَّفْعِ وَالِاسْتِحْقَاقِ (وَهَذِهِ) أَيْ رِوَايَةُ أَنَّ صَاحِبَ الِاتِّصَالِ أَوْلَى (رِوَايَةُ الطَّحَاوِيِّ) وَصَحَّحَهَا الْجُرْجَانِيُّ وَهُوَ الْفَقِيهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمُرْشِدُ، وَرَجَّحَهَا بِالسَّبْقِ لِأَنَّ التَّرْبِيعَ يَكُونُ حَالَةَ الْبِنَاءِ وَهُوَ سَابِقٌ عَلَى وَضْعِ الْجُذُوعِ فَكَانَ يَدُهُ ثَابِتًا قَبْلَ وَضْعِ الْآخَرِ الْجُذُوعَ فَصَارَ نَظِيرَ سَبْقِ التَّارِيخِ، كَذَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ الزَّيْلَعِيُّ فِي التَّبْيِينِ.

ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الِاتِّصَالَ الَّذِي وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي تَرْجِيحِ صَاحِبِهِ عَلَى صَاحِبِ الْجُذُوعِ أَوْ عَلَى الْعَكْسِ هُوَ الِاتِّصَالُ الَّذِي وَقَعَ فِي أَحَدِ طَرَفَيْ الْحَائِطِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ، وَأَمَّا إذَا وَقَعَ اتِّصَالُ التَّرْبِيعِ فِي طَرَفَيْهِ فَصَاحِبُ الِاتِّصَالِ أَوْلَى، وَعَلَى هَذَا عَامَّةُ الْمَشَايِخِ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ نَقْلًا عَنْ الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ. وَقَالَ فِي الذَّخِيرَةِ: وَإِنْ كَانَ الِاتِّصَالُ فِي طَرْفٍ وَاحِدٍ ذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَنَّ صَاحِبَ الِاتِّصَالِ أَوْلَى، وَبِهِ أَخَذَ الطَّحَاوِيُّ وَالشَّيْخُ الْفَقِيهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمُرْشِدُ.

وَذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ أَنَّ صَاحِبَ الْجُذُوعِ أَوْلَى وَقَالَ فِيهَا قَبْلَ هَذَا: فَإِنْ كَانَ الِاتِّصَالُ فِي طَرَفَيْ الْحَائِطِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ فَصَاحِبُ الِاتِّصَالِ أَوْلَى بِهِ، وَعَلَيْهِ عَامَّةُ الْمَشَايِخِ، وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الْأَمَالِي، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَغَيْرِهَا

(قَالَ) أَيْ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: (وَإِذَا كَانَتْ دَارٌ مِنْهَا فِي يَدِ رَجُلٍ عَشْرَةُ أَبْيَاتٍ وَفِي يَدِ آخَرَ بَيْتٌ فَالسَّاحَةُ) بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَهِيَ عَرْصَةٌ فِي الدَّارِ وَبَيْنَ يَدَيْهَا، كَذَا فِي مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ (بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي اسْتِعْمَالِهِمَا) أَيْ اسْتِعْمَالِ

ص: 289

وَهُوَ الْمُرُورُ فِيهَا.

قَالَ: (وَإِذَا ادَّعَى رَجُلَانِ أَرْضًا) يَعْنِي يَدَّعِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا (أَنَّهَا فِي يَدِهِ لَمْ يَقْضِ أَنَّهَا فِي يَدِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَتَّى يُقِيمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا فِي أَيْدِيهِمَا) لِأَنَّ الْيَدَ فِيهَا غَيْرُ مُشَاهَدَةٍ لِتَعَذُّرِ إحْضَارِهَا وَمَا غَابَ عَنْ عِلْمِ الْقَاضِي فَالْبَيِّنَةُ تُثْبِتُهُ

السَّاحَةِ (وَهُوَ الْمُرُورُ فِيهَا) وَوَضْعُ الْأَمْتِعَةِ وَصَبُّ الْوُضُوءِ وَكَسْرُ الْحَطَبِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَا فِي ذَلِكَ سَوَاءً كَانَا فِي اسْتِحْقَاقِ السَّاحَةِ أَيْضًا سَوَاءً، وَلَعَلَّ مُرُورَ صَاحِبِ الْقَلِيلِ أَكْثَرُ مِنْ مُرُورِ صَاحِبِ الْكَثِيرِ لِزَمَانَةِ صَاحِبِ الْكَثِيرِ وَكَوْنِ صَاحِبِ الْقَلِيلِ وَلَّاجًا خَرَّاجًا.

عَلَى أَنَّا نَقُولُ: التَّرْجِيحُ لَا يَقَعُ بِكَثْرَةِ مَا هُوَ مِنْ جِنْسِ الْعِلَّةِ وَصَارَ هَذَا كَالطَّرِيقِ يَسْتَوِي فِيهِ صَاحِبُ الدَّارِ وَالْمَنْزِلِ وَالْبَيْتِ وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمَا أَكْثَرَ مِنْ بَعْضٍ، وَهَذَا لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ بِاعْتِبَارِ أَصْلِ الْيَدِ كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ أَخْذًا مِنْ الْكَافِي، وَطُولِبَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ مَا إذَا تَنَازَعَا فِي ثَوْبٍ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا جَمِيعُ الثَّوْبِ وَفِي يَدِ الْآخَرِ هُدْبُهُ حَيْثُ يُلْغَى صَاحِبُ الْهُدْبِ، وَمَا إذَا تَنَازَعَا فِي مِقْدَارِ الشُّرْبِ حَيْثُ يُقَسَّمُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ الْأَرَاضِيِ وَمَا نَحْنُ فِيهِ حَيْثُ جُعِلَتْ السَّاحَةُ بَيْنَهُمَا مُشْتَرَكَةً.

أُجِيبُ بِأَنَّ الْهُدْبَ لَيْسَ بِثَوْبٍ لِكَوْنِ الثَّوْبِ اسْمًا لِلْمَنْسُوجِ فَكَانَ جَمِيعُ الْمُدَّعِي فِي يَدِ أَحَدِهِمَا وَالْآخَرُ كَالْأَجْنَبِيِّ عَنْهُ فَأُلْغِيَ وَالشُّرْبُ تَحْتَاجُ إلَيْهِ الْأَرَاضِي دُونَ الْأَرْبَابِ، فَبِكَثْرَةِ الْأَرَاضِيِ كَثُرَ الِاحْتِيَاجُ إلَى الشُّرْبِ فَيُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى كَثْرَةِ حَقٍّ لَهُ فِيهِ، وَأَمَّا فِي السَّاحَةِ فَالِاحْتِيَاجُ لِلْأَرْبَابِ وَهُمَا فِيهِ سَوَاءٌ، فَاسْتَوَيَا فِي الِاسْتِحْقَاقِ، فَصَارَ هَذَا نَظِيرَ تَنَازُعِهِمَا فِي سَعَةِ الطَّرِيقِ وَضِيقِهِ حَيْثُ يُجْعَلُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ عَرْضِ بَابِ الدَّارِ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ وَإِلَى هَذَا أَشَارَ الْإِمَامُ الْمَحْبُوبِيُّ وَالْإِمَامُ التُّمُرْتَاشِيُّ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ

(قَالَ) أَيْ مُحَمَّدٌ فِي كِتَابِ الْقَضَاءِ مِنْ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ (وَإِذَا ادَّعَى رَجُلَانِ أَرْضًا، يَعْنِي يَدَّعِي كُلُّ وَاحِدِ مِنْهُمَا أَنَّهَا فِي يَدِهِ لَمْ يَقْضِ أَنَّهَا فِي يَدِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَتَّى يُقِيمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا فِي أَيْدِيهِمَا) أَقُولُ: فِي عِبَارَةِ الْكِتَابِ هَاهُنَا مُسَامَحَةٌ، وَكَانَ الظَّاهِرُ أَنْ يُقَالَ: حَتَّى يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ بِأَنَّهَا فِي يَدِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إنَّمَا يَتَوَقَّفُ عَلَى إقَامَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا فِي يَدِهِ لَا عَلَى إقَامَتِهَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا فِي أَيْدِيهِمَا، وَإِنَّمَا الْمُتَوَقِّفُ عَلَيْهَا الْقَضَاءُ بِأَنَّهَا فِي أَيْدِيهِمَا مَعًا كَمَا لَا يَخْفَى، وَسَيَتَجَلَّى مِنْ التَّفْصِيلِ الْآتِي فِي الْكِتَابِ، وَلَقَدْ أَحْسَنَ صَاحِبُ الْكَافِي هَاهُنَا حَيْثُ قَالَ: لَمْ يَقْضِ بِأَنَّهَا فِي يَدِ أَحَدِهِمَا إلَّا بِالْبَيِّنَةِ انْتَهَى.

فَإِنَّ هَذِهِ كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ هَاهُنَا (لِأَنَّ الْيَدَ فِيهَا) أَيْ فِي الْأَرْضِ (غَيْرُ مُشَاهَدَةٍ لِتَعَذُّرِ إحْضَارِهَا) فَقَدْ غَابَ مِنْ عِلْمِ الْقَاضِي (وَمَا غَابَ عَنْ عِلْمِ الْقَاضِي) أَيْ وَاَلَّذِي غَابَ عَنْ عِلْمِهِ (فَالْبَيِّنَةُ تُثْبِتُهُ) فَلَا بُدَّ مِنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ حَتَّى يُمْكِنَ الْقَضَاءُ بِهِ، وَلِأَنَّهُ جَازَ أَنْ تَكُونَ فِي يَدِ غَيْرِهِمَا؛ وَلَوْ قَضَى لَهُمَا أَوْ لِأَحَدِهِمَا بِالْيَدِ لَأَبْطَلَ حَقَّ صَاحِبِ الْيَدِ بِلَا حُجَّةٍ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ، كَذَا فِي الْكَافِي.

قَالَ فِي الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ هَاهُنَا مَسْأَلَةٌ غَفَلَ عَنْهَا الْقُضَاةُ، وَهِيَ أَنَّهُ لَوْ ادَّعَى أَرْضًا وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَزْعُم أَنَّهَا فِي يَدِهِ وَأَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمِلْكِ فَالْقَاضِي لَا يَقْضِي بِبَيِّنَتِهِ لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ الْأَرْضُ فِي يَدِ ثَالِثٍ وَالْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ تَوَاضَعَا عَلَى ذَلِكَ، وَهَذِهِ حِيلَةٌ لِيَجْعَلَهَا الْقَاضِي فِي يَدِ أَحَدِهِمَا،

ص: 290

وَإِنْ أَقَامَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ جُعِلَتْ فِي يَدِهِ) لِقِيَامِ الْحُجَّةِ لِأَنَّ الْيَدَ حَقٌّ مَقْصُودٌ (وَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ جُعِلَتْ فِي أَيْدِيهِمَا) لِمَا بَيَّنَّا فَلَا يَسْتَحِقُّ لِأَحَدِهِمَا مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ (وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا قَدْ لَبِنَ فِي الْأَرْضِ أَوْ بَنِي أَوْ حَفَرَ فَهِيَ فِي يَدِهِ) لِوُجُودِ التَّصَرُّفِ وَالِاسْتِعْمَالِ فِيهَا.

فَمَا لَمْ يَثْبُتُ كَوْنُ الْأَرْضِ فِي يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْبَيِّنَةِ لَا يَقْضِي، إلَّا أَنَّهُ يَمْنَعُ الْمُقِرَّ مِنْ أَنْ يُزَاحِمَ الْمُقِرَّ لَهُ فِيهَا لِأَنَّ إقْرَارَهُ حُجَّةٌ فِي حَقِّهِ كَذَا فِي مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ (وَإِنْ أَقَامَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ) أَيْ عَلَى أَنَّهَا فِي يَدِهِ (جُعِلَتْ فِي يَدِهِ لِقِيَامِ الْحُجَّةِ) وَيُجْعَلُ الْآخَرُ خَارِجًا، كَذَا فِي الْكَافِي وَغَيْرِهِ.

فَإِنْ قِيلَ: الْبَيِّنَةُ تُقَامُ عَلَى الْخَصْمِ، وَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ كَوْنُهَا فِي يَدِ الْآخَرِ لَا يَكُونُ خَصْمًا فَكَيْفَ يَقْضِي لِلَّذِي أَقَامَ الْبَيِّنَةَ؟ قُلْنَا: هُوَ خَصْمٌ بِاعْتِبَارِ مُنَازَعَتِهِ فِي الْيَدِ، وَمَنْ كَانَ خَصْمًا لِغَيْرِهِ بِاعْتِبَارِ مُنَازَعَتِهِ فِي شَيْءٍ شَرْعًا كَانَتْ بَيِّنَتُهُ مَقْبُولَةً، كَذَا فِي عَامَّةِ الشُّرُوحِ. وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَقَدْ أَشَارَ إلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: (لِأَنَّ الْيَدَ حَقٌّ مَقْصُودٌ) يَعْنِي فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُدَّعِيهِ خَصْمًا انْتَهَى (وَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ) أَيْ عَلَى أَنَّهَا فِي أَيْدِيهِمَا (جُعِلَتْ فِي أَيْدِيهِمَا لِمَا بَيَّنَّا) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ لِقِيَامِ الْحُجَّةِ. وَذَكَرَ الْإِمَامُ التُّمُرْتَاشِيُّ: فَإِنْ طَلَبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَمِينَ صَاحِبِهِ مَا هِيَ فِي يَدِهِ حَلَفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا هِيَ فِي يَدِ صَاحِبِهِ عَلَى الْبَتَاتِ، فَإِنْ حَلَفَا لَمْ يَقْضِ لَهُمَا بِالْيَدِ وَبَرِئَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ دَعْوَى صَاحِبِهِ وَتُوقَفُ الدَّارُ إلَى أَنْ تَظْهَرَ حَقِيقَةُ الْحَالِ، وَإِنْ نَكَلَا قُضِيَ لِكُلِّ وَاحِدٍ بِالنِّصْفِ الَّذِي فِي يَدِ صَاحِبِهِ، وَإِنْ نَكَلَ أَحَدُهُمَا قُضِيَ عَلَيْهِ بِكُلِّهَا، لِلْحَالِفِ نِصْفُهَا الَّذِي كَانَ فِي يَدِهِ وَنِصْفُهَا الَّذِي كَانَ بِيَدِ صَاحِبِهِ لِنُكُولِهِ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ (فَلَا تُسْتَحَقُّ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ: أَيْ فَلَا تُسْتَحَقُّ الْيَدُ (لِأَحَدِهِمَا مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ) قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: لَا يَخْفَى عَلَيْك هَذَا الْكَلَامُ فِي غَيْرِ مَحِلِّهِ اهـ.

أَقُولُ: إنَّمَا يَكُونُ كَذَلِكَ لَوْ كَانَ مُتَفَرِّعًا عَلَى قَوْلِهِ وَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ إلَخْ، إذْ لَا ارْتِبَاطَ بَيْنَهُمَا، أَوْ عَلَى قَوْلِهِ لِأَنَّ الْيَدَ حَقٌّ مَقْصُودٌ إذْ يَلْزَمُ الْفَصْلُ بَيْنَهُمَا بِأَجْنَبِيٍّ. وَأَمَّا إذَا كَانَ مُتَفَرِّعًا عَلَى مَجْمُوعِ مَا ذَكَرَ فِي مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِذَا ادَّعَى الرَّجُلَانِ أَرْضًا إلَى هُنَا بِأَنْ كَانَ فَذْلَكَةَ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْمَقَامِ فَقَدْ كَانَ فِي مَحِلِّهِ كَمَا لَا يَخْفَى (فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا قَدْ لَبِنَ فِي الْأَرْضِ أَوْ بَنَى أَوْ حَفَرَ) يَعْنِي إذَا ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَرْضًا صَحْرَاءَ أَنَّهَا فِي يَدِهِ وَأَحَدُهُمَا لَبِنَ فِيهَا أَوْ بَنَى أَوْ حَفَرَ (فَهِيَ فِي يَدِهِ لِوُجُودِ التَّصَرُّفِ وَالِاسْتِعْمَالِ) وَمِنْ ضَرُورَةِ ذَلِكَ إثْبَاتُ الْيَدِ كَالرُّكُوبِ عَلَى الدَّوَابِّ وَاللُّبْسِ فِي الثِّيَابِ، كَذَا ذَكَرَهُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ.

ص: 291

(بَابُ دَعْوَى النَّسَبِ)

(وَإِذَا بَاعَ جَارِيَةً فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ) فَادَّعَاهُ الْبَائِعُ

بَابُ دَعْوَى النَّسَبِ)

لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ دَعْوَى الْأَمْوَالِ شَرَعَ فِي بَيَانِ دَعْوَى النَّسَبِ، وَقَدَّمَ الْأَوَّلَ لِأَنَّهُ أَكْثَرُ وُقُوعًا فَكَانَ أَهَمَّ ذِكْرًا (قَالَ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ (وَإِذَا بَاعَ جَارِيَةً بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ الْبَائِعُ) اعْلَمْ أَنَّ صَاحِبَ الْعِنَايَةِ قَصَدَ بَيَانَ ضَابِطَةِ جِنْسِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ فِي ابْتِدَاءِ الْكَلَامِ فَقَالَ أَخْذًا مِنْ غَايَةِ الْبَيَانِ: اعْلَمْ أَنَّ الْبَائِعَ إذَا ادَّعَى وَلَدَ الْجَارِيَةِ الْمَبِيعَةِ أَوْ الْمُشْتَرِي، فَإِمَّا إنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْبَيْعِ أَوْ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ أَوْ لِمَا بَيْنَ الْمُدَّتَيْنِ. وَكُلُّ وَجْهٍ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: إمَّا إنْ ادَّعَى الْبَائِعُ وَحْدَهُ أَوْ الْمُشْتَرِي وَحْدَهُ أَوْ ادَّعَيَاهُ مَعًا أَوْ عَلَى التَّعَاقُبِ انْتَهَى.

أَقُولُ: يُرَى فِيهِ اخْتِلَالٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ أَنَّهُ قَسَّمَ ادِّعَاءَ الْبَائِعِ أَوْ الْمُشْتَرِي وَلَدَ الْجَارِيَةِ الْمَبِيعَةِ إلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ، وَهِيَ: إنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْبَيْعِ، أَوْ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ، أَوْ لِمَا بَيْنَ الْمُدَّتَيْنِ. وَقَسَّمَ كُلُّ وَجْهٍ مِنْهَا إلَى أَرْبَعَةِ وُجُوهٍ وَهِيَ: إذَا ادَّعَى الْبَائِعُ وَحْدَهُ أَوْ الْمُشْتَرِي وَحْدَهُ أَوْ ادَّعَيَا مَعًا، أَوْ عَلَى التَّعَاقُبِ، فَيَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ قُسِّمَ قَسِيمَةً حَيْثُ جُعِلَ ادِّعَاءُ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي مُقَسَّمًا ثُمَّ جَعَلَهُ قِسْمًا وَاحِدًا مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَقْسَامِهِ الْأَرْبَعَةِ.

وَالثَّانِي أَنَّ كَلِمَةَ أَوْ الدَّاخِلَةِ عَلَى الْمُشْتَرِي فِي قَوْلِهِ إنَّ الْبَائِعَ إذَا ادَّعَى وَلَدَ الْجَارِيَةِ الْمَبِيعَةِ أَوْ الْمُشْتَرِي تَأَبَّى دُخُولَ ادِّعَائِهِمَا مَعًا أَوْ عَلَى التَّعَاقُبِ فِي الْمُقَسَّمِ فَكَيْفَ يُجْعَلُ هَذَانِ الْوَجْهَانِ دَاخِلَيْنِ فِي أَقْسَامِ أَقْسَامِهِ؟ وَيُمْكِنُ أَنْ يَتَحَمَّلَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الْمُقَسَّمَ ادِّعَاءُ الْبَائِعِ أَوْ الْمُشْتَرِي مُطْلَقًا: أَيْ أَعَمُّ مِنْ ادِّعَاءِ أَحَدِهِمَا مُنْفَرِدًا وَمِنْ ادِّعَائِهِ مُنْضَمًّا إلَى الْآخَرِ بِالْمَعِيَّةِ أَوْ التَّعَاقُبِ، وَقَسْمُ الْقِسْمِ هُوَ ادِّعَاءُ أَحَدِهِمَا وَحْدَهُ أَوْ ادِّعَاؤُهُمَا مَعًا أَوْ عَلَى التَّعَاقُبِ، فَيَكُونُ قَسْمُ الْقِسْمِ أَخَصَّ مِنْ الْمُقَسَّمِ لَا عَيْنَهُ. وَعَنْ الثَّانِي بِأَنْ تُحْمَلَ كَلِمَةُ أَوْ الْمَذْكُورَةِ عَلَى مَنْعِ الْخُلُوِّ دُونَ مَنْعِ الْجَمْعِ.

وَالْأَوْلَى عِنْدِي فِي بَيَانِ الضَّابِطَةِ هَاهُنَا أَنْ يُقَالَ: اعْلَمْ أَنَّ الْجَارِيَةَ إذَا بِيعَتْ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ، فَأَمَّا إنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْبَيْعِ أَوْ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ أَوْ لِمَا بَيْنَ الْمُدَّتَيْنِ، وَكُلُّ وَجْهٍ مِنْ الْأَوْجُهِ الثَّلَاثَةِ

ص: 292

فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ يَوْمِ بَاعَ فَهُوَ ابْنٌ لِلْبَائِعِ وَأُمُّهُ أُمُّ وَلَدٍ لَهُ (وَفِي الْقِيَاسِ هُوَ قَوْلُ زُفَرٍ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ دَعْوَتُهُ بَاطِلَةٌ) لِأَنَّ الْبَيْعَ اعْتِرَافٌ مِنْهُ بِأَنَّهُ عَبْدٌ فَكَانَ فِي دَعْوَاهُ مُنَاقِضًا وَلَا نَسَبَ بِدُونِ الدَّعْوَى. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ اتِّصَالَ الْعُلُوقِ بِمِلْكِهِ شَهَادَةٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى كَوْنِهِ مِنْهُ لِأَنَّ الظَّاهِرَ عَدَمُ الزِّنَا. وَمَبْنَى النَّسَبِ عَلَى الْخَفَاءِ فَيُعْفَى فِيهِ التَّنَاقُضُ، وَإِذَا صَحَّتْ الدَّعْوَى اسْتَنَدَتْ إلَى وَقْتِ الْعُلُوقِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ بَاعَ أُمَّ وَلَدِهِ فَيُفْسَخُ الْبَيْعُ لِأَنَّ بَيْعَ أُمِّ الْوَلَدِ لَا يَجُوزُ (وَيُرَدُّ الثَّمَنُ) لِأَنَّهُ قَبَضَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ

عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ، أَمَّا إنْ ادَّعَى ذَلِكَ الْوَلَدَ الْبَائِعُ وَحْدَهُ أَوْ الْمُشْتَرِي وَحْدَهُ أَوْ ادَّعَيَاهُ مَعًا أَوْ عَلَى التَّعَاقُبِ (فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ يَوْمِ بَاعَ) وَقَدْ ادَّعَاهُ الْبَائِعُ وَحْدَهُ كَمَا مَرَّ فِي الْكِتَابِ (فَهُوَ) أَيْ الْوَلَدُ (ابْنُ الْبَائِعِ وَأُمُّهُ) أَيْ أُمُّ الْوَلَدِ (أُمُّ وَلَدٍ لَهُ) أَيْ الْبَائِعِ (وَفِي الْقِيَاسِ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ دَعْوَتُهُ) أَيْ دَعْوَةُ الْبَائِعِ (بَاطِلَةٌ لِأَنَّ الْبَيْعَ اعْتِرَافٌ مِنْهُ) أَيْ مِنْ الْبَائِعِ (بِأَنَّهُ) أَيْ الْوَلَدَ (عَبْدٌ وَكَانَ) أَيْ الْبَائِعُ (فِي دَعْوَاهُ مُنَاقِضًا) وَالتَّنَاقُضُ يُبْطِلُ الدَّعْوَى فَلَا تُسْمَعُ دَعْوَاهُ، كَمَا لَوْ قَالَ كُنْت: أَعْتَقْتُهَا أَوْ أَدْبَرْتُهَا قَبْلَ أَنْ أَبِيعَهَا (وَلَا نَسَبَ بِدُونِ الدَّعْوَى) أَيْ وَلَا ثُبُوتَ لِلنَّسَبِ بِدُونِ الدَّعْوَى الصَّحِيحَةِ (وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ) أَيْ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ الَّذِي نَعْمَلُ بِهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ (أَنَّ اتِّصَالَ الْعُلُوقِ بِمِلْكِهِ شَهَادَةٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى كَوْنِهِ مِنْهُ) يَعْنِي أَنَّا تَيَقَّنَّا بِاتِّصَالِ الْعُلُوقِ بِمِلْكِ الْبَائِعِ، وَهَذَا شَهَادَةٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى كَوْنِ الْوَلَدِ مِنْ الْبَائِعِ (لِأَنَّ الظَّاهِرَ عَدَمُ الزِّنَا) فَنَزَلَ ذَلِكَ مَنْزِلَةَ الْبَيِّنَةِ فِي إبْطَالِ حَقِّ الْغَيْرِ عَنْهَا وَعَنْ وَلَدِهَا (وَمَبْنَى النَّسَبِ عَلَى الْخَفَاءِ) هَذَا جَوَابٌ عَنْ التَّنَاقُضِ.

وَبَيَانُهُ أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ لَا يَعْلَمُ ابْتِدَاءً بِكَوْنِ الْعُلُوقِ مِنْهُ ثُمَّ يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ مِنْهُ (فَيُعْفَى فِيهِ التَّنَاقُضُ) أَيْ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الدَّعْوَى؛ كَمَا أَنَّ الزَّوْجَ إذَا أَكْذَبَ نَفْسَهُ بَعْدَ قَضَاءِ الْقَاضِي بِنَفْيِ النَّسَبِ بِاللِّعَانِ يَثْبُتُ مِنْهُ النَّسَبُ وَيَبْطُلُ حُكْمُ الْحَاكِمِ وَلَا يُنْظَرُ إلَى التَّنَاقُضِ لِمَكَانِ الْخَفَاءِ فِي أَمْرِ الْعُلُوقِ، وَصَارَ كَالْمُكَاتَبِ إذَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّ مَوْلَاهُ كَانَ أَعْتَقَهُ قَبْلَ الْكِتَابَةِ فَإِنَّهُ تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ وَتَبْطُلُ الْكِتَابَةُ، وَلَا يُعْتَبَرُ التَّنَاقُضُ لِخَفَاءِ الْإِعْتَاقِ حَيْثُ يَنْفَرِدُ الْمَوْلَى بِهِ، وَكَالْمُخْتَلِعَةِ إذَا أَقَامَتْ الْبَيِّنَةَ أَنَّ الزَّوْجَ كَانَ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا قَبْلَ الْخُلْعِ فَإِنَّ بَيِّنَتَهَا تُقْبَلُ مَعَ التَّنَاقُضِ لِخَفَاءِ الطَّلَاقِ حَيْثُ يَنْفَرِدُ الزَّوْجُ بِهِ، بِخِلَافِ دَعْوَى الْبَائِعِ الْإِعْتَاقَ أَوْ التَّدْبِيرَ بَعْدَ الْبَيْعِ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْإِعْتَاقِ وَالتَّدْبِيرِ فِعْلُ نَفْسِهِ وَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ، كَذَا حَقَّقُوا (وَإِذَا صَحَّتْ الدَّعْوَى اسْتَنَدَتْ إلَى وَقْتِ الْعُلُوقِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ بَاعَ أُمَّ وَلَدِهِ فَفُسِخَ الْبَيْعُ لِأَنَّ بَيْعَ أُمِّ الْوَلَدِ لَا يَجُوزُ، وَيَرُدُّ الثَّمَنَ) أَيْ إنْ كَانَ مُنْفَرِدًا (لِأَنَّهُ قَبَضَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ) فَإِنَّ سَلَامَةَ الثَّمَنِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى سَلَامَةِ الْمَبِيعِ، كَذَا فِي الْكَافِي، وَإِنْ ادَّعَاهُ الْمُشْتَرِي وَحْدَهُ صَحَّتْ دَعْوَتُهُ وَثَبَتَ النَّسَبُ مِنْهُ لِأَنَّ دَعْوَتَهُ دَعْوَةُ تَحْرِيرٍ وَالْمُشْتَرِي يَصِحُّ مِنْهُ التَّحْرِيرُ، فَكَذَا دَعْوَتُهُ لِحَاجَةِ الْوَلَدِ إلَى النَّسَبِ وَإِلَى الْحُرِّيَّةِ، وَتَثْبُتُ لَهَا أُمِّيَّةُ الْوَلَدِ بِإِقْرَارِهِ، ثُمَّ لَا يَصِحُّ مِنْ الْبَائِعِ دَعْوَتُهُ لِأَنَّ الْوَلَدَ قَدْ اسْتَغْنَى عَنْ النَّسَبِ لَمَّا ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْ الْمُشْتَرِي، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ وَغَيْرِهَا.

أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: صِحَّةُ التَّحْرِيرِ مِنْ الْمُشْتَرِي ظَاهِرَةٌ؛ لِأَنَّ الْجَارِيَةَ مَمْلُوكَتُهُ فِي الْحَالِ فَيَمْلِكُ إعْتَاقَهَا وَإِعْتَاقَ وَلَدِهَا كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي النِّهَايَةِ وَغَيْرِهَا.

وَأَمَّا صِحَّةُ دَعْوَتِهِ لِحَاجَةِ الْوَلَدِ إلَى النَّسَبِ فَمُشْكِلَةٌ بِمَا مَرَّ فِي وَجْهِ الِاسْتِحْسَانِ مِنْ أَنَّا تَيَقَّنَّا بِاتِّصَالِ الْعُلُوقِ بِمِلْكِ الْبَائِعِ، وَهَذَا شَهَادَةٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى كَوْنِ الْوَلَدِ مِنْ الْبَائِعِ، فَإِنَّ مُجَرَّدَ حَاجَةِ الْوَلَدِ إلَى النَّسَبِ كَيْفَ يُفِيدُ ثُبُوتَ النَّسَبِ مِنْ الْمُشْتَرِي عِنْدَ تَحَقُّقِ الشَّهَادَةِ الظَّاهِرَةِ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ بِأَنَّ تَيَقَّنَّا بِاتِّصَالِ الْعُلُوقِ بِمِلْكِ الْبَائِعِ إنَّمَا يَكُونُ شَهَادَةً ظَاهِرَةً عَلَى كَوْنِ الْوَلَدِ مِنْ الْبَائِعِ إذَا ادَّعَاهُ الْبَائِعُ. وَأَمَّا إذَا لَمْ يَدَّعِيهِ الْبَائِعُ فَلَا يَجُوزُ الْوَلَدُ مِنْ غَيْرِهِ

ص: 293

(وَإِنْ ادَّعَاهُ الْمُشْتَرِي مَعَ دَعْوَةِ الْبَائِعِ أَوْ بَعْدَهُ فَدَعْوَةُ الْبَائِعِ أَوْلَى) لِأَنَّهَا أَسْبَقُ لِاسْتِنَادِهَا إلَى وَقْتِ الْعُلُوقِ وَهَذِهِ دَعْوَةُ اسْتِيلَادٍ (وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ مِنْ وَقْتِ الْبَيْعِ لَمْ تَصِحَّ دَعْوَةُ الْبَائِعِ) لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ اتِّصَالُ الْعُلُوقِ بِمِلْكِهِ تَيَقُّنًا وَهُوَ الشَّاهِدُ وَالْحُجَّةُ (إلَّا إذَا صَدَّقَهُ الْمُشْتَرِي) فَيَثْبُتُ النَّسَبُ وَيُحْمَلُ عَلَى الِاسْتِيلَادِ بِالنِّكَاحِ، وَلَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ لِأَنَّا تَيَقَّنَّا أَنَّ الْعُلُوقَ لَمْ يَكُنْ فِي مِلْكِهِ فَلَا يُثْبِتُ حَقِيقَةَ الْعِتْقِ وَلَا حَقَّهُ، وَهَذِهِ دَعْوَةُ تَحْرِيرٍ وَغَيْرُ الْمَالِكِ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ.

بِالنِّكَاحِ، فَإِذَا ادَّعَاهُ الْمُشْتَرِي وَحْدَهُ يُحْمَلْ عَلَى كَوْنِهِ مِنْهُ بِالنِّكَاحِ قَبْلَ الِاشْتِرَاءِ لِحَاجَةِ الْوَلَدِ إلَى النَّسَبِ فَصَارَتْ عِلَّةُ صِحَّةِ دَعْوَةِ الْمُشْتَرِي وَثُبُوتِ النَّسَبِ مِنْهُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ حَاجَةَ الْوَلَدِ إلَى النَّسَبِ مَعَ إمْكَانِ كَوْنِهِ مِنْهُ بِالنِّكَاحِ قَبْلَ الِاشْتِرَاءِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا ذَكَرَهُ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ فِي شَرْحِ الْوِقَايَةِ حَيْثُ قَالَ: لَوْ ادَّعَى الْمُشْتَرِي قَبْلَ دَعْوَةِ الْبَائِعِ يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْ الْمُشْتَرِي وَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ نَكَحَهَا وَاسْتَوْلَدَهَا ثُمَّ اشْتَرَاهَا انْتَهَى.

(وَإِنْ ادَّعَاهُ الْمُشْتَرِي مَعَ دَعْوَةِ الْبَائِعِ أَوْ بَعْدَهُ) أَيْ بَعْدَ دَعْوَةِ الْبَائِعِ ذَكَرَ الضَّمِيرَ بِتَأْوِيلِ الِادِّعَاءِ (فَدَعْوَةُ الْبَائِعِ أَوْلَى لِأَنَّهَا أَسْبَقُ) أَمَّا إذَا كَانَتْ قَبْلَ دَعْوَةِ الْمُشْتَرِي فَالْأَمْرُ ظَاهِرٌ، وَأَمَّا إذَا كَانَتْ بَعْدَ دَعْوَةِ الْمُشْتَرِي فَلِمَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ:(لِاسْتِنَادِهَا إلَى وَقْتِ الْعُلُوقِ وَهَذِهِ دَعْوَةُ اسْتِيلَادٍ) يَعْنِي أَنَّ دَعْوَةَ الْبَائِعِ مُسْتَنِدَةٌ إلَى وَقْتِ الْعُلُوقِ لِأَنَّهَا دَعْوَةُ اسْتِيلَادٍ، وَدَعْوَةُ الْمُشْتَرِي مُقْتَصِرَةٌ عَلَى الْحَالِ لِأَنَّهَا دَعْوَةُ تَحْرِيرٍ فَكَانَتْ دَعْوَةُ الْبَائِعِ سَابِقَةً مَعْنًى فَكَانَتْ أَوْلَى، ثُمَّ إنَّهُ ضَمَّنَ قَوْلَهُ: وَهَذِهِ دَعْوَةُ اسْتِيلَادِ الْجَوَابِ عَنْ دَخْلٍ مُقَدَّرٍ تَقْدِيرُهُ كَيْفَ تَصِحُّ دَعْوَةُ الْبَائِعِ وَهُوَ غَيْرُ مَالِكٍ فِي الْحَالِ. وَجْهُ الْجَوَابِ أَنَّ دَعْوَتَهُ دَعْوَةُ اسْتِيلَادٍ وَهِيَ لَا تَفْتَقِرُ إلَى قِيَامِ الْمِلْكِ فِي الْحَالِ لِأَنَّهَا تَسْتَنِدُ إلَى زَمَانِ الْمِلْكِ، بِخِلَافِ دَعْوَةِ التَّحْرِيرِ عَلَى مَا سَيَجِيءُ (وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ مِنْ وَقْتِ الْبَيْعِ لَمْ تَصِحَّ دَعْوَةُ الْبَائِعِ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ اتِّصَالُ الْعُلُوقِ بِمِلْكِهِ تَيَقُّنًا وَهُوَ الشَّاهِدُ وَالْحُجَّةُ) يَعْنِي أَنَّ الشَّاهِدَ عَلَى كَوْنِ الْوَلَدِ مِنْهُ إنَّمَا هُوَ اتِّصَالُ الْعُلُوقِ بِمِلْكِهِ تَيَقُّنًا وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ هَاهُنَا فَلَمْ تَصِحَّ دَعْوَتُهُ (إلَّا إذَا صَدَّقَهُ الْمُشْتَرِي فَيَثْبُتُ النَّسَبُ وَيُحْمَلُ عَلَى الِاسْتِيلَادِ بِالنِّكَاحِ) حَمْلًا لِأَمْرِهِ عَلَى الصَّلَاحِ، وَقَوْلُ الْمُشْتَرِي عَلَى الصِّدْقِ (وَلَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ لِأَنَّا تَيَقَّنَّا أَنَّ الْعُلُوقَ لَمْ يَكُنْ فِي مِلْكِهِ فَلَا يُثْبِتُ حَقِيقَةَ الْعِتْقِ) أَيْ لِلْوَلَدِ (وَلَا حَقَّهُ) أَيْ وَلَا يُثْبِتُ حَقَّ الْعِتْقِ وَهُوَ أُمُومِيَّةُ الْوَلَدِ لِلْأُمِّ فَيَبْقَى الْوَلَدُ عَبْدًا لِلْمُشْتَرِي وَلَا تَصِيرُ الْأُمُّ أُمَّ وَلَدِ الْبَائِعِ كَمَا إذَا ادَّعَاهُ أَجْنَبِيٌّ آخَرُ، كَذَا فِي الْكَافِي وَغَيْرِهِ (وَهَذِهِ) أَيْ دَعْوَةُ الْبَائِعِ هَاهُنَا (دَعْوَةُ تَحْرِيرٍ وَغَيْرُ الْمَالِكِ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ) أَيْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ التَّحْرِيرِ وَالْبَائِعُ لَيْسَ بِمَالِكٍ فَلَا تَصِحُّ دَعْوَةُ التَّحْرِيرِ مِنْهُ.

ص: 294

(وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْبَيْعِ وَلِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ لَمْ تُقْبَلْ دَعْوَةُ الْبَائِعِ فِيهِ إلَّا أَنْ يُصَدِّقَهُ الْمُشْتَرِي) لِأَنَّهُ احْتَمَلَ أَنْ لَا يَكُونَ الْعُلُوقُ فِي مِلْكِهِ فَلَمْ تُوجَدْ الْحُجَّةُ فَلَا بُدَّ مِنْ تَصْدِيقِهِ، وَإِذَا صَدَّقَهُ يَثْبُتُ النَّسَبُ وَيَبْطُلُ الْبَيْعُ وَالْوَلَدُ حُرٌّ وَالْأُمُّ أُمُّ وَلَدٍ لَهُ كَمَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى لِتَصَادُقِهِمَا وَاحْتِمَالِ الْعُلُوقِ فِي الْمِلْكِ

اعْلَمْ أَنَّ الدَّعْوَةَ نَوْعَانِ: دَعْوَةُ اسْتِيلَادٍ وَدَعْوَةُ تَحْرِيرٍ؛ فَدَعْوَةُ الِاسْتِيلَادِ هِيَ أَنْ يَكُونَ عُلُوقُ الْمُدَّعَى فِي مِلْكِ الْمُدَّعِي وَهَذِهِ الدَّعْوَةُ تَسْتَنِدُ إلَى وَقْتِ الْعُلُوقِ وَتَتَضَمَّنُ الْإِقْرَارَ بِالْوَطْءِ فَيَتَبَيَّنُ أَنَّهُ عَلِقَ حُرًّا، وَدَعْوَةُ التَّحْرِيرِ أَنْ يَكُونَ عُلُوقُ الْمُدَّعَى فِي غَيْرِ مِلْكِ الْمُدَّعِي وَهَذِهِ الدَّعْوَةُ تَقْتَصِرُ عَلَى الْحَالِ وَلَا تَتَضَمَّنُ الْإِقْرَارَ بِالْوَطْءِ لِعَدَمِ تَصَوُّرِ الِاسْتِيلَادِ لِعَدَمِ الْمِلْكِ وَقْتَ الْعُلُوقِ، كَذَا فِي الْبَدَائِعِ.

وَإِنْ ادَّعَاهُ الْمُشْتَرِي وَحْدَهُ فِي هَذَا الْوَجْهِ صَحَّتْ دَعْوَتُهُ، وَإِنْ ادَّعَيَاهُ مَعًا أَوْ مُتَعَاقِبًا صَحَّ دَعْوَةُ الْمُشْتَرِي دُونَ الْبَائِعِ لِأَنَّهُ كَالْأَجْنَبِيِّ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ وَغَيْرِهَا (وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْبَيْعِ وَلِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ لَمْ تُقْبَلْ دَعْوَةُ الْبَائِعِ فِيهِ) أَيْ فِي هَذَا الْوَجْهِ (إلَّا أَنْ يُصَدِّقَهُ الْمُشْتَرِي لِأَنَّهُ احْتَمَلَ أَنْ لَا يَكُونَ الْعُلُوقُ فِي مِلْكِهِ) أَيْ فِي مِلْكِ الْبَائِعِ (فَلَمْ تُوجَدْ الْحُجَّةُ) وَهِيَ اتِّصَالُ الْعُلُوقِ بِمِلْكِهِ تَيَقُّنًا (فَلَا بُدَّ مِنْ تَصْدِيقِهِ) أَيْ مِنْ تَصْدِيقِ الْمُشْتَرِي إيَّاهُ (وَإِذَا صَدَّقَهُ يَثْبُتُ النَّسَبُ وَيَبْطُلُ الْبَيْعُ وَالْوَلَدُ حُرٌّ. وَالْأُمُّ أُمُّ وَلَدٍ لَهُ كَمَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى) وَهِيَ إنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ يَوْمِ بَاعَ (لِتَصَادُقِهِمَا وَاحْتِمَالِ الْعُلُوقِ فِي الْمِلْكِ) وَإِنْ ادَّعَاهُ الْمُشْتَرِي وَحْدَهُ فِي هَذَا الْوَجْهِ صَحَّتْ دَعْوَتُهُ لِأَنَّ دَعْوَتَهُ صَحِيحَةٌ حَالَةَ الِانْفِرَادِ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْعُلُوقَ فِي مِلْكِهِ فَفِيمَا يَحْتَمِلُهُ أَوْلَى، وَتَكُونُ دَعْوَتُهُ دَعْوَةَ اسْتِيلَاءٍ حَتَّى يَكُونَ الْوَلَدُ حُرَّ الْأَصْلِ وَلَا يَكُونُ لَهُ وَلَاءٌ عَلَى الْوَلَدِ لِأَنَّ الْعُلُوقَ فِي مِلْكِهِ مُمْكِنٌ، وَإِنْ ادَّعَيَاهُ مَعًا أَوْ مُتَعَاقِبًا فَالْمُشْتَرِي أَوْلَى لِأَنَّ الْبَائِعَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ كَالْأَجْنَبِيِّ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَ لَهُ إذَا كَانَتْ مُدَّةُ الْوِلَادَةِ بَعْدَ الْبَيْعِ مَعْلُومَةً. أَمَّا إذَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهَا جَاءَتْ بِالْوَلَدِ لِأَقَلَّ مِنْ أَقَلِّ مُدَّةٍ الْحَمْلِ أَوْ لِأَكْثَرَ مِنْ أَكْثَرِهَا أَوْ لِمَا بَيْنَهُمَا فَالْمَسْأَلَةُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ أَيْضًا: فَإِنْ ادَّعَاهُ الْبَائِعُ وَحْدَهُ لَا تَصِحُّ دَعْوَتُهُ إلَّا أَنْ يُصَدِّقَهُ الْمُشْتَرِي لِعَدَمِ تَيَقُّنِ الْعُلُوقِ فِي مِلْكِهِ، وَإِنْ ادَّعَاهُ الْمُشْتَرِي وَحْدَهُ صَحَّتْ دَعْوَتُهُ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِي الْبَابِ كَوْنُ الْعُلُوقِ فِي مِلْكِ الْبَائِعِ بِأَنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَلَكِنَّ هَذَا لَا يَمْنَعُ دَعْوَةَ الْمُشْتَرِي. وَإِنْ ادَّعَيَاهُ مَعًا لَمْ تَصِحَّ دَعْوَةُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَيَكُونُ الْوَلَدُ عَبْدًا لِلْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهَا إنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلِّ الْمُدَّةِ كَانَ النَّسَبُ لِلْبَائِعِ، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ أَقَلِّ الْمُدَّةِ كَانَ النَّسَبُ لِلْمُشْتَرِي فَوَقَعَ الشَّكُّ فِي ثُبُوتِهِ فَلَا يَثْبُتُ.

وَإِنْ ادَّعَيَاهُ مُتَعَاقِبًا، فَإِنْ سَبَقَ الْمُشْتَرِي صَحَّتْ دَعْوَتُهُ، وَإِنْ سَبَقَ الْبَائِعُ لَمْ تَصِحَّ دَعْوَةُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِوُقُوعِ الشَّكِّ فِي ثُبُوتِ النَّسَبِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، كَذَا فِي غَايَةِ الْبَيَانِ نَقْلًا عَنْ مَبْسُوطِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ خُوَاهَرْ زَادَهْ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ. قَالَ فِي الْكَافِي: وَلَوْ تَنَازَعَا فَالْبَيِّنَةُ لِلْمُشْتَرِي، أَيْ إذَا بَاعَ أُمَّهُ فَوَلَدَتْ عِنْدَ الْمُشْتَرِي فَقَالَ الْبَائِعُ: بِعْتُهَا مِنْك مُنْذُ شَهْرٍ وَالْوَلَدُ مِنِّي وَقَالَ الْمُشْتَرِي: بِعْتُهَا مِنِّي لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ وَالْوَلَدُ لَيْسَ مِنْك فَالْقَوْلُ لِلْمُشْتَرِي بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ يَدَّعِي انْتِقَاضَ الْبَيْعِ وَالْمُشْتَرِي يُنْكِرُ، فَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ لِلْمُشْتَرِي أَيْضًا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ زِيَادَةَ مُدَّةٍ فِي الشِّرَاءِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ الْبَيِّنَةُ لِلْبَائِعِ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ نَسَبَ

ص: 295

(فَإِنْ مَاتَ الْوَلَدُ فَادَّعَاهُ الْبَائِعُ وَقَدْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ لَمْ يَثْبُتْ الِاسْتِيلَادُ فِي الْأُمِّ) لِأَنَّهَا تَابِعَةٌ لِلْوَلَدِ وَلَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ بَعْدَ الْمَوْتِ لِعَدَمِ حَاجَتِهِ إلَى ذَلِكَ فَلَا يَتْبَعُهُ اسْتِيلَادُ الْأُمِّ (وَإِنْ مَاتَتْ الْأُمُّ فَادَّعَاهُ الْبَائِعُ وَقَدْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ يَثْبُتُ النَّسَبُ فِي الْوَلَدِ وَأَخَذَهُ الْبَائِعُ)؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ هُوَ الْأَصْلُ فِي النَّسَبِ فَلَا يَضُرُّهُ فَوَاتُ التَّبَعِ، وَإِنَّمَا كَانَ الْوَلَدُ أَصْلًا لِأَنَّهَا تُضَافُ إلَيْهِ يُقَالُ أُمُّ الْوَلَدِ، وَتَسْتَفِيدُ الْحُرِّيَّةَ مِنْ جِهَتِهِ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «أَعْتَقَهَا وَلَدُهَا» وَالثَّابِتُ لَهَا حَقُّ الْحُرِّيَّةِ وَلَهُ حَقِيقَتُهَا، وَالْأَدْنَى يَتْبَعُ الْأَعْلَى (وَيَرُدُّ الثَّمَنَ كُلَّهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَا: يَرُدُّ حِصَّةَ الْوَلَدِ وَلَا يَرُدُّ حِصَّةَ الْأُمِّ) لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ بَاعَ أُمَّ وَلَدِهِ،

الْوَلَدِ وَاسْتِيلَادَ الْأَمَةِ وَانْتِقَاضَ الْبَيْعِ فَكَانَ أَكْثَرَ إثْبَاتًا انْتَهَى.

(فَإِنْ مَاتَ الْوَلَدُ فَادَّعَاهُ الْبَائِعُ وَقَدْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ) أَيْ وَالْحَالُ أَنَّهَا جَاءَتْ بِالْوَلَدِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ (لَمْ يَثْبُتْ الِاسْتِيلَادُ فِي الْأُمِّ) هَذَا لَفْظُ الْقُدُورِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِهِ: (لِأَنَّهَا) أَيْ لِأَنَّ الْأُمَّ (تَابِعَةٌ لِلْوَلَدِ) أَيْ فِي هَذَا الْبَابِ عَلَى مَا سَيَجِيءُ بَيَانُهُ (وَلَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ) أَيْ نَسَبُ الْوَلَدِ (بَعْدَ الْمَوْتِ لِعَدَمِ حَاجَتِهِ إلَى ذَلِكَ) أَيْ لِعَدَمِ حَاجَةِ الْوَلَدِ إلَى النَّسَبِ بَعْدَ الْمَوْتِ (فَلَا يَتْبَعُهُ اسْتِيلَادُ الْأُمِّ) لِعَدَمِ تَصَوُّرِ ثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي التَّبَعِ بِدُونِ ثُبُوتِهِ فِي الْمَتْبُوعِ (وَإِنْ مَاتَتْ الْأُمُّ فَادَّعَاهُ الْبَائِعُ وَقَدْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ يَثْبُتُ النَّسَبُ فِي الْوَلَدِ وَأَخَذَهُ الْبَائِعُ) هَذَا أَيْضًا الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِهِ: (لِأَنَّ الْوَلَدَ هُوَ الْأَصْلُ فِي النَّسَبِ فَلَا يَضُرُّهُ فَوَاتُ التَّبَعِ) يَعْنِي أَنَّ الْوَلَدَ لَمَّا كَانَ هُوَ الْأَصْلَ كَانَ الْمُعْتَبَرُ بَقَاءَهُ لِحَاجَتِهِ إلَى ثُبُوتِ النَّسَبِ، وَلَا يَضُرُّهُ فَوَاتُ التَّبَعِ لِأَنَّ تَعَذُّرَ الْفَرْعِ لَا يُبْطِلُ الْأَصْلَ، بِخِلَافِ الْعَكْسِ (وَإِنَّمَا كَانَ الْوَلَدُ أَصْلًا لِأَنَّهَا) أَيْ لِأَنَّ الْأُمَّ (تُضَافُ إلَيْهِ) أَيْ إلَى الْوَلَدِ حَيْثُ (يُقَالُ أُمُّ الْوَلَدِ) وَالْإِضَافَةُ إلَى الشَّيْءِ أَمَارَةُ أَصَالَةِ الْمُضَافِ إلَيْهِ (وَتَسْتَفِيدُ الْحُرِّيَّةَ مِنْ جِهَتِهِ) عَطْفٌ عَلَى تُضَافُ إلَيْهِ: أَيْ وَتَسْتَفِيدُ الْأُمُّ الْحُرِّيَّةَ مِنْ جِهَةِ الْوَلَدِ «لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: أَعْتَقَهَا وَلَدُهَا قَالَهُ حِينَ قِيلَ لَهُ وَقَدْ وَلَدَتْ مَارِيَةُ الْقِبْطِيَّةُ إبْرَاهِيمَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَلَا تَعْتِقُهَا؟» (وَالثَّابِتُ لَهَا) أَيْ وَلِأَنَّ الثَّابِتَ لِلْأُمِّ (حَقُّ الْحُرِّيَّةِ) وَهُوَ أُمُومِيَّةُ الْوَلَدِ (وَلَهُ) أَيْ وَالثَّابِتُ لِلْوَلَدِ (حَقِيقَتُهَا) أَيْ حَقِيقَةُ الْحُرِّيَّةِ (وَالْأَدْنَى يَتْبَعُ الْأَعْلَى) دَائِمًا دُونَ الْعَكْسِ، فَحَقُّ الْحُرِّيَّةِ الَّذِي هُوَ الْأَدْنَى يَتْبَعُ الْحُرِّيَّةَ الَّتِي هِيَ الْأَعْلَى دُونَ الْعَكْسِ (وَيَرُدُّ الثَّمَنَ كُلَّهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: يَرُدُّ حِصَّةَ الْوَلَدِ وَلَا يَرُدُّ حِصَّةَ الْأُمِّ) وَهَذَا مِنْ تَمَامِ لَفْظِ الْقُدُورِيِّ الَّذِي ذُكِرَ فِيمَا مَرَّ آنِفًا.

قَالَ الْمُصَنِّفُ (لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ بَاعَ أُمَّ وَلَدِهِ) أَيْ تَبَيَّنَ بِثُبُوتِ نَسَبِ الْوَلَدِ مِنْ الْبَائِعِ أَنَّهُ بَاعَ أُمَّ وَلَدِهِ وَبَيْعُهَا بَاطِلٌ

ص: 296

وَمَالِيَّتُهَا غَيْرُ مُتَقَوِّمَةٍ عِنْدَهُ فِي الْعَقْدِ وَالْغَصْبِ فَلَا يَضْمَنُهَا الْمُشْتَرِي، وَعِنْدَهُمَا مُتَقَوِّمَةٌ فَيَضْمَنُهَا.

وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: وَإِذَا حَبِلَتْ الْجَارِيَةُ فِي مِلْكِ رَجُلٍ فَبَاعَهَا فَوَلَدَتْ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَادَّعَى الْبَائِعُ الْوَلَدَ وَقَدْ أَعْتَقَ الْمُشْتَرِي الْأُمَّ فَهُوَ ابْنُهُ يُرَدُّ عَلَيْهِ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ. وَلَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي إنَّمَا أَعْتَقَ الْوَلَدَ فَدَعْوَاهُ بَاطِلَةٌ.

وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الْأَصْلَ فِي هَذَا الْبَابِ الْوَلَدُ، وَالْأُمُّ تَابِعَةٌ لَهُ عَلَى مَا مَرَّ. وَفِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ قَامَ الْمَانِعُ مِنْ الدَّعْوَةِ وَالِاسْتِيلَادِ وَهُوَ الْعِتْقُ فِي التَّبَعِ وَهُوَ الْأُمُّ فَلَا يَمْتَنِعُ ثُبُوتُهُ فِي الْأَصْلِ وَهُوَ الْوَلَدُ،

وَمَالِيَّتُهَا) أَيْ وَلَكِنَّ مَالِيَّةَ أُمِّ الْوَلَدِ (غَيْرُ مُتَقَوِّمَةٍ عِنْدَهُ) أَيْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ (فِي الْعَقْدِ وَالْغَصْبِ فَلَا يَضْمَنُهَا الْمُشْتَرِي وَعِنْدَهُمَا) أَيْ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ (مُتَقَوِّمَةٌ فَيَضْمَنُهَا) أَيْ فَيَضْمَنُهَا الْمُشْتَرِي، فَإِذَا رَدَّ الْوَلَدَ دُونَهَا يَجِبُ عَلَى الْبَائِعِ رَدُّ حِصَّةِ مَا سُلِّمَ لَهُ وَهُوَ الْوَلَدُ كَيْ لَا يَجْتَمِعَ الْبَدَلُ وَالْمُبْدَلُ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّ حِصَّةٍ مَا لَمْ يُسَلَّمْ لَهُ وَهِيَ الْأُمُّ. قَالَ الْإِمَامُ الزَّيْلَعِيُّ فِي التَّبْيِينِ بَعْدَمَا بَيَّنَ الْمَقَامَ بِهَذَا الْمِنْوَالِ: هَكَذَا ذَكَرُوا الْحُكْمَ فِي قَوْلِهِمَا، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَرُدَّ الْبَائِعُ جَمِيعَ الثَّمَنِ عِنْدَهُمَا أَيْضًا ثُمَّ يَرْجِعُ بِقِيمَةِ الْأُمِّ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ نَسَبُ الْوَلَدِ مِنْهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ بَاعَ أُمَّ وَلَدِهِ وَبَيْعُ أُمِّ الْوَلَدِ غَيْرُ صَحِيحٍ بِالْإِجْمَاعِ فَلَا يَجِبُ فِيهِ الثَّمَنُ وَلَا يَكُونُ لِأَجْزَاءِ الْمَبِيعِ مِنْهُ حِصَّةٌ، بَلْ يَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ رَدُّ مَا قَبَضَهُ إنْ كَانَ بَاقِيًا وَإِلَّا فَبَدَلَهُ انْتَهَى فَتَأَمَّلْ

(وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ) ذَكَرَ رِوَايَةَ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ إعْلَامًا بِأَنَّ حُكْمَ الْإِعْتَاقِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ حُكْمُ الْمَوْتِ. (وَإِذَا حَبِلَتْ الْجَارِيَةُ فِي مِلْكِ رَجُلٍ فَبَاعَهَا فَوَلَدَتْ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَادَّعَى الْبَائِعُ الْوَلَدَ وَقَدْ أَعْتَقَ الْمُشْتَرِي الْأُمَّ فَهُوَ ابْنُهُ) أَيْ فَالْوَلَدُ ابْنُ الْبَائِعِ (يُرَدُّ عَلَيْهِ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ) أَيْ يُرَدُّ عَلَى الْبَائِعِ بِحِصَّةِ الْوَلَدِ مِنْ الثَّمَنِ الَّذِي كَانَ نَقَدَهُ الْبَائِعُ فَيُقَسَّمُ الثَّمَنُ عَلَى قِيمَةِ الْأُمِّ يَوْمَ الْعَقْدِ وَعَلَى قِيمَةِ الْوَلَدِ يَوْمَ الْوِلَادَةِ، فَمَا أَصَابَ الْأُمَّ يَلْزَمُ الْمُشْتَرِي، وَمَا أَصَابَ الْوَلَدَ سَقَطَ عَنْهُ، وَلَا تَصِيرُ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ لِلْبَائِعِ لِأَنَّهُ ثَبَتَ فِيهَا لِلْمُشْتَرِي مَا لَا يَحْتَمِلُ الْإِبْطَالَ وَهُوَ الْوَلَاءُ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ وَسَائِرِ الْمُعْتَبَرَاتِ (وَلَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي إنَّمَا أَعْتَقَ الْوَلَدَ فَدَعْوَتُهُ) أَيْ دَعْوَةُ الْبَائِعِ (بَاطِلَةٌ) أَيْ إذَا لَمْ يُصَدِّقْهُ الْمُشْتَرِي فِي دَعْوَاهُ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ (وَوَجْهُ الْفَرْقِ) إنَّمَا ذَكَرَهُ اسْتِظْهَارًا، إذْ قَدْ كَانَ مَعْلُومًا مِنْ مَسْأَلَةِ الْمَوْتِ (أَنَّ الْأَصْلَ فِي هَذَا الْبَابِ الْوَلَدُ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: أَيْ الْأَصْلَ فِي بَابِ ثُبُوتِ حَقِّ الْعِتْقِ لِلْأُمِّ بِطَرِيقِ الِاسْتِيلَادِ وَهُوَ ثُبُوتُ حَقِيقَةِ الْعِتْقِ لِلْوَلَدِ بِالنَّسَبِ، وَقَدْ اقْتَفَى أَثَرَهُ فِي هَذَا التَّفْسِيرِ صَاحِبُ مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ وَصَاحِبُ الْعِنَايَةِ.

أَقُولُ: لَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنْ الرَّكَاكَةِ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى، فَالْأَوْجَهُ فِي التَّفْسِيرِ أَنْ يُقَالَ: أَيْ الْأَصْلُ فِي بَابِ الدَّعْوَةِ وَالِاسْتِيلَادِ هُوَ الْوَلَدُ (وَالْأُمُّ تَابِعَةٌ لَهُ عَلَى مَا مَرَّ) فِي مَسْأَلَةِ الْمَوْتِ آنِفًا (وَفِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ) وَهُوَ مَا إذَا ادَّعَى الْبَائِعُ الْوَلَدَ وَقَدْ أَعْتَقَ الْمُشْتَرِي الْأُمَّ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: وَفِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ (قَامَ الْمَانِعُ مِنْ الدَّعْوَةِ وَالِاسْتِيلَادِ وَهُوَ) أَيْ الْمَانِعُ مِنْهُمَا (الْعِتْقُ فِي التَّبَعِ وَهُوَ الْأُمُّ فَلَا يَمْتَنِعُ ثُبُوتُهُ) أَيْ ثُبُوتُ مَا ذَكَرَهُ مِنْ الدَّعْوَةِ وَالِاسْتِيلَادِ (فِي الْأَصْلِ وَهُوَ الْوَلَدُ) لِأَنَّ امْتِنَاعَ الْحُكْمِ فِي التَّبَعِ لَا يُوجِبُ

ص: 297

وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَاتِهِ. كَمَا فِي وَلَدِ الْمَغْرُورِ فَإِنَّهُ حُرٌّ وَأُمُّهُ أَمَةٌ لِمَوْلَاهَا، وَكَمَا فِي الْمُسْتَوْلَدَةِ بِالنِّكَاحِ. وَفِي الْفَصْلِ الثَّانِي قَامَ الْمَانِعُ بِالْأَصْلِ وَهُوَ الْوَلَدُ فَيَمْتَنِعُ ثُبُوتُهُ فِيهِ وَفِي التَّبَعِ، وَإِنَّمَا كَانَ الْإِعْتَاقُ مَانِعًا

امْتِنَاعَهُ فِي الْأَصْلِ فَإِنْ قِيلَ: إذَا لَمْ يَمْنَعْ ثُبُوتَ الدَّعْوَةِ وَالِاسْتِيلَادِ لِلْبَائِعِ فِي الْوَلَدِ ثَبَتَ نَسَبُ الْوَلَدِ مِنْ الْبَائِعِ لِكَوْنِ الْعُلُوقِ فِي مِلْكِهِ بِيَقِينٍ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِيمَا إذَا حَبِلَتْ الْجَارِيَةُ فِي مِلْكِ الْبَائِعِ، وَمِنْ حُكْمِ ثُبُوتِ نَسَبِ الْوَلَدِ صَيْرُورَةُ أُمِّهِ أُمَّ وَلَدٍ لِلْبَائِعِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَبْطُلَ الْبَيْعُ وَإِعْتَاقُ الْمُشْتَرِي.

أَجَابَ بِقَوْلِهِ: (وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَاتِهِ) أَيْ وَلَيْسَ ثُبُوتُ الِاسْتِيلَادِ فِي حَقِّ الْأُمِّ مِنْ ضَرُورَاتِ ثُبُوتِ نَسَبِ الْوَلَدِ وَحُرِّيَّتِهِ: يَعْنِي أَنَّ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ مِنْ أَحْكَامِهِ إلَّا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَاتِهِ بِحَيْثُ لَا يَنْفَصِلُ عَنْهُ لِجَوَازِ انْفِكَاكِهِ عَنْهُ (كَمَا فِي وَلَدِ الْمَغْرُورِ) وَهُوَ وَلَدُ مَنْ يَطَأُ امْرَأَةً مُعْتَمِدًا عَلَى مِلْكِ يَمِينٍ أَوْ نِكَاحٍ فَتَلِدُ مِنْهُ ثُمَّ تُسْتَحَقُّ، كَذَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِيمَا سَيَجِيءُ فِي آخِرِ هَذَا الْبَابِ (فَإِنَّهُ) أَيْ وَلَدَ الْمَغْرُورِ (حُرٌّ) أَيْ حُرُّ الْأَصْلِ ثَابِتُ النَّسَبِ مِنْ الْمُسْتَوْلِدِ (وَأُمَّهُ أَمَةٌ لِمَوْلَاهَا) فَلَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لِلْمُسْتَوْلِدِ بَلْ تَكُونُ رَقِيقَةً حَتَّى تُبَاعَ فِي السُّوقِ (وَكَمَا فِي الْمُسْتَوْلَدَةِ بِالنِّكَاحِ) يَعْنِي إذَا تَزَوَّجَ جَارِيَةَ الْغَيْرِ فَوَلَدَتْ لَهُ يَثْبُتُ نَسَبُ الْوَلَدِ وَلَا تَثْبُتُ أُمِّيَّةُ الْوَلَدِ، كَذَا فِي غَايَةِ الْبَيَانِ، وَيُطَابِقُهُ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْكَافِي حَيْثُ قَالَ: وَكَمَا فِي الْمُسْتَوْلَدَةِ بِالنِّكَاحِ فَإِنَّهُ إذَا اسْتَوْلَدَ أَمَةَ الْغَيْرِ بِنِكَاحٍ يَثْبُتُ نَسَبُهُ وَلَا تَصِيرُ الْأَمَةُ أُمَّ وَلَدِهِ انْتَهَى.

وَكَذَا مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْبَدَائِعِ حَيْثُ قَالَ: كَمَنْ اسْتَوْلَدَ جَارِيَةَ الْغَيْرِ بِالنِّكَاحِ يَثْبُتُ نَسَبُ الْوَلَدِ مِنْهُ، وَلَا تَصِيرُ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ لِلْحَالِ إلَّا أَنْ يَمْلِكَهَا بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ اهـ. قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَالْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ: وَكَمَا فِي الْمُسْتَوْلَدَةِ بِالنِّكَاحِ بِأَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى أَنَّهَا حُرَّةٌ فَوَلَدَتْ فَإِذَا هِيَ أَمَةٌ انْتَهَى. أَقُولُ: هَذَا الْمَعْنَى هَاهُنَا غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الصُّورَةَ الَّتِي ذَكَرَاهَا قِسْمٌ مِنْ قِسْمَيْ وَلَدِ الْمَغْرُورِ كَمَا سَيَظْهَرُ مِمَّا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي آخِرِ هَذَا الْبَابِ وَنَبَّهْت عَلَيْهِ فِيمَا مَرَّ آنِفًا، فَلَا وَجْهَ لَأَنْ يَذْكُرَهَا الْمُصَنِّفُ فِي مُقَابَلَةِ وَلَدِ الْمَغْرُورِ كَمَا لَا يَخْفَى. فَإِنْ قُلْت: إنَّ صَاحِبَيْ النِّهَايَةِ وَالْعِنَايَةِ فَسَّرَا وَلَدَ الْمَغْرُورِ فِي قَوْلِ الْمُصَنِّفِ كَمَا فِي وَلَدِ الْمَغْرُورِ بِقَوْلِهِمَا: وَهُوَ مَا إذَا اشْتَرَى رَجُلٌ أَمَةً مِنْ رَجُلٍ يَزْعُمُ أَنَّهَا مِلْكُهُ فَاسْتَوْلَدَهَا ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ انْتَهَى. فَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْمُرَادُ بِوَلَدِ الْمَغْرُورِ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَحَدَ قِسْمَيْهِ، وَهُوَ مَا حَصَلَ بِالِاعْتِمَادِ عَلَى مِلْكِ الْيَمِينِ، وَبِالْمَذْكُورِ فِي مُقَابَلَتِهِ قِسْمَةَ الْآخَرِ وَهُوَ مَا حَصَلَ بِالِاعْتِمَادِ عَلَى مِلْكِ النِّكَاحِ فَلَا مَحْذُورَ. قُلْت: ذَلِكَ التَّفْسِيرُ مِنْهُمَا تَقْصِيرٌ آخَرُ، فَإِنَّهُ مَعَ كَوْنِهِ تَقْيِيدًا لِلْكَلَامِ الْمُطْلَقِ بِلَا مُقْتَضٍ لَهُ مُؤَدٍّ إلَى تَقْلِيلِ الْأَمْثِلَةِ فِي مَقَامٍ يُطْلَبُ فِيهِ التَّكْثِيرُ فَلَا يَنْدَفِعُ بِهِ الْمَحْذُورُ بَلْ يَتَأَكَّدُ (وَفِي الْفَصْلِ الثَّانِي) وَهُوَ مَا إذَا أَعْتَقَ الْمُشْتَرِي الْوَلَدَ ثُمَّ ادَّعَاهُ الْبَائِعُ (قَامَ الْمَانِعُ بِالْأَصْلِ وَهُوَ الْوَلَدُ فَيَمْتَنِعُ ثُبُوتُهُ) أَيْ ثُبُوتُ مَا ذَكَرَ مِنْ الدَّعْوَةِ وَالِاسْتِيلَادِ (فِيهِ) أَيْ فِي الْأَصْلِ (وَفِي التَّبَعِ) لِأَنَّ امْتِنَاعَ الْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ يُوجِبُ امْتِنَاعَهُ فِي التَّبَعِ أَيْضًا (وَإِنَّمَا كَانَ الْإِعْتَاقُ مَانِعًا). قَالَ مُتَقَدِّمُو الشُّرَّاحِ: أَيْ وَإِنَّمَا كَانَ إعْتَاقُ

ص: 298

لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ كَحَقِّ اسْتِلْحَاقِ النَّسَبِ وَحَقِّ الِاسْتِيلَادِ فَاسْتَوَيَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ،

الْمُشْتَرِي الْوَلَدَ مَانِعًا لِدَعْوَةِ الْبَائِعِ إيَّاهُ. وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ أَخْذًا مِنْهُمْ: قَوْلُهُ: وَإِنَّمَا كَانَ الْإِعْتَاقُ مَانِعًا بَيَانًا لِمَانِعِيَّةِ عِتْقِ الْوَلَدِ عَنْ ثُبُوتِ النَّسَبِ بِدَعْوَةِ الْبَائِعِ انْتَهَى. أَقُولُ: بَلْ هَذَا بَيَانٌ لِمَانِعِيَّةِ عِتْقِ الْأُمِّ عَنْ ثُبُوتِ الِاسْتِيلَادِ فِي حَقِّهَا بِدَعْوَةِ الْبَائِعِ، وَلِمَانِعِيَّةِ عِتْقِ الْوَلَدِ عَنْ ثُبُوتِ النَّسَبِ فِي حَقِّهِ بِدَعْوَةِ الْبَائِعِ أَيْضًا.

وَالْمَعْنَى: إنَّمَا كَانَ إعْتَاقُ الْمُشْتَرِي الْأُمَّ وَالْوَلَدَ مَانِعًا مِنْ دَعْوَةِ الِاسْتِيلَادِ، وَأَمَّا دَعْوَةُ النَّسَبِ فَيَشْمَلُ الْفَصْلَيْنِ مَعَهُ، كَمَا يُنَادِي عَلَيْهِ عِبَارَاتُ الْمُصَنِّفِ فِي أَثْنَاءِ الْبَيَانِ عَلَى مَا تَرَى، وَفِيمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الشُّرَّاحُ تَخْصِيصُ الْبَيَانِ بِالْفَصْلِ الثَّانِي وَهُوَ تَقْصِيرٌ فِي حَقِّ الْمَقَامِ وَشَرْحِ الْكَلَامِ (لِأَنَّهُ) أَيْ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ (لَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ كَحَقِّ اسْتِلْحَاقِ الْوَلَدِ وَحَقِّ الِاسْتِيلَادِ) يَعْنِي أَنَّ الْإِعْتَاقَ مِنْ الْمُشْتَرِي كَحَقِّ اسْتِلْحَاقِ النَّسَبِ مِنْ الْبَائِعِ فِي الْوَلَدِ وَحَقِّ الِاسْتِيلَادِ مِنْ الْبَائِعِ فِي الْأُمِّ فِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ (فَاسْتَوَيَا) أَيْ اسْتَوَى إعْتَاقُ الْمُشْتَرِي وَحَقُّ الْبَائِعِ اسْتِلْحَاقًا وَاسْتِيلَادًا (مِنْ هَذَا الْوَجْهِ) أَيْ مِنْ حَيْثُ إنَّهُمَا لَا يَحْتَمِلَانِ النَّقْضَ فَلَيْسَ لِفِعْلِ أَحَدِهِمَا تَرْجِيحٌ عَلَى فِعْلِ الْآخَرِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.

قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَرُدَّ بِمَا إذَا بَاعَ جَارِيَةً حُبْلَى فَوَلَدَتْ وَلَدَيْنِ فِي بَطْنٍ وَاحِدٍ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَأَعْتَقَ الْمُشْتَرِي أَحَدَهُمَا ثُمَّ ادَّعَى الْبَائِعُ الْوَلَدَ الْآخَرَ صَحَّتْ دَعْوَتُهُ فِيهِمَا جَمِيعًا حَتَّى يَبْطُلَ عِتْقُ الْمُشْتَرِي وَذَلِكَ نَقْضٌ لِلْعِتْقِ كَمَا تَرَى.

وَأُجِيبَ بِأَنَّ التَّوْأَمَيْنِ فِي حُكْمِ وَلَدٍ وَاحِدٍ، فَمِنْ ضَرُورَةِ ثُبُوتِ نَسَبِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَالْحُكْمِ بِصَيْرُورَتِهِ حُرَّ الْأَصْلِ ثُبُوتُ النَّسَبِ لِلْآخَرِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إذَا كَانَ كَذَلِكَ وَقَدْ ثَبَتَ الْعِتْقُ فِي أَحَدِهِمَا فَمِنْ ضَرُورَةِ ثُبُوتِ الْعِتْقِ فِي أَحَدِهِمَا ثُبُوتُهُ فِي الْآخَرِ وَإِلَّا لَزِمَ تَرْجِيحُ الدَّعْوَةِ عَلَى الْعِتْقِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ وَالْفَرْضُ خِلَافُهُ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّهُ إنْ ثَبَتَ الْعِتْقُ فِي الْآخَرِ لَزِمَهُ ضَمَانُ قِيمَتِهِ وَفِي ذَلِكَ ضَرَرٌ زَائِدٌ انْتَهَى. أَقُولُ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ وَجَوَابُهُ مِمَّا ذَكَرَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ أَيْضًا وَلَهُمَا وَجْهٌ وَجِيهٌ. وَأَمَّا السُّؤَالُ الثَّانِي وَجَوَابُهُ فَمِنْ مُخْتَرَعَاتِهِ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ.

أَمَّا السُّؤَالُ فَلِأَنَّ مُرَادَ الْمُجِيبِ عَنْ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ أَنَّ التَّوْأَمَيْنِ فِي حُكْمِ وَلَدٍ وَاحِدٍ فِي بَابِ النَّسَبِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَدَارَ النَّسَبِ عَلَى الْعُلُوقِ وَعُلُوقُهُمَا وَاحِدٌ لِكَوْنِهِمَا مِنْ مَاءٍ وَاحِدٍ، فَمِنْ ضَرُورَةِ ثُبُوتِ نَسَبِ أَحَدِهِمَا ثُبُوتُ نَسَبِ الْآخَرِ، وَلَيْسَ مُرَادُهُ أَنَّهُمَا فِي حُكْمِ وَلَدٍ وَاحِدٍ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ حَتَّى يُتَوَجَّهُ السُّؤَالُ، كَيْفَ وَمَدَارُ الْعِتْقِ عَلَى الرَّقَبَةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ رَقَبَتَيْهِمَا مُتَغَايِرَتَانِ فَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى إحْدَاهُمَا لَا يَلْزَمُ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَى الْأُخْرَى كَمَا لَا يَخْفَى. وَأَمَّا الْجَوَابُ فَلِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ أَنَّهُ إنْ ثَبَتَ الْعِتْقُ فِي الْآخَرِ لَزِمَ الْآخَرَ ضَمَانُ قِيمَتِهِ، كَمَا إذَا أَعْتَقَ الْمَوْلَى بَعْضَ عَبْدِهِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ حَيْثُ يَلْزَمُ الْعَبْدَ عِنْدَهُ ضَمَانُ قِيمَةِ بَعْضِهِ الْآخَرِ: أَيْ السِّعَايَةِ فِي بَقِيَّةِ قِيمَتِهِ لِمَوْلَاهُ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ فِي ذَلِكَ ضَرَرًا زَائِدًا، إذْ الضَّمَانُ فِي مُقَابَلَةِ الْعِتْقِ لَا يُعَدُّ ضَرَرًا أَصْلًا، وَلَوْ سَلِمَ ذَلِكَ فَيُعَارَضُ

ص: 299

ثُمَّ الثَّابِتُ مِنْ الْمُشْتَرِي حَقِيقَةُ الْإِعْتَاقِ وَالثَّابِتُ فِي الْأُمِّ حَقُّ الْحُرِّيَّةِ، وَفِي الْوَلَدِ لِلْبَائِعِ حَقُّ الدَّعْوَةِ وَالْحَقُّ لَا يُعَارِضُ الْحَقِيقَةَ،

بِالنَّسَبِ أَيْضًا قَطْعًا، فَإِنَّهُ إذَا ثَبَتَ النَّسَبُ فِي الْآخَرِ لَزِمَ الْبَائِعَ ضَمَانُ قِيمَتِهِ: أَيْ رَدُّ حِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ عَلَى الْمُشْتَرِي فَيَلْزَمُ أَنْ يَتَحَقَّقَ هُنَاكَ أَيْضًا ضَرَرٌ زَائِدٌ.

وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ يَثْبُتُ الْعِتْقُ فِي الْآخَرِ لَزِمَ الْمُشْتَرِي ضَمَانُ قِيمَتِهِ: أَيْ إتْلَافُ قِيمَتِهِ فَيُعَارَضُ بِالنَّسَبِ أَيْضًا قَطْعًا، فَإِنَّهُ إذَا ثَبَتَ النَّسَبُ فِي الْآخَرِ لَزِمَ الْبَائِعَ ضَمَانُ حِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ كَمَا يَلْزَمُ الْمُشْتَرِي عَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِ الْعِتْقِ فِي الْآخَرِ ضَمَانُ قِيمَتِهِ فَيَلْزَمُ أَنْ يَتَحَقَّقَ هُنَاكَ أَيْضًا ضَرَرٌ زَائِدٌ فَلَا يُتَصَوَّرُ التَّرْجِيحُ فِي صُورَةِ التَّوْأَمَيْنِ أَيْضًا وَالْفَرْضُ خِلَافُهُ. ثُمَّ أَقُولُ: بُدِّلَ السُّؤَالُ الثَّانِي وَجَوَابُهُ: وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إذَا كَانَ الْحُكْمُ فِي التَّوْأَمَيْنِ كَذَا كَانَ عِتْقُ الْمُشْتَرِي مِمَّا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ وَالْفَرْضُ خِلَافُهُ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ مُرَادَنَا مِنْ قَوْلِنَا: الْعِتْقُ لَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ أَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُهُ قَصْدًا وَاللَّازِمُ فِي مَسْأَلَةِ التَّوْأَمَيْنِ احْتِمَالُهُ النَّقْضَ ضِمْنًا، وَكَمْ مِنْ شَيْءٍ لَا يَثْبُتُ قَصْدًا وَيَثْبُتُ ضِمْنًا، وَسَيَجِيءُ فِي الْكِتَابِ هَذَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ. ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ الْعِنَايَةِ قَالَ بَعْدَمَا سَبَقَ مِنْ سُؤَالِهِ الثَّانِي وَجَوَابِهِ: فَإِنْ عُورِضَ بِأَنَّ الْبَائِعَ إذَا ادَّعَى النَّسَبَ فِي الَّذِي عِنْدَهُ كَانَ ذَلِكَ سَعْيًا فِي نَقْضِ مَا تَمَّ مِنْ جِهَتِهِ.

أُجِيبَ بِأَنَّهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ فَلَا مُعْتَبَرَ بِهِ انْتَهَى.

أَقُولُ: فَيُعَارَضُ بِأَنَّ الضَّرَرَ الزَّائِدَ الَّذِي يَلْزَمُ عَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِ الْعِتْقِ فِي الْآخَرِ غَيْرُ مَقْصُودٍ أَيْضًا فَلَا مُعْتَبَرَ بِهِ أَيْضًا فَلَا يَخْلُو الْجَوَابُ عَنْ مُعَارَضَةٍ مَا (ثُمَّ الثَّابِتُ مِنْ الْمُشْتَرِي حَقِيقَةً الْإِعْتَاقُ) يُرِيدُ بَيَانَ رُجْحَانِ مَا فِي جَانِبِ الْمُشْتَرِي بِأَنَّ الثَّابِتَ مِنْ الْمُشْتَرِي حَقِيقَةً الْإِعْتَاقُ (وَالثَّابِتُ فِي الْأُمِّ حَقُّ الْحُرِّيَّةِ، وَفِي الْوَلَدِ لِلْبَائِعِ حَقُّ الدَّعْوَةِ وَالْحَقُّ لَا يُعَارِضُ الْحَقِيقَةَ) لِأَنَّ الْحَقِيقَةَ أَقْوَى مِنْ الْحَقِّ. قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَنُوقِضَ بِالْمَالِكِ الْقَدِيمِ مَعَ الْمُشْتَرِي مِنْ الْعَدُوِّ، فَإِنَّ الْمَالِكَ الْقَدِيمَ يَأْخُذُهُ بِالْقِيمَةِ وَإِنْ كَانَ لَهُ حَقُّ الْمِلْكِ وَلِلْمُشْتَرِي حَقِيقَتُهُ. وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِتَرْجِيحٍ بَلْ هُوَ جَمْعٌ بَيْنَهُمَا، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الْفَرْضَ أَنَّ الْحَقِيقَةَ أَوْلَى فَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا تَسْوِيَةٌ بَيْنَ الرَّاجِحِ وَالْمَرْجُوحِ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ هَذِهِ الْحَقِيقَةَ فِيهَا شُبْهَةٌ لِأَنَّ مَبْنَاهَا عَلَى تَمَلُّكِ أَهْلِ الْحَرْبِ مَا اسْتَوْلَوْا عَلَيْهِ مِنْ أَمْوَالِنَا بِدَرَاهِمَ وَهُوَ مُجْتَهِدٌ فِيهِ فَانْحَطَّتْ عَنْ دَرَجَةِ الْحَقَائِقِ، فَقُلْنَا: يَأْخُذُهُ بِالْقِيمَةِ جَمْعًا بَيْنَهُمَا انْتَهَى.

أَقُولُ: النَّقْضُ مَعَ جَوَابِهِ مَا ذَكَرَهُ الشَّارِحُ وَتَاجُ الشَّرِيعَةِ وَلَهُمَا وَجْهٌ صَحِيحٌ. وَأَمَّا النَّظَرُ مَعَ جَوَابِهِ فَمِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ وَلَيْسَا بِصَحِيحَيْنِ، أَمَّا النَّظَرُ فَلِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ مُجَرَّدَ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا تَسْوِيَةٌ بَيْنَ الرَّاجِحِ وَالْمَرْجُوحِ، أَلَا يَرَى أَنَّا نَجْمَعُ بَيْنَ الْفَرَائِضِ وَالْوَاجِبَاتِ وَالْمُسْتَحَبَّاتِ فِي الْعَمَلِ مَعَ تَقَرُّرِ بَقَاءِ رُجْحَانِ الْبَعْضِ عَلَى الْبَعْضِ بِحَالِهِ. وَإِنَّمَا يَظْهَرُ أَثَرُ الرُّجْحَانِ عِنْدَ تَعَارُضِ الرَّاجِحِ وَالْمَرْجُوحِ بِأَنْ لَا يُمْكِنَ الْعَمَلُ بِهِمَا وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا كَمَا لَا يَخْفَى.

وَأَمَّا الْجَوَابُ فَلِأَنَّ الْمُجْتَهِدَ بِخِلَافِنَا فِي مَسْأَلَةِ تَمَلُّكِ أَهْلِ الْحَرْبِ مَا اسْتَوْلَوْا عَلَيْهِ مِنْ أَمْوَالِنَا بِدَرَاهِمَ هُوَ الشَّافِعِيُّ وَهُوَ مُتَأَخِّرُ الزَّمَانِ عَنْ اجْتِهَادِ أَئِمَّتِنَا فَكَيْفَ يُوقِعُ اجْتِهَادُهُ شُبْهَةً فِيمَا اجْتَهَدُوا فِيهِ حَتَّى تَنْحَطَّ بِهَا هَذِهِ الْحَقِيقَةُ مِنْ دَرَجَةِ الْحَقَائِقِ عِنْدَ

ص: 300

وَالتَّدْبِيرُ بِمَنْزِلَةِ الْإِعْتَاقِ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ وَقَدْ ثَبَتَ بِهِ بَعْضُ آثَارِ الْحُرِّيَّةِ. وَقَوْلُهُ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ يُرَدُّ عَلَيْهِ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ قَوْلُهُمَا وَعِنْدَهُ يُرَدُّ بِكُلِّ الثَّمَنِ هُوَ الصَّحِيحُ كَمَا ذَكَرْنَا فِي فَصْلِ الْمَوْتِ.

قَالَ: (وَمَنْ بَاعَ عَبْدًا وُلِدَ عِنْدَهُ وَبَاعَهُ الْمُشْتَرِي مِنْ آخَرَ ثُمَّ ادَّعَاهُ الْبَائِعُ الْأَوَّلُ فَهُوَ ابْنُهُ وَيَبْطُلُ الْبَيْعُ) لِأَنَّ الْبَيْعَ يَحْتَمِلُ النَّقْضَ، وَمَا لَهُ مِنْ حَقِّ

أَئِمَّتِنَا فَيَصِحُّ بِنَاءُ الْجَوَابِ عَلَيْهِ (وَالتَّدْبِيرُ بِمَنْزِلَةِ الْإِعْتَاقِ) أَيْ فِي الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ، وَكَذَا الِاسْتِيلَادُ بِمَنْزِلَتِهِ فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ صَاحِبَا النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجُ الدِّرَايَةِ فِي صَدْرِ مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ نَقْلًا عَنْ الْإِمَامِ التُّمُرْتَاشِيِّ (لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ وَقَدْ ثَبَتَ بِهِ بَعْضُ آثَارِ الْحُرِّيَّةِ) وَهُوَ عَدَمُ جَوَازِ النَّقْلِ مِنْ مِلْكٍ إلَى مِلْكٍ (وَقَوْلُهُ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ يُرَدُّ عَلَيْهِ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ قَوْلُهُمَا) يَعْنِي أَنَّ مَا ذُكِرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ مِنْ قَوْلِهِ: وَقَدْ أَعْتَقَ الْمُشْتَرِي الْأُمَّ فَهُوَ ابْنُهُ يُرَدُّ عَلَيْهِ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ (وَعِنْدَهُ) أَيْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ (يُرَدُّ بِكُلِّ الثَّمَنِ هُوَ الصَّحِيحُ كَمَا ذَكَرْنَا فِي فَصْلِ الْمَوْتِ) قَوْلُهُ هُوَ الصَّحِيحُ احْتِرَازٌ عَمَّا ذَكَرَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ فِي الْمَبْسُوطِ وَالْإِمَامُ قَاضِي خَانْ وَالْإِمَامُ الْمَحْبُوبِيُّ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّهُ يُرَدُّ بِمَا يَخُصُّ الْوَلَدَ مِنْ الثَّمَنِ لَا بِكُلِّ الثَّمَنِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْضًا. بِخِلَافِ فَصْلِ الْمَوْتِ.

وَذَكَرْنَا الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ فِي الْإِعْتَاقِ كَذَّبَ الْقَاضِي الْبَائِعَ فِيمَا زَعَمَ أَنَّهَا أُمُّ وَلَدِهِ حِينَ جَعَلَهَا مُعْتَقَةَ الْمُشْتَرِي أَوْ مُدَبَّرَتَهُ فَلَمْ يَبْقَ لِزَعْمِهِ عِبْرَةٌ. وَأَمَّا فِي فَصْلِ الْمَوْتِ فَبِمَوْتِهَا لَمْ يَجِدْ الْحُكْمَ بِخِلَافِ مَا زَعَمَ الْبَائِعُ فَبَقِيَ زَعْمُهُ مُعْتَبَرًا فِي حَقِّهِ فَرَدَّ جَمِيعَ الثَّمَنِ. ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الَّذِي اخْتَارَهُ الْمُصَنِّفُ وَصَحَّحَهُ هُوَ مَا ذَكَرَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ أُمَّ الْوَلَدِ لَا قِيمَةَ لَهَا، وَلَكِنْ قَالُوا: إنَّهُ مُخَالِفٌ لِرِوَايَةِ الْأُصُولِ، وَكَيْفَ يَسْتَرِدُّ كُلَّ الثَّمَنِ وَالْبَيْعُ لَمْ يَبْطُلْ فِي الْجَارِيَةِ وَلِهَذَا لَمْ يَبْطُلْ إعْتَاقُ الْمُشْتَرِي. فَإِنْ قِيلَ: يَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ لِلْوَلَدِ حِصَّةٌ مِنْ الثَّمَنِ لِحُدُوثِهِ بَعْدَ قَبْضِ الْمُشْتَرِي وَلَا حِصَّةَ لِلْوَلَدِ الْحَادِثِ بَعْدَ الْقَبْضِ. قُلْنَا: الْوَلَدُ إنَّمَا حَدَثَ بَعْدَ الْقَبْضِ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ، وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى فَهُوَ حَادِثٌ قَبْلَ الْقَبْضِ لِثُبُوتِ عُلُوقِهِ فِي مِلْكِ الْبَائِعِ وَلِهَذَا كَانَ لِلْبَائِعِ سَبِيلٌ مِنْ فَسْخِ هَذَا الْبَيْعِ بِالدَّعْوَةِ وَإِنْ قَبَضَهُ الْمُشْتَرِي، وَمَا هُوَ كَذَلِكَ فَلَهُ حِصَّةٌ مِنْ الثَّمَنِ إذَا اسْتَهْلَكَهُ الْبَائِعُ وَقَدْ اسْتَهْلَكَهُ هَاهُنَا بِالدَّعْوَةِ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ.

(قَالَ) أَيْ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: (وَمَنْ بَاعَ عَبْدًا وُلِدَ عِنْدَهُ) أَيْ كَانَ أَصْلُ الْعُلُوقِ فِي مِلْكِهِ (وَبَاعَهُ الْمُشْتَرِي) أَيْ ثُمَّ بَاعَهُ الْمُشْتَرِي (مِنْ آخَرَ ثُمَّ ادَّعَاهُ الْبَائِعُ الْأَوَّلُ فَهُوَ ابْنُهُ) أَيْ الْوَلَدُ ابْنُ الْبَائِعِ الْأَوَّلِ (وَيَبْطُلُ الْبَيْعُ) أَيْ يَبْطُلُ الْبَيْعُ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي (لِأَنَّ الْبَيْعَ يَحْتَمِلُ النَّقْضَ وَمَالَهُ) أَيْ وَمَا لِلْبَائِعِ (مِنْ حَقِّ

ص: 301

الدَّعْوَةِ لَا يَحْتَمِلُهُ فَيُنْقَضُ الْبَيْعُ لِأَجْلِهِ، وَكَذَا إذَا كَاتَبَ الْوَلَدَ أَوْ رَهَنَهُ أَوْ أَجَّرَهُ أَوْ كَاتَبَ الْأُمَّ أَوْ رَهَنَهَا أَوْ زَوَّجَهَا ثُمَّ كَانَتْ الدَّعْوَةُ لِأَنَّ هَذِهِ الْعَوَارِضَ تَحْتَمِلُ النَّقْضَ فَيُنْقَضُ ذَلِكَ كُلُّهُ وَتَصِحُّ الدَّعْوَةُ، بِخِلَافِ الْإِعْتَاقِ وَالتَّدْبِيرِ عَلَى مَا مَرَّ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا ادَّعَاهُ الْمُشْتَرِي أَوَّلًا ثُمَّ ادَّعَاهُ الْبَائِعُ حَيْثُ لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْ الْبَائِعِ لِأَنَّ النَّسَبَ الثَّابِتَ مِنْ الْمُشْتَرِي لَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ فَصَارَ كَإِعْتَاقِهِ.

الدَّعْوَةِ لَا يَحْتَمِلُهُ) أَيْ لَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ (فَيَنْتَقِضُ الْبَيْعُ لِأَجْلِهِ) أَيْ لِأَجْلِ مَا لِلْبَائِعِ مِنْ حَقِّ الدَّعْوَةِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَكَذَا) أَيْ وَكَحُكْمِ الْمَسْأَلَةِ السَّابِقَةِ الْحُكْمُ (إذَا كَاتَبَ الْوَلَدَ) أَيْ إذَا كَاتَبَ الْمُشْتَرِي الْوَلَدَ (أَوْ رَهَنَهُ أَوْ أَجَّرَهُ أَوْ كَاتَبَ الْأُمَّ) أَيْ كَاتَبَ الْمُشْتَرِي الْأُمَّ فِيمَا إذَا اشْتَرَاهَا مَعَ وَلَدِهَا (أَوْ رَهَنَهَا أَوْ زَوَّجَهَا ثُمَّ كَانَتْ الدَّعْوَةُ) أَيْ ثُمَّ وُجِدَتْ دَعْوَةُ الْبَائِعِ (لِأَنَّ هَذِهِ الْعَوَارِضَ تَحْتَمِلُ النَّقْضَ) كَالْبَيْعِ (فَيَنْتَقِضُ ذَلِكَ كُلُّهُ) أَيْ فَتَنْتَقِضُ تِلْكَ الْعَوَارِضُ كُلُّهَا ذَكَرَ اسْمَ الْإِشَارَةِ وَالضَّمِيرَ بِتَأْوِيلِ مَا ذَكَرَ (وَتَصِحُّ الدَّعْوَةُ) لِكَوْنِهَا مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ.

وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْمَسَائِلَ مِنْ مَسَائِلِ الْمَبْسُوطِ ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ تَفْرِيعًا عَلَى مَسْأَلَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ (بِخِلَافِ الْإِعْتَاقِ وَالتَّدْبِيرِ) فَإِنَّهُمَا لَا يَحْتَمِلَانِ النَّقْضَ (عَلَى مَا مَرَّ) آنِفًا (بِخِلَافِ مَا إذَا ادَّعَاهُ) أَيْ الْوَلَدَ (الْمُشْتَرِي أَوْ لَا ثُمَّ ادَّعَاهُ الْبَائِعُ حَيْثُ لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْ الْبَائِعِ لِأَنَّ النَّسَبَ الثَّابِتَ مِنْ الْمُشْتَرِي لَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ فَصَارَ كَإِعْتَاقِهِ) أَيْ كَإِعْتَاقِ الْمُشْتَرِي. قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الثَّابِتُ بِالْإِعْتَاقِ حَقِيقَةُ الْحُرِّيَّةِ وَبِالدَّعْوَةِ حَقُّهَا فَأَنَّى يَتَسَاوَيَانِ. وَأَمَّا الدَّعْوَةُ مِنْ الْمُشْتَرِي وَمِنْ الْبَائِعِ فَيَتَسَاوَيَانِ فِي أَنَّ الثَّابِتَ بِهِمَا حَقُّ الْحُرِّيَّةِ فَأَيْنَ الْمُرَجِّحُ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ التَّسَاوِيَ بَيْنَ الْعِتْقِ وَالدَّعْوَةِ فِي عَدَمِ احْتِمَالِ النَّقْضِ وَذَلِكَ ثَابِتٌ أَلْبَتَّةَ، وَتَرْجِيحُ دَعْوَةِ الْمُشْتَرِي عَلَى دَعْوَةِ الْبَائِعِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْوَلَدَ قَدْ اسْتَغْنَى بِالْأُولَى عَنْ ثُبُوتِ النَّسَبِ فِي وَقْتٍ لَا مُزَاحِمَ لَهُ فَلَا حَاجَةَ إلَى الثَّانِيَةِ انْتَهَى.

وَأَوْرَدَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ عَلَى قَوْلِهِ فِي السُّؤَالِ الثَّابِتِ بِالْإِعْتَاقِ حَقِيقَةَ الْحُرِّيَّةِ وَبِالدَّعْوَةِ حَقَّهَا بِأَنْ قَالَ: فِيهِ بَحْثٌ، فَإِنَّ الثَّابِتَ بِهَا فِي حَقِّ الْوَلَدِ حَقِيقَةُ الْحُرِّيَّةِ أَيْضًا بَلْ حُرِّيَّةُ الْأَصْلِ كَمَا سَيَجِيءُ انْتَهَى.

أَقُولُ: هَذَا مُنْدَفِعٌ لِأَنَّ حَقِيقَةَ حُرِّيَّةِ الْأَصْلِ إنَّمَا تَثْبُتُ بِالدَّعْوَةِ لِلْوَلَدِ، وَمُرَادُ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ أَنَّ الثَّابِتَ بِالدَّعْوَةِ لِلْبَائِعِ حَقُّهَا؛ لِأَنَّ مَدَارَ الْكَلَامِ فِي جِنْسِ مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ الْمَسَائِلِ، عَلَى أَنَّ التَّرْجِيحَ هَلْ هُوَ فِي جَانِبِ الْبَائِعِ أَوْ فِي جَانِبِ الْمُشْتَرِي، وَلَا شَكَّ أَنَّ الثَّابِتَ بِالدَّعْوَةِ لِلْبَائِعِ عَلَى كُلِّ حَالٍ إنَّمَا هُوَ الْحَقُّ وَهُوَ حَقُّ اسْتِلْحَاقِ النَّسَبِ فِي الْوَلَدِ وَحَقُّ الِاسْتِيلَادِ فِي الْأُمِّ عَلَى مَا مَرَّ فِي الْكِتَابِ وَتَقَرَّرَ، وَقَدْ عَبَّرَ عَنْهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ هَاهُنَا بِحَقِّ الْحُرِّيَّةِ لِتَأَدِّيهِ إلَى الْحُرِّيَّةِ، وَكَذَا الْحَالُ بِالنَّظَرِ إلَى دَعْوَةِ الْمُشْتَرِي فَانْتَظَمَ السُّؤَالُ

ص: 302

قَالَ (وَمَنْ ادَّعَى نَسَبَ أَحَدِ التَّوْأَمَيْنِ ثَبَتَ نَسَبُهُمَا مِنْهُ) لِأَنَّهُمَا مِنْ مَاءٍ وَاحِدٍ، فَمِنْ ضَرُورَةِ ثُبُوتِ نَسَبِ أَحَدِهِمَا ثُبُوتُ نَسَبِ الْآخَرِ، وَهَذَا لِأَنَّ التَّوْأَمَيْنِ وَلَدَانِ بَيْنَ وِلَادَتِهِمَا أَقَلُّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَلَا يُتَصَوَّرُ عُلُوقُ الثَّانِي حَادِثًا لِأَنَّهُ لَا حَبَلَ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ. وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: إذَا كَانَ فِي يَدِهِ غُلَامَانِ تَوْأَمَانِ وُلِدَا عِنْدَهُ فَبَاعَ أَحَدَهُمَا وَأَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي ثُمَّ ادَّعَى الْبَائِعُ الَّذِي فِي يَدِهِ فَهُمَا ابْنَاهُ وَبَطَلَ عِتْقُ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ نَسَبُ الْوَلَدِ الَّذِي عِنْدَهُ لِمُصَادَفَةِ الْعُلُوقِ وَالدَّعْوَةِ مِلْكَهُ إذْ الْمَسْأَلَةُ مَفْرُوضَةٌ فِيهِ ثَبَتَ بِهِ حُرِّيَّةُ الْأَصْلِ فِيهِ فَيَثْبُتُ نَسَبُ الْآخَرِ، وَحُرِّيَّةُ الْأَصْلِ فِيهِ ضَرُورَةٌ لِأَنَّهُمَا تَوْأَمَانِ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ عِتْقَ الْمُشْتَرِي وَشِرَاءَهُ لَاقَى حُرِّيَّةَ الْأَصْلِ فَبَطَلَ،

وَالْجَوَابُ وَإِنْ كَانَ فِي تَقْرِيرِهِ نَوْعُ ضِيقٍ وَاضْطِرَابٍ.

(قَالَ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ: (وَمَنْ ادَّعَى نَسَبَ أَحَدِ التَّوْأَمَيْنِ) التَّوْأَمُ اسْمٌ لِلْوَلَدِ إذَا كَانَ مَعَهُ آخَرُ فِي بَطْنٍ وَاحِدٍ، يُقَالُ هُمَا تَوْأَمَانِ كَمَا يُقَالُ هُمَا زَوْجَانِ، وَقَوْلُهُمْ هُمَا تَوْأَمٌ وَهُمَا زَوْجٌ خَطَأٌ، وَيُقَالُ لِلْأُنْثَى تَوْأَمَةٌ، وَكَذَا فِي الْمُغْرِبِ. وَلَكِنَّ الْإِمَامَ شَمْسَ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيَّ ذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ أَنَّ ذِكْرَ التَّوْأَمِ مَكَانَ التَّوْأَمَيْنِ صَحِيحٌ فِي اللُّغَةِ، حَتَّى لَوْ قَالَ: غُلَامَانِ تَوْأَمٌ، وَغُلَامَانِ تَوْأَمَانِ كِلَاهُمَا صَحِيحٌ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَغَيْرِهَا (ثَبَتَ نَسَبُهُمَا مِنْهُ) أَيْ ثَبَتَ نَسَبُ التَّوْأَمَيْنِ مَعًا مِمَّنْ ادَّعَى نَسَبَ أَحَدِهِمَا (لِأَنَّهُمَا مِنْ مَاءٍ وَاحِدٍ، فَمِنْ ضَرُورَةِ ثُبُوتِ نَسَبِ أَحَدِهِمَا ثُبُوتُ نَسَبِ الْآخَرِ)، وَهَذَا أَيْ كَوْنُهُمَا مِنْ مَاءٍ وَاحِدٍ (لِأَنَّ التَّوْأَمَيْنِ وَلَدَانِ بَيْنَ وِلَادَتِهِمَا أَقَلُّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَلَا يُتَصَوَّرُ عُلُوقُ الثَّانِي حَادِثًا) أَيْ بَعْدَ وِلَادَةِ الْأَوَّلِ (لِأَنَّهُ لَا حَبَلَ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ) لِأَنَّ أَقَلَّ مُدَّةِ الْحَمْلِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ، وَلَا يُتَصَوَّرُ عُلُوقُ الثَّانِي عَلَى عُلُوقِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهَا إذَا حَبِلَتْ يَنْسَدُّ فَمُ الرَّحِمِ، كَذَا فِي الْكَافِي وَغَيْرِهِ، وَكَأَنَّ الْمُصَنِّفَ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِدَفْعِ هَذَا الِاحْتِمَالِ لِكَوْنِهِ أَمْرًا مَعْلُومًا فِي غَيْرِ هَذَا الْفَنِّ (وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ: ذَكَرَ رِوَايَةَ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى صُورَةِ بَيْعِ أَحَدِهِمَا وَدَعْوَى النَّسَبِ فِي الْآخَرِ بَعْدَ إعْتَاقِ الْمُشْتَرِي انْتَهَى.

وَقَالَ فِي مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ: إنَّمَا أَعَادَ لَفْظَ الْجَامِعِ لِمَا فِيهِ مِنْ زِيَادَةٍ وَهِيَ قَوْلُهُ وُلِدَا عِنْدَهُ، وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى كَوْنِ الْعُلُوقِ فِي مِلْكِ الْمُدَّعِي انْتَهَى (إذَا كَانَ فِي يَدِهِ غُلَامَانِ تَوْأَمَانِ وُلِدَا عِنْدَهُ فَبَاعَ أَحَدَهُمَا وَأَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي ثُمَّ ادَّعَى الْبَائِعُ الَّذِي فِي يَدِهِ فَهُمَا ابْنَاهُ وَبَطَلَ عِتْقُ الْمُشْتَرِي) وَإِنْ كَانَتْ الرِّوَايَةُ بِكَسْرِ الرَّاءِ فَالْعِتْقُ بِمَعْنَى الْإِعْتَاقِ وَإِنْ كَانَتْ بِالْفَتْحِ فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّأْوِيلِ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي التَّعْلِيلِ (لِأَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ نَسَبُ الْوَلَدِ الَّذِي عِنْدَهُ لِمُصَادَفَةِ الْعُلُوقِ وَالدَّعْوَةِ مِلْكَهُ إذْ الْمَسْأَلَةُ مَفْرُوضَةٌ فِيهِ) أَيْ فِي أَنْ يُصَادِفَ الْعُلُوقُ وَالدَّعْوَةُ مِلْكَهُ، فَإِنَّ فِي قَوْلِهِ: وُلِدَا عِنْدَهُ إشَارَةٌ إلَى مُصَادَفَةِ الْعُلُوقِ مِلْكَهُ، وَفِي قَوْلِهِ: ثُمَّ ادَّعَى الْبَائِعُ الَّذِي فِي يَدِهِ تَصْرِيحٌ بِمُصَادَفَةِ الدَّعْوَى مِلْكَهُ (ثَبَتَ بِهِ حُرِّيَّةُ الْأَصْلِ) جَوَابٌ لَمَّا ثَبَتَ نَسَبُ الْوَلَدِ الَّذِي عِنْدَهُ: أَيْ ثَبَتَ حُرِّيَّةُ الْأَصْلِ فِي هَذَا الْوَلَدِ (فَيَثْبُتُ نَسَبُ الْآخَرِ) أَيْ فَيَثْبُتُ نَسَبُ الْوَلَدِ الْآخَرِ الَّذِي كَانَ بَاعَهُ وَأَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي (وَحُرِّيَّةُ الْأَصْلِ فِيهِ) أَيْ وَيَثْبُتُ حُرِّيَّةُ الْأَصْلِ فِي ذَلِكَ الْوَلَدِ أَيْضًا (ضَرُورَةً لِأَنَّهُمَا تَوْأَمَانِ) وَهُمَا مِنْ مَاءٍ وَاحِدٍ (فَتَبَيَّنَ أَنَّ عِتْقَ الْمُشْتَرِي وَشِرَاءَهُ لَاقَى حُرَّ الْأَصْلِ فَبَطَلَ) أَيْ فَبَطَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ عِتْقِهِ وَشِرَائِهِ.

قَالَ فِي الْكَافِي: وَكَانَ هَذَا نَقْضَ الْإِعْتَاقِ بِأَمْرٍ

ص: 303

بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْوَلَدُ وَاحِدًا لِأَنَّ هُنَاكَ يَبْطُلُ الْعِتْقُ فِيهِ مَقْصُودًا لِحَقِّ دَعْوَةِ الْبَائِعِ وَهُنَا ثَبَتَ تَبَعًا لِحُرِّيَّتِهِ فِيهِ حُرِّيَّةُ الْأَصْلِ فَافْتَرَقَا (وَلَوْ لَمْ يَكُنْ أَصْلُ الْعُلُوقِ فِي مِلْكِهِ ثَبَتَ نَسَبُ الْوَلَدِ الَّذِي

فَوْقَهُ وَهِيَ الْحُرِّيَّةُ الثَّابِتَةُ بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ انْتَهَى (بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْوَلَدُ الْوَاحِدُ) حَيْثُ لَا يَبْطُلُ فِيهِ إعْتَاقُ الْمُشْتَرِي بِدَعْوَى الْبَائِعِ نِسْبَةً كَمَا مَرَّ (لِأَنَّ هُنَاكَ) أَيْ فِي مَسْأَلَةِ الْوَلَدِ الْوَاحِدِ (يَبْطُلُ الْعِتْقُ فِيهِ) أَيْ فِي الْوَلَدِ (مَقْصُودًا) يَعْنِي لَوْ صَحَّتْ الدَّعْوَةُ مِنْ الْبَائِعِ هُنَاكَ لَبَطَلَ الْعِتْقُ فِي الْوَلَدِ مَقْصُودًا (لِحَقِّ دَعْوَةِ الْبَائِعِ) وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِمَا تَقَدَّمَ أَنَّ حَقَّ الدَّعْوَةِ لَا يُعَارِضُ حَقِيقَةَ الْإِعْتَاقِ (وَهَاهُنَا) أَيْ فِي مَسْأَلَةِ التَّوْأَمَيْنِ (يَثْبُتُ تَبَعًا لِحُرِّيَّتِهِ فِيهِ حُرِّيَّةِ الْأَصْلِ) أَيْ يَثْبُتُ بُطْلَانُ إعْتَاقِ الْمُشْتَرِي فِيمَا اشْتَرَاهُ تَبَعًا لِحُرِّيَّتِهِ حُرِّيَّةِ الْأَصْلِ لَا حُرِّيَّةِ التَّحْرِيرِ، فَالضَّمِيرُ فِي حُرِّيَّتِهِ رَاجِعٌ إلَى الْمُشْتَرَى بِالْفَتْحِ. وَقَوْلُهُ فِيهِ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: يَثْبُتُ، وَالضَّمِيرُ رَاجِعٌ إلَى الْمُشْتَرَى كَذَلِكَ.

وَقَوْلُهُ حُرِّيَّةُ الْأَصْلِ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ لِحُرِّيَّتِهِ، وَإِنَّمَا أَبْدَلَ بِهِ إشَارَةً إلَى سَبْقِهَا لِيَتَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّ الْبَيْعَ لَمْ يَكُنْ صَحِيحًا فَالْإِعْتَاقُ لَمْ يُصَادِفْ مَحَلَّهُ فَكَانَ خَلِيقًا بِالرَّدِّ وَالْإِبْطَالِ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ.

أَقُولُ: هَذَا شَرْحٌ صَحِيحٌ، إلَّا أَنَّهُ يَكُونُ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ حِينَئِذٍ تَعْقِيدٌ لَفْظِيٌّ بِالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ حَيْثُ كَانَ حَقُّ الْأَدَاءِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى أَنْ يُقَالَ: وَهَاهُنَا يَثْبُتُ فِيهِ تَبَعًا لِحُرِّيَّتِهِ حُرِّيَّةِ الْأَصْلِ كَمَا لَا يَخْفَى، وَكَأَنَّ مُتَقَدِّمِي الشُّرَّاحِ هَرَبُوا عَنْهُ حَيْثُ قَالَ صَاحِبَا النِّهَايَةِ وَالْكِفَايَةِ فِي بَيَانِ مَعْنَى كَلَامِ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا: أَيْ يَثْبُتُ بُطْلَانُ إعْتَاقِ الْمُشْتَرِي بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ لِحُرِّيَّةِ الْمُشْتَرَى الَّذِي كَانَتْ الْحُرِّيَّةُ فِيهِ حُرِّيَّةَ الْأَصْلِ انْتَهَى. وَقَالَ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ: يَعْنِي فِيمَا نَحْنُ فِيهِ يَثْبُتُ بُطْلَانُ إعْتَاقِ الْمُشْتَرِي لَا مَقْصُودًا بَلْ لِثُبُوتِ الْحُرِّيَّةِ الْأَصْلِيَّةِ الثَّابِتَةِ فِي الَّذِي بَاعَهُ اهـ.

فَإِنَّ الظَّاهِرَ مِمَّا بَيَّنُوا مِنْ الْمَعْنَى أَنْ لَا يَكُونَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ فِيهِ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ يَثْبُتُ بَلْ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِمُقَدَّرٍ وَهُوَ الْكَائِنَةُ أَوْ الثَّابِتَةُ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِحُرِّيَّتِهِ فَلَا يَلْزَمُ التَّعْقِيدُ أَقُولُ: لَعَلَّ الْمَحْذُورَ فِيهِ أَشَدُّ مِنْ الْأَوَّلِ، فَإِنَّ الْحُرِّيَّةَ بَعْدَ أَنْ تُضَافُ إلَى الضَّمِيرِ الرَّاجِعِ إلَى الْمُشْتَرَى لَا يَبْقَى احْتِمَالُ أَنْ لَا يَكُونَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ فِيهِ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ: تَثْبُتُ، وَإِلَّا فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ فِيهِ عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرُوهُ لَغْوًا مِنْ الْكَلَامِ وَإِنَّمَا يَتِمُّ ذَلِكَ الْمَعْنَى أَنْ لَوْ كَانَ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ وَهَاهُنَا يَثْبُتُ تَبَعًا لِلْحُرِّيَّةِ فِيهِ بِدُونِ الْإِضَافَةِ كَمَا لَا يَخْفَى (فَافْتَرَقَا) أَيْ فَافْتَرَقَ مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ مَسْأَلَةِ التَّوْأَمَيْنِ، وَمَا إذَا كَانَ الْوَلَدُ وَاحِدًا حَيْثُ لَزِمَ بُطْلَانُ الْعِتْقِ هُنَاكَ أَصَالَةً وَقَصْدًا، وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ ضِمْنًا وَتَبَعًا، وَكَمْ مِنْ شَيْءٍ يَثْبُتُ ضِمْنًا وَتَبَعًا وَلَا يَثْبُتُ أَصَالَةً وَقَصْدًا.

قَالَ فِي مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ: إلَى هَذَا أَشَارَ قَاضِي خَانْ والمرغيناني فِي فَوَائِدِهِ وَالسَّرَخْسِيُّ فِي جَامِعِهِ. وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ بَعْدَ شَرْحِ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ عَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ: أَوْ نَقُولُ فِي مَسْأَلَتِنَا لَا يَبْطُلُ عِتْقُ الْمُشْتَرِي الَّذِي يَثْبُتُ مِنْهُ بَلْ يَظْهَرُ بِدَعْوَةِ الْبَائِعِ لِمَا فِي يَدِهِ مِنْ أَحَدِ التَّوْأَمَيْنِ أَنَّ إعْتَاقَ الْمُشْتَرِي لَمْ يُلَاقِ مَحَلَّهُ لِأَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّهُ كَانَ حُرَّ الْأَصْلِ، وَتَحْرِيرُ الْحُرِّ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ فِيهِ إثْبَاتَ الثَّابِتِ، وَذَلِكَ لَا يَصِحُّ كَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ (فَلَوْ لَمْ يَكُنْ أَصْلُ الْعُلُوقِ فِي مِلْكِهِ) يَعْنِي أَنَّ الَّذِي ذُكِرَ مِنْ قَبْلُ إذَا كَانَ أَصْلُ الْعُلُوقِ فِي مِلْكِ الْمُدَّعِي وَلَوْ لَمْ يَكُنْ أَصْلُ الْعُلُوقِ فِي مِلْكِهِ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا (ثَبَتَ نَسَبُ الْوَلَدِ الَّذِي

ص: 304

عِنْدَهُ، وَلَا يُنْقَضُ الْبَيْعُ فِيمَا بَاعَ) لِأَنَّ هَذِهِ دَعْوَةُ تَحْرِيرٍ لِانْعِدَامِ شَاهِدِ الِاتِّصَالِ فَيَقْتَصِرُ عَلَى مَحَلِّ وِلَايَتِهِ.

قَالَ (وَإِذَا كَانَ الصَّبِيُّ فِي يَدِ رَجُلٍ فَقَالَ: هُوَ ابْنُ عَبْدِي

عِنْدَهُ) أَيْ ثَبَتَ نَسَبُ الْوَلَدِ الَّذِي عِنْدَ الْبَائِعِ بِمُصَادَفَةِ الدَّعْوَةِ مِلْكَهُ فَيَثْبُتُ النَّسَبُ لِلْوَلَدِ الْآخَرِ أَيْضًا ضَرُورَةً لِأَنَّ التَّوْأَمَيْنِ لَا يَنْفَكَّانِ نَسَبًا (وَلَا يُنْقَضُ الْبَيْعُ فِيمَا بَاعَ) وَلَا يَبْطُلُ عِتْقُ الْمُشْتَرِي فِيهِ (لِأَنَّ هَذِهِ) أَيْ لِأَنَّ دَعْوَةَ الْبَائِعِ هَاهُنَا (دَعْوَةُ تَحْرِيرٍ) لَا دَعْوَةُ اسْتِيلَادٍ (لِانْعِدَامِ شَاهِدِ الِاتِّصَالِ) أَيْ لِانْعِدَامِ شَاهِدِ اتِّصَالِ الْعُلُوقِ بِمِلْكِ الْمُدَّعِي حَيْثُ لَمْ يَكُنْ أَصْلُ الْعُلُوقِ فِي مِلْكِهِ، وَمِنْ شَرْطِ دَعْوَةِ الِاسْتِيلَادِ اتِّصَالُ الْعُلُوقِ بِمِلْكِ الْمُدَّعِي (فَيَقْتَصِرُ عَلَى مَحَلِّ وِلَايَتِهِ) أَيْ إذَا كَانَتْ هَذِهِ دَعْوَةَ تَحْرِيرٍ فَيَقْتَصِرُ عَلَى مَحَلِّ وِلَايَةِ الْمُدَّعِي وَصَارَ كَأَنَّ الْبَائِعَ أَعْتَقَهُمَا فَيُعْتَقُ مَنْ فِي مِلْكِهِ عَلَيْهِ فَحَسْبُ، وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ حُرِّيَّةِ أَحَدِ التَّوْأَمَيْنِ بِعِتْقٍ عَارِضٍ حُرِّيَّةُ الْآخَرِ فَلِهَذَا لَا يُعْتِقُ الَّذِي عِنْدَهُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ، وَكَذَا فِي الْكَافِي.

وَقَالَ كَثِيرٌ مِنْ الشُّرَّاحِ فِي شَرْحِ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ لِأَنَّ هَذِهِ دَعْوَةُ تَحْرِيرٍ إلَخْ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ أَصْلُ عُلُوقِهِمَا فِي مِلْكِ الْبَائِعِ كَانَتْ دَعْوَتُهُ دَعْوَةَ تَحْرِيرٍ فَكَانَ قَوْلُهُ: هَذَا ابْنِي مَجَازًا عَنْ قَوْلِهِ: هَذَا حُرٌّ، وَلَوْ قَالَ لِأَحَدِ التَّوْأَمَيْنِ: هَذَا حُرٌّ كَانَ تَحْرِيرًا مُقْتَصِرًا عَلَى مَحَلِّ وِلَايَتِهِ، فَكَذَا دَعْوَةُ التَّحْرِيرِ، أَقُولُ: يَرُدُّ عَلَى قَوْلِهِمْ فَكَانَ قَوْلُهُ: هَذَا ابْنِي مَجَازًا عَنْ قَوْلِهِ: هَذَا حُرٌّ أَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا ثَبَتَ نَسَبُ أَحَدٍ مِنْ الْوَالِدَيْنِ مِنْهُ لِأَنَّ الْمَصِيرَ إلَى الْمَجَازِ عِنْدَ تَعَذُّرِ إعْمَالِ الْحَقِيقَةِ، وَقَدْ صَرَّحُوا بِثُبُوتِ نَسَبِهِمَا مِنْهُ. وَتَفْصِيلُ الْمَقَامِ أَنَّهُ قَدْ مَرَّ فِي كِتَابِ الْعَتَاقِ أَنَّهُ إذَا قَالَ لِعَبْدٍ يُولَدُ مِثْلُهُ لِمِثْلِهِ: هَذَا ابْنِي، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْعَبْدِ نَسَبٌ مَعْرُوفٌ يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ لِأَنَّ وِلَايَةَ الدَّعْوَةِ بِالْمِلْكِ ثَابِتَةٌ وَالْعَبْدُ مُحْتَاجٌ إلَى النَّسَبِ فَيَثْبُتُ مِنْهُ. وَإِذَا ثَبَتَ عَتَقَ لِأَنَّهُ يَسْتَنِدُ النَّسَبُ إلَى وَقْتِ الْعُلُوقِ، فَإِنْ كَانَ لَهُ نَسَبٌ مَعْرُوفٌ لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ لِلتَّعَذُّرِ وَيَعْتِقُ إعْمَالًا لِلَّفْظِ فِي مَجَازِهِ عِنْدَ تَعَذُّرِ إعْمَالِهِ فِي حَقِيقَتِهِ، وَإِنْ قَالَ لِغُلَامٍ لَا يُولَدُ مِثْلُهُ لِمِثْلِهِ: هَذَا ابْنِي عَتَقَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: لَا يُعْتَقُ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. لَهُمْ أَنَّهُ كَلَامٌ مُحَالٌ فَيُرَدُّ وَيَلْغُو.

وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ مُحَالٌ بِحَقِيقَتِهِ لَكِنَّهُ صَحِيحٌ بِمَجَازِهِ لِأَنَّهُ إخْبَارٌ عَنْ حُرِّيَّتِهِ مِنْ حِينِ مَلَكَهُ وَهَذَا لِأَنَّ الْبُنُوَّةَ فِي الْمَمْلُوكِ سَبَبٌ لِحُرِّيَّتِهِ وَإِطْلَاقُ السَّبَبِ وَإِرَادَةُ الْمُسَبَّبِ مُسْتَجَازٌ فِي اللُّغَةِ تَجَوُّزًا، وَلِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ مُلَازِمَةٌ لِلْبُنُوَّةِ فِي الْمَمْلُوكِ وَالْمُشَابَهَةِ فِي وَصْفٍ مُلَازِمٍ مِنْ طُرُقِ الْمَجَازِ عَلَى مَا عُرِفَ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ تَحَرُّزًا عَنْ الْإِلْغَاءِ انْتَهَى.

فَقَدْ تَلَخَّصَ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ أَنَّ ثُبُوتَ النَّسَبِ فِيمَا إذَا قَالَ لِغُلَامٍ: هَذَا ابْنِي إنَّمَا يَكُونُ فِي صُورَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ الصُّوَرِ الثَّلَاثِ الْمَذْكُورَةِ وَهِيَ: أَنْ يَكُونَ الْغُلَامُ مِمَّنْ وُلِدَ مِثْلُهُ لِمِثْلِهِ وَلَا يَكُونُ مَعْرُوفَ النَّسَبِ وَلَكِنْ يَجْرِي اللَّفْظُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ عَلَى حَقِيقَتِهِ. وَأَمَّا فِي الصُّورَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ فَيَصِيرُ اللَّفْظُ مَحْمُولًا عَلَى مَجَازِهِ لَكِنْ لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ فِيهِمَا فَلَمْ تُوجَدْ صُورَةٌ فِيهَا النَّسَبُ وَيَكُونُ اللَّفْظُ مَجَازًا فَلَمْ يَصِحَّ مَا قَالَهُ هَؤُلَاءِ الشُّرَّاحُ.

(قَالَ) أَيْ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: (وَإِذَا كَانَ الصَّبِيُّ فِي يَدِ رَجُلٍ قَالَ) أَيْ ذَلِكَ الرَّجُلُ (هُوَ) أَيْ الصَّبِيُّ (ابْنُ عَبْدِي

ص: 305

فُلَانٍ الْغَائِبِ ثُمَّ قَالَ: هُوَ ابْنِي لَمْ يَكُنْ ابْنَهُ أَبَدًا وَإِنْ جَحَدَ الْعَبْدُ أَنْ يَكُونَ ابْنَهُ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ (وَقَالَا: إذَا جَحَدَ الْعَبْدُ فَهُوَ ابْنُ الْمَوْلَى) وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا قَالَ: هُوَ ابْنُ فُلَانٍ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ ثُمَّ ادَّعَاهُ لِنَفْسِهِ. لَهُمَا أَنَّ الْإِقْرَارَ ارْتَدَّ بِرَدِّ الْعَبْدِ فَصَارَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ الْإِقْرَارُ، وَالْإِقْرَارُ بِالنَّسَبِ يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ وَإِنْ كَانَ لَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ؛ أَلَا يَرَى أَنَّهُ يَعْمَلُ فِيهِ الْإِكْرَاهُ وَالْهَزْلُ

فُلَانٍ الْغَائِبِ ثُمَّ قَالَ: هُوَ ابْنِي لَمْ يَكُنْ ابْنَهُ) أَيْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الصَّبِيُّ ابْنَ ذَلِكَ الرَّجُلِ (أَبَدًا) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ: يَعْنِي سَوَاءٌ صَدَّقَهُ الْعَبْدُ الْغَائِبُ أَوْ كَذَّبَهُ أَوْ لَمْ يُعْرَفْ مِنْهُ تَصْدِيقٌ وَلَا تَكْذِيبٌ. وَقَالَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ: يَعْنِي وَإِنْ جَحَدَ الْعَبْدُ أَنْ يَكُونَ هُوَ ابْنَهُ. أَقُولُ: لَا يَخْفَى عَلَى الْفَطِنِ أَنَّهُ يَلْزَمُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى اسْتِدْرَاكُ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ (وَإِنْ جَحَدَ الْعَبْدُ أَنْ يَكُونَ ابْنَهُ) سِيَّمَا عَلَى مَا قَالَهُ تَاجُ الشَّرِيعَةِ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى التَّأْكِيدِ تَقْرِيرًا لِكَوْنِ الْمَعْنَى هَذَا لَكِنَّ فِيهِ مَا فِيهِ، وَقَدْ أَشَارَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ إلَى كَوْنِ الْمَعْنَى لَمْ يَكُنْ ابْنَهُ أَبَدًا: أَيْ فِي وَقْتٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ لَا حَالًا وَلَا مُسْتَقْبَلًا حَيْثُ قَالَ فِي تَقْرِيرِ الْمَسْأَلَتَيْنِ: وَإِذَا كَانَ الصَّبِيُّ فِي يَدِ رَجُلٍ أَقَرَّ أَنَّهُ ابْنُ عَبْدِهِ فُلَانٍ أَوْ ابْنُ فُلَانٍ الْغَائِبِ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ ثُمَّ ادَّعَاهُ لِنَفْسِهِ لَمْ تَصِحَّ دَعْوَتُهُ فِي وَقْتٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ لَا حَالًا وَلَا مُسْتَقْبَلًا انْتَهَى.

أَقُولُ: الْحَقُّ أَنَّ الْمُرَادَ هَاهُنَا هَذَا الْمَعْنَى لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا انْدِفَاعُ الِاسْتِدْرَاكِ الْمَذْكُورِ بِهِ وَهُوَ ظَاهِرٌ. وَثَانِيهَا أَنَّ الْأَبَدَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى يَكُونُ عَلَى أَصْلِ مَعْنَاهُ وَهُوَ عُمُومُ الْأَوْقَاتِ وَعَلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ يَصِيرُ مَصْرُوفًا عَنْهُ إلَى عُمُومِ الْأَحْوَالِ كَمَا تَرَى. وَثَالِثُهَا أَنَّهُ يَظْهَرُ حِينَئِذٍ فَائِدَةُ تَقْيِيدِ فُلَانٍ بِالْغَائِبِ فِي وَضْعِ مَسْأَلَتِنَا دُونَ الْمَعْنَى الْأَوَّلِ فَإِنَّ الْمُقَرَّ لَهُ الْحَاضِرَ وَالْغَائِبَ سِيَّانِ بِالنَّظَرِ إلَى الْأَحْوَالِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْمَعْنَى الْأَوَّلِ: أَعْنِي التَّصْدِيقَ وَالتَّكْذِيبَ وَالسُّكُوتَ عَنْهُمَا، إذْ يُتَصَوَّرُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْأَحْوَالِ فِي وَقْتٍ مَا فَلَا فَائِدَةَ فِي التَّقْيِيدِ بِالْغَائِبِ عَلَى إرَادَةِ عُمُومِ الْأَحْوَالِ.

وَأَمَّا بِالنَّظَرِ إلَى الْأَوْقَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذَا الْمَعْنَى: أَعْنِي الْحَالَ وَالْأَوْقَاتَ الْمُسْتَقْبَلَةَ فَهُمَا: أَيْ الْمُقَرُّ لَهُ الْحَاضِرُ وَالْغَائِبُ مُتَفَاوِتَانِ حَيْثُ لَا يُتَصَوَّرُ الْجُحُودُ مِنْ الْغَائِبِ فِي حَالٍ لِعَدَمِ عِلْمِهِ فِيهَا مَا أَقَرَّ بِهِ الْمُقِرُّ، وَيُتَصَوَّرُ ذَلِكَ مِنْهُ فِي الِاسْتِقْبَالِ بِأَنْ يَعْلَمَهُ بَعْدَ أَنْ يَحْضُرَ، بِخِلَافِ الْحَاضِرِ فَإِنَّهُ يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الْجُحُودُ فِي الْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ بِلَا فَرْقٍ بَيْنَهُمَا، فَاحْتَمَلَ فِي حَقِّ الْغَائِبِ اخْتِصَاصُ الْحُكْمِ بِعَدَمِ كَوْنِ الصَّبِيِّ ابْنَ الْمُقِرِّ بِوَقْتٍ لَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ الْجُحُودُ مِنْ الْمُقَرِّ لَهُ وَهُوَ الْحَالُ وَلَمْ يَحْتَمِلْ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْحَاضِرِ، فَلَوْ أَطْلَقَ فُلَانًا وَلَمْ يُقَيِّدْ بِالْغَائِبِ عَلَى إرَادَةِ عُمُومِ الْأَوْقَاتِ لَتَبَادَرَ إلَى الْفَهْمِ كَوْنُ الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ عِنْدَ كَوْنِ الْمُقَرِّ لَهُ حَاضِرًا فَقَطْ، وَلَمَّا قَيَّدْنَا بِالْغَائِبِ عُلِمَ ثُبُوتُ الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ عِنْدَ كَوْنِ الْمُقَرِّ لَهُ غَائِبًا عِبَارَةً، وَثُبُوتُهُ عِنْدَ كَوْنِهِ حَاضِرًا أَيْضًا دَلَالَةً؛ فَظَهَرَ فَائِدَةُ التَّقْيِيدِ بِالْغَائِبِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى.

ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ لِهَذَا الْحُكْمِ أَنْ يَكُونَ الصَّبِيُّ فِي يَدِهِ، وَذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ وَقَعَ اتِّفَاقًا نَصَّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ الزَّيْلَعِيُّ فِي التَّبْيِينِ (وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) أَيْ حُكْمُ الْمَسْأَلَةِ الْمَذْكُورَةِ عَلَى إطْلَاقِهِ إنَّمَا هُوَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله. وَفِي الْمَبْسُوطِ لَكِنْ يُعْتَقُ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ مِنْ الْمَوْلَى، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ (وَقَالَا: إذَا جَحَدَ الْعَبْدُ فَهُوَ) أَيْ الصَّبِيُّ (ابْنُ الْمَوْلَى) يَعْنِي ادَّعَى الْمَوْلَى لِنَفْسِهِ بَعْدَ جُحُودِ الْعَبْدِ نِسْبَةً كَذَا فِي النِّهَايَةِ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ: (وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا قَالَ) أَيْ إذَا قَالَ الَّذِي فِي يَدِهِ الصَّبِيُّ: (هُوَ ابْنُ فُلَانٍ وُلِدَ عَلَى فَرَاشِهِ ثُمَّ ادَّعَاهُ لِنَفْسِهِ) هَذِهِ مِنْ مَسَائِلِ الْمَبْسُوطِ ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ تَفْرِيعًا، كَذَا فِي غَايَةِ الْبَيَانِ (لَهُمَا أَنَّ الْإِقْرَارَ) أَيْ الْإِقْرَارَ بِالنَّسَبِ وَهُوَ قَوْلُهُ هُوَ ابْنُ عَبْدِي فُلَانٍ الْغَائِبِ (ارْتَدَّ بِرَدِّ الْعَبْدِ فَصَارَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ الْإِقْرَارُ) أَيْ فَصَارَ كَأَنَّهُ لَمْ يُقِرَّ لِأَحَدٍ وَادَّعَاهُ لِنَفْسِهِ (وَالْإِقْرَارُ بِالنَّسَبِ يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ وَإِنْ كَانَ لَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ) أَيْ وَإِنْ كَانَ النَّسَبُ لَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ (أَلَا يُرَى أَنَّهُ) أَيْ الْإِقْرَارَ بِالنَّسَبِ (يَعْمَلُ فِيهِ الْإِكْرَاهُ وَالْهَزْلُ) حَتَّى لَوْ أُكْرِهَ بِبُنُوَّةِ عَبْدٍ فَأَقَرَّ بِهَا لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ، وَكَذَا لَوْ

ص: 306

فَصَارَ كَمَا إذَا أَقَرَّ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ بِإِعْتَاقِ الْمُشْتَرَى فَكَذَّبَهُ الْبَائِعُ ثُمَّ قَالَ أَنَا أَعْتَقْتُهُ يَتَحَوَّلُ الْوَلَاءُ إلَيْهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا صَدَّقَهُ لِأَنَّهُ يَدَّعِي بَعْدَ ذَلِكَ نَسَبًا ثَابِتًا مِنْ الْغَيْرِ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يُصَدِّقْهُ وَلَمْ يُكَذِّبْهُ لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْمُقَرِّ لَهُ عَلَى اعْتِبَارِ تَصْدِيقِهِ فَيَصِيرُ كَوَلَدِ الْمُلَاعَنَةِ فَإِنَّهُ لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْ غَيْرِ الْمُلَاعِنِ؛ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يُكَذِّبَ نَفْسَهُ.

وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ النَّسَبَ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ بَعْدَ ثُبُوتِهِ وَالْإِقْرَارُ بِمِثْلِهِ لَا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ فَبَقِيَ فَتَمْتَنِعُ دَعْوَتُهُ، كَمَنْ شَهِدَ عَلَى رَجُلٍ بِنَسَبِ صَغِيرٍ فَرُدَّتْ شَهَادَتُهُ لِتُهْمَةٍ ثُمَّ ادَّعَاهُ لِنَفْسِهِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْمُقَرِّ لَهُ عَلَى اعْتِبَارِ تَصْدِيقِهِ، حَتَّى لَوْ صَدَّقَهُ بَعْدَ التَّكْذِيبِ يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ،

أَقَرَّ بِهَا هَازِلًا (فَصَارَ) أَيْ فَصَارَ حُكْمُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ (كَمَا إذَا أَقَرَّ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ بِإِعْتَاقِ الْمُشْتَرَى) بِفَتْحِ الرَّاءِ (فَكَذَّبَهُ الْبَائِعُ ثُمَّ قَالَ) أَيْ الْمُشْتَرِي: (أَنَا أَعْتَقْتُهُ يَتَحَوَّلُ الْوَلَاءُ إلَيْهِ) أَيْ فَإِنَّهُ يَتَحَوَّلُ الْوَلَاءُ إلَى الْمُشْتَرِي وَصَارَ كَأَنَّهُ لَمْ يُقِرَّ أَصْلًا (بِخِلَافِ مَا إذَا صَدَّقَهُ) أَيْ بِخِلَافِ مَا إذَا صَدَّقَ الْمُقَرُّ لَهُ الْمُقِرَّ فِي مَسْأَلَتِنَا حَيْثُ لَا يَصِحُّ فِيهِ دَعْوَةُ الْمَوْلَى بِالِاتِّفَاقِ (لِأَنَّهُ) أَيْ الْمُقِرَّ (يَدَّعِي بَعْدَ ذَلِكَ) أَيْ بَعْدَ تَصْدِيقِ الْمُقَرِّ لَهُ إيَّاهُ (نَسَبًا ثَابِتًا مِنْ الْغَيْرِ) وَهُوَ لَا يَصِحُّ (وَبِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يُصَدِّقْهُ وَلَمْ يُكَذِّبْهُ) بَلْ سَكَتَ عَنْ التَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ حَيْثُ لَا يَصِحُّ فِيهِ أَيْضًا دَعْوَةُ الْمَوْلَى بِالِاتِّفَاقِ (لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ) أَيْ بِالصَّبِيِّ (حَقُّ الْمُقَرِّ لَهُ عَلَى اعْتِبَارِ تَصْدِيقِهِ) أَيْ عَلَى اعْتِبَارِ احْتِمَالِ تَصْدِيقِهِ (فَيَصِيرُ كَوَلَدِ الْمُلَاعَنَةِ، فَإِنَّهُ لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْ غَيْرِ الْمُلَاعِنِ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يُكَذِّبَ نَفْسَهُ) يَعْنِي أَنَّ الِاحْتِمَالَ جَانَبَ التَّصْدِيقَ تَأْثِيرًا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ.

كَمَا أَنَّ الِاحْتِمَالَ جَانَبَ التَّكْذِيبَ تَأْثِيرًا فِي وَلَدِ الْمُلَاعَنَةِ (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ النَّسَبَ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ بَعْدَ ثُبُوتِهِ) وَهَذَا بِالِاتِّفَاقِ (وَالْإِقْرَارُ بِمِثْلِهِ) أَيْ بِمِثْلِ مَا لَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ بَعْدَ ثُبُوتِهِ (لَا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ) يَعْنِي وَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْإِقْرَارُ بِهِ لَا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ: أَيْ لَا يَبْطُلُ بِالتَّكْذِيبِ، كَمَنْ أَقَرَّ بِهِ بِحُرِّيَّةِ عَبْدِ إنْسَانٍ وَكَذَّبَهُ الْمَوْلَى لَا يَبْطُلُ إقْرَارُهُ، حَتَّى لَوْ اشْتَرَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ يُعْتَقُ عَلَيْهِ كَمَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ قَاضِي خَانْ وَذَكَرَ فِي الشُّرُوحِ (فَبَقِيَ) أَيْ فَبَقِيَ الْإِقْرَارُ فِي حَقِّ الْمُقِرِّ وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ فِي حَقِّ الْمُقَرِّ لَهُ، كَذَا فِي الْكِفَايَةِ وَشَرْحِ تَاجِ الشَّرِيعَةِ (فَتَمْتَنِعُ دَعْوَتُهُ) أَيْ فَتَمْتَنِعُ دَعْوَةُ الْمُقِرِّ بَعْدَ الرَّدِّ أَيْضًا (كَمَنْ شَهِدَ عَلَى رَجُلٍ بِنَسَبِ صَغِيرٍ فَرُدَّتْ شَهَادَتُهُ لِتُهْمَةٍ) كَالْعِتْقِ وَالْقَرَابَةِ (ثُمَّ ادَّعَاهُ) أَيْ ثُمَّ ادَّعَاهُ الشَّاهِدُ (لِنَفْسِهِ) حَيْثُ لَا تَصِحُّ دَعْوَتُهُ.

وَاعْلَمْ أَنَّ الْإِمَامَ فَخْرَ الْإِسْلَامِ ذَكَرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ عَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ حَيْثُ قَالَ: وَكَذَلِكَ مَنْ شَهِدَ عَلَى رَجُلٍ بِنَسَبِ صَغِيرٍ فَرُدَّتْ شَهَادَتُهُ بِعُذْرٍ ثُمَّ ادَّعَاهُ الشَّاهِدُ لَمْ تَصِحَّ انْتَهَى.

فَاقْتَفَى الْمُصَنِّفُ أَثَرَهُ فَأَوْرَدَهَا هَاهُنَا كَذَلِكَ. وَأَمَّا شَيْخُ الْإِسْلَامِ عَلَاءُ الدِّينِ الْإِسْبِيجَابِيُّ فَقَدْ ذَكَرَ أَنَّهَا أَيْضًا عَلَى هَذَا الْخِلَافِ حَيْثُ قَالَ فِي شَرْحِ الْكَافِي لِلْحَاكِمِ الشَّهِيدِ: وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا شَهِدَ أَنَّهُ ابْنُ فُلَانٍ فَلَمْ تُقْبَلْ هَذِهِ الشَّهَادَةُ ثُمَّ ادَّعَاهُ لِنَفْسِهِ لَا تُقْبَلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا انْتَهَى (وَهَذَا) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ وَالْإِقْرَارُ بِمِثْلِهِ لَا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ (لِأَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِهِ) أَيْ بِالنَّسَبِ (حَقُّ الْمُقَرِّ لَهُ عَلَى اعْتِبَارِ تَصْدِيقِهِ، حَتَّى لَوْ صَدَّقَهُ بَعْدَ التَّكْذِيبِ يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ) أَيْ مِنْ الْمُقَرِّ لَهُ،

ص: 307

وَكَذَا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْوَلَدِ فَلَا يَرْتَدُّ بِرَدِّ الْمُقَرِّ لَهُ. وَمَسْأَلَةُ الْوَلَاءِ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ، وَلَوْ سَلِمَ فَالْوَلَاءُ قَدْ يَبْطُلُ بِاعْتِرَاضِ الْأَقْوَى كَجَرِّ الْوَلَاءِ مِنْ جَانِبِ الْأُمِّ إلَى قَوْمِ الْأَبِ.

وَقَدْ اعْتَرَضَ عَلَى الْوَلَاءِ الْمَوْقُوفِ مَا هُوَ أَقْوَى وَهُوَ دَعْوَى الْمُشْتَرِي فَيَبْطُلُ بِهِ، بِخِلَافِ النَّسَبِ عَلَى مَا مَرَّ.

وَلَمَّا جَازَ أَنْ يَثْبُتَ النَّسَبُ مِنْهُ بَعْدَ التَّكْذِيبِ بَقِيَ لَهُ حَقُّ الدَّعْوَةِ وَمَعَ بَقَاءِ حَقِّهِ لَا تَصِحُّ دَعْوَةُ الْمُقِرِّ كَمَا إذَا لَمْ يُصَدِّقْهُ وَلَمْ يُكَذِّبْهُ، (وَكَذَا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْوَلَدِ) مِنْ جِهَةِ احْتِيَاجِهِ إلَى النَّسَبِ (فَلَا يَرْتَدُّ بِرَدِّ الْمُقَرِّ لَهُ) لِتَعَلُّقِ حَقِّهِ وَحَقِّ الْوَلَدِ.

هَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُشْرَحَ هَذَا الْمَقَامُ، وَلَا يُلْتَفَتُ إلَى مَا فِي الْعِنَايَةِ وَغَيْرِهَا مَا لَا يُسَاعِدُهُ تَقْرِيرُ الْمُصَنِّفِ وَلَا يُطَابِقُهُ تَحْرِيرُهُ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى ذِي فِطْرَةٍ سَلِيمَةٍ (وَمَسْأَلَةُ الْوَلَاءِ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ) إشَارَةٌ إلَى الْجَوَابِ عَنْ اسْتِشْهَادِهِمَا بِمَسْأَلَةِ الْوَلَاءِ بِأَنَّهَا أَيْضًا عَلَى هَذَا الْخِلَافِ فَلَا تَنْتَهِضُ شَاهِدَةً لِمَا قَالَاهُ وَحُجَّةً عَلَى مَا قَالَهُ (وَلَوْ سَلِمَ) أَيْ وَلَوْ سَلِمَ كَوْنُ مَسْأَلَةِ الْوَلَاءِ عَلَى الِاتِّفَاقِ (فَالْوَلَاءُ قَدْ يَبْطُلُ بِاعْتِرَاضِ الْأَقْوَى كَجَرِّ الْوَلَاءِ مِنْ جَانِبِ الْأُمِّ إلَى قَوْمِ الْأَبِ).

صُورَتُهُ: مُعْتَقَةٌ تَزَوَّجَتْ بِعَبْدٍ وَوَلَدَتْ مِنْهُ أَوْلَادًا فَجَنَى الْأَوْلَادُ كَانَ عَقْلُ جِنَايَتِهِمْ عَلَى مَوَالِي الْأُمِّ لِأَنَّ الْأَبَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْوَلَاءِ فَكَانَ الْوَلَدُ مُلْحَقًا بِقَوْمِ الْأُمِّ، فَإِنْ أُعْتِقَ الْعَبْدُ جَرَّ وَلَاءَ الْأَوْلَادِ إلَى نَفْسِهِ، كَذَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه، ذَكَرَهُ قَاضِي خَانْ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ (وَقَدْ اعْتَرَضَ عَلَى الْوَلَاءِ الْمَوْقُوفِ) وَهُوَ الْوَلَاءُ مِنْ جَانِبِ الْبَائِعِ، وَإِنَّمَا سَمَّاهُ مَوْقُوفًا لِأَنَّهُ عَلَى عَرْضِيَّةِ التَّصْدِيقِ بَعْدَ التَّكْذِيبِ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَغَيْرِهَا (مَا هُوَ أَقْوَى وَهُوَ دَعْوَى الْمُشْتَرِي) لِأَنَّ الْمِلْكَ لَهُ قَائِمٌ فِي الْحَالِ فَكَانَ دَعْوَى الْوَلَاءِ مُصَادِفًا لِمَحَلِّهِ لِوُجُودِ شَرْطِهِ وَهُوَ قِيَامُ الْمِلْكِ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ وَأَكْثَرِ الشُّرَّاحِ. وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: فِيهِ بَحْثٌ؛ لِأَنَّهُ كَيْفَ يَقُومُ الْمِلْكُ وَهُوَ مُقِرٌّ بِأَنَّهُ مُعْتِقٌ. قَالَ فِي الْكَافِي: إنَّ الْمُشْتَرَى إذَا أَقَرَّ أَنَّ الْبَائِعَ كَانَ أَعْتَقَ مَا بَاعَهُ وَكَذَّبَهُ الْبَائِعُ فَإِنَّهُ لَا يَبْطُلُ ذَلِكَ وَلَكِنَّهُ يُعْتَقُ عَنْ الْمُقِرِّ انْتَهَى.

وَلَا يَخْفَى دَلَالَتُهُ عَلَى مَا قُلْنَاهُ إلَى هُنَا كَلَامُ ذَلِكَ الْبَعْضِ. أَقُولُ: بَحْثُهُ ظَاهِرُ السُّقُوطِ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ إنَّمَا أَقَرَّ أَوَّلًا بِأَنَّ مَا اشْتَرَاهُ مُعْتَقُ الْبَائِعِ لَا بِأَنَّهُ مُعْتَقُ نَفْسِهِ وَقَدْ كَذَّبَهُ الْبَائِعُ، وَهَذَا لَا يُنَافِي قِيَامَ الْمِلْكِ لَهُ فِي الْحَالِ: أَيْ فِي حَالِ الْإِعْتَاقِ لِنَفْسِهِ ثَانِيًا، وَإِنَّمَا لَا يَقُومُ الْمِلْكُ لَهُ فِي الْحَالِ لَوْ كَانَ أَقَرَّ ابْتِدَاءً بِأَنَّهُ مُعْتَقُ نَفْسِهِ، أَوْ كَانَ أَقَرَّ بِأَنَّهُ مُعْتَقُ الْبَائِعِ وَصَدَّقَهُ الْبَائِعُ وَلَيْسَ فَلَيْسَ.

وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ فِي الْكَافِي فَعَلَى تَقْدِيرِ تَمَامِهِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَبْنِيًّا عَلَى كَوْنِ مَسْأَلَةِ الْوَلَاءِ أَيْضًا عَلَى هَذَا الْخِلَافِ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ أَوَّلًا حَيْثُ قَالَ: وَمَسْأَلَةُ الْوَلَاءِ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَبْنِيَّ الْكَلَامِ هَاهُنَا عَلَى تَسْلِيمِ كَوْنِ بُطْلَانِ الْإِقْرَارِ وَتَحَوُّلِ الْوَلَاءِ فِي مَسْأَلَةِ الْوَلَاءِ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ كَمَا يُفْصِحُ عَنْهُ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ وَلَوْ سَلِمَ إلَخْ، وَحِينَئِذٍ لَا شَكَّ فِي قِيَامِ الْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي إلَى حَالِ دَعْوَى الْإِعْتَاقِ لِنَفْسِهِ فَلَا وَجْهَ لِاشْتِبَاهِ الْمَقَامِ وَخَلْطِ الْكَلَامِ (فَبَطَلَ بِهِ) أَيْ بَطَلَ الْوَلَاءُ الْمَوْقُوفُ بِاعْتِرَاضِ مَا هُوَ الْأَقْوَى الَّذِي هُوَ دَعْوَى الْمُشْتَرِي (بِخِلَافِ النَّسَبِ) يَعْنِي أَنَّهُ لَا يَبْطُلُ بِاعْتِرَاضِ شَيْءٍ أَصْلًا (عَلَى مَا مَرَّ) وَهَذَا إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ: إنَّ النَّسَبَ بِمَا لَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ بَعْدَ ثُبُوتِهِ، وَعَلَيْهِ أَخَذَ أَكْثَرُ الشُّرَّاحِ. قَالَ فِي الْكَافِي: بِخِلَافِ النَّسَبِ كَمَا مَرَّ فِي وَلَدِ الْمُلَاعَنَةِ فَإِنَّهُ لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْ غَيْرِ الْمُلَاعِنِ لِاحْتِمَالِ ثُبُوتِهِ مِنْ الْمُلَاعِنِ انْتَهَى.

ص: 308

وَهَذَا يَصْلُحُ مَخْرَجًا عَلَى أَصْلِهِ فِيمَنْ يَبِيعُ الْوَلَدَ وَيَخَافُ عَلَيْهِ الدَّعْوَةَ بَعْدَ ذَلِكَ فَيَقْطَعُ دَعْوَاهُ إقْرَارُهُ بِالنَّسَبِ لِغَيْرِهِ.

قَالَ: (وَإِذَا كَانَ الصَّبِيُّ فِي يَدِ مُسْلِمٍ وَنَصْرَانِيٍّ فَقَالَ النَّصْرَانِيُّ: هُوَ ابْنِي وَقَالَ الْمُسْلِمُ هُوَ عَبْدِي فَهُوَ ابْنُ النَّصْرَانِيِّ وَهُوَ حُرٌّ) لِأَنَّ الْإِسْلَامَ مُرَجِّحٌ فَيَسْتَدْعِي تَعَارُضًا، وَلَا تَعَارُضَ لِأَنَّ نَظَرَ الصَّبِيِّ فِي هَذَا أَوْفَرُ لِأَنَّهُ يَنَالُ شَرَفَ الْحُرِّيَّةِ حَالًا وَشَرَفَ الْإِسْلَامِ مَآلًا، إذْ دَلَائِلُ الْوَحْدَانِيَّةِ ظَاهِرَةٌ، وَفِي عَكْسِهِ الْحُكْمُ بِالْإِسْلَامِ تَبَعًا وَحِرْمَانُهُ عَنْ الْحُرِّيَّةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي وُسْعِهِ اكْتِسَابُهَا

وَحَمَلَ عَلَيْهِ صَاحِبُ الْكِفَايَةِ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ أَيْضًا. وَالْحَاصِلُ أَنَّ النَّسَبَ أَلْزَمُ مِنْ الْوَلَاءِ، فَإِنَّ الْوَلَاءَ يَقْبَلُ الْبُطْلَانَ فِي الْجُمْلَةِ وَالنَّسَبَ لَا يَقْبَلُهُ أَصْلًا فَلَا يَصِحُّ قِيَاسُ النَّسَبِ عَلَى الْوَلَاءِ (وَهَذَا) أَيْ إقْرَارُ الْبَائِعِ بِنَسَبِ مَا بَاعَهُ لِغَيْرِهِ (يَصْلُحُ مَخْرَجًا) أَيْ حِيلَةً (عَلَى أَصْلِهِ) أَيْ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ (فِيمَنْ يَبِيعُ الْوَلَدَ وَيَخَافُ عَلَيْهِ) أَيْ يَخَافُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْوَلَدِ (الدَّعْوَةَ بَعْدَ ذَلِكَ) مِنْ الْبَائِعِ (فَيَقْطَعُ دَعْوَاهُ) أَيْ فَإِنَّهُ يَقْطَعُ دَعْوَى الْبَائِعِ (بِإِقْرَارِهِ بِالنَّسَبِ لِغَيْرِهِ) قَالَ الْإِمَامُ الْمَحْبُوبِيُّ: صُورَتُهُ رَجُلٌ فِي يَدِهِ صَبِيٌّ وُلِدَ فِي مِلْكِهِ وَهُوَ يَبِيعُهُ وَلَا يَأْمَنُ الْمُشْتَرِي أَنْ يَدَّعِيَهُ الْبَائِعُ يَوْمًا فَيَنْتَقِضُ الْبَيْعُ فَيُقِرُّ الْبَائِعُ بِكَوْنِ الصَّبِيِّ ابْنَ عَبْدِهِ الْغَائِبِ حَتَّى يَأْمَنَ الْمُشْتَرِي مِنْ انْتِقَاضِ الْبَيْعِ بِالدَّعْوَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَإِنَّ هَذَا يَكُونُ حِيلَةً عِنْدَهُ.

وَفِي الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ: الْحِيلَةُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى قَوْلِ الْكُلِّ أَنْ يُقِرَّ الْبَائِعُ أَنَّ هَذَا ابْنُ عَبْدِهِ الْمَيِّتِ حَتَّى لَا يَتَأَتَّى فِيهِ تَكْذِيبٌ فَيَكُونُ مُخْرَجًا عَنْ قَوْلِ الْكُلِّ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ.

(قَالَ) أَيْ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: (وَإِذَا كَانَ الصَّبِيُّ فِي يَدِ مُسْلِمٍ وَنَصْرَانِيٍّ فَقَالَ النَّصْرَانِيُّ: هُوَ ابْنِي وَقَالَ الْمُسْلِمُ: هُوَ عَبْدِي فَهُوَ ابْنُ النَّصْرَانِيِّ وَهُوَ حُرٌّ) وَفِي الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ وَغَيْرِهَا: هُوَ ابْنُ النَّصْرَانِيِّ إذَا كَانَتْ الدَّعْوَتَانِ مَعًا، فَكَانَ قَوْلُهُ مَعًا إشَارَةً إلَى أَنَّ دَعْوَى الْمُسْلِمِ لَوْ سَبَقَتْ عَلَى دَعْوَى النَّصْرَانِيِّ يَكُونُ عَبْدًا لِلْمُسْلِمِ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ: قَالَ الْمُصَنِّفُ: (لِأَنَّ الْإِسْلَامَ مُرَجِّحٌ) بِكَسْرِ الْجِيمِ (فَيَسْتَدْعِي تَعَارُضًا) يَعْنِي أَنَّ الْإِسْلَامَ مُرَجِّحٌ أَيْنَمَا كَانَ وَالتَّرْجِيحُ يَسْتَدْعِي تَعَارُضًا (وَلَا تَعَارُضَ) أَيْ لَا تَعَارُضَ هَاهُنَا لِأَنَّ التَّعَارُضَ إنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ وُجُودِ الْمُسَاوَاةِ وَلَا مُسَاوَاةَ هَاهُنَا (لِأَنَّ نَظَرَ الصَّبِيِّ فِي هَذَا أَوْفَرُ) يَعْنِي أَنَّ النَّظَرَ لِلصَّبِيِّ وَاجِبٌ وَنَظَرَهُ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ أَوْفَرُ (لِأَنَّهُ يَنَالُ شَرَفَ الْحُرِّيَّةِ حَالًا وَشَرَفَ الْإِسْلَامِ مَآلًا إذْ دَلَائِلُ الْوَحْدَانِيَّةِ ظَاهِرَةٌ، وَفِي عَكْسِهِ) أَيْ وَفِي عَكْسِ مَا ذَكَرْنَاهُ (الْحُكْمُ بِالْإِسْلَامِ تَبَعًا) أَيْ يَنَالُ الْحُكْمَ بِالْإِسْلَامِ تَبَعًا (وَحِرْمَانُهُ عَنْ الْحُرِّيَّةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي وُسْعِهِ اكْتِسَابُهَا) أَيْ لَيْسَ فِي وُسْعِ الصَّبِيِّ اكْتِسَابُ الْحُرِّيَّةِ فَانْتَفَى الْمُسَاوَاةُ، كَذَا رَأَى أَكْثَرُ الشُّرَّاحِ فِي حَلِّ هَذَا الْمَقَامِ، وَهُوَ الْحَقِيقُ عِنْدِي أَيْضًا بِأَنَّ

ص: 309

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

يُرَادُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ.

قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ شَرْحِ الْمَقَامِ بِهَذَا الْمِنْوَالِ: وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَذَا مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ} وَدَلَائِلُ التَّوْحِيدِ وَإِنْ كَانَتْ ظَاهِرَةً لَكِنَّ الْإِلْفَ بِالدِّينِ مَانِعٌ قَوِيٌّ؛ أَلَا يَرَى إلَى كُفْرِ آبَائِهِ مَعَ ظُهُورِ دَلَائِلِ التَّوْحِيدِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْحَضَانَةِ أَنَّ الذِّمِّيَّةَ أَحَقُّ بِوَلَدِهَا الْمُسْلِمِ مَا لَمْ يَعْقِلْ الْأَدْيَانَ أَوْ يُخَافُ أَنْ يَأْلَفَ الْكُفْرَ لِلنَّظَرِ قَبْلَ ذَلِكَ وَاحْتِمَالُ الضَّرَرِ بَعْدَهُ انْتَهَى.

وَأَوْرَدَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ عَلَى قَوْلِهِ: وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَذَا مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ} بِأَنْ قَالَ فِيهِ بَحْثٌ. لِأَنَّا نَقُولُ: إنَّ الْإِيمَانَ لَيْسَ خَيْرًا مِنْ الْإِشْرَاكِ حَتَّى يُخَالَفَ، بَلْ نَقُولُ: كَمَا أَنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ كَذَلِكَ شَرَفُ الْحُرِّيَّةِ خَيْرٌ مِنْ ذُلِّ الرِّقِّيَّةِ، وَكَسْبُ الْإِسْلَامِ فِي وُسْعِهِ دُونَ كَسْبِ الْحُرِّيَّةِ، فَالنَّظَرُ لِلصَّبِيِّ يَقْتَضِي الْحُكْمَ بِحُرِّيَّتِهِ انْتَهَى. أَقُولُ: لَيْسَ مُرَادُ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ أَنَّ هَذَا مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ بِمُجَرَّدِ دَلَالَةِ الْكِتَابِ عَلَى أَنَّ صِفَةَ الْإِيمَانِ خَيْرٌ مِنْ صِفَةِ الْإِشْرَاكِ حَتَّى يُفِيدَ مَا ذَكَرَهُ ذَلِكَ الْبَعْضُ، بَلْ مُرَادُهُ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ لِدَلَالَتِهِ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ وَإِنْ كَانَ رَقِيقًا خَيْرٌ مِنْ الْمُشْرِكِ وَإِنْ كَانَ حُرًّا.

أَمَّا عَلَى كَوْنِ الْأَمَةِ وَالْعَبْدِ فِي قَوْله تَعَالَى {وَلأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ} وقَوْله تَعَالَى {وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ} مَحْمُولَيْنِ عَلَى ظَاهِرِهِمَا: أَعْنِي الرَّقِيقَ وَالرَّقِيقَةَ كَمَا يُشْعِرُ بِهِ قَوْلُ بَعْضِ كِبَارِ الْمُفَسِّرِينَ فِي تَفْسِيرِ ذَلِكَ الْمَقَامِ مِنْ النَّظْمِ الشَّرِيفِ: يَعْنِي أَنَّ الْمُؤْمِنَ وَلَوْ كَانَ مَعَهُ خَسَاسَةُ الرِّقِّ خَيْرٌ مِنْ الْكَافِرِ وَلَوْ كَانَ مَعَهُ شَرَفُ الْحُرِّيَّةِ، فَإِنَّ شَرَفَهَا لَا يُجْدِي نَفْعًا مَعَ الْكُفْرِ، وَدَنَاءَةُ الرِّقِّ لَا تَضُرُّ مَعَ شَرَفِ الْإِيمَانِ انْتَهَى، فَالْأَمْرُ ظَاهِرٌ.

وَأَمَّا عَلَى كَوْنِ الْأَمَةِ وَالْعَبْدِ فِيهِمَا بِمَعْنَى عَبْدِ اللَّهِ وَأَمَتِهِ عَامَّيْنِ لِلْحُرِّ وَالْحُرَّةِ أَيْضًا كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ صَاحِبُ الْكَشَّافِ وَأَضْرَا بِهِ حَيْثُ قَالُوا فِي تَفْسِيرِ الْآيَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ: أَيْ وَلَا امْرَأَةٌ مُؤْمِنَةٌ حُرَّةً كَانَتْ أَوْ مَمْلُوكَةً، وَكَذَلِكَ وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ لِأَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ عَبِيدُ اللَّهِ وَإِمَاؤُهُ انْتَهَى، فَلِأَنَّ الرَّقِيقَ الْمُؤْمِنَ يَنْدَرِجُ حِينَئِذٍ فِي عَبْدٍ مُؤْمِنٍ قَطْعًا فَيَكُونُ خَيْرًا مِنْ مُشْرِكٍ وَإِنْ كَانَ حُرًّا، وَدَلَالَةُ ظَاهِرِ الدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ فِي مَسْأَلَتِنَا عَلَى أَنَّ الْكَافِرَ النَّائِلَ شَرَفَ الْحُرِّيَّةِ مَعَ كَوْنِ كَسْبِ الْإِيمَانِ فِي وُسْعِهِ خَيْرٌ مِنْ الرَّقِيقِ الْمَحْكُومِ بِإِسْلَامِهِ تَبَعًا مَعَ حِرْمَانِهِ عَنْ الْحُرِّيَّةِ فَتُفْهَمُ الْمُخَالَفَةُ لِلْكِتَابِ، وَهَذَا تَوْجِيهُ كَلَامِ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ عَلَى وَفْقِ مَرَامِهِ فَلَا يُتَوَجَّهُ عَلَيْهِ الْبَحْثُ الْمَذْكُورُ. ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ قَوْله تَعَالَى {ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ} يُوجِبُ دَعْوَةَ الْأَوْلَادِ لِآبَائِهِمْ، وَمُدَّعِي النَّسَبِ أَبٌ لِأَنَّ دَعْوَتَهُ لَا تَحْتَمِلُ النَّقْضَ فَتَعَارَضَتْ الْآيَتَانِ.

وَفِي الْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى الْمَرْحَمَةِ بِالصِّبْيَانِ نَظَرًا لَهَا كَثْرَةٌ فَكَانَتْ أَقْوَى مِنْ الْمَانِعِ، وَكُفْرُ الْآبَاءِ جُحُودٌ وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ؛ أَلَا يَرَى إلَى انْتِشَارِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ الْكُفْرِ فِي الْآفَاقِ، وَبِتَرْكِ الْحَضَانَةِ لَا يَلْزَمُ رِقٌّ فَيُقْلَعُ مِنْهَا، بِخِلَافِ تَرْكِ النَّسَبِ هَاهُنَا فَإِنَّ الْمَصِيرَ بَعْدَهُ إلَى الرِّقِّ وَهُوَ ضَرَرٌ عَظِيمٌ لَا مَحَالَةَ انْتَهَى. أَقُولُ: فِيهِ بَحْثٌ لِأَنَّ كَوْنَ مُدَّعِي النَّسَبِ أَبًا أَوَّلُ الْمَسْأَلَةِ فَذِكْرُهُ هَاهُنَا مُؤَدٍّ إلَى الْمُصَادَرَةِ، وَقَوْلُهُ: لِأَنَّ دَعْوَتَهُ لَا تَحْتَمِلُ النَّقْضَ لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّ دَعْوَتَهُ إنَّمَا لَا تَحْتَمِلُ النَّقْضَ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مَقْبُولَةً بِحَسَبِ الشَّرْعِ رَاجِحَةً عَلَى دَعْوَى الْمُسْلِمِ وَهُوَ أَوَّلُ الْمَسْأَلَةِ أَيْضًا. وَقَوْلُهُ: وَفِي الْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى الْمَرْحَمَةِ بِالصِّبْيَانِ نَظَرٌ لَهَا كَثْرَةٌ فَكَانَتْ أَقْوَى مِنْ الْمَانِعِ كَلَامٌ خَالٍ عَنْ التَّحْصِيلِ هَاهُنَا؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْمَرْحَمَةِ بِالصِّبْيَانِ وَالنَّظَرِ لَهُمْ مِمَّا لَا شُبْهَةَ فِيهِ لِأَحَدٍ، لَكِنَّ الْكَلَامَ فِي أَنَّ مَا يُؤَدِّي إلَى الْإِلْفِ بِالْكُفْرِ الْمَانِعِ عَنْ الْإِسْلَامِ مُنَافٍ لِلْمَرْحَمَةِ بِهِمْ وَلِلنَّظَرِ لَهُمْ فَلَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ فَكَانَتْ أَقْوَى مِنْ الْمَانِعِ كَمَا لَا يَخْفَى. ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ الْكِفَايَةِ وَتَاجَ الشَّرِيعَةِ قَالَا فِي شَرْحِ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ وَلَا تَعَارُضَ: أَيْ بَيْنَ دَعْوَى الرِّقِّ وَدَعْوَى النَّسَبِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِوَاحِدٍ وَابْنًا لِآخَرَ انْتَهَى.

فَكَأَنَّهُمَا أَخَذَا هَذَا الْمَعْنَى مِمَّا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْكَافِي حَيْثُ قَالَ: وَلَوْ كَانَ صَبِيٌّ فِي يَدِ مُسْلِمٍ وَنَصْرَانِيٍّ فَقَالَ النَّصْرَانِيُّ: هُوَ ابْنِي وَقَالَ الْمُسْلِمُ هُوَ عَبْدِي فَهُوَ حُرٌّ ابْنُ النَّصْرَانِيِّ إذَا ادَّعَيَا مَعًا، وَلَوْ كَانَتْ دَعْوَتُهُمَا الْبُنُوَّةَ فَالْمُسْلِمُ أَوْلَى. وَالْفَرْقُ أَنَّهُمَا فِي دَعْوَى النَّسَبِ اسْتَوَيَا فَتَرَجَّحَ الْمُسْلِمُ بِالْإِسْلَامِ لِأَنَّ الْقَضَاءَ بِالنَّسَبِ مِنْ الْمُسْلِمِ قَضَاءٌ بِإِسْلَامِهِ، وَفِيمَا نَحْنُ بِصَدَدِهِ لَا تَعَارُضَ بَيْنَ الدَّعْوَتَيْنِ: أَيْ دَعْوَى الرِّقِّ وَدَعْوَى النَّسَبِ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِوَاحِدٍ وَابْنًا لِآخَرَ حَتَّى يَثْبُتَ التَّرْجِيحُ بِالْإِسْلَامِ انْتَهَى. أَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الَّذِي يَدَّعِيهِ النَّصْرَانِيُّ فِي مَسْأَلَتِنَا هُوَ بُنُوَّةُ الصَّبِيِّ لَهُ حُرًّا لَا مُطْلَقَ بُنُوَّتِهِ لَهُ، وَأَنَّ الَّذِي يُحْكَمُ بِهِ لَهُ هُوَ ثُبُوتُ نَسَبِ الصَّبِيِّ

ص: 310

(وَلَوْ كَانَتْ دَعْوَتُهُمَا دَعْوَةَ الْبُنُوَّةِ فَالْمُسْلِمُ أَوْلَى) تَرْجِيحًا لِلْإِسْلَامِ وَهُوَ أَوْفَرُ النَّظَرَيْنِ.

قَالَ (وَإِذَا ادَّعَتْ امْرَأَةٌ صَبِيًّا أَنَّهُ ابْنُهَا لَمْ تَجُزْ دَعْوَاهَا حَتَّى تَشْهَدَ امْرَأَةٌ عَلَى الْوِلَادَةِ) وَمَعْنَى الْمَسْأَلَةِ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ ذَاتَ زَوْجٍ لِأَنَّهَا تَدَّعِي تَحْمِيلَ النَّسَبِ عَلَى الْغَيْرِ فَلَا تُصَدَّقُ إلَّا بِحُجَّةٍ،

مِنْهُ حُرًّا كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي وَضْعِ الْمَسْأَلَةِ لَا ثُبُوتُ نَسَبِهِ مِنْهُ عَبْدًا لِلْآخَرِ وَإِلَّا لَلَزِمَ الْجَمْعُ بَيْنَ قَوْلَيْهِمَا وَالْحُكْمُ لَهُمَا مَعًا، بَلْ لَا يُتَصَوَّرُ النِّزَاعُ بَيْنَهُمَا رَأْسًا، وَلَا شَكَّ أَنَّ بَيْنَ دَعْوَى الرِّقِّ وَبَيْنَ دَعْوَى النَّسَبِ عَلَى الْحُرِّيَّةِ تَعَارُضًا بَيِّنًا فَلَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ. ثُمَّ إنَّ فِي تَحْرِيرِ الْمُصَنِّفِ مَانِعًا آخَرَ عَنْ الْحَمْلِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ: لِأَنَّ نَظَرَ الصَّبِيِّ فِي هَذَا أَوْفَرُ إلَخْ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا عَلَى قَوْلِهِ وَلَا تَعَارَضَ عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِ مُرَادِهِ بِوَجْهِ عَدَمِ التَّعَارُضِ هَذَا الْمَعْنَى، فَكَأَنَّ صَاحِبَ الْكَافِي تَنَبَّهَ لِهَذَا حَيْثُ غَيَّرَ تَحْرِيرَ الْمُصَنِّفِ فَقَالَ بَعْدَ كَلَامِهِ الْمَذْكُورِ عَلَى وَجْهِ التَّنْوِيرِ، أَلَا يَرَى أَنَّ التَّرْجِيحَ بِالْإِسْلَامِ وَاجِبٌ فِي النَّسَبِ نَظَرًا لِلصَّغِيرِ وَنَظَرُ الصَّبِيِّ فِي هَذَا أَوْفَرُ إلَخْ. أَمَّا صَاحِبُ الْكِفَايَةِ فَلَمْ يَزِدْ عَلَى شَرْحِهِ الْمَذْكُورِ شَيْئًا آخَرَ فَكَأَنَّهُ غَافِلٌ بِالْكُلِّيَّةِ.

وَأَمَّا تَاجُ الشَّرِيعَةِ فَقَدْ تَنَبَّهَ لِهَذَا وَتَدَارَكَهُ حَيْثُ قَالَ: فَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَوْلُهُ: لِأَنَّ نَظَرَ الصَّبِيِّ فِي هَذَا أَوْفَرُ دَلِيلًا عَلَى قَوْلِهِ فَهُوَ ابْنُ النَّصْرَانِيِّ لَا دَلِيلًا عَلَى نَفْيِ الْمُعَارَضَةِ، وَقَالَ: كَذَا سَمِعْته مِنْ الْإِمَامِ الْأُسْتَاذِ انْتَهَى. لَكِنْ يَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّ الْمُصَنِّفَ قَدْ ذَكَرَ الدَّلِيلَ عَلَى قَوْلِهِ فَهُوَ ابْنُ النَّصْرَانِيِّ وَهُوَ حُرٌّ بِقَوْلِهِ: لِأَنَّ الْإِسْلَامَ مُرَجِّحٌ فَيَسْتَدْعِي تَعَارُضًا وَلَا تَعَارُضَ، فَلَوْ كَانَ قَوْلُهُ لِأَنَّ نَظَرَ الصَّبِيِّ إلَخْ دَلِيلًا عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا لَكَانَ دَلِيلًا ثَانِيًا فَكَانَ حَقُّهُ أَنْ يُذْكَرَ بِالْوَاوِ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُحْمَلَ الثَّانِي عَلَى تَعْلِيلِ الْمُعَلَّلِ فَتَأَمَّلْ (وَلَوْ كَانَتْ دَعْوَتُهُمَا) أَيْ دَعْوَةُ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ (دَعْوَةَ الْبُنُوَّةِ فَالْمُسْلِمُ أَوْلَى تَرْجِيحًا لِلْإِسْلَامِ وَهُوَ أَوْفَرُ النَّظَرَيْنِ) أَيْ لِلصَّبِيِّ. وَنُوقِضَ هَذَا بِغُلَامٍ نَصْرَانِيٍّ بَالِغٍ ادَّعَى عَلَى نَصْرَانِيٍّ وَنَصْرَانِيَّةٍ أَنَّهُ ابْنُهُمَا وَادَّعَاهُ مُسْلِمٌ وَمُسْلِمَةٌ أَنَّهُ ابْنُهُمَا وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الطَّرَفَيْنِ بَيِّنَةً فَقَدْ تَسَاوَتْ الدَّعْوَتَانِ مَعَ أَنَّ بَيِّنَةَ الْغُلَامِ أَوْلَى وَلَمْ يَتَرَجَّحْ جَانِبُ الْإِسْلَامِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْبَيِّنَتَيْنِ وَإِنْ اسْتَوَيَا فِي إثْبَاتِ النَّسَبِ بِفِرَاشِ النِّكَاحِ لَكِنْ تَرَجَّحَتْ بَيِّنَةُ الْغُلَامِ مِنْ حَيْثُ أَنَّهُ يُثْبِتُ حَقًّا لِنَفْسِهِ لِأَنَّ مُعْظَمَ الْمَنْفَعَةِ فِي النَّسَبِ لِلْوَلَدِ دُونَ الْوَالِدَيْنِ لِأَنَّ الْوَلَدَ يُعَيَّرُ بِعَدَمِ الْأَبِ الْمَعْرُوفِ وَالْوَالِدَانِ لَا يُعَيَّرَانِ بِعَدَمِ الْوَلَدِ، وَبَيِّنَةُ مَنْ يُثْبِتُ حَقًّا لِنَفْسِهِ أَوْلَى، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ أَضْعَفُ مِنْ الْإِسْلَامِ فِي التَّرْجِيحِ لَا مَحَالَةَ. وَالْجَوَابُ أَنَّهُ تَقَوَّى بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:«الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي» لِأَنَّهُ أَشْبَهُ الْمُدَّعِيَيْنِ لِكَوْنِهِ يَدَّعِي حَقًّا لِنَفْسِهِ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ. أَقُولُ: وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إنْ تَقَوَّى هَذَا بِذَلِكَ النَّصِّ فَقَدْ تَقَوَّى رُجْحَانُ الْإِسْلَامِ بِأَلْفِ نَصٍّ، مِنْهَا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم:«الْإِسْلَامُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى» .

(قَالَ) أَيْ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ (وَإِذَا ادَّعَتْ امْرَأَةٌ صَبِيًّا أَنَّهُ ابْنُهَا لَمْ تَجُزْ دَعْوَتُهَا حَتَّى تَشْهَدَ امْرَأَةٌ عَلَى الْوِلَادَةِ) قَالَ الْمُصَنِّفُ: اقْتِفَاءُ أَثَرِ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ فِي تَقْيِيدِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ (وَمَعْنَى الْمَسْأَلَةِ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ ذَاتَ زَوْجٍ) وَادَّعَتْ أَنَّهُ ابْنُهَا مِنْ هَذَا الزَّوْجِ وَأَنْكَرَ الزَّوْجُ ذَلِكَ (لِأَنَّهَا تَدَّعِي تَحْمِيلَ النَّسَبِ عَلَى الْغَيْرِ) وَهُوَ الزَّوْجُ (فَلَا تُصَدَّقُ إلَّا بِحُجَّةٍ) يَعْنِي أَنَّ الْمَرْأَةَ تَقْصِدُ إلْزَامَ النَّسَبِ عَلَى الزَّوْجِ وَالْإِلْزَامُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ الْحُجَّةِ، وَسَبَبُ لُزُومِ النَّسَبِ وَإِنْ كَانَ قَائِمًا وَهُوَ النِّكَاحُ لَكِنَّ الْحَاجَةَ إلَى إثْبَاتِ الْوِلَادَةِ وَالنِّكَاحِ

ص: 311

بِخِلَافِ الرَّجُلِ لِأَنَّهُ يُحَمِّلُ نَفْسَهُ النَّسَبَ، ثُمَّ شَهَادَةُ الْقَابِلَةِ كَافِيَةٌ فِيهَا لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى تَعْيِينِ الْوَلَدِ.

أَمَّا النَّسَبُ فَيَثْبُتُ بِالْفِرَاشِ الْقَائِمِ، وَقَدْ صَحَّ «أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام قَبِلَ شَهَادَةَ الْقَابِلَةِ عَلَى الْوِلَادَةِ» (وَلَوْ كَانَتْ مُعْتَدَّةً فَلَا بُدَّ مِنْ حُجَّةٍ تَامَّةٍ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَدْ مَرَّ فِي الطَّلَاقِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَنْكُوحَةً وَلَا مُعْتَدَّةً قَالُوا: يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهَا بِقَوْلِهَا لِأَنَّ فِيهِ إلْزَامًا عَلَى نَفْسِهَا دُونَ غَيْرِهَا.

لَا تُوجِبُ الْوِلَادَةَ لَا مَحَالَةَ، وَلَا تَثْبُتُ الْوِلَادَةُ وَتَعْيِينُ الْوَلَدِ إلَّا بِحُجَّةٍ فَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ حُجَّةٍ.

كَذَا فِي الْكَافِي وَغَيْرِهِ (بِخِلَافِ الرَّجُلِ) أَيْ الزَّوْجِ حَيْثُ يُصَدَّقُ فِي دَعْوَةِ الْوَلَدِ مِنْ غَيْرِ شَهَادَةِ أَحَدٍ وَإِنْ أَنْكَرَتْ الْمَرْأَةُ (لِأَنَّهُ يُحَمِّلُ نَفْسَهُ النَّسَبَ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: تَحَمَّلَ عَلَى نَفْسِهِ النَّسَبَ (ثُمَّ شَهَادَةُ الْقَابِلَةِ كَافِيَةٌ فِيهَا) أَيْ فِي دَعْوَى الْمَرْأَةِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمَارَّةِ (لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى تَعْيِينِ الْوَلَدِ) بِأَنَّهُ الَّذِي وَلَدَتْهُ تِلْكَ الْمَرْأَةُ وَشَهَادَةُ الْقَابِلَةِ حُجَّةٌ فِيهِ لِأَنَّهُ مِمَّا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ فَيُقْبَلُ فِيهِ قَوْلُ النِّسَاءِ (أَمَّا النَّسَبُ فَيَثْبُتُ بِالْفِرَاشِ الْقَائِمِ) يَعْنِي أَمَّا النَّسَبُ فَيَثْبُتُ بِالْفِرَاشِ الْقَائِمِ فِي الْحَالِ، فَلَا حَاجَةَ إلَى إثْبَاتِهِ حَتَّى تَلْزَمَ الْحُجَّةُ التَّامَّةُ (وَقَدْ صَحَّ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَبِلَ شَهَادَةَ الْقَابِلَةِ عَلَى الْوِلَادَةِ») فَكَانَتْ حُجَّةً فِيهَا (وَلَوْ كَانَتْ مُعْتَدَّةً فَلَا بُدَّ مِنْ حُجَّةٍ تَامَّةٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) يَعْنِي هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِيمَا إذَا كَانَتْ مَنْكُوحَةً، أَمَّا إذَا لَمْ تَكُنْ مَنْكُوحَةً وَلَكِنْ كَانَتْ مُعْتَدَّةً وَادَّعَتْ النَّسَبَ عَلَى الزَّوْجِ احْتَاجَتْ إلَى حُجَّةٍ تَامَّةٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَهِيَ شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ إلَّا إذَا كَانَ هُنَاكَ حَبَلٌ ظَاهِرٌ أَوْ اعْتِرَافٌ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ، وَقَالَا: يَكْفِي فِي الْجَمِيعِ شَهَادَةُ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ (وَقَدْ مَرَّ فِي الطَّلَاقِ) أَيْ فِي بَابِ ثُبُوتِ النَّسَبِ مِنْ كِتَابِ الطَّلَاقِ (وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَنْكُوحَةً وَلَا مُعْتَدَّةً قَالُوا: يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهَا بِقَوْلِهَا) أَيْ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ أَصْلًا (لِأَنَّ فِيهِ إلْزَامًا عَلَى نَفْسِهَا دُونَ غَيْرِهَا) وَفِي هَذَا لَا فَرْقَ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، هَذَا مَا ذَهَبَ إلَيْهِ عَامَّةُ الْمَشَايِخِ وَاخْتَارَهُ الْمُصَنِّفُ.

وَمِنْهُمْ مَنْ أَجْرَى الْمَسْأَلَةَ عَلَى إطْلَاقِهَا وَقَالَ: لَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا سَوَاءٌ كَانَتْ ذَاتَ زَوْجٍ أَوْ لَمْ تَكُنْ عَمَلًا بِإِطْلَاقِ مَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ، وَفَرَّقَ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ حَيْثُ جَازَتْ دَعْوَةُ الْوَلَدِ مِنْهُ بِلَا بَيِّنَةٍ وَلَمْ تَجُزْ مِنْهَا بِدُونِ الْبَيِّنَةِ. وَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ كُلَّ مَنْ ادَّعَى مَعْنًى لَا يُمْكِنُهُ إثْبَاتُهُ بِالْبَيِّنَةِ كَانَ الْقَوْلُ فِيهِ قَوْلَهُ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ وَكُلَّ مَنْ يَدَّعِي مَعْنًى يُمْكِنُهُ إثْبَاتُهُ بِالْبَيِّنَةِ لَا يُقْبَلُ فِيهِ قَوْلُهُ إلَّا بِالْبَيِّنَةِ.

وَبَيَانُ هَذَا أَنَّ مَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَادَّعَتْ الْمَرْأَةُ الدُّخُولَ وَكَذَّبَهَا لَا تُصَدَّقُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ لِإِمْكَانِ إثْبَاتِهِ بِالْبَيِّنَةِ، وَلَوْ عَلَّقَ طَلَاقَهَا بِحَيْضِهَا وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ لِمَكَانِ الْعَجْزِ عَنْ الْإِثْبَاتِ بِالْبَيِّنَةِ فَفِي مَا نَحْنُ فِيهِ يُمْكِنُ لِلْمَرْأَةِ إثْبَاتُ النَّسَبِ بِالْبَيِّنَةِ لِأَنَّ انْفِصَالَ الْوَلَدِ مِنْهَا مِمَّا يُشَاهَدُ وَيُعَايَنُ فَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ بَيِّنَةٍ، وَلَا كَذَلِكَ الرَّجُلُ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَى الْإِعْلَاقِ وَالْإِحْبَالِ لِمَكَانِ الْخَفَاءِ وَالتَّغَيُّبِ عَنْ عُيُونِ النَّاظِرِينَ فَلَا يَحْتَاجُ إلَيْهَا كَذَا فِي الشُّرُوحِ.

أَقُولُ: فِيهِ بَحْثٌ، أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ الرَّجُلَ وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ إثْبَاتُ الْإِعْلَاقِ وَالْإِحْبَالِ إلَّا أَنَّهُ يُمْكِنُهُ

ص: 312

(وَإِنْ كَانَ لَهَا زَوْجٌ وَزَعَمَتْ أَنَّهُ ابْنُهُمَا مِنْهُ وَصَدَّقَهَا فَهُوَ ابْنُهُمَا وَإِنْ لَمْ تَشْهَدْ امْرَأَةٌ) لِأَنَّهُ الْتَزَمَ نَسَبَهُ فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ الْحُجَّةِ.

(وَإِنْ كَانَ الصَّبِيُّ فِي أَيْدِيهِمَا وَزَعَمَ الزَّوْجُ أَنَّهُ ابْنُهُ مِنْ غَيْرِهَا وَزَعَمَتْ أَنَّهُ ابْنُهَا مِنْ غَيْرِهِ فَهُوَ ابْنُهُمَا) لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْوَلَدَ مِنْهُمَا لِقِيَامِ أَيْدِيهِمَا أَوْ لِقِيَامِ الْفِرَاشِ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُرِيدُ إبْطَالَ حَقِّ صَاحِبِهِ فَلَا يُصَدَّقُ عَلَيْهِ، وَهُوَ نَظِيرُ ثَوْبٍ فِي يَدِ رَجُلَيْنِ يَقُولُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا هُوَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ آخَرَ غَيْرِ صَاحِبِهِ يَكُونُ الثَّوْبُ بَيْنَهُمَا إلَّا أَنَّ هُنَاكَ يَدْخُلُ الْمُقَرُّ لَهُ فِي نَصِيبِ الْمُقِرِّ لِأَنَّ الْمَحَلَّ يَحْتَمِلُ الشَّرِكَةَ، وَهَاهُنَا لَا يَدْخُلُ لِأَنَّ النَّسَبَ لَا يَحْتَمِلُهَا.

إثْبَاتُ النَّسَبِ، إذْ قَدْ تَقَرَّرَ فِي كِتَابِ الشَّهَادَةِ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلشَّاهِدِ أَنْ يَشْهَدَ بِشَيْءٍ لَمْ يُعَايِنْهُ بِالسَّمَاعِ مِمَّنْ يَثِقُ بِهِ فِي مَوَاضِعَ عَدِيدَةٍ: مِنْهَا النَّسَبُ، وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ ادِّعَاءِ الرَّجُلِ وَلَدًا أَنَّهُ ابْنُهُ وَثُبُوتِ نَسَبِهِ مِنْهُ ثُبُوتُ وُقُوعِ الْإِعْلَاقِ وَالْإِحْبَالِ مِنْهُ أَلْبَتَّةَ، وَإِلَّا لَمَا تَيَسَّرَ إثْبَاتُ دَعْوَةِ الْبُنُوَّةِ مِنْ الرَّجُلِ أَصْلًا: أَيْ وَلَوْ كَانَ هُنَاكَ مُنَازِعٌ شَرْعِيٌّ، إذْ لَا يُمْكِنُهُ إثْبَاتُ الْإِعْلَاقِ وَالْإِحْبَالِ قَطْعًا، مَعَ أَنَّ مَسَائِلَ التَّنَازُعِ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ فِي بُنُوَّةِ وَلَدٍ وَإِثْبَاتِهَا شَرْعًا أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى، فَظَهَرَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ ادِّعَاءِ الرَّجُلِ بُنُوَّةَ وَلَدٍ ثُبُوتُ نَسَبِهِ مِنْهُ دُونَ ثُبُوتِ وُقُوعِ الْإِعْلَاقِ وَالْإِحْبَالِ مِنْهُ، فَلَمَّا أَمْكَنَهُ إثْبَاتُ نَسَبِهِ مِنْهُ لَزِمَهُ أَيْضًا إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَى الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ فِي وَجْهِ الْفَرْقِ فَلَا يَتِمُّ الْمَطْلُوبُ.

وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ الْوَجْهَ الْمَذْكُورَ لِلْفَرْقِ الْمَزْبُورِ مِمَّا لَا يُجْدِي فِي مَسْأَلَتِنَا؛ لِأَنَّ كَوْنَ الْمُدَّعِي مِمَّا يُمْكِنُ لِلْمُدَّعِي إثْبَاتُهُ بِالْبَيِّنَةِ إنَّمَا يَقْتَضِي احْتِيَاجَ الْمُدَّعِي إلَى إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ إذَا وُجِدَ هُنَاكَ مَنْ يُكَذِّبُهُ وَيُنْكِرُ مَا ادَّعَاهُ كَمَا فِي الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ لِلْبَيَانِ وَمَا ادَّعَتْهُ الْمَرْأَةُ فِي مَسْأَلَتِنَا وَإِنْ كَانَ مَا يُمْكِنُهَا إثْبَاتُهُ بِالْبَيِّنَةِ كَمَا بَيَّنَ إلَّا أَنَّهُ مِمَّا لَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ؛ لِأَنَّ كَلَامَنَا فِيمَا إذَا لَمْ يُوجَدْ مَنْ يُكَذِّبُهَا بِأَنْ لَمْ تَكُنْ مَنْكُوحَةً وَلَا مُعْتَدَّةً، وَلِهَذَا قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِ الْمَسْأَلَةِ: لِأَنَّ فِيهِ إلْزَامًا عَلَى نَفْسِهَا دُونَ غَيْرِهَا انْتَهَى.

فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ الْقَوْلُ بِاحْتِيَاجِهَا إلَى إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ فَتَدَبَّرْ (وَإِنْ كَانَ لَهَا زَوْجٌ وَزَعَمَتْ أَنَّهُ ابْنُهَا مِنْهُ) أَيْ ادَّعَتْ أَنَّ الْوَلَدَ ابْنُهَا مِنْ ذَلِكَ الزَّوْجِ (وَصَدَّقَهَا) أَيْ وَصَدَّقَ (الزَّوْجُ) إيَّاهَا (فَهُوَ ابْنُهُمَا وَإِنْ لَمْ تَشْهَدْ امْرَأَةٌ) أَيْ وَإِنْ لَمْ تَشْهَدْ امْرَأَةٌ عَلَى الْوِلَادَةِ: يَعْنِي لَا حَاجَةَ هَاهُنَا إلَى شَهَادَةِ الْقَابِلَةِ (لِأَنَّهُ) أَيْ الزَّوْجَ (الْتَزَمَ نَسَبَهُ) أَيْ نَسَبَ الْوَلَدِ (فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ الْحُجَّةِ) لِأَنَّ النَّسَبَ يَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ إقْرَارِ الزَّوْجِ بِلَا دَعْوَى امْرَأَةٍ إذْ لَيْسَ فِيهِ تَحْمِيلُ النَّسَبِ عَلَى الْغَيْرِ، وَمَعَ دَعْوَى امْرَأَةٍ أَوْلَى، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ مَسَائِلِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ.

(وَإِنْ كَانَ الصَّبِيُّ فِي أَيْدِيهِمَا) أَيْ فِي أَيْدِي الزَّوْجَيْنِ (فَزَعَمَ الزَّوْجُ أَنَّهُ ابْنُهُ مِنْ غَيْرِهَا) أَيْ زَعَمَ الزَّوْجُ أَنَّ الصَّبِيَّ ابْنُهُ مِنْ امْرَأَةٍ أُخْرَى لَهُ (وَزَعَمَتْ أَنَّهُ ابْنُهَا مِنْ غَيْرِهِ) أَيْ وَزَعَمَتْ الْمَرْأَةُ أَنَّهُ ابْنُهَا مِنْ زَوْجٍ آخَرَ كَانَ لَهَا (فَهُوَ ابْنُهُمَا) أَيْ كَانَ الصَّبِيُّ ابْنَهُمَا مَعًا هَذَا إذَا كَانَ الصَّبِيُّ لَا يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنْ كَانَ يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ فَالْقَوْلُ لَهُ أَيُّهُمَا صَدَّقَ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ بِتَصْدِيقِهِ، كَذَا فِي عَامَّةِ الشُّرُوحِ وَعَزَاهُ صَاحِبُ الْغَايَةِ إلَى شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ، ثُمَّ إنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي الْكِتَابِ مِنْ مَسَائِلِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَيْضًا.

قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِهَا (لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْوَلَدَ مِنْهُمَا) أَيْ مِنْ الزَّوْجَيْنِ الَّذِينَ كَانَ الْوَلَدُ فِي أَيْدِيهِمَا (لِقِيَامِ أَيْدِيهِمَا أَوْ لِقِيَامِ الْفِرَاشِ بَيْنَهُمَا) أَقُولُ: فِيهِ شَيْءٌ، وَهُوَ أَنَّ قِيَامَ الْفِرَاشِ بَيْنَهُمَا لَا يَدُلُّ عَلَى تَعْيِينِ الْوَلَدِ، وَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ النَّسَبِ بَعْدَ تَعْيِينِ الْوَلَدِ: أَيْ بَعْدَ ثُبُوتِ وِلَادَتِهِ مِنْ تِلْكَ الزَّوْجَةِ، وَلِهَذَا لَمْ تَجُزْ دَعْوَةُ امْرَأَةٍ ذَاتِ زَوْجٍ صَبِيًّا أَنَّهُ ابْنُهَا إذَا لَمْ يُصَدِّقْهَا الزَّوْجُ مَا لَمْ تَشْهَدْ امْرَأَةٌ عَلَى الْوِلَادَةِ كَمَا مَرَّ آنِفًا، فَفِي مَسْأَلَتِنَا أَيْضًا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ فَتَأَمَّلْ (ثُمَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا) أَيْ مِنْ الزَّوْجَيْنِ (يُرِيدُ إبْطَالَ حَقِّ صَاحِبِهِ فَلَا يُصَدَّقُ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى صَاحِبِهِ: يَعْنِي لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي حَقِّ صَاحِبِهِ (وَهُوَ نَظِيرُ ثَوْبٍ فِي يَدِ رَجُلَيْنِ يَقُولُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا هُوَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ آخَرَ غَيْرِ صَاحِبِهِ) حَيْثُ لَا يُصَدَّقُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا فِي إبْطَالِ حَقِّ صَاحِبِهِ (بَلْ يَكُونُ الثَّوْبُ بَيْنَهُمَا) فَكَذَا هُنَا (إلَّا أَنَّ هُنَاكَ يَدْخُلُ الْمُقَرُّ لَهُ فِي نَصِيبِ الْمُقِرِّ) أَيْ يَصِيرُ مَا حَصَلَ لِلْمُقِرِّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُقَرِّ لَهُ نِصْفَانِ (لِأَنَّ الْمَحَلَّ) وَهُوَ الثَّوْبُ (يَحْتَمِلُ الشَّرِكَةَ، وَهُنَا لَا يَدْخُلُ لِأَنَّ النَّسَبَ لَا يَحْتَمِلُهَا) اعْلَمْ أَنَّ الْمُنَاقَضَةَ فِي دَعْوَى النَّسَبِ غَيْرُ مَانِعَةٍ لِصِحَّةِ الدَّعْوَى، حَتَّى أَنَّ

ص: 313

قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً فَوَلَدَتْ وَلَدًا عِنْدَهُ فَاسْتَحَقَّهَا رَجُلٌ غَرِمَ الْأَبُ قِيمَةَ الْوَلَدِ يَوْمَ يُخَاصِمُ) لِأَنَّهُ وَلَدُ الْمَغْرُورِ فَإِنَّ الْمَغْرُورَ مَنْ يَطَأُ امْرَأَةً مُعْتَمِدًا عَلَى مِلْكِ يَمِينٍ أَوْ نِكَاحٍ فَتَلِدُ مِنْهُ ثُمَّ تُسْتَحَقُّ، وَوَلَدُ الْمَغْرُورِ حُرٌّ بِالْقِيمَةِ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم،

الصَّبِيَّ إذَا كَانَ فِي يَدِ امْرَأَةٍ فَقَالَ رَجُلٌ: هُوَ ابْنِي مِنْكِ مِنْ زِنًا وَقَالَتْ: مِنْ نِكَاحٍ ثُمَّ قَالَ الرَّجُلُ: مِنْ نِكَاحٍ يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ، وَكَذَا لَوْ قَالَ: هُوَ ابْنِي مِنْ نِكَاحٍ مِنْكِ وَقَالَتْ: هُوَ ابْنُك مِنِّي مِنْ زِنًا لَمْ يَثْبُتْ النَّسَبُ مِنْهُ لِعَدَمِ اتِّفَاقِهِمَا فِي النِّكَاحِ، فَإِنْ قَالَتْ بَعْدَ ذَلِكَ: هُوَ ابْنُك مِنِّي مِنْ نِكَاحٍ يَثْبُتُ لِمَا قُلْنَا: إنَّ الْمُنَاقَضَةَ لَا تُبْطِلُ دَعْوَى النَّسَبِ، كَذَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ التُّمُرْتَاشِيُّ.

وَذَكَرَ فِي الْإِيضَاحِ أَنَّ دَعْوَى النَّسَبِ إنَّمَا لَا تَبْطُلُ بِالتَّنَاقُضِ لِأَنَّ التَّنَاقُضَ إنَّمَا يَكُونُ بَيْنَ الْمُتَسَاوِيَيْنِ وَلَا مُسَاوَاةَ، فَإِنَّ دَعْوَى النَّسَبِ أَقْوَى مِنْ النَّفْيِ.

وَذَكَرَ فِيهِ أَيْضًا: إذَا تَصَادَقَ الزَّوْجَانِ عَلَى أَنَّ الْوَلَدَ مِنْ الزِّنَا مِنْ فُلَانٍ فَالنَّسَبُ ثَابِتٌ مِنْ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّ سَبَبَ ثُبُوتِ النَّسَبِ قَائِمٌ وَهُوَ الْفِرَاشُ وَالنَّسَبُ يَثْبُتُ حَقًّا لِلصَّبِيِّ فَلَا يُقْبَلُ تَصَادُقُهُمَا عَلَى إبْطَالِ النَّسَبِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ الْمَنْكُوحَةُ أَمَةً أَوْ كَانَ النِّكَاحُ فَاسِدًا لِأَنَّ الْفِرَاشَ قَدْ وُجِدَ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ. أَقُولُ: الَّذِي نُقِلَ عَنْ الْإِيضَاحِ أَوَّلًا مِنْ تَعْلِيلِ عَدَمِ بُطْلَانِ دَعْوَى النَّسَبِ بِالتَّنَاقُضِ مَحَلُّ نَظَرٍ مَنْعًا وَنَقْضًا فَتَأَمَّلْ.

(قَالَ) أَيْ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فِي كِتَابِ الْقَضَاءِ: (وَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً فَوَلَدَتْ وَلَدًا عِنْدَهُ) يَعْنِي وَلَدَتْ وَلَدًا مِنْ الْمُشْتَرِي (فَاسْتَحَقَّهَا رَجُلٌ غَرِمَ الْأَبُ قِيمَةَ الْوَلَدِ يَوْمَ يُخَاصِمُ) وَكَذَا إذَا مَلَكَهَا بِسَبَبٍ آخَرَ غَيْرِ الشِّرَاءِ أَيِّ سَبَبٍ كَانَ، وَكَذَا إذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنَّهَا حُرَّةٌ فَوَلَدَتْ لَهُ ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ نَصَّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ الزَّيْلَعِيُّ فِي شَرْحِ الْكَنْزِ وَسَيُفْهَمُ مِنْ نَفْسِ الْكِتَابِ (لِأَنَّهُ وَلَدُ الْمَغْرُورِ، فَإِنَّ الْمَغْرُورَ مَنْ يَطَأُ امْرَأَةً مُعْتَمِدًا عَلَى مِلْكِ يَمِينٍ) بِأَيِّ سَبَبٍ كَانَ مِثْلُ الشِّرَاءِ وَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْوَصِيَّةِ، كَذَا فِي مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ وَغَيْرِهَا (أَوْ نِكَاحٍ) عَطْفٌ عَلَى يَمِينٍ.

وَالْمَعْنَى أَوْ مُعْتَمِدًا عَلَى مِلْكِ نِكَاحٍ (فَتَلِدُ مِنْهُ) أَيْ تَلِدُ الْمَرْأَةُ مِمَّنْ يَطَؤُهَا (ثُمَّ تُسْتَحَقُّ) بِأَنْ يَظْهَرَ بِالْبَيِّنَةِ كَوْنُهَا أَمَةً، هُنَا تَمَّ تَفْسِيرُ وَلَدِ الْمَغْرُورِ

(وَوَلَدُ الْمَغْرُورِ حُرٌّ بِالْقِيمَةِ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم) فَإِنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ وَفُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ أَنَّ وَلَدَ الْمَغْرُورِ حُرُّ الْأَصْلِ، وَلَا خِلَافَ أَيْضًا بَيْنَ السَّلَفِ أَنَّهُ مَضْمُونٌ عَلَى الْأَبِ إلَّا أَنَّ السَّلَفَ اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ ضَمَانِهِ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: يُفَكُّ الْغُلَامُ بِالْغُلَامِ وَالْجَارِيَةُ بِالْجَارِيَةِ: يَعْنِي إنْ كَانَ الْوَلَدُ غُلَامًا فَعَلَى الْأَبِ غُلَامٌ مِثْلُهُ، وَإِنْ كَانَ جَارِيَةً فَعَلَيْهِ جَارِيَةٌ مِثْلُهَا.

وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: عَلَيْهِ قِيمَةُ الْوَلَدِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَصْحَابُنَا لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِالنَّصِّ أَنَّ الْحَيَوَانَ لَا يَكُونُ مَضْمُونًا بِالْمِثْلِ. وَتَأْوِيلُ حَدِيثِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: يُفَكُّ الْغُلَامُ بِقِيمَةِ الْغُلَامِ وَالْجَارِيَةُ بِقِيمَةِ الْجَارِيَةِ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ. أَقُولُ: يَرِدُ عَلَى ظَاهِرِهِ أَنَّ اخْتِلَافَ السَّلَفِ فِي كَيْفِيَّةِ ضَمَانِ وَلَدِ الْمَغْرُورِ، وَقَوْلَ عُمَرَ رضي الله عنه بِضَمَانِ مِثْلِهِ دُونَ قِيمَتِهِ يُنَافِي مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ أَنَّ وَلَدَ الْمَغْرُورِ حُرٌّ بِالْقِيمَةِ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ، فَكَيْفَ يَصْلُحُ مَا ذَكَرَ فِي الْعِنَايَةِ لَأَنْ يَكُونَ شَرْحًا وَبَيَانًا لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ؟ وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ عَنْهُ بِأَنْ يُقَالَ: إنَّ اخْتِلَافَهُمْ فِي كَيْفِيَّةِ ضَمَانِهِ اخْتِلَافٌ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ دُونَ الْحَقِيقَةِ بِنَاءً عَلَى احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِحَدِيثِ عُمَرَ رضي الله عنه: يُفَكُّ الْغُلَامُ بِقِيمَةِ الْغُلَامِ وَالْجَارِيَةُ بِقِيمَةِ الْجَارِيَةِ.

فَحَاصِلُ الشَّرْحِ

ص: 314

وَلِأَنَّ النَّظَرَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَاجِبٌ فَيُجْعَلُ الْوَلَدُ حُرَّ الْأَصْلِ فِي حَقِّ أَبِيهِ رَقِيقًا فِي حَقِّ مُدَّعِيهِ نَظَرًا لَهُمَا، ثُمَّ الْوَلَدُ حَاصِلٌ فِي يَدِهِ مِنْ غَيْرِ صُنْعِهِ فَلَا يَضْمَنُهُ إلَّا بِالْمَنْعِ كَمَا فِي وَلَدِ الْمَغْصُوبَةِ، فَلِهَذَا تُعْتَبَرُ قِيمَةُ الْوَلَدِ يَوْمَ الْخُصُومَةِ لِأَنَّهُ يَوْمُ الْمَنْعِ (وَلَوْ مَاتَ الْوَلَدُ لَا شَيْءَ عَلَى الْأَبِ) لِانْعِدَامِ الْمَنْعِ، وَكَذَا لَوْ تَرَكَ مَالًا لِأَنَّ الْإِرْثَ لَيْسَ بِبَدَلٍ عَنْهُ، وَالْمَالُ لِأَبِيهِ لِأَنَّهُ حُرُّ الْأَصْلِ فِي حَقِّهِ فَيَرِثُهُ (وَلَوْ قَتَلَهُ الْأَبُ يَغْرَمُ قِيمَتَهُ) لِوُجُودِ الْمَنْعِ وَكَذَا لَوْ قَتَلَهُ غَيْرُهُ فَأَخَذَ دِيَتَهُ،

وَالْبَيَانُ هَاهُنَا أَنَّ السَّلَفَ وَإِنْ اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ ضَمَانِهِ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ مِنْ أَقْوَالِهِمْ إلَّا أَنَّ الْخِلَافَ مُرْتَفِعٌ فِي الْحَقِيقَةِ بِتَأْوِيلِ كَلَامِ عُمَرَ رضي الله عنه تَبْيِينُ مَرَامِهِ عَلَى وَفْقِ مَا يَقْتَضِيهِ النَّصُّ الدَّالُ عَلَى أَنَّ الْحَيَوَانَ لَا يَكُونُ مَضْمُونًا بِالْمِثْلِ (وَلِأَنَّ النَّظَرَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَاجِبٌ) إذْ الْمَغْرُورُ بَنَى أَمْرَهُ عَلَى سَبِيلٍ صَحِيحٍ فِي الشَّرْعِ فَاسْتَوْجَبَ النَّظَرَ، وَالْأَمَةُ مِلْكُ الْمُسْتَحِقِّ وَالْوَلَدُ مُتَفَرِّعٌ عَنْ مِلْكِهِ فَاسْتَوْجَبَ النَّظَرَ أَيْضًا فَوَجَبَ الْجَمْعُ بَيْنَ حَقَّيْهِمَا بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، وَذَا بِأَنْ يَحْيَى حَقُّ الْمُسْتَحِقِّ فِي مَعْنَى الْمَمْلُوكِ وَيَحْيَى حَقُّ الْمَغْرُورِ فِي صُورَتِهِ، كَذَا فِي الْكَافِي (فَيُجْعَلُ الْوَلَدُ حُرَّ الْأَصْلِ فِي حَقِّ أَبِيهِ رَقِيقًا فِي حَقِّ مُدَّعِيهِ نَظَرًا لَهُمَا) وَدَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُمَا (ثُمَّ الْوَلَدُ حَاصِلٌ فِي يَدِهِ) أَيْ فِي يَدِ الْمَغْرُورِ (مِنْ غَيْرِ صُنْعِهِ) أَيْ مِنْ غَيْرِ تَعَدٍّ مِنْهُ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ (فَلَا يَضْمَنُهُ إلَّا بِالْمَنْعِ كَمَا فِي وَلَدِ الْمَغْصُوبَةِ) فَإِنَّهُ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْغَاصِبِ عِنْدَنَا لَا يَضْمَنُهُ الْغَاصِبُ إلَّا بِالْمَنْعِ (فَلِهَذَا) أَيْ فَلِأَنَّ الْمَغْرُورَ لَا يَضْمَنُ الْوَلَدَ إلَّا بِالْمَنْعِ (تُعْتَبَرُ قِيمَةُ الْوَلَدِ يَوْمَ الْخُصُومَةِ لِأَنَّهُ يَوْمُ الْمَنْعِ) وَذَكَرَ فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ يَغْرَمُ قِيمَةَ الْوَلَدِ يَوْمَ الْقَضَاءِ لِأَنَّ الْوَلَدَ يُعَلَّقُ فِي حَقِّ الْمُسْتَوْلِدِ حُرًّا وَيُعَلَّقُ فِي حَقِّ الْمُسْتَحِقِّ رَقِيقًا فَلَا يَتَحَوَّلُ حَقُّهُ مِنْ الْعَيْنِ إلَى الْبَدَلِ إلَّا بِالْقَضَاءِ فَيَعْتَبِرُ قِيمَةَ الْوَلَدِ يَوْمَ الْقَضَاءِ كَذَلِكَ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ.

ثُمَّ عَلِمَ أَنَّ وَلَدَ الْمَغْرُورِ إنَّمَا يَكُونُ حُرًّا بِالْقِيمَةِ إذَا كَانَ الْمَغْرُورُ حُرًّا، أَمَّا إذَا كَانَ مُكَاتَبًا أَوْ عَبْدًا مَأْذُونًا لَهُ فِي التَّزَوُّجِ يَكُونُ وَلَدُهُ عَبْدًا لِلْمُسْتَحِقِّ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ، وَسَيَجِيءُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْمُكَاتَبِ كَذَا فِي غَايَةِ الْبَيَانِ (وَلَوْ مَاتَ الْوَلَدُ) يَعْنِي لَوْ مَاتَ وَلَدُ الْمَغْرُورِ قَبْلَ الْخُصُومَةِ (لَا شَيْءَ عَلَى الْأَبِ) أَيْ لَيْسَ عَلَى الْأَبِ شَيْءٌ مِنْ قِيمَتِهِ (لِانْعِدَامِ الْمَنْعِ) إذْ الْمَنْعُ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ بَعْدَ الطَّلَبِ، فَإِذَا هَلَكَ قَبْلَ الطَّلَبِ لَمْ يُوجَدْ سَبَبُ ضَمَانِهِ فَلَا يَضْمَنُ، كَمَا لَوْ هَلَكَ وَلَدُ الْمَغْصُوبَةِ عِنْدَ الْغَاصِبِ فَإِنَّهُ لَا يَضْمَنُ قِيمَتَهُ، كَذَا فِي الْكَافِي (وَكَذَا لَوْ تَرَكَ مَالًا) أَيْ وَكَذَا لَوْ تَرَكَ وَلَدُ الْمَغْرُورِ مَالًا مِيرَاثًا لِأَبِيهِ فَأَخَذَهُ أَبُوهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْأَبِ لِلْمُسْتَحِقِّ مِنْ قِيمَةِ الْوَلَدِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ لَمْ يَتَحَقَّقْ، لَا عَنْ الْوَلَدِ لِمَا مَرَّ وَلَا عَنْ بَدَلِهِ (لِأَنَّ الْإِرْثَ لَيْسَ بِبَدَلِهِ عَنْهُ) فَلَمْ يَجْعَلْ سَلَامَةَ الْإِرْثِ كَسَلَامَةِ نَفْسِهِ (وَالْمَالُ لِأَبِيهِ؛ لِأَنَّهُ) أَيْ الْوَلَدَ (حُرُّ الْأَصْلِ فِي حَقِّهِ) أَيْ فِي حَقِّ أَبِيهِ كَمَا مَرَّ (فَيَرِثُهُ) فَإِنْ قِيلَ: الْوَلَدُ وَإِنْ كَانَ حُرَّ الْأَصْلِ فِي حَقِّ أَبِيهِ إلَّا أَنَّهُ رَقِيقٌ فِي حَقِّ مُدَّعِيهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمَالُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمْ.

قُلْنَا: الْوَلَدُ عَلِقَ حُرَّ الْأَصْلِ فِي حَقِّ الْمُدَّعِي أَيْضًا، وَلِهَذَا لَا يَكُونُ الْوَلَاءُ لَهُ. وَإِنَّمَا قَدَّرْنَا الرِّقَّ فِي حَقِّهِ ضَرُورَةَ الْقَضَاءِ بِالْقِيمَةِ وَالثَّابِتُ بِالضَّرُورَةِ لَا يَعْدُو مَوْضِعَهَا، كَذَا فِي الشُّرُوحِ وَالْكَافِي. أَقُولُ: يُنَافِي هَذَا الْجَوَابُ ظَاهِرَ مَا ذَكَرَ فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ عَلَى مَا نَقَلْنَاهُ آنِفًا فَلْيَتَأَمَّلْ فِي التَّوْفِيقِ أَوْ التَّرْجِيحِ (وَلَوْ قَتَلَهُ الْأَبُ يَغْرَمُ قِيمَتَهُ) أَيْ يَضْمَنُهَا (لِوُجُودِ الْمَنْعِ) بِالْقَتْلِ (وَكَذَا لَوْ قَتَلَهُ غَيْرُهُ

ص: 315

لِأَنَّ سَلَامَةَ بَدَلِهِ لَهُ كَسَلَامَتِهِ، وَمَنْعَ بَدَلِهِ كَمَنْعِهِ فَيَغْرَمُ قِيمَتَهُ كَمَا إذَا كَانَ حَيًّا (وَيَرْجِعُ بِقِيمَةِ الْوَلَدِ عَلَى بَائِعِهِ) لِأَنَّهُ ضَمِنَ لَهُ سَلَامَتَهُ كَمَا يَرْجِعُ بِثَمَنِهِ، بِخِلَافِ الْعُقْرِ لِأَنَّهُ لَزِمَهُ لِاسْتِيفَاءِ مَنَافِعِهَا فَلَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْبَائِعِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

فَأَخَذَ دِيَتَهُ) أَيْ فَأَخَذَ الْأَبُ دِيَتَهُ (لِأَنَّ سَلَامَةَ بَدَلِهِ لَهُ) أَيْ لِأَنَّ سَلَامَةَ بَدَلِ الْوَلَدِ وَهُوَ دِيَتُهُ لِلْأَبِ (كَسَلَامَتِهِ) أَيْ كَسَلَامَةِ الْوَلَدِ نَفْسِهِ (وَمَنْعَ بَدَلِهِ كَمَنْعِهِ) أَيْ وَمَنْعَ بَدَلِ الْوَلَدِ كَمَنْعِ الْوَلَدِ نَفْسِهِ (فَيَغْرَمُ قِيمَتَهُ كَمَا إذَا كَانَ حَيًّا) وَأَمَّا إذَا لَمْ يَأْخُذْ الْأَبُ دِيَتَهُ مِنْ الْقَاتِلِ فَلَا يَضْمَنُ شَيْئًا لِأَنَّهُ لَمْ يَمْنَعْ الْوَلَدَ أَصْلًا: أَيْ لَا حَقِيقَةً وَلَا حُكْمًا، نَصَّ عَلَيْهِ فَخْرُ الدِّينِ قَاضِي خَانْ وَغَيْرُهُ فِي شُرُوحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ.

وَذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ: فَإِنْ قَضَى لَهُ بِالدِّيَةِ فَلَمْ يَقْبِضْهَا لَمْ يُؤْخَذْ بِالْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ لَمْ يَتَحَقَّقْ فِيمَا لَمْ يَصِلْ إلَى يَدِهِ مِنْ الْبَدَلِ، فَإِنْ قَبَضَ مِنْ الدِّيَةِ قَدْرَ قِيمَةِ الْمَقْتُولِ قَضَى عَلَيْهِ بِالْقِيمَةِ لِلْمُسْتَحِقِّ؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ تَحَقَّقَ بِوُصُولِ يَدِهِ إلَى الْبَدَلِ فَيَكُونُ مَنْعُهُ قَدْرَ قِيمَةِ الْوَلَدِ كَمَنْعِهِ الْوَلَدَ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَالْكِفَايَةِ (وَيَرْجِعُ بِقِيمَةِ الْوَلَدِ عَلَى بَائِعِهِ) أَيْ وَيَرْجِعُ الْأَبُ بِمَا غَرِمَ مِنْ قِيمَةِ الْوَلَدِ عَلَى بَائِعِهِ لِأَنَّهُ أَيْ بَائِعَهُ (ضَمِنَ لَهُ) أَيْ لِلْمُشْتَرِي (سَلَامَتَهُ) أَيْ سَلَامَةَ الْمَبِيعِ عَنْ الْعَيْبِ وَلَا عَيْبَ فَوْقَ الِاسْتِحْقَاقِ، كَذَا فِي مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ، وَيُسَاعِدُهُ تَقْرِيرُ صَاحِبِ النِّهَايَةِ.

أَقُولُ: يَرِدُ عَلَى ظَاهِرِ هَذَا الشَّرْحِ أَنَّهُ لَا شُبْهَةَ فِي أَنَّ الْبَائِعَ ضَامِنٌ لِلْمُشْتَرِي سَلَامَةَ الْمَبِيعِ عَنْ الْعَيْبِ، إلَّا أَنَّ الْمَبِيعَ فِي مَسْأَلَتِنَا هِيَ الْأُمُّ دُونَ الْوَلَدِ فَلَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ، فَكَأَنَّ كَثِيرًا مِنْ الشُّرَّاحِ قَصَدُوا دَفْعَ هَذَا فَقَالُوا فِي بَيَانِ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ: لِأَنَّهُ ضَمِنَ لَهُ سَلَامَتَهُ: يَعْنِي أَنَّ الْوَلَدَ جُزْءُ الْأُمِّ وَالْبَائِعُ قَدْ ضَمِنَ لِلْمُشْتَرِي سَلَامَةَ الْمَبِيعِ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ انْتَهَى.

أَقُولُ: وَيَرُدُّ عَلَى هَذَا الشَّرْحِ أَنَّ الْبَائِعَ إنَّمَا ضَمِنَ لِلْمُشْتَرِي سَلَامَةَ الْمَبِيعِ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ الْمَوْجُودَةِ عِنْدَ الْبَيْعِ لَا بِجُزْئِهِ الَّذِي يَحْدُثُ بَعْدَ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الْجُزْءِ مَعْدُومٌ حِينَ الْبَيْعِ وَلَا يَصِحُّ إدْخَالُ الْمَعْدُومِ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ أَصْلًا فَضْلًا عَنْ ضَمَانِ سَلَامَتِهِ عَنْ الْعَيْبِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْوَلَدَ فِي مَسْأَلَتِنَا مِمَّنْ حَدَثَ بَعْدَ الْبَيْعِ. وَالْحَقُّ عِنْدِي فِي هَذَا الْمَقَامِ أَنْ يُطْرَحَ حَدِيثُ الْجُزْئِيَّةِ مِنْ الْبَيِّنِ وَيُقَالُ فِي بَيَانِ مُرَادِ الْمُصَنِّفِ مِنْ قَوْلِهِ الْمَذْكُورِ: إنَّ الْبَائِعَ ضَمِنَ لِلْمُشْتَرِي سَلَامَةَ الْوَلَدِ بِوَاسِطَةِ ضَمَانِهِ سَلَامَةَ الْمَبِيعِ الَّذِي هُوَ الْأُمُّ عَنْ الْعَيْبِ، فَإِنَّ كَوْنَ وَلَدِ الْجَارِيَةِ غَيْرَ سَالِمٍ عَنْ عَيْبِ الِاسْتِحْقَاقِ عَيْبٌ لِنَفْسِ الْجَارِيَةِ أَيْضًا لِأَنَّ مِنْ مَنَافِعِهَا الِاسْتِيلَادَ وَكَوْنَ وَلَدِهَا مِنْ مَوْلَاهَا حُرَّ الْأَصْلِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْتَحِقَّهُ أَحَدٌ فَكَانَتْ سَلَامَتُهَا عَنْ الْعَيْبِ مُسْتَلْزِمَةً لِسَلَامَةِ وَلَدِهَا فَضَمَانُ الْبَائِعِ سَلَامَتَهَا ضَمَانٌ لِسَلَامَتِهِ (كَمَا يَرْجِعُ بِثَمَنِهِ) قَالَ صَاحِبُ الْكِفَايَةِ: أَيْ بِالثَّمَنِ الَّذِي أَدَّاهُ الْمُشْتَرِي إلَى الْبَائِعِ فَالضَّمِيرُ لِلْمُشْتَرِي.

وَقِيلَ بِثَمَنِ الْمُشْتَرِي إذَا اسْتَحَقَّ أَوْ بِثَمَنِ الْوَلَدِ لَوْ تُصُوِّرَ شِرَاؤُهُ وَاسْتَحَقَّهُ أَحَدٌ انْتَهَى. وَاخْتَارَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ مِنْ بَيْنِ هَذِهِ الْمَعَانِي الثَّلَاثَةِ الْمَعْنَى الْوَسْطَانِيَّ حَيْثُ قَالَ: كَمَا يَرْجِعُ بِثَمَنِهِ: أَيْ بِثَمَنِ الْمَبِيعِ وَهُوَ الْأُمُّ لِأَنَّ الْغُرُورَ شَمَلَهَا انْتَهَى.

وَأَقُولُ: لَا يَخْفَى عَلَى ذِي فِطْرَةٍ سَلِيمَةٍ أَنَّ هَذَا هُوَ الْمَعْنَى الْوَجِيهُ هَاهُنَا، وَلَكِنْ فِي تَذْكِيرِ الضَّمِيرِ هَاهُنَا نَوْعُ عُدُولٍ عَنْ الظَّاهِرِ وَلِهَذَا قَالَ فِي الْوِقَايَةِ وَغَيْرِهَا: وَرَجَعَ بِهَا كَثَمَنِهَا بِتَأْنِيثِ الضَّمِيرِ: أَيْ وَرَجَعَ بِقِيمَةِ الْوَلَدِ كَثَمَنِ الْأُمِّ (بِخِلَافِ الْعُقْرِ) يَعْنِي أَنَّ الْمَغْرُورَ لَا يَرْجِعُ عَلَى بَائِعِهِ بِعُقْرٍ وَجَبَ عَلَيْهِ وَأَخَذَ مِنْهُ الْمُسْتَحِقُّ (لِأَنَّهُ) أَيْ لِأَنَّ الْعُقْرَ (لَزِمَهُ) أَيْ لَزِمَ الْمَغْرُورَ (لِاسْتِيفَاءِ مَنَافِعِهَا) أَيْ لِاسْتِيفَاءِ مَنَافِعِ الْجَارِيَةِ الْمُسْتَحَقَّةِ: أَيْ مَنَافِعِ بُضْعِهَا (فَلَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْبَائِعِ) إذْ لَوْ رَجَعَ بِهِ سَلَّمَ لَهُ الْمُسْتَوْفَى مَجَّانًا، وَالْوَطْءُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُسَلَّمَ لِلْوَاطِئِ مَجَّانًا، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَغَيْرِهَا.

ص: 316

(كِتَابُ الْإِقْرَارِ)

(كِتَابُ الْإِقْرَارِ)

ذِكْرُ كِتَابِ الدَّعْوَى مَعَ ذِكْرِ مَا يَقْفُوهُ مِنْ الْكُتُبِ مِنْ الْإِقْرَارِ وَالصُّلْحِ وَالْمُضَارَبَةِ الْوَدِيعَةِ ظَاهِرُ التَّنَاسُبِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ دَعْوَى الْمُدَّعِي إذَا تَوَجَّهَتْ إلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَأَمْرُهُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يُقِرَّ أَوْ يُنْكِرَ، وَإِنْكَارُهُ سَبَبٌ لِلْخُصُومَةِ وَالْخُصُومَةُ مُسْتَدْعِيَةٌ لِلصُّلْحِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} وَبَعْدَمَا حَصَلَ لَهُ مِنْ الْمَالِ إمَّا بِالْإِقْرَارِ أَوْ بِالصُّلْحِ فَأَمْرُ صَاحِبِ الْمَالِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَسْتَرْبِحَ مِنْهُ أَوْ لَا، فَإِنْ اسْتَرْبَحَ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَسْتَرْبِحَ بِنَفْسِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ، وَقَدْ ذَكَرَ اسْتِرْبَاحَهُ بِنَفْسِهِ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ لِلْمُنَاسَبَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا هُنَاكَ بِمَا قَبْلَهُ، وَذَكَرَ هَاهُنَا اسْتِرْبَاحَهُ بِغَيْرِهِ وَهُوَ الْمُضَارَبَةُ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَرْبِحْ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَحْفَظَهُ بِنَفْسِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ، وَلَمْ يَذْكُرْ حِفْظَهُ بِنَفْسِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حُكْمٌ فِي الْمُعَامَلَاتِ فَبَقِيَ حِفْظُهُ بِغَيْرِهِ وَهُوَ الْوَدِيعَةُ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ.

ثُمَّ إنَّ مَحَاسِنَ الْإِقْرَارِ كَثِيرَةٌ: مِنْهَا إسْقَاطُ وَاجِبِ النَّاسِ عَنْ ذِمَّتِهِ، وَقَطْعُ أَلْسِنَتِهِمْ عَنْ مَذَمَّتِهِ. وَمِنْهَا إيصَالُ الْحَقِّ إلَى صَاحِبِهِ وَتَبْلِيغُ الْمَكْسُوبِ إلَى كَاسِبِهِ فَكَانَ فِيهِ إنْفَاعُ صَاحِبِ الْحَقِّ وَإِرْضَاءُ خَالِقِ الْخَلْقِ. وَمِنْهَا إحْمَادُ النَّاسِ الْمُقِرَّ بِصِدْقِ الْقَوْلِ وَوَصْفُهُمْ إيَّاهُ بِوَفَاءِ الْعَهْدِ وَإِنَالَةِ النَّوْلِ. ثُمَّ إنَّ هَاهُنَا احْتِيَاجًا إلَى بَيَانِ الْإِقْرَارِ لُغَةً وَشَرِيعَةً، وَبَيَانِ سَبَبِهِ وَشَرْطِهِ وَرُكْنِهِ وَحُكْمِهِ وَدَلِيلِ كَوْنِهِ حُجَّةً. أَمَّا الْإِقْرَارُ لُغَةً فَهُوَ إفْعَالٌ مِنْ قَرَّ الشَّيْءُ إذَا ثَبَتَ، فَالْإِقْرَارُ إثْبَاتٌ لِمَا كَانَ مُتَزَلْزِلًا بَيْنَ الْإِقْرَارِ وَالْجُحُودِ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ. وَأَمَّا شَرِيعَةً فَهُوَ إخْبَارٌ عَنْ ثُبُوتِ حَقٍّ لِلْغَيْرِ عَلَى نَفْسِهِ كَذَا فِي الْكَافِي وَعَامَّةِ الْمُتُونِ وَالشُّرُوحِ. وَقَالَ فِي الْعِنَايَةِ الْإِقْرَارُ مُشْتَقٌّ مِنْ الْقَرَارِ فَكَانَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ إثْبَاتِ مَا كَانَ مُتَزَلْزِلًا. وَفِي الشَّرِيعَةِ: عِبَارَةٌ عَنْ الْإِخْبَارِ عَنْ ثُبُوتِ الْحَقِّ انْتَهَى.

أَقُولُ: لَقَدْ أَصَابَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي بَيَانِ مَعْنَى الْإِقْرَارِ لُغَةً وَلَمْ يُصِبْ فِي بَيَانِ مَعْنَاهُ شَرِيعَةً. أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ أَخْذَ الْإِقْرَارِ فِي تَعْرِيفِ مَعْنَى الْإِقْرَارِ لُغَةً كَمَا فَعَلَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ مَعَ كَوْنِهِ مُؤَدِّيًا إلَى الْمُصَادَرَةِ مِمَّا يَخْتَلُّ بِهِ الْمَعْنَى، إذْ لَا مَعْنَى

ص: 317

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

لِكَوْنِ إثْبَاتِ مَا كَانَ مُتَزَلْزِلًا بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ الْمَخْصُوصَيْنِ هُوَ أَحَدُ ذَيْنِك الشَّيْئَيْنِ كَمَا لَا يَخْفَى. وَأَيْضًا إنَّ الْإِقْرَارَ فِي اللُّغَةِ لَيْسَ بِمَخْصُوصٍ بِإِثْبَاتِ مَا تَزَلْزَلَ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ الْمَخْصُوصَيْنِ، بَلْ هُوَ عَامٌّ لِإِثْبَاتِ كُلِّ مَا تَزَلْزَلَ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ مُطْلَقًا كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مَأْخَذُ اشْتِقَاقِهِ وَهُوَ الْقَرَارُ بِمَعْنَى الثُّبُوتِ مُطْلَقًا.

وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الْإِخْبَارَ عَنْ ثُبُوتِ الْحَقِّ يَتَنَاوَلُ الدَّعْوَةَ وَالشَّهَادَةَ أَيْضًا

وَإِنَّمَا يَمْتَازُ الْإِقْرَارُ الشَّرْعِيُّ عَنْهُمَا بِقَيْدٍ لِلْغَيْرِ عَنْ نَفْسِهِ فَإِنَّ الدَّعْوَى إخْبَارٌ عَنْ ثُبُوتِ الْحَقِّ لِنَفْسِهِ عَلَى الْغَيْرِ، وَالشَّهَادَةَ إخْبَارٌ عَنْ ثُبُوتِ الْحَقِّ لِلْغَيْرِ عَلَى الْغَيْرِ، فَإِذَا زِيدَ فِي تَعْرِيفِ الْإِقْرَارِ الشَّرْعِيِّ قَيْدٌ لِلْغَيْرِ عَلَى نَفْسِهِ كَمَا فَعَلَهُ عَامَّةُ الْفُقَهَاءِ يَخْرُجُ عَنْهُ الدَّعْوَى وَالشَّهَادَةُ.

وَأَمَّا إذَا أَطْلَقَ وَقِيلَ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ الْإِخْبَارِ عَنْ ثُبُوتِ الْحَقِّ كَمَا فَعَلَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فَيَدْخُلُ فِيهِ الدَّعْوَى وَالشَّهَادَةُ فَيَخْتَلُّ التَّعْرِيفُ ثُمَّ أَقُولُ: فِي تَعْرِيفِ الْعَامَّةِ أَيْضًا شَيْءٌ، أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُ قَدْ تَقَرَّرَ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ أَنَّ التَّصَرُّفَاتِ إمَّا إثْبَاتَاتٌ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالْهِبَةِ وَنَحْوِهَا، وَإِمَّا إسْقَاطَاتٌ كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالْعَفْوِ عَنْ الْقِصَاصِ وَنَحْوِهَا. وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْإِخْبَارَ عَنْ ثُبُوتِ حَقٍّ لِلْغَيْرِ عَلَى نَفْسِهِ لَا يَصْدُقُ عَلَى الْإِقْرَارِ بِقِسْمِ الْإِسْقَاطَاتِ فَيَلْزَمُ أَنْ لَا يَكُونَ تَعْرِيفُهُمْ الْمَذْكُورُ جَامِعًا. وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ إقْرَارَ الْمُكْرَهِ لِآخَرَ بِشَيْءٍ مِنْ الْحُقُوقِ غَيْرُ صَحِيحٍ شَرْعًا عَلَى مَا صَرَّحُوا بِهِ، مَعَ أَنَّهُ يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ إخْبَارٌ عَنْ ثُبُوتِ حَقٍّ لِلْغَيْرِ عَلَى نَفْسِهِ فَيَلْزَمُ أَنْ لَا يَكُونَ تَعْرِيفُهُمْ الْمَزْبُورُ مَانِعًا.

وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْ الثَّانِي بِأَنَّ كَوْنَ إقْرَارِ الْمُكْرَهِ غَيْرَ صَحِيحٍ شَرْعًا، إنَّمَا يَقْتَضِي أَنْ لَا يَكُونَ صَحِيحًا شَرْعًا لَا أَنْ لَا يَكُونَ إقْرَارًا مُطْلَقًا فِي الشَّرْعِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودُهُمْ تَعْرِيفَ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ الْإِقْرَارُ فِي الشَّرْعِ سَوَاءٌ كَانَ صَحِيحًا أَوْ فَاسِدًا، وَعَنْ هَذَا تُرَى التَّعْرِيفَاتُ الشَّرْعِيَّةُ لِكَثِيرٍ مِنْ الْعُقُودِ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَنَحْوِهِمَا يَتَنَاوَلُ الصَّحِيحَ مِنْهُ وَالْفَاسِدَ، حَتَّى إنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ تَرَكُوا قَيْدَ التَّرَاضِي فِي تَعْرِيفِ الْبَيْعِ بِحَسَبِ الشَّرْعِ لِيَتَنَاوَلَ بَيْعَ الْمُكْرَهِ كَسَائِرِ الْبَيْعَاتِ الْفَاسِدَةِ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ فِي مَوْضِعِهِ. وَأَمَّا سَبَبُ الْإِقْرَارِ فَإِرَادَةُ إسْقَاطِ الْوَاجِبِ عَنْ ذِمَّتِهِ بِإِخْبَارِهِ وَإِعْلَامِهِ لِئَلَّا يَبْقَى فِي تَبِعَةِ الْوَاجِبِ. وَأَمَّا شَرْطُهُ فَسَيَأْتِي فِي الْكِتَابِ. وَأَمَّا رُكْنُهُ فَالْأَلْفَاظُ الْمَذْكُورَةُ فِيمَا يَجِبُ بِهِ مُوجَبُ الْإِقْرَارَ. وَأَمَّا حُكْمُهُ فَظُهُورُ مَا أَقَرَّ بِهِ لَا ثُبُوتُهُ

ص: 318

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ابْتِدَاءً؛ أَلَا يَرَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْإِقْرَارُ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ مَعَ الْإِكْرَاهِ، وَالْإِنْشَاءُ يَصِحُّ مَعَ الْإِكْرَاهِ عِنْدَنَا، وَلِهَذَا قَالُوا: لَوْ أَقَرَّ لِغَيْرِهِ بِمَالٍ وَالْمُقَرُّ لَهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ كَاذِبٌ فِي إقْرَارِهِ لَا يَحِلُّ لَهُ أَخْذُهُ عَنْ كَرَمِهِ مِنْهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى إلَّا أَنْ يُسَلِّمَهُ بِطِيبٍ مِنْ نَفْسِهِ فَيَكُونُ تَمْلِيكًا مُبْتَدَأً عَلَى سَبِيلِ الْهِبَةِ، وَالْمِلْكُ يَثْبُتُ لِلْمُقَرِّ لَهُ بِلَا تَصْدِيقٍ وَقَبُولٍ وَلَكِنْ يَبْطُلُ بِرَدِّهِ، وَالْمُقَرُّ لَهُ إذَا صَدَّقَهُ ثُمَّ رَدَّهُ لَا يَصِحُّ رَدُّهُ، كَذَا فِي الْكَافِي وَغَيْرِهِ.

وَقَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَمَنْ يَحْذُو حَذْوَهُ: وَحُكْمُهُ لُزُومُ مَا أَقَرَّ بِهِ عَلَى الْمُقِرِّ، وَعَمَلُهُ إظْهَارُ الْمُخْبَرِ بِهِ لِغَيْرِهِ لَا التَّمْلِيكُ بِهِ ابْتِدَاءً. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَسَائِلُ: إحْدَاهَا أَنَّ الرَّجُلَ إذَا أَقَرَّ بِعَيْنٍ لَا يَمْلِكُهُ يَصِحُّ إقْرَارُهُ حَتَّى لَوْ مَلَكَهُ الْمُقِرُّ يَوْمًا مِنْ الدَّهْرِ يُؤْمَرُ بِتَسْلِيمِهِ إلَى الْمُقَرِّ لَهُ، وَلَوْ كَانَ الْإِقْرَارُ تَمْلِيكًا مُبْتَدَأً لَمَا صَحَّ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ تَمْلِيكُ مَا لَيْسَ بِمَمْلُوكٍ لَهُ. وَالثَّانِيَةُ أَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْخَمْرِ لِلْمُسْلِمِ يَصِحُّ حَتَّى يُؤْمَرَ بِالتَّسْلِيمِ إلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ تَمْلِيكًا مُبْتَدَأً لَمْ يَصِحَّ. وَالثَّالِثَةُ أَنَّ الْمَرِيضَ الَّذِي لَا دَيْنَ عَلَيْهِ إذَا أَقَرَّ بِجَمِيعِ مَالِهِ لِأَجْنَبِيٍّ صَحَّ إقْرَارُهُ وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَةِ الْوَرَثَةِ، وَلَوْ كَانَ تَمْلِيكًا مُبْتَدَأً لَمْ يَنْفُذْ إلَّا بِقَدْرِ الثُّلُثِ عِنْدَ عَدَمِ إجَازَتِهِمْ.

وَالرَّابِعَةُ أَنَّ الْعَبْدَ الْمَأْذُونَ إذَا أَقَرَّ لِرَجُلٍ بِعَيْنٍ فِي يَدِهِ صَحَّ إقْرَارُهُ، وَلَوْ كَانَ الْإِقْرَارُ سَبَبًا لِلْمِلْكِ ابْتِدَاءً كَانَ تَبَرُّعًا مِنْ الْعَبْدِ وَهُوَ لَا يَجُوزُ فِي الْكَثِيرِ. وَأَمَّا دَلِيلُ كَوْنِهِ حُجَّةً عَلَى الْمُقِرِّ فَالْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ وَنَوْعٌ مِنْ الْمَعْقُولِ. أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا} بَيَانُهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِإِمْلَاءِ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ، فَلَوْ لَمْ يَلْزَمْهُ بِالْإِمْلَاءِ شَيْءٌ لَمَا أَمَرَ بِهِ وَالْإِمْلَاءُ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِالْإِقْرَارِ، وَأَيْضًا نَهَى عَنْ الْكِتْمَانِ وَهُوَ آيَةٌ عَلَى لُزُومِ مَا أَقَرَّ بِهِ كَمَا فِي نَهْيِ الشُّهُودِ عَنْ كِتْمَانِ الشَّهَادَةِ.

وقَوْله تَعَالَى {قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا} بَيَانُهُ أَنَّهُ طَلَبَ مِنْهُمْ الْإِقْرَارَ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْإِقْرَارُ حُجَّةً لَمَا طَلَبَهُ. وقَوْله تَعَالَى {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: شَهَادَةُ الْمَرْءِ عَلَى نَفْسِهِ إقْرَارٌ. " وقَوْله تَعَالَى {بَلِ الإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: أَيْ شَاهِدٌ بِالْحَقِّ " وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَجَمَ مَاعِزًا بِإِقْرَارِهِ بِالزِّنَا وَالْغَامِدِيَّةَ بِاعْتِرَافِهَا» وَقَالَ فِي قِصَّةِ الْعَسِيفِ: «وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ إلَى امْرَأَةِ هَذَا فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا» فَأَثْبَتَ الْحَدَّ بِالِاعْتِرَافِ وَالْحَدِيثَانِ مَشْهُورَانِ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْإِقْرَارُ حُجَّةً لَمَا طَلَبَهُ وَأَثْبَتَ الْحَدَّ بِهِ وَإِذَا كَانَ حُجَّةً فِيمَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ فَلَأَنْ يَكُونَ حُجَّةً فِي غَيْرِهِ أَوْلَى وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ أَجْمَعُوا عَلَى كَوْنِ الْإِقْرَارِ حُجَّةً مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى يَوْمِنَا هَذَا مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ.

وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَلِأَنَّ الْخَبَرَ كَانَ مُتَرَدِّدًا بَيْنَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ فِي الْأَصْلِ، لَكِنْ ظَهَرَ رُجْحَانُ الصِّدْقِ عَلَى الْكَذِبِ لِوُجُودِ الدَّاعِي إلَى الصِّدْقِ وَالصَّارِفِ عَنْ الْكَذِبِ، لِأَنَّ عَقْلَهُ وَدِينَهُ يَحْمِلَانِهِ عَلَى الصِّدْقِ وَيَزْجُرَانِهِ عَنْ الْكَذِبِ، وَنَفْسُهُ الْأَمَّارَةُ بِالسُّوءِ رُبَّمَا تَحْمِلُهُ عَلَى الْكَذِبِ فِي حَقِّ الْغَيْرِ، أَمَّا فِي حَقِّ نَفْسِهِ فَلَا فَصَارَ عَقْلُهُ وَدِينُهُ وَطَبْعُهُ دَوَاعِيَ إلَى الصِّدْقِ زَوَاجِرَ عَنْ الْكَذِبِ، فَكَانَ الصِّدْقُ ظَاهِرًا فِيمَا أَقَرَّ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ فَوَجَبَ قَبُولُهُ وَالْعَمَلُ بِهِ.

ص: 319

قَالَ (وَإِذَا أَقَرَّ الْحُرُّ الْبَالِغُ الْعَاقِلُ بِحَقٍّ لَزِمَهُ إقْرَارُهُ

قَالَ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ (وَإِذَا أَقَرَّ الْحُرُّ الْبَالِغُ الْعَاقِلُ بِحَقٍّ لَزِمَهُ) أَيْ لَزِمَ الْمُقِرَّ (إقْرَاره) أَيْ مُوجَبُ إقْرَارِهِ أَوْ مَا أَقَرَّ بِهِ.

أَقُولُ: يَرِدُ عَلَيْهِ النَّقْضُ بِمَا إذَا أَقَرَّ الْحُرُّ الْبَالِغُ الْعَاقِلُ بِحَقٍّ مُكْرَهًا فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ إقْرَارُهُ، فَكَانَ لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ الطَّائِعِ أَيْضًا لَا يُقَالُ: تَرَكَهُ اعْتِمَادًا عَلَى ظُهُورِ كَوْنِ الطَّوْعِ وَالرِّضَا مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الْإِقْرَارِ. لِأَنَّا نَقُولُ: لَيْسَ ظُهُورُهُ بِمَثَابَةِ ظُهُورِ اشْتِرَاطِ الْعَقْلِ وَالْبُلُوغِ اللَّذَيْنِ هُمَا مَدَارُ الْأَحْكَامِ كُلِّهَا وَلَمْ يَتْرُكْهُمَا

ص: 320

مَجْهُولًا كَانَ مَا أَقَرَّ بِهِ أَوْ مَعْلُومًا) اعْلَمْ أَنَّ الْإِقْرَارَ إخْبَارٌ عَنْ ثُبُوتِ الْحَقِّ، وَأَنَّهُ مُلْزِمٌ لِوُقُوعِهِ دَلَالَةً؛ أَلَا تَرَى كَيْفَ أَلْزَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَاعِزًا رضي الله عنه الرَّجْمَ بِإِقْرَارِهِ وَتِلْكَ الْمَرْأَةَ بِاعْتِرَافِهَا. وَهُوَ حُجَّةٌ قَاصِرَةٌ لِقُصُورِ وِلَايَةِ الْمُقِرِّ عَنْ غَيْرِهِ فَيَقْتَصِرُ عَلَيْهِ.

وَشَرْطُ الْحُرِّيَّةِ لِيَصِحَّ إقْرَارُهُ مُطْلَقًا، فَإِنَّ الْعَبْدَ الْمَأْذُونَ لَهُ وَإِنْ كَانَ مُلْحَقًا بِالْحُرِّ فِي حَقِّ الْإِقْرَارِ،

مَجْهُولًا كَانَ مَا أَقَرَّ بِهِ أَوْ مَعْلُومًا) هَذَا أَيْضًا لَفْظُ الْقُدُورِيِّ: يَعْنِي لَا فَرْقَ فِي صِحَّةِ الْإِقْرَارِ وَلُزُومِهِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مَا أَقَرَّ بِهِ مَعْلُومًا أَوْ مَجْهُولًا كَمَا سَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ. قَالَ الْمُصَنِّفُ (اعْلَمْ أَنَّ الْإِقْرَارَ إخْبَارٌ عَنْ ثُبُوتِ الْحَقِّ) أَرَادَ بِهَذَا، التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ الْإِقْرَارَ إخْبَارٌ عَنْ ثُبُوتِ الْحَقِّ فِيمَا مَضَى لَا إنْشَاءُ الْحَقِّ ابْتِدَاءً لِئَلَّا يَرِدَ الْإِشْكَالُ بِصِحَّةِ الْإِقْرَارِ بِخَمْرٍ لِلْمُسْلِمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَسَائِلِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى كَوْنِ الْإِقْرَارِ إخْبَارًا عَمَّا ثَبَتَ فِيمَا مَضَى لَا إنْشَاءً فِي الْحَالِ كَمَا بَيَّنَّاهَا فِيمَا مَرَّ، وَلَمْ يَرُدَّ بِذَلِكَ تَعْرِيفَ الْإِقْرَارِ حَتَّى يَرِدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَتَنَاوَلُ الدَّعْوَى وَالشَّهَادَةَ أَيْضًا فَلَمْ يَكُنْ مَانِعًا عَنْ دُخُولِ الْأَغْيَارِ كَمَا زَعَمَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ (وَأَنَّهُ مُلْزِمٌ) أَيْ وَأَنَّ الْإِقْرَارَ عَلَى الْمُقِرِّ مَا أَقَرَّ (بِهِ لِوُقُوعِهِ) أَيْ لِوُقُوعِ الْإِقْرَارِ (دَلَالَةً) أَيْ دَلِيلًا عَلَى وُجُودِ الْمُخْبَرِ بِهِ كَمَا يَشْهَدُ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ وَنَوْعٌ مِنْ الْمَعْقُولِ عَلَى مَا فَصَّلْنَاهُ فِيمَا مَرَّ.

وَقَدْ أَشَارَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله إلَى بَعْضٍ مِنْهَا بِقَوْلِهِ (أَلَا تَرَى كَيْفَ أَلْزَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَاعِزًا الرَّجْمَ بِإِقْرَارِهِ) أَيْ بِإِقْرَارِهِ بِالزِّنَا (وَتِلْكَ الْمَرْأَةَ) أَيْ وَكَيْفَ أَلْزَمَ تِلْكَ الْمَرْأَةَ وَهِيَ الْغَامِدِيَّةُ الرَّجْمَ (بِاعْتِرَافِهَا) أَيْ بِاعْتِرَافِهَا بِالزِّنَا أَيْضًا، فَإِذَا كَانَ مُلْزِمًا فِيمَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ فَلَأَنْ يَكُونَ مُلْزِمًا فِي غَيْرِهِ أَوْلَى كَذَا قَالُوا. أَقُولُ: يَرُدُّ عَلَى ظَاهِرِهِ مَنْعُ إطْلَاقِ هَذِهِ الْأَوْلَوِيَّةِ فَإِنَّ الْعَبْدَ الْمَحْجُورَ عَلَيْهِ يَصِحُّ إقْرَارُهُ بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ وَلَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ بِالْمَالِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِيمَا سَيَأْتِي فَكَانَ مُلْزَمًا فِي حَقِّهِ مَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ دُونَ غَيْرِهِ فَتَأَمَّلْ فِي الدَّفْعِ (وَهُوَ) أَيْ الْإِقْرَارُ (حُجَّةٌ قَاصِرَةٌ) أَيْ قَاصِرَةٌ عَلَى نَفْسِ الْمُقِرِّ غَيْرُ مُتَعَدِّيَةٍ إلَى الْغَيْرِ (لِقُصُورِ وِلَايَةِ الْمُقِرِّ عَنْ غَيْرِهِ فَيَقْتَصِرُ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الْمُقِرِّ نَفْسِهِ، حَتَّى لَوْ أَقَرَّ مَجْهُولُ الْأَصْلِ بِالرِّقِّ لِرَجُلٍ جَازَ ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ وَمَالِهِ وَلَمْ يَصْدُقْ عَلَى أَوْلَادِهِ وَأُمَّهَاتِهِمْ وَمُدَبَّرِيهِ وَمُكَاتَبِيهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ حَقُّ الْحُرِّيَّةِ أَوْ اسْتِحْقَاقُ الْحُرِّيَّةِ لِهَؤُلَاءِ فَلَا يَصْدُقُ عَلَيْهِمْ، بِخِلَافِ الْبَيِّنَةِ فَإِنَّهَا تَصِيرُ حُجَّةً بِالْقَضَاءِ وَلِلْقَاضِي وِلَايَةٌ عَامَّةٌ فَتَتَعَدَّى إلَى الْكُلِّ، أَمَّا الْإِقْرَارُ فَلَا يَفْتَقِرُ إلَى الْقَضَاءِ فَيُنَفَّذُ فِي حَقِّ الْمُقِرِّ وَحْدَهُ، كَذَا فِي الْكَافِي وَغَيْرِهِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا لَا يُنَافِي مَا ذَكَرُوا أَنَّ الْإِقْرَارَ حُجَّةٌ شَرْعِيَّةٌ فَوْقَ الشَّهَادَةِ بِنَاءً عَلَى انْتِفَاءِ التُّهْمَةِ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْقُوَّةَ وَالضَّعْفَ وَرَاءَ التَّعْدِيَةِ وَالِاقْتِصَارِ، فَاتِّصَافُ الْإِقْرَارِ بِالِاقْتِصَارِ عَلَى نَفْسِ الْمُقِرِّ وَالشَّهَادَةِ بِالتَّعَدِّيَةِ إلَى الْغَيْرِ لَا يُنَافِي اتِّصَافَهُ بِالْقُوَّةِ، وَاتِّصَافَهَا بِالضَّعْفِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ بِنَاءً عَلَى انْتِفَاءِ التُّهْمَةِ فِيهِ دُونَهَا (وَشَرَطَ الْحُرِّيَّةَ لِيَصِحَّ إقْرَارُهُ مُطْلَقًا) أَيْ فِي الْمَالِ وَغَيْرِهِ (فَإِنَّ الْعَبْدَ الْمَأْذُونَ لَهُ وَإِنْ كَانَ مُلْحَقًا بِالْحُرِّ فِي حَقِّ الْإِقْرَارِ) حَتَّى إذَا أَقَرَّ بِدَيْنٍ لِرَجُلٍ

ص: 321

لَكِنَّ الْمَحْجُورَ عَلَيْهِ لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ بِالْمَالِ وَيَصِحُّ بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ

أَوْ بِوَدِيعَةٍ أَوْ عَارِيَّةٍ أَوْ غَصْبٍ يَصِحُّ (لَكِنَّ الْمَحْجُورَ عَلَيْهِ لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ بِالْمَالِ وَيَصِحُّ بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَكَأَنَّ هَذَا اعْتِذَارٌ عَنْ قَوْلِهِ إذَا أَقَرَّ الْحُرُّ، وَلَعَلَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِأَنَّهُ قَالَ: إذَا أَقَرَّ الْحُرُّ بِحَقٍّ لَزِمَهُ وَهَذَا صَحِيحٌ، وَأَمَّا أَنَّ غَيْرَ الْحُرِّ إذَا أَقَرَّ لَزِمَ أَوْ لَمْ يَلْزَمْ فَسَاكِتٌ عَنْهُ فَلَا يَرِدُ عَلَيْهِ شَيْءٌ اهـ.

أَقُولُ: لَيْسَ مَا ذَكَرَهُ بِصَحِيحٍ، إذْ قَدْ صَرَّحُوا فِي مَوَاضِعَ شَتَّى مِنْ هَذَا الْكِتَابِ وَغَيْرِهِ بِأَنَّ التَّخْصِيصَ بِالذِّكْرِ فِي الرِّوَايَاتِ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَاهُ بِلَا خِلَافٍ، حَتَّى أَنَّ الشَّارِحَ الْمَذْكُورَ قَالَ فِي أَوَاخِرِ فَصْلِ الْقِرَاءَةِ مِنْ بَابِ النَّوَافِلِ مِنْ كِتَابِ الصَّلَاةِ: فَإِنْ قِيلَ: التَّخْصِيصُ بِالذِّكْرِ لَا يَدُلُّ عَلَى النَّفْيِ قُلْنَا: ذَلِكَ فِي النُّصُوصِ دُونَ الرِّوَايَاتِ انْتَهَى. فَكَيْفَ يَصِحُّ قَوْلُهُ هَاهُنَا، وَأَمَّا أَنَّ غَيْرَ الْحُرِّ إذَا أَقَرَّ لَزِمَ أَوْ لَمْ يَلْزَمْ فَسَاكِتٌ عَنْهُ، وَلَوْ سُلِّمَ أَنَّ لُزُومَ إقْرَارِ غَيْرِ الْحُرِّ وَعَدَمَ لُزُومِهِ مَسْكُوتٌ عَنْهُ لَا يَقْصِدُ نَفْيَ لُزُومِ ذَلِكَ بِطَرِيقِ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ لَمْ يَصِحَّ قَوْلُهُ فَلَا يَرِدُ عَلَيْهِ شَيْءٌ، إذْ يَرِدُ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ اسْتِدْرَاكُ قَيْدِ الْحُرِّ فَيَحْتَاجُ إلَى الِاعْتِذَارِ عَنْ ذِكْرِهِ. وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: لَيْسَ بِمَعْذِرَةٍ، وَإِنَّمَا هُوَ لِبَيَانِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْعَبِيدِ فِي صِحَّةِ أَقَارِيرِهِمْ بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ وَحَجْرِ الْمَحْجُورِ عَنْ الْإِقْرَارِ بِالْمَالِ دُونَ الْمَأْذُونِ لَهُ انْتَهَى.

أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا أَيْضًا بِصَحِيحٍ، أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُ لَا يَشُكُّ الْعَاقِلُ النَّاظِرُ إلَى قَوْلِ الْمُصَنِّفِ: وَشَرَطَ الْحُرِّيَّةَ لِيَصِحَّ إقْرَارُهُ مُطْلَقًا إلَخْ فِي أَنَّ مُرَادَهُ هُوَ الْمَعْذِرَةُ عَنْ ذِكْرِ قَيْدِ الْحُرِّ لَا بَيَانُ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْعَبِيدِ، وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ هَذَا لِبَيَانِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْعَبِيدِ لَمَا كَانَ لِذِكْرِ قَوْلِهِ: وَيَصِحُّ بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ مَوْقِعٌ، إذْ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُمْ بَلْ هُوَ مُخِلٌّ بِهِ لِأَنَّهُمْ مُتَّحِدُونَ فِي صِحَّةِ أَقَارِيرِهِمْ بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ، فَالْمَحْمَلُ الصَّحِيحُ لِكَلَامِ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا عَلَى فَرْضِ أَنْ لَا يَكُونَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ الْمَعْذِرَةَ إنَّمَا هُوَ بَيَانُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْقُيُودِ الثَّلَاثَةِ الْوَاقِعَةِ فِي كَلَامِ الْقُدُورِيِّ بِأَنَّ قَيْدَ الْحُرِّيَّةِ شَرْطُ صِحَّةِ الْإِقْرَارِ مُطْلَقًا لَا شَرْطُ صِحَّةِ مُطْلَقِ الْإِقْرَارِ، بِخِلَافِ الْقَيْدَيْنِ الْآخَرَيْنِ: أَعْنِي الْبُلُوغَ وَالْعَقْلَ تَأَمَّلْ تَقِفْ. ثُمَّ أَقُولُ: بَقِيَ بَحْثٌ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ، أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ كَوْنَ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ مُلْحَقًا بِالْحُرِّ فِي حَقِّ الْإِقْرَارِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فَإِنَّ الْعَبْدَ الْمَأْذُونَ وَإِنْ كَانَ مُلْحَقًا بِالْحُرِّ فِي حَقِّ الْإِقْرَارِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ، فَإِنَّهُمْ صَرَّحُوا بِأَنَّ الْعَبْدَ الْمَأْذُونَ لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ بِالْمَهْرِ وَالْكَفَالَةِ وَقَتْلِ الْخَطَأِ وَقَطْعِ يَدِ الرَّجُلِ عَمْدًا أَوْ خَطَأً لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِتِجَارَةٍ وَهُوَ مُسَلَّطٌ عَلَى التِّجَارَةِ لَا غَيْرُ، وَلَا شَكَّ فِي صِحَّةِ إقْرَارِ الْحُرِّ بِتِلْكَ الْأُمُورِ فَكَانَ الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ مِمَّنْ لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ مُطْلَقًا بِخِلَافِ الْحُرِّ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُهُ فَإِنَّ الْعَبْدَ الْمَأْذُونَ وَإِنْ كَانَ مُلْحَقًا بِالْحُرِّ فِي حَقِّ الْإِقْرَارِ عَلَى الْفَرْضِ وَالْمُبَالَغَةِ.

وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ إقْرَارَ الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ بِالْمَالِ نَافِذٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ، وَيَلْزَمُهُ الْمَالُ بَعْدَ الْحُرِّيَّةِ وَإِنْ لَمْ يَلْزَمْهُ فِي الْحَالِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي كِتَابِ الْحَجْرِ، فَمَا مَعْنَى نَفْيِ صِحَّةِ إقْرَارِهِ بِالْمَالِ هَاهُنَا بِقَوْلِهِ لَكِنَّ الْمَحْجُورَ عَلَيْهِ لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ بِالْمَالِ. لَا يُقَالُ: مُرَادُهُ هَاهُنَا أَنَّ إقْرَارَهُ بِالْمَالِ لَا يَصِحُّ فِي الْحَالِ لَا أَنَّهُ لَا يَصِحُّ مُطْلَقًا فَيُوَافِقُ مَا ذَكَرَهُ فِي كِتَابِ الْحَجْرِ. لِأَنَّا نَقُولُ: لَا شَكَّ أَنَّ مَقْصُودَهُ هَاهُنَا تَوْجِيهُ

ص: 322

لِأَنَّ إقْرَارَهُ عُهِدَ مُوجِبًا لِتَعَلُّقِ الدَّيْنِ بِرَقَبَتِهِ وَهِيَ مَالُ الْمَوْلَى فَلَا يُصَدَّقُ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ الْمَأْذُونِ لِأَنَّهُ مُسَلَّطٌ عَلَيْهِ مِنْ جِهَتِهِ، وَبِخِلَافِ الْحَدِّ وَالدَّمِ لِأَنَّهُ مُبْقًى عَلَى أَصْلِ الْحُرِّيَّةِ فِي ذَلِكَ، حَتَّى لَا يَصِحَّ إقْرَارُ الْمَوْلَى عَلَى الْعَبْدِ فِيهِ،

اشْتِرَاطِ الْحُرِّيَّةِ فِي مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ، وَالْمَذْكُورُ فِي جَوَابِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لُزُومُ الْإِقْرَارِ مُطْلَقًا: أَيْ بِلَا تَقْيِيدٍ بِالْحَالِ فَلَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ، وَأَيْضًا عَدَمُ اللُّزُومِ فِي الْحَالِ يُوجَدُ فِي الْحُرِّ أَيْضًا كَمَا إذَا أَقَرَّ بِالدُّيُونِ الْمُؤَجَّلَةِ، وَكَمَا إذَا أَقَرَّ لِإِنْسَانٍ بِعَيْنٍ مَمْلُوكَةٍ لِلْغَيْرِ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ فِي الْحَالِ، وَإِذَا مَلَكَهَا يَوْمًا يَلْزَمُهُ وَيُؤْمَرُ بِتَسْلِيمِهَا إلَى الْمُقَرِّ لَهُ، عَلَى أَنَّ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ هَاهُنَا عَدَمُ صِحَّةِ إقْرَارِ الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ بِالْمَالِ لَا عَدَمُ لُزُومِهِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ لُزُومِ إقْرَارِهِ بِالْمَالِ فِي الْحَالِ كَمَا ذَكَرَهُ فِي كِتَابِ الْحَجْرِ عَدَمُ صِحَّةِ إقْرَارِهِ بِهِ فِي الْحَالِ فَلَا يَتِمُّ التَّوْفِيقُ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ تُحْمَلَ الصِّحَّةُ هَاهُنَا عَلَى اللُّزُومِ.

قَالَ فِي الْبَدَائِعِ: وَأَمَّا الْحُرِّيَّةُ فَلَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْإِقْرَارِ، فَيَصِحُّ إقْرَارُ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ بِالدَّيْنِ وَالْعَيْنِ لِمَا بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الْمَأْذُونِ، وَكَذَا بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ، وَكَذَا الْعَبْدُ الْمَحْجُورُ يَصِحُّ إقْرَارُهُ بِالْمَالِ لَكِنْ لَا يُنَفَّذُ عَلَى الْمَوْلَى لِلْحَالِ حَتَّى لَا تُبَاعَ رَقَبَتُهُ بِالدَّيْنِ، بِخِلَافِ الْمَأْذُونِ، إلَّا أَنَّهُ يَصِحُّ إقْرَارُهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ حَتَّى يُؤَاخَذَ بِهِ بَعْدَ الْحُرِّيَّةِ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْإِقْرَارِ لِوُجُودِ الْعَقْلِ وَالْبُلُوغِ إلَّا أَنَّهُ امْتَنَعَ النَّفَاذُ عَلَى الْمَوْلَى لِلْحَالِ لِحَقِّهِ، فَإِذَا عَتَقَ فَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ فَيُؤَاخَذُ بِهِ، وَكَذَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ بِالْحَدِّ وَالْقِصَاصِ فَيُؤَاخَذُ بِهِ لِلْحَالِ؛ لِأَنَّ نَفْسَهُ فِي حَقِّ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ كَالْخَارِجِ عَنْ مِلْكِ الْمَوْلَى، وَلِهَذَا لَوْ أَقَرَّ الْمَوْلَى عَلَيْهِ بِالْحَدِّ وَالْقِصَاصِ لَا يَصِحُّ انْتَهَى.

وَقَالَ فِي التَّبْيِينِ: وَكَوْنُ الْمُقِرِّ حُرًّا لَيْسَ بِشَرْطٍ حَتَّى يَصِحَّ إقْرَارُ الْعَبْدِ وَيَنْفُذَ فِي الْحَالِ فِيمَا لَا تُهْمَةَ فِيهِ كَالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ، وَفِيمَا فِيهِ تُهْمَةٌ لَا يُؤَاخَذُ بِهِ فِي الْحَالِ لِأَنَّهُ إقْرَارٌ عَلَى الْغَيْرِ وَهُوَ مَوْلًى، وَيُؤَاخَذُ بِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ لِزَوَالِ الْمَانِعِ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ أَقَرَّ الْحُرُّ لِإِنْسَانٍ بِعَيْنٍ مَمْلُوكَةٍ لِغَيْرِهِ لَا يَنْفُذُ لِلْحَالِ، وَأَمَّا إذَا مَلَكَهَا يَوْمًا يُؤْمَرُ بِتَسْلِيمِهَا إلَى الْمُقَرِّ لَهُ لِزَوَالِ الْمَانِعِ انْتَهَى. قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِ مَجْمُوعِ مَا ذَكَرَهُ هَاهُنَا (لِأَنَّ إقْرَارَهُ) أَيْ إقْرَارَ الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ (عُهِدَ) أَيْ عُرِفَ (مُوجِبًا لِتَعَلُّقِ الدَّيْنِ بِرَقَبَتِهِ) لِأَنَّ ذِمَّتَهُ ضَعُفَتْ بِالرِّقِّ فَانْضَمَّتْ إلَيْهَا مَالِيَّةُ الرَّقَبَةِ، كَذَا فِي الْكَافِي وَغَيْرِهِ (وَهِيَ) أَيْ رَقَبَةُ الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ (مَالُ الْمَوْلَى فَلَا يُصَدَّقُ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الْمَوْلَى لِقُصُورِ الْحُجَّةِ (بِخِلَافِ الْمَأْذُونِ لِأَنَّهُ) أَيْ الْمَأْذُونَ (مُسَلَّطٌ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الْإِقْرَارِ (مِنْ جِهَتِهِ) أَيْ مِنْ جِهَةِ الْمَوْلَى لِأَنَّ الْإِذْنَ لَهُ بِالتِّجَارَةِ إذْنٌ لَهُ بِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ لِلتِّجَارَةِ وَهُوَ الْإِقْرَارُ، إذْ لَوْ لَمْ يَصِحَّ إقْرَارُهُ انْحَسَمَ عَلَيْهِ بَابُ التِّجَارَةِ، فَإِنَّ النَّاسَ لَا يُبَايِعُونَهُ إذَا عَلِمُوا أَنَّ إقْرَارَهُ لَا يَصِحُّ، إذْ لَا يَتَهَيَّأُ لَهُمْ الِاسْتِشْهَادُ فِي كُلِّ تِجَارَةٍ يَعْمَلُونَهَا مَعَهُ، كَذَا فِي مَبْسُوطِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ وَالذَّخِيرَةِ (وَبِخِلَافِ الْحَدِّ وَالدَّمِ) أَيْ الْقِصَاصِ (لِأَنَّهُ) أَيْ لِأَنَّ الْعَبْدَ (مُبْقًى عَلَى أَصْلِ الْحُرِّيَّةِ فِي ذَلِكَ) أَيْ فِي الْحَدِّ وَالدَّمِ بِتَأْوِيلِ الْمَذْكُورِ، أَوْ لِجَوَازِ اسْتِعْمَالِ ذَلِكَ فِي الْمُثَنَّى أَيْضًا كَمَا قَالُوا فِي قَوْله تَعَالَى {عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} (حَتَّى لَا يَصِحَّ إقْرَارُ الْمَوْلَى عَلَى الْعَبْدِ فِيهِ) أَيْ فِيمَا ذَكَرَ مِنْ الْحَدِّ وَالْقِصَاصِ لِأَنَّ وُجُوبَ الْعُقُوبَةِ بِنَاءً عَلَى الْجِنَايَةِ وَالْجِنَايَةُ بِنَاءً عَلَى كَوْنِهِ مُكَلَّفًا وَكَوْنُهُ مُكَلَّفًا مِنْ خَوَاصِّ الْآدَمِيَّةِ

ص: 323

وَلَا بُدَّ مِنْ الْبُلُوغِ وَالْعَقْلِ لِأَنَّ إقْرَارَ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ غَيْرُ لَازِمٍ لِانْعِدَامِ أَهْلِيَّةِ الِالْتِزَامِ، إلَّا إذَا كَانَ الصَّبِيُّ مَأْذُونًا لَهُ لِأَنَّهُ مُلْحَقٌ بِالْبَالِغِ بِحُكْمِ الْإِذْنِ، وَجَهَالَةُ الْمُقَرِّ بِهِ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ قَدْ يَلْزَمُ مَجْهُولًا بِأَنْ أَتْلَفَ مَالًا لَا يَدْرِي قِيمَتَهُ أَوْ يَجْرَحَ جِرَاحَةً لَا يَعْلَمُ أَرْشَهَا أَوْ تَبْقَى عَلَيْهِ بَاقِيَةُ حِسَابٍ لَا يُحِيطُ بِهِ عِلْمُهُ، وَالْإِقْرَارُ إخْبَارٌ عَنْ ثُبُوتِ الْحَقِّ فَيَصِحُّ بِهِ، بِخِلَافِ الْجَهَالَةِ فِي الْمُقَرِّ لَهُ لِأَنَّ الْمَجْهُولَ لَا يَصْلُحُ مُسْتَحِقًّا،

وَالْآدَمِيَّةُ لَا تَزُولُ بِالرِّقِّ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ. قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: هَذَا اسْتِدْلَالٌ لَا يُدْفَعُ مَا لَوْ قِيلَ فِي إقْرَارِهِ بِالْقِصَاصِ إهْلَاكَ رَقَبَتِهِ الَّتِي هِيَ مَالُ الْمَوْلَى فَيَكُونُ إقْرَارًا عَلَى الْغَيْرِ. وَالْأَوْلَى أَنْ يُسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِمَا فِي كُتُبِ الْأُصُولِ انْتَهَى.

أَقُولُ: بَلْ ذَلِكَ مَدْفُوعٌ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْقِصَاصِ وَإِهْلَاكُ مَالِيَّةِ رَقَبَةِ الْعَبْدِ إنَّمَا هُوَ بِالتَّبَعِ فَلَا يَكُونُ إقْرَارُهُ بِالْقِصَاصِ إقْرَارًا عَلَى الْغَيْرِ بِالنَّظَرِ إلَى مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ أَصَالَةً، وَلَا يَضُرُّهُ لُزُومُ إهْلَاكِ مَالِ الْغَيْرِ بِالتَّبَعِ، إذْ كَمْ مِنْ شَيْءٍ يَثْبُتُ ضِمْنًا وَلَا يَثْبُتُ أَصَالَةً وَذُكِرَ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ أَنَّ الْعَبْدَ يَصِحُّ مِنْهُ الْإِقْرَارُ بِالْحَدِّ وَالْقِصَاصِ وَالسَّرِقَةِ الْمُسْتَهْلَكَةِ؛ لِأَنَّ الْحَيَاةَ وَالدَّمَ حَقُّهُ لِاحْتِيَاجِهِ إلَيْهِمَا فِي الْبَقَاءِ، وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ الْمَوْلَى إتْلَافَهُمَا. وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَا تَوَهَّمَهُ ذَلِكَ الْقَائِلُ يَتَوَجَّهُ إلَى مَا ذُكِرَ فِيهَا أَيْضًا وَالْمُخَلَّصُ مَا حَقَقْنَاهُ (وَلَا بُدَّ مِنْ الْبُلُوغِ وَالْعَقْلِ لِأَنَّ إقْرَارَ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ غَيْرُ لَازِمٍ لِانْعِدَامِ أَهْلِيَّةِ الِالْتِزَامِ) فَلَا يَلْزَمُ إقْرَارَهُمَا شَيْءٌ (إلَّا إذَا كَانَ الصَّبِيُّ مَأْذُونًا لَهُ) فَحِينَئِذٍ يَصِحُّ إقْرَارُهُ فِي قَدْرِ مَا أُذِنَ لَهُ فِيهِ (لِأَنَّهُ مُلْحَقٌ بِالْبَالِغِ بِحُكْمِ الْإِذْنِ) لَا بِخِيَارِ رَأْيِهِ بِرَأْيِ الْوَلِيِّ فَيُعْتَبَرُ كَالْبَالِغِ وَالنَّائِمُ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ كَالْمَجْنُونِ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ وَالتَّمْيِيزِ، وَهُمَا شَرْطَانِ لِصِحَّةِ الْإِقْرَارِ، وَإِقْرَارُ السَّكْرَانِ جَائِزٌ بِالْحُقُوقِ كُلِّهَا إلَّا بِالْحُدُودِ الْخَالِصَةِ، وَالرِّدَّةُ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ تَنْفُذُ مِنْ السَّكْرَانِ كَمَا تَنْفُذُ مِنْ الصَّاحِي، كَذَا فِي الْكَافِي وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ (وَجَهَالَةُ الْمُقَرِّ بِهِ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ) يَعْنِي لَوْ كَانَ الْمُقَرُّ بِهِ مَجْهُولًا بِأَنْ قَالَ الْمُقِرُّ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ شَيْءٌ أَوْ حَقٌّ يَصِحُّ الْإِقْرَارُ وَيَلْزَمُهُ مَا أَقَرَّ بِهِ (لِأَنَّ الْحَقَّ قَدْ يَلْزَمُ مَجْهُولًا) يَعْنِي أَنَّ الْحَقَّ قَدْ يَلْزَمُ الْإِنْسَانَ مَجْهُولًا (بِأَنْ أَتْلَفَ مَالًا لَا يَدْرِي قِيمَتَهُ أَوْ يَجْرَحَ جِرَاحَةً لَا يَعْلَمُ أَرْشَهَا) لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِي الْجِرَاحَاتِ أَنْ يَسْتَأْنِيَ حَوْلًا فَلَا يَعْلَمُ فِي الْحَالِ مُوجَبَهُ (أَوْ تَبْقَى عَلَيْهِ بَقِيَّةُ حِسَابٍ لَا يُحِيطُ بِهِ) أَيْ بِمَا بَقِيَ مِنْ الْحِسَابِ (عِلْمُهُ وَالْإِقْرَارُ إخْبَارٌ عَنْ ثُبُوتِ الْحَقِّ فَيَصِحُّ بِهِ) أَيْ فَيَصِحُّ بِكَوْنِ الْمُقَرِّ بِهِ مَجْهُولًا.

فَإِنْ قُلْت: الشَّهَادَةُ إخْبَارٌ عَنْ ثُبُوتِ الْحَقِّ أَيْضًا وَمَعَ ذَلِكَ تُمْنَعُ صِحَّتُهَا بِجَهَالَةِ الْمَشْهُودِ بِهِ فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا. قُلْت: الشَّرْعُ لَمْ يَجْعَلْ الشَّهَادَةَ حُجَّةً إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْمَشْهُودِ بِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِلا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم «إذَا رَأَيْت مِثْلَ الشَّمْسِ فَاشْهَدْ وَإِلَّا فَدَعْ» وَأَنَّ الشَّهَادَةَ لَا تُوجِبُ حَقًّا إلَّا بِانْضِمَامِ الْقَضَاءِ إلَيْهَا، وَالْقَضَاءُ بِالْمَجْهُولِ لَا يُتَصَوَّرُ، أَمَّا الْإِقْرَارُ فَمُوجِبٌ بِنَفْسِهِ قَبْلَ اتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهِ، وَقَدْ أَمْكَنَ إزَالَةُ الْجَهَالَةِ بِالْإِجْبَارِ عَلَى الْبَيَانِ فَيَصِحُّ بِالْمَجْهُولِ وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ الرُّجُوعُ عَنْ الْإِقْرَارِ وَيَصِحُّ الرُّجُوعُ عَنْ الشَّهَادَةِ قَبْلَ اتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهَا، كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ (بِخِلَافِ الْجَهَالَةِ فِي الْمُقَرِّ لَهُ) يَعْنِي أَنَّهَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ (لِأَنَّ الْمَجْهُولَ لَا يَصْلُحُ مُسْتَحِقًّا) ذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ فِي مَبْسُوطِهِ وَالنَّاطِفِيُّ فِي وَاقِعَاتِهِ أَنَّ جَهَالَةَ الْمُقَرِّ لَهُ إنَّمَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ إذَا

ص: 324

(وَيُقَالُ لَهُ: بَيِّنْ الْمَجْهُولَ) لِأَنَّ التَّجْهِيلَ مِنْ جِهَتِهِ فَصَارَ كَمَا إذَا أَعْتَقَ أَحَدَ عَبْدَيْهِ (فَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ أَجْبَرَهُ الْقَاضِي عَلَى الْبَيَانِ) لِأَنَّهُ لَزِمَهُ الْخُرُوجُ عَمَّا لَزِمَهُ بِصَحِيحِ إقْرَارِهِ وَذَلِكَ بِالْبَيَانِ.

(فَإِنْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ شَيْءٌ لَزِمَهُ أَنْ يُبَيِّنَ مَا لَهُ قِيمَةٌ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْ الْوُجُوبِ فِي ذِمَّتِهِ، وَمَا لَا قِيمَةَ لَهُ لَا يَجِبُ فِيهَا)، فَإِذَا بَيَّنَ غَيْرَ ذَلِكَ يَكُونُ رُجُوعًا. قَالَ (وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ إنْ ادَّعَى الْمُقَرُّ لَهُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ)

كَانَتْ مُتَفَاحِشَةً بِأَنْ قَالَ هَذَا الْعَبْدُ لِوَاحِدٍ مِنْ النَّاسِ، أَمَّا إذَا لَمْ تَكُنْ مُتَفَاحِشَةً بِأَنْ قَالَ: هَذَا الْعَبْدُ لِأَحَدِ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ فَلَا تَمْنَعُ ذَلِكَ.

وَقَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ: لَا يَصِحُّ الْإِقْرَارُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَيْضًا لِأَنَّهُ إقْرَارٌ لِلْمَجْهُولِ، وَأَنَّهُ لَا يُفِيدُ لِأَنَّ فَائِدَتَهُ الْجَبْرُ عَلَى الْبَيَانِ، وَلَا يُجْبَرُ عَلَى الْبَيَانِ هَاهُنَا لِأَنَّهُ إنَّمَا يُجْبَرُ لِصَاحِبِ الْحَقِّ وَهُوَ مَجْهُولٌ. وَفِي الْكَافِي: وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَصِحُّ لِأَنَّهُ يُفِيدُ، إذْ فَائِدَتُهُ وُصُولُ الْحَقِّ إلَى الْمُسْتَحِقِّ، وَطَرِيقُ الْوُصُولِ ثَابِتٌ لِأَنَّهُمَا إذَا اتَّفَقَا عَلَى أَخْذِهِ فَلَهُمَا حَقُّ الْأَخْذِ انْتَهَى. قَالَ فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ: وَكَذَلِكَ جَهَالَةُ الْمُقِرِّ تَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ، نَحْوُ أَنْ يَقُولَ لِرَجُلٍ: لَك عَلَى أَحَدِنَا أَلْفُ دِرْهَمٍ لِأَنَّ الْمَقْضِيَّ عَلَيْهِ مَجْهُولٌ، وَهَكَذَا ذَكَرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ شُرُوحِ هَذَا الْكِتَابِ نَقْلًا عَنْهُ. أَقُولُ: فِي تَمْثِيلِ جَهَالَةِ الْمُقِرِّ بِالْمِثَالِ الْمَذْكُورِ نَظَرٌ، إذْ الظَّاهِرُ أَنَّ الْجَهَالَةَ فِيهِ فِي الْمُقَرِّ عَلَيْهِ لَا فِي الْمُقِرِّ لِأَنَّهُ مُتَعَيِّنٌ وَهُوَ الْمُتَكَلِّمُ، وَالْأَوْلَى فِي تَمْثِيلِ ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ نَحْوُ أَنْ يَقُولَ لِرَجُلٍ أَحَدٍ مِنْ جَمَاعَةٍ أَوْ مِنْ اثْنَيْنِ: لَك عَلَيَّ أَلْفٌ وَلَا يَدْرِي أَيَّهُمْ أَوْ أَيَّهُمَا قَالَ ذَلِكَ (وَيُقَالُ لَهُ بَيِّنْ الْمَجْهُولَ) هَذَا لَفْظُ الْقُدُورِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ: يَعْنِي يُقَالُ لِلْمُقِرِّ فِيمَا أَقَرَّ بِمَجْهُولٍ بَيِّنْ الْمَجْهُولَ (لِأَنَّ التَّجْهِيلَ مِنْ جِهَتِهِ) أَيْ مِنْ جِهَةِ الْمُقِرِّ: يَعْنِي أَنَّ الْإِجْمَالَ وَقَعَ مِنْ جِهَتِهِ فَعَلَيْهِ الْبَيَانُ، وَلَكِنْ لَا بُدَّ أَنْ يُبَيِّنَ شَيْئًا يَثْبُتُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ قَلَّ أَوْ كَثُرَ نَحْوُ أَنْ يُبَيِّنَ حَبَّةً أَوْ فَلْسًا أَوْ جَوْزَةً أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.

أَمَّا إذَا بَيَّنَ شَيْئًا لَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ فَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ نَحْوُ أَنْ يَقُولَ: عَنَيْت حَقَّ الْإِسْلَامِ أَوْ كَفًّا مِنْ تُرَابٍ أَوْ نَحْوَهُ، كَذَا فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ، وَذُكِرَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ (فَصَارَ كَمَا إذَا أَعْتَقَ أَحَدَ عَبْدَيْهِ) أَيْ فَصَارَ إقْرَارُهُ بِالْمَجْهُولِ كَمَا إذَا أَعْتَقَ أَحَدَ عَبْدَيْهِ فِي وُجُوبِ الْبَيَانِ عَلَيْهِ (فَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ) أَيْ فَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ الْمُقِرُّ مَا أَجْمَلَهُ (أَجْبَرَهُ الْقَاضِي عَلَى الْبَيَانِ لِأَنَّهُ لَزِمَهُ الْخُرُوجُ عَمَّا لَزِمَهُ بِصَحِيحِ إقْرَارِهِ) بِالْبَاءِ الْجَارَّةِ.

وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: بِصَرِيحِ إقْرَارِهِ (وَذَلِكَ) أَيْ الْخُرُوجُ عَمَّا لَزِمَهُ بِصَحِيحِ إقْرَارِهِ (بِالْبَيَانِ) لَا غَيْرِهِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَعَنْ الشَّافِعِيِّ فِي قَوْلٍ: إنْ وَقَعَ الْإِقْرَارُ الْمُبْهَمُ فِي جَوَابِ دَعْوَى وَامْتَنَعَ عَنْ التَّفْسِيرِ يُجْعَلُ ذَلِكَ إنْكَارًا مِنْهُ وَيُعْرَضُ الْيَمِينُ عَلَيْهِ فَإِنْ أَصَرَّ جُعِلَ نَاكِلًا عَنْ الْيَمِينِ وَحَلَفَ الْمُدَّعِي، وَإِنْ أَقَرَّ ابْتِدَاءً يُقَالُ لِلْمُقَرِّ لَهُ: ادَّعِ حَقَّك فَإِذَا ادَّعَى وَأَقَرَّ أَوْ أَنْكَرَ يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُهُ كَذَا فِي مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ.

(فَإِنْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ شَيْءٌ لَزِمَهُ أَنْ يُبَيِّنَ مَا لَهُ قِيمَةٌ) هَذَا لَفْظُ الْقُدُورِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِهِ (لِأَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْ الْوُجُوبِ فِي ذِمَّتِهِ) كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ لَفْظَةُ عَلَيَّ لِأَنَّهَا لِلْإِيجَابِ وَالْإِلْزَامِ (وَمَا لَا قِيمَةَ لَهُ لَا يَجِبُ فِيهَا) أَيْ فِي الذِّمَّةِ (فَإِذَا بَيَّنَ غَيْرَ ذَلِكَ) أَيْ غَيْرَ مَا لَهُ قِيمَةٌ (يَكُونُ رُجُوعًا) عَنْ الْإِقْرَارِ فَلَا يُقْبَلُ (قَالَ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ: (وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ) أَيْ قَوْلُ الْمُقِرِّ (مَعَ يَمِينِهِ إنْ ادَّعَى الْمُقَرُّ لَهُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ) أَيْ مِمَّا بَيَّنَهُ، يَعْنِي إذَا بَيَّنَ الْمُقِرُّ مَا لَهُ قِيمَةٌ مِمَّا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ

ص: 325

لِأَنَّهُ هُوَ الْمُنْكِرُ فِيهِ (وَكَذَا إذَا قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ حَقٌّ) لِمَا بَيَّنَّا، وَكَذَا لَوْ قَالَ: غَصَبْت مِنْهُ شَيْئًا وَيَجِبُ أَنْ يُبَيِّنَ مَا هُوَ مَالٌ يَجْرِي فِيهِ التَّمَانُعُ تَعْوِيلًا عَلَى الْعَادَةِ.

مَكِيلًا كَانَ أَوْ مَوْزُونًا أَوْ عَدَدِيًّا نَحْوُ كُرِّ حِنْطَةٍ أَوْ فَلْسٍ أَوْ جَوْزَةٍ، فَإِمَّا أَنْ يُسَاعِدَهُ الْمُقَرُّ لَهُ أَوْ لَا، فَإِنْ سَاعَدَهُ أَخَذَهُ، وَإِنْ لَمْ يُسَاعِدْهُ بَلْ ادَّعَى عَلَيْهِ الزِّيَادَةَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقِرِّ مَعَ يَمِينِهِ (لِأَنَّهُ) أَيْ لِأَنَّ الْمُقِرَّ (هُوَ الْمُنْكِرُ فِيهِ) أَيْ فِيمَا يَدَّعِي عَلَيْهِ الْمُقَرُّ لَهُ مِنْ الزِّيَادَةِ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ مَعَ يَمِينِهِ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَكَذَا إذَا قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ حَقٌّ) أَيْ لَزِمَهُ هُنَا أَيْضًا أَنْ يُبَيِّنَ مَا لَهُ قِيمَةٌ (لِمَا بَيَّنَّا) أَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْ الْوُجُوبِ فِي ذِمَّتِهِ وَمَا لَا قِيمَةَ لَهُ لَا يَجِبُ فِيهَا. وَذُكِرَ فِي الْمُحِيطِ وَالْمُسْتَزَادِ: وَلَوْ قَالَ الرَّجُلُ لِفُلَانٍ عَلَيَّ حَقٌّ ثُمَّ قَالَ مَفْصُولًا عَنَيْت بِهِ حَقَّ الْإِسْلَامِ لَا يُصَدَّقُ، وَإِنْ قَالَ مَوْصُولًا يُصَدَّقُ لِأَنَّهُ بَيَانٌ يُعْتَبَرُ بِاعْتِبَارِ الْعُرْفِ لِأَنَّهُ لَا يُرَادُ بِهِ فِي الْعُرْفِ حَقُّ الْإِسْلَامِ وَإِنَّمَا يُرَادُ بِهِ حُقُوقٌ مَالِيَّةٌ، كَذَا فِي الْكَافِي (وَكَذَا لَوْ قَالَ: غَصَبْتُ مِنْهُ شَيْئًا) هَذِهِ مِنْ مَسَائِلِ الْمَبْسُوطِ ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ تَفْرِيعًا عَلَى مَسْأَلَةِ الْقُدُورِيِّ يَعْنِي لَوْ قَالَ: غَصَبْت مِنْ فُلَانٍ شَيْئًا صَحَّ إقْرَارُهُ وَلَزِمَهُ الْبَيَانُ أَيْضًا. وَالْحَاصِلُ أَنَّ كُلَّ تَصَرُّفٍ لَا يُشْتَرَطُ لِصِحَّتِهِ وَتَحَقُّقِهِ إعْلَامُ مَا صَادَفَهُ ذَلِكَ التَّصَرُّفُ فَالْإِقْرَارُ بِهِ مَعَ الْجَهَالَةِ صَحِيحٌ، وَذَلِكَ كَالْغَصْبِ الْوَدِيعَةِ فَإِنَّ الْجَهَالَةَ لَا تَمْنَعُ تَحَقُّقَ الْغَصْبِ الْوَدِيعَةِ، فَإِنَّ مَنْ غَصَبَ مِنْ رَجُلٍ مَالًا مَجْهُولًا فِي كِيسٍ أَوْ أَوْدَعَهُ مَالًا مَجْهُولًا فِي كِيسٍ فَإِنَّهُ يَصِحُّ الْغَصْبُ الْوَدِيعَةُ وَيَثْبُتُ حُكْمُهُمَا، وَكُلُّ تَصَرُّفٍ يُشْتَرَطُ لِصِحَّتِهِ وَتَحَقُّقِهِ إعْلَامُ مَا صَادَفَهُ ذَلِكَ التَّصَرُّفُ فَالْإِقْرَارُ بِهِ مَعَ الْجَهَالَةِ لَا يَصِحُّ وَذَلِكَ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ، فَإِنَّ مَنْ أَقَرَّ أَنَّهُ بَاعَ مِنْ فُلَانٍ شَيْئًا أَوْ أَجَّرَ مِنْ فُلَانٍ شَيْئًا أَوْ اشْتَرَى مِنْ فُلَانٍ كَذَا بِشَيْءٍ لَا يَصِحُّ وَلَا يُجْبَرُ الْمُقِرُّ عَلَى تَسْلِيمِ شَيْءٍ، وَهَذَا لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْإِقْرَارِ كَالثَّابِتِ مُعَايَنَةً.

وَلَوْ عَايَنَّا أَنَّهُ بَاعَ مِنْهُ شَيْئًا مَجْهُولًا لَا يَجِبُ تَسْلِيمُ شَيْءٍ بِحُكْمِ هَذَا الْبَيْعِ لِكَوْنِهِ فَاسِدًا فَكَذَا إذَا ثَبَتَ بِالْإِقْرَارِ، وَلَوْ عَايَنَّا أَنَّهُ غَصَبَ شَيْئًا مَجْهُولًا فِي كِيسٍ يُجْبَرُ عَلَى الرَّدِّ فَكَذَا إذَا ثَبَتَ بِالْإِقْرَارِ، وَإِذَا صَحَّ الْإِقْرَارُ بِالْغَصْبِ مَعَ الْجَهَالَةِ يُجْبَرُ الْمُقِرُّ عَلَى الْبَيَانِ حَقًّا لِلْمُقَرِّ لَهُ، كَذَا فِي الْكَافِي وَالْمُحِيطِ الْبُرْهَانِيِّ (وَيَجِبُ أَنْ يُبَيِّنَ مَا هُوَ مَالٌ يَجْرِي فِيهِ التَّمَانُعُ تَعْوِيلًا عَلَى الْعَادَةِ) أَيْ اعْتِمَادًا عَلَيْهَا. وَاعْلَمْ أَنَّهُ ذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ: رَجُلٌ قَالَ: غَصَبْتُ مِنْ فُلَانٍ شَيْئًا فَالْإِقْرَارُ صَحِيحٌ وَيَلْزَمُهُ مَا يُبَيِّنُهُ، وَلَا بُدَّ أَنْ يُبَيِّنَ شَيْئًا هُوَ مَالٌ لِأَنَّ الشَّيْءَ حَقِيقَةً اسْمٌ لِمَا هُوَ مَوْجُودٌ مَالًا، كَانَ أَوْ غَيْرَ مَالٍ، إلَّا أَنَّ لَفْظَ الْغَصْبِ دَلِيلٌ عَلَى الْمَالِيَّةِ فِيهِ، فَإِنَّ الْغَصْبَ لَا يَرِدُ إلَّا عَلَى مَا هُوَ مَالٌ، وَمَا ثَبَتَ بِدَلَالَةِ اللَّفْظِ فَهُوَ كَالْمَلْفُوظِ كَقَوْلِهِ: اشْتَرَيْت مِنْ فُلَانٍ شَيْئًا يَكُونُ إقْرَارًا بِشِرَاءِ مَا هُوَ مَالٌ لِأَنَّ الشِّرَاءَ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا فِيهِ، وَلَا بُدَّ أَنْ يُبَيِّنَ مَا لَا يَجْرِي فِيهِ التَّمَانُعُ بَيْنَ النَّاسِ، حَتَّى لَوْ فَسَّرَهُ بِحَبَّةِ حِنْطَةٍ لَا يُقْبَلُ ذَلِكَ مِنْهُ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِالْغَصْبِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مَمْنُوعًا مِنْ جِهَةِ صَاحِبِهِ حَتَّى غَلَبَ عَلَيْهِ فَغَصَبَهُ وَهَذَا مِمَّا يَجْرِي فِيهِ التَّمَانُعُ، فَإِذَا بَيَّنَ شَيْئًا بِهَذِهِ الصِّفَةِ قُبِلَ بَيَانُهُ لِأَنَّ هَذَا بَيَانٌ مُقَرَّرٌ لِأَصْلِ كَلَامِهِ وَبَيَانُ التَّقْرِيرِ يَصِحُّ مَوْصُولًا كَانَ أَوْ مَفْصُولًا، وَيَسْتَوِي أَنْ يُبَيِّنَ شَيْئًا يُضْمَنُ بِالْغَصْبِ أَوْ لَا يُضْمَنُ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ يَجْرِي فِيهِ التَّمَانُعُ حَتَّى إذَا بَيَّنَ أَنَّ الْمَغْصُوبَ خَمْرٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ وَكَذَلِكَ إنْ بَيَّنَ أَنَّ الْمَغْصُوبَ دَارٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ، وَإِنْ كَانَتْ لَا تُضْمَنُ بِالْغَصْبِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ.

وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيمَا إذَا بَيَّنَ أَنَّ الْمَغْصُوبَ زَوْجَتُهُ أَوْ وَلَدُهُ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: بَيَانُهُ مَقْبُولٌ لِأَنَّهُ مُوَافِقٌ لِمُبْهَمِ كَلَامِهِ فَإِنَّ لَفْظَ الْغَصْبِ يُطْلَقُ عَلَى الزَّوْجِ وَالْوَلَدِ عَادَةً، وَالتَّمَانُعُ

ص: 326

(وَلَوْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ مَالٌ فَالْمَرْجِعُ إلَيْهِ فِي بَيَانِهِ لِأَنَّهُ الْمُجْمِلُ وَيُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ) لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مَالٌ فَإِنَّهُ اسْمٌ لِمَا يُتَمَوَّلُ بِهِ (إلَّا أَنَّهُ لَا يُصَدَّقُ فِي أَقَلَّ مِنْ دِرْهَمٍ)

فِيهِ يَجْرِي بَيْنَ النَّاسِ أَكْثَرَ مِمَّا يَجْرِي فِي الْأَمْوَالِ. وَأَكْثَرُهُمْ عَلَى أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ بَيَانُهُ بِهَذَا لِأَنَّ حُكْمَ الْغَصْبِ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا فِيمَا هُوَ مَالٌ فَبَيَانُهُ بِمَا لَيْسَ بِمَالٍ يَكُونُ إنْكَارًا لِحُكْمِ الْغَصْبِ بَعْدَ إقْرَارِهِ بِسَبَبِهِ وَذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ مِنْهُ، إلَى هُنَا لَفْظُ الْمَبْسُوطِ.

وَصَرَّحَ فِي الْإِيضَاحِ وَغَيْرِهِ بِأَنَّ الْأَوَّلَ وَهُوَ قَبُولُ بَيَانِهِ بِأَنَّ الْمَغْصُوبَ زَوْجَتُهُ أَوْ وَلَدُهُ اخْتِيَارُ مَشَايِخِ الْعِرَاقِ.

وَالثَّانِي وَهُوَ عَدَمُ قَبُولِ بَيَانِهِ بِذَلِكَ اخْتِيَارُ مَشَايِخِ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ. وَإِذَا قَدْ عَرَفْت ذَلِكَ تَبَيَّنَ لَك أَنَّ الْمُصَنِّفَ اخْتَارَ هَاهُنَا قَوْلَ مَشَايِخِ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ حَيْثُ قَالَ: وَيَجِبُ أَنْ يُبَيِّنَ مَا هُوَ مَالٌ يَجْرِي فِيهِ التَّمَانُعُ تَعْوِيلًا عَلَى الْعَادَةِ: يَعْنِي أَنَّ مُطْلَقَ اسْمِ الْغَصْبِ يَنْطَلِقُ عَلَى أَخْذِ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ فِي الْعُرْفِ. هَذَا وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ: وَكَذَا لَوْ قَالَ غَصَبْت مِنْهُ شَيْئًا وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُبَيِّنَ مَا هُوَ مَالٌ، حَتَّى لَوْ بَيَّنَ أَنَّ الْمَغْصُوبَ زَوْجَتُهُ أَوْ وَلَدُهُ لَا يَصِحُّ وَهُوَ اخْتِيَارُ مَشَايِخِ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ. وَقِيلَ يَصِحُّ وَهُوَ اخْتِيَارُ مَشَايِخِ الْعِرَاقِ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ لِأَنَّ الْغَصْبَ أَخْذُ مَالٍ فَحُكْمُهُ لَا يَجْرِي فِيمَا لَيْسَ بِمَالٍ، وَلَا بُدَّ أَنْ يُبَيِّنَ مَا يَجْرِي فِيهِ التَّمَانُعُ حَتَّى لَوْ بَيَّنَ فِي حَبَّةِ حِنْطَةٍ أَوْ فِي قَطْرَةِ مَاءٍ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ لَمْ تَجْرِ بِغَصْبِ ذَلِكَ فَكَانَتْ مُكَذِّبَةً لَهُ فِي بَيَانِهِ، وَلَوْ بَيَّنَ فِي الْعَقَارِ أَوْ فِي خَمْرِ الْمُسْلِمِ يَصِحُّ لِأَنَّهُ مَالٌ يَجْرِي فِيهِ التَّمَانُعُ.

فَإِنْ قِيلَ: الْغَصْبُ أَخْذُ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ مُحْتَرَمٍ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَالِكِ عَلَى وَجْهٍ يُزِيلُ يَدَهُ وَهُوَ لَا يُصَدَّقُ عَلَى الْعَقَارِ وَخَمْرِ الْمُسْلِمِ فَلَزِمَ نَقْضُ التَّعْرِيفِ أَوْ عَدَمُ قَبُولِ الْبَيَانِ فِيهِمَا. فَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ حَقِيقَتُهُ، وَقَدْ تُتْرَكُ الْحَقِيقَةُ بِدَلَالَةِ الْعَادَةِ كَمَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ، وَقَدْ أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعْوِيلًا عَلَى الْعَادَةِ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ.

أَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ، أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ صِحَّةَ مَا ذَكَرَهُ فِي هَذَا الْجَوَابِ مِنْ أَنَّ حَقِيقَةَ الْغَصْبِ تُتْرَكُ بِدَلَالَةِ: الْعَادَةِ تُنَافِي صِحَّةَ مَا ذَكَرَهُ فِي تَعْلِيلِ أَصِحِّيَّةِ مَشَايِخِ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ فِيمَا لَوْ بَيَّنَ أَنَّ الْمَغْصُوبَ زَوْجَتُهُ أَوْ وَلَدُهُ مِنْ أَنَّ الْغَصْبَ أَخْذُ مَالٍ فَحُكْمُهُ لَا يَجْرِي فِيمَا لَيْسَ بِمَالٍ؛ لِأَنَّ مَشَايِخَ الْعِرَاقِ يَقُولُونَ: إنَّ لَفْظَ الْغَصْبِ يُطْلَقُ عَلَى الزَّوْجِ وَالْوَلَدِ عَادَةً، وَالتَّمَانُعُ فِيهِ يَجْرِي بَيْنَ النَّاسِ أَكْثَرَ مِمَّا يَجْرِي فِي الْأَمْوَالِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْمَبْسُوطِ وَغَيْرِهِ، وَلَيْسَ مَعْنَى هَذَا الْقَوْلِ مِنْهُمْ إلَّا أَنَّ حَقِيقَةَ الْغَصْبِ تُتْرَكُ فِي ذَلِكَ بِدَلَالَةِ الْعَادَةِ، فَكَيْفَ يَصِحُّ تَعْلِيلُ أَصَحِّيَّةِ اخْتِيَارِ مَشَايِخِ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ فِيهِ بِأَنَّ الْغَصْبَ أَخْذُ مَالٍ فَحُكْمُهُ لَا يَجْرِي فِيمَا لَيْسَ بِمَالٍ. وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ قَوْلَهُ وَقَدْ أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعْوِيلًا عَلَى الْعَادَةِ لَا يَكَادُ يَصِحُّ لِأَنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ: تَعْوِيلًا عَلَى الْعَادَةِ عِلَّةٌ لِوُجُوبِ أَنْ يُبَيِّنَ مَا هُوَ مَالٌ يَجْرِي فِيهِ التَّمَانُعُ وَمَعْنَاهُ أَنَّ حَقِيقَةَ الْغَصْبِ وَإِنْ تَنَاوَلَتْ مَا يَجْرِي فِيهِ التَّمَانُعُ مِنْ الْأَمْوَالِ وَمَا لَا يَجْرِي فِيهِ التَّمَانُعُ مِنْهَا، إلَّا أَنَّ الْعَادَةَ خَصَّصَتْهُ بِالْأَوَّلِ فَلَا بُدَّ أَنْ يُبَيِّنَ ذَلِكَ، وَمَقْصُودُهُ الِاحْتِرَازُ عَمَّا لَوْ بَيَّنَ حَبَّةَ حِنْطَةٍ أَوْ قَطْرَةَ مَاءٍ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ قَطْعًا. وَأَمَّا أَنَّ حَقِيقَةَ الْغَصْبِ تُتْرَكُ بِدَلَالَةِ الْعَادَةِ إلَى مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْهَا فَلَا إشَارَةَ إلَيْهِ فِي كَلَامِهِ أَصْلًا، كَيْفَ وَلَوْ صَحَّ ذَلِكَ عِنْدَهُ وَكَانَ فِي كَلَامِهِ إشَارَةً إلَيْهِ لَمَا صَحَّ الْقَوْلُ مِنْهُ بِوُجُوبِ أَنْ يُبَيِّنَ مَالًا، إذْ الْعَادَةُ جَارِيَةٌ قَطْعًا عَلَى إطْلَاقِ لَفْظِ الْغَصْبِ عَلَى مَا لَيْسَ بِمَالٍ كَالزَّوْجَةِ وَالْوَلَدِ إطْلَاقًا جَارِيًا عَلَى اللُّغَةِ لَا عَلَى حَقِيقَتِهِ الشَّرْعِيَّةِ.

وَبِالْجُمْلَةِ إنَّ كَلَامَ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا مَسُوقٌ عَلَى مَا هُوَ مُخْتَارُ مَشَايِخِ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ دُونَ مُخْتَارِ مَشَايِخِ الْعِرَاقِ، وَفِيمَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ خَلْطٌ لِلْمَذْهَبَيْنِ.

(وَلَوْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ مَالٌ فَالْمَرْجِعُ إلَيْهِ فِي بَيَانِهِ) وَهَذَا لَفْظُ الْقُدُورِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ: يَعْنِي لَوْ قَالَ أَحَدٌ فِي إقْرَارِهِ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ مَالٌ فَالرُّجُوعُ إلَى الْمُقِرِّ فِي بَيَانِ قَدْرِ الْمَالِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِهِ (لِأَنَّهُ الْمُجْمِلُ) يَعْنِي أَنَّ الْمُقِرَّ هُوَ الْمُجْمِلُ وَالرُّجُوعُ فِي بَيَانِ الْمُجْمَلِ إلَى الْمُجْمِلِ (وَيُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ) وَهَذَا مِنْ تَتِمَّةِ كَلَامِ الْقُدُورِيِّ. قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِهِ: (لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مَالٌ، فَإِنَّهُ) أَيْ الْمَالُ (اسْمٌ لِمَا يُتَمَوَّلُ بِهِ) وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، ثُمَّ قَالَ الْمُصَنِّفُ (إلَّا أَنَّهُ) أَيْ الْمُقِرَّ (لَا يُصَدَّقُ فِي أَقَلَّ مِنْ دِرْهَمٍ) وَالْقِيَاسُ أَنْ يُصَدَّقَ فِيهِ أَيْضًا لِأَنَّهُ مَالٌ. وَفِي الِاسْتِحْسَانِ: لَا يُصَدَّقُ فِيهِ، وَجْهُهُ تَرْكُ الْحَقِيقَةِ

ص: 327

لِأَنَّهُ لَا يُعَدُّ مَالًا عُرْفًا (وَلَوْ قَالَ: مَالٌ عَظِيمٌ لَمْ يُصَدَّقْ فِي أَقَلَّ مِنْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ) لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِمَالٍ مَوْصُوفٍ فَلَا يَجُوزُ إلْغَاءُ الْوَصْفِ وَالنِّصَابُ عَظِيمٌ حَتَّى اُعْتُبِرَ صَاحِبُهُ غَنِيًّا بِهِ، وَالْغَنِيُّ عَظِيمٌ عِنْدَ النَّاسِ.

وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يُصَدَّقُ فِي أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَهِيَ نِصَابُ السَّرِقَةِ لِأَنَّهُ عَظِيمٌ حَيْثُ تُقْطَعُ بِهِ الْيَدُ الْمُحْتَرَمَةُ، وَعَنْهُ مِثْلُ جَوَابِ الْكِتَابِ،

بِدَلَالَةِ الْعُرْفِ، وَقَدْ أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ (لِأَنَّهُ) أَيْ الْأَقَلَّ مِنْ دِرْهَمٍ (لَا يُعَدُّ مَالًا عُرْفًا) فَإِنَّ مَا دُونَ الدِّرْهَمِ مِنْ الْكُسُورِ وَلَا يُطْلَقُ اسْمُ الْمَالِ عَلَيْهِ عَادَةً، كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ. قَالَ الْإِمَامُ عَلَاءُ الدِّينِ الْإِسْبِيجَابِيُّ فِي شَرْحِ الْكَافِي لِلْحَاكِمِ الشَّهِيدِ: وَلَوْ قَالَ لَهُ عَلَيَّ مَالٌ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِيهِ وَدِرْهَمٌ مَالٌ. ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا اللَّفْظُ يُوهِمُ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ إذَا بَيَّنَ أَقَلَّ مِنْ دِرْهَمٍ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَنْبَغِي أَنْ يُقْبَلَ قَوْلُهُ فِي الْبَيَانِ لِأَنَّ اسْمَ الْمَالِ مُنْطَلِقٌ عَلَى نِصْفِ دِرْهَمٍ وَسُدُسِ دِرْهَمٍ كَمَا يَنْطَلِقُ عَلَى الدِّرْهَمِ. ثُمَّ قَالَ: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ لِأَنَّ الْمَالَ الَّذِي يَدْخُلُ تَحْتَ الِالْتِزَامِ وَالْإِقْرَارِ لَا يَكُونُ أَقَلَّ مِنْ دِرْهَمٍ، وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي حُكْمِ الْعَادَةِ فَحَمَلْنَا عَلَيْهِ كَلَامَهُ اهـ.

وَقَالَ النَّاطِفِيُّ فِي أَجْنَاسِهِ: وَفِي نَوَادِرِ هِشَامٍ قَالَ مُحَمَّدٌ رحمه الله: لَوْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ مَالٌ لَهُ أَنْ يُقِرَّ بِدِرْهَمٍ. ثُمَّ قَالَ: وَقَالَ الْهَارُونِيُّ: لَوْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ مَالٌ هُوَ عَلَى عَشَرَةِ دَرَاهِمَ جِيَادٍ، وَلَا يُصَدَّقُ فِي أَقَلَّ مِنْهُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُصَدَّقُ فِي ثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ وَلَا يُصَدَّقُ فِي أَقَلَّ مِنْهُ، إلَى هُنَا لَفْظُ الْأَجْنَاسِ (وَلَوْ قَالَ مَالٌ عَظِيمٌ لَا يُصَدَّقُ فِي أَقَلَّ مِنْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ) هَذَا لَفْظُ الْقُدُورِيِّ: يَعْنِي لَوْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ مَالٌ عَظِيمٌ فَعَلَيْهِ مَا يَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ وَهُوَ مِائَتَا دِرْهَمٍ.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هُوَ مِثْلُ الْأَوَّلِ قُلْنَا: فِيهِ إلْغَاءٌ لِوَصْفِ الْعِظَمِ فَلَا يَجُوزُ، وَقَدْ أَشَارَ الْمُصَنِّفُ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ (لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِمَالٍ مَوْصُوفٍ) أَيْ مَوْصُوفٍ بِوَصْفِ الْعِظَمِ (فَلَا يَجُوزُ إلْغَاءُ الْوَصْفِ) بَلْ لَا بُدَّ مِنْ الْبَيَانِ بِمَا يُعَدُّ عَظِيمًا عِنْدَ النَّاسِ (وَالنِّصَابُ) مَالٌ (عَظِيمٌ) فِي الشَّرْعِ وَالْعُرْفِ، (حَتَّى اُعْتُبِرَ صَاحِبُهُ غَنِيًّا بِهِ) فَأَوْجَبَ عَلَيْهِ مُوَاسَاةَ الْفُقَرَاءِ (وَالْغَنِيُّ عَظِيمٌ عِنْدَ النَّاسِ) فَكَانَ فِيمَا قُلْنَا رِعَايَةُ حُكْمِ الشَّرْعِ وَالْعُرْفِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي هَذَا الْفَصْلِ فَاخْتَلَفَتْ رِوَايَةُ الْمَشَايِخِ عَنْهُ فِيهِ، فَأَرَادَ الْمُصَنِّفُ بَيَانَ ذَلِكَ فَقَالَ (وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ) أَيْ رُوِيَ عَنْهُ (أَنَّهُ) أَيْ الْمُقِرُّ فِي هَذَا الْفَصْلِ (لَا يُصَدَّقُ فِي أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَهِيَ نِصَابُ السَّرِقَةِ) وَنِصَابُ الْمَهْرِ أَيْضًا (لِأَنَّهُ) أَيْ لِأَنَّ هَذَا النِّصَابَ (عَظِيمٌ حَيْثُ تُقْطَعُ بِهِ الْيَدُ الْمُحْتَرَمَةُ) وَيُسْتَبَاحُ بِهِ الْبِضْعُ الْمُحْتَرَمُ (وَعَنْهُ) أَيْ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله (مِثْلُ جَوَابِ الْكِتَابِ) أَيْ مِثْلُ مَا ذَكَرَ فِي مُخْتَصَرِ الْقُدُورِيِّ مِنْ أَنَّهُ لَا يُصَدَّقُ فِي أَقَلَّ مِنْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ.

قَالَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ: وَهُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ عَدَدًا حَتَّى تَجِبَ مُرَاعَاةُ اللَّفْظِ فِيهِ فَأَوْجَبْنَا الْعَظِيمَ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى وَهُوَ الْمَالُ الَّذِي يَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ لِأَنَّهُ أَقَلُّ مَالٍ لَهُ خَطَرٌ فِي الشَّرْعِ اهـ.

وَذَكَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ أَيْضًا بِقِيلٍ خَلَا قَوْلِهِ لِأَنَّهُ أَقَلُّ مَالٍ لَهُ خَطَرٌ فِي الشَّرْعِ. أَقُولُ: فِيهِ بَحْثٌ؛ لِأَنَّ التَّعْلِيلَ الْمَذْكُورَ لَا يُفِيدُ كَوْنَ مَا فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ هُوَ الصَّحِيحَ؛ لِأَنَّ إيجَابَنَا الْعَظِيمَ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى أَمْرٌ مُقَرَّرٌ عَلَى كِلْتَا الرِّوَايَتَيْنِ، وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي أَنَّ ذَلِكَ الْعَظِيمَ مَاذَا؟ هَلْ هُوَ نِصَابُ الزَّكَاةِ أَمْ نِصَابُ السَّرِقَةِ وَالْمَهْرِ؟ فَقَوْلُهُ: وَهُوَ الْمَالُ الَّذِي تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ غَيْرُ مُسَلَّمٍ عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، وَكَذَا قَوْلُهُ لِأَنَّهُ أَقَلُّ مَالٍ لَهُ خَطَرٌ فِي الشَّرْعِ، إذْ لِصَاحِبِهَا أَنْ يَقُولَ: بَلْ هُوَ الْمَالُ الَّذِي يَجِبُ فِيهِ قَطْعُ الْيَدِ الْمُحْتَرَمَةِ

ص: 328

وَهَذَا إذَا قَالَ مِنْ الدَّرَاهِمِ، أَمَّا إذَا قَالَ مِنْ الدَّنَانِيرِ فَالتَّقْدِيرُ فِيهَا بِالْعِشْرِينِ، وَفِي الْإِبِلِ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ لِأَنَّهُ أَدْنَى نِصَابٍ يَجِبُ فِيهِ مِنْ جِنْسِهِ وَفِي غَيْرِ مَالِ الزَّكَاةِ بِقِيمَةِ النِّصَابِ (وَلَوْ قَالَ: أَمْوَالٌ عِظَامٌ فَالتَّقْدِيرُ بِثَلَاثَةِ نُصُبٍ مِنْ أَيِّ فَنٍّ سَمَّاهُ) اعْتِبَارًا لِأَدْنَى الْجَمْعِ (وَلَوْ قَالَ: دَرَاهِمُ كَثِيرَةٌ لَمْ يُصَدَّقْ فِي أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةٍ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ (وَعِنْدَهُمَا لَمْ يُصَدَّقْ فِي أَقَلَّ مِنْ مِائَتَيْنِ)

وَيُسْتَبَاحُ بِهِ الْبُضْعُ الْمُحْتَرَمُ وَهُوَ أَقَلُّ مَالٍ لَهُ خَطَرٌ فِي الشَّرْعِ فَلَمْ يَتِمَّ التَّقْرِيبُ.

قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ رحمه الله: وَالْأَصَحُّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُبْنَى عَلَى حَالِ الْمُقِرِّ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى، فَإِنَّ الْقَلِيلَ عِنْدَ الْفَقِيرِ عَظِيمٌ، وَأَضْعَافُ ذَلِكَ عِنْدَ الْغَنِيِّ حَقِيرٌ، وَكَمَا أَنَّ الْمِائَتَيْنِ عَظِيمٌ فِي حُكْمِ الزَّكَاةِ فَالْعَشَرَةُ عَظِيمٌ فِي حُكْمِ قَطْعِ يَدِ السَّارِقِ، وَتَقْدِيرُ الْمَهْرِ بِهَا فَوَقَعَ التَّعَارُضُ فَيَرْجِعُ إلَى حَالِ الْمُقِرِّ، كَذَا فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ وَذُكِرَ فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ (وَهَذَا) أَيْ مَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّهُ لَا يُصَدَّقُ فِي أَقَلَّ مِنْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ (إذَا قَالَ مِنْ الدَّرَاهِمِ) أَيْ إذَا قَالَ لَهُ عَلَيَّ مَالٌ عَظِيمٌ مِنْ الدَّرَاهِمِ سَوَاءٌ قَالَ كَذَلِكَ ابْتِدَاءً أَوْ قَالَ فِي الِابْتِدَاءِ: لَهُ عَلَيَّ مَالٌ عَظِيمٌ، ثُمَّ بَيَّنَ مُرَادَهُ مِنْ الْمَالِ الْعَظِيمِ بِالدَّرَاهِمِ فَقَوْلُ صَاحِبَيْ النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ فِي شَرْحِ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ هَذَا إذَا قَالَ مِنْ الدَّرَاهِمِ: أَيْ بَيَّنَ وَقَالَ: إنَّ مُرَادِي بِالْمَالِ الْعَظِيمِ الدَّرَاهِمُ لَا يَخْلُو عَنْ تَقْصِيرٍ (أَمَّا إذَا قَالَ مِنْ الدَّنَانِيرِ) أَيْ إذَا قَالَ ذَلِكَ ابْتِدَاءً أَوْ ثَانِيًا عِنْدَ الْبَيَانِ (فَالتَّقْدِيرُ فِيهَا) أَيْ فِي الدَّنَانِيرِ (بِالْعِشْرِينِ) أَيْ بِعِشْرِينَ مِثْقَالًا لِأَنَّهُ نِصَابُ الزَّكَاةِ فِي الذَّهَبِ (وَفِي الْإِبِلِ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ) يَعْنِي وَفِيمَا إذَا قَالَ مِنْ الْإِبِلِ يُقَدَّرُ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ إبِلًا (لِأَنَّهُ أَدْنَى نِصَابٍ يَجِبُ فِيهِ مِنْ جِنْسِهِ) كَعِشْرِينَ مِثْقَالًا فِي الدَّنَانِيرِ وَمِائَتَيْ دِرْهَمٍ فِي الدَّرَاهِمِ.

وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ إذَا بَيَّنَ بِجِنْسٍ مِنْ أَجْنَاسِ الْأَمْوَالِ الزَّكَوِيَّةِ فَالْمُعْتَبَرُ أَقَلُّ مَا يَكُونُ نِصَابًا فِي ذَلِكَ الْجِنْسِ.

فَإِنْ قِيلَ: يَنْبَغِي أَنْ يُقَدَّرَ فِي الْإِبِلِ بِخَمْسٍ لِأَنَّهُ تَجِبُ فِيهِ شَاةٌ فَكَانَ صَاحِبُهَا بِهَا غَنِيًّا. قُلْنَا: هِيَ مَالٌ عَظِيمٌ مِنْ وَجْهٍ حَتَّى يَجِبَ فِيهَا الزَّكَاةُ، وَلَيْسَتْ بِمَالٍ عَظِيمٍ مِنْ وَجْهٍ حَتَّى لَا يَجِبَ فِيهَا مِنْ جِنْسِهَا، فَاعْتَبَرْنَا مَا ذَكَرْنَا لِيَكُونَ عَظِيمًا مُطْلَقًا إذْ الْمُطْلَقُ يَنْصَرِفُ إلَى الْكَامِلِ، كَذَا فِي الْكَافِي وَبَعْضِ الشُّرُوحِ (وَفِي غَيْرِ مَالِ الزَّكَاةِ بِقِيمَةِ النِّصَابِ) يَعْنِي وَفِيمَا إذَا بَيَّنَ بِغَيْرِ مَالِ الزَّكَاةِ يُقَدَّرُ بِقِيمَةِ النِّصَابِ: أَيْ بِقَدْرِ النِّصَابِ قِيمَةً (وَلَوْ قَالَ أَمْوَالٌ عِظَامٌ) أَيْ وَلَوْ قَالَ: عَلَيَّ أَمْوَالٌ عِظَامٌ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ (فَالتَّقْدِيرُ بِثَلَاثَةِ نُصُبٍ مِنْ أَيِّ فَنٍّ سَمَّاهُ) أَيْ مِنْ أَيِّ نَوْعٍ سَمَّاهُ، حَتَّى لَوْ قَالَ مِنْ الدَّرَاهِمِ كَانَ التَّقْدِيرُ بِسِتِّمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَلَوْ قَالَ مِنْ الدَّنَانِيرِ كَانَ بِسِتِّينَ مِثْقَالًا، وَلَوْ قَالَ مِنْ الْإِبِلِ كَانَ بِخَمْسٍ وَسَبْعِينَ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَجْنَاسِ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ (اعْتِبَارًا لِأَدْنَى الْجَمْعِ) فَإِنَّ أَدْنَى الْجَمْعِ ثَلَاثَةٌ فَيُحْمَلُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَمْوَالٍ عِظَامٍ وَهُوَ ثَلَاثَةُ نُصُبٍ مِنْ جِنْسِ مَا سَمَّاهُ.

وَلَوْ قَالَ: عَلَيَّ مَالٌ نَفِيسٌ أَوْ كَرِيمٌ أَوْ خَطِيرٌ أَوْ جَلِيلٌ قَالَ النَّاطِفِيُّ: لَمْ أَجِدْهُ مَنْصُوصًا، وَكَانَ الْجُرْجَانِيُّ يَقُولُ يَلْزَمُهُ مِائَتَانِ، وَكَذَا فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ نَقْلًا عَنْ الْإِيضَاحِ وَالذَّخِيرَةِ وَفِي غَايَةِ الْبَيَانِ نَقْلًا عَنْ الْفَتَاوَى الصُّغْرَى قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْبَيْهَقِيُّ فِي كِفَايَتِهِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ: قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ دَرَاهِمُ مُضَاعَفَةٌ يَلْزَمُهُ سِتَّةٌ؛ لِأَنَّ أَقَلَّ الدَّرَاهِمِ ثَلَاثَةٌ وَالتَّضْعِيفُ أَقَلُّهُ مَرَّةٌ فَيُضَعَّفُ مَرَّةً، قَالَ: لَهُ عَلَيَّ دَرَاهِمُ أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً أَوْ قَالَ مُضَاعَفَةً أَضْعَافًا عَلَيْهِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ لِأَنَّ الْأَضْعَافَ جَمْعُ الضِّعْفِ فَيُضَاعَفُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَكَانَتْ تِسْعَةً، وَقَوْلُهُ مُضَاعَفَةً يَقْتَضِي ضِعْفَ ذَلِكَ فَيَقْتَضِي ثَمَانِيَةَ عَشَرَ. وَفِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ الدَّرَاهِمُ الْمُضَاعَفَةُ سِتَّةٌ وَأَضْعَافُهَا ثَلَاثُ مَرَّاتٍ فَيَكُونُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، قَالَ: عَلَيَّ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ وَأَضْعَافُهَا مُضَاعَفَةً عَلَيْهِ ثَمَانُونَ دِرْهَمًا لِأَنَّ أَضْعَافَ الْعَشَرَةِ ثَلَاثُونَ فَإِذَا ضُمَّتْ إلَى الْعَشَرَةِ كَانَ أَرْبَعِينَ فَأَوْجَبَهَا مُضَاعَفَةً فَيَكُونُ ثَمَانِينَ (وَلَوْ قَالَ دَرَاهِمُ كَثِيرَةٌ) أَيْ لَوْ قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ دَرَاهِمُ كَثِيرَةٌ (لَمْ يُصَدَّقْ فِي أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ) هَذَا لَفْظُ الْقُدُورِيِّ. قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا لَمْ يُصَدَّقْ فِي أَقَلَّ مِنْ مِائَتَيْنِ) وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُصَدَّقُ فِي ثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ وَلَا يُصَدَّقُ

ص: 329

لِأَنَّ صَاحِبَ النِّصَابِ مُكْثِرٌ حَتَّى وَجَبَ عَلَيْهِ مُوَاسَاةُ غَيْرِهِ، بِخِلَافِ مَا دُونَهُ.

فِي أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ دَنَانِيرُ كَثِيرَةٌ لَمْ يُصَدَّقْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ دَنَانِيرَ وَعِنْدَهُمَا فِي أَقَلَّ مِنْ عِشْرِينَ مِثْقَالًا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ دَنَانِيرَ، كَذَا ذَكَرَ الْخِلَافَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ خُوَاهَرْ زَادَهْ فِي مَبْسُوطِهِ. وَقَالَ الْقُدُورِيُّ فِي كِتَابِ التَّقْرِيبِ: رَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مِثْلَ قَوْلِهِمَا.

وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ وَصَفَ الدَّرَاهِمَ مَثَلًا بِصِفَةٍ لَا يُمْكِنُ الْعَمَلُ بِهَا وَهِيَ الْكَثْرَةُ فَيَلْغُو ذِكْرُهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ إثْبَاتَ صِفَةِ الْكَثْرَةِ لِمِقْدَارٍ مِنْ الْمَقَادِيرِ الْكَثِيرَةِ عَلَى التَّعْيِينِ غَيْرُ مُمْكِنٍ، لَا بِاعْتِبَارِ الْحَقِيقَةِ وَلَا بِاعْتِبَارِ الْعُرْفِ وَلَا بِاعْتِبَارِ الْحُكْمِ. أَمَّا مِنْ حَيْثُ الْحَقِيقَةُ فَلِأَنَّ الْكَثْرَةَ أَمْرٌ إضَافِيٌّ يَصْدُقُ بَعْدَ الْوَاحِدِ عَلَى كُلِّ عَدَدٍ. وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ الْعُرْفُ فَلِأَنَّ النَّاسَ مُتَفَاوِتُونَ فِي ذَلِكَ، فَكَمْ مِنْ كَثِيرٍ عِنْدَ قَوْمٍ قَلِيلٌ عِنْدَ الْآخَرِينَ. وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ الْحُكْمُ فَلِأَنَّ حُكْمَ الشَّرْعِ يَتَعَلَّقُ تَارَةً بِالْعَشَرَةِ عِنْدَ الْبَعْضِ وَبِمَا دُونَهُ عِنْدَ الْآخَرِ كَمَا فِي نِصَابِ السَّرِقَةِ وَالْمَهْرِ، وَيَتَعَلَّقُ تَارَةً بِالْمِائَتَيْنِ كَمَا فِي نِصَابِ الزَّكَاةِ وَحُرْمَةِ الصَّدَقَةِ، وَيَتَعَلَّقُ تَارَةً بِأَكْثَرَ مِنْ مِائَتَيْنِ كَمَا فِي الِاسْتِطَاعَةِ فِي الْحَجِّ فِي الْأَمَاكِنِ الْبَعِيدَةِ فَلَمْ يُمْكِنْ الْعَمَلُ بِهَا أَصْلًا فَإِذَا تَعَذَّرَ الْعَمَلُ بِهَا لَغَا ذِكْرُهَا فَيَعْمَلُ بِقَوْلِهِ دَرَاهِمَ وَيَنْصَرِفُ إلَى ثَلَاثَةٍ، وَوَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ مَا أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ (لِأَنَّ صَاحِبَ النِّصَابِ) يَعْنِي صَاحِبَ نِصَابِ الزَّكَاةِ (مُكْثِرٌ حَتَّى وَجَبَ عَلَيْهِ مُوَاسَاةُ غَيْرِهِ) بِدَفْعِ زَكَاتِهِ وَالتَّصَدُّقِ عَلَى الْفَقِيرِ (بِخِلَافِ مَا دُونَهُ) أَيْ بِخِلَافِ مَا دُونَ النِّصَابِ. فَإِنَّ صَاحِبَهُ مُقِلٌّ وَلِهَذَا لَمْ يَلْزَمْهُ مُوَاسَاةُ غَيْرِهِ. قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي تَقْرِيرِ دَلِيلِهِمَا: وَقَالَا أَمْكَنَ الْعَمَلُ بِهَا: أَيْ بِالْكَثْرَةِ حُكْمًا لِأَنَّ فِي النِّصَابِ كَثْرَةٌ حُكْمِيَّةٌ فَالْعَمَلُ بِهِ أَوْلَى مِنْ الْإِلْغَاءِ اهـ.

أَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ نِصَابَ الزَّكَاةِ وَإِنْ كَانَ لَهُ كَثْرَةٌ فِي تَرْتِيبِ حُكْمِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ إلَّا أَنَّ نِصَابَ السَّرِقَةِ وَالْمَهْرِ وَهُوَ الْعَشَرَةُ عِنْدَنَا لَهُ أَيْضًا كَثْرَةٌ فِي تَرْتِيبِ حُكْمِ ثُبُوتِ قَطْعِ الْيَدِ وَاسْتِبَاحَةِ الْبُضْعِ، وَكَذَا الْأَكْثَرُ مِنْ الْمِائَتَيْنِ مِمَّا يَحْصُلُ بِهِ الِاسْتِطَاعَةُ فِي الْحَجِّ مِنْ الْأَمَاكِنِ الْبَعِيدَةِ لَهُ كَثْرَةٌ فِي تَرْتِيبِ حُكْمِ وُجُوبِ الْحَجِّ فَوَقَعَ التَّعَارُضُ بَيْنَ هَاتِيك الْكَثْرَاتِ الْحُكْمِيَّةِ فَلَمْ يُمْكِنْ الْعَمَلُ بِإِحْدَاهَا عَلَى التَّعْيِينِ، فَقَوْلُهُ: لِأَنَّ فِي النِّصَابِ كَثْرَةً حُكْمِيَّةً لَا يُجْدِي شَيْئًا وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَكَذَا قَوْلُهُ فَالْعَمَلُ بِهِ أَوْلَى مِنْ الْإِلْغَاءِ؛ لِأَنَّ أَوْلَوِيَّةَ الْعَمَلِ بِهِ مِنْ الْإِلْغَاءِ لَا يَسْتَلْزِمُ أَوْلَوِيَّةَ الْعَمَلِ بِهِ مِنْ الْعَمَلِ بِمَا فِيهِ كَثْرَةٌ أُخْرَى فَلَا يَتِمُّ الْمَطْلُوبُ وَقَالَ صَاحِبُ الْغَايَةِ فِي تَقْرِيرِ دَلِيلِهِمَا: وَلِأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّ الْعَمَلَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَإِنْ تَعَذَّرَ مِنْ حَيْثُ الْحَقِيقَةُ وَالْعُرْفُ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، لَكِنْ أَمْكَنَ الْعَمَلُ بِهَا حُكْمًا، وَلَا يُلْغَى مِنْ كَلَامِ الْعَاقِلِ مَا أَمْكَنَ تَصْحِيحُهُ، فَيَجِبُ حَمْلُ الْكَثْرَةِ عَلَى الْكَثْرَةِ مِنْ حَيْثُ الْحُكْمُ حَتَّى لَا تَلْغُوَ هَذِهِ الصِّفَةُ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ دَرَاهِمُ كَثِيرَةٌ حُكْمًا، وَالدَّرَاهِمُ الْكَثِيرَةُ حُكْمًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ مِائَتَا دِرْهَمٍ لِأَنَّهَا كَثِيرَةٌ شَرْعًا فِي حَقِّ الْقَطْعِ وَالْمَهْرِ وَوُجُوبِ الزَّكَاةِ وَحُرْمَةِ الصَّدَقَةِ.

فَأَمَّا الْعَشَرَةُ إنْ كَانَتْ كَثِيرَةً فِي حَقِّ الْقَطْعِ وَجَوَازِ النِّكَاحِ فَفِي حَقِّ حُرْمَةِ الصَّدَقَةِ وَوُجُوبِ الزَّكَاةِ قَلِيلَةٌ، وَمُطْلَقُ الِاسْمِ يَنْصَرِفُ إلَى الْكَامِلِ مِنْ ذَلِكَ الِاسْمِ لَا إلَى النَّاقِصِ، وَأَقَلُّ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْكَثْرَةِ حُكْمًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ مِائَتَا دِرْهَمٍ، فَأَمَّا الْعَشَرَةُ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ مِنْ حَيْثُ الْحُكْمُ فَكَانَ نَاقِصًا مِنْ حَيْثُ الْكَثْرَةُ حُكْمًا انْتَهَى كَلَامُهُ. أَقُولُ: فِيهِ أَيْضًا نَظَرٌ؛ لِأَنَّ مَا بَسَطَهُ وَإِنْ أَفَادَ فِي الظَّاهِرِ أَوْلَوِيَّةَ حَمْلِ الدَّرَاهِمِ الْكَثِيرَةِ عَلَى الْمِائَتَيْنِ مِنْ حَمْلِهَا عَلَى الْعَشَرَةِ لَكِنْ لَمْ يُفِدْ أَوْلَوِيَّةَ حَمْلِهَا عَلَى الْمِائَتَيْنِ مِنْ حَمْلِهَا عَلَى الْأَكْثَرِ مِنْ الْمِائَتَيْنِ مِمَّا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حُكْمُ وُجُوبِ الْحَجِّ مِنْ الْأَمَاكِنِ الْبَعِيدَةِ كَمَا أَدْرَجَهُ نَفْسُهُ أَيْضًا فِي تَقْرِيرِ دَلِيلِ الشَّافِعِيِّ، بَلْ أَفَادَ أَوْلَوِيَّةَ الْعَكْسِ لِأَنَّ الْأَكْثَرَ مِنْ الْمِائَتَيْنِ هُوَ الَّذِي تَحَقَّقَ فِيهِ الْكَثْرَةُ حُكْمًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَإِنَّهُ كَثِيرٌ فِي حَقِّ وُجُوبِ الْحَجِّ أَيْضًا مِنْ الْأَمَاكِنِ الْبَعِيدَةِ، وَأَمَّا الْمِائَتَانِ فَهُوَ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ بِالنَّظَرِ إلَى حُكْمِ الْحَجِّ

ص: 330

وَلَهُ أَنَّ الْعَشَرَةَ أَقْصَى مَا يَنْتَهِي إلَيْهِ اسْمُ الْجَمْعِ، يُقَالُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ ثُمَّ يُقَالُ أَحَدَ عَشَرَ دِرْهَمًا فَيَكُونُ هُوَ الْأَكْثَرُ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ فَيَنْصَرِفُ إلَيْهِ (وَلَوْ قَالَ دَرَاهِمُ فَهِيَ ثَلَاثَةٌ) لِأَنَّهَا أَقَلُّ الْجَمْعِ الصَّحِيحِ

مِنْ الْأَمَاكِنِ الْبَعِيدَةِ فَكَانَ نَاقِصًا مِنْ حَيْثُ الْكَثْرَةُ حُكْمًا فَلَمْ يَتِمَّ الْمَطْلُوبُ تَأَمَّلْ (وَلَهُ) أَيْ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله (أَنَّ الْعَشَرَةَ أَقْصَى مَا يَنْتَهِي إلَيْهِ اسْمُ الْجَمْعِ) أَيْ عِنْدَ كَوْنِهِ مُمَيِّزًا لِلْعَدَدِ (يُقَالُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ ثُمَّ يُقَالُ أَحَدَ عَشَرَ دِرْهَمًا) يَعْنِي أَنَّ الْعَدَدَ إذَا جَاوَزَ الْعَشَرَةَ يَصِيرُ مُمَيَّزُهُ مُفْرَدًا لَا جَمْعًا (فَيَكُونُ) أَيْ الْعَشَرَةُ (هُوَ الْأَكْثَرُ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ) أَيْ مِنْ حَيْثُ دَلَالَةُ اللَّفْظِ عَلَيْهِ (فَيَنْصَرِفُ إلَيْهِ) لِأَنَّ الْعَمَلَ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ إذَا كَانَ مُمْكِنًا وَلَمْ يُوجَدْ مَانِعٌ مِنْ الصَّرْفِ إلَيْهِ لَا يُعْدَلُ إلَى غَيْرِهِ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ.

لَا يُقَالُ: يَنْبَغِي أَنْ يُصَدَّقَ فِيمَا بَيْنَ الثَّلَاثَةِ وَالْعَشَرَةِ لِأَنَّهُ كَثِيرٌ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: لَمَّا ذَكَرَ الْكَثْرَةَ صَارَ كَذِكْرِ الْجِنْسِ فَيَسْتَغْرِقُ اللَّفْظَ مَا يَصْلُحُ لَهُ، كَذَا فِي غَايَةِ الْبَيَانِ. أَقُولُ: بَقِيَ هَاهُنَا شَيْءٌ، وَهُوَ أَنَّ كَوْنَ الْعَشَرَةِ أَقْصَى مَا يَنْتَهِي إلَيْهِ اسْمُ الْجَمْعِ إنَّمَا هُوَ عِنْدَ اقْتِرَانِ اسْمِ الْجَمْعِ بِالْعَدَدِ بِأَنْ يَكُونَ مُمَيِّزًا لَهُ كَمَا نَبَّهْنَا عَلَيْهِ آنِفًا، لَا عِنْدَ انْفِرَادِهِ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِجَمْعِ الْكَثْرَةِ حَالَ الِانْفِرَادِ مَا فَوْقَ الْعَشَرَةِ إلَى مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى الْعَارِفِ بِاللُّغَةِ، وَمَسْأَلَتُنَا مَفْرُوضَةٌ فِي حَالِ انْفِرَادِ الدَّرَاهِمِ عَنْ ذِكْرِ الْعَدَدِ، فَمَا مَعْنَى اعْتِبَارِ حُكْمٍ خَالٍ الِاقْتِرَانُ فِيهَا أَلْبَتَّةَ؟ قَالَ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ فِي شَرْحِ الْوِقَايَةِ فِي تَعْلِيلِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِأَنَّ جَمْعَ الْكَثْرَةِ أَقَلُّهُ عَشَرَةٌ.

أَقُولُ: لَيْسَ ذَلِكَ بِصَحِيحٍ. أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ جَمْعَ الْكَثْرَةِ أَقَلُّهُ أَحَدَ عَشَرَ لَا عَشَرَةٌ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ النَّحْوِ. قَالَ الْفَاضِلُ الرَّضِيُّ: قَالُوا مُطْلَقُ الْجَمْعِ عَلَى ضَرْبَيْنِ: قِلَّةٌ، وَكَثْرَةٌ؛ وَالْمُرَادُ بِالْقَلِيلِ مِنْ الثَّلَاثَةِ إلَى الْعَشَرَةِ وَالْحَدَّانِ دَاخِلَانِ وَبِالْكَثِيرِ مَا فَوْقَ الْعَشَرَةِ انْتَهَى.

وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَتْ عِلَّةُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَوْنَ أَقَلِّ جَمْعِ الْكَثْرَةِ عَشَرَةً لَزِمَ أَنْ لَا يُصَدَّقَ أَيْضًا عِنْدَهُ فِي أَقَلِّ مِنْ عَشَرَةٍ فِيمَا إذَا قَالَ: لَهُ عَلَيَّ دَرَاهِمُ بِدُونِ ذِكْرِ وَصْفِ الْكَثْرَةِ مَعَ أَنَّهُ يُصَدَّقُ هُنَاكَ فِي ثَلَاثَةٍ بِالِاتِّفَاقِ كَمَا سَيَأْتِي. وَالْأَوْلَى فِي تَعْلِيلِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْغَايَةِ حَيْثُ قَالَ: وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْكَثْرَةَ مِنْ حَيْثُ الْحُكْمُ غَيْرُ مَذْكُورَةٍ نَصًّا، وَإِنَّمَا تَثْبُتُ ضَرُورَةَ أَنْ لَا تَصِيرَ صِفَةُ الْكَثْرَةِ لَغْوًا فَإِنَّ الْعَمَلَ بِهَا بِاعْتِبَارِ الْحَقِيقَةِ وَالْعُرْفِ مُتَعَذِّرٌ، وَمَا ثَبَتَ مُقْتَضَى صِحَّةِ الْغَيْرِ يُثْبِتُ أَدْنَى مَا يَصِحُّ بِهِ الْغَيْرُ، وَأَدْنَى مَا يُثْبِتُ بِهِ الْكَثْرَةَ مِنْ حَيْثُ الْحُكْمُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، فَإِنَّ الْقَطْعَ مُتَعَلِّقٌ شَرْعًا بِالْكَثِيرِ مِنْ الْمَالِ لَا بِالْقَلِيلِ عَلَى مَا رُوِيَ «أَنَّهُ كَانَ لَا يَقْطَعُ فِي الشَّيْءِ التَّافِهِ» ، ثُمَّ اعْتَبَرَ النِّصَابَ فِي حَقِّ الْقَطْعِ وَاسْتِبَاحَةِ الْبُضْعِ عَشَرَةً فَيَلْزَمُهُ عَشَرَةٌ انْتَهَى.

قَالَ الشَّيْخُ أَبُو نَصْرٍ الْبَغْدَادِيُّ: وَالْفَرْقُ لِأَبِي حَنِيفَةَ بَيْنَ قَوْلِهِ: دَرَاهِمُ كَثِيرَةٌ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: مَالٌ عَظِيمٌ أَنَّ قَوْلَهُ: دَرَاهِمُ كَثِيرَةٌ يُفِيدُ الْعَدَدَ لِأَنَّ الْكَثْرَةَ تَكُونُ بِزِيَادَةِ الْعَدَدِ، فَاعْتَبَرَ الْكَثْرَةَ الَّتِي تَرْجِعُ إلَى الْعَدَدِ وَقَوْلَهُ: مَالٌ عَظِيمٌ لَا يَتَضَمَّنُ عَدَدًا فَوَجَبَ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْمُسْتَعْظَمِ لَا مِنْ حَيْثُ الْعَدَدُ، وَالْعَظِيمُ فِي الشَّرْعِ مَا يَصِيرُ بِهِ غَنِيًّا فَيَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهِ فَاعْتَبِرْ ذَلِكَ (وَلَوْ قَالَ: دَرَاهِمُ فَهِيَ ثَلَاثَةٌ) هَذَا لَفْظُ الْقُدُورِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ: يَعْنِي لَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ دَرَاهِمُ وَجَبَ عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ بِالِاتِّفَاقِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِهِ (لِأَنَّهَا أَقَلُّ الْجَمْعِ الصَّحِيحِ) يَعْنِي أَنَّ الدَّرَاهِمَ جَمْعٌ وَأَقَلُّ الْجَمْعِ الصَّحِيحِ ثَلَاثَةٌ فَيَلْزَمُهُ ثَلَاثَةٌ لِكَوْنِهِ مُتَيَقَّنًا. أَقُولُ: فِيهِ بَحْثٌ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ لَفْظُ الصَّحِيحِ فِي قَوْلِهِ: لِأَنَّهُ أَقَلُّ الْجَمْعِ الصَّحِيحِ صِفَةَ الْجَمْعِ كَمَا هُوَ مُتَبَادِرٌ مِنْ ظَاهِرِ التَّرْكِيبِ.

يُرَدُّ عَلَيْهِ أَنَّ الدَّرَاهِمَ لَيْسَ بِجَمْعٍ صَحِيحٍ بَلْ هُوَ جَمْعٌ مُكَسَّرٌ فَلَمْ يُطَابِقْ الدَّلِيلَ الْمُدَّعَى، وَإِنْ كَانَ صِفَةً لِأَقَلَّ كَمَا يُشْعِرُ بِهِ قَوْلُ صَاحِبِ الْكَافِي لِأَنَّهُ أَدْنَى الْجَمْعِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، وَقَوْلُ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ لِأَنَّهَا أَقَلُّ الْجَمْعِ الصَّحِيحِ الَّذِي لَا خِلَافَ فِيهِ بِخِلَافِ الْمُثَنَّى يُتَّجَهُ عَلَيْهِ

ص: 331

(إلَّا أَنْ يُبَيِّنَ أَكْثَرَ مِنْهَا) لِأَنَّ اللَّفْظَ يَحْتَمِلُهُ وَيَنْصَرِفُ إلَى الْوَزْنِ الْمُعْتَادِ (وَلَوْ قَالَ: كَذَا كَذَا دِرْهَمًا لَمْ يُصَدَّقْ فِي أَقَلَّ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ دِرْهَمًا) لِأَنَّهُ ذَكَرَ عَدَدَيْنِ مُبْهَمَيْنِ لَيْسَ بَيْنَهُمَا حَرْفُ الْعَطْفِ وَأَقَلُّ ذَلِكَ مِنْ الْمُفَسَّرِ أَحَدَ عَشَرَ (وَلَوْ قَالَ: كَذَا وَكَذَا دِرْهَمًا لَمْ يُصَدَّقْ فِي أَقَلَّ مِنْ أَحَدٍ وَعِشْرِينَ) لِأَنَّهُ ذَكَرَ عَدَدَيْنِ مُبْهَمَيْنِ بَيْنَهُمَا حَرْفُ الْعَطْفِ، وَأَقَلُّ ذَلِكَ مِنْ الْمُفَسَّرِ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ فَيُحْمَلُ كُلُّ وَجْهٍ عَلَى نَظِيرِهِ

أَنَّ كَوْنَ أَقَلِّ الْجَمْعِ ثَلَاثَةً إنَّمَا هُوَ فِي جَمْعِ الْقِلَّةِ دُونَ جَمْعِ الْكَثْرَةِ، فَإِنَّ أَقَلَّ جَمْعِ الْكَثْرَةِ أَحَدَ عَشَرَ كَمَا مَرَّ بَيَانُهُ آنِفًا وَالدَّرَاهِمُ جَمْعُ كَثْرَةٍ، إذْ قَدْ تَقَرَّرَ فِي كُتُبِ النَّحْوِ أَنَّ جَمِيعَ أَمْثِلَةِ الْجَمْعِ الْمُكَسَّرِ جَمْعُ كَثْرَةٍ سِوَى الْأَمْثِلَةِ الْأَرْبَعَةِ الْمَعْرُوفَةِ وَهِيَ أَفْعَلُ وَأَفْعَالُ وَأَفْعِلَةُ وَفَعَلَةُ عِنْدَ الْكُلِّ، وَسِوَى فَعَلَةٍ كَأَكَلَةٍ عِنْدَ الْفَرَّاءِ، وَسِوَى أَفْعِلَاءٍ كَأَصْدِقَاءٍ فِي نَقْلِ التَّبْرِيزِيِّ، وَلَفْظُ الدَّرَاهِمِ لَيْسَ مِنْ أَحَدِ هَاتِيك الْأَمْثِلَةِ فَكَانَ جَمْعَ كَثْرَةٍ قَطْعًا فَلَمْ يَتِمَّ الْمَطْلُوبُ. ثُمَّ أَقُولُ: يُمْكِنُ الْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ بِوَجْهَيْنِ عَلَى اخْتِيَارِ الشِّقِّ الثَّانِي مِنْ التَّرْدِيدِ الْأَوَّلِ أَنَّ الْفَاضِلَ الرَّضِيَّ صَرَّحَ بِأَنَّ كُلَّ جَمْعِ تَكْسِيرٍ لِلرُّبَاعِيِّ الْأَصْلِ حُرُوفُهُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الدَّرَاهِمَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، فَلَمَّا اشْتَرَكَ بَيْنَ الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ كَانَ أَقَلُّهُ الْمُتَيَقَّنُ هُوَ الثَّلَاثَةَ فَتَمَّ الْمَطْلُوبُ.

وَالثَّانِي أَنَّ الْمُحَقِّقَ التَّفْتَازَانِيَّ قَالَ فِي التَّلْوِيحِ فِي أَوَائِلِ مَبَاحِثِ أَلْفَاظِ الْعَامِّ بِصَدَدِ تَحْقِيقِ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ أَكْثَرُ الصَّحَابَةِ وَالْفُقَهَاءِ وَأَئِمَّةِ اللُّغَةِ مِنْ أَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ ثَلَاثَةٌ. وَاعْلَمْ أَنَّهُمْ لَمْ يُفَرِّقُوا فِي هَذَا الْمَقَامِ بَيْنَ جَمْعَيْ الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ، فَدَلَّ بِظَاهِرِهِ عَلَى أَنَّ التَّفْرِقَةَ بَيْنَهُمَا إنَّمَا هِيَ فِي جَانِبِ الزِّيَادَةِ: يَعْنِي أَنَّ جَمْعَ الْقِلَّةِ مُخْتَصٌّ بِالْعَشَرَةِ فَمَا دُونَهَا، وَجَمْعَ الْكَثْرَةِ غَيْرُ مُخْتَصٍّ لَا أَنَّهُ مُخْتَصٌّ بِمَا فَوْقَ الْعَشَرَةِ، وَهَذَا أَوْفَقُ بِالِاسْتِعْمَالَاتِ وَإِنْ صَرَّحَ بِخِلَافِهِ كَثِيرٌ مِنْ الثِّقَاتِ، انْتَهَى كَلَامُهُ. فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَدَارُ الدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ عَلَى مَا هُوَ الْأَوْفَقُ بِالِاسْتِعْمَالَاتِ وَتَقْرِيرَاتِ أَهْلِ الْأُصُولِ مِنْ كَوْنِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ جَمْعَيْ الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ فِي جَانِبِ الزِّيَادَةِ لَا فِي جَانِبِ النُّقْصَانِ فَتَدَبَّرْ (إلَّا أَنْ يُبَيِّنَ أَكْثَرَ مِنْهَا) هَذَا مِنْ تَتِمَّةِ كَلَامِ الْقُدُورِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ: يَعْنِي إلَّا أَنْ يُبَيِّنَ الْمُقِرُّ أَكْثَرَ مِنْ الثَّلَاثَةِ فَحِينَئِذٍ يَلْزَمُهُ مَا بَيَّنَهُ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ: (لِأَنَّ اللَّفْظَ) أَيْ لَفْظَ الْجَمْعِ (يَحْتَمِلُهُ) أَيْ يَحْتَمِلُ الْأَكْثَرَ مِنْ الثَّلَاثَةِ وَلَا تُهْمَةَ فِيهِ لِكَوْنِهِ عَلَيْهِ لَا لَهُ (وَيَنْصَرِفُ إلَى الْوَزْنِ الْمُعْتَادِ) أَيْ إلَى الْوَزْنِ الْمُتَعَارَفِ وَهُوَ غَالِبُ نَقْدِ الْبَلَدِ؛ لِأَنَّ الْمُطْلَقَ مِنْ الْأَلْفَاظِ يَنْصَرِفُ إلَى الْمُتَعَارَفِ كَمَا مَرَّ فِي الْبُيُوعِ، وَلَا يُصَدَّقُ فِي أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ يُرِيدُ الرُّجُوعَ عَمَّا اقْتَضَاهُ كَلَامُهُ. قَالَ فِي التُّحْفَةِ: وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ شَيْءٌ مُتَعَارَفٌ يُحْمَلُ عَلَى وَزْنِ سَبْعَةٍ فَإِنَّهُ الْوَزْنُ الْمُعْتَبَرُ فِي الشَّرْعِ، وَهَكَذَا ذُكِرَ فِي الْعِنَايَةِ. وَقَالَ فِي الْبَدَائِعِ: وَإِنْ كَانَ الْإِقْرَارُ فِي بَلَدٍ يَتَعَامَلُونَ فِيهِ بِدَرَاهِمَ وَزْنُهَا يَنْقُصُ عَنْ وَزْنِ سَبْعٍ يَقَعُ إقْرَارُهُ عَلَى ذَلِكَ الْوَزْنِ لِانْصِرَافِ مُطْلَقِ الْكَلَامِ إلَى الْمُتَعَارَفِ، حَتَّى لَوْ ادَّعَى وَزْنًا أَقَلَّ مِنْ وَزْنِ بَلَدِهِ لَا يُصَدَّقُ لِأَنَّهُ يَكُونُ رُجُوعًا، وَلَوْ كَانَ فِي الْبَلَدِ أَوْزَانٌ مُخْتَلِفَةٌ يُعْتَبَرُ فِيهِ الْغَالِبُ كَمَا فِي نَقْدِ الْبَلَدِ، فَإِنْ اسْتَوَتْ يُحْمَلُ عَلَى أَقَلِّ الْأَوْزَانِ لِأَنَّهُ مُتَيَقَّنٌ بِهِ وَالزِّيَادَةُ مَشْكُوكٌ فِيهَا فَلَا تَثْبُتُ مَعَ الشَّكِّ انْتَهَى.

أَقُولُ: بَيْنَ الْمَذْكُورَيْنِ فِي التُّحْفَةِ وَالْبَدَائِعِ فِي صُورَةِ التَّسَاوِي تَفَاوُتٌ بَلْ تَخَالُفٌ لَا يَخْفَى (وَلَوْ قَالَ كَذَا كَذَا دِرْهَمًا لَمْ يُصَدَّقْ فِي أَقَلَّ مِنْ أَحَدَ عَشَرً دِرْهَمًا) هَذَا لَفْظُ الْقُدُورِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ: يَعْنِي لَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ كَذَا كَذَا دِرْهَمًا لَزِمَهُ أَحَدَ عَشَرَ دِرْهَمًا وَلَمْ يُعْتَبَرْ قَوْلُهُ فِي أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِهِ (لِأَنَّهُ) أَيْ الْمُقِرَّ (ذَكَرَ عَدَدَيْنِ مُبْهَمَيْنِ) أَيْ ذَكَرَ لَفْظَيْنِ هُمَا كِنَايَتَانِ عَنْ الْعَدَدِ الْمُبْهَمِ (لَيْسَ بَيْنَهُمَا حَرْفُ الْعَطْفِ وَأَقَلُّ ذَلِكَ) أَيْ أَقَلُّ مَا كَانَ عَدَدَيْنِ لَيْسَ بَيْنَهُمَا حَرْفُ الْعَطْفِ (مِنْ الْمُفَسَّرِ) أَيْ مِنْ الْعَدَدِ الْمُفَسَّرِ: أَيْ الْمُصَرَّحِ بِهِ (أَحَدَ عَشَرَ) وَأَكْثَرُهُ تِسْعَةَ عَشَرَ فَإِنَّهُ يُقَالُ أَحَدَ عَشَرَ إلَى تِسْعَةَ عَشَرَ فَيَلْزَمُهُ الْأَقَلُّ الْمُتَيَقَّنُ مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ وَالزِّيَادَةُ تَقِفُ عَلَى بَيَانِهِ (وَلَوْ قَالَ: كَذَا وَكَذَا دِرْهَمًا لَمْ يُصَدَّقْ فِي أَقَلَّ مِنْ أَحَدٍ وَعِشْرِينَ) هَذَا أَيْضًا لَفْظُ الْقُدُورِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِهِ (لِأَنَّهُ ذَكَرَ عَدَدَيْنِ مُبْهَمَيْنِ بَيْنَهُمَا حَرْفُ الْعَطْفِ، وَأَقَلُّ ذَلِكَ مِنْ الْمُفَسَّرِ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ فَيُحْمَلُ كُلُّ وَجْهٍ عَلَى نَظِيرِهِ) يَعْنِي أَنَّ لَفْظَ كَذَا كِنَايَةٌ عَنْ الْعَدَدِ، وَالْأَصْلُ

ص: 332

(وَلَوْ قَالَ كَذَا دِرْهَمًا فَهُوَ دِرْهَمٌ) لِأَنَّهُ تَفْسِيرٌ لِلْمُبْهَمِ

فِي اسْتِعْمَالِهِ اعْتِبَارُهُ بِالْمُفَسَّرِ: أَيْ بِالْعَدَدِ الصَّرِيحِ، فَمَا لَهُ نَظِيرٌ فِي الْأَعْدَادِ الْمُفَسَّرَةِ يُحْمَلُ عَلَى أَقَلِّ مَا يَكُونُ مِنْ ذَلِكَ النَّوْعِ لِكَوْنِهِ مُتَيَقَّنًا فَإِذَا قَالَ: لَهُ عَلَيَّ كَذَا كَذَا دِرْهَمًا فَكَأَنَّهُ قَالَ لَهُ عَلَيَّ أَحَدَ عَشَرَ دِرْهَمًا.

وَإِذَا قَالَ لَهُ عَلَيَّ كَذَا وَكَذَا دِرْهَمًا فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا (وَلَوْ قَالَ كَذَا دِرْهَمًا فَهُوَ دِرْهَمٌ) هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ تَفْرِيعًا عَلَى مَسْأَلَةِ الْقُدُورِيِّ، وَلَمْ يَذْكُرْهَا مُحَمَّدٌ رحمه الله فِي الْأَصْلِ: يَعْنِي لَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ كَذَا دِرْهَمًا فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ وَاحِدٌ (لِأَنَّهُ) أَيْ لِأَنَّ دِرْهَمًا فِي قَوْلِهِ كَذَا دِرْهَمًا (تَفْسِيرٌ لِلْمُبْهَمِ) أَيْ تَمْيِيزٌ لِلشَّيْءِ الْمُبْهَمِ وَهُوَ كَذَا لِأَنَّهُ كِنَايَةٌ عَنْ الْعَدَدِ الْمُبْهَمِ وَأَقَلُّهُ الْمُتَيَقَّنِ وَاحِدٌ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ، وَذُكِرَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي بَعْضِ الْمُعْتَبَرَاتِ كَالذَّخِيرَةِ وَالْمُحِيطِ وَالتَّتِمَّةِ وَفَتَاوَى قَاضِي خَانْ عَلَى خِلَافِ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي الذَّخِيرَةِ وَالْمُحِيطِ وَفِي الْجَامِعِ الْأَصْغَرِ: إذَا قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ كَذَا دِرْهَمًا فَعَلَيْهِ دِرْهَمَانِ؛ لِأَنَّ هَذَا أَقَلُّ مَا يُعَدُّ لِأَنَّ الْوَاحِدَ لَا يُعَدُّ حَتَّى يَكُونَ مَعَهُ شَيْءٌ آخَرُ. وَقَالَ فِي التَّتِمَّةِ وَفِي الْجَامِعِ الْأَصْغَرِ: إذَا قَالَ كَذَا دِينَارًا فَعَلَيْهِ دِينَارَانِ، لِأَنَّ هَذَا أَقَلُّ مَا يُعَدُّ لِأَنَّ الْوَاحِدَ لَا يُعَدُّ حَتَّى يَكُونَ مَعَهُ شَيْءٌ آخَرُ.

وَقَالَ فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ: لَوْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ كَذَا دِينَارًا فَعَلَيْهِ دِينَارَانِ؛ لِأَنَّ كَذَا كِنَايَةٌ عَنْ الْعَدَدِ وَأَقَلُّ الْعَدَدِ اثْنَانِ انْتَهَى.

أَقُولُ: فِيمَا ذُكِرَ فِي تِلْكَ الْكُتُبِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ عَدَمَ كَوْنِ الْوَاحِدِ مِنْ الْعَدَدِ إنَّمَا هُوَ فِي اصْطِلَاحِ الْحِسَابِ وَأَمَّا فِي الْوَضْعِ وَاللُّغَةِ فَهُوَ مِنْ الْعَدَدِ قَطْعًا، وَعَنْ هَذَا تَرَى أَئِمَّةَ اللُّغَةِ وَالنَّحْوِ قَاطِبَةً جَعَلُوا أُصُولَ الْعَدَدِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ كَلِمَةً وَاحِدٌ إلَى عَشَرَةٍ وَمِائَةٍ وَأَلْفٍ. وَقَالَ الْعَلَّامَةُ الْجَوْهَرِيُّ فِي صِحَاحِهِ: الْأَحَدُ بِمَعْنَى الْوَاحِدِ وَهُوَ أَوَّلُ الْعَدَدِ انْتَهَى. وَقَالَ الْمُحَقِّقُ الرَّضِيُّ فِي شَرْحِ الْكَافِيَةِ: لَا خِلَافَ عِنْدَ النُّحَاةِ فِي أَنَّ لَفْظَ وَاحِدٍ وَاثْنَانِ مِنْ أَسْمَاءِ الْعَدَدِ، وَعِنْدَ الْحِسَابِ لَيْسَ الْوَاحِدُ مِنْ الْعَدَدِ لِأَنَّ الْعَدَدَ عِنْدَهُمْ هُوَ الزَّائِدُ عَلَى الْوَاحِدِ، وَمَنَعَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَكُونَ الِاثْنَانِ مِنْ الْعَدَدِ انْتَهَى.

وَلَا شَكَّ أَنَّ كَوْنَ كَذَا كِنَايَةً عَنْ الْعَدَدِ لَيْسَ بِمَبْنِيٍّ عَلَى اصْطِلَاحِ الْحِسَابِ، بَلْ هُوَ أَمْرٌ جَارٍ عَلَى أَصْلِ الْوَضْعِ وَاللُّغَةِ، فَكَوْنُ أَقَلِّ الْعَدَدِ اثْنَيْنِ عِنْدَ الْحِسَابِ لَا يَقْتَضِي كَوْنَ الْوَاجِبِ عَلَى الْمُقِرِّ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمَذْكُورَةِ دِرْهَمَيْنِ كَمَا لَا يَخْفَى. قَالَ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ: كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَلْزَمُهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَحَدَ عَشَرَ، لِأَنَّهُ أَوَّلُ الْعَدَدِ الَّذِي يَقَعُ مُمَيِّزُهُ مَنْصُوبًا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُصَدَّقَ فِي دِرْهَمٍ وَالْقِيَاسُ فِيهِ مَا قَالَهُ فِي مُخْتَصَرِ الْأَسْرَارِ: إذَا قَالَ: لَهُ عَلَيَّ كَذَا دِرْهَمًا لَزِمَهُ عِشْرُونَ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ جُمْلَةً وَفَسَّرَهَا بِدِرْهَمٍ مَنْصُوبٍ، وَذَلِكَ يَكُونُ مِنْ عِشْرِينَ إلَى تِسْعِينَ فَيَجِبُ الْأَقَلُّ وَهُوَ عِشْرُونَ لِأَنَّهُ مُتَيَقَّنٌ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَالَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ: فَإِنْ قُلْت: يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ أَحَدَ عَشَرَ دِرْهَمًا لِأَنَّهُ أَقَلُّ عَدَدٍ يَجِيءُ مُمَيِّزُهُ مَنْصُوبًا. قُلْت: الْأَصْلُ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ فَيَثْبُتُ الْأَدْنَى لِلتَّيَقُّنِ انْتَهَى.

أَقُولُ: جَوَابُهُ لَيْسَ بِتَامٍّ لِأَنَّ كَوْنَ الْأَصْلِ بَرَاءَةَ الذِّمَّةِ إنَّمَا يَقْتَضِي كَوْنَ الثَّابِتِ أَدْنَى مَا يَتَحَمَّلُهُ لَفْظُ الْمُقِرِّ دُونَ الْأَدْنَى مُطْلَقًا كَمَا لَا يَخْفَى.

وَمَعْنَى السُّؤَالِ أَنَّ أَدْنَى مَا يَتَحَمَّلُهُ لَفْظُ الْمُقِرِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إنَّمَا هُوَ أَحَدَ عَشَرَ بِدَلَالَةِ كَوْنِ الْمُمَيِّزِ مَنْصُوبًا، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَحَدَ عَشَرَ دِرْهَمًا، وَمَا ذَكَرَ فِي الْجَوَابِ لَا يَدْفَعُهُ قَطْعًا. ثُمَّ أَقُولُ: الْحَقُّ فِي الْجَوَابِ أَنْ يُقَالَ إنَّ قَوْلَهُ كَذَا دِرْهَمًا وَإِنْ كَانَ نَظِيرَ الْأَحَدَ عَشَرَ دِرْهَمًا فِي كَوْنِ الْمُمَيِّزِ مَنْصُوبًا لَكِنْ لَيْسَ بِنَظِيرٍ لَهُ فِي نَفْسِ مَا يُمَيِّزُهُ الْمَنْصُوبُ؛ لِأَنَّ أَحَدَ عَشَرَ عَدَدٌ مُرَكَّبٌ وَلَفْظُ كَذَا لَيْسَ بِمُرَكَّبٍ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ نَفْسُ كَذَا نَظِيرًا لِنَفْسِ أَحَدَ عَشَرَ لَمْ يُفِدْ الِاشْتِرَاكَ فِي مُجَرَّدِ كَوْنِ مُمَيِّزِهِمَا مَنْصُوبًا، وَهَذَا أَمْرٌ لَا سُتْرَةَ بِهِ.

قَالَ فِي الِاخْتِيَارِ شَرْحِ الْمُخْتَارِ: وَقِيلَ يَلْزَمُهُ عِشْرُونَ وَهُوَ الْقِيَاسُ؛ لِأَنَّ كَذَا يُذْكَرُ لِلْعَدَدِ عُرْفًا، وَأَقَلُّ عَدَدٍ غَيْرِ مُرَكَّبٍ يُذْكَرُ بَعْدَهُ الدِّرْهَمُ بِالنَّصْبِ عِشْرُونَ انْتَهَى. وَذَكَرَهُ الْإِمَامُ الزَّيْلَعِيُّ فِي الْكَنْزِ نَقْلًا عَنْهُ.

وَقَالَ صَاحِبُ مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ: وَمَا نَقَلَهُ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي وَصَاحِبُ الْحِلْيَةِ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ ذَكَرَ إذَا قَالَ كَذَا دِرْهَمًا لَزِمَهُ عِشْرُونَ عِنْدَهُ لِأَنَّهُ أَقَلُّ عَدَدٍ يُفَسِّرُهُ الْوَاحِدُ الْمَنْصُوبُ خِلَافُ مَا ذَكَرَ فِي الْهِدَايَةِ وَالذَّخِيرَةِ وَالتَّتِمَّةِ وَفَتَاوَى قَاضِي خَانْ كَمَا ذَكَرْنَا، وَلَمْ أَجِدْهُ فِي الْكُتُبِ الْمَشْهُورَةِ لِأَصْحَابِنَا اهـ كَلَامُهُ. أَقُولُ: كَأَنَّهُ لَمْ يَرَ مَا ذَكَرَهُ فِي مُخْتَصَرِ الْأَسْرَارِ وَشَرْحِ الْمُخْتَارِ أَوْ لَمْ يَعُدَّهُمَا مِنْ الْكُتُبِ الْمَشْهُورَةِ لِأَصْحَابِنَا، أَوْ أَرَادَ أَنَّهُ لَمْ يَجِدْهُ مَنْقُولًا عَنْ مُحَمَّدٍ فِي الْكُتُبِ الْمَشْهُورَةِ لِأَصْحَابِنَا: ثُمَّ إنَّ التَّعْلِيلَ الْمَذْكُورَ فِي الْمَنْقُولِ الْمَزْبُورِ وَهُوَ قَوْلُهُ لِأَنَّهُ أَقَلُّ عَدَدٍ يُفَسِّرُهُ الْوَاحِدُ الْمَنْصُوبُ

ص: 333

(وَلَوْ ثَلَّثَ كَذَا بِغَيْرِ وَاوٍ فَأَحَدَ عَشَرَ) لِأَنَّهُ لَا نَظِيرَ لَهُ سِوَاهُ (وَإِنْ ثَلَّثَ بِالْوَاوِ فَمِائَةٌ وَأَحَدٌ وَعِشْرُونَ، وَإِنْ رَبَّعَ يُزَادُ عَلَيْهَا أَلْفٌ) لِأَنَّ ذَلِكَ نَظِيرُهُ.

قَالَ: (وَإِنْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ أَوْ قِبَلِي فَقَدْ أَقَرَّ بِالدَّيْنِ) لِأَنَّ " عَلَيَّ " صِيغَةُ إيجَابٍ،

قَاصِرٌ فِي الظَّاهِرِ؛ لِأَنَّ أَقَلَّ عَدَدٍ يُفَسِّرُهُ الْوَاحِدُ الْمَنْصُوبُ إنَّمَا هُوَ أَحَدَ عَشَرَ دُونَ عِشْرِينَ، فَكَانَ مُرَادُهُ أَنَّهُ أَقَلُّ عَدَدٍ غَيْرِ مُرَكَّبٍ يُفَسِّرُهُ الْوَاحِدُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي غَيْرِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَفْظُهُ مُسَاعِدًا لَهُ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَلَوْ ثَلَّثَ كَذَا بِغَيْرِ وَاوٍ) أَيْ لَوْ ذَكَرَ لَفْظَةَ كَذَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ بِغَيْرِ وَاوٍ فَقَالَ كَذَا كَذَا كَذَا دِرْهَمًا (فَأَحَدَ عَشَرَ) أَيْ فَاَلَّذِي يَلْزَمُهُ أَحَدَ عَشَرَ دِرْهَمًا لَا غَيْرُ (لِأَنَّهُ لَا نَظِيرَ لَهُ سِوَاهُ) أَيْ لَا نَظِيرَ لَهُ فِي الْأَعْدَادِ الصَّرِيحَةِ سِوَى أَحَدَ عَشَرَ: يَعْنِي سِوَى مَا كَانَ أَقَلُّهُ أَحَدَ عَشَرَ فَيُحْمَلُ الِاثْنَانِ مِنْ تِلْكَ الثَّلَاثَةِ عَلَى أَحَدَ عَشَرَ لِكَوْنِهِمَا نَظِيرَيْ عَدَدَيْنِ صَرِيحَيْنِ لَيْسَ بَيْنَهُمَا حَرْفُ الْعَطْفِ وَأَقَلُّ ذَلِكَ أَحَدَ عَشَرَ، وَيُحْمَلُ الْوَاحِدُ مِنْهُمَا عَلَى التَّكْرِيرِ وَالتَّأْكِيدِ ضَرُورَةَ عَدَمِ ثَلَاثِ أَعْدَادٍ مُجْتَمَعَةٍ ذُكِرَتْ بِلَا عَاطِفٍ، كَذَا قَالُوا:(وَإِنْ ثَلَّثَ بِالْوَاوِ) بِأَنْ قَالَ: كَذَا وَكَذَا وَكَذَا (فَمِائَةٌ وَأَحَدٌ وَعِشْرُونَ) أَيْ فَاَلَّذِي يَلْزَمُهُ هَذَا الْمِقْدَارُ (وَإِنْ رَبَّعَ) بِأَنْ قَالَ: كَذَا وَكَذَا وَكَذَا وَكَذَا (يُزَادُ عَلَيْهَا) أَيْ عَلَى مِائَةٍ وَأَحَدٍ وَعِشْرُونَ (أَلْفٌ) فَيَلْزَمُهُ أَلْفٌ وَمِائَةٌ وَأَحَدٌ وَعِشْرُونَ (لِأَنَّ ذَلِكَ نَظِيرُهُ) أَيْ لِأَنَّ الْعَدَدَ الَّذِي ذَكَرْنَا أَنَّهُ يَلْزَمُ فِي صُورَتَيْ التَّثْلِيثِ وَالتَّرْبِيعِ نَظِيرُ مَا ذَكَرَهُ الْمُقِرُّ فِي تَيْنِك الصُّورَتَيْنِ: أَيْ أَقَلُّ مَا كَانَ نَظِيرًا لَهُ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ قَوْلُهُ: لِأَنَّ ذَلِكَ نَظِيرُهُ تَعْلِيلًا لِمَجْمُوعِ الصُّورَتَيْنِ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ عَدَمِ ذِكْرِ التَّعْلِيلِ فِي صُورَةِ التَّثْلِيثِ وَتَأْخِيرِهِ إلَى هُنَا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ تَعْلِيلًا لِقَرِيبِهِ: أَعْنِي صُورَةَ التَّرْبِيعِ وَيَكُونَ تَعْلِيلُ صُورَةِ التَّثْلِيثِ مَتْرُوكًا لِانْفِهَامِهِ مِمَّا ذَكَرَهُ فِي غَيْرِهَا كَمَا يُشْعِرُ بِهِ تَحْرِيرُ صَاحِبِ الْكَافِي حَيْثُ قَالَ: وَلَوْ قَالَ كَذَا وَكَذَا وَكَذَا دِرْهَمًا فَمِائَةٌ وَأَحَدٌ وَعِشْرُونَ لِأَنَّهُ أَقَلُّ مَا يُعَبَّرُ عَنْهُ بِثَلَاثَةِ أَعْدَادٍ مَعَ الْعَاطِفِ، وَلَوْ رَبَّعَ يُزَادُ عَلَيْهَا الْأَلْفُ لِأَنَّ ذَا نَظِيرُهُ انْتَهَى.

قَالَ الْإِمَامُ الزَّيْلَعِيُّ فِي التَّبْيِينِ: وَلَوْ خَمَّسَ بِالْوَاوِ يَنْبَغِي أَنْ يُزَادَ عَشَرَةُ آلَافٍ، وَلَوْ سَدَّسَ يُزَادُ مِائَةُ أَلْفٍ، وَلَوْ سَبَّعَ يُزَادُ أَلْفُ أَلْفٍ، وَعَلَى هَذَا كُلَّمَا زَادَ عَدَدًا مَعْطُوفًا بِالْوَاوِ زِيدَ عَلَيْهِ مَا جَرَتْ الْعَادَةُ بِهِ إلَى مَا لَا يَتَنَاهَى انْتَهَى. وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ خُوَاهَرْ زَادَهْ فِي مَبْسُوطِهِ: هَذَا كُلُّهُ إذَا قَالَ بِالنَّصْبِ فَأَمَّا إذَا قَالَ دِرْهَمٍ بِالْخَفْضِ بِأَنْ قَالَ كَذَا دِرْهَمٍ يَلْزَمُهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ. وَقَالَ: هَكَذَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ لِأَنَّهُ ذَكَرَ عَدَدًا مُبْهَمًا مَرَّةً وَاحِدَةً، وَذَكَرَ الدِّرْهَمَ عَقِيبَهُ بِالْخَفْضِ فَيُعْتَبَرُ بِعَدَدٍ وَاحِدٍ مُصَرَّحٍ يَسْتَقِيمُ ذِكْرُ الدِّرْهَمِ عَقِيبَهُ بِالْخَفْضِ، وَأَقَلُّ ذَلِكَ مِائَةُ دِرْهَمٍ، وَإِنْ قَالَ: كَذَا كَذَا دِرْهَمٍ يَلْزَمُهُ ثَلَاثُمِائَةِ دِرْهَمٍ لِأَنَّهُ ذَكَرَ عَدَدَيْنِ مُبْهَمَيْنِ وَلَمْ يَذْكُرْ بَيْنَهُمَا وَاوَ الْعَطْفِ، وَذَكَرَ الدَّرَاهِمَ عَقِيبَهُمَا بِالْخَفْضِ، وَأَقَلُّ ذَلِكَ الْعَدَدِ الْمُصَرَّحِ ثَلَاثُمِائَةٍ لِأَنَّ ثَلَاثًا عَدَدٌ وَمِائَةً عَدَدٌ وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا حَرْفُ الْعَطْفِ، وَيَسْتَقِيمُ ذِكْرُ الدَّرَاهِمِ بِالْخَفْضِ عَقِيبَهُمَا انْتَهَى كَلَامُهُ.

وَقَالَ الْإِمَامُ عَلَاءُ الدِّينِ الْإِسْبِيجَابِيُّ فِي شَرْحِ الْكَافِي لِلْحَاكِمِ الشَّهِيدِ: وَإِذَا أَقَرَّ أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَيْهِ كَذَا كَذَا دِرْهَمًا وَكَذَا كَذَا دِينَارًا فَعَلَيْهِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَحَدَ عَشَرَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَفْرَدَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الذِّكْرِ لَزِمَهُ أَحَدَ عَشَرَ، فَكَذَلِكَ إذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا يَلْزَمُهُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ أَحَدَ عَشَرَ. وَلَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ كَذَا كَذَا دِينَارًا وَدِرْهَمًا كَانَ عَلَيْهِ أَحَدَ عَشَرَ مِنْهُمَا جَمِيعًا، وَكَيْفَ يُقَسَّمُ؟. الْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ خَمْسَةٌ وَنِصْفٌ مِنْ الدَّرَاهِمِ وَخَمْسَةٌ وَنِصْفٌ مِنْ الدَّنَانِيرِ، إلَّا أَنَّا نَقُولُ: لَوْ فَعَلْنَا ذَلِكَ أَدَّى إلَى الْكَسْرِ، وَلَيْسَ فِي لَفْظِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْكَسْرِ فَيَجْعَلُ سِتَّةً مِنْ الدَّرَاهِمِ وَخَمْسَةً مِنْ الدَّنَانِيرِ. فَإِنْ قِيلَ: هَلَّا جَعَلْت سِتَّةً مِنْ الدَّنَانِيرِ وَخَمْسَةً مِنْ الدَّرَاهِمِ؟ قُلْنَا: لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ أَقَلُّ مَالِيَّةً مِنْ الدَّنَانِيرِ فَصَرَفْنَاهُ إلَيْهَا احْتِيَاطًا، إلَى هَاهُنَا كَلَامُهُ.

(قَالَ) أَيْ قَالَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ: (وَإِنْ قَالَ لَهُ عَلَيَّ أَوْ قِبَلِي فَقَدْ أَقَرَّ بِالدَّيْنِ) لَمْ يَذْكُرْ مُحَمَّدٌ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَإِنَّمَا ذَكَرَهَا فِي الْأَصْلِ. أَمَّا وَجْهُ كَوْنِهِ مُقِرًّا بِالدَّيْنِ فِي قَوْلِهِ: لَهُ عَلَيَّ فَمَا أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ: (لِأَنَّ عَلَيَّ صِيغَةُ إيجَابٍ) تَقْرِيرُهُ أَنَّ عَلَيَّ كَلِمَةٌ خَاصَّةٌ لِلْإِخْبَارِ عَنْ الْوَاجِبِ فِي الذِّمَّةِ وَاشْتِقَاقُهَا مِنْ الْعُلُوِّ، وَإِنَّمَا يَعْلُوهُ وَإِذَا كَانَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ لَا يَجِدُ بُدًّا مِنْ قَضَائِهِ لِيَخْرُجَ عَنْهُ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ. وَتَقْرِيرٌ آخَرُ أَنَّ الدَّيْنَ وَإِنْ لَمْ يُذْكَرْ صَرِيحًا فِي قَوْلِهِ: لَهُ عَلَيَّ فَقَدْ ذُكِرَ اقْتِضَاءً؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ عَلَيَّ تُسْتَعْمَلُ فِي الْإِيجَابِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} وَمَحَلُّ الْإِيجَابِ الذِّمَّةُ،

ص: 334

وَقِبَلِي يُنْبِئُ عَنْ الضَّمَانِ عَلَى مَا مَرَّ فِي الْكَفَالَةِ.

(وَلَوْ قَالَ الْمُقِرُّ هُوَ وَدِيعَةٌ وَوَصَلَ صُدِّقَ) لِأَنَّ اللَّفْظَ يَحْتَمِلُهُ مَجَازًا حَيْثُ يَكُونُ الْمَضْمُونُ عَلَيْهِ حِفْظَهُ وَالْمَالُ مَحَلَّهُ فَيُصَدَّقُ مَوْصُولًا لَا مَفْصُولًا. قَالَ رحمه الله: وَفِي نُسَخِ الْمُخْتَصَرِ فِي قَوْلِهِ قِبَلِي إنَّهُ إقْرَارٌ بِالْأَمَانَةِ لِأَنَّ اللَّفْظَ يَنْتَظِمُهُمَا حَتَّى صَارَ قَوْلُهُ: لَا حَقَّ لِي قِبَلَ فُلَانٍ إبْرَاءٌ عَنْ الدَّيْنِ وَالْأَمَانَةِ جَمِيعًا، وَالْأَمَانَةُ أَقَلُّهُمَا وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ.

وَالثَّابِتُ فِي الذِّمَّةِ الدَّيْنُ لَا الْعَيْنُ فَصَارَ مُقِرًّا بِالدَّيْنِ لَا الْعَيْنِ، كَذَا فِي غَايَةِ الْبَيَانِ، وَذُكِرَ فِي النِّهَايَةِ أَيْضًا نَقْلًا عَنْ الْإِمَامِ الْمَحْبُوبِيِّ: وَأَمَّا وَجْهُ كَوْنِهِ مُقِرًّا بِالدَّيْنِ فِي قَوْلِهِ لَهُ قِبَلِي فَمَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ (وَقِبَلِي يُنْبِئُ عَنْ الضَّمَانِ) لِأَنَّ هَذَا عِبَارَةٌ عَنْ اللُّزُومِ، أَلَا يَرَى أَنَّ الصَّكَّ الَّذِي هُوَ حُجَّةُ الدَّيْنِ يُسَمَّى قَبَالَةً وَأَنَّ الْكَفِيلَ يُسَمَّى قَبِيلًا لِأَنَّهُ ضَامِنٌ لِلْمَالِ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ نَقْلًا عَنْ الْمَبْسُوطِ (عَلَى مَا مَرَّ فِي الْكَفَالَةِ) مِنْ أَنَّهُ تَنْعَقِدُ الْكَفَالَةُ بِقَوْلِهِ: أَنَا قَبِيلٌ لِأَنَّ الْقَبِيلَ هُوَ الْكَفِيلُ. أَقُولُ: هَاهُنَا نَظَرٌ، وَهُوَ أَنَّ كَوْنَ الْقَبِيلِ بِمَعْنَى الْكَفِيلِ، وَتَضْمِينُهُ مَعْنَى الضَّمَانِ لَا يَقْتَضِي كَوْنَ قِبَلِي مُنْبِئًا عَنْ الضَّمَانِ لِأَنَّ كَلِمَةَ قِبَلِ غَيْرُ كَلِمَةِ الْقَبِيلِ، وَلَمْ يُذْكَرْ فِي كُتُبِ اللُّغَةِ مَجِيءُ الْأُولَى بِمَعْنَى الثَّانِيَةِ قَطُّ، بَلْ الَّذِي ذَكَرَهُ أَئِمَّةُ اللُّغَةِ فِي كُتُبِهِمْ هُوَ أَنَّ قِبَلَ فُلَانٍ بِمَعْنَى عِنْدَهُ، وَأَنَّ قِبَلًا بِمَعْنَى مُقَابَلَةً وَعِيَانًا، وَأَنَّهُ يَجِيءُ قِبَلُ بِمَعْنَى طَاقَةٍ فَإِنَّهُمْ قَالُوا رَأَيْته قِبَلًا: أَيْ مُقَابَلَةً وَعِيَانًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلا} أَيْ عِيَانًا وَلِي قِبَلَ فُلَانٍ حَقٌّ أَيْ عِنْدَهُ، وَمَالِي بِهِ قِبَلٌ أَيْ طَاقَةٌ، وَأَمَّا اسْتِعْمَالُ كَلِمَةِ قِبَلِ فِي مَعْنَى الضَّمَانِ فَلَمْ يُسْمَعْ مِنْهُمْ قَطُّ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ كُتُبَ اللُّغَةِ غَيْرُ مُسَاعِدَةٍ لِهَذِهِ الرِّوَايَةِ فِي هَاتِيك الْمَسْأَلَةِ فَتَأَمَّلْ.

(وَلَوْ قَالَ الْمُقِرُّ) فِي قَوْلِهِ: عَلَيَّ أَوْ قِبَلِي (وَهُوَ وَدِيعَةٌ وَوَصَلَ) أَيْ وَوَصَلَ قَوْلَهُ: عَلَيَّ أَوْ قِبَلِي بِقَوْلِهِ هُوَ وَدِيعَةٌ (صُدِّقَ لِأَنَّ اللَّفْظَ يَحْتَمِلُهُ) أَيْ يَحْتَمِلُ مَا قَالَهُ (مَجَازًا) أَيْ مِنْ حَيْثُ الْمَجَازُ (حَيْثُ يَكُونُ الْمَضْمُونُ عَلَيْهِ حِفْظَهُ) أَيْ حِفْظَ الْمُودَعِ، فَإِنَّ الْمُودَعَ مُلْتَزِمٌ حِفْظَ الْوَدِيعَةِ (وَالْمَالُ مَحَلُّهُ) أَيْ مَحَلُّ الْحِفْظِ فَقَدْ ذَكَرَ الْمَحَلَّ وَهُوَ مَالُ الْوَدِيعَةِ وَأَرَادَ الْحَالَ وَهُوَ حِفْظُهُ فَجَازَ مَجَازًا كَمَا فِي قَوْلِهِمْ: نَهْرٌ جَارٍ لَكِنَّهُ تَغْيِيرٌ عَنْ وَضْعِهِ (فَيُصَدَّقُ مَوْصُولًا لَا مَفْصُولًا) لِأَنَّهُ صَارَ بَيَانَ تَغْيِيرٍ، وَبَيَانُ التَّغْيِيرِ يُقْبَلُ مَوْصُولًا لَا مَفْصُولًا كَمَا فِي الِاسْتِثْنَاءِ (قَالَ) أَيْ الْمُصَنِّفُ رحمه الله (وَفِي نُسَخِ الْمُخْتَصَرِ) يَعْنِي مُخْتَصَرَ الْقُدُورِيِّ (فِي قَوْلِهِ قِبَلِي) أَيْ وَقَعَ فِي قَوْلِ الْمُقِرِّ قِبَلِي (أَنَّهُ إقْرَارٌ بِالْأَمَانَةِ لِأَنَّ اللَّفْظَ يَنْتَظِمُهُمَا) أَيْ يَنْتَظِمُ الدَّيْنَ وَالْأَمَانَةَ (حَتَّى صَارَ قَوْلُهُ) أَيْ قَوْلُ الْقَائِلِ (لَا حَقَّ لِي قِبَلَ فُلَانٍ إبْرَاءً عَنْ الدَّيْنِ وَالْأَمَانَةِ جَمِيعًا) نَصَّ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رحمه الله فِي الْأَصْلِ حَيْثُ قَالَ: إذَا قَالَ: لَا حَقَّ لَهُ عَلَى فُلَانٍ بَرِئَ فُلَانٌ مِمَّا هُوَ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ، وَإِنْ قَالَ: لَا حَقَّ عِنْدَهُ فَهُوَ بَرِيءٌ مِمَّا أَصْلُهُ الْأَمَانَةُ، وَإِنْ قَالَ لَا حَقَّ لِي قِبَلَ فُلَانٍ بَرِئَ مِمَّا عَلَيْهِ وَمِمَّا عِنْدَهُ لِأَنَّ مَا عِنْدَهُ قِبَلَهُ وَمَا عَلَيْهِ قِبَلَهُ انْتَهَى (وَالْأَمَانَةُ أَقَلُّهُمَا) هَذَا تَتِمَّةُ الدَّلِيلِ: يَعْنِي أَنَّ الْأَمَانَةَ أَقَلُّ الدَّيْنِ وَالْأَمَانَةِ فَيُحْمَلُ قَوْلُ الْمُقِرِّ عَلَيْهَا لِكَوْنِهَا الْأَدْنَى الْمُتَيَقَّنَ. قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ) أَيْ مَا ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ هُوَ الْأَصَحُّ قَالَ فِي الْكَافِي: وَالْأَوَّلُ مَذْكُورٌ فِي الْمَبْسُوطِ وَهُوَ الْأَصَحُّ؛ لِأَنَّ اسْتِعْمَالَهُ فِي الدُّيُونِ أَغْلَبُ وَأَكْثَرُ فَكَانَ الْعَمَلُ عَلَيْهِ أَحْرَى وَأَجْدَرَ. وَقَالَ فِي مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ: وَالْأَوَّلُ وَهُوَ أَنَّهُ إقْرَارٌ بِالدَّيْنِ أَصَحُّ، ذَكَرَهُ فِي الْمَبْسُوطِ، وَعَلَّلَ بِأَنَّ اسْتِعْمَالَهُ فِي الدَّيْنِ أَغْلَبُ وَأَكْثَرُ فَكَانَ الْحَمْلُ عَلَيْهِ أَوْلَى انْتَهَى.

أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: يُنْتَقَضُ هَذَا التَّعْلِيلُ بِمَا إذَا قَالَ: لَا حَقَّ لِي قِبَلَ فُلَانٍ فَإِنَّهُ لَمْ يُحْمَلْ هُنَاكَ عَلَى الدَّيْنِ خَاصَّةً، بَلْ جُعِلَ إبْرَاءً عَنْ الدَّيْنِ وَالْأَمَانَةِ جَمِيعًا بِالِاتِّفَاقِ مَعَ جَرَيَانِ هَذَا التَّعْلِيلِ هُنَاكَ أَيْضًا. ثُمَّ أَقُولُ: يُمْكِنُ

ص: 335

(وَلَوْ قَالَ عِنْدِي أَوْ مَعِي أَوْ فِي بَيْتِي أَوْ كِيسِي أَوْ فِي صُنْدُوقِي فَهُوَ إقْرَارٌ بِأَمَانَةٍ فِي يَدِهِ) لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ إقْرَارٌ بِكَوْنِ الشَّيْءِ فِي يَدِهِ وَذَلِكَ يَتَنَوَّعُ إلَى مَضْمُونٍ وَأَمَانَةٍ فَيَثْبُتُ وَأَقَلُّهَا وَهُوَ الْأَمَانَةُ.

(وَلَوْ قَالَ لَهُ رَجُلٌ: لِي عَلَيْك أَلْفٌ فَقَالَ اتَّزِنْهَا أَوْ انْتَقِدْهَا أَوْ أَجِّلْنِي بِهَا أَوْ قَدْ قَضَيْتُكَهَا فَهُوَ إقْرَارٌ)

دَفْعُ ذَلِكَ بِإِمْكَانِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ بِأَنَّ إحْدَاهُمَا صُورَةُ الْإِثْبَاتِ، وَلَمَّا لَمْ يَتَيَسَّرْ جَمْعُ إثْبَاتِ الدَّيْنِ وَإِثْبَاتِ الْأَمَانَةِ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ حُمِلَ عَلَى مَا هُوَ الْأَرْجَحُ مِنْهُمَا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، وَأَمَّا الْأُخْرَى فَصُورَةُ النَّفْيِ، وَلَمَّا تَيَسَّرَ جَمْعُ نَفْيِ الدَّيْنِ وَنَفْيِ الْأَمَانَةِ عَنْ شَيْءٍ حُمِلَ عَلَى نَفْيِهِمَا مَعًا فِي تِلْكَ الصُّورَةِ. وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْفَرْقَ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي بَابِ الْوَصِيَّةِ لِلْأَقَارِبِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ كِتَابِ الْوَصَايَا حَيْثُ قَالَ: وَمَنْ أَوْصَى لِمَوَالِيهِ وَلَهُ مَوَالٍ أَعْتَقَهُمْ وَمَوَالٍ أَعْتَقُوهُ فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ. ثُمَّ قَالَ: وَلَنَا أَنَّ الْجِهَةَ مُخْتَلِفَةٌ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا مَوْلَى النِّعْمَةِ وَالْآخَرَ مُنْعَمٌ عَلَيْهِ فَصَارَ مُشْتَرَكًا فَلَمْ يَنْتَظِمْهُمَا لَفْظٌ وَاحِدٌ فِي مَوْضِعِ الْإِثْبَاتِ، بِخِلَافِ مَا إذَا حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ مَوَالِيَ فُلَانٍ حَيْثُ يَتَنَاوَلُ الْأَعْلَى وَالْأَسْفَلَ لِأَنَّهُ مَقَامُ النَّفْيِ وَلَا تَنَافِيَ فِيهِ انْتَهَى كَلَامُهُ.

وَاعْلَمْ أَنَّهُ كَانَ قِيَاسُ تَرْتِيبِ وَضْعِ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يُذْكَرَ أَوَّلًا مَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ ثُمَّ يُذْكَرَ مَا ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ؛ لِأَنَّ الْهِدَايَةَ شَرْحَ الْبِدَايَةِ الَّتِي تَجْمَعُ مَسَائِلَ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَمُخْتَصَرِ الْقُدُورِيِّ وَالزَّوَائِدُ عَلَيْهَا مَذْكُورَةٌ عَلَى سَبِيلِ التَّفْرِيعِ، إلَّا أَنَّ الْمُصَنِّفَ لَمَّا رَأَى الْكَلَامَ الْمَذْكُورَ فِي الْأَصْلِ هُوَ الْأَصَحَّ قَدَّمَهُ فِي الذِّكْرِ، وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْ فِي الْبِدَايَةِ غَيْرَ مَا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ (وَلَوْ قَالَ عِنْدِي أَوْ مَعِي أَوْ فِي بَيْتِي أَوْ فِي كِيسِي أَوْ فِي صُنْدُوقِي فَهُوَ إقْرَارٌ بِأَمَانَةٍ فِي يَدِهِ) وَهَذِهِ كُلُّهَا مِنْ مَسَائِلِ الْأَصْلِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِهَا (لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ إقْرَارٌ بِكَوْنِ الشَّيْءِ فِي يَدِهِ) لَا فِي ذِمَّتِهِ (وَذَلِكَ) أَيْ مَا كَانَ فِي يَدِهِ (يَتَنَوَّعُ إلَى مَضْمُونٍ وَأَمَانَةٍ فَيَثْبُتُ أَقَلُّهُمَا) وَهُوَ الْأَمَانَةُ. تَوْضِيحُهُ أَنَّ هَذِهِ الْمَوَاضِعَ مَحَلٌّ لِلْعَيْنِ لَا لِلدَّيْنِ، إذْ الدَّيْنُ مَحَلُّهُ الذِّمَّةُ وَالْعَيْنُ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مَضْمُونَةً وَأَمَانَةً وَالْأَمَانَةُ أَدْنَاهَا فَحُمِلَ عَلَيْهَا لِلتَّيَقُّنِ بِهَا، وَهَذَا لِأَنَّ كَلِمَةَ عِنْدَ لِلْقُرْبِ وَمَعَ لِلْقِرَانِ وَمَا عَدَاهُمَا لِمَكَانٍ مُعَيَّنٍ فَيَكُونُ مِنْ خَصَائِصِ الْعَيْنِ، وَلَا يَحْتَمِلُ الدَّيْنَ لِاسْتِحَالَةِ كَوْنِهِ فِي هَذِهِ الْأَمَاكِنِ، فَإِذَا كَانَتْ مِنْ خَصَائِصِ الْعَيْنِ تَعَيَّنَتْ الْأَمَانَةُ لِمَا ذَكَرْنَا، وَلِأَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ فِي الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ تُسْتَعْمَلُ فِي الْأَمَانَاتِ وَمُطْلَقُ الْكَلَامِ يُحْمَلُ عَلَى الْعُرْفِ، كَذَا فِي التَّبْيِينِ.

فَإِنْ قُلْت: يُشْكِلُ هَذَا بِمَا قَالَ: لَهُ قِبَلِي مِائَةُ دِرْهَمٍ دَيْنُ وَدِيعَةٍ أَوْ وَدِيعَةُ دَيْنٍ فَإِنَّهُ إقْرَارٌ بِالدَّيْنِ لَا بِالْأَمَانَةِ مَعَ أَنَّ الْأَمَانَةَ أَقَلُّهُمَا. قُلْت: تَنَوُّعُ اللَّفْظِ إلَى الضَّمَانِ وَالْأَمَانَةِ فِيمَا فِيهِ نَحْنُ إنَّمَا نَشَأَ مِنْ لَفْظٍ وَاحِدٍ، وَفِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ مِنْ لَفْظَيْنِ، وَالْأَصْلُ أَنَّ أَحَدَ اللَّفْظَيْنِ إذَا كَانَ لِلْأَمَانَةِ وَالْآخَرُ لِلدَّيْنِ فَإِذَا جُمِعَ بَيْنَهُمَا فِي الْإِقْرَارِ تَرَجَّحَ الدَّيْنُ، كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ. قَالَ فِي النِّهَايَةِ بَعْدَ نَقْلِ هَذَا عَنْ الْمَبْسُوطِ: وَهَذَا الْمَعْنَى وَهُوَ أَنَّ اسْتِعَارَةَ اللَّفْظِ الَّذِي يُوجِبُ الدَّيْنَ لِمَا يُوجِبُ الْأَمَانَةَ مُمْكِنٌ لَا عَلَى الْعَكْسِ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَلْزَمُ اسْتِعَارَةُ الْأَدْنَى لِلْأَعْلَى، وَذَلِكَ لَا يَصِحُّ كَمَا لَا يَصِحُّ اسْتِعَارَةُ لَفْظِ الطَّلَاقِ لِلْعَتَاقِ، وَأَمَّا فِي الْأَوَّلِ فَكَانَ فِيهِ اسْتِعَارَةُ الْأَعْلَى لِلْأَدْنَى وَهُوَ صَحِيحٌ كَاسْتِعَارَةِ الْعِتْقِ لِلطَّلَاقِ، وَالِاسْتِعَارَةُ إنَّمَا تَصِحُّ فِي اللَّفْظَيْنِ لَا فِي اللَّفْظِ الْوَاحِدِ الْمُحْتَمِلِ لِلشَّيْئَيْنِ، بَلْ إنَّمَا يُنْظَرُ فِيهِ إلَى مَا هُوَ الْأَعْلَى الْمُحْتَمَلُ وَالْأَدْنَى الْمُتَيَقَّنُ فَيُحْمَلُ عَلَى الْأَدْنَى الْمُتَيَقَّنِ لِثُبُوتِهِ يَقِينًا انْتَهَى.

(وَلَوْ قَالَ لَهُ رَجُلٌ لِي عَلَيْك أَلْفٌ فَقَالَ اتَّزِنْهَا أَوْ انْتَقِدْهَا أَوْ أَجِّلْنِي بِهَا أَوْ قَدْ قَضَيْتُكَهَا فَهُوَ إقْرَارٌ) هَذَا كُلُّهُ لَفْظُ الْقُدُورِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ

ص: 336

لِأَنَّ الْهَاءَ فِي الْأَوَّلِ وَالثَّانِي كِنَايَةٌ عَنْ الْمَذْكُورِ فِي الدَّعْوَى، فَكَأَنَّهُ قَالَ: اتَّزِنْ الْأَلْفَ الَّتِي لَك عَلَيَّ، حَتَّى لَوْ لَمْ يَذْكُرْ حَرْفَ الْكِنَايَةِ لَا يَكُونُ إقْرَارًا لِعَدَمِ انْصِرَافِهِ إلَى الْمَذْكُورِ، وَالتَّأْجِيلُ إنَّمَا يَكُونُ فِي حَقٍّ وَاجِبٍ، وَالْقَضَاءُ يَتْلُو الْوُجُوبَ وَدَعْوَى الْإِبْرَاءِ كَالْقَضَاءِ لِمَا بَيَّنَّا، وَكَذَا دَعْوَى الصَّدَقَةِ وَالْهِبَةِ لِأَنَّ التَّمْلِيكَ يَقْتَضِي سَابِقَةَ الْوُجُوبِ، وَكَذَا لَوْ قَالَ أَحَلْتُك بِهَا عَلَى فُلَانٍ

يَعْنِي أَنَّ مَا ذَكَرَهُ الْمُجِيبُ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ كُلِّهَا يَكُونُ إقْرَارًا بِالْمُدَّعَى؛ لِأَنَّ مَا خَرَجَ جَوَابًا إذَا لَمْ يَكُنْ كَلَامًا مُسْتَقِلًّا كَانَ رَاجِعًا إلَى الْمَذْكُورِ أَوَّلًا فَكَأَنَّهُ أَعَادَهُ بِصَرِيحِ لَفْظِهِ، فَلَمَّا قَرَنَ كَلَامَهُ فِي الْأَوَّلِ وَالثَّانِي بِالْكِنَايَةِ رَجَعَ إلَى الْمَذْكُورِ فِي الدَّعْوَى وَإِلَيْهِ أَشَارَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ (لِأَنَّ الْهَاءَ فِي الْأَوَّلِ وَالثَّانِي) أَيْ فِي قَوْلِهِ اتَّزِنْهَا وَفِي قَوْلِهِ انْتَقِدْهَا (كِنَايَةٌ عَنْ الْمَذْكُورِ فِي الدَّعْوَى فَكَأَنَّهُ قَالَ) فِي الْأَوَّلِ (اتَّزِنْ الْأَلْفَ الَّتِي لَك عَلَيَّ) وَفِي الثَّانِي انْتَقِدْ الْأَلْفَ الَّتِي لَك عَلَيَّ فَصَارَ كَمَا لَوْ أَجَابَ بِنَعَمْ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مُسْتَقِلٍّ بِنَفْسِهِ وَقَدْ أَخْرَجَهُ مَخْرَجَ الْجَوَابِ (حَتَّى لَوْ لَمْ يَذْكُرْ حَرْفَ الْكِتَابَةِ) يَعْنِي الْهَاءَ (لَا يَكُونُ) كَلَامُهُ (إقْرَارًا) بِالْمُدَّعَى (لِعَدَمِ انْصِرَافِهِ) أَيْ لِعَدَمِ انْصِرَافِ كَلَامِهِ (إلَى الْمَذْكُورِ) أَيْ إلَى الْمَذْكُورِ فِي الدَّعْوَى لِكَوْنِهِ مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: اُقْعُدْ وَزَّانًا لِلنَّاسِ أَوْ نَقَّادًا لَهُمْ دَرَاهِمَهُمْ وَاكْتُبْ الْمَالَ وَلَا تُؤْذِنِي بِالدَّعْوَى الْبَاطِلَةِ (وَالتَّأْجِيلُ إنَّمَا يَكُونُ فِي حَقٍّ وَاجِبٍ) هَذَا إشَارَةٌ إلَى تَعْلِيلِ كَوْنِ قَوْلِهِ أَجِّلْنِي بِهَا إقْرَارًا، يَعْنِي أَنَّ التَّأْجِيلَ إنَّمَا يَكُونُ فِي حَقٍّ وَاجِبٍ لِأَنَّهُ لِلتَّرْفِيهِ فَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ طَلَبُ التَّأْجِيلِ إقْرَارًا بِحَقٍّ وَاجِبٍ (وَالْقَضَاءُ يَتْلُو الْوُجُوبَ) أَيْ يَتْبَعُ الْوُجُوبَ هَذَا إشَارَةٌ إلَى تَعْلِيلِ كَوْنِ قَوْلِهِ قَدْ قَضَيْتُكَهَا إقْرَارًا: يَعْنِي أَنَّ الْقَضَاءَ يَقْضِي سَبْقَ الْوُجُوبِ لِأَنَّهُ تَسْلِيمُ مِثْلِ الْوَاجِبِ فَلَا يُتَصَوَّرُ بِدُونِهِ، فَلَمَّا ادَّعَى قَضَاءَ الْأَلْفِ صَارَ مُقِرًّا بِوُجُوبِهَا (وَدَعْوَى الْإِبْرَاءِ) بِأَنْ قَالَ أَبْرَأْتَنِي مِنْهَا (كَالْقَضَاءِ) أَيْ كَدَعْوَى الْقَضَاءِ (لِمَا بَيَّنَّا) أَشَارَ بِهِ إلَى قَوْلِهِ وَالْقَضَاءُ يَتْلُو الْوُجُوبَ: يَعْنِي أَنَّ الْإِبْرَاءَ أَيْضًا يَتْلُو الْوُجُوبَ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ إسْقَاطٌ، وَهَذَا إنَّمَا يَكُونُ فِي مَالٍ وَاجِبٍ عَلَيْهِ، كَذَا فِي الْكَافِي.

أَقُولُ: هَاهُنَا إشْكَالٌ، وَهُوَ أَنَّهُ قَدْ أَطْبَقَتْ كَلِمَةُ الْفُقَهَاءِ فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ عَلَى أَنَّ قَوْلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْأَلْفِ لِلْمُدَّعِي: قَدْ قَضَيْتُكَهَا أَوْ أَبْرَأْتَنِي مِنْهَا إقْرَارٌ بِوُجُوبِ الْأَلْفِ عَلَيْهِ. وَقَالُوا فِي تَعْلِيلِ هَذَا: إنَّ الْقَضَاءَ يَتْلُو الْوُجُوبَ، وَكَذَا الْإِبْرَاءُ يَتْلُوهُ. وَقَدْ صَرَّحُوا فِي كِتَابِ الدَّعْوَى فِي أَكْثَرِ الْمُعْتَبَرَاتِ وَفِي مَسَائِلَ شَتَّى مِنْ كِتَابِ الْقَضَاءِ فِي الْهِدَايَةِ وَالْوِقَايَةِ بِأَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْأَلْفِ لَوْ قَالَ لِلْمُدَّعِي: لَيْسَ لَك عَلَيَّ شَيْءٌ قَطُّ أَوْ مَا كَانَ لَك عَلَيَّ شَيْءٌ قَطُّ ثُمَّ ادَّعَى قَضَاءَ تِلْكَ الْأَلْفِ لِلْمُدَّعِي، أَوْ ادَّعَى إبْرَاءَ الْمُدَّعِي إيَّاهُ مِنْ تِلْكَ الْأَلْفِ وَأَقَامَ بَيِّنَةً عَلَى ذَلِكَ سُمِعَتْ دَعْوَاهُ وَقُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا سِوَى زُفَرَ، وَقَالُوا فِي تَعْلِيلِ ذَلِكَ: إنَّ التَّوْفِيقَ مُمْكِنٌ لِأَنَّ غَيْرَ الْحَقِّ قَدْ يُقْضَى وَيُبْرَأُ مِنْهُ دَفْعًا لِلْخُصُومَةِ، حَتَّى قَالَ الْمُصَنِّفُ هُنَاكَ: أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُقَالُ قَضَى بِبَاطِلٍ وَقَدْ يُصَالِحُ عَلَى شَيْءٍ فَيَثْبُتُ ثُمَّ يَقْضِي، وَلَمْ يَعْتَبِرُوا قَوْلَ زُفَرَ هُنَاكَ الْقَضَاءُ يَتْلُو الْوُجُوبَ، وَكَذَا الْإِبْرَاءُ، وَقَدْ أَنْكَرَهُ فَيَكُونُ مُنَاقِضًا فَكَانَ بَيْنَ كَلَامَيْهِمْ الْمُقَرَّرَيْنِ فِي الْمَقَامَيْنِ تَدَافُعٌ لَا يَخْفَى فَتَدَبَّرْ

(وَكَذَا دَعْوَى الصَّدَقَةِ وَالْهِبَةِ) يَعْنِي لَوْ قَالَ: تَصَدَّقْت بِهَا عَلَيَّ أَوْ وَهَبْتهَا لِي كَانَ ذَلِكَ أَيْضًا إقْرَارًا مِنْهُ (لِأَنَّ التَّمْلِيكَ يَقْتَضِي سَابِقَةَ الْوُجُوبِ) يَعْنِي أَنَّ الصَّدَقَةَ وَالْهِبَةَ مِنْ قَبِيلِ التَّمْلِيكِ، فَدَعْوَى الصَّدَقَةِ وَالْهِبَةِ دَعْوَى التَّمْلِيكِ مِنْهُ وَذَا لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ وُجُوبِ الْمَالِ فِي ذِمَّتِهِ كَمَا لَا يَخْفَى (وَكَذَا لَوْ قَالَ: أَحَلْتُك بِهَا عَلَى فُلَانٍ) أَيْ كَانَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُ أَيْضًا

ص: 337

لِأَنَّهُ تَحْوِيلُ الدَّيْنِ.

قَالَ (وَمَنْ أَقَرَّ بِدَيْنٍ مُؤَجَّلٍ فَصَدَّقَهُ الْمُقَرُّ لَهُ فِي الدَّيْنِ وَكَذَّبَهُ فِي التَّأْجِيلِ لَزِمَهُ الدَّيْنُ حَالًا) لِأَنَّهُ أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِمَالٍ وَادَّعَى حَقًّا لِنَفْسِهِ فِيهِ فَصَارَ كَمَا إذَا أَقَرَّ بِعَبْدٍ فِي يَدِهِ وَادَّعَى الْإِجَارَةَ، بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ بِالدَّرَاهِمِ السُّودِ لِأَنَّهُ صِفَةٌ فِيهِ وَقَدْ مَرَّتْ الْمَسْأَلَةُ فِي الْكَفَالَةِ. قَالَ (وَيَسْتَحْلِفُ الْمُقَرُّ لَهُ عَلَى الْأَجَلِ) لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ حَقًّا عَلَيْهِ وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُنْكِرِ.

(وَإِنْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ مِائَةٌ وَدِرْهَمٌ لَزِمَهُ كُلُّهَا دَرَاهِمُ.

إقْرَارًا (لِأَنَّهُ تَحْوِيلُ الدَّيْنِ) مِنْ ذِمَّةٍ إلَى ذِمَّةٍ، وَذَا لَا يَكُونُ بِدُونِ الْوُجُوبِ، وَكَذَا لَوْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَقْضِيكَهَا الْيَوْمَ أَوْ لَا أَتَّزِنُهَا لَك الْيَوْمَ لِأَنَّهُ نَفَى الْقَضَاءَ وَالْوَزْنَ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ وُجُوبِ أَصْلِ الْمَالِ عَلَيْهِ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ أَصْلُ الْمَالِ وَاجِبًا عَلَيْهِ فَالْقَضَاءُ يَكُونُ مُنْتَفِيًا أَبَدًا فَلَا يَحْتَاجُ إلَى تَأْكِيدِ نَفْيِ الْقَضَاءِ بِالْيَمِينِ لِأَنَّهُ فِي نَفْسِهِ مُنْتَفٍ، كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ. وَلَوْ قِيلَ لَهُ هَلْ عَلَيْك لِفُلَانٍ كَذَا فَأَوْمَأَ بِرَأْسِهِ بِنَعَمْ لَا يَكُونُ إقْرَارًا؛ لِأَنَّ الْإِشَارَةَ مِنْ الْأَخْرَسِ قَائِمَةٌ مَقَامَ الْكَلَامِ لَا مِنْ غَيْرِهِ، كَذَا فِي الْكَافِي وَغَيْرِهِ.

(قَالَ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ (وَمَنْ أَقَرَّ بِدَيْنٍ مُؤَجَّلٍ فَصَدَّقَهُ الْمُقِرُّ لَهُ فِي الدَّيْنِ وَكَذَّبَهُ فِي التَّأْجِيلِ لَزِمَهُ الدَّيْنُ حَالًا) هَذَا عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَزِمَهُ الدَّيْنُ مُؤَجَّلًا لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِمَالٍ مَوْصُوفٍ بِأَنَّهُ مُؤَجَّلٌ إلَى وَقْتٍ فَيَلْزَمُهُ بِالْوَصْفِ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ، وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّ الْأَجَلَ حَقٌّ لِمَنْ عَلَيْهِ الْمَالُ فَكَيْفَ يَكُونُ صِفَةً لِلْمَالِ الَّذِي هُوَ حَقُّ الدَّائِنِ وَلَكِنَّهُ مُؤَخَّرٌ لِلْمُطَالَبَةِ إلَى مُضِيِّهِ، فَكَانَ دَعْوَاهُ الْأَجَلَ كَدَعْوَاهُ الْإِبْرَاءَ، كَذَا ذَكَرَ فِي بَابِ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ الْمَبْسُوطِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِ قَوْلِ أَصْحَابِنَا (لِأَنَّهُ) أَيْ لِأَنَّ الْمُقِرَّ بِدَيْنٍ مُؤَجَّلٍ (أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِمَالٍ وَادَّعَى حَقًّا لِنَفْسِهِ فِيهِ) أَيْ فِي ذَلِكَ الْمَالِ فَيُصَدَّقُ فِي الْإِقْرَارِ بِلَا حُجَّةٍ دُونَ الدَّعْوَى (فَصَارَ) أَيْ فَصَارَ الْمُقِرُّ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ (كَمَا إذَا أَقَرَّ) لِغَيْرِهِ (بِعَبْدٍ فِي يَدِهِ) أَيْ بِعَبْدٍ كَائِنٍ فِي يَدِ نَفْسِهِ بِأَنَّهُ مَلَكَ ذَلِكَ الْغَيْرَ (وَادَّعَى الْإِجَارَةَ) أَيْ ادَّعَى أَنَّهُ اسْتَأْجَرَ هَذَا الْعَبْدَ مِنْ صَاحِبِهِ فَصَدَّقَهُ الْمُقَرُّ لَهُ فِي الْمِلْكِ دُونَ الْإِجَارَةِ فَإِنَّهُ لَا يُصَدَّقُ هُنَاكَ فِي دَعْوَى الْإِجَارَةِ، فَكَذَا هَاهُنَا فِي دَعْوَى الْأَجَلِ (بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ بِالدَّرَاهِمِ السُّودِ) أَيْ بِخِلَافِ مَا لَوْ أَقَرَّ بِالدَّرَاهِمِ السُّودِ فَصَدَّقَهُ فِي الْمُقَرِّ لَهُ بِالدَّرَاهِمِ دُونَ وَصْفِ السَّوَادِ حَيْثُ يَلْزَمُهُ الدَّرَاهِمُ السُّودُ دُونَ الْبِيضِ (لِأَنَّهُ) أَيْ لِأَنَّ السَّوَادَ (صِفَةٌ فِيهِ) أَيْ فِي الدَّرَاهِمِ أَوْ فِيمَا أَقَرَّ بِهِ فَيَلْزَمُهُ مَا أَقَرَّ بِهِ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي أَقَرَّ بِهَا، وَأَمَّا الْأَجَلُ فَلَيْسَ بِصِفَةٍ فِي الدُّيُونِ الْوَاجِبَةِ بِغَيْرِ عَقْدِ الْكَفَالَةِ كَالْقُرُوضِ وَثَمَنِ الْبِيَاعَاتِ وَالْمَهْرِ وَقِيَمِ الْمُتْلَفَاتِ، بَلْ الْأَجَلُ فِيهَا أَمْرٌ عَارِضٌ وَلِهَذَا لَا يَثْبُتُ بِلَا شَرْطٍ، وَالْقَوْلُ لِمُنْكَرِ الْعَارِضِ وَقَدْ أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ (وَقَدْ مَرَّتْ الْمَسْأَلَةُ فِي الْكَفَالَةِ) فَإِنَّهُ قَالَ فِي فَصْلِ الضَّمَانِ مِنْ كِتَابِ الْكَفَالَةِ وَمَنْ قَالَ لِآخَرَ: لَك عَلَيَّ مِائَةٌ إلَى شَهْرٍ وَقَالَ الْمُقَرُّ لَهُ هِيَ حَالَّةٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُدَّعِي، وَإِنْ قَالَ: ضَمِنْت لَك عَنْ فُلَانٍ مِائَةً إلَى شَهْرٍ وَقَالَ الْمُقَرُّ لَهُ هِيَ حَالَّةٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الضَّامِنِ.

وَقَالَ: وَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الْمُقِرَّ أَقَرَّ بِالدَّيْنِ ثُمَّ ادَّعَى حَقًّا لِنَفْسِهِ وَهُوَ تَأْخِيرُ الْمُطَالَبَةِ إلَى أَجَلٍ، وَفِي الْكَفَالَةِ مَا أَقَرَّ بِالدَّيْنِ فَإِنَّهُ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ فِي الصَّحِيحِ إنَّمَا أَقَرَّ بِمُجَرَّدِ الْمُطَالَبَةِ بَعْدَ الشَّهْرِ، وَلِأَنَّ الْأَجَلَ فِي الدُّيُونِ عَارِضٌ حَتَّى لَا يَثْبُتَ إلَّا بِالشَّرْطِ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ مَنْ أَنْكَرَ الشَّرْطَ كَمَا فِي الْخِيَارِ، أَمَّا الْأَجَلُ فِي الْكَفَالَةِ نَوْعٌ حَتَّى يَثْبُتَ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ بِأَنْ كَانَ مُؤَجَّلًا عَلَى الْأَصِيلِ انْتَهَى (قَالَ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ (وَيُسْتَحْلَفُ الْمُقَرُّ لَهُ) أَيْ يُسْتَحْلَفُ الْمُقَرُّ لَهُ فِي مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ (عَلَى الْأَجَلِ) أَيْ عَلَى إنْكَارِ الْأَجَلِ (لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ حَقًّا عَلَيْهِ) فَإِنَّ الْمُقِرَّ يَدَّعِي عَلَيْهِ التَّأْجِيلَ وَهُوَ يُنْكِرُ ذَلِكَ (وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُنْكِرِ) بِالْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ. قَالَ فِي النِّهَايَةِ: وَفِي الذَّخِيرَةِ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ مِنْ كِتَابِ الْإِقْرَارِ، وَلَا يَبْطُلُ الْإِقْرَارُ بِالْحَلِفِ حَتَّى إنَّ مَنْ أَقَرَّ لِرَجُلٍ ثُمَّ أَنْكَرَ فَاسْتَحْلَفَهُ الْقَاضِي فَحَلَفَ ثُمَّ أَقَامَ الطَّالِبُ بَيِّنَةً عَلَى إقْرَارِهِ قَضَى لَهُ بِالْمُقَرِّ بِهِ.

(وَإِنْ قَالَ لَهُ عَلَيَّ مِائَةٌ وَدِرْهَمٌ لَزِمَهُ كُلُّهَا دَرَاهِمُ) وَكَذَا لَوْ قَالَ مِائَةٌ وَدِرْهَمَانِ أَوْ مِائَةٌ وَثَلَاثَةُ

ص: 338

وَلَوْ قَالَ: مِائَةٌ وَثَوْبٌ لَزِمَهُ ثَوْبٌ وَاحِدٌ، وَالْمَرْجِعُ فِي تَفْسِيرِ الْمِائَةِ إلَيْهِ) وَهُوَ الْقِيَاسُ فِي الْأَوَّلِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ لِأَنَّ الْمِائَةَ مُبْهَمَةٌ وَالدِّرْهَمَ مَعْطُوفٌ عَلَيْهَا بِالْوَاوِ الْعَاطِفَةِ لَا تَفْسِيرًا لَهَا فَبَقِيَتْ الْمِائَةُ عَلَى إبْهَامِهَا كَمَا فِي الْفَصْلِ الثَّانِي. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ وَهُوَ الْفَرْقُ أَنَّهُمْ اسْتَثْقَلُوا تَكْرَارَ الدِّرْهَمِ فِي كُلِّ عَدَدٍ وَاكْتَفَوْا بِذِكْرِهِ عَقِيبَ الْعَدَدَيْنِ.

وَهَذَا فِيمَا يَكْثُرُ اسْتِعْمَالُهُ وَذَلِكَ عِنْدَ كَثْرَةِ الْوُجُوبِ بِكَثْرَةِ أَسْبَابِهِ وَذَلِكَ فِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ، أَمَّا الثِّيَابُ وَمَا لَا يُكَالُ وَلَا يُوزَنُ فَلَا يَكْثُرُ وُجُوبُهَا فَبَقِيَ عَلَى الْحَقِيقَةِ.

دَرَاهِمَ ذَكَرَهُ الْإِمَامُ قَاضِي خَانْ حَيْثُ قَالَ فِي فَتَاوَاهُ: وَلَوْ قَالَ لَهُ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ أَوْ عَلَيَّ أَلْفٌ وَدِرْهَمَانِ أَوْ أَلْفٌ وَثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ كَانَ الْكُلُّ دَرَاهِمَ انْتَهَى (وَلَوْ قَالَ مِائَةٌ وَثَوْبٌ) أَيْ وَلَوْ قَالَ لَهُ عَلَيَّ مِائَةٌ وَثَوْبٌ (لَزِمَهُ ثَوْبٌ وَاحِدٌ، وَالْمَرْجِعُ فِي تَفْسِيرِ الْمِائَةِ إلَيْهِ) أَيْ إلَى الْمُقِرِّ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَهُوَ الْقِيَاسُ فِي الْأَوَّلِ) يَعْنِي أَنَّ لُزُومَ دِرْهَمٍ وَاحِدٍ وَالرُّجُوعَ فِي تَفْسِيرِ الْمِائَةِ إلَى الْمُقِرِّ هُوَ الْقِيَاسُ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ أَيْضًا وَهُوَ قَوْلُهُ: لَهُ عَلَيَّ مِائَةٌ وَدِرْهَمٌ وَنَظَائِرُهُ (وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ) أَيْ وَبِالْقِيَاسِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ فِي هَذَا الْفَصْلِ أَيْضًا (لِأَنَّ الْمِائَةَ مُبْهَمَةٌ وَالدِّرْهَمَ مَعْطُوفٌ عَلَيْهَا) أَيْ عَلَى الْمِائَةِ (بِالْوَاوِ الْعَاطِفَةِ لَا تَفْسِيرَ لَهَا) لِأَنَّ الْعَطْفَ لَمْ يُوضَعْ لِلْبَيَانِ بَلْ هُوَ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ (فَبَقِيَتْ الْمِائَةُ عَلَى إبْهَامِهَا كَمَا فِي الْفَصْلِ الثَّانِي) وَهُوَ قَوْلُهُ لَهُ عَلَيَّ مِائَةٌ وَثَوْبٌ وَنَحْوَ ذَلِكَ فَلَا بُدَّ مِنْ الْمَصِيرِ إلَى الْبَيَانِ، وَلَكِنْ، عُلَمَاؤُنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى فَرَّقُوا بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ وَأَخَذُوا بِالِاسْتِحْسَانِ فِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ فَجَعَلُوا الْمَعْطُوفَ عَلَيْهِ مِنْ جِنْسِ الْمَعْطُوفِ فِيمَا إذَا قَالَ لَهُ عَلَيَّ مِائَةٌ وَدِرْهَمٌ أَوْ مِائَةٌ وَدِينَارٌ وَقَفِيزُ حِنْطَةٍ أَوْ مِائَةٌ وَمَنُّ زَعْفَرَانٍ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ وَهُوَ الْفَرْقُ) بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ (أَنَّهُمْ) أَيْ أَنَّ النَّاسَ (اسْتَثْقَلُوا تَكْرَارَ الدِّرْهَمِ فِي كُلِّ عَدَدٍ وَاكْتَفَوْا بِذِكْرِهِ) أَيْ بِذِكْرِ الدِّرْهَمِ مَرَّةً (عَقِيبَ الْعَدَدَيْنِ) أَلَا يَرَى أَنَّهُمْ يَقُولُونَ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا فَيَكْتَفُونَ بِذِكْرِ الدِّرْهَمِ مَرَّةً وَيَجْعَلُونَ ذَلِكَ تَفْسِيرًا لِلْكُلِّ (وَهَذَا) أَيْ اسْتِثْقَالُهُمْ (فِيمَا يَكْثُرُ اسْتِعْمَالُهُ وَذَلِكَ) أَيْ كَثْرَةُ الِاسْتِعْمَالِ (عِنْدَ كَثْرَةِ الْوُجُوبِ بِكَثْرَةِ أَسْبَابِهِ وَذَلِكَ) أَيْ كَثْرَةِ الْوُجُوبِ بِكَثْرَةِ الْأَسْبَابِ (فِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ) يَعْنِي فِيمَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ لِثُبُوتِهَا فِي الذِّمَّةِ فِي جَمِيعِ الْمُعَامَلَاتِ حَالَّةً وَمُؤَجَّلَةً، وَيَجُوزُ الِاسْتِقْرَاضُ بِهَا لِعُمُومِ الْبَلْوَى (أَمَّا الثِّيَابُ وَمَا لَا يُكَالُ وَلَا يُوزَنُ لَا يَكْثُرُ وُجُوبُهَا) فَإِنَّ الثِّيَابَ لَا تَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ دَيْنًا إلَّا فِي السَّلَمِ، وَالشَّاةُ وَنَحْوُهَا لَا يَثْبُتُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ أَصْلًا (فَبَقِيَ) أَيْ بَقِيَ هَذَا الْقِسْمُ (عَلَى الْحَقِيقَةِ) أَيْ عَلَى الْأَصْلِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بَيَانُ الْمُجْمَلِ إلَى الْمُجْمِلِ لَا إلَى الْمَعْطُوفِ لِعَدَمِ صَلَاحِيَّةِ الْعَطْفِ لِلتَّفْسِيرِ إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ وَقَدْ انْعَدَمَتْ هَاهُنَا.

أَقُولُ: فِي تَقْرِيرِ وَجْهِ الِاسْتِحْسَانِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ نَظَرٌ، أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ اكْتِفَاءَهُمْ بِذِكْرِ الدِّرْهَمِ مَرَّةً عَقِيبَ الْعَدَدَيْنِ لَا يُجْدِي فِيمَا نَحْنُ فِيهِ إذْ لَمْ يُذْكَرْ الدِّرْهَمُ فِيهِ عَقِيبَ أَحَدِ الْعَدَدَيْنِ، بَلْ إنَّمَا ذَكَرَهُ عَقِيبَ عَدَدٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الْمِائَةُ، وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّهُمْ اكْتَفَوْا بِذِكْرِ مِثْلِ الثَّوْبِ أَيْضًا عَقِيبَ الْعَدَدَيْنِ؛ أَلَا يَرَى إلَى مَا سَيَأْتِي أَنَّهُ إذَا قَالَ مِائَةٌ وَثَلَاثَةُ أَثْوَابٍ يَكُونُ الْكُلُّ أَثْوَابًا لِانْصِرَافِ التَّفْسِيرِ إلَى مَجْمُوعِ الْعَدَدَيْنِ الْمُبْهَمَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ قَبْلَهُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُتَمَحَّلَ فِي الْجَوَابِ بِأَنْ يُقَالَ: مُرَادُ الْمُصَنِّفِ أَنَّهُمْ اسْتَثْقَلُوا تَكْرَارَ الْمُمَيِّزِ

ص: 339

(وَكَذَا إذَا قَالَ: مِائَةٌ وَثَوْبَانِ) لِمَا بَيَّنَّا (بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ: مِائَةٌ وَثَلَاثَةُ أَثْوَابٍ) لِأَنَّهُ ذَكَرَ عَدَدَيْنِ مُبْهَمَيْنِ وَأَعْقَبَهَا تَفْسِيرًا إذْ الْأَثْوَابُ لَمْ تُذْكَرُ بِحَرْفِ الْعَطْفِ فَانْصَرَفَ إلَيْهِمَا لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْحَاجَةِ إلَى التَّفْسِيرِ فَكَانَتْ كُلُّهَا ثِيَابًا.

قَالَ (وَمَنْ أَقَرَّ بِتَمْرٍ فِي قَوْصَرَّةٍ لَزِمَهُ التَّمْرُ وَالْقَوْصَرَّةُ) وَفَسَّرَهُ فِي الْأَصْلِ بِقَوْلِهِ: غَصَبْت تَمْرًا فِي قَوْصَرَّةٍ. وَوَجْهُهُ أَنَّ الْقَوْصَرَّةَ وِعَاءٌ لَهُ وَظَرْفٌ لَهُ، وَغَصْبُ الشَّيْءِ وَهُوَ مَظْرُوفٌ لَا يَتَحَقَّقُ بِدُونِ الظَّرْفِ فَيَلْزَمَانِهِ وَكَذَا الطَّعَامُ فِي السَّفِينَةِ وَالْحِنْطَةُ فِي الْجَوَالِقِ،

فِي كُلِّ عَدَدٍ بَلْ اكْتَفَوْا بِذِكْرِهِ مَرَّةً فِي بَعْضِ الْأَعْدَادِ رَوْمًا لِلِاخْتِصَارِ، أَلَا يَرَى أَنَّهُمْ اكْتَفَوْا بِذَلِكَ عَقِيبَ الْعَدَدَيْنِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَالِاطِّرَادِ، وَكَذَلِكَ اكْتَفَوْا بِهِ فِي عَدَدٍ وَاحِدٍ أَيْضًا فِيمَا يَكْثُرُ اسْتِعْمَالُهُ وَدَوَرَانُهُ فِي الْكَلَامِ كَمَا نَحْنُ فِيهِ.

نَعَمْ الْأَوْلَى هَاهُنَا أَنْ يَطْرَحَ مِنْ الْبَيِّنِ حَدِيثَ الذِّكْرِ عَقِيبَ الْعَدَدَيْنِ، وَيُقَرِّرَ وَجْهَ الِاسْتِحْسَانِ عَلَى طُرُزِ مَا ذَكَرَ فِي الْكَافِي وَغَيْرِهِ وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ: وَدِرْهَمٌ بَيَانٌ لِلْمِائَةِ عَادَةً لِأَنَّ النَّاسَ اسْتَثْقَلُوا تَكْرَارَ الدِّرْهَمِ وَنَحْوَهُ وَاكْتَفَوْا بِذِكْرِهِ مَرَّةً، وَهَذَا فِيمَا يَكْثُرُ اسْتِعْمَالُهُ، وَذَا عِنْدَ كَثْرَةِ الْوُجُوبِ بِكَثْرَةِ أَسْبَابِهِ وَدَوَرَانِهِ فِي الْكَلَامِ، وَذَا فِيمَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ كَالْأَثْمَانِ وَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ، بِخِلَافِ الثِّيَابِ وَمَا لَا يُكَالُ وَلَا يُوزَنُ فَإِنَّهُ لَا يَكْثُرُ وُجُوبُهَا وَثُبُوتُهَا فِي الذِّمَّةِ فَبَقِيَتْ عَلَى الْأَصْلِ. قَالَ فِي النِّهَايَةِ: وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله فِي قَوْلِهِ مِائَةٌ وَثَوْبٌ أَنَّ الْكُلَّ مِنْ الثِّيَابِ وَكَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: مِائَةٌ وَشَاةٌ، وَوَجْهُهُ أَنَّ الثِّيَابَ وَالْغَنَمَ تُقَسَّمُ قِسْمَةً وَاحِدَةً، بِخِلَافِ الْعَبِيدِ فَإِنَّهَا لَا تُقَسَّمُ قِسْمَةً وَاحِدَةً، وَمَا يُقَسَّمُ قِسْمَةً وَاحِدَةً يَتَحَقَّقُ فِي أَعْدَادِهَا الْمُجَانَسَةُ فَيُمْكِنُ أَنْ يَجْعَلَ الْمُفَسَّرَ مِنْهُ تَفْسِيرًا لِلْمُبْهَمِ انْتَهَى.

وَيُوَافِقُهُ مَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ قَاضِي خَانْ فِي فَتَاوَاهُ حَيْثُ قَالَ: رَجُلٌ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفٌ وَعَبْدٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله أَنَّهُ قَالَ: يُقِرُّ فِي الْأَوَّلِ بِمَا يَشَاءُ، وَلَوْ قَالَ: أَلْفٌ وَبَعِيرٌ أَوْ أَلْفٌ وَثَوْبٌ أَوْ أَلْفٌ وَفَرَسٌ فَهِيَ ثِيَابٌ وَأَغْنَامٌ وَأَبْعِرَةٌ، وَلَا يُشْبِهُ هَذَا بَنِي آدَمَ لِأَنَّ بَنِي آدَمَ لَا يُقَسَّمُ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ. وَقَالَ الْإِمَامُ الزَّيْلَعِيُّ فِي التَّبْيِينِ بَعْدَ نَقْلِ ذَلِكَ عَنْ النِّهَايَةِ: وَهَذَا لَيْسَ بِظَاهِرٍ، فَإِنَّ عِنْدَهُمَا يُقَسَّمُ الْعَبِيدُ كَالْغَنَمِ، وَإِنَّمَا لَا يُقَسَّمُونَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله انْتَهَى، فَتَأَمَّلْ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَكَذَا إذَا قَالَ مِائَةٌ وَثَوْبَانِ) أَيْ يَرْجِعُ فِي بَيَانِهِ الْمِائَةَ إلَى الْمُقِرِّ (لِمَا بَيَّنَّا) مِنْ أَنَّ الثِّيَابَ وَمَا لَا يُكَالُ وَلَا يُوزَنُ لَا يَكْثُرُ وُجُوبُهَا (بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ مِائَةٌ وَثَلَاثَةُ أَثْوَابٍ) حَيْثُ يَكُونُ الْكُلُّ ثِيَابًا بِالِاتِّفَاقِ (لِأَنَّهُ ذَكَرَ عَدَدَيْنِ مُبْهَمَيْنِ وَأَعْقَبَهُمَا تَفْسِيرًا إذْ الْأَثْوَابُ لَمْ تُذْكَرْ بِحَرْفِ الْعَطْفِ) حَتَّى يَدُلَّ عَلَى الْمُغَايَرَةِ (فَانْصَرَفَ إلَيْهِمَا) أَيْ فَانْصَرَفَ التَّفْسِيرُ الْمَذْكُورُ إلَى الْعَدَدَيْنِ جَمِيعًا (لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْحَاجَةِ إلَى التَّفْسِيرِ فَكَانَ كُلُّهَا) أَيْ كُلُّ الْآحَادِ الْمُنْدَرِجَةِ تَحْتَ ذَيْنِك الْعَدَدَيْنِ (ثِيَابًا) لَا يُقَالُ: الْأَثْوَابُ جَمْعُ ثَوْبٍ لَا يَصْلُحُ مُمَيِّزًا لِلْمِائَةِ لِأَنَّهَا لَمَّا اقْتَرَنَتْ بِالثَّلَاثَةِ صَارَا كَعَدَدٍ وَاحِدٍ، كَذَا فِي الْكَافِي وَالشُّرُوحِ.

(قَالَ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ (وَمَنْ أَقَرَّ بِتَمْرٍ فِي قَوْصَرَّةٍ لَزِمَهُ التَّمْرُ وَالْقَوْصَرَّةُ) الْقَوْصَرَّةُ بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيدِ: وِعَاءُ التَّمْرِ يُتَّخَذُ مِنْ قَصَبٍ، وَقَوْلُهُمْ إنَّمَا تُسَمَّى بِذَلِكَ مَا دَامَ فِيهَا التَّمْرُ، وَإِلَّا فَهِيَ زِنْبِيلٌ مَبْنِيٌّ عَلَى عُرْفِهِمْ، كَذَا فِي الْمُغْرِبِ. قَالَ صَاحِبُ الْجَمْهَرَةِ: أَمَّا الْقَوْصَرَّةُ فَأَحْسَبُهَا دَخِيلًا. وَقَدْ رُوِيَ:

أَفْلَحَ مَنْ كَانَتْ لَهُ قَوْصَرَّهْ

يَأْكُلُ مِنْهَا كُلَّ يَوْمٍ مَرَّهْ

ثُمَّ قَالَ: وَلَا أَدْرِي مَا صِحَّةُ هَذَا الْبَيْتِ، كَذَا فِي غَايَةِ الْبَيَانِ

قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَفَسَّرَهُ فِي الْأَصْلِ) أَيْ فَسَّرَ الْإِقْرَارَ بِتَمْرٍ فِي قَوْصَرَّةٍ فِي الْأَصْلِ وَهُوَ الْمَبْسُوطُ (بِقَوْلِهِ) أَيْ بِقَوْلِ الْمُقِرِّ (غَصَبْت تَمْرًا فِي قَوْصَرَّةٍ. وَوَجْهُهُ) أَيْ وَجْهُ جَوَابِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ لُزُومُ التَّمْرِ وَالْقَوْصَرَّةِ جَمِيعًا (أَنَّ الْقَوْصَرَّةَ وِعَاءٌ لَهُ) أَيْ لِلتَّمْرِ (وَظَرْفٌ لَهُ) أَيْ لِلتَّمْرِ (وَغَصْبُ الشَّيْءِ وَهُوَ مَظْرُوفٌ) أَيْ وَالْحَالُ أَنَّهُ مَظْرُوفٌ (لَا يَتَحَقَّقُ بِدُونِ الظَّرْفِ فَيَلْزَمَانِهِ) أَيْ فَيَلْزَمُ التَّمْرُ وَالْقَوْصَرَّةُ الْمُقِرَّ (وَكَذَا الطَّعَامُ فِي السَّفِينَةِ) أَيْ وَكَذَا الْحُكْمُ فِيمَا إذَا قَالَ غَصَبْت الطَّعَامَ فِي السَّفِينَةِ (وَالْحِنْطَةَ فِي الْجَوَالِقِ) أَيْ وَفِيمَا إذَا قَالَ غَصَبْت الْحِنْطَةَ فِي الْجَوَالِقِ، وَالْجَوَالِقُ بِالْفَتْحِ جَمْعُ جُوَالِقٍ

ص: 340

بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ: غَصَبْت تَمْرًا مِنْ قَوْصَرَّةٍ لِأَنَّ كَلِمَةَ مِنْ لِلِانْتِزَاعِ فَيَكُونُ الْإِقْرَارُ بِغَصْبِ الْمَنْزُوعِ.

قَالَ: (وَمَنْ أَقَرَّ بِدَابَّةٍ فِي إصْطَبْلٍ لَزِمَهُ الدَّابَّةُ خَاصَّةً) لِأَنَّ الْإِصْطَبْلَ غَيْرُ مَضْمُونٍ بِالْغَصْبِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ مُحَمَّدٍ يَضْمَنُهُمَا

بِالضَّمِّ، وَالْجَوَالِيقُ بِزِيَادَةِ الْيَاءِ تَسَامُحٌ، كَذَا فِي الْمُغْرِبِ.

وَالْأَصْلُ فِي جِنْسِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ أَنَّ مَا كَانَ الثَّانِي ظَرْفًا لِلْأَوَّلِ وَوِعَاءً لَهُ لَزِمَاهُ نَحْوُ ثَوْبٍ فِي مِنْدِيلٍ وَطَعَامٍ فِي سَفِينَةٍ وَحِنْطَةٍ فِي جُوَالِقٍ، وَمَا كَانَ لِلثَّانِي مِمَّا لَا يَكُونُ وِعَاءً لِلْأَوَّلِ نَحْوُ قَوْلِك: غَصَبْت دِرْهَمًا فِي دِرْهَمٍ لَمْ يَلْزَمْ الثَّانِي لِأَنَّهُ غَيْرُ صَالِحٍ لَأَنْ يَكُونَ ظَرْفًا لِمَا أَقَرَّ بِغَصْبِهِ أَوَّلًا فَلَغَا آخِرُ كَلَامِهِ، كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ وَذُكِرَ فِي الشُّرُوحِ. أَقُولُ: يَرِدُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ النَّقْضُ بِمَا إذَا أَقَرَّ بِدَابَّةٍ فِي إصْطَبْلٍ فَإِنَّ اللَّازِمَ عَلَى الْمُقِرِّ هُنَاكَ هُوَ الدَّابَّةُ خَاصَّةً عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ كَمَا سَيَأْتِي مَعَ أَنَّهُ لَا رَيْبَ فِي أَنَّ الثَّانِيَ فِيهِ صَالِحٌ لَأَنْ يَكُونَ ظَرْفًا لِلْأَوَّلِ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ التَّخَلُّفِ لِمَانِعٍ، وَقَيْدُ عَدَمِ الْمَانِعِ فِي الْأَحْكَامِ الْكُلِّيَّةِ غَيْرُ لَازِمٍ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ فِي مَوَاضِعَ مِنْهَا أَوَّلُ كِتَابِ الْوَكَالَةِ (بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ غَصَبْت تَمْرًا مِنْ قَوْصَرَّةٍ) يَعْنِي أَنَّ الْحُكْمَ الْمَذْكُورَ فِي كَلِمَةِ فِي وَأَمَّا الْحُكْمُ فِي كَلِمَةِ مِنْ فَبِخِلَافِهِ (لِأَنَّ كَلِمَةَ مِنْ لِلِانْتِزَاعِ فَيَكُونُ إقْرَارًا بِغَصْبِ الْمَنْزُوعِ) يَعْنِي أَنَّ كَلِمَةَ مِنْ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ فَيَكُونُ إقْرَارًا بِأَنَّ مَبْدَأَ الْغَصْبِ مِنْ الْقَوْصَرَّةِ وَإِنَّمَا يُفْهَمُ مِنْهُ الِانْتِزَاعُ، كَذَا فِي الْكِفَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ أَخْذًا مِنْ الْكَافِي. وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ لِأَنَّ كَلِمَةَ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ، فَإِنَّمَا يُفْهَمُ مِنْهُ الِانْتِزَاعُ انْتَهَى. وَقَالَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ: وَوَجْهُهُ أَنَّ كَلِمَةَ مِنْ تُسْتَعْمَلُ لِلتَّبْعِيضِ وَالتَّمْيِيزِ فَيَكُونُ الِانْتِزَاعُ لَازِمَهُمَا، لَا أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ مِنْ مَوْضُوعَةٌ لِلِانْتِزَاعِ انْتَهَى.

أَقُولُ: الْحَقُّ فِي تَوْجِيهِ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا مَا ذَهَبَتْ إلَيْهِ الْفِرْقَةُ الْأُولَى لَا مَا ذَهَبَتْ إلَيْهِ الْفِرْقَةُ الْأُخْرَى؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ مِنْ فِي قَوْلِ الْقَائِلِ: غَصَبْت تَمْرًا مِنْ قَوْصَرَّةٍ لَا تَحْتَمِلُ مَعْنَى التَّبْعِيضِ، إذْ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ التَّمْرُ بَعْضَ الْقَوْصَرَّةِ فَكَيْفَ يُفْهَمُ الِانْتِزَاعُ مِنْ التَّبْعِيضِ فِي ذَلِكَ الْقَوْلِ. وَأَمَّا انْفِهَامُ الِانْتِزَاعِ مِنْ التَّبْعِيضِ عِنْدَ اسْتِعْمَالِ كَلِمَةِ مِنْ فِي مَعْنَى التَّبْعِيضِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ فَلَا يُجْدِي شَيْئًا هَاهُنَا كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى ذِي فِطْرَةٍ سَلِيمَةٍ، بِخِلَافِ مَعْنَى الِابْتِدَاءِ فَإِنَّ كَلِمَةَ مِنْ فِي ذَلِكَ الْقَوْلِ تَحْتَمِلُ الِابْتِدَاءَ قَطْعًا فَيَتِمُّ التَّقْرِيبُ جِدًّا. وَأَمَّا الْحُكْمُ فِي كَلِمَةِ عَلَى نَحْوُ أَنْ يَقُولَ غَصَبْت إكَافًا عَلَى حِمَارٍ فَكَانَ إقْرَارًا بِغَصْبِ الْإِكَافِ خَاصَّةً، وَالْحِمَارُ مَذْكُورٌ لِبَيَانِ مَحَلِّ الْمَغْصُوبِ حِينَ أَخَذَهُ، وَغَصْبُ الشَّيْءِ مِنْ مَحَلٍّ لَا يَكُونُ مُقْتَضِيًا غَصْبَ الْمَحَلِّ، كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ وَذُكِرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ الشُّرُوحِ.

(قَالَ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ (وَمَنْ أَقَرَّ بِدَابَّةٍ فِي إصْطَبْلٍ لَزِمَهُ الدَّابَّةُ خَاصَّةً) إنَّمَا قَالَ لَزِمَهُ الدَّابَّةُ خَاصَّةً وَلَمْ يَقُلْ كَانَ إقْرَارًا بِالدَّابَّةِ خَاصَّةً لِمَا أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ إقْرَارٌ بِهِمَا جَمِيعًا، إلَّا أَنَّ اللُّزُومَ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ فِي الدَّابَّةِ خَاصَّةً، وَإِلَيْهِ أَشَارَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ:(لِأَنَّ الْإِصْطَبْلَ غَيْرُ مَضْمُونٍ بِالْغَصْبِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ) لِأَنَّ الْغَصْبَ الْمُوجِبَ لِلضَّمَانِ لَا يَكُونُ إلَّا بِالنَّقْلِ وَالتَّحْوِيلِ عِنْدَهُمَا، وَالْإِصْطَبْلَ مِمَّا لَا يُنْقَلُ وَلَا يُحَوَّلُ فَلَا يَكُونُ مَضْمُونًا بِالْغَصْبِ عِنْدَهُمَا (وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ مُحَمَّدٍ يَضْمَنُهُمَا) أَيْ يَضْمَنُ الدَّابَّةَ وَالْإِصْطَبْلَ، لِأَنَّ مُحَمَّدًا رحمه الله يَرَى غَصْبَ

ص: 341

وَمِثْلُهُ الطَّعَامُ فِي الْبَيْتِ.

قَالَ: (وَمَنْ أَقَرَّ لِغَيْرِهِ بِخَاتَمٍ لَزِمَهُ الْحَلَقَةُ وَالْفَصُّ) لِأَنَّ اسْمَ الْخَاتَمِ يَشْمَلُ الْكُلَّ. (وَمَنْ أَقَرَّ لَهُ بِسَيْفٍ فَلَهُ النَّصْلُ وَالْجَفْنُ وَالْحَمَائِلُ) لِأَنَّ الِاسْمَ يَنْطَوِي عَلَى الْكُلِّ. (وَمَنْ أَقَرَّ بِحَجَلَةٍ فَلَهُ الْعِيدَانُ وَالْكِسْوَةُ) لِانْطِلَاقِ الِاسْمِ عَلَى الْكُلِّ عُرْفًا.

(وَإِنْ قَالَ غَصَبْتُ ثَوْبًا فِي مِنْدِيلٍ لَزِمَاهُ جَمِيعًا) لِأَنَّهُ ظَرْفٌ لِأَنَّ الثَّوْبَ يُلَفُّ فِيهِ. (وَكَذَا لَوْ قَالَ عَلَيَّ ثَوْبٌ فِي ثَوْبٍ) لِأَنَّهُ ظَرْفٌ. بِخِلَافِ قَوْلِهِ: دِرْهَمٌ فِي دِرْهَمٍ حَيْثُ يَلْزَمُهُ وَاحِدٌ لِأَنَّهُ ضَرْبٌ لَا ظَرْفٌ (وَإِنْ قَالَ: ثَوْبٌ فِي عَشَرَةِ أَثْوَابٍ لَمْ يَلْزَمْهُ إلَّا ثَوْبٌ وَاحِدٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَزِمَهُ أَحَدَ عَشَرَ ثَوْبًا)

الْعَقَارِ فَيَدْخُلَانِ فِي الضَّمَانِ عِنْدَهُ كَمَا يَدْخُلَانِ فِي الْإِقْرَارِ (وَمِثْلُهُ الطَّعَامُ فِي الْبَيْتِ) أَيْ وَمِثْلُ الْإِقْرَارِ بِالدَّابَّةِ فِي الْإِصْطَبْلِ الْإِقْرَارُ بِالطَّعَامِ فِي الْبَيْتِ. قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ: وَلَوْ قَالَ غَصَبْت مِنْك طَعَامًا فِي بَيْتٍ كَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: طَعَامًا فِي سَفِينَةٍ؛ لِأَنَّ الْبَيْتَ قَدْ يَكُونُ وِعَاءً لِلطَّعَامِ فَيَكُونُ إقْرَارًا بِغَصْبِ الْبَيْتِ وَالطَّعَامِ، إلَّا أَنَّ الطَّعَامَ يَدْخُلُ فِي ضَمَانِهِ بِالْغَصْبِ وَالْبَيْتَ لَا يَدْخُلُ فِي ضَمَانِهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا لَا يُنْقَلُ وَلَا يُحَوَّلُ، وَالْغَصْبُ الْمُوجِبُ لِلضَّمَانِ لَا يَكُونُ إلَّا بِالنَّقْلِ وَالتَّحْوِيلِ، وَإِنْ قَالَ: لَمْ أُحَوِّلْ الطَّعَامَ مِنْ مَوْضِعِهِ لَمْ يُصَدَّقْ فِي ذَلِكَ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِغَصْبٍ تَامٍّ، وَفِي الطَّعَامِ يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ بِالنَّقْلِ وَالتَّحْوِيلِ فَكَانَ هُوَ فِي قَوْلِهِ لَمْ أَنْقُلْهُ رَاجِعًا عَمَّا أَقَرَّ بِهِ فَلَمْ يُصَدَّقْ فَكَانَ ضَامِنًا الطَّعَامَ، وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ هُوَ ضَامِنٌ الْبَيْتَ أَيْضًا إلَى هُنَا لَفْظُ الْمَبْسُوطِ.

(قَالَ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ (وَمَنْ أَقَرَّ لِغَيْرِهِ بِخَاتَمٍ لَزِمَهُ الْحَلَقَةُ وَالْفَصُّ) قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِهِ (لِأَنَّ اسْمَ الْخَاتَمِ يَشْمَلُ الْكُلَّ) أَيْ يَتَنَاوَلُ الْحَلَقَةَ وَالْفَصَّ جَمِيعًا وَلِهَذَا يَدْخُلُ الْفَصُّ فِي بَيْعِ الْخَاتَمِ مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةٍ، فَإِذَا تَنَاوَلَهُمَا اسْمُ الْخَاتَمِ لَزِمَاهُ جَمِيعًا بِالْإِقْرَارِ بِالْخَاتَمِ. (وَإِنْ أَقَرَّ لَهُ) أَيْ لِغَيْرِهِ (بِسَيْفٍ فَلَهُ النَّصْلُ) وَهُوَ حَدِيدَةُ السَّيْفِ (وَالْجَفْنُ) وَهُوَ الْغِمْدُ (وَالْحَمَائِلُ) جَمْعُ حِمَالَةٍ بِكَسْرِ الْحَاءِ وَهِيَ عَلَّاقَةُ السَّيْفِ (لِأَنَّ الِاسْمَ) يَعْنِي اسْمَ السَّيْفِ (يَنْطَوِي) أَيْ يَشْتَمِلُ (عَلَى الْكُلِّ) عُرْفًا فَلَهُ الْكُلُّ.

(وَمَنْ أَقَرَّ بِحَجَلَةٍ) الْحَجَلَةُ بِفَتْحَتَيْنِ وَاحِدَةُ حِجَالِ الْعَرُوسِ: وَهِيَ بَيْتٌ يُزَيَّنُ بِالثِّيَابِ وَالْأَسِرَّةِ وَالسُّتُورِ، كَذَا فِي الصَّحَّاحِ (فَلَهُ) أَيْ فَلِلْمُقَرِّ لَهُ (الْعِيدَانُ) بِرَفْعِ النُّونِ جَمْعُ عُودٍ وَهُوَ الْخَشَبُ كَالدِّيدَانِ جَمْعُ دُودٍ (وَالْكِسْوَةُ) أَيْ وَلَهُ الْكِسْوَةُ أَيْضًا (لِانْطِلَاقِ الِاسْمِ) أَيْ اسْمِ الْحَجَلَةِ (عَلَى الْكُلِّ عُرْفًا) فَلَهُ الْكُلُّ، وَكَذَا لَوْ أَقَرَّ بِدَارٍ أَوْ أَرْضٍ لِرَجُلٍ دَخَلَ الْبِنَاءُ وَالْأَشْجَارُ إذَا كَانَا فِيهِمَا حَتَّى أَنَّ الْمُقِرَّ لَوْ أَقَامَ بَيِّنَةً بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْبِنَاءَ وَالْأَشْجَارَ لَهُ لَمْ يُصَدَّقْ وَلَمْ تُقْبَلْ بَيِّنَتُهُ، وَكَذَا لَوْ أَقَامَ الْمُقِرُّ بِالْخَاتَمِ بَيِّنَةً عَلَى أَنَّ الْفَصَّ لَهُ لَمْ تُقْبَلْ بَيِّنَتُهُ، وَأَمَّا إذَا قَالَ: الْخَاتَمُ لِي وَفَصُّهُ لَك، أَوْ هَذَا السَّيْفُ لِي وَحِلْيَتُهُ لَك، أَوْ هَذِهِ الْجُبَّةُ لِي وَبِطَانَتُهَا لَك وَقَالَ الْمُقَرُّ لَهُ: الْكُلُّ لِي فَالْقَوْلُ لِلْمُقِرِّ فَبَعْدَ ذَلِكَ يُنْظَرُ إنْ لَمْ يَكُنْ فِي نَزْعِ الْمُقَرِّ بِهِ ضَرَرٌ لِلْمُقِرِّ يُؤْمَرُ الْمُقِرُّ بِالنَّزْعِ وَالدَّفْعِ إلَى الْمُقَرِّ لَهُ، وَإِنْ كَانَ فِي النَّزْعِ ضَرَرٌ فَوَاجِبٌ عَلَى الْمُقِرِّ أَنْ يُعْطِيَهُ قِيمَةَ مَا أَقَرَّ بِهِ، كَذَا فِي الذَّخِيرَةِ.

(وَإِنْ قَالَ: غَصَبْت ثَوْبًا فِي مِنْدِيلٍ لَزِمَاهُ جَمِيعًا لِأَنَّهُ) أَيْ الْمِنْدِيلَ (ظَرْفٌ) لِلثَّوْبِ (لِأَنَّ الثَّوْبَ يُلَفُّ فِيهِ) وَقَدْ مَرَّ أَنَّ غَصْبَ الشَّيْءِ وَهُوَ مَظْرُوفٌ لَا يَتَحَقَّقُ بِدُونِ الظَّرْفِ (وَكَذَا) أَيْ وَكَذَا الْحُكْمُ (لَوْ قَالَ: عَلَيَّ ثَوْبٌ فِي ثَوْبٍ) لَزِمَاهُ (لِأَنَّهُ ظَرْفٌ) أَيْ لِأَنَّ الثَّوْبَ الثَّانِيَ ظَرْفٌ لِلثَّوْبِ الْأَوَّلِ فَيَلْزَمُهُ الثَّوْبَانِ جَمِيعًا (بِخِلَافِ قَوْلِهِ: دِرْهَمٌ فِي دِرْهَمٍ) أَيْ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ عَلَيَّ دِرْهَمٌ فِي دِرْهَمٍ (حَيْثُ يَلْزَمُهُ وَاحِدٌ) أَيْ دِرْهَمٌ وَاحِدٌ (لِأَنَّهُ) أَيْ لِأَنَّ قَوْلَهُ فِي دِرْهَمٍ (ضَرْبٌ) أَيْ ضَرْبُ حِسَابٍ (لَا ظَرْفٌ) كَمَا لَا يَخْفَى (وَإِنْ قَالَ ثَوْبٌ فِي عَشَرَةِ أَثْوَابٍ لَمْ يَلْزَمْهُ إلَّا ثَوْبٌ وَاحِدٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ) وَفِي الْكَافِي وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَفِي التَّبْيِينِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ أَوَّلًا (وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَلْزَمُهُ أَحَدَ عَشَرَ ثَوْبًا

ص: 342

لِأَنَّ النَّفِيسَ مِنْ الثِّيَابِ قَدْ يُلَفُّ فِي عَشَرَةِ أَثْوَابٍ فَأَمْكَنَ حَمْلُهُ عَلَى الظَّرْفِ. وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ حَرْفَ " فِي " يُسْتَعْمَلُ فِي الْبَيْنِ وَالْوَسَطِ أَيْضًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} أَيْ بَيْنَ عِبَادِي، فَوَقَعَ الشَّكُّ وَالْأَصْلُ بَرَاءَةُ الذِّمَمِ، عَلَى أَنَّ كُلَّ ثَوْبٍ مُوعًى وَلَيْسَ بِوِعَاءٍ فَتَعَذَّرَ حَمْلُهُ عَلَى الظَّرْفِ فَتَعَيَّنَ الْأَوَّلُ مَحْمَلًا.

لِأَنَّ النَّفِيسَ مِنْ الثِّيَابِ قَدْ يُلَفُّ فِي عَشَرَةِ أَثْوَابٍ فَأَمْكَنَ حَمْلُهُ عَلَى الظَّرْفِ) يَعْنِي أَنَّ كَلِمَةَ فِي حَقِيقَةٌ فِي الظَّرْفِ وَقَدْ أَمْكَنَ الْعَمَلُ بِالْحَقِيقَةِ هَاهُنَا؛ لِأَنَّ الثَّوْبَ الْوَاحِدَ قَدْ يُلَفُّ لِعِزَّتِهِ وَنَفَاسَتِهِ فِي عَشَرَةِ أَثْوَابٍ فَلَا يُصَارُ إلَى الْمَجَازِ.

قِيلَ هُوَ مَنْقُوضٌ عَلَى أَصْلِهِ، فَإِنَّهُ لَوْ؟ قَالَ: غَصَبْته كِرْبَاسًا فِي عَشَرَةِ أَثْوَابِ حَرِيرٍ يَلْزَمُهُ الْكُلُّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَيْضًا مَعَ أَنَّ عَشَرَةَ أَثْوَابِ حَرِيرٍ لَا تُجْعَلُ وِعَاءً لِلْكِرْبَاسِ عَادَةً، كَذَا فِي الشُّرُوحِ. قَالَ فِي النِّهَايَةِ: وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي الْمَبْسُوطِ (وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ حَرْفَ فِي يُسْتَعْمَلُ فِي الْبَيْنِ وَالْوَسَطِ أَيْضًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} أَيْ بَيْنَ عِبَادِي فَوَقَعَ الشَّكُّ) فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِحَرْفِ " فِي " هَاهُنَا مَعْنَى الظَّرْفِ أَوْ مَعْنَى الْبَيْنِ، وَبِالشَّكِّ لَا يَثْبُتُ مَا زَادَ عَلَى الْوَاحِدِ (وَالْأَصْلُ بَرَاءَةُ الذِّمَمِ) لِأَنَّهَا خُلِقَتْ بَرِيئَةً عَرِيَّةً عَنْ الْحُقُوقِ فَلَا يَجُوزُ شَغْلُهَا إلَّا بِحُجَّةٍ قَوِيَّةٍ وَلَمْ تُوجَدْ فِيمَا زَادَ عَلَى الْوَاحِدِ فَلَمْ يَلْزَمْهُ إلَّا ثَوْبٌ وَاحِدٌ (عَلَى أَنَّ كُلَّ ثَوْبٍ مُوعًى وَلَيْسَ بِوِعَاءٍ) يَعْنِي أَنَّ مَجْمُوعَ الْعَشَرَةِ لَيْسَ بِوِعَاءٍ لِلْوَاحِدِ بَلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا مُوعًى بِمَا حَوَاهُ، فَإِنَّهُ إذَا لَفَّ ثَوْبًا فِي أَثْوَابٍ يَكُونُ كُلُّ ثَوْبٍ مُوعًى فِي حَقِّ مَا وَرَاءَهُ، وَلَا يَكُونُ وِعَاءً إلَّا الثَّوْبُ الَّذِي هُوَ ظَاهِرٌ فَإِنَّهُ وِعَاءٌ وَلَيْسَ بِمُوعًى، فَلَفْظَةُ كُلٍّ هَاهُنَا لِمُجَرَّدِ التَّكْثِيرِ لَا لِلِاسْتِغْرَاقِ كَمَا قَالُوا فِي نَظَائِرِهَا، فَإِذَا تَحَقَّقَ عَدَمُ كَوْنِ الْعَشَرَةِ وِعَاءً لِلثَّوْبِ الْوَاحِدِ لَمْ يُمْكِنْ حَمْلُ كَلِمَةِ فِي عَلَى الظَّرْفِ فِي قَوْلِهِ: ثَوْبٌ فِي عَشَرَةِ أَثْوَابٍ (فَتَعَيَّنَ الْأَوَّلُ) أَيْ الْمَعْنَى الْأَوَّلُ الَّذِي هُوَ الْبَيْنُ (مَحْمَلًا) بِكَلِمَةِ " فِي " فِي قَوْلِهِ الْمَزْبُورِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: عَلَيَّ ثَوْبٌ بَيْنَ عَشَرَةِ أَثْوَابٍ وَلَمْ يَلْزَمْهُ بِهَذَا الْمَعْنَى إلَّا ثَوْبٌ وَاحِدٌ.

قَالَ كَثِيرٌ مِنْ الشُّرَّاحِ فِي حِلِّ هَذَا الْمَقَامِ: فَإِذَا لَمْ يَتَحَقَّقْ كَوْنُ الْعَشَرَةِ وِعَاءً لِلثَّوْبِ الْوَاحِدِ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ لَغْوًا وَزَادَ عَلَى هَذَا مِنْ بَيْنِهِمْ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ أَنْ قَالَ: وَتَعَيَّنَ أَوَّلُ كَلَامِهِ مَحْمَلًا: يَعْنِي أَنْ يَكُونَ فِي بِمَعْنَى أَنْ يَكُونَ الْبَيْنُ انْتَهَى.

أَقُولُ: هَذَا الشَّرْحُ مِنْهُمْ لَا يُطَابِقُ الْمَشْرُوحَ، إذْ لَا يُسَاعِدُ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ جَعْلَ آخِرِ كَلَامِ الْمُقِرِّ لَغْوًا، فَإِنَّ قَوْلَهُ: فَتَعَيَّنَ الْأَوَّلُ مَحْمَلًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِآخِرِ كَلَامِ الْمُقِرِّ وَهُوَ قَوْلُهُ: فِي عَشَرَةِ أَثْوَابٍ مَحْمَلًا مُتَعَيِّنًا وَهُوَ مَعْنَى الْبَيْنِ الْمَذْكُورِ أَوَّلًا، فَإِذَا تَيَسَّرَ لِآخِرِ كَلَامِهِ بَلْ تَعَيَّنَ لَهُ مَحْمَلٌ صَحِيحٌ مِنْ الْمَعَانِي الْمُسْتَعْمَلَةِ فِيهَا كَلِمَةُ فِي لَمْ يَصِحَّ جَعْلُ ذَلِكَ لَغْوًا مِنْ الْكَلَامِ، إذْ يَجِبُ صِيَانَةُ كَلَامِ الْعَاقِلِ عَنْ اللَّغْوِ مَهْمَا أَمْكَنَ.

ثُمَّ مِنْ الْعَجَائِبِ مَا زَادَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ وَتَعَيَّنَ أَوَّلُ كَلَامِهِ مَحْمَلًا بَعْدَ قَوْلِهِ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ لَغْوًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ حُمِلَ عَلَى الْأَوَّلِ فِي قَوْلِ الْمُصَنِّفِ فَتَعَيَّنَ الْأَوَّلُ مَحْمَلًا عَلَى أَوَّلِ كَلَامِ الْمُقِرِّ، وَهَذَا مَعَ كَوْنِهِ مِمَّا يَأْبَى عَنْهُ جِدًّا قَيْدُ مَحْمَلًا يُنَافِيهِ تَفْسِيرُهُ بِقَوْلِهِ أَنْ يَكُونَ فِي مَعْنَى الْبَيْنِ؛ لِأَنَّ الْكَوْنَ فِي بِمَعْنَى الْبَيْنِ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ فِي آخِرِ كَلَامِ الْمُقِرِّ وَهُوَ قَوْلُهُ فِي عَشَرَةِ أَثْوَابٍ دُونَ أَوَّلِ كَلَامِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَى ثَوْبٍ إذْ لَا مِسَاسَ لَهُ بِمَعْنَى الْبَيْنِ أَصْلًا، وَاعْلَمْ أَنَّ الْإِمَامَ الزَّاهِدِيَّ قَالَ فِي شَرْحِ مُخْتَصَرِ الْقُدُورِيِّ: قَدْ اشْتَبَهَ عَلَيَّ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ كُلِّهَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ كُلِّهَا أَنَّ الْمَظْرُوفَ مُعَيَّنٌ مُشَارٌ إلَيْهِ أَمْ يَسْتَوِي الْمُعَيَّنُ وَالْمُنْكَرُ فِي ذَلِكَ، إلَى أَنْ ظَفِرْتُ بِالرِّوَايَةِ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى،

ص: 343

(وَلَوْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ خَمْسَةٌ فِي خَمْسَةٍ يُرِيدُ الضَّرْبَ وَالْحِسَابَ لَزِمَهُ خَمْسَةٌ) لِأَنَّ الضَّرْبَ لَا يُكْثِرُ الْمَالَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: يَلْزَمُهُ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي الطَّلَاقِ (وَلَوْ قَالَ أَرَدْت خَمْسَةً مَعَ خَمْسَةٍ لَزِمَهُ عَشَرَةٌ) لِأَنَّ اللَّفْظَ يَحْتَمِلُهُ.

(وَلَوْ قَالَ لَهُ عَلَيَّ مِنْ دِرْهَمٍ إلَى عَشَرَةٍ أَوْ قَالَ مَا بَيْنَ دِرْهَمٍ إلَى عَشَرَةٍ لَزِمَهُ تِسْعَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَيَلْزَمُهُ الِابْتِدَاءُ وَمَا بَعْدَهُ وَتَسْقُطُ الْغَايَةُ، وَقَالَا: يَلْزَمُهُ الْعَشَرَةُ كُلُّهَا) فَتَدْخُلُ الْغَايَتَانِ. وَقَالَ زُفَرٌ: يَلْزَمُهُ ثَمَانِيَةٌ وَلَا تَدْخُلُ الْغَايَتَانِ.

وَمِنْهُ أَنَّهُ يَسْتَوِي فِيهِ الْمُعَرَّفُ وَالْمُنَكَّرُ وَيُرْجَعُ فِي بَيَانِ الْمُنَكَّرِ إلَيْهِ وَهُوَ مَا قَالَهُ فِي الْمُحِيطِ، وَلَوْ قَالَ: غَصَبْتُك ثَوْبًا فِي مِنْدِيلٍ فَهُوَ إقْرَارٌ بِغَصْبِ الثَّوْبِ وَالْمِنْدِيلِ وَيُرْجَعُ فِي الْبَيَانِ إلَيْهِ، وَلَوْ قَالَ دِرْهَمٌ فِي دِرْهَمٍ أَوْ دِرْهَمًا فِي طَعَامٍ لَمْ يَلْزَمْهُ إلَّا دِرْهَمٌ، وَالْأَصْلُ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ أَنَّ فِي مَتَى دَخَلَتْ عَلَى مَا يَصْلُحُ ظَرْفًا وَيُجْعَلُ ظَرْفًا عَادَةً اقْتَضَى غَصْبَهُمَا، وَإِلَّا فَغَصْبُ الْأَوَّلِ دُونَ غَيْرِهِ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ.

(وَلَوْ قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ خَمْسَةٌ فِي خَمْسَةٍ يُرِيدُ الضَّرْبَ وَالْحِسَابَ لَزِمَهُ خَمْسَةٌ) هَذَا لَفْظُ الْقُدُورِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِهِ (لِأَنَّ الضَّرْبَ لَا يُكْثِرُ الْمَالَ) يَعْنِي أَنَّ أَثَرَ الضَّرْبِ فِي تَكْثِيرِ الْأَجْزَاءِ لِإِزَالَةِ الْكَسْرِ لَا فِي تَكْثِيرِ الْمَالِ وَخَمْسَةِ دَرَاهِمَ وَزْنًا، وَإِنْ جَعَلَ أَلْفَ جُزْءٍ لَا يُزَادُ فِيهِ وَزْنُ قِيرَاطٍ، عَلَى أَنَّ حِسَابَ الضَّرْبِ فِي الْمَمْسُوحَاتِ لَا فِي الْمَوْزُونَاتِ، كَذَا قَالُوا، وَلِأَنَّ حَرْفَ فِي لِلظَّرْفِ حَقِيقَةً وَالدَّرَاهِمُ لَا تَكُونُ ظَرْفًا لِلدَّرَاهِمِ، وَاسْتِعْمَالُهُ فِي غَيْرِ الظَّرْفِ مَجَازٌ، وَالْمَجَازُ قَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى مَعَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} أَيْ مَعَ عِبَادِي، وَقَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى عَلَى كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} أَيْ عَلَى جُذُوعِ النَّخْلِ، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ فَلَزِمَهُ خَمْسَةٌ بِأَوَّلِ كَلَامِهِ وَلَغَا آخِرُهُ، كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ وَغَيْرِهِ.

(وَقَالَ الْحَسَنُ) يَعْنِي الْحَسَنَ بْنَ زِيَادٍ صَاحِبَ أَبِي حَنِيفَةَ (يَلْزَمُهُ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ) لِأَنَّهُ الْحَاصِلُ مِنْ ضَرْبِ خَمْسَةٍ فِي خَمْسَةٍ عِنْدَ أَهْلِ الْحِسَابِ وَقَدْ مَرَّ جَوَابُهُ آنِفًا. قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي الطَّلَاقِ) أَيْ فِي بَابِ إيقَاعِ الطَّلَاقِ مِنْ كِتَابِ الطَّلَاقِ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْمُصَنِّفُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ ثَمَّةَ صَرِيحًا بَلْ فُهِمَ ذَلِكَ مِنْ الْخِلَافِ الْوَاقِعِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ زُفَرٍ فِيمَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثِنْتَيْنِ فِي ثِنْتَيْنِ وَنَوَى الضَّرْبَ وَالْحِسَابَ، فَعِنْدَنَا يَقَعُ ثِنْتَانِ وَعِنْدَهُ يَقَعُ ثَلَاثٌ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ مَسْأَلَةَ الْإِقْرَارِ صَرِيحًا فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ فِي شُرُوحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، كَذَا فِي غَايَةِ الْبَيَانِ (وَلَوْ قَالَ: أَرَدْت خَمْسَةً مَعَ خَمْسَةٍ) أَيْ لَوْ قَالَ الْمُقِرُّ: أَرَدْت بِقَوْلِي خَمْسَةٌ فِي خَمْسَةٍ خَمْسَةً مَعَ خَمْسَةٍ (لَزِمَهُ عَشَرَةٌ لِأَنَّ اللَّفْظَ يَحْتَمِلُهُ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} قِيلَ مَعَ عِبَادِي، كَذَا فِي الْكَافِي، وَلَوْ قَالَ: عَنَيْت خَمْسَةً وَخَمْسَةً لَزِمَهُ عَشَرَةٌ أَيْضًا لِأَنَّهُ اسْتَعْمَلَ فِي بِمَعْنَى وَاوِ الْعَطْفِ، كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ. وَقَدْ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي بَابِ إيقَاعِ الطَّلَاقِ أَنَّهُ لَوْ نَوَى بِقَوْلِهِ وَاحِدَةً فِي ثِنْتَيْنِ وَاحِدَةً فَهِيَ ثَلَاثٌ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُهُ، فَإِنَّ حَرْفَ الْوَاوِ لِلْجَمْعِ وَالظَّرْفُ يَجْمَعُ الْمَظْرُوفَ، وَإِنْ نَوَى وَاحِدَةً مَعَ ثِنْتَيْنِ يَقَعُ الثَّلَاثُ لِأَنَّ فِي يَأْتِي بِمَعْنَى مَعَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} وَلَوْ نَوَى الظَّرْفَ يَقَعُ وَاحِدَةً لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَصْلُحُ ظَرْفًا فَيَلْغُو ذِكْرُ الثَّانِي، إلَى هُنَا لَفْظُهُ. قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْكِتَابِ وَلَا فِي الْمَبْسُوطِ أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ بِفِي مَعْنَى عَلَى مَا حُكْمُهُ عِنْدَ عُلَمَائِنَا. وَذَكَرَ فِي الذَّخِيرَةِ أَنَّ حُكْمَهُ أَيْضًا كَحُكْمِ فِي، حَتَّى لَوْ قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ عَشَرَةٌ فِي عَشَرَةٍ ثُمَّ قَالَ عَنَيْت بِهِ عَلَيَّ عَشَرَةٌ أَوْ قَالَ عَنَيْت بِهِ الضَّرْبَ لَزِمَهُ عَشَرَةٌ عِنْدَ عُلَمَائِنَا اهـ.

(وَلَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ مِنْ دِرْهَمٍ إلَى عَشَرَةٍ أَوْ قَالَ مَا بَيْنَ دِرْهَمٍ إلَى عَشَرَةٍ لَزِمَهُ تِسْعَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَيَلْزَمُهُ الِابْتِدَاءُ وَمَا بَعْدَهُ وَتَسْقُطُ الْغَايَةُ، وَقَالَا: يَلْزَمُهُ الْعَشَرَةُ كُلُّهَا فَتَدْخُلُ الْغَايَتَانِ) أَيْ الِابْتِدَاءُ وَالِانْتِهَاءُ (وَقَالَ زُفَرُ: يَلْزَمُهُ ثَمَانِيَةٌ وَلَا تَدْخُلُ الْغَايَتَانِ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ: وَالْقِيَاسُ مَا قَالَهُ زُفَرُ، فَإِنَّهُ جَعَلَ الدِّرْهَمَ الْأَوَّلَ وَالْآخِرَ حَدًّا وَلَا يَدْخُلُ الْحَدُّ فِي الْمَحْدُودِ كَمَنْ قَالَ لِفُلَانٍ مِنْ هَذَا الْحَائِطِ إلَى هَذَا الْحَائِطِ أَوْ مَا بَيْنَ هَذَيْنِ الْحَائِطَيْنِ لَا يَدْخُلُ الْحَائِطَانِ فِي الْإِقْرَارِ، فَكَذَلِكَ هَاهُنَا لَا يَدْخُلُ الْحَدَّانِ. وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ قَالَا: هُوَ كَذَلِكَ فِي حَدٍّ قَائِمٍ بِنَفْسِهِ كَمَا فِي الْمَحْسُوسَاتِ فَأَمَّا فِيمَا لَيْسَ بِقَائِمٍ بِنَفْسِهِ فَلَا لِأَنَّهُ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ كَوْنُهُ حَدًّا إذَا كَانَ وَاجِبًا فَأَمَّا مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ حَدًّا لِمَا هُوَ وَاجِبٌ

ص: 344

(وَلَوْ قَالَ لَهُ مِنْ دَارِي مَا بَيْنَ هَذَا الْحَائِطِ إلَى هَذَا الْحَائِطِ فَلَهُ مَا بَيْنَهُمَا لَوْ لَيْسَ لَهُ مِنْ الْحَائِطَيْنِ شَيْءٌ) وَقَدْ مَرَّتْ الدَّلَائِلُ فِي الطَّلَاقِ.

(فَصْلٌ)

(وَمَنْ قَالَ: لِحَمْلِ فُلَانَةَ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ،

فَإِنْ قَالَ أَوْصَى لَهُ فُلَانٌ أَوْ مَاتَ أَبُوهُ فَوَرِثَهُ فَالْإِقْرَارُ صَحِيحٌ) لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِسَبَبٍ صَالِحٍ لِثُبُوتِ الْمِلْكِ لَهُ (ثُمَّ إذَا جَاءَتْ بِهِ فِي مُدَّةٍ يُعْلَمُ أَنَّهُ كَانَ قَائِمًا وَقْتَ الْإِقْرَارِ لَزِمَهُ،

وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: الْأَصْلُ مَا قَالَهُ زُفَرُ مِنْ أَنَّ الْحَدَّ غَيْرُ الْمَحْدُودِ، وَمَا لَا يَقُومُ بِنَفْسِهِ حَدٌّ ذِكْرًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا، إلَّا أَنَّ الْغَايَةَ الْأُولَى لَا بُدَّ مِنْ إدْخَالِهَا لِأَنَّ الدِّرْهَمَ الثَّانِيَ وَالثَّالِثَ وَاجِبٌ، وَلَا يَتَحَقَّقُ الثَّانِي بِدُونِ الْأَوَّلِ، وَلِأَنَّ الْكَلَامَ يَسْتَدْعِي ابْتِدَاءً، فَإِذَا أَخْرَجْنَا الْأَوَّلَ مِنْ أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا صَارَ الثَّانِي هُوَ الِابْتِدَاءُ فَيَخْرُجُ هُوَ مِنْ أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا ثُمَّ الثَّالِثُ وَالرَّابِعُ وَهَكَذَا بَعْدَهُ، فَلِأَجْلِ هَذِهِ الضَّرُورَةِ أَدْخَلْنَا فِيهِ الْغَايَةَ الْأُولَى، وَلَا ضَرُورَةَ فِي إدْخَالِ الْغَايَةِ الثَّانِيَةِ فَأَخَذْنَا فِيهَا بِالْقِيَاسِ انْتَهَى.

وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الْغَايَةِ الْأُولَى اسْتِحْسَانٌ وَفِي الْغَايَةِ الثَّانِيَةِ قِيَاسٌ وَمَا قَالَاهُ فِي الْغَايَتَيْنِ اسْتِحْسَانٌ وَمَا قَالَهُ زُفَرُ فِيهِمَا قِيَاسٌ كَذَا فِي مَبْسُوطِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ خُوَاهَرْ زَادَهْ.

(وَلَوْ قَالَ لَهُ مِنْ دَارِي مَا بَيْنَ هَذَا الْحَائِطِ إلَى هَذَا الْحَائِطِ فَلَهُ) أَيْ لِلْمُقَرِّ لَهُ (مَا بَيْنَهُمَا) أَيْ مَا بَيْنَ الْحَائِطَيْنِ (وَلَيْسَ لَهُ مِنْ الْحَائِطَيْنِ شَيْءٌ) أَيْ لَا تَدْخُلُ الْغَايَتَانِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ بِالِاتِّفَاقِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَقَدْ مَرَّتْ الدَّلَائِلُ) أَيْ دَلَائِلُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ (فِي الطَّلَاقِ) أَيْ فِي بَابِ إيقَاعِ الطَّلَاقِ مِنْ كِتَابِ الطَّلَاقِ فَمَنْ شَاءَ الِاطِّلَاعَ عَلَيْهَا فَلْيُرَاجِعْهُ.

(فَصْلٌ) لَمَّا كَانَتْ مَسَائِلُ الْحَمْلِ مُغَايِرَةً لِغَيْرِهَا صُورَةً وَمَعْنًى ذَكَرَهَا فِي فَصْلٍ عَلَى حِدَةٍ وَأَلْحَقَ بِهَا مَسْأَلَةَ الْخِيَارِ اتِّبَاعًا لِلْمَبْسُوطِ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ (وَمَنْ قَالَ لِحَمْلِ فُلَانَةَ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ) فَهُوَ لَا يَخْلُو عَنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ؛ لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يُبَيِّنَ سَبَبًا أَوْ لَا يُبَيِّنُ ذَلِكَ، فَإِنْ بَيَّنَ سَبَبًا فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ السَّبَبُ صَالِحًا أَوْ غَيْرَ صَالِحٍ، فَإِنْ كَانَ صَالِحًا وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ (فَإِنْ قَالَ أَوْصَى بِهَا) أَيْ بِالْأَلْفِ (لَهُ) أَيْ لِلْحَمْلِ وَهُوَ الْجَنِينُ (فُلَانٌ أَوْ) قَالَ:(مَاتَ أَبُوهُ) أَيْ أَبُو الْحَمْلِ (فَوَرِثَهُ) أَيْ وَرِثَ الْحَمْلُ الْأَلْفَ، أَنَّثَ ضَمِيرَ الْأَلْفِ أَوَّلًا بِاعْتِبَارِ الدَّرَاهِمِ، وَذَكَّرَهُ ثَانِيًا لِكَوْنِ الْأَلْفِ مُذَكَّرًا فِي الْأَصْلِ. قَالَ فِي الْقَامُوسِ: الْأَلْفُ مِنْ الْعَدَدِ مُذَكَّرٌ، وَلَوْ أُنِّثَ بِاعْتِبَارِ الدَّرَاهِمِ جَازَ انْتَهَى (فَالْإِقْرَارُ) فِي هَذَا الْوَجْهِ (صَحِيحٌ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِسَبَبٍ صَالِحٍ لِثُبُوتِ الْمِلْكِ لَهُ) أَيْ لِلْحَمْلِ: يَعْنِي أَنَّهُ بَيَّنَ سَبَبًا صَالِحًا لِثُبُوتِ الْمِلْكِ لِلْحَمْلِ، فَلَوْ عَايَنَّاهُ حَكَمْنَا بِوُجُوبِ الْمَالِ عَلَيْهِ، فَكَذَلِكَ إذَا ثَبَتَ بِإِقْرَارِهِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْإِقْرَارَ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ مُضَافًا إلَى مَحَلِّهِ وَلَمْ يُتَيَقَّنْ بِكَذِبِهِ فِيمَا أَقَرَّ بِهِ فَكَانَ صَحِيحًا كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِهِ بَعْدَ الِانْفِصَالِ لِأَنَّ الْجَنِينَ أَهْلٌ لَأَنْ يَسْتَحِقَّ الْمَالَ بِالْإِرْثِ أَوْ الْوَصِيَّةِ (ثُمَّ إذَا) وُجِدَ السَّبَبُ فَلَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ الْمُقَرِّ لَهُ عِنْدَهُ، فَإِنْ (جَاءَتْ) أَيْ فُلَانَةُ (بِهِ) أَيْ بِالْوَلَدِ (فِي مُدَّةٍ يُعْلَمُ بِهَا أَنَّهُ) أَيْ الْوَلَدَ (كَانَ قَائِمًا) أَيْ مَوْجُودًا (وَقْتَ الْإِقْرَارِ لَزِمَهُ) أَيْ لَزِمَ الْمُقِرَّ مَا أَقَرَّ بِهِ، وَالْعِلْمُ بِأَنَّ الْوَلَدَ

ص: 345

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

كَانَ مَوْجُودًا وَقْتَ الْإِقْرَارِ بِطَرِيقَيْنِ أَحَدُهُمَا حَقِيقِيٌّ وَالْآخَرُ حُكْمِيٌّ. فَالْحَقِيقِيُّ مَا إذَا وَضَعَتْهُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَالْحُكْمِيُّ مَا إذَا وَضَعَتْهُ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ إلَى سَنَتَيْنِ وَكَانَتْ الْمَرْأَةُ مُعْتَدَّةً، إذْ حِينَئِذٍ يُحْكَمُ بِثُبُوتِ النَّسَبِ فَيَكُونُ ذَلِكَ حُكْمًا بِوُجُودِهِ فِي الْبَطْنِ، وَأَمَّا إذَا لَمْ تَكُنْ مُعْتَدَّةً وَجَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَلَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا كَذَا قَالُوا. ثُمَّ إنَّ الشُّرَّاحَ افْتَرَقُوا هَاهُنَا فِي تَعْيِينِ أَوَّلِ مُدَّةٍ يُعْلَمُ بِهَا أَنَّ الْوَلَدَ كَانَ مَوْجُودًا وَقْتَئِذٍ، فَمِنْهُمْ مَنْ ذَهَبَ إلَى أَنَّهُ مِنْ وَقْتِ الْإِقْرَارِ حَيْثُ قَالَ بِأَنْ وَلَدَتْ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْإِقْرَارِ كَمَا قَالَ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ أَيْضًا فِي شَرْحِ الْوِقَايَةِ. وَمِنْهُمْ مَنْ ذَهَبَ إلَى أَنَّهُ مِنْ وَقْتِ مَوْتِ الْمُوصِي أَوْ الْمُوَرِّثِ حَيْثُ قَالَ بِأَنْ وَضَعَتْهُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مُذْ مَاتَ الْمُورَثُ وَالْمُوصِي كَمَا قَالَهُ صَاحِبُ الْكَافِي، وَذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ أَيْضًا أَقُولُ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ وَإِنْ كَانَ أَوْفَقَ بِالْمَشْرُوحِ فِي الظَّاهِرِ حَيْثُ ذَكَرَ فِيهِ كَوْنَ الْوَلَدِ قَائِمًا وَقْتَ الْإِقْرَارِ إلَّا أَنَّ الْقَوْلَ الثَّانِيَ هُوَ الْمُوَافِقُ لِلتَّحْقِيقِ، وَهُوَ أَنَّ الْإِقْرَارَ إخْبَارٌ عَنْ ثُبُوتِ الْحَقِّ لَا إنْشَاءُ الْحَقِّ ابْتِدَاءً كَمَا تَقَرَّرَ فِي صَدْرِ كِتَابِ الْإِقْرَارِ، فَإِنَّ مُقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ يَتَقَرَّرَ وُجُودُ الْمُقَرِّ لَهُ عِنْدَ تَحَقُّقِ سَبَبِ الْمِلْكِ لَا عِنْدَ مُجَرَّدِ الْإِقْرَارِ، وَسَبَبُ الْمِلْكِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ وَقْتَ مَوْتِ الْمُوصِي أَوْ الْمُوَرِّثِ فَلَا بُدَّ أَنْ يُعْتَبَرَ أَوَّلُ مُدَّةٍ يَعْلَمُ بِهَا وُجُودَ الْحَمْلِ مِنْ وَقْتِ مَوْتِ الْمُوصِي أَوْ الْمُوَرِّثِ لِيَتَقَرَّرَ وُجُودُهُ عِنْدَ تَحَقُّقِ سَبَبِ الْمِلْكِ، فَإِنَّهُ إذَا جَاءَتْ بِالْوَلَدِ فِي مُدَّةٍ هِيَ أَقَلُّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْإِقْرَارِ وَأَكْثَرُ مِنْ سَنَتَيْنِ مِنْ وَقْتِ مَوْتِ الْمُوصِي أَوْ الْمُوَرِّثِ، أَوْ أَكْثَرُ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ إلَى سَنَتَيْنِ مِنْ وَقْتِ مَوْتِ الْمُوصِي أَوْ الْمُوَرِّثِ فِي غَيْرِ الْمُعْتَدَّةِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ الْمُقِرَّ لِلْحَمْلِ شَيْءٌ، أَمَّا إذَا جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ مِنْ وَقْتِ مَوْتِ الْمُوصِي أَوْ الْمُوَرِّثِ فَلِأَنَّهُ يَتَعَيَّنُ حِينَئِذٍ أَنَّ الْجَنِينَ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا عِنْدَ تَحَقُّقِ سَبَبِ الْمِلْكِ فَلَمْ يَكُنْ أَهْلًا لِاسْتِحْقَاقِ الْمَالِ، وَلَا يُفِيدُ كَوْنُهُ مَوْجُودًا عِنْدَ مُجَرَّدِ الْإِقْرَارِ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ إخْبَارٌ عَنْ ثُبُوتِ الْمِلْكِ بِسَبَبٍ سَابِقٍ لَا إنْشَاءُ الْمِلْكِ فِي الْحَالِ.

وَأَمَّا إذَا جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ إلَى سَنَتَيْنِ مِنْ وَقْتِ مَوْتِ الْمُوصِي أَوْ الْمُوَرِّثِ فِي غَيْرِ الْمُعْتَدَّةِ فَلِأَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ حِينَئِذٍ كَوْنُ الْجَنِينِ مَوْجُودًا عِنْدَ تَحَقُّقِ سَبَبِ الْمِلْكِ بَلْ يَبْقَى عَلَى مُجَرَّدِ الِاحْتِمَالِ، وَلَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ بِالشَّكِّ فَلَا يَلْزَمُ الْمُقِرَّ لَهُ شَيْءٌ وَإِنْ كَانَ مَوْجُودًا وَقْتَ الْإِقْرَارِ كَمَا إذَا بَيَّنَ سَبَبًا غَيْرَ صَالِحٍ عَلَى مَا سَيَأْتِي. لَكِنْ بَقِيَ هَاهُنَا شَيْءٌ عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي أَيْضًا وَهُوَ أَنَّهُ إذَا حَصَلَ الْعِلْمُ بِوُجُودِ الْجَنِينِ بِالطَّرِيقِ الْحُكْمِيِّ لَا الْحَقِيقِيِّ وَذَلِكَ بِأَنْ وَضَعَتْهُ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ إلَى سَنَتَيْنِ وَكَانَتْ مُعْتَدَّةً قَالُوا يُحْكَمُ حِينَئِذٍ بِثُبُوتِ النَّسَبِ فَيَكُونُ ذَلِكَ حُكْمًا بِوُجُودِهِ فِي الْبَطْنِ حِينَ مَوْتِ الْمُوَرِّثِ أَوْ الْمُوصِي. وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْحُكْمَ بِثُبُوتِ النَّسَبِ إنَّمَا يَكُونُ فِيمَا إذَا وَلَدَتْ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ مِنْ وَقْتِ الْفِرَاقِ وَهُوَ لَا يَقْتَضِي الْحُكْمَ بِوُجُودِهِ فِي الْبَطْنِ حِينَ مَوْتِ الْمُوَرِّثِ أَوْ الْمُوصِي لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ وَقْتُ مَوْتِ الْمُوَرِّثِ أَوْ الْمُوصِي أَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ وَوَقْتُ الْفِرَاقِ أَقَلَّ مِنْهُمَا. فَإِنْ قِيلَ: اُعْتُبِرَ أَوَّلُ الْمُدَّةِ فِي الطَّرِيقِ الْحَقِيقِيِّ عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي مِنْ وَقْتِ الْمُوَرِّثِ أَوْ الْمُوصِي فَفِي الطَّرِيقِ الْحُكْمِيِّ

ص: 346

فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ مَيِّتًا فَالْمَالُ لِلْمُوصِي وَالْمُوَرِّثِ حَتَّى يُقْسَمُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ) لِأَنَّهُ إقْرَارٌ فِي الْحَقِيقَةِ لَهُمَا، وَإِنَّمَا يَنْتَقِلُ إلَى الْجَنِينِ بَعْدَ الْوِلَادَةِ وَلَمْ يَنْتَقِلْ (وَلَوْ جَاءَتْ بِوَلَدَيْنِ حَيَّيْنِ فَالْمَالُ بَيْنَهُمَا، وَلَوْ قَالَ الْمُقِرُّ بَاعَنِي أَوْ أَقْرَضَنِي لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ) لِأَنَّهُ بَيَّنَ مُسْتَحِيلًا.

أَيْضًا كَذَلِكَ فَلَا يُتَصَوَّرُ حِينَئِذٍ أَنْ يَكُونَ وَقْتُ مَوْتِ الْمُوَرِّثِ أَوْ الْمُوصِي أَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ وَإِلَّا لَا يَكُونُ طَرِيقًا لِلْعِلْمِ بِذَلِكَ أَصْلًا.

قُلْنَا: فَعَلَى ذَلِكَ لَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ بِثُبُوتِ النَّسَبِ رَأْسًا حَتَّى يَكُونَ ذَلِكَ حُكْمًا بِوُجُودِهِ فِي الْبَطْنِ حِينَ مَوْتِ الْمُوَرِّثِ أَوْ الْمُوصِي لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ وَقْتُ مَوْتِ الْمُوَرِّثِ أَوْ الْمُوصِي أَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ وَوَقْتُ الْفِرَاقِ أَكْثَرَ مِنْهُمَا فَلَا يَصِحُّ الْحُكْمُ حِينَئِذٍ بِثُبُوتِ النَّسَبِ فَلْيُتَأَمَّلْ (فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ) أَيْ إنْ جَاءَتْ فُلَانَةُ بِالْوَلَدِ (مَيِّتًا فَالْمَالُ لِلْمُوصِي) فِيمَا إذَا قَالَ أَوْصَى بِهِ لَهُ فُلَانٌ (وَالْمُوَرِّثِ) فِيمَا إذَا قَالَ: مَاتَ أَبُوهُ فَوَرِثَهُ (حَتَّى يُقَسَّمُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ) أَيْ يُقَسَّمَ الْمَالُ بَيْنَ وَرَثَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُوصِي وَالْمُوَرِّثِ (لِأَنَّهُ) أَيْ لِأَنَّ مَا قَالَهُ (إقْرَارٌ فِي الْحَقِيقَةِ لَهُمَا) أَيْ لِلْمُوصِي وَالْمُوَرِّثِ (وَإِنَّمَا يَنْتَقِلُ) مِنْهُمَا (إلَى الْجَنِينِ بَعْدَ الْوِلَادَةِ وَلَمْ يَنْتَقِلْ) إلَيْهِ هَاهُنَا لِأَنَّهُ مَاتَ قَبْلَ الْوِلَادَةِ (وَلَوْ جَاءَتْ بِوَلَدَيْنِ حَيَّيْنِ فَالْمَالُ بَيْنَهُمَا) نِصْفَيْنِ إنْ كَانَا ذَكَرَيْنِ أَوْ أُنْثَيَيْنِ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا ذَكَرًا وَالْآخَرُ أُنْثَى فَفِي الْوَصِيَّةِ كَذَلِكَ، وَفِي الْمِيرَاثِ يَكُونُ بَيْنَهُمَا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ.

قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: وَهَذَا إذَا لَمْ يَكُونَا مِنْ أَوْلَادِ أُمِّ الْمَيِّتِ لِمَا صَرَّحُوا مِنْ أَنَّ ذُكُورَهُمْ وَإِنَاثَهُمْ فِي الِاسْتِحْقَاقِ وَالْقِسْمَةِ سَوَاءٌ. أَقُولُ: لَا حَاجَةَ إلَى هَذَا التَّقْيِيدِ بِالنَّظَرِ إلَى وَضْعِ الْمَسْأَلَةِ، وَهُوَ: إنْ قَالَ الْمُقِرُّ مَاتَ أَبُوهُ فَوَرِثَهُ فَلِهَذَا لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ شُرَّاحُ الْكِتَابِ وَصَاحِبُ الْكَافِي وَغَيْرُهُمْ، وَأَمَّا بِالنَّظَرِ إلَى مُطْلَقِ الْإِرْثِ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّقْيِيدِ، وَإِنْ كَانَ السَّبَبُ غَيْرَ صَالِحٍ وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ (وَلَوْ قَالَ الْمُقِرُّ بَاعَنِي أَوْ أَقْرَضَنِي) أَيْ بَاعَنِي الْحَمْلُ أَوْ أَقْرَضَنِي (لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ لِأَنَّهُ بَيَّنَ مُسْتَحِيلًا) أَيْ لِأَنَّ الْمُقِرَّ بَيَّنَ سَبَبًا مُسْتَحِيلًا فِي الْعَادَةِ، إذْ لَا يُتَصَوَّرُ الْبَيْعُ وَالْإِقْرَاضُ مِنْ الْجَنِينِ لَا حَقِيقَةً وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَلَا حُكْمًا لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لِأَحَدٍ عَلَى الْجَنِينِ حَتَّى يَكُونَ تَصَرُّفُهُ بِمَنْزِلَةِ تَصَرُّفِ الْجَنِينِ فَيَصِيرُ مُضَافًا إلَيْهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَإِذَا كَانَ مَا بَيَّنَهُ مِنْ السَّبَبِ مُسْتَحِيلًا صَارَ كَلَامُهُ لَغْوًا فَلَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ فَإِنْ قِيلَ: فَهَذَا يَكُونُ رُجُوعًا عَنْ الْإِقْرَارِ وَالرُّجُوعُ عَنْ الْإِقْرَارِ لَا يَصِحُّ وَإِنْ كَانَ مَوْصُولًا. قُلْنَا: لَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ هُوَ بَيَانُ سَبَبٍ مُحْتَمَلٍ

ص: 347

قَالَ (وَإِنْ أُبْهِمَ الْإِقْرَارُ لَمْ يَصِحَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَصِحُّ) لِأَنَّ الْإِقْرَارَ مِنْ الْحُجَجِ فَيَجِبُ إعْمَالُهُ وَقَدْ أَمْكَنَ بِالْحَمْلِ عَلَى السَّبَبِ الصَّالِحِ. وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْإِقْرَارَ مُطْلَقَهُ يَنْصَرِفُ إلَى الْإِقْرَارِ بِسَبَبِ التِّجَارَةِ، وَلِهَذَا حُمِلَ إقْرَارُ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ لَهُ وَأَحَدِ الْمُتَفَاوِضِينَ عَلَيْهِ فَيَصِيرُ كَمَا إذَا صَرَّحَ بِهِ.

وَقَدْ يُشْتَبَهُ عَلَى الْجَاهِلِ فَيَظُنُّ أَنَّ الْجَنِينَ يَثْبُتُ عَلَيْهِ الْوِلَايَةُ كَالْمُنْفَصِلِ فَيُعَامِلُهُ ثُمَّ يُقِرُّ بِذَلِكَ الْمَالِ لِلْجَنِينِ بِنَاءً عَلَى ظَنِّهِ وَيُبَيِّنُ سَبَبَهُ ثُمَّ يَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ السَّبَبَ كَانَ بَاطِلًا فَكَانَ كَلَامُهُ هَذَا بَيَانًا لَا رُجُوعًا فَلِهَذَا كَانَ مَقْبُولًا مِنْهُ، كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ وَأَكْثَرِ الشُّرَّاحِ.

قَالَ فِي الْعِنَايَةِ: أُجِيبَ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِرُجُوعٍ، بَلْ ظَهَرَ كَذِبُهُ بِيَقِينٍ كَمَا لَوْ قَالَ: قَطَعْت يَدَ فُلَانٍ عَمْدًا أَوْ خَطَأً وَيَدُ فُلَانٍ صَحِيحَةٌ انْتَهَى. أَقُولُ: فِيهِ بَحْثٌ؛ لِأَنَّهُ إنْ ظَهَرَ كَذِبُهُ فَإِنَّمَا ظَهَرَ فِي بَيَانِ ذَلِكَ السَّبَبِ الْغَيْرِ الصَّالِحِ لَا فِي أَصْلِ إقْرَارِهِ، وَهَذَا لَا يُنَافِي كَوْنَ بَيَانِ السَّبَبِ بِذَلِكَ الْوَجْهِ رُجُوعًا عَنْ أَصْلِ إقْرَارِهِ الْوَاقِعِ فِي أَوَّلِ كَلَامِهِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا فِي إقْرَارِهِ بِأَنْ كَانَ لَهُ سَبَبٌ صَالِحٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَلَكِنْ قَصَدَ الرُّجُوعَ فَبَيَّنَ سَبَبًا مُسْتَحِيلًا، بِخِلَافِ قَوْلِهِ قَطَعْت يَدَ فُلَانٍ وَهِيَ صَحِيحَةٌ فَإِنَّهُ كَاذِبٌ هُنَاكَ فِي أَصْلِ إقْرَارِهِ بِيَقِينٍ، فَالظَّاهِرُ فِي الْجَوَابِ مَا ذُكِرَ فِي الْمَبْسُوطِ وَغَيْرِهِ.

فَإِنْ قُلْت: كَمَا أَنَّ الْبَيْعَ وَالْإِقْرَاضَ لَا يُتَصَوَّرَانِ مِنْ الْجَنِينِ كَذَلِكَ لَا يُتَصَوَّرَانِ مِنْ الرَّضِيعِ، وَمَعَ ذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ بِأَنَّ عَلَيْهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ لِهَذَا الصَّبِيِّ الرَّضِيعِ بِسَبَبِ الْبَيْعِ أَوْ الْإِقْرَاضِ أَوْ الْإِجَارَةِ فَإِنَّهُ صَحِيحٌ يُؤَاخَذُ بِهِ.

قُلْت: الرَّضِيعُ وَإِنْ كَانَ لَا يَتَّجِرُ بِنَفْسِهِ لَكِنَّهُ مِنْ أَهْلِ أَنْ يَسْتَحِقَّ الدَّيْنَ بِهَذَا السَّبَبِ بِتِجَارَةِ وَلِيِّهِ، وَكَذَلِكَ الْإِقْرَاضُ وَإِنْ كَانَ لَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ لَكِنَّهُ يُتَصَوَّرُ مِنْ نَائِبِهِ وَهُوَ الْقَاضِي أَوْ الْأَبُ بِإِذْنِ الْقَاضِي، وَإِذَا تُصُوِّرَ ذَلِكَ مِنْ نَائِبِهِ جَازَ لِلْمُقِرِّ إضَافَةُ الْإِقْرَارِ إلَيْهِ لِأَنَّ فِعْلَ النَّائِبِ قَدْ يُضَافُ إلَى الْمَنُوبِ عَنْهُ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَغَيْرِهَا، وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ سَبَبًا أَصْلًا وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ (وَإِنْ أُبْهِمَ الْإِقْرَارُ لَمْ يَصِحَّ) أَيْ الْإِقْرَارُ (عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ) قِيلَ وَأَبُو حَنِيفَةَ مَعَهُ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي قَوْلٍ (وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَصِحُّ) وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأَصَحِّ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ (لِأَنَّ الْإِقْرَارَ مِنْ الْحُجَجِ) الشَّرْعِيَّةِ (فَيَجِبُ إعْمَالُهُ) مَهْمَا أَمْكَنَ، وَذَلِكَ إذَا صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ مُضَافًا إلَى مَحَلِّهِ (وَقَدْ أَمْكَنَ) إعْمَالُهُ هَاهُنَا، إذْ لَا نِزَاعَ فِي صُدُورِهِ عَنْ أَهْلِهِ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَفْرُوضُ وَأَمْكَنَ إضَافَتُهُ إلَى مَحَلِّهِ (بِالْحَمْلِ عَلَى السَّبَبِ الصَّالِحِ) وَهُوَ الْمِيرَاثُ أَوْ الْوَصِيَّةُ تَحَرِّيًا لِلْجَوَازِ وَتَصْحِيحًا لِكَلَامِ الْعَاقِلِ كَالْعَبْدِ الْمَأْذُونِ لَهُ إذَا أَقَرَّ بِدَيْنٍ فَإِنَّ إقْرَارَهُ وَإِنْ احْتَمَلَ الْفَسَادَ بِكَوْنِهِ صَدَاقًا أَوْ دَيْنَ كَفَالَةٍ بِكَوْنِهِ مِنْ التِّجَارَةِ كَانَ جَائِزًا تَصْحِيحًا لِكَلَامِ الْعَاقِلِ (وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْإِقْرَارَ مُطْلَقَهُ) أَيْ مُطْلَقَ الْإِقْرَارِ (يَنْصَرِفُ إلَى الْإِقْرَارِ بِسَبَبِ التِّجَارَةِ، وَلِهَذَا حُمِلَ إقْرَارُ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ لَهُ وَأَحَدِ الْمُتَفَاوِضِينَ فِي الشَّرِكَةِ)(عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الْإِقْرَارِ بِسَبَبِ التِّجَارَةِ وَلَمْ يُحْمَلْ عَلَى الْإِقْرَارِ بِغَيْرِ سَبَبِ التِّجَارَةِ كَدَيْنِ الْمَهْرِ وَأَرْشِ الْجِنَايَةِ حَتَّى يُؤَاخَذُ بِهِ الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ فِي حَالِ رِقِّهِ وَالشَّرِيكُ الْآخَرُ فِي الْحَالِ، وَفِي الْإِقْرَارِ بِدَيْنِ الْمَهْرِ وَأَرْشِ الْجِنَايَةِ لَا يُؤَاخَذُ الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ فِي حَالِ رِقِّهِ وَلَا الشَّرِيكُ الْآخَرُ أَبَدًا، كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ (فَيَصِيرُ) أَيْ فَيَصِيرُ الْمُقِرُّ فِيمَا إذَا أُبْهِمَ بِدَلَالَةِ الْعُرْفِ (كَمَا إذَا صُرِّحَ بِهِ) أَيْ بِسَبَبِ التِّجَارَةِ، وَلَوْ صُرِّحَ بِهِ كَانَ فَاسِدًا، فَكَذَا إذَا أُبْهِمَ.

قَالَ فِي النِّهَايَةِ: وَلِأَبِي يُوسُفَ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ، وَالثَّانِي مَا ذُكِرَ فِي الذَّخِيرَةِ فَقَالَ: إنَّ هَذَا إقْرَارٌ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ لِأَهْلِهِ وَقَدْ احْتَمَلَ الْجَوَازَ وَالْفَسَادَ كَمَا قَالَهُ، إلَّا أَنَّ حَمْلَهُ عَلَى الْجَوَازِ مُتَعَذِّرٌ لِأَنَّ الْجَوَازَ لَهُ وَجْهَانِ: الْوَصِيَّةُ، وَالْمِيرَاثُ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مُتَعَذِّرٌ، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَنْ يُعْتَبَرَ سَبَبًا أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ فَتَعَذَّرَ الْحَمْلُ عَلَى الْجَوَازِ فَيُحْكَمُ بِالْفَسَادِ، وَنَظِيرُ هَذَا مَا قَالُوا فِيمَنْ اشْتَرَى عَبْدًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَقَبَضَهُ الْمُشْتَرِي قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ ثُمَّ بَاعَهُ الْمُشْتَرِي مَعَ عَبْدٍ آخَرَ لَهُ مِنْ الْبَائِعِ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ وَقِيمَتُهُمَا عَلَى السَّوَاءِ كَانَ الْبَيْعُ فِي الَّذِي اشْتَرَى مِنْ الْبَائِعِ فَاسِدًا وَإِنْ احْتَمَلَ الْجَوَازَ لِأَنَّ لِلْجَوَازِ وَجْهَيْنِ، بِأَنْ يُصْرَفَ إلَيْهِ مِثْلُ

ص: 348

قَالَ (وَمَنْ أَقَرَّ بِحَمْلِ جَارِيَةٍ أَوْ حَمْلِ شَاةٍ لِرَجُلٍ صَحَّ إقْرَارُهُ وَلَزِمَهُ) لِأَنَّ لَهُ وَجْهًا صَحِيحًا وَهُوَ الْوَصِيَّةُ بِهِ مِنْ جِهَةِ غَيْرِهِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ.

الثَّمَنِ أَوْ أَكْثَرُ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مُتَعَذِّرٌ، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ فَتَعَذَّرَ الْحَمْلُ عَلَى الْجَوَازِ فَحُكِمَ بِالْفَسَادِ لِهَذَا، بِخِلَافِ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ إذَا أَقَرَّ حَيْثُ يَجُوزُ لِأَنَّ لِلْجَوَازِ جِهَةً وَاحِدَةً وَهِيَ التِّجَارَةُ وَلِلْفَسَادِ جِهَاتٌ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ بَيَّنَ سَبَبًا يَسْتَقِيمُ بِهِ وُجُوبُ الْمَالِ لِلْجَنِينِ وَصِيَّةً أَوْ مِيرَاثًا حَيْثُ كَانَ الْإِقْرَارُ صَحِيحًا لِأَنَّ جِهَةَ الْجَوَازِ مُتَعَيِّنَةٌ، وَهِيَ مَا صَرَّحَ بِهِ فَكَانَ مَحْكُومًا بِالْجَوَازِ انْتَهَى كَلَامُهُ.

أَقُولُ: الْوَجْهُ الَّذِي ذُكِرَ فِي الذَّخِيرَةِ مَنْظُورٌ فِيهِ، أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ كَوْنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْوَصِيَّةِ وَالْمِيرَاثِ وَجْهًا صَالِحًا لِجَوَازِ الْإِقْرَارِ لِلْحَمْلِ مَعَ تَعَذُّرِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا، وَعَدَمُ تَعَيُّنِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي صُورَةِ إبْهَامِ الْإِقْرَارِ لَهُ يَقْتَضِي تَعَذُّرَ الْحَمْلِ عَلَى الْجَوَازِ فَيَلْزَمُ الْحُكْمُ بِالْفَسَادِ لِمَ لَا يَكْفِي فِي صِحَّةِ الْحَمْلِ عَلَى الْجَوَازِ صَلَاحِيَةُ وَجْهٍ مَا مِنْ الْوَجْهَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ لِلْجَوَازِ وَإِنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ خُصُوصِيَّةُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ أَلَا يَرَى أَنَّ جَهَالَةَ نَفْسِ الْمُقَرِّ بِهِ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ بِالِاتِّفَاقِ فَكَيْفَ يَمْنَعُهَا جَهَالَةُ سَبَبِ الْمُقَرِّ بِهِ؟ غَايَةُ الْأَمْرِ أَنْ يَلْزَمَ الْمُقِرَّ بَيَانُ خُصُوصِيَّةِ وَجْهٍ مِنْ ذَيْنَك الْوَجْهَيْنِ كَمَا يَلْزَمُهُ بَيَانُ خُصُوصِيَّةِ الْمُقَرِّ بِهِ الْمَجْهُولِ، فَمِنْ أَيْنَ يَلْزَمُ الْحُكْمُ بِالْفَسَادِ.

وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ ذَلِكَ الدَّلِيلَ مَنْقُوضٌ بِمَا إذَا قَالَ لِرَجُلٍ: لَك عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَلَمْ يُبَيِّنْ سَبَبَهُ، فَإِنَّ هَذَا إقْرَارٌ بِالدَّيْنِ صَحِيحٌ بِلَا خِلَافٍ مَعَ أَنَّهُ يَحْتَمِلُ الْجَوَازَ وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَالْفَسَادَ بِأَنْ يَكُونَ بِسَبَبِ ثَمَنِ خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ أَوْ دَمٍ أَوْ مَيْتَةٍ. وَلَا شَكَّ أَنَّ لِجَوَازِ الدَّيْنِ أَسْبَابًا كَثِيرَةً مُتَعَذِّرَةَ الِاجْتِمَاعِ لَيْسَ أَحَدُهُمَا أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ.

وَأَمَّا ثَالِثًا فَلِأَنَّ التَّنْظِيرَ الْمَذْكُورَ فِيهِ لَيْسَ بِتَامٍّ؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ فِي مَسْأَلَةِ بَيْعِ الْعَبْدِ الْمُشْتَرَى مَعَ عَبْدٍ آخَرَ مِنْ الْبَائِعِ لَيْسَتْ فِي السَّبَبِ بَلْ فِي قَدْرِ ثَمَنِ الْعَبْدِ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ الْبَائِعِ فَإِنَّهُ لَمَّا جَازَ بَيْعُهُ بِوَجْهَيْنِ بِأَنْ يُصْرَفَ إلَيْهِ مِثْلُ الثَّمَنِ وَبِأَنْ يُصْرَفَ إلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ وَلَمْ يَتَعَيَّنْ أَحَدُ ذَيْنِك الْوَجْهَيْنِ بِخُصُوصِهِ وَقَعَتْ الْجَهَالَةُ فِي ثَمَنِهِ وَجَهَالَةُ الثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ مُفْسِدَةٌ بِلَا كَلَامٍ، بِخِلَافِ جَهَالَةِ السَّبَبِ فِي الْإِقْرَارِ كَمَا تَحَقَّقْته، عَلَى أَنَّ تَعْلِيلَ فَسَادِ الْبَيْعِ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ بِمَا ذُكِرَ لَيْسَ بِتَامٍّ أَيْضًا لِأَنَّهُ يُنْتَقَضُ بِصِحَّةِ بَيْعِ عَبْدٍ آخَرَ لَهُ، فَإِنَّ لِجَوَازِ بَيْعِهِ أَيْضًا وَجْهَيْنِ: بِأَنْ يُصْرَفَ إلَيْهِ مَا بَقِيَ مِنْ مِثْلِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ لِلْعَبْدِ الْمُشْتَرَى مِنْ الْبَائِعِ، أَوْ مَا بَقِيَ مِنْ أَكْثَرَ مِنْهُ، فَإِنَّهُ إذَا صُرِفَ إلَى أَحَدِ الْعَبْدَيْنِ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ الْمُسَمَّى لَهُمَا يَكُونُ الْبَاقِي مِنْهُ مَصْرُوفًا إلَى الْآخَرِ ضَرُورَةً، فَتَعَدُّدُ وَجْهِ الْجَوَازِ فِي أَحَدِهِمَا يَقْتَضِي تَعَدُّدَ وَجْهِ الْجَوَازِ فِي الْآخَرِ أَيْضًا مَعَ أَنَّ بَيْعَ عَبْدٍ آخَرَ لَهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمَزْبُورَةِ لَيْسَ بِفَاسِدٍ إجْمَاعًا، وَيُنْتَقَضُ أَيْضًا بِصِحَّةِ بَيْعِ الْعَبْدَيْنِ جَمِيعًا فِيمَا إذَا بَاعَ الْعَبْدُ الْمُشْتَرَى بِأَلْفٍ بَعْدَ نَقْدِ الثَّمَنِ مَعَ عَبْدٍ آخَرَ لَهُ مِنْ الْبَائِعِ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ، فَإِنَّ التَّعْلِيلَ الْمَذْكُورَ يَجْرِي فِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَيْضًا بِعَيْنِهِ بَلْ مَعَ زِيَادَةٍ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُصْرَفَ إلَى الْعَبْدِ الْمُشْتَرَى مِنْ الْبَائِعِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَقَلُّ مِنْ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ، بِخِلَافِ الصُّورَةِ الْأُولَى فَازْدَادَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ وَجْهٌ آخَرُ لِلْجَوَازِ مَعَ تَخَلُّفِ الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ فِيهَا. وَيُمْكِنُ تَعْلِيلُ فَسَادِ بَيْعِ الْعَبْدِ الْمُشْتَرَى مِنْ الْبَائِعِ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى بِوَجْهٍ آخَرَ لَا يَرِدُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مَا مِنْ مَادَّتَيْ النَّقْضِ فَتَأَمَّلْ وَرَاجِعْ مَحَلَّهَا.

(قَالَ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ (وَمَنْ أَقَرَّ بِحَمْلِ جَارِيَةٍ أَوْ حَمْلِ شَاةٍ لِرَجُلٍ صَحَّ إقْرَارُهُ وَلَزِمَهُ) أَيْ لَزِمَ الْمُقِرَّ مَا أَقَرَّ بِهِ (لِأَنَّ لَهُ) أَيْ لِإِقْرَارِهِ (وَجْهًا صَحِيحًا وَهُوَ الْوَصِيَّةُ بِهِ) أَيْ بِالْحَمْلِ (مِنْ جِهَةِ غَيْرِهِ) أَيْ غَيْرِ الْمُقِرِّ بِأَنْ أَوْصَى بِالْحَمْلِ مَالِكُ الْجَارِيَةِ وَمَالِكُ الشَّاةِ لِرَجُلٍ وَمَاتَ فَأَقَرَّ وَارِثُهُ وَهُوَ عَالِمٌ بِوَصِيَّةِ مُوَرِّثِهِ بِأَنَّ هَذَا الْحَمْلَ لِفُلَانٍ، وَإِذَا صَحَّ ذَلِكَ الْوَجْهُ وَجَبَ الْحَمْلُ عَلَيْهِ وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ (فَحُمِلَ عَلَيْهِ) قَالَ الشُّرَّاحُ: وَلَا وَجْهَ لِلْمِيرَاثِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لِأَنَّ مَنْ لَهُ مِيرَاثٌ فِي الْحَمْلِ لَهُ مِيرَاثٌ فِي الْحَامِلِ.

أَقُولُ: لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ صَرَّحُوا بِأَنَّ مَنْ أَوْصَى بِجَارِيَةٍ إلَّا حَمْلَهَا صَحَّتْ الْوَصِيَّةُ وَالِاسْتِثْنَاءُ، وَسَتَأْتِي الْمَسْأَلَةُ بِعَيْنِهَا فِي كِتَابِ الْوَصَايَا مِنْ هَذَا

ص: 349

قَالَ (وَمَنْ أَقَرَّ بِشَرْطِ الْخِيَارِ بَطَلَ الشَّرْطُ) لِأَنَّ الْخِيَارَ لِلْفَسْخِ وَالْإِخْبَارُ لَا يَحْتَمِلُهُ (وَلَزِمَهُ الْمَالُ) لِوُجُودِ الصِّيغَةِ الْمُلْزِمَةِ وَلَمْ تَنْعَدِمْ بِهَذَا الشَّرْطِ الْبَاطِلِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

الْكِتَابِ، فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ أَنْ يُوصِيَ مَالِكُ الْحَامِلِ بِالْحَامِلِ لِرَجُلٍ وَيَسْتَثْنِيَ حَمْلَهَا وَيَمُوتَ، فَإِذَنْ تَصِيرُ الْحَامِلُ لِلْمُوصَى لَهُ وَالْحَمْلُ لِوَارِثِ الْمَيِّتِ، فَلَوْ أَقَرَّ الْمُوصَى لَهُ بَعْدَ أَنْ قَبَضَ الْحَامِلَ بِاسْتِحْقَاقِهِ إيَّاهَا بِأَنَّ حَمْلَ هَذِهِ الْحَامِلِ لِوَارِثِ الْمَيِّتِ الْمَزْبُورِ صَحَّ إقْرَارُهُ وَكَانَ لَهُ وَجْهٌ صَحِيحٌ وَهُوَ الْمِيرَاثُ، فَلَا وَجْهَ لِقَوْلِهِمْ لَا وَجْهَ لِلْمِيرَاثِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ وَلَا لِتَعْلِيلِهِمْ إيَّاهُ بِأَنَّ مَنْ لَهُ مِيرَاثٌ فِي الْحَمْلِ لَهُ مِيرَاثٌ فِي الْحَامِلِ، تَأَمَّلْ جِدًّا فَإِنَّ مَا ذَكَرْته وَجْهٌ حَسَنٌ دَقِيقٌ لَمْ يَتَنَبَّهْ لَهُ الْجُمْهُورُ. ثُمَّ أَقُولُ: يُشْكِلُ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْوَجْهُ الَّذِي ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ وَفِي الْمَبْسُوطِ مِنْ قِبَلِ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى فِي صُورَةِ إبْهَامِ الْإِقْرَارِ، فَإِنَّ مُطْلَقَ الْإِقْرَارِ لَمْ يُصْرَفْ هَاهُنَا إلَى الْإِقْرَارِ بِسَبَبِ التِّجَارَةِ بِأَنْ يَبِيعَ الْحَمْلُ مِنْ الْمُقَرِّ لَهُ وَبِنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْبَابِ الْغَيْرِ الصَّالِحَةِ فِي حَقِّ الْحَمْلِ بَلْ صُرِفَ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا إلَى الْإِقْرَارِ بِسَبَبٍ صَحِيحٍ غَيْرِ سَبَبِ التِّجَارَةِ فَلَمْ يَتِمَّ مَا ذَكَرَهُ فِي ذَلِكَ الْوَجْهِ مِنْ أَنَّ مُطْلَقَ الْإِقْرَارِ يَنْصَرِفُ إلَى الْإِقْرَارِ بِسَبَبِ التِّجَارَةِ فَيَصِيرُ كَمَا إذَا صَرَّحَ بِهِ فَتَدَبَّرْ، وَقَدْ رَامَ جَمَاعَةٌ مِنْ الشُّرَّاحِ بَيَانَ الْفَرْقِ لِأَبِي يُوسُفَ بَيْنَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَالْمَسْأَلَةِ الْأُولَى فَقَالَ صَاحِبُ الْغَايَةِ: وَالْفَرْقُ لِأَبِي يُوسُفَ بَيْنَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ حَيْثُ جَوَّزَ الْإِقْرَارَ بِالْحَمْلِ وَبَيْنَ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى حَيْثُ لَمْ يَجُزْ الْإِقْرَارُ لِلْحَمْلِ إذَا أُبْهِمَ الْإِقْرَارُ أَنَّ هَاهُنَا طَرِيقَ التَّصْحِيحِ مُتَعَيَّنٌ وَهُوَ الْوَصِيَّةُ، بِخِلَافِ الْأَوْلَى فَإِنَّ طَرِيقَ التَّصْحِيحِ غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ لِازْدِحَامِ الْمِيرَاثِ الْوَصِيَّةَ، وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ لِأَبِي يُوسُفَ قَالَ: أَرَأَيْت لَوْ وَلَدَتْ غُلَامًا وَجَارِيَةً كَيْفَ يُقْسَمُ الْمَالُ بَيْنَهُمَا؟ أَثْلَاثًا بِاعْتِبَارِ الْمِيرَاثِ، أَمْ نِصْفَيْنِ بِاعْتِبَارِ الْوَصِيَّةِ؟ فَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ جَوَازَ الْإِقْرَارِ مُتَعَذِّرٌ لِاحْتِمَالِهِ وَجْهَيْنِ إرْثًا وَوَصِيَّةً انْتَهَى.

وَقَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: قَدْ ذَكَرْنَا آنِفًا أَنَّهُ إذَا كَانَتْ جِهَةُ الْجَوَازِ مُتَعَذِّرَةً لَا يُحْمَلُ عَلَى الْجَوَازِ لِتَزَاحُمِ جِهَاتِ الْجَوَازِ وَلَمْ تَكُنْ إحْدَاهُمَا فِي الْحَمْلِ عَلَيْهَا بِأَوْلَى مِنْ الْأُخْرَى، وَأَمَّا إذَا تَعَيَّنَتْ جِهَةُ الْجَوَازِ فَيُحْمَلُ عَلَيْهَا فَيَصِحُّ الْإِقْرَارُ بِهِ كَمَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَإِنَّ مُزَاحَمَةَ الْمِيرَاثِ الْوَصِيَّةَ فِي حَقِّ الْحَمْلِ عَلَيْهِ غَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّ الْوَارِثَ إذَا كَانَ لَهُ نَصِيبٌ فِي الْحَمْلِ كَانَ لَهُ نَصِيبٌ أَيْضًا فِي الْأُمِّ لِشُيُوعِ حَقِّهِ فِي جَمِيعِ التَّرِكَةِ.

وَأَمَّا الْوَصِيَّةُ بِحَمْلِ جَارِيَةٍ أَوْ بِحَمْلِ شَاةٍ لَا تَكُونُ وَصِيَّةً بِالْأُمِّ فَتَعَيَّنَتْ الْوَصِيَّةُ جِهَةً لِلْجَوَازِ فَيَجُوزُ، وَهَذَا هُوَ الْفَرْقُ لِأَبِي يُوسُفَ فِي صِحَّةِ إقْرَارِهِ مُطْلَقًا بِحَمْلِ جَارِيَةٍ لِإِنْسَانٍ وَعَدَمِ صِحَّةِ إقْرَارِهِ مُطْلَقًا لِلْحَمْلِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ هُنَاكَ لِصِحَّةِ إقْرَارِهِ مُطْلَقًا جِهَتَيْنِ الْمِيرَاثَ وَالْوَصِيَّةَ، وَلَيْسَ إحْدَاهُمَا أَوْلَى مِنْ الْأُخْرَى فَيَبْقَى عَلَى الْبُطْلَانِ انْتَهَى. وَهَكَذَا ذَكَرَ الْفَرْقَ صَاحِبُ الْكِفَايَةِ أَيْضًا. أَقُولُ: مَدَارُ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْفُرُوقِ عَلَى حَرْفَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ تَعَدُّدَ جِهَةِ الْجَوَازِ يُنَافِي الْحَمْلَ عَلَى الْجَوَازِ. وَثَانِيهِمَا أَنَّ جِهَةَ الْجَوَازِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُنْحَصِرَةٌ فِي الْوَصِيَّةِ، وَقَدْ عَرَفْت مَا فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْمَقَامَيْنِ فِيمَا مَرَّ آنِفًا.

(قَالَ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ (وَمَنْ أَقَرَّ بِشَرْطِ الْخِيَارِ بَطَلَ الشَّرْطُ) يَعْنِي وَمَنْ أَقَرَّ لِرَجُلٍ بِشَيْءٍ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ فِي إقْرَارِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ صَحَّ الْإِقْرَارُ وَبَطَلَ الشَّرْطُ، أَمَّا بُطْلَانُ الشَّرْطِ وَهُوَ الْأَهَمُّ بِالْبَيَانِ فَلِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ (لِأَنَّ الْخِيَارَ لِلْفَسْخِ) أَيْ لِأَجْلِ الْفَسْخِ (وَالْإِخْبَارُ لَا يَحْتَمِلُهُ) أَيْ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ: يَعْنِي أَنَّ الْإِقْرَارَ إخْبَارٌ وَالْإِخْبَارُ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ؛ لِأَنَّ الْخَبَرَ إنْ كَانَ صَادِقًا فَهُوَ وَاجِبُ الْعَمَلِ بِهِ اخْتَارَهُ أَوْ لَمْ يَخْتَرْهُ، وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا فَهُوَ وَاجِبُ الرَّدِّ لَا يَتَغَيَّرُ بِاخْتِيَارِهِ وَعَدَمِ اخْتِيَارِهِ، وَإِنَّمَا تَأْثِيرُ اشْتِرَاطِ الْخِيَارِ فِي الْعُقُودِ لِيَتَغَيَّرَ بِهِ صِفَةُ الْعَقْدِ وَيَتَخَيَّرَ بِهِ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ بَيْنَ فَسْخِهِ وَإِمْضَائِهِ، وَأَمَّا صِحَّةُ الْإِقْرَارِ الَّتِي حُكْمُهَا لُزُومُ الْمُقَرِّ بِهِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ (وَلَزِمَهُ الْمَالُ) أَيْ وَلَزِمَ الْمُقِرَّ الْمَالُ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ فَلَمَّا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ (لِوُجُودِ الصِّيغَةِ الْمُلْزِمَةِ) وَهِيَ قَوْلُهُ عَلَيَّ وَنَحْوُ ذَلِكَ (وَلَمْ يَنْعَدِمْ) أَيْ اللُّزُومُ، وَقِيلَ: أَيْ الْإِخْبَارُ (بِهَذَا الشَّرْطِ الْبَاطِلِ) يَعْنِي شَرْطَ الْخِيَارِ إذْ لَا تَأْثِيرَ لِلْبَاطِلِ، وَلِأَنَّ الْخِيَارَ فِي مَعْنَى التَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ فِيمَا دَخَلَ عَلَيْهِ وَهُوَ حُكْمُ الْعَقْدِ وَالْإِقْرَارُ لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ، فَكَذَلِكَ لَا يَحْتَمِلُ اشْتِرَاطَ الْخِيَارِ، إلَّا أَنَّ التَّعْلِيقَ يَدْخُلُ عَلَى أَصْلِ السَّبَبِ فَيَمْنَعُ كَوْنَ الْكَلَامِ إقْرَارًا وَالْخِيَارُ يَدْخُلُ

ص: 350

‌بَابُ الِاسْتِثْنَاءِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ

قَالَ (وَمَنْ اسْتَثْنَى مُتَّصِلًا بِإِقْرَارِهِ صَحَّ الِاسْتِثْنَاءُ وَلَزِمَهُ الْبَاقِي) لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مَعَ الْجُمْلَةِ عِبَارَةٌ عَنْ الْبَاقِي وَلَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ الِاتِّصَالِ،

عَلَى حُكْمِ السَّبَبِ، فَإِذَا لَغَا بَقِيَ حُكْمُ الْإِقْرَارِ وَهُوَ اللُّزُومُ، كَمَا أَنَّ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ يَمْنَعُ وُقُوعَ الطَّلَاقِ وَاشْتِرَاطُ الْخِيَارِ لَا يَمْنَعُهُ، كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ وَغَيْرِهِ.

قَالَ فِي الْمُحِيطِ الْبُرْهَانِيِّ: هَذَا إذَا أَقَرَّ بِالْمَالِ مُطْلَقًا وَلَمْ يُبَيِّنْ السَّبَبَ، فَأَمَّا إذَا بَيَّنَ السَّبَبَ بِأَنْ قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ مِنْ قَرْضٍ أَوْ غَصْبٍ بِعَيْنِهِ أَوْ مُسْتَهْلَكٍ أَوْ وَدِيعَةٍ بِعَيْنِهَا أَوْ مُسْتَهْلَكَةٍ عَلَى أَنِّي بِالْخِيَارِ فَالْخِيَارُ بَاطِلٌ وَالْمَالُ لَازِمٌ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ بَيَّنَ السَّبَبَ إلَّا أَنَّ اشْتِرَاطَ الْخِيَارِ فِيمَا بَيَّنَ مِنْ السَّبَبِ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ إنْ كَانَ اسْتِهْلَاكًا فَالِاسْتِهْلَاكُ بَعْدَ تَحَقُّقِهِ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ فَلَا يَصِحُّ اشْتِرَاطُ الْخِيَارِ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ قَرْضًا أَوْ غَصْبًا بِعَيْنِهِ أَوْ وَدِيعَةً بِعَيْنِهَا فَكَذَلِكَ لَا يَصِحُّ اشْتِرَاطُ الْخِيَارِ فِيهِ وَإِنْ كَانَ قَابِلًا لِلْفَسْخِ بِالرَّدِّ لِأَنَّ حَقَّ الْفَسْخِ لِلْمُقِرِّ ثَابِتٌ مِنْ غَيْرِ خِيَارٍ بِأَنْ يَرُدَّ مَا قَبَضَ فَيَنْفَسِخَ الْقَرْضُ وَالْغَصْبُ فَلَا يَكُونُ فِي اشْتِرَاطِ الْخِيَارِ فَائِدَةٌ، وَلَوْ قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ مِنْ ثَمَنِ مَبِيعٍ عَلَى أَنَّ الْمُقِرَّ بِالْخِيَارِ لَمْ يَذْكُرْ مُحَمَّدٌ رحمه الله هَذَا الْفَصْلَ فِي الْأَصْلِ فِي جَانِبِ الْمُقِرِّ، إنَّمَا ذَكَرَهُ فِي جَانِبِ الْمُقَرِّ لَهُ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُقَرَّ لَهُ إذَا لَمْ يُصَدِّقْ الْمُقِرَّ فِي الْخِيَارِ لَا يَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ لِأَنَّهُ فِي الْحَاصِلِ يَدَّعِي شِرَاءً بِشَرْطِ الْخِيَارِ وَقَدْ أَنْكَرَ الْبَائِعُ الْخِيَارَ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ يَثْبُتُ مَتَى صَدَّقَهُ الْمُقَرُّ لَهُ فِي ذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا اشْتِرَاطُ الْخِيَارِ فِي سَبَبِ الْوُجُوبِ وَهُوَ الشِّرَاءُ، وَاشْتِرَاطُ الْخِيَارِ فِي الشِّرَاءِ مُسْتَقِيمٌ، بِخِلَافِ مَا إذَا ذَكَرَ الْمَالَ مُطْلَقًا وَلَمْ يُبَيِّنْ السَّبَبَ لِأَنَّ هُنَاكَ الْمَالَ مَشْرُوطٌ فِي الْإِقْرَارِ، وَاشْتِرَاطُ الْخِيَارِ فِي الْإِقْرَارِ لَا يَسْتَقِيمُ، فَإِنْ كَذَّبَهُ الْمُقَرُّ لَهُ فِي الْخِيَارِ فَأَرَادَ هُوَ أَنْ يُقِيمَ بَيِّنَةً عَلَى الْخِيَارِ لَمْ يَذْكُرْ مُحَمَّدٌ رحمه الله هَذَا الْفَصْلَ فِي الْأَصْلِ.

قَالُوا: وَيَجِبُ أَنْ لَا تُسْمَعَ بَيِّنَتُهُ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ إنَّمَا تُسْمَعُ إذَا تَرَتَّبَتْ عَلَى دَعْوَى صَحِيحَةٍ، وَدَعْوَى الْخِيَارِ مِنْ الْمُقِرِّ هَاهُنَا لَمْ تَصِحَّ لِمَكَانِ الْمُنَاقَضَةِ، إلَى هُنَا لَفْظُ الْمُحِيطِ.

(بَابُ الِاسْتِثْنَاءِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ) لَمَّا ذَكَرَ مُوجَبَ الْإِقْرَارِ بِلَا مُغَيِّرٍ شَرَعَ فِي بَيَانِ مُوجَبِهِ مَعَ الْمُغَيِّرِ وَهُوَ الِاسْتِثْنَاءُ وَمَا فِي مَعْنَاهُ فِي كَوْنِهِ مُغَيِّرًا كَالشَّرْطِ وَغَيْرِهِ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ التَّغْيِيرِ (قَالَ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ (وَمَنْ اسْتَثْنَى مُتَّصِلًا بِإِقْرَارِهِ) أَيْ مَوْصُولًا بِإِقْرَارِهِ لَا مَفْصُولًا عَنْهُ (صَحَّ الِاسْتِثْنَاءُ وَلَزِمَهُ الْبَاقِي) أَيْ لَزِمَ الْمُقِرَّ الْبَاقِي بَعْدَ الثَّنِيَّا (لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مَعَ الْجُمْلَةِ) أَيْ مَعَ مَصْدَرِ الْكَلَامِ (عِبَارَةٌ عَنْ الْبَاقِي) فَإِنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ عَلَيَّ عَشْرَةٌ إلَّا وَاحِدًا مَعْنَى عَلَيَّ تِسْعَةٌ لِمَا عُرِفَ فِي الْأُصُولِ (وَلَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ الِاتِّصَالِ) لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ بَيَانُ تَغْيِيرٍ

ص: 351

(وَسَوَاءٌ اسْتَثْنَى الْأَقَلَّ أَوْ الْأَكْثَرَ، فَإِنْ اسْتَثْنَى الْجَمِيعَ لَزِمَهُ الْإِقْرَارُ وَبَطَلَ الِاسْتِثْنَاءُ) لِأَنَّهُ تَكَلَّمَ بِالْحَاصِلِ بَعْدَ الثَّنِيَّا وَلَا حَاصِلَ بَعْدَهُ فَيَكُونُ رُجُوعًا،

فَيَصِحُّ بِشَرْطِ الْوَصْلِ، وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ.

وَنُقِلَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما جَوَازُ التَّأْخِيرِ وَقَدْ عُرِفَ ذَلِكَ أَيْضًا فِي الْأُصُولِ (وَسَوَاءٌ اسْتَثْنَى الْأَقَلَّ) أَيْ الْأَقَلَّ مِنْ الْبَاقِي كَمَا فِي قَوْلِهِ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفٌ إلَّا أَرْبَعَمِائَةٍ (أَوْ الْأَكْثَرَ) مِنْهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفٌ إلَّا سِتَّمِائَةٍ: يَعْنِي لَا فَصْلَ بَيْنَ كَوْنِ الْمُسْتَثْنَى أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ وَهُوَ أَيْضًا قَوْلُ الْأَكْثَرِ. وَفِي الْعِنَايَةِ: وَقَالَ الْفَرَّاءُ: اسْتِثْنَاءُ الْأَكْثَرِ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْعَرَبَ لَمْ تَتَكَلَّمْ بِذَلِكَ.

وَفِي مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ: وَقَالَ الْفَرَّاءُ: لَا يَجُوزُ اسْتِثْنَاءُ الْأَكْثَرِ مِنْ الْأَقَلِّ. وَعَنْ أَحْمَدَ مِثْلُهُ انْتَهَى.

وَفِي الْكَافِي وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالْفَرَّاءِ: إنَّهُ لَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ الْأَكْثَرِ انْتَهَى.

وَيُوَافِقُهُ مَا ذَكَرَهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ خُوَاهَرْ زَادَهْ فِي مَبْسُوطِهِ حَيْثُ قَالَ: وَأَمَّا إذَا قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفٌ إلَّا تِسْعَمِائَةٍ وَخَمْسِينَ دِرْهَمًا فَإِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَصِحُّ وَيَكُونُ عَلَيْهِ خَمْسُونَ دِرْهَمًا، وَهَذَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ مَالِكٍ وَالْفَرَّاءِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْهُ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ لَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ الْأَكْثَرِ وَيَلْزَمُهُ الْأَلْفُ لِأَنَّ الْمُسْتَثْنَى أَكْثَرُ مِنْ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ انْتَهَى.

قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الشُّرَّاحِ: وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ عِنْدَنَا قَوْله تَعَالَى {قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا} {نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلا} {أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} أَقُولُ: فِي كَوْنِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ دَلِيلًا عَلَى جَوَازِ اسْتِثْنَاءِ الْأَكْثَرِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْكَشَّافِ قَالَ فِي تَفْسِيرِهَا: نِصْفَهُ بَدَلٌ مِنْ اللَّيْلِ، وَإِلَّا قَلِيلًا اسْتِثْنَاءٌ مِنْ النِّصْفِ، كَأَنَّهُ قَالَ: قُمْ أَقَلَّ مِنْ نِصْفِ اللَّيْلِ، ثُمَّ قَالَ: وَإِنْ شِئْت جَعَلْت نِصْفَهُ بَدَلًا مِنْ قَلِيلًا، فَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ لَمْ يَكُنْ الِاسْتِثْنَاءُ الْمَذْكُورُ مِنْ قَبِيلِ اسْتِثْنَاءِ الْأَكْثَرِ، أَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فَلِأَنَّ الْمُسْتَثْنَى لَا يَكُونُ حِينَئِذٍ قَدْرًا مُعَيَّنًا مَخْصُوصًا حَتَّى يُحْكَمَ بِأَنَّهُ أَكْثَرُ مِنْ الْبَاقِي.

نَعَمْ يُعْلَمُ حِينَئِذٍ أَنَّهُ أَقَلُّ مِنْ النِّصْفِ لَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ أَقَلَّ مِنْ الْبَاقِي أَيْضًا، وَأَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي فَلِأَنَّ الْمُسْتَثْنَى يَكُونُ حِينَئِذٍ النِّصْفَ لَا الْأَكْثَرَ، وَالْمُدَّعَى جَوَازُ اسْتِثْنَاءِ الْأَكْثَرِ، فَالْأَظْهَرُ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهِ مَا ذُكِرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ الشُّرُوحِ، وَهُوَ أَنَّ طَرِيقَ صِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ أَنْ يُجْعَلَ عِبَارَةً عَمَّا وَرَاءَ الْمُسْتَثْنَى، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ اسْتِثْنَاءِ الْأَقَلِّ وَالْأَكْثَرِ، وَعَدَمُ تَكَلُّمِ الْعَرَبِ بِهِ لَا يَمْنَعُ صِحَّتَهُ إذَا كَانَ مُوَافِقًا لِطَرِيقِهِمْ؛ أَلَا يُرَى أَنَّ اسْتِثْنَاءَ الْكَسْرِ لَمْ تَتَكَلَّمْ بِهِ الْعَرَبُ وَكَانَ صَحِيحًا، وَيُوَافِقُهُ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْبَدَائِعِ حَيْثُ قَالَ: وَأَمَّا اسْتِثْنَاءُ الْكَثِيرِ مِنْ الْقَلِيلِ بِأَنْ قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ إلَّا تِسْعَةً فَجَائِزٌ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَيَلْزَمُهُ دِرْهَمٌ، إلَّا مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ وَعَلَيْهِ الْعَشَرَةُ.

وَالصَّحِيحُ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّ الْمَنْقُولَ عَنْ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ تَكَلُّمٌ بِالْبَاقِي بَعْدَ الثَّنِيَّا، وَهَذَا الْمَعْنَى كَمَا يُوجَدُ فِي اسْتِثْنَاءِ الْقَلِيلِ مِنْ الْكَثِيرِ يُوجَدُ فِي اسْتِثْنَاءِ الْكَثِيرِ مِنْ الْقَلِيلِ، إلَّا أَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنْ الِاسْتِثْنَاءِ غَيْرُ مُسْتَحْسَنٍ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ لِأَنَّهُمْ إنَّمَا وَضَعُوا الِاسْتِثْنَاءَ لِحَاجَتِهِمْ إلَى اسْتِدْرَاكِ الْغَلَطِ، وَمِثْلُ هَذَا الْغَلَطِ يَنْدُرُ وُقُوعُهُ غَايَةَ النُّدْرَةِ فَلَا حَاجَةَ إلَى اسْتِدْرَاكِهِ لَكِنَّهُ يَحْتَمِلُ الْوُقُوعَ فِي الْجُمْلَةِ فَيَصِحُّ، انْتَهَى كَلَامُهُ.

ثُمَّ إنَّ لِجَوَازِ اسْتِثْنَاءِ الْأَكْثَرِ دَلِيلًا آخَرَ قَوِيًّا ذَكَرَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي مُخْتَصَرِهِ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} فَإِنَّ الْغَاوِينَ أَكْثَرُ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} (فَإِنْ اسْتَثْنَى الْجَمِيعَ) أَيْ الْكُلَّ بِأَنْ قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ إلَّا أَلْفَ دِرْهَمٍ (لَزِمَهُ الْإِقْرَارُ) أَيْ لَزِمَ الْمُقِرَّ جَمِيعُ مَا أَقَرَّ بِهِ (وَبَطَلَ الِاسْتِثْنَاءُ) أَيْ بَطَلَ مَا ذَكَرَهُ فِي صُورَةِ الِاسْتِثْنَاءِ (لِأَنَّهُ) أَيْ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ (تَكَلُّمٌ بِالْحَاصِلِ بَعْدَ الثَّنِيَّا) أَيْ بِالْبَاقِي بَعْدَ الثَّنِيَّا (وَلَا حَاصِلَ بَعْدَهُ) أَيْ وَلَا بَاقِيَ بَعْدَ اسْتِثْنَاءِ الْجَمِيعِ فَلَمْ يَتَحَقَّقْ مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ (فَيَكُونُ رُجُوعًا) أَيْ فَيَكُونُ مَا ذَكَرَهُ فِي صُورَةِ الِاسْتِثْنَاءِ رُجُوعًا

ص: 352

وَقَدْ مَرَّ الْوَجْهُ فِي الطَّلَاقِ.

عَنْ الْإِقْرَارِ لَا مَحَالَةَ لَا اسْتِثْنَاءً حَقِيقِيًّا، وَالرُّجُوعُ عَنْ الْإِقْرَارِ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ بَاطِلٌ وَإِنْ كَانَ مَوْصُولًا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَصِحُّ مَوْصُولًا مَا يَكُونُ فِيهِ مَعْنَى الْبَيَانِ لِأَوَّلِ كَلَامِهِ، وَالْإِبْطَالُ لَيْسَ مِنْ الْبَيَانِ فِي شَيْءٍ، كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ وَغَيْرِهِ.

قَالَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ: وَكَذَلِكَ إذَا اسْتَثْنَى أَكْثَرَ مِنْ الْأَلْفِ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجُزْ اسْتِثْنَاءُ الْأَلْفِ مِنْ الْأَلْفِ فَلَأَنْ لَا يَجُوزَ اسْتِثْنَاءُ الْأَلْفِ وَزِيَادَةً أَوْلَى. قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَقَدْ مَرَّ الْوَجْهُ فِي الطَّلَاقِ) أَيْ فِي فَصْلِ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ كِتَابِ الطَّلَاقِ. اعْلَمْ أَنَّ هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ فِيمَا إذَا كَانَ الْمُسْتَثْنَى مِنْ جِنْسِ لَفْظِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، وَأَمَّا إذَا كَانَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ صَحَّ الِاسْتِثْنَاءُ وَإِنْ أَتَى عَلَى جَمِيعِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ نَحْوُ أَنْ يَقُولَ: نِسَائِي طَوَالِقُ إلَّا هَؤُلَاءِ وَلَيْسَ لَهُ نِسَاءٌ إلَّا هَؤُلَاءِ يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ وَلَمْ تَطْلُقْ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ، وَلَوْ قَالَ نِسَائِي طَوَالِقُ إلَّا نِسَائِي لَمْ يَصِحَّ الِاسْتِثْنَاءُ وَطُلِّقْنَ كُلُّهُنَّ، وَكَذَا لَوْ قَالَ عَبِيدِي أَحْرَارٌ إلَّا عَبِيدِي لَمْ يَصِحَّ الِاسْتِثْنَاءُ وَعَتَقُوا كُلُّهُمْ، وَلَوْ قَالَ عَبِيدِي أَحْرَارٌ إلَّا هَؤُلَاءِ وَلَيْسَ لَهُ عَبِيدٌ غَيْرَ هَؤُلَاءِ لَمْ يُعْتَقْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ أَوْصَيْت بِثُلُثِ مَالِي إلَّا أَلْفَ دِرْهَمٍ وَمَاتَ وَثُلُثُ مَالِهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ صَحَّ الِاسْتِثْنَاءُ وَبَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ، وَلَوْ قَالَ أَوْصَيْت بِثُلُثِ مَالِي لِفُلَانٍ إلَّا ثُلُثَ مَالِي كَانَ لِلْمُوصَى لَهُ ثُلُثُ مَالِهِ وَلَا يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ، كَذَا فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ.

وَلَقَدْ أَفْصَحَ الْمُصَنِّفُ عَنْ هَذَا فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ مِنْ أَيْمَانِ الزِّيَادَاتِ حَيْثُ قَالَ: اسْتِثْنَاءُ الْكُلِّ مِنْ الْكُلِّ إنَّمَا لَا يَصِحُّ إذَا كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ بِعَيْنِ ذَلِكَ اللَّفْظِ، أَمَّا إذَا كَانَ بِغَيْرِ ذَلِكَ اللَّفْظِ فَيَصِحُّ كَمَا إذَا: قَالَ نِسَائِي طَوَالِقُ إلَّا نِسَائِي لَا يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ، وَلَوْ قَالَ إلَّا عَمْرَةَ وَزَيْنَبَ وَسُعَادَ حَتَّى أَتَى عَلَى الْكُلِّ صَحَّ انْتَهَى.

وَقَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ بَعْدَ نَقْلِ ذَلِكَ هَاهُنَا: وَهَذَا الْفِقْهُ وَهُوَ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ تَصَرُّفٌ لَفْظِيٌّ فَيُبْتَنَى عَلَى صِحَّةِ اللَّفْظِ لَا عَلَى صِحَّةِ الْحُكْمِ؛ أَلَا يُرَى أَنَّهُ إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ سِتَّ طَلْقَاتٍ إلَّا أَرْبَعًا يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ حَتَّى يَقَعُ تَطْلِيقَتَانِ، وَإِنْ كَانَتْ السِّتُّ لَا صِحَّةَ لَهَا مِنْ حَيْثُ الْحُكْمُ لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا مَزِيدَ لَهُ عَلَى الثَّلَاثِ وَمَعَ هَذَا لَا يُجْعَلُ كَأَنَّهُ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إلَّا أَرْبَعًا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ صِحَّةَ الِاسْتِثْنَاءِ تَتْبَعُ صِحَّةَ اللَّفْظِ دُونَ الْحُكْمِ. وَتَحْقِيقُهُ هُوَ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مَتَى وَقَعَ بِغَيْرِ اللَّفْظِ الْأَوَّلِ فَهُوَ يَصْلُحُ لِإِخْرَاجِ بَعْضِ مَا تَنَاوَلَهُ صَدْرُ الْكَلَامِ أَوْ لِلتَّكَلُّمِ بِالْحَاصِلِ بَعْدَ الثَّنِيَّا لِأَنَّهُ إنَّمَا صَارَ كُلًّا ضَرُورَةَ عَدَمِ مِلْكِهِ فِيمَا سِوَاهُ لَا لِأَمْرٍ يَرْجِعُ إلَى ذَاتِ اللَّفْظِ وَيُتَصَوَّرُ أَنْ يَدْخُلَ فِي مِلْكِهِ غَيْرُ هَذِهِ الْجَوَارِي أَوْ الْعَبِيدِ، وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ صَحَّ الِاسْتِثْنَاءُ، بِخِلَافِ مَا إذَا وَقَعَ الِاسْتِثْنَاءُ بِعَيْنِ ذَلِكَ اللَّفْظِ لِأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ لِإِخْرَاجِ بَعْضِ مَا تَنَاوَلَهُ وَلَا لِلتَّكَلُّمِ بِالْحَاصِلِ بَعْدَ الثَّنِيَّا فَلَمْ يَصِحَّ الِاسْتِثْنَاءُ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَاقْتَفَى أَثَرَهُ صَاحِبُ الْكِفَايَةِ فِي بَيَانِ الْفِقْهِ وَالتَّحْقِيقِ بِعَيْنِ تَحْرِيرِهِ وَصَاحِبُ الْعِنَايَةِ أَيْضًا وَلَكِنْ بِتَغْيِيرِ أُسْلُوبِ تَحْرِيرِهِ. أَقُولُ: التَّحْقِيقُ الَّذِي ذَكَرُوهُ مِمَّا لَا يُسَاعِدُهُ لَفْظُ الْمُصَنِّفِ فِي الزِّيَادَاتِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُمْ: إنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مَتَى وَقَعَ بِغَيْرِ اللَّفْظِ الْأَوَّلِ فَهُوَ يَصْلُحُ لِإِخْرَاجِ بَعْضِ مَا تَنَاوَلَهُ صَدْرُ الْكَلَامِ أَوْ لِلتَّكَلُّمِ بِالْحَاصِلِ بَعْدَ الثَّنِيَّا إنَّمَا يَتَمَشَّى عِنْدَ كَوْنِ غَيْرِ اللَّفْظِ الْأَوَّلِ أَخَصَّ مِنْ اللَّفْظِ الْأَوَّلِ بِحَسَبِ الْمَفْهُومِ، وَأَمَّا عِنْدَ كَوْنِهِ مُسَاوِيًا لَهُ بِحَسَبِ الْمَفْهُومِ كَمَا لَوْ قَالَ نِسَائِي كَذَا إلَّا حَلَائِلِي أَوْ إلَّا أَزْوَاجِي، أَوْ كَوْنِهِ أَعَمَّ مِنْهُ بِحَسَبِهِ كَمَا لَوْ قَالَ هَؤُلَاءِ طَوَالِقُ إلَّا نِسَائِي فَلَا يَتَمَشَّى ذَلِكَ

ص: 353

(وَلَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ مِائَةُ دِرْهَمٍ إلَّا دِينَارًا أَوْ إلَّا قَفِيزَ حِنْطَةٍ لَزِمَهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ إلَّا قِيمَةَ الدِّينَارِ أَوْ الْقَفِيزِ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ (وَلَوْ قَالَ لَهُ عَلَيَّ مِائَةُ دِرْهَمٍ إلَّا ثَوْبًا لَمْ يَصِحَّ الِاسْتِثْنَاءُ وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَصِحُّ فِيهِمَا)

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَصِحُّ فِيهِمَا. وَلِمُحَمَّدٍ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مَا لَوْلَاهُ لَدَخَلَ تَحْتَ اللَّفْظِ، وَهَذَا لَا يَتَحَقَّقُ فِي خِلَافِ الْجِنْسِ. وَلِلشَّافِعِيِّ أَنَّهُمَا اتَّحَدَا جِنْسًا مِنْ حَيْثُ الْمَالِيَّةُ.

قَطْعًا. وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ فِي الزِّيَادَاتِ: أَمَّا إذَا كَانَ بِغَيْرِ ذَلِكَ اللَّفْظِ فَيَصِحُّ بِتَنَاوُلِ مَا كَانَ مُسَاوِيًا لَهُ وَمَا كَانَ أَعَمَّ مِنْهُ أَيْضًا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيْرُ ذَلِكَ اللَّفْظِ لَا عَيْنُهُ فَيَقْتَضِي أَنْ يَصِحَّ الِاسْتِثْنَاءُ فِيهِمَا أَيْضًا، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ. قَالَ فِي التَّوْضِيحِ بَعْدَ أَنْ قَالَ الِاسْتِثْنَاءُ الْمُسْتَغْرِقُ بَاطِلٌ.

وَأَصْحَابُنَا قَيَّدُوهُ بِلَفْظِهِ أَوْ بِمَا يُسَاوِيهِ نَحْوُ عَبِيدِي أَحْرَارٌ إلَّا عَبِيدِي أَوْ إلَّا مَمَالِيكِي لَكِنْ إذَا اسْتَثْنَى بِلَفْظٍ يَكُونُ أَخَصَّ مِنْهُ فِي الْمَفْهُومِ لَكِنْ فِي الْوُجُودِ يُسَاوِيهِ يَصِحُّ نَحْوَ عَبِيدِي أَحْرَارٌ إلَّا هَؤُلَاءِ وَلَا عَبِيدَ لَهُ سِوَاهُمْ انْتَهَى. وَقَالَ بَعْضُ الْأَفَاضِلِ فِي أُصُولِهِ بَعْدَ أَنْ قَالَ الِاسْتِثْنَاءُ بَاطِلٌ بِالِاتِّفَاقِ: وَقَالَ مَشَايِخُنَا: هَذَا إذَا كَانَ بِلَفْظِهِ نَحْوُ نِسَائِي طَوَالِقُ إلَّا نِسَائِي، أَوْ بِمَا يُسَاوِيهِ نَحْوُ نِسَائِي طَوَالِقُ إلَّا حَلَائِلِي أَوْ بِأَعَمَّ مِنْهُ، وَإِنْ اسْتَثْنَى بِلَفْظٍ يَكُونُ أَخَصَّ مِنْهُ فِي الْمَفْهُومِ يَصِحُّ وَإِنْ كَانَ يُسَاوِيهِ فِي الْوُجُودِ نَحْوُ نِسَائِي طَوَالِقُ إلَّا زَيْنَبَ وَهِنْدَ وَبَكْرَةَ وَعَمْرَةَ أَوْ إلَّا هَؤُلَاءِ وَلَا نِسَاءَ لَهُ سِوَاهُنَّ حَتَّى لَا تَطْلُقَ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا مَرَّ نَقْلًا عَنْ غَايَةِ الْبَيَانِ عَدَمَ صِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ فِيمَا إذَا كَانَ الْمُسْتَثْنَى أَكْثَرَ مِنْ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ: أَيْ أَعَمَّ مِنْهُ.

(وَلَوْ قَالَ لَهُ عَلَيَّ مِائَةُ دِرْهَمٍ إلَّا دِينَارًا أَوْ إلَّا قَفِيزَ حِنْطَةٍ لَزِمَهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ إلَّا قِيمَةَ الدِّينَارِ أَوْ الْقَفِيزِ) هَذَا لَفْظُ الْقُدُورِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ يَعْنِي يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ وَيُطْرَحُ مِنْ الْمِائَةِ قِيمَةُ الدِّينَارِ أَوْ قِيمَةُ الْحِنْطَةِ. قَالَ الْمُصَنَّفُ (وَهَذَا) أَيْ الْحُكْمُ الْمَذْكُورُ (عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ) اسْتِحْسَانًا (وَلَوْ قَالَ لَهُ عَلَيَّ مِائَةٌ) أَيْ مِائَةُ دِرْهَمٍ (إلَّا ثَوْبًا لَمْ يَصِحَّ الِاسْتِثْنَاءُ) قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا بِاتِّفَاقِ أَصْحَابِنَا (وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَصِحُّ فِيهِمَا) أَيْ فِي الْوَجْهَيْنِ وَهُوَ الْقِيَاسُ، وَبِهِ قَالَ زُفَرُ وَأَحْمَدُ (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَصِحُّ فِيهِمَا) أَيْ فِي الْوَجْهَيْنِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ (لِمُحَمَّدٍ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مَا لَوْلَاهُ لَدَخَلَ تَحْتَ اللَّفْظِ) يَعْنِي أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ تَصَرُّفٌ فِي اللَّفْظِ وَهُوَ إخْرَاجُ بَعْضِ مَا تَنَاوَلَهُ صَدْرُ الْكَلَامِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ لَوْلَا الِاسْتِثْنَاءُ لَكَانَ الْمُسْتَثْنَى دَاخِلًا تَحْتَ صَدْرِ الْكَلَامِ (وَهَذَا) الْمَعْنَى (لَا يَتَحَقَّقُ فِي خِلَافِ الْجِنْسِ) أَيْ فِي اسْتِثْنَاءِ خِلَافِ الْجِنْسِ، وَإِطْلَاقُ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى الْمُنْقَطِعِ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ (وَلِلشَّافِعِيِّ أَنَّهُمَا) أَيْ الْمُسْتَثْنَى وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ (اتَّحَدَا جِنْسًا مِنْ حَيْثُ الْمَالِيَّةُ) يَعْنِي أَنَّ الشَّرْطَ اتِّحَادُ الْجِنْسِ وَهُوَ مَوْجُودٌ مِنْ حَيْثُ الْمَالِيَّةُ فَانْتَفَى الْمَانِعُ بَعْدَ تَحَقُّقِ الْمُقْتَضَيْ وَهُوَ التَّصَرُّفُ اللَّفْظِيُّ.

قَالَ فِي الْكَافِي: وَالْكَلَامُ مَعَ الشَّافِعِيِّ بِنَاءً عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي كَيْفِيَّةِ عَمَلِ الِاسْتِثْنَاءِ، فَعِنْدَهُ الِاسْتِثْنَاءُ يَمْنَعُ الْحُكْمَ بِطَرِيقِ الْمُعَارَضَةِ: أَيْ إنَّمَا امْتَنَعَ ثُبُوتُ الْحُكْمِ فِي الْمُسْتَثْنَى لِدَلِيلٍ مُعَارِضٍ كَدَلِيلِ الْخُصُوصِ فِي الْعَامِّ، فَتَقْدِيرُ قَوْلِهِ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إلَّا دِرْهَمًا فَإِنَّهُ لَيْسَ عَلَيَّ، فَعَدَمُ لُزُومِ الدِّرْهَمِ لِلدَّلِيلِ الْمُعَارِضِ لِأَوَّلِ كَلَامِهِ لَا لِأَنَّهُ يَصِيرُ بِالِاسْتِثْنَاءِ كَأَنَّهُ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ؛ لِأَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ أَطْبَقُوا أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ النَّفْيِ إثْبَاتٌ وَمِنْ الْإِثْبَاتِ نَفْيٌ، وَهَذَا إجْمَاعٌ مِنْهُمْ أَنَّ لِلِاسْتِثْنَاءِ حُكْمًا يُعَارَضُ بِهِ حُكْمُ الصَّدْرِ، وَلِأَنَّ كَلِمَةَ الشَّهَادَةِ كَلِمَةُ تَوْحِيدٍ بِالِاتِّفَاقِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِلِاسْتِثْنَاءِ حُكْمٌ يُضَادُّ حُكْمَ الصَّدْرِ لَكَانَ هَذَا نَفْيًا لِلشَّرِكَةِ لَا تَوْحِيدًا، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا الْأَصْلُ فَقَالَ: الْعَمَلُ بِدَلِيلِ الْمُعَارِضِ وَاجِبٌ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَقَدْ أَمْكَنَ هُنَا لِلْمُجَانَسَةِ مِنْ

ص: 354

وَلَهُمَا أَنَّ الْمُجَانَسَةَ فِي الْأَوَّلِ ثَابِتَةٌ مِنْ حَيْثُ الثَّمَنِيَّةُ،

حَيْثُ الْمَالِيَّةُ. وَعِنْدَنَا الِاسْتِثْنَاءُ يَمْنَعُ التَّكَلُّمَ بِحُكْمِهِ بِقَدْرِ الْمُسْتَثْنَى فَيَصِيرُ كَالتَّكَلُّمِ بِمَا وَرَاءَ الْمُسْتَثْنَى، وَيَخْرُجُ كَلَامُهُ فِي الْقَدْرِ الْمُسْتَثْنَى مِنْ أَنْ يَكُونَ إيجَابًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلا خَمْسِينَ عَامًا} وَامْتِنَاعُ ثُبُوتِ الْحُكْمِ لِقِيَامِ الدَّلِيلِ الْمُعَارِضِ يَكُونُ فِي الْإِيجَابِ لَا فِي الْإِخْبَارِ، وَقَدْ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ قَاطِبَةً: إنَّ الِاسْتِثْنَاءَ اسْتِخْرَاجٌ وَتَكَلُّمٌ بِالْبَاقِي بَعْدَ الثَّنِيَّا فَنَجْمَعُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ وَنَقُولُ: إنَّهُ اسْتِخْرَاجٌ وَتَكَلُّمٌ بِالْبَاقِي بِوَضْعِهِ وَإِثْبَاتٌ وَنَفْيٌ بِإِشَارَتِهِ، وَاخْتِيرَ الْإِثْبَاتُ فِي كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ إشَارَةً وَالنَّفْيُ قَصْدًا لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ، إذْ الْكُفَّارُ يُقِرُّونَ بِهِ إلَّا أَنَّهُمْ يُشْرِكُونَ مَعَهُ غَيْرَهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا الْأَصْلُ فَنَقُولُ إلَخْ.

وَسَلَكَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ هَذَا الْمَسْلَكَ فِي حَلِّ هَذَا الْمَقَامِ إلَّا أَنَّهُ قَالَ فِي أَثْنَاءِ تَقْرِيرِ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ بَعْدَ قَوْلِهِ يَجِبُ الْعَمَلُ بِالدَّلِيلِ الْمُعَارِضِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ. فَإِنْ كَانَ الْمُسْتَثْنَى مِنْ جِنْسِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ كَانَ الدَّلِيلُ الْمُعَارِضُ فِي الْعَيْنِ فَيَمْتَنِعُ الْعَمَلُ بِقَدْرِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ جِنْسِهِ كَانَ الدَّلِيلُ الْمُعَارِضُ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ فَيَمْتَنِعُ ثُبُوتُ الْحُكْمِ بِقَدْرِ قِيمَةِ الْمُسْتَثْنَى، وَقَدْ اقْتَفَى أَثَرَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ. وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَكَلَامُ الْمُصَنِّفِ كَمَا تَرَى يُشِيرُ إلَى أَنَّ الْمُجَانَسَةَ بَيْنَ الْمُسْتَثْنَى وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ شَرْطٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا وَهُوَ الْحَقُّ، وَقَرَّرَ الشَّارِحُونَ كَلَامَهُ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ بِشَرْطٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ عِنْدَهُ يُعَارِضُ الصَّدْرَ وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ الْمُجَانَسَةُ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّهُ يَقُولُ بِالْإِخْرَاجِ بَعْدَ الدُّخُولِ بِطَرِيقِ الْمُعَارَضَةِ، وَنَحْنُ نَقُولُ بِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لِبَيَانِ أَنَّ الصَّدْرَ لَمْ يَتَنَاوَلْ الْمُسْتَثْنَى فَهُوَ أَحْوَجُ إلَى إثْبَاتِ الْمُجَانَسَةِ لِأَجْلِ الدُّخُولِ مِنَّا، انْتَهَى كَلَامُهُ. أَقُولُ: لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الشَّارِحِينَ بِأَنَّ الْمُجَانَسَةَ بَيْنَ الْمُسْتَثْنَى وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ سِوَى صَاحِبِ الْغَايَةِ فَإِنَّهُ قَالَ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ كَلَامٌ آخَرُ يُعَارِضُ الصَّدْرَ بِحُكْمِهِ وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ الْمُجَانَسَةُ، أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ:

وَبَلْدَةٍ لَيْسَ بِهَا أَنِيسٌ

إلَّا الْيَعَافِيرُ وَإِلَّا الْعِيسُ

قَدْ اسْتَثْنَى مِنْ خِلَافِ الْجِنْسِ انْتَهَى.

وَأَمَّا مَا قَالَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَمَنْ تَبِعَهُ مِنْ أَنَّهُ إنْ كَانَ الْمُسْتَثْنَى مِنْ جِنْسِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ كَانَ الدَّلِيلُ الْمُعَارِضُ فِي الْعَيْنِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ جِنْسِهِ كَانَ الدَّلِيلُ الْمُعَارِضُ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ فَلَيْسَ بِدَالٍّ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْجِنْسِ فِي قَوْلِهِمْ إنْ كَانَ الْمُسْتَثْنَى مِنْ جِنْسِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ كَانَ الدَّلِيلُ الْمُعَارِضُ فِي الْعَيْنِ مَا هُوَ جِنْسٌ صُورَةً وَمَعْنًى لَا مُطْلَقُ الْجِنْسِ الشَّامِلِ لِمَا هُوَ جِنْسٌ مَعْنًى فَقَطْ وَإِلَّا لَمْ يَتِمَّ قَوْلُهُمْ كَانَ الدَّلِيلُ الْمُعَارِضُ فِي الْعَيْنِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى الْمُتَأَمِّلِ، فَكَانَ الْمُرَادُ بِالْجِنْسِ فِي قَوْلِهِمْ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ جِنْسِهِ مَا هُوَ جِنْسٌ صُورَةً وَمَعْنًى أَيْضًا فَالْمَفْهُومُ مِنْهُ انْتِفَاءُ الْمُجَانَسَةِ بِهَذَا الْمَعْنَى فِي بَعْضِ مَوَادِّ الِاسْتِثْنَاءِ، وَهَذَا لَا يُنَافِي كَوْنَ الْمُجَانَسَةِ فِي الْجُمْلَةِ شَرْطًا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا فِي جَمِيعِ مَوَادِّ الِاسْتِثْنَاءِ كَمَا بَيْنَ الدِّرْهَمِ وَالثَّوْبِ مِنْ حَيْثُ الْمَالِيَّةُ، فَقَوْلُ الشَّارِحِ الْأَكْمَلِ: قَرَّرَ الشَّارِحُونَ كَلَامَهُ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لَيْسَ بِتَامٍّ (وَلَهُمَا) أَيْ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ (أَنَّ الْمُجَانَسَةَ فِي الْأَوَّلِ) أَيْ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَهُوَ قَوْلُهُ لَهُ عَلَيَّ مِائَةُ دِرْهَمٍ إلَّا دِينَارًا وَإِلَّا قَفِيزَ حِنْطَةٍ (ثَابِتَةٌ مِنْ حَيْثُ الثَّمَنِيَّةُ) يَعْنِي أَنَّ شَرْطَ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُتَّصِلِ الْمُجَانَسَةُ وَهِيَ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ ثَابِتَةٌ مِنْ حَيْثُ الثَّمَنِيَّةُ دُونَ الْوَجْهِ الثَّانِي وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيَّ مِائَةُ دِرْهَمٍ إلَّا ثَوْبًا.

قَالَ فِي الْعِنَايَةِ: وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ عَدَمَ تَنَاوُلِ الدَّرَاهِمِ غَيْرَهَا لَفْظًا لَا يَرْتَابُ فِيهِ أَحَدٌ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي تَنَاوُلِهَا إيَّاهُ حُكْمًا، فَقُلْنَا يَتَنَاوَلُ مَا كَانَ عَلَى أَخَصِّ

ص: 355

وَهَذَا فِي الدِّينَارِ ظَاهِرٌ. وَالْمَكِيلُ وَالْمَوْزُونُ أَوْصَافُهَا أَثْمَانٌ؛ أَمَّا الثَّوْبُ فَلَيْسَ بِثَمَنٍ أَصْلًا وَلِهَذَا لَا يَجِبُ بِمُطْلَقِ عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ وَمَا يَكُونُ ثَمَنًا صَلَحَ مُقَدِّرًا بِالدَّرَاهِمِ فَصَارَ مُسْتَثْنًى مِنْ الدَّرَاهِمِ، وَمَا لَا يَكُونُ ثَمَنًا لَا يَصْلُحُ مُقَدِّرًا فَبَقِيَ الْمُسْتَثْنَى مِنْ الدَّرَاهِمِ مَجْهُولًا فَلَا يَصِحُّ.

أَوْصَافِهَا الَّذِي هُوَ الثَّمَنِيَّةُ وَهُوَ الدَّنَانِيرُ وَالْمُقَدَّرَاتُ وَالْعَدَدِيُّ الْمُتَقَارِبُ (أَمَّا الدِّينَارُ فَظَاهِرٌ) يَعْنِي أَمَّا ثُبُوتُ الْمُجَانَسَةِ مِنْ حَيْثُ الثَّمَنِيَّةُ فِي صُورَةِ اسْتِثْنَاءِ الدِّينَارِ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ مِنْ جِنْسِ الْأَثْمَانِ مِنْ حَيْثُ الذَّاتُ بِلَا اشْتِبَاهٍ (وَالْمَكِيلُ وَالْمَوْزُونُ أَوْصَافُهُمَا أَثْمَانٌ) يَعْنِي وَأَمَّا ثُبُوتُ الْمُجَانَسَةِ مِنْ حَيْثُ الثَّمَنِيَّةُ فِي صُورَةِ اسْتِثْنَاءِ قَفِيزِ حِنْطَةٍ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فَلِأَنَّ الْمَكِيلَ وَالْمَوْزُونَ أَوْصَافُهَا أَثْمَانٌ.

تَوْضِيحُهُ أَنَّ الْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ أَثْمَانٌ بِأَوْصَافِهِمَا وَإِنْ لَمْ تَكُنْ أَثْمَانًا مِنْ حَيْثُ الذَّاتُ، حَتَّى لَوْ عُيِّنَتْ فِي الْعَقْدِ يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ بِعَيْنِهَا إلَّا أَنَّهَا إذَا وُصِفَتْ ثَبَتَتْ فِي الذِّمَّةِ حَالًّا وَمُؤَجَّلًا وَيَجُوزُ الِاسْتِقْرَاضُ بِهَا فَكَانَتْ فِي حُكْمِ الثُّبُوتِ فِي الذِّمَّةِ كَجِنْسٍ وَاحِدٍ مَعْنًى وَإِنْ كَانَتْ أَجْنَاسًا صُورَةً وَالِاسْتِثْنَاءُ اسْتِخْرَاجٌ وَتَكَلُّمٌ بِالْبَاقِي مَعْنًى لَا صُورَةً؛ لِأَنَّهُ تَكَلُّمٌ بِالْمِائَةِ صُورَةٍ، كَذَا فِي الْكَافِي وَالشُّرُوحِ (أَمَّا الثَّوْبُ) فِي الْوَجْهِ الثَّانِي (فَلَيْسَ بِثَمَنٍ أَصْلًا) أَيْ لَا ذَاتًا وَلَا وَصْفًا (وَلِهَذَا لَا يَجِبُ بِمُطْلَقِ عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ) بَلْ يَثْبُتُ سَلَمًا أَوْ مَا هُوَ بِمَعْنَى السَّلَمِ كَالْبَيْعِ بِثِيَابٍ مَوْصُوفَةٍ مُؤَجَّلًا فَلَمْ يَكُنْ اسْتِثْنَاؤُهُ مِنْ الدَّرَاهِمِ اسْتِخْرَاجًا صُورَةً وَلَا مَعْنًى فَكَانَ بَاطِلًا (وَمَا يَكُونُ ثَمَنًا صَلُحَ مُقَدِّرًا) بِكَسْرِ الدَّالِ عَلَى صِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ (لِلدَّرَاهِمِ) أَيْ لِمَا دَخَلَ تَحْتَ الْمُسْتَثْنَى مِنْ الدَّرَاهِمِ لِحُصُولِ الْمُجَانَسَةِ بَيْنَهُمَا بِاشْتِرَاكِهِمَا فِي أَخَصِّ الْأَوْصَافِ (فَصَارَ بِقَدْرِهِ مُسْتَثْنًى مِنْ الدَّرَاهِمِ) بِقِيمَتِهِ فَصَارَ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ لَهُ عَلَيَّ مِائَةٌ إلَّا قَدْرَ قِيمَةِ الْمُسْتَثْنَى.

وَفِي الذَّخِيرَةِ: إذَا صَحَّ الِاسْتِثْنَاءُ يُطْرَحُ قِيمَةُ الْمُسْتَثْنَى عَنْ الْمُقَرِّ بِهِ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْمُسْتَثْنَى تَسْتَغْرِقُ مَا أَقَرَّ بِهِ لَا يَلْزَمُ شَيْءٌ (وَمَا لَا يَكُونُ ثَمَنًا لَا يَصْلُحُ مُقَدِّرًا) لِلدَّرَاهِمِ لِعَدَمِ الْمُجَانَسَةِ (فَبَقِيَ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ الدَّرَاهِمِ مَجْهُولًا) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: فَبَقِيَ الْمُسْتَثْنَى مِنْ الدَّرَاهِمِ مَجْهُولًا (فَلَا يَصِحُّ) أَيْ الِاسْتِثْنَاءُ فَيُجْبَرُ عَلَى الْبَيَانِ وَلَا يَمْتَنِعُ بِهِ صِحَّةُ الْإِقْرَارِ لِمَا تَقَرَّرَ أَنَّ جَهَالَةَ الْمُقَرِّ بِهِ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ، وَلَكِنَّ جَهَالَةَ الْمُسْتَثْنَى تَمْنَعُ صِحَّةَ الِاسْتِثْنَاءِ لِأَنَّ جَهَالَةَ الْمُسْتَثْنَى تُورِثُ جَهَالَةً فِي الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ فَبَقِيَ الْمُقَرُّ بِهِ مَجْهُولًا، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ. قَالَ فِي الْعِنَايَةِ: وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: مَا لَيْسَ بِثَمَنٍ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُقَدِّرًا مِنْ حَيْثُ الْقِيمَةُ، وَالْأَوَّلُ مُسَلَّمٌ وَلَيْسَ الْكَلَامُ فِيهِ، وَالثَّانِي مَمْنُوعٌ فَإِنَّ الْمُقَدِّرَاتِ تُقَدِّرُ الدَّرَاهِمَ مِنْ حَيْثُ الْقِيمَةُ. وَالْجَوَابُ أَنَّ التَّقْدِيرَ الِاسْتِثْنَائِيَّ يَقْتَضِي حَقِيقَةَ التَّجَانُسِ أَوْ مَعْنَاهُ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ حَيْثُ أَخَصُّ الْأَوْصَافِ اسْتِحْسَانًا فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ التَّجَانُسِ، ثُمَّ الْمَصِيرُ إلَى الْقِيمَةِ وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ الْمُقَدِّرَاتِ انْتَهَى أَقُولُ بَقِيَ هَاهُنَا كَلَامٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّهُمْ صَرَّحُوا بِأَنَّ مَا يَكُونُ ثَمَنًا بِوَصْفِهِ كَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ إنَّمَا يَكُونُ ثَمَنًا وَاجِبًا فِي الذِّمَّةِ بِسَبَبِ الْوَصْفِ كَالْحِنْطَةِ الرَّبِيعِيَّةِ وَالْخَرِيفِيَّةِ لَا بِسَبَبِ الذَّاتِ وَالْعَيْنِ، حَتَّى لَوْ عُيِّنَ يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ بِعَيْنِهِ فَيَكُونُ بَيْعَ مُقَايَضَةٍ وَلَا يَجِبُ فِي الذِّمَّةِ، وَلَوْ وُصِفَ وَلَمْ يُعَيَّنْ صَارَ حُكْمُهُ كَحُكْمِ الدِّينَارِ فَيَجِبُ فِي الذِّمَّةِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ مِثْلَ هَذَا إنَّمَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُقَدِّرًا لِلدَّرَاهِمِ إذَا كَانَ مَوْصُولًا لَا مُطْلَقًا، وَفِي مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ لَمْ يُوصَفْ قَفِيزُ حِنْطَةٍ بِشَيْءٍ فَلَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُقَدِّرًا لِلدَّرَاهِمِ فَيَبْقَى

ص: 356

قَالَ (وَمَنْ أَقَرَّ بِحَقٍّ وَقَالَ إنْ شَاءَ اللَّهُ مُتَّصِلًا) بِإِقْرَارِهِ (لَمْ يَلْزَمْهُ الْإِقْرَارُ) لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ إمَّا إبْطَالٌ أَوْ تَعْلِيقٌ؛ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَقَدْ بَطَلَ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَكَذَلِكَ، إمَّا لِأَنَّ الْإِقْرَارَ لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ، أَوْ لِأَنَّهُ شَرْطٌ لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي الطَّلَاقِ،

الْمُسْتَثْنَى مِنْ الدَّرَاهِمِ مَجْهُولًا فِي هَذَا الْوَجْهِ أَيْضًا فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَصِحَّ الِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ إلَّا قَفِيزَ حِنْطَةٍ فَلْيُتَأَمَّلْ فِي الْجَوَابِ.

(قَالَ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ (وَمَنْ أَقَرَّ بِحَقٍّ وَقَالَ إنْ شَاءَ اللَّهُ مُتَّصِلًا بِإِقْرَارِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ الْإِقْرَارُ) قَالَ فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ مِنْ إقْرَارِ الْمَبْسُوطِ: وَلَوْ قَالَ: غَصَبْتُك هَذَا الْعَبْدَ أَمْسِ إنْ شَاءَ اللَّهُ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ اسْتِحْسَانًا.

وَفِي الْقِيَاسِ اسْتِثْنَاؤُهُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ ذِكْرَ الِاسْتِثْنَاءِ بِمَنْزِلَةِ ذِكْرِ الشَّرْطِ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَصِحُّ فِي الْإِنْشَاءَاتِ دُونَ الْإِخْبَارَاتِ، وَلَكِنْ اُسْتُحْسِنَ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُخْرِجٌ لِلْكَلَامِ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَزِيمَةً لَا أَنْ يَكُونَ فِي مَعْنَى الشَّرْطِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْ مُوسَى عليه السلام حَيْثُ قَالَ:{سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا} وَلَمْ يَصْبِرْ وَلَمْ يُعَاتَبْ عَلَى ذَلِكَ، وَالْوَعْدُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ كَالْعَهْدِ مِنْ غَيْرِهِمْ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُخْرِجٌ لِلْكَلَامِ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَزِيمَةً. وَقَالَ صلى الله عليه وسلم «مَنْ اسْتَثْنَى فَلَهُ ثَنِيَّاهُ» وَالْإِقْرَارُ لَا يَكُونُ مُلْزِمًا إلَّا بِكَلَامٍ هُوَ عَزِيمَةٌ، لَكِنْ إنَّمَا يَعْمَلُ الِاسْتِثْنَاءُ إذَا كَانَ مَوْصُولًا بِالْكَلَامِ لَا إذَا كَانَ مَفْصُولًا عَنْهُ، فَإِنَّ الْمَفْصُولَ بِمَنْزِلَةِ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ، وَالْمُقِرُّ لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ فِي إقْرَارِهِ فَكَذَا لَا يَمْلِكُ الِاسْتِثْنَاءَ الْمَفْصُولَ، وَهَذَا بِخِلَافِ الرُّجُوعِ عَنْ الْإِقْرَارِ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ وَإِنْ كَانَ مَوْصُولًا لِأَنَّ رُجُوعَهُ نَفْيٌ لِمَا أَثْبَتَهُ فَكَانَ تَنَاقُضًا مِنْهُ، وَالتَّنَاقُضُ لَا يَصِحُّ مَفْصُولًا كَانَ أَوْ مَوْصُولًا.

أَمَّا هَذَا فَبَيَانُ تَغْيِيرٍ وَبَيَانُ التَّغْيِيرِ يَصِحُّ مَوْصُولًا لَا مَفْصُولًا بِمَنْزِلَةِ التَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ انْتَهَى مَا فِي الْمَبْسُوطِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ (لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ إمَّا إبْطَالٌ) كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَبِي يُوسُفَ (أَوْ تَعْلِيقٌ) كَمَا هُوَ مَذْهَبُ مُحَمَّدٍ كَذَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ قَاضِي خَانْ فِي طَلَاقِ الْجَامِعِ الْكَبِيرِ وَاخْتَارَهُ بَعْضُ شُرَّاحِ هَذَا الْكِتَابِ. وَقِيلَ الِاخْتِلَافُ عَلَى الْعَكْسِ كَمَا ذَكَرَ فِي طَلَاقِ الْفَتَاوَى الصُّغْرَى وَالتَّتِمَّةِ وَاخْتَارَهُ بَعْضٌ آخَرُ مِنْ شُرَّاحِ هَذَا الْكِتَابِ.

وَثَمَرَةُ الْخِلَافِ تَظْهَرُ كَمَا فِيمَا إذَا قَدَّمَ الْمَشِيئَةَ فَقَالَ: إنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْتِ طَالِقٌ عِنْدَ مَنْ قَالَ إنَّهُ إبْطَالٌ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ، وَعِنْدَ مَنْ قَالَ إنَّهُ تَعْلِيقٌ يَقَعُ لِأَنَّهُ إذَا قَدَّمَ بِشَرْطٍ وَلَمْ يَذْكُرْ حَرْفَ الْجَزَاءِ لَمْ يَتَعَلَّقْ وَبَقِيَ الطَّلَاقُ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ فَيَقَعُ، وَكَيْفَمَا كَانَ لَمْ يَلْزَمْهُ الْإِقْرَارُ كَمَا بَيَّنَهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ (فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ) وَهُوَ الْإِبْطَالُ (فَقَدْ بَطَلَ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي) وَهُوَ التَّعْلِيقُ (فَكَذَلِكَ، إمَّا لِأَنَّ الْإِقْرَارَ لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ) لِأَنَّ الْإِقْرَارَ إخْبَارٌ عَمَّا سَبَقَ وَالتَّعْلِيقُ إنَّمَا يَكُونُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُسْتَقْبَلِ وَبَيْنَهُمَا مُنَافَاةٌ وَلِأَنَّهُ إخْبَارٌ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ، فَإِنْ كَانَ صِدْقًا لَا يَصِيرُ كَذِبًا بِفَوَاتِ الشَّرْطِ، وَإِنْ كَانَ كَذِبًا لَا يَصِيرُ صِدْقًا بِوُجُودِ الشَّرْطِ فَلَغَا تَعْلِيقُهُ بِالشَّرْطِ (أَوْ لِأَنَّهُ شَرْطٌ لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ) أَيْ لَا يُطَّلَعُ عَلَيْهِ، فَإِنَّ وُقُوعَ مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى مِمَّا لَا يَكَادُ يَطَّلِعُ عَلَيْهِ أَحَدٌ، وَالتَّعْلِيقُ بِمَا لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّهُ يَكُونُ إعْدَامًا مِنْ الْأَصْلِ (كَمَا ذَكَرْنَا فِي الطَّلَاقِ) أَيْ فِي فَصْلِ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ كِتَابِ الطَّلَاقِ.

وَلَوْ قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفٌ إنْ شَاءَ فُلَانٌ فَقَالَ فُلَانٌ قَدْ شِئْت فَهَذَا إقْرَارٌ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَهُ بِشَرْطٍ فِي وُجُودِهِ خَطَرٌ، وَالْإِقْرَارُ لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالْخَطَرِ لِأَنَّ التَّعْلِيقَ بِمَا فِيهِ خَطَرٌ يَمِينٌ وَالْإِقْرَارُ لَا يُحْلَفُ بِهِ، وَلِأَنَّهُ إخْبَارٌ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ، فَإِنْ كَانَ صِدْقًا لَا يَصِيرُ كَذِبًا بِفَوَاتِ الشَّرْطِ، وَإِنْ كَانَ كَذِبًا لَا يَصِيرُ صِدْقًا بِوُجُودِ الشَّرْطِ فَلَا يَلِيقُ التَّعْلِيقُ بِهِ أَصْلًا، إنَّمَا التَّعْلِيقُ فِيمَا هُوَ إيجَابٌ لِيَتَبَيَّنَ بِهِ أَنَّهُ لَيْسَ بِإِيقَاعٍ مَا لَمْ يُوجَدْ الشَّرْطُ، وَكَذَلِكَ كُلُّ إقْرَارٍ عُلِّقَ بِالشَّرْطِ أَوْ الْخَطَرِ نَحْوُ قَوْلِهِ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ أَوْ إنْ

ص: 357

بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ مِائَةُ دِرْهَمٍ إذَا مِتُّ أَوْ إذَا جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ أَوْ إذَا أَفْطَرَ النَّاسُ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى بَيَانِ الْمُدَّةِ فَيَكُونُ تَأْجِيلًا لَا تَعْلِيقًا، حَتَّى لَوْ كَذَّبَهُ الْمُقَرُّ لَهُ فِي الْأَجْلِ يَكُونُ الْمَالُ حَالًّا.

قَالَ (وَمَنْ أَقَرَّ بِدَارٍ وَاسْتَثْنَى بِنَاءَهَا لِنَفْسِهِ فَلِلْمُقَرِّ لَهُ الدَّارُ وَالْبِنَاءُ) لِأَنَّ الْبِنَاءَ دَاخِلٌ فِي هَذَا الْإِقْرَارِ مَعْنًى لَا لَفْظًا، وَالِاسْتِثْنَاءُ تَصَرُّفٌ فِي الْمَلْفُوظِ،

مَطَرَتْ السَّمَاءُ أَوْ إنْ هَبَّتْ الرِّيحُ أَوْ إنْ قَضَى اللَّهُ تَعَالَى أَوْ إنْ أَرَادَهُ أَوْ رَضِيَهُ أَوْ أَحَبَّهُ أَوْ قَدَّرَهُ أَوْ يَسَّرَهُ أَوْ إنْ بُشِّرْت بِوَلَدٍ أَوْ إنْ أَصَبْت مَالًا أَوْ إنْ كَانَ كَذَلِكَ أَوْ إنْ كَانَ حَقًّا فَهَذَا كُلُّهُ مُبْطِلٌ لِلْإِقْرَارِ إذَا وَصَلَهُ بِالْكَلَامِ لِلْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَا، كَذَا فِي النِّهَايَةِ نَقْلًا عَنْ الْمَبْسُوطِ، وَفِي غَايَةِ الْبَيَانِ نَقْلًا عَنْ شَرْحِ الْكَافِي لِلْحَاكِمِ الشَّهِيدِ (بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ مِائَةُ دِرْهَمٍ إذَا مِتُّ أَوْ إذَا جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ أَوْ إذَا أَفْطَرَ النَّاسُ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى بَيَانِ الْمُدَّةِ) وَذَلِكَ مِنْ حَيْثُ الْعُرْفُ لِأَنَّ النَّاسَ يَعْتَادُونَ بِذِكْرِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مَحَلَّ الْأَجَلِ فَحَسْبُ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ الْمُؤَجَّلَ يَصِيرُ حَالًّا بِالْمَوْتِ وَمَجِيءِ رَأْسِ الشَّهْرِ وَالْفِطْرُ مِنْ آجَالِ النَّاسِ فَتُرِكَتْ الْحَقِيقَةُ لِلْعُرْفِ (فَيَكُونُ تَأْجِيلًا) أَيْ فَيَكُونُ ذِكْرُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مِنْهُ تَأْجِيلًا: أَيْ دَعْوَى الْأَجَلِ إلَى الْأَوْقَاتِ الْمَذْكُورَةِ (لَا تَعْلِيقًا) أَيْ لَا يَكُونُ تَعْلِيقًا بِالشَّرْطِ (حَتَّى لَوْ كَذَّبَهُ الْمُقَرُّ لَهُ فِي الْأَجَلِ يَكُونُ الْمَالُ حَالًّا) لِأَنَّ دَعْوَى الْأَجَلِ مِنْ الْمُقِرِّ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ عِنْدَنَا إلَّا أَنْ يُثْبِتَهُ بِالْبَيِّنَةِ أَوْ يُصَدِّقَهُ الْمُقَرُّ لَهُ كَمَا تَقَدَّمَ.

(قَالَ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ (وَمَنْ أَقَرَّ بِدَارٍ وَاسْتَثْنَى بِنَاءَهَا لِنَفْسِهِ) بِأَنْ قَالَ هَذِهِ الدَّارُ لِفُلَانٍ إلَّا بِنَاءَهَا (فَلِلْمُقَرِّ لَهُ الدَّارُ وَالْبِنَاءُ لِأَنَّ الْبِنَاءَ دَاخِلٌ فِي هَذَا الْإِقْرَارِ مَعْنًى) أَيْ تَبَعًا (لَا لَفْظًا) أَيْ لَا مَقْصُودًا بِاللَّفْظِ؛ لِأَنَّ الْبِنَاءَ وَصْفٌ فِي الدَّارِ وَالْوَصْفُ يَدْخُلُ تَبَعًا لَا قَصْدًا، وَلِهَذَا لَوْ اُسْتُحِقَّ الْبِنَاءُ قَبْلَ الْقَبْضِ فِي بَيْعِ الدَّارِ لَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ بِمُقَابَلَتِهِ بَلْ يَتَخَيَّرُ الْمُشْتَرِي (وَالِاسْتِثْنَاءُ تَصَرُّفٌ فِي الْمَلْفُوظِ) يَجْعَلُ الْمَلْفُوظَ عِبَارَةً عَمَّا وَرَاءَ الْمُسْتَثْنَى، فَمَا لَا يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ الدَّارِ لَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ عَمَلُ الِاسْتِثْنَاءِ، كَذَا قَالُوا.

أَقُولُ: هَذَا وَإِنْ كَانَ مُوَافِقًا لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَغَيْرُهُ فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ مِنْ أَنَّ الدَّارَ اسْمٌ لِلْعَرْصَةِ عِنْدَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ وَالْبِنَاءُ وَصْفٌ فِيهَا إلَّا أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَا ذُكِرَ فِي كُتُبِ اللُّغَةِ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي الْمُغْرِبِ: الدَّارُ اسْمٌ جَامِعٌ لِلْبِنَاءِ وَالْعَرْصَةِ. وَقَالَ فِي الْقَامُوسِ: الدَّارُ الْمَحَلُّ الَّذِي يَجْمَعُ الْبِنَاءَ وَالْعَرْصَةَ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الظَّاهِرَ الْمُتَبَادَرَ مِنْ ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ الدَّارُ اسْمًا لِمَجْمُوعِ الْبِنَاءِ

ص: 358

وَالْفَصُّ فِي الْخَاتَمِ وَالنَّخْلَةُ فِي الْبُسْتَانِ نَظِيرُ الْبِنَاءِ فِي الدَّارِ لِأَنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ تَبَعًا لَا لَفْظًا،

وَالْعَرْصَةِ لَا اسْمًا لِلْعَرْصَةِ وَحْدَهَا فَتَأَمَّلْ. قَالَ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ: فَإِنْ قُلْت: يُشْكِلُ مَا ذُكِرَ بِمَا إذَا قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ إلَّا قَفِيزَ حِنْطَةٍ فَإِنَّ الْحِنْطَةَ دَخَلَتْ فِي الدَّرَاهِمِ مَعْنًى لَا لَفْظًا حَتَّى صَحَّ اسْتِثْنَاؤُهُ.

قُلْت: الدَّرَاهِمُ تَتَنَاوَلُ الْحِنْطَةَ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى فَيَتَنَاوَلُهَا اللَّفْظُ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى فَيَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ، وَلَا كَذَلِكَ الدَّارُ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ بِاسْمٍ لِلْعَرْصَةِ وَالْبِنَاءِ حَتَّى يَكُونَ ذِكْرُ الدَّارِ ذِكْرًا لِلْبِنَاءِ بِطَرِيقِ التَّنَاوُلِ قَصْدًا، بَلْ الدَّارُ اسْمٌ لِلْعَرْصَةِ وَالْبِنَاءُ صِفَةٌ لَهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَالْوَصْفُ يَدْخُلُ تَبَعًا لَا قَصْدًا فَلَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ الْوَصْفِ فَافْتَرَقَا، انْتَهَى كَلَامُهُ.

وَاقْتَفَى أَثَرَهُ الشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ. أَقُولُ: التَّعَرُّضُ لِلْفَرْقِ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ مِمَّا لَا بُدَّ مِنْهُ جِدًّا وَقَدْ أَهْمَلَهُ أَكْثَرُ الشُّرَّاحِ، وَلَكِنَّ الْمَرْتَبَةَ الَّتِي ذَكَرَهَا الشَّارِحَانِ الْمَزْبُورَانِ لَا تَقْطَعُ الْكَلَامَ هَاهُنَا، إذْ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إنْ أُرِيدَ بِتَنَاوُلِ الدَّرَاهِمِ الْحِنْطَةَ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى تَنَاوُلُهَا إيَّاهَا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى الْوَضْعِيُّ لِلَفْظِ الدَّرَاهِمِ فَهُوَ مَمْنُوعٌ جِدًّا، أَلَا يَرَى إلَى مَا مَرَّ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ مِنْ أَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ عَدَمَ تَنَاوُلِ الدَّرَاهِمِ غَيْرَهَا لَفْظًا لَا يَرْتَابُ فِيهِ أَحَدٌ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي تَنَاوُلِهَا إيَّاهُ حُكْمًا فَقُلْنَا بِتَنَاوُلِ مَا كَانَ عَلَى أَخَصِّ أَوْصَافِهَا الَّذِي هُوَ الثَّمَنِيَّةُ، وَإِنْ أُرِيدَ بِذَلِكَ تَنَاوُلُهَا إيَّاهَا مِنْ حَيْثُ الْحُكْمُ فَهُوَ مُسَلَّمٌ وَلَكِنْ لَا يُجْدِي نَفْعًا، إذْ الْمُصَنِّفُ مُصَرِّحٌ هَاهُنَا بِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ تَصَرُّفٌ فِي الْمَلْفُوظِ فَتَنَاوُلُ لَفْظِ الدَّرَاهِمِ الْحِنْطَةَ مِنْ جِهَةِ الْحُكْمِ لَا يَكْفِي فِي صِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ، كَيْفَ وَلَوْ كَفَى تَنَاوُلُ لَفْظِ الدَّرَاهِمِ الْحِنْطَةَ مِنْ حَيْثُ الْحُكْمُ فَقَطْ فِي صِحَّةِ اسْتِثْنَاءِ الْحِنْطَةِ مِنْ الدَّرَاهِمِ لَكَفَى تَنَاوُلُ اسْمِ الدَّارِ الْبِنَاءَ مِنْ حَيْثُ الْحُكْمُ فَقَطْ أَيْضًا فِي صِحَّةِ اسْتِثْنَاءِ الْبِنَاءِ مِنْ الدَّارِ

فَإِنَّ الْبِنَاءَ دَاخِلٌ فِي حُكْمِ بَيْعِ الدَّارِ وَفِي حُكْمِ الْإِقْرَارِ بِالدَّارِ وَنَحْوِهِمَا حَتَّى يَمْلِكُ الْمُشْتَرِي وَالْمُقَرُّ لَهُ الْبِنَاءَ أَيْضًا فَلَا بُدَّ مِنْ زِيَادَةِ إيضَاحٍ وَتَقْرِيرٍ فَنَقُولُ: الْمُرَادُ بِذَلِكَ هُوَ التَّنَاوُلُ مِنْ حَيْثُ الْحُكْمُ لَكِنْ قَصْدًا لَا تَبَعًا، وَالدَّرَاهِمُ تَتَنَاوَلُ الْحِنْطَةَ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهَا عَلَى أَخَصِّ أَوْصَافِهَا الَّذِي هُوَ الثَّمَنِيَّةُ تَنَاوُلًا قَصْدِيًّا لَا تَبَعِيًّا، فَإِنَّ مَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ الثَّمَنِيَّةُ كَالدَّنَانِيرِ وَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ وَالْعَدَدِيِّ الْمُتَقَارِبِ مِنْ قَبِيلِ الذَّوَاتِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودًا مِنْ الدَّرَاهِمِ لِمُشَارَكَتِهِ إيَّاهَا فِي أَخَصِّ أَوْصَافِهَا وَهُوَ الثَّمَنِيَّةُ وَكَوْنِهِ بِاعْتِبَارِ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ جِنْسٍ وَاحِدٍ، وَلَا كَذَلِكَ الدَّارُ مَعَ الْبِنَاءِ فَإِنَّ الْبِنَاءَ وَصْفٌ لِلدَّارِ فَلَا يَدْخُلُ فِي حُكْمِهَا إلَّا تَبَعًا.

وَبِالْجُمْلَةِ فَرْقٌ بَيْنَ مَا يَتَنَاوَلُهُ اللَّفْظُ حُكْمًا وَبَيْنَ مَا يَتْبَعُ مُتَنَاوَلُهُ فِي الْحُكْمِ، فَإِنَّ الْأَوَّلَ مَدْلُولٌ حُكْمِيٌّ لِلَّفْظِ مَقْصُودٌ مِنْهُ أَصَالَةً فَيَكُونُ اسْتِثْنَاؤُهُ تَصَرُّفًا فِي الْمَلْفُوظِ: أَيْ فِي مَدْلُولِ اللَّفْظِ حُكْمًا فَيَصِحُّ، وَالثَّانِي خَارِجٌ عَنْ مَدْلُولِ اللَّفْظِ وَضْعًا وَحُكْمًا غَيْرُ مَقْصُودٍ مِنْهُ أَصْلًا لَكِنَّهُ تَابِعٌ لِمَدْلُولِهِ فِي الْحُكْمِ الثَّابِتِ لَهُ فَلَا يَكُونُ اسْتِثْنَاؤُهُ تَصَرُّفًا فِي الْمَلْفُوظِ فَلَا يَصِحُّ. قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَالْفَصُّ فِي الْخَاتَمِ وَالنَّخْلَةُ فِي الْبُسْتَانِ نَظِيرُ الْبِنَاءِ فِي الدَّارِ) يَعْنِي لَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ الْفَصِّ فِي الْإِقْرَارِ بِالْخَاتَمِ وَلَا اسْتِثْنَاءُ النَّخْلَةِ فِي الْإِقْرَارِ بِالْبُسْتَانِ، كَمَا لَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ الْبِنَاءِ فِي الْإِقْرَارِ بِالدَّارِ (لِأَنَّهُ) أَيْ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْفَصِّ وَالنَّخْلَةِ (يَدْخُلُ فِيهِ) أَيْ يَدْخُلُ فِي الصَّدْرِ (تَبَعًا لَا لَفْظًا) وَالِاسْتِثْنَاءُ تَصَرُّفٌ فِي الْمَلْفُوظِ كَمَا مَرَّ.

قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: قَوْلُ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا إنَّ الْفَصَّ يَدْخُلُ تَبَعًا لَا لَفْظًا يُنَافِي قَوْلَهُ فِيمَا مَرَّ أَنَّ اسْمَ الْخَاتَمِ يَشْمَلُ الْكُلَّ. أَقُولُ: يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إنَّ مُرَادَهُ بِشُمُولِ اسْمِ الْخَاتَمِ الْكُلَّ فِي قَوْلِهِ السَّابِقِ أَعَمُّ مِنْ الشُّمُولِ الْقَصْدِيِّ وَالتَّبَعِيِّ، وَمُرَادُهُ بِنَفْيِ دُخُولِ الْفَصِّ فِي الْخَاتَمِ فِي قَوْلِهِ اللَّاحِقِ نَفْيُ الدُّخُولِ الْقَصْدِيِّ فَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا. قَالَ فِي الْبَدَائِعِ: وَلَوْ أَقَرَّ لِإِنْسَانٍ بِدَارٍ وَاسْتَثْنَى بِنَاءَهَا لِنَفْسِهِ فَالِاسْتِثْنَاءُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ اسْمَ الدَّارِ لَا يَتَنَاوَلُ الْبِنَاءَ لُغَةً بَلْ وُضِعَ دَلَالَةً عَلَى الْعَرْصَةِ فِي اللُّغَةِ، وَإِنَّمَا الْبِنَاءُ فِيهَا بِمَنْزِلَةِ الصِّفَةِ فَلَمْ يَكُنْ الْمُسْتَثْنَى مِنْ جِنْسِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ فَلَمْ يَصِحَّ الِاسْتِثْنَاءُ وَيَكُونُ الدَّارُ مَعَ الْبِنَاءِ لِلْمُقَرِّ لَهُ لِأَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ اسْمًا عَامًّا لَكِنَّهُ يَتَنَاوَلُ هَذِهِ الْأَجْزَاءَ بِطَرِيقِ التَّضْمِينِ كَمَنْ أَقَرَّ لِغَيْرِهِ بِخَاتَمٍ كَانَ لَهُ الْحَلْقَةُ وَالْفَصُّ لَا لِأَنَّهُ اسْمٌ عَامٌّ، بَلْ هُوَ اسْمٌ لِمُسَمًّى وَاحِدٍ وَهُوَ الْمُرَكَّبُ مِنْ الْحَلْقَةِ وَالْفَصِّ وَلَكِنَّهُ يَتَنَاوَلُهُ بِطَرِيقِ التَّضْمِينِ، انْتَهَى كَلَامُهُ.

أَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ، أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ قَوْلَهُ لِأَنَّ اسْمَ الدَّارِ لَا يَتَنَاوَلُ الْبِنَاءَ لُغَةً بَلْ وُضِعَ دَلَالَةً عَلَى الْعَرْصَةِ مِمَّا لَا يُسَاعِدُهُ كُتُبُ اللُّغَةِ، أَلَا يَرَى إلَى مَا قَالَ فِي الْمُغْرِبِ: الدَّارُ اسْمٌ جَامِعٌ لِلْبِنَاءِ وَالْعَرْصَةِ، وَإِلَى مَا قَالَهُ فِي الْقَامُوسِ: الدَّارُ الْمَحَلُّ يَجْمَعُ الْبِنَاءَ

ص: 359

بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ إلَّا ثُلُثَهَا أَوْ إلَّا بَيْتًا مِنْهَا لِأَنَّهُ دَاخِلٌ فِيهِ لَفْظًا (وَلَوْ قَالَ بِنَاءُ هَذَا الدَّارِ لِي وَالْعَرْصَةُ لِفُلَانٍ فَهُوَ كَمَا قَالَ) لِأَنَّ الْعَرْصَةَ عِبَارَةٌ عَنْ الْبُقْعَةِ دُونَ الْبِنَاءِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ بَيَاضُ هَذِهِ الْأَرْضِ دُونَ الْبِنَاءِ لِفُلَانٍ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ مَكَانُ الْعَرْصَةِ أَرْضًا حَيْثُ يَكُونُ الْبِنَاءُ لِلْمُقَرِّ لَهُ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْأَرْضِ إقْرَارٌ بِالْبِنَاءِ كَالْإِقْرَارِ بِالدَّارِ.

وَالْعَرْصَةَ.

وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ قَوْلَهُ لَكِنَّهُ يَتَنَاوَلُ هَذِهِ الْأَجْزَاءَ بِطَرِيقِ التَّضْمِينِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْبِنَاءَ جُزْءٌ مِنْ مَعْنَى اسْمِ الدَّارِ، وَهَذَا مَعَ كَوْنِهِ مُخَالِفًا لِمَا قَالَهُ أَوَّلًا مِنْ أَنَّ اسْمَ الدَّارِ لَا يَتَنَاوَلُ الْبِنَاءَ لُغَةً يَقْتَضِي صِحَّةَ اسْتِثْنَاءِ الْبِنَاءِ لِنَفْسِهِ لِلْقَطْعِ بِصِحَّةِ اسْتِثْنَاءِ الْجُزْءِ مِنْ الْكُلِّ كَمَا لَوْ قَالَ لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إلَّا وَاحِدًا. لَا يُقَالُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ بِالتَّضْمِينِ مَعْنَى التَّبَعِيَّةِ لَا الْجُزْئِيَّةِ فَيَئُولُ إلَى مَا قَالَهُ الْمُصَنِّفُ وَغَيْرُهُ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: مَعَ إبَاءِ قَوْلِهِ هَذِهِ الْأَجْزَاءُ عَنْ ذَلِكَ التَّوْجِيهِ جِدًّا يَمْنَعُهُ قَوْلُهُ فِي تَنْظِيرِهِ بِمَسْأَلَةِ الْإِقْرَارِ بِالْخَاتَمِ بَلْ هُوَ اسْمٌ لِمُسَمًّى وَاحِدٍ وَهُوَ الْمُرَكَّبُ مِنْ الْحَلْقَةِ وَالْفَصِّ وَلَكِنَّهُ يَتَنَاوَلُهُ بِطَرِيقِ التَّضْمِينِ، فَإِنَّهُ نَصٌّ فِي دُخُولِ الْفَصِّ كَالْحَلْقَةِ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ دُونَ التَّبَعِيَّةِ، وَهُوَ خِلَافُ مَا صَرَّحَ بِهِ الْمُصَنِّفُ وَسَائِرُ الثِّقَاتِ (بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ إلَّا ثُلُثَهَا) أَيْ إذَا قَالَ هَذِهِ الدَّارُ لِفُلَانٍ إلَّا ثُلُثَهَا (أَوْ إلَّا بَيْتًا مِنْهَا) حَيْثُ يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ وَيَكُونُ لِلْمُقَرِّ لَهُ مَا عَدَا ثُلُثَ الدَّارِ وَمَا عَدَا الْبَيْتَ (لِأَنَّهُ) أَيْ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الثُّلُثِ وَالْبَيْتِ (دَاخِلٌ فِيهِ) أَيْ فِي الصَّدْرِ الَّذِي هُوَ الدَّارُ (لَفْظًا) وَمَقْصُودًا حَتَّى لَوْ اُسْتُحِقَّ الْبَيْتُ فِي بَيْعِ الدَّارِ سَقَطَ حِصَّتُهُ مِنْ الثَّمَنِ كَذَا قَالُوا. أَقُولُ: كَوْنُ الْبَيْتِ دَاخِلًا فِي الدَّارِ لَفْظًا وَمَقْصُودًا مُشْكِلٌ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الدَّارَ اسْمٌ لِلْعَرْصَةِ كَمَا ذَكَرُوهُ فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ، وَاسْتَدَلُّوا بِهِ عَلَى أَنَّ مَنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ فَدَخَلَهَا بَعْدَمَا انْهَدَمَتْ وَصَارَتْ صَحْرَاءَ حَنِثَ، إذْ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الْبَيْتُ دَاخِلًا فِي الدَّارِ لَفْظًا وَمَقْصُودًا يَكُونُ جُزْءًا مِنْ مَدْلُولِ لَفْظِ الدَّارِ فَلَا يَكُونُ الدَّارُ حِينَئِذٍ اسْمًا لِلْعَرْصَةِ فَقَطْ بَلْ لِمَجْمُوعِ الْعَرْصَةِ وَالْبُيُوتِ، فَإِذَا انْهَدَمَتْ وَصَارَتْ صَحْرَاءَ لَزِمَ أَنْ تَنْعَدِمَ بِانْعِدَامِ بَعْضِ أَجْزَائِهَا فَلَمْ يَظْهَرْ وَجْهُ الْحِنْثِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَالْعَجَبُ مِنْ صَاحِبِ الْبَدَائِعِ أَنَّهُ قَالَ هَاهُنَا بِخِلَافِ مَا إذَا اسْتَثْنَى رُبْعَ الدَّارِ أَوْ ثُلُثَهَا أَوْ بَيْتًا مِنْهَا أَنَّهُ يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الدَّارَ اسْمٌ لِلْعَرْصَةِ فَكَانَ الْمُسْتَثْنَى مِنْ جِنْسِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ فَصَحَّ انْتَهَى.

فَإِنَّ كَوْنَ الدَّارِ اسْمًا لِلْعَرْصَةِ يَقْتَضِي عَدَمَ صِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ فِي صُورَةِ اسْتِثْنَاءِ الْبَيْتِ مِنْ الدَّارِ؛ لِأَنَّ الْبَيْتَ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْعَرْصَةِ إذْ الْبَيْتُ اسْمٌ لِبِنَاءٍ مُسْقَفٍ لَهُ حَوَائِطُ أَرْبَعَةٌ عَلَى قَوْلٍ أَوْ ثَلَاثَةٌ عَلَى قَوْلٍ آخَرَ كَمَا عُرِفَ فِي الْأَيْمَانِ فِي مَسْأَلَةِ مَا لَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ بَيْتًا فَدَخَلَ صُفَّةً، وَالْعَرْصَةُ هِيَ الْبُقْعَةُ كَمَا سَيَأْتِي فَأَنَّى هَذِهِ مِنْ ذَلِكَ؟ فَمَا ذَكَرَهُ يَكُونُ حُجَّةً عَلَيْهِ لَا لَهُ فِي هَاتِيكَ الصُّورَةِ (وَلَوْ قَالَ بِنَاءُ هَذِهِ الدَّارِ لِي وَالْعَرْصَةُ لِفُلَانٍ فَهُوَ كَمَا قَالَ) وَهَذَا لَفْظُ الْقُدُورِيِّ أَيْضًا فِي مُخْتَصَرِهِ: يَعْنِي يَكُونُ الْبِنَاءُ لِلْمُقِرِّ وَالْعَرْصَةُ لِفُلَانٍ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِهِ (لِأَنَّ الْعَرْصَةَ عِبَارَةٌ عَنْ الْبُقْعَةِ دُونَ الْبِنَاءِ) يَعْنِي أَنَّ الْعَرْصَةَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةُ عَنْ بُقْعَةٍ لَيْسَ فِيهَا بِنَاءٌ، فَلَمَّا اُعْتُبِرَ فِي مَعْنَاهَا الْخُلُوُّ عَنْ الْبِنَاءِ لَمْ يَتْبَعْهَا الْبِنَاءُ فِي الْحُكْمِ (فَكَأَنَّهُ قَالَ: بَيَاضُ هَذِهِ الْأَرْضِ دُونَ الْبِنَاءِ لِفُلَانٍ) قَالَ الْمُصَنِّفُ (بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ مَكَانَ الْعَرْصَةِ أَرْضًا) أَيْ بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ بِنَاءُ هَذِهِ الدَّارِ لِي وَالْأَرْضُ لِفُلَانٍ (حَيْثُ يَكُونُ الْبِنَاءُ لِلْمُقَرِّ لَهُ) مَعَ الْأَرْضِ (لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْأَرْضِ إقْرَارٌ بِالْبِنَاءِ) بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ أَصْلٌ وَالْبِنَاءَ تَبَعٌ، وَالْإِقْرَارَ إقْرَارٌ بِالتَّبَعِ (كَالْإِقْرَارِ بِالدَّارِ) حَيْثُ يَكُونُ الْبِنَاءُ أَيْضًا لِلْمُقَرِّ لَهُ هُنَاكَ وَإِنْ اسْتَثْنَاهُ لِنَفْسِهِ كَمَا مَرَّ. فَإِنْ قُلْت: يُشْكِلُ عَلَى هَذَا مَا لَوْ قَالَ الْبِنَاءُ لِفُلَانٍ وَالْأَرْضُ لِآخَرَ فَإِنَّهُ كَمَا

ص: 360

(وَلَوْ قَالَ لَهُ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ مِنْ ثَمَنِ عَبْدٍ اشْتَرَيْته مِنْهُ وَلَمْ أَقْبِضْهُ، فَإِنْ ذَكَرَ عَبْدًا بِعَيْنِهِ قِيلَ لِلْمُقَرِّ لَهُ إنْ شِئْت فَسَلِّمْ الْعَبْدَ وَخُذْ الْأَلْفَ وَإِلَّا فَلَا شَيْءَ لَك) قَالَ: وَهَذَا عَلَى وُجُوهٍ: أَحَدُهَا هَذَا وَهُوَ أَنْ يُصَدِّقَهُ وَيُسَلِّمَ الْعَبْدَ، وَجَوَابُهُ مَا ذُكِرَ،

قَالَ حَتَّى يَكُونُ الْبِنَاءُ لِلْأَوَّلِ وَالْأَرْضُ لِلثَّانِي، وَلَمْ يَقُلْ هُنَاكَ الْإِقْرَارُ بِالْأَرْضِ إقْرَارٌ بِالْبِنَاءِ فَمَا وَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا؟ قُلْت: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ إنَّ أَوَّلَ كَلَامِهِ فِيمَا أَوْرَدْت إقْرَارٌ مُعْتَبَرٌ بِالْبِنَاءِ لِلْأَوَّلِ فَهَبْ أَنَّ آخِرَ كَلَامِهِ إقْرَارٌ بِالْأَرْضِ وَالْبِنَاءِ لَكِنَّ إقْرَارَهُ فِيمَا صَارَ مُسْتَحَقًّا لِغَيْرِهِ لَا يَصِحُّ فَكَانَ لِلثَّانِي الْأَرْضُ خَاصَّةً، وَأَمَّا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ فَآخِرُ كَلَامِهِ إقْرَارٌ بِالْأَرْضِ وَالْبِنَاءِ وَهُمَا جَمِيعًا مِلْكُهُ فَصَحَّ إقْرَارُهُ بِهِمَا لِلْمُقَرِّ لَهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ أَوَّلَ كَلَامِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: بِنَاءُ هَذِهِ الدَّارِ لِي غَيْرُ مُعْتَبَرٍ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ لَهُ قَبْلَ أَنْ يَذْكُرَهُ فَبَقِيَ قَوْلُهُ وَأَرْضُهَا لِفُلَانٍ، وَالْإِقْرَارُ بِالْأَصْلِ يُوجِبُ ثُبُوتَ حَقِّ الْمُقَرِّ لَهُ فِي التَّبَعِ.

تَوْضِيحُ الْفَرْقِ أَنَّ الْبِنَاءَ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ لَمَّا صَارَ لِلْمُقَرِّ لَهُ الْأَوَّلِ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ تَبَعًا لِلْأَرْضِ حُكْمًا فَإِقْرَارُهُ بِالْأَرْضِ لِلثَّانِي بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَتَعَدَّى إلَى الْبِنَاءِ، وَفِي مَسْأَلَتِنَا الْبِنَاءُ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ الْمُقِرِّ فَكَانَ تَبَعًا لِلْأَرْضِ، فَإِقْرَارُهُ بِالْأَرْضِ يُثْبِتُ الْحَقَّ لِلْمُقَرِّ لَهُ فِي الْبِنَاءِ تَبَعًا، كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ.

اعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْجِنْسَ خَمْسُ مَسَائِلَ وَتَخْرِيجُهَا عَلَى أَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْإِقْرَارَ بَعْدَ الدَّعْوَى صَحِيحٌ دُونَ الْعَكْسِ. وَالثَّانِي أَنَّ إقْرَارَ الْإِنْسَانِ حُجَّةٌ عَلَى نَفْسِهِ وَلَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى غَيْرِهِ.

إذَا عَرَفْت هَذَا فَنَقُولُ: إذَا قَالَ بِنَاءُ هَذِهِ الدَّارِ لِي وَأَرْضُهَا لِفُلَانٍ كَانَتْ الْأَرْضُ وَالْبِنَاءُ لِفُلَانٍ؛ لِأَنَّ بِقَوْلِهِ: الْبِنَاءُ لِي ادَّعَى الْبِنَاءَ وَبِقَوْلِهِ: الْأَرْضُ لِفُلَانٍ أَقَرَّ لِفُلَانٍ بِالْبِنَاءِ تَبَعًا لِلْإِقْرَارِ بِالْأَرْضِ، وَالْإِقْرَارُ بَعْدَ الدَّعْوَى صَحِيحٌ.

وَإِذَا قَالَ أَرْضُهَا لِي وَبِنَاؤُهَا لِفُلَانٍ فَهُوَ عَلَى مَا أَقَرَّ لِأَنَّ بِقَوْلِهِ أَرْضُهَا لِي ادَّعَى الْبِنَاءَ لِنَفْسِهِ تَبَعًا وَبِقَوْلِهِ: وَالْبِنَاءُ لِفُلَانٍ أَقَرَّ بِالْبِنَاءِ لِفُلَانٍ، وَالْإِقْرَارُ بَعْدَ الدَّعْوَى صَحِيحٌ، وَيُؤْمَرُ الْمُقَرُّ لَهُ بِنَقْلِ الْبِنَاءِ مِنْ أَرْضِهِ. وَإِذَا قَالَ أَرْضُ هَذِهِ الدَّارِ لِفُلَانٍ وَبِنَاؤُهَا لِي فَالْأَرْضُ وَالْبِنَاءُ لِلْمُقَرِّ لَهُ؛ لِأَنَّ بِقَوْلِهِ: أَرْضُهَا لِفُلَانٍ أَقَرَّ لِفُلَانٍ بِالْبِنَاءِ تَبَعًا وَبِقَوْلِهِ وَبِنَاؤُهَا لِي ادَّعَى الْبِنَاءَ لِنَفْسِهِ، وَالدَّعْوَى بَعْدَ الْإِقْرَارِ لَا تَصِحُّ وَإِذَا قَالَ: أَرْضُ هَذِهِ الدَّارِ لِفُلَانٍ وَبِنَاؤُهَا لِفُلَانٍ آخَرَ فَالْأَرْضُ وَالْبِنَاءُ لِلْمُقَرِّ لَهُ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ بِقَوْلِهِ: أَرْضُ هَذِهِ الدَّارِ لِفُلَانٍ صَارَ مُقِرًّا لِفُلَانٍ بِالْبِنَاءِ تَبَعًا لِلْأَرْضِ وَبِقَوْلِهِ وَبِنَاؤُهَا لِفُلَانٍ آخَرَ كَانَ مُقِرًّا عَلَى الْأَوَّلِ، وَالْإِقْرَارُ عَلَى الْغَيْرِ لَا يَصِحُّ. وَإِذَا قَالَ بِنَاءُ هَذِهِ الدَّارِ لِفُلَانٍ وَأَرْضُهَا لِفُلَانٍ آخَرَ فَهُوَ كَمَا قَالَ؛ لِأَنَّ بِقَوْلِهِ أَوَّلًا بِنَاءُ هَذَا الدَّارِ لِفُلَانٍ صَارَ مُقِرًّا بِالْبِنَاءِ لَهُ وَبِقَوْلِهِ وَأَرْضُهَا لِفُلَانٍ آخَرَ صَارَ مُقِرًّا عَلَى الْأَوَّلِ بِالْبِنَاءِ لِلثَّانِي، وَالْإِقْرَارُ عَلَى الْغَيْرِ بَاطِلٌ، كَذَا فِي الذَّخِيرَةِ.

(وَلَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ مِنْ ثَمَنِ عَبْدٍ اشْتَرَيْتُهُ مِنْهُ وَلَمْ أَقْبِضْهُ، فَإِنْ ذَكَرَ عَبْدًا بِعَيْنِهِ قِيلَ لِلْمُقَرِّ لَهُ: إنْ شِئْت فَسَلِّمْ الْعَبْدَ وَخُذْ الْأَلْفَ وَإِلَّا فَلَا شَيْءَ لَك) إلَى هُنَا لَفْظُ الْقُدُورِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ (قَالَ) أَيْ قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله: (هَذَا) أَيْ مَا ذُكِرَ مِنْ الْمَسْأَلَةِ (عَلَى وُجُوهٍ: أَحَدُهَا هَذَا) أَيْ هَذَا الْوَجْهُ (وَهُوَ أَنْ يُصَدِّقَهُ) أَيْ أَنْ يُصَدِّقَ الْمُقَرُّ لَهُ الْمُقِرَّ (وَيُسَلِّمَ الْعَبْدَ، وَجَوَابُهُ) أَيْ جَوَابُ هَذَا الْوَجْهِ (مَا ذُكِرَ) مِنْ قَوْلِهِ قِيلَ لِلْمُقَرِّ لَهُ إنْ شِئْت فَسَلِّمْ الْعَبْدَ وَخُذْ الْأَلْفَ وَإِلَّا فَلَا شَيْءَ لَك. قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: فِيهِ أَنَّهُ إذَا سَلَّمَ الْعَبْدَ كَيْفَ يُقَالُ لَهُ: إنْ شِئْت فَسَلِّمْ الْعَبْدَ إلَخْ. أَقُولُ: مَا ذَكَرَهُ إنَّمَا يُتَّجَهُ أَنْ لَوْ كَانَ لَفْظُ يُسَلِّمُ فِي قَوْلِ الْمُصَنِّفِ وَيُسَلِّمُ الْعَبْدَ مَنْ سَلَّمَهُ إلَيْهِ، وَأَمَّا إذَا كَانَ مَنْ سَلَّمَهُ لَهُ: أَيْ جَعَلَهُ سَالِمًا لَهُ فَلَا؛ لِأَنَّ سَلَامَةَ الْعَبْدِ لِلْمُقِرِّ إنَّمَا تَحْصُلُ بِاعْتِرَافِ الْمُقَرِّ لَهُ بِأَنَّهُ عَبْدُك لَا عَبْدِي، وَقَدْ يَتَحَقَّقُ هَذَا قَبْلَ تَسْلِيمِ الْعَبْدِ إلَى الْمُقِرِّ فَلَا يُنَافِي أَنْ يُقَالَ لَهُ إنْ شِئْت فَسَلِّمْ الْعَبْدَ إلَخْ، وَقَدْ اسْتَعْمَلَ الْمُصَنِّفُ سَلَّمَهُ لَهُ مُرَادًا بِهِ الْمَعْنَى الْمَذْكُورَ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ. وَهَذَا وَمَا سَيَأْتِي فِي فَصْلِ الدَّيْنِ الْمُشْتَرَكِ مِنْ بَابِ الصُّلْحِ فِي الدَّيْنِ حَيْثُ قَالَ: فَلَوْ سَلَّمَ لَهُ

ص: 361

لِأَنَّ الثَّابِتَ بِتَصَادُقِهِمَا كَالثَّابِتِ مُعَايَنَةً.

وَالثَّانِي أَنْ يَقُولَ الْمُقَرُّ لَهُ: الْعَبْدُ عَبْدُك مَا بِعْتُكَهُ وَإِنَّمَا بِعْتُك عَبْدًا غَيْرَ هَذَا وَفِيهِ الْمَالُ لَازِمٌ عَلَى الْمُقِرِّ لِإِقْرَارِهِ بِهِ عِنْدَ سَلَامَةِ الْعَبْدِ لَهُ وَقَدْ سَلَّمَ فَلَا يُبَالَى بِاخْتِلَافِ السَّبَبِ بَعْدَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ. وَالثَّالِثُ أَنْ يَقُولَ الْعَبْدُ عَبْدِي

مَا قَبَضَ ثُمَّ تَوَى مَا عَلَى الْغَرِيمِ لَهُ أَنْ يُشَارِكَ الْقَابِضَ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِالتَّسْلِيمِ لِيُسَلِّمَ لَهُ مَا فِي ذِمَّةِ الْغَرِيمِ وَلَمْ يُسَلِّمْ انْتَهَى. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لَفْظُ يُسَلِّمُ هَاهُنَا ثُلَاثِيًّا مِنْ السَّلَامَةِ لَا مِنْ التَّسْلِيمِ وَيَكُونَ الْعَبْدُ فَاعِلًا لَا مَفْعُولًا فَحِينَئِذٍ لَا يُتَوَهَّمُ الْمُنَافَاةُ أَصْلًا.

قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِ جَوَابِ الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ (لِأَنَّ الثَّابِتَ بِتَصَادُقِهِمَا كَالثَّابِتِ مُعَايَنَةً) يَعْنِي أَنَّهُمَا تَصَادَقَا فِي هَذَا الْوَجْهِ، وَالثَّابِتُ بِتَصَادُقِهِمَا كَالثَّابِتِ مُعَايَنَةً. وَلَوْ عَايَنَا أَنَّهُ اشْتَرَى مِنْهُ هَذَا الْعَبْدَ بِأَلْفٍ وَالْعَبْدُ فِي يَدِهِ كَانَ عَلَيْهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ كَذَا هَاهُنَا. قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُمَا إذَا تَصَادَقَا وَثَبَتَ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا بِغَيْرِ شَرْطٍ فَالْحُكْمُ الْأَمْرُ بِتَسْلِيمِ الثَّمَنِ عَلَى الْمُقِرِّ ثُمَّ بِتَسْلِيمِ الْعَبْدِ عَلَى الْمُقَرِّ لَهُ. وَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ حُكْمُ مَا إذَا ادَّعَى الْمُقَرُّ لَهُ تَسْلِيمَ الثَّمَنِ عَلَى الْمُقِرِّ، وَلَيْسَ مَا نَحْنُ فِيهِ كَذَلِكَ، فَإِنْ حَكَمْنَا بِذَلِكَ كَانَ حُكْمًا بِمَا لَا يَدَّعِيهِ أَحَدٌ وَذَلِكَ بَاطِلٌ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ. وَطَعَنَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ فِي جَوَابِهِ بِأَنْ قَالَ: وَلَيْتَ شِعْرِي أَنَّ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ حُكْمُ أَيَّةِ مَسْأَلَةٍ انْتَهَى.

أَقُولُ: مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ حُكْمُ مَسْأَلَةِ الْإِقْرَارِ، فَإِنَّ نَفْسَ الْإِقْرَارِ وَالتَّصَادُقِ لَا يَقْتَضِي الْحُكْمَ بِتَسْلِيمِ الثَّمَنِ عَلَى الْمُقِرِّ وَلَا الْحُكْمَ بِتَسْلِيمِ الْعَبْدِ عَلَى الْمُقَرِّ لَهُ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْحُكْمَيْنِ الْمَذْكُورِينَ مُقْتَضَى الدَّعْوَى وَلَا دَعْوَى فِيمَا نَحْنُ فِيهِ، بَلْ فِيهِ إقْرَارٌ مَحْضٌ، وَحُكْمُهُ لُزُومُ الْأَلْفِ عَلَى الْمُقِرِّ إنْ سَلَّمَ الْمُقَرُّ لَهُ الْعَبْدَ إلَيْهِ. وَأَمَّا إنْ لَمْ يُسَلِّمْهُ إلَيْهِ بِأَنْ هَلَكَ فِي يَدِهِ فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ كَمَا هُوَ الْحُكْمُ فِي ثُبُوتِ الْبَيْعِ مُعَايَنَةً، وَهَذَا مَعْنَى مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ.

قِيلَ: لِلْمُقَرَّ لَهُ إنْ شِئْت فَسَلِّمْ الْعَبْدَ وَخُذْ الْأَلْفَ وَإِلَّا فَلَا شَيْءَ لَك، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ إنْ شِئْت فَسَلِّمْ الْعَبْدَ تَخْيِيرَ الْمُقَرِّ لَهُ بَيْنَ تَسْلِيمِ الْعَبْدِ وَعَدَمِ تَسْلِيمِهِ، إذْ لَا يَقْدِرُ الْبَائِعُ عَلَى عَدَمِ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ إلَى الْمُشْتَرِي بَعْدَ أَنْ صَحَّ الْبَيْعُ وَتَمَّ، بَلْ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّ لُزُومَ الْأَلْفِ عَلَى الْمُقِرِّ مَشْرُوطٌ بِتَسْلِيمِك الْعَبْدَ إلَيْهِ، فَإِنْ أَرَدْت الْوُصُولَ إلَى حَقِّك فَسَلِّمْ الْعَبْدَ وَلَا تُضَيِّعْهُ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَخُذْ الْأَلْفَ خُذْ الْأَلْفَ بَعْدَ تَسْلِيمِ الْعَبْدِ، إذْ لَا دَلَالَةَ عَلَى التَّعْقِيبِ فِي الْوَاوِ بَلْ هِيَ لِلْجَمْعِ مُطْلَقًا فَلَا يُخَالِفُ مَا تَقَرَّرَ فِي الْبُيُوعِ مِنْ أَنَّ اللَّازِمَ فِي بَيْعِ سِلْعَةٍ بِثَمَنٍ تَسْلِيمُ الثَّمَنِ أَوَّلًا، فَخُلَاصَةُ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ هَاهُنَا مَا قَالَ فِي الْوِقَايَةِ وَغَيْرِهَا، فَإِنْ سَلَّمَ الْمُقَرُّ لَهُ لَزِمَهُ الْأَلْفُ وَإِلَّا لَا (وَالثَّانِي) أَيْ الْوَجْهُ الثَّانِي (أَيْ يَقُولُ الْمُقَرُّ لَهُ: الْعَبْدُ عَبْدُك) أَيْ الْعَبْدُ الَّذِي عَيَّنْته عَبْدُك (مَا بِعْتُكَهُ وَإِنَّمَا بِعْتُك عَبْدًا غَيْرَ هَذَا)

وَسَلَّمْته إلَيْك (وَفِيهِ) أَيْ فِي هَذَا الْوَجْهِ (الْمَالُ لَازِمٌ عَلَى الْمُقِرِّ لِإِقْرَارِهِ بِهِ) أَيْ بِالْمَالِ (عِنْدَ سَلَامَةِ الْعَبْدِ لَهُ وَقَدْ سُلِّمَ) أَيْ وَقَدْ سُلِّمَ الْعَبْدُ لَهُ حِينَ اعْتَرَفَ الْمُقَرُّ لَهُ بِأَنَّهُ مِلْكُهُ (فَلَا يُبَالَى بِاخْتِلَافِ السَّبَبِ بَعْدَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ) كَمَا لَوْ قَالَ: لَك عَلَيَّ أَلْفٌ غَصَبْته مِنْك وَقَالَ: لَا بَلْ اسْتَقْرَضْت مِنِّي لِأَنَّ الْأَسْبَابَ مَطْلُوبَةٌ لِأَحْكَامِهَا لَا لِأَعْيَانِهَا فَلَا يُعْتَبَرُ التَّكَاذُبُ فِي السَّبَبِ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمَا عَلَى وُجُوبِ أَصْلِ الْمَالِ، وَلَا تَفَاوُتَ فِي هَذَا الْوَجْهِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ فِي يَدِ الْمُقِرِّ أَوْ فِي يَدِ الْمُقَرِّ لَهُ، كَذَا قَالُوا (وَالثَّالِثُ) أَيْ الْوَجْهُ الثَّالِثُ (أَنْ يَقُولَ) أَيْ الْمُقَرُّ لَهُ (الْعَبْدُ عَبْدِي) أَيْ الْعَبْدُ الَّذِي

ص: 362

مَا بِعْتُك. وَحُكْمُهُ أَنْ لَا يَلْزَمَ الْمُقِرَّ شَيْءٌ لِأَنَّهُ مَا أَقَرَّ بِالْمَالِ إلَّا عِوَضًا عَنْ الْعَبْدِ فَلَا يَلْزَمُهُ دُونَهُ، وَلَوْ قَالَ مَعَ ذَلِكَ إنَّمَا بِعْتُك غَيْرَهُ يَتَحَالَفَانِ لِأَنَّ الْمُقِرَّ يَدَّعِي تَسْلِيمَ مَنْ عَيَّنَهُ وَالْآخَرَ يُنْكِرُ وَالْمُقَرَّ لَهُ يَدَّعِي عَلَيْهِ الْأَلْفَ بِبَيْعِ غَيْرِهِ وَالْآخَرَ يُنْكِرُهُ، وَإِذَا تَحَالَفَا بَطَلَ الْمَالُ، هَذَا إذَا ذَكَرَ عَبْدًا بِعَيْنِهِ (وَإِنْ قَالَ مِنْ ثَمَنِ عَبْدٍ اشْتَرَيْتُهُ وَلَمْ يُعَيِّنْهُ لَزِمَهُ الْأَلْفُ وَلَا يُصَدَّقُ فِي قَوْلِهِ مَا قَبَضْت عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَلَ أَمْ فَصَلَ) لِأَنَّهُ رُجُوعٌ فَإِنَّهُ أَقَرَّ بِوُجُوبِ الْمَالِ رُجُوعًا إلَى كَلِمَةِ عَلَيَّ، وَإِنْكَارُهُ الْقَبْضَ فِي غَيْرِ الْمُعَيَّنِ يُنَافِي الْوُجُوبَ أَصْلًا لِأَنَّ الْجَهَالَةَ مُقَارِنَةً كَانَتْ أَوْ طَارِئَةً بِأَنْ اشْتَرَى عَبْدًا ثُمَّ نَسِيَاهُ عِنْدَ الِاخْتِلَاطِ بِأَمْثَالِهِ تُوجِبُ هَلَاكَ الْمَبِيعِ

عَيَّنْته عَبْدِي (مَا بِعْتُك وَحُكْمُهُ) أَيْ حُكْمُ هَذَا الْوَجْهِ (أَنْ لَا يَلْزَمَ الْمُقِرَّ شَيْءٌ لِأَنَّهُ مَا أَقَرَّ بِالْمَالِ إلَّا عِوَضًا عَنْ الْعَبْدِ فَلَا يَلْزَمُهُ دُونَهُ) أَيْ فَلَا يَلْزَمُ الْمَالُ دُونَ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُسَلِّمْ لَهُ الْعَبْدَ لَا يُسَلِّمُ لِلْمُقَرِّ لَهُ بَدَلَهُ، وَلَا تَفَاوُتَ فِي هَذَا الْوَجْهِ أَيْضًا بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ فِي يَدِ الْمُقِرِّ أَوْ فِي يَدِ الْمُقَرِّ لَهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ فِي يَدِ الْمُقِرِّ يَأْخُذُ الْمُقَرُّ لَهُ الْعَبْدَ مِنْهُ فَلَا يَلْزَمُ الْمُقِرَّ شَيْءٌ مِنْ ثَمَنِ الْعَبْدِ، كَذَا قَالُوا.

(وَلَوْ قَالَ مَعَ ذَلِكَ) أَيْ وَلَوْ قَالَ الْمُقَرُّ لَهُ مَعَ إنْكَارِ الْعَبْدِ الْمُقَرِّ بِهِ: (إنَّمَا بِعْتُك غَيْرَهُ) أَيْ غَيْرَ ذَلِكَ الْعَبْدِ (يَتَحَالَفَانِ لِأَنَّ الْمُقِرَّ يَدَّعِي تَسْلِيمَ مَنْ عَيَّنَهُ) أَيْ وُجُوبَ تَسْلِيمِهِ (وَالْآخَرُ يُنْكِرُ وَالْمُقَرُّ لَهُ يَدَّعِي عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الْمُقِرِّ (الْأَلْفَ) أَيْ لُزُومَ الْأَلْفِ (بِبَيْعِ غَيْرِهِ) أَيْ غَيْرِ مَنْ عَيَّنَهُ (وَالْآخَرُ يُنْكِرُ) فَصَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُدَّعِيًا وَمُنْكِرًا ذَلِكَ وَحُكْمُ ذَلِكَ التَّحَالُفِ (وَإِذَا تَحَالَفَا بَطَلَ الْمَالُ) أَيْ بَطَلَ الْمَالُ عَنْ الْمُقِرِّ وَالْعَبْدُ سَالِمٌ لِمَنْ فِي يَدِهِ (هَذَا) أَيْ مَا ذَكَرَهُ مِنْ الْوُجُوهِ (إذَا ذَكَرَ) أَيْ الْمُقِرُّ (عَبْدًا بِعَيْنِهِ وَإِنْ قَالَ مِنْ ثَمَنِ عَبْدٍ) يَعْنِي إنْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ مِنْ ثَمَنِ عَبْدٍ (اشْتَرَيْتُهُ) مِنْهُ وَلَمْ أَقْبِضْهُ (وَلَمْ يُعَيِّنْهُ) أَيْ لَمْ يُعَيِّنْ الْمُقِرُّ الْعَبْدَ الْمُشْتَرَى (لَزِمَهُ الْأَلْفُ وَلَمْ يُصَدَّقْ فِي قَوْلِهِ مَا قَبَضْت عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَلَ أَمْ فَصَلَ) أَيْ سَوَاءٌ وَصَلَ قَوْلَهُ مَا قَبَضْت الْعَبْدَ الْمُشْتَرَى بِكَلَامِهِ السَّابِقِ أَوْ فَصَلَ عَنْهُ (لِأَنَّهُ) أَيْ لِأَنَّ قَوْلَهُ مَا قَبَضْت (رُجُوعٌ) عَمَّا أَقَرَّ بِهِ (فَإِنَّهُ أَقَرَّ بِوُجُوبِ الْمَالِ رُجُوعًا إلَى كَلِمَةِ عَلَيَّ) أَيْ نَظَرًا إلَى هَذِهِ الْكَلِمَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا أَوَّلًا فِي قَوْلِهِ لَهُ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ إذْ هِيَ لِلْإِيجَابِ (وَإِنْكَارُهُ الْقَبْضَ فِي غَيْرِ الْمُعَيَّنِ يُنَافِي الْوُجُوبَ أَصْلًا) أَيْ بِالْكُلِّيَّةِ (لِأَنَّ الْجَهَالَةَ) أَيْ جَهَالَةَ الْمَبِيعِ (مُقَارِنَةً كَانَتْ) كَالْجَهَالَةِ حَالَةَ الْعَقْدِ (أَوْ طَارِئَةً بِأَنْ اشْتَرَى عَبْدًا ثُمَّ نَسِيَاهُ) أَيْ نَسِيَ الْمُتَعَاقِدَانِ ذَلِكَ الْعَبْدَ (عِنْدَ الِاخْتِلَاطِ بِأَمْثَالِهِ تُوجِبُ هَلَاكَ الْمَبِيعِ) خَبَرُ أَنَّ فِي قَوْلِهِ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ: يَعْنِي أَنَّ الْجَهَالَةَ تُوجِبُ هَلَاكَ

ص: 363

فَيَمْتَنِعُ وُجُوبُ نَقْدِ الثَّمَنِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ رُجُوعًا فَلَا يَصِحُّ وَإِنْ كَانَ مَوْصُولًا.

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: إنْ وَصَلَ صُدِّقَ وَلَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ، وَإِنْ فَصَلَ لَمْ يُصَدَّقْ إذَا أَنْكَرَ الْمُقَرُّ لَهُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ ثَمَنِ عَبْدٍ، وَإِنْ أَقَرَّ أَنَّهُ بَاعَهُ مَتَاعًا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقِرِّ. وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ أَقَرَّ بِوُجُوبِ الْمَالِ عَلَيْهِ وَبَيَّنَ سَبَبًا وَهُوَ الْبَيْعُ، فَإِنْ وَافَقَهُ الطَّالِبُ فِي السَّبَبِ وَبِهِ لَا يَتَأَكَّدُ الْوُجُوبُ إلَّا بِالْقَبْضِ،

الْمَبِيعِ: أَيْ تَجْعَلُ الْمَبِيعَ فِي حُكْمِ الْمُسْتَهْلَكِ لِعَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى تَسْلِيمِ الْمَجْهُولِ (فَيَمْتَنِعُ وُجُوبُ نَقْدِ الثَّمَنِ) لِأَنَّ نَقْدَ الثَّمَنِ لَا يَجِبُ إلَّا بِإِحْضَارِ الْمَبِيعِ وَقَدْ امْتَنَعَ إحْضَارُهُ بِالْجَهَالَةِ فَامْتَنَعَ وُجُوبُ نَقْدِ الثَّمَنِ أَيْضًا (وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ رُجُوعًا) فَإِنَّ أَوَّلَ كَلَامِهِ إقْرَارٌ بِوُجُوبِ الثَّمَنِ وَآخِرَهُ يُوجِبُ سُقُوطَهُ، وَذَلِكَ رُجُوعٌ (فَلَا يَصِحُّ وَإِنْ كَانَ مَوْصُولًا) لِأَنَّ الرُّجُوعَ عَنْ الْإِقْرَارِ بَاطِلٌ مَفْصُولًا كَانَ أَوْ مَوْصُولًا.

أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: يُشْكِلُ التَّعْلِيلُ الْمَذْكُورُ هَاهُنَا مِنْ قِبَلِ أَبِي حَنِيفَةَ بِمَسْأَلَةِ الِاسْتِثْنَاءِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّهُ لَمْ يُلْزِمْ الْمُقِرَّ هُنَاكَ شَيْئًا بِالِاتِّفَاقِ مَعَ جَرَيَانِ خُلَاصَةِ هَذَا التَّعْلِيلِ هُنَاكَ أَيْضًا بِأَنْ يُقَالَ: إنَّ أَوَّلَ الْكَلَامِ إقْرَارٌ بِوُجُوبِ الْمَالِ رُجُوعًا إلَى كَلِمَةِ عَلَيَّ، وَآخِرَهُ يُنَافِي الْوُجُوبَ أَصْلًا فَيَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ رُجُوعًا فَيَلْزَمُ أَنْ لَا يَصِحَّ.

وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِمَا أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ فِيمَا سَيَأْتِي فِي مَسْأَلَةِ مَا لَوْ قَالَ مِنْ ثَمَنِ خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ بِقَوْلِهِ قُلْنَا ذَاكَ تَعْلِيقٌ وَهَذَا إبْطَالٌ، وَسَنَذْكُرُ تَتِمَّةَ الْكَلَامِ هُنَاكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ثُمَّ إنَّ بَعْضَ الْفُضَلَاءِ أَوْرَدَ عَلَى هَذَا التَّعْلِيلِ الْمَزْبُورِ كَلَامًا آخَرَ، وَأَجَابَ عَنْهُ حَيْثُ قَالَ: فِي تَمَامِ التَّقْرِيبِ كَلَامٌ، فَإِنَّ ارْتِفَاعَ الْجَهَالَةِ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ بِالْقَبْضِ بَلْ بِاعْتِرَافِ الْمُشْتَرِي بِأَنَّهُ هَذَا وَإِحْضَارِ الْبَائِعِ فَلْيُتَأَمَّلْ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: الظَّاهِرُ هُوَ عَدَمُ الِاعْتِرَافِ فَيَبْقَى عَلَى الْجَهَالَةِ انْتَهَى.

أَقُولُ: لَا الْإِيرَادُ بِشَيْءٍ وَلَا الْجَوَابُ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ الْمُقِرَّ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ لَمَّا لَمْ يُعَيِّنْ الْعَبْدَ فَصَارَ مَجْهُولًا لَمْ يُكَلَّفْ الْمُقَرُّ لَهُ بِإِحْضَارِ ذَلِكَ أَصْلًا، بَلْ لَمْ يُمْكِنْ لَهُ إحْضَارُهُ لِتَعَذُّرِ إحْضَارِ الْمَجْهُولِ فَأَنَّى يُتَصَوَّرُ إحْضَارُ الْبَائِعِ الْمَبِيعَ هَاهُنَا حَتَّى يَعْتَرِفَ الْمُشْتَرِي بِأَنَّهُ هَذَا، وَإِنْ أَحْضَرَ الْمُقَرُّ لَهُ عَبْدًا بِعَيْنِهِ مِنْ غَيْرِ تَكْلِيفٍ وَاعْتَرَفَ الْمُقِرُّ بِأَنَّ مَا اشْتَرَاهُ مِنْهُ هَذَا الْعَبْدُ فَقَدْ صَارَتْ الْمَسْأَلَةُ مِنْ قَبِيلِ مَا إذَا ذَكَرَ الْمُقِرُّ عَبْدًا بِعَيْنِهِ وَمَا نَحْنُ فِيهِ بِمَعْزِلٍ عَنْهُ.

وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّهُ كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: الظَّاهِرُ هُوَ عَدَمُ الِاعْتِرَافِ وَقَدْ لَزِمَهُ الْأَلْفُ بِلَا عِوَضٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَإِنْ لَمْ يُحْضِرْ الْبَائِعُ شَيْئًا، فَهَلْ يُؤْثِرُ الْعَاقِلُ إعْطَاءَ الْأَلْفِ بِلَا عِوَضٍ عَلَى إعْطَائِهِ بِمُقَابَلَةِ مَا أَحْضَرَهُ الْبَائِعُ، فَالظَّاهِرُ هُوَ الِاعْتِرَافُ عِنْدَ إحْضَارِهِ بِلَا رِيَبٍ (وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: إنْ وَصَلَ صُدِّقَ وَلَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ) وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى (وَإِنْ فَصَلَ لَمْ يُصَدَّقْ إذَا أَنْكَرَ الْمُقَرُّ لَهُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ ثَمَنِ عَبْدٍ) أَيْ إذَا كَذَّبَ الْمُقَرُّ لَهُ الْمُقِرَّ فِي الْجِهَةِ وَهِيَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْأَلْفُ مِنْ ثَمَنِ عَبْدٍ (وَإِنْ أَقَرَّ) أَيْ إنْ أَقَرَّ الْمُقَرُّ لَهُ (أَنَّهُ) أَيْ الْمُقَرَّ لَهُ (بَاعَهُ) أَيْ بَاعَ الْمُقِرَّ (مَتَاعًا) يَعْنِي إنْ صَدَّقَ الْمُقَرُّ لَهُ الْمُقِرَّ فِي الْجِهَةِ بِأَنْ قَالَ: إنَّهُ بَاعَهُ مَتَاعًا وَهُوَ الْعَبْدُ كَمَا أَقَرَّ بِهِ الْمُقِرُّ، وَلَكِنْ كَذَّبَهُ فِي إنْكَارِهِ قَبْضَ الْمَبِيعِ (فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقِرِّ) سَوَاءٌ وَصَلَ أَمْ فَصَلَ.

وَإِنَّمَا عَبَّرَ الْمُصَنِّفُ هَاهُنَا عَنْ الْمَبِيعِ بِالْمَتَاعِ حَيْثُ قَالَ: وَإِنْ أَقَرَّ أَنَّهُ بَاعَهُ مَتَاعًا وَقَدْ كَانَ وَضَعَ مَسْأَلَةَ الْكِتَابِ فِي الْعَبْدِ لِيَعْلَمَ أَنَّ الْحُكْمَ فِي الْمَتَاعِ مُطْلَقًا هُوَ الْحُكْمُ فِي الْعَبْدِ (وَوَجْهُ ذَلِكَ) أَيْ وَجْهُ مَا قَالَهُ الْإِمَامَانِ (أَنَّهُ) أَيْ الْمُقِرَّ (أَقَرَّ بِوُجُوبِ الْمَالِ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى نَفْسِهِ حَيْثُ قَالَ لَهُ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ (وَبَيَّنَ سَبَبًا) لَهُ (وَهُوَ الْبَيْعُ) حَيْثُ قَالَ مِنْ ثَمَنِ عَبْدٍ اشْتَرَيْتُهُ مِنْهُ (فَإِنْ وَافَقَهُ الطَّالِبُ) يَعْنِي الْمُقَرَّ لَهُ (فِي السَّبَبِ) وَهُوَ الْبَيْعُ (وَبِهِ لَا يَتَأَكَّدُ الْوُجُوبُ إلَّا بِالْقَبْضِ) أَيْ وَبِمُجَرَّدِ وُجُودِ السَّبَبِ وَهُوَ الْبَيْعُ لَا يَتَأَكَّدُ وُجُوبُ الثَّمَنِ عَلَى الْمُشْتَرِي لِأَنَّ الْوُجُوبَ عَلَيْهِ قَبْلَ قَبْضِ الْمَبِيعِ فِي حَيِّزِ التَّزَلْزُلِ، لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَهْلِكُ الْمَبِيعُ فِي يَدِ

ص: 364

وَالْمُقِرُّ يُنْكِرُهُ فَيَكُونُ الْقَوْلُ لَهُ، وَإِنْ كَذَّبَهُ فِي السَّبَبِ كَانَ هَذَا مِنْ الْمُقِرِّ بَيَانًا مُغَيِّرًا لِأَنَّ صَدْرَ كَلَامِهِ لِلْوُجُوبِ مُطْلَقًا وَآخِرُهُ يَحْتَمِلُ انْتِفَاءَهُ عَلَى اعْتِبَارِ عَدَمِ الْقَبْضِ وَالْمُغَيِّرُ يَصِحُّ مَوْصُولًا لَا مَفْصُولًا.

(وَلَوْ قَالَ ابْتَعْتُ مِنْهُ بَيْعًا إلَّا أَنِّي لَمْ أَقْبِضْهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ) بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ الْبَيْعِ الْقَبْضُ، بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ بِوُجُوبِ الثَّمَنِ.

الْبَائِعِ فَيَسْقُطُ الثَّمَنُ عَنْ الْمُشْتَرِي، وَإِنَّمَا يَتَأَكَّدُ بِالْقَبْضِ وَالْمُقَرُّ لَهُ يَدَّعِي الْقَبْضَ (وَالْمُقِرُّ يُنْكِرُهُ فَيَكُونُ الْقَوْلُ لَهُ) أَيْ لِلْمُنْكِرِ.

قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَفِي عِبَارَةِ الْمُصَنِّفِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ فَإِنْ وَافَقَهُ الطَّالِبُ فِي السَّبَبِ شَرْطٌ فَلَا بُدَّ مِنْ جَوَابٍ، وَقَوْلُهُ وَبِهِ لَا يَتَأَكَّدُ الْوُجُوبُ لَا يَصْلُحُ لِذَلِكَ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فَيَكُونُ لِوُجُودِ الْفَاءِ وَلِعَدَمِ الرَّبْطِ، فَإِنَّك لَوْ قَدَّرْت كَلَامَهُ فَإِنْ وَافَقَهُ الطَّالِبُ فِي السَّبَبِ فَيَكُونُ الْقَوْلُ لَهُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّهُ فِي بَيَانِ التَّعْلِيلِ وَلَيْسَ فِيهِ إشْعَارٌ بِذَلِكَ وَقَالَ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ جَزَاؤُهُ مَحْذُوفٌ وَتَقْدِيرُهُ فَإِنْ وَافَقَهُ الطَّالِبُ فِي السَّبَبِ، وَالْحَالُ أَنَّهُ بِمُجَرَّدِ السَّبَبِ لَا يَتَأَكَّدُ لَكِنَّهُ يَتَأَكَّدُ بِالْقَبْضِ كَانَ الطَّالِبُ مُدَّعِيًا لِلْقَبْضِ وَالْمُقِرُّ يُنْكِرُهُ فَيَكُونُ الْقَوْلُ لَهُ انْتَهَى كَلَامُهُ.

أَقُولُ: النَّظَرُ الْمَزْبُورُ سَاقِطٌ جِدًّا، فَإِنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ فَيَكُونُ الْقَوْلُ لَهُ صَالِحٌ لَأَنْ يَكُونَ جَوَابًا لِلشَّرْطِ الْمَذْكُورِ قَطْعًا، وَوُجُودُ الْفَاءِ فِيهِ لَيْسَ بِمَانِعٍ عَنْهُ أَصْلًا، إذْ قَدْ تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ النَّحْوِ أَنَّ الْجَزَاءَ إذَا كَانَ مُضَارِعًا مُثْبَتًا أَوْ مَنْفِيًّا بِلَا فَفِيهِ الْوَجْهَانِ: دُخُولُ الْفَاءِ عَلَيْهِ وَعَدَمُ دُخُولِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} وَعَدَمُ الرَّبْطِ فِيهِ مَمْنُوعٌ، فَإِنَّ قَوْلَهُ وَبِهِ لَا يَتَأَكَّدُ الْوُجُوبُ إلَّا بِالْقَبْضِ وَالْمُقِرُّ يُنْكِرُهُ وَقَعَ قَيْدًا لِلشَّرْطِ الْمَزْبُورِ فَصَارَ مَعْنَى الْكَلَامِ فَإِنْ وَافَقَهُ الطَّالِبُ فِي السَّبَبِ، وَالْحَالُ أَنَّهُ بِمُجَرَّدِ السَّبَبِ لَا يَتَأَكَّدُ وُجُوبُ الثَّمَنِ عَلَى الْمُشْتَرِي وَإِنَّمَا يَتَأَكَّدُ بِالْقَبْضِ وَالْمُقِرُّ يُنْكِرُ الْقَبْضَ فَيَكُونُ الْقَوْلُ لَهُ.

وَلَا يَخْفَى عَلَى ذِي فِطْرَةٍ سَلِيمَةٍ أَنَّ قَوْلَهُ فَيَكُونُ الْقَوْلُ لَهُ مَرْبُوطًا بِالشَّرْطِ الْمَزْبُورِ مُقَيَّدًا بِالْقَيْدِ الْمَذْكُورِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَرْبُوطًا بِهِ عَارِيًّا عَنْ ذَلِكَ الْقَيْدِ فَلَا حَاجَةَ إلَى تَقْدِيرِ جَزَاءٍ مَحْذُوفٍ كَمَا تَمَحَّلَهُ ذَلِكَ الشَّارِحُ (وَإِنْ كَذَّبَهُ) أَيْ وَإِنْ كَذَّبَ الطَّالِبُ الْمُقِرَّ (فِي السَّبَبِ كَانَ هَذَا مِنْ الْمُقِرِّ بَيَانًا مُغَيِّرًا لِأَنَّ صَدْرَ كَلَامِهِ) وَهُوَ قَوْلُهُ لَهُ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ (لِلْوُجُوبِ مُطْلَقًا) رُجُوعًا عَنْ كَلِمَةِ عَلَيَّ (وَآخِرُهُ) أَيْ آخِرُ كَلَامِهِ (يَحْتَمِلُ انْتِفَاءَهُ) أَيْ انْتِفَاءَ الْوُجُوبِ (عَلَى اعْتِبَارِ عَدَمِ الْقَبْضِ) فَصَارَ مُغَيِّرًا لِمُقْتَضَى أَوَّلِ كَلَامِهِ (وَالْمُغَيِّرُ يَصِحُّ مَوْصُولًا لَا مَفْصُولًا) كَالِاسْتِثْنَاءِ.

(وَلَوْ قَالَ ابْتَعْت مِنْهُ بَيْعًا) أَيْ مَبِيعًا، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: عَيْنًا (إلَّا أَنِّي لَمْ أَقْبِضْهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ) أَيْ قَوْلُ الْمُقِرِّ (بِالْإِجْمَاعِ) ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ تَفْرِيعًا عَلَى مَسْأَلَةِ الْقُدُورِيِّ وَقَالَ فِي تَعْلِيلِهَا (لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ الْبَيْعِ الْقَبْضُ) يَعْنِي أَنَّ الْمُقِرَّ هَاهُنَا إنَّمَا أَقَرَّ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ، وَالْإِقْرَارُ بِالْعَقْدِ لَا يَكُونُ إقْرَارًا بِالْقَبْضِ، إذْ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ الْبَيْعِ قَبْضُ الْمَبِيعِ حَتَّى يَجِبَ الثَّمَنُ عَلَى الْمُشْتَرِي (بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ بِوُجُوبِ الثَّمَنِ) فَإِنَّ مِنْ ضَرُورَتِهِ الْقَبْضَ.

قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: هَذَا

ص: 365

قَالَ (وَكَذَا لَوْ قَالَ مِنْ ثَمَنِ خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ) وَمَعْنَى الْمَسْأَلَةِ إذَا قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفٌ مِنْ ثَمَنِ خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ (لَزِمَهُ الْأَلْفُ وَلَمْ يُقْبَلْ تَفْسِيرُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَلَ أَمْ فَصَلَ) لِأَنَّهُ رُجُوعٌ لِأَنَّ ثَمَنَ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ لَا يَكُونُ وَاجِبًا وَأَوَّلُ كَلَامِهِ لِلْوُجُوبِ (وَقَالَا: إذَا وَصَلَ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ) لِأَنَّهُ بَيَّنَ بِآخِرِ كَلَامِهِ أَنَّهُ مَا أَرَادَ بِهِ الْإِيجَابَ وَصَارَ كَمَا إذَا قَالَ فِي آخِرِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ.

قُلْنَا: ذَاكَ تَعْلِيقٌ وَهَذَا إبْطَالٌ.

مَفْهُومُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ، وَفِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّهُ إنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ أَنْ لَوْ وَجَبَ تَسْلِيمُ الْمَبِيعِ أَوَّلًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْبُيُوعِ انْتَهَى. أَقُولُ: وَهَذَا النَّظَرُ أَيْضًا سَاقِطٌ، إذْ الظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا هُوَ الْإِقْرَارُ بِوُجُوبِ الثَّمَنِ فِي الْمَبِيعِ الْغَيْرِ الْمُعَيَّنِ، إذْ هُوَ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ الْمُحْتَاجُ إلَى الْفَرْقِ، وَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ إنْكَارَ الْقَبْضِ فِي غَيْرِ الْمُعَيَّنِ يُنَافِي الْوُجُوبَ أَصْلًا، فَلَا بُدَّ فِي نَفَاذِ الْإِقْرَارِ بِوُجُوبِ الثَّمَنِ فِي الْمَبِيعِ الْغَيْرِ الْمُعَيَّنِ مِنْ قَبْضِهِ فَكَانَ مِنْ ضَرُورَتِهِ الْقَبْضُ (قَالَ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ (وَكَذَا لَوْ قَالَ مِنْ ثَمَنِ خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ) قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَمَعْنَى الْمَسْأَلَةِ) أَيْ مَعْنَى الْمَسْأَلَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْقُدُورِيُّ (إذَا قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفٌ مِنْ ثَمَنِ خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ لَزِمَهُ الْأَلْفُ وَلَمْ يُقْبَلْ تَفْسِيرُهُ) يَعْنِي قَوْلَهُ مِنْ ثَمَنِ خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ (عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَلَ أَمْ فَصَلَ؛ لِأَنَّهُ) أَيْ لِأَنَّ تَفْسِيرَهُ رُجُوعٌ عَنْ إقْرَارِهِ (لِأَنَّ ثَمَنَ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ لَا يَكُونُ وَاجِبًا) عَلَى الْمُسْلِمِ (وَأَوَّلُ كَلَامِهِ) وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيَّ الْأَلْفُ (لِلْوُجُوبِ) وَالرُّجُوعُ عَنْ الْإِقْرَارِ بَاطِلٌ (وَقَالَا) أَيْ قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ (إذَا وَصَلَ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ لِأَنَّهُ) أَيْ الْمُقِرَّ (بَيَّنَ بِآخِرِ كَلَامِهِ أَنَّهُ مَا أَرَادَ بِهِ) أَيْ بِأَوَّلِ كَلَامِهِ (الْإِيجَابَ) لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ بَنَى إقْرَارَهُ عَلَى عَادَةِ الْفَسَقَةِ، فَإِنَّ الْخَمْرَ مَالٌ يَجْرِي فِيهِ الشُّحُّ وَالضِّنَةُ وَقَدْ اعْتَادَ الْفَسَقَةُ شِرَاءَهَا وَأَدَاءَ ثَمَنِهَا فَكَانَ آخِرُ كَلَامِهِ بَيَانًا مُغَيِّرًا فَيَصِحُّ مَوْصُولًا، كَذَا فِي الشُّرُوحِ.

أَقُولُ: هَذَا لَا يَتَمَشَّى فِيمَا إذَا قَالَ مِنْ ثَمَنِ خِنْزِيرٍ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَنْ يَبْنِيَ إقْرَارَهُ عَلَى عَادَةِ الْفَسَقَةِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ كَمَا فِي صُورَةِ أَنْ قَالَ مِنْ ثَمَنِ خَمْرٍ، إذْ لَا يَقَعُ مِنْهُمْ شِرَاءُ الْخِنْزِيرِ وَلَا أَدَاءُ ثَمَنِهِ أَصْلًا فَضْلًا عَنْ اعْتِيَادِهِمْ بِذَلِكَ، وَأَمَّا عَادَةُ الْكُفَّارِ فَلَا تَصْلُحُ لَأَنْ تُجْعَلَ مَبْنَى الْكَلَامِ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي الْمُسْلِمِ كَمَا لَا يَخْفَى، وَالدَّلِيلُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ هَاهُنَا مِنْ قَبْلِهِمَا مَسُوقٌ لِلصُّورَتَيْنِ مَعًا فَلَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ (وَصَارَ) أَيْ صَارَ آخِرُ كَلَامِهِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ (كَمَا إذَا قَالَ فِي آخِرِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ) فَإِنَّهُ يُصَدَّقُ هُنَاكَ إذَا وَصَلَ فَكَذَا هَاهُنَا. أَجَابَ الْمُصَنِّفُ عَنْ هَذَا الْقِيَاسِ بِقَوْلِهِ (قُلْنَا ذَاكَ تَعْلِيقٌ وَهَذَا إبْطَالٌ) يَعْنِي أَنَّ قَوْلَهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعْلِيقٌ بِشَرْطٍ لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ، وَالتَّعْلِيقُ

ص: 366

(وَلَوْ قَالَ لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ مِنْ ثَمَنِ مَتَاعٍ أَوْ قَالَ أَقْرَضَنِي أَلْفَ دِرْهَمٍ ثُمَّ قَالَ هِيَ زُيُوفٌ أَوْ نَبَهْرَجَةٌ وَقَالَ الْمُقَرُّ لَهُ جِيَادٌ لَزِمَهُ الْجِيَادُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَا: إنْ قَالَ مَوْصُولًا يُصَدَّقُ، وَإِنْ قَالَ مَفْصُولًا لَا يُصَدَّقُ)

وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا قَالَ هِيَ سَتُّوقَةٌ أَوْ رَصَاصٌ،

بِالشَّرْطِ مِنْ بَابِ بَيَانِ التَّغْيِيرِ فَيَصِحُّ مَوْصُولًا، وَمَا نَحْنُ فِيهِ إبْطَالٌ وَالْإِبْطَالُ لَا يَكُونُ بَيَانًا فَلَمْ يَصِحَّ وَإِنْ كَانَ مَوْصُولًا.

أَقُولُ: فِيهِ كَلَامٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمُصَنِّفَ قَالَ فِي مَسْأَلَةِ الِاسْتِثْنَاءِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ إمَّا إبْطَالٌ أَوْ تَعْلِيقٌ، وَقَدْ بَيَّنَّا هُنَاكَ أَنَّ الْمَذْكُورَ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ الْمُعْتَبَرَةِ أَنَّ الْأَوَّلَ مَذْهَبُ أَبِي يُوسُفَ وَالثَّانِيَ مَذْهَبُ مُحَمَّدٍ، وَفِي بَعْضِهَا أَنَّ الْأَمْرَ بِالْعَكْسِ، فَأَيَّا مَا كَانَ لَا يَكُونُ هَذَا الْجَوَابُ حُجَّةً عَلَى مَنْ قَالَ مِنْهُمَا يَكُونُ ذَاكَ أَيْضًا إبْطَالًا. وَثَانِيهِمَا أَنَّ الْمُصَنِّفَ قَالَ هُنَاكَ: فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ: يَعْنِي الْإِبْطَالَ فَقَدْ بَطَلَ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي: يَعْنِي التَّعْلِيقَ فَكَذَلِكَ، إمَّا لِأَنَّ الْإِقْرَارَ لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ، أَوْ لِأَنَّهُ شَرْطٌ لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي الطَّلَاقِ فَحَصَلَ مِنْهُ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ تَعْلِيقًا فِي أَصْلِهِ، إلَّا أَنَّهُ لَيْسَ بِتَعْلِيقٍ فِي بَابِ الْإِقْرَارِ بَلْ هُوَ إبْطَالٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ فَكَيْفَ يَتِمُّ قَوْلُهُ هَاهُنَا ذَاكَ تَعْلِيقٌ وَهَذَا إبْطَالٌ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الْجَوَابَ الْمَذْكُورَ هَاهُنَا مِنْ قِبَلِ أَبِي حَنِيفَةَ يَصِيرُ إلْزَامِيًّا بِالنِّسْبَةِ إلَى مَنْ قَالَ مِنْهُمَا يَكُونُ ذَلِكَ إبْطَالًا، وَلَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ إلْزَامِيًّا بِالنِّسْبَةِ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي بَابِ الْإِقْرَارِ تَعْلِيقًا حَقِيقَةً، إلَّا أَنَّهُ فِي صُورَةِ التَّعْلِيقِ، وَهَذَا الْقَدْرُ يَكْفِي فِي قَدْحِ قِيَاسِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى مَسْأَلَةِ مَا إذَا قَالَ فِي آخِرِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ، فَإِنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ لَيْسَتْ بِتَعْلِيقٍ لَا صُورَةً وَلَا مَعْنًى، وَإِنَّمَا هِيَ إبْطَالٌ مَحْضٌ، وَأَمَّا تِلْكَ الْمَسْأَلَةُ فَتَعْلِيقٌ صُورَةً وَإِنْ كَانَتْ إبْطَالًا مَعْنًى فَافْتَرَقَتَا، تَأَمَّلْ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْقُدُورِيَّ لَمْ يَذْكُرْ فِي مُخْتَصَرِهِ خِلَافًا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ فِي الْكَافِي فَأَخَذَ الْمُصَنِّفُ مِنْهُ. ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الْخِلَافَ الْمَذْكُورَ فِيمَا إذَا كَذَّبَهُ الطَّالِبُ، وَأَمَّا إذَا صَدَّقَهُ فِي ذَلِكَ فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ فِي قَوْلِهِ جَمِيعًا لِأَنَّ الثَّابِتَ بِتَصَادُقِهِمَا كَالثَّابِتِ مُعَايَنَةً، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِيمَا إذَا قَالَ مِنْ ثَمَنِ خَمْرٍ أَوْ مَيْتَةٍ أَوْ دَمٍ، صَرَّحَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ خُوَاهَرْ زَادَهْ فِي مَبْسُوطِهِ وَذَكَرَ فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ.

(وَلَوْ قَالَ لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ) أَيْ أَلْفُ دِرْهَمٍ (مِنْ ثَمَنِ مَتَاعٍ أَوْ قَالَ أَقْرَضَنِي أَلْفَ دِرْهَمٍ ثُمَّ قَالَ هِيَ زُيُوفٌ) جَمْعُ زَيْفٍ وَهُوَ مَا يَقْبَلُهُ التُّجَّارُ وَيَرُدُّهُ بَيْتُ الْمَالِ (أَوْ نَبَهْرَجَةٌ) وَهِيَ دُونَ الزُّيُوفِ فَإِنَّهَا مِمَّا يَرُدُّهُ التُّجَّارُ أَيْضًا (وَقَالَ الْمُقَرُّ لَهُ جِيَادٌ لَزِمَهُ الْجِيَادُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَا) أَيْ قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ (إنْ قَالَا مَوْصُولًا) أَيْ إنْ ذَكَرَ قَوْلَهُ هِيَ زُيُوفٌ أَوْ نَبَهْرَجَةٌ مَوْصُولًا بِكَلَامِهِ السَّابِقِ (يُصَدَّقُ، وَإِنْ قَالَ مَفْصُولًا) أَيْ إنْ ذَكَرَ ذَلِكَ مَفْصُولًا عَنْهُ (لَا يُصَدَّقُ) هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ مَسَائِلِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ.

أَقُولُ: تَحْرِيرُهَا عَلَى النَّمَطِ الْمَذْكُورِ لَا يَخْلُو عَنْ نَوْعِ قُصُورٍ، فَإِنَّ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يَلْزَمَهُ الْجِيَادُ سَوَاءٌ وَصَلَ قَوْلَهُ هِيَ زُيُوفٌ أَوْ نَبَهْرَجَةٌ أَمْ فَصَلَ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ وَيَقْتَضِيهِ بَيَانُ الْخِلَافِ، إلَّا أَنَّ كَلِمَةَ ثُمَّ فِي قَوْلِهِ ثُمَّ قَالَ: هِيَ زُيُوفٌ أَوْ نَبَهْرَجَةٌ يَدُلُّ عَلَى الْفَصْلِ كَمَا لَا يَخْفَى فَتُوُهِّمَ اخْتِصَاصُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ بِصُورَةِ الْفَصْلِ وَلَا خِلَافَ فِيهَا بَيْنَ صَاحِبَيْهِ، فَالظَّاهِرُ أَنْ يَذْكُرَ الْوَاوَ بَدَلَ ثُمَّ كَمَا وَقَعَ فِي كَلَامِ الْحَاكِمِ الشَّهِيدِ فِي الْكَافِي حَيْثُ قَالَ فِي بَابِ الْقَرَارِ بِالزُّيُوفِ: وَإِذَا أَقَرَّ الرَّجُلُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ دَيْنٍ مِنْ قَرْضٍ أَوْ ثَمَنِ مَبِيعٍ وَادَّعَى أَنَّهَا زُيُوفٌ أَوْ نَبَهْرَجَةٌ لَمْ يُصَدَّقْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَلَ أَمْ فَصَلَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: وَإِنْ وَصَلَ يُصَدَّقْ، وَإِنْ فَصَلَ لَا يُصَدَّقْ.

وَهَكَذَا ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ وَشَيْخُ الْإِسْلَامِ عَلَاءُ الدِّينِ الْإِسْبِيجَابِيُّ فِي شَرْحِ الْكَافِي، وَعَلَى هَذَا نَصَّ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا قَالَ هِيَ) أَيْ الْأَلْفُ (سَتُّوقَةٌ) وَهِيَ أَرْدَأُ مِنْ النَّبَهْرَجَةِ (أَوْ رَصَاصٌ) أَيْ أَوْ قَالَ هِيَ رَصَاصٌ فَلَا يُصَدَّقُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَلَ أَمْ فَصَلَ وَيُصَدَّقُ عِنْدَهُمَا إنْ وَصَلَ، وَلَكِنْ هَذَا عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ لَا يُصَدَّقُ هَاهُنَا وَإِنْ وَصَلَ كَمَا قَالَهُ

ص: 367

وَعَلَى هَذَا إذَا قَالَ إلَّا إنَّهَا زُيُوفٌ، وَعَلَى هَذَا إذَا قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ زُيُوفٍ مِنْ ثَمَنِ مَتَاعٍ. لَهُمَا أَنَّهُ بَيَانٌ مُغَيِّرٌ فَيَصِحُّ بِشَرْطِ الْوَصْلِ كَالشَّرْطِ وَالِاسْتِثْنَاءِ. وَهَذَا لِأَنَّ اسْمَ الدَّرَاهِمِ يَحْتَمِلُ الزُّيُوفَ بِحَقِيقَتِهِ وَالسَّتُّوقَةُ بِمَجَازِهِ، إلَّا أَنَّ مُطْلَقَهُ يَنْصَرِفُ إلَى الْجِيَادِ فَكَانَ بَيَانًا مُغَيِّرًا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَصَارَ كَمَا إذَا قَالَ إلَّا أَنَّهَا وَزْنُ خَمْسَةٍ.

وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ هَذَا رُجُوعٌ لِأَنَّ مُطْلَقَ الْعَقْدِ يَقْتَضِي وَصْفَ السَّلَامَةِ عَنْ الْعَيْبِ، وَالزِّيَافَةُ عَيْبٌ وَدَعْوَى الْعَيْبِ رُجُوعٌ عَنْ بَعْضِ مُوجِبِهِ وَصَارَ كَمَا إذَا قَالَ بِعْتُكَهُ مَعِيبًا وَقَالَ الْمُشْتَرِي بِعْتَنِيهِ سَلِيمًا فَالْقَوْلُ لِلْمُشْتَرِي لِمَا بَيَّنَّا،

أَبُو حَنِيفَةَ.

كَذَا فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِلْإِمَامِ قَاضِي خَانْ وَالْإِمَامِ التُّمُرْتَاشِيِّ (وَعَلَى هَذَا) أَيْ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ (إذَا قَالَ إلَّا أَنَّهَا زُيُوفٌ) بِكَلِمَةِ الِاسْتِثْنَاءِ (وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ زُيُوفٍ) بِالْجَرِّ، وَتَجْرِي الصِّفَةُ عَلَى الْمَجْرُورِ الْمَعْدُودِ دُونَ الْعَدَدِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ} كَذَا فِي مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ. أَقُولُ: فَلَا بُدَّ مِنْ تَوْجِيهِ وَصْفِ الْمُفْرَدِ بِالْجَمْعِ فَتَأَمَّلْ (مِنْ ثَمَنِ مَتَاعٍ) هَذَا تَتِمَّةُ كَلَامِ الْمُقِرِّ (لَهُمَا) أَيْ لِأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ الْخِلَافِيَّةِ (أَنَّهُ) أَيْ مَا قَالَهُ الْمُقِرُّ آخِرًا (بَيَانٌ مُغَيِّرٌ) لِمَا قَالَهُ أَوَّلًا (فَيَصِحُّ مَوْصُولًا) أَيْ بِشَرْطِ الْوَصْلِ (كَالشَّرْطِ وَالِاسْتِثْنَاءِ) فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَصِحُّ مَوْصُولًا لَا مَفْصُولًا لِكَوْنِهِ بَيَانَ تَغْيِيرٍ (وَهَذَا) أَيْ كَوْنُ آخِرِ كَلَامِ الْمُقِرِّ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ بَيَانًا مُغَيِّرًا (لِأَنَّ اسْمَ الدَّرَاهِمِ يَحْتَمِلُ الزُّيُوفَ بِحَقِيقَتِهِ) فَإِنَّ الزُّيُوفَ مِنْ جِنْسِ الدَّرَاهِمِ حَتَّى يَحْصُلُ بِهِ الِاسْتِيفَاءُ فِي الصَّرْفِ أَوْ السَّلَمِ وَلَا يَصِيرُ اسْتِبْدَالًا (وَالسَّتُّوقَةَ بِمَجَازِهِ) أَيْ وَيَحْتَمِلُ السَّتُّوقَةَ بِمَجَازِهِ لِأَنَّهَا تُسَمَّى دَرَاهِمَ مَجَازًا فَأَمْكَنَ أَنْ يَتَوَقَّفَ صَدْرُ الْكَلَامِ عَلَى عَجُزِهِ (إلَّا أَنَّ مُطْلَقَهُ) أَيْ مُطْلَقَ اسْمِ الدَّرَاهِمِ (يَنْصَرِفُ إلَى الْجِيَادِ) لِأَنَّ بِيَاعَاتِ النَّاسِ تَكُونُ بِالْجِيَادِ عَادَةً (فَكَانَ) أَيْ فَكَانَ ذِكْرُ الزُّيُوفِ أَوْ السَّتُّوقَةِ فِي آخِرِ الْكَلَامِ (بَيَانًا مُغَيِّرًا) لِمَا اقْتَضَاهُ أَوَّلُ الْكَلَامِ (مِنْ هَذَا الْوَجْهِ) أَيْ مِنْ الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ فَإِنَّهُ كَانَ بَيَانًا مِنْ جِهَةِ الِاحْتِمَالِ وَمُغَيِّرًا مِنْ جِهَةِ مُخَالَفَةِ الْعَادَةِ فَصَحَّ مَوْصُولًا (وَصَارَ) أَيْ صَارَ حُكْمُ هَذَا (كَمَا إذَا قَالَ إلَّا أَنَّهَا وَزْنُ خَمْسَةٍ) أَوْ سِتَّةٍ وَنَقْدُ بَلَدِهِمْ وَزْنُ سَبْعَةٍ صُدِّقَ إنْ كَانَ مَوْصُولًا وَلَمْ يُصَدَّقْ إنْ كَانَ مَفْصُولًا.

أَقُولُ: لَوْ تَعَرَّضَ الْمُصَنِّفُ فِي أَثْنَاءِ التَّعْلِيلِ لِذِكْرِ النَّبَهْرَجَةِ أَيْضًا لَكَانَ أَوْجَهَ لِأَنَّهَا مَذْكُورَةٌ أَيْضًا فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ.

فَإِنْ قُلْت: النَّبَهْرَجَةُ كَالزُّيُوفِ فِي كَوْنِهَا مِنْ جِنْسِ الْأَثْمَانِ كَمَا صُرِّحَ بِهِ فِي مَسَائِلَ شَتَّى مِنْ كِتَابِ الْقَضَاءِ فَيَجُوزُ أَنْ يُكْتَفَى فِي التَّعْلِيلِ بِذِكْرِ حَالِ الزُّيُوفِ. قُلْت: رَدَاءَةُ النَّبَهْرَجَةِ دُونَ رَدَاءَةِ الزُّيُوفِ كَمَا نُبِّهَ عَلَيْهِ هُنَاكَ أَيْضًا، فَكَانَ الْأَوْلَى الِاكْتِفَاءَ بِذِكْرِ حَالِ الْأَدْنَى لِيُعْلَمَ بِهِ حَالُ مَا فَوْقِهِ بِالْأَوْلَوِيَّةِ.

ثُمَّ أَقُولُ: إنَّ قَوْلَهُ لِأَنَّ اسْمَ الدَّرَاهِمِ يَحْتَمِلُ الزُّيُوفَ بِحَقِيقَتِهِ وَالسَّتُّوقَةَ بِمَجَازِهِ لَا يُسَاعِدُهُ مَا ذُكِرَ فِي مُعْتَبَرَاتِ كُتُبِ اللُّغَةِ كَالصِّحَاحِ وَالْقَامُوسِ وَغَيْرِهِمَا فَإِنَّ الْمَذْكُورَ فِيهَا دِرْهَمٌ سَتُّوقٌ وَتُسْتُوقٌ: أَيْ زَيْفٌ نَبَهْرَجٌ فَكَيْفَ يَكُونُ اسْمُ الدَّرَاهِمِ حَقِيقَةً فِي الْمُفَسَّرِ مَجَازًا فِي الْمُفَسِّرِ فَتَأَمَّلْ (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ هَذَا) أَيْ مَا قَالَهُ الْمُقِرُّ آخَرُ (رُجُوعٌ) عَمَّا أَقَرَّ بِهِ أَوَّلًا وَدَعْوَى أَمْرٍ عَارِضٍ فَلَا يُقْبَلُ وَإِنْ وَصَلَ وَذَلِكَ (لِأَنَّ مُطْلَقَ الْعَقْدِ يَقْتَضِي وَصْفَ السَّلَامَةِ عَنْ الْعَيْبِ) لِأَنَّ مُوجِبَهُ سَلَامَةُ الْبَدَلِ الْمُسْتَحَقِّ بِهِ عَنْ الْعَيْبِ (وَالزِّيَافَةُ عَيْبٌ) فِي الدَّرَاهِمِ (وَدَعْوَى الْعَيْبِ رُجُوعٌ عَنْ بَعْضِ مُوجِبِهِ) أَيْ عَنْ بَعْضِ مُوجِبِ الْعَقْدِ، فَإِذَا ادَّعَى أَنَّهَا زُيُوفٌ فَقَدْ أَرَادَ إبْطَالَ مَا هُوَ الْمُسْتَحَقُّ بِالْعَقْدِ فَلَا يُصَدَّقُ، وَإِنْ وَصَلَ (وَصَارَ) حُكْمُ هَذَا (كَمَا إذَا قَالَ) الْبَائِعُ (بِعْتُكَهُ مَعِيبًا وَقَالَ الْمُشْتَرِي بِعْتَنِيهِ سَلِيمًا فَالْقَوْلُ) هُنَاكَ (لِلْمُشْتَرِي لِمَا بَيَّنَّا) أَنَّ مُطْلَقَ الْعَقْدِ يَقْتَضِي السَّلَامَةَ عَنْ الْعَيْبِ، فَكَذَا هَاهُنَا، فَحَاصِلُ اخْتِلَافِهِمْ رَاجِعٌ إلَى أَنَّ الدَّرَاهِمَ الزُّيُوفَ

ص: 368

وَالسَّتُّوقَةُ لَيْسَتْ مِنْ الْأَثْمَانِ وَالْبَيْعُ يُرَدُّ عَلَى الثَّمَنِ فَكَانَ رُجُوعًا. وَقَوْلُهُ إلَّا أَنَّهَا وَزْنُ خَمْسَةٍ يَصِحُّ اسْتِثْنَاءً لِأَنَّهُ مِقْدَارٌ بِخِلَافِ الْجَوْدَةِ لِأَنَّ اسْتِثْنَاءَ الْوَصْفِ لَا يَجُوزُ كَاسْتِثْنَاءِ الْبِنَاءِ فِي الدَّارِ،

هَلْ هِيَ دَاخِلَةٌ فِي مُطْلَقِ اسْمِ الدَّرَاهِمِ أَمْ لَا.

فَأَبُو حَنِيفَةَ رَجَّحَ جَانِبَ الْعَيْبِ فِيهَا فَلَمْ يُدْخِلْهَا تَحْتَ مُطْلَقِ اسْمِ الدَّرَاهِمِ حَتَّى كَانَ دَعْوَى الزِّيَافَةِ رُجُوعًا عَمَّا أَقَرَّ أَوَّلًا بِمُطْلَقِ الدَّرَاهِمِ، وَهُمَا أَدْخَلَاهَا تَحْتَ مُطْلَقِ اسْمِ الدَّرَاهِمِ عَلَى سَبِيلِ التَّوَقُّفِ، حَتَّى كَانَ دَعْوَى الزِّيَافَةِ بَعْدَ ذِكْرِ اسْمِ الدَّرَاهِمِ بَيَانَ تَغْيِيرٍ كَمَا فِي الشَّرْطِ وَالِاسْتِثْنَاءِ، كَذَا فِي الْأَسْرَارِ وَغَيْرِهِ (وَالسَّتُّوقَةُ لَيْسَتْ مِنْ الْأَثْمَانِ) أَيْ لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ الْأَثْمَانِ (وَالْبَيْعُ يُرَدُّ عَلَى الثَّمَنِ) فَلَمْ تَكُنْ السَّتُّوقَةُ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ الْعَقْدِ (فَكَانَ) أَيْ فَكَانَ قَوْلُهُ الْآخَرُ (رُجُوعًا) عَمَّا أَقَرَّ بِهِ أَوَّلًا: أَيْ فَكَانَ دَعْوَى السَّتُّوقَةِ بِتَأْوِيلِ الِادِّعَاءِ رُجُوعًا مِنْ ذَلِكَ فَلَمْ يَصِحَّ مَفْصُولًا وَلَا مَوْصُولًا (وَقَوْلُهُ إلَّا أَنَّهَا وَزْنُ خَمْسَةٍ يَصِحُّ اسْتِثْنَاءً) هَذَا جَوَابٌ عَمَّا اسْتَشْهَدَا بِهِ.

تَقْرِيرُهُ أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ لِأَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ اسْتِثْنَاءً (لِأَنَّهُ مِقْدَارٌ) وَاسْتِثْنَاءُ بَعْضِ الْمِقْدَارِ صَحِيحٌ لِأَنَّ أَوَّلَ الْكَلَامِ يَتَنَاوَلُ الْقَدْرَ فَكَانَ اسْتِثْنَاءُ الْمَلْفُوظِ وَهُوَ صَحِيحٌ بِلَا رَيْبٍ (بِخِلَافِ الْجَوْدَةِ) أَيْ بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ إلَّا أَنَّهَا زُيُوفٌ، فَإِنَّ فِي قَوْلِهِ إلَّا أَنَّهَا زُيُوفٌ اسْتِثْنَاءً لِلدَّرَاهِمِ الْجَيِّدَةِ عَنْ الْوُجُوبِ فِي الذِّمَّةِ وَالْجَوْدَةُ وَصْفٌ فَلَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاؤُهَا (لِأَنَّ اسْتِثْنَاءَ الْوَصْفِ لَا يَجُوزُ) لِعَدَمِ تَنَاوُلِ صَدْرِ الْكَلَامِ إيَّاهُ قَصْدًا بَلْ تَبَعًا (كَاسْتِثْنَاءِ الْبِنَاءِ فِي الدَّارِ) عَلَى مَا مَرَّ بَيَانُهُ. قَالَ فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ: فَإِنْ قِيلَ: اسْتِثْنَاءُ الْوَصْفِ لَا يَصِحُّ بِالْإِجْمَاعِ فَكَيْفَ صَحَّحَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ اسْتِثْنَاءَ الزِّيَافَةِ مِنْ الدَّرَاهِمِ؟ قُلْنَا: صَحَّحَا ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَالزِّيَافَةُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى عَيْنٌ لَا وَصْفٌ، فَإِنَّ قَوْلَهُ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفٌ مِنْ ثَمَنِ مَتَاعٍ إلَّا أَنَّهَا زُيُوفٌ صَارَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ إلَّا أَنَّهَا نَقْدُ بَلَدِ كَذَا وَنَقْدُ ذَلِكَ الْبَلَدِ زُيُوفٌ، وَهُنَاكَ صَحَّ هَذَا الْبَيَانُ مَوْصُولًا بِالْإِجْمَاعِ، وَهَذَا فِي مَعْنَاهُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَصِحَّ فَصَارَ ذَلِكَ نَوْعًا لِلدَّرَاهِمِ لَا وَصْفًا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ فِي الْحِنْطَةِ إلَّا أَنَّهَا رَدِيئَةٌ، إلَى هَذَا أَشَارَ فِي الْأَسْرَارِ وَالْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ انْتَهَى.

قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ بَعْدَ نَقْلِ ذَلِكَ عَنْ النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ: وَهَاهُنَا بَحْثٌ، إذْ حِينَئِذٍ يَنْبَغِي أَنْ يُقْبَلَ

ص: 369

بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ عَلَيَّ كُرُّ حِنْطَةٍ مِنْ ثَمَنِ عَبْدٍ إلَّا أَنَّهَا رَدِيئَةٌ لِأَنَّ الرَّدَاءَةَ نَوْعٌ لَا عَيْبٌ، فَمُطْلَقُ الْعَقْدِ لَا يَقْتَضِي السَّلَامَةَ عَنْهَا.

إذَا فَصَلَ فَتَأَمَّلْ. أَقُولُ: بَحْثُهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّ هَذَا الْبَيَانَ وَإِنْ كَانَ عِنْدَهُمَا بَيَانُ نَوْعِ الدَّرَاهِمِ إلَّا أَنَّهُ بَيَانُ تَغْيِيرٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّ مُطْلَقَ الْعَقْدِ يَقْتَضِي السَّلَامَةَ وَالْجَوْدَةَ عُرْفًا، فَكَانَ اسْتِثْنَاءُ نَوْعِ الزُّيُوفِ مِنْ الدَّرَاهِمِ تَغْيِيرًا لِمُقْتَضَى الْعَقْدِ فَكَانَ بَيَانَ تَغْيِيرٍ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ كَمَا مَرَّ، وَبَيَانُ التَّغْيِيرِ لَا يَصِحُّ إلَّا مَوْصُولًا، وَإِنَّمَا وَقَعَ ذَلِكَ الْفَاضِلُ فِي الْغَلَطِ مِنْ قَوْلِ صَاحِبَيْ النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ: فَصَارَ ذَلِكَ نَوْعًا لِلدَّرَاهِمِ لَا وَصْفًا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ فِي الْحِنْطَةِ إلَّا أَنَّهَا رَدِيئَةٌ، فَإِنَّ قَوْلَهُ إلَّا أَنَّهَا رَدِيئَةٌ يُقْبَلُ، وَإِنْ فَصَلَ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ إلَّا أَنَّ مُرَادَهُمَا أَنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ فِي الْحِنْطَةِ إلَّا أَنَّهَا رَدِيئَةٌ فِي مُجَرَّدِ كَوْنِهِ نَوْعًا لَا وَصْفًا لَا فِي الِاتِّحَادِ فِي جِهَةِ الْبَيَانِ، كَيْفَ وَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّ هَذَا بَيَانُ تَغْيِيرٍ وَذَاكَ بَيَانُ التَّفْسِيرِ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله (بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ: عَلَيَّ كُرُّ حِنْطَةٍ مِنْ ثَمَنِ عَبْدٍ إلَّا أَنَّهَا رَدِيئَةٌ؛ لِأَنَّ الرَّدَاءَةَ نَوْعٌ) أَيْ مُنَوَّعَةٌ (لَا عَيْبٌ) لِأَنَّ الْعَيْبَ مَا يَخْلُو عَنْهُ أَصْلُ الْفِطْرَةِ وَالْحِنْطَةُ قَدْ تَكُونُ رَدِيئَةً فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ فَكَانَتْ الرَّدِيئَةُ نَوْعًا مِنْهَا وَلِهَذَا قَالُوا: لَوْ اشْتَرَى حِنْطَةً مُشَارًا إلَيْهَا فَوَجَدَهَا رَدِيئَةً لَمْ يَكُنْ لَهُ خِيَارُ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ (فَمُطْلَقُ الْعَقْدِ لَا يَقْتَضِي السَّلَامَةَ عَنْهَا) أَيْ عَنْ الرَّدَاءَةِ، إذْ لَيْسَ لِمُطْلَقِ الْعَقْدِ مُقْتَضًى فِي نَوْعٍ دُونَ نَوْعٍ وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ الشِّرَاءُ بِالْحِنْطَةِ مَا لَمْ يُبَيِّنْ أَنَّهَا جَيِّدَةٌ أَوْ وَسَطٌ أَوْ رَدِيئَةٌ فَلَيْسَ فِي بَيَانِهِ تَغْيِيرُ مُوجَبِ أَوَّلِ كَلَامِهِ فَصَحَّ مَوْصُولًا وَمَفْصُولًا، كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ وَغَيْرِهِ. وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ: فَإِنْ قِيلَ: قَدْ يُسْتَثْنَى الْوَصْفُ كَمَا إذَا قَالَ لَهُ عَلَيَّ كُرُّ حِنْطَةٍ مِنْ ثَمَنِ عَبْدٍ إلَّا أَنَّهَا رَدِيئَةٌ؛ لِأَنَّ الرَّدَاءَةَ ضِدُّ الْجَوْدَةِ فَهُمَا صِفَتَانِ يَتَعَاقَبَانِ عَلَى مَوْضُوعٍ وَاحِدٍ. أَجَابَ بِقَوْلِهِ: لِأَنَّ الرَّدَاءَةَ نَوْعٌ لَا عَيْبٌ. فَإِنْ قِيلَ: فَالْجَوْدَةُ كَذَلِكَ لِمَا مَرَّ أَنَّهُمَا ضِدَّانِ دَفْعًا لِلتَّحَكُّمِ.

أُجِيبَ بِأَنَّ الرَّدَاءَةَ فِي الْحِنْطَةِ مُنَوَّعَةٌ لَا عَيْبٌ وَفِي الدَّرَاهِمِ عَيْبٌ انْتَهَى. أَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ مُفَادَ الْجَوَابِ الثَّانِي أَنَّ الرَّدَاءَةَ فِي الدَّرَاهِمِ عَيْبٌ وَفِي الْحِنْطَةِ لَيْسَتْ بِعَيْبٍ لَا أَنَّهَا فِي الدَّرَاهِمِ وَصْفٌ وَفِي الْحِنْطَةِ لَيْسَتْ بِوَصْفٍ، فَلَا يَنْدَفِعُ بِهِ أَصْلُ السُّؤَالِ لِأَنَّ حَاصِلَهُ نَقْضُ الْقَوْلِ بِأَنَّ اسْتِثْنَاءَ الْوَصْفِ لَا يَجُوزُ بِجَوَازِ اسْتِثْنَاءِ وَصْفِ الرَّدَاءَةِ فِي الْحِنْطَةِ. عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْدَفِعُ بِهِ السُّؤَالُ الثَّانِي أَيْضًا لِأَنَّ حَاصِلَهُ طَلَبُ الْفَرْقِ بَيْنَ رَدَاءَةِ الْحِنْطَةِ وَجَوْدَةِ الدَّرَاهِمِ. وَمُفَادُ الْجَوَابِ عَنْهُ بَيَانُ الْفَرْقِ بَيْنَ رَدَاءَةِ الْحِنْطَةِ وَرَدَاءَةِ الدَّرَاهِمِ.

ثُمَّ أَقُولُ: الْبَاعِثُ عَلَى شَرْحِهِ الْمَقَامَ بِالْوَجْهِ الْمَزْبُورِ هُوَ أَنَّهُ حَسِبَ أَنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ رحمه الله: بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ عَلَيَّ كُرُّ حِنْطَةٍ إلَخْ مُتَعَلِّقٌ بِمَا ذَكَرَهُ فِي قُبَيْلِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ لِأَنَّ اسْتِثْنَاءَ الْوَصْفِ لَا يَجُوزُ كَاسْتِثْنَاءِ الْبِنَاءِ فِي الدَّارِ فَوَقَعَ فِيمَا وَقَعَ، وَلَكِنْ لَا يَذْهَبُ عَلَى ذِي فِطْرَةٍ سَلِيمَةٍ أَنَّ قَوْلَهُ الْمَذْكُورَ مُتَعَلِّقٌ بِمَا ذَكَرَهُ فِي أَوَائِلِ دَلِيلِ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله وَهُوَ قَوْلُهُ لِأَنَّ مُطْلَقَ الْعَقْدِ يَقْتَضِي السَّلَامَةَ عَنْ الْعَيْبِ، وَالزِّيَافَةُ عَيْبٌ يُرْشَدُ إلَيْهِ قَطْعًا قَوْلُهُ هَاهُنَا فَمُطْلَقُ الْعَقْدِ لَا يَقْتَضِي السَّلَامَةَ عَنْهَا بَعْدَ قَوْلِهِ لِأَنَّ الرَّدَاءَةَ نَوْعٌ لَا عَيْبٌ. ثُمَّ أَقُولُ: وَأَمَّا السُّؤَالُ الَّذِي ذَكَرَهُ الشَّارِحُ الْمَذْكُورُ بِقَوْلِهِ: فَإِنْ قِيلَ يُسْتَثْنَى الْوَصْفُ كَمَا إذَا قَالَ: لَهُ عَلَيَّ كُرُّ حِنْطَةٍ مِنْ ثَمَنِ عَبْدٍ إلَّا أَنَّهَا رَدِيئَةٌ.

فَجَوَابُهُ أَنْ يُقَالَ: لَيْسَ هُنَاكَ اسْتِثْنَاءٌ حَقِيقَةً، وَإِنَّمَا قَوْلُهُ إلَّا أَنَّهَا رَدِيئَةٌ بَيَانٌ وَتَفْسِيرٌ لِلْحِنْطَةِ فِي قَوْلِهِ عَلَيَّ كُرُّ حِنْطَةٍ فِي صُورَةِ الِاسْتِثْنَاءِ، يُرْشِدُ إلَيْهِ أَنَّ صَاحِبَ الْكَافِي قَالَ فِي تَقْرِيرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ لَهُ عَلَيَّ كُرُّ بُرٍّ مِنْ ثَمَنِ مَبِيعٍ أَوْ قَرْضٍ، ثُمَّ قَالَ هُوَ رَدِيءٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ وَصَلَ أَمْ فَصَلَ، لِأَنَّ الرَّدَاءَةَ لَيْسَتْ بِعَيْبٍ فِي الْبُرِّ انْتَهَى حَيْثُ بَدَّلَ قَوْلَهُ إلَّا أَنَّهَا رَدِيئَةٌ بِقَوْلِهِ هُوَ رَدِيءٌ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مَطْمَحُ النَّظَرِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ صِيغَةَ الِاسْتِثْنَاءِ بَلْ إنَّ الرَّدَاءَةَ فِي مِثْلِ الْبُرِّ لَيْسَتْ بِعَيْبٍ، فَظَهَرَ أَنَّ جَعْلَ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ لِأَنَّ الرَّدَاءَةَ نَوْعٌ لَا عَيْبٌ جَوَابًا عَنْ السُّؤَالِ الْمَزْبُورِ مِنْ ضِيقِ الْعَطَنِ.

فَإِنْ قُلْت: لِلسُّؤَالِ الْمَزْبُورِ جَوَابٌ آخَرُ أَظْهَرُ مِمَّا ذَكَرْته، وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ: إلَّا أَنَّهَا رَدِيئَةٌ لَيْسَ لِاسْتِثْنَاءِ الْوَصْفِ وَهُوَ الرَّدَاءَةُ بَلْ لِاسْتِثْنَاءِ الْعَيْنِ وَهُوَ الْحِنْطَةُ الرَّدِيئَةُ، فَالْمُرَادُ اسْتِثْنَاءُ نَوْعٍ مِنْ الْحِنْطَةِ وَهُوَ صَحِيحٌ بِلَا رَيْبٍ فَلِمَ تَرَكْت هَذَا الْجَوَابَ؟ قُلْت: لِأَنَّهُ يُنْتَقَضُ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ بِمَا إذَا قَالَ إلَّا أَنَّهَا زُيُوفٌ فَإِنَّهُ لَا يُقْبَلُ عِنْدَهُ مَعَ

ص: 370

وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ فِي الْقَرْضِ أَنَّهُ يُصَدَّقُ فِي الزُّيُوفِ إذَا وَصَلَ لِأَنَّ الْقَرْضَ يُوجِبُ رَدَّ مِثْلِ الْمَقْبُوضِ، وَقَدْ يَكُونُ زَيْفًا كَمَا فِي الْغَصْبِ. وَوَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ التَّعَامُلَ بِالْجِيَادِ فَانْصَرَفَ مُطْلَقُهُ إلَيْهَا. (وَلَوْ قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ زُيُوفٍ وَلَمْ يَذْكُرْ الْبَيْعَ وَالْقَرْضَ قِيلَ يُصَدَّقُ) بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ اسْمَ الدَّرَاهِمِ يَتَنَاوَلُهَا (وَقِيلَ لَا يُصَدَّقُ) لِأَنَّ مُطْلَقَ الْإِقْرَارِ يَنْصَرِفُ إلَى الْعُقُودِ لِتَعَيُّنِهَا مَشْرُوعَةً لَا إلَى الِاسْتِهْلَاكِ الْمُحَرَّمِ.

جَرَيَانِ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ لَيْسَ لِاسْتِثْنَاءِ الْوَصْفِ وَهُوَ الزِّيَافَةُ بَلْ لِاسْتِثْنَاءِ الْعَيْنِ وَهُوَ الدَّرَاهِمُ الزُّيُوفُ، وَنَحْنُ الْآنَ بِصَدَدِ تَتْمِيمِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَلَا مَجَالَ لِلتَّشَبُّثِ بِذَلِكَ الْجَوَابِ هَاهُنَا فَتَدَبَّرْ (وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ) الْمُرَادُ بِالْأُصُولِ الْجَامِعَانِ وَالزِّيَادَاتُ وَالْمَبْسُوطُ، وَيُعَبَّرُ عَنْهَا بِظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. وَعَنْ الْأَمَالِي وَالنَّوَادِرِ وَالرُّقَيَّاتِ وَالْهَارُونِيَّاتِ والْكَيْسانِيَّاتِ بِغَيْرِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ (أَنَّهُ يُصَدَّقُ فِي الزُّيُوفِ إذَا وَصَلَ) يَعْنِي فِي الْقَرْضِ، كَذَا وَقَعَ فِي النِّهَايَةِ.

وَقَدْ وَقَعَ التَّصْرِيحُ بِهَذَا الْقَيْدِ فِي بَعْضِ النُّسَخِ بِأَنْ قَالَ: وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ فِي الْقَرْضِ أَنَّهُ يُصَدَّقُ فِي الزُّيُوفِ إذَا وَصَلَ يَعْنِي إذَا قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ قَرْضٌ هِيَ زُيُوفٌ يُصَدَّقُ عِنْدَهُ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ إذَا وَصَلَ قَوْلُهُ هِيَ زُيُوفٌ بِقَوْلِهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ قَرْضٌ، أَمَّا إذَا قَطَعَ كَلَامَهُ ثُمَّ قَالَ بَعْدَ زَمَانٍ هِيَ زُيُوفٌ لَا يُصَدَّقُ بِاتِّفَاقِ الرِّوَايَاتِ (لِأَنَّ الْقَرْضَ يُوجِبُ مِثْلَ الْمَقْبُوضِ) يَعْنِي أَنَّ الْمُسْتَقْرَضَ إنَّمَا يَصِيرُ مَضْمُونًا عَلَى الْمُسْتَقْرِضِ بِالْقَبْضِ فَالْقَرْضُ يُوجِبُ مِثْلَ الْمَقْبُوضِ (وَقَدْ يَكُونُ) الْمَقْبُوضُ فِي الْقَرْضِ (زَيْفًا كَمَا فِي الْغَصْبِ) فَالْوَاجِبُ حِينَئِذٍ الزَّيْفُ لِأَنَّ الْقَرْضَ يُقْضَى بِالْمِثْلِ كَالْغَصْبِ فَيُصَدَّقُ فِيهِ كَمَا يُصَدَّقُ فِي الْغَصْبِ.

أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَذَا التَّعْلِيلُ يَقْتَضِي أَنْ يُصَدَّقَ فِي الزُّيُوفِ فِي الْقَرْضِ وَصَلَ أَمْ فَصَلَ كَمَا فِي الْغَصْبِ عَلَى مَا سَيَأْتِي مَعَ أَنَّهُ لَا يُصَدَّقُ فِي صُورَةِ الْقَرْضِ إذَا فَصَلَ بِاتِّفَاقِ الرِّوَايَاتِ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ (وَوَجْهُ الظَّاهِرِ) أَيْ وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ (أَنَّ التَّعَامُلَ بِالْجِيَادِ) يَعْنِي أَنَّ الْمُتَعَارَفَ فِي التَّعَامُلِ هُوَ الْجِيَادُ وَالْمُطْلَقُ يَنْصَرِفُ إلَى الْمُتَعَارَفِ (فَانْصَرَفَ مُطْلَقُهُ) أَيْ مُطْلَقُ الْقَرْضِ (إلَيْهَا) أَيْ إلَى الْجِيَادِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْجِيَادُ وَبَعْدَ ذَلِكَ لَا تُقْبَلُ دَعْوَى الزِّيَافَةِ لِأَنَّهَا رُجُوعٌ عَمَّا أَقَرَّ بِهِ.

(وَلَوْ قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ زُيُوفٍ وَلَمْ يَذْكُرْ الْبَيْعَ وَالْقَرْضَ) أَيْ وَلَوْ أَرْسَلَ وَلَمْ يُبَيِّنْ الْجِهَةَ وَادَّعَى أَنَّهَا زُيُوفٌ (قِيلَ يُصَدَّقُ بِالْإِجْمَاعِ) يَعْنِي إذَا وَصَلَ (لِأَنَّ اسْمَ الدَّرَاهِمِ يَتَنَاوَلُهَا) أَيْ يَتَنَاوَلُ الزُّيُوفَ وَلَمْ يَذْكُرْ مَا يَصْرِفُهَا إلَى الْجِيَادِ (وَقِيلَ لَا يُصَدَّقُ) قَائِلُ هَذَا هُوَ الْكَرْخِيُّ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْإِمَامُ قَاضِي خَانْ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: أَيْ لَا يُصَدَّقُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَلَ أَمْ فَصَلَ، وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَيُصَدَّقُ إذَا وَصَلَ وَلَا يُصَدَّقُ إذَا فَصَلَ، فَحَصَلَ الْمَعْنَى: وَقِيلَ هُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ السَّابِقِ أَيْضًا كَمَا صَرَّحُوا بِهِ (لِأَنَّ مُطْلَقَ الْإِقْرَارِ) بِالدَّيْنِ (يَنْصَرِفُ إلَى الْعُقُودِ) أَيْ إلَى الْإِلْزَامِ بِسَبَبِ الْعُقُودِ (لِتَعَيُّنِهَا مَشْرُوعَةً) أَيْ لِكَوْنِهَا هِيَ الْمَشْرُوعَةَ (لَا إلَى الِاسْتِهْلَاكِ الْمُحَرَّمِ) أَيْ لَا يَنْصَرِفُ إلَى الْإِلْزَامِ بِسَبَبِ الِاسْتِهْلَاكِ الْمُحَرَّمِ، إذْ لَا يَجُوزُ حَمْلُ أَمْرِ الْمُسْلِمِ عَلَى الْحَرَامِ مَا أَمْكَنَ، فَصَارَ هَذَا وَمَا بَيْنَ سَبَبِ التِّجَارَةِ سَوَاءٌ.

قَالَ فِي الْفَتَاوَى الصُّغْرَى: وَلَوْ أَرْسَلَ وَلَمْ يُبَيِّنْ الْجِهَةَ ثُمَّ قَالَ هِيَ زُيُوفٌ قَالَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ: لَمْ يَذْكُرْ هَذَا فِي الْأُصُولِ. فَمِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ قَالَ هُوَ هَذَا الِاخْتِلَافُ،

ص: 371

(وَلَوْ قَالَ اغْتَصَبْت مِنْهُ أَلْفًا أَوْ قَالَ أَوْدَعَنِي ثُمَّ قَالَ هِيَ زُيُوفٌ أَوْ نَبَهْرَجَةٌ صُدِّقَ وَصَلَ أَمْ فَصَلَ) لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَغْصِبُ مَا يَجِدُ وَيُودِعُ مَا يَمْلِكُ فَلَا مُقْتَضَى لَهُ فِي الْجِيَادِ وَلَا تَعَامُلَ فَيَكُونُ بَيَانَ النَّوْعِ فَيَصِحُّ وَإِنْ فَصَلَ،

وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ هَاهُنَا يُصَدَّقُ إجْمَاعًا لِأَنَّ الْجَوْدَةَ تَجِبُ عَلَى بَعْضِ الْوُجُوهِ دُونَ الْبَعْضِ فَلَا تَجِبُ مَعَ الِاحْتِمَالِ انْتَهَى.

(وَلَوْ قَالَ اغْتَصَبْت مِنْهُ أَلْفًا أَوْ قَالَ أَوْدَعَنِي) أَيْ أَوْدَعَنِي أَلْفًا (ثُمَّ قَالَ هِيَ زُيُوفٌ أَوْ نَبَهْرَجَةٌ صُدِّقَ وَصَلَ أَمْ فَصَلَ) هَذِهِ مِنْ مَسَائِلِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِهَا (لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَغْصِبُ مَا يَجِدُ وَيُودِعُ مَا يَمْلِكُ فَلَا مُقْتَضَى لَهُ) أَيْ لِوَاحِدٍ مِنْ الْغَصْبِ وَالْإِيدَاعِ (وَلَا تَعَامُلَ) بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّ عَقْدَ الْبَيْعِ يَقْتَضِيهَا فِي الْجِيَادِ: أَيْ وَلَا تَعَامُلَ فِي غَصْبِ الْجِيَادِ وَلَا فِي إيدَاعِهَا، بِخِلَافِ الْقَرْضِ فَإِنَّ التَّعَامُلَ فِيهِ بِالْجِيَادِ فَلَا يَكُونُ قَوْلُهُ هِيَ زُيُوفٌ بَعْدَ الْإِقْرَارِ بِغَصْبِ الْأَلْفِ أَوْ إيدَاعِهَا تَغْيِيرًا لِأَوَّلِ كَلَامِهِ (فَيَكُونُ بَيَانَ النَّوْعِ فَيَصِحُّ وَإِنْ فَصَلَ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَفِيهِ نَظَرٌ. لِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الزِّيَافَةَ فِي الدَّرَاهِمِ عَيْبٌ فَيَكُونُ ذِكْرُ الزَّيْفِ رُجُوعًا فَلَا يُقْبَلُ أَصْلًا، فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ بَيَانًا مُغَيِّرًا فَلَا يُقْبَلُ مَفْصُولًا انْتَهَى.

أَقُولُ: هَذَا النَّظَرُ فِي غَايَةِ السُّقُوطِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الزِّيَافَةِ عَيْبًا فِي الدَّرَاهِمِ كَوْنُ ذِكْرِ الزُّيُوفِ رُجُوعًا أَوْ بَيَانًا مُغَيِّرًا إنْ لَمْ يَتَنَاوَلْ أَوَّلُ كَلَامِ الْمُقِرِّ الْمَعْيُوبَ وَغَيْرَ الْمَعْيُوبِ عَلَى السَّوَاءِ، بَلْ كَانَ مَخْصُوصًا بِغَيْرِ الْمَعْيُوبِ وَهُوَ الْجِيَادُ، أَمَّا مِنْ جِهَةِ تَحَقُّقِ الْمُقْتَضَى كَمَا فِي الْبَيْعِ أَوْ التَّعَامُلِ كَمَا فِي الْقَرْضِ. وَإِذْ قَدْ تَبَيَّنَ فِي التَّعْلِيلِ الْمَذْكُورِ عَدَمُ تَحَقُّقِ مُقْتَضَى الْجِيَادِ وَلَا التَّعَامُلُ بِهَا فِي الْغَصْبِ وَالْإِيدَاعِ تَعَيَّنَ تَنَاوُلُ أَوَّلِ كَلَامِ الْمُقِرِّ الْجِيَادَ وَالزُّيُوفَ عَلَى السَّوَاءِ فَلَمْ يَكُنْ ذِكْرُ الزُّيُوفِ فِي آخِرِ كَلَامِهِ رُجُوعًا عَمَّا أَقَرَّ بِهِ أَصْلًا وَلَا بَيَانًا مُغَيِّرًا فِي شَيْءٍ بَلْ كَانَ بَيَانَ النَّوْعِ قَطْعًا، وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّا قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهَا صِفَةٌ وَالْمَوْصُوفُ بِهَا قَدْ يَكُونُ مُتَّصِفًا بِهَا مِنْ حَيْثُ الْخِلْقَةُ فَيَكُونُ مُنَوَّعًا لَيْسَ إلَّا كَمَا فِي الْحِنْطَةِ وَقَدْ لَا يَكُونُ، وَحِينَئِذٍ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُنَوَّعًا وَعَيْبًا. وَالضَّابِطُ فِي ذَلِكَ أَنْ يُنْظَرَ فِي الْجِهَةِ الْمُوجِبَةِ لَهَا، فَإِنْ اقْتَضَتْ السَّلَامَةَ كَانَتْ الزِّيَافَةُ عَيْبًا وَإِلَّا كَانَتْ نَوْعًا، وَذَلِكَ لِأَنَّهَا لَمَّا اقْتَضَتْهَا تَقَيَّدَتْ بِهَا فَلَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ الزِّيَافَةُ نَوْعًا مِنْهَا لِتَبَايُنِهَا لَكِنَّهَا تُنَافِيهَا تَنَافِيَ التَّضَادِّ فَكَانَتْ عَيْبًا، لِأَنَّ ضِدَّ السَّلَامَةِ عَيْبٌ.

وَإِذَا لَمْ تَقْتَضِهَا كَانَتَا نَوْعَيْنِ لِمُطْلَقِ الدَّرَاهِمِ لِاحْتِمَالِهِ إيَّاهُمَا لِاحْتِمَالِ الْجِنْسِ الْأَنْوَاعَ هَذَا، انْتَهَى كَلَامُهُ. أَقُولُ: هَذَا كَلَامٌ خَالٍ عَنْ التَّحْصِيلِ، أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ الزِّيَافَةَ فِي الدَّرَاهِمِ مِمَّا لَا يَكُونُ الْمَوْصُوفُ بِهَا مُتَّصِفًا بِهَا مِنْ حَيْثُ الْخِلْقَةُ أَصْلًا إذْ هِيَ أَمْرٌ عَارِضٌ لِلدَّرَاهِمِ تَخْلُو عَنْهَا الدَّرَاهِمُ فِي أَصْلِ خِلْقَتِهَا، وَإِنَّمَا الَّتِي قَدْ يَكُونُ الْمَوْصُوفُ بِهَا مُتَّصِفًا بِهَا مِنْ حَيْثُ الْخِلْقَةُ هِيَ الرَّدَاءَةُ فِي الْحِنْطَةِ كَمَا مَرَّ وَهِيَ بِمَعْزِلٍ عَمَّا نَحْنُ فِيهِ وَلَا مَعْنَى لِخَلْطِ ذَلِكَ هَاهُنَا.

وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ مَا ذَكَرَهُ فِي الضَّابِطِ مِنْ أَنَّ الْجِهَةَ الْمُوجِبَةَ لِلدَّرَاهِمِ إنْ اقْتَضَتْ السَّلَامَةَ كَانَتْ الزِّيَافَةُ عَيْبًا، وَإِلَّا كَانَتْ نَوْعًا بِمَعْقُولِ الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ كَوْنَ الزِّيَافَةِ فِي الدَّرَاهِمِ عَيْبًا أَمْرٌ مُقَرَّرٌ غَيْرُ

ص: 372

وَلِهَذَا لَوْ جَاءَ رَادُّ الْمَغْصُوبِ الْوَدِيعَةِ بِالْمَعِيبِ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ.

وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يُصَدَّقُ فِيهِ مَفْصُولًا اعْتِبَارًا بِالْقَرْضِ إذْ الْقَبْضُ فِيهِمَا هُوَ الْمُوجِبُ لِلضَّمَانِ. وَلَوْ قَالَ هِيَ سَتُّوقَةٌ أَوْ رَصَاصٌ بَعْدَمَا أَقَرَّ بِالْغَصْبِ الْوَدِيعَةِ وَوَصَلَ صُدِّقَ، وَإِنْ فَصَلَ لَمْ يُصَدَّقْ لِأَنَّ السَّتُّوقَةُ لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ الدَّرَاهِمِ لَكِنَّ الِاسْمَ يَتَنَاوَلُهَا مَجَازًا فَكَانَ بَيَانًا مُغَيِّرًا فَلَا بُدَّ مِنْ الْوَصْلِ (وَإِنْ قَالَ فِي هَذَا كُلِّهِ أَلْفًا ثُمَّ قَالَ إلَّا أَنَّهُ يَنْقُصُ كَذَا لَمْ يُصَدَّقْ وَإِنْ وَصَلَ صُدِّقَ)

تَابِعٍ لِاقْتِضَاءِ الْجِهَةِ الْمُوجِبَةِ لَهَا السَّلَامَةَ، وَإِنَّمَا تَأْثِيرُ اقْتِضَائِهَا السَّلَامَةَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي إخْرَاجِ الدَّرَاهِمِ الْمَوْصُوفَةِ بِذَلِكَ الْعَيْبِ عَنْ مُطْلَقِ اسْمِ الدَّرَاهِمِ الْمَذْكُورَةِ فِي تِلْكَ الْجِهَةِ لَا فِي جَعْلِهَا مَعْيُوبَةً، وَكَذَلِكَ فِي كَوْنِ الزِّيَافَةِ نَوْعًا: أَيْ مُنَوَّعَةً لَيْسَ بِتَابِعٍ لِعَدَمِ اقْتِضَاءِ الْجِهَةِ السَّلَامَةَ، بَلْ الزِّيَافَةُ كَالْجَوْدَةِ مُنَوَّعَةٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ، فَإِنَّ الْجِيَادَ وَالزُّيُوفَ نَوْعَانِ مِنْ مُطْلَقِ الدَّرَاهِمِ قَطْعًا سَوَاءٌ اقْتَضَتْ الْجِهَةُ السَّلَامَةَ أَمْ لَا، وَأَمَّا ثَالِثًا فَلِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: وَإِذَا لَمْ تَقْتَضِهَا كَانَتَا نَوْعَيْنِ لِمُطْلَقِ الدَّرَاهِمِ أَنَّهُمَا حِينَئِذٍ كَانَتَا نَوْعَيْنِ لِمُطْلَقِ الدَّرَاهِمِ وَلَمْ تَكُنْ الزِّيَافَةُ عَيْبًا فَهُوَ مَمْنُوعٌ، بَلْ الزِّيَافَةُ عَيْبٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَكَوْنُهَا نَوْعًا لَا يُنَافِي كَوْنَهَا عَيْبًا، فَإِنَّ كَوْنَ بَعْضِ الْأَنْوَاعِ مَعْيُوبًا بِالنِّسْبَةِ إلَى بَعْضِ الْآخَرِ لَيْسَ بِعَزِيزٍ، وَإِنَّمَا لَا تَكُونُ عَيْبًا لَوْ كَانَتْ فِي أَصْلِ خِلْقَةِ الدَّرَاهِمِ وَلَيْسَتْ كَذَلِكَ، وَإِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّهُمَا حِينَئِذٍ كَانَتَا نَوْعَيْنِ لِمُطْلَقِ الدَّرَاهِمِ، وَإِنْ كَانَتْ الزِّيَافَةُ عَيْبًا أَيْضًا فَلَا يَحْصُلُ الْجَوَابُ عَنْ النَّظَرِ الْمَذْكُورِ بِمَا ذَكَرَهُ أَصْلًا كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى الْفَطِنِ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَلِهَذَا) أَيْ وَلِأَجْلِ أَنْ لَا مُقْتَضَى لَهُ فِي الْجِيَادِ وَلَا تَعَامُلَ (لَوْ جَاءَ رَادُّ الْمَغْصُوبِ) وَهُوَ الْغَاصِبُ (الْوَدِيعَةِ) أَيْ وَرَادُّ الْوَدِيعَةِ وَهُوَ الْمُودِعُ (بِالْمَعِيبِ) مُتَعَلِّقٌ بِجَاءَ: أَيْ لَوْ جَاءَ رَادُّهُمَا بِالْمَعِيبِ (كَانَ الْقَوْلُ لَهُ) أَيْ لِلرَّادِّ فَإِنَّ الِاخْتِلَافَ مَتَى وَقَعَ فِي صِفَةِ الْمَقْبُوضِ كَانَ الْقَوْلُ لِلْقَابِضِ ضَمِينًا كَانَ أَوْ أَمِينًا (وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يُصَدَّقُ فِيهِ) أَيْ فِي الْغَصْبِ لَا فِي الْوَدِيعَةِ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ (مَفْصُولًا) أَيْ إذَا ادَّعَى الزِّيَافَةَ مَفْصُولًا (اعْتِبَارًا بِالْقَرْضِ) أَيْ قِيَاسًا عَلَيْهِ (إذْ الْقَبْضُ فِيهِمَا) أَيْ فِي الْغَصْبِ وَالْقَرْضِ (هُوَ الْمُوجِبُ لِلضَّمَانِ) يَعْنِي أَنَّ الْجَامِعَ بَيْنَهُمَا كَوْنُ الْمُوجِبِ لِلضَّمَانِ هُوَ الْقَبْضَ، وَجَوَابُهُ يُفْهَمُ مِمَّا تَقَرَّرَ تَدَبَّرْ (وَلَوْ قَالَ: هِيَ سَتُّوقَةٌ أَوْ رَصَاصٌ بَعْدَمَا أَقَرَّ بِالْغَصْبِ الْوَدِيعَةِ وَوَصَلَ صُدِّقَ وَإِنْ فَصَلَ لَمْ يُصَدَّقْ) هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِمَّا ذَكَرُوهُ فِي شُرُوحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ تَفْرِيعًا عَلَى الْمَسْأَلَةِ الْمَارَّةِ.

قَالَ الْإِمَامُ عَلَاءُ الدِّينِ الْإِسْبِيجَابِيُّ فِي شَرْحِ الْكَافِي لِلْحَاكِمِ الشَّهِيدِ: وَإِنْ قَالَ هِيَ سَتُّوقَةٌ أَوْ رَصَاصٌ صُدِّقَ إنْ وَصَلَ وَلَمْ يُصَدَّقْ إذَا فَصَلَ: يَعْنِي فِي الْغَصْبِ الْوَدِيعَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ الدَّرَاهِمِ حَقِيقَةً وَإِنْ كَانَتْ مِنْ جِنْسِهَا صُورَةً، فَصَارَ إرَادَتُهَا بِاسْمِ الدَّرَاهِمِ كَإِرَادَةِ الْمَجَازِ بِاسْمِ الْحَقِيقَةِ، وَإِذَا بَيَّنَ أَنَّهُ أَرَادَ بِاللَّفْظِ الْمَجَازَ مَوْصُولًا قُبِلَ وَإِلَّا فَلَا انْتَهَى.

وَعَلَّلَ الْمُصَنِّفُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ بِمَا عَلَّلَ بِهِ الْإِمَامُ الْإِسْبِيجَابِيُّ فَقَالَ (لِأَنَّ السَّتُّوقَةَ لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ الدَّرَاهِمِ) أَيْ لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِهَا حَقِيقَةً وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ التَّجَوُّزُ بِهَا فِي بَابِ الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ (لَكِنَّ الِاسْمَ) أَيْ اسْمَ الدَّرَاهِمِ (يَتَنَاوَلُهَا) أَيْ يَتَنَاوَلُ السَّتُّوقَةَ (مَجَازًا) لِلْمُشَابَهَةِ بَيْنَ السَّتُّوقَةِ وَالدَّرَاهِمِ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ (فَكَانَ بَيَانًا مُغَيِّرًا) لِمَا اقْتَضَاهُ أَوَّلُ كَلَامِهِ؛ لِأَنَّ أَوَّلَ كَلَامِهِ يَتَنَاوَلُ الدَّرَاهِمَ صُورَةً وَحَقِيقَةً، وَبِآخِرِ كَلَامِهِ بَيَّنَ أَنَّ مُرَادَهُ الدَّرَاهِمُ صُورَةً لَا حَقِيقَةً (فَلَا بُدَّ مِنْ الْوَصْلِ) لِأَنَّ بَيَانَ التَّغْيِيرِ يَصِحُّ مَوْصُولًا لَا مَفْصُولًا، بِخِلَافِ مَا سَبَقَ لِأَنَّ الزُّيُوفَ وَالنَّبَهْرَجَةَ دَرَاهِمُ صُورَةً وَحَقِيقَةً فَلَيْسَ فِي بَيَانِهِ تَغْيِيرٌ لِأَوَّلِ كَلَامِهِ فَصَحَّ مَوْصُولًا وَمَفْصُولًا (وَإِنْ قَالَ فِي هَذَا كُلِّهِ) أَيْ فِيمَا ذُكِرَ مِنْ الْبَيْعِ وَالْقَرْضِ وَالْغَصْبِ وَالْإِيدَاعِ (أَلْفًا ثُمَّ قَالَ: إلَّا أَنَّهُ يَنْقُصُ كَذَا لَمْ يُصَدَّقْ، وَإِنْ وَصَلَ صُدِّقَ) هَذِهِ مِنْ مَسَائِلِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ

ص: 373

لِأَنَّ هَذَا اسْتِثْنَاءُ الْمِقْدَارِ وَالِاسْتِثْنَاءُ يَصِحُّ مَوْصُولًا، بِخِلَافِ الزِّيَافَةِ لِأَنَّهَا وَصْفٌ وَاسْتِثْنَاءُ الْأَوْصَافِ لَا يَصِحُّ، وَاللَّفْظُ يَتَنَاوَلُ الْمِقْدَارَ دُونَ الْوَصْفِ وَهُوَ تَصَرُّفٌ لَفْظِيٌّ كَمَا بَيَّنَّا، وَلَوْ كَانَ الْفَصْلُ ضَرُورَةَ انْقِطَاعِ الْكَلَامِ فَهُوَ وَاصِلٌ لِعَدَمِ إمْكَانِ الِاحْتِرَازِ عَنْهُ.

(وَمَنْ أَقَرَّ بِغَصْبِ ثَوْبٍ ثُمَّ جَاءَ بِثَوْبٍ مَعِيبٍ فَالْقَوْلُ لَهُ) لِأَنَّ الْغَصْبَ لَا يَخْتَصُّ بِالسَّلِيمِ.

(وَمَنْ قَالَ لِآخَرَ: أَخَذْت مِنْك أَلْفَ دِرْهَمٍ وَدِيعَةً فَهَلَكَتْ فَقَالَ لَا بَلْ أَخَذْتهَا غَصْبًا فَهُوَ ضَامِنٌ، وَإِنْ قَالَ أَعْطَيْتَنِيهَا وَدِيعَةً فَقَالَ لَا بَلْ غَصَبْتَنِيهَا لَمْ يَضْمَنْ) وَالْفَرْقُ أَنَّ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ أَقَرَّ بِسَبَبِ الضَّمَانِ وَهُوَ الْأَخْذُ ثُمَّ ادَّعَى مَا يُبْرِئُهُ وَهُوَ الْإِذْنُ وَالْآخَرُ

فِي تَعْلِيلِهَا (لِأَنَّ هَذَا اسْتِثْنَاءُ الْمِقْدَارِ) أَيْ اسْتِثْنَاءٌ لِبَعْضِ مَا أَقَرَّ بِهِ مِنْ الْمِقْدَارِ (وَالِاسْتِثْنَاءُ يَصِحُّ مَوْصُولًا) لَا مَفْصُولًا فَيَصِيرُ الْكَلَامُ عِبَارَةً عَمَّا وَرَاءَ الْمُسْتَثْنَى (بِخِلَافِ الزِّيَافَةِ لِأَنَّهُ وَصْفٌ) أَيْ لِأَنَّ الزِّيَافَةَ وَصْفٌ ذَكَّرَ الضَّمِيرَ بِاعْتِبَارِ الْوَصْفِ (وَاللَّفْظُ يَتَنَاوَلُ الْمِقْدَارَ دُونَ الْوَصْفِ، وَهُوَ) أَيْ الِاسْتِثْنَاءُ (تَصَرُّفٌ لَفْظِيٌّ كَمَا بَيَّنَّا) فِيمَا مَرَّ فَيَصِحُّ فِي مُتَنَاوَلِ اللَّفْظِ دُونَ غَيْرِهِ (وَلَوْ كَانَ الْفَصْلُ ضَرُورَةَ انْقِطَاعِ الْكَلَامِ) أَيْ لِضَرُورَةِ انْقِطَاعِ الْكَلَامِ بِسَبَبِ انْقِطَاعِ النَّفَسِ أَوْ أَخْذِ السُّعَالِ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ (فَهُوَ وَاصِلٌ) أَيْ هُوَ فِي حُكْمِ الْوَاصِلِ حَتَّى يَصِحُّ اسْتِثْنَاؤُهُ (لِعَدَمِ إمْكَانِ الِاحْتِرَازِ عَنْهُ) لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَتَكَلَّمَ بِكَلَامٍ كَثِيرٍ وَيَذْكُرُ الِاسْتِثْنَاءَ فِي آخِرِهِ، وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِجَمِيعِ ذَلِكَ بِنَفَسٍ وَاحِدٍ فَكَانَ عَفْوًا.

قَالَ فَخْرُ الدِّينِ قَاضِي خَانْ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: وَلَوْ فَصَلَ بَيْنَهُمَا يَفْصِلُ بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ بِأَنْ انْقَطَعَ عَنْهُ الْكَلَامُ ثُمَّ وَصَلَ، فَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَصِحُّ اسْتِثْنَاؤُهُ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَتَكَلَّمَ بِكَلَامٍ كَثِيرٍ مَعَ الِاسْتِثْنَاءِ وَلَا يَقْدِرُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ بِنَفَسٍ وَاحِدٍ فَجُعِلَ ذَلِكَ عَفْوًا، انْتَهَى كَلَامُهُ.

وَقَالَ الْكَاكِيُّ فِي مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ: وَبِهِ قَالَ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ؛ يَعْنِي مَالِكًا وَالشَّافِعِيَّ وَأَحْمَدَ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى.

(وَمَنْ أَقَرَّ بِغَصْبِ ثَوْبٍ ثُمَّ جَاءَ بِثَوْبٍ مَعِيبٍ فَالْقَوْلُ لَهُ) هَذَا لَفْظُ الْقُدُورِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِهِ (لِأَنَّ الْغَصْبَ لَا يَخْتَصُّ بِالسَّلِيمِ) فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يَغْصِبُ مَا يَجِدُ مِنْ الصَّحِيحِ وَالْمَعِيبِ وَالْجَيِّدِ وَالزَّيْفِ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِيمَا غَصَبَ سَوَاءٌ وَصَلَ أَمْ فَصَلَ.

(وَمَنْ قَالَ لِآخَرَ أَخَذْت مِنْك أَلْفَ دِرْهَمٍ وَدِيعَةً فَهَلَكَتْ فَقَالَ) أَيْ الْمُقَرُّ لَهُ (بَلْ أَخَذْتهَا غَصْبًا فَهُوَ) أَيْ الْمُقِرُّ (ضَامِنٌ) يَعْنِي كَانَ الْقَوْلُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلَ الْمُقَرِّ لَهُ مَعَ يَمِينِهِ فَالْمُقِرُّ ضَامِنٌ إلَّا أَنْ يَنْكُلَ الْمُقَرُّ لَهُ عَنْ الْيَمِينِ (وَإِنْ قَالَ: أَعْطَيْتنِيهَا وَدِيعَةً فَقَالَ) أَيْ الْمُقَرُّ لَهُ (لَا بَلْ غَصَبْتنِيهَا لَمْ يَضْمَنْ) أَيْ لَمْ يَضْمَنْ الْمُقِرُّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ بَلْ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ، وَهَاتَانِ الْمَسْأَلَتَانِ مِنْ مَسَائِلِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ

(وَالْفَرْقُ) بَيْنَهُمَا (أَنَّ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ) وَهُوَ قَوْلُهُ: أَخَذْت مِنْك أَلْفَ دِرْهَمٍ وَدِيعَةً (أَقَرَّ بِسَبَبِ الضَّمَانِ وَهُوَ الْأَخْذُ) لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تَرُدَّ» وَهَذَا يَتَنَاوَلُ رَدَّ الْعَيْنِ حَالَ بَقَائِهَا وَرَدَّ الْمِثْلِ حَالَ زَوَالِهَا لِكَوْنِ الْمِثْلِ قَائِمًا مَقَامَ الْأَصْلِ (ثُمَّ ادَّعَى) أَيْ ثُمَّ ادَّعَى الْمُقِرُّ بِقَوْلِهِ وَدِيعَةً (مَا يُبْرِئُهُ) عَنْ الضَّمَانِ (وَهُوَ الْإِذْنُ) بِالْأَخْذِ (وَالْآخَرُ) وَهُوَ الْمُقَرُّ

ص: 374

يُنْكِرُهُ فَيَكُونُ الْقَوْلُ لَهُ مَعَ الْيَمِينِ. وَفِي الثَّانِي أَضَافَ الْفِعْلَ إلَى غَيْرِهِ وَذَاكَ يَدَّعِي عَلَيْهِ سَبَبَ الضَّمَانِ وَهُوَ الْغَصْبُ فَكَانَ الْقَوْلُ لِمُنْكِرِهِ مَعَ الْيَمِينِ وَالْقَبْضُ فِي هَذَا كَالْأَخْذِ وَالدَّفْعُ كَالْإِعْطَاءِ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: إعْطَاؤُهُ وَالدَّفْعُ إلَيْهِ لَا يَكُونُ إلَّا بِقَبْضِهِ، فَنَقُولُ: قَدْ يَكُونُ بِالتَّخْلِيَةِ وَالْوَضْعِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَلَوْ اقْتَضَى ذَلِكَ فَالْمُقْتَضَى ثَابِتٌ ضَرُورَةً فَلَا يَظْهَرُ فِي انْعِقَادِهِ سَبَبُ الضَّمَانِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ: أَخَذْتُهَا مِنْك وَدِيعَةً وَقَالَ الْآخَرُ لَا بَلْ قَرْضًا حَيْثُ يَكُونُ الْقَوْلُ لِلْمُقِرِّ وَإِنْ أَقَرَّ بِالْأَخْذِ لِأَنَّهُمَا تَوَافَقَا هُنَالِكَ عَلَى أَنَّ الْأَخْذَ كَانَ بِالْإِذْنِ إلَّا أَنَّ الْمُقَرَّ لَهُ يَدَّعِي سَبَبَ الضَّمَانِ وَهُوَ الْقَرْضُ وَالْآخَرُ يُنْكِرُ

لَهُ (يُنْكِرُهُ) أَيْ يُنْكِرُ الْإِذْنَ (فَيَكُونُ الْقَوْلُ لَهُ مَعَ الْيَمِينِ) هَذَا مَا قَالُوا. أَقُولُ: فِيهِ بَحْثٌ؛ لِأَنَّهُمْ إنْ أَرَادُوا أَنَّ الْأَخْذَ مُطْلَقًا سَبَبُ الضَّمَانِ فَهُوَ مَمْنُوعٌ، بَلْ الْأَخْذُ إذَا كَانَ بِإِذْنِ الْمَالِكِ كَأَخْذِ الْوَدِيعَةِ بِإِذْنِ الْمُودِعِ فَلَيْسَ بِسَبَبِ الضَّمَانِ قَطْعًا لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «لَيْسَ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ غَيْرِ الْمُغِلِّ ضَمَانٌ، وَلَا عَلَى الْمُسْتَوْدَعِ غَيْرِ الْمُغِلِّ ضَمَانٌ» كَمَا اسْتَدَلُّوا بِهِ فِي كِتَابِ الْوَدِيعَةِ. عَلَى أَنَّ الْوَدِيعَةَ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْمُودَعِ إذَا هَلَكَتْ لَمْ يَضْمَنْ، فَيَكُونُ مَا أَخَذَتْهُ الْيَدُ بِهَذَا الطَّرِيقِ مَخْصُوصًا عَنْ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تَرُدَّ» وَإِنْ أَرَادُوا أَنَّ الْأَخْذَ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَالِكِ سَبَبُ الضَّمَانِ فَهُوَ مُسَلَّمٌ، وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ أَقَرَّ بِالْأَخْذِ بِغَيْرِ إذْنٍ، بَلْ أَقَرَّ بِالْأَخْذِ الْمُقَيَّدِ بِكَوْنِهِ وَدِيعَةً وَهُوَ الْأَخْذُ بِالْإِذْنِ فَتَأَمَّلْ فِي الْجَوَابِ. قَالَ فِي الْكِفَايَةِ: فَإِنْ قِيلَ: يَنْبَغِي أَنْ يُصَدَّقَ الْمُقِرُّ وَيُجْعَلَ قَوْلُهُ: وَدِيعَةً بَيَانُ تَغْيِيرٍ كَمَا لَوْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفٌ وَدِيعَةٌ. قُلْنَا: صَدْرُ الْكَلَامِ هُنَا مُوجِبُهُ الْغَصْبُ فَلَا يَحْتَمِلُ الْوَدِيعَةَ، فَقَوْلُهُ: وَدِيعَةً يَكُونُ دَعْوَى مُبْتَدَأَةً لَا بَيَانَ مَا احْتَمَلَهُ صَدْرُ الْكَلَامِ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفٌ يَحْتَمِلُ الْوَدِيعَةَ: يَعْنِي عَلَى حِفْظِهِ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ وَدِيعَةٌ بَيَانَ تَغْيِيرٍ فَيُصَدَّقُ مَوْصُولًا انْتَهَى. أَقُولُ: فِي الْجَوَابِ بَحْثٌ، إذْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ صَدْرَ الْكَلَامِ هُنَا مُوجِبُهُ الْغَصْبُ، كَيْفَ وَسَيَجِيءُ فِي كِتَابِ الْغَصْبِ أَنَّ الْغَصْبَ فِي اللُّغَةِ: أَخْذُ الشَّيْءِ مِنْ الْغَيْرِ عَلَى سَبِيلِ التَّغَلُّبِ؟ وَفِي الشَّرِيعَةِ: أَخْذُ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ مُحْتَرَمٍ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَالِكِ عَلَى وَجْهٍ يُزِيلُ يَدَهُ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ صَدْرَ الْكَلَامِ هَاهُنَا وَهُوَ قَوْلُهُ أَخَذْت مِنْك أَلْفَ دِرْهَمٍ أَعَمُّ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ مَعْنَيَيْ الْغَصْبِ، وَمِنْ الْمُقَرَّرِ أَنَّ الْعَامَّ لَا يَدُلُّ عَلَى الْخَاصِّ بِإِحْدَى الدَّلَالَاتِ الثَّلَاثِ، فَأَنَّى يَكُونُ مُوجِبُهُ الْغَصْبَ، وَكَأَنَّ صَاحِبَ مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ تَنَبَّهَ لِمَا قُلْنَا حَيْثُ قَالَ بَعْدَ ذِكْرِ مَا فِي الْكِفَايَةِ مِنْ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ.

كَذَا قِيلَ وَفِيهِ نَوْعُ تَأَمُّلٍ (وَفِي الثَّانِي) أَيْ وَفِي الْفَصْلِ الثَّانِي وَهُوَ قَوْلُهُ أَعْطَيْتنِيهَا وَدِيعَةً (أَضَافَ الْفِعْلَ إلَى غَيْرِهِ) وَهُوَ الْمُقَرُّ لَهُ فَلَمْ يَكُنْ مُقِرًّا بِسَبَبِ الضَّمَانِ (وَذَاكَ) أَيْ ذَاكَ الْغَيْرُ (يَدَّعِي عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الْمُقِرِّ (سَبَبَ الضَّمَانِ وَهُوَ الْغَصْبُ) وَالْمُقِرُّ يُنْكِرُهُ (فَكَانَ الْقَوْلُ لِمُنْكِرِهِ مَعَ الْيَمِينِ) قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَالْقَبْضُ فِي هَذَا) أَيْ فِي الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ (كَالْأَخْذِ) يَعْنِي لَوْ قَالَ الْمُقِرُّ: قَبَضْت مِنْك أَلْفَ دِرْهَمٍ وَدِيعَةً فَقَالَ الْمُقَرُّ لَهُ بَلْ غَصَبْتنِيهَا كَانَ ضَامِنًا، كَمَا لَوْ قَالَ أَخَذْت مِنْك أَلْفَ دِرْهَمٍ وَدِيعَةً (وَالدَّفْعُ كَالْإِعْطَاءِ) يَعْنِي لَوْ قَالَ الْمُقِرُّ دَفَعْت إلَيَّ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَدِيعَةً فَقَالَ الْمُقَرُّ لَهُ بَلْ غَصَبْتنِيهَا لَمْ يَضْمَنْ كَمَا لَوْ قَالَ أَعْطَيْتنِيهَا (فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ الْإِعْطَاءُ وَالدَّفْعُ إلَيْهِ) أَيْ إلَى الْمُقِرِّ (لَا يَكُونُ إلَّا بِقَبْضِهِ) فَكَانَ الْإِقْرَارُ بِالْإِعْطَاءِ وَالدَّفْعِ إقْرَارًا بِالْقَبْضِ، وَإِذَا أَقَرَّ بِالْقَبْضِ يَضْمَنُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَضْمَنَ إذَا أَقَرَّ بِالْإِعْطَاءِ وَالدَّفْعِ أَيْضًا (فَنَقُولُ) فِي الْجَوَابِ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْإِعْطَاءَ وَالدَّفْعَ إلَيْهِ لَا يَكُونُ إلَّا بِقَبْضِهِ بَلْ (قَدْ يَكُونُ) كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْإِعْطَاءِ وَالدَّفْعِ (بِالتَّخْلِيَةِ وَالْوَضْعِ بَيْنَ يَدَيْهِ) بِدُونِ قَبْضِهِ فَلَمْ يَقْتَضِ الْإِقْرَارُ بِهِمَا الْإِقْرَارَ بِالْقَبْضِ (وَلَوْ اقْتَضَى ذَلِكَ) أَيْ وَلَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ اقْتَضَى ذَلِكَ (فَالْمُقْتَضَى ثَابِتٌ ضَرُورَةً) وَالثَّابِتُ بِالضَّرُورَةِ يَثْبُتُ بِأَدْنَى مَا يَنْدَفِعُ بِهِ الضَّرُورَةُ (فَلَا يَظْهَرُ فِي انْعِقَادِ سَبَبِ الضَّمَانِ) لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ: (وَهَذَا) أَيْ وَهَذَا الَّذِي قُلْنَا مِنْ ضَمَانِ الْمُقِرِّ بِالْأَخْذِ وَدِيعَةً إذَا قَالَ الْمُقَرُّ لَهُ أَخَذْتَهَا غَصْبًا (بِخِلَافِ مَا) أَيْ مُلَابِسٍ، بِخِلَافِ مَا (إذَا قَالَ) أَيْ الْمُقِرُّ (أَخَذْتُهَا مِنْك وَدِيعَةً وَقَالَ الْآخَرُ لَا بَلْ قَرْضًا حَيْثُ يَكُونُ الْقَوْلُ لِلْمُقِرِّ وَإِنْ أَقَرَّ بِالْأَخْذِ لِأَنَّهُمَا تَوَافَقَا هُنَالِكَ) أَيْ فِيمَا إذَا قَالَ الْمُقَرُّ لَهُ أَخَذْتَهَا قَرْضًا (عَلَى أَنَّ الْأَخْذَ كَانَ بِالْإِذْنِ) لِأَنَّ الْأَخْذَ بِالْقَرْضِ لَا يَكُونُ إلَّا بِالْإِذْنِ كَالْأَخْذِ بِالْوَدِيعَةِ. (إِلَّا أَنَّ الْمُقِرَّ لَهُ يَدَّعِي سَبَبَ الضَّمَانِ وَهُوَ الْقَرْضُ وَالْآخَرُ يُنْكِرُ) ذَلِكَ

ص: 375

فَافْتَرَقَا (وَإِنْ قَالَ هَذِهِ الْأَلْفُ كَانَتْ وَدِيعَةً لِي عِنْدَ فُلَانٍ فَأَخَذْتُهَا فَقَالَ فُلَانٌ هِيَ لِي فَإِنَّهُ يَأْخُذُهَا) لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِالْيَدِ لَهُ وَادَّعَى اسْتِحْقَاقَهَا عَلَيْهِ وَهُوَ يُنْكِرُ وَالْقَوْلُ لِلْمُنْكِرِ.

(وَلَوْ قَالَ: آجَرْتُ دَابَّتِي هَذِهِ فُلَانًا فَرَكِبَهَا وَرَدَّهَا، أَوْ قَالَ: آجَرْتُ ثَوْبِي هَذَا فُلَانًا فَلَبِسَهُ وَرَدَّهُ وَقَالَ فُلَانٌ: كَذَبْتَ وَهُمَا لِي، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ (وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: الْقَوْلُ قَوْلُ الَّذِي أُخِذَ مِنْهُ الدَّابَّةُ وَالثَّوْبُ) وَهُوَ الْقِيَاسُ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الْإِعَارَةُ وَالْإِسْكَانُ.

(وَلَوْ قَالَ خَاطَ فُلَانٌ ثَوْبِي هَذَا بِنِصْفِ دِرْهَمٍ ثُمَّ قَبَضْتُهُ وَقَالَ فُلَانٌ: الثَّوْبُ ثَوْبِي فَهُوَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ فِي الصَّحِيحِ) وَجْهُ الْقِيَاسِ مَا بَيَّنَّاهُ فِي الْوَدِيعَةِ.

فَكَانَ الْقَوْلُ لِلْمُنْكِرِ (فَافْتَرَقَا)، أَيْ: فَافْتَرَقَ مَا إِذَا قَالَ الْمُقَرُّ لَهُ: أَخَذْتَهَا غَصْبًا وَمَا إِذَا قَالَ: أَخَذْتَهَا قَرْضًا.

أَقُولُ: هَا هُنَا نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الَّذِي يَدَّعِيهِ الْمُقِرُّ إِنَّمَا هُوَ مَا يُبَرِّئُهُ عَنِ الضَّمَانِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى، وَلَيْسَ ذَلِكَ هُوَ الْإِذْنُ الْمُطْلَقُ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِمَّا يَحْصُلُ بِالْإِذْنِ كَالْبَيْعِ وَالْقَرْضِ وَنَظَائِرِهِمَا أَسْبَابٌ مُوجِبَةٌ لِلضَّمَانِ فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ تَكُونَ مُبَرِّئَةً عَنِ الضَّمَانِ، بَلْ إِنَّمَا ذَلِكَ هُوَ الْإِذْنُ الْمَخْصُوصُ الْحَاصِلُ فِي ضِمْنِ الْوَدِيعَةِ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُقَرَّ لَهُ لَا يُوَافِقُهُ عَلَى الْأَخْذِ بِهَذَا الْإِذْنِ الْمَخْصُوصِ، وَإِلَّا لَمَا ادَّعَى عَلَيْهِ سَبَبَ الضَّمَانِ وَهُوَ الْقَرْضُ.

وَأَمَّا تَوَافُقُهُمَا عَلَى مُطْلَقِ الْإِذْنِ فَلَا يُجْدِي نَفْعًا فِي الْفَرْقِ؛ لِأَنَّ ادِّعَاءَ الْمُقِرِّ مَا يُبَرِّئُهُ عَنِ الضَّمَانِ وَهُوَ الْإِذْنُ الْمَخْصُوصُ الْحَاصِلُ فِي ضِمْنِ الْوَدِيعَةِ وَإِنْكَارَ الْمُقِرِّ لَهُ إِيَّاهُ بِقَوْلِهِ: لَا بَاقِيَانِ بِعَيْنِهِمَا فِيمَا إِذَا قَالَ الْمُقَرُّ لَهُ: بَلْ أَخَذْتَهَا قَرْضًا غَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّ الْمُقَرَّ لَهُ أَيْضًا يَدَّعِي سَبَبَ الضَّمَانِ وَهُوَ الْقَرْضُ وَالْمُقِرُّ يُنْكِرُهُ.

وَإِذَا تَعَارَضَ دَعْوَاهُمَا وَإِنْكَارُهُمَا بَقِيَ إِقْرَارُ الْمُقِرِّ أَوَّلًا بِسَبَبِ الضَّمَانِ وَهُوَ الْأَخْذُ سَالِمًا عَنِ الدَّافِعِ، كَمَا فِيمَا إِذَا قَالَ الْمُقَرُّ لَهُ: بَلْ أَخَذْتَهَا غَصْبًا فَلَمْ يَفْتَرِقَا افْتِرَاقًا يُوجِبُ اخْتِلَافَ الْحَكَمِ، تَأَمَّلْ جِدًّا.

(وَإِنْ قَالَ: هَذِهِ الْأَلْفُ كَانَتْ لِي وَدِيعَةً عِنْدَ فُلَانٍ فَأَخَذْتُهَا) مِنْهُ. (فَقَالَ فُلَانٌ: هِيَ لِي فَإِنَّهُ)، أَيْ: فَإِنَّ فُلَانًا. (يَأْخُذُهَا) هَذِهِ مِنْ مَسَائِلِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ: فِي تَعْلِيلِهَا: (لِأَنَّهُ)، أَيْ: لِأَنَّ الْمُقِرَّ. (أَقَرَّ بِالْيَدِ لَهُ)، أَيْ: لِفُلَانٍ. وَفِي الْكَافِي: وَأَقَرَّ بِالْأَخْذِ مِنْهُ وَالسَّبِيلُ فِي الْأَخْذِ الرَّدُّ عَلَى الْمَأْخُوذِ مِنْهُ. (وَادَّعَى اسْتِحْقَاقَهَا عَلَيْهِ)، أَيِ: ادَّعَى اسْتِحْقَاقَهُ الْأَلْفَ عَلَى فُلَانٍ بِقَوْلِهِ: كَانَتْ لِي وَدِيعَةً عِنْدَ فُلَانٍ. (وَهُوَ يُنْكِرُ وَالْقَوْلُ لِلْمُنْكِرِ) مَعَ يَمِينِهِ. .

(وَلَوْ قَالَ: آجَرْتُ دَابَّتِي هَذِهِ فَلَانًا فَرَكِبَهَا وَرَدَّهَا) عَلَيَّ. (أَوْ قَالَ: آجَرْتُ ثَوْبِي هَذَا فُلَانًا فَلَبِسَهُ وَرَدَّهُ) عَلَيَّ. (وَقَالَ فُلَانٌ: كَذَبْتَ) بَلِ الدَّابَّةُ وَالثَّوْبُ لِي. (فَالْقَوْلُ لَهُ)، أَيْ: لِلْمُقِرِّ. (وَهَذَا)، أَيْ: كَوْنُ الْقَوْلِ قَوْلُ الْمُقِرِّ. (عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: الْقَوْلُ قَوْلُ الَّذِي أُخِذَ مِنْهُ الدَّابَّةُ وَالثَّوْبُ) وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ هُنَا اسْتِحْسَانٌ وَقَوْلُهُمَا قِيَاسٌ، كَذَا قَالُوا فِي شُرُوحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ:(وَهُوَ الْقِيَاسُ)، أَيْ: قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ هُوَ الْقِيَاسُ، فَيُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ هُوَ الِاسْتِحْسَانُ؛ وَلِهَذَا قَالَ فِيمَا بَعْدُ: وَجْهُ الْقِيَاسِ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ، ثُمَّ إِنَّ هَذَا كُلَّهُ إِذَا لَمْ تَكُنِ الدَّابَّةُ أَوِ الثَّوْبُ مَعْرُوفًا لِلْمُقِرِّ.

أَمَّا إِذَا كَانَ مَعْرُوفًا لَهُ كَانَ الْقَوْلُ لِلْمُقِرِّ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِيهِ إِذَا كَانَ مَعْرُوفًا لِلْمُقِرِّ لَا يَكُونُ مُجَرَّدَ الْيَدِ فِيهِ لِغَيْرِهِ سَبَبًا لِلِاسْتِحْقَاقِ عَلَيْهِ، كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ وَالْإِيضَاحِ، وَذَكَرَ فِي الشُّرُوحِ. (وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ)، أَيْ: عَلَى الْخِلَافِ الْمَذْكُورِ آنِفًا (الْإِعَارَةُ وَالْإِسْكَانُ) بِأَنْ قَالَ: أَعَرْتُ دَابَّتِي هَذِهِ فُلَانًا فَرَكِبَهَا ثُمَّ رَدَّهَا عَلَيَّ، أَوْ أَعَرْتُ ثَوْبِي هَذَا فُلَانًا فَلَبِسَهُ ثُمَّ رَدَّهُ عَلَيَّ، وَبِأَنْ قَالَ: أَسْكَنْتُ دَارِي هَذِهِ فُلَانًا ثُمَّ أَخْرَجَتُهُ مِنْهَا، فَقَالَ فُلَانٌ: كَذَبْتَ بَلِ الدَّابَّةُ وَالثَّوْبُ وَالدَّارُ لِي.

(وَلَوْ قَالَ: خَاطَ فُلَانٌ ثَوْبِي هَذَا بِنِصْفِ دِرْهَمٍ ثُمَّ قَبَضْتُهُ، وَقَالَ فُلَانٌ: الثَّوْبُ ثَوْبِي فَهُوَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ فِي الصَّحِيحِ) احْتُرِزَ بِهِ عَنْ قَوْلِ بَعْضِهِمْ: إِنَّ الْقَوْلَ فِي هَذَا قَوْلُ الْمُقِرِّ بِالْإِجْمَاعِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ دَلِيلًا لِأَبِي حَنِيفَةَ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِثَابِتٍ فِي الْأُصُولِ، بَلْ قَالَ عَامَّةَ الْمَشَايِخِ: هُوَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ أَيْضًا قَالَ الْمُصَنِّفُ: (وَجْهُ الْقِيَاسِ مَا بَيَّنَّاهُ فِي الْوَدِيعَةِ) أَرَادَ بِهِ قَوْلَهُ: لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِالْيَدِ لَهُ وَادَّعَى

ص: 376

وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ وَهُوَ الْفَرْقُ أَنَّ الْيَدَ فِي الْإِجَارَةِ وَالْإِعَارَةِ ضَرُورِيَّةٌ تُثْبِتُ ضَرُورَةَ اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَهُوَ الْمَنَافِعُ، فَيَكُونُ عَدَمًا فِيمَا وَرَاءَ الضَّرُورَةِ فَلَا يَكُونُ إِقْرَارًا لَهُ بِالْيَدِ مُطْلَقًا، بِخِلَافِ الْوَدِيعَةِ لِأَنَّ الْيَدَ فِيهَا مَقْصُودَةٌ، وَالْإِيدَاعُ إِثْبَاتُ الْيَدِ قَصْدًا فَيَكُونُ الْإِقْرَارُ بِهِ اعْتِرَافًا بِالْيَدِ لِلْمُودِعِ.

وَوَجْهٌ آخَرُ أَنَّ فِي الْإِجَارَةِ وَالْإِعَارَةِ وَالْإِسْكَانِ أَقَرَّ بِيَدٍ ثَابِتَةٍ مِنْ جِهَتِهِ فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي كَيْفِيَّتِهِ. وَلَا كَذَلِكَ فِي مَسْأَلَةِ الْوَدِيعَةِ لِأَنَّهُ قَالَ فِيهَا: كَانَتْ وَدِيعَةً، وَقَدْ تَكُونُ مِنْ غَيْرِ صُنْعِهِ، حَتَّى لَوْ قَالَ: أَوْدَعْتُهَا

اسْتِحْقَاقَهَا عَلَيْهِ وَهُوَ يُنْكِرُ وَالْقَوْلُ لِلْمُنْكِرِ. (وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ وَهُوَ الْفَرْقُ) بَيْنَ مَسْأَلَةِ الْوَدِيعَةِ وَبَيْنَ هَذِهِ الْمَسَائِلِ (أَنَّ الْيَدَ فِي الْإِجَارَةِ وَالْإِعَارَةِ ضَرُورِيَّةٌ)، يَعْنِي: أَنَّ الْيَدَ فِيهِمَا لَيْسَتْ بِمَقْصُودَةٍ بَلْ هِيَ ضَرُورِيَّةٌ (تُثْبِتُ ضَرُورَةَ اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَهُوَ الْمَنَافِعُ فَتَكُونُ عَدَمًا)، أَيْ: فَتَكُونُ الْيَدُ مَعْدُومَةً (فِيمَا وَرَاءَ الضَّرُورَةِ)، فَلَا تَظْهَرُ فِي حَقِّ الِاسْتِحْقَاقِ عَلَى الْمُقِرِّ؛ لِأَنَّ مَا يَثْبُتُ بِالضَّرُورَةِ يَقْتَصِرُ عَلَى قَدْرِ الضَّرُورَةِ، (فَلَا يَكُونُ)، أَيْ: فَلَا يَكُونُ الْإِقْرَارُ بِالْإِجَارَةِ وَالْإِعَارَةِ (إِقْرَارًا لَهُ)، أَيْ: لِلْمُقِرِّ لَهُ (بِالْيَدِ مُطْلَقًا)، أَيْ: مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، بَلْ يَكُونُ إِقْرَارًا لَهُ بِالْيَدِ لِأَجْلِ اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَقَطْ، فَلَا يَكُونُ مُقِرًّا بِالْمِلْكِ لِغَيْرِهِ، ثُمَّ مُدَّعِيًا لِنَفْسِهِ (بِخِلَافِ الْوَدِيعَةِ؛ لِأَنَّ الْيَدَ فِيهَا مَقْصُودَةٌ)، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا هُوَ الْحِفْظُ وَالْحِفْظُ لَا يَكُونُ بِدُونِ الْيَدِ، (وَالْإِيدَاعُ إِثْبَاتُ الْيَدِ قَصْدًا فَيَكُونُ الْإِقْرَارُ بِهِ)، أَيْ: بِالْإِيدَاعِ (اعْتِرَافًا بِالْيَدِ لِلْمُودِعِ).

أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنْ أُرِيدَ أَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْإِيدَاعِ يَكُونُ اعْتِرَافًا بِالْيَدِ لِلْمُودِعِ مُطْلَقًا، أَيْ: مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْكَافِي؛ حَيْثُ قَالَ: فَكَانَ الْإِقْرَارُ بِالْوَدِيعَةِ إِقْرَارًا بِالْيَدِ لِلْمُقِرِّ لَهُ مُطْلَقًا فَهُوَ مَمْنُوعٌ؛ إِذِ الْإِيدَاعُ إِثْبَاتُ يَدِ الْمُحَافَظَةِ دُونَ إِثْبَاتِ يَدِ الْمَلِكِ، فَكَيْفَ يَكُونُ الْإِقْرَارُ بِالْإِيدَاعِ إِقْرَارًا بِالْيَدِ مُطْلَقًا لِلْمُودِعِ؟ وَإِنْ أُرِيدَ أَنَّ الْإِقْرَارَ بِهِ يَكُونُ اعْتِرَافًا بِيَدِ الْمُحَافَظَةِ لِلْمُودِعِ فَهُوَ مُسَلَّمٌ وَلَكِنْ لَا يَتِمُّ بِهِ التَّقْرِيبُ، كَمَا لَا يَخْفَى.

(وَوَجْهٌ آخَرُ) لِلِاسْتِحْسَانِ، وَهُوَ الْفَرْقُ (أَنَّ فِي الْإِجَارَةِ وَالْإِعَارَةِ وَالْإِسْكَانِ أَقَرَّ بِيَدٍ ثَابِتَةٍ مِنْ جِهَتِهِ)، أَيْ: مِنْ جِهَةِ الْمُقِرِّ، (فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي كَيْفِيَّتِهِ)، أَيْ: فِي كَيْفِيَّةِ ثُبُوتِ الْيَدِ لَهُ بِأَيِّ طَرِيقٍ كَانَ، كَمَا لَوْ كَانَ فِي يَدِهِ عَبَدٌ، وَقَالَ: هَذَا عَبْدِي بِعْتُهُ مِنْ فُلَانٍ وَلَمْ أُسَلِّمْهُ إِلَيْهِ بَعْدُ، فَقَالَ الْمُقَرُّ لَهُ: لَا بَلْ كَانَ عَبْدِي لَمْ أَشْتَرِهِ مِنْكَ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُقِرِّ دُونَ الْمُقَرِّ لَهُ لِهَذَا الْمَعْنَى، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجُ الدِّرَايَةِ. وَكَمَا لَوْ قَالَ: مَلَّكْتُ عَبْدِي هَذَا فُلَانًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ إِلَّا أَنِّي لَمْ أَقْبِضِ الثَّمَنَ فَلِي حَقُّ الْحَبْسِ كَانَ الْقَوْلُ لَهُ وَإِنْ زَعْمَ الْآخَرُ خِلَافَهُ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ وَشَرْحِ تَاجِ الشَّرِيعَةِ أَخْذًا مِنَ الْأَسْرَارِ، (وَلَا كَذَلِكَ فِي مَسْأَلَةِ الْوَدِيعَةِ؛ لِأَنَّهُ)، أَيْ: لِأَنَّ الْمُقِرَّ (قَالَ فِيهَا: كَانَتْ وَدِيعَةً، وَقَدْ تَكُونُ)، أَيِ: الْوَدِيعَةُ (مِنْ غَيْرِ صُنْعِهِ) كَاللُّقَطَةِ؛ فَإِنَّهَا وَدِيعَةٌ فِي يَدِ الْمُلْتَقِطِ وَإِنْ لَمْ يَدْفَعْهَا إِلَيْهِ صَاحِبُهَا، وَكَذَا الثَّوْبُ إِذَا هَبَّتِ الرِّيحُ فَأَلْقَتْهُ فِي دَارِ إِنْسَانٍ، فَإِنَّهُ يَكُونُ وَدِيعَةً عِنْدَ صَاحِبِ الدَّارِ، وَإِنْ لَمْ يَدْفَعْهَا إِلَيْهِ صَاحِبُهُ، كَذَا فِي عَامَّةِ الشُّرُوحِ.

أَقُولُ: هُنَا كَلَامٌ: أَمَّا أَوَّلًا: فَلِأَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ، وَقَدْ يَكُونُ مِنْ غَيْرِ صُنْعِهِ يُنَافِي مَا ذَكَرَهُ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ مِنْ أَنَّ الْإِيدَاعَ إِثْبَاتُ الْيَدِ قَصْدًا؛ لِأَنَّ إِثْبَاتَ الْيَدِ قَصْدًا يَقْتَضِي الصُّنْعَ. فَإِنْ قُلْتَ: مُرَادُهُ أَنَّهَا قَدْ تَكُونُ مِنْ غَيْرِ صُنْعِ الْمُقِرِّ لَا مِنْ غَيْرِ صُنْعِ الْمُودِعِ، وَكَوْنُ الْإِيدَاعِ إِثْبَاتُ الْيَدِ قَصْدًا إِنَّمَا يَقْتَضِي صُنْعَ الْمُودِعِ فَلَا مُنَافَاةَ. قُلْتُ: فَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ أَنْ لَا يَصِحَّ الْمِثَالَانِ الْمَزْبُورَانِ اللَّذَانِ ذَكَرَهُمَا جُمْهُورُ الشُّرَّاحِ، وَذَكَرَ الثَّانِي صَاحِبُ الْكَافِي أَيْضًا؛ إِذْ لَا صُنْعَ لِأَحَدٍ فِي ثُبُوتِ يَدِ الْمُلْتَقِطِ فِي اللُّقَطَةِ وَفِى ثُبُوتِ يَدِ صَاحِبِ الدَّارِ فِي الثَّوْبِ الَّذِي أَلْقَتْهُ الرِّيحُ فِي دَارِهِ.

وَأَمَا ثَانِيًا: فَلِأَنَّ تَمْثِيلَ جُمْهُورِ الشُّرَّاحِ الْوَدِيعَةَ هَاهُنَا بِالْمِثَالَيْنِ الْمَزْبُورَيْنِ يُنَافِي مَا صَرَّحُوا بِهِ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْوَدِيعَةِ، مِنْ أَنَّ الْوَدِيعَةَ هِيَ التَّسْلِيطُ عَلَى الْحِفْظِ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ بِالْعَقْدِ وَالْقَصْدِ، وَالْأَمَانَةِ أَعَمَّ مِنْ ذَلِكَ؛ فَإِنَّهَا قَدْ تَكُونُ بِغَيْرِ عَقْدٍ وَقَصْدٍ، كَمَا إِذَا هَبَّتِ الرِّيحُ فِي ثَوْبِ إِنْسَانٍ فَأَلْقَتْهُ فِي بَيْتِ غَيْرِهِ، وَوَجْهُ الْمُنَافَاةِ ظَاهِرٌ. (حَتَّى لَوْ قَالَ)، أَيِ: الْمُقِرُّ: (أَوْدَعَتُهَا

ص: 377

كَانَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ، وَلَيْسَ مَدَارُ الْفَرْقِ عَلَى ذِكْرِ الْأَخْذِ فِي طَرَفِ الْوَدِيعَةِ وَعَدَمِهِ فِي الطَّرَفِ الْآخَرِ وَهُوَ الْإِجَارَةُ وَأُخْتَاهُ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ الْأَخْذَ فِي وَضْعِ الطَّرَفِ الْآخَرِ فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ أَيْضًا، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إِذَا قَالَ اقْتَضَيْتُ مِنْ فُلَانٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ كَانَتْ لِي عَلَيْهِ أَوْ أَقْرَضْتُهُ أَلْفًا ثُمَّ أَخَذْتُهَا مِنْهُ وَأَنْكَرَ الْمُقَرُّ لَهُ حَيْثُ يَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ لِأَنَّ الدُّيُونَ تُقْضَى بِأَمْثَالِهَا، وَذَلِكَ إِنَّمَا

كَانَ) جَوَابُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَيْضًا. (عَلَى هَذَا الْخِلَافِ) الْمَذْكُورِ فِي مَسَائِلِ الْإِجَارَةِ وَالْإِعَارَةِ وَالْإِسْكَانِ.

أَقُولُ: بَقِيَ هَاهُنَا شَيْءٌ، وَهُوَ أَنَّ الْفَرْقَ الْمَذْكُورَ إِنَّمَا يَتَّضِحُ لَوْ كَانَتْ صُورَةُ مَسْأَلَةِ الْوَدِيعَةِ مَا لَوْ قَالَ: هَذِهِ الْأَلْفُ كَانَتْ وَدِيعَةً عِنْدَ فُلَانٍ بِدُونِ ذِكْرِ لَفْظَةِ لِي، وَأَمَّا عَلَى مَا ذَكَرَتُ فِي الْكِتَابِ مِنْ قَوْلِهِ: فَإِنْ قَالَ: هَذِهِ الْأَلْفُ كَانَتْ لِي وَدِيعَةً عِنْدَ فُلَانٍ فَيُشْكِلُ ذَلِكَ؛ إِذِ الظَّاهِرُ أَنَّ لَفْظَةَ لِي تُفِيدُ ثُبُوتَ الْيَدِ مِنْ جِهَتِهِ فَيَئُولُ مَعْنَى قَوْلِهِ الْمَذْكُورِ إِلَى مَعْنَى قَوْلِهِ: أَوْدَعْتُهَا عِنْدَ فُلَانٍ.

(وَلَيْسَ مَدَارُ الْفَرْقِ عَلَى ذِكْرِ الْأَخْذِ فِي طَرَفِ الْوَدِيعَةِ وَعَدَمِهِ)، أَيْ: عَدَمُ ذِكْرِ الْأَخْذِ (فِي الطَّرَفِ الْآخَرِ وَهُوَ الْإِجَارَةُ وَأُخْتَاهُ)، أَيِ: الْإِعَارَةُ وَالْإِسْكَانُ. قَالَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ: إِنَّمَا ذَكَرَ الضَّمِيرَ الرَّاجِعَ إِلَى الْإِجَارَةِ عَلَى تَأْوِيلِ الْعَقْدِ. قُلْتُ: وَإِنَّمَا قَالَ: "وَأُخْتَاهُ"، وَلَمْ يَقُلْ:"وَأَخَوَاهُ" مَعَ أَنَّ أَحَدَهُمَا وَهُوَ الْإِسْكَانُ كَانَ مُذَكَّرًا، وَفِي مِثْلِ ذَلِكَ يَغْلُبُ الْمُذَكَّرُ عَلَى الْمُؤَنَّثِ وَلَا يُعْكَسُ، أَمَّا عَلَى تَأْوِيلِهِمَا بِالصُّورَتَيْنِ أَوْ بِالْمَسْأَلَتَيْنِ وَمُرَادُ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا الرَّدُّ عَلَى الْإِمَامِ الْقُمِّيِّ فِيمَا ذَكَرَ مِنَ الْفَرْقِ؛ فَإِنَّهُ قَالَ: إِنَّمَا وَجَبَ الرَّدُّ فِي مَسْأَلَةِ الْوَدِيعَةِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ فِيهَا: أَخَذْتُهَا مِنْهُ، فَيَجِبُ جَزَاؤُهُ، وَجَزَاءُ الْأَخْذِ الرَّدُّ.

وَقَالَ فِي الْإِجَارَةِ وَأُخْتَيْهَا: "فَرَدَّهَا عَلَيَّ"، فَكَانَ الِافْتِرَاقُ فِي الْحَكَمِ لِلِافْتِرَاقِ فِي الْوَضْعِ. وَقَالُوا فِي شُرُوحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: هَذَا الْفَرْقُ لَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ مُحَمَّدًا ذَكَرَ فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ لَفْظَ الْأَخْذِ فِي الْإِجَارَةِ وَأُخْتَيْهَا أَيْضًا، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ:(لِأَنَّهُ ذَكَرَ الْأَخْذَ فِي وَضْعِ الطَّرَفِ الْآخَرِ فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ أَيْضًا). بَقِيَ وَجْهٌ آخَرُ لِلْفَرْقِ ذَكَرَهُ الْإِمَامُ قَاضِي خَانَ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، وَنُقِلَ عَنْهُ فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ، وَهُوَ أَنَّ فِي الْإِجَارَةِ وَالْإِعَارَةِ لَوْ أَخَذْنَا الْمُؤَجِّرَ وَالْمُعِيِرَ بِإِقْرَارِهِمَا امْتَنَعَ النَّاسُ عَنِ الْإِجَارَةِ وَالْإِعَارَةِ فَلَا يُؤَاخَذَانِ بِإِقْرَارِهِمَا اسْتِحْسَانًا كَيْلَا تَنْقَطِعَ الْإِجَارَةُ وَالْإِعَارَةُ، وَأَمَّا فِي الْوَدِيعَةِ فَمَنْفَعَةُ الْإِيدَاعِ تَعُودُ إِلَى الْمَالِكِ، فَلَوْ أَخَذَنَا الْمَالِكَ بِإِقْرَارِهِ لَا يَنْقَطِعُ الْإِيدَاعُ، انْتَهَى.

أَقُولُ: يُرَدُّ عَلَيْهِ أَنْ يُقَالَ: تَعُودُ الْمَنْفَعَةُ فِي الْإِجَارَةِ أَيْضًا إِلَى الْمَالِكِ وَهُوَ الْمُؤَجِّرُ؛ لِأَنَّهَا عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ لَا عَقْدُ تَبَرُّعٍ، فَتَعُودُ فِيهَا مَنْفَعَةُ الْأُجْرَةِ إِلَى الْمُؤَجِّرِ قَطْعًا، كَمَا يَعُودُ فِي الْإِيدَاعِ مَنْفَعَةُ الْحِفْظِ إِلَى الْمُودِعِ، فَلَمْ يَتِمَّ الْفَرْقُ الْمَذْكُورُ بِالنَّظَرِ إِلَى مَسْأَلَةِ الْإِجَارَةِ، وَإِنْ تَمَّ بِالنَّظَرِ إِلَى مَسْأَلَةِ الْإِعَارَةِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: مَنْفَعَةُ الْأُجْرَةِ، وَإِنْ عَادَتْ فِي الْإِجَارَةِ إِلَى الْمُؤَجِّرِ لَكِنَّ مَنْفَعَةَ الدَّارِ وَنَحْوِهَا تَعُودُ إِلَى الْمُسْتَأْجِرِ، وَلَا يَقْدِرُ الْمُؤَجِّرُ عَلَى الِانْتِفَاعِ بِهَا مُدَّةَ الْإِجَارَةِ فَيَتَضَرَّرُ بِهَا مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ بِخِلَافِ الْإِيدَاعِ؛ فَإِنَّهُ نَفْعٌ مَحْضٌ لِلْمُودِعِ، فَافْتَرَقَا فِي الْجُمْلَةِ.

(وَهَذَا)، أَيِ: الَّذِي ذُكِرَ فِي الْإِجَارَةِ وَأُخْتَيْهَا (بِخِلَافٍ مَا إِذَا قَالَ: اقْتَضَيْتُ)، أَيْ: قَبَضَتُ (مِنْ فُلَانٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ كَانَتْ لِي عَلَيْهِ أَوْ أَقْرَضْتُهُ أَلْفًا ثُمَّ أَخَذْتُهَا مِنْهُ وَأَنْكَرَ الْمُقَرُّ لَهُ؛ حَيْثُ يَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ)، أَيْ: قَوْلُ الْمُقَرِّ لَهُ؛ (لِأَنَّ الدُّيُونَ تُقْضَى بِأَمْثَالِهَا)، لَا بِأَعْيَانِهَا؛ (وَذَلِكَ)، أَيْ: قَضَاءُ الدُّيُونِ بِأَمْثَالِهَا. (إِنَّمَا

ص: 378

يَكُونُ بِقَبْضٍ مَضْمُونٍ، فَإِذَا أَقَرَّ بِالِاقْتِضَاءِ فَقَدْ أَقَرَّ بِسَبَبِ الضَّمَانِ ثُمَّ ادَّعَى تَمَلُّكَهُ عَلَيْهِ بِمَا يَدَّعِيهِ مِنَ الدَّيْنِ مُقَاصَّةً وَالْآخَرُ يُنْكِرُهُ، أَمَّا هَاهُنَا الْمَقْبُوضُ عَيْنُ مَا ادَّعَى فِيهِ الْإِجَارَةَ وَمَا أَشْبَهَهَا فَافْتَرَقَا، لَوْ أَقَرَّ أَنَّ فُلَانًا زَرَعَ هَذِهِ الْأَرْضَ أَوْ بَنَى هَذِهِ الدَّارَ أَوْ غَرَسَ هَذَا الْكَرْمَ وَذَلِكَ كُلُّهُ فِي يَدِ الْمُقِرِّ فَادَّعَاهَا فُلَانٌ وَقَالَ الْمُقِرُّ لَا بَلْ ذَلِكَ كُلُّهُ لِي اسْتَعَنْتُ بِكَ فَفَعَلْتَ أَوْ فَعَلْتَهُ بِأَجْرٍ فَالْقَوْلُ لِلْمُقِرِّ لِأَنَّهُ مَا أَقَرَّ لَهُ بِالْيَدِ وَإِنَّمَا أَقَرَّ بِمُجَرَّدِ فِعْلٍ مِنْهُ، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ فِي مِلْكٍ فِي يَدِ الْمُقِرِّ وَصَارَ كَمَا إِذَا قَالَ خَاطَ لِي الْخَيَّاطُ قَمِيصِي هَذَا بِنِصْفِ دِرْهَمٍ وَلَمْ يَقُلْ قَبَضْتُهُ مِنْهُ لَمْ يَكُنْ إِقْرَارًا بِالْيَدِ وَيَكُونُ الْقَوْلُ لِلْمُقِرِّ لِمَا أَنَّهُ أَقَرَّ بِفِعْلٍ مِنْهُ وَقَدْ يَخِيطُ ثَوْبًا فِي يَدِ الْمُقِرِّ كَذَا هَذَا.

يَكُونُ بِقَبْضٍ مَضْمُونٍ)، أَيْ: بِقَبْضِ مَالٍ مَضْمُونٍ يَصِيرُ دَيْنًا عَلَى الدَّائِنِ ثُمَّ يَصِيرُ قِصَاصًا بِدَيْنِهِ عَلَى الْمَدْيُونِ، (فَإِذَا أَقَرَّ بِالِاقْتِضَاءِ، فَقَدْ أَقَرَّ بِسَبَبِ الضَّمَانِ، ثُمَّ ادَّعَى تَمَلُّكَهُ عَلَيْهِ بِمَا يَدَّعِيهِ عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ مُقَاصَّةً وَالْآخَرُ يُنْكِرُهُ، أَمَّا هَاهُنَا)، يَعْنِي فِي صُورَةِ الْإِجَارَةِ وَأُخْتَيْهَا (الْمَقْبُوضُ عَيْنُ مَا ادَّعَى فِيهِ الْإِجَارَةَ، وَمَا أَشْبَهَهَا فَافْتَرَقَا).

قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي تَقْرِيرِ هَذَا الْمَقَامِ: لِأَنَّ الدُّيُونَ تُقْضَى بِأَمْثَالِهَا، وَذَلِكَ مَعْلُومٌ، فَإِذَا أَقَرَّ بِاقْتِضَاءِ الدَّيْنِ، فَقَدْ أَقَرَّ بِقَبْضِ مِثْلَ هَذَا الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ الِاقْتِضَاءَ إِنَّمَا يَكُونُ بِقَبْضِ مَالٍ مَضْمُونٍ، وَالْإِقْرَارُ بِقَبْضٍ مَالٍ مَضْمُونٍ إِقْرَارٌ بِسَبَبِ الضَّمَانِ، ثُمَّ ادَّعَى تَمَلُّكَ مَا أَقَرَّ بِقَبْضِهِ بِمَا يَدَّعِيهِ مِنَ الدَّيْنِ مُقَاصَّةً وَالْآخَرُ يُنْكِرُهُ، أَمَّا هَاهُنَا، يَعْنِي: فِي صُورَةِ الْإِجَارَةِ وَأُخْتَيْهَا فَالْمَقْبُوضُ عَيْنُ مَا ادَّعَى فِيهِ الْإِجَارَةَ وَمَا أَشْبَهَهَا، فَافْتَرَقَا.

وَقَالَ: وَعَلَيْكَ بِتَطْبِيقِ مَا ذَكَرْنَا بِمَا فِي الْمَتْنِ لِيَظْهَرَ التَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ الْوَاقِعُ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ بِحُسْنِ التَّدَبُّرِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

أَقُولُ: لَا يَظْهَرُ لِذِي فِطْرَةٍ سَلِيمَةٍ بِتَطْبِيقِ مَا ذَكَرَهُ بِمَا فِي الْمَتْنِ وَيَتَدَبَّرُ فِيهِ بِحُسْنِ التَّدْبِيرِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ، بَلْ يَظْهَرُ لَهُ نَوْعُ اخْتِلَالٍ فِي كَلَامِ الشَّارِحِ.

أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ قَوْلَهُ: فَإِذَا أَقَرَّ بِاقْتِضَاءِ الدَّيْنِ، فَقَدْ أَقَرَّ بِقَبْضِ مِثْلِ الدَّيْنِ لَيْسَ عَيْنَ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ: فَإِذَا أَقَرَّ بِالِاقْتِضَاءِ فَقَدْ أَقَرَّ بِسَبَبِ الضَّمَانِ؛ لِاخْتِلَافِ تَالِيهِمَا، فَلَا يَقْتَضِي تَقْدِيمُ ذَاكَ تَقْدِيمَ هَذَا، كَيْفَ وَلَوْ قُدِّمَ هَذَا وَوِضَعَ مَوْضِعَ ذَاكَ، فَقِيلَ: لِأَنَّ الدُّيُونَ تُقْضَى بِأَمْثَالِهَا، فَإِذَا أَقَرَّ بِالِاقْتِضَاءِ فَقَدْ أَقَرَّ بِسَبَبِ الضَّمَانِ لَمْ يَتِمَّ التَّفْرِيعُ الْمُسْتَفَادُ مِنَ الْفَاءِ فِي فَإِذَا أَقَرَّ، مِثْلُ مَا تَمَّ فِي تَقْدِيمِ ذَاكَ يَشْهَدُ بِذَلِكَ كُلِّهِ الذَّوْقُ الصَّحِيحُ.

وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّهُ عَلَّلَ قَوْلَهُ: فَإِذَا أَقَرَّ بِاقْتِضَاءِ الدَّيْنِ فَقَدْ أَقَرَّ بِقَبْضِ مِثْلِ الدَّيْنِ بِقَوْلِهِ: لِأَنَّ الِاقْتِضَاءَ إِنَّمَا يَكُونُ بِقَبْضِ مَالٍ مَضْمُونٍ، وَالْإِقْرَارُ بِقَبْضِ مَالٍ مَضْمُونٍ إِقْرَارٌ بِسَبَبِ الضَّمَانِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ مُفَادَ هَذَا التَّعْلِيلِ أَنَّ الْإِقْرَارَ بِالِاقْتِضَاءِ إِقْرَارٌ بِسَبَبِ الضَّمَانِ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِاقْتِضَاءِ الدَّيْنِ إِقْرَارٌ بِقَبْضِ مِثْلِ الدَّيْنِ، كَمَا هُوَ الْمُدَّعَى.

(وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّ فُلَانًا زَرْعَ هَذِهِ الْأَرْضَ أَوْ بَنَى هَذِهِ الدَّارَ أَوْ غَرَسَ هَذَا الْكَرْمَ وَذَلِكَ كُلُّهُ فِي يَدِ الْمُقِرِّ)، أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ فِي يَدِ الْمُقِرِّ. (فَادَّعَاهَا)، أَيْ: فَادَّعَى الْأَرْضَ وَالدَّارَ وَالْكَرْمَ؛ (فُلَانٌ) لِنَفْسِهِ، (وَقَالَ الْمُقِرُّ: لَا بَلْ ذَلِكَ كُلُّهُ لِيَ اسْتَعَنْتُ بِكَ) عَلَى الزِّرَاعَةِ أَوِ الْبِنَاءِ أَوِ الْغَرْسِ، (فَفَعَلْتُ أَوْ فَعَلْتُهُ بِأَجْرٍ فَالْقَوْلُ لِلْمُقِرِّ)، هَذِهِ مِنْ مَسَائِلِ الْمَبْسُوطِ، ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ تَفْرِيعًا، وَقَالَ فِي تَعْلِيلِهَا:(لِأَنَّهُ)، أَيْ: لِأَنَّ الْمُقِرَّ (مَا أَقَرَّ لَهُ)، أَيْ: لِفُلَانٍ (بِالْيَدِ، وَإِنَّمَا أَقَرَّ بِمُجَرَّدِ فِعْلٍ مِنْهُ)، أَيْ: مِنْ فُلَانٍ.

(وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ)، أَيِ: الْفِعْلُ مِنَ الْغَيْرِ (فِي يَدِ الْمُقِرِّ)، يَعْنِي: أَنَّ الْإِقْرَارَ بِمُجَرَّدِ فِعْلٍ مِنَ الْغَيْرِ لَا يَدُلُّ عَلَى الْيَدِ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ قَدْ يَكُونُ مِنَ الْمُعَيَّنِ وَالْأَجِيرِ وَالْعَيْنُ فِي يَدِ صَاحِبِهَا. (وَصَارَ)، أَيْ: صَارَ حُكْمُ هَذَا (كَمَا إِذَا قَالَ: خَاطَ لِيَ الْخَيَّاطُ قَمِيصِي هَذَا بِنِصْفِ دِرْهَمٍ وَلَمْ يَقُلْ: قَبَضْتُهُ مِنْهُ لَمْ يَكُنْ إِقْرَارًا بِالْيَدِ وَيَكُونُ الْقَوْلُ لِلْمُقِرِّ لِمَا أَنَّهُ أَقَرَّ بِفِعْلٍ مِنْهُ)، أَيْ: مِنَ الْخَيَّاطِ. (وَقَدْ يَخِيطُ ثَوْبًا فِي يَدِ الْمُقِرِّ كَذَا هَذَا)، أَيْ: كَذَا حُكْمُ الْمَسَائِلِ الْمَذْكُورَةِ. قَالَ فِي النِّهَايَةِ: فَحَصَلَ

ص: 379

(بَابُ إِقْرَارِ الْمَرِيضِ)

قَالَ: (وَإِذَا أَقَرَّ الرَّجُلُ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ بِدُيُونٍ وَعَلَيْهِ دُيُونٌ فِي صِحَّتِهِ وَدُيُونٌ لَزِمَتْهُ فِي مَرَضِهِ بِأَسْبَابٍ مَعْلُومَةٍ فَدَيْنُ الصِّحَّةِ وَالدَّيْنُ الْمَعْرُوفُ الْأَسْبَابِ مُقَدَّمٌ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: دَيْنُ الْمَرَضِ وَدَيْنُ الصِّحَّةِ يَسْتَوِيَانِ لِاسْتِوَاءِ سَبَبِهِمَا وَهُوَ الْإِقْرَارُ الصَّادِرُ عَنْ عَقْلٍ وَدِينٍ،

مِنْ هَذَا كُلِّهِ أَنَّ جِنْسَ هَذِهِ الْمَسَائِلِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ: فَفِي نَوْعٍ مِنْهَا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقِرِّ لَهُ بِالْإِجْمَاعِ، وَهُوَ مَسْأَلَةُ الْوَدِيعَةِ وَالْإِقْرَاضِ وَالِاقْتِضَاءِ، وَفِي نَوْعٍ مِنْهَا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُقِرِّ بِالْإِجْمَاعِ، وَهُوَ مَسْأَلَةُ بَيْعِ الْعَبْدِ، وَمَسْأَلَةُ زَرْعِ هَذِهِ الْأَرْضِ، أَوْ بِنَائِهَا هَذِهِ الدَّارِ، وَمَسْأَلَةُ خَيَّاطَةِ الثَّوْبِ بِدُونِ ذِكْرِ الْقَبْضِ مِنْهُ، وَفِي نَوْعٍ مِنْهَا اخْتَلَفُوا فِيهِ: فَعِنْدَ أَبِى حَنِيفَةَ الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقِرِّ، كَمَا فِي الثَّانِي، وَعِنْدَهُمَا الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقَرِّ لَهُ، كَمَا فِي النَّوْعِ الْأَوَّلِ وَهُوَ مَسْأَلَةُ الْإِجَارَةِ وَالْإِعَارَةِ وَالْإِسْكَانِ وَخِيَاطَةِ الثَّوْبِ مَعَ ذِكْرِ الْقَبْضِ، انْتَهَى.

(بَابُ إِقْرَارِ الْمَرِيضِ)

لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ أَحْكَامِ إِقْرَارِ الصَّحِيحِ شَرَعَ فِي بَيَانِ أَحْكَامِ إِقْرَارِ الْمَرِيضِ؛ لِأَنَّ الْمَرَضَ بَعْدَ الصِّحَّةِ، وَأَفْرَدَهُ بِبَابٍ عَلَى حِدَةٍ لِاخْتِصَاصِهِ بِأَحْكَامٍ لَيْسَتْ لِلصَّحِيحِ، (وَإِذَا أَقَرَّ الرَّجُلُ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ بِدُيُونٍ)، أَيْ: بِدُيُونٍ غَيْرِ مَعْلُومَةِ الْأَسْبَابِ، (وَعَلَيْهِ دُيُونٌ فِي صِحَّتِهِ وَدُيُونٌ لَزِمَتْهُ فِي مَرَضِهِ)، أَيْ: فِي مَرَضِ مَوْتِهِ (بِأَسْبَابِ مَعْلُومَةٍ)، مُتَعَلِّقٌ بِلَزِمَتْهُ، أَيْ: لَزِمَتْهُ بِأَسْبَابٍ مَعْلُومَةٍ، مِثْلُ بَدَلِ مَالٍ مَلَكَهُ أَوِ اسْتَهْلَكَهُ أَوْ مُهْرِ مِثْلِ امْرَأَةٍ تَزَوَّجَهَا وَعُلِمَ مُعَايِنَةً. (فَدَيْنُ الصِّحَّةِ وَالدَّيْنُ الْمَعْرُوفُ الْأَسْبَابِ مُقَدَّمٌ) عَلَى مَا أَقَرَّ بِهِ فِي مَرَضِهِ، إِلَى هُنَا لَفْظُ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ: (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: دَيْنُ الْمَرَضِ) سَوَاءٌ كَانَ بِسَبَبٍ مَعْلُومٍ أَوْ بِإِقْرَارِهِ، (وَدَيْنُ الصِّحَّةِ يَسْتَوِيَانِ لِاسْتِوَاءِ سَبَبِهِمَا وَهُوَ الْإِقْرَارُ الصَّادِرُ عَنْ عَقْلٍ وَدِينٍ)، وَإِنَّمَا تُعْرَضُ لَوْ صَفَى الْعَقْلُ وَالدِّينُ؛ لِأَنَّهُمَا الْمَانِعَانِ عَنِ الْكَذِبِ فِي الْإِخْبَارِ وَالْإِقْرَارِ، إِخْبَارٌ عَنِ الْوَاجِبِ فِي الذِّمَّةِ، وَلَا تَفَاوُتَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ صِحَّةِ الْمُقِرِّ وَمَرَضِهِ، بَلْ بِالْمَرَضِ يَزْدَادُ جِهَةُ رُجْحَانِ الصِّدْقِ؛ لِأَنَّ الْمَرَضَ سَبَبُ التَّوَرُّعِ عَنِ الْمَعَاصِيَ وَالْإِنَابَةِ عَمَّا جَرَى فِي الْمَاضِي، فَالِاحْتِرَازُ عَنِ الْكَذِبِ فِي هَذِهِ

ص: 380

وَمَحَلُّ الْوُجُوبِ الذِّمَّةُ الْقَابِلَةُ لِلْحُقُوقِ فَصَارَ كَإِنْشَاءِ التَّصَرُّفِ مُبَايَعَةً وَمُنَاكَحَةً. وَلَنَا أَنَّ الْإِقْرَارَ لَا يُعْتَبَرُ دَلِيلًا إِذَا كَانَ فِيهِ إِبْطَالُ حَقِ الْغَيْرِ، وَفِي إِقْرَارِ الْمَرِيضِ ذَلِكَ لِأَنَّ حَقَ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ تَعَلَّقَ بِهَذَا الْمَالِ اسْتِيفَاءً، وَلِهَذَا مُنِعَ مِنَ التَّبَرُّعِ وَالْمُحَابَاةِ إِلَّا بِقَدْرِ الثُّلُثِ.

الْحَالَةِ أَكَثُرُ فَكَانَ جِهَةُ قَبُولِ الْإِقْرَارِ فِيهِ أَوَفَرَ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ. وَاعْتَرَضَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ عَلَى تَقْرِيرِ دَلِيلِ الشَّافِعِيِّ بِالْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ؛ حَيْثُ قَالَ: فِيهِ كَلَامٌ، وَهُوَ أَنَّ هَذَا الدَّلِيلَ إِنَّمَا يُفِيدُ مُسَاوَاتِهِ لِلدَّيْنِ الثَّابِتِ بِالْإِقْرَارِ فِي الصِّحَّةِ فَلَا يُطَابِقُ الْمُدَّعَى، كَمَا لَا يَخْفَى، وَالْأُولَى أَنْ يُقَالَ: وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ الدَّيْنُ فِي الْمَرَضِ يُسَاوِي الدَّيْنُ فِي الصِّحَّةِ؛ لِاسْتِوَاءِ السَّبَبِ الْمَعْلُومِ وَالْإِقْرَارِ، انْتَهَى كَلَامُهُ.

أَقُولُ: يُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ هَذَا الدَّلِيلَ إِذَا أَفَادَ مُسَاوَاةِ دَيْنِ الْمَرَضِ لِلدَّيْنِ الثَّابِتِ بِالْإِقْرَارِ فِي الصِّحَّةِ، فَقَدْ أَفَادَ مُسَاوَاتِهِ لِلدَّيْنِ الثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ أَيْضًا بِنَاءً عَلَى عَدَمِ الْقَائِلِ بِالْفَصْلِ بَيْنَ ذَيْنِكِ الدَّيْنَيْنِ، وَيُطْلَقُ عَلَى مَثَلِ ذَلِكَ الْإِجْمَاعِ الْمُرَكَّبِ، كَمَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ، وَأَرَادَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ أَنْ يُجِيبَ عَنْهُ بِوَجْهٍ آخَرَ؛ حَيْثُ قَالَ: الْمُدَّعَى عَامٌّ لِمَا ثَبَتَ بِالْإِقْرَارِ أَوْ بِالْمُعَايَنَةِ، وَالدَّلِيلُ خَاصُّ، ثُمَّ قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنَ التَّنْبِيهِ بِحَالِ الْأَدْنَى عَلَى حَالِ الْأَعْلَى.

أَقُولُ: لَا حَاصِلَ لَهُ هَاهُنَا؛ لِأَنَّهُ إِنْ أَرَادَ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنَ التَّنْبِيهِ بِمُسَاوَاةِ دَيْنِ الْمَرَضِ لِأَدْنَى دَيْنَيِ الصِّحَّةِ، وَهُوَ الدَّيْنُ الثَّابِتُ بِالْإِقْرَارِ فِي الصِّحَّةِ عَلَى مُسَاوَاتِهِ لِأَعْلَى دَيْنَيِ الصِّحَّةِ وَهُوَ الدَّيْنُ اللَّازِمُ فِي الصِّحَّةِ بِأَسْبَابِ مَعْلُومَةٍ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ وُصُولِ الشَّيْءِ إِلَى رُتْبَةِ الْأَدْنَى وُصُولُهُ إِلَى رُتْبَةِ الْأَعْلَى فَكَيْفَ يَجُوزُ التَّنْبِيهُ بِالْأَوَّلِ عَلَى الثَّانِي، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنَ التَّنْبِيهِ بِمُسَاوَاةِ أَدْنَى دَيْنَيِ الْمَرَضِ وَهُوَ الدَّيْنُ الثَّابِتُ بِالْإِقْرَارِ فِي الْمَرَضِ لِلدَّيْنِ الثَّابِتِ بِالْإِقْرَارِ فِي الصِّحَّةِ عَلَى مُسَاوَاةِ أَعْلَى دَيْنَيِ الْمَرَضِ وَهُوَ الدَّيْنُ اللَّازِمُ فِي الْمَرَضِ بِأَسْبَابٍ مَعْلُومَةٍ لِلدَّيْنِ الثَّابِتِ بِالْإِقْرَارِ فِي الصِّحَّةِ فَهُوَ مُسَلَّمٌ؛ إِذْ يَلْزَمُ مِنْ وُصُولِ الْأَدْنَى إِلَى رُتْبَةِ شَيْءٍ وَصُولُ الْأَعْلَى إِلَى رُتْبَةِ ذَلِكَ الشَّيْءِ، بِالْأَوْلَوِيَّةِ لَكِنَّهُ لَا يُجْدِي شَيْئًا هَاهُنَا؛ إِذِ الْكَلَامُ فِي قُصُورِ الدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ عَنْ إِفَادَةِ مُسَاوَاةِ دَيْنِ الْمَرَضِ لِلدَّيْنِ اللَّازِمِ فِي الصِّحَّةِ بِأَسْبَابٍ مَعْلُومَةٍ مَعَ عُمُومِ الْمُدَّعَى، وَهَذَا لَا يَنْدَفِعُ بِذَلِكَ، عَلَى أَنَّ مُسَاوَاةَ الدَّيْنِ اللَّازِمِ فِي الْمَرَضِ بِأَسْبَابٍ مَعْلُومَةٍ لِدَيْنِ الصِّحَّةِ مِمَّا لَا نِزَاعَ فِيهِ فَلَا فَائِدَةَ فِي التَّنْبِيهِ عَلَيْهِ أَصْلًا.

(وَمَحَلُّ الْوُجُوبِ الذِّمَّةُ الْقَابِلَةُ لِلْحُقُوقِ)، وَهِيَ ذِمَّةُ الْحُرِّ الْبَالِغِ الْعَاقِلِ، وَهِيَ فِي حَالَتَيِ الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ سَوَاءٌ، فَاسْتَوَى دِينُ الْمَرَضِ وَدَيْنُ الصِّحَّةِ فِي سَبَبِ الْوُجُوبِ، وَفِي مَحِلِّهِ فَيَسْتَوِيَانِ فِي الْوُجُوبِ، وَإِذَا اسْتَوَيَا وُجُوبًا اسْتَوَيَا اسْتِيفَاءً، (وَصَارَ كَإِنْشَاءِ التَّصَرُّفِ مُبَايِعَةً وَمُنَاكَحَةً)، أَيْ: صَارَ إِقْرَارُهُ فِي الْمَرَضِ كَإِنْشَائِهِ التَّصَرُّفَ بِالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ فِي حَالَةِ الْمَرَضِ، وَذَلِكَ مُسَاوٍ لِتَصَرُّفِهِ فِي حَالَةِ الصِّحَّةِ، فَكَذَا هَاهُنَا.

(وَلَنَا أَنَّ الْإِقْرَارَ لَا يُعْتَبَرُ دَلِيلًا إِذَا كَانَ فِيهِ إِبْطَالُ حَقِّ الْغَيْرِ)، أَيْ: إِذَا تَضَمَّنَ إِبْطَالَ حَقِّ الْغَيْرِ، كَمَا لَوْ رَهَنَ أَوْ آجَرَ شَيْئًا، ثُمَّ أَقَرَّ أَنَّهُ لِغَيْرِهِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَنْفُذُ إِقْرَارُهُ فِي حَقِّ الْمُرْتِهِنِ وَالْمُسْتَأْجِرِ؛ لِتَعَلُّقِ حَقِّهِمَا بِهِ (وَفِي إِقْرَارِ الْمَرِيضِ ذَلِكَ)، أَيْ: إِبْطَالُ حَقِّ الْغَيْرِ؛ (لِأَنَّ حَقَّ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ تَعَلَّقَ بِهَذَا الْمَالِ)، يَعْنِي: مَالَ الْمَرِيضِ. (اسْتِيفَاءً)، أَيْ: مِنْ حَيْثُ الِاسْتِيفَاءِ؛ (وَلِهَذَا ذَلِكَ)، أَيِ: الْمَرِيضُ (مِنَ التَّبَرُّعِ وَالْمُحَابَاةِ إِلَّا بِقَدْرِ الثُّلُثِ).

قَالَ صَاحِبٌ النِّهَايَةِ: أَيْ: فِيمَا إِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دِينٌ، وَأَمَّا إِذَا كَانَتِ الدُّيُونُ مُحِيطَةٌ بِمَالِهِ، فَلَا يَجُوزُ تَبَرُّعُهُ أَصْلًا فِي الثُّلُثِ وَمَا دُونَهُ، انْتَهَى. وَاقْتَفَى أَثَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي حَلِّ

ص: 381

بِخِلَافِ النِّكَاحِ لِأَنَّهُ مِنَ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ

هَذَا الْمَحَلِّ بِهَذَا الْمَعْنَى، وَلَكِنْ غَيَّرَ الْعِبَارَةَ؛ حَيْثُ قَالَ: وَلِهَذَا مَنَعَ مِنَ التَّبَرُّعِ وَالْمُحَابَاةِ أَصْلًا إِذَا أَحَاطَتِ الدُّيُونُ بِمَالِهِ وَبِالزِّيَادَةِ عَلَى الثُّلُثِ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دُيُونٌ، انْتَهَى.

أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا بِشَرْحٍ صَحِيحٍ؛ إِذِ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِمَا: إِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دِينٌ، إِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنَ الدُّيُونِ أَصْلًا بِمُقْتَضَى وُقُوعِ النَّكِرَةِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، فَحِينَئِذٍ يَصِيرُ مَعْنَى كَلَامِ الْمُصَنِّفِ: وَلِتَعَلُّقِ حَقِّ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ بِمَالِ الْمَرِيضِ مُنِعَ مِنَ التَّبَرُّعِ وَالْمُحَابَاةِ بِالزِّيَادَةِ عَلَى الثُّلُثِ فِيمَا إِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى الْمَرِيضِ دَيْنٌ أَصْلًا. وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا مَعْنَىً لَغْوٌ يُنَاقِضُ آخِرُهُ أَوَّلَهُ؛ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى الْمَرِيضِ دَيْنٌ أَصْلًا لَمْ يُتَصَوَّرْ تَعَلُّقُ حَقِّ الْغُرَمَاءِ بِمَالِهِ. فَالْوَجْهُ فِي حَلِّ هَذَا الْمَحَلِّ أَنْ يُقَالَ: مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِيمَا إِذَا كَانَ عَلَيْهِ دُيُونٌ وَلَكِنْ لَمْ تُحِطْ بِمَالِهِ. وَأَمَّا إِذَا أَحَاطَتِ الدُّيُونُ بِمَالِهِ فَيَمْنَعُ مِنَ التَّبَرُّعِ مُطْلَقًا، أَيْ: بِالثُّلُثِ وَبِمَا دُونَهُ، نَعَمْ يُمْنَعُ الْمَرِيضُ مِنَ التَّبَرُّعِ وَالْمُحَابَاةِ بِالزِّيَادَةِ عَلَى الثُّلُثِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَصْلًا؛ لَكِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ لِتُعَلِّقِ حَقِّ الْغُرَمَاءِ بِمَالِهِ بَلْ لِتُعَلِّقِ حَقِّ الْوَرَثَةِ بِهِ، فَالْمَنْعُ لِأَجْلِ تَعَلُّقِ حَقِّ الْغُرَمَاءِ بِمَالِهِ، كَمَا هُوَ مُقْتَضَى قَوْلِ الْمُصَنِّفِ؛ وَلِهَذَا مُنِعَ إِنَّمَا يَتَصَوَّرُ فِي صُورَةِ تَحَقُّقِ الدَّيْنِ عَلَيْهِ، كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى ذِي مُسْكَةٍ. ثُمَّ إِنَّ جُمْهُورَ الشُّرَّاحِ قَالُوا فِي قَوْلِ الْمُصَنِّفِ: وَلِهَذَا مُنِعَ مِنَ التَّبَرُّعِ وَالْمُحَابَاةِ إِلَّا بِقَدْرِ الثُّلُثِ، جَوَابًا عَمَّا ادَّعَاهُ الشَّافِعِيُّ مِنَ اسْتِوَاءِ حَالِ الصِّحَّةِ، وَحَالِ الْمَرَضِ؛ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَتَا مُتَسَاوِيَتَيْنِ لَمَا مُنِعَ مِنَ التَّبَرُّعِ وَالْمُحَابَاةِ فِي حَالِ الْمَرَضِ، كَمَا لَا يُمْنَعُ عَنْهُمَا فِي حَالِ الصِّحَّةِ.

أَقُولُ: يُرَدُّ عَلَيْهِ أَنْ يُقَالَ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْعُهُ مِنَ التَّبَرُّعِ وَالْمُحَابَاةِ بِالزِّيَادَةِ عَلَى الثُّلُثِ فِي حَالَةِ الْمَرَضِ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْوَرَثَةِ بِمَا لَهُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ لَا لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغُرَمَاءِ بِهِ؟ أَلَا يَرَى أَنَّهُ يُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَصْلًا فَلَا يَتِمُّ الْجَوَابُ عَمَّا ادَّعَاهُ الشَّافِعِيُّ؛ لِأَنَّ مَا ادَّعَاهُ اسْتِوَاءُ حَالَتَيِ الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ فِي حَقِّ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ لَا فِي حَقِّ الْوَرَثَةِ. ثُمَّ أَقُولُ: كَانَ الْحَقُّ عَلَى الْمُصَنِّفِ أَنْ يَقُولَ بَدَلَ قَوْلِهِ الْمَذْكُورِ: وَلِهَذَا مُنِعَ مِنَ التَّبَرُّعِ وَالْمُحَابَاةِ أَصْلًا إِذَا أَحَاطَتِ الدُّيُونُ بِمَالِهِ؛ إِذْ يَتِمُّ الْجَوَابُ حِينَئِذٍ عَمَّا ادَّعَاهُ الشَّافِعِيُّ قَطْعًا، وَيَصِحُّ التَّفْرِيعُ عَلَى مَا قَبْلَهُ بِلَا غُبَارٍ، كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى الْفَطِنِ، وَكَأَنَّ الْإِمَامَ الزَّيْلَعِيَّ تَنَبَّهَ لِقُصُورِ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ هَاهُنَا فِي التَّفْرِيعِ؛ حَيْثُ قَالَ فِي شَرْحِ الْكَنْزِ بَدَلَ ذَلِكَ: وَلِهَذَا مُنِعَ مِنَ التَّبَرُّعِ وَالْمُحَابَاةِ مُطْلَقًا فِي حَقِّهِمْ، غَيْرُ مُقَدَّرٍ بِالثُّلُثِ، لَكِنَّ فِيمَا قَالَهُ إِفْرَاطٌ، كَمَا كَانَ فِيمَا قَالَهُ الْمُصَنِّفُ تَفْرِيطٌ؛ لِأَنَّ مَنْعَهُ مِنَ التَّبَرُّعِ وَالْمُحَابَاةِ مُطْلَقًا فِي حَقِّهِمْ غَيْرُ مُقَدَّرٍ بِالثُّلُثِ لَيْسَ بِمُطْلَقٍ بَلْ فِيمَا إِذَا أَحَاطَتِ الدُّيُونُ بِمَالِهِ، وَأَمَّا فِيمَا إِذَا لَمْ تُحِطِ بِهِ فَمُقَدَّرٌ بِالثُّلُثِ، وَالظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِهِ الْإِطْلَاقُ فَكَانَ فِيهِ إِفْرَاطٌ.

فَالْحَقُّ الَّذِي لَا مَحِيدَ عَنْهُ فِي تَنْقِيحِ الْكَلَامِ هَاهُنَا لِإِفَادَةِ تَمَامِ الْمَقْصُودِ مَا نَبَّهَنَا عَلَيْهِ آنِفًا، فَإِنْ قِيلَ: الْإِقْرَارُ بِالْوَارِثِ فِي الْمَرَضِ صَحِيحٌ مَعَ أَنَّهُ يَبْطُلُ بِهِ حَقُّ سَائِرِ الْوَرَثَةِ فَلِمَ لَمْ يَصِحَّ الْإِقْرَارُ بِالدَّيْنِ فِي الْمَرَضِ إِذَا كَانَ فِيهِ إِبْطَالُ حَقِّ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ مَعَ اسْتِوَائِهِمَا فِي إِبْطَالِ حَقِّ الْغَيْرِ؟ قُلْنَا: اسْتِحْقَاقُ الْوَارِثِ الْمَالَ بِالنَّسَبِ وَالْمَوْتِ جَمِيعًا، فَالِاسْتِحْقَاقُ يُضَافُ إِلَى آخِرِهِمَا وُجُودًا وَهُوَ الْمَوْتُ؛ أَلَا يُرَى أَنَّ شَاهِدَيِ النَّسَبِ قَبْلَ الْمَوْتِ إِذَا رَجَعَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْمَشْهُودُ لَهُ أَخَذَ الْمَالَ لَمْ يُضَمَّنَا شَيْئًا، فَأَمَّا الدَّيْنُ فَلَمْ يَجِبْ بِالْمَوْتِ بَلْ يَجِبُ بِالْإِقْرَارِ، كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ وَالْأَسْرَارِ، (بِخِلَافِ النِّكَاحِ) جَوَابٌ عَمَّا اسْتَشْهَدَ بِهِ الشَّافِعِيُّ مِنْ إِنْشَاءِ النِّكَاحِ: يَعْنِي لَا يَلْزَمُنَا ذَلِكَ؛ (لِأَنَّهُ مِنَ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ)، فَإِنَّ بَقَاءَ النَّفْسِ بِالتَّنَاسُلِ، وَلَا طَرِيقَ لِلتَّنَاسُلِ إِلَّا بِالنِّكَاحِ، وَالْمَرْءُ غَيْرُ مَمْنُوعٍ عَنْ صَرْفِ مَالِهِ إِلَى الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ وَإِنْ كَانَ ثَمَّةَ دَيْنُ الصِّحَّةِ كَالصَّرْفِ

ص: 382

وَهُوَ بِمَهْرِ الْمِثْلِ، وَبِخِلَافِ الْمُبَايَعَةِ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ لِأَنَّ حَقَ الْغُرَمَاءِ تَعَلَّقَ بِالْمَالِيَّةِ لَا بِالصُّورَةِ، وَفِي حَالَةِ الصِّحَّةِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِالْمَالِ لِقُدْرَتِهِ عَلَى الِاكْتِسَابِ فَيَتَحَقَّقُ التَّثْمِيرُ، وَهَذِهِ حَالَةُ الْعَجْزِ وَحَالَتَا الْمَرَضِ حَالَةٌ وَاحِدَةٌ لِأَنَّهُ حَالَةُ الْحَجْرِ، بِخِلَافِ حَالَتَيِ الصِّحَّةِ

إِلَى ثَمَنِ الْأَدْوِيَةِ وَالْأَغْذِيَةِ. (وَهُوَ)، أَيِ: النِّكَاحُ. (بِمَهْرِ الْمِثْلِ) هَذِهِ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ: يَعْنِي أَنَّ النِّكَاحَ مِنَ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ حَالَ كَوْنِهِ بِمَهْرِ الْمِثْلِ، وَأَمَّا الزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ فَبَاطِلَةٌ وَالنِّكَاحُ جَائِزٌ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ. قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: فِيهِ بَحْثٌ، فَإِنَّ النِّكَاحَ مِنَ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ مُطْلَقًا.

أَقُولُ: كَوْنُ النِّكَاحِ مِنَ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ مُطْلَقًا مَمْنُوعٌ، فَإِنَّ الْحَوَائِجَ الْأَصْلِيَّةَ مَا يَكُونُ مِنْ ضَرُورِيَّاتِ الْإِنْسَانِ، وَالنِّكَاحِ بِأَكْثَرَ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ لَيْسَ مِنْ ضَرُورِيَّاتِهِ لِإِمْكَانِ حُصُولِهِ بِمَهْرِ الْمِثْلِ، فَإِنْ قِيلَ: لَوْ تَزَوَّجَ وَهُوَ لَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ بِسَبَبِ أَنَّ لَهُ نِسَاءً جِوَارِيَ وَهُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ لَا يُولَدُ لَهُ عَادَةً جَازَ، وَهِيَ تُشَارِكُ غُرَمَاءَ الصِّحَّةِ مَعَ أَنَّ هَذَا النِّكَاحَ لَمْ يَكُنْ مِنَ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ رَجَاءُ بَقَاءِ النَّسْلِ، وَلَا احْتِيَاجُ قَضَاءِ الشَّهْوَةِ. قُلْنَا: النِّكَاحُ فِي أَصْلِ الْوَضْعِ مِنْ مَصَالِحِ الْمَعِيشَةِ، وَالْعِبْرَةُ لِأَصْلِ الْوَضْعِ لَا لِلْحَالِ فَإِنَّ الْحَالَ مِمَّا لَا يُوقَفُ عَلَيْهَا لِيُبْتَنَى الْأَمْرُ عَلَيْهَا، إِلَيْهِ أَشَارَ فِي الْأَسْرَارِ، وَذَكَرَ فِي الشُّرُوحِ (وَبِخِلَافِ الْمُبَايَعَةِ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ) جَوَابٌ عَمَّا اسْتَشْهَدَ بِهِ الشَّافِعِيُّ مِنْ إِنْشَاءِ الْمُبَايِعَةِ: يَعْنِي: وَلَا يَلْزَمُنَا الْمُبَايَعَةُ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ؛ (لِأَنَّ حَقَّ الْغُرَمَاءِ تَعَلَّقَ بِالْمَالِيَّةِ لَا بِالصُّورَةِ)، وَالْمَالِيَّةُ بَاقِيَةٌ فِي الْمُبَايَعَةِ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ، وَإِنْ فَاتَتِ الصُّورَةُ، فَلَمْ يَكُنْ فِي إِنْشَاءِ ذَلِكَ إِبْطَالُ شَيْءٍ، مِنْ حَقِّهِمْ بَلْ فِيهِ تَحْوِيلُ حَقِّهِمْ مِنْ مَحَلٍّ إِلَى مَحَلٍّ يُعَدُّ لَهُ، وَلِلْبَدَلِ حُكْمُ الْمُبْدَلِ، وَلَمَا اسْتَشْعَرَ أَنْ يُقَالَ: لَوْ تَعَلَقَ حَقُّ الْغُرَمَاءِ بِمَالِ الْمَدْيُونِ بِطَلَ إِقْرَارُهُ بِالدَّيْنِ حَالَةَ الصِّحَّةِ أَيْضًا؛ لَأَنَّ الْإِقْرَارَ الْمُتَضَمِّنَ لِإِبْطَالِ حَقِّ الْغَيْرِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ، كَمَا مَرَّ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِبَاطِلٍ بِالْإِجْمَاعِ، أَجَابَ بِقَوْلِهِ:(وَفِي حَالَةِ الصِّحَّةِ لَمْ يَتَعَلَّقْ) حَقُّ الْغُرَمَاءِ (بِالْمَالِ)، أَيْ: بِمَالِ الْمَدْيُونِ (لِقُدْرَتِهِ عَلَى الِاكْتِسَابِ)، أَيْ: لِقُدْرَةِ الْمَدْيُونِ عَلَى الِاكْتِسَابِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ، (فَيَتَحَقَّقُ التَّثْمِيرُ)، أَيْ: تَثْمِيرُ الْمَالِ وَهُوَ تَكْثِيرُهُ، يُقَالُ: ثَمَّرَ اللَّهُ مَالَهُ، أَيْ: كَثَّرَهُ فَلَمْ تَقَعِ الْحَاجَةُ إِلَى تَعَلُّقِ حَقِّ الْغُرَمَاءِ بِمَالِهِ.

(وَهَذِهِ)، أَيْ: حَالَةُ الْمَرَضِ (حَالَةُ الْعَجْزِ) عَنْ الِاكْتِسَابِ، فَيَتَعَلَّقُ حَقُّهُمْ بِمَالِهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ حَذَرًا عَنِ التَّوَى، وَلَمَا اسْتَشْعَرَ أَنْ يُقَالَ: سَلَّمْنَا ذَلِكَ لَكِنْ إِذَا أَقَرَّ فِي الْمَرَضِ، ثَانِيًا: يَنْبَغِي أَنْ لَا يَصِحَّ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْمُقَرِّ لَهُ الْأَوَّلِ بِمَالِهِ، كَمَا لَا يَصِحُّ إِقْرَارُهُ فِي الْمَرَضِ فِي حَقِّ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ لِتَعَلُّقِ حَقِّهِمْ بِذَلِكَ، أَجَابَ بِقَوْلِهِ:(وَحَالَتَا الْمَرَضِ حَالَةٌ وَاحِدَةٌ)، أَيْ: حَالَةُ أَوَّلِ الْمَرَضِ وَحَالَةُ آخِرِهِ بَعْدَ أَنْ يَتَّصِلَ بِهِ الْمَوْتُ حَالَةٌ وَاحِدَةٌ؛ (لِأَنَّهُ)، أَيْ: لِأَنَّ الْمَرَضَ (حَالَةُ الْحَجْرِ)؛ وَلِهَذَا يُمْنَعُ عَنِ التَّبَرُّعِ فَكَانَ الْإِقْرَارَانِ فِي الْمَرَضِ بِمَنْزِلَةِ إِقْرَارٍ وَاحِدٍ، كَمَا أَنَّ حَالَتَيِ الصِّحَّةِ حَالَةٌ وَاحِدَةٌ فَيُعْتَبَرُ الْإِقْرَارَانِ جَمِيعًا. (بِخِلَافِ حَالَتَيِ الصِّحَّةِ

ص: 383

وَالْمَرَضِ؛ لِأَنَّ الْأُولَى حَالَةُ إِطْلَاقٍ وَهَذِهِ حَالَةُ عَجْزٍ فَافْتَرَقَا، وَإِنَّمَا تُقَدَّمُ الدُّيُونُ الْمَعْرُوفَةُ الْأَسْبَابِ لِأَنَّهُ لَا تُهْمَةَ فِي ثُبُوتِهَا إِذِ الْمُعَايَنُ لَا مَرَدَّ لَهُ، وَذَلِكَ مِثْلُ بَدَلِ مَالٍ مَلَكَهُ أَوِ اسْتَهْلَكَهُ وَعُلِمَ وُجُوبُهُ بِغَيْرِ إِقْرَارِهِ أَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً بِمَهْرِ مِثْلِهَا، وَهَذَا الدَّيْنُ مِثْلُ دَيْنِ الصِّحَّةِ لَا يُقَدَّمُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ لِمَا بَيَّنَّا،

وَالْمَرَضِ؛ لِأَنَّ الْأُولَى)، أَيْ: حَالَةُ الصِّحَّةِ (حَالَةُ إِطْلَاقٍ) لِلتَّصَرُّفِ، (وَهَذِهِ)، أَيْ: حَالَةُ الْمَرَضِ (حَالَةُ عَجْزٍ) عَنِ التَّصَرُّفِ. قَالَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ: لَوْ قَالَ: حَالَةُ حَجْرٍ، لَكَانَ أَوْلَى لِكَوْنِهِ أَشَدَّ مُنَاسَبَةً بِالْإِطْلَاقِ (فَافْتَرَقَا)، أَيِ: افْتَرَقَ الْوَجْهَانِ أَوِ الْحُكْمَانِ، فَمَنَعَ تَعَلُّقُ حَقِّ الْغُرَمَاءِ الصِّحَّةُ بِمَالِهِ عَنْ إِقْرَارِهِ فِي حَالَةِ الْمَرَضِ، وَلَمْ يَمْنَعِ الْإِقْرَارُ فِي أَوَّلِ الْمَرَضِ عَنِ الْإِقْرَارِ فِي آخِرِهِ، ثُمَّ إِنَّ الدَّلِيلَ الْمَذْكُورَ أَفَادَ تَقْدِيمَ دَيْنِ الصِّحَّةِ عَلَى الدَّيْنِ الثَّابِتِ بِالْإِقْرَارِ فِي حَالَةِ الْمَرَضِ، وَبَقِيَ الْكَلَامُ فِي تَقْدِيمِ الدُّيُونِ الْمَعْرُوفَةِ الْأَسْبَابِ عَلَيْهِ، فَقَالَ:(وَإِنَّمَا تُقَدَّمُ الْمَعْرُوفَةُ الْأَسْبَابِ)، يَعْنِي: إِنَّمَا تُقَدَّمُ الدُّيُونُ اللَّازِمَةُ فِي حَالَةِ الْمَرَضِ بِأَسْبَابٍ مَعْلُومَةٍ عَلَى الدَّيْنِ الثَّابِتِ بِالْإِقْرَارِ فِي حَالَةِ الْمَرَضِ؛ (لِأَنَّهُ لَا تُهْمَةَ فِي ثُبُوتِهَا)، أَيْ: فِي ثُبُوتِ تِلْكَ الدُّيُونِ؛ (إِذِ الْمُعَايَنُ لَا مَرَدَّ لَهُ)، يَعْنِي: أَنَّ ثُبُوتَهَا بِالْمُعَايَنَةِ وَالْأَمْرِ الْمُعَايَنِ لَا مَرَدَّ لَهُ، فَتَقَدَّمَ عَلَى الْمُقَرِّ بِهِ فِي الْمَرَضِ.

(وَذَلِكَ)، أَيْ: مَا ذَكَرَ مِنَ الدُّيُونِ الْمَعْرُوفَةِ الْأَسْبَابَ، (مِثْلُ: بَدَلِ مَالِ مُمَلِّكِهِ)، كَثَمَنِ الْمَبِيعِ وَبَدَلِ الْقَرْضِ، (أَوِ اسْتَهْلَكَهُ)، أَيْ: أَوْ بَدَلَ مَالٍ اسْتَهْلَكَهُ، (وَعُلِمَ وُجُوبُهُ)، أَيْ: وُجُوبُ الْبَدَلِ (بِغَيْرِ إِقْرَارِهِ)، أَيْ: بِغَيْرِ إِقْرَارِ الْمَرِيضِ بِأَنْ يَثْبُتَ وُجُوبُهُ بِمُعَايَنَةِ الْقَاضِي أَوْ بِالْبَيِّنَةِ، (أَوْ تُزَوُّجُ امْرَأَةٌ بِمَهْرٍ مِثْلِهَا)، هَذَا عَطْفٌ عَلَى بَدَلِ مَالٍ مَلَكَهُ أَوِ اسْتَهْلَكَهُ بِحَسَبِ الْمَعْنَى كَأَنَّهُ قَالَ: أَوْ مُهْرُ مِثْلِ امْرَأَةٍ تَزَوْجَهَا، فَإِنَّهُ أَيْضًا مِنَ الدُّيُونِ الْمَعْرُوفَةِ الْأَسْبَابُ.

أَقُولُ: الظَّاهِرُ أَنَّ كَوْنَ الْعِلْمِ بِوُجُوبِهِ بِغَيْرِ إِقْرَارِ الْمَرِيضِ شَرْطٌ فِي هَذَا الْمِثَالِ أَيْضًا؛ وَإِلَّا كَانَ مِمَّا يَثْبُتُ بِإِقْرَارِ الْمَرِيضِ، فَلَا يَصِحُّ مِثَالًا لِمَا يُقَدَّمُ عَلَيْهِ مِنَ الدُّيُونِ الْمَعْرُوفَةِ الْأَسْبَابِ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ شَرْطًا فِي هَذَا أَيْضًا لَا يَرَى فِي تَأْخِيرِهِ الْمُصَنِّفُ عَنْ قَوْلِهِ: وَعُلِمَ وُجُوبُهُ بِغَيْرِ إِقْرَارِهِ وَجْهٌ وَجِيهٌ.

(وَهَذَا الدَّيْنُ)، يَعْنِي: الدَّيْنُ اللَّازِمُ فِي الْمَرَضِ بِأَسْبَابٍ مَعْلُومَةٍ، (مِثْلُ دَيْنِ الصِّحَّةِ لَا يُقَدَّمُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ لِمَا بَيَّنَّا)، أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْلِهِ: لِأَنَّهُ لَا تُهْمَةَ فِي ثُبُوتِهَا، فَإِنَّ تِلْكَ الْعِلَّةَ، أَعْنِي عَدَمَ التُّهْمَةِ فِي الثُّبُوتِ، كَمَا تَتَمَشَّى فِي الدَّيْنِ اللَّازِمِ فِي الْمَرَضِ بِأَسْبَابٍ مَعْلُومَةٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُعَايَنَ لَا مَرَدَّ لَهُ كَذَلِكَ تَتَمَشَّى فِي دَيْنِ الصِّحَّةِ مُطْلَقًا،

أَمَّا فِيمَا لَزِمَ فِي الصِّحَّةِ بِأَسْبَابٍ مَعْلُومَةٍ، فَبِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُعَايَنَ لَا مَرَدَّ لَهُ، وَأَمَّا فِيمَا ثَبَتَ فِي الصِّحَّةِ بِالْإِقْرَارِ فَبِنَاءً عَلَى أَنْ لَا يَكُونَ فِيهِ إِبْطَالُ حَقِّ الْغَيْرِ، كَمَا فِي إِقْرَارِ الْمَرِيضِ هَذَا، وَقَالَ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ: قَوْلُهُ: "لِمَا بَيَّنَّا" إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ: "إِذِ الْمُعَايَنُ لَا مَرَدَّ لَهُ".

أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا بِتَامٍّ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْعِلَّةَ: أَعْنِي قَوْلَهُ: إِذِ الْمُعَايَنُ لَا مَرَدَّ لَهُ لَا تَتَمَشَّى فِيمَا إِذَا ثَبَتَ دَيْنُ الصِّحَّةِ بِالْإِقْرَارِ؛ إِذِ الثَّابِتُ بِالْإِقْرَارِ لَيْسَ مِنَ الْمُعَايَنِ، فَلَا يَظْهَرُ بِهَا أَنْ لَا يُقَدَّمَ هَذَا الدَّيْنُ عَلَى دَيْنِ الصِّحَّةِ مُطْلَقًا بِخِلَافِ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ مِنَ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ، يَعْنِي فِي النِّكَاحِ، وَلَا تُهْمَةَ فِي ثُبُوتِهِ فِي غَيْرِهِ، انْتَهَى.

أَقُولُ: هَذَا تَكَلُّفٌ مُسْتَغْنًى عَنْهُ، فَإِنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ:"لِأَنَّهُ لَا تُهْمَةَ فِي ثُبُوتِهَا"، مَعَ قُرْبِهِ فِي الذِّكْرِ وَشُمُولِهِ لِلدَّيْنِ اللَّازِمِ بِسَبَبِ النِّكَاحِ وَالدَّيْنِ اللَّازِمِ بِسَبَبِ غَيْرِهِ جَمِيعًا، كَيْفَ لَا يُكْتَفَى بِهِ فِي شَرْحِ قَوْلِهِ هَاهُنَا لِمَا بَيَّنَّا، فَيُصَارُ إِلَى تَوْزِيعِ قَوْلِهِ لِمَا بَيَّنَّا إِلَى قَوْلِهِ:"لِأَنَّهُ لَا تُهْمَةَ فِي ثُبُوتِهَا"، وَإِلَى قَوْلِهِ: فِي بَعِيدٍ بِخِلَافِ النِّكَاحِ؛ لِأَنَّهُ مِنَ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ وَهُوَ بِمَهْرِ الْمِثْلِ، كَمَا يَقْتَضِيهِ تَقْرِيرُ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ

ص: 384

وَلَوْ أَقَرَّ بِعَيْنٍ فِي يَدِهِ لِآخَرَ لَمْ يَصِحَّ فِي حَقِ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ لِتَعَلُّقِ حَقِّهِمْ بِهِ، وَلَا يَجُوزُ لِلْمَرِيضِ أَنْ يَقْضِيَ دَيْنَ بَعْضِ الْغُرَمَاءِ دُونَ الْبَعْضِ؛ لِأَنَّ فِي إِيثَارِ الْبَعْضِ إِبْطَالُ حَقِ الْبَاقِينَ، وَغُرَمَاءُ الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، إِلَّا إِذَا قَضَى مَا اسْتَقْرَضَ فِي مَرَضِهِ أَوْ نَقَدَ ثَمَنَ مَا اشْتَرَى فِي مَرَضِهِ وَقَدْ عُلِمَ بِالْبَيِّنَةِ.

وَقَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ: قَوْلُهُ: "لِمَا بَيَّنَّا"، إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ: لِأَنَّهُ مِنَ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ، وَقَوْلِهِ:"لِأَنَّهُ لَا تُهْمَةَ فِي ثُبُوتِهَا".

أَقُولُ: إِنْ أَرَادَا أَنَّ قَوْلَهُ لِمَا بَيَّنَّا إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلَيْهِ الْمَذْكُورَيْنِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِطَرِيقِ التَّوْزِيعِ، كَمَا قَرَّرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ، فَيَرُدُّ عَلَيْهِمَا مَا يَرُدُّ عَلَيْهِ مِنْ أَنَّهُ تَكَلُّفٌ مُسْتَغْنًى عَنْهُ، كَمَا بَيَّنَّاهُ، وَإِنْ أَرَادَا أَنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلَيْهِ الْمَذْكُورَيْنِ بِطَرِيقِ الِاسْتِقْلَالِ، بِمَعْنَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً مُسْتَقِلَّةً؛ لِكَوْنِ الدُّيُونِ الْمَعْرُوفَةِ الْأَسْبَابِ مُطْلَقًا مِثْلِ دِينِ الصِّحَّةِ لَا يُقَدَّمُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: لِأَنَّهُ مِنَ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ وَهُوَ بِمَهْرِ الْمِثْلِ مَخْصُوصٌ بِالنِّكَاحِ، وَلَيْسَ كَثِيرٌ مِنْ أَسْبَابِ تِلْكَ الدُّيُونِ مِنَ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ قَطُّ، فَلَا يَتِمُّ الْمَقْصُودُ.

(وَلَوْ أَقَرَّ)، أَيِ: الْمَرِيضُ (بِعَيْنٍ فِي يَدِهِ لِآخَرٍ)، سَوَاءٌ كَانَتِ الْعَيْنُ أَمَانَةً أَوْ مَضْمُونَةً (لَمْ يَصِحَّ) إِقْرَارُهُ (فِي حَقِّ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ لِتَعَلُّقِ حَقِّهِمْ بِهِ)، أَيْ: بِمَا أَقَرَّ بِهِ ذِكْرُ الْمُصَنِّفِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ، تَفْرِيعًا عَلَى مَسْأَلَةِ الْقُدُورِيِّ، وَمُفَادُهَا أَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْعَيْنِ فِي الْمَرَضِ كَالْإِقْرَارِ بِالدَّيْنِ فِيهِ، (وَلَا يَجُوزُ لِلْمَرِيضِ أَنْ يَقْضِيَ دَيْنَ بَعْضِ الْغُرَمَاءِ دُونَ الْبَعْضِ) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ.

ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ الْمَسْأَلَةَ أَيْضًا تَفْرِيعًا عَلَى مَسْأَلَةِ الْقُدُورِيِّ، وَقَالَ فِي تَعْلِيلِهَا:(لِأَنَّ فِي إِيثَارِ الْبَعْضِ إِبْطَالُ حَقِّ الْبَاقِينَ) وَهُوَ لَا يَصِحُّ، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يُسَلَّمِ الْمَقْبُوضُ لِلْقَابِضِ بَلْ يَكُونُ ذَلِكَ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ بِالْحِصَصِ عِنْدَنَا، نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْمَبْسُوطِ وَغَيْرِهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْمَقْبُوضُ سَالِمٌ لِلْقَابِضِ؛ لِأَنَّ الْمَرِيضَ نَاظِرٌ لِنَفْسِهِ فِيمَا يَصْنَعُ فَرُبَّمَا يَقْضِي دَيْنَ مَنْ يَخَافُ أَنْ لَا يُسَامِحَهُ بِالْإِبْرَاءِ بَعْدَ مَوْتِهِ بَلْ يُخَاصِمُهُ فِي الْآخِرَةِ، وَالتَّصَرُّفُ عَلَى وَجْهِ النَّظَرِ غَيْرُ مَرْدُودٍ، وَالْجَوَابُ أَنَّ النَّظَرَ لِنَفْسِهِ إِنَّمَا يَصِحُّ إِذَا لَمْ يَبْطُلُ حَقَّ غَيْرِهِ.

(وَغُرَمَاءُ الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ)، أَيْ: وَغُرَمَاءُ الصِّحَّةِ وَغُرَمَاءُ الْمَرَضِ الَّذِينَ كَانُوا غُرَمَاءَ فِي الدُّيُونِ الْمَعْرُوفَةِ الْأَسْبَابِ سَوَاءٌ فِي عَدَمِ جَوَازِ إِيثَارِ الْبَعْضِ عَلَى الْبَعْضِ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ، وَالْعِلَّةِ اشْتِرَاكُ الْكُلِّ وَتُسَاوِيهِمْ فِي تَعَلُّقِ حَقِّهِمْ بِمَالِ الْمَرِيضِ، (إِلَّا إِذَا قَضَى مَا اسْتَقْرَضَ فِي مَرَضِهِ)، هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَا يَجُوزُ لِلْمَرِيضِ أَنْ يَقْضِيَ دَيْنَ بَعْضِ الْغُرَمَاءِ دُونَ الْبَعْضِ، وَقَوْلُهُ: فِي مَرَضِهِ، مُتَعَلِّقٌ بِالْفِعْلَيْنِ جَمِيعًا، أَعْنِي: قَضَى وَاسْتَقْرَضَ، فَالْمَعْنَى: إِلَّا إِذَا قَضَى فِي مَرَضِهِ مَا اسْتَقْرَضَ فِي مَرَضِهِ، وَكَذَا قَوْلُهُ:(أَوْ نَقْدَ ثَمَنَ مَا اشْتَرَى فِي مَرَضِهِ)، أَيْ: نَقَدَ فِي مَرَضِهِ ثَمَنَ مَا اشْتَرَى فِي مَرَضِهِ.

(وَقَدْ عُلِمَ) وُجُوبُهُ (بِالْبَيِّنَةِ)، أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّهُ قَدْ عُلِمَ وُجُوبُ كُلٍّ وَاحِدٍ مِنَ الْقَضَاءِ وَالنَّقْدِ بِالْبَيِّنَةِ أَوْ بِمُعَايَنَةِ الْقَاضِي فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ أَنْ يَخُصَّ الْمَرِيضُ الْمُقْرِضَ وَالْبَائِعَ بِقَضَاءِ دِينِهِمَا وَيُسَلِّمَ الْمَقْبُوضَ لَهُمَا، وَلَا يُشَارِكْهُمَا فِي ذَلِكَ غَيْرُهُمَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُبْطِلْ حَقَّ الْغُرَمَاءِ، بَلْ إِنَّمَا حَوَّلَهُ مِنْ مَحَلٍّ إِلَى مَحَلٍّ يُعَدُّ لَهُ، وَكَانَ تَعَلُّقُ حَقِّهِمْ بِالْمَالِيَّةِ بِالصُّورَةِ وَالْمَالِيَّةِ لَمْ تَفُتْ بِالتَّحْوِيلِ.

وَفِي الْمَبْسُوطِ: أَرَأَيْتَ لَوْ رَدَّ مَا اسْتَقْرَضَهُ بِعَيْنِهِ أَوْ فَسَخَ الْبَيْعَ وَرَدَّ الْمَبِيعَ أَكَانَ يَمْتَنِعُ سَلَامَتُهُ لِلْمَرْدُودِ عَلَيْهِ لِحَقِّ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ: لَا يَمْتَنِعُ ذَلِكَ، فَكَذَلِكَ إِذَا رَدَّ بَدَّلَهُ؛ لِأَنَّ حَكَمَ الْبَدَلِ حُكْمُ الْمُبْدَلِ. قَالَ فِي النِّهَايَةِ.

ص: 385

قَالَ (فَإِذَا قُضِيَتْ) يَعْنِي الدُّيُونَ الْمُقَدَّمَةَ (وَفَضَلَ شَيْءٌ يُصْرَفُ إِلَى مَا أَقَرَّ بِهِ فِي حَالَةِ الْمَرَضِ) لِأَنَّ الْإِقْرَارَ فِي ذَاتِهِ صَحِيحٌ، وَإِنَّمَا رُدَّ فِي حَقِ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ فَإِذَا لَمْ يَبْقَ حَقُّهُمْ ظَهَرَتْ صِحَّتُهُ. قَالَ (وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دُيُونٌ فِي صِحَّتِهِ جَازَ إِقْرَارُهُ) لِأَنَّهُ لَمْ يَتَضَمَّنْ إِبْطَالَ حَقِ الْغَيْرِ وَكَانَ الْمُقَرُّ لَهُ أَوْلَى مِنَ الْوَرَثَةِ لِقَوْلِ عُمَرَ رضي الله عنه: إِذَا أَقَرَّ الْمَرِيضُ بِدَيْنٍ جَازَ ذَلِكَ عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ تَرِكَتِهِ

وَذَكَرَ فِي الذَّخِيرَةِ بِأَوْضَحَ مِنْ هَذَا فَقَالَ: فَإِنْ قَضَى الْمَرِيضُ دُيُونَ هَؤُلَاءِ، هَلْ لِغُرَمَاءَ الصِّحَّةِ أَنْ يُشَارِكُوهُمْ فِيمَا قَبَضُوا؟ قَالُوا: لَا يُشَارِكُونَ الْمُقْرِضَ وَالْبَائِعَ، وَيُشَارِكُونَ الْمَرْأَةَ وَالْآجِرَ؛ لِأَنَّ الْمَرِيضَ بِقَضَاءِ دَيْنِ الْمُقْرِضِ وَالْبَائِعِ لَمْ يُبْطِلْ حَقَّ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ حَقَّ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ فِي مَعْنَى مَالِ الْمَرِيضِ، لَا فِي أَعْيَانِهِ، وَهَذَا لَا يَكُونُ إِبْطَالًا لَحِقِّهِمْ بَلْ كَانَ نَقْلًا لَحَقِّهِمْ وَلَهُ وِلَايَةُ النَّقْلِ أَلَا يُرَى أَنَّهُ لَوْ بَاعَ مَالَهُ لِيُوَفِّيَ حُقُوقَهُمْ كَانَ لَهُ ذَلِكَ.

فَأَمَّا فِي النِّكَاحِ وَالْإِجَارَةِ فَبِقَضَاءِ الْمَهْرِ وَالْأَجْرِ أُبْطِلَ حَقُّ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ عَنْ عَيْنِ الْمَالِ وَعَنْ مَالِيَّتِهِ؛ لِأَنَّ مَا وَصَلَ إِلَيْهِ مِنَ الْمَنْفَعَةِ لَا يَصْلُحُ لِقَضَاءِ حُقُوقِهِمْ، فَصَارَ وُجُودُ هَذَا الْعِوَضِ فِي حَقِّهِمْ وَعَدَمِهِ بِمَنْزِلَةٍ فَكَانَ إِبْطَالًا لِحَقِّهِمْ وَلَيْسَتْ لَهُ وِلَايَةُ الْإِبْطَالِ، انْتَهَى.

(قَالَ)، أَيْ: الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ: (فَإِذَا قُضِيَتْ) عَلَى صِيغَةِ الْمَجْهُولِ وَفَسَّرَ الْمُصَنِّفُ الْقَائِمَ مَقَامَ الْفَاعِلِ بِقَوْلِهِ: (يَعْنِي الدُّيُونَ الْمُقَدَّمَةَ)، وَأَرَادَ بِالدُّيُونِ الْمُقَدِّمَةِ دُيُونَ الصِّحَّةِ وَالدُّيُونَ اللَّازِمَةَ فِي الْمَرَضِ بِأَسْبَابٍ مَعْلُومَةٍ، (وَفَضْلُ شَيْءٍ)، وَهَذَا مِنْ كَلَامِ الْقُدُورِيُّ، يَعْنِي: وَفَضْلُ شَيْءٍ مِنَ التَّرِكَةِ بَعْدَ قَضَاءِ الدُّيُونِ الْمَذْكُورَةِ (يُصْرَفُ إِلَى مَا أَقَرَّ بِهِ فِي حَالَةِ الْمَرَضِ).

قَالَ الْمُصَنِّفُ: فِي تَعْلِيلِهِ: (لِأَنَّ الْإِقْرَارَ فِي ذَاتِهِ صَحِيحٌ)، أَيْ: مَحْمُولٌ عَلَى الصِّدْقِ فِي حَقِّ الْمُقِرِّ لِصُدُورِهِ عَنْ أَهْلِهِ فِي مَحَلِّهِ؛ إِذِ الْكَلَامُ فِيهِ فَيَكُونُ حُجَّةً عَلَيْهِ، (وَإِنَّمَا رُدَّ فِي حَقِّ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ) لِكَوْنِهِ مُتَّهَمًا فِي حَقِّ الْغَيْرِ، (فَإِذَا لَمْ يُبْقِ حَقَّهُمْ ظَهَرَتْ صِحَّتُهُ)، أَيْ: صِحَّةُ إِقْرَارِهِ فِي الْمَرَضِ لِزَوَالِ الْمَانِعِ. (قَالَ)، أَيْ: الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ: (وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ)، أَيْ: عَلَى الْمَرِيضِ (دُيُونٌ فِي صِحَّتِهِ جَازَ إِقْرَارُهُ)، وَإِنْ كَانَ بِكُلِّ مَالِهِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ: فِي تَعْلِيلِهِ: (لِأَنَّهُ لَمْ يَتَضَمَّنْ إِبْطَالَ حَقِّ الْغَيْرِ)، يَعْنِي: أَنَّهُ إِنَّمَا رُدَّ لِتَضَمُّنِهِ إِبْطَالَ حَقِّ الْغَيْرِ، فَإِذَا لَمْ يَتَضَمَّنْ ذَلِكَ نَفَذَ إِقْرَارُهُ لِعَدَمِ الْمَانِعِ.

أَقُولُ: كَانَ الظَّاهِرُ فِي وَضْعِ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يُقَالَ: وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دُيُونٌ فِي صِحَّتِهِ وَلَا دُيُونٌ لَازِمَةٌ فِي مَرَضِهِ بِأَسْبَابِ مَعْلُومَةٍ جَازَ إِقْرَارُهُ؛ لِأَنَّ الدُّيُونَ اللَّازِمَةَ فِي الْمَرَضِ بِأَسْبَابٍ مَعْلُومَةٍ مُتَقَدِّمَةٍ أَيْضًا عَلَى الدَّيْنِ الثَّابِتِ بِإِقْرَارِ الْمَرِيضِ، كَمَا مَرَّ فَإِذَا كَانَ عَلَيْهِ تِلْكَ الدُّيُونُ فَالظَّاهِرُ أَنْ لَا يَجُوزَ إِقْرَارُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دُيُونٌ فِي صِحَّتِهِ لِتَضْمِينِهِ إِبْطَالَ حَقِّ غُرَمَاءِ الدُّيُونِ اللَّازِمَةِ فِي مَرَضِهِ بِأَسْبَابٍ مَعْلُومَةٍ، (وَكَانَ الْمُقِرُّ لَهُ أَوْلَى مِنَ الْوَرَثَةِ)، هَذَا مِنْ كَلَامِ الْقُدُورِيِّ أَيْضًا.

قَالَ الْمُصَنِّفُ: فِي تَعْلِيلِهِ (لِقَوْلِ عُمَرَ رضي الله عنه: إِذَا أَقَرَّ الْمَرِيضُ بِدَيْنٍ جَازَ ذَلِكَ عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ تَرِكَتِهِ): وَالْأَثَرُ فِي مَثَلِهِ كَالْخَبَرِ؛ لِأَنَّهُ مِنَ الْمُقَدَّرَاتِ فَلَا يُدْرَكُ بِالْقِيَاسِ، فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، كَذَا فِي التَّبْيِينِ.

قَالَ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ: فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ فِي مَبْسُوطِ خُوَاهَرْ زَادَهْ، وَغَيْرِهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ لَا عُمَرَ، وَكَذَا رُوِيَ فِي الْأَصْلِ حَدِيثُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ فِيهِ عَنْ يَعْقُوبَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا أَقَرَّ الرَّجُلُ فِي مَرَضِهِ بِدَيْنٍ لِرَجُلٍ غَيْرِ وَارِثٍ فَإِنَّهُ جَائِزٌ وَإِنْ أَحَاطَ ذَلِكَ بِمَالِهِ.

أَقُولُ: هَذَا النَّظَرُ غَيْرُ وَارِدٍ؛ لِأَنَّ كَوْنَهُ مَرْوِيًّا عَنِ ابْنِ عُمَرَ لَا يُنَافِي كَوْنَهُ مَرْوِيًّا عَنْ عُمَرَ أَيْضًا، فَيَجُوزُ أَنْ يُسْنِدَهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ فِي النَّقْلِ إِلَى أَحَدِهِمَا، كَمَا وَقَعَ فِي الْكُتُبِ الَّتِي ذَكَرَهَا وَبَعْضُهُمْ إِلَى الْآخَرِ، كَمَا وَقَعَ فِي الْهِدَايَةِ وَالْكَافِي وَغَيْرِهِمَا، سِيَّمَا إِذَا اخْتَلَفَتْ عِبَارَةُ الْفَرِيقَيْنِ فِي النَّقْلِ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْبَدَائِعِ؛ حَيْثُ قَالَ: وَلَنَا

ص: 386

وَلِأَنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ مِنَ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ وَحَقُ الْوَرَثَةِ يَتَعَلَّقُ بِالتَّرِكَةِ بِشَرْطِ الْفَرَاغِ وَلِهَذَا تُقَدَّمُ حَاجَتُهُ فِي التَّكْفِينِ.

قَالَ (وَلَوْ أَقَرَّ الْمَرِيضُ لِوَارِثِهِ لَا يَصِحُّ إِلَّا أَنْ يُصَدِّقَهُ فِيهِ بَقِيَّةُ الْوَرَثَةِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: يَصِحُّ لِأَنَّهُ إِظْهَارُ حَقٍّ ثَابِتٍ لِتَرَجُّحِ جَانِبِ الصِّدْقِ فِيهِ، وَصَارَ كَالْإِقْرَارِ لِأَجْنَبِيٍّ وَبِوَارِثٍ آخَرَ وَبِوَدِيعَةٍ مُسْتَهْلَكَةٍ لِلْوَارِثِ.

مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّهُمَا قَالَا: إِذَا أَقَرَّ الْمَرِيضِ لِوَارِثِهِ لَمْ يَجُزْ، وَإِذَا أَقَرَّ لِأَجْنَبِيٍّ جَازَ، انْتَهَى. فَتَدَبَّرْ. (وَلِأَنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ مِنَ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ)؛ إِذْ فِيهِ رَفْعُ الْحَائِلِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَنَّةِ. قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«الدَّيْنُ حَائِلٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَنَّةِ» ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ.

(وَحَقُّ الْوَرَثَةِ يَتَعَلَّقُ بِالتَّرِكَةِ بِشَرْطِ الْفَرَاغِ) عَنِ الْحَاجَةِ وَلِهَذَا تُقَدَّمُ حَاجَتُهُ، أَيْ: حَاجَةُ الْمَيِّتِ (فِي التَّكْفِينِ) وَالتَّجْهِيزِ.

أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنْ كَانَ قَضَاءُ الدَّيْنِ الثَّابِتِ بِإِقْرَارِ الْمَرِيضِ مِنَ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ لَا يَتِمُّ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِيمَا مَرَّ لِلْفَرْقِ بَيْنَ الدَّيْنِ الثَّابِتِ بِإِقْرَارِ الْمَرِيضِ، وَبَيْنَ الدَّيْنِ اللَّازِمِ بِمُنَاكَحَتِهِ بِقَوْلِهِ بِخِلَافِ النِّكَاحِ؛ لِأَنَّهُ مِنَ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ وَهُوَ بِمَهْرِ الْمِثْلِ، ثُمَّ أَقُولُ: يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: قَضَاءُ الدَّيْنِ الثَّابِتِ بِإِقْرَارِ الْمَرِيضِ يَكُونُ مِنَ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ إِذَا لَمْ يَتَحَقَّقْ هُنَاكَ دَيْنُ الصِّحَّةِ، وَالدَّيْنُ اللَّازِمُ فِي الْمَرَضِ بِأَسْبَابٍ مَعْلُومَةٍ أَوْ تَحَقُّقًا، وَلَكِنْ فَضَلَ شَيْءٌ مِنَ التَّرِكَةِ بَعْدَ قَضَائِهِمَا.

وَأَمَّا إِذَا تَحَقَّقَا وَلَمْ يَفْضُلْ شَيْءٌ مِنَ التَّرِكَةِ بَعْدَ قَضَائِهِمَا، فَلَا يَكُونُ الدَّيْنُ الثَّابِتُ بِإِقْرَارِ الْمَرِيضِ مِنَ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ؛ لِأَنَّ عِلَّةَ كَوْنِهِ مِنَ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ أَنْ يُرْفَعَ بِهِ الْحَائِلُ بَيْنَ الْمَدْيُونِ وَبَيْنَ الْجَنَّةِ، كَمَا مَرَّ، وَتِلْكَ الْعِلَّةُ مُنْتَفِيَةٌ عِنْدَ تَحَقُّقِ دَيْنِ الصِّحَّةِ وَدَيْنِ الْمَرَضِ بِأَسْبَابٍ مَعْلُومَةٍ مَعَ عَدَمِ وَفَاءِ التَّرِكَةِ بِمَا سِوَاهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا يَحُولَانِ حِينَئِذٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَنَّةِ مَا لَمْ يُرْفَعَا بِقَضَائِهِمَا، بِخِلَافِ النِّكَاحِ فَإِنَّ عِلَّةَ كَوْنِهِ مِنَ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ كَوْنُهُ مِنْ مَصَالِحِ الْمَعِيشَةِ، وَهَذِهِ الْعِلَّةُ مُتَحَقِّقَةٌ فِي كُلِّ حَالٍ.

وَأَجَابَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ عَنِ الْإِيرَادِ الْمَزْبُورِ بِأَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ ثُبُوتُ الدَّيْنِ فِيمَا إِذَا أَقَرَّ بِدَيْنٍ فِي مَرَضِهِ وَعَلَيْهِ دُيُونُ الصِّحَّةِ لِمَكَانِ التُّهْمَةِ حَتَّى يَكُونَ قَضَاؤُهُ مِنَ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ.

أَقُولُ: يُرَدُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَصِيرُ حِينَئِذٍ مَدَارُ الْفَرْقِ بَيْنَ مَا أَقَرَّ بِهِ فِي مَرَضِهِ، وَبَيْنَ مَا لَزِمَ بِنِكَاحِهِ عَدَمُ ظُهُورِ ثُبُوتِ الْأَوَّلِ لِمَكَانِ التُّهْمَةِ وَظُهُورِ ثُبُوتِ الثَّانِي؛ إِذِ الْمُعَايَنُ لَا مَرَدَّ لَهُ لَا عَدَمَ كَوْنٍ الْأَوَّلِ مِنَ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ وَكَوْنِ الثَّانِي مِنْهَا، كَمَا يَقْتَضِيهِ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ بِخِلَافِ النِّكَاحِ، فَإِنَّهُ مِنَ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ، وَمَوْرِدُ الْإِيرَادِ إِنَّمَا هُوَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ هَذَا، وَيُمْكِنُ التَّوْجِيهُ فَتَأَمَّلَ.

(قَالَ)، أَيْ: الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ: (وَلَوْ أَقَرَّ الْمَرِيضُ لِوَارِثِهِ لَا يَصِحُّ)، سَوَاءً أَقَرَّ بِعَيْنٍ أَوْ بِدَيْنٍ، كَمَا صَرَّحُوا بِهِ، وَعَنْ هَذَا قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ، وَهُوَ بِإِطْلَاقِهِ يَتَنَاوَلُ الْعَيْنَ وَالدَّيْنَ:(إِلَّا أَنْ يُصَدِّقَهُ فِيهِ)، أَيْ: فِي إِقْرَارِهِ هَذَا (بَقِيَّةُ الْوَرَثَةِ)، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي قَوْلٍ: وَأَحْمَدُ، وَهُوَ قَوْلُ شُرَيْحٍ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَيَحْيَى الْأَنْصَارِيِّ وَالْقَاسِمِ وَسَالِمٍ وَأَبِي هَاشِمٍ.

(وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: يَصِحُّ)، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ وَالْعَطَاءِ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ. وَقَالَ مَالِكٌ: يَصِحُّ إِذَا لَمْ يُتَّهَمُ، وَيَبْطُلُ إِذَا اتُّهِمَ كَمَنْ لَهُ بِنْتٌ وَابْنُ عَمٍّ فَأَقَرَّ لِابْنَتِهِ لَمْ يُقْبَلْ، وَلَوْ أَقَرَّ لِابْنِ عَمِّهِ قُبِلَ؛ إِذْ لَا يُتَّهَمُ أَنْ يَزِيدَ فِي نَصِيبِهِ، وَيُتَّهَمُ أَنْ يَزِيدَ فِي نَصِيبِهَا، دَلِيلُ مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ:(لِأَنَّهُ)، أَيْ: لِأَنَّ هَذَا الْإِقْرَارَ (إِظْهَارُ حَقٍّ ثَابِتٍ)، أَيْ: إِخْبَارٌ عَنْ حَقٍّ لَازِمٍ عَلَيْهِ؛ (لِتَرَجُّحِ جَانِبِ الصِّدْقِ فِيهِ)، أَيْ: فِي هَذَا الْإِقْرَارِ بِدَلَالَةِ الْحَالِ؛ فَإِنَّ حَالَ الْمَرَضِ أَدَلُّ عَلَى الصِّدْقِ؛ لِأَنَّهُ حَالُ تَدَارَكِ الْحُقُوقِ، فَلَا يَجُوزُ أَنَّ يَثْبُتَ الْحَجْرُ عَنِ الْإِقْرَارِ بِهِ، (وَصَارَ) هَذَا الْإِقْرَارُ (كَالْإِقْرَارِ لِأَجْنَبِيِّ وَبِوَارِثٍ آخَرَ)، نَحْوُ: أَنْ يُقِرَّ لِمَجْهُولِ النَّسَبِ بِأَنَّهُ ابْنُهُ؛ فَإِنَّهُ يَصِحُّ وَإِنْ تَضَمَّنَ وُصُولَ شَيْءٍ مِنَ التَّرِكَةِ إِلَيْهِ، (وَبِوَدِيعَةٍ مُسْتَهْلَكَةٍ لِلْوَارِثِ)، أَيْ: وَكَالْإِقْرَارِ بِاسْتِهْلَاكِ وَدِيعَةٍ مَعْرُوفَةٍ لِلْوَارِثِ فَإِنَّهُ صَحِيحٌ، وَصُورَةُ ذَلِكَ عَلَى

ص: 387

وَلَنَا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ وَلَا إِقْرَارَ لَهُ بِالدَّيْنِ»

مَا ذُكِرَ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ: رَجُلٌ أَوْدَعَ أَبَاهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ فِي حَالِ صِحَّةِ الْأَبِ أَوْ مَرَضِهِ بِمُعَايَنَةِ الشُّهُودِ، فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ قَالَ: اسْتَهْلَكْتُهَا، ثُمَّ مَاتَ وَأَنْكَرَ ذَلِكَ سَائِرُ الْوَرَثَةِ، فَإِنَّ إِقْرَارَ الْمَرِيضِ جَائِزٌ وَالْأَلْفُ مِنْ تَرِكَتِهِ لِلِابْنِ الْمُقَرِّ لَهُ خَاصَّةً.

قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الشُّرَّاحِ: وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّا لَوْ لَمْ نَعْتَبِرْ إِقْرَارَهُ يَصِيرُ كَأَنَّهُ مَاتَ مُجْهَلًا فَيَجِبُ الضَّمَانُ فَلَا يُفِيدُ رَدُّ إِقْرَارِهِ؛ وَلِأَنَّ تَصَرُّفَ الْمَرِيضِ إِنَّمَا رُدَّ لِلتُّهْمَةِ وَلَا تُهْمَةَ فِي الْمُعَايَنَةِ، انْتَهَى.

أَقُولُ: جَوَابُهُمُ الثَّانِي لَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْمُعَايَنَةِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمَذْكُورَةِ إِنَّمَا هُوَ إِيدَاعُ الْوَارِثِ تِلْكَ الْوَدِيعَةِ لَا اسْتِهْلَاكُ الْمُوَرِّثِ إِيَّاهَا، وَإِنَّمَا ثَبَتَ الِاسْتِهْلَاكُ بِإِقْرَارِ الْمُوَرِّثِ لَا غَيْرَ، كَمَا هُوَ الْمَفْرُوضُ فِي هَاتِيكَ الْمَسْأَلَةِ، فَبَقِيَ الْكَلَامُ فِي صِحَّةِ الْإِقْرَارِ بِالِاسْتِهْلَاكِ، فَالصَّوَابُ مِنْ جَوَابِهِمْ هُوَ الْأَوَّلُ، كَمَا هُوَ الْمَفْهُومُ مِمَّا ذُكِرَ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ مِنْ تَعْلِيلِ الْمَسْأَلَةِ الْمَذْكُورَةِ بِقَوْلِهِ: لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْمَرِيضِ إِنَّمَا يُرَدُّ لِلتُّهْمَةِ لَا لِخَلَلٍ فِيهِ وَلَا تُهْمَةَ فِي هَذَا، أَلَا يُرَى أَنَّا إِذَا كَذَّبْنَاهُ فَمَاتَ وَجَبَ الضَّمَانُ أَيْضًا فِي تَرِكَتِهِ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ مُجْهَلًا، انْتَهَى.

وَكَأَنَّ تِلْكَ الْجَمَاعَةَ مِنَ الشُّرَّاحِ اغْتَرُّوا بِمَا فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَا تُهْمَةَ فِي هَذَا، فَفَهِمُوا أَنَّ وَجْهَ عَدَمِ التُّهْمَةِ فِيهِ ثُبُوتُهُ بِالْمُعَايَنَةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ وَجْهُ ذَلِكَ وُجُوبُ الضَّمَانِ عَلَى الْمُقِرِّ، سَوَاءٌ صَدَقَ فِي إِقْرَارِهِ أَمْ كَذَبَ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ مُجْهَلًا، كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنَ التَّنْوِيرِ الْمَذْكُورِ فِيهِ، ثُمَّ إِنَّ صَاحِبَ الْعِنَايَةِ لَمْ يُصِبْ أَيْضًا فِي تَحْرِيرِ هَذَا الْمَقَامِ؛ حَيْثُ ذَكَرَ الْمَسْأَلَةَ الْمَذْكُورَةَ مَعَ تَعْلِيلِهَا الْمَذْكُورِ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ عِنْدَ تَقْرِيرِ دَلِيلِ الشَّافِعِيِّ، مَعَ أَنَّ التَّعْلِيلَ الْمَذْكُورَ حُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ لَا لَهُ، وَإِنَّمَا الصَّوَابُ أَنْ يَذْكُرَ مَضْمُونَ ذَلِكَ التَّعْلِيلِ هَاهُنَا عَلَى وَجْهِ الْجَوَابِ عَنْ قِيَاسِ الشَّافِعِيِّ مَا نَحْنُ فِيهِ عَلَى تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ الْمَذْكُورَةِ، كَمَا ذَكَرَهُ غَيْرُهُ.

(وَلَنَا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام: «لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ وَلَا إِقْرَارَ لَهُ بِالدَّيْنِ»)، رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ نُوحِ بْنِ دَرَّاجٍ عَنْ أَبَانَ بْنِ ثَعْلَبٍ عَنْ جَعْفَرَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَلَا لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ، وَلَا إِقْرَارَ لَهُ بِالدَّيْنِ» . قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرْخَسِيُّ فِي مَبْسُوطِهِ: وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام: «أَلَا لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ، وَلَا إِقْرَارَ لَهُ بِالدَّيْنِ» ، إِلَّا أَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ شَاذَّةٌ غَيْرُ مَشْهُورَةٍ، وَإِنَّمَا الْمَشْهُورُ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: إِذَا أَقَرَّ الرَّجُلُ فِي مَرَضِهِ بِدَيْنٍ لِرَجُلٍ غَيْرُ وَارِثٍ فَإِنَّهُ جَائِزٌ وَإِنْ أَحَاطَ ذَلِكَ بِمَالِهِ، وَإِنْ أَقَرَّ لِوَارِثٍ فَهُوَ بَاطِلٌ إِلَّا أَنْ يُصَدِّقَهُ الْوَرَثَةُ، وَبِهِ أَخَذَ عُلَمَاؤُنَا، وَقَوْلُ الْوَاحِدِ مِنْ فُقَهَاءِ الصَّحَابَةِ عِنْدَنَا مُقَدَّمٌ عَلَى الْقِيَاسِ، انْتَهَى.

وَقَالَ صَاحِبُ الْبَدَائِعِ بَعْدَ ذِكْرِ قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ: وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُ فِيهِ مُخَالِفٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، فَيَكُونُ إِجْمَاعًا، انْتَهَى.

أَقُولُ: كُلٌّ وَاحِدٍ مِنَ الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْأَثَرُ الَّذِي رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - إِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ إِقْرَارِ الْمَرِيضِ لِوَارِثٍ بِالدَّيْنِ بِدُونِ تَصْدِيقِ الْوَرَثَةِ، وَمَسْأَلَتُنَا تَعُمُّ بُطْلَانَ إِقْرَارِهِ لَهُ بِالدَّيْنِ وَبِالْعَيْنِ، كَمَا صَرَّحُوا بِهِ، فَكَانَ الدَّلِيلُ قَاصِرًا عَنْ إِفَادَةِ تَمَامِ

ص: 388

وَلِأَنَّهُ تَعَلَّقَ حَقُ الْوَرَثَةِ بِمَالِهِ فِي مَرَضِهِ وَلِهَذَا يُمْنَعُ مِنَ التَّبَرُّعِ عَلَى الْوَارِثِ أَصْلًا، فَفِي تَخْصِيصِ الْبَعْضِ بِهِ إِبْطَالُ حَقِ الْبَاقِينَ، وَلِأَنَّ حَالَةَ الْمَرَضِ حَالَةَ الِاسْتِغْنَاءِ، وَالْقَرَابَةُ سَبَبُ التَّعَلُّقِ،

الْمُدَّعِي، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَلْتَزِمَ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى إِفَادَةِ الدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ الْآتِي كُلِّيَّةَ الْمُدَّعِي، فَتَأَمَّلْ. (وَلِأَنَّهُ تَعَلَّقَ حَقُّ الْوَرَثَةِ بِمَالِهِ فِي مَرَضِهِ وَلِهَذَا يُمْنَعُ)، أَيِ: الْمَرِيضُ (مِنَ التَّبَرُّعِ عَلَى الْوَارِثِ)، كَالْوَصِيَّةِ وَالْهِبَةِ لَهُ (أَصْلًا)، أَيْ: بِالْكُلِّيَّةِ، (فَفِي تَخْصِيصِ الْبَعْضِ بِهِ)، أَيْ: فَفِي تَخْصِيصِ بَعْضِ الْوَرَثَةِ بِمَالِهِ (إِبْطَالُ حَقِّ الْبَاقِينَ)، أَيْ: إِبْطَالُ حَقِّ بَاقِي الْوَرَثَةِ، وَهُوَ جَوْرٌ عَلَيْهِمْ فَيُرَدُّ، وَتَذَكَّرْ هَاهُنَا مَا وَرَدَ عَلَيْهِ مِنِ الْإِشْكَالِ بِالْإِقْرَارِ فِي الْمَرَضِ بِوَارِثٍ آخَرَ وَجَوَابَهُ، فَإِنَّا قَدْ ذَكَرْنَاهُمَا فِيمَا مَرَّ نَقْلًا عَنِ الْمَبْسُوطِ وَالْأَسْرَارِ.

فَإِنْ قِيلَ: حَقَّ الْوَرَثَةِ إِنَّمَا يَظْهَرُ بَعْدَ الْفَرَاغِ عَنْ حَاجَتِهِ، فَإِذَا أَقَرَّ بِالدَّيْنِ لِبَعْضِ الْوَرَثَةِ فَقَدْ ظَهَرَ حَاجَتُهُ؛ لِأَنَّ الْعَاقِلَ لَا يَكْذِبُ عَلَى نَفْسِهِ خِرَافًا، وَبِالْمَرَضِ تَزْدَادُ جِهَةُ الصِّدْقِ؛ لِأَنَّ الْبَاعِثَ الشَّرْعِيَّ يَنْضَمُّ إِلَى الْعَقْلِيِّ فَيَبْعَثُهُ عَلَى الصِّدْقِ.

قُلْنَا: الْإِقْرَارُ لِلْوَارِثِ إِيصَالُ نَفَعٍ إِلَيْهِ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرِ، وَفِيهِ إِبْطَالُ حَقِّ الْبَاقِينَ، وَوُجُوبُ الدَّيْنِ لَمْ يُعَرَفْ إِلَّا بِقَوْلِهِ وَهُوَ مُتَّهَمٌ فِيهِ لِجَوَازِ أَنَّهُ أَرَادَ الْإِيثَارَ بِهَذَا الطَّرِيقِ؛ حَيْثُ عَجَزَ عَنْهُ بِطَرِيقِ الْوَصِيَّةِ فَوَجَبَ أَنْ تَتَوَقَّفَ صِحَّتُهُ عَلَى رِضَا الْبَاقِينَ، دَفَعَا لِلْوَحْشَةِ وَالْعَدَاوَةِ، بِخِلَافِ الْأَجْنَبِيِّ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَّهِمٍ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ إِيصَالَ النَّفْعِ إِلَيْهِ بِطَرِيقِ الْوَصِيَّةِ، وَكُلُّ تَصَرُّفٍ يَتَمَكَّنُ الْمَرْءُ فِي تَحْصِيلِ الْمَقْصُودِ بِهِ إِنْشَاءً لَا تَتَمَكَّنُ التُّهْمَةُ فِي إِقْرَارِهِ، كَذَا فِي الْكِفَايَةِ، وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ.

(وَلِأَنَّ حَالَةَ الْمَرَضِ حَالَةُ الِاسْتِغْنَاءِ) عَنِ الْمَالِ لِظُهُورِ أَمَارَاتِ الْمَوْتِ الْمُوجِبِ لِانْتِهَاءِ الْآمَالِ، وَكُلُّ مَا هُوَ كَذَلِكَ فَالْإِقْرَارُ لِبَعْضِ الْوَرَثَةِ فِيهِ يُورِثُ تُهْمَةَ تَخْصِيصِهِ، (وَالْقَرَابَةُ) تَمْنَعُ عَنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا. (سَبَبُ التَّعَلُّقِ)، أَيْ: سَبَبُ تَعَلُّقِ حَقِّ الْأَقْرِبَاءِ بِالْمَالِ، وَتَعَلُّقِ حَقِّهِمْ بِهِ يَمْنَعُ تَخْصِيصَ بَعْضِهِمْ بِشَيْءٍ مِنْهُ بِلَا مُخَصَّصٍ، وَعَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ الَّذِي هُوَ مُخْتَارُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ يَكُونُ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ: وَلِأَنَّ حَالَةَ الْمَرَضِ حَالَةَ الِاسْتِغْنَاءِ

إِلَخْ. دَلِيلًا مُسْتَقِلًّا عَلَى أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ أُسْلُوبِ تَحْرِيرِهِ.

وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: قَوْلُهُ: "وَلِأَنَّ حَالَةَ الْمَرَضِ حَالَةُ الِاسْتِغْنَاءِ" عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: "وَلِهَذَا يُمْنَعُ

إِلَخْ". فَإِنَّهُ كَانَ دَلِيلًا إِنِّيًا، وَهَذَا دَلِيلٌ لِمَا انْتَهَى.

أَقُولُ: لَا يَذْهَبُ عَلَى ذِي فِطْرَةٍ سَلِيمَةٍ أَنَّ تَقْدِيمَ قَوْلِهِ فَفِي تَخْصِيصِ الْبَعْضِ بِهِ إِبْطَالُ حَقِّ الْبَاقِينَ يَأْبَى عَنْ ذَلِكَ جِدًّا؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ حَقُّ الْوَرَثَةِ بِمَالِهِ فِي مَرَضِهِ مُقَدِّمَةٌ لِدَلِيلِ أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ، وَقَوْلَهُ:"فَفِي تَخْصِيصِ الْبَعْضِ بِهِ إِبْطَالُ حَقِّ الْبَاقِينَ"، مُقَدِّمَةٌ أُخْرَى لَهُ مَرْبُوطَةٌ بِالْأُولَى، وَلَوْ كَانَ قَوْلُهُ: وَلِأَنَّ حَالَةَ الْمَرَضِ حَالَةَ الِاسْتِغْنَاءِ، مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ: وَلِهَذَا يُمْنَعُ مِنَ التَّبَرُّعِ، لَكَانَ دَلِيلًا عَلَى الْمُقَدِّمَةِ الْأُولَى كَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، فَيَلْزَمُ تَوْسِيطُ الْمُقَدِّمَةِ الثَّانِيَةِ بَيْنَ دَلِيلَيِ الْمُقَدِّمَةِ الْأُولَى وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ، نَعَمْ يَصْلُحُ قَوْلُهُ: وَلِأَنَّ حَالَةَ الْمَرَضِ حَالَةُ الِاسْتِغْنَاءِ، وَالْقَرَابَةُ سَبَبُ التَّعَلُّقِ؛ لِأَنْ يَكُونَ دَلِيلًا عَلَى قَوْلِهِ: وَلِأَنَّهُ تَعَلَّقَ حَقُّ الْوَرَثَةِ بِمَالِهِ فِي مَرَضِهِ لَوْلَا تَوْسِيطُ قَوْلِهِ: "فَفِي تَخْصِيصِ الْبَعْضِ بِهِ إِبْطَالُ حَقِّ الْبَاقِينَ".

وَعَنْ هَذَا قَالَ فِي الْكَافِي: وَلِأَنَّهُ آثَرَ بَعْضَ وَرَثَتِهِ بِشَيْءٍ مِنْ مَالِهِ بَعْدَ تَعَلُّقِ حَقِّ الْكُلِّ بِمَا لَهُ فَيُرَدُّ، كَمَا لَوْ أَوْصَى لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ مَالِهِ، وَهَذَا؛ لَأَنَّ حَالَةَ الْمَرَضِ حَالَةُ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْ مَالِهِ لِظُهُورِ آثَارِ الْمَوْتِ فِيهَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَحْتَاجُ إِلَى مَالِهِ لِانْتِهَاءِ آمَالِهِ عِنْدَ إِقْبَالِهِ عَلَى الْآخِرَةِ فَيَظْهَرُ عِنْدَ اسْتِغْنَائِهِ حَقُّ أَقْرِبَائِهِ؛ وَلِهَذَا مُنِعَ مِنَ التَّبَرُّعِ عَلَى وَارِثِهِ أَصْلًا فَلَمْ يَصِحَّ إِقْرَارُهُ لِلْوَارِثِ؛ لِأَنَّهُ يُوجِبُ إِبْطَالَ حَقِّ الْبَاقِينَ، انْتَهَى. وَقَالَ فِي التَّبْيِينِ: وَلِأَنَّ فِيهِ إِيثَارُ

ص: 389

إِلَّا أَنَّ هَذَا التَّعَلُّقَ لَمْ يَظْهَرْ فِي حَقِ الْأَجْنَبِيِّ لِحَاجَتِهِ إِلَى الْمُعَامَلَةِ فِي الصِّحَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَوِ انْحَجَرَ عَنِ الْإِقْرَارِ بِالْمَرَضِ يَمْتَنِعُ النَّاسُ عَنِ الْمُعَامَلَةِ مَعَهُ، وَقَلَّمَا تَقَعُ الْمُعَامَلَةُ مَعَ الْوَارِثِ وَلَمْ يَظْهَرْ فِي حَقِ الْإِقْرَارِ بِوَارِثٍ آخَرَ لِحَاجَتِهِ أَيْضًا، ثُمَّ هَذَا التَّعَلُّقُ حَقُ بَقِيَّةِ الْوَرَثَةِ، فَإِذَا صَدَّقُوهُ فَقَدْ أَبْطَلُوهُ فَيَصِحُّ إِقْرَارُهُ قَالَ (وَإِذَا أَقَرَّ لِأَجْنَبِيٍّ جَازَ وَإِنْ أَحَاطَ بِمَالِهِ) لِمَا بَيَّنَّا، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ إِلَّا فِي الثُّلُثِ

بَعْضِ الْوَرَثَةِ بِمَالِهِ بَعْدَ تَعَلُّقِ حَقِّ جَمِيعِهِمْ بِهِ، فَلَا يَجُوزُ لِمَا فِيهِ مِنْ إِبْطَالِ حَقِّ الْبَقِيَّةِ كَالْوَصِيَّةِ، وَإِنَّمَا تَعَلَّقَ حَقُّهُمْ بِهِ لِاسْتِغْنَائِهِ عَنْهُ بَعْدَ الْمَوْتِ فَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إِبْطَالِ حَقِّهِمْ بِالْإِقْرَارِ لِوَرَثَتِهِ، كَمَا لَا يَتَمَكَّنُ مِنْهُ بِالْوَصِيَّةِ لَهُمْ، انْتَهَى، تَبَصَّرْ.

(إِلَّا أَنَّ هَذَا التَّعَلُّقَ)، أَيْ: تُعَلِّقُ حَقِّ الْوَرَثَةِ بِمَالِ الْمَرِيضِ فِي حَالَةِ الْمَرَضِ (لَمْ يَظْهَرْ فِي حَقِّ الْأَجْنَبِيِّ)؛ حَيْثُ لَمْ يُمْنَعْ إِقْرَارُ الْمَرِيضِ لِأَجْنَبِيٍّ (لِحَاجَتِهِ)، أَيْ: لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ (إِلَى الْمُعَامَلَةِ) مَعَ النَّاسِ (فِي الصِّحَّةِ)، أَيْ: فِي حَالَةِ الصِّحَّةِ، فَلَوْ لَمْ يَصِحَّ إِقْرَارُهُ بِالْكُلِّيَّةِ فِي حَالَةِ الْمَرَضِ لَمْ تُقْضَ حَاجَتُهُ فِي حَالَةِ الصِّحَّةِ؛ (لِأَنَّهُ لَوِ انْحَجَرَ عَنِ الْإِقْرَارِ بِالْمَرَضِ يَمْتَنِعُ النَّاسُ عَنِ الْمُعَامَلَةِ مَعَهُ) فِي الصِّحَّةِ بِنَاءً عَلَى جَوَازٍ أَنْ يَعْرِضَهُ الْمَرَضُ، فَتَخْتَلُّ مَصَالِحُهُ فَيَقَعُ فِي الْحَرَجِ وَهُوَ مَدْفُوعٌ شَرْعًا. وَلَمَا اسْتَشْعَرَ أَنْ يُقَالَ: الْحَاجَةُ مَوْجُودَةٌ فِي حَقِّ الْوَارِثِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ النَّاسَ كَمَا يُعَامَلُونَ مَعَ الْأَجْنَبِيِّ يُعَامَلُونَ مَعَ الْوَارِثِ، أَجَابَ بِقَوْلِهِ:(وَقَلَّمَا تَقَعُ الْمُعَامَلَةُ مَعَ الْوَارِثِ)؛ لِأَنَّ الْمُعَامَلَةَ لِلِاسْتِرْبَاحِ وَلَا اسْتِرْبَاحَ مَعَ الْوَارِثِ؛ لِأَنَّهُ يُسْتَحَيَا مِنَ الْمُمَاكَسَةِ مَعَهُ، فَلَا يُحَصَّلُ الرِّبْحَ.

(وَلَمْ يَظْهَرْ)، أَيْ: وَكَذَا لَمْ يَظْهَرْ هَذَا التَّعَلُّقُ (فِي حَقِّ الْإِقْرَارِ بِوَارِثٍ آخَرَ لِحَاجَتِهِ أَيْضًا)، أَيْ: لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ إِلَى الْإِقْرَارِ بِالْوَارِثِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالنَّسَبِ مِنْ حَوَائِجِهِ الْأَصْلِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى إِبْقَاءِ نَسْلِهِ فَلَا يَنْحَجِرُ عَنْهُ لِحَقِّ الْوَرَثَةِ، (ثُمَّ هَذَا التَّعَلُّقُ)، أَيْ: تَعَلُّقُ حَقِّ الْوَرَثَةِ بِمَالِ الْمَرِيضِ فِي مَرَضِهِ (حَقُّ بَقِيَّةِ الْوَرَثَةِ، فَإِذَا صَدَّقُوهُ)، أَيْ: إِذَا صَدَّقَ بَقِيَّةُ الْوَرَثَةِ الْمُقِرَّ لِوَارِثٍ، (فَقَدْ أَبْطَلُوهُ)، أَيْ: أَبْطَلُوا حَقَّهُمْ، (فَيَصِحُّ إِقْرَارُهُ)، وَهَذَا الْكَلَامُ مِنَ الْمُصَنِّفِ بَيَانٌ لِوَجْهِ الِاسْتِثْنَاءِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ بِقَوْلِهِ: إِلَّا أَنَّ تَصَدِّقَهُ فِيهِ بَقِيَّةُ الْوَرَثَةِ.

(وَإِذَا أَقَرَّ لِأَجْنَبِيٍّ جَازَ وَإِنْ أَحَاطَ بِمَالِهِ لِمَا بَيَّنَّا) إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ: وَلِأَنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ مِنَ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ صَاحِبُ مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ وَصَاحِبُ الْعِنَايَةِ، وَإِلَى قَوْلِهِ: لِأَنَّهُ لَوِ انْحَجَرَ عَنِ الْإِقْرَارِ بِالْمَرَضِ يَمْتَنِعُ النَّاسُ عَنِ الْمُعَامَلَةِ مَعَهُ، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ وَتَبِعَهُ الشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ. وَفِي الْعِنَايَةِ وَكَانَتِ الْمَسْأَلَةُ مَعْلُومَةً مِمَّا تَقَدَّمَ إِلَّا أَنَّهُ ذَكَرَهَا تَمْهِيدًا لِذِكْرِ الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ، (وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ إِلَّا فِي الثُّلُثِ)، وَهُوَ مَذْهَبُ

ص: 390

لِأَنَّ الشَّرْعَ قَصَرَ تَصَرُّفَهُ عَلَيْهِ.

إِلَّا أَنَّا نَقُولُ: لَمَّا صَحَّ إِقْرَارُهُ فِي الثُّلُثِ كَانَ لَهُ التَّصَرُّفُ فِي ثُلُثِ الْبَاقِي لِأَنَّهُ الثُّلُثُ بَعْدَ الدَّيْنِ ثُمَّ وَثُمَّ حَتَّى يَأْتِيَ عَلَى الْكُلِّ.

قَالَ (وَمَنْ أَقَرَّ لِأَجْنَبِيٍّ ثُمَّ قَالَ: هُوَ ابْنِي ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ وَبَطَلَ إِقْرَارُهُ، فَإِنْ أَقَرَّ لِأَجْنَبِيَّةٍ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا لَمْ يَبْطُلْ إِقْرَارُهُ لَهَا) وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ دَعْوَةَ النَّسَبِ تَسْتَنِدُ إِلَى وَقْتِ الْعُلُوقِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ أَقَرَّ لِابْنِهِ فَلَا يَصِحُّ وَلَا كَذَلِكَ الزَّوْجِيَّةُ لِأَنَّهَا تَقْتَصِرُ عَلَى زَمَانِ التَّزَوُّجِ فَبَقِيَ إِقْرَارُهُ لِأَجْنَبِيَّةٍ.

بَعْضِ النَّاسِ، كَمَا ذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ فِي مَبْسُوطِهِ؛ (لِأَنَّ الشَّرْعَ قَصَرَ تَصَرُّفَهُ)، أَيْ: تَصَرُّفِ الْمَرِيضِ. (عَلَيْهِ)، أَيْ: عَلَى الثُّلُثِ وَتَعَلَّقَ بِالثُّلُثَيْنِ حَقُّ الْوَرَثَةِ؛ وَلِهَذَا لَوْ تَبَرَّعَ بِجَمِيعِ مَالِهِ لَمْ يُنَفَّذْ إِلَّا فِي الثُّلُثِ، فَكَذَا الْإِقْرَارُ وَجَبَ أَنْ لَا يَنْفُذُ إِلَّا فِي الثُّلُثِ، كَذَا قَالُوا.

أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الشَّرْعُ إِنَّمَا قَصَرَ عَلَى الثُّلُثِ تَصَرُّفَهُ الَّذِي لَمْ يَكُنْ مِنَ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ دُونَ مُطْلَقِ التَّصَرُّفِ، وَإِلَّا لَزِمَ أَنْ لَا يَنْفُذُ تَصَرُّفَهُ فِي نَحْوِ ثَمَنِ الْأَغْذِيَةِ وَالْأَدْوِيَةِ إِلَّا فِي مِقْدَارِ الثُّلُثِ وَلَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِيمَا مَرَّ أَنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ مِنَ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ، فَلَمْ يَجْرِ الْقِيَاسُ الْمَذْكُورُ فِي الْإِقْرَارِ بِالدَّيْنِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَدَّعِي أَنَّ كَوْنَ قَضَاءِ الدَّيْنِ مِنَ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ عَلَى مُوجَبِ الِاسْتِحْسَانِ أَيْضًا دُونَ الْقِيَاسِ. (إِلَّا أَنَّا نَقُولُ) فِي وَجْهِ الِاسْتِحْسَانِ:(لَمَا صَحَّ إِقْرَارُهُ فِي الثُّلُثِ) لِانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ عَنْ إِقْرَارِهِ فِي ذَلِكَ الْقَدْرِ لِعَدَمِ تُعَلِّقِ الْوَرَثَةِ بِهِ، (كَانَ لَهُ التَّصَرُّفُ فِي ثُلْثِ الْبَاقِي؛ لِأَنَّهُ الثُّلُثُ بَعْدَ الدَّيْنِ)، وَالثُّلُثُ بَعْدَ الدَّيْنِ مَحَلُّ التَّصَرُّفِ قَطْعًا فَيَنْفُذُ الْإِقْرَارُ فِي الثُّلُثِ الثَّانِي. (ثُمَّ وَثُمَّ حَتَّى يَأْتِيَ عَلَى الْكُلِّ)، كَذَا فِي الْإِيضَاحِ وَعَامَّةِ الْمُعْتَبِرَاتِ.

أَقُولُ: فِيهِ شَيْءٌ، وَهُوَ أَنَّ الْإِتْيَانَ عَلَى الْكُلِّ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ فِي الْوَجْهِ الْمَزْبُورِ، أَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِالْجُزْءِ الَّذِي لَا يَتَجَزَّأُ، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْمُتَكَلِّمِينَ فَظَاهَرٌ؛ لِأَنَّ التَّثْلِيثَ إِذَا انْتَهَى إِلَى ثَلَاثَةِ أَجْزَاءٍ فَأُخْرِجَ مِنْهَا أَحَدُهَا، وَبَقِيَ الْجُزْآنِ امْتَنَعَ بَعْدَ ذَلِكَ إِخْرَاجُ الثُّلُثِ مِنْ ذَيْنِكَ الْجُزْأَيْنِ الْبَاقِيَيْنِ لِعَدَمِ إِمْكَانِ التَّجَزُّؤِ فِي شَيْءٍ مِنْهُمَا.

وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِإِمْكَانِ الْقِسْمَةِ إِلَى غَيْرِ النِّهَايَةِ، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْحُكَمَاءِ فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الثُّلُثَ فِي كُلِّ مَرْتَبَةٍ لَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَيْنَ الْكُلِّ لِلْقَطْعِ بِمُغَايَرَةِ الْجُزْءِ لِلْكُلِّ. لَا يُقَالُ: مُرَادُهُمُ الْإِتْيَانُ عَلَى قَرِيبٍ مِنَ الْكُلِّ لَا عَلَى الْكُلِّ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّا نَقُولُ: فَحِينَئِذٍ لَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعِي جَوَازَ الْإِقْرَارِ لِأَجْنَبِيٍّ، وَإِنْ أَحَاطَ بِكُلِّ مَالِهِ حَقِيقَةً، تَدَبَّرْ، وَنَقْضُ الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ وَبِالْوَصِيَّةِ بِجَمِيعِ مَالِهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ؛ فَإِنَّهَا لَا تَجُوزُ عِنْدَ تَحَقُّقِ الْوَرَثَةِ مَعَ جَرَيَانِ الطَّرِيقِ الْمَزْبُورِ فِيهَا؛ لِأَنَّ الْمَرِيضَ لَهُ حَقُّ التَّصَرُّفِ فِي ثُلْثِ مَالِهِ بِدُونِ إِجَازَةِ الْوَرَثَةِ، فَلَمَّا صَحَّ تَصَرُّفُهُ فِي ثُلْثِ مَالِهِ كَانَ لَهُ التَّصَرُّفُ فِي ثُلْثِ الْبَاقِي لِمَا أَنَّ جَمِيعَ مَالِهِ بَعْدَ الثُّلُثِ الْخَارِجِ جُعِلَ كَأَنَّهُ هُوَ مِنْ الِابْتِدَاءِ فَيَجِبُ أَنْ تَنْفُذَ وَصِيَّتُهُ فِي ثُلْثِهِ أَيْضًا ثُمَّ وَثُمَّ إِلَى أَنْ يَأْتِيَ عَلَى الْكُلِّ.

وَأُجِيبُ بِأَنَّ الثُّلُثَ بَعْدَ الدَّيْنِ مَحَلُّ تَصَرُّفِ الْمَرِيضِ، فَلَمَّا أَقَرَّ بِدَيْنٍ انْتَقَلَ مَحَلُّ التَّصَرُّفِ إِلَى ثُلْثِ مَا بَعْدَهُ، وَلَيْسَ الثُّلُثُ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ بِشَيْءٍ مُحَلَّ تَصَرُّفِ الْمَرِيضِ وَصِيَّةً، وَإِنَّمَا مَحَلُّ الْوَصِيَّةِ ثُلْثُ الْمَجْمُوعِ لَا غَيْرَ فَافْتَرَقَا.

(قَالَ)، أَيْ: الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ: (وَمَنْ أَقَرَّ لِأَجْنَبِيٍّ) فِي مَرَضِهِ بِمَالٍ، (ثُمَّ قَالَ: هُوَ ابْنِي ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ)، أَيْ: ثَبَتَ نَسَبُ الْمُقَرِّ لَهُ مِنَ الْمُقِرِّ، (وَبَطَلَ إِقْرَارُهُ) بِالْمَالِ. (فَإِنْ أَقَرَّ لِأَجْنَبِيَّةٍ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا لَمْ يَبْطُلْ إِقْرَارُهُ لَهَا)، بِخِلَافِ الْهِبَةِ وَالْوَصِيَّةِ؛ حَيْثُ بَطَلَتَا لَهَا أَيْضًا. وَقَالَ زُفَرُ: بَطَلَ الْإِقْرَارُ لَهَا أَيْضًا؛ لِأَنَّهَا وَارِثَةٌ لَهُ عِنْدَ الْمَوْتِ، فَحَصَلَتِ التُّهْمَةُ وَهِيَ الْمُعْتَبَرُ فِي الْبَابِ، وَلَنَا مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ:(وَوَجْهُ الْفَرْقِ)، أَيْ: بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ (أَنَّ دَعْوَةَ النَّسَبِ تَسْتَنِدُ إِلَى وَقْتِ الْعُلُوقِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ أَقَرَّ لِابْنِهِ فَلَا يَصِحُّ)، يَعْنِي: أَنَّ النَّسَبَ إِذَا ثَبَتَ ثَبَتَ مُسْتَنِدًا إِلَى وَقْتِ الْعُلُوقِ فَتَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّ إِقْرَارَ الْمَرِيضِ وَقَعَ لِوَارِثِهِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ.

(وَلَا كَذَلِكَ الزَّوْجِيَّةُ؛ لِأَنَّهَا تَقْتَصِرُ عَلَى زَمَانِ التَّزَوُّجِ)، يَعْنِي: أَنَّ الزَّوْجِيَّةَ إِذَا ثَبَتَتْ ثَبَتَتْ مُقْتَصِرَةً عَلَى زَمَانِ الْعَقْدِ، (فَبَقِيَ إِقْرَارُهُ لِأَجْنَبِيَّةٍ)، فَيَصِحُّ بِخِلَافِ الْهِبَةِ وَالْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ تَمْلِيكٌ بَعْدَ الْمَوْتِ وَهِيَ وَارِثَةٌ حِينَئِذٍ، وَالْهِبَةُ

ص: 391

قَالَ: (وَمَنْ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ فِي مَرَضِهِ ثَلَاثًا، ثُمَّ أَقَرَّ لَهَا بِدَيْنٍ فَلَهَا الْأَقَلُّ مِنَ الدَّيْنِ وَمِنْ مِيرَاثِهَا مِنْهُ)

فِي الْمَرَضِ فِي حُكْمِ الْوَصِيَّةِ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ، وَفِي وَصَايَا الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: وَلَوْ أَنَّ الْمَرِيضَ أَقَرَّ بِدِينٍ لِابْنِهِ وَهُوَ نَصْرَانِيٌّ أَوْ عَبْدٌ ثُمَّ أَسْلَمَ الِابْنُ أَوْ أُعْتِقَ الْعَبْدُ ثُمَّ مَاتَ الرَّجُلُ فَالْإِقْرَارُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ حِينَ أَقَرَّ كَانَ سَبَبُ التُّهْمَةِ بَيْنَهُمَا قَائِمًا وَهُوَ الْقُرَابَةُ الَّتِي صَارَ بِهَا وَارِثًا فِي ثَانِيَ الْحَالِ، وَلَيْسَ هَذَا كَالَّذِي أَقَرَّ لِامْرَأَةٍ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا؛ لِأَنَّ سَبَبَ التُّهْمَةِ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ قَائِمًا وَقْتَ الْإِقْرَارِ، انْتَهَى.

(قَالَ)، أَيِ: الْقُدُورِيَّ فِي مُخْتَصَرِهِ: (وَمَنْ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ فِي مَرَضِهِ ثَلَاثًا، ثُمَّ أَقَرَّ لَهَا بِدَيْنٍ فَلَهَا الْأَقَلُّ مِنَ الدَّيْنِ وَمِنْ مِيرَاثِهَا مِنْهُ)، أَيْ: مِنَ الزَّوْجِ، قَالَ الْإِمَامُ الزَّيْلَعِيُّ فِي شَرْحِ الْكَنْزِ: هَذَا إِذَا طَلَّقَهَا بِسُؤَالِهَا، وَإِنْ طَلَّقَهَا بِلَا سُؤَالِهَا فَلَهَا الْمِيرَاثُ بَالِغًا مَا بَلَغَ، وَلَا يَصِحُّ الْإِقْرَارُ لَهَا؛ لِأَنَّهَا وَارِثَةٌ إِذْ هُوَ فَارٌّ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي طَلَاقِ الْمَرِيضِ، انْتَهَى.

وَقَالَ نَجْمُ الدِّينِ الزَّاهِدِيُّ فِي شَرْحِ مُخْتَصَرِ الْقُدُورِيِّ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ وَالشُّرُوحِ: وَمَنْ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ فِي مَرَضِهِ ثَلَاثًا بِسُؤَالِهَا، ثُمَّ أَقَرَّ لَهَا بِدَيْنِ، وَالْمَوْضِعَانِ صَحِيحَانِ، وَالْحُكْمُ فِيهِمَا وَاحِدٌ عَلَى مَا قَرَّرَهُ فِي الْجَامِعِ وَالْمُحِيطِ، غَيْرَ أَنَّهُ لَوْلَا الْإِقْرَارُ، فَفِي الْوَضْعِ الْأَوَّلِ: تَرِثُهُ إِذَا مَاتَ فِي الْعِدَّةِ، وَفِي الْوَضْعِ الثَّانِي: لَا تَرِثُهُ، وَمَعَ هَذَا إِذَا أَقَرَّ لَهَا بِدَيْنٍ فَلَهَا الْأَقَلُّ مِنَ الدَّيْنِ وَمِنَ الْمِيرَاثِ، انْتَهَى كَلَامُهُ.

أَقُولُ: قَدْ اخْتَلَفَ رَأْيَاهُمَا فِي اسْتِخْرَاجِ هَذَا الْمَقَامِ. وَالَّذِي يُطَابِقُ مَا مَرَّ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ مَا ذَكَرَهُ الزَّيْلَعِيُّ، فَإِنَّهُ قَالَ هُنَاكَ: وَإِنْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا فِي مَرَضِهِ بِأَمْرِهَا، ثُمَّ أَقَرَّ لَهَا بِدَيْنٍ أَوْ أَوْصَى لَهَا بِوَصِيَّةٍ فَلَهَا الْأَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ وَمِنَ الْمِيرَاثِ، فَكَانَتِ الْمَسْأَلَةُ مُقَيَّدَةً هُنَاكَ بِمَا قَيَّدَهُ الزَّيْلَعِيُّ هَا هُنَا، وَلَا يَرَى لِلتَّقْيِيدِ فَائِدَةً سِوَى الِاحْتِرَازِ عَمَّا إِذَا طَلَّقَهَا بِغَيْرِ أَمْرِهَا، ثُمَّ إِنِّي تَتَبَّعْتُ عَامَّةَ الْمُعْتَبَرَاتِ حَتَّى الْجَامِعِ وَالْمُحِيطِ وَلَمْ أَظْفَرْ فِي شَيْءٍ مِنْهَا بِكَوْنِ الْحُكْمِ وَاحِدًا فِي الْمَوْضِعَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ، بَلْ أَيْنَمَا وَجَدْتُ الْمَسْأَلَةَ الْمَزْبُورَةَ مَذْكُورَةٌ مَعَ الْحُكْمِ الْمَسْفُورِ وَجَدْتُهَا مُقَيَّدَةً بِكَوْنِ الطَّلَاقِ بِسُؤَالِ الْمَرْأَةِ أَوْ بِأَمْرِهَا: فَالظَّاهِرُ مَا ذَكَرَهُ الزَّيْلَعِيُّ.

وَأَمَّا عَدَمُ تَعَرُّضِ الْمُصَنِّفِ وَصَاحِبِ الْكَافِي وَكَثِيرٍ مِنَ الشُّرَّاحِ هَاهُنَا لِلتَّقْيِيدِ الْمَذْكُورِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِنَاءً عَلَى ظُهُورِهِ مِمَّا صَرَّحَ بِهِ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ، ثُمَّ إِنَّ صَاحِبَ الْعِنَايَةِ مِنَ الشُّرَّاحِ وَإِنْ قَيَّدَ الْمَسْأَلَةَ هَاهُنَا أَيْضًا بِالْقَيْدِ الْمَذْكُورِ إِلَّا أَنَّهُ فَسَّرَهَا؛ حَيْثُ جَعَلَهَا مِثَالًا لِمَا إِذَا كَانَ الْمُقِرُّ لَهُ وَارِثًا حَالَةَ الْإِقْرَارِ دُونَ الْمَوْتِ، فَغَيَّرَهَا عَنْ وَضْعِهِمَا الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ، فَقَالَ: كَمَا إِذَا طَلَّقَ زَوْجَتَهُ فِي مَرَضِهِ ثَلَاثًا بِأَمْرِهَا، وَقَدْ أَقَرَّ لَهَا بِدَيْنٍ، فَلَهَا الْأَقَلُّ مِنَ الدَّيْنِ وَالْمِيرَاثِ

ص: 392

لِأَنَّهُمَا مُتَّهَمَانِ فِيهِ لِقِيَامِ الْعِدَّةِ، وَبَابُ الْإِقْرَارِ مَسْدُودٌ لِلْوَارِثِ، فَلَعَلَّهُ أَقْدَمَ عَلَى هَذَا الطَّلَاقِ لِيَصِحَّ إِقْرَارُهُ لَهَا زِيَادَةً عَلَى مِيرَاثِهَا وَلَا تُهْمَةَ فِي أَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ فَيَثْبُتُ.

(وَمَنْ أَقَرَّ بِغُلَامٍ يُولَدُ مِثْلُهُ لِمِثْلِهِ، وَلَيْسَ لَهُ نَسَبٌ مَعْرُوفٌ أَنَّهُ ابْنُهُ وَصَدَّقَهُ الْغُلَامُ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ مَرِيضًا) لِأَنَّ النَّسَبَ مِمَّا يَلْزَمُهُ خَاصَّةً، فَيَصِحُّ إِقْرَارُهُ بِهِ، وَشَرْطٌ أَنْ يُولَدَ مِثْلُهُ لِمِثْلِهِ كَيْ لَا يَكُونَ مُكَذَّبًا فِي الظَّاهِرِ، وَشَرْطٌ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ نَسَبٌ مَعْرُوفٌ؛ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ ثُبُوتَهُ مِنْ غَيْرِهِ، وَإِنَّمَا شَرَطَ تَصْدِيقَهُ لِأَنَّهُ فِي يَدِ نَفْسِهِ إِذِ الْمَسْأَلَةُ فِي غُلَامٍ يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ،

وَالْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ: ثُمَّ أَقَرَّ لَهَا، وَبَيْنَهُمَا بَوْنٌ لَا يَخْفَى. قَالَ الْمُصَنِّفُ: فِي تَعْلِيلِ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ: (لِأَنَّهُمَا)، أَيِ: الزَّوْجَيْنِ (مُتَّهَمَانِ فِيهِ)، أَيْ: فِي هَذَا الْإِقْرَارِ؛ (لِقِيَامِ الْعِدَّةِ) أَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَنَّ وَضْعَ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا إِذَا كَانَ مَوْتُ الْمُقِرِّ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ مَوْتُهُ بَعْدَ انْقِضَائِهَا فَإِقْرَارُهُ لَهَا جَائِزٌ.

(وَبَابُ الْإِقْرَارِ مَسْدُودٌ لِلْوَارِثِ فَلَعَلَّهُ)، أَيْ: فَلَعَلَّ الزَّوْجَ (أَقْدَمَ عَلَى هَذَا الطَّلَاقِ لِيَصِحَّ إِقْرَارُهُ لَهَا زِيَادَةً عَلَى مِيرَاثِهَا)، فَوَقَعَتِ التُّهْمَةُ فِي إِقْرَارِهِ. (وَلَا تُهْمَةَ فِي أَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ فَيَثْبُتُ)، أَيْ: أَقَلَّ الْأَمْرَيْنِ. قَالَ عَلَاءُ الدِّينِ الْإِسْبِيجَابِيُّ فِي شَرْحِ الْكَافِي: وَلَوْ أَقَرَّ لِامْرَأَتِهِ بِدَيْنٍ مِنْ مَهْرِهَا صُدِّقَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَهْرِ مَثْلِهَا، وَتَحَاصَّ غُرَمَاءُ الصِّحَّةِ بِهِ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِمَا يَمْلِكُ إِنْشَاءَهُ، فَانْعَدَمَتِ التُّهْمَةُ، وَلَوْ أَقَرَّتِ الْمَرْأَةُ فِي مَرَضِهَا بِقَبْضِ الْمَهْرِ مِنْ زَوْجِهَا لَمْ تُصَدَّقْ؛ لِأَنَّهَا أَقَرَّتْ بِدَيْنٍ لِلزَّوْجِ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ يُوجِبُ مِثْلَ الْمَقْبُوضِ فِي الذِّمَّةِ، ثُمَّ يَلْتَقِيَانِ قِصَاصًا، وَالْإِقْرَارُ بِالدَّيْنِ لِلْوَارِثِ لَا يَصِحُّ، انْتَهَى.

وَفِي الْفَتَاوَى الصُّغْرَى: الْمَرِيضَةُ إِذَا أَقَرَّتْ بِاسْتِيفَاءِ مَهْرِهَا فَإِنْ مَاتَ وَهِيَ مَنْكُوحَةٌ أَوْ مُعْتَدَّةٌ لَا يَصِحُّ إِقْرَارُهَا، وَإِنْ مَاتَتْ غَيْرَ مَنْكُوحَةٍ وَلَا مُعْتَدَّةٍ بِأَنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ يَصِحُّ.

(فَصْلٌ فِي بَيَانِ الْإِقْرَارِ بِالنَّسَبِ)

قَدَّمَ الْإِقْرَارَ بِالْمَالِ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالنَّسَبِ لِكَثْرَةِ وُقُوعِ الْأَوَّلِ وَقِلَّةِ وُقُوعِ الثَّانِي، وَلَا رَيْبَ فِي أَنَّ مَا هُوَ كَثِيرُ الدَّوَرَانِ أَهَمُّ بِالْبَيَانِ، وَإِنَّمَا أَفْرَدَ الثَّانِي بِفَصْلٍ عَلَى حِدَةٍ لِانْفِرَادِهِ بِبَعْضِ الشُّرُوطِ وَالْأَحْكَامِ، كَمَا سَيَظْهَرُ، (وَمَنْ أَقَرَّ بِغُلَامٍ يُولَدُ مِثْلهُ)، أَيْ: مِثْلَ ذَلِكَ الْغُلَامِ (لِمَثَلِهِ)، أَيْ: لِمِثْلِ الْمُقِرِّ، يَعْنِي: هُمَا فِي السِّنِّ، بِحَيْثُ يَجُوزُ أَنْ يُولَدَ الْمُقَرُّ لَهُ لِلْمُقِرِّ، (وَلَيْسَ لَهُ)، أَيْ: لِلْغُلَامِ (نَسَبٌ مَعْرُوفٌ) بَلْ كَانَ مَجْهُولَ النَّسَبِ (أَنَّهُ ابْنُهُ)، أَيْ: أَقَرَّ أَنَّهُ ابْنُهُ. (وَصَدَّقَهُ الْغُلَامُ)، أَيْ: فِيمَا إِذَا كَانَ يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ لَا يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ فَلَا يُشْتَرَطُ تَصْدِيقهُ، كَمَا صَرَّحُوا بِهِ قَاطِبَةً. (ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ) جَوَابُ الْمَسْأَلَةِ، أَيْ: ثَبَتَ نَسَبُ الْغُلَامِ مِنَ الْمُقِرِّ، (وَإِنْ كَانَ) الْمُقِرُّ (مَرِيضًا) إِلَى هُنَا لَفْظُ الْقُدُورِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ: فِي تَعْلِيلِ الْمَسْأَلَةِ: (لِأَنَّ النَّسَبَ مِمَّا يَلْزَمُهُ خَاصَّةً) يَعْنِي أَنَّ النَّسَبَ فِي الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ مِمَّا يَلْزَمُ الْمُقِرَّ خَاصَّةً، لَيْسَ فِيهِ حَمْلُ النَّسَبِ عَلَى الْغَيْرِ، (فَيَصِحُّ إِقْرَارُهُ بِهِ)، وَإِنْ كَانَ مَرِيضًا؛ لِأَنَّ إِقْرَارَ الْمَرِيضِ إِنَّمَا لَا يَصِحُّ فِيمَا فِيهِ التُّهْمَةُ لِحَقِّ الْغَيْرِ وَلَا تُهْمَةَ هَاهُنَا. (وَشَرْطٌ أَنْ يُولَدَ مِثْلُهُ لِمِثْلِهِ كَيْ لَا يَكُونَ مُكَذَّبًا فِي الظَّاهِرِ)، فَلَا يَصِحُّ إِقْرَارُهُ.

(وَشَرْطٌ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ نَسَبٌ مَعْرُوفٌ؛ لِأَنَّهُ)، أَيْ: لِأَنَّ كَوْنَ نَسَبِهِ مَعْرُوفًا (يَمْنَعُ ثُبُوتَهُ مِنْ غَيْرِهِ)؛ لِأَنَّ النَّسَبَ لَا يَقْبَلُ الْفَسْخَ بَعْدَ ثُبُوتِهِ. (وَإِنَّمَا شَرَطَ تَصْدِيقَهُ)، أَيْ: تَصْدِيقَ الْغُلَامِ. (لِأَنَّهُ فِي يَدِ نَفْسِهِ؛ إِذِ الْمَسْأَلَةُ فِي غُلَامٍ يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ) وَإِذَا

ص: 393

بِخِلَافِ الصَّغِيرِ عَلَى مَا مَرَّ مِنْ قَبْلُ، وَلَا يَمْتَنِعُ بِالْمَرَضِ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ مِنَ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ (وَيُشَارِكُ الْوَرَثَةَ فِي الْمِيرَاثِ)؛ لِأَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ صَارَ كَالْوَارِثِ الْمَعْرُوفِ فَيُشَارِكُ وَرَثَتَهُ.

قَالَ (وَيَجُوزُ إِقْرَارُ الرَّجُلِ بِالْوَالِدَيْنِ وَالْوَلَدِ وَالزَّوْجَةِ وَالْمَوْلَى) لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِمَا يَلْزَمُهُ، وَلَيْسَ فِيهِ تَحْمِيلُ النَّسَبِ عَلَى الْغَيْرِ.

كَانَ فِي يَدِ نَفْسِهِ يُعَبِّرُ فَلَا بُدَّ مِنْ تَصْدِيقِهِ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُ، فَلَا يَثْبُتُ بِدُونِ تَصْدِيقِهِ، كَذَا ذَكَرَ فِي التَّبْيِينِ.

أَقُولُ: يَنْتَقِضُ هَذَا التَّعْلِيلُ بِالْإِقْرَارِ بِغَيْرِ النَّسَبِ كَالْمَالِ وَنَحْوِهِ؛ إِذْ لَا يُشْتَرَطُ فِي لُزُومِ مَا أَقَرَّ بِهِ هُنَاكَ تَصْدِيقُ الْمُقَرِّ لَهُ، وَلَكِنْ يُرَدُّ التَّعْلِيلُ بِإِقْرَارٍ بِرَدِّهِ، عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي صَدْرِ كِتَابِ الْإِقْرَارِ مَعَ جَرَيَانِ أَنْ يُقَالَ فِي ذَلِكَ أَيْضًا: إِنَّ الْحَقَّ لَهُ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَثْبُتَ بِدُونِ تَصْدِيقِهِ، وَقَالَ فِي الْبَدَائِعِ: لِأَنَّ إِقْرَارَهُ يَتَضَمَّنُ إِبْطَالَ يَدِهِ فَلَا يَبْطُلُ إِلَّا بِرِضَاهُ، انْتَهَى.

أَقُولُ: تَضَمَّنَ الْإِقْرَارُ بِالنَّسَبِ إِبْطَالَ يَدِ الْمُقَرِّ لَهُ مَحَلَّ الْمَنْعِ، فَتَأَمَّلْ. وَقَالَ فِي التَّسْهِيلِ: لِمَا فِيهِ مِنْ إِلْزَامِ حُقُوقِ النَّسَبِ فَلَا يَلْزَمُهُ إِلَّا بِالْتِزَامِهِ، انْتَهَى.

أَقُولُ: هَذَا أَظْهَرُ الْوُجُوهِ وَهُوَ الْحَقُّ عِنْدِي؛ إِذْ لَا شَكَّ أَنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَى ثُبُوتِ النَّسَبِ حُقُوقٌ كَثُبُوتِ الْإِرْثِ وَلُزُومِ النَّفَقَةِ وَمَا أَشْبَهَهُمَا، وَفِي بَعْضِهَا مَشَقَّةٌ عَلَى الْمُقَرِّ لَهُ، فَفِي الْإِقْرَارِ بِالنَّسَبِ إِلْزَامُ تِلْكَ الْحُقُوقِ، فَلَا بُدَّ مِنِ الْتِزَامِ الْمُقَرِّ لَهُ إِيَّاهَا حَتَّى لَا يَتَضَرَّرَ، بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ بِالْمَالِ وَنَحْوِهِ؛ إِذْ هُوَ نَفْعٌ مَحْضٌ لِلْمُقَرِّ لَهُ فَفِيهِ بُدٌّ مِنِ الْتِزَامِهِ، (بِخِلَافِ الصَّغِيرِ) الَّذِي لَا يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ فِي يَدِ غَيْرِهِ، فَلَا يُشْتَرَطُ تَصْدِيقُهُ (عَلَى مَا مَرَّ مِنْ قَبْلُ)، أَيْ: فِي بَابِ دَعْوَى النَّسَبِ مِنْ كِتَابِ الدَّعْوَى.

(وَلَا يَمْتَنِعُ بِالْمَرَضِ)، أَيْ: لَا يَمْتَنِعُ الْإِقْرَارُ بِالنَّسَبِ بِسَبَبِ الْمَرَضِ؛ (لِأَنَّ النَّسَبَ مِنَ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ)، فَصَارَ كَالنِّكَاحِ بِمَهْرِ الْمِثْلِ، (وَيُشَارِكُ الْوَرَثَةُ فِي الْمِيرَاثِ)، هَذَا مِنْ تَتِمَّةِ كَلَامِ الْقُدُورِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ، أَيْ: وَيُشَارِكُ الْغُلَامُ الْمُقَرُّ لَهُ بِالْبُنُوَّةِ سَائِرَ الْوَرَثَةِ فِي مِيرَاثِ الْمُقِرِّ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِهِ: (لِأَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ صَارَ كَالْوَارِثِ الْمَعْرُوفِ فَيُشَارِكُ وَرَثَتَهُ)، أَيْ: وَرَثَةَ الْمُقِرِّ بِالنَّسَبِ.

(قَالَ)، أَيِ: الْقُدُورِيَّ فِي مُخْتَصَرِهِ: (وَيَجُوزُ إِقْرَارُ الرَّجُلِ بِالْوَالِدَيْنِ وَالْوَلَدِ)، أَيْ: بِالشَّرَائِطِ الَّتِي مَرَّ بَيَانُهَا، كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْكَافِي وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ وَسَائِرِ الْمُعْتَبَرَاتِ.

أَقُولُ: لَا يَذْهَبُ عَلَيْكَ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ مُنْدَرِجَةٌ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ؛ إِذْ لَا يَدُلُّ عَلَيْهَا صَرَاحَةً قَوْلُهُ هَاهُنَا: وَالْوَلَدِ، فَإِذَا كَانَتِ الشَّرَائِطُ الْمُعْتَبَرَةُ هُنَاكَ مُعْتَبَرَةٌ هَاهُنَا أَيْضًا لَمْ يَكُنْ لِذِكْرِ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا قَبْلُ عَلَى الِاسْتِقْلَالِ، كَمَا وَقَعَ فِي مُخْتَصَرِ الْقُدُورِيِّ وَعَامَّةِ الْمُتُونِ فَائِدَةٌ يَعْتَدُّ بِهَا، كَمَا لَا يَخْفَى، وَلِهَذَا لَمْ يَقَعْ كَذَلِكَ فِي الْأَصْلِ وَالْمُحِيطِ وَعَامَّةِ مُعْتَبَرَاتِ الْفَتَاوَى.

(وَالزَّوْجَةِ)، أَيْ: وَيَجُوزُ إِقْرَارُ الرَّجُلِ بِالزَّوْجَةِ، وَلَكِنْ يُشْتَرَطُ هَاهُنَا أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ خَالِيَةً عَنْ زَوْجٍ آخَرَ وَعِدَّتِهِ، وَأَنْ لَا تَكُونَ تَحْتَ الْمُقِرِّ أُخْتُهَا وَلَا أَرْبَعٌ سِوَاهَا. نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْكَافِي وَالشُّرُوحِ.

(وَالْمَوْلَى)، أَيْ: وَيَجُوزُ إِقْرَارُهُ بِالْمَوْلَى: يَعْنِي مَوْلَى الْعَتَاقَةِ سَوَاءً كَانَ أَعْلَى أَوْ أَسْفَلَ، هَذَا إِذَا لَمْ يَكُنْ وَلَاؤُهُ ثَابِتًا مِنَ الْغَيْرِ؛ لِأَنَّ الْوَلَاءَ بِمَنْزِلَةِ النَّسَبِ، وَثُبُوتُ النَّسَبِ مِنَ الْغَيْرِ يَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ بِالنَّسَبِ، فَكَذَلِكَ فِي الْوَلَاءِ، كَذَا فِي الذَّخِيرَةِ وَغَيْرِهَا.

قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: اعْلَمْ أَنَّ هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ هَاهُنَا مِنْ صِحَّةِ إِقْرَارِ الْمُقِرِّ بِالْأُمِّ؛ حَيْثُ قَالَ: بِالْوَالِدَيْنِ مُوَافِقٌ لِرِوَايَةِ تُحْفَةِ الْفُقَهَاءِ وَرِوَايَةِ شَرْحِ الْفَرَائِضِ لِلْإِمَامِ سِرَاجِ الدِّينِ وَالْمُصَنِّفِ، وَمُخَالِفٌ لِعَامَّةِ النُّسَخِ مِنَ الْمَبْسُوطِ وَالْإِيضَاحِ وَالْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِلْإِمَامِ الْمَحْبُوبِيِّ وَغَيْرِهَا، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِصِحَّتِهِ، انْتَهَى كَلَامُهُ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ: فِي تَعْلِيلِ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ: (لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِمَا يَلْزَمُهُ، وَلَيْسَ فِيهِ تَحْمِيلُ النَّسَبِ عَلَى الْغَيْرِ) فَتَحَقَّقَ الْمُقْتَضَى وَانْتَفَى الْمَانِعُ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِجَوَازِهِ. قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَهَذَا الدَّلِيلُ، كَمَا تَرَى يَدُلُّ

ص: 394

(وَيُقْبَلُ إِقْرَارُ الْمَرْأَةِ بِالْوَالِدَيْنِ وَالزَّوْجِ وَالْمَوْلَى)؛ لِمَا بَيَّنَّا (وَلَا يُقْبَلُ بِالْوَلَدِ)؛ لِأَنَّ فِيهِ تَحْمِيلَ النَّسَبِ

عَلَى صِحَّةِ إِقْرَارِهِ بِالْأُمِّ كَصِحَّتِهِ بِالْأَبِ. ثُمَّ قَالَ: قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِصِحَّتِهِ، وَقَدْ عَرَفْتَ صِحَّتَهُ بِدَلَالَةِ الدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ، انْتَهَى. يَعْنِي: أَنَّ صِحَّتَهُ مُقَرَّرَةٌ بِدَلَالَةِ الدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ عَلَيْهَا، فَلَا وَجْهَ لِتَرَدُّدِ صَاحِبِ النِّهَايَةِ فِيهَا، كَمَا يُشْعِرُ بِهِ قَوْلُهُ: وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِصِحَّتِهِ.

أَقُولُ: فِيهِ بَحْثٌ: أَمَّا أَوَّلًا؛ فَلِأَنَّ دَلَالَةَ الدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ عَلَى صِحَّةِ إِقْرَارِهِ بِالْأُمِّ مَمْنُوعَةٌ؛ فَإِنَّ مِنْ شَرَائِطِ صِحَّةِ إِقْرَارِهِ بِالْأُمِّ تَصْدِيقَ الْأُمِّ إِيَّاهُ، وَفِيهِ تَحْمِيلُ النَّسَبِ عَلَى الْغَيْرِ، وَهُوَ الزَّوْجُ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ وَلِهَذَا لَا يُقْبَلُ إِقْرَارُ الْأُمِّ بِالْوَلَدِ بِاتِّفَاقِ الرِّوَايَاتِ، كَمَا سَيَأْتِي، فَإِذَا لَمْ يَجُزْ تَصْدِيقُهَا إِيَّاهُ لَمْ يَجُزْ إِقْرَارُهُ بِهَا لِاسْتِلْزَامِ انْتِفَاءِ الشَّرْطِ انْتِفَاءَ الْمَشْرُوطِ، وَأَمَّا ثَانِيًا؛ فَلِأَنَّ تَرَدُّدَ صَاحِبِ النِّهَايَةِ فِي صِحَّةِ إِقْرَارِهِ بِالْأُمِّ إِنَّمَا نَشَأَ مِمَّا صَرَّحَ بِهِ فِي عَامَّةِ الرِّوَايَاتِ بِأَنَّ إِقْرَارَ الرَّجُلِ يَصِحُّ بِأَرْبَعَةِ نَفَرٍ بِالْأَبِ وَالِابْنِ وَالْمَرْأَةِ وَمَوْلَى الْعَتَاقَةِ، وَذِكْرُ الْعَدَدِ يَمْنَعُ الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ عَلَى مَا عُرِفَ فِي الْأُصُولِ، فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ إِقْرَارُهُ بِالْأُمِّ عَلَى مُقْتَضَى مَا ذُكِرَ فِي تِلْكَ الرِّوَايَاتِ جَازَ أَنْ يَكُونَ دَلِيلُ ذَلِكَ أَقْوَى مِنَ الدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ لِلْجَوَازِ؛ فَإِنَّ الدَّلِيلَ الْمَذْكُورَ هُوَ الْقِيَاسُ الْجَلِيُّ، وَجَازَ أَنْ يَكُونَ دَلِيلُ عَدَمِ الْجَوَازِ هُوَ النَّصُّ أَوِ الْإِجْمَاعُ أَوِ الْقِيَاسُ الْخَفِيُّ الَّذِي هُوَ الِاسْتِحْسَانُ، وَبِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا يُتْرَكُ الْقِيَاسُ الْجَلِيُّ، وَإِنْ كَانَ دَلِيلُ ذَلِكَ هُوَ الْقِيَاسُ الْجَلِيُّ أَيْضًا فَلَا أَقَلَّ مِنَ الْمُسَاوَاةِ، وَعَدَمُ اطِّلَاعِنَا عَلَى دَلِيلِ ذَلِكَ لَا يَقْتَضِي عَدَمَ ثُبُوتِهِ عِنْدَ الْمُجْتَهِدِينَ، فَالْمَدَارُ فِي صِحَّةِ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ صِحَّةُ النَّقْلِ عَنْهُمْ لَا غَيْرُ، فَتَأَمَّلْ. وَاعْتَرَضَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ عَلَى مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ وَالدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ فِيهِ بِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِأُمُومِيَّةِ الْمَرْأَةِ فِيهِ تَحْمِيلُ النَّسَبِ عَلَى الْغَيْرِ إِذَا كَانَتْ مُتَزَوِّجَةً، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُقْبَلَ.

فَإِنْ قُيِّدَ بِعَدَمِ الزَّوْجِ لَمْ يَبْقَ فَرْقٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ إِقْرَارِهَا بِالْوَلَدِ؛ فَإِنَّ إِقْرَارَهَا بِالْوَلَدِ يَصِحُّ أَيْضًا إِذَا أُخِذَ بِهَذَا الْقَيْدِ فَلَا يَظْهَرُ وَجْهٌ لِإِثْبَاتِ هَذَا وَنَفْيِ ذَلِكَ، انْتَهَى.

أَقُولُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْإِقْرَارَ بِأُمُومِيَّةِ الْمَرْأَةِ فِيهِ تَحْمِيلُ النَّسَبِ عَلَى الْغَيْرِ، وَإِنْ كَانَتْ مُتَزَوِّجَةً، بَلْ فِيهِ تَحْمِيلُ أُبُوَّةِ الزَّوْجِ أَيْضًا بِنَاءً عَلَى كَوْنِهِ الْأَصْلَ فِي النَّسَبِ، فَكَأَنَّهُ أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِالِانْتِسَابِ إِلَيْهِ أَيْضًا، وَعَنْ هَذَا قَالُوا فِي الْإِقْرَارِ بِالْأَبِ صَرَاحَةً: إِنَّ الْمُقِرَّ بِالْأَبِ أَلْزَمَ نَفْسَهُ بِالِانْتِسَابِ إِلَيْهِ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ إِنَّ فِيهِ تَحْمِيلَ نَسَبِ نَفْسِهِ عَلَى الْغَيْرِ، بِخِلَافِ إِقْرَارِ الْمَرْأَةِ بِالْوَلَدِ فَإِنَّ فِيهِ تَحْمِيلَ نَسَبِ الْغَيْرِ عَلَى الْغَيْرِ، وَهُوَ نَسَبُ الْوَلَدِ عَلَى الزَّوْجِ، وَالْإِقْرَارُ الَّذِي فِيهِ حَمْلُ نَسَبِ الْغَيْرِ عَلَى الْغَيْرِ إِقْرَارٌ عَلَى غَيْرِهِ لَا عَلَى نَفْسِهِ، فَكَأَنَّهُ دَعْوَى أَوْ شَهَادَةٌ، وَالدَّعْوَى الْمُفْرَدَةُ لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ، وَشَهَادَةُ الْمُفْرَدِ فِيمَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ، وَهُوَ مِنْ بَابِ حُقُوقِ الْعِبَادِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ، كَذَا فِي الْبَدَائِعِ وَغَيْرِهِ.

(وَيُقْبَلُ إِقْرَارُ الْمَرْأَةِ بِالْوَالِدَيْنِ وَالزَّوْجِ وَالْمَوْلَى؛ لِمَا بَيَّنَّا) أَنَّهُ أَقَرَّ بِمَا يَلْزَمُهُ، وَلَيْسَ فِيهِ تَحْمِيلُ النَّسَبِ عَلَى الْغَيْرِ، وَالْأُنُوثَةُ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ إِقْرَارِهَا عَلَى نَفْسِهَا، وَيَسْتَوِي فِي صِحَّةِ الْإِقْرَارِ بِالْأَشْيَاءِ الْمَذْكُورَةِ حَالَةَ الصِّحَّةِ، وَحَالَةَ الْمَرَضِ؛ لِأَنَّ حَالَةَ الْمَرَضِ إِنَّمَا تُخَالِفُ حَالَةَ الصِّحَّةِ بِاعْتِبَارِ تَعَلُّقِ حَقِّ الْغُرَمَاءِ وَالْوَرَثَةِ بِالتَّرِكَةِ، فَمَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْغُرَمَاءِ وَالْوَرَثَةِ كَانَ الْإِقْرَارُ بِهِ فِي الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ سَوَاءٌ، وَالنَّسَبُ وَالنِّكَاحُ وَالْوَلَاءُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْغُرَمَاءِ وَالْوَرَثَةِ، كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ، (وَلَا يُقْبَلُ)، أَيْ: لَا يُقْبَلُ إِقْرَارُ الْمَرْأَةِ (بِالْوَلَدِ) وَإِنْ صَدَّقَهَا؛ (لِأَنَّ فِيهِ)، أَيْ: فِي إِقْرَارِهَا بِالْوَلَدِ (تَحْمِيلَ النَّسَبِ)، أَيْ: تَحْمِيلَ نَسَبِ الْوَلَدِ

ص: 395

عَلَى الْغَيْرِ وَهُوَ الزَّوْجُ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ مِنْهُ (إِلَّا أَنْ يُصَدِّقَهَا الزَّوْجُ)؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُ (أَوْ تَشْهَدَ بِوِلَادَتِهِ قَابِلَةٌ)؛ لِأَنَّ قَوْلَ الْقَابِلَةِ فِي هَذَا مَقْبُولٌ، وَقَدْ مَرَّ فِي الطَّلَاقِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي إِقْرَارِ الْمَرْأَةِ تَفْصِيلًا فِي كِتَابِ الدَّعْوَى، وَلَا بُدَّ مِنْ

(عَلَى الْغَيْرِ، وَهُوَ الزَّوْجُ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ مِنْهُ). قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} ، (إِلَّا أَنْ يُصَدِّقَهَا الزَّوْجُ)، اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَا يُقْبَلُ بِالْوَلَدِ، يَعْنِي: إِذَا صَدَّقَهَا الزَّوْجُ يُقْبَلُ إِقْرَارُهَا بِالْوَلَدِ؛ (لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُ)، أَيْ: لِلزَّوْجِ، فَيَثْبُتُ بِتَصْدِيقِهِ، (أَوْ تَشْهَدَ بِوِلَادَتِهِ قَابِلَةٌ)، أَيْ: أَوْ إِلَّا أَنْ تَشْهَدَ قَابِلَةٌ بِوِلَادَتِهِ، أَيْ: بِتَوَلُّدِ ذَلِكَ الْوَلَدِ مِنْ تِلْكَ الْمَرْأَةِ. وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِوِلَادَتِهَا، أَيْ: بِوِلَادَتِهَا إِيَّاهُ، فَفِي هَذِهِ النُّسْخَةِ أُضِيفَ الْمَصْدَرُ إِلَى الْفَاعِلِ وَتُرِكَ الْمَفْعُولُ، وَفِي الْأُولَى عَكْسُ الْأَمْرِ؛ (لِأَنَّ قَوْلَ الْقَابِلَةِ فِي هَذَا)، أَيْ: فِي هَذَا الْخُصُوصِ (مَقْبُولٌ)؛ إِذِ الْفَرْضُ أَنَّ الْفِرَاشَ قَائِمٌ، فَيُحْتَاجُ إِلَى تَعْيِينِ الْوَلَدِ، وَشَهَادَتُهَا فِي ذَلِكَ مَقْبُولَةٌ.

(وَقَدْ مَرَّ فِي الطَّلَاقِ)، أَيْ: فِي بَابِ ثُبُوتِ النَّسَبِ عِنْدَ قَوْلِهِ: فَإِنَّ جَحْدَ الْوِلَادَةِ يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ، تَشَهَدُ بِالْوِلَادَةِ حَتَّى لَوْ نَفَاهُ الزَّوْجُ يُلَاعِنُ؛ لَأَنَّ النَّسَبَ يَثْبُتُ بِالْفِرَاشِ الْقَائِمِ، (وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي إِقْرَارِ الْمَرْأَةِ تَفْصِيلًا فِي كِتَابِ الدَّعْوَى) مِنْ هَذَا الْكِتَابِ، وَذَلِكَ التَّفْصِيلُ هُوَ أَنَّ إِقْرَارَهَا بِالْوَلَدِ إِنَّمَا لَا يَصِحُّ بِدُونِ شَهَادَةِ قَابِلَةٍ بِالْوِلَادَةِ إِذَا كَانَتِ الْمَرْأَةُ ذَاتَ زَوْجٍ، وَإِنْ كَانَتْ مُعْتَدَّةً فَلَا بُدَّ مِنْ حُجَّةٍ تَامَّةٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله.

وَأَمَّا إِذَا لَمْ تَكُنْ مَنْكُوحَةً وَلَا مُعْتَدَّةً قَالُوا: يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهَا بِقَوْلِهَا؛ لِأَنَّ فِيهِ إِلْزَامًا عَلَى نَفْسِهَا دُونَ غَيْرِهَا.

وَالْأَصْلُ فِي جِنْسِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ أَنَّ مَنْ أَقَرَّ بِنَسَبٍ يَلْزَمُهُ فِي نَفْسِهِ، وَلَا يَحْمِلُهُ عَلَى غَيْرِهِ، فَإِقْرَارُهُ مَقْبُولٌ، كَمَا يُقْبَلُ إِقْرَارُهُ عَلَى نَفْسِهِ بِسَائِرِ الْحُقُوقِ، وَمَنْ أَقَرَّ بِنَسَبٍ يَحْمِلُهُ عَلَى غَيْرِهِ فَإِنَّهُ لَا يُقْبَلُ إِقْرَارُهُ، كَمَا لَا يُقْبَلُ إِقْرَارُهُ عَلَى غَيْرِهِ بِسَائِرِ الْحُقُوقِ، كَذَا فِي شَرْحِ الْأَقْطَعِ.

فَإِنْ قُلْتَ: لِأَيِّ مَعْنًى يَثْبُتُ نَسَبُ الْوَلَدِ مِنَ الْأَبِ دُونَ الْأُمِّ مَعَ أَنَّ الْوَلَدَ وُلِدَ مِنْهُمَا، وَمَا فَائِدَةُ ثُبُوتِ نَسَبِهِ مِنَ الْأَبِ دُونَ الْأُمِّ، وَمَا فَائِدَةُ ثُبُوتُ النَّسَبِ مِنَ الرَّجُلِ فِي الْأَرْبَعَةِ أَوِ الْخَمْسَةِ الْمَذْكُورَةِ دُونَ مَنْ سِوَاهُمْ، مَعَ أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا أَقَرَّ بِالْأَخِ بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهِ يُشَارِكُهُ فِي تَرِكَةِ أَبِيهِ عَلَى مَا سَيَأْتِي فِي الْكِتَابِ، وَكَذَلِكَ يَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَةُ الْأَخِ الْمُقَرِّ لَهُ حَالَ حَيَاتِهِ، كَمَا ذَكَرَ فِي الْمُحِيطِ وَالذَّخِيرَةِ.

قُلْتُ: أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ الْوَلَدَ مَنْسُوبٌ إِلَى الْأَبِ دُونَ الْأُمِّ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} ، وقَوْله تَعَالَى:{وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ} ؛ حَيْثُ أَضَافَ الْوَلَدَ إِلَى الْأَبِ بِلَامِ الْمِلْكِ، وَلِذَلِكَ اخْتُصَّ الْأَبُ بِالنَّسَبِ.

وَأَمَّا فَائِدَةُ اخْتِصَاصِ ثُبُوتِ النَّسَبِ مِنَ الْأَبِ فَهِيَ صِحَّةُ إِقْرَارِ الْأَبِ بِالْوَلَدِ، وَوُجُوبُ نَفَقَةِ الْوَلَدِ عَلَى الْأَبِ عَلَى وَجْهِ الِاخْتِصَاصِ حَتَّى لَا يُشَارِكَهُ فِيهَا أَحَدٌ، كَمَا لَا يُشَارِكُهُ أَحَدٌ فِي نَسَبِهِ.

وَأَمَّا فَائِدَةُ ثُبُوتِ النَّسَبِ فِي حَقِّ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ أَوِ الْخَمْسَةِ فَهِيَ ثُبُوتٌ عَلَى طَرِيقِ الْعُمُومِ لَا عَلَى طَرِيقِ الْخُصُوصِ، أَيْ: أَنَّ حُقُوقَ الْمُقَرِّ لَهُ، كَمَا تَلْزَمُ عَلَى الْمُقِرِّ كَذَلِكَ تَلْزَمُ عَلَى غَيْرِ الْمُقِرِّ تَقْرِيرًا لِصِحَّةِ إِقْرَارِهِ، حَتَّى أَنَّهُ إِذَا أَقَرَّ بِالِابْنِ مَثَلًا، فَالِابْنُ الْمُقَرُّ لَهُ يَرِثُ مِنَ الْمُقَرِّ مَعَ سَائِرِ وَرَثَتِهِ، وَإِنْ جَحَدَ سَائِرُ الْوَرَثَةِ ذَلِكَ، وَيَرِثُ مِنْ أَبِي الْمُقِرِّ وَهُوَ جَدُّ الْمُقَرِّ لَهُ، وَإِنْ كَانَ الْجَدُّ يَجْحَدُ بُنُوَّتَهُ لِابْنِهِ.

وَأَمَّا فِيمَا سِوَى الْأَرْبَعَةِ أَوِ الْخَمْسَةِ، فَلَمَّا لَمْ يَصِحَّ إِقْرَارُ الْمُقِرِّ بِهِ ظَهَرَ أَنَّهُ فِي مَوْضِعَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: عَدَمُ اعْتِبَارِ إِقْرَارِهِ فِيمَا يَلْزَمُ غَيْرَهُ مِنَ الْحُقُوقِ، حَتَّى أَنَّ مَنْ أَقَرَّ بِأَخٍ وَلَهُ وَرَثَةٌ سِوَاهُ يَجْحَدُونَ أُخُوَّتَهُ فَمَاتَ الْمُقِرُّ لَا يَرِثُ الْأَخُ مَعَ سَائِرِ وَرَثَتِهِ، وَلَا يَرِثُ مِنْ أَبِي الْمُقِرِّ وَأُمِّهِ، بِخِلَافِ مَنْ صَحَّ إِقْرَارُهُ فِي حَقِّهِ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ.

وَالثَّانِي: صِحَّةُ رُجُوعِ الْمُقِرِّ عَمَّا أَقَرَّ فِي حَقٍّ مِنْ سِوَى الْأَرْبَعَةِ أَوِ الْخَمْسَةِ وَعَدَمِ صِحَّتِهِ فِي حَقِّ هَؤُلَاءِ؛ فَإِنَّ مَنْ أَقَرَّ فِي مَرَضِهِ بِأَخٍ وَصَدَّقَهُ الْمُقَرُّ لَهُ، ثُمَّ رَجَعَ عَمَّا أَقَرَّ يَصِحُّ، حَتَّى أَنَّهُ لَوْ أَوْصَى بِمَالِهِ كُلِّهِ لِإِنْسَانٍ بَعْدَ الْإِقْرَارِ بِأَخٍ كَانَ مَالُهُ كُلُّهُ لِلْمُوصَى لَهُ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ لَمَّا لَمْ يَثْبُتْ كَانَ إِقْرَارُهُ بِالْأَخِ وَقَعَ بَاطِلًا، فَيَصِحُّ رُجُوعُهُ عَمَّا أَقَرَّ، وَأَمَّا أَخْذُ الْأَخِ الْمُقَرِّ لَهُ تَرِكَةُ الْمُقِرِّ عِنْدَ عَدَمِ الْمُزَاحِمِ، فَلَيْسَ بِاعْتِبَارِ صِحَّةِ الْإِقْرَارِ بِالنَّسَبِ، بَلْ بِاعْتِبَارِ أَنَّ ذَلِكَ صَارَ بِمَنْزِلَةِ الْمُوصِي بِجَمِيعِ الْمَالِ، وَبِاعْتِبَارِ أَنَّ إِقْرَارَهُ حُجَّةٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ لَا فِي حَقِّ غَيْرِهِ، وَلِذَلِكَ قُلْنَا بِاسْتِحْقَاقِ الْمُقَرِّ لَهُ النَّفَقَةَ عَلَى الْمُقِرِّ فِي حَالِ حَيَاتِهِ، إِلَى هَذَا كُلِّهِ أَشَارَ فِي الذَّخِيرَةِ وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِلْإِمَامِ الْمَحْبُوبِيِّ. قَالَ الْمُصَنِّفُ: (وَلَا بُدَّ مِنْ

ص: 396

تَصْدِيقِ هَؤُلَاءِ، وَيَصِحُّ التَّصْدِيقُ فِي النَّسَبِ بَعْدَ مَوْتِ الْمُقِرِّ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ يَبْقَى بَعْدَ الْمَوْتِ، وَكَذَا تَصْدِيقُ الزَّوْجَةِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ النِّكَاحِ بَاقٍ، وَكَذَا تَصْدِيقُ الزَّوْجِ بَعْدَ مَوْتِهَا؛ لِأَنَّ الْإِرْثَ مِنْ أَحْكَامِهِ. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ انْقَطَعَ بِالْمَوْتِ، وَلِهَذَا لَا يَحِلُّ لَهُ غَسْلُهَا عِنْدَنَا، وَلَا يَصِحُّ التَّصْدِيقُ عَلَى اعْتِبَارِ الْإِرْثِ؛ لِأَنَّهُ مَعْدُومٌ حَالَةَ الْإِقْرَارِ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالتَّصْدِيقُ يَسْتَنِدُ إِلَى أَوَّلِ الْإِقْرَارِ.

تَصْدِيقِ هَؤُلَاءِ)، أَيْ: لَا بُدَّ مِنْ تَصْدِيقِ الْمُقَرِّ لَهُمُ الْمَذْكُورِينَ؛ لِأَنَّهُمْ فِي أَيْدِي أَنْفُسِهِمْ فَيَتَوَقَّفُ نَفَاذُ الْإِقْرَارِ عَلَى تَصْدِيقِهِمْ، كَذَا فِي الْكَافِي وَغَيْرِهِ، إِلَّا إِذَا كَانَ الْمُقَرُّ لَهُ صَغِيرًا فِي يَدِ الْمُقِرِّ وَهُوَ لَا يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ أَوْ عَبْدًا لَهُ فَيَثْبُتُ نَسَبُهُ بِمُجَرَّدِ الْإِقْرَارِ، وَلَوْ كَانَ عَبْدًا لِغَيْرِهِ يُشْتَرَطُ تَصْدِيقُ مَوْلَاهُ، كَذَا فِي التَّبْيِينِ، (وَيَصِحُّ التَّصْدِيقُ فِي النَّسَبِ بَعْدَ مَوْتِ الْمُقِرِّ)، يَعْنِي: أَنَّ الْمُقَرَّ لَهُ بِالنَّسَبِ إِذَا صَدَّقَ فِي حَالِ حَيَاةِ الْمُقِرِّ يَصِحُّ، فَكَذَا إِذَا صَدَّقَ بَعْدَ مَوْتِهِ؛ (لِأَنَّ النَّسَبَ يَبْقَى بَعْدَ الْمَوْتِ)، فَيَصِحُّ تَصْدِيقُ الْمُقَرِّ لَهُ بِالنَّسَبِ بَعْدَ مَوْتِ الْمُقِرِّ حَتَّى يَثْبُتَ بِهِ أَحْكَامُ النِّسَبِ بِأَسْرِهَا، قَالَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ: وَلَا يُشْكِلُ هَذَا بِإِيجَابِ الْبَائِعِ إِذَا مَاتَ قَبْلَ قَبُولِ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ تَامٌّ فِي نَفْسِهِ وَالتَّصْدِيقَ شَرْطٌ، فَكَانَ كَمَا إِذَا بَاعَ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لِلْمُشْتَرِي، ثُمَّ مَاتَ الْبَائِعُ لَا يَبْطُلُ، أَمَّا الْإِيجَابُ ثَمَّةَ فَلَيْسَ بِتَامٍّ؛ لِأَنَّ الْقَبُولَ رُكْنٌ، انْتَهَى.

(وَكَذَا تَصْدِيقُ الزَّوْجَةِ)، أَيْ: وَكَذَا يَصِحُّ تَصْدِيقُ الزَّوْجَةِ زَوْجَهَا فِي الْإِقْرَارِ بِالزَّوْجِيَّةِ بَعْدَ مَوْتِ الزَّوْجِ الْمُقِرِّ بِالِاتِّفَاقِ حَتَّى يَكُونَ لَهَا الْمَهْرُ وَالْمِيرَاثُ؛ (لِأَنَّ حُكْمَ النِّكَاحِ) وَهُوَ الْعِدَّةُ (بَاقٍ) بَعْدَ الْمَوْتِ؛ فَإِنَّ الْعِدَّةَ وَاجِبَةٌ بَعْدَ الْمَوْتِ وَهِيَ مِنْ آثَارِ النِّكَاحِ، أَلَا يُرَى أَنَّهَا تُغَسِّلُهُ بَعْدَ الْمَوْتِ لِقِيَامِ النِّكَاحِ مِنْ وَجْهٍ.

(وَكَذَا تَصْدِيقُ الزَّوْجِ بَعْدَ مَوْتِهَا)، أَيْ: وَكَذَا يَصِحُّ تَصْدِيقُ الزَّوْجِ الْمَرْأَةَ بَعْدَ مَوْتِهَا فِي الْإِقْرَارِ بِالزَّوْجِيَّةِ فَعَلَيْهِ مَهْرُهَا وَلَهُ الْمِيرَاثُ مِنْهَا؛ (لِأَنَّ الْإِرْثَ مِنْ أَحْكَامِهِ)، أَيْ: مِنْ أَحْكَامِ النِّكَاحِ، وَهُوَ مِمَّا يَبْقَى بَعْدَ الْمَوْتِ كَالْعِدَّةِ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ.

(وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ: لَا يَصِحُّ) تَصْدِيقُ الزَّوْجِ بَعْدَ مَوْتِهَا؛ (لِأَنَّ النِّكَاحَ انْقَطَعَ بِالْمَوْتِ)، حَتَّى يَجُوزَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُخْتَهَا وَأَرْبَعًا سِوَاهَا؛ (وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ لَهُ غَسْلُهَا) بَعْدَ مَوْتِهَا (عِنْدَنَا) وَلَا عِدَّةَ عَلَيْهِ لِيَصِحَّ بِاعْتِبَارِهَا، كَمَا فِي الْعَكْسِ، (وَلَا يَصِحُّ التَّصْدِيقُ عَلَى اعْتِبَارِ الْإِرْثِ) هَذَا جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ يَرُدُّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ تَقْرِيرَهُ: سَلَّمْنَا أَنَّ تَصْدِيقَ الزَّوْجِ إِيَّاهَا بَعْدَ مَوْتِهَا لَا يَصِحُّ نَظَرًا إِلَى انْقِطَاعِ النِّكَاحِ بِالْمَوْتِ، بِدَلِيلِ أَنَّ الزَّوْجَ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُغَسِّلَ زَوْجَتَهُ بَعْدَ مَوْتِهَا بِاتِّفَاقِ أَصْحَابِنَا، وَلَكِنْ لِمَ لَا يَصِحُّ تَصْدِيقُهُ إِيَّاهَا بَعْدَ مَوْتِهَا نَظَرًا إِلَى الْإِرْثِ الَّذِي هُوَ مِنْ حَقِّ آثَارِ النِّكَاحِ أَيْضًا؟ فَقَالَ: لَا يَصِحُّ التَّصْدِيقُ عَلَى اعْتِبَارِ الْإِرْثِ؛ (لِأَنَّهُ)، أَيْ: لِأَنَّ الْإِرْثَ (مَعْدُومٌ حَالَةَ الْإِقْرَارِ)، أَيْ: حَالَةَ إِقْرَارِ الزَّوْجَةِ بِالنِّكَاحِ، (وَإِنَّمَا يَثْبُتُ)، أَيِ: الْإِرْثَ (بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالتَّصْدِيقُ يَسْتَنِدُ إِلَى أَوَّلِ الْإِقْرَارِ).

قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: مَعْنَاهُ أَنَّ التَّصْدِيقَ هُوَ الْمُوجِبُ لِثُبُوتِ النِّكَاحِ الْمُوجِبِ لِلْإِرْثِ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَثْبُتَ بِالْإِرْثِ، انْتَهَى.

أَقُولُ: لَا يَخْفَى عَلَى الْفَطِنِ أَنَّ مَعْنَى كَلَامِ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا أَنَّ التَّصْدِيقَ يَسْتَنِدُ إِلَى أَوَّلِ الْإِقْرَارِ بِالنِّكَاحِ، وَالْإِرْثُ مَعْدُومٌ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ فَلَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ صِحَّةِ

ص: 397

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

التَّصْدِيقِ بِاعْتِبَارِ الْإِرْثِ الْمَعْدُومِ وَقْتَئِذٍ، وَأَمَّا الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فَمَعَ كَوْنِهِ مِمَّا لَا يُسَاعِدُهُ عِبَارَةُ الْمُصَنِّفِ أَصْلًا لَيْسَ بِسَدِيدٍ هَاهُنَا.

أَمَّا أَوَّلًا: فَلِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِأَنَّ التَّصْدِيقَ يَثْبُتُ بِنَفْسِ الْإِرْثِ حَتَّى يَتِمَّ أَنْ يُقَالَ فِي الْجَوَابِ عَنْهُ: لَا يُمْكِنُ أَنْ يَثْبُتَ التَّصْدِيقُ بِالْإِرْثِ لِثُبُوتِ الْإِرْثِ بِهِ، بَلْ قِيلَ: صِحَّةُ التَّصْدِيقِ بِاعْتِبَارِ مُصَادَفَتِهِ وَقْتَ الْإِرْثِ الَّذِي هُوَ مِنْ آثَارِ النِّكَاحِ، وَلَا يُنَافِيهِ ثُبُوتُ نَفْسِ الْإِرْثِ بِالتَّصْدِيقِ.

وَأَمَّا ثَانِيًا: فَلِأَنَّ ذَلِكَ يَنْتَقِضُ بِمَا إِذَا كَانَ التَّصْدِيقُ قَبْلَ مَوْتِهَا، فَإِنَّهُ يَصِحُّ اتِّفَاقًا لِمُصَادَفَتِهِ وَقْتَ ثُبُوتِ النِّكَاحِ مَعَ أَنَّهُ يَجْرِي أَنْ يُقَالَ: إِنَّ التَّصْدِيقَ هُوَ الْمُوجِبُ لِثُبُوتِ النِّكَاحِ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَثْبُتَ بِثُبُوتِ النِّكَاحِ.

وَأَمَّا ثَالِثًا: فَلِأَنَّهُ يَلْزَمُ حِينَئِذٍ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ: لِأَنَّهُ مَعْدُومٌ حَالَةَ الْإِقْرَارِ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ بَعْدَ الْمَوْتِ ضَائِعًا مُسْتَدْرِكًا لِجَرَيَانِ ذَلِكَ الْمَعْنَى، وَإِنْ فُرِضَ أَنَّ الْإِرْثَ مَوْجُودٌ حَالَةَ الْإِقْرَارِ ثَابِتٌ قَبْلَ الْمَوْتِ، تَدَبَّرْ.

وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَلِقَائِلٍ أَنْ يُعَارِضَ فَيَقُولَ: لَا يَصِحُّ التَّصْدِيقُ عَلَى اعْتِبَارِ الْعِدَّةِ؛ لِأَنَّهَا مَعْدُومَةٌ حَالَةَ الْإِقْرَارِ، وَإِنَّمَا تَثْبُتُ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالتَّصْدِيقُ يَسْتَنِدُ إِلَى أَوَّلِ الْإِقْرَارِ، وَيُفَسَّرُ بِمَا ذَكَرْتُمْ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ الْعِدَّةَ لَازِمَةٌ لِلْمَوْتِ عَنْ نِكَاحٍ بِالْإِجْمَاعِ، فَجَازَ أَنْ يُعْتَبَرَ النِّكَاحُ الْمُعَايِنُ قَائِمًا بِاعْتِبَارِهِمَا، فَكَذَا الْمُقَرُّ بِهِ، وَأَمَّا الْإِرْثُ فَلَيْسَ بِلَازِمٍ لَهُ لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ كِتَابِيَّةً فَلَمْ يُعْتَبَرْ قَائِمًا بِاعْتِبَارِهِ، انْتَهَى كَلَامُهُ.

أَقُولُ: جَوَابُهُ لَيْسَ بِتَامٍّ؛ لِأَنَّ الْعِدَّةَ أَيْضًا غَيْرُ لَازِمَةٍ لِلْمَوْتِ عَنْ نِكَاحٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ ذِمِّيَّةً مَاتَ عَنْهَا زَوْجُهَا الذِّمِّيُّ، أَوْ تَكُونَ حَرْبِيَّةً خَرَجَتْ إِلَيْنَا مُسْلِمَةً أَوْ ذِمِّيَّةً أَوْ مُسْتَأْمِنَةً أَوْ صَارَتْ ذِمِّيَّةً، فَإِنَّهُ لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله إِذَا لَمْ تَكُنْ حَامِلًا، كَمَا تَقَرَّرَ فِي مَحَلِّهِ، وَالْمُعَارَضَةُ الْمَذْكُورَةُ إِنَّمَا تَرُدُّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، فَالْجَوَابُ الْمَزْبُورُ لَا يَدْفَعُهَا عَلَى أَصْلِهِ.

ثُمَّ إِنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ قَالَ بَعْدَ نَقْلِ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي هَذَا الْمَقَامِ: الظَّاهِرُ أَنًّ مُرَادَ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ أَنَّ التَّصْدِيقَ يَسْتَنِدُ إِلَى حَالَةِ الْإِقْرَارِ، وَفِي تِلْكَ الْحَالَةِ لَا يَجِبُ الْإِرْثُ بَلْ هُوَ حُكْمٌ يَجِبُ وَيَثْبُتُ بَعْدَ الْمَوْتِ، فَمَتَى صَحَّحْنَا الْإِقْرَارَ صَحَّحْنَا لِإِثْبَاتِ الْإِرْثِ ابْتِدَاءً، فَيَكُونُ التَّصْدِيقُ وَاقِعًا فِي شَيْءٍ، وَهُوَ فِي الْحَالِ مَعْدُومٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَهُوَ النِّكَاحُ، وَأُشِيرَ إِلَى هَذَا فِي النِّهَايَةِ، فَلَا تَرِدُ الْمُعَارَضَةُ أَصْلًا؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْعِدَّةِ ثَابِتٌ قَبْلَ الْمَوْتِ فَلَا يَكُونُ التَّصْدِيقُ وَاقِعًا فِي نِكَاحٍ مَعْدُومٍ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، إِلَى هَاهُنَا كَلَامُهُ.

أَقُولُ: نَعَمْ، أُشِيرَ إِلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى فِي النِّهَايَةِ وَغَيْرِهَا، وَلَكِنْ قَوْلُهُ: فَلَا تَرُدُّ الْمُعَارَضَةُ أَصْلًا مَمْنُوعٌ، قَوْلُهُ: لِأَنَّ وُجُوبَ الْعِدَّةَ ثَابِتٌ قَبْلَ الْمَوْتِ إِنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّ وُجُوبَهَا ثَابِتٌ قَبْلَ الْمَوْتِ فِي الْمُعْتَدَّةِ بِالطَّلَاقِ فَمُسَلَّمٌ، لَكِنَّ ذَلِكَ لَا يُجْدِي نَفْعًا؛ إِذِ الْكَلَامُ فِي الْمُعْتَدَّةِ بِالْمَوْتِ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّ وُجُوبَهَا ثَابِتٌ قَبْلَ الْمَوْتِ فِي الْمُعْتَدَّةِ بِالْمَوْتِ أَيْضًا فَمَمْنُوعٌ، بَلْ وُجُوبُهَا فِي الْمُعْتَدَّةِ بِالْمَوْتِ بَعْدَ الْمَوْتِ، كَمَا لَا يَخْفَى وَصَرَّحَ بِهِ فِي النِّهَايَةِ وَغَيْرِهَا.

وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: هَذِهِ الْمُعَارَضَةُ مَدْفُوعَةٌ عَنِ الْمُصَنِّفِ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يُعَيِّنَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ حُكْمِ النِّكَاحِ فِي قَوْلِهِ: حُكْمُ النِّكَاحِ بَاقٍ، هُوَ الْعِدَّةُ، فَلَعَلَّهُ أَرَادَ بِهِ مِثْلَ حُرْمَةِ التَّزَوُّجِ بِزَوْجٍ آخَرَ وَحِلِّ غَسْلِهَا؛ فَإِنَّهُ ثَابِتٌ فِي حَالِ النِّكَاحِ أَيْضًا، وَلَوْ عَيَّنَهُ لَأَمْكَنَ أَنْ يُقَالَ: أَرَادَ بِالْعِدَّةِ مَا يُلَازِمُهَا مِنْ أَمْثَالِ مَا ذَكَرْنَا مَجَازًا، فَلَا إِشْكَالَ، انْتَهَى كَلَامُهُ.

أَقُولُ: مَا ذَكَرَهُ مِنْ مِثْلِ حُرْمَةِ التَّزَوُّجِ بِزَوْجٍ آخَرَ وَحِلِّ غَسْلِهَا لَيْسَ بِحُكْمٍ مُسْتَقِلٍّ لِلنِّكَاحِ بَعْدَ الْمَوْتِ بَلْ هُوَ مِنْ مُتَفَرِّعَاتَ الْعِدَّةِ، كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى الْعَارِفِ بِالْفِقْهِ، فَإِذَا لَمْ يَصِحَّ التَّصْدِيقُ عَلَى اعْتِبَارِ الْعِدَّةِ لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ عَلَى اعْتِبَارِ مَا هُوَ مُتَفَرِّعٌ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ سُقُوطَ الْأَصْلِ عَنْ حَيِّزِ الِاعْتِبَارِ يَقْتَضِي سُقُوطَ الْفَرْعِ عَنْ حَيِّزِ ذَلِكَ أَيْضًا فَالْإِشْكَالُ بَاقٍ.

فَإِنْ قِيلَ: إِذَا أَقَرَّ رَجُلٌ لِرَجُلٍ بِعَبْدٍ، فَمَاتَ الْعَبْدُ وَتَرَكَ كَسْبًا اكْتَسَبَهُ بَعْدَ الْإِقْرَارِ، ثُمَّ صَدَّقَهُ الْمُقَرُّ لَهُ اسْتَحَقَّ الْكَسْبَ وَالْإِرْثَ فِي مَسْأَلَتِنَا كَذَلِكَ.

قُلْنَا: الْكَسْبُ يَقَعُ مِلْكًا مِنْ الِابْتِدَاءِ لِمَالِكِ الرَّقَبَةِ؛ لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْمَنْفَعَةِ. وَمَنْ مَلَكَ رَقَبَةً مَلَكَ مَنَافِعَهَا حُكْمًا لَهَا، فَيَصِيرُ الْإِقْرَارً بِالْعَبْدِ إِقْرَارًا بِأَنَّ الْكَسْبَ لِلْمُقَرِّ لَهُ، فَيَصِيرُ قِيَامُهُ بِمَنْزِلَةِ قِيَامِ الْعَبْدِ، فَأَمَّا الْإِرْثُ فَإِنَّمَا يَثْبُتُ بَعْدَ مَوْتِ الْمَرْأَةِ عَلَى سَبِيلِ الْخِلَافَةِ عَنْهَا بِسَبَبِ الزَّوْجِيَّةِ لَا بِحُكْمِ الْإِقْرَارِ، وَالْمُسْتَحِقُّ عَلَيْهَا بِالنِّكَاحِ يَفُوتُ بِمَوْتِهَا، فَيَبْقَى تَصْدِيقُهَا بَعْدَ ذَلِكَ دَعْوَى إِرْثٍ مُبْتَدَأٍ، كَذَا فِي الْأَسْرَارِ وَالْإِيضَاحِ وَغَيْرِهِمَا

ص: 398

قَالَ: (وَمَنْ أَقَرَّ بِنَسَبٍ مِنْ غَيْرِ الْوَالِدَيْنِ وَالْوَلَدِ نَحْوَ الْأَخِ وَالْعَمِّ لَا يُقْبَلُ إِقْرَارُهُ فِي النَّسَبِ) لِأَنَّ فِيهِ حَمْلَ النَّسَبِ عَلَى الْغَيْرِ (فَإِنْ كَانَ لَهُ وَارِثٌ مَعْرُوفٌ قَرِيبٌ أَوْ بَعِيدٌ فَهُوَ أَوْلَى بِالْمِيرَاثِ مِنَ الْمُقَرِّ لَهُ) لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ مِنْهُ لَا يُزَاحِمُ الْوَارِثَ الْمَعْرُوفَ (وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ اسْتَحَقَّ الْمُقَرُّ لَهُ مِيرَاثَهُ) لِأَنَّ لَهُ وِلَايَةَ التَّصَرُّفِ فِي مَالِ نَفْسِهِ عِنْدَ عَدَمِ الْوَارِثِ؛ أَلَا يُرَى أَنَّ لَهُ أَنْ يُوصِيَ بِجَمِيعِهِ فَيَسْتَحِقَّ جَمِيعَ الْمَالِ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ مِنْهُ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ حَمْلِ النَّسَبِ عَلَى الْغَيْرِ، وَلَيْسَتْ هَذِهِ وَصِيَّةً حَقِيقَةً حَتَّى أَنَّ مَنْ أَقَرَّ بِأَخٍ ثُمَّ أَوْصَى لِآخَرَ بِجَمِيعِ مَالِهِ كَانَ لِلْمُوصَى لَهُ ثُلُثُ جَمِيعِ الْمَالِ خَاصَّةً، وَلَوْ كَانَ الْأَوَّلُ وَصِيَّةً لَاشْتَرَكَا نِصْفَيْنِ لَكِنَّهُ بِمَنْزِلَتِهِ، حَتَّى لَوْ أَقَرَّ فِي مَرَضِهِ بِأَخٍ وَصَدَّقَهُ الْمُقَرُّ لَهُ، ثُمَّ أَنْكَرَ الْمُقِرُّ وِرَاثَتَهُ ثُمَّ أَوْصَى بِمَالِهِ كُلِّهِ لِإِنْسَانٍ كَانَ مَالُهُ لِلْمُوصَى لَهُ؛ وَلَوْ لَمْ يُوصِ لِأَحَدٍ كَانَ لِبَيْتِ الْمَالِ، لِأَنَّ رُجُوعَهُ

(قَالَ)، أَيْ: الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ: (وَمَنْ أَقَرَّ بِنَسَبٍ مِنْ غَيْرِ الْوَالِدَيْنِ وَالْوَلَدِ) الصُّلْبِيِّ، (نَحْوَ الْأَخِ وَالْعَمِّ)، وَنَحْوَ الْجَدِّ وَابْنِ الِابْنِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِمَا أَيْضًا فِي الْكَافِي (لَا يُقْبَلُ إِقْرَارهُ فِي النَّسَبِ)، وَإِنْ صَدَّقَهُ الْمُقَرُّ لَهُ بَلْ لَا بُدَّ فِيهِ مِنَ الْبَيِّنَةِ، كَمَا ذَكَرَ فِي التُّحْفَةِ وَغَيْرِهَا؛ (لِأَنَّ فِيهِ)، أَيْ: فِي هَذَا الْإِقْرَارِ (حَمْلُ النَّسَبِ عَلَى الْغَيْرِ)؛ فَإِنَّ فِي الْإِقْرَارِ بِالْأَخِ حَمْلُ النَّسَبِ عَلَى الْأَبِ؛ إِذِ الْمُقَرُّ لَهُ بِالْأُخُوَّةِ مَا لَمْ يَكُنِ ابْنَ أَبِي الْمُقِرِّ لَا يَكُونُ أَخًا لَهُ، وَفِي الْإِقْرَارِ بِالْعَمِّ حَمَلُ النَّسَبِ عَلَى الْجَدِّ؛ إِذِ الْمُقَرُّ لَهُ بِالْعُمُومَةِ مَا لَمْ يَكُنِ ابْنَ جَدِّ الْمُقِرِّ لَا يَكُونُ عَمًّا لَهُ، وَفِي الْإِقْرَارِ بِابْنِ الِابْنِ حَمْلُ النَّسَبِ عَلَى الِابْنِ؛ إِذِ الْمُقَرُّ لَهُ لَا يَكُونُ ابْنَ ابْنِ الْمُقِرِّ مَا لَمْ يَثْبُتْ بُنُوَّتُهُ مِنِ ابْنِ الْمُقِرِّ، وَفِي الْإِقْرَارِ بِالْجَدِّ حَمْلُ النَّسَبِ عَلَى الْأَبِ؛ إِذِ الْمُقَرُّ لَهُ لَا يَكُونُ جَدَّ الْمُقِرِّ مَا لَمْ يَثْبُتْ أُبُوَّتُهُ مِنْ أَبِيهِ.

(فَإِنْ كَانَ لَهُ)، أَيْ: لِلْمُقِرِّ - بِنَحْوِ مَا ذَكَرَ - (وَارِثٌ مَعْرُوفٌ قَرِيبٌ) كَأَصْحَابِ الْفُرُوضِ وَالْعَصَبَاتِ، (أَوْ بَعِيدٌ) كَذَوِي الْأَرْحَامِ، (فَهُوَ)، أَيِ: الْوَارِثَ الْمَعْرُوفَ (أَوْلَى بِالْمِيرَاثِ مِنَ الْمُقَرِّ لَهُ) حَتَّى لَوْ أَقَرَّ بِأَخٍ وَلَهُ عَمَّةٌ أَوْ خَالَةٌ، فَالْإِرْثُ لِلْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ؛ (لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ)، أَيْ: نَسَبُ الْمُقَرِّ لَهُ. (مِنْهُ)، أَيْ: مِنَ الْمُقَرِّ (لَا يُزَاحِمُ الْوَارِثَ الْمَعْرُوفَ).

قَالَ فِي النِّهَايَةِ: قَوْلُهُ: فَإِنْ كَانَ لَهُ وَارِثٌ بِالْفَاءِ بَعْدَ قَوْلِهِ: لَا يُقْبَلُ إِقْرَارُهُ فِي النَّسَبِ وَقْعَ فِي مَحَزِّهِ؛ لِأَنَّ هَذَا نَتِيجَةُ ذَلِكَ، فَصُورَةُ ذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا أَقَرَّ فِي مَرَضِهِ بِأَخٍ لَهُ مِنْ أَبِيهِ وَأُمِّهِ أَوْ بِابْنِ ابْنٍ لَهُ، ثُمَّ مَاتَ وَلَهُ عَمَّةٌ أَوْ خَالَةٌ أَوْ مَوْلَى مُوَالَاةٍ، فَالْمِيرَاثُ لِلْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ أَوِ الْمَوْلَى، وَلَا شَيْءَ لِلْمُقَرِّ لَهُ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ لَا يَثْبُتُ بِإِقْرَارِهِ، فَلَا يَسْتَحِقُّ الْمُقَرُّ لَهُ مَعَ وَارِثٍ مَعْرُوفٍ، انْتَهَى.

(وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ)، أَيْ: لِمُقِرٍّ (وَارِثٌ) مَعْرُوفٌ (اسْتَحَقَّ الْمُقَرُّ لَهُ مِيرَاثَهُ)؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِشَيْئَيْنِ بِالنَّسَبِ وَبِاسْتِحْقَاقِ مَالِهِ بَعْدَهُ، وَهُوَ فِي الْأَوَّلِ مُقِرٌّ عَلَى غَيْرِهِ، وَإِقْرَارُهُ عَلَى غَيْرِهِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ؛ إِذْ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى غَيْرِهِ، وَفَى الثَّانِي مُقِرٌّ عَلَى نَفْسِهِ، وَإِقْرَارُهُ عَلَى نَفْسِهِ مُعْتَبَرٌ؛ (لِأَنَّ لَهُ وِلَايَةَ التَّصَرُّفِ فِي مَالِ نَفْسِهِ عِنْدَ عَدَمِ الْوَارِثِ، أَلَا يَرَى أَنَّ لَهُ أَنْ يُوصِيَ بِجَمِيعِهِ)، أَيْ: بِجَمِيعِ مَالِهِ، وَقَدْ جَعَلَ مَالَهُ لِلْمُقَرِّ لَهُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ بِإِقْرَارِهِ بِاسْتِحْقَاقِهِ ذَلِكَ بَعْدَهُ، (فَيَسْتَحِقُّ) الْمُقَرُّ لَهُ (جَمِيعَ الْمَالِ وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ) مِنَ الْمُقِرِّ؛ (لِمَا فِيهِ)، أَيْ: فِي الْإِقْرَارِ الْمَزْبُورِ (مِنْ حَمْلِ النَّسَبِ عَلَى الْغَيْرِ وَلَيْسَتْ هَذِهِ)، أَيْ: هَذِهِ الصُّورَةُ أَوِ الْقَضِيَّةُ: يَعْنِي الْإِقْرَارَ الْمَذْكُورَ (وَصِيَّةً حَقِيقَةً)

أَوْضَحَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: (حَتَّى أَنَّ مَنْ أَقَرَّ بِأَخٍ ثُمَّ أَوْصَى لِآخَرَ بِجَمِيعِ مَالِهِ كَانَ لِلْمُوصَى لَهُ ثُلْثُ جَمِيعِ الْمَالِ، وَلَوْ كَانَ الْأَوَّلُ)، يَعْنِي: الْإِقْرَارُ بِالْأَخِ (وَصِيَّةً لَاشْتَرَكَا)، أَيِ: الْأَخَ وَالْمُوصَى لَهُ بِجَمِيعِ مَالِهِ (نِصْفَيْنِ، لَكِنَّهُ)، اسْتِدْرَاكٌ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَيْسَتْ هَذِهِ وَصِيَّةً حَقِيقَةً، أَيْ: لَكِنَّ الْإِقْرَارَ الْمَذْكُورَ (بِمَنْزِلَتِهِ)، أَيْ: بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ بِتَأْوِيلِ الْإِيصَاءِ، وَلَعَمْرِي إِنَّ الْمُصَنِّفَ يُفْرِطُ فِي الْمُسَاهَلَةِ فِي أَمْرِ التَّذْكِيرِ وَالتَّأْنِيثِ فِي كِتَابِهِ هَذَا، كَمَا تَرَى، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ أَشَارَ فِيمَا مَرَّ آنِفًا إِلَى الْإِقْرَارِ بِلَفْظَةِ هَذِهِ، وَأَرْجَعَ هَاهُنَا إِلَى الْوَصِيَّةِ ضَمِيرَ الْمُذَكَّرِ، (حَتَّى لَوْ أَقَرَّ فِي مَرَضِهِ بِأَخٍ وَصَدَّقَهُ الْمُقَرُّ لَهُ، ثُمَّ أَنْكَرَ الْمُقِرُّ وِرَاثَتَهُ، ثُمَّ أَوْصَى بِمَالِهِ كُلِّهِ لِإِنْسَانٍ) وَمَاتَ وَلَا وَارِثَ لَهُ. (كَانَ مَالُهُ) جَمِيعًا. (لِلْمُوصَى لَهُ، وَلَوْ لَمْ يُوصِ لِأَحَدٍ كَانَ) مَالُهُ. (لِبَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ رُجُوعَهُ)، أَيْ: رُجُوعَ الْمُقِرِّ الْمَزْبُورِ

ص: 399

صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ لَمْ يَثْبُتْ فَبَطَلَ إِقْرَارُهُ.

قَالَ: (وَمَنْ مَاتَ أَبُوهُ فَأَقَرَّ بِأَخٍ لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُ أَخِيهِ)؛ لِمَا بَيَّنَّا (وَيُشَارِكُهُ فِي الْإِرْثِ)؛ لِأَنَّ إِقْرَارَهُ تَضَمَّنَ شَيْئَيْنِ: حَمْلُ النَّسَبِ عَلَى الْغَيْرِ وَلَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِ، وَالِاشْتِرَاكُ فِي الْمَالِ وَلَهُ فِيهِ وِلَايَةٌ فَيَثْبُتُ كَالْمُشْتَرِي، وَإِذَا أَقَرَّ عَلَى الْبَائِعِ بِالْعِتْقِ لَمْ يُقْبَلْ إِقْرَارُهُ حَتَّى لَا يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِالثَّمَنِ، وَلَكِنَّهُ يُقْبَلُ فِي حَقِّ الْعِتْقِ

(صَحِيحٌ)، يَعْنِي: أَنَّ إِنْكَارَهُ رُجُوعٌ، وَالرُّجُوعُ عَنْ مِثْلِ هَذَا صَحِيحٌ بِمَنْزِلَةِ الرُّجُوعِ عَنِ الْوَصِيَّةِ؛ (لِأَنَّ النَّسَبَ لَمْ يَثْبُتْ فَبَطَلَ إِقْرَارُهُ)، وَيَنْبَغِي لَكَ أَنْ تَعْرِفَ أَنَّ الرُّجُوعَ عَنِ الْإِقْرَارِ بِالنَّسَبِ إِنَّمَا يَصِحُّ إِذَا كَانَ الرُّجُوعُ قَبْلَ ثُبُوتِ النَّسَبِ، كَمَا نَحْنُ فِيهِ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ لَمْ يَثْبُتْ لِكَوْنِهِ تَحْمِيلًا عَلَى الْغَيْرِ وَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ.

وَأَمَّا إِذَا ثَبَتَ النَّسَبُ فَلَا يَصِحُّ الرُّجُوعُ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ لَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ بَعْدَ ثُبُوتِهِ.

(قَالَ)، أَيْ: الْقُدُورِيَّ فِي مُخْتَصَرِهِ: (وَمَنْ مَاتَ أَبُوهُ فَأَقَرَّ بِأَخٍ لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُ أَخِيهِ لِمَا بَيَّنَّا) أَنَّ فِيهِ حَمْلَ النَّسَبِ عَلَى الْغَيْرِ، (وَيُشَارِكُهُ فِي الْإِرْثِ)، أَيْ: يُشَارِكُ الْمُقَرُّ لَهُ بِالْأُخُوَّةِ الْمُقِرَّ فِي الْإِرْثِ مِنْ أَبِيهِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يُشَارِكُهُ فِي الْإِرْثِ لِعَدَمِ ثُبُوتِ النَّسَبِ، وَحَكَى ذَلِكَ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ: فِي تَعْلِيلِ الْمُشَارَكَةِ: (لِأَنَّ إِقْرَارَهُ تَضَمَّنَ شَيْئَيْنِ) أَحَدُهُمَا: (حَمْلُ النَّسَبِ عَلَى الْغَيْرِ وَلَا وِلَايَةَ لَهُ)، أَيْ: لِلْمُقِرِّ. (عَلَيْهِ)، أَيْ: عَلَى الْغَيْرِ فَلَا يَثْبُتُ. (وَ) الثَّانِي: (الِاشْتِرَاكُ فِي الْمَالِ وَلَهُ فِيهِ وِلَايَةٌ)؛ لِأَنَّهُ إِقْرَارٌ عَلَى نَفْسِهِ وَلَهُ وِلَايَةٌ عَلَى نَفْسِهِ، (فَيَثْبُتُ) وَمِثْلُ هَذَا لَيْسَ بِمُمْتَنِعٍ، (كَالْمُشْتَرِي إِذَا أَقَرَّ عَلَى الْبَائِعِ بِالْعِتْقِ)، أَيْ: بِعِتْقِ مَا اشْتَرَاهُ مِنْ ذَلِكَ الْبَائِعِ (لَمْ يُقْبَلْ إِقْرَارُهُ) فِي حَقِّ الرُّجُوعِ بِالثَّمَنِ عَلَى الْبَائِعِ (حَتَّى لَا يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِالثَّمَنِ)؛ لِكَوْنِهِ إِقْرَارًا عَلَى الْغَيْرِ فِي حَقِّ الرُّجُوعِ بِالثَّمَنِ، (وَلَكِنَّهُ يُقْبَلُ) إِقْرَارُهُ (فِي حَقِّ الْعِتْقِ)، حَتَّى يَعْتِقَ عَلَيْهِ مَا اشْتَرَاهُ؛ لِكَوْنِهِ إِقْرَارًا عَلَى نَفْسِهِ فِي حَقِّ ذَلِكَ.

وَاعْلَمْ أَنَّهُ إِذَا قُبِلَ إِقْرُارُهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ يَسْتَحِقُّ الْمُقَرُّ لَهُ نِصْفَ نَصِيبِ الْمُقِرِّ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ مَالِكٍ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى يُجْعَلُ إِقْرَارُهُ شَائِعًا فِي التَّرِكَةِ، فَيُعْطِي الْمُقِرُّ مِنْ نَصِيبِهِ مَا يَخُصُّهُ مِنْ ذَلِكَ، حَتَّى لَوْ كَانَ لِشَخْصٍ مَاتَ أَبُوهُ أَخٌ مَعْرُوفٌ، فَأَقَرَّ بِأَخٍ آخَرَ فَكَذَّبَهُ أَخُوهُ الْمَعْرُوفُ فِيهِ، أَعْطَى الْمُقِرُّ نِصْفَ مَا فِي يَدِهِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُمَا ثُلْثُ مَا فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّ الْمُقِرَّ قَدْ أَقَرَّ لَهُ بِثُلْثٍ شَائِعٍ فِي النِّصْفَيْنِ فَيَنْفُذُ إِقْرَارُهُ فِي حِصَّتِهِ، وَبَطَلَ مَا كَانَ فِي حِصَّةِ أَخِيهِ، فَيَكُونُ لَهُ ثُلْثُ مَا فِي يَدِهِ وَهُوَ سُدْسُ جَمِيعِ الْمَالِ، وَالسُّدْسُ الْآخَرُ فِي نَصِيبِ أَخِيهِ فَبَطَلَ إِقْرَارُهُ فِيهِ.

وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ فِي زَعْمِ الْمُقِرِّ أَنَّهُ يُسَاوِيهِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ وَالْمُنْكِرُ ظَالِمٌ بِإِنْكَارِهِ، فَيُجْعَلُ مَا فِي يَدِهِ كَالْهَالِكِ فَيَكُونُ الْبَاقِي بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ، وَلَوْ أَقَرَّ بِأُخْتٍ تَأْخُذُ ثُلْثَ مَا فِي يَدِهِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُمَا تَأْخُذُ خُمُسَهُ، وَلَوْ أَقَرَّ ابْنٌ وَبِنْتٌ بِأَخٍ وَكَذَّبَهُمَا ابْنٌ آخَرُ مَعْرُوفٌ يُقَسَّمُ نَصِيبُ الْمُقِرِّينَ عِنْدَنَا أَخْمَاسًا، وَعِنْدَهُمَا أَرْبَاعًا، وَالتَّخْرِيجُ ظَاهِرٌ، وَلَوْ أَقَرَّ بِامْرَأَةٍ أَنَّهَا زَوْجَةُ أَبِيهِ أَخَذَتْ ثُمُنَ مَا فِي يَدِهِ، وَلَوْ أَقَرَّ بِجَدَّةٍ صَحِيحَةٍ أَخَذَتْ سُدْسَ مَا فِي يَدِهِ فَيُعَامَلُ فِيمَا فِي يَدِهِ، كَمَا يُعَامَلُ لَوْ ثَبَتَ مَا أَقَرَّ بِهِ وَلَوْ أَقَرَّ أَحَدُ الِابْنَيْنِ الْمَعْرُوفَيْنِ بِامْرَأَةٍ أَنَّهُمَا زَوْجَةُ أَبِيهِمَا وَكَذَّبَهُ الْآخَرُ أَخَذَتْ تُسْعَيْ مَا فِي يَدِهِ عِنْدَنَا.

وَعِنْدَ مَالِكٍ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى لَهُمَا ثُمُنُ مَا فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّ فِي زَعْمِ الْمُقِرِّ أَنَّ لِلْمَرْأَةِ ثُمُنَ مَا فِي يَدَيْ الِابْنَيْنِ، إِلَّا أَنَّ إِقْرَارَهُ صَحَّ فِيمَا بِيَدِ نَفْسِهِ وَلَا يَصِحُّ فِي حَقِّ صَاحِبِهِ، وَإِذَا صَحَّ فِي حَقِّ نَفْسِهِ يُعْطِيهَا ثُمُنَ مَا فِي يَدِهِ. وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ زَعْمَ الْمُقِرِّ أَنَّ التَّرِكَةَ بَيْنَهُمْ عَلَى سِتَّةَ عَشَرَ سَهْمًا لِلزَّوْجَةِ سَهْمَانِ وَلِكُلِّ ابْنٍ سَبْعَةُ أَسْهُمٍ، فَلَمَّا أَخَذَ أَخُوهُ أَكْثَرَ مِنْ حَقِّهِ فِي زَعْمِهِمَا صَارَ ذَلِكَ كَالْهَالِكِ، فَيُقَسَّمُ النِّصْفُ الَّذِي فِي يَدِ الْمُقِرِّ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا

ص: 400

قَالَ: (وَمَنْ مَاتَ وَتَرَكَ ابْنَيْنِ وَلَهُ عَلَى آخَرَ مِائَةُ دِرْهَمٍ، فَأَقَرَّ أَحَدُهُمَا أَنَّ أَبُوهُ قَبَضَ مِنْهَا خَمْسِينَ لَا شَيْءَ لِلْمُقِرِّ وَلِلْآخَرِ خَمْسُونَ)؛ لِأَنَّ هَذَا إِقْرَارٌ بِالدَّيْنِ عَلَى الْمَيِّتِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِيفَاءَ إِنَّمَا يَكُونُ بِقَبْضٍ مَضْمُونٍ، فَإِذَا كَذَّبَهُ أَخُوهُ اسْتَغْرَقَ الدَّيْنُ نَصِيبَهُ كَمَا هُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَنَا، غَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّهُمَا تَصَادَقَا عَلَى كَوْنِ الْمَقْبُوضِ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا،

عَلَى قَدْرِ حَقِّهِمَا، وَيُجْعَلُ مَا يَحْصُلُ لِلْمُقِرِّ وَهُوَ سَبْعَةٌ عَلَى تِسْعَةِ أَسْهُمٍ. فَتَضْرِبُ هِيَ بِقَدْرِ حَقِّهَا وَهُوَ سَهْمَانِ، وَيَضْرِبُ الْمُقِرُّ بِقَدْرِ حَقِّهِ وَهُوَ سَبْعَةُ أَسْهُمٍ، كَذَا فِي التَّبْيِينِ وَالْبَدَائِعِ وَالْإِيضَاحِ، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ فِي حَقِّ الْمِيرَاثِ بِإِقْرَارِ وَارِثٍ وَاحِدٍ، وَإِنَّمَا يُثْبِتُ بِإِقْرَارِ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ مِنَ الْوَرَثَةِ.

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَالْحَسَنُ وَالشَّافِعِيُّ: كُلُّ مَنْ يَحُوزُ الْمِيرَاثَ يُثْبِتُ النَّسَبَ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ كَانَ وَاحِدًا، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ اعْتِبَارًا لِلْإِقْرَارِ بِالشَّهَادَةِ، كَذَا ذَكَرَهُ الزَّاهِدِيُّ فِي شَرْحِ مُخْتَصَرِ الْقُدُورِيِّ نَقْلًا عَنْ شَرْحِ الْأَقْطَعِ، وَتَوْضِيحُهُ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْبَدَائِعِ مِنْ أَنَّ الْإِقْرَارَ، بِنَحْوِ الْأُخُوَّةِ إِقْرَارٌ عَلَى غَيْرِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ حَمْلِ نَسَبِ غَيْرِهِ عَلَى غَيْرِهِ، فَكَانَ شَهَادَةً، وَشَهَادَةُ الْفَرْدِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ، بِخِلَافِ مَا إِذَا كَانَ اثْنَيْنِ فَصَاعِدًا؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ فِي النَّسَبِ مَقْبُولَةٌ.

(قَالَ)، أَيْ: مُحَمَّدٌ رحمه الله فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: (وَمَنْ مَاتَ وَتَرَكَ ابْنَيْنِ، وَلَهُ)، أَيْ: وَلِلْمَيِّتِ (عَلَى آخَرَ مِائَةُ دِرْهَمٍ، فَأَقَرَّ أَحَدُهُمَا)، أَيْ: أَحَدُ الِابْنَيْنِ (أَنَّ أَبَاهُ قَبَضَ مِنْهَا)، أَيْ: مِنَ الْمِائَةِ (خَمْسِينَ) دِرْهَمًا (لَا شَيْءَ لِلْمُقِرِّ)، أَيْ: لَا شَيْءَ مِنَ الْمِائَةِ لِلِابْنِ الْمُقِرِّ. (وَلِلْآخَرِ)، أَيْ: وَلِلِابْنِ الْآخَرِ (خَمْسُونَ) مِنْهَا، يَعْنِي: كَانَ لِلِابْنِ الْآخَرِ أَنْ يَأْخُذَ الْخَمْسِينَ مِنَ الْغَرِيمِ بَعْدَ أَنْ يَحْلِفَ بِاللَّهِ مَا يَعْلَمُ أَنَّ أَبَاهُ قَبَضَ مِنْهُ الْمِائَةَ؛ (لِأَنَّ هَذَا)، أَيْ: لِأَنَّ إِقْرَارَ أَحَدِ الِابْنَيْنِ بِمَا ذُكِرَ (إِقْرَارٌ بِالدَّيْنِ عَلَى الْمَيِّتِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِيفَاءَ)، أَيِ: اسْتِيفَاءَ الدَّيْنِ (إِنَّمَا يَكُونُ بِقَبْضٍ مَضْمُونٍ) لِمَا مَرَّ أَنَّ الدُّيُونَ تُقْضَى بِأَمْثَالِهَا فَيَجِبُ لِلْمَدْيُونِ عَلَى صَاحِبِ الدَّيْنِ مِثْلُ مَا لِصَاحِبِ الدَّيْنِ عَلَيْهِ، فَيَلْتَقِيَانِ قِصَاصًا، وَإِقْرَارُ الْوَارِثِ بِالدَّيْنِ عَلَى الْمَيِّتِ يُوجِبُ الْقَضَاءَ عَلَيْهِ مِنْ حِصَّتِهِ خَاصَّةً.

(فَإِذَا كَذَّبَهُ)، أَيْ: كَذَّبَ الْمُقِرَّ. (أَخُوهُ اسْتَغْرَقَ الدَّيْنُ نَصِيبَهُ)، أَيْ: نَصِيبَ الْمُقِرِّ، (كَمَا هُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَنَا)، احْتِرَازًا عَنْ قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى؛ فَإِنَّ هَلَاكَ الدَّيْنِ عَلَى الْغَيْرِ بِسَبَبِ الْإِقْرَارِ يَخْتَصُّ عِنْدَنَا بِنَصِيبِ الْمُقِرِّ، وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى يَشِيعُ فِي النَّصِيبَيْنِ، وَكَذَا فِي أَكْثَرِ الشُّرُوحِ. وَقَالَ فِي الْكِفَايَةِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ. فَعِنْدَهُ يَشِيعُ فِي النَّصِيبَيْنِ.

وَقَالَ فِي مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ: وَبِمَا هُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَنَا، قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي قَوْلٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي قَوْلٍ، وَأَحْمَدُ: يَلْزَمُهُ نِصْفُ الدَّيْنِ وَهُوَ قِيَاسُ مَذْهَبِ مَالِكٍ،، وَبِهِ قَالَ النَّخَعِيُّ وَالْحَسَنُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ وَأَبُو ثَوْرٍ، انْتَهَى.

قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَعُورِضَ بِأَنَّ صَرْفَ إِقْرَارِهِ إِلَى نَصِيبِهِ خَاصَّةً يَسْتَلْزِمُ قِسْمَةَ الدَّيْنِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَهِيَ لَا تَجُوزُ. وَالْجَوَابُ أَنَّ قِسْمَةَ الدَّيْنِ إِنَّمَا تَكُونُ بَعْدَ وُجُودِ الدَّيْنِ، وَإِذَا أَقَرَّ الْمُقِرُّ بِقَبْضِ خَمْسِينَ قَبْلَ الْوَرَثَةِ لَمْ يَنْتَقِلْ عَلَى زَعْمِهِ مِنَ الدَّيْنِ إِلَّا الْخَمْسُونَ فَلَمْ تَتَحَقَّقِ الْقِسْمَةُ، انْتَهَى.

أَقُولُ. الْجَوَابُ الْمَزْبُورُ لَيْسَ بِشَافٍ؛ لِأَنَّ حَاصِلَهُ عَدَمُ لُزُومِ قِسْمَةِ الدَّيْنِ قَبْلَ الْقَبْضِ عَلَى زَعْمِ الْمُقِرِّ، وَزَعْمُ الْمُقِرِّ إِنَّمَا يُؤَثِّرُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ لَا فِي حَقِّ الْغَيْرِ فَيَكْفِي فِي الْمَحْذُورِ لُزُومُ ذَلِكَ عَلَى زَعْمِ الْآخَرِ؛ فَإِنَّ قِسْمَةَ الدَّيْنِ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا تَجُوزُ بِالنَّظَرِ إِلَى كُلِّ أَحَدٍ، فَالْأَظْهَرُ عِنْدِي فِي الْجَوَابِ أَنْ يُقَالَ: قِسْمَةُ الدَّيْنِ قَبْلَ الْقَبْضِ إِنَّمَا لَا تَجُوزُ فِي الْقِسْمَةِ الْحَقِيقِيَّةِ، وَأَمَّا فِي الْقِسْمَةِ الْحُكْمِيَّةِ، كَمَا نَحْنُ فِيهِ فَعَدَمُ جَوَازِهَا مَمْنُوعٌ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا صَرَّحُوا بِهِ فِي فَصْلِ الدَّيْنِ الْمُشْتَرَكِ مِنْ كِتَابِ الصُّلْحِ بِأَنَّ الْقِسْمَةَ قَبْلَ الْقَبْضِ إِنَّمَا لَا تَجُوزُ قَصْدًا لَا ضِمْنًا فَتَأَمَّلْ. قَالَ الْمُصَنِّفُ:(غَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّهُمَا)، أَيْ: الِابْنَيْنِ. (تَصَادَقَا عَلَى كَوْنِ الْمَقْبُوضِ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا)، أَيْ: عَلَى كَوْنِ

ص: 401

لَكِنَّ الْمُقِرَّ لَوْ رَجَعَ عَلَى الْقَابِضِ بِشَيْءٍ لَرَجَعَ الْقَابِضُ عَلَى الْغَرِيمِ وَرَجَعَ الْغَرِيمُ عَلَى الْمُقِرِّ فَيُؤَدِّي إِلَى الدَّوْرِ.

الْخَمْسِينَ الْبَاقِي عَلَى الْغَرِيمِ الَّذِي يَقْبِضُهُ الِابْنُ الْمُنْكِرُ مُشْتَرَكًا بَيْنَ الِابْنِ الْمُقِرِّ وَالِابْنِ الْمُنْكِرِ، هَذَا جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، تَقْرِيرُهُ أَنَّ جَمِيعَ الدَّيْنِ كَانَ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا، فَكَذَلِكَ كُلُّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهِ يَكُونُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا، فَمَا هَلَكَ يَهْلَكُ مُشْتَرَكًا، وَمَا بَقِيَ يَبْقَى مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا، فَالِابْنُ الْمُنْكِرُ لَمَّا جَحَدَ الْهَلَاكَ لَمْ يُنْكِرْ الِاشْتِرَاكَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَجْزَائِهِ، وَالِابْنُ الْمُقِرُّ وَإِنْ زَعْمَ أَنَّ بَعْضَ أَجْزَائِهِ هَالِكٌ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يُنْكِرْ الِاشْتِرَاكَ فِيمَا بَقِيَ بَعْدَ الْهَلَاكِ، فَهُمَا مُتَصَادِقَانِ فِي الِاشْتِرَاكِ فِي الْبَاقِي الْمَقْبُوضِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَيَرْجِعُ الْمُقِرُّ عَلَى الْقَابِضِ بِنِصْفِ مَا قَبَضَهُ، فَأَجَابَ بِأَنَّهُمَا وَإِنْ تَصَادَقَا عَلَى كَوْنِ الْمَقْبُوضِ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا، (لَكِنَّ الْمُقِرَّ) لَا يَرْجِعُ عَلَى الْقَابِضِ بِشَيْءٍ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ؛ إِذْ (لَوْ رَجَعَ عَلَى الْقَابِضِ بِشَيْءٍ لَرَجَعَ الْقَابِضُ عَلَى الْغَرِيمِ) بِقَدْرِ ذَلِكَ؛ لِزَعْمِهِ أَنَّ أَبَاهُ لَمْ يَقْبِضْ شَيْئًا مِنَ الْغَرِيمِ، وَلَهُ تَمَامُ الْخَمْسِينَ بِسَبَبٍ سَابِقٍ، (وَرَجَعَ الْغَرِيمُ) أَيْضًا (عَلَى الْمُقِرِّ) بِقَدْرِ ذَلِكَ لِانْتِقَاضٍ الْمُقَاصَّةِ فِي ذَلِكَ الْقَدْرِ، وَبَقَائِهِ دَيْنًا عَلَى الْمَيِّتِ بِمُوجَبِ إِقْرَارِهِ، وَالدَّيْنُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْإِرْثِ، (فَيُؤَدِّي إِلَى الدَّوْرِ) وَلَا فَائِدَةَ فِيهِ.

وَقَدْ قَرَّرَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ السُّؤَالَ وَالْجَوَابَ هَاهُنَا بِوَجْهٍ آخَرَ؛ حَيْثُ قَالَ: فَإِنْ قِيلَ: زَعْمُ الْمُقِرِّ يُعَارِضُهُ زَعْمُ الْمُنْكِرِ، فَإِنَّ فِي زَعْمِهِ أَنَّ الْمَقْبُوضَ عَلَى التَّرِكَةِ، كَمَا فِي زَعْمِ الْمُقِرِّ، وَالْمُنْكِرُ يَدَّعِي زِيَادَةً عَلَى الْمَقْبُوضِ، فَتَصَادَقَا عَلَى كَوْنِ الْمَقْبُوضِ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا، فَمَا الْمُرَجِّحُ لِزَعْمِ الْمُقِرِّ عَلَى زَعْمِ الْمُنْكِرِ حَتَّى انْصَرَفَ الْمُقَرُّ بِهِ إِلَى نَصِيبِ الْمُقِرِّ خَاصَّةً، وَلَمْ يَكُنِ الْمَقْبُوضُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا. أَجَابَ بِقَوْلِهِ: غَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّهُمَا تَصَادَقَا عَلَى كَوْنِ الْمَقْبُوضِ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا، لَكِنَّ الْمُقِرَّ لَوْ رَجَعَ، يَعْنِي أَنَّ الْمُرَجِّحَ هُوَ أَنَّ اعْتِبَارَ زَعْمَ الْمُنْكِرِ يُؤَدِّي إِلَى عَدَمِ الْفَائِدَةِ بِلُزُومِ الدَّوْرِ، انْتَهَى.

أَقُولُ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ تَقْرِيرَيِ السُّؤَالَ وَالْجَوَابَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرَهُ مُخْتَلٌّ، أَمَّا تَقْرِيرُ السُّؤَالِ؛ فَلِأَنَّ حَدِيثَ مُعَارِضَةِ زَعْمَ الْمُقِرِّ لِزَعْمِ الْمُنْكِرِ، وَتَرْجِيحِ زَعْمِ الْمُقِرِّ عَلَى زَعْمِ الْمُنْكِرِ مِمَّا لَا مَسَاسَ لَهُ بِكَلَامِ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا؛ لِأَنَّهُ قَالَ: غَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّهُمَا تَصَادَقَا عَلَى كَوْنِ الْمَقْبُوضِ مُشْتَرِكًا بَيْنَهُمَا، وَلَا شَكَّ أَنَّ التَّصَادُقَ يُنَافِي التَّعَارُضَ وَالتَّرْجِيحَ فَكَيْفَ يَحْمِلُ كَلَامَهُ عَلَى ذَلِكَ، وَالْعَجَبُ أَنَّ صَاحِبَ الْعِنَايَةِ أَدْرَجَ تَصَادُقَهُمَا أَيْضًا فِي أَثْنَاءِ تَقْرِيرِ السُّؤَالِ، وَفَرَّعَ عَلَى تَعَارُضِ زَعْمَيْهِمَا؛ حَيْثُ قَالَ: فَتَصَادَقَا عَلَى كَوْنِ الْمَقْبُوضِ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا، ثُمَّ طَلَبَ الْمُرَجِّحَ بِقَوْلِهِ: فَمَا الْمُرَجِّحُ لِزَعْمِ الْمُقِرِّ عَلَى زَعْمِ الْمُنْكِرِ؟ وَلَا يَخْفَى أَنَّ فِي نَفْسِ هَذَا التَّقْرِيرِ تَعَارُضًا وَتَنَاقُضًا، وَأَمَّا تَقْرِيرُ الْجَوَابِ فَلِأَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ قَوْلِهِ: يَعْنِي أَنَّ الْمُرَجِّحَ، هُوَ أَنَّ اعْتِبَارَ زَعْمَ الْمُنْكِرِ يُؤَدِّي إِلَى عَدَمِ الْفَائِدَةِ بِلُزُومِ الدَّوْرِ هُوَ أَنَّ

ص: 402

(كِتَابُ الصُّلْحِ)

لُزُومَ الدَّوْرِ إِنَّمَا يَكُونُ بِاعْتِبَارِ زَعْمِ الْمُنْكِرِ دُونَ الْمُقِرِّ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ لُزُومُ الدَّوْرِ إِنَّمَا يَكُونُ بِاعْتِبَارِ زَعْمِ الْمُقِرِّ دُونَ زَعْمِ الْمُنْكِرِ؛ لِأَنَّ رُجُوعَ الْغَرِيمِ عَلَى الْمُقِرِّ بِالْآخِرَةِ إِنَّمَا هُوَ عَلَى زَعْمِ الْمُقِرِّ أَنَّ أَبَاهُ قَبَضَ مِنْهُ الْخَمْسِينَ، وَإِنَّمَا بَقِيَ عَلَيْهِ الْخَمْسُونَ الْمَقْبُوضُ.

وَأَمَّا عَلَى زَعْمِ الْمُنْكِرِ وَهُوَ أَنَّ أَبَاهُ لَمْ يَقْبِضْ مِنْهُ شَيْئًا فَلَا يَرْجِعُ الْغَرِيمَ عَلَى الْمُقِرِّ بِشَيْءٍ، بَلْ يَلْزَمُهُ أَنْ يُعْطِيَ الْمُقِرَّ أَيْضًا مِثْلَ مَا أَعْطَاهُ الْمُنْكِرُ، فَلَا يَلْزَمُ الدَّوْرُ، وَتَدَبَّرْ تَقَفْ، ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِذَا كَانَ مِنْ زَعْمِ الْمُنْكِرِ أَنَّ أَبَاهُ لَمْ يَقْبِضْ شَيْئًا كَانَ مِنْ زَعْمِهِ أَنَّ أَخَاهُ فِي إِقْرَارِهِ ظَالِمٌ، وَهُوَ فِيمَا يَقْبِضُهُ أَخُوهُ مِنْهُ مَظْلُومٌ فَلَا يَرْجِعُ عَلَى الْغَرِيمِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ الْمَظْلُومَ لَا يَظْلِمُ غَيْرَهُ، وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمَظْلُومَ لَا يَظْلِمُ غَيْرَهُ، وَلَكِنَّهُ فِي زَعْمِهِ لَيْسَ فِي الرُّجُوعِ بِظَالِمٍ بَلْ طَالِبٌ لِتَمَامِ حَقِّهِ، انْتَهَى.

أَقُولُ: فِي الْجَوَابِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الْخَمْسِينَ الَّذِي قَبَضَهُ الْمُنْكِرُ مِنَ الْغَرِيمِ أَوَّلًا إِنْ كَانَ بِتَمَامِهِ حَقُّ الْمُنْكِرِ لَمْ يَكُنْ هُوَ فِي رُجُوعِهِ عَلَى الْغَرِيمِ بَعْدَ ذَلِكَ طَالِبًا لِتَمَامِ حَقِّهِ؛ إِذْ لَيْسَ حَقُّهُ فِي الْمِائَةِ بِزَائِدٍ عَلَى الْخَمْسِينَ حَتَّى يَكُونَ طَالِبًا لِتَمَامِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَقْبُوضُ أَوَّلًا بِتَمَامِهِ حَقَّهُ بَلْ كَانَ بَعْضُهُ حَقُّ أَخِيهِ لَمْ يَكُنْ هُوَ فِيمَا يَقْبِضُهُ أَخُوهُ مِنْهُ مَظْلُومًا، وَسَوْقُ الْجَوَابِ الْمَزْبُورِ عَلَى تَسْلِيمِ مَظْلُومِيَّتِهِ، كَمَا تَرَى. فَالْحَقُّ فِي الْجَوَابِ أَنْ يُقَالَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ إِذَا كَانَ مَنْ زَعْمِ الْمُنْكِرِ أَنَّ أَبَاهُ لَمْ يَقْبِضْ شَيْئًا كَانَ فِي زَعْمِهِ أَنَّهُ فِيمَا يَقْبِضُهُ أَخُوهُ مِنْهُ مَظْلُومٌ، كَيْفَ وَهُمَا مُتَصَادِقَانِ عَلَى كَوْنِ مَا قَبَضَهُ مِنَ الْغَرِيمِ أَوَّلًا مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا، كَمَا تَقَرَّرَ. نَعَمْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ زَعْمِ الْمُنْكِرِ ذَلِكَ أَنَّ أَخَاهُ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ؛ حَيْثُ أَبْطَلَ حَقَّهُ فِي الْمِائَةِ بِإِقْرَارِهِ بِأَنَّ أَبَاهُ قَبَضَ مِنْهَا الْخَمْسِينَ.

(كِتَابُ الصُّلْحِ)

قَدْ مَرَّ مُنَاسَبَةُ الصُّلْحِ بِالْإِقْرَارِ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْإِقْرَارِ. وَالصُّلْحُ فِي اللُّغَةِ: اسْمٌ لِلْمُصَالَحَةِ الَّتِي هِيَ الْمُسَالَمَةُ خِلَافَ الْمُخَاصَمَةِ. وَأَصْلُهُ مِنَ الصَّلَاحِ، وَهُوَ اسْتِقَامَةُ الْحَالِ فَمَعْنَاهُ دَالٌّ عَلَى حُسْنِهِ الذَّاتِيِّ. وَفِي الشَّرِيعَةِ: عِبَارَةٌ عَنْ عَقْدٍ وُضِعَ لِرَفْعِ الْمُنَازَعَةِ.

ص: 403

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وَسَبَبُهُ: تَعَلُّقُ الْبَقَاءِ الْمُقَدَّرِ بِتَعَاطِيهِ، كَمَا فِي سَائِرِ الْمُعَامَلَاتِ. وَرُكْنُهُ: الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ، كَذَا ذُكِرَ فِي الْبَدَائِعِ وَالْكَافِي وَكَثِيرٍ مِنَ الشُّرُوحِ.

قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ أَخْذًا مِنَ النِّهَايَةِ: وَرُكْنُهُ الْإِيجَابُ مُطْلَقًا وَالْقَبُولُ فِيمَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ، وَأَمَّا إِذَا وَقَعَ الدَّعْوَى فِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَطَلَبِ الصُّلْحِ عَلَى ذَلِكَ الْجِنْسِ فَقَدْ تَمَّ الصُّلْحُ بِقَوْلِ الْمُدَّعِي: قَبِلْتُ، وَلَا يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى قَبُولِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ إِسْقَاطٌ لِبَعْضِ الْحَقِّ، وَهُوَ يَتِمُّ بِالْمُسْقِطِ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ طَلَبُ الْبَيْعِ مِنْ غَيْرِهِ، وَمَنْ طَلَبَ الْبَيْعَ مِنْ غَيْرِهِ فَقَالَ ذَلِكَ الْغَيْرُ: بِعْتُ، لَا يَتِمُّ الْبَيْعُ مَا لَمْ يَقُلِ الطَّالِبُ قَبِلْتُ، انْتَهَى.

أَقُولُ: فِيهِ بَحْثٌ، أَمَّا أَوَّلًا: فَلِأَنَّهُ سَيَأْتِي فِي الْكِتَابِ أَنَّ الصُّلْحَ إِذَا وَقَعَ عَنْ إِقْرَارٍ فَإِنْ كَانَ عَنْ مَالٍ بِمَالٍ اعْتُبِرَ فِيهِ مَا يُعْتَبَرُ فِي الْبِيَاعَاتِ. وَإِنْ كَانَ عَنْ مَالٍ بِمَنَافِعَ اعْتُبِرَ بِالْإِجَارَاتِ، وَإِذَا وَقَعَ عَنْ سُكُوتٍ أَوْ إِنْكَارٍ كَانَ فِي حَقِّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِافْتِدَاءِ الْيَمِينِ وَقَطْعِ الْخُصُومَةِ وَفِي حَقِّ الْمُدَّعِي بِمَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ، فَإِذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الضَّابِطَةُ، فَلَوْ وَقَعَ الدَّعْوَى فِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَطَلَبِ الصُّلْحِ عَلَى ذَلِكَ الْجِنْسِ، وَكَانَ وُقُوعُ الصُّلْحِ عَنْ سُكُوتٍ أَوْ إِنْكَارٍ وَجَبَ أَنْ لَا يَتِمَّ الصُّلْحُ بِقَوْلِ الْمُدَّعِي: قَبِلْتُ؛ لِأَنَّ كَوْنَهُ إِسْقَاطًا لِبَعْضِ الْحَقِّ وَاسْتِيفَاءً لِبَعْضِهِ الْآخَرِ فِيمَا إِذَا وَقَعَ عَنْ سُكُوتٍ أَوْ إِنْكَارٍ إِنَّمَا هُوَ فِي حَقِّ الْمُدَّعِي. وَأَمَّا فِي حَقّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَإِنَّمَا هُوَ لِافْتِدَاءِ الْيَمِينِ وَقَطْعِ الْخُصُومَةِ، فَلَا بُدَّ مِنْ قَبُولِهِ أَيْضًا حَتَّى يَتَحَقَّقَ الِافْتِدَاءُ وَتَنْقَطِعَ الْخُصُومَةُ.

وَأَمَا ثَانِيًا: فَلِأَنَّهُ إِذَا وَقَعَ الدَّعْوَى فِيمَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ كَالدَّارِ مَثَلًا، فَصُولِحَ عَلَى قِطْعَةٍ مِنْهَا وَأُلْحِقَ بِهِ ذِكْرُ الْبَرَاءَةِ عَنْ دَعْوَى الْبَاقِي كَانَ الصُّلْحُ صَحِيحًا عَلَى مَا سَيَجِيءُ فِي الْكِتَابِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَتِمَّ هُنَاكَ أَيْضًا بِقَوْلِ الْمُدَّعِي: قَبِلْتُ، بِدُونِ قَبُولِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِكَوْنِهِ إِسْقَاطًا لِدَعْوَى بَعْضِ الْحَقِّ بِمِثْلِ مَا قَالَ فِيمَا إِذَا وَقَعَ الدَّعْوَى فِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَطَلَبِ الصُّلْحِ عَلَى ذَلِكَ الْجِنْسِ فَلَا يَتِمُّ إِطْلَاقُ قَوْلِهِ وَالْقَبُولِ فِيمَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ.

وَأَمَا ثَالِثًا: فَلِأَنَّ قَوْلَهُ: " لِأَنَّهُ طَلَبُ الْبَيْعِ مِنْ غَيْرِهِ. . . " إِلَخْ، فِي تَعْلِيلِ قَوْلِهِ: بِخِلَافِ الْأَوَّلِ قَاصِرٌ عَنْ إِفَادَةِ كُلِّيَّةِ الْمُدَّعِي، وَهُوَ رُكْنِيَّةُ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ مَعًا فِيمَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ مُطْلَقًا؛ فَإِنَّ طَلَبَ الْبَيْعِ مِنْ غَيْرِهِ لَا يَتَمَشَّى فِي كُلِّ صُورَةٍ مِنَ الصُّوَرِ الثَّلَاثِ الْمُنْدَرِجَةِ فِي الضَّابِطَةِ الْمَذْكُورَةِ لِلصُّلْحِ. بَلْ إِنَّمَا يَتَمَشَّى فِي صُورَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْهَا، وَهِيَ مَا إِذَا كَانَ الصُّلْحُ عَنْ إِقْرَارٍ وَكَانَ مَالًا بِمَالٍ، فَتَأَمَّلْ.

وَشَرْطُ مُطْلَقِ الصُّلْحِ: كَوْنُ الْمَصَالَحِ عَنْهُ مِمَّا يَجُوزُ عَنْهُ الِاعْتِيَاضُ. وَلِأَنْوَاعِهِ شُرُوطٌ أُخَرُ سَيَأْتِي تَفْصِيلُهَا فِي الْكِتَابِ. وَحُكْمُهُ: وُقُوعُ الْبَرَاءَةِ عَنْ دَعْوَى الْمُدَّعِي، كَذَا فِي الْكَافِي وَبَعْضِ الشُّرُوحِ.

قَالَ فِي الْعِنَايَةِ أَخْذًا مِنَ النِّهَايَةِ: وَحُكْمُهُ تَمَلُّكُ الْمُدَّعِي الْمُصَالَحَ عَلَيْهِ مُنْكِرًا كَانَ الْخَصْمُ أَوْ مُقِرًّا، وَوُقُوعُهُ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي الْمُصَالِحِ عَنْهُ إِنْ كَانَ مِمَّا يَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ وَالْبَرَاءَةَ لَهُ فِي غَيْرِهِ إِنْ كَانَ مُقِرًّا، وَإِنْ كَانَ مُنْكِرًا فَحُكْمُهُ وُقُوعُ الْبَرَاءَةِ عَنْ دَعْوَى الْمُدَّعِي احْتَمَلَ الْمُصَالَحُ عَنْهُ التَّمْلِيكَ أَوْ لَا، انْتَهَى.

أَقُولُ: فِيهِ كَلَامٌ، وَهُوَ أَنَّ الْمُصَالَحَ عَلَيْهِ أَيْضًا قَدْ يَكُونُ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ كَتَرْكِ الدَّعْوَى، فَإِنَّهُمْ صَرَّحُوا بِأَنَّهُ إِذَا ادَّعَى حَقًّا فِي دَارِ رَجُلٍ وَادَّعَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ حَقًّا فِي أَرْضٍ بِيَدِ الْمُدَّعِي فَاصْطَلَحَا عَلَى تَرْكِ الدَّعْوَى، فَإِنَّهُ جَائِزٌ، فَجُعِلَ حُكْمُ الصُّلْحِ فِي جَانِبِ الْمُصَالَحِ عَنْهُ قِسْمَيْنِ: تَمَلُّكُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إِيَّاهُ، وَبَرَاءَتُهُ عَنْ دَعْوَى الْمُدَّعِي.

وَفِي جَانِبِ الْمُصَالَحِ عَلَيْهِ قِسْمًا وَاحِدًا هُوَ تَمَلُّكُ الْمُدَّعِي إِيَّاهُ مَعَ جَرَيَانِ احْتِمَالِ التَّمْلِيكِ وَعَدَمِ احْتِمَالِهِ فِي الْجَانِبَيْنِ مَعًا، مِمَّا لَا يَخْلُو عَنْ تَحَكُّمٍ، فَإِنْ نُوقِشَ فِي الْمِثَالِ الْمَذْكُورِ بِأَنَّ كَوْنَ الْمُصَالَحِ عَلَيْهِ تَرْكُ الدَّعْوَى فِي ذَلِكَ أَمْرٌ ظَاهِرِيٌّ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمُسَامَحَةِ، وَإِنَّمَا الْمَصَالَحُ عَلَيْهِ حَقِيقَةً فِي ذَلِكَ مَا ادَّعَاهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنَ الْحَقِّ فِيمَا بِيَدِ الْآخَرِ؛ فَإِنَّهُ يَقَعُ مُصَالَحًا عَنْهُ بِالنَّظَرِ إِلَى ذِي الْيَدِ، وَمُصَالَحًا عَلَيْهِ بِالنَّظَرِ إِلَى الْآخَرِ، وَهُوَ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ قَطْعًا.

قُلْنَا: فَمَاذَا يُقَالُ فِيمَا إِذَا ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْآخَرِ قِصَاصًا فَاصْطَلَحَا عَلَى تَرْكِ الدَّعْوَى وَالْعَفْوِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ؛ إِذْ لَا شَكَّ أَنَّهُ كَمَا أَنَّ تَرْكَ الدَّعْوَى وَالْعَفْوَ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ، كَذَلِكَ نَفْسُ الْقِصَاصِ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُهُ، فَلَا يُتَصَوَّرُ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ تَمَلُّكُ الْمُدَّعِي الْمَصَالَحَ عَلَيْهِ، بَلْ إِنَّمَا يَتَيَسَّرُ فِيهَا بَرَاءَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ دَعْوَى الْآخَرِ. بَقِيَ هَاهُنَا كَلَامٌ آخَرُ، وَهُوَ: أَنَّهُ إِذَا ادَّعَى رَجُلٌ دَارًا وَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَدَفَعَ الْمُدَّعِي إِلَى ذِي الْيَدِ شَيْئًا بِطَرِيقِ الصُّلْحِ وَأَخَذَ الدَّارَ فَإِنَّهُ جَائِزٌ، كَمَا سَيَأْتِي فِي الشُّرُوحِ. وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ فِي الْفَصْلِ السَّابِعِ مِنْ فَصُولِ الْإِسْتَرُوشَنِيِّ مَعَ أَنَّهُ يَمْلِكُ هُنَاكَ الْمُدَّعِي الْمُصَالَحَ عَنْهُ وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْمُصَالَحَ عَلَيْهِ فَيَنْتَقِضُ

ص: 404

قَالَ: (الصُّلْحُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: صُلْحٌ مَعَ إِقْرَارٍ، وَصُلْحٌ مَعَ سُكُوتٍ، وَهُوَ أَنْ لَا يُقِرَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَلَا يُنْكِرَ، وَصُلْحٌ مَعَ إِنْكَارٍ، وَكُلُّ ذَلِكَ جَائِزٌ)؛ لِإِطْلَاقِ قَوْله تَعَالَى: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} ، وَلِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام:

مَا ذُكِرَ مِنْ حُكْمِ الصُّلْحِ فِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ طَرْدًا وَعَكْسًا، فَتَأَمَّلْ. (قَوْلُهُ: الصُّلْحُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ. . .) إِلَخْ. قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: الْحَصْرُ عَلَى هَذِهِ الْأَنْوَاعِ ضَرُورِيٌّ؛ لِأَنَّ الْخَصْمَ وَقْتَ الدَّعْوَى إِمَّا أَنْ يَسْكُتَ أَوْ يَتَكَلَّمَ مُجِيبًا وَهُوَ لَا يَخْلُو عَنِ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ. لَا يُقَالُ: قَدْ يَتَكَلَّمُ بِمَا لَا يَتَّصِلُ بِمَحَلِّ النِّزَاعِ؛ لِأَنَّهُ سَقَطَ بِقَوْلِنَا: مُجِيبًا، انْتَهَى.

أَقُولُ: يَرُدُّ عَلَى ظَاهِرِ جَوَابِهِ أَنَّهُ إِنَّمَا يُفِيدُ انْحِصَارَ تَقْسِيمِهِ الثَّانِي، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَهُوَ لَا يَخْلُو عَنِ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ، وَلَا يُفِيدُ انْحِصَارَ تَقْسِيمِهِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: إِنَّ الْخَصْمَ وَقْتَ الدَّعْوَى إِمَّا أَنْ يَسْكُتَ أَوْ يَتَكَلَّمَ مُجِيبًا؛ إِذْ تَخْرُجُ صُورَةُ التَّكَلُّمِ بِمَا لَا يَتَّصِلُ بِمَحَلِّ النِّزَاعِ عَنْ قَسَمَيْهِ مَعًا، فَيَبْقَى الِاعْتِرَاضُ بِهَذِهِ الصُّورَةِ عَلَى قَوْلِهِ: الْحَصْرُ عَلَى هَذِهِ الْأَنْوَاعِ ضَرُورِيٌّ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ بِالسُّكُوتِ فِي قَوْلِهِ: إِمَّا أَنْ يَسْكُتَ أَوْ يَتَكَلَّمَ مُجِيبًا، هُوَ السُّكُوتُ عَنِ التَّكَلُّمِ مُجِيبًا لَا السُّكُوتُ مُطْلَقًا وَهُوَ عَدَمُ التَّكَلُّمِ أَصْلًا، فَتَدْخُلُ الصُّورَةُ الْمَزْبُورَةُ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ مِنْ تَقْسِيمِهِ الْأَوَّلِ وَهُوَ قَوْلُهُ: إِمَّا أَنْ يَسْكُتَ، فَيَصِحُّ قَوْلُهُ: الْحَصْرُ عَلَى هَذِهِ الْأَنْوَاعِ ضَرُورِيٌّ، وَتَفْسِيرُ السُّكُوتِ فِي الْكِتَابِ بِقَوْلِهِ: وَهُوَ أَنْ لَا يُقِرَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَلَا يُنْكِرَ لَا يَخْلُو عَنْ إِيمَاءٍ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالسُّكُوتِ هَاهُنَا هُوَ السُّكُوتُ عَنِ الْجَوَابِ دُونَ مُطْلَقِ السُّكُوتِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى مُطْلَقِ السُّكُوتِ مَعَ كَوْنِهِ غَنِيًّا عَنِ التَّفْسِيرِ لَيْسَ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ بَلْ هُوَ أَلَّا يَتَكَلَّمَ أَصْلًا.

(قَوْلُهُ: وَكُلُّ ذَلِكَ جَائِزٌ لِإِطْلَاقِ. . .) إِلَخْ تَسَامَحَ الْمُصَنِّفُ هَاهُنَا فِي التَّعْبِيرِ؛ حَيْثُ قَالَ لِإِطْلَاقِ قَوْله تَعَالَى: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} ، مَعَ أَنَّهُ لَا يَذْهَبُ عَلَيْكَ أَنَّ الدَّلِيلَ عَلَى جَوَازِ كُلِّ ذَلِكَ فِي الْحَقِيقَةِ قَوْلُهُ: الْمُطْلَقُ، لَا إِطْلَاقَ قَوْلِهِ إِلَّا أَنَّهُمْ كَثِيرًا مَا يَتَسَامَحُونَ فِي الْعِبَارَةِ فِي أَمْثَالِ هَذَا بِنَاءً عَلَى ظُهُورِ الْمُرَادِ وَتَنْبِيهًا عَلَى فَائِدَةٍ تُفِيدُهَا تِلْكَ الْعِبَارَةُ، كَمَا فِي تَعْرِيفِهِمُ الْعِلْمَ بِحُصُولِ صُورَةِ الشَّيْءِ فِي الْعَقْلِ مَعَ أَنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ الصُّورَةُ الْحَاصِلَةُ فِي الْعَقْلِ عَلَى مَا حَقَّقَهُ الْفَاضِلُ الشَّرِيفُ فِي بَعْضِ تَصَانِيفِهِ.

قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ فِي حَلِّ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ لِإِطْلَاقِ قَوْله تَعَالَى، أَيْ: لِقَوْلِهِ الْمُطْلَقِ: فَالْإِضَافَةُ مِنْ قَبِيلِ إِضَافَةِ الصِّفَةِ إِلَى الْمَوْصُوفِ، انْتَهَى.

أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا بِسَدِيدٍ، أَمَّا أَوَّلًا: فَلِأَنَّ إِضَافَةَ الصِّفَةِ إِلَى الْمَوْصُوفِ لَيْسَتْ بِجَائِزَةٍ كَإِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى الصِّفَةِ عَلَى مَا هُوَ الْمَذْهَبُ الْمُخْتَارُ الْمُقَرَّرُ فِي كُتُبِ النَّحْوِ، حَتَّى أَنَّهُمْ أَوَّلُوا مِثْلَ: جُرْدُ قَطِيفَةٍ، وَأَخْلَاقُ ثِيَابٍ

ص: 405

«كُلُّ صُلْحٍ جَائِزٌ فِيمَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا صُلْحًا أَحَلَّ حَرَامًا أَوْ حَرَّمَ حَلَالًا»

بِمَا يَخْرُجُ بِهِ عَنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَبِيلِ إِضَافَةِ الصِّفَةِ إِلَى الْمَوْصُوفِ فَمَا مَعْنَى حَمْلَ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا عَلَى ذَلِكَ.

وَأَمَا ثَانِيًا: فَلِأَنَّ الصِّفَةَ فِي " لِقَوْلِهِ لِمُطْلَقٍ "، هُوَ الْمُطْلَقُ لَا الْإِطْلَاقُ وَالْكَلَامُ فِي تَوْجِيهِ إِطْلَاقِ قَوْلِهِ: فَلَا يُجْدِي حَدِيثُ إِضَافَةِ الصِّفَةِ إِلَى الْمَوْصُوفِ شَيْئًا، بَلْ لَا بُدَّ مِنَ الْمَصِيرِ إِلَى الْمُسَامَحَةِ، كَمَا ذَكَرْنَا.

وَقَالَ صَاحِبٌ الْعِنَايَةِ: فَإِنَّ مَنْعَ الْإِطْلَاقِ لِوُقُوعِهِ فِي سِيَاقٍ صَلَحَ الزَّوْجَيْنِ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} ، فَكَانَ لِلْعَهْدِ. أُجِيبَ بِأَنَّ الِاعْتِبَارَ لِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا لِخُصُوصِ السَّبَبِ، وَبِأَنَّهُ ذُكِرَ لِلتَّعْلِيلِ، أَيْ: لَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصَالِحَا؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ خَيْرٌ فَكَانَ عَامًّا؛ وَلِأَنَّهُ وَقَعَ قَوْله تَعَالَى أَنْ يُصَالِحَا فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ فَكَانَ مُسْتَقْبَلًا، وقَوْله تَعَالَى:{وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} كَانَ فِي الْحَالِ فَلَمْ يَكُنْ إِيَّاهُ بَلْ جِنْسُهُ، انْتَهَى.

أَقُولُ: إِنَّ الْجَوَابَ الْأَوَّلَ وَالثَّالِثَ مِنْ هَذِهِ الْأَجْوِبَةِ الثَّلَاثَةِ لَيْسَ بِتَامَّيْنِ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُ كَوْنُ الِاعْتِبَارِ لِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا لِخُصُوصِ السَّبَبِ لَا يُجْدِي شَيْئًا فِي دَفْعِ السُّؤَالِ الْمَذْكُورِ؛ لِأَنَّ حَاصِلَهُ مَنْعُ عُمُومِ اللَّفْظِ بِحَمْلِ اللَّامِ فِي قَوْله تَعَالَى:{وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} عَلَى الْعَهْدِ. فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَصِيرُ خَاصًّا وَإِنَّمَا يُجْدِي نَفْعًا لَوْ سَلَّمَ عُمُومَ اللَّفْظِ فِي نَفْسِهِ وَأُرِيدَ تَخْصِيصُهُ بِخُصُوصِ السَّبَبِ.

وَأَمَّا الثَّالِثُ: فَلِأَنَّهُ إِنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} كَانَ فِي الْحَالِ أَنَّ التَّكَلُّمَ بِهَذَا الْكَلَامِ وَالْإِخْبَارِ بِهَذَا الْخَبَرِ كَانَ فِي الْحَالِ، أَيْ: فِي حَالِ وُرُودِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فَمُسَلَّمٌ، لَكِنَّ هَذَا لَا يُنَافِي أَنْ يَكُونَ تَحَقُّقُ مَدْلُولِهِ فِي الِاسْتِقْبَالِ، أَلَا يَرَى أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: الْأَمْرُ الَّذِي يَحْدُثُ غَدًا خَيْرٌ، فَلَا شَكَّ أَنَّ تَكَلُّمَكَ بِهَذَا الْكَلَامِ وَإِخْبَارُكَ بِهِ كَائِنٌ فِي الْحَالِ، وَأَمَّا تَحَقُّقُ ذَلِكَ الْأَمْرِ وَاتِّصَافُهُ بِالْخَيْرِيَّةِ، فَيَكُونُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، فَلَمْ يَتِمَّ قَوْلُهُ: فَلَمْ يَكُنْ إِيَّاهُ بَلْ جِنْسُهُ، وَإِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ الصُّلْحَ الَّذِي أَخْبَرَ بِهِ خَيْرٌ كَانَ فِي الْحَالِ فَهُوَ مَمْنُوعٌ، فَالصَّوَابُ مِنْ بَيْنِ تِلْكَ الْأَجْوِبَةِ هُوَ الْجَوَابُ الثَّانِي، وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْكَافِي وَفِي سَائِرِ الشُّرُوحِ أَخْذًا مِنَ الْأَسْرَارِ.

وَوَجْهُ كَوْنُ الصُّلْحِ عَامًّا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّهُ ذِكْرٌ لِلتَّعْلِيلِ هُوَ أَنَّ الْعِلَّةَ لَا تَتَقَيَّدُ بِمَحَلِّ الْحُكْمِ الَّذِي عُلِّلَ فِيهِ، بَلْ أَيْنَمَا وُجِدَتِ الْعِلَّةُ يَتْبَعُهَا الْحُكْمُ، كَذَا قَالُوا، وَهُوَ التَّقْرِيرُ الْمُنَاسِبُ لِقَوَاعِدِ الْأُصُولِ.

وَأَمَّا التَّقْرِيرُ الْمُطَابِقُ لِقَوَاعِدِ الْمَعْقُولِ فَلِأَنَّهُ يَكُونُ حِينَئِذٍ خَارِجًا مَخْرَجَ الْكُبْرَى مِنَ الشَّكْلِ الْأَوَّلِ كَأَنَّهُ قِيلَ: فَإِنَّ هَذَا صُلْحٌ وَالصُّلْحُ خَيْرٌ، وَكُلِّيَةُ الْكُبْرَى شَرْطٌ لِإِنْتَاجِ الشَّكْلِ الْأَوَّلِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي الْمِيزَانِ.

وَاعْتَرَضَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ عَلَى هَذَا الْجَوَابِ أَيْضًا؛ حَيْثُ قَالَ: فِيهِ بَحْثٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ تَعْلِيلًا لَأَبْدَلَ الْفَاءَ بِالْوَاوِ، انْتَهَى.

أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ ذَاكَ الْإِبْدَالَ إِنَّمَا يَلْزَمُ لَوْ كَانَ تَعْلِيلًا مِنْ حَيْثُ اللَّفْظِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ هُوَ تَعْلِيلٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَعَنْ هَذَا قَالُوا: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْرَجَهُ مَخْرَجَ التَّعْلِيلِ لِمَا سَبَقَ ذِكْرُهُ كَأَنَّهُ قَالَ: صَالِحُوا؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ خَيْرٌ. وَفَالَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ وَهُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ لِسَانِ الْعَرَبِ، كَمَا يُقَالُ: صَلِّ وَالصَّلَاةُ خَيْرٌ عَلَى أَنَّ قَوْله تَعَالَى: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} بِمَنْزِلَةِ الْكُبْرَى مِنَ الدَّلِيلِ وَالصُّغْرَى مَطْوِيَّةٌ، كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ فِيمَا مَرَّ، وَأَدَاةُ التَّعْلِيلِ كَاللَّامِ وَالْفَاءِ إِذَا ذُكِرَتْ إِنَّمَا تَدْخُلُ عَلَى أَوَّلِ الدَّلِيلِ وَهُوَ الصُّغْرَى دُونَ الْكُبْرَى، فَلَا يَلْزَمُ الْإِبْدَالُ هَاهُنَا أَصْلًا، تَدَبَّرْ.

ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: فَإِنْ قِيلَ: سَلَّمْنَاهُ، يَعْنِي الْإِطْلَاقَ فِي قَوْله تَعَالَى:{وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} ، وَلَكِنْ صَرْفُهُ إِلَى الْكُلِّ مُتَعَذِّرٌ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ بَعْدَ الْيَمِينِ، وَصُلْحُ الْمُودِعِ وَصُلْحُ مَنِ ادَّعَى قَذْفًا عَلَى آخَرَ وَصُلْحُ مَنِ ادَّعَى عَلَى امْرَأَةٍ نِكَاحًا فَأَنْكَرَتْ لَا يَجُوزُ، فَيُصْرَفُ إِلَى الْأَدْنَى وَهُوَ الصُّلْحُ عَنْ إِقْرَارٍ. أُجِيبَ بِأَنَّ تَرْكَ الْعَمَلِ بِالْإِطْلَاقِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ لِمَانِعٍ لَا يَسْتَلْزِمُ تَرْكَهُ عِنْدَ عَدَمِهِ، انْتَهَى.

أَقُولُ: يَرُدُّ عَلَى ظَاهِرِ قَوْلِهِ: وَصُلْحُ مَنِ ادَّعَى عَلَى امْرَأَةٍ نِكَاحًا فَأَنْكَرَتْ لَا يَجُوزُ أَنَّهُ خَبْطٌ؛ إِذْ هُوَ مُخَالِفٌ لِصَرِيحِ مَا ذُكِرَ فِي عَامَّةِ الْكُتُبِ حَتَّى الْهِدَايَةِ وَالْبِدَايَةِ، فِيمَا سَيَأْتِي، وَهُوَ أَنَّهُ إِذَا ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى امْرَأَةٍ نِكَاحًا وَهِيَ تَجْحَدُ فَصَالَحَتْهُ عَلَى مَالٍ بَذَلَتْهُ حَتَّى يَتْرُكَ الدَّعْوَى جَازَ، فَكَأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْخُلْعِ. ثُمَّ أَقُولُ: تَوْجِيهُهُ: إِنَّ لِعَدَمِ الْجَوَازِ رِوَايَةً فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ بِخِلَافِهَا، وَالسُّؤَالُ الْمَزْبُورُ مِمَّا أَوْرَدَتْهُ الشَّافِعِيَّةُ فَهُمْ أَخَذُوا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَأَخَوَاتِهَا بِمَا هُوَ الْمُلَائِمُ لِغَرَضِهِمْ. وَالْحَنَفِيَّةُ أَجَابُوا عَنْهُ تَارَةً بِمَنْعِ عَدَمِ الْجَوَازِ فِي تِلْكَ الْمَسَائِلِ، وَأُخْرَى بِأَنَّ تَرْكَ الْعَمَلِ بِالْإِطْلَاقِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ لِمَانِعٍ لَا يَسْتَلْزِمُ تَرْكَهُ عِنْدَ عَدَمِهِ، فَصَاحِبُ الْعِنَايَةِ: اكْتَفَى بِالثَّانِي وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِلْمَنْعِ، وَأَمَّا صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ فَتَعْرَّضَ لَهُمَا مَعًا حَتَّى قَالَ فِي الْجَوَابِ هَاهُنَا: عَلَى أَنَّا نَمْنَعُ عَدَمَ جَوَازِ

ص: 406

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ مَعَ إِنْكَارٍ أَوْ سُكُوتٍ لِمَا رَوَيْنَا، وَهَذَا بِهَذِهِ الصِّفَةِ لِأَنَّ الْبَدَلَ كَانَ حَلَالًا عَلَى الدَّافِعِ حَرَامًا عَلَى الْآخِذِ، فَيَنْقَلِبُ الْأَمْرُ، وَلِأَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَدْفَعُ الْمَالَ لِقَطْعِ الْخُصُومَةِ وَهَذَا رِشْوَةٌ. وَلَنَا مَا تَلَوْنَا، وَأَوَّلُ مَا رَوَيْنَا وَتَأْوِيلُ آخِرِهِ أَحَلَّ حَرَامًا لِعَيْنِهِ كَالْخَمْرِ، أَوْ حَرَّمَ حَلَالًا لِعَيْنِهِ كَالصُّلْحِ عَلَى أَنْ لَا يَطَأَ الضَّرَّةَ

الصُّلْحِ فِي دَعْوَى النِّكَاحِ عَلَيْهَا إِذَا أَنْكَرَتْهُ فَصَالَحَتْ عَلَى مَالٍ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ. وَبِهِ صَرَّحَ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ: وَسَيَجِيءُ ذَلِكَ فِي فَصْلٍ عُقَيْبِ هَذَا، انْتَهَى.

وَقَالَ فِي ذَلِكَ الْفَصْلِ: وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ هُوَ ظَاهِرُ الْجَوَابِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ فِي مُخْتَصَرِ الْكَافِي وَشَرْحِهِ كَذَلِكَ. فَعَلَى هَذَا لَا يَرُدُّ عَلَيْنَا سُؤَالُ الشَّافِعِيَّةِ فِي مَسْأَلَةِ الصُّلْحِ عَلَى الْإِنْكَارِ بِقَوْلِهِمْ: إِذَا ادَّعَى عَلَى امْرَأَةٍ نِكَاحًا فَأَنْكَرَتْ فَصَالَحَتْ عَلَى مَالٍ لَا يَجُوزُ، وَلَئِنْ صَحَّتْ تِلْكَ الْمَسْأَلَةُ، كَمَا أَوْرَدُوهَا فِي نَسْخِ طَرِيقَةِ الْخِلَافِ. فَالْجَوَابُ عَنْهُ مَا مَرَّ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ، انْتَهَى.

(قَوْلُهُ: وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ مَعَ إِنْكَارٍ أَوْ سُكُوتٍ لِمَا رَوَيْنَا. . .) إِلَخْ. قُلْتُ: كَانَ الْأَظْهَرُ أَنْ يُقَالَ: لِآخِرِ مَا رَوَيْنَا لَا أَنَّ أَوَّلَهُ حُجَّةٌ عَلَيْهِ لَا لَهُ. (قَوْلُهُ: وَلَنَا مَا تَلَوْنَا وَأَوَّلُ مَا رَوَيْنَا. . .) إِلَخْ، كَرَّرَ ذِكْرَهُمَا تَأْكِيدًا وَتَوْطِئَةً لِقَوْلِهِ: وَتَأْوِيلُ آخِرِهِ. . . إِلَخْ. وَإِلَّا لَكَفَى هَاهُنَا بَيَانُ هَذَا التَّأْوِيلِ مَعَ بَيَانِ أَنَّ دَفْعَ الرِّشْوَةِ لِدَفْعِ الظُّلْمِ جَائِزٌ فِي الشَّرْحِ؛ لِأَنَّهُ بِصَدَدِ الْجَوَابِ عَمَّا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ وَالْجَوَابُ عَنْهُ يَتِمُّ بِبَيَانِهِمَا.

أَقُولُ: بَقِيَ هَاهُنَا إِشْكَالٌ فِي قَوْلِهِ: وَأَوَّلُ مَا رَوَيْنَا: وَهُوَ أَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ أَوَّلُ ذَلِكَ الْحَدِيثِ دَلِيلًا لَنَا مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ آخِرِهِ، وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّ آخِرَهُ مُسْتَثْنًى مِنْ أَوَّلِهِ. وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ الْمَذْهَبَ الصَّحِيحَ الْمُخْتَارَ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْحَنَفِيَّةِ فِي الِاسْتِثْنَاءِ أَنْ يَتَأَخَّرَ حُكْمُ صَدْرِ الْكَلَامِ عَنْ إِخْرَاجِ الْمُسْتَثْنَى مِنَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، فَلَا يَكُونُ لِأَوَّلِ الْكَلَامِ فِي صُورَةِ الِاسْتِثْنَاءِ حُكْمٌ مُسْتَقِلٌّ بِدُونِ آخِرِهِ، بَلْ لَا يَتِمُّ الْمَعْنَى إِلَّا بِمَجْمُوعِ الْمُسْتَثْنَى وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُوَجَّهَ بِأَنَّ قَوْلَهُ:" وَتَأْوِيلُ آخِرِهِ أَحَلَّ حَرَامًا لِعَيْنِهِ. . . " إِلَخْ، مُتَّصِلٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ: وَأَوَّلُ مَا رَوَيْنَا.

فَحَاصِلُ الْكَلَامِ أَنَّ لَنَا أَوَّلَ مَا رَوَيْنَاهُ مَعَ تَأْوِيلِ آخِرِهِ، فَالدَّلِيلُ مَجْمُوعُ الْحَدِيثِ بِمُلَاحَظَةِ هَذَا التَّأْوِيلِ، وَلَكِنَّ الْإِنْصَافَ أَنَّ لَفْظَةَ أَوَّلَ هَاهُنَا مَعَ كَوْنِهَا زَائِدَةً لَا فَائِدَةَ لَهَا مُوهِمَةٌ لِمَا يُخِلُّ بِالْكَلَامِ وَيَضُرُّ بِالْمَقَامِ، كَمَا نَبَّهَنَا عَلَيْهِ، فَالْأَوْلَى أَنْ تُطْرَحَ مِنَ الْبَيْنِ.

(قَوْلُهُ: وَتَأْوِيلُ آخِرهِ أَحَلَّ حَرَامًا لِعَيْنِهِ كَالْخَمْرِ أَوْ حَرَّمَ حَلَالًا لِعَيْنِهِ كَالصُّلْحِ عَلَى أَنْ لَا يَطَأُ الضَّرَّةَ) وَحَمْلُهُ عَلَى هَذَا أَحَقُّ؛ لِأَنَّ الْحَرَامَ الْمُطْلَقَ مَا هُوَ حَرَامٌ لِعَيْنِهِ، وَالْحَلَالُ

ص: 407

وَلِأَنَّ هَذَا صُلْحٌ بَعْدَ دَعْوَى صَحِيحَةٍ فَيُقْضَى بِجَوَازِهِ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ يَأْخُذُهُ عِوَضًا عَنْ حَقِّهِ فِي زَعْمِهِ وَهَذَا مَشْرُوعٌ، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَدْفَعُهُ لِدَفْعِ الْخُصُومَةِ عَنْ نَفْسِهِ وَهَذَا مَشْرُوعٌ أَيْضًا؛ إِذِ الْمَالُ وِقَايَةُ الْأَنْفُسِ وَدَفْعُ الرِّشْوَةِ لِدَفْعِ الظُّلْمِ أَمْرٌ جَائِزٌ.

الْمُطْلَقُ مَا هُوَ حَلَالٌ لِعَيْنِهِ، وَمَا ذَكَرَهُ غَيْرُ مُحْتَمَلٍ؛ إِذِ الصُّلْحُ مَعَ الْإِقْرَارِ لَا يَخْلُو عَنْ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ الصُّلْحَ يَقَعُ عَلَى بَعْضِ الْحَقِّ فِي الْعَادَةِ، فَمَا زَادَ عَلَى الْمَأْخُوذِ إِلَى تَمَامِ الْحَقِّ كَانَ حَلَالًا لِلْمُدَّعِي أَخْذُهُ قَبْلَ الصُّلْحِ وَحَرُمَ بِالصُّلْحِ، وَكَانَ حَرَامًا عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَنْعُهُ قَبْلَ الصُّلْحِ وَقَدْ حَلَّ بِالصُّلْحِ. كَذَا فِي الْكَافِي.

وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَحَلِّ: وَالْحَمْلُ عَلَى ذَلِكَ وَاجِبٌ؛ لِئَلَّا يَبْطُلَ الْعَمَلُ بِهِ أَصْلًا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَوْ حَمَلَ عَلَى الصُّلْحِ عَلَى الْإِقْرَارِ خَاصَّةً لَكَانَ كَالصُّلْحِ عَلَى غَيْرِهِ؛ لَأَنَّ الصُّلْحَ فِي الْعَادَةِ لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى بَعْضِ الْحَقِّ، فَمَا زَادَ عَلَى الْمَأْخُوذِ إِلَى تَمَامِ الْحَقِّ كَانَ حَلَالًا لِلْمُدَّعِي أَخْذَهُ قَبْلَ الصُّلْحِ، وَحَرُمَ بِالصُّلْحِ، وَكَانَ حَرَامًا عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَنَعُهُ قَبْلَهُ، وَحَلَّ بَعْدَهُ، فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَا كَانَ حَلَالًا أَوْ حَرَامًا لِعَيْنِهِ، انْتَهَى.

أَقُولُ: فِي تَقْرِيرِهِ خَلَلٌ؛ إِذْ لَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ حُمِلَ عَلَى الْإِقْرَارِ خَاصَّةً لَكَانَ كَالصُّلْحِ عَلَى غَيْرِهِ؛ لَأَنَّ الْكَلَامَ فِي حَمْلِ آخِرِ الْحَدِيثِ عَلَى الْحَرَامِ لِعَيْنِهِ وَالْحَلَالِ لِعَيْنِهِ خَاصَّةً، لَا فِي حَمْلِهِ عَلَى الصُّلْحِ عَلَى الْإِقْرَارِ خَاصَّةً؛ إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ الصُّلْحِ عَلَى الْإِقْرَارِ وَالصُّلْحِ عَلَى غَيْرِهِ فِي الصِّحَّةِ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يُحْمَلَ آخِرُ الْحَدِيثِ عَلَى الْحَرَامِ لِعَيْنِهِ وَالْحَلَالِ لِعَيْنِهِ خَاصَّةً، وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي عَدَمِ الصِّحَّةِ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَحْمِلَ آخِرَهُ عَلَى مَا يَعُمُّ الْحَرَامَ لِغَيْرِ عَيْنِهِ وَالْحَلَالَ لِغَيْرِ عَيْنِهِ أَيْضًا. فَمَدَارُ التَّأْوِيلِ وَالْحَمْلِ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ إِنَّمَا هُوَ لَفْظُ الْحَرَامِ وَالْحَلَالِ وَإِطْلَاقُهُ دُونَ لَفْظِ الصُّلْحِ. فَالْحَقُّ فِي التَّقْرِيرِ أَنْ يُقَالَ: لِأَنَّهُ لَوْ حُمِلَ عَلَى مَا يَعُمُّ الْحَرَامَ وَالْحَلَالَ لِعَيْنِهِمَا وَلِغَيْرِ عَيْنِهِمَا لَكَانَ الصُّلْحُ عَلَى الْإِقْرَارِ كَالصُّلْحِ عَلَى غَيْرِهِ فِي الِاشْتِمَالِ عَلَى إِحْلَالِ الْحَرَامِ وَتَحْرِيمِ الْحَلَالِ، ثُمَّ إِنَّ بَعْضَ الْفُضَلَاءِ أَوْرَدَ عَلَى قَوْلِهِ: لِأَنَّ الصُّلْحَ فِي الْعَادَةِ لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى بَعْضِ الْحَقِّ بِأَنْ قَالَ: هَذَا يَخْتَصُّ بِالدَّيْنِ لِظُهُورِ عَدَمِ جَرَيَانِهِ فِي الْعَيْنِ، فَلَا يَلْزَمُ بُطْلَانُ الْعَمَلِ بِهِ؛ إِذْ لَا يَجُوزُ الصُّلْحُ عَلَى بَعْضِ الْحَقِّ فِي الْعَيْنِ إِلَّا بِالْإِبْرَاءِ عَنْ دَعْوَى الْبَاقِي، كَمَا سَيَجِيءُ، انْتَهَى.

أَقُولُ: هَذَا كَلَامٌ خَالٍ عَنِ التَّحْصِيلِ؛ إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ جَوَازِ الصُّلْحِ عَلَى بَعْضِ الْحَقِّ فِي الْعَيْنِ إِلَّا بِالْإِبْرَاءِ عَنْ دَعْوَى الْبَاقِي عَدَمُ جَوَازِهِ عَلَى بَعْضِ الْحَقِّ فِي الْعَيْنِ أَصْلًا، غَايَةُ الْأَمْرِ أَنْ يَكُونَ جَوَازُ الصُّلْحِ عَلَى بَعْضِ الْحَقِّ فِي الْعَيْنِ مَشْرُوطًا بِالْإِبْرَاءِ عَنْ دَعْوَى الْبَاقِي، عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ أَيْضًا؛ إِذْ لِجَوَازِ الصُّلْحِ عَلَى بَعْضِ الْحَقِّ فِي الْعَيْنِ طَرِيقٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ يَزِيدَ دِرْهَمًا فِي بَدَلِ الصُّلْحِ، وَسَيَأْتِي كِلَا الطَّرِيقَيْنِ فِي الْكِتَابِ، وَعَلَى كِلَيْهِمَا يَجْرِي قَوْلُهُ: لِأَنَّ الصُّلْحَ فِي الْعَادَةِ لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى بَعْضِ الْحَقِّ فِي الْعَيْنِ أَيْضًا). (قَوْلُهُ: وَلِأَنَّ هَذَا صُلْحٌ بَعْدَ دَعْوَى صَحِيحَةٍ، فَيُقْضَى بِجَوَازِهِ، إِلَى قَوْلِهِ: وَدَفْعُ الرَّشْوَةِ لِدَفْعِ الظُّلْمِ أَمْرٌ جَائِزٌ)

هَذَا دَلِيلٌ عَقْلِيٌّ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَئِمَّتُنَا مِنْ جَوَازٍ الصُّلْحُ مَعَ إِنْكَارٍ أَوْ سُكُوتٍ أَيْضًا مُتَضَمِّنٌ لِلْجَوَابِ عَنْ دَلِيلٍ عَقْلِيٍّ لِلشَّافِعِيِّ مَذْكُورٌ فِيمَا قَبْلُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَلِأَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَدْفَعُ

ص: 408

قَالَ: (فَإِنْ وَقَعَ الصُّلْحُ عَنْ إِقْرَارٍ اعْتُبِرَ فِيهِ مَا يُعْتَبَرُ فِي الْبِيَاعَاتِ إِنْ وَقَعَ عَنْ مَالٍ بِمَالٍ) لِوُجُودِ مَعْنَى الْبَيْعِ، وَهُوَ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ فِي حَقِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ بِتَرَاضِيهِمَا (فَنُجْرِي فِيهِ الشُّفْعَةُ إِذَا كَانَ عَقَارًا، وَيُرَدُّ بِالْعَيْبِ، وَيَثْبُتُ فِيهِ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ وَالشَّرْطِ، وَيُفْسِدُهُ جَهَالَةُ الْبَدَلِ) لِأَنَّهَا هِيَ الْمُفْضِيَةُ إِلَى الْمُنَازَعَةِ دُونَ جَهَالَةِ الْمُصَالَحِ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ يَسْقُطُ وَيُشْتَرَطُ الْقُدْرَةُ عَلَى تَسْلِيمِ الْبَدَلِ (وَإِنْ وَقَعَ عَنْ مَالٍ بِمَنَافِعَ يُعْتَبَرُ بِالْإِجَارَاتِ) لِوُجُودِ مَعْنَى الْإِجَارَةِ وَهُوَ تَمْلِيكُ الْمَنَافِعِ بِمَالٍ وَالِاعْتِبَارُ فِي الْعُقُودِ لِمَعَانِيهَا

الْمَالَ لِقَطْعِ الْخُصُومَةِ، وَهَذَا رَشْوَةٌ. قَالَ الشُّرَّاحُ: لَا يُقَالُ: لَا نُسَلِّمُ جَوَازَ دَفْعِ الرَّشْوَةِ لِدَفْعِ الظُّلْمِ؛ لِأَنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «لَعَنَ اللَّهُ الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ» عَامٌّ. لِأَنَّا نَقُولُ: هَذَا الْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا كَانَ عَلَى صَاحِبِ الْحَقِّ ضَرَرٌ مَحْضٌ فِي أَمْرٍ غَيْرِ مَشْرُوعٍ، كَمَا إِذَا دَفَعَ الرَّشْوَةَ حَتَّى أَخْرَجَ الْوَالِي أَحَدَ الْوَرَثَةِ عَنِ الْإِرْثِ، وَأَمَّا إِذَا دَفَعَ الرَّشْوَةَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ فَجَائِزٌ لِلدَّافِعِ، انْتَهَى. وَاعْتَرَضَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ عَلَى الْجَوَابِ؛ حَيْثُ قَالَ فِيهِ: إِنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ عُمُومُ اللَّفْظِ وَمَا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا ذُكِرَ غَيْرُ مُجْرًى عَلَى عُمُومِهِ، انْتَهَى.

أَقُولُ: الدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا وَرَدَ مِنَ النُّصُوصِ فِي أَنَّ الضَّرُورَاتِ تُبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ، مِنْهَا قَوْله تَعَالَى:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} وَلَا شَكَّ أَنَّ فِي دَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ دَفْعَ الْحَرَجِ.

(قَوْلُهُ: فَإِنْ وَقَعَ الصُّلْحُ عَنْ إِقْرَارٍ اعْتُبِرَ فِيهِ مَا يُعْتَبَرُ فِي الْبِيَاعَاتِ إِنْ وَقْعَ عَنْ مَالٍ بِمَالٍ. . .) إِلَخْ، هَذَا لَفْظُ الْقُدُورِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ، وَلَمَّا كَانَ الْأَصْلُ أَنَّ الصُّلْحَ يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى أَقْرَبِ الْعُقُودِ إِلَيْهِ، كَمَا صَرَّحُوا بِهِ أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ ضَابِطَهُ يَعْرِفُ بِهَا أَنَّهُ عَلَى أَيِّ عَقْدٍ يَحْمِلُ.

أَقُولُ: لَيْسَتْ هَذِهِ الضَّابِطَةُ بِتَامَّةٍ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ عَنْ إِقْرَارٍ قَدْ يَقَعُ عَنْ مَنَافِعَ بِمَالٍ أَوْ بِمَنْفَعَةٍ، كَمَا إِذَا أَوْصَى لِرَجُلٍ بِسُكْنَى دَارِهِ سَنَةً، فَمَاتَ وَادَّعَى الْمُوصَى لَهُ السُّكْنَى فَصَالَحَهُ الْوَرَثَةُ عَنْ ذَلِكَ عَلَى دَرَاهِمَ مُعَيَّنَةٍ أَوْ عَلَى خِدْمَةِ عَبْدٍ شَهْرًا أَوْ عَلَى رُكُوبِ دَابَّةٍ شَهْرًا، فَإِنَّ كُلَّ ذَلِكَ جَائِزٌ عَلَى مَا صَرَّحُوا بِهِ فِي أَوَّلِ الْفَصْلِ الْآتِي مَعَ أَنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ فِي هَذِهِ الضَّابِطَةِ، وَإِنْ كَانَ فِي مَعْنَى عَقْدِ الْإِجَارَةِ، وَكَذَا يَقَعُ عَمَّا لَيْسَ بِمَالٍ وَلَا مَنْفَعَةٍَ كَالصُّلْحِ عَنْ جِنَايَةِ الْعَمْدِ فَإِنَّهُ جَائِزٌ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ النِّكَاحِ، حَتَّى أَنَّ مَا صَلَحَ مُسَمَّى فِيهِ صُلْحٌ هَاهُنَا أَيْضًا، كَمَا سَيَأْتِي فِي الْكِتَابِ، مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَذْكُورٍ أَيْضًا فِي هَاتِيكَ الضَّابِطَةِ، وَلَيْسَ فِي مَعْنَى عَقْدِ الْبَيْعِ وَلَا فِي مَعْنَى عَقْدِ الْإِجَارَةِ، بَلْ هُوَ

ص: 409

فَيُشْتَرَطُ التَّوْقِيتُ فِيهَا، وَيَبْطُلُ الصُّلْحُ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا فِي الْمُدَّةِ لِأَنَّهُ إِجَارَةٌ (وَالصُّلْحُ عَنِ السُّكُوتِ وَالْإِنْكَارِ فِي حَقِّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِافْتِدَاءِ الْيَمِينِ وَقَطْعِ الْخُصُومَةِ وَفِي حَقِّ الْمُدَّعَى بِمَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ) لِمَا بَيَّنَّا (وَيَجُوزُ أَنْ يَخْتَلِفَ حُكْمُ الْعَقْدِ فِي حَقِّهِمَا كَمَا يَخْتَلِفُ حُكْمُ الْإِقَالَةِ فِي حَقِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَغَيْرِهِمَا) وَهَذَا فِي الْإِنْكَارِ ظَاهِرٌ، وَكَذَا فِي السُّكُوتِ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الْإِقْرَارَ وَالْجُحُودَ، فَلَا يَثْبُتُ كَوْنُهُ عِوَضًا فِي حَقِّهِ بِالشَّكِّ.

قَالَ: (وَإِذَا صَالَحَ عَنْ دَارٍ لَمْ يَجِبْ فِيهَا الشُّفْعَةُ) مَعْنَاهُ إِذَا كَانَ عَنْ إِنْكَارٍ أَوْ سُكُوتٍ؛ لِأَنَّهُ يَأْخُذُهَا عَلَى أَصْلِ حَقِّهِ وَيَدْفَعُ الْمَالَ دَفْعًا لِخُصُومَةِ الْمُدَّعِي، وَزَعْمُ الْمُدَّعِي لَا يَلْزَمُهُ، بِخِلَافِ مَا إِذَا صَالَحَ عَلَى دَارٍ حَيْثُ يَجِبُ فِيهَا الشُّفْعَةُ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ يَأْخُذُهَا عِوَضًا عَنِ الْمَالِ فَكَانَ مُعَاوَضَةً فِي حَقِّهِ، فَتَلْزَمُهُ الشُّفْعَةُ بِإِقْرَارِهِ، وَإِنْ كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يُكَذِّبُهُ.

قَالَ: (وَإِذَا كَانَ الصُّلْحُ عَنْ إِقْرَارٍ وَاسْتَحَقَّ بَعْضَ الْمُصَالَحِ عَنْهُ رَجَعَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِحِصَّةٍ ذَلِكَ مِنَ الْعِوَضِ)؛ لِأَنَّهُ مُعَاوَضَةٌ مُطْلَقَةٌ كَالْبَيْعِ وَحُكْمِ الِاسْتِحْقَاقِ فِي الْبَيْعِ هَذَا

(وَإِنْ وَقَعَ الصُّلْحُ عَنْ سُكُوتٍ أَوْ إِنْكَارٍ فَاسْتَحَقَّ الْمُتَنَازَعَ فِيهِ رَجَعَ الْمُدَّعِي بِالْخُصُومَةِ وَرَدَّ الْعِوَضَ)؛ لِأَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَا بَذَلَ الْعِوَضَ إِلَّا لِيَدْفَعَ خُصُومَتَهُ عَنْ نَفْسِهِ، فَإِذَا ظَهَرَ الِاسْتِحْقَاقُ تَبَيَّنَ أَنْ لَا خُصُومَةَ لَهُ فَيَبْقَى الْعِوَضُ فِي يَدِهِ غَيْرَ مُشْتَمِلٍ عَلَى غَرَضِهِ فَيَسْتَرِدُّهُ،

فِي مَعْنَى عَقْدِ النِّكَاحِ، فَلَمْ يُفْهَمْ مِنَ الضَّابِطَةِ الْمَذْكُورَةِ قَطُّ، وَكَذَا يَقَعُ الصُّلْحُ عَنْ دَعْوَى الرِّقِّ بِمَالٍ فَيَكُونُ فِي مَعْنَى الْإِعْتَاقِ عَلَى مَالٍ وَعَنْ دَعْوَى الزَّوْجِ النِّكَاحِ بِمَالٍ فَيَكُونُ فِي مَعْنَى الْخَلْعِ، وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْهُمَا بِدَاخِلٍ أَيْضًا فِي الضَّابِطَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَلَا مَفْهُومٌ مِنْهَا أَصْلًا، فَكَانَتْ قَاصِرَةً عَنْ إِفَادَةِ تَمَّامِ الْمُرَادِ. لَا يُقَالُ: يُسْتَغْنَى عَنْ ذِكْرِ تِلْكَ الصُّوَرِ هَاهُنَا بِمَا ذُكِرَ فِي الْفَصْلِ الْآتِي عَنْ قَرِيبٍ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: قَدْ ذَكَرَ هُنَاكَ مَا ذَكَرَهُ هَاهُنَا أَيْضًا بِأَنْ قَالَ: وَالصُّلْحُ جَائِزٌ عَنْ دَعْوَى الْأَمْوَالِ وَالْمَنَافِعِ فَلَا يَتِمُّ الْعُذْرُ. ثُمَّ إِنَّ كَوْنَ الصُّلْحِ عَنْ إِقْرَارٍ فِي مَعْنَى الْبَيْعِ إِذَا وَقَعَ عَنْ مَالٍ بِمَالٍ إِنَّمَا هُوَ فِيمَا إِذَا وَقَعَ عَلَى خِلَافِ جِنْسِ الْمُدَّعَى، وَأَمَّا فِيمَا إِذَا وَقَعَ عَلَى جِنْسِهِ فَإِنْ كَانَ بِأَقَلَّ مِنَ الْمُدَّعَى فَهُوَ حَطٌّ وَإِبْرَاءٌ، وَإِنْ كَانَ بِمِثْلِهِ فَهُوَ قَبْضٌ وَاسْتِيفَاءٌ، وَإِنْ كَانَ بِأَكْثَرَ مِنْهُ فَهُوَ فَضْلٌ وَرِبًا، صَرَّحَ بِهِ فِي التَّبْيِينِ وَغَيْرِهِ.

(قَوْلُهُ: وَالصُّلْحُ عَنِ السُّكُوتِ وَالْإِنْكَارِ فِي حَقِّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِافْتِدَاءِ الْيَمِينِ وَقَطْعِ الْخُصُومَةِ، وَفِي حَقِّ الْمُدَّعِي بِمَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ لِمَا بَيَّنَّا. . .) إِلَخْ، أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ: لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ يَأْخُذُهُ عِوَضًا عَنْ حَقِّهِ فِي زَعْمِهِ. أَقُولُ: هَاهُنَا كَلَامٌ.

ص: 410

وَإِنِ اسْتَحَقَّ بَعْضَ ذَلِكَ رَدَّ حِصَّتَهُ وَرَجَعَ بِالْخُصُومَةِ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ خَلَا الْعِوَضُ فِي هَذَا الْقَدْرِ عَنِ الْغَرَضِ. وَلَوِ اسْتَحَقَّ الْمُصَالَحَ عَلَيْهِ عَنْ إِقْرَارٍ رَجَعَ بِكُلِ الْمُصَالَحِ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ مُبَادَلَةٌ، وَإِنِ اسْتَحَقَّ بَعْضَهُ رَجَعَ بِحِصَّتِهِ. وَإِنْ كَانَ الصُّلْحُ عَنْ إِنْكَارٍ أَوْ سُكُوتٍ رَجَعَ إِلَى الدَّعْوَى فِي كُلِّهِ أَوْ بِقَدْرِ الْمُسْتَحَقِّ إِذَا اسْتَحَقَّ بَعْضَهُ؛ لِأَنَّ الْمُبْدَلَ فِيهِ هُوَ الدَّعْوَى، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إِذَا بَاعَ مِنْهُ عَلَى الْإِنْكَارِ شَيْئًا حَيْثُ يَرْجِعُ بِالْمُدَّعَى؛ لِأَنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى الْبَيْعِ إِقْرَارٌ مِنْهُ بِالْحَقِّ لَهُ، وَلَا كَذَلِكَ الصُّلْحُ لِأَنَّهُ قَدْ يَقَعُ لِدَفْعِ الْخُصُومَةِ، وَلَوْ هَلَكَ بَدَلُ الصُّلْحِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ فَالْجَوَابُ فِيهِ كَالْجَوَابِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ فِي الْفَصْلَيْنِ.

قَالَ: (وَإِنِ ادَّعَى حَقًّا فِي دَارٍ وَلَمْ يُبَيِّنْهُ فَصُولِحَ مِنْ ذَلِكَ ثُمَّ اسْتَحَقَّ بَعْضَ الدَّارِ لَمْ يَرُدَّ شَيْئًا مِنِ الْعِوَضِ؛ لِأَنَّ دَعْوَاهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِيمَا بَقِيَ) بِخِلَافِ مَا إِذَا اسْتَحَقَّ كُلَّهُ؛ لِأَنَّهُ يَعْرَى الْعِوَضُ عِنْدَ ذَلِكَ عَنْ شَيْءٍ يُقَابِلُهُ فَيَرْجِعُ بِكُلِّهِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ فِي الْبُيُوعِ. وَلَوِ ادَّعَى دَارًا فَصَالَحَهُ عَلَى

وَهُوَ أَنَّ كَوْنَ الصُّلْحِ عَنِ السُّكُوتِ وَالْإِنْكَارِ فِي حَقِّ الْمُدَّعِي مُطْلَقًا بِمَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ مَمْنُوعٌ؛ فَإِنَّهُ إِذَا ادَّعَى عَيْنًا وَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَوْ سَكَتَ وَدَفَعَ الْمُدَّعِي إِلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ شَيْئًا بِطَرِيقِ الصُّلْحِ وَأَخَذَ الْعَيْنَ كَانَ ذَلِكَ الصُّلْحُ جَائِزًا عَلَى مَا صَرَّحُوا بِهِ، مَعَ أَنَّهُ فِي حَقِّ الْمُدَّعِي لَيْسَ بِمَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ؛ لِأَنَّ فِي زَعْمِ الْمُدَّعِي أَنَّ الْعَيْنَ الَّذِي ادَّعَاهُ حَقُّهُ، وَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يُعَاوِضَ إِنْسَانٌ مِلْكَ نَفْسِهِ بَلْ هُوَ

ص: 411

قِطْعَةٍ مِنْهَا لَمْ يَصِحَّ الصُّلْحُ لِأَنَّ مَا قَبَضَهُ مِنْ عَيْنِ حَقِّهِ وَهُوَ عَلَى دَعْوَاهُ فِي الْبَاقِي. وَالْوَجْهُ فِيهِ أَحَدُ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَزِيدَ دِرْهَمًا فِي بَدَلِ الصُّلْحِ فَيَصِيرَ ذَلِكَ عِوَضًا عَنْ حَقِّهِ فِيمَا بَقِيَ، أَوْ يَلْحَقَ بِهِ ذِكْرُ الْبَرَاءَةِ عَنْ دَعْوَى الْبَاقِي.

فِي حَقِّ الْمُدَّعِي فِي تِلْكَ الصُّورَةِ لِقَطْعِ الْخُصُومَةِ، كَمَا صَرَّحُوا بِهِ أَيْضًا. (قَوْلُهُ: أَوْ يَلْحَقَ بِهِ ذِكْرُ الْبَرَاءَةِ عَنْ دَعْوَى الْبَاقِي). قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ صُورَةُ الْبَرَاءَةِ؟ قُلْتُ: هِيَ أَنْ يَقُولَ: قَدْ بَرِئْتَ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ، أَوْ يَقُولَ: قَدْ بَرِئْتَ مِنْ دَعْوَايَ فِي هَذِهِ الدَّارِ، فَهَذَا جَائِزٌ، حَتَّى لَوِ ادَّعَى بَعْدَ ذَلِكَ وَجَاءَ بِبَيِّنَةٍ لَا تُقْبَلُ.

أَمَّا لَوْ قَالَ: أَبْرَأْتُكَ عَنْ هَذِهِ الدَّارِ، أَوْ قَالَ: قَدْ أَبْرَأْتُكَ عَنْ خُصُومَتِي فِي هَذِهِ الدَّارِ، فَهَذَا وَأَمْثَالُهُ بَاطِلٌ، وَلَهُ أَنْ يُخَاصِمَ فِيهَا بَعْدَ ذَلِكَ. وَفَرْقٌ بَيْنَ قَوْلِهِ: بَرِئْتَ، وَبَيْنَ قَوْلِهِ: أَبْرَأْتُكَ؛ فَإِنَّ فِي قَوْلِهِ: أَبْرَأْتُكَ إِنَّمَا أَبْرَأَهُ مِنْ ضَمَانِهِ لَا مِنَ الدَّعْوَى، وَعَنْ هَذَا قَالُوا: إِنَّ عَبْدًا فِي يَدِ رَجُلٍ لَوْ قَالَ لَهُ رَجُلٌ: بَرِئْتَ مِنْهُ، كَانَ بَرِيئًا مِنْهُ، وَلَوْ قَالَ:" أَبْرَأْتُكَ مِنْهُ "، كَانَ لَهُ أَنْ يَدَّعِيَهُ، وَإِنَّمَا أَبْرَأَهُ مِنْ ضَمَانِهِ، كَذَا فِي الذَّخِيرَةِ، إِلَى هَاهُنَا كَلَامُهُ.

أَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ: أَمَّا أَوَّلًا: فَلِأَنَّ بَيَانَ صُورَةِ الْبَرَاءَةِ بِقَوْلِهِ: بَرِئْتَ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ مَعَ كَوْنِهِ غَيْرَ مُطَابِقٍ لِلْمَشْرُوحِ وَهُوَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ: أَوْ يَلْحَقَ بِهِ ذِكْرُ الْبَرَاءَةِ عَنْ دَعْوَى الْبَاقِي، يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْبَرَاءَةِ مِنَ الْعَيْنِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَدَارَ عَدَمِ صِحَّةِ الصُّلْحِ عَنْ بَعْضِ الْمُدَّعَى فِي الْعَيْنِ بِدُونِ الْحِيلَةِ فِي تَصْحِيحِهِ بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ إِنَّمَا هُوَ عَدَمُ صِحَّةِ الْبَرَاءَةِ مِنَ الْعَيْنِ، وَإِلَّا لَصَحَّ الصُّلْحُ عَلَى ذَلِكَ، بِأَنْ كَانَ اسْتِيفَاءً لِبَعْضِ الْحَقِّ وَإِسْقَاطًا لِبَعْضِهِ الْبَاقِي، كَمَا فِي الصُّلْحِ عَلَى بَعْضِ الْمُدَّعَى فِي الدَّيْنِ، فَالصُّورَةُ الصَّحِيحَةُ الْمُطَابِقَةُ لِلْمَشْرُوحِ إِنَّمَا هُوَ قَوْلُهُ: بَرِئْتَ مِنْ دَعْوَايَ فِي هَذِهِ الدَّارِ.

وَأَمَا ثَانِيًا: فَلِأَنَّ قَوْلَهُ: فَإِنَّ فِي قَوْلِهِ: " أَبْرَأْتُكَ "، إِنَّمَا أَبْرَأَهُ مِنْ ضَمَانِهِ، لَا مِنَ الدَّعْوَى، إِنَّمَا يَتَمَشَّى فِي قَوْلِهِ: أَبْرَأْتُكَ عَنْ هَذِهِ الدَّارِ، لَا فِي قَوْلِهِ: أَبْرَأْتُكَ عَنْ خُصُومَتِي؛ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ مِنَ الْخُصُومَةِ هُوَ الْإِبْرَاءُ مِنَ الدَّعْوَى، وَقَدْ صَرَّحَ بِأَنَّ قَوْلَهُ: أَبْرَأَتُكَ عَنْ خُصُومَتِي فِي هَذِهِ الدَّارِ بَاطِلٌ أَيْضًا بِخِلَافِ مَا قَالُوا فِي عَبْدٍ فِي يَدِ رَجُلٍ؛ فَإِنَّ الْمَذْكُورَ هُنَاكَ فِي جَانِبِ الْإِبْرَاءِ إِنَّمَا هُوَ قَوْلُ الْآخَرِ: أَبْرَأْتُكَ مِنْهُ، لَا غَيْرَ، تَبَصَّرْ.

ص: 412

(فَصْلٌ)

(وَالصُّلْحُ جَائِزٌ عَنْ دَعْوَى الْأَمْوَالِ)

لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْبَيْعِ، عَلَى مَا مَرَّ. قَالَ:(وَالْمَنَافِعِ؛ لِأَنَّهَا تُمْلَكُ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ فَكَذَا بِالصُّلْحِ)

(فَصْلٌ)

لَمَّا فَرَغَ مِنْ مُقَدِّمَاتِ الصُّلْحِ، وَشَرَائِطِهِ وَأَنْوَاعِهِ شَرَعَ فِي بَيَانٍ مَا يَجُوزُ عَنْهُ الصُّلْحُ وَمَا لَا يَجُوزُ. (قَوْلُهُ: وَالصُّلْحُ جَائِزٌ عَنْ دَعْوَى الْأَمْوَالِ) هَذَا لَفْظُ الْقُدُورِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِهِ: (لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْبَيْعِ عَلَى مَا مَرَّ، أَقُولُ: هَاهُنَا شَيْءٌ، وَهُوَ أَنَّ قَوْلَ الْقُدُورِيِّ: وَالصُّلْحُ جَائِزٌ عَنْ دَعْوَى الْأَمْوَالِ مُطْلَقٌ يَتَنَاوَلُ الصُّلْحَ عَنْ مَالٍ بِمَالٍ وَالصُّلْحَ عَنْ مَالٍ بِمَنْفَعَةٍ، فَإِنْ أُجْرِيَ عَلَى إِطْلَاقِهِ، كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ لَمْ يَتِمَّ تَعْلِيلُ الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ: لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْبَيْعِ عَلَى مَا مَرَّ؛ لِظُهُورِ أَنَّ الصُّلْحَ عَنْ مَالٍ بِمَنْفَعَةٍ لَيْسَ فِي مَعْنَى الْبَيْعِ، بَلْ هُوَ فِي مَعْنَى الْإِجَارَةِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِيمَا مَرَّ، وَإِنْ قَيَّدَ بِمَا كَانَ عَنْ مَالٍ بِمَالٍ، كَمَا فَعَلَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ لَزِمَ أَنْ لَا يَنْدَرِجَ مَا كَانَ عَنْ مَالٍ بِمَنْفَعَةٍ فِي هَذَا الْفَصْلِ مَعَ أَنَّهُ مَعْقُودٌ لِبَيَانِ أَنْوَاعِ مَا يَجُوزُ عَنْهُ الصُّلْحُ وَمَا لَا يَجُوزُ، فَكَانَ تَقْصِيرًا مِنَ الْمُقَيِّدِ بِلَا ضَرُورَةٍ، لَا يُقَالُ: إِنَّمَا تَرَكَ ذَلِكَ النَّوْعَ فِي هَذَا الْفَصْلِ بِنَاءً عَلَى كَوْنِهِ مَعْلُومًا فِيمَا مَرَّ. لِأَنَّا نَقُولُ: يَنْتَقِضُ ذَلِكَ بِمَا كَانَ عَنْ مَالٍ بِمَالٍ؛ فَإِنَّهُ أَيْضًا كَانَ مَعْلُومًا فِيمَا مَرَّ.

(قَوْلُهُ: وَالْمَنَافِعِ) بِالْجَرِّ عَطْفٌ عَلَى الْأَمْوَالِ وَعَنْ دَعْوَى الْمَنَافِعِ، وَهُوَ مِنْ تَمَامِ لَفْظِ الْقُدُورِيِّ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ: فِي تَعْلِيلِهِ: (لِأَنَّهَا تُمْلَكُ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ، فَكَذَا بِالصُّلْحِ).

أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: يُشْكِلُ هَذَا التَّعْلِيلُ بِمَا ذَكَرَهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ عَلَاءُ الدِّينِ الإِسْبِيجَابِيُّ

ص: 413

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

فِي شَرْحِ الْكَافِي لِلْحَاكِمِ الشَّهِيدِ فِي بَابِ الصُّلْحِ فِي الْوَصَايَا؛ حَيْثُ قَالَ: وَإِذَا أَوْصَى الرَّجُلُ لِرَجُلٍ بِخِدْمَةِ عَبْدِهِ سَنَةً وَهُوَ يَخْرُجُ مِنْ ثُلْثِهِ فَصَالَحَهُ الْوَارِثُ مِنْ خِدْمَتِهِ عَلَى دَرَاهِمَ أَوْ عَلَى سُكْنَى بَيْتٍ، أَوْ عَلَى خِدْمَةِ عَبْدٍ آخَرَ، أَوْ عَلَى رُكُوبِ دَابَّةٍ، أَوْ عَلَى لُبْسِ ثَوْبٍ شَهْرًا فَهُوَ جَائِزٌ وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْمُوصَى لَهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْتَعِيرِ وَالْمُسْتَعِيرِ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَمْلِيكِ الْمَنْفَعَةِ مِنْ أَحَدٍ بِبَدَلٍ، وَلِهَذَا لَوْ آجَرَ مِنْهُمْ لَا يَصِحُّ، إِلَّا أَنَّا نَقُولُ: لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِتَمْلِيكِ إِيَّاهُمْ بِبَدَلٍ، بَلْ هُوَ إِسْقَاطُ حَقِّهِ الَّذِي وَجَبَ لَهُ بِعَقْدِ الْوَصِيَّةِ بِبَدَلٍ، وَلَفْظَةُ الصُّلْحِ لِفَظَّةٌ تَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ وَتَحْتَمِلُ الْإِسْقَاطَ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ تَصْحِيحُهُ تَمْلِيكًا أَمْكَنَ تَصْحِيحُهُ إِسْقَاطًا فَصَحَّحْنَاهُ إِسْقَاطًا، وَهُوَ حَقٌّ مُعْتَبَرٌ يُوَازِي الْمِلْكَ فَاحْتَمَلَ التَّقْوِيمَ بِالشَّرْطِ، إِلَى هُنَا كَلَامُهُ.

فَإِنَّ الْمُوصَى لَهُ إِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى تَمْلِيكِ الْمَنْفَعَةِ الْمُوصَى بِهَا مِنْ أَحَدٍ لَمْ يَصِحَّ تَعْلِيلُ جَوَازِ الصُّلْحِ عَنْ تِلْكَ الْمَنْفَعَةِ بِأَنَّ الْمَنَافِعَ تُمْلَكُ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ فَكَذَا بِالصُّلْحِ، ثُمَّ أَقُولُ: يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْمُوصَى لَهُ وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى تَمْلِيكِهِ الْمَنْفَعَةَ الْمُوصَى بِهَا حَقِيقَةً إِلَّا أَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى تَمْلِيكِهَا حُكْمًا مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى إِسْقَاطِهَا بِبَدَلٍ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ الْإِمَامُ الْإِسْبِيجَابِيُّ بِقَوْلِهِ: وَهُوَ حَقٌّ مُعْتَبَرٌ يُوَازِي الْمِلْكَ فَاحْتَمَلَ التَّقْوِيمَ، فَمَعْنَى تَعْلِيلِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ جِنْسَ الْمَنَافِعِ يُمْلَكُ حَقِيقَةً بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ، كَمَا إِذَا آجَرَ مِلْكَهُ، فَكَذَا يُمْلَكُ حُكْمًا بِالصُّلْحِ، كَمَا إِذَا صَالَحَ عَنِ الْمَنْفَعَةِ الْمُوصَى بِهَا، فَعَلَى هَذَا يَحْصُلُ التَّوْفِيقُ بَيْنَ كَلَامَيْ الشَّيْخَيْنِ.

قَالَ الْإِمَامُ النَّسَفِيُّ فِي الْكَافِي: الصُّلْحُ جَائِزٌ عَنْ دَعْوَى الْمَنَافِعِ بِأَنِ ادَّعَى فِي دَارٍ سُكْنَى سَنَةً وَصِيَّةً مِنْ رَبِّ الدَّارِ، فَجَحَدَهُ أَوْ أَقَرَّ بِهِ فَصَالَحَهُ الْوَارِثُ عَلَى شَيْءٍ جَازَ؛ لِأَنَّهُ جَازَ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهَا بِالْإِجَارَةِ فَكَذَا بِالصُّلْحِ، انْتَهَى. وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ بَعْدَ نَقْلِ هَذَا: وَنَقَلَ مَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ الْإِسْبِيجَابِىُّ فِي شَرْحِ الْكَافِي لِلْحَاكِمِ الشَّهِيدِ عَلَى مَا مَرَّ، وَأَنْتَ خَبِيرٌ بِمَا بَيْنَ مَا نَقَلَ مِنَ الإسبيجابي وَالْكَافِي مِنَ الْمُخَالَفَةِ، وَلَعَلَّ فِي جَوَازِ الْإِجَارَةِ رِوَايَتَيْنِ، فَلْيَتَأَمَّلْ، انْتَهَى.

أَقُولُ: الْمُخَالَفَةُ بَيْنَهُمَا فِي الْفَهْمِ لَا فِي الْمُفْهِمِ؛ لِأَنَّ مُرَادَ صَاحِبِ الْكَافِي هُوَ أَنَّهُ جَازَ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْ جِنْسِ الْمَنَافِعِ بِالْإِجَارَةِ، كَمَا إِذَا آجَرَ مِلْكَهُ، فَكَذَا جَازَ أَخْذُ الْعِوَضِ بِالصُّلْحِ، كَمَا إِذَا صَالَحَ عَنِ الْمَنْفَعَةِ الْمُوصَى بِهَا كَسُكْنَى دَارٍ سَنَةً مَثَلًا، وَلَيْسَ مُرَادُهُ أَنَّهُ كَمَا جَازَ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْ مَنْفَعَةٍ مُعَيَّنَةٍ، هِيَ سُكْنَى دَارٍ مَثَلًا وَصِيَّةً مِنْ رَبِّ الدَّارِ بِالْإِجَارَةِ، كَذَلِكَ جَازَ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْ تِلْكَ الْمَنْفَعَةِ بِالصُّلْحِ عَنْهَا حَتَّى تَلْزَمَ الْمُخَالَفَةُ، ثُمَّ أَقُولُ: بَقِيَ هَاهُنَا كَلَامٌ، وَهُوَ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ الْإِسْبِيجَابِيُّ فِي شَرْحِ الْكَافِي مِنْ أَنَّهُ إِذَا أَوْصَى الرَّجُلُ لِرَجُلٍ بِخِدْمَةِ عَبْدٍ سَنَةً وَهُوَ يَخْرُجُ مِنْ ثُلْثِهِ فَصَالَحَهُ الْوَارِثُ مِنْ خَدَمْتِهِ عَلَى دَرَاهِمَ أَوْ عَلَى سُكْنَى بَيْتٍ أَوْ عَلَى خِدْمَةِ عَبْدٍ آخَرَ أَوْ عَلَى رُكُوبِ دَابَّةٍ أَوْ عَلَى لُبْسِ ثَوْبٍ شَهْرًا فَهُوَ جَائِزٌ، وَمَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ نَقْلًا عَنِ الْمُغْنِي مِنْ أَنَّهُ إِذَا أَوْصَى الرَّجُلُ لِرَجُلٍ

ص: 414

وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ الصُّلْحَ يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى أَقْرَبِ الْعُقُودِ إِلَيْهِ وَأَشْبَهِهَا بِهِ احْتِيَالًا لِتَصْحِيحِ تَصَرُّفِ الْعَاقِدِ مَا أَمْكَنَ

قَالَ: (وَيَصِحُّ عَنْ جِنَايَةِ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ) أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ} ، الْآيَةَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي الصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ النِّكَاحِ، حَتَّى أَنَّ مَا صَلَحَ مُسَمًّى فِيهِ صَلَحَ هَاهُنَا إِذْ كُلُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِغَيْرِ الْمَالِ إِلَّا أَنَّ عِنْدَ فَسَادِ التَّسْمِيَةِ هُنَا يُصَارُ إِلَى الدِّيَةِ؛ لِأَنَّهَا مُوجَبُ الدَّمِ. وَلَوْ صَالَحَ عَلَى خَمْرٍ لَا يَجِبُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ بِمُطْلَقِ الْعَفْوِ.

بِخِدْمَةِ عَبْدٍ سَنَةً وَهُوَ يَخْرُجُ مِنْ ثُلْثِ مَالِهِ فَصَالَحَهُ الْوَارِثُ مِنِ الْخِدْمَةِ عَلَى دَرَاهِمَ جَازَ، وَكَذَلِكَ لَوْ صَالَحَهُ عَلَى خِدْمَةِ عَبْدٍ آخَرَ يَجُوزُ أَيْضًا، وَكَذَلِكَ لَوْ صَالَحَهُ عَلَى رُكُوبِ دَابَّةٍ شَهْرًا، وَلُبْسِ ثَوْبٍ شَهْرًا فَهُوَ جَائِزٌ، انْتَهَى مُخَالِفٌ لِمَا ذُكِرَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْكُتُبِ الْمُعْتَبَرَةِ؛ فَإِنَّ مَدْلُولَهُمَا جَوَازُ الصُّلْحِ عَنِ الْمَنْفَعَةِ وَإِنِ اتَّحَدَ جِنْسُ الْمَنْفَعَتَيْنِ مِنْ حَيْثُ جُوِّزَ فِيهِمَا مُصَالَحَةُ الْوَارِثِ عَنْ خِدْمَةِ عَبْدٍ عَلَى خِدْمَةِ عَبْدٍ آخَرَ، وَالْمُصَرَّحُ بِهِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمُعْتَبَرَاتِ عَدَمُ جَوَازِ الصُّلْحِ عِنْدَ اتِّحَادِ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ.

قَالَ فِي الْبَدَائِعِ: فَإِنْ كَانَ الْمَنْفَعَتَانِ مِنْ جِنْسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، كَمَا إِذَا صَالَحَ مِنْ سُكْنَى دَارٍ عَلَى خِدْمَةِ عَبْدٍ يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ كَانَتَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا، وَمَوْضِعُ الْمَسْأَلَةِ كِتَابُ الْإِجَارَاتِ، وَإِذَا اعْتُبِرَ الصُّلْحُ عَلَى الْمَنَافِعِ إِجَارَةً يَصِحُّ بِمَا يَصِحُّ بِهِ الْإِجَارَاتُ، وَيَفْسُدُ بِمَا يَفْسُدُ بِهِ، انْتَهَى.

وَقَالَ فِي التَّبْيِينِ: إِنَّمَا يَجُوزُ عَنِ الْمَنَافِعِ عَلَى الْمَنْفَعَةِ إِذَا كَانَتَا مُخْتَلِفَتَيِ الْجِنْسِ، وَإِنْ كَانَتَا مُتَّفِقَتَيْنِ بِأَنْ يُصَالِحَ عَنِ السُّكْنَى عَلَى السُّكْنَى، أَوْ عَنِ الزِّرَاعَةِ عَلَى الزِّرَاعَةِ فَلَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الْمَنْفَعَةِ بِجِنْسِهَا فَكَذَا الصُّلْحُ. وَعِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ يَجُوزُ اسْتِئْجَارُهَا بِالْمَنْفَعَةِ فَكَذَا الصُّلْحُ، انْتَهَى إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمُعْتَبَرَاتِ، فَتَدَبَّرْ.

(قَوْلُهُ: وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ الصُّلْحَ يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى أَقْرَبِ الْعُقُودِ إِلَيْهِ وَأَشْبَهَهَا بِهِ احْتِيَالًا لِتَصْحِيحِ تَصَرُّفِ الْعَاقِلِ مَا أَمْكَنَ).

أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: قَدْ يَقَعُ الصُّلْحُ عَلَى مُجَرَّدِ تَرْكِ الدَّعْوَى مِنَ الْجَانِبَيْنِ وَيَجُوزُ، كَمَا صَرَّحُوا بِهِ، فَإِمْكَانُ حَمْلِ مِثْلِهِ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْعُقُودِ غَيْرُ ظَاهِرٍ سِيَّمَا إِذَا وَقَعَ عَلَى تَرْكِ دَعْوَى جِنَايَةِ الْعُمَدِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، فَتَأَمَّلْ.

(قَوْلُهُ: وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ النِّكَاحِ حَتَّى أَنَّ مَا صَلَحَ مُسَمَّى فِيهِ صُلْحٌ هَاهُنَا؛ إِذْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِغَيْرِ الْمَالِ)

ص: 415

وَفِي النِّكَاحِ يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ فِي الْفَصْلَيْنِ؛ لِأَنَّهُ الْمُوجَبُ الْأَصْلِيُّ، وَيَجِبُ مَعَ السُّكُوتِ عَنْهُ حُكْمًا، وَيَدْخُلُ فِي إِطْلَاقِ جَوَابِ الْكِتَابِ الْجِنَايَةُ فِي النَّفْسِ وَمَا دُونَهَا، وَهَذَا بِخِلَافِ الصُّلْحِ عَنْ حَقِ الشُّفْعَةِ عَلَى مَالٍ حَيْثُ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ حَقُّ التَّمَلُّكِ، وَلَا حَقَّ فِي الْمَحَلِّ قَبْلَ التَّمَلُّكِ.

وَأَمَّا الْقِصَاصُ فَمِلْكُ الْمَحَلِّ فِي حَقِّ الْفِعْلِ فَيَصِحُّ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ، وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ الصُّلْحُ تَبْطُلُ الشُّفْعَةُ؛ لِأَنَّهَا تَبْطُلُ بِالْإِعْرَاضِ وَالسُّكُوتِ، وَالْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ بِمَنْزِلَةِ حَقِ الشُّفْعَةِ حَتَّى لَا يَجِبَ الْمَالُ بِالصُّلْحِ عَنْهُ، غَيْرَ أَنَّ فِي بُطْلَانِ الْكَفَالَةِ رِوَايَتَيْنِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ.

قَالَ الشُّرَّاحُ فِي شَرْحِ قَوْلِهِ: إِنَّ مَا صَالَحَ مُسَمَّى فِيهِ صُلْحٌ هَاهُنَا، وَلَا يَنْعَكِسُ هَذَا، أَيْ: لَا يُقَالُ: كُلُّ مَا يَصْلُحُ بَدَلًا فِي الصُّلْحِ يَصْلُحُ مُسَمًّى فِي النِّكَاحِ؛ فَإِنَّ هَذَا الْعَكْسَ غَيْرُ لَازِمٍ وَلَا مُلْتَزَمٍ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ عَلَى أَقَلِّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ صَحِيحٌ، وَإِنْ لَمْ يَصْلُحْ مَا دُونُ الْعَشْرَةِ صَدَاقًا، وَلِأَنَّهُ لَوْ صَالَحَ مَنْ عَلَيْهِ الْقَصَاصَ عَلَى أَنْ يَعْفُوَ عَنْ قَصَاصٍ لَهُ عَلَى آخَرَ جَازَ، وَإِنْ لَمْ يَصْلُحِ الْعَفْوُ عَنِ الْقَصَاصِ صَدَاقًا؛ لِأَنَّ كَوْنَ الصَّدَاقِ مَالًا مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} ، وَبَدَلُ الصُّلْحِ فِي الْقَصَاصِ لَيْسَ كَذَلِكَ، فَيُكْتَفَى بِكَوْنِ الْعِوَضِ فِيهِ مُتَقَوَّمًا، وَالْقَصَاصُ مُتَقَوَّمٌ حَتَّى صَلَحَ الْمَالُ عِوَضًا عَنْهُ، فَيَجُوزُ أَنْ يَقَعَ عِوَضًا عَنْ قَصَاصٍ آخَرَ، انْتَهَى كَلَامُهُمْ.

أَقُولُ: هُنَا إِشْكَالٌ وَهُوَ أَنَّهُ إِذَا صَحَّ أَنْ يَكُونَ بَدَلُ الصُّلْحِ فِي جِنَايَةِ الْعَمْدِ مَا لَيْسَ بِمَالٍ كَالْعَفْوِ عَنِ الْقَصَاصِ لَزِمَ أَنْ لَا يَصِحَّ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ؛ إِذْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِغَيْرِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ عَنْ جِنَايَةِ الْعَمْدِ فِي صُورَةِ أَنْ صَالَحَ مَنْ صَالَحَ مَنْ عَلَيْهِ الْقَصَاصُ عَلَى الْعَفْوِ عَنْ قَصَاصٍ لَهُ عَلَى آخَرَ لَيْسَ بِمُبَادَلَةِ الْمَالِ بِغَيْرِ الْمَالِ بَلْ هُوَ هُنَاكَ مُبَادَلَةُ غَيْرِ الْمَالِ بِغَيْرِ الْمَالِ، كَمَا لَا يَخْفَى.

وَقَالَ الشُّرَّاحُ تَفْرِيعًا عَلَى قَوْلِ الْمُصَنِّفِ: حَتَّى أَنَّ مَا صَلَحَ مُسَمَّى فِيهِ صُلْحٌ هَاهُنَا، فَلَوْ صَالَحَ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ عَلَى سُكْنَى دَارٍ أَوْ خِدْمَةِ عَبْدٍ سَنَةً جَازَ؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ الْمَعْلُومَةَ صَلَحَتْ صَدَاقًا فَكَذَا بَدَلًا فِي الصُّلْحِ، وَلَوْ صَالَحَهُ عَلَى ذَلِكَ أَبَدًا

ص: 416

وَأَمَّا الثَّانِي وَهُوَ جِنَايَةُ الْخَطَأِ فَلِأَنَّ مُوجِبَهَا الْمَالُ، فَيَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ، إِلَّا أَنَّهُ لَا تَصِحُّ الزِّيَادَةُ عَلَى قَدْرِ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّهُ مُقَدَّرٌ شَرْعًا، فَلَا يَجُوزُ إِبْطَالُهُ فَتُرَدُّ الزِّيَادَةُ، بِخِلَافِ الصُّلْحِ عَنِ الْقِصَاصِ حَيْثُ تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى قَدْرِ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ لَيْسَ بِمَالٍ وَإِنَّمَا يَتَقَوَّمُ بِالْعَقْدِ، وَهَذَا إِذَا صَالَحَ عَلَى أَحَدِ مَقَادِيرِ الدِّيَةِ، أَمَّا إِذَا صَالَحَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ جَازَ لِأَنَّهُ مُبَادَلَةٌ بِهَا، إِلَّا أَنَّهُ يُشْتَرَطُ الْقَبْضُ فِي الْمَجْلِسِ كَيْ لَا يَكُونَ افْتِرَاقًا عَنْ دَيْنٍ بِدَيْنٍ. وَلَوْ قَضَى الْقَاضِي بِأَحَدِ مَقَادِيرِهَا فَصَالَحَ عَلَى جِنْسٍ آخَرَ مِنْهَا بِالزِّيَادَةِ جَازَ؛ لِأَنَّهُ تَعَيَّنَ الْحَقُّ بِالْقَضَاءِ فَكَانَ مُبَادَلَةً، بِخِلَافِ الصُّلْحِ ابْتِدَاءً؛ لِأَنَّ تَرَاضِيَهُمَا عَلَى بَعْضِ الْمَقَادِيرِ بِمَنْزِلَةِ الْقَضَاءِ فِي حَقِّ التَّعْيِينِ فَلَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى مَا تَعَيَّنَ.

أَوْ عَلَى مَا فِي بَطْنِ أَمَتِهِ أَوْ عَلَى غَلَّةِ نَخْلِهِ سِنِينَ مَعْلُومَةً لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصْلُحْ صَدَاقًا، فَكَذَا بَدَلًا فِي الصُّلْحِ، انْتَهَى.

أَقُولُ: فِيهِ بَحْثٌ؛ لِأَنَّ تَعْلِيلَهُمْ عَدَمَ جَوَازِ الصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ عَلَى الْأَشْيَاءِ الْمَذْكُورَةِ بِقَوْلِهِمْ: لِأَنَّهُ لَمْ يَصْلُحْ صَدَاقًا، فَكَذَا بَدَلًا فِي الصُّلْحِ، يُنَافِي قَوْلَهُمْ بِأَنَّ الْعَكْسَ هَاهُنَا غَيْرُ لَازِمٍ وَلَا مُلْتَزَمٍ؛ فَإِنَّ صِحَّةَ التَّعْلِيلِ بِمَا ذَكَرُوا يُبْتَنَى عَلَى لُزُومِ الْعَكْسِ وَالْتِزَامِهِ. فَالصَّوَابُ تَعْلِيلُ عَدَمِ جَوَازِ الصُّلْحِ فِي تِلْكَ الصُّوَرِ بِجَهَالَةِ الْمَصَالَحِ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ؛ لِئَلَّا يَصْلُحَ صَدَاقًا فَإِنَّ جَهَالَتَهُ تُفْسِدُ الصُّلْحَ فِيمَا احْتِيجَ فِيهِ إِلَى التَّسْلِيمِ وَالتَّسَلُّمِ، كَمَا تَقَرَّرَ فِيمَا مَرَّ.

وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ فِي حَاشِيَتِهِ عَنْ قَوْلِ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ: وَلَا يُتَوَهَّمُ لُزُومُ الْعَكْسِ؛ فَإِنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ وَلَا مُلْتَزَمٍ، لَكِنْ قَالَ فِي الْمُحِيطِ: إِذَا صَالَحَهُ عَلَى وَصَيْفٍ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ فَهُوَ جَائِزٌ، وَالْأَصْلُ فِي جِنْسِ شَرْعِ الْمَسَائِلِ أَنَّ مَا صَلَحَ مَهْرًا فِي النِّكَاحِ صَلَحَ بَدَلًا فِي الصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ وَمَا لَا فَلَا، وَالْوَصِيفُ يَصْلُحُ مَهْرًا فِي النِّكَاحِ وَيَصْرِفُ مُطْلَقَهُ إِلَى الْوَسَطِ فَكَذَا يَصْلُحُ بَدَلًا فِي الصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ، وَمُطَلَقُهُ يَنْصَرِفُ إِلَى الْوَسَطِ، انْتَهَى.

وَالْمَقْصُودُ قَوْلُهُ: وَمَا لَا فَلَا، فَلْيَتَأَمَّلْ، فَإِنَّ فِيهِ مُخَالَفَةً أُخْرَى لِقَوْلِهِ عِنْدَ فَسَادِ التَّسْمِيَةِ: يُصَارُ إِلَى الدِّيَةِ، إِلَى هُنَا كَلَامُ ذَلِكَ الْبَعْضِ.

أَقُولُ: لَا مُخَالَفَةَ فِيهِ لِقَوْلِهِ عِنْدَ فَسَادِ التَّسْمِيَةِ: يُصَارُ إِلَى الدِّيَةِ؛ إِذْ لَا فَسَادَ فِي التَّسْمِيَةِ فِيمَا قَالَهُ صَاحِبُ الْمُحِيطِ؛ لِأَنَّ فَسَادَ التَّسْمِيَةِ بِجَهَالَةٍ فَاحِشَةٍ وَلَيْسَ فِي الْوَصِيفِ جَهَالَةٌ فَاحِشَةٌ سِيَّمَا إِذَا انْصَرَفَ مُطَلَقُهُ إِلَى الْوَسَطِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ، وَلِهَذَا يَصْلُحُ مَهْرًا فِي النِّكَاحِ، وَهَذَا أَمْرٌ لَا سُتْرَةَ بِهِ.

(قَوْلُهُ: وَأَمَّا الثَّانِي وَهُوَ جِنَايَةُ الْخَطَأِ فَلِأَنَّ مُوجِبَهَا الْمَالُ، فَيَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ).

أَقُولُ: فِيهِ شَيْءٌ وَهُوَ أَنَّهُمْ صَرَّحُوا بِأَنَّ الصُّلْحَ إِذَا كَانَ عَلَى جِنْسِ مَا اسْتَحَقَّهُ

ص: 417

قَالَ: (وَلَا يَجُوزُ عَنْ دَعْوَى حَدِّ) لِأَنَّهُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى لَا حَقُّهُ، وَلَا يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ عَنْ حَقِّ غَيْرِهِ، وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ إِذَا ادَّعَتِ الْمَرْأَةُ نَسَبَ وَلَدِهَا؛ لِأَنَّهُ حَقُّ الْوَلَدِ لَا حَقُّهَا، وَكَذَا لَا يَجُوزُ الصُّلْحُ عَمَّا أَشْرَعَهُ إِلَى طَرِيقِ الْعَامَّةِ؛ لِأَنَّهُ حَقُّ الْعَامَّةِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُصَالَحَ وَاحِدٌ عَلَى الِانْفِرَادِ عَنْهُ؛ وَيَدْخُلُ فِي إِطْلَاقِ الْجَوَابِ حَدُّ الْقَذْفِ؛ لِأَنَّ الْمُغَلَّبَ فِيهِ حَقُّ الشَّرْعِ.

قَالَ: (وَإِذَا ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى امْرَأَةٍ نِكَاحًا وَهِيَ تَجْحَدُ فَصَالَحَتْهُ عَلَى مَالٍ بَذَلَتْهُ حَتَّى يَتْرُكَ الدَّعْوَى جَازَ، وَكَانَ فِي مَعْنَى الْخُلْعِ)؛ لِأَنَّهُ أَمْكَنَ تَصْحِيحُهُ خُلْعًا فِي جَانِبِهِ بِنَاءً عَلَى زَعْمِهِ، وَفِي جَانِبِهَا بَدَلًا لِلْمَالِ لِدَفْعِ الْخُصُومَةِ. قَالُوا: وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى إِذَا كَانَ مُبْطِلًا فِي دَعْوَاهُ.

قَالَ (وَإِذَا ادَّعَتِ امْرَأَةٌ عَلَى رَجُلٍ نِكَاحًا فَصَالَحَهَا عَلَى مَالٍ بَذَلَهُ لَهَا جَازَ) قَالَ رضي الله عنه: هَكَذَا ذُكِرَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْمُخْتَصَرِ، وَفِي بَعْضِهَا قَالَ: لَمْ يَجُزْ. وَجْهُ الْأَوَّلِ أَنْ يَجْعَلَ زِيَادَةً فِي مَهْرِهَا. وَجْهُ الثَّانِي أَنَّهُ بَذَلَ لَهَا الْمَالَ لِتَتْرُكَ الدَّعْوَى

الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَمْ يُحْمَلْ عَلَى الْمُعَاوَضَةِ وَإِنَّمَا يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ اسْتَوْفَى بَعْضَ حَقِّهِ وَأَسْقَطَ بَاقِيَهُ، وَسَيَأْتِي ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ أَيْضًا فِي بَابِ الصُّلْحِ فِي الدَّيْنِ.

وَلَا يَخْفَى أَنَّ الصُّلْحَ عَنْ جِنَايَةِ الْخَطَأِ إِذَا كَانَ عَلَى أَحَدِ مَقَادِيرُ الدِّيَةَ مُطْلَقًا قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ الْقَاضِي بِأَحَدٍ مِنْهَا بِعَيْنِهِ أَوْ كَانَ عَلَى جِنْسِ مَا قَضَى الْقَاضِي بِهِ بَعْدَ أَنْ قَضَى بِأَحَدِ مَقَادِيرِهَا بِعَيْنِهِ كَانَ مِنْ ذَلِكَ الْقَبِيلِ فَلَمْ يَتِمَّ إِطْلَاقُ قَوْلِهِ: فَيَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ، فَتَأَمَّلْ.

(قَوْلُهُ: وَجْهُ الْأَوَّلِ أَنْ يَجْعَلَ زِيَادَةً فِي مَهْرِهَا)، أَيْ: أَنْ يَجْعَلَ كَأَنَّهُ زَادَ فِي مَهْرِهَا، ثُمَّ خَالَعَهَا عَلَى أَصْلِ الْمَهْرِ دُونَ الزِّيَادَةِ، فَسَقَطَ الْأَصْلُ دُونَ الزِّيَادَةِ، كَذَا فِي الْكَافِي وَكَثِيرٍ مِنَ الشُّرُوحِ.

قَالَ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ: وَفِيهِ نَظَرُ عِنْدِي؛ لِأَنَّهُ ضَعِيفٌ جِدًّا؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي دَعْوَاهَا النِّكَاحُ وَصُلْحُ الرَّجُلِ عَنْهُ عَلَى مَالٍ، وَالصُّلْحُ عَنْ نِكَاحٍ عَلَى مَالٍ عِبَارَةٌ عَنْ تَرْكِ النِّكَاحِ بِمَالٍ، فَكَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ زِيَادَةً فِي الْمَهْرِ، اهـ.

أَقُولُ: هَذَا كَلَامٌ خَالٍ عَنِ التَّحْصِيلِ، فَإِنَّ كَوْنَ الصُّلْحِ عَنِ النِّكَاحِ عَلَى مَالٍ عِبَارَةٌ عَنْ تَرْكِ النِّكَاحِ بِمَالٍ لَا يُنَافِي كَوْنَ ذَلِكَ زِيَادَةً فِي الْمَهْرِ، بَلْ يَقْتَضِيهِ؛ لِأَنَّ تَرْكَ النِّكَاحِ بِلَا فُرْقَةٍ مِمَّا لَا يُتَصَوَّرُ شَرْعًا، فَلَا بُدَّ أَنْ يَجْعَلَ تَرْكَ النِّكَاحِ بِمَالٍ فُرْقَةً بِبَدَلٍ وَهِيَ الْخُلْعُ، وَلَمَّا جُعِلَ خُلْعًا سَقَطَ أَصْلُ الْمَهْرِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يُجْعَلَ مَا بَذَلَهُ لَهَا زِيَادَةً فِي الْمَهْرِ، وَهَذَا وَجْهٌ

ص: 418

فَإِنْ جُعِلَ تَرْكُ الدَّعْوَى مِنْهَا فُرْقَةً فَالزَّوْجُ لَا يُعْطِي الْعِوَضَ فِي الْفُرْقَةِ، وَإِنْ لَمْ يُجْعَلْ فَالْحَالُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ الدَّعْوَى، فَلَا شَيْءَ يُقَابِلُهُ الْعِوَضُ، فَلَمْ يَصِحَّ.

قَالَ: (وَإِنِ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ عَبْدُهُ، فَصَالَحَهُ عَلَى مَالٍ أَعْطَاهُ جَازَ، وَكَانَ فِي حَقِّ الْمُدَّعِي بِمَنْزِلَةِ الْإِعْتَاقِ عَلَى مَالٍ)؛ لِأَنَّهُ أَمْكَنَ تَصْحِيحُهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فِي حَقِّهِ لِزَعْمِهِ؛ وَلِهَذَا يَصِحُّ عَلَى حَيَوَانٍ فِي الذِّمَّةِ إِلَى أَجَلٍ وَفِي حَقِّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَكُونُ لِدَفْعِ الْخُصُومَةِ؛ لِأَنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّهُ حُرًّا فَجَازَ إِلَّا أَنَّهُ لَا وَلَاءَ لَهُ لِإِنْكَارِ الْعَبْدِ إِلَّا أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ فَتُقْبَلَ وَيَثْبُتَ الْوَلَاءُ.

قَالَ (وَإِذَا قَتَلَ الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ لَهُ رَجُلًا عَمْدًا لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يُصَالِحَ عَنْ نَفْسِهِ، وَإِنْ قَتَلَ عَبْدٌ لَهُ رَجُلًا عَمْدًا فَصَالَحَهُ جَازَ) وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ رَقَبَتَهُ لَيْسَتْ مِنْ تِجَارَتِهِ؛ وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِيهِ بَيْعًا فَكَذَا اسْتِخْلَاصًا بِمَالِ الْمَوْلَى وَصَارَ كَالْأَجْنَبِيِّ،

لَا غُبَارَ عَلَيْهِ. (قَوْلُهُ: فَإِنْ جَعَلَ تَرْكَ الدَّعْوَى مِنْهَا فُرْقَةً، فَالزَّوْجُ لَا يُعْطَى الْعِوَضَ فِي الْفُرْقَةِ)؛ إِذْ لَا يُسَلَّمُ لَهُ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْفُرْقَةِ، وَإِنَّمَا الْمَرْأَةُ هِيَ الَّتِي تُسَلَّمُ لَهَا نَفْسُهَا، وَتَتَخَلَّصُ عَنِ الزَّوْجِ، كَذَا فِي الْكَافِي وَكَثِيرٍ مِنَ الشُّرُوحِ.

أَقُولُ: لِمَانِعٍ أَنْ يَمْنَعَ قَوْلَهُمْ؛ إِذْ لَا يُسَلَّمُ لَهُ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْفُرْقَةِ؛ فَإِنَّهُ يُسَلَّمُ لَهُ مِنْهَا أَصْلُ الْمَهْرِ؛ إِذْ لَوْلَا هَذِهِ الْفُرْقَةُ لَلَزِمَهُ مَهْرُهَا عِنْدَ إِثْبَاتِهَا النِّكَاحَ، فَجَازَ أَنْ يُعْطَى الزَّوْجُ الْعِوَضَ لِيُسَلَّمَ لَهُ الْمَهْرُ فِي ضِمْنِ هَاتِيكَ الْفُرْقَةِ الَّتِي هِيَ فِي مَعْنَى الْخُلْعِ. فَإِنْ قُلْتَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ فَالزَّوْجُ لَا يُعْطَى الْعِوَضَ بِنَاءً عَلَى وُقُوعِ هَذِهِ الْفُرْقَةِ مِنْ جَانِبِ الْمَرْأَةِ، كَمَا يُشْعِرُ بِهِ تَقْرِيرُ تَاجِ الشَّرِيعَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ؛ حَيْثُ قَالَ: يَعْنِي أَنَّ هَذَا الصُّلْحَ إِنْ جَعَلَ فُرْقَةً فَلَا عِوَضَ فِي الْفُرْقَةِ مِنْ جَانِبِهَا عَلَى الزَّوْجِ، كَالْمَرْأَةِ إِذَا مَكَّنَتِ ابْنَ زَوْجِهَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ، انْتَهَى.

وَيُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْلُ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ: فَإِنْ جُعِلَ تَرْكُ الدَّعْوَى مِنْهَا فُرْقَةً فَلَا عِوَضَ عَلَى الزَّوْجِ فِي الْفُرْقَةِ، كَمَا إِذَا مَكَّنَتِ

ص: 419

أَمَّا عَبْدُهُ فَمِنْ تِجَارَتِهِ، وَتَصَرُّفُهُ فِيهِ نَافِذٌ بَيْعًا فَكَذَا اسْتِخْلَاصًا، وَهَذَا لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ كَالزَّائِلِ عَنْ مِلْكِهِ وَهَذَا شِرَاؤُهُ فَيَمْلِكُهُ.

قَالَ (وَمَنْ غَصَبَ ثَوْبًا يَهُودِيًّا قِيمَتُهُ دُونَ الْمِائَةِ فَاسْتَهْلَكَهُ فَصَالَحَهُ مِنْهَا عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ.

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: يَبْطُلُ الْفَضْلُ عَلَى قِيمَتِهِ بِمَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ) لِأَنَّ الْوَاجِبَ هِيَ الْقِيمَةُ، وَهِيَ مُقَدَّرَةٌ، فَالزِّيَادَةُ عَلَيْهَا تَكُونُ رِبًا، بِخِلَافِ مَا إِذَا صَالَحَ عَلَى عَرَضٍ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ لَا تَظْهَرُ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ، وَبِخِلَافِ مَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ لِأَنَّهُ يَدْخُلُ تَحْتَ تَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ فَلَا تَظْهَرُ الزِّيَادَةُ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ حَقَّهُ فِي الْهَالِكِ بَاقٍ حَتَّى لَوْ كَانَ عَبْدًا وَتَرَكَ أَخْذَ الْقِيمَةِ يَكُونُ الْكَفَنُ عَلَيْهِ، أَوْ حَقَّهُ فِي مِثْلِهِ صُورَةً وَمَعْنًى؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الْعُدْوَانِ بِالْمِثْلِ، وَإِنَّمَا يَنْتَقِلُ إِلَى الْقِيمَةِ بِالْقَضَاءِ، فَقَبِلَهُ إِذَا تَرَاضَيَا عَلَى الْأَكْثَرِ كَانَ اعْتِيَاضًا فَلَا يَكُونُ رِبًا، بِخِلَافِ الصُّلْحِ بَعْدَ الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ قَدْ انْتَقَلَ إِلَى الْقِيمَةِ.

ابْنَ زَوْجِهَا، انْتَهَى. فَمَاذَا حَالُ هَذَا الْمَعْنَى؟ قُلْتُ: يُرَدُّ عَلَيْهِ أَيْضًا أَنْ يُقَالَ: وُقُوعُ الْفُرْقَةِ مِنْ جَانِبِ الْمَرْأَةِ إِنَّمَا يَمْنَعُ إِعْطَاءَ الزَّوْجِ الْعِوَضُ لَوْ كَانَتْ هِيَ مُسْتَقِلَّةٌ فِي مُبَاشَرَةِ سَبَبِ الْفُرْقَةِ، كَمَا إِذَا مَكَّنَتِ ابْنَ زَوْجِهَا، وَأَمَّا إِذَا كَانَتْ مُبَاشَرَتُهَا بِسَبَبِ الْفُرْقَةِ بِرَأْيِ الزَّوْجِ وَرِضَاهُ، كَمَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ إِذَا كَانَ تَرْكُهَا دَعْوَى النِّكَاحِ فِيهِ بِطَلَبِ الزَّوْجِ وَرِضَاهُ؛ حَيْثُ تَصَالَحَا عَنْهُ عَلَى مَالٍ بَذَلَهُ لَهَا فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ وُقُوعَ الْفُرْقَةِ مِنْ جَانِبِ الْمَرْأَةِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ يَمْنَعُ إِعْطَاءَ الزَّوْجِ الْعِوَضَ؛ أَلَا يُرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ رَجُلٌ لِامْرَأَتِهِ: طَلِّقِي نَفْسَكِ أَوْ قَالَ لَهَا: اخْتَارِي يَنْوِي بِذَلِكَ الطَّلَاقَ فَلَهَا أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا مَا دَامَتْ فِي مَجْلِسِهَا ذَلِكَ، فَإِنْ طَلَّقَتْ نَفْسَهَا فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ لَزِمَهُ مَهْرُهَا قَطْعًا، فَلَمْ يَكُنْ وُقُوعُ الْفُرْقَةِ مِنْ جَانِبِهَا هُنَاكَ مَانِعًا عَنْ وُجُوبِ الْمَهْرِ عَلَى الزَّوْجِ، كَمَا كَانَ مَانِعًا عَنْهُ فِيمَا إِذَا مَكَّنَتِ ابْنَ زَوْجِهَا، فَكَذَا هَاهُنَا لَا يَكُونُ وُقُوعُهَا مِنْ جَانِبِهَا مَانِعًا عَنْ لُزُومِ إِعْطَاءِ الزَّوْجِ الْعِوَضَ، فَتَدَبَّرْ.

(قَوْلُهُ: أَوْ حَقَّهُ فِي مِثْلِهِ صُورَةً وَمَعْنًى؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الْعُدْوَانِ بِالْمِثْلِ، وَإِنَّمَا يَنْتَقِلُ إِلَى الْقِيمَةِ بِالْقَضَاءِ

إِلَخْ). قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَفِى كَلَامِ الْمُصَنِّفِ تَسَامُحٌ؛ لِأَنَّهُ وَضَعَ الْمَسْأَلَةَ

ص: 420

قَالَ: (وَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ، أَعْتَقَهُ أَحَدُهُمَا وَهُوَ مُوسِرٌ، فَصَالَحَهُ الْآخَرُ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ قِيمَتِهِ فَالْفَضْلُ بَاطِلٌ)، وَهَذَا بِالِاتِّفَاقِ، وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَلِمَا بَيَّنَّا. وَالْفَرْقُ لِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّ الْقِيمَةَ فِي الْعِتْقِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهَا

فِي الْقِيَمِيِّ، وَذَكَرَ فِي الدَّلِيلِ الْمِثْلَ، فَإِنَّ وُجُوبَ الْمِثْلِ صُورَةٌ وَمَعْنًى إِنَّمَا هُوَ فِي الْمِثْلِيَّاتِ، وَلَا يُصَارُ فِيهَا إِلَى الْقِيمَةِ إِلَّا إِذَا انْقَطَعَ الْمُثْلَى فَحِينَئِذٍ يُصَارُ إِلَيْهَا، انْتَهَى كَلَامُهُ.

أَقُولُ: قَدْ غَلِطَ فِي اسْتِخْرَاجِ هَذَا الْمَقَامِ، فَحَمَلَ كَلَامَ الْمُصَنِّفِ عَلَى التَّسَامُحِ، وَمَنْشَأُ ذَلِكَ أَنَّهُ زَعَمَ أَنَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ بِالْحَقِّ فِي قَوْلِهِ: أَوْ حَقَّهُ فِي مِثْلِهِ صُورَةً وَمَعْنًى هُوَ حَقُّ الْأَخْذِ، وَهَذَا غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ فِي الْقِيمِيَّاتِ؛ لِأَنَّ أَخْذَ الْمِثْلِ فَرَّعٌ وَجَوَّدَهُ، وَوُجُودُ الْمِثْلِ صُورَةً وَمَعْنًى إِنَّمَا يُتَصَوَّرُ فِي الْمِثْلِيَّاتِ، وَلَيْسَ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ بِهِ ذَلِكَ قَطْعًا، بَلْ إِنَّمَا مُرَادُهُ بِهِ حَقُّ تَعَلُّقِ الْمِلْكِ بِجِهَةِ أَنَّ الْوَاجِبَ فِي ذِمَّةِ الْغَاصِبِ حَقٌّ لِلْمَالِكِ مِثْلَ الْهَالِكِ صُورَةً وَمَعْنًى، وَهَذَا الْحَقُّ يُتَصَوَّرُ فِي الْقِيمِيَّاتِ أَيْضًا، وَإِنْ لَمْ يُتَصَوَّرْ حَقُّ الْأَخْذِ إِلَّا فِي الْمِثْلِيَّاتِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْقِيمِيَّاتِ فِي الذِّمَّةِ مُمْكِنٌ كَالْحَيَوَانِ وَالثَّوْبِ فِي النِّكَاحِ وَالدِّيَةِ وَغَيْرِهِمَا عَلَى مَا صَرَّحُوا بِهِ. وَمِمَّا يُفْصِحُ عَمَّا قُلْنَا مَا ذُكِرَ فِي الذَّخِيرَةِ وَنُقِلَ عَنْهَا فِي النِّهَايَةِ بِأَنْ قَالَ: وَالْوَجْهُ لِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّ هَذَا اعْتِيَاضٌ عَنِ الثَّوْبِ وَالْحَيَوَانِ حُكْمًا، فَيَجُوزُ بَالِغًا مَا بَلَغَ كَالِاعْتِيَاضِ عَنِ الثَّوْبِ الْقَائِمِ وَالْحَيَوَانِ الْقَائِمِ حَقِيقَةً. وَإِنَّمَا قُلْنَا:

ص: 421

وَتَقْدِيرُ الشَّرْعِ لَا يَكُونُ دُونَ تَقْدِيرِ الْقَاضِي، فَلَا يَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ، وَبِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ لِأَنَّهَا غَيْرُ مَنْصُوصٍ عَلَيْهَا (وَإِنْ صَالَحَهُ عَلَى عُرُوضٍ جَازَ) لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا يَظْهَرُ الْفَضْلُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

(بَابُ التَّبَرُّعِ بِالصُّلْحِ وَالتَّوْكِيلِ بِهِ)

(وَمَنْ وَكَّلَ رَجُلًا بِالصُّلْحِ عَنْهُ فَصَالَحَ لَمْ يَلْزَمِ الْوَكِيلَ مَا صَالَحَ عَنْهُ إِلَّا أَنْ يَضْمَنَهُ،

إِنَّ هَذَا اعْتِيَاضٌ عَنِ الثَّوْبِ وَالْحَيَوَانِ حُكْمًا؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِي ذِمَّةِ الْغَاصِبِ حَقًّا لِلْمَالِكِ مِثْلَ الْحَيَوَانِ وَالثَّوْبِ مِنْ جِنْسِهِ؛ لِأَنَّهُ ضَمَانُ عُدْوَانٍ، فَيَكُونُ مُقَيَّدًا بِالْمِثْلِ. وَالْمِثْلُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ هُوَ الْمِثْلُ صُورَةً وَمَعْنًى؛ وَلِهَذَا كَانَ الْوَاجِبُ مِنْ جِنْسِهِ فِي غَيْرِ الثَّوْبِ وَالْحَيَوَانِ، نَحْوَ الْمُكَيَّلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ، وَإِيجَابُ الْحَيَوَانِ وَالثَّوْبِ فِي الذِّمَّةِ مُمْكِنٌ، كَمَا فِي النِّكَاحِ وَالدِّيَةِ، إِلَّا أَنَّ عِنْدَ الْأَخْذِ يُصَارُ إِلَى الْقِيمَةِ ضَرُورَةَ أَنَّ أَخْذَ الْمِثْلِ صُورَةً وَمَعْنًى غَيْرُ مُمْكِنٍ إِلَّا بِسَابِقَةِ التَّقْوِيمِ، وَالْآخِذُ وَالدَّافِعُ لَا يَعْرِفَانِ ذَلِكَ حَقِيقَةً لِمَا فِيهِ مِنَ التَّفَاوُتِ الْفَاحِشِ، وَلَا ضَرُورَةَ فِي الْوُجُوبِ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَاللَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِذَلِكَ، فَصَحَّ مَا ادَّعَيْنَا أَنَّ هَذَا اعْتِيَاضٌ عَنِ الثَّوْبِ وَالْحَيَوَانِ، فَيَجُوزُ كَيْفَمَا كَانَ، انْتَهَى.

وَالْعَجَبُ مِنْ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ أَنَّهُ بَعْدَ مَا نَظَرَ إِلَى النِّهَايَةِ وَسَائِرِ الْمُعْتَبِرَاتِ وَاطَّلَعَ عَلَى مَا فِيهَا كَيْفَ وَقَعَ فِي تِلْكَ الْوَرْطَةِ؟ ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الْمِثْلِيَّ إِذَا انْقَطَعَ حُكْمُهُ كَالْقِيمِيِّ لَا يُنْتَقَلُ فِيهِ إِلَى الْقِيمَةِ إِلَّا بِالْقَضَاءِ فَقَبِلَهُ إِنْ تَرَاضَيَا عَلَى الْأَكْثَرِ كَانَ اعْتِيَاضًا فَلَا يَكُونُ رِبًا بِخِلَافِ الصُّلْحِ بَعْدَ الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ قَدِ انْتَقَلَ إِلَى الْقِيمَةِ، انْتَهَى.

أَقُولُ: عُذْرُهُ أَقْبَحُ مِنْ ذَنْبِهِ؛ لِأَنَّ الْمُصَنِّفَ هَاهُنَا لَيْسَ بِصَدَدِ بَيَانِ الْمَسْأَلَةِ حَتَّى تُفِيدَ إِشَارَتُهُ إِلَى اشْتِرَاكِ الْمَسْأَلَتَيْنِ فِي الْحُكْمِ شَيْئًا، بَلْ هُوَ هَاهُنَا فِي مَقَامِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الصُّلْحِ عَنِ الثَّوْبِ الْمُسْتَهْلَكِ عَلَى أَكْثَرِ مِنْ قِيمَتِهِ، فَإِنْ لَمْ يُفِدِ الدَّلِيلُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُدَّعِي بِنَاءً عَلَى كَوْنِ الْمُدَّعِي فِي الْقِيمِيِّ، وَكَوْنِ الدَّلِيلِ مَخْصُوصًا بِالْمِثْلِيِّ، كَمَا زَعَمَهُ لَا يُتِمُّ الْمَطْلُوبُ، فَيَخْتَلُّ الْكَلَامُ لِعَدَمِ إِيفَائِهِ حَقَّ الْمَقَامِ، وَلَا تُجْدِي الْإِشَارَةُ إِلَى أَمْرٍ أَجْنَبِيٍّ عَنِ الصَّدَدِ نَفْعًا، كَمَا لَا يَخْفَى.

(بَابُ التَّبَرُّعِ بِالصُّلْحِ وَالتَّوْكِيلِ بِهِ)

قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: لِمَا كَانَ تَصَرُّفُ الْمَرْءِ لِنَفْسِهِ أَصْلًا قَدَّمَهُ عَلَى التَّصَرُّفِ لِغَيْرِهِ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِالتَّبَرُّعِ بِالصُّلْحِ لِمَا أَنَّ الْإِنْسَانَ فِي الْعَمَلِ لِغَيْرِهِ مُتَبَرِّعٌ، وَاقْتَفَى أَثَرَهُ صَاحِبُ الْغَايَةِ وَصَاحِبُ الْعِنَايَةِ.

أَقُولُ: إِنَّ قَوْلَهُمْ هُوَ الْمُرَادُ بِالتَّبَرُّعِ بِالصُّلْحِ لَيْسَ بِسَدِيدٍ؛ إِذْ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِالتَّبَرُّعِ بِالصُّلْحِ هَاهُنَا مُجَرَّدَ التَّصَرُّفِ لِغَيْرِهِ لَكَانَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ وَالتَّوْكِيلِ بِهِ مُسْتَدْرِكًا لِتَنَاوُلِ التَّبَرُّعِ بِالصُّلْحِ بِمَعْنَى مُجَرَّدِ التَّصَرُّفِ لِغَيْرِهِ مَا حَصَلَ بِالتَّوْكِيلِ بِهِ أَيْضًا، فَالْحَقُّ عِنْدِي أَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّبَرُّعِ بِالصُّلْحِ هَاهُنَا هُوَ الصُّلْحُ عَنْ آخَرَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، وَبِالتَّوْكِيلِ بِهِ هُوَ الصُّلْحُ عَنْهُ بِأَمْرِهِ، وَكِلْتَا الصُّورَتَيْنِ مَذْكُورَتَانِ فِي هَذَا الْبَابِ فَيَسْلَمُ مَا ذُكِرَ فِي عُنْوَانِ الْبَابِ عَنْ الِاسْتِدْرَاكِ. بَقِيَ شَيْءٌ، وَهُوَ أَنَّ التَّوْكِيلَ بِالصُّلْحِ فِعْلُ الْمُوَكِّلِ، وَهُوَ مُتَصَرِّفٌ فِيهِ لِنَفْسِهِ فَلَا يَتِمُّ وَجْهُ التَّقْدِيمِ الَّذِي ذَكَرَهُ بِالنَّظَرِ

ص: 422

وَالْمَالُ لَازِمٌ لِلْمُوَكِّلِ) وَتَأْوِيلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إِذَا كَانَ الصُّلْحُ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ أَوْ كَانَ الصُّلْحُ عَنْ بَعْضِ مَا يَدَّعِيهِ مِنَ الدَّيْنِ لِأَنَّهُ إِسْقَاطٌ مَحْضٌ فَكَانَ الْوَكِيلُ فِيهِ سَفِيرًا وَمُعَبِّرًا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ كَالْوَكِيلِ بِالنِّكَاحِ إِلَّا أَنْ يَضْمَنَهُ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ هُوَ مُؤَاخَذٌ بِعَقْدِ الضَّمَانِ لَا بِعَقْدِ الصُّلْحِ، أَمَّا إِذَا كَانَ الصُّلْحُ عَنْ مَالٍ بِمَالٍ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ، فَتَرْجِعُ الْحُقُوقُ إِلَى الْوَكِيلِ فَيَكُونُ الْمُطَالِبُ بِالْمَالِ هُوَ الْوَكِيلُ دُونَ الْمُوَكِّلِ.

إِلَى قَوْلِ الْمُصَنِّفِ فِي الْعُنْوَانِ: وَالتَّوْكِيلِ بِهِ. وَالْجَوَابُ أَنَّ التَّوْكِيلَ الْمَذْكُورَ فِي الْعُنْوَانِ مُصْدَرٌ مِنَ الْمَبْنِيِّ لِلْمَفْعُولِ، فَيَرْجِعُ إِلَى مَعْنَى التَّوَكُّلِ، وَهُوَ تَصَرُّفٌ لِلْغَيْرِ. فَإِنْ قُلْتَ: فَلِمَ لَمْ يَقُلْ وَالتَّوَكُّلُ بِهِ بَدَلَ قَوْلُهُ: وَالتَّوْكِيلُ بِهِ، حَتَّى لَا يَحْتَاجَ إِلَى الْبَيَانِ بِأَنَّهُ مَصْدَرٌ مِنَ الْمَبْنِيِّ لِلْمَفْعُولِ. قُلْتُ: فَائِدَةُ التَّعْبِيرِ عَنِ التَّوَكُّلِ بِالتَّوْكِيلِ هِيَ الْإِيمَاءُ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ التَّوَكُّلَ الْحَاصِلَ بِالتَّوْكِيلِ وَهُوَ التَّوَكُّلُ بِأَمْرِ الْغَيْرِ الَّذِي هُوَ الْمُوَكِّلُ، لَا الْمُبَاشَرَةُ بِنَفْسِهِ بِدُونِ أَمْرِ الْغَيْرِ، وَهُوَ التَّبَرُّعُ بِالصُّلْحِ، فَيَنْدَفِعُ بِهِ تَوَهَّمُ الِاسْتِدْرَاكِ، تَأْمَّلْ؛ فَإِنَّهُ مَعْنًى لَطِيفٌ.

(قَوْلُهُ: وَالْمَالُ لَازِمٌ لِلْمُوَكِّلِ). قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ، وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ فِي شَرْحِ الْأَقْطَعِ: وَالْمَالُ لَازِمٌ عَلَى الْمُوَكِّلِ، انْتَهَى. وَقَالَ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ: وَاللَّامُ فِي لِلْمُوَكِّلِ بِمَعْنَى عَلَى، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى:{وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} ، أَيْ: فَعَلَيْهَا. وَاقْتَفَى أَثَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ؛ حَيْثُ قَالَ: وَالْمَالُ لَازِمٌ لِلْمُوَكِّلِ، أَيْ: عَلَى الْمُوَكِّلِ، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى:{وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} ، أَيْ: فَعَلَيْهَا، انْتَهَى. 50 أَقُولُ: لَا وَجْهَ لِحَمْلِ اللَّامِ فِي قَوْلِهِ: وَالْمَالُ لَازِمٌ لِلْمُوَكِّلِ عَلَى مَعْنَى "عَلَى"؛ لِأَنَّ لِلْمُوَكِّلِ مُتَعَلِّقٌ بِلَازِمٍ، وَكَلِمَةُ اللُّزُومِ تَتَعَدَّى بِنَفْسِهَا وَبِالْبَاءِ، يُقَالُ: لَزِمَهُ وَلَزِمَ بِهِ، وَلَا تَتَعَدَّى بِعَلَى، فَلَوْ جَعَلَ اللَّامَ هُنَا بِمَعْنَى عَلَى لَزِمَ تَعْدِيَةُ اللُّزُومِ بِعَلَى، وَلَمْ تُسْمَعْ قَطُّ، فَالصَّحِيحُ أَنْ تَبْقَى اللَّامُ فِي عِبَارَةِ الْكِتَابِ عَلَى حَالِهَا، وَيَكُونُ إِقْحَامُهَا لِتَقْوِيَةِ الْعَمَلِ، فَالْمَعْنَى وَالْمَالُ يَلْزَمُ الْمُوَكِّلَ، وَإِدْخَالُ اللَّامِ عَلَى مَعْمُولِ اسْمِ الْفَاعِلِ مِنَ الْأَفْعَالِ الْمُتَعَدِّيَةِ بِأَنْفُسِهَا لِتَقْوِيَةِ الْعَمَلِ شَائِعٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، بِخِلَافِ قَوْله تَعَالَى:{وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} ؛ لِأَنَّ اللَّامَ فِي " فَلَهَا " هُنَاكَ مُتَعَلِّقٌ بِمُقَدَّرٍ، كَمَا لَا يَخْفَى، فَيَجُوزُ أَنْ يُقَدَّرَ مَا يَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ كَلِمَةً عَلَى صِلَةٍ لَهُ، فَلَا ضَيْرَ فِي أَنْ يَحْمِلَ اللَّامِ هُنَاكَ عَلَى مَعْنَى عَلَى، تَأَمَّلْ تَقَفَّ.

(قَوْلُهُ: وَتَأْوِيلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إِذَا كَانَ الصُّلْحُ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ أَوْ كَانَ الصُّلْحُ عَنْ بَعْضِ مَا يَدَّعِيهِ مِنَ الدَّيْنِ

إِلَخْ). قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مِنَ التَّأْوِيلِ لَا يَكْفِي لِتَأْوِيلِ الْمَسْأَلَةِ، فَإِنَّ فِيهِ قَيْدًا آخَرَ وَهُوَ أَنَّهُ إِذَا كَانَ الصُّلْحُ عَلَى الْإِنْكَارِ فَلَا يَجِبُ بَدَلَ الصُّلْحِ عَلَى الْوَكِيلِ مِنْ شَيْءٍ، وَإِنْ كَانَ الصُّلْحُ فِي الْمُعَاوَضَاتِ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ فِي بَابِ الصُّلْحِ فِي الْعَقَارِ: وَلَوِ ادَّعَى رَجُلٌ فِي دَارِ رَجُلٍ حَقًّا فَصَالَحَهُ عَنْهُ آخَرُ بِأَمْرِهِ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، إِلَى أَنْ قَالَ: وَلَا يَجِبُ الْمَالُ عَلَى الْمُصَالِحِ إِلَّا أَنْ يُضَمِّنَهُ الَّذِي صَالَحَهُ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ عَلَى الْإِنْكَارِ مُعَاوَضَةٌ بِإِسْقَاطِ الْحَقِّ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الطَّلَاقِ بِجُعْلٍ وَالْعَفْوِ عَنِ الْقَصَّاصِ بِمَالٍ، وَذَلِكَ جَائِزٌ مَعَ الْأَجْنَبِيِّ، كَمَا يَجُوزُ مَعَ الْخَصْمِ، انْتَهَى. وَاقْتَفَى أَثَرَهُ كَثِيرٌ مِنَ الشُّرَّاحِ فِي أَنَّ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ لَا يَكْفِي لِتَأْوِيلِ الْمَسْأَلَةِ، بَلْ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ قَيْدٍ آخَرَ وَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ الصُّلْحُ فِي الْمُعَاوَضَاتِ عَلَى الْإِنْكَارِ.

أَقُولُ: يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: يُسْتَغْنَى عَنْهُ بِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، فَإِنَّ قَوْلَهُ:

ص: 423

قَالَ (وَإِنْ صَالَحَ رَجُلٌ عَنْهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَهُوَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: إِنْ صَالَحَ بِمَالٍ وَضَمِنَهُ تَمَّ الصُّلْحُ) لِأَنَّ الْحَاصِلَ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَيْسَ إِلَّا الْبَرَاءَةَ وَفِي حَقِّهَا هُوَ وَالْأَجْنَبِيُّ سَوَاءٌ، فَصُلْحٌ أَصِيلًا فِيهِ إِذَا ضَمِنَهُ، كَالْفُضُولِيِّ بِالْخُلْعِ إِذَا ضَمِنَ الْبَدَلَ، وَيَكُونُ مُتَبَرِّعًا عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ كَمَا لَوْ تَبَرَّعَ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ بِخِلَافِ مَا إِذَا كَانَ بِأَمْرِهِ وَلَا يَكُونُ لِهَذَا الْمُصَالِحِ شَيْءٌ مِنَ الْمُدَّعَى، وَإِنَّمَا ذَلِكَ لِلَّذِي فِي يَدِهِ لِأَنَّ تَصْحِيحَهُ بِطَرِيقِ الْإِسْقَاطِ، وَلَا فَرْقَ فِي هَذَا بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ مُقِرًّا أَوْ مُنْكِرًا (وَكَذَلِكَ إِنْ قَالَ صَالَحْتُكَ عَلَى أَلْفَيِّ هَذِهِ أَوْ عَلَى عَبْدِي هَذَا صَحَّ الصُّلْحُ وَلَزِمَهُ تَسْلِيمُهَا) لِأَنَّهُ لَمَّا أَضَافَهُ إِلَى مَالِ نَفْسِهِ فَقَدِ الْتَزَمَ تَسْلِيمَهُ فَصَحَّ الصُّلْحُ (وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ عَلَيَّ أَلْفٌ وَسَلَّمَهَا) لِأَنَّ التَّسْلِيمَ إِلَيْهِ يُوجِبُ سَلَامَةَ الْعِوَضِ لَهُ فَيَتِمُّ الْعَقْدُ لِحُصُولِ مَقْصُودِهِ (وَلَوْ قَالَ صَالَحْتُكَ عَلَى أَلْفٍ فَالْعَقْدُ مَوْقُوفٌ، فَإِنْ أَجَازَهُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ جَازَ وَلَزِمَهُ الْأَلْفُ، وَإِنْ لَمْ يُجِزْهُ بَطَلَ) لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْعَقْدِ إِنَّمَا هُوَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ دَفْعَ الْخُصُومَةِ حَاصِلٌ لَهُ، إِلَّا أَنَّ الْفُضُولِيَّ يَصِيرُ أَصِيلًا بِوَاسِطَةِ إِضَافَةِ الضَّمَانِ إِلَى نَفْسِهِ، فَإِذَا لَمْ يُضِفْهُ بَقِيَ عَاقِدًا مِنْ جِهَةِ الْمَطْلُوبِ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى إِجَازَتِهِ. قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ عَصَمَهُ اللَّهُ: وَوَجْهٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنْ يَقُولَ صَالَحْتُكَ عَلَى هَذِهِ الْأَلْفِ أَوْ عَلَى هَذَا الْعَبْدِ وَلَمْ يَنْسُبْهُ إِلَى نَفْسِهِ لِأَنَّهُ لَمَّا عَيَّنَهُ لِلتَّسْلِيمِ صَارَ شَارِطًا سَلَامَتَهُ لَهُ فَيَتِمُّ بِقَوْلِهِ. وَلَوِ اسْتَحَقَّ الْعَبْدَ أَوْ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا فَرَدَّهُ فَلَا سَبِيلَ لَهُ عَلَى الْمُصَالِحِ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ الْإِيفَاءَ مِنْ مَحَلٍّ بِعَيْنِهِ وَلَمْ يَلْتَزِمْ شَيْئًا سِوَاهُ، فَإِنْ سَلِمَ الْمَحَلُّ لَهُ تَمَّ الصُّلْحُ، وَإِنْ لَمْ يَسْلَمْ لَهُ لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ. بِخِلَافِ مَا إِذَا صَالَحَ عَلَى دَرَاهِمَ مُسَمَّاةٍ وَضَمِنَهَا وَدَفَعَهَا ثُمَّ اسْتُحِقَّتْ، أَوْ وَجَدَهَا زُيُوفًا؛ حَيْثُ يَرْجِعُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ جَعَلَ نَفْسَهُ أَصِيلًا فِي حَقِ الضَّمَانِ؛ وَلِهَذَا يُجْبَرُ عَلَى التَّسْلِيمِ، فَإِذَا لَمْ يُسَلِّمْ لَهُ مَا سَلَّمَهُ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِبَدَلِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ

أَمَّا إِذَا كَانَ الصُّلْحُ عَنْ مَالٍ بِمَالٍ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ، فَتَرْجِعُ الْحُقُوقُ إِلَى الْوَكِيلِ مِنْ تَتِمَّةِ تَأْوِيلِهِ. وَمَقْصُودُهُ مِنْهُ تَعْمِيمُ جَوَابِ الْمَسْأَلَةِ لِكُلِّ مَا لَمْ يَكُنِ الصُّلْحُ عَنْ مَالٍ بِمَالٍ بِطَرِيقِ الْمَفْهُومِ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَفِيمَا سِوَى ذَلِكَ لَا تَرْجِعُ الْحُقُوقُ إِلَى الْوَكِيلِ بَلْ تَلْزَمُ الْمُوَكِّلَ، كَمَا ذَكَرَ فِي جَوَابِ الْمَسْأَلَةِ. وَفَائِدَتُهُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ مَا ذَكَرَهُ فِي ابْتِدَاءِ التَّأْوِيلِ مِنَ الصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ، وَالصُّلْحُ عَلَى بَعْضِ مَا يَدَّعِيهِ مِنَ الدَّيْنِ إِنَّمَا هُوَ بِطْرِيقِ التَّمْثِيلِ لَا بِطْرِيقِ تَخْصِيصِ جَوَابِ الْمَسْأَلَةِ بِذَلِكَ، فَإِنَّ تَخْصِيصَهُ بِذَلِكَ لَيْسَ بِصَحِيحٍ لِجَرَيَانِهِ قَطْعًا فِي غَيْرِ ذَلِكَ، كَالصُّلْحِ عَنْ جِنَايَةِ الْعَمْدِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ، وَالصُّلْحُ عَنْ كُلِّ عَقْدٍ يَكُونُ الْوَكِيلُ فِيهِ سَفِيرًا مَحْضًا كَالنِّكَاحِ وَالْخُلْعِ وَغَيْرِهِمَا، وَإِذْ قَدْ تَقَرَّرَ هَذَا فَقَدَ فُهِمَ دُخُولُ الصُّلْحِ عَلَى الْإِنْكَارِ فِي جَوَابِ هَاتِيكَ الْمَسْأَلَةِ وَإِنْ كَانَ الصُّلْحُ فِي الْمُعَاوَضَاتِ؛ إِذْ قَدْ تَحَقَّقَ فِيمَا مَرَّ أَنَّ الصُّلْحَ عَلَى الْإِنْكَارِ فِي حَقِّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إِنَّمَا هُوَ لِافْتِدَاءِ الْيَمِينِ وَقَطْعِ الْخُصُومَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ مُعَاوَضَةٌ فِي حَقِّ الْمُدَّعِي، وَأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَخْتَلِفَ حُكْمُ الْعَقْدِ فِي حَقِّهِمَا فَلَمْ يَكُنِ الصُّلْحُ عَلَى الْإِنْكَارِ فِي حَقِّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ الصُّلْحُ فِي الْمُعَاوَضَاتِ صُلْحًا عَنْ مَالٍ بِمَالٍ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ فِي الْمَبْسُوطِ بِقَوْلِهِ: لِأَنَّ الصُّلْحَ عَلَى الْإِنْكَارِ مُعَاوَضَةٌ بِإِسْقَاطِ الْحَقِّ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الطَّلَاقِ بِجُعْلٍ، وَالْعَفْوِ عَنِ الْقَصَّاصِ بِمَالٍ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَا نَحْنُ فِيهِ هُوَ الْوِكَالَةُ مِنْ قِبَلِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَتَمَّ الْمَطْلُوبُ بِدُونِ الِاحْتِيَاجِ إِلَى التَّصْرِيحِ بِقَيْدٍ آخَرَ، تَفَكَّرْ.

ص: 424

(بَابُ الصُّلْحِ فِي الدَّيْنِ)

(وَكُلُّ شَيْءٍ وَقَعَ عَلَيْهِ الصُّلْحُ وَهُوَ مُسْتَحَقٌّ بِعَقْدِ الْمُدَايَنَةِ لَمْ يُحْمَلْ عَلَى الْمُعَاوَضَةِ، وَإِنَّمَا يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ اسْتَوْفَى بَعْضَ حَقِّهِ وَأَسْقَطَ بَاقِيَهُ،

(بَابُ الصُّلْحِ فِي الدَّيْنِ)

(قَوْلُهُ: وَكُلُّ شَيْءٍ وَقْعَ عَلَيْهِ الصُّلْحُ وَهُوَ مُسْتَحَقٌّ بِعَقْدِ الْمُدَايَنَةِ لَمْ يُحْمَلْ عَلَى الْمُعَاوَضَةِ، وَإِنَّمَا يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ اسْتَوْفَى بَعْضَ حَقِّهِ وَأَسْقَطَ بَاقِيَهِ).

أَقُولُ: فِيهِ كَلَامٌ، وَهُوَ أَنَّ كُلِّيَّةَ ذَلِكَ بِالنَّظَرِ إِلَى قَوْلِهِ لَمْ يُحْمَلْ عَلَى الْمُعَاوَضَةِ مُسَلَّمَةٌ، وَأَمَّا بِالنَّظَرِ إِلَى قَوْلِهِ وَإِنَّمَا يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ اسْتَوْفَى بَعْضَ حَقِّهِ وَأَسْقَطَ بَاقِيَهُ فَمَمْنُوعَةٌ؛ لِأَنَّ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الصُّلْحُ وَهُوَ مُسْتَحَقٌّ بِعَقْدِ الْمُدَايَنَةِ إِذَا كَانَ عَلَى مِثْلِ حَقِّهِ قَدْرًا وَوَصْفًا، كَمَا إِذَا كَانَ عَلَيْهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ جِيَادٍ فَصَالَحَ عَنْ ذَلِكَ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ جِيَادٍ يُحْمَلُ عَلَى اسْتِيفَاءِ عَيْنِ حَقِّهِ، صَرَّحَ بِهِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمُعْتَبِرَاتِ كَالْبَدَائِعِ وَالتُّحْفَةِ وَغَيْرِهِمَا، وَلَيْسَ فِيهِ إِسْقَاطُ شَيْءٍ قَطُّ، وَعَنْ هَذَا قَالَ فِي الْوِقَايَةِ: وَصُلْحُهُ عَلَى بَعْضٍ مِنْ جِنْسِ مَالِهِ عَلَيْهِ أَخْذًا لِبَعْضِ حَقِّهِ، وَحَطًّا لِبَاقِيهِ لَا مُعَاوَضَةً، انْتَهَى.

وَيُمْكِنُ أَنْ يُعْتَذَرَ عَمَّا فِي الْكِتَابِ بِأَنَّهُ خَارِجٌ مُخْرِجٌ الْعَادَةَ، فَإِنَّ الْمُعْتَادَ أَنْ يَكُونَ الصُّلْحُ عَلَى أَقَلِّ مِنَ الْمُدَّعَى لَا عَلَى مِثْلِهِ بِنَاءً عَلَى عَدَمِ الْفَائِدَةِ فِي عَقْدِ الصُّلْحِ عَلَى مِثْلِ الْمُدَّعِي. قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: وَهَاهُنَا يَنْبَغِي أَنْ يُزَادَ فِي لَفْظِ الرِّوَايَةِ قَيْدٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: وَكُلُّ شَيْءٍ وَقَعَ عَلَيْهِ الصُّلْحُ وَهُوَ مُسْتَحَقٌّ بِعَقْدِ الْمُدَايَنَةِ، وَلَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى بَيْعِ الصَّرْفِ لَمْ يُحْمَلْ عَلَى الْمُعَاوَضَةِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إِذَا أَمْكَنَ حَمْلُهُ عَلَى بَيْعِ الصَّرْفِ

ص: 425

كَمَنْ لَهُ عَلَى آخَرَ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَصَالَحَهُ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ، وَكَمَنْ لَهُ عَلَى آخَرَ أَلْفٌ جِيَادٌ فَصَالَحَهُ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ زُيُوفٍ جَازَ وَكَأَنَّهُ أَبْرَأَهُ عَنْ بَعْضِ حَقِّهِ) وَهَذَا لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْعَاقِلِ يَتَحَرَّى تَصْحِيحَهُ مَا أَمْكَنَ، وَلَا وَجْهَ لِتَصْحِيحِهِ مُعَاوَضَةً لِإِفْضَائِهِ إِلَى الرِّبَا فَجُعِلَ إِسْقَاطًا لِلْبَعْضِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى وَلِلْبَعْضِ وَالصِّفَةِ فِي الثَّانِيَةِ (وَلَوْ صَالَحَ عَلَى أَلْفٍ مُؤَجَّلَةٍ جَازَ وَكَأَنَّهُ أَجَّلَ نَفْسَ الْحَقِّ) لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ جَعْلُهُ مُعَاوَضَةً لِأَنَّ بَيْعَ الدَّرَاهِمِ بِمِثْلِهَا نَسِيئَةً لَا يَجُوزُ فَحَمَلْنَاهُ عَلَى التَّأْخِيرِ (وَلَوْ صَالَحَهُ عَلَى دَنَانِيرَ إِلَى شَهْرٍ لَمْ يَجُزْ) لِأَنَّ الدَّنَانِيرَ غَيْرُ مُسْتَحَقَّةٍ بِعَقْدِ الْمُدَايَنَةِ فَلَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى التَّأْخِيرِ، وَلَا وَجْهَ لَهُ سِوَى الْمُعَاوَضَةِ، وَبَيْعُ الدَّرَاهِمِ بِالدَّنَانِيرِ نَسِيئَةً لَا يَجُوزُ فَلَمْ يَصِحَّ الصُّلْحُ (وَلَوْ كَانَتْ لَهُ أَلْفٌ مُؤَجَّلَةٌ فَصَالَحَهُ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ حَالَّةً لَمْ يَجُزْ) لِأَنَّ الْمُعَجَّلَ خَيْرٌ مِنَ الْمُؤَجَّلِ وَهُوَ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ بِالْعَقْدِ فَيَكُونُ بِإِزَاءِ مَا حَطَّهُ عَنْهُ،

يُحْمَلُ عَلَى بَيْعِ الصَّرْفِ وَهُوَ مُعَاوَضَةٌ؛ وَإِنْ كَانَ هُوَ مِنْ جِنْسِ مَا هُوَ مُسْتَحَقٌّ بِعَقْدِ الْمُدَايَنَةِ فَبَعْدَ ذَلِكَ يَنْظَرُ، إِنْ كَانَ مُؤَجَّلًا بَطَلَ الصُّلْحُ وَإِلَّا فَلَا؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ عَلَيْهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ سُودٍ حَالَّةٍ فَصَالَحَهُ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ بِخِّيَّةٍ إِلَى أَجَلٍ لَا يَجُوزُ. وَالْبَخِّيَّةُ: اسْمٌ لِمَا هُوَ أَجْوَدُ مِنَ السُّودِ، وَلَكِنْ كُلٌّ مِنْهُمَا مِنْ جِنْسِ الدَّرَاهِمِ، وَإِنَّمَا لَمْ يَجُزْ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ مُصَارَفَةً إِلَى أَجَلٍ، وَالصَّرْفُ إِلَى أَجَلٍ بَاطِلٌ، انْتَهَى كَلَامُهُ.

أَقُولُ: فِيهِ بَحْثٌ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ فِي رِوَايَةِ الْكِتَابِ: وَهُوَ مُسْتَحَقٌّ بِعَقْدِ الْمُدَايَنَةِ، يُخْرِجُ مَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى بَيْعِ الصَّرْفِ، فَإِنَّ مَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى بَيْعِ الصَّرْفِ عِنْدَ أَهْلِ الشَّرْعِ مِمَّا وَقَعَ عَلَيْهِ الصُّلْحُ لَيْسَ مِمَّا هُوَ مُسْتَحَقٌّ بِعَقْدِ الْمُدَايَنَةِ، وَمَا هُوَ مُسْتَحَقٌّ بِعَقْدِ الْمُدَايَنَةِ لَيْسَ مِمَّا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى بَيْعِ الصَّرْفِ عِنْدَهُمْ، يَشْهَدُ بِذَلِكَ كُلِّهِ الْأَمْثِلَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْمَسَائِلِ وَأَدِلَّتُهَا الْمُفَصَّلَةُ فِيهِ.

وَأَمَّا الْمِثَالُ الَّذِي ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ: أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ عَلَيْهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ سُودٍ حَالِّةٍ فَصَالَحَهُ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ بَخِّيَّةٍ إِلَى أَجَلٍ لَا يَجُوزُ، فَبِمَعْزِلٍ عَمَّا نَحْنُ فِيهِ بِمَرَاحِلَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِمَّا هُوَ مُسْتَحَقٌّ بِعَقْدِ الْمُدَايَنَةِ وَلَا مِمَّا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى بَيْعِ الصَّرْفِ.

أَمَّا الْأَوَّلُ: فَلِأَنَّ الْبَخِّيَّةَ أَجْوَدُ مِنَ السُّودِ فَفِيهَا زِيَادَةُ وَصَفَ وَهِيَ غَيْرُ مُسْتَحَقَّةٍ بِعَقْدِ الْمُدَايَنَةِ بِالسُّودِ، وَإِنَّمَا الْمُسْتَحَقُّ بِهِ السُّودُ لَا غَيْرَ.

وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الْأَجَلَ يُمْنَعُ عَنِ الْحَمْلِ عَلَى بَيْعِ الصَّرْفِ، كَمَا اعْتَرَفَ بِهِ نَفْسُهُ؛ حَيْثُ قَالَ: وَإِنَّمَا لَمْ يَجُزْ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ مُصَارَفَةٌ إِلَى أَجَلٍ، وَالصَّرْفُ إِلَى أَجَلٍ بَاطِلٌ.

(قَوْلُهُ: وَهَذَا؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْعَاقِلِ يَتَحَرَّى تَصْحِيحَهُ مَا أَمْكَنَ، وَلَا وَجْهَ لِتَصْحِيحِهِ مُعَاوَضَةً لِإِفْضَائِهِ إِلَى الرِّبَا).

أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّمَا يُفْضِي إِلَى الرِّبَا لَوْ جُعِلَ الْمُصَالَحَ عَلَيْهِ وَهُوَ خَمْسُمِائَةٌ عِوَضًا عَنْ مَجْمُوعِ الْأَلْفِ الْمُدَّعَى، وَأَمَّا إِذَا جُعِلَ عِوَضًا عَمَّا يُسَاوِيهِ مِنْ بَعْضِ الْمُدَّعَى وَهُوَ الْخَمْسُمِائَةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الدُّيُونَ تُقْضَى بِأَمْثَالِهَا لَا بِأَعْيَانِهَا فَلَا إِفْضَاءَ إِلَى الرِّبَا، فَمَا بَالُهُمْ حَمَلُوا الصُّلْحَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ اسْتَوْفَى بَعْضَ حَقِّهِ وَأَسْقَطَ بَاقِيَهُ وَلَمْ يَحْمِلُوا عَلَى أَنَّهُ صَارِفٌ بَعْضَ حَقِّهِ، وَأُسْقِطَ

ص: 426

وَذَلِكَ اعْتِيَاضٌ عَنِ الْأَجَلِ وَهُوَ حَرَامٌ (وَإِنْ كَانَ لَهُ أَلْفٌ سُودٌ فَصَالَحَهُ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ بِيضٍ لَمْ يَجُزْ) لِأَنَّ الْبِيضَ غَيْرُ مُسْتَحَقَّةٍ بِعَقْدِ الْمُدَايَنَةِ وَهِيَ زَائِدَةٌ وَصْفًا فَيَكُونُ مُعَاوَضَةُ الْأَلْفِ بِخَمْسِمِائَةٍ وَزِيَادَةِ وَصْفٍ وَهُوَ رِبًا، بِخِلَافِ مَا إِذَا صَالَحَ عَنِ الْأَلْفِ الْبِيضِ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ سُودٍ حَيْثُ يَجُوزُ لِأَنَّهُ إِسْقَاطٌ كُلُّهُ قَدْرًا وَوَصْفًا، وَبِخِلَافِ مَا إِذَا صَالَحَ عَلَى قَدْرِ الدَّيْنِ وَهُوَ أَجْوَدُ لِأَنَّهُ مُعَاوَضَةُ الْمِثْلِ بِالْمِثْلِ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِالصِّفَةِ إِلَّا أَنَّهُ يُشْتَرَطُ الْقَبْضُ فِي الْمَجْلِسِ، وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَمِائَةُ دِينَارٍ فَصَالَحَهُ عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ حَالَّةٍ أَوْ إِلَى شَهْرٍ صَحَّ الصُّلْحُ لِأَنَّهُ أَمْكَنَ أَنْ يُجْعَلَ إِسْقَاطًا لِلدَّنَانِيرِ كُلِّهَا وَالدَّرَاهِمِ إِلَّا مِائَةً وَتَأْجِيلًا لِلْبَاقِي فَلَا يُجْعَلُ مُعَاوَضَةً تَصْحِيحًا لِلْعَقْدِ أَوْ لِأَنَّ مَعْنَى الْإِسْقَاطِ فِيهِ أَلْزَمُ

قَالَ (وَمَنْ لَهُ عَلَى آخَرَ أَلْفُ دِرْهَمٍ، فَقَالَ أَدِّ إِلَيَّ غَدًا مِنْهَا خَمْسَمِائَةٍ عَلَى أَنَّكَ بَرِيءٌ مِنَ الْفَضْلِ فَفَعَلَ فَهُوَ بَرِيءٌ، فَإِنْ لَمْ يَدْفَعْ إِلَيْهِ الْخَمْسَمِائَةِ غَدًا عَادَ عَلَيْهِ الْأَلْفُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يَعُودُ عَلَيْهِ) لِأَنَّهُ إِبْرَاءٌ مُطْلَقٌ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ جَعَلَ أَدَاءَ الْخَمْسِمِائَةِ عِوَضًا؛ حَيْثُ ذَكَرَهُ بِكَلِمَةِ عَلَى وَهِيَ لِلْمُعَاوَضَةِ،

بَاقِيهِ حَتَّى لَمْ يَشْتَرِطُوا الْقَبْضَ فِي الْمَجْلِسِ، وَجَوَّزُوا التَّأْجِيلَ، فَتَأَمَّلْ فِي الْجَوَابِ.

(قَوْلُهُ: وَمِنْ لَهُ عَلَى آخَرَ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَقَالَ: أَدِّ إِلَيَّ غَدًا مِنْهَا خَمْسَمِائَةٍ عَلَى أَنَّكَ بَرِيءٌ مِنَ الْفَضْلِ فَفَعَلَ فَهُوَ بَرِيءٌ). قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: قِيلَ مَعْنَاهُ: فَقَبِلَ، فَهُوَ بَرِيءٌ فِي الْحَالِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ فَأَدَّى إِلَيْهِ ذَلِكَ غَدًا فَهُوَ بَرِيءٌ مِنَ الْبَاقِي، انْتَهَى. أَقُولُ: لَا يَذْهَبُ عَلَى الْفَطِنِ أَنَّ قَوْلَهُ: فَإِنْ لَمْ يَدْفَعْ إِلَيْهِ الْخَمْسَمِائَةِ غَدًا عَادَ إِلَيْهِ الْأَلْفُ، يَأْبَى الْمَعْنَى الثَّانِي وَيُنَاسِبُ الْمَعْنَى الْأَوَّلَ؛ لِأَنَّ عَوْدَ الْأَلْفِ إِلَيْهِ يَقْتَضِي تَحَقُّقَ الْبَرَاءَةِ عَنْهُ أَوَّلًا، لَكِنْ يُمْكِنُ تَوْجِيهُهُ عَلَى الْمَعْنَى الثَّانِي أَيْضًا بِأَنَّهُ لَا شَكَّ أَنَّ الْبَرَاءَةَ الْمَوْقُوفَةَ عَلَى أَدَاءِ الْخَمْسِمِائَةِ إِلَيْهِ غَدًا مُتَحَقِّقَةٌ أَوَّلًا، وَإِنْ لَمْ تَتَحَقَّقِ الْبَرَاءَةُ الْمَقْطُوعَةُ إِلَّا بِأَدَاءِ ذَلِكَ إِلَيْهِ غَدًا، فَفِيمَا إِذَا لَمْ يَدْفَعْ ذَلِكَ إِلَيْهِ غَدًا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: عَادَ إِلَيْهِ الْأَلْفُ نَظَرًا إِلَى تَحَقُّقِ الْبَرَاءَةِ الْمَوْقُوفَةِ مِنْ قَبْلُ، فَإِنَّ نِصْفَ الْأَلْفِ قَدْ خَرَجَ مَلِكَةُ خُرُوجًا مَوْقُوفًا عَلَى أَدَاءِ نِصْفِهِ الْآخَرِ إِلَيْهِ غَدًا، فَإِذَا لَمْ يُؤَدِّ إِلَيْهِ ذَلِكَ غَدًا عَادَ إِلَيْهِ الْأَلْفُ، كَمَا كَانَ، وَأَمَّا جَعْلُ الْعَوْدِ مَجَازًا عَنِ الْبَقَاءِ، كَمَا كَانَ، كَمَا فَعَلَهُ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ فَمِمَّا لَا تَقْبَلُهُ الْفِطْرَةُ السَّلِيمَةُ.

(قَوْلُهُ: أَلَا تَرَى أَنَّهُ جَعَلَ أَدَاءَ الْخَمْسَمِائَةِ عِوَضًا؛ حَيْثُ ذَكَرَهُ بِكَلِمَةِ عَلَى وَهِيَ لِلْمُعَاوَضَةِ). قُلْتُ: الْبَاءُ فِي: "بِكَلِمَةِ عَلَى" فِي قَوْلِهِ: حَيْثُ ذَكَرَهُ بِكَلِمَةِ عَلَى، لِلْمُقَابَلَةِ، كَمَا فِي قَوْلِكَ: بِعْتُ هَذَا

ص: 427

وَالْأَدَاءُ لَا يَصِحُّ عِوَضًا لِكَوْنِهِ مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ فَجَرَى وُجُودُهُ مَجْرَى عَدَمِهِ فَبَقِيَ الْإِبْرَاءُ مُطْلَقًا فَلَا يَعُودُ كَمَا إِذَا بَدَأَ بِالْإِبْرَاءِ.

وَلَهُمَا أَنَّ هَذَا إِبْرَاءٌ مُقَيَّدٌ بِالشَّرْطِ فَيَفُوتُ بِفَوَاتِهِ لِأَنَّهُ بَدَأَ بِأَدَاءِ الْخَمْسِمِائَةِ فِي الْغَدِ وَأَنَّهُ يَصْلُحُ غَرَضًا حِذَارَ إِفْلَاسِهِ وَتَوَسُّلًا إِلَى تِجَارَةٍ أَرْبَحَ مِنْهُ، وَكَلِمَةً عَلَى إِنْ كَانَتْ لِلْمُعَاوَضَةِ فَهِيَ مُحْتَمِلَةٌ لِلشَّرْطِ لِوُجُودِ مَعْنَى الْمُقَابَلَةِ فِيهِ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْحَمْلِ عَلَى الْمُعَاوَضَةِ تَصْحِيحًا لِتَصَرُّفِهِ أَوْ لِأَنَّهُ مُتَعَارَفٌ،

بِهَذَا، فَالْمَعْنَى: حَيْثُ ذَكَرَ أَدَاءَ الْخَمْسِمِائَةِ بِمُقَابَلَةِ كَلِمَةِ عَلَى الَّتِي لِلْمُعَاوَضَةِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى مَا تَمَحَّلَ بِهِ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ فِي تَوْجِيهِ قَوْلِهِ: حَيْثُ ذَكَرَهُ بِكَلِمَةِ عَلَى حَيْثُ، قَالَ: أَيْ: فِي الْمَعْنَى، وَإِلَّا فَفِي اللَّفْظِ دَخَلَ كَلِمَةُ عَلَى فِي الْإِبْرَاءِ دُونَ الْأَدَاءِ، انْتَهَى.

فَكَأَنَّهُ حَمَلَ الْبَاءَ عَلَى الْإِلْصَاقِ فَأَخَذَ مِنْهُ الدُّخُولُ فِي الْأَدَاءِ فَاحْتَاجَ إِلَى التَّكَلُّفِ، وَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ مَنْدُوحَةٌ عَنْ ذَلِكَ. (قَوْلُهُ: وَالْأَدَاءُ لَا يَصْلُحُ عِوَضًا لِكَوْنِهِ مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ).

قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي شَرْحِهِ: وَالْأَدَاءُ لَا يَصْلُحُ عِوَضًا؛ لِأَنَّ حَدَّ الْمُعَاوَضَةِ أَنْ يَسْتَفِيدَ كُلُّ وَاحِدٍ مَا لَمْ يَكُنْ قَبْلَهَا، وَالْأَدَاءُ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ لَمْ يَسْتَفِدْ بِهِ شَيْءٌ لَمْ يَكُنْ، انْتَهَى.

وَرَدَّ عَلَيْهِ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ قَوْلَهُ: وَالْأَدَاءُ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ لَمْ يَسْتَفِدْ بِهِ شَيْءٌ لَمْ يَكُنْ؛ حَيْثُ قَالَ فِيهِ شَيْءٌ بَلْ يُسْتَفَادُ بِهِ الْبَرَاءَةَ.

أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ مُرَادَ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ أَنَّهُ لَمْ يَسْتَفِدْ بِالْأَدَاءِ شَيْءٌ فِي جَانِبِ الدَّائِنِ، وَالْبَرَاءَةُ إِنَّمَا تُسْتَفَادُ فِي جَانِبِ الْمَدْيُونِ، وَحَدُّ الْمُعَاوَضَةِ أَنْ يَسْتَفِيدَ كُلُّ وَاحِدٍ مَا لَمْ يَكُنْ قَبْلَهَا، فَإِذَا لَمْ يُسْتَفَدْ فِي جَانِبِ الدَّائِنِ شَيْءٌ لَمْ يَتَحَقَّقْ حَدُّ الْمُعَاوَضَةِ، فَتَمَّ الْمَطْلُوبُ.

(قَوْلُهُ: أَوْ لِأَنَّهُ مُتَعَارَفٌ). قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: "قَوْلُهُ: أَوْ"؛ لِأَنَّهُ مُتَعَارَفٌ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: لِوُجُودِ الْمُقَابَلَةِ، يَعْنِي: أَنَّ حَمْلَ كَلِمَةِ "عَلَى: عَلَى الشَّرْطِ لِأَحَدِ مَعْنَيَيْنِ: إِمَّا لِوُجُودِ الْمُقَابَلَةِ، وَإِمَّا لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الشَّرْطِ فِي الصُّلْحِ مُتَعَارَفٌ.

أَقُولُ: فِيهِ نَظَرَ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى الثَّانِي لَا يَكُونُ عِلَّةً لِحَمْلِ كَلِمَةِ عَلَى

ص: 428

وَالْإِبْرَاءُ مِمَّا يَتَقَيَّدُ بِالشَّرْطِ وَإِنْ كَانَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ كَمَا فِي الْحَوَالَةِ، وَسَتَخْرُجُ الْبُدَاءَةُ بِالْإِبْرَاءِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

عَلَى الشَّرْطِ؛ لِأَنَّهَا لَمَّا كَانَتْ مَوْضُوعَةً لِلْمُعَاوَضَةِ لَمْ يَصِحَّ حَمْلُهَا عَلَى غَيْرِهَا مَا لَمْ يُوجَدْ بَيْنَهُمَا عَلَاقَةُ الْمَجَازِ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ كَوْنَ مِثْلِ هَذَا الشَّرْطِ فِي الصُّلْحِ مُتَعَارَفًا لَا يُجْدِي مُنَاسَبَةً بَيْنَ مَا وُضِعَتْ لَهُ كَلِمَةُ عَلَى، وَبَيْنَ هَذَا الشَّرْطِ حَتَّى تَصْلُحَ عَلَاقَةٌ لِلْمَجَازِ، بِخِلَافِ الْمَعْنَى الْأَوَّلِ، فَإِنَّ اشْتِرَاكَ الْمُعَاوَضَةِ وَالشَّرْطِ فِي مَعْنَى الْمُقَابَلَةِ مُنَاسَبَةٌ مُصَحِّحَةٌ لِلتَّجَوُّزِ. نَعَمْ يَكُونُ الْمَعْنَى الثَّانِي عِلَّةً مُرَجِّحَةً لِلتَّجَوُّزِ بَعْدَ أَنْ ثَبَتَتِ الْعِلَّةُ الْمُصَحِّحَةُ لَهُ، لَكِنَّ الْكَلَامَ فِي كَوْنِهِ عِلَّةً مُسْتَقِلَّةً لِحَمْلِهَا عَلَى الْمَجَازِ وَذَلِكَ لَا يُتَصَوَّرُ إِلَّا بِكَوْنِهِ عِلَّةً مُصَحِّحَةً لِلتَّجَوُّزِ كَالْأَوَّلِ وَلَيْسَ فَلَيْسَ. ثُمَّ أَقُولُ: الْأَقْرَبُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ أَوْ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَارَفٌ مَعْطُوفًا عَلَى الْأَقْرَبِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَصْحِيحًا لِتَصَرُّفِهِ، وَإِنْ كَانَ الظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِ كَثِيرِ مِنَ الشُّرَّاحِ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ، فَمَعْنَى كَلَامِ الْمُصَنِّفِ: فَتُحْمَلُ كَلِمَةُ عَلَى عَلَى الشَّرْطِ عِنْدَ تَعَذُّرِ حَمْلِهَا عَلَى الْمُعَاوَضَةِ لِتَصْحِيحِ تَصَرُّفِ الْعَاقِلِ؛ أَوْ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الشَّرْطِ فِي الصُّلْحِ مُتَعَارَفٌ؛ فَيَكُونُ قَوْلُهُ لِوُجُودِ مَعْنَى الْمُقَابَلَةِ بَيَانًا لِلْعَلَاقَةِ الْمُصَحِّحَةِ لِلتَّجَوُّزِ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ تَصْحِيحًا لِتَصَرُّفِهِ، وَقَوْلُهُ: أَوْ لِأَنَّهُ مُتَعَارَفٌ بَيَانًا لِلْعِلَّةِ الْمُرَجِّحَةِ لِلْحَمْلِ عَلَى الْمَجَازِ بِوَجْهَيْنِ، فَيَنْتَظِمُ اللَّفْظُ وَالْمَعْنَى.

(قَوْلُهُ: وَالْإِبْرَاءُ مِمَّا يَتَقَيَّدُ بِالشَّرْطِ وَإِنْ كَانَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ، كَمَا فِي الْحَوَالَةِ). قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: قَوْلُهُ: كَمَا فِي الْحَوَالَةِ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: فَيَفُوتُ بِفَوَاتِهِ، يَعْنِي: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ مُقَيَّدًا بِشَرْطٍ يَفُوتُ بِفَوَاتِهِ كَانَ كَالْحَوَالَةِ، فَإِنَّ بَرَاءَةَ الْمُحِيلِ مُقَيَّدَةٌ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ حَتَّى لَوْ مَاتَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ مُفْلِسًا عَادَ الدَّيْنُ إِلَى ذِمَّةِ الْمُحِيلِ، انْتَهَى.

أَقُولُ: لَا يَخْفَى عَلَى ذِي مُسْكَةٍ أَنَّ جَعْلَ قَوْلِهِ: كَمَا فِي الْحَوَالَةِ، مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ: فَيَفُوتُ بِفَوَاتِهِ مَعَ تَحَقُّقِ الْجُمَلِ الْكَثِيرَةِ الْفَاصِلَةِ بَيْنَهُمَا- بَعِيدٌ عَنْ سُنَنِ الصَّوَابِ عِنْدَ الْمَجَالِ الْوَاضِحِ لِجَعْلِهِ مُتَعَلِّقًا بِمَا يَتَّصِلُ بِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَالْإِبْرَاءُ، إِنَّمَا يَتَقَيَّدُ بِالشَّرْطِ وَإِنَّ كَانَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ، وَعَنْ هَذَا قَالَ صَاحِبُ

ص: 429

قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ: وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى وُجُوهٍ: أَحَدُهَا مَا ذَكَرْنَاهُ. وَالثَّانِي إِذَا قَالَ صَالَحْتُكَ مِنَ الْأَلْفِ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ تَدْفَعُهَا إِلَيَّ غَدًا وَأَنْتَ بَرِيءٌ مِنَ الْفَضْلِ عَلَى أَنَّكَ إِنْ لَمْ تَدْفَعْهَا إِلَيَّ غَدًا فَالْأَلْفُ عَلَيْكَ عَلَى حَالِهِ.

وَجَوَابُهُ: أَنَّ الْأَمْرَ عَلَى مَا قَالَ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِصَرِيحِ التَّقْيِيدِ فَيُعْمَلُ بِهِ. وَالثَّالِثُ إِذَا قَالَ: أَبْرَأْتُكَ مِنْ خَمْسِمِائَةٍ مِنَ الْأَلْفِ عَلَى أَنْ تُعْطِيَنِي الْخَمْسَمِائَةِ غَدًا وَالْإِبْرَاءُ فِيهِ وَاقِعٌ أَعْطَى الْخَمْسَمِائَةِ أَوْ لَمْ يُعْطِ لِأَنَّهُ أَطْلَقَ الْإِبْرَاءَ أَوَّلًا، وَأَدَاءُ الْخَمْسِمِائَةِ لَا يَصْلُحُ عِوَضًا مُطْلَقًا، وَلَكِنَّهُ يَصْلُحُ شَرْطًا، فَوَقَعَ الشَّكُّ فِي تَقْيِيدِهِ بِالشَّرْطِ فَلَا يَتَقَيَّدُ بِهِ،

النِّهَايَةِ فِي شَرْحِ قَوْلِهِ: كَمَا فِي الْحَوَالَةِ، يَعْنِي: أَنَّ الْبَرَاءَةَ مِمَّا يَتَقَيَّدُ كَالْحَوَالَةِ؛ لِأَنَّ الْحَوَالَةَ عَلَى نَوْعَيْنِ: مُطْلَقَةٌ وَمُقَيَّدَةٌ. وَقَالَ صَاحِبُ الْكَافِي فِي تَقْرِيرِ هَذَا الْمَقَامِ: وَالْإِبْرَاءُ يَتَقَيَّدُ بِالشَّرْطِ وَإِنْ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ كَالْحَوَالَةِ؛ فَإِنَّهَا مُقَيَّدَةٌ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ حَتَّى لَوْ مَاتَ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ مُفْلِسًا يَعُودُ الدَّيْنُ إِلَى ذِمَّةِ الْمُحِيلِ، انْتَهَى.

وَعَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ شَرَحَ جُمْهُورُ الشُّرَّاحِ هَذَا الْمَقَامَ وَلَمْ أَرَ أَحَدًا ذَهَبَ إِلَى كَوْنِ قَوْلِهِ، كَمَا فِي الْحَوَالَةِ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ: فَيَفُوتُ بِفَوَاتِهِ سِوَى صَاحِبِ الْعِنَايَةِ. وَالْعَجَبُ مِنْهُ أَنَّ مَا صَوَّرَهُ مِنَ الْمَعْنَى لَا يُسَاعِدُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَلْ يُنَاسِبُ خِلَافَ ذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ قَالَ: يَعْنِي: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ مُقَيَّدًا بِشَرْطٍ يَفُوتُ بِفَوَاتِهِ كَانَ كَالْحَوَالَةِ، فَإِنَّ بَرَاءَةَ الْمُحِيلِ مُقَيَّدَةٌ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ. وَلَا يَخْفَى عَلَى الْفَطِنِ أَنَّ قَوْلَهُ لَمَّا كَانَ مُقَيَّدًا بِشَرْطٍ كَانَ كَالْحَوَالَةِ، وَقَوْلَهُ:"فَإِنَّ بَرَاءَةَ الْمُحِيلِ"، مُقَيَّدَةٌ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ إِنَّمَا يُنَاسِبُ كَوْنَ قَوْلِهِ: كَمَا فِي الْحَوَالَةِ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ: " وَالْإِبْرَاءُ"، مِمَّا يَتَقَيَّدُ بِالشَّرْطِ، وَإِنَّمَا الْمُسَاعِدُ لَمَّا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَنْ يُقَالَ: يَعْنِي أَنَّ الْإِبْرَاءَ لَمَّا كَانَ فَائِتًا بِفَوَاتِ الشَّرْطِ كَانَ كَالْحَوَالَةِ، فَإِنَّهَا تَفُوتُ بِفَوَاتِ شَرْطِ السَّلَامَةِ عَلَى أَنَّ فَوَاتَ الشَّيْءِ بِفَوَاتِ الشَّرْطِ فَرْعٌ لِصِحَّةِ تَقَيُّدِ ذَلِكَ الشَّيْءَ بِالشَّرْطِ وَلَيْسَ بِأَصْلٍ مُسْتَقِلٍّ فِي الْكَلَامِ، فَكَيْفَ يَحْسُنُ تَعَلُّقُ قَوْلِهِ، كَمَا فِي الْحَوَالَةِ بِذَلِكَ دُونَ أَصْلِهِ، تَبَصَّرْ تَرَشَّدْ.

(قَوْلُهُ: قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ: وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى وُجُوهٍ). قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ، أَيْ: وُجُوهٌ خَمْسَةٌ: فَوَجْهُ الْحَصْرِ فِيهَا هُوَ أَنَّ رَبَّ الدَّيْنِ فِي تَعْلِيقِ الْإِبْرَاءِ بِأَدَاءِ بَعْضِ الدَّيْنِ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ بَدَأَ بِالْأَدَاءِ أَمْ لَا، فَإِنْ بَدَأَ بِهِ فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يُذْكَرَ مَعَهُ بَقَاءُ الْبَاقِي عَلَى الْمَدْيُونِ صَرِيحًا عِنْدَ عَدَمِ الْوَفَاءِ بِالشَّرْطِ أَمْ لَا. فَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ فَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ وَإِنْ ذَكَرَهُ فَالْوَجْهُ الثَّانِي، وَإِنْ لَمْ يَبْدَأْ بِالْأَدَاءِ فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ بَدَأَ بِالْإِبْرَاءِ أَمْ لَا، فَإِنْ بَدَأَ فَالْوَجْهُ الثَّالِثُ، وَإِنْ لَمْ يَبْدَأْ بِالْإِبْرَاءِ فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ بَدَأَ بِحَرْفِ الشَّرْطِ أَمْ لَا، فَإِنْ لَمْ يَبْدَأْ فَالْوَجْهُ الرَّابِعُ وَإِنْ بَدَأَ فَالْوَجْهُ الْخَامِسُ، انْتَهَى كَلَامُهُ، وَهَكَذَا ذَكَرَ وُجُوهَ الْحُصْرِ فِي الْعِنَايَةِ أَيْضًا نَقْلًا عَنْ صَاحِبِ النِّهَايَةِ.

أَقُولُ: فِيهِ إِشْكَالٌ، أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُ جَعَلَ الْوَجْهَ الثَّانِي قِسْمًا مِمَّا بَدَأَ بِالْأَدَاءِ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَبْدَأْ فِيهِ بِالْأَدَاءِ، بَلْ بَدَأَ فِيهِ بِالْمُصَالَحَةِ، وَأَمَا ثَانِيًا فَلِأَنَّهُ جَعَلَ الْوَجْهَ الرَّابِعَ قِسْمًا مِمَّا لَمْ يَبْدَأْ بِالْأَدَاءِ مَعَ أَنَّهُ بَدَأَ فِيهِ بِالْأَدَاءِ، كَمَا تَرَى. وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِنَوْعِ عِنَايَةٍ. أَمَّا عَنِ الْأَوَّلِ فَبِأَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْبَدْءَ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِالْأَدَاءِ صُورَةً إِلَّا أَنَّهُ كَانَ بِهِ مَعْنًى؛ لِأَنَّ حَاصِلَ مَعْنَاهُ: أَدِّ إِلَيَّ غَدًا خَمْسَمِائَةٍ مِنَ الْأَلْفِ وَأَنْتَ بَرِيءٌ مِنَ الْفَضْلِ عَلَى أَنَّكَ إِنْ لَمْ تَدْفَعْهَا إِلَيَّ غَدًا فَالْأَلْفُ عَلَيْكَ عَلَى حَالِهِ، فَالْمُرَادُ بِأَنْ بَدَأَ بِالْأَدَاءِ أَنْ بَدَأَ بِهِ فِيمَا يَتِمُّ بِهِ وَجْهُ الْمَسْأَلَةِ، وَيَمْتَازُ عَنْ سَائِرِ وُجُوهِهَا. وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْوَجْهَ الثَّانِيَ يَتِمُّ بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ حَاصِلِ

ص: 430

بِخِلَافِ مَا إِذَا بَدَأَ بِأَدَاءِ خَمْسِمِائَةٍ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ حَصَلَ مَقْرُونًا بِهِ، فَمِنْ حَيْثُ إِنَّهُ لَا يَصْلُحُ عِوَضًا يَقَعُ مُطْلَقًا، وَمِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يَصْلُحُ شَرْطًا لَا يَقَعُ مُطْلَقًا فَلَا يَثْبُتُ الْإِطْلَاقُ بِالشَّكِّ فَافْتَرَقَا. وَالرَّابِعُ إِذَا قَالَ أَدِّ إِلَيَّ خَمْسَمِائَةٍ عَلَى أَنَّكَ بَرِيءٌ مِنَ الْفَضْلِ وَلَمْ يُؤَقِّتْ لِلْأَدَاءِ وَقْتًا. وَجَوَابُهُ أَنَّهُ يَصِحُّ الْإِبْرَاءُ وَلَا يَعُودُ الدَّيْنُ لِأَنَّ هَذَا إِبْرَاءٌ مُطْلَقٌ، لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُؤَقِّتْ لِلْأَدَاءِ وَقْتًا لَا يَكُونُ الْأَدَاءُ غَرَضًا صَحِيحًا لِأَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ فِي مُطْلَقِ الْأَزْمَانِ فَلَمْ يَتَقَيَّدْ بَلْ يُحْمَلُ عَلَى الْمُعَاوَضَةِ وَلَا يَصْلُحُ عِوَضًا، بِخِلَافٍ مَا تَقَدَّمَ لِأَنَّ الْأَدَاءَ فِي الْغَدِ غَرَضٌ صَحِيحٌ. وَالْخَامِسُ إِذَا قَالَ إِنْ أَدَّيْتَ إِلَيَّ خَمْسَمِائَةٍ أَوْ قَالَ إِذَا أَدَّيْتَ أَوْ مَتَى أَدَّيْتَ.

فَالْجَوَابُ فِيهِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْإِبْرَاءُ لِأَنَّهُ عَلَّقَهُ بِالشَّرْطِ صَرِيحًا، وَتَعْلِيقُ الْبَرَاءَاتِ بِالشُّرُوطِ بَاطِلٌ لِمَا فِيهَا مِنْ مَعْنَى التَّمْلِيكِ حَتَّى يَرْتَدَّ بِالرَّدِّ، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ لِأَنَّهُ مَا أَتَى بِصَرِيحِ الشَّرْطِ فَحُمِلَ عَلَى التَّقْيِيدِ بِهِ.

قَالَ (وَمَنْ قَالَ لِآخَرَ لَا أُقِرُّ لَكَ بِمَالِكَ حَتَّى تُؤَخِّرَهُ عَنِّي أَوْ تَحُطَّ عَنِّي فَفَعَلَ جَازَ عَلَيْهِ) لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُكْرَهٍ، وَمَعْنَى الْمَسْأَلَةِ إِذَا قَالَ ذَلِكَ سِرًّا، أَمَّا إِذَا قَالَ عَلَانِيَةً يُؤْخَذُ بِهِ.

الْمَعْنَى، وَيَمْتَازُ بِهِ عَنْ سَائِرِ الْوُجُوهِ. وَأَمَّا الْمُصَالَحَةُ فَإِنَّهَا ذُكِرَتْ فِيهِ لِمُجَرَّدِ التَّفْصِيلِ وَالْإِيضَاحِ. وَأَمَّا عَنِ الثَّانِي فَبِأَنْ يُقَالَ: لَيْسَ الْمُرَادُ بِالْبَدْءِ بِالْأَدَاءِ فِي وَجْهِ الْحَصْرِ الْبَدْءَ بِالْأَدَاءِ الْمُطْلَقِ، بَلِ الْمُرَادُ بِهِ الْبَدْءُ بِالْأَدَاءِ الْمُؤَقَّتِ. وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ لَمْ يُبْدَأْ فِي الْوَجْهِ الرَّابِعِ بِالْأَدَاءِ الْمُوَقَّتِ، بَلْ إِنَّمَا بَدَأَ فِيهِ بِالْأَدَاءِ الْمُطْلَقِ فَاسْتَقَامَ التَّقْسِيمُ. 50 وَأَجَابَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ عَنِ الْإِشْكَالِ الْأَوَّلِ بِوَجْهٍ آخَرَ؛ حَيْثُ قَالَ: فَإِنْ قِيلَ: لَمْ يُبْدَأْ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي بِالْأَدَاءِ بَلْ بِالْمُصَالَحَةِ، فَلَا مَعْنَى لِجَعْلِهِ قِسْمًا مِمَّا بُدِئَ فِيهِ بِالْأَدَاءِ. قُلْنَا: ذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلَى اتِّحَادِهِ مَعَ مَا بُدِئَ فِيهِ بِالْأَدَاءِ حُكْمًا، فَلْيُتَأَمَّلْ، انْتَهَى.

أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا الْجَوَابُ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ اتِّحَادَهُ مَعَ مَا بُدِئَ فِيهِ بِالْأَدَاءِ حُكْمًا لَا يَقْتَضِي وَلَا يَجُوزُ جَعْلُهُ مِمَّا بُدِئَ فِيهِ بِالْأَدَاءِ؛ إِذْ الِاتِّحَادُ فِي الْحُكْمِ لَا يَسْتَلْزِمُ الِاتِّحَادَ فِي الذَّاتِ، وَلَا فِي الصِّفَاتِ، كَيْفَ وَلَوْ جَازَ جَعْلُ الْوَجْهِ الثَّانِي مِمَّا بُدِئَ فِيهِ بِالْأَدَاءِ بِنَاءً عَلَى اتِّحَادِهِ فِي الْحُكْمِ مَعَ مَا بُدِئَ فِيهِ بِالْأَدَاءِ وَهُوَ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ لَجَازَ جَعْلُ مَا لَمْ يُذْكَرْ مَعَهُ بَقَاءَ الْبَاقِي عَلَى الْمَدْيُونِ صَرِيحًا عِنْدَ عَدَمِ الْوَفَاءِ بِالشَّرْطِ مِمَّا ذُكِرَ مَعَهُ ذَلِكَ، بِنَاءً عَلَى الِاتِّحَادِ فِي الْحُكْمِ أَيْضًا، فَلَمْ يَظْهَرْ وَجْهٌ لِجَعْلِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَالْوَجْهِ الثَّانِي قِسْمَيْنِ مُسْتَقِلَّيْنِ.

(قَوْلُهُ: بِخِلَافِ مَا إِذَا بَدَأَ بِأَدَاءِ خَمْسِمِائَةٍ؛ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ حَصَلَ مَقْرُونًا بِهِ. فَمِنْ حَيْثُ إِنَّهُ لَا يَصْلُحُ عِوَضًا يَقَعُ مُطْلَقًا، وَمِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يَصْلُحُ شَرْطًا لَا يَقَعُ مُطْلَقًا، فَلَا يَثْبُتُ الْإِطْلَاقُ بِالشَّكِّ فَافْتَرَقَا).

أَقُولُ: فِيهِ بَحْثٌ؛ لِأَنَّ هَذَا، وَإِنْ أَفَادَ الْفَرْقَ بَيْنَ الْوَجْهَيْنِ إِلَّا أَنَّهُ يُنَافِي مَا تَقَرَّرَ فِي التَّعْلِيلِ الْمَذْكُورِ مِنْ قِبَلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ كَمَا لَا يَثْبُتُ الْإِطْلَاقُ بِالشَّكِّ لَا يَثْبُتُ الشَّرْطُ بِهِ أَيْضًا، فَيَلْزَمُ أَنْ لَا يَثْبُتَ تَقْيِيدُ الْإِبْرَاءِ بِالشَّرْطِ فِي ذَلِكَ الْوَجْهِ؛ إِذْ لَمْ يَثْبُتُ تَقْيِيدُهُ بِهِ أَوَّلًا هُنَاكَ، كَمَا ثَبَتَ إِطْلَاقُهُ أَوَّلًا فِي الْوَجْهِ الثَّالِثِ حَتَّى لَا يَزُولَ بِالشَّكِّ، بَلْ إِنَّ أَخْذَ التَّقْيِيدِ هُنَاكَ فَإِنَّمَا يُؤْخَذُ مِنْ مُقَارَنَةِ الْإِبْرَاءِ بِالْأَدَاءِ، وَإِذَا كَانَ الْأَدَاءُ مُتَرَدِّدًا بَيْنَ مَا يَقْتَضِي الْإِطْلَاقَ وَمَا يَقْتَضِي التَّقْيِيدَ، كَمَا ذَكَرَهُ هَاهُنَا كَانَ تَقْيِيدُهُ بِالشَّرْطِ مَشْكُوكًا غَيْرَ ثَابِتٍ، وَقَدْ جَزَمَ فِي التَّعْلِيلِ الْمَذْكُورِ هُنَاكَ مِنْ قَبْلِهِمَا بِكَوْنِ الْإِبْرَاءِ مُقَيَّدًا بِالشَّرْطِ فِي ذَلِكَ الْوَجْهِ، وَبَيْنَ ذَلِكَ بِمَا لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ، فَكَانَ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ تَنَافٍ، فَلْيُتَأَمَّلْ فِي التَّوْفِيقِ.

ص: 431

(فَصْلٌ فِي الدَّيْنِ الْمُشْتَرَكِ)

قَالَ (وَإِذَا كَانَ الدَّيْنُ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ فَصَالَحَ أَحَدُهُمَا مِنْ نَصِيبِهِ عَلَى ثَوْبٍ فَشَرِيكُهُ بِالْخِيَارِ، إِنْ شَاءَ اتَّبَعَ الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ بِصِفَةٍ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ نِصْفَ الثَّوْبِ إِلَّا أَنْ يَضْمَنَ لَهُ شَرِيكُهُ رُبُعَ الدَّيْنِ) وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ الدَّيْنَ الْمُشْتَرَكَ بَيْنَ اثْنَيْنِ إِذَا قَبَضَ أَحَدُهُمَا شَيْئًا مِنْهُ فَلِصَاحِبِهِ أَنْ يُشَارِكَهُ فِي الْمَقْبُوضِ لِأَنَّهُ ازْدَادَ بِالْقَبْضِ؛ إِذْ مَالِيَّةُ الدَّيْنِ بِاعْتِبَارِ عَاقِبَةِ الْقَبْضِ، وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ رَاجِعَةٌ إِلَى أَصْلِ الْحَقِّ فَتَصِيرُ كَزِيَادَةِ الْوَلَدِ وَالثَّمَرَةِ وَلَهُ حَقُ الْمُشَارَكَةِ، وَلَكِنَّهُ قَبْلَ الْمُشَارَكَةِ بَاقٍ عَلَى مَالِكِ الْقَابِضِ،

(فَصْلٌ فِي الدَّيْنِ الْمُشْتَرَكِ)

أُخِّرَ بَيَانُ حُكْمِ الدَّيْنِ الْمُشْتَرَكِ عَنِ الْمُفْرَدِ؛ لِأَنَّ الْمُرَكَّبَ يَتْلُو الْمُفْرَدَ. (قَوْلُهُ: وَأَصِلُ هَذَا أَنَّ الدَّيْنَ الْمُشْتَرَكَ بَيْنَ اثْنَيْنِ إِذَا قَبَضَ أَحَدُهُمَا شَيْئًا مِنْهُ، فَلِصَاحِبِهِ أَنْ يُشَارِكَهُ فِي الْمَقْبُوضِ). قَالَ فِي النِّهَايَةِ: وَأَمَّا إِذَا أَخَذَ بِمُقَابَلَةِ نَصِيبِهِ ثَوْبًا لَيْسَ لِصَاحِبِهِ أَنْ يُشَارِكَهُ فِي الْمَقْبُوضِ، بَلِ الْخِيَارُ لِلْقَابِضِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَنْصِيصِ رِوَايَةِ الْمَبْسُوطِ، وَإِشَارَةِ رِوَايَةِ الْكِتَابِ، انْتَهَى.

أَقُولُ: فَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِذَا كَانَ قَبْضُ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ فِي الدَّيْنِ شَيْئًا مِنَ الدَّيْنِ مُخَالِفًا لِأَخْذِ أَحَدِهِمَا ثَوْبًا بِمُقَابَلَةِ نَصِيبِهِ فِي حُكْمِ الْمُشَارَكَةِ فِي الْمَقْبُوضِ لَمْ يَتَحَقَّقْ اتِّحَادٌ فِي الْحُكْمِ بَيْنَ مَسْأَلَةِ مَا إِذَا قَبَضَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ فِي الدَّيْنِ شَيْئًا مِنَ الدَّيْنِ وَبَيْنَ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ، فَلَمْ يَظْهَرْ لِجَعْلِ الْأُولَى أَصْلًا لِلثَّانِيَةِ، كَمَا فَعَلَهُ الْمُصَنِّفُ وَغَيْرُهُ جِهَةَ حُسْنٍ، وَإِنَّمَا يَظْهَرُ حُسْنُ ذَلِكَ فِيمَا إِذَا صَالَحَ أَحَدُهُمَا مِنْ نَصِيبِهِ عَلَى دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ، كَمَا ذُكِرَتْ هَذِهِ الصُّورَةُ أَيْضًا فِي الْمَبْسُوطِ وَمَا نَحْنُ فِيهِ لَيْسَ مِنْ ذَلِكَ.

(قَوْلُهُ: وَلَهُ حَقُّ الْمُشَارَكَةِ). قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: الظَّاهِرُ إِسْقَاطُ لَفْظِ الْحَقِّ، فَإِنَّ الْمُتَحَقَّقَ فِي الْوَلَدِ وَالثَّمَرَةِ حَقِيقَتُهَا لَا حَقُّهَا، انْتَهَى.

أَقُولُ: بَلِ الْحَقُّ إِقْحَامُ لِفَظِّ الْحَقِّ؛ لِأَنَّ الضَّمِيَرَ فِي وَلَهُ عَائِدٌ إِلَى صَاحِبِ الشَّرِيكِ الْقَابِضِ فِي الدَّيْنِ الْمُشْتَرَكِ لَا إِلَى أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَلَيْسَ لَهُ حَقِيقَةُ الْمُشَارَكَةِ فِي الْمَقْبُوضِ وَإِلَّا لَمَا نَفَذَ تَصَرُّفُ الْقَابِضِ فِيهِ قَبْلَ الْمُشَارَكَةِ، وَإِنَّمَا لَهُ حَقُّ الْمُشَارَكَةِ فِيهِ، فَلَوْ أَسْقَطَ لَفْظَ الْحَقِّ هَاهُنَا عَسَى يَتَوَهَّمُ أَنْ يَكُونَ لَهُ حَقِيقَةُ الْمُشَارَكَةِ، كَمَا فِي الْوَلَدِ وَالثَّمَرَةِ، فَأَقْحَمَ لَفْظَ الْحَقِّ دَفْعَا لِذَلِكَ التَّوَهُّمِ. (قَوْلُهُ: وَلَكِنَّهُ قَبْلَ الْمُشَارَكَةِ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ الْقَابِضِ.

ص: 432

لِأَنَّ الْعَيْنَ غَيْرُ الدَّيْنِ حَقِيقَةً وَقَدْ قَبَضَهُ بَدَلًا عَنْ حَقِّهِ فَيَمْلِكُهُ حَتَّى يَنْفُذَ تَصَرُّفُهُ فِيهِ، وَيَضْمَنَ لِشَرِيكِهِ حِصَّتَهُ، وَالدَّيْنُ الْمُشْتَرَكُ يَكُونُ وَاجِبًا بِسَبَبٍ مُتَّحِدٍ كَثَمَنِ الْمَبِيعِ إِذَا كَانَ صَفْقَةً وَاحِدَةً وَثَمَنِ الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ وَالْمَوْرُوثِ بَيْنَهُمَا وَقِيمَةِ الْمُسْتَهْلَكِ الْمُشْتَرَكِ. إِذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ فِي مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ: لَهُ أَنْ يَتْبَعَ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَصْلُ لِأَنَّ نَصِيبَهُ بَاقٍ فِي ذِمَّتِهِ لِأَنَّ الْقَابِضَ قَبَضَ نَصِيبَهُ لَكِنَّ لَهُ حَقَ الْمُشَارَكَةِ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ نِصْفَ الثَّوْبِ لِأَنَّ لَهُ حَقَ الْمُشَارَكَةِ إِلَّا أَنْ يَضْمَنَ لَهُ شَرِيكُهُ رُبُعَ الدَّيْنِ لِأَنَّهُ حَقُّهُ فِي ذَلِكَ. قَالَ (وَلَوِ اسْتَوْفَى نِصْفَ نَصِيبِهِ مِنَ الدَّيْنِ كَانَ لِشَرِيكِهِ أَنْ يُشَارِكَهُ فِيمَا قَبَضَ) لِمَا قُلْنَا (ثُمَّ يَرْجِعَانِ عَلَى الْغَرِيمِ بِالْبَاقِي) لِأَنَّهُمَا لَمَّا اشْتَرَكَا فِي الْمَقْبُوضِ لَا بُدَ أَنْ يَبْقَى الْبَاقِي عَلَى الشَّرِكَةِ.

قَالَ (وَلَوْ اشْتَرَى أَحَدُهُمَا بِنَصِيبِهِ مِنَ الدَّيْنِ سِلْعَةً كَانَ لِشَرِيكِهِ أَنْ يُضَمِّنَهُ رُبُعَ الدَّيْنِ) لِأَنَّهُ صَارَ قَابِضًا حَقَّهُ بِالْمُقَاصَّةِ كَامِلًا، لِأَنَّ مَبْنَى الْبَيْعِ عَلَى الْمُمَاكَسَةِ بِخِلَافِ الصُّلْحِ لِأَنَّ مَبْنَاهُ عَلَى الْإِغْمَاضِ وَالْحَطِيطَةِ، فَلَوْ أَلْزَمْنَاهُ دَفْعَ رُبْعِ الدَّيْنِ يَتَضَرَّرُ بِهِ، فَيَتَخَيَّرُ الْقَابِضَ كَمَا ذَكَرْنَا، وَلَا سَبِيلَ لِلشَّرِيكِ عَلَى الثَّوْبِ

لِأَنَّ الْعَيْنَ غَيْرُ الدَّيْنِ حَقِيقَةً، وَقَدْ قَبَضَهُ بَدَلًا عَنْ حَقِّهِ، فَيَمْلِكُهُ). قَالَ الشُّرَّاحُ قَاطِبَةً: هَذَا اسْتِدْرَاكُ جَوَابِ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: لَوْ كَانَتْ زِيَادَةُ الدَّيْنِ بِالْقَبْضِ كَزِيَادَةِ الثَّمَرَةِ وَالْوَلَدِ لَمَا جَازَ تَصَرُّفُ الْقَابِضِ فِي الْمَقْبُوضِ، كَمَا لَا يَجُوزُ لِأَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ التَّصَرُّفُ فِي الثَّمَرَةِ وَالْوَلَدِ بِغَيْرِ إِذَنْ الْآخَرِ. أَقُولُ: نَعَمْ كَذَلِكَ، لَكِنْ يَرُدُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ وَإِنْ تَمَّ جَوَابًا عَنْ ذَلِكَ.

ص: 433

فِي الْبَيْعِ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِعَقْدِهِ وَالِاسْتِيفَاءِ بِالْمُقَاصَّةِ بَيْنَ ثَمَنِهِ وَبَيْنَ الدَّيْنِ

السُّؤَالُ إِلَّا أَنَّهُ مُنَافٍ لِمَا تَقَرَّرَ آنِفًا مِنْ أَنَّ لِصَاحِبِهِ حَقَّ الْمُشَارَكَةِ فِي الْمَقْبُوضِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ فِي تَعْلِيلِهِ: لِأَنَّ الْعَيْنَ غَيْرُ الدَّيْنِ عُلِمَ مِنْهُ أَنَّ مَا قَبَضَهُ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ غَيْرَ مَا اشْتَرَكَا فِيهِ لَا عَيْنُهُ، وَلَمَّا قَالَ: وَقَدْ قَبَضَهُ بَدَلًا عَنْ حَقِّهِ عُلِمَ مِنْهُ أَنَّ مَا قَبَضَهُ لَيْسَ بَدَلًا عَنِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهُمَا، كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ عَيْنَ ذَلِكَ بَلْ هُوَ بَدَلٌ عَنْ حِصَّةِ الْقَابِضِ فَقَطْ، فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَثْبُتَ لِلشَّرِيكِ السَّاكِتِ حَقُّ الْمُشَارَكَةِ فِي الْمَقْبُوضِ الَّذِي لَيْسَ هُوَ عَيْنُ مَا اشْتَرَكَا فِيهِ، وَلَا بَدَلًا عَنْهُ فَتَأَمَّلْ.

ثُمَّ إِنَّ هَذَا مُخَالِفٌ لِمَا ذُكِرَ فِي شَرْحِ الْأَقْطَعِ فِي تَعْلِيلِ قَوْلِهِ: وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ نِصْفَ الثَّوْبِ، فِي جَوَابِ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ بِأَنْ قَالَ: لِأَنَّ الصُّلْحَ وَقْعَ عَلَى نِصْفِ الدَّيْنِ وَهُوَ مُشَاعٌ؛ لِأَنَّ قِسْمَةَ الدَّيْنِ حَالَ كَوْنِهِ فِي الذِّمَّةِ لَا تَصِحُّ، وَحَقُّ الشَّرِكَةِ مُتَعَلِّقٌ بِكُلِّ جُزْءٍ مِنَ الدَّيْنِ فَصَارَ عِوَضُ الثَّوْبِ نَصْفُهُ مِنْ حَقِّهِ، فَوَقَفَ عَلَى إِجَازَتِهِ، وَأَخْذِهِ النِّصْفَ دَلَالَةً عَلَى إِجَازَةِ الْعَقْدِ فَصَحَّ ذَلِكَ وَجَازَ، فَإِنَّ ضَمِنَ لَهُ شَرِيكُهُ رُبُعَ الدَّيْنِ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَى الثَّوْبِ سَبِيلٌ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الدَّيْنِ، انْتَهَى. فَإِنَّ الظَّاهِرَ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ مَا قَبَضَهُ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ فِي الدَّيْنِ بَدَلًا مِنْ حَقِّهِمَا مَعًا لَا مِنْ حَقِّ الْقَابِضِ فَقَطْ.

(قَوْلُهُ: وَالِاسْتِيفَاءُ بِالْمُقَاصَّةِ بَيْنَ ثَمَنِهِ وَبَيْنَ الدَّيْنِ). هَذَا جَوَابٌ عَنْ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: هَبْ أَنَّهُ مَلَكَهُ بِعَقْدِهِ وَلَكِنْ كَانَ عَقْدُهُ بِبَعْضِ دَيْنٍ مُشْتَرَكٍ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي الِاشْتِرَاكَ فِي الْمَقْبُوضِ فَكَيْفَ تَقُولُونَ: لَا سَبِيلَ لِلشَّرِيكِ عَلَى الثَّوْبِ فِي الْبَيْعِ؟ فَأَجَابَ بِأَنَّ الِاسْتِيفَاءَ لَمْ يَقَعْ بِمَا هُوَ مُشْتَرَكٌ بَلْ بِمَا يَخُصُّهُ مِنَ الثَّمَنِ بِطَرِيقِ الْمُقَاصَّةِ؛ إِذِ الْبَيْعُ يَقْتَضِي ثُبُوتَ الثَّمَنِ فِي ذِمَّةِ الْمُشْتَرِي، وَالْإِضَافَةُ إِلَى الْغَرِيمِ مِنْ نَصِيبِهِ عِنْدَ الْعَقْدِ لَا تُنَافِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ النُّقُودَ عَيْنًا كَانَتْ أَوْ دَيْنًا لَا تَتَعَيَّنُ فِي الْعُقُودِ. كَذَا فِي عَامَّةِ الشُّرُوحِ.

قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ بَعْدَ ذَلِكَ: فَإِنْ قِيلَ: فِي هَذَا الْجَوَابِ وُرُودُ سُؤَالٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ قِسْمَةَ الدَّيْنِ قَبْلِ الْقَبْضِ لَا تَصِحُّ فِي الْمُقَاصَّةِ بِدَيْنٍ خَاصٍّ يَلْزَمُ قِسْمَةَ الدَّيْنِ قَبْلَ الْقَبْضِ. قُلْنَا: قِسْمَةُ الدَّيْنِ قَبْلَ الْقَبْضِ إِنَّمَا لَا تَجُوزُ قَصْدًا، أَمَّا ضَمُّنَا فَجَائِزٌ، وَهَاهُنَا وَقَعَتْ قِسْمَةُ الدَّيْنِ فِي ضِمْنِ صِحَّةِ الشِّرَاءِ، كَمَا وَقَعَتْ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى فِي ضِمْنِ صِحَّةِ الْمُصَالَحَةِ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَدِ اقْتَفَى أَثَرَهُ صَاحِبُ مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ.

وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ تَقْرِيرِ السُّؤَالِ الْمُقَدَّرِ وَجَوَابِ الْمُصَنِّفِ عَنْهُ: وَإِذَا ظَهَرَتِ الْمُقَاصَّةُ انْدَفَعَ مَا يُتَوَهَّمُ مِنْ قِسْمَةِ الدَّيْنِ قَبْلَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّهَا لَزِمَتْ فِي ضِمْنِ الْمُعَاقَدَةِ، فَلَا مُعْتَبِرَ بِهَا، انْتَهَى. أَقُولُ: فِي تَحْرِيرِ قَوْلِ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ قُصُورٌ، فَإِنَّهُ فَرَّعَ انْدِفَاعَ تَوَهُّمِ قِسْمَةِ الدَّيْنِ قَبْلَ الْقَبْضِ عَلَى ظُهُورِ الْمُقَاصَّةِ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ التَّوَهُّمَ إِنَّمَا نَشَأَ مِنَ الْمُقَاصَّةِ؛ إِذْ لَوْ لَمْ تَتَحَقَّقِ الْمُقَاصَّةُ لَلَزِمَ الِاشْتِرَاكُ فِي الثَّوْبِ الْمَقْبُوضِ فِي الْبَيْعِ أَيْضًا بِنَاءً عَلَى الِاشْتِرَاكِ فِيمَا أُضِيفَ إِلَيْهِ الْعَقْدُ مِنْ بَعْضِ الدَّيْنِ الْمُشْتَرَكِ، فَلَا تُتَوَهَّمُ الْقِسْمَةُ قَبْلَ الْقَبْضِ أَصْلًا، وَلِهَذَا فَرَّعَ غَيْرُهُ وُرُودَ السُّؤَالِ بِلُزُومِ الْقِسْمَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ عَلَى تَحَقُّقِ الْمُقَاصَّةِ. ثُمَّ أَقُولُ: لَا احْتِيَاجَ عِنْدِي هَاهُنَا إِلَى التَّشَبُّثِ بِجَوَازِ الْقِسْمَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ ضِمْنًا؛ إِذْ لَا وَجْهَ لِلتَّوَهُّمِ الْمَذْكُورِ أَصْلًا؛ لِأَنَّهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ لِلشَّرِيكِ السَّاكِتِ سَبِيلٌ عَلَى الثَّوْبِ فِي الْبَيْعِ بِنَاءً عَلَى كَوْنِ اسْتِيفَاءِ الشَّرِيكِ الْقَابِضِ فِي الْبَيْعِ بِالْمُقَاصَّةِ كَانَ لَهُ سَبِيلٌ عَلَى مَا اسْتَوْفَاهُ مِنَ الدَّيْنِ الْمُشْتَرَكِ بِالْمُقَاصَّةِ؛ حَيْثُ كَانَ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ نِصْفَهُ وَهُوَ رُبْعُ الدَّيْنِ، فَلَا مَجَالَ لِتَوَهُّمِ قِسْمَةِ الدَّيْنِ قَبْلَ الْقَبْضِ، ضَرُورَةَ أَنْ لَا سَبِيلَ لِأَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا اسْتَوْفَاهُ الْآخَرُ بَعْدَ وُقُوعِ الْقِسْمَةِ. لَا يُقَالُ: تِلْكَ الضَّرُورَةُ فِي الْقِسْمَةِ الْقَصْدِيَّةِ دُونَ الضِّمْنِيَّةِ، وَالْمُتَوَهُّمُ هَاهُنَا مُطْلَقُ قِسْمَةِ الدَّيْنِ قَبْلَ الْقَبْضِ، فَلَا بُدَّ مِنَ الْمَصِيرِ إِلَى أَنْ يُقَالَ: قِسْمَةُ الدَّيْنِ قَبْلَ الْقَبْضِ قَصْدًا غَيْرُ لَازِمَةٍ، وَأَمَّا ضِمْنًا فَلَازِمَةٌ، وَلَكِنَّهَا جَائِزَةٌ؛

ص: 434

وَلِلشَّرِيكِ أَنْ يَتْبَعَ الْغَرِيمَ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا لِأَنَّ حَقَّهُ فِي ذِمَّتِهِ بَاقٍ لِأَنَّ الْقَابِضَ اسْتَوْفَى نَصِيبَهُ حَقِيقَةً لَكِنَّ لَهُ حَقَ الْمُشَارَكَةِ فَلَهُ أَنْ لَا يُشَارِكَهُ، فَلَوْ سَلَّمَ لَهُ مَا قَبَضَ ثُمَّ تَوَى مَا عَلَى الْغَرِيمِ لَهُ أَنْ يُشَارِكَ الْقَابِضَ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِالتَّسْلِيمِ لِيُسَلِّمَ لَهُ مَا فِي ذِمَّةِ الْغَرِيمِ وَلَمْ يُسَلِّمْ، وَلَوْ وَقَعَتِ الْمُقَاصَّةُ بِدَيْنٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنْ قَبْلُ لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ الشَّرِيكُ لِأَنَّهُ قَاضٍ بِنَصِيبِهِ لَا مُقْتَضٍ، وَلَوْ أَبْرَأَهُ عَنْ نَصِيبِهِ فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إِتْلَافٌ وَلَيْسَ بِقَبْضٍ، وَلَوْ أَبْرَأَهُ عَنِ الْبَعْضِ كَانَتْ قِسْمَةُ الْبَاقِي عَلَى مَا بَقِيَ مِنَ السِّهَامِ، وَلَوْ أَخَّرَ أَحَدَهُمَا عَنْ نَصِيبِهِ صَحَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ اعْتِبَارًا بِالْإِبْرَاءِ الْمُطْلَقِ،

لِأَنَّا نَقُولُ: تِلْكَ الضَّرُورَةُ ثَابِتَةٌ قَطْعًا فِي الْقِسْمَةِ الصَّحِيحَةِ بَعْدَ أَنْ وَقَعَتْ، سَوَاءٌ كَانَتْ قَصْدِيَّةً أَوْ ضِمْنِيَّةً، فَلَوْ سَلَّمَ وُقُوعَ قِسْمَةِ الدَّيْنِ قَبْلَ الْقَبْضِ ضِمْنًا هَاهُنَا وَاعْتَرَفَ بِصِحَّتِهَا لَزِمَ أَنْ لَا يَكُونَ لِلشَّرِيكِ السَّاكِتِ سَبِيلٌ عَلَى مَا اسْتَوْفَاهُ الْقَابِضُ مِنَ الدَّيْنِ الْمُشْتَرَكِ بِالْمُقَاصَّةِ أَيْضًا، فَلَزِمَ أَنْ لَا يُضَمِّنَهُ رُبْعَ الدَّيْنِ، وَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ ذَلِكَ، فَالْمَسْلَكُ الصَّحِيحُ أَنْ لَا يُسَلِّمَ لُزُومَ قِسْمَةِ الدَّيْنِ قَبْلَ الْقَبْضِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ لَا قَصْدًا وَلَا ضِمْنًا، كَمَا قَرَّرْنَاهُ.

(قَوْلُهُ: وَلِلشَّرِيكِ أَنْ يَتْبَعَ الْغَرِيمَ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي ذِمَّتِهِ بَاقٍ؛ لِأَنَّ الْقَابِضَ اسْتَوْفَى نَصِيبَهُ حَقِيقَةً لَكِنَّ لَهُ حَقَّ الْمُشَارَكَةِ فَلَهُ أَنْ لَا يُشَارِكَهُ).

أَقُولُ: فِيهِ كَلَامٌ، وَهُوَ أَنَّهُ إِنْ كَانَ حَقَّ الشَّرِيكِ السَّاكِتِ بَاقِيًا فِي ذِمَّةِ الْغَرِيمِ وَكَانَ مَا اسْتَوْفَاهُ الْقَابِضُ نَصِيبُ نَفْسِهِ حَقِيقَةً كَانَ ثُبُوتُ حَقِّ الْمُشَارَكَةِ لِلسَّاكِتِ فِيمَا اسْتَوْفَاهُ الْقَابِضُ مُشْكِلًا غَيْرَ مَعْقُولِ الْمَعْنَى. ثُمَّ إِنَّ هَذَا مُخَالِفٌ لِمَا ذُكِرَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ وَغَيْرِهَا فِي صَدْرِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ مِنَ الْأَصْلِ الصَّحِيحِ الْمُبَرْهَنِ عَلَيْهِ بِأَنْ يُقَالَ: الْأَصْلُ هُنَا أَنَّ الدَّيْنَ الْمُشْتَرَكَ الَّذِي يَثْبُتُ بِسَبَبٍ وَاحِدٍ لِلشَّرِيكَيْنِ إِذَا قَبَضَ أَحَدُهُمَا شَيْئًا مِنْهُ فَالْمَقْبُوضُ مِنَ النَّصِيبَيْنِ؛ لِأَنَّا لَوْ جَعَلْنَاهُ مِنْ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا لَكُنَّا قَدْ قَسَّمْنَا الدَّيْنَ حَالَ كَوْنِهِ فِي الذِّمَّةِ، وَقِسْمَةُ الدَّيْنِ حَالَ كَوْنِهِ فِي الذِّمَّةِ لَا تَجُوزُ.

وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ هُوَ أَنَّ الْقِسْمَةَ تَمْيِيزُ الْحُقُوقِ، وَذَلِكَ لَا يَتَأَتَّى فِيمَا فِي الذِّمَّةِ، وَلِأَنَّ الْقِسْمَةَ فِيهَا مَعْنَى التَّمْلِيكِ؛ لِأَنَّ كُلََّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُقْتَسِمِينَ يَأْخُذُ نِصْفَ حَقِّهِ وَيَأْخُذُ الْبَاقِي عِوَضًا عَمَّا لَهُ فِي يَدِ الْآخَرِ، وَتَمْلِيكُ الدَّيْنِ لِغَيْرِ مَنْ فِي ذِمَّتِهِ لَا يَجُوزُ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا كَانَ الْمَقْبُوضُ مِنَ الْحَقَّيْنِ جَمِيعًا فَكَانَ لِشَرِيكِهِ أَنْ يَأْخُذَ نِصْفَ الْمَقْبُوضِ بِعَيْنِهِ، انْتَهَى فَتَأَمَّلْ.

قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي تَعْلِيلِ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ، فَلَهُ أَنْ لَا يُشَارِكَهُ لِئَلَّا يَنْقَلِبَ مَا لَهُ مَا عَلَيْهِ فَإِنَّهُ خَلْفٌ بَاطِلٌ.

أَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ أَنْ لَا يَثْبُتَ لَهُ حَقُّ الْمُشَارَكَةِ أَصْلًا بَلْ يَتَعَيَّنُ لَهُ عَدَمُ الْمُشَارَكَةِ، وَهَذَا ظَاهِرٌ لُزُومًا وَبُطْلَانًا.

(قَوْلُهُ: وَلَوْ وَقَعَتِ الْمُقَاصَّةُ بِدَيْنٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنْ قَبْلُ لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ الشَّرِيكُ؛ لِأَنَّهُ قَاضٍ بِنَصِيبِهِ لَا مُقْتَصَّ).

أَقُولُ: فِيهِ شَيْءٌ، وَهُوَ أَنَّهُ يَلْزَمُ فِي هَذِهِ الْمُقَاصَّةِ قِسْمَةُ الدَّيْنِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَذَا لَا يَجُوزُ، وَلَيْسَ

ص: 435

وَلَا يَصِحُّ عِنْدَهُمَا لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى قِسْمَةِ الدَّيْنِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَلَوْ غَصَبَ أَحَدُهُمَا عَيْنًا مِنْهُ أَوِ اشْتَرَاهَا شِرَاءً فَاسِدًا وَهَلَكَ فِي يَدِهِ فَهُوَ قَبْضٌ وَالِاسْتِئْجَارُ بِنَصِيبِهِ قَبْضٌ،

هَاهُنَا عَقْدٌ حَتَّى تَجُوزَ فِي ضِمْنِهِ، كَمَا قَالُوا فِي صُورَةِ الْبَيْعِ: اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ تَجْعَلَ نَفْسَ الْمُقَاصَّةِ نَوْعَ عَقْدٍ أَوْ شَبِيهَ عَقْدٍ، وَتَجُوزُ قِسْمَةُ الدَّيْنِ قَبْلَ الْقَبْضِ فِي ضِمْنِهَا أَيْضًا.

(قَوْلُهُ: وَلَا يَصِحُّ عِنْدَهُمَا؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى قِسْمَةِ الدَّيْنِ قَبْلَ الْقَبْضِ). قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ: وَقَالَا: يَلْزَمُ قِسْمَةُ الدَّيْنِ قَبْلَ الْقَبْضِ لِامْتِيَازِ أَحَدِ النَّصِيبَيْنِ عَنِ الْآخَرِ بِاتِّصَافِ أَحَدِهِمَا بِالْحُلُولِ وَالْآخِرِ بِالتَّأْخِيرِ، وَقِسْمَةُ الدَّيْنِ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا تَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ وَصْفٌ شَرْعِيٌّ ثَابِتٌ فِي الذِّمَّةِ، وَذَلِكَ لَا يَتَمَيَّزُ بَعْضُهُ عَنْ بَعْضٍ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ بِتَأْخِيرِ الْبَعْضِ هَلْ يَتَمَيَّزُ أَحَدُ النَّصِيبَيْنِ عَنِ الْآخَرِ أَوْ لَا؟ فَإِنْ تَمَيَّزَ بَطَلَ قَوْلُكُمْ، وَذَلِكَ لَا يَتَمَيَّزُ بَعْضُهُ عَنْ بَعْضٍ، وَإِنْ لَمْ يَتَمَيَّزْ بَطَلَ قَوْلُكُمْ لِامْتِيَازِ أَحَدِ النَّصِيبَيْنِ عَنِ الْآخَرِ بِكَذَا وَكَذَا.

وَالْجَوَابُ عَنْهُ: أَنَّ تَأْخِيرَ الْبَعْضِ فِيهِ يَسْتَلْزِمُ التَّمْيِيزَ بِذِكْرِ مَا يُوجِبُهُ فِيمَا يَسْتَحِيلُ ذَلِكَ فِيهِ، فَمَعْنَى قَوْلِهِ: لِامْتِيَازِ أَحَدِ النَّصِيبَيْنِ، لِاسْتِلْزَامِ التَّأْخِيرِ الِامْتِيَازَ.

فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ جَوَّزُوا إِبْرَاءَ أَحَدِهِمَا عَنْ نَصِيبِهِ، وَذِكْرُ الْإِبْرَاءِ يُوجِبُ التَّمْيِيزَ بِكَوْنِ بَعْضِهِ مَطْلُوبًا وَبَعْضِهِ لَا فِيمَا يَسْتَحِيلُ فِيهِ ذَلِكَ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْقِسْمَةَ تَقْتَضِي وُجُودَ النَّصِيبَيْنِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي صُورَةِ الْإِبْرَاءِ بِمَوْجُودٍ فَلَا قِسْمَةَ. إِلَى هُنَا كَلَامُهُ.

أَقُولُ: فِي الْجَوَابِ الثَّانِي بِحْثٌ لِأَنَّ عَدَمَ تَحَقُّقِ الْقِسْمَةِ فِي صُورَةِ الْإِبْرَاءِ بِسَبَبِ عَدَمِ تَحَقُّقِ مُقْتَضَاهَا لَا يَدْفَعُ السُّؤَالَ الثَّانِي؛ لِأَنَّ حَاصِلَهُ نَقْضُ مَا ذُكِرَ فِي الْجَوَابِ الْأَوَّلِ بِأَنَّ ذِكْرَ مَا يُوجِبُ التَّمْيِيزَ يَتَحَقَّقُ فِي صُورَةِ الْإِبْرَاءِ أَيْضًا، فَلَوِ اسْتَلْزَمَ مُجَرَّدَ ذَلِكَ قِسْمَةُ الدَّيْنِ قَبْلَ الْقَبْضِ فِي صُورَةِ التَّأْخِيرِ لَاسْتَلْزَمَهَا فِي صُورَةِ الْإِبْرَاءِ أَيْضًا، وَأَمَّا عَدَمُ تَحَقُّقِ الْقِسْمَةِ بِسَبَبِ تَخَلُّفِ مُقْتَضَاهَا فَأَمْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ كَمَا تَقْتَضِي وُجُودَ النَّصِيبَيْنِ كَذَلِكَ تَقْتَضِي كَوْنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ النَّصِيبَيْنِ قَابِلًا لِلتَّمْيِيزِ عَنِ الْآخَرِ، وَتَمْيِيزُ بَعْضِ الدَّيْنِ عَنْ بَعْضٍّ غَيْرُ مُتَصَوِّرٍ، فَلَا

ص: 436

وَكَذَا الْإِحْرَاقُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رحمه الله خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ رحمه الله وَالتَّزَوُّجُ بِهِ إِتْلَافٌ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَكَذَا الصُّلْحُ عَلَيْهِ مِنْ جِنَايَةِ الْعَمْدِ. قَالَ (وَإِذَا كَانَ السَّلَمُ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ فَصَالَحَ أَحَدُهُمَا مِنْ نَصِيبِهِ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ لَمْ يَجُزْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ.

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رحمه الله يَجُوزُ الصُّلْحُ) اعْتِبَارًا بِسَائِرِ الدُّيُونِ،

قِسْمَةَ فِي الدَّيْنِ لَا فِي صُورَةِ الْإِبْرَاءِ وَلَا فِي صُورَةِ التَّأْخِيرِ، كَيْفَ وَلَوْ أَمْكَنَ الْقِسْمَةُ فِي الدَّيْنِ لَمَا بَطَلَتْ قِسْمَةُ الدَّيْنِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَإِذَا لَمْ تُتَصَوَّرُ حَقِيقَةُ الْقِسْمَةِ فِي الدَّيْنِ لَا فِي صُورَةِ الْإِبْرَاءِ وَلَا فِي صُورَةِ التَّأْخِيرِ بَقِيَ أَصْلُ النَّقْضِ عَلَى حَالِهِ فَتَدَبَّرْ. (قَوْلُهُ: وَكَذَا الصُّلْحُ عَلَيْهِ عَنْ جِنَايَةِ الْعَمْدِ)

قَالَ فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ: قِيلَ: إِنَّمَا قَيَّدَ بِجِنَايَةِ الْعَمْدِ؛ لِأَنَّ فِي جِنَايَةِ الْخَطَأِ يَرْجِعُ، وَلَكِنْ ذَكَرَ فِي الْإِيضَاحِ مُطْلَقًا فَقَالَ: وَلَوْ شَجَّ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ مُوضِحَةً فَصَالَحَهُ عَلَى حِصَّتِهِ لَمْ يُلْزِمْهُ لِشَرِيكِهِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ عَنِ الْمُوَضِحَةِ بِمَنْزِلَةِ النِّكَاحِ، انْتَهَى. قَالَ فِي الْعِنَايَةِ بَعْدَ ذِكْرِ مَا فِيهَا: وَأَرَى أَنَّهُ قَيَّدَهُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْأَرْشَ قَدْ يَلْزَمُ الْعَاقِلَةَ فَلَمْ يَكُنْ مُقْتَضِيًا لِشَيْءٍ، انْتَهَى.

وَرَدَّ عَلَيْهِ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ؛ حَيْثُ قَالَ فِيهِ: إِنَّ الْعَاقِلَةَ لَا تَعْقِلُ صُلْحًا عَلَى مَا سَيَجِيءُ، انْتَهَى.

أَقُولُ: هَذَا سَاقِطٌ جِدًّا؛ لِأَنَّ الْعَاقِلَةَ إِنَّمَا لَا تَعْقِلُ الْأَرْشَ الَّذِي يَجِبُ بِالصُّلْحِ وَهُوَ الَّذِي يَجِيءُ فِي كِتَابِ الدِّيَاتِ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا فِي الصُّلْحِ عَنْ جِنَايَةِ الْعَمْدِ. وَإِنَّمَا مُرَادُ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ هَاهُنَا أَنَّ الْأَرْشَ قَدْ يَلْزَمُ الْعَاقِلَةَ بِجِنَايَةِ الْخَطَأِ، ثُمَّ يُصَالِحُ عَنْهُ عَلَى مَالٍ أَعْطَاهُ الْجَانِي، فَفِي مَثَلِهِ إِذَا وَقَعَ الصُّلْحُ عَلَى نَصِيبِ الْجَانِي مِنَ الدَّيْنِ الْمُشْتَرَكِ لَمْ يَكُنِ الْجَانِي الْمَصَالِحُ مُقْتَضِيًا لِشَيْءٍ؛ إِذِ الْأَرْشُ لَمْ يَلْزَمْهُ حَتَّى يَكُونَ مُقْتَضِيًا لَهُ بَلْ قَدْ لَزِمَ الْعَاقِلَةَ، فَأَيْنَ مَا أَرَادَهُ ذَلِكَ الرَّادُّ، ثُمَّ أَقُولُ: بَقِيَ كَلَامٌ فِيمَا قَالَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ.

أَمَّا أَوَّلًا: فَلِأَنَّ الْقَاتِلَ يَدْخُلُ مَعَ الْعَاقِلَةِ عِنْدَنَا فَيَكُونُ فِيمَا يُؤَدِّي كَأَحَدِهِمْ عَلَى مَا يَجِيءُ فِي كِتَابِ الْمَعَاقِلِ فَلَمْ يَتِمَّ قَوْلُهُ فَلَمْ يَكُنْ مُقْتَضِيًا لِشَيْءٍ؛ إِذْ قَدْ كَانَ مُقْتَضِيًا لِقَدْرِ مَا لَزِمَهُ أَنْ يُؤَدِّيَهُ مَعَ الْعَاقِلَةِ.

وَأَمَا ثَانِيًا: فَلِأَنَّ مَا ذَكَرَهُ إِنَّمَا يَقْتَضِي إِطْلَاقَ الْجِنَايَةِ لَا تَقْيِيدَهَا بِالْعَمْدِ، فَإِنَّ الْمُصَالِحَ إِذَا لَمْ يَكُنْ

ص: 437

وَبِمَا إِذَا اشْتَرَيَا عَبْدًا فَأَقَالَ أَحَدُهُمَا فِي نَصِيبِهِ

. وَلَهُمَا أَنَّهُ لَوْ جَازَ فِي نَصِيبِهِ خَاصَّةً يَكُونُ قِسْمَةُ الدَّيْنِ فِي الذِّمَّةِ، وَلَوْ جَازَ فِي نَصِيبِهِمَا لَا بُدَ مِنْ إِجَازَةِ الْآخَرِ بِخِلَافِ شِرَاءِ الْعَيْنِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ صَارَ وَاجِبًا بِالْعَقْدِ وَالْعَقْدُ قَامَ بِهِمَا فَلَا يَنْفَرِدُ أَحَدُهُمَا بِرَفْعِهِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ جَازَ لَشَارَكَهُ فِي الْمَقْبُوضِ، فَإِذَا شَارَكَهُ فِيهِ رَجَعَ الْمُصَالِحُ عَلَى مَنْ عَلَيْهِ بِذَلِكَ فَيُؤَدِّي إِلَى عَوْدِ السَّلَمِ بَعْدَ سُقُوطِهِ. قَالُوا: هَذَا إِذَا خَلَطَا رَأْسَ الْمَالِ، فَإِنْ لَمْ يَكُونَا قَدْ خَلَطَاهُ فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ هُوَ عَلَى الْخِلَافِ، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي هُوَ عَلَى الِاتِّفَاقِ.

مُقْتَضِيًا لِشَيْءٍ لَزِمَ أَنْ لَا يَرْجِعَ شَرِيكُهُ عَلَيْهِ، كَمَا فِي الصُّلْحِ عَنْ جِنَايَةِ الْعَمْدِ فَلَمْ يَظْهَرْ لِلتَّقْيِيدِ وَجْهٌ فَلْيُتَأَمَّلْ.

(قَوْلُهُ: وَلَهُمَا أَنَّهُ لَوْ جَازَ فِي نَصِيبِهِ خَاصَّةً يَكُونُ قِسْمَةُ الدَّيْنِ فِي الذِّمَّةِ، وَلَوْ جَازَ فِي نَصِيبِهِمَا لَا بُدَّ مِنْ إِجَازَةِ الْآخَرِ)، يَعْنِي أَنَّهُ لَوْ جَازَ، فَأَمَّا إِنْ جَازَ فِي نَصِيبِهِ خَاصَّةً أَوْ فِي النِّصْفِ مِنَ النَّصِيبَيْنِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ لَزِمَ قِسْمَةَ الدَّيْنِ قَبْلَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّ خُصُوصِيَّةَ نَصِيبِهِ لَا تَظْهَرُ إِلَّا بِالتَّمْيِيزِ وَلَا تَمْيِيزَ إِلَّا بِالْقِسْمَةِ وَاللَّازِمُ بَاطِلٌ. وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَلَا بُدَّ مِنْ إِجَازَةِ الْآخَرِ لِتَنَاوُلِهِ بَعْضَ نَصِيبِهِ.

أَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ، أَمَّا أَوَّلًا: فَلِأَنَّ هَذَا الدَّلِيلَ مَنْقُوضٌ بِسَائِرِ الدُّيُونِ؛ لِأَنَّهُ جَارَ فِيهَا بِعَيْنِهِ، كَمَا لَا يَخْفَى مَعَ تَخَلُّفِ الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ وَهُوَ عَدَمُ جَوَازِ الصُّلْحِ، كَمَا تَقَرَّرَ فِي دَلِيلِ أَبِي يُوسُفَ.

وَأَمَا ثَانِيًا: فَلِأَنَّ قِسْمَةَ الدَّيْنِ فِي الذِّمَّةِ إِنَّمَا لَا تَجُوزُ إِذَا كَانَتْ قَصْدًا، وَأَمَّا إِذَا كَانَتْ ضِمْنًا فَتَجُوزُ، كَمَا صَرَّحُوا بِهِ وَقَدْ مَرَّ مِنْ قَبْلُ، وَفِي الشِّقِّ الْأَوَّلِ مِنَ التَّرْدِيدِ الْمَذْكُورِ إِنَّمَا لَزِمَ قِسْمَةَ الدَّيْنِ قَبْلَ الْقَبْضِ فِي ضِمْنِ عَقْدِ الصُّلْحِ فَلَا مَحْذُورَ فِي اللَّازِمِ.

(قَوْلُهُ: وَلِأَنَّهُ لَوْ جَازَ لَشَارَكَهُ فِي الْمَقْبُوضِ، فَإِذَا شَارَكَهُ فِيهِ رَجَعَ الْمُصَالِحُ عَلَى مَنْ عَلَيْهِ بِذَلِكَ فَيُؤَدِّي إِلَى عَوْدِ السَّلَمِ بَعْدَ سُقُوطِهِ). قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ أَخْذًا مِنْ شَرْحِ تَاجِ الشَّرِيعَةِ: وَاعْتَرَضَ بِأَنَّ هَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي الدَّيْنِ الْمُشْتَرَكِ إِذَا

ص: 438

(فَصْلٌ فِي التَّخَارُجِ)

(وَإِذَا كَانَتِ الشَّرِكَةُ بَيْنَ وَرَثَةٍ فَأَخْرَجُوا أَحَدَهُمْ مِنْهَا بِمَالٍ أَعْطَوْهُ إِيَّاهُ وَالتَّرِكَةُ عَقَارٌ أَوْ عُرُوضٌ جَازَ قَلِيلًا كَانَ مَا أَعْطَوْهُ إِيَّاهُ أَوْ كَثِيرًا) لِأَنَّهُ أَمْكَنَ تَصْحِيحُهُ بَيْعًا. وَفِيهِ أَثَرُ عُثْمَانَ، فَإِنَّهُ صَالَحَ تَمَاضُرَ الْأَشْجَعِيَّةَ امْرَأَةَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رضي الله عنه عَنْ رُبُعِ ثَمَنِهَا عَلَى ثَمَانِينَ أَلْفِ دِينَارٍ.

اسْتَوْفَى أَحَدُهُمَا نِصْفَهُ، فَإِذَا شَارَكَهُ صَاحِبُهُ فِي النِّصْفِ رَجَعَ الْمُصَالِحُ بِذَلِكَ عَلَى الْغَرِيمِ وَفِيهِ عَوْدُ الدَّيْنِ بَعْدَ سُقُوطِهِ.

وَأُجِيبُ بِأَنَّهُ أَخَذَ بَدَّلَ الدَّيْنِ، وَأَخْذُهُ يُؤْذِنُ بِتَقْرِيرِ الْمُبَدِّلِ لَا بِسُقُوطِهِ، بَلْ يَتَقَاصَّانِ وَيَثْبُتُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَيْنٌ فِي ذِمَّةِ صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّ الدُّيُونَ تُقْضَى بِأَمْثَالِهَا وَفِي السَّلَمِ يَكُونُ فَسْخًا وَالْمَفْسُوخُ لَا يَعُودُ بِدُونِ تَجْدِيدِ السَّبَبِ. انْتَهَى كَلَامُهُ.

أَقُولُ: لِمُعْتَرِضٍ أَنْ يَعُودَ. وَيَقُولُ: هَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ أَيْضًا فِيمَا إِذَا اشْتَرَيَا عَبْدًا فَأَقَالَ أَحَدُهُمَا فِي نَصِيبِهِ، وَالْفَرْقُ الْمَزْبُورُ فِي الْجَوَابِ الْمَزْبُورِ لَا يَتَمَشَّى فِيهِ؛ لِأَنَّ الْإِقَالَةَ فَسْخٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَقَدْ ذَكَرَ فِي آخِرِ الْجَوَابِ أَنَّ الْمَفْسُوخَ لَا يَعُودُ بِدُونِ تَجْدِيدِ السَّبَبِ، وَلَمْ يَتَجَدَّدْ السَّبَبُ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ قَطْعًا، فَيَنْتَقِضُ الدَّلِيلُ الْمَذْكُورُ بِهَا. وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ عَنْهُ بِمَنْعِ جَرَيَانِ قَوْلِهِ: لَوْ جَازَ لَشَارَكَهُ فِي الْمَقْبُوضِ، فِي صُورَةِ الْإِقَالَةِ فِي الْعَيْنِ بِنَاءً عَلَى جَوَازِ تَفَرُّدِ أَحَدِهِمَا بِالرَّفْعِ فِي الْعَيْنِ، كَمَا فُهِمَ مِنْ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ، بِخِلَافِ شِرَاءِ الْعَيْنِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ صَارَ وَاجِبًا بِالْعَقْدِ وَالْعَقْدُ قَامَ بِهِمَا فَلا يَنْفَرِدُ أَحَدُهُمَا بِرَفْعِهِ فَلَمْ يُوجَدِ الْمَعْنَى الْمَذْكُورِ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ فَلَا انْتِقَاضَ بِهَا، تَأَمَّلْ تَقِفُ.

(فَصَلَ فِي التَّخَارُجِ)

التَّخَارُجُ: تَفَاعَلَ مِنَ الْخُرُوجِ، وَمَعْنَاهُ أَنْ يَتَصَالَحَ الْوَرَثَةُ عَلَى إِخْرَاجِ بَعْضِهِمْ مِنِ الْمِيرَاثِ بِشَيْءٍ مَعْلُومٍ. وَإِنَّمَا أَخَّرَهُ لِقِلَّةِ وُقُوعِهِ؛ إِذْ قَلَّمَا يَرْضَى أَحَدٌ بِأَنْ يَخْرُجَ مِنَ الْبَيْنِ بِغَيْرِ اسْتِيفَاءِ نَصِيبِهِ. أَوْ لِوُقُوعِهِ بَعْدَ الْحَيَاةِ.

(قَوْلُهُ: وَفِيهِ أَثَرُ عُثْمَانَ رضي الله عنه فَإِنَّهُ صَالَحَ تَمَاضُرَ الْأَشْجَعِيَّةَ امْرَأَةَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رضي الله عنه عَنْ رُبْعِ ثَمَنِهَا عَلَى ثَمَانِينَ أَلْفِ دِينَارٍ). قَالَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ:

ص: 439

قَالَ (وَإِنْ كَانَتِ التَّرِكَةُ فِضَّةً فَأَعْطَوْهُ ذَهَبًا أَوْ كَانَ ذَهَبًا فَأَعْطَوْهُ فِضَّةً فَهُوَ كَذَلِكَ) لِأَنَّهُ بَيْعُ الْجِنْسِ بِخِلَافِ الْجِنْسِ فَلَا يُعْتَبَرُ التَّسَاوِي وَيُعْتَبَرُ التَّقَابُضُ فِي الْمَجْلِسِ لِأَنَّهُ صَرْفٌ غَيْرَ أَنَّ الَّذِي فِي يَدِهِ بَقِيَّةُ التَّرِكَةِ إِنْ كَانَ جَاحِدًا يَكْتَفِي بِذَلِكَ الْقَبْضِ لِأَنَّهُ قَبْضُ ضَمَانٍ فَيَنُوبُ عَنْ قَبْضِ الصُّلْحِ وَإِنْ كَانَ مُقِرًّا لَا بُدَ مِنْ تَجْدِيدِ الْقَبْضِ لِأَنَّهُ قَبْضُ أَمَانَةٍ فَلَا يَنُوبُ عَنْ قَبْضِ الصُّلْحِ (وَإِنْ كَانَتْ التَّرِكَةُ ذَهَبًا وَفِضَّةً وَغَيْرَ ذَلِكَ فَصَالَحُوهُ عَلَى ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ فَلَا بُدَ أَنْ يَكُونَ مَا أَعْطَوْهُ أَكْثَرَ مِنْ نَصِيبِهِ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ حَتَّى يَكُونَ نَصِيبُهُ بِمِثْلِهِ وَالزِّيَادَةُ بِحَقِّهِ مِنْ بَقِيَّةِ التَّرِكَةِ) احْتِرَازًا عَنِ الرِّبَا،

وَالْأَصْلُ فِي جَوَازِ التَّخَارُجِ مَا رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي الْأَصْلِ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الصُّلْحِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَمَّنْ حَدَّثَهُ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ إِحْدَى نِسَاءِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ صَالَحُوهَا عَلَى ثَلَاثَةٍ وَثَمَانِينَ أَلْفًا عَلَى أَنْ أَخْرَجُوهَا مِنَ الْمِيرَاثِ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ أَيْضًا: حَدَّثَنَا أَبُو يُوسُفَ عَمَّنْ حَدَّثَهُ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ بِتَخَارُجِ أَهْلِ الْمِيرَاثِ، وَكَذَلِكَ رَوَى الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ: أَنَّ إِحْدَى نِسَاءَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ صَالَحُوهَا عَلَى ثَلَاثَةٍ وَثَمَانِينَ أَلْفًا عَلَى أَنْ أَخْرَجُوهَا مِنَ الْمِيرَاثِ،

وَقَدْ أَثْبَتَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرْخَسِيُّ وَعَلَاءُ الدَّيْنِ الْإِسْبِيَجَابِيُّ فِي شَرْحِ الْكَافِي لَفْظُ الْكَافِي، كَمَا فِيهِ مِنْ غَيْرِ تَغْيِيرٍ، إِلَّا أَنَّ شَمْسَ الْأَئِمَّةِ السَّرْخَسِيَّ قَالَ: وَهِيَ تَمَاضُرُ كَانَ طَلَّقَهَا فِي مَرَضِهِ، فَاخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ فِي مِيرَاثِهَا مِنْهُ ثُمَّ صَالَحُوهَا عَلَى الشَّطْرِ، وَكَانَتْ لَهُ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ وَأَوْلَادٍ، فَحَظُّهَا رُبْعُ الثَّمَنِ جُزْءٌ مِنَ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ جُزْءًا مِنَ التَّرِكَةِ فَصَالَحُوهَا عَلَى نِصْفِ ذَلِكَ وَهُوَ جُزْءٌ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَسِتِّينَ جُزْءًا وَأَخَذَتْ بِهَذَا الْحِسَابِ ثَلَاثَةً وَثَمَانِينَ أَلْفًا. وَقَدْ رَوَى مُحَمَّدٌ الْأَلْفَ مُطْلَقًا وَلَمْ يُفَسِّرْ أَنَّهَا دَرَاهِمُ أَوْ دَنَانِيرُ، وَذَكَرَ ثَلَاثَةً قَبْلَ الثَّمَانِينَ وَلَمْ يَذْكُرِ اسْمَ الْمُصَالَحَةِ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ عَنْ كَمْ نِسْوَةً مَاتَ. وَصَاحِبُ الْهِدَايَةِ لَمْ يَذْكُرِ الثَّلَاثَةَ قَبْلَ الثَّمَانِينَ، وَفَسَّرَ الثَّمَانِينَ بِالدِّينَارِ. إِلَى هُنَا لَفَظُ غَايَةِ الْبَيَانِ، وَهَذَا بَسَّطَ مَا ذُكِرَ فِي جُمْلَةِ الشُّرُوحِ هَاهُنَا غَيْرُ أَنَّهُ ذَكَرَ فِي سَائِرِ الشُّرُوحِ أَنَّهُ ذَكَرَ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ ثَلَاثَةً وَثَمَانِينَ أَلْفَ دِينَارٍ.

(قَوْلُهُ: وَإِنْ كَانَتِ التَّرِكَةُ فِضَّةً وَذَهَبًا وَغَيْرَ ذَلِكَ فَصَالَحُوهُ عَلَى ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَا أَعْطَوْهُ أَكْثَرَ مِنْ نَصِيبِهِ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ حَتَّى يَكُونَ نَصِيبُهُ بِمِثْلِهِ وَالزِّيَادَةُ بِحَقِّهِ مِنْ بَقِيَّةِ التَّرِكَةِ احْتِرَازًا عَنِ الرِّبَا). أَمَّا إِذَا كَانَ مَا أَعْطَوْهُ أَقَلَّ مِنْ نَصِيبِهِ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ فَلَا يَجُوزُ الصُّلْحُ؛ لِأَنَّهُ تَبْقَى الزِّيَادَةُ عَلَى الْمَأْخُوذِ مَنْ جَنَّسَ ذَلِكَ

ص: 440

وَلَا بُدَ مِنَ التَّقَابُضِ فِيمَا يُقَابِلُ نَصِيبَهُ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لِأَنَّهُ صَرْفٌ فِي هَذَا الْقَدْرِ، وَلَوْ كَانَ بَدَلَ الصُّلْحِ عَرَضًا جَازَ مُطْلَقًا لِعَدَمِ الرِّبَا، وَلَوْ كَانَ فِي التَّرِكَةِ دَرَاهِمُ وَدَنَانِيرُ وَبَدَلُ الصُّلْحِ دَرَاهِمُ وَدَنَانِيرُ أَيْضًا جَازَ الصُّلْحُ كَيْفَمَا كَانَ صَرْفًا لِلْجِنْسِ إِلَى خِلَافِ الْجِنْسِ كَمَا فِي الْبَيْعِ لَكِنْ يُشْتَرَطُ التَّقَابُضُ لِلصَّرْفِ. قَالَ (وَإِذَا كَانَ فِي التَّرِكَةِ دَيْنٌ عَلَى النَّاسِ فَأَدْخَلُوهُ فِي الصُّلْحِ عَلَى أَنْ يُخْرِجُوا الْمُصَالِحَ عَنْهُ وَيَكُونَ الدَّيْنُ لَهُ فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ) لِأَنَّ فِيهِ تَمْلِيكَ الدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ وَهُوَ حِصَّةُ الْمُصَالِحِ (وَإِنْ شَرَطُوا أَنْ يَبْرَأَ الْغُرَمَاءُ مِنْهُ وَلَا يَرْجِعُ عَلَيْهِمْ بِنَصِيبِ الْمُصَالِحِ فَالصُّلْحُ جَائِزٌ) لِأَنَّهُ إِسْقَاطٌ وَهُوَ تَمْلِيكُ الدَّيْنِ مِمَّنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ وَهُوَ جَائِزٌ، وَهَذِهِ حِيلَةُ الْجَوَازِ،

وَمِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ خَالِيَةً عَنِ الْعِوَضِ، وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ مَا أَعْطَوْهُ مِثْلَ نَصِيبِهِ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ فَلَا يَجُوزُ الصُّلْحُ؛ لِأَنَّهُ تَبْقَى الزِّيَادَةُ عَلَى الْمَأْخُوذِ مَنْ جَنْسِ ذَلِكَ وَمِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ خَالِيَةً عَنِ الْعِوَضِ، فَتَعَذَّرَ تَجْوِيزُهُ بِطَرِيقِ الْمُعَاوَضَةِ فِي هَاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ لِلُزُومِ الرِّبَا، وَلَا يَصِحُّ تَجْوِيزُهُ بِطَرِيقِ الْإِبْرَاءِ عَنِ الْبَاقِي أَيْضًا؛ لِأَنَّ التَّرِكَةَ عَيْنٌ وَالْإِبْرَاءُ عَنِ الْأَعْيَانِ بَاطِلٌ. كَذَا فِي الذَّخِيرَةِ وَفِي كَثِيرٍ مِنْ شُرُوحِ هَذَا الْكِتَابِ.

أَقُولُ: عَدَمُ صِحَّةِ تَجْوِيزِ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْإِبْرَاءِ عَنِ الْبَاقِي مَنْظُورٌ فِيهِ عِنْدِي؛ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ عَنْ نَفْسِ الْأَعْيَانِ وَإِنْ كَانَ بَاطِلًا إِلَّا أَنَّ الْبَرَاءَةَ عَنْ دَعْوَى الْأَعْيَانِ صَحِيحَةٌ، كَمَا صَرَّحُوا بِهِ وَقَدْ مَرَّ فِي الْكِتَابِ. فَلَمْ يَصِحَّ تَجْوِيزُ الصُّلْحِ عَلَى الْأَقَلِّ أَوِ الْمُثُلِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ بِطَرِيقِ الْبَرَاءَةِ عَنْ دَعْوَى الْبَاقِي وَحَمْلِ كَلَامِ الْعَاقِلِ عَلَى الصِّحَّةِ وَاجِبٌ مَهْمَا أَمْكَنَ. فَإِنْ قُلْتَ: قَدْ مَرَّ فِي الْكِتَابِ أَنَّهُ لَوِ ادَّعَى دَارًا فَصَالَحَ عَلَى قِطْعَةٍ مِنْهَا لَمْ يَصِحَّ الصُّلْحُ؛ لِأَنَّ مَا قَبَضَهُ عَيْنُ حَقِّهِ وَهُوَ عَلَى دَعْوَاهُ فِي الْبَاقِي وَمَا نَحْنُ فِيهِ نَظِيرَ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ فَإِذَا لَمْ يَصِحَّ الصُّلْحُ هُنَاكَ فَكَيْفَ يَصِحُّ هَاهُنَا.

قُلْتُ: قَدْ مَرَّ أَيْضًا فِي الشُّرُوحِ هُنَاكَ أَنَّ مَا ذُكِرَ جَوَابُ غَيْرِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَأَمَّا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ. وَقَدْ ذُكِرَ فِي الذَّخِيرَةِ وَفِي فَتَاوَى قَاضِيخَانَ أَيْضًا اخْتِلَافُ جَوَابِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَجَوَابِ غَيْرِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ. حَتَّى قَالَ فِي الذَّخِيرَةِ: هُنَاكَ وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْإِبْرَاءَ لَاقَى عَيْنًا، وَدَعْوَى وَالْإِبْرَاءِ عَنِ الدَّعْوَى صَحِيحٌ وَإِنْ كَانَ الْإِبْرَاءُ عَنِ الْعَيْنِ لَا يَصِحُّ. وَأَمَّا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ فَالْجَوَابُ عَدَمِ صِحَّةِ الصُّلْحِ رِوَايَةً وَاحِدَةً لَا غَيْرَ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي جَمِيعِ

ص: 441

وَأُخْرَى أَنْ يُعَجِّلُوا قَضَاءَ نَصِيبِهِ مُتَبَرِّعِينَ

، وَفِي الْوَجْهَيْنِ ضَرَرٌ بِبَقِيَّةِ الْوَرَثَةِ. وَالْأَوْجُهُ أَنْ يُقْرِضُوا الْمُصَالِحَ مِقْدَارَ نَصِيبِهِ وَيُصَالِحُوا عَمَّا وَرَاءَ الدَّيْنِ.

الْكُتُبِ، فَيَرُدُّ عَلَيْهِ مَا أَوْرَدْنَاهُ مِنَ النَّظَرِ، كَمَا لَا يَخْفَى. وَقَالَ الْحَاكِمُ أَبُو الْفَضْلِ: إِنَّمَا يَبْطُلُ الصُّلْحُ عَنْ مِثْلِ نَصِيبِهِ مِنَ الدَّرَاهِمِ عَلَى أَقَلِّ مِنْ نَصِيبِهِ مِنَ الدَّرَاهِمِ حَالَةَ التَّصَادُقِ. وَأَمَّا حَالَةُ الْمُنَاكَرَةِ فَالصُّلْحُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ حَالَةَ الْمُنَاكَرَةِ الْمُعْطِي يُعْطِي الْمَالَ لِقَطْعِ الْمُنَازَعَةِ وَيَفْدِي بِهِ يَمِينَهُ فَلَا يَتَمَكَّنُ الرِّبَا، كَذَا فِي الذَّخِيرَةِ وَالتَّتِمَّةِ. وَنُقِلَ عَنْهُمَا فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ.

وَقَالَ الْإِمَامُ عَلَاءُ الدِّينِ الْإِسْبِيجَابِيُّ فِي شَرْحِ الْكَافِي لِلْحَاكِمِ الشَّهِيدِ: قَالَ أَبُو الْفَضْلِ - يَعْنِي الْحَاكِمَ الشَّهِيدَ -: إِنَّمَا يَبْطُلُ الصُّلْحُ عَلَى أَقَلِّ مِنْ نَصِيبِهَا مِنَ الْعَيْنِ فِي حَالَةِ التَّصَادُقِ، أَمَّا فِي حَالَةِ الْمُنَاكَرَةِ فَالصُّلْحُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ إِنْ لَمْ يُمْكِنْ تَصْحِيحُهُ مُعَاوَضَةً يُمْكِنُ تَصْحِيحُهُ إِسْقَاطًا. ثُمَّ قَالَ الْإِمَامُ الْإِسْبِيجَابِيُّ: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ بَاطِلٌ فِي الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ مُعَاوَضَةً فِي حَقِّ الْمُدَّعِي فَيَدْخُلُ فِيهِ مَعْنَى الرِّبَا مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي قُلْنَا، انْتَهَى. وَهَكَذَا نُقِلَ عَنْهُ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ.

وَقَالَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ قَاضِيخَانَ فِي فَتَاوَاهُ: قَالَ الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ: إِنَّمَا يَبْطُلُ الصُّلْحُ عَلَى أَقَلِّ مِنْ حِصَّتِهَا مِنْ مَالِ الرِّبَا فِي حَالَةِ التَّصَادُقِ. أَمَّا فِي حَالَةِ الْجُحُودِ وَالْمُنَاكَرَةِ يَجُوزُ الصُّلْحُ. وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ فِي حَالَةِ الْإِنْكَارِ مَا يُؤْخَذُ لَا يَكُونُ بَدَلًا لَا فِي حَقِّ الْآخِذِ وَلَا فِي حَقِّ الدَّافِعِ، انْتَهَى كَلَامُهُ.

أَقُولُ: فِي الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرَهُ قَاضِيخَانَ إِشْكَالٌ؛ لِأَنَّ عَدَمَ كَوْنِ الْمَأْخُوذِ بَدَلًا فِي حَقِّ الدَّافِعِ ظَاهِرٌ مُسَلَّمٌ، وَأَمَّا عَدَمُ كَوْنِ ذَلِكَ بَدَلًا فِي حَقِّ الْآخِذِ فَمَمْنُوعٌ.

فَإِنْ قُلْتَ: إِنَّمَا لَا يَكُونُ الْمَأْخُوذُ بَدَلًا فِي حَقِّ الْآخِذِ أَيْضًا لِإِمْكَانِ تَصْحِيحِ هَذَا الصُّلْحِ بِدُونِ الْحَمْلِ عَلَى الْمُعَاوَضَةِ بِحَمْلِهِ عَلَى أَخْذِ عَيْنِ الْحَقِّ فِي قَدْرِ الْمَأْخُوذِ وَإِسْقَاطِ الْحَقِّ فِي الْبَاقِي، كَمَا قَالُوا فِي الصُّلْحِ عَنِ الدَّيْنِ بِأَقَلَّ مِنْ جِنْسِهِ.

قُلْتُ: الْكَلَامُ فِي الصُّلْحِ عَنْ أَعْيَانِ التَّرِكَةِ، وَالْإِبْرَاءُ عَنِ الْأَعْيَانِ بَاطِلٌ عَلَى مَا صَرَّحُوا بِهِ، فَلَوْ أَمْكَنَ تَصْحِيحُ هَذَا الصُّلْحِ فِي حَالَةِ الْمُنَاكَرَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى أَخْذِ بَعْضِ الْحَقِّ وَإِسْقَاطِ بَعْضِهِ الْآخَرِ لَأَمْكَنُ تَصْحِيحُهُ فِي حَالَةِ التَّصَادُقِ أَيْضًا بِذَلِكَ الطَّرِيقِ لِعَدَمِ الْفَارِقِ بَيْنَ الْحَالَتَيْنِ فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى قَطْعًا، وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى عَدَمِ إِمْكَانِ تَصْحِيحِهِ أَصْلًا فِي حَالَةِ التَّصَادُقِ. نَعَمْ بَقِيَ لَنَا الْكَلَامُ فِي هَذَا الْمَقَامِ بِأَنَّهُ لِمَ لَا يَجُوزُ تَصْحِيحُ هَذَا الصُّلْحِ فِي الْحَالَتَيْنِ مَعًا بِحَمْلِهِ عَلَى الْبَرَاءَةِ مِنْ دَعْوَى الْبَاقِي مِنْ أَعْيَانِ التَّرِكَةِ لَا عَنْ نَفْسِ تِلْكَ الْأَعْيَانِ، وَالْبَاطِلُ هُوَ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ، كَمَا قَرَّرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ.

(قَوْلُهُ: وَفِي الْوَجْهَيْنِ ضَرَرٌ بِبَقِيَّةِ الْوَرَثَةِ) لِعَدَمِ رُجُوعِهِمْ عَلَى الْغُرَمَاءِ، كَذَا فِي الْكِفَايَةِ وَشَرْحِ تَاجِ الشَّرِيعَةِ. وَقَالُوا فِي سَائِرِ الشُّرُوحِ: أَمَّا فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فَإِنَّ بَقِيَّةَ الْوَرَثَةِ لَا يُمْكِنُهُمُ الرُّجُوعُ عَلَى الْغُرَمَاءِ، وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي لُزُومُ النَّقْدِ عَلَيْهِمْ بِمُقَابَلَةِ الدَّيْنِ الَّذِي هُوَ نَسِيئَةٌ وَالنَّقْدُ خَيْرٌ مِنَ النَّسِيئَةِ، انْتَهَى.

قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ بَعْدَ نَقْلِ الْمَعْنَى الْأَوَّلِ عَنِ الْكِفَايَةِ: هَذَا هُوَ الْحَقُّ، لَا مَا فِي سَائِرِ الشُّرُوحِ مِنْ لُزُومِ النَّقْدِ بِالنَّسِيئَةِ فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ؛ إِذْ لَا نَسِيئَةَ عِنْدَ التَّبَرُّعِ، فَلْيُتَأَمَّلْ، انْتَهَى.

أَقُولُ: قَدْ يَكُونُ التَّبَرُّعُ فِي نَفْسِ الْمَالِ بِأَنْ يُعْطِيَهُ عَلَى أَنْ لَا يَأْخُذَ عَيْنَهُ وَلَا بَدَلَهُ مِنْ بَعْدُ، وَقَدْ يَكُونُ فِي نَقْدِهِ وَتَعْجِيلِهِ بِأَنْ يُعْطِيَهُ فِي الْحَالِ عِنْدَ عَدَمِ وُجُوبِ إِعْطَائِهِ عَاجِلًا عَلَيْهِ، وَهَذَا لَا يُنَافِي أَنْ يَأْخُذَ عَيْنَهُ أَوْ بَدَلَهُ فِي الْآجِلِ، فَلَمَّا كَانَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي:"مُتَبَرِّعِينَ"، مُحْتَمِلًا لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ صُورَتَيِ التَّبَرُّعِ حَمَلَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ عَلَى الصُّورَةِ الْأَوْلَى لِتَبَادُرِهَا، فَفَسَّرَ ضَرَرَ بَقِيَّةِ الْوَرَثَةِ فِي الْوَجْهَيْنِ مَعًا بِعَدَمِ رُجُوعِهِمْ عَلَى الْغُرَمَاءِ، وَحَمَلَهُ أَكْثَرُ الشُّرَّاحِ عَلَى الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ لِقِلَّةِ الضَّرَرِ فِيهَا وَتَفَاحُشِ الضَّرَرِ فِي الصُّورَةِ الْأَوْلَى، فَفَسَّرُوا الضَّرَرَ فِي الْوَجْهَيْنِ بِالْمَعْنَيَيْنِ الْمُخْتَلِفِينَ، فَقَوْلُ ذَلِكَ الْقَائِلِ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ:"إِذْ لَا نَسِيئَةَ فِي التَّبَرُّعِ"، نَاشِئٌ مِنَ

ص: 442

وَيُحِيلُهُمْ عَلَى اسْتِيفَاءِ نَصِيبِهِ مِنَ الْغُرَمَاءِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي التَّرِكَةِ دَيْنٌ، وَأَعْيَانُهَا غَيْرُ مَعْلُومَةٍ، وَالصُّلْحُ عَلَى الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ، قِيلَ: لَا يَجُوزُ لِاحْتِمَالِ الرِّبَا، وَقِيلَ: يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ شُبْهَةُ الشُّبْهَةِ،

الْغُفُولِ عَنِ الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ لِلتَّبَرُّعِ. وَاعْلَمْ أَنَّ صَدْرَ الشَّرِيعَةِ حَمَلَ هَذَا الْوَجْهَ الثَّانِي فِي شَرْحِ الْوِقَايَةِ عَلَى مَا حَمَلَ عَلَيْهِ أَكْثَرُ شُرَّاحِ هَذَا الْكِتَابِ؛ حَيْثُ قَالَ: وَالثَّانِيَةُ أَنَّ بَقِيَّةَ الْوَرَثَةِ يُؤَدُّونَ إِلَى الْمُصَالِحِ نُصِيبَهُ نَقْدًا وَيُحِيلُ لَهُمْ حِصَّتَهُ مِنَ الدَّيْنِ عَلَى الْغُرَمَاءِ، وَفِي هَذَا الْوَجْهِ يَتَضَرَّرُ بَقِيَّةُ الْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّ النَّقْدَ خَيْرٌ مِنَ الدَّيْنِ، انْتَهَى.

وَلَكِنْ خَالَفَ فِي تَوْجِيهِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ وَشُرَّاحُ كِتَابِهِ قَاطِبَةً وَسَائِرُ الْمُحَقِّقِينَ كَصَاحِبِ الْكَافِي وَغَيْرِهِ؛ حَيْثُ قَالَ: الْحِيلَةُ الْأَوَّلُ أَنْ يَشْرُطُوا أَنَّ يُبْرِئَ الْمُصَالِحُ الْغُرَمَاءَ عَنْ حِصَّتِهِ مِنَ الدَّيْنِ وَيُصَالِحُ عَنْ أَعْيَانِ التَّرِكَةِ بِمَالٍ، وَفِي هَذَا الْوَجْهِ فَائِدَةٌ لِبَقِيَّةِ الْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّ الْمُصَالِحَ لَا يَبْقَى لَهُ عَلَى الْغُرَمَاءِ حَقٌّ لَا أَنَّ حِصَّتَهُ تَصِيرُ لَهُمْ، انْتَهَى كَلَامُهُ.

أَقُولُ: فِيهِ بَحْثٌ لِأَنَّ مَا ذَكَرَهُ إِنَّمَا يُفِيدُ ثُبُوتَ الْفَائِدَةِ لِغُرَمَاءٍ لَا لِبَقِيَّةِ الْوَرَثَةِ.

فَإِنْ قِيلَ: إِذَا لَمْ يَبْقَ لِلْمُصَالِحِ عَلَى الْغُرَمَاءِ حَقٌّ يُسَهِّلُ لِلْغُرَمَاءِ أَدَاءَ حِصَصِ بَقِيَّةِ الْوَرَثَةِ فَيَحْصُلُ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ فَائِدَةٌ لِبَقِيَّةِ الْوَرَثَةِ.

قُلْنَا: إِنْ حَصَلَ لَهُمْ فَائِدَةٌ مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ يَحْصُلُ لَهُمُ الضَّرَرُ مِنْ جِهَةِ أَنَّ حِصَّةَ الْمُصَالِحِ لَا تَضِيرُ لَهُمْ لَا أَنَّ حِصَّتَهُ تَصِيرُ لَهُمْ حُجَّةً عَلَيْهِ لَا لَهُ، فَلَا وَجْهَ لِذِكْرِهِ فِي تَعْلِيلِ فَائِدَةِ بَقِيَّةِ الْوَرَثَةِ. ثُمَّ إِنَّ صَاحِبَ الْإِصْلَاحِ وَالْإِيضَاحِ زَادَ فِي الطُّنْبُورِ نَغَمَةً؛ حَيْثُ قَالَ فِي هَذَا الْمَقَامِ: وَفَى هَذَا الْوَجْهِ نَوْعُ ضَرَرٍ لِسَائِرِ الْوَرَثَةِ؛ حَيْثُ لَا يُمْكِنُهُمُ الرُّجُوعُ عَلَى الْغُرَمَاءِ بِقَدَرِ نَصِيبِ الْمُصَالِحِ، وَنَوْعِ نَفْعٍ لَهُمْ؛ حَيْثُ لَا يَبْقَى لِلْمُصَالِحِ حَقٌّ عَلَى الْغُرَمَاءِ فَنُقْصَانُ ذَلِكَ الضَّرَرِ يُجْبِرُ بِهَذَا النَّفْعِ. وَقَالَ فِي حَاشِيَتِهِ: فِيهِ دَخَلٌ لِصَاحِبِ الْهِدَايَةِ؛ حَيْثُ اعْتَبَرَ الضَّرَرَ الْمَذْكُورَ وَلَمْ يَعْتَبِرْ النَّفْعَ، وَلِصَدْرِ الشَّرِيعَةِ؛ حَيْثُ عَكَسَ، انْتَهَى.

أَقُولُ: فِيهِ أَيْضًا بَحْثٌ؛ إِذْ لَا يَخْفَى عَلَى الْفَطِنِ أَنَّ عَدَمَ تَمَكُّنِ سَائِرِ الْوَرَثَةِ مِنَ الرُّجُوعِ عَلَى الْغُرَمَاءِ بِقَدْرِ نَصِيبِ الْمُصَالِحِ وَضَيَاعَ ذَلِكَ الْقَدْرِ مِنْ مَالِ التَّرِكَةِ بِالْكُلِّيَّةِ ضَرَرٌ فَاحِشٌ لَهُمْ لَا يَنْجَبِرُ بِمُجَرَّدِ أَنْ لَا يَبْقَى لِلْمُصَالِحِ حَقٌّ عَلَى الْغُرَمَاءِ فَإِنَّ النَّفْعَ فِيهِ لِسَائِرِ الْوَرَثَةِ أَمْرٌ وَهْمِيٌّ مِنْ جِهَةِ تَأَدِّيهِ إِلَى سُهُولَةِ أَدَاءِ الْغُرَمَاءِ حِصَصَ بَاقِي الْوَرَثَةِ، فَأَيْنَ هَذَا مِنْ ذَاكَ؟ فَالْحَقُّ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ.

(قَوْلُهُ: وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي التَّرِكَةِ دَيْنٌ وَأَعْيَانُهَا غَيْرُ مَعْلُومَةٍ وَالصُّلْحُ عَلَى الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ. قِيلَ: لَا يَجُوزُ لِاحْتِمَالِ الرِّبَا). بُيِّنَ هَذَا فِي كَثِيرٍ مِنَ الشُّرُوحِ بِأَنْ كَانَ لَهُ فِي التَّرِكَةِ مَكِيلٌ أَوْ مَوْزُونٌ وَنَصِيبُهُ مِنْ ذَلِكَ مِثْلُ بَدَلَ الصُّلْحِ أَوْ أَقَلَّ، وَهَكَذَا فِي الذَّخِيرَةِ أَيْضًا.

أَقُولُ: فِيهِ خَلَلٌ؛ لِأَنَّ نَصِيبَهُ مِنْ ذَلِكَ إِذَا كَانَ أَقَلَّ مِنْ بَدَلِ الصُّلْحِ لَا يُلْزِمُ الرِّبَا؛ إِذْ يَكُونُ نَصِيبُهُ مِنْ ذَلِكَ حِينَئِذٍ بِمِثْلِهِ مَنْ بَدَلِ الصُّلْحِ، وَيَكُونُ زِيَادَةُ الْبَدَلِ بِحَقِّهِ مِنْ بَقِيَّةِ التَّرِكَةِ كَمْ مَرَّ فِي الْكِتَابِ، كَمَا إِذَا كَانَتِ التَّرِكَةُ فِضَّةً وَذَهَبًا وَغَيْرَ ذَلِكَ فَصَالَحُوهُ عَلَى ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ مِنْ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَا أَعْطَوْهُ أَكْثَرَ مِنْ نَصِيبِهِ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ حَتَّى يَكُونَ نَصِيبُهُ بِمِثْلِهِ وَالزِّيَادَةُ بِحَقِّهِ مِنْ بَقِيَّةِ التَّرِكَةِ احْتِرَازًا عَنِ الرِّبَا. فَالْحَقُّ فِي الْبَيَانِ هَاهُنَا أَنْ يُقَالَ بِأَنْ كَانَ فِي التَّرِكَةِ مَكِيلٌ أَوْ مَوْزُونٌ، وَنَصِيبُهُ مِنْ ذَلِكَ مِثْلُ بَدَلِ الصُّلْحِ أَوْ أَكْثَرُ وَلَقَدْ أَصَابَ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ؛ حَيْثُ عَلَّلَ قَوْلَهُ: لِاحْتِمَالِ الرِّبَا، بِقَوْلِهِ: لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي التَّرِكَةِ كَيْلِيٌّ أَوْ وَزْنِيٌّ وَبَدَلُ الصُّلْحِ مِثْلُ نَصِيبِ الْمَصَالِحِ مِنْ ذَلِكَ أَوْ أَقَلُّ؛ لِأَنَّ مَا زَادَ عَلَى بَدَلِ الصُّلْحِ مِنْ نَصِيبِ الْمُصَالِحِ يَكُونُ رِبًا، انْتَهَى. فَإِنَّهُ اعْتَبَرَ الْقِلَّةَ فِي جَانِبِ بَدَلِ الصُّلْحِ لَا فِي جَانِبِ نَصِيبِ الْمُصَالِحِ مِنْ ذَلِكَ عَلَى عَكْسِ مَا اعْتَبَرَهُ الْآخَرُونَ، وَكَأَنَّ صَاحِبَ الْكَافِي تَنَبَّهَ أَيْضًا لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْخَلَلِ فَاكْتَفَى بِذِكْرِ الْمِثْلِ؛ حَيْثُ قَالَ فِي تَعْلِيلِ هَذَا الْقَلِيلِ: لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ فِي التَّرِكَةِ مَكِيلٌ أَوْ مَوْزُونٌ وَنَصِيبُهُ مِنْ ذَلِكَ مِثْلُ بَدَلِ الصُّلْحِ فَيَكُونُ رِبًا، انْتَهَى.

وَاقْتَفَى أَثَرَهُ صَاحِبُ مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ، وَلَكِنَّ الْأَوْجَهَ أَنْ يُزَادَ عَلَيْهِ قَيْدٌ أَوْ أَكْثَرُ، كَمَا نَبَّهَنَا عَلَيْهِ آنِفًا؛ لِأَنَّ فِيهِ تَوْسِيعُ دَائِرَةِ احْتِمَالِ الرِّبَا، كَمَا لَا يَخْفَى.

(قَوْلُهُ: وَقِيلَ: يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ شُبْهَةُ الشُّبْهَةِ) لِاحْتِمَالِ أَنْ لَا يَكُونَ فِي التَّرِكَةِ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ وَإِنْ كَانَ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ نَصِيبُهُ مِنْ ذَلِكَ أَكْثَرَ مِمَّا أَخَذَ أَوْ أَقَلَّ، فَفِيهِ شُبْهَةُ الشُّبْهَةِ وَلَيْسَتْ بِمُعْتَبِرَةٍ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ، وَعَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ ذُكِرَ فِي الذَّخِيرَةِ وَكَثِيرٍ مِنَ الشُّرُوحِ.

ص: 443

وَلَوْ كَانَتِ التَّرِكَةُ غَيْرَ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ لَكِنَّهَا أَعْيَانٌ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ قِيلَ: لَا يَجُوزُ لِكَوْنِهِ بَيْعًا إِذِ الْمُصَالَحُ عَنْهُ عَيْنٌ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَجُوزُ لِأَنَّهَا لَا تُفْضِي إِلَى الْمُنَازَعَةِ لِقِيَامِ الْمُصَالَحِ عَنْهُ فِي يَدِ الْبَقِيَّةِ مِنَ الْوَرَثَةِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ مُسْتَغْرِقٌ لَا يَجُوزُ الصُّلْحُ وَلَا الْقِسْمَةُ لِأَنَّ التَّرِكَةَ لَمْ يَتَمَلَّكْهَا الْوَارِثُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَغْرِقًا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُصَالِحُوا مَا لَمْ يَقْضُوا دَيْنَهُ فَتُقَدَّمَ حَاجَةُ الْمَيِّتِ، وَلَوْ فَعَلُوا قَالُوا يَجُوزُ. وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ رحمه الله فِي الْقِسْمَةِ أَنَّهَا لَا تَجُوزُ اسْتِحْسَانًا وَتَجُوزُ قِيَاسًا.

وَكَتَبَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ عَلَى قَوْلِ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ: فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ نَصِيبُهُ مِنْ ذَلِكَ أَكْثَرَ أَوْ أَقَلَّ، فِيهِ بَحْثٌ.

أَقُولُ: لَعَلَّ مُرَادَهُ بِالْبَحْثِ أَنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ نَصِيبُهُ أَقَلَّ مِمَّا أَخَذَهُ لَا يُلْزِمُ الرِّبَا لِمَا بَيَّنَاهُ فِيمَا مَرَّ فَلَا وَجْهَ لِذِكْرِهِ فِي أَثْنَاءِ بَيَانِ احْتِمَالِ الرِّبَا، لَكِنَّهُ سَاقِطٌ هَاهُنَا؛ لِأَنَّ مُرَادَ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ وَغَيْرِهِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ نَصِيبُهُ مِنْ ذَلِكَ أَكْثَرَ فَيَلْزَمُ الرِّبَا، أَوْ أَقَلَّ فَلَا يَلْزَمُ الرِّبَا إِلَّا أَنَّهُ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ يَلْزَمُ الرِّبَا، فَإِنَّهُمْ بِصَدَدِ بَيَانِ شُبْهَةِ الشُّبْهَةِ الَّتِي لَيْسَتْ بِمُعْتَبِرَةٍ فَلَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ بَيَانِ احْتِمَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ جَانِبِيِ الصِّحَّةِ وَالْفَسَادِ؛ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِمْ: لِاحْتِمَالِ أَنْ لَا يَكُونَ فِي التَّرِكَةِ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ، فَإِنَّ هَذَا الِاحْتِمَالَ احْتِمَالُ جَانِبِ الصِّحَّةِ قَطْعًا. كَيْفَ وَلَوْ كَانَ الِاحْتِمَالُ مَقْصُورًا عَلَى جَانِبِ الْفَسَادِ لَكَانَ اللَّازِمُ حَقِيقَةً الرِّبَا لَا شُبْهَةَ الرِّبَا، فَضْلًا عَنْ شُبْهَةِ شَبَّهْتِهِ تَأَمَّلْ تَقَفَّ.

ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ صَاحِبَ الْإِصْلَاحِ وَالْإِيضَاحِ بَعْدَ مَا بَيْنَ الِاخْتِلَافِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى مَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ قَالَ: وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: حَقُّ الْجَوَابِ التَّفْصِيلُ بِأَنْ يُقَالَ: إِنْ كَانَ فِي التَّرِكَةِ جِنْسٌ بُدِّلَ الصُّلْحُ لَا يَجُوزُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ يَجُوزُ وَإِنْ لَمْ يُدْرَ حَالَ التَّرِكَةِ فَعَلَى الِاخْتِلَافِ، انْتَهَى كَلَامُهُ.

أَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ: أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُ لَا احْتِيَاجَ هَاهُنَا إِلَى مَا ذَكَرَهُ مِنَ التَّفْصِيلِ أَصْلًا؛ إِذِ الشِّقَّانِ الْأَوَّلَانِ مِنْ تَفْصِيلِهِ قَدْ اسْتُغْنِيَ عَنْهُمَا بِالْمَسْأَلَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ سَابِقًا عَلَى الِاسْتِقْلَالِ: إِحْدَاهُمَا قَوْلُهُ: وَإِنْ كَانَتِ التَّرِكَةُ فِضَّةً وَذَهَبًا وَغَيْرَ ذَلِكَ فَصَالَحُوهُ عَلَى ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ

إِلَخْ. وَأُخْرَاهُمَا قَوْلُهُ فِي أَوَّلِ الْفَصْلِ: وَإِذَا كَانَتِ التَّرِكَةُ بَيْنَ وَرَثَةٍ فَأَخْرَجُوا أَحَدَهُمْ مِنْهَا بِمَالٍ أَعْطَوْهُ إِيَّاهُ وَالتَّرِكَةُ عَقَارٌ أَوْ عَرُوضٌ، جَازَ قَلِيلًا كَانَ مَا أَعْطَوْهُ إِيَّاهُ أَوْ كَثِيرًا.

وَأَمَا ثَانِيًا: فَلِأَنَّ التَّفْصِيلَ الَّذِي ذَكَرَهُ لَا يَخْلُو عَنِ اخْتِلَالٍ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: إِنْ كَانَ فِي التَّرِكَةِ جِنْسُ بَدَلِ الصُّلْحِ لَا يَجُوزُ، لَا يَصِحُّ عَلَى إِطْلَاقِهِ، فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ فِي التَّرِكَةِ جَنَّسُ بَدَلِ الصُّلْحِ وَلَكِنْ كَانَ مَا أَعْطَوْهُ أَكْثَرَ قَدْرًا مِنْ نَصِيبِ الْمُصَالِحِ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ يَجُوزُ الصُّلْحُ قَطْعًا، كَمَا مَرَّ مُفَصَّلًا وَمُدَلَّلًا. وَكَذَا إِذَا كَانَ فِي التَّرِكَةِ جِنْسُ بَدَلِ الصُّلْحِ وَلَكِنْ كَانَ فِيهَا دَرَاهِمُ وَدَنَانِيرُ وَكَانَ بَدَلُ الصُّلْحِ دَرَاهِمَ وَدَنَانِيرَ أَيْضًا يَجُوزُ الصُّلْحُ قَطْعًا، كَمَا مَرَّ أَيْضًا مُسْتَوْفَى.

وَأَمَا ثَالِثًا: فَلِأَنَّ مَسْأَلَتَنَا هَذِهِ لَا تَقْبَلُ التَّفْصِيلَ الْمَذْكُورَ جِدًّا؛ إِذْ قَدْ اعْتُبِرَ فِيهَا كَوْنُ أَعْيَانِ التَّرِكَةِ غَيْرِ مَعْلُومَةٍ، فَإِنَّ عِبَارَةَ هَذَا الْكِتَابِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هَكَذَا، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي التَّرِكَةِ دَيْنٌ وَأَعْيَانُهَا غَيْرُ مَعْلُومَةٍ وَالصُّلْحُ عَلَى الْمُكَيَّلِ وَالْمَوْزُونِ قِيلَ: لَا يَجُوزُ، وَقِيلَ: يَجُوزُ. وَعِبَارَةُ

ص: 444

(كِتَابُ الْمُضَارَبَةِ)

الْمُضَارَبَةُ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الضَّرْبِ فِي الْأَرْضِ؛ سُمِّيَ بِهَا

الْوِقَايَةِ وَكَذَا عِبَارَةُ مَتْنِ ذَلِكَ الْقَائِلِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هَكَذَا. وَفِي صِحَّةِ الصُّلْحِ عَنْ تَرِكَةٍ جُهِلَتْ عَلَى مَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ اخْتِلَافٌ، انْتَهَى.

فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ التَّفْصِيلُ الْمَزْبُورُ، فَهَلَّا هِيَ مُنْحَصِرَةٌ فِي الشِّقِّ الثَّالِثِ مِنْهُ وَهُوَ مَا لَمْ يَدْرِ حَالَ التَّرِكَةِ، فَالْجَوَابُ بِالِاخْتِلَافِ لَا غَيْرَ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْكُتُبِ الْمُعْتَبَرَةِ عَامَّةً.

(كِتَابُ الْمُضَارَبَةِ)

قَدْ مَرَّ وَجْهُ الْمُنَاسِبَةِ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْإِقْرَارِ وَالْمُضَارَبَةِ فِي اللُّغَةِ: مُفَاعَلَةٌ، مِنْ ضَرْبِ الْأَرْضِ إِذَا سَارَ فِيهَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} يَعْنِي الَّذِينَ يُسَافِرُونَ فِي الْأَرْضِ لِلتِّجَارَةِ؛ وَسُمِّيَ هَذَا الْعَقْدُ بِهَا؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ يَسِيرُ فِي الْأَرْضِ غَالِبًا طَلَبًا لِلرِّبْحِ.

وَفِي الشَّرِيعَةِ: عِبَارَةٌ عَنْ عَقْدٍ عَلَى الشَّرِكَةِ بِمَالٍ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ وَعَمَلٍ مِنَ الْآخَرِ، كَمَا سَيَأْتِي فِي الْكِتَابِ.

وَقَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: وَمَنْ يَحْذُو: هِيَ حَذْوهُ فِي الشَّرِيعَةِ عِبَارَةٌ عَنْ دَفْعِ الْمَالِ إِلَى غَيْرِهِ لِيَتَصَرَّفَ فِيهِ وَيَكُونُ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا شَرَطَا.

أَقُولُ: فِيهِ فُتُورٌ؛ إِذِ الظَّاهِرِ أَنَّ الْمُضَارَبَةَ فِي الشَّرِيعَةِ لَيْسَتْ نَفْسَ الدَّفْعِ الْمَزْبُورِ، بَلْ هِيَ عُقَدٌ يَحْصُلُ قَبْلَ ذَلِكَ أَوْ مَعَهُ. وَرُكْنُهَا الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ بِأَلْفَاظٍ تَدُلُّ عَلَيْهَا: مِثْلَ أَنْ يَقُولَ رَبُّ الْمَالِ: دَفَعْتُ هَذَا إِلَيْكَ مُضَارَبَةً أَوْ مُقَارَضَةً أَوْ مُعَامَلَةً، أَوْ خُذْ هَذَا الْمَالَ وَاعْمَلْ بِهِ عَلَى أَنَّ مَا رَزَقَ اللَّهُ فَهُوَ بَيْنَنَا عَلَى كَذَا، وَيَقُولُ الْمُضَارِبُ: قَبِلْتُ أَوْ مَا يُؤَدِّي هَذَا الْمَعْنَى. وَشُرُوطُهَا كَثِيرَةٌ تُذْكَرُ فِي أَثْنَاءِ الْمَسَائِلِ.

قَالَ فِي الْعِنَايَةِ: وَشُرُوطُهَا نَوْعَانِ: صَحِيحَةٌ وَهِيَ مَا يَبْطُلُ الْعَقْدُ بِفَوَاتِهِ، وَفَاسِدَةٌ تَفْسَدُ فِي نَفْسِهَا وَيَبْقَى الْعَقْدُ صَحِيحًا، كَمَا سَيَأْتِي ذِكْرُ ذَلِكَ، اهـ.

أَقُولُ: فِيهِ قُصُورٌ؛ لِأَنَّ الشُّرُوطَ الْفَاسِدَةَ أَيْضًا نَوْعَانِ: نَوْعٌ يُفْسِدُ الْعَقْدَ أَيْضًا، وَنَوْعٌ يَفْسُدُ فِي نَفْسِهِ وَيَبْقَى الْعَقْدُ صَحِيحًا نَصَّ عَلَيْهِ هَاهُنَا فِي النِّهَايَةِ، وَسَيَأْتِي التَّصْرِيحُ بِهِ فِي الْكِتَابِ أَيْضًا.

وَعِبَارَةُ الْعِنَايَةِ تُشْعِرُ بِانْحِصَارِ الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ فِي النَّوْعِ الثَّانِي مِنْهَا فَكَانَتْ قَاصِرَةً. وَحُكْمَهَا: الْإِيدَاعُ وَالْوَكَالَةُ وَالشَّرِكَةُ بِحَسْبِ الْأَوْقَاتِ، كَمَا أُشِيرَ إِلَيْهِ فِي الْمَبْسُوطِ وَالذَّخِيرَةِ وَالتُّحْفَةِ وَغَيْرهَا عَلَى مَا فُصِّلَ فِي النِّهَايَةِ.

قَالَ فِي الْعِنَايَةِ: وَحُكْمُهَا الْوَكَالَةُ عِنْدَ الدَّفْعِ وَالشَّرِكَةُ بَعْدَ الرِّبْحِ.

أَقُولُ: فِيهِ خَلَلٌ، أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ حُكْمَهَا عِنْدَ الدَّفْعِ هُوَ الْإِيدَاعُ، وَإِنَّمَا الْوَكَالَةُ حُكْمُهَا عِنْدَ التَّصَرُّفِ وَالْعَمَلِ، كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمُعْتَبَرَاتِ حَتَّى الْمُتُونِ؛ أَلَا تَرَى إِلَى مَا قَالَ فِي الْوِقَايَةِ: وَهِيَ إِيدَاعٌ أَوَّلًا وَتَوْكِيلٌ عِنْدَ عَمَلِهِ وَشَرِكَةٌ إِنْ رَبِحَ. وَأَمَا ثَانِيًا فَلِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرِ الْإِيدَاعَ عِنْدَ بَيَانِ حُكْمِهَا وَهُوَ حُكْمٌ لَهَا أَيْضًا يَثْبُتُ بِهَا أَوَّلًا عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ فِي عَامَّةِ الْكُتُبِ. وَقَالَ فِي الْكَافِي وَالْكِفَايَةِ: وَحُكْمُهَا أَنْوَاعٌ: إِيدَاعٌ وَوَكَالَةٌ وَشَرِكَةٌ وَإِجَارَةٌ وَغَصْبٌ.

أَقُولُ: فِيهِ أَيْضًا خَلَلٌ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْإِجَارَةِ إِنَّمَا يَظْهَرُ إِذَا فَسَدَتِ الْمُضَارَبَةُ، وَمَعْنَى الْغَصْبِ إِنَّمَا يَتَحَقَّقُ إِذَا خَالَفَ الْمُضَارِبُ فَكَانَ مُتَعَدِّيًا، كَمَا سَيَأْتِي، وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ نَاقِضٌ لِعَقْدِ الْمُضَارَبَةِ مُنَافٍ لِصِحَّتِهَا فَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ تَجْعَلَ الْإِجَارَةَ وَالْغَصْبَ حُكْمًا مِنْ أَحْكَامِهَا، وَحُكْمُ الشَّيْءِ مَا يَثْبُتُ بِهِ وَالَّذِي يَثْبُتُ ثَمَنًا فِيهِ لَا يَثْبُتُ.

ص: 445

لِأَنَّ الْمُضَارِبَ يَسْتَحِقُّ الرِّبْحَ بِسَعْيِهِ وَعَمَلِهِ، وَهِيَ مشروعة للحاجة إليها، فَإِنَّ النَّاسَ بَيْنَ غَنِيٍّ بِالْمَالِ غَبِيٍّ عَنِ التَّصَرُّفِ فِيهِ، وَبَيْنِ مُهْتَدٍ فِي التَّصَرُّفِ صِفْرِ الْيَدِ عَنْهُ،

فَمَسَّتِ الْحَاجَةُ

إِلَى شَرْعِ هَذَا النَّوْعِ مِنَ التَّصَرُّفِ لِيَنْتَظِمَ مَصْلَحَةُ الْغَبِيِّ وَالذَّكِيِّ وَالْفَقِيرِ وَالْغَنِيِّ. وَبُعِثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَالنَّاسُ يُبَاشِرُونَهُ فَقَرَّرَهُمْ عَلَيْهِ وَتَعَامَلَتْ بِهِ الصَّحَابَةُ، ثُمَّ الْمَدْفُوعُ إِلَى الْمُضَارِبِ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ بِأَمْرِ مَالِكِهِ لَا عَلَى وَجْهِ الْبَدَلِ وَالْوَثِيقَةِ، وَهُوَ وَكِيلٌ فِيهِ لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ فِيهِ بِأَمْرِ مَالِكِهِ، وَإِذَا رَبِحَ فَهُوَ شَرِيكٌ فِيهِ لِتَمَلُّكِهِ جُزْءًا مِنَ الْمَالِ بِعَمَلِهِ، فَإِذَا فَسَدَتْ ظَهَرَتِ الْإِجَارَةُ حَتَّى اسْتَوْجَبَ الْعَامِلُ أَجْرَ مِثْلِهِ، وَإِذَا خَالَفَ كَانَ غَاصِبًا لِوُجُودِ التَّعَدِّي مِنْهُ عَلَى مَالِ غَيْرِهِ.

بِهِ قَطْعًا. لَا يُقَالُ: إِنَّ الْإِجَارَةَ وَالْغَصْبَ وَإِنْ لَمْ يَصْلُحَا أَنْ يُجْعَلَا حُكْمًا لِلْمُضَارَبَةِ الصَّحِيحَةَ إِلَّا أَنَّهُمَا يَصْلُحَانِ أَنْ يُجْعَلَا حُكْمًا لِلْمُضَارَبَةِ الْفَاسِدَةِ: فَمَنْ أَدْرَجَهُمَا فِي أَحْكَامِ الْمُضَارَبَةِ يُرِيدُ بِأَحْكَامِهَا أَحْكَامَ مُطْلَقِ الْمُضَارِبَةَ صَحِيحَةً كَانَتْ أَوْ فَاسِدَةً؛ لِأَنَّا نَقُولُ: لَا شَكَّ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ فِي قَرَائِنِهَا مِنْ رُكْنِهَا وَشَرْطِهَا وَغَيْرِهِمَا إِنَّمَا يُرَادُ بِهِ مَا كَانَ لِلْمُضَارَبَةِ الصَّحِيحَةِ لَا غَيْرَ، فَفِي أَحْكَامِهَا أَيْضًا لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ. وَلَئِنْ سَلَّمَ صِحَّةَ التَّعْمِيمِ لِلْمُضَارَبَةِ الْفَاسِدَةِ أَيْضًا فِي الْأَحْكَامِ فَالْغَصْبُ لَيْسَ مِنْ أَحْكَامِ الْمُضَارَبَةِ الْفَاسِدَةِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْمُضَارَبَةِ الْفَاسِدَةِ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْبَدَائِعِ بَلْ فِي الْكِتَابِ أَيْضًا فِيمَا سَيَجِيءُ أَنْ يَكُونَ لِلْعَامِلِ مِثْلَ أَجْرِ عَمَلِهِ، وَلَا شَكَّ أَنْ لَيْسَ لِلْغَاصِبِ أَجْرٌ قَطُّ لِكَوْنِهِ مُتَعَدِّيًا فَلَا مَجَالَ لِجَعْلِ الْغَصْبِ مِنْ أَحْكَامِ الْمُضَارَبَةِ فِي شَيْءٍ.

(قَوْلهُ: لِأَنَّ الْمُضَارِبَ يَسْتَحَقُّ الرِّبْحَ بِسَعْيهِ وَعَمَلِهِ). قَالَ الشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ: فِيهِ مُنَاقَشَةٌ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ لَا يَسْتَحِقُّ الرِّبْحَ بِسَعْيهِ وَعَمَلِهِ حَتَّى لَوْ سَعَى وَعَمِلَ وَلَمْ يَظْهَرْ رِبْحٌ لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا اهـ.

أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ الْبَاءَ فِي قَوْلِهِ: "بِسَعْيهِ وَعَمَلِهِ"، لِلسَّبَبِيَّةِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْمُضَارِبَ يَسْتَحَقُّ الرِّبْحَ بِسَبَبِ سَعْيِهِ، وَوَظِيفَةُ السَّبَبِ مُجَرَّدُ الْإِيصَالِ وَالْإِفْضَاءِ إِلَى الْمُسَبِّبِ فِي الْجُمْلَةِ لَا التَّأْثِيرُ فِيهِ، وَإِنَّمَا التَّأْثِيرُ وَظِيفَةُ الْعِلَّةِ، وَقَدْ

ص: 446

قَالَ (الْمُضَارَبَةُ عَقْدٌ عَلَى الشَّرِكَةِ بِمَالٍ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ) وَمُرَادُهُ الشَّرِكَةُ فِي الرِّبْحِ وَهُوَ يُسْتَحَقُّ بِالْمَالِ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ (وَالْعَمَلِ مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ) وَلَا مُضَارَبَةَ بِدُونِهَا؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الرِّبْحَ لَوْ شُرِطَ كُلُّهُ لِرَبِّ الْمَالِ كَانَ بِضَاعَةً، وَلَوْ شُرِطَ جَمِيعُهُ لِلْمُضَارِبِ كَانَ قَرْضًا. قَالَ (وَلَا تَصِحُّ إِلَّا بِالْمَالِ الَّذِي تَصِحُّ بِهِ الشَّرِكَةُ) وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ مِنْ قَبْلُ، وَلَوْ دَفَعَ إِلَيْهِ عَرْضًا وَقَالَ بِعْهُ وَاعْمَلْ مُضَارَبَةً فِي ثَمَنِهِ جَازَ لَهُ لِأَنَّهُ يَقْبَلُ الْإِضَافَةَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ تَوْكِيلٌ وَإِجَارَةٌ فَلَا مَانِعَ مِنَ الصِّحَّةِ، وَكَذَا إِذَا قَالَ لَهُ اقْبِضْ مَا لِي عَلَى فُلَانٍ وَاعْمَلْ بِهِ مُضَارَبَةً جَازَ لِمَا قُلْنَا، بِخِلَافِ مَا إِذَا قَالَ لَهُ اعْمَلْ بِالدَّيْنِ الَّذِي فِي ذِمَّتِكَ حَيْثُ لَا تَصِحُّ الْمُضَارَبَةُ،

عَرَّفَ ذَلِكَ كُلَّهُ فِي الْأُصُولِ فَتَخَلَّفَ اسْتِحْقَاقُ الرِّبْحِ عَنْ سَعْيِ الْمُضَارِبِ، وَعَمَلِهِ عِنْدَ عَدَمِ ظُهُورِ الرِّبْحِ لَا يُخِلُ بِصِحَّةِ الْكَلَامِ الْمَذْكُورِ أَصْلًا.

(قَوْلُهُ: وَلَوْ دَفْعَ إِلَيْهِ عَرَضًا وَقَالَ: بِعْهُ وَاعْمَلْ مُضَارَبَةً فِي ثَمَنِهِ جَازَ؛ لِأَنَّهُ يَقْبَلُ الْإِضَافَةَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ تَوْكِيلٌ وَإِجَارَةٌ فَلَا مَانِعَ مِنَ الصِّحَّةِ). قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ فِي بَيَانِ التَّعْلِيلِ: أَيْ: لِأَنَّ عَقْدَ الْمُضَارَبَةِ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْوَكَالَةِ وَالْإِجَارَةِ، كَمَا عُرِفَ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَقْبَلُ الْإِضَافَةَ إِلَى زَمَانٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَمِلُ عَلَيْهِمَا وَهُوَ عَقْدُ الْمُضَارَبَةِ قَابِلًا لِلْإِضَافَةِ إِلَى زَمَانٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ أَيْضًا لِئَلَّا يُخَالِفُ الْكُلُّ الْجُزْءَ، اهـ.

وَاقْتَفَى أَثَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي هَذَا الْبَيَانِ غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: وَالْإِجَارَةُ بِالرَّاءِ وَالْإِجَازَةُ بِالزَّاي.

أَقُولُ: فِيهِ بَحَثٌ، أَمَّا أَوَّلًا: فَلِأَنَّ الْمُضَارَبَةَ، مَا لَمْ تَفْسَدْ لَمْ تَصِرْ إِجَارَةً بِالرَّاءِ، كَمَا صَرَّحُوا بِهِ وَمَرَّ فِي الْكِتَابِ آنِفًا، وَالْمُدَّعَى هَاهُنَا صِحَّةَ عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ فِي الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَالْمُضَارَبَةُ الصَّحِيحَةُ لَا تَشْتَمِلُ عَلَى الْإِجَارَةِ بِالرَّاءِ أَصْلًا بَلْ تُنَافِيهَا قَطْعًا فَلَا مَعْنًى لِدَرْجِهَا فِي تَعْلِيلِ صِحَّةِ عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ فِي الصُّورَةِ الْمَزْبُورَةِ.

وَأَمَا ثَانِيًا: فَلِأَنَّ لُزُومَ عَدَمِ مُخَالَفَةِ الْكُلِّ لِلْجُزْءِ مَمْنُوعٌ، فَإِنَّا نَعْلَمُ قَطْعًا مُخَالَفَةَ الْكُلِّ لِأَجْزَائِهِ الْخَارِجِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَحْكَامِ، أَلَا يَرَى أَنَّ الْوَاحِدَ جُزْءٌ مِنَ الْاثْنَيْنِ وَالْأَوَّلَ فَرْدٌ لَا زَوْجٌ وَالثَّانِيَ زَوْجٌ لَا فَرْدٌ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمُخَالَفَاتِ الْبَيِّنَةِ عَلَى أَنَّ الْمُخَالَفَةَ بَيْنَ الْمُضَارَبَةِ وَبَيْنَ الْوَكَالَةِ وَالْإِجَارَةِ أَيْضًا مُتَحَقِّقَةً قَطْعًا فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَحْكَامِ. مِنْهَا أَنَّ الْوَكِيلَ لَا يَسْتَحِقُّ الرِّبْحَ وَلَا يَشْتَرِكُ فِيهِ مَعَ الْمُوَكَّلِ، وَالْمُضَارِبَ يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ وَيَشْتَرِكُ فِيهِ مَعَ رَبِّ الْمَالِ، وَأَنَّ الْأَجِيرَ يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ وَلَا يَسْتَحِقُّ الرِّبْحَ، وَالْمَضَارِبَ عَلَى الْعَكْسِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ.

وَأَمَا ثَالِثًا: فَلِأَنَّ الْوَكَالَةَ وَالْإِجَارَةَ لَا يَحْتَمِلَانِ الْجُزْئِيَّةَ مِنَ الْمُضَارَبَةِ. أَمَّا الْوِكَالَةُ فَلِأَنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهَا حُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِ الْمُضَارَبَةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ حُكْمَ الشَّيْءِ خَارِجٌ.

ص: 447

لِأَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله لَا يَصِحُّ هَذَا التَّوْكِيلُ عَلَى مَا مَرَّ فِي الْبُيُوعِ. وَعِنْدَهُمَا يَصِحُّ لَكِنْ يَقَعُ الْمَلِكُ فِي الْمُشْتَرَى لِلْآمِرِ فَيَصِيرُ مُضَارَبَةً بِالْعَرَضِ. قَالَ (وَمِنْ شَرْطِهَا أَنْ يَكُونَ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا مُشَاعًا لَا يَسْتَحِقُّ أَحَدُهُمَا دَرَاهِمَ مُسَمَّاةً) مِنَ الرِّبْحِ لِأَنَّ شَرْطَ ذَلِكَ يَقْطَعُ الشَّرِكَةَ بَيْنَهُمَا وَلَا بُدَّ مِنْهَا كَمَا فِي عَقْدِ الشَّرِكَةِ. قَالَ (فَإِنْ شَرَطَ زِيَادَةَ عَشَرَةٍ فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ) لِفَسَادِهِ فَلَعَلَّهُ

عَنْهُ مُتَرَتِّبٌ عَلَيْهِ لَا رُكْنٌ دَاخِلٌ فِيهِ. وَأَمَّا الْإِجَارَةُ فَلِأَنَّهَا أَيْضًا حُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِهَا عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْبَعْضُ وَشَيْءٌ مُنَافٍ لِصِحَّتِهَا: مُضَادٌّ لَهَا عَلَى مُقْتَضَى التَّحْقِيقِ، كَمَا مَرَّ، وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ لَا تَصْلُحُ الْجُزْئِيَّةُ مِنْهَا. فَحَدِيثُ الْجُزْئِيَّةِ فِي تَمْشِيَةِ التَّعْلِيلِ الْمَزْبُورِ مِمَّا لَا وَجْهَ لَهُ: وَلَمْ أَرَ أَحَدًا حَامَ حَوْلَهُ سِوَى الشَّارِحِينَ الْمَذْكُورِينَ، فَالْوَجْهُ فِي تَمْشِيَةِ ذَلِكَ تَقْرِيرُ صَاحِبِ الْكَافِي؛ حَيْثُ قَالَ: لِأَنَّهُ لَمْ يُضِفِ الْمُضَارَبَةَ إِلَى الْعَرْضِ وَإِنَّمَا أَضَافَ إِلَى ثَمَنِهِ وَالثَّمَنُ مِمَّا يَصِحُّ الْمُضَارَبَةُ بِهِ وَالْإِضَافَةُ إِلَى زَمَانٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ وَكَالَةٌ أَوْ وَدِيعَةٌ أَوْ إِجَارَةٌ وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ مَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِضَافَةِ إِلَى زَمَانٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ اهـ. نَعَمْ فِيهِ أَيْضًا شَيْءٌ مِمَّا مَرَّ وَهُوَ أَنَّ الْمُضَارَبَةَ إِجَارَةٌ بَعْدَ فَسَادِهَا لَا فِي حَالِ صِحَّتِهَا، فَلَا مَعْنًى لِدَرْجِ الْإِجَارَةِ فِي تَعْلِيلِ صِحَّتِهَا فِي الصُّورَةِ الْمَزْبُورَةِ. اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ دَرْجُهَا فِيهِ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ: كَأَنَّهُ قِيلَ: لَيْسَ فِي عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ مَا يَمْنَعُ عَنِ الْإِضَافَةِ إِلَى زَمَانٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لَا فِي حَالِ صِحَّتِهِ وَلَا بَعْدَ فَسَادِهِ فَتَأَمَّلَ. ثُمَّ أَقُولُ: بَقِيَ لِي بَحْثٌ قَوِيٌّ فِي هَذَا الْمَقَامِ: وَهُوَ أَنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمُضَارَبَةَ إِيدَاعٌ ابْتِدَاءً وَتَوْكِيلٌ عِنْدَ الْعَمَلِ وَشَرِكَةٌ بَعْدَ الرِّبْحِ. وَقَدْ صَرَّحُوا فِي مَحَلِّهِ بِأَنَّ مَا لَا يَصِحُّ إِضَافَتُهُ إِلَى زَمَانٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ تِسْعَةً وَعَدُّوا مِنْهَا الشَّرِكَةَ. فَإِذَا لَمْ تَصِحُّ إِضَافَةُ الشَّرِكَةِ إِلَى زَمَانٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَقَدْ وُجِدَ فِي الْمُضَارَبَةِ مَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِضَافَةِ إِلَى ذَلِكَ وَهُوَ الشَّرِكَةُ. فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَصِحُّ عَقْدُ الْمُضَارَبَةِ فِي الصُّورَةِ الْمَزْبُورَةِ بِنَاءً عَلَى ذَلِكَ الْمَانِعِ؛ إِذْ لَا رَيْبَ أَنَّ ارْتِفَاعَ مَنْعِ أُمُورٍ لَا يُجْدِي عِنْدَ تَحَقُّقِ مَانِعٍ آخَرَ.

(قَوْلُهُ: لِأَنَّ عِنْدَ، أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله لَا يَصِحُّ هَذَا التَّوْكِيلُ عَلَى مَا مَرَّ فِي الْبُيُوعِ)، وَإِذَا لَمْ يَصِحُّ هَذَا التَّوْكِيلُ كَانَ الْمُشْتَرَى لِلْمُشْتَرِي وَالدِّينُ بِحَالِهِ، فَكَانَ رَأْسُ مَالِ الْمُضَارَبَةِ مِنْ مَالِ الْمُضَارِبِ وَهُوَ لَا يَصِحُّ كَذَا فِي الْعِنَايَةِ وَالنِّهَايَةِ. قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: الْأَظْهَرُ أَنْ يُقَالَ: إِذَا لَمْ يَصِحُّ التَّوْكِيلُ لَمْ تَصِحِّ الْمُضَارَبَةُ؛ لِأَنَّ عَدَمَ صِحَّةِ الْجُزْءِ مُسْتَلْزِمٌ لِعَدَمِ صِحَّةِ الْكُلِّ، اهـ.

أَقُولُ: قَدْ مَرَّ بِنَا أَنَّ حَدِيثَ كَوْنِ الْوَكَالَةِ جُزْءًا مِنَ الْمُضَارَبَةِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ. فَإِنَّهُمْ صَرَّحُوا بِأَنَّ الْوَكَالَةَ حُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِ الْمُضَارَبَةِ مُتَرَتِّبٌ عَلَى صِحَّةِ عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ ثَابِتٌ عِنْدَ تَصَرُّفِ الْمُضَارِبِ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ لَا قَبْلِهُ فَلَا مَجَالَ لِأَنْ تَكُونُ جُزْءًا مِنْهَا فَلَا بُدَّ فِي بَيَانِ بُطْلَانِ الْمُضَارَبَةِ فِي الصُّورَةِ الْمَزْبُورَةِ عَلَى تَقْدِيرِ بُطْلَانِ ذَاكَ التَّوْكِيلِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ مِنَ الْمَصِيرِ إِلَى مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ وَالنِّهَايَةِ. نَعَمْ إِنَّهُمَا قَالَا أَيْضًا: بِجُزْئِيَّةِ الْوَكَالَةِ مِنَ الْمُضَارَبَةِ فِيمَا مَرَّ وَلَكِنَّهُمَا أَصَابَا فِي تَرْكِ ذَلِكَ هَاهُنَا. (قَوْلُهُ: فَإِنْ شَرَطَ زِيَادَةَ عَشَرَةً فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهُ).

ص: 448

لَا يَرْبَحُ إِلَّا هَذَا الْقَدْرَ فَتَنْقَطِعُ الشَّرِكَةُ فِي الرِّبْحِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ ابْتَغَى عَنْ مَنَافِعِهِ عِوَضًا وَلَمْ يَنَلْ لِفَسَادِهِ، وَالرِّبْحُ لِرَبِّ الْمَالِ لِأَنَّهُ نَمَاءُ مِلْكِهِ، وَهَذَا هُوَ الْحَكَمُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ لَمْ تَصِحِّ الْمُضَارَبَةُ وَلَا تُجَاوِزُ بِالْأَجْرِ الْقَدْرَ الْمَشْرُوطَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ كَمَا بَيَّنَّا فِي الشَّرِكَةِ، وَيَجِبُ الْأَجْرُ وَإِنْ لَمْ يَرْبَحْ فِي رِوَايَةِ الْأَصْلِ لِأَنَّ أَجْرَ الْأَجِيرِ يَجِبُ بِتَسْلِيمِ الْمَنَافِعِ أَوِ الْعَمَلِ وَقَدْ وُجِدَ

. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ اعْتِبَارًا بِالْمُضَارَبَةِ الصَّحِيحَةِ مَعَ أَنَّهَا فَوْقَهَا، وَالْمَالُ فِي الْمُضَارَبَةِ الْفَاسِدَةِ غَيْرُ مَضْمُونٍ بِالْهَلَاكِ اعْتِبَارًا بِالصَّحِيحَةِ،

ذَهَبَ عَامَّةُ الشُّرَّاحِ إِلَى أَنَّ هَذَا تَفْسِيرٌ لِلْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَإِنْ شَرَطَ، لِلتَّفْسِيرِ وَزِيَادَةُ عَشْرَةً، أَيْ: عَلَى مَا شَرَطَا كَالنِّصْفِ وَالثُّلْثِ فَلَهُ، أَيْ: فَلِلْعَامِلِ.

أَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ الَّتِي هِيَ مَسْأَلَةُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لَا تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ تَفْسِيرًا لِلْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ الَّتِي هِيَ مَسْأَلَةُ مُخْتَصِرِ الْقُدُورِيِّ لِوَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَسْأَلَةَ الْأُولَى أَعَمُّ مِنَ الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ؛ لِأَنَّ اشْتِرَاطَ دَرَاهِمَ مُسَمَّاةٌ لِأَحَدِهِمَا يَتَمَشَّى فِي صُوَرٍ مُتَعَدِّدَةٍ مَذْكُورَةٍ فِي مُعْتَبَرَاتِ الْفَتَاوَى كَالْبَدَائِعِ وَالذَّخِيرَةِ وَغَيْرِهِمَا: مِنْهَا أَنَّ شَرْطًا أَنْ يَكُونَ لِأَحَدِهِمَا مِائَةَ دِرْهَمٍ مِنَ الرِّبْحِ أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ وَالْبَاقِي لِلْآخَرِ، وَمِنْهَا أَنَّ شَرْطًا أَنْ يَكُونَ لِأَحَدِهِمَا نِصْفَ الرِّبْحِ أَوْ ثُلْثِهِ إِلَّا عَشَرَةَ دَرَاهِمَ، وَمِنْهَا أَنَّ شَرْطًا أَنْ يَكُونَ لِأَحَدِهِمَا نِصْفُ الرِّبْحِ أَوْ ثُلْثُهُ وَيُزَادُ عَشَرَةً، وَفِي كُلِّ ذَلِكَ تَفْسُدُ الْمُضَارَبَةُ بِنَاءً عَلَى أَنْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الشُّرُوطِ الْمَزْبُورَةِ يَقْطَعُ الشَّرِكَةُ فِي الرِّبْحِ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا لَا يَرْبَحُ إِلَّا الْقَدْرَ الْمُسَمَّى أَوْ أَقَلَّ، كَمَا صَرَّحُوا بِهِ. وَأَمَّا اشْتِرَاطُ زِيَادَةِ عَشْرَةً فَإِنَّمَا يَتَمَشَّى فِي صُورَةٍ ثَالِثَةٍ مِنَ الصُّوَرِ الْمَذْكُورَةِ فَكَيْفَ يَكُونُ الْأَخَصُّ مُفَسِّرًا لِلْأَعَمِّ.

وَثَانِيهُمَا: أَنَّ حُكْمَ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى فَسَادُ عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ بِاشْتِرَاطِ دَرَاهِمَ مُسَمَّاةٍ لِأَحَدِهِمَا، وَحُكْمُ الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ وُجُوبُ أَجْرِ الْمِثْلِ لِلْعَامِلِ فَكَيْفَ يَكُونُ أَحَدَ الْمُتَخَالِفِينَ فِي الْحُكْمِ مُفَسِّرًا لِلْآخَرِ فَالْحَقُّ عِنْدِي أَنَّ الْفَاءَ فِي قَوْلِهِ: فَإِنْ شَرَطَ زِيَادَةَ عَشَرَةً لِلتَّفْرِيعِ، وَالْمَقْصُودُ بِالْمَسْأَلَةِ الْأَوْلَى بَيَانُ أَنَّ عَقْدَ الْمُضَارَبَةِ يُفْسِدُ بِاشْتِرَاطِ دَرَاهِمَ مُسَمَّاةٍ لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدِينَ، وَبِالثَّانِيَةِ بَيَانُ أَنَّ حُكْمَ الْمُضَارَبَةِ الْفَاسِدَةَ وُجُوبُ أَجْرِ الْمِثْلِ لِلْعَامِلِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: إِذَا عَرِفْتَ فَسَادَ عَقْدَ الْمُضَارَبَةِ بِاشْتِرَاطِ دَرَاهِمَ مُسَمَّاةٍ لِأَحَدِهِمَا فَاعْلَمْ أَنَّ حُكْمَ فَسَادِ عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ بِاشْتِرَاطِ ذَلِكَ وُجُوبُ أَجْرِ الْمِثْلِ لِلْعَامِلِ، إِلَّا أَنَّهُ ذَكَرَ فِي التَّفْرِيعِ صُورَةَ اشْتِرَاطِ زِيَادَةِ عَشْرَةً لِكَوْنِهَا هِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ لَا عَلَى سَبِيلِ الْحَصْرِ فِيهَا وَمِنْ عَادَةِ الْمُصَنِّفِ أَنْ لَا يُغَيِّرُ الْمَسْأَلَةَ الَّتِي أَخَذَهَا مِنَ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَوْ مِنْ مُخْتَصَرِ الْقُدُورِي، وَلَكِنْ دَفْعُ احْتِمَالِ تَوَهُّمِ اخْتِصَاصِ ذَلِكَ الْحَكَمِ بِالصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ بِأَنْ قَالَ بَعْدَ تَعْلِيلِ الْمَسْأَلَةِ: وَهَذَا هُوَ الْحَكَمُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ لَمْ تَصِحِّ الْمُضَارَبَةُ.

(قَوْلُهُ: وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ، أَنَّهُ لَا يَجِبُ اعْتِبَارًا بِالْمُضَارَبَةِ الصَّحِيحَةِ مَعَ أَنَّهَا فَوْقَهَا)، فَإِنْ قُلْتُ: مَا جَوَابُ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عَنْ هَذَا التَّعْلِيلِ الْقَوِيِّ لِأَبِي يُوسُفَ رحمه الله، فَإِنَّ الْعَقْدَ الْفَاسِدَ يُؤْخَذُ حُكْمُهُ أَبَدًا مِنَ الْعَقْدِ الصَّحِيحِ مِنْ جِنْسِهِ، كَمَا فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ؟ قُلْتُ: جَوَابُهُ هُوَ

ص: 449

وَلِأَنَّهُ عَيْنٌ مُسْتَأْجَرَةٌ فِي يَدِهِ،

أَنَّ الْفَاسِدَ إِنَّمَا يَعْتَبِرُ بِالْجَائِزِ إِذَا كَانَ انْعِقَادُ الْفَاسِدِ مِثْلَ انْعِقَادِ الْجَائِزِ كَالْبَيْعِ، وَهَاهُنَا الْمُضَارَبَةُ الصَّحِيحَةُ تَنْعَقِدُ شَرِكَةً لَا إِجَارَةً، وَالْمُضَارَبَةُ الْفَاسِدَةُ تَنْعَقِدُ إِجَارَةً فَتُعْتَبَرُ بِالْإِجَارَةِ الصَّحِيحَةِ فِي اسْتِحْقَاقِ الْأَجْرِ عِنْدَ إِيفَاءِ الْعَمَلِ، وَإِنْ تَلَفَ الْمَالُ فِي يَدِهِ فَلَا أَجْرَ مِثْلِهِ فِيمَا عَمِلَ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَالْعِنَايَةِ، وَعَزَاهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ إِلَى الْمَبْسُوطِ.

أَقُولُ: مُقْتَضَى هَذَا الْجَوَابِ أَنْ لَا يَجُوزُ اعْتِبَارَ الْمُضَارَبَةِ الْفَاسِدَةِ بِالْمُضَارَبَةِ الصَّحِيحَةِ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَحْكَامِ مَعَ أَنَّهُمُ اعْتَبَرُوهَا بِالْمُضَارَبَةِ الصَّحِيحَةِ فِي حُكْمِ كَوِنِ الْمَالِ غَيْرَ مَضْمُونٍ بِالْهَلَاكِ، كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مُتَّصِلًا بِمَا نَحْنُ فِيهِ؛ حَيْثُ قَالَ: وَالْمَالُ فِي الْمُضَارَبَةِ الْفَاسِدَةِ غَيْرَ مَضْمُونٍ بِالْهَلَاكِ اعْتِبَارًا بِالصَّحِيحَةِ. نَعَمْ يُمْكِنُ إِثْبَاتُ ذَاكَ الْحَكَمِ بِدَلِيلٍ آخَرَ مَآلُهُ إِلَى اعْتِبَارِهَا بِالْإِجَارَةِ الصَّحِيحَةِ، كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ أَيْضًا بِقَوْلِهِ: وَلِأَنَّهُ عَيْنٌ مُسْتَأْجَرَةٌ فِي يَدِهِ، لَكِنَّ الْكَلَامَ فِي جَعْلِهِمِ اعْتِبَارَهَا بِالْمُضَارَبَةِ الصَّحِيحَةِ دَلِيلًا مُسْتَقِلًّا عَلَيْهِ، كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ عِبَارَةِ الْهِدَايَةِ وَالْكَافِي وَغَيْرِهِمَا فَتَأَمَّلْ. ثُمَّ إِنَّ بَعْضَ الْفُضَلَاءِ رَدَّ عَلَى صَاحِبِ الْعِنَايَةِ فِي قَوْلُهُ وَهَاهُنَا: الْمُضَارَبَةُ الصَّحِيحَةُ تَنْعَقِدُ شَرِكَةً لَا إِجَارَةً، بِأَنَّهُ يُخَالِفُ مَا أَسْلَفَهُ مِنْ أَنَّ عَقْدَ الْمُضَارَبَةِ مُشْتَمِلٌ عَلَى التَّوْكِيلِ وَالْإِجَارَةِ.

أَقُولُ: إِنَّمَا يُخَالِفُ ذَلِكَ أَنْ لَوْ كَانَ مُرَادُهُ بِمَا أَسْلَفَهُ أَنَّ عَقْدَ الْمُضَارَبَةِ مُشْتَمِلٌ عَلَى حَالِ صِحَّةِ التَّوْكِيلِ والْإِجَارَةِ مَعًا، وَأَمَّا إِذَا كَانَ مُرَادُهُ بِذَلِكَ أَنَّ عَقْدَ الْمُضَارَبَةِ مُشْتَمِلٌ عَلَى التَّوْكِيلِ حَالَ صِحَّتِهِ وَعَلَى الْإِجَارَةِ بَعْدَ فَسَادِهِ فَلَا مُخَالَفَةً بَيْنَ كَلَامَيْهِ، وَالظَّاهِرُ هُوَ الثَّانِي لِكَوْنِهِ مُوَافِقًا لِمَا صَرَّحُوا بِهِ.

(قَوْلُهُ: وَلِأَنَّهُ عَيْنٌ مُسْتَأْجَرَةٌ فِي يَدِهِ)، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: عَيْنُ مُسْتَأْجِرٍ: يَعْنِي أَنَّ رَأْسَ الْمَالِ عَيْنٌ اسْتُؤْجِرَ الْمَضَارِبُ لِيَعْمَلَ بِهِ هُوَ لَا غَيْرُهُ فَلَا يُضَمَّنُ كَأَجِيرِ الْوَحْدِ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ. قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: فَيَكُونُ مُسْتَأْجَرَةٌ فِي قَوْلِ الْمُصَنَّفِ: "عَيْنٌ مُسْتَأْجَرَةٌ"، صِفَةٌ جَرَتْ عَلَى غَيْرِ مَنْ هِيَ لَهُ، أَوْ هُوَ مِنْ قَبِيلِ: سَيْلٌ مُفْعَمٌ، وَلَعَلَّ هَذَا أَوْلَى، انْتَهَى.

أَقُولُ: فِيهِ أَنَّ قَوْلَهُمْ: سَيْلٌ مُفْعَمٌ مِمَّا بُنِيَ لِلْمَفْعُولِ وَأُسْنِدَ لِلْفَاعِلِ؛ إِذِ الْمُفْعَمُ اسْمُ مَفْعُولٍ مَنْ أَفْعَمْتُ الْإِنَاءَ، مَلَأْتُهُ وَقَدْ أُسْنِدَ إِلَى الْفَاعِلِ؛ لِأَنَّ السَّيْلَ هُوَ الْمَالِئُ لَا الْمَمْلُوءُ بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ، فَإِنَّ رَأْسَ الْمَالِ لَيْسَ بِفَاعِلٍ لِلِاسْتِئْجَارِ قَطْعًا، كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ بِمَفْعُولٍ فَكَيْفَ يَكُونُ هَذَا مِنْ قَبِيلِ ذَاكَ اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ بِقَوْلِهِ: أَوْ هُوَ مِنْ قَبِيلِ سَيْلٌ مُفْعَمٌ أَوْ هُوَ مِنْ قَبِيلِ الْإِسْنَادِ الْمَجَازِيِّ مُطْلَقًا لَا أَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ خُصُوصِ الْإِسْنَادِ الْوَاقِعِ فِيهِ، فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ

ص: 450

وَكُلُّ شَرْطٍ يُوجِبُ جَهَالَةً فِي الرِّبْحِ يُفْسِدُهُ لِاخْتِلَالِ مَقْصُودِهِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ لَا يُفْسِدُهَا، وَيَبْطُلُ الشَّرْطُ كَاشْتِرَاطِ الْوَضِيعَةِ عَلَى الْمُضَارِبِ.

تَاجُ الشَّرِيعَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ؛ حَيْثُ قَالَ: الْمُسْتَأْجِرُ فِي الْحَقِيقَةِ إِنَّمَا هُوَ الْمُضَارِبُ لَكِنْ سُمِّيَ الْعَيْنُ مُسْتَأْجِرًا لِعَمَلِ الْمُضَارِبِ فِيهِ، اهـ.

ثُمَّ إِنَّ جَمَاعَةً مِنَ الشُّرَّاحِ قَالُوا: وَهَذَا التَّعْلِيلُ يُشِيرُ إِلَى أَنَّ الْمُضَارِبَ بِمَنْزِلَةِ أَجِيرَ الْوَاحِدِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ أَجِيرٌ لَا يُمْكِنُ لَهُ أَنْ يُؤَاجِرَ نَفْسَهَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لِآخَرَ. وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ وَالنِّهَايَةِ مِنْهُمْ فِي تَعْلِيلِ ذَلِكَ: لِأَنَّ الْعَيْنَ الْوَاحِدَ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَأْجِرًا لِمُسْتَأْجِرَيْنِ فِي الْوَقْتِ الْوَاحِدِ، كَمَا لَا يُمْكِنُ لِأَجِيرِ الْوَاحِدِ أَنْ يُؤَجِّرَ نَفْسَهَ لِمُسْتَأْجِرَيْنِ فِي الْوَقْتِ الْوَاحِدِ، انْتَهَى.

أَقُولُ: فِيهِ بَحْثٌ؛ لِأَنَّهُ إِنْ أُرِيدَ بِالْعَيْنِ الْوَاحِدِ فِي قَوْلِهِمَا: لِأَنَّ الْعَيْنَ الْوَاحِدَ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَأْجِرًا لِمُسْتَأْجِرَيْنِ فِي الْوَقْتِ الْوَاحِدِ نَفْسَ الْمَضَارِبِ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ نَفْسَهَ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَأْجِرًا لِمُسْتَأْجِرَيْنِ فِي الْوَقْتِ الْوَاحِدِ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ إِذَا كَانَتْ عَقْدًا عَلَى الْعَمَلِ لَا عَلَى الْمَنْفَعَةِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ شَخْصٌ وَاحِدٌ مُسْتَأْجِرًا لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُسْتَأْجِرِينَ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ كَالْقَصَّارِ وَرَاعِي الْغَنَمِ لِلْعَامَّةِ وَنَحْوِهِمَا مِنَ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرِكِ لِإِمْكَانِ الْعَمَلِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَقَدْ وَقَعَ عَقْدُ الْمُضَارَبَةِ عَلَى الْعَمَلِ مِنَ الْمُضَارِبِ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ مُسْتَأْجِرًا لِأَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ، بِخِلَافِ أَجِيرِ الْوَحْدِ فَإِنَّ الْإِجَارَةَ فِيهِ كَانَتْ عَلَى الْمَنْفَعَةِ دُونَ الْعَمَلِ فَلَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يُؤَجِّرَ نَفْسَهَ لِآخَرَ فِي الْوَقْتِ الْوَاحِدِ، كَمَا تَقَرَّرَ فِي مَحَلِّهِ، وَإِنْ أُرِيدَ بِالْعَيْنِ الْوَاحِدِ فِي قَوْلِهِمَا: الْمَزْبُورُ رَأْسُ الْمَالِ، فَمُسْلَّمٌ أَنَّ ذَلِكَ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَأْجِرًا لِمُسْتَأْجِرَيْنِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، أَيْ: أَنَّ يَكُونَ فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَعْمَلَانِ بِهِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَلَكِنْ هَذَا لَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمُضَارِبُ بِمَنْزِلَةِ أَجِيرِ الْوَاحِدِ لِجَرَيَانِ هَذَا الْمَعْنَى فِي كُلِّ أَجِيرٍ مُشْتَرَكٍ، فَإِنَّ مَا يَعْمَلُ بِهِ مِنَ الْأَعْيَانِ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ فِي يَدِهِ وَفِي غَيْرِهِ عَلَى الِاسْتِقْلَالِ فِي الْوَقْتِ الْوَاحِدِ لِامْتِنَاعِ وُقُوعِ شَيْءٍ وَاحِدٍ فِي مَحِلَّيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ فَلَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ.

(قَوْلُهُ: وَكُلُّ شَرْطٍ يُوجِبُ جَهَالَةً فِي الرِّبْحِ يُفْسِدُهُ لِاخْتِلَالِ مَقْصُودِهِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ لَا يُفْسِدُهَا، وَيُبْطِلُ الشَّرْطَ كَاشْتِرَاطِ الْوَضِيعَةِ عَلَى الْمُضَارِبِ).

قَالَ فِي النِّهَايَةِ: فَإِنْ قُلْتَ هَذَا الْكُلُّ مَنْقُوضٌ بِمَا ذَكَرَ بَعْدَ هَذَا بِخُطُوطٍ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَشَرْطُ الْعَمَلِ عَلَى رَبِّ الْمَالِ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ، فَإِنَّ هَذَا الشَّرْطَ دَاخِلٌ تَحْتَ ذَلِكَ الْكُلِّ؛ لِأَنَّ هَذَا الشَّرْطَ لَا يُوجِبُ جَهَالَةً فِي الرِّبْحِ وَمَعَ ذَلِكَ أَفْسَدَ عَقْدَ الْمُضَارَبَةِ، وَعَلَى قَضِيَّةِ ذَلِكَ الْكُلِّ يَنْبَغِي أَنْ لَا تَفْسُدُ الْمُضَارَبَةُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ الَّذِي يُوجِبُ جَهَالَةً فِي الرِّبْحِ. قُلْتُ: نَعَمْ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِقَوْلِهِ: "وَغَيْرُ ذَلِكَ"، الشُّرُوطَ الْفَاسِدَةَ لَا يُفْسِدُهَا الشَّرْطَ الَّذِي لَا يَمْنَعُ مُوجَبَ الْعَقْدِ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ شَرْطًا يَمْنَعُ مُوجَبَ الْعَقْدِ يُفْسِدُ الْعَقْدَ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ إِنَّمَا شُرِعَ لِإِثْبَاتِ مُوجَبِهِ، انْتَهَى.

أَقُولُ: هَذَا الْجَوَابُ لَا يَشْفِي الْعَلِيلَ وَلَا يُجْدِي طَائِلًا.

ص: 451

قَالَ (وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمَالُ مُسَلَّمًا إِلَى الْمُضَارِبِ وَلَا يَدٌ لِرَبِّ الْمَالِ فِيهِ) لِأَنَّ الْمَالَ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ فَلَا بُدِّ مِنَ التَّسْلِيمِ إِلَيْهِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الشَّرِكَةِ لِأَنَّ الْمَالَ فِي الْمُضَارَبَةِ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ وَالْعَمَلَ مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَخْلُصَ الْمَالُ لِلْعَامِلِ لِيَتَمَكَّنَ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهِ. أَمَّا الْعَمَلُ فِي الشَّرِكَةِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ فَلَوْ شَرَطَ خُلُوصَ الْيَدِ لِأَحَدِهِمَا لَمْ تَنْعَقِدِ الشَّرِكَةُ، وَشَرْطُ الْعَمَلِ عَلَى رَبِّ الْمَالِ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ خُلُوصَ يَدِ الْمُضَارِبِ فَلَا يَتَمَكَّنُ مِنَ التَّصَرُّفِ فَلَا يَتَحَقَّقُ الْمَقْصُودُ سَوَاءٌ كَانَ الْمَالِكُ عَاقِدًا أَوْ غَيْرَ عَاقِدٍ كَالصَّغِيرِ لِأَنَّ يَدَ الْمَالِكِ ثَابِتَةٌ لَهُ، وَبَقَاءُ يَدِهِ يَمْنَعُ التَّسْلِيمَ إِلَى الْمُضَارِبِ، وَكَذَا أَحَدُ الْمُتَفَاوِضَيْنِ وَأَحَدُ شَرِيكَيِ الْعَنَانِ إِذَا دَفَعَ الْمَالَ مُضَارَبَةً وَشَرَطَ عَمَلَ صَاحِبِهِ لِقِيَامِ الْمِلْكِ لَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَاقِدًا، وَاشْتِرَاطُ الْعَمَلِ عَلَى الْعَاقِدِ مَعَ الْمُضَارِبِ وَهُوَ غَيْرُ مَالِكٍ يُفْسِدُهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْمُضَارَبَةِ فِيهِ كَالْمَأْذُونِ، بِخِلَافِ الْأَبِ وَالْوَصِيِّ لِأَنَّهُمَا مِنْ أَهْلِ أَنْ يَأْخُذَا مَالَ الصَّغِيرِ مُضَارَبَةً بِأَنْفُسِهِمَا فَكَذَا اشْتِرَاطُهُ عَلَيْهِمَا بِجُزْءٍ مِنَ الْمَالِ.

لِأَنَّ كَوْنَ الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ: "وَغَيْرُ ذَلِكَ"، الشَّرْطَ الَّذِي لَا يَمْنَعُ مُوجَبَ الْعَقْدِ مَعَ أَنَّهُ مُجَرَّدُ احْتِمَالٍ مَحْضٍ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ الزَّبُورُ لِعُمُومِهِ مُفْسِدًا لِمَا هُوَ الْمَقْصُودُ فِي الْمَقَامِ؛ إِذِ الْمَقْصُودُ هَاهُنَا بَيَانُ أَصْلٍ يَنْضَبِطُ بِهِ أَحْوَالَ الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ فِي بَابِ الْمُضَارَبَةِ فَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ:"وَغَيْرُ ذَلِكَ"، الشَّرْطَ الَّذِي لَا يَمْنَعُ مُوجَبَ الْعَقْدِ يَكُونُ الشَّرْطُ الَّذِي يَمْنَعُ مُوجَبَ الْعَقْدِ وَلَا يُوجِبُ جَهَالَةً فِي الرِّبْحِ خَارِجًا عَنْ قِسْمَيْ هَذَا الْأَصْلِ فَلَا يَتَحَقَّقُ الِانْضِبَاطُ فَلَا يَتِمُّ الْمَقْصُودُ.

وَأَجَابَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ عَنِ السُّؤَالِ الْمَذْكُورِ بِوَجْهٍ آخَرَ؛ حَيْثُ قَالَ: قِيلَ: شَرْطُ الْعَمَلِ عَلَى رَبِّ الْمَالِ لَا يُوجِبُ جَهَالَةً فِي الرِّبْحِ وَلَا يَبْطُلُ فِي نَفْسِهِ، بَلْ يُفْسِدُ الْمُضَارَبَةَ، كَمَا سَيَجِيءُ فَلَمْ تَكُنِ الْقَاعِدَةُ مُطَّرِدَةً.

وَالْجَوَابُ أَنَّهُ قَالَ: وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ لَا يُفْسِدُهَا، أَيْ: الْمُضَارَبَةُ، وَإِذَا شَرَطَ الْعَمَلَ عَلَى رَبِّ الْمَالِ فَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُضَارَبَةٍ: وَسَلْبُ الشَّيْءِ عَنِ الْمَعْدُومِ صَحِيحٌ، يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: زَيْدٌ الْمَعْدُومُ لَيْسَ بِبَصِيرٍ، وَقَوْلُهُ بَعْدَ هَذَا بِخُطُوطٍ وَشَرْطُ الْعَمَلِ عَلَى رَبِّ الْمَالِ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ، مَعْنَاهُ مَانِعٌ عَنْ تَحَقُّقِهِ، انْتَهَى كَلَامُهُ.

أَقُولُ: مَضْمُونُ هَذَا الْجَوَابِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَاسِدًا فِي نَفْسِهِ إِلَّا أَنَّهُ مُفْسِدٌ لِمَعْنَى الْمَقَامِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْقِسْمَ الثَّانِي مِنَ الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ عَلَى مَا صَرَّحُوا بِهِ هُوَ أَنَّ غَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الشُّرُوطِ لَا يُفْسِدُ الْمُضَارَبَةَ بَلْ تَبْقَى الْمُضَارَبَةُ صَحِيحَةٌ وَيُبْطِلُ الشَّرْطُ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ: كَاشْتِرَاطِ الْوَضِيعَةِ عَلَى الْمُضَارِبِ، فَإِنَّ الشَّرْطَ هُنَاكَ بَاطِلٌ وَالْمُضَارَبَةُ صَحِيحَةٌ، وَقَدْ كَانَ اعْتَرَفَ بِهِ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ أَيْضًا؛ حَيْثُ قَالَ أَوَّلًا: وَلَمَّا كَانَ مِنَ الشُّرُوطِ مَا يُفْسِدُ الْعَقْدَ وَمِنْهَا مَا يَبْطُلُ فِي نَفْسِهِ وَتَبْقَى الْمُضَارَبَةُ صَحِيحَةٌ أَرَادَ أَنْ يُشِيرَ إِلَى ذَلِكَ بِأَمْرٍ جُمْلِيٍّ فَقَالَ: وَكُلُّ شَرْطٍ يُوجِبُ جَهَالَةً فِي الرِّبْحِ

إِلَخْ. وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُضَارَبَةَ الْمَعْدُومَةَ لَا تَنْدَرِجُ فِي هَذَا الْمَعْنَى.

ص: 452

قَالَ (وَإِذَا صَحَّتِ الْمُضَارَبَةُ مُطْلَقَةً جَازَ لِلْمُضَارِبِ أَنْ يَبِيعَ وَيَشْتَرِيَ وَيُوَكِّلَ وَيُسَافِرَ وَيُبْضِعَ وَيُودِعَ) لِإِطْلَاقِ الْعَقْدِ وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ الِاسْتِرْبَاحُ وَلَا يَتَحَصَّلُ إِلَّا بِالتِّجَارَةِ، فَيَنْتَظِمُ الْعَقْدُ صُنُوفَ التِّجَارَةِ وَمَا هُوَ مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ، وَالتَّوْكِيلُ مِنْ صَنِيعِهِمْ، وَكَذَا الْإِبْضَاعُ وَالْإِيدَاعُ وَالْمُسَافَرَةُ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُودِعَ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ فَالْمُضَارِبُ أَوْلَى، كَيْفَ وَأَنَّ اللَّفْظَ دَلِيلٌ عَلَيْهِ لِأَنَّهَا مُشْتَقَّةٌ مِنَ الضَّرْبِ فِي الْأَرْضِ وَهُوَ السَّيْرُ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ. وَعَنْهُ وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ إِنْ دَفَعَ فِي بَلَدِهِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ لِأَنَّهُ تَعْرِيضٌ عَلَى الْهَلَاكِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ وَإِنْ دَفَعَ فِي غَيْرِ بَلَدِهِ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ إِلَى بَلَدِهِ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُرَادُ فِي الْغَالِبِ، وَالظَّاهِرُ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ قَالَ (وَلَا يُضَارِبُ إِلَّا أَنْ يَأْذَنَ لَهُ رَبُ الْمَالِ أَوْ يَقُولَ لَهُ اعْمَلْ بِرَأْيِكَ) لِأَنَّ الشَّيْءَ لَا يَتَضَمَّنُ مِثْلَهُ لِتَسَاوِيهِمَا فِي الْقُوَّةِ فَلَا بُدَّ مِنَ التَّنْصِيصِ عَلَيْهِ أَوِ التَّفْوِيضِ الْمُطْلَقِ إِلَيْهِ وَكَانَ كَالتَّوْكِيلِ، فَإِنَّ الْوَكِيلَ لَا يَمْلِكُ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ إِلَّا إِذَا قِيلَ لَهُ اعْمَلْ بِرَأْيِكَ،

(قَوْلُهُ: وَإِذَا صَحَّتِ الْمُضَارَبَةُ مُطْلُقَةً جَازَ لِلْمُضَارِبِ أَنْ يَبِيعَ وَيَشْتَرِيَ، وَيُوكِلَ وَيُسَافِرَ وَيَبْضَعَ وَيُوَدِّعَ) فَسَّرَ أَكْثَرُ الشُّرَّاحِ الْمُضَارَبَةَ الْمُطْلَقَةَ هَاهُنَا بِأَنْ لَا تَكُونَ مُقَيَّدَةٌ بِزَمَانٍ وَلَا مَكَانٍ.

أَقُولُ: هَذَا تَقْصِيرٌ مِنْهُمْ جِدًّا؛ لِأَنَّهَا إِذَا لَمْ تَكُنْ مُقَيَّدَةٌ بِزَمَانٍ وَلَا مَكَانٍ وَلَكِنْ كَانَتْ مُقَيَّدَةً بِسِلْعَةٍ بِعَيْنِهَا أَوْ كَانَتْ مُقَيَّدَةً بِالْمُعَامَلَةِ بِفُلَانٍ بِعَيْنِهِ لَمْ تَكُنْ مُطْلَقَةً بَلْ كَانَتْ مُقَيِّدَةً لَمْ يَجُزْ لِلْمُضَارِبِ أَنْ يَتَجَاوَزَهَا، كَمَا سَيَأْتِي. وَقَالَ بَعْضٌ مِنَ الشُّرَّاحِ فِي تَفْسِيرِ الْمُضَارَبَةِ الْمُطْلَقَةِ هَاهُنَا، أَيْ: غَيْرُ مُقَيَّدَةٍ بِالْمَكَانِ وَالزَّمَانِ وَالسِّلْعَةِ.

أَقُولُ: فِيهِ أَيْضًا نَوْعُ تَقْصِيرٍ لِدُخُولٍ مَا كَانَتْ مُقَيَّدَةً بِالْمُعَامَلَةِ بِفُلَانٍ بِعَيْنِهِ فِي هَذَا التَّفْسِيرِ أَيْضًا مَعَ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِمُطْلَقَةٍ؛ حَيْثُ يَصِحُّ ذَلِكَ التَّقْيِيدُ، كَمَا سَيَأْتِي فِي الْكِتَابِ، فَالْأَوْلَى فِي تَفْسِيرِهَا أَنْ يُقَالَ: مَا لَمْ تُقَيَّدْ بِزَمَانٍ وَلَا بِمَكَانِ وَلَا بِنَوْعٍ مِنَ التِّجَارَةِ وَلَا بِشَخْصٍ مِنَ الْمُعَامَلِينَ، وَعَنْ هَذَا قَالَ فِي الذَّخِيرَةِ وَالْمُحِيطِ: إِذَا دَفَعَ مَالًا مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ وَلَمْ يَزِدْ عَلَى هَذَا فَهَذِهِ مُضَارَبَةٌ مُطْلَقَةٌ، وَلَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا مَا بَدَا لَهُ مِنْ سَائِرِ التِّجَارَاتِ وَلَهُ أَنْ يَعْمَلَ بِهَا مَا هُوَ مِنْ عَادَاتِ التُّجَّارِ، انْتَهَى.

(قَوْلُهُ: وَلَا يُضَارِبُ إِلَّا أَنْ يَأْذَنَ لَهُ رَبُّ الْمَالِ أَوْ يَقُولُ: لَهُ اعْمَلْ بِرَأْيكَ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ لَا يَتَضَمَّنُ مَثْلَهُ). قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَلَا يَرِدُ جَوَازُ إِذْنِ الْمَأْذُونِ لِعَبْدِهِ وَجَوَازِ الْكِتَابَةِ لِلْمُكَاتَبِ وَالْإِجَارَةِ لِلْمُسْتَأْجِرِ.

ص: 453

بِخِلَافِ الْإِيدَاعِ وَالْإِبْضَاعِ لِأَنَّهُ دُونَهُ فَيَتَضَمَّنُهُ، وَبِخِلَافِ الْإِقْرَاضِ حَيْثُ لَا يَمْلِكُهُ. وَإِنْ قِيلَ لَهُ اعْمَلْ بِرَأْيِكَ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ التَّعْمِيمُ فِيمَا هُوَ مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ وَلَيْسَ الْإِقْرَارُ مِنْهُ وَهُوَ تَبَرُّعٌ كَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ فَلَا يَحْصُلُ بِهِ الْغَرَضُ وَهُوَ الرِّبْحُ لِأَنَّهُ لَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ، أَمَّا الدَّفْعُ مُضَارَبَةً فَمِنْ صَنِيعِهِمْ، وَكَذَا الشَّرِكَةُ وَالْخَلْطُ بِمَالِ نَفْسِهِ فَيَدْخُلُ تَحْتَ هَذَا الْقَوْلِ. قَالَ (وَإِنْ خَصَّ لَهُ رَبٍّ الْمَالِ التَّصَرُّفَ فِي بَلَدٍ بِعَيْنِهِ أَوْ فِي سِلْعَةٍ بِعَيْنِهَا لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَتَجَاوَزَهَا) لِأَنَّهُ تَوْكِيلٌ. وَفِي التَّخْصِيصِ فَائِدَةٌ فَيَتَخَصَّصُ، وَكَذَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ بِضَاعَةً إِلَى مَنْ يُخْرِجُهَا مِنْ تِلْكَ الْبَلْدَةِ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْإِخْرَاجَ بِنَفْسِهِ فَلَا يَمْلِكُ تَفْوِيضَهُ إِلَى غَيْرِهِ.

قَالَ (فَإِنْ خَرَجَ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ الْبَلَدِ فَاشْتَرَى ضَمِنَ) وَكَانَ ذَلِكَ لَهُ، وَلَهُ رِبْحُهُ لِأَنَّهُ تَصَرَّفَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِ حَتَّى رَدَّهُ إِلَى الْكُوفَةِ وَهِيَ الَّتِي عَيَّنَهَا بَرِئَ مِنَ الضَّمَانِ كَالْمُودَعِ إِذَا خَالَفَ فِي الْوَدِيعَةِ ثُمَّ تَرَكَ

وَرَجَعَ الْمَالُ مُضَارَبَةً عَلَى حَالِهِ لِبَقَائِهِ فِي يَدِهِ بِالْعَقْدِ السَّابِقِ،

وَالْإِعَارَةُ لِلْمُسْتَعِيرِ فِيمَا لَمْ يَخْتَلِفْ بِاخْتِلَافِ الْمُسْتَعْمِلِينَ، فَإِنَّهَا أَمْثَالٌ لَمَّا يُجَانِسْهَا. وَقَدْ تَضَمَّنَتْ أَمْثَالُهَا؛ لِأَنَّ الْمُضَارَبَةَ تَضَمَّنَتِ الْأَمَانَةَ أَوَّلًا وَالْوَكَالَةَ ثَانِيًا، وَلَيْسَ لِلْمُودِعِ وَالْوَكِيلِ الْإِيدَاعُ وَالتَّوْكِيلُ، فَكَذَا الْمُضَارِبُ لَا يُضَارِبُ غَيْرَهُ، انْتَهَى كَلَامُهُ.

أَقُولُ: الظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: لِأَنَّ الْمُضَارَبَةَ تَضَمَّنَتِ الْأَمَانَةَ

إِلَخْ. تَعْلِيلٌ لِقَوْلِهِ: وَلَا يَرُدُّ جَوَازَ إِذَنْ الْمَأْذُونِ

إِلَخْ. لَكِنَّهُ مَنْظُورٌ فِيهِ؛ لِأَنَّ حَاصِلَهُ إِقَامَةُ دَلِيلٍ آخَرَ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ أَنْ يُضَارِبَ الْمُضَارِبُ غَيْرَهُ بِتَضَمُّنِ الْمُضَارَبَةَ الْأَمَانَةَ وَالْوَكَالَةَ اللَّتَيْنِ لَا يَجُوزُ فِيهِمَا الْإِيدَاعُ وَالتَّوْكِيلُ وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ عَدَمَ وُرُودِ النَّقْضِ بِالصُّوَرِ الْمَزْبُورَةِ عَلَى الدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ لَا يَتَضَمَّنُ مِثْلَهُ فَلَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ. وَالْوَجْهُ فِي الْجَوَابِ عَنِ النَّقْضِ بِتِلْكَ الصُّوَرِ مَا ذُكِرَ فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ مِنْ أَنَّ الْكَلَامَ فِي التَّصَرُّفِ نِيَابَةً وَهَؤُلَاءِ يَتَصَرَّفُونَ بِحُكْمِ الْمَالِكِيَّةِ. أَمَّا الْمَأْذُونُ فَلِأَنَّ الْإِذْنَ فَكُّ الْحَجَرِ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَتَصَرَّفُ الْعَبْدُ بِحُكْمِ الْمَالِكِيَّةِ الْأَصْلِيَّةِ، وَأَمَّا الْمُكَاتَبُ فَلِأَنَّهُ صَارَ حُرًّا يَدًا، وَأَمَّا الْمُسْتَأْجِرُ وَالْمُسْتَعِيرُ فَلِأَنَّهُمَا مَلَكَا الْمَنْفَعَةَ.

(قَوْلُهُ: وَرَجْعُ الْمَالِ مُضَارَبَةٌ عَلَى حَالِهِ). قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ

ص: 454

وَكَذَا إِذَا رَدَّ بَعْضَهُ وَاشْتَرَى بِبَعْضِهِ فِي الْمِصْرِ كَانَ الْمَرْدُودُ وَالْمُشْتَرَى فِي الْمِصْرِ عَلَى الْمُضَارَبَةِ لِمَا قُلْنَا، ثُمَّ شَرَطَ الشِّرَاءَ بِهَا هَاهُنَا وَهُوَ رِوَايَةُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، وَفِي كِتَابِ الْمُضَارَبَةِ ضَمِنَهُ بِنَفْسِ الْإِخْرَاجِ.

وَالصَّحِيحُ أَنَّ بِالشِّرَاءِ يَتَقَرَّرُ الضَّمَانُ لِزَوَالِ احْتِمَالِ الرَّدِّ إِلَى الْمِصْرِ الَّذِي عَيَّنَهُ، أَمَّا الضَّمَانُ فَوُجُوبُهُ بِنَفْسِ الْإِخْرَاجِ، وَإِنَّمَا شَرَطَ الشِّرَاءَ لِلتَّقَرُّرِ لَا لِأَصْلِ الْوُجُوبِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إِذَا قَالَ عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَ فِي سُوقِ الْكُوفَةِ حَيْثُ لَا يَصِحُّ التَّقْيِيدُ لِأَنَّ الْمِصْرَ مَعَ تَبَايُنِ أَطْرَافِهِ كَبُقْعَةٍ وَاحِدَةٍ فَلَا يُفِيدُ التَّقْيِيدُ، إِلَّا إِذَا صَرَّحَ بِالنَّهْيِ بِأَنْ قَالَ اعْمَلْ فِي السُّوقِ وَلَا تَعْمَلْ فِي غَيْرِ السُّوقِ لِأَنَّهُ صَرَّحَ بِالْحَجْرِ وَالْوِلَايَةُ إِلَيْهِ

رَجْعُ الْمَالِ مُضَارَبَةٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا زَائِلَةٌ، وَإِذَا زَالَ الْعَقْدُ لَا يَرْجِعُ إِلَّا بِالتَّجْدِيدِ أُجِيبُ بِأَنَّهُ عَلَيَّ هَذِهِ الرِّوَايَةُ وَهِيَ رِوَايَةُ الْجَامِعُ الصَّغِيرِ لَمْ يَزَلْ؛ لِأَنَّ الْخِلَافَ إِنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِالشِّرَاءِ وَالْفَرْضِ خِلَافُهُ، وَإِنَّمَا قَالَ رَجْعٌ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ صَارَ عَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ، وَأَمَّا عَلَى رِوَايَةِ الْمَبْسُوطِ فَإِنَّهَا زَالَتْ زَوَالًا مَوْقُوفًا؛ حَيْثُ ضَمَّنَهُ بِنَفْسِ الْإِخْرَاجِ، اهـ.

أَقُولُ: قَوْلُهُ: إِنَّهُ رِوَايَةُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لَمْ يَزَلْ؛ لِأَنَّ الْخِلَافَ إِنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِالشِّرَاءِ مُخَالِفٌ لِمَا حَقَّقَهُ الْمُصَنَّفُ وَغَيْرُهُ فِيمَا سَيَأْتِي مِنْ أَنَّ شَرْطَ الشِّرَاءِ فِي رِوَايَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِتُقَرِّرَ الضَّمَانَ لَا لِأَصِلِ وُجُوبِهِ، وَإِنَّمَا وُجُوبُهُ بِنَفْسِ الْإِخْرَاجِ؛ إِذْ حِينَئِذٍ يَتَحَقَّقُ الْخِلَافُ بِمُجَرَّدِ الْإِخْرَاجِ عَلَى رِوَايَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَيْضًا، فَالْحَقُّ فِي الْجَوَابِ أَنْ يُكْتَفَى بِأَنْ يُقَالَ: إِنِ الْمُضَارَبَةَ زَائِلَةٌ بِالْإِخْرَاجِ زَوَالًا مَوْقُوفًا فَإِذَا لَمْ يَشْتَرِ وَرَدَّ الْمَالَ إِلَى الْبَلَدِ الَّذِي عَيَّنَهُ رَبُّ الْمَالِ سَقَطَ الضَّمَانُ وَعَادَتِ الْمُضَارَبَةُ إِلَى أَصْلِهَا، وَالْعَقْدُ إِنَّمَا لَا يَرْجِعُ إِلَّا بِالتَّجْدِيدِ فِيمَا إِذَا زَالَ زَوَالًا مَقْطُوعًا غَيْرَ مَوْقُوفٍ عَلَى شَيْءٍ.

(قَوْلُهُ: إِلَّا إِذَا صَرَّحَ بِالنَّهْي بِأَنْ قَالَ: اعْمَلْ فِي السُّوقِ وَلَا تَعْمَلْ فِي غَيْرِ السُّوقِ؛ لِأَنَّهُ صَرَّحَ بِالْحَجَرِ وَالْوِلَايَةِ إِلَيْهِ). قَالَ فِي مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ: فَإِنْ قِيلَ: يُشْكِلُ عَلَى هَذَا مَا ذَكَرَ فِي الذَّخِيرَةِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: بِعْ بِالنَّسِيئَةِ وَلَا تَبِعْ بِالنَّقْدِ أَوْ عَلَى الْعَكْسِ؛ حَيْثُ لَوْ بَاعَ بِالنَّقْدِ أَوْ بِالنَّسِيئَةِ لَا يَكُونُ مُخَالِفًا مَعَ صَرِيحِ النَّهْيِ إِذَا كَانَ السِّعْرُ بِالنَّقْدِ وَالنَّسِيئَةِ لَا يَتَفَاوَتُ قُلْنَا: هَذَا مُخَالَفَةٌ بِالْخَيْرِ.

ص: 455

وَمَعْنَى التَّخْصِيصِ أَنْ يَقُولَ لَهُ عَلَى أَنْ تَعْمَلَ كَذَا أَوْ فِي مَكَانِ كَذَا، وَكَذَا إِذَا قَالَ خُذْ هَذَا الْمَالَ تَعْمَلُ بِهِ فِي الْكُوفَةِ لِأَنَّهُ تَفْسِيرٌ لَهُ، أَوْ قَالَ فَاعْمَلْ بِهِ فِي الْكُوفَةِ لِأَنَّ الْفَاءَ لِلْوَصْلِ أَوْ قَالَ خُذْهُ بِالنِّصْفِ بِالْكُوفَةِ لِأَنَّ الْبَاءَ لِلْإِلْصَاقِ، أَمَّا إِذَا قَالَ خُذْ هَذَا الْمَالَ وَاعْمَلْ بِهِ بِالْكُوفَةِ فَلَهُ أَنْ يَعْمَلَ فِيهَا وَفِي غَيْرِهَا لِأَنَّ الْوَاوَ لِلْعَطْفِ فَيَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ الْمَشُورَةِ،

فَلَا يَكُونُ مُخَالَفَةً خِلَافًا لِزَفْرٍ، وَهَذَا، كَمَا لَوْ وَكَّلَهُ بِأَنْ يَبِيعَ عَبْدَهُ بِأَلْفٍ فَبَاعَهُ بِأَلْفَيْنِ يَجُوزُ عِنْدَنَا خِلَافًا لَزُفَرَ؛ لِأَنَّهُ مُخَالَفَةٌ بِالْخَيْرِ، اهـ.

أَقُولُ: فِي كُلٍّ وَاحِدٍ مِنَ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ خَبْطٌ. أَمَّا فِي الْأَوَّلِ فَلِأَنَّ قَوْلَهُ: "أَوْ عَلَى الْعَكْسِ"، غَيْرَ صَحِيحٍ؛ إِذْ لَمْ يَذْكُرْ كَوْنُ الْجَوَابِ فِي عَكْسِ قَوْلِهُ: بِعْ بِالنَّسِيئَةِ وَلَا تَبِعْ بِالنَّقْدِ، كَالْجَوَابِ فِيهِ لَا فِي الذَّخِيرَةِ وَلَا فِي شَيْءٍ مِنَ الْكُتُبِ الشَّرْعِيَّةِ. وَأَمَّا فِي الثَّانِي فَلِأَنَّ قَوْلَهُ: هَذَا مُخَالَفَةٌ بِالْخَيْرِ مِمَّا لَا يَكَادُ يَصِحُّ بَعْدَ دَرْجِ الْعَكْسِ الْمَذْكُورِ فِي الْإِشْكَالِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ الْبَيْعُ بِالنَّقْدِ مُخَالَفَةً بِالْخَيْرِ فِيمَا إِذَا كَانَ السِّعْرُ بِالنَّقْدِ وَالنَّسِيئَةِ غَيْرَ مُتَفَاوِتٍ لَمْ يُتَصَوَّرْ كَوْنُ الْبَيْعِ بِالنَّسِيئَةِ فِي الْعَكْسِ مُخَالَفَةٌ بِالْخَيْرِ أَيْضًا، وَهَذَا ظَاهِرٌ جِدًّا، فَالصَّوَابُ أَنْ يَطْرَحَ حَدِيثُ الْعَكْسِ فِي السُّؤَالِ، كَمَا فَعَلَهُ غَيْرُهُ.

(قَوْلُهُ: وَمَعْنَى التَّخْصِيصُ أَنْ يَقُولَ لَهُ: عَلَى أَنْ تَعْمَلَ كَذَا أَوْ فِي مَكَانِ كَذَا

إِلَخْ). يَعْنِي: أَنَّ مَعْنَى التَّخْصِيصِ يَحْصُلُ بِأَنْ يَقُولَ: كَذَا وَكَذَا بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ، وَمَقْصُودُهُ التَّمْيِيزُ بَيْنَ مَا يُفِيدُ التَّخْصِيصُ مِنَ الْأَلْفَاظِ وَمَا لَا يُفِيدُ ذَلِكَ مِنْهَا. وَجُمْلَةُ ذَلِكَ عَلَى مَا عُيِّنُوا ثَمَانِيَةٌ: سِتَّةٌ مِنْهَا تُفِيدُ التَّخْصِيصَ فَتُعْتَبَرُ شَرْطًا، وَاثْنَانِ مِنْهَا لَا تُفِيدُهُ فَتُعْتَبَرُ مَشُورَةً. وَالضَّابِطُ فِي التَّمْيِيزِ مَا يُفِيدُ التَّخْصِيصَ عَمَّا لَا يُفِيدُهُ هُوَ أَنَّ رَبَّ الْمَالِ مَتَى ذَكَرَ عَقِيبَ الْمُضَارَبَةِ مَا لَا يَصِحُّ التَّلَفُّظُ بِهِ ابْتِدَاءٌ وَيَصِحُّ مُتَعَلِّقًا بِمَا قَبْلَهُ يُجْعَلُ مُتَعَلِّقًا بِهِ لِئَلَّا يَلْغُو، وَمَتَى ذَكَرَ عَقِيبُهَا مَا يَصِحُّ الِابْتِدَاءُ بِهِ لَا يُجْعَلُ مُتَعَلِّقًا بِمَا قَبْلَهُ لِانْتِفَاءِ الضَّرُورَةِ. هَذَا خُلَاصَةُ مَا ذُكِرَ هَاهُنَا فِي جُمْلَةِ الشُّرُوحِ وَالْكَافِي.

أَقُولُ: فِيهِ شَيْءٌ، وَهُوَ أَنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ قَوْلَ رَبِّ الْمَالِ: خُذْ هَذَا الْمَالَ تَعْمَلُ بِهِ فِي الْكُوفَةِ بِرَفْعِ تَعْمَلُ وَبِجَزْمِهِ مِنْ تِلْكَ الْأَلْفَاظِ السِّتَّةِ الَّتِي تُفِيدُ التَّخْصِيصَ مَعَ أَنَّهُ يَصِحُّ الِابْتِدَاءُ بِتَعْمُلُ مَرْفُوعًا عَلَى أَنْ يُجْعَلَ كَلَامًا مُسْتَأْنَفًا، كَمَا يَصِحُّ الِابْتِدَاءُ بِاللَّفْظَيْنِ اللَّذَيْنِ حَصَرُوا فِيهِمَا مَا يَصِحُّ الِابْتِدَاءُ بِهِ فِي بَابِ الْمُضَارَبَةِ وَهُمَا قَوْلُهُ: وَاعْمَلْ بِهِ بِالْوَاوِ، وَقَوْلُهُ: اعْمَلْ بِهِ بِغَيْرِ الْوَاوِ فَعَلَى مُقْتَضَى الضَّابِطِ الْمَذْكُورِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: تَعْمَلُ بِهِ فِي الْكُوفَةِ بِالرَّفْعِ مِمَّا لَا يُفِيدُ التَّخْصِيصَ أَيْضًا فَتَأَمَّلْ.

(قَوْلُهُ: أَمَّا إِذَا قَالَ: خُذْ هَذَا الْمَالَ وَاعْمَلْ بِهِ فِي الْكُوفَةِ فَلَهُ أَنْ يَعْمَلَ فِيهَا وَفِي غَيْرِهَا؛ لِأَنَّ الْوَاوَ لِلْعَطْفِ فَيَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ الْمَشُورَةِ). فَإِنْ قِيلَ: لِمَاذَا لَمْ تَجْعَلِ الْوَاوَ لِلْحَالِ، كَمَا فِي قَوْلُهُ: أَدِّ إِلَيَّ أَلْفًا وَأَنْتَ حُرُّ. قُلْنَا: لِأَنَّهُ غَيْرَ صَالِحٍ لِلْحَالِ.

ص: 456

وَلَوْ قَالَ عَلَى أَنْ تَشْتَرِيَ مِنْ فُلَانٍ وَتَبِيعَ مِنْهُ صَحَّ التَّقْيِيدُ لِأَنَّهُ مُفِيدٌ لِزِيَادَةِ الثِّقَةِ بِهِ فِي الْمُعَامَلَةِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا قَالَ عَلَى أَنْ تَشْتَرِيَ بِهَا مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، أَوْ دَفَعَ فِي الصَّرْفِ عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَ بِهِ مِنَ الصَّيَارِفَةِ وَيَبِيعَ مِنْهُمْ فَبَاعَ بِالْكُوفَةِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهَا أَوْ مِنْ غَيْرِ الصَّيَارِفَةِ جَازَ؛ لِأَنَّ فَائِدَةَ الْأَوَّلِ التَّقْيِيدُ بِالْمَكَانِ، وَفَائِدَةَ الثَّانِي التَّقْيِيدُ بِالنَّوْعِ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ عُرْفًا لَا فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ.

قَالَ (وَكَذَلِكَ إِنْ وَقَّتَ لِلْمُضَارَبَةِ وَقْتًا بِعَيْنِهِ يَبْطُلُ الْعَقْدُ بِمُضِيِّهِ) لِأَنَّهُ تَوْكِيلٌ فَيَتَوَقَّتُ بِمَا وَقَّتَهُ وَالتَّوْقِيتُ مُفِيدٌ وَأَنَّهُ تَقْيِيدٌ بِالزَّمَانِ فَصَارَ كَالتَّقْيِيدِ بِالنَّوْعِ وَالْمَكَانِ.

قَالَ (وَلَيْسَ لِلْمُضَارِبِ أَنْ يَشْتَرِيَ مَنْ يُعْتَقُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ لِقَرَابَةٍ أَوْ غَيْرِهَا) لِأَنَّ الْعَقْدَ وُضِعَ لِتَحْصِيلِ الرِّبْحَ وَذَلِكَ بِالتَّصَرُّفِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، وَلَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ لِعِتْقِهِ وَلِهَذَا لَا يَدْخُلُ فِي الْمُضَارَبَةِ شِرَاءٌ مَا لَا يُمْلَكُ بِالْقَبْضِ كَشِرَاءِ الْخَمْرِ وَالشِّرَاءِ بِالْمَيْتَةِ. بِخِلَافِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ بَيْعُهُ بَعْدَ قَبْضِهِ فَيَتَحَقَّقُ الْمَقْصُودُ.

قَالَ (وَلَوْ فَعَلَ صَارَ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ دُونَ الْمُضَارَبَةِ) لِأَنَّ الشِّرَاءَ مَتَى وَجَدَ نَفَاذًا عَلَى الْمُشْتَرِي نَفَّذَ عَلَيْهِ كَالْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ إِذَا خَالَفَ. قَالَ (فَإِنْ كَانَ فِي الْمَالِ رِبْحٌ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ مَنْ يُعْتَقُ عَلَيْهِ) لِأَنَّهُ يُعْتِقُ عَلَيْهِ نَصِيبَهُ وَيُفْسِدُ نَصِيبَ رَبِّ الْمَالِ أَوْ يُعْتِقُ عَلَى الِاخْتِلَافِ الْمَعْرُوفِ فَيَمْتَنِعُ التَّصَرُّفُ فَلَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ (وَإِنِ اشْتَرَاهُمْ ضَمِنَ مَالَ الْمُضَارَبَةِ) لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُشْتَرِيًا الْعَبْدَ لِنَفْسِهِ فَيَضْمَنُ بِالنَّقْدِ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ

هَاهُنَا؛ لِأَنَّ حَالَ الْعَمَلِ لَا يَكُونُ وَقْتَ الْأَخْذِ وَإِنَّمَا يَكُونُ الْعَمَلُ بَعْدَ الْأَخْذِ كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَعَامَّةُ الشُّرُوحِ أَقُولُ: يَنْتَقِضُ هَذَا الْجَوَابُ بِمَا إِذَا قَالَ: خُذْ هَذَا الْمَالَ تَعْمَلُ بِهِ بِالْكُوفَةِ بِالرَّفْعِ فَإِنَّهُمْ جَعَلُوا قَوْلُهُ: تَعْمَلُ بِهِ بِالْكُوفَةِ مِمَّا يُفِيدُ التَّخْصِيصَ، وَقَدْ صَرَّحَ فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ بِأَنَّ قَوْلَهُ: تَعْمَلُ عَلَى إِعْرَابَيْنِ: بِالرَّفْعِ عَلَى الْحَالِ وَبِالْجَزْمِ عَلَى جَوَابِ الْأَمْرِ مَعَ أَنَّ الْعِلَّةَ الَّتِي ذَكَرُوهَا

ص: 457

وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْمَالِ رِبْحٌ جَازَ أَنْ يَشْتَرِيَهُمْ لِأَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنَ التَّصَرُّفِ، إِذْ لَا شَرِكَةَ لَهُ فِيهِ لِيُعْتَقَ عَلَيْهِ (فَإِنْ زَادَتْ قِيمَتُهُمْ بَعْدَ الشِّرَاءِ عَتَقَ نَصِيبُهُ مِنْهُمْ) لِمِلْكِهِ بَعْضَ قَرِيبِهِ (وَلَمْ يَضْمَنْ لِرَبِ الْمَالِ شَيْئًا) لِأَنَّهُ لَا صُنْعَ مِنْ جِهَتِهِ فِي زِيَادَةِ الْقِيمَةِ وَلَا فِي مِلْكِهِ الزِّيَادَةَ، لِأَنَّ هَذَا شَيْءٌ يَثْبُتُ مِنْ طَرِيقِ الْحَكَمِ فَصَارَ كَمَا إِذَا وَرِثَهُ مَعَ غَيْرِهِ (وَيَسْعَى الْعَبْدُ فِي قِيمَةِ نَصِيبِهِ مِنْهُ) لِأَنَّهُ احْتُسِبَتْ مَالِيَّتُهُ عِنْدَهُ فَيَسْعَى فِيهِ كَمَا فِي الْوَرَثَةِ.

قَالَ (فَإِنْ كَانَ مَعَ الْمُضَارِبِ أَلْفٌ بِالنِّصْفِ فَاشْتَرَى بِهَا جَارِيَةً قِيمَتُهَا أَلْفٌ فَوَطِئَهَا فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ يُسَاوِي أَلْفًا فَادَّعَاهُ ثُمَّ بَلَغَتْ قِيمَةُ الْغُلَامِ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ

فِي الْجَوَابِ الْمَزْبُورِ لِعَدَمِ صَلَاحِيَةِ قَوْلُهُ: وَاعْمَلْ بِهِ بِالْكُوفَةِ لِلْحَالِ وَهِيَ كَوْنُ الْعَمَلِ بَعْدَ الْأَخْذِ لَا وَقْتَ الْأَخْذِ جَارِيَةٌ بِعَيْنِهَا فِي قَوْلِهُ: تَعْمَلُ بِهِ بِالْكُوفَةِ بِالرَّفْعِ فَيَلْزَمُ أَنْ لَا يَصْلُحُ لِلْحَالِ أَيْضًا. وَإِنْ قَالُوا: هَذَا حَالٌ مُقَدَّرَةٌ، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى:{مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} يَرُدُّ أَنْ يُقَالَ: لِمَ لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فِي قَوْلِهُ: وَاعْمَلْ بِهِ بِالْكُوفَةِ فَلَا تَنْحَسِمُ مَادَّةُ الْإِشْكَالِ بِذَلِكَ الْجَوَابِ.

ثُمَّ أَقُولُ: الْجَوَابُ التَّامُّ عَنْ أَصْلِ السُّؤَالِ الْحَاسِمِ مَادَّةُ الْإِشْكَالِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ قَوْلَهُ: وَاعْمَلْ بِهِ بِالْكُوفَةِ جُمْلَةٌ إِنْشَائِيَّةٌ وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْعُلُومِ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّ الْجُمَلَ الْإِنْشَائِيَّةَ لَا تَصْلُحُ أَنْ تَقَعَ حَالًا سَوَاء كَانَتْ مَعَ الْوَاوِ أَوْ بِدُونِهَا.

وَهَذَا مَعَ وُضُوحِهِ جَدًّا كَيْفَ خُفَّيَ عَلَى الشُّرَّاحِ حَتَّى تَرَكُوهُ وَتَشَبَّثُوا بِمَا يَرِدُ عَلَيْهِ الْإِشْكَالُ، وَالشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ قَدْ اعْتَرَضَ عَلَى الْجَوَابِ الَّذِي ذَكَرَهُ عَامَّةُ الشُّرَّاحِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَهُ أَيْضًا بِأَنَّهُ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَاعْمَلْ بِهِ بِالْكُوفَةِ حَالًا مُنْتَظَرَةً، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى:{مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ} وَلَمْ يَزِدْ عَلَى هَذَا شَيْئًا فَهُوَ أَيْضًا غَفَلَ عَنْ عَدَمِ صَلَاحِيَّةِ الْجُمَلِ الْإِنْشَائِيَّةِ؛ لِأَنْ تَقَعَ حَالًا. ثُمَّ إِنَّ بَعْضَ الْفُضَلَاءِ تَدَارَكَ مَا أَوْرَدَهُ الشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ وَقَصَدَ تَوْجِيهَ الْجَوَابِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْعَامَّةُ فَقَالَ: وَجَعَلَهُ حَالًا مُقَدَّرَةً خِلَافَ الظَّاهِرِ فَكَأَنَّهُ أَيْضًا غَافِلٌ عَنْ عَدَمِ صَلَاحِيَةِ

ص: 458

وَالْمُدَّعِي مُوسِرٌ، فَإِنْ شَاءَ رَبُّ الْمَالِ اسْتَسْعَى الْغُلَامَ فِي أَلْفٍ وَمِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ، وَإِنْ شَاءَ أَعْتَقَ) وَوَجْهٌ ذَلِكَ أَنَّ الدَّعْوَةَ صَحِيحَةٌ فِي الظَّاهِرِ حَمْلًا عَلَى فِرَاشِ النِّكَاحِ، لَكِنَّهُ لَمْ يَنْفُذْ لِفَقْدِ شَرْطِهِ وَهُوَ الْمَلِكُ لِعَدَمِ ظُهُورِ الرِّبْحِ لِأَنَّ كُلَ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: أَعْنِي الْأُمَّ وَالْوَلَدَ مُسْتَحَقٌّ بِرَأْسِ الْمَالِ، كَمَالِ الْمُضَارَبَةِ إِذَا صَارَ أَعْيَانًا كُلُّ عَيْنٍ مِنْهَا يُسَاوِي رَأْسَ الْمَالِ لَا يَظْهَرُ الرِّبْحُ كَذَا هَذَا، فَإِذَا زَادَتْ قِيمَةُ الْغُلَامِ الْآنَ ظَهَرَ الرِّبْحُ فَنَفَذَتِ الدَّعْوَةُ السَّابِقَةُ، بِخِلَافِ مَا إِذَا أَعْتَقَ الْوَلَدَ ثُمَّ ازْدَادَتِ الْقِيمَةُ.

لِأَنَّ ذَلِكَ إِنْشَاءُ الْعِتْقِ، فَإِذَا بَطَلَ لِعَدَمِ الْمِلْكِ لَا يَنْفُذُ بَعْدَ ذَلِكَ بِحُدُوثِ الْمِلْكِ، أَمَّا هَذَا فَإِخْبَارٌ فَجَازَ أَنْ يَنْفُذَ عِنْدَ حُدُوثِ الْمِلْكِ كَمَا إِذَا أَقَرَّ بِحُرِّيَّةِ عَبْدِ غَيْرِهِ ثُمَّ اشْتَرَاهُ، وَإِذَا صَحَّتِ الدَّعْوَةُ وَثَبَتَ النَّسَبُ عَتَقَ الْوَلَدُ لِقِيَامِ مِلْكِهِ فِي بَعْضِهِ، وَلَا يَضْمَنُ لِرَبِّ الْمَالِ شَيْئًا مِنْ قِيمَةِ الْوَلَدِ لِأَنَّ عِتْقَهُ ثَبَتَ بِالنَّسَبِ وَالْمِلْكِ وَالْمِلْكُ آخِرُهُمَا فَيُضَافُ إِلَيْهِ وَلَا صُنْعَ لَهُ فِيهِ، وَهَذَا ضَمَانُ إِعْتَاقٍ فَلَا بُدَّ مِنَ التَّعَدِّي وَلَمْ يُوجَدْ (وَلَهُ أَنْ يَسْتَسْعِيَ الْغُلَامَ) لِأَنَّهُ احْتُبِسَتْ مَالِيَّتُهُ عِنْدَهُ، وَلَهُ أَنْ يَعْتِقَ لِأَنَّ الْمُسْتَسْعَى كَالْمُكَاتَبِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ،

ذَلِكَ؛ لِأَنْ يَقَعَ حَالًا. (قَوْلُهُ: وَالْمُدَّعِي مُوسِرٌ). قَالَ الشُّرَّاحُ: وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِقَوْلِهِ: "وَالْمُدَّعِي مُوسِرٌ"، لِنَفْيٍ وَشُبْهَةٍ هِيَ أَنَّ الضَّمَانَ إِنَّمَا هُوَ بِسَبَبِ دَعْوَةِ الْمُضَارِبِ وَهُوَ ضَمَانُ إِعْتَاقٌ فِي حَقِّ الْوَلَدِ: وَضَمَانُ الْإِعْتَاقُ يَخْتَلِفُ بِالْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ فَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يَضْمَنَ الْمُضَارِبُ إِذَا كَانَ مُوسِرًا وَمَعَ ذَلِكَ لَا يَضْمَنُ، اهـ كَلَامُهُمْ.

أَقُولُ: لَا يَذْهَبُ عَلَى ذِي فِطْرَةٍ سَلِيمَةٍ أَنَّ الْقَيْدَ الْمَذْكُورَ لَا يَنْفِي الشُّبْهَةَ عَلَى التَّقْرِيرِ الْمَزْبُورِ بَلْ يُؤَيِّدُهَا. سِيَّمَا إِذَا جُعِلَ قَوْلُهَا. وَمَعَ ذَلِكَ لَا يَضْمَنُ مِنْ تَمَّامِ الشُّبْهَةِ، كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ تَقْرِيرِهِمْ وَإِنَّمَا الَّذِي يَنْفِي الشُّبْهَةَ عَلَى التَّقْرِيرِ الْمَزْبُورِ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِيمَا سَيَأْتِي بِقَوْلِهُ: وَلَا يَضْمَنُ لِرَبِّ الْمَالِ شَيْئًا مِنْ قِيمَةِ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّ عِتْقَهُ ثَبَتَ بِالنَّسَبِ وَالْمُلْكِ. وَالْمُلْكُ آخِرُهُمَا فَيُضَافُ إِلَيْهِ وَلَا صُنْعَ لَهُ فِيهِ، وَهَذَا ضَمَانُ إِعْتَاقٍ فَلَا بُدَّ مِنَ التَّعَدِّي وَلَمْ يُوجَدْ، اهـ.

فَالظَّاهِرُ فِي تَقْرِيرِ فَائِدَةِ الْقَيْدِ الْمَذْكُورِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّمَا قَيَّدَ بِهِ تَنْبِيهًا عَلَى عَدَمِ اخْتِصَاصِ عَدَمِ وُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَى الْمُضَارِبِ بِحَالَةِ إِعْسَارِهِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَيْهِ فِي حَالَةِ يَسَارِهِ فَلِأَنَّ لَا يَجِبُ ذَلِكَ عَلَيْهِ فِي حَالَةِ إِعْسَارِهِ أَوْلَى، بِخِلَافِ مَا لَوْ ذُكِرَ الْكَلَامَ غَيْرَ مُقَيَّدٍ بِذَلِكَ فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ.

ص: 459

وَيَسْتَسْعِيهِ فِي أَلْفٍ وَمِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ، لِأَنَّ الْأَلْفَ مُسْتَحَقٌّ بِرَأْسِ الْمَالِ وَالْخَمْسَمِائَةِ رِبْحٌ وَالرِّبْحَ بَيْنَهُمَا فَلِهَذَا يَسْعَى لَهُ فِي هَذَا الْمِقْدَارِ.

ثُمَّ إِذَا قَبَضَ رَبُ الْمَالِ الْأَلْفَ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَ الْمُدَّعِيَ نِصْفَ قِيمَةِ الْأُمِّ لِأَنَّ الْأَلْفَ الْمَأْخُوذَ لَمَّا اسْتُحِقَّ بِرَأْسِ الْمَالِ لِكَوْنِهِ مُقَدَّمًا فِي الِاسْتِيفَاءِ ظَهَرَ أَنَّ الْجَارِيَةَ كُلَّهَا رِبْحٌ فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ دَعْوَةٌ صَحِيحَةٌ لِاحْتِمَالِ الْفِرَاشِ الثَّابِتِ بِالنِّكَاحِ وَتَوَقَّفَ نَفَاذُهَا لِفَقْدِ الْمِلْكِ، فَإِذَا ظَهَرَ الْمِلْكُ نَفَذَتْ تِلْكَ الدَّعْوَةُ وَصَارَتِ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ وَيَضْمَنُ نَصِيبَ رَبِّ الْمَالِ لِأَنَّ هَذَا ضَمَانُ تَمَلُّكٍ وَضَمَانُ التَّمَلُّكِ لَا يَسْتَدْعِيَ صُنْعًا كَمَا إِذَا اسْتَوْلَدَ جَارِيَةً بِالنِّكَاحِ ثُمَّ مَلَكَهَا هُوَ وَغَيْرُهُ وِرَاثَةً يَضْمَنُ نَصِيبَ شَرِيكِهِ كَذَا هَذَا؛ بِخِلَافِ ضَمَانِ الْوَلَدِ عَلَى مَا مَرَّ.

أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا عَلَى حَالَةِ إِعْسَارِهِ فَقَطْ. (قَوْلُهُ: وَيَسْتَسْعِيهِ فِي أَلْفٍ وَمِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ؛ لِأَنَّ الْأَلْفَ مُسْتَحَقٌّ بِرَأْسِ الْمَالِ وَالْخَمْسمِائَةُ رِبْحٌ وَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا، فَلِهَذَا يَسْعَى لَهُ فِي هَذَا الْمِقْدَارِ). قَالَ فِي الْكَافِي: فَإِنْ قِيلَ: لِمَاذَا لَا تُجْعَلُ الْأُمَّةُ رَأْسَ الْمَالِ وَجَمِيعَ الْوَلَدِ رِبْحًا؟ قُلْنَا: لِأَنَّ مَا يَجِبُ عَلَى الْوَلَدِ مِنَ السِّعَايَةِ مِنْ جِنْسِ رَأْسِ الْمَالِ وَالْأُمَّةُ لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ رَأْسِ الْمَالِ، فَكَانَ تَعْيِينُ الْأَلْفِ مِنَ السِّعَايَةِ لِرَأْسِ الْمَالِ أُولَى اهـ. وَاقْتَفَى أَثَرَهُ فِي هَذَا السُّؤَالِ وَهَذَا الْجَوَابِ عَامَّةُ شُرَّاحِ هَذَا الْكِتَابِ.

وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ ذِكْرِ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ الْمَزْبُورَيْنِ: وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّا إِذَا جَعَلْنَا الْجَارِيَةَ رَأْسَ الْمَالِ وَقَدْ عُتِقَتْ بِالِاسْتِيلَادِ وَجَبْتْ قِيمَتُهَا عَلَى الْمُضَارِبِ وَهِيَ مِنْ جِنْسِ رَأْسِ الْمَالِ، اهـ.

أَقُولُ: نَظَرُهُ سَاقِطٌ جِدًّا؛ لِأَنَّا لَوْ جَعَلْنَا الْجَارِيَةَ رَأْسَ الْمَالِ لَمْ تُعْتَقْ بِالِاسْتِيلَادِ؛ لَأَنَّ مِنْ شَرْطِ كَوْنِهَا أَمُّ وَلَدٍ لِلْمُضَارِبِ أَنْ يَكُونَ الْمُضَارِبُ مَالِكًا لَهَا، وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ تُجْعَلَ هِيَ رَأْسُ الْمَالِ تَكُونُ مَمْلُوكَةً لِرَبِّ الْمَالِ دُونَ الْمُضَارِبِ فَلَا تَصِيرُ أَمَّ وَلَدٍ لِلْمَضَارِبِ وَلَا تُعْتَقُ فَلَا تَجِبُ قِيَمَتُهَا عَلَى الْمُضَارِبِ فَلَا تَتَحَقَّقُ الْمُجَانَسَةُ وَهَذَا مَعَ ظُهُورِهِ جِدًّا كَيْفَ خُفِيَ عَلَى صَاحِبِ الْعِنَايَةِ. فَأَوْرَدَ النَّظَرَ الْمَزْبُورَ عَلَى الْجَوَابِ الَّذِي ارْتَضَاهُ جُمْهُورُ الثِّقَاتِ كَصَاحِبِ الْكَافِي وَشُرَّاحِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ ثُمَّ إِنَّ بَعْضَ الْفُضَلَاءِ قَالَ فِي دَفْعِ النَّظَرِ الْمَزْبُورِ وَجَوَابِهِ: إِنَّ الِاسْتِسْعَاءَ مُقَدَّمٌ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ أَصْلٌ فِي الدَّعْوَةِ وَالْحُرِّيَّةِ وَالْأُمَّ تَتْبَعُهُ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُرَادَ الْمُجِيبِ هَذَا، اهـ.

أَقُولُ: الْجَوَابُ الَّذِي ذَكَّرَهُ هَذَا الْقَائِلُ وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا عَلَى أَصْلِ السُّؤَالِ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْمُصَنَّفُ بِقَوْلِهِ: لِأَنَّ الْأَلْفَ الْمَأْخُوذَ لِمَا اسْتَحَقَّ بِرَأْسِ الْمَالِ لِكَوْنِهِ مُقَدَّمًا فِي الِاسْتِيفَاءِ ظَهَرَ أَنَّ الْجَارِيَةَ كُلَّهَا رِبْحٌ فَتَكُونُ بَيْنَهُمَا، اهـ. إِلَّا أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا لِلْجَيْبِ بِالْجَوَابِ الَّذِي هُوَ مَحَلُّ النَّظَرِ؛ إِذْ لَوْ كَانَ مُرَادُهُ هَذَا لَمَا تَرَكَ ذِكْرَهُ بِالْكُلِّيَّةِ وَتَشَبَّثَ بِمُنَاسَبَةِ الْمُجَانَسَةِ الَّتِي لَا مَدْخَلَ لَهَا فِي تَمْشِيَةِ هَذَا الْجَوَابِ؛ إِذِ التَّقَدُّمُ فِي الِاسْتِسْعَاءِ وَالِاسْتِيفَاءِ أَمْرٌ مُسْتَقِلٌّ فِي اقْتِضَاءِ كَوْنِ الْأَلْفِ الْمَأْخُوذِ مِنَ الْوَلَدِ رَأْسَ الْمَالِ دُونَ الْجَارِيَةِ. وَنَظَرُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ عَلَى ذَلِكَ الْجَوَابِ الْمَبْنِيِّ عَلَى الْمُجَانَسَةِ فَلَا يَدْفَعُهُ هَذَا الْجَوَابُ. وَإِنَّمَا الدَّافِعُ الْقَاطِعُ لَهُ مَا حَقَّقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ. ثُمَّ إِنَّ الشَّارِحَ الْعَيْنِيَّ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ أَصْلَ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ الْمَزْبُورَيْنِ نَقْلًا عَنِ الْكَافِي، وَبَعْدَ أَنْ ذَكَرَ نَظَرَ صَاحِبَ الْعِنَايَةِ عَلَى ذَلِكَ الْجَوَابِ نَقْلًا عَنْهُ قَالَ: قُلْتُ: الْوَلَدُ زَاحَمَهَا فَتُرَجِّحُ بِسَبَبِ ظُهُورِ الرِّبْحِ مِنْ جِهَتِهِ، اهـ.

أَقُولُ: لَا يُرَى لِهَذَا مَعْنًى مُفِيدٌ. فَإِنَّ ظُهُورَ الرِّبْحِ مِنْ جِهَتِهِ لَا يَقْتَضِي رُجْحَانَ كَوْنُ رَأْسِ الْمَالِ هُوَ الْأَلْفُ الْمَأْخُوذُ مِنْهُ دُونَ قِيمَةِ الْجَارِيَةِ. بَلِ الْأَلْفِ الْمُنَاسِبِ لِظُهُورِ الرِّبْحِ مِنْ جِهَتِهِ أَنْ يَكُونَ الْأَلْفُ الْمَأْخُوذُ مِنْهُ أَيْضًا مِنَ الرِّبْحِ تَأَمَّلْ تَقِفْ.

ص: 460

(بَابُ الْمُضَارِبِ يُضَارِبُ)

قَالَ (وَإِذَا دَفَعَ الْمُضَارِبُ الْمَالَ إِلَى غَيْرِهِ مُضَارَبَةً وَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ رَبُّ الْمَالِ لَمْ يَضْمَنْ بِالدَّفْعِ وَلَا يَتَصَرَّفُ الْمُضَارِبُ الثَّانِي حَتَّى يَرْبَحَ، فَإِذَا رَبِحَ ضَمِنَ الْأَوَّلُ لِرَبِ الْمَالِ) وَهَذَا رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: إِذَا عَمِلَ بِهِ ضَمِنَ رَبِحَ أَوْ لَمْ يَرْبَحْ، وَهَذَا ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ. وَقَالَ زُفَرُ رحمه الله: يَضْمَنُ بِالدَّفْعِ عَمِلَ أَوْ لَمْ يَعْمَلْ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله لِأَنَّ الْمَمْلُوكَ لَهُ الدَّفْعُ عَلَى وَجْهِ الْإِيدَاعِ، وَهَذَا الدَّفْعُ عَلَى وَجْهِ الْمُضَارَبَةِ.

وَلَهُمَا أَنَّ الدَّفْعَ إِيدَاعٌ حَقِيقَةً، وَإِنَّمَا يَتَقَرَّرُ كَوْنُهُ لِلْمُضَارَبَةِ بِالْعَمَلِ فَكَانَ الْحَالُ مُرَاعًى قَبْلَهُ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ

(بَابُ الْمُضَارِبِ يُضَارِبُ)

لَمَّا ذُكِرَ حُكْمُ الْمُضَارَبَةِ الْأُولَى ذُكِرَ فِي هَذَا الْبَابِ حِكَمُ الْمُضَارَبَةِ الثَّانِيَةِ؛ إِذِ الثَّانِيَةُ تَتْلُو الْأُولَى أَبَدًا فَكَذَا بَيَانُ حُكْمِهَا كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ وَهُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدِي وَذُكِرَ فِيهِمَا وَجْهٌ آخَرَ أَيْضًا هُوَ أَنَّ الْمُضَارَبَةَ مُفْرَدَةٌ وَمُضَارِبَةَ الْمَضَارِبِ مُرَكَّبَةٌ وَالْمَرْكَبُ يَتْلُو الْمُفْرَدَ أَبَدًا وَاخْتَارَهُ صَاحِبُ الْغَايَةِ وَالْعِنَايَةِ.

أَقُولُ: فِيهِ تَعَسُّفٌ؛ لِأَنَّ مُضَارَبَةَ الْمَضَارِبِ وَإِنْ كَانَتْ بَعْدَ مُضَارَبَةِ رَبِّ الْمَالِ إِلَّا أَنَّهَا مُفْرَدَةٌ أَيْضًا غَيْرَ مُرَكَّبَةٍ مِنَ الْمُضَارِبَتَيْنِ قَطْعًا أَلَا تَرَى أَنَّ الثَّانِي أَبَدًا يَتْلُو الْأَوَّلَ وَلَكِنَّهُ لَيْسَ بِمُرَكَّبٍ مِنَ الْأَوَّلِ.

ص: 461

أَنَّ الدَّفْعَ قَبْلَ الْعَمَلِ إِيدَاعٌ وَبَعْدَهُ إِبْضَاعٌ، وَالْفِعْلَانِ يَمْلِكُهُمَا الْمُضَارِبُ فَلَا يَضْمَنُ بِهِمَا، إِلَّا أَنَّهُ إِذَا رَبِحَ فَقَدْ أَثْبَتَ لَهُ شَرِكَةً فِي الْمَالِ فَيَضْمَنُ كَمَا لَوْ خَلَطَهُ بِغَيْرِهِ، وَهَذَا إِذَا كَانَتِ الْمُضَارَبَةُ صَحِيحَةً، فَإِنْ كَانَتْ فَاسِدَةً لَا يَضْمَنُهُ الْأَوَّلُ، وَإِنْ عَمِلَ الثَّانِي لِأَنَّهُ أَجِيرٌ فِيهِ وَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ فَلَا تَثْبُتُ الشَّرِكَةُ بِهِ.

ثُمَّ ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ يَضْمَنُ الْأَوَّلُ وَلَمْ يَذْكُرِ الثَّانِيَ. وَقِيلَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَضْمَنَ الثَّانِي عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله وَعِنْدَهُمَا يَضْمَنُ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي مُودِعِ الْمُودَعِ. وَقِيلَ رَبُّ الْمَالِ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْأَوَّلَ وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الثَّانِيَ بِالْإِجْمَاعِ

وَمِنْ نَفْسِهِ قَطْعًا، وَإِنَّمَا الْمُرَكَّبُ مِنْهُمَا الِاثْنَانِ: نَعَمْ إِنَّ مُضَارَبَةَ الْمَضَارِبِ لَمَّا اقْتَضَتِ الْمُضَارَبَةَ الْأُولَى جَازَ أَنَّ يَحْصُلَ مِنْ مَجْمُوعِهِمَا أَمْرٌ مُرَكَّبٌ فِي الْعَقْلِ لَكِنَّهُ لَيْسَ بِمَدَارِ الْحُكْمِ فِي هَذَا الْبَابِ، كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى ذَوِي الْأَلْبَابِ.

(قَوْلُهُ: وَبَعْدَهُ إِبْضَاعٌ). قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: فِيهِ بَحْثٌ، وَالظَّاهِرُ أَنْ يَقُولَ: تَوْكِيلٌ، كَمَا فِي شَرْحِ الْكَنْزِ لِلْعَلَامَةِ الزَّيْلَعِيِّ، اهـ.

أَقُولُ: لَيْسَ الْأَمْرُ، كَمَا فَهِمَهُ فَإِنَّ الْمَحْكُومَ عَلَيْهِ هَاهُنَا بِأَنَّهُ إِبْضَاعٌ إِنَّمَا هُوَ الدَّفْعُ لَا عَقْدَ الْمُضَارَبَةِ: وَالَّذِي يُنَافِي الْإِبْضَاعَ وَيُلَائِمُ التَّوْكِيلَ إِنَّمَا هُوَ عَقْدُ الْمُضَارَبَةِ لَا الدَّفْعُ نَفْسُهُ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا يُلَائِمُ الْإِيدَاعَ قَبْلَ الْعَمَلِ وَالْإِبْضَاعَ بَعْدَهُ لَا التَّوْكِيلُ؛ لِأَنَّ التَّوْكِيلَ تَفْوِيضُ التَّصَرُّفِ لِأَجْلِ الْمُوَكِّلِ إِلَى غَيْرِهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَحْصُلُ مِنَ الدَّفْعِ نَفْسُهُ، بِخِلَافِ عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ، كَمَا لَا يَخْفَى.

وَأَمَّا مَا فِي شَرْحِ الْكَنْزِ لِلْعَلَّامَةِ الزَّيْلَعِيِّ فَلَمْ يَحْكُمْ عَلَى الدَّفْعِ نَفْسَهُ بِأَنَّهُ تَوْكِيلٌ فَإِنَّهُ قَالَ فِيهِ: وَوَجَّهَ الْمَرْوِيَّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْعَقْدَ الْمُجَرَّدَ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ، وَلِهَذَا لَا يُضَمِّنُ الْفُضُولِيُّ بِمُجَرَّدِ بَيْعِ مَالِ الْغَيْرِ وَلَا بِالتَّسْلِيمِ لِأَجْلِ التَّصَرُّفِ؛ لِأَنَّهُ إِيدَاعٌ وَهُوَ يُمْلُكُ ذَلِكَ وَلَا بِالتَّصَرُّفِ؛ لِأَنَّهُ وَكِيلٌ فِيهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا مِنْ قَبْلُ، اهـ.

وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْهَا أَنَّ الْمُضَارِبَ وَكِيلٌ؛ لِأَنَّ الدَّفْعَ نَفْسَهُ تَوْكِيلٌ. وَلَا كَلَامَ فِي أَنَّ الْمُضَارِبَ وَكِيلٌ بِحَكَمِ عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ، وَأَمَّا أَنَّهُ وَكِيلٌ بِحُكْمِ الدَّفْعِ فَقَطْ فَلَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ.

(قَوْلُهُ: وَهَذَا إِذَا كَانَتِ الْمُضَارَبَةُ صَحِيحَةٌ). قَالَ فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجُ الدِّرَايَةِ: أَيْ: الضَّمَانُ عَلَيْهِمَا عِنْدَ الرِّبْحِ أَوِ الْعَمَلِ عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِيمَا إِذَا كَانَتِ الْمُضَارَبَةُ صَحِيحَةٌ. وَقَالَ فِي الْعِنَايَةِ وَشَرْحِ الْعَيْنِيِّ، أَيْ: وُجُوبُ الضَّمَانِ عَلَى الْأَوَّلِ أَوْ عَلَيْهِمَا بِالرِّبْحِ أَوِ الْعَمَلِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا إِذَا كَانَتِ الْمُضَارَبَةُ صَحِيحَةً.

أَقُولُ: لَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِهَذَا هَاهُنَا وُجُوبُ الضَّمَانِ عَلَيْهِمَا، أَيْ: عَلَى الْمُضَارِبِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي، بَلْ كَوْنُ الْمُشَارِ إِلَيْهِ بِهِ هُنَا هُوَ الضَّمَانُ عَلَى الْأَوَّلِ مُتَعَيِّنٌ؛ لِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِي الْكِتَابِ هُوَ ضَمَانٌ الْأَوَّلُ لَا غَيْرَ. وَلَمْ يَمُرْ مِنَ الْمُصَنَّفِ إِلَى الْآنِ شَيْءٌ يُشْعِرُ بِضَمَانِ الثَّانِي أَيْضًا فَكَيْفَ يَصِحُّ أَنَّ يَجْعَلَ كَلِمَةَ هَذَا هَاهُنَا إِشَارَةً إِلَى الضَّمَانِ عَلَيْهِمَا. وَشَأْنُ اسْمِ الْإِشَارَةِ أَنْ يُشَارَ بِهِ إِلَى الْمَحْسُوسِ الْمُشَاهَدِ أَوْ مَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمَحْسُوسِ الْمُشَاهَدِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَحَلِّهِ. وَوُجُوبُ الضَّمَانِ عَلَى الثَّانِي مِمَّا لَمْ تَشُمُّ رَائِحَتَهُ قَطُّ إِلَى الْآنِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَجْعَلَ بِمَنْزِلَةِ الْمَحْسُوسِ الْمُشَاهَدِ، عَلَى أَنَّ الْمُصَنَّفَ هَاهُنَا بِصَدَدِ بَيَانِ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ مِنْ ضَمَانِ الْأَوَّلِ لِرَبِّ الْمَالِ، وَأَمَّا أَنَّ الثَّانِي هَلْ يُضَمَّنُ أَيْضًا أَمْ لَا فَيُبَيِّنُهُ بَعْدَ مُفَصَّلًا

ص: 462

وَهُوَ الْمَشْهُورُ، وَهَذَا عِنْدَهُمَا ظَاهِرٌ وَكَذَا عِنْدَهُ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ لَهُ بَيْنَ هَذِهِ وَبَيْنَ مُودِعِ الْمُودَعِ أَنَّ الْمُودَعَ الثَّانِيَ يَقْبِضُهُ لِمَنْفَعَةِ الْأَوَّلِ فَلَا يَكُونُ ضَامِنًا، أَمَّا الْمُضَارِبُ الثَّانِي يَعْمَلُ فِيهِ لِنَفْعِ نَفْسِهِ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ ضَامِنًا. ثُمَّ إِنْ ضَمِنَ الْأَوَّلُ صَحَّتِ الْمُضَارَبَةُ بَيْنَ الْأَوَّلِ وَبَيْنَ الثَّانِي وَكَانَ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا شَرَطَا لِأَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّهُ مَلَكَهُ بِالضَّمَانِ مِنْ حِينِ خَالَفَ بِالدَّفْعِ إِلَى غَيْرِهِ لَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي رَضِيَ بِهِ فَصَارَ كَمَا إِذَا دَفَعَ مَالَ نَفْسِهِ، وَإِنْ ضَمِنَ الثَّانِي رَجَعَ عَلَى الْأَوَّلِ بِالْعَقْدِ لِأَنَّهُ عَامِلٌ لَهُ كَمَا فِي الْمُودَعِ وَلِأَنَّهُ مَغْرُورٌ مِنْ جِهَتِهِ فِي ضِمْنِ الْعَقْدِ.

وَتَصِحُّ الْمُضَارَبَةُ وَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا شَرَطَا لِأَنَّ قَرَارَ الضَّمَانِ عَلَى الْأَوَّلِ فَكَأَنَّهُ ضَمِنَهُ ابْتِدَاءً، وَيَطِيبُ الرِّبْحُ لِلثَّانِي وَلَا يَطِيبُ لِلْأَعْلَى لِأَنَّ الْأَسْفَلَ يَسْتَحِقُّهُ بِعَمَلِهِ وَلَا خُبْثَ فِي الْعَمَلِ، وَالْأَعْلَى يَسْتَحِقُّهُ بِمِلْكِهِ الْمُسْتَنِدِ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ وَلَا يُعَرَّى عَنْ نَوْعِ خُبْثٍ.

قَالَ (فَإِذَا دَفَعَ رَبُّ الْمَالِ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ وَأَذِنَ لَهُ بِأَنْ يَدْفَعَهُ إِلَى غَيْرِهِ فَدَفَعَهُ بِالثُّلُثِ وَقَدْ تَصَرَّفَ الثَّانِي وَرَبِحَ، فَإِنْ كَانَ رَبُّ الْمَالِ قَالَ لَهُ عَلَى أَنَّ مَا رَزَقَ اللَّهُ فَهُوَ بَيْنَنَا نِصْفَانِ فَلِرَبِ الْمَالِ النِّصْفُ وَلِلْمُضَارِبِ الثَّانِي الثُّلُثُ وَلِلْمُضَارِبِ الْأَوَّلِ السُّدُسُ) لِأَنَّ الدَّفْعَ إِلَى الثَّانِي مُضَارَبَةً قَدْ صَحَّ لِوُجُودِ الْأَمْرِ بِهِ مِنْ جِهَةِ الْمَالِكِ وَرَبُّ الْمَالِ شَرَطَ لِنَفْسِهِ نِصْفَ جَمِيعِ مَا رَزَقَ اللَّهُ تَعَالَى فَلَمْ يَبْقَ لِلْأَوَّلِ إِلَّا النِّصْفُ فَيَتَصَرَّفُ تَصَرُّفُهُ إِلَى نَصِيبِهِ وَقَدْ جَعَلَ مِنْ ذَلِكَ بِقَدْرِ ثُلُثِ الْجَمِيعِ لِلثَّانِي فَيَكُونُ لَهُ فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا السُّدُسُ، وَيَطِيبُ لَهُمَا ذَلِكَ لِأَنَّ فِعْلَ الثَّانِي وَاقِعٌ لِلْأَوَّلِ كَمَنِ اسْتُؤْجِرَ عَلَى خِيَاطَةِ ثَوْبٍ بِدِرْهَمٍ وَاسْتَأْجَرَ غَيْرَهُ عَلَيْهِ بِنِصْفِ

بِقَوْلِهِ ثُمَّ ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ يَضْمَنُ الْأَوَّلُ وَلَمْ يَذْكُرِ الثَّانِي

إِلَخْ. فَهُوَ هَاهُنَا بِمَعْزِلٍ عَنْهُ.

(قَوْلُهُ: لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِالضَّمَانِ مِنْ حِينِ خَالَفَ بِالدَّفْعِ إِلَى غَيْرِهِ لَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي رَضِيَ بِهِ فَصَارَ، كَمَا إِذَا دَفَعَ مَالَ نَفْسِهِ).

أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَذَا التَّعْلِيلُ إِنَّمَا يَتَمَشَّى عَلَى قَوْلِ زُفَرَ؛ لِأَنَّ تُحَقِّقُ الْمُخَالَفَةُ بِالدَّفْعِ إِلَى الْغَيْرِ إِنَّمَا هُوَ قَوْلُ زُفَرُ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لَا تَتَحَقَّقُ الْمُخَالَفَةُ بِالدَّفْعِ مَا لَمْ يَعْمَلْ. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله لَا تَتَحَقَّقُ بِالدَّفْعِ وَلَا بِالْعَمَلِ مَا لَمْ يَرْبَحْ وَقَدْ مَرَّ ذَلِكَ كُلَّهُ وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْأَهَمَّ بِالْبَيَانِ.

ص: 463

دِرْهَمٍ (وَإِنْ كَانَ قَالَ لَهُ عَلَى أَنَّ مَا رَزَقَكَ اللَّهُ فَهُوَ بَيْنَنَا نِصْفَانِ فَلِلْمُضَارِبِ الثَّانِي الثُّلُثُ وَالْبَاقِي بَيْنَ الْمُضَارِبِ الْأَوَّلِ وَرَبِّ الْمَالِ نِصْفَانِ) لِأَنَّهُ فَوَّضَ إِلَيْهِ التَّصَرُّفَ وَجَعَلَ لِنَفْسِهِ نِصْفَ مَا رُزِقَ الْأَوَّلُ وَقَدْ رُزِقَ الثُّلُثَيْنِ فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ جَعَلَ لِنَفْسِهِ نِصْفَ جَمِيعِ الرِّبْحِ فَافْتَرَقَا (وَلَوْ كَانَ قَالَ لَهُ فَمَا رَبِحْتَ مِنْ شَيْءٍ فَبَيْنِي وَبَيْنِكَ نِصْفَانِ وَقَدْ دَفَعَ إِلَى غَيْرِهِ بِالنِّصْفِ فَلِلثَّانِي النِّصْفُ وَالْبَاقِي بَيْنَ الْأَوَّلِ وَرَبِّ الْمَالِ) لِأَنَّ الْأَوَّلَ شَرَطَ لِلثَّانِي نِصْفَ الرِّبْحِ وَذَلِكَ مُفَوَّضٌ إِلَيْهِ مِنْ جِهَةِ رَبِّ الْمَالِ فَيَسْتَحِقُّهُ.

وَقَدْ جَعَلَ رَبُّ الْمَالِ لِنَفْسِهِ نِصْفَ مَا رَبِحَ الْأَوَّلُ وَلَمْ يَرْبَحْ إِلَّا النِّصْفُ فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا (وَلَوْ كَانَ قَالَ لَهُ عَلَى أَنَّ مَا رَزَقَ اللَّهُ تَعَالَى فَلِي نِصْفُهُ أَوْ قَالَ فَمَا كَانَ مِنْ فَضْلٍ فَبَيْنِي وَبَيْنَكَ نِصْفَانِ وَقَدْ دَفَعَ إِلَى آخَرَ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ فَلِرَبِّ الْمَالِ النِّصْفُ وَلِلْمُضَارِبِ الثَّانِي النِّصْفُ وَلَا شَيْءَ لِلْمُضَارِبِ الْأَوَّلِ)

لِأَنَّهُ جَعَلَ لِنَفْسِهِ نِصْفَ مُطْلَقِ الْفَضْلِ فَيَنْصَرِفُ شَرْطُ الْأَوَّلِ النِّصْفَ لِلثَّانِي إِلَى جَمِيعِ نَصِيبِهِ فَيَكُونُ لِلثَّانِي بِالشَّرْطِ وَيَخْرُجُ الْأَوَّلُ بِغَيْرِ شَيْءٍ، كَمَنِ اسْتُؤْجِرَ لِيَخِيطَ ثَوْبًا بِدِرْهَمٍ فَاسْتَأْجَرَ غَيْرَهُ لِيَخِيطَهُ بِمِثْلِهِ (وَإِنْ شَرَطَ لِلْمُضَارِبِ الثَّانِي ثُلُثَيِ الرِّبْحِ فَلِرَبِّ الْمَالِ النِّصْفُ وَلِلْمُضَارِبِ الثَّانِي النِّصْفُ وَيَضْمَنُ الْمُضَارِبُ الْأَوَّلُ لِلثَّانِي سُدُسَ الرِّبْحِ فِي مَالِهِ) لِأَنَّهُ شَرَطَ لِلثَّانِي شَيْئًا هُوَ مُسْتَحَقٌّ لِرَبِّ الْمَالِ فَلَمْ يَنْفُذْ فِي حَقِّهِ لِمَا فِيهِ مِنِ الْإِبْطَالِ، لَكِنَّ التَّسْمِيَةَ فِي نَفْسِهَا صَحِيحَةٌ لِكَوْنِ الْمُسَمَّى مَعْلُومًا فِي عَقْدٍ يَمْلِكُهُ وَقَدْ ضَمِنَ لَهُ السَّلَامَةَ فَيَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ بِهِ، وَلِأَنَّهُ غَرَّهُ فِي ضِمْنِ الْعَقْدِ وَهُوَ سَبَبُ الرُّجُوعِ فَلِهَذَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ، وَهُوَ نَظِيرُ مَنِ اسْتُؤْجِرَ لِخِيَاطَةِ ثَوْبٍ بِدِرْهَمٍ فَدَفَعَهُ إِلَى مَنْ يَخِيطُهُ بِدِرْهَمٍ وَنِصْفٍ.

(فَصْلٌ)

(وَإِذَا شَرَطَ الْمُضَارِبُ لِرَبِّ الْمَالِ ثُلُثَ الرِّبْحِ وَلِعَبْدِ رَبِّ الْمَالِ ثُلُثَ الرِّبْحِ عَلَى أَنْ يَعْمَلَ مَعَهُ وَلِنَفْسِهِ ثُلُثَ الرِّبْحِ فَهُوَ جَائِزٌ)

وَالتَّعْلِيلُ هَاهُنَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ لِكَوْنِهِ الْمَذْكُورَ فِي الْكِتَابِ، ثُمَّ قَوْلُهُمَا لِكَوْنِهِ ظَاهِرَ الرِّوَايَةِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُسَاقَ التَّعْلِيلُ عَلَى وَجْهٍ يَخْتَصُّ بِقَوْلِ زُفَرَ: فَلْيُتَأَمَّلُ فِي التَّوْجِيهِ.

(فَصْلٌ)

(قَوْلُهُ: وَإِذَا شَرْطَ الْمُضَارِبُ لِرَبِّ الْمَالِ ثُلْثَ الرِّبْحِ وَلِعَبْدِ رَبِّ الْمَالِ ثُلْثَ الرِّبْحِ عَلَى أَنَّ يَعْمَلَ مَعَهُ وَلِنَفْسِهِ ثُلْثَ الرِّبْحِ فَهُوَ جَائِزٌ) هَذِهِ مِنْ مَسَائِلِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، وَقَدْ تَكَلَّمَ الشُّرَّاحُ فِي أَمْرِ التَّقْيِيدِ بِعَبْدِ رَبِّ الْمَالِ فِيهَا فَقَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: التَّقْيِيدُ

ص: 464

لِأَنَّ لِلْعَبْدِ يَدًا مُعْتَبَرَةً خُصُوصًا إِذَا كَانَ مَأْذُونًا لَهُ وَاشْتِرَاطُ الْعَمَلِ إِذَنْ لَهُ، وَلِهَذَا لَا يَكُونُ لِلْمَوْلَى وِلَايَةُ أَخْذِ مَا أَوْدَعَهُ الْعَبْدُ وَإِنْ كَانَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ، وَلِهَذَا يَجُوزُ بَيْعِ الْمَوْلَى مِنْ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ لَهُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مَانِعًا مِنَ التَّسْلِيمِ وَالتَّخْلِيَةِ بَيْنَ الْمَالِ وَالْمُضَارِبِ، بِخِلَافِ اشْتِرَاطِ الْعَمَلِ عَلَى رَبِّ الْمَالِ لِأَنَّهُ مَانِعٌ مِنَ التَّسْلِيمِ عَلَى مَا مَرَّ، وَإِذَا صَحَّتِ الْمُضَارَبَةُ يَكُونُ الثُّلُثُ لِلْمُضَارِبِ بِالشَّرْطِ وَالثُّلُثَانِ لِلْمَوْلَى، لِأَنَّ كَسْبَ الْعَبْدِ لِلْمَوْلَى إِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَهُوَ لِلْغُرَمَاءِ. هَذَا إِذَا كَانَ الْعَاقِدُ هُوَ الْمَوْلَى، وَلَوْ عَقَدَ الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ عَقْدَ الْمُضَارَبَةِ مَعَ أَجْنَبِيٍّ وَشَرَطَ الْعَمَلَ عَلَى الْمَوْلَى لَا يَصِحُّ إِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ لِأَنَّ هَذَا اشْتِرَاطُ الْعَمَلِ عَلَى الْمَالِكِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ صَحَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّ الْمَوْلَى بِمَنْزِلَةِ الْأَجْنَبِيِّ عِنْدَهُ عَلَى مَا عُرِفَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

بِعَبْدِ رَبِّ الْمَالِ لَا لِلشَّرْطِ، فَإِنَّ الْحُكْمَ فِي عَبْدِ الْمُضَارِبِ كَذَا أَيْضًا، وَنُقِلَ عَنِ الذَّخِيرَةِ وَالْمَعْنَى تَفْصِيلًا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ. وَقَالَ صَاحِبُ مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ: التَّقْيِيدُ بِعَبْدِ رَبِّ الْمَالِ لَا لِلشَّرْطِ، فَإِنَّ حُكْمَ عَبْدِ الْمُضَارِبِ كَذَلِكَ، وَكَذَا لَوْ شَرْطَ الْأَجْنَبِيُّ، وَكَذَا كُلُّ مَنْ لَا يَقْبَلُ شَهَادَةَ الْمُضَارِبِ أَوْ شَهَادَةَ رَبِّ الْمَالِ لَهُ. وَقِيلَ: قَيَّدَ بِعَبْدِ رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّ فِيهِ خِلَافًا لِبَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَبَعْضِ أَصْحَابِ أَحْمَدَ وَفِي غَيْرِهِ لَا خِلَافَ. وَجْهُ قَوْلِ الْبَعْضِ: إِنَّ يَدَ الْغُلَامِ كَيْدِ سَيِّدِهِ، فَلَا يَجُوزُ اشْتِرَاطُ عَمَلِهِ كَاشْتِرَاطِ عَمَلِ رَبِّ الْمَالِ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَرَدَّ عَلَيْهِ بَعْضَ الْفُضَلَاءِ فِيمَا ذَكَرَهُ بِقِيلَ؛ حَيْثُ قَالَ بَعْدَ نَقْلِ ذَلِكَ عَنْهُ: وَفِيهِ بَحْثٌ؛ لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي جَوَازِ اشْتِرَاطِ عَمَلِ عَبْدِ الْمُضَارِبِ أَوِ الْأَجْنَبِيِّ عَلَى أَنْ يَكُونَ لَهُ الثُّلْثُ، انْتَهَى.

أَقُولُ: لَا يُفْهَمُ لِهَذَا الْبَحْثِ وَجْهُ وُرُودٍ عَلَى ذَلِكَ الْمَنْقُولِ.

ص: 465

(فَصَلٌ فِي الْعَزْلِ وَالْقِسْمَةِ)

قَالَ (وَإِذَا مَاتَ رَبُّ الْمَالِ أَوِ الْمُضَارِبُ بَطَلَتِ الْمُضَارَبَةُ) لِأَنَّهُ تَوْكِيلٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَمَوْتُ الْمُوَكِّلِ يُبْطِلُ الْوَكَالَةَ، وَكَذَا مَوْتُ الْوَكِيلِ وَلَا تُورَثُ الْوَكَالَةُ وَقَدْ مَرَّ مِنْ قَبْلُ.

أَصْلًا بَلْ هَذَا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي جَوَازِ اشْتِرَاطِ عَمَلِ عَبْدِ الْمَضَارِبِ

إِلَخْ. يَصِيرُ بَيَانًا لِمَا قِيلَ وَفِي غَيْرِهِ لَا خِلَافَ فَلَا مُخَالَفَةَ بَيْنَ الْبَحْثِ وَمُورِدِهِ فَضْلًا عَنِ الْمُنَافَاةِ. ثُمَّ إِنَّ مَحْصُولَ ذَلِكَ الْمَنْقُولِ أَنَّهُ إِذَا كَانَ فِي عَبْدِ رَبِّ الْمَالِ خِلَافٌ لَا فِي غَيْرِهِ كَانَ ذِكْرُ عَبْدِ رَبَّ الْمَالِ مَحَلَّ الِاحْتِيَاطِ وَالِاهْتِمَامِ دُونَ ذِكْرِ غَيْرِهِ فَلِذَلِكَ قَيَّدَ بِهِ، وَهَذَا مِمَّا لَا يَقْدَحُ فِيهِ الْبَحْثُ الْمَذْكُورُ أَصْلًا، كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى الْفَطِنِ. وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: قَوْلُهُ: وَلِعَبْدِ رَبِّ الْمَالِ فِي مُقَابَلَتِهِ شَيْئَانِ: عَبْدُ الْمُضَارِبِ، وَالْأَجْنَبِيُّ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِاحْتِرَازٍ عَنِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ عَبْدِ الْمُضَارِبِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ حُكْمُ عَبْدِ رَبَّ الْمَالِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ احْتِرَازًا عَنِ الثَّانِي فَإِنَّهُ إِذَا شَرَطَ ذَلِكَ لِلْأَجْنَبِيِّ عَلَى أَنْ يَعْمَلَ مَعَ الْمُضَارِبِ صَحَّ الشَّرْطُ وَالْمُضَارَبَةُ جَمِيعًا وَصَارَتِ الْمُضَارَبَةُ مَعَ الرَّجُلَيْنِ، وَإِنْ لَمْ يُشْتَرَطْ عَمَلُ الْأَجْنَبِيِّ مَعَهُ صَحَّتِ الْمُضَارَبَةُ مَعَ الْأَوَّلِ وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ. وَيَجْعَلُ الثُّلْثَ الْمَشْرُوطِ لِلْأَجْنَبِيِّ كَالْمَسْكُوتِ عَنْهُ فَيَكُونُ لِرَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الرِّبْحَ إِنَّمَا يَسْتَحِقُّ بِرَأْسِ الْمَالِ أَوْ بِالْعَمَلِ أَوْ بِضَمَانِ الْعَمَلِ وَلَمْ يُوجَدْ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، انْتَهَى كَلَامُهُ.

أَقُولُ: فِيهِ بَحْثٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكَادُ أَنْ يَحْصُلَ الِاحْتِرَازُ بِقَوْلِهِ: وَلِعَبْدِ رَبِّ الْمَالِ عَنِ الْأَجْنَبِيِّ أَصْلًا، أَيْ: سَوَاءٌ شَرَطَ أَنْ يُعْمَلَ مَعَ الْمُضَارِبِ أَوْ لَمْ يُشْتَرَطْ.

أَمَّا إِذَا شَرْطَ ذَلِكَ فَلِأَنَّ حُكْمَ الْأَجْنَبِيِّ حِينَئِذٍ عَيْنُ حُكْمِ عَبْدِ رَبِّ الْمَالِ؛ حَيْثُ يَصِحُّ الشَّرْطُ وَالْمُضَارَبَةُ جَمِيعًا فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ الِاحْتِرَازُ مَعَ الِاتِّحَادِ فِي الْحَكَمِ

وَأَمَّا إِذَا لَمْ يُشْتَرَطُ ذَلِكَ فَلِأَنَّهُ وَإِنْ تَغَيَّرَ الْحُكْمُ حِينَئِذٍ؛ حَيْثُ يُبْطِلُ الشَّرْطَ، لَكِنَّ السَّبَبَ فِيهِ عَدَمَ اشْتِرَاطِ الْعَمَلِ لَا لِكَوْنِهِ أَجْنَبِيًّا؛ فَالِاحْتِرَازُ عَنْهُ إِنَّمَا يَحْصُلُ بِقَوْلِهِ: عَلَى أَنْ يَعْمَلَ مَعَهُ، لَا بُقُولِهِ: وَلِعَبْدِ رَبِّ الْمَالِ.

أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ بَدَلَ قَوْلِهِ وَلِعَبْدِ رَبِّ الْمَالِ ثُلْثَ الرِّبْحِ عَلَى أَنْ يَعْمَلَ مَعَهُ وَلِلْأَجْنَبِيِّ ثُلْثَ الرِّبْحِ عَلَى أَنْ يَعْمَلَ مَعَهُ لَخَرَجَ الْأَجْنَبِيُّ الَّذِي لَمْ يَشْتَرِطْ لَهُ الْعَمَلَ مَعَ الْمُضَارِبِ مِنْ حُكْمِ الْمَسْأَلَةِ أَيْضًا فَلَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِ: وَلِعَبْدِ رَبِّ الْمَالِ مَدْخَلٌ فِي الِاحْتِرَازِ عَنْهُ أَصْلًا.

وَقَالَ صَاحِبُ الْكِفَايَةِ: التَّقْيِيدُ بِعَبْدِ رَبِّ الْمَالِ مَعَ أَنَّ الْحُكْمَ فِي عَبْدِ الْمُضَارِبِ كَذَلِكَ عِنْدَ اشْتِرَاطِ الْعَمَلِ لِدَفْعِ مَا يُتَوَهَّمُ أَنَّ يَدَ الْعَبْدِ يَدٌ لِلْمَوْلَى فَيَمْتَنِعُ التَّخْلِيَةُ، فَقَالَ: هُوَ جَائِزٌ، انْتَهَى كَلَامُهُ.

أَقُولُ: هَذَا هُوَ الْحَقُّ عِنْدِي، وَلَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِ الْمَسْأَلَةِ؛ حَيْثُ قَالَ: لِأَنَّ لِلْعَبْدِ يَدًا مُعْتَبَرَةً خُصُوصًا إِذَا كَانَ مَأْذُونًا لَهُ، ثُمَّ قَالَ: وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مَانِعًا مِنَ التَّسْلِيمِ وَالتَّخْلِيَةِ بَيْنَ رَبِّ الْمَالِ وَالْمُضَارِبِ تَأَمُّلٌ تَقِفُ.

(فَصَلٌ فِي الْعَزْلِ وَالْقِسْمَةِ)

أَيْ فِي عَزْلِ الْمُضَارِبِ وَقِسْمَتِهِ الرِّبْحُ

لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ حُكْمِ الْمُضَارَبَةِ وَالرِّبْحِ ذُكِرَ فِي هَذَا الْفَصْلِ الْحُكْمُ الَّذِي يُوجَدُ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ عَزْلَ الْمُضَارِبِ بَعْدَ تَحَقُّقِ عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ وَكَذَا الْقِسْمَةُ بَعْدَ تَحَقُّقِ مَالِ الرِّبْحِ.

(قَوْلُهُ: وَإِذَا مَاتَ رَبُّ الْمَالِ أَوِ الْمُضَارِبُ بَطَلَتِ الْمُضَارَبَةُ؛ لِأَنَّهُ تَوْكِيلٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَمَوْتُ الْمُوَكِّلِ يُبْطِلُ الْوَكَالَةَ وَكَذَا مَوْتُ الْوَكِيلِ). قَالَ فِي الْعِنَايَةِ أَخْذًا مِنَ النِّهَايَةِ:

ص: 466

(وَإِنِ ارْتَدَّ رَبُّ الْمَالِ عَنِ الْإِسْلَامِ) وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ (وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ)(بَطَلَتِ الْمُضَارَبَةُ) لِأَنَّ اللُّحُوقَ بِمَنْزِلَةٍ الْمَوْتِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُقْسِّمُ مَالُهُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ وَقَبْلَ لُحُوقِهِ يَتَوَقَّفُ تَصَرُّفُ مُضَارِبِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ لَهُ فَصَارَ كَتَصَرُّفِهِ بِنَفْسِهِ

وَرَدَّ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ تَوْكِيلًا لَمَا رَجَعَ الْمُضَارِبُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى إِذَا هَلَكَ الثَّمَنُ عِنْدَ الْمُضَارِبِ بَعْدَ مَا اشْتَرَى شَيْئًا كَالْوَكِيلِ إِذَا دَفَعَ إِلَيْهِ الثَّمَنَ قَبْلَ الشِّرَاءِ وَهَلَكَ فِي يَدِهِ بَعْدَهُ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْمُوَكِّلِ. ثُمَّ لَوْ هَلَكَ بَعْدَ مَا أَخَذَهُ ثَانِيًا لَمْ يَرْجِعْ بِهِ عَلَيْهِ مَرَّةً أُخْرَى، وَبِأَنَّهُ لَوْ كَانَ تَوْكِيلًا لَانْعَزَلَ إِذَا عَزَلَهُ رَبُّ الْمَالِ بَعْدَ مَا اشْتَرَى بِمَالِ الْمُضَارَبَةِ عُرُوضًا، كَمَا فِي الْوَكِيلِ إِذَا عَلِمَ بِهِ، وَبِأَنَّهُ لَوْ كَانَ تَوْكِيلًا لَمَا عَادَ الْمُضَارِبُ عَلَى مُضَارَبَتِهِ إِذَا لَحِقَ رَبُّ الْمَالِ بِدَارِ الْحَرْبِ مُرْتَدًّا ثُمَّ عَادَ مُسْلِمًا كَالْوَكِيلِ وَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ سَيَأْتِي، انْتَهَى كَلَامُهُ.

يُرِيدُ بِالْجَوَابِ الْآتِي عَنِ الرَّدِّ الْأَوَّلِ مَا يَأْتِي فِي الْكِتَابِ قُبَيْلَ فَصْلِ الِاخْتِلَافِ مِنْ بَيَانِ الْفِرَقِ بَيْنَ الْمُضَارَبَةِ وَالْوَكَالَةِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى. وَبِالْجَوَابِ الْآتِي عَنِ الرَّدِّ الثَّانِي مَا يَأْتِي فِي الْكِتَابِ أَيْضًا فِي هَذَا الْفَصْلِ مِنْ بَيَانِ عِلَّةِ عَدَمِ انْعِزَالِ الْمُضَارِبِ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ. وَبِالْجَوَابِ الْآتِي عَنِ الرَّدِّ الثَّالِثِ مَا يَأْتِي فِي الشُّرُوحِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْآتِيَةِ الْمُتَّصِلَةِ بِمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ بَيَانِ وَجْهِ الْمَسْأَلَةِ الثَّالِثَةِ.

أَقُولُ: الَّذِي يُعْلَمُ مِمَّا ذُكِرَ فِي الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ الْآتِيَةِ إِنَّمَا هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُضَارَبَةِ وَالتَّوْكِيلِ فِي تِلْكَ الْمَسَائِلِ الثَّلَاثِ، وَبِذَلِكَ لَا يَحْصُلُ الْجَوَابُ عَنِ الرَّدِّ بِالْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورَةِ هَاهُنَا؛ لِأَنَّ حَاصِلَهُ الْقَدْحُ فِي الدَّلِيلِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ: لِأَنَّهُ تَوْكِيلٌ، بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ تَوْكِيلًا لَمَا خَالَفَ حُكْمُهُ حُكْمَ التَّوْكِيلِ فِي الْمَسَائِلِ الثَّلَاثِ الْمَزْبُورَةِ، وَبِالْفَرْقِ بَيْنَ الْمُضَارَبَةِ وَالتَّوْكِيلِ فِي تِلْكَ الْمَسَائِلِ لَا يَظْهَرُ كَوْنُ الْمُضَارَبَةِ تَوْكِيلًا حَتَّى يَنْدَفِعَ رَدُّ الدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ، هَاهُنَا بِتِلْكَ الْمَسَائِلِ، بَلْ يَظْهَرُ بِهِ خِلَافَ ذَلِكَ فَيَتَأَكَّدُ الرَّدُّ وَالْإِشْكَالُ.

فَإِنْ قُلْتُ: الْمُرَادُ بِمَا فِي الدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ أَنَّ الْمُضَارَبَةَ تَوْكِيلٌ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ دُونَ جَمِيعِهَا فَلَا يَقْدَحُ فِيهِ اخْتِلَافُهُمَا فِي الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورَةِ.

قُلْتُ: فَحِينَئِذٍ لَا يُفِيدُ الدَّلِيلُ الْمُدَّعَى؛ إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الْمُضَارَبَةِ تَوْكِيلًا فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ كَوْنُهَا تَوْكِيلًا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ فَلَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ.

فَإِنْ قِيلَ: الْمُرَادُ أَنَّهَا تَوْكِيلٌ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ الَّذِي مِنْ جُمْلَتِهِ مَا نَحْنُ فِيهِ.:

فَحِينَئِذٍ لَا يَصْلُحُ مَا ذُكِرَ فِي مَعْرِضِ الدَّلِيلِ؛ لِأَنَ يَكُونَ دَلِيلًا أَصْلًا لِصَيْرُورَتِهِ أَخْفَى مِنَ الْمُدَّعَى وَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ يَصِيرَ مِثْلَ الْمُدَّعَى فِي الْمَعْرِفَةِ وَالْجَهَالَةِ فَلَا يَتِمُّ الْمَطْلُوبُ، تَأَمَّلْ.

(قَوْلُهُ: وَإِنِ ارْتَدَّ رَبُّ الْمَالِ عَنِ الْإِسْلَامِ وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ بَطَلَتِ الْمُضَارَبَةُ). قَالَ الشُّرَّاحُ: هَذَا إِذَا لَمْ يَعُدْ مُسْلِمًا أَمَّا إِذَا عَادَ مُسْلِمًا قَبْلَ الْقَضَاءِ بِلِحَاقِهِ أَوْ بَعْدَهُ فَكَانَ عَقْدُ الْمُضَارَبَةِ عَلَى مَا كَانَ. أَمَّا قَبْلَ الْقَضَاءِ بِلِحَاقِهِ فَلِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْغِيبَةِ وَهِيَ لَا تُوجِبُ بُطْلَانَ الْمُضَارَبَةِ. وَأَمَّا بَعْدَ الْقَضَاءِ بِهِ فَلِمَكَانِ حَقِّ الْمَضَارِبِ، كَمَا لَوْ كَانَ مَاتَ حَقِيقَةً وَعَزَاهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ إِلَى الْمَبْسُوطِ.

أَقُولُ: فِيهِ إِشْكَالٌ، أَمَّا أَوَّلًا: فَلِأَنَّهُ لَوْ مَاتَ حَقِيقَةً بَطَلَتِ الْمُضَارَبَةُ قَطْعًا، كَمَا مَرَّ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ آنِفًا، فَكَيْفَ يَصِحُّ قَوْلُهُمْ، كَمَا لَوْ مَاتَ حَقِيقَةً؟ اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَيَّدَ قَوْلُهُمْ: كَمَا لَوْ مَاتَ بِحَالِ كَوْنِ الْمَالِ عُرُوضًا فَإِنَّ الْمَضَارِبَ لَا يَنْعَزِلُ حِينَئِذٍ، كَمَا سَيَأْتِي فِي الْكِتَابِ.

وَأَمَا ثَانِيًا: فَلِأَنَّهُ إِنْ كَانَتْ عِلَّةُ بَقَاءِ عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ عَلَى حَالِهِ فِيمَا إِذَا عَادَ مُسْلِمًا بَعْدَ الْقَضَاءِ بِلِحَاقِهِ هِيَ مَكَانُ حَقِّ الْمُضَارِبِ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُبْقَى عَلَى حَالِهِ فِيمَا إِذَا لَمْ يَعُدْ أَيْضًا بِهَذِهِ الْعِلَّةِ فَلْيُتَأَمَّلْ، ثُمَّ أَقُولُ: الَّذِي يَظْهَرُ مِنْ

ص: 467

(وَلَوْ كَانَ الْمُضَارِبُ هُوَ الْمُرْتَدُّ فَالْمُضَارَبَةُ عَلَى حَالِهَا) لِأَنَّ لَهُ عِبَارَةً صَحِيحَةً، وَلَا تُوقَفُ فِي مِلْكِ رَبِّ الْمَالِ فَبَقِيَتِ الْمُضَارَبَةُ. قَالَ (فَإِنْ عَزَلَ رَبُّ الْمَالِ الْمُضَارِبَ وَلَمْ يَعْلَمْ بِعَزْلِهِ حَتَّى اشْتَرَى وَبَاعَ فَتَصَرُّفُهُ جَائِزٌ) لِأَنَّهُ وَكِيلٌ مِنْ جِهَتِهِ وَعَزْلُ الْوَكِيلِ قَصْدًا يَتَوَقَّفُ عَلَى عِلْمِهِ (وَإِنْ عَلِمَ بِعَزْلِهِ وَالْمَالُ عُرُوضٌ فَلَهُ أَنْ يَبِيعَهَا وَلَا يَمْنَعُهُ الْعَزْلُ مِنْ ذَلِكَ) لِأَنَّ حَقَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الرِّبْحِ، وَإِنَّمَا يَظْهَرُ بِالْقِسْمَةِ وَهِيَ تُبْتَنَى عَلَى رَأْسِ الْمَالِ، وَإِنَّمَا يُنْقَضُ بِالْبَيْعِ. قَالَ (ثُمَّ لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِثَمَنِهَا شَيْئًا آخَرَ) لِأَنَّ الْعَزْلَ إِنَّمَا لَمْ يَعْمَلْ ضَرُورَةَ مَعْرِفَةِ رَأْسِ الْمَالِ وَقَدِ انْدَفَعَتْ حَيْثُ صَارَ نَقْدًا فَيَعْمَلُ الْعَزْلُ (فَإِنْ عَزَلَهُ وَرَأْسُ الْمَالِ دَرَاهِمُ أَوْ دَنَانِيرُ وَقَدْ نَضَّتْ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهَا) لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي إِعْمَالِ عَزْلِهِ إِبْطَالُ حَقِّهِ فِي الرِّبْحِ فَلَا ضَرُورَةَ. قَالَ: وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ إِذَا كَانَ مِنْ جِنْسِ رَأْسِ الْمَالِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ

تَعْلِيلِ الْمُصَنِّفِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ. وَمِمَّا ذُكِرَ فِي بَعْضِ الْمُعْتَبَرَاتِ أَنْ لَا يَكُونَ فَرَّقَ فِي بُطْلَانِ الْمُضَارَبَةِ بَيْنَ مَا إِذَا لَمْ يَعُدْ مُسْلِمًا وَبَيْنَ مَا إِذَا عَادَ مُسْلِمًا بَعْدَ لُحُوقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ مُرْتَدًّا سِيَّمَا بَعْدَ الْقَضَاءِ بِلِحَاقِهِ. أَمَّا ظُهُورُ ذَلِكَ مِنْ تَعْلِيلِ الْمُصَنِّفِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فَلِأَنَّهُ قَالَ فِي تَعْلِيلِهِ إِيَّاهَا: لِأَنَّ اللُّحُوقَ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْتِ عِنْدَنَا؛ أَلَا يَرَى أَنَّهُ يَقْسِمُ مَالَهُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْمُضَارَبَةَ لَا تَبْقَى بَعْدَ الْمَوْتِ عَلَى مَا كَانَتْ بَلْ تَبْطُلُ بِالْمَوْتِ قَطْعًا، كَمَا مَرَّ، فَكَذَا بِمَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْتِ.

وَأَمَّا ظُهُورُهُ مِمَّا ذُكِرَ فِي بَعْضِ الْمُعْتَبَرَاتِ فَلِأَنَّهُ قَالَ فِي الْبَدَائِعِ: وَلَوِ ارْتَدَّ رَبُّ الْمَالِ فَبَاعَ الْمُضَارِبُ أَوِ اشْتَرَى بِالْمَالِ بَعْدَ الرِّدَّةِ فَذَلِكَ كُلُّهُ مَوْقُوفٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ: إِنْ رَجَعَ إِلَى الْإِسْلَامِ بَعْدَ ذَلِكَ نَفَذَ ذَلِكَ كُلُّهُ، وَالْتَحَقَ رِدَّتُهُ بِالْعَدَمِ فِي جَمِيعِ أَحْكَامِ الْمُضَارَبَةِ وَصَارَ كَأَنَّهُ لَمْ يَرْتَدَّ أَصْلًا، وَكَذَا إِذَا لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ عَادَ مُسْلِمًا قَبْلَ أَنْ يُحْكَمَ بِلِحَاقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي تَشْتَرِطُ حُكْمَ الْحَاكِمِ بِلِحَاقِهِ لِلْحُكْمِ بِمَوْتِهِ وَصَيْرُورَةِ أَمْوَالِهِ مِيرَاثًا لِوَرَثَتِهِ، فَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ عَلَى الرِّدَّةِ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ وَقَضَى الْقَاضِي بِلِحَاقِهِ بَطَلَتِ الْمُضَارَبَةُ، اهـ.

وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ قَوْلِهِ: ثُمَّ عَادَ مُسْلِمًا قَبْلَ أَنْ يُحْكَمَ بِلِحَاقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ بُطْلَانُ الْمُضَارَبَةِ لَوْ عَادَ مُسْلِمًا بَعْدَ أَنْ يُحْكَمَ بِلِحَاقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ. وَمِنْ قَوْلِهِ عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي تَشْتَرِطُ حُكْمَ الْحَاكِمِ بِلِحَاقِهِ لِلْحُكْمِ بِمَوْتِهِ بُطْلَانُهَا، وَلَوْ عَادَ قَبْلَ أَنْ يُحْكَمَ بِلِحَاقِهِ عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي لَمْ تَشْتَرِطُ حُكْمَ الْحَاكِمِ بِلِحَاقِهِ لِلْحُكْمِ بِمَوْتِهِ وَأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ إِطْلَاقِ قَوْلِهِ: فَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ عَلَى الرِّدَّةِ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ وَقَضَى الْقَاضِي بِلِحَاقِهِ بَطَلَتِ الْمُضَارَبَةُ بَعْدَ أَنْ تَعَرَّضَ لِعَوْدِهِ مُسْلِمًا فِيمَا سَبَقَ بُطْلَانُهَا بَعْدَ الْقَضَاءِ بِلِحَاقِهِ، وَإِنْ عَادَ مُسْلِمًا.

وَقَالَ الْإِمَامُ الْإِسْبِيَجَابِيُّ فِي شَرْحِ الْكَافِي لِلْحَاكِمِ الشَّهِيدِ: وَلَوِ ارْتَدَّ رَبُّ الْمَالِ ثُمَّ قُتِلَ أَوْ مَاتَ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يُجِيزُ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ عَلَى الْمُضَارِبِ وَالرِّبْحُ لَهُ، وَيُضَمِّنُهُ رَأْسَ الْمَالِ فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: هُوَ عَلَى الْمُضَارَبَةِ بِالْوِلَايَةِ الْأَصْلِيَّةِ فَيَتَوَقَّفُ وَيَبْطُلُ بِالْمَوْتِ أَوْ بِالْقَضَاءِ بِاللُّحُوقِ وَلَوْ لَمْ يَرْفَعِ الْأَمْرَ إِلَى الْقَاضِي حَتَّى عَادَ الْمُرْتَدُّ مُسْلِمًا جَازِ جَمِيعُ ذَلِكَ عَلَى الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّهُ انْتَقَضَتْ رِدَّتُهُ قَبْلَ اتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهَا فَبَطَلَ حُكْمُهَا. اهـ.

وَلَا يَخْفَى أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ هَذَا أَيْضًا أَنَّهُ لَوْ عَادَ مُسْلِمًا بَعْدَ الْقَضَاءِ بِلُحُوقِهِ بَطَلَتِ الْمُضَارَبَةُ بِالِاتِّفَاقِ.

(قَوْلُهُ: وَلَوْ كَانَ الْمُضَارِبُ هُوَ الْمُرْتَدَّ فَالْمُضَارَبَةُ عَلَى حَالِهَا) فِي مَعْنَى كَلَامِ الْمُصَنِّفِ هَذَا احْتِمَالَانِ عَقْلِيَّانِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ هَذَا نَاظِرًا إِلَى قَوْلِهِ: وَإِنِ ارْتَدَّ

ص: 468

بِأَنْ كَانَ دَرَاهِمَ وَرَأْسُ الْمَالِ دَنَانِيرُ أَوْ عَلَى الْقَلْبِ لَهُ أَنْ يَبِيعَهَا بِجِنْسِ رَأْسِ الْمَالِ اسْتِحْسَانًا لِأَنَّ الرِّبْحَ لَا يَظْهَرُ إِلَّا بِهِ وَصَارَ كَالْعُرُوضِ،

رَبُّ الْمَالِ وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ، بَطَلَتِ الْمُضَارَبَةُ فَيَكُونُ الْمَعْنَى وَلَوْ كَانَ الْمُضَارِبُ هُوَ الْمُرْتَدَّ اللَّاحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ فَالْمُضَارَبَةُ عَلَى حَالِهَا، أَيْ: هِيَ غَيْرُ بَاطِلَةٍ.

وَثَانِيهِمَا: أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: هَذَا نَاظِرًا إِلَى قَوْلِهِ وَقَبْلَ لُحُوقِهِ يَتَوَقَّفُ تَصَرُّفُ مَضَارِبِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَيَكُونُ الْمَعْنَى: وَلَوْ كَانَ الْمُضَارِبُ هُوَ الْمُرْتَدَّ قَبْلَ لُحُوقِهِ فَالْمُضَارَبَةُ عَلَى حَالِهَا، أَيْ: لَا يَتَوَقَّفُ تَصَرُّفُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْضًا، بَلْ يَجُوزُ جَمِيعُ تَصَرُّفَاتِهِ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا.

وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ فِي شُرِحَ الْوِقَايَةِ؛ حَيْثُ قَالَ فِي شَرْحِ قَوْلِ صَاحِبِ الْوِقَايَةِ: وَتَبْطُلُ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا وَلِحَاقِ الْمَالِكِ مُرْتَدًّا، بِخِلَافِ لِحَاقِ الْمَضَارِبِ بِدَارِ الْحَرْبِ مُرْتَدًّا؛ حَيْثُ لَا تَبْطُلُ الْمُضَارَبَةُ؛ لِأَنَّ لَهُ عِبَارَةً صَحِيحَةً، اهـ.

وَاقْتَفَى أَثَرَهُ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ صَاحِبُ الدُّرَرِ وَالْغَرَرِ وَصَاحِبُ الْإِصْلَاحِ وَالْإِيضَاحِ وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ نَفْسِ عِبَارَةِ الْوِقَايَةِ أَيْضًا؛ حَيْثُ أُضِيفَ فِيهَا الْمَوْتُ الْمُبْطِلُ إِلَى أَحَدِهِمَا مُطْلَقًا وَاللِّحَاقُ الْمُبْطِلُ إِلَى الْمَالِكِ فَقَطْ فَدَلَّتْ عَلَى أَنَّ لِحَاقَ الْمُضَارِبِ لَا يَبْطُلُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ تَخْصِيصَ الشَّيْءِ بِالذِّكْرِ فِي الرِّوَايَاتِ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَاهُ بِالِاتِّفَاقِ، كَمَا نَصُّوا عَلَيْهِ.

أَقُولُ: ذَلِكَ الْمَعْنَى لَيْسَ بِصَحِيحٍ عِنْدِي؛ إِذْ قَدْ تَقَرَّرَ فِي بَابِ أَحْكَامِ الْمُرْتَدِّينَ أَنَّ الْمُرْتَدَّ إِذَا لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ وَحَكَمَ الْحَاكِمُ بِلِحَاقِهِ صَارَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ وَهُمْ أَمْوَاتٌ فِي حَقِّ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ. وَلَقَدْ أَفْصَحَ عَنْهُ الْمُصَنِّفُ فِي هَذَا الْفَصْلِ أَيْضًا؛ حَيْثُ قَالَ فِي تَعْلِيلِ بُطْلَانِ الْمُضَارَبَةِ: إِذَا ارْتَدَّ رَبُّ الْمَالِ وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ؛ لِأَنَّ اللُّحُوقَ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْتِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَقْسِمُ مَالَهُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ اهـ.

فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَأَنَّى يُمْكِنُ تَصَرُّفُ الْمَيِّتِ حَتَّى يُصْبِحَ تَصَرُّفُ الْمَضَارِبِ عَلَى حَالِهِ بَعْدَ أَنْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ مُرْتَدًّا، عَلَى أَنَّ بُطْلَانَ الْمُضَارَبَةِ إِذَا لَحِقَ الْمُضَارِبُ بِدَارِ الْحَرْبِ وَقُضِيَ بِلِحَاقِهِ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي الْمُعْتَبَرَاتِ. قَالَ فِي الْبَدَائِعِ: وَإِنْ مَاتَ الْمَضَارِبُ أَوْ قُتِلَ عَلَى الرِّدَّةِ بَطَلَتِ الْمُضَارَبَةُ؛ لِأَنَّ مَوْتَهُ فِي الرِّدَّةِ كَوْنُهُ قَبْلَ الرِّدَّةِ وَكَذَا إِذَا لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ وَقُضِيَ بِلِحَاقِهِ؛ لِأَنَّ رِدَّتَهُ مَعَ اللِّحَاقِ وَالْحُكْمِ بِهِ بِمَنْزِلَةِ مَوْتِهِ فِي بُطْلَانِ تَصَرُّفِهِ، اهـ.

فَالْحَقُّ هُوَ الْمَعْنَى الثَّانِي وَهُوَ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ، كَمَا يُرْشِدُ إِلَيْهِ قَوْلُهُ فِي تَعْلِيلِهِ: "وَلَا تُوقَفُ فِي مِلْكِ رَبِّ الْمَالِ؛ إِذْ لَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ لِلِاحْتِرَازِ عَنِ التَّوَقُّفِ فِي مِلْكِ رَبِّ الْمَالِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إِذَا كَانَ هُوَ الْمُرْتَدَّ، وَالتَّوَقُّفُ فِي مِلْكِهِ عِنْدَهُ إِنَّمَا يَكُونُ قَبْلَ اللِّحَاقِ لَا بَعْدَهُ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ هَاهُنَا أَيْضًا مَا يَكُونُ قَبْلَ اللِّحَاقِ لِئَلَّا يَلْغُوَ هَذَا الْقَوْلُ فِي التَّعْلِيلِ، وَيُشِيرُ إِلَيْهِ زِيَادَةُ الشُّرَّاحِ قَيْدَ فِي قَوْلِهِمْ: جَمِيعًا، بَعْدَ قَوْلِهِ: فَالْمُضَارَبَةُ عَلَى حَالِهَا؛ حَيْثُ قَالُوا: فَالْمُضَارَبَةُ عَلَى حَالِهَا، فِي قَوْلِهِمْ: جَمِيعًا؛ إِذْ لَا شَكَّ أَنَّ زِيَادَةَ هَذَا الْقَيْدِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى تَحَقُّقِ الْخِلَافِ بَيْنَ أَئِمَّتِنَا فِيمَا إِذَا كَانَ رَبُّ الْمَالِ هُوَ الْمُرْتَدَّ، وَلَا خِلَافَ فِيهِ بَعْدَ اللُّحُوقِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِيهِ قَبْلَ اللُّحُوقِ؛ حَيْثُ يَتَوَقَّفُ تَصَرُّفُ مَضَارِبِهِ عِنْدَ أبي حنيفة وَلَا يَتَوَقَّفُ عِنْدَهُمَا، بَلْ يَنْفُذُ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْوِفَاقِ فِي بَقَاءِ الْمُضَارَبَةِ عَلَى حَالِهَا فِيمَا إِذَا كَانَ الْمُضَارِبُ هُوَ الْمُرْتَدَّ هُوَ الْوِفَاقُ فِيهِ قَبْلَ اللُّحُوقِ لِتَظْهَرَ فَائِدَةُ ذَلِكَ الْقَيْدِ تَدَبَّرْ.

ص: 469

وَعَلَى هَذَا مَوْتُ رَبِّ الْمَالِ وَلُحُوقُهُ بَعْدَ الرِّدَّةِ فِي بَيْعِ الْعُرُوضِ وَنَحْوِهَا. قَالَ (وَإِذَا افْتَرَقَا وَفِي الْمَالِ دُيُونٌ وَقَدْ رَبِحَ الْمُضَارِبُ فِيهِ أَجْبَرَهُ الْحَاكِمُ عَلَى اقْتِضَاءِ الدُّيُونِ) لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْأَجِيرِ وَالرِّبْحُ كَالْأَجْرِ لَهُ (وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ رِبْحٌ لَمْ يَلْزَمْهُ الِاقْتِضَاءُ) لِأَنَّهُ وَكِيلٌ مَحْضٌ وَالْمُتَبَرِّعُ لَا يُجْبَرُ عَلَى إِيفَاءِ مَا تَبَرَّعَ بِهِ،

(قَوْلُهُ: وَعَلَى هَذَا مَوْتُ رَبِّ الْمَالِ فِي بَيْعِ الْعُرُوضِ وَنَحْوِهَا)، وَفَى بَعْضِ النُّسَخِ: وَعَلَى هَذَا مَوْتُ رَبِّ الْمَالِ وَلُحُوقُهُ بَعْدَ الرِّدَّةِ فِي بَيْعِ الْعُرُوضِ وَنَحْوِهَا، فَكَلِمَةُ هَذَا فِي قَوْلِهِ وَعَلَى هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ: لَا يَمْنَعُهُ الْعَزْلُ مِنْ ذَلِكَ: يَعْنِي لَا يَنْعَزِلُ الْمَضَارِبُ بِالْعَزْلِ الْحُكْمِيِّ إِذَا كَانَ الْمَالِ عُرُوضًا بَلْ يَبِيعُهَا بَعْدَ الْعَزْلِ، كَمَا لَا يَنْعَزِلُ بِالْعَزْلِ الْقَصْدِيِّ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ؛ لِأَنَّ عَدَمَ عَمَلِ الْعَزْلِ فِيهَا لِئَلَّا يَلْزَمَ إِبْطَالُ حَقَّ الْمُضَارِبِ، وَلَا تَفَاوُتَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ ذَيْنِكِ الْعَزْلَيْنِ. ثُمَّ إِنَّ ضَمِيرَ الْمُؤَنَّثِ فِي قَوْلِهِ: وَنَحْوُهَا رَاجِعٌ إِلَى الْعُرُوضِ، أَيْ: وَنَحْوُ الْعُرُوضِ فِي حَقِّ الْبَيْعِ بِأَنْ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ دَرَاهِمَ وَالنَّقْدُ دَنَانِيرَ أَوْ عَلَى الْقَلْبِ.

هَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَكْثَرُ الشُّرَّاحِ وَهُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدِي. وَأَمَّا صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ فَقَالَ: وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ: وَنَحْوُهَا مَا إِذَا ارْتَدَّ رَبُّ الْمَالِ وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ أَوْ قُتِلَ أَوْ مَاتَ مُرْتَدًّا ثُمَّ بَاعَ الْمَضَارِبُ الْعُرُوضَ جَازَ بَيْعُهُ عَلَى الْمُضَارَبَةِ لِمَا قُلْنَا. وَالضَّمِيرُ فِي " وَنَحْوُهَا " عَلَى هَذَا يَرْجِعُ إِلَى مَوْتِ رَبِّ الْمَالِ عَلَى تَأْوِيلِ الْمَنِيَّةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ بِرَفْعِ الْوَاوِ.

أَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ مَعَ ابْتِنَائِهِ عَلَى تَأْوِيلٍ بَعِيدٍ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ مُخْتَلٌّ مِنْ حَيْتُ الْمَعْنَى، أَمَّا عَلَى النُّسْخَةِ الثَّانِيَةِ فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ مَا هُوَ نَحْوُ الْمَوْتِ إِنَّمَا هُوَ اللُّحُوقُ بِدَارِ الْحَرْبِ مُرْتَدًّا وَقَدْ ذَكَرَ هَذَا صَرِيحًا فِي تِلْكَ النُّسْخَةِ بِقَوْلِهِ: وَلُحُوقُهُ بَعْدَ الرِّدَّةِ، فَلَمْ يُبْقَ بَعْدَ ذَلِكَ مَحَلٌّ؛ لِأَنْ يُقَالَ: وَنَحْوُ الْمَوْتِ.

وَأَمَّا عَلَى النُّسْخَةِ الْأَوْلَى فَلِأَنَّهُ قَدْ أَدْرَجَ الْمَوْتَ فِي بَيَانِ مَا هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَنَحْوُهَا؛ حَيْثُ قَالَ: وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ: وَنَحْوُهَا، مَا إِذَا ارْتَدَّ رَبُّ الْمَالِ وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ أَوْ قُتِلَ أَوْ مَاتَ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْمَوْتُ نَحْوَ الْمَوْتِ وَهُوَ بَاطِلٌ. ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الْغَايَةِ: وَيَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى بَيْعِ الْعُرُوضِ بِأَنْ يُعْطِيَ لِلْمُضَافِ حُكْمَ الْمُؤَنَّثِ بِاعْتِبَارِ إِضَافَتِهِ إِلَى الْمُؤَنَّثِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: كَمَا شَرِقَتْ صَدْرُ الْقَنَاةِ مِنَ الدَّمِ فَعَلَى هَذَا يُقَالُ بِجَرِّ الْوَاوِ.

أَقُولُ: هَذَا أَيْضًا مَعَ كَوْنِهِ تَعَسُّفًا مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ رَكِيكًا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى؛ لِأَنَّهُ يُوهِمُ أَنْ يَجُوزَ لِلْمُضَارِبِ بَعْدَ مَوْتِ رَبِّ الْمَالِ تَصَرُّفٌ آخَرُ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ نَحْوَ تَصَرُّفِ بَيْعِ الْعُرُوضِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ. ثُمَّ قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الْعُرُوضِ عَلَى مَعْنًى فِي بَيْعِ الْعُرُوضِ وَفَى بَيْعِ نَحْوِ الْعُرُوضِ، كَمَا إِذَا كَانَ رَأْسُ الْمَالِ دَرَاهِمَ وَالْمَالُ دَنَانِيرَ أَوْ عَلَى الْعَكْسِ؛ لِأَنَّهَا نَحْوُ الْعُرُوضِ فِي أَنَّ الْمَضَارِبَ لَا يَنْعَزِلُ بِمَوْتِ رَبِّ الْمَالِ. اهـ كَلَامُهُ.

أَقُولُ: الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ. وَالْعَجَبُ أَنَّهُ جَعَلَ هَذَا أَبْعَدَ الِاحْتِمَالَاتِ مَعَ كَوْنِهِ أَقْرَبَهَا لَفْظًا وَمَعْنَى.

(قَوْلُهُ: وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ رِبْحٌ لَمْ يُلْزِمْهُ الِاقْتِضَاءُ؛ لِأَنَّهُ وَكَيْلٌ مَحْضٌ، وَالْمُتَبَرِّعُ لَا يُجْبَرُ عَلَى إِيفَاءِ مَا تَبَرَّعَ بِهِ). قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: هَذَا مَنْقُوضٌ بِالْكَفِيلِ فَإِنَّهُ مُتَبَرِّعٌ وَيُجْبَرُ عَلَى إِيفَاءِ مَا تَبَرَّعَ بِهِ فَتَأَمَّلْ، اهـ.

أَقُولُ: هَذَا النَّقْضُ مَدْفُوعٌ بِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ الْمُتَبَرِّعَ الْغَيْرَ الْمُلْتَزِمِ لَا يُجْبَرُ عَلَى إِيفَاءِ مَا تَبَرَّعَ بِهِ، وَالْكَفِيلُ مُلْتَزِمٌ؛ لَأَنْ يُطَالَبَ بِمَا عَلَى الْغَيْرِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَحَلِّهِ فَلَا يَرِدُ النَّقْضُ بِهِ، وَبِعِبَارَةٍ أُخْرَى أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ الْمُتَبَرِّعَ لَا يُجْبَرُ عَلَى إِيفَاءِ مَا تَبَرَّعَ بِهِ فِي الْعُقُودِ الْغَيْرِ اللَّازِمَةِ وَالْكَفَالَةُ عِقْدٌ لَازِمٌ عَلَى مَا عُرِفَ أَيْضًا فِي مَحَلِّهِ فَلَا انْتِقَاضَ. وَلَئِنْ سُلِّمَ إِطْلَاقُ الْكَلَامِ هَاهُنَا فَهُوَ مَجْرَى عَلَى مُوجَبِ الْقِيَاسِ وَالْكَفِيلُ ضَامِنٌ بِالنَّصِّ وَهُوَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم:«الزَّعِيمُ غَارِمٌ» عَلَى مَا مَرَّ فِي كِتَابِ الْكَفَالَةِ، فَلَا ضَيْرَ فِي خُرُوجِهِ؛ إِذِ الْقِيَاسُ تُرِكَ فِيهِ بِالنَّصِّ وَبَقِيَ عَلَى حَالِهِ فِيمَا عَدَاهُ فَتَأَمَّلْ.

ص: 470

(وَيُقَالُ لَهُ: وَكِّلْ رَبَّ الْمَالِ فِي الِاقْتِضَاءِ) لِأَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ تَرْجِعُ إِلَى الْعَاقِدِ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَوْكِيلِهِ وَتَوَكُّلِهِ كَيْ لَا يَضِيعَ حَقُّهُ. وَقَالَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: يُقَالُ لَهُ: أَجِّلْ مَكَانَ قَوْلِهِ: وَكِّلْ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْوَكَالَةُ وَعَلَى هَذَا سَائِرُ الْوَكَالَاتِ، وَالْبَيَّاعُ وَالسِّمْسَارُ يُجْبَرَانِ عَلَى التَّقَاضِي لِأَنَّهُمَا يَعْمَلَانِ بِأَجْرٍ عَادَةً.

قَالَ (وَمَا هَلَكَ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ فَهُوَ مِنَ الرِّبْحِ دُونَ رَأْسِ الْمَالِ) لِأَنَّ الرِّبْحَ تَابِعٌ وَصَرْفُ الْهَلَاكِ إِلَى مَا هُوَ التَّبَعُ أَوْلَى كَمَا يُصْرَفُ الْهَلَاكُ إِلَى الْعَفْوِ فِي الزَّكَاةِ (فَإِنْ زَادَ الْهَالِكُ عَلَى الرِّبْحِ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُضَارِبِ) لِأَنَّهُ أَمِينٌ (وَإِنْ كَانَا يَقْتَسِمَانِ الرِّبْحَ، وَالْمُضَارَبَةُ بِحَالِهَا ثُمَّ هَلَكَ الْمَالُ بَعْضُهُ أَوْ كُلُّهُ تَرَادَّا الرِّبْحَ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ رَبُّ الْمَالِ رَأْسَ الْمَالِ) لِأَنَّ قِسْمَةَ الرِّبْحِ لَا تَصِحُّ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ رَأْسِ الْمَالِ لِأَنَّهُ هُوَ الْأَصْلُ وَهَذَا بِنَاءٌ عَلَيْهِ وَتَبَعٌ لَهُ، فَإِذَا هَلَكَ مَا فِي يَدِ الْمُضَارِبِ أَمَانَةً تَبَيَّنَ أَنَّ مَا اسْتَوْفَيَاهُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، فَيَضْمَنُ الْمُضَارِبُ مَا اسْتَوْفَاهُ لِأَنَّهُ أَخَذَهُ لِنَفْسِهِ وَمَا أَخَذَهُ رَبُّ الْمَالِ مَحْسُوبٌ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ (وَإِذَا اسْتَوْفَى رَأْسَ الْمَالِ، فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ كَانَ بَيْنَهُمَا لِأَنَّهُ رِبْحٌ وَإِنْ نَقَصَ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُضَارِبِ) لِمَا بَيَّنَّا

(وَلَوْ اقْتَسَمَا الرِّبْحَ وَفَسَخَا الْمُضَارَبَةَ ثُمَّ عَقَدَاهَا فَهَلَكَ الْمَالُ لَمْ يَتَرَادَّا الرِّبْحَ الْأَوَّلَ) لِأَنَّ الْمُضَارَبَةَ الْأُولَى قَدِ انْتَهَتْ وَالثَّانِيَةَ عَقْدٌ جَدِيدٌ، وَهَلَاكُ الْمَالِ فِي الثَّانِي لَا يُوجِبُ انْتِقَاضَ الْأَوَّلِ كَمَا إِذَا دَفَعَ إِلَيْهِ مَالًا آخَرَ.

(فَصْلٌ فِيمَا يَفْعَلُهُ الْمُضَارِبُ)

(فَصْلٌ فِيمَا يَفْعَلُهُ الْمُضَارِبُ) قَالَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ: وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ لَا يُذْكَرَ الْفَصْلُ هُنَا بَلْ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ تُذْكَرَ الْمَسَائِلُ الْمَذْكُورَةُ فِيهِ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ

ص: 471

قَالَ (وَيَجُوزُ لِلْمُضَارِبِ أَنْ يَبِيعَ بِالنَّقْدِ وَالنَّسِيئَةِ) لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ فَيَنْتَظِمُهُ إِطْلَاقُ الْعَقْدِ إِلَّا إِذَا بَاعَ إِلَى أَجَلٍ لَا يَبِيعُ التُّجَّارُ إِلَيْهِ لِأَنَّ لَهُ الْأَمْرَ الْعَامَّ الْمَعْرُوفَ بَيْنَ النَّاسِ، وَلِهَذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ دَابَّةً لِلرُّكُوبِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ سَفِينَةً لِلرُّكُوبِ، وَلَهُ أَنْ يَسْتَكْرِيَهَا اعْتِبَارًا لِعَادَةِ التُّجَّارِ، وَلَهُ أَنْ يَأْذَنَ لِعَبْدِ الْمُضَارَبَةِ فِي التِّجَارَةِ فِي الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ لِأَنَّهُ مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ.

وَلَوْ بَاعَ بِالنَّقْدِ ثُمَّ أَخَّرَ الثَّمَنَ جَازَ بِالْإِجْمَاعِ، أَمَّا عِنْدَهُمَا فَلِأَنَّ الْوَكِيلَ يَمْلِكُ ذَلِكَ فَالْمُضَارِبُ أَوْلَى، إِلَّا أَنَّ الْمُضَارِبَ لَا يَضْمَنُ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يُقَايِلَ ثُمَّ يَبِيعَ نَسِيئَةً، وَلَا كَذَلِكَ الْوَكِيلُ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ.

وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فَلِأَنَّهُ يَمْلِكُ الْإِقَالَةَ ثُمَّ الْبَيْعَ بِالنَّسَاءِ. بِخِلَافِ الْوَكِيلِ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْإِقَالَةَ. وَلَوِ احْتَالَ بِالثَّمَنِ عَلَى الْأَيْسَرِ أَوِ الْأَعْسَرِ جَازَ لِأَنَّ الْحَوَالَةَ مِنْ عَادَةِ التُّجَّارِ، بِخِلَافِ الْوَصِيِّ يَحْتَالُ بِمَالِ الْيَتِيمِ حَيْثُ يُعْتَبَرُ فِيهِ الْأَنْظَرُ، لِأَنَّ تَصَرُّفَهُ مُقَيَّدٌ بِشَرْطِ النَّظَرِ، وَالْأَصْلُ أَنَّ مَا يَفْعَلُهُ الْمُضَارِبُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: نَوْعٌ يَمْلِكُهُ بِمُطْلَقِ الْمُضَارَبَةِ وَهُوَ مَا يَكُونُ مِنْ بَابِ الْمُضَارَبَةِ وَتَوَابِعِهَا وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا، وَمِنْ جُمْلَتِهِ التَّوْكِيلُ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ لِلْحَاجَةِ إِلَيْهِ وَالرَّهْنُ وَالِارْتِهَانُ لِأَنَّهُ إِيفَاءٌ وَاسْتِيفَاءٌ وَالْإِجَارَةُ وَالِاسْتِئْجَارُ وَالْإِيدَاعُ وَالْإِبْضَاعُ وَالْمُسَافَرَةُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ.

وَنَوْعٌ لَا يَمْلِكُهُ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ وَيَمْلِكُهُ إِذَا قِيلَ لَهُ اعْمَلْ بِرَأْيِكَ، وَهُوَ مَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَلْحَقَ بِهِ فَيَلْحَقَ عِنْدَ وُجُودِ الدَّلَالَةِ، وَذَلِكَ مِثْلُ دَفْعِ الْمَالِ مُضَارَبَةً أَوْ شَرِكَةً إِلَى غَيْرِهِ وَخَلْطِ مَالِ

عِنْدَ قَوْلِهِ: وَإِذَا صَحَّتِ الْمُضَارَبَةُ مُطْلَقَةً جَازَ لِلْمُضَارِبِ أَنْ يَبِيعَ وَيَشْتَرِيَ وَيُوَكِّلَ وَيُسَافِرَ وَيُبْضِعَ وَيُودِعَ، إِلَّا أَنَّهُ ذَكَرَ الْفَصْلَ هُنَا لِزِيَادَةِ الْإِفَادَةِ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ هُنَا مَا لَمْ يَذْكُرْ ثَمَّةَ، انْتَهَى.

أَقُولُ: لَا يَذْهَبُ عَلَى ذِي فِطْرَةٍ سَلِيمَةٍ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ إِلَّا أَنَّهُ ذَكَرَ الْفَصْلَ هُنَا لِزِيَادَةِ الْإِفَادَةِ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ هُنَا مَا لَمْ يَذْكُرْ ثَمَّةَ لَا يُجْدِي شَيْئًا فِي دَفْعِ مَا ذَكَرَهُ أَوَّلًا؛ لِأَنَّ زِيَادَةَ الْإِفَادَةِ إِنَّمَا تَقْتَضِي أَنْ لَا يَقْتَصِرَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ، بَلْ بِذَكَرِ مَجْمُوعِ مَا ذَكَرَ هُنَا وَمَا ذَكَرَ ثَمَّةَ وَلَا تَقْتَضِي أَنْ يَذْكُرَ بَعْضَهَا ثَمَّةَ وَبَعْضَهَا هُنَا فِي فَصْلٍ عَلَى حِدَةٍ فَبَقِيَ مُقْتَضَى الْقِيَاسِ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي أَوَّلِ كَلَامِهِ عَلَى حَالِهِ تَبَصَّرْ.

وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ وَالْعِنَايَةِ: ذَكَرَ فِي هَذَا الْفَصْلِ مَا لَمْ يَذْكُرْهُ فِي أَوَّلِ الْمُضَارَبَةِ مِنْ أَفْعَالِ الْمُضَارِبِ زِيَادَةً لِلْإِفَادَةِ وَتَنْبِيهًا عَلَى مَقْصُودِيَّةِ أَفْعَالِ الْمُضَارِبِ بِالْإِعَادَةِ، انْتَهَى.

أَقُولُ: لَا يُرَدُّ عَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ مَا يُرَدُّ عَلَى ذَلِكَ وَلَكِنْ فِيهِ شَيْءٌ آخَرُ يَجِبُ حَلُّهُ، وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ: وَتَنْبِيهًا عَلَى مَقْصُودِيَّةِ أَفْعَالِ الْمُضَارِبِ بِالْإِعَادَةِ يُنَافِي فِي الظَّاهِرِ قَوْلَهُ ذَكَرَهُ فِي هَذَا الْفَصْلِ، مَا لَمْ يَذْكُرْهُ فِي أَوَّلِ الْمُضَارَبَةِ مِنْ أَفْعَالِ الْمُضَارِبِ؛ لِأَنَّ الْإِعَادَةَ تَقْتَضِي الذِّكْرَ مَرَّةً أُولَى، وَقَدْ قَالَ أَوَّلًا مَا لَمْ يَذْكُرْهُ فِي أَوَّلِ الْمُضَارَبَةِ مِنْ أَفْعَالِ الْمُضَارِبِ. وَحَلُّ ذَلِكَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِعَادَةِ إِعَادَةُ جِنْسِ أَفْعَالِ الْمُضَارِبِ لَا إِعَادَةَ خُصُوصِ مَا ذَكَرَ هَاهُنَا، وَإِعَادَةُ جِنْسِهَا إِنَّمَا تَقْتَضِي ذِكْرَ جِنْسِهَا مَرَّةً أُولَى لَا ذِكْرَ خُصُوصَ مَا يُعَادُ مِنْ جِنْسِهَا.

ص: 472

الْمُضَارَبَةِ بِمَالِهِ أَوْ بِمَالِ غَيْرِهِ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ رَضِيَ بِشَرِكَتِهِ لَا بِشَرِكَةِ غَيْرِهِ، وَهُوَ أَمْرٌ عَارِضٌ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ التِّجَارَةُ فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ مُطْلَقِ الْعَقْدِ وَلَكِنَّهُ جِهَةٌ فِي التَّثْمِيرِ، فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ يُوَافِقُهُ فَيَدْخُلُ فِيهِ عِنْدَ وُجُودِ الدَّلَالَةِ وَقَوْلُهُ اعْمَلْ بِرَأْيِكَ دَلَالَةٌ عَلَى ذَلِكَ.

وَنَوْعٌ لَا يَمْلِكُهُ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ وَلَا بِقَوْلِهِ اعْمَلْ بِرَأْيِكَ إِلَّا أَنْ يَنُصَّ عَلَيْهِ رَبُّ الْمَالِ وَهُوَ الِاسْتِدَانَةُ، وَهُوَ أَنْ يَشْتَرِيَ بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ بَعْدَمَا اشْتَرَى بِرَأْسِ الْمَالِ السِّلْعَةَ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ يَصِيرُ الْمَالُ زَائِدًا عَلَى مَا انْعَقَدَ عَلَيْهِ الْمُضَارَبَةُ وَلَا يَرْضَى بِهِ وَلَا يَشْغَلُ ذِمَّتَهُ بِالدَّيْنِ، وَلَوْ أَذِنَ لَهُ رَبُّ الْمَالِ بِالِاسْتِدَانَةِ صَارَ الْمُشْتَرَى بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ بِمَنْزِلَةِ شَرِكَةِ الْوُجُوهِ وَأَخَذَ السَّفَاتِجَ لِأَنَّهُ نَوْعٌ مِنْ الِاسْتِدَانَةِ، وَكَذَا إِعْطَاؤُهَا لِأَنَّهُ إِقْرَاضٌ وَالْعِتْقُ بِمَالٍ وَبِغَيْرِ مَالٍ وَالْكِتَابَةُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِتِجَارَةٍ وَالْإِقْرَاضُ وَالْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ مَحْضٌ.

قَالَ (وَلَا يُزَوِّجُ عَبْدًا وَلَا أَمَةً مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ) وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُزَوِّجُ الْأَمَةَ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الِاكْتِسَابِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَسْتَفِيدُ بِهِ الْمَهْرَ وَسُقُوطَ النَّفَقَةِ. وَلَهُمَا أَنَّهُ لَيْسَ بِتِجَارَةٍ وَالْعَقْدُ لَا يَتَضَمَّنُ إِلَّا التَّوْكِيلَ بِالتِّجَارَةِ وَصَارَ كَالْكِتَابَةِ وَالْإِعْتَاقِ عَلَى مَالٍ فَإِنَّهُ اكْتِسَابٌ، وَلَكِنْ لَمَّا لَمْ يَكُنْ تِجَارَةً لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْمُضَارَبَةِ فَكَذَا هَذَا.

قَالَ (فَإِنْ دَفَعَ شَيْئًا مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ إِلَى رَبِّ الْمَالِ بِضَاعَةً فَاشْتَرَى رَبُّ الْمَالِ وَبَاعَ فَهُوَ عَلَى الْمُضَارَبَةِ)

فَلَا مُنَافَاةَ تَأَمَّلْ. (قَوْلُهُ: لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ رَضِيَ بِشَرِكَتِهِ لَا بِشَرِكَةِ غَيْرِهِ

إِلَخْ).

أَقُولُ: فِيهِ شَيْءٌ وَهُوَ أَنَّ هَذَا الدَّلِيلَ قَاصِرٌ عَنْ إِفَادَةِ تَمَّامِ الْمُدَّعَى؛ إِذْ لَا يَجْرِي فِي صُورَةِ خَلْطِ مَالِ الْمُضَارَبَةِ بِمَالِهِ وَهِيَ دَاخِلَةٌ أَيْضًا فِي الْمُدَّعَى، كَمَا تَرَى.

(قَوْلُهُ: فَإِنْ دَفَعَ شَيْئًا مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ إِلَى رَبِّ الْمَالِ بِضَاعَةً فَاشْتَرَى رَبُّ الْمَالِ وَبَاعَ فَهُوَ عَلَى الْمُضَارَبَةِ). قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَكَلَامُ الْمُصَنِّفِ يُوهِمُ اخْتِصَاصَ الْإِبْضَاعِ بِبَعْضِ الْمَالِ؛ حَيْثُ قَالَ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ الدَّلِيلَ لَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ كَوْنِهِ بَعْضًا أَوْ كُلًّا، وَبِهِ صَرَّحَ فِي الذَّخِيرَةِ وَالْمَبْسُوطِ، انْتَهَى.

أَقُولُ: الظَّاهِرُ فِي بَيَانِ إِيهَامِ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ اخْتِصَاصُ الْإِبْضَاعِ بِبَعْضِ الْمَالِ أَنْ يُقَالَ: حَيْثُ

ص: 473

وَقَالَ زُفَرٌ: تَفْسُدُ الْمُضَارَبَةُ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ مُتَصَرِّفٌ فِي مَالِ نَفْسِهِ فَلَا يَصْلُحُ وَكِيلًا فِيهِ فَيَصِيرُ مُسْتَرَدًّا وَلِهَذَا لَا تَصِحُّ إِذَا شَرَطَ الْعَمَلَ عَلَيْهِ ابْتِدَاءً. وَلَنَا أَنَّ التَّخْلِيَةَ فِيهِ قَدْ تَمَّتْ وَصَارَ التَّصَرُّفُ حَقًّا لِلْمُضَارِبِ فَيَصْلُحُ رَبُّ الْمَالِ وَكِيلًا عَنْهُ فِي التَّصَرُّفِ وَالْإِبْضَاعُ تَوْكِيلٌ مِنْهُ فَلَا يَكُونُ اسْتِرْدَادًا، بِخِلَافِ شَرْطِ الْعَمَلِ عَلَيْهِ فِي الِابْتِدَاءِ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ التَّخْلِيَةَ، وَبِخِلَافِ مَا إِذَا دَفَعَ الْمَالَ إِلَى رَبِّ الْمَالِ مُضَارَبَةً حَيْثُ لَا يَصِحُّ لِأَنَّ الْمُضَارَبَةَ تَنْعَقِدُ شَرِكَةً عَلَى مَالِ رَبِ الْمَالِ وَعَمَلِ الْمُضَارِبِ وَلَا مَالَ هَاهُنَا، فَلَوْ جَوَّزْنَاهُ يُؤَدِّي إِلَى قَلْبِ الْمَوْضُوعِ، وَإِذَا لَمْ تَصِحَّ بَقِيَ عَمَلُ رَبِّ الْمَالِ بِأَمْرِ الْمُضَارِبِ فَلَا تَبْطُلُ بِهِ الْمُضَارَبَةُ الْأُولَى.

قَالَ: (وَإِذَا عَمِلَ الْمُضَارِبُ فِي الْمِصْرِ

قَالَ شَيْئًا مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ، فَإِنَّ مَنْشَأَ الْإِيهَامِ إِنَّمَا هُوَ مَجْمُوعُ قَوْلِهِ: شَيْئًا مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ، لَا قَوْلُهُ: مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ فَقَطْ؛ لِجَوَازِ أَنْ يُرَادَ بِكَلِمَةٍ مِنَ الْبَيَانِ لَا التَّبْعِيضُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: فَإِنْ دَفَعَ مَا أَخَذَهُ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ إِلَى رَبِّ الْمَالِ بِضَاعَةً تَعَيَّنَ الْبَيَانُ وَارْتَفَعَ الْإِيهَامُ، كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى الْفَطِنِ بِخِلَافِ مَا إِذَا قَالَ: فَإِنْ دَفَعَ شَيْئًا مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ إِلَى رَبِّ الْمَالِ بِضَاعَةً فَإِنَّهُ قَرِيبٌ مِنَ التَّصْرِيحِ بِبَعْضِ الْمَالِ، كَمَا لَا يُشْتَبَهُ عَلَى ذِي فِطْرَةٍ سَلِيمَةٍ. وَعَنْ هَذَا قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: وَهَذَا اللَّفْظُ، كَمَا تَرَى يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمَدْفُوعُ إِلَى رَبِّ الْمَالِ بَعْضَ مَالِ الْمُضَارَبَةِ وَلَمْ يَقُلْ: حَيْثُ قَالَ: مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ.

وَأَمَّا صَاحِبُ الْكَافِي فَلَمَّا رَأَى لَفْظَ الْمُصَنَّفِ مُوهِمًا لِلِاخْتِصَاصِ بِإِبْضَاعِ بَعْضِ الْمَالِ غَيْرَهُ فَقَالَ: فَإِنْ دَفَعَ الْمُضَارِبُ مَالَ الْمُضَارَبَةِ أَوْ شَيْئًا مِنْهُ إِلَى رَبِّ الْمَالِ بِضَاعَةً وَاشْتَرَى رَبُّ الْمَالِ وَبَاعَ فَهِيَ مُضَارَبَةٌ بِحَالِهَا، انْتَهَى.

(قَوْلُهُ: وَقَالَ زُفَرُ: تَفْسُدُ الْمُضَارَبَةُ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ مُتَصَرِّفٌ فِي مَالِ نَفْسِهِ فَلَا يَصْلُحُ وَكِيلًا فِيهِ فَيَصِيرُ مُسْتَرَدًّا، وَلِهَذَا لَا تَصِحُّ إِذَا شَرَطَ الْعَمَلَ عَلَيْهِ ابْتِدَاءً). قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ: قَالَ زُفَرُ: رَبُّ

ص: 474

فَلَيْسَتْ نَفَقَتُهُ فِي الْمَالِ، وَإِنْ سَافَرَ فَطَعَامُهُ وَشَرَابُهُ وَكِسْوَتُهُ وَرُكُوبُهُ) وَمَعْنَاهُ شِرَاءٌ وَكِرَاءٌ فِي الْمَالِ.

وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ النَّفَقَةَ تَجِبُ بِإِزَاءِ الِاحْتِبَاسِ كَنَفَقَةِ الْقَاضِي وَنَفَقَةِ الْمَرْأَةِ، وَالْمُضَارِبُ فِي الْمِصْرِ سَاكِنٌ بِالسُّكْنَى الْأَصْلِيِّ، وَإِذَا سَافَرَ صَارَ مَحْبُوسًا بِالْمُضَارَبَةِ فَيَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ فِيهِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْأَجِيرِ لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْبَدَلَ لَا مَحَالَةَ فَلَا يَتَضَرَّرُ بِالْإِنْفَاقِ مِنْ مَالِهِ، أَمَّا الْمُضَارِبُ فَلَيْسَ لَهُ إِلَّا الرِّبْحُ وَهُوَ فِي حَيِّزِ التَّرَدُّدِ، فَلَوْ أَنْفَقَ مِنْ مَالِهِ يَتَضَرَّرُ بِهِ، وَبِخِلَافِ الْمُضَارَبَةِ الْفَاسِدَةِ لِأَنَّهُ أَجِيرٌ، وَبِخِلَافِ الْبِضَاعَةِ لِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ.

قَالَ (فَإِنْ بَقِيَ شَيْءٌ فِي يَدِهِ بَعْدَمَا قَدِمَ مِصْرَهُ رَدَّهُ فِي الْمُضَارَبَةِ) لِانْتِهَاءِ الِاسْتِحْقَاقِ، وَلَوْ كَانَ خُرُوجُهُ دُونَ السَّفَرِ فَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ يَغْدُو ثُمَّ يَرُوحُ فَيَبِيتُ بِأَهْلِهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ السُّوقِيِّ فِي الْمِصْرِ، وَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ لَا يَبِيتُ بِأَهْلِهِ فَنَفَقَتُهُ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ لِأَنَّ خُرُوجَهُ لِلْمُضَارَبَةِ، وَالنَّفَقَةُ هِيَ مَا يُصْرَفُ إِلَى الْحَاجَةِ الرَّاتِبَةِ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا، وَمِنْ ذَلِكَ غَسْلُ ثِيَابِهِ وَأُجْرَةُ أَجِيرٍ يَخْدُمُهُ وَعَلَفُ دَابَّةٍ يَرْكَبُهَا وَالدُّهْنُ فِي مَوْضِعٍ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ عَادَةً كَالْحِجَازِ، وَإِنَّمَا يُطْلَقُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ بِالْمَعْرُوفِ حَتَّى يَضْمَنَ الْفَضْلَ إِنْ جَاوَزَهُ اعْتِبَارًا لِلْمُتَعَارَفِ بَيْنَ التُّجَّارِ. قَالَ (وَأَمَّا الدَّوَاءُ فَفِي مَالِهِ) فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ.

وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّهُ يَدْخُلُ فِي النَّفَقَةِ لِأَنَّهُ لِإِصْلَاحِ بَدَنِهِ وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنَ التِّجَارَةِ إِلَّا بِهِ فَصَارَ كَالنَّفَقَةِ، وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ الْحَاجَةَ إِلَى النَّفَقَةِ مَعْلُومَةُ الْوُقُوعِ وَإِلَى الدَّوَاءِ بِعَارِضِ الْمَرَضِ، وَلِهَذَا كَانَتْ نَفَقَةُ الْمَرْأَةِ عَلَى

الْمَالِ تَصَرَّفَ فِي مَالِ نَفْسِهِ بِغَيْرِ تَوْكِيلٍ إِذَا لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ فَيَكُونُ مُسْتَرِدًّا لِلْمَالِ وَلِهَذَا لَا يَصْلُحُ اشْتِرَاطُ الْعَمَلِ عَلَيْهِ ابْتِدَاءً.

أَقُولُ: هَذَا الشَّرْحُ لَا يُطَابِقُ الْمَشْرُوحَ فَإِنَّ الظَّاهِرَ مِنْهُ أَنَّ عِلَّةَ فَسَادِ الْمُضَارَبَةِ عِنْدَ زُفَرَ فِي مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ كَوْنُ تَصَرُّفِ رَبِّ الْمَالِ فِي مَالِ نَفْسِهِ بِغَيْرِ تَوْكِيلٍ بِنَاءً عَلَى عَدَمِ تَصْرِيحِ الْمُضَارِبِ بِالتَّوْكِيلِ فَيُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ الْمُضَارِبَ لَوْ صَرَّحَ بِالتَّوْكِيلِ تَصِحُّ الْمُضَارَبَةُ عِنْدَهُ أَيْضًا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَالظَّاهِرُ مِنَ الشُّرُوحِ أَنَّ عِلَّةَ ذَلِكَ عِنْدَهُ كَوْنُ رَبِّ الْمَالِ مُتَصَرِّفًا فِي مَالِ نَفْسِهِ غَيْرُ صَالِحٍ لِأَنْ يَكُونَ وَكِيلًا فِيهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَرْءَ لَا يَصْلُحُ وَكِيلًا لِغَيْرِهِ فِيمَا يَعْمَلُ فِي مَلِكِ نَفْسِهِ، وَلَقَدْ أَفْصَحَ عَنْهُ صَاحِبُ الْكَافِي؛ حَيْثُ قَالَ: قَالَ زُفَرُ: تَفْسُدُ الْمُضَارَبَةُ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ مُتَصَرِّفٌ فِي مَالِ نَفْسِهِ فَلَا يَصْلُحُ وَكِيلًا فِيهِ، فَإِنَّ الْمَرْءَ فِيمَا يَعْمَلُ فِي مِلْكِهِ لَا يَصْلُحُ

ص: 475

الزَّوْجِ وَدَوَاؤُهَا فِي مَالِهَا. قَالَ (وَإِذَا رَبِحَ أَخَذَ رَبُّ الْمَالِ مَا أَنْفَقَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، فَإِنْ بَاعَ الْمَتَاعَ مُرَابَحَةً حَسَبَ مَا أَنْفَقَ عَلَى الْمَتَاعِ مِنِ الْحِمْلَانِ وَنَحْوِهِ، وَلَا يَحْتَسِبُ مَا أَنْفَقَ عَلَى نَفْسِهِ) لِأَنَّ الْعُرْفَ جَارٍ بِإِلْحَاقٍ الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي، وَلِأَنَّ الْأَوَّلَ يُوجِبُ زِيَادَةً فِي الْمَالِيَّةِ بِزِيَادَةِ الْقِيمَةِ وَالثَّانِيَ لَا يُوجِبُهَا.

قَالَ (فَإِنْ كَانَ مَعَهُ أَلْفٌ فَاشْتَرَى بِهَا ثِيَابًا فَقَصَّرَهَا أَوْ حَمَلَهَا بِمِائَةٍ مِنْ عِنْدِهِ وَقَدْ قِيلَ لَهُ اعْمَلْ بِرَأْيِكَ فَهُوَ مُتَطَوِّعٌ) لِأَنَّهُ اسْتِدَانَةٌ عَلَى رَبِّ الْمَالِ فَلَا يَنْتَظِمُهُ هَذَا الْمَقَالُ عَلَى مَا مَرَّ (وَإِنْ صَبَغَهَا أَحْمَرَ فَهُوَ شَرِيكٌ بِمَا زَادَ الصَّبْغُ فِيهِ وَلَا يَضْمَنُ) لِأَنَّهُ عَيْنُ مَالٍ قَائِمٍ بِهِ حَتَّى إِذَا بِيعَ كَانَ لَهُ حِصَّةُ الصَّبْغِ وَحِصَّةُ الثَّوْبِ الْأَبْيَضِ عَلَى الْمُضَارَبَةِ بِخِلَافِ الْقِصَارَةِ وَالْحَمْلِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِعَيْنِ مَالٍ قَائِمٍ بِهِ، وَلِهَذَا إِذَا فَعَلَهُ الْغَاصِبُ ضَاعَ وَلَا يَضِيعُ إِذَا صَبَغَ الْمَغْصُوبَ، وَإِذَا صَارَ شَرِيكًا بِالصَّبْغِ انْتَظَمَهُ قَوْلُهُ اعْمَلْ بِرَأْيِكَ انْتِظَامَهُ الْخُلْطَةَ فَلَا يَضْمَنُهُ.

وَكِيلًا لِغَيْرِهِ فَصَارَ مُسْتَرَدًّا، انْتَهَى.

(قَوْلُهُ: فَإِنْ كَانَ مَعَهُ أَلْفٌ فَاشْتَرَى بِهَا ثِيَابًا فَقَصَّرَهَا أَوْ حَمَلَهَا بِمِائَةٍ مِنْ عِنْدِهِ وَقَدْ قِيلَ لَهُ: اعْمَلْ بِرَأْيِكَ فَهُوَ مُتَطَوِّعٌ). قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَإِنَّمَا ذَكَرَهَا بَعْدَ مَا مَرَّ تَمْهِيدًا لِقَوْلِهِ وَإِنْ صَبَغَهَا أَحْمَرَ فَهُوَ شَرِيكٌ بِمَا زَادَ الصَّبْغُ.

أَقُولُ: هَذَا الْكَلَامُ مِنْهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ إِنْ أَرَادَ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مَرَّتْ بِعَيْنِهَا وَخُصُوصِهَا فَلَيْسَ كَذَلِكَ قَطْعًا، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهَا مَرَّتْ فِي ضِمْنِ الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ فِمَا مَرَّ؛ حَيْثُ انْدَرَجَتْ تَحْتَ النَّوْعِ الثَّالِثِ مِنْ ذَلِكَ الْأَصْلِ فَهُوَ مُسْلِمٌ وَلَكِنَّ الْمَسْأَلَةَ الثَّانِيَةَ أَيْضًا مَرَّتْ بِهَذَا الْمَعْنَى؛ حَيْثُ انْدَرَجَتْ تَحْتَ النَّوْعِ الثَّانِي مِنْ ذَلِكَ الْأَصْلِ فَلَا وَجْهَ لِجَعْلِ الْأُولَى تَمْهِيدًا لِلثَّانِيَةِ مَعَ الِاشْتِرَاكِ فِي الْمُرُورِ بِالْمَعْنَى الْمَزْبُورِ، بَلْ لَمْ تَكُنْ مَسْأَلَةٌ مِنْ مَسَائِلِ مَا يَفْعَلُهُ الْمُضَارِبُ خَارِجَةً مِنْ أَحَدِ أَنْوَاعِ ذَلِكَ الْأَصْلِ فَيَلْزَمُ التَّكْرَارُ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَلَى مَا زَعَمَهُ فَالْحَقُّ أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ مَقْصُورَةٌ بِالْبَيَانِ هَاهُنَا مِنْ حَيْثُ خُصُوصِيَّتُهُمَا كَسَائِرِ الْمَسَائِلِ، وَلَا يُنَافِيهِ انْدِرَاجُهُمَا تَحْتَ أَصْلٍ كُلِّيٍّ مَارٍّ، كَيْفَ وَتَفْرِيعُ الْفُرُوعِ عَلَى الْأُصُولِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ مَعَ أَنَّهُ الْمَسْلَكُ الْمُعْتَادُ فِي عَامَّةِ الْمَوَاقِعِ.

(قَوْلُهُ: وَإِذَا صَارَ شَرِيكًا بِالصَّبْغِ انْتَظَمَهُ قَوْلُهُ: اعْمَلْ بِرَأْيِكَ انْتِظَامَهُ الْخُلْطَةَ فَلَا يَضْمَنُهُ). قَالَ فِي الْعِنَايَةِ: فَإِنْ قِيلَ: الْمُضَارِبُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ لَهُ وِلَايَةُ الصَّبْغِ كَانَ بِهِ مُخَالِفًا غَاصِبًا فَيَجِبُ أَنْ يَضْمَنَ كَالْغَاصِبِ بِلَا تَفَاوُتٍ بَيْنَهُمَا.

أُجِيبُ بِأَنَّ الْكَلَامَ فِي مُضَارِبٍ قِيلَ لَهُ: اعْمَلْ بِرَأْيِكَ وَذَلِكَ يَتَنَاوَلُ الْخَلْطَ، وَبِالصَّبْغِ اخْتَلَطَ مَالُهُ بِمَالِ الْمُضَارِبِ فَصَارَ شَرِيكًا فَلَمْ يَكُنْ غَاصِبًا فَلَا يَضْمَنُ. وَقَالَ: وَبِهَذَا انْدَفَعَ مَا قِيلَ: الْمُضَارِبُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَأْذُونًا بِهَذَا الْفِعْلِ أَوْ غَيْرَ مَأْذُونٍ، فَإِنْ كَانَ مَأْذُونًا وَقَعَ عَلَى الْمُضَارَبَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ضِمْنَ الْمُضَارِبُ كَالْغَاصِبِ لِمَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ خَرَجَ عَنْ كَوْنِهِ غَاصِبًا لَكِنَّهُ لَمْ يَقَعْ عَلَى الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّ فِيهِ اسْتِدَانَةً عَلَى الْمَالِكِ وَلَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ ذَلِكَ، اهـ كَلَامُهُ.

أَقُولُ: فِي آخِرِ كَلَامِهِ اضْطِرَابٌ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ تَعْلِيلِ انْدِفَاعِ مَا قِيلَ بِقَوْلِهِ: لِمَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ خَرَجَ عَنْ

ص: 476

(فَصْلٌ آخَرٌ)

قَالَ (فَإِنْ كَانَ مَعَهُ أَلْفٌ بِالنِّصْفِ فَاشْتَرَى بِهَا بَزًّا فَبَاعَهُ بِأَلْفَيْنِ ثُمَّ اشْتَرَى بِالْأَلْفَيْنِ عَبْدًا فَلَمْ يَنْقُدْهُمَا حَتَّى

كَوْنِهِ غَاصِبًا، أَنَّهُ اخْتَارَ كَوْنَهُ غَيْرَ مَأْذُونٍ؛ لِأَنَّ كَوْنَهُ غَاصِبًا إِنَّمَا جُعِلَ فِيمَا قَبْلُ فَرْعًا لِكَوْنِهِ غَيْرَ مَأْذُونٍ: فَتَعْلِيلُ انْدِفَاعِ ذَلِكَ بِتَبَيُّنِ أَنَّهُ خَرَجَ عَنْ كَوْنِهِ غَاصِبًا يَقْتَضِي اخْتِيَارَ كَوْنِهِ غَيْرَ مَأْذُونٍ فَحِينَئِذٍ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى ذِكْرِ قَوْلِهِ: لَكِنَّهُ لَمْ يَقَعْ عَلَى الْمُضَارَبَةِ

إِلَخْ؛ لِأَنَّ وُقُوعَهُ عَلَى الْمُضَارَبَةِ إِنَّمَا جُعِلَ فِيمَا قَبْلُ فَرْعًا لِكَوْنِهِ مَأْذُونًا، فَإِذَا اخْتَارَ كَوْنَهُ غَيْرَ مَأْذُونٍ كَانَ اسْتِدْرَاكُ عَدَمِ وُقُوعِهِ عَلَى الْمُضَارَبَةِ مُسْتَدْرَكًا.

فَإِنْ قُلْتَ: مُرَادُهُ أَنَّ لِفِعْلِ الْمُضَارِبِ هَاهُنَا وَهُوَ صَبْغُهَا أَحْمَرَ جِهَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ أُولَاهُمَا خَلْطُ مَالِ الْمُضَارَبَةِ بِمَالِ نَفْسِهِ، وَثَانِيَتُهُمَا الِاسْتِدَانَةُ عَلَى الْمَالِكِ، وَأَنَّ الْمُضَارِبَ مَأْذُونٌ بِهَذَا الْفِعْلِ وَغَيْرُ مَأْذُونٍ بِاعْتِبَارِ تَيْنِكَ الْجِهَتَيْنِ الْمُخْتَلِفَتَيْنِ، كَمَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَفَصَّلَهُ بِمَا لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ.

قُلْتُ: مَعَ عَدَمِ مُسَاعَدَةِ آخِرِ كَلَامِ هَذَا الشَّارِحِ، وَلَا أَوَّلِهِ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: وَبِهَذَا انْدَفَعَ لِذَلِكَ التَّوْجِيهِ الَّذِي ذَكَرَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَفَصَّلَهُ لَيْسَ ذَلِكَ بِتَامٍّ فِي نَفْسِهِ؛ إِذْ لَا يُرَى وَجْهٌ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ لِفِعْلِ الْمُضَارِبِ هَذَا جِهَةُ الِاسْتِدَانَةِ عَلَى الْمَالِكِ عَلَى أَنَّ الْجِهَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ مُتَضَادَّتَانِ لَا يُمْكِنُ اجْتِمَاعُهُمَا فِي فِعْلٍ وَاحِدٍ حَتَّى يَصِيرَ الْمُضَارِبُ بِاعْتِبَارِهِمَا مَأْذُونًا فِي فِعْلِهِ هَذَا أَوْ غَيْرَ مَأْذُونٍ.

ثُمَّ أَقُولُ: الصَّوَابُ عِنْدِي فِي دَفْعِ مَا قِيلَ: الْمُضَارِبُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِهَذَا الْفِعْلِ مَأْذُونًا أَوْ غَيْرَ مَأْذُونٍ

إِلَخْ. أَنْ نَخْتَارَ كَوْنَهُ مَأْذُونًا بِهِ بِقَوْلِهِ: اعْمَلْ بِرَأْيِكَ وَيُمْنَعُ وُقُوعُهُ عَلَى الْمُضَارَبَةِ حِينَئِذٍ؛ إِذِ الْإِذْنُ الْمَذْكُورُ لَيْسَ بِمَقْصُورٍ عَلَى أَنْ يَتَصَرَّفَ الْمُضَارِبُ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ وَحْدَهُ، بَلْ يَعُمُّ التَّصَرُّفُ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ مُنْفَرِدًا أَوْ مُنْضَمًّا إِلَى غَيْرِهِ مِمَّا لَهُ جِهَةٌ فِي التَّثْمِيرِ كَخَلْطِ مَالِ الْمُضَارَبَةِ بِمَالِهِ أَوْ بِمَالِ غَيْرِهِ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي بَيَانِ النَّوْعِ الثَّانِي مِنَ الْأَصْلِ الْمَارِّ ذِكْرُهُ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ الْمُصَنِّفُ هَاهُنَا بِقَوْلِهِ: وَإِذَا صَارَ شَرِيكًا بِالصَّبْغِ انْتَظَمَهُ قَوْلُهُ: اعْمَلْ بِرَأْيِكَ انْتِظَامَهُ الْخُلْطَةِ فَلَا يَضْمَنُهُ تَدَبَّرْ.

(فَصْلٌ آخَرُ)

ص: 477

ضَاعَا يَغْرَمُ رَبُّ الْمَالِ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ وَالْمُضَارِبُ خَمْسَمِائَةٍ وَيَكُونُ رُبْعُ الْعَبْدِ لِلْمُضَارِبِ وَثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ عَلَى الْمُضَارَبَةِ) قَالَ: هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ حَاصِلُ الْجَوَابِ، لِأَنَّ الثَّمَنَ كُلَّهُ عَلَى الْمُضَارِبِ إِذْ هُوَ الْعَاقِدُ، إِلَّا أَنَّ لَهُ حَقَّ الرُّجُوعِ عَلَى رَبِّ الْمَالِ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ عَلَى مَا نُبَيِّنُ فَيَكُونُ عَلَيْهِ فِي الْأُجْرَةِ.

وَوَجْهُهُ أَنَّهُ لَمَّا نَضَّ الْمَالُ ظَهَرَ الرِّبْحُ وَلَهُ مِنْهُ وَهُوَ خَمْسُمِائَةٍ، فَإِذَا اشْتَرَى بِالْأَلْفَيْنِ عَبْدًا صَارَ مُشْتَرِيًا رُبْعَهُ لِنَفْسِهِ وَثَلَاثَةَ أَرْبَاعِهِ لِلْمُضَارَبَةِ عَلَى حَسَبِ انْقِسَامِ الْأَلْفَيْنِ، وَإِذَا ضَاعَتِ الْأَلْفَانِ وَجَبَ عَلَيْهِ الثَّمَنُ لِمَا بَيَّنَّاهُ، وَلَهُ الرُّجُوعُ بِثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ الثَّمَنِ عَلَى رَبِّ الْمَالِ لِأَنَّهُ وَكِيلٌ مِنْ جِهَتِهِ فِيهِ وَيَخْرُجُ نَصِيبُ الْمُضَارِبِ وَهُوَ الرُّبْعُ مِنَ الْمُضَارَبَةِ لِأَنَّهُ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ وَمَالُ الْمُضَارَبَةِ أَمَانَةٌ وَبَيْنَهُمَا مُنَافَاةٌ وَيَبْقَى ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْعَبْدِ عَلَى الْمُضَارَبَةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَا يُنَافِي الْمُضَارَبَةَ (وَيَكُونُ رَأْسُ الْمَالِ أَلْفَيْنِ وَخَمْسَمِائَةٍ) لِأَنَّهُ دَفَعَ مَرَّةً أَلْفًا وَمَرَّةً أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ (وَلَا يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً إِلَّا عَلَى أَلْفَيْنِ) لِأَنَّهُ اشْتَرَاهُ بِأَلْفَيْنِ، وَيَظْهَرُ ذَلِكَ فِيمَا إِذَا بِيعَ الْعَبْدُ بِأَرْبَعَةِ آلَافٍ فَحِصَّةُ الْمُضَارَبَةِ ثَلَاثَةُ آلَافٍ يَرْفَعُ رَأْسَ الْمَالِ وَيَبْقَى خَمْسُمِائَةٍ رِبْحٌ بَيْنَهُمَا.

قَالَ: (وَإِنْ كَانَ مَعَهُ أَلْفٌ فَاشْتَرَى رَبُّ الْمَالِ عَبْدًا بِخَمْسِمِائَةٍ وَبَاعَهُ إِيَّاهُ بِأَلْفٍ فَإِنَّهُ يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى خَمْسِمِائَةٍ) لِأَنَّ هَذَا الْبَيْعَ مَقْضِيٌّ بِجَوَازِهِ لِتَغَايُرِ الْمَقَاصِدِ دَفْعًا لِلْحَاجَةِ وَإِنْ كَانَ بِيعَ مِلْكُهُ بِمِلْكِهِ إِلَّا أَنَّ فِيهِ شُبْهَةَ الْعَدَمِ، وَمَبْنَى الْمُرَابَحَةِ عَلَى الْأَمَانَةِ وَالِاحْتِرَازِ عَنْ شُبْهَةِ الْخِيَانَةِ فَاعْتُبِرَ أَقَلُّ الثَّمَنَيْنِ، وَلَوِ اشْتَرَى الْمُضَارِبُ عَبْدًا بِأَلْفٍ وَبَاعَهُ مِنْ رَبِّ الْمَالِ بِأَلْفٍ وَمِائَتَيْنِ بَاعَهُ مُرَابَحَةً بِأَلْفٍ وَمِائَةٍ لِأَنَّهُ اعْتُبِرَ عَدَمًا فِي حَقِّ نِصْفِ الرِّبْحِ وَهُوَ نَصِيبُ رَبِّ الْمَالِ وَقَدْ مَرَّ فِي الْبُيُوعِ.

قَالَ: (فَإِنْ كَانَ مَعَهُ أَلْفٌ بِالنِّصْفِ فَاشْتَرَى بِهَا عَبْدًا قِيمَتُهُ أَلْفَانِ فَقَتَلَ الْعَبْدُ رَجُلًا خَطَأً فَثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْفِدَاءِ عَلَى رَبِّ الْمَالِ وَرُبْعُهُ عَلَى الْمُضَارِبِ) لِأَنَّ الْفِدَاءَ مُؤْنَةُ الْمِلْكِ فَيُتَقَدَّرُ بِقَدْرِ الْمِلْكِ وَقَدْ كَانَ الْمِلْكُ بَيْنَهُمَا أَرْبَاعًا، لِأَنَّهُ لَمَّا صَارَ الْمَالُ عَيْنًا

لَمَّا كَانَتْ مَسَائِلُ هَذَا الْفَصْلِ مُتَفَرِّقَةً ذَكَرَهَا فِي فَصْلٍ عَلَى حِدَةٍ، وَلَمَّا لَمْ تَكُنْ مِنْ نَفْسِ مَسَائِلِ الْمُضَارَبَةِ الَّتِي لَا بُدَّ مِنْهَا

ص: 478

وَاحِدًا ظَهَرَ الرِّبْحُ وَهُوَ أَلْفٌ بَيْنَهُمَا وَأَلْفٌ لِرَبِّ الْمَالِ بِرَأْسِ مَالِهِ لِأَنَّ قِيمَتَهُ أَلْفَانِ، وَإِذَا فَدَيَا خَرَجَ الْعَبْدُ عَنِ الْمُضَارَبَةِ، أَمَّا نَصِيبُ الْمُضَارِبِ فَلَمَّا بَيَّنَّاهُ، وَأَمَّا نَصِيبُ رَبِّ الْمَالِ فَلِقَضَاءِ الْقَاضِي بِانْقِسَامِ الْفِدَاءِ عَلَيْهِمَا لِمَا أَنَّهُ يَتَضَمَّنُ قِسْمَةَ الْعَبْدِ بَيْنَهُمَا وَالْمُضَارَبَةُ تَنْتَهِي بِالْقِسْمَةِ، بِخِلَافٍ مَا تَقَدَّمَ لِأَنَّ جَمِيعَ الثَّمَنِ فِيهِ عَلَى الْمُضَارِبِ وَإِنْ كَانَ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى الْقِسْمَةِ، وَلِأَنَّ الْعَبْدَ كَالزَّائِلِ عَنْ مِلْكِهِمَا بِالْجِنَايَةِ، وَدَفْعُ الْفِدَاءِ كَابْتِدَاءِ الشِّرَاءِ فَيَكُونُ الْعَبْدُ بَيْنَهُمَا أَرْبَاعًا لَا عَلَى الْمُضَارَبَةِ يَخْدُمُ الْمُضَارِبَ يَوْمًا وَرَبَّ الْمَالِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ

قَالَ: (فَإِنْ كَانَ مَعَهُ أَلْفٌ فَاشْتَرَى بِهَا عَبْدًا فَلَمْ يَنْقُدْهَا حَتَّى هَلَكَتْ يَدْفَعُ رَبُّ الْمَالِ ذَلِكَ الثَّمَنَ وَرَأْسُ الْمَالِ جَمِيعُ مَا يَدْفَعُ إِلَيْهِ رَبُّ الْمَالِ) لِأَنَّ الْمَالَ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ وَلَا يَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا، وَالِاسْتِيفَاءُ إِنَّمَا يَكُونُ بِقَبْضٍ مَضْمُونٍ وَحُكْمُ الْأَمَانَةِ يُنَافِيهِ فَيَرْجِعُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، بِخِلَافِ الْوَكِيلِ إِذَا كَانَ الثَّمَنُ مَدْفُوعًا إِلَيْهِ قَبْلَ الشِّرَاءِ وَهَلَكَ بَعْدَ الشِّرَاءِ حَيْثُ لَا يَرْجِعُ إِلَّا مَرَّةً لِأَنَّهُ أَمْكَنَ جَعْلُهُ. مُسْتَوْفِيًا، لِأَنَّ الْوَكَالَةَ تُجَامِعُ الضَّمَانَ كَالْغَاصِبِ إِذَا تَوَكَّلَ بِبَيْعِ الْمَغْصُوبِ،

لِلْمُضَارَبَةِ أَخَّرَ ذِكْرَهَا. (قَوْلُهُ: بِخِلَافِ الْوَكِيلِ إِذَا كَانَ الثَّمَنُ مَدْفُوعًا إِلَيْهِ قَبْلَ الشِّرَاءِ وَهَلَكَ بَعْدَ الشِّرَاءِ؛ حَيْثُ لَا يَرْجِعُ إِلَّا مَرَّةً؛ لِأَنَّهُ أَمْكَنَ جَعْلُهُ مُسْتَوْفِيًا؛ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ تُجَامِعُ الضَّمَانَ كَالْغَاصِبِ إِذَا تَوَكَّلَ بِبَيْعِ الْمَغْصُوبِ)، يَعْنِي: أَنَّ الْغَاصِبَ إِذَا تَوَكَّلَ بِبَيْعِ الْمَغْصُوبِ

ص: 479

ثُمَّ فِي الْوَكَالَةِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ يَرْجِعُ مَرَّةً، وَفِيمَا إِذَا اشْتَرَى ثُمَّ دَفَعَ الْمُوَكِّلُ إِلَيْهِ الْمَالَ فَهَلَكَ لَا يَرْجِعُ لِأَنَّهُ ثَبَتَ لَهُ حَقُ الرُّجُوعِ بِنَفْسِ الشِّرَاءِ فَجُعِلَ مُسْتَوْفِيًا بِالْقَبْضِ بَعْدَهُ، أَمَّا الْمَدْفُوعُ إِلَيْهِ قَبْلَ الشِّرَاءِ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ وَهُوَ قَائِمٌ عَلَى الْأَمَانَةِ بَعْدَهُ فَلَمْ يَصِرْ مُسْتَوْفِيًا، فَإِذَا هَلَكَ رَجَعَ عَلَيْهِ مَرَّةً ثُمَّ لَا يَرْجِعُ لِوُقُوعِ الِاسْتِيفَاءِ عَلَى مَا مَرَّ

يَصِيرُ وَكِيلًا وَلَا يَبْرَأُ عَنِ الضَّمَانِ بِمُجَرَّدِ الْوَكَالَةِ، حَتَّى لَوْ هَلَكَ الْمَغْصُوبُ وَجَبَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ وَلَمْ يُعْتَبَرْ أَمِينًا. قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ هَذَا الْبَيَانِ: وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ هُنَاكَ بِاعْتِبَارِ سَبَبٍ هُوَ تَعَدٍّ قَدْ تَقَدَّمَ عَلَى قَبْضِ الْأَمَانَةِ فَيَجُوزُ أَنْ يُعْتَبَرَا جَمِيعًا، وَلَيْسَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ سَبَبٌ سِوَى الْقَبْضِ بِطَرِيقِ الْوَكَالَةِ، وَلَا نُسَلِّمُ صَلَاحِيَتَهُ لِإِثْبَاتِ حُكْمَيْنِ مُتَنَافِيَيْنِ. ثُمَّ قَالَ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ مَقْصُودَ الْمُصَنِّفِ دَفْعُ اسْتِحَالَةِ اجْتِمَاعِهِمَا، وَأَمَّا كَوْنُهُ مُسْتَوْفِيًا فَثَابِتٌ بِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنِ الْمُوَكِّلِ فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يُجْعَلْ مُسْتَوْفِيًا لَبَطَلَ حَقُّ الْمُوَكِّلِ إِذَا رَجَعَ عَلَيْهِ بِأَلْفٍ أُخْرَى أَصْلًا.

فَأَمَّا هَاهُنَا فَحَقُّ رَبِّ الْمَالِ لَا يَضِيعُ؛ لِأَنَّهُ يَلْحَقُ بِرَأْسِ الْمَالِ وَيَسْتَوْفِيهِ مِنَ الرِّبْحِ، وَحَمْلُهُ عَلَى الِاسْتِيفَاءِ يَضُرُّ الْمُضَارِبَ فَاخْتَرْنَا أَهْوَنَ الْأَمْرَيْنِ، بِخِلَافِ الْوَكِيلِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْبَائِعِ فَضَرَرُهُ بِهَلَاكِ الثَّمَنِ لَا يُوجِبُ الرُّجُوعَ عَلَى الْمُشْتَرِي، انْتَهَى.

أَقُولُ: فِي الْجَوَابِ نَظَرٌ: أَمَّا أَوَّلًا: فَلِأَنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ: " لِأَنَّهُ أَمْكَنَ جَعْلُهُ مُسْتَوْفِيًا؛ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ تُجَامِعُ الضَّمَانَ، كَالْغَاصِبِ إِذَا تَوَكَّلَ بِبَيْعِ الْمَغْضُوبِ"، صَرِيحٌ فِي إِثْبَاتِ إِمْكَانِ جَعْلِهِ مُسْتَوْفِيًا بِمُجَامَعَةِ الْوَكَالَةِ الضَّمَانُ فِي صُورَةِ تَوَكُّلِ الْغَاصِبِ بِبَيْعِ الْمَغْصُوبِ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: مَقْصُودُهُ مُجَرَّدُ دَفْعِ اسْتِحَالَةِ اجْتِمَاعِهِمَا. وَلَئِنْ سُلِّمَ ذَلِكَ فَلَا يَنْدَفِعُ بِهِ النَّظَرُ الْمَذْكُورُ؛ لِأَنَّ حَاصِلَهُ أَنَّ السَّبَبَ فِي صُورَةِ تَوْكِيلِ الْغَاصِبِ بِبَيْعٍ الْمَغْصُوبِ مُتَعَدِّدٌ، وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ وَاحِدٌ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ إِمْكَانِ اجْتِمَاعِهِمَا هُنَاكَ إِمْكَانُ اجْتِمَاعِهِمَا هَاهُنَا.

وَأَمَا ثَانِيًا: فَلِأَنَّ قَوْلَهُ: وَأَمَّا كَوْنُهُ مُسْتَوْفِيًا فَثَابِتٌ بِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنِ الْمُوكِّلِ لَيْسَ بِتَامٍّ؛ لِأَنَّ الضَّرَرَ اللَّازِمَ لِلْمُوَكَّلِ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ الْوَكِيلُ بِأَلْفٍ أُخْرَى إِنَّمَا هُوَ الضَّرَرُ الضَّرُورِيُّ الْغَيْرُ النَّاشِئِ مِنْ صُنْعِ الْوَكِيلِ؛ إِذِ الْكَلَامُ فِيمَا إِذَا هَلَكَ الثَّمَنُ الْمَدْفُوعُ إِلَى الْوَكِيلِ مِنْ غَيْرِ تَعَدٍّ مِنْهُ وَلَا مَحْذُورَ شَرَعًا فِي مِثْلِ هَذَا الضَّرَرِ حَتَّى يَجْعَلَ الْمُوكِّلَ مُسْتَوْفِيًا لِأَجْلِ دَفْعِ ذَلِكَ عَنْهُ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ مَعَ كَوْنِ يَدِهِ يَدَ أَمَانَةٍ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَدِيعَةَ إِذَا هَلَكَتْ فِي يَدِ الْمُودَعِ مِنْ غَيْرِ تَعَدٍّ مِنْهُ يَلْزَمُ الْمُودَعَ مِثْلُ هَذَا الضَّرَرِ مَعَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْمُودِعِ الضَّمَانُ لِدَفْعِ ذَلِكَ عَنِ الْمُوَدَعِ بِلَا رَيْبٍ.

وَأَمَّا ثَالِثًا: فَلِأَنَّ قَوْلَهُ: "وَأَمَّا هَاهُنَا فَحَقُّ رَبِّ الْمَالِ لَا يَضِيعُ"، إِلَى قَوْلِهِ:"فَاخْتَرْنَا"، أَهْوَنُ الْأَمْرَيْنِ غَيْرُ مُتَمَشٍّ فِيمَا إِذَا هَلَكَ الْأَلْفُ وَالْعَبْدُ مَعًا؛ إِذْ لَا يَبْقَى حِينَئِذٍ شَيْءٌ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ حَتَّى يَلْحَقَ الْهَالِكَ مِنْهُ فَيَسْتَوْفِيهِ رَبُّ الْمَالِ مِنَ الرِّبْحِ.

وَالظَّاهِرُ أَنَّ جَوَابَ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ دَفْعُ رَبِّ الْمَالِ الثَّمَنَ الْهَالِكَ وَرُجُوعُ الْمُضَارِبِ عَلَيْهِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى جَارٍ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَيْضًا بِنَاءً عَلَى الدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ. قَالَ فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ: ذَكَرَ الْإِمَامُ الْمَحْبُويِىُّ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْمُضَارِبِ وَالْوَكِيلِ: أَحَدُهُمَا مَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ. وَالثَّانِي: أَنَّا لَوْ لَمْ نَحْمِلْ مَا قَبَضَهُ الْوَكِيلُ عَلَى الِاسْتِيفَاءِ لَأَبْطَلْنَا حَقَّ الْمُوَكِّلِ أَصْلًا؛ لِأَنَّهُ إِذَا رَجَعَ عَلَيْهِ بِأَلْفٍ أُخْرَى ضَاعَ ذَلِكَ أَصْلًا، فَأَمَّا هَاهُنَا فَحَقُّ رَبِّ الْمَالِ لَا يَضِيعُ إِذَا حَمَلْنَا عَلَى الْأَمَانَةِ؛ لِأَنَّهُ يَلْحَقُ بِرَأْسِ الْمَالِ وَيَسْتَوْفِيهِ مِنَ الرِّبْحِ. وَلَوْ حُمِلَ عَلَى الِاسْتِيفَاءِ يَلْحَقُ الْمُضَارِبَ ضَرَرٌ فَوَجَبَ اخْتِيَارُ أَهْوَنِ الْأَمْرَيْنِ. وَالثَّالِثُ أَنَّ الْوَكِيلَ لَمَّا اشْتَرَى فَقَدِ انْعَزَلَ عَنِ الْوَكَالَةِ فَلَا يَرْجِعُ عَلَى الْمُوكِّلِ بَعْدَهُ، فَأَمَّا الْمُضَارِبُ فَلَا يَنْعَزِلُ بِالشِّرَاءِ وَيَتَصَرَّفُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ لِرَبِّ الْمَالِ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ فِي كُلِّ مَرَّةٍ، انْتَهَى.

أَقُولُ: فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْأَوْجُهِ الثَّلَاثَةِ نَظَرٌ. أَمَّا فِي الْأَوَّلِ فَلِمَا عَرَفْتَهُ آنِفًا: وَأَمَّا فِي الثَّانِي وَالثَّالِثِ فَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَقْتَضِي أَنْ لَا يَرْجِعَ

ص: 480

(فَصْلٌ فِي الِاخْتِلَافِ)

قَالَ: (وَإِنْ كَانَ مَعَ الْمُضَارِبِ أَلْفَانِ فَقَالَ: دَفَعْتُ إِلَيَّ أَلْفًا وَرَبِحْتُ أَلْفًا وَقَالَ رَبُّ الْمَالِ: لَا بَلْ دَفَعْتُ إِلَيْكَ أَلْفَيْنِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُضَارِبِ) وَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: أَوَّلًا الْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ، لِأَنَّ الْمُضَارِبَ يَدَّعِي عَلَيْهِ الشَّرِكَةَ فِي الرِّبْحِ وَهُوَ يُنْكِرُ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي الْحَقِيقَةِ فِي مِقْدَارِ الْمَقْبُوضِ وَفِي مِثْلِهِ الْقَوْلُ قَوْلُ الْقَابِضِ ضَمِينًا كَانَ أَوْ أَمِينًا لِأَنَّهُ أَعْرَفُ بِمِقْدَارِ الْمَقْبُوضِ، وَلَوِ اخْتَلَفَا مَعَ ذَلِكَ فِي مِقْدَارِ الرِّبْحِ فَالْقَوْلُ فِيهِ لِرَبِّ الْمَالِ لِأَنَّ الرِّبْحَ يُسْتَحَقُّ بِالشَّرْطِ وَهُوَ يُسْتَفَادُ مِنْ جِهَتِهِ، وَأَيُّهُمَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى مَا ادَّعَى مِنْ فَضْلٍ قُبِلَتْ لِأَنَّ الْبَيِّنَاتِ لِلْإِثْبَاتِ (وَمَنْ كَانَ مَعَهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَقَالَ: هِيَ مُضَارَبَةٌ لِفُلَانٍ بِالنِّصْفِ وَقَدْ رَبِحَ أَلْفًا وَقَالَ فُلَانٌ: هِيَ بِضَاعَةٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ) لِأَنَّ الْمُضَارِبَ يَدَّعِي عَلَيْهِ تَقْوِيمَ عَمَلِهِ أَوْ شَرْطًا مِنْ جِهَتِهِ أَوْ يَدَّعِي الشَّرِكَةَ وَهُوَ يُنْكِرُ، وَلَوْ قَالَ الْمُضَارِبُ: أَقْرَضْتَنِي وَقَالَ رَبُّ الْمَالِ: هُوَ بِضَاعَةٌ أَوْ وَدِيعَةٌ فَالْقَوْلُ لِرَبِّ الْمَالِ وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُضَارِبِ،

الْوَكِيلُ عَلَى الْمُوَكِّلِ فِي مَرَّةٍ أُولَى أَيْضًا إِذَا كَانَ الثَّمَنُ مَدْفُوعًا إِلَيْهِ قَبْلَ الشِّرَاءِ مَعَ أَنَّهُمْ صَرَّحُوا بِرُجُوعِهِ عَلَيْهِ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى فِي تِلْكَ الصُّورَةِ. أَمَّا اقْتِضَاءُ الثَّانِي ذَلِكَ فَلِأَنَّ إِبْطَالَ حَقِّ الْمُوَكِّلِ يَتَحَقَّقُ بِالرُّجُوعِ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى أَيْضًا لِعِلَّةٍ مَذْكُورَةٍ.

وَأَمَّا اقْتِضَاءُ الثَّالِثِ إِيَّاهُ فَلِأَنَّ انْعِزَالَ الْوَكِيلِ عَنِ الْوَكَالَةِ لَمَّا تَحَقَّقَ بِالِاشْتِرَاءِ كَانَ الرُّجُوعُ بِالْهَلَاكِ بَعْدَ الِاشْتِرَاءِ رُجُوعًا بِمَا حَدَثَ بَعْدَ زَوَالِ الْأَمَانَةِ بِالِانْعِزَالِ وَلَوْ كَانَ فِي مَرَّةٍ أُولَى.

وَأَيْضًا يُرَدُّ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي مَا أَوْرَدْنَاهُ ثَانِيًا وَثَالِثًا عَلَى جَوَابِ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ عَنْ نَظَرِهِ تَأَمَّلْ تَقَفَّ. ثُمَّ أَقُولُ: "الْحَقُّ عِنْدِي فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْمُضَارِبِ وَالْوَكِيلِ فِي مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ أَنْ يُقَالَ: قَبْضُ الْوَكِيلِ بَعْدَ الشِّرَاءِ اسْتِيفَاءٌ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ لَهُ عَلَى الْمُوكِّلِ مِثْلُ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ لِلْبَائِعِ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْبَائِعِ مِنَ الْمُوَكِّلِ؛ حَيْثُ انْعَقَدَ بَيْنَهُمَا مُبَادَلَةٌ حُكْمِيَّةٌ كَمَا مَرَّ فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ، فَإِذَا قَبَضَ الثَّمَنَ بَعْدَ الشِّرَاءِ صَارَ مُسْتَوْفِيًا لَهُ فَصَارَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ، فَإِذَا هَلَكَ بَعْدُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ عَلَى الْمُوَكِّلِ وَلِهَذَا لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ أَصْلًا فِيمَا إِذَا اشْتَرَى ثُمَّ دَفَعَ الْمُوَكِّلُ إِلَيْهِ الثَّمَنَ فَهَلَكَ وَلَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ إِلَّا مَرَّةً فِيمَا إِذَا كَانَ الثَّمَنُ مَدْفُوعًا إِلَيْهِ قَبْلَ الشِّرَاءِ أَمَانَةً فِي يَدِهِ وَهَلَكَ بَعْدَ الشِّرَاءِ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ: لِأَنَّهُ ثَبَتَ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ بِنَفْسِ الشِّرَاءِ فَجُعِلَ مُسْتَوْفِيًا بِالْقَبْضِ بَعْدَهُ، أَمَّا الْمَدْفُوعُ إِلَيْهِ قَبْلَ الشِّرَاءِ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ وَهُوَ قَائِمٌ عَلَى الْأَمَانَةِ بَعْدَهُ فَلَمْ يَصِرْ مُسْتَوْفِيًا، فَإِذَا هَلَكَ رَجَعَ عَلَيْهِ مَرَّةً، ثُمَّ لَا يَرْجِعُ لِوُقُوعِ الِاسْتِيفَاءِ عَلَى مَا مَرَّ فَتَأَمَّلْ.

(فَصْلٌ فِي الِاخْتِلَافِ)

أَيْ فِي الِاخْتِلَافِ بَيْنَ رَبِّ الْمَالِ وَالْمُضَارِبِ

أَخَّرَ هَذَا الْفَصْلَ؛ لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي الرُّتْبَةِ بَعْدَ الِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ.

(قَوْلُهُ: وَلَوْ قَالَ الْمُضَارِبُ: أَقْرَضْتَنِي وَقَالَ رَبُّ الْمَالِ: هُوَ بِضَاعَةٌ أَوْ وَدِيعَةٌ، فَالْقَوْلُ: رَبُّ الْمَالِ وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُضَارِبِ). قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَسَمَّاهُ مُضَارِبًا وَإِنِ اتَّفَقَا عَلَى عَدَمِهِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ مُضَارِبًا فِي الْأَوَّلِ ثُمَّ أَقْرَضَهُ، اهـ. وَقَدْ سَبَقَهُ إِلَى هَذَا التَّوْجِيهِ تَاجُ الشَّرِيعَةِ.

أَقُولُ: تَسْمِيَةُ حَدِّ الْمُتَخَالِفَيْنَ مُضَارِبًا عِنْدَ تَحَقُّقِ اتِّفَاقِهِمَا عَلَى خِلَافِهِ بِمُجَرَّدِ احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ مُضَارِبًا فِي الْأَوَّلِ مِمَّا لَا يَقْبَلُهُ فِطْرَةٌ سَلِيمَةٌ جِدًّا

ص: 481

لِأَنَّ الْمُضَارِبَ يَدَّعِي عَلَيْهِ التَّمَلُّكَ وَهُوَ يُنْكِرُ. وَلَوِ ادَّعَى رَبُّ الْمَالِ الْمُضَارَبَةَ فِي نَوْعٍ وَقَالَ الْآخَرُ: مَا سَمَّيْتَ لِي تِجَارَةً بِعَيْنِهَا فَالْقَوْلُ لِلْمُضَارِبِ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ الْعُمُومُ وَالْإِطْلَاقُ، وَالتَّخْصِيصُ يُعَارِضُ الشَّرْطَ، بِخِلَافِ الْوَكَالَةِ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ الْخُصُوصُ. وَلَوِ ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَوْعًا فَالْقَوْلُ لِرَبِّ الْمَالِ لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى التَّخْصِيصِ، وَالْإِذْنُ

وَالْأَقْرَبُ عِنْدِي أَنَّهُ سَمَّاهُ مُضَارِبًا لِلْمُشَاكَلَةِ بِمَا ذَكَرَ فِي أَخَوَاتِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى طَرِيقَةِ قَوْله تَعَالَى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} وَقَوْلِ الشَّاعِرِ:

قَالُوا: اقْتَرِحْ شَيْئًا نُجِدْ لَكَ طَبْخَهُ

قُلْتُ اطْبُخُوا لِي جُبَّةً وَقَمِيصًا

(قَوْلُهُ: لِأَنَّ الْمُضَارِبَ يَدَّعِي عَلَيْهِ التَّمَلُّكَ) حَمَلَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ التَّمَلُّكَ فِي قَوْلِ الْمُصَنِّفِ يَدَّعِي عَلَيْهِ التَّمَلُّكَ عَلَى تَمَلُّكِ الرِّبْحِ؛ حَيْثُ قَالَ هَذَا، أَيْ: تَمَلُّكَ الرِّبْحِ، وَسَلَكَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ أَيْضًا هَذَا الْمَسْلَكَ؛ حَيْثُ قَالَ: لِأَنَّهُ يَدَّعِي تَمَلُّكَ الرِّبْحِ.

أَقُولُ: الظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ بِالتَّمَلُّكِ هَاهُنَا تَمَلُّكُ أَصْلِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ دَعْوَى الِاسْتِقْرَاضِ دَعْوَى تَمَلُّكِ أَصْلِ الْمَالِ وَأَمَّا تَمَلُّكُ الرِّبْحِ فَأَمْرٌ تَابِعٌ لِتَمَلُّكِ أَصْلِ الْمَالِ فِي هَذِهِ الدَّعْوَى، فَحَمْلُ التَّمَلُّكِ هَاهُنَا عَلَى تَمَلُّكِ الرِّبْحِ لَا يَخْلُو عَنْ قُبْحٍ.

أَمَّا أَوَّلًا: فَلِمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ مِنْ أَنَّ الْأَصْلَ فِي دَعْوَى الِاسْتِقْرَاضِ دَعْوَى تَمَلُّكِ أَصْلِ الْمَالِ وَتَمَلُّكُ الرِّبْحِ مِنْ فُرُوعِ ذَلِكَ، وَحَمْلُ التَّمَلُّكِ فِي الدَّلِيلِ عَلَى تَمَلُّكِ الرِّبْحِ يُوهِمُ خِلَافَ الْأَصْلِ.

وَأَمَّا ثَانِيًا: فَلِأَنَّ دَعْوَى تَمَلُّكِ الرِّبْحِ قَدْ تَنْفَكُّ عَنْ دَعْوَى تَمَلُّكِ أَصْلِ الْمَالِ، كَمَا إِذَا ادَّعَى الْمُضَارَبَةَ، فَإِنَّ الْمُدَّعَى هُنَاكَ اسْتِحْقَاقُ الرِّبْحِ دُونَ اسْتِحْقَاقِ أَصْلِ الْمَالِ فَادِّعَاءُ مُجَرَّدِ تَمَلُّكِ الرِّبْحِ لَا يَدُلُّ عَلَى تَمَامِ الْمُدَّعَى فِيمَا نَحْنُ فِيهِ، عَلَى أَنَّ الشَّائِعَ فِي الِاسْتِعْمَالِ عِنْدَهُمُ اسْتِحْقَاقُ الرِّبْحِ دُونَ تَمَلُّكِ الرِّبْحِ.

وَأَمَّا تَمْلِيكُ الرِّبْحِ، كَمَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فَفِي نَفْسِ صِحَّتِهِ أَيْضًا إِشْكَالٌ يَظْهَرُ ذَلِكَ

ص: 482

يُسْتَفَادُ مِنْ جِهَتِهِ، وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُضَارِبِ لِحَاجَتِهِ إِلَى نَفْيِ الضَّمَانِ وَعَدَمِ حَاجَةِ الْآخَرِ إِلَى الْبَيِّنَةِ، وَلَوْ وَقَّتَتِ الْبَيِّنَتَانِ وَقْتًا فَصَاحِبُ الْوَقْتِ الْأَخِيرِ أَوْلَى لِأَنَّ آخِرَ الشَّرْطَيْنِ يَنْقُضُ الْأَوَّلَ.

كُلُّهُ بِالتَّأَمُّلِ الصَّادِقِ وَتَتَبُّعِ قَوَاعِدِ الْفِقْهِ وَأَقْوَالِ الْأَئِمَّةِ. (قَوْلُهُ: وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُضَارِبِ لِحَاجَتِهِ إِلَى نَفْيِ الضَّمَانِ وَعَدَمِ حَاجَةِ الْآخَرِ إِلَى الْبَيِّنَةِ). قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: وَرَبُّ الْمَالِ أَيْضًا مُحْتَاجٌ إِلَى إِثْبَاتِ مَا ادَّعَاهُ لِيَصِلَ حَقُّهُ إِلَيْهِ، بَلْ بَيِّنَةُ رَبِّ الْمَالِ أَقْوَى بِالْقَبُولِ لِإِثْبَاتِهَا أَمْرًا عَارِضًا وَهُوَ الضَّمَانُ، وَشَرْعِيَّةُ الْبَيِّنَاتِ لِإِثْبَاتِ الْأَمْرِ الْعَارِضِ غَيْرِ الظَّاهِرِ، كَمَا فِي بَيِّنَةِ الْخَارِجِ مَعَ بَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ فَكَانَ هَذَا مِمَّا يُتَأَمَّلُ فِي صِحَّتِهِ، وَإِنْ كَانَتْ رِوَايَةُ الْإِيضَاحِ تُسَاعِدُهُ أَيْضًا، اهـ كَلَامُهُ.

وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: قَالَ الْمُصَنِّفُ: لِحَاجَتِهِ إِلَى نَفْيِ الضَّمَانِ وَعَدَمِ حَاجَةِ الْآخَرِ إِلَى الْبَيِّنَةِ. وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ الْبَيِّنَةَ لِلْإِثْبَاتِ لَا لِلنَّفْيِ، وَبِأَنَّ الْآخَرَ يَدَّعِي الضَّمَانَ فَكَيْفَ لَا يَحْتَاجُ إِلَى الْبَيِّنَةِ.

وَأُجِيبُ بِأَنَّ إِقَامَةَ الْبَيِّنَةِ عَلَى صِحَّةِ تَصْرُّفِهِ وَيَلْزَمُهَا نَفْيُ الضَّمَانِ. فَأَقَامَ الْمُصَنِّفُ اللَّازِمَ مَقَامَ الْمَلْزُومِ كِنَايَةً، وَبِأَنَّ مَا يَدَّعِيهِ مِنَ الْمُخَالَفَةِ وَهُوَ سَبَبُ الضَّمَانِ ثَابِتٌ بِإِقْرَارِ الْآخَرِ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى بَيِّنَةٍ إِلَى هُنَا كَلَامُهُ.

أَقُولُ: جَوَابُهُ عَنْ ثَانِي وَجْهَيِ الِاعْتِرَاضِ لَيْسَ بِسَدِيدٍ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِإِقْرَارِ الْآخَرِ إِنَّمَا هُوَ النَّوْعُ الَّذِي يَدَّعِيهِ الْآخَرُ لَا مُخَالَفَتُهُ لِإِذْنِ رَبِّ الْمَالِ فَإِنَّهُ يَدَّعِي الْمُوَافَقَةَ لَهُ، وَسَبَبُ الضَّمَانِ إِنَّمَا هُوَ الْمُخَالَفَةُ فَلَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ.

وَالصَّوَابُ فِي الْجَوَابِ عَنْهُ أَنْ يُقَالَ: عَدَمُ احْتِيَاجِ رَبِّ الْمَالِ إِلَى الْبَيِّنَةِ فِي مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ لَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُدَّعٍ شَيْئًا، بَلْ؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهُ لِكَوْنِ الْإِذْنِ مُسْتَفَادًا مِنْ جِهَتِهِ، كَمَا تَقَرَّرَ فِيمَا مَرَّ آنِفًا، فَكَانَ مَا يَدَّعِيهِ ثَابِتًا بِقَوْلِهِ: فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى الْبَيِّنَةِ، وَلِهَذِهِ النُّكْتَةِ قَالَ الْمُصَنِّفُ: وَعَدَمُ حَاجَةِ الْآخَرِ إِلَى الْبَيِّنَةِ، وَلَمْ يَقُلْ: وَعَدَمُ قَبُولِ بَيِّنَةِ الْآخَرِ وَبِهَذَا الْجَوَابِ يَظْهَرُ انْدِفَاعُ مَا تَوَهَّمَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ فِي اسْتِشْكَالِ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ هَاهُنَا فَتَدَبَّرْ.

(قَوْلُهُ: وَلَوْ وَقَّتَتِ الْبَيِّنَتَانِ وَقْتًا فَصَاحِبُ الْوَقْتِ الْأَخِيرِ أَوْلَى).

أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَذَا مُنَاقِضٌ لِمَا ذَكَرَهُ آنِفًا مِنْ أَنَّ الْبَيِّنَةَ بَيِّنَةُ الْمُضَارِبِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ صَاحِبُ الْوَقْتِ الْأَخِيرِ رَبَّ الْمَالِ. وَيُمْكِنُ التَّطْبِيقُ بِأَنْ يُحْمَلَ مَا ذَكَرَهُ أَوَّلًا عَلَى عَدَمِ التَّوْقِيتِ. قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ: وَلَوْ وَقَّتَتِ الْبَيِّنَتَانِ

إِلَخْ. وَإِنْ لَمْ تُوَقَّتَا أَوْ وَقَّتَتَا عَلَى السَّوَاءِ أَوْ وَقَّتَتْ إِحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى فَالْبَيِّنَةُ لِرَبِّ الْمَالِ.

أَقُولُ: يُرَدُّ عَلَيْهِ أَنَّ هَذَا يُنَافِي مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ أَنَّ الْبَيِّنَةَ بَيِّنَةُ الْمُضَارِبِ؛ إِذْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ هَذَا عَلَى التَّوْقِيتِ وَذَاكَ عَلَى عَدَمِ التَّوْقِيتِ، كَمَا تَرَى. وَلَقَدْ أَحْسَنَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ فِي أُسْلُوبِ التَّحْرِيرِ هَاهُنَا؛ حَيْثُ لَمْ يَزِدْ عَلَى قَوْلِ الْمُصَنِّفِ وَلَوْ وَقَّتَتِ الْبَيِّنَتَانِ

إِلَخْ. شَيْئًا مِنَ الْمَسَائِلِ الَّتِي زَادَهَا عَلَيْهِ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ، بَلْ تَعَرَّضَ لِشَرْحِهِ وَتَمْثِيلِهِ فَقَطْ، وَلَكِنْ قَالَ بَعْدَمَا اسْتَشْكَلَ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ فِيمَا قَبْلُ وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُضَارِبِ

إِلَخْ.

وَأَمَّا صَاحِبُ الذَّخِيرَةِ رحمه الله وَشَكَرَ مَسَاعِيَهُ جَعَلَ حُكْمَ بَيِّنَتَيِ الْمُضَارِبِ وَرَبِّ الْمَالِ فِي دَعْوَى الْخُصُوصِ وَالْعُمُومِ وَفِي دَعْوَاهُمَا الْخُصُوصَ وَاحِدًا، وَذَكَرَ مَا فِي الذَّخِيرَةِ مُفَصَّلًا مُنْدَرِجًا فِيهِ الْمَسَائِلُ الَّتِي ذَكَرَهَا صَاحِبُ الْعِنَايَةِ عَقِيبَ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ: وَلَوْ وَقَّتَتِ الْبَيِّنَتَانِ

إِلَخْ. فَكَانَ ذِكْرُ تِلْكَ الْمَسَائِلِ فِي تَحْرِيرِ صَاحِبِ النِّهَايَةِ مَنْسُوبًا إِلَى صَاحِبِ الذَّخِيرَةِ، فَلَا يَضُرُّهُ مُنَافَاةُ ذَلِكَ لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ لِاعْتِرَافِهِ بِأَنَّ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ هَاهُنَا مُطَابِقٌ لِرِوَايَةِ الْإِيضَاحِ دُونَ رِوَايَةِ الذَّخِيرَةِ.

ص: 483

(كِتَابُ الْوَدِيعَةِ)

(كِتَابُ الْوَدِيعَةِ)

وَجْهُ مُنَاسِبَةِ هَذَا الْكِتَابِ بِمَا تَقَدَّمَ قَدْ مَرَّ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْإِقْرَارِ، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَهُ الْعَارِيَةَ وَالْهِبَةَ وَالْإِجَارَةَ لِلتَّنَاسُبِ بِالتَّرَقِّي مِنَ الْأَدْنَى إِلَى الْأَعْلَى؛ لِأَنَّ الْوَدِيعَةَ أَمَانَةٌ بِلَا تَمْلِيكِ شَيْءٍ وَفِي الْعَارِيَةِ تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ بِلَا عِوَضٍ، وَفِي الْهِبَةِ تَمْلِيكُ الْعَيْنِ بِلَا عِوَضٍ، وَفِي الْإِجَارَةِ تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ بَعُوضٍ وَهِيَ عِقْدٌ لَازِمٌ، وَاللَّازِمُ أَقْوَى وَأَعْلَى مِمَّا لَيْسَ بِلَازِمٍ فَكَانَ فِي الْكُلِّ التَّرَقِّي مِنَ الْأَدْنَى إِلَى الْأَعْلَى كَذَا فِي الشُّرُوحِ. ثُمَّ مَحَاسِنُ الْوَدِيعَةِ ظَاهِرَةٌ؛ إِذْ فِيهِ إِعَانَةُ عِبَادِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْحِفْظِ وَوَفَاءِ الْأَمَانَةِ وَهُوَ مِنْ أَشْرَفِ الْخِصَالِ عَقْلًا وَشَرْعًا. قَالَ عليه الصلاة والسلام:«الْأَمَانَةُ تَجُرُّ الْغِنَى وَالْخِيَانَةُ تَجُرُّ الْفَقْرَ» وَفَى الْمَثَلِ: الْأَمَانَةُ أَقَامَتِ الْمَمْلُوكَ مَقَامَ الْمُلُوكِ، وَالْخِيَانَةُ أَقَامَتِ الْمُلُوكَ مَقَامَ الْمَمْلُوكِ. ثُمَّ إِنَّ الْوَدِيعَةَ لُغَةً فَعِيلَةٌ بِمَعْنَى مَفَعُولَةٍ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْوَدْعِ وَهُوَ التَّرْكُ. عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ عَنْ وَدْعِهِمُ الْجُمُعَاتِ» ، أَيْ: عَنْ تَرْكِهِمْ إِيَّاهَا. قَالَ شِمْرٌ: زَعَمَتِ النَّحْوِيَّةُ أَنَّ الْعَرَبَ أَمَاتُوا مَصْدَرَ يَدَعُ، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَفْصَحُ الْعَرَبِ، وَقَدْ رُوِيَتْ عَنْهُ هَذِهِ الْكَلِمَةُ، وَسُمِّيَتِ الْوَدِيعَةُ بِهَا؛ لِأَنَّهَا شَيْءٌ يُتْرَكُ عِنْدَ الْأَمِينِ، كَذَا فِي الْمُغْرِبِ وَبَعْضِ الشُّرُوحِ. قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَتَفْسِيرُهَا لُغَةً التَّرْكُ، وَسُمِّيَتِ الْوَدِيعَةُ بِهَا؛ لِأَنَّهَا تُتْرَكُ بِيَدِ أَمِينٍ، انْتَهَى.

أَقُولُ: فِيهِ سَمَاجَةٌ ظَاهِرَةٌ؛ إِذْ لَيْسَتِ الْوَدِيعَةُ فِي اللُّغَةِ بِمَعْنَى التَّرْكِ، وَإِنَّمَا الَّذِي بِمَعْنَى التَّرْكِ هُوَ الْوَدْعُ فَلَا يَصِحُّ قَوْلُهُ: وَتَفْسِيرُهَا لُغَةً التَّرْكُ إِلَّا بِتَأْوِيلٍ بَعِيدٍ لَا يُسَاعِدُهُ لَفْظُهُ، وَهُوَ أَنْ يُرَادَ بِذَلِكَ أَنَّهَا مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْوَدْعِ الَّذِي هُوَ التَّرْكُ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الشُّرَّاحِ: الْوَدِيعَةُ فِي الشَّرِيعَةِ عِبَارَةٌ عَنِ التَّسْلِيطِ عَلَى حِفْظِ الْمَالِ.

أَقُولُ: الظَّاهِرُ أَنَّ الْوَدِيعَةَ فِي الشَّرِيعَةِ أَيْضًا هِيَ الْمَالُ الْمُودَعُ الَّذِي يُتْرَكُ عِنْدَ الْأَمِينِ لَا نَفْسَ التَّسْلِيطِ عَلَى حِفْظِ الْمَالِ، وَأَنَّ التَّسْلِيطَ عَلَى حِفْظِ الْمَالِ هُوَ الْإِيدَاعُ، وَعَنْ هَذَا قَالَ صَاحِبُ الْكَافِي وَالْكِفَايَةِ: الْإِيدَاعُ لُغَةً تَسْلِيطُ الْغَيْرِ عَلَى حِفْظِ أَيِّ شَيْءٍ كَانَ مَالًا أَوْ غَيْرَ مَالٍ. يُقَالُ

ص: 484

قَالَ (الْوَدِيعَةُ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْمُودَعِ إِذَا هَلَكَتْ لَمْ يَضْمَنْهَا) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَيْسَ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ غَيْرِ الْمُغِلِّ ضَمَانٌ وَلَا عَلَى الْمُسْتَوْدَعِ غَيْرِ الْمُغِلِّ ضَمَانٌ» وَلِأَنَّ بِالنَّاسِ حَاجَةً إِلَى الِاسْتِيدَاعِ، فَلَوْ ضَمِنَاهُ يَمْتَنِعُ النَّاسُ عَنْ قَبُولِ الْوَدَائِعِ فَتَتَعَطَّلُ مَصَالِحُهُمْ. (وَلِلْمُودَعِ أَنْ يَحْفَظَهَا بِنَفْسِهِ وَبِمَنْ فِي عِيَالِهِ) لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ يَلْتَزِمُ حِفْظَ مَالِ غَيْرِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَحْفَظُ مَالَ نَفْسِهِ

أَوْدَعْتُ زَيْدًا مَالًا وَاسْتَوْدَعْتُهُ إِيَّاهُ: إِذَا دَفَعْتَهُ إِلَيْهِ لِيَكُونَ عِنْدَهُ فَأَنَا مُودِعٌ وَمُسْتَوْدِعٌ بِكَسْرِ الدَّالِّ فِيهِمَا، وَزَيْدٌ مُودَعٌ وَمُسْتَوْدَعٌ بِالْفَتْحِ فِيهِمَا، وَالْمَالُ مُودَعٌ وَوَدِيعَةٌ. وَشَرِيعَةً تَسْلِيطُ الْغَيْرِ عَلَى حِفْظِ الْمَالِ، انْتَهَى.

حَيْثُ فَسَّرَ الْإِيدَاعَ بِالتَّسْلِيطِ الْمَزْبُورِ دُونَ الْوَدِيعَةِ، وَقَالَا: وَالْمَالُ مُودَعٌ وَوَدِيعَةٌ. وَأَقُولُ: فِيمَا ذُكِرَ فِي الْكَافِي وَالْكِفَايَةِ أَيْضًا شَيْءٌ؛ لِأَنَّ مَحْصُولَ ذَلِكَ أَنَّ مَعْنَى الْإِيدَاعِ لُغَةً أَعَمُّ مِنْ مَعْنَاهُ شَرِيعَةً لِاخْتِصَاصِ الثَّانِي بِالْمَالِ وَتَنَاوُلِ الْأَوَّلِ الْمَالَ وَغَيْرَهُ وَلَكِنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ مُعْتَبِرَاتِ كُتُبِ اللُّغَةِ كَالصِّحَاحِ وَالْقَامُوسِ وَالْمُغْرِبِ وَغَيْرِهَا اخْتِصَاصُ الْأَوَّلِ أَيْضًا بِالْمَالِ؛ لِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِيهَا عِنْدَ بَيَانِ مَعْنَاهُ، يُقَالُ: أَوْدَعْتُهُ مَالًا، أَيْ: دَفَعْتُهُ إِلَيْهِ لِيَكُونَ وَدِيعَةً عِنْدَهُ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ اخْتِصَاصٌ بِالْمَالِ فِي اللُّغَةِ أَيْضًا لَمَا أَطْبَقَ أَرْبَابُ اللُّغَةِ عَلَى ذِكْرِ الْمَالِ فِي بَيَانِ مَعْنَاهُ، بَلْ كَانَ اللَّائِقُ بِهِمْ أَنْ يَقُولُوا: أَوْدَعْتُهُ شَيْئًا أَوْ دَفَعْتُهُ إِلَيْهِ لِيَكُونَ وَدِيعَةً عِنْدَهُ، وَالْعَجَبُ أَنَّ صَاحِبَ الْكَافِي وَالْكِفَايَةِ بَعْدَ أَنْ قَالَا: الْإِيدَاعُ لُغَةً تَسْلِيطُ الْغَيْرِ عَلَى حِفْظِ أَيِّ شَيْءٍ كَانَ مَالًا أَوْ غَيْرَ مَالٍ قَالَا أَيْضًا: يُقَالُ: أَوْدَعْتُ زَيْدًا مَالًا وَاسْتَوْدَعْتُهُ إِيَّاهُ: إِذَا دَفَعْتَهُ إِلَيْهِ لِيَكُونَ عِنْدَهُ، وَلَيْسَ فِيمَا اسْتَشْهَدَا بِهِ شَيْءٌ يُوهِمُ الْعُمُومَ، بَلْ فِيهِ مَا يُشْعِرُ بِالْخُصُوصِ، كَمَا عَرَفْتَ آنِفًا فَكَانَ اللَّائِقُ بِهِمَا جَدًّا تَرْكَ ذَلِكَ.

(قَوْلُهُ: الْوَدِيعَةُ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْمُودَعِ

إِلَخْ). قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: فَإِنْ قِيلَ: الْوَدِيعَةُ وَالْأَمَانَةُ كِلَاهُمَا عِبَارَتَانِ عَنْ مُعَبِّرٍ وَاحِدٍ فَكَيْفَ جَوَّزَ بَيْنَهُمَا الْمُبْتَدَأَ وَالْخَبَرَ وَلَا يَجُوزُ إِيقَاعُ اللَّفْظَيْنِ الْمُتَرَادِفَيْنِ مُبْتَدَأً وَخَبَرًا إِلَّا عَلَى طَرِيقِ التَّفْسِيرِ كَقَوْلِكَ: اللَّيْثُ أَسَدٌ وَالْحَبْسُ مَنْعٌ وَمُرَادُ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا لَيْسَ تَفْسِيرَ الْوَدِيعَةِ بِالْأَمَانَةِ.

قُلْنَا: جَوَازُ ذَلِكَ هَاهُنَا بِطَرِيقِ الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ، فَإِنَّ الْوَدِيعَةَ خَاصَّةٌ وَالْأَمَانَةَ عَامَّةٌ، وَحَمْلُ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ صَحِيحٌ دُونَ عَكْسِهِ، فَالْوَدِيعَةُ هِيَ الِاسْتِحْفَاظُ قَصْدًا وَالْأَمَانَةُ هِيَ الشَّيْءُ الَّذِي وَقَعَ فِي يَدِهِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ بِأَنْ هَبَّتِ الرِّيحُ فِي ثَوْبِ إِنْسَانٍ وَأَلْقَتْهُ فِي حِجْرِ غَيْرِهِ. وَالْحُكْمُ فِي الْوَدِيعَةِ.

ص: 485

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

أَنْ يَبْرَأَ عَنِ الضَّمَانِ إِذَا عَادَ إِلَى الْوِفَاقِ وَفِي الْأَمَانَةِ لَا يَبْرَأُ بَعْدَ الْخِلَافِ. هَكَذَا نُقِلَ عَنِ الْإِمَامِ بَدْرِ الدِّينِ الْكُرْدَرِيِّ إِلَى هُنَا لَفْظُ النِّهَايَةِ.

وَقَالَ صَاحِبُ الْكِفَايَةِ: قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ بَدْرُ الدِّينِ رحمه الله: الْفَرْقُ بَيْنَ الْوَدِيعَةِ وَالْأَمَانَةِ بِالْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ، فَالْوَدِيعَةُ خَاصَّةٌ وَالْأَمَانَةُ عَامَّةٌ، وَحَمْلُ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ صَحِيحٌ دُونَ عَكْسِهِ: فَالْوَدِيعَةُ هِيَ الِاسْتِحْفَاظُ قَصْدًا وَالْأَمَانَةُ هِيَ الشَّيْءُ الَّذِي وَقَعَ فِي يَدِهِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ بِأَنْ هَبَّتِ الرِّيحُ فِي ثَوْبِ إِنْسَانٍ وَأَلْقَتْهُ فِي حِجْرِ غَيْرِهِ، وَالْحُكْمُ فِي الْوَدِيعَةِ أَنْ يَبْرَأَ عَنِ الضَّمَانِ إِذَا عَادَ إِلَى الْوِفَاقِ وَلَا يَبْرَأُ عَنِ الضَّمَانِ إِذَا عَادَ إِلَى الْوِفَاقِ فِي الْأَمَانَةِ، إِلَى هُنَا كَلَامُهُ.

أَقُولُ: يُرَدُّ عَلَى الْجَوَابِ الْمَزْبُورِ وَالْفَرْقِ الْمَذْكُورِ أَنَّ التَّقْرِيرَ الْمَسْفُورَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْوَدِيعَةِ وَالْأَمَانَةِ تَبَايُنٌ لَا عُمُومٌ وَخُصُوصٌ، فَإِنَّهُ قَدِ اعْتُبِرَ فِي الْأُولَى الْقَصْدُ وَفِي الْأُخْرَى عَدَمُ الْقَصْدِ، وَهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ فِي مَادَّةٍ أَصْلًا، وَكَذَا جُعِلَ حُكْمُ الْأُولَى أَنْ يَبْرَأَ عَنِ الضَّمَانِ بِالْعَوْدِ إِلَى الْوِفَاقِ، وَحُكْمُ الْأُخْرَى أَنْ لَا يَبْرَأَ عَنِ الضَّمَانِ بِالْعَوْدِ إِلَى الْوِفَاقِ، وَهُمَا مُتَنَاقِضَانِ لَا يَتَرَتَّبَانِ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ فَلَا يُتَصَوَّرُ بَيْنَهُمَا عُمُومٌ وَخُصُوصٌ، بَلْ يَتَعَيَّنُ التَّبَايُنُ، وَحَمْلُ أَحَدِ الْمُتَبَايِنَيْنَ عَلَى الْآخَرِ غَيْرُ صَحِيحٍ قَطْعًا فَلَا يَتِمُّ الْمَطْلُوبُ.

وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ هَاهُنَا: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْوَدِيعَةَ فِي الِاصْطِلَاحِ هِيَ التَّسْلِيطُ عَلَى الْحِفْظِ وَذَلِكَ يَكُونُ بِالْعَقْدِ وَالْأَمَانَةُ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّهَا قَدْ تَكُونُ بِغَيْرِ عَقْدٍ، كَمَا إِذَا هَبَّتِ الرِّيحُ فِي ثَوْبٍ فَأَلْقَتْهُ فِي بَيْتِ غَيْرِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ جَازَ حَمْلُ الْأَعَمِّ عَلَى الْأَخَصِّ، اهـ كَلَامُهُ.

وَرَدَّ عَلَيْهِ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ؛ حَيْثُ قَالَ فِيهِ: إِنَّ الْأَمَانَةَ مُبَايِنٌ لِلْوَدِيعَةِ بِهَذَا الْمَعْنَى لَا أَنَّهَا أَعَمُّ مِنْهُ، بَلِ الْمُرَادُ بِالْوَدِيعَةِ مَا يُتْرَكُ عِنْدَ الْأَمِينِ، اهـ.

أَقُولُ: قَدْ كَانَ لَاحَ لِي مَا ذَكَرَهُ مِنْ حَدِيثِ كَوْنِ الْوَدِيعَةِ بِهَذَا الْمَعْنَى مُبَايِنًا لِلْأَمَانَةِ مَعَ كَلَامٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّهُ يَلْزَمُ حِينَئِذٍ أَنْ لَا يَصِحَّ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ: الْوَدِيعَةُ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْمُودَعِ؛ إِذِ التَّسْلِيطُ عَلَى الْحِفْظِ أَمْرٌ مَعْنَوِيٌّ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ فِي يَدِ الْمُودَعِ، وَلَكِنْ دَفَعْتُهُمَا مَعًا بِحَمْلِ كَلَامِ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ عَلَى الْمُسَامَحَةِ بِأَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ بِقَوْلِهِ هُوَ التَّسْلِيطُ عَلَى الْحِفْظِ هُوَ مَا يَحْصُلُ بِسَبَبِ التَّسْلِيطِ عَلَى الْحِفْظِ فَيَكُونُ حَمْلُ نَفْسِ التَّسْلِيطِ عَلَى الْوَدِيعَةِ مِنْ قَبِيلِ الْإِسْنَادِ الْمَجَازِيِّ، فَلَا يُنَافِي هَذَا أَنْ تَكُونَ الْوَدِيعَةُ فِي الْحَقِيقَةِ مَا يُتْرَكُ عِنْدَ الْأَمِينِ فَيَنْدَفِعُ الْمَحْذُورَانِ الْمَزْبُورَانِ مَعًا.

ثُمَّ إِنَّ هَذَا التَّوْجِيهَ وَإِنْ كَانَ بَعِيدًا عَنْ ظَاهِرِ اللَّفْظِ إِلَّا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْمَصِيرِ إِلَيْهِ تَصْحِيحًا لِكَلِمَاتِ ثِقَاتِ النَّاظِرِينَ فِي هَذَا الْمَقَامِ، فَإِنَّ ذَيْنِكَ الْمَحْذُورَيْنِ يَرُدَّانِ عَلَى ظَاهِرِ لَفْظِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ فِي النِّهَايَةِ وَالْكِفَايَةِ: فَالْوَدِيعَةُ هِيَ الِاسْتِحْفَاظُ قَصْدًا وَالْأَمَانَةُ هُوَ الشَّيْءُ الَّذِي وَقَعَ فِي يَدِهِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ، وَقَالَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ: لِأَنَّ الْوَدِيعَةَ عِبَارَةٌ عَنْ كَوْنِ الشَّيْءِ أَمَانَةً بِاسْتِحْفَاظِ صَاحِبِهِ عِنْدَ غَيْرِهِ قَصْدًا، وَالْأَمَانَةُ قَدْ تَكُونُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ عِبَارَاتِ الْمَشَايِخِ. بَقِيَ هَاهُنَا شَيْءٌ، وَهُوَ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ الشُّرَّاحُ هَاهُنَا مِنْ أَنَّ الْأَمَانَةَ أَعَمُّ مِنَ الْوَدِيعَةِ بِنَاءً عَلَى اعْتِبَارِ الْقَصْدِ فِي الْوَدِيعَةِ دُونَ الْأَمَانَةِ مُخَالِفٌ لِمَا صَرَّحُوا بِهِ فِي أَوَاخِرِ بَابِ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ كِتَابِ الْإِقْرَارِ مِنْ أَنَّ الْوَدِيعَةَ قَدْ تَكُونُ مِنْ غَيْرِ صُنْعِ صَاحِبِهَا كَاللُّقَطَةِ، فَإِنَّهَا وَدِيعَةٌ فِي يَدِ الْمُلْتَقِطِ وَإِنْ لَمْ يَدْفَعْ إِلَيْهِ صَاحِبُهَا، وَكَذَا إِذَا هَبَّتِ الرِّيحُ فَأَلْقَتْ ثَوْبًا فِي دَارِ إِنْسَانٍ. وَأَمَّا مُجَرَّدُ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ هُنَاكَ مِنْ أَنَّ الْوَدِيعَةَ قَدْ تَكُونُ مِنْ غَيْرِ صُنْعِهِ فَلَا يَقْتَضِي الْمُخَالَفَةَ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ بِقَوْلِهِ:"مِنْ غَيْرِ صُنْعِهِ"، مِنْ غَيْرِ صُنْعِ الْمُقِرِّ لَا مِنْ غَيْرِ صُنْعِ صَاحِبِ الْوَدِيعَةِ، كَمَا يُرْشِدُ إِلَيْهِ قَوْلُهُ:"هُنَاكَ"، حَتَّى لَوْ قَالَ: أَوْدَعْتُهَا كَانَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ، وَقَدْ نَبَّهْتُ عَلَيْهِ هُنَاكَ فَتُدَبَّرْ. ثُمَّ إِنَّ صَاحِبَ النِّهَايَةِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الْجَوَابَ الْأَوَّلَ وَنَسَبَهُ إِلَى الْإِمَامِ بَدْرِ الدِّينِ الْكُرْدَرِيِّ، كَمَا مَرَّ قَالَ: وَالْأَوْلَى مِنَ الْجَوَابِ فِيهِ أَنْ يُقَالَ: لَفْظُ الْأَمَانَةِ صَارَ عَلَمًا لِمَا هُوَ غَيْرُ مَضْمُونٍ فَكَانَ قَوْلُهُ: "هُوَ أَمَانَةٌ عِنْدَهُ"، أَيْ: غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ تَفَاوُتٍ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، حَتَّى أَنَّ لَفْظَ الْأَمَانَةِ يَنْسَحِبُ اسْتِعْمَالُهُ فِي جَمِيعِ الصُّوَرِ الَّتِي لَا ضَمَانَ فِيهَا، وَأَرَادَ بِالْوَدِيعَةِ مَا وُضِعَ لِلْأَمَانَةِ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ فَكَانَا مُتَغَايِرَيْنِ فَصَحَّ إِيقَاعُهُمَا مُبْتَدَأً وَخَبَرًا، اهـ.

أَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ؛ إِذْ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْأَمَانَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْكِتَابِ مَعْنَى "غَيْرُ مَضْمُونٍ" لَمَا احْتِيجَ إِلَى ذِكْرِ قَوْلِهِ: "إِذَا هَلَكَتْ لَمْ يَضْمَنْ لِلْقَطْعِ بِقُبْحٍ"، أَنْ يُقَالَ: الْوَدِيعَةُ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ عَلَى الْمُودَعِ إِذَا هَلَكَتْ لَمْ تَضْمَنْ لِكَوْنِ الثَّانِي مُسْتَدْرَكًا. وَرَدَّ عَلَيْهِ الشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ بِوَجْهٍ آخَرَ؛ حَيْثُ قَالَ بَعْدَ نَقْلِهِ وَفِيهِ مَا فِيهِ؛ لِأَنَّ الْعَلَمَ مَا وُضِعَ لِشَيْءٍ بِعَيْنِهِ وَغَيْرُ مَضْمُونٍ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَلَيْتَ شِعْرِي أَيُّ: عَلَمٍ هَذَا مِنْ أَقْسَامِ الْأَعْلَامِ، اهـ كَلَامُهُ.

ص: 486

وَلِأَنَّهُ لَا يَجِدُ بُدًّا مِنَ الدَّفْعِ إِلَى عِيَالِهِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ مُلَازَمَةُ بَيْتِهِ وَلَا اسْتِصْحَابُ الْوَدِيعَةِ فِي خُرُوجِهِ فَكَانَ الْمَالِكُ رَاضِيًا بِهِ (فَإِنْ حَفِظَهَا بِغَيْرِهِمْ أَوْ أَوْدَعَهَا غَيْرَهُمْ ضَمِنَ) لِأَنَّ الْمَالِكَ رَضِيَ بِيَدِهِ لَا بِيَدِ غَيْرِهِ، وَالْأَيْدِي تَخْتَلِفُ فِي الْأَمَانَةِ، وَلِأَنَّ الشَّيْءَ لَا يَتَضَمَّنُ مِثْلَهُ كَالْوَكِيلِ لَا يُوَكِّلُ غَيْرَهُ، وَالْوَضْعُ فِي حِرْزِ غَيْرِهِ إِيدَاعٌ، إِلَّا إِذَا اسْتَأْجَرَ الْحِرْزَ فَيَكُونُ حَافِظًا بِحِرْزِ نَفْسِهِ. قَالَ (إِلَّا أَنْ يَقَعَ فِي دَارِهِ حَرِيقٌ فَيُسَلِّمَهَا إِلَى جَارِهِ أَوْ يَكُونَ فِي سَفِينَةٍ فَخَافَ الْغَرَقَ فَيُلْقِيَهَا إِلَى سَفِينَةٍ أُخْرَى) لِأَنَّهُ تَعَيَّنَ طَرِيقًا لِلْحِفْظِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فَيَرْتَضِيهِ الْمَالِكُ، وَلَا يُصَدَّقُ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ لِأَنَّهُ يَدَّعِي ضَرُورَةً مُسْقِطَةً لِلضَّمَانِ بَعْدَ تَحَقُّقِ السَّبَبِ فَصَارَ كَمَا إِذَا ادَّعَى الْإِذْنَ فِي الْإِيدَاعِ.

قَالَ (فَإِنْ طَلَبَهَا صَاحِبُهَا فَحَبَسَهَا وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهَا ضَمِنَهَا) لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ بِالْمَنْعِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَمَّا طَالَبَهُ لَمْ يَكُنْ رَاضِيًا بِإِمْسَاكِهِ

أَقُولُ: دَفَعَ هَذَا سَهْلٌ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الْأَمَانَةِ إِنْ كَانَ عَلَمًا لِمَا هُوَ غَيْرُ مَضْمُونٍ كَانَ مِنْ أَعْلَامِ الْأَجْنَاسِ، كَأُسَامَةَ فَإِنَّهُ عَلَمٌ لِجِنْسِ الْأَسَدِ، وَسُبْحَانَ فَإِنَّهُ عَلَمٌ لِجِنْسِ التَّسْبِيحِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَعْلَامِ الْأَجْنَاسِ الَّتِي ذَكَرُوهَا فِي كُتُبِ النَّحْوِ وَبَيَّنُوا دُخُولَهَا فِي تَعْرِيفِ الْعَلَمِ بِمَا وُضِعَ لِشَيْءٍ بِعَيْنِهِ غَيْرُ مُتَنَاوِلٍ غَيْرَهُ بِوَضْعٍ وَاحِدٍ فَمَنْ أَتْقَنَ مَبَاحِثَ ذَلِكَ فِي مَحَالِّهَا لَا يُشْتَبَهُ عَلَيْهِ الْأَمْرُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ.

(قَوْلُهُ: وَلِأَنَّهُ لَا يَجِدُ بُدًّا مِنَ الدَّفْعِ إِلَى عِيَالِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ مُلَازِمَةُ بَيْتِهِ، وَلَا اسْتِصْحَابُ الْوَدِيعَةِ فِي خُرُوجِهِ فَكَانَ الْمَالِكُ رَاضِيًا بِهِ).

أَقُولُ: فِيهِ شَيْءٌ وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ: فَكَانَ الْمَالِكُ رَاضِيًا بِهِ يُشْعِرُ بِكَوْنِ مَدَارِ جَوَازِ دَفْعِ الْوَدِيعَةِ إِلَى عِيَالِهِ رِضَا الْمَالِكِ بِهِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي عَدَمُ جَوَازِ دَفْعِهَا إِلَيْهِ عِنْدَ عَدَمِ رِضَاهُ بِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ الْمَالِكَ إِذَا نُهِيَ عَنْ دَفْعِهَا إِلَى أَحَدٍ مِنْ عِيَالِهِ فَدَفَعَهَا إِلَى مَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ لَمْ يَضْمَنْ، كَمَا سَيَأْتِي فِي الْكِتَابِ.

فَالظَّاهِرُ أَنَّ مَدَارَ ذَلِكَ هُوَ الضَّرُورَةُ، كَمَا هُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ قَوْلِهِ: وَلِأَنَّهُ لَا يَجْدُ بُدًّا مِنَ الدَّفْعِ إِلَى عِيَالِهِ، فَالْأَوْلَى أَنْ يُتْرَكَ فَكَانَ الْمَالِكُ رَاضِيًا بِهِ وَيُقَالَ بَدَلُهُ، فَإِنَّ امْتِنَاعَ الْحِفْظِ بِعِيَالِهِ يَقْتَضِي سَدَّ بَابِ الْوَدَائِعِ وَتَعَطُّلِ مَصَالِحِ الْعِبَادِ، كَمَا وَقَعَ فِي شَرْحِ الْقُدُورِيِّ لِلْإِمَامِ الزَّاهِدِيِّ.

(قَوْلُهُ: فَإِنْ حَفِظَهَا بِغَيْرِهِمْ أَوْ أَوْدَعَهَا غَيْرَهُمْ ضَمِنَ؛ لِأَنَّ الْمَالِكَ رَضِيَ بِيَدِهِ لَا بِيَدِ غَيْرِهِ، وَالْأَيْدِي تَخْتَلِفُ فِي الْأَمَانَةِ).

أَقُولُ: فِيهِ أَيْضًا شَيْءٌ وَهُوَ أَنَّ ظَاهِرَ هَذَا التَّعْلِيلِ يَقْتَضِي أَنْ يَضْمَنَ أَيْضًا إِذَا حَفِظَهَا بِيَدِ

ص: 487

بَعْدَهُ فَيَضْمَنُهُ بِحَبْسِهِ عَنْهُ.

قَالَ (وَإِنْ خَلَطَهَا الْمُودَعُ بِمَالِهِ حَتَّى لَا تَتَمَيَّزَ ضَمِنَهَا ثُمَّ لَا سَبِيلَ لِلْمُودَعِ عَلَيْهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَا: إِذَا خَلَطَهَا بِجِنْسِهَا شَرِكَهُ إِنْ شَاءَ) مِثْلُ أَنْ يَخْلِطَ الدَّرَاهِمَ الْبِيضَ بِالْبِيضِ وَالسُّودَ بِالسُّودِ وَالْحِنْطَةَ بِالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرَ بِالشَّعِيرِ. لَهُمَا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الْوُصُولُ إِلَى عَيْنِ حَقِّهِ صُورَةً وَأَمْكَنَهُ مَعْنًى بِالْقِسْمَةِ فَكَانَ اسْتِهْلَاكًا مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ فَيَمِيلُ إِلَى أَيِّهِمَا شَاءَ. وَلَهُ أَنَّهُ اسْتِهْلَاكٌ مِنْ كُلِ وَجْهٍ لِأَنَّهُ فِعْلٌ يَتَعَذَّرُ مَعَهُ الْوُصُولُ إِلَى عَيْنِ حَقِّهِ.

وَلَا مُعْتَبَرَ بِالْقِسْمَةِ لِأَنَّهَا مِنْ مُوجِبَاتِ الشَّرِكَةِ فَلَا تَصْلُحُ مُوجِبَةً لَهَا، وَلَوْ أَبْرَأَ الْخَالِطَ لَا سَبِيلَ لَهُ عَلَى الْمَخْلُوطِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ إِلَّا فِي الدَّيْنِ وَقَدْ سَقَطَ، وَعِنْدَهُمَا بِالْإِبْرَاءِ تَسْقُطُ خِيرَةُ الضَّمَانِ فَيَتَعَيَّنُ الشَّرِكَةُ فِي الْمَخْلُوطِ، وَخَلْطُ الْخَلِّ بِالزَّيْتِ وَكُلِّ مَائِعٍ بِغَيْرِ جِنْسِهِ يُوجِبُ انْقِطَاعَ حَقِّ الْمَالِكِ إِلَى الضَّمَانِ، وَهَذَا بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ اسْتِهْلَاكٌ صُورَةً وَكَذَا مَعْنًى لِتَعَذُّرِ الْقِسْمَةِ بِاعْتِبَارِ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ، وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ خَلْطُ الْحِنْطَةِ بِالشَّعِيرِ فِي الصَّحِيحِ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا لَا يَخْلُو عَنْ حَبَّاتِ الْآخَرِ فَتَعَذَّرَ التَّمْيِيزُ وَالْقِسْمَةُ. وَلَوْ خَلَطَ الْمَائِعَ بِجِنْسِهِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَنْقَطِعُ حَقُّ الْمَالِكِ إِلَى ضَمَانٍ لِمَا ذَكَرْنَا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُجْعَلُ الْأَقَلُّ تَابِعًا لِلْأَكْثَرِ اعْتِبَارًا لِلْغَالِبِ أَجْزَاءً، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ شَرِكَهُ بِكُلِّ حَالٍ لِأَنَّ الْجِنْسَ لَا يَغْلِبُ الْجِنْسَ عِنْدَهُ عَلَى مَا مَرَّ فِي الرَّضَاعِ،

مَنْ فِي عِيَالِهِ لَا بِيَدِ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ يَدَهُمْ غَيْرُ يَدِ نَفْسِهِ، فَالْأَظْهَرُ أَنْ يُقَالَ: لِأَنَّ الْمَالِكَ رَضِيَ بِيَدِهِمْ لَا بِيَدِ غَيْرِهِمْ عَلَى نَهْجِ قَوْلِهِ فِي نَفْسِ الْمَسْأَلَةِ، فَإِنْ حَفِظَهَا بِغَيْرِهِمْ أَوْ أَوْدَعَهَا غَيْرَهُمْ عَلَى صِيغَةِ الْجَمْعِ الشَّامِلَةِ لِنَفْسِهِ وَعِيَالِهِ، كَمَا وَقَعَ فِي شَرْحِ الْقُدُورِيِّ للإمام الزاهدي؛ حَيْثُ قَالَ: لِأَنَّ الْأَيْدِي تَخْتَلِفُ فِي الْأَمَانَةِ فَلَا يَكُونُ رِضَاهُ بِيَدِهِمْ رِضًا بِيَدِ غَيْرِهِمْ.

(قَوْلُهُ: وَلَا مُعْتَبَرَ بِالْقِسْمَةِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ مُوجِبَاتِ الشَّرِكَةِ فَلَا تَصْلُحُ مُوجِبَةً لَهَا). قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: فِيهِ تَأَمُّلٌ، فَإِنَّ الْمَعْلُولَ هُنَا جَوَازُ الشَّرِكَةِ وَالْعِلَّةُ إِمْكَانُ الْقِسْمَةِ وَالْقِسْمَةُ نَفْسُهَا مِنْ

ص: 488

وَنَظِيرُهُ خَلْطُ الدَّرَاهِمِ بِمِثْلِهَا إِذَابَةً لِأَنَّهُ يَصِيرُ مَائِعًا بِالْإِذَابَةِ

قَالَ (وَإِنِ اخْتَلَطَتْ بِمَالِهِ مِنْ غَيْرِ فِعْلِهِ فَهُوَ شَرِيكٌ لِصَاحِبِهَا) كَمَا إِذَا انْشَقَّ الْكِيسَانِ فَاخْتَلَطَا لِأَنَّهُ لَا يَضْمَنُهَا لِعَدَمِ الصُّنْعِ مِنْهُ فَيَشْتَرِكَانِ وَهَذَا بِالِاتِّفَاقِ. قَالَ (فَإِنْ أَنْفَقَ الْمُودَعُ بَعْضَهَا ثُمَّ رَدَّ مِثْلَهُ فَخَلَطَهَا بِالْبَاقِي ضَمِنَ الْجَمِيعَ) لِأَنَّهُ خَلَطَ مَالَ غَيْرِهِ بِمَالِهِ فَيَكُونُ اسْتِهْلَاكًا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي تَقَدَّمَ.

قَالَ: (وَإِذَا تَعَدَّى الْمُودَعُ فِي الْوَدِيعَةِ بِأَنْ كَانَتْ دَابَّةً فَرَكِبَهَا أَوْ ثَوْبًا فَلَبِسَهُ أَوْ عَبْدًا فَاسْتَخْدَمَهُ أَوْ أَوْدَعَهَا غَيْرَهُ ثُمَّ أَزَالَ التَّعَدِّيَ فَرَدَّهَا إِلَى يَدِهِ زَالَ الضَّمَانُ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَبْرَأُ عَنِ الضَّمَانِ لِأَنَّ عَقْدَ الْوَدِيعَةِ ارْتَفَعَ حِينَ صَارَ ضَامِنًا لِلْمُنَافَاةِ فَلَا يَبْرَأُ إِلَّا بِالرَّدِّ عَلَى الْمَالِكِ وَلَنَا أَنَّ الْأَمْرَ بَاقٍ لِإِطْلَاقِهِ، وَارْتِفَاعُ حُكْمِ الْعَقْدِ ضَرُورَةُ ثُبُوتِ نَقِيضِهِ، فَإِذَا ارْتَفَعَ عَادَ حُكْمُ الْعَقْدِ، كَمَا إِذَا اسْتَأْجَرَهُ لِلْحِفْظِ شَهْرًا فَتَرَكَ الْحِفْظَ فِي بَعْضِهِ ثُمَّ حَفِظَ فِي الْبَاقِي

مُوجِبَاتِ نَفْسِ الشَّرِكَةِ، اهـ.

أَقُولُ: هَذَا سَاقِطٌ، فَإِنَّ الْقِسْمَةَ نَفْسَهَا لَيْسَتْ مِنْ مُوجِبَاتِ الشَّرِكَةِ قَطْعًا؛ إِذْ لَا شَكَّ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْمُشْتَرِكَيْنِ فِي شَيْءٍ قِسْمَةَ ذَلِكَ الشَّيْءِ بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَتَصَرَّفَا فِيهِ عَلَى الِاشْتِرَاكِ مِنْ غَيْرِ قِسْمَةٍ أَبَدًا، فَإِنَّمَا الَّذِي مِنْ مُوجِبَاتِ نَفْسِ الشَّرِكَةِ وَجَوَازِهَا هُوَ جَوَازُ الْقِسْمَةِ لَا الْقِسْمَةُ نَفْسُهَا، فَلَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ جَوَازُ الْقِسْمَةِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ عِلَّةً مُوجِبًا لِلشَّرِكَةِ لِئَلَّا يَنْقَلِبَ الْمَعْلُولُ عِلَّةً، فَإِنَّ الْمَعْلُولَ هُنَا عِنْدَهُمَا جَوَازُ الشَّرِكَةِ قَبْلَ أَنْ تَتَعَلَّقَ مَشِيئَةُ الْمُودَعِ بِالشَّرِكَةِ، وَنَفْسُ الشَّرِكَةِ بَعْدَ أَنْ

ص: 489

فَحَصَلَ الرَّدُّ إِلَى نَائِبِ الْمَالِكِ. قَالَ (فَإِنْ طَلَبَهَا صَاحِبُهَا فَجَحَدَهَا ضَمِنَهَا) لِأَنَّهُ لَمَّا طَالَبَهُ بِالرَّدِّ فَقَدْ عَزَلَهُ عَنِ الْحِفْظِ فَبَعْدَ ذَلِكَ هُوَ بِالْإِمْسَاكِ غَاصِبٌ مَانِعٌ فَيَضْمَنُهَا، فَإِنْ عَادَ إِلَى الِاعْتِرَافِ لَمْ يَبْرَأْ عَنِ الضَّمَانِ لِارْتِفَاعِ الْعَقْدِ، إِذِ الْمُطَالَبَةُ بِالرَّدِّ رَفْعٌ مِنْ جِهَتِهِ وَالْجُحُودُ فَسْخٌ مِنْ جِهَةِ الْمُودَعِ كَجُحُودِ الْوَكِيلِ الْوَكَالَةَ وَجُحُودِ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ الْبَيْعَ فَتَمَّ الرَّفْعُ، أَوْ لِأَنَّ الْمُودَعَ يَنْفَرِدُ بِعَزْلِ نَفْسِهِ بِمَحْضَرٍ مِنَ الْمُسْتَوْدِعِ كَالْوَكِيلِ يَمْلِكُ عَزْلَ نَفْسِهِ بِحَضْرَةِ الْمُوَكِّلِ، وَإِذَا ارْتَفَعَ لَا يَعُودُ إِلَّا بِالتَّجْدِيدِ فَلَمْ يُوجَدِ الرَّدُّ إِلَى نَائِبِ الْمَالِكِ، بِخِلَافِ الْخِلَافِ ثُمَّ الْعَوْدِ إِلَى الْوِفَاقِ، وَلَوْ جَحَدَهَا عِنْدَ غَيْرِ صَاحِبِهَا لَا يَضْمَنُهَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ خِلَافًا لِزُفَرَ لِأَنَّ الْجُحُودَ عِنْدَ غَيْرِهِ مِنْ بَابِ الْحِفْظِ لِأَنَّ فِيهِ قَطْعَ طَمَعِ الطَّامِعِينَ، وَلِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ عَزْلَ نَفْسِهِ بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنْهُ أَوْ طَلَبِهِ فَبَقِيَ الْأَمْرُ بِخِلَافِ مَا إِذَا كَانَ بِحَضْرَتِهِ.

قَالَ: (وَلِلْمُودَعِ أَنْ يُسَافِرَ الْوَدِيعَةَ وَإِنْ كَانَ لَهَا حِمْلٌ وَمُؤْنَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَا: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ إِذَا كَانَ لَهَا حِمْلٌ وَمُؤْنَةٌ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ

تَتَعَلَّقَ مَشِيئَتُهُ بِهَا وَكِلَاهُمَا كَانَا يُوجِبَانِ جَوَازَ الْقِسْمَةِ تَأَمَّلْ. (قَوْلُهُ: وَلِلْمُودَعِ أَنْ يُسَافِرَ بِالْوَدِيعَةِ وَإِنْ كَانَ لَهَا حِمْلٌ وَمُؤْنَةٌ عِنْدَ أبي حنيفة

إِلَخْ). قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي حَلِّ هَذَا الْمَحَلِّ: قَالُوا: إِذَا كَانَ الطَّرِيقُ آمِنًا، فَإِنْ كَانَ مَخُوفًا ضَمِنَ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِذَا كَانَ آمِنًا وَلَهُ بُدٌّ مِنَ السَّفَرِ فَكَذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَسَافِرَ بِأَهْلِهِ لَا يَضْمَنُ، وَإِنْ سَافَرَ بِنَفْسِهِ ضَمِنَ؛ لِأَنَّهُ أَمْكَنَهُ تَرْكُهَا فِي أَهْلِهِ، اهـ.

أَقُولُ: هَذَا تَحْرِيرٌ مُخْتَلٌّ وَحَلٌّ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ مَقُولُ الْقَوْلِ فِي قَالُوا مَجْمُوعُ مَا ذَكَرَهُ بِأَنْ كَانَ قَوْلُهُ: إِذْ كَانَ الطَّرِيقُ آمِنًا شَرْطًا

ص: 490

فِي الْوَجْهَيْنِ، لِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله إِطْلَاقُ الْأَمْرِ، وَالْمَفَازَةُ مَحَلٌّ لِلْحِفْظِ إِذَا كَانَ الطَّرِيقُ آمِنًا وَلِهَذَا يَمْلِكُ الْأَبُ وَالْوَصِيُّ فِي مَالِ الصَّبِيِّ. وَلَهُمَا أَنَّهُ تَلْزَمُهُ مُؤْنَةُ الرَّدِّ فِيمَا لَهُ حِمْلٌ وَمُؤْنَةٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَرْضَى بِهِ فَيَتَقَيَّدُ، وَالشَّافِعِيُّ يُقَيِّدُهُ بِالْحِفْظِ الْمُتَعَارَفِ وَهُوَ الْحِفْظُ فِي الْأَمْصَارِ وَصَارَ كَالِاسْتِحْفَاظِ بِأَجْرٍ. قُلْنَا: مُؤْنَةُ الرَّدِّ تَلْزَمُهُ فِي مِلْكِهِ ضَرُورَةَ امْتِثَالِ أَمْرِهِ فَلَا يُبَالِي بِهِ وَالْمُعْتَادُ كَوْنُهُمْ فِي الْمِصْرِ لَا حِفْظُهُمْ، وَمَنْ يَكُونُ فِي الْمَفَازَةِ يَحْفَظُ مَالَهُ فِيهَا، بِخِلَافِ الِاسْتِحْفَاظِ بِأَجْرٍ لِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَيَقْتَضِي التَّسْلِيمَ فِي مَكَانِ الْعَقْدِ (وَإِذَا نَهَاهُ الْمُودِعُ أَنْ يُخْرِجَ الْوَدِيعَةَ فَخَرَجَ بِهَا ضَمِنَ) لِأَنَّ التَّقْيِيدَ مُفِيدٌ إِذِ الْحِفْظُ فِي الْمِصْرِ أَبْلَغُ فَكَانَ صَحِيحًا.

قَالَ: (وَإِذَا أَوْدَعَ رَجُلَانِ عِنْدَ رَجُلٍ وَدِيعَةً فَحَضَرَ أَحَدُهُمَا وَطَلَبَ نَصِيبَهُ مِنْهَا لَمْ يَدْفَعْ إِلَيْهِ حَتَّى يَحْضُرَ الْآخَرُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: يَدْفَعُ إِلَيْهِ نَصِيبَهُ)

وَمَا بَعْدَهُ جَزَاءَهُ فَسَدَ الْمَعْنَى جِدًّا؛ إِذْ يَلْزَمُ حِينَئِذٍ أَنْ يَكُونَ مَا كَانَ الطَّرِيقُ مَخُوفًا قِسْمًا مِمَّا كَانَ آمِنًا فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ ضِدَّ الشَّيْءِ قِسْمًا مِنْهُ وَهُوَ بَاطِلٌ قَطْعًا، وَإِنْ كَانَ مَقُولُ ذَلِكَ قَوْلَهُ: إِذَا كَانَ الطَّرِيقُ آمِنًا فَقَطْ بِأَنْ كَانَ مَعْنَاهُ، قَالُوا: هَذَا الَّذِي ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ إِذَا كَانَ الطَّرِيقُ آمِنًا، كَمَا هُوَ الْمُطَابِقُ لِمَا فِي الْكَافِي وَسَائِرِ الشُّرُوحِ، وَكَانَ قَوْلُهُ: فَإِنْ كَانَ مَخُوفًا ضَمِنَ بِالِاتِّفَاقِ بَيَانًا لِحُكْمِ كَوْنِ الطَّرِيقِ مَخُوفًا فِي الْمُسَافَرَةِ بِالْوَدِيعَةِ، وَكَانَ قَوْلُهُ: وَإِذَا كَانَ آمِنًا وَلَهُ بُدٌّ مِنَ السَّفَرِ

إِلَخْ. تَفْصِيلًا لِحُكْمِ كَوْنِ الطَّرِيقِ آمِنًا فِي الْمُسَافِرَةِ بِالْوَدِيعَةِ فَسَدَ مَعْنَى الْمَقَامِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ إِنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: "إِذَا كَانَ الطَّرِيقُ آمِنًا". فِي قَوْلِهِ: "قَالُوا: إِذَا كَانَ الطَّرِيقُ آمِنًا"، مَا هُوَ عَامٌّ لِمَا كَانَ لَهُ بُدٌّ مِنَ السَّفَرِ وَمَا لَمْ يَكُنْ، كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ إِطْلَاقِ اللَّفْظِ كَانَ قَوْلُهُ فِي التَّفْصِيلِ، وَإِذَا كَانَ آمِنًا وَلَهُ بُدٌّ مِنَ السَّفَرِ فَكَذَلِكَ مُنَافِيًا لِذَلِكَ قَطْعًا، وَإِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ مَا هُوَ مُفِيدٌ بِأَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بُدٌّ مِنَ السَّفَرِ فَمَعَ كَوْنِ اللَّفْظِ غَيْرَ مُسَاعِدٍ لَهُ يُنَافِيهِ قَوْلُهُ فِي التَّفْصِيلِ، وَإِنْ سَافَرَ بِنَفْسِهِ ضَمِنَ؛ لِأَنَّهُ قِسْمٌ مِنْ ذَلِكَ الْمُقَيَّدِ، كَمَا تَرَى مَعَ أَنَّ حُكْمَهُ وَهُوَ الضَّمَانُ مُخَالِفٌ لِمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ، عَلَى أَنَّ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ فِيمَا إِذَا لَمْ يُعَيِّنْ الْمَالِكُ الْمِصْرَ لِلْحِفْظِ فِيهِ، كَمَا يَقْتَضِيهِ إِطْلَاقُ اللَّفْظِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَطْعًا قَوْلُ الْمُصَنِّفِ فِيمَا بَعْدُ: وَإِذَا نَهَاهُ الْمُودِعُ أَنْ يَخْرُجَ بِالْوَدِيعَةِ فَخَرَجَ بِهَا ضَمِنَ، وَلَمْ يُذْكَرْ فِي وَاحِدٍ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ قَطُّ التَّفْصِيلُ الَّذِي ذَكَرَهُ

ص: 491

وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: ثَلَاثَةٌ اسْتَوْدَعُوا رَجُلًا أَلْفًا فَغَابَ اثْنَانِ فَلَيْسَ لِلْحَاضِرِ أَنْ يَأْخُذَ نَصِيبَهُ عِنْدَهُ، وَقَالَا: لَهُ ذَلِكَ، وَالْخِلَافُ فِي الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِالْمَذْكُورِ فِي الْمُخْتَصَرِ. لَهُمَا أَنَّهُ طَالَبَهُ بِدَفْعِ نَصِيبِهِ فَيُؤْمَرُ بِالدَّفْعِ إِلَيْهِ كَمَا فِي الدَّيْنِ الْمُشْتَرَكِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ يُطَالِبُهُ بِتَسْلِيمِ مَا سَلَّمَ إِلَيْهِ وَهُوَ النِّصْفُ، وَهَذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ فَكَذَا يُؤْمَرُ هُوَ بِالدَّفْعِ إِلَيْهِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ طَالَبَهُ بِدَفْعِ نَصِيبِ الْغَائِبِ لِأَنَّهُ يُطَالِبُهُ بِالْمُفْرَزِ وَحَقِّهِ فِي الْمُشَاعِ، وَالْمُفْرَزُ الْمُعَيَّنُ يَشْتَمِلُ عَلَى الْحَقَّيْنِ، وَلَا يَتَمَيَّزُ حَقُّهُ إِلَّا بِالْقِسْمَةِ، وَلَيْسَ لِلْمُودَعِ وِلَايَةُ الْقِسْمَةِ وَلِهَذَا لَا يَقَعُ دَفْعُهُ قِسْمَةً بِالْإِجْمَاعِ،

صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي صُورَةِ إِذَا كَانَ الطَّرِيقُ آمِنًا وَلَمْ يُعَيِّنِ الْمَالِكُ الْمِصْرَ لِلْحِفْظِ فِيهِ، وَإِنَّمَا ذَكَرُوا ذَلِكَ التَّفْصِيلَ فِي صُورَةِ إِنْ كَانَ الطَّرِيقُ مَخُوفًا أَوْ إِنْ عَيَّنَ الْمَالِكُ الْمِصْرَ لِلْحِفْظِ فِيهِ: فَالصَّوَابُ فِي هَذَا الْمَقَامِ تَحْرِيرُ صَاحِبِ النِّهَايَةِ؛ حَيْثُ قَالَ: هَذَا كُلُّهُ إِذَا كَانَ الطَّرِيقُ آمِنًا، أَمَّا إِذَا كَانَ مَخُوفًا وَلَهُ بُدٌّ مِنَ السَّفَرِ ضَمِنَ بِالِاتِّفَاقِ، وَكَذَا الْأَبُ وَالْوَصِيُّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بُدٌّ مِنَ السَّفَرِ إِنْ سَافَرَ بِأَهْلِهِ لَا يَضْمَنُ، وَإِنْ سَافَرَ بِنَفْسِهِ ضَمِنَ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَتْرُكَهَا فِي أَهْلِهِ، كَذَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِقَاضِيخَانَ، اهـ، وَتَحْرِيرِ صَاحِبَيِ الْكَافِي وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ حَيْثُ قَالَا: هَذَا إِذَا لَمْ يُعَيِّنِ الْمَالِكُ الْمِصْرَ لِلْحِفْظِ فِيهِ بَلْ أَطْلَقَ فَإِنْ عَيَّنَ الْحِفْظَ فِي الْمِصْرِ فَسَافَرَ إِنْ كَانَ سَفَرًا لَهُ مِنْهُ بُدٌّ ضَمِنَ، وَإِنْ كَانَ سَفَرًا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ فَإِنْ أَمْكَنَهُ الْحِفْظُ فِي الْمِصْرِ مَعَ السَّفَرِ بِأَنْ أَمْكَنَهُ أَنْ يُتْرَكَ وَاحِدًا مِنْ عِيَالِهِ مَعَ الْوَدِيعَةِ فِي الْمِصْرِ ضَمِنَ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ ذَلِكَ لَمْ يَضْمَنْ، اهـ.

وَكَأَنَّ صَاحِبَ الْعِنَايَةِ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْحَالَيْنِ فَخَلَطَ الْكَلَامَ وَأَفْسَدَ مَعْنَى الْمَقَامِ. (قَوْلُهُ: وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: ثَلَاثَةٌ اسْتَوْدَعُوا رَجُلًا أَلْفًا فَغَابَ اثْنَانِ فَلَيْسَ لِلْحَاضِرِ أَنْ يَأْخُذَ نَصِيبَهُ عِنْدَهُ، وَقَالَا: لَهُ ذَلِكَ). قَالَ فِي الْعِنَايَةِ: وَذَكَرَ رِوَايَةَ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِيَدُلَّ بِوَضْعِهِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِمَوْضِعِ الْخِلَافِ الْمَذْكُورِ فِي مُخْتَصَرِ الْقُدُورِيِّ مِنْ قَوْلِهِ: "وَدِيعَةُ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ"؛ لِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِيهِ الْأَلْفُ وَهُوَ مَوْزُونٌ، انْتَهَى.

أَقُولُ: فِيهِ بَحْثٌ إِذْ لَيْسَ فِيمَا ذَكَرَهُ مِنْ رِوَايَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ مَا يُشْعِرُ بِحَصْرِ وَضْعِ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا يُقْسَمُ حَتَّى يَدُلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ مَوْضِعَ الْخِلَافِ هُوَ الْمَكِيلُ وَالْمَوْزُونُ. قَوْلُهُ: لِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِيهِ الْأَلْفُ وَهُوَ مَوْزُونٌ لَيْسَ بِشَيْءٍ؛ إِذْ لَا شَكَّ أَنَّ الْأَلْفَ إِنَّمَا ذُكِرَ فِيهِ عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ لَا الْحَصْرِ، كَيْفَ وَلَوْ أَفَادَ بِذَلِكَ الْحَصْرَ لَكَانَ وَضْعُ الْمَسْأَلَةِ الْمَذْكُورَةِ فِيهِ غَيْرَ مُتَنَاوِلٍ لِلْمَكِيلِ أَصْلًا بِمُقْتَضَى قَوْلِهِ: وَهُوَ مَوْزُونٌ، وَلَا لِلْمَوْزُونِ الَّذِي هُوَ غَيْرُ الْأَلْفِ فَيَفُوتُ الْمَطْلُوبُ. وَقَالَ فِي مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ: قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ فِي الْكَشْفِ: فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ مِنَ الْفَائِدَةِ مَا لَيْسَ فِي رِوَايَةِ كِتَابِ الْوَدِيعَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ رِوَايَةَ كِتَابِ الْوَدِيعَةِ: الْقَاضِي لَا يَأْمُرُ الْمُودَعَ بِالدَّفْعِ، وَكَانَ يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ: إِنْ كَانَ الْقَاضِي لَا يَأْمُرُ الْمُودَعَ بِالدَّفْعِ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ دِيَانَةً، فَلَمَّا قَالَ فِي الْجَامِعِ: لَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ زَالَتْ هَذِهِ الشُّبْهَةُ

وَفَائِدَةٌ أُخْرَى أَنَّ رِوَايَةَ كِتَابِ الْوَدِيعَةِ فِي اثْنَيْنِ وَرِوَايَةَ الْجَامِعِ فِي الثَّلَاثَةِ، فَلَوْلَا رِوَايَةُ الْجَامِعِ لَكَانَ لِبَعْضٍ أَنْ يَقُولَ: نَصِيبُ الْوَاحِدِ الْحَاضِرِ مِنَ الثَّلَاثَةِ أَقَلُّ مِنْ نَصِيبِ الْغَائِبَيْنِ فَيَصِيرُ مُسْتَهْلَكًا وَيُجْعَلُ تَبَعًا لِلْأَكْثَرِ فَلَا يُؤْخَذُ مِنَ الْمُودَعِ، فَأَمَّا نَصِيبُ الْحَاضِرِ مِنَ الرَّجُلَيْنِ فَلَا يَكُونُ مُسْتَهْلَكًا وَلَا تَبَعًا فَلَهُ أَخْذُهُ، فَتَبَيَّنَ بِرِوَايَةِ الْجَامِعِ أَنَّ كِلَيْهِمَا سَوَاءٌ، انْتَهَى.

أَقُولُ: فِي الْفَائِدَةِ الْأُخْرَى نَظَرٌ؛ لِأَنَّ جَوَابَ الْمَسْأَلَةِ فِي رِوَايَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنْ لَيْسَ لِلْحَاضِرِ أَنْ يَأْخُذَ نَصِيبَهُ عِنْدَ أبي حنيفة، وَهَذَا لَا يَدْفَعُ تَوَهُّمَ قَائِلٍ: إِنَّ عِلَّةَ عَدَمِ الْأَخْذِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ قِلَّةُ نَصِيبِ الْحَاضِرِ، بَلْ يُؤَيِّدُهُ لِمُسَاعَدَةِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ ذَلِكَ الِاحْتِمَالُ وَإِنَّمَا يَدْفَعُهُ رِوَايَةُ كِتَابِ الدَّعْوَى؛ لِأَنَّ نَصِيبَ الْحَاضِرِ لَيْسَ بِأَقَلَّ مِنْ نَصِيبِ الْغَائِبِ فِي تِلْكَ الرِّوَايَةِ، فَلَا مَجَالَ لِتَوَهُّمِ أَنْ يَكُونَ عِلَّةُ عَدَمِ دَفْعِ نَصِيبِ الْحَاضِرِ إِلَيْهِ قِلَّةَ نَصِيبِهِ فَتِلْكَ الْفَائِدَةُ الْأُخْرَى إِنَّمَا تَظْهَرُ لَوْ ذُكِرَتْ رِوَايَةُ كِتَابِ الْوَدِيعَةِ بَعْدَ ذِكْرِ رِوَايَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ عَلَى عَكْسِ مَا فِي الْكِتَابِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ بِنَاءُ تِلْكَ الْفَائِدَةِ عَلَى قَوْلِ

ص: 492

بِخِلَافِ الدَّيْنِ الْمُشْتَرَكِ لِأَنَّهُ يُطَالِبُهُ بِتَسْلِيمِ حَقِّهِ لِأَنَّ الدُّيُونَ تُقْضَى بِأَمْثَالِهَا. قَوْلُهُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ.

أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ دُونَ قَوْلِ أبي حنيفة فَحِينَئِذٍ تَظْهَرُ عَلَى تَرْتِيبِ الْكِتَابِ تَأَمَّلْ تَقَفَّ. (قَوْلُهُ: بِخِلَافِ الدَّيْنِ الْمُشْتَرَكِ؛ لِأَنَّهُ يُطَالِبُهُ بِتَسْلِيمِ حَقِّهِ، أَيْ: حَقَّ الْمَدْيُونِ؛ لِأَنَّ الدُّيُونَ تُقْضَى بِأَمْثَالِهَا) فَلَا يَكُونُ هَذَا تَصَرُّفًا فِي حَقِّ الْغَيْرِ، بَلْ يَكُونُ الْمَدْيُونُ مُتَصَرِّفًا فِي مَالِ نَفْسِهِ، فَيَجُوزُ كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَغَيْرِهَا. قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ أَنْ شَرَحَ هَذَا الْمَقَامَ أَوَّلًا هَكَذَا: وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُؤْمَرُ بِالتَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ بِالدَّفْعِ إِلَى مَنْ لَا يَجِبُ لَهُ عَلَيْهِ ذَلِكَ، انْتَهَى.

أَقُولُ: هَذَا النَّظَرُ فِي غَايَةِ السُّقُوطِ؛ لِأَنَّ الْمَدْيُونَ مَأْمُورٌ بِالتَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ بِالدَّفْعِ إِلَى مَنْ يَجِبُ لَهُ عَلَيْهِ ذَلِكَ لَا إِلَى مَنْ لَا يَجِبُ لَهُ عَلَيْهِ ذَلِكَ؛ إِذْ لَا شَكَّ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمَدْيُونِ قَضَاءَ دَيْنِهِ، فَلَمَّا لَمْ يُتَصَوَّرْ قَضَاءُ الدَّيْنَ بِعَيْنِهِ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُقْضَى بِمِثْلِهِ وَجَبَ عَلَى الْمَدْيُونِ لِلدَّائِنِ دَفْعُ مِثْلِ دَيْنِهِ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ إِلَى دَائِنِهِ، فَكَانَ مَأْمُورًا بِهِ، وَبِالْجُمْلَةِ لَيْسَ كُلُّ مَا يَجِبُ عَلَى إِنْسَانٍ لِإِنْسَانٍ دَفْعَ عَيْنِ مَا أَخَذَهُ مِنْهُ، بَلْ قَدْ يَكُونُ دَفْعُ مِثْلِهِ وَبَدَلِهِ، كَمَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ فَلَا مَحْذُورَ قَطْعًا. ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَالْحَقُّ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي حَقِّهِ لِلشَّرِيكِ لَا لِلْمَدْيُونِ، كَمَا وَقَعَ فِي الشُّرُوحِ، وَمَعْنَاهُ؛ لِأَنَّ الشَّرِيكَ يُطَالِبُ الْمَدْيُونَ بِتَسْلِيمِ حَقِّهِ، أَيْ: بِقَضَاءِ حَقِّهِ، وَحَقُّهُ مِنْ حَيْثُ الْقَضَاءُ لَيْسَ بِمُشْتَرَكٍ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ الدُّيُونَ تُقْضَى بِأَمْثَالِهَا وَالْمِثْلُ مَالُ الْمَدْيُونِ لَيْسَ بِمُشْتَرَكٍ بَيْنَهُمَا وَالْقَضَاءُ إِنَّمَا يَقَعُ بِالْمُقَاصَّةِ، انْتَهَى كَلَامُهُ.

أَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ، أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ كَلَامَ الْمُصَنِّفِ لَا يُسَاعِدُهُ؛ لِأَنَّ الضَّمِيرَ فِي حَقِّهِ لَوْ كَانَ لِلشَّرِيكِ دُونَ الْمَدْيُونِ لَمْ يَتِمَّ اسْتِدْلَالُهُ عَلَى قَوْلِهِ: لِأَنَّهُ يُطَالِبُهُ بِتَسْلِيمِ حَقِّهِ بِقَوْلِهِ: لِأَنَّ الدُّيُونَ تُقْضَى بِأَمْثَالِهَا؛ إِذْ كَوْنُ قَضَاءِ الدُّيُونِ بِأَمْثَالِهَا لَا بِأَعْيَانِهَا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشَّرِيكَ يُطَالِبُ الْمَدْيُونَ بِتَسْلِيمِ حَقِّ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ الْمِثْلَ مَالُ الْمَدْيُونِ فَلَمْ يَكُنْ حَقُّ الشَّرِيكِ بَلْ كَانَ حَقُّ الْمَدْيُونِ، فَقَضَاءُ الدَّيْنِ بِالْمِثْلِ لَا يَكُونُ تَسْلِيمَ حَقِّ الشَّرِيكِ بَلْ يَكُونُ تَسْلِيمَ حَقِّ الْمَدْيُونِ، وَهَذَا مِمَّا لَا سُتْرَةَ بِهِ. وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ مَا تَوَهَّمَهُ فِي نَظَرِهِ السَّابِقِ مِنْ لُزُومِ كَوْنِ الْإِنْسَانِ مَأْمُورًا بِالتَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ بِالدَّفْعِ إِلَى مَنْ لَا يَجِبُ لَهُ عَلَيْهِ ذَلِكَ أَوْلَى بِالْوُرُودِ عَلَى تَقْدِيرِ نَفْسِهِ بِدُونِ مُلَاحَظَةِ مَا ذَكَرْنَا فِي سُقُوطِهِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: وَحَقُّهُ مِنْ حَيْثُ الْقَضَاءُ لَيْسَ بِمُشْتَرَكٍ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ الدُّيُونَ تُقْضَى بِأَمْثَالِهَا، وَالْمِثْلُ مَالُ الْمَدْيُونِ لَيْسَ بِمُشْتَرَكٍ بَيْنَهُمَا ـ وَالْقَضَاءُ إِنَّمَا يَقَعُ بِالْمُقَاصَّةِ، انْتَهَى.

وَهَذَا أَحَقُّ بِمَا تَوَهَّمَهُ، كَمَا تَرَى وَالْمَدْفَعُ مَا أَوْضَحْنَاهُ مِنْ قَبْلُ. (قَوْلُهُ: قَوْلُهُ: لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ)، أَيْ: قَوْلَ الْخَصْمِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَذَا وَهُوَ الْإِمَامَانِ عَلَى مَا مَرَّ. وَقَدْ تَعَسَّفَ فِيهِ الشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ؛ حَيْثُ قَالَ: وَالضَّمِيرُ فِي "قَوْلِهِ " يَرْجِعُ إِلَى الْقَائِلِ الْمَعْهُودِ فِي الذِّهْنِ، أَيْ قَوْلُ الْقَائِلِ نُصْرَةٌ لِقَوْلِهِمَا كَذَا، انْتَهَى.

وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ وَأَمَّا سَائِرُ الشُّرَّاحِ فَلَمْ يَتَعَرَّضْ أَحَدٌ مِنْهُمْ لِتَوْجِيهِ إِفْرَادِ

ص: 493

قُلْنَا: لَيْسَ مِنْ ضَرُورَتِهِ أَنْ يُجْبَرَ الْمُودَعُ عَلَى الدَّفْعِ كَمَا إِذَا كَانَ لَهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَدِيعَةً عِنْدَ إِنْسَانٍ وَعَلَيْهِ أَلْفٌ لِغَيْرِهِ فَلِغَرِيمِهِ أَنْ يَأْخُذَهُ إِذَا ظَفِرَ بِهِ، وَلَيْسَ لِلْمُودَعِ أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَيْهِ

قَالَ (وَإِنْ أَوْدَعَ رَجُلٌ عِنْدَ رَجُلَيْنِ شَيْئًا مِمَّا يُقْسَمُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَدْفَعَهُ أَحَدُهُمَا إِلَى الْآخَرِ وَلَكِنَّهُمَا يَقْتَسِمَانِهِ فَيَحْفَظُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَهُ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُقْسَمُ جَازَ أَنْ يَحْفَظَ أَحَدُهُمَا بِإِذْنِ الْآخَرِ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عِنْدَهُ فِي الْمُرْتَهِنَيْنِ وَالْوَكِيلَيْنِ بِالشِّرَاءِ إِذَا سَلَّمَ أَحَدُهُمَا إِلَى الْآخَرِ. وَقَالَا: لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَحْفَظَ بِإِذْنِ الْآخَرِ فِي الْوَجْهَيْنِ. لَهُمَا أَنَّهُ رَضِيَ بِأَمَانَتِهِمَا فَكَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يُسَلِّمَ إِلَى الْآخَرِ وَلَا يَضْمَنُهُ كَمَا فِيمَا لَا يُقْسَمُ. وَلَهُ أَنَّهُ رَضِيَ بِحِفْظِهِمَا وَلَمْ يَرْضَ بِحِفْظِ أَحَدِهِمَا كُلِّهِ لِأَنَّ الْفِعْلَ مَتَى أُضِيفَ إِلَى مَا يَقْبَلُ الْوَصْفَ بِالتَّجَزِّي تَنَاوَلَ الْبَعْضَ دُونَ الْكُلِّ فَوَقَعَ التَّسْلِيمُ إِلَى الْآخَرِ مِنْ غَيْرِ رِضَا الْمَالِكِ فَيَضْمَنُ الدَّافِعُ وَلَا يَضْمَنُ الْقَابِضُ لِأَنَّ مُودِعَ الْمُودَعِ عِنْدَهُ لَا يَضْمَنُ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَا يُقْسَمُ لِأَنَّهُ لَمَّا أَوْدَعَهُمَا وَلَا يُمْكِنُهُمَا الِاجْتِمَاعُ عَلَيْهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَمْكَنَهُمَا الْمُهَايَأَةُ كَانَ الْمَالِكُ رَاضِيًا بِدَفْعِ الْكُلِّ إِلَى أَحَدِهِمَا فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ

قَالَ: (وَإِذَا قَالَ صَاحِبُ الْوَدِيعَةِ لِلْمُودَعِ لَا تُسَلِّمُهُ إِلَى زَوْجَتِكَ فَسَلَّمَهَا إِلَيْهَا لَا يَضْمَنُ. وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: إِذَا نَهَاهُ أَنْ يَدْفَعَهَا إِلَى أَحَدٍ مِنْ عِيَالِهِ فَدَفَعَهَا إِلَى مَنْ لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ لَا يَضْمَنُ) كَمَا إِذَا كَانَتِ الْوَدِيعَةُ دَابَّةً فَنَهَاهُ عَنِ الدَّفْعِ إِلَى غُلَامِهِ، وَكَمَا إِذَا كَانَتْ شَيْئًا يُحْفَظُ فِي يَدِ النِّسَاءِ فَنَهَاهُ عَنِ الدَّفْعِ إِلَى امْرَأَتِهِ وَهُوَ مَحْمَلُ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إِقَامَةُ الْعَمَلِ مَعَ مُرَاعَاةِ هَذَا الشَّرْطِ، وَإِنْ كَانَ مُفِيدًا فَيَلْغُو (وَإِنْ كَانَ لَهُ مِنْهُ بُدٌّ ضَمِنَ) لِأَنَّ الشَّرْطَ مُفِيدٌ لِأَنَّ مِنَ الْعِيَالِ مَنْ لَا يُؤْتَمَنُ عَلَى الْمَالِ وَقَدْ أَمْكَنَ الْعَمَلُ بِهِ مَعَ مُرَاعَاةِ هَذَا الشَّرْطِ فَاعْتُبِرَ (وَإِنْ قَالَ احْفَظْهَا فِي هَذَا الْبَيْتِ فَحَفِظَهَا فِي بَيْتٍ آخَرَ مِنَ الدَّارِ لَمْ يَضْمَنْ) لِأَنَّ الشَّرْطَ غَيْرُ مُفِيدٍ، فَإِنَّ الْبَيْتَيْنِ فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ لَا يَتَفَاوَتَانِ فِي الْحِرْزِ (وَإِنْ حَفِظَهَا فِي دَارٍ أُخْرَى ضَمِنَ) لِأَنَّ الدَّارَيْنِ يَتَفَاوَتَانِ فِي الْحِرْزِ فَكَانَ مُفِيدًا فَيَصِحُّ التَّقْيِيدُ، وَلَوْ كَانَ التَّفَاوُتُ بَيْنَ الْبَيْتَيْنِ ظَاهِرًا بِأَنْ كَانَتِ الدَّارُ الَّتِي فِيهَا الْبَيْتَانِ عَظِيمَةً وَالْبَيْتُ الَّذِي نَهَاهُ عَنِ الْحِفْظِ فِيهِ عَوْرَةً ظَاهِرَةً صَحَّ الشَّرْطُ

ضَمِيرِ قَوْلِهِ: هَاهُنَا. (قَوْلُهُ: قُلْنَا لَيْسَ مِنْ ضَرُورَتِهِ أَنْ يُجْبَرَ الْمُودَعُ عَلَى الدَّفْعِ

إِلَخْ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِ الْإِمَامَيْنِ: لَوْ أَنْ يَأْخُذَهُ تَقْرِيرُهُ أَنَّ جَوَازَ الْأَخْذِ لَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ يُجْبَرَ الْمُودَعُ عَلَى الدَّفْعِ؛ إِذِ الْجَبْرُ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَاتِ الْجَوَازِ، أَيْ: مِنْ لَوَازِمِهِ لِانْفِكَاكِهِ عَنْهُ، كَمَا إِذَا كَانَتْ لَهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَدِيعَةً عِنْدَ إِنْسَانٍ وَعَلَيْهِ أَلْفٌ لِغَيْرِهِ فَلِغَرِيمِهِ، أَيْ: لِغَرِيمِ الْمُودِعِ بِالْكَسْرِ أَنْ يَأْخُذَهُ إِذَا ظَفِرَ بِهِ، وَلَيْسَ لِلْمُودَعِ أَنْ يَدْفَعَ إِلَيْهِ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ وَغَيْرِهَا.

أَقُولُ: هُنَا إِشْكَالٌ، وَهُوَ أَنَّ هَذَا الْجَوَابَ لَا يَتَمَشَّى عَلَى رِوَايَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، فَإِنَّ جَوَابَ الْمَسْأَلَةِ فِيهَا: فَلَيْسَ لِلْحَاضِرِ أَنْ يَأْخُذَ نَصِيبَهُ عِنْدَهُ، وَهَذَا دَالٌّ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ أَخْذِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ نَصِيبَهُ مِنَ الْمُودَعِ فِي غَيْبَةِ الْآخَرِ عِنْدَ أبي حنيفة رحمه الله. وَالْجَوَابُ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ مُشْعِرٌ بِجَوَازِ أَخْذِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ نَصِيبَهُ مِنَ الْمُودَعِ فِي غَيْبَةِ الْآخَرِ عِنْدَ أبي حنيفة أَيْضًا وَإِنْ لَمْ يُجْبِرِ الْمُودَعَ عَلَى دَفْعِ ذَلِكَ إِلَيْهِ عِنْدَهُ، كَجَوَازِ أَخْذِ غَرِيمِ الْمُودِعِ بِالْكَسْرِ مَا أَوْدَعَهُ عِنْدَ إِنْسَانٍ إِذَا ظَفِرَ بِهِ مِنَ الْمُودَعِ بِالْفَتْحِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُودَعِ أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَيْهِ؛ إِذْ لَوْ لَمْ يَكُنِ الْمُرَادُ بِالْجَوَابِ الْمَزْبُورِ

ص: 494

قَالَ (وَمَنْ أَوْدَعَ رَجُلًا وَدِيعَةً فَأَوْدَعَهَا آخَرَ فَهَلَكَتْ فَلَهُ أَنْ يُضَمِّنَ الْأَوَّلَ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَ الثَّانِيَ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: لَهُ أَنْ يُضَمِّنَ أَيَّهمَا شَاءَ، فَإِنْ ضَمَّنَ الْآخَرَ رَجَعَ عَلَى الْأَوَّلِ) لَهُمَا أَنَّهُ قَبَضَ الْمَالَ مِنْ يَدِ ضَمِينٍ فَيُضَمِّنُهُ كَمُودَعِ الْغَاصِبِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمَالِكَ لَمْ يَرْضَ بِأَمَانَةِ غَيْرِهِ، فَيَكُونُ الْأَوَّلُ مُتَعَدِّيًا بِالتَّسْلِيمِ وَالثَّانِي بِالْقَبْضِ فَيُخَيَّرُ بَيْنَهُمَا، غَيْرَ أَنَّهُ إِنْ ضَمَّنَ الْأَوَّلَ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الثَّانِي لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِالضَّمَانِ فَظَهَرَ أَنَّهُ أَوْدَعَ مِلْكَ نَفْسِهِ، وَإِنْ ضَمَّنَ الثَّانِيَ رَجَعَ عَلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ عَامِلٌ لَهُ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمَا لَحِقَهُ مِنَ الْعُهْدَةِ، وَلَهُ أَنَّهُ قَبَضَ الْمَالَ مِنْ يَدِ أَمِينٍ لِأَنَّهُ بِالدَّفْعِ لَا يَضْمَنُ مَا لَمْ يُفَارِقْهُ لِحُضُورِ رَأْيِهِ فَلَا تَعَدِّيَ مِنْهُمَا فَإِذَا فَارَقَهُ فَقَدْ تَرَكَ الْحِفْظَ الْمُلْتَزَمَ فَيَضْمَنُهُ بِذَلِكَ، وَأَمَّا الثَّانِي فَمُسْتَمِرٌّ عَلَى الْحَالَةِ الْأُولَى وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ صُنْعٌ فَلَا يَضْمَنُهُ كَالرِّيحِ إِذَا أَلْقَتْ فِي حِجْرِهِ ثَوْبَ غَيْرِهِ

قَالَ: (وَمَنْ كَانَ فِي يَدِهِ أَلْفٌ فَادَّعَاهُ رَجُلَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهَا لَهُ أَوْدَعَهَا إِيَّاهُ وَأَبَى أَنْ يَحْلِفَ لَهُمَا فَالْأَلْفُ بَيْنَهُمَا

تَجْوِيزَ أَخْذِ الشَّرِيكِ الْحَاضِرِ نَصِيبَهُ مِنَ الْمُودَعِ بِدُونِ أَنْ يُجْبِرَ الْمُودَعَ عَلَى دَفْعِ ذَلِكَ إِلَيْهِ عِنْدَ أبي حنيفة لَمَا احْتِيجَ فِي الْجَوَابِ مِنْ قِبَلِهِ عَنْ قَوْلِهِمَا وَلِهَذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ إِلَى التَّشَبُّثِ بِحَدِيثِ أَنْ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَاتِ جَوَازِ الْأَخْذِ أَنْ يُجْبِرَ الْمُودَعَ عَلَى الدَّفْعِ، بَلْ لِمَا أَفَادَ ذَلِكَ الْحَدِيثُ الْمَقْصُودُ، بَلْ كَانَ الْوَاجِبُ فِي الْجَوَابِ مِنْ قِبَلِهِ عَنْ قَوْلِهِمَا الْمَذْكُورِ مَنْعَ جَوَازِ الْأَخْذِ أَيْضًا فَالْجَوَابُ الْمَزْبُورُ أَيْضًا إِنَّمَا يَتَمَشَّى عَلَى مَا ذَكَرَ فِي مُخْتَصَرِ الْقُدُورِيِّ وَهُوَ الْمُسَمَّى عِنْدَ الْفُقَهَاءِ بِرِوَايَةِ كِتَابِ الدَّعْوَى، كَمَا سَمِعْتُ فِيمَا مَرَّ.

وَاعْلَمْ أَنَّ صَاحِبَ غَايَةِ الْبَيَانِ قَالَ فِي شَرْحِ قَوْلِهِمَا: وَلِهَذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ فَكَذَا هُوَ يُؤْمَرُ بِالدَّفْعِ إِلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ الْمَالُ فِي أَيْدِي الشَّرِيكَيْنِ كَانَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَأْخُذَ نَصِيبَهُ بِغَيْرِ رِضَا الْآخَرِ، فَكَذَا هُنَا لَهُ أَنْ يَأْخُذَ نَصِيبَهُ مِنَ الْمُودَعِ. وَقَالَ فِي شَرْحِ الْجَوَابِ

ص: 495

وَعَلَيْهِ أَلْفٌ أُخْرَى بَيْنَهُمَا) وَشَرْحُ ذَلِكَ أَنَّ دَعْوَى كُلِّ وَاحِدٍ صَحِيحَةٌ لِاحْتِمَالِهَا الصِّدْقَ فَيَسْتَحِقُّ الْحَلِفَ عَلَى الْمُنْكِرِ بِالْحَدِيثِ وَيَحْلِفُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ لِتَغَايُرِ الْحَقَّيْنِ، وَبِأَيِّهِمَا بَدَأَ الْقَاضِي جَازَ لِتَعَذُّرِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا وَعَدَمِ الْأَوْلَوِيَّةِ.

وَلَوْ تَشَاحَّا أَقْرَعَ بَيْنَهُمَا تَطْيِيبًا لِقَلْبِهِمَا وَنَفْيًا لِتُهْمَةِ الْمَيْلِ، ثُمَّ إِنْ حَلَفَ لِأَحَدِهِمَا يَحْلِفُ لِلثَّانِي، فَإِنْ حَلَفَ فَلَا شَيْءَ لَهُمَا لِعَدَمِ الْحُجَّةِ، وَإِنْ نَكَلَ أَعْنِي لِلثَّانِي يَقْضِي لَهُ لِوُجُودِ الْحُجَّةِ، وَإِنْ نَكَلَ لِلْأَوَّلِ يَحْلِفُ لِلثَّانِي وَلَا يَقْضِي بِالنُّكُولِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا أَقَرَّ لِأَحَدِهِمَا لِأَنَّ الْإِقْرَارَ حُجَّةٌ مُوجِبَةٌ بِنَفْسِهِ فَيَقْضِي بِهِ، أَمَّا النُّكُولُ إِنَّمَا يَصِيرُ حُجَّةً عِنْدَ الْقَضَاءِ فَجَازَ أَنْ يُؤَخِّرَهُ لِيَحْلِفَ لِلثَّانِي

عَنْهُ: وَالْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمَا لَوْ كَانَ فِي أَيْدِيهِمَا كَانَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَأْخُذَ نَصِيبَهُ نَقُولُ: لَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَأْخُذَ نَصِيبَهُ مِنْ الْمُودَعِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْغَرِيمَ إذَا أَخَذَ مِنْ مَالِ غَرِيمِهِ جِنْسَ حَقِّهِ جَازَ وَلَا يُجْبَرُ عَلَى الرَّدِّ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ حَقَّهُ مِنْ مُودَعِ الْغَرِيمِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ كَمَا إذَا كَانَ لَهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَدِيعَةً عِنْدَ إنْسَانٍ وَعَلَيْهِ أَلْفٌ لِغَيْرِهِ فَلِغَرِيمِهِ أَنْ يَأْخُذَهُ إذَا ظَفِرَ بِهِ وَلَيْسَ لِلْمُودَعِ أَنْ يَدْفَعَهُ إلَيْهِ، إلَى هُنَا كَلَامُ ذَلِكَ الشَّارِحِ.

أَقُولُ: فَعَلَى هَذَا الِاسْتِخْرَاجِ يَتَمَشَّى هَذَا الْجَوَابُ عَلَى كِلْتَا الرِّوَايَتَيْنِ، وَلَكِنْ لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ لَهُ دُرْبَةٌ بِأَسَالِيبِ الْكَلَامِ أَنَّ تَقْرِيرَ الْمُصَنِّفِ لَا يُسَاعِدُ ذَلِكَ جِدًّا. تَبَصَّرْ

(قَوْلُهُ وَشَرْحُ ذَلِكَ أَنَّ دَعْوَى كُلِّ وَاحِدٍ صَحِيحَةٌ) أَيْ عَلَى سَبِيلِ الِانْفِرَادِ دُونَ الِاجْتِمَاعِ لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَكُونَ الْأَلْفُ الْوَاحِدُ مُودَعًا عِنْدَ اثْنَيْنِ بِكَمَالِهِ، كَذَا فِي الْكِفَايَةِ وَشَرْحِ تَاجِ الشَّرِيعَةِ وَهُوَ الْحَقُّ عِنْدِي فِي مَعْنَى الْمَقَامِ، فَيَتِمُّ التَّعْلِيلُ حِينَئِذٍ بِقَوْلِهِ لِاحْتِمَالِهَا الصِّدْقَ بِلَا كُلْفَةٍ أَصْلًا. وَأَمَّا بَعْضُ الْفُضَلَاءِ فَقَدْ قَصَدَ تَوْجِيهَ الْمَقَامِ بِالْحَمْلِ عَلَى صِحَّةِ دَعْوَاهُمَا عَلَى سَبِيلِ الِاجْتِمَاعِ حَيْثُ قَالَ فِي بَيَانِهِ: بِأَنْ يُودِعَهُ أَحَدُهُمَا فَيَشْتَرِيَ الْمُودَعُ بِهِ سِلْعَةً مِنْ الْآخَرِ وَيُسَلِّمَهُ إلَيْهِ مِنْ ثَمَنِهِ فَيَقْبِضَهُ ثُمَّ يُودِعَهُ أَيْضًا انْتَهَى. أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ، لِأَنَّ مَا ذُكِرَ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ قَوْلِهِ فَادَّعَاهَا رَجُلَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهَا لَهُ أَوْدَعَهَا إيَّاهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ادَّعَى أَنَّهَا مِلْكٌ لَهُ فِي الْحَالِ أَوْدَعَهَا إيَّاهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْعَيْنَ الْوَاحِدَ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ مِلْكًا لِاثْنَيْنِ بِكَمَالِهِ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَا أَنْ يَكُونَ مُودَعًا مِنْ اثْنَيْنِ بِكَمَالِهِ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، وَفِي الصُّورَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا ذَلِكَ الْقَائِلُ قَدْ زَالَ إيدَاعُ أَحَدِهِمَا الْأَلْفِ مِمَّنْ هِيَ فِي يَدِهِ وَزَالَ مِلْكُهُ عَنْهَا أَيْضًا بِاشْتِرَائِهِ بِهَا سِلْعَةً مِنْ الْآخَرِ وَتَسْلِيمِهَا إلَيْهِ، فَكَيْفَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَصْدُقَا مَعًا فِي دَعْوَاهُمَا الْمَزْبُورَةِ.

(قَوْلُهُ وَيَحْلِفُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ لِتَغَايُرِ الْحَقَّيْنِ) قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الشُّرَّاحِ فِي تَعْلِيلِ تَغَايُرِ الْحَقَّيْنِ: لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي أَلْفًا. أَقُولُ: يَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إنَّمَا يَدَّعِي أَلْفًا مُعَيَّنًا وَهُوَ مَا فِي يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي وَضْعِ الْمَسْأَلَةِ، وَالنُّقُودُ تَتَعَيَّنُ فِي الْوَدَائِعِ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي مَوْضِعِهِ وَنَصَّ عَلَيْهِ الزَّيْلَعِيُّ فِي شَرْحِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي التَّبْيِينِ، فَمِنْ أَيْنَ يَدُلُّ هَذَا عَلَى تَغَايُرِ الْحَقَّيْنِ.

ثُمَّ إنَّ بَعْضَ الْفُضَلَاءِ بَيَّنَ مُغَايَرَةَ الْحَقَّيْنِ بِنَهْجٍ آخَرَ حَيْثُ قَالَ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ تَغَايُرَ الْحَقِّ لِتَغَايُرِ الْمُسْتَحِقِّ فَلِكُلٍّ مِنْهُمَا حَقٌّ فِي يَمِينِهِ عَلَى مَا مَرَّ فِي الدَّعْوَى مِنْ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَك يَمِينُهُ» انْتَهَى. أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا بِمُفِيدٍ هَاهُنَا، لِأَنَّ مَا يَقْتَضِيهِ أَنْ يَكُونَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا حَقٌّ فِي يَمِينِهِ إنَّمَا هُوَ عَدَمُ الِاكْتِفَاءِ لِتَحْلِيفِهِ لِأَحَدِهِمَا فَقَطْ، وَهَذَا لَا يَسْتَلْزِمُ تَحْلِيفَهُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ كَمَا هُوَ الْمَطْلُوبُ هَاهُنَا، بَلْ يَحْصُلُ بِتَحْلِيفِهِ لَهُمَا مَعًا، وَإِنَّمَا الَّذِي يَقْتَضِي تَحْلِيفَهُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ أَمْرٌ وَرَاءَ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَقٌّ فِي يَمِينِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا لَوْ ادَّعَيَا مِنْ أَحَدٍ شَيْئًا وَاحِدًا مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا عَلَى سَبِيلِ الشُّيُوعِ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَقٌّ فِي يَمِينِهِ قَطْعًا مَعَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ هُنَاكَ تَحْلِيفُهُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ.

وَالْأَظْهَرُ فِي تَعْلِيلِهِ أَنْ يَحْلِفَ هَاهُنَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْكَافِي حَيْثُ قَالَ: وَإِنَّمَا يَحْلِفُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِانْفِرَادِهِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ادَّعَاهُ بِانْفِرَادِهِ انْتَهَى، تَدَبَّرْ. (أَمَّا النُّكُولُ إنَّمَا يَصِيرُ حُجَّةً عِنْدَ الْقَضَاءِ فَجَازَ أَنْ يُؤَخِّرَهُ لِيَحْلِفَ لِلثَّانِي

ص: 496

فَيَنْكَشِفَ وَجْهُ الْقَضَاءِ، وَلَوْ نَكَلَ لِلثَّانِي أَيْضًا يَقْضِي بِهَا بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْحُجَّةِ كَمَا إِذَا أَقَامَا الْبَيِّنَةَ وَيَغْرَمُ أَلْفًا أُخْرَى بَيْنَهُمَا لِأَنَّهُ أَوْجَبَ الْحَقَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِبَذْلِهِ أَوْ بِإِقْرَارِهِ وَذَلِكَ حُجَّةٌ فِي حَقِّهِ، وَبِالصَّرْفِ إِلَيْهِمَا صَارَ قَاضِيًا نِصْفَ حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ بِنِصْفِ حَقِّ الْآخَرِ فَيَغْرَمُهُ، فَلَوْ قَضَى الْقَاضِي لِلْأَوَّلِ حِينَ نَكَلَ ذَكَرَ الْإِمَامُ عَلِيٌّ الْبَزْدَوِيُّ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّهُ يَحْلِفُ لِلثَّانِي وَإِذَا نَكَلَ يَقْضِي بِهَا بَيْنَهُمَا لِأَنَّ الْقَضَاءَ لِلْأَوَّلِ لَا يُبْطِلُ حَقَّ الثَّانِي لِأَنَّهُ يُقَدِّمُهُ إِمَّا بِنَفْسِهِ أَوْ بِالْقُرْعَةِ وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يُبْطِلُ حَقَّ الثَّانِي.

وَذَكَرَ الْخَصَّافُ أَنَّهُ يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ لِلْأَوَّلِ، وَوَضَعَ الْمَسْأَلَةَ فِي الْعَبْدِ وَإِنَّمَا نَفَذَ لِمُصَادَفَتِهِ مَحَلَّ الِاجْتِهَادِ لِأَنَّ مِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ يَقْضِي لِلْأَوَّلِ وَلَا يَنْتَظِرُ لِكَوْنِهِ إِقْرَارَ دَلَالَةٍ ثُمَّ لَا يَحْلِفُ لِلثَّانِي مَا هَذَا الْعَبْدُ لِي لِأَنَّ نُكُولَهُ لَا يُفِيدُ بَعْدَمَا صَارَ لِلْأَوَّلِ، وَهَلْ يُحَلِّفُهُ بِاللَّهِ مَا لِهَذَا عَلَيْكَ هَذَا الْعَبْدُ وَلَا قِيمَتُهُ وَهُوَ كَذَا وَكَذَا وَلَا أَقَلَّ مِنْهُ.

قَالَ: يَنْبَغِي أَنْ يُحَلِّفَهُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رحمه الله خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُودَعَ إِذَا أَقَرَّ الْوَدِيعَةِ وَدَفَعَ بِالْقَضَاءِ إِلَى غَيْرِهِ يَضْمَنُهُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ خِلَافًا لَهُ وَهَذِهِ فُرَيْعَةُ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ وَقَدْ وَقَعَ فِيهِ بَعْضُ الْإِطْنَابِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فَيَنْكَشِفَ وَجْهُ الْقَضَاءِ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي بَيَانِ وَجْهِ الْقَضَاءِ بِأَنْ يَقْضِيَ بِالْأَلْفِ لِلْأَوَّلِ أَوْ لِلثَّانِي أَوْ لَهُمَا جَمِيعًا، لِأَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لِلثَّانِي فَلَا شَيْءَ لَهُ وَالْأَلْفُ كُلُّهُ لِلْأَوَّلِ، وَلَوْ نَكَلَ لِلثَّانِي أَيْضًا كَانَ الْأَلْفُ بَيْنَهُمَا انْتَهَى. أَقُولُ: لَا صِحَّةَ لِقَوْلِهِ أَوْ لِلثَّانِي إذْ لَا احْتِمَالَ لِلْقَضَاءِ بِالْأَلْفِ بَعْدَ نُكُولِ ذِي الْيَدِ الْأَوَّلِ وَالْكَلَامُ فِيهِ، فَالْمُحْتَمَلُ هُنَا وَجْهَانِ لَا غَيْرُ، وَالْعَجَبُ أَنَّهُ قَالَ فِي التَّعْلِيلِ لِأَنَّهُ لَوْ حَلَفَ الثَّانِي فَلَا شَيْءَ لَهُ، وَالْأَلْفُ كُلُّهُ لِلْأَوَّلِ.

وَلَوْ نَكَلَ لِلثَّانِي أَيْضًا كَانَ الْأَلْفُ بَيْنَهُمَا، وَهَذَا قَطْعِيٌّ فِي أَنَّ الْمُحْتَمَلَ هُنَا وَجْهَانِ لَا غَيْرُ، وَكَانَ مَنْشَأُ زَلَّتِهِ هُوَ أَنَّ سَائِرَ الشُّرَّاحِ قَالُوا فِي بَيَانِ وَجْهِ الْقَضَاءِ بِأَنْ يَقْضِيَ بِالْأَلْفِ لَهُمَا أَوْ لِأَحَدِهِمَا، فَتَوَهَّمَ الشَّارِحُ الْمَزْبُورَ أَنَّ قَوْلَهُمْ أَوْ لِأَحَدِهِمَا يَعُمُّ الْأَوَّلَ وَالثَّانِيَ فَوَقَعَ فِيمَا وَقَعَ مَعَ أَنَّ مُرَادَهُمْ بِهِ أَحَدُهُمَا بِعَيْنِهِ وَهُوَ الْأَوَّلُ.

ص: 497