الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِكِتَابُ الْعَارِيَّةِ
قَالَ: (الْعَارِيَّةُ جَائِزَةٌ)؛ لِأَنَّهَا نَوْعُ إحْسَانٍ وَقَدْ «اسْتَعَارَ النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام دُرُوعًا مِنْ صَفْوَانَ» (وَهِيَ تُمْلِيك الْمَنَافِعِ بِغَيْرِ عِوَضٍ) وَكَانَ الْكَرْخِيُّ رحمه الله يَقُولُ: هُوَ إبَاحَةُ الِانْتِفَاعِ بِمِلْكِ الْغَيْرِ،
كِتَابُ الْعَارِيَّةِ)
. قَدْ مَرَّ وَجْهُ مُنَاسَبَةِ هَذَا الْكِتَابِ لِمَا قَبْلَهُ فِي أَوَّلِ الْوَدِيعَةِ، ثُمَّ إنَّهُ قَدْ وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي تَفْسِيرِ الْعَارِيَّةِ لُغَةً وَشَرِيعَةً، أَمَّا لُغَةً فَقَدْ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ فِي الصِّحَاحِ: الْعَارِيَّةُ بِالتَّشْدِيدِ كَأَنَّهَا مَنْسُوبَةٌ إلَى الْعَارِ، لِأَنَّ طَلَبَهَا عَارٌ وَعَيْبٌ، وَالْعَارَةُ مِثْلُ الْعَارِيَّةِ انْتَهَى. وَقَالَ الْمُطَرِّزِيُّ فِي الْمُغْرِبِ: الْعَارِيَّةُ أَصْلُهَا عَوَرِيَّةٌ فَعْلِيَّةٌ مَنْسُوبَةٌ إلَى الْعَارَةِ اسْمٌ مِنْ الْإِعَارَةِ كَالْغَارَةِ مِنْ الْإِغَارَةِ، وَأَخْذُهَا مِنْ الْعَارِ الْعَيْبِ أَوْ الْعُرَى خَطَأٌ. انْتَهَى. وَفِي بَعْضِ الشُّرُوحِ مَا ذَكَرَهُ فِي الْمُغْرِبِ هُوَ الْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَاشَرَ الِاسْتِعَارَةَ فَلَوْ كَانَ فِي طَلَبِهَا عَارٌ لَمَا بَاشَرَهَا. وَفِي الْقَامُوسُ وَالْمُغْرِبِ: وَقَدْ تُخَفَّفُ الْعَارِيَّةُ.
وَفِي الْمَبْسُوطِ قِيلَ: هِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنْ التَّعَاوُرِ وَهُوَ التَّنَاوُبُ فَكَأَنَّهُ يَجْعَلُ لِلْغَيْرِ نَوْبَةً فِي الِانْتِفَاعِ بِمِلْكِهِ عَلَى أَنْ تَعُودَ النَّوْبَةُ إلَيْهِ بِالِاسْتِرْدَادِ مَتَى شَاءَ، وَلِهَذَا كَانَتْ الْإِعَارَةُ فِي الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ قَرْضًا؛ لِأَنَّهُ لَا يُنْتَفَعُ بِهَا إلَّا بِاسْتِهْلَاكِ الْعَيْنِ فَلَا تَعُودُ النَّوْبَةُ إلَيْهِ فِي تِلْكَ الْعَيْنِ لِتَكُونَ عَارِيَّةً حَقِيقَةً، وَإِنَّمَا تَعُودُ النَّوْبَةُ إلَيْهِ فِي مِثْلِهَا. وَأَمَّا شَرِيعَةً فَقَالَ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ: هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ تَمْلِيكِ الْمَنَافِعِ بِغَيْرِ عِوَضٍ. وَقَالَ الْكَرْخِيُّ وَالشَّافِعِيُّ: هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ إبَاحَةِ الِانْتِفَاعِ
لِأَنَّهَا تَنْعَقِدُ بِلَفْظَةِ الْإِبَاحَةِ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهَا ضَرْبُ الْمُدَّةِ، وَمَعَ الْجَهَالَةِ لَا يَصِحُّ التَّمْلِيكُ وَلِذَلِكَ يَعْمَلُ فِيهَا النَّهْيُ، وَلَا يَمْلِكُ الْإِجَارَةَ مِنْ غَيْرِهِ، وَنَحْنُ نَقُولُ: إنَّهُ يُنْبِئُ عَنْ التَّمْلِيكِ، فَإِنَّ الْعَارِيَّةَ مِنْ الْعَرِيَّةِ وَهِيَ الْعَطِيَّةِ وَلِهَذَا تَنْعَقِدُ بِلَفْظِ التَّمْلِيكِ، وَالْمَنَافِعُ قَابِلَةٌ لِلْمِلْكِ كَالْأَعْيَانِ. وَالتَّمْلِيكُ نَوْعَانِ: بِعِوَضٍ، وَبِغَيْرِ عِوَضٍ. ثُمَّ الْأَعْيَانُ تَقْبَلُ النَّوْعَيْنِ، فَكَذَا
بِمِلْكِ الْغَيْرِ، وَسَيَأْتِي دَلِيلُ الطَّرَفَيْنِ فِي الْكِتَابِ (قَوْلُهُ: وَنَحْنُ نَقُولُ إنَّهُ يُنْبِئُ عَنْ التَّمْلِيكِ فَإِنَّ الْعَارِيَّةَ مِنْ الْعَرِيَّةِ، وَهِيَ الْعَطِيَّةِ وَلِهَذَا تَنْعَقِدُ بِلَفْظِ التَّمْلِيكِ إلَخْ) أَقُولُ: فِيهِ بَحْثٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا أَنَّ لِلْخَصْمِ أَنْ يَمْنَعَ كَوْنَ الْعَارِيَّةِ مِنْ الْعَرِيَّةِ الَّتِي هِيَ الْعَطِيَّةُ، وَيَقُولُ بَلْ هِيَ مِنْ الْعَارِ كَمَا ذَكَرَ فِي الصِّحَاحِ، أَوْ مِنْ الْعَارَةِ كَمَا ذَكَرَ فِي الْمُغْرِبِ، أَوْ مِنْ التَّعَاوُرِ كَمَا ذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ. وَعَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ الْمَرْوِيَّةِ عَنْ ثِقَاتِ الْأَئِمَّةِ لَا يَثْبُتُ إنْبَاءُ لَفْظِ الْعَارِيَّةِ عَنْ التَّمْلِيكِ.
وَثَانِيهِمَا أَنَّ لِلْخَصْمِ أَنْ يَقُولَ: انْعِقَادُ الْعَارِيَّةِ بِلَفْظِ التَّمْلِيكِ لَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهَا بِمَعْنَى التَّمْلِيكِ دُونَ الْإِبَاحَةِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ لَفْظُ التَّمْلِيكِ هُنَاكَ مُسْتَعَارًا لِمَعْنَى الْإِبَاحَةِ لِعَلَاقَةِ لُزُومِ الْإِبَاحَةِ لِلتَّمْلِيكِ كَمَا قُلْتُمْ فِي الْجَوَابِ عَنْ انْعِقَادِهَا بِلَفْظَةِ الْإِبَاحَةِ: إنَّ لَفْظَةَ الْإِبَاحَةِ اُسْتُعِيرَتْ لِلتَّمْلِيكِ عَلَى مَا سَيَأْتِي فِي الْكِتَابِ. وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: فِيهِ بَحْثٌ مِنْ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلِ أَنَّهُ اسْتِدْلَالٌ فِي التَّعْرِيفَاتِ وَهِيَ لَا تَقْبَلُهُ؛ لِأَنَّ الْمُعَرِّفَ إذَا عَرَّفَ شَيْئًا بِالْجَامِعِ وَالْمَانِعِ، فَإِنْ سَلِمَ مِنْ النَّقْضِ فَذَاكَ، وَإِنْ انْتَقَضَ بِكَوْنِهِ غَيْرَ جَامِعٍ أَوْ مَانِعٍ يُجَابُ عَنْ النَّقْضِ إنْ أَمْكَنَ، وَأَمَّا الِاسْتِدْلَال فَإِنَّمَا يَكُونُ فِي التَّصْدِيقَاتِ.
وَالثَّانِي أَنَّهُ قِيَاسٌ فِي الْمَوْضُوعَاتِ، وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ مِنْ شُرُوطِ الْقِيَاسِ تَعْدِيَةَ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ الثَّابِتِ بِالنَّصِّ بِعَيْنِهِ إلَى فَرْعٍ هُوَ نَظِيرُهُ وَلَا نَصَّ فِيهِ، وَالْمَوْضُوعَاتُ لَيْسَتْ بِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ وَمَوْضِعُهُ أُصُولُ الْفِقْهِ. وَالثَّالِثِ أَنَّ مِنْ شَرْطِ الْقِيَاسِ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ مُتَعَدِّيًا إلَى فَرْعٍ هُوَ نَظِيرُهُ، وَالْمَنَافِعُ لَيْسَتْ نَظِيرَ الْأَعْيَانِ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ. أَقُولُ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أَوْجُهِ
الْمَنَافِعُ، وَالْجَامِعُ دَفْعُ الْحَاجَةِ، وَلَفْظَةُ الْإِبَاحَةِ اُسْتُعِيرَتْ لِلتَّمْلِيكِ، كَمَا فِي الْإِجَارَةِ، فَإِنَّهَا تَنْعَقِدُ بِلَفْظَةِ الْإِبَاحَةِ، وَهِيَ تَمْلِيكٌ.
بَحْثِهِ سَاقِطٌ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ مَا ذَكَرَ لَيْسَ بِاسْتِدْلَالٍ عَلَى نَفْسِ التَّعْرِيفِ الَّذِي هُوَ مِنْ قَبِيلِ التَّصَوُّرَاتِ بَلْ عَلَى الْحُكْمِ الضِّمْنِيِّ الَّذِي يَقْصِدُهُ الْمُعَرِّفُ، كَأَنْ يُقَالَ هَذَا التَّعْرِيفُ هُوَ الصَّحِيحُ أَوْ هُوَ الْحَقُّ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْحُكْمِ مِنْ قَبِيلِ التَّصْدِيقَاتِ الَّتِي يَجْرِي فِيهَا الِاسْتِدْلَال، وَقَدْ صَرَّحُوا فِي مَوْضِعِهِ بِأَنَّ الِاعْتِرَاضَاتِ الْمُورَدَةَ فِي التَّعْرِيفَاتِ مِنْ الْمَنْعِ وَالنَّقْضِ وَالْمُعَارَضَةِ إنَّمَا تُورَدُ عَلَى الْأَحْكَامِ الضِّمْنِيَّةِ بِأَنَّ هَذَا التَّعْرِيفَ صَحِيحٌ جَامِعٌ مَانِعٌ لَا عَلَى نَفْسِ التَّعْرِيفَاتِ الَّتِي هِيَ مِنْ التَّصَوُّرَاتِ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ أَمْرَ الِاسْتِدْلَالِ هُنَا أَيْضًا كَذَلِكَ. وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الْمُصَنِّفَ لَمْ يَقْصِدْ إثْبَاتَ كَوْنِ لَفْظِ الْعَارِيَّةِ مَوْضُوعًا فِي عُرْفِ الشَّرْعِ لِتَمْلِيكِ الْمَنَافِعِ بِغَيْرِ عِوَضٍ بِالْقِيَاسِ حَتَّى يُرَدَّ عَلَيْهِ أَنَّهُ قِيَاسٌ فِي الْمَوْضُوعَاتِ، بَلْ أَرَادَ إثْبَاتَ قَبُولِ الْمَنَافِعِ لِنَوْعَيْ التَّمْلِيكِ بِالْقِيَاسِ عَلَى قَبُولِ الْأَعْيَانِ لَهُمَا، وَقَصَدَ بِإِثْبَاتِ هَذَا دَفْعَ تَوَهُّمِ الْخَصْمِ أَنَّ الْمَنَافِعَ أَعْرَاضٌ لَا تَبْقَى فَلَا تَقْبَلُ التَّمْلِيكَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الشَّارِحُ الْمَذْكُورُ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ قَبُولَ الْأَعْيَانِ لِنَوْعَيْ التَّمْلِيكِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ الدَّالِّ عَلَى جَوَازِ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ فَيَصِحُّ تَعْدِيَتُهُ إلَى قَبُولِ الْمَنَافِعِ لَهُمَا أَيْضًا.
وَأَمَّا الثَّالِثُ فَلِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ وَالْمَنَافِعُ لَيْسَتْ نَظِيرَ الْأَعْيَانِ أَنَّهَا لَيْسَتْ نَظِيرَهَا مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ فَهُوَ مُسَلَّمٌ، وَلَكِنْ لَا يُجْدِي نَفْعًا إذْ لَا يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ الْقِيَاسِ اشْتِرَاكُ الْفَرْعِ مَعَ الْأَصْلِ فِي جَمِيعِ الْجِهَاتِ، بَلْ يَكْفِي اشْتِرَاكُهُمَا فِي عِلَّةِ الْحُكْمِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهَا لَيْسَتْ نَظِيرَهَا فِي عِلَّةِ الْحُكْمِ فَهُوَ مَمْنُوعٌ، فَإِنَّ عِلَّةَ الْحُكْمِ الَّذِي هُوَ الْقَبُولُ لِنَوْعَيْ التَّمْلِيكِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ إنَّمَا هِيَ دَفْعُ الْحَاجَةِ، وَهُمَا أَيْ الْأَعْيَانُ وَالْمَنَافِعُ مُشْتَرَكَتَانِ فِي هَذِهِ الْعِلَّةِ كَمَا يُفْصِحُ عَنْهُ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ وَالْجَامِعُ دَفْعُ الْحَاجَةِ. ثُمَّ قَالَ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهَا بِأَنَّ هَذَا التَّعْرِيفَ إمَّا لَفْظِيٌّ أَوْ رَسْمِيٌّ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَمَا ذَكَرْته فِي بَيَانِهِ يُجْعَلُ لِبَيَانِ الْمُنَاسَبَةِ لَا اسْتِدْلَالًا عَلَى ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي جُعِلَ بَيَانًا لِخَوَاصَّ يَعْرِفُ بِهَا الْعَارِيَّةَ انْتَهَى. أَقُولُ: وَفِيهِ بَحْثٌ مِنْ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ أَنَّ هَذَا التَّعْرِيفَ إنْ كَانَ لَفْظِيًّا كَانَ قَابِلًا لِلِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهِ، إذْ قَدْ تَقَرَّرَ فِي مَحَلِّهِ أَنَّ مَآلَ التَّعْرِيفِ اللَّفْظِيِّ إلَى التَّصْدِيقِ، وَالْحُكْمُ بِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ بِإِزَاءِ ذَلِكَ الْمَعْنَى فَلِذَلِكَ كَانَ قَابِلًا لِلْمَنْعِ، بِخِلَافِ التَّعْرِيفِ الْحَقِيقِيِّ إذْ لَا حُكْمَ فِيهِ بَلْ هُوَ تَصَوُّرٌ وَنَقْشٌ فَلَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ، فَمَا ذَكَرَ فِي بَيَانِهِ يُجْعَلُ لِبَيَانِ الْمُنَاسَبَةِ لَا اسْتِدْلَالًا عَلَى ذَلِكَ. وَالثَّانِي أَنَّهُ قَدْ تَقَرَّرَ فِي مَوْضِعِهِ أَيْضًا أَنَّ التَّعْرِيفَ الرَّسْمِيَّ الَّذِي بِالْخَوَاصِّ إنَّمَا يَكُونُ بِالْخَوَاصِّ اللَّازِمَةِ الْبَيِّنَةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ اللَّوَازِمَ الْبَيِّنَةَ لَا تَحْتَاجُ إلَى الْبَيَانِ فَلَا وَجْهَ لِقَوْلِهِ وَإِنْ كَانَ الثَّانِي جُعِلَ بَيَانًا لِخَوَاصَّ يَعْرِفُ بِهَا الْعَارِيَّةَ.
وَالثَّالِثُ أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ ضَمِيرَ عَنْهَا فِي قَوْلِهِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهَا رَاجِعٌ إلَى وَجْهِ بَحْثِهِ مَعَ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ فِي الْجَوَابِ عَلَى تَقْرِيرِ تَمَامِهِ إنَّمَا يَكُونُ جَوَابًا عَنْ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ مِنْ تِلْكَ الْأَوْجُهِ دُونَ غَيْرِهِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى الْفَطِنِ. ثُمَّ قَالَ: وَلَوْ جَعَلْنَا الْمَذْكُورَ فِي الْكِتَابِ حُكْمَ الْعَارِيَّةِ وَعَرَّفْنَاهَا بِأَنَّهَا عَقْدٌ عَلَى الْمَنَافِعِ بِغَيْرِ عِوَضٍ كَانَ سَالِمًا مِنْ الشُّكُوكِ، وَلَيْسَ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ مَا يُنَافِيهِ ظَاهِرًا فَالْحَمْلُ عَلَيْهِ أَوْلَى انْتَهَى.
أَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ. أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُ لَوْ جَعَلَ مَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ حُكْمَ الْعَارِيَّةِ لَبَقِيَ الْبَحْثُ الثَّالِثُ قَطْعًا فَلَمْ يَتِمَّ قَوْلُهُ: كَانَ سَالِمًا مِنْ الشُّكُوكِ. وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ هِيَ تَمْلِيكُ الْمَنَافِعِ بِغَيْرِ عِوَضٍ بِحَمْلِ التَّمْلِيكِ عَلَيْهَا بِالْمُوَاطَأَةِ يُنَافِي ظَاهِرًا كَوْنَ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ حُكْمَ الْعَارِيَّةِ، إذْ حُكْمُ الشَّيْءِ لَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ بِالْمُوَاطَأَةِ فَلَمْ يَتِمَّ قَوْلُهُ: وَلَيْسَ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ مَا يُنَافِيهِ ظَاهِرًا. وَأَمَّا ثَالِثًا فَلِأَنَّ تَوْجِيهَهُ هَذَا يُنَافِي مَا ذَكَرَهُ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْعَارِيَّةِ بِطَرِيقِ الْجَزْمِ حَيْثُ قَالَ: وَاخْتُلِفَ فِي تَعْرِيفِهَا اصْطِلَاحًا، فَقَالَ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ: هِيَ تَمْلِيكُ الْمَنَافِعِ بِغَيْرِ عِوَضٍ. وَكَانَ الْكَرْخِيُّ يَقُولُ: هِيَ إبَاحَةُ الِانْتِفَاعِ بِمِلْكِ الْغَيْرِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ انْتَهَى. فَإِنَّ تَوْجِيهَهُ هَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الِاخْتِلَافُ الْمَذْكُورُ فِي حُكْمِهَا لَا فِي تَعْرِيفِهَا. وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ عَلَى قَوْلِهِ كَانَ سَالِمًا مِنْ الشُّكُوكِ: أَمَّا مِنْ الْأَوَّلِ فَمُسَلَّمٌ، وَأَمَّا مِنْ الْأَخِيرَيْنِ فَلَا انْتَهَى.
أَقُولُ: سَلَامَتُهُ مِنْ الثَّانِي أَيْضًا ظَاهِرٌ إذْ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ مَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ حُكْمَ الْعَارِيَّةِ دُونَ مَعْنَاهُ شَرْعًا لَمْ يُتَصَوَّرُ وَضْعٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ لَفْظِ الْعَارِيَّةِ حَتَّى يَتَّجِهَ عَلَى دَلِيلِهِ الْمَذْكُورِ أَنَّهُ قِيَاسٌ فِي الْمَوْضُوعَاتِ، وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ
وَالْجَهَالَةُ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ؛ لِعَدَمِ اللُّزُومِ فَلَا تَكُونُ ضَائِرَةً. وَلِأَنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ بِالْقَبْضِ وَهُوَ الِانْتِفَاعُ. وَعِنْدَ ذَلِكَ لَا جَهَالَةَ، وَالنَّهْيُ مَنَعَ عَنْ التَّحْصِيلِ فَلَا يَتَحَصَّلُ الْمَنَافِعَ عَلَى مِلْكِهِ. وَلَا يَمْلِكُ الْإِجَارَةَ لِدَفْعِ زِيَادَةِ الضَّرَرِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ (وَتَصِحُّ بِقَوْلِهِ أَعَرْتُك)؛ لِأَنَّهُ صَرِيحٌ فِيهِ (وَأَطْعَمْتُك هَذِهِ الْأَرْضَ)؛ لِأَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فِيهِ
قَوْلُهُ: وَالْجَهَالَةُ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ؛ لِعَدَمِ اللُّزُومِ فَلَا تَكُونُ ضَائِرَةً) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِ الْكَرْخِيِّ وَمَعَ الْجَهَالَةِ لَا يَصِحُّ التَّمْلِيكُ. وَوَجْهُهُ أَنَّ الْجَهَالَةَ الْمُفْضِيَةَ إلَى النِّزَاعِ هِيَ الْمَانِعَةُ، وَهَذِهِ لَيْسَتْ كَذَلِكَ؛ لِعَدَمِ اللُّزُومِ فَلَا تَكُونُ ضَائِرَةً، كَذَا فِي الشُّرُوحِ. قَالَ صَاحِبُ الْكَافِي فِي تَقْرِيرِ هَذَا الْمَحَلِّ: وَإِنَّمَا صَحَّتْ الْعَارِيَّةُ مَعَ جَهَالَةِ الْمُدَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ التَّمْلِيكُ مَعَ جَهَالَةِ الْمُدَّةِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْجَهَالَةَ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ؛ لِأَنَّ لِلْمُعِيرِ أَنْ يَفْسَخَ الْعَقْدَ فِي كُلِّ سَاعَةٍ؛ لِكَوْنِهَا غَيْرَ لَازِمَةٍ، وَالْجَهَالَةُ الَّتِي لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْعَقْدِ انْتَهَى كَلَامُهُ.
أَقُولُ: فِيهِ نَوْعُ خَلَلٍ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ وَإِنَّمَا صَحَّتْ الْعَارِيَّةُ مَعَ جَهَالَةِ الْمُدَّةِ وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ التَّمْلِيكُ مَعَ جَهَالَةِ الْمُدَّةِ يُشْعِرُ بِأَنَّ عَامَّةَ الْعُلَمَاءِ قَالُوا بِصِحَّةِ الْعَارِيَّةِ مَعَ جَهَالَةِ الْمُدَّةِ، وَإِنْ اعْتَرَفُوا بِعَدَمِ صِحَّةِ التَّمْلِيكِ أَصْلًا مَعَ جَهَالَةِ الْمُدَّةِ فَيَلْزَمُ أَنْ لَا يُتِمَّ هَذَا الْكَلَامُ جَوَابًا عَنْ قَوْلِ الْخَصْمِ: وَمَعَ الْجَهَالَةِ لَا يَصِحُّ التَّمْلِيكُ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ بِهِ الِاسْتِدْلَال عَلَى أَنَّ الْعَارِيَّةَ هِيَ الْإِبَاحَةُ دُونَ التَّمْلِيكِ لَا عَلَى أَنَّهَا غَيْرُ صَحِيحَةٍ مَعَ الْجَهَالَةِ: فَالْأَوْلَى فِي الْعِبَارَةِ أَنْ يَقُولَ: وَإِنَّمَا صَحَّتْ الْعَارِيَّةُ مَعَ جَهَالَةِ الْمُدَّةِ، وَإِنْ كَانَتْ هِيَ التَّمْلِيكُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْجَهَالَةَ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ إلَخْ تَأَمَّلْ. (قَوْلُهُ: وَتَصِحُّ بِقَوْلِهِ أَعَرْتُك؛ لِأَنَّهُ صَرِيحٌ فِيهِ وَأَطْعَمْتُك هَذِهِ الْأَرْضَ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فِيهِ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ صَرِيحٌ فِيهِ: أَيْ حَقِيقَةٌ فِي عَقْدِ الْعَارِيَّةِ، وَفِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ مُسْتَعْمَلٌ فِيهِ: أَيْ مَجَازٌ فِيهِ، ثُمَّ قَالَ: وَفِي عِبَارَتِهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَرَادَ بِقَوْلِهِ مُسْتَعْمَلٌ أَنَّهُ مَجَازٌ فَهُوَ صَرِيحٌ؛ لِأَنَّهُ مَجَازٌ مُتَعَارَفٌ، وَالْمَجَازُ الْمُتَعَارَفُ صَرِيحٌ كَمَا عُرِفَ فِي الْأُصُولِ، فَلَا فَرْقَ إذًا بَيْنَ الْعِبَارَتَيْنِ، وَالْجَوَابُ: كِلَاهُمَا صَرِيحٌ لَكِنَّ أَحَدَهُمَا حَقِيقَةٌ وَالْآخَرَ مَجَازٌ، فَأَشَارَ إلَى الثَّانِي بِقَوْلِهِ مُسْتَعْمَلٌ: أَيْ مَجَازٌ لِيُعْلِمَ أَنَّ الْآخَرَ حَقِيقَةٌ إلَى هُنَا كَلَامُهُ. وَرَدَّ عَلَيْهِ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ بِأَنْ قَالَ: فِيهِ تَأَمُّلٌ، فَإِنَّ تَخْصِيصَ الْأُولَى بِكَوْنِهَا صَرِيحَةً يُوهِمُ أَنَّ الثَّانِيَةَ لَيْسَتْ كَذَلِكَ فَلَا تَنْحَسِمُ مَادَّةُ الْإِشْكَالِ انْتَهَى.
أَقُولُ: هَذَا سَاقِطٌ؛ لِأَنَّ الصَّرِيحَ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْأُصُولِ مَا انْكَشَفَ الْمُرَادُ مِنْهُ
(وَمَنَحَتْك هَذَا الثَّوْبَ وَحَمَلْتُك عَلَى هَذِهِ الدَّابَّةِ إذَا لَمْ يُرِدْ بِهِ الْهِبَةَ)؛ لِأَنَّهُمَا لِتَمْلِيكِ الْعَيْنِ، وَعِنْدَ عَدَمِ إرَادَتِهِ الْهِبَةَ تُحْمَلُ عَلَى تَمْلِيكِ الْمَنَافِعِ تَجَوُّزًا. قَالَ (وَأَخْدَمْتُك هَذَا الْعَبْدَ)؛ لِأَنَّهُ أَذِنَ لَهُ فِي اسْتِخْدَامِهِ (وَدَارِي لَك سُكْنَى)؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ سُكْنَاهَا لَك (وَدَارِي لَك عُمْرَى سُكْنَى)؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ سُكْنَاهَا لَهُ مُدَّةَ عُمُرِهِ. وَجَعَلَ قَوْلُهُ سُكْنَى تَفْسِيرًا لِقَوْلِهِ لَك؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ تَمْلِيكَ الْمَنَافِعِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ بِدَلَالَةٍ آخِرِهِ.
قَالَ: (وَلِلْمُعِيرِ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْعَارِيَّةِ مَتَى شَاءَ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «الْمِنْحَةُ مَرْدُودَةٌ وَالْعَارِيَّةُ مُؤَدَّاةٌ» وَلِأَنَّ الْمَنَافِعَ تُمْلَكُ شَيْئًا فَشَيْئًا عَلَى حَسَبِ حُدُوثِهَا فَالتَّمْلِيكُ فِيمَا لَمْ يُوجَدْ لَمْ يَتَّصِلْ بِهِ الْقَبْضُ فَيَصِحُّ الرُّجُوعُ عَنْهُ.
قَالَ: (وَالْعَارِيَّةُ أَمَانَةٌ إنْ هَلَكَتْ مِنْ غَيْرِ تَعَدٍّ لَمْ يَضْمَنْ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَضْمَنُ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَ مَالَ غَيْرِهِ لِنَفْسِهِ لَا عَنْ اسْتِحْقَاقٍ فَيَضْمَنُهُ، وَالْإِذْنُ
فِي نَفْسِهِ فَيَتَنَاوَلُ الْحَقِيقَةَ الْغَيْرَ الْمَهْجُورَةَ وَالْمَجَازَ الْمُتَعَارَفَ كَمَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ، وَأَرَادَ الْمُصَنِّفُ بِالصَّرِيحِ هَاهُنَا الْحَقِيقَةَ فَقَطْ بِقَرِينَةِ مَا ذَكَرَهُ فِي مُقَابِلِهِ كَمَا بَيَّنَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ، فَإِنْ أَرَادَ ذَلِكَ الْبَعْضُ أَنَّ تَخْصِيصَ الْأُولَى بِكَوْنِهَا صَرِيحَةً يُوهِمُ أَنَّ الثَّانِيَةَ لَيْسَتْ كَذَلِكَ: أَيْ لَيْسَتْ بِصَرِيحَةٍ بِالْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ عُلَمَاءُ الْأُصُولِ فَهُوَ مَمْنُوعٌ، وَإِنَّمَا يَكُونُ كَذَلِكَ لَوْ لَمْ يَكُنْ قَرِينَةٌ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ بِالصَّرِيحِ هَاهُنَا مَعْنَى الْحَقِيقَةِ وَلَيْسَ فَلَيْسَ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ تَخْصِيصَ الْأُولَى بِذَلِكَ يُوهِمُ أَنَّ الثَّانِيَةَ لَيْسَتْ بِصَرِيحَةٍ بِمَعْنَى الْحَقِيقَةِ فَهُوَ مُسَلَّمٌ، وَلَكِنْ لَا إشْكَالَ فِيهِ حَتَّى لَا تَنْحَسِمَ مَادَّتُهُ (قَوْلُهُ: وَمَنَحْتُك هَذَا الثَّوْبَ وَحَمَلْتُك عَلَى هَذِهِ الدَّابَّةِ إذَا لَمْ يُرِدْ بِهِ الْهِبَةَ إلَخْ) قَالَ صَاحِبُ الْكَافِي: كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ: إذَا لَمْ يُرِدْ بِهِمَا بِدَلِيلِ التَّعْلِيلِ. وَقَالَ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ الضَّمِيرَ يَرْجِعُ إلَى الْمَذْكُورِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} انْتَهَى.
وَقَالَ الشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ بَعْدَ نَقْلِ الطَّعْنِ وَالْجَوَابِ: قُلْت: الْمَذْكُورُ شَيْئَانِ أَحَدُهُمَا قَوْلُهُ: وَمَنَحْتُك هَذَا الثَّوْبَ، وَالْآخَرُ حَمَلْتُك عَلَى هَذِهِ الدَّابَّةِ انْتَهَى. أَقُولُ: مَدَارُ مَا قَالَهُ عَلَى عَدَمِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَفْهُومِ وَبَيْنَ مَا صَدَّقَ هُوَ عَلَيْهِ، فَإِنَّ الشَّيْئَيْنِ هُوَ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ. وَمَبْنَى التَّأْوِيلِ هَاهُنَا وَفِي قَوْله تَعَالَى {عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} هُوَ الْأَوَّلُ، وَهُوَ شَيْءٌ وَاحِدٌ لَا مَحَالَةَ فَلَا غُبَارَ فِي الْجَوَابِ. لَا يُقَالُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ بَيَانَ الْوَاقِعِ لَا رَدَّ الْجَوَابِ.؛ لِأَنَّا نَقُولُ: كَوْنُ الْمَذْكُورِ شَيْئَيْنِ مَعَ كَوْنِهِ غَنِيًّا عَنْ الْبَيَانِ جِدًّا يَأْبَى عَنْهُ قَطْعًا ذِكْرَهُ لَفْظَةَ قُلْت سِيَّمَا بَعْدَ ذِكْرِ الطَّعْنِ وَالْجَوَابِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى ذَوِي الْأَلْبَابِ
ثَبَتَ ضَرُورَةَ الِانْتِفَاعِ فَلَا يَظْهَرُ فِيمَا وَرَاءَهُ، وَلِهَذَا كَانَ وَاجِبَ الرَّدِّ وَصَارَ كَالْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ. وَلَنَا أَنَّ اللَّفْظَ لَا يُنْبِئُ عَنْ الْتِزَامِ الضَّمَانِ؛ لِأَنَّهُ لِتَمْلِيكِ الْمَنَافِعِ بِغَيْرِ عِوَضٍ أَوْ لِإِبَاحَتِهَا، وَالْقَبْضُ لَمْ يَقَعْ تَعَدِّيًا لِكَوْنِهِ مَأْذُونًا فِيهِ،
(قَوْلُهُ: وَلِهَذَا كَانَ وَاجِبَ الرَّدِّ وَصَارَ كَالْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ: وَلِهَذَا أَيْ وَلِكَوْنِ الْإِذْنِ ضَرُورِيًّا كَانَ وَاجِبَ الرَّدِّ: يَعْنِي مُؤْنَةَ الرَّدِّ وَاجِبَةٌ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ كَمَا فِي الْغَصْبِ، وَصَارَ كَالْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ. فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ بِإِذْنٍ لَكِنْ لَمَّا كَانَ قَبَضَ مَالَ غَيْرِهِ لِنَفْسِهِ لَا عَنْ اسْتِحْقَاقٍ إذَا هَلَكَ ضَمِنَ فَكَذَا هَذَا. اهـ كَلَامُهُ. أَقُولُ: حَمَلَ الشَّارِحُ الْمَذْكُورَ قَوْلَ الْمُصَنَّفِ وَلِهَذَا عَلَى الْإِشَارَةِ إلَى كَوْنِ الْإِذْنِ ضَرُورِيًّا، وَاقْتَفَى أَثَرَهُ الشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ وَسَكَتَ سَائِرُ الشُّرَّاحِ عَنْ الْبَيَانِ بِالْكُلِّيَّةِ. وَالْحَقُّ عِنْدِي أَنَّهُ إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَ مَالَ غَيْرِهِ لِنَفْسِهِ لَا عَنْ اسْتِحْقَاقٍ، فَالْمَعْنَى وَلِكَوْنِهِ قَبَضَ مَالَ غَيْرِهِ لِنَفْسِهِ لَا عَنْ اسْتِحْقَاقٍ كَانَ وَاجِبَ الرَّدِّ، وَصَارَ كَالْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ.
وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقُّ عِنْدِي لِوَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ قَوْلَهُ وَصَارَ كَالْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ كَانَ وَاجِبَ الرَّدِّ، فَبِمُقْتَضَى كَوْنِ الْمَعْطُوفِ فِي حُكْمِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ بِالنَّظَرِ إلَى مَا قَبْلَهُ يَصِيرُ الْمَعْنَى عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ لَفْظُ هَذَا إشَارَةً إلَى كَوْنِ الْإِذْنِ ضَرُورِيًّا، وَلِكَوْنِ الْإِذْنِ ضَرُورِيًّا صَارَ كَالْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْإِذْنَ لَيْسَ بِضَرُورِيٍّ فِي الْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ. وَأَمَّا عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ إشَارَةً إلَى مَا ذَكَرْته فَيَصِيرُ الْمَعْنَى وَلِكَوْنِهِ قَبَضَ مَالَ غَيْرِهِ لِنَفْسِهِ لَا عَنْ اسْتِحْقَاقٍ صَارَ كَالْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ فِي الْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ. وَثَانِيهِمَا أَنَّ حَدِيثَ كَوْنِ الْإِذْنِ ضَرُورِيًّا جَوَابٌ عَنْ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ لَا عُمْدَةَ فِي الِاسْتِدْلَالِ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَ مَالَ غَيْرِهِ لِنَفْسِهِ لَا عَنْ اسْتِحْقَاقٍ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَا هُوَ الْعُمْدَةُ فِي الِاسْتِدْلَالِ أَحَقُّ بِأَنْ يُفَرَّعَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَلِهَذَا كَانَ وَاجِبَ الرَّدِّ وَصَارَ كَالْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ صَاحِبَ الْكَافِي أَخَّرَ حَدِيثَ كَوْنِ الْإِذْنِ ضَرُورِيًّا عَنْ تَفْرِيعِ هَذَيْنِ الْفَرْعَيْنِ (قَوْلُهُ: وَلَنَا أَنَّ اللَّفْظَ لَا يُنْبِئُ عَنْ الْتِزَامِ الضَّمَانِ؛ لِأَنَّهُ لِتَمْلِيكِ الْمَنَافِعِ بِغَيْرِ عِوَضٍ أَوْ لِإِبَاحَتِهَا، وَالْقَبْضُ لَمْ يَقَعْ تَعَدِّيًا لِكَوْنِهِ مَأْذُونًا فِيهِ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: فِي حَمْلِ هَذَا الْمَحَلِّ: يَعْنِي أَنَّ الضَّمَانَ إمَّا أَنْ يَجِبَ بِالْعَقْدِ أَوْ بِالْقَبْضِ أَوْ بِالْإِذْنِ وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ بِمُوجِبٍ لَهُ. أَمَّا الْعَقْدُ فَلِأَنَّ اللَّفْظَ الَّذِي تَنْعَقِدُ بِهِ الْعَارِيَّةُ لَا يُنْبِئُ عَنْ الْتِزَامِ الضَّمَانِ؛ لِأَنَّهُ لِتَمْلِيكِ الْمَنَافِعِ بِغَيْرِ عِوَضٍ أَوْ لِإِبَاحَتِهَا عَلَى اخْتِلَافِ الْقَوْلَيْنِ، وَمَا وُضِعَ لِتَمْلِيكِ الْمَنَافِعِ لَا يَتَعَرَّضُ لِلْعَيْنِ حَتَّى يُوجِبَ الضَّمَانَ عِنْدَ هَلَاكِهِ.
وَأَمَّا الْقَبْضُ فَإِنَّمَا يُوجِبُ الضَّمَانَ إذَا وَقَعَ تَعَدِّيًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِكَوْنِهِ مَأْذُونًا فِيهِ. وَأَمَّا الْإِذْنُ فَلِأَنَّ إضَافَةَ الضَّمَانِ إلَيْهِ فَسَادٌ فِي الْوَضْعِ؛ لِأَنَّ إذْنَ الْمَالِكِ فِي قَبْضِ الشَّيْءِ يَنْفِي الضَّمَانَ فَكَيْفَ يُضَافُ إلَيْهِ. اهـ كَلَامُهُ. أَقُولُ: لَا يَذْهَبُ عَلَيْك أَنَّ احْتِمَالَ كَوْنِ الْإِذْنِ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ مِمَّا لَا يَخْطِرُ بِبَالِ أَحَدٍ أَصْلًا، وَلِهَذَا لَمْ يَتَعَرَّضْ الْمُصَنِّفُ لِنَفْيِ ذَلِكَ قَطُّ فِي أَثْنَاءِ تَقْرِيرِ حُجَّتِنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ،
وَالْإِذْنُ وَإِنْ ثَبَتَ لِأَجْلِ الِانْتِفَاعِ فَهُوَ مَا قَبَضَهُ إلَّا لِلِانْتِفَاعِ فَلَمْ يَقَعْ تَعَدِّيًا، وَإِنَّمَا وَجَبَ الرَّدُّ مُؤْنَةً كَنَفَقَةِ الْمُسْتَعَارِ فَإِنَّهَا عَلَى الْمُسْتَعِيرِ لَا لِنَقْضِ الْقَبْضِ.
وَالْمَقْبُوضُ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ مَضْمُونٌ بِالْعَقْدِ؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ فِي الْعَقْدِ لَهُ حُكْمُ الْعَقْدِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ. قَالَ (وَلَيْسَ لِلْمُسْتَعِيرِ أَنْ يُؤَاجِرَ مَا اسْتَعَارَهُ؛ فَإِنْ آجَرَهُ فَعَطِبَ ضَمِنَ)؛ لِأَنَّ الْإِعَارَةَ دُونَ الْإِجَارَةِ وَالشَّيْءُ لَا يَتَضَمَّنُ مَا هُوَ فَوْقَهُ، وَلِإِنَّا لَوْ صَحَّحْنَاهُ لَا يَصِحُّ إلَّا لَازِمًا؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ بِتَسْلِيطٍ مِنْ الْمُعِيرِ، وَفِي وُقُوعِهِ لَازِمًا زِيَادَةُ ضَرَرٍ بِالْمُعِيرِ لِسَدِّ بَابِ الِاسْتِرْدَادِ إلَى انْقِضَاءِ مُدَّةِ
فَدَرَجَ الشَّارِحُ الْمَزْبُورَ إيَّاهُ فِي احْتِمَالَاتِ إيجَابِ الضَّمَانِ وَنِسْبَتِهِ ذَلِكَ إلَى الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ يَعْنِي خُرُوجًا عَنْ سُنَنِ الصَّوَابِ (قَوْلُهُ: وَالْإِذْنُ وَإِنْ ثَبَتَ لِأَجْلِ الِانْتِفَاعِ فَهُوَ مَا قَبَضَهُ إلَّا لِلِانْتِفَاعِ فَلَمْ يَقَعْ تَعَدِّيًا) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَالْإِذْنُ يُثْبِتُ ضَرُورَةَ الِانْتِفَاعِ فَلَا يَظْهَرُ فِيمَا وَرَاءَهُ. وَتَقْرِيرُهُ الْقَوْلَ بِالْمُوجِبِ: يَعْنِي سَلَّمْنَا أَنَّ الْإِذْنَ لَمْ يَكُنْ إلَّا لِضَرُورَةِ الِانْتِفَاعِ، لَكِنَّ الْقَبْضَ أَيْضًا لَمْ يَكُنْ إلَّا لِلِانْتِفَاعِ فَلَمْ يَكُنْ ثَمَّ تَعَدٍّ وَلَا ضَمَانَ بِدُونِهِ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ وَغَيْرِهَا. أَقُولُ: لِلْخَصْمِ أَنْ يَقُولَ إذَا لَمْ يَكُنْ الْقَبْضُ أَيْضًا إلَّا لِضَرُورَةِ الِانْتِفَاعِ كَانَتْ صِحَّةُ الْقَبْضِ مُقَدَّرَةً بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ، وَالضَّرُورَةُ إنَّمَا هِيَ فِي حَالَةِ الِاسْتِعْمَالِ، فَإِنْ هَلَكَتْ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فَلَا ضَمَانَ قَطْعًا.
وَأَمَّا إذَا هَلَكَتْ فِي غَيْرِهَا فَيَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ الضَّمَانُ لِكَوْنِ هَلَاكِهَا فِيمَا وَرَاءَ الضَّرُورَةِ. فَالْأَظْهَرُ فِي الْجَوَابِ عَنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَالْإِذْنُ يُثْبِتُ ضَرُورَةَ الِانْتِفَاعِ فَلَا يُظْهِرُ فِيمَا وَرَاءَهُ طَرِيقَةَ الْمَنْعِ لَا الْقَوْلِ بِالْمُوجِبِ، وَقَدْ أَفْصَحَ عَنْهَا صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ حَيْثُ قَالَ: وَالْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ وَالْإِذْنُ بِقَبْضِ الْعَيْنِ ثَبَتَ ضَرُورَةَ الِانْتِفَاعِ. قُلْنَا: لَمَّا مَسَّتْ الْحَاجَةُ وَالضَّرُورَةُ إلَى إظْهَارِ الْإِذْنِ بِالْقَبْضِ فِي حَالَةِ الِانْتِفَاعِ مَسَّتْ الضَّرُورَةُ إلَى إظْهَارِ الْإِذْنِ بِالْقَبْضِ فِي غَيْرِ حَالَةِ الِانْتِفَاعِ أَيْضًا وَهِيَ حَالَةُ الْإِمْسَاكِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إنَّمَا يَنْتَفِعُ بِمِلْكِ غَيْرِهِ كَمَا يَنْتَفِعُ بِمِلْكِ نَفْسِهِ، وَلَا يَنْتَفِعُ بِمِلْكِ نَفْسِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ، وَإِنَّمَا يَنْتَفِعُ بِهَا سَاعَةً وَيُمْسِكُ أُخْرَى، وَلَوْ انْتَفَعَ بِالْعَارِيَّةِ دَائِمًا يَضْمَنُ كَمَا إذَا رَكِبَهَا لَيْلًا وَنَهَارًا فِيمَا لَا يَكُونُ الْعُرْفُ كَذَلِكَ، فَثَبَتَ أَنَّ الْقَبْضَ فِي غَيْرِ حَالَةِ الِانْتِفَاعِ أَيْضًا مَأْذُونٌ فَلَا يُوجِبُ الضَّمَانَ، إلَى هُنَا انْتَهَى كَلَامُهُ. وَأُشِيرَ إلَى هَذَا الْوَجْهِ مِنْ الْجَوَابِ فِي الْكَافِي وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ أَيْضًا فَتَبَصَّرْ.
(قَوْلُهُ: وَالْمَقْبُوضُ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ مَضْمُونٌ بِالْعَقْدِ؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ فِي الْعَقْدِ لَهُ حُكْمُ الْعَقْدِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَصَارَ كَالْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ. قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَتَقْرِيرُهُ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَضْمُونٍ
الْإِجَارَةِ فَأَبْطَلْنَاهُ، وَضَمِنَهُ حِينَ سَلَّمَهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ تَتَنَاوَلْهُ الْعَارِيَّةُ كَانَ غَصْبًا، وَإِنْ شَاءَ الْمُعِيرُ ضَمَّنَ الْمُسْتَأْجِرَ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَالِكِ لِنَفْسِهِ، ثُمَّ إنْ ضَمِنَ الْمُسْتَعِيرُ لَا يَرْجِعُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّهُ آجَرَ مِلْكَ نَفْسِهِ، وَإِنْ ضَمِنَ الْمُسْتَأْجِرُ يَرْجِعُ عَلَى الْمُؤَاجِرِ إذَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ كَانَ عَارِيَّةً فِي يَدِهِ دَفْعًا لِضَرَرِ الْغُرُورِ، بِخِلَافِ مَا إذَا عَلِمَ.
قَالَ (وَلَهُ أَنْ يُعِيرَهُ إذَا كَانَ مِمَّا لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُسْتَعْمِلِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَيْسَ لَهُ أَنْ يُعِيرَهُ؛ لِأَنَّهُ إبَاحَةُ الْمَنَافِعِ عَلَى مَا بَيَّنَّا مِنْ قَبْلُ، وَالْمُبَاحُ لَهُ لَا يَمْلِكُ الْإِبَاحَةَ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ غَيْرُ قَابِلَةٍ لِلْمِلْكِ لِكَوْنِهَا مَعْدُومَةٌ، وَإِنَّمَا جَعَلْنَاهَا مَوْجُودَةً فِي الْإِجَارَةِ لِلضَّرُورَةِ. وَقَدْ انْدَفَعَتْ بِالْإِبَاحَةِ هَاهُنَا.
وَنَحْنُ نَقُولُ: هُوَ تَمْلِيكُ الْمَنَافِعِ عَلَى
بِالْقَبْضِ بَلْ بِالْعَقْدِ؛ لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ بِالْعَقْدِ لَهُ حُكْمُ الْعَقْدِ فَصَارَ كَالْمَأْخُوذِ بِالْعَقْدِ وَهُوَ يُوجِبُ الضَّمَانَ. اهـ كَلَامُهُ. أَقُولُ: لَا يَخْفَى عَلَى ذِي فِطْنَةٍ أَنَّ تَحْرِيرَهُ هَذَا فِي تَقْرِيرِ الْجَوَابِ مُخْتَلٌّ فِي الظَّاهِرِ؛ لِأَنَّ الضَّمِيرَ الْمُسْتَتِرَ فِي فَصَارَ رَاجِعٌ إلَى الْمَأْخُوذِ بِالْعَقْدِ، فَيَصِيرُ الْمَعْنَى: فَصَارَ الْمَأْخُوذُ بِالْعَقْدِ كَالْمَأْخُوذِ بِالْعَقْدِ فَيَلْزَمُ تَشْبِيهُ الشَّيْءَ بِنَفْسِهِ وَهُوَ بَاطِلٌ. وَيُمْكِنُ تَوْجِيهُهُ بِعِنَايَةٍ، وَهِيَ أَنْ يَحْمِلَ الْبَاءَ فِي قَوْلِهِ؛ لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ بِالْعَقْدِ عَلَى الْمُلَابَسَةِ، وَفِي قَوْلِهِ فَصَارَ كَالْمَأْخُوذِ بِالْعَقْدِ عَلَى السَّبَبِيَّةِ، فَيَصِيرُ مَعْنَى كَلَامِهِ: لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ بِمُلَابَسَةِ الْعَقْدِ: أَيْ مَا كَانَ مُتَعَلِّقًا بِالْعَقْدِ بِأَنْ كَانَ مِنْ مُبَادِيهِ لَهُ حُكْمُ نَفْسِ الْعَقْدِ فَصَارَ ذَلِكَ كَالْمَأْخُوذِ بِسَبَبِ نَفْسِ الْعَقْدِ فَيَئُولُ إلَى مَا ذَكَرَ فِي الْكَافِي وَبَعْضِ الشُّرُوحِ مِنْ قَوْلِهِمْ إنَّ الضَّمَانَ فِي الْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ لَا يَلْزَمُ بِالْقَبْضِ نَفْسِهِ، وَلَكِنْ بِالْقَبْضِ بِجِهَةِ الشِّرَاءِ، إذْ الْقَبْضُ بِحَقِيقَةِ الشِّرَاءِ مَضْمُونٌ بِالْعَقْدِ فَكَذَا بِجِهَتِهِ اهـ.
ثُمَّ أَقُولُ: لَا حَاجَةَ فِي حَمْلِ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا إلَى مَا ارْتَكَبَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ مِنْ التَّحْرِيرِ الرَّكِيكِ الْمُشْعِرِ بِالِاخْتِلَالِ كَمَا عَرَفْت، بَلْ لَهُ مَحْمَلَانِ صَحِيحَانِ سَالِمَانِ عَنْ شَائِبَةِ الْخَلَلِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ: لِأَنَّ الْأَخْذَ فِي الْعَقْدِ لَهُ حُكْمُ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ الشُّرُوعَ فِي الْعَقْدِ بِالْمُبَاشَرَةِ لِبَعْضِ مُقَدِّمَاتِهِ لَهُ حُكْمُ نَفْسِ الْعَقْدِ وَتَمَامِهِ، عَلَى أَنْ يَكُونَ الْأَخْذُ مِنْ أَخَذَ فِيهِ بِمَعْنَى شَرَعَ فِيهِ لَا مِنْ أَخَذَهُ.
وَثَانِيهِمَا أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ فِي الْعَقْدِ: أَيْ الْمَأْخُوذَ لِأَجْلِ الْعَقْدِ لَهُ حُكْمُ الْعَقْدِ، عَلَى أَنْ تَكُونَ كَلِمَةُ " فِي " فِي قَوْلِهِ فِي الْعَقْدِ بِمَعْنَى اللَّامِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ} وَقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «إنَّ امْرَأَةً دَخَلَتْ النَّارَ فِي هِرَّةٍ حَبَسَتْهَا» عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ فِي مُغْنِي اللَّبِيبِ، فَالْأَخْذُ حِينَئِذٍ مِنْ أَخَذَهُ بِمَعْنَى تَنَاوَلَهُ. ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ أَخْذًا مِنْ غَايَةِ الْبَيَانِ: فَإِنْ قِيلَ: سَلَّمْنَا أَنَّ الْأَخْذَ فِي الْعَقْدِ لَهُ حُكْمُ الْعَقْدِ وَلَكِنْ لَا عَقْدَ هَاهُنَا.
أُجِيبَ بِأَنَّ الْعَقْدَ، وَإِنْ كَانَ مَعْدُومًا حَقِيقَةً جُعِلَ مَوْجُودًا تَقْدِيرًا صِيَانَةً لِأَمْوَالِ النَّاسِ عَنْ الضَّيَاعِ إذْ الْمَالِكُ لَمْ يَرْضَ بِخُرُوجِ مِلْكِهِ مَجَّانًا اهـ. أَقُولُ: لَا يَذْهَبُ عَلَى ذِي فِطْرَةٍ سَلِيمَةٍ أَنَّ السُّؤَالَ الْمَذْكُورَ لَا يَتَوَجَّهُ هَاهُنَا أَصْلًا، إذْ لَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ لِلْأَخْذِ فِي الْعَقْدِ حُكْمُ الْعَقْدِ تَحَقُّقُ الْعَقْدِ، بَلْ يَقْتَضِي عَدَمَ تَحَقُّقِهِ، إذْ عِنْدَ تَحَقُّقِهِ يَكُونُ الْحُكْمُ لِنَفْسِ الْعَقْدِ لَا لِلْأَخْذِ فِيهِ فَلَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ وَلَكِنْ لَا عَقْدَ هَاهُنَا.
ثُمَّ إنَّ الْجَوَابَ الْمَزْبُورَ مَنْظُورٌ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ فِي جَعْلِ الْعَقْدِ مَوْجُودًا تَقْدِيرًا صِيَانَةً لِمَالِ الْبَائِعِ عَنْ الضَّيَاعِ لَكِنْ فِيهِ تَضْيِيعٌ لِمَالِ الْمُشْتَرِي، إذْ قَدْ يَكُونُ هَلَاكُ الْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي بِلَا تَعَدٍّ مِنْهُ بَلْ بِسَبَبٍ اضْطِرَارِيٍّ، وَقَدْ أَخَذَهُ مِنْ يَدِ مَالِكِهِ بِإِذْنٍ، فَإِذَا وَجَبَ الضَّمَانُ عَلَيْهِ خَرَجَ مَالُهُ الَّذِي أَدَّاهُ مِنْ مِلْكِهِ مَجَّانًا: أَيْ بِلَا عَقْدٍ وَلَا تَعَدٍّ فِي شَيْءٍ فَيَلْزَمُ النَّظَرُ لِأَحَدِ الْمُتَآخِذَيْنِ فِي الْعَقْدِ وَتَرْكُ النَّظَرِ عَنْ الْآخَرِ تَأَمَّلْ. (قَوْلُهُ: وَلَهُ أَنْ يُعِيرَهُ إذَا كَانَ مِمَّا لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُسْتَعْمِلِ) قَالَ عَامَّةُ الشُّرَّاحِ: كَالْحَمْلِ وَالِاسْتِخْدَامِ وَالسُّكْنَى وَالزِّرَاعَةِ. وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ: كَذَا ذَكَرَهُ
مَا ذَكَرْنَا فَيَمْلِكُ الْإِعَارَةَ كَالْمُوصَى لَهُ بِالْخِدْمَةِ، وَالْمَنَافِعُ اُعْتُبِرَتْ قَابِلَةٌ لِلْمِلْكِ فِي الْإِجَارَةِ فَتُجْعَلُ كَذَلِكَ فِي الْإِعَارَةِ دَفْعًا لِلْحَاجَةِ،
فِي النَّظَائِرِ الْإِمَامِ التُّمُرْتَاشِيُّ.
أَقُولُ: فِي أَكْثَرِ هَذِهِ الْأَمْثِلَةِ إشْكَالٌ: أَمَّا فِي مِثَالِ الْحَمْلِ فَلِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ مُطَابِقًا لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي آخِرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِقَوْلِهِ فَلَوْ اسْتَعَارَ دَابَّةً وَلَمْ يُسَمِّ شَيْئًا لَهُ أَنْ يَحْمِلَ وَيُعِيرَ غَيْرَهُ لِلْحَمْلِ؛ لِأَنَّ الْحَمْلَ لَا يَتَفَاوَتُ انْتَهَى. إلَّا أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَا سَيَجِيءُ فِي كِتَابِ الْإِجَارَاتِ فِي بَابِ مَا يَجُوزُ مِنْ الْإِجَارَةِ وَمَا لَا يَجُوزُ مِنْ أَنَّ الْحَمْلَ كَالرُّكُوبِ وَاللُّبْسِ مِمَّا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُسْتَعْمِلِ. وَحُكْمُهُ كَحُكْمِهِمَا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ وَالتَّقْيِيدِ كَمَا سَتَطَّلِعُ عَلَيْهِ. وَقَدْ اضْطَرَبَ كَلَامُ الْفُقَهَاءِ فِي عَامَّةِ الْمُعْتَبَرَاتِ فِي شَأْنِ الْحَمْلِ حَيْثُ قَالُوا فِي كِتَابِ الْعَارِيَّةِ: إنَّهُ مِمَّا لَا يَتَفَاوَتُ، وَقَالُوا فِي كِتَابِ الْإِجَارَاتِ إنَّهُ مِمَّا يَتَفَاوَتُ، وَمِمَّنْ ظَهَرَتْ الْمُخَالَفَةُ جِدًّا بَيْنَ كَلَامَيْهِ فِي الْمَقَامَيْنِ صَاحِبُ الْكَافِي، فَإِنَّهُ قَالَ هَاهُنَا: سَوَاءٌ كَانَ الْمُسْتَعَارُ شَيْئًا يَتَفَاوَتُ النَّاسُ فِي الِانْتِفَاعِ بِهِ كَاللُّبْسِ فِي الثَّوْبِ وَالرُّكُوبِ فِي الدَّابَّةِ أَوْ لَا يَتَفَاوَتُونَ فِي الِانْتِفَاعِ بِهِ كَالْحَمْلِ عَلَى الدَّابَّةِ. وَقَالَ فِي الْإِجَارَاتِ: وَيَقَعُ التَّفَاوُتُ فِي الرُّكُوبِ وَاللُّبْسِ وَالْحَمْلِ، فَمَا لَمْ يُبَيِّنْ لَا يَصِيرُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَعْلُومًا فَلَا يُحْكَمُ بِجَوَازِ الْإِجَارَةِ انْتَهَى.
وَأَمَّا فِي مِثَالِ الزِّرَاعَةِ فَلِأَنَّهُ سَيَأْتِي فِي كِتَابِ الْإِجَارَاتِ فِي الْبَابِ الْمَزْبُورِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ عَقْدُ الْإِجَارَةِ فِي اسْتِئْجَارِ الْأَرَاضِي لِلزِّرَاعَةِ حَتَّى يُسَمِّيَ مَا يَزْرَعُ فِيهَا؛ لِأَنَّ مَا يَزْرَعُ فِيهَا مُتَفَاوِتٌ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّعْيِينِ كَيْ لَا تَقَعَ الْمُنَازَعَةُ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْهُ أَنَّ الزِّرَاعَةَ مِمَّا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُسْتَعْمِلِ، وَعَنْ هَذَا مَثَّلَ الْإِمَامُ الزَّيْلَعِيُّ لِمَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُسْتَعْمِلِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ بِأَمْثِلَةٍ، وَعَدَّ مِنْهَا الزِّرَاعَةَ حَيْثُ قَالَ: كَاللُّبْسِ وَالرُّكُوبِ وَالزِّرَاعَةِ. وَأَمَّا فِي مِثَالِ السُّكْنَى فَلِأَنَّ سُكْنَى الْحَدَّادِ وَالْقَصَّارِ يَضُرُّ بِالْبِنَاءِ دُونَ سُكْنَى غَيْرِهِمَا، وَلِهَذَا لَا يَدْخُلُ سُكْنَاهُمَا فِي اسْتِئْجَارِ الدُّورِ وَالْحَوَانِيتِ لِلسُّكْنَى كَمَا ذُكِرَ فِي كِتَابِ الْإِجَارَاتِ، فَكَانَ السُّكْنَى أَيْضًا مِمَّا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُسْتَعْمِلِ.
وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْ هَذَا بِأَنَّ الْإِضْرَارَ بِالْبِنَاءِ أَثَرُ الْحِدَادَةِ وَالْقِصَارَةِ لَا أَثَرُ السُّكْنَى؛ لِأَنَّ مُجَرَّدَ السُّكْنَى لَا يُؤَثِّرُ فِي انْهِدَامِ الْبِنَاءِ يُضَافُ الِانْهِدَامُ إلَى الْحِدَادَةِ وَالْقِصَارَةِ كَمَا بَيَّنَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ فِي كِتَابِ الْإِجَارَاتِ فَلَمْ يَقَعْ الِاخْتِلَافُ بِاخْتِلَافِ الْمُسْتَعْمِلِ فِي نَفْسِ السُّكْنَى بَلْ فِي أَمْرٍ خَارِجٍ عَنْهُ، وَالْمِثَالُ هَاهُنَا إنَّمَا هُوَ نَفْسُ السُّكْنَى فَلَا إشْكَالَ فِيهِ (قَوْلُهُ: وَالْمَنَافِعُ اُعْتُبِرَتْ قَابِلَةٌ لِلْمِلْكِ فِي الْإِجَارَةِ فَتُجْعَلُ كَذَلِكَ فِي الْإِعَارَةِ دَفْعًا لِلْحَاجَةِ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رحمه الله الْمَنَافِعُ غَيْرُ قَابِلَةٍ لِلْمِلْكِ.
وَتَقْرِيرُهُ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهَا غَيْرُ قَابِلَةٍ لِلْمِلْكِ فَإِنَّهَا تُمْلَكُ بِالْعَقْدِ كَمَا فِي الْإِجَارَةِ فَتُجْعَلُ فِي الْإِعَارَةِ كَذَلِكَ دَفْعًا لِلْحَاجَةِ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ وَغَيْرِهَا. أَقُولُ: فِيهِ بَحْثٌ؛ لِأَنَّ حَاصِلَهُ الْقِيَاسُ عَلَى الْإِجَارَةِ، وَقَدْ تَدَارَكَ الشَّافِعِيُّ دَفْعَهُ حَيْثُ قَالَ فِي ذَيْلِ تَعْلِيلِهِ: وَإِنَّمَا جَعَلْنَاهَا مَوْجُودَةً فِي الْإِجَارَةِ لِلضَّرُورَةِ وَقَدْ انْدَفَعَتْ بِالْإِبَاحَةِ: يَعْنِي أَنَّ عِلَّةَ اعْتِبَارِ الْمَنَافِعِ الْمَعْدُومَةِ قَابِلَةٌ لِلْمِلْكِ فِي الْإِجَارَةِ ضَرُورَةَ دَفْعِ حَاجَةِ النَّاسِ، وَهَذِهِ الْعِلَّةُ مُنْتَفِيَةٌ فِي الْإِعَارَةِ لِانْدِفَاعِ حَاجَتِهِمْ بِالْإِبَاحَةِ فَلَمْ يُتِمَّ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ هُنَا جَوَابًا عَنْهُ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُقَالَ: النَّاسُ كَمَا يَحْتَاجُونَ إلَى الِانْتِفَاعِ بِالشَّيْءِ؛ لِأَنْفُسِهِمْ كَذَلِكَ يَحْتَاجُونَ إلَى نَفْعِ غَيْرِهِمْ بِذَلِكَ الشَّيْءِ. وَعِنْدَ كَوْنِ الْإِعَارَةِ إبَاحَةً لَا يَقْدِرُونَ عَلَى نَفْعِ غَيْرِهِمْ بِالْعَارِيَّةِ فَلَا تَنْدَفِعُ حَاجَتُهُمْ الْأُخْرَى، فَضَرُورَةُ دَفْعِ حَاجَتِهِمْ بِالْكُلِّيَّةِ دَعَتْ إلَى اعْتِبَارِ الْمَنَافِعِ قَابِلَةً لِلْمِلْكِ فِي الْعَارِيَّةِ كَمَا
وَإِنَّمَا لَا تَجُوزُ فِيمَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُسْتَعْمِلِ دَفْعًا لِمَزِيدِ الضَّرَرِ عَنْ الْمُعِيرِ؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِاسْتِعْمَالِهِ لَا بِاسْتِعْمَالِ غَيْرِهِ. قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ: وَهَذَا إذَا صَدَرَتْ الْإِعَارَةُ مُطْلَقَةً. وَهِيَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا أَنْ تَكُونَ مُطْلَقَةً فِي الْوَقْتِ وَالِانْتِفَاعِ وَلِلْمُسْتَعِيرِ فِيهِ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ أَيَّ نَوْعٍ شَاءَ فِي أَيِّ وَقْتٍ شَاءَ عَمَلًا بِالْإِطْلَاقِ. وَالثَّانِي أَنْ تَكُونَ مُقَيَّدَةً فِيهِمَا وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُجَاوِزَ فِيهِ مَا سَمَّاهُ عَمَلًا بِالتَّقْيِيدِ إلَّا إذَا كَانَ خِلَافًا إلَى مِثْلِ ذَلِكَ أَوْ إلَى خَيْرٍ مِنْهُ وَالْحِنْطَةُ
فِي الْإِجَارَةِ.
قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ تَقْرِيرِ مُرَادِ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا وَقَدْ مَرَّ الْكَلَامُ فِيهِ: أَقُولُ: لَمْ يَمُرَّ مِنْهُ كَلَامٌ مُنَاسِبٌ لِلْمَقَامِ سِوَى بَحْثِهِ الثَّالِثِ مِنْ أَبْحَاثِهِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي أَوْرَدَهَا فِي صَدْرِ كِتَابِ الْعَارِيَّةِ، وَدَفَعْنَا كُلَّهُ هُنَاكَ لَكِنَّهُ لَيْسَ بِمُتَمَشٍّ هُنَا؛ لِأَنَّ حَاصِلَهُ أَنَّ قِيَاسَ الْمَنَافِعِ عَلَى الْأَعْيَانِ لَيْسَ بِتَامٍّ؛ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ الْقِيَاسِ كَوْنَ الْفَرْعِ نَظِيرَ الْأَصْلِ وَالْمَنَافِعُ لَيْسَتْ نَظِيرَ الْأَعْيَانِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَقِيسَ وَالْمَقِيسَ عَلَيْهِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ كِلَاهُمَا مِنْ قَبِيلِ الْمَنَافِعِ فَكَانَ الْفَرْعُ نَظِيرَ الْأَصْلِ قَطْعًا. (قَوْلُهُ: وَهَذَا إذَا صَدَرَتْ الْإِعَارَةُ مُطْلَقَةً) قَالَ عَامَّةُ الشُّرَّاحِ: أَيْ مَا ذَكَرَ مِنْ وِلَايَةِ الْإِعَارَةِ لِلْمُسْتَعِيرِ إذَا صَدَرَتْ الْإِعَارَةُ مُطْلَقَةً. أَقُولُ: فِيهِ إشْكَالٌ؛ لِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِي الْكِتَابِ أَنَّ لِلْمُسْتَعِيرِ أَنْ يُعِيرَ الْمُسْتَعَارَ فِيمَا إذَا كَانَ مِمَّا لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُسْتَعْمِلِ، فَمَعْنَاهُ أَنَّ لِلْمُسْتَعِيرِ وِلَايَةَ الْإِعَارَةِ فِيمَا إذَا كَانَ الْمُسْتَعَارُ مِمَّا لَا يَخْتَلِفَ بِاخْتِلَافِ الْمُسْتَعْمِلِ. وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي عَامَّةِ كُتُبِ الْفِقْهِ حَتَّى الْمُتُونِ أَنَّ اخْتِصَاصَ وِلَايَةِ الْإِعَارَةِ لِلْمُسْتَعِيرِ بِمَا إذَا كَانَ الْمُسْتَعَارُ مِمَّا لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُسْتَعْمِلِ إنَّمَا هُوَ إذَا صَدَرَتْ الْإِعَارَةُ مُقَيَّدَةً بِأَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ الْمُسْتَعِيرُ بِنَفْسِهِ، وَأَمَّا إذَا صَدَرَتْ الْإِعَارَةُ مُطْلَقَةً فَلِلْمُسْتَعِيرِ وِلَايَةُ الْإِعَارَةِ مُطْلَقًا: أَيْ سَوَاءٌ كَانَ الْمُسْتَعَارُ مِمَّا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُسْتَعْمِلِ أَوْ مِمَّا لَا يَخْتَلِفُ، وَهَذَا مِمَّا أَطْبَقَ عَلَيْهِ كَلِمَةُ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ حَتَّى الْمُصَنِّفِ نَفْسِهِ حَيْثُ قَالَ فِي آخِرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: فَلَوْ اسْتَعَارَ دَابَّةً وَلَمْ يُسَمِّ شَيْئًا لَهُ أَنْ يَحْمِلَ وَيُعِيرَ غَيْرَهُ لِلْحَمْلِ؛ لِأَنَّ الْحَمْلَ لَا يَتَفَاوَتُ، وَلَهُ أَنْ يَرْكَبَ وَيُرَكِّبَ غَيْرَهُ، وَإِنْ كَانَ الرُّكُوبُ مُخْتَلِفًا اهـ. .
فَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ: وَهَذَا إذَا صَدَرَتْ الْإِعَارَةُ مُطْلَقَةً عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يُرِيدَ بِكَلِمَةِ هَذَا الْإِشَارَةَ إلَى مَا قَالَهُ عَامَّةُ الشُّرَّاحِ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ إنَّمَا يَتِمُّ لَوْ لَمْ يَكُنْ مَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ فِيمَا قَبْلُ مُقَيَّدًا بِقَوْلِهِ إذَا كَانَ مِمَّا لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُسْتَعْمِلِ. وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ مُقَيَّدًا بِهِ لَمْ يُتِمَّ قَوْلَهُ الْمَزْبُورَ بَلْ كَانَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَقُولَ هَذَا إذَا صَدَرَتْ الْإِعَارَةُ مُقَيَّدَةً عَلَى مُقْتَضَى مَا نَصُّوا عَلَيْهِ قَاطِبَةً كَمَا بَيَّنَّاهُ.
وَالْعَجَبُ مِنْ عَامَّةِ الشُّرَّاحِ أَنَّهُمْ فَسَّرُوا الْمُشَارَ إلَيْهِ بِكَلِمَةِ هَذَا الْوَاقِعَةِ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ بِمَا ذَكَرُوا، وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِشْكَالِ مَعَ ظُهُورِهِ جِدًّا. ثُمَّ إنَّ الشَّارِحَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ كَأَنَّهُ تَنَبَّهَ لِلْمَحْذُورِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فَقَالَ فِي شَرْحِ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ: وَهَذَا إذَا صَدَرَتْ الْإِعَارَةُ مُطْلَقَةَ الْإِشَارَةِ لَا تَعُودُ إلَى الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ بَلْ إلَى أَنَّ لِلْمُسْتَعِيرِ أَنْ يَنْتَفِعَ بِالْعَارِيَّةِ مَا شَاءَ إذَا أُطْلِقَتْ الْعَارِيَّةُ. اهـ. أَقُولُ: هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ هَذَا الشَّارِحُ وَجَعَلَهُ مَا يَعُودُ إلَيْهِ الْإِشَارَةُ مِمَّا لَمْ يَذْكُرْ فِيمَا قَبْلُ قَطُّ فَكَيْفَ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُشَارًا إلَيْهِ بِكَلِمَةِ هَذَا الْوَاقِعَةِ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا، وَلَا يُشَارُ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ لَا إلَى الْمَحْسُوسِ الْمُشَاهَدِ، أَوْ إلَى مَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمَحْسُوسِ الْمُشَاهَدِ كَمَا تَقَرَّرَ فِي مَوْضِعِهِ، فَكَأَنَّهُ هَرَبَ عَنْ وَرْطَةٍ وَوَقَعَ فِي وَرْطَةٍ أُخْرَى أَشَدَّ مِنْ الْأُولَى. وَالْإِنْصَافُ أَنَّ الْمُصَنِّفَ لَوْ تَرَكَ قَوْلَهُ وَهَذَا إذَا صَدَرَتْ الْإِعَارَةُ مُطْلَقَةً وَشَرَعَ فِي الْكَلَامِ الَّذِي بَسَطَهُ بِأَنْ يَقُولَ وَالْإِعَارَةُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ لَكَانَ أَحْرَى، وَلَقَدْ أَحْسَنَ صَاحِبُ الْكَافِي فِي هَذَا الْمَقَامِ حَيْثُ قَالَ أَوَّلًا: وَلَهُ أَنْ يُعِيرَ، وَذَكَرَ خِلَافَ الشَّافِعِيِّ وَبَيَّنَ دَلِيلَ الطَّرَفَيْنِ. ثُمَّ قَالَ: ثُمَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى وَجْهَيْنِ: إمَّا إنْ حَصَلَتْ الْإِعَارَةُ مُطْلَقَةً فِي حَقِّ الْمُنْتَفِعِ بِأَنْ أَعَارَ ثَوْبًا لِلُّبْسِ وَلَمْ يُبَيِّنْ اللَّابِسَ أَوْ دَابَّةً لِلرُّكُوبِ وَلَمْ يُبَيِّنْ الرَّاكِبَ أَوْ دَابَّةً لِلْحَمْلِ وَلَمْ يُبَيِّنْ الْحَامِلَ، وَفِي هَذَا الْوَجْهِ لَهُ أَنْ يُعِيرَ سَوَاءٌ كَانَ الْمُسْتَعَارُ شَيْئًا يَتَفَاوَتُ النَّاسُ فِي الِانْتِفَاعِ بِهِ كَاللُّبْسِ فِي الثَّوْبِ وَالرُّكُوبِ فِي الدَّابَّةِ أَوْ لَا يَتَفَاوَتُونَ فِي الِانْتِفَاعِ بِهِ كَالْحَمْلِ عَلَى الدَّابَّةِ عَمَلًا بِإِطْلَاقِ اللَّفْظِ، وَإِنْ حَصَلَتْ الْإِعَارَةُ مُقَيَّدَةً بِأَنْ اسْتَعَارَ لِيَلْبَسَ بِنَفْسِهِ أَوْ لِيَرْكَبَ بِنَفْسِهِ أَوْ لِيَحْمِلَ بِنَفْسِهِ فَلَهُ أَنْ يُعِيرَ فِيمَا لَا يَتَفَاوَتُ النَّاسُ فِي الِانْتِفَاعِ بِهِ كَمَا فِي الْحَمْلِ، وَلَيْسَ
مِثْلُ الْحِنْطَةِ، وَالشَّعِيرُ خَيْرٌ مِنْ الْحِنْطَةِ إذَا كَانَ كَيْلًا. وَالثَّالِثُ أَنْ تَكُونَ مُقَيَّدَةً فِي حَقِّ الْوَقْتِ مُطْلَقَةً فِي حَقِّ الِانْتِفَاعِ. وَالرَّابِعُ عَكْسُهُ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَعَدَّى مَا سَمَّاهُ، فَلَوْ اسْتَعَارَ دَابَّةً وَلَمْ يُسَمِّ شَيْئًا لَهُ أَنْ يَحْمِلَ وَيُعِيرَ غَيْرَهُ لِلْحَمْلِ؛ لِأَنَّ الْحَمْلَ لَا يَتَفَاوَتُ.
وَلَهُ أَنْ يَرْكَبَ وَيُرْكِبَ غَيْرَهُ وَإِنْ كَانَ الرُّكُوبُ مُخْتَلِفًا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أُطْلِقَ فِيهِ فَلَهُ أَنْ يُعَيِّنَ، حَتَّى لَوْ رَكِبَ بِنَفْسِهِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُرْكِبَ غَيْرَهُ؛ لِأَنَّهُ تَعَيَّنَ رُكُوبُهُ، وَلَوْ أَرْكَبَ غَيْرَهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْكَبَهُ حَتَّى لَوْ فَعَلَهُ ضَمِنَهُ؛ لِأَنَّهُ تَعَيَّنَ الْإِرْكَابُ.
قَالَ: (وَعَارِيَّةُ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ وَالْمَعْدُودِ قَرْضٌ)؛ لِأَنَّ الْإِعَارَةَ تَمْلِيكُ الْمَنَافِعِ، وَلَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهَا إلَّا بِاسْتِهْلَاكِ عَيْنِهَا فَاقْتَضَى تَمْلِيكُ الْعَيْنِ ضَرُورَةً وَذَلِكَ بِالْهِبَةِ أَوْ بِالْقَرْضِ وَالْقَرْضُ أَدْنَاهُمَا فَيَثْبُتُ. أَوْ؛ لِأَنَّ مِنْ قَضِيَّةِ الْإِعَارَةِ الِانْتِفَاعَ وَرَدَّ الْعَيْنِ فَأُقِيمَ رَدُّ الْمِثْلِ مَقَامَهُ. قَالُوا: هَذَا إذَا أَطْلَقَ الْإِعَارَةَ.
لَهُ أَنْ يُعِيرَ فِيمَا يَتَفَاوَتُ النَّاسُ فِي الِانْتِفَاعِ بِهِ كَاللُّبْسِ وَالرُّكُوبِ.
ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا هُوَ الْكَلَامُ فِي إعَارَةِ الْمُسْتَعِيرِ. وَأَمَّا الْكَلَامُ فِي انْتِفَاعِهِ فِي الْمُسْتَعَارِ فَهُوَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ، فَذَكَرَ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ الْوُجُوهِ الْأَرْبَعَةِ (قَوْلُهُ: إلَّا إذَا كَانَ خِلَافًا إلَى مِثْلِ ذَلِكَ أَوْ إلَى خَيْرٍ مِنْهُ) كَمَنْ اسْتَعَارَ دَابَّةً لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا قَفِيزًا مِنْ هَذِهِ الْحِنْطَةِ فَحَمَلَ عَلَيْهَا قَفِيزًا مِنْ حِنْطَةٍ أُخْرَى أَوْ حَمَلَ عَلَيْهَا قَفِيزًا مِنْ شَعِيرٍ. وَفِي الْقِيَاسِ يَضْمَنُ؛ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ. فَإِنَّ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ لَا تُعْتَبَرُ الْمَنْفَعَةُ وَالضَّرَرُ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَكِيلَ بِالْبَيْعِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ إذَا بَاعَ بِأَلْفِ دِينَارٍ لَمْ يَنْفُذْ بَيْعُهُ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ لِلْمَالِكِ فِي تَعْيِينِ الْحِنْطَةِ، إذْ مَقْصُودُهُ دَفْعُ زِيَادَةِ الضَّرَرِ عَنْ دَابَّتِهِ. وَمِثْلُ كَيْلِ الْحِنْطَةِ مِنْ الشَّعِيرِ أَخَفُّ عَلَى الدَّابَّةِ. وَالتَّقْيِيدُ إنَّمَا يُعْتَبَرُ إذَا كَانَ مُفِيدًا كَذَا فِي الْعَصَايَةِ وَغَيْرِهَا. أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: مَا ذَكَرُوا فِي وَجْهِ الِاسْتِحْسَانِ مُنْتَقَضٌ بِالْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ إذَا بَاعَ بِأَلْفِ دِينَارٍ فَإِنَّهُ لَمْ يَنْفُذْ بَيْعُهُ عَلَى مَا صَرَّحُوا بِهِ. مَعَ أَنَّ مَا ذَكَرُوا فِي وَجْهِ هَذَا الِاسْتِحْسَانِ هَاهُنَا جَارٍ هُنَاكَ أَيْضًا بِعَيْنِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَنْفُذَ بَيْعُهُ أَيْضًا فَتَأَمَّلْ.
(قَوْلُهُ: أَوْ؛ لِأَنَّ مِنْ قَضِيَّةِ الْإِعَارَةِ الِانْتِفَاعَ وَرَدَّ الْعَيْنِ فَأُقِيمَ رَدُّ الْمِثْلِ مَقَامَهُ) أَقُولُ: يُرَى هَذَا التَّعْلِيلُ خَالِيًا عَنْ التَّحْصِيلِ؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْإِعَارَةِ مُنْتَفِيَةٌ
وَأَمَّا إذَا عَيَّنَ الْجِهَةَ بِأَنْ اسْتَعَارَ دَرَاهِمَ لِيُعَايِرَ بِهَا مِيزَانًا أَوْ يُزَيِّنَ بِهَا دُكَّانًا لَمْ يَكُنْ قَرْضًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ إلَّا الْمَنْفَعَةُ الْمُسَمَّاةُ، وَصَارَ كَمَا إذَا اسْتَعَارَ آنِيَةً يَتَحَمَّلُ بِهَا أَوْ سَيْفًا مُحَلًّى يَتَقَلَّدُهُ.
قَالَ (وَإِذَا اسْتَعَارَ أَرْضًا لِيَبْنِيَ فِيهَا أَوْ لِيَغْرِسَ فِيهَا جَازَ وَلِلْمُعِيرِ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا وَيُكَلِّفَهُ قَلْعَ الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ) أَمَّا الرُّجُوعُ فَلِمَا بَيَّنَّا، وَأَمَّا الْجَوَازُ فَلِأَنَّهَا مَنْفَعَةٌ مَعْلُومَةٌ تُمْلَكُ بِالْإِجَارَةِ فَكَذَا بِالْإِعَارَةِ. وَإِذَا صَحَّ الرُّجُوعُ بَقِيَ الْمُسْتَعِيرُ شَاغِلًا أَرْضَ الْمُعِيرِ فَيُكَلَّفُ تَفْرِيغَهَا، ثُمَّ إنْ لَمْ يَكُنْ وَقَّتَ الْعَارِيَّةَ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَعِيرَ مُغْتَرٌّ غَيْرُ مَغْرُورٍ حَيْثُ اعْتَمَدَ إطْلَاقَ الْعَقْدِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْبِقَ مِنْهُ الْوَعْدُ وَإِنْ كَانَ وَقَّتَ الْعَارِيَّةَ وَرَجَعَ قَبْلَ الْوَقْتِ صَحَّ رُجُوعُهُ لِمَا ذَكَرْنَاهُ وَلَكِنَّهُ يُكْرَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ خُلْفِ الْوَعْدِ
فِي عَارِيَّةِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ وَالْمَعْدُودِ، إذْ قَدْ صَرَّحُوا فِي صَدْرِ كِتَابِ الْعَارِيَّةِ بِأَنَّ مِنْ شَرْطِهَا كَوْنُ الْمُسْتَعَارِ قَابِلًا لِلِانْتِفَاعِ بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ، وَأَنَّ الْأَشْيَاءَ الْمَذْكُورَةَ لَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهَا مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهَا فَتَعَذَّرَ حَقِيقَةُ الْإِعَارَةِ فِيهَا فَجَعَلْنَاهَا كِنَايَةً عَنْ الْقَرْضِ، وَكَذَا حُكْمُ الْإِعَارَةِ مُنْتَفٍ فِي عَارِيَّةِ الْأَشْيَاءِ الْمَذْكُورَةِ، إذْ قَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّهَا مَضْمُونَةٌ بِالْهَلَاكِ مِنْ غَيْرِ تَعَدٍّ مِنْ الْقَابِضِ، فَإِذَا لَمْ تَتَحَقَّقْ حَقِيقَةُ الْإِعَارَةِ وَلَا حُكْمُهَا فِي عَارِيَّةِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فَلَا تَأْثِيرَ فِيهَا أَصْلًا؛ لَأَنْ يَكُونَ مِنْ قَضِيَّةِ الْإِعَارَةِ الِانْتِفَاعُ وَرَدُّ الْعَيْنِ وَلَا لِإِقَامَةِ رَدِّ الْمِثْلِ مَقَامَ رَدِّ الْعَيْنِ. نَعَمْ يُفْهَمُ مِنْ مَضْمُونِ هَذَا التَّعْلِيلِ مُنَاسَبَةٌ فِي الْجُمْلَةِ بَيْنَ الْعَارِيَّةِ وَالْقَرْضِ صَالِحَةٌ؛ لَأَنْ يُجْعَلَ لَفْظُ الْإِعَارَةِ فِي مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ مَجَازًا أَوْ كِنَايَةً عَنْ مَعْنَى الْإِقْرَاضِ، وَلَكِنَّ كَلَامَنَا فِي صَلَاحِيَّةِ ذَلِكَ؛ لَأَنْ يَكُونَ عِلَّةً لِأَصْلِ الْمَسْأَلَةِ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ أُسْلُوبِ التَّحْرِيرِ فَعَلَيْك بِالتَّأَمُّلِ الصَّادِقِ.
(قَوْلُهُ: وَأَمَّا إذَا عَيَّنَ الْجِهَةَ بِأَنْ اسْتَعَارَ دَرَاهِمَ لِيُعَايَرَ بِهَا مِيزَانًا أَوْ يُزَيِّنَ بِهَا دُكَّانًا لَمْ يَكُنْ قَرْضًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ إلَّا الْمَنْفَعَةُ الْمُسَمَّاةُ) أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الْمَفْهُومُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ إمْكَانُ الِانْتِفَاعِ بِعَيْنِ الدَّرَاهِمِ وَنَحْوِهَا وَاعْتِبَارُ ذَلِكَ شَرْعًا أَيْضًا فَكَيْفَ يَتِمُّ مَا ذَكَرَ سَابِقًا مِنْ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهَا إلَّا بِاسْتِهْلَاكِ عَيْنِهَا؟. وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ بِأَنَّ الْمَذْكُورَ سَابِقًا بِنَاءً عَلَى الْأَكْثَرِ الْأَغْلَبِ، فَالْمُرَادُ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِنَحْوِ الدَّرَاهِمِ فِي الْأَعَمِّ الْأَغْلَبِ إلَّا بِاسْتِهْلَاكِ عَيْنِهَا، فَيُدَارُ الْحُكْمُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ عَلَى مَا هُوَ الْأَغْلَبُ، وَأَمَّا عِنْدَ تَعْيِينِ الْجِهَةِ فَيَظْهَرُ أَنَّ الْمَقْصُودَ تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ مَعَ بَقَاءِ الْعَيْنِ عَلَى مِلْكِهِ فَيُحْمَلُ عَلَى ذَلِكَ. فَإِنْ قُلْت: عِبَارَةُ الْمُصَنِّفِ لَا تُسَاعِدُ التَّوْجِيهَ الَّذِي ذَكَرْته فَإِنَّ الْحَصْرَ الْمُسْتَفَادَ مِنْ قَوْلِهِ وَلَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهَا إلَّا بِاسْتِهْلَاكِ عَيْنِهَا يَقْتَضِي انْتِفَاءَ إمْكَانِ الِانْتِفَاعِ بِهَا بِالْكُلِّيَّةِ بِدُونِ اسْتِهْلَاكِ عَيْنِهَا. قُلْت: يُمْكِنُ حَمْلُ الْحَصْرِ
(وَضَمِنَ الْمُعِيرُ مَا نَقَصَ الْبِنَاءَ وَالْغَرْسَ بِالْقَلْعِ)؛ لِأَنَّهُ مَغْرُورٌ مِنْ جِهَتِهِ حَيْثُ وَقَّتَ لَهُ، وَالظَّاهِرُ هُوَ الْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ وَيَرْجِعُ عَلَيْهِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ. كَذَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ فِي الْمُخْتَصَرِ. وَذَكَرَ الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ أَنَّهُ يَضْمَنُ رَبُّ الْأَرْضِ لِلْمُسْتَعِيرِ قِيمَةَ غَرْسِهِ وَبِنَائِهِ وَيَكُونَانِ لَهُ، إلَّا أَنْ يَشَاءَ الْمُسْتَعِيرُ أَنْ يَرْفَعَهُمَا وَلَا يُضَمِّنَهُ قِيمَتَهُمَا فَيَكُونَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ.
قَالُوا: إذَا كَانَ فِي الْقَلْعِ ضَرَرٌ بِالْأَرْضِ فَالْخِيَارُ إلَى رَبِّ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّهُ صَاحِبُ أَصْلٍ وَالْمُسْتَعِيرُ صَاحِبُ تَبَعٍ وَالتَّرْجِيحُ بِالْأَصْلِ، وَلَوْ اسْتَعَارَهَا لِيَزْرَعَهَا لَمْ تُؤْخَذْ مِنْهُ حَتَّى يَحْصُدَ الزَّرْعَ وَقَّتَ أَوْ لَمْ يُوَقِّتْ.؛ لِأَنَّ لَهُ نِهَايَةً مَعْلُومَةً، وَفِي التَّرْكِ مُرَاعَاةُ الْحُقَّيْنِ،
الْمَذْكُورِ عَلَى الْحَصْرِ الِادِّعَائِيِّ بِنَاءً عَلَى عَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِالْأَقَلِّ فَلَا يَقْتَضِي انْتِفَاءَ ذَلِكَ بِالْكُلِّيَّةِ.
(قَوْلُهُ: وَضَمِنَ الْمُعِيرُ مَا نَقَصَ الْبِنَاءُ وَالْغَرْسُ بِالْقَلْعِ) قَالَ صَاحِبُ الْغَايَةِ: أَيْ نُقْصَانُ الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ عَلَى أَنَّ مَا مَصْدَرِيَّةٌ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً بِمَعْنَى الَّذِي، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْبِنَاءُ وَالْغَرْسُ مَنْصُوبَيْنِ، وَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونَانِ مَرْفُوعَيْنِ. اهـ كَلَامُهُ. وَتَبِعَهُ الشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ. أَقُولُ: لَا يَظْهَرُ وَجْهَ صِحَّةٍ لِكَوْنِ الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ مَنْصُوبَيْنِ هَاهُنَا؛ لِأَنَّ الَّذِي نَقَصَ الْبِنَاءَ وَالْغَرْسَ إنَّمَا هُوَ الْقَلْعُ فَيَصِيرُ الْمَعْنَى عَلَى تَقْدِيرِ نَصْبِ الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ وَضَمِنَ الْمُعِيرُ قَلْعَ الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ، وَلَيْسَ هَذَا بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الْقَلْعَ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ مَا يُضْمَنُ بَلْ هُوَ سَبَبُ الضَّمَانِ، وَإِنَّمَا الْمَضْمُونُ قِيمَةُ الْبِنَاءِ الْمُنْتَقَضَةِ بِالْقَلْعِ، وَيَمْنَعُ أَيْضًا صِحَّةَ الْمَعْنَى عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ قَوْلُهُ: بِالْقَلْعِ إذْ يَصِيرُ الْمَعْنَى حِينَئِذٍ وَضَمِنَ الْمُعِيرُ الْقَلْعَ بِالْقَلْعِ، وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ.
فَالْوَجْهُ عِنْدِي هَاهُنَا رَفْعُ الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ لَا غَيْرُ. أَمَّا عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِ مَا مَصْدَرِيَّةً فَوَاضِحٌ. وَأَمَّا عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهَا مَوْصُولَةً فَبِتَقْدِيرِ الضَّمِيرِ الرَّاجِعِ إلَيْهَا عَلَى أَنْ يَكُونَ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ وَضَمِنَ الْمُعِيرُ مَا نَقَصَ الْبِنَاءُ وَالْغَرْسُ فِيهِ بِالْقَلْعِ، وَهُوَ الْقِيمَةُ. فَيَكُونُ كَلِمَةُ نَقَصَ هَاهُنَا مِنْ نَقَصَ فِي دِينِهِ وَعَقْلِهِ كَمَا ذَكَرَ فِي الْقَامُوسِ.
وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَوَجْهُ قَوْلِهِ مَا نَقَصَ الْبِنَاءُ وَالْغَرْسُ أَنْ يَنْظُرَ كَمْ يَكُونُ قِيمَةُ الْبِنَاءِ، وَالْغَرْسِ إذَا بَقِيَ إلَى الْمُدَّةِ الْمَضْرُوبَةِ فَيَضْمَنُ مَا نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهِ، يَعْنِي إذَا كَانَ قِيمَةُ الْبِنَاءِ إلَى الْمُدَّةِ الْمَضْرُوبَةِ عَشْرَةُ دَنَانِيرَ مَثَلًا، وَإِذَا قَلَعَ فِي الْحَالِ تَكُونُ قِيمَةُ النَّقْصِ دِينَارَيْنِ يَرْجِعُ بِهِمَا. انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَقَدْ كَانَ صَاحِبُ الْكِفَايَةِ وَتَاجُ الشَّرِيعَةِ ذَكَرَ مَعْنَى هَذَا الْمَقَامِ وَمِثَالُهُ عَلَى الْمِنْوَالِ الَّذِي ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ غَيْرَ أَنَّهُمَا قَالَا بَدَلَ قَوْلِهِ يَرْجِعُ بِهِمَا فَيَرْجِعُ بِثَمَانِيَةِ دَنَانِيرَ فَكَأَنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ أَخَذَ مِمَّا قَالَاهُ حِصَّةً فَأَوْرَدَ عَلَى مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ حَيْثُ قَالَ فِيهِ
بِخِلَافِ الْغَرْسِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ نِهَايَةٌ مَعْلُومَةٌ فَيُقْلَعُ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ الْمَالِكِ.
قَالَ (وَأُجْرَةُ رَدِّ الْعَارِيَّةِ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ)؛ لِأَنَّ الرَّدَّ وَاجِبٌ عَلَيْهِ لِمَا أَنَّهُ قَبَضَهُ لِمَنْفَعَةِ نَفْسِهِ وَالْأُجْرَةُ مُؤْنَةُ الرَّدِّ فَتَكُونُ عَلَيْهِ (وَأُجْرَةُ رَدِّ الْعَيْنِ الْمُسْتَأْجَرَةِ عَلَى الْمُؤَجِّرِ)
كَلَامٌ، وَهُوَ أَنَّ الْقَلْعَ مَا نَقَصَ دِينَارَيْنِ بَلْ نَقَصَ ثَمَانِيَةَ دَنَانِيرَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَرْجِعَ بِهَا كَمَا لَا يَخْفَى انْتَهَى. أَقُولُ: لَعَلَّ صَاحِبَ الْعِنَايَةِ أَرَادَ بِقِيمَةِ النَّقْصِ فِي قَوْلِهِ تَكُونُ قِيمَةُ النَّقْصِ دِينَارَيْنِ نُقْصَانَ الْقِيمَةِ عَلَى طَرِيقَةِ الْقَلْبِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ إذَا كَانَ نُقْصَانُ الْقِيمَةِ بِالْقَلْعِ دِينَارَيْنِ كَانَ التَّفَاوُتُ بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ بِدِينَارَيْنِ فَيَرْجِعُ بِهِمَا قَطْعًا. وَأَمَّا صَاحِبُ الْكِفَايَةِ وَتَاجُ الشَّرِيعَةِ فَكَأَنَّهُمَا أَرَادَا بِقِيمَةِ النَّقْصِ مَعْنَى قِيمَةِ النَّاقِصِ، وَإِذَا كَانَ قِيمَةُ النَّاقِصِ بِالْقَلْعِ دِينَارَيْنِ يَكُونُ التَّفَاوُتُ بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ بِثَمَانِيَةِ دَنَانِيرَ فَيَرْجِعُ بِثَمَانِيَةِ دَنَانِيرَ، وَبِهَذَا ظَهَرَ تَوْجِيهُ كَلَامِ كُلٍّ مِنْ طَائِفَتَيْ هَؤُلَاءِ الشُّرَّاحِ.
وَانْدَفَعَ مَا أَوْرَدَهُ ذَلِكَ الْبَعْضُ مِنْ الْعُلَمَاءِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ كَمَا لَا يَخْفَى. وَأَجَابَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ عَنْ ذَلِكَ بِوَجْهٍ آخَرَ حَيْثُ قَالَ: فَأَقُولُ الظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ قِيمَةُ النَّقْصِ مِنْ إضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إلَى الصِّفَةِ أَيْ الْقِيمَةِ الْمَنْقُوصَةِ فَلَا إشْكَالَ انْتَهَى كَلَامُهُ. أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا بِسَدِيدٍ، إذْ لَا يَجُوزُ إضَافَةُ الْمَوْصُوفِ إلَى الصِّفَةِ وَلَا إضَافَةُ الصِّفَةِ إلَى الْمَوْصُوفِ عَلَى الْمَذْهَبِ الْمَنْصُورِ الْمُخْتَارِ حَتَّى تَقَرَّرَ فِي عَامَّةِ مُتُونِ النَّحْوِ وَشَاعَ أَنَّ الْمَوْصُوفَ لَا يُضَافُ إلَى صِفَتِهِ وَلَا الصِّفَةُ إلَى مَوْصُوفِهَا، وَإِنَّمَا جَوَازُ ذَلِكَ مَذْهَبٌ سَخِيفٌ كُوفِيٌّ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُصَارَ إلَيْهِ فِي تَوْجِيهِ كَلَامِ الثِّقَاتِ، عَلَى أَنَّ النَّقْصَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِلْقِيمَةِ إلَّا بَعْدَ أَنْ يُجْعَلَ مَجَازًا عَنْ الْمَفْعُولِ فَيَكُونُ بِمَعْنَى الْمَنْقُوصَةِ، وَهَذَا تَعَسُّفٌ بَعْدَ تَعَسُّفٍ، وَلَعَمْرِي إنَّ مِنْ عَادَةِ ذَلِكَ الْفَاضِلِ أَنْ يَتَشَبَّثَ بِذَلِكَ الْمَذْهَبِ السَّخِيفِ مَعَ تَكَلُّفِ آخَرَ فِي تَوْجِيهِ بَعْضِ الْمَقَامَاتِ، وَقَدْ مَرَّ مِنْهُ ذَلِكَ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَمَعَ ذَلِكَ يَزْعُمُهُ مَعْنَى لَطِيفًا ظَاهِرًا كَمَا يُلَوِّحُ بِهِ.
قَوْلُهُ: هَاهُنَا فَأَقُولُ: الظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ قِيمَةُ النَّقْصِ مِنْ إضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إلَى الصِّفَةِ وَمَا كَانَ يَنْبَغِي لَهُ ذَلِكَ (قَوْلُهُ: بِخِلَافِ الْغَرْسِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ نِهَايَةٌ مَعْلُومَةٌ فَيُقْلَعُ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ الْمَالِكِ) أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إذَا كَانَ وَقْتٌ فِي الْغَرْسِ كَانَ لَهُ نِهَايَةٌ مَعْلُومَةٌ بِالتَّوْقِيتِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا تُؤْخَذَ الْأَرْضُ مِنْهُ هُنَا أَيْضًا إلَى تَمَامِ ذَلِكَ الْوَقْتِ مُرَاعَاةً لِلْحَقَّيْنِ. وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ الْغَرْسَ لَيْسَ لَهُ فِي نَفْسِهِ نِهَايَةٌ مَعْلُومَةٌ، وَبِالتَّوْقِيتِ لَا يَتَقَرَّرُ لَهُ نِهَايَةٌ لِجَوَازِ أَنْ لَا يَقْلَعَهُ الْمُسْتَعِيرُ فِي تَمَامِ ذَلِكَ الْوَقْتِ، إمَّا بِعَمْدٍ مِنْهُ لِخِيَانَةِ نَفْسِهِ، أَوْ بِمَانِعٍ يَمْنَعُهُ عَنْهُ فَيَلْزَمُ أَنْ يَتَضَرَّرَ الْمَالِكُ، بِخِلَافِ الزَّرْعِ فَإِنَّ لَهُ فِي نَفْسِهِ نِهَايَةٌ مَعْلُومَةٌ لَا يَتَأَخَّرُ عَنْهُ بِالضَّرُورَةِ فَافْتَرَقَا.
وَأَمَّا مَا قَالَهُ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ مِنْ أَنَّ الضَّرَرَ لِصَاحِبِ الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ مُتَعَيِّنٌ سَوَاءٌ وَقَّتَ أَوْ لَا، إذْ لَيْسَ لَهُمَا نِهَايَةٌ مَعْلُومَةٌ فَلَا يُمْكِنُ مُرَاعَاةُ الْحَقَّيْنِ، بِخِلَافِ الزَّرْعِ فَلَيْسَ بِتَامٍّ؛ لِأَنَّ تَعَيُّنَ الضَّرَرِ لِصَاحِبِ الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ مَمْنُوعٌ، إذْ يَجُوزُ أَنْ يَسْكُنَ صَاحِبُ الْبِنَاءِ فِي الْبِنَاءِ شِتَاءً ثُمَّ يَنْقُضَ الْبِنَاءَ إذَا جَاءَ الصَّيْفُ، وَأَنْ يَغْرِسَ صَاحِبُ الْغَرْسِ الشَّجَرَ ثُمَّ يَقْلَعَهُ بَعْدَ مُدَّةٍ لِيَبِيعَهُ كَمَا هُوَ الْعَادَةُ، فَإِذَا وَقَّتَ الْمُعِيرُ الْعَارِيَّةَ بِالْمُدَّةِ الْمُعْتَادَةِ فِي نَقْضِ مِثْلِ ذَلِكَ الْبِنَاءِ وَقَلْعِ مِثْلِ ذَلِكَ الشَّجَرِ وَلَمْ تُؤْخَذْ الْأَرْضُ مِنْ يَدِ الْمُسْتَعِيرِ إلَى تَمَامِ تِلْكَ الْمُدَّةِ لَمْ يَتَضَرَّرْ صَاحِبُ الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ أَصْلًا، وَمِمَّا يُؤَيِّدُ هَذَا مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْكِفَايَةِ وَتَاجُ الشَّرِيعَةِ عِنْدَ شَرْحِ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ ثُمَّ إذَا لَمْ يَكُنْ وَقَّتَ الْعَارِيَّةَ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَعِيرَ مُغْتَرٌّ غَيْرُ مَغْرُورٍ،
لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ التَّمْكِينُ وَالتَّخْلِيَةُ دُونَ الرَّدِّ، فَإِنَّ مَنْفَعَةَ قَبْضِهِ سَالِمَةٌ لِلْمُؤَجِّرِ مَعْنًى فَلَا يَكُونُ عَلَيْهِ مُؤْنَةُ رَدِّهِ (وَأُجْرَةُ رَدِّ الْعَيْنِ الْمَغْصُوبَةِ عَلَى الْغَاصِبِ)؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ الرَّدُّ وَالْإِعَادَةُ إلَى يَدِ الْمَالِكِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ فَتَكُونَ مُؤْنَتُهُ عَلَيْهِ.
قَالَ: (وَإِذَا اسْتَعَارَ دَابَّةً فَرَدَّهَا إلَى إصْطَبْلِ مَالِكِهَا فَهَلَكَتْ لَمْ يَضْمَنْ) وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ، وَفِي الْقِيَاسِ يَضْمَنُ؛ لِأَنَّهُ مَا رَدَّهَا إلَى مَالِكِهَا بَلْ ضَيَّعَهَا. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ أُتِيَ بِالتَّسْلِيمِ الْمُتَعَارَفِ؛ لِأَنَّ رَدَّ الْعَوَارِيِّ إلَى دَارِ الْمُلَّاكِ مُعْتَادٌ كَآلَةِ الْبَيْتِ، وَلَوْ رَدَّهَا إلَى الْمَالِكِ فَالْمَالِكُ يَرُدُّهَا إلَى الْمَرْبِطِ.
(وَإِنْ اسْتَعَارَ عَبْدًا فَرَدَّهُ إلَى دَارِ الْمَالِكِ وَلَمْ يُسَلِّمْهُ إلَيْهِ لَمْ يَضْمَنْ) لِمَا بَيَّنَّا (وَلَوْ رَدَّ الْمَغْصُوبَ أَوْ الْوَدِيعَةَ إلَى دَارِ الْمَالِكِ وَلَمْ يُسَلِّمْهُ إلَيْهِ ضَمِنَ)؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْغَاصِبِ فَسْخُ فِعْلِهِ، وَذَلِكَ بِالرَّدِّ إلَى الْمَالِكِ دُونَ غَيْرِهِ، الْوَدِيعَةُ لَا يَرْضَى الْمَالِكُ بِرَدِّهَا إلَى الدَّارِ وَلَا إلَى يَدِ مَنْ فِي الْعِيَالِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ ارْتَضَاهُ لَمَا أَوْدَعَهَا إيَّاهُ، بِخِلَافِ الْعَوَارِيِّ؛ لِأَنَّ فِيهَا عُرْفًا، حَتَّى لَوْ كَانَتْ الْعَارِيَّةُ عُقْدَ جَوْهَرٍ لَمْ يَرُدَّهَا إلَّا إلَى الْمُعِيرِ؛ لِعَدَمِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْعُرْفِ فِيهِ.
قَالَ: (وَمَنْ اسْتَعَارَ دَابَّةً فَرَدَّهَا مَعَ عَبْدِهِ أَوْ أَجِيرِهِ لَمْ يَضْمَنْ) وَالْمُرَادُ بِالْأَجِيرِ أَنْ يَكُونَ مُسَانَهَةً أَوْ مُشَاهَرَةً؛ لِأَنَّهَا أَمَانَةٌ، وَلَهُ أَنْ يَحْفَظَهَا بِيَدِ مَنْ فِي عِيَالِهِ كَمَا فِي الْوَدِيعَةِ، بِخِلَافِ الْأَجِيرِ مُيَاوَمَةً؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي عِيَالِهِ. (وَكَذَا إذَا رَدَّهَا مَعَ عَبْدِ رَبِّ الدَّابَّةِ أَوْ أَجِيرِهِ)؛ لِأَنَّ الْمَالِكَ يَرْضَى بِهِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ رَدَّهُ إلَيْهِ فَهُوَ يَرُدُّهُ إلَى عَبْدِهِ، وَقِيلَ هَذَا فِي الْعَبْدِ الَّذِي يَقُومُ عَلَى الدَّوَابِّ، وَقِيلَ فِيهِ وَفِي غَيْرِهِ وَهُوَ الْأَصَحُّ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ لَا يُدْفَعُ إلَيْهِ دَائِمًا يُدْفَعُ إلَيْهِ أَحْيَانًا (وَإِنْ رَدّهَا مَعَ أَجْنَبِيٍّ ضَمِنَ) وَدَلَّتْ الْمَسْأَلَةُ عَلَى أَنَّ الْمُسْتَعِيرَ لَا يَمْلِكُ
حَيْثُ قَالَ: فَإِنْ قِيلَ هُوَ مَغْرُورٌ؛ لِأَنَّهُ إنْ لَمْ يُوَقِّتْ صَرِيحًا لَكِنْ وَقَّتَ دَلَالَةً؛ لِأَنَّ الْبِنَاءَ وَالْغَرْسَ لِلدَّوَامِ فَكَانَتْ الْإِعَارَةُ لَهُ تَوْقِيتًا. قُلْنَا: الْبِنَاءُ قَدْ يُبْنَى لِمُدَّةٍ قَلِيلَةٍ بِأَنْ يَسْكُنَ شِتَاءً ثُمَّ يَنْقُضَ إذَا جَاءَ الصَّيْفُ، وَالشَّجَرُ قَدْ يُغْرَسُ ثُمَّ يُقْلَعُ بَعْدَ زَمَانٍ لِيُبَاعَ كَمَا هُوَ الْعَادَةُ. انْتَهَى كَلَامُهُمَا تَأَمَّلْ تَرْشُدْ.
(قَوْلُهُ: لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ التَّمْكِينُ وَالتَّخْلِيَةُ دُونَ الرَّدِّ، فَإِنَّ مَنْفَعَةَ قَبْضِهِ سَالِمَةٌ لِلْمُؤَجِّرِ مَعْنًى فَلَا يَكُونُ عَلَيْهِ مُؤْنَةٌ رَدِّهِ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: فَإِنْ قِيلَ: كَمَا أَنَّ الْمَنْفَعَةَ سَالِمَةٌ لِلْمُؤَجِّرِ فَكَذَلِكَ هِيَ سَالِمَةٌ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَيْضًا وَهِيَ الِانْتِفَاعُ بِمَنَافِعِ الْعَيْنِ الْمُسْتَأْجَرَةِ. قُلْنَا: إنَّ الْمَنْفَعَةَ الْحَاصِلَةَ لِلْمُؤَجِّرِ مَالٌ حَقِيقَةً وَحُكْمًا، وَمَا حَصَلَ لِلْمُسْتَأْجِرِ مَنْفَعَةٌ وَلَيْسَ بِمَالٍ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَكَانَ اعْتِبَارُ مَنْفَعَةِ الْمُؤَجِّرِ أَوْلَى، إلَى هَذَا أَشَارَ الْإِمَامُ الْمَحْبُوبِيُّ وَغَيْرُهُ فِي بَابِ مَسَائِلَ مُتَفَرِّقَةٍ مِنْ إجَارَاتِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ حَيْثُ قَالُوا: وَفِي الْمُسْتَأْجَرِ الْمَنْفَعَةُ عَائِدَةٌ إلَى الْآجِرِ؛ لِأَنَّهُ يَتَوَصَّلُ بِهِ إلَى مِلْكِ الْآجِرِ أَكْثَرُ مَا فِيهِ أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيهِ مَنْفَعَةً، لَكِنَّ مَنْفَعَةَ الْآجِرِ أَقْوَى؛ لِأَنَّهُ مَالِكٌ لِلْعَيْنِ وَمِلْكُ الْمُسْتَأْجِرِ فِي الْمَنْفَعَةِ، وَالْمَنْفَعَةُ تَابِعَةٌ لِلْعَيْنِ انْتَهَى. وَقَدْ أَخَذَ مِنْهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ حَيْثُ قَالَ: وَلَا يُعَارَضُ بِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ قَدْ انْتَفَعَ بِمَنَافِعِ الْعَيْنِ الْمُسْتَأْجَرَةِ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْآجِرِ عَيْنٌ وَمَنْفَعَةُ الْمُسْتَأْجَرِ مَنْفَعَةٌ وَالْعَيْنُ لِكَوْنِهِ مَتْبُوعًا أَوْلَى مِنْ الْمَنْفَعَةِ انْتَهَى. أَقُولُ: فِي الْجَوَابِ نَظَرٌ، إذْ الظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَهُمْ بِالْمَنْفَعَةِ فِي قَوْلِهِمْ: إنَّ مَنْفَعَةَ الْآجِرِ عَيْنٌ هُوَ الْأُجْرَةُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْكَافِي، وَالْأُجْرَةُ لَا يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ عَيْنًا أَلْبَتَّةَ، إذْ قَدْ صَرَّحُوا فِي كِتَابِ الْإِجَارَاتِ بِأَنَّ الْأُجْرَةَ قَدْ تَكُونُ عَيْنًا وَقَدْ تَكُونُ دِينًا وَقَدْ تَكُونُ مَنْفَعَةً مِنْ خِلَافِ جِنْسِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَلَمْ يَصِحَّ الْقَوْلُ بِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْآجِرِ عَيْنٌ عَلَى الْكُلِّيَّةِ فَلَمْ يَتِمَّ الْجَوَابُ.
(قَوْلُهُ: وَفِي الْقِيَاسِ يَضْمَنُ؛ لِأَنَّهُ مَا رَدَّهَا إلَى مَالِكِهَا بَلْ ضَيَّعَهَا) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي تَحْرِيرِ الْمَقَامِ:
الْإِيدَاعَ قَصْدًا كَمَا قَالَهُ بَعْضُ الْمَشَايِخِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَمْلِكُهُ لِأَنَّهُ دُونَ الْإِعَارَةِ، وَأَوَّلُوا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ بِانْتِهَاءِ الْإِعَارَةِ لِانْقِضَاءِ الْمُدَّةِ.
قَالَ: (وَمَنْ أَعَارَ أَرْضًا بَيْضَاءَ لِلزِّرَاعَةِ يَكْتُبُ إنَّك أَطْعَمْتنِي عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَقَالَا: يَكْتُبُ إنَّك أَعَرْتنِي)؛ لِأَنَّ لَفْظَةَ الْإِعَارَةِ مَوْضُوعَةٌ لَهُ وَالْكِتَابَةُ بِالْمَوْضُوعِ لَهُ أَوْلَى كَمَا فِي إعَارَةِ الدَّارِ. وَلَهُ أَنَّ لَفْظَةَ الْإِطْعَامِ أَدَلُّ عَلَى الْمُرَادِ؛ لِأَنَّهَا تَخُصُّ الزِّرَاعَةَ وَالْإِعَارَةُ تَنْتَظِمُهَا وَغَيْرَهَا كَالْبِنَاءِ وَنَحْوِهِ فَكَانَتْ الْكِتَابَةُ بِهَا أَوْلَى، بِخِلَافِ الدَّارِ؛ لِأَنَّهَا لَا تُعَارُ إلَّا لِلسُّكْنَى، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
وَفِي الْقِيَاسِ هُوَ ضَامِنٌ؛ لِأَنَّهُ تَضْيِيعٌ لَا رَدٌّ، وَصَارَ كَرَدِّ الْمَغْصُوبِ أَوْ الْوَدِيعَةِ إلَى دَارِ الْمَالِكِ مِنْ غَيْرِ تَسْلِيمٍ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْغَاصِبِ فَسْخُ فِعْلِهِ، وَذَلِكَ بِالرَّدِّ إلَى الْمَالِكِ دُونَ غَيْرِهِ. وَعَلَى الْمُودِعِ الرَّدُّ إلَى الْمَالِكِ لَا إلَى دَارِهِ وَمَنْ فِي عِيَالِهِ.؛ لِأَنَّهُ لَوْ ارْتَضَى بِالرَّدِّ إلَى عِيَالِهِ لَمَا أَوْدَعَهَا إيَّاهُ. اهـ كَلَامُهُ. أَقُولُ: هَذَا تَحْرِيرٌ مُخْتَلٌّ. فَإِنَّ قَوْلَهُ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْغَاصِبِ إلَخْ كَلَامُهُ الْمَزْبُورُ يُشْعِرُ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْمَقِيسِ وَالْمَقِيسِ عَلَيْهِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُذْكَرَ فِي بَيَانِ وَجْهِ الْقِيَاسِ كَمَا لَا يَخْفَى. وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْهُ أَحَدٌ سِوَاهُ هَاهُنَا، بَلْ إنَّمَا ذَكَرُوهُ فِي مَحَلِّهِ فِيمَا سَيَأْتِي كَمَا تَرَى.
(كِتَابُ الْهِبَةِ) ذَكَرْنَا وَجْهَ الْمُنَاسَبَةِ وَالتَّرْتِيبِ فِي الْوَدِيعَةِ وَهُوَ التَّرَقِّي مِنْ الْأَدْنَى إلَى الْأَعْلَى، وَلِأَنَّ الْعَارِيَّةَ كَالْمُفْرَدِ وَالْهِبَةَ كَالْمَرْكَبِ؛ لِأَنَّ فِيهَا تَمْلِيكَ
كِتَابُ الْهِبَةِ
الْهِبَةُ عَقْدٌ مَشْرُوعٌ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «تَهَادَوْا تَحَابُّوا» وَعَلَى ذَلِكَ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ (وَتَصِحُّ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ وَالْقَبْضِ) أَمَّا الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ فَلِأَنَّهُ عَقْدٌ، وَالْعَقْدُ يَنْعَقِدُ بِالْإِيجَابِ، وَالْقَبُولِ، وَالْقَبْضُ لَا بُدَّ مِنْهُ لِثُبُوتِ الْمَلِكِ. وَقَالَ مَالِكٌ: يَثْبُتُ الْمِلْكُ فِيهِ قَبْلَ الْقَبْضِ اعْتِبَارًا
الْعَيْنِ مَعَ الْمَنْفَعَةِ. ثُمَّ مَحَاسِنُ الْهِبَةِ لَا تُحْصَى وَلَا تَخْفَى عَلَى ذَوِي النُّهَى. فَقَدْ وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى ذَاتَهُ بِالْوَهَّابِ فَقَالَ {إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} وَهَذَا يَكْفِي لِمَحَاسِنِهَا. ثُمَّ إنَّ الْهِبَةَ فِي اللُّغَةِ أَصْلُهَا مِنْ الْوَهْبِ، وَالْوَهْبُ بِتَسْكِينِ الْهَاءِ وَتَحْرِيكِهَا، وَكَذَلِكَ فِي كُلِّ مُعْتَلِّ الْفَاءِ كَالْوَعْدِ وَالْعِدَّةِ وَالْوَعْظِ وَالْعِظَةِ فَكَانَتْ مِنْ الْمَصَادِرِ الَّتِي تُحْذَفُ أَوَائِلُهَا وَيُعَوَّضُ فِي أَوَاخِرِهَا التَّاءُ، وَمَعْنَاهَا: إيصَالُ الشَّيْءِ إلَى الْغَيْرِ بِمَا يَنْفَعُهُ سَوَاءٌ كَانَ مَالًا أَوْ غَيْرَ مَالٍ، يُقَالُ وَهَبَ لَهُ مَالًا وَهْبًا وَهِبَةً، وَيُقَالُ وَهَبَ اللَّهُ فُلَانًا وَلَدًا صَالِحًا، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا} {يَرِثُنِي} وَيُقَالُ وَهَبَهُ مَالًا وَلَا يُقَالُ وَهَبَ مِنْهُ، وَيُسَمَّى الْمَوْهُوبُ هِبَةً وَمَوْهِبَةً وَالْجَمْعُ هِبَاتٌ وَمَوَاهِبُ، وَاتَّهَبَهُ مِنْهُ قِبَلَهُ وَاسْتَوْهَبَهُ طَلَبَ الْهِبَةَ، كَذَا فِي مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ وَغَيْرِهِ.
وَأَمَّا فِي الشَّرِيعَةِ فَهِيَ تَمْلِيكُ الْمَالِ بِلَا عِوَضٍ
كَذَا فِي عَامَّةِ الشُّرُوحِ بَلْ الْمُتُونِ. أَقُولُ: يَرُدُّ عَلَيْهِ النَّقْضُ عَكْسًا بِالْهِبَةِ بِشَرْطِ الْعِوَضِ كَمَا تَرَى، وَلَمْ أَرَ أَحَدًا مِنْ شُرَّاحِ الْكِتَابِ حَامَ حَوْلَ التَّعَرُّضِ لِلْجَوَابِ عَنْ هَذَا النَّقْضِ وَلَا لِإِيرَادِهِ مَعَ ظُهُورِ وُرُودِهِ جِدًّا، غَيْرَ أَنَّ صَاحِبَ الدُّرَرِ وَالْغُرَرِ قَصَدَ إلَى الْجَوَابِ عَنْهُ حَيْثُ قَالَ فِي مَتْنِهِ: هِيَ تَمْلِيكُ عَيْنٍ بِلَا عِوَضٍ. وَقَالَ فِي شَرْحِهِ: أَيْ بِلَا شَرْطِ عِوَضٍ؛ لِأَنَّ عَدَمَ الْعِوَضِ شَرْطٌ فِيهِ لِيَنْتَقِضَ بِالْهِبَةِ بِشَرْطِ الْعِوَضِ فَتَدَبَّرْ. اهـ كَلَامُهُ.
أَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ، إذْ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِمْ بِلَا عِوَضٍ فِي تَعْرِيفِ الْهِبَةِ مَعْنَى بِلَا شَرْطِ عِوَضٍ لِيَعُمَّ مَا كَانَ بِشَرْطِ الْعِوَضِ مِنْ الْهِبَةِ بِنَاءً عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي الْعُلُومِ الْعَقْلِيَّةِ مِنْ أَنَّ بِلَا شَرْطٍ شَيْءٌ أَعَمُّ مِنْ بِشَرْطِ شَيْءٍ، وَمِنْ بِشَرْطِ لَا شَيْءٍ لَكَانَ تَعْرِيفُ الْهِبَةِ صَادِقًا عَلَى الْبَيْعِ أَيْضًا كَمَا لَا يَخْفَى، فَلَزِمَ أَنْ يَنْتَقِضَ بِهِ طَرْدًا عَلَى عَكْسِ مَا فِي الْمَعْنَى الظَّاهِرِ فَلَا يَنْدَفِعُ الْمَحْذُورُ بِذَلِكَ بَلْ يَشْتَدُّ. ثُمَّ أَقُولُ: يُمْكِنُ الْجَوَابَ عَنْ أَصْلِ النَّقْضِ بِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِمْ بِلَا عِوَضٍ فِي تَعْرِيفِ الْهِبَةِ بِلَا اكْتِسَابِ عِوَضٍ، فَالْمَعْنَى أَنَّ الْهِبَةَ هِيَ تَمْلِيكُ الْمَالِ بِشَرْطِ عَدَمِ اكْتِسَابِ الْعِوَضِ فَلَا يُنْتَقَضُ بِالْهِبَةِ بِشَرْطِ الْعِوَضِ، فَإِنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ بِشَرْطِ الْعِوَضِ إلَّا أَنَّهَا لَيْسَتْ بِشَرْطِ الِاكْتِسَابِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ فَسَّرُوا الْبَيْعَ بِمُبَادَلَةِ الْمَالِ بِالْمَالِ بِطَرِيقِ الِاكْتِسَابِ، وَقَالُوا خَرَجَ بِقَوْلِنَا بِطَرِيقِ الِاكْتِسَابِ الْهِبَةُ بِشَرْطِ الْعِوَضِ. ثُمَّ أَقُولُ: بَقِيَ فِي التَّعْرِيفِ الْمَزْبُورِ شَيْءٌ وَهُوَ أَنَّهُ يَصْدُقُ عَلَى الْوَصِيَّةِ بِالْمَالِ، فَإِنَّهَا أَيْضًا تَمْلِيكُ الْمَالِ بِلَا اكْتِسَابِ عِوَضٍ فَلَمْ يَكُنْ مَانِعًا عَنْ دُخُولِ الْأَغْيَارِ، فَلَوْ زَادُوا قَيْدَ فِي الْحَالِ فَقَالُوا: هِيَ تَمْلِيكُ الْمَالِ بِلَا عِوَضٍ فِي الْحَالِ لَخَرَجَ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْوَصِيَّةَ تَمْلِيكٌ بَعْدَ الْمَوْتِ لَا فِي الْحَالِ.
(قَوْلُهُ: وَتَصِحُّ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ إلَخْ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: أَيْ تَصِحُّ بِالْإِيجَابِ وَحْدَهُ فِي حَقِّ الْوَاهِبِ، وَبِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ فِي حَقِّ الْمَوْهُوبِ لَهُ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ عَقْدُ تَبَرُّعٍ فَيَتِمُّ بِالْمُتَبَرِّعِ فَصَارَ هُوَ عِنْدَنَا بِمَنْزِلَةِ الْإِقْرَارِ وَالْوَصِيَّةِ، وَلَكِنْ
بِالْبَيْعِ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الصَّدَقَةُ. وَلَنَا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «لَا تَجُوزُ الْهِبَةُ إلَّا مَقْبُوضَةً» وَالْمُرَادُ نَفْيُ الْمِلْكِ،
لَا يَمْلِكُهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ إلَّا بِالْقَبُولِ وَالْقَبْضِ. وَثَمَرَةُ ذَلِكَ تَظْهَرُ فِيمَا ذَكَرْنَا فِي مَسَائِلَ مُتَفَرِّقَةٍ مِنْ كِتَابِ الْأَيْمَانِ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ حَلَفَ أَنْ يَهَبَ عَبْدَهُ لِفُلَانٍ فَوَهَبَ وَلَمْ يُقْبَلْ فَقَدْ بَرَّ فِي يَمِينِهِ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ. اهـ كَلَامُهُ.
وَاقْتَفَى أَثَرَهُ صَاحِبُ مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ كَمَا هُوَ دَأْبُهُ فِي أَكْثَرِ الْمَحَالِّ، وَنَسَجَ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ مَعْنَى الْمَقَامِ عَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ أَيْضًا وَعَزَاهُ إلَى الْحَصْرِ وَالْمُخْتَلَفِ. وَبَنَى صَاحِبُ الْعِنَايَةِ أَيْضًا كَلَامَهُ هَاهُنَا عَلَى اخْتِيَارِ هَذَا الْمَعْنَى حَيْثُ قَالَ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ: وَهَذَا بِخِلَافِ الْبَيْعِ مِنْ جِهَةِ الْعَاقِدَيْنِ، أَمَّا مِنْ جِهَةِ الْوَاهِبِ فَلِأَنَّ الْإِيجَابَ كَافٍ، وَلِهَذَا لَوْ حَلَفَ أَنْ يَهَبَ عَبْدَهُ لِفُلَانٍ فَوَهَبَ وَلَمْ يُقْبَلْ بَرَّ فِي يَمِينِهِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ، وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الْمَوْهُوبِ لَهُ فَلِأَنَّ الْمِلْكَ لَا يَثْبُتُ بِالْقَبُولِ بِدُونِ الْقَبْضِ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ اهـ.
وَالشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ أَيْضًا اقْتَفَى أَثَرَ هَؤُلَاءِ، وَبِالْجُمْلَةِ أَكْثَرُ الشُّرَّاحِ هَاهُنَا عَلَى أَنَّ الْهِبَةَ تَتِمُّ بِالْإِيجَابِ وَحْدَهُ. أَقُولُ: هَذَا الَّذِي ذَكَرُوهُ وَإِنْ كَانَ مُطَابِقًا جِدًّا لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي مَسَائِلَ مُتَفَرِّقَةٍ مِنْ كِتَابِ الْأَيْمَانِ فَإِنَّهُ قَالَ هُنَاكَ: وَمَنْ حَلَفَ أَنْ يَهَبَ عَبْدَهُ لِفُلَانٍ فَوَهَبَ وَلَمْ يُقْبَلْ بَرَّ فِي يَمِينِهِ خِلَافًا لِزُفَرَ فَإِنَّهُ يَعْتَبِرُهُ بِالْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ مِثْلُهُ. وَلَنَا أَنَّهُ عَقْدُ تَبَرُّعٍ فَيَتِمُّ بِالْمُتَبَرِّعِ وَلِهَذَا يُقَالُ وَهَبَ وَلَمْ يُقْبَلْ اهـ. إلَّا أَنَّهُ غَيْرُ مُطَابِقٍ لِمَا ذَكَرَهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ أَمَّا الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ فَلِأَنَّهُ عَقْدٌ، وَالْعَقْدُ يَنْعَقِدُ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ بِمَنْزِلَةِ الصَّرِيحِ فِي أَنَّ عَقْدَ الْهِبَةِ لَا يَتِمُّ إلَّا بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ كَسَائِرِ الْعُقُودِ، وَيَشْهَدُ بِهَذَا أَيْضًا قَوْلُهُ: وَالْقَبْضُ لَا بُدَّ مِنْهُ لِثُبُوتِ الْمِلْكِ، إذْ لَوْ كَانَ مُرَادُهُ أَنَّ الْهِبَةَ عَقْدُ تَبَرُّعٍ فَيَتِمُّ بِالْمُتَبَرِّعِ وَلَكِنْ لَا يَمْلِكُهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ إلَّا بِالْقَبُولِ وَالْقَبْضِ لَقَالَ وَالْقَبُولُ وَالْقَبْضُ لِثُبُوتِ الْمِلْكِ، وَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا لَا سُتْرَةَ بِهِ عِنْدَ مَنْ لَهُ ذَوْقٌ صَحِيحٌ.
ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ قَدْ كَانَا صَرَّحَا قُبَيْلَ هَذَا الْكَلَامِ بِأَنَّ رُكْنَ الْهِبَةِ هُوَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ ذَاكَ التَّصْرِيحَ مِنْهُمَا يُنَافِي الْقَوْلَ مِنْهُمَا هَاهُنَا بِأَنَّ الْهِبَةَ تَتِمُّ بِالْإِيجَابِ وَحْدَهُ، إذَا لَا شَكَّ أَنَّ الشَّيْءَ لَا يَتِمُّ بِبَعْضِ أَرْكَانِهِ بِدُونِ حُصُولِ الْآخَرِ ضَرُورَةَ انْتِفَاءِ الْكُلِّ بِانْتِفَاءِ جُزْءٍ وَاحِدٍ مِنْهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ صَاحِبَ الْكَافِي وَصَاحِبَ الْكِفَايَةِ سَلَكَا هَاهُنَا مَسْلَكًا آخَرَ فَقَالَا وَرُكْنُهَا الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ؛ لِأَنَّهَا عَقْدٌ، وَقِيَامُ الْعَقْدِ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْإِنْسَانِ لَا يَنْتَقِلُ إلَى الْغَيْرِ بِدُونِ تَمْلِيكِهِ، وَإِلْزَامُ الْمِلْكِ عَلَى الْغَيْرِ لَا يَكُونُ بِدُونِ قَبُولِهِ، وَإِنَّمَا يَحْنَثُ لَوْ حَلَفَ أَنْ لَا يَهَبَ فَوَهَبَ وَلَمْ يُقْبَلْ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَمْنَعُ نَفْسَهُ عَمَّا هُوَ مَقْدُورٌ لَهُ وَهُوَ الْإِيجَابُ لَا الْقَبُولُ؛ لِأَنَّهُ فِعْلُ الْغَيْرِ. اهـ كَلَامُهُمَا.
أَقُولُ: هَذَا التَّقْرِيرُ وَإِنْ كَانَ مُنَاسِبًا لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ هَاهُنَا إلَّا أَنَّهُ غَيْرُ مُلَائِمٍ لِمَا ذَكَرَهُ فِي مَسَائِلَ مُتَفَرِّقَةٍ مِنْ كِتَابِ الْأَيْمَانِ كَمَا نَقَلْنَاهُ آنِفًا، وَأَيْضًا يَرُدُّ عَلَيْهِ أَنَّ التَّعْلِيلَ الْمَذْكُورَ لِلْحِنْثِ فِيمَا لَوْ حَلَفَ أَنْ لَا يَهَبَ فَوَهَبَ وَلَمْ يُقْبَلْ يَقْتَضِي أَنْ يَحْنَثَ أَيْضًا فِيمَا لَوْ حَلَفَ أَنْ لَا يَبِيعَ فَبَاعَ وَلَمْ يُقْبَلْ؛ لِأَنَّ الْمَقْدُورَ لَهُ فِي كُلِّ عَقْدٍ هُوَ الْإِيجَابُ لَا الْقَبُولُ، مَعَ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ فِي صُورَةِ الْبَيْعِ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ كَلِمَاتِ الْقَوْمِ فِي هَذَا الْمَقَامِ لَا تَخْلُو عَنْ الِاضْطِرَابِ، وَعَنْ هَذَا قَالَ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ: وَأَمَّا رُكْنُهَا فَقَدْ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ، قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ خُوَاهَرْ زَادَهْ فِي مَبْسُوطِهِ: هُوَ مُجَرَّدُ إيجَابِ الْوَاهِبِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَهَبْت وَلَمْ يَجْعَلْ قَبُولَ الْمَوْهُوبِ لَهُ رُكْنًا؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ يَنْعَقِدُ بِمُجَرَّدِ إيجَابِ الْوَاهِبِ، وَلِهَذَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا: إذَا حَلَفَ لَا يَهَبُ فَوَهَبَ وَلَمْ يُقْبَلْ يَحْنَثُ فِي يَمِينِهِ عِنْدَنَا. وَقَالَ صَاحِبُ التُّحْفَةِ: رُكْنُهَا الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ.
وَوَجْهُهُ أَنَّ الْهِبَةَ عَقْدٌ وَالْعَقْدُ هُوَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ إلَى هُنَا كَلَامُهُ. وَقَالَ صَاحِبُ الْبَدَائِعِ: أَمَّا رُكْنُ الْهِبَةِ فَهُوَ الْإِيجَابُ مِنْ الْوَاهِبِ، فَأَمَّا الْقَبُولُ مِنْ الْمَوْهُوبِ لَهُ فَلَيْسَ بِرُكْنٍ اسْتِحْسَانًا. وَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ رُكْنًا وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ. وَفِي قَوْلٍ قَالَ: الْقَبْضُ أَيْضًا رُكْنٌ. وَفَائِدَةُ هَذَا الِاخْتِلَافِ تَظْهَرُ فِيمَنْ حَلَفَ لَا يَهَبُ هَذَا الشَّيْءَ لِفُلَانٍ فَوَهَبَهُ لَهُ فَلَمْ يَقْبَلْ أَنَّهُ يَحْنَثُ اسْتِحْسَانًا، وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَحْنَثُ مَا لَمْ يَقْبَلْ، وَفِي قَوْلٍ مَا لَمْ يَقْبَلْ وَيَقْبِضْ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ إذَا حَلَفَ لَا يَبِيعُ هَذَا الشَّيْءَ لِفُلَانٍ فَبَاعَهُ فَلَمْ يُقْبَلْ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ، إلَى
لِأَنَّ الْجَوَازَ بِدُونِهِ ثَابِتٌ، وَلِأَنَّهُ عَقْدُ تَبَرُّعٍ، وَفِي إثْبَاتِ الْمِلْكِ قَبْلَ الْقَبْضِ إلْزَامُ الْمُتَبَرِّعِ شَيْئًا لَمْ يَتَبَرَّعْ بِهِ، وَهُوَ التَّسْلِيمُ فَلَا يَصِحُّ، بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّ أَوَانَ ثُبُوتِ الْمِلْكِ فِيهَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَلَا إلْزَامَ عَلَى الْمُتَبَرِّعِ؛ لِعَدَمِ أَهْلِيَّةِ اللُّزُومِ، وَحَقُّ الْوَارِثِ مُتَأَخِّرٌ عَنْ الْوَصِيَّةِ فَلَمْ يَمْلِكْهَا.
قَالَ: (فَإِنْ قَبَضَهَا الْمَوْهُوبُ لَهُ فِي الْمَجْلِسِ بِغَيْرِ أَمْرِ الْوَاهِبِ جَازَ) اسْتِحْسَانًا (وَإِنْ قَبَضَ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ لَمْ يَجُزْ إلَّا أَنْ يَأْذَنَ لَهُ الْوَاهِبُ فِي الْقَبْضِ) وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ فِي الْوَجْهَيْنِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ تَصَرُّفٌ فِي مِلْكِ الْوَاهِبِ، إذْ مِلْكُهُ قَبْلَ الْقَبْضِ بَاقٍ فَلَا يَصِحُّ
هُنَا كَلَامُهُ (قَوْلُهُ: وَلِأَنَّهُ عَقْدُ تَبَرُّعٍ، وَفِي إثْبَاتِ الْمِلْكِ قَبْلَ الْقَبْضِ إلْزَامُ الْمُتَبَرِّعِ شَيْئًا لَمْ يَتَبَرَّعْ بِهِ وَهُوَ التَّسْلِيمُ فَلَا يَصِحُّ) يَعْنِي لَوْ ثَبَتَ الْمِلْكُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ تَتَوَجَّهُ الْمُطَالَبَةُ عَلَيْهِ بِالتَّسْلِيمِ فَيُؤَدِّي إلَى إيجَابِ التَّسْلِيمِ عَلَى الْمُتَبَرِّعِ وَهُوَ لَمْ يَتَبَرَّعْ بِهِ، وَإِيجَابُ شَيْءٍ لَمْ يَتَبَرَّعْ بِهِ يُخَالِفُ مَوْضُوعَ التَّبَرُّعَاتِ، بِخِلَافِ الْمُعَاوَضَاتِ، كَذَا فِي الْكَافِي وَبَعْضِ الشُّرُوحِ.
وَرُدَّ بِأَنَّ الْمُتَبَرِّعَ بِالشَّيْءِ قَدْ يَلْزَمُهُ مَا لَمْ يَتَبَرَّعْ بِهِ إذَا كَانَ مِنْ تَمَامِهِ ضَرُورَةُ تَصْحِيحِهِ، كَمَنْ نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ وَهُوَ مُحْدِثٌ لَزِمَهُ الْوُضُوءُ، وَمَنْ شَرَعَ فِي صَوْمٍ أَوْ صَلَاةٍ لَزِمَهُ الْإِتْمَامُ. وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ مُغَالَطَةٌ، فَإِنَّ مَا لَا يَتِمُّ الشَّيْءُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ إذَا كَانَ ذَلِكَ الشَّيْءُ وَاجِبًا كَمَا ذَكَرْت مِنْ الصُّوَرِ فَإِنَّهُ يَجِبُ بِالنَّذْرِ أَوْ الشُّرُوعِ، وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ، وَالْهِبَةُ عَقْدُ تَبَرُّعٍ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً، فَإِنَّهُ لَوْ وَهَبَ وَسَلَّمَ جَازَ لَهُ الرُّجُوعُ فَكَيْفَ قَبْلَ التَّسْلِيمِ فَلَا يَجِبُ مَا يَتِمُّ بِهِ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ أَخْذًا مِنْ النِّهَايَةِ. أَقُولُ: فِيهِ كَلَامٌ، أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ قَوْلَهُ فَإِنَّهُ لَوْ وَهَبَ وَسَلَّمَ جَازَ لَهُ الرُّجُوعُ فَكَيْفَ قَبْلَ التَّسْلِيمِ مَنْقُوضٌ بِالْهِبَةِ لِلْقَرِيبِ وَبِالْهِبَةِ الْمُعَوَّضِ عَنْهَا وَبِغَيْرِهِمَا مِمَّا يَتَحَقَّقُ فِيهِ الْمَانِعُ عَنْ الرُّجُوعِ كَمَا سَيَأْتِي. وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّهُ إذَا جَازَ لَهُ الرُّجُوعُ قَبْلَ التَّسْلِيمِ وَبَعْدَهُ لَمْ يَكُنْ فِي إثْبَاتِ الْمِلْكِ قَبْلَ الْقَبْضِ إلْزَامُ الْمُتَبَرِّعِ شَيْئًا لَمْ يَتَبَرَّعْ بِهِ وَهُوَ التَّسْلِيمُ، إذْ بِجَوَازِ الرُّجُوعِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ يَنْتَفِي لُزُومُ التَّسْلِيمِ فَمِنْ أَيْنَ يَجِبُ إلْزَامُ التَّسْلِيمِ فَلْيَتَأَمَّلْ فِي الدَّفْعِ.
بِدُونِ إذْنِهِ، وَلَنَا أَنَّ الْقَبْضَ بِمَنْزِلَةِ الْقَبُولِ فِي الْهِبَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ ثُبُوتُ حُكْمِهِ وَهُوَ الْمِلْكُ،
قَوْلُهُ: وَلَنَا أَنَّ الْقَبْضَ بِمَنْزِلَةِ الْقَبُولِ فِي الْهِبَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ ثُبُوتُ حُكْمِهِ وَهُوَ الْمِلْكُ) قَالَ الشُّرَّاحُ: قَوْلُهُ: فِي الْهِبَةِ مُتَعَلِّقٌ بِالْقَبْضِ لَا بِالْقَبُولِ، فَالْمَعْنَى أَنَّ الْقَبْضَ فِي الْهِبَةِ بِمَنْزِلَةِ الْقَبُولِ فِي الْبَيْعِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْحُكْمَ وَهُوَ الْمِلْكُ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ فِي الْهِبَةِ كَمَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَبُولِ فِي الْبَيْعِ، وَبِهِ صَرَّحَ فِي الْمَبْسُوطِ وَأَشَارَ إلَيْهِ فِي الْإِيضَاحِ. وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: وَلَا أَدْرِي مَا الْمَانِعُ عَنْ تَعَلُّقِهِ بِالْقَبُولِ، فَإِنَّ التَّوَقُّفَ لَا يَسْتَلْزِمُ الْإِيجَابَ التَّامَّ اهـ. أَقُولُ: لَعَلَّ الْمَانِعَ عَنْهُ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمُتَبَادَرَ مِنْ كَوْنِ الشَّيْءِ بِمَنْزِلَةِ الشَّيْءِ أَنْ يَكُونَ قَائِمًا مَقَامَهُ، وَهَذَا لَا يُتَصَوَّرُ فِيمَا إذَا كَانَا فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ كَالْقَبْضِ وَالْقَبُولِ فِي الْهِبَةِ، فَإِنْ كُلًّا مِنْهُمَا حِينَئِذٍ يُعْطَى حُكْمَ نَفْسِهِ بِنَفْسِهِ فَلَا يَأْخُذُ أَحَدُهُمَا حُكْمَ الْآخَرِ فَلَا يُوجَدُ نُزُولُ أَحَدِهِمَا مَنْزِلَةَ الْآخَرِ وَقِيَامُهُ مَقَامَهُ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَا فِي عَقْدَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ كَالْقَبْضِ فِي الْهِبَةِ وَالْقَبُولِ فِي الْبَيْعِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ حِينَئِذٍ أَنْ يَأْخُذَ أَحَدُهُمَا حُكْمَ الْآخَرِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَتِهِ.
وَعَنْ هَذَا قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ: وَلَمَّا كَانَ الْقَبْضُ فِي الْهِبَةِ بِمَنْزِلَةِ الْقَبُولِ فِي الْبَيْعِ أَخَذَ حُكْمَ الْقَبُولِ فِي الْبَيْعِ. وَثَانِيهِمَا أَنَّ التَّوَقُّفَ وَإِنْ لَمْ يَسْتَلْزِمْ الْإِيجَابَ التَّامَّ إلَّا أَنَّ الْقَبُولَ فِي الْهِبَةِ كَمَا لَا يُوجِبُ ثُبُوتُ حُكْمِ عَقْدِ الْهِبَةِ وَهُوَ الْمِلْكُ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ أَيْضًا ثُبُوتُ حُكْمِ عَقْدِ الْهِبَةِ لِثُبُوتِ حُكْمِهِ بِدُونِ تَحَقُّقِ الْقَبُولِ، فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ وَهَبْتُك هَذَا الشَّيْءَ فَقَبَضَهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ مِنْ غَيْرِ قَبُولٍ صَحَّ وَمَلَكَهُ؛ لِوُجُودِ الْقَبْضِ، نَصَّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ الزَّيْلَعِيُّ فِي التَّبْيِينِ وَذَكَرَ فِي الذَّخِيرَةِ أَيْضًا، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ إنَّ الْقَبْضِ فِي الْهِبَةِ بِمَنْزِلَةِ الْقَبُولِ فِي الْهِبَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يُتَوَقَّفُ عَلَيْهِ ثُبُوتُ حُكْمِهِ وَهُوَ الْمِلْكُ، بِخِلَافِ الْقَبُولِ فِي الْبَيْعِ فَإِنَّهُ لَا يُثْبِتُ الْمِلْكَ قَطْعًا، وَلَا يَصِحُّ عَقْدُ الْبَيْعِ أَصْلًا بِدُونِ تَحَقُّقِ الْقَبُولِ فِيهِ، وَهَذَا الْوَجْهُ الثَّانِي قَطْعِيٌّ فِي الْمَنْعِ كَمَا تَرَى. وَطَعَنَ صَاحِبُ الْغَايَةِ فِي قَوْلِ الْمُصَنِّفِ: وَلَنَا أَنَّ الْقَبْضَ إلَخْ حَيْثُ قَالَ: وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ: وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ الْقِيَاسَ وَالِاسْتِحْسَانَ وَلَمْ يَذْكُرْ قَوْلَ الْخَصْمِ فِي الْمَتْنِ فَلَمْ يَكُنْ قَوْلُهُ: وَلَنَا مُنَاسِبًا. اهـ. وَقَصَدَ الشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ دَفْعَ ذَلِكَ فَقَالَ بَعْدَ نَقْلِهِ قُلْت: لَمَّا كَانَ الْقِيَاسُ هُوَ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ قَوْلُنَا نَاسَبَ أَنْ يَقُولَ وَلَنَا وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِذِكْرِ الشَّافِعِيِّ اهـ. أَقُولُ: إنْ تَحَقَّقَ خَصْمٌ يَأْخُذُ بِالْقِيَاسِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِمَّا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ: وَلَنَا إيمَاءٌ إلَى وُقُوعِ مُنَازِعٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَأَمَّا مُنَاسَبَةُ هَذَا الْقَوْلِ وَحُسْنُهُ فَإِنَّمَا يَحْصُلَانِ عِنْدَ ذِكْرِ مُخَالَفَةِ الْخَصْمِ فِيمَا قَبْلُ كَمَا هُوَ الْمُتَعَارَفُ الْمُعْتَادُ، وَمُرَادُ صَاحِبِ الْغَايَةِ مُؤَاخَذَةُ الْمُصَنِّفِ بِتَقْوِيَةِ الْمُنَاسَبَةِ فِي تَحْرِيرِهِ لَا نَفْيُ الصِّحَّةِ وَالْجَوَازِ عَنْ كَلَامِهِ بِالْكُلِّيَّةِ فَلَا يَدْفَعُهُ مَا قَالَهُ الشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ كَمَا لَا يَخْفَى.
وَاعْتَرَضَ عَلَى الدَّلِيلِ الْمَزْبُورِ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْقَبْضُ بِمَنْزِلَةِ الْقَبُولِ لَمَا صَحَّ الْأَمْرُ بِالْقَبْضِ بَعْدَ الْمَجْلِسِ كَمَا لَا يَصِحُّ أَمْرُ الْبَائِعِ الْمُشْتَرِيَ بِالْقَبُولِ بَعْدَ الْمَجْلِسِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْإِيجَابَ مِنْ الْبَائِعِ شَطْرُ الْعَقْدِ، وَلِهَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يَبِيعُ فَبَاعَ وَلَمْ يَقْبَلْ الْمُشْتَرِي لَا يَحْنَثُ، فَأَمَّا إيجَابُ الْوَاهِبِ فَعَقْدٌ تَامٌّ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَا يَهَبُ فَوَهَبَ وَلَمْ يُقْبَلْ يَحْنَثُ اسْتِحْسَانًا فَيَقِفُ عَلَى مَا وَرَاءَ الْمَجْلِسِ فَيَصِحُّ الْأَمْرُ بِالْقَبْضِ وَقَبَضَهُ بَعْدَ الْمَجْلِسِ، وَهَذَا السُّؤَالُ وَالْجَوَابُ مَذْكُورَانِ فِي عَامَّةِ الشُّرُوحِ، وَعَزَاهُمَا فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ إلَى الْمُخْتَلِفَاتِ. أَقُولُ: فِي الْجَوَابِ بَحْثٌ، أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُ لَا يَدْفَعُ السُّؤَالَ الْمَذْكُورَ بَلْ يُقَرِّرُهُ؛ لِأَنَّ حَاصِلَ ذَلِكَ السُّؤَالِ الْقَدَحُ فِي الْمُقَدِّمَةِ الْقَائِلَةِ إنَّ الْقَبْضَ بِمَنْزِلَةِ الْقَبُولِ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا صَحَّ فِي الْقَبْضِ مَا لَا يَصِحُّ فِي الْقَبُولِ مِنْ التَّأْخِيرِ إلَى مَا بَعْدَ الْمَجْلِسِ. وَحَاصِلُ الْجَوَابِ بَيَانُ الْفَرْقِ بَيْنَ إيجَابِ الْوَاهِبِ وَإِيجَابِ الْبَائِعِ، بِأَنَّ الْأَوَّلَ عَقْدٌ تَامٌّ وَالثَّانِي شَطْرُ الْعَقْدِ وَجَعْلُ هَذَا الْفَرْقِ مَدَارًا لِصِحَّةِ الْقَبْضِ بِالْإِذْنِ بَعْدَ الْمَجْلِسِ فِي الْهِبَةِ وَعَدَمُ صِحَّةِ الْقَبُولِ بِالْأَمْرِ بَعْدَ الْمَجْلِسِ فِي الْبَيْعِ. وَخُلَاصَةُ هَذَا بَيَانٌ لَمِّيَّةِ صِحَّةِ الْقَبْضِ فِي الْهِبَةِ بَعْدَ الْمَجْلِسِ وَعَدَمِ صِحَّةِ الْقَبُولِ فِي الْبَيْعِ بَعْدَهُ، وَهَذَا لَا يَدْفَعُ الْقَدْحَ فِي قَوْلِهِمْ إنَّ الْقَبْضَ فِي الْهِبَةِ بِمَنْزِلَةِ الْقَبُولِ
وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ إثْبَاتُ الْمِلْكِ فَيَكُونُ الْإِيجَابُ مِنْهُ تَسْلِيطًا عَلَى الْقَبْضِ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَبَضَ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ؛ لِأَنَّا إنَّمَا أَثْبَتَنَا التَّسْلِيطَ فِيهِ إلْحَاقًا لَهُ بِالْقَبُولِ، وَالْقَبُولُ يَتَقَيَّدُ بِالْمَجْلِسِ، فَكَذَا مَا يُلْحَقُ بِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا نَهَاهُ عَنْ الْقَبْضِ فِي الْمَجْلِسِ؛ لِأَنَّ الدَّلَالَةَ لَا تَعْمَلُ فِي مُقَابَلَةِ الصَّرِيحِ.
فِي الْبَيْعِ بَلْ يُقَرِّرُ ذَلِكَ كَمَا لَا يَخْفَى.
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّهُمْ صَرَّحُوا بِأَنَّ الْحُكْمَ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ الْمَذْكُورِ فِي الْهِبَةِ لِافْتِقَارِهِ أَيْضًا إلَى الْقَبْضِ كَمَا ذَكَرَ فِي الْكَافِي. وَفِي غَايَةِ الْبَيَانِ نَقْلًا عَنْ مَبْسُوطِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ خُوَاهَرْ زَادَهْ: وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْجَوَابَ الْمَذْكُورَ لَا يَتَمَشَّى فِي تِلْكَ الصُّورَةِ رَأْسًا؛ لِأَنَّ الْإِيجَابَ فِي الْبَيْعِ الصَّحِيحِ، وَالْإِيجَابَ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ شَيْئَانِ فِي كَوْنِهِمَا شَطْرَ الْعَقْدِ لِإِتْمَامِهِ، فَلَا يَتِمُّ الْفَرْقُ الْمَزْبُورُ هُنَاكَ. وَأَوْرَدَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ عَلَى الْجَوَابِ الْمَذْكُورِ بِوَجْهَيْنِ آخَرَيْنِ حَيْثُ قَالَ: فِيهِ بَحْثٌ، فَإِنَّهُ لَوْ صَحَّ مَا ذَكَرَ لَجَازَ الْقَبُولُ بَعْدَ الْمَجْلِسِ بِأَمْرِ الْوَاهِبِ، وَأَيْضًا هَذَا الْكَلَامُ مُنَاقِضُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ عَقْدٌ وَالْعَقْدُ يَنْعَقِدُ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ. اهـ. أَقُولُ: كِلَا وَجْهَيْ بَحْثِهِ سَاقِطٌ.
أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ الْمُلَازَمَةَ فِي قَوْلِهِ لَوْ صَحَّ مَا ذَكَرَ لَجَازَ الْقَبُولُ بَعْدَ الْمَجْلِسِ بِأَمْرِ الْوَاهِبِ مُسَلَّمَةٌ، فَأَمَّا بُطْلَانُ التَّالِي فَمَمْنُوعٌ إذْ قَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا مَرَّ آنِفًا أَنَّهُ لَوْ قَالَ وَهَبْتُك هَذَا الشَّيْءَ فَقَبَضَهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ مِنْ غَيْرِ قَبُولٍ صَحَّ عَلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي التَّبْيِينِ، وَذَكَرَ فِي الذَّخِيرَةِ أَيْضًا: فَإِذَا صَحَّ عَقْدُ الْهِبَةِ مِنْ غَيْرِ قَبُولٍ أَصْلًا فَلَأَنْ يَصِحَّ بِالْقَبُولِ بَعْدَ الْمَجْلِسِ بِأَمْرِ الْوَاهِبِ أَوْلَى كَمَا لَا يَخْفَى.
وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّا قَدْ نَقَلْنَا عَنْ الْبَدَائِعِ فِيمَا مَرَّ أَنَّ رُكْنَ الْهِبَةِ هُوَ الْإِيجَابُ مِنْ الْوَاهِبِ، وَأَمَّا الْقَبُولُ مِنْ الْمَوْهُوبِ لَهُ فَلَيْسَ بِرُكْنٍ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ رُكْنًا، فَمَدَارُ الْجَوَابِ الْمَذْكُورِ عَلَى الِاسْتِحْسَانِ وَمَدَارُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْمُصَنِّفِ عَلَى الْقِيَاسِ فَلَا تَنَاقُضَ بَيْنَهُمَا، كَيْفَ وَقَدْ صَرَّحَ الْمُصَنِّفُ نَفْسُهُ فِي مَسَائِلَ مُتَفَرِّقَةٍ مِنْ كِتَابِ الْأَيْمَانِ بِأَنَّ الْهِبَةَ عَقْدُ تَبَرُّعٍ فَيَتِمُّ بِالْمُتَبَرِّعِ، وَلِهَذَا يُقَالُ وَهَبَ وَلَمْ يُقْبَلْ، وَالْعَاقِلُ لَا يَتَكَلَّمُ بِمَا يُنَاقِضُ كَلَامَ نَفْسِهِ فَوَجْهُ التَّوْفِيقِ حَمْلُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْقِيَاسِ وَالْآخَرِ عَلَى الِاسْتِحْسَانِ.
(قَوْلُهُ: وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ إثْبَاتُ الْمِلْكِ فَيَكُونُ الْإِيجَابُ مِنْهُ تَسْلِيطًا عَلَى الْقَبْضِ) يَعْنِي أَنَّ مَقْصُودَ الْوَاهِبِ مِنْ عَقْدِ الْهِبَةِ إثْبَاتُ الْمِلْكِ الْمَوْهُوبِ لَهُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَيَكُونُ الْإِيجَابُ مِنْهُ تَسْلِيطًا عَلَى الْقَبْضِ تَحْصِيلًا لِمَقْصُودِهِ فَكَانَ إذْنًا دَلَالَةً، وَنُقِضَ هَذَا بِفَصْلِ الْبَيْعِ فَإِنَّ مَقْصُودَ الْبَائِعِ مِنْ إيجَابِ عَقْدِ الْبَيْعِ هُوَ ثُبُوتُ الْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي، ثُمَّ إذَا تَمَّ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ هُنَاكَ وَالْمَبِيعُ حَاضِرٌ لَا يُجْعَلُ إيجَابُ الْبَائِعِ تَسْلِيطًا عَلَى الْقَبْضِ، حَتَّى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَوْ قَبَضَ الْمَبِيعَ بِغَيْرِ إذْنِ الْبَائِعِ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ جَازَ لِلْبَائِعِ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ وَيَحْبِسَهُ حَتَّى يَأْخُذَ الثَّمَنَ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ مَقْصُودَ الْبَائِعِ مِنْ عَقْدِ الْبَيْعِ ثُبُوتُ الْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي بَلْ مَقْصُودَهُ مِنْهُ تَحْصِيلُ الثَّمَنِ لَا غَيْرُ، وَثُبُوتُ الْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي ضِمْنِيٌّ لَا قَصْدِيٌّ فَلَا مُعْتَبَرَ بِهِ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ.
أَقُولُ: لَا يَرِدُ النَّقْضُ الْمَذْكُورُ رَأْسًا، إذْ لَوْ سُلِّمَ أَنَّ مَقْصُودَ الْبَائِعِ مِنْ إيجَابِ عَقْدِ الْبَيْعِ هُوَ ثُبُوتُ الْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي فَكَذَاك الْمَقْصُودُ يَحْصُلُ بِقَبُولِ الْمُشْتَرِي مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى الْقَبْضِ، فَإِنَّ الْقَبْضَ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِثُبُوتِ الْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي فَلَا مُقْتَضَى لِجَعْلِ إيجَابِ الْبَائِعِ تَسْلِيطًا عَلَى الْقَبْضِ لِحُصُولِ مَقْصُودِهِ بِدُونِ ذَلِكَ بِخِلَافِ فَصْلِ الْهِبَةِ كَمَا تَقَرَّرَ (قَوْلُهُ: بِخِلَافِ مَا إذَا قَبَضَ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ؛ لِأَنَّا إنَّمَا أَثْبَتْنَا التَّسْلِيطَ فِيهِ إلْحَاقًا لَهُ بِالْقَبُولِ وَالْقَبُولُ يَتَقَيَّدُ بِالْمَجْلِسِ فَكَذَا مَا يُلْحَقُ بِهِ) أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إنَّمَا أُلْحِقَ الْقَبْضُ فِي الْهِبَةِ بِالْقَبُولِ
قَالَ: (وَتَنْعَقِدُ الْهِبَةُ بِقَوْلِهِ وَهَبْت وَنَحَلْت وَأَعْطَيْت)؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ صَرِيحٌ فِيهِ وَالثَّانِي مُسْتَعْمَلٌ فِيهِ. قَالَ عليه الصلاة والسلام «أَكُلَّ أَوْلَادِك نَحَلْتَ مِثْلَ هَذَا؟» وَكَذَلِكَ الثَّالِثُ، يُقَالُ: أَعْطَاك اللَّهُ وَوَهَبَك اللَّهُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ (وَكَذَا تَنْعَقِدُ بِقَوْلِهِ أَطْعَمْتُك هَذَا الطَّعَامَ وَجَعَلْت هَذَا الثَّوْبَ لَك وَأَعْمَرْتُكَ هَذَا الشَّيْءَ وَحَمَلْتُك عَلَى هَذِهِ الدَّابَّةِ إذَا نَوَى بِالْحُمْلَانِ الْهِبَةَ) أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ الْإِطْعَامَ إذَا أُضِيفَ إلَى مَا يُطْعَمُ عَيْنُهُ يُرَادُ بِهِ تَمْلِيكُ الْعَيْنِ،
فِي الْبَيْعِ مِنْ حَيْثُ إنَّ حُكْمَ الْعَقْدِ، وَهُوَ الْمِلْكُ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ فِي الْهِبَةِ كَمَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَبُولِ فِي الْبَيْعِ كَمَا تَقَرَّرَ فِيمَا مَرَّ آنِفًا لَا مِنْ جَمِيعِ الْحَيْثِيَّاتِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَبْضَ فِي الْهِبَةِ لَيْسَ بِرُكْنِ الْعَقْدِ بَلْ هُوَ خَارِجٌ عَنْهُ شَرْطٌ لِثُبُوتِ الْمِلْكِ، بِخِلَافِ الْقَبُولِ فِي الْبَيْعِ فَإِنَّهُ رُكْنٌ دَاخِلٌ لَا يَتِمُّ الْعَقْدُ بِدُونِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ أَنْ يَتَقَيَّدَ الْقَبُولُ بِالْمَجْلِسِ أَنْ يَتَقَيَّدَ مَا يَلْحَقُ بِهِ مِنْ الْحَيْثِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ بِالْمَجْلِسِ أَيْضًا، فَإِنَّ تَقْيِيدَ الْقَبُولِ بِالْمَجْلِسِ مِنْ أَحْكَامِ كَوْنِهِ رُكْنًا دَاخِلًا فِي الْعَقْدِ، وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ الْقَبُولُ بَعْدَ الْمَجْلِسِ بِأَمْرِ الْبَائِعِ أَيْضًا فَلَا يَتَعَدَّى إلَى مَا لَيْسَ بِرُكْنٍ دَاخِلٍ فِي الْعَقْدِ وَهُوَ الْقَبْضُ، وَإِنْ كَانَ مُلْحَقًا بِالْقَبُولِ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ لِثُبُوتِ حُكْمِ الْعَقْدِ، وَإِلَّا يَلْزَمُ أَنْ لَا يَصِحَّ الْقَبْضُ بَعْدَ الْمَجْلِسِ بِالْإِذْنِ أَيْضًا فَتَأَمَّلْ.
وَالْأَوْلَى فِي تَقْرِيرِ وَجْهِ الِاسْتِحْسَانِ فِي مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ مَا ذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ فِي مَبْسُوطِهِ وَنَقَلَ عَنْهُ صَاحِبُ الْغَايَةِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا بُدَّ لِبَقَاءِ الْإِيجَابِ عَلَى الصِّحَّةِ مِنْ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ مَتَى فَاتَ بِالْهَلَاكِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ لَا يَبْقَى الْإِيجَابُ صَحِيحًا، وَإِذَا كَانَ مِنْ ضَرُورَةِ بَقَاءِ الْإِيجَابِ مِنْ الْوَاهِبِ عَلَى الصِّحَّةِ وُجُودُ الْقَبْضِ لَا مَحَالَةَ كَانَ الْإِقْدَامُ عَلَى الْإِيجَابِ لَهُ إذْنًا لِلْمَوْهُوبِ لَهُ بِالْقَبْضِ اقْتِضَاءً كَمَا فِي بَابِ الْبَيْعِ جَعَلْنَا إقْدَامَ الْبَائِعِ عَلَى الْإِيجَابِ إذْنًا لِلْمُشْتَرِي بِالْقَبُولِ مُقْتَضِيًا بَقَاءِ الْإِيجَابِ عَلَى الصِّحَّةِ، إلَّا أَنَّ مَا ثَبَتَ اقْتِضَاءً يَثْبُتُ ضَرُورَةً، وَالثَّابِتُ بِالضَّرُورَةِ يَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ، وَالضَّرُورَةُ تَرْتَفِعُ بِثُبُوتِ الْإِذْنِ فِي الْمَجْلِسِ؛ لِأَنَّ الْإِيجَابَ يَبْقَى صَحِيحًا مَتَى قَبَضَ فِي الْمَجْلِسِ فَلَا يُعْتَبَرُ ثَابِتًا فِيمَا وَرَاءَ الْمَجْلِسِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ ثَبَتَ نَصًّا؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ نَصًّا ثَابِتٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَيَثْبُتُ فِي الْمَجْلِسِ وَبَعْدَ الْمَجْلِسِ. انْتَهَى.
(قَوْلُهُ: أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ الْإِطْعَامَ إذَا أُضِيفَ إلَى مَا يُطْعَمُ عَيْنُهُ يُرَادُ بِهِ تَمْلِيكُ الْعَيْنِ) قَالَ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ: وَلَنَا فِي تَقْرِيرِ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ نَظَرٌ،
بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ: أَطْعَمْتُك هَذِهِ الْأَرْضَ حَيْثُ تَكُونُ عَارِيَّةً؛ لِأَنَّ عَيْنَهَا لَا تُطْعَمُ فَيَكُونُ الْمُرَادُ أَكْلَ غَلَّتِهَا. وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ حَرْفَ اللَّامِ لِلتَّمْلِيكِ. وَأَمَّا الثَّالِثُ فَلِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «فَمَنْ أَعْمَرَ عُمْرَى فَهِيَ لِلْمُعَمَّرِ لَهُ وَلِوَرَثَتِهِ مِنْ بَعْدِهِ» وَكَذَا إذَا قَالَ جَعَلْت هَذِهِ الدَّارَ لَك عُمْرَى لِمَا قُلْنَا.
لِأَنَّهُ قَالَ: إنَّ الْإِطْعَامَ إذَا أُضِيفَ إلَى مَا يُطْعَمُ عَيْنُهُ يُرَادُ بِهِ تَمْلِيكُ الْعَيْنِ، فَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ الْإِطْعَامِ فِي الْكَفَّارَةِ التَّمْلِيكَ لَا الْإِبَاحَةَ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْخَصْمِ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْإِطْعَامِ إطْعَامُ الطَّعَامِ وَالطَّعَامُ يُؤْكَلُ عَيْنُهُ فَكَانَ الْإِطْعَامُ فِي الْآيَةِ مُضَافًا إلَى مَا يُطْعَمُ عَيْنُهُ فَافْهَمْ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
أَقُولُ: يُمْكِنُ الْجَوَابُ عَنْ هَذَا النَّظَرِ بِأَنَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ بِالْإِضَافَةِ إلَى مَا يُطْعَمُ عَيْنُهُ أَنْ يَذْكُرَ مَا يُطْعَمُ عَيْنُهُ وَيُجْعَلَ مَفْعُولًا ثَانِيًا لِلْإِطْعَامِ، وَفِي آيَةِ الْكَفَّارَةِ لَمْ يَكُنْ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَكَانَ الْإِطْعَامُ فِيهَا عَلَى أَصْلِ وَضْعِهِ وَهُوَ الْإِبَاحَةُ، وَيُرْشِدُك إلَى هَذَا التَّوْجِيهِ أَنَّهُ قَالَ فِي تَنْقِيحِ الْأُصُولِ فِي أَوَائِلِ التَّقْسِيمِ الرَّابِعِ: وَفِي قَوْله تَعَالَى {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ هُوَ الْإِبَاحَةُ، وَالتَّمْلِيكُ مُلْحَقٌ بِهِ؛ لِأَنَّ الْإِطْعَامَ جَعْلُ الْغَيْرِ طَاعِمًا لَا جَعْلُهُ مَالِكًا، وَأَلْحَقَ بِهِ التَّمْلِيكَ دَلَالَةً؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ قَضَاءُ حَوَائِجِهِمْ، وَهِيَ كَثِيرَةٌ فَأُقِيمَ التَّمْلِيكُ مَقَامَهَا انْتَهَى. وَقَالَ فِي التَّلْوِيحِ: وَأَمَّا نَحْوُ أَطْعَمْتُك هَذَا الطَّعَامَ فَإِنَّمَا كَانَ هِبَةً وَتَمْلِيكًا بِقَرِينَةِ الْحَالِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْهُ طَاعِمًا. قَالُوا: وَالضَّابِطُ أَنَّهُ إذَا ذَكَرَ الْمَفْعُولَ الثَّانِيَ فَهُوَ لِلتَّمْلِيكِ، وَإِلَّا فَلِلْإِبَاحَةِ. انْتَهَى فَتَأَمَّلْ تَرْشُدْ.
ثُمَّ إنَّهُ قَدْ ذَكَرَ فِي الْمُحِيطِ الْبُرْهَانِيِّ نَقْلًا عَنْ الْأَصْلِ: وَإِذَا قَالَ أَطْعَمْتُك هَذِهِ الْأَرْضَ فَهُوَ عَارِيَّةٌ، وَلَوْ قَالَ أَطْعَمْتُك هَذَا الطَّعَامَ، فَإِنْ قَالَ فَاقْبِضْهُ فَهُوَ هِبَةٌ، وَإِنْ لَمْ يَقُلْ فَاقْبِضْهُ يَكُونُ هِبَةً أَوْ عَارِيَّةً انْتَهَى. أَقُولُ: لَا يَذْهَبُ عَلَى ذِي فِطْنَةٍ أَنَّ إطْلَاقَ رِوَايَةِ الْكِتَابِ وَتَعْلِيلَ الْمُصَنِّفِ بِمَا ذَكَرَ لَا يُطَابِقَانِ رِوَايَةَ الْأَصْلِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْهُمَا أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: أَطْعَمْتُك هَذَا الطَّعَامَ هِبَةً مُطْلَقًا، وَرِوَايَةُ الْأَصْلِ صَرِيحٌ فِي أَنَّ قَوْلَهُ الْمَذْكُورَ إنَّمَا يَكُونُ هِبَةً إذَا قَيَّدَهُ بِقَوْلِهِ فَاقْبِضْهُ، وَأَمَّا إذَا لَمْ يُقَيِّدْهُ بِذَلِكَ فَيَحْتَمِلُ الْأَمْرَيْنِ: أَيْ الْهِبَةَ وَالْعَارِيَّةَ، وَأَنَّ النَّظَرَ الْمَذْكُورَ لَا يَتَّجِهُ أَصْلًا عَلَى مَا فِي رِوَايَةِ الْأَصْلِ؛ لِأَنَّ التَّمْلِيكَ إنَّمَا يُسْتَفَادُ عَلَى هَاتِيك الرِّوَايَةِ مِنْ قَوْلِهِ فَاقْبِضْهُ لَا مِنْ لَفْظِ الْإِطْعَامِ، فَلَا يُنَافِي أَنْ يَكُونَ الْإِطْعَامُ فِي آيَةِ الْكَفَّارَةِ عَلَى أَصْلِ وَضْعِهِ، وَهُوَ الْإِبَاحَةُ.
(قَوْلُهُ: بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ أَطْعَمْتُك هَذِهِ الْأَرْضَ حَيْثُ تَكُونُ عَارِيَّةً؛ لِأَنَّ عَيْنَهَا لَا تُطْعَمُ فَيَكُونُ الْمُرَادُ إطْعَامَ غَلَّتِهَا) أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: كَوْنُ الْأَرْضِ مِمَّا لَا يُطْعَمُ عَيْنُهُ إنَّمَا يَقْتَضِي أَنْ لَا يَكُونَ الْإِطْعَامُ الْمُضَافُ إلَيْهَا عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَلَا يَقْتَضِي أَنْ لَا يُرَادَ بِهِ تَمْلِيكُ الْعَيْنِ مَجَازًا كَمَا أُرِيدَ بِهِ ذَلِكَ إذَا أُضِيفَ إلَى مَا يُطْعَمُ عَيْنُهُ فَإِنَّهُمْ حَمَلُوا هُنَاكَ عَلَى تَمْلِيكِ الْعَيْنِ مَعَ أَنَّ حَقِيقَةَ الْإِطْعَامِ جَعْلُ الْغَيْرِ طَاعِمًا: أَيْ آكِلًا لَا جَعْلُهُ مَالِكًا كَمَا صَرَّحُوا بِهِ.
وَالْجَوَابُ أَنَّهُ، وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يُرَادَ بِالْإِطْعَامِ الْمُضَافِ إلَى مِثْلِ الْأَرْضِ تَمْلِيكَ الْعَيْنِ مَجَازًا لَكِنَّ هَذَا التَّجَوُّزَ لَيْسَ بِمُتَعَارَفٍ فِي مِثْلِ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا الْمُتَعَارَفُ أَنْ يُرَادَ إطْعَامُ الْغَلَّةِ عَلَى طَرِيقِ ذِكْرِ الْمَحَلِّ وَإِرَادَةِ الْحَالِ، كَمَا أَنَّ الْمُتَعَارَفَ فِيمَا إذَا أُضِيفَ الْإِطْعَامُ إلَى مَا يُطْعَمُ عَيْنُهُ أَنْ يُرَادَ بِهِ تَمْلِيكُ الْعَيْنِ، وَكَلَامُ الْعَاقِلِ إنَّمَا يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى الْمُتَعَارَفِ لَا عَلَى كُلِّ مَا احْتَمَلَهُ اللَّفْظُ تَدَبَّرْ. (قَوْلُهُ: وَكَذَا إذَا قَالَ جَعَلْت هَذِهِ الدَّارَ لَك عُمْرَى لِمَا قُلْنَا) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: قَوْلُهُ: لِمَا قُلْنَا إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ: فَلِأَنَّ حَرْفَ اللَّامِ لِلتَّمْلِيكِ، وَاقْتَفَى أَثَرَهُ الشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ وَسَكَتَ غَيْرُهُمَا عَنْ الْبَيَانِ.
أَقُولُ: الظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ هَذَا إشَارَةٌ إلَى قَرِيبِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: فَلِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «فَمَنْ أَعْمَرَ عُمْرَى فَهِيَ لِلْمُعَمَّرِ لَهُ وَلِوَرَثَتِهِ مِنْ بَعْدِهِ» وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا ذِكْرُ هَذِهِ الصُّورَةِ فِي ذَيْلِ الثَّالِثِ، إذْ لَوْ كَانَ مُرَادُهُ مَا قَالَهُ الشَّارِحَانِ الْمَزْبُورَانِ لَذَكَرَهَا فِي ذَيْلِ الثَّانِي، بَلْ لَوْ كَانَ مُرَادُهُ ذَلِكَ لَمَا ذَكَرَهَا أَصْلًا، إذْ قَدْ سَبَقَ ذِكْرُ مَا إذَا قَالَ جَعَلْت هَذَا الثَّوْبَ لَك وَهُوَ الَّذِي قَالَ لَهُ وَأَمَّا الثَّانِي، وَلَا يَرَى أَثَرَ فَرْقٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
وَأَمَّا الرَّابِعُ فَلِأَنَّ الْحَمْلَ هُوَ الْإِرْكَابُ حَقِيقَةً فَيَكُونُ عَارِيَّةً لَكِنَّهُ يَحْتَمِلُ الْهِبَةَ، يُقَالُ حَمَلَ الْأَمِيرُ فُلَانًا عَلَى فَرَسٍ وَيُرَادُ بِهِ التَّمْلِيكُ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ عِنْدَ نِيَّتِهِ.
(وَلَوْ قَالَ كَسَوْتُك هَذَا الثَّوْبَ يَكُونُ هِبَةً)؛ لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ التَّمْلِيكُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَوْ كِسْوَتُهُمْ} وَيُقَالُ كَسَا الْأَمِيرُ فُلَانًا ثَوْبًا: أَيْ مَلَّكَهُ مِنْهُ (وَلَوْ قَالَ مَنَحْتُك هَذِهِ الْجَارِيَةَ كَانَتْ عَارِيَّةً) لِمَا رَوَيْنَا مِنْ قَبْلُ.
مَا إذَا قَالَ جَعَلْت هَذِهِ الدَّارَ لَك عُمْرَى إلَّا بِاشْتِمَالِ هَذِهِ الصُّوَرِ عَلَى لَفْظَةِ عُمْرَى دُونَ مَا سَبَقَ، فَلَوْ كَانَ مُرَادُهُ بِقَوْلِهِ لِمَا قُلْنَا كَوْنَ اللَّامِ فِي قَوْلِهِ لَك لِلتَّمْلِيكِ لَا كَوْنَ لَفْظَةِ الْعُمْرَى لِإِثْبَاتِ الْمَلِكِ لَلْمُعَمَّرِ لَهُ لَكَانَ ذِكْرُ هَذِهِ الصُّورَةِ مُسْتَدْرَكًا كَمَا لَا يَخْفَى. فَإِنْ قُلْت: لَوْ كَانَ مُرَادُهُ مَا ذَكَرْته لَقَالَ لِمَا رَوَيْنَا كَمَا هُوَ دَأْبُهُ عِنْدَ قَصْدِهِ الْإِشَارَةَ إلَى السُّنَّةِ. قُلْت: كَأَنَّ الشَّارِحَيْنِ الْمَزْبُورَيْنِ اغْتَرَّا بِذَلِكَ، وَلَكِنْ يُمْكِنُ التَّوْجِيهُ بِجَعْلِ " مَا " فِي قَوْلِهِ لِمَا قُلْنَا عِبَارَةً عَنْ قَوْلِ نَفْسِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: فَلِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام لَا عَنْ نَفْسِ الْحَدِيثِ، وَقَدْ أَشَرْنَا إلَيْهِ فِي تَحْرِيرِ مُرَادِهِ فَتَبَصَّرْ.
(قَوْلُهُ: وَأَمَّا الرَّابِعُ فَلِأَنَّ الْحَمْلَ هُوَ الْإِرْكَابُ حَقِيقَةً فَيَكُونُ عَارِيَّةً لَكِنَّهُ يَحْتَمِلُ الْهِبَةَ، يُقَالُ حَمَلَ الْأَمِيرُ فُلَانًا عَلَى فَرَسٍ وَيُرَادُ بِهِ التَّمْلِيكُ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ عِنْدَ نِيَّتِهِ) يَعْنِي أَنَّ الْحَمْلَ تَصَرُّفٌ فِي الْمَنْفَعَةِ فَيَكُونُ عَارِيَّةً، إلَّا أَنْ يَقُولَ صَاحِبُ الدَّابَّةِ أَرَدْت الْهِبَةَ؛ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ قَدْ يُذْكَرُ لِتَمْلِيكِ الْعَيْنِ، فَإِذَا نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ وَفِيهِ تَشْدِيدٌ عَلَيْهِ عَمِلَتْ نِيَّتُهُ. قَالَ فِي الْكِفَايَةِ: فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَسْتَقِيمُ قَوْلُهُ: إنَّ حَقِيقَتَهُ الْإِرْكَابُ وَقَدْ ذَكَرَ فِي الْعَارِيَّةِ أَنَّ قَوْلَهُ حَمَلْتُك لِتَمْلِيكِ الْعَيْنِ. قُلْنَا: حَقِيقَتُهُ الْإِرْكَابُ نَظَرًا إلَى الْوَضْعِ، وَهُوَ لِتَمْلِيكِ الْعَيْنِ فِي الْعُرْفِ وَالِاسْتِعْمَالِ، لَكِنَّ الْحَقِيقَةَ مَا صَارَتْ مَهْجُورَةً بِالْعُرْفِ فَكَانَ هَذَا فِي مَعْنَى الِاسْمِ الْمُشْتَرَكِ انْتَهَى.
وَذَكَرَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فَحْوَى ذَلِكَ بِعِبَارَةٍ أُخْرَى حَيْثُ قَالَ: لَا يُقَالُ هَذَا يُنَاقِضُ مَا تَقَدَّمَ فِي الْعَارِيَّةِ مِنْ قَوْلِهِ؛ لِأَنَّهُمَا لِتَمْلِيكِ الْعَيْنِ، وَعِنْدَ عَدَمِ إرَادَتِهِ الْهِبَةَ يُحْمَلُ عَلَى تَمْلِيكِ الْمَنَافِعِ مَجَازًا لِمَا أَشَرْنَا إلَيْهِ هُنَالِكَ أَنَّ قَوْلَهُ؛ لِأَنَّهُمَا لِتَمْلِيكِ الْعَيْنِ: يَعْنِي فِي الْعُرْفِ، فَاسْتِعْمَالُهُ فِي الْمَنَافِعِ مَجَازٌ عُرْفِيٌّ فَيَكُونُ قَوْلُهُ: هَاهُنَا؛ لِأَنَّ الْحَمْلَ هُوَ الْإِرْكَابُ حَقِيقَةً: يَعْنِي فِي اللُّغَةِ، فَاسْتِعْمَالُهُ فِي الْحَقِيقَةِ الْعُرْفِيَّةِ مَجَازٌ لُغَوِيٌّ انْتَهَى. أَقُولُ: بَقِيَ إشْكَالٌ وَهُوَ أَنَّهُ قَدْ تَقَرَّرَ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ أَنَّهُ إذَا كَانَتْ الْحَقِيقَةُ مُسْتَعْمَلَةً، وَالْمَجَازُ مُتَعَارَفًا، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله الْمَعْنَى الْحَقِيقِيُّ أَوْلَى وَالْعَمَلُ بِهِ. وَعِنْدَهُمَا الْمَعْنَى الْمَجَازِيُّ أَوْلَى وَالْعَمَلُ بِهِ، وَأَمَّا إذَا كَانَتْ الْحَقِيقَةُ مَهْجُورَةً فَالْعَمَلُ بِالْمَجَازِ اتِّفَاقًا. إذَا عَرَفْت ذَلِكَ فَفِي مَا نَحْنُ فِيهِ لَمْ تَكُنْ الْحَقِيقَةُ مَهْجُورَةً كَمَا صَرَّحُوا بِهِ، فَعَلَى مُقْتَضَى الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بِمَا هُوَ حَقِيقَةٌ بِحَسَبِ الْوَضْعِ وَهُوَ الْإِرْكَابُ، وَعِنْدَهُمَا بِمَا هُوَ الْمُسْتَعْمَلُ فِيهِ بِحَسَبِ الْعُرْفِ وَهُوَ تَمْلِيكُ الْعَيْنِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ الْحَمْلُ عَلَى الْعَارِيَّةِ عِنْدَ عَدَمِ إرَادَةِ الْهِبَةِ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْهِبَةِ وَإِنْ لَمْ يَنْوِهَا عَلَى أَصْلِهِمَا، مَعَ أَنَّ وَضْعَ الْمَسْأَلَةِ فِي هَذَا الْكِتَابِ وَسَائِرِ الْكُتُبِ الْمُعْتَبَرَةِ عَلَى الْأَوَّلِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُذْكَرَ الْخِلَافُ فِي شَيْءٍ مِنْهَا فَلْيُتَأَمَّلْ. ثُمَّ إنَّ قَوْلَ صَاحِبِ الْكِفَايَةِ فَكَانَ هَذَا فِي مَعْنَى الِاسْمِ الْمُشْتَرَكِ لَيْسَ بِسَدِيدٍ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْمُشْتَرَكِ التَّأَمُّلُ فِيهِ حَتَّى يَتَرَجَّحَ أَحَدُ مَعْنَيَيْهِ أَوْ مَعَانِيهِ بِالْأَدِلَّةِ أَوْ الْأَمَارَاتِ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ، وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ إنْ نَوَى الْهِبَةَ يُحْمَلُ عَلَيْهَا، وَإِنْ لَمْ يَنْوِهَا يُحْمَلُ عَلَى الْعَارِيَّةِ مِنْ غَيْرِ تَأَمُّلٍ وَلَا تَوَقُّفٍ، فَأَيْنَ هَذَا مِنْ ذَلِكَ.
(قَوْلُهُ: وَلَوْ قَالَ مَنَحْتُك هَذِهِ الْجَارِيَةَ كَانَتْ عَارِيَّةً لِمَا رَوَيْنَا مِنْ قَبْلُ) يَعْنِي مَا ذَكَرَهُ فِي كِتَابِ الْعَارِيَّةِ مِنْ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام
(وَلَوْ قَالَ دَارِي لَك هِبَةً سُكْنَى أَوْ سُكْنَى هِبَةً فَهِيَ عَارِيَّةٌ)؛ لِأَنَّ الْعَارِيَّةَ مُحْكَمٌ فِي تَمْلِيكِ الْمَنْفَعَةِ وَالْهِبَةُ تَحْتَمِلُهَا وَتَحْتَمِلُ تَمْلِيكَ الْعَيْنِ فَيُحْمَلُ الْمُحْتَمَلُ عَلَى الْمُحْكَمِ، وَكَذَا إذَا قَالَ عُمْرَى سُكْنَى أَوْ نَحْلِي سُكْنَى أَوْ سُكْنَى صَدَقَةً أَوْ صَدَقَةٌ عَارِيَّةً أَوْ عَارِيَّةٌ هِبَةً لِمَا قَدَّمْنَاهُ. (وَلَوْ قَالَ هِبَةٌ تَسْكُنُهَا فَهِيَ هِبَةٌ)؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَسْكُنُهَا مَشُورَةٌ وَلَيْسَ بِتَفْسِيرٍ لَهُ وَهُوَ تَنْبِيهٌ عَلَى الْمَقْصُودِ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ هِبَةُ سُكْنَى؛ لِأَنَّهُ تَفْسِيرٌ لَهُ.
قَالَ: (وَلَا تَجُوزُ الْهِبَةُ فِيمَا يُقَسَّمُ إلَّا مَحُوزَةً مَقْسُومَةً، وَهِبَةُ الْمُشَاعِ فِيمَا لَا يُقَسَّمُ جَائِزَةٌ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تَجُوزُ فِي الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّهُ عَقْدُ تَمْلِيكٍ فَيَصِحُّ فِي الْمُشَاعِ وَغَيْرِهِ كَالْبَيْعِ بِأَنْوَاعِهِ،
«الْمِنْحَةُ مَرْدُودَةٌ» كَذَا فِي الشُّرُوحِ. أَقُولُ: هَاهُنَا كَلَامٌ، أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ الْمُتَبَادَرَ مِنْ ذِكْرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُنْفَصِلَةً عَنْ مَسْأَلَةِ الْحَمْلِ، وَعَدَمِ تَقْيِيدِهَا بِعَدَمِ إرَادَةِ الْهِبَةِ، أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: مَنَحْتُك هَذِهِ الْجَارِيَةَ عَارِيَّةً وَإِنْ نَوَى بِالْمِنْحَةِ الْهِبَةَ، وَقَدْ ذَكَرَ فِي كِتَابِ الْعَارِيَّةِ أَنَّ قَوْلَهُ مَنَحْتُك هَذَا الثَّوْبَ، وَقَوْلَهُ حَمَلْتُك عَلَى هَذِهِ الدَّابَّةِ عَارِيَّةٌ إذَا لَمْ يُرِدْ بِهِمَا الْهِبَةَ. وَقَالَ فِي التَّعْلِيلِ: لِأَنَّهُمَا لِتَمْلِيكِ الْعَيْنِ، وَعِنْدَ عَدَمِ إرَادَةِ الْهِبَةِ يُحْمَلُ عَلَى تَمْلِيكِ الْمَنَافِعِ تَجَوُّزًا فَكَانَ بَيْنَ كَلَامَيْهِ فِي الْمَقَامَيْنِ نَوْعُ تَنَافُرٍ.
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ تَعْلِيلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِمَا ذَكَرَهُ فِي كِتَابِ الْعَارِيَّةِ مِنْ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «الْمِنْحَةُ مَرْدُودَةٌ» مَنْظُورٌ فِيهِ، إذْ قَدْ ذَكَرَ فِي الْمُحِيطِ نَقْلًا عَنْ الْأَصْلِ أَنَّهُ إذَا قَالَ مَنَحْتُك هَذِهِ الدَّرَاهِمَ أَوْ هَذَا الطَّعَامَ فَهُوَ هِبَةٌ، وَلَوْ قَالَ مَنَحْتُك هَذِهِ الْأَرْضَ أَوْ هَذِهِ الْجَارِيَةَ فَهُوَ عَارِيَّةٌ. وَقَالَ: فَالْأَصْلُ أَنَّ لَفْظَةَ الْمِنْحَةِ إذَا أُضِيفَتْ إلَى مَا لَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ فَهُوَ هِبَةٌ، وَإِذَا أُضِيفَتْ إلَى مَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ فَهُوَ عَارِيَّةٌ انْتَهَى. وَهَكَذَا ذَكَرَ فِي عَامَّةِ الْمُعْتَبَرَاتِ، وَقَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «الْمِنْحَةُ مَرْدُودَةٌ» لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ، فَتَعْلِيلُ الْفَصْلِ الثَّانِي بِهِ يَنْتَقِضُ بِالْفَصْلِ الْأَوَّلِ فَتَأَمَّلْ فِي التَّوْجِيهِ.
(قَوْلُهُ: لِأَنَّ قَوْلَهُ تَسْكُنُهَا مَشُورَةٌ وَلَيْسَ بِتَفْسِيرٍ) إذْ الْفِعْلُ لَا يَصْلُحُ تَفْسِيرًا لِلِاسْمِ، كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ وَالْمُحِيطِ وَعَلَيْهِ عَامَّةُ الشُّرَّاحِ. قَالَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَسْكُنُهَا فِعْلُ الْمُخَاطَبِ فَلَا يَصْلُحُ تَفْسِيرًا لِقَوْلِ الْمُتَكَلِّمِ، وَنَقَلَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بِقِيلٍ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ مُخْتَارَ الْعَامَّةِ. أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَسْكُنُهَا لَيْسَ بِفِعْلِ الْمُخَاطَبِ، وَإِنَّمَا فِعْلُ الْمُخَاطَبِ السُّكْنَى الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ لَفْظُ تَسْكُنُهَا، وَالْكَلَامُ فِي عَدَمِ صَلَاحِيَّةِ هَذَا اللَّفْظِ
وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمُشَاعَ قَابِلٌ لِحُكْمِهِ، وَهُوَ الْمِلْكُ فَيَكُونُ مَحَلًّا لَهُ، وَكَوْنُهُ تَبَرُّعًا لَا يُبْطِلُهُ الشُّيُوعُ كَالْقَرْضِ وَالْوَصِيَّةِ. وَلَنَا أَنَّ الْقَبْضَ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي الْهِبَةِ فَيُشْتَرَطُ كَمَالُهُ وَالْمُشَاعُ لَا يَقْبَلُهُ إلَّا بِضَمِّ غَيْرِهِ إلَيْهِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْهُوبٍ،
لِلتَّفْسِيرِ، فَهَلْ يَقُولُ الْعَاقِلُ إنَّ لَفْظَ التَّكَلُّمِ فِعْلُ الْمُخَاطَبِ.
(قَوْلُهُ: وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمُشَاعَ قَابِلٌ لِحُكْمِهِ وَهُوَ الْمِلْكُ فَيَكُونُ مَحَلًّا لَهُ، وَكَوْنُهُ تَبَرُّعًا لَا يُبْطِلُهُ الشُّيُوعُ كَالْقَرْضِ وَالْوَصِيَّةِ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي حَلِّ هَذَا الْكَلَامِ: وَهَذَا: أَيْ جَوَازُهُ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْمُشَاعَ قَابِلٌ لِحُكْمِهِ: أَيْ حُكْمِ عَقْدِ الْهِبَةِ وَهُوَ الْمِلْكُ كَمَا فِي الْبَيْعِ وَالْإِرْثِ وَكُلُّ مَا هُوَ قَابِلٌ لِحُكْمِ عَقْدٍ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَحَلًّا لَهُ؛ لِأَنَّ الْمَحَلِّيَّةَ عَيْنُ الْقَابِلِيَّةِ أَوْ لَازِمٌ مِنْ لَوَازِمِهَا فَكَانَ الْعَقْدُ صَادِرًا مِنْ أَهْلِهِ مُضَافًا إلَى مَحَلِّهِ، وَلَا مَانِعَ ثَمَّةَ فَكَانَ جَائِزًا. فَإِنْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ انْتِفَاءَ الْمَانِعِ فَإِنَّهُ عَقْدُ تَبَرُّعٍ فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الشُّيُوعُ مُبْطِلًا؟ أَجَابَ بِقَوْلِهِ وَكَوْنُهُ تَبَرُّعًا: يَعْنِي لَمْ يَعْهَدْ ذَلِكَ مُبْطِلًا فِي التَّبَرُّعَاتِ كَالْقَرْضِ وَالْوَصِيَّةِ بِأَنْ دَفَعَ أَلْفَ دِرْهَمٍ إلَى رَجُلٍ عَلَى أَنْ يَكُونَ نِصْفُهُ قَرْضًا عَلَيْهِ وَيَعْمَلُ فِي النِّصْفِ الْآخَرِ بِشَرِكَتِهِ، وَبِأَنْ أَوْصَى لِرَجُلَيْنِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَإِنَّ ذَلِكَ صَحِيحٌ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الشُّيُوعَ لَا يُبْطِلُ التَّبَرُّعَ حَتَّى يَكُونَ مَانِعًا. انْتَهَى كَلَامُهُ.
أَقُولُ: تَعَسُّفُ الشَّارِحِ الْمَذْكُورُ فِي بَيَانِهِ هَذَا مِنْ وُجُوهِ: الْأَوَّلِ أَنَّهُ جَعَلَ لَفْظَ هَذَا فِي قَوْلِ الْمُصَنِّفِ. وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمُشَاعَ إشَارَةٌ إلَى جَوَازِ عَقْدِ الْهِبَةِ فَيَقْتَضِي هَذَا أَنْ يَكُونَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمُشَاعَ إلَخْ دَلِيلًا عَلَى أَصْلِ مُدَّعَى الشَّافِعِيِّ وَهُوَ قَوْلُهُ: تَجُوزُ فِي الْوَجْهَيْنِ فَيَكُونُ دَلِيلًا ثَانِيًا عَلَيْهِ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ الْمُصَنِّفُ: وَلِأَنَّ الْمُشَاعَ بَدَلَ قَوْلِهِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمُشَاعَ. وَالثَّانِي أَنَّهُ ارْتَكَبَ تَقْدِيرَ مُقَدِّمَاتٍ حَيْثُ قَالَ: فَكَانَ الْعَقْدُ صَادِرًا مِنْ أَهْلِهِ مُضَافًا إلَى مَحَلِّهِ، وَلَا مَانِعَ ثَمَّةَ فَكَانَ جَائِزًا، وَالْبَاعِثُ عَلَيْهِ جَعْلُهُ لَفْظَ هَذَا إشَارَةً إلَى
وَلِأَنَّ فِي تَجْوِيزِهِ إلْزَامَهُ شَيْئًا لَمْ يَلْتَزِمْهُ وَهُوَ مُؤْنَةُ الْقِسْمَةِ، وَلِهَذَا امْتَنَعَ جَوَازُهُ قَبْلَ الْقَبْضِ لِئَلَّا يَلْزَمَهُ التَّسْلِيمُ، بِخِلَافِ مَا لَا يُقَسَّمُ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ الْقَاصِرَ هُوَ الْمُمْكِنُ فَيُكْتَفَى بِهِ؛ وَلِأَنَّهُ لَا تَلْزَمُهُ مُؤْنَةُ الْقِسْمَةِ.
جَوَازِهِ. وَالثَّالِثِ أَنَّهُ حَمَلَ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ وَكَوْنُهُ تَبَرُّعًا إلَخْ عَلَى الْجَوَابِ عَنْ سُؤَالٍ يَرِدُ بِطَرِيقِ الْمَنْعِ عَلَى مُقَدِّمَةٍ مِنْ الْمُقَدِّمَاتِ الَّتِي قَدَّرَهَا وَهِيَ قَوْلُهُ: وَلَا مَانِعَ ثَمَّةَ. وَالْحَقُّ عِنْدِي أَنَّ مَقْصُودَ الْمُصَنِّفِ مِنْ قَوْلِهِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمُشَاعَ إلَخْ إثْبَاتُ كُبْرَى الدَّلِيلِ السَّابِقِ وَهِيَ قَوْلُهُ: فَيَصِحُّ فِي الْمُشَاعِ لَا إثْبَاتِ أَصْلِ الْمُدَّعَى، وَلَفْظُ هَذَا إشَارَةٌ إلَى مَضْمُونِ هَاتِيك الْكُبْرَى، فَالْمَعْنَى وَهَذَا: أَيْ صِحَّتُهُ فِي الْمُشَاعِ أَوْ كَوْنُهُ صَحِيحًا فِي الْمُشَاعِ؛ لِأَنَّ الْمُشَاعَ قَابِلٌ لِحُكْمِهِ، وَهُوَ الْمِلْكُ فَيَكُونُ مَحَلًّا لَهُ، فَلَا يَلْزَمُ حِينَئِذٍ الْوَجْهَانِ الْأَوَّلَانِ مِنْ وُجُوهِ التَّعَسُّفِ اللَّازِمَةِ لِتَقْرِيرِ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ.
أَمَّا الْأَوَّلُ مِنْهُمَا فَظَاهِرٌ جِدًّا. وَأَمَّا الثَّانِي فَلِسُقُوطِ الِاحْتِيَاجِ حِينَئِذٍ إلَى مَا قَدَّرَهُ مِنْ الْمُقَدِّمَاتِ الزَّائِدَةِ كَمَا يَظْهَرُ بِأَدْنَى التَّأَمُّلِ الصَّادِقِ. ثُمَّ إنَّ قَوْلَهُ وَكَوْنُهُ تَبَرُّعًا لَا يُبْطِلُهُ الشُّيُوعُ جَوَابٌ عَنْ سُؤَالٍ يَرِدُ عَلَى الدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ بِطَرِيقِ الْمُعَارَضَةِ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: إنَّ عَقْدَ الْهِبَةِ عَقْدُ تَبَرُّعٍ، فَلَوْ قُلْنَا بِجَوَازِهِ فِي الْمُشَاعِ لَزِمَ فِي ضِمْنِهِ وُجُوبُ ضَمَانِ الْقِسْمَةِ وَالْوَاهِبُ لَمْ يَتَبَرَّعْ بِهِ فَيَكُونُ إلْزَامًا عَلَيْهِ مَا لَمْ يَلْتَزِمْهُ، وَهُوَ بَاطِلٌ فَقَالَ: كَوْنُهُ عَقْدَ تَبَرُّعٍ لَا يَمْنَعُهُ الشُّيُوعُ كَالْقَرْضِ وَالْوَصِيَّةِ: يَعْنِي أَنَّ الشُّيُوعَ فِي الْقَرْضِ وَالْوَصِيَّةِ، كَمَا لَا يَمْنَعُ كَوْنَهُمَا عَقْدَ تَبَرُّعٍ كَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ فِي الْهِبَةِ فَلَا يَلْزَمُ حِينَئِذٍ الْوَجْهُ الثَّالِثُ أَيْضًا مِنْ وُجُوهِ التَّعَسُّفِ اللَّازِمَةِ لِتَقْرِيرِ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ، وَهُوَ حَمْلُ الْكَلَامِ الْمَذْكُورِ عَلَى الْجَوَابِ عَمَّا يَرِدُ عَلَى مُقَدِّمَةٍ غَيْرِ مَذْكُورَةٍ كَمَا عَرَفْت فَتَبَصَّرْ.
(قَوْلُهُ: وَلِأَنَّ فِي تَجْوِيزِهِ إلْزَامَهُ شَيْئًا لَمْ يَلْتَزِمُهُ، وَهُوَ مُؤْنَةُ الْقِسْمَةِ) يَعْنِي أَنَّ فِي تَجْوِيزِ عَقْدِ الْهِبَةِ فِي الْمُشَاعِ إلْزَامَ الْوَاهِبِ شَيْئًا لَمْ يَلْتَزِمْهُ، وَهُوَ مُؤْنَةُ الْقِسْمَةِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ لِزِيَادَةِ الضَّرَرِ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا ضَرَرٌ مَرَضِيٌّ؛ لِأَنَّ إقْدَامَهُ عَلَى هِبَةِ الْمُشَاعِ يَدُلُّ عَلَى الْتِزَامِهِ ضَرَرَ الْقِسْمَةِ وَالضَّائِرُ مِنْ الضَّرَرِ مَا لَمْ يَكُنْ مَرَضِيًّا. أُجِيبَ بِأَنَّ الْمَرَضِيَّ مِنْهُ لَيْسَ الْقِسْمَةَ وَلَا مَا يَسْتَلْزِمُهَا لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ رَاضِيًا بِالْمِلْكِ الْمُشَاعِ وَهُوَ لَيْسَ بِقِسْمَةٍ وَلَا يَسْتَلْزِمُهَا، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ أَخْذًا مِنْ شَرْحِ تَاجِ الشَّرِيعَةِ وَتَبِعَهُمَا الشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ. أَقُولُ: فِي الْجَوَابِ بَحْثٌ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ الْمِلْكُ الْمُشَاعُ قِسْمَةً وَلَا مُسْتَلْزِمًا لَهَا لَمْ يَتِمَّ نَفْسُ هَذَا الدَّلِيلِ: أَعْنِي قَوْلَهُ وَلِأَنَّ فِي تَجْوِيزِهِ إلْزَامَهُ شَيْئًا لَمْ يَلْتَزِمْهُ وَهُوَ الْقِسْمَةُ؛ لِأَنَّ الَّذِي يَسْتَلْزِمُهُ تَجْوِيزُ هِبَةِ الشَّيْءِ إنَّمَا هُوَ إلْزَامُ وَاهِبِهِ حُكْمَ الْهِبَةِ وَهُوَ ثُبُوتُ الْمِلْكِ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ وَشَيْئًا يَسْتَلْزِمُهُ حُكْمُهَا.
وَأَمَّا مَا لَيْسَ بِحُكْمِ الْهِبَةِ وَلَا شَيْئًا مِنْ لَوَازِمِ حُكْمِهَا فَلَا يَسْتَلْزِمُهُ تَجْوِيزُ الْهِبَةِ فِي شَيْءٍ، فَإِذَا لَمْ تَكُنْ الْقِسْمَةُ نَفْسَ حُكْمِ الْهِبَةِ وَلَا شَيْئًا يَسْتَلْزِمُهُ حُكْمُهَا فَأَيْنَ يَلْزَمُ مِنْ تَجْوِيزِ هِبَةِ الْمُشَاعِ إلْزَامُ الْوَاهِبِ مُؤْنَةَ الْقِسْمَةِ حَتَّى يَلْزَمَ إلْزَامُهُ مَا لَمْ يَلْتَزِمْهُ. لَا يُقَالُ: الَّذِي لَا يَسْتَلْزِمُ الْقِسْمَةَ هُوَ الْمِلْكُ الْمُشَاعُ، وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي الْجَوَابِ وَمَا هُوَ حُكْمُ الْهِبَةِ هُوَ الْمِلْكُ الْمُفْرَزُ، وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ الْقِسْمَةَ؟ لِأَنَّا نَقُولُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ حُكْمَ الْهِبَةِ مُطْلَقًا هُوَ الْمِلْكُ الْمُفْرَزُ بَلْ حُكْمُهَا هُوَ الْمِلْكُ مُطْلَقًا، أَلَا تَرَى أَنَّ هِبَةَ الْمُشَاعِ الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ جَائِزَةٌ بِالِاتِّفَاقِ وَحُكْمُهَا ثَابِتٌ قَطْعًا، مَعَ أَنَّ حُكْمَهَا هُنَاكَ لَيْسَ الْمَلِكَ الْمُفْرَزَ بِلَا رَيْبٍ بَلْ هُوَ الْمِلْكُ الْمُشَاعُ. وَلَوْ سُلِّمَ أَنَّ حُكْمَهَا مُطْلَقًا هُوَ الْمِلْكُ الْمُفْرَزُ لَمْ يَصِحَّ قَوْلُ الْمُجِيبِ إنَّ الْمَرَضِيَّ مِنْهُ لَيْسَ الْقِسْمَةَ وَلَا مَا يَسْتَلْزِمُهَا؛ لِأَنَّ مَنْ أَقْدَمَ عَلَى الْهِبَةِ يَرْضَى بِحُكْمِهَا قَطْعًا، فَلَوْ كَانَ حُكْمُهَا مُطْلَقًا هُوَ الْمِلْكُ الْمُفْرَزُ تَعَيَّنَ الرِّضَا مِنْهُ بِمَا يَسْتَلْزِمُ
وَالْمُهَايَأَةُ تَلْزَمُهُ فِيمَا لَمْ يَتَبَرَّعْ بِهِ وَهُوَ الْمَنْفَعَةُ، وَالْهِبَةُ لَاقَتْ الْعَيْنَ، وَالْوَصِيَّةُ لَيْسَ مِنْ شَرْطِهَا الْقَبْضُ، وَكَذَا الْبَيْعُ الصَّحِيحُ، وَأَمَّا الْبَيْعُ الْفَاسِدُ وَالصَّرْفُ وَالسَّلَمُ فَالْقَبْضُ فِيهَا غَيْرُ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّهَا عُقُودُ ضَمَانٍ فَتُنَاسِبُ لُزُومَ مُؤْنَةِ الْقِسْمَةِ، وَالْقَرْضُ تَبَرُّعٌ مِنْ وَجْهٍ وَعَقْدُ ضَمَانٍ مِنْ وَجْهٍ، فَشَرَطْنَا الْقَبْضَ الْقَاصِرَ فِيهِ دُونَ الْقِسْمَةِ عَمَلًا بِالشَّبَهَيْنِ، عَلَى أَنَّ الْقَبْضَ غَيْرُ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ فِيهِ.
الْقِسْمَةَ وَهُوَ الْمِلْكُ الْمُفْرَزُ.
هَذَا وَاعْتَرَضَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ عَلَى الْجَوَابِ الْمَذْكُورِ بِوَجْهٍ آخَرَ حَيْثُ قَالَ: فِيهِ بَحْثٌ، فَإِنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ إذَا طَلَبَ شَرِيكُهُ الْقِسْمَةَ لَا يَنْفَعُهُ إبَاؤُهُ، عَلَى أَنَّ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَنْ هِبَتِهِ وَلَا تَلْزَمُهُ الْمُؤْنَةُ فَلْيُتَأَمَّلْ اهـ. أَقُولُ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أَصْلِ بَحْثِهِ وَعِلَاوَتِهِ سَاقِطٌ. أَمَّا الْأَوَّلُ؛ فَلِأَنَّهُ وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ إذَا طَلَبَ شَرِيكُهُ الْقِسْمَةَ لَا يَنْفَعُهُ إبَاؤُهُ إلَّا أَنَّ طَلَبَ شَرِيكِهِ إيَّاهَا غَيْرُ مُتَعَيَّنٍ بَلْ مُحْتَمَلٌ، وَالْإِقْدَامُ عَلَى الْعَقْدِ إنَّمَا يَقْتَضِي الرِّضَا بِمَا هُوَ مِنْ ضَرُورِيَّاتِ ذَلِكَ الْعَقْدِ وَلَوَازِمِهِ لَا بِمَا هُوَ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ ذَلِكَ. وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ فِي رُجُوعِهِ عَنْ هِبَتِهِ ضَرَرًا آخَرَ لَهُ وَهُوَ حِرْمَانُهُ عَنْ ثَوَابِ الْهِبَةِ فَلَزِمَ أَنْ يَتَوَقَّفَ دَفْعُ ضَرَرِ مُؤْنَةِ الْقِسْمَةِ عَنْ نَفْسِهِ عَلَى ارْتِكَابِ ضَرَرٍ آخَرَ لِنَفْسِهِ، فَكَانَ فِي تَجْوِيزِ هِبَةِ الْمُشَاعِ إلْزَامُ الْوَاهِبِ أَحَدَ الضَّرَرَيْنِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ، وَأَيْضًا هَلْ يُجَوِّزُ الْعَاقِلُ أَنْ يَكُونَ بِنَاءُ جَوَازِ هِبَةِ الْمَتَاعِ عَلَى جَوَازِ الرُّجُوعِ عَنْهَا وَلَيْسَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ بِنَاءِ تَحَقُّقِ الشَّيْءِ عَلَى انْتِفَائِهِ، عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ عَنْ هِبَتِهِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَوَادِّ وَهِيَ الَّتِي تَحَقَّقَ فِيهَا الْمَوَانِعُ عَنْ الرُّجُوعِ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْكِتَابِ فَيَلْزَمُ الْمَحْذُورُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ.
ثُمَّ أَقُولُ: بَقِيَ شَيْءٌ فِي أَصْلِ هَذَا التَّعْلِيلِ، وَهُوَ أَنَّ وَاهِبَ الْمُشَاعِ إمَّا أَنْ يَرْضَى بِالْقِسْمَةِ أَوْ يَمْتَنِعَ عَنْهَا، فَإِنْ رَضِيَ بِهَا كَانَ مُلْتَزِمًا إيَّاهَا فَلَمْ يَكُنْ فِي إلْزَامِهِ مُؤْنَةَ الْقِسْمَةِ إلْزَامُهُ مَا لَمْ يَلْتَزِمْهُ، وَإِنْ امْتَنَعَ عَنْهَا لَمْ يَلْزَمْهُ مُؤْنَةُ الْقِسْمَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ مُؤْنَةَ الْقِسْمَةِ عَلَى الطَّالِبِ دُونَ الْمُمْتَنِعِ عِنْدَهُ عَلَى مَا يَجِيءُ فِي كِتَابِ الْقِسْمَةِ فَلَمْ يَتِمَّ هَذَا التَّعْلِيلُ عَلَى قَوْلِهِ. (قَوْلُهُ: وَالْمُهَايَأَةُ تَلْزَمُهُ فِيمَا لَمْ يَتَبَرَّعْ بِهِ وَهُوَ الْمَنْفَعَةُ وَالْهِبَةُ لَاقَتْ الْعَيْنَ) هَذَا جَوَابٌ عَنْ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ تَقْدِيرُهُ أَنَّهُ إنْ لَمْ تَلْزَمْهُ فِيمَا لَا يُقْسَمُ مُؤْنَةُ الْقِسْمَةِ فَقَدْ لَزِمَتْهُ الْمُهَايَأَةُ، وَفِي إيجَابِهَا
وَلَوْ وَهَبَ مِنْ شَرِيكِهِ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ يُدَارُ عَلَى نَفْسِ الشُّيُوعِ.
قَالَ (وَمَنْ وَهَبَ شِقْصًا مُشَاعًا فَالْهِبَةُ فَاسِدَةٌ) لِمَا ذَكَرْنَا (فَإِنْ قَسَّمَهُ وَسَلَّمَهُ جَازَ)؛ لِأَنَّ تَمَامَهُ بِالْقَبْضِ وَعِنْدَهُ لَا شُيُوعَ. قَالَ: (وَلَوْ وَهَبَ دَقِيقًا فِي حِنْطَةٍ أَوْ دُهْنًا فِي سِمْسِمٍ فَالْهِبَةُ فَاسِدَةٌ، فَإِنْ طَحَنَ وَسَلَّمَ لَمْ يَجُزْ) وَكَذَا السَّمْنُ فِي اللَّبَنِ؛ لِأَنَّ الْمَوْهُوبَ مَعْدُومٌ، وَلِهَذَا لَوْ اسْتَخْرَجَهُ الْغَاصِبُ يَمْلِكُهُ، وَالْمَعْدُومُ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلْمِلْكِ فَوَقَعَ الْعَقْدُ بَاطِلًا، فَلَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِالتَّجْدِيدِ، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ؛ لِأَنَّ الْمُشَاعَ مَحَلٌّ لَلتَّمْلِيكِ،
إلْزَامُ مَا لَمْ يَلْتَزِمْ، وَمَعَ ذَلِكَ الْعَقْدُ جَائِزٌ فَلْتَكُنْ مُؤْنَةُ الْقِسْمَةِ فِيمَا يُقْسَمُ كَذَلِكَ.
فَأَجَابَ بِأَنَّ الْمُهَايَأَةَ تَلْزَمُهُ فِيمَا لَمْ يَتَبَرَّعْ بِهِ وَهُوَ الْمَنْفَعَةُ؛ لِأَنَّ الْمُهَايَأَةَ قِسْمَةُ الْمَنْفَعَةِ وَالْهِبَةِ الَّتِي هِيَ عَقْدُ التَّبَرُّعِ إنَّمَا لَاقَتْ الْعَيْنُ وَلَا إلْزَامَ فِيهِ فِيمَا لَا يُقْسَمُ فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ ضَمَانًا فِي عَيْنِ مَا تَبَرَّعَ بِهِ بِخِلَافِ مُؤْنَةِ الْقِسْمَةِ فِيمَا يُقْسَمُ، هَذَا خُلَاصَةُ مَا فِي جُمْلَةِ الشُّرُوحِ وَالْكَافِي هَاهُنَا. وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ ذَلِكَ: وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إلْزَامُ مَا لَمْ يَلْتَزِمْ الْوَاهِبُ بِعَقْدِ الْهِبَةِ إنْ كَانَ مَانِعًا عَنْ جَوَازِهَا فَقَدْ وُجِدَ، وَإِنْ خَصَّصْتُمْ بِعَوْدِهِ إلَى مَا تَبَرَّعَ بِهِ كَانَ تَحَكُّمًا، وَالْجَوَابُ بِتَخْصِيصِهِ بِذَلِكَ.
وَيُدْفَعُ التَّحَكُّمُ بِأَنَّ فِي عَوْدِهِ إلَى ذَلِكَ إلْزَامَ زِيَادَةِ عَيْنٍ هِيَ أُجْرَةُ الْقِسْمَةِ عَلَى الْعَيْنِ الْمَوْهُوبَةِ بِإِخْرَاجِهَا عَنْ مِلْكِهِ، وَلَيْسَ فِي غَيْرِهِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُهَايَأَةَ لَا يَحْتَاجُ إلَيْهَا. اهـ كَلَامُهُ.
أَقُولُ: لَا يُرَى فِي الْجَوَابِ الَّذِي ذَكَرَهُ كَثِيرُ طَائِلٍ فِي دَفْعِ سُؤَالِ سَائِلٍ؛ لِأَنَّ حَاصِلَهُ أَنَّ فِي عَوْدِهِ إلَى مَا تَبَرَّعَ بِهِ إلْزَامَهُ إخْرَاجَ عَيْنٍ هِيَ أُجْرَةُ الْقِسْمَةِ عَنْ مِلْكِهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي الْمُهَايَأَةِ، فَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْمُهَايَأَةِ إلْزَامُهُ إخْرَاجَ عَيْنٍ عَنْ مِلْكِهِ فَفِيهِ إلْزَامُهُ إزَالَةً تَقَعُ فِي زَمَانٍ مُعَيَّنٍ عَنْ تَصَرُّفِهِ، وَكَوْنُ الْأَوَّلِ أَكْثَرَ ضَرَرًا مِنْ الثَّانِي مُطْلَقًا غَيْرُ مُسَلَّمٍ، فَكَمْ مِنْ مَنْفَعَةٍ كَمَنْفَعَةِ دَارٍ وَنَحْوِهَا تَكُونُ أَعَزَّ وَأَشْرَفَ مِنْ مِقْدَارِ عَيْنٍ يَصِيرُ أُجْرَةَ قِسْمَتِهِ فَتَكُونُ إزَالَتُهَا عَنْ الِانْتِفَاعِ بِهَا أَشَقَّ عَلَى الْإِنْسَانِ وَأَكْثَرَ ضَرَرًا لَهُ مِنْ إخْرَاجِ مِقْدَارِ عَيْنٍ يَصِيرُ أُجْرَةَ قِسْمَتِهِ عَنْ مِلْكِهِ
وَهِبَةُ اللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ وَالصُّوفِ عَلَى ظَهْرِ الْغَنَمِ وَالزَّرْعِ وَالنَّخْلِ فِي الْأَرْضِ وَالتَّمْرِ فِي النَّخِيلِ بِمَنْزِلَةِ الْمُشَاعِ؛ لِأَنَّ امْتِنَاعَ الْجَوَازِ لِلِاتِّصَالِ وَذَلِكَ يَمْنَعُ الْقَبْضَ كَالشَّائِعِ.
قَالَ: (وَإِذَا كَانَتْ الْعَيْنُ فِي يَدِ الْمَوْهُوبِ لَهُ مَلَكَهَا بِالْهِبَةِ وَإِنْ لَمْ يُجَدِّدْ فِيهَا قَبْضًا)؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ فِي قَبْضِهِ وَالْقَبْضُ هُوَ الشَّرْطُ، بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَهُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ فِي الْبَيْعِ مَضْمُونٌ فَلَا يَنُوبُ عَنْهُ قَبْضُ الْأَمَانَةِ، أَمَّا قَبْضُ الْهِبَةِ فَغَيْرُ مَضْمُونٍ فَيَنُوبُ عَنْهُ.
وَأَمَّا الزِّيَادَةُ عَلَى الْعَيْنِ الْمَوْهُوبَةِ فَمُتَحَقِّقَةٌ فِي الصُّورَتَيْنِ مَعًا، غَيْرَ أَنَّ الزَّائِدَ عَلَيْهَا فِي إحْدَاهُمَا الْعَيْنُ وَفِي الْأُخْرَى الْمَنْفَعَةُ. وَالْأَظْهَرُ فِي الْجَوَابِ عِنْدِي أَنْ يُقَالَ: تَخْصِيصُ ذَلِكَ بِمَا إذَا عَادَ إلَى مَا تَبَرَّعَ بِهِ، وَلَا يَلْزَمُ التَّحَكُّمُ؛ لِأَنَّ الْمَحْذُورَ فِي إلْزَامِهِ مَا لَمْ يَلْتَزِمْهُ فِيمَا إذَا عَادَ إلَى مَا تَبَرَّعَ بِهِ لُزُومُ الْمُنَافَاةِ، فَإِنَّ التَّبَرُّعَ ضِدُّ اللُّزُومِ فَهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ، وَفِيمَا إذَا لَمْ يَعُدْ إلَى مَا تَبَرَّعَ بِهِ لَا تَلْزَمُ الْمُنَافَاةُ، فَإِنَّ الْمُهَايَأَةَ لَاقَتْ الْمَنْفَعَةَ وَالْهِبَةَ لَاقَتْ الْعَيْنَ، فَلَمْ يُصَادِفْ الْإِلْزَامُ وَالتَّبَرُّعُ إذْ ذَاكَ مَحَلًّا وَاحِدًا فَلَا مَحْذُورَ فِيهِ.
ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ غَايَةِ الْبَيَانِ بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ عَلَى الْمَنْهَجِ الْمَزْبُورِ قَالَ: وَالْجَوَابُ الصَّحِيحُ أَنْ يُقَالَ هِبَةُ الْمُشَاعِ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ لِمَا لَمْ يَلْزَمْ مِنْهَا ضَمَانُ الْقِسْمَةِ عَلَى الْوَاهِبِ صَحَّتْ. وَقَوْلُهُمْ يُؤَدِّي ذَلِكَ إلَى إلْزَامِ التَّهَايُؤِ فَنَقُولُ: لَا نُسَلِّمُ؛ لِأَنَّ التَّهَايُؤَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ؛ لِأَنَّ فِيهِ إعَارَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَصِيبَهُ مِنْ صَاحِبِهِ وَالْإِعَارَةُ لَا تَكُونُ وَاجِبَةً. اهـ كَلَامُهُ. أَقُولُ: لَعَلَّ هَذَا الْجَوَابَ لَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّ التَّهَايُؤَ يَجِبُ وَيَجْرِي فِيهِ جَبْرُ الْقَاضِي إذَا طَلَبَهُ أَحَدُ الشُّرَكَاءِ سِيَّمَا فِيمَا لَا يُقْسَمُ نُصَّ عَلَيْهِ فِي عَامَّةِ الْكُتُبِ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ فِي فَصْلِ الْمُهَايَأَةِ مِنْ كِتَابِ الْقِسْمَةِ، وَمَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ: لِأَنَّ فِيهِ إعَارَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَصِيبَهُ إلَخْ وَجْهُ الْقِيَاسِ، وَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَاهُ، وَلَكِنَّا تَرَكْنَا الْقِيَاسَ قَوْله تَعَالَى {لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} وَهُوَ الْمُهَايَأَةُ بِعَيْنِهَا، وَلِلْحَاجَةِ إلَيْهِ إذْ يَتَعَذَّرُ الِاجْتِمَاعُ عَلَى الِانْتِفَاعِ فَأَشْبَهَ الْقِسْمَةَ، فَقَوْلُهُمْ فِي هِبَةِ الْمُشَاعِ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ يُؤَدِّي ذَلِكَ إلَى إلْزَامِ التَّهَايُؤِ مِمَّا لَا يَقْبَلُ الْمَنْعَ أَصْلًا.
(قَوْلُهُ: وَإِذَا كَانَتْ الْعَيْنُ فِي يَدِ الْمَوْهُوبِ لَهُ مَلَكَهَا بِالْهِبَةِ وَإِنْ لَمْ يُجَدِّدْ فِيهَا قَبْضًا إلَى قَوْلِهِ: أَمَّا قَبْضُ الْهِبَةِ فَغَيْرُ مَضْمُونٍ فَيَنُوبُ عَنْهُ) وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ أَنَّ تَجَانُسَ الْقَبْضَيْنِ يُجَوِّزُ نِيَابَةَ أَحَدِهِمَا عَنْ الْآخَرِ وَتَغَايُرُهُمَا يُجَوِّزُ نِيَابَةَ الْأَعْلَى عَنْ الْأَدْنَى دُونَ الْعَكْسِ، فَإِذَا كَانَ الشَّيْءُ وَدِيعَةً فِي يَدِ شَخْصٍ أَوْ عَارِيَّةً فَوَهَبَهُ إيَّاهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى تَجْدِيدِ قَبْضٍ؛ لِأَنَّ كِلَا الْقَبْضَيْنِ لَيْسَ قَبْضَ ضَمَانٍ فَكَانَا مُتَجَانِسَيْنِ، وَلَوْ كَانَ بِيَدِهِ مَغْصُوبًا أَوْ بِبَيْعٍ فَاسِدٍ فَوَهَبَهُ إيَّاهُ لَمْ يَحْتَجْ إلَى تَجْدِيدِهِ،؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ أَقْوَى فَيَنُوبُ عَنْ الضَّعِيفِ وَلَوْ كَانَتْ وَدِيعَةً فَبَاعَهُ مِنْهُ فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ قَبْضَ الْأَمَانَةِ ضَعِيفٌ فَلَا يَنُوبُ عَنْ قَبْضِ الضَّمَانِ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ وَغَيْرِهَا. أَقُولُ: يَرُدُّ عَلَى ظَاهِرِ قَوْلِهِ أَوْ بِبَيْعٍ فَاسِدٍ فَوَهَبَهُ إيَّاهُ أَنَّ الْبَيْعَ الْفَاسِدَ يُفِيدُ الْمِلْكَ لِلْمُشْتَرِي عِنْدَ اتِّصَالِ الْقَبْضِ كَمَا مَرَّ فِي بَابِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ مِنْ كِتَابِ الْبُيُوعِ، وَأَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ فِيمَا سَيَأْتِي بَعْدَ أَسْطُرٍ بِقَوْلِهِ أَوْ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ فِي قَوْلِهِ؛ لِأَنَّهُ فِي يَدِ غَيْرِهِ أَوْ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ الشُّرَّاحُ قَاطِبَةً هُنَاكَ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ هِبَةُ الْمَقْبُوضِ بِبَيْعٍ فَاسِدٍ وَهُوَ مِلْكُ الْغَيْرِ حَتَّى يَصِحَّ قَوْلُهُ: فَوَهَبَهُ إيَّاهُ بَعْدَ قَوْلِهِ بِبَيْعٍ فَاسِدٍ.
فَالْجَوَابُ أَنَّهُ قَدْ مَرَّ أَيْضًا فِي بَابِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ بِالْبَيْعِ الْفَاسِدِ فَسْخَهُ
قَالَ: (وَإِذَا وَهَبَ الْأَبُ لِابْنِهِ الصَّغِيرِ هِبَةً مَلَكَهَا الِابْنُ بِالْعَقْدِ)؛ لِأَنَّهُ فِي قَبْضِ الْأَبِ فَيَنُوبُ عَنْ قَبْضِ الْهِبَةِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَا إذَا كَانَ فِي يَدِهِ أَوْ فِي يَدِ مُودِعِهِ؛ لِأَنَّ يَدَهُ كَيَدِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ مَرْهُونًا أَوْ مَغْصُوبًا أَوْ مَبِيعًا بَيْعًا فَاسِدًا؛ لِأَنَّهُ فِي يَدِ غَيْرِهِ أَوْ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ، وَالصَّدَقَةُ فِي هَذَا مِثْلُ الْهِبَةِ، وَكَذَا إذَا وَهَبَتْ لَهُ أُمُّهُ وَهُوَ فِي عِيَالِهَا وَالْأَبُ مَيِّتٌ وَلَا وَصِيَّ لَهُ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ يَعُولُهُ.
قَبْلَ الْقَبْضِ وَبَعْدَهُ رَفْعًا لِلْفَسَادِ، فَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ فَوَهَبَهُ إيَّاهُ فَوَهَبَهُ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ بَعْدَ أَنْ فَسَخَ الْعَقْدَ فَحِينَئِذٍ يَنْتَقِلُ الْمِلْكُ إلَى الْبَائِعِ فَتَصِحُّ هِبَتُهُ إيَّاهُ، بَلْ لَا يَبْعُدُ أَنْ تُجْعَلَ نَفْسُ الْهِبَةِ فَسْخًا لِلْبَيْعِ الْفَاسِدِ اقْتِضَاءً، وَقَصَدَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ تَوْجِيهَ هَذَا الْمَحَلِّ بِوَجْهٍ آخَرَ فَقَيَّدَ قَوْلَ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ أَوْ بِبَيْعٍ فَاسِدٍ بِقَوْلِهِ بِلَا إذْنِ الْبَائِعِ وَقَالَ: فَلَا يَرِدُ أَنَّ الْمَقْبُوضَ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ يَكُونُ مِلْكًا لِلْقَابِضِ عَلَى مَا سَيَجِيءُ بَعْدَ أَسْطُرٍ فَكَيْفَ تَصِحُّ هِبَتُهُ. اهـ. أَقُولُ: لَا يَخْفَى عَلَى ذِي فِطْنَةٍ أَنَّهُ لَا حَاصِلَ لِمَا ذَكَرَهُ، إذَا لَا يُتَصَوَّرُ بَيْعٌ فَاسِدٌ بِلَا إذْنِ الْبَائِعِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ مُطْلَقًا لَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِإِيجَابٍ وَقَبُولٍ، وَالْإِيجَابُ هُوَ الْإِذْنُ مِنْ الْبَائِعِ. لَا يُقَالُ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ بِالْبَائِعِ فِي قَوْلِهِ بِلَا إذْنِ الْبَائِعِ هُوَ الْمَالِكُ فَيَجُوزُ أَنْ يَبِيعَ فُضُولِيٌّ مَالَ أَحَدٍ بِغَيْرِ إذْنِ مَالِكِهِ بَيْعًا فَاسِدًا وَيَقْبِضَهُ الْمُشْتَرِي. لِإِنَّا نَقُولُ: فَإِنْ أَذِنَ لَهُ الْمَالِكُ فِي ذَلِكَ يَكُونُ الْبَيْعُ بِإِذْنِ الْبَائِعِ: أَيْ الْمَالِكِ، وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِيهِ لَا يَنْفُذُ الْبَيْعُ أَصْلًا، فَتَكُونُ يَدُ الْقَابِضِ يَدَ الْغَصْبِ أَوْ يَدَ الْأَمَانَةِ لَا يَدَ الْقَبْضِ بِالْبَيْعِ الْفَاسِدِ، وَالْكَلَامُ فِيهِ تَدَبُّرٌ.
(قَوْلُهُ: وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ يَعُولُهُ) أَيْ قَبْضُ الْهِبَةِ؛ لِأَجْلِ الْيَتِيمِ يَصِحُّ مِنْ كُلِّ مَنْ يَعُولُهُ نَحْوَ الْأَخِ وَالْعَمِّ وَالْأَجْنَبِيِّ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ. قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَمَنْ يَحْذُو حَذْوَهُ بَعْدَ هَذَا الْبَيَانِ: أَطْلَقَ فِي الْكِتَابِ جَوَازَ قَبْضِ هَؤُلَاءِ، وَلَكِنْ ذَكَرَ فِي الْإِيضَاحِ وَمُخْتَصَرِ الْكَرْخِيِّ أَنَّ وِلَايَةَ الْقَبْضِ لِهَؤُلَاءِ إذَا لَمْ يُوجَدْ وَاحِدٌ مِنْ الْأَرْبَعَةِ وَهُمْ الْأَبُ وَوَصِيُّهُ وَالْجَدُّ أَبُو الْأَبِ بَعْدَ الْأَبِ وَوَصِيُّهُ، فَأَمَّا مَعَ وُجُودِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَلَا، سَوَاءٌ كَانَ الصَّبِيُّ فِي عِيَالِ الْقَابِضِ
(وَإِنْ وَهَبَ لَهُ أَجْنَبِيٌّ هِبَةً تَمَّتْ بِقَبْضِ الْأَبِ)؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ عَلَيْهِ الدَّائِرَ بَيْنَ النَّافِعِ وَالضَّائِرِ فَأَوْلَى أَنْ يَمْلِكَ الْمَنَافِعَ.
قَالَ (وَإِذَا وَهَبَ لِلْيَتِيمِ هِبَةً فَقَبَضَهَا لَهُ وَلِيُّهُ وَهُوَ وَصِيُّ الْأَبِ أَوْ جَدُّ الْيَتِيمِ أَوْ وَصِيُّهُ جَازَ)؛ لِأَنَّ لِهَؤُلَاءِ وِلَايَةً عَلَيْهِ لِقِيَامِهِمْ مَقَامَ الْأَبِ (وَإِنْ كَانَ فِي حِجْرِ أُمِّهِ فَقَبْضُهَا لَهُ جَائِزٌ)؛ لِأَنَّ لَهَا الْوِلَايَةَ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى حِفْظِهِ وَحِفْظِ مَالِهِ. وَهَذَا مِنْ بَابِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَبْقَى إلَّا بِالْمَالِ فَلَا بُدَّ مِنْ وِلَايَةِ التَّحْصِيلِ (وَكَذَا إذَا كَانَ فِي حِجْرِ أَجْنَبِيٍّ يُرَبِّيهِ)؛ لِأَنَّ لَهُ عَلَيْهِ يَدًا مُعْتَبَرَةً. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ أَجْنَبِيٌّ آخَرُ أَنْ يَنْزِعَهُ مِنْ يَدِهِ فَيَمْلِكُ مَا يَتَمَحَّضُ نَفْعًا فِي حَقِّهِ (وَإِنْ قَبَضَ الصَّبِيُّ الْهِبَةَ بِنَفْسِهِ جَازَ) مَعْنَاهُ إذَا كَانَ عَاقِلًا؛ لِأَنَّهُ نَافِعٌ فِي حَقِّهِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِهِ. وَفِيمَا وَهَبَ لِلصَّغِيرَةِ يَجُوزُ
أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَسَوَاءٌ كَانَ ذَا رَحِمٍ مُحَرَّمٍ مِنْهُ أَوْ أَجْنَبِيًّا. لِأَنَّهُ لَيْسَ لِهَؤُلَاءِ وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ. فَقِيَامُ وِلَايَةِ مَنْ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي الْمَالِ يَمْنَعُ ثُبُوتَ حَقِّ الْقَبْضِ لَهُ، فَإِذَا لَمْ يَبْقَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ جَازَ قَبْضُ مَنْ كَانَ الصَّبِيِّ فِي عِيَالِهِ لِثُبُوتِ نَوْعِ وِلَايَةٍ لَهُ حِينَئِذٍ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُؤَدِّبُهُ وَيُسَلِّمُهُ فِي الصَّنَائِعِ، فَقِيَامُ هَذَا الْقَدْرِ مِنْ الْوِلَايَةِ يُطْلِقُ حَقَّ قَبْضِ الْهِبَةِ؛ لِكَوْنِهِ مِنْ بَابِ الْمَنْفَعَةِ. اهـ.
وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ نَقْلِ ذَلِكَ بِقَلِيلٍ: وَأَرَى أَنَّهُ لَمْ يُطْلِقْ، وَلَكِنَّهُ اقْتَصَرَ فِي التَّقْيِيدِ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ يَعُولُهُ وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَكَذَلِكَ إذَا وَهَبَتْ لَهُ أُمُّهُ وَهُوَ مُقَيَّدٌ بِقَوْلِهِ وَالْأَبُ مَيِّتٌ وَلَا وَصِيَّ لَهُ فَيَكُونُ ذَلِكَ فِي الْمَعْطُوفِ أَيْضًا، لَكِنَّهُ اقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ الْجَدِّ وَوَصِيِّهِ لِلْعِلْمِ بِأَنَّ الْجَدَّ الصَّحِيحَ مِثْلُ الْأَبِ فِي أَكْثَرِ الْأَحْكَامِ وَوَصِيُّهُ كَوَصِيِّ الْأَبِ. اهـ كَلَامُهُ.
أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا بِتَوْجِيهٍ صَحِيحٍ، إذَا قَدْ تَقَرَّرَ فِي كُتُبِ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّ الْقَيْدَ إذَا كَانَ مُقَدَّمًا عَلَى الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فَالظَّاهِرُ تَقْيِيدُ الْمَعْطُوفِ بِهِ كَقَوْلِنَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ سِرْت وَضَرَبْت زَيْدًا وَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَطْعِيٍّ وَلَكِنَّهُ السَّابِقُ إلَى الْفَهْمِ فِي الْخَطَابِيَّاتِ، وَأَمَّا إذَا كَانَ مُؤَخَّرًا عَنْ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فَلَا يُفْهَمُ مِنْهُ تَقْيِيدُ الْمَعْطُوفِ بِهِ أَيْضًا أَصْلًا، وَقَيْدُ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ مُؤَخَّرٌ فَلَا يَدُلُّ عَلَى تَقْيِيدِ الْمَعْطُوفِ بِهِ فِي شَيْءٍ فَيَضْمَحِلُّ
قَبْضُ زَوْجِهَا لَهَا بَعْدَ الزِّفَافِ لِتَفْوِيضِ الْأَبِ أُمُورَهَا إلَيْهِ دَلَالَةً، بِخِلَافِ مَا قَبْلَ الزِّفَافِ وَيَمْلِكُهُ مَعَ حَضْرَةِ الْأَبِ، بِخِلَافِ الْأُمِّ وَكُلِّ مَنْ يَعُولُهَا غَيْرِهَا حَيْثُ لَا يَمْلِكُونَهُ إلَّا بَعْدَ مَوْتِ الْأَبِ أَوْ غَيْبَتِهِ غَيْبَةً مُنْقَطِعَةً فِي الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَ هَؤُلَاءِ لِلضَّرُورَةِ لَا بِتَفْوِيضِ الْأَبِ، وَمَعَ حُضُورِهِ لَا ضَرُورَةَ.
قَالَ: (وَإِذَا وَهَبَ اثْنَانِ مِنْ وَاحِدٍ دَارًا جَازَ)؛ لِأَنَّهُمَا سَلَّمَاهَا جُمْلَةً وَهُوَ قَدْ قَبَضَهَا جُمْلَةً فَلَا شُيُوعَ (وَإِنْ وَهَبَهَا وَاحِدٌ مِنْ اثْنَيْنِ لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا يَصِحُّ)؛ لِأَنَّ هَذِهِ هِبَةُ الْجُمْلَةِ مِنْهُمَا، إذْ التَّمْلِيكُ وَاحِدٌ فَلَا يَتَحَقَّقُ الشُّيُوعُ كَمَا إذَا رَهَنَ مِنْ رَجُلَيْنِ. وَلَهُ أَنَّ هَذِهِ هِبَةُ النِّصْفِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَلِهَذَا لَوْ كَانَتْ فِيمَا لَا يُقَسَّمُ فَقِبَلَ أَحَدُهُمَا
مَا تَوَهُّمُهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ.
(قَوْلُهُ: وَيَمْلِكُهُ مَعَ حَضْرَةِ الْأَبِ بِخِلَافِ الْأُمِّ، وَكُلِّ مَنْ يَعُولُهَا غَيْرِهَا حَيْثُ لَا يَمْلِكُونَهُ إلَّا بَعْدَ مَوْتِ الْأَبِ أَوْ غَيْبَتِهِ غَيْبَةً مُنْقَطِعَةً فِي الصَّحِيحِ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: قَوْلُهُ: فِي الصَّحِيحِ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ وَيَمْلِكُهُ مَعَ حَضْرَةِ الْأَبِ: أَيْ وَيَمْلِكُ الزَّوْجُ قَبْضَ الْهِبَةِ لِأَجْلِ امْرَأَتِهِ الصَّغِيرَةِ مَعَ حَضْرَةِ أَبِيهَا فِي الصَّحِيحِ، وَكَانَ هَذَا احْتِرَازًا عَمَّا ذَكَرَ فِي الْإِيضَاحِ بِقَوْلِهِ وَتَأْوِيلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ قَبْضَ الزَّوْجِ إنَّمَا يَجُوزُ إذَا لَمْ يَكُنْ الْأَبُ حَيًّا، وَقَالَ: إنَّمَا قُلْت هَذَا؛ لِأَنَّ فِي قَوْلِهِ بِخِلَافِ الْأُمِّ وَكُلِّ مَنْ يَعُولُهَا غَيْرَهَا حَيْثُ لَا يَمْلِكُونَهُ إلَّا بَعْدَ مَوْتِ الْأَبِ أَوْ غَيْبَتِهِ غَيْبَةً مُنْقَطِعَةً لَيْسَتْ رِوَايَةٌ أُخْرَى حَتَّى يَقَعَ قَوْلُهُ: فِي الصَّحِيحِ احْتِرَازًا عَنْهَا. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَاقْتَفَى أَثَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ. أَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ شَيْخَ الْإِسْلَامِ خُوَاهَرْ زَادَهْ قَالَ فِي مَبْسُوطِهِ: فَمِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ سَوَّى بَيْنَ الزَّوْجِ وَبَيْنَ الْأَجْنَبِيِّ وَالْأَبِ وَالْجَدِّ وَالْأَخِ. وَقَالُوا: يَجُوزُ قَبْضُ هَؤُلَاءِ عَنْ الصَّغِيرِ إذَا كَانَ فِي عِيَالِهِمْ وَإِنْ كَانَ الْأَبُ حَاضِرًا كَمَا فِي الزَّوْجِ. وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ وَقَالَ بِأَنَّ قَبْضَ الزَّوْجِ يَجُوزُ عَلَى امْرَأَتِهِ الصَّغِيرَةِ إذَا كَانَتْ فِي عِيَالِهِ حَالَ حَضْرَةِ الْأَبِ وَحَالَ غَيْبَتِهِ، وَفِي الْأَجْنَبِيِّ يَجُوزُ قَبْضُهُ لِلصَّغِيرِ حَالَ عَدَمِ قَرِيبٍ آخَرَ لِلصَّغِيرِ.
وَفِيمَا ذَكَرَ مِنْ الْأَقَارِبِ حَقُّ الْقَبْضِ حَالَ غَيْبَةِ الْأَبِ إذَا كَانَ الصَّغِيرُ فِي عِيَالِهِمْ فَلَا يَكُونُ لَهُمْ الْقَبْضُ عَنْ الصَّغِيرِ حَالَ حَضْرَةِ الْأَبِ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ فَظَهَرَ مِنْهُ أَنَّ فِي قَوْلِهِ بِخِلَافِ الْأُمِّ وَكُلِّ مَنْ يَعُولُهُ غَيْرِهَا حَيْثُ لَا يَمْلِكُونَهُ إلَّا بَعْدَ مَوْتِ الْأَبِ أَوْ غَيْبَتِهِ غَيْبَةً مُنْقَطِعَةً قَوْلًا آخَرَ يُخَالِفُ الْقَوْلَ الْمَذْكُورَ فَيَصِحُّ أَنْ يَقَعَ قَوْلُهُ: فِي الصَّحِيحِ احْتِرَازًا عَنْهُ كَمَا لَا يَخْفَى. وَأَنَا أَتَعَجَّبُ مِنْ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ أَنَّهُ بَعْدَ أَنْ رَأَى مَا صَرَّحَ بِهِ فِي مَبْسُوطِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ مِنْ اخْتِلَافِ الْمَشَايِخِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَذْكُورًا فِي غَايَةِ الْبَيَانِ مَعَ تَفْصِيلَاتٍ أُخَرَ بِطَرِيقِ النَّقْلِ عَنْ
صَحَّ، وَلِأَنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي النِّصْفِ فَيَكُونُ التَّمْلِيكُ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ حُكْمُهُ، وَعَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ يَتَحَقَّقُ الشُّيُوعُ، بِخِلَافِ الرَّهْنِ؛ لِأَنَّ حُكْمَهُ الْحَبْسُ، وَيَثْبُتُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَامِلًا، إذْ لَا تَضَايُفَ فِيهِ فَلَا شُيُوعَ وَلِهَذَا لَوْ قَضَى دَيْنَ أَحَدِهِمَا لَا يَسْتَرِدُّ شَيْئًا مِنْ الرَّهْنِ (وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: إذَا تَصَدَّقَ عَلَى مُحْتَاجِينَ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ أَوْ وَهَبَهَا لَهُمَا جَازَ، وَلَوْ تَصَدَّقَ بِهَا عَلَى غَنِيَّيْنِ أَوْ وَهَبَهَا لَهُمَا لَمْ يَجُزْ، وَقَالَا: يَجُوزُ لِلْغَنِيَّيْنِ أَيْضًا) جَعَلَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَجَازًا عَنْ الْآخَرِ، وَالصَّلَاحِيَّةُ ثَابِتَةٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَمْلِيكٌ بِغَيْرِ بَدَلٍ، وَفَرَّقَ بَيْنَ الصَّدَقَةِ وَالْهِبَةِ فِي الْحُكْمِ.
وَفِي الْأَصْلِ سَوَّى بَيْنَهُمَا فَقَالَ: وَكَذَلِكَ الصَّدَقَةُ؛ لِأَنَّ الشُّيُوعَ مَانِعٌ فِي الْفَصْلَيْنِ لِتَوَقُّفِهِمَا عَلَى الْقَبْضِ. وَوَجْهُ الْفَرْقِ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الصَّدَقَةَ يُرَادُ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ وَاحِدٌ، وَالْهِبَةُ يُرَادُ بِهَا وَجْهُ الْغَنِيِّ وَهُمَا اثْنَانِ. وَقِيلَ هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، وَالْمُرَادُ بِالْمَذْكُورِ فِي الْأَصْلِ الصَّدَقَةُ عَلَى غَنِيَّيْنِ.
مَبْسُوطِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ ذَلِكَ الْهُمَامُ كَيْفَ تَبِعَ رَأْيَ صَاحِبِ النِّهَايَةِ فِي جَعْلِ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ فِي الصَّحِيحِ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ وَيَمْلِكُهُ مَعَ حَضْرَةِ الْأَبِ مَعَ كَوْنِهِ بَعِيدًا مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ وَالْمَعْنَى، أَمَّا بُعْدُهُ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ يَقَعُ حِينَئِذٍ فَصْلٌ كَثِيرٌ بَيْنَ الْمُتَعَلَّقِ وَالْمُتَعَلِّقِ بِهِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ تَدْعُو إلَيْهِ، وَأَمَّا بُعْدُهُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى فَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ فِي الصَّحِيحِ هُوَ الِاحْتِرَازَ عَمَّا ذَكَرَ فِي الْإِيضَاحِ مِنْ أَنَّ قَبْضَ الزَّوْجِ إنَّمَا يَجُوزُ إذَا لَمْ يَكُنْ الْأَبُ حَيًّا لَقَالَ وَيَمْلِكُ مَعَ حَيَاةِ الْأَبِ بَدَلَ قَوْلِهِ يَمْلِكُ مَعَ حَضْرَةِ الْأَبِ؛ لِأَنَّ الْحَضْرَةَ إنَّمَا تُقَابِلُ الْغَيْبَةَ دُونَ عَدَمِ الْحَيَاةِ تَأَمَّلْ تَقِفْ.
(قَوْلُهُ: وَلِأَنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي النِّصْفِ فَيَكُونُ التَّمْلِيكُ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ حُكْمُهُ، وَعَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ يَتَحَقَّقُ الشُّيُوعُ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الدَّلِيلِ: وَلِأَنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي النِّصْفِ وَهُوَ غَيْرُ مُمْتَازٍ فَكَانَ الشُّيُوعُ، وَهُوَ يَمْنَعُ الْقَبْضَ عَلَى سَبِيلِ الْكَمَالِ، وَلَيْسَ مَنْعُ الشُّيُوعِ لِجَوَازِ الْهِبَةِ إلَّا لِذَلِكَ، وَإِذَا
وَلَوْ وَهَبَ لِرَجُلَيْنِ دَارًا لِأَحَدِهِمَا ثُلُثَاهَا وَلِلْآخَرِ ثُلُثُهَا لَمْ يَجُزْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَجُوزُ. وَلَوْ قَالَ لِأَحَدِهِمَا نِصْفُهَا وَلِلْآخَرِ نِصْفُهَا عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِيهِ رِوَايَتَانِ، فَأَبُو حَنِيفَةَ مُرَّ عَلَى أَصْلِهِ، وَكَذَا مُحَمَّدٌ.
ثَبَتَ الْمِلْكُ مُشَاعًا، وَهُوَ حُكْمُ التَّمْلِيكِ ثَبَتَ التَّمْلِيكُ كَذَلِكَ، إذْ الْحُكْمُ يَثْبُتُ بِقَدْرِ دَلِيلِهِ، وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ مِنْ جَانِبِ الْمِلْكِ انْتَهَى. وَرَدَّ عَلَيْهِ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ حَيْثُ قَالَ: لَوْ كَانَ تَقْرِيرُ الدَّلِيلِ مَا حَرَّرَهُ الشَّارِحُ لَغَا قَوْلَ الْمُصَنِّفِ فَيَكُونُ التَّمْلِيكُ كَذَلِكَ، وَقَالَ: وَالظَّاهِرُ مِنْ مَسَاقِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ كِلَا الدَّلِيلَيْنِ اسْتِدْلَالٌ مِنْ جَانِبِ التَّمْلِيكِ انْتَهَى. أَقُولُ: كَأَنَّهُ فَهِمَ مِنْ قَوْلِ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ: وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ مِنْ جَانِبِ الْمِلْكِ أَنَّ مُرَادَهُ أَنَّ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ يَتِمُّ بِجَانِبِ الْمِلْكِ فَقَطْ، فَأَوْرَدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَغَا حِينَئِذٍ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ فَيَكُونُ التَّمْلِيكُ كَذَلِكَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ مُرَادُهُ أَنَّ مَبْدَأَ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ هُوَ جَانِبُ الْمِلْكِ كَمَا يُفْصِحُ عَنْهُ مِنْ الِابْتِدَائِيَّةُ فِي قَوْلِهِ مِنْ جَانِبِ الْمِلْكِ، وَهَذَا لَا يُنَافِي أَنْ يَتَفَرَّعَ عَلَيْهِ كَوْنُ التَّمْلِيكِ أَيْضًا كَذَلِكَ فَيَحْصُلُ مِنْ الْمَجْمُوعِ تَمَامُ الدَّلِيلِ. ثُمَّ إنَّ قَوْلَهُ وَالظَّاهِرُ مِنْ مَسَاقِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ كِلَا الدَّلِيلَيْنِ اسْتِدْلَالٌ مِنْ جَانِبِ التَّمْلِيكِ مَمْنُوعٌ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى النَّاظِرِ فِي الْكِتَابِ.
(قَوْلُهُ: وَلَوْ وَهَبَ لِرَجُلَيْنِ دَارًا لِأَحَدِهِمَا ثُلُثَاهَا وَلِلْآخَرِ ثُلُثُهَا لَمْ يَجُزْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَجُوزُ. وَلَوْ قَالَ لِأَحَدِهِمَا نِصْفُهَا وَلِلْآخَرِ نِصْفُهَا عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِيهِ رِوَايَتَانِ) اعْلَمْ أَنَّ التَّفْصِيلَ فِي الْهِبَةِ إمَّا أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ سَابِقَةِ الْإِجْمَالِ، أَوْ يَكُونَ بَعْدَ الْإِجْمَالِ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ لَمْ يَجُزْ بِلَا خِلَافٍ، سَوَاءٌ كَانَ التَّفْصِيلُ بِالتَّفْضِيلِ كَالثُّلُثِ وَالثُّلُثَيْنِ أَوْ بِالتَّسَاوِي كَالتَّنْصِيفِ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي لَمْ يَجُزْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ مُطْلَقًا: أَيْ سَوَاءٌ كَانَ مُتَفَاضِلًا أَوْ مُتَسَاوِيًا وَجَازَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ مُطْلَقًا، وَفَرَّقَ أَبُو يُوسُفَ بَيْنَ الْمُفَاضَلَةِ وَالْمُسَاوَاةِ؛ فَفِي الْمُفَاضَلَةِ لَمْ يُجَوِّزْ وَفِي الْمُسَاوَاةِ جَوَّزَ فِي رِوَايَةٍ، وَقَدْ أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِيهِ رِوَايَتَانِ. ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ النِّهَايَةِ جَعَلَ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ وَلَوْ قَالَ لِأَحَدِهِمَا نِصْفُهَا وَلِلْآخَرِ نِصْفُهَا عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِيهِ رِوَايَتَانِ تَفْصِيلًا ابْتِدَائِيًّا حَيْثُ قَالَ: وَلَوْ فَصَلَ ابْتِدَائِيًّا بِالتَّنْصِيفِ مِنْ غَيْرِ سَابِقَةِ الْإِجْمَالِ بِأَنْ قَالَ لِأَحَدِهِمَا وَهَبْت لِهَذَا نِصْفَ الدَّارِ وَلِهَذَا نِصْفَهَا لَمْ يَجُزْ بِلَا خِلَافٍ هَكَذَا ذَكَرَ فِي عَامَّةِ النُّسَخِ مِنْ الذَّخِيرَةِ وَالْإِيضَاحِ وَغَيْرِهِمَا، وَذَكَرَ فِي الْكِتَابِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِيهِ رِوَايَتَانِ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَالْفَرْقُ لِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ بِالتَّنْصِيصِ عَلَى الْأَبْعَاضِ يَظْهَرُ أَنَّ قَصْدَهُ ثُبُوتُ الْمِلْكِ فِي الْبَعْضِ فَيَتَحَقَّقُ الشُّيُوعُ، وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ إذَا رَهَنَ مِنْ رَجُلَيْنِ وَنَصَّ عَلَى الْأَبْعَاضِ.
بَابُ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ
وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ ذِكْرِ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ صَاحِبُ النِّهَايَةِ هَاهُنَا: وَلَيْسَ هَذَا بِظَاهِرٍ؛ لِأَنَّ الْمُصَنِّفَ عَطَفَ ذَلِكَ عَلَى التَّفْصِيلِ بَعْدَ الْإِجْمَالِ. فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَيْسَ ابْتِدَائِيًّا انْتَهَى. أَقُولُ: يُرْشِدُ إلَى مَا قَالَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ أَنَّ الْمُصَنِّفَ قَالَ: وَلَوْ قَالَ لِأَحَدِهِمَا نِصْفُهَا وَلِلْآخَرِ نِصْفُهَا وَلَمْ يَقُلْ وَلَوْ وَهَبَ لِأَحَدِهِمَا نِصْفَهَا وَلِلْآخِرِ نِصْفَهَا، إذْ لَوْ كَانَ مُرَادُهُ الْعَطْفَ عَلَى أَوَّلِ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى لَكَانَتْ الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ مَسْأَلَةً مُسْتَقِلَّةً مُبْتَدَأَةً فَيَجِبُ أَنْ يَقُولَ وَلَوْ وَهَبَ بَدَلَ وَلَوْ قَالَ كَمَا فِي سَائِرِ مَسَائِلِ الْهِبَةِ، وَلَمَّا قَالَ: وَلَوْ قَالَ عُلِمَ أَنَّ مُرَادَهُ الْعَطْفُ عَلَى مَا فِي آخِرِ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى مِنْ التَّفْصِيلِ الْوَاقِعِ بَعْدَ الْإِجْمَالِ فَيَكُونُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ بِوُقُوعِ التَّفْصِيلِ بَعْدَ الْإِجْمَالِ فِي الْأُولَى بِطَرِيقِ الْمُفَاضَلَةِ وَفِي الْأُخْرَى بِطَرِيقِ الْمُسَاوَاةِ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
(بَابُ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ) لَمَّا كَانَ حُكْمُ الْهِبَةِ ثُبُوتَ الْمِلْكِ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ مِلْكًا غَيْرَ لَازِمٍ حَتَّى يَصِحَّ الرُّجُوعُ احْتَاجَ إلَى بَيَانِ مَوَاضِعِ الرُّجُوعِ وَمَوَانِعِهِ
قَالَ: (وَإِذَا وَهَبَ هِبَةً لِأَجْنَبِيٍّ فَلَهُ الرُّجُوعُ فِيهَا) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا رُجُوعَ فِيهَا لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَا يَرْجِعُ الْوَاهِبُ فِي هِبَتِهِ إلَّا الْوَالِدُ فِيمَا يَهَبُ لِوَلَدِهِ» وَلِأَنَّ الرُّجُوعَ يُضَادُّ التَّمْلِيكَ، وَالْعَقْدُ لَا يَقْتَضِي مَا يُضَادُّهُ، بِخِلَافِ هِبَةِ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ عَلَى أَصْلِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتِمَّ التَّمْلِيكُ؛ لِكَوْنِهِ جُزْءًا لَهُ. وَلَنَا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «الْوَاهِبُ أَحَقُّ بِهِبَتِهِ مَا لَمْ يُثَبْ مِنْهَا» أَيْ مَا لَمْ يُعَوَّضْ؛
وَهَذَا بَابُهُ (قَوْلُهُ: وَإِذَا وَهَبَ هِبَةً لِأَجْنَبِيٍّ فَلَهُ الرُّجُوعُ فِيهَا) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: هَذَا اللَّفْظُ يَحْتَاجُ إلَى الْقُيُودِ: أَيْ إذَا وَهَبَ هِبَةً لِأَجْنَبِيٍّ أَوْ لِذِي رَحِمٍ لَيْسَ بِمَحْرَمٍ أَوْ لِذِي مَحْرَمٍ لَيْسَ بِرَحِمٍ وَسَلَّمَهَا إلَيْهِ، وَلَمْ يَقْتَرِنْ بِهَا مَا يَمْنَعُ الرُّجُوعَ مِنْ الزَّوْجِيَّةِ وَالْعِوَضِ وَالزِّيَادَةِ وَغَيْرِهَا حَالَةَ عَقْدِ الْهِبَةِ فَلَهُ الرُّجُوعُ فِيهَا إمَّا بِالْقَضَاءِ أَوْ بِالرِّضَا مِنْ غَيْرِ اسْتِحْبَابٍ بَلْ هُوَ مَكْرُوهٌ، وَبَيَّنَ كَوْنَ هَذِهِ الْقُيُودِ مُحْتَاجًا إلَيْهَا بِمَا لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ. وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَالْمُرَادُ بِالْأَجْنَبِيِّ هَاهُنَا مَنْ لَمْ يَكُنْ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ، فَخَرَجَ مِنْهُ مَنْ كَانَ ذَا رَحِمٍ وَلَيْسَ بِمَحْرَمٍ كَبَنِي الْأَعْمَامِ وَالْأَخْوَالِ وَمَنْ كَانَ مَحْرَمًا لَيْسَ بِذِي رَحِمٍ كَالْأَخِ الرَّضَاعِيِّ، وَخَرَجَ بِالتَّذْكِيرِ فِي قَوْلِهِ:" وَهَبَ " وَ " أَجْنَبِيٍّ " الزَّوْجَانِ، وَلَا بُدَّ مِنْ قَيْدَيْنِ آخَرَيْنِ: أَحَدِهِمَا وَسَلَّمَهَا إلَيْهِ. وَالثَّانِي وَلَمْ يَقْتَرِنْ مِنْ مَوَانِعِ الرُّجُوعِ شَيْءٌ حَالَ عَقْدِ الْهِبَةِ، وَلَعَلَّهُ تَرَكَهُمَا اعْتِمَادًا عَلَى أَنَّهُ يُفْهَمُ ذَلِكَ فِي أَثْنَاءِ كَلَامِهِ انْتَهَى.
أَقُولُ: فِي قَوْلِهِ وَخَرَجَ بِالتَّذْكِيرِ فِي قَوْلِهِ " وَهَبَ " وَ " أَجْنَبِيٍّ " الزَّوْجَانِ خَلَلٌ فَاحِشٌ، إذْ لَوْ قَصَدَ بِالتَّذْكِيرِ فِي قَوْلِهِ وَهَبَ وَأَجْنَبِيٍّ إخْرَاجَ الْمُؤَنَّثِ لَخَرَجَ مِنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كُلُّ هِبَةٍ كَانَتْ بَيْنَ الْمَرْأَتَيْنِ، وَكُلُّ هِبَةٍ كَانَتْ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، وَإِنَّمَا بَقِيَ مِنْهَا الْهِبَةُ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ، وَلَا يَخْفَى فَسَادُ ذَلِكَ، بَلْ الصَّوَابُ أَنَّ التَّذْكِيرَ الْوَاقِعَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَيْسَ لِإِخْرَاجِ الْمُؤَنَّثِ، وَإِنَّمَا هُوَ لِلْجَرْيِ عَلَى مَا هُوَ الْمُتَعَارَفُ فِي أَمْثَالِهَا مِنْ تَغْلِيبِ الذُّكُورِ عَلَى الْإِنَاثِ كَمَا فِي خِطَابَاتِ الشَّرْعِ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ، وَأَنَّ الزَّوْجَيْنِ إنَّمَا يَخْرُجَانِ مِنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِثَانِي الْقَيْدَيْنِ اللَّذَيْنِ اعْتَرَفَ الشَّارِحُ الْمَزْبُورُ أَيْضًا بِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْهُمَا، وَاعْتَذَرَ عَنْ تَرْكِهِمَا بِمَا ذَكَرَ وَذَلِكَ إنْ لَمْ يَقْتَرِنْ مِنْ مَوَانِعِ الرُّجُوعِ شَيْءٌ حَالَ عَقْدِ الْهِبَةِ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ الزَّوْجِيَّةَ مِنْ جُمْلَةِ تِلْكَ الْمَوَانِعِ، ثُمَّ أَقُولُ: لِمَانِعٍ أَنْ يَمْنَعَ انْفِهَامَ الْقَيْدِ الْأَوَّلِ مِنْ ذَيْنِك الْقَيْدَيْنِ فِي أَثْنَاءِ كَلَامِ الْقُدُورِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ. وَالْعُهْدَةُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى الْقُدُورِيِّ؛ لِأَنَّهَا مِنْ مَسَائِلِ مُخْتَصَرِهِ فَتَأَمَّلْ.
(قَوْلُهُ: وَلَنَا قَوْلُهُ: عليه الصلاة والسلام «الْوَاهِبُ أَحَقُّ بِهِبَتِهِ مَا لَمْ يُثَبْ مِنْهَا» أَيْ مَا لَمْ يُعَوَّضْ) لَا يُقَالُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ مَا قَبْلَ التَّسْلِيمِ فَلَا يَكُونُ
وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْعَقْدِ هُوَ التَّعْوِيضُ لِلْعَادَةِ،
حُجَّةً. لِأَنَّا نَقُولُ: لَا يَصِحُّ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ أَطْلَقَ اسْمَ الْهِبَةِ عَلَى الْمَالِ، وَذَا لَا يَكُونُ قَبْلَ الْقَبْضِ وَالتَّسْلِيمِ، وَلِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام جَعَلَهُ أَحَقَّ بِهَا، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ لِغَيْرِهِ فِيهَا حَقٌّ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ الْقَبْضِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَخَلَا قَوْلُهُ: مَا لَمْ يُثَبْ مِنْهَا عَنْ الْفَائِدَةِ إذْ هُوَ أَحَقُّ وَإِنْ شَرَطَ الْعِوَضِ قَبْلَهُ كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَالْكِفَايَةِ، وَهَكَذَا ذُكِرَ فِي الْعِنَايَةِ أَيْضًا إلَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ مِنْ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْجَوَابِ، وَقَدْ أَشَارَ فِي الْكَافِي أَيْضًا إلَى تِلْكَ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ حَيْثُ قَالَ: وَلَنَا قَوْلُهُ: عليه الصلاة والسلام «الْوَاهِبُ أَحَقُّ بِهِبَتِهِ مَا لَمْ يُثَبْ مِنْهَا» أَيْ لَمْ يُعَوَّضْ، وَالْمُرَادُ حَقُّ الرُّجُوعِ بَعْدَ التَّسْلِيمِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَكُونُ هِبَةً حَقِيقَةً قَبْلَ التَّسْلِيمِ وَإِضَافَتُهَا إلَى الْوَاهِبِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا كَانَتْ لَهُ كَرَجُلٍ يَقُولُ أَكَلْنَا خُبْزَ فُلَانٍ الْخَبَّازِ وَإِنْ كَانَ اشْتَرَاهُ مِنْهُ، وَلِأَنَّهُ أَثْبَتَ لِلْوَاهِبِ حَقًّا أَغْلَبَ مِنْ حَقِّ الْمَوْهُوبِ لَهُ، وَلَا يَجْتَمِعُ الْحَقَّانِ، وَحَقُّ الْوَاهِبِ أَغْلَبُ لَا بَعْدَ تَمَامِ الْهِبَةِ بِالْقَبْضِ، إذْ لَا حَقَّ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَلِأَنَّهُ مَدَّ هَذَا الْحَقَّ إلَى وُصُولِ الْعِوَضِ إلَيْهِ، وَذَا فِي حَقِّ الرُّجُوعِ بَعْدَ التَّسْلِيمِ. انْتَهَى.
أَقُولُ: فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي مِنْ تِلْكَ الْوُجُوهِ بَحْثٌ. أَمَّا فِي الْأَوَّلِ فَلِأَنَّ عَدَمَ صِحَّةِ إطْلَاقِ اسْمِ الْهِبَةِ عَلَى الْمَالِ حَقِيقَةً قَبْلَ الْقَبْضِ وَالتَّسْلِيمِ مَمْنُوعٌ، فَإِنَّ الْقَبْضَ لَيْسَ مِنْ أَرْكَانِ عَقْدِ الْهِبَةِ بَلْ هُوَ شَرْطٌ تَحَقَّقَ حُكْمُهُ كَمَا تَقَرَّرَ فِيمَا مَرَّ فَكَانَ خَارِجًا عَنْ حَقِيقَةِ الْهِبَةِ. وَلَئِنْ سَلِمَ عَدَمُ صِحَّةِ إطْلَاقِ اسْمِ الْهِبَةِ عَلَى الْمَالِ حَقِيقَةً قَبْلَ الْقَبْضِ فَلِمَ لَا يَجُوزُ إطْلَاقُ ذَلِكَ عَلَيْهِ مَجَازًا بِاعْتِبَارِ مَا يَئُولُ إلَيْهِ كَمَا فِي نَحْوِ {أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} وَقَدْ جُوِّزَتْ إضَافَتُهَا إلَى الْوَاهِبِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا كَانَتْ لَهُ وَهَذَا لَيْسَ بِأَبْعَدَ مِنْ ذَاكَ. وَأَمَّا فِي الثَّانِي فَلِأَنَّهُ قَدْ تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّهُ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ أَفْعَلَ مُجَرَّدًا عَنْ مَعْنَى التَّفْضِيلِ مُؤَوَّلًا بِاسْمِ الْفَاعِلِ أَوْ الصِّفَةِ الْمُشَبَّهَةِ حَالَ كَوْنِهِ عَارِيًّا عَنْ اللَّامِ وَالْإِضَافَةِ وَمِنْ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} إذْ لَيْسَ شَيْءٌ أَهْوَنَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ شَيْءٍ فَلَفْظُ أَحَقُّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ عَارٍ عَنْ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ الْمَزْبُورَةِ، فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْتَبَرَ مُجَرَّدًا عَنْ مَعْنَى التَّفْضِيلِ فَيَصِيرُ الْمَعْنَى الْوَاهِبُ حَقِيقٌ بِهِبَتِهِ مَا لَمْ يُثَبْ مِنْهَا فَلَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ لِغَيْرِهِ فِيهَا حَقٌّ.
نَعَمْ الظَّاهِرُ الشَّائِعُ أَنْ تَكُونَ صِيغَةُ أَفْعَلَ مُسْتَعْمَلَةً فِي مَعْنَى التَّفْضِيلِ، لَكِنَّ الْمُعْتَرِضَ مَانِعٌ مُسْتَنِدٌ بِاحْتِمَالِ أَنْ لَا يَكُونَ مَعْنَى التَّفْضِيلِ مَقْصُودًا فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ الَّذِي اسْتَدَلُّوا بِهِ عَلَى جَوَازِ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ بَعْدَ الْقَبْضِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الِاحْتِمَالَ كَافٍ فِي مَقَامِ الْمَنْعِ قَادِحٌ فِي مَقَامِ الِاسْتِدْلَالِ، عَلَى أَنَّ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَوْ كَانَ مَعْنَى التَّفْضِيلِ مَقْصُودًا فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ فَصَارَ الْمُرَادُ أَنْ يَثْبُتَ لِلْوَاهِبِ فِي هِبَتِهِ حَقٌّ أَغْلَبُ مِنْ حَقِّ الْمَوْهُوبِ لَهُ فِيهَا لَمَّا كَانَ الرُّجُوعُ عَنْهَا مَكْرُوهًا، وَلَمَّا قَالَ النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام «الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْعَائِدِ فِي قَيْئِهِ» ؛ لِأَنَّ الرُّجُوعَ حِينَئِذٍ يَصِيرُ فِي حُكْمِ تَفْضِيلِ الْفَاضِلِ وَتَرْجِيحِ الْغَالِبِ، فَالْوَجْهُ تَجْرِيدُ أَحَقَّ فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ عَنْ مَعْنَى التَّفْضِيلِ تَطْبِيقًا لِلْمَقَامَيْنِ وَتَوْفِيقًا لِلْكَلَامَيْنِ فَتَأَمَّلْ. ثُمَّ إنَّ بَعْضَ الْفُضَلَاءِ قَدَحَ فِي الْوَجْهِ الثَّالِثِ أَيْضًا مِنْ تِلْكَ الْوُجُوهِ حَيْثُ قَالَ: هَذَا يَجُرُّ إلَى الْقَوْلِ بِمَفْهُومِ الْغَايَةِ وَقَدْ نَفَاهُ الشَّارِحُ: يَعْنِي صَاحِبَ الْعِنَايَةِ. أَقُولُ: صَرَّحَ الْمُحَقِّقُ التَّفْتَازَانِيُّ فِي التَّلْوِيحِ فِي بَابِ الْمُعَارَضَةِ وَالتَّرْجِيحِ بِأَنَّ مَفْهُومَ الْغَايَةِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فَكَيْفَ يَنْفِيهِ الشَّارِحُ الْمَزْبُورُ.
(قَوْلُهُ: وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْعَقْدِ هُوَ التَّعْوِيضُ لِلْعَادَةِ)؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ الظَّاهِرَةَ أَنَّ الْإِنْسَانَ يُهْدِي إلَى مَنْ فَوْقَهُ لَيَصُونَهُ بِجَاهِهِ، وَإِلَى مَنْ دُونَهُ لِيَخْدُمَهُ
فَتَثْبُتُ لَهُ وِلَايَةُ الْفَسْخِ عِنْدَ فَوَاتِهِ، إذْ الْعَقْدُ يَقْبَلُهُ، وَالْمُرَادُ بِمَا رُوِيَ نَفْيُ اسْتِبْدَادٍ وَالرُّجُوعُ وَإِثْبَاتُهُ لِلْوَالِدِ؛ لِأَنَّهُ يَتَمَلَّكُهُ لِلْحَاجَةِ وَذَلِكَ يُسَمَّى رُجُوعًا. وَقَوْلُهُ فِي الْكِتَابِ فَلَهُ الرُّجُوعُ لِبَيَانِ الْحُكْمِ، أَمَّا الْكَرَاهَةُ فَلَازِمَةٌ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْعَائِدِ فِي قَيْئِهِ» وَهَذَا لِاسْتِقْبَاحِهِ.
وَإِلَى مَنْ يُسَاوِيهِ لِيُعَوِّضَهُ انْتَهَى. وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: الْمَفْهُومُ مِنْ هَذَا التَّقْرِيرِ خِلَافُ الْمُدَّعَى حَيْثُ خَصَّ التَّعْوِيضَ بِالْمُتَسَاوِيَيْنِ وَالْمُدَّعَى كَانَ أَعَمَّ انْتَهَى. وَقَدْ سَبَقَهُ إلَى هَذَا الدَّخْلِ الشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ حَيْثُ قَالَ بَعْدَ نَقْلِ كَلَامِ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ: قُلْت: فَعَلَى هَذَا لَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ إلَّا فِي الثَّالِثِ، وَمَعَ هَذَا لَهُ الرُّجُوعُ فِي الْكُلِّ مَا لَمْ يُعَوَّضْ انْتَهَى. أَقُولُ: يُمْكِنُ تَوْجِيهُ مَا ذَكَرَ فِي الْعِنَايَةِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّعْوِيضِ فِي قَوْلِهِ وَإِلَى مَنْ يُسَاوِيهِ لِيُعَوِّضَهُ هُوَ التَّعْوِيضُ الْمَالِيُّ، وَبِالتَّعْوِيضِ فِي قَوْلِهِ إنَّ الْمَقْصُودَ بِالْعَقْدِ هُوَ التَّعْوِيضُ مَا يَعُمُّ التَّعْوِيضَ بِالصِّيَانَةِ وَبِالْخِدْمَةِ وَبِالْمَالِ، فَالْمَخْصُوصُ بِالْمُتَسَاوِيَيْنِ هُوَ التَّعْوِيضُ الْمَالِيُّ، وَأَمَّا التَّعْوِيضُ الْمُطْلَقُ فَيُوجَدُ فِي الْأَعْلَى وَالْأَدْنَى وَالْمُسَاوِي، وَالتَّعْلِيلُ الْمَذْكُورُ يَشْمَلُ الصُّوَرَ الثَّلَاثَ فَلَا يَضُرُّهُ كَوْنُ الْمُدَّعَى أَعَمَّ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الرُّجُوعِ فِي الْكُلِّ مَا لَمْ يُعَوَّضْ تَأَمَّلْ تَفْهَمْ.
وَاعْلَمْ أَنَّ صَاحِبَ الْعِنَايَةِ لَيْسَ بِمُنْفَرِدٍ فِي ذَلِكَ التَّقْرِيرِ بَلْ سَبَقَهُ إلَيْهِ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَغَيْرُهُ فَقَالَ فِي النِّهَايَةِ: تَوْضِيحُهُ أَنَّ مَقْصُودَهُ مِنْ الْهِبَةِ لِلْأَجَانِبِ الْعِوَضُ وَالْمُكَافَأَةُ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يُهْدِي إلَى مَنْ فَوْقَهُ لِيَصُونَهُ بِجَاهِهِ وَإِلَى مَنْ دُونَهُ لِيَخْدُمَهُ وَإِلَى مَنْ يُسَاوِيهِ لِيُعَوِّضَهُ، وَمِنْهُ يُقَالُ: الْأَيَادِي قُرُوضٌ انْتَهَى. ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ التَّسْهِيلِ اعْتَرَضَ عَلَى أَصْلِ هَذَا الدَّلِيلِ حَيْثُ قَالَ: أَقُولُ: عَلَى هَذَا التَّعْلِيلِ لَوْ قُيِّدَ بِنَفْيِ الْعِوَضِ يَنْبَغِي أَنْ يَمْتَنِعَ الرُّجُوعُ؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّ الْعِوَضَ لَيْسَ بِمَقْصُودٍ، وَلَكِنَّ قَوْلَهُ عليه الصلاة والسلام " مَا لَمْ يُعَوَّضْ " يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الرُّجُوعِ وَإِنْ قُيِّدَ بِنَفْيِ الْعِوَضِ. انْتَهَى.
أَقُولُ: يُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِإِنَّا لَا نُسَلِّمُ ظُهُورَ أَنَّ الْعِوَضَ لَيْسَ بِمَقْصُودٍ عِنْدَ التَّقْيِيدِ بِنَفْيِ الْعِوَضِ، فَإِنَّ التَّعْوِيضَ مِنْ الْمَوْهُوبِ لَهُ لَيْسَ بِإِيجَابِ الْوَاهِبِ إيَّاهُ وَإِلْغَائِهِ بَلْ بِحَسَبِ مُرُوءَةِ الْمَوْهُوبِ لَهُ، وَجَرْيِ الْعَادَةِ عَلَى التَّعْوِيضِ، وَبِنَفْيِ الْوَاهِبِ التَّعْوِيضَ لَا يَفُوتُ ذَلِكَ، بَلْ رُبَّمَا يَكُونُ نَفْيُهُ إيَّاهُ سَبَبًا لِهَيَجَانِ مُرُوءَةِ الْمَوْهُوبِ لَهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَقْصِدَ ذَلِكَ الْوَاهِبُ بِنَفْيِهِ إيَّاهُ ذَلِكَ الْمَعْنَى. وَلَئِنْ سَلَّمْنَا ظُهُورَ ذَلِكَ فَنَقُولُ: الْوَجْهُ الْمَذْكُورُ عِلَّةٌ نَوْعِيَّةٌ لِإِثْبَاتِ نَوْعِ الْحُكْمِ، وَذَلِكَ لَا يَسْتَلْزِمُ الِاطِّرَادَ فِي كُلِّ صُورَةٍ كَمَا قَالُوا مِثْلَ هَذَا فِي الْوَجْهِ الثَّانِي مِنْ وَجْهَيْ عَدَمِ جَوَازِ هِبَةِ الْمُشَاعِ فِيمَا يُقَسَّمُ فِيمَا مَرَّ فَتَذَكَّرْ. (قَوْلُهُ: لِأَنَّهُ يَتَمَلَّكُهُ لِلْحَاجَةِ وَذَلِكَ يُسَمَّى رُجُوعًا) أَيْ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ رُجُوعًا فِي الْحُكْمِ، كَذَا فِي الْكَافِي وَعَامَّةِ الشُّرُوحِ وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: بَلْ شِرَاءً إضْرَابًا عَنْ قَوْلِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ رُجُوعًا فِي الْحُكْمِ. أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِتَمَلُّكِ الْوَالِدِ هَاهُنَا تَمَلُّكُهُ بِطَرِيقِ الِاتِّفَاقِ عَلَى نَفْسِهِ لَا بِطَرِيقِ الشِّرَاءِ؛ لِأَنَّ الشِّرَاءَ مِمَّا لَا مِسَاسَ لَهُ بِالْهِبَةِ فَلَا يُنَاسِبُ تَأْوِيلَ الْحَدِيثِ الْمَزْبُورِ قَطْعًا؛ وَلِأَنَّ قَوْلَهُمْ لِلْحَاجَةِ يُعَيِّنُ الْأَوَّلَ؛ لِعَدَمِ الِاحْتِيَاجِ إلَى الْحَاجَةِ فِي تَمَلُّكِهِ بِالشِّرَاءِ، عَلَى أَنَّهُمْ صَرَّحُوا بِالْأَوَّلِ حَيْثُ قَالَ فِي الْبَدَائِعِ: فَإِنَّهُ يَحِلُّ لَهُ أَخْذُهُ مِنْ غَيْرِ رِضَا الْوَلَدِ وَلَا قَضَاءِ الْقَاضِي إذَا احْتَاجَ إلَيْهِ لِلْإِنْفَاقِ عَلَى نَفْسِهِ انْتَهَى.
وَقَالَ فِي الْكِفَايَةِ مِنْ شُرُوحِ هَذَا الْكِتَابِ فَإِنَّهُ يَسْتَقِلُّ بِالرُّجُوعِ فِيمَا يَهَبُ لِوَلَدِهِ عِنْدَ احْتِيَاجِهِ إلَى ذَلِكَ لِلْإِنْفَاقِ عَلَى نَفْسِهِ انْتَهَى إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمُعْتَبَرَاتِ. (قَوْلُهُ: وَقَوْلُهُ فِي الْكِتَابِ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ لِبَيَانِ الْحُكْمِ، أَمَّا الْكَرَاهَةُ فَلَازِمَةٌ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْعَائِدِ فِي قَيْئِهِ» وَهَذَا لِاسْتِقْبَاحِهِ) قَالَ الشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ: قِيلَ قَدْ اسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ عَلَى كَرَاهَةِ الرُّجُوعِ بِهَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ ثُمَّ يَشْتَرِطُونَ
ثُمَّ لِلرُّجُوعِ مَوَانِعُ ذَكَرَ بَعْضَهَا فَقَالَ (إلَّا أَنْ يُعَوِّضَهُ عَنْهَا) لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ (أَوْ تَزِيدَ زِيَادَةً مُتَّصِلَةً)؛ لِأَنَّهُ لَا وَجْهَ إلَى الرُّجُوعِ فِيهَا دُونَ الزِّيَادَةِ؛ لِعَدَمِ الْإِمْكَانِ وَلَا مَعَ الزِّيَادَةِ؛ لِعَدَمِ دُخُولِهَا تَحْتَ الْعَقْدِ.
فِي جَوَازِهِ الرِّضَا أَوْ الْقَضَاءَ، فَإِذَا كَانَ الرُّجُوعُ بِالرِّضَا فَلَا كَلَامَ فِيهِ وَلَا إشْكَالَ، وَأَمَّا إذَا كَانَ بِالْقَضَاءِ فَكَيْفَ يَسُوغُ لِلْقَاضِي الْإِعَانَةُ عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الْمَعْصِيَةِ؟ وَكَيْفَ تَكُونُ إعَانَتُهُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ الَّتِي هِيَ مَعْصِيَةٌ أُخْرَى مُنْتِجَةٌ لِلْجَوَازِ؟ وَإِذَا كَانَ الرُّجُوعُ قَبْلَ الْقَضَاءِ غَيْرَ جَائِزٍ فَبَعْدَهُ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي لَا يُحَلِّلُ الْحَرَامَ وَلَا يُحَرِّمُ الْحَلَالَ، وَإِنَّمَا قَضَاءُ الْقَاضِي إعَانَةٌ لِصَاحِبِ الْحَقِّ عَلَى وُصُولِهِ إلَى حَقِّهِ، فَإِذَا كَانَ الرُّجُوعُ فِي الْهِبَةِ لَا يَحِلُّ لَا يَصِيرُ بِالْقَضَاءِ حَلَالًا، وَقَدْ اعْتَرَفَ الْمُصَنِّفُ بَعْدَ ذَلِكَ بِأَنَّ فِي أَصْلِ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ وَهَاءً فَكَيْفَ يَسُوغُ لِلْقَاضِي الْإِقْدَامُ عَلَى أَمْرٍ وَاهٍ مَكْرُوهٍ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
أَقُولُ: هَذَا الْإِشْكَالُ إنَّمَا نَشَأَ مِنْ عَدَمِ الْوُقُوفِ عَلَى أَنَّ مَحَلَّ الْقَضَاءِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ مَاذَا، فَإِنَّ الَّذِي كَانَ مَكْرُوهًا إنَّمَا هُوَ نَفْسُ الرُّجُوعِ عَنْ الْهِبَةِ لَا جَوَازُ الرُّجُوعِ عَنْهَا، وَاَلَّذِي يَكُونُ مَحَلًّا لِلْقَضَاءِ إنَّمَا هُوَ جَوَازُ الرُّجُوعِ عَنْهَا لَا نَفْسُ الرُّجُوعِ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ لَا يَقُولُ لِلْوَاهِبِ فِي حُكْمِهِ لَهُ عِنْدَ التَّرَافُعِ مَعَ الْمَوْهُوبِ لَهُ ارْجِعْ عَنْ هِبَتِك، بَلْ يَقُولُ لَك الرُّجُوعُ عَنْهَا مَعَ كَرَاهَةٍ فِيهِ، وَلَيْسَ فِي قَضَائِهِ هَذَا إعَانَةٌ عَلَى أَمْرٍ مَكْرُوهٍ بَلْ فِيهِ إجْرَاءُ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ عَلَى أَصْلِ أَئِمَّتِنَا، وَهُوَ جَوَازُ الرُّجُوعِ عَنْ الْهِبَةِ مَعَ كَرَاهَةٍ فِيهِ، فَإِنْ رَجَعَ الْوَاهِبُ عَنْهَا بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ مُرْتَكِبًا لِلْمَكْرُوهِ بِطَوْعِ نَفْسِهِ لَا بِإِعَانَةِ الْقَاضِي عَلَيْهِ، وَإِنْ امْتَنَعَ الْمَوْهُوبُ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ دَفْعِهَا إلَيْهِ يُلْزِمُهُ الْقَاضِي دَفْعَهَا إلَيْهِ. وَلَيْسَ فِيهِ أَيْضًا إلْزَامُ الْمَكْرُوهِ؛ لِأَنَّ دَفْعَ الْهِبَةِ إلَى الْوَاهِبِ لَيْسَ بِمَكْرُوهٍ بَلْ هُوَ وَاجِبٌ عَلَى الْمَوْهُوبِ بَعْدَ أَنْ رَجَعَ الْوَاهِبُ عَنْهَا بِلَا مَانِعٍ عَنْ الرُّجُوعِ، وَإِنْ كَانَ نَفْسُ الرُّجُوعِ مَكْرُوهًا. ثَمَّ إنَّ الْقَاضِيَ لَا يُحَلِّلُ الْحَرَامَ وَلَا يُحَرِّمُ الْحَلَالَ، وَلَكِنْ يَجْعَلُ الضَّعِيفَ قَوِيًّا وَالْمُخْتَلَفَ فِيهِ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ بِتَعَلُّقِ حُكْمِهِ بِذَلِكَ كَمَا تَقَرَّرَ فِي مَوْضِعِهِ. ثُمَّ إنَّ الضَّعِيفَ إذَا كَانَ نَاشِئًا مِنْ اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي مَسْأَلَةٍ لَا يَمْنَعُ الْقَاضِي عَنْ الْإِقْدَامِ عَلَى الْحُكْمِ بِهَا سِيَّمَا إذَا وَافَقَ مَذْهَبَهُ وَمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ كَمَا تَرَى فَانْدَفَعَ الْإِشْكَالُ الْمَذْكُورُ بِحَذَافِيرِهِ، هَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُفْهَمَ هَذَا الْمَقَامُ.
(قَوْلُهُ: أَوْ تَزِيدَ زِيَادَةً مُتَّصِلَةً) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَلَا بُدَّ مِنْ قَيْدٍ آخَرَ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ تُورِثُ زِيَادَةً فِي قِيمَةِ الْمَوْهُوبِ. اهـ. أَقُولُ: بَلْ مِنْ ذَلِكَ الْقَيْدِ الْآخَرِ بُدٌّ بِقَوْلِهِ أَوْ تَزِيدَ زِيَادَةً مُتَّصِلَةً؛ لِأَنَّ مَا لَا يُورِثُ زِيَادَةً فِي قِيمَةِ الْمَوْهُوبِ نُقْصَانٌ فِي الْحَقِيقَةِ، وَإِنْ كَانَ فِي صُورَةِ الزِّيَادَةِ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ قَاطِبَةً حَتَّى صَاحِبُ الْعِنَايَةِ نَفْسُهُ حَيْثُ قَالَ فِيمَا بَعْدُ وَأَمَّا اشْتِرَاطُ كَوْنِهَا مُؤَثِّرَةً فِي زِيَادَةِ الْقِيمَةِ، فَلِأَنَّهَا لَوْ لَمْ تَكُنْ كَذَلِكَ عَادَتْ نُقْصَانًا، فَرُبَّ زِيَادَةِ صُورَةٍ كَانَتْ نُقْصَانًا فِي الْمَعْنَى كَالْإِصْبَعِ الزَّائِدَةِ مَثَلًا. اهـ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الِاعْتِبَارَ لِلْمَعْنَى دُونَ الصُّورَةِ فَلَا احْتِيَاجَ إلَى قَيْدٍ زَائِدٍ، وَلَقَدْ أَحْسَنَ صَاحِبُ
قَالَ: (أَوْ يَمُوتَ أَحَدُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ)؛ لِأَنَّ بِمَوْتِ الْمَوْهُوبِ لَهُ يَنْتَقِلُ الْمِلْكُ إلَى الْوَرَثَةِ فَصَارَ كَمَا إذَا انْتَقَلَ فِي حَالِ حَيَاتِهِ، وَإِذَا مَاتَ الْوَاهِبُ فَوَارِثُهُ أَجْنَبِيٌّ عَنْ الْعَقْدِ إذْ هُوَ مَا أَوْجَبَهُ. قَالَ (أَوْ تَخْرُجُ الْهِبَةُ عَنْ مِلْكِ الْمَوْهُوبِ لَهُ)؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ بِتَسْلِيطِهِ فَلَا يَنْقُضُهُ، وَلِأَنَّهُ تَجَدُّدُ الْمِلْكِ بِتَجَدُّدِ سَبَبِهِ.
قَالَ: (فَإِنْ وَهَبَ لِآخَرَ أَرْضًا بَيْضَاءَ فَأَنْبَتَ فِي نَاحِيَةٍ مِنْهَا نَخْلًا أَوْ بَنَى بَيْتًا أَوْ دُكَّانًا أَوْ آرِيًّا وَكَانَ ذَلِكَ زِيَادَةً فِيهَا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا)؛ لِأَنَّ هَذِهِ زِيَادَةٌ مُتَّصِلَةٌ. وَقَوْلُهُ وَكَانَ ذَلِكَ زِيَادَةً فِيهَا؛ لِأَنَّ الدُّكَّانَ قَدْ يَكُونُ صَغِيرًا حَقِيرًا لَا يُعَدُّ زِيَادَةً أَصْلًا، وَقَدْ تَكُونُ
النِّهَايَةِ فِي الْبَيَانِ هَاهُنَا حَيْثُ قَالَ: ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الزِّيَادَةِ الْمُتَّصِلَةِ هُوَ الزِّيَادَةُ فِي نَفْسِ الْمَوْهُوبِ بِشَيْءٍ يُورِثُ زِيَادَةً فِي قِيمَةِ الْمَوْهُوبِ كَالسِّمَنِ وَالْجَمَالِ. أَمَّا لَوْ زَادَ الْمَوْهُوبُ فِي نَفْسِهِ لَكِنْ لَا تُورِثُ تِلْكَ الزِّيَادَةُ زِيَادَةً فِي قِيمَتِهِ فَهُوَ لَيْسَ بِزِيَادَةٍ حَقِيقَةٍ فَلَا تَمْنَعُ الرُّجُوعَ فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ الشَّيْءُ زِيَادَةَ صُورَةٍ نُقْصَانًا مَعْنًى كَالْإِصْبَعِ الزَّائِدَةِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ وَقَالَ: هَكَذَا كُلِّهِ فِي الذَّخِيرَةِ. ثُمَّ أَقُولُ: بَقِيَ هَاهُنَا شَيْءٌ، وَهُوَ أَنَّهُمْ صَرَّحُوا بِأَنَّ الزِّيَادَةَ الصُّورِيَّةَ الَّتِي لَا تُورِثُ زِيَادَةً فِي الْقِيمَةِ كَالزِّيَادَةِ الْحَاصِلَةِ بِطُولِ الْقَامَةِ وَبِالْأُصْبُعِ الزَّائِدَةِ لَا تَمْنَعُ الرُّجُوعَ، مَعَ أَنَّ الدَّلِيلَ الَّذِي ذَكَرُوا لِمَنْعِ الزِّيَادَةِ الْمُتَّصِلَةِ الرُّجُوعُ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا وَجْهَ لِلرُّجُوعِ فِيهَا دُونَ الزِّيَادَةِ مَدَى الْإِمْكَانِ، وَلَا مَعَ الزِّيَادَةِ؛ لِعَدَمِ دُخُولِهَا تَحْتَ الْعُقَدِ جَارٍ بِعَيْنِهِ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ أَيْضًا فَلْيُتَأَمَّلْ فِي التَّوْجِيهِ.
(قَوْلُهُ: فَإِنْ وَهَبَ لِآخَرَ أَرْضًا بَيْضَاءَ فَأَنْبَتَ فِي نَاحِيَةٍ مِنْهَا نَخْلًا) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: هَذَا نَوْعٌ مِنْ الزِّيَادَةِ الْمُتَّصِلَةِ فَكَانَ حَقُّهَا التَّقْدِيمَ اهـ. أَقُولُ: وَجْهُ التَّأْخِيرِ أَنَّ الْمُصَنِّفَ كَرِهَ أَنْ يَفْصِلَ بَيْنَ الْأَلْفَاظِ الْمَذْكُورَةِ بِطَرِيقِ الِاسْتِثْنَاءِ فِي مَسْأَلَةِ مُخْتَصَرِ الْقُدُورِيِّ يَذْكُرُ مَسْأَلَةً مُسْتَقِلَّةً مِنْ مَسَائِلِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَهِيَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ، فَإِنَّ الْمُسْتَثْنَى مَعَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ كَكَلَامٍ وَاحِدٍ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُذْكَرَ بَيْنَهُمَا كَلَامٌ آخَرُ مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ. وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ فِي الِاعْتِذَارِ عَنْهُ: إلَّا أَنَّ الْمُصَنِّفَ قَصَدَ سَرْدَ أُصُولِ الْمَوَانِعِ ثُمَّ التَّفْرِيعَ عَلَى التَّرْتِيبِ وَتَأْخِيرَ التَّعْوِيضِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ كَثْرَةِ التَّفْصِيلِ. اهـ.
أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ الْمُصَنِّفَ لَوْ قَصَدَ سَرْدَ أُصُولِ الْمَوَانِعِ ثُمَّ التَّفْرِيعَ عَلَى التَّرْتِيبِ لَمَا ذَكَرَ الْقَرَابَةَ الْمَحْرَمِيَّةَ وَالزَّوْجِيَّةَ مِنْ أُصُولِ الْمَوَانِعِ بَيْنَ التَّفْرِيعَاتِ بِقَوْلِهِ وَإِنْ وَهَبَ هِبَةً لِذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ
الْأَرْضُ عَظِيمَةً يُعَدُّ ذَلِكَ زِيَادَةً فِي قِطْعَةٍ مِنْهَا فَلَا يَمْتَنِعُ الرُّجُوعُ فِي غَيْرِهَا. قَالَ: (فَإِنْ بَاعَ نِصْفَهَا غَيْرَ مَقْسُومٍ رَجَعَ فِي الْبَاقِي)؛ لِأَنَّ الِامْتِنَاعَ بِقَدْرِ الْمَانِعِ (وَإِنْ لَمْ يَبِعْ شَيْئًا مِنْهَا لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي نِصْفِهَا)؛ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي كُلِّهَا فَكَذَا فِي نِصْفِهَا بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى. قَالَ (وَإِنْ وَهَبَ هِبَةً لِذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ فَلَا رُجُوعَ فِيهَا) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «إذَا كَانَتْ الْهِبَةُ لِذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ لَمْ يَرْجِعْ فِيهَا» ؛ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ فِيهَا صِلَةُ الرَّحِمِ وَقَدْ حَصَلَ (وَكَذَلِكَ مَا وَهَبَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ لِلْآخَرِ)؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ فِيهَا الصِّلَةُ كَمَا فِي الْقَرَابَةِ، وَإِنَّمَا يُنْظَرُ إلَى هَذَا الْمَقْصُودِ وَقْتَ الْعَقْدِ، حَتَّى لَوْ تَزَوَّجَهَا بَعْدَمَا وَهَبَ لَهَا فَلَهُ الرُّجُوعُ، وَلَوْ أَبَانَهَا بَعْدَمَا وَهَبَ فَلَا رُجُوعَ.
قَالَ: (وَإِذَا قَالَ الْمَوْهُوبُ لَهُ لِلْوَاهِبِ خُذْ هَذَا عِوَضًا عَنْ هِبَتِك أَوْ بَدَلًا عَنْهَا أَوْ فِي مُقَابَلَتِهَا فَقَبَضَهُ الْوَاهِبُ سَقَطَ الرُّجُوعُ) لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ، وَهَذِهِ الْعِبَارَاتُ تُؤَدِّي مَعْنًى وَاحِدًا (وَإِنْ عَوَّضَهُ أَجْنَبِيٌّ عَنْ الْمَوْهُوبِ لَهُ مُتَبَرِّعًا فَقَبَضَ الْوَاهِبُ الْعِوَضَ بَطَلَ الرُّجُوعُ)؛ لِأَنَّ الْعِوَضَ لِإِسْقَاطِ الْحَقِّ فَيَصِحُّ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ كَبَدَلِ الْخُلْعِ وَالصُّلْحِ:
فَلَا رُجُوعَ فِيهَا، وَبِقَوْلِهِ وَكَذَلِكَ مَا وَهَبَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ لِلْآخَرِ، تَبَصَّرْ تَقِفْ. (قَوْلُهُ: فَإِنْ بَاعَ نِصْفَهَا غَيْرَ مَقْسُومٍ رَجَعَ فِي الْبَاقِي) أَقُولُ: قَيَّدَ النِّصْفَ فِي الْكِتَابِ بِكَوْنِهِ غَيْرَ مَقْسُومٍ، وَالظَّاهِرُ عَدَمُ التَّقْيِيدِ بِذَلِكَ كَمَا وَقَعَ فِي عَامَّةِ الْمُعْتَبَرَاتِ، إذْ الْحُكْمُ فِيمَا إذَا بَاعَ نِصْفَهَا مَقْسُومًا كَذَلِكَ قَطْعًا وَتَخْصِيصُ الشَّيْءِ بِالذِّكْرِ فِي الرِّوَايَاتِ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَاهُ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ، وَكَأَنَّ وَجْهَ التَّقْيِيدِ فِي الْكِتَابِ إرَادَةُ إثْبَاتِ الْحُكْمِ فِي الْمَقْسُومِ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى، فَإِنَّهُ لَمَّا صَحَّ الرُّجُوعُ فِي الْبَاقِي فِيمَا إذَا بَاعَ نِصْفَهَا غَيْرَ مَقْسُومٍ كَانَ صِحَّةُ الرُّجُوعِ فِي الْبَاقِي فِيمَا إذَا بَاعَ نِصْفَهَا مَقْسُومًا أَوْلَى كَمَا لَا يَخْفَى، وَسَيَأْتِي التَّعَرُّضُ مِنْ الشُّرَّاحِ لِنَظِيرِ هَذَا فِي
قَالَ: (وَإِذَا اسْتَحَقَّ نِصْفَ الْهِبَةِ رَجَعَ بِنِصْفِ الْعِوَضِ)؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُسَلِّمْ لَهُ مَا يُقَابِلُ نِصْفَهُ (وَإِنْ اسْتَحَقَّ نِصْفَ الْعِوَضِ لَمْ يَرْجِعْ فِي الْهِبَةِ إلَّا أَنْ يَرُدَّ مَا بَقِيَ ثُمَّ يَرْجِعُ) وَقَالَ زُفَرُ: يَرْجِعُ بِالنِّصْفِ اعْتِبَارًا بِالْعِوَضِ الْآخَرِ. وَلَنَا أَنَّهُ يَصْلُحُ عِوَضًا لِلْكُلِّ مِنْ الِابْتِدَاءِ، وَبِالِاسْتِحْقَاقِ ظَهَرَ أَنَّهُ لَا عِوَضَ إلَّا هُوَ، إلَّا أَنَّهُ يَتَخَيَّرُ؛ لِأَنَّهُ مَا أَسْقَطَ حَقَّهُ فِي الرُّجُوعِ إلَّا لِيَسْلَمَ لَهُ كُلُّ الْعِوَضِ وَلَمْ يَسْلَمْ فَلَهُ أَنْ يَرُدَّهُ.
قَالَ (وَإِنْ وَهَبَ دَارًا فَعَوَّضَهُ مِنْ نِصْفِهَا) رَجَعَ الْوَاهِبُ فِي النِّصْفِ الَّذِي لَمْ يُعَوِّضْ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ خَصَّ النِّصْفَ.
قَالَ: (وَلَا يَصِحُّ الرُّجُوعُ إلَّا بِتَرَاضِيهِمَا أَوْ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ)؛ لِأَنَّهُ مُخْتَلَفٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ،
قَوْلِهِ: وَإِنْ عَوَّضَهُ أَجْنَبِيٌّ عَنْ الْمَوْهُوبِ لَهُ مُتَبَرِّعًا فَتَبَصَّرْ. (قَوْلُهُ: وَقَالَ زُفَرُ رحمه الله: يَرْجِعُ بِالنِّصْفِ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ: وَقَالَ زُفَرُ رحمه الله: يَرْجِعُ بِنِصْفِ الْعِوَضِ. أَقُولُ: هَذَا سَهْوٌ، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِالنِّصْفِ فِي قَوْلِ الْمُصَنِّفِ وَقَوْلِ زُفَرَ
وَفِي أَصْلِهِ وَهَاءٌ وَفِي حُصُولِ الْمَقْصُودِ وَعَدَمِهِ خَفَاءٌ، فَلَا بُدَّ مِنْ الْفَصْلِ بِالرِّضَا أَوْ بِالْقَضَاءِ، حَتَّى لَوْ كَانَتْ الْهِبَةُ عَبْدًا فَأَعْتَقَهُ قَبْلَ الْقَضَاءِ نَفَذَ، وَلَوْ مَنَعَهُ فَهَلَكَ لَمْ يَضْمَنْ؛ لِقِيَامِ مِلْكُهُ فِيهِ، وَكَذَا إذَا هَلَكَ فِي يَدِهِ بَعْدَ الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ أَوَّلَ الْقَبْضِ غَيْرُ مَضْمُونٍ، وَهَذَا دَوَامٌ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يَمْنَعَهُ بَعْدَ طَلَبِهِ؛ لِأَنَّهُ تَعَدٍّ، وَإِذَا رَجَعَ بِالْقَضَاءِ أَوْ بِالتَّرَاضِي يَكُونُ فَسْخًا مِنْ الْأَصْلِ حَتَّى لَا يَشْتَرِطُ قَبْضَ الْوَاهِبِ وَيَصِحُّ فِي الشَّائِعِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ جَائِزًا مُوجِبًا حَقَّ الْفَسْخِ،
يَرْجِعُ بِالنِّصْفِ إنَّمَا هُوَ نِصْفُ الْهِبَةِ دُونَ نِصْفِ الْعِوَضِ، وَهَذَا مَعَ كَوْنِهِ ظَاهِرًا مِنْ تَقْرِيرِ الْمُصَنِّفِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي الْكَافِي وَالْكِفَايَةِ وَغَايَةِ الْبَيَانِ وَغَيْرِهَا (قَوْلُهُ: وَفِي أَصْلِهِ وَهَاءٌ) أَيْ فِي أَصْلِ الرُّجُوعِ ضَعْفٌ.
قَالَ صَاحِبُ الْكَافِي فِي تَعْلِيلِ ذَلِكَ: لِأَنَّ الْوَاهِبَ إنْ كَانَ يُطَالِبُ بِحَقِّهِ فَالْمَوْهُوبُ لَهُ يَمْنَعُ بِمِلْكِهِ. وَقَالَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ: لِأَنَّهُ ثَابِتٌ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ لِكَوْنِهِ تَصَرُّفًا فِي مِلْكِ الْغَيْرِ؛ وَلِهَذَا
فَكَانَ بِالْفَسْخِ مُسْتَوْفِيًا حَقًّا ثَابِتًا لَهُ فَيَظْهَرُ عَلَى الْإِطْلَاقِ،
يَبْطُلُ بِالزِّيَادَةِ الْمُتَّصِلَةِ وَبِغَيْرِهَا مِنْ الْمَوَانِعِ وَاقْتَفَى أَثَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ وَالشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ. أَقُولُ: فِي قَوْلِهِمْ وَلِهَذَا يَبْطُلُ بِالزِّيَادَةِ الْمُتَّصِلَةِ وَبِغَيْرِهَا مِنْ الْمَوَانِعِ خَلَلٌ؛ لِأَنَّ الرُّجُوعَ ثَابِتٌ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ فِي جَمِيعِ الصُّوَرِ: أَيْ فِيمَا يُوجَدُ فِيهِ الْمَانِعُ عَنْهُ، وَفِيمَا لَمْ يُوجَدْ فِيهِ ذَلِكَ؛ لِكَوْنِهِ تَصَرُّفًا فِي مِلْكِ الْغَيْرِ فِي الْجَمِيعِ، فَلَا يَصِحُّ تَفْرِيعُ بُطْلَانِهِ فِي صُوَرِ تَحَقُّقِ الْمَانِعِ عَنْهُ عَلَى كَوْنِهِ ثَابِتًا بِخِلَافِ الْقِيَاسِ، إذْ لَوْ كَانَ عِلَّةُ الْبُطْلَانِ ذَلِكَ لَزِمَ أَنْ يَبْطُلَ فِي جَمِيعِ الصُّوَرِ؛ لِعَدَمِ انْفِكَاكِهِ عَنْ تِلْكَ الْعِلَّةِ فِي صُورَةٍ.
فَالصَّوَابُ أَنَّ بُطْلَانَهُ بِالزِّيَادَةِ الْمُتَّصِلَةِ وَبِغَيْرِهَا مِنْ الْمَوَاقِعِ لِمَا ذُكِرَ مِنْ الْأَدِلَّةِ الْمُفَصَّلَةِ فِي مَسَائِلِهَا لَا لِكَوْنِهِ ثَابِتًا بِخِلَافِ الْقِيَاسِ. وَاعْتَرَضَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ عَلَى قَوْلِهِمْ؛ لِأَنَّهُ ثَابِتٌ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ حَيْثُ قَالَ: فِيهِ بَحْثٌ لِانْتِقَاضِهِ بِكُلِّ مَا ثَبَتَ بِالنَّصِّ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ. أَقُولُ: هَذَا سَاقِطٌ؛ لِأَنَّهُ أَرَادَ بِانْتِقَاضِهِ بِكُلِّ مَا ثَبَتَ بِالنَّصِّ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ أَنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ كُلُّ مَا ثَبَتَ بِالنَّصِّ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ ضَعِيفًا فَمَا الْمَحْذُورُ فِي ذَلِكَ، إذْ الظَّاهِرُ أَنَّ كُلَّ مَا ثَبَتَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ ضَعِيفٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا ثَبَتَ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ قَالُوا: كُلُّ مَا ثَبَتَ بِالنَّصِّ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ مِنْ الْأَحْكَامِ يَخْتَصُّ بِمَوْرِدِ النَّصِّ، بِخِلَافِ مَا ثَبَتَ بِهِ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ، وَإِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ كُلُّ مَا ثَبَتَ بِالنَّصِّ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ مَوْقُوفًا عَلَى الرِّضَا أَوْ الْقَضَاءِ فَهُوَ مَمْنُوعٌ، وَإِنَّمَا يَكُونُ كَذَلِكَ لَوْ كَانَ قَوْلُهُ: وَفِي أَصْلِهِ وَهَاءٌ عِلَّةٌ تَامَّةٌ لِعَدَمِ صِحَّةِ الرُّجُوعِ بِدُونِ الرِّضَا أَوْ الْقَضَاءِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ الْعِلَّةُ التَّامَّةُ لَهُ مَجْمُوعُ قَوْلِهِ؛ لِأَنَّهُ مُخْتَلَفٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ وَفِي أَصْلِهِ وَهَاءٌ، وَفِي حُصُولِ الْمَقْصُودِ وَعَدَمِهِ خَفَاءٌ، وَلَا تَجْرِي هَذِهِ الْعِلَّةُ بِتَمَامِهَا فِي كُلِّ مَا ثَبَتَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فَلَا انْتِقَاضَ بِهِ.
ثُمَّ إنَّ الْإِمَامَ الْمُطَرِّزَيَّ قَالَ فِي الْمُغْرِبِ: الْوَهَاءُ بِالْمَدِّ خَطَأٌ، وَإِنَّمَا هُوَ الْوَهْيُ مَصْدَرُ وَهِيَ الْحَبْلُ يَهِي وَهَيَا إذَا ضَعُفَ اهـ. وَقَدْ نَقَلَهُ عَنْهُ كَثِيرٌ مِنْ الشُّرَّاحِ هَاهُنَا وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لَهُ بِشَيْءٍ، وَنَقَلَهُ عَنْهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ أَيْضًا وَقَالَ: وَهُوَ خَطَأٌ؛ لِأَنَّ مَدَّ الْمَقْصُورِ السَّمَاعِيِّ لَيْسَ بِخَطَأٍ وَتَخْطِئَةِ مَا لَيْسَ بِخَطَإٍ خَطَأٌ. اهـ. وَلَا يَذْهَبُ عَلَى ذِي فَطَانَةٍ أَنَّ الْخَطَأَ هَاهُنَا إنَّمَا هُوَ فِي كَلَامِ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ، فَإِنَّهُ زَعَمَ أَنَّ الْوَهْيَ فِي قَوْلِ صَاحِبِ الْمُغْرِبِ: وَإِنَّمَا هُوَ الْوَهْيُ مَقْصُورُ الْوَهَاءِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ قَطْعًا بَلْ هُوَ عَلَى وَزْنِ الْفِعْلِ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَسُكُونِ الْهَاءِ كَالرَّمْيِ، وَمِنْ الْبَيِّنِ فِيهِ قَوْلُ صَاحِبِ الْمُغْرِبِ: مَصْدَرٌ وَهِيَ الْحَبْلُ يَهِي وَهْيًا حَيْثُ قَالَ وَهْيًا، وَلَوْ كَانَ مَقْصُورًا لَقَالَ وَهَا كَمَا لَا يَخْفَى، وَقَدْ تَفَطَّنَ الشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ لِهَذَا حَيْثُ قَالَ: وَقَوْلُ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ: لِأَنَّ مَدَّ الْمَقْصُورِ السَّمَاعِيِّ لَيْسَ بِخَطَإٍ خَطَأٌ؛ لِأَنَّ جَوَازَ مَدِّ الْمَقْصُورِ السَّمَاعِيِّ مَبْنِيٌّ عَلَى وُجُودِ الْمَقْصُورِ حَتَّى يُمَدَّ، وَالْمَصْدَرُ هَاهُنَا عَلَى وَزْنِ فَعْلٍ بِتَسْكِينِ الْعَيْنِ فَمِنْ أَيْنَ يَتَأَتَّى الْمَدُّ. اهـ.
وَلَكِنَّ خَطَأَ صَاحِبِ الْمُغْرِبِ بِوَجْهٍ آخَرَ حَيْثُ قَالَ: فَصَاحِبُ الْمُغْرِبِ مُصِيبٌ مِنْ وَجْهٍ فِي قَوْلِهِ وَإِنَّمَا هُوَ الْوَهْيُ: يَعْنِي بِتَسْكِينِ الْعَيْنِ، وَمُخْطِئٌ مِنْ وَجْهٍ فِي قَوْلِهِ الْوَهَاءُ بِالْمَدِّ خَطَأٌ؛ لِأَنَّ هَذَا أَيْضًا مَصْدَرٌ عَلَى وَزْنِ فَعَالٍ كَمَا تَقُولُ فِي قَلَى يَقْلِي قَلْيًا وَقَلَّاءً عَلَى وَزْنِ فَعَالٍ وَوَهَاءٌ كَذَلِكَ. وَقَدْ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْقَلْيُ الْبُغْضُ، فَإِنْ فَتَحْت الْقَافَ مَدَدْت تَقُولُ قَلَاهُ يَقْلِيهِ قَلْيًا وَقَلَّاءً. اهـ كَلَامُهُ. أَقُولُ: أَخْطَأَ هَذَا الشَّارِحُ أَيْضًا فِي تَخْطِئَةِ صَاحِبِ الْمُغْرِبِ؛ لِأَنَّ كَوْنَ الْوَهَاءِ عَلَى وَزْنِ بَعْضِ الْمَصَادِرِ لَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ نَفْسُهُ أَيْضًا مَصْدَرًا، إذْ قَدْ تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْأَدَبِ أَنَّ مَصْدَرَ الثَّلَاثِي سَمَاعِيٌّ لَا يَثْبُتُ بِالْقِيَاسِ، فَمَجِيءُ الْقَلَّاءِ مَصْدَرًا مِنْ قَلَى يَقْلِي كَمَا ذَكَرَهُ الْجَوْهَرِيُّ لَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْوَهَاءُ أَيْضًا مَصْدَرًا مِنْ وَهَى يَهِي، فَإِنَّ الْأَوَّلَ مَسْمُوعٌ دُونَ الثَّانِي.
وَقَوْلُ صَاحِبِ الْمُغْرِبِ الْوَهَاءُ بِالْمَدِّ خَطَأٌ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مَسْمُوعٍ فَلَا غُبَارَ فِيهِ عَلَى أَنَّ تَخْطِئَتَهُ إيَّاهُ فِي قَوْلِهِ الْوَهَاءُ بِالْمَدِّ خَطَأٌ يُنَافِي تَصْوِيبَهُ إيَّاهُ فِي قَوْلِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ الْوَهْيُ؛ لِأَنَّ فِي قَوْلِهِ هَذَا قَصْرَ مَصْدَرِ وَهَى يَهِي عَلَى الْوَهْيِ بِتَسْكِينِ الْهَاءِ، فَكَوْنُ وَهَاءٍ أَيْضًا مَصْدَرًا مِنْهُ يُنَافِي ذَلِكَ قَطْعًا. ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ الْكَافِي وَمَنْ حَذَا حَذْوَهُ مِنْ الشُّرَّاحِ كَصَاحِبَيْ الْكِفَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ اسْتَدَلُّوا عَلَى مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ بِدَلِيلٍ آخَرَ غَيْرِ مَذْكُورٍ فِي الْكِتَابِ حَيْثُ قَالُوا: وَلِأَنَّ الرُّجُوعَ فَسْخُ الْعَقْدِ فَلَا يَصِحُّ إلَّا مِمَّنْ لَهُ وِلَايَةٌ عَامَّةٌ وَهُوَ الْقَاضِي أَوْ مِنْهُمَا لِوِلَايَتِهِمَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا كَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ بَعْدَ الْقَبْضِ اهـ. أَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ، أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُ مَنْقُوضٌ
بِخِلَافِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ بَعْدَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ هُنَاكَ فِي وَصْفِ السَّلَامَةِ لَا فِي الْفَسْخِ فَافْتَرَقَا.
قَالَ: (وَإِذَا تَلِفَتْ الْعَيْنُ الْمَوْهُوبَةُ وَاسْتَحَقَّهَا مُسْتَحِقٌّ وَضَمِنَ الْمَوْهُوبُ لَهُ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْوَاهِبِ بِشَيْءٍ)؛ لِأَنَّهُ عَقْدُ تَبَرُّعٍ فَلَا يَسْتَحِقُّ فِيهِ السَّلَامَةَ، وَهُوَ غَيْرُ عَامِلٍ لَهُ، وَالْغُرُورُ فِي ضِمْنِ عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ سَبَبُ الرُّجُوعِ لَا فِي غَيْرِهِ.
قَالَ: (وَإِذَا وَهَبَ بِشَرْطِ الْعِوَضِ اُعْتُبِرَ التَّقَابُضُ فِي الْعِوَضَيْنِ، وَتَبْطُلُ بِالشُّيُوعِ)؛ لِأَنَّهُ هِبَةٌ ابْتِدَاءً (فَإِنْ تَقَابَضَا صَحَّ الْعَقْدُ وَصَارَ فِي حُكْمِ الْبَيْعِ يُرَدُّ بِالْعَيْبِ وَخِيَارِ الرُّؤْيَةِ وَتُسْتَحَقُّ فِيهِ الشُّفْعَةُ)؛ لِأَنَّهُ بَيْعٌ انْتِهَاءً. وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: هُوَ بَيْعٌ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً؛ لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى الْبَيْعِ وَهُوَ التَّمْلِيكُ بِعِوَضٍ، وَالْعِبْرَةُ فِي الْعُقُودِ لِلْمَعَانِي، وَلِهَذَا كَانَ بَيْعُ الْعَبْدِ مِنْ نَفْسِهِ إعْتَاقًا.
بِفَسْخِ الْعَقْدِ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ، إذْ قَدْ مَرَّ فِي فَصْلِ أَحْكَامِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ مِنْ كِتَابِ الْبُيُوعِ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ إذَا قَبَضَ الْمَبِيعَ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ بِأَمْرِ الْبَائِعِ وَفِي الْعَقْدِ عِوَضَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَالٌ مَلَكَ الْبَيْعَ وَلَزِمَتْهُ قِيمَتُهُ.
ثُمَّ إنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فِيهِ فَسْخَ الْعَقْدِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَكَذَا بَعْدَهُ إنْ كَانَ الْفَسَادُ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ وَلِمَنْ لَهُ الشَّرْطُ إنْ كَانَ بِشَرْطٍ زَائِدٍ فَصَحَّ فَسْخُ الْعَقْدِ هُنَاكَ مِنْ أَحَدِهِمَا بِدُونِ رِضَا الْآخَرِ وَلَا الْقَضَاءِ بِهِ، فَصَارَ الدَّلِيلُ الْمَزْبُورُ مَنْقُوضًا بِهِ بَلْ هُوَ مَنْقُوضٌ أَيْضًا بِسَائِرِ الْعُقُودِ الْغَيْرِ اللَّازِمَةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ يَتَمَكَّنُ مِنْ فَسْخِهَا بِأَسْرِهَا كَمَا صَرَّحُوا بِهِ فِي مَوَاضِعِهِ. وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ قَوْلَهُمْ كَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ بَعْدَ الْقَبْضِ لَيْسَ بِسَدِيدٍ إذَا الْحَقُّ هُنَاكَ لِلْمُشْتَرِي فِي وَصْفِ السَّلَامَةِ لَا فِي الْفَسْخِ، وَالْحَقُّ هَاهُنَا لِلْوَاهِبِ فِي نَفْسِ الْفَسْخِ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ فِيمَا سَيَأْتِي. وَفَرَّقُوا بَيْنَهُمَا بِهَذَا الْوَجْهِ فَلَا يَقْتَضِي عَدَمُ انْفِرَادِ الْمُشْتَرِي هُنَاكَ بِالْفَسْخِ عَدَمَ انْفِرَادِ الْوَاهِبِ هَاهُنَا بِهِ فَلَا يَتِمُّ الْقِيَاسُ وَلَا التَّشْبِيهُ تَدَبَّرْ (قَوْلُهُ: بِخِلَافِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ بَعْدَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ هُنَاكَ فِي وَصْفِ السَّلَامَةِ لَا فِي الْفَسْخِ فَافْتَرَقَا) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي تَعْلِيلِ قَوْلِهِ لَا فِي الْفَسْخِ: لِأَنَّ الْعَيْبَ لَا يَمْنَعُ تَمَامَ الْعَقْدِ، فَإِذَا كَانَ الْعَقْدُ تَامًّا لَمْ يَقْتَضِ الْفَسْخَ. انْتَهَى.
أَقُولُ: فِيهِ بَحْثٌ؛ لِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ أَنَّهُ إذَا كَانَ الْعَقْدُ تَامًّا لَمْ يَقْتَضِ ثُبُوتَ الْفَسْخِ بِالْفِعْلِ أَلْبَتَّةَ فَهُوَ مُسَلَّمٌ، وَلَكِنَّ الْكَلَامَ فِي حَقِّ الْفَسْخِ لَا فِي ثُبُوتِ الْفَسْخِ بِالْفِعْلِ أَلْبَتَّةَ فَلَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ إذَا كَانَ الْعَقْدُ تَامًّا لَمْ يَقْتَضِ ثُبُوتَ حَقِّ الْفَسْخِ فَهُوَ مَمْنُوعٌ، أَلَا تَرَى أَنَّ عَقْدَ الْهِبَةِ يَتِمُّ بِالْقَبْضِ بَعْدَ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ وَمَعَ هَذَا يَقْتَضِي ثُبُوتَ حَقِّ الْفَسْخِ عِنْدَنَا بِمُوجِبِ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «الْوَاهِبُ أَحَقُّ بِهِبَتِهِ مَا لَمْ يُثَبْ مِنْهَا» وَلِفَوَاتِ الْمَقْصُودِ بِالْعَقْدِ عَادَةً عِنْدَ عَدَمِ التَّعْوِيضِ مِنْهَا كَمَا تَقَرَّرَ فِيمَا مَرَّ، فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ لِلْمُشْتَرِي أَيْضًا حَقُّ الْفَسْخِ عِنْدَ تَحَقُّقِ الْعَيْبِ بِنَاءً عَلَى فَوَاتِ مَقْصُودِهِ بِالْعَقْدِ وَهُوَ سَلَامَةُ الْمَبِيعِ. فَالْأَظْهَرُ فِي تَعْلِيلِ ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: لِأَنَّ الْبَيْعَ عَقْدٌ لَازِمٌ مِنْ الْمُعَاوَضَاتِ فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَقْتَضِيَ ثُبُوتَ حَقِّ الْفَسْخِ لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ لِكَوْنِ ذَلِكَ مُنَافِيًا لِلُّزُومِ الْعَقْدِ، بِخِلَافِ عَقْدِ الْهِبَةِ فَإِنَّهُ عَقْدُ
وَلَنَا أَنَّهُ اشْتَمَلَ عَلَى جِهَتَيْنِ فَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا مَا أَمْكَنَ عَمَلًا بِالشَّبَهَيْنِ، وَقَدْ أَمْكَنَ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ مِنْ حُكْمِهَا تَأَخُّرُ الْمِلْكِ إلَى الْقَبْضِ، وَقَدْ يَتَرَاخَى عَنْ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ وَالْبَيْعُ مِنْ حُكْمِهِ اللُّزُومُ، وَقَدْ تَنْقَلِبُ الْهِبَةُ لَازِمَةً بِالتَّعْوِيضِ فَجَمَعْنَا بَيْنَهُمَا، بِخِلَافِ بَيْعِ نَفْسِ الْعَبْدِ مِنْ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ الْبَيْعِ فِيهِ، إذْ هُوَ لَا يُصْلَحُ مَالِكًا لِنَفْسِهِ.
تَبَرُّعٍ غَيْرُ لَازِمٍ فَلَا يُنَافِيهِ ثُبُوتُ حَقِّ الْفَسْخِ لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ.
(قَوْلُهُ: وَلَنَا أَنَّهُ اشْتَمَلَ عَلَى جِهَتَيْنِ فَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا مَا أَمْكَنَ عَمَلًا بِالشَّبَهَيْنِ وَقَدْ أَمْكَنَ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي تَقْرِيرِ هَذَا الدَّلِيلِ: وَلَنَا أَنَّهُ اشْتَمَلَ عَلَى جِهَتَيْنِ: جِهَةِ الْهِبَةِ لَفْظًا، وَجِهَةِ الْبَيْعِ مَعْنًى وَأَمْكَنَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، وَكُلُّ مَا اشْتَمَلَ عَلَى جِهَتَيْنِ أَمْكَنَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا وَجَبَ إعْمَالُهُمَا؛ لِأَنَّ إعْمَالَ الشَّبَهَيْنِ وَلَوْ بِوَجْهٍ أَوْلَى مِنْ إعْمَالِ أَحَدِهِمَا انْتَهَى. أَقُولُ: فِيهِ مُنَاقَشَةٌ، وَهِيَ أَنَّ قَوْلَهُ؛ لِأَنَّ إعْمَالَ الشَّبَهَيْنِ وَلَوْ بِوَجْهٍ أَوْلَى مِنْ إعْمَالِ أَحَدِهِمَا يُفِيدُ أَوْلَوِيَّةَ إعْمَالِ الشَّبَهَيْنِ وَالْمُدَّعَى وُجُوبُ إعْمَالِهِمَا كَمَا تَرَى فَلَا تَقْرِيبَ، وَيُمْكِنُ دَفْعُهَا بِعِنَايَةٍ فَتَأَمَّلْ.
فَصْلٌ
قَالَ: (وَمَنْ وَهَبَ جَارِيَةً إلَّا حَمْلَهَا صَحَّتْ الْهِبَةُ وَبَطَلَ الِاسْتِثْنَاءُ)؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَا يَعْمَلُ إلَّا فِي مَحَلٍّ يَعْمَلُ فِيهِ الْعَقْدُ، وَالْهِبَةُ لَا تَعْمَلُ فِي الْحَمْلِ لِكَوْنِهِ وَصْفًا عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي الْبُيُوعِ فَانْقَلَبَ شَرْطًا فَاسِدًا، وَالْهِبَةُ لَا تَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ، وَهَذَا هُوَ الْحُكْمُ فِي النِّكَاحِ وَالْخُلْعِ وَالصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالرَّهْنِ؛ لِأَنَّهَا تَبْطُلُ بِهَا.
فَصْلٌ) لَمَّا كَانَتْ الْمَسَائِلُ الْمَذْكُورَةُ فِي هَذَا الْفَصْلِ مُتَعَلِّقَةً بِالْهِبَةِ بِنَوْعٍ مِنْ التَّعَلُّقِ وَصَارَتْ بِمَنْزِلَةِ مَسَائِلَ شَتَّى ذَكَرَهَا فِي فَصْلٍ عَلَى حِدَةٍ (قَوْلُهُ: وَمَنْ وَهَبَ جَارِيَةً إلَّا حَمْلَهَا صَحَّتْ الْهِبَةُ وَبَطَلَ الِاسْتِثْنَاءُ؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَا يَعْمَلُ إلَّا فِي مَحَلٍّ يَعْمَلُ فِيهِ الْعَقْدُ، وَالْهِبَةُ لَا تَعْمَلُ فِي الْحَمْلِ لِكَوْنِهِ وَصْفًا عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي الْبُيُوعِ فَانْقَلَبَ شَرْطًا فَاسِدًا، وَالْهِبَةُ لَا تَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ). تَوْضِيحُ هَذَا الدَّلِيلِ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَا يَعْمَلُ إلَّا فِي مَحَلٍّ يَعْمَلُ فِيهِ الْعَقْدُ، وَالْهِبَةُ لَا تَعْمَلُ فِي الْحَمْلِ؛ لِكَوْنِهِ وَصْفًا، وَالْعَقْدُ لَا يَرُدُّ عَلَى الْأَوْصَافِ مَقْصُودًا، حَتَّى لَوْ وَهَبَ الْحَمْلَ لِآخَرَ لَا يَصِحُّ، فَكَذَا إذَا اسْتَثْنَى عَلَى مَا مَرَّ فِي الْبُيُوعِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ الِاسْتِثْنَاءُ عَامِلًا انْقَلَبَ شَرْطًا فَاسِدًا؛ لِأَنَّ اسْمَ
وَلَوْ أَعْتَقَ مَا فِي بَطْنِهَا ثُمَّ وَهَبَهَا جَازَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ الْجَنِينُ عَلَى مِلْكِهِ فَأَشْبَهَ الِاسْتِثْنَاءَ، وَلَوْ دَبَّرَ مَا فِي بَطْنِهَا ثُمَّ وَهَبَهَا لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْحَمْلَ بَقِيَ عَلَى مِلْكِهِ فَلَمْ يَكُنْ شَبِيهَ الِاسْتِثْنَاءِ،
الْجَارِيَةِ يَتَنَاوَلُ الْحَمْلَ تَبَعًا لِكَوْنِهِ جُزْءًا مِنْهَا، فَلَمَّا اسْتَثْنَى الْحَمْلَ كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ مُخَالِفًا لِمُقْتَضَى الْعَقْدِ وَهُوَ مَعْنَى الشَّرْطِ الْفَاسِدِ، وَالْهِبَةُ لَا تَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِي بَابِ الْهِبَةِ مُعَلَّقٌ بِفِعْلٍ حِسِّيٍّ وَهُوَ الْقَبْضُ، وَالْقَبْضُ لَا يَفْسُدُ بِالشُّرُوطِ، وَإِنَّمَا تُؤَثِّرُ الشُّرُوطُ فِي الْعُقُودِ الشَّرْعِيَّةِ. هَذَا زُبْدَةُ مَا فِي الشُّرُوحِ.
وَذَكَرَ صَاحِبُ الْكِفَايَةِ دَلِيلًا آخَرَ عَلَى بُطْلَانِ الِاسْتِثْنَاءِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ مَا فِي الْكِتَابِ حَيْثُ قَالَ: وَلِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ تَصَرُّفٌ فِي اللَّفْظِ فَلَا يَعْمَلُ إلَّا فِي الْمَلْفُوظِ، وَالْحَمْلُ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَائِهَا فَيَكُونُ فِي حُكْمِ الْأَوْصَافِ، وَاللَّفْظُ يُرَدُّ عَلَى الذَّاتِ لَا عَلَى الْأَوْصَافِ فَلَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاؤُهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَلْفُوظٍ اهـ. أَقُولُ: فِيهِ بَحْثٌ، إذْ لَوْ صَحَّ هَذَا الدَّلِيلُ لَدَلَّ عَلَى بُطْلَانِ اسْتِثْنَاءِ الْحَمْلِ فِي الْوَصِيَّةِ أَيْضًا لِجَرَيَانِهِ فِيهِ بِعَيْنِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ قَطْعًا عَلَى مَا صَرَّحُوا بِهِ قَاطِبَةً، وَسَيَأْتِي فِي وَصَايَا هَذَا الْكِتَابِ أَنَّ مَنْ أَوْصَى بِجَارِيَةٍ إلَّا حَمْلَهَا صَحَّتْ الْوَصِيَّةُ، وَالِاسْتِثْنَاءُ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْجَارِيَةِ لَا يَتَنَاوَلُ الْحَمْلَ لَفْظًا وَلَكِنَّهُ يَسْتَحِقُّ بِالْإِطْلَاقِ تَبَعًا، فَإِذَا أَفْرَدَ الْأُمَّ بِالْوَصِيَّةِ صَحَّ إفْرَادُهَا؛ وَلِأَنَّهُ يَصِحُّ إفْرَادُ الْحَمْلِ بِالْوَصِيَّةِ فَجَازَ اسْتِثْنَاؤُهُ مِنْهُ. اهـ. وَقَالَ فِي الْكَافِي هُنَاكَ: فَإِنْ قِيلَ: إذَا لَمْ يَتَنَاوَلْهُ اللَّفْظُ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَصِحَّ الِاسْتِثْنَاءُ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي الْمَلْفُوظِ. قُلْنَا: يَكْفِي لِصِحَّةِ التَّزَيِّي بِزِيِّهِ كَمَا فِي اسْتِثْنَاءِ إبْلِيسَ، عَلَى أَنَّ صِحَّتَهُ لَا تَفْتَقِرُ إلَى التَّنَاوُلِ اللَّفْظِيِّ بِدَلِيلِ صِحَّةِ اسْتِثْنَاءِ قَفِيزِ حِنْطَةٍ مِنْ أَلْفِ دِرْهَمٍ. اهـ. فَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ مَا فِي الْكِفَايَةِ هَاهُنَا، وَطُولِبَ بِالْفَرْقِ هَاهُنَا بَيْنَ الْحَمْلِ وَبَيْنَ الصُّوفِ عَلَى ظَهْرِ الْغَنَمِ، وَاللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ، فَإِنَّهُ إذَا وَهَبَ لِرَجُلٍ عَلَى ظَهْرِ الْغَنَمِ مِنْ الصُّوفِ أَوْ مَا فِي الضَّرْعِ مِنْ اللَّبَنِ وَأَمَرَهُ بِجَزِّ الصُّوفِ وَحَلْبِ اللَّبَنِ، وَقَبَضَ الْمَوْهُوبُ لَهُ ذَلِكَ فَإِنَّهُ جَائِزٌ لَهُ اسْتِحْسَانًا، وَفِي الْحَمْلِ لَا يَجُوزُ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ مَا فِي الْبَطْنِ لَيْسَ بِمَالٍ أَصْلًا وَلَا يُعْلَمُ وُجُودُهُ حَقِيقَةً. بِخِلَافِ الصُّوفِ وَاللَّبَنِ، وَبِأَنَّ إخْرَاجَ الْوَلَدِ مِنْ الْبَطْنِ لَيْسَ إلَيْهِ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَجْعَلَ فِي ذَلِكَ نَائِبًا عَنْ الْوَاهِبِ، بِخِلَافِ الْجِزَازِ فِي الصُّوفِ، وَالْحَلْبِ فِي اللَّبَنِ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ، وَعَزَاهُ فِي النِّهَايَةِ إلَى الْمَبْسُوطِ. أَقُولُ: فِي كُلٍّ مِنْ وَجْهَيْ الْجَوَابِ الْمَذْكُورِ نَظَرٌ. أَمَّا فِي وَجْهِهِ الْأَوَّلِ فَلِأَنَّ مَا فِي الْبَطْنِ لَوْ لَمْ يَكُنْ مَالًا أَصْلًا، وَلَمْ يُعْلَمْ وُجُودُهُ حَقِيقَةً لَمَا صَحَّ إعْتَاقُهُ وَتَدْبِيرُهُ وَإِيصَاؤُهُ، وَقَدْ صَحَّ كُلٌّ مِنْهَا عَلَى مَا نَصُّوا عَلَيْهِ فِي مَوَاضِعِهِ، وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْأَوَّلَيْنِ أَيْضًا الْمَسْأَلَتَانِ الْآتِيَتَانِ هَاهُنَا، وَهُمَا قَوْلُهُ: وَلَوْ أَعْتَقَ مَا فِي بَطْنِهَا ثُمَّ وَهَبَهَا جَازَ، وَقَوْلُهُ وَلَوْ دَبَّرَ مَا فِي بَطْنِهَا ثُمَّ وَهَبَهَا لَمْ يَجُزْ. وَأَمَّا فِي وَجْهِهِ الثَّانِي فَلِأَنَّ كَوْنَ إخْرَاجِ الْوَلَدِ لَيْسَ إلَيْهِ إنَّمَا يَقْتَضِي عَدَمَ صِحَّةِ الْهِبَةِ فِيمَا إذَا أَمَرَهُ الْوَاهِبُ بِقَبْضِ الْحَمْلِ فِي الْحَالِ، وَأَمَّا فِيمَا إذَا أَمَرَهُ الْوَاهِبُ بِقَبْضِهِ بَعْدَ الْوِلَادَةِ فَلَا، إذْ يُمْكِنُ لَهُ حِينَئِذٍ أَنْ يَقْبِضَهُ بَعْدَ الْوِلَادَةِ أَصَالَةً بِدُونِ النِّيَابَةِ عَنْ الْوَاهِبِ، وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ السِّرُّ فِي أَنْ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إنْ أَمَرَهُ فِي الْحَمْلِ بِقَبْضِهِ بَعْدَ الْوِلَادَةِ فَقَبَضَ يَجُوزُ اسْتِحْسَانًا كَمَا فِي الصُّوفِ، وَاللَّبَنِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ فِي أَوَّلِ الْجَوَابِ الْمَذْكُورِ.
وَقَالَ: وَلَكِنَّ الْأَصَحَّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي الْحَمْلِ أَصْلًا؛ لِأَنَّ مَا فِي الْبَطْنِ لَيْسَ بِمَالٍ إلَخْ. ثُمَّ أَقُولُ: عَلَى فَرْضِ أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ الْمَذْكُورُ بِوَجْهَيْهِ سَالِمًا عَمَّا ذَكَرْنَاهُ لَا يَنْدَفِعُ بِهِ السُّؤَالُ الْمَزْبُورُ؛ لِأَنَّ مَوْرِدَ ذَلِكَ السُّؤَالِ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ، وَالْهِبَةُ لَا تَعْمَلُ فِي الْحَمْلِ لِكَوْنِهِ وَصْفًا عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي الْبُيُوعِ. وَحَاصِلُهُ أَنَّ الصُّوفَ عَلَى ظَهْرِ الْغَنَمِ، وَاللَّبَنَ فِي الضَّرْعِ أَيْضًا مِنْ أَوْصَافِ الْحَيَوَانِ كَالْحَمْلِ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي بَابِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ، فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْحَمْلِ وَبَيْنَ الصُّوفِ، وَاللَّبَنِ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ حَتَّى تَصِحَّ الْهِبَةُ فِيمَا دُونَ الْحَمْلِ، وَالْجَوَابُ الْمَذْكُورُ إنَّمَا يُفِيدُ الْفَرْقَ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ مِنْ حَيْثِيَّةٍ أُخْرَى، وَذَا لَا يُجْدِي شَيْئًا يَنْدَفِعُ بِهِ مُطَالَبَةُ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا مِنْ الْحَيْثِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْكِتَابِ فَلَا يَتِمُّ الْمَطْلُوبُ.
وَلَا يُمْكِنُ تَنْفِيذُ الْهِبَةِ فِيهِ لِمَكَانِ التَّدْبِيرِ فَبَقِيَ هِبَةُ الْمُشَاعِ أَوْ هِبَةُ شَيْءٍ هُوَ مَشْغُولٌ بِمِلْكِ الْمَالِكِ. قَالَ: (فَإِنْ وَهَبَهَا لَهُ عَلَى أَنْ يَرُدَّهَا عَلَيْهِ أَوْ عَلَى أَنْ يَعْتِقَهَا أَوْ أَنْ يَتَّخِذَهَا أُمَّ وَلَدٍ أَوْ وَهَبَ دَارًا أَوْ تَصَدَّقَ عَلَيْهِ بِدَارٍ عَلَى أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ شَيْئًا مِنْهَا أَوْ يُعَوِّضَهُ شَيْئًا مِنْهَا فَالْهِبَةُ جَائِزَةٌ وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ).
لِأَنَّ هَذِهِ الشُّرُوطَ تُخَالِفُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ فَكَانَتْ فَاسِدَةً، وَالْهِبَةُ لَا تَبْطُلُ بِهَا، أَلَا تَرَى «أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام أَجَازَ الْعُمْرَى وَأَبْطَلَ شَرْطَ الْمُعَمِّرِ» بِخِلَافِ
قَوْلُهُ: وَلَا يُمْكِنُ تَنْفِيذُ الْهِبَةِ فِيهِ لِمَكَانِ التَّدْبِيرِ فَبَقِيَ هِبَةُ الْمُشَاعِ أَوْ هِبَةُ شَيْءٍ هُوَ مَشْغُولٌ بِمِلْكِ الْمَالِكِ) فَإِنْ قِيلَ: هَبْ أَنَّهَا هِبَةُ مُشَاعٍ لَكِنَّهَا فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ وَهِيَ جَائِزَةٌ. أُجِيبَ بِأَنَّ عَرْضِيَّةَ الِانْفِصَالِ فِي ثَانِي الْحَالِ ثَابِتَةٌ لَا مَحَالَةَ فَأُنْزِلَ مُنْفَصِلًا فِي الْحَالِ مَعَ أَنَّ الْجَنِينَ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ مِلْكِ الْوَاهِبِ فَكَانَ فِي حُكْمٍ مُشَاعٍ يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ أَخْذًا مِنْ النِّهَايَةِ أَقُولُ: لَيْسَ الْجَوَابُ بِسَدِيدٍ، أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُ لَوْ جَعَلَ الْحَمْلَ مُفَصَّلًا فِي الْحَالِ بِنَاءً عَلَى كَوْنِهِ فِي عَرْضِيَّةِ الِانْفِصَالِ فِي ثَانِي الْحَالِ كَانَ فِي حُكْمِ الْمُفْرَزِ الْمَقْسُومِ لَا فِي حُكْمِ الْمُشَاعِ الْمُحْتَمِلِ لِلْقِسْمَةِ فَكَانَ أَوْلَى بِجَوَازِ هِبَتِهِ فَلَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ. وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ خُرُوجِ الْجَنِينِ عَنْ مِلْكِ الْوَاهِبِ كَوْنُهُ فِي حُكْمٍ مُشَاعٍ يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ احْتِمَالَ الْقِسْمَةِ وَعَدَمَ احْتِمَالِهَا لَا يَدُورَانِ عَلَى الدُّخُولِ فِي الْمِلْكِ، وَالْخُرُوجِ عَنْهُ بَلْ عَلَى عَدَمِ إضْرَارِ التَّبْعِيضِ، وَإِضْرَارُهُ كَمَا عُرِفَ فِيمَا مَرَّ، فَلَمْ يَتِمَّ قَوْلُهُ: فَكَانَ فِي حُكْمٍ مُشَاعٍ يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ.
نَعَمْ يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ خُرُوجِ الْجَنِينِ عَنْ مِلْكِ الْوَاهِبِ كَوْنُ الْجَارِيَةِ الْمَوْهُوبَةِ مَشْغُولَةً بِمِلْكِهِ كَمَا فِي هِبَةِ الْجَوَالِقِ الَّذِي فِيهِ طَعَامُ الْوَاهِبِ، وَلَكِنَّهُ أَمْرٌ وَرَاءَ احْتِمَالِ الْقِسْمَةِ. فَإِنْ قُلْتَ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ فَكَانَ فِي حُكْمٍ مُشَاعٍ يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ فَكَانَ مِنْ قَبِيلِ هِبَةٍ مَشْغُولَةٍ بِمِلْكِ الْوَاهِبِ لَا أَنَّهُ كَانَ مُشَاعًا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ حَقِيقَةً، وَلِهَذَا قَالَ: فَكَانَ فِي حُكْمٍ مُشَاعٍ يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ وَلَمْ يَقُلْ فَكَانَ مُشَاعًا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ، وَيُرْشِدُ إلَيْهِ أَنَّ صَاحِبَ النِّهَايَةِ قَالَ بَعْدَ قَوْلِهِ فَكَانَ فِي حُكْمٍ مُشَاعٍ يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ كَمَا فِي هِبَةِ الْجَوَالِقِ وَفِيهِ طَعَامُ الْوَاهِبِ لَمْ تَصِحَّ الْهِبَةُ؛ لِأَنَّ هِبَةَ مَا هُوَ مَشْغُولٌ بِمِلْكِ الْوَاهِبِ بِمَنْزِلَةِ الشُّيُوعِ فِي الْهِبَةِ حُكْمًا لِوُجُودِ اخْتِلَاطِ الْمِلْكِ فِي الصُّورَتَيْنِ جَمِيعًا. انْتَهَى. قُلْتُ: مَوْرِدُ أَصْلِ السُّؤَالِ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ فَبَقِيَ هِبَةُ الْمُشَاعِ لَا قَوْلُهُ: أَوْ هِبَةُ شَيْءٍ هُوَ مَشْغُولٌ بِمِلْكِ الْوَاهِبِ، وَمَا ذَكَرْتَهُ إنَّمَا يَصْلُحُ تَوْجِيهًا لِلثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ فَلَا يَتِمُّ الْجَوَابُ، تَأَمَّلْ تَقِفْ.
ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ الْعِنَايَةِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ السُّؤَالَ، وَالْجَوَابَ الْمَزْبُورَيْنِ قَالَ: وَكَأَنَّ الْمُصَنِّفَ لَمَّا اسْتَشْعَرَ هَذَا السُّؤَالَ أَرْدَفَهُ بِقَوْلِهِ أَوْ هِبَةُ شَيْءٍ مَشْغُولٍ بِمِلْكِ الْوَاهِبِ فَهُوَ كَمَا إذَا وَهَبَ الْجَوَالِقَ، وَفِيهِ طَعَامُ الْوَاهِبِ وَذَلِكَ لَا يَصِحُّ كَهِبَةِ الْمُشَاعِ الْحَقِيقِيِّ. انْتَهَى. أَقُولُ: فِيهِ رَكَاكَةٌ ظَاهِرَةٌ؛ لِأَنَّ الْجَوَابَ الْمَزْبُورَ إنْ كَانَ مَقْبُولًا عِنْدَهُ فَاسْتِشْعَارُ السُّؤَالِ الْمَسْفُورِ لَا يَقْتَضِي إرْدَافَ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ بِشَيْءٍ آخَرَ لِكَوْنِ ذَلِكَ السُّؤَالِ مُنْدَفِعًا عَنْ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ غَيْرَ وَارِدٍ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَرْضِيًّا عِنْدَهُ كَانَ عَلَيْهِ بَيَانُ خَلَلِهِ وَلَمْ يُبَيِّنْهُ قَطُّ (قَوْلُهُ: أَوْ وَهَبَ دَارًا أَوْ تَصَدَّقَ عَلَيْهِ بِدَارٍ عَلَى أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ شَيْئًا مِنْهَا أَوْ يُعَوِّضَهُ شَيْئًا مِنْهَا فَالْهِبَةُ جَائِزَةٌ، وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: هَذَا عَلَى طَرِيقِ اللَّفِّ، وَالنَّشْرِ وَإِلَّا
الْبَيْعِ «؛ لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام نَهَى عَنْ بَيْعٍ وَشَرْطٍ» وَلِأَنَّ الشَّرْطَ الْفَاسِدَ فِي مَعْنَى الرِّبَا، وَهُوَ يَعْمَلُ فِي الْمُعَاوَضَاتِ دُونَ التَّبَرُّعَاتِ.
قَالَ: (وَمَنْ لَهُ عَلَى آخَرَ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَقَالَ إذَا جَاءَ غَدٌ فَهِيَ لَك أَوْ أَنْتَ مِنْهَا بَرِيءٌ. أَوْ قَالَ: إذَا أَدَّيْتَ إلَيَّ النِّصْفَ فَلَكَ نِصْفُهُ أَوْ أَنْتَ بَرِيءٌ مِنْ النِّصْفِ الْبَاقِي فَهُوَ بَاطِلٌ)؛ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ تَمْلِيكٌ مِنْ وَجْهٍ إسْقَاطٌ مِنْ وَجْهٍ، وَهِبَةُ الدَّيْنِ مِمَّنْ عَلَيْهِ إبْرَاءٌ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ مَالٌ مِنْ وَجْهٍ وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ كَانَ تَمْلِيكًا،
لَا يَصِحُّ: أَعْنِي أَنَّ قَوْلَهُ عَلَى أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ شَيْئًا مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ أَوْ وَهَبَ لَهُ دَارًا، وَقَوْلُهُ أَوْ يُعَوِّضَهُ شَيْئًا مِنْهَا مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ أَوْ تَصَدَّقَ عَلَيْهِ بِدَارٍ، وَإِنَّمَا قُلْنَا هَذَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَصَلَ قَوْلَهُ أَوْ يُعَوِّضَهُ شَيْئًا مِنْهَا بِقَوْلِهِ أَوْ وَهَبَ دَارًا كَانَ هِبَةً بِشَرْطِ الْعِوَضِ، وَالْهِبَةُ بِشَرْطِ الْعِوَضِ صَحِيحٌ كَمَا مَرَّ، وَإِنَّمَا لَا يَصِحُّ اشْتِرَاطُ الْعِوَضِ فِي الصَّدَقَةِ لَا فِي الْهِبَةِ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ أَنْ لَوْ كَانَ اشْتِرَاطُ التَّعْوِيضِ مَوْصُولًا بِقَوْلِهِ أَوْ تَصَدَّقَ عَلَيْهِ بِدَارٍ، اللَّهُمَّ إلَّا إنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ أَوْ يُعَوِّضَهُ شَيْئًا مِنْهَا أَنْ يَرُدَّ بَعْضَ الدَّارِ الْمَوْهُوبَةِ عَلَى الْوَاهِبِ بِطَرِيقِ الْعِوَضِ لِكُلِّ الدَّارِ، فَيَصِحُّ حِينَئِذٍ صَرْفُ قَوْلِهِ أَوْ يُعَوِّضَهُ شَيْئًا مِنْهَا إلَى قَوْلِهِ: وَإِذَا وَهَبَ دَارًا إلَّا أَنَّهُ يَلْزَمُ التَّكْرَارُ الْمَحْضُ مِنْ غَيْرِ فَائِدَةِ شَيْءٍ بِقَوْلِهِ عَلَى أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ شَيْئًا مِنْهَا. انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَقَدْ اقْتَفَى أَثَرَهُ صَاحِبُ مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ كَمَا هُوَ دَأَبُهُ فِي أَكْثَرِ الْمَوَاضِعِ. أَقُولُ: فِي تَحْرِيرِهِمَا قُصُورٌ إذْ لَا يَذْهَبُ عَلَى ذِي فِطْرَةٍ سَلِيمَةٍ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ أَوْ يُعَوِّضَهُ شَيْئًا مِنْهَا سِيَّمَا بَعْدَ قَوْلِهِ عَلَى أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ شَيْئًا مِنْهَا إنَّمَا هُوَ أَنْ يَرُدَّ بَعْضَ الدَّارِ الْمَوْهُوبَةِ عَلَى الْوَاهِبِ بِطَرِيقِ الْعِوَضِ عَنْ كُلِّ الدَّارِ، وَالْمَعْنَى الْآخَرُ مِمَّا لَا يُسَاعِدُهُ اللَّفْظُ إلَّا بِتَعَسُّفٍ بَعِيدٍ، وَهُوَ أَنْ يَرْجِعَ ضَمِيرُ مِنْهَا فِي قَوْلِهِ أَوْ يُعَوِّضَهُ شَيْئًا مِنْهَا إلَى مَا هُوَ غَيْرُ مَذْكُورٍ هَاهُنَا أَصْلًا كَلَفْظِ الْأَعْوَاضِ فَيَصِيرُ الْمَعْنَى أَوْ يُعَوِّضَهُ شَيْئًا مِنْ الْأَعْوَاضِ لَا مِنْ الدَّارِ، فَاسْتِبْعَادُ إرَادَةِ الْمَعْنَى الْأَوَّلِ كَمَا يُشْعِرُ بِهِ لَفْظَةُ اللَّهُمَّ إلَّا إنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ أَوْ يُعَوِّضَهُ شَيْئًا مِنْهَا أَنْ يَرُدَّ بَعْضَ الدَّارِ الْمَوْهُوبَةِ عَلَى الْوَاهِبِ بِطَرِيقِ الْعِوَضِ لِكُلِّ الدَّارِ مِمَّا لَا يَنْبَغِي بِالنَّظَرِ إلَى نَفْسِ عِبَارَةِ الْكِتَابِ. ثُمَّ إنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مِنْ مَسَائِلِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَلَفْظُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَطْعِيٌّ فِي الْمَعْنَى الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ قَالَ فِيهِ مُحَمَّدٌ عَنْ يَعْقُوبَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الرَّجُلِ يَهَبُ لِلرَّجُلِ هِبَةً أَوْ يَتَصَدَّقُ عَلَيْهِ بِصَدَقَةٍ عَلَى أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ ثُلُثَهَا أَوْ رُبُعَهَا أَوْ بَعْضَهَا أَوْ يُعَوِّضَهُ ثُلُثَهَا أَوْ رُبُعَهَا قَالَ: الْهِبَةُ جَائِزَةٌ وَلَا يَرُدُّ عَلَيْهِ وَلَا يُعَوِّضُهُ شَيْئًا مِنْهَا، إلَى هُنَا لَفْظُهُ.
وَلَا شَكَّ أَنَّ ثُلُثَ الدَّارِ أَوْ رُبُعَهَا بَعْضٌ مِنْهَا، فَاسْتِبْعَادُ إرَادَةِ ذَلِكَ الْمَعْنَى بَلْ تَجْوِيزُ إرَادَةِ مَعْنًى آخَرَ بِالنَّظَرِ إلَى لَفْظِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ الَّذِي هُوَ مَأْخَذُ عِبَارَةِ الْكِتَابِ خَطَأٌ ظَاهِرٌ، لَكِنْ بَقِيَ لُزُومُ التَّكْرَارِ وَسَنَذْكُرُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ، وَكَأَنَّ الْإِمَامَ الزَّيْلَعِيَّ تَنَبَّهَ لِسَمَاجَةِ الِاسْتِبْعَادِ الَّذِي يُشْعِرُ بِهِ لَفْظَةُ اللَّهُمَّ الْوَاقِعَةُ فِي كَلَامِ الشَّارِحَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ حَيْثُ غَيَّرَ فِي شَرْحِ الْكَنْزِ أُسْلُوبَ تَحْرِيرِهِمَا فَقَالَ وَقَوْلُهُ أَوْ يُعَوِّضَهُ شَيْئًا مِنْهَا فِيهِ إشْكَالٌ، فَإِنَّهُ إنْ أَرَادَ بِهِ الْهِبَةَ بِشَرْطِ الْعِوَضِ فَهِيَ، وَالشَّرْطُ جَائِزَانِ فَلَا يَسْتَقِيمُ قَوْلُهُ: بَطَلَ الشَّرْطُ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ أَنْ يُعَوِّضَهُ عَنْهَا شَيْئًا مِنْ الْعَيْنِ الْمَوْهُوبَةِ فَهُوَ تَكْرَارٌ مَحْضٌ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ عَلَى أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ شَيْئًا مِنْهَا. انْتَهَى كَلَامُهُ.
أَقُولُ: وَلَوْ اطَّلَعَ عَلَى أَصْلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَهُوَ مَا ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لَتَرَكَ التَّرْدِيدَ أَيْضًا، بَلْ قَصَرَ عَلَى الشِّقِّ الثَّانِي لِكَوْنِ ذَلِكَ نَصًّا فِي هَذَا الشِّقِّ كَمَا نَبَّهْتُ عَلَيْهِ آنِفًا. ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ الْعِنَايَةِ كَأَنَّهُ قَدْ اطَّلَعَ عَلَى أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ أَيْضًا حَيْثُ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِلشِّقِّ الْأَوَّلِ أَصْلًا، بَلْ سَاقَ كَلَامَهُ عَلَى أَنْ يَتَقَرَّرَ الشِّقُّ الثَّانِي وَلَا يَلْزَمُ التَّكْرَارُ فَقَالَ: وَلَا يُتَوَهَّمُ التَّكْرَارُ فِي قَوْلِهِ عَلَى أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ شَيْئًا مِنْهَا أَوْ يُعَوِّضَهُ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ عَلَيْهِ
وَوَصْفٌ مِنْ وَجْهٍ وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ كَانَ إسْقَاطًا، وَلِهَذَا قُلْنَا: إنَّهُ يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ، وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَبُولِ.
لَا يَسْتَلْزِمُ كَوْنَهُ عِوَضًا، فَإِنَّ كَوْنُهُ عِوَضًا إنَّمَا هُوَ بِأَلْفَاظٍ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا انْتَهَى. أَقُولُ: فِيمَا قَالَهُ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَسْتَلْزِمْ التَّعْوِيضَ أَلْبَتَّةَ وَلَمْ يَخْتَصَّ بِهِ إلَّا أَنَّهُ يَشْمَلُ ذَلِكَ وَيَعُمُّهُ، إذْ يَصْدُقُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مِنْ الدَّارِ الْمَوْهُوبَةِ أَعْطَاهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ الْوَاهِبَ عِوَضًا عَنْ كُلِّ الدَّارِ أَنَّهُ مَرْدُودٌ عَلَى الْوَاهِبِ، فَكَانَ قَوْلُهُ: عَلَى أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ شَيْئًا مِنْهَا مُغْنِيًا عَنْ قَوْلِهِ أَوْ يُعَوِّضَهُ شَيْئًا مِنْهَا فَلَمْ يَكُنْ فِي ذِكْرِ الثَّانِي فَائِدَةٌ، وَهَذَا مُرَادُ مَنْ ادَّعَى لُزُومَ التَّكْرَارِ عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِ قَوْلِهِ أَوْ يُعَوِّضَهُ شَيْئًا مِنْهَا مَصْرُوفًا أَيْضًا إلَى الْهِبَةِ دُونَ التَّصَدُّقِ، وَلَيْسَ مُرَادُهُ ادِّعَاءَ لُزُومِ الِاتِّحَادِ فِي الْمَفْهُومِ أَوْ فِي الصِّدْقِ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ الْمَزْبُورَيْنِ عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ حَتَّى يُفِيدَ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ.
قَالَ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ فِي شَرْحِ الْوِقَايَةِ فِي هَذَا الْمَقَامِ: رَأَيْتُ فِي بَعْضِ الْحَوَاشِي أَنَّ قَوْلَهُ أَوْ يُعَوِّضَهُ شَيْئًا مِنْهَا يَرْجِعُ إلَى التَّصَدُّقِ، فَإِنَّهُ إذَا تَصَدَّقَ بِشَرْطِ الْعِوَضِ بَطَلَ الشَّرْطُ، وَإِذَا وَهَبَ بِشَرْطِ الْعِوَضِ فَالشَّرْطُ صَحِيحٌ. أَقُولُ: إذَا وَهَبَ بِشَرْطِ أَنْ يُعَوِّضَ شَيْئًا فَالشَّرْطُ بَاطِلٌ، وَشَرْطُ الْعِوَضِ إنَّمَا يَصِحُّ إذَا كَانَ مَعْلُومًا، فَعُلِمَ أَنَّ قَوْلَهُ أَوْ يُعَوِّضَهُ يَرْجِعُ إلَى الْهِبَةِ، وَالصَّدَقَةِ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ. وَأَقُولُ: التَّوْجِيهُ الَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ خِلَافُ مَا أَرَادَهُ وَاضِعُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَإِنَّ وَاضِعَهَا الْإِمَامُ مُحَمَّدٌ رحمه الله وَمَوْضِعُهَا الْجَامِعُ الصَّغِيرُ وَلَفْظُهُ فِيهِ: أَوْ يُعَوِّضَهُ ثُلُثَهَا أَوْ رُبُعَهَا، وَلَا يَخْفَى أَنَّ ثُلُثَ الدَّارِ أَوْ رُبُعَهَا أَمْرٌ مُعَيَّنٌ مَعْلُومٌ، فَكَانَ وَضْعُ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا إذَا كَانَ الْعِوَضُ مَعْلُومًا، إلَّا أَنَّ مَشَايِخَنَا الْمُصَنِّفِينَ لَمَّا قَصَدُوا الْإِجْمَالَ غَيَّرُوا عِبَارَةَ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَقَالُوا: أَوْ يُعَوِّضَهُ شَيْئًا مِنْهَا، فَلَفْظُ شَيْئًا مِنْ كَلَامِهِمْ لَا مِنْ كَلَامِ الْوَاهِبِ حَتَّى يُتَوَهَّمَ اشْتِرَاطُ الْعِوَضِ الْمَجْهُولِ.
ثُمَّ إنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ رَدَّ عَلَى صَدْرِ الشَّرِيعَةِ بِوَجْهٍ آخَرَ حَيْثُ قَالَ: فِيهِ كَلَامٌ، وَهُوَ أَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّهُ إذَا وَهَبَ بِشَرْطِ أَنْ يُعَوِّضَهُ شَيْئًا مُعَيَّنًا مِنْ الْمَوْهُوبِ يَصِحُّ الشَّرْطُ؛ لِأَنَّ الْعِوَضَ مَعْلُومٌ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ، إذْ قَدْ صَرَّحَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ بِأَنَّهُ إذَا وَهَبَ دَارًا أَوْ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ بِشَرْطِ أَنْ يُعَوِّضَهُ بَيْتًا مُعَيَّنًا مِنْهَا أَوْ دِرْهَمًا وَاحِدًا مِنْ تِلْكَ الدَّرَاهِمِ تَصِحُّ الْهِبَةُ، وَالشَّرْطُ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ بَعْضَ الْهِبَةِ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عِوَضًا وَلِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِعَ فِي هِبَتِهِ لِانْعِدَامِ الْعِوَضِ. وَقَالَ ذَلِكَ الْبَعْضُ: وَمِنْ هَذَا يَظْهَرُ فَسَادُ مَا فِي بَعْضِ الْحَوَاشِي أَيْضًا كَمَا لَا يَخْفَى انْتَهَى. أَقُولُ: كَلَامُهُ نَاشِئٌ مِنْ عَدَمِ تَحْقِيقِ الْمَقَامِ وَفَهْمِ الْمُرَادِ، فَإِنَّ مَدَارَ مَا رَآهُ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ فِي بَعْضِ الْحَوَاشِي وَمَا ذَكَرَهُ نَفْسُهُ فِي رَدِّ ذَلِكَ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالتَّعْوِيضِ فِي قَوْلِهِ أَوْ يُعَوِّضَهُ شَيْئًا مِنْهَا هُوَ التَّعْوِيضُ بِعِوَضٍ خَارِجٍ عَنْ الْعَيْنِ الْمَوْهُوبَةِ، فَالْمَفْهُومُ مِمَّا ذَكَرَهُ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ وَمِمَّا ذُكِرَ فِي بَعْضِ الْحَوَاشِي إنَّمَا هُوَ كَوْنُ شَرْطِ الْعِوَضِ الْمُعَيَّنِ الْخَارِجِ عَنْ الْعَيْنِ الْمَوْهُوبَةِ صَحِيحًا، وَالْأَمْرُ كَذَلِكَ بِلَا رَيْبٍ.
وَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ بَلْ فِي عَامَّةِ الْمُعْتَبَرَاتِ هُوَ أَنَّهُ إذَا شَرَطَ الْوَاهِبُ أَنْ يُعَوِّضَهُ بَعْضًا مِنْ الْعَيْنِ الْمَوْهُوبَةِ تَصِحُّ الْهِبَةُ وَيَفْسُدُ الشَّرْطُ، وَهَذَا أَيْضًا أَمْرٌ مُقَرَّرٌ إلَّا عِنْدَ زُفَرَ، وَلَكِنَّ كَوْنَ الشَّرْطِ صَحِيحًا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لَيْسَ بِمَفْهُومٍ مِمَّا ذَكَرَهُ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ وَلَا مِمَّا ذُكِرَ فِي بَعْضِ الْحَوَاشِي، فَلَا يَرُدُّ عَلَيْهِمَا مَا تَوَهَّمَهُ ذَلِكَ الْبَعْضُ. نَعَمْ يَرُدُّ عَلَى مَدَارِهِمَا أَنَّهُ مِمَّا لَا يُسَاعِدُهُ اللَّفْظُ أَصْلًا فِي أَصْلِ وَضْعِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَمَا نَبَّهْتُ عَلَيْهِ فِيمَا مَرَّ وَلَكِنَّهُ كَلَامٌ آخَرُ فَلْيُتَأَمَّلْ جِدًّا، فَإِنَّ تَحْقِيقَ هَذَا الْمَقَامِ عَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ، وَالتَّدْقِيقَ فِيمَا صَدَرَ عَنْ الْقَوْمِ مِنْ
وَالتَّعْلِيقُ بِالشُّرُوطِ يَخْتَصُّ بِالْإِسْقَاطَاتِ الْمَحْضَةِ الَّتِي يُحْلَفُ بِهَا كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ فَلَا يَتَعَدَّاهَا.
قَالَ: (وَالْعُمْرَى جَائِزَةٌ لِلْمُعَمَّرِ لَهُ حَالَ حَيَاتِهِ وَلِوَرَثَتِهِ مِنْ بَعْدِهِ) لِمَا رَوَيْنَا. وَمَعْنَاهُ أَنْ يَجْعَلَ دَارِهِ لَهُ عُمُرَهُ. وَإِذَا مَاتَ تُرَدُّ عَلَيْهِ فَيَصِحُّ التَّمْلِيكُ، وَيَبْطُلُ الشَّرْطُ لِمَا رَوَيْنَا وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْهِبَةَ لَا تَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ (وَالرُّقْبَى بَاطِلَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: جَائِزَةٌ)؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ دَارِي لَك تَمْلِيكٌ. وَقَوْلُهُ رُقْبَى شَرْطٌ فَاسِدٌ كَالْعُمْرَى. وَلَهُمَا «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام أَجَازَ الْعُمْرَى وَرَدَّ الرُّقْبَى» وَلِأَنَّ مَعْنَى الرُّقْبَى عِنْدَهُمَا إنْ مِتَّ قَبْلَكَ فَهُوَ لَكَ، وَاللَّفْظُ مِنْ الْمُرَاقَبَةِ كَأَنَّهُ يُرَاقِبُ مَوْتَهُ، وَهَذَا تَعْلِيقُ التَّمْلِيكِ بِالْخَطَرِ فَبَطَلَ. وَإِذَا لَمْ تَصِحَّ تَكُونُ عَارِيَّةً عِنْدَهُمَا؛ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ إطْلَاقَ الِانْتِفَاعِ بِهِ.
الْأَقْوَالِ مِمَّا لَمْ أُسْبَقْ إلَيْهِ، فَأَشْكُرُ اللَّهَ تَعَالَى وَأَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ.
(قَوْلُهُ: وَالتَّعْلِيقُ بِالشُّرُوطِ يَخْتَصُّ بِالْإِسْقَاطَاتِ الْمَحْضَةِ الَّتِي يُحْلَفُ بِهَا) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: هَذَا إشَارَةٌ إلَى أَنَّ مِنْ الْإِسْقَاطَاتِ الْمَحْضَةِ مَا لَا يُحْلَفُ بِهَا كَالْحَجْرِ عَلَى الْمَأْذُونِ وَعَزْلِ الْوَكِيلِ، وَالْإِبْرَاءِ عَنْ الدَّيْنِ مِنْهَا اهـ. أَقُولُ: فِي قَوْلِهِ: وَالْإِبْرَاءِ عَنْ الدَّيْنِ مِنْهَا خَبْطٌ ظَاهِرٌ، إذْ قَدْ مَرَّ آنِفًا أَنَّ الْإِبْرَاءَ تَمْلِيكٌ مِنْ وَجْهٍ إسْقَاطٌ مِنْ وَجْهٍ. فَكَيْفَ يَكُونُ مِنْ الْإِسْقَاطَاتِ الْمَحْضَةِ فَكَأَنَّهُ غَفَلَ عَنْ قَيْدِ الْمَحْضَةِ، وَهَذَا عَجِيبٌ مِنْهُ.
(قَوْلُهُ: وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ جَائِزَةٌ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ دَارِي لَك تَمْلِيكٌ وَقَوْلُهُ رُقْبَى شَرْطٌ فَاسِدٌ كَالْعُمْرَى) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ: وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ جَائِزَةٌ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ دَارِي لَك هِبَةً وَقَوْلُهُ رُقْبَى شَرْطٌ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ تَعْلِيقٌ بِالْخَطَرِ إنْ كَانَ الرُّقْبَى مَأْخُوذًا مِنْ الْمُرَاقَبَةِ، وَإِنْ كَانَ مَأْخُوذًا مِنْ الْإِرْقَابِ فَكَأَنَّهُ قَالَ رَقَبَةُ دَارِي لَك فَصَارَ كَالْعُمْرَى. انْتَهَى.
أَقُولُ: فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ بَحْثٌ، إذْ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ دَارِي لَكَ رُقْبَى عِنْدَ كَوْنِ الرُّقْبَى مَأْخُوذًا مِنْ الرَّقَبَةِ رَقَبَةُ دَارِي لَكَ لَا يَثْبُتُ قَوْلُهُ: وَقَوْلُهُ رُقْبَى شَرْطٌ فَاسِدٌ إذْ لَا فَسَادَ؛ لَأَنْ يُقَالَ رَقَبَةُ دَارِي لَكَ فِي شَيْءٍ كَمَا تَرَى وَلَا يَتِمُّ قَوْلُهُ: فَصَارَ كَالْعُمْرَى كَمَا لَا يَخْفَى (قَوْلُهُ: وَلِأَنَّ مَعْنَى الرُّقْبَى عِنْدَهُمَا إنْ مِتَّ قَبْلَكَ فَهُوَ لَك، وَاللَّفْظُ مِنْ الْمُرَاقَبَةِ إلَخْ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: يُشِيرُ إلَى أَنَّ أَبَا يُوسُفَ قَالَ بِجَوَازِهَا لَا بِهَذَا التَّفْسِيرِ بَلْ بِتَفْسِيرٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنْ يَجْعَلَهَا مِنْ الرَّقَبَةِ كَمَا ذَكَرْنَا. وَقِيلَ عَلَيْهِ إنَّ اشْتِقَاقَ الرُّقْبَى مِنْ الرَّقَبَةِ مِمَّا لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ، وَإِبْدَاعُ الشَّيْءِ فِي اللُّغَةِ بَعْدَ اسْتِقْرَارِهَا
فَصْلٌ فِي الصَّدَقَةِ
قَالَ: (وَالصَّدَقَةُ كَالْهِبَةِ لَا تَصِحُّ إلَّا بِالْقَبْضِ)؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ كَالْهِبَةِ (فَلَا تَجُوزُ فِي مُشَاعٍ يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ) لِمَا بَيَّنَّا فِي الْهِبَةِ (وَلَا رُجُوعَ فِي الصَّدَقَةِ)؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الثَّوَابُ وَقَدْ حَصَلَ. وَكَذَا إذَا تَصَدَّقَ عَلَى غَنِيٍّ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَقْصِدُ بِالصَّدَقَةِ عَلَى الْغَنِيِّ الثَّوَابَ. وَكَذَا إذَا وَهَبَ الْفَقِيرَ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الثَّوَابُ وَقَدْ حَصَلَ.
لِأَجْلِ مَا عَنْهُ مَنْدُوحَةٌ لَيْسَ بِمُسْتَحْسَنٍ. إلَى هُنَا كَلَامُهُ.
أَقُولُ: لَا شَكَّ أَنَّ الْمُصَنِّفَ يُشِيرُ بِقَوْلِهِ الْمَذْكُورِ إلَى أَنَّ أَبَا يُوسُفَ قَالَ بِجَوَازِهَا لَا بِهَذَا التَّفْسِيرِ بَلْ بِتَفْسِيرٍ آخَرَ. وَلَكِنْ لَيْسَ مُرَادُهُ بِتَفْسِيرٍ آخَرَ مَا ذَكَرَهُ الشَّارِحُ الْمَزْبُورُ وَهُوَ أَنْ يَجْعَلَهَا مِنْ الرَّقَبَةِ حَتَّى يَتَّجِهَ عَلَيْهِ أَنَّ اشْتِقَاقَ الرُّقْبَى مِنْ الرَّقَبَةِ مِمَّا لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ، بَلْ مُرَادُهُ بِذَلِكَ مَا نَبَّهَ عَلَيْهِ صَاحِبُ الْكَافِي وَجُمْهُورُ الشُّرَّاحِ بِقَوْلِهِمْ: وَحَاصِلُ الِاخْتِلَافِ بَيْنَهُمْ رَاجِعٌ إلَى تَفْسِيرِ الرُّقْبَى مَعَ اتِّفَاقِهِمْ أَنَّهَا مِنْ الْمُرَاقَبَةِ. فَحَمَلَ أَبُو يُوسُفَ هَذَا اللَّفْظَ عَلَى أَنَّهُ تَمْلِيكٌ لِلْحَالِ مَعَ انْتِظَارِ الْوَاهِبِ فِي الرُّجُوعِ، فَالتَّمْلِيكُ جَائِزٌ وَانْتِظَارُ الرُّجُوعِ بَاطِلٌ كَمَا فِي الْعُمْرَى وَقَالَا: الْمُرَاقَبَةُ فِي نَفْسِ التَّمْلِيكِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الرُّقْبَى هَذِهِ الدَّارُ لِآخِرِنَا مَوْتًا كَأَنَّهُ يَقُولُ: أُرَاقِبُ مَوْتَكَ وَتُرَاقِبُ مَوْتِي فَإِنْ مِتَّ قَبْلَك فَهِيَ لَكَ وَإِنْ مِتَّ قَبْلِي فَهِيَ لِي، فَكَانَ هَذَا تَعْلِيقَ التَّمْلِيكِ ابْتِدَاءً بِالْخَطَرِ، وَهُوَ مَوْتُ الْمَالِكِ قَبْلَهُ وَذَا بَاطِلٌ. انْتَهَى قَوْلُهُمْ.
فَعَلَى هَذَا لَا يَتَّجِهُ عَلَيْهِ أَصْلًا مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بِقَوْلِهِ: وَقِيلَ عَلَيْهِ إنَّ اشْتِقَاقَ الرُّقْبَى مِنْ الرَّقَبَةِ مِمَّا لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ إلَخْ كَمَا لَا يَخْفَى. ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ غَايَةِ الْبَيَانِ قَالَ فِي هَذَا الْمَقَامِ: وَعِنْدِي قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ أَصَحُّ، إذْ غَايَةُ مَا فِي الْبَابِ أَنْ يُقَالَ الشَّرْطُ فَاسِدٌ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ فَسَادِ الشَّرْطِ فَسَادُ الْهِبَةِ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ لَا تَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ كَمَا فِي الْعُمْرَى انْتَهَى. أَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ إنَّمَا لَا تَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ إذَا لَمْ يَمْنَعْ الشَّرْطُ ثُبُوتَ التَّمْلِيكِ ابْتِدَاءً، وَأَمَّا إذَا مَنَعَ ذَلِكَ فَلَا مَجَالَ لَأَنْ لَا تَبْطُلَ الْهِبَةُ بِهِ لِضَرُورَةِ امْتِنَاعِ تَحَقُّقِ الْهِبَةِ بِدُونِ تَحَقُّقِ التَّمْلِيكِ، وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ يَمْنَعُ الرُّقْبَى ثُبُوتُ التَّمْلِيكِ ابْتِدَاءً عَلَى تَفْسِيرِهِمَا إيَّاهَا كَمَا تَحَقَّقْتُهُ آنِفًا وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْكَافِي حَيْثُ قَالَ: وَصَحَّ الْعُمْرَى لِلْمُعَمَّرِ لَهُ حَالَ حَيَاتِهِ وَلِوَرَثَتِهِ مِنْ بَعْدِهِ، وَلَوْ قَالَ دَارِي لَكَ رُقْبَى أَوْ حَبِيسٌ فَهُوَ بَاطِلٌ عِنْدَ مُحَمَّدٍ
(وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمَالِهِ يَتَصَدَّقُ بِجِنْسِ مَا يَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمِلْكِهِ لَزِمَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِالْجَمِيعِ) وَيُرْوَى أَنَّهُ وَالْأَوَّلَ سَوَاءٌ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْفَرْقَ. وَوَجْهُ الرِّوَايَتَيْنِ فِي مَسَائِلِ الْقَضَاءِ (وَيُقَالُ لَهُ أَمْسِكْ مَا تُنْفِقُهُ عَلَى نَفْسِكَ وَعِيَالِكَ إلَى أَنْ تَكْتَسِبَ، فَإِذَا اكْتَسَبَ مَالًا يَتَصَدَّقُ بِمِثْلِ مَا أَنْفَقَ) وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ.
وَأَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ.
وَالْأَصْلُ أَنَّ الشَّرْطَ فِي الْهِبَةِ إذَا كَانَ يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْمِلْكِ لِلْحَالِ يَمْنَعُ صِحَّةَ الْهِبَةِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَمْنَعُ ذَلِكَ صَحَّتْ الْهِبَةُ وَيَبْطُلُ الشَّرْطُ، ثُمَّ تَفْسِيرُ الْعُمْرَى أَنْ يَقُولَ: جَعَلْتُ هَذِهِ الدَّارَ لَكَ عُمُرَكَ فَإِذَا مِتَّ فَهِيَ رَدٌّ عَلَيَّ فَيَصِحُّ الْهِبَةُ؛ لِأَنَّ هَذَا الشَّرْطَ لَا يَمْنَعُ أَصْلَ التَّمْلِيكِ. وَتَفْسِيرُ الْحَبِيسِ أَنْ يَقُولَ: هِيَ حَبِيسٌ عِنْدِي، فَإِنْ مِتَّ فَهِيَ لَكَ. وَتَفْسِيرُ الرُّقْبَى أَنْ يَقُولَ: هَذِهِ الدَّارُ لِآخِرِنَا مَوْتًا، وَهِيَ مِنْ الْمُرَاقَبَةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُرَاقِبُ مَوْتَ صَاحِبِهِ كَأَنَّهُ يَقُولُ: أُرَاقِبُ مَوْتَكَ وَتُرَاقِبُ مَوْتِي فَإِنْ مِتَّ فَهِيَ لَكَ وَإِنْ مِتَّ فَهِيَ لِي فَهِيَ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّ هَذَا الشَّرْطَ يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْمِلْكِ لِلْحَالِ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ فَاضْمَحَلَّ مَا قَالَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ.
(كِتَابُ الْإِجَارَاتِ)
لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ أَحْكَامِ تَمْلِيكِ الْأَعْيَانِ بِغَيْرِ عِوَضٍ وَهُوَ الْهِبَةُ شَرَعَ فِي بَيَانِ أَحْكَامِ تَمْلِيكِ الْمَنَافِعِ بِعِوَضٍ وَهُوَ الْإِجَارَةُ، وَقَدَّمَ الْأُولَى عَلَى الثَّانِيَةِ؛ لِأَنَّ الْأَعْيَانَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْمَنَافِعِ؛ وَلِأَنَّ فِي الْأُولَى عَدَمَ الْعِوَضِ، وَالْعَدَمُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْوُجُودِ. ثُمَّ لِعَقْدِ الْإِجَارَةِ مُنَاسَبَةٌ خَاصَّةٌ بِفَصْلِ الصَّدَقَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُمَا يَقَعَانِ لَازِمَيْنِ فَلِذَلِكَ أَوْرَدَ كِتَابَ الْإِجَارَاتِ مُتَّصِلًا بِفَصْلِ الصَّدَقَةِ، كَذَا
كِتَابُ الْإِجَارَاتِ
(الْإِجَارَةُ: عَقْدٌ عَلَى الْمَنَافِعِ بِعِوَضٍ)
فِي الشُّرُوحِ. قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَإِنَّمَا جَمَعَهَا إشَارَةً إلَى أَنَّهَا حَقِيقَةٌ ذَاتُ أَفْرَادٍ. فَإِنَّ لَهَا نَوْعَيْنِ: نَوْعٌ يَرِدُ عَلَى مَنَافِعِ الْأَعْيَانِ كَاسْتِئْجَارِ الدُّورِ، وَالْأَرَاضِيِ، وَالدَّوَابِّ، وَنَوْعٌ يَرِدُ عَلَى الْعَمَلِ كَاسْتِئْجَارِ الْمُحْتَرَفِينَ لِلْأَعْمَالِ نَحْوَ الْقِصَارَةِ، وَالْخِيَاطَةِ وَنَحْوِهِمَا. اهـ.
أَقُولُ: فِيهِ اخْتِلَالٌ؛ لِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ بِالْأَفْرَادِ فِي قَوْلِهِ ذَاتُ أَفْرَادٍ الْأَشْخَاصَ الْجُزْئِيَّةَ كَمَا هُوَ الْمُتَبَادَرُ مِنْ لَفْظِ الْأَفْرَادِ لَمْ تَحْصُلْ فَائِدَةٌ فِي جَمْعِهَا، إذْ لَا يَحْتَمِلُ عِنْدَ أَحَدٍ أَنْ يَكُونَ لِحَقِيقَتِهَا فَرْدٌ وَاحِدٌ شَخْصِيٌّ أَوْ فَرْدَانِ شَخْصِيَّانِ فَقَطْ حَتَّى يَجْمَعَهَا لِلْإِشَارَةِ إلَى أَنَّهَا ذَاتُ أَفْرَادٍ كَثِيرَةٍ. عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ فَإِنَّ لَهَا نَوْعَيْنِ لَا يُطَابِقُ الْمُدَّعَى حِينَئِذٍ كَمَا لَا يَخْفَى. وَإِنْ أَرَادَ بِالْأَفْرَادِ فِي قَوْلِهِ الْمَزْبُورِ الْأَنْوَاعُ الْكُلِّيَّةُ لَمْ يَتِمَّ بَيَانُهُ بِقَوْلِهِ فَإِنَّ لَهَا نَوْعَيْنِ إلَخْ، إذْ بِمُجَرَّدِ تَحَقُّقِ النَّوْعَيْنِ لَهَا لَا يَصِحُّ إيرَادُهَا بِصِيغَةِ الْجَمْعِ عَلَى مَا هُوَ الْمَذْهَبُ الْمُخْتَارُ مِنْ كَوْنِ أَقَلِّ الْجَمْعِ ثَلَاثَةً.
وَأَمَّا الْحَمْلُ عَلَى مَا هُوَ الْمَذْهَبُ السَّخِيفُ جِدًّا مِنْ كَوْنِ أَقَلِّ الْجَمْعِ اثْنَيْنِ فَمِمَّا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُرْتَكَبَ وَيُبْنَى عَلَيْهِ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ الَّذِي هُوَ عَلَمٌ فِي التَّحْقِيقِ. فَالْحَقُّ عِنْدِي أَنْ يُقَالَ: إنَّمَا جَمَعَهَا إشَارَةً إلَى أَنَّ لَهَا أَنْوَاعًا مُخْتَلِفَةً: نَوْعٌ تَصِيرُ الْمَنْفَعَةُ فِيهِ مَعْلُومَةً بِالْمُدَّةِ كَاسْتِئْجَارِ الدُّورِ لِلسُّكْنَى، وَنَوْعٌ تَصِيرُ الْمَنْفَعَةُ فِيهِ مَعْلُومَةً بِالتَّسْمِيَةِ كَاسْتِئْجَارِ رَجُلٍ عَلَى صَبْغِ ثَوْبٍ أَوْ خِيَاطَتِهِ.
وَنَوْعٌ تَصِيرُ الْمَنْفَعَةُ فِيهِ مَعْلُومَةً بِالتَّعْيِينِ، وَالْإِشَارَةِ كَاسْتِئْجَارِ رَجُلٍ لِيَنْقُلَ هَذَا الطَّعَامَ إلَى مَوْضِعٍ مَعْلُومٍ. وَهَذِهِ الْأَنْوَاعُ الثَّلَاثَةُ هِيَ الَّتِي أُشِيرَ إلَيْهَا فِي الْكِتَابِ بِقَوْلِهِ، وَالْمَنَافِعُ تَارَةً تَصِيرُ مَعْلُومَةً بِالْمُدَّةِ وَتَارَةً تَصِيرُ مَعْلُومَةً بِالتَّسْمِيَةِ، وَتَارَةً تَصِيرُ مَعْلُومَةً بِالتَّعْيِينِ، وَالْإِشَارَةِ عَلَى مَا سَيَأْتِي تَفْصِيلُهَا عَنْ قَرِيبٍ. (قَوْلُهُ: الْإِجَارَةُ عَقْدٌ عَلَى الْمَنَافِعِ بِعِوَضٍ) قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: وَلَوْ قَالَ تَمْلِيكُ الْمَنَافِعِ أَوْ نَحْوُهُ لَكَانَ أَوْلَى لِعَدَمِ تَنَاوُلِهِ النِّكَاحَ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بِتَمْلِيكٍ وَإِنَّمَا هُوَ اسْتِبَاحَةُ الْمَنَافِعِ بِعِوَضٍ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الزَّيْلَعِيُّ بِخِلَافِ تَعْرِيفِ الْكِتَابِ حَيْثُ يَشْمَلُهُ، إلَّا أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ عَقْدُ تَمْلِيكٍ بِقَرِينَةِ الشُّهْرَةِ فَلْيُتَأَمَّلْ اهـ.
أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا بِسَدِيدٍ، إذْ لَوْ قَالَ تَمْلِيكُ الْمَنَافِعِ وَنَحْوُهُ لَمْ يَتَفَاوَتْ الْأَمْرُ، فَإِنَّ النِّكَاحَ أَيْضًا تَمْلِيكٌ قَطْعًا لَا اسْتِبَاحَةٌ مَحْضَةٌ، وَإِلَّا لَمَا وَجَبَ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ بَلْ لَمَا جَازَ، وَقَدْ أَفْصَحُوا عَنْ هَذَا فِي أَوَّلِ كِتَابِ النِّكَاحِ حَيْثُ فَسَّرُوا النِّكَاحَ فِي الشَّرْعِ فِي عَامَّةِ الشُّرُوحِ بَلْ الْمُتُونِ بِأَنَّهُ عَقْدٌ مَوْضُوعٌ لِتَمْلِيكِ الْمُتْعَةِ، وَقَالُوا: الْمُسْتَوْفَى بِالنِّكَاحِ مَمْلُوكٌ لِلْعَاقِدِ بِدَلَالَةِ جَوَازِ الِاعْتِيَاضِ وَبِدَلَالَةِ أَنَّهُ اخْتَصَّ بِهِ انْتِفَاعًا وَحَجْرًا. وَقَالُوا: لَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِلَفْظِ الْإِبَاحَةِ، وَالْإِحْلَالِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِسَبَبٍ مِلْكِ الْمُتْعَةِ. وَمَا ذَكَرَهُ الزَّيْلَعِيُّ هَاهُنَا فِي شَرْحِهِ لِلْكَنْزِ مِنْ أَنَّ النِّكَاحَ لَيْسَ بِتَمْلِيكٍ وَإِنَّمَا هُوَ اسْتِبَاحَةُ الْمَنَافِعِ بِعِوَضٍ مُنَاقِضٍ لِمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ مِنْ أَنَّ النِّكَاحَ تَمْلِيكٌ، حَتَّى أَنَّ صَاحِبَ الْكَنْزِ نَفْسَهُ أَيْضًا صَرَّحَ فِي أَوَّلِ النِّكَاحِ بِأَنَّهُ عَقْدٌ يَرِدُ عَلَى تَمْلِيكِ الْمُتْعَةِ قَصْدًا وَمُخَالِفٌ لِمَا تَقَرَّرَ عِنْدَهُمْ مِنْ أَنَّ الِاعْتِيَاضَ لَا يَجُوزُ فِي الْإِبَاحَةِ، فَإِنَّ مَنْ أَبَاحَ شَيْئًا فَإِنَّمَا يُتْلِفُهُ عَلَى مِلْكِ الْمُبِيحِ، فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِمَّا يُعْتَدُّ بِهِ وَيُلْتَفَتُ إلَيْهِ، وَالْعَجَبُ أَنَّ ذَلِكَ الْبَعْضَ قَالَ بَعْدَ كَلَامِهِ الْمَزْبُورِ: ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ الزَّيْلَعِيُّ مِنْ قَوْلِهِ النِّكَاحُ لَيْسَ بِتَمْلِيكٍ بَلْ هُوَ إبَاحَةٌ
لِأَنَّ الْإِجَارَةَ فِي اللُّغَةِ بَيْعُ الْمَنَافِعِ،
مُخَالِفٌ لِمَا سَبَقَ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ النِّكَاحِ مِنْ أَنَّهُ سَبَبٌ لِمِلْكِ الْمُتْعَةِ وَلِهَذَا لَا يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْإِبَاحَةِ. اهـ.
وَلَا يَخْفَى أَنَّ بَيْنَ كَلَامَيْهِ تَدَافُعًا، فَإِنَّ مَدَارَ الْأَوَّلِ صِحَّةُ مَا ذَكَرَهُ الزَّيْلَعِيُّ، وَمُقْتَضَى الثَّانِي عَدَمُ صِحَّتِهِ لِكَوْنِهِ مُخَالِفًا لِمَا تَقَرَّرَ فِيمَا سَبَقَ. ثُمَّ أَقُولُ: يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِي دَفْعِ تَنَاوُلِ تَعْرِيفِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِ لِلنِّكَاحِ أَنَّ الْمُصَنِّفَ قَالَ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ النِّكَاحِ: وَلَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِلَفْظِ الْإِجَارَةِ فِي الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِمِلْكِ الْمُتْعَةِ. وَقَالَ صَاحِبُ الْكَافِي، وَالشُّرَّاحُ هُنَاكَ: وَعَنْ الْكَرْخِيِّ أَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْإِجَارَةِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَوْفَى بِالنِّكَاحِ مَنْفَعَةٌ حَقِيقَةٌ، وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى الْعِوَضَ فِي النِّكَاحِ أَجْرًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} وَهُوَ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ مُشَاكِلٌ لِلْإِجَارَةِ.
وَلَنَا أَنَّ الْمَمْلُوكَ بِالنِّكَاحِ فِي حُكْمِ الْعَيْنِ حَتَّى لَا يَنْعَقِدَ إلَّا مُؤَبَّدًا، وَالْإِجَارَةُ لَا تَنْعَقِدُ إلَّا مُؤَقَّتَةً فَبَيْنَهُمَا مُنَافَاةٌ فَأَنَّى تَصِحُّ الِاسْتِعَارَةُ؟. انْتَهَى كَلَامُهُمْ. فَإِذَا كَانَ الْمَمْلُوكُ بِالنِّكَاحِ فِي حُكْمِ الْعَيْنِ حَتَّى لَمْ يَصِحَّ بِذَلِكَ جَعْلُ لَفْظِ الْإِجَارَةِ اسْتِعَارَةً لِلنِّكَاحِ لَمْ يَتَنَاوَلْ تَعْرِيفَ الْإِجَارَةِ بِأَنَّهَا عَقْدٌ عَلَى الْمَنَافِعِ بِعِوَضٍ، أَوْ بِأَنَّهَا تَمْلِيكُ الْمَنَافِعِ بِعِوَضٍ أَوْ بِنَحْوِ ذَلِكَ لِلنِّكَاحِ تَأَمَّلْ تَقِفْ. وَقَالَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ: وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ عَقْدٌ عَلَى مَنْفَعَةٍ مَعْلُومَةٍ بِعِوَضٍ مَعْلُومٍ إلَى مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ حَتَّى يَخْرُجَ النِّكَاحُ؛ لِأَنَّ التَّوْقِيتَ يُبْطِلُهُ. اهـ. أَقُولُ: وَهَذَا أَيْضًا لَيْسَ بِسَدِيدٍ، إذْ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يُقَالَ كَذَلِكَ يَخْرُجُ مِنْ التَّعْرِيفِ كَثِيرٌ مِنْ الْإِجَارَاتِ كَمَا يَخْرُجُ النِّكَاحُ، فَإِنَّهُمْ صَرَّحُوا بِأَنَّ الْمَنَافِعَ فِي الْإِجَارَاتِ تَارَةً تَصِيرُ مَعْلُومَةً بِالْمُدَّةِ كَاسْتِئْجَارِ الدُّورِ لِلسُّكْنَى، وَالْأَرْضِ لِلزِّرَاعَةِ، وَتَارَةً تَصِيرُ مَعْلُومَةً بِالتَّسْمِيَةِ كَاسْتِئْجَارِ رَجُلٍ عَلَى صَبْغِ ثَوْبٍ أَوْ خِيَاطَتِهِ، وَتَارَةً تَصِيرُ مَعْلُومَةً بِالتَّعْيِينِ، وَالْإِشَارَةِ كَاسْتِئْجَارِ رَجُلٍ؛ لِيَنْقُلَ لَهُ هَذَا الطَّعَامَ إلَى مَوْضِعٍ مَعْلُومٍ، وَتَعْيِينُ الْمُدَّةِ إنَّمَا يَجِبُ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ مِنْ تِلْكَ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ دُونَ الْقِسْمَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ مِنْهَا، فَتَخْرُجُ الْإِجَارَاتُ الْمُنْدَرِجَةُ تَحْتَ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ مِنْ تَعْرِيفِ الْإِجَارَةِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ فَيَخْتَلُّ قَطْعًا.
(قَوْلُهُ: لِأَنَّ الْإِجَارَةَ فِي اللُّغَةِ بَيْعُ الْمَنَافِعِ) قَالَ الشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ: قِيلَ فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ اسْمٌ لِلْأُجْرَةِ وَهِيَ مَا أَعْطَيْت مِنْ كِرَاءِ الْأَجِيرِ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ. قُلْتُ: قَدْ بَيَّنْتُ لَكَ عَنْ قَرِيبٍ أَنَّ الْإِجَارَةَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرًا فَيَسْتَقِيمُ الْكَلَامُ. اهـ. أَقُولُ: النَّظَرُ الْمَزْبُورُ ظَاهِرُ الْوُرُودِ؛ لِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِي كُتُبِ اللُّغَةِ إنَّمَا هُوَ أَنَّ الْإِجَارَةَ اسْمٌ لِلْأُجْرَةِ لَا أَمْرٌ آخَرُ، وَإِنَّمَا الَّذِي هُوَ بَيْعُ الْمَنَافِعِ الْإِيجَارُ، وَقَدْ كَانَ هَذَا خَطِرَ بِبَالِي حَتَّى كَتَبْتُهُ فِي مُسْوَدَّاتِي مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي قَبْلَ أَنْ أَرَى مَا كَتَبَهُ غَيْرِي.
وَأَمَّا الْجَوَابُ الَّذِي ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ قُلْتُ قَدْ بَيَّنْتُ لَكَ عَنْ قَرِيبٍ إلَخْ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ مُرَادَهُ بِقَوْلِهِ قَدْ بَيَّنْتُ لَكَ إلَخْ مَا ذَكَرَهُ فِي صَدْرِ كِتَابِ الْإِجَارَاتِ بِقَوْلِهِ وَلَا يَمْنَعُ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرًا مِنْهُ كَمَا تَقُولُ كَتَبَ يَكْتُبُ كِتَابَةً بَعْدَ قَوْلِهِ وَهُوَ جَمْعُ إجَارَةٍ عَلَى فِعَالَةٍ بِالْكَسْرِ اسْمُ لِلْأَجْرِ بِمَعْنَى الْأُجْرَةِ، مِنْ أَجَرَهُ إذَا أَعْطَاهُ أَجْرَهُ، وَلَا يَذْهَبُ عَلَيْكَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يُجْدِي شَيْئًا فِي الْجَوَابِ عَنْ النَّظَرِ الْمَزْبُورِ. إذْ قَدْ تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْأَدَبِ أَنَّ مَصْدَرَ الثُّلَاثِيِّ سَمَاعِيٌّ لَا قِيَاسَ فِيهِ، فَكَوْنُ الْكِتَابَةِ مَصْدَرًا مِنْ كَتَبَ لَا يَقْتَضِي كَوْنَ الْإِجَارَةِ أَيْضًا مَصْدَرًا مِنْ أَجَرَ، فَإِنَّ الْكِتَابَةَ سُمِعَتْ مَصْدَرًا مِنْ كَتَبَ، وَأَمَّا الْإِجَارَةُ فَلَمْ تُسْمَعْ مَصْدَرًا قَطُّ.
وَالْكَلَامُ فِيمَا سُمِعَ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ لَا فِي الِاحْتِمَالِ الْعَقْلِيِّ، عَلَى أَنَّهُ لَوْ سُلِّمَ مَجِيءُ الْإِجَارَةِ فِي اللُّغَةِ مَصْدَرًا مِنْ أَجَرَهُ إذَا أَعْطَاهُ أَجْرَهُ كَمَجِيءِ الْأَجْرِ مَصْدَرًا مِنْهُ لَمْ يَسْتَقِمْ الْكَلَامُ أَيْضًا، إذْ لَا تَكُونُ
وَالْقِيَاسُ يَأْبَى جَوَازَهُ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ الْمَنْفَعَةُ وَهِيَ مَعْدُومَةٌ، وَإِضَافَةُ التَّمْلِيكِ إلَى مَا سَيُوجَدُ لَا يَصِحُّ إلَّا أَنَّا جَوَّزْنَاهُ لِحَاجَةِ النَّاسِ إلَيْهِ، وَقَدْ شَهِدَتْ بِصِحَّتِهَا الْآثَارُ وَهُوَ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «أَعْطُوا الْأَجِيرَ أَجْرَهُ قَبْلَ أَنْ يَجِفَّ عَرَقُهُ» وَقَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «مَنْ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَلْيُعْلِمْهُ أَجْرَهُ» وَتَنْعَقِدُ سَاعَةً فَسَاعَةً عَلَى حَسَبِ حُدُوثِ الْمَنْفَعَةِ، وَالدَّارُ أُقِيمَتْ مَقَامَ الْمَنْفَعَةِ فِي حَقِّ إضَافَةِ الْعَقْدِ إلَيْهَا لِيَرْتَبِطَ الْإِيجَابُ بِالْقَبُولِ،
الْإِجَارَةُ حِينَئِذٍ أَيْضًا فِي اللُّغَةِ بَيْعَ الْمَنَافِعِ بَلْ تَكُونُ إعْطَاءَ الْأَجْرِ، وَقَدْ قَالَ الْمُصَنِّفُ: إنَّ الْإِجَارَةَ فِي اللُّغَةِ بَيْعُ الْمَنَافِعِ فَلَا اسْتِقَامَةَ، ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ الْعِنَايَةِ قَالَ هَاهُنَا: بَيَّنَ الْمَفْهُومَ الشَّرْعِيَّ قَبْلَ اللُّغَوِيِّ؛ لِأَنَّ اللُّغَوِيَّ هُوَ الشَّرْعِيُّ بِلَا مُخَالَفَةٍ، وَهُوَ فِي بَيَانِ شَرْعِيَّتِهَا فَالشَّرْعِيُّ أَوْلَى بِالتَّقْدِيمِ. اهـ. أَقُولُ: فِيهِ بَحْثٌ؛ لِأَنَّ كَوْنَ الْمَفْهُومِ الشَّرْعِيِّ أَوْلَى بِالتَّقْدِيمِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ فِي بَيَانِ شَرْعِيَّتِهَا لَوْ تَمَّ لَاقْتَضَى تَقْدِيمَ الْمَفْهُومِ الشَّرْعِيِّ عَلَى الْمَفْهُومِ اللُّغَوِيِّ فِي جَمِيعِ الْمَوَاضِعِ سَوَاءٌ كَانَ الْمَعْنَى الشَّرْعِيُّ مُوَافِقًا لِلْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ أَوْ مُخَالِفًا لَهُ، مَعَ أَنَّ دَأَبَ الْمُصَنَّفِينَ عَنْ آخِرِهِمْ جَرَى عَلَى تَقْدِيمِ بَيَانِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ عَلَى بَيَانِ الْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ لِكَوْنِ اللُّغَوِيِّ هُوَ الْأَصْلَ الْمُتَقَدِّمَ، فَالْوَجْهُ عِنْدِي هَاهُنَا أَنَّ الْمُصَنِّفَ سَلَكَ مَسْلَكَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى كَوْنِ الْإِجَارَةِ فِي الشَّرْعِ عَقْدًا عَلَى الْمَنَافِعِ بِعِوَضٍ، وَلَكِنْ طَوَى الصُّغْرَى فَكَأَنَّهُ قَالَ: لِأَنَّ مَعْنَى الْإِجَارَةِ فِي الشَّرْعِ هُوَ مَعْنَاهَا فِي اللُّغَةِ. وَمَعْنَاهَا فِي اللُّغَةِ بَيْعُ الْمَنَافِعِ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا الْمَسْلَكَ يَقْتَضِي تَقْدِيمَ مَفْهُومِهَا الشَّرْعِيِّ بِنَاءً عَلَى مَا اُشْتُهِرَ مِنْ تَقْدِيمِ الْمُدَّعَى عَلَى الدَّلِيلِ، تَدَبَّرْ فَإِنَّهُ وَجْهٌ حَسَنٌ.
(قَوْلُهُ: إلَّا أَنَّا جَوَّزْنَاهُ لِحَاجَةِ النَّاسِ إلَيْهِ وَقَدْ شَهِدَتْ بِصِحَّتِهِ الْآثَارُ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَحَلِّ: إلَّا أَنَّهَا جُوِّزَتْ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ بِالْأَثَرِ لِحَاجَةِ النَّاسِ فَكَانَ اسْتِحْسَانًا بِالْأَثَرِ. اهـ. أَقُولُ: فِي تَقْرِيرِهِ قُصُورٌ، إذْ الْمُتَبَادَرُ مِنْ قَوْلِهِ إلَّا أَنَّهَا جُوِّزَتْ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ بِالْأَثَرِ، وَمِنْ قَوْلِهِ فَكَانَ اسْتِحْسَانًا بِالْأَثَرِ أَنْ يَنْحَصِرَ دَلِيلُ شَرْعِيَّتِهَا فِي الْأَثَرِ وَإِلَّا لَمْ تَكُنْ فَائِدَةٌ فِي ذِكْرِ قَيْدِ الْأَثَرِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُنْحَصِرٍ فِي الْأَثَرِ بَلْ الْكِتَابُ أَيْضًا دَلِيلٌ عَلَيْهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ شُعَيْبٍ عليه السلام {أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} وَكَذَا إجْمَاعُ الْأُمَّةِ أَيْضًا دَلِيلٌ عَلَيْهَا كَمَا ذَكَرَ فِي الْكَافِي وَغَيْرِهِ، بِخِلَافِ تَقْرِيرِ الْمُصَنِّفِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى الْفَطِنِ الْمُتَأَمِّلِ.
(قَوْلُهُ: وَهِيَ قَوْلُهُ: عليه الصلاة والسلام «أَعْطُوا الْأَجِيرَ أَجْرَهُ قَبْلَ أَنْ يَجِفَّ عَرَقُهُ») قَالَ الشُّرَّاحُ: فَإِنَّ الْأَمْرَ بِإِعْطَاءِ الْأَجْرِ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّتِهِ. أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: سَيَأْتِي فِي بَابِ الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ أَنَّهُ يَجِبُ فِيهَا أَجْرُ الْمِثْلِ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ الْوَاجِبَ الشَّرْعِيَّ مَأْمُورٌ بِإِعْطَائِهِ مِنْ قِبَلِ الشَّرْعِ، فَلَمْ يَكُنْ الْأَمْرُ بِإِعْطَائِهِ الْأَجْرَ دَلِيلَ صِحَّةِ الْعَقْدِ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُقَالَ: وَقَعَ الْأَمْرُ فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ بِإِعْطَاءِ الْأَجْرِ الْمُضَافِ إلَى الْأَجِيرِ حَيْثُ قَالَ «أَعْطُوا الْأَجِيرَ أَجْرَهُ» وَذَلِكَ يُفِيدُ كَوْنَ الْمُرَادِ بِالْأَجْرِ الْمَأْمُورِ بِإِعْطَائِهِ الْأَجْرَ الْمُسَمَّى لِلْأَجِيرِ دُونَ أَجْرِ الْمِثْلِ مُطْلَقًا، وَالْأَمْرُ بِإِعْطَاءِ الْأَجْرِ الْمُسَمَّى لِلْأَجِيرِ لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا فِي الْإِجَارَةِ الصَّحِيحَةِ تَبَصَّرْ.
(قَوْلُهُ: وَتَنْعَقِدُ سَاعَةً فَسَاعَةً عَلَى حَسَبِ حُدُوثِ الْمَنْفَعَةِ، وَالدَّارُ أُقِيمَتْ مَقَامَ الْمَنْفَعَةِ فِي حَقِّ إضَافَةِ الْعَقْدِ لِيَرْتَبِطَ الْإِيجَابُ بِالْقَبُولِ) قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: لَا بُدَّ أَنْ يُتَأَمَّلَ فِي هَذَا
ثُمَّ عَمَلُهُ يَظْهَرُ فِي حَقِّ الْمَنْفَعَةِ مِلْكًا وَاسْتِحْقَاقًا حَالَ وُجُودِ الْمَنْفَعَةِ.
(وَلَا تَصِحُّ حَتَّى تَكُونَ الْمَنَافِعُ مَعْلُومَةً، وَالْأُجْرَةُ مَعْلُومَةً) لِمَا رَوَيْنَا، وَلِأَنَّ الْجَهَالَةَ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَبَدَلِهِ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ كَجَهَالَةِ الثَّمَنِ وَالْمُثَمَّنِ فِي الْبَيْعِ (وَمَا جَازَ أَنْ يَكُونَ ثَمَنًا فِي الْبَيْعِ جَازَ أَنْ يَكُونَ أُجْرَةً فِي الْإِجَارَةِ)؛ لِأَنَّ الْأُجْرَةَ ثَمَنُ الْمَنْفَعَةِ، فَتُعْتَبَرُ بِثَمَنِ الْمَبِيعِ.
الْمَقَامِ، فَإِنَّ الِانْعِقَادَ هُوَ ارْتِبَاطُ الْقَبُولِ بِالْإِيجَابِ، فَإِذَا حَصَلَ الِارْتِبَاطُ بِإِقَامَةِ الدَّارِ مَقَامَ الْمَنْفَعَةِ يَتَحَقَّقُ الِانْعِقَادُ، فَأَيُّ مَعْنًى لِلِانْعِقَادِ سَاعَةً فَسَاعَةً بَعْدَ ذَلِكَ. اهـ كَلَامُهُ. أَقُولُ: جَوَابُ هَذَا الْإِشْكَالِ يَنْكَشِفُ جِدًّا بِمَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ هَاهُنَا حَيْثُ قَالَ: وَالْمُرَادُ مِنْ انْعِقَادِ الْعِلَّةِ سَاعَةً فَسَاعَةً فِي كَلَامِ مَشَايِخِنَا عَلَى حَسَبِ حُدُوثِ الْمَنَافِعِ هُوَ عَمَلُ الْعِلَّةِ وَنَفَاذُهَا فِي الْمَحَلِّ سَاعَةً فَسَاعَةً لَا ارْتِبَاطُ الْإِيجَابِ بِالْقَبُولِ كُلَّ سَاعَةٍ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْمَشَايِخِ يُوهِمُ ذَلِكَ. وَالْحُكْمُ تَأَخَّرَ مِنْ زَمَانِ انْعِقَادِ الْعِلَّةِ إلَى حُدُوثِ الْمَنَافِعِ سَاعَةً فَسَاعَةً؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ قَابِلٌ لِلتَّرَاخِي كَمَا فِي الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ. وَفَسَّرَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا عَلَى وَجْهٍ آخَرَ فَقَالَ: اللَّفْظَانِ الصَّادِرَانِ مِنْهُمَا مُضَافَيْنِ إلَى مَحَلِّ الْمَنْفَعَةِ، وَهُوَ الدَّارُ صَحَّا كَلَامًا، وَهُوَ عَقْدُ بَيْنِهِمَا، إذْ الْعَقْدُ فِعْلُهُمَا وَلَا فِعْلَ يَصْدُرُ مِنْهُمَا سِوَى تَرْتِيبِ الْقَبُولِ عَلَى الْإِيجَابِ، ثُمَّ لِانْعِقَادِ حُكْمِ الشَّرْعِ يَثْبُتُ وَصْفًا لِكَلَامَيْهِمَا شَرْعًا، وَالْعِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ مُغَايِرَةٌ لِلْعِلَلِ الْعَقْلِيَّةِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَنْفَكَّ عَنْ مَعْلُولَاتِهَا، فَجَازَ أَنْ يُقَالَ: الْعَقْدُ وُجِدَ وَأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ كَلَامَيْهِمَا، وَالِانْعِقَادُ تَرَاخَى إلَى وُجُودِ الْمَنَافِعِ سَاعَةً فَسَاعَةً، بِخِلَافِ الْعِلَلِ الْعَقْلِيَّةِ. فَإِنَّ الِانْكِسَارَ لَا يَصِحُّ انْفِكَاكُهُ عَنْ الْكَسْرِ، إلَى هُنَا كَلَامُ صَاحِبِ الْغَايَةِ.
فَكَأَنَّ ذَلِكَ الْمُسْتَشْكِلَ لَمْ يَرَ هَذَا الْكَلَامَ أَوْ لَمْ يَقْنَعْ بِهِ، وَكِلَاهُمَا مِمَّا لَا يَنْبَغِي كَمَا لَا يَخْفَى. ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ الْعِنَايَةِ جَعَلَ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ، وَالدَّارُ أُقِيمَتْ مَقَامَ الْمَنْفَعَةِ إلَخْ جَوَابًا عَنْ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ حَيْثُ قَالَ بَعْدَ شَرْحِ قَوْلِهِ وَتَنْعَقِدُ سَاعَةً فَسَاعَةً عَلَى حَسَبِ حُدُوثِ الْمَنَافِعِ. فَإِنْ قِيلَ: إذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَصِحَّ رُجُوعُ الْمُسْتَأْجِرِ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ قَبْلَ أَنْ يَنْعَقِدَ الْعَقْدُ فِيهَا، وَإِذَا اسْتَأْجَرَ شَهْرًا مَثَلًا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ بِلَا عُذْرٍ.
أَجَابَ بِقَوْلِهِ، وَالدَّارُ أُقِيمَتْ مَقَامَ الْمَنْفَعَةِ فِي حَقِّ إضَافَةِ الْعَقْدِ لِيَرْتَبِطَ الْإِيجَابُ بِالْقَبُولِ إلْزَامًا لِلْعَقْدِ فِي الْمِقْدَارِ الْمُعَيَّنِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَدْ تَبِعَهُ الْعَيْنِيُّ. أَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ إنْ تَحَقَّقَ انْعِقَادُ الْعَقْدِ فِي ذَلِكَ الْمِقْدَارِ الْمُعَيَّنِ كُلِّهِ بِمُجَرَّدِ إقَامَةِ الدَّارِ مَقَامَ الْمَنْفَعَةِ فِي حَقِّ إضَافَةِ الْعَقْدِ لِيَرْتَبِطَ الْإِيجَابُ بِالْقَبُولِ لَمْ يَظْهَرْ مَعْنَى قَوْلِهِمْ وَتَنْعَقِدُ سَاعَةً فَسَاعَةً عَلَى حَسَبِ حُدُوثِ الْمَنَافِعِ، إذْ يَلْزَمُ حِينَئِذٍ أَنْ تَنْعَقِدَ فِي السَّاعَةِ الْأُولَى، وَهِيَ سَاعَةُ الْعَقْدِ بِالْإِيجَابِ، وَالْقَبُولِ وَارْتِبَاطُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ، وَإِنْ لَمْ يَتَحَقَّقْ ذَلِكَ الِانْعِقَادُ بِمُجَرَّدِ تِلْكَ الْإِقَامَةِ بَلْ حَصَلَ سَاعَةً فَسَاعَةً عَلَى حَسَبِ حُدُوثِ الْمَنَافِعِ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِهِمْ يُرَدُّ السُّؤَالُ الْمُقَدَّرُ الْمَزْبُورُ عَلَى قَوْلِهِمْ وَتَنْعَقِدُ سَاعَةً فَسَاعَةً، وَلَا يَتِمُّ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ.
وَالدَّارُ أُقِيمَتْ مَقَامَ الْمَنْفَعَةِ إلَخْ جَوَابًا عَنْ ذَلِكَ السُّؤَالِ، بَلْ يَحْتَاجُ إلَى جَوَابٍ آخَرَ كَمَا لَا يَخْفَى، فَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَيْسَ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ الْمَذْكُورِ الْجَوَابَ عَنْ السُّؤَالِ الْمَزْبُورِ، بَلْ مُرَادُهُ بِهِ تَوْجِيهُ صِحَّةِ الْعَقْدِ
وَمَا لَا يَصْلُحُ ثَمَنًا يَصْلُحُ أُجْرَةً أَيْضًا كَالْأَعْيَانِ.
فِي الْمَنَافِعِ الْمَعْدُومَةِ عَلَى أَصْلِ أَئِمَّتِنَا كَمَا فَصَّلَ فِي الْكَافِي وَسَائِرِ الشُّرُوحِ، سِيَّمَا فِي غَايَةِ الْبَيَانِ فَإِنَّهُ قَالَ فِيهَا: بَيَانُ مَا قُلْنَا هُوَ أَنَّ الْعَقْدَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مَحَلٍّ؛ لِأَنَّ الْمَحَلَّ شَرْطُ صِحَّةِ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ الْعُقُودَ لَا تَصِحُّ بِلَا مَحَلٍّ، وَلِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ: الْمَحَالُّ شُرُوطٌ، وَمَحَلُّ الْعَقْدِ هَاهُنَا هِيَ الْمَنَافِعُ وَهِيَ مَعْدُومَةٌ، وَلَا يَصْلُحُ الْمَعْدُومُ مَحَلًّا لِلْعَقْدِ فَجُعِلَتْ الدَّارُ مَحَلًّا لِلْعَقْدِ بِإِقَامَتِهَا مَقَامَ الْمَنَافِعِ الَّتِي سَتُوجَدُ؛ لِأَنَّ الدَّارَ مَحَلُّ الْمَنَافِعِ تَصْحِيحًا لِلْعَقْدِ حَتَّى يَرْتَبِطَ الْكَلَامَانِ وَهُمَا الْإِيجَابُ، وَالْقَبُولُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ عَلَى وَجْهٍ يَكُونَانِ عِلَّةً صَالِحَةً فِي إفَادَةِ الْحُكْمِ وَهُوَ مِلْكُ الْمَنَافِعِ الَّتِي سَتُوجَدُ.
انْتَهَى فَتَدَبَّرْ.
(قَوْلُهُ: وَمَا لَا يَصْلُحُ ثَمَنًا يَصْلُحُ أُجْرَةً أَيْضًا كَالْأَعْيَانِ) أَيْ كَالْأَعْيَانِ الَّتِي لَيْسَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ كَالْحَيَوَانِ، وَالثِّيَابِ مَثَلًا، فَإِنَّهَا إذَا كَانَتْ مُعَيَّنَةً صَلُحَ أَنْ تَكُونَ أُجْرَةً كَمَا إذَا اسْتَأْجَرَ دَارًا بِثَوْبٍ مُعَيَّنٍ، وَإِنْ كَانَ لَا يَصْلُحُ ثَمَنًا، لِمَا تَقَرَّرَ فِي الْبُيُوعِ أَنَّ الْأَمْوَالَ ثَلَاثَةٌ: ثَمَنٌ مَحْضٌ كَالدَّرَاهِمِ وَمَبِيعٌ مَحْضٌ كَالْأَعْيَانِ الَّتِي لَيْسَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ وَمَا كَانَ بَيْنَهُمَا كَالْمَكِيلَاتِ، وَالْمَوْزُونَاتِ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ. قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَفِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّ الْمُقَايَضَةَ بَيْعٌ وَلَيْسَ فِيهَا إلَّا الْعَيْنُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، فَلَوْ لَمْ تَصْلُحْ الْعَيْنُ ثَمَنًا كَانَتْ بَيْعًا بِلَا ثَمَنٍ، وَهُوَ بَاطِلٌ.
وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ النَّظَرَ عَلَى الْمِثَالِ لَيْسَ مِنْ دَأَبِ الْمُنَاظِرَيْنِ، فَإِذَا كَانَ الْأَصْلُ صَحِيحًا جَازَ أَنْ يُمَثَّلَ بِمِثَالٍ آخَرَ فَلْيُمَثَّلْ بِالْمَنْفَعَةِ فَإِنَّهَا تَصْلُحُ أُجْرَةً إذَا اخْتَلَفَ جِنْسُ الْمَنَافِعِ. كَمَا إذَا اسْتَأْجَرَ سُكْنَى دَارٍ بِرَكُوبِ دَابَّةٍ وَلَا تَصْلُحُ ثَمَنًا أَصْلًا، إلَى هُنَا كَلَامُهُ. أَقُولُ: لَا النَّظَرُ شَيْءٌ وَلَا الْجَوَابُ. أَمَّا النَّظَرُ فَلِأَنَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ بِالثَّمَنِ هَاهُنَا مَا يَجِبُ فِي الذِّمَّةِ، وَعَنْ هَذَا تَرَى صَاحِبَ الْكَافِي وَكَثِيرًا مِنْ الشُّرَّاحِ يَقُولُونَ بَعْدَ قَوْلِهِمْ: لِأَنَّ الْأُجْرَةَ عِوَضٌ مَالِيٌّ فَيَعْتَمِدُ وُجُودَ الْمَالِ. وَأَمَّا الثَّمَنُ فَهُوَ مَا يَجِبُ فِي الذِّمَّةِ فَيَخْتَصُّ بِمَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ. وَلَقَدْ أَفْصَحَ عَنْهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ نَفْسُهُ أَيْضًا فِيمَا بَعْدُ حَيْثُ قَالَ: إنَّ الثَّمَنَ مَشْرُوطٌ بِكَوْنِهِ مِمَّا يَجِبُ فِي الذِّمَّةِ فَيَخْتَصُّ بِذَلِكَ بِخِلَافِ الْأُجْرَةِ، وَلَا شَكَّ فِي عَدَمِ صَلَاحِيَّةِ الْأَعْيَانِ الَّتِي لَيْسَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ؛ لَأَنْ تَكُونَ ثَمَنًا بِهَذَا الْمَعْنَى، وَلَا فِي عَدَمِ بُطْلَانِ أَنْ تَكُونَ الْمُقَايَضَةُ بَيْعًا بِلَا ثَمَنٍ بِهَذَا الْمَعْنَى، أَلَا يُرَى أَنَّ الشَّارِحَ الْمَذْكُورَ نَفْسَهُ قَالَ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْبُيُوعِ: وَأَنْوَاعُ الْبَيْعِ أَرْبَعَةٌ: بَيْعُ السِّلْعَةِ بِمِثْلِهَا وَيُسَمَّى مُقَايَضَةً، وَبَيْعُهَا بِالدَّيْنِ أَعْنِي الثَّمَنَ، وَبَيْعُ الثَّمَنِ بِالثَّمَنِ كَبَيْعِ النَّقْدَيْنِ وَيُسَمَّى الصَّرْفَ، وَبَيْعُ الدَّيْنِ بِالْعَيْنِ، وَيُسَمَّى سَلَمًا انْتَهَى.
حَيْثُ جَعَلَ الدَّيْنَ مُقَابِلًا لِلْعَيْنِ، وَفَسَّرَ الدَّيْنَ بِالثَّمَنِ، وَجَعَلَ أَحَدَ أَنْوَاعِ الْبَيْعِ وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْمُقَايَضَةِ مَا لَا ثَمَنَ فِيهِ أَصْلًا. نَعَمْ لِلثَّمَنِ مَعْنًى آخَرُ وَهُوَ مَا يَكُونُ عِوَضًا عَنْ الْمَبِيعِ، نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْمُغْرِبِ وَغَيْرِهِ، وَذَلِكَ الْمَعْنَى يَعُمُّ الدَّيْنَ، وَالْعَيْنَ، وَهُوَ الَّذِي لَا يَتَحَقَّقُ الْبَيْعُ بِدُونِهِ، وَيَبْطُلُ كَوْنُ الْمُقَايَضَةِ بَيْعًا بِلَا ثَمَنٍ بِذَلِكَ الْمَعْنَى، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ بِمُرَادِ الْمُصَنِّفِ بِالثَّمَنِ فِي قَوْلِهِ وَمَا لَا يَصْلُحُ ثَمَنًا يَصْلُحُ أُجْرَةً أَيْضًا كَالْأَعْيَانِ، فَلَا يُرَدُّ النَّظَرُ الْمَزْبُورُ عَلَيْهِ جِدًّا. وَأَمَّا الْجَوَابُ فَلِأَنَّهُ مِنْ ضِيقِ الْعَطَنِ إذْ فِيهِ اعْتِرَافٌ بِبُطْلَانِ الْمِثَالِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَحَاشَا لَهُ. ثُمَّ أَقُولُ: بَقِيَ هَاهُنَا شَيْءٌ، وَهُوَ أَنَّ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ لَا شَكَّ أَنَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ بِالثَّمَنِ فِي قَوْلِهِ وَمَا لَا يَصْلُحُ ثَمَنًا يَصْلُحُ أُجْرَةً أَيْضًا هُوَ مَا يَجِبُ فِي الذِّمَّةِ، وَأَنَّ تَمْثِيلَهُ مَا لَا يَصْلُحُ ثَمَنًا بِقَوْلِهِ كَالْأَعْيَانِ صَحِيحٌ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى الْمُرَادِ،
فَهَذَا اللَّفْظُ لَا يَنْفِي صَلَاحِيَّةَ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ عِوَضٌ مَالِيٌّ (وَالْمَنَافِعُ تَارَةً تَصِيرُ مَعْلُومَةً بِالْمُدَّةِ كَاسْتِئْجَارِ الدُّورِ، لِلسُّكْنَى وَالْأَرْضِينَ لِلزِّرَاعَةِ فَيَصِحُّ الْعَقْدُ عَلَى مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ أَيِّ مُدَّةٍ كَانَتْ)؛ لِأَنَّ الْمُدَّةَ إذَا كَانَتْ مَعْلُومَةً كَانَ قَدْرُ الْمَنْفَعَةِ فِيهَا مَعْلُومًا إذَا كَانَتْ الْمَنْفَعَةُ لَا تَتَفَاوَتُ. وَقَوْلُهُ أَيِّ مُدَّةٍ كَانَتْ إشَارَةً إلَى أَنَّهُ يَجُوزُ طَالَتْ الْمُدَّةُ أَوْ قَصُرَتْ لِكَوْنِهَا مَعْلُومَةً وَلِتَحَقُّقِ الْحَاجَةِ إلَيْهَا عَسَى،
إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَحْمِلْ الثَّمَنَ الْوَاقِعَ فِي لَفْظِ الْقُدُورِيِّ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَمَا جَازَ أَنْ يَكُونَ ثَمَنًا فِي الْبَيْعِ جَازَ أَنْ يَكُونَ أُجْرَةً عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي يَعُمُّ الدَّيْنَ، وَالْعَيْنَ، وَهُوَ الْعِوَضُ الْمُقَابِلُ لِلْمَبِيعِ كَمَا حَمَلَ الزَّيْلَعِيُّ الثَّمَنَ الْوَاقِعَ فِي قَوْلِ صَاحِبِ الْكَنْزِ، وَمَا صَحَّ ثَمَنًا صَحَّ أُجْرَةً عَلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى الْأَعَمِّ، مَعَ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِ مَسْأَلَةِ الْقُدُورِيِّ بِقَوْلِهِ؛ لِأَنَّ الْأُجْرَةَ ثَمَنُ الْمَنْفَعَةِ فَتُعْتَبَرُ بِثَمَنِ الْمَبِيعِ يَتَحَمَّلُ التَّعْمِيمَ لِصُورَتَيْ الدَّيْنِ، وَالْعَيْنِ كَمَا تَرَى.
وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمُتَبَادَرُ مِنْ لَفْظِ الثَّمَنِ فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ هُوَ مَعْنَى مَا يَجِبُ فِي الذِّمَّةِ وَكَانَ لَفْظُ الْقُدُورِيِّ غَيْرَ مُوَفٍّ حَقَّ الْمَقَامِ عَلَى تَقْدِيرِ حَمْلِ الثَّمَنِ عَلَى الْمَعْنَى الْآخَرِ الْعَامِّ لِلْعَيْنِ أَيْضًا فَإِنَّ مَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ثَمَنًا فِي الْبَيْعِ عَلَى الْمَعْنَى الْعَامِّ لِلْعَيْنِ جَازَ أَنْ يَكُونَ أُجْرَةً أَيْضًا كَالْمَنْفَعَةِ فَإِنَّهَا لَا تَصْلُحُ ثَمَنًا فِي الْبَيْعِ أَصْلًا وَتَصْلُحُ أُجْرَةً فِيمَا إذَا اخْتَلَفَ جِنْسُ الْمَنَافِعِ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ. حَمَلَ الْمُصَنِّفُ لَفْظَ الثَّمَنِ الْوَاقِعِ فِي مَسْأَلَةِ الْقُدُورِيِّ عَلَى مَا هُوَ الْمُتَبَادَرُ مِنْهُ وَقَالَ: تَتْمِيمًا لِهَاتِيكَ الْمَسْأَلَةِ وَمَا لَا يَصْلُحُ ثَمَنًا يَصْلُحُ أُجْرَةً أَيْضًا كَالْأَعْيَانِ، كَمَا قَالَ الشَّيْخُ أَبُو نَصْرٍ الْبَغْدَادِيُّ فِي شَرْحِ مُخْتَصَرِ الْقُدُورِيِّ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ لَيْسَ عَلَى وَجْهِ الْحَدِّ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ غَيْرُهُ، يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ الْأَعْيَانَ لَا تَكُونُ أَثْمَانًا وَتَكُونُ أُجْرَةً، وَإِنَّمَا ذَكَرَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْغَالِبُ، إلَى هُنَا لَفْظُهُ. وَلَكِنَّ الْإِنْصَافَ أَنَّ الْمَنْفَعَةَ كَانَتْ حَقِيقًا بِأَنْ تُذْكَرَ فِي تَمْثِيلِ مَا لَا يَصْلُحُ ثَمَنًا وَيَصْلُحُ أُجْرَةً، فَإِنَّ كَوْنَ الْمَنْفَعَةِ مِمَّا يَصْلُحُ أُجْرَةً أَخْفَى مِنْ كَوْنِ الْأَعْيَانِ مِنْهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يُسْتَفَادَ مِنْ مَسْأَلَةِ الْقُدُورِيِّ، بِخِلَافِ كَوْنِ الْأَعْيَانِ مِنْهُ فَإِنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُسْتَفَادَ مِنْهَا بِحَمْلِ الثَّمَنِ عَلَى الْمَعْنَى الْعَامِّ لِلْعَيْنِ أَيْضًا كَمَا عَرَفْتَ آنِفًا (قَوْلُهُ: لِأَنَّهُ عِوَضٌ مَالِيٌّ) أَيْ؛ لِأَنَّ الْأُجْرَةَ عَلَى تَأْوِيلِ الْأَجْرِ عِوَضٌ مَالِيٌّ فَيُعْتَمَدُ وُجُودُ الْمَالِ، وَالْأَعْيَانَ مَالٌ فَتَصِحُّ أَنْ تَكُونَ أُجْرَةً، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَغَيْرِهَا. وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَمَا شَرَحَ الْمَحَلَّ عَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ الثَّمَنُ عِوَضٌ مَالِيٌّ إلَخْ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ الثَّمَنَ مَشْرُوطٌ بِكَوْنِهِ مِمَّا يَجِبُ فِي الذِّمَّةِ فَيَخْتَصُّ بِذَلِكَ كَالنُّقُودِ، وَالْمُقَدَّرَاتِ الْمَوْصُوفَةِ الَّتِي تَجِبُ فِي الذِّمَّةِ، بِخِلَافِ الْأُجْرَةِ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ.
أَقُولُ:
إلَّا أَنَّ فِي الْأَوْقَافِ لَا تَجُوزُ الْإِجَارَةُ الطَّوِيلَةُ كَيْ لَا يَدَّعِيَ الْمُسْتَأْجِرُ مِلْكَهَا وَهِيَ مَا زَادَ عَلَى ثَلَاثِ سِنِينَ هُوَ الْمُخْتَارُ. قَالَ: (وَتَارَةً تَصِيرُ مَعْلُومَةً بِنَفْسِهِ كَمَنْ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا عَلَى صَبْغِ ثَوْبِهِ أَوْ خِيَاطَتِهِ أَوْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً؛ لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا مِقْدَارًا مَعْلُومًا أَوْ يَرْكَبَهَا مَسَافَةً سَمَّاهَا)؛ لِأَنَّهُ إذَا بَيَّنَ الثَّوْبَ وَلَوْنَ الصَّبْغِ وَقَدْرَهُ وَجِنْسَ الْخِيَاطَةِ وَالْقَدْرَ الْمَحْمُولَ وَجِنْسَهُ وَالْمَسَافَةَ صَارَتْ الْمَنْفَعَةُ مَعْلُومَةً فَيَصِحُّ الْعَقْدُ،
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إذَا كَانَ الثَّمَنُ مَشْرُوطًا بِكَوْنِهِ مِمَّا يَجِبُ فِي الذِّمَّةِ كَانَتْ الْأُجْرَةُ أَيْضًا مَشْرُوطَةً بِكَوْنِهَا ثَمَنَ الْمَنْفَعَةِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِ مَسْأَلَةِ الْقُدُورِيِّ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّ الْمَشْرُوطَ بِذَلِكَ ثَمَنُ الْمَبِيعِ لَا ثَمَنُ الْمَنْفَعَةِ. قُلْنَا: فَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ إذَا كَانَ ثَمَنُ الْمَنْفَعَةِ مُخَالِفًا لِثَمَنِ الْمَبِيعِ فِي أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مَشْرُوطًا بِشَيْءٍ دُونَ الْآخَرِ، فَهَلْ يَتِمُّ الْقِيَاسُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ؛ لِأَنَّ الْأُجْرَةَ ثَمَنُ الْمَنْفَعَةِ فَتُعْتَبَرُ بِثَمَنِ الْمَبِيعِ فَلْيُتَأَمَّلْ.
وَأَوْرَدَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ عَلَى الْجَوَابِ الَّذِي ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بِوَجْهٍ آخَرَ حَيْثُ قَالَ: فَيَلْزَمُ خُلُوُّ الْبَيْعِ عَنْ الثَّمَنِ فِيمَا إذَا بِيعَ الدَّارُ بِالدَّارِ، إذْ لَا يَجِبُ الْعَقَارُ فِي الذِّمَّةِ كَمَا لَا يَخْفَى اهـ.
أَقُولُ: إنْ كَانَ مُرَادُهُ بِهَذَا الْكَلَامِ مُجَرَّدَ إلْزَامِ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ بِنَاءً عَلَى مَا قَالَهُ فِي نَظَرِهِ السَّابِقِ مِنْ أَنَّهُ لَوْ لَمْ تَصْلُحْ الْعَيْنُ ثَمَنًا كَانَتْ الْمُقَايَضَةُ بَيْعًا بِلَا ثَمَنٍ وَهُوَ بَاطِلٌ فَلَهُ وَجْهٌ، وَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ بِهِ إيرَادَ إشْكَالٍ عَلَى ذَلِكَ الْجَوَابِ فِي الْحَقِيقَةِ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، إذْ اللَّازِمُ مِنْ الْجَوَابِ الْمَذْكُورِ خُلُوُّ الْبَيْعِ عَنْ الثَّمَنِ بِمَعْنَى مَا يَجِبُ فِي الذِّمَّةِ فِيمَا إذَا بِيعَ الدَّارُ بِالدَّارِ لَا خُلُوُّهُ عَنْ الثَّمَنِ بِمَعْنَى الْعِوَضِ الْمُقَابِلِ لِلْمَبِيعِ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ، وَالْمَحْذُورُ خُلُوُّهُ عَنْ الثَّمَنِ بِالْمَعْنَى الثَّانِي دُونَ الْمَعْنَى الْأَوَّلِ كَمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ (قَوْلُهُ: وَتَارَةً تَصِيرُ مَعْلُومَةً بِنَفْسِهِ) أَيْ بِنَفْسِ عَقْدِ الْإِجَارَةِ، كَذَا ذَكَرَ الشُّرَّاحُ قَاطِبَةً وَلَمْ يَنْقُلْ عَامَّتُهُمْ نُسْخَةً أُخْرَى.
وَأَمَّا صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ فَقَالَ بَعْدَ ذِكْرِ ذَلِكَ: وَفِي بَعْضِ نُسَخِ الْمُخْتَصَرِ: وَتَارَةً تَصِيرُ مَعْلُومَةً بِالتَّسْمِيَةِ. أَقُولُ: لَعَلَّ الصَّوَابَ هَذِهِ النُّسْخَةُ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ لَا تَصِيرُ مَعْلُومَةً فِي هَذَا النَّوْعِ بِنَفْسِ الْعَقْدِ فَقَطْ، بَلْ إنَّمَا تَصِيرُ مَعْلُومَةً بِتَسْمِيَةِ أُمُورٍ كَبَيَانِ الثَّوْبِ وَأَلْوَانِ الصَّبْغِ وَقَدْرِهِ فِي اسْتِئْجَارِ رَجُلٍ عَلَى صَبْغِ ثَوْبٍ وَبَيَانِ الثَّوْبِ وَجِنْسِ الْخِيَاطَةِ فِي اسْتِئْجَارِ رَجُلٍ عَلَى خِيَاطَةِ ثَوْبٍ وَبَيَانِ الْقَدْرِ الْمَحْمُولِ وَجِنْسِهِ، وَالْمَسَافَةِ فِي اسْتِئْجَارِ رَجُلٍ دَابَّةً لِلْحَمْلِ أَوْ الرُّكُوبِ عَلَى مَا أَشَارَ الْمُصَنِّفُ إلَى ذَلِكَ كُلِّهِ حَيْثُ قَالَ: لِأَنَّهُ إذَا بَيَّنَ الثَّوْبَ وَأَلْوَانَ الصَّبْغِ وَقَدْرَهُ وَجِنْسَ الْخِيَاطَةِ، وَالْقَدْرَ الْمَحْمُولِ وَجِنْسَهُ، وَالْمَسَافَةَ صَارَتْ الْمَنْفَعَةُ مَعْلُومَةً فَصَحَّ الْعَقْدُ، فَكَمَا أَنَّ الْمَنَافِعَ لَا تَصِيرُ مَعْلُومَةً فِي النَّوْعِ السَّابِقِ، وَالنَّوْعِ اللَّاحِقِ بِنَفْسِ الْعَقْدِ فَقَطْ بَلْ إنَّمَا تَصِيرُ مَعْلُومَةً فِي النَّوْعِ السَّابِقِ بِبَيَانِ الْمُدَّةِ، وَفِي النَّوْعِ اللَّاحِقِ بِالتَّعْيِينِ وَالْإِشَارَةِ، كَذَلِكَ لَا تَصِيرُ مَعْلُومَةً فِي هَذَا النَّوْعِ بِنَفْسِ الْعَقْدِ فَقَطْ، بَلْ إنَّمَا تَصِيرُ مَعْلُومَةً فِيهِ بِتَسْمِيَةِ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ مِنْ الْأُمُورِ اللَّازِمَةِ الْبَيَانِ كَمَا أُشِيرَ إلَى بَعْضِهَا فِي الْأَمْثِلَةِ الْمَذْكُورَةِ، فَلَمْ يَكُنْ لِنِسْبَةِ صَيْرُورَةِ الْمَنَافِعِ مَعْلُومَةً فِي هَذَا النَّوْعِ إلَى نَفْسِ الْعَقْدِ وَجْهٌ ظَاهِرٌ.
وَعَنْ هَذَا لَا تَرَى عِبَارَةَ بِنَفْسِهِ مَذْكُورَةً فِي شَيْءٍ مِنْ الْكُتُبِ الْمُعْتَبَرَةِ سِوَى نُسْخَةِ هَذَا الْكِتَابِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الشُّرَّاحُ، وَإِنَّمَا الْمَذْكُورُ فِي سَائِرِ الْكُتُبِ مَوْضِعٌ بِنَفْسِهِ بِالتَّسْمِيَةِ كَمَا وَقَعَ فِي الْكَنْزِ، وَالْمُخْتَارِ، أَوْ بِذِكْرِ الْعَمَلِ كَمَا وَقَعَ فِي الْوِقَايَةِ وَبَعْضِ الْمُتُونِ.
(قَوْلُهُ: وَرُبَّمَا يُقَالُ الْإِجَارَةُ
وَرُبَّمَا يُقَالُ: الْإِجَارَةُ قَدْ تَكُونُ عَقْدًا عَلَى الْعَمَلِ كَاسْتِئْجَارِ الْقَصَّارِ وَالْخَيَّاطِ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ مَعْلُومًا وَذَلِكَ فِي الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ، وَقَدْ تَكُونُ عَقْدًا عَلَى الْمَنْفَعَةِ كَمَا فِي أَجِيرِ الْوَحْدِ، وَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ الْوَقْتِ. قَالَ:(وَتَارَةً تَصِيرُ الْمَنْفَعَةُ مَعْلُومَةً بِالتَّعْيِينِ وَالْإِشَارَةِ كَمَنْ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا، لِيَنْقُلَ لَهُ هَذَا الطَّعَامَ إلَى مَوْضِعٍ مَعْلُومٍ)؛ لِأَنَّهُ إذَا أَرَاهُ مَا يَنْقُلُهُ وَالْمَوْضِعَ الَّذِي يَحْمِلُ إلَيْهِ كَانَتْ الْمَنْفَعَةُ مَعْلُومَةً فَيَصِحُّ الْعَقْدُ.
بَابُ الْأَجْرِ مَتَى يُسْتَحَقُّ
قَدْ تَكُونُ عَقْدًا عَلَى الْعَمَلِ، إلَى قَوْلِهِ: وَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ الْوَقْتِ) أَقُولُ: فِي هَذَا التَّقْسِيمِ نَوْعُ إشْكَالٍ، إذْ قَدْ مَرَّ فِي صَدْرِ الْكِتَابِ أَنَّ الْإِجَارَةَ عَقْدٌ عَلَى الْمَنَافِعِ بِعِوَضٍ فَكَيْفَ يَصِحُّ تَقْسِيمُهَا إلَى الْعَقْدِ عَلَى الْعَمَلِ وَإِلَى الْعَقْدِ عَلَى الْمَنْفَعَةِ، وَهَذَا يَلْزَمُ مِنْهُ تَقْسِيمُ الشَّيْءِ إلَى نَفْسِهِ وَإِلَى غَيْرِهِ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ تُحْمَلَ عِبَارَةُ التَّقْسِيمِ عَلَى الْمُسَامَحَةِ فَيَكُونُ الْمُرَادُ الْإِجَارَةَ قَدْ تَكُونُ عَقْدًا عَلَى مَنْفَعَةِ الْعَمَلِ، وَقَدْ تَكُونُ عَقْدًا عَلَى مَنْفَعَةِ الْأَعْيَانِ لَكِنَّهُ غَيْرُ مُنْفَهِمٍ مِنْ نَفْسِ اللَّفْظِ كَمَا لَا يَخْفَى. ثُمَّ أَقُولُ: كَانَ حَقًّا عَلَى الْمُصَنِّفِ أَنْ يُؤَخِّرَ بَيَانَ هَذَا التَّقْسِيمِ الَّذِي ذَكَرَهُ بَعْضُ الْمَشَايِخِ كَصَاحِبِ الْأَسْرَارِ وَغَيْرِهِ عَنْ ذِكْرِ الْقِسْمِ الثَّالِثِ مِنْ التَّقْسِيمِ الْمَذْكُورِ فِي نَفْسِ الْكِتَابِ، وَقَدْ وَسَّطَهُ فِي الْبَيَانِ كَمَا تَرَى، وَكَأَنَّ صَاحِبَ الْكَافِي تَنَبَّهَ لِسَمَاجَةِ هَذَا التَّحْرِيرِ حَيْثُ أَخَّرَ بَيَانَ هَذَا التَّقْسِيمِ الْمَثْنَى عَنْ تَمَامِ ذِكْرِ أَقْسَامِ ذَلِكَ التَّقْسِيمِ الْمُثَلَّثِ.
وَاعْتَرَضَ صَاحِبُ الْغَايَةِ عَلَى قَوْلِ الْمُصَنِّفِ كَمَا فِي أَجِيرِ الْوَحْدِ حَيْثُ قَالَ: وَلَنَا فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ إجَارَةَ أَجِيرِ الْوَحْدِ أَيْضًا عَقْدٌ عَلَى الْعَمَلِ، وَلَكِنْ يُشْتَرَطُ فِيهَا بَيَانُ الْمُدَّةِ وَلِهَذَا جَعَلَهُ صَاحِبُ التُّحْفَةِ أَحَدَ نَوْعَيْ الِاسْتِئْجَارِ عَلَى الْأَعْمَالِ كَمَا ذَكَرْنَا آنِفًا، فَلَوْ قَالَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ وَقَدْ تَكُونُ عَقْدًا عَلَى الْمَنْفَعَةِ كَاسْتِئْجَارِ الدُّورِ، وَالْحَوَانِيتِ وَنَحْوِهَا كَانَ أَوْلَى. اهـ كَلَامُهُ.
أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ إجَارَةَ أَجِيرِ الْوَحْدِ لَيْسَتْ بِعَقْدٍ عَلَى الْعَمَلِ وَلِهَذَا يَسْتَحِقُّ أَجِيرُ الْوَحْدِ الْأُجْرَةَ بِتَسْلِيمِ نَفْسِهِ فِي الْمُدَّةِ وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ قَاطِبَةً كَمَا سَيَأْتِي فِي الْكِتَابِ، وَلَوْ كَانَتْ عَقْدًا عَلَى الْعَمَلِ لَمَا اسْتَحَقَّهَا بِدُونِ الْعَمَلِ بَلْ إنَّمَا هِيَ عَقْدٌ عَلَى مَنَافِعِ نَفْسِهِ مُطْلَقًا وَلِهَذَا لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إيجَابِ مَنَافِعِهِ لِغَيْرِهِ، وَتَعْيِينُ الْعَمَلِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ كَرَعْيِ الْغَنَمِ وَنَحْوِهِ؛ لِصَرْفِ لْمَنْفَعَةِ الْمُسْتَحَقَّةِ إلَى تِلْكَ الْجِهَةِ، وَسَيَظْهَرُ هَذَا كُلُّهُ فِي بَابِ ضَمَانِ الْأَجِيرِ. وَجَعَلَ صَاحِبُ التُّحْفَةِ ذَلِكَ أَحَدَ نَوْعَيْ الِاسْتِئْجَارِ عَلَى الْأَعْمَالِ لَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَى الْمُصَنِّفِ. وَلَوْ مَثَّلَ الْمُصَنِّفُ مَا يَكُونُ عَقْدًا عَلَى الْمَنْفَعَةِ بِاسْتِئْجَارِ الدُّورِ وَنَحْوِهَا دُونَ أَجِيرِ الْوَحْدِ لَفَاتَ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ إجَارَةَ أَجِيرِ الْوَحْدِ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ وَهُوَ مَقْصُودٌ لِخَفَاءِ ذَلِكَ عَلَى الْبَعْضِ فَتَنَبَّهْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(بَابُ الْأَجْرِ مَتَى يُسْتَحَقُّ). قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ صِحَّةَ الْإِجَارَةِ مَوْقُوفَةٌ عَلَى أَنْ تَكُونَ الْأُجْرَةُ مَعْلُومَةً احْتَاجَ إلَى بَيَانِ وَقْتِ وُجُوبِهَا فَذَكَرَهُ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ الْمَسَائِلِ فِي هَذَا الْبَابِ. اهـ كَلَامُهُ. وَاقْتَفَى أَثَرَهُ فِي هَذَا التَّوْجِيهِ جَمَاعَةٌ مِنْ الشُّرَّاحِ. أَقُولُ: لَا يَخْفَى عَلَى ذِي فِطْرَةٍ سَلِيمَةٍ رَكَاكَةُ هَذَا التَّوْجِيهِ وَسَخَافَتُهُ، إذْ لَا يَسْتَدْعِي ذِكْرُ مُجَرَّدِ أَنَّ صِحَّةَ الْإِجَارَةِ مَوْقُوفَةٌ عَلَى كَوْنِ الْأُجْرَةِ مَعْلُومَةً بَيَانَ وُجُوبِهَا فَضْلًا عَنْ الِاحْتِيَاجِ إلَى بَيَانِ وَقْتِ وُجُوبِهَا فِي بَابٍ عَلَى حِدَةٍ، أَلَا يُرَى أَنَّ مَعْلُومِيَّةَ الْبَدَلَيْنِ شَرْطٌ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْعُقُودِ؛ وَلَمْ يَحْتَجْ فِي شَيْءٍ مِنْهَا إلَى بَيَانِ وَقْتِ الْوُجُوبِ فِي بَابٍ عَلَى حِدَةٍ. وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: لَمَّا كَانَتْ الْإِجَارَةُ تُخَالِفُ غَيْرَهَا فِي تَخَلُّفِ
قَالَ: (الْأُجْرَةُ لَا تَجِبُ بِالْعَقْدِ وَتُسْتَحَقُّ بِأَحَدِ مَعَانٍ ثَلَاثَةٍ: إمَّا بِشَرْطِ التَّعْجِيلِ، أَوْ بِالتَّعْجِيلِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ،
الْمِلْكِ عَنْ الْعَقْدِ بِلَا خِيَارِ شَرْطٍ وَجَبَ إفْرَادُهَا بِبَابٍ عَلَى حِدَةٍ لِبَيَانِ وَقْتِ التَّمَلُّكِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ الْمَسَائِلِ. اهـ كَلَامُهُ.
أَقُولُ: فِيهِ شَيْءٌ وَهُوَ أَنَّ تَخَلُّفَ الْمِلْكِ عَنْ الْعَقْدِ يُوجَدُ فِي غَيْرِهَا أَيْضًا كَالْهِبَةِ فَإِنَّ الْمِلْكَ لَا يَثْبُتُ هُنَاكَ أَيْضًا بِنَفْسِ الْعَقْدِ بَلْ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَبْضِ كَمَا مَرَّ، وَكَالْوَصِيَّةِ فَإِنَّ الْمِلْكَ هُنَاكَ أَيْضًا يَتَأَخَّرُ إلَى وَقْتِ الْمَوْتِ فَلَا يَتِمُّ الْقَوْلُ بِأَنَّ الْإِجَارَةَ تُخَالِفُ غَيْرَهَا فِي تَخَلُّفِ الْمِلْكِ عَنْ الْعَقْدِ بِلَا خِيَارِ شَرْطٍ. ثُمَّ أَقُولُ: الْأَظْهَرُ أَنْ يُقَالَ: لَمَّا كَانَ وَقْتُ اسْتِحْقَاقِ الْأُجْرَةِ مِمَّا وَقَعَ فِيهِ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ أَئِمَّةِ الشَّرْعِ، وَكَانَ يَتَعَلَّقُ بِهِ كَثِيرٌ مِنْ الْمَسَائِلِ حَسُنَ إفْرَادُ بَابٍ لِبَيَانِ اسْتِحْقَاقِ الْأُجْرَةِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ الْمَسَائِلِ (قَوْلُهُ: الْأُجْرَةُ لَا تَجِبُ بِالْعَقْدِ) قَالَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ: أَرَادَ وُجُوبَ الْأَدَاءِ، أَمَّا نَفْسُ الْوُجُوبِ فَيَثْبُتُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ. وَقَالَ صَاحِبُ الْكِفَايَةِ: الْمُرَادُ نَفْسُ الْوُجُوبِ لَا وُجُوبُ الْأَدَاءِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ إجْمَالًا وَتَفْصِيلًا. أَمَّا إجْمَالًا فَلِأَنَّ الْأُجْرَةَ لَوْ كَانَتْ عَبْدًا فَأَعْتَقَهُ الْمُؤَجِّرُ قَبْلَ وُجُودِ أَحَدِ مَعَانٍ ثَلَاثَةٍ لَا يُعْتَقُ، فَلَوْ كَانَ نَفْسُ الْوُجُوبِ ثَابِتًا لَصَحَّ إعْتَاقُهُ كَمَا فِي الْبَيْعِ. وَأَمَّا تَفْصِيلًا فَلِأَنَّهُ مُعَاوَضَةٌ فَتُعْتَبَرُ الْمُسَاوَاةُ وَلَمْ تُوجَدْ فِي جَانِبِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ لَا نَفْسُ الْوُجُوبِ، وَلَا وُجُوبُ الْأَدَاءِ، فَكَذَا فِي جَانِبِ الْعِوَضِ انْتَهَى.
وَقَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: الْأُجْرَةُ لَا تَجِبُ بِالْعَقْدِ: أَيْ لَا يَجِبُ تَسْلِيمُهَا وَأَدَاؤُهَا بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ، كَذَا وَجَدْتُ بِخَطِّ شَيْخِي. وَذَكَرَ فِي الذَّخِيرَةِ مَا يُؤَيِّدُ هَذَا فَقَالَ: يَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الْأُجْرَةَ لَا تُمْلَكُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ وَلَا يَجِبُ إيفَاؤُهَا إلَّا بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ إذَا لَمْ يُشْتَرَطْ التَّعْجِيلُ فِي الْأُجْرَةِ سَوَاءٌ كَانَتْ الْأُجْرَةُ عَيْنًا أَوْ دَيْنًا، هَكَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ رحمه الله فِي الْجَامِعِ، وَفِي كِتَابِ التَّحَرِّي. وَذَكَرَ فِي الْإِجَارَاتِ أَنَّ الْأُجْرَةَ إذَا كَانَتْ عَيْنًا لَا تُمْلَكُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ، وَإِنْ كَانَتْ دَيْنًا تُمْلَكُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ وَتَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ، فَعَامَّةُ الْمَشَايِخِ عَلَى أَنَّ الصَّحِيحَ مَا ذَكَرَهُ فِي الْجَامِعِ وَكِتَابِ التَّحَرِّي.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَا ذَكَرَهُ فِي الْإِجَارَاتِ قَوْلُ مُحَمَّدٍ أَوَّلًا، وَمَا ذَكَرَهُ فِي الْجَامِعِ، وَالتَّحَرِّي قَوْلًا آخِرًا، إلَى هُنَا لَفْظُ النِّهَايَةِ. أَقُولُ: تَأْيِيدُ مَا ذَكَرَ فِي الذَّخِيرَةِ كَوْنُ مَعْنَى عِبَارَةِ الْكِتَابِ مَا قَالَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ مَمْنُوعٌ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي الذَّخِيرَةِ: إنَّ الْأُجْرَةَ لَا تُمْلَكُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ قَبْلَ أَنْ قَالَ: وَلَا يَجِبُ إيفَاؤُهَا إلَّا بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ إذَا لَمْ يُشْتَرَطْ التَّعْجِيلُ فِي الْأُجْرَةِ، فَعُلِمَ مِنْهُ أَنَّ الْأُجْرَةَ لَا تُمْلَكُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ عِنْدَنَا كَمَا لَا يَجِبُ أَدَاؤُهَا بِنَفْسِ الْعَقْدِ فَتَمَّ، بِخِلَافِ مَا فِي الْكِتَابِ فَإِنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ شَيْءٌ قَبْلَ أَنْ قَالَ الْأُجْرَةُ لَا تَجِبُ فِي الْعَقْدِ، فَلَوْ كَانَ مَعْنَاهُ الْأُجْرَةُ لَا يَجِبُ تَسْلِيمُهَا وَأَدَاؤُهَا بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ لَمْ يُفْهَمْ مِنْهُ أَنَّ الْأُجْرَةَ لَا تُمْلَكُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ، إذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ وُجُوبِ الْأَدَاءِ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ عَدَمُ تَمَلُّكِهَا بِمُجَرَّدِهِ: أَلَا تَرَى أَنَّ الثَّمَنَ مِمَّا يَمْلِكُهُ الْبَائِعُ بِمُجَرَّدِ عَقْدِ الْبَيْعِ بِلَا
أَوْ بِاسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تُمْلَكُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ الْمَعْدُومَةَ صَارَتْ مَوْجُودَةً حُكْمًا ضَرُورَةَ تَصْحِيحِ الْعَقْدِ فَيَثْبُتُ الْحُكْمُ فِيمَا يُقَابِلُهُ مِنْ الْبَدَلِ. وَلَنَا أَنَّ الْعَقْدَ يَنْعَقِدُ شَيْئًا فَشَيْئًا عَلَى حَسَبِ حُدُوثِ الْمَنَافِعِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَالْعَقْدُ مُعَاوَضَةٌ، وَمِنْ قَضِيَّتِهَا الْمُسَاوَاةُ، فَمِنْ ضَرُورَةِ التَّرَاخِي فِي جَانِبِ الْمَنْفَعَةِ التَّرَاخِي
خِيَارٍ وَلَا يَجِبُ تَسْلِيمُهُ وَأَدَاؤُهُ فِي الْحَالِ بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ فِي الْبِيَاعَاتِ الْمُؤَجَّلَةِ بَلْ يَتَأَخَّرُ إلَى حُلُولِ الْأَجَلِ، فَإِذَا لَمْ يُفْهَمْ مِنْهُ ذَلِكَ لَمْ يَفْدِ مَا هُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَنَا فَلَزِمَ أَنْ لَا يَتِمَّ.
وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: الْأُجْرَةُ لَا تَجِبُ بِالْعَقْدِ مَعْنَاهُ لَا يَجِبُ تَسْلِيمُهَا وَأَدَاؤُهَا بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ، وَلَيْسَ بِوَاضِحٍ؛ لِأَنَّ نَفْيَ وُجُوبِ التَّسْلِيمِ لَا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ التَّمَلُّكِ كَالْمَبِيعِ فَإِنَّهُ يَمْلِكُهُ الْمُشْتَرِي بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ وَلَا يَجِبُ تَسْلِيمُهُ مَا لَمْ يَقْبِضْ الثَّمَنَ.
وَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ: مَعْنَاهُ لَا تُمْلَكُ؛ لِأَنَّ مُحَمَّدًا ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ أَنَّ الْأُجْرَةَ لَا تُمْلَكُ وَمَا لَا يُمْلَكُ لَمْ يَجِبْ إيفَاؤُهُ. وَقَالَ: فَإِنْ قُلْتَ: فَإِذَا لَمْ يَسْتَلْزِمْ نَفْيُ الْوُجُوبِ نَفْيَ التَّمَلُّكِ كَانَ أَعَمَّ مِنْهُ، وَذِكْرُ الْأَعَمِّ وَإِرَادَةُ الْأَخَصِّ لَيْسَ بِمَجَازٍ شَائِعٍ؛ لِعَدَمِ دَلَالَةِ الْأَعَمِّ عَلَى الْأَخَصِّ أَصْلًا.
قُلْتُ: أَخْرَجَ الْكَلَامَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ، وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الْأُجْرَةُ مِمَّا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ وَنَفَى الْوُجُوبَ فِيهَا وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ التَّمَلُّكِ لَا مَحَالَةَ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
أَقُولُ: لَا السُّؤَالُ بِشَيْءٍ وَلَا الْجَوَابُ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ ذِكْرَ الْأَعَمِّ وَإِرَادَةَ الْأَخَصِّ إنَّمَا لَيْسَ بِمَجَازٍ شَائِعٍ إذَا لَمْ تَتَحَقَّقْ قَرِينَةٌ مُخَصِّصَةٌ، وَأَمَّا إذَا تَحَقَّقَتْ الْقَرِينَةُ فَذَلِكَ مَجَازٌ شَائِعٌ وُقُوعُهُ فِي كَلِمَاتِ الْقَوْمِ حَتَّى تَعْرِيفَاتِهِمْ الَّتِي يَجِبُ فِيهَا التَّحَرُّزُ عَمَّا يُورِثُ خَفَاءَ الْمُرَادِ، وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ قَدْ تَحَقَّقَتْ الْقَرِينَةُ عَلَى إرَادَةِ الْأَخَصِّ وَهِيَ قَوْلُهُ: وَقَالَ الشَّافِعِيُّ تُمْلَكُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ كَمَا اعْتَرَفَ بِهِ الشَّارِحُ الْمَزْبُورُ حَيْثُ قَالَ فِيمَا بَعْدُ: يَدُلُّ عَلَى هَذَا كُلِّهِ قَوْلُهُ: وَقَالَ الشَّافِعِيُّ تُمْلَكُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ مَحَلُّ الْخِلَافِ مُتَّحِدًا.
وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ وَنَفَى الْوُجُوبَ فِيهَا أَنَّهُ قَصَدَ نَفْيَ الْوُجُوبِ فِي الذِّمَّةِ بِدُونِ أَنْ يَجْعَلَهُ مَجَازًا عَنْ نَفْيِ التَّمَلُّكِ لَمْ يَكُنْ مُطَابِقًا لِقَوْلِهِ، وَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ: مَعْنَاهُ لَا تُمْلَكُ وَإِنَّمَا مَوْرِدُ السُّؤَالِ ذَلِكَ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ جَعَلَ نَفْيَ الْوُجُوبِ مَجَازًا عَنْ نَفْيِ التَّمَلُّكِ لِعَلَاقَةِ الِاسْتِلْزَامِ لَمْ يَحْتَجْ إلَى قَوْلِهِ أَخْرَجَ الْكَلَامَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ، وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الْأُجْرَةُ مِمَّا يَثْبُتُ بِالذِّمَّةِ؛ لِأَنَّ الْأُجْرَةَ كُلَّهَا سَوَاءٌ كَانَتْ عَيْنًا أَوْ دَيْنًا مِمَّا يُمْلَكُ، وَإِذَا كَانَ مَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ مِنْهَا هُوَ الدَّيْنُ دُونَ الْعَيْنِ فَنَفْيُ التَّمَلُّكِ بِالْعَقْدِ يَنْتَظِمُ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْأُجْرَةِ، وَلَا يَخْتَصُّ بِمَا هُوَ الْغَالِبُ مِنْهَا وَهُوَ الدَّيْنُ الثَّابِتُ فِي الذِّمَّةِ حَتَّى يَحْتَاجَ إلَى أَنْ يُقَالَ: أَخْرَجَ الْكَلَامَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ، عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ التَّمَلُّكِ لَا مَحَالَةَ مَمْنُوعٌ، فَإِنَّ الْعَيْنَ مِمَّا لَا يَجِبُ فِي الذِّمَّةِ مَعَ أَنَّهُ مِمَّا يُمْلَكُ قَطْعًا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: فَإِنَّ فِي صُورَةِ التَّعْجِيلِ يُوجَدُ الْمِلْكُ بِلَا وُجُوبٍ فَتَأَمَّلْ.
(قَوْلُهُ: وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تُمْلَكُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ الْمَعْدُومَةَ صَارَتْ مَوْجُودَةً حُكْمًا ضَرُورَةَ تَصْحِيحِ الْعَقْدِ فَيَثْبُتُ الْحُكْمُ فِيمَا يُقَابِلُهُ مِنْ الْبَدَلِ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ
فِي الْبَدَلِ الْآخَرِ. وَإِذَا اسْتَوْفَى الْمَنْفَعَةَ يَثْبُتُ الْمِلْكُ فِي الْأَجْرِ لِتَحَقُّقِ التَّسْوِيَةِ. وَكَذَا إذَا شَرَطَ التَّعْجِيلَ أَوْ عَجَّلَ؛ لِأَنَّ الْمُسَاوَاةَ تُثْبِتُ حَقًّا لَهُ وَقَدْ أَبْطَلَهُ.
فِي حَلِّ هَذَا الْمَحَلِّ: وَاسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ الْمَعْدُومَةَ صَارَتْ مَوْجُودَةً ضَرُورَةَ تَصْحِيحِ الْعَقْدِ؛ وَلِهَذَا صَحَّتْ الْإِجَارَةُ بِأُجْرَةٍ مُؤَجَّلَةٍ، وَلَوْ لَمْ تُجْعَلْ مَوْجُودَةً كَانَ دَيْنًا بِدَيْنٍ وَهُوَ حَرَامٌ لَا مَحَالَةَ، وَإِذَا كَانَتْ مَوْجُودَةً وَجَبَ ثُبُوتُ الْمِلْكِ بِالْعَقْدِ؛ لِوُجُودِ الْمُقْتَضِي وَانْتِفَاءِ الْمَانِعِ فَيَثْبُتُ الْحُكْمُ فِيمَا يُقَابِلُهُ مِنْ الْبَدَلِ انْتَهَى.
وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ حَيْثُ قَالَ قَوْلُهُ: لِوُجُودِ الْمُقْتَضِي وَانْتِفَاءِ الْمَانِعِ مَمْنُوعٌ، فَإِنَّ انْتِفَاءَ الْوُجُودِ حَقِيقَةً مَانِعٌ عَنْهُ انْتَهَى. أَقُولُ: هَذَا الْإِيرَادُ سَاقِطٌ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ الْمَعْدُومَةَ إذَا جُعِلَتْ مَوْجُودَةً فِي حُكْمِ الشَّرْعِ يَجِبُ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ ثُبُوتُ الْمِلْكِ بِالْعَقْدِ وَلَا يَبْقَى لِانْتِفَاءِ الْوُجُودِ حَقِيقَةُ صَلَاحِيَّةٍ لِلْمَنْعِ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ إنَّمَا يَجْعَلُهَا مَوْجُودَةً؛ لِأَجْلِ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْحُكْمُ، فَلَوْ كَانَ انْتِفَاءُ وُجُودِهَا حَقِيقَةً مَانِعًا عَنْهُ لَزِمَ أَنْ يَلْغُوَ جَعْلُ الشَّرْعِ إيَّاهَا مَوْجُودَةً وَهَذَا خُلْفٌ. وَعَنْ هَذَا قَالُوا: وَلِلشَّارِعِ وِلَايَةُ جَعْلِ الْمَعْدُومِ حَقِيقَةً مَوْجُودًا كَمَا جَعَلَ النُّطْفَةَ فِي الرَّحِمِ وَلَا حَيَاةَ فِيهَا كَالْحَيِّ حُكْمًا فِي حَقِّ الْإِرْثِ، وَالْعِتْقِ، وَالْوَصِيَّةِ عَلَى مَا ذَكَرَ فِي الْكَافِي وَعَامَّةِ الشُّرُوحِ.
نَعَمْ يَرِدُ عَلَى اسْتِدْلَالِ الشَّافِعِيِّ كَلَامٌ آخَرُ مِنْ قِبَلِ أَئِمَّتِنَا كَمَا أُشِيرُ إلَيْهِ فِي عَامَّةِ الْمُعْتَبَرَاتِ، وَهُوَ أَنَّ جَعْلَ الْمَعْدُومِ مَوْجُودًا فِي الشَّرْعِ إنَّمَا يَكُونُ فِيمَا إذَا دَعَتْ الضَّرُورَةُ إلَيْهِ، وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ لَا تَدْعُو الضَّرُورَةُ إلَيْهِ لِإِمْكَانِ تَصْحِيحِ الْعَقْدِ بِطَرِيقٍ آخَرَ أَوْضَحَ وَأَوْسَعَ مِنْهُ وَهُوَ إقَامَةُ الْعَيْنِ الَّتِي هِيَ سَبَبٌ لِوُجُودِ الْمَنْفَعَةِ كَالدَّارِ مَثَلًا مَقَامَ الْمَنْفَعَةِ فِي حَقِّ صِحَّةِ الْإِيجَابِ، وَالْقَبُولِ. ثُمَّ انْعِقَادُ الْعَقْدِ فِي حَقِّ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ عَلَى حَسَبِ حُدُوثِ الْمَنَافِعِ، وَإِقَامَةُ السَّبَبِ مَقَامَ الْمُسَبِّبِ أَصْلٌ شَائِعٌ فِي الشَّرْعِ. كَإِقَامَةِ السَّفَرِ مَقَامَ الْمَشَقَّةِ، وَإِقَامَةِ الْبُلُوغِ مَقَامَ كَمَالِ الْعَقْلِ وَهَلُمَّ جَرَّا مِنْ النَّظَائِرِ.
ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: فَإِنْ قِيلَ: الثَّابِتُ بِالضَّرُورَةِ لَا يَتَعَدَّى مَوْضِعَهَا فَلَا يَتَعَدَّى مِنْ صِحَّةِ الْعَقْدِ إلَى إفَادَةِ الْمِلْكِ. فَالْجَوَابُ أَنَّ الضَّرُورِيَّ إذَا ثَبَتَ يَسْتَتْبِعُ لَوَازِمَهُ، وَإِفَادَةُ الْمِلْكِ مِنْ لَوَازِمِ الْوُجُودِ عِنْدَ الْعَقْدِ. انْتَهَى. أَقُولُ: فِي الْجَوَابِ بَحْثٌ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَرَادَ أَنَّ إفَادَةَ الْمِلْكِ فِي الْحَالِ مِنْ لَوَازِمِ الْوُجُودِ عِنْدَ الْعَقْدِ فَهُوَ مَمْنُوعٌ، كَيْفَ وَقَدْ تَقَرَّرَ فِيمَا مَرَّ أَنَّ حُكْمَ الْعَقْدِ يَجُوزُ أَنْ يَنْفَصِلَ عَنْهُ كَالْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ فَإِنَّ الْمِلْكَ فِيهِ يَتَرَاخَى إلَى وَقْتِ سُقُوطِ الْخِيَارِ مَعَ وُجُودِ الْمَبِيعِ عِنْدَ الْعَقْدِ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ إفَادَةَ الْمِلْكِ وَلَوْ بَعْدَ زَمَانٍ مِنْ لَوَازِمِ ذَلِكَ فَهُوَ مُسَلَّمٌ، لَكِنَّ هَذَا لَا يُفِيدُ مُدَّعَى الشَّافِعِيِّ، فَإِنَّ مُدَّعَاهُ أَنَّ الْأُجْرَةَ تُمْلَكُ فِي الْحَالِ. وَالْجَوَابُ الْمَزْبُورُ إنَّمَا هُوَ لِتَصْحِيحِ مُدَّعَاهُ فَلَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ. وَاعْتَرَضَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ عَلَى الْجَوَابِ الْمَسْفُورِ بِوَجْهٍ آخَرَ حَيْثُ قَالَ: إنْ أَرَادَ أَنَّ إفَادَةَ الْمِلْكِ مِنْ لَوَازِمِ الْوُجُودِ حَقِيقَةً فَمُسَلَّمٌ وَلَا يُفِيدُهُ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهَا مِنْ لَوَازِمِ الْوُجُودِ، وَلَوْ حُكْمًا فَغَيْرُ مُسَلَّمٍ انْتَهَى.
أَقُولُ مَا ذَكَرَهُ فِي كُلٍّ مِنْ شِقَّيْ تَرْدِيدِهِ لَيْسَ بِسَدِيدٍ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُ سَلَّمَ كَوْنَ إفَادَةِ الْمِلْكِ مِنْ لَوَازِمِ الْوُجُودِ حَقِيقَةً مَعَ أَنَّ إفَادَةَ الْمِلْكِ فِي الْحَالِ كَمَا هُوَ مُدَّعَى الشَّافِعِيِّ لَيْسَ مِنْ لَوَازِمِ الْوُجُودِ حَقِيقَةً؛ أَلَا يُرَى أَنَّ الْمَبِيعَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا حَقِيقَةً عِنْدَ الْعَقْدِ مَعَ أَنَّ الْبَيْعَ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لَا يُفِيدُ الْمِلْكَ فِي الْحَالِ كَمَا مَرَّ. وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الْوُجُودَ الْحُكْمِيَّ لَا يَكَادُ أَنْ يُخَالِفَ الْوُجُودَ الْحَقِيقِيَّ فِي اللَّوَازِمِ الشَّرْعِيَّةِ وَإِلَّا لَمْ تَحْصُلْ فَائِدَةٌ فِي جَعْلِ الشَّرْعِ الْوُجُودَ الِاعْتِبَارِيَّ فِي حُكْمِ الْوُجُودِ الْحَقِيقِيِّ، فَلَمَّا سَلَّمَ أَوَّلًا كَوْنَ إفَادَةِ الْمِلْكِ مِنْ لَوَازِمِ الْوُجُودِ حَقِيقَةً لَزِمَهُ تَسْلِيمُ كَوْنِهَا مِنْ لَوَازِمِ الْوُجُودِ حُكْمًا أَيْضًا، فَالْوَجْهُ الْوَجِيهُ فِي التَّرْدِيدِ وَفِي الْمَنْعِ، وَالتَّسْلِيمِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ.
(قَوْلُهُ: وَكَذَا إذَا شَرَطَ التَّعْجِيلَ أَوْ عَجَّلَ؛ لِأَنَّ الْمُسَاوَاةَ تَثْبُتُ حَقًّا لَهُ وَقَدْ أَبْطَلَهُ) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ: وَاعْتَرَضَ بِأَنَّ شَرْطَ التَّعْجِيلِ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ يُخَالِفُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ، وَفِيهِ نَفْعٌ لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَلَهُ مَطَالِبٌ فَيَفْسُدُ الْعَقْدُ. وَالْجَوَابُ أَنَّهُ يُخَالِفُ مُقْتَضَى
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الْعَقْدِ مِنْ حَيْثُ كَوْنِهِ إجَارَةً أَوْ مِنْ حَيْثُ كَوْنِهِ مُعَاوَضَةً، وَالْأَوَّلُ مُسَلَّمٌ، وَلَيْسَ جَوَازُ اشْتِرَاطِ التَّعْجِيلِ بِاعْتِبَارِهِ، وَالثَّانِي مَمْنُوعٌ، فَإِنَّ تَعْجِيلَ الْبَدَلِ وَاشْتِرَاطَهُ لَا يُخَالِفُهُ مِنْ حَيْثُ الْمُعَاوَضَةِ انْتَهَى. أَقُولُ: فِي الْجَوَابِ نَظَرٌ، أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ حَيْثِيَّةَ كَوْنِهِ إجَارَةً هِيَ حَيْثِيَّةُ كَوْنِهِ مُعَاوَضَةً مَخْصُوصَةً، فَمَا يُخَالِفُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ مِنْ إحْدَى هَاتَيْنِ الْحَيْثِيَّتَيْنِ يُخَالِفُ مُقْتَضَاهُ مِنْ الْحَيْثِيَّةِ الْأُخْرَى فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ: وَالْأَوَّلُ مُسَلَّمٌ، وَالثَّانِي مَمْنُوعٌ وَهَلَّا يَسْتَلْزِمُ تَسْلِيمُ الْأَوَّلِ تَسْلِيمَ الثَّانِي وَمَنْعُ الثَّانِي مَنْعَ الْأَوَّلِ. فَإِنْ قِيلَ: مُرَادُهُ بِحَيْثِيَّةِ كَوْنِهِ مُعَاوَضَةً حَيْثِيَّةُ كَوْنِهِ مُعَاوَضَةً مَا مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ خُصُوصِيَّتِهِ فَلَا يَلْزَمُ اتِّحَادُ الْحَيْثِيَّتَيْنِ.
قُلْنَا: فَيَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ صِحَّةُ اشْتِرَاطِ التَّعْجِيلِ فِي عَقْدِ الْإِجَارَةِ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ مُعَاوَضَةً مَا مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ خُصُوصِيَّةِ كَوْنِهِ إجَارَةً. وَلَا يَخْفَى أَنَّ ذَلِكَ الِاعْتِبَارَ لَا يَخْطِرُ بِبَالِ أَحَدٍ مِنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ عِنْدَ اشْتِرَاطِ التَّعْجِيلِ، عَلَى أَنَّهُمَا لَوْ صَرَّحَا بِأَنَّهُمَا لَوْ شَرَطَا التَّعْجِيلَ فِي عَقْدِ الْإِجَارَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ إجَارَةٌ لَمْ يَفْسُدْ الْعَقْدُ قَطْعًا. وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ قَوْلَهُ فَإِنَّ تَعْجِيلَ الْبَدَلِ وَاشْتِرَاطَهُ لَا يُخَالِفُهُ مِنْ حَيْثُ الْمُعَاوَضَةِ غَيْرُ تَامٍّ، فَإِنَّ مِنْ قَضِيَّةِ الْمُعَاوَضَةِ الْمُسَاوَاةَ، وَبِشَرْطِ تَعْجِيلِ الْأُجْرَةِ قَبْلَ ثُبُوتِ الْمِلْكِ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ تَفُوتُ الْمُسَاوَاةُ كَمَا لَا يَخْفَى. وَالْأَوْلَى
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فِي الْجَوَابِ مَا ذَكَرَ فِي الْكِفَايَةِ وَشَرْحِ تَاجِ الشَّرِيعَةِ وَهُوَ أَنَّ شَرْطَ التَّعْجِيلِ فِي الْإِجَارَةِ لَا يُخَالِفُهُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ، فَإِنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ يَقْتَضِي التَّعْجِيلَ كَالْبَيْعِ، إلَّا أَنَّهُ سَقَطَ لِمَانِعٍ، وَهُوَ وُجُوبُ الْمُسَاوَاةِ وَهُوَ حَقُّ الْمُسْتَأْجِرِ، فَإِذَا أَسْقَطَ حَقَّهُ بِالتَّعْجِيلِ زَالَ الْمَانِعُ فَصَحَّ. ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَعُورِضَ دَلِيلُنَا بِأَنَّ الْإِبْرَاءَ عَنْ الْأُجْرَةِ، وَالِارْتِهَانَ عَنْهَا، وَالْكَفَالَةَ بِهَا صَحِيحَةٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَلَوْلَا الْمِلْكُ لَمَا صَحَّتْ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ صِحَّةَ الْإِبْرَاءِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ مَمْنُوعَةٌ، وَجَوَّزَهُ مُحَمَّدٌ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ سَبَبٌ فِي جَانِبِ الْأُجْرَةِ، إذْ اللَّفْظُ صَالِحٌ لِإِثْبَاتِ الْحُكْمِ بِهِ، وَعَدَمُ الِانْعِقَادِ فِي جَانِبِ الْمَنْفَعَةِ لِضَرُورَةِ الْعَدَمِ وَلَا ضَرُورَةَ فِي الْأُجْرَةِ فَظَهَرَ الِانْعِقَادُ فِي حَقِّهِ، وَيَصِحُّ الْإِبْرَاءُ لِوُجُودِهِ بَعْدَ السَّبَبِ، وَكَذَلِكَ الْكَفَالَةُ كَالْكَفَالَةِ بِمَا يَذُوبُ لَهُ عَلَى فُلَانٍ وَصِحَّةِ الرَّهْنِ؛ لِأَنَّ مُوجِبَهُ ثُبُوتُ يَدِ الِاسْتِيفَاءِ وَاسْتِيفَاءُ الْأَجْرِ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ صَحِيحٌ بِالتَّعْجِيلِ أَوْ اشْتِرَاطِهِ، فَكَذَا الرَّهْنُ بِهِ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
أَقُولُ: هَذَا كُلُّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ النِّهَايَةِ، إلَّا أَنَّ التَّعْلِيلَ الْمَذْكُورَ لِتَجْوِيزِ مُحَمَّدٍ رحمه الله الْإِبْرَاءَ عَنْ الْأُجْرَةِ لَيْسَ بِسَدِيدٍ؛ لِأَنَّهُ كَمَا تَحَقَّقَتْ ضَرُورَةٌ فِي عَدَمِ الِانْعِقَادِ فِي جَانِبِ الْمَنْفَعَةِ، وَهِيَ كَوْنُ الْمَنَافِعِ مَعْدُومَةً كَذَلِكَ تَحَقَّقَتْ ضَرُورَةٌ فِي عَدَمِ الِانْعِقَادِ فِي جَانِبِ الْأُجْرَةِ أَيْضًا، وَهِيَ اقْتِضَاءُ عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ الْمُسَاوَاةَ. وَعَنْ هَذَا قَالَ الْمُصَنِّفُ: وَالْعَقْدُ مُعَاوَضَةٌ، وَمِنْ قَضِيَّتِهَا الْمُسَاوَاةُ، فَمِنْ ضَرُورَةِ التَّرَاخِي فِي جَانِبِ الْمَنْفَعَةِ التَّرَاخِي فِي الْبَدَلِ الْآخِرِ، فَلَا وَجْهَ لِقَوْلِهِ وَلَا ضَرُورَةَ فِي الْأُجْرَةِ فَظَهَرَ الِانْعِقَادُ فِي حَقِّهِ، عَلَى أَنَّ ذَلِكَ التَّعْلِيلَ لَا يَتَمَشَّى أَصْلًا فِيمَا إذَا كَانَتْ الْأُجْرَةُ مَنْفَعَةً أَيْضًا مِنْ خِلَافِ جِنْسِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ صَحِيحٌ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ فِي عَامَّةِ الْمُعْتَبَرَاتِ، مَعَ أَنَّ كُلًّا مِنْ الْبَدَلَيْنِ مَعْدُومٌ هُنَاكَ قَطْعًا فَلَا فَرْقَ فِي الْجَانِبَيْنِ أَصْلًا كَمَا لَا يَخْفَى. وَأَوْرَدَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ عَلَى قَوْلِهِ فَظَهَرَ الِانْعِقَادُ بِوَجْهٍ آخَرَ حَيْثُ قَالَ: إنْ أَرَادَ الِانْعِقَادَ فِي حَقِّ الْحُكْمِ فَلَيْسَ بِمُنْعَقِدٍ فِي حَقِّ الْحُكْمِ بِإِجْمَاعِ عُلَمَائِنَا، وَإِنْ أَرَادَ غَيْرَهُ فَلْيُبَيِّنْ عَلَى أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَا سَبَقَ فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ مِنْ أَنَّ قَوْلَهُ أَبْرَأْتَنِي إقْرَارٌ بِالْمَالِ الْمُدَّعَى، فَلْيُتَأَمَّلْ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
أَقُولُ: قَدْ أَخَذَ أَصْلَ إيرَادِهِ مِنْ الْبَدَائِعِ وَإِنَّهُ سَاقِطٌ. أَمَّا بَيَانُ أَخْذِهِ مِنْ الْبَدَائِعِ فَلِأَنَّ صَاحِبَ الْبَدَائِعِ ذَكَرَ لِقَوْلِ مُحَمَّدٍ فِي جَوَازِ الْإِبْرَاءِ عَنْ الْأُجْرَةِ وَجْهَيْنِ. وَأَجَابَ عَنْ الثَّانِي بِمَا ذَكَرَهُ الْقَائِلُ هَاهُنَا حَيْثُ قَالَ: وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ إنَّ الْإِبْرَاءَ لَا يَصِحُّ إلَّا بِالْقَبُولِ، فَإِذَا قَبِلَ الْمُسْتَأْجِرُ فَقَدْ قَصَدَا صِحَّةَ تَصَرُّفِهِمَا وَلَا صِحَّةَ إلَّا بِالْمِلْكِ، فَيَثْبُتُ الْمِلْكُ بِمُقْتَضَى التَّصَرُّفِ تَصْحِيحًا لَهُ كَمَا فِي قَوْلِ الرَّجُلِ لِغَيْرِهِ أَعْتِقْ عَبْدَك عَنِّي عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ فَقَالَ أَعْتَقْتُ؛ وَلِأَنَّ الْإِبْرَاءَ إسْقَاطٌ، وَإِسْقَاطُ الْحَقِّ بَعْدَ سَبَبِ الْوُجُوبِ جَائِزٌ كَالْعَفْوِ عَنْ الْقِصَاصِ بَعْدَ الْجُرْحِ قَبْلَ الْمَوْتِ، وَسَبَبُ الْوُجُوبِ هَاهُنَا مَوْجُودٌ وَهُوَ الْعَقْدُ الْمُنْعَقِدُ. وَالْجَوَابُ أَنَّهُ إنْ كَانَ يَعْنِي بِالِانْعِقَادِ الِانْعِقَادَ فِي حَقِّ الْحُكْمِ فَهُوَ غَيْرُ مُنْعَقِدٍ فِي حَقِّ الْحُكْمِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا، وَإِنْ كَانَ يَعْنِي بِهِ شَيْئًا آخَرَ فَهُوَ غَيْرُ مَعْقُولٍ. إلَى هُنَا لَفْظُ الْبَدَائِعِ. وَأَمَّا بَيَانُ أَنَّهُ سَاقِطٌ فَلِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالِانْعِقَادِ الِانْعِقَادَ فِي حَقِّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ لَا فِي حَقِّ الْحُكْمِ كَمَا أَفْصَحَ عَنْهُ صَاحِبُ الْمُحِيطِ حَيْثُ قَالَ: وَمَعْنَى جَوَازِ الْإِجَارَةِ عَلَى مَذْهَبِنَا انْعِقَادُ الْعَقْدِ فِيمَا بَيْنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، وَهُوَ الدَّرَجَةُ الْأُولَى، وَانْعِقَادُهُ فِي حَقِّ الْحُكْمِ وَهُوَ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ.
وَقَالَ: أَلَا تَرَى أَنَّ الْبَيْعَ بِشَرْطِ الْخِيَارِ يَنْعَقِدُ فِيمَا بَيْنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَلَا يُفِيدُ الْحُكْمَ فِي الْحَالِ، ثُمَّ فَسَّرَ انْعِقَادَ الْعَقْدِ فِي حَقِّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَانْعِقَادَهُ فِي حَقِّ الْحُكْمِ بِمَا لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ، وَمَنْ يَطْلُبُ ذَلِكَ فَلْيُرَاجِعْ مَحَلَّهُ وَهُوَ أَوَاخِرُ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ مِنْ إجَارَاتِ الْمُحِيطِ الْبُرْهَانِيِّ. وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ ذَلِكَ الْمُورِدُ فِي عِلَاوَتِهِ مِنْ حَدِيثِ الْمُخَالَفَةِ لِمَا سَبَقَ فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ فَلَيْسَ بِتَامٍّ أَيْضًا، إذْ لَا مُخَالَفَةَ بَيْنَ الْمَقَامَيْنِ أَصْلًا كَمَا يَظْهَرُ بِالتَّأَمُّلِ الصَّادِقِ.
ثُمَّ أَقُولُ: لَوْ تَرَكَ صَاحِبُ الْبَدَائِعِ قَيْدَ الْمُنْعَقِدِ عِنْدَ تَقْرِيرِ الْوَجْهِ الثَّانِي مِنْ وَجْهَيْ قَوْلِ مُحَمَّدٍ رحمه الله بِقَوْلِهِ وَسَبَبُ الْوُجُوبِ هَاهُنَا مَوْجُودٌ وَهُوَ الْعَقْدُ الْمُنْعَقِدُ بِأَنْ اكْتَفَى بِقَوْلِهِ وَهُوَ الْعَقْدُ لَمَا تَمَشَّى الْجَوَابُ الَّذِي ذَكَرَهُ بِتَرْدِيدِ الْمُرَادِ بِالِانْعِقَادِ أَصْلًا، وَكَفَى فِي إثْبَاتِ قَوْلِ مُحَمَّدٍ رحمه الله: وَكَذَا لَوْ لَمْ يَتَعَرَّضْ صَاحِبُ النِّهَايَةِ، وَالْعِنَايَةِ لِحَدِيثِ الِانْعِقَادِ فِي جَانِبِ الْأُجْرَةِ دُونَ الْمَنْفَعَةِ بِأَنْ اكْتَفَيَا بِأَنْ يُقَالَ: إنَّ الْإِبْرَاءَ وَقَعَ بَعْدَ وُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ، وَهُوَ الْعَقْدُ فَصَحَّ كَالْعَفْوِ عَنْ الْقِصَاصِ بَعْدَ الْجُرْحِ، كَمَا اكْتَفَى بِهِ فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ لِمَا وَرَدَ عَلَيْهِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ
(وَإِذَا قَبَضَ الْمُسْتَأْجِرُ الدَّارَ فَعَلَيْهِ الْأَجْرُ وَإِنْ لَمْ يَسْكُنْهَا)؛ لِأَنَّ تَسْلِيمَ عَيْنِ الْمَنْفَعَةِ لَا يُتَصَوَّرُ فَأَقَمْنَا تَسْلِيمَ الْمَحَلِّ مَقَامَهُ
تَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ فِي جَانِبِ الْأُجْرَةِ أَيْضًا، وَكَفَى فِي إثْبَاتِ قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ نَفْسَهُ وَهُوَ الْإِيجَابُ، وَالْقَبُولُ الصَّادِرَانِ مِنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ مُضَافَيْنِ إلَى مَحَلِّ الْمَنْفَعَةِ، وَهُوَ الدَّارُ مَثَلًا مَرْبُوطًا أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ كَافٍ فِي السَّبَبِيَّةِ، وَلَا حَاجَةَ إلَى اعْتِبَارِ انْعِقَادِهِ فِي مَرْتَبَةِ السَّبَبِيَّةِ، فَإِنَّ الِانْعِقَادَ حُكْمُ الشَّرْعِ يَثْبُتُ وَصْفًا لَهُ شَرْعًا، وَالْعِلَلُ الشَّرْعِيَّةُ مُغَايِرَةٌ لِلْعِلَلِ الْعَقْلِيَّةِ فِي جَوَازِ انْفِكَاكِهَا عَنْ مَعْلُولَاتِهَا، فَجَازَ أَنْ يُقَالَ: الْعَقْدُ وُجِدَ، وَالِانْعِقَادُ تَرَاخَى إلَى وُجُودِ الْمَنَافِعِ سَاعَةً فَسَاعَةً، وَهَذَا هُوَ رَأْيُ بَعْضِ مَشَايِخِنَا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِ أَئِمَّتِنَا إنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ يَنْعَقِدُ سَاعَةً فَسَاعَةً عَلَى حَسَبِ حُدُوثِ الْمَنَافِعِ كَمَا ذَكَرَ صَاحِبُ الْغَايَةِ فِي صَدْرِ هَذَا الْكِتَابِ وَنَقَلْنَاهُ عَنْهُ هُنَاكَ.
نَعَمْ يَجُوزُ أَنْ يُعْتَبَرَ الْعَقْدُ انْعِقَادًا قَبْلَ حُدُوثِ الْمَنَافِعِ بِمَعْنَى الِانْعِقَادِ فِي حَقِّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ دُونَ الِانْعِقَادِ فِي حَقِّ الْحُكْمِ كَمَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْمُحِيطِ وَنَقَلْنَاهُ عَنْهُ فِيمَا مَرَّ آنِفًا، لَكِنَّ الْأَسْلَمَ فِي تَوْجِيهِ قَوْلِ مُحَمَّدٍ هَاهُنَا هُوَ الطَّرِيقَةُ الْأُخْرَى تَأَمَّلْ تَرْشُدْ.
(قَوْلُهُ: وَإِذَا قَبَضَ الْمُسْتَأْجِرُ الدَّارَ فَعَلَيْهِ الْأَجْرُ وَإِنْ لَمْ يَسْكُنْهَا) قَالَ فِي النِّهَايَةِ: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مُقَيَّدَةٌ بِقُيُودٍ. أَحَدُهَا: التَّمَكُّنُ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ حَتَّى أَنَّهُ إذَا لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ بِأَنْ مَنَعَهُ الْمَالِكُ أَوْ الْأَجْنَبِيُّ أَوْ سَلَّمَ الدَّارَ مَشْغُولَةً بِمَتَاعِهِ لَا يَجِبُ الْأَجْرُ. وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الْإِجَارَةُ صَحِيحَةً، فَإِنَّ فِي الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ يُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الْأُجْرَةِ حَقِيقَةُ الِاسْتِيفَاءِ. وَلَا تَجِبُ بِمُجَرَّدِ تَمَكُّنِ الِاسْتِيفَاءِ فِي الْمُدَّةِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ التَّمَكُّنَ مِنْ الْمُسْتَأْجِرِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ فِي الْمَكَانِ الَّذِي وَقَعَ الْعَقْدُ فِي حَقِّهِ حَتَّى إذَا اسْتَأْجَرَ دَابَّةً إلَى الْكُوفَةِ فَسَلَّمَهَا الْمُؤَجِّرُ وَأَمْسَكَهَا الْمُسْتَأْجِرُ بِبَغْدَادَ حَتَّى مَضَتْ مُدَّةٌ يُمْكِنُهُ الْمَسِيرُ فِيهَا إلَى الْكُوفَةِ فَلَا أَجْرَ عَلَيْهِ، وَإِنْ سَاقَهَا مَعَهُ إلَى الْكُوفَةِ وَلَمْ يَرْكَبْهَا وَجَبَ الْأَجْرُ. وَالرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ مُتَمَكِّنًا مِنْ الِاسْتِيفَاءِ فِي الْمُدَّةِ، فَإِنَّهُ لَوْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً إلَى الْكُوفَةِ فِي هَذَا الْيَوْمِ وَذَهَبَ إلَيْهَا بَعْدَ مُضِيِّ الْيَوْمِ بِالدَّابَّةِ
إذْ التَّمَكُّنُ مِنْ الِانْتِفَاعِ يَثْبُتُ بِهِ. قَالَ: (فَإِنْ غَصَبَهَا غَاصِبٌ مِنْ يَدِهِ سَقَطَتْ الْأُجْرَةُ)؛ لِأَنَّ تَسْلِيمَ الْمَحَلِّ إنَّمَا أُقِيمَ مَقَامَ تَسْلِيمِ الْمَنْفَعَةِ لِلتَّمَكُّنِ مِنْ الِانْتِفَاعِ، فَإِذَا فَاتَ التَّمَكُّنُ فَاتَ التَّسْلِيمُ، وَانْفَسَخَ الْعَقْدُ فَسَقَطَ الْأَجْرُ، وَإِنْ وَجَدَ الْغَصْبَ فِي بَعْضِ الْمُدَّةِ سَقَطَ الْأَجْرُ بِقَدْرِهِ. إذْ الِانْفِسَاخُ فِي بَعْضِهَا. قَالَ:(وَمَنْ اسْتَأْجَرَ دَارًا فَلِلْمُؤَجِّرِ أَنْ يُطَالِبَهُ بِأُجْرَةِ كُلِّ يَوْمٍ)؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى مَنْفَعَةً مَقْصُودَةً (إلَّا أَنْ يُبَيِّنَ وَقْتَ الِاسْتِحْقَاقِ بِالْعَقْدِ)؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ التَّأْجِيلِ (وَكَذَلِكَ إجَارَةُ الْأَرَاضِيِ) لِمَا بَيَّنَّا.
وَلَمْ يَرْكَبْ لَا يَجِبُ الْأَجْرُ، وَإِنْ تَمَكَّنَ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ فِي الْمَكَانِ الَّذِي أُضِيفَ إلَيْهِ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا تَمَكَّنَ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ. اهـ. وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ اعْتِبَارَ الْقُيُودِ الْمَذْكُورَةِ بِتَحْرِيرٍ آخَرَ: فَإِنْ قِيلَ: كَلَامُ الْمُصَنِّفِ سَاكِتٌ عَنْ أَكْثَرِ هَذِهِ الْقُيُودِ فَمَا وَجْهُهُ؟ قُلْتُ: وَجْهُهُ الِاقْتِصَارُ لِلِاخْتِصَارِ اعْتِمَادًا عَلَى دَلَالَةِ الْحَالِ وَالْعُرْفِ، فَإِنَّ حَالَ الْمُسْلِمِ دَالَّةٌ عَلَى أَنْ يُبَاشِرَ الْعَقْدَ الصَّحِيحَ، وَالْفَاسِدُ مِنْهُ يَمْنَعُهُ عَنْ الْإِقْدَامِ عَلَى الِانْتِفَاعِ، وَعَلَى أَنَّ الْعَاقِدَ يَجِبُ عَلَيْهِ تَسْلِيمُ مَا عَقَدَ عَلَيْهِ فَارِغًا عَمَّا يَمْنَعُ عَنْ الِانْتِفَاعِ بِهِ، وَالْعُرْفُ فَاشٍ فِي تَسْلِيمِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فِي مُدَّةِ الْعَقْدِ وَمَكَانِهِ فَكَانَ مَعْلُومًا عَادَةً، وَعَلَى أَنَّ الْإِكْرَاهَ، وَالْغَصْبَ مِمَّا يَمْنَعَانِ عَنْ الِانْتِفَاعِ فَاقْتَصَرَ عَنْ ذِكْرِ ذَلِكَ اعْتِمَادًا عَلَيْهِمَا. اهـ كَلَامُهُ.
أَقُولُ: فِي آخَرِ جَوَابِهِ خَلَلٌ. أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ قَوْلَهُ وَعَلَى أَنَّ الْإِكْرَاهَ، وَالْغَصْبَ مِمَّا يَمْنَعَانِ عَنْ الِانْتِفَاعِ إنْ كَانَ مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ عَلَى أَنْ يُبَاشِرَ الْعَقْدَ الصَّحِيحَ أَوْ عَلَى قَوْلِهِ وَعَلَى أَنَّ الْعَاقِدَ يَجِبُ عَلَيْهِ تَسْلِيمُ مَا عَقَدَ عَلَيْهِ فَارِغًا حَتَّى صَارَ الْمَعْنَى فَإِنَّ حَالَ الْمُسْلِمِ دَالَّةٌ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْإِكْرَاهَ، وَالْغَصْبَ مِمَّا يَمْنَعَانِ عَنْ الِانْتِفَاعِ، مَعَ رَكَاكَةِ هَذَا الْمَعْنَى كَمَا لَا يَخْفَى يَلْزَمُ الْفَصْلُ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ، وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ بِأَجْنَبِيٍّ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَالْعُرْفُ فَاشٍ إلَخْ، وَإِنْ كَانَ مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ عَلَى دَلَالَةِ الْحَالِ، وَالْعُرْفِ حَتَّى صَارَ الْمَعْنَى اعْتِمَادًا عَلَى دَلَالَةِ الْحَالِ وَالْعُرْفِ، وَعَلَى دَلَالَةِ أَنَّ الْإِكْرَاهَ وَالْغَصْبَ مِمَّا يَمْنَعَانِ عَنْ الِانْتِفَاعِ يَلْزَمُ أَنْ لَا يَتِمَّ قَوْلُهُ: فَاقْتَصَرَ عَنْ ذِكْرِ ذَلِكَ اعْتِمَادًا عَلَيْهِمَا، إذْ الظَّاهِرُ أَنَّ ضَمِيرَ عَلَيْهِمَا رَاجِعٌ إلَى الْحَالِ وَالْعُرْفِ، وَعَلَى الْمَعْنَى الْمَزْبُورِ لَا تَصِيرُ عِلَّةُ الِاقْتِصَارِ لِلِاخْتِصَارِ هِيَ الِاعْتِمَادُ عَلَى الْحَالِ، وَالْعُرْفِ فَقَطْ بَلْ تَصِيرُ عِلَّةُ ذَلِكَ هِيَ الِاعْتِمَادَ عَلَى الْحَالِ وَالْعُرْفِ، وَعَلَى أَنَّ الْإِكْرَاهَ، وَالْغَصْبَ مِمَّا يَمْنَعَانِ الِانْتِفَاعَ.
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ قَوْلَهُ وَعَلَى أَنَّ الْإِكْرَاهَ، وَالْغَصْبَ مِمَّا يَمْنَعَانِ
(وَمَنْ اسْتَأْجَرَ بَعِيرًا إلَى مَكَّةَ فَلِلْجَمَّالِ أَنْ يُطَالِبَهُ بِأُجْرَةِ كُلِّ مَرْحَلَةٍ)؛ لِأَنَّ سَيْرَ كُلِّ مَرْحَلَةٍ مَقْصُودٌ. وَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ أَوَّلًا: لَا يَجِبُ الْأَجْرُ إلَّا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ وَانْتِهَاءِ السَّفَرِ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ جُمْلَةُ الْمَنَافِعِ فِي الْمُدَّةِ فَلَا يَتَوَزَّعُ الْأَجْرُ عَلَى أَجْزَائِهَا، كَمَا إذَا كَانَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ الْعَمَلَ. وَوَجْهُ الْقَوْلِ الْمَرْجُوعِ إلَيْهِ أَنَّ الْقِيَاسَ يَقْتَضِي اسْتِحْقَاقَ الْأَجْرِ سَاعَةً فَسَاعَةً لِتَحَقُّقِ الْمُسَاوَاةِ، إلَّا أَنَّ الْمُطَالَبَةَ فِي كُلِّ سَاعَةٍ تُفْضِي إلَى أَنْ لَا يَتَفَرَّغَ لِغَيْرِهِ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ،
عَنْ الِانْتِفَاعِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْغَصْبَ أَيْضًا مِنْ الْقُيُودِ الْمُقْتَصَرِ عَنْ ذِكْرِهَا مَعَ أَنَّ الْمُصَنِّفَ ذَكَرَ صُورَةَ الْغَصْبِ صَرَاحَةً كَمَا تَرَى. (قَوْلُهُ: لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ جُمْلَةُ الْمَنَافِعِ فِي الْمُدَّةِ فَلَا يَتَوَزَّعُ الْأَجْرُ عَلَى أَجْزَائِهَا كَمَا إذَا كَانَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ الْعَمَلَ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ: لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ جُمْلَةُ الْمَنَافِعِ فِي الْمُدَّةِ، وَمَا هُوَ جُمْلَةٌ فِي الْمُدَّةِ لَا تَكُونُ مُسْلَمَةً فِي بَعْضِهَا؛ لِأَنَّ أَجْزَاءَ الْأَعْوَاضِ مُنْطَبِقَةٌ عَلَى أَجْزَاءِ الزَّمَانِ فَلَا يَسْتَحِقُّ الْمُؤَجِّرُ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ جُمْلَةِ الْمَنْفَعَةِ شَيْئًا كَمَا فِي الْمَبِيعِ فَإِنَّهُ مَا لَمْ يُسَلِّمْ جَمِيعَهُ لَا يَسْتَحِقُّ قَبْضَ الثَّمَنِ وَصَارَ كَمَا إذَا كَانَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ هُوَ الْعَمَلَ، كَالْخِيَاطَةِ فَإِنَّ الْخَيَّاطَ لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا مِنْ الْأُجْرَةِ قَبْلَ الْفَرَاغِ كَمَا سَيَأْتِي. اهـ.
أَقُولُ: فِي قَوْلِهِ كَمَا فِي الْمَبِيعِ فَإِنَّهُ مَا لَمْ يُسَلِّمْ جَمِيعَهُ لَا يَسْتَحِقُّ قَبْضَ الثَّمَنِ سَهْوٌ ظَاهِرٌ، إذْ قَدْ مَرَّ فِي الْبُيُوعِ أَنَّهُ إذَا بِيعَ سِلْعَةٌ بِثَمَنٍ قِيلَ لِلْمُشْتَرِي ادْفَعْ الثَّمَنَ أَوَّلًا، وَإِذَا بِيعَ سِلْعَةٌ بِسِلْعَةٍ أَوْ ثَمَنٌ بِثَمَنٍ قِيلَ لَهُمَا سَلِّمَا مَعًا، فَفِي الصُّورَةِ الْأُولَى يَسْتَحِقُّ قَبْضَ الثَّمَنِ قَبْلَ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ، وَفِي الصُّورَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ يَسْتَحِقُّ قَبْضَ الْبَدَلَيْنِ مَعًا، وَأَمَّا أَنْ لَا يَسْتَحِقَّ قَبْضَ الثَّمَنِ إلَّا بَعْدَ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ فَمِمَّا لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ، وَالصَّوَابُ هَاهُنَا مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْكَافِي حَيْثُ قَالَ كَمَا فِي الْمَبِيعِ فَإِنَّهُ لَا يَتَوَزَّعُ وُجُوبُ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ عَلَى تَسْلِيمِ الثَّمَنِ بَلْ لَهُ حَقُّ
فَقَدَّرْنَا بِمَا ذَكَرْنَا.
قَالَ: (وَلَيْسَ لِلْقَصَّارِ وَالْخَيَّاطِ أَنْ يُطَالِبَ بِأَجْرِهِ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ الْعَمَلِ)؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ فِي الْبَعْضِ غَيْرُ مُنْتَفَعٍ بِهِ فَلَا يَسْتَوْجِبُ بِهِ الْأَجْرَ، وَكَذَا إذَا عَمِلَ فِي بَيْتِ الْمُسْتَأْجِرِ لَا يَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ قَبْلَ الْفَرَاغِ لِمَا بَيَّنَّا. قَالَ:(إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ التَّعْجِيلَ) لِمَا مَرَّ أَنَّ الشَّرْطَ فِيهِ لَازِمٌ.
حَبْسِ جُمْلَةِ الْمَبِيعِ مَا بَقِيَ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ اهـ.
(قَوْلُهُ: وَكَذَا إذَا عَمِلَ فِي بَيْتِ الْمُسْتَأْجِرِ لَا يَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ قَبْلَ الْفَرَاغِ لِمَا بَيَّنَّا) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: هَذَا وَقَعَ مُخَالِفًا لِعَامَّةِ رِوَايَاتِ الْكُتُبِ مِنْ الْمَبْسُوطِ وَمَبْسُوطِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ، وَالذَّخِيرَةِ، وَالْمُغْنِي وَشَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِفَخْرِ الْإِسْلَامِ وَقَاضِي خَانْ والتمرتاشي وَالْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ فِي بَابِ مَنْ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا يَعْمَلُ لَهُ فِي بَيْتِهِ. وَقَالُوا: لَوْ اسْتَأْجَرَ خَيَّاطًا يَخِيطُ لَهُ فِي بَيْتِ الْمُسْتَأْجِرِ قَمِيصًا وَخَاطَ بَعْضَهُ فَسُرِقَ الثَّوْبُ فَلَهُ الْأَجْرُ بِقَدْرِ مَا خَاطَ، فَإِنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنْ الْعَمَلِ يَصِيرُ مُسَلَّمًا إلَى صَاحِبِ الثَّوْبِ بِالْفَرَاغِ مِنْهُ، وَلَا يَتَوَقَّفُ التَّسْلِيمُ فِي ذَلِكَ الْجُزْءِ عَلَى حُصُولِ كَمَالِ الْمَقْصُودِ.
وَذَكَرَ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي مِنْ الذَّخِيرَةِ وَفِي الْإِجَارَةِ الَّتِي تَنْعَقِدُ عَلَى الْعَمَلِ وَيَبْقَى لَهُ أَثَرٌ فِي الْعَيْنِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَيْضًا الْأَجْرُ إلَّا بَعْدَ إيفَاءِ الْعَمَلِ كُلِّهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ لِلْخَيَّاطِ، وَالصَّبَّاغِ فِي بَيْتِ صَاحِبِ الْمَالِ حِينَئِذٍ يَكُونُ الْجَوَابُ فِيهِ كَالْجَوَابِ فِي الْجَمَّالِ عَلَى قَوْلِهِ الْآخَرِ يَجِبُ عَلَى الْمُؤَاجِرِ إيفَاءُ الْأَجْرِ بِقَدْرِ مَا اسْتَوْفَى مِنْ الْمَنْفَعَةِ إذَا كَانَ لَهُ حِصَّةٌ مَعْلُومَةٌ مِنْ الْأَجْرِ كَمَا فِي الْجَمَّالِ. وَذَكَرَ الْإِمَامُ قَاضِي خَانْ: وَلِهَذَا لَوْ اسْتَأْجَرَ خَيَّاطًا؛ لِيَخِيطَ لَهُ فِي مَنْزِلِهِ كُلَّمَا عَمِلَ عَمَلًا يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ بِقَدْرِهِ، وَهَكَذَا أَيْضًا فِي غَيْرِهَا. وَلَكِنْ نَقَلَ فِي التَّجْرِيدِ أَنَّ الْحُكْمَ قَدْ ذُكِرَ فِيهِ كَمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ فَيَحْتَمِلُ أَنَّ الْمُصَنِّفَ تَبِعَ صَاحِبَ التَّجْرِيدِ أَبَا الْفَضْلِ الْكَرْمَانِيَّ فِي هَذَا الْحُكْمِ، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِمَا هُوَ الْحَقُّ عِنْدَهُ. إلَى هُنَا لَفْظُ صَاحِبِ النِّهَايَةِ.
وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ نَقْلِ مَا فِي النِّهَايَةِ: وَأَقُولُ كَلَامُ صَاحِبِ الذَّخِيرَةِ عَلَى مَا نَقَلَهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اسْتِحْقَاقَ بَعْضِ الْأُجْرَةِ إنَّمَا هُوَ إذَا كَانَ لَهُ حِصَّةٌ مَعْلُومَةٌ. وَأَرَى أَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ إذَا عَيَّنَا لِكُلِّ جُزْءٍ حِصَّةً مَعْلُومَةً، إذْ لَيْسَ لِلْكُمِّ مَثَلًا أَوْ لِلْبَدَنِ أَوْ لِلدَّوَامِلِ حِصَّةٌ مَعْلُومَةٌ مِنْ كُلِّ الثَّوْبِ عَادَةً فَلَمْ تَكُنْ الْحِصَّةُ مَعْلُومَةً إلَّا بِتَعْيِينِهِمَا وَحِينَئِذٍ يَصِيرُ كُلُّ جُزْءٍ بِمَنْزِلَةِ ثَوْبٍ عَلَى حِدَةٍ بِأُجْرَةٍ مَعْلُومَةٍ قَدْ فَرَغَ مِنْ عَمَلِهِ فَيَسْتَوْجِبُ أُجْرَةً كَمَا فِي كُلِّ الثَّوْبِ، وَلَعَلَّ هَذَا مُعْتَمَدُ الْمُصَنِّفِ. اهـ كَلَامُهُ. أَقُولُ: لَيْسَ مَا قَالَهُ بِشَيْءٍ، أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ كَلَامُ صَاحِبِ الذَّخِيرَةِ مِنْ أَنَّ اسْتِحْقَاقَ بَعْضِ الْأُجْرَةِ إنَّمَا هُوَ إذَا كَانَ لَهُ حِصَّةٌ مَعْلُومَةٌ إنَّمَا يَكُونُ إذَا عَيَّنَا
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
لِكُلِّ جُزْءٍ حِصَّةً مَعْلُومَةً، بَلْ يَكُونُ أَيْضًا إذَا كَانَ لَهُ حِصَّةٌ مَعْلُومَةٌ عِنْدَ أَهْلِ الْخِبْرَةِ بِتَوْزِيعِ أُجْرَةِ الْكُلِّ عَلَى كُلِّ جُزْءٍ مِنْهُ بِدُونِ تَعْيِينِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ لِكُلِّ جُزْءٍ مِنْهُ حِصَّةً مَعْلُومَةً، بَلْ هُوَ مُرَادُ صَاحِبِ الذَّخِيرَةِ كَمَا سَيَتَّضِحُ بِمَا سَنَذْكُرُهُ. وَقَوْلُهُ إذْ لَيْسَ لِلْكُمِّ أَوْ لِلْبَدَنِ أَوْ لِلدَّوَامِلِ حِصَّةٌ مَعْلُومَةٌ مِنْ كُلِّ الثَّوْبِ عَادَةً فَمَمْنُوعٌ أَيْضًا. نَعَمْ لَيْسَ بِشَيْءٍ أَيْضًا مِنْ ذَلِكَ حِصَّةٌ مُعَيَّنَةٌ فِي الْعَقْدِ عَادَةً، وَهَذَا لَا يُنَافِي أَنْ يَكُونَ حِصَّةُ كُلٍّ مِنْهَا مَعْلُومَةً بِتَوْزِيعِ أُجْرَةِ الْكُلِّ عَلَى الْأَجْزَاءِ كَمَا لَا يَخْفَى. وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُرَادُ صَاحِبِ الذَّخِيرَةِ بِمَا إذَا كَانَتْ لَهُ حِصَّةٌ مَعْلُومَةٌ مَا إذَا عَيَّنَا لَهُ حِصَّةً مَعْلُومَةً وَصَارَ حِينَئِذٍ كُلُّ جُزْءٍ بِمَنْزِلَةِ ثَوْبٍ عَلَى حِدَةٍ بِأُجْرَةٍ مَعْلُومَةٍ قَدْ فَرَغَ مِنْ عَمَلِهِ فَاسْتَوْجَبَ أَجْرَهُ كَمَا فِي كُلِّ الثَّوْبِ لَزِمَ أَنْ لَا يَكُونَ فَرْقٌ بَيْنَ مَا إذَا كَانَ عَمَلُ الْخَيَّاطِ أَوْ الصَّبَّاغِ فِي بَيْتِ نَفْسِهِ وَبَيْنَ مَا إذَا كَانَ عَمَلُهُ فِي بَيْتِ صَاحِبِ الْمَالِ فِي وُجُوبِ إيفَاءِ الْأَجْرِ، إذْ لَا كَلَامَ لِأَحَدٍ فِي وُجُوبِ إيفَاءِ الْأَجْرِ بَعْدَ الْفَرَاغِ.
وَقَدْ فَرَّقَ صَاحِبُ الذَّخِيرَةِ بَيْنَهُمَا حَيْثُ قَالَ: وَفِي الْإِجَارَةِ الَّتِي تَنْعَقِدُ عَلَى الْعَمَلِ وَيَبْقَى لَهُ أَثَرٌ فِي الْعَيْنِ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إيفَاءُ الْأَجْرِ إلَّا بَعْدَ إيفَاءِ الْعَمَلِ كُلِّهِ، وَإِنْ كَانَتْ حِصَّةُ مَا اسْتَوْفَى مَعْلُومَةً، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ لِلْخَيَّاطِ، وَالصَّبَّاغِ فِي بَيْتِ صَاحِبِ الْمَالِ فَحِينَئِذٍ يَجِبُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ إيفَاءُ الْأَجْرِ بِقَدْرِ مَا اسْتَوْفَى مِنْ الْمَنْفَعَةِ إذَا كَانَتْ لَهُ حِصَّةٌ مَعْلُومَةٌ مِنْ الْأَجْرِ كَمَا فِي الْجَمَّالِ. انْتَهَى. وَأَمَّا ثَالِثًا فَلِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ وَلَعَلَّ هَذَا مُعْتَمَدُ الْمُصَنِّفِ؛ لِأَنَّ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مُخَالِفٌ قَطْعًا لِمَنْطُوقِ مَا فِي الذَّخِيرَةِ وَهُوَ وُجُوبُ إيفَاءِ الْأَجْرِ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ بِقَدْرِ مَا اسْتَوْفَى مِنْ الْمَنْفَعَةِ إذَا كَانَ الْعَمَلُ فِي بَيْتِهِ، وَلَيْسَ بِمُطَابِقٍ أَيْضًا لِمَفْهُومِ قَوْلِهِ إذَا كَانَتْ لَهُ حِصَّةٌ مَعْلُومَةٌ مِنْ الْأَجْرِ وَهُوَ أَنْ لَا يَجِبَ عَلَيْهِ أَجْرٌ أَصْلًا إذَا لَمْ يَكُنْ لِمَا اسْتَوْفَى مِنْ الْمَنْفَعَةِ حِصَّةٌ مَعْلُومَةٌ مِنْ الْأَجْرِ؛ لِأَنَّ مَدْلُولَ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنْ لَا يَجِبَ عَلَيْهِ الْأَجْرُ مُطْلَقًا: أَيْ سَوَاءٌ كَانَتْ لَهُ حِصَّةٌ مَعْلُومَةٌ مِنْ الْأَجْرِ أَوْ لَا، فَإِنَّهُ قَالَ: وَكَذَا إذَا عَمِلَ فِي بَيْتِ الْمُسْتَأْجِرِ لَا يَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ قَبْلَ الْفَرَاغِ، وَكَانَ فِيمَا إذَا عَمِلَ فِي غَيْرِ بَيْتِ الْمُسْتَأْجِرِ لَا يَجِبُ الْأَجْرُ مُطْلَقًا قَبْلَ الْفَرَاغِ بِلَا خِلَافٍ، فَدَلَّ قَوْلُهُ: وَكَذَا إذَا عَمِلَ فِي بَيْتِ الْمُسْتَأْجِرِ لَا يَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ قَبْلَ الْفَرَاغِ بِلَا خِلَافٍ عَلَى أَنْ لَا يَجِبَ عَلَيْهِ الْأَجْرُ مُطْلَقًا قَبْلَ الْفَرَاغِ فِيمَا إذَا عَمِلَ فِي بَيْتِهِ أَيْضًا، وَلِأَنَّهُ قَالَ لِمَا بَيَّنَّا، وَمُرَادُهُ بِهِ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ الشُّرَّاحُ قَاطِبَةً هُوَ قَوْلُهُ: لِأَنَّ الْعَمَلَ فِي الْبَعْضِ غَيْرُ مُنْتَفَعٍ بِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَسْتَوْجِبَ الْأَجْرَ قَبْلَ الْفَرَاغِ مُطْلَقًا، فَأَنَّى يَصْلُحُ مَا فِي الذَّخِيرَةِ؛ لَأَنْ يَكُونَ مُعْتَمَدَ الْمُصَنِّفِ فِي كَلَامِهِ الْمَذْكُورِ، وَلَعَمْرِي إنَّ جُمْلَةَ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ هَاهُنَا مَوْهُومٌ مَحْضٌ، فَكَيْفَ يَنْبَغِي أَنْ يُصَارَ إلَى مِثْلِهِ فِي تَوْجِيهِ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ وَهُوَ عَلَمُ التَّحْقِيقِ وَعَالِمُ التَّدْقِيقِ.
ثُمَّ إنَّ بَعْضَ الْفُضَلَاءِ كَأَنَّهُ قَصَدَ دَفْعَ الْوَجْهِ الثَّانِي مِنْ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا آنِفًا لِاخْتِلَالِ رَأْيِ الشَّارِحِ الْمَزْبُورِ هَاهُنَا حَيْثُ قَالَ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى قَوْلِ ذَلِكَ الشَّارِحِ: وَحِينَئِذٍ يَصِيرُ كُلُّ جُزْءٍ بِمَنْزِلَةِ ثَوْبٍ عَلَى حِدَةٍ إلَخْ. وَجْهُ الْفَرْقِ عَلَى هَذَا بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ مَا إذَا خَاطَ فِي غَيْرِ بَيْتِ الْمُسْتَأْجِرِ أَنَّهُ إذَا خَاطَ فِي بَيْتِهِ يَجِبُ التَّسْلِيمُ إذَا فَرَغَ مِنْ عَمَلِ ذَلِكَ الْبَعْضِ فَيَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ، بِخِلَافِ مَا إذَا خَاطَ فِي غَيْرِهِ وَقَالَ فِيهِ بَحْثٌ، فَإِنَّ اسْتِيجَابَ الْأَجْرِ بِالْفَرَاغِ لَا بِالتَّسْلِيمِ. ثُمَّ قَالَ: وَجَوَابُهُ ظَاهِرٌ، فَإِنَّهُ لَوْ هَلَكَ قَبْلَ التَّسْلِيمِ لَا يَسْتَوْجِبُ أَجْرًا. اهـ كَلَامُهُ.
أَقُولُ: جَوَابُهُ عَنْ بَحْثِهِ لَيْسَ بِتَامٍّ إذْ لَا شَكَّ أَنَّ اسْتِيجَابَ الْأَجْرِ يَتَحَقَّقُ بِالْفَرَاغِ، وَلِهَذَا لَوْ حَبَسَ الْخَيَّاطُ أَوْ الصَّبَّاغُ الثَّوْبَ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْعَمَلِ وَقَالَ لَا أُعْطِيكَهُ حَتَّى تُعْطِيَنِي الْأَجْرَ فَلَهُ ذَلِكَ عِنْدَ أَئِمَّتِنَا الثَّلَاثَةِ، كَمَا أَنَّ لِلْبَائِعِ أَنْ يَحْبِسَ الْمَبِيعَ لِقَبْضِ الثَّمَنِ، صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي الذَّخِيرَةِ
قَالَ: (وَمَنْ اسْتَأْجَرَ خَبَّازًا لِيَخْبِزَ لَهُ فِي بَيْتِهِ قَفِيزًا مِنْ دَقِيقٍ بِدِرْهَمٍ لَمْ يَسْتَحِقَّ الْأَجْرَ حَتَّى يُخْرِجَ الْخُبْزَ مِنْ التَّنُّورِ)؛ لِأَنَّ تَمَامَ الْعَمَلِ بِالْإِخْرَاجِ. فَلَوْ احْتَرَقَ أَوْ سَقَطَ مِنْ يَدِهِ قَبْلَ الْإِخْرَاجِ فَلَا أَجْرَ لَهُ لِلْهَلَاكِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ، (فَإِنْ أَخْرَجَهُ ثُمَّ احْتَرَقَ مِنْ غَيْرِ فِعْلِهِ فَلَهُ الْأَجْرُ)؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُسَلَّمًا إلَيْهِ بِالْوَضْعِ فِي بَيْتِهِ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ تُوجَدْ مِنْهُ الْجِنَايَةُ. قَالَ: وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ، وَعِنْدَهُمَا يَضْمَنُ مِثْلَ دَقِيقِهِ وَلَا أَجْرَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ فَلَا يَبْرَأُ إلَّا بَعْدَ حَقِيقَةِ التَّسْلِيمِ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ الْخُبْزَ، وَأَعْطَاهُ الْأَجْرَ.
وَعَامَّةِ الْمُعْتَبَرَاتِ، وَسَيَأْتِي فِي الْكِتَابِ، إلَّا أَنَّهُ لَوْ هَلَكَ الْمَتَاعُ قَبْلَ تَسْلِيمِ الْخَيَّاطِ أَوْ الصَّبَّاغِ إيَّاهُ إلَى صَاحِبِهِ وَلَوْ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْعَمَلِ سَقَطَ الْأَجْرُ، كَمَا أَنَّهُ لَوْ هَلَكَ الْمَبِيعُ قَبْلَ تَسْلِيمِ الْبَائِعِ إيَّاهُ إلَى الْمُشْتَرِي سَقَطَ الثَّمَنُ فَكَانَ ابْتِدَاءُ تَحَقُّقِ اسْتِيجَابِ الْأَجْرِ فِي اسْتِئْجَارِ نَحْوِ الْقَصَّارِ، وَالْخَيَّاطِ بِالْفَرَاغِ مِنْ الْعَمَلِ، وَإِنْ كَانَ بَقَاؤُهُ وَتَقَرُّرُهُ بِتَسْلِيمِ الْمَتَاعِ إلَى صَاحِبِهِ كَمَا أَنَّ ابْتِدَاءَ تَحَقُّقِ اسْتِحْقَاقِ الثَّمَنِ فِي الْمَبِيعِ بِتَمَامِ الْعَقْدِ وَإِنْ كَانَ بَقَاؤُهُ وَتَقَرُّرُهُ بِتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ إلَى الْمُشْتَرِي، وَالْكَلَامُ هَاهُنَا فِي ابْتِدَاءِ تَحْقِيقِ اسْتِيجَابِ الْأَجْرِ، وَلِهَذَا قَالَ فِي الْكِتَابِ: وَلَيْسَ لِلْقَصَّارِ، وَالْخَيَّاطِ أَنْ يُطَالِبَ بِأُجْرَةٍ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ الْعَمَلِ، وَلَمْ يَقُلْ حَتَّى يُسَلِّمَ الْمَتَاعَ إلَى صَاحِبِهِ، فَلَا بُدَّ فِي انْدِفَاعِ الْوَجْهِ الثَّانِي مِنْ الْوُجُوهِ الَّتِي أَوْرَدْنَاهَا عَلَى رَأْيِ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ مِنْ ثُبُوتِ الْفَرْقِ بَيْنَ مَا إذَا عَمِلَ فِي بَيْتِ الْمُسْتَأْجِرِ، وَبَيْنَ مَا إذَا عَمِلَ فِي غَيْرِ بَيْتِهِ مِنْ جِهَةِ تَحَقُّقِ الْفَرَاغِ مِنْ الْعَمَلِ وَعَدَمِ تَحَقُّقِهِ وَلَيْسَ فَلَيْسَ فَتَأَمَّلْ تَرْشُدْ.
(قَوْلُهُ: مَنْ اسْتَأْجَرَ خَبَّازًا لِيَخْبِزَ لَهُ فِي بَيْتِهِ قَفِيزًا مِنْ دَقِيقٍ بِدِرْهَمٍ لَمْ يَسْتَحِقَّ الْأَجْرَ حَتَّى يَخْرُجَ الْخُبْزُ مِنْ التَّنُّورِ) قَالَ فِي الْعِنَايَةُ: ذَكَرَ هَذَا
قَالَ: (وَمَنْ اسْتَأْجَرَ طَبَّاخًا لِيَطْبُخَ لَهُ طَعَامًا لِلْوَلِيمَةِ فَالْعُرْفُ عَلَيْهِ) اعْتِبَارًا لِلْعُرْفِ. قَالَ: (وَمَنْ اسْتَأْجَرَ إنْسَانًا لِيَضْرِبَ لَهُ لَبِنًا اسْتَحَقَّ الْأَجْرَ إذَا أَقَامَهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: لَا يَسْتَحِقُّهَا حَتَّى يُشْرِجَهَا)؛ لِأَنَّ التَّشْرِيجَ مِنْ تَمَامِ عَمَلِهِ، إذْ لَا يُؤْمَنُ مِنْ الْفَسَادِ قَبْلَهُ فَصَارَ كَإِخْرَاجِ الْخُبْزِ مِنْ التَّنُّورِ؛ وَلِأَنَّ الْأَجِيرَ هُوَ الَّذِي يَتَوَلَّاهُ عُرْفًا وَهُوَ الْمُعْتَبَرُ فِيمَا لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْعَمَلَ قَدْ تَمَّ بِالْإِقَامَةِ، وَالتَّشْرِيجُ عَمَلٌ زَائِدٌ كَالنَّقْلِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَنْتَفِعُ بِهِ قَبْلَ التَّشْرِيجِ بِالنَّقْلِ إلَى مَوْضِعِ الْعَمَلِ، بِخِلَافِ مَا قَبْلَ الْإِقَامَةِ؛ لِأَنَّهُ طِينٌ مُنْتَشِرٌ، وَبِخِلَافِ الْخُبْزِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُنْتَفَعٍ بِهِ قَبْلَ الْإِخْرَاجِ.
قَالَ: (وَكُلُّ صَانِعٍ لِعَمَلِهِ أَثَرٌ فِي الْعَيْنِ كَالْقَصَّارِ وَالصَّبَّاغِ فَلَهُ أَنْ يَحْبِسَ الْعَيْنَ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الْأَجْرَ)؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ وَصْفٌ قَائِمٌ فِي الثَّوْبِ فَلَهُ حَقُّ الْحَبْسِ؛ لِاسْتِيفَاءِ الْبَدَلِ كَمَا فِي الْمَبِيعِ، وَلَوْ حَبَسَهُ فَضَاعَ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فِي الْحَبْسِ فَبَقِيَ أَمَانَةً كَمَا كَانَ عِنْدَهُ، وَلَا أَجْرَ لَهُ لِهَلَاكِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: الْعَيْنُ كَانَتْ مَضْمُونَةً قَبْلَ الْحَبْسِ فَكَذَا بَعْدَهُ، لَكِنَّهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ غَيْرَ مَعْمُولٍ وَلَا أَجْرَ لَهُ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ مَعْمُولًا وَلَهُ الْأَجْرُ، وَسَيُبَيِّنُ مِنْ بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
لِبَيَانِ حُكْمَيْنِ: أَحَدِهِمَا أَنَّ الْأَجِيرَ الْمُشْتَرَكَ لَا يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ عَمَلِهِ، وَقَدْ عُلِمَ ذَلِكَ مِنْ مَسْأَلَةِ الْخَيَّاطِ آنِفًا.
وَالثَّانِي أَنَّ فَرَاغَ الْعَمَلِ بِمَاذَا يَكُونُ. اهـ. أَقُولُ: فِيهِ شَيْءٌ، وَهُوَ أَنَّهُ إذَا عُلِمَ مِنْ مَسْأَلَةِ الْخَيَّاطِ آنِفًا أَنَّ الْأَجِيرَ الْمُشْتَرَكَ لَا يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ عَمَلِهِ يَصِيرُ بَيَانُ ذَلِكَ هَاهُنَا تَحْصِيلَ الْحَاصِلِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَقْصِدَهُ الْعَاقِلُ. فَالْوَجْهُ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ ذِكْرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إنَّمَا هُوَ بَيَانُ الْحُكْمِ الثَّانِي وَهُوَ أَنَّ الْفَرَاغَ مِنْ الْعَمَلِ فِي الْخَبَّازِ بِمَاذَا يَكُونُ وَيُرْشِدُ إلَيْهِ أَنَّهُ قَالَ: لَمْ يَسْتَحِقَّ الْأَجْرَ حَتَّى يَخْرُجَ الْخُبْزُ
قَالَ: (وَكُلُّ صَانِعٍ لَيْسَ لِعَمَلِهِ أَثَرٌ فِي الْعَيْنِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْبِسَ الْعَيْنَ لِلْأَجْرِ كَالْحَمَّالِ وَالْمَلَّاحِ)؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ نَفْسُ الْعَمَلِ وَهُوَ غَيْرُ قَائِمٍ فِي الْعَيْنِ فَلَا يُتَصَوَّرُ حَبْسُهُ فَلَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ الْحَبْسِ وَغَسْلُ الثَّوْبِ نَظِيرُ الْحَمْلِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْآبِقِ حَيْثُ يَكُونُ لِلرَّادِّ حَقُّ حَبْسِهِ لِاسْتِيفَاءِ الْجُعْلِ، وَلَا أَثَرَ لِعَمَلِهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ عَلَى شَرَفِ الْهَلَاكِ وَقَدْ أَحْيَاهُ فَكَأَنَّهُ بَاعَهُ مِنْهُ فَلَهُ حَقُّ الْحَبْسِ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا مَذْهَبُ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ. وَقَالَ زُفَرُ: لَيْسَ لَهُ حَقُّ الْحَبْسِ فِي الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّهُ وَقَعَ التَّسْلِيمُ بِاتِّصَالِ الْمَبِيعِ بِمِلْكِهِ فَيَسْقُطَ حَقُّ الْحَبْسِ. وَلَنَا أَنَّ الِاتِّصَالَ بِالْمَحَلِّ ضَرُورَةُ إقَامَةِ تَسْلِيمِ الْعَمَلِ فَلَمْ يَكُنْ هُوَ رَاضِيًا بِهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ تَسْلِيمٌ فَلَا يَسْقُطُ حَقُّ الْحَبْسِ كَمَا إذَا قَبَضَ الْمُشْتَرِي بِغَيْرِ رِضَا الْبَائِعِ.
قَالَ: (وَإِذَا شَرَطَ عَلَى الصَّانِعِ أَنْ يَعْمَلَ بِنَفْسِهِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَعْمِلَ غَيْرَهُ)؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ الْعَمَلُ فِي مَحَلٍّ بِعَيْنِهِ فَيَسْتَحِقُّ عَيْنَهُ كَالْمَنْفَعَةِ فِي مَحَلٍّ بِعَيْنِهِ (وَإِنْ أَطْلَقَ لَهُ الْعَمَلَ فَلَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ مَنْ يَعْمَلُهُ)؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ عَمَلٌ فِي ذِمَّتِهِ، وَيُمْكِنُ إيفَاؤُهُ بِنَفْسِهِ وَبِالِاسْتِعَانَةِ بِغَيْرِهِ بِمَنْزِلَةِ إيفَاءِ الدَّيْنِ.
فَصْلٌ
مِنْ التَّنُّورِ، وَلَمْ يَقُلْ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ الْعَمَلِ بِإِخْرَاجِ الْخُبْزِ مِنْ التَّنُّورِ، وَلَوْ كَانَ مُرَادُهُ بَيَانَ الْحُكْمَيْنِ مَعًا لَقَالَ هَكَذَا تَدَبَّرْ.
(وَمَنْ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِيَذْهَبَ إلَى الْبَصْرَةِ فَيَجِيءَ بِعِيَالِهِ فَذَهَبَ فَوَجَدَ بَعْضُهُمْ قَدْ مَاتَ فَجَاءَ بِمَنْ بَقِيَ فَلَهُ الْأَجْرُ بِحِسَابِهِ)؛ لِأَنَّهُ أَوْفَى بَعْضِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَيَسْتَحِقُّ الْعِوَضَ بِقَدْرِهِ، وَمُرَادُهُ إذَا كَانُوا مَعْلُومِينَ (وَإِنْ اسْتَأْجَرَهُ لِيَذْهَبَ بِكِتَابِهِ إلَى فُلَانٍ بِالْبَصْرَةِ وَيَجِيءَ بِجَوَابِهِ فَذَهَبَ فَوَجَدَ فُلَانًا مَيِّتًا فَرَدَّهُ فَلَا أَجْرَ لَهُ) هَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَهُ الْأَجْرُ فِي الذَّهَابِ؛ لِأَنَّهُ أَوْفَى بَعْضَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَطْعُ الْمَسَافَةِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْأَجْرَ مُقَابَلٌ بِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَشَقَّةِ دُونَ حَمْلِ الْكِتَابِ لِخِفَّةِ مُؤْنَتِهِ. وَلَهُمَا أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ نَقْلُ الْكِتَابِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَقْصُودُ أَوْ وَسِيلَةٌ إلَيْهِ وَهُوَ الْعِلْمُ بِمَا فِي الْكِتَابِ وَلَكِنَّ الْحُكْمَ مُعَلَّقٌ بِهِ وَقَدْ نَقَضَهُ فَيَسْقُطُ الْأَجْرُ كَمَا فِي الطَّعَامِ وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الَّتِي تَلِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ (وَإِنْ تَرَكَ الْكِتَابَ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ وَعَادَ يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ بِالذَّهَابِ بِالْإِجْمَاعِ)؛ لِأَنَّ الْحَمْلَ لَمْ يُنْتَقَضْ.
(وَإِنْ اسْتَأْجَرَهُ لِيَذْهَبَ بِطَعَامٍ إلَى فُلَانٍ بِالْبَصْرَةِ فَذَهَبَ فَوَجَدَ فُلَانًا مَيِّتًا فَرَدَّهُ فَلَا أَجْرَ لَهُ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا)؛ لِأَنَّهُ نَقَضَ تَسْلِيمَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَهُوَ حَمْلُ الطَّعَامِ، بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ هُنَاكَ قَطْعُ الْمَسَافَةِ عَلَى مَا مَرَّ.
بَابُ مَا يَجُوزُ مِنْ الْإِجَارَةِ وَمَا يَكُونُ خِلَافًا فِيهَا
(بَابُ مَا يَجُوزُ مِنْ الْإِجَارَةِ وَمَا يَكُونُ خِلَافًا فِيهَا). قَالَ فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ: لَمَّا ذَكَرَ مُقَدَّمَاتِ الْإِجَارَةِ ذَكَرَ فِي هَذَا الْبَابِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْهَا وَهُوَ بَيَانُ مَا يَجُوزُ مِنْ عُقُودِ الْإِجَارَةِ وَمَا لَا يَجُوزُ مِنْهَا انْتَهَى. أَقُولُ: فِيهِ نَوْعُ خَلَلٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ فِي هَذَا الْبَابِ مَا لَا يَجُوزُ مِنْ الْإِجَارَةِ وَإِنَّمَا ذَكَرَ ذَلِكَ
قَالَ: (وَيَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الدُّورِ وَالْحَوَانِيتِ لِلسُّكْنَى وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ مَا يَعْمَلُ فِيهَا)؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ الْمُتَعَارَفَ فِيهَا السُّكْنَى فَيَنْصَرِفُ إلَيْهِ،
فِي بَابٍ آخَرَ آتٍ عَقِيبَ هَذَا الْبَابِ وَهُوَ بَابُ الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ، بَلْ إنَّمَا ذَكَرَ فِي هَذَا الْبَابِ مَا يَجُوزُ مِنْ الْإِجَارَةِ، وَمَا يَكُونُ خِلَافًا فِيهَا مِنْ الْمُسْتَأْجِرِ لِلْمُؤَجِّرِ كَمَا وَقَعَ فِي عِنْوَانِ الْبَابِ. وَقَالَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ، وَالْعِنَايَةِ: لَمَّا فَرَغَ مِنْ ذِكْرِ الْإِجَارَةِ وَشَرْطِهَا وَوَقْتِ اسْتِحْقَاقِ الْأُجْرَةِ ذَكَرَ هُنَا مَا يَجُوزُ مِنْ الْإِجَارَةِ بِإِطْلَاقِ اللَّفْظِ وَتَقْيِيدِهِ، وَذَكَرَ أَيْضًا مِنْ الْأَفْعَالِ مَا يُعَدُّ خِلَافًا مِنْ الْأَجِيرِ لِلْمُؤَجِّرِ وَمَا لَا يُعَدُّ خِلَافًا انْتَهَى. أَقُولُ: فِيهِ أَيْضًا شَيْءٌ فَتَأَمَّلْ (قَوْلُهُ: وَيَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الدُّورِ، وَالْحَوَانِيتِ لِلسُّكْنَى، وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ مَا يَعْمَلُ فِيهَا) قَالَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ: قَوْلُهُ: لِلسُّكْنَى صِلَةُ الدُّورِ، وَالْحَوَانِيتِ لَا صِلَةُ الِاسْتِئْجَارِ: يَعْنِي وَيَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الدُّورِ، وَالْحَوَانِيتِ الْمُعَدَّةِ لِلسُّكْنَى لَا أَنْ يَقُولَ زَمَانَ الْعَقْدِ اسْتَأْجَرْتُ هَذِهِ الدَّارَ لِلسُّكْنَى؛ لِأَنَّهُ لَوْ نَصَّ هَكَذَا وَقْتَ الْعَقْدِ لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ فِيهَا غَيْرَ السُّكْنَى، وَالتَّعْلِيلُ يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْتُ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَمَالَ أَكْثَرُ الشُّرَّاحِ إلَى سِمَتِهِ فِي تَصْوِيرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، غَيْرَ أَنَّ صَاحِبَ الْغَايَةِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ ذَلِكَ الْمَعْنَى وَصَحَّحَهُ قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ قَوْلُهُ: لِلسُّكْنَى بِالِاسْتِئْجَارِ: أَيْ يَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الدُّورِ، وَالْحَوَانِيتِ لِأَجْلِ السُّكْنَى، وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ مَا يَعْمَلُ فِيهَا، وَلَهُ أَنْ يَعْمَلَ كُلَّ شَيْءٍ لَا يُوهِنُ الْبِنَاءَ وَلَا يُفْسِدُهُ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِ الْقُدُورِيِّ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ. أَقُولُ: فِيمَا قَالَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ كَلَامٌ. أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ قَوْلُهُ: لِلسُّكْنَى صِلَةَ الدُّورِ، وَالْحَوَانِيتِ وَكَانَ الْمَعْنَى وَيَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الدُّورِ، وَالْحَوَانِيتِ الْمُعَدَّةِ لِلسُّكْنَى لَمْ يَظْهَرْ لِلتَّقْيِيدِ بِقَوْلِهِ لِلسُّكْنَى فَائِدَةٌ أَصْلًا؛ لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يَقْصِدَ بِهِ الِاحْتِرَازَ عَنْ الدُّورِ، وَالْحَوَانِيتِ الْغَيْرِ الْمُعَدَّةِ لِلسُّكْنَى، أَوْ يَقْصِدَ بِهِ مُجَرَّدَ بَيَانِ حَالِ الدُّورِ، وَالْحَوَانِيتِ بِأَنَّهَا مُعَدَّةٌ لِلسُّكْنَى، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَمَعَ عَدَمِ تَحَقُّقِ دَارٍ أَوْ حَانُوتٍ لَمْ يُعَدَّ لِلسُّكْنَى فِي الْخَارِجِ لَمْ يَصِحَّ الِاحْتِرَازُ، إذْ الظَّاهِرُ أَنَّ الْحُكْمَ فِي اسْتِئْجَارِ كُلِّ دَارٍ وَحَانُوتٍ مَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ الْجَوَازُ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ اللَّغْوِ، فَإِنَّ كَوْنَ الدُّورِ، وَالْحَوَانِيتِ مِمَّا يُعَدُّ لِلسُّكْنَى غَنِيٌّ عَنْ الْبَيَانِ غَيْرُ خَفِيٍّ عَلَى أَحَدٍ. وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ قَوْلَهُ لَوْ نَصَّ هَكَذَا وَقْتَ الْعَقْدِ لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ فِيهَا غَيْرَ السُّكْنَى مَمْنُوعٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ نَصَّ وَقْتَ الْعَقْدِ عَلَى اسْتِئْجَارِ الدُّورِ، وَالْحَوَانِيتِ لِأَجْلِ السُّكْنَى وَعَمِلَ فِيهَا غَيْرَ السُّكْنَى مِمَّا هُوَ أَنْفَعُ لِلْبِنَاءِ مِنْ السُّكْنَى يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ؛ لِأَنَّ التَّقْيِيدَ فِيمَا لَا يَتَفَاوَتُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ عَلَى مَا صَرَّحُوا بِهِ، وَلِهَذَا إذَا شَرَطَ سُكْنَى وَاحِدٍ فَلَهُ أَنْ يُسْكِنَ غَيْرَهُ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْكِتَابِ، فَفِيمَا هُوَ أَنْفَعُ مِمَّا شَرَطَ وَقْتَ الْعَقْدِ أَوْلَى أَنْ لَا يَعْتَبِرَ التَّقْيِيدَ.
ثُمَّ الْإِنْصَافُ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَقَعْ فِي عِبَارَةِ مُخْتَصَرِ الْقُدُورِيِّ قَيْدُ لِلسُّكْنَى فِي وَضْعِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَمَا لَمْ يَقَعْ فِي عِبَارَةِ عَامَّةِ مُعْتَبَرَاتِ الْمُتُونِ لَكَانَ أَوْلَى وَأَحْسَنَ كَمَا لَا يَخْفَى. (قَوْلُهُ: لِأَنَّ الْعَمَلَ الْمُتَعَارَفَ فِيهَا السُّكْنَى فَيَنْصَرِفُ إلَيْهِ) وَرَدَّ عَلَيْهِ صَاحِبُ الْإِصْلَاحِ، وَالْإِيضَاحِ كَمَا رَدَّ عَلَى صَدْرِ الشَّرِيعَةِ حَيْثُ قَالَ: لَا؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ الْمُتَعَارَفَ فِيهَا السُّكْنَى فَيَنْصَرِفُ إلَيْهِ لَا يَتَفَاوَتُ فَصَحَّ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْتَظِمُهُ قَوْلُهُ: وَلَهُ أَنْ يَعْمَلَ كُلَّ شَيْءٍ سِوَى مُوهِنِ الْبِنَاءِ، بَلْ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ كُلَّ عَمَلٍ لَا يَضُرُّ الْبِنَاءَ يَسْتَحِقُّهُ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. أَقُولُ: لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ شَطْرَيْ كَلَامِهِ بِسَدِيدٍ. أَمَّا شَطْرُهُ الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ وَغَيْرِهِ أَنَّ الْعُرْفَ يَصْرِفُ مُطْلَقَ الْعَمَلِ إلَى السُّكْنَى، وَبَعْدَ ذَلِكَ تَبْقَى أَعْمَالُ السُّكْنَى عَلَى إطْلَاقِهَا، فَلَهُ أَنْ
وَأَنَّهُ لَا يَتَفَاوَتُ فَصَحَّ الْعَقْدُ (وَلَهُ أَنْ يَعْمَلَ كُلَّ شَيْءٍ) لِلْإِطْلَاقِ (إلَّا أَنَّهُ لَا يُسْكِنُ حَدَّادًا وَلَا قَصَّارًا وَلَا طَحَّانًا؛ لِأَنَّ فِيهِ ضَرَرًا ظَاهِرًا)؛ لِأَنَّهُ يُوهِنُ الْبِنَاءَ فَيَتَقَيَّدُ الْعَقْدُ بِمَا وَرَاءَهَا دَلَالَةً.
يَعْمَلَ كُلَّ شَيْءٍ مِنْهَا لِهَذَا الْإِطْلَاقِ سِوَى مَا يُوهِنُ الْبِنَاءَ لِتَحَقُّقِ الضَّرَرِ الظَّاهِرِ فِيهِ. وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْقَوْلِ بِصَرْفِ الْعُرْفِ مُطْلَقَ الْعَمَلِ إلَى أَعْمَالِ السُّكْنَى وَبَيْنَ الْقَوْلِ بِأَنَّ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ كُلَّ شَيْءٍ مِنْ أَعْمَالِ السُّكْنَى لِإِطْلَاقِ عَمَلِ السُّكْنَى نَظَرًا إلَى أَنْوَاعِهِ وَأَصْنَافِهِ وَعَدَمِ التَّفَاوُتِ فِيهِ فَلَا غُبَارَ عَلَيْهِ فِي التَّعْلِيلِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَغَيْرُهُ.
وَأَمَّا شَطْرُهُ الثَّانِي فَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ عَمَلٍ لَا يَضُرُّ الْبِنَاءَ يَسْتَحِقُّهُ مُسْتَأْجِرُ الدُّورِ، وَالْحَوَانِيتِ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ بِدُونِ الْمَصِيرِ إلَى أَنَّ الْمُتَعَارَفَ فِيهَا هُوَ السُّكْنَى لَزِمَ أَنْ يَسْتَحِقَّ الْعَمَلَ الَّذِي لَيْسَ مِنْ جِنْسِ السُّكْنَى أَيْضًا وَلَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ، بَلْ صَرَّحُوا فِي عَامَّةِ الْمُعْتَبَرَاتِ بِأَنَّهُ مَصْرُوفٌ بِالْعُرْفِ إلَى عَمَلِ السُّكْنَى، وَهُوَ لَا يَتَفَاوَتُ فَيَصِحُّ الْعَقْدُ مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ، وَقَالُوا: إنَّ هَذَا اسْتِحْسَانٌ. وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ الْعَمَلِ، وَالِانْتِفَاعِ يَتَنَاوَلُ عَمَلَ السُّكْنَى وَغَيْرَهُ فَيَتَفَاوَتُ فَلَا يَكُونُ بُدٌّ مِنْ الْبَيَانِ لِلْجَهَالَةِ الْمُفْضِيَةِ إلَى النِّزَاعِ كَمَا فِي اسْتِئْجَارِ الْأَرَاضِيِ لِلزِّرَاعَةِ. (قَوْلُهُ: وَأَنَّهُ لَا يَتَفَاوَتُ فَصَحَّ الْعَقْدُ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: هَذَا جَوَابٌ عَمَّا عَسَى أَنْ يُقَالَ سَلَّمْنَا أَنَّ السُّكْنَى مُتَعَارَفٌ، وَلَكِنْ قَدْ تَتَفَاوَتُ السُّكَّانُ فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِهِ. وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: لَا مِسَاسَ لِهَذَا السُّؤَالِ بِالْمَقَامِ، إذْ الْكَلَامُ فِي عَدَمِ وُجُوبِ بَيَانِ مَا يُعْمَلُ فِيهَا لَا فِي بَيَانِ مَنْ يَسْكُنُ انْتَهَى. أَقُولُ: لَعَلَّ لَفْظَ السُّكَّانِ فِي كَلَامِ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ وَقَعَ سَهْوًا مِنْ الْكَاتِبِ بَدَلًا مِنْ لَفْظِ السُّكْنَى، فَحِينَئِذٍ مِسَاسُ السُّؤَالِ بِالْمَقَامِ ظَاهِرٌ. وَأَمَّا عَلَى مَا وَقَعَ فِي النُّسَخِ الْمَشْهُورَةِ فَالْمُرَادُ لَكِنْ قَدْ تَتَفَاوَتُ السُّكْنَى بِتَفَاوُتِ السُّكَّانِ فِي الْعَمَلِ فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ مَا يُعْمَلُ فِيهَا، وَلَمَّا كَانَ تَفَاوُتُ السُّكَّانِ فِي الْعَمَلِ سَبَبًا لِتَفَاوُتِ نَفْسِ الْعَمَلِ الَّذِي هُوَ السُّكْنَى اكْتَفَى بِذِكْرِ تَفَاوُتِ السُّكَّانِ قَصْرًا لِلْمَسَافَةِ، وَيُرْشِدُ إلَيْهِ قَوْلُهُ: وَوَجْهُهُ: يَعْنِي وَجْهَ الْجَوَابِ أَنَّ السُّكْنَى لَا تَتَفَاوَتُ، وَمَا لَا يَتَفَاوَتُ لَا يَشْتَمِلُ عَلَى مَا يُفْسِدُ الْعَقْدَ فَيَصِحُّ. انْتَهَى.
حَيْثُ قَالَ إنَّ السُّكْنَى لَا تَتَفَاوَتُ، وَلَمْ يَقُلْ إنَّ السُّكَّانَ لَا يَتَفَاوَتُونَ، تَدَبَّرْ تَرْشُدْ. وَقَالَ الشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ: وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: وَلِأَنَّهُ لَا يَتَفَاوَتُ، وَهَكَذَا صَحَّحَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ وَلِهَذَا قَالَ: هَذَا جَوَابٌ عَمَّا عَسَى أَنْ يُقَالَ سَلَّمْنَا أَنَّ السُّكْنَى مُتَعَارَفٌ إلَخْ. أَقُولُ: كَلَامُهُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ. أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ صَاحِبَ الْعِنَايَةِ لَمْ يُصْحِحْ تِلْكَ النُّسْخَةَ بَلْ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهَا قَطُّ. وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ جَعْلَ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ هَذَا جَوَابًا عَنْ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ لَا يَدُلُّ عَلَى نُسْخَةٍ، وَلِأَنَّهُ بَلْ يَأْبَاهَا إذْ مُقْتَضَى هَذِهِ النُّسْخَةِ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ هَذَا دَلِيلًا آخَرَ مُسْتَقِلًّا، وَاَلَّذِي يَكُونُ جَوَابًا عَنْ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ إنَّمَا يَكُونُ مِنْ مُتَمِّمَاتِ مَا قَبْلَهُ فَلَمْ يَصِحَّ قَوْلُهُ: وَلِهَذَا قَالَ هَذَا جَوَابٌ عَمَّا عَسَى أَنْ يُقَالَ إلَخْ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ الْمَذْكُورَ فِي لَفْظِ الْعِنَايَةِ بِصَدَدِ الشَّرْحِ عِبَارَةُ هَذِهِ النُّسْخَةِ لَا غَيْرُ فَلَيْسَ كَذَلِكَ أَيْضًا، بَلْ الْمَذْكُورُ فِيمَا رَأَيْنَاهُ مِنْ نُسَخِ الْعِنَايَةِ عِبَارَةُ وَأَنَّهُ بِدُونِ اللَّامِ.
(قَوْلُهُ: لِأَنَّ فِيهِ ضَرَرًا ظَاهِرًا؛ لِأَنَّهُ يُوهِنُ الْبِنَاءَ فَيَتَقَيَّدُ الْعَقْدُ بِمَا وَرَاءَهَا دَلَالَةً) أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الظَّاهِرُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ أَعْمَالَ
قَالَ: (وَيَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الْأَرَاضِي لِلزِّرَاعَةِ)؛ لِأَنَّهَا مَنْفَعَةٌ مَقْصُودَةٌ مَعْهُودَةٌ فِيهَا (وَلِلْمُسْتَأْجِرِ الشُّرْبُ وَالطَّرِيقُ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ) لِأَنَّ الْإِجَارَةَ تُعْقَدُ لِلِانْتِفَاعِ، وَلَا انْتِفَاعَ فِي الْحَالِ إلَّا بِهِمَا فَيَدْخُلَانِ فِي مُطْلَقِ الْعُقَدِ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ مِلْكُ الرَّقَبَةِ لَا الِانْتِفَاعُ فِي الْحَالِ، حَتَّى يَجُوزَ بَيْعُ الْجَحْشِ وَالْأَرْضِ السَّبْخَةِ دُونَ الْإِجَارَةِ فَلَا يَدْخُلَانِ فِيهِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ الْحُقُوقِ وَقَدْ مَرَّ فِي الْبُيُوعِ (وَلَا يَصِحُّ الْعَقْدُ حَتَّى يُسَمِّيَ مَا يَزْرَعُ فِيهَا)؛ لِأَنَّهَا قَدْ تُسْتَأْجَرُ لِلزِّرَاعَةِ وَلِغَيْرِهَا وَمَا يُزْرَعُ فِيهَا مُتَفَاوِتٌ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّعْيِينِ كَيْ لَا تَقَعَ الْمُنَازَعَةُ (أَوْ يَقُولَ عَلَى أَنْ يَزْرَعَ فِيهَا مَا شَاءَ)؛ لِأَنَّهُ لَمَّا فَوَّضَ الْخِيَرَةَ إلَيْهِ ارْتَفَعَتْ الْجَهَالَةُ الْمُفْضِيَةُ إلَى الْمُنَازَعَةِ.
قَالَ: (وَيَجُوزُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ السَّاحَةُ؛ لِيَبْنِيَ فِيهَا أَوْ؛ لِيَغْرِسَ فِيهَا نَخْلًا أَوْ شَجَرًا)؛ لِأَنَّهَا مَنْفَعَةٌ تُقْصَدُ بِالْأَرَاضِيِ (ثُمَّ إذَا انْقَضَتْ مُدَّةُ الْإِجَارَةِ لَزِمَهُ أَنْ يَقْلَعَ الْبِنَاءَ وَالْغَرْسَ وَيُسْلِمَهَا إلَيْهِ فَارِغَةً)؛ لِأَنَّهُ لَا نِهَايَةَ لَهُمَا وَفِي إبْقَائِهِمَا إضْرَارًا بِصَاحِبِ الْأَرْضِ،
السُّكْنَى تَتَفَاوَتُ فَبَعْضٌ مِنْهَا لَا يُوهِنُ الْبِنَاءَ وَبَعْضٌ آخَرُ مِنْهَا يُوهِنُهُ كَالْأَمْثِلَةِ الْمَذْكُورَةِ فَصَارَ مُخَالِفًا لِقَوْلِهِ فِيمَا مَرَّ آنِفًا، وَأَنَّهُ يَعْنِي السُّكْنَى لَا يَتَفَاوَتُ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ السَّابِقِ أَنَّهُ لَا يَتَفَاوَتُ غَالِبًا فَاَلَّذِي يَضُرُّ الْبِنَاءَ وَيُوهِنُهُ خَارِجٌ عَنْ الْعَقْدِ بِدَلَالَةِ الْحَالِ، وَذَلِكَ الْقِسْمُ الْغَالِبُ بَاقٍ عَلَى حَالِهِ فَلَهُ أَنْ يَعْمَلَ مِنْ ذَلِكَ مَا شَاءَ فَتَأَمَّلْ.
(قَوْلُهُ: وَلَا يَصِحُّ الْعَقْدُ حَتَّى يُسَمِّيَ مَا يَزْرَعُ فِيهَا؛ لِأَنَّهَا قَدْ تُسْتَأْجَرُ لِلزِّرَاعَةِ وَلِغَيْرِهَا، وَمَا يُزْرَعُ فِيهَا مُتَفَاوِتٌ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّعْيِينِ كَيْ لَا تَقَعَ الْمُنَازَعَةُ) أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: فِي التَّعْلِيلِ شَائِبَةُ الِاسْتِدْرَاكِ، إذْ يَكْفِي فِي تَمَامِهِ أَنْ يُقَالَ: لِأَنَّ مَا يُزْرَعُ فِيهَا مُتَفَاوِتٌ، وَقَوْلُهُ: لِأَنَّهَا قَدْ تُسْتَأْجَرُ لِلزِّرَاعَةِ وَلِغَيْرِهَا لَا يُطَابِقُ الْمُدَّعَى وَلَا نَفْعَ لَهُ فِي إثْبَاتِهِ. فَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي صِحَّةِ عَقْدِ اسْتِئْجَارِ الْأَرَاضِي لِلزِّرَاعَةِ مِنْ أَمْرَيْنِ: أَحَدِهِمَا بَيَانُ أَنَّهُ يَسْتَأْجِرُهَا لِلزِّرَاعَةِ؛ لِأَنَّهَا قَدْ تُسْتَأْجَرُ لِغَيْرِهَا أَيْضًا فَلَا بُدَّ مِنْ نَفْيِ الْجَهَالَةِ. وَثَانِيهِمَا بَيَانُ مَا يَزْرَعُ فِيهَا كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْكِتَابِ بِقَوْلِهِ وَلَا يَصِحُّ الْعَقْدُ حَتَّى يُسَمِّيَ مَا يَزْرَعُ فِيهَا، وَالْمُصَنِّفُ لَمَّا رَأَى انْدِرَاجَ الْأَوَّلِ أَيْضًا الْتِزَامًا فِي مَدْلُولِ قَوْلِهِ حَتَّى يُسَمِّيَ مَا يَزْرَعُ فِيهَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ تَسْمِيَةَ مَا يَزْرَعُ فِيهَا فَرْعُ تَسْمِيَةِ نَفْسِ الزِّرَاعَةِ أَشَارَ إلَى تَعْلِيلِ كِلَا الْأَمْرَيْنِ.
أَمَّا إلَى تَعْلِيلِ الْأَوَّلِ فَبِقَوْلِهِ؛ لِأَنَّهَا قَدْ تُسْتَأْجَرُ لِلزِّرَاعَةِ وَلِغَيْرِهَا. وَأَمَّا إلَى تَعْلِيلِ الثَّانِي فَبِقَوْلِهِ وَمَا يُزْرَعُ فِيهَا مُتَفَاوِتٌ، فَلَمْ يَكُنْ فِي التَّعْلِيلِ الْمَزْبُورِ اسْتِدْرَاكٌ بَلْ كَانَ فِيهِ زِيَادَةُ فَائِدَةٍ. وَكَأَنَّ صَاحِبَ الْعِنَايَةِ تَفَطَّنَ لِهَذِهِ الدَّقِيقَةِ حَيْثُ قَالَ فِي تَقْرِيرِ الْمَقَامِ: وَيَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الْأَرَاضِي لِلزِّرَاعَةِ؛ لِأَنَّهَا مَنْفَعَةٌ مَقْصُودَةٌ مَعْهُودَةٌ فِيهَا، وَيَنْبَغِي أَنْ يَذْكُرَ أَنَّهُ يَسْتَأْجِرُهَا لِلزِّرَاعَةِ؛ لِأَنَّهَا تُسْتَأْجَرُ لِغَيْرِهَا أَيْضًا فَلَا بُدَّ مِنْ الْبَيَانِ نَفْيًا لِلْجَهَالَةِ
بِخِلَافِ مَا إذَا انْقَضَتْ الْمُدَّةُ وَالزَّرْعُ بَقْلٌ حَيْثُ يُتْرَكُ بِأَجْرِ الْمِثْلِ إلَى زَمَانِ الْإِدْرَاكِ؛ لِأَنَّ لَهُ نِهَايَةٌ مَعْلُومَةٌ فَأَمْكَنَ رِعَايَةُ الْجَانِبَيْنِ. قَالَ: (إلَّا أَنْ يَخْتَارَ صَاحِبُ الْأَرْضِ أَنْ يَغْرَمَ لَهُ قِيمَةَ ذَلِكَ مَقْلُوعًا وَيَتَمَلَّكَهُ فَلَهُ ذَلِكَ) وَهَذَا بِرِضَا صَاحِبِ الْغَرْسِ وَالشَّجَرِ، إلَّا أَنْ تَنْقُصَ الْأَرْضُ بِقَلْعِهِمَا فَحِينَئِذٍ يَتَمَلَّكُهُمَا بِغَيْرِ رِضَاهُ. قَالَ:(أَوْ يَرْضَى بِتَرْكِهِ عَلَى حَالِهِ فَيَكُونَ الْبِنَاءُ لِهَذَا وَالْأَرْضُ لِهَذَا)؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُ فَلَهُ أَنْ لَا يَسْتَوْفِيَهُ. قَالَ: (وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: إذَا انْقَضَتْ مُدَّةُ الْإِجَارَةِ، وَفِي الْأَرْضِ رُطَبَةٌ فَإِنَّهَا تُقْلَعُ)؛ لِأَنَّ الرِّطَابَ لَا نِهَايَةَ لَهَا فَأَشْبَهَ الشَّجَرَ.
قَالَ: (وَيَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الدَّوَابِّ لِلرُّكُوبِ وَالْحَمْلِ)؛ لِأَنَّهُ مَنْفَعَةٌ مَعْلُومَةٌ مَعْهُودَةٌ (فَإِنْ أَطْلَقَ الرُّكُوبَ جَازَ لَهُ أَنْ يُرْكِبَ مَنْ شَاءَ) عَمَلًا بِالْإِطْلَاقِ. وَلَكِنْ إذَا رَكِبَ بِنَفْسِهِ أَوْ أَرْكَبَ وَاحِدًا لَيْسَ لَهُ أَنْ يُرْكِبَ غَيْرَهُ؛ لِأَنَّهُ تَعَيَّنَ مُرَادًا مِنْ الْأَصْلِ، وَالنَّاسُ يَتَفَاوَتُونَ فِي الرُّكُوبِ فَصَارَ كَأَنَّهُ نَصَّ عَلَى رُكُوبِهِ (وَكَذَلِكَ إذَا اسْتَأْجَرَ ثَوْبًا لِلُّبْسِ وَأَطْلَقَ جَازَ فِيمَا ذَكَرْنَا) لِإِطْلَاقِ اللَّفْظِ وَتَفَاوُتِ
وَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ مَا يَزْرَعُ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ يَتَفَاوَتُ فِي الضَّرَرِ بِالْأَرْضِ وَعَدَمِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّعْيِينِ قَطْعًا لِلْمُنَازَعَةِ انْتَهَى
(قَوْلُهُ: فَإِنْ أَطْلَقَ الرُّكُوبَ جَازَ لَهُ أَنْ يُرْكِبَ مَنْ شَاءَ عَمَلًا بِالْإِطْلَاقِ) اعْلَمْ أَنَّ اسْتِئْجَارَ الدَّوَابِّ لِلرُّكُوبِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ إمَّا أَنْ يَقُولَ عِنْدَ الْعَقْدِ اسْتَأْجَرْتُهَا لِلرُّكُوبِ وَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ شَيْئًا أَوْ زَادَ، فَعَلَى هَذَا إمَّا أَنْ يَقُولَ عَلَى أَنْ يُرْكِبَ مَنْ شَاءَ أَوْ يَقُولَ عَلَى أَنْ يَرْكَبَ فُلَانٌ؛ فَفِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يَفْسُدُ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّ الرُّكُوبَ مِمَّا يَخْتَلِفُ اخْتِلَافًا فَاحِشًا فَيَكُونُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَجْهُولًا، فَإِنْ أَرْكَبَ شَخْصًا وَمَضَتْ الْمُدَّةُ فَالْقِيَاسُ أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ أَجْرُ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ فَلَا يَنْقَلِبُ إلَى الْجَوَازِ. وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَجِبُ الْمُسَمَّى وَيَنْقَلِبُ جَائِزًا؛ لِأَنَّ الْفَسَادَ كَانَ لِلْجَهَالَةِ وَقَدْ ارْتَفَعَتْ حَالَةَ الِاسْتِعْمَالِ فَكَأَنَّهَا ارْتَفَعَتْ مِنْ الِابْتِدَاءِ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ يَنْعَقِدُ سَاعَةً فَسَاعَةً، فَكُلُّ جُزْءٍ مِنْهُ ابْتِدَاءٌ، وَإِذَا ارْتَفَعَ الْجَهَالَةُ مِنْ الِابْتِدَاءِ صَحَّ الْعَقْدُ، فَكَذَا هَاهُنَا. وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي
النَّاسِ فِي اللُّبْسِ (وَإِنْ قَالَ: عَلَى أَنْ يَرْكَبَهَا فُلَانٌ أَوْ يَلْبَسَ الثَّوْبَ فُلَانٌ فَأَرْكَبَهَا غَيْرَهُ أَوْ أَلْبَسَهُ غَيْرَهُ فَعَطِبَ كَانَ ضَامِنًا)؛ لِأَنَّ النَّاسَ يَتَفَاوَتُونَ فِي الرُّكُوبِ وَاللُّبْسِ فَصَحَّ التَّعْيِينُ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَعَدَّاهُ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُسْتَعْمِلِ لِمَا ذَكَرْنَا. فَأَمَّا الْعَقَارُ وَمَا لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُسْتَعْمِلِ إذَا شَرَطَ سُكْنَى وَاحِدٍ فَلَهُ أَنْ يُسْكِنَ غَيْرَهُ؛ لِأَنَّ التَّقْيِيدَ غَيْرُ مُفِيدٍ لِعَدَمِ التَّفَاوُتِ الَّذِي يَضُرُّ بِالْبِنَاءِ، وَاَلَّذِي يَضُرُّ بِالْبِنَاءِ خَارِجٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا. قَالَ:(وَإِنْ سَمَّى نَوْعًا وَقَدْرًا مَعْلُومًا يَحْمِلُهُ عَلَى الدَّابَّةِ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ خَمْسَةُ أَقْفِزَةِ حِنْطَةٍ فَلَهُ أَنْ يَحْمِلَ مَا هُوَ مِثْلُ الْحِنْطَةِ فِي الضَّرَرِ أَوْ أَقَلُّ كَالشَّعِيرِ وَالسِّمْسِمِ)؛ لِأَنَّهُ دَخَلَ تَحْتَ الْإِذْنِ لِعَدَمِ التَّفَاوُتِ، أَوْ لِكَوْنِهِ خَيْرًا مِنْ الْأَوَّلِ (وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْمِلَ مَا هُوَ أَضَرُّ مِنْ الْحِنْطَةِ كَالْمِلْحِ وَالْحَدِيدِ)
يَصِحُّ الْعَقْدُ وَيَجِبُ الْمُسَمَّى وَيَتَعَيَّنُ أَوَّلُ مَنْ رَكِبَ سَوَاءٌ كَانَ الْمُسْتَأْجِرُ أَوْ غَيْرُهُ؛ لِأَنَّهُ تَعَيَّنَ مُرَادًا مِنْ الْأَصْلِ فَصَارَ كَأَنَّهُ نَصَّ عَلَى رُكُوبِهِ ابْتِدَاءً. وَفِي الْوَجْهِ الثَّالِثِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَعَدَّاهُ؛ لِأَنَّهُ تَعْيِينٌ مُفِيدٌ لَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِهِ فَإِنْ تَعَدَّى صَارَ ضَامِنًا وَحُكْمُ الْحَمْلِ كَحُكْمِ الرُّكُوبِ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْأَوْجُهِ كَذَا قَالُوا. ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الشُّرَّاحَ افْتَرَقُوا فِي تَعْيِينِ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِ الْقُدُورِيِّ: فَإِنْ أَطْلَقَ الرُّكُوبَ جَازَ لَهُ أَنْ يُرْكِبَ مَنْ شَاءَ، أَيُّ وَجْهٍ مِنْ هَاتِيكَ الْأَوْجُهِ الثَّلَاثَةِ، فَجَزَمَ فِرْقَةٌ مِنْهُمْ كَتَاجِ الشَّرِيعَةِ وَصَاحِبَيْ الْغَايَةِ، وَالْعِنَايَةِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ هُوَ الْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ أَنْ يَقُولَ عَلَى أَنْ تُرْكِبَ مَنْ شِئْتَ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِطْلَاقِ التَّعْمِيمُ بِدُونِ التَّقْيِيدِ بِرُكُوبِ شَخْصٍ بِعَيْنِهِ كَمَا جَزَمَ بِهِ الْإِمَامُ الزَّاهِدِيُّ وَالْإِمَامُ أَبُو نَصْرٍ الْأَقْطَعُ فِي شَرْحَيْهِمَا لِمُخْتَصَرِ الْقُدُورِيِّ، وَجَوَّزَ فِرْقَةٌ أُخْرَى مِنْهُمْ كَأَصْحَابِ النِّهَايَةِ، وَالْكِفَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ الْحَمْلَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا آخِرُ أَحْوَالِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَهُوَ انْقِلَابُ الْعَقْدِ إلَى الْجَوَازِ بَعْدَمَا وَقَعَ فَاسِدًا بِأَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ فَإِنْ أَطْلَقَ الرُّكُوبَ جَازَ لَهُ أَنْ يُرْكِبَ مَنْ شَاءَ لَوْ أَرْكَبَ مَنْ شَاءَ يَنْقَلِبُ الْعَقْدُ إلَى الْجَوَازِ بَعْدَمَا وَقَعَ فَاسِدًا.
وَثَانِيهِمَا الْوَجْهُ الثَّانِي كَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ. إذَا عَرَفْتَ هَذَا فَأَقُولُ إنَّ تَعْلِيلَ الْمُصَنِّفِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: أَعْنِي قَوْلَهُ فَإِنْ أَطْلَقَ الرُّكُوبَ جَازَ لَهُ أَنْ يُرْكِبَ مَنْ شَاءَ بِقَوْلِهِ عَمَلًا بِالْإِطْلَاقِ يَقْتَضِي أَنْ يَحْمِلَهُ الْمُصَنِّفُ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي فَقَطْ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَتَمَشَّى عِنْدَ الْحَمْلِ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي لَا عِنْدَ الْحَمْلِ عَلَى آخِرِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ إذْ لَا شَكَّ أَنَّ عِلَّةَ انْقِلَابِ الْعَقْدِ إلَى الْجَوَازِ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ إنَّمَا هِيَ تَعْيِينُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ بَقَاءً لَا إطْلَاقُهُ، وَإِنَّمَا الْإِطْلَاقُ عِلَّةُ الْفَسَادِ ابْتِدَاءً.
وَعَنْ هَذَا فَسَّرَ صَاحِبُ الْكَافِي مَعْنَى الْإِطْلَاقِ هَاهُنَا بِالْوَجْهِ الثَّانِي ثُمَّ عَلَّلَ الْمَسْأَلَةَ بِمَا عَلَّلَ بِهِ الْمُصَنِّفُ حَيْثُ قَالَ: فَإِنْ أَطْلَقَ بِأَنْ قَالَ عَلَى أَنْ يُرْكِبَ أَوْ يُلْبِسَ مَنْ شَاءَ جَازَ لَهُ أَنْ يُرْكِبَ أَوْ يُلْبِسَ مَنْ شَاءَ عَمَلًا بِإِطْلَاقِ اللَّفْظِ انْتَهَى فَتَدَبَّرْ. (قَوْلُهُ: وَإِنْ سَمَّى نَوْعًا وَقَدْرًا مَعْلُومًا يَحْمِلُهُ عَلَى الدَّابَّةِ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ خَمْسَةُ أَقْفِزَةِ حِنْطَةٍ فَلَهُ أَنْ يَحْمِلَ مَا هُوَ مِثْلُ الْحِنْطَةِ فِي الضَّرَرِ أَوْ أَقَلُّ كَالشَّعِيرِ، وَالسِّمْسِمِ) كِلَاهُمَا مِثَالٌ لِمَا هُوَ أَقَلُّ فِي الضَّرَرِ، وَأَمَّا مِثَالُ
لِانْعِدَامِ الرِّضَا فِيهِ (وَإِنْ اسْتَأْجَرَهَا لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا قُطْنًا سَمَّاهُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا مِثْلَ وَزْنِهِ حَدِيدًا)؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَكُونُ أَضَرَّ بِالدَّابَّةِ فَإِنَّ الْحَدِيدَ يَجْتَمِعُ فِي مَوْضِعٍ مِنْ ظَهْرِهَا وَالْقُطْنُ يَنْبَسِطُ عَلَى ظَهْرِهَا.
قَالَ: (وَإِنْ اسْتَأْجَرَهَا لِيَرْكَبَهَا فَأَرْدَفَ مَعَهُ رَجُلًا فَعَطِبَتْ ضَمِنَ نِصْفَ قِيمَتِهَا وَلَا مُعْتَبَرَ بِالثِّقَلِ)؛ لِأَنَّ الدَّابَّةَ قَدْ يَعْقِرُهَا جَهْلُ الرَّاكِبِ الْخَفِيفِ وَيَخِفُّ عَلَيْهَا رُكُوبُ الثَّقِيلِ لِعِلْمِهِ بِالْفُرُوسِيَّةِ، وَلِأَنَّ الْآدَمِيَّ غَيْرُ مَوْزُونٍ فَلَا يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ الْوَزْنِ فَاعْتُبِرَ عَدَدُ الرَّاكِبِ كَعَدَدِ الْجُنَاةِ فِي الْجِنَايَاتِ.
قَالَ: (وَإِنْ اسْتَأْجَرَهَا لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا مِقْدَارًا مِنْ الْحِنْطَةِ فَحَمَلَ عَلَيْهَا أَكْثَرَ مِنْهُ فَعَطِبَتْ
مَا هُوَ مِثْلٌ فِي الضَّرَرِ فَكَمَا إذَا سَمَّى خَمْسَةَ أَقْفِزَةِ حِنْطَةٍ بِعَيْنِهَا فَحَمَلَ خَمْسَةَ أَقْفِزَةِ حِنْطَةٍ أُخْرَى، وَإِنَّمَا تَرَكَ هَذَا فِي الْكِتَابِ؛ لِظُهُورِهِ قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ فِي شَرْحِ قَوْلِهِ كَالشَّعِيرِ، وَالسِّمْسِمِ: هَذَا لَفٌّ وَنَشْرٌ، فَإِنَّ الشَّعِيرَ يَنْصَرِفُ إلَى الْمِثْلِ، وَالسِّمْسِمُ يَنْصَرِفُ إلَى الْأَقَلِّ إذَا كَانَ التَّقْدِيرُ فِيهَا مِنْ حَيْثُ الْكَيْلُ لَا مِنْ حَيْثُ الْوَزْنُ انْتَهَى.
وَتَبِعَهُ الشَّارِحُ الْكَاكِيُّ كَمَا هُوَ دَأَبُهُ فِي أَكْثَرِ الْأَحْوَالِ. وَقَالَ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ: قَالَ بَعْضُهُمْ: فِيهِ لَفٌّ وَنَشْرٌ يَرْجِعُ قَوْلُهُ: كَالشَّعِيرِ إلَى قَوْلِهِ مِثْلُ الْحِنْطَةِ، وَيَرْجِعُ قَوْلُهُ: وَالسِّمْسِمِ إلَى قَوْلِهِ أَقَلُّ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ الشَّعِيرَ لَيْسَ مِثْلَ الْحِنْطَةِ بَلْ أَخَفَّ مِنْهَا، وَلِهَذَا لَوْ شَرَطَ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا مِائَةَ رَطْلٍ مِنْ الشَّعِيرِ فَحَمَلَ عَلَيْهَا مِائَةَ رَطْلٍ مِنْ الْحِنْطَةِ ضَمِنَ إذَا عَطِبَتْ، فَلَوْ كَانَ مِثْلًا لَهَا لَمْ يَضْمَنْ، كَمَا لَوْ شَرَطَ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا حِنْطَةُ زَيْدٍ فَحَمَلَ عَلَيْهَا حِنْطَةَ عَمْرٍو بِذَلِكَ الْكَيْلِ، بَلْ قَوْلُهُ: كَالشَّعِيرِ، وَالسِّمْسِمِ جَمِيعًا نَظِيرُ قَوْلِهِ أَقَلُّ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ. وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَذَكَرَ فِي النِّهَايَةِ أَنَّ فِي الْكَلَامِ لَفًّا وَنَشْرًا فَإِنَّ الشَّعِيرَ يَنْصَرِفُ إلَى الْمِثْلِ، وَالسِّمْسِمُ يَنْصَرِفُ إلَى الْأَقَلِّ إذَا كَانَ التَّقْدِيرُ مِنْ حَيْثُ الْكَيْلُ، وَلَيْسَ بِوَاضِحٍ فَإِنَّ السِّمْسِمَ أَيْضًا مِثْلٌ إذَا كَانَ التَّقْدِيرُ مِنْ حَيْثُ الْكَيْلُ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
أَقُولُ: فِيهِ خَبْطٌ وَاضِحٌ، فَإِنَّهُ إذَا كَانَ التَّقْدِيرُ مِنْ حَيْثُ الْكَيْلُ فَإِنَّمَا يَكُونُ السِّمْسِمُ مِثْلَ الْحِنْطَةِ فِي الْكَيْلِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمِثْلِ، وَالْأَقَلِّ هَاهُنَا مَا هُوَ مِثْلُ وَأَقَلُّ فِي الضَّرَرِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي نَفْسِ الْكِتَابِ، وَإِنَّمَا تَكُونُ الْمِثْلِيَّةُ فِي الضَّرَرِ بِالتَّسَاوِي فِي الْوَزْنِ، وَالْأَقَلِّيَّةُ فِي الضَّرَرِ بِالْقِلَّةِ فِي الْوَزْنِ، وَانْتِفَاءُ التَّسَاوِي فِي الْوَزْنِ بَيْنَ السِّمْسِمِ، وَالْحِنْطَةِ إذَا كَانَ التَّقْدِيرُ مِنْ حَيْثُ الْكَيْلُ أَمْرٌ بَدِيهِيٌّ، فَكَأَنَّ صَاحِبَ الْعِنَايَةِ تَوَهَّمَ مِنْ كَوْنِ التَّقْدِيرِ مِنْ حَيْثُ الْكَيْلُ كَوْنَ الْمِثْلِيَّةِ، وَالْأَقَلِّيَّةِ أَيْضًا مِنْ حَيْثُ الْكَيْلُ وَهُوَ عَجِيبٌ مِنْ مِثْلِهِ. نَعَمْ يَرُدُّ عَلَى مَا ذَكَرَ فِي النِّهَايَةِ مَنْعُ كَوْنِ الشَّعِيرِ مِثْلَ الْحِنْطَةِ فِي الضَّرَرِ إذَا كَانَ التَّقْدِيرُ مِنْ حَيْثُ الْكَيْلُ كَمَا أَفْصَحَ عَنْهُ صَاحِبُ الْغَايَةِ.
(قَوْلُهُ: وَإِنْ اسْتَأْجَرَهَا؛ لِيَرْكَبَهَا فَأَرْدَفَ مَعَهُ رَجُلًا فَعَطِبَتْ ضَمِنَ نِصْفَ قِيمَتِهَا) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: قِيلَ وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِكَوْنِهِ رَجُلًا؛ لِأَنَّهُ إذَا أَرْدَفَ صَبِيًّا
ضَمِنَ مَا زَادَ الثِّقَلُ)؛ لِأَنَّهَا عَطِبَتْ بِمَا هُوَ مَأْذُونٌ فِيهِ وَمَا هُوَ غَيْرُ مَأْذُونٍ فِيهِ وَالسَّبَبُ الثِّقَلُ فَانْقَسَمَ عَلَيْهِمَا (إلَّا إذَا كَانَ حَمْلًا لَا يُطِيقُهُ مِثْلُ تِلْكَ الدَّابَّةِ فَحِينَئِذٍ يَضْمَنُ كُلَّ قِيمَتِهَا) لِعَدَمِ الْإِذْنِ فِيهَا أَصْلًا لِخُرُوجِهِ عَنْ الْعَادَةِ.
قَالَ: (وَإِنْ كَبَحَ الدَّابَّةَ بِلِجَامِهَا أَوْ ضَرَبَهَا فَعَطِبَتْ ضَمِنَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَا: لَا يَضْمَنُ إذَا فَعَلَ فِعْلًا مُتَعَارَفًا)؛ لِأَنَّ الْمُتَعَارَفَ مِمَّا يَدْخُلُ تَحْتَ مُطْلَقِ الْعَقْدِ فَكَانَ حَاصِلًا بِإِذْنِهِ فَلَا يَضْمَنُهُ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّ الْإِذْنَ مُقَيَّدٌ بِشَرْطِ
ضَمِنَ بِقَدْرِ ثِقَلِهِ إذَا كَانَ لَا يَسْتَمْسِكُ بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْحَمْلِ انْتَهَى. وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: إلَّا أَنَّ قَوْلَهُ: وَلِأَنَّ الْآدَمِيَّ غَيْرُ مَوْزُونٍ يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، وَلَعَلَّ تَصْدِيرَ الْكَلَامِ بِصِيغَةِ التَّمْرِيضِ لِذَلِكَ. انْتَهَى. أَقُولُ: لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الصَّبِيَّ الَّذِي لَا يَسْتَمْسِكُ بِنَفْسِهِ لَمَّا صَارَ بِمَنْزِلَةِ الْحَمْلِ صَارَ بِمَنْزِلَةِ غَيْرِ الْآدَمِيِّ فَلَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ قَوْلِهِ وَلِأَنَّ الْآدَمِيَّ غَيْرُ مَوْزُونٍ فَلَمْ يَكُنْ مَا قِيلَ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ الدَّلِيلِ.
وَيُرْشِدُ إلَيْهِ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ حَيْثُ قَالَ: ثُمَّ الْفِقْهُ فِي اعْتِبَارِ عَدَدِ الرَّاكِبِ فِي الْآدَمِيِّ لَا الثِّقَلِ هُوَ أَنَّ الْآدَمِيَّ مَخْصُوصٌ بِعِلْمِ الْفُرُوسِيَّةِ، وَعَنْ هَذَا قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيُّ: هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مِنْ الْجَوَابِ فِيمَا إذَا أَرْدَفَ مِثْلَهُ، وَأَمَّا إذَا أَرْدَفَ صَبِيًّا يَضْمَنُ بِقَدْرِ ثِقَلِهِ، لَكِنَّ هَذَا فِي الصَّبِيِّ الَّذِي لَا يَسْتَمْسِكُ بِنَفْسِهِ، وَكَانَ مِثْلُهُ بِمَنْزِلَةِ الْحَمْلِ كَذَا فِي التَّتِمَّةِ، إلَى هُنَا لَفْظُ النِّهَايَةِ تَأَمَّلْ تَرْشُدْ. ثُمَّ إنَّهُ لَا مَجَالَ لِلْقَصْدِ إلَى تَضْعِيفِ ذَلِكَ الْقَوْلِ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا تَقَرَّرَ فِي عَامَّةِ مُعْتَبَرَاتِ الْفَتَاوَى، وَنَاهِيكَ بِقَوْلِ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيِّ ذَلِكَ الْإِمَامُ الْمُحَقِّقُ: وَمِنْ الْعَجَائِبِ هَاهُنَا أَنَّهُ لَمَّا قَالَ صَاحِبُ الْكَافِي: وَلِأَنَّ الْآدَمِيَّ لَا يُوزَنُ بِالْقَبَّانِ بَدَلَ قَوْلِ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ وَلِأَنَّ الْآدَمِيَّ غَيْرُ مَوْزُونٍ نَقَلَهُ الشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ وَقَالَ فِيهِ نَظَرٌ، وَقَدْ شَاهَدْنَا كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ وَزَنُوا أَنْفُسَهُمْ بِالْقَبَّانِ؛ لِيَعْرِفُوا وَزْنَهَا، وَلَكِنْ لَا يَنْضَبِطُ هَذَا عَلَى مَا لَا يَخْفَى انْتَهَى فَكَأَنَّهُ زَعَمَ أَنَّ مُرَادَ صَاحِبِ الْكَافِي أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُوزَنَ الْآدَمِيُّ بِالْقَبَّانِ أَصْلًا وَهَلْ يُوجَدُ فِي الْعَالَمِ مِنْ الْمُمْكِنَاتِ الْقَائِمَةِ بِذَاتِهَا شَيْءٌ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُوزَنَ أَصْلًا إلَّا أَنْ يَكُونَ مُجَرَّدًا أَوْ جِسْمًا لَطِيفًا
(قَوْلُهُ: وَقَالَا: لَا يَضْمَنُ إذَا فَعَلَ فِعْلًا مُتَعَارَفًا؛ لِأَنَّ الْمُتَعَارَفَ مِمَّا يَدْخُلُ تَحْتَ مُطْلَقِ الْعَقْدِ إلَخْ) قَالَ صَاحِبُ
السَّلَامَةِ إذْ يَتَحَقَّقُ السَّوْقُ بِدُونِهِ، وَإِنَّمَا هُمَا لِلْمُبَالَغَةِ فَيَتَقَيَّدُ بِوَصْفِ السَّلَامَةِ كَالْمُرُورِ فِي الطَّرِيقِ.
قَالَ: (وَإِنَّ اسْتَأْجَرَهَا إلَى الْحِيرَةِ فَجَاوَزَ بِهَا إلَى الْقَادِسِيَّةِ ثُمَّ رَدَّهَا إلَى الْحِيرَةِ ثُمَّ نَفَقَتْ فَهُوَ ضَامِنٌ، وَكَذَلِكَ الْعَارِيَّةُ) وَقِيلَ تَأْوِيلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إذَا اسْتَأْجَرَهَا ذَاهِبًا لَا جَائِيًا؛ لِيَنْتَهِيَ الْعَقْدُ بِالْوُصُولِ إلَى الْحِيرَةِ فَلَا يَصِيرُ بِالْعَوْدِ مَرْدُودًا إلَى يَدِ الْمَالِكِ مَعْنًى. وَأَمَّا إذَا اسْتَأْجَرَهَا ذَاهِبًا وَجَائِيًا فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْمُودَعِ إذَا خَالَفَ ثُمَّ عَادَ إلَى الْوِفَاقِ. وَقِيلَ لَا، بَلْ الْجَوَابُ مُجْرًى عَلَى الْإِطْلَاقِ. وَالْفَرْقُ أَنَّ الْمُودَعَ بِأُمُورٍ بِالْحِفْظِ مَقْصُودًا فَبَقِيَ الْأَمْرُ بِالْحِفْظِ بَعْدَ الْعَوْدِ إلَى الْوِفَاقِ فَحَصَلَ
الْعِنَايَةِ: وَفِي عِبَارَتِهِ تَسَامُحٌ؛ لِأَنَّ الْمُتَعَارَفَ مُرَادٌ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ لَا دَاخِلٌ تَحْتَهُ. وَالْجَوَابُ أَنَّ اللَّامَ فِي الْمُتَعَارَفِ لِلْعَهْدِ: أَيْ الْكَبْحَ الْمُتَعَارَفَ أَوْ الضَّرْبَ الْمُتَعَارَفَ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ دَاخِلًا لَا مُرَادًا؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ الْمُطْلَقَ يَتَنَاوَلُهُ وَغَيْرَهُ. اهـ كَلَامُهُ. وَتَصَرَّفَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ فِي كُلٍّ مِنْ جَانِبَيْ السُّؤَالِ، وَالْجَوَابِ. أَمَّا فِي الْأَوَّلِ فَبِأَنْ قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ بِالدُّخُولِ عَدَمُ الْخُرُوجِ،
الرَّدُّ إلَى يَدِ نَائِبِ الْمَالِكِ، وَفِي الْإِجَارَةِ وَالْعَارِيَّةِ يَصِيرُ الْحِفْظُ مَأْمُورًا بِهِ تَبَعًا لِلِاسْتِعْمَالِ لَا مَقْصُودًا، فَإِذَا انْقَطَعَ الِاسْتِعْمَالُ لَمْ يَبْقَ هُوَ نَائِبًا فَلَا يَبْرَأُ بِالْعَوْدِ وَهَذَا أَصَحُّ. قَالَ:(وَمَنْ اكْتَرَى حِمَارًا بِسَرْجٍ فَنَزَعَ السَّرْجَ وَأَسْرَجَهُ بِسَرْجٍ تُسْرَجُ بِمِثْلِهِ الْحُمُرُ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ)؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ يُمَاثِلُ الْأَوَّلَ تَنَاوَلَهُ إذْنُ الْمَالِكِ، إذْ لَا فَائِدَةَ فِي التَّقْيِيدِ بِغَيْرِهِ إلَّا إذَا كَانَ زَائِدًا عَلَيْهِ فِي الْوَزْنِ فَحِينَئِذٍ يَضْمَنُ الزِّيَادَةَ (وَإِنْ كَانَ لَا تُسْرَجُ بِمِثْلِهِ الْحُمُرُ ضَمِنَ)؛ لِأَنَّهُ
وَأَمَّا فِي الثَّانِي فَبِأَنْ قَالَ: وَلَعَلَّ الْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ أَيْ الْفِعْلَ الْمُتَعَارَفَ. اهـ. أَقُولُ كُلٌّ مِنْ تَصَرُّفَيْهِ سَاقِطٌ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ كَوْنَ الْمُرَادِ بِالدُّخُولِ عَدَمَ الْخُرُوجِ لَا يَدْفَعُ التَّسَامُحَ فِي الْعِبَارَةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ الْمَعْنَى خِلَافُ الظَّاهِرِ مِنْ لَفْظِ الدُّخُولِ جِدًّا، فَإِرَادَةُ ذَلِكَ مِنْهُ عَيْنُ التَّسَامُحِ فِي الْعِبَارَةِ. وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّهُ لَوْ قَالَ فِي تَفْسِيرِ الْمَعْهُودِ: أَيْ الْفِعْلِ الْمُتَعَارَفِ لَمْ يَتِمَّ الْجَوَابُ، إذْ الْفِعْلُ الْمُتَعَارَفُ مُطْلَقًا مُرَادٌ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ لَا دَاخِلٌ تَحْتَهُ، وَإِنَّمَا الدَّاخِلُ تَحْتَهُ الْفِعْلُ الْمُتَعَارَفُ الْمَخْصُوصُ وَهُوَ هَاهُنَا الْكَبْحُ الْمُتَعَارَفُ أَوْ الضَّرْبُ الْمُتَعَارَفُ، وَإِنْ أَرَادَ بِالْفِعْلِ الْمُتَعَارَفِ فِي التَّفْسِيرِ الْكَبْحَ الْمُتَعَارَفَ أَوْ الضَّرْبَ الْمُتَعَارَفَ دُونَ الْفِعْلِ الْمُتَعَارَفِ مُطْلَقًا احْتَاجَ إلَى تَفْسِيرٍ آخَرَ فِي تَبْيِينِ الْمُرَادِ، فَالْأَوْلَى مَا فِي الْعِنَايَةِ كَمَا لَا يَخْفَى.
(قَوْلُهُ: وَفِي الْإِجَارَةِ، وَالْإِعَارَةِ يَصِيرُ الْحِفْظُ مَأْمُورًا بِهِ تَبَعًا لِلِاسْتِعْمَالِ لَا مَقْصُودًا فَإِذَا انْقَطَعَ الِاسْتِعْمَالُ لَمْ يَبْقَ هُوَ نَائِبًا فَلَا يَبْرَأُ بِالْعَوْدِ) فَإِنَّهُ لَمَّا جَاوَزَ الْحِيرَةَ صَارَ غَاصِبًا لِلدَّابَّةِ وَدَخَلَتْ الدَّابَّةُ فِي ضَمَانِهِ، وَالْغَاصِبُ لَا يَبْرَأُ عَنْ الضَّمَانِ إلَّا بِالرَّدِّ عَلَى الْمَالِكِ أَوْ عَلَى مَنْ هُوَ مَأْمُورٌ بِالْحِفْظِ مِنْ جِهَةِ الْمَالِكِ، وَلَمْ يُوجَدْ، كَذَا فِي الْكَافِي وَعَامَّةِ الشُّرُوحِ. وَنُوقِضَ بِغَاصِبِ الْغَاصِبِ إذَا رَدَّ الْمَغْصُوبَ عَلَى الْغَاصِبِ فَإِنَّهُ يَبْرَأُ وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ الرَّدُّ عَلَى أَحَدِ هَذَيْنِ. وَأُجِيبَ عَنْهُ فِي النِّهَايَةِ وَكَثِيرٍ مِنْ الشُّرُوحِ بِأَنَّا نَزِيدُ فِي الْمَأْخَذِ فَنَقُولُ: إنَّمَا يَبْرَأُ بِالرَّدِّ إلَى أَحَدِ هَذَيْنِ أَوْ إلَى مَنْ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ سَبَبُ ضَمَانٍ يَرْتَفِعُ بِالرَّدِّ عَلَيْهِ ضَمَانُهُ مِنْ قَبْلُ، وَالْغَاصِبُ الْأَوَّلُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ سَبَبُ ضَمَانٍ يَرْتَفِعُ بِالرَّدِّ عَلَيْهِ، وَعَزَاهُ فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ إلَى الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ. وَقَالَ فِي الْعِنَايَةِ: وَالْجَوَابُ أَنَّ الرَّدَّ عَلَى أَحَدِهِمَا يُوجِبُ الْبَرَاءَةَ أَلْبَتَّةَ، وَلَيْسَ كُلُّ مَا يُوجِبُ الْبَرَاءَةَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الرَّدُّ عَلَى أَحَدِهِمَا لِجَوَازِ أَنْ تَحْصُلَ الْبَرَاءَةُ بِسَبَبٍ آخَرَ.
وَالسَّبَبُ فِي غَاصِبِ الْغَاصِبِ هُوَ الرَّدُّ إلَى مَنْ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ سَبَبُ ضَمَانٍ يَرْتَفِعُ بِالرَّدِّ عَلَيْهِ ضَمَانُهُ مِنْ قَبْلُ اهـ. أَقُولُ: يَرُدُّ عَلَيْهِ أَنَّ قَوْلَهُ وَلَيْسَ كُلُّ مَا يُوجِبُ الْبَرَاءَةَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الرَّدُّ عَلَى أَحَدِهِمَا؛ لِجَوَازِ أَنْ تَحْصُلَ الْبَرَاءَةُ بِسَبَبٍ آخَرَ مِمَّا يُنَافِيهِ الْحَصْرُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ قَوْلِهِمْ، وَالْغَاصِبُ لَا يَبْرَأُ عَنْ الضَّمَانِ إلَّا بِالرَّدِّ عَلَى الْمَالِكِ أَوْ عَلَى مَنْ هُوَ مَأْمُورٌ بِالْحِفْظِ مِنْ جِهَةِ الْمَالِكِ، وَمَوْرِدُ النَّقْضِ لَيْسَ إلَّا الْحَصْرُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ تِلْكَ الْمُقَدِّمَةِ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُحْمَلَ
لَمْ يَتَنَاوَلْهُ الْإِذْنُ مِنْ جِهَتِهِ فَصَارَ مُخَالِفًا (وَإِنْ أَوْكَفَهُ بِإِكَافٍ لَا يُوكَفُ بِمِثْلِهِ الْحُمُرُ يَضْمَنُ) لِمَا قُلْنَا فِي السَّرْجِ، وَهَذَا أَوْلَى (وَإِنْ أَوْكَفَهُ بِإِكَافٍ يُوكَفُ بِمِثْلِهِ الْحُمُرُ يَضْمَنُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: يَضْمَنُ بِحِسَابِهِ)؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ يُوكَفُ بِمِثْلِهِ الْحُمُرُ كَانَ هُوَ وَالسَّرْجُ سَوَاءٌ فَيَكُونُ الْمَالِكُ رَاضِيًا بِهِ، إلَّا إذَا كَانَ زَائِدًا عَلَى السَّرْجِ فِي الْوَزْنِ فَيَضْمَنُ الزِّيَادَةَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرْضَ بِالزِّيَادَةِ فَصَارَ كَالزِّيَادَةِ فِي الْحَمْلِ الْمُسَمَّى إذَا كَانَ مِنْ جِنْسِهِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّ الْإِكَافَ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ السَّرْجِ؛ لِأَنَّهُ لِلْحَمْلِ، وَالسَّرْجُ لِلرُّكُوبِ، وَكَذَا يَنْبَسِطُ أَحَدُهُمَا عَلَى ظَهْرِ الدَّابَّةِ مَا لَا يَنْبَسِطُ عَلَيْهِ الْآخَرُ
ذَلِكَ الْحَصْرُ عَلَى الْقَصْرِ الْإِضَافِيِّ دُونَ الْحَقِيقِيِّ، فَالْمَعْنَى أَنَّ الْغَاصِبَ لَا يَبْرَأُ إلَّا بِالرَّدِّ عَلَى أَحَدِهِمَا لَا بِالْعَوْدِ، فَلَا يُنَافِيهِ جَوَازُ أَنْ تَحْصُلَ الْبَرَاءَةُ بِسَبَبٍ آخَرَ، وَقَصَدَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ أَنْ يُجِيبَ عَمَّا يَرِدُ عَلَى مَا فِي الْعِنَايَةِ بِوَجْهٍ آخَرَ حَيْثُ قَالَ: لَا يُقَالُ كَيْفَ يَسْتَقِيمُ الْحَصْرُ الْمَدْلُولُ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ وَلَا يَبْرَأُ إلَّا بِالرَّدِّ إلَى الْمَالِكِ أَوْ نَائِبِهِ لِظُهُورِ صِحَّتِهِ بِالنَّظَرِ إلَى مَا نَحْنُ فِيهِ. نَعَمْ قَدْ يَكُونُ الْمُسْتَأْجِرُ الَّذِي فَعَلَ مَا فَعَلَ مُسْتَأْجِرًا مِنْ غَاصِبِ الدَّابَّةِ فَتَدَبَّرْ. اهـ كَلَامُهُ.
أَقُولُ: لَيْسَ ذَاكَ بِمُسْتَقِيمٍ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُمْ، وَالْغَاصِبُ لَا يَبْرَأُ إلَّا بِالرَّدِّ عَلَى الْمَالِكِ أَوْ نَائِبِهِ فِي حَيِّزِ الْكُبْرَى مِنْ الشَّكْلِ الْأَوَّلِ بِأَنْ يُقَالَ: الْمُسْتَأْجِرُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ غَاصِبٌ بِمُجَاوَزَةِ الْحِيرَةِ، وَكُلُّ غَاصِبٍ لَا يَبْرَأُ عَنْ الضَّمَانِ إلَّا بِالرَّدِّ عَلَى الْمَالِكِ أَوْ نَائِبِهِ فَهُوَ لَا يَبْرَأُ عَنْهُ إلَّا بِأَحَدِهِمَا، وَلَمْ يُوجَدْ هُنَا شَيْءٌ مِنْهُمَا، فَظُهُورُ صِحَّةِ الْحَصْرِ بِالنَّظَرِ إلَى مَا نَحْنُ فِيهِ لَا يُفِيدُ صِحَّتَهُ بِالنَّظَرِ إلَى كُلِّيَّةِ الْكُبْرَى، وَالْكَلَامِ فِيهَا، وَلَوْ كَانَ مُرَادُ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ بِقَوْلِهِ وَلَا يَبْرَأُ إلَّا بِالرَّدِّ إلَى الْمَالِكِ أَوْ نَائِبِهِ أَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ لَا يَبْرَأُ إلَّا بِالرَّدِّ عَلَى أَحَدِهِمَا؛ لِأَنَّ الْغَاصِبَ مُطْلَقًا لَا يَبْرَأُ إلَّا بِالرَّدِّ عَلَى أَحَدِهِمَا لَمَا كَانَ لِلنَّقْضِ بِغَاصِبِ الْغَاصِبِ إذَا رَدَّ الْمَغْصُوبَ عَلَى الْغَاصِبِ مِسَاسٌ بِكَلَامِهِ فَلَا يَكُونُ لِذِكْرِهِ وَجَوَابِهِ عَنْهُ وَجْهٌ.
فَإِنْ قِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ حِينَئِذٍ بِغَاصِبِ الْغَاصِبِ فِي النَّقْضِ هُوَ الْمُسْتَأْجِرُ الَّذِي اسْتَأْجَرَ مِنْ غَاصِبِ الدَّابَّةِ وَفَعَلَ مَا فَعَلَ الْغَاصِبُ لَا غَاصِبَ الْغَاصِبِ مُطْلَقًا فَيَكُونُ لِلنَّقْضِ الْمَزْبُورِ مِسَاسٌ بِكَلَامِهِ أَيْضًا. قُلْنَا: فَلَا يَصِحُّ الْحَصْرُ الْمَزْبُورُ إذْ ذَاكَ بِالنَّظَرِ إلَى مَا نَحْنُ فِيهِ أَيْضًا فَلَا يَتِمُّ الْمَطْلُوبُ. فَالْمُخَلِّصُ فِي الْجُمْلَةِ لِتَصْحِيحِ مَا فِي الْعِنَايَةِ إنَّمَا هُوَ حَمْلُ الْحَصْرِ عَلَى الْقَصْرِ الْإِضَافِيِّ كَمَا نَبَّهْنَا عَلَيْهِ مِنْ قَبْلُ.
قَالَ فِي النِّهَايَةِ: فَإِنْ قُلْتَ: إلْحَاقُ الْإِجَارَةِ بِالْعَارِيَّةِ فِي حُكْمِ الضَّمَانِ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ لِمَا أَنَّ يَدَ الْمُسْتَأْجِرِ كَيَدِ الْمَالِكِ حَتَّى يَرْجِعَ بِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الضَّمَانِ عَلَى الْمَالِكِ كَالْمُودِعِ بِخِلَافِ الْمُسْتَعِيرِ، وَكَذَلِكَ مُؤْنَةُ الرَّدِّ عَلَى الْمَالِكِ فِي الْإِجَارَةِ كَمَا فِي الْوَدِيعَةِ بِخِلَافِ الْإِعَارَةِ. قُلْتُ: هَذَا هُوَ الَّذِي تَشَبَّثَ بِهِ عِيسَى بْنُ أَبَانَ فِي الطَّعْنِ فِي جَوَابِ الْكِتَابِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: رُجُوعُهُ بِالضَّمَانِ لِلْغُرُورِ الْمُتَمَكِّنِ بِعَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ، وَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ يَدَهُ لَيْسَ كَيَدِ نَفْسِهِ كَالْمُشْتَرِي يَرْجِعُ بِضَمَانِ الْغُرُورِ، وَكَذَلِكَ مُؤْنَةُ الرَّدِّ عَلَيْهِ لِمَا قُلْنَا مِنْ
فَكَانَ مُخَالِفًا كَمَا إذَا حَمَلَ الْحَدِيدَ وَقَدْ شَرَطَ لَهُ الْحِنْطَةَ.
قَالَ: (وَإِنْ اسْتَأْجَرَ حَمَّالًا لِيَحْمِلَ لَهُ طَعَامًا فِي طَرِيقِ كَذَا فَأَخَذَ فِي طَرِيقٍ غَيْرِهِ يَسْلُكُهُ النَّاسُ فَهَلَكَ الْمَتَاعُ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَإِنْ بَلَغَ فَلَهُ الْأَجْرُ) وَهَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الطَّرِيقَيْنِ تَفَاوُتٌ؛ لِأَنَّ عِنْدَ ذَلِكَ التَّقْيِيدَ غَيْرُ مُفِيدٍ، أَمَّا إذَا كَانَ تَفَاوُتٌ يَضْمَنُ لِصِحَّةِ التَّقْيِيدِ فَإِنَّ التَّقْيِيدَ مُفِيدٌ إلَّا أَنَّ الظَّاهِرَ عَدَمُ التَّفَاوُتِ إذَا كَانَ طَرِيقًا يَسْلُكُهُ النَّاسُ فَلَمْ يُفَصِّلْ (وَإِنْ كَانَ طَرِيقًا لَا يَسْلُكُهُ النَّاسُ فَهَلَكَ ضَمِنَ)؛ لِأَنَّهُ صَحَّ التَّقْيِيدُ فَصَارَ مُخَالِفًا (وَإِنْ بَلَغَ فَلَهُ الْأَجْرُ)؛ لِأَنَّهُ ارْتَفَعَ الْخِلَافُ مَعْنًى، وَإِنْ بَقِيَ صُورَةً. قَالَ:(وَإِنْ حَمَلَهُ فِي الْبَحْرِ فِيمَا يَحْمِلُهُ النَّاسُ فِي الْبَرِّ ضَمِنَ) لِفُحْشِ التَّفَاوُتِ بَيْنَ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ (وَإِنْ بَلَغَ فَلَهُ الْأَجْرُ) لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ وَارْتِفَاعِ الْخِلَافِ مَعْنًى.
قَالَ: (وَمَنْ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا؛ لِيَزْرَعَهَا حِنْطَةً فَزَرَعَهَا رُطَبَةً ضَمِنَ مَا نَقَصَهَا)
الْمَنْفَعَةِ لَهُ فِي النَّقْلِ، فَأَمَّا يَدُ الْمُسْتَأْجِرِ يَدُ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُنْتَفِعُ فِي اسْتِمْسَاكِ الْعَيْنِ الْمُسْتَأْجَرَةِ، إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي اسْتِمْسَاكِ الْعَيْنِ نَفْعٌ لَمَا اخْتَارَ اسْتِمْسَاكَ الْعَيْنِ عَلَى مَا لَهُ مِنْ الْأُجْرَةِ. اهـ.
وَعَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ ذَكَرَ طَعْنَ عِيسَى بْنِ أَبَانَ، وَالْجَوَابُ عَنْهُ فِي كَثِيرٍ مِنْ الشُّرُوحِ، وَعَزَاهُ فِي الْكِفَايَةِ إلَى الْمَبْسُوطِ. وَقَالَ فِي الْعِنَايَةِ: قِيلَ إلْحَاقُ الْإِعَارَةِ بِالْإِجَارَةِ بِقَوْلِهِ وَكَذَلِكَ الْعَارِيَّةُ وَعَكْسُهُ لَيْسَ بِمُسْتَقِيمٍ لِثُبُوتِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا، فَإِنَّ يَدَ الْمُسْتَأْجِرِ كَيَدِ الْمَالِكِ حَيْثُ يَرْجِعُ بِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الضَّمَانِ عَلَى الْمَالِكِ كَالْمُودِعِ، وَمُؤْنَةُ الرَّدِّ عَلَى الْمَالِكِ كَمَا فِي الْوَدِيعَةِ بِخِلَافِ الْإِعَارَةِ.
وَالْجَوَابُ أَنَّ الِاتِّحَادَ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ يَرْفَعُ التَّعَدُّدَ فَلَا بُدَّ مِنْ تَفْرِقَةٍ؛ لِيَتَحَقَّقَ الْإِلْحَاقُ، وَالِاتِّحَادُ فِي الْمَنَاطِ كَافٍ لِلْإِلْحَاقِ وَهُوَ مَوْجُودٌ، فَإِنَّ الْمَنَاطَ هُوَ التَّجَاوُزُ عَنْ الْمُسَمَّى مُتَعَدِّيًا ثُمَّ الرُّجُوعُ إلَيْهِ فِيمَا لَمْ يَكُنْ الْحِفْظُ فِيهِ مَقْصُودًا وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِيهِمَا لَا مَحَالَةَ. اهـ.
أَقُولُ: هَذَا الْجَوَابُ لَيْسَ بِمُسْتَقِيمٍ؛ لِأَنَّ الِاتِّحَادَ فِي الْمَنَاطِ الْمَزْبُورِ غَيْرُ كَافٍ لِلْإِلْحَاقِ عَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِ التَّفْرِقَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الطَّعْنِ، بَلْ لَا يَكُونُ ذَلِكَ مَنَاطًا لِلْإِلْحَاقِ فِي حُكْمِ الضَّمَانِ، فَإِنَّ يَدَ الْمُسْتَأْجِرِ إنْ كَانَ كَيَدِ الْمَالِكِ كَانَ تَعَدِّي الْمُسْتَأْجِرِ بِالتَّجَاوُزِ عَنْ الْمُسَمَّى فِي حُكْمِ تَعَدِّي الْمَالِكِ فِي مَالِ نَفْسِهِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَضْمَنَ الْمُسْتَأْجِرُ شَيْئًا بِخِلَافِ الْمُسْتَعِيرِ فَلَا يَتِمُّ إلْحَاقُ وَاحِدَةٍ مِنْ الْإِجَارَةِ، وَالْعَارِيَّةِ بِالْأُخْرَى. فَالصَّوَابُ فِي الْجَوَابِ مَنْعُ ثُبُوتِ التَّفْرِقَةِ الْمَذْكُورَةِ بِمَنْعِ دَلَالَةِ مَا ذَكَرَ فِي الطَّعْنِ عَلَى كَوْنِ يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ كَيَدِ الْمَالِكِ كَمَا هُوَ حَاصِلُ مَا ذَكَرَ فِي النِّهَايَةِ وَسَائِرِ الشُّرُوحِ عَلَى مَا نَقَلْنَاهُ آنِفًا (قَوْلُهُ: كَمَا إذَا حَمَلَ الْحَدِيدَ وَقَدْ شَرَطَ لَهُ الْحِنْطَةَ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ عَكْسُ مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ الْمِثَالِ
لِأَنَّ الرِّطَابَ أَضَرُّ بِالْأَرْضِ مِنْ الْحِنْطَةِ لِانْتِشَارِ عُرُوقِهَا فِيهَا وَكَثْرَةِ الْحَاجَةِ إلَى سَقْيِهَا فَكَانَ خِلَافًا إلَى شَرٍّ فَيَضْمَنُ مَا نَقَصَهَا (وَلَا أَجْرَ لَهُ)؛ لِأَنَّهُ غَاصِبٌ لِلْأَرْضِ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ.
قَالَ: (وَمَنْ دَفَعَ إلَى خَيَّاطٍ ثَوْبًا لِيَخِيطَهُ قَمِيصًا بِدِرْهَمٍ فَخَاطَهُ قَبَاءً، فَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَةَ الثَّوْبِ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْقَبَاءَ وَأَعْطَاهُ أَجْرَ مِثْلِهِ لَا يُجَاوَزُ بِهِ دِرْهَمًا) قِيلَ: مَعْنَاهُ الْقَرْطَفُ الَّذِي هُوَ ذُو طَاقٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ اسْتِعْمَالَ الْقَمِيصِ، وَقِيلَ هُوَ مُجْرًى عَلَى إطْلَاقِهِ؛ لِأَنَّهُمَا يَتَقَارَبَانِ فِي الْمَنْفَعَةِ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُضَمِّنُهُ مِنْ غَيْرِ خِيَارٍ؛ لِأَنَّ الْقَبَاءَ خِلَافُ جِنْسِ الْقَمِيصِ.
وَوَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّهُ قَمِيصٌ مِنْ وَجْهٍ؛ لِأَنَّهُ يُشَدُّ وَسَطُهُ، فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ مُخَالِفًا؛ لِأَنَّ الْقَمِيصَ لَا يُشَدُّ وَيُنْتَفَعُ بِهِ انْتِفَاعُ الْقَمِيصِ فَجَاءَتْ الْمُوَافَقَةُ وَالْمُخَالَفَةُ فَيَمِيلُ إلَى أَيِّ الْجِهَتَيْنِ شَاءَ، إلَّا أَنَّهُ يَجِبُ أَجْرُ الْمِثْلِ لِقُصُورِ جِهَةِ الْمُوَافَقَةِ، وَلَا يُجَاوِزُ بِهِ الدِّرْهَمَ الْمُسَمَّى كَمَا هُوَ الْحُكْمُ فِي سَائِرِ الْإِجَارَاتِ الْفَاسِدَةِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ فِي بَابِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَلَوْ خَاطَهُ سَرَاوِيلَ وَقَدْ أَمَرَ بِالْقَبَاءِ قِيلَ يَضْمَنُ مِنْ غَيْرِ خِيَارٍ لِلتَّفَاوُتِ فِي الْمَنْفَعَةِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يُخَيَّرُ لِلِاتِّحَادِ فِي أَصْلِ الْمَنْفَعَةِ، وَصَارَ كَمَا إذَا أُمِرَ بِضَرْبِ طَسْتٍ مِنْ شَبَّةٍ فَضَرَبَ مِنْهُ كُوزًا، فَإِنَّهُ يُخَيَّرُ كَذَا هَذَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
بَابُ الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ
قَالَ: (الْإِجَارَةُ تُفْسِدُهَا الشُّرُوطُ كَمَا تُفْسِدُ الْبَيْعَ)؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَتِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ عَقْدٌ يُقَالُ وَيُفْسَخُ (وَالْوَاجِبُ فِي الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ أَجْرُ الْمِثْلِ لَا يُجَاوَزُ بِهِ الْمُسَمَّى) وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ: يَجِبُ بَالِغًا مَا بَلَغَ اعْتِبَارًا بِبَيْعِ الْأَعْيَانِ.
إلَّا إذَا جَعَلَ ذَلِكَ مِثَالًا لِلْمُخَالَفَةِ فَقَطْ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى الِانْبِسَاطِ وَعَدَمِهِ. اهـ. وَقَالَ الشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ بَعْدَ نَقْلِ مَا قَالَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: قُلْتُ: لَيْسَ فِيهِ عَكْسٌ؛ لِأَنَّ الْحَدِيدَ قَدْرُ وَزْنِ الْحِنْطَةِ الْمَشْرُوطَةِ لَا يَأْخُذُ مِنْ ظَهْرِ الدَّابَّةِ قَدْرَ مَا تَأْخُذُهُ الْحِنْطَةُ وَهَذَا ظَاهِرٌ. اهـ.
أَقُولُ: بَلْ فَسَادُ كَلَامِهِ ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ تَعْلِيلَهُ يُنَافِي مَا ادَّعَاهُ، فَإِنَّ الْحَدِيدَ الَّذِي هُوَ قَدْرُ وَزْنِ الْحِنْطَةِ الْمَشْرُوطَةِ إذَا لَمْ يَأْخُذْ مِنْ ظَهْرِ الدَّابَّةِ قَدْرَ مَا تَأْخُذُهُ الْحِنْطَةُ الْمَشْرُوطَةُ تَعَيَّنَ الْعَكْسُ حَيْثُ كَانَ مَا حَمَلَهُ الْمُسْتَأْجِرُ عَلَى الدَّابَّةِ وَهُوَ الْحَدِيدَ أَقَلَّ انْبِسَاطًا عَلَى ظَهْرِ الدَّابَّةِ مِمَّا شَرَطَهُ لَهُ فِي الْعَقْدِ وَهُوَ الْحِنْطَةُ، وَقَدْ كَانَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ مَا وَضَعَهُ الْمُكْتَرِي عَلَى الْحِمَارِ، وَهُوَ الْإِكَافُ أَكْثَرُ انْبِسَاطًا مِمَّا عَيَّنَ لَهُ فِي الْعَقْدِ وَهُوَ السَّرْجُ، وَهُوَ عَكْسُ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ.
(بَابُ الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ)
تَأْخِيرُ الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ عَنْ صَحِيحِهَا لَا يَحْتَاجُ إلَى مَعْذِرَةٍ؛ لِوُقُوعِهَا فِي مَحَلِّهَا كَمَا لَا يَخْفَى (قَوْلُهُ: وَالْوَاجِبُ فِي الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ أَجْرُ الْمِثْلِ لَا يُجَاوَزُ بِهِ الْمُسَمَّى) قَالَ جُمْهُورُ الشُّرَّاحِ: أَيْ الْوَاجِبُ فِيهَا هُوَ الْأَقَلُّ مِنْ أَجْرِ الْمِثْلِ، وَمِنْ الْمُسَمَّى، وَقَالُوا: هَذَا الْحُكْمُ
وَلَنَا أَنَّ الْمَنَافِعَ لَا تَتَقَوَّمُ بِنَفْسِهَا بَلْ بِالْعَقْدِ لِحَاجَةِ النَّاسِ فَيُكْتَفَى بِالضَّرُورَةِ فِي الصَّحِيحِ مِنْهَا، إلَّا أَنَّ الْفَاسِدَ تَبَعٌ لَهُ، وَيُعْتَبَرُ مَا يُجْعَلُ بَدَلًا فِي الصَّحِيحِ عَادَةً، لَكِنَّهُمَا إذَا اتَّفَقَا عَلَى مِقْدَارٍ فِي الْفَاسِدِ فَقَدْ أَسْقَطَا الزِّيَادَةَ، وَإِذَا نَقَصَ أَجْرُ الْمِثْلِ لَمْ يَجِبْ زِيَادَةُ الْمُسَمَّى لِفَسَادِ التَّسْمِيَةِ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ مُتَقَوِّمَةٌ فِي نَفْسِهَا وَهِيَ الْمُوجِبُ الْأَصْلِيُّ، فَإِنْ
إذَا كَانَ فَسَادُ الْإِجَارَةِ بِسَبَبِ شَرْطٍ فَاسِدٍ لَا بِاعْتِبَارِ جَهَالَةِ الْمُسَمَّى وَلَا بِاعْتِبَارِ عَدَمِ التَّسْمِيَةِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ بِاعْتِبَارٍ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَجِبُ الْأَجْرُ بَالِغًا مَا بَلَغَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الذَّخِيرَةِ وَالْمُغْنِي وَفَتَاوَى قَاضِي خَانٍ. وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَالْوَاجِبُ فِي الْإِجَارَةِ الَّتِي فَسَدَتْ بِالشُّرُوطِ الْأَقَلُّ مِنْ أَجْرِ الْمِثْلُ وَالْمُسَمَّى، وَقَالَ: إنَّمَا جُعِلَتْ اللَّامُ فِي قَوْلِهِ فِي الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ لِلْعَهْدِ كَمَا رَأَيْت بِسِيَاقِ الْكَلَامِ وَدَفْعًا لِمَا قِيلَ الْأَقَلُّ مِنْ الْأَجْرِ، وَمِنْ الْمُسَمَّى إنَّمَا يَجِبُ إذَا فَسَدَتْ بِشَرْطٍ، أَمَّا إذَا فَسَدَتْ لِجَهَالَةِ الْمُسَمَّى أَوْ لِعَدَمِ التَّسْمِيَةِ وَجَبَ أَجْرُ الْمِثْلِ بَالِغًا مَا بَلَغَ، نَقَلَهُ فِي النِّهَايَةِ عَنْ الذَّخِيرَةِ وَالْمُغْنِي وَفَتَاوَى قَاضِي خَانٍ. اهـ كَلَامُهُ.
أَقُولُ: فِيهِ شَيْءٌ. أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ قَوْلَهُ وَالْوَاجِبُ فِي الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ أَجْرُ الْمِثْلِ إلَخْ لَفْظُ الْقُدُورِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ، وَلَا دَلَالَةَ لِسِيَاقِ كَلَامِهِ عَلَى كَوْنِ اللَّامِ فِي قَوْلِهِ الْمَذْكُورِ لِلْعَهْدِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ الْإِجَارَةُ تَفْسُدُ بِالشُّرُوطِ كَمَا يَفْسُدُ الْبَيْعُ لَمْ يُذْكَرْ فِي مُخْتَصَرِهِ قُبَيْلَ قَوْلِهِ الْمَذْكُورِ، بَلْ ذُكِرَ قَبْلَ مِقْدَارِ الْوَرَقَتَيْنِ، وَوَقَعَ بَيْنَهُمَا مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ مِنْ مَسَائِلِ الْإِجَارَةِ الصَّحِيحَةِ وَالْفَاسِدَةِ بِحَيْثُ لَمْ يَبْقَ بَيْنَهُمَا ارْتِبَاطٌ. فَلَا مَعْنَى؛ لَأَنْ يُجْعَلَ سِيَاقُ الْكَلَامِ عِلَّةً لِجَعْلِ اللَّامِ فِي قَوْلِهِ الْمَذْكُورِ لِلْعَهْدِ. نَعَمْ قَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ فِي الْبِدَايَةِ وَالْهِدَايَةِ قُبَيْلَ قَوْلِهِ الْمَذْكُورِ كَمَا تَرَى لَكِنَّ الْكَلَامَ فِي تَصْحِيحِ كَلَامِ الْقُدُورِيِّ.
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ اللَّامُ فِي الْقَوْلِ الْمَذْكُورِ لِلْعَهْدِ وَكَانَ الْمَعْنَى مَا ذَكَرَهُ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْمَذْكُورُ فِي بَابِ الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ حُكْمَ نَوْعٍ مَخْصُوصٍ فَقَطْ مِنْ الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ وَهُوَ مَا فَسَدَ بِالشُّرُوطِ، وَأَنْ يَكُونَ حُكْمُ بَاقِي
صَحَّتْ التَّسْمِيَةُ انْتَقَلَ عَنْهُ وَإِلَّا فَلَا.
قَالَ: (وَمَنْ اسْتَأْجَرَ دَارًا كُلَّ شَهْرٍ بِدِرْهَمٍ فَالْعَقْدُ صَحِيحٌ فِي شَهْرٍ وَاحِدٍ فَاسِدٌ فِي بَقِيَّةِ الشُّهُورِ، إلَّا أَنْ يُسَمِّيَ جُمْلَةَ شُهُورٍ مَعْلُومَةٍ)؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ كَلِمَةَ كُلٍّ إذَا دَخَلَتْ فِيمَا لَا نِهَايَةَ لَهُ تَنْصَرِفُ إلَى الْوَاحِدِ لِتَعَذُّرِ الْعَمَلِ بِالْعُمُومِ فَكَانَ الشَّهْرُ الْوَاحِدُ مَعْلُومًا
أَنْوَاعِهَا، وَهِيَ مَا فَسَدَ لِجَهَالَةِ الْمُسَمَّى، وَمَا فَسَدَ لِعَدَمِ التَّسْمِيَةِ بِالْإِجْمَاعِ، وَمَا فَسَدَ بِالشُّيُوعِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ مَتْرُوكُ الذِّكْرِ بِالْكُلِّيَّةِ غَيْرُ مُبَيَّنٍ أَصْلًا لَا فِي مُخْتَصَرِ الْقُدُورِيِّ وَلَا فِي الْبِدَايَةِ وَلَا فِي الْهِدَايَةِ وَلَا فِي عَامَّةِ الْمُعْتَبَرَاتِ، وَهَذَا مِمَّا لَا تَقْبَلُهُ الْفِطْرَةُ السَّلِيمَةُ. وَأَمَّا ثَالِثًا فَلِأَنَّهُ إنْ انْدَفَعَ بِجَعْلِ اللَّامِ فِي الْقَوْلِ الْمَذْكُورِ لِلْعَهْدِ مَا قِيلَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرَهُ، يُرَدُّ عَلَيْهِ أَنْ يُقَالَ مِنْ الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ بِالشُّرُوطِ مَا لَا يَجِبُ فِيهِ الْأَقَلُّ مِنْ أَجْرِ الْمِثْلِ، وَمِنْ الْمُسَمَّى بَلْ يَجِبُ فِيهِ أَجْرُ الْمِثْلِ بَالِغًا مَا بَلَغَ، كَمَا إذَا اسْتَأْجَرَ دَارًا أَوْ حَانُوتًا سَنَةً بِمِائَةِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنْ يَرُمَّهَا الْمُسْتَأْجِرُ فَإِنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ هُنَاكَ أَجْرُ الْمِثْلِ بَالِغًا مَا بَلَغَ، صَرَّحَ بِهِ فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانٍ وَغَيْرِهَا. وَذَكَرَ فِي النِّهَايَةِ أَيْضًا نَقْلًا عَنْ فَتَاوَى قَاضِي خَانٍ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ النَّظَائِرِ الَّتِي صَرَّحَ بِهَا فِي الْمُعْتَبَرَاتِ فَيَنْتَقِضُ بِمِثْلِ ذَلِكَ قَوْلُهُ: الْوَاجِبُ فِي الْإِجَارَةِ الَّتِي فَسَدَتْ بِالشُّرُوطِ الْأَقَلُّ مِنْ أَجْرِ الْمِثْلِ وَالْمُسَمَّى. ثُمَّ أَقُولُ: الْحَقُّ عِنْدِي أَنَّ اللَّامَ فِي الْقَوْلِ الْمَذْكُورِ لَيْسَ لِلْعَهْدِ كَمَا زَعَمَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ، بَلْ هُوَ لِلِاسْتِغْرَاقِ أَوْ الْجِنْسِ، وَأَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى تَقْيِيدِ الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ بِأَنَّهُ فِيمَا إذَا كَانَ فَسَادُ الْإِجَارَةِ بِسَبَبِ شَرْطٍ فَاسِدٍ لَا بِاعْتِبَارِ جَهَالَةِ الْمُسَمَّى وَلَا بِاعْتِبَارِ عَدَمِ التَّسْمِيَةِ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ جُمْهُورُ الشُّرَّاحِ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ أَنَّ الْوَاجِبَ فِي الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ أَجْرُ الْمِثْلِ لَا يُجَاوَزُ بِهِ الْمُسَمَّى إذَا كَانَ هُنَاكَ مُسَمًّى مَعْلُومٌ؛ لِأَنَّ مُجَاوَزَةَ الْمُسَمَّى إنَّمَا تُتَصَوَّرُ فِيهِ. فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ أَجْرٌ مُسَمًّى أَوْ كَانَ الْمُسَمَّى مَجْهُولًا لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجَاوَزَ الْمُسَمَّى بِشَيْءٍ أَصْلًا لِلْقَطْعِ بِأَنَّ الْمُجَاوَزَةَ تَقْتَضِي الْحَدَّ الْمَعْلُومَ فَيَلْغُو أَنْ يُقَالَ هُنَاكَ: لَا يُجَاوَزُ الْمُسَمَّى بِأَجْرِ الْمِثْلِ.
فَصَارَ مُلَخَّصُ الْمَعْنَى أَنَّ الْوَاجِبَ فِي الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ أَجْرُ الْمِثْلِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ مُسَمًّى مَعْلُومٌ فَحِينَئِذٍ لَا يُجَاوَزُ بِهِ الْمُسَمَّى بَلْ يَجِبُ الْأَقَلُّ مِنْهُمَا، فَعُلِمَ مِنْهُ حُكْمُ الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ مُطْلَقًا وَهُوَ وُجُوبُ أَجْرِ الْمِثْلِ بَالِغًا مَا بَلَغَ إنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مُسَمًّى مَعْلُومٌ، وَوُجُوبُ الْأَقَلِّ مِنْ أَجْرِ الْمِثْلِ، وَمِنْ الْمُسَمَّى إنْ كَانَ هُنَاكَ مُسَمًّى مَعْلُومٌ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الشُّرَّاحَ جَعَلُوا وُجُوبَ الْأَقَلِّ مِنْ أَجْرِ الْمِثْلِ، وَمِنْ الْمُسَمَّى مَعْنَى مَجْمُوعِ الْكَلَامِ الْمَذْكُورِ فَوَقَعُوا فِيمَا وَقَعُوا، وَإِذَا جَعَلَ ذَلِكَ مَعْنَى آخِرَ الْكَلَامِ الْمَذْكُورِ وَهُوَ قَوْلُهُ: لَا يُجَاوَزُ الْمُسَمَّى وَأَبْقَى أَوَّلَهُ عَلَى ظَاهِرِهِ وَهُوَ وُجُوبُ عَيْنِ أَجْرِ الْمِثْلِ كَمَا فَعَلْنَاهُ كَانَ حُكْمُ الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ مُطْلَقًا مُسْتَوْفًى بِالْكُلِّيَّةِ فِي الْكِتَابِ، وَلَا يَلْزَمُ شَيْءٌ مِنْ الْمَحْذُورَاتِ، فَتَأَمَّلْ وَكُنْ الْحَاكِمَ الْفَيْصَلَ.
(قَوْلُهُ: وَمَنْ اسْتَأْجَرَ دَارًا كُلَّ شَهْرٍ بِدِرْهَمٍ فَالْعَقْدُ صَحِيحٌ فِي شَهْرٍ وَاحِدٍ فَاسِدٌ فِي بَقِيَّةِ الشُّهُورِ) قَالَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ: فَإِنْ قُلْت: لَوْ كَانَ فَاسِدًا لَجَازَ الْفَسْخُ فِي الْحَالِ: قُلْت: الْإِجَارَةُ مِنْ الْعُقُودِ الْمُضَافَةِ، وَانْعِقَادُ الْإِجَارَةِ فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ فَقَبْلَ الِانْعِقَادِ كَيْفَ تُفْسَخُ انْتَهَى، وَتَبِعَهُ الشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ فِي السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ. أَقُولُ: فِي الْجَوَابِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ انْعِقَادَ الْإِجَارَةِ وَإِنْ كَانَ فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ إلَّا أَنَّ عَقْدَهَا قَدْ تَحَقَّقَ فِي الْحَالِ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ فَلِمَ لَا يَكْفِي فِي جَوَازِ الْفَسْخِ كَوْنُ الْفَسْخِ بَعْدَ تَحَقُّقِ الْعَقْدِ، وَقَدْ مَرَّ
فَصَحَّ الْعَقْدُ فِيهِ، وَإِذَا تَمَّ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَنْقُضَ الْإِجَارَةَ لِانْتِهَاءِ الْعَقْدِ الصَّحِيحِ (وَلَوْ سَمَّى جُمْلَةَ شُهُورٍ مَعْلُومَةٍ جَازَ)؛ لِأَنَّ الْمُدَّةَ صَارَتْ مَعْلُومَةً. قَالَ (وَإِنْ سَكَنَ سَاعَةً مِنْ الشَّهْرِ الثَّانِي صَحَّ الْعَقْدُ فِيهِ وَلَمْ يَكُنْ لِلْمُؤَجِّرِ أَنْ يُخْرِجَهُ إلَى أَنْ يَنْقَضِيَ، وَكَذَلِكَ كُلُّ شَهْرٍ سَكَنَ فِي أَوَّلِهِ سَاعَةً)؛ لِأَنَّهُ تَمَّ الْعَقْدُ بِتَرَاضِيهِمَا بِالسُّكْنَى فِي الشَّهْرِ الثَّانِي، إلَّا أَنَّ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ هُوَ الْقِيَاسُ، وَقَدْ مَالَ إلَيْهِ بَعْضُ الْمَشَايِخِ، وَظَاهِرُ الرِّوَايَةِ أَنْ يَبْقَى الْخِيَارُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي اللَّيْلَةِ الْأُولَى مِنْ الشَّهْرِ الثَّانِي وَيَوْمِهَا؛ لِأَنَّ فِي اعْتِبَارِ الْأَوَّلِ بَعْضَ الْحَرَجِ.
قَالَ: (وَإِنْ اسْتَأْجَرَ دَارًا سَنَةً بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ جَازَ وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ قِسْطَ كُلِّ شَهْرٍ مِنْ الْأُجْرَةِ)؛ لِأَنَّ الْمُدَّةَ مَعْلُومَةٌ بِدُونِ التَّقْسِيمِ فَصَارَ كَإِجَارَةِ شَهْرٍ وَاحِدٍ فَإِنَّهُ جَائِزٌ وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ قِسْطَ كُلِّ يَوْمٍ، ثُمَّ يُعْتَبَرُ ابْتِدَاءُ الْمُدَّةِ مِمَّا سَمَّى
فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْإِجَارَةِ أَنَّ الْإِجَارَةَ مُطْلَقًا تَنْعَقِدُ سَاعَةً فَسَاعَةً عَلَى حَسْبِ حُدُوثِ الْمَنْفَعَةِ، فَقَالُوا فِي تَوْجِيهِ تَرَاخِي الِانْعِقَادِ إلَى حُدُوثِ الْمَنَافِعِ سَاعَةً فَسَاعَةً مَعَ وُجُودِ عِلَّتِهِ فِي الْحَالِ، وَهِيَ الْعَقْدُ أَنَّ الِانْعِقَادَ حُكْمُ الشَّرْعِ، وَالْعِلَلُ الشَّرْعِيَّةُ تُغَايِرُ الْعِلَلَ الْعَقْلِيَّةَ فِي جَوَازِ انْفِكَاكِهَا مِنْ مَعْلُولَاتِهَا، فَلَوْ لَمْ يَجُزْ الْفَسْخُ قَبْلَ أَوَانِ الِانْعِقَادِ، وَلَمْ يَكْفِ كَوْنُهُ بَعْدَ تَحَقُّقِ الْعَقْدِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الِانْعِقَادِ لَمَا جَازَ فَسْخُ الْإِجَارَةِ الصَّحِيحَةِ أَيْضًا بِعُذْرٍ أَوْ عَيْبٍ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْمَنَافِعِ بِتَمَامِهَا، فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَحْدُثْ جُزْءٌ مِنْ الْمَنَافِعِ لَمْ يَتَحَقَّقْ الِانْعِقَادُ فِي حَقِّهِ فَيَلْزَمُ الْفَسْخُ قَبْلَ الِانْعِقَادِ بِالنَّظَرِ إلَيْهِ، مَعَ أَنَّهُ لَا شَكَّ فِي جَوَازِ ذَلِكَ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ قَاطِبَةً.
وَسَيَجِيءُ فِي الْكِتَابِ (قَوْلُهُ: وَإِذَا تَمَّ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَنْقُضَ الْإِجَارَةَ لِانْتِهَاءِ الْعَقْدِ الصَّحِيحِ) قَالَ فِي الْمُحِيطِ الْبُرْهَانِيِّ: وَفِي الْأَصْلِ إذَا اسْتَأْجَرَ الرَّجُلُ مِنْ آخَرَ دَارًا كُلَّ شَهْرٍ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ هَذَا جَائِزٌ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَنْقُضَ الْإِجَارَةَ فِي رَأْسِ الشَّهْرِ، فَإِنْ سَكَنَ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ لَزِمَهُ الْإِجَارَةُ فِي الشَّهْرِ الثَّانِي. وَاخْتَلَفَتْ عِبَارَةُ الْمَشَايِخِ فِي تَخْرِيجِ الْمَسْأَلَةِ. بَعْضُهُمْ قَالَ: أَرَادَ بِقَوْلِهِ جَائِزٌ أَنَّ الْإِجَارَةَ فِي الشَّهْرِ الْأَوَّلِ جَائِزَةٌ، فَأَمَّا فِيمَا عَدَا ذَلِكَ مِنْ الشُّهُورِ فَالْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ لِجَهَالَةِ الْمُدَّةِ إلَّا أَنَّهُ إذَا جَاءَ الشَّهْرُ الثَّانِي، وَلَمْ يَفْسَخْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْإِجَارَةَ فِي رَأْسِ الشَّهْرِ جَازَتْ الْإِجَارَةُ فِي الشَّهْرِ الثَّانِي؛ لِأَنَّ الشَّهْرَ الثَّانِيَ صَارَ كَالشَّهْرِ الْأَوَّلِ. وَبَعْضُهُمْ قَالَ لَا، بَلْ الْإِجَارَةُ جَائِزَةٌ فِي الشَّهْرِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ كَمَا جَازَتْ فِي الشَّهْرِ الْأَوَّلِ، وَإِطْلَاقُ مُحَمَّدٍ رحمه الله فِي الْكِتَابِ يَدُلُّ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا جَازَتْ الْإِجَارَةُ فِيمَا وَرَاءَ الشَّهْرِ الْأَوَّلِ وَإِنْ كَانَتْ الْمُدَّةُ مَجْهُولَةً لِتَعَامُلِ النَّاسِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ مُنْكِرٍ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ الْخِيَارُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رَأْسَ كُلِّ شَهْرٍ، وَإِنْ كَانَتْ الْإِجَارَةُ جَائِزَةً فِيمَا زَادَ عَلَى الشَّهْرِ الْأَوَّلِ لِنَوْعِ ضَرُورَةِ بَيَانِهَا أَنَّ مَوْضُوعَ الْإِجَارَةِ أَنْ لَا تُزِيلَ الرَّقَبَةَ عَنْ مِلْكِ الْمُؤَجِّرِ وَلَا تَجْعَلَهَا مِلْكًا لِلْمُسْتَأْجِرِ، وَمَتَى لَمْ يَثْبُتْ الْخِيَارُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رَأْسَ الشَّهْرِ لَزَالَ رَقَبَةُ الْمُسْتَأْجِرِ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
عَنْ مِلْكِ الْمُؤَجِّرِ مَعْنًى؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ سُكْنَاهَا وَلَا بَيْعَهَا وَلَا هِبَتَهَا أَبَدَ الدَّهْرِ؛ لِأَنَّهُ لَا نِهَايَةَ لِجُمْلَةِ الشُّهُورِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ فَلِهَذِهِ الضَّرُورَةِ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْخِيَارُ بَيْنَ الْفَسْخِ وَالْمُضِيِّ فِي رَأْسِ كُلِّ شَهْرٍ، وَإِنْ كَانَتْ الْإِجَارَةُ جَارِيَةً فِي الشَّهْرِ وَفِيمَا زَادَ عَلَى الشَّهْرِ.
وَقَالَ: إلَّا أَنَّ الْمَشَايِخَ بَعْدَ هَذَا اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ إمْكَانِ الْفَسْخِ لِكُلٍّ مِنْهُمَا رَأْسَ كُلِّ شَهْرٍ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا؛ لِأَنَّ رَأْسَ الشَّهْرِ فِي الْحَقِيقَةِ عِبَارَةٌ عَنْ السَّاعَةِ الَّتِي يَهُلُّ فِيهَا الْهِلَالُ فَكُلَّمَا أَهَلَّ الْهِلَالُ مَضَى رَأْسُ الشَّهْرِ فَلَا يُمْكِنُ الْفَسْخُ بَعْدَ ذَلِكَ الْمُضِيِّ وَقْتَ الْخِيَارِ، وَقَبْلَ ذَلِكَ لَا يُمْكِنُهُ الْفَسْخُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجِئْ وَقْتُهُ.
وَالصَّحِيحُ فِي هَذَا أَحَدُ الطُّرُقِ الثَّلَاثَةِ: إمَّا أَنْ يَقُولَ الَّذِي يُرِيدُ الْفَسْخَ قَبْلَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ فَسَخْتُ الْإِجَارَةَ فَيَتَوَقَّفُ هَذَا الْفَسْخُ إلَى انْقِضَاءِ الشَّهْرِ، وَإِذَا انْقَضَى الشَّهْرُ وَأَهَلَّ الْهِلَالُ عَمِلَ الْفَسْخُ حِينَئِذٍ عَمَلَهُ وَنَفَذَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجِدْ نَفَاذًا فِي وَقْتِهِ، وَالْفَسْخُ إذَا لَمْ يَجِدْ نَفَاذًا فِي وَقْتِهِ يَتَوَقَّفُ إلَى وَقْتِ نَفَاذِهِ، وَبِهِ كَانَ يَقُولُ أَبُو نَصْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ سَلَّامٍ الْبَلْخِيّ، وَنَظِيرُ هَذَا مَا قَالَهُ مُحَمَّدٌ رحمه الله فِي الْبُيُوعِ: اشْتَرَى عَبْدًا عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ فَحُمَّ الْعَبْدُ وَفَسَخَ الْمُشْتَرِي الْعَقْدَ بِحُكْمِ الْخِيَارِ لَمْ يَنْفُذْ هَذَا الْفَسْخُ، بَلْ يَتَوَقَّفُ إلَى أَنْ تَزُولَ الْحُمَّى فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ. وَقَالَ فِي الْمُضَارَبَةِ: رَبُّ الْمَالِ إذَا فَسَخَ الْمُضَارَبَةَ وَقَدْ صَارَ مَالُ الْمُضَارَبَةِ عُرُوضًا لَمْ يَنْفُذْ الْفَسْخُ لِلْحَالِ بَلْ يَتَوَقَّفُ إلَى أَنْ يَصِيرَ مَالُ الْمُضَارَبَةِ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ فَيَنْفُذُ الْفَسْخُ حِينَئِذٍ، كَذَا هَاهُنَا، أَوْ يَقُولَ: الَّذِي يُرِيدُ الْفَسْخَ فِي خِلَالِ الشَّهْرِ فَسَخْتُ الْعَقْدَ رَأْسَ الشَّهْرِ فَيَنْفَسِخُ الْعَقْدُ إذَا أَهَلَّ الْهِلَالُ، وَيَكُونُ هَذَا فَسْخًا مُضَافًا إلَى رَأْسِ الشَّهْرِ، وَعَقْدُ الْإِجَارَةِ يَصِحُّ مُضَافًا، فَكَذَا فَسْخُهُ يَصِحُّ مُضَافًا أَوْ يَفْسَخُ الَّذِي يُرِيدُ الْفَسْخَ فِي اللَّيْلَةِ الَّتِي يَهُلُّ فِيهَا الْهِلَالُ وَيَوْمِهَا، وَهَذَا الْقَائِلُ يَقُولُ: لَمْ يُرِدْ مُحَمَّدٌ بِقَوْلِهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَنْقُضَ الْإِجَارَةَ رَأْسَ الشَّهْرِ مِنْ حَيْثُ الْحَقِيقَةُ، وَهُوَ السَّاعَةُ الَّتِي يَهُلُّ فِيهَا الْهِلَالُ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ رَأْسَ الشَّهْرِ مِنْ حَيْثُ الْعُرْفُ وَالْعَادَةُ وَهِيَ اللَّيْلَةُ الَّتِي يَهُلُّ فِيهَا الْهِلَالُ أَوْ يَوْمُهَا وَهَكَذَا قَالَ مُحَمَّدٌ رحمه الله فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ: إذَا حَلَفَ الرَّجُلُ لَيَقْضِيَنَّ حَقَّ فُلَانٍ رَأْسَ الشَّهْرِ فَقَضَاهُ فِي اللَّيْلَةِ الَّتِي يَهُلُّ فِيهَا الْهِلَالُ أَوْ فِي يَوْمِهَا لَمْ يَحْنَثْ اسْتِحْسَانًا، إلَى هُنَا لَفْظُ الْمُحِيطِ وَهَكَذَا ذَكَرَ فِي الذَّخِيرَةِ أَيْضًا وَنَقَلَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ عَنْ الذَّخِيرَةِ بِنَوْعِ إجْمَالٍ مِنْهُ.
أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الطَّرِيقُ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي مِنْ الطُّرُقِ الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورَةِ مِمَّا لَا يُسَاعِدُهُ عِبَارَةُ الْأَئِمَّةِ فِي وَضْعِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَإِنَّ مُحَمَّدًا رحمه الله قَالَ فِي الْأَصْلِ: وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَنْقُضَ الْإِجَارَةَ فِي رَأْسِ الشَّهْرِ. وَالْإِمَامُ قَاضِي خَانٍ قَالَ فِي فَتَاوَاهُ: رَجُلٌ آجَرَ دَارِهِ أَوْ حَانُوتَهُ كُلَّ شَهْرٍ بِدِرْهَمٍ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَفْسَخَ الْإِجَارَةَ عِنْدَ تَمَامِ الشَّهْرِ، وَالْمُصَنِّفُ قَالَ هَاهُنَا، وَإِذَا تَمَّ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَنْقُضَ الْإِجَارَةَ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ مُقْتَضَى هَذِهِ الْعِبَارَاتِ أَنْ يَكُونَ ثُبُوتُ خِيَارِ الْفَسْخِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِنْدَ تَمَامِ الشَّهْرِ الْأَوَّلِ وَدُخُولِ رَأْسِ الشَّهْرِ الثَّانِي لَا قَبْلَ ذَلِكَ، وَدَلَالَةُ ذَيْنِك الطَّرِيقَيْنِ عَلَى أَنْ يَثْبُتَ لَهُمَا خِيَارُ الْفَسْخِ فِي خِلَالِ الشَّهْرِ الْأَوَّلِ قَبْلَ تَمَامِهِ. وَأَقُولُ: يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ نَفَاذُ الْفَسْخِ وَتَأْثِيرُهُ فِي ذَيْنِك الطَّرِيقَيْنِ أَيْضًا عِنْدَ أَنْ يَنْقَضِيَ الشَّهْرُ الْأَوَّلُ، وَأَهَلَّ هِلَالُ الشَّهْرِ الثَّانِي، وَإِنْ كَانَ التَّكَلُّمُ بِالْفَسْخِ فِيهِمَا فِي خِلَالِ الشَّهْرِ الْأَوَّلِ فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْعِبَارَاتُ فِي وَضْعِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ ظُهُورَ أَثَرِ ثُبُوتِ الْخِيَارِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِنْدَ تَمَامِ الشَّهْرِ الْأَوَّلِ وَدُخُولِ رَأْسِ الشَّهْرِ الثَّانِي. هَذَا غَايَةُ مَا يُمْكِنُ فِي تَوْجِيهِ الطَّرِيقَيْنِ الْمَزْبُورَيْنِ، وَإِنْ كَانَ يَنْبُو عَنْهُ ظَاهِرُ اللَّفْظِ. ثُمَّ إنَّ الْإِمَامَ الزَّيْلَعِيَّ رَدَّ عَلَى مَنْ قَالَ مِنْ الْمَشَايِخِ فِي تَخْرِيجِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: إنَّ الْعَقْدَ جَائِزٌ فِي الشَّهْرِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ أَيْضًا لِتَعَامُلِ النَّاسِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ مُنْكِرٍ، إلَّا أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خِيَارَ الْفَسْخِ رَأْسَ كُلِّ شَهْرٍ لِنَوْعِ ضَرُورَةٍ حَيْثُ قَالَ فِي شَرْحِ الْكَنْزِ: وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِ مَنْ قَالَ مِنْ الْمَشَايِخِ إنَّ الْعَقْدَ صَحِيحٌ فِي الشَّهْرِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ أَيْضًا لِتَعَامُلِ النَّاسِ؛ لِأَنَّ التَّعَامُلَ إذَا كَانَ مُخَالِفًا لِلدَّلِيلِ لَا يُعْتَبَرُ. انْتَهَى.
أَقُولُ: بَلْ لَا مَعْنَى لِمَا قَالَهُ الزَّيْلَعِيُّ؛ لِأَنَّ التَّعَامُلَ إذَا وَقَعَ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ مُنْكِرٍ فَقَدْ حَلَّ مَحَلَّ الْإِجْمَاعِ، وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ وَقَعَ كَذَلِكَ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ مَنْ قَالَ مِنْ الْمَشَايِخِ بِجَوَازِ الْعَقْدِ فِي كُلِّ الشُّهُورِ، وَالْإِجْمَاعُ دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ وَالدَّلِيلُ الَّذِي خَالَفَهُ التَّعَامُلُ هَاهُنَا إنَّمَا هُوَ كَوْنُ جَهَالَةِ الْمُدَّةِ مُفْسِدَةً لِلْعَقْدِ، وَهُوَ مُوجِبُ الْقِيَاسِ، وَالْقِيَاسُ دَلِيلٌ ظَنِّيٌّ لَا يَصْلُحُ لِمُعَارَضَةِ الدَّلِيلِ الْقَطْعِيِّ أَصْلًا، فَضْلًا عَنْ أَنْ لَا يُعْتَبَرَ الْقَطْعِيُّ فِي مُقَابَلَتِهِ، عَلَى أَنَّهُ قَدْ تَقَرَّرَ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْجَهَالَةَ الْمُفْسِدَةَ لِلْعَقْدِ إنَّمَا هِيَ الْجَهَالَةُ الْمُفْضِيَةُ إلَى النِّزَاعِ دُونَ مُطْلَقِ الْجَهَالَةِ كَمَا مَرَّ فِي الْبُيُوعِ، وَجَهَالَةُ الْمُدَّةِ فِيمَا
وَإِنْ لَمْ يُسَمِّ شَيْئًا فَهُوَ مِنْ الْوَقْتِ الَّذِي اسْتَأْجَرَهُ؛ لِأَنَّ الْأَوْقَاتِ كُلَّهَا فِي حَقِّ الْإِجَارَةِ عَلَى السَّوَاءِ فَأَشْبَهَ الْيَمِينَ، بِخِلَافِ الصَّوْمِ؛ لِأَنَّ اللَّيَالِيَ لَيْسَتْ بِمَحَلٍّ لَهُ (ثُمَّ إنْ كَانَ الْعَقْدُ حِينَ يَهُلُّ الْهِلَالُ فَشُهُورُ السَّنَةِ كُلِّهَا بِالْأَهِلَّةِ)؛ لِأَنَّهَا هِيَ الْأَصْلُ (وَإِنْ كَانَ فِي أَثْنَاءِ الشَّهْرِ فَالْكُلُّ بِالْأَيَّامِ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ بِالْأَيَّامِ وَالْبَاقِي بِالْأَهِلَّةِ؛ لِأَنَّ الْأَيَّامَ يُصَارُ إلَيْهَا ضَرُورَةً، وَالضَّرُورَةُ فِي الْأَوَّلِ مِنْهَا. وَلَهُ أَنَّهُ مَتَى تَمَّ الْأَوَّلُ بِالْأَيَّامِ ابْتَدَأَ الثَّانِيَ بِالْأَيَّامِ ضَرُورَةً وَهَكَذَا إلَى آخِرِ السَّنَةِ، وَنَظِيرُهُ الْعِدَّةُ وَقَدْ مَرَّ فِي الطَّلَاقِ.
قَالَ: (وَيَجُوزُ أَخْذُ أُجْرَةِ الْحَمَّامِ وَالْحَجَّامِ) أَمَّا الْحَمَّامُ فَلِتَعَارُفِ النَّاسِ وَلَمْ تُعْتَبَرْ الْجَهَالَةُ لِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ. قَالَ: عليه الصلاة والسلام «مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ» وَأَمَّا الْحَجَّامُ فَلِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم احْتَجَمَ وَأَعْطَى الْحَجَّامَ الْأُجْرَةَ» وَلِأَنَّهُ اسْتِئْجَارٌ عَلَى عَمَلٍ مَعْلُومٍ بِأَجْرٍ مَعْلُومٍ فَيَقَعُ جَائِزًا.
نَحْنُ فِيهِ لَيْسَتْ بِمُفْضِيَةٍ إلَى النِّزَاعِ، إذْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَقْضُ الْعَقْدِ فِي رَأْسِ كُلِّ شَهْرٍ فَكَيْفَ يَقَعُ النِّزَاعُ.
(قَوْلُهُ: لِأَنَّ الْأَوْقَاتِ كُلَّهَا فِي حَقِّ الْإِجَارَةِ عَلَى السَّوَاءِ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي تَعْلِيلِهِ لِذِكْرِ الشُّهُورِ مَنْكُورًا وَتَبِعَهُ الشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ. أَقُولُ: لَيْسَ ذَلِكَ بِسَدِيدٍ. أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِي الْمَسْأَلَةِ هُوَ السَّنَةُ دُونَ الشُّهُورِ. وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِي مَسْأَلَةِ النَّذْرِ بِالصَّوْمِ أَيْضًا مَنْكُورٌ مَعَ أَنَّ الْجَوَابَ مُخْتَلِفٌ. وَالصَّوَابُ فِي تَعْلِيلِ ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: لِأَنَّ كُلَّ الْأَوْقَاتِ مَحَلٌّ لِلْإِجَارَةِ، إذْ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْإِجَارَةِ وَبَيْنَ وَقْتٍ مَا أَصْلًا، فَإِنَّ هَذَا التَّعْلِيلَ هُوَ الْفَارِقُ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِقَوْلِ الْمُصَنِّفِ بِخِلَافِ الصَّوْمِ؛ لِأَنَّ اللَّيَالِيَ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لَهُ تَبَصَّرْ. (قَوْلُهُ: ثُمَّ إنْ كَانَ الْعَقْدُ حِينَ يُهَلُّ الْهِلَالُ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الْهَاءِ عَلَى صِيغَةِ بِنَاءِ الْمَفْعُولِ: أَيْ يُبْصَرُ الْهِلَالُ وَقَالَ: أَرَادَ بِهِ الْيَوْمَ الْأَوَّلَ، وَرَدَّ عَلَيْهِ صَاحِبُ الْغَايَةِ حَيْثُ قَالَ: فَسَّرَ بَعْضُهُمْ فِي شَرْحِهِ قَوْلَهُ حِينَ يُهَلُّ بِقَوْلِهِ أَرَادَ بِهِ الْيَوْمَ الْأَوَّلَ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ حِينَ يُهَلُّ الْهِلَالُ بَلْ هُوَ أَوَّلُ اللَّيْلَةِ الْأُولَى مِنْ الشَّهْرِ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
أَقُولُ: نَظَرُهُ سَاقِطٌ؛ لِأَنَّ
قَالَ: (وَلَا يَجُوزُ أَخْذُ أُجْرَةِ عَسْبِ التَّيْسِ) وَهُوَ أَنْ يُؤَجِّرَ فَحْلًا لِيَنْزُوَ عَلَى الْإِنَاثِ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «إنَّ مِنْ السُّحْتِ عَسْبَ التَّيْسِ» وَالْمُرَادُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَيْهِ.
قَالَ: (وَلَا الِاسْتِئْجَارُ عَلَى الْأَذَانِ وَالْحَجِّ، وَكَذَا الْإِمَامَةُ وَتَعْلِيمُ الْقُرْآنِ وَالْفِقْهِ) وَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ طَاعَةٍ يَخْتَصُّ بِهَا الْمُسْلِمُ لَا يَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رحمه الله يَصِحُّ فِي كُلِّ مَا لَا يَتَعَيَّنُ عَلَى الْأَجِيرِ؛ لِأَنَّهُ اسْتِئْجَارٌ عَلَى عَمَلٍ مَعْلُومٍ غَيْرِ مُتَعَيَّنٍ عَلَيْهِ فَيَجُوزُ. وَلَنَا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام
صَاحِبَ النِّهَايَةِ قَدْ فَسَّرَ قَوْلَهُ يُهَلُّ الْهِلَالُ بِقَوْلِهِ: أَيْ يُبْصَرُ الْهِلَالُ، فَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ كَانَ مَعْنَى قَوْلِهِ حِينَ يُهَلُّ الْهِلَالُ حِينَ يُبْصَرُ الْهِلَالُ وَهُوَ أَوَّلُ اللَّيْلَةِ مِنْ الشَّهْرِ قَطْعًا، وَلَيْسَ مُرَادُهُ بِقَوْلِهِ أَرَادَ بِهِ الْيَوْمَ الْأَوَّلَ تَفْسِيرَ مَعْنَى قَوْلِهِ حِينَ يُهَلُّ الْهِلَالُ، إذْ قَدْ عُلِمَ مَعْنَاهُ مِنْ تَفْسِيرِهِ السَّابِقِ قَطْعًا، بَلْ مُرَادُهُ بِذَلِكَ بَيَانُ أَنْ لَيْسَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِمْ حِينَ يُهَلُّ الْهِلَالُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيَّ، وَهُوَ أَوَّلُ اللَّيْلَةِ مِنْ الشَّهْرِ لِتَعَسُّرِ كَوْنِ الْعَقْدِ فِيهِ، بَلْ الْمُرَادُ بِهِ مَعْنَاهُ الْعُرْفِيُّ وَهُوَ الْيَوْمُ الْأَوَّلُ مِنْ الشَّهْرِ، وَهَذَا نَظِيرُ مَا قَالُوا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى لَمْ يُرِدْ مُحَمَّدٌ رحمه الله بِرَأْسِ الشَّهْرِ فِي قَوْلِهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَنْقُضَ الْإِجَارَةَ رَأْسَ الشَّهْرِ مِنْ حَيْثُ الْحَقِيقَةُ، وَهُوَ السَّاعَةُ الَّتِي يَهُلُّ فِيهَا الْهِلَالُ بَلْ رَأْسُ الشَّهْرِ مِنْ حَيْثُ الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ، وَهُوَ اللَّيْلَةُ الَّتِي يُهَلُّ فِيهَا الْهِلَالُ وَيَوْمُهَا فَلَا يَرُدُّ عَلَيْهِ
«اقْرَءُوا الْقُرْآنَ وَلَا تَأْكُلُوا بِهِ» وَفِي آخِرِ مَا عَهِدَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ «وَإِنْ اُتُّخِذْتَ مُؤَذِّنًا فَلَا تَأْخُذْ عَلَى الْأَذَانِ أَجْرًا» وَلِأَنَّ الْقُرْبَةَ مَتَى حَصَلَتْ وَقَعَتْ عَنْ الْعَامِلِ وَلِهَذَا تُعْتَبَرُ أَهْلِيَّتُهُ فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَخْذُ الْأَجْرِ مِنْ غَيْرِهِ كَمَا فِي الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ، وَلِأَنَّ التَّعْلِيمَ مِمَّا لَا يَقْدِرُ الْمُعَلِّمُ عَلَيْهِ إلَّا بِمَعْنًى مِنْ قِبَلِ الْمُتَعَلِّمِ فَيَكُونُ مُلْتَزِمًا مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ فَلَا يَصِحُّ. وَبَعْضُ مَشَايِخِنَا اسْتَحْسَنُوا الِاسْتِئْجَارَ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ الْيَوْمَ؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ التَّوَانِي فِي الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ. فَفِي الِامْتِنَاعِ تَضْيِيعُ حِفْظِ الْقُرْآنِ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى.
قَالَ: (وَلَا يَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَى الْغِنَاءِ وَالنَّوْحِ، وَكَذَا سَائِرُ الْمَلَاهِي)؛ لِأَنَّهُ اسْتِئْجَارٌ عَلَى الْمَعْصِيَةِ وَالْمَعْصِيَةُ لَا تُسْتَحَقُّ بِالْعَقْدِ.
قَالَ: (وَلَا يَجُوزُ إجَارَةُ الْمُشَاعِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إلَّا مِنْ الشَّرِيكِ، وَقَالَا: إجَارَةُ الْمُشَاعِ جَائِزَةٌ) وَصُورَتُهُ أَنْ يُؤَاجِرَ نَصِيبًا مِنْ دَارِهِ أَوْ نَصِيبَهُ مِنْ
النَّظَرُ الْمَزْبُورُ أَصْلًا.
(قَوْلُهُ: وَلِأَنَّ الْقُرْبَةَ مَتَى حَصَلَتْ وَقَعَتْ عَلَى الْعَامِلِ إلَخْ) أَقُولُ: يَنْتَقِضُ هَذَا بِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي بَابِ الْحَجِّ عَنْ الْغَيْرِ مِنْ كِتَابِ الْحَجِّ حَيْثُ قَالَ: ثُمَّ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّ الْحَجَّ يَقَعُ عَنْ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ، وَبِذَلِكَ تَشْهَدُ الْأَخْبَارُ الْوَارِدَةُ فِي الْبَابِ كَحَدِيثِ الْخَثْعَمِيَّةِ فَإِنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ فِيهِ «حُجِّي عَنْ أَبِيك وَاعْتَمِرِي» فَإِنَّ ذَلِكَ صَرِيحٌ فِي وُقُوعِ الْقُرْبَةِ عَنْ غَيْرِ الْعَامِلِ. قَالَ صَاحِبُ الْكَافِي فِي تَقْرِيرِ هَذَا الدَّلِيلِ: وَلِأَنَّ الْقُرْبَةَ مَتَى وَقَعَتْ يَقَعُ ثَوَابُهَا لِلْفَاعِلِ لَا لِغَيْرِهِ. اهـ. أَقُولُ: يُخَالِفُ هَذَا مَا صَرَّحَ بِهِ الْمُصَنِّفُ وَصَاحِبُ الْكَافِي أَيْضًا فِي أَوَّلِ بَابِ الْحَجِّ عَنْ الْغَيْرِ مِنْ أَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَهُ أَنْ يَجْعَلَ ثَوَابَ عَمَلِهِ لِغَيْرِهِ صَلَاةً كَانَتْ أَوْ صَوْمًا أَوْ صَدَقَةً أَوْ غَيْرَهَا عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «أَنَّهُ ضَحَّى بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَحَدُهُمَا عَنْ نَفْسِهِ وَالْآخَرُ عَنْ أُمَّتِهِ مِمَّنْ أَقَرَّ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى وَشَهِدَ لَهُ بِالْبَلَاغِ» فَجَعَلَ ثَوَابَ تَضْحِيَةِ إحْدَى الشَّاتَيْنِ لِأُمَّتِهِ. اهـ فَلْيُتَأَمَّلْ.
(قَوْلُهُ: لِأَنَّ التَّعْلِيمَ مِمَّا لَا يَقْدِرُ الْمُعَلِّمُ عَلَيْهِ إلَّا بِمَعْنًى مِنْ قِبَلِ الْمُتَعَلِّمِ فَيَكُونُ مُلْتَزِمًا مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ فَلَا يَصِحُّ) أَقُولُ: فِيهِ بَحْثٌ؛ لِأَنَّهُ إنْ أُرِيدَ أَنَّ الْمُعَلِّمَ لَا يَسْتَقِلُّ فِي التَّعْلِيمِ بِشَيْءٍ أَصْلًا فَهُوَ مَمْنُوعٌ، فَإِنَّ التَّلْقِينَ وَالْإِلْقَاءَ فِعْلُ الْمُعَلِّمِ وَحْدَهُ لَا مَدْخَلَ فِيهِ لِلْمُتَعَلِّمِ، وَإِنَّمَا وَظِيفَتُهُ الْأَخْذُ وَالْفَهْمُ، وَإِنْ أُرِيدَ أَنَّ لِلْمُتَعَلِّمِ أَيْضًا مَدْخَلًا فِي ظُهُورِ أَثَرِ التَّعْلِيمِ وَفَائِدَتِهِ فَإِنَّ الْمُتَعَلِّمَ مَا لَمْ يَأْخُذْ مَا أَلْقَاهُ الْمُعَلِّمُ وَلَمْ يَفْهَمْ مَا لَقَّنَهُ لَمْ يَظْهَرْ لِتَعْلِيمِهِ أَثَرٌ وَفَائِدَةٌ فَهُوَ مُسَلَّمٌ، وَلَكِنَّ الَّذِي يَلْتَزِمُهُ الْمُعَلِّمُ إنَّمَا هُوَ فِعْلُ نَفْسِهِ مِمَّا يَقْدِرُ عَلَيْهِ لَا فِعْلُ الْآخَرِ، وَلَا مَانِعَ مِنْ أَخْذِ الْأُجْرَةِ عَلَى فِعْلُ نَفْسِهِ كَمَا لَا يَخْفَى. فَإِنْ قُلْت: التَّعْلِيمُ وَالتَّعَلُّمُ مُتَّحِدَانِ بِالذَّاتِ، وَمُخْتَلِفَانِ بِالِاعْتِبَارِ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ، فَيَئُولُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَى التَّعْلِيمِ إلَى أَخْذِهَا عَلَى التَّعَلُّمِ الَّذِي هُوَ فِعْلُ الْغَيْرِ. قُلْت: اتِّحَادُ التَّعْلِيمِ وَالتَّعَلُّمِ بِالذَّاتِ أَمْرٌ غَيْرُ وَاضِحٍ بَلْ غَيْرُ مُسَلَّمٍ، وَلَوْ سُلِّمَ كَفِي التَّغَايُرُ الِاعْتِبَارِيُّ لَنَا إذْ لَا شَكَّ فِي اخْتِلَافِ التَّعْلِيمِ وَالتَّعَلُّمِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَحْكَامِ فَلْيَكُنْ فِي أَخْذِهِ الْأُجْرَةَ عَلَيْهِ كَذَلِكَ فَتَأَمَّلْ (قَوْلُهُ: وَبَعْضُ مَشَايِخِنَا: اسْتَحْسَنُوا الِاسْتِئْجَارَ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ الْيَوْمَ؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ التَّوَانِي فِي الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ، فَفِي الِامْتِنَاعِ تَضْيِيعُ حِفْظِ الْقُرْآنِ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى) أَقُولُ: فِيمَا ذَهَبَ إلَيْهِ هَؤُلَاءِ الْمَشَايِخُ إشْكَالٌ، وَهُوَ أَنَّ مُقْتَضَى الدَّلِيلِ الثَّانِي وَالدَّلِيلِ الثَّالِثِ الْمَارَّيْنِ آنِفًا أَنْ لَا يُمْكِنَ تَحَقُّقُ مَاهِيَّةِ الْإِجَارَةِ، وَهِيَ تَمْلِيكُ الْمَنَافِعِ بِعِوَضٍ
دَارٍ مُشْتَرَكَةٍ مِنْ غَيْرِ الشَّرِيكِ. لَهُمَا أَنَّ لِلْمُشَاعِ مَنْفَعَةً وَلِهَذَا يَجِبُ أَجْرُ الْمِثْلِ، وَالتَّسْلِيمُ مُمْكِنٌ بِالتَّخْلِيَةِ أَوْ بِالتَّهَايُؤِ فَصَارَ كَمَا إذَا آجَرَ مِنْ شَرِيكِهِ أَوْ مِنْ رَجُلَيْنِ وَصَارَ كَالْبَيْعِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ آجَرَ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ فَلَا يَجُوزُ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ تَسْلِيمَ الْمُشَاعِ وَحْدَهُ لَا يُتَصَوَّرُ، وَالتَّخْلِيَةُ اُعْتُبِرَتْ تَسْلِيمًا لِوُقُوعِهِ تَمْكِينًا وَهُوَ الْفِعْلُ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ التَّمَكُّنُ وَلَا تَمَكُّنَ فِي الْمُشَاعِ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ لِحُصُولِ التَّمَكُّنِ فِيهِ، وَأَمَّا التَّهَايُؤُ فَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ حُكْمًا لِلْعَقْدِ بِوَاسِطَةِ الْمِلْكِ، وَحُكْمُ الْعَقْدِ يَعْقُبُهُ وَالْقُدْرَةُ عَلَى التَّسْلِيمِ شَرْطُ الْعَقْدِ وَشَرْطُ الشَّيْءِ يَسْبِقُهُ، وَلَا يُعْتَبَرُ الْمُتَرَاخِي سَابِقًا،
فِي الِاسْتِئْجَارِ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَنَظَائِرِهِ بِنَاءً عَلَى عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى تَسْلِيمِ مَا الْتَزَمَهُ الْمُؤَجِّرُ مِنْ الْمَنْفَعَةِ، فَكَيْفَ يَصِحُّ اسْتِحْسَانُ الِاسْتِئْجَارِ فِي هَاتِيك الصُّوَرِ، وَصِحَّةُ اسْتِحْسَانِهِ فَرْعُ إمْكَانِ تَحَقُّقِ مَاهِيَّةِ الْإِجَارَةِ كَمَا لَا يَخْفَى فَلْيُتَأَمَّلْ فِي دَفْعِ هَذَا الْإِشْكَالِ الْقَوِيِّ لَعَلَّهُ مِمَّا تُسْكَبُ فِيهِ الْعَبَرَاتُ إلَّا أَنْ لَا يُسَلَّمَ صِحَّةُ ذَيْنِك الدَّلِيلَيْنِ.
(قَوْلُهُ: وَأَمَّا التَّهَايُؤُ فَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ حُكْمًا لِلْعَقْدِ بِوَاسِطَةِ الْمِلْكِ، إلَى قَوْلِهِ لَا يُعْتَبَرُ الْمُتَرَاخِي سَابِقًا) هَذَا جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمَا أَوْ بِالتَّهَايُؤِ. وَحَاصِلُهُ أَنَّ التَّهَايُؤَ مِنْ أَحْكَامِ الْعَقْدِ بِوَاسِطَةِ الْمِلْكِ فَهُوَ مُتَأَخِّرٌ عَنْ الْعَقْدُ الْمُوجِبِ لِلْمِلْكِ، وَهُوَ مُنْتَفٍ لِانْتِفَاءِ شَرْطِهِ، وَهُوَ الْقُدْرَةُ عَلَى التَّسْلِيمِ، وَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ بِالتَّهَايُؤِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ ثُبُوتُ الشَّيْءِ بِمَا يَتَأَخَّرُ عَنْهُ ثُبُوتًا، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ. وَاعْتَرَضَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ عَلَى مَا فِي الْهِدَايَةِ وَعَلَى مَا فِي الْعِنَايَةِ، أَمَّا عَلَى مَا فِي الْهِدَايَةِ فَبِأَنْ قَالَ فِيهِ بَحْثٌ فَإِنَّهُمَا لَمْ يَقُولَا إنَّ التَّهَايُؤَ هُوَ الْقُدْرَةُ عَلَى التَّسْلِيمِ، بَلْ يَقُولَانِ يَتَحَقَّقُ التَّسْلِيمُ بِهِ، فَكَمَا أَنَّ التَّسْلِيمَ حُكْمُ الْعَقْدِ، وَالْقُدْرَةُ عَلَيْهِ شَرْطٌ فَكَذَلِكَ يُقَالُ فِي التَّهَايُؤِ، وَأَمَّا عَلَى مَا فِي الْعِنَايَةِ فَبِأَنْ قَالَ يَجُوزُ ثُبُوتُ الْعِلْمِ بِالشَّيْءِ بِمَا يَتَأَخَّرُ عَنْهُ ثُبُوتًا، وَمَا نَحْنُ بِصَدَدِهِ مِنْهُ. اهـ.
أَقُولُ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَاقِطٌ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُ كَلَامٌ خَالٍ عَنْ التَّحْصِيلِ؛ لِأَنَّ مَا ذَكَرَهُ هَاهُنَا مِنْ قِبَلِ أَبِي حَنِيفَةَ لَيْسَ بِمَبْنِيٍّ عَلَى أَنْ يَكُونَ مَدَارُ مَا قَالَهُ صَاحِبَاهُ عَلَى أَنَّ التَّهَايُؤَ هُوَ الْقُدْرَةُ حَتَّى يَصِحَّ الِاعْتِرَاضُ عَلَيْهِ بِأَنَّهُمَا لَمْ يَقُولَا إنَّ التَّهَايُؤَ هُوَ الْقُدْرَةُ، بَلْ قَالَا يَتَحَقَّقُ التَّسْلِيمُ بِهِ، بَلْ ذَاكَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُمَا أَوْ بِالتَّهَايُؤِ فِي قَوْلِهِمَا وَالتَّسْلِيمُ مُمْكِنٌ بِالتَّخْلِيَةِ
وَبِخِلَافِ مَا إذَا آجَرَ مِنْ شَرِيكِهِ فَالْكُلُّ يَحْدُثُ عَلَى مِلْكِهِ فَلَا شُيُوعَ، وَالِاخْتِلَافُ فِي النِّسْبَةِ لَا يَضُرُّهُ، عَلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْهُ، وَبِخِلَافِ الشُّيُوعِ الطَّارِئِ؛ لِأَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى التَّسْلِيمِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِلْبَقَاءِ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا آجَرَ مِنْ رَجُلَيْنِ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ يَقَعُ جُمْلَةً ثُمَّ الشُّيُوعُ بِتَفَرُّقِ الْمِلْكِ فِيمَا بَيْنَهُمَا طَارِئٌ.
أَوْ بِالتَّهَايُؤِ يَقْتَضِي جَوَازَ كَوْنِ ثُبُوتِ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّسْلِيمِ بِثُبُوتِ التَّهَايُؤِ فَيُرَدُّ عَلَيْهِ مِنْ قِبَلِهِ أَنْ يُقَالَ ثُبُوتُ التَّهَايُؤِ بَلْ ثُبُوتُ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّهَايُؤِ مُتَأَخِّرٌ عَنْ تَحَقُّقِ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَسْتَحِقُّ حُكْمًا لِلْعَقْدِ بِوَاسِطَةِ الْمِلْكِ.
وَالْقُدْرَةُ عَلَى التَّسْلِيمِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْعَقْدِ لِكَوْنِهَا شَرْطَ جَوَازِهِ فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ ثُبُوتُ الْمُتَقَدِّمِ بِثُبُوتِ الْمُتَأَخِّرِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلُ الْمُصَنِّفِ وَلَا يُعْتَبَرُ الْمُتَرَاخِي سَابِقًا وَلَا غُبَارَ عَلَيْهِ أَصْلًا. وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّهُ لَا شَكَّ فِي جَوَازِ ثُبُوتِ الْعِلْمِ بِالشَّيْءِ بِمَا يَتَأَخَّرُ عَنْهُ ثُبُوتًا كَمَا فِي الِاسْتِدْلَالِ مِنْ الْأَثَرِ عَلَى الْمُؤَثِّرِ، وَلَكِنْ مَا نَحْنُ بِصَدَدِهِ لَيْسَ مِنْهُ لَا مَحَالَةَ، إذْ لَا يَشُكُّ عَاقِلٌ فِي أَنْ لَيْسَ مَعْنَى قَوْلِهِمَا وَالتَّسْلِيمُ مُمْكِنٌ بِالتَّخْلِيَةِ أَوْ بِالتَّهَايُؤِ أَنَّ ثُبُوتَ الْعِلْمِ بِإِمْكَانِ التَّسْلِيمِ بِالتَّخْلِيَةِ أَوْ بِالتَّهَايُؤِ، بَلْ مَعْنَاهُ أَنَّ ثُبُوتَ نَفْسِ إمْكَانِ التَّسْلِيمِ: أَيْ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ بِالتَّخْلِيَةِ أَوْ بِالتَّهَايُؤِ، وَمَا نَحْنُ بِصَدَدِهِ جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمَا ذَلِكَ، فَكَانَ الْمُرَادُ بِهِ أَيْضًا مَا أُرِيدَ بِهِ هُنَالِكَ. (قَوْلُهُ: وَبِخِلَافِ الشُّيُوعِ الطَّارِئِ؛ لِأَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى التَّسْلِيمِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِلْبَقَاءِ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: لَيْسَ لِقَوْلِهِ هَذَا تَعَلُّقٌ ظَاهِرًا إلَّا أَنْ يُجْعَلَ تَمْهِيدًا لِلْجَوَابِ عَنْ قَوْلِهِمَا أَوْ مِنْ رَجُلَيْنِ، لَكِنْ فِي قَوْلِهِ وَبِخِلَافِ مَا إذَا آجَرَ مِنْ رَجُلَيْنِ نَبْوَةً عَنْ ذَلِكَ تُعْرَفُ بِالتَّأَمُّلِ اهـ كَلَامُهُ.
أَقُولُ: لَا يَذْهَبُ عَلَى ذِي فِطْرَةٍ سَلِيمَةٍ أَنَّ مَقْصُودَ الْمُصَنِّفِ مِنْ قَوْلِهِ هَذَا دَفْعُ إشْكَالٍ يَرُدُّ عَلَى دَلِيلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ أَنَّ الشُّيُوعَ الطَّارِئَ لَا يُفْسِدُ الْإِجَارَةَ بِالْإِجْمَاعِ مَعَ انْتِفَاءِ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّسْلِيمِ هُنَاكَ أَيْضًا، وَلَا شَكَّ أَنَّ لِهَذَا تَعَلُّقًا ظَاهِرًا بِمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إلَى أَنْ يُجْعَلَ تَمْهِيدًا لِمَا بَعْدَهُ. (قَوْلُهُ: وَبِخِلَافِ مَا إذَا آجَرَ مِنْ رَجُلَيْنِ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ يَقَعُ جُمْلَةً ثُمَّ الشُّيُوعُ بِتَفَرُّقِ الْمِلْكِ فِيمَا بَيْنَهُمَا طَارِئٌ) قَالَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ: فَإِنْ قُلْت: الشُّيُوعُ
قَالَ: (وَيَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الظِّئْرِ بِأُجْرَةٍ مَعْلُومَةٍ)
مُقَارِنٌ لَا طَارِئٌ فَإِنَّهَا عَقْدٌ مُضَافٌ يُعْقَدُ سَاعَةً فَسَاعَةً فَكَانَ الطَّارِئُ كَالْمُقَارِنِ. قُلْت: بَقَاءُ الْإِجَارَةِ لَهُ حُكْمُ الِابْتِدَاءِ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ؛ لِأَنَّهَا عَقْدٌ لَازِمٌ فَلَا يَكُونُ مُقَارِنًا. اهـ كَلَامُهُ.
وَرَدَّ عَلَيْهِ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ جَوَابَهُ حَيْثُ قَالَ: فَإِنْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ طَارِئٌ بَلْ هُوَ مُقَارِنٌ؛ لِأَنَّهَا تَنْعَقِدُ سَاعَةً فَسَاعَةً. أُجِيبَ بِأَنَّ بَقَاءَ الْإِجَارَةِ لَهُ حُكْمُ الِابْتِدَاءِ مِنْ وَجْهٍ؛ لِأَنَّهَا عَقْدٌ لَازِمٌ فَلَا يَكُونُ مُقَارِنًا. وَقَالَ: وَهُوَ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ الْغَيْرَ اللَّازِمِ هُوَ الَّذِي يَكُونُ لِلْبَقَاءِ فِيهِ حُكْمُ الِابْتِدَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْوَكَالَةِ، عَلَى أَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ هُنَا ابْتِدَاءٌ وَبَقَاءٌ سَقَطَ الِاعْتِرَاضُ، وَإِنَّمَا الْخَصْمُ يَقُولُ لَا بَقَاءَ لِلْعَقْدِ فِيهَا. اهـ. أَقُولُ: كُلٌّ مِنْ أَصْلِ رَدِّهِ وَعِلَاوَتِهِ فَاسِدٌ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ قَوْلَ الْمُجِيبِ؛ لِأَنَّهَا عَقْدٌ لَازِمٌ نَاظِرٌ إلَى قَوْلِهِ دُونَ وَجْهٍ، أَوْ إلَى مَجْمُوعِ قَوْلِهِ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَجْمُوعٌ، لَا إلَى قَوْلِهِ مِنْ وَجْهٍ وَحْدَهُ كَمَا تَوَهَّمَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ وَبَنَى عَلَيْهِ رَدَّهُ كَمَا تَرَى، فَمَعْنَى الْجَوَابِ أَنَّ لِبَقَاءِ الْإِجَارَةِ حُكْمَ الِابْتِدَاءِ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ؛ لِأَنَّهَا عَقْدٌ لَازِمٌ، فَإِنَّ الْعَقْدَ الْغَيْرَ اللَّازِمِ يَكُونُ لِبَقَائِهِ حُكْمُ الِابْتِدَاءِ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِبَقَاءِ الْإِجَارَةِ حُكْمُ الِابْتِدَاءِ مِنْ وَجْهٍ لَمْ يَكُنْ الشُّيُوعُ مُقَارِنًا لِلْعَقْدِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَلَمْ يَكُنْ الطَّارِئُ كَالْمُقَارِنِ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَدَارَ الْجَوَابِ الْمَزْبُورِ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الشُّيُوعِ الطَّارِئِ وَالْمُقَارِنِ مِنْ الْوَجْهِ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ، وَصَاحِبُ الْعِنَايَةِ تَوَهَّمَ الْعَكْسَ حَتَّى طَوَى فِي تَقْرِيرِ الْجَوَابِ قَوْلَ الْمُجِيبِ دُونَ وَجْهٍ، وَلَمْ يَدْرِ أَنَّ الْجَوَابَ حِينَئِذٍ لَا يَكُونُ دَافِعًا لِلسُّؤَالِ أَصْلًا بَلْ يَكُونُ مُقَوِّيًا لَهُ كَمَا يَظْهَرُ بِالتَّأَمُّلِ الصَّادِقِ. وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ ثُبُوتَ الْبَقَاءِ لِعَقْدِ الْإِجَارَةِ مِمَّا لَمْ يُنَازِعْ فِيهِ أَحَدٌ، فَإِنَّ الْأَصْلَ عِنْدَنَا أَنَّ الْعَيْنَ الْمُسْتَأْجَرَةَ أُقِيمَتْ مَقَامَ الْمَنْفَعَةِ فِي إضَافَةِ الْعَقْدِ إلَيْهَا، وَأَنَّ الْعَقْدَ، وَهُوَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ الصَّادِرَانِ مِنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ مَعَ ارْتِبَاطِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ بَاقٍ شَرْعًا بِبَقَاءِ الْعَيْنِ الْمُسْتَأْجَرَةِ عَلَى السَّلَامَةِ، وَإِنَّمَا الَّذِي يَتَجَدَّدُ سَاعَةً فَسَاعَةً هُوَ الِانْعِقَادُ فِي حَقِّ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْمَنْفَعَةُ الْحَادِثَةُ شَيْئًا فَشَيْئًا.
وَهَذَا مَعَ كَوْنِهِ مَعْلُومًا مِمَّا تَقَرَّرَ فِي صَدْرِ كِتَابِ الْإِجَارَةِ مُنْكَشِفٌ بِمَا ذُكِرَ هَاهُنَا فِي الْكَافِي وَكَثِيرٍ مِنْ الشُّرُوحِ، وَهُوَ أَنَّ الشُّيُوعَ الطَّارِئَ بِأَنْ آجَرَ رَجُلٌ مِنْ رَجُلَيْنِ ثُمَّ مَاتَ أَحَدُ الْمُسْتَأْجَرِينَ أَوْ بِأَنْ آجَرَ رَجُلَانِ مِنْ رَجُلٍ ثُمَّ مَاتَ أَحَدُ الْمُؤَجِّرَيْنِ يَفْسُدُ الْعَقْدُ فِي حَقِّ الْحَيِّ فِي رِوَايَةِ الطَّحَاوِيِّ عَنْ خَالِدِ بْنِ صَبِيحٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ يَتَجَدَّدُ انْعِقَادُهَا بِحَسْبِ حُدُوثِ الْمَنَافِعِ، فَكَانَ هَذَا فِي مَعْنَى الشُّيُوعِ الْمُقْتَرِنِ بِالْعَقْدِ. وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ يَبْقَى الْعَقْدُ فِي حَقِّ الْحَيِّ؛ لِأَنَّ تَجَدُّدَ الِانْعِقَادِ فِي حَقِّ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ. فَأَمَّا أَصْلُ الْعَقْدِ فَمُنْعَقِدٌ لَازِمٌ فِي الْحَالِ، وَبِاعْتِبَارِ هَذَا الْمَعْنَى الشُّيُوعُ طَارِئٌ وَالشُّيُوعُ الطَّارِئُ لَيْسَ نَظِيرَ الْمُقَارِنِ، كَمَا فِي الْهِبَةِ إذَا، وَهَبَ كُلَّ الدَّارِ وَسَلَّمَهَا ثُمَّ رَجَعَ فِي نِصْفِهَا، انْتَهَى مَا فِي الْكَافِي وَكَثِيرٍ مِنْ الشُّرُوحِ، وَهَكَذَا ذُكِرَ فِي الْمَبْسُوطِ وَالْأَسْرَارِ أَيْضًا فَتَنَبَّهْ.
(قَوْلُهُ: وَيَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الظِّئْرِ بِأُجْرَةٍ مَعْلُومَةٍ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ: اعْلَمْ أَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَى جَوَازَ إجَارَةِ الظِّئْرِ؛ لِأَنَّهَا تَرِدُ عَلَى اسْتِهْلَاكِ
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} وَلِأَنَّ التَّعَامُلَ بِهِ كَانَ جَارِيًا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَبْلَهُ وَأَقَرَّهُمْ عَلَيْهِ. ثُمَّ قِيلَ: إنَّ الْعَقْدَ يَقَعُ عَلَى الْمَنَافِعِ وَهِيَ خِدْمَتُهَا لِلصَّبِيِّ وَالْقِيَامُ بِهِ وَاللَّبَنُ يُسْتَحَقُّ عَلَى طَرِيقِ التَّبَعِ بِمَنْزِلَةِ الصَّبْغِ فِي الثَّوْبِ. وَقِيلَ إنَّ الْعَقْدَ يَقَعُ عَلَى اللَّبَنِ، وَالْخِدْمَةُ تَابِعَةٌ، وَلِهَذَا لَوْ أَرْضَعَتْهُ بِلَبَنِ شَاةٍ لَا تَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ.
الْعَيْنِ مَقْصُودًا، وَهُوَ اللَّبَنُ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ اسْتَأْجَرَ شَاةً أَوْ بَقَرَةً مُدَّةً مَعْلُومَةً بِأَجْرٍ مَعْلُومٍ لِيَشْرَبَ لَبَنَهَا، لَكِنْ جَوَّزْنَاهَا اسْتِحْسَانًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} ، وَهَذَا الْعَقْدُ لَا يَرِدُ عَلَى الْعَيْنِ، وَهُوَ اللَّبَنُ مَقْصُودًا، وَإِنَّمَا يَقَعُ عَلَى فِعْلِ التَّرْبِيَةِ وَالْحَضَانَةِ وَخِدْمَةِ الصَّبِيِّ، وَاللَّبَنُ يَدْخُلُ فِيهَا تَبَعًا لِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَمِثْلُ هَذَا جَائِزٌ، كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَ صَبَّاغًا لِيَصْبُغَ لَهُ الثَّوْبَ فَإِنَّهَا جَائِزَةٌ. وَطَرِيقُ الْجَوَازِ أَنْ يَجْعَلَ الْعَقْدَ وَارِدًا عَلَى فِعْلُ الصَّبَّاغِ وَالصَّبْغُ يَدْخُلُ فِيهِ تَبَعًا، فَلَمْ تَكُنْ الْإِجَارَةُ وَارِدَةً عَلَى اسْتِهْلَاكِ الْعَيْنِ مَقْصُودًا، وَبِهَذَا خَرَجَ الْجَوَابُ عَنْ فَصْلِ الْبَقَرَةِ وَالشَّاةِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ عَقْدَ الْإِجَارَةِ يَرِدُ عَلَى اسْتِهْلَاكِ الْعَيْنِ مَقْصُودًا، كَذَا فِي الذَّخِيرَةِ إلَى هُنَا لَفْظُ النِّهَايَةِ.
أَقُولُ: هَذَا تَحْرِيرٌ رَكِيكٌ بَلْ مُخْتَلٌّ؛ لِأَنَّ الْمَشَايِخَ قَدْ كَانُوا مُخْتَلِفِينَ فِي أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ فِي اسْتِئْجَارِ الظِّئْرِ مَاذَا؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ هُوَ الْمَنَافِعُ، وَهِيَ خِدْمَتُهَا لِلصَّبِيِّ، وَاللَّبَنُ يَقَعُ كَالصَّبْغِ فِي الثَّوْبِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: وَاللَّبَنُ وَالْخِدْمَةُ تَابِعَةٌ عَلَى مَا سَيَأْتِي تَفْصِيلُ ذَلِكَ، وَمَدَارُ مَا ذَكَرَ فِي وَجْهِ الْقِيَاسِ هُوَ الْقَوْلُ الثَّانِي. وَمَدَارُ مَا ذَكَرَ فِي وَجْهِ الِاسْتِحْسَانِ بِقَوْلِهِ، وَهَذَا الْعَقْدُ لَا يَرِدُ عَلَى الْعَيْنِ إلَخْ هُوَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ، فَهَلْ يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا إنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَى جَوَازَهَا لَكِنْ جَوَّزْنَاهَا اسْتِحْسَانًا، فَيَذْكُرُ فِي وَجْهُ الْقِيَاسِ مَا يَخْتَصُّ بِأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي مَعْنَى هَاتِيك الْمَسْأَلَةِ، وَفِي وَجْهِ الِاسْتِحْسَانِ مَا يَخْتَصُّ بِالْقَوْلِ الْآخَرِ فِي مَعْنَاهَا.
وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَجْهُ الْقِيَاسِ، وَلَا يَصِحُّ عَلَى الْآخَرِ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ، فَلَا يُوجَدُ فِي الْمَسْأَلَةِ قِيَاسٌ وَاسْتِحْسَانٌ عَلَى الْوَجْهِ الْمَزْبُورِ، عَلَى أَنَّ مَا ذَكَرَ فِي وَجْهِ الِاسْتِحْسَانِ يَقْتَضِي انْتِفَاءَ ذَلِكَ الْقِيَاسِ رَأْسًا لَا تَرْكَ الْعَمَلِ بِهِ بَعْدَ تَقَرُّرِ ثُبُوتِهِ كَمَا هُوَ حُكْمُ الِاسْتِحْسَانِ فِي مُقَابَلَةِ الْقِيَاسِ عَلَى مَا عُرِفَ تَأَمَّلْ تَقِفْ (قَوْلُهُ: لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} قَالَ الشُّرَّاحُ: يَعْنِي بَعْدَ الطَّلَاقِ. أَقُولُ: الْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: يَعْنِي بَعْدَ الطَّلَاقِ وَالْعِدَّةِ؛ لِيُوَافِقَ مَا مَرَّ فِي الْكِتَابِ فِي بَابِ النَّفَقَةِ مِنْ كِتَابِ الطَّلَاقِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَإِنْ اسْتَأْجَرَهَا، وَهِيَ زَوْجَتُهُ أَوْ مُعْتَدَّتُهُ لِتُرْضِعَ وَلَدَهَا لَمْ يَجُزْ انْتَهَى. وَقَصَدَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ تَوْجِيهَ كَلَامِهِمْ فَقَالَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ: يَعْنِي بَعْدَ الطَّلَاقِ الْبَائِنِ وَقَالَ: إذْ لَا يَجُوزُ بَعْدَ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ قَبْلَ انْقِضَاءُ الْعِدَّةِ انْتَهَى.
أَقُولُ: لَيْسَ ذَلِكَ بِتَامٍّ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَعْدَ الطَّلَاقِ الْبَائِنِ أَيْضًا قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فِي رِوَايَةٍ، وَهِيَ الَّتِي اخْتَارَهَا فِي الْكِتَابِ فِيمَا مَرَّ، وَعَنْ هَذَا قَالَ الْمُصَنِّفُ هُنَاكَ: وَهَذَا فِي الْمُعْتَدَّةِ عَنْ طَلَاقٍ رَجْعِيٍّ رِوَايَةً وَاحِدَةً،
وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ إلَى الْفِقْهِ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ لَا يَنْعَقِدُ عَلَى إتْلَافِ الْأَعْيَانِ مَقْصُودًا، كَمَا إذَا اسْتَأْجَرَ بَقَرَةً؛ لِيَشْرَبَ لَبَنَهَا. وَسَنُبَيِّنُ الْعُذْرَ عَنْ الْإِرْضَاعِ بِلَبَنِ الشَّاةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَكَذَا فِي الْمَبْتُوتَةِ فِي رِوَايَةِ النَّهْيِ فَتَدَبَّرْ. (قَوْلُهُ: وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ إلَى الْفِقْهِ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ لَا يَنْعَقِدُ عَلَى إتْلَافِ الْأَعْيَانِ مَقْصُودًا إلَخْ) الْقَوْلُ الْأَوَّلُ اخْتِيَارُ صَاحِبَيْ الذَّخِيرَةِ وَالْإِيضَاحِ، وَاخْتَارَهُ الْمُصَنِّفُ كَمَا تَرَى. وَالْقَوْلُ الثَّانِي اخْتِيَارُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ حَيْثُ قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ: وَزَعَمَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ الْمَنْفَعَةُ، وَهُوَ الْقِيَامُ بِخِدْمَةِ الصَّبِيِّ، وَمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ، وَأَمَّا اللَّبَنُ فَتَبَعٌ فِيهِ؛ لِأَنَّ اللَّبَنَ عَيْنٌ وَالْعَيْنُ لَا تُسْتَحَقُّ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ كَلَبَنِ الْأَنْعَامِ. ثُمَّ قَالَ: وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْعَقْدَ يَرِدُ عَلَى اللَّبَنِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَقْصُودُ، وَهُوَ مَنْفَعَةُ الثَّدْيِ، وَمَنْفَعَةُ كُلِّ عُضْوٍ عَلَى حَسْبِ مَا يَلِيقُ بِهِ، هَكَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ رحمه الله فَإِنَّهُ قَالَ: اسْتِحْقَاقُ لَبَنِ الْآدَمِيَّةِ بَعْدَ الْإِجَارَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ، وَجَوَازُ بَيْعِ لَبَنِ الْأَنْعَامِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ اسْتِحْقَاقُهُ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَتَعَجَّبَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ مِنْ اخْتِيَارِ الْمُصَنِّفِ مَا أَعْرَضَ عَنْهُ الْإِمَامُ الْكَبِيرُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ بَعْدَ أَنْ رَأَى مِثْلَ هَذَا الدَّلِيلِ الْوَاضِحِ وَالرِّوَايَةِ الْمَنْصُوصَةِ عَنْ مُحَمَّدٍ رحمه الله. وَرَدَّ عَلَيْهِ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ أَنْ رَوَى تَعَجُّبَهُ مِنْ ذَلِكَ حَيْثُ قَالَ: وَهُوَ تَقْلِيدٌ صِرْفٌ؛ لِأَنَّ الدَّلِيلَ لَيْسَ بِوَاضِحٍ؛ لِأَنَّ مَدَارَهُ قَوْلُهُ: لِأَنَّهُ هُوَ الْمَقْصُودُ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ، بَلْ الْمَقْصُودُ هُوَ الْإِرْضَاعُ وَانْتِظَامُ أَمْرِ مَعَاشِ الصَّبِيِّ عَلَى وَجْهٍ خَاصٍّ يَتَعَلَّقُ بِأُمُورٍ وَوَسَائِطَ مِنْهَا اللَّبَنُ فَجَعَلَ الْعَيْنَ الْمَرْئِيَّةَ مَنْفَعَةً. وَنَقْضُ الْقَاعِدَةِ الْكُلِّيَّةِ أَنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ عُقِدَ عَلَى إتْلَافِ الْمَنَافِعِ مَعَ الْغِنَى عَنْ ذَلِكَ بِمَا هُوَ وَجْهٌ صَحِيحٌ لَيْسَ بِوَاضِحٍ، وَلَا يَتَشَبَّثُ لَهُ بِمَا رَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ رحمه الله أَنَّهُ قَالَ: اسْتِحْقَاقُ لَبَنِ الْآدَمِيَّةِ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ، وَجَوَازُ بَيْعِ لَبَنِ الْأَنْعَامِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ اسْتِحْقَاقُهُ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَلَئِنْ كَانَ فَنَحْنُ مَا مَنَعْنَا أَنْ يُسْتَحَقَّ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ. وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي اسْتِحْقَاقِهِ مِنْ حَيْثُ كَوْنِهِ مَقْصُودًا أَوْ تَبَعًا، وَلَيْسَ فِي كَلَامِ مُحَمَّدٍ مَا يَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ.
أَقُولُ: خَاتِمَةُ كَلَامِهِ لَيْسَتْ بِصَحِيحَةٍ، إذْ فِي كَلَامِ مُحَمَّدٍ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اسْتِحْقَاقَهُ مِنْ حَيْثُ كَوْنِهِ مَقْصُودًا لَا مَحَالَةَ؛ لِأَنَّهُ قَالَ اسْتِحْقَاقُ لَبَنِ الْآدَمِيَّةِ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ بَيْعِهِ إلَّا بِأَنْ يَكُونَ اسْتِحْقَاقُهُ مِنْ حَيْثُ كَوْنِهِ مَقْصُودًا، أَلَا تَرَى أَنَّ الصَّبْغَ فِي الثَّوْبِ يُسْتَحَقُّ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ تَبَعًا مَعَ أَنَّهُ مِمَّا يَجُوزُ بَيْعُهُ قَطْعًا. ثُمَّ إنَّ لِلشَّارِحِ الْعَيْنِيِّ هَاهُنَا كَلِمَاتٍ كَثِيرَةً مُزَخْرَفَةً ذَكَرَهَا تَقْوِيَةً لِمَا ذَهَبَ إلَيْهِ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ وَرَدًّا عَلَى صَاحِبِ الْعِنَايَةِ مَا ذَكَرَهُ فِي رَدِّهِ عَلَى صَاحِبِ النِّهَايَةِ، فَإِنْ ذَكَرْنَا كُلَّهَا وَبَيَّنَّا حَالَهَا الْتَزَمْنَا الْإِطْنَابَ بِلَا طَائِلٍ، وَلَكِنْ لَا عَلَيْنَا أَنْ نَذْكُرَ نُبَذًا مِنْ أَوَّلِهَا وَآخِرِهَا، قَالَ بَعْدَ نَقْلِ مَا فِي النِّهَايَةِ وَالْعِنَايَةِ: قُلْت قَوْلُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ هُوَ الْأَقْرَبُ إلَى الْفِقْهِ؛ لِأَنَّ الْأَعْيَانَ الَّتِي تَحْدُثُ شَيْئًا فَشَيْئًا مَعَ بَقَاءِ أَصْلِهَا بِمَنْزِلَةِ الْمَنَافِعِ فَيَجُوزُ إجَارَتُهَا كَالْعَارِيَّةِ لِمَنْ يَنْتَفِعُ بِالْمَتَاعِ ثُمَّ يَرُدُّهُ، وَالْعَرِيَّةِ لِمَنْ يَأْكُلُ ثَمَرَةَ الشَّجَرَةِ ثُمَّ يَرُدُّهَا، وَالْمِنْحَةِ لِمَنْ يَشْرَبُ لَبَنَ الشَّاةِ ثُمَّ يَرُدُّهَا، ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِ كَلَامِهِ: وَكَيْفَ يَقُولُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ لِمَا رَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ رحمه الله أَنَّهُ غَيْرُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَهُوَ مِنْ كِبَارِ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ وَأَبِي يُوسُفَ الْقَاضِي، وَكَانَ مِنْ الْعُلَمَاءِ الْكِبَارِ الصَّالِحِينَ وَكَانَ يُصَلِّي كُلَّ يَوْمٍ مِائَتَيْ رَكْعَةً. انْتَهَى كَلَامُهُ.
أَقُولُ: كُلُّ مَا قَالَهُ فِي الْأَوَّلِ وَالْآخِرِ فَاسِدٌ. أَمَّا مَا قَالَهُ فِي الْأَوَّلِ فَلِأَنَّ مَعْنَى حُدُوثِ الْمَنَافِعِ شَيْئًا فَشَيْئًا أَنْ لَا يَكُونَ لَهَا بَقَاءٌ أَصْلًا بِنَاءً عَلَى عَدَمِ
وَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا يَصِحُّ إذَا كَانَتْ الْأُجْرَةُ مَعْلُومَةً اعْتِبَارًا بِالِاسْتِئْجَارِ عَلَى الْخِدْمَةِ.
قَالَ: (وَيَجُوزُ بِطَعَامِهَا وَكِسْوَتِهَا اسْتِحْسَانًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَقَالَا: لَا يَجُوزُ)؛ لِأَنَّ الْأُجْرَةَ مَجْهُولَةٌ فَصَارَ كَمَا إذَا اسْتَأْجَرَهَا لِلْخَبْزِ وَالطَّبْخِ. لَهُ أَنَّ الْجَهَالَةَ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ؛ لِأَنَّ فِي الْعَادَةِ التَّوْسِعَةَ عَلَى الْأَظْآرِ شَفَقَةٌ عَلَى الْأَوْلَادِ فَصَارَ كَبَيْعِ قَفِيزٍ مِنْ صُبْرَةٍ، بِخِلَافِ الْخَبْزِ وَالطَّبْخِ؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ فِيهِ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ (وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: فَإِنْ سَمَّى الطَّعَامَ دَرَاهِمَ وَوَصَفَ جِنْسَ الْكِسْوَةِ وَأَجَلَهَا وَذَرْعَهَا فَهُوَ جَائِزٌ) يَعْنِي بِالْإِجْمَاعِ
بَقَاءِ الْأَعْرَاضِ زَمَانَيْنِ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى لَيْسَ بِمُتَحَقِّقٍ فِي الْأَعْيَانِ فَكَيْفَ تَكُونُ الْأَعْيَانُ بِمَنْزِلَةِ الْمَنَافِعِ، وَلَوْ سُلِّمَ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ إجَارَةُ الْأَعْيَانِ قَطْعًا، إذْ حَقِيقَةُ الْإِجَارَةِ تَمْلِيكُ الْمَنَافِعِ بِعِوَضٍ دُونَ تَمْلِيكِ الْأَعْيَانِ، فَإِنَّ تَمْلِيكَ الْأَعْيَانِ بِعِوَضٍ هُوَ الْبَيْعُ لَا غَيْرُ، وَهَذَا أَمْرٌ مُقَرَّرٌ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ قَاطِبَةً، وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ التَّنْظِيرَاتِ أَوْ التَّشْبِيهَاتِ مِمَّا لَا يُجْدِي شَيْئًا. أَمَّا صُورَةُ الْعَارِيَّةِ فَلِأَنَّ الْعَيْنَ هُنَاكَ بَاقٍ عَلَى حَالِهِ، وَإِنَّمَا الِانْتِفَاعُ بِالْمَنَافِعِ فَلَا مِسَاسَ لَهَا لِمَا نَحْنُ فِيهِ. وَأَمَّا الصُّورَتَانِ الْأُخْرَيَانِ فَلِأَنَّ الْمَعْنَى فِيهِمَا، وَإِنْ كَانَ تَمْلِيكًا لِلْعَيْنِ لَكِنْ لَا بِطَرِيقِ الْإِجَارَةِ بَلْ بِطَرِيقِ الْهِبَةِ وَالْعَطِيَّةِ فَلَا فَائِدَةَ لَهُمَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ، إذْ الْكَلَامُ فِي أَنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ لَا يَرِدُ عَلَى الْأَعْيَانِ لَا أَنَّ شَيْئًا مِنْ الْمَعْقُودِ لَا يَرِدُ عَلَيْهِمَا. وَأَمَّا مَا قَالَهُ فِي الْآخِرِ فَلِأَنَّ الْمُرَادَ بِظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ رِوَايَةُ الْجَامِعَيْنِ وَالزِّيَادَاتِ وَالْمَبْسُوطِ.
وَالْمُرَادُ بِغَيْرِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عِنْدَهُمْ رِوَايَةٌ غَيْرُهَا، وَهَذَا مَعَ كَوْنِهِ شَائِعًا فِيمَا بَيْنَهُمْ مَذْكُورٌ فِي مَوَاضِعَ شَتَّى قَدْ صَرَّحَ بِهِ الشُّرَّاحُ قَاطِبَةً حَتَّى ذَلِكَ الشَّارِحُ نَفْسُهُ أَيْضًا فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مُرَادَ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ أَيْضًا هَاهُنَا بِقَوْلِهِ إنَّ مَا رَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ لَيْسَ بِظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ رِوَايَةِ تِلْكَ الْكُتُبِ الْأَرْبَعَةِ لِمُحَمَّدٍ رحمه الله الَّتِي هِيَ رِوَايَةُ الْمُعْتَدِّ بِهَا جِدًّا، وَكَوْنُ ابْنِ سِمَاعَةَ مِنْ كِبَارِ الْعُلَمَاءِ الصَّالِحِينَ مِمَّا لَا يُقْدَحُ فِي ذَلِكَ قَطْعًا، وَمَا الشُّبْهَةُ فِيهِ إلَّا مِنْ الْغَفُولِ عَلَى اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَغَيْرِ ظَاهِرِهَا فَكَأَنَّهُ نَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ (قَوْلُهُ: وَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا يَصِحُّ إذَا كَانَتْ الْأُجْرَةُ مَعْلُومَةً اعْتِبَارًا بِالِاسْتِئْجَارِ عَلَى الْخِدْمَةِ) قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الشُّرَّاحِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ مَا ذَكَرْنَا: يَعْنِي مِنْ جَوَازِ الْإِجَارَةِ بِأَحَدِ الطَّرِيقَيْنِ.
أَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ، إذْ لَوْ كَانَ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ مَا ذَكَرْنَا مَا يَعُمُّ الطَّرِيقَيْنِ لَمَا تَمَّ قَوْلُهُ: اعْتِبَارًا بِالِاسْتِئْجَارِ عَلَى الْخِدْمَةِ؛ لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ بِالِاسْتِئْجَارِ عَلَى الْخِدْمَةِ: أَيْ الْقِيَاسُ عَلَى ذَلِكَ لَا يَصِحُّ عَلَى الطَّرِيقِ الثَّانِي، فَإِنَّ الْعَقْدَ فِي الِاسْتِئْجَارِ عَلَى الْخِدْمَةِ يَقَعُ عَلَى إتْلَافِ الْمَنْفَعَةِ مَقْصُودًا لَا مَحَالَةَ، وَفِي اسْتِئْجَارِ الظِّئْرِ يَقَعُ عَلَى إتْلَافِ الْعَيْنِ مَقْصُودًا عَلَى مُوجِبِ الطَّرِيقِ الثَّانِي فَكَيْفَ يَصِحُّ اعْتِبَارُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ. فَالْحَقُّ أَنَّ مُرَادَهُ بِقَوْلِهِ مَا ذَكَرْنَا مَا اخْتَارَهُ مِنْ رُجْحَانِ الطَّرِيقِ الْأَوَّلِ عَلَى الطَّرِيقِ الثَّانِي، وَعَنْ هَذَا قَدَّمَ ذِكْرَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِي إثْبَاتِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَأَخَّرَ ذِكْرَ الْقِيَاسِ إلَى هُنَا، فَإِنَّ إثْبَاتَهَا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مُتَمَشٍّ عَلَى كِلَا الطَّرِيقَيْنِ فَنَاسَبَ ذِكْرَهُمَا مُتَّصِلًا بِأَصْلِ الْمَسْأَلَةِ، وَأَمَّا إثْبَاتُهَا بِالْقِيَاسِ فَمُخْتَصٌّ بِالطَّرِيقِ الْأَوَّلِ فَنَاسَبَ ذِكْرَهُ بَعْدَ تَفْصِيلِ الطَّرِيقَيْنِ
وَمَعْنَى تَسْمِيَةِ الطَّعَامِ دَرَاهِمَ أَنْ يَجْعَلَ الْأُجْرَةَ دَرَاهِمَ ثُمَّ يَدْفَعُ الطَّعَامَ مَكَانَهُ، وَهَذَا لَا جَهَالَةَ فِيهِ (وَلَوْ سَمَّى الطَّعَامَ وَبَيَّنَ قَدْرَهُ جَازَ أَيْضًا) لِمَا قُلْنَا،
وَبَيَانُ مَا هُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَهُ مُوَافِقٌ لِلْقِيَاسِ، فَبِهَذَا التَّحْقِيقِ ظَهَرَ سُقُوطُ السُّؤَالِ وَرَكَاكَةُ الْجَوَابِ اللَّذَيْنِ ذَكَرَهُمَا صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بِقَوْلِهِ: فَإِنْ قِيلَ: قَدْ عَلِمَ مِنْ أَوَّلِ الْمَسْأَلَةِ جَوَازَهَا حَيْثُ صَدَّرَ الْحُكْمَ فَاسْتَدَلَّ فَمَا فَائِدَةُ هَذَا الْكَلَامِ؟. قُلْت: أَثْبَتَ جَوَازَهَا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَوَّلًا ثُمَّ رَجَعَ إلَى إثْبَاتِهَا بِالْقِيَاسِ، انْتَهَى تَدَبَّرْ تَفْهَمْ.
(قَوْلُهُ: وَمَعْنَى تَسْمِيَةِ الطَّعَامِ دَرَاهِمَ أَنْ يَجْعَلَ الْأُجْرَةَ دَرَاهِمَ ثُمَّ يَدْفَعَ الطَّعَامَ مَكَانَهُ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: وَهَذَا التَّفْسِيرُ الَّذِي ذَكَرَهُ لَا يُسْتَفَادُ مِنْ ذَلِكَ اللَّفْظِ، وَلَكِنْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: أَيْ سَمَّى الدَّرَاهِمَ الْمُقَدَّرَةَ بِمُقَابَلَةِ طَعَامِهَا ثُمَّ أَعْطَى الطَّعَامَ بِإِزَاءِ الدَّرَاهِمِ الْمُسَمَّاةِ انْتَهَى. أَقُولُ: لَيْتَ شِعْرِي كَيْفَ يُسْتَفَادُ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ ذَلِكَ اللَّفْظِ حَتَّى يَصِحَّ طَعْنُهُ فِي الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ بِأَنَّهُ لَا يُسْتَفَادُ مِنْ ذَلِكَ اللَّفْظِ وَقَبُولِهِ هَذَا الْمَعْنَى، فَإِنَّ هَذَا الْمَعْنَى إنْ لَمْ يَكُنْ أَكْثَرَ بُعْدًا مِنْ ذَلِكَ اللَّفْظِ مِنْ الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فَلَا أَقَلَّ مِنْ الْمُسَاوَاةِ؛ لِأَنَّهُ إذَا صُيِّرَ إلَى حَذْفِ الْمُضَافِ، وَإِقَامَةِ الْمُضَافِ إلَيْهِ مَقَامَهُ فِي ذَلِكَ اللَّفْظِ: أَيْ لَفْظِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِأَنْ كَانَ تَقْدِيرُهُ إنْ سَمَّى بَدَلَ الطَّعَامِ دَرَاهِمَ كَمَا حَمَلَهُ عَلَيْهِ الْإِمَامُ الزَّيْلَعِيُّ جَازَ أَنْ يُفْهَمَ مِنْهُ أَوَّلُ الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: أَنْ يَجْعَلَ الْأُجْرَةَ دَرَاهِمَ، وَلَكِنْ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ أَصْلًا آخِرُهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: ثُمَّ يَدْفَعَ الطَّعَامَ مَكَانَهُ كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ الْإِمَامُ الزَّيْلَعِيُّ حَيْثُ قَالَ: لَكِنْ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ أَعْطَى بَدَلَ الدَّرَاهِمِ طَعَامًا، وَإِنَّمَا يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ سَمَّى بَدَلَ الطَّعَامِ دَرَاهِمَ لَا غَيْرُ. انْتَهَى.
وَأَمَّا الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ فَلَهُ اشْتِرَاكٌ فِي الْآخَرِ مَعَ الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، وَفِي أَوَّلِهِ تَفْصِيلٌ زَائِدٌ عَلَى مَا فِي أَوَّلِ الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، فَإِنْ فُهِمَ ذَلِكَ التَّفْصِيلُ مِنْ الْمُضَافِ الْمُقَدَّرِ فِي لَفْظِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ كَانَ الْمَعْنَيَانِ مُتَسَاوِيَيْنِ فِي انْفِهَامِ الْبَعْضِ الْأَوَّلِ مِنْهُمَا مِنْ ذَلِكَ اللَّفْظِ وَعَدَمِ انْفِهَامِ الْبَعْضِ الْآخَرِ مِنْهُمَا مِنْهُ، وَإِلَّا كَانَ الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ أَكْثَرَ بُعْدًا مِنْ ذَلِكَ اللَّفْظِ مِنْ الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، فَلَا وَجْهَ لِرَدِّ الثَّالِثِ وَقَبُولِ الْأَوَّلِ.
وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ أَنْ نَقَلَ مَا قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: وَهُوَ حَقٌّ، وَلَكِنْ لَوْ قَدَّرَ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ لَفْظَةً بَدَلًا بِأَنْ يُقَالَ أَنْ يَجْعَلَ الْأُجْرَةَ دَرَاهِمَ بَدَلًا آلَ إلَى ذَلِكَ. انْتَهَى. أَقُولُ: لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ لَهُ دُرْبَةٌ بِأَسَالِيبِ الْكَلَامِ أَنَّ تَقْدِيرَ بَدَلًا بَعْدَ أَنْ أَخَذَتْ كَلِمَةُ أَنْ يَجْعَلَ مَفْعُولَيْهَا رَكِيكٌ مِنْ حَيْثُ الْإِعْرَابِ، وَالْمَعْنَى: فَعَلَيْك بِالتَّأَمُّلِ الصَّادِقِ مَعَ مُلَاحَظَةِ قَوْلِهِ ثُمَّ يَدْفَعَ الطَّعَامَ مَكَانَهُ. وَذَكَرَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ تَوْجِيهَيْنِ آخَرَيْنِ لِلَّفْظِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ حَيْثُ قَالَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الطَّعَامُ مَنْصُوبًا عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ: أَيْ لِلطَّعَامِ، أَوْ الْمُرَادُ بِالتَّسْمِيَةِ هُوَ التَّعْيِينُ: أَيْ عَيْنُ الطَّعَامِ بِدَرَاهِمَ وَتَعْدِيَتُهُ إلَى دَرَاهِمَ بِنَفْسِهِ بِاعْتِبَارِ مَعْنَاهُ الْأَصْلِيِّ تَأَمَّلْ. انْتَهَى كَلَامُهُ. أَقُولُ: كِلَا التَّوْجِيهَيْنِ مَجْرُوحٌ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُ قَدْ تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ النَّحْوِ أَنَّ حَذْفَ حَرْفِ الْجَرِّ مَعَ غَيْرِ أَنْ وَأَنَّ إنَّمَا يَجُوزُ فِيمَا يُسْمَعُ نَحْوُ اسْتَغْفَرْتُ اللَّهَ ذَنْبًا: أَيْ مِنْ ذَنْبٍ وَبَغَاهُ الْخَيْرَ: أَيْ بَغَى لَهُ، وَأَمَّا فِيمَا لَا يُسْمَعُ فَلَا يَجُوزُ، وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ حَذْفُ الْجَارِّ مِنْ إيَّاكَ مِنْ الْأَسَدِ إذْ لَمْ يُسْمَعْ، وَعَنْ هَذَا قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: وَلَا تَقُلْ إيَّاكَ الْأَسَدَ لِامْتِنَاعِ تَقْدِيرِ مِنْ. انْتَهَى.
وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ أَيْضًا لَمْ يُسْمَعْ فَلَا يَجُوزُ نَزْعُ الْخَافِضِ: أَيْ حَذْفُ حَرْفِ الْجَرِّ وَلِهَذَا لَمْ يَتَعَرَّضْ الْمُصَنِّفُ وَغَيْرُهُ مِنْ الثِّقَاتِ
وَلَا يُشْتَرَطُ تَأْجِيلُهُ؛ لِأَنَّ أَوْصَافَهَا أَثْمَانٌ. (وَيُشْتَرَطُ بَيَانُ مَكَانِ الْإِيفَاءِ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي الْبُيُوعِ (وَفِي الْكِسْوَةِ يُشْتَرَطُ بَيَانُ الْأَجَلِ أَيْضًا مَعَ بَيَانِ الْقَدْرِ وَالْجِنْسِ)؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَصِيرُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ إذَا صَارَ مَبِيعًا، وَإِنَّمَا يَصِيرُ مَبِيعًا عِنْدَ الْأَجَلِ كَمَا فِي السَّلَمِ.
قَالَ (وَلَيْسَ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَمْنَعَ زَوْجَهَا مِنْ وَطْئِهَا)؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ حَقُّ الزَّوْجِ فَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إبْطَالِ حَقِّهِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ لَهُ أَنْ يَفْسَخَ الْإِجَارَةَ إذَا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ صِيَانَةً لِحَقِّهِ، إلَّا أَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ يَمْنَعُهُ عَنْ غِشْيَانِهَا فِي مَنْزِلِهِ؛ لِأَنَّ الْمَنْزِلَ حَقُّهُ (فَإِنْ حَبِلَتْ كَانَ لَهُمْ أَنْ يَفْسَخُوا الْإِجَارَةَ إذَا خَافُوا عَلَى الصَّبِيِّ مِنْ لَبَنِهَا)؛ لِأَنَّ لَبَنَ الْحَامِلِ يُفْسِدُ الصَّبِيَّ وَلِهَذَا كَانَ لَهُمْ الْفَسْخُ إذَا مَرِضَتْ أَيْضًا (وَعَلَيْهَا أَنْ تُصْلِحَ طَعَامَ الصَّبِيِّ)؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ عَلَيْهَا. وَالْحَاصِلُ أَنْ يُعْتَبَرَ فِيمَا لَا نَصَّ عَلَيْهِ الْعُرْفُ فِي مِثْلِ هَذَا الْبَابِ، فَمَا جَرَى بِهِ الْعُرْفُ مِنْ غَسْلِ ثِيَابِ الصَّبِيِّ وَإِصْلَاحِ الطَّعَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَهُوَ عَلَى الظِّئْرِ أَمَّا الطَّعَامُ فَعَلَى وَالِدِ الْوَلَدِ، وَمَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ أَنَّ الدُّهْنَ وَالرَّيْحَانَ عَلَى الظِّئْرِ فَذَلِكَ مِنْ عَادَةِ أَهْلِ الْكُوفَةِ.
(وَإِنْ أَرْضَعَتْهُ فِي الْمُدَّةِ بِلَبَنِ شَاةٍ فَلَا أَجْرَ لَهَا)؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَأْتِ بِعَمَلٍ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهَا، وَهُوَ الْإِرْضَاعُ، فَإِنَّ هَذَا إيجَارٌ وَلَيْسَ بِإِرْضَاعٍ، وَإِنَّمَا لَمْ يَجِبْ الْأَجْرُ لِهَذَا الْمَعْنَى أَنَّهُ اخْتَلَفَ الْعَمَلُ.
لِهَذَا التَّوْجِيهِ مَعَ ظُهُورِهِ جِدًّا. وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّهُ إذَا كَانَ الْمُرَادُ بِالتَّسْمِيَةِ هُوَ التَّعْيِينَ لَا يَصِحُّ تَعْدِيَتُهُ إلَى دَرَاهِمَ بِنَفْسِهِ بِاعْتِبَارِ مَعْنَاهُ الْأَصْلِيِّ، وَإِلَّا يَلْزَمُ الْجَمْعُ بَيْنَ مَعْنَى التَّسْمِيَةِ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ سَوَاءٌ كَانَ اللَّفْظُ حَقِيقَةً فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَعْنَيَيْنِ أَوْ حَقِيقَةً فِي أَحَدِهِمَا مَجَازًا فِي الْآخَرِ، إذْ لَا يَجُوزُ عُمُومُ الْمُشْتَرَكِ، وَلَا الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ عِنْدَنَا عَلَى مَا عُرِفَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ. (قَوْلُهُ: وَلَا يَشْتَرِطُ تَأْجِيلَهُ؛ لِأَنَّ أَوْصَافَهَا أَثْمَانٌ) قَالَ كَثِيرٌ مِنْ ثِقَاتِ الشُّرَّاحِ فِي شَرْحِ قَوْلِهِ أَوْصَافَهَا: أَيْ أَوْصَافُ الطَّعَامِ عَلَى تَأْوِيلِ الْحِنْطَةِ. اهـ.
أَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ الْمُرَادَ بِالطَّعَامِ فِي مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ مَا يَعُمُّ الْحِنْطَةَ وَغَيْرَهَا، فَكَيْفَ يَتِمُّ تَأْوِيلُ ذَلِكَ بِالْخَاصِّ فِي مَقَامِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْعَامِّ. وَالْحَقُّ عِنْدِي أَنَّ مَرْجِعَ الضَّمِيرِ هُوَ الطَّعَامُ بِتَأْوِيلِ كَوْنِهِ أُجْرَةً فِي مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ، فَالْمَعْنَى أَنَّ هَذِهِ الْأُجْرَةَ أَوْصَافُهَا أَوْصَافُ أَثْمَانٍ فَلَا يَشْتَرِطُ تَأْجِيلَهَا، بِخِلَافِ الْكِسْوَةِ كَمَا سَنَذْكُرُ. وَالْعَجَبُ أَنَّ صَاحِبَ الْعِنَايَةُ بَعْدَ أَنْ قَالَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ وَلَا يَشْتَرِطُ تَأْجِيلَهُ: أَيْ تَأْجِيلَهُ الطَّعَامَ الْمُسَمَّى أُجْرَةً سَلَكَ فِي تَأْوِيلِ تَأْنِيثِ ضَمِيرِ أَوْصَافِهَا مَسْلَكَ سَائِرِ الشُّرَّاحِ مِنْ التَّأْوِيلِ بِالْحِنْطَةِ وَقَدْ عَرَفْت.
(قَوْلُهُ: فَإِنَّ هَذَا إيجَارٌ وَلَيْسَ بِإِرْضَاعٍ) فِي الصِّحَاحِ الْوَجُورُ الدَّوَاءُ يُوجَرُ فِي وَسَطِ الْفَمِ: أَيْ يُصَبُّ، تَقُولُ مِنْهُ وَجَرْتُ الصَّبِيَّ وَأَوْجَرْتُهُ بِمَعْنَى. اهـ. أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إذَا كَانَ هَذَا إيجَارًا لَا إرْضَاعًا فَلَا مَعْنَى؛ لَأَنْ
قَالَ: (وَمَنْ دَفَعَ إلَى حَائِكٍ غَزْلًا لِيَنْسِجَهُ بِالنِّصْفِ فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ. وَكَذَا إذَا اسْتَأْجَرَ حِمَارًا يَحْمِلُ طَعَامًا بِقَفِيزٍ مِنْهُ فَالْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ)؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْأَجْرَ بَعْضَ مَا يَخْرُجُ مِنْ عَمَلِهِ فَيَصِيرُ فِي مَعْنَى قَفِيزِ الطَّحَّانِ، وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْهُ، وَهُوَ أَنْ يَسْتَأْجِرَ ثَوْرًا لِيَطْحَنَ لَهُ حِنْطَةً بِقَفِيزٍ مِنْ دَقِيقِهِ.
يَقُولَ فِي الْكِتَابِ فِي وَضْعِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: وَإِنْ أَرْضَعَتْهُ فِي الْمُدَّةِ بِلَبَنِ شَاةٍ، بَلْ الظَّاهِرُ أَنْ يَقُولَ: وَإِنْ أَوْجَرَتْهُ بَدَلَ، وَإِنْ أَرْضَعَتْهُ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْمُشَاكَلَةِ بِمُلَابَسَةِ مَسْأَلَةِ اسْتِئْجَارِ الظِّئْر الَّتِي وَظِيفَتُهَا الْإِرْضَاعُ تَأَمَّلْ. فَإِنْ قِيلَ: الظِّئْر أَجِيرٌ خَاصٌّ أَوْ أَجِيرٌ مُشْتَرَكٌ؟ أُجِيبَ بِأَنَّهَا أَجِيرٌ خَاصٌّ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ لَفْظُ الْمَبْسُوطِ، فَإِنَّهُ قَالَ فِيهِ: وَلَوْ ضَاعَ الصَّبِيُّ مِنْ يَدِهَا أَوْ وَقَعَ فَمَاتَ أَوْ سُرِقَ مِنْ حُلِيِّ الصَّبِيِّ أَوْ مِنْ ثِيَابِهِ شَيْءٌ لَمْ تَضْمَنْ الظِّئْرُ شَيْئًا؛ لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْأَجِيرِ الْخَاصِّ، فَإِنَّ الْعَقْدَ وَرَدَ عَلَى مَنَافِعِهَا فِي الْمُدَّةِ؛ أَلَا يُرَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهَا أَنْ تُؤَجِّرَ نَفْسَهَا مِنْ غَيْرِهِمْ لِمِثْلِ ذَلِكَ الْعَمَلِ، وَالْأَجِيرُ الْخَاصُّ أَمِينٌ فِيمَا فِي يَدِهِ. اهـ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ أَجِيرًا خَاصًّا وَأَنْ تَكُونَ أَجِيرًا مُشْتَرَكًا عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ لَفْظُ الذَّخِيرَةِ، فَإِنَّهُ قَالَ فِيهَا: وَإِنْ آجَرَتْ الظِّئْرُ نَفْسَهَا مِنْ قَوْمٍ آخَرِينَ تُرْضِعُ صِبْيَانَهُمْ، وَلَا يَعْلَمُ بِذَلِكَ أَهْلُهَا الْأَوَّلُونَ حَتَّى يَفْسَخُوا هَذِهِ الْإِجَارَةَ فَأَرْضَعَتْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَفَرَغَتْ فَقَدْ أَثِمَتْ، وَهَذِهِ جِنَايَةٌ مِنْهَا وَلَهَا الْأَجْرُ كَامِلًا عَلَى الْفَرِيقَيْنِ. اهـ. وَجْهُ الدَّلَالَةِ عَلَى احْتِمَالِهِمَا أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ أَجِيرَ وَحْدٍ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لَمْ تَسْتَحِقَّ الْأَجْرَ كَامِلًا وَأَثِمَتْ بِمَا صَنَعَتْهُ، وَلَوْ كَانَتْ أَجِيرًا مُشْتَرَكًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ اسْتَحَقَّتْ الْأَجْرَ كَامِلًا وَلَا تَأْثَمُ فَكَانَتْ بَيْنَهُمَا، فَقُلْنَا بِأَنَّهَا لَا تَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ كَامِلًا لِشَبَهِهَا بِالْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ، وَبِأَنَّهَا تَأْثَمُ لِشَبَهِهَا بِأَجِيرِ الْوَحْدِ. هَذَا زُبْدَةُ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ هَاهُنَا وَاقْتَفَى أَثَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ، غَيْرَ أَنَّهُ اعْتَرَضَ عَلَى دَلَالَةِ لَفْظِ الْمَبْسُوطِ عَلَى كَوْنِهَا أَجِيرًا خَاصًّا حَيْثُ قَالَ: وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْأَجِيرِ الْخَاصِّ لَا عَيْنَهُ. انْتَهَى.
أَقُولُ: نَظَرُهُ سَاقِطٌ، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِدَلَالَةِ لَفْظِ الْمَبْسُوطِ عَلَيْهِ دَلَالَةُ قَوْلِهِ فَإِنَّ الْعَقْدَ وَرَدَ عَلَى مَنَافِعِهَا فِي الْمُدَّةِ، وَتَنْوِيرُهُ بِقَوْلِهِ أَلَا يَرَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهَا أَنْ تُؤَجِّرَ نَفْسَهَا مِنْ غَيْرِهِمْ لِمِثْلِ ذَلِكَ الْعَمَلِ، فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَدُلُّ قَطْعًا عَلَى أَنَّهَا أَجِيرٌ خَاصٌّ؛ لِأَنَّ وُرُودَ الْعَقْدُ عَلَى الْمَنْفَعَةِ فِي الْمُدَّةِ وَعَدَمُ جَوَازِ إيجَارِ النَّفْسِ مِنْ غَيْرِ الْمُسْتَأْجَرِ مِنْ خَوَاصِّ الْأَجِيرِ الْخَاصِّ.
وَهَذَا أَصْلٌ كَبِيرٌ يُعْرَفُ بِهِ فَسَادُ كَثِيرٍ مِنْ الْإِجَارَاتِ، لَا سِيَّمَا فِي دِيَارِنَا، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ عَاجِزٌ عَنْ تَسْلِيمِ الْأَجْرِ وَهُوَ بَعْضُ الْمَنْسُوجِ أَوْ الْمَحْمُولِ. إذْ حُصُولُهُ بِفِعْلِ الْأَجِيرِ فَلَا يُعَدُّ هُوَ قَادِرًا بِقُدْرَةِ غَيْرِهِ،
وَأَمَّا قَوْلُهُ: بِمَنْزِلَةِ الْأَجِيرِ الْخَاصِّ فَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ بِمَنْزِلَةِ الْأَجِيرِ الْخَاصِّ الْمَعْرُوفِ الَّذِي لَا اشْتِبَاهَ فِيهِ لِأَحَدٍ، وَهَذَا لَا يُنَافِي أَنْ تَكُونَ هِيَ عَيْنُ جِنْسِ الْأَجِيرِ الْخَاصِّ. ثُمَّ إنَّ بَعْضَ الْفُضَلَاءِ قَالَ: وَلَعَلَّ الْأَوْلَى فِي الْجَوَابِ أَنْ يُقَالَ: إنْ قَدَّمَ الْمُسْتَأْجِرُ ذِكْرَ الْمُدَّةِ بِأَنْ يَقُولَ اسْتَأْجَرْتُكِ سَنَةً لِتُرْضِعِي وَلَدِي هَذَا تَكُونُ خَاصًّا، وَإِنْ قَدَّمَ ذِكْرَ الْعَمَلِ تَكُونُ مُشْتَرَكًا عَلَى قِيَاسِ مَا قِيلَ فِي اسْتِئْجَارِ الرَّاعِي. اهـ.
أَقُولُ: لَيْسَ ذَلِكَ الْجَوَابُ بِتَامٍّ إذْ يُرَدُّ عَلَيْهِ أَنْ يُقَالَ لَوْ كَانَتْ الظِّئْرُ أَجِيرًا خَاصًّا عَلَى الثَّبَاتِ فِيمَا إذَا قَدَّمَ الْمُسْتَأْجِرُ ذِكْرَ الْمُدَّةِ لَمَا اسْتَحَقَّتْ الْأَجْرَ كَامِلًا إذَا آجَرَتْ نَفْسَهَا مِنْ قَوْمٍ آخَرِينَ لِتُرْضِعَ صِبْيَانَهُمْ مَعَ أَنَّهَا تَسْتَحِقُّهُ كَامِلًا عَلَى الْفَرِيقَيْنِ وَلَكِنْ تَأْثَمُ كَمَا نَقَلْنَاهُ عَنْ الذَّخِيرَةِ، وَذُكِرَ فِي سَائِرُ الْمُعْتَبَرَاتِ أَيْضًا. وَعَنْ هَذَا قَالَ فِي الذَّخِيرَةِ وَالْمُحِيطِ الْبُرْهَانِيِّ بَعْدَ بَيَانِ اسْتِحْقَاقِهَا الْأَجْرَ كَامِلًا عَلَى الْفَرِيقَيْنِ: وَهَذَا لَا يُشْكِلُ إذَا قَالَ أَبُو الصَّغِيرَةِ لِلظِّئْرِ اسْتَأْجَرْتُكِ لِتُرْضِعِي وَلَدِي هَذَا سَنَةً بِكَذَا؛ لِأَنَّ الظِّئْرَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَجِيرٌ مُشْتَرَكٌ؛ لِأَنَّ الْأَبَ أَوْقَعَ الْعَقْدَ أَوَّلًا عَلَى الْعَمَلِ، وَإِنَّمَا يُشْكِلُ فِيمَا إذَا قَالَ لَهَا اسْتَأْجَرْتُك سَنَةً لِتُرْضِعِي وَلَدِي هَذَا بِكَذَا؛ لِأَنَّهَا أَجِيرُ وَحْدٍ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ؛ لِأَنَّهُ أَوْقَعَ الْعَقْدَ عَلَى الْمُدَّةِ أَوَّلًا، وَلَيْسَ لِأَجِيرِ الْوَحْدِ أَنْ يُؤَجِّرَ نَفْسَهُ مِنْ آخَرَ. وَإِذَا آجَرَ لَا يَسْتَحِقُّ تَمَامَ الْأَجْرِ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ الْأَوَّلِ وَيَأْثَمُ.
وَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ أَجِيرَ الْوَحْدِ فِي الرَّضَاعِ يُشْبِهُ الْأَجِيرَ الْمُشْتَرَكَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يُمْكِنُهُ إيفَاءُ الْعَمَلِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِتَمَامِهِ كَمَا فِي الْخَيَّاطِ وَالْقَصَّارِ، ثُمَّ لَوْ كَانَتْ أَجِيرَ وَحْدٍ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لَمْ تَسْتَحِقَّ الْأَجْرَ كَامِلًا عَلَى الْأَوَّلِ وَتَأْثَمُ بِمَا صَنَعَتْهُ، وَلَوْ كَانَتْ أَجِيرًا مُشْتَرَكًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ اسْتَحَقَّتْ الْأَجْرَ كَامِلًا، وَلَمْ تَأْثَمْ فَإِذَا كَانَتْ بَيْنَهُمَا قُلْنَا بِأَنَّهَا تَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ كَامِلًا لِشَبَهِهَا بِالْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ وَقُلْنَا بِأَنَّهَا تَأْثَمُ لِشَبَهِهَا بِالْأَجِيرِ الْوَحْدِ. اهـ. فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ بِمُجَرَّدِ تَقْدِيمِ الْمُسْتَأْجِرِ ذِكْرَ الْمُدَّةِ لَا يَتِمُّ كَوْنُ الظِّئْرِ أَجِيرَ وَحْدٍ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّفْصِيلِ وَاعْتِبَارِ الشَّبَهَيْنِ كَمَا ذَكَرَ فِي الذَّخِيرَةِ وَالْمُحِيطِ الْبُرْهَانِيِّ وَاخْتَارَهُ الشُّرَّاحُ فِي الْجَوَابِ فَتَبَصَّرْ.
(قَوْلُهُ: وَهَذَا أَصْلٌ كَبِيرٌ يُعْرَفُ بِهِ فَسَادُ كَثِيرٍ مِنْ الْإِجَارَاتِ لَا سِيَّمَا فِي دِيَارِنَا) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: فَإِنْ قِيلَ: إذَا كَانَ عُرْفُ دِيَارِنَا عَلَى ذَلِكَ فَهَلْ يُتْرَكُ بِهِ الْقِيَاسُ؟ قُلْنَا: لَا؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَاهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَكَانَ ثَابِتًا بِدَلَالَةِ النَّصِّ، وَمِثْلُهُ لَا يُتْرَكُ بِالْعُرْفِ. اهـ. وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: سَيَجِيءُ مِنْ الْمُصَنِّفِ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الْمُزَارَعَةِ مَا يُخَالِفُ مَا ذَكَرَهُ الشَّارِحُ حَيْثُ أَطْلَقَ الْقِيَاسَ عَلَى مَا فِي مَعْنَى قَفِيزِ الطَّحَّانِ وَقَالَ يُتْرَكُ بِالْعُرْفِ كَالِاسْتِصْنَاعِ فَرَاجِعْهُ. اهـ. أَقُولُ: مَا سَيَجِيءُ مِنْ الْمُصَنِّفِ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الْمُزَارَعَةِ لَيْسَ بِمُخَالِفٍ لِمَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ هَاهُنَا، فَإِنَّ الْمُصَنِّفَ بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الْمُزَارَعَةِ أَنَّ الْمُزَارَعَةَ فَاسِدَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله جَائِزَةٌ عِنْدَ صَاحِبَيْهِ وَذَكَرَ الدَّلِيلَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ قَالَ إلَّا أَنَّ الْفَتْوَى عَلَى قَوْلِهِمَا لِحَاجَةِ النَّاسِ إلَيْهَا وَلِظُهُورِ تَعَامُلِ الْأُمَّةِ بِهَا، وَالْقِيَاسُ يُتْرَكُ بِالتَّعَامُلِ كَمَا فِي الِاسْتِصْنَاعِ. اهـ.
وَلَا يَقْتَضِي
وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا اسْتَأْجَرَهُ لِيَحْمِلَ نِصْفَ طَعَامِهِ بِالنِّصْفِ الْآخَرِ حَيْثُ لَا يَجِبُ لَهُ الْأَجْرُ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ مَلَكَ الْأَجِيرَ فِي الْحَالِ بِالتَّعْجِيلِ فَصَارَ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا.
وَمَنْ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِحَمْلِ طَعَامٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُمَا لَا يَجِبُ الْأَجْرُ
ذَلِكَ أَنْ يُطْلِقَ الْقِيَاسَ عَلَى كُلِّ مَا فِي مَعْنَى قَفِيزِ الطَّحَّانِ، بَلْ إنَّمَا يَقْتَضِي أَنْ يُطْلِقَهُ عَلَى الْمُزَارَعَةِ، وَهِيَ فِي مَعْنَى قَفِيزِ الطَّحَّانِ مِنْ وَجْهٍ: أَيْ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا اسْتِئْجَارٌ بِبَعْضِ مَا يَخْرُجُ مِنْ عَمَلِهِ كَمَا ذَكَرَ فِي دَلِيلِ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى فَسَادِهَا، وَفِي مَعْنَى الْمُضَارَبَةِ مِنْ وَجْهٍ: أَيْ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا عَقْدُ شَرِكَةٍ بَيْنَ الْمَالِ وَالْعَمَلِ كَمَا ذَكَرَ فِي دَلِيلِ الْإِمَامَيْنِ عَلَى جَوَازِهَا، بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ فَإِنَّهُ فِي مَعْنَى قَفِيزِ الطَّحَّانِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ؛ لِأَنَّهُ اسْتِئْجَارٌ مَحْضٌ لَيْسَ فِيهِ شَائِبَةُ الْمُضَارَبَةِ، فَلِهَذَا قِيلَ: إنَّهُ ثَابِتٌ بِدَلَالَةِ النَّصِّ دُونَ الْقِيَاسِ. وَلَئِنْ سُلِّمَ مُخَالَفَةُ مَا سَيَجِيءُ مِنْ الْمُصَنِّفِ هُنَاكَ لِمَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ هَاهُنَا فَلَا ضَيْرَ فِيهَا؛ لِأَنَّ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ ثَابِتٌ بِدَلَالَةِ النَّصِّ فَلَا يُتْرَكُ بِالْعُرْفِ، وَهُوَ مُخْتَارُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ.
وَثَانِيهِمَا أَنَّهُ مِنْ حَيْثُ الْقِيَاسُ فَيُتْرَكُ بِالتَّعَامُلِ كَالِاسْتِصْنَاعِ، وَهُوَ مُخْتَارُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيِّ وَأُسْتَاذِهِ الْقَاضِي الْإِمَامِ أَبِي عَلِيٍّ النَّسَفِيِّ كَمَا فَصَّلَ فِي الْمَبْسُوطِ وَغَيْرِهِ وَذُكِرَ فِي النِّهَايَةِ، وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ أَيْضًا، فَمَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ هَاهُنَا عَلَى مَا اخْتَارَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ قَطْعًا، وَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الْمُزَارَعَةِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى مَا اخْتَارَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيُّ وَأُسْتَاذُهُ، فَإِذَا كَانَ مَدَارُ الْمُخَالَفَةِ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ الْقَوْلَيْنِ فِي الْمَسْأَلَةِ فَلَا بَأْسَ بِهَا (قَوْلُهُ: وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا اسْتَأْجَرَهُ لِيَحْمِلَ نِصْفَ طَعَامِهِ بِالنِّصْفِ الْآخَرِ حَيْثُ لَا يَجِبُ لَهُ الْأَجْرُ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ مَلَكَ الْأَجِيرَ فِي الْحَالِ بِالتَّعْجِيلِ إلَخْ) قَالَ الْإِمَامُ الزَّيْلَعِيُّ فِي شَرْحِ الْكَنْزِ بَعْدَ ذِكْرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَعَ دَلِيلِهَا الْمَزْبُورِ: هَكَذَا قَالُوا، وَفِيهِ إشْكَالَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْإِجَارَةَ فَاسِدَةٌ وَالْأُجْرَةَ لَا تُمَلَّكُ بِالصَّحِيحَةِ مِنْهَا بِالْعَقْدِ عِنْدَنَا سَوَاءٌ كَانَتْ عَيْنًا أَوْ دَيْنًا عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ، فَكَيْفَ مَلَكَ هَاهُنَا مِنْ غَيْرِ تَسْلِيمٍ، وَمِنْ غَيْرِ شَرْطِ التَّعْجِيلِ. وَالثَّانِي أَنَّهُ قَالَ مَلَكَهُ فِي الْحَالِ، وَقَوْلُهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ يُنَافِي الْمِلْكَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ إذَا مَلَكَهُ إلَّا بِطَرِيقِ الْأُجْرَةُ فَإِذَا لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا فَكَيْفَ يَمْلِكُهُ وَبِأَيِّ سَبَبٍ يَمْلِكُهُ. اهـ كَلَامُهُ.
أَقُولُ: كُلٌّ مِنْ إشْكَالَيْهِ سَاقِطٌ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُ لَا رَيْبَ أَنَّ وَضْعَ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا إذَا سَلَّمَ إلَى الْأَجِيرِ كُلَّ الطَّعَامِ كَمَا يُفْصِحُ عَنْهُ قَوْلُهُمْ فِي تَعْلِيلِهَا؛ لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ مَلَّكَ الْأَجِيرَ فِي الْحَالِ بِالتَّعْجِيلِ، إذْ تَعْجِيلُ الْأَجْرِ إنَّمَا يَكُونُ بِتَسْلِيمِهِ إلَى الْأَجِيرِ فِي الْحَالِ، وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي تَحْرِيرِ نَفْسِ الْمَسْأَلَةِ كَثِيرٌ مِنْ الثِّقَاتِ، مِنْهُمْ صَاحِبُ النِّهَايَةِ، وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ حَيْثُ قَالَا: إنَّ هَاهُنَا مَسْأَلَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا مَا إذَا اسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِيَحْمِلَ لَهُ كُرَّ حِنْطَةٍ إلَى بَغْدَادَ مَثَلًا بِنِصْفِهِ كَانَتْ الْإِجَارَةُ فَاسِدَةً، وَلِلْأَجِيرِ أَجْرُ مِثْلِهِ إنْ كَانَ بَلَغَ إلَى بَغْدَادَ لَا يُجَاوِزُ بِهِ قِيمَةَ نِصْفِ الْكُرِّ.
وَالثَّانِيَةُ أَنْ يَسْتَأْجِرَهُ لِيَحْمِلَ لَهُ نِصْفَهُ إلَى الْمَكَانِ الْمُعَيَّنِ بِنِصْفِهِ الْبَاقِي، وَدَفَعَ إلَيْهِ كُلَّهُ وَلَا أَجْرَ لَهُ هَاهُنَا. وَاَلَّتِي ذَكَرَهَا فِي الْكِتَابِ بِقَوْلِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا اسْتَأْجَرَهُ لِيَحْمِلَ نِصْفَ طَعَامِهِ بِالنِّصْفِ الْآخَرِ هِيَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ، وَهِيَ مِنْ مَسَائِل إجَارَاتِ الْجَامِعِ الْكَبِيرِ
لِأَنَّ مَا مِنْ جُزْءٍ يَحْمِلُهُ إلَّا وَهُوَ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ فِيهِ فَلَا يَتَحَقَّقُ تَسْلِيمُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ. قَالَ (وَلَا يُجَاوِزُ بِالْأَجْرِ قَفِيزًا)؛ لِأَنَّهُ لَمَّا فَسَدَتْ الْإِجَارَةُ فَالْوَاجِبُ الْأَقَلُّ مَا سَمَّى وَمِنْ أَجْرِ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِحَطِّ الزِّيَادَةِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا اشْتَرَكَا فِي الِاحْتِطَابِ حَيْثُ يَجِبُ الْأَجْرُ بَالِغًا مَا بَلَغَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّ الْمُسَمَّى هُنَاكَ غَيْرُ مَعْلُومٍ فَلَمْ يَصِحَّ الْحَطُّ.
قَالَ: (وَمَنْ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِيَخْبِزَ لَهُ هَذِهِ الْعَشَرَةَ الْمَخَاتِيمَ مِنْ الدَّقِيقِ الْيَوْمَ بِدِرْهَمٍ فَهُوَ فَاسِدٌ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ فِي الْإِجَارَاتِ: هُوَ جَائِزٌ)؛ لِأَنَّهُ يَجْعَلُ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ عَمَلًا وَيَجْعَلُ ذِكْرَ الْوَقْتِ لِلِاسْتِعْجَالِ تَصْحِيحًا لِلْعَقْدِ فَتَرْتَفِعُ الْجَهَالَةُ. وَلَهُ أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَجْهُولٌ
اهـ. وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الْمُنَافَاةَ بَيْنَ قَوْلِهِمْ مَلَكَ الْأَجِيرَ فِي الْحَالِ وَبَيْنَ قَوْلِهِمْ لَا يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ وَلَا يَجِبُ الْأَجْرُ مَمْنُوعَةٌ، إذْ مَعْنَى الْأَوَّلِ أَنَّهُ يَمْلِكُ الْأَجِيرَ ابْتِدَاءً بِمُوجِبِ الْعَقْدِ وَتَسْلِيمِ الْأَجْرِ إلَى الْأَجِيرِ بِالتَّعْجِيلِ، وَمَعْنَى الثَّانِي أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ لِبُطْلَانِ الْعَقْدِ قَبْلَ الْعَمَلِ بَعْدَ أَنْ مَلَكَ الْأَجِيرَ بِالتَّسْلِيمِ بِسَبَبِ أَنْ صَارَ شَرِيكًا فِي الطَّعَامِ قَبْلَ إيفَاءِ شَيْءٍ مِنْ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَلَا يَذْهَبُ عَلَيْك أَنَّهُ لَا تَنَافِيَ بَيْنَ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ، بَلْ الْأَوَّلُ مِنْهُمَا يُؤَدِّي إلَى الثَّانِي.
وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا التَّوْفِيقِ قَطْعًا مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ فِي تَعْلِيلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ نَقْلًا عَنْ الْجَامِعِ الْكَبِيرِ لِشَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ وَصَدْرِ الْإِسْلَامِ الْحُمَيْدِيِّ حَيْثُ قَالَ: وَأَمَّا فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ، وَهِيَ مَا إذَا اسْتَأْجَرَهُ لِيَحْمِلَ نِصْفَهُ إلَى بَغْدَادَ بِنِصْفِهِ الْبَاقِي وَدَفَعَ إلَيْهِ فَإِنَّمَا سَلَّمَهُ إلَيْهِ عَلَى سَبِيلِ التَّمْلِيكِ لِنِصْفِ الْكُرِّ مِنْ قِبَلِ أَنَّ الْبَدَلَ نِصْفُ كُرٍّ مُطْلَقٍ لَا نِصْفُ كُرٍّ مَحْمُولٍ إلَى بَغْدَادَ فَصَارَ بِتَسْلِيمِ الْكُرِّ إلَيْهِ مُعَجِّلًا لِلْأُجْرَةِ فَمَلَكَهَا بِنَفْسِ الْقَبْضِ، وَإِذَا مَلَكَهُ بِالتَّسْلِيمِ بَطَلَ الْعَقْدُ قَبْلَ الْعَمَلِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ شَرِيكًا فِي الْكُرِّ قَبْلَ إيفَاءِ شَيْءٍ مِنْ الْعُقُودِ عَلَيْهِ، وَمَا قَبْلَ التَّسْلِيمِ فِي الْإِجَارَةِ بِمَنْزِلَةِ ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ، فَلَوْ ابْتَدَأَ الْعَقْدَ عَلَى الْعَمَلِ فِي شَيْءٍ الْعَامِلُ فِيهِ شَرِيكُ الْمُسْتَأْجِرِ بَطَلَتْ الْإِجَارَةُ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا، وَإِذَا بَطَلَتْ الْإِجَارَةُ لَمْ يَجِبْ الْأَجْرُ، كَذَا فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ لِشَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ وَصَدْرِ الْإِسْلَامِ الْحُمَيْدِيِّ، إلَى هُنَا لَفْظُ النِّهَايَةِ. وَبِهَذَا ظَهَرَ أَنَّهُ لَا حَاجَةَ فِي دَفْعِ الْإِشْكَالِ الثَّانِي مِنْ ذَيْنِك الْإِشْكَالَيْنِ إلَى مَا تَعَسَّفَ فِيهِ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ حَيْثُ قَالَ: لَعَلَّ مُرَادَهُمْ نَفْيُ الْمِلْكِ؛ لِأَنَّ وُجُودَهُ يُؤَدِّي إلَى عَدَمِهِ، وَمَا هُوَ كَذَلِكَ يَبْطُلُ، فَقَوْلُهُمْ مَلَكَ الْأَجِيرُ فِي الْحَالِ كَلَامٌ وَرَدَ عَلَى سَبِيلِ الْفَرْضِ وَالتَّقْدِيرِ فَيَكُونُ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ: لَوْ وَجَبَ الْأَجْرُ فِي الصُّورَةِ الْمَفْرُوضَةِ لَمَلَكَ الْأَجِيرُ الْأُجْرَةَ فِي الْحَالِ بِالتَّعْجِيلِ، وَالتَّالِي بَاطِلٌ إذْ حِينَئِذٍ يَكُونُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا فَيُفْضِي إلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْأَجْرِ، وَكُلُّ لَازِمٍ يُؤَدِّي فَرْضُ وُجُودِهِ إلَى انْتِفَاءِ مَلْزُومِهِ يَكُونُ بَاطِلًا فَكَذَا هَذَا. اهـ كَلَامُهُ.
(قَوْلُهُ: لِأَنَّ مَا مِنْ جُزْءٍ يَحْمِلُهُ إلَّا، وَهُوَ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ فِيهِ) قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: فِيهِ بَحْثٌ، فَإِنَّهُ فِي كُلِّ جُزْءٍ عَامِلٌ لِغَيْرِهِ أَيْضًا
لِأَنَّ ذِكْرَ الْوَقْتِ يُوجِبُ كَوْنَ الْمَنْفَعَةِ مَعْقُودًا عَلَيْهَا وَذِكْرَ الْعَمَلِ يُوجِبُ كَوْنَهُ مَعْقُودًا عَلَيْهِ وَلَا تَرْجِيحَ، وَنَفْعُ الْمُسْتَأْجِرِ فِي الثَّانِي وَنَفْعُ الْأَجِيرِ فِي الْأَوَّلِ فَيُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَصِحُّ الْإِجَارَةُ إذَا قَالَ: فِي الْيَوْمِ، وَقَدْ سَمَّى عَمَلًا؛ لِأَنَّهُ لِلظَّرْفِ فَكَانَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ الْعَمَلَ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ الْيَوْمَ وَقَدْ مَرَّ مِثْلُهُ فِي الطَّلَاقِ.
قَالَ:
فَلَا مَعْنَى لِلْحَصْرِ، وَإِثْبَاتُ الْمَطْلُوبِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي التَّشْبِيهِ: أَيْ هُوَ كَعَامِلٍ لِنَفْسِهِ. اهـ. أَقُولُ: هَذَا الْبَحْثُ غَيْرُ مُتَمَشٍّ رَأْسًا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَلْزَمُ الْحَصْرُ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ لَوْ كَانَ مَعْنَاهُ إلَّا، وَهُوَ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ فَقَطْ، أَمَّا إذَا كَانَ مَعْنَاهُ إلَّا، وَهُوَ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ كَمَا هُوَ عَامِلٌ لِغَيْرِهِ أَيْضًا فَلَا حَصْرَ فِيهِ، فَلَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ فَلَا مَعْنَى لِلْحَصْرِ إذْ لَمْ يَتَعَيَّنْ الْحَصْرُ فِيهِ. فَالْوَجْهُ فِي تَمْشِيَةِ الْبَحْثِ هَاهُنَا تَوْسِيعُ الدَّائِرَةِ، بِأَنْ يُقَالَ: إنْ كَانَ الْمُرَادُ أَنَّهُ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ فَقَطْ فَهُوَ مَمْنُوعٌ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ أَنَّهُ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ وَلِغَيْرِهِ فَعَدَمُ اسْتِحْقَاقِهِ الْأَجْرَ عَلَى فِعْلِهِ لِنَفْسِهِ لَا يُنَافِي اسْتِحْقَاقَهُ عَلَى فِعْلِهِ لِغَيْرِهِ فَلَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ، وَسَيَأْتِي تَتِمَّةُ هَذَا الْكَلَامِ فِيمَا بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
(قَوْلُهُ: لِأَنَّ ذِكْرَ الْوَقْتِ يُوجِبُ كَوْنَ الْمَنْفَعَةِ مَعْقُودًا عَلَيْهَا، وَذِكْرَ الْعَمَلِ يُوجِبُ كَوْنَهُ مَعْقُودًا عَلَيْهِ وَلَا تَرْجِيحَ) أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لِمَ لَا يَكُونُ تَقْدِيمُ ذِكْرِ الْعَمَلِ مُرَجِّحًا لِكَوْنِ الْعَمَلِ مَعْقُودًا عَلَيْهِ كَمَا كَانَ كَذَلِكَ فِي مَسْأَلَةِ
(وَمَنْ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا عَلَى أَنْ يَكْرُبَهَا وَيَزْرَعَهَا أَوْ يَسْقِيَهَا وَيَزْرَعَهَا فَهُوَ جَائِزٌ)؛ لِأَنَّ الزِّرَاعَةَ مُسْتَحَقَّةٌ بِالْعَقْدِ، وَلَا تَتَأَتَّى الزِّرَاعَةُ إلَّا بِالسَّقْيِ وَالْكِرَابِ. فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُسْتَحَقًّا. وَكُلُّ شَرْطٍ هَذِهِ صِفَتُهُ يَكُونُ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْعَقْدِ فَذِكْرُهُ لَا يُوجِبُ الْفَسَادَ (فَإِنْ اشْتَرَطَ أَنْ يُثَنِّيَهَا أَوْ يُكْرِيَ أَنْهَارَهَا أَوْ يُسَرْقِنَهَا فَهُوَ فَاسِدٌ)؛ لِأَنَّهُ يَبْقَى أَثَرُهُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْعَقْدِ، وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ. وَمَا هَذَا حَالُهُ يُوجِبُ الْفَسَادَ؛ لِأَنَّ مُؤَجِّرَ الْأَرْضِ يَصِيرُ مُسْتَأْجِرًا مَنَافِعَ الْأَجِيرِ عَلَى وَجْهٍ يَبْقَى بَعْدَ الْمُدَّةِ فَيَصِيرُ صَفْقَتَانِ فِي صَفْقَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ. ثُمَّ قِيلَ: الْمُرَادُ بِالتَّثْنِيَةِ أَنْ يَرُدَّهَا مَكْرُوبَةً وَلَا شُبْهَةَ فِي فَسَادِهِ. وَقِيلَ أَنْ يَكْرُبَهَا مَرَّتَيْنِ، وَهَذَا فِي مَوْضِعٍ تُخْرِجُ الْأَرْضُ الرِّيعَ بِالْكِرَابِ مَرَّةً وَاحِدَةً وَالْمُدَّةُ سَنَةٌ وَاحِدَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ ثَلَاثَ سِنِينَ لَا تَبْقَى مَنْفَعَتُهُ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِكْرِي الْأَنْهَارِ الْجَدَاوِلَ بَلْ الْمُرَادُ مِنْهَا الْأَنْهَارُ الْعِظَامُ هُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّهُ تَبْقَى مَنْفَعَتُهُ فِي الْعَامِ الْقَابِلِ. قَالَ:(وَإِنْ اسْتَأْجَرَهَا لِيَزْرَعَهَا بِزِرَاعَةِ أَرْضٍ أُخْرَى فَلَا خَيْرَ فِيهِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هُوَ جَائِزٌ، وَعَلَى هَذَا إجَارَةُ السُّكْنَى بِالسُّكْنَى وَاللُّبْسِ بِاللُّبْسِ وَالرُّكُوبِ بِالرُّكُوبِ.
الرَّاعِي عَلَى مَا صَرَّحُوا بِهِ فِي مُعْتَبَرَاتِ الْفَتَاوَى بِلَا ذِكْرِ خِلَافٍ هُنَاكَ فَتَأَمَّلْ.
(قَوْلُهُ: لِأَنَّ مُؤَجِّرَ الْأَرْضِ يَصِيرُ مُسْتَأْجِرًا مَنَافِعَ الْأَجِيرِ إلَخْ) قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: هَذَا دَلِيلٌ آخَرُ عَلَى أَصْلِ الْمُدَّعِي فَالظَّاهِرُ أَنْ يُقَالَ: وَلِأَنَّ بِالْوَاوِ لِمُنْتَهًى. أَقُولُ لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا زَعَمَهُ، فَإِنَّ قَوْلَهُ؛ لِأَنَّ مُؤَجِّرَ الْأَرْضِ إلَخْ دَلِيلٌ عَلَى قَوْلِهِ، وَمَا هَذَا حَالُهُ يُوجِبُ الْفَسَادَ عَلَى أَصْلِ الْمُدَّعِي فَالظَّاهِرُ تَرْكُ الْوَاوِ كَمَا وَقَعَ (قَوْلُهُ: وَقِيلَ أَنْ يَكْرُبَهَا مَرَّتَيْنِ، وَهَذَا فِي مَوْضِعٍ تُخْرِجُ الْأَرْضُ الرِّيعَ بِالْكِرَابِ مَرَّةً وَاحِدَةً وَالْمُدَّةُ سَنَةٌ وَاحِدَةٌ) قَالَ الشُّرَّاحُ: إنَّمَا قَيَّدَ بِهَذَيْنِ الْقَيْدَيْنِ: أَيْ بِالْكِرَابِ مَرَّةً وَبِكَوْنِ الْمُدَّةِ سَنَةً؛ لِأَنَّهُ إذَا شَرَطَ أَنْ يَكْرُبَهَا مَرَّتَيْنِ فِي مَوْضِعٍ لَا تُخْرِجُ الْأَرْضُ الرِّيعَ إلَّا بِالْكِرَابِ مَرَّتَيْنِ، أَوْ كَانَتْ تُخْرِجُهُ بِالْكِرَابِ مَرَّةً إلَّا أَنَّ مُدَّةَ الْإِجَارَةِ كَانَتْ ثَلَاثَ سِنِينَ لَا يَكُونُ هَذَا الشَّرْطُ مُفْسِدًا لِلْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ فِي الْأَوَّلِ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْعَقْدِ، وَفِي الثَّانِي لَيْسَ فِيهِ مَنْفَعَةٌ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ فَيَجُوزُ. وَعِبَارَةُ الْعِنَايَةِ: وَالثَّانِي
أَنَّ الْمَنَافِعَ بِمَنْزِلَةِ الْأَعْيَانِ حَتَّى جَازَتْ الْإِجَارَةُ بِأُجْرَةِ دَيْنٍ وَلَا يَصِيرُ دَيْنًا بِدَيْنٍ، وَلَنَا أَنَّ الْجِنْسَ بِانْفِرَادِهِ يُحَرِّمُ النَّسَاءَ عِنْدَنَا فَصَارَ كَبَيْعِ الْقُوهِيِّ بِالْقُوهِيِّ نَسِيئَةً وَإِلَى هَذَا أَشَارَ مُحَمَّدٌ،
لَيْسَ فِيهِ لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ مَنْفَعَةٌ لِعَدَمِ بَقَاءِ أَثَرِهِ بَعْدَ الْمُدَّةِ. وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: وَأَنْتَ خَبِيرٌ بِأَنَّ الثَّانِيَ أَيْضًا مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْعَقْدِ، وَقَوْلُهُ لَيْسَ فِيهِ لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ مَنْفَعَةٌ مَمْنُوعٌ، بَلْ فِيهِ نَفْعٌ لِلْمُسْتَأْجِرِ حَيْثُ لَا تَتَأَتَّى زِرَاعَةٌ إلَّا بِهِ انْتَهَى. أَقُولُ: لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ شَطْرَيْ كَلَامِهِ بِسَدِيدٍ. أَمَّا شَطْرُهُ الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُ إذَا كَانَتْ الْأَرْضُ تُخْرِجُ الرِّيعَ بِالْكِرَابِ مَرَّةً، وَلَكِنْ كَانَتْ مُدَّةُ الْإِجَارَةِ ثَلَاثَ سِنِينَ كَمَا هُوَ الْمُرَادُ بِالثَّانِي فَلَا شَكَّ أَنَّ الْكِرَابَ مَرَّتَيْنِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لَا يَكُونُ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْعَقْدِ لِلْقَطْعِ بِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْعَقْدِ فِيهَا بِالْكِرَابِ مَرَّةً وَاحِدَةً مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَى الْكِرَابِ مَرَّةً أُخْرَى، وَمَا حَصَلَ الْمَقْصُودُ بِالْعَقْدِ بِدُونِهِ كَيْفَ يَكُونُ مِنْ مُقْتَضَيَاتِهِ. وَأَمَّا شَطْرُهُ الثَّانِي فَلِأَنَّهُ إذَا كَانَتْ الْأَرْضُ تُخْرِجُ الرِّيعَ بِالْكِرَابِ مَرَّةً فَهَلْ يَقُولُ الْعَاقِلُ لَا تَتَأَتَّى الزِّرَاعَةُ هُنَاكَ إلَّا بِالْكِرَابِ مَرَّتَيْنِ حَتَّى يُتَوَهَّمَ النَّفْعُ لِلْمُسْتَأْجِرِ فِي اشْتِرَاطِ الْكِرَابِ مَرَّتَيْنِ فِي مَوْضِعٍ تُخْرِجُ الْأَرْضُ الرِّيعَ بِالْكِرَابِ مَرَّةً وَكَانَتْ الْمُدَّةُ ثَلَاثَ سِنِينَ.
وَمَنْ قَالَ مِنْ الشُّرَّاحِ لَيْسَ فِيهِ مَنْفَعَةٌ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ فَإِنَّمَا خَصَّ صَاحِبَ الْأَرْضِ بِالذِّكْرِ بِنَاءً عَلَى عَدَمِ احْتِمَالِ النَّفْعِ فِيهِ أَصْلًا لِلْمُسْتَأْجِرِ، لَا؛ لِأَنَّ لَهُ نَفْعًا فِيهِ، وَإِلَّا لَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ كَمَا لَا يَخْفَى (قَوْلُهُ: وَلَنَا أَنَّ الْجِنْسَ بِانْفِرَادِهِ يُحَرِّمُ النَّسَاءَ عِنْدَنَا فَصَارَ كَبَيْعِ الْقُوهِيِّ بِالْقُوهِيِّ نَسِيئَةً، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ مُحَمَّدٌ رحمه الله)، وَهُوَ مَا حُكِيَ أَنَّ ابْنَ سِمَاعَةَ كَتَبَ مِنْ بَلْخَ إلَى مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَقَالَ: لِمَ لَا يَجُوزُ إجَارَةُ سُكْنَى دَارٍ بِسُكْنَى دَارٍ؟ فَكَتَبَ مُحَمَّدٌ فِي جَوَابِهِ: إنَّك أَطَلْت الْفِكْرَةَ فَأَصَابَتْك الْحِيَرَةُ، وَجَالَسْت الْحِنَّائِيَّ فَكَانَتْ مِنْك زَلَّةٌ، أَمَا عَلِمْت أَنَّ السُّكْنَى بِالسُّكْنَى كَبَيْعِ الْقُوهِيِّ بِالْقُوهِيِّ نَسَاءٌ. وَالْحِنَّائِيُّ اسْمُ مُحَدِّثٍ كَانَ يُنْكِرُ الْخَوْضَ عَلَى ابْنِ سِمَاعَةَ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَيَقُولُ: لَا بُرْهَانَ لَكُمْ عَلَيْهَا كَذَا فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِفَخْرِ الْإِسْلَامِ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وَالْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ وَذُكِرَ فِي عَامَّةِ شُرُوحُ هَذَا الْكِتَابِ أَيْضًا.
قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: فِي هَذَا الطَّرِيقِ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ بَحْثٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ أَنَّ النَّسَاءَ مَا يَكُونُ عَنْ اشْتِرَاطِ أَجَلٍ فِي الْعَقْدِ وَتَأْخِيرُ الْمَنْفَعَةِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ لَيْسَ كَذَلِكَ. وَالثَّانِي أَنَّ النَّسَاءَ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ فِي مُبَادَلَةِ مَوْجُودٍ فِي الْحَالِ بِمَا لَيْسَ كَذَلِكَ، وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ لَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَيْسَ بِمَوْجُودٍ بَلْ يَحْدُثَانِ شَيْئًا فَشَيْئًا. وَأُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّهُمَا لَمَّا أَقْدَمَا عَلَى عَقْدٍ يَتَأَخَّرُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ فِيهِ وَيَحْدُثُ شَيْئًا فَشَيْئًا كَانَ ذَلِكَ أَبْلَغَ فِي وُجُوبِ التَّأْخِيرِ مِنْ الْمَشْرُوطِ فَأُلْحِقَ بِهِ دَلَالَةً احْتِيَاطًا عَنْ شُبْهَةِ الْحُرْمَةِ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ فِي النَّسَاءِ شُبْهَةَ الْحُرْمَةِ، فَبِالْإِلْحَاقِ بِهِ تَكُونُ شُبْهَةُ الشُّبْهَةِ، وَهِيَ لَيْسَتْ بِمُحَرَّمَةٍ. وَالْجَوَابُ أَنَّ الثَّابِتَ بِالدَّلَالَةِ كَالثَّابِتِ بِالْعِبَارَةِ، فَبِالْإِلْحَاقِ تَثْبُتُ الشُّبْهَةُ لَا شُبْهَتُهَا. وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ الَّذِي لَمْ تَصْحَبْهُ الْبَاءُ يُقَامُ فِيهِ الْعَيْنُ مَقَامَ الْمَنْفَعَةِ ضَرُورَةَ تُحُقِّقَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ دُونَ مَا تَصْحَبُهُ لِفِقْدَانِهَا فِيهِ وَلَزِمَ وُجُودُ أَحَدِهِمَا حُكْمًا وَعَدَمُ الْآخَرِ وَتَحَقُّقُ النَّسَاءِ. إلَى هُنَا كَلَامُهُ. أَقُولُ: فِي الْجَوَابِ عَنْ الْوَجْهِ الثَّانِي بَحْثٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ أَنَّهُ إذَا أُقِيمَ الْعَيْنُ مَقَامَ الْمَنْفَعَةِ فِي أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ دُونَ الطَّرَفِ الْآخَرِ وَاعْتُبِرَ ذَلِكَ الْعَيْنُ الْمَوْجُودُ فِي الْحَالِ مَعْقُودًا عَلَيْهِ فِي الْعَقْدِ لَا تَتَحَقَّقُ الْمُجَانَسَةُ بَيْنَ الْبَدَلَيْنِ، إذْ لَا مُجَانَسَةَ بَيْنَ الْعَيْنِ وَالْمَنْفَعَةِ فَلَا يُوجَدُ فِي الْعَقْدِ مَا يُحَرِّمُ النَّسَاءَ فَلَا يَتِمُّ الْمَطْلُوبُ.
وَالثَّانِي أَنَّ هَذَا الْجَوَابَ يُنَافِي الْجَوَابَ الْمَذْكُورَ عَنْ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ مُقْتَضَى هَذَا الْجَوَابِ أَنْ يَكُونَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ هُوَ الْعَيْنَ الْقَائِمَ مَقَامَ الْمَنْفَعَةِ، وَمُقْتَضَى ذَلِكَ الْجَوَابِ أَنْ يَكُونَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ فِيهِ هُوَ نَفْسَ الْمَنْفَعَةِ؛ لِأَنَّهَا الَّتِي تَتَأَخَّرُ وَتَحْدُثُ شَيْئًا فَشَيْئًا فَكَانَ بَيْنَهُمَا تَدَافُعٌ. فَإِنْ قُلْت: الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ فِيهِ حَقِيقَةً نَفْسُ الْمَنْفَعَةِ، وَحُكْمًا الْعَيْنُ الْقَائِمُ مَقَامَ الْمَنْفَعَةِ، فَمَدَارُ الْجَوَابِ عَنْ الْأَوَّلِ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَمَدَارُ الْجَوَابِ عَنْ الثَّانِي عَلَى الْحُكْمِ فَلَا تَنَافِيَ بَيْنَهُمَا. قُلْت: فِي جَعْلِ الْحُكْمُ الْأَوَّلِ مُرَتَّبًا عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَالثَّانِي مُرَتَّبًا عَلَى الْحُكْمِ دُونَ الْعَكْسِ تَحَكُّمٌ بَلْ احْتِيَالٌ لِفَسَادِ الْعَقْدِ، وَلَمْ يَجْعَلْ الْأَمْرَ بِالْعَكْسِ تَصْحِيحًا لِلْعَقْدِ حَتَّى يَكُونَ أَوْفَقَ بِقَاعِدَةِ الشَّرْعِ، وَهِيَ وُجُوبُ تَصْحِيحِ تَصَرُّفِ الْعَاقِلِ مَهْمَا أَمْكَنَ. ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَيَجُوزُ أَنْ نَسْلُكَ طَرِيقًا آخَر، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ الْمُدَّعَى أَنَّ هَذِهِ الْإِجَارَةَ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ إمَّا أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا دُونَ الْآخَرِ أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ لَزِمَ النَّسَاءُ، وَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَكَذَلِكَ؛ لِعَدَمِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ انْتَهَى.
أَقُولُ: فِيهِ أَيْضًا بَحْثٌ؛ لِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ بِالْمَعْقُودِ عَلَيْهِ الَّذِي رَدَّدَهُ مَا هُوَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ حَقِيقَةً، وَهُوَ الْمَنْفَعَةُ يَخْتَارُ الشِّقَّ الثَّانِيَ مِنْ التَّرْدِيدِ وَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَكَذَلِكَ لِعَدَمِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ غَيْرَ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ مَا هُوَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ حَقِيقَةً مَعْدُومٌ فِي كُلِّ عَقْدِ إجَارَةٍ وَلِهَذَا كَانَ الْقِيَاسُ يَأْبَى جَوَازَهُ، إلَّا أَنَّا جَوَّزْنَاهُ لِحَاجَةِ النَّاسِ إلَيْهِ فَأَقَمْنَا الدَّارَ مَثَلًا مَقَامَ الْمَنْفَعَةِ فِي حَقِّ إضَافَةِ الْعَقْدِ إلَيْهَا لِيَرْتَبِطَ الْإِيجَابُ بِالْقَبُولِ كَمَا مَرَّ فِي صَدْرِ كِتَابِ الْإِجَارَاتِ، فَلَمْ يَكُنْ عَدَمُ مَا هُوَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ حَقِيقَةً مُبْطِلًا لِعَقْدِ الْإِجَارَةِ قَطُّ، وَإِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ مَا هُوَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ حُكْمًا، وَهُوَ الْعَيْنُ الْقَائِمُ مَقَامَ الْمَنْفَعَةِ يَخْتَارُ الشِّقَّ الْأَوَّلَ مِنْ التَّرْدِيدِ وَيَكُونُ قَوْلُهُ: فَإِنْ كَانَ لَزِمَ النَّسَاءُ، وَهُوَ بَاطِلٌ غَيْرُ تَامٍّ؛ لِأَنَّ النَّسَاءَ إنَّمَا يَبْطُلُ عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ.
وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَجْعَلَ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ هُوَ الْعَيْنَ الْقَائِمَ مَقَامَ الْمَنْفَعَةِ لَا تَتَحَقَّقُ الْمُجَانَسَةُ بَيْنَ الْبَدَلَيْنِ كَمَا عَرَفْت فِيمَا مَرَّ آنِفًا. وَاعْتَرَضَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ عَلَى قَوْلِهِ فَإِنْ كَانَ لَزِمَ النَّسَاءُ، وَهُوَ بَاطِلٌ بِوَجْهٍ آخَرَ حَيْثُ قَالَ: هَذَا لَا يُتَّجَهُ إلْزَامًا عَلَى الْبَاحِثِ، فَإِنَّهُ يَخْتَارُ هَذَا الشِّقَّ وَيَمْنَعُ اسْتِلْزَامَهُ لِلْفَسَادِ مُسْتَنِدًا بِأَنَّ مِثْلَهُ مَوْجُودٌ فِي مُبَادَلَةِ السُّكْنَى بِالزِّرَاعَةِ مَثَلًا، وَهُوَ جَائِزٌ بِالْإِجْمَاعِ فَلْيُتَأَمَّلْ. أَقُولُ: هَذَا فِي غَايَةِ السُّقُوطِ، إذْ لَيْسَ فِي مُبَادَلَةِ السُّكْنَى بِالزِّرَاعَةِ مُبَادَلَةُ الشَّيْءِ بِجِنْسِهِ، وَاَلَّذِي يُحَرِّمُ النَّسَاءَ بِانْفِرَادِهِ إنَّمَا هُوَ الْجِنْسُ لَا غَيْرُ، فَلَا مَجَالَ؛ لَأَنْ يُقَالَ: لِأَنَّ مِثْلَ مَا قِيلَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ بُطْلَانِ النَّسَاءِ مَوْجُودٌ فِي مُبَادَلَةِ السُّكْنَى بِالزِّرَاعَةِ، وَهَذَا مَعَ ظُهُورِهِ جِدًّا كَيْفَ خَفِيَ عَلَى مِثْلِهِ، ثُمَّ إنَّ الْإِمَامَ
وَلِأَنَّ الْإِجَارَةَ جُوِّزَتْ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ لِلْحَاجَةِ وَلَا حَاجَةَ عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ، بِخِلَافِ مَا إذَا اخْتَلَفَ جِنْسُ الْمَنْفَعَةِ.
قَالَ: (وَإِذَا كَانَ الطَّعَامُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَاسْتَأْجَرَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ أَوْ حِمَارَ صَاحِبِهِ عَلَى أَنْ يَحْمِلَ نَصِيبَهُ فَحَمَلَ الطَّعَامَ كُلَّهُ فَلَا أَجْرَ لَهُ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَهُ الْمُسَمَّى؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ عَيْنٌ عِنْدَهُ وَبَيْعُ الْعَيْنِ شَائِعًا جَائِزٌ، وَصَارَ كَمَا إذَا اسْتَأْجَرَ دَارًا مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ لِيَضَعَ فِيهَا الطَّعَامَ أَوْ عَبْدًا مُشْتَرَكًا لِيَخِيطَ لَهُ الثِّيَابَ
الزَّيْلَعِيَّ اسْتَشْكَلَ أَصْلَ الدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ حَيْثُ قَالَ فِي التَّبْيِينِ: وَهَذَا مُشْكِلٌ عَلَى الْقَاعِدَةِ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا جَازَ، بِخِلَافِ الْجِنْسِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ بِالدَّيْنِ لَا يَجُوزُ، وَإِنْ كَانَ بِخِلَافِ الْجِنْسِ، وَلِأَنَّ الْعَقْدَ عَلَى الْمَنَافِعِ يَنْعَقِدُ سَاعَةً فَسَاعَةً عَلَى حَسَبِ حُدُوثِهَا عَلَى مَا بَيَّنَّا مِنْ الْقَاعِدَةِ، فَقَبْلَ وُجُودِهَا لَا يَنْعَقِدُ عَلَيْهَا الْعَقْدُ فَإِذَا وُجِدَتْ فَقَدْ اُسْتُوْفِيَتْ فَلَمْ يَبْقَ دَيْنًا فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ فِيهَا النَّسِيئَةُ، فَعُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّ الِاحْتِجَاجَ بِهِ غَيْرُ مُخَلِّصٍ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ.
أَقُولُ: كُلٌّ مِنْ وَجْهَيْ اسْتِشْكَالِهِ سَاقِطٌ. أَمَّا وَجْهُ الْأَوَّلِ فَلِأَنَّ الدَّلِيلَ الْمَذْكُورَ لَا يَقْتَضِي عَدَمَ جَوَازِ الْعَقْدِ بِخِلَافِ الْجِنْسِ أَيْضًا قَوْلُهُ: إنَّ الدَّيْنَ بِالدَّيْنِ لَا يَجُوزُ، وَإِنْ كَانَ بِخِلَافِ الْجِنْسِ مُسَلَّمٌ، وَلَكِنْ لَيْسَ فِي مُبَادَلَةِ الْمَنَافِعِ مُبَادَلَةُ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ لَيْسَتْ بِدَيْنٍ، إذْ الدَّيْنُ مَا ثَبَتَ فِي الذِّمَّةِ وَالْمَنَافِعُ لَا تَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ، صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي النِّهَايَةِ بَلْ عَامَّةِ الشُّرُوحِ. وَأَمَّا وَجْهُ الثَّانِي فَلِأَنَّ الِانْعِقَادَ فِي الْعَقْدِ عَلَى الْمَنَافِعِ، وَإِنْ حَصَلَ سَاعَةً فَسَاعَةً عَلَى حَسَبِ حُدُوثِ الْمَنَافِعِ إلَّا أَنَّ نَفْسَ الْعَقْدِ، وَهُوَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ الصَّادِرَانِ عَنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ مَعَ ارْتِبَاطِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ مَوْجُودٌ بِالْفِعْلِ، وَهُوَ عِلَّةٌ مَعْلُولُهَا الِانْعِقَادُ، وَتَأَخُّرُ الْمَعْلُومِ عَنْ الْعِلَلِ الشَّرْعِيَّةِ جَائِزٌ عَلَى مَا عُرِفَ، فَمَعْنَى انْعِقَادُ عَقْدِ الْإِجَارَةِ سَاعَةً فَسَاعَةً أَنَّ عَمَلَ الْعِلَّةِ وَنَفَاذَهَا فِي الْمَحَلِّ يَحْصُلُ سَاعَةً فَسَاعَةً، لَا أَنَّ نَفْسَ الْعَقْدِ يَكُونُ سَاعَةً فَسَاعَةً، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ الْإِيجَابَ وَالْقَبُولَ لَا يَصْدُرَانِ عَنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً، وَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا تَقَرَّرَ فِي صَدْرِ كِتَابِ الْإِجَارَةِ، فَقَبْلَ وُجُودِ الْمَنَافِعِ، وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ الِانْعِقَادُ إلَّا أَنَّهُ يَتَحَقَّقُ نَفْسُ الْعَقْدِ، فَحِينَ أَنْ يَتَحَقَّقَ نَفْسُ الْعَقْدِ، وَهُوَ أَنَّ صُدُورِهِ عَنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ تَتَحَقَّقُ النَّسِيئَةُ فِي الْمَنَافِعِ قَطْعًا فَيَبْطُلُ الْعَقْدُ فِيمَا إذَا كَانَ الْبَدَلَانِ مَنْفَعَةً، وَاتَّحَدَ جِنْسُهُمَا كَمَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ، وَيَبْطُلُ قَوْلُهُ: فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ فِيهَا النَّسِيئَةُ تَبَصَّرْ تَرْشُدْ.
(قَوْلُهُ: وَلِأَنَّ الْإِجَارَةَ جُوِّزَتْ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ لِلْحَاجَةِ، وَلَا حَاجَةَ عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ) قَالَ الشُّرَّاحُ: لِحُصُولِ مَقْصُودِهِ بِمَا هُوَ لَهُ مِنْ غَيْرِ مُبَادَلَةٍ انْتَهَى. أَقُولُ: لِلْخَصْمِ أَنْ يَقُولَ: لَا نُسَلِّمُ انْتِفَاءَ الْحَاجَةِ عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ، وَلَا حُصُولَ مَقْصُودِهِ بِمَا هُوَ لَهُ مِنْ غَيْرِ مُبَادَلَةٍ، إذْ لَا يَخْفَى أَنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ قَدْ يَحْتَاجُ إلَى سُكْنَى بَعْضِ الدُّورِ دُونَ بَعْضِهَا، وَلَا يَحْصُلُ مَقْصُودُهُ بِسُكْنَى بَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ لِاخْتِلَافِ الْمَقَاصِدِ بِاخْتِلَافِ الْأَمَاكِنِ بِحَسَبِ تَعَدُّدِ الْبِلَادِ بَلْ بِحَسَبِ تَعَدُّدِ الْمَحَالِّ مِنْ بَلَدٍ وَاحِدٍ فَكَمْ مِنْهُمْ يَحْتَاجُ إلَى السُّكْنَى فِي بَلَدٍ آخَرَ أَوْ فِي مَحَلَّةٍ مِنْهُ لِحُصُولِ حَوَائِجِهِ، وَمُهِمَّاتِهِ فِي ذَلِكَ، وَلَا يَحْتَاجُ إلَى السُّكْنَى فِي بَلَدٍ آخَرَ أَوْ فِي مَحَلَّةٍ أُخْرَى مِنْ الْبَلَدِ الْأَوَّلِ لِعَدَمِ حُصُولِ تِلْكَ الْحَوَائِجِ وَالْمُهِمَّاتِ هُنَاكَ. اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُقَالَ: هَذَا الْقَدْرُ مِنْ الْحَاجَةِ لَا يَكْفِي فِي تَرْكِ الْقِيَاسِ، وَكَأَنَّهُ أُشِيرَ إلَيْهِ فِي الْكَافِي وَغَيْرِهِ بِأَنْ يُقَالَ: وَالْحَاجَةُ لَا تَمُسُّ عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ، وَإِنَّمَا تَمُسُّ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ، وَالْكَمَالُ مِنْ بَابِ الْفُضُولِ، وَالْإِجَارَةُ مَا شُرِعَتْ لِابْتِغَاءِ الْفُضُولِ. انْتَهَى تَأَمَّلْ تَقِفْ.
(قَوْلُهُ: وَصَارَ كَمَا إذَا اسْتَأْجَرَ دَارًا مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ لِيَضَعَ فِيهَا الطَّعَامَ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: يَعْنِي الطَّعَامَ الْمُشْتَرَكَ، وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: وَعِنْدِي لَا حَاجَةَ فِي إتْمَامِ الْكَلَامِ إلَى جَعْلِ الطَّعَامِ
وَلَنَا أَنَّهُ اسْتَأْجَرَهُ لِعَمَلٍ لَا وُجُودَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْحَمْلَ فِعْلٌ حِسِّيٌّ لَا يُتَصَوَّرُ فِي الشَّائِعِ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ حُكْمِيٌّ، وَإِذَا لَمْ يُتَصَوَّرْ تَسْلِيمُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ لَا يَجِبُ الْأَجْرُ
مُشْتَرَكًا، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ لِلْمُسْتَأْجِرِ خَاصَّةً يَتَوَجَّهُ إلْزَامُ الشَّافِعِيِّ بِأَنَّ وَضْعَ الطَّعَامِ فِعْلٌ حِسِّيٌّ، وَالْمُسْتَأْجَرُ هُوَ النَّصِيبُ الشَّائِعُ مِنْ الدَّارِ وَلَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ الْفِعْلُ الْحِسِّيُّ انْتَهَى. أَقُولُ: مَا ذَكَرَهُ فِي بَيَانِ أَنَّهُ لَا حَاجَةَ فِي إتْمَامِ الْكَلَامِ إلَى جَعْلِ الطَّعَامِ مُشْتَرَكًا كَلَامٌ خَالٍ عَنْ التَّحْصِيلِ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الْإِلْزَامِ فِي قَوْلِهِ يَتَوَجَّهُ إلْزَامُ الشَّافِعِيِّ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُضَافًا إلَى مَفْعُولِهِ أَوْ إلَى فَاعِلِهِ، وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ لَا يَتِمُّ مَا ذَكَرَهُ.
أَمَّا عَلَى الْأَوَّلِ فَلِأَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ الْمُسْتَشْهَدَ بِهَا مِنْ قِبَلِ الشَّافِعِيِّ، وَهِيَ جَوَازُ اسْتِئْجَارِ الدَّارِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَ الْمُسْتَأْجِرِ وَغَيْرِهِ لِوَضْعِ الطَّعَامِ مِمَّا لَا مُخَالَفَةَ فِيهِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الشَّافِعِيِّ، بَلْ هِيَ مُجْمَعٌ عَلَيْهَا، وَلِهَذَا ذُكِرَتْ فِي دَلِيلِهِ بِطَرِيقِ الِاسْتِشْهَادِ عَلَيْنَا فَكَيْفَ يَتَوَجَّهُ إلْزَامُنَا الشَّافِعِيَّ بِمَا يَقْتَضِي خِلَافَ مَا تَقَرَّرَ عِنْدَنَا، وَهَلَّا يَصِيرُ ذَلِكَ إلْزَامًا عَلَيْنَا أَيْضًا. وَأَمَّا عَلَى الثَّانِي فَلِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ مَنَافِعُ الدَّارِ دُونَ الْعَمَلِ، وَتَسْلِيمُ مَنَافِعِ الدَّارِ يَتَحَقَّقُ بِدُونِ وَضْعِ الطَّعَامِ فَلَا ضَيْرَ هُنَاكَ فِي أَنْ لَا يَكُونَ النَّصِيبُ الشَّائِعُ مَحَلًّا لِلْفِعْلِ الْحِسِّيِّ، بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ، فَإِنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ هُنَا الْعَمَلُ الَّذِي هُوَ الْفِعْلُ الْحِسِّيُّ، وَهُوَ لَا يُتَصَوَّرُ فِي الشَّائِعِ فَلَمْ يُتَصَوَّرُ الْإِلْزَامُ عَلَيْنَا مِنْ الشَّافِعِيِّ أَصْلًا.
ثُمَّ أَقُولُ: الظَّاهِرُ عِنْدِي أَيْضًا أَنَّهُ لَا حَاجَةَ هَاهُنَا إلَى تَقْيِيدِ الطَّعَامِ بِكَوْنِهِ مُشْتَرَكًا وَلِهَذَا لَمْ يُقَيِّدْهُ بِذَلِكَ سَائِرُ الشُّرَّاحِ قَطُّ، لَكِنْ لَا لِمَا ذَكَرَهُ ذَلِكَ الْقَائِلُ، بَلْ؛ لِأَنَّ تَمْشِيَةَ اسْتِشْهَادِ الشَّافِعِيِّ ظَاهِرًا بِالْمَسْأَلَةِ الْمَذْكُورَةِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى تَقْيِيدِ الطَّعَامِ بِذَلِكَ بَلْ يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ اشْتِرَاكِ الدَّارِ بَيْنَ الْمُسْتَأْجِرِ وَغَيْرِهِ كَاشْتِرَاكِ الطَّعَامِ بَيْنَهُمَا فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي نَحْنُ فِيهَا، وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ الَّذِي يَأْتِي مِنْ قِبَلِنَا عَنْ اسْتِشْهَادِ الشَّافِعِيِّ بِتِلْكَ الْمَسْأَلَةِ لَا يَخْتَصُّ بِصُورَةِ تَقْيِيدِ الطَّعَامِ بِذَلِكَ بَلْ يَتِمُّ وَيَجْرِي عَلَى الْإِطْلَاقِ يَشْهَدُ بِذَلِكَ كُلِّهِ التَّأَمُّلُ الصَّادِقُ. (قَوْلُهُ: وَلَنَا أَنَّهُ اسْتَأْجَرَهُ لِعَمَلٍ لَا وُجُودَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْحَمْلَ فِعْلٌ حِسِّيٌّ لَا يُتَصَوَّرُ فِي الشَّائِعِ) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ: إذْ الْحَمْلُ يَقَعُ عَلَى مُعَيَّنٍ وَالشَّائِعُ لَيْسَ بِمُعَيَّنٍ.
وَقَالَ: فَإِنْ قِيلَ: إذَا حُمِلَ الْكُلُّ فَقَدْ حُمِلَ الْبَعْضُ لَا مَحَالَةَ فَيَجِبُ الْأَجْرُ. أُجِيبَ بِأَنَّ حَمْلَ الْكُلِّ حَمْلٌ مُعَيَّنٌ، وَهُوَ لَيْسَ بِمَعْقُودٍ عَلَيْهِ انْتَهَى. أَقُولُ: فِي الْجَوَابِ نَظَرٌ، وَهُوَ أَنَّ عَدَمَ كَوْنِ حَمْلِ الْكُلِّ مَعْقُودًا عَلَيْهِ لَا يُجْدِي شَيْئًا فِي دَفْعِ السُّؤَالِ؛ لِأَنَّ حَاصِلَ السُّؤَالِ أَنَّ حَمْلَ الطَّعَامِ وَاقِعٌ عَلَى مُعَيَّنٍ قَطْعًا فَكَانَ مَوْجُودًا، وَحَمْلُ الْكُلِّ لَا يُتَصَوَّرُ بِدُونِ حَمْلِ كُلُّ جُزْءٍ مِنْهُ فَقَدْ اسْتَلْزَمَ وُجُودُ حَمْلِ الْكُلِّ وُجُودَ حَمْلِ كُلِّ جُزْءٍ مِنْهُ لَا مَحَالَةَ، وَمِنْ جُمْلَةِ الْأَجْزَاءِ نَصِيبُ الْمُسْتَأْجِرِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَجِبَ الْأَجْرُ لِحَمْلِ ذَلِكَ الْجُزْءِ الَّذِي هُوَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ عَدَمَ كَوْنِ الْكُلِّ مَعْقُودًا عَلَيْهِ لَا يُفِيدُ شَيْئًا فِي دَفْعِ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَكُونُ مُفِيدًا لَوْ كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ السُّؤَالِ وُجُوبَ الْأَجْرِ بِحَمْلِ الْكُلِّ وَلَيْسَ فَلَيْسَ
وَلِأَنَّ مَا مِنْ جُزْءٍ يَحْمِلُهُ إلَّا وَهُوَ شَرِيكٌ فِيهِ فَيَكُونُ عَامِلًا لِنَفْسِهِ فَلَا يَتَحَقَّقُ التَّسْلِيمُ، بِخِلَافِ الدَّارِ الْمُشْتَرَكَةِ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ هُنَالِكَ الْمَنَافِعُ وَيَتَحَقَّقُ تَسْلِيمُهَا بِدُونِ وَضْعِ الطَّعَامِ، وَبِخِلَافِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ إنَّمَا هُوَ مِلْكُ نَصِيبِ صَاحِبِهِ وَأَنَّهُ أَمْرٌ حُكْمِيٌّ يُمْكِنُ إيقَاعُهُ فِي الشَّائِعِ.
(قَوْلُهُ: وَلِأَنَّ مَا مِنْ جُزْءٍ يَحْمِلُهُ إلَّا وَهُوَ شَرِيكُهُ فِيهِ فَيَكُونُ عَامِلًا لِنَفْسِهِ فَلَا يَتَحَقَّقُ التَّسْلِيمُ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَا يَخْلُو مِنْ أَنَّهُ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ فَقَطْ أَوْ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ وَلِغَيْرِهِ، وَالْأَوَّلُ مَمْنُوعٌ فَإِنَّهُ شَرِيكٌ، وَالثَّانِي حَقٌّ لَكِنَّ عَدَمَ اسْتِحْقَاقِهِ الْأَجْرَ عَلَى فِعْلِهِ لِنَفْسِهِ لَا يَسْتَلْزِمُ عَدَمَهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا وَقَعَ لِغَيْرِهِ.
وَالْجَوَابُ أَنَّهُ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ فَقَطْ؛ لِأَنَّ عَمَلَهُ لِنَفْسِهِ أَصْلٌ، وَمُوَافِقٌ لِلْقِيَاسِ، وَعَمَلَهُ لِغَيْرِهِ لَيْسَ بِأَصْلٍ بَلْ بِنَاءً عَلَى أَمْرٍ مُخَالِفٍ لِلْقِيَاسِ فِي الْحَاجَةِ، وَهِيَ تَنْدَفِعُ بِجَعْلِهِ عَامِلًا لِنَفْسِهِ لِحُصُولِ مَقْصُودِ الْمُسْتَأْجِرِ فَاعْتَبَرَ جِهَةَ كَوْنُهُ عَامِلًا لِنَفْسِهِ فَقَطْ فَلَمْ يَسْتَحِقَّ الْأَجْرَ. انْتَهَى كَلَامُهُ. أَقُولُ: فِي الْجَوَابِ شَيْءٌ، وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ، وَهِيَ تَنْدَفِعُ بِجَعْلِهِ عَامِلًا لِنَفْسِهِ لِحُصُولِ مَقْصُودِ الْمُسْتَأْجِرِ لَيْسَ بِتَامٍّ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا تَنْدَفِعُ بِجَعْلِهِ عَامِلًا لِنَفْسِهِ حَاجَةُ الْمُسْتَأْجِرِ دُونَ حَاجَةِ الْأَجِيرِ، فَإِنَّ لَهُ حَاجَةً إلَى الْأَجْرِ كَمَا أَنَّ لِلْمُسْتَأْجِرِ حَاجَةً إلَى الْمَنْفَعَةِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ جَعْلِهِ عَامِلًا لِنَفْسِهِ فَقَطْ لَا تُقْضَى حَاجَتُهُ، بَلْ إنَّمَا تُقْضَى حَاجَةُ الْمُسْتَأْجِرِ فَقَطْ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ لَمْ يُشْرَعْ لِحَاجَةِ الْمُسْتَأْجِرِ فَقَطْ، بَلْ إنَّمَا شُرِعَ لِحَاجَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، وَإِذَا لَمْ يَجِبْ لِلْأَجِيرِ الْعَامِلِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ أَجْرٌ لَمْ تَنْدَفِعْ الْحَاجَةُ الَّتِي شُرِعَ عَقْدُ الْإِجَارَةِ لَهَا فَلَمْ يَتِمَّ الْجَوَابُ.
وَزَيَّفَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ قَوْلَهُ: وَهِيَ تَنْدَفِعُ بِجَعْلِهِ عَامِلًا لِنَفْسِهِ لِحُصُولِ مَقْصُودِ الْمُسْتَأْجِرِ بِوَجْهٍ آخَرَ حَيْثُ قَالَ: كَيْفَ يَحْصُلُ مَقْصُودُهُ وَالْأَجِيرُ إذَا عَلِمَ أَنَّهُ لَا يُعْطِي لَهُ الْأَجْرَ لَا يَحْمِلُ نَصِيبَ الْمُسْتَأْجِرِ بَلْ يُقَاسِمُ وَيَحْمِلُ نَصِيبَ نَفْسِهِ انْتَهَى. أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ، إذْ لَا يَذْهَبُ عَلَيْك أَنَّ وَضْعَ مَسْأَلَتِنَا فِيمَا إذَا حُمِلَ الْكُلُّ، وَلَا شَكَّ فِي حُصُولِ مَقْصُودِ الْمُسْتَأْجِرِ فِيهِ، وَاحْتِمَالُ أَنْ لَا يَحْصُلَ مَقْصُودُهُ فِي صُورَةِ عَدَمِ حَمْلِ الْكُلِّ لَا يَقْدَحُ فِي الْكَلَامِ الْمُبْتَنَى عَلَى وَضْعِ الْمَسْأَلَةِ كَمَا لَا يَخْفَى (قَوْلُهُ: وَبِخِلَافِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ إنَّمَا هُوَ مِلْكُ نَصِيبُ صَاحِبِهِ، وَأَنَّهُ أَمْرٌ حُكْمِيٌّ يُمْكِنُ إيقَاعُهُ فِي الشَّائِعِ) هَذَا جَوَابٌ عَنْ قِيَاسِ الْخَصْمِ عَلَى اسْتِئْجَارِ الْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ لَكِنْ فِي ظَاهِرِهِ خَفَاءٌ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ تَمْلِيكُ الْمَنَافِعِ بِعِوَضٍ عَلَى مَا مَرَّ فِي صَدْرِ الْكِتَابِ، وَنَصِيبُ صَاحِبِهِ إنَّمَا هُوَ فِي عَيْنِ الْعَبْدِ
(وَمَنْ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ يَزْرَعُهَا أَوْ أَيَّ شَيْءٍ يَزْرَعُهَا فَالْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ)؛ لِأَنَّ الْأَرْضَ تُسْتَأْجَرُ لِلزِّرَاعَةِ وَلِغَيْرِهَا، وَكَذَا مَا يُزْرَعُ فِيهَا مُخْتَلِفٌ، فَمِنْهُ مَا يَضُرُّ بِالْأَرْضِ مَا لَا يَضُرُّ بِهَا غَيْرُهُ، فَلَمْ يَكُنْ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَعْلُومًا.
لَا فِي مَنَافِعِهِ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ مِمَّا لَا تَقْبَلُ الشَّرِكَةَ عَلَى مَا نَصُّوا عَلَيْهِ فَكَيْفَ يَكُونُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ فِي اسْتِئْجَارِ الْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ هُوَ مِلْكَ نَصِيبِ صَاحِبِهِ، وَإِنَّمَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ ذَلِكَ فِي الْبَيْعِ الَّذِي هُوَ تَمْلِيكُ الْعَيْنِ بِعِوَضٍ، وَعَنْ هَذَا ارْتَكَبَ الشُّرَّاحُ تَقْدِيرَ شَيْءٍ فِي حَلِّ هَذَا الْمَحَلِّ، فَقَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ إنَّمَا هُوَ مِلْكُ نَصِيبِ صَاحِبِهِ: أَيْ مَنْفَعَةُ مِلْكِ نَصِيبِ صَاحِبِهِ، فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ مَنْفَعَةً لَا فِعْلًا كَالْحَمْلِ صَحَّ إيقَاعُهُ فِي الشَّائِعِ كَمَا قُلْنَا فِي الدَّارِ الْمُشْتَرَكَةِ إنَّ الْعَقْدَ يَرِدُ عَلَى الْمَنْفَعَةِ. انْتَهَى.
أَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ قِيَاسَ الْخَصْمِ إنَّمَا هُوَ عَلَى اسْتِئْجَارِ الْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ لِيَخِيطَ لَهُ الثِّيَابَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْكِتَابِ لَا الِانْتِفَاعِ بِهِ مُطْلَقًا، فَيَكُونُ الْعَبْدُ الْمُشْتَرَكُ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ أَجِيرًا مُشْتَرَكًا، وَيَكُونُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ هُوَ عَمَلَ الْخِيَاطَةِ لَا الْمَنْفَعَةَ مُطْلَقًا، وَإِنَّمَا يَكُونُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ هُوَ الْمَنْفَعَةَ مُطْلَقًا لَوْ كَانَ الْعَبْدُ أَجِيرَ وَحْدٍ وَذَلِكَ لَيْسَ بِمَقِيسٍ عَلَيْهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ عَمَلَ الْخِيَاطَةِ فِعْلٌ حِسِّيٌّ كَالْحَمْلِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَصِحَّ إيقَاعُهُ فِي الشَّائِعِ كَالْحَمْلِ فَلَمْ يَتِمَّ الْفَرْقُ.
وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَقَوْلُهُ وَبِخِلَافِ الْعَبْدِ جَوَابٌ عَنْ قِيَاسِ الْخَصْمِ عَلَى اسْتِئْجَارِ الْعَبْدُ الْمُشْتَرَكِ، وَوَجْهُهُ أَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ لِلْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ يَمْلِكُ مَنْفَعَةَ نَصِيبِ صَاحِبِهِ، وَالْمِلْكُ أَمْرٌ حُكْمِيٌّ يُمْكِنُ إيقَاعُهُ فِي الشَّائِعِ كَمَا فِي الْبَيْعِ بِخِلَافِ الْحَمْلِ؛ لِأَنَّهُ فِعْلٌ حِسِّيٌّ انْتَهَى. أَقُولُ: فِيهِ أَيْضًا نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ مَدَارُ فَرْقِهِ عَلَى أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ فِي الْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ هُوَ الْمَنْفَعَةُ، وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ هُوَ الْفِعْلُ الْحِسِّيُّ كَمَا يُومِئُ إلَيْهِ إقْحَامُ الْمَنْفَعَةِ فِي قَوْلِهِ يَمْلِكُ مَنْفَعَةَ نَصِيبِ صَاحِبِهِ يُتَّجَهُ عَلَيْهِ مَا أَوْرَدْنَاهُ عَلَى تَقْرِيرِ صَاحِبِ النِّهَايَةِ مِنْ أَنَّ قِيَاسَ الْخَصْمِ عَلَى اسْتِئْجَارِ الْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ عَلَى فِعْلٍ حِسِّيٍّ هُوَ عَمَلُ الْخِيَاطَةِ لَا عَلَى اسْتِئْجَارِهِ عَلَى الْمَنْفَعَةِ فَلَا يَتِمُّ الْفَرْقُ، وَإِنْ كَانَ مَدَارُ فَرْقِهِ عَلَى تَحَقُّقِ مِلْكِ الْمَنْفَعَةِ فِي اسْتِئْجَارِ الْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ، وَكَوْنِ الْمِلْكِ مِمَّا يُمْكِنُ إيقَاعُهُ فِي الشَّائِعِ كَمَا يُشْعِرُ بِهِ قَوْلُهُ: يَمْلِكُ مَنْفَعَةَ نَصِيبِ صَاحِبِهِ بِتَقْدِيمِ الْمِلْكِ عَلَى الْمَنْفَعَةِ عَلَى عَكْسِ مَا فِي النِّهَايَةِ.
وَقَوْلُهُ وَالْمِلْكُ أَمْرٌ حُكْمِيٌّ يُمْكِنُ إيقَاعُهُ فِي الشَّائِعِ كَمَا فِي الْبَيْعِ يَرُدُّ عَلَيْهِ أَنَّ مِلْكَ الْمَنْفَعَةِ يَتَحَقَّقُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ تَمْلِيكُ الْمَنَافِعِ بِعِوَضٍ، فَفِي كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْإِجَارَةِ بِمِلْكِ الْمُسْتَأْجِرِ أَلْبَتَّةَ الْمَنْفَعَةَ الَّتِي وَقَعَ عَلَيْهَا الْعَقْدُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ مَا نَحْنُ فِيهِ أَيْضًا بِاعْتِبَارِ
(فَإِنْ زَرَعَهَا وَمَضَى الْأَجَلُ فَلَهُ الْمُسَمَّى) وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ. وَفِي الْقِيَاسِ: لَا يَجُوزُ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ؛ لِأَنَّهُ وَقَعَ فَاسِدًا فَلَا يَنْقَلِبُ جَائِزًا. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْجَهَالَةَ ارْتَفَعَتْ قَبْلَ تَمَامِ الْعَقْدِ فَيَنْقَلِبُ جَائِزًا، كَمَا إذَا ارْتَفَعَتْ فِي حَالَةِ الْعَقْدِ، وَصَارَ كَمَا إذَا أَسْقَطَ الْأَجَلَ الْمَجْهُولَ قَبْلَ مُضِيِّهِ وَالْخِيَارَ الزَّائِدَ فِي الْمُدَّةِ.
(وَمَنْ اسْتَأْجَرَ حِمَارًا إلَى بَغْدَادَ بِدِرْهَمٍ وَلَمْ يُسَمِّ مَا يَحْمِلُ عَلَيْهِ فَحَمَلَ مَا يَحْمِلُ النَّاسُ فَنَفَقَ فِي نِصْفِ الطَّرِيقِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ)؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ الْمُسْتَأْجَرَةَ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ، وَإِنْ كَانَتْ الْأُجْرَةُ فَاسِدَةً (فَإِنْ بَلَغَ بَغْدَادَ فَلَهُ الْأَجْرُ الْمُسَمَّى اسْتِحْسَانًا) عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى (وَإِنْ اخْتَصَمَا قَبْلَ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهِ) وَفِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى قَبْلَ أَنْ يَزْرَعَ (نُقِضَتْ الْإِجَارَةُ) دَفْعًا لِلْفَسَادِ إذْ الْفَسَادُ قَائِمٌ بَعْدُ.
إيقَاعِ مِلْكِ الْمَنْفَعَةِ فِي الْمُشَاعِ. لَا يُقَالُ: لَمْ يَتَحَقَّقْ مِلْكُ الْمَنْفَعَةِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ لِبُطْلَانِ الْإِجَارَةِ فِيهِ، بِخِلَافِ الْمَقِيسِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: بُطْلَانُ الْإِجَارَةِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ أَوَّلَ الْمَسْأَلَةِ وَقَدْ خَالَفَ فِيهَا الشَّافِعِيَّ.
وَاسْتَدَلَّ عَلَى جَوَازِ الْإِجَارَةِ فِيهِ أَيْضًا بِوُجُوهٍ: مِنْهَا قِيَاسُهُ عَلَى اسْتِئْجَارِ الْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ لِلْخِيَاطَةِ، فَبِنَاءُ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا عَلَى بُطْلَانِ الْإِجَارَةِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ مُصَادَرَةٌ عَلَى الْمَطْلُوبِ. وَقَالَ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ: قَوْلُهُ: وَبِخِلَافِ الْعَبْدِ جَوَابٌ عَمَّا قَاسَ عَلَيْهِ فِيمَا إذَا اسْتَأْجَرَ عَبْدًا مُشْتَرَكًا لِيَخِيطَ لَهُ الثِّيَابَ: يَعْنِي أَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ لِلْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ يَمْلِكُ مَنْفَعَةَ نَصِيبِ صَاحِبِهِ، وَالْمِلْكُ أَمْرٌ حُكْمِيٌّ فَيُمْكِنُ إثْبَاتُهُ حُكْمًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حِسًّا، بِخِلَافِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ حِسِّيٌّ لَا يُتَصَوَّرُ فِي الشَّائِعِ لِعَدَمِ الِامْتِيَازِ حِسًّا اهـ.
أَقُولُ: مَضْمُونُهُ مُوَافِقٌ لِمَا فِي الْعِنَايَةِ فَفِيهِ مَا فِيهِ فَتَأَمَّلْ فِي التَّوْجِيهِ.
(قَوْلُهُ: فَإِنْ زَرَعَهَا، وَمَضَى الْأَجَلُ فَلَهُ الْمُسَمَّى) قَالَ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ: فَإِنْ زَرَعَهَا بَعْدَ مَا فَسَدَ الْعَقْدُ لِلْجَهَالَةِ يَتَعَيَّنُ ذَلِكَ الزَّرْعُ مَعْقُودًا عَلَيْهِ وَيَنْقَلِبُ الْعَقْدُ إلَى الْجَوَازِ، وَيَجِبُ الْأَجْرُ الْمُسَمَّى إذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ قَبْلَ نَقْضِ الْقَاضِي الْعَقْدَ. اهـ كَلَامُهُ.
أَقُولُ: لَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ قَبْلَ نَقْضِ الْقَاضِي الْعَقْدَ، فَإِنَّ مَا ذَكَرَ مِنْ انْقِلَابِ الْعَقْدِ إلَى الْجَوَازِ وَوُجُوبِ الْأَجْرِ الْمُسَمَّى إنَّمَا يُتَصَوَّرُ إذَا كَانَ زَرَعَهَا قَبْلَ نَقْضِ الْقَاضِي الْعَقْدَ. وَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ قَبْلَ نَقْضِهِ الْعَقْدَ بَلْ كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَا مَجَالَ لِلِانْقِلَابِ إلَى الْجَوَازِ؛ لِأَنَّ الْمَنْقُوضَ لَا يَعُودُ إلَّا بِالتَّجْدِيدِ لَا مَحَالَةَ. وَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ إذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بَعْدَ نَقْضِ الْقَاضِي الْعَقْدَ، وَلَعَلَّ لَفْظَةَ " قَبْلَ " فِي قَوْلِهِ قَبْلَ نَقْضِ الْقَاضِي وَقَعَتْ سَهْوًا مِنْ النَّاسِخِ الْأَوَّلِ بَدَلَ لَفْظَةِ " بَعْدَ "، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِيمَا بَعْدُ: وَإِنْ زَرَعَهَا بَعْدَ نَقْضِ الْقَاضِي لَا يَعُودُ جَائِزًا (قَوْلُهُ: وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْجَهَالَةَ ارْتَفَعَتْ قَبْلَ تَمَامِ الْعَقْدِ فَيَنْقَلِبُ جَائِزًا) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي حَلِّ قَوْلِهِ قَبْلَ تَمَامِ الْعَقْدِ: بِنَقْضِ الْحَاكِمِ، وَتَبِعَهُ الشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ.
أَقُولُ: لَا يَخْفَى عَلَى الْفَطِنِ أَنَّ جَعْلَ الْعَقْدِ تَامًّا بِنَقْضِ الْحَاكِمِ مِمَّا لَا تَقْبَلُهُ الْفِطْرَةُ السَّلِيمَةُ، فَإِنَّ الْعَقْدَ يَنْفَسِخُ مِنْ الْأَصْلِ بِنَقْضِ الْحَاكِمِ إيَّاهُ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَتِمَّ بِهِ، وَتَمَامُ الشَّيْءِ مِنْ آثَارِ بَقَائِهِ وَاقْتِضَائِهِ. وَالْحَقُّ أَنَّ الْمُرَادَ
بَابُ ضَمَانِ الْأَجِيرِ
قَالَ: (الْأُجَرَاءُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَجِيرٌ مُشْتَرَكٌ، وَأَجِيرٌ خَاصٌّ.
بِقَوْلِهِ قَبْلَ تَمَامِ الْعَقْدِ قَبْلَ تَمَامِ مُدَّةِ الْعَقْدِ عَلَى مَا هُوَ الشَّائِعُ مِنْ حَذْفِ الْمُضَافِ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فِي وَضْعِ الْمَسْأَلَةِ فَإِنْ زَرَعَهَا، وَمَضَى الْأَجَلُ: وَيُرْشِدُ إلَيْهِ قَوْلُ صَاحِبِ الْكَافِي فِي التَّعْلِيلِ: وَلَنَا أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ صَارَ مَعْلُومًا قَبْلَ مُضِيِّ الْأَجَلِ فَيَرْتَفِعُ الْفَسَادُ اهـ. هَذَا وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ، وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ: فَإِنْ قِيلَ: وَإِنْ ارْتَفَعَتْ الْجَهَالَةُ بِمُجَرَّدِ الزِّرَاعَةِ لَكِنْ لَمْ يَرْتَفِعْ مَا هُوَ الْمُوجِبُ لِلْفَسَادِ، وَهُوَ احْتِمَالُ أَنْ يَزْرَعَ مَا يَضُرُّ بِالْأَرْضِ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مَا زَرَعَهَا مُضِرًّا بِالْأَرْضِ فَتَقَعُ بَيْنَهُمَا الْمُنَازَعَةُ بِسَبَبِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُوجِبَ لِلْفَسَادِ فِي ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ كَانَ احْتِمَالَ ذَلِكَ وَقَدْ تَحَقَّقَ ذَلِكَ. فَكَيْفَ يَنْقَلِبُ إلَى الْجَوَازِ بِتَحَقُّقِ شَيْءٍ احْتِمَالُهُ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ؛ وَلِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ إذَا كَانَ مَجْهُولًا لَا يَتَعَيَّنُ إلَّا بِتَعْيِينِهِمَا صَوْنًا عَنْ الْإِضْرَارِ بِأَحَدِهِمَا، وَلَا يَنْفَرِدُ أَحَدُهُمَا بِالتَّعْيِينِ؛ لِمَا أَنَّ الْعَقْدَ قَامَ بِهِمَا، فَكَذَا تَعْيِينُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ يَنْبَغِي أَنْ يَقُومَ بِهِمَا، ثُمَّ الِاسْتِعْمَالُ تَعْيِينٌ مِنْ أَحَدِهِمَا فَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ. وَهَذَا الْإِشْكَالُ هُوَ الَّذِي قَالَهُ صَاحِبُ الْفَوَائِدِ بِقَوْلِهِ وَلِي فِي هَذَا التَّعْلِيلِ إشْكَالٌ هَائِلٌ. ثُمَّ قَالَ: قُلْنَا الْأَصْلُ إجَارَةُ الْعَقْدِ عِنْدَ انْتِفَاءِ الْمَانِعِ؛ لِأَنَّ عُقُودَ الْإِنْسَانِ تَصِحُّ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، وَالْمَانِعُ الَّذِي فَسَدَ الْعَقْدُ بِاعْتِبَارِهِ تَوَقُّعُ الْمُنَازَعَةِ بَيْنَهُمَا فِي تَعْيِينِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَعِنْدَ اسْتِيفَاءِ أَحَدِ النَّوْعَيْنِ مِنْ الْمَنَافِعِ يَزُولُ هَذَا التَّوَقُّعُ فَيَجُوزُ هَذَا الْعَقْدُ. انْتَهَى مَا فِي النِّهَايَةِ، وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ.
أَقُولُ: فِي الْجَوَابِ بَحْثٌ؛ لِأَنَّ تَوَقُّعَ الْمُنَازَعَةِ بَيْنَهُمَا إنَّمَا يَزُولُ عِنْدَ اسْتِيفَاءِ أَحَدِ النَّوْعَيْنِ مِنْ الْمَنَافِعِ إذَا لَمْ يَنْفَرِدْ أَحَدُهُمَا بِاسْتِيفَاءِ ذَلِكَ. وَأَمَّا إذَا انْفَرَدَ أَحَدُهُمَا بِهِ فَلَا يَزُولُ ذَلِكَ أَصْلًا، وَهَذَا مِمَّا لَا سُتْرَةَ بِهِ، فَالْكَلَامُ الْفَيْصَلُ أَنَّهُ إنْ اعْتَبَرَ فِي مَوْضِعِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عِلْمَ رَبِّ الْأَرْضِ بِاسْتِعْمَالِ الْمُسْتَأْجِرِ فِي الْأَرْضِ وَرِضَاهُ بِمَا عَمِلَ فِيهَا فَلَا يُتَّجَهُ الْإِشْكَالُ الْمَذْكُورُ رَأْسًا، وَإِنْ لَمْ يَعْتَبِرْ فِيهِ ذَلِكَ بَلْ انْقَلَبَ الْعَقْدُ جَائِزًا بِمُجَرَّدِ اسْتِعْمَالِ الْمُسْتَأْجِرِ فِيهَا، وَمَضَى الْأَجَلُ، سَوَاءٌ عَلِمَ رَبُّ الْأَرْضِ بِذَلِكَ وَرَضِيَ بِهِ أَوْ لَا، فَالْإِشْكَالُ الْمَذْكُورُ وَارِدٌ جِدًّا غَيْرُ مُنْدَفِعٍ بِالْجَوَابِ الْمَزْبُورِ قَطْعًا، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.
(بَابُ ضَمَانِ الْأَجِيرِ)
لَمَّا فَرَغَ مِنْ ذِكْرِ أَنْوَاعِ الْإِجَارَةِ صَحِيحِهَا وَفَاسِدِهَا شَرَعَ فِي بَيَانِ الضَّمَانِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْعَوَارِضِ الَّتِي تَتَرَتَّبُ عَلَى عَقْدِ الْإِجَارَةِ فَتَحْتَاجُ إلَى بَيَانِهِ، كَذَا فِي غَايَةِ الْبَيَانِ، وَيَقْرُبُ مِنْهُ مَا ذُكِرَ فِي مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ فَقَالَ: لَمَّا ذَكَرَ أَنْوَاعَ الْإِجَارَةِ الصَّحِيحَةِ
فَالْمُشْتَرَكُ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ حَتَّى يَعْمَلَ كَالصَّبَّاغِ وَالْقَصَّارِ)؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ إذَا كَانَ هُوَ الْعَمَلَ أَوْ أَثَرَهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ لِلْعَامَّةِ؛ لِأَنَّ مَنَافِعَهُ لَمْ تَصِرْ مُسْتَحَقَّةً لِوَاحِدٍ،
وَالْفَاسِدَةِ شَرَعَ فِي ضَمَانِ الْأَجِيرِ. اهـ. وَكُلٌّ مِنْ هَذَيْنِ التَّقْرِيرَيْنِ جَيِّدٌ. وَأَمَّا صَاحِبُ النِّهَايَةِ فَقَالَ: لَمَّا ذَكَرَ أَبْوَابَ عُقُودِ الْإِجَارَةِ صَحِيحِهَا وَفَاسِدِهَا سَاقَتْ النَّوْبَةُ إلَى ذِكْرِ أَحْكَامٍ بَعْدَ عَقْدِ الْإِجَارَةِ، وَهِيَ الضَّمَانُ فَذَكَرَهَا فِي هَذَا الْبَابِ اهـ. وَيَقْرُبُ مِنْهُ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ حَيْثُ قَالَ: لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ أَنْوَاعِ الْإِجَارَةِ شَرَعَ فِي بَيَانِ أَحْكَامٍ بَعْدَ الْإِجَارَةِ، وَهِيَ الضَّمَانُ اهـ. وَلَا يَخْفَى عَلَى ذِي فِطْنَةٍ مَا فِي تَقْرِيرِهِمَا مِنْ الرَّكَاكَةِ حَيْثُ فَسَّرَا الْجَمْعَ بِالْمُفْرَدِ بِقَوْلِهِمَا، وَهِيَ الضَّمَانُ انْتَهَى. فَإِنَّ ضَمِيرَ هِيَ رَاجِعٌ إلَى الْأَحْكَامِ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ الضَّمَانَ حُكْمٌ وَاحِدٌ لَا أَحْكَامٌ. وَلَمَّا ذَاقَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ هَذِهِ الْبَشَاعَةَ تَوَجَّهَ إلَى تَوْجِيهِ ذَلِكَ فَقَالَ: إطْلَاقُ الْأَحْكَامِ عَلَى الضَّمَانِ إمَّا بِاعْتِبَارِ كَثْرَةِ أَفْرَادِهِ أَوْ الْمُرَادِ، وَهِيَ الضَّمَانُ وُجُودًا وَعَدَمًا اهـ. أَقُولُ: تَوْجِيهُ الثَّانِي لَيْسَ بِوَجِيهٍ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ وُجُودًا وَعَدَمًا أَيْضًا لَا يَصْلُحُ تَفْسِيرًا لِلْأَحْكَامِ، فَإِنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ ثَلَاثَةٌ عَلَى الْقَوْلِ الصَّحِيحِ، وَالضَّمَانُ بِاعْتِبَارِ وُجُودِهِ وَعَدَمِهِ إنَّمَا يَصِيرُ اثْنَيْنِ لَا غَيْرُ. ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ قَالَ: وَالْأَجِيرُ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مُفَاعِلٍ مِنْ بَابِ آجَرَ، وَاسْمُ الْفَاعِلِ مِنْهُ مُؤَجِّرٌ لَا مُؤَاجِرٌ. اهـ. أَقُولُ: فِيهِ إشْكَالٌ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ وَاسْمُ الْفَاعِلِ مِنْهُ مُؤَجِّرٌ لَا مُؤَاجِرٌ يُرَى مُنَاقِضًا لِقَوْلِهِ وَالْأَجِيرُ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مُفَاعِلٍ مِنْ بَابِ آجَرَ، إذْ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ اسْمُ الْفَاعِلِ مِنْهُ مُؤَجِّرًا لَا مُؤَاجِرًا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْأَجِيرُ فَعِيلًا بِمَعْنَى مُفْعِلٍ لَا بِمَعْنَى مُفَاعِلٍ فَتَأَمَّلْ.
وَرَدَّ عَلَيْهِ الشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ بِوَجْهٍ آخَرَ حَيْثُ قَالَ: قُلْت هَذَا غَلَطٌ؛ لِأَنَّ فَعِيلًا بِمَعْنَى فَاعِلٍ لَا يَكُونُ إلَّا مِنْ الثُّلَاثِيِّ، وَكَيْفَ يَقُولُ بِمَعْنَى مُفَاعِلٍ مِنْ بَابِ آجَرَ: يَعْنِي بِهِ مِنْ الْمَزِيدِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ وَاسْمُ الْفَاعِلِ مِنْهُ مُؤَجِّرٌ. اهـ كَلَامُهُ.
أَقُولُ: بَلْ الْغَلَطُ إنَّمَا هُوَ فِي كَلَامِ نَفْسِهِ، فَإِنَّ الْفَعِيلَ بِمَعْنَى الْفَاعِلِ كَمَا يَكُونُ مِنْ الثُّلَاثِيِّ يَكُونُ مِنْ الْمَزِيدِ أَيْضًا، وَعَنْ هَذَا قَالَ الْمُحَقِّقُ الرَّضِيُّ فِي شَرْحِ الْكَافِيَةِ: وَقَدْ جَاءَ فَعِيلٌ مُبَالَغَةَ مُفْعِلٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {عَذَابٌ أَلِيمٌ} أَيْ مُؤْلِمٌ عَلَى رَأْيٍ. وَقَالَ: وَأَمَّا الْفَعِيلُ بِمَعْنَى الْمُفَاعِلِ كَالْجَلِيسِ وَالْحَسِيبِ فَلَيْسَ لِلْمُبَالَغَةِ فَلَا يَعْمَلُ اتِّفَاقًا اهـ. وَقَالَ الْإِمَامُ الْمُطَرِّزِيُّ فِي الْمُغْرِبِ: وَأَمَّا الْأَجِيرُ فَهُوَ مِثْلُ الْجَلِيسِ وَالنَّدِيمِ فِي أَنَّهُ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مُفَاعِلٍ. اهـ. وَهَذَا كُلُّهُ صَرِيحٌ فِي خِلَافِ مَا زَعَمَ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَذُقْ شَيْئًا مِنْ الْعَرَبِيَّةِ.
(قَوْلُهُ: فَالْمُشْتَرَكُ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ حَتَّى يَعْمَلَ كَالصَّبَّاغِ وَالْقَصَّارِ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَالسُّؤَالُ مِنْ وَجْهِ تَقْدِيمِ الْمُشْتَرَكِ عَلَى الْخَاصِّ دَوْرِيٌّ اهـ. يَعْنِي أَنَّ السُّؤَالَ
فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ يُسَمَّى مُشْتَرَكًا.
قَالَ (وَالْمَتَاعُ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ إنْ هَلَكَ لَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ، وَيَضْمَنُهُ عِنْدَهُمَا إلَّا مِنْ شَيْءٍ غَالِبٍ كَالْحَرِيقِ الْغَالِبِ وَالْعَدُوِّ الْمُكَابِرِ) لَهُمَا مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ رضي الله عنهما أَنَّهُمَا كَانَا يُضَمِّنَانِ الْأَجِيرَ الْمُشْتَرَكَ؛ وَلِأَنَّ الْحِفْظَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ إذْ لَا يُمْكِنُهُ الْعَمَلُ إلَّا بِهِ، فَإِذَا هَلَكَ بِسَبَبٍ يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ كَالْغَصْبِ وَالسَّرِقَةِ كَانَ التَّقْصِيرُ مِنْ جِهَتِهِ فَيَضْمَنُهُ كَالْوَدِيعَةِ إذَا كَانَتْ بِأَجْرٍ، بِخِلَافِ مَا لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ كَالْمَوْتِ حَتْفَ أَنْفِهِ وَالْحَرِيقِ الْغَالِبِ وَغَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا تَقْصِيرَ مِنْ جِهَتِهِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّ الْعَيْنَ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ حَصَلَ بِإِذْنِهِ، وَلِهَذَا لَوْ هَلَكَ بِسَبَبٍ لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ لَمْ يَضْمَنْهُ، وَلَوْ كَانَ مَضْمُونًا لَضَمِنَهُ كَمَا فِي الْمَغْصُوبِ، وَالْحِفْظُ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ تَبَعًا لَا مَقْصُودًا وَلِهَذَا لَا يُقَابِلُهُ الْأَجْرُ، بِخِلَافِ الْمُودَعِ بِأَجْرٍ؛ لِأَنَّ الْحِفْظَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ مَقْصُودًا حَتَّى يُقَابِلَهُ الْأَجْرُ.
قَالَ: (وَمَا تَلِفَ بِعَمَلِهِ، فَتَخْرِيقُ الثَّوْبِ مِنْ دَقِّهِ وَزَلَقُ الْحَمَّالِ وَانْقِطَاعُ الْحَبْلِ الَّذِي يَشُدُّ بِهِ الْمُكَارِي الْحِمْلَ
عَنْ وَجْهِ التَّقْدِيمِ يَتَوَجَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ الْعَكْسِ أَيْضًا: أَيْ عَلَى تَقْدِيرِ تَقْدِيمِ الْخَاصِّ عَلَى الْمُشْتَرَكِ فَلَا مُرَجِّحَ سِوَى الِاخْتِيَارِ. وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: يَعْنِي لَوْ قَدَّمَ الْخَاصَّ لَتَوَجَّهَ السُّؤَالُ عَنْ سَبَبِ تَقْدِيمِهِ عَلَى الْمُشْتَرَكِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ لِتَقْدِيمِ كُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى الْآخَرِ وَجْهًا. أَمَّا الْمُشْتَرَكُ فَلِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْعَامِّ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْخَاصِّ مَعَ كَثْرَةِ مَبَاحِثِهِ.
وَأَمَّا الْخَاصُّ فَلِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُفْرَدِ مِنْ الْمُرَكَّبِ، لَكِنَّ تَقْدِيمَ الْمُشْتَرَكِ هَاهُنَا؛ لِأَنَّ الْبَابَ بَابُ ضَمَانِ الْأَجِيرِ وَذَلِكَ فِي الْمُشْتَرَكِ فَتَأَمَّلْ. فَإِنَّ بِمَا ذَكَرَهُ الشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ لَمْ يَظْهَرْ وَجْهُ اخْتِيَارِ تَقْدِيمِ
وَغَرَقُ السَّفِينَةِ مِنْ مَدِّهِ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ). وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِالْفِعْلِ مُطْلَقًا فَيَنْتَظِمُهُ بِنَوْعَيْهِ الْمَعِيبِ وَالسَّلِيمِ وَصَارَ كَأَجِيرِ الْوَحْدِ وَمُعِينِ الْقَصَّارِ.
الْمُشْتَرَكِ كَمَا لَا يَخْفَى وَكَانَ لَا بُدَّ مِنْهُ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ. أَقُولُ: مَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ لَكِنَّ تَقْدِيمَ الْمُشْتَرَكِ هُنَا إلَخْ لَيْسَ بِتَامٍّ. أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ مَعْنَى بَابِ ضَمَانِ الْأَجِيرِ بَابُ ضَمَانِ الْأَجِيرِ إثْبَاتًا وَنَفْيًا كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ نَفْسُهُ أَيْضًا فِيمَا قَبْلُ بِقَوْلِهِ أَوْ الْمُرَادِ، وَهِيَ الضَّمَانُ وُجُودًا وَعَدَمًا، وَإِلَّا: أَيْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعْنَاهُ ذَلِكَ بَلْ كَانَ مَعْنَاهُ بَابَ إثْبَاتِ الضَّمَانِ لَزِمَ أَنْ لَا يَصِحَّ عُنْوَانُ الْبَابِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَصْلًا، إذْ لَا ضَمَانَ عِنْدَهُ عَلَى أَحَدٍ مِنْ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ وَالْأَجِيرِ الْخَاصِّ، وَأَنْ لَا يَصِحَّ ذَلِكَ عِنْدَهُمَا أَيْضًا إلَّا فِي بَعْضِ صُوَرٍ مِنْ مَسَائِلِ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ وَحْدَهُ كَمَا سَتُحِيطُ بِهِ خَبَرًا، وَهَذَا مِمَّا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُرْتَكَبَ، فَإِذَا كَانَ مَعْنَى عُنْوَانِ الْبَابِ مَا يَعُمُّ إثْبَاتَ الضَّمَانِ وَنَفْيَهُ كَانَ نِسْبَتُهُ إلَى الْمُشْتَرَكِ وَالْخَاصِّ عَلَى السَّوَاءِ فَلَمْ يَتِمَّ قَوْلُهُ: وَذَلِكَ فِي الْمُشْتَرَكِ.
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ الطَّرَفَيْنِ إذَا كَانَا مُتَسَاوِيَيْنِ لَمْ يَحْتَجْ هُنَاكَ إلَى وَجْهٍ يُرَجِّحُ اخْتِيَارَ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ، بَلْ لَمْ يُتَصَوَّرُ هُنَاكَ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَكُونُ مُرَجِّحُ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ هُنَالِكَ نَفْسَ الِاخْتِيَارِ لَا غَيْرُ كَمَا أَشَرْنَا إلَيْهِ فِي تَقْرِيرِ مُرَادِ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْعُلُومِ الْعَقْلِيَّةِ أَنَّ تَرْجِيحَ أَحَدُ الْمُتَسَاوِيَيْنِ بِالِاخْتِيَارِ جَائِزٌ، وَإِنَّمَا الْمُحَالُ تَرْجِيحُ أَحَدِهِمَا مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ فَظَهَرَ أَنَّ قَوْلَهُ فَإِنَّ بِمَا ذَكَرَهُ الشَّارِحُ لَمْ يَظْهَرْ وَجْهُ اخْتِيَارِ تَقْدِيمِ الْمُشْتَرَكِ مِمَّا لَا يَضُرُّ بِتَمَامِ مَا ذَكَرَهُ، وَقَوْلُهُ وَكَانَ لَا بُدَّ مِنْهُ مِمَّا لَا صِحَّةَ لَهُ.
نَعَمْ يُمْكِنُ مَنْعُ تَسَاوِي الطَّرَفَيْنِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ، لَكِنَّهُ أَمْرٌ آخَرُ مُغَايِرٌ لِمَا قَالَهُ فَتَدَبَّرْ. وَقَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: فَإِنْ قُلْت: هَذَا يَعْنِي تَعْرِيفَ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ بِقَوْلِهِ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ حَتَّى يَعْمَلَ تَعْرِيفٌ يَئُولُ عَاقِبَتُهُ إلَى الدَّوْرِ؛ لِأَنَّ هَذَا حُكْمٌ لَا يَعْرِفُهُ إلَّا مَنْ يَعْرِفُ الْأَجِيرَ الْمُشْتَرَكَ، ثُمَّ لَوْ كَانَ عَارِفًا بِالْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ لَا يَحْتَاجُ إلَى هَذَا التَّعْرِيفِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ عَارِفًا بِهِ قَبْلَ هَذَا لَا يَحْصُلُ لَهُ تَعْرِيفُ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى السُّؤَالِ عَمَّنْ لَا يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ حَتَّى يَعْمَلَ بِمَنْ هُوَ، فَلَا بُدَّ لِلْمُعَرِّفِ أَنْ يَقُولَ هُوَ الْأَجِيرُ الْمُشْتَرَكُ، وَهُوَ عَيْنُ الدَّوْرِ.
قُلْت: نَعَمْ كَذَلِكَ، إلَّا أَنَّ هَذَا تَعْرِيفٌ لِلْخَفِيِّ بِمَا هُوَ أَشْهَرُ مِنْهُ فِي فُهُومُ الْمُتَعَلِّمِينَ، أَوْ هُوَ تَعْرِيفٌ لِمَا لَمْ يَذْكُرْهُ بِمَا قَدْ سَبَقَ ذِكْرُهُ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ قَبْلَ هَذَا اسْتِحْقَاقَ الْأَجِيرِ بِالْعَمَلِ بِقَوْلِهِ أَوْ بِاسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فِي بَابِ الْأَجْرِ مَتَى يَسْتَحِقُّ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ: وَمَا عَرَفْته أَنَّ الْأَجِيرَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ بِاسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَهُوَ الْأَجِيرُ الْمُشْتَرَكُ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ. أَقُولُ: فِي الْجَوَابِ خَلَلٌ. أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ قَوْلَهُ فِي أَوَّلِ الْجَوَابِ نَعَمْ كَذَلِكَ اعْتِرَافٌ بِلُزُومِ الدَّوْرِ، وَمَا يَسْتَلْزِمُ الدَّوْرَ يَتَعَيَّنُ فَسَادُهُ وَلَا يُمْكِنُ إصْلَاحُهُ، فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ إلَّا أَنَّ هَذَا تَعْرِيفٌ لِلْخَفِيِّ إلَخْ. وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ كَوْنَ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ خَفِيًّا.
وَمَا ذَكَرَ فِي التَّعْرِيفِ أَشْهَرُ مِنْهُ مَمْنُوعٌ، كَيْفَ وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا صَحَّ الْجَوَابُ إذَا سُئِلَ عَمَّنْ لَا يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ حَتَّى يَعْمَلَ بِمَنْ هُوَ بِأَنَّهُ هُوَ الْأَجِيرُ الْمُشْتَرَكُ. وَأَمَّا ثَالِثًا فَلِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِي بَابِ الْأَجْرِ مَتَى يُسْتَحَقُّ بِقَوْلِهِ أَوْ بِاسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِالْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ بَلْ هُوَ حُكْمٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ وَالْأَجِيرِ الْخَاصِّ فَإِنَّهُمْ حَصَرُوا هُنَاكَ سَبَبَ اسْتِحْقَاقِ الْأَجِيرِ مُطْلَقًا لِلْأُجْرَةِ فِي مَعَانٍ ثَلَاثَةٍ هِيَ: شَرْطُ التَّعْجِيلِ، وَالتَّعْجِيلُ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ، وَاسْتِيفَاءُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ هَذَا الْمَعْنَى الثَّالِثُ مُخْتَصًّا بِالْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ لَزِمَ أَنْ لَا يَسْتَحِقَّ الْأَجِيرُ الْخَاصُّ الْأُجْرَةَ أَصْلًا فِيمَا إذَا لَمْ يَشْتَرِطْ التَّعْجِيلَ وَلَمْ يُعَجِّلْ وَهُوَ ظَاهِرُ الْبُطْلَانِ، وَإِذَا كَانَ الْمَذْكُورُ فِيمَا سَبَقَ بِقَوْلِهِ أَوْ بِاسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ حُكْمًا عَامًّا لِلْأَجِيرِ الْخَاصِّ أَيْضًا فَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ فِي تَوْجِيهِ مَعْنَى تَعْرِيفِ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ هَاهُنَا بِمَا ذَكَرَ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ: وَمَا عَرَفْته أَنَّ الْأَجِيرَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ بِاسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَهُوَ الْأَجِيرُ الْمُشْتَرَكُ. ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ الْعِنَايَةِ ذَكَرَ خُلَاصَةَ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ الْمَذْكُورَيْنِ فِي النِّهَايَةِ بِعِبَارَةٍ أُخْرَى حَيْثُ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
قَالَ: قِيلَ وَتَعْرِيفُ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ بِقَوْلِهِ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ حَتَّى يَعْمَلَ أَيْضًا تَعْرِيفٌ دَوْرِيٌّ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ قَبْلَ الْعَمَلِ حَتَّى يَعْلَمَ الْأَجِيرَ الْمُشْتَرَكَ فَتَكُونُ مَعْرِفَةُ الْمُعَرِّفِ مَوْقُوفَةً عَلَى مَعْرِفَةِ الْمُعَرَّفِ، وَهُوَ الدَّوْرُ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ قَدْ عُلِمَ مِمَّا سَبَقَ فِي بَابِ الْأَجْرِ مَتَى يُسْتَحَقُّ أَنَّ بَعْضَ الْأُجَرَاءِ يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ بِالْعَمَلِ فَلَمْ تَتَوَقَّفْ مَعْرِفَتُهُ عَلَى مَعْرِفَةِ الْمُعَرَّفِ. اهـ. أَقُولُ: أَصْلَحَ الْجَوَابَ فِي الْجُمْلَةِ كَمَا تَرَى، وَلَكِنْ فِيهِ أَيْضًا خَلَلٌ؛ لِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ بِمَا عُلِمَ مِمَّا سَبَقَ فِي ذَلِكَ الْبَابِ مَا ذَكَرَ هُنَاكَ بِقَوْلِهِ أَوْ بِاسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي النِّهَايَةِ. يَرُدُّ عَلَيْهِ مَا ذَكَرْنَاهُ فِيمَا مَرَّ آنِفًا مِنْ أَنَّ ذَلِكَ الْحُكْمَ عَامٌّ لِلْأَجِيرِ الْخَاصِّ أَيْضًا فَكَيْفَ يَتِمُّ تَعْرِيفُ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ بِذَلِكَ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ مَا ذَكَرَ هُنَاكَ بِقَوْلِهِ وَلَيْسَ لِلْقَصَّارِ وَالْخَيَّاطِ أَنْ يُطَالِبَ بِالْأُجْرَةِ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ الْعَمَلِ كَمَا يُشْعِرُ بِهِ قَوْلُهُ: فِي تَقْرِيرِ هَذَا الْجَوَابِ: قَدْ عُلِمَ مِمَّا سَبَقَ أَنَّ بَعْضَ الْأُجَرَاءِ يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ بِالْعَمَلِ حَيْثُ زَادَ فِيهِ الْبَعْضُ يُتَّجَهُ عَلَيْهِ أَنَّ الْمَعْلُومَ مِنْ ذَلِكَ حُكْمُ مَادَّةٍ مَخْصُوصَةٍ فَكَيْفَ يَحْصُلُ بِذَلِكَ مَعْرِفَةُ مُطْلَقِ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ حَتَّى يَعْمَلَ حَتَّى يَصْلُحَ تَعْرِيفًا لِمُطْلَقِ الْأَجْرِ الْمُشْتَرَكِ فَتَأَمَّلْ. وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: وَأَنْتَ خَبِيرٌ بِأَنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ إنَّمَا هُوَ الْعَمَلُ أَوْ أَثَرُهُ مُتَكَفِّلٌ لِدَفْعِ هَذَا السُّؤَالِ، فَإِنَّهُ يُعْلَمُ بِهِ تَعْرِيفَ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّهَا حَتَّى يَعْمَلَ بِمَنْ اُسْتُؤْجِرَ عَلَى الْعَمَلِ أَوْ أَثَرِهِ فَلَا يَلْزَمُ الدَّوْرَ، وَلَا حَاجَةَ إلَى الْحَوَالَةِ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ تَعْرِيفَ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ بِمَنْ لَا يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ حَتَّى يَعْمَلَ مِمَّا اخْتَارَهُ الْقُدُورِيُّ، وَذَكَرَهُ فِي مُخْتَصَرِهِ وَلَمْ يَذْكُرْ مَعَهُ شَيْئًا آخَرَ يَحْصُلُ بِهِ مَعْرِفَةُ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّهَا حَتَّى يَعْمَلَ، وَالْمُصَنِّفُ أَيْضًا ذَكَرَهُ وَحْدَهُ فِي الْبِدَايَةِ، وَإِنَّمَا زَادَ عَلَيْهِ التَّعْلِيلَ الْمَذْكُورَ فِي الْهِدَايَةِ، وَالسُّؤَالُ الْمَزْبُورُ إنَّمَا يَتَّجِهُ عَلَى مَنْ اكْتَفَى بِالتَّعْرِيفِ الْمَذْكُورِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَذْكُرَ مَعَهُ مَا يُفِيدُ مَعْرِفَتَهُ. وَزِيَادَةُ الْمُصَنِّفِ شَيْئًا يُفِيدُ مَعْرِفَتَهُ، كَيْفَ تُصْلِحُ كَلَامَ مَنْ لَمْ يَزِدْهُ، وَمَاتَ قَبْلَ وِلَادَةِ الْمُصَنِّفِ بِسِنِينَ كَثِيرَةٍ، وَإِذَا لَمْ يُذْكَرُ مَعَهُ شَيْءٌ يَحْصُلُ بِهِ مَعْرِفَتُهُ، فَإِمَّا أَنْ تَحْتَاجَ مَعْرِفَتُهُ إلَى مَعْرِفَةِ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ الَّذِي هُوَ الْمُعَرَّفُ فَيَلْزَمُ الدَّوْرَ أَوْ لَا تَحْتَاجُ إلَيْهَا بَلْ حَصَلَتْ بِمَا هُوَ مَعْلُومٌ، وَمَعْهُودٌ فِيمَا سَبَقَ فَلَا بُدَّ فِي الْجَوَابِ مِنْ الْحَوَالَةِ عَلَيْهِ فَلَمْ يَتِمَّ.
قَوْلُهُ: فَلَا يَلْزَمُ الدَّوْرُ وَلَا حَاجَةَ إلَى الْحَوَالَةِ، نَعَمْ تَمَامُ الْحَوَالَةِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ عِنْدَنَا كَمَا قَرَّرْنَا فِيمَا قَبْلُ، وَلَكِنَّهُ كَلَامٌ آخَرُ. ثُمَّ قَالَ ذَلِكَ الْبَعْضُ مِنْ الْفُضَلَاءِ: ظَاهِرُ قَوْلِهِ فَالْمُشْتَرَكُ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ حَتَّى يَعْمَلَ مَنْقُوضٌ بِالْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ إذَا عَجَّلَ لَهُ الْأَجْرَ أَوْ شَرَطَ التَّعْجِيلَ فَيَحْتَاجُ إلَى نَوْعِ عِنَايَةٍ، كَأَنْ يُقَالَ: لَا يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ بِالنَّظَرِ إلَى كَوْنِهِ أَجِيرًا مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ الْأُمُورِ الْخَارِجَةِ انْتَهَى. أَقُولُ: إنَّمَا يُتَوَهَّمُ الِانْتِقَاضُ بِذَلِكَ، وَيَحْتَاجُ إلَى نَوْعِ عِنَايَةٍ فِي دَفْعِهِ لَوْ كَانَ مَعْنَى قَوْلِهِ الْمَذْكُورِ الْمُشْتَرَكَ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ قَبْلَ أَنْ يَعْمَلَ. وَأَمَّا إذَا كَانَ مَعْنَاهُ الْمُشْتَرَكُ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّهَا بِدُونِ الْعَمَلِ أَصْلًا كَمَا يَسْتَحِقُّهَا الْأَجِيرُ الْخَاصُّ بِتَسْلِيمِ نَفْسِهِ فِي الْمُدَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْ أَصْلًا عَلَى مَا سَيَجِيءُ فَلَا انْتِقَاضَ بِذَلِكَ أَصْلًا؛ لِأَنَّ الْأَجِيرَ الْمُشْتَرَكَ إذَا لَمْ يَقَعْ مِنْهُ الْعَمَلُ أَصْلًا لَا يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ، حَتَّى لَوْ كَانَ أَخَذَهَا بِطَرِيقِ التَّعْجِيلِ يَلْزَمُهُ رَدُّهَا عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ، وَكَأَنَّ الْإِمَامَ الزَّيْلَعِيَّ تَدَارَكَ هَذَا الْمَعْنَى حَيْثُ قَالَ فِي شَرْحِ قَوْلِ صَاحِبِ الْكَنْزِ وَلَا يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ حَتَّى يَعْمَلَ: يَعْنِي الْأَجِيرَ الْمُشْتَرَكَ لَا يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ إلَّا إذَا عَمِلَ. انْتَهَى فَتَبَصَّرْ.
ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ الْعِنَايَةِ قَالَ: وَقِيلَ قَوْلُهُ: مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ حَتَّى يَعْمَلَ مُفْرَدٌ. وَالتَّعْرِيفُ بِالْمُفْرَدِ لَا يَصِحُّ عِنْدَ عَامَّةِ الْمُحَقِّقِينَ، وَإِذَا انْضَمَّ إلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: كَالصَّبَّاغِ وَالْقَصَّارِ جَازَ أَنْ يَكُونَ تَعْرِيفًا بِالْمِثَالِ، وَهُوَ صَحِيحٌ، وَلَكِنَّ قَوْلَهُ: لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ يُنَافِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ التَّعْلِيلَ عَلَى التَّعْرِيفِ غَيْرُ صَحِيحٍ. وَقَالَ: وَفِي كَوْنِهِ مُفْرَدًا لَا يَصِحُّ التَّعْرِيفُ بِهِ نَظَرٌ. وَالْحَقُّ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ مِنْ التَّعْرِيفَاتِ اللَّفْظِيَّةِ، وَقَوْلُهُ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ إذَا كَانَ هُوَ الْعَمَلَ أَوْ أَثَرَهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ لِلْعَامَّةِ؛ لِأَنَّ مَنَافِعَهُ لَمْ تَصِرْ مُسْتَحَقَّةً لِوَاحِدٍ بَيَانٌ لِمُنَاسَبَةِ التَّسْمِيَةِ، وَكَأَنَّهُ قَالَ: مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ حَتَّى يَعْمَلَ يُسَمَّى بِالْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ إلَخْ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ: فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ يُسَمَّى مُشْتَرَكًا، إلَى هُنَا كَلَامُهُ.
وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: وَعِنْدِي أَنَّهُ يَعْنِي قَوْلَهُ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ إلَخْ تَعْلِيلٌ لِلْحُكْمِ الضِّمْنِيِّ الْمُسْتَفَادِ مِنْ التَّعْرِيفِ، وَهُوَ أَنَّ بَعْضَ الْأُجَرَاءِ لَا يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ قَبْلَ الْعَمَلِ؛ لِأَنَّ قَضِيَّةَ عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ هِيَ الْمُسَاوَاةُ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، وَلَوْ اسْتَحَقَّ مَنْ اُسْتُؤْجِرَ عَلَى الْعَمَلِ قَبْلَهُ
وَلَنَا أَنَّ الدَّاخِلَ تَحْتَ الْإِذْنُ مَا هُوَ الدَّاخِلُ تَحْتَ الْعَقْدِ وَهُوَ الْعَمَلُ الْمُصْلِحُ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْوَسِيلَةُ إلَى الْأَثَرِ وَهُوَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ حَقِيقَةً، حَتَّى لَوْ حَصَلَ بِفِعْلِ الْغَيْرِ يَجِبُ الْأَجْرُ فَلَمْ يَكُنْ الْمُفْسِدُ مَأْذُونًا فِيهِ
تَبْطُلُ الْمُسَاوَاةُ، هَذَا هُوَ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ، إلَّا أَنَّ الْمُصَنِّفَ فَرَّعَ عَلَى ذَلِكَ التَّعْلِيلِ قَوْلَهُ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ لِلْعَامَّةِ لِبَيَانِ مُنَاسَبَةِ التَّسْمِيَةِ فَلْيُتَأَمَّلْ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ.
أَقُولُ: مَدَارُ اسْتِخْرَاجِ ذَلِكَ الْبَعْضِ وَرَأْيِهِ فِي هَذَا الْمَقَامِ عَلَى أَنْ تَكُونَ عِبَارَةُ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ إنَّمَا هُوَ الْعَمَلُ أَوْ أَثَرُهُ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ لِلْعَامَّةِ وَلَيْسَتْ كَذَلِكَ، بَلْ عِبَارَتُهُ هَاهُنَا؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ إذَا كَانَ هُوَ الْعَمَلَ أَوْ أَثَرَهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ لِلْعَامَّةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ قَوْلَهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ لِلْعَامَّةِ لَيْسَ بِكَلَامٍ مُسْتَقِلٍّ بَلْ هُوَ جَزَاءٌ لِلشَّرْطِ الْمَذْكُورِ فِيمَا قَبْلَهُ، وَمَجْمُوعُ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ دَاخِلٌ فِي التَّعْلِيلِ غَيْرُ مُتَحَمِّلٍ لِغَيْرِ بَيَانِ مُنَاسَبَةِ التَّسْمِيَةِ، فَالْحَقُّ مَا قَالَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ، عَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَتْ عِبَارَةُ الْمُصَنِّفِ مَا زَعَمَهُ ذَلِكَ الْقَائِلُ وَكَانَ قَوْلُهُ: لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ إنَّمَا هُوَ الْعَمَلُ أَوْ أَثَرُهُ تَعْلِيلًا لِمَا ذَهَبَ إلَيْهِ ذَلِكَ الْقَائِلُ عَلَى مَا قَرَّرَهُ ذَلِكَ الْقَائِلُ لَمَا صَحَّ تَفْرِيعُ الْمُصَنِّفِ قَوْلَهُ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ لِلْعَامَّةِ عَلَى ذَلِكَ التَّعْلِيلِ؛ لِأَنَّ مَدَارَ ذَلِكَ التَّعْلِيلِ عَلَى مَا قَرَّرَهُ ذَلِكَ الْقَائِلُ أَنْ تَكُونَ قَضِيَّةُ عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ هِيَ الْمُسَاوَاةَ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ.
وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذِهِ الْقَضِيَّةَ كَمَا تَتَحَقَّقُ فِيمَا إذَا كَانَ الْأَجِيرُ مُشْتَرَكًا تَتَحَقَّقُ فِيمَا إذَا كَانَ الْأَجِيرُ خَاصًّا أَيْضًا، فَلَوْ صَحَّ تَفْرِيعُ قَوْلِهِ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ لِلْعَامَّةِ عَلَى ذَلِكَ التَّعْلِيلِ لَزِمَ جَوَازُ أَنْ يَعْمَلَ الْأَجِيرُ الْخَاصُّ أَيْضًا لِلْعَامَّةِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ قَطْعًا (قَوْلُهُ: وَلَنَا أَنَّ الدَّاخِلَ تَحْتَ الْإِذْنِ مَا هُوَ الدَّاخِلُ تَحْتَ الْعَقْدِ، وَهُوَ الْعَمَلُ الْمُصْلِحُ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْوَسِيلَةُ إلَى الْأَثَرِ، وَهُوَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ حَقِيقَةً، حَتَّى لَوْ حَصَلَ بِفِعْلِ الْغَيْرِ يَجِبُ الْأَجْرُ فَلَمْ يَكُنْ الْمُفْسِدُ مَأْذُونًا فِيهِ) أَقُولُ: فِي تَعْلِيلِ كَوْنِ الدَّاخِلِ تَحْتَ الْعَقْدِ هُوَ الْعَمَلَ الْمُصْلِحَ بِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ قُصُورٌ؛ لِأَنَّ كَوْنَ الْعَمَلِ وَسِيلَةً إلَى الْأَثَرِ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ فِي صُورَةِ تَخْرِيقِ الثَّوْبِ مِنْ دِقِّهِ مِنْ صُوَرِ مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ دُونَ الصُّوَرِ الثَّلَاثِ الْبَاقِيَةِ مِنْهَا إذْ قَدْ مَرَّ فِي أَوَاخِرِ بَابِ الْأَجْرِ مَتَى يُسْتَحَقُّ أَنَّ كُلَّ صَانِعٍ لِعَمَلِهِ أَثَرٌ فِي الْعَيْنِ كَالْقَصَّارِ وَالصَّبَّاغِ فَلَهُ أَنْ يَحْبِسَ الْعَيْنَ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الْأَجْرَ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ وَصْفٌ قَائِمٌ فِي الثَّوْبِ فَلَهُ حَقُّ الْحَبْسِ لِاسْتِيفَاءِ الْبَدَلِ كَمَا فِي الْبَيْعِ، وَكُلُّ صَانِعٍ لَيْسَ لِعَمَلِهِ أَثَرٌ فِي الثَّوْبِ فَلَهُ حَقُّ الْحَبْسِ لِاسْتِيفَاءِ الْبَدَلِ كَمَا فِي الْبَيْعُ، وَكُلُّ صَانِعٍ لَيْسَ لِعَمَلِهِ أَثَرٌ فِي الْعَيْنِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْبِسَ الْعَيْنَ لِلْأَجْرِ كَالْحَمَّالِ وَالْمَلَّاحِ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ نَفْسُ الْعَمَلِ، وَهُوَ عَيْنٌ قَائِمٌ فِي الْعَيْنِ فَلَا يُتَصَوَّرُ حَبْسُهُ انْتَهَى. فَقَدْ تَلَخَّصَ مِنْهُ أَنَّ الْعَمَلَ عَلَى نَوْعَيْنِ: نَوْعٌ لَهُ أَثَرٌ فِي الْعَيْنِ كَعَمَلِ الصَّبَّاغِ وَالْقَصَّارِ. وَنَوْعٌ لَيْسَ لَهُ أَثَرٌ فِي الْعَيْنِ كَعَمَلِ الْحَمَّالِ وَالْمَلَّاحِ. وَأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ فِي النَّوْعِ الْأَوَّلِ هُوَ الْأَثَرُ، وَهُوَ الْوَصْفُ الْقَائِمُ فِي الثَّوْبِ، وَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ فِي النَّوْعِ الثَّانِي نَفْسُ الْعَمَلِ لَا غَيْرُ.
وَلَا شَكَّ أَنَّ هَاتِيك الصُّوَرَ الثَّلَاثَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ مَسَائِلِ الْحَمَّالِ وَالْمَلَّاحِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِعَمَلِ الصَّانِعِ فِيهَا أَثَرٌ فِي الْعَيْنِ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَسِيلَةٌ إلَى الْأَثَرِ، وَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ فِيهَا الْأَثَرُ هُوَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ حَقِيقَةً، وَقَدْ صَرَّحَ فِيمَا مَرَّ بِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ هُنَاكَ نَفْسُ الْعَمَلِ، وَكَذَا قَوْلُهُ: حَتَّى لَوْ حَصَلَ بِفِعْلِ الْغَيْرِ يَجِبُ الْأَجْرُ لَيْسَ بِمُسْتَقِيمٍ عَلَى إطْلَاقِهِ، إذْ قَدْ مَرَّ أَيْضًا فِي الْبَابِ الْمَزْبُورِ أَنَّهُ إذَا شَرَطَ عَلَى الصَّانِعِ أَنْ يَعْمَلَ بِنَفْسِهِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَعْمِلَ غَيْرَهُ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ الْعَمَلُ مِنْ مَحَلٍّ بِعَيْنِهِ فَيَسْتَحِقُّ عَيْنَهُ كَالْمَنْفَعَةِ فِي مَحَلٍّ بِعَيْنِهِ انْتَهَى. نَعَمْ إذَا أَطْلَقَ الْعَمَلَ فَلَهُ أَنْ
بِخِلَافِ الْمُعِينِ؛ لِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ فَلَا يُمْكِنُ تَقْيِيدُهُ بِالْمُصْلِحِ؛ لِأَنَّهُ يَمْتَنِعُ عَنْ التَّبَرُّعِ، وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ يَعْمَلُ بِالْأَجْرِ فَأَمْكَنَ تَقْيِيدُهُ.
وَبِخِلَافِ أَجِيرِ الْوَحْدِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَانْقِطَاعُ الْحَبْلِ مِنْ قِلَّةِ اهْتِمَامِهِ فَكَانَ مِنْ صَنِيعِهِ قَالَ: (إلَّا أَنَّهُ لَا يُضَمَّنُ بِهِ بَنِي آدَمَ مِمَّنْ غَرِقَ فِي السَّفِينَةِ أَوْ سَقَطَ مِنْ الدَّابَّةِ وَإِنْ كَانَ بِسَوْقِهِ وَقَوْدِهِ)؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ ضَمَانُ الْآدَمِيِّ. وَأَنَّهُ لَا يَجِبُ بِالْعَقْدِ. وَإِنَّمَا يَجِبُ بِالْجِنَايَةِ وَلِهَذَا يَجِبُ عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَضَمَانُ الْعُقُودِ
يَسْتَأْجِرَ مَنْ يَعْمَلُهُ كَمَا مَرَّ هُنَاكَ أَيْضًا فَكَانَ الدَّلِيلُ خَاصًّا وَالْمُدَّعَى عَامًّا.
وَالْأَوْلَى فِي التَّعْلِيلِ هَاهُنَا مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْكَافِي حَيْثُ قَالَ: لِأَنَّ الدَّاخِلَ تَحْتَ الْإِذْنِ مَا هُوَ الدَّاخِلُ تَحْتَ الْعَقْدِ، وَهُوَ الْعَمَلُ الْمُصْلِحُ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ إنَّمَا يَثْبُتُ ضِمْنًا لِلْعَقْدِ وَالْعَقْدُ انْعَقَدَ عَلَى التَّسْلِيمِ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ يَقْتَضِي سَلَامَةَ الْعَقْدِ عَلَيْهِ مِنْ الْعُيُوبِ كَمَا مَرَّ فِي الْبُيُوعِ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ الْعَمَلُ السَّلِيمُ ثَبَتَ أَنَّ الْمُفْسِدَ غَيْرُ مَعْقُودٍ عَلَيْهِ فَلَا يَكُونُ مَأْذُونًا فِيهِ، كَمَا لَوْ وَصَفَ نَوْعًا مِنْ الدِّقِّ فَجَاءَ بِنَوْعٍ آخَرَ. اهـ. (قَوْلُهُ: بِخِلَافِ الْعَيْنِ؛ لِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ فَلَا يُمْكِنُ تَقْيِيدُهُ بِالْمُصْلِحِ؛ لِأَنَّهُ يَمْتَنِعُ عَنْ التَّبَرُّعِ وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ يَعْمَلُ بِالْأَجْرِ فَأَمْكَنَ تَقْيِيدُهُ).
قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَلِمُلْتَزِمٍ أَنْ يَلْتَزِمَ جَوَازَ الِامْتِنَاعِ عَنْ التَّبَرُّعِ فِيمَا يَحْصُلُ بِهِ الْمَضَرَّةُ لِغَيْرِ مَنْ تَبَرَّعَ لَهُ. اهـ. وَقَصَدَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ دَفْعَ ذَلِكَ فَقَالَ: الْحُكْمُ يُدَارُ عَلَى دَلِيلِهِ، وَإِنْ كَانَتْ الْحِكْمَةُ أَخَصَّ كَمَا سَبَقَ نَظِيرُهُ فِي الْأَيْمَانِ فَقَوْلُهُ؛ لِأَنَّهُ يَمْتَنِعُ عَنْ التَّبَرُّعِ بَيَانٌ لِحِكْمَةِ عَدَمِ التَّضْمِينِ. اهـ. أَقُولُ: هَذَا لَا يُجْدِي شَيْئًا؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْعِنَايَةِ لَمْ يَنْفِ لُزُومَ الِامْتِنَاعِ عَنْ التَّبَرُّعِ فِي صُورَةِ حُصُولِ الْمَضَرَّةِ بِهِ لِغَيْرِ مَنْ تَبَرَّعَ لَهُ، بَلْ أَرَادَ مَنْعَ بُطْلَانِ ذَلِكَ اللَّازِمِ بِنَاءً عَلَى الْتِزَامِ جَوَازِ ذَلِكَ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ غَيْرِ الْمُتَبَرِّعِ لَهُ فَلَا فَائِدَةَ هَاهُنَا لِحَدِيثِ جَوَازِ كَوْنِ الْحِكْمَةِ أَخَصَّ، عَلَى أَنَّ لِصَاحِبِ الْعِنَايَةِ أَنْ يَقُولَ لَا يَصْلُحُ قَوْلُهُ: لِأَنَّهُ يَمْتَنِعُ عَنْ التَّبَرُّعِ بَيَانًا لِحِكْمَةِ عَدَمِ التَّضْمِينِ أَيْضًا، فَإِنَّهُ إذَا جَازَ الْتِزَامُ امْتِنَاعِهِ عَنْ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى دَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الْغَيْرِ لَمْ تَظْهَرْ حِكْمَةُ عَدَمِ التَّضْمِينِ، بَلْ كَانَ الظَّاهِرُ حِينَئِذٍ هُوَ التَّضْمِينَ كَمَا لَا يَخْفَى. ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَلَوْ عَلَّلَ بِأَنَّ التَّبَرُّعَ بِالْعَمَلِ بِمَنْزِلَةِ الْهِبَةِ، وَهِيَ لَا تَقْتَضِي السَّلَامَةَ كَأَنْ أَسْلَمَ. اهـ. أَقُولُ: وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هُنَا أَيْضًا كَوْنُ التَّبَرُّعِ بِالْعَمَلِ بِمَنْزِلَةِ الْهِبَةِ بِالنَّظَرِ إلَى مَنْ تَبَرَّعَ لَهُ لَا يَقْتَضِي جَوَازَ ذَلِكَ إذَا تَضَمَّنَ ضَرَرًا لِغَيْرِ مَنْ تَبَرَّعَ لَهُ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا أَخَذَ أَحَدٌ مِلْكَ الْآخَرِ وَتَبَرَّعَ بِهِ لِغَيْرِهِ بِطَرِيقِ الْهِبَةِ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الضَّمَانُ فَلِمَ لَا يَلْزَمُهُ الضَّمَانُ إذَا عَمِلَ فِي مِلْكِ الْمُسْتَأْجِرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَتَبَرَّعَ بِالْعَمَلِ لِلْأَجِيرِ فَتَلِفَ بِعَمَلِهِ مِلْكُ الْمُسْتَأْجِرِ فَلْيُتَأَمَّلْ.
(قَوْلُهُ: وَانْقِطَاعُ الْحَبْلِ مِنْ قِلَّةِ اهْتِمَامِهِ فَكَانَ مِنْ صَنِيعِهِ) هَذَا جَوَابٌ عَمَّا عَسَى أَنْ يُقَالَ: انْقِطَاعُ الْحَبْلِ لَيْسَ مِنْ صَنِيعِ الْأَجِيرِ فَمَا وَجْهُ ذِكْرِهِ مِنْ جُمْلَةِ مَا تَلِفَ بِعَمَلِهِ؟ فَأَجَابَ بِأَنَّهُ مِنْ قِلَّةِ اهْتِمَامِهِ فَكَانَ مِنْ صَنِيعِهِ، كَذَا مِنْ الْعِنَايَةِ وَغَيْرِهَا. أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: يُشْكِلُ هَذَا عَلَى مَا مَرَّ مِنْ أَنَّ الْأَجِيرَ الْمُشْتَرَكَ لَا يَضْمَنُ مَا هَلَكَ فِي يَدِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَإِنْ كَانَ الْهَلَاكُ بِسَبَبٍ يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ كَالْغَصْبِ وَالسَّرِقَةِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ هُنَاكَ أَيْضًا: إنَّ الْهَلَاكَ مِنْ قِلَّةِ اهْتَامَهُ حَيْثُ لَمْ يَحْتَرِزْ عَمَّا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ فَكَانَ مِنْ صَنِيعِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَضْمَنَ بِالِاتِّفَاقِ. ثُمَّ أَقُولُ: يُمْكِنُ الْفَرْقُ بِأَنَّ التَّقْصِيرَ هُنَاكَ فِي الْحِفْظِ، وَهُوَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ تَبَعًا لَا مَقْصُودًا كَمَا مَرَّ فَلَا اعْتِبَارَ لَهُ، وَأَمَّا هَاهُنَا فَالتَّقْصِيرُ فِي نَفْسِ الْعَمَلِ الَّذِي هُوَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ مَقْصُودًا فَلَهُ اعْتِبَارٌ وَحُكْمٌ (قَوْلُهُ: لِأَنَّ الْوَاجِبَ ضَمَانُ الْآدَمِيِّ وَأَنَّهُ لَا يَجِبُ بِالْعَقْدِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ بِالْجِنَايَةِ) قَالَ فِي الْكِفَايَةِ: لَا يُقَالُ إنَّ ضَمَانَ بَنِي آدَمَ يَجِبُ بِالتَّسْبِيبِ وَقَدْ وُجِدَ؛ لِأَنَّ الْمُسَبِّبَ إنَّمَا يَضْمَنُ إذَا تَعَدَّى وَكَلَامُنَا فِيمَا إذَا لَمْ يُوجَدْ التَّعَدِّي. اهـ. أَقُولُ: فِيهِ بَحْثٌ، وَهُوَ أَنَّهُ كَيْفَ يَكُونُ كَلَامُنَا فِيمَا إذَا لَمْ يُوجَدْ التَّعَدِّي وَقَدْ وَجَبَ
لَا تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ. قَالَ: (وَإِذَا اسْتَأْجَرَ مَنْ يَحْمِلُ لَهُ دَنًّا مِنْ الْفُرَاتِ فَوَقَعَ فِي بَعْضِ الطَّرِيقِ فَانْكَسَرَ، فَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ فِي الْمَكَانِ الَّذِي حَمَلَهُ وَلَا أَجْرَ لَهُ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي انْكَسَرَ وَأَعْطَاهُ الْأَجْرَ بِحِسَابِهِ) أَمَّا الضَّمَانُ فَلِمَا قُلْنَا، وَالسُّقُوطُ بِالْعِثَارِ أَوْ بِانْقِطَاعِ الْحَبْلِ وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ صَنِيعِهِ، وَأَمَّا الْخِيَارُ فَلِأَنَّهُ إذَا انْكَسَرَ فِي الطَّرِيقِ، وَالْحِمْلُ شَيْءٌ وَاحِدٌ تَبَيَّنَ أَنَّهُ وَقَعَ تَعَدِّيًا مِنْ الِابْتِدَاءِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَلَهُ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ ابْتِدَاءَ الْحَمْلِ حَصَلَ بِإِذْنِهِ فَلَمْ يَكُنْ تَعَدِّيًا، وَإِنَّمَا صَارَ تَعَدِّيًا عِنْدَ الْكَسْرِ فَيَمِيلُ إلَى أَيِّ الْوَجْهَيْنِ شَاءَ، وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي لَهُ الْأَجْرُ بِقَدْرِ مَا اسْتَوْفَى، وَفِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ لَا أَجْرَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ مَا اسْتَوْفَى أَصْلًا.
قَالَ: (وَإِذَا فَصَدَ الْفَصَّادُ أَوْ بَزَغَ الْبَزَّاغُ وَلَمْ يَتَجَاوَزْ الْمَوْضِعَ الْمُعْتَادَ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيمَا عَطِبَ مِنْ ذَلِكَ. وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: بَيْطَارٌ بَزَغَ دَابَّةً بِدَانِقٍ فَنَفَقَتْ أَوْ حَجَّامٌ حَجَمَ عَبْدًا بِأَمْرِ مَوْلَاهُ فَمَاتَ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ) وَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْعِبَارَتَيْنِ نَوْعُ بَيَانٍ. وَوَجْهُهُ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ التَّحَرُّزُ عَنْ السِّرَايَةِ
عَلَى الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ فِي مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ ضَمَانُ الْمَتَاعِ الْهَالِكِ بِعَمَلِهِ عِنْدَ أَئِمَّتِنَا الثَّلَاثَةِ، وَلَوْلَا التَّعَدِّي لَمَا ضَمِنَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله فَإِنَّ الْأَصْلَ عِنْدَهُ أَنَّ الْمَتَاعَ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْأَجِيرِ إنْ هَلَكَ لَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا كَمَا مَرَّ. وَوَجْهُ التَّعَدِّي فِيمَا نَحْنُ فِيهِ عَلَى مَا فُهِمَ مِنْ الدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ مِنْ قِبَلِ أَئِمَّتِنَا هُوَ مُخَالَفَةُ الْأَجِيرِ لِإِذْنِ الْمُسْتَأْجِرِ حَيْثُ أَتَى بِالْعَمَلِ الْمُفْسِدِ، مَعَ أَنَّ الدَّاخِلَ تَحْتَ إذْنِهِ إنَّمَا هُوَ الْعَمَلُ الْمُصْلِحُ، وَسَيَجِيءُ مِنْ الْمُصَنِّفُ التَّصْرِيحُ بِوُقُوعِ التَّعَدِّي فِي الْمَسْأَلَةِ الْآتِيَةِ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا نَحْنُ فِيهِ فِي الْأَحْكَامِ.
(قَوْلُهُ: وَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْعِبَارَتَيْنِ نَوْعُ بَيَانٍ)؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ فِي مَسْأَلَةِ الْقُدُورِيِّ عَدَمَ التَّجَاوُزِ عَنْ الْمَوْضِعِ الْمُعْتَادِ حَتَّى إنَّهُ إذَا تَجَاوَزَ يَجِبُ الضَّمَانُ وَذَكَرَ فِي مَسْأَلَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ الْأُجْرَةَ وَحِجَامَةَ الْعَبْدِ بِأَمْرِ الْمَوْلَى، حَتَّى إنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ بِأَمْرِهِ يَجِبُ الضَّمَانُ فَيَجْعَلُ الْمَذْكُورَ فِي إحْدَاهُمَا مَذْكُورًا فِي الْأُخْرَى، كَذَا فِي النِّهَايَةِ، وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ. وَأَحْسَنُ مِنْ ذَلِكَ فِي الْبَيَانِ عِبَارَةُ الْكِفَايَةِ فَإِنَّهُ قَالَ فِيهَا: لِأَنَّ رِوَايَةَ الْمُخْتَصَرِ نَاطِقَةٌ
لِأَنَّهُ يُبْتَنَى عَلَى قُوَّةِ الطِّبَاعِ وَضَعْفِهَا فِي تَحَمُّلِ الْأَلَمِ فَلَا يُمْكِنُ التَّقْيِيدُ بِالْمُصْلِحِ مِنْ الْعَمَلِ، وَلَا كَذَلِكَ دَقُّ الثَّوْبِ وَنَحْوُهُ مِمَّا قَدَّمْنَاهُ؛ لِأَنَّ قُوَّةَ الثَّوْبِ وَرِقَّتَهُ تُعْرَفُ بِالِاجْتِهَادِ فَأَمْكَنَ الْقَوْلُ بِالتَّقْيِيدِ.
قَالَ: (وَالْأَجِيرُ الْخَاصُّ الَّذِي يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ بِتَسْلِيمِ نَفْسِهِ فِي الْمُدَّةِ وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْ كَمَنْ اُسْتُؤْجِرَ شَهْرًا لِلْخِدْمَةِ أَوْ لِرَعْيِ الْغَنَمِ) وَإِنَّمَا سُمِّيَ
بِعَدَمِ التَّجَاوُزِ سَاكِتَةٌ عَنْ الْإِذْنِ، وَرِوَايَةُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ نَاطِقَةٌ بِالْإِذْنِ سَاكِتَةٌ عَنْ التَّجَاوُزِ، فَصَارَ مَا نَطَقَ بِهِ رِوَايَةُ الْمُخْتَصَرِ بَيَانًا لِمَا سَكَتَ عَنْهُ رِوَايَةُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، وَمَا نَطَقَ بِهِ رِوَايَةُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بَيَانًا لِمَا سَكَتَ عَنْهُ رِوَايَةُ الْمُخْتَصَرِ. فَيُسْتَفَادُ بِمَجْمُوعِ الرِّوَايَتَيْنِ اشْتِرَاطُ عَدَمِ التَّجَاوُزِ وَالْإِذْنِ لِعَدَمِ وُجُوبِ الضَّمَانِ، حَتَّى إذَا عَدِمَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا يَجِبُ الضَّمَانُ. اهـ.
وَأَمَّا صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فَقَالَ وَكُلٌّ مِنْهُمَا يَشْتَمِلُ عَلَى نَوْعٍ مِنْ الْبَيَانِ. أَمَّا فِي الْقُدُورِيِّ فَلِأَنَّهُ ذَكَرَ عَدَمَ التَّجَاوُزِ عَنْ الْمَوْضِعِ الْمُعْتَادِ، وَيُفِيدُ أَنَّهُ إذَا تَجَاوَزَ ضَمِنَ، وَأَمَّا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرُ فَلِأَنَّهُ بَيَّنَ الْأُجْرَةَ وَكَوْنُ الْحِجَامَةِ بِأَمْرِ الْمَوْلَى وَالْهَلَاكِ، وَيُفِيدُ أَنَّهَا إذَا لَمْ تَكُنْ بِأَمْرِهِ ضَمِنَ. اهـ كَلَامُهُ. أَقُولُ: فِي بَيَانِهِ خَلَلٌ، فَإِنَّهُ جَعَلَ الْهَلَاكَ أَيْضًا مِنْ الْبَيَانِ الَّذِي فِي عِبَارَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، وَلَيْسَ بِسَدِيدٍ إذْ لَا شَكَّ أَنَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ وَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْعِبَارَتَيْنِ نَوْعُ بَيَانٍ أَنَّ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَوْعًا مِنْ الْبَيَانِ مَخْصُوصًا بِهِ، وَالْهَلَاكُ مَذْكُورٌ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيْرُ مَخْصُوصٍ بِأَحَدِهِمَا، فَإِنَّهُ قَالَ فِي مُخْتَصَرِ الْقُدُورِيِّ: فِيمَا عَطِبَ مِنْ ذَلِكَ، وَقَالَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: فَنَفَقَتْ وَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعْنَى الْهَلَاكِ، بَلْ مَا فِي مُخْتَصَرِ الْقُدُورِيِّ صَرَّحَ فِي ذَلِكَ بِمَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، فَإِنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ فَسَّرُوا عَطِبَ بِهَلَكَ وَنَفَقَ بِمَاتَ.
(قَوْلُهُ: وَالْأَجِيرُ الْخَاصُّ الَّذِي يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ بِتَسْلِيمِ نَفْسِهِ فِي الْمُدَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَقَدْ ذَكَرْنَا مَا يَرُدُّ عَلَى الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ. وَالْجَوَابُ عَنْهُ فَعَلَيْك بِمِثْلِهِ هَاهُنَا اهـ. أَقُولُ: لَا يَذْهَبُ عَلَى الْفَطِنِ أَنَّ مِثْلَ الْجَوَابِ الْمَذْكُورِ هُنَاكَ عَنْ الْإِيرَادِ عَلَى تَعْرِيفِ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ بِأَنَّهُ تَعْرِيفٌ دَوْرِيٌّ لَا يَتَمَشَّى هَاهُنَا، يَظْهَرُ ذَلِكَ بِأَدْنَى وَجْهِ تَدَبُّرٍ، فَكَأَنَّ صَاحِبَ النِّهَايَةِ تَدَارَكَ هَذَا حَيْثُ قَالَ: وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ، وَمَا وَرَدَ فِيهِ مِنْ الشُّبْهَةِ انْتَهَى. وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِلْجَوَابِ، لَكِنْ فِي تَحْرِيرِهِ أَيْضًا رَكَاكَةٌ؛ لِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِيمَا تَقَدَّمَ تَعْرِيفُ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ، وَمَا وَرَدَ فِيهِ مِنْ الشُّبْهَةِ لَا تَعْرِيفَ الْأَجِيرِ الْخَاصِّ، وَمَا وَرَدَ فِيهِ
أَجِيرَ وَحْدٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَعْمَلَ لِغَيْرِهِ؛ لِأَنَّ مَنَافِعَهُ فِي الْمُدَّةِ صَارَتْ مُسْتَحَقَّةً لَهُ وَالْأَجْرُ مُقَابَلٌ بِالْمَنَافِعِ، وَلِهَذَا يَبْقَى الْأَجْرُ مُسْتَحَقًّا، وَإِنْ نُقِضَ الْعَمَلُ.
قَالَ: (وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْأَجِيرِ الْخَاصِّ فِيمَا تَلِفَ فِي يَدِهِ وَلَا مَا تَلِفَ مِنْ عَمَلِهِ) أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ الْعَيْنَ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَ بِإِذْنِهِ، وَهَذَا ظَاهِرٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَكَذَا عِنْدَهُمَا؛ لِأَنَّ تَضْمِينَ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ نَوْعُ اسْتِحْسَانٍ عِنْدَهُمَا لِصِيَانَةِ أَمْوَالِ النَّاسِ، وَالْأَجِيرُ الْوَحْدُ لَا يَتَقَبَّلُ الْأَعْمَالَ فَتَكُونُ السَّلَامَةُ غَالِبَةً فَيُؤْخَذُ فِيهِ بِالْقِيَاسِ، وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الْمَنَافِعَ مَتَى صَارَتْ مَمْلُوكَةً لِلْمُسْتَأْجِرِ فَإِذَا أَمَرَهُ بِالتَّصَرُّفِ فِي مِلْكِهِ صَحَّ وَيَصِيرُ نَائِبًا مَنَابَهُ فَيَصِيرُ فِعْلُهُ مَنْقُولًا إلَيْهِ كَأَنَّهُ فَعَلَ بِنَفْسِهِ فَلِهَذَا لَا يَضْمَنُهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ، وَمَا وَرَدَ فِيهِ مِنْ الشُّبْهَةِ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُصَارَ إلَى حَذْفِ الْمُضَافِ فَيَكُونَ التَّقْدِيرُ قَدْ ذَكَرْنَا مِثْلَهُ، وَمَا وَرَدَ فِيهِ مِنْ الشُّبْهَةِ.
(قَوْلُهُ: لِأَنَّ تَضْمِينَ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ نَوْعُ اسْتِحْسَانٍ عِنْدَهُمَا لِصِيَانَةِ أَمْوَالِ النَّاسِ) فَإِنَّهُ يَقْبَلُ أَعْمَالًا كَثِيرَةً رَغْبَةً فِي كَثْرَةِ الْأَجْرِ، وَقَدْ يَعْجِزُ عَنْ قَضَاءِ حَقِّ الْحِفْظِ فِيهَا فَضَمِنَ حَتَّى لَا يُقَصِّرَ فِي حِفْظِهَا، وَلَا يَأْخُذَ إلَّا مَا يَقْدِرُ عَلَى حِفْظِهِ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ أَخْذًا مِنْ الْكَافِي. قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: فِيهِ بَحْثٌ، فَإِنَّ حُكْمَهُمَا بِالضَّمَانِ إنَّمَا نَشَأَ مِنْ الدَّلِيلَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فِي الْكِتَابِ، وَمَا ذَكَرَ هُنَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لِئَلَّا يُقَصِّرَ الْأُجَرَاءُ فِي الْحِفْظِ انْتَهَى. أَقُولُ: هَذَا الْبَحْثُ سَاقِطٌ جِدًّا، إذْ الظَّاهِرُ أَنَّ مَا ذَكَرَ هُنَا حِكْمَةٌ حَكَمَهَا بِضَمَانِ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ، وَمَا ذَكَرَهُ فِيمَا مَرَّ فِي الْكِتَابِ مِنْ الْوَجْهَيْنِ إنَّمَا هُوَ دَلِيلُ حُكْمِهَا بِذَلِكَ فَلَا تَنَافِيَ بَيْنَهُمَا أَصْلًا، عَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَا ذَكَرَ هُنَا أَيْضًا دَلِيلًا لَا حِكْمَةً لَمْ يَلْزَمْ مَحْذُورٌ قَطُّ، إذْ لَا تَنَافِيَ بَيْنَ مَا ذَكَرَ هُنَا، وَمَا ذَكَرَ فِيمَا مَرَّ وَلَا تَعَارُضَ، فَلَا مَانِعَ عَنْ كَوْنِ هَذَا وَذَاكَ مَعًا دَلِيلًا عَلَى الْحُكْمِ.
بَابُ الْإِجَارَةِ عَلَى أَحَدِ الشَّرْطَيْنِ
(وَإِذَا قَالَ لِلْخَيَّاطِ إنْ خِطْتَ هَذَا الثَّوْبَ فَارِسِيًّا فَبِدِرْهَمٍ، وَإِنْ خِطْته رُومِيًّا فَبِدِرْهَمَيْنِ جَازَ، وَأَيَّ عَمَلٍ مِنْ هَذَيْنِ الْعَمَلَيْنِ عَمِلَ اسْتَحَقَّ الْأَجْرَ بِهِ) وَكَذَا إذَا قَالَ لِلصَّبَّاغِ إنْ صَبَغْته بِعُصْفُرٍ فَبِدِرْهَمٍ، وَإِنْ صَبَغْتَهُ بِزَعْفَرَانٍ فَبِدِرْهَمَيْنِ، وَكَذَا إذَا خَيَّرَهُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ بِأَنْ قَالَ: آجَرْتُك هَذِهِ الدَّارَ شَهْرًا بِخَمْسَةٍ أَوْ هَذِهِ الدَّارَ الْأُخْرَى بِعَشَرَةٍ، وَكَذَا إذَا خَيَّرَهُ بَيْنَ مَسَافَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ بِأَنْ قَالَ: آجَرْتُك هَذِهِ الدَّابَّةَ إلَى الْكُوفَةِ بِكَذَا أَوْ إلَى وَاسِطَ بِكَذَا، وَكَذَا إذَا خَيَّرَهُ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ، وَإِنْ خَيَّرَهُ بَيْنَ أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ لَمْ يَجُزْ، وَالْمُعْتَبَرُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ الْبَيْعُ وَالْجَامِعُ دَفْعُ الْحَاجَةِ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ اشْتِرَاطِ الْخِيَارِ فِي الْبَيْعِ، وَفِي الْإِجَارَةِ لَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْأَجْرَ إنَّمَا يَجِبُ بِالْعَمَلِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَصِيرُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَعْلُومًا، وَفِي الْبَيْعِ يَجِبُ الثَّمَنُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ فَتَتَحَقَّقُ الْجَهَالَةُ عَلَى وَجْهٍ لَا تَرْتَفِعُ الْمُنَازَعَةُ إلَّا بِإِثْبَاتِ الْخِيَارِ (وَلَوْ قَالَ: إنْ خِطْته الْيَوْمَ فَبِدِرْهَمٍ، وَإِنْ خِطْته غَدًا فَبِنِصْفِ دِرْهَمٍ،
(بَابُ الْإِجَارَةِ عَلَى أَحَدِ الشَّرْطَيْنِ)
لَمَّا فَرَغَ مِنْ ذِكْرِ الْإِجَارَةِ عَلَى شَرْطٍ وَاحِدٍ ذَكَرَ فِي هَذَا الْبَابِ الْإِجَارَةَ عَلَى أَحَدِ الشَّرْطَيْنِ؛ لِأَنَّ الْوَاحِدَ قَبْلَ الِاثْنَيْنِ (قَوْلُهُ: غَيْرَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ اشْتِرَاطِ الْخِيَارِ فِي الْبَيْعِ وَفِي الْإِجَارَةِ لَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ، إلَى قَوْلِهِ فَتَتَحَقَّقُ الْجَهَالَةُ عَلَى وَجْهٍ لَا تَرْتَفِعُ الْمُنَازَعَةُ إلَّا بِإِثْبَاتِ الْخِيَارِ) اسْتَشْكَلَ صَاحِبُ التَّسْهِيلِ هَذَا الْفَرْقَ حَيْثُ قَالَ: أَقُولُ الْجَهَالَةُ الَّتِي فِي طَرَفِ الْأُجْرَةِ تَرْتَفِعُ كَمَا ذَكَرُوا، وَأَمَّا الْجَهَالَةُ الَّتِي فِي طَرَفِ الْعَيْنِ الْمُسْتَأْجَرَةِ فِي نَحْوِ قَوْلِهِ آجَرْتُك هَذِهِ الدَّارَ سَنَةً بِخَمْسَةٍ أَوْ هَذِهِ الدَّارَ بِعَشَرَةٍ فَهِيَ ثَابِتَةٌ، وَهِيَ تُفْضِي إلَى النِّزَاعِ فِي تَسْلِيمِ الْعَيْنِ وَتَسَلُّمِهِ، إذْ الْمُسْتَأْجِرُ يُرِيدُ هَذَا وَالْمُؤَجِّرُ يَدْفَعُ الْآخَرَ فَيَتَحَقَّقُ النِّزَاعُ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا تَصِحَّ بِدُونِ شَرْطِ خِيَارِ التَّعْيِينِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَأَجَابَ عَنْهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ حَيْثُ قَالَ بَعْدَ ذِكْرِ ذَلِكَ الِاسْتِشْكَالِ فِي صُورَةِ أَنْ يَكُونَ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ بِأَنْ يُقَالَ: إنَّ الثَّمَنَ يَجِبُ فِي بَابِ الْبَيْعِ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ فَلَا تَرْتَفِعُ الْجَهَالَةُ الْمُفْضِيَةُ إلَى النِّزَاعِ حِينَ وُجُوبِ الثَّمَنِ إلَّا بِإِثْبَاتِ الْخِيَارِ، وَالْأُجْرَةُ فِي بَابِ الْإِجَارَةِ لَا تَجِبُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ بَلْ بِالْعَمَلِ، وَعِنْدَ وُجُودِ الْعَمَلِ تَرْتَفِعُ الْجَهَالَةُ لَا مَحَالَةَ فَلَا حَاجَةَ إلَى إثْبَاتِ الْخِيَارِ. إلَى هُنَا كَلَامُهُ.
أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا الْجَوَابُ بِشَيْءٍ إذْ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ زَائِدٌ عَلَى مَا ذَكَرُوا فِي الْفَرْقِ هَاهُنَا، وَالْإِشْكَالُ الْمَزْبُورُ إنَّمَا يُتَّجَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْجَهَالَةَ الَّتِي فِي طَرَفِ الْعَيْنِ الْمُسْتَأْجَرَةِ تُفْضِي إلَى النِّزَاعِ فِي تَسْلِيمِ الْعَيْنِ وَتَسَلُّمِهَا
فَإِنْ خَاطَهُ الْيَوْمَ فَلَهُ دِرْهَمٌ، وَإِنْ خَاطَهُ غَدًا فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يُجَاوَزُ بِهِ نِصْفُ دِرْهَمٍ. وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: لَا يُنْقَصُ مِنْ نِصْفِ دِرْهَمٍ وَلَا يُزَادُ عَلَى دِرْهَمٍ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: الشَّرْطَانِ جَائِزَانِ) قَالَ: زُفَرُ: الشَّرْطَانِ فَاسِدَانِ؛ لِأَنَّ الْخِيَاطَةَ شَيْءٌ وَاحِدٌ، وَقَدْ ذُكِرَ بِمُقَابَلَتِهِ بَدَلَانِ عَلَى الْبَدَلِ فَيَكُونُ مَجْهُولًا، وَهَذَا؛ لِأَنَّ ذِكْرَ الْيَوْمِ لِلتَّعْجِيلِ، وَذِكْرَ الْغَدِ لِلتَّرْفِيهِ فَيَجْتَمِعُ فِي كُلِّ يَوْمٍ تَسْمِيَتَانِ.
فَلَا يَبْقَى الْمَجَالُ لِلْعَمَلِ نَفْسِهِ، إذْ الْعَمَلُ فِي نَحْوِ اسْتِئْجَارِ الدَّارِ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ بَعْدَ تَحَقُّقِ تَسْلِيمِ الْعَيْنِ الْمُسْتَأْجَرَةِ وَتَسَلُّمِهَا، وَعِنْدَ النِّزَاعِ لَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ فَلَا يُفِيدُ الْقَوْلُ بِأَنَّ الْجَهَالَةَ تَرْتَفِعُ عِنْدَ وُجُودِ الْعَمَلِ كَمَا لَا يَخْفَى فَلْيُتَأَمَّلْ فِي دَفْعِ أَصْلِ الْإِشْكَالِ (قَوْلُهُ: وَقَالَ زُفَرُ: الشَّرْطَانِ فَاسِدَانِ؛ لِأَنَّ الْخِيَاطَةَ شَيْءٌ وَاحِدٌ، وَقَدْ ذَكَرَ بِمُقَابَلَتِهِ بَدَلَانِ عَلَى الْبَدَلِ فَيَكُونُ مَجْهُولًا، وَهَذَا؛ لِأَنَّ ذِكْرَ الْيَوْمِ لِلتَّعْجِيلِ وَذِكْرَ الْغَدِ لِلتَّرْفِيهِ فَيَجْتَمِعُ فِي كُلِّ يَوْمٍ تَسْمِيَتَانِ) بَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ ذِكْرَ الْيَوْمِ لِلتَّعْجِيلِ لَا لِلتَّوْقِيتِ؛ لِأَنَّهُ حَالُ إفْرَادِ الْعَقْدِ فِي الْيَوْمِ بِأَنْ قَالَ خِطْهُ الْيَوْمَ بِدِرْهَمٍ كَانَ لِلتَّعْجِيلِ لَا لِلتَّوْقِيتِ، حَتَّى لَوْ خَاطَهُ فِي الْغَدِ اسْتَحَقَّ الْأَجْرَ، فَكَذَا هَاهُنَا. وَذِكْرُ الْغَدِ لِلتَّرْفِيهِ؛ لِأَنَّهُ حَالُ إفْرَادِ الْعَقْدِ فِي الْغَدِ بِأَنْ قَالَ خِطْهُ غَدًا بِنِصْفِ دِرْهَمٍ كَانَ لِلتَّرْفِيهِ فَكَذَا هَاهُنَا، إذْ لَيْسَ لِتَعْدَادِ الشَّرْطِ أَثَرٌ فِي تَغْيِيرِهِ فَيَجْتَمِعُ فِي كُلِّ يَوْمٍ تَسْمِيَتَانِ. أَمَّا فِي الْيَوْمِ فَلِأَنَّ ذِكْرَ الْغَدِ إذَا كَانَ لِلتَّرْفِيهِ كَانَ الْعَقْدُ الْمُضَافُ إلَى غَدٍ ثَابِتًا الْيَوْمَ مَعَ عَقْدِ الْيَوْمِ. وَأَمَّا فِي الْغَدِ فَلِأَنَّ الْعَقْدَ الْمُنْعَقِدَ فِي الْيَوْمِ بَاقٍ؛ لِأَنَّ ذِكْرَ الْيَوْمِ لِلتَّعْجِيلِ فَيَجْتَمِعُ مَعَ الْمُضَافِ إلَى غَدٍ، وَإِذَا اجْتَمَعَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَسْمِيَتَانِ لَزِمَ مُقَابَلَةُ الْعَمَلِ الْوَاحِدِ بِبَدَلَيْنِ عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ خِطْهُ بِدِرْهَمٍ أَوْ نِصْفِ دِرْهَمٍ، وَهُوَ بَاطِلٌ لِكَوْنِ الْأَجْرِ مَجْهُولًا وَذَلِكَ يُفْضِي إلَى النِّزَاعِ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ وَالْكَافِي.
قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ ذَلِكَ الْبَيَانِ: وَالْجَوَابُ أَنَّ الْجَهَالَةَ تَزُولُ بِوُقُوعِ الْعَمَلِ، فَإِنَّ بِهِ يَتَعَيَّنُ الْأَجْرُ لِلُزُومِهِ عِنْدَ الْعَمَلِ كَمَا تَقَدَّمَ انْتَهَى. أَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ زَوَالَ الْجَهَالَةِ بِوُقُوعِ الْعَمَلِ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ إذَا لَمْ يَجْتَمِعْ فِي كُلِّ يَوْمٍ تَسْمِيَتَانِ، وَمَدَارُ دَلِيلِ زُفَرَ عَلَى اجْتِمَاعِهِمَا فِي كُلِّ يَوْمٍ كَمَا تَبَيَّنَ مِنْ قَبْلُ، فَحِينَئِذٍ لَا تَزُولُ الْجَهَالَةُ
وَلَهُمَا أَنَّ ذِكْرَ الْيَوْمِ لِلتَّأْقِيتِ.
وَذِكْرَ الْغَدِ لِلتَّعْلِيقِ فَلَا يَجْتَمِعُ فِي كُلِّ يَوْمٍ تَسْمِيَتَانِ؛ وَلِأَنَّ التَّعْجِيلَ وَالتَّأْخِيرَ مَقْصُودٌ فَنَزَلَ مَنْزِلَةَ اخْتِلَافِ النَّوْعَيْنِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ ذِكْرَ الْغَدِ لِلتَّعْلِيقِ حَقِيقَةً.
قَطْعًا؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ الْمَشْرُوطَ أَمْرٌ وَاحِدٌ، فَفِي أَيِّ يَوْمٍ يَقَعُ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ فِي مُقَابَلَتِهِ بَدَلَانِ عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ. فَالْوَجْهُ فِي الْجَوَابِ عَنْ دَلِيلِ زُفَرَ مَنْعُ لُزُومِ اجْتِمَاعِ التَّسْمِيَتَيْنِ فِي كُلِّ يَوْمٍ كَمَا سَيُفْهَمُ مِنْ تَقْرِيرِ دَلِيلِ سَائِرِ الْأَئِمَّةِ، وَلِهَذَا لَمْ يَتَعَرَّضْ الْمُصَنِّفُ لِلْجَوَابِ عَنْهُ صَرِيحًا (قَوْلُهُ: وَلَهُمَا أَنَّ ذِكْرَ الْيَوْمِ لِلتَّأْقِيتِ وَذِكْرَ الْغَدِ لِلتَّعْلِيقِ فَلَا يَجْتَمِعُ فِي كُلِّ يَوْمٍ تَسْمِيَتَانِ) قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بَعْدَ نَقْلِ دَلِيلِهِمَا هَذَا عَنْ الْهِدَايَةِ: وَفِيهِ كَلَامٌ. وَهُوَ أَنَّ الْإِمَامَيْنِ جَعَلَا الْيَوْمَ فِي مَسْأَلَةِ أَنْ يَسْتَأْجِرَ لِيَخْبِزَ لَهُ الْيَوْمَ كَذَا بِكَذَا لِلتَّعْجِيلِ هَرَبًا عَنْ بُطْلَانِ الْحَمْلِ عَلَى التَّوْقِيتِ فَكَيْفَ يَلْتَزِمَانِ الْأَمْرَ الْبَاطِلَ هَاهُنَا انْتَهَى.
أَقُولُ: هَذَا الْكَلَامُ ظَاهِرُ الِانْدِفَاعِ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَيْنِ إنَّمَا حَمَلَا الْيَوْمَ هَاهُنَا عَلَى التَّوْقِيتِ لِكَوْنِ التَّوْقِيتِ حَقِيقَتَهُ، وَعَدَمِ تَحَقُّقِ الصَّارِفِ عَنْهَا إلَى الْمَجَازِ عِنْدَهُمَا كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْكَافِي وَالشُّرُوحِ. وَإِنَّمَا جَعَلَا الْيَوْمَ فِي مَسْأَلَةِ الْخَبْزِ لِلتَّعْجِيلِ لِتَحَقُّقِ الصَّارِفِ عَنْ الْحَقِيقَةِ إلَى الْمَجَازِ هُنَاكَ، وَهُوَ يُصَحِّحُ الْعَقْدَ.
فَإِنَّ الْأَصْلَ تَصْحِيحُ تَصَرُّفِ الْعَاقِلِ مَا أَمْكَنَ، وَإِنَّمَا أَمْكَنَ هُنَاكَ بِجَعْلِ الْيَوْمِ لِلتَّعْجِيلِ فَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْمَقَامَيْنِ عَلَى أَصْلِهِمَا، وَلَقَدْ أَفْصَحَ عَمَّا ذَكَرْنَا تَاجُ الشَّرِيعَةِ حَيْثُ قَالَ: فَإِنْ قُلْت: قَدْ جَعَلَا ذِكْرَ الْيَوْمِ فِي مَسْأَلَةِ خَبْزِ الْمَخَاتِيمِ لِلتَّعْجِيلِ فَمَا لَهُمَا لَمْ يَجْعَلَا كَذَلِكَ هَاهُنَا؟ قُلْت: هُنَالِكَ حَمَلَا عَلَى الْمَجَازِ تَصْحِيحًا لِلْعَقْدِ، وَهَاهُنَا حَمَلَا عَلَى الْحَقِيقَةِ لِلتَّصْحِيحِ أَيْضًا إذْ لَوْ عُكِسَ الْأَمْرُ فِي الْفَصْلَيْنِ يَلْزَمُ إبْطَالُ مَا قَصَدَ الْعَاقِدَانِ مِنْ صِحَّةِ الْعَقْدِ، وَالْأَصْلُ تَصْحِيحُ تَصَرُّفِ الْعَاقِلِ مَا أَمْكَنَ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
(قَوْلُهُ: وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ ذِكْرَ الْغَدِ لِلتَّعْلِيقِ حَقِيقَةً)، وَمُرَادُهُ بِالتَّعْلِيقِ الْإِضَافَةُ: أَيْ لِلْإِضَافَةِ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ لَا تَقْبَلُ التَّعْلِيقَ وَلَكِنْ تَقْبَلُ الْإِضَافَةَ إلَى وَقْتٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَتَكُونُ مُرَادَةً، كَذَا رَأَى عَامَّةُ الشُّرَّاحِ حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ: وَلِهَذَا ذَكَرَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ ذِكْرَ الْغَدِ لِلْإِضَافَةِ. وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ تَفْسِيرِ التَّعْلِيقِ هُنَا بِالْإِضَافَةِ: وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: عَبَّرَ عَنْ الْإِضَافَةِ بِالتَّعْلِيقِ إشَارَةً إلَى أَنَّ النِّصْفَ فِي الْغَدِ لَيْسَ بِتَسْمِيَةٍ جَدِيدَةٍ؛ لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ الْأُولَى بَاقِيَةٌ، وَإِنَّمَا هُوَ لِحَطِّ النِّصْفِ الْآخَرِ بِالتَّأْخِيرِ فَيَكُونُ مَعْنَاهُ ذِكْرَ الْغَدِ لِلتَّعْلِيقِ: أَيْ لِتَعْلِيقِ الْحَطِّ بِالتَّأْخِيرِ، وَهُوَ يَقْبَلُ التَّأْخِيرَ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ. أَقُولُ: فِيهِ بَحْثٌ، إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ النِّصْفُ فِي الْغَدِ تَسْمِيَةً جَدِيدَةً بَلْ كَانَ ذِكْرُ الْغَدِ لِمُجَرَّدِ تَعْلِيقِ حَطِّ النِّصْفِ الْآخَرِ بِالتَّأْخِيرِ لَمَا صَحَّ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: يَجْتَمِعُ فِي الْغَدِ تَسْمِيَتَانِ دُونَ الْيَوْمِ فَيَصِحُّ الْأَوَّلُ وَيَفْسُدُ الثَّانِي، إذْ عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ لَا يَكُونُ فِي الْغَدِ إلَّا تَسْمِيَةٌ وَاحِدَةٌ هِيَ التَّسْمِيَةُ الْأُولَى، وَلَكِنْ يُحَطُّ نِصْفُ الْمُسَمَّى بِالتَّأْخِيرِ فَتَجْوِيرُ ذَلِكَ الْمَعْنَى هَاهُنَا إفْسَادٌ لِدَلِيلِ أَبِي حَنِيفَةَ بَلْ لِمُدَّعَاهُ أَيْضًا، فَكَأَنَّهُ إنَّمَا اغْتَرَّ بِمَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ فَإِنَّهُ قَالَ فِي شَرْحِ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ وَذِكْرُ الْغَدِ لِلتَّعْلِيقِ أَثْنَاءَ تَقْرِيرِ دَلِيلِ الْإِمَامَيْنِ.
الْمُرَادُ مِنْ التَّعْلِيقِ الْإِضَافَةُ؛ لِأَنَّ تَعْلِيقَ الْإِجَارَةِ لَا يَجُوزُ وَقَالَ: أَوْ نَقُولُ الْمُرَادُ بِهِ تَعْلِيقُ حَطِّ النِّصْفِ بِالتَّأْخِيرِ إلَى الْغَدِ وَذَلِكَ جَائِزٌ لَا تَعْلِيقَ الْإِجَارَةِ انْتَهَى، وَلَكِنْ لَا يَخْفَى عَلَى الْفَطِنِ أَنَّ تَجْوِيزَ ذَلِكَ الْمَعْنَى أَثْنَاءَ تَقْرِيرِ دَلِيلِ الْإِمَامَيْنِ لَا يَسْتَلْزِمُ مَحْذُورًا يَسْتَلْزِمُهُ تَجْوِيزُهُ أَثْنَاءَ تَقْرِيرِ دَلِيلِ أَبِي حَنِيفَةَ، فَإِنَّهُمَا يَقُولَانِ:
وَلَا يُمْكِنُ حَمْلُ الْيَوْمِ عَلَى التَّأْقِيتِ؛ لِأَنَّ فِيهِ فَسَادَ الْعَقْدِ لِاجْتِمَاعِ الْوَقْتِ وَالْعَمَلِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ
لَا يَجْتَمِعُ فِي كُلِّ يَوْمٍ تَسْمِيَتَانِ فَلَا يُنَافِيهِ تَجْوِيزُ ذَلِكَ، بِخِلَافِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ كَمَا عَرَفْت (قَوْلُهُ: وَلَا يُمْكِنُ حَمْلُ الْيَوْمِ عَلَى التَّأْقِيتِ؛ لِأَنَّ فِيهِ فَسَادَ الْعَقْدِ لِاجْتِمَاعِ الْوَقْتِ وَالْعَمَلِ) فَإِنَّا إذَا نَظَرْنَا إلَى ذِكْرِ الْعَمَلِ كَانَ الْأَجِيرُ مُشْتَرَكًا، وَإِذَا نَظَرْنَا إلَى ذِكْرِ الْيَوْمِ كَانَ أَجِيرَ وَحْدٍ، وَهُمَا مُتَنَافِيَانِ لِتَنَافِي لَوَازِمِهِمَا، فَإِنَّ ذِكْرَ الْعَمَلِ يُوجِبُ عَدَمَ وُجُوبِ الْأُجْرَةِ مَا لَمْ يَعْمَلْ، وَذِكْرَ الْوَقْتِ يُوجِبُ وُجُوبَهَا عِنْدَ تَسْلِيمِ النَّفْسِ فِي الْمُدَّةِ، وَتَنَافِي اللَّوَازِمِ يَدُلُّ عَلَى تَنَافِي الْمَلْزُومَاتِ؛ وَلِذَلِكَ عَدَلْنَا عَنْ الْحَقِيقَةِ الَّتِي هِيَ التَّأْقِيتُ إلَى الْمَجَازِ الَّذِي هُوَ التَّعْجِيلُ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ وَغَيْرِهَا.
أَقُولُ: يُشْكِلُ هَذَا بِمَسْأَلَةِ الرَّاعِي فَإِنَّهُ يَجْتَمِعُ فِيهَا الْعَمَلُ وَالْوَقْتُ، وَتَصِحُّ الْإِجَارَةُ بِالِاتِّفَاقِ، وَلَا يُحْمَلُ الْوَقْتُ عَلَى غَيْرِ مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ فِي قَوْلِ أَحَدٍ، بَلْ يُعْتَبَرُ الْأَجِيرُ أَجِيرًا مُشْتَرَكًا إنْ وَقَعَ ذِكْرُ الْعَمَلِ أَوَّلًا، وَأَجِيرَ وَحْدٍ إنْ وَقَعَ ذِكْرُ الْمُدَّةِ أَوَّلًا، صُرِّحَ بِذَلِكَ فِي عَامَّةِ الْمُعْتَبَرَاتِ سِيَّمَا فِي الذَّخِيرَةِ وَالْمُحِيطِ الْبُرْهَانِيِّ. قَالَ صَاحِبُ الْكَافِي: وَفِي الْمَسْأَلَةِ إشْكَالٌ هَائِلٌ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، فَإِنَّهُ جَعَلَ ذِكْرَ الْيَوْمِ لِلتَّعْجِيلِ هُنَا حَتَّى أَجَازَ الْعَقْدَ، وَفِي مَسْأَلَةِ الْمَخَاتِيمِ جَعَلَ ذِكْرَ الْيَوْمِ لِلتَّأْقِيتِ فَأَفْسَدَ الْعَقْدَ عَلَى مَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ. وَالْجَوَابُ أَنَّ ذِكْرَ الْيَوْمِ حَقِيقَةٌ لِلتَّوْقِيتِ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ حَتَّى يَقُومَ الدَّلِيلُ عَلَى الْمَجَازِ، وَهُنَا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى الْمَجَازِ، وَهُوَ نُقْصَانُ الْأَجْرِ بِسَبَبِ التَّأْخِيرِ فَعَدْلنَا عَنْ الْحَقِيقَةِ وَصِرْنَا إلَى الْمَجَازِ بِهَذَا الدَّلِيلِ، وَلَمْ يَقُمْ مِثْلُ هَذَا الدَّلِيلِ ثَمَّةَ فَكَانَ التَّوْقِيتُ مُرَادًا فَفَسَدَ الْعَقْدُ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَزَادَ عَلَيْهِ تَاجُ الشَّرِيعَةِ سُؤَالًا وَجَوَابًا فَلَخَّصَهُمَا صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فَقَالَ بَعْدَ ذِكْرِ ذَلِكَ الْإِشْكَالِ. وَالْجَوَابُ وَرَدَ بِأَنَّ دَلِيلَ الْمَجَازِ قَائِمٌ ثَمَّةَ، وَهُوَ تَصْحِيحُ الْعَقْدِ عَلَى تَقْدِيرِ التَّعْجِيلِ فَيَكُونُ مُرَادًا نَظَرًا إلَى ظَاهِرِ الْحَالِ. وَالْجَوَابُ أَنَّ الْجَوَازَ بِظَاهِرِ الْحَالِ فِي حَيِّزِ النِّزَاعِ فَلَا بُدَّ مِنْ دَلِيلٍ زَائِدٍ عَلَى ذَلِكَ وَلَيْسَ بِمَوْجُودٍ، بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ فَإِنَّ نُقْصَانَ الْأَجْرِ دَلِيلٌ زَائِدٌ عَلَى الْجَوَازِ بِظَاهِرِ الْحَالِ انْتَهَى. أَقُولُ: يُشْكِلُ الْجَوَابُ الْمَذْكُورُ عَنْ ذَلِكَ الْإِشْكَالِ بِمَسْأَلَةٍ أُخْرَى مَذْكُورَةٍ فِي الْمُحِيطِ الْبُرْهَانِيِّ، وَهِيَ مَا قَالَ فِيهِ، وَلَوْ قَالَ إنْ خِطْته الْيَوْمَ فَلَكَ دِرْهَمٌ، وَإِنْ خِطْته غَدًا فَلَا أَجْرَ لَك، قَالَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَمَالِي: إنْ خَاطَهُ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ فَلَهُ دِرْهَمٌ: وَإِنْ خَاطَهُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي فَلَهُ أَجْرٌ مِثْلُهُ لَا يُزَادُ عَلَى دِرْهَمٍ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ إسْقَاطَ الْأَجْرِ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي لَا يَنْفِي وُجُوبَهُ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ، وَنَفْيُ التَّسْمِيَةِ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي لَا يَنْفِي أَصْلَ الْعَقْدِ فَكَانَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي عَقْدًا لَا تَسْمِيَةَ فِيهِ فَيَجِبُ أَجْرُ الْمِثْلِ. انْتَهَى لَفْظُ الْمُحِيطِ.
فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رحمه الله لَمْ يُفْسِدْ الْعَقْدَ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ فِي هَاتِيك الْمَسْأَلَةِ كَمَا أَفْسَدَهُ فِي حَالَةِ الِانْفِرَادِ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَقُمْ فِيهَا دَلِيلٌ عَلَى الْمَجَازِ كَمَا قَامَ دَلِيلٌ عَلَيْهِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ
يَجْتَمِعُ فِي الْغَدِ تَسْمِيَتَانِ دُونَ الْيَوْمِ، فَيَصِحُّ الْيَوْمُ الْأَوَّلُ وَيَجِبُ الْمُسَمَّى، وَيَفْسُدُ الثَّانِي وَيَجِبُ أَجْرُ الْمِثْلُ لَا يُجَاوَزُ بِهِ نِصْفُ دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُسَمَّى فِي الْيَوْمِ الثَّانِي. وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لَا يُزَادُ عَلَى دِرْهَمٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ نِصْفِ دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ الْأُولَى لَا تَنْعَدِمُ
إذْ لَا شَكَّ أَنَّ قَوْلَهُ إنْ خِطْته غَدًا فَلَا أَجْرَ لَك لَا يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى عَدَمِ إرَادَةِ مَا كَانَ ذِكْرُ الْيَوْمِ حَقِيقَةً فِيهِ، وَهُوَ التَّوْقِيتُ، بَلْ يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى إرَادَةِ حَقِيقَةِ ذَلِكَ، إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ مُرَادُهُ التَّوْقِيتَ لَمَا نَفَى الْأَجْرَ بِالْكُلِّيَّةِ فِي الْغَدِ، وَإِذَا كَانَ التَّوْقِيتُ مُرَادًا بِذِكْرِ الْيَوْمِ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ يُشْكِلُ الْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَسْأَلَةِ الْمَخَاتِيمِ جِدًّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَلْيُتَأَمَّلْ. وَاسْتَشْكَلَ الْجَوَابَ الْمَذْكُورَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ بِوَجْهٍ آخَرَ حَيْثُ قَالَ: وَلَا بُدَّ لِأَبِي حَنِيفَةَ مِنْ بَيَانِ دَلِيلِ الْمَجَازِ فِيمَا إذَا قِيلَ خِطْهُ الْيَوْمَ بِدِرْهَمٍ حَيْثُ حَمَلَ ذِكْرَ الْيَوْمِ عَلَى التَّعْجِيلِ. وَقَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ صِيغَةَ الْأَمْرِ فَإِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى كَوْنِ الْخِيَاطَةِ مَطْلُوبَةً فَلَا يَكُونُ ذِكْرُ الْيَوْمِ لِلتَّأْقِيتِ، وَقَالَ: وَفِيهِ تَأَمُّلٌ انْتَهَى.
أَقُولُ: لَا يُتَوَجَّهُ هَذَا الِاسْتِشْكَالُ رَأْسًا إذْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ حَمَلَ ذِكْرَ الْيَوْمِ عَلَى التَّعْجِيلِ فِي الصُّورَةِ الْمَزْبُورَةِ، بَلْ الظَّاهِرُ أَنَّهُ عَلَى أَصْلِهِ هُنَاكَ أَيْضًا مِنْ أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ ذِكْرِ الْوَقْتِ وَذِكْرِ الْعَمَلِ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ حَالَةَ الْإِفْرَادِ. وَإِنِّي تَتَبَّعْت عَامَّةَ الْمُعْتَبَرَاتِ، وَلَمْ أَجِدْ فِي شَيْءٍ مِنْهَا مَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْعَقْدِ فِي الصُّورَةِ الْمَزْبُورَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، بَلْ وَجَدْت فِي بَعْضٍ مِنْهَا التَّصْرِيحَ بِعَدَمِ صِحَّةِ الْعَقْدِ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ، فَإِنَّ الْإِمَامَ الزَّاهِدِيَّ قَالَ فِي شَرْحِهِ لِمُخْتَصَرِ الْقُدُورِيِّ نَقْلًا عَنْ شَرْحِ الْأَقْطَعِ: وَلَوْ قَالَ خِطْ هَذَا الثَّوْبَ الْيَوْمَ وَلَك دِرْهَمٌ لَمْ يَصِحَّ لِجَهَالَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ أَنَّهُ الْمُدَّةُ أَوْ الْعَمَلُ انْتَهَى. نَعَمْ قَدْ قِيلَ فِي الْكَافِي وَكَثِيرٍ مِنْ الشُّرُوحِ فِي أَثْنَاءِ بَيَانِ دَلِيلِ زُفَرَ فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِهَا تَوْضِيحًا لِقَوْلِهِ إنَّ ذِكْرَ الْيَوْمِ لِلتَّعْجِيلِ لَا لِلتَّوْقِيتِ، وَلِهَذَا لَوْ أَفْرَدَ الْعَقْدَ فِي الْيَوْمِ بِأَنْ قَالَ خِطْهُ الْيَوْمَ بِدِرْهَمٍ كَانَ لِلتَّعْجِيلِ لَا لِلتَّوْقِيتِ، حَتَّى لَوْ خَاطَهُ فِي الْغَدِ اسْتَحَقَّ الْأَجْرَ فَكَذَا هَاهُنَا انْتَهَى. لَكِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ ذَلِكَ الْقِيَاسَ الْمَذْكُورَ فِي دَلِيلِ زُفَرَ إنَّمَا يَنْتَهِضُ حُجَّةً عَلَى الْإِمَامَيْنِ. فَإِنَّهُمَا يَقُولَانِ بِالتَّعْجِيلِ حَالَةَ الْإِفْرَادِ لَا عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله فَتَدَبَّرْ.
(قَوْلُهُ: وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: لَا يُزَادُ عَلَى دِرْهَمٍ وَلَا يُنْتَقَصُ مِنْ نِصْفِ دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ الْأُولَى لَا تَنْعَدِمُ
فِي الْيَوْمِ الثَّانِي فَتُعْتَبَرُ لِمَنْعِ الزِّيَادَةِ وَتُعْتَبَرُ التَّسْمِيَةُ الثَّانِيَةُ لِمَنْعِ النُّقْصَانِ، فَإِنْ خَاطَهُ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ لَا يُجَاوَزُ بِهِ نِصْفُ دِرْهَمٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله هُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَرْضَ بِالتَّأْخِيرِ إلَى الْغَدِ فَبِالزِّيَادَةِ عَلَيْهِ إلَى مَا بَعْدَ الْغَدِ أَوْلَى (وَلَوْ قَالَ: إنْ سَكَّنْتَ فِي هَذَا الدُّكَّانِ عَطَّارًا فَبِدِرْهَمٍ فِي الشَّهْرِ، وَإِنْ سَكَّنْتَهُ حَدَّادًا فَبِدِرْهَمَيْنِ جَازَ، وَأَيَّ الْأَمْرَيْنِ فَعَلَ اسْتَحَقَّ الْأَجْرَ الْمُسَمَّى فِيهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَا: الْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ، وَكَذَا إذَا اسْتَأْجَرَ بَيْتًا عَلَى أَنَّهُ إنْ سَكَّنَ فِيهِ عَطَّارًا فَبِدِرْهَمٍ، وَإِنْ سَكَّنَ فِيهِ حَدَّادًا فَبِدِرْهَمَيْنِ فَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَقَالَا: لَا يَجُوزُ).
(وَمَنْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً إلَى الْحِيرَةِ بِدِرْهَمٍ وَإِنْ جَاوَزَ بِهَا إلَى الْقَادِسِيَّةِ فَبِدِرْهَمَيْنِ فَهُوَ جَائِزٌ، وَيُحْتَمَلُ الْخِلَافُ وَإِنْ اسْتَأْجَرَهَا إلَى الْحِيرَةِ عَلَى أَنَّهُ إنْ حَمَلَ عَلَيْهَا كُرَّ شَعِيرٍ فَبِنِصْفِ دِرْهَمٍ، وَإِنْ حَمَلَ عَلَيْهَا كُرَّ حِنْطَةٍ فَبِدِرْهَمٍ فَهُوَ جَائِزٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله. وَقَالَا: لَا يَجُوزُ) وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَجْهُولٌ، وَكَذَا الْأَجْرُ أَحَدُ الشَّيْئَيْنِ، وَهُوَ مَجْهُولٌ وَالْجَهَالَةُ تُوجِبُ الْفَسَادَ، بِخِلَافِ الْخِيَاطَةِ الرُّومِيَّةِ وَالْفَارِسِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْأَجْرَ يَجِبُ بِالْعَمَلِ وَعِنْدَهُ تَرْتَفِعُ الْجَهَالَةُ.
أَمَّا فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ يَجِبُ الْأَجْرُ بِالتَّخْلِيَةِ وَالتَّسْلِيمِ فَتَبْقَى الْجَهَالَةُ، وَهَذَا الْحَرْفُ هُوَ الْأَصْلُ عِنْدَهُمَا. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ خَيَّرَهُ بَيْنَ عَقْدَيْنِ صَحِيحَيْنِ مُخْتَلِفِينَ فَيَصِحُّ كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الرُّومِيَّةِ وَالْفَارِسِيَّةِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ سُكْنَاهُ بِنَفْسِهِ يُخَالِفُ إسْكَانَهُ الْحَدَّادَ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ ذَلِكَ فِي مُطْلَقِ الْعَقْدِ وَكَذَا فِي أَخَوَاتِهَا،
فِي الْيَوْمِ الثَّانِي فَتُعْتَبَرُ لِمَنْعِ الزِّيَادَةِ، وَتُعْتَبَرُ التَّسْمِيَةُ الثَّانِيَةُ لِمَنْعِ النُّقْصَانِ) أَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ، إذْ قَدْ تَقَرَّرَ فِي أَوَّلِ بَابِ الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ أَنَّ التَّسْمِيَةَ فِي الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ تَمْنَعُ الزِّيَادَةَ عِنْدَنَا وَلَا تَمْنَعُ النُّقْصَانَ أَصْلًا، بَلْ يَجِبُ أَجْرُ الْمِثْلِ، وَإِنْ نَقَصَ عَنْ الْمُسَمَّى فَمَا مَعْنَى أَنْ تُعْتَبَرَ التَّسْمِيَةُ الثَّانِيَةُ هَاهُنَا لِمَنْعِ النُّقْصَانِ، وَهَلَّا هَذَا مُخَالِفًا لِمَا تَقَرَّرَ.
(قَوْلُهُ: أَمَّا فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ يَجِبُ الْأَجْرُ بِالتَّخْلِيَةِ وَالتَّسْلِيمِ فَتَبْقَى الْجَهَالَةُ، وَهَذَا الْحَرْفُ هُوَ الْأَصْلُ عِنْدَهُمَا) قَالَ صَاحِبُ التَّسْهِيلِ: يَرُدُّ عَلَى أَصْلِهِمَا مَسْأَلَةُ التَّخْيِيرِ بَيْنَ مَسَافَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ، فَإِنَّ الْأَجْرَ يَجِبُ بِالتَّسْلِيمِ مِنْ غَيْرِ عَمَلٍ فَيَلْزَمُ أَنْ يَفْسُدَ عَقْدُ الْإِجَارَةِ ثَمَّةَ عِنْدَهُمَا مَعَ أَنَّهُ جَائِزٌ عِنْدَ أَصْحَابِنَا وِفَاقًا إلَّا عِنْدَ زُفَرَ، انْتَهَى
وَالْإِجَارَةُ تُعْقَدُ لِلِانْتِفَاعِ وَعِنْدَهُ تَرْتَفِعُ الْجَهَالَةُ، وَلَوْ اُحْتِيجَ إلَى الْإِيجَابِ بِمُجَرَّدِ التَّسْلِيمِ يَجِبُ أَقَلُّ الْأَجْرَيْنِ لِلتَّيَقُّنِ بِهِ.
كَلَامُهُ. أَقُولُ: يُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ الْأَجْرَ، وَإِنْ وَجَبَ فِي الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ بِالتَّسْلِيمِ مِنْ غَيْرِ عَمَلٍ إلَّا أَنَّهُ لَا يَجِبُ بِمُجَرَّدِ التَّسْلِيمِ وَالتَّخْلِيَةِ، بَلْ لَا بُدَّ فِي وُجُوبِهِ مِنْ قَطْعِ الْمَسَافَةِ الْمُعَيَّنَةِ فِي ذَلِكَ الْعَقْدِ، فَإِنَّهُمْ صَرَّحُوا بِأَنَّهُ إذَا اسْتَأْجَرَ دَابَّةً إلَى الْكُوفَةِ فَسَلَّمَهَا الْمُؤَجِّرُ وَأَمْسَكَهَا الْمُسْتَأْجِرُ بِبَغْدَادَ حَتَّى مَضَتْ مُدَّةٌ يُمْكِنُهُ الْمَسِيرُ فِيهَا إلَى الْكُوفَةِ فَلَا أَجْرَ عَلَيْهِ، وَإِنْ سَاقَهَا مَعَهُ إلَى الْكُوفَةِ فَلَمْ يَرْكَبْهَا وَجَبَتْ الْأُجْرَةُ. انْتَهَى.
فَفِي مَسْأَلَةِ التَّخْيِيرِ بَيْنَ مَسَافَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ تَرْتَفِعُ الْجَهَالَةُ بِقَطْعِ مَسَافَةٍ مِنْ تَيْنِك الْمَسَافَتَيْنِ، بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ عَلَى أَصْلِهِمَا (قَوْلُهُ: وَلَوْ اُحْتِيجَ إلَى الْإِيجَابِ بِمُجَرَّدِ التَّسْلِيمِ يَجِبُ أَقَلُّ الْأَجْرَيْنِ لِلتَّيَقُّنِ بِهِ) يَعْنِي وَلَوْ اُحْتِيجَ إلَى إيجَابِ الْأَجْرِ بِمُجَرَّدِ التَّخْلِيَةِ وَالتَّسْلِيمِ، بِأَنْ يُسَلِّمَ الْعَيْنَ الْمُسْتَأْجَرَةَ إلَى الْمُسْتَأْجِرِ، وَلَمْ يَنْتَفِعْ بِهِ قَطُّ حَتَّى تُعْلَمَ الْمَنْفَعَةُ يَجِبُ أَقَلُّ الْأَجْرَيْنِ اللَّذَيْنِ سُمِّيَا فِي الْعَقْدِ لِلتَّيَقُّنِ بِهِ. أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَوْ جَازَ الْأَخْذُ بِالْأَقَلِّ فِي دَفْعِ الْجَهَالَةِ الْوَاقِعَةِ فِي بَابِ الْإِجَارَةِ بِنَاءً عَلَى كَوْنِهِ مُتَيَقِّنًا لَصَحَّتْ الْإِجَارَةُ فِيمَا إذَا سَمَّى لِعَمَلٍ مُعَيَّنٍ أَوْ لِمَنْفَعَةٍ مُعَيَّنَةٍ أَجْرَيْنِ مُتَغَايِرَيْنِ عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ كَأَنْ قَالَ: خِطْ هَذَا الثَّوْبَ بِدِرْهَمٍ أَمْ بِنِصْفِ دِرْهَمٍ، أَوْ قَالَ: اُسْكُنْ فِي هَذَا الْبَيْتِ بِدِرْهَمٍ أَوْ بِنِصْفِ دِرْهَمٍ وَجَبَ أَقَلُّ الْأَجْرَيْنِ اللَّذَيْنِ سَمَّاهُمَا وَلَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ فَتَأَمَّلْ فِي الدَّفْعِ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ.
(بَابُ إجَارَةِ الْعَبْدِ)
قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ أَحْكَامٍ تَتَعَلَّقُ بِالْحُرِّ شَرَعَ فِي بَيَانِ أَحْكَامٍ تَتَعَلَّقُ بِالْعَبْدِ، إذْ الْعَبْدُ مُنْحَطُّ الدَّرَجَةِ عَنْ الْحُرِّ فَانْحَطَّ ذِكْرُهُ عَنْ ذِكْرِ الْحُرِّ لِذَلِكَ انْتَهَى. وَاقْتَفَى أَثَرَهُ كَثِيرٌ مِنْ الشُّرَّاحِ فِي ذِكْرِ هَذَا الْوَجْهِ. وَقَالَ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ: لَمَّا كَانَتْ إجَارَةُ الرَّقِيقِ نَوْعًا مِنْ أَنْوَاعِ الْإِجَارَةِ وَبِالرَّقِيقِ مَسَائِلُ خَاصَّةٌ تَتَعَلَّقُ بِهِ ذَكَرَهَا فِي بَابٍ عَلَى حِدَةٍ، وَأَخَّرَ ذِكْرَهَا؛ لِأَنَّ الْجِنْسَ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّوْعِ، وَقَالَ هَذَا مَا لَاحَ لِي مِنْ وَجْهِ الْمُنَاسَبَةِ، وَمَا قِيلَ فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ إنَّ الْعَبْدَ مُنْحَطُّ الدَّرَجَةِ عَنْ الْحُرِّ فَانْحَطَّ ذِكْرُهُ عَنْ ذِكْرِ الْحُرِّ لِذَلِكَ فَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْهِدَايَةِ ذَكَرَ قَبْلَ هَذَا اسْتِئْجَارَ الدُّورِ وَالْحَوَانِيتِ وَالْحَمَّامِ وَالدَّوَابِّ، وَذَكَرَ هُنَا اسْتِئْجَارَ الرَّقِيقِ لِاخْتِصَاصِهِ بِالْمَسَائِلِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذَا الْبَابِ، وَتَرْجَمَ الْبَابَ بِبَابِ إجَارَةِ الْعَبْدِ كَمَا تَرْجَمَ فِي الْأَصْلِ بِبَابِ إجَارَةِ الرَّقِيقِ لِلْخِدْمَةِ وَغَيْرِهَا، وَظَاهِرُ كَلَامِ هَذَا الشَّارِحِ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ الْعَبْدَ مُنْحَطُّ الدَّرَجَةِ عَنْ الْحُرِّ؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ أَصْلًا فَلَا يَصِحُّ تَصَرُّفُهُ فِي شَيْءٍ إلَّا بِإِذْنِ الْمَوْلَى، وَهَذَا مُسَلَّمٌ، وَلَكِنْ لَوْ كَانَ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ هَذَا لَمْ يَبْدَأْ أَوَّلَ الْبَابِ بِاسْتِئْجَارِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ تَصَرُّفٌ أَصْلًا فِي عَقْدِ الْإِجَارَةِ لَا أَصَالَةً وَلَا نِيَابَةً، بَلْ هُوَ مَحَلُّ التَّصَرُّفِ، وَمَوْقِعُ عَقْدِ الْإِجَارَةِ كَالدَّابَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَعُلِمَ بِهَذَا أَنَّ غَرَضَ الْمُصَنِّفِ لَمْ يَكُنْ إلَّا تَنْوِيعُ الْمَسَائِلِ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ.
أَقُولُ: فِي الْوَجْهِ الَّذِي لَاحَ لَهُ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ مُجَرَّدَ كَوْنِ
بَابُ إجَارَةِ الْعَبْدِ
قَالَ: (وَمَنْ اسْتَأْجَرَ عَبْدًا لِلْخِدْمَةِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِهِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ ذَلِكَ)؛ لِأَنَّ خِدْمَةَ السَّفَرِ اشْتَمَلَتْ عَلَى زِيَادَةِ مَشَقَّةٍ فَلَا يَنْتَظِمُهَا الْإِطْلَاقُ،
الْجِنْسِ مُقَدَّمًا عَلَى النَّوْعِ لَا يَقْتَضِي تَأْخِيرَ مَسَائِلِ هَذَا الْبَابِ إلَى هُنَا، فَإِنَّ مَسَائِلَ كَثِيرَةً مِنْ الْأَبْوَابِ السَّابِقَةِ مُخْتَصَّةٌ أَيْضًا بِالنَّوْعِ لَا عَامَّةٌ لِلْجِنْسِ، أَلَا يُرَى أَنَّ مَسَائِلَ بَابِ الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ مُخْتَصَّةٌ بِالنَّوْعِ الْفَاسِدِ مِنْ جِنْسِ الْإِجَارَةِ، وَكَذَا مَسَائِلُ بَابِ الْإِجَارَةِ عَلَى أَحَدِ الشَّرْطَيْنِ مُخْتَصَّةٌ بِالنَّوْعِ الَّذِي ذُكِرَ فِيهِ الشَّرْطَانِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَسَائِلِ الْأُخْرَى الْمُتَقَدِّمَةِ. وَإِنَّمَا يَقْتَضِي هَذَا الْوَجْهُ تَأْخِيرَ مَسَائِلِ هَذَا الْبَابِ عَمَّا ذَكَرَ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الْإِجَارَةِ مِنْ الْأَحْكَامِ الْعَامَّةِ لِجِنْسِ الْإِجَارَةِ دُونَ غَيْرِهَا مِنْ الْأَحْكَامِ الْكَثِيرَةِ الْمُتَنَوِّعَةِ الْوَاقِعَةِ فِي الْبَيْنِ فَلَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ.
وَأَمَّا مَا أَوْرَدَهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ، وَمَنْ يَحْذُو حَذْوَهُ مِنْ النَّظَرِ فَقَدْ قَصَدَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ دَفْعَهُ حَيْثُ قَالَ فِي تَفْسِيرِ إجَارَةِ الْعَبْدِ: أَيْ نَفْسِهِ وَقَالَ: وَإِجَارَةُ الْغَيْرِ إيَّاهُ ذُكِرَتْ اسْتِطْرَادًا، وَقَدْ يُقَدَّمُ فِي الذِّكْرِ مَا يُذْكَرُ اسْتِطْرَادًا كَمَا سَبَقَ فِي بَابِ الْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ، فَعَلَى هَذَا الْإِجَارَةُ مُضَافٌ إلَى الْفَاعِلِ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ. أَقُولُ: فِيهِ خَلَلٌ. أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ الْإِجَارَةَ فِي اللُّغَةِ اسْمٌ لِلْأُجْرَةِ، وَهِيَ كِرَاءُ الْأَجِيرِ، صَرَّحَ بِهِ فِي الْمُغْرِبِ وَعَامَّةِ كُتُبِ اللُّغَةِ، وَلَمْ يُسْمَعْ مَجِيءُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ مَصْدَرًا قَطُّ، وَإِنَّمَا الْمَصْدَرُ مِنْ الثُّلَاثِيِّ الْأَجْرُ، وَمِنْ الْمَزِيدِ عَلَيْهِ الْإِيجَارُ وَالْمُؤَاجَرَةُ، فَلَمْ يُتَصَوَّرْ أَنْ يَكُونَ لِلْإِجَارَةِ فَاعِلٌ، وَمَفْعُولٌ، فَلَمْ يَصِحَّ الْقَوْلُ بِأَنَّ الْإِجَارَةَ هَاهُنَا مُضَافٌ إلَى الْفَاعِلِ، وَأَنَّ الْمَعْنَى إجَارَةُ الْعَبْدِ نَفْسِهِ. وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِي هَذَا الْبَابِ خَمْسُ مَسَائِلَ: ثِنْتَانِ مِنْهَا مُتَعَلِّقَتَانِ بِإِيجَارِ الْعَبْدِ نَفْسِهِ، وَثَلَاثٌ مِنْهَا مُتَعَلِّقَاتٌ بِإِيجَارِ الْغَيْرِ إيَّاهُ، فَحَمَلَ عُنْوَانَ الْبَابِ عَلَى أَقَلَّ مَا ذَكَرَ فِي الْبَابِ، وَجَعَلَ أَكْثَرَ مَا ذَكَرَ فِيهِ اسْتِطْرَادِيًّا كَمَا يَقْتَضِيهِ قَوْلُهُ: وَإِجَارَةُ الْغَيْرِ إيَّاهُ ذُكِرَتْ اسْتِطْرَادًا مِمَّا لَا تَقْبَلُهُ فِطْرَةٌ سَلِيمَةٌ.
ثُمَّ أَقُولُ: فِي دَفْعِ مَا أَوْرَدَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ مِنْ النَّظَرِ إنَّ انْحِطَاطَ دَرَجَةِ الْعَبْدِ عَنْ الْحُرِّ كَمَا يَظْهَرُ لَهُ أَثَرٌ فِيمَا إذَا وُجِدَ مِنْ الْعَبْدِ تَصَرُّفٌ فِي عَقْدِ الْإِجَارَةِ، كَذَلِكَ يَظْهَرُ لَهُ أَثَرٌ فِيمَا إذَا لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ تَصَرُّفٌ فِي ذَلِكَ، وَلَكِنْ كَانَ هُوَ مَحَلَّ التَّصَرُّفِ، وَمَوْقِعَ عَقْدِ الْإِجَارَةِ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ فِي كُلِّ مِنْ تَيْنِك الصُّورَتَيْنِ حُكْمًا خَاصًّا يَتَعَلَّقُ بِالْعَبْدِ كَمَا يُفْصِحُ عَنْهُ قَوْلُهُ: فِي الْوَجْهِ الَّذِي اخْتَارَهُ، وَبِالرَّقِيقِ مَسَائِلُ خَاصَّةٌ تَتَعَلَّقُ بِهِ ذَكَرَهَا فِي بَابٍ عَلَى حِدَةٍ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ اخْتِصَاصَ مِثْلِ ذَلِكَ الْحُكْمِ بِالْعَبْدِ لَيْسَ لِارْتِفَاعِ دَرَجَتِهِ عَنْ الْحُرِّ بَلْ إنَّمَا هُوَ لِانْحِطَاطِ دَرَجَتِهِ عَنْ الْحُرِّ؛ فَكَانَ قَوْلُ صَاحِبِ النِّهَايَةِ، وَمَنْ تَبِعَهُ: أَخَّرَ الْأَحْكَامَ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالْعَبْدِ عَنْ أَحْكَامِ الْحُرِّ؛ لِانْحِطَاطِ دَرَجَةِ الْعَبْدِ عَنْ الْحُرِّ وَجْهًا جَارِيًا فِي الصُّورَتَيْنِ مَعًا شَامِلًا لِلْمَسَائِلِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذَا الْبَابِ بِأَسْرِهَا فَلَمْ يَتِمَّ قَوْلُ صَاحِبِ الْغَايَةِ، وَلَكِنْ لَوْ كَانَ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ هَذَا لَمْ يَبْدَأْ أَوَّلَ الْبَابِ بِاسْتِئْجَارِ الْعَبْدِ إلَخْ، إذْ مَدَارُهُ عَلَى أَنْ لَا يَجْرِيَ الْوَجْهُ الْمَزْبُورُ فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ كَمَا يُنَادِي عَلَيْهِ تَعْلِيلُهُ. ثُمَّ إنَّ إضَافَةَ الْإِجَارَةِ إلَى الْعَبْدِ فِي عُنْوَانِ الْبَابِ لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ الْإِضَافَةِ إلَى الْفَاعِلِ وَلَا مِنْ قَبِيلِ الْإِضَافَةِ إلَى الْمَفْعُولِ لِمَا عَرَفْت، بَلْ مِنْ قَبِيلِ الْإِضَافَةِ لِأَدْنَى الْمُلَابَسَةِ فَتَشْمَلُ مَا كَانَ الْعَبْدُ مُتَصَرِّفًا فِي نَفْسِ عَقْدِ الْإِجَارَةِ كَمَا فِي بَعْضِ مَسَائِلِ هَذَا الْبَابِ.
وَمَا كَانَ الْعَبْدُ مَحَلَّ التَّصَرُّفِ، وَمَوْقِعَ عَقْدِ الْإِجَارَةِ كَمَا فِي الْبَعْضِ الْآخَرِ مِنْ مَسَائِلِ هَذَا الْبَابِ. وَمِنْ هَذَا الْبَعْضِ الْمَسْأَلَةُ الْمُبْتَدَأُ بِهَا أَوَّلَ الْبَابِ فَلَا مَحْذُورَ وَلَا اسْتِطْرَادَ فِي شَيْءٍ تَأَمَّلْ تَرْشُدْ (قَوْلُهُ: وَمَنْ اسْتَأْجَرَ عَبْدًا لِلْخِدْمَةِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِهِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ خِدْمَةَ السَّفَرِ اشْتَمَلَتْ عَلَى زِيَادَةِ مَشَقَّةٍ فَلَا يَنْتَظِمُهَا الْإِطْلَاقُ) فَإِنْ قِيلَ: إنَّ الْمُسْتَأْجَرَ فِي مِلْكِ مَنَافِعِهِ يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الْمَوْلَى فِي مَنَافِعِ عَبْدِهِ وَلِلْمَوْلَى أَنْ يُسَافِرَ بِعَبْدِهِ فَلِمَاذَا لَا يَكُونُ
وَلِهَذَا جُعِلَ السَّفَرُ عُذْرًا
لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يُسَافِرَ بِأَجِيرِهِ؟ قُلْنَا: إنَّمَا يُسَافِرُ الْمَوْلَى بِعَبْدِهِ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ رَقَبَتَهُ، وَالْمُسْتَأْجِرُ لَا يَمْلِكُ رَقَبَةَ أَجِيرِهِ، كَذَا فِي الْكَافِي وَعَامَّةِ الشُّرُوحِ. وَنَقْضُ هَذَا الْجَوَابِ بِمَنْ ادَّعَى دَارًا وَصَالَحَهُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَلَى خِدْمَةِ عَبْدِهِ سَنَةً فَإِنَّ لِلْمُدَّعِي أَنْ يَخْرُجَ بِالْعَبْدِ إلَى السَّفَرِ، وَإِنْ لَمْ يَمْلِكْ رَقَبَتَهُ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ مُؤْنَةَ الرَّدِّ فِي بَابِ الْإِجَارَةِ عَلَى الْآجِرِ بَعْدَ انْتِهَاءِ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ فِي النَّقْلِ كَانَتْ لَهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يُقَرِّرُ حَقَّهُ فِي الْأَجْرِ، فَالْمُسْتَأْجِرُ إذَا سَافَرَ بِالْعَبْدِ فَهُوَ يُلْزِمُ الْمُؤَجِّرَ مَا لَمْ يَلْزَمْهُ مِنْ مُؤْنَةِ الرَّدِّ، وَرُبَّمَا تَرْبُو عَلَى الْأُجْرَةِ. وَأَمَّا فِي الصُّلْحِ فَمُؤْنَةُ الرَّدِّ لَيْسَتْ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَالْمُدَّعِي بِالْإِخْرَاجِ إلَى السَّفَرِ يَلْتَزِمُ مُؤْنَةَ الرَّدِّ وَلَهُ ذَلِكَ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ أَخْذًا مِنْ النِّهَايَةِ. أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: يَلْزَمُ مِنْ هَذَا الْجَوَابِ أَنْ يَقْدِرَ الْمُسْتَأْجِرُ أَنْ يُسَافِرَ بِالْعَبْدِ إذَا الْتَزَمَ مُؤْنَةَ الرَّدِّ، وَإِنْ لَمْ يَرْضَ بِهِ الْمُؤَجِّرُ؛ لِأَنَّ حَاصِلَ هَذَا الْجَوَابِ أَنَّهُ إنْ سَافَرَ الْمُسْتَأْجِرُ بِالْعَبْدِ فِي بَابِ الْإِجَارَةِ يَتَرَتَّبُ الضَّرَرُ عَلَى الْمُؤَجِّرِ بِإِلْزَامِهِ إيَّاهُ مَا لَمْ يَلْزَمْهُ مِنْ مُؤْنَةِ الرَّدِّ.
وَلَا يَخْفَى أَنَّ ذَلِكَ الضَّرَرَ يَنْدَفِعُ بِالْتِزَامِ الْمُسْتَأْجِرِ تِلْكَ الْمُؤْنَةَ مَعَ أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ عِبَارَاتِ الْكُتُبِ عَدَمُ جَوَازِ الْمُسَافَرَةِ بِهِ مُطْلَقًا مَا لَمْ يَشْتَرِطْ ذَلِكَ فَتَأَمَّلْ. وَطَعَنَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي الْجَوَابِ الْمَزْبُورِ بِوَجْهٍ آخَرَ حَيْثُ قَالَ: وَهَذَا كَمَا تَرَى انْقِطَاعٌ؛ لِأَنَّ الْمُعَلَّلَ احْتَاجَ إلَى أَنْ يَضُمَّ إلَى عِلَّتِهِ، وَهِيَ قَوْلُهُ: وَالْمُسْتَأْجِرُ لَا يَمْلِكُ رَقَبَتَهُ قَيْدًا، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ وَيَلْزَمُهُ مُؤْنَةُ الرَّدِّ. ثُمَّ قَالَ: وَلَعَلَّ الصَّوَابَ أَنْ يُقَالَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ فِي مَنَافِعِ الْعَبْدِ كَالْمَوْلَى فَإِنَّ الْمَوْلَى لَهُ الْمَنْفَعَةُ عَلَى الْإِطْلَاقِ زَمَانًا، وَمَكَانًا وَنَوْعًا، وَلَيْسَ الْمُسْتَأْجِرُ كَذَلِكَ بَلْ يَمْلِكُهَا بِعَقْدٍ ضَرُورِيٍّ يَتَقَيَّدُ بِمَكَانٍ وَزَمَانٍ، فَيَجُوزُ أَنْ يَتَقَيَّدَ بِمَا لَا يَتَقَيَّدُ بِهِ الْمَوْلَى وَالْعُرْفُ يُوجِبُهُ، أَوْ دَفْعُ ضَرَرِ الْمُؤْنَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا يُوجِبُهُ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
أَقُولُ: فِيمَا اسْتَصْوَبَهُ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ يَنْتَقِضُ بِمَسْأَلَةِ الصُّلْحِ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ الْمُصَالِحَ أَيْضًا لَا يَمْلِكُ مَنَافِعَ الْعَبْدِ عَلَى الْإِطْلَاقِ كَالْمَوْلَى، بَلْ هُوَ أَيْضًا إنَّمَا يَمْلِكُهَا بِعَقْدٍ ضَرُورِيٍّ هُوَ عَقْدُ
فَلَا بُدَّ مِنْ اشْتِرَاطِهِ كَإِسْكَانِ الْحَدَّادِ وَالْقَصَّارِ فِي الدَّارِ، وَلِأَنَّ التَّفَاوُتَ بَيْنَ الْخِدْمَتَيْنِ ظَاهِرٌ، فَإِذَا تَعَيَّنَ الْخِدْمَةُ فِي الْحَضَرِ لَا يَبْقَى غَيْرُهُ دَاخِلًا كَمَا فِي الرُّكُوبِ
(وَمَنْ اسْتَأْجَرَ عَبْدًا مَحْجُورًا عَلَيْهِ شَهْرًا وَأَعْطَاهُ الْأَجْرَ فَلَيْسَ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ الْأَجْرَ) وَأَصْلُهُ أَنَّ الْإِجَارَةَ صَحِيحَةٌ اسْتِحْسَانًا إذَا فَرَغَ مِنْ الْعَمَلِ. وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ لِانْعِدَامِ إذْنِ الْمَوْلَى وَقِيَامِ الْحَجْرِ فَصَارَ كَمَا إذَا هَلَكَ الْعَبْدُ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ التَّصَرُّفَ نَافِعٌ عَلَى اعْتِبَارِ الْفَرَاغِ سَالِمًا ضَارٌّ عَلَى اعْتِبَارِ هَلَاكِ الْعَبْدِ، وَالنَّافِعُ مَأْذُونٌ فِيهِ كَقَبُولِ الْهِبَةِ، وَإِذَا جَازَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ.
(وَمَنْ غَصَبَ عَبْدًا فَآجَرَ الْعَبْدُ نَفْسَهُ فَأَخَذَ الْغَاصِبُ الْأَجْرَ فَأَكَلَهُ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: هُوَ ضَامِنٌ)؛ لِأَنَّهُ أَكَلَ مَالَ الْمَالِكِ بِغَيْرِ إذْنِهِ، إذْ الْإِجَارَةُ قَدْ صَحَّتْ عَلَى مَا مَرَّ. وَلَهُ أَنَّ الضَّمَانَ إنَّمَا يَجِبُ بِإِتْلَافِ مَالٍ مُحْرَزٍ؛ لِأَنَّ التَّقَوُّمَ بِهِ، وَهَذَا غَيْرُ مُحْرَزٍ فِي حَقِّ الْغَاصِبِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يُحْرِزُ نَفْسَهُ عَنْهُ فَكَيْفَ يُحْرِزُ مَا فِي يَدِهِ.
الصُّلْحِ مَعَ أَنَّ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِالْعَبْدِ، بِخِلَافِ الْمُسْتَأْجِرِ فَيَحْتَاجُ إلَى الْفَرْقِ (قَوْلُهُ: وَلِأَنَّ التَّفَاوُتَ بَيْنَ الْخِدْمَتَيْنِ ظَاهِرٌ، فَإِذَا تَعَيَّنَ الْخِدْمَةُ فِي الْحَضَرِ لَا يَبْقَى غَيْرُهُ دَاخِلًا كَمَا فِي الرُّكُوبِ) قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: الْفَرْقُ بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ غَيْرُ وَاضِحٍ ظَاهِرًا انْتَهَى. أَقُولُ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ مَدَارَ الْأَوَّلِ عَلَى أَنَّ خِدْمَةَ السَّفَرِ مِمَّا لَا يَدْخُلُ فِي إطْلَاقِ الْعَقْدِ رَأْسًا بِنَاءً عَلَى انْصِرَافِ مُطْلَقِ الْعَقْدِ إلَى الْمُتَعَارَفِ الَّذِي هُوَ الْخِدْمَةُ فِي الْحَضَرِ، وَمَدَارُ الثَّانِي عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ خِدْمَتَيْ السَّفَرِ وَالْحَضَرِ، وَإِنْ كَانَتَا دَاخِلَتَيْنِ تَحْتَ إطْلَاقِ الْعَقْدِ إلَّا أَنَّ الْخِدْمَةَ فِي الْحَضَرِ تَعَيَّنَتْ بِقَرِينَةٍ حَالَ حَضَرَ الْعَاقِدُ، وَمَكَانَ الْعَقْدِ، فَبَعْدَ تَعَيُّنِهَا لَا يَبْقَى الْمَحَالُ لِلْأُخْرَى كَمَا فِي الرُّكُوبِ، فَإِنَّهُ إذَا أَطْلَقَ الرُّكُوبَ ثُمَّ رَكِبَ بِنَفْسِهِ أَوْ أَرْكَبَ غَيْرَهُ يَتَعَيَّنُ هُوَ فَبَعُدَ ذَلِكَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُغَيِّرَ مَنْ رَكِبَهُ أَوَّلًا لِتَعَيُّنِهِ لِلرُّكُوبِ فَكَذَا هَاهُنَا، وَيُرْشِدُ إلَى مَا قَرَّرْنَا مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فِي الْكِتَابِ عِبَارَةُ الْمَبْسُوطِ وَالذَّخِيرَةِ فِي تَعْلِيلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ حَيْثُ قَالَ: لِأَنَّ مُطْلَقَ الْعَقْدِ يَنْصَرِفُ إلَى التَّعَارُفِ؛ وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِ صَاحِبِ الْعَبْدِ أَنَّهُ يُرِيدُ الِاسْتِخْدَامَ فِي مَكَانِ الْعَقْدِ حَتَّى لَا تَلْزَمَهُ مُؤْنَةُ الرَّدِّ، وَرُبَّمَا يَرْبُو ذَلِكَ عَلَى الْآجِرِ فَيَتَعَيَّنُ مَوْضِعُ الْعَقْدِ مَكَانًا لِلِاسْتِيفَاءِ بِدَلَالَةِ الْحَالِ، كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ وَالذَّخِيرَةِ انْتَهَى.
(قَوْلُهُ: وَمَنْ اسْتَأْجَرَ عَبْدًا مَحْجُورًا عَلَيْهِ شَهْرًا وَأَعْطَاهُ الْأَجْرَ فَلَيْسَ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ الْأَجْرَ) قَالَ صَاحِبُ الْكَافِي فِي تَقْرِيرِهِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ: وَمَنْ اسْتَأْجَرَ عَبْدًا مَحْجُورًا عَلَيْهِ شَهْرًا فَعَمِلَ فَأَعْطَاهُ
(وَإِنْ وَجَدَ الْمَوْلَى الْأَجْرَ قَائِمًا بِعَيْنِهِ أَخَذَهُ)؛ لِأَنَّهُ وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ (وَيَجُوزُ قَبْضُ الْعَبْدِ الْأَجْرَ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا)؛ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ لَهُ فِي التَّصَرُّفِ عَلَى اعْتِبَارِ الْفَرَاغِ عَلَى مَا مَرَّ.
(وَمَنْ اسْتَأْجَرَ عَبْدًا هَذَيْنِ الشَّهْرَيْنِ شَهْرًا بِأَرْبَعَةٍ وَشَهْرًا بِخَمْسَةٍ فَهُوَ جَائِزٌ، وَالْأَوَّلُ مِنْهُمَا بِأَرْبَعَةٍ)؛ لِأَنَّ الشَّهْرَ الْمَذْكُورَ أَوَّلًا يَنْصَرِفُ إلَى مَا يَلِي الْعَقْدَ تَحَرِّيًا لِلْجَوَازِ أَوْ نَظَرًا إلَى تَنَجُّزِ الْحَاجَةِ فَيَنْصَرِفُ الثَّانِي إلَى مَا يَلِي الْأَوَّلَ ضَرُورَةً.
الْأَجْرَ فَقَدْ زَادَ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ قَوْلَهُ فَعَمِلَ وَاقْتَفَى أَثَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ. أَقُولُ: فِيهِ شَيْءٌ، وَهُوَ أَنَّ وَضْعَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِيمَ إذَا اسْتَأْجَرَ عَبْدًا مَحْجُورًا عَلَيْهِ شَهْرًا كَمَا تَرَى فَقَدْ ذَكَرَ فِيهِ الْمُدَّةَ، وَهِيَ الشَّهْرُ، وَقَدْ تَقَرَّرَ عِنْدَهُمْ، وَعَرَفْت فِيمَا مَرَّ غَيْرَ مَرَّةٍ أَنَّ الْأَجِيرَ يَصِيرُ بِذِكْرِ الْوَقْتِ أَجِيرًا خَاصًّا، وَقَدْ مَرَّ فِي بَابِ ضَمَانِ الْأَجِيرِ أَنَّ الْأَجِيرَ الْخَاصَّ هُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ بِتَسْلِيمِ نَفْسِهِ فِي الْمُدَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ كَمَنْ اُسْتُؤْجِرَ شَهْرًا لِلْخِدْمَةِ أَوْ لِرَعْيِ الْغَنَمِ فَمَا مَعْنَى اعْتِبَارِ الْعَمَلِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَعْدَ ذِكْرِ الْمُدَّةِ.
نَعَمْ لَا بُدَّ مِنْ تَسْلِيمِ الْعَبْدِ نَفْسَهُ حَتَّى يَسْتَحِقَّ الْأَجْرَ، فَلَا يَجُوزُ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ مَا أَعْطَاهُ إيَّاهُ مِنْ الْأَجْرِ، إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ هَذَا الْقَيْدَ صَرَاحَةً فِي وَضْعِ الْمَسْأَلَةِ اعْتِمَادًا عَلَى ظُهُورِ كَوْنِهِ مُرَادًا. فَإِنْ قُلْت: مَنْ زَادَ قَيْدَ فَعَمِلَ أَرَادَ بِالْعَمَلِ تَسْلِيمَ النَّفْسِ. قُلْت: لَا يُرَى لَهُ وَجْهٌ صَحِيحٌ، إذْ لَا اتِّحَادَ بَيْنَهُمَا وَلَا اسْتِلْزَامَ، فَإِنَّ الْعَمَلَ يُوجَدُ بِدُونِ تَسْلِيمِ النَّفْسِ فِي الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ مُطْلَقًا، وَتَسْلِيمُ النَّفْسِ يُوجَدُ بِدُونِ الْعَمَلِ فِي الْأَجِيرِ الْخَاصِّ الَّذِي سَلَّمَ نَفْسَهُ وَلَمْ يَعْمَلْ فَمَا وَجْهُ ذِكْرِ الْعَمَلِ، وَإِرَادَةِ تَسْلِيمِ النَّفْسِ؟. وَالْإِنْصَافُ أَنَّ تَرْكَهُ أَوْلَى مِنْ ذِكْرِهِ كَمَا صَنَعَ الْمُصَنِّفُ
(قَوْلُهُ: لِأَنَّ الشَّهْرَ الْمَذْكُورَ أَوَّلًا يَنْصَرِفُ إلَى مَا يَلِي الْعَقْدَ تَحَرَّيَا لِلْجَوَازِ أَوْ نَظَرًا إلَى تَنَجُّزِ الْحَاجَةِ) قَالَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ: فَإِنْ قُلْت: هَذَا التَّعْلِيلُ إنَّمَا يَسْتَقِيمُ إذَا نُكِّرَ الشَّهْرُ، وَهُنَا عُرِّفَ بِقَوْلِهِ هَذَيْنِ. قُلْت: رَأَيْت فِي الْمَبْسُوطِ وَالْجَامِعِ الصَّغِيرِ
(وَمَنْ اسْتَأْجَرَ عَبْدًا شَهْرًا بِدِرْهَمٍ فَقَبَضَهُ فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ ثُمَّ جَاءَ آخِرُ الشَّهْرِ، وَهُوَ آبِقٌ أَوْ مَرِيضٌ فَقَالَ الْمُسْتَأْجِرُ أَبَقَ أَوْ مَرِضَ حِينَ أَخَذْته وَقَالَ الْمَوْلَى لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إلَّا قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَنِي بِسَاعَةٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْتَأْجِرِ،
لِلْعَتَّابِيِّ وَغَيْرِهِمَا عَدَمَ التَّعَرُّضِ لِقَوْلِهِ هَذَيْنِ، بَلْ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا اسْتَأْجَرَ عَبْدًا شَهْرَيْنِ شَهْرًا بِأَرْبَعَةٍ وَشَهْرًا بِخَمْسَةٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُهُ هَذَيْنِ عَلَى مَا إذَا قَالَ الْمُؤَجِّرُ آجَرْتُ مِنْك هَذَا الْعَبْدَ شَهْرَيْنِ شَهْرًا بِأَرْبَعَةٍ وَشَهْرًا بِخَمْسَةٍ فَقَالَ الْمُسْتَأْجِرُ اسْتَأْجَرْت مِنْك هَذَا الْعَبْدَ هَذَيْنِ الشَّهْرَيْنِ فَيَنْصَرِفُ قَوْلُهُ: هَذَيْنِ الشَّهْرَيْنِ إلَى الشَّهْرَيْنِ الْمُنَكَّرَيْنِ اللَّذَيْنِ دَخَلَا تَحْتَ إيجَابِ الْمُؤَجِّرِ فَيَنْفِي التَّنْكِيرَ فَصَلُحَ التَّعْلِيلُ بِتَنَجُّزِ الْحَاجَةِ لِإِثْبَاتِ التَّعْيِينِ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ.
وَاقْتَفَى أَثَرَهُ صَاحِبُ الْكِفَايَةِ فِي نَسْجِ هَذَا الْمَقَامِ عَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ، وَلَكِنْ بِنَوْعِ تَغْيِيرِ تَحْرِيرٍ فِي أَوَائِلِ الْمَقَالِ. وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: قِيلَ مَبْنَى هَذَا الْكَلَامِ عَلَى أَنَّهُ ذُكِرَ مُنَكَّرًا مَجْهُولًا وَالْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ لَيْسَ كَذَلِكَ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِي الْكِتَابِ قَوْلُ الْمُسْتَأْجِرِ، وَاللَّامُ فِيهِ لِلْعَهْدِ لِمَا كَانَ فِي كَلَامِ الْمُؤَجِّرِ مِنْ الْمُنَكَّرِ، فَكَأَنَّ الْمُؤَجِّرَ قَالَ: آجَرْتُ عَبْدِي هَذَا شَهْرَيْنِ شَهْرًا بِأَرْبَعَةٍ وَشَهْرًا بِخَمْسَةٍ، فَقَالَ الْمُسْتَأْجِرُ اسْتَأْجَرْتُهُ هَذَيْنِ الشَّهْرَيْنِ شَهْرًا بِأَرْبَعَةٍ وَشَهْرًا بِخَمْسَةٍ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
أَقُولُ: لَا الشُّبْهَةُ شَيْءٌ وَلَا الْجَوَابُ. أَمَّا الشُّبْهَةُ فَلِأَنَّ التَّعْلِيلَ الْمَزْبُورَ يَسْتَقِيمُ، وَيَتِمُّ بِتَنْكِيرِ شَهْرٍ فِي شَهْرًا بِأَرْبَعَةٍ وَشَهْرًا بِخَمْسَةٍ وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى تَنْكِيرِ شَهْرَيْنِ، إذْ عَلَى تَقْدِيرِ تَعْرِيفِ الشَّهْرَيْنِ يَصِيرُ الْمُتَعَيَّنُ مَجْمُوعَ الشَّهْرَيْنِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَجْمُوعٌ، وَهَذَا لَا يَقْتَضِي أَنْ يَتَعَيَّنَ الْأَوَّلُ مِنْهُمَا بِأَرْبَعَةٍ وَالثَّانِي بِخَمْسَةٍ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ بِنَاءً عَلَى تَنْكِيرِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَإِبْهَامِهِ، فَاحْتِيجَ إلَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَى كَوْنِ الْأَوَّلِ مِنْهُمَا بِأَرْبَعَةٍ، وَالثَّانِي بِخَمْسَةٍ دُونَ الْعَكْسِ بِالتَّعْلِيلِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فَلَا غُبَارَ عَلَيْهِ أَصْلًا. وَأَمَّا الْجَوَابُ فَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ قَوْلَ الْمُسْتَأْجِرِ لَمَا صَحَّ تَنْكِيرُ عَبْدًا فِي قَوْلِهِ، وَمَنْ اسْتَأْجَرَ عَبْدًا هَذَيْنِ الشَّهْرَيْنِ، بَلْ كَانَ هُوَ أَحَقَّ بِالتَّعْرِيفِ مِنْ الشَّهْرَيْنِ؛ لِأَنَّ بِذَلِكَ يُعْلَمُ أَنَّ الَّذِي اسْتَأْجَرَهُ هُوَ الْعَبْدُ الَّذِي آجَرَهُ الْمُؤَجِّرُ مِنْهُ. عَلَى أَنَّ كَوْنَ اللَّامِ فِي قَوْلِ الْمُسْتَأْجِرِ لِلْعَهْدِ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ فِيمَا إذَا كَانَ كَلَامُ الْمُؤَجِّرِ مُقَدَّمًا عَلَى كَلَامِ الْمُسْتَأْجِرِ فِي الْعَقْدِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِلَازِمٍ فَإِنَّ أَيًّا مِنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ تَكَلَّمَ أَوَّلًا يَصِيرُ كَلَامُهُ إيجَابًا، فَإِذَا قِيلَ الْآخَرُ أُلْزِمَ الْعَقْدَ، فَحَمْلُ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ عَلَى قَوْلِ الْمُسْتَأْجِرِ لَا يَقْتَضِي تَعْرِيفَ الشَّهْرَيْنِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ فَيَلْزَمُ تَخْصِيصُ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ بِبَعْضِ الصُّوَرِ وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ.
ثُمَّ أَقُولُ: لَعَلَّ الْمُصَنِّفَ إنَّمَا عَرَّفَ الشَّهْرَيْنِ فِي تَقْرِيرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُخَالِفًا لِمَا وَقَعَ فِي عَامَّةِ الْكُتُبِ مِنْ تَنْكِيرِ ذَلِكَ إشْعَارًا بِأَنَّ جَوَابَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَا يَتَغَيَّرُ بِتَعْرِيفِ لَفْظِ الشَّهْرَيْنِ، بَلْ تَنْكِيرُ ذَلِكَ وَتَعْرِيفُهُ سِيَّانِ عِنْدَ تَنْكِيرِ شَهْرًا فِي شَهْرًا بِأَرْبَعَةٍ وَشَهْرًا بِخَمْسَةٍ لِمَا بَيَّنَّاهُ فِي رَدِّ الشُّبْهَةِ آنِفًا. وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَضْعُ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا إذَا ذَكَرَ الْمُسْتَأْجِرُ لَفْظَ الشَّهْرَيْنِ بِالتَّنْكِيرِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ مُعَرَّفًا نَظَرًا إلَى تَعَيُّنِهِ الْمَآلِيّ حَيْثُ يَتَصَرَّفُ إلَى مَا يَلِي الْعَقْدَ فَلَا يَكُونُ قَوْلُهُ: هَذَيْنِ الشَّهْرَيْنِ مِنْ كَلَامِ الْمُسْتَأْجِرِ بَلْ هُوَ لَفْظُ الْمُصَنِّفِ انْتَهَى. أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ أَيْضًا، إذْ لَا يَذْهَبُ عَلَيْك أَنَّ قَوْلَهُ شَهْرًا بِأَرْبَعَةٍ وَشَهْرًا بِخَمْسَةٍ مِنْ كَلَامِ الْمُسْتَأْجِرِ، وَأَنَّهُ تَفْصِيلٌ لِلشَّهْرَيْنِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ قَوْلُهُ: هَذَيْنِ الشَّهْرَيْنِ مِنْ كَلَامِ الْمُسْتَأْجِرِ بَلْ كَانَ مِنْ لَفْظِ الْمُصَنِّفِ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْمُجْمَلُ لَفْظَ الْمُصَنِّفِ وَالْمُفَصَّلُ لَفْظَ الْمُسْتَأْجِرِ، وَهَذَا مِمَّا لَا يَرْتَضِيهِ الْعَاقِلُ.
ثُمَّ أَقُولُ: بَقِيَ هَاهُنَا كَلَامٌ، وَهُوَ أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ جَوَابَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِصُورَةِ أَنْ يَكُونَ الْأَجِيرُ عَبْدًا بَلْ هُوَ مُتَمَشٍّ فِي صُورَةِ إنْ كَانَ حُرًّا أَيْضًا لِعَيْنِ الدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ، فَوَجْهُ ذِكْرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي بَابِ إجَارَةِ الْعَبْدِ غَيْرُ وَاضِحٍ، فَإِنَّ الْمُنَاسِبَ أَنْ يَذْكُرَ فِيهِ مَا لَهُ اخْتِصَاصٌ بِالْعَبْدِ مِنْ الْأَحْكَامِ، وَإِلَّا فَكَثِيرٌ مِنْ الْأَحْكَامِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْأَبْوَابِ السَّابِقَةِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ، وَلَا يُقَالُ:
وَإِنْ جَاءَ بِهِ، وَهُوَ صَحِيحٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُؤَجِّرِ)؛ لِأَنَّهُمَا اخْتَلَفَا فِي أَمْرٍ مُحْتَمَلٍ فَيَتَرَجَّحُ بِحُكْمِ الْحَالِ، إذْ هُوَ دَلِيلٌ عَلَى قِيَامِهِ مِنْ قَبْلُ وَهُوَ يَصْلُحُ مُرَجِّحًا إنْ لَمْ يَصْلُحْ حُجَّةً فِي نَفْسِهِ. أَصْلُهُ الِاخْتِلَافُ فِي جَرَيَانِ مَاءِ الطَّاحُونَةِ وَانْقِطَاعِهِ.
بَابُ الِاخْتِلَافِ فِي الْإِجَارَةِ
قَالَ: (وَإِذَا اخْتَلَفَ الْخَيَّاطُ وَرَبُّ الثَّوْبِ فَقَالَ رَبُّ الثَّوْبِ أَمَرْتُك أَنْ تَعْمَلَهُ قَبَاءً وَقَالَ الْخَيَّاطُ بَلْ قَمِيصًا أَوْ قَالَ: صَاحِبُ الثَّوْبِ لِلصَّبَّاغِ أَمَرْتُك أَنْ تَصْبُغَهُ أَحْمَرَ فَصَبَغْته أَصْفَرَ وَقَالَ الصَّبَّاغُ لَا بَلْ أَمَرْتنِي أَصْفَرَ فَالْقَوْلُ لِصَاحِبِ الثَّوْبِ)؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ يُسْتَفَادُ مِنْ جِهَتِهِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَنْكَرَ أَصْلَ الْإِذْنِ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فَكَذَا إذَا أَنْكَرَ صِفَتَهُ، لَكِنْ يَحْلِفُ؛ لِأَنَّهُ أَنْكَرَ شَيْئًا لَوْ أَقَرَّ بِهِ لَزِمَهُ. قَالَ:(وَإِذَا حَلَفَ فَالْخَيَّاطُ ضَامِنٌ) وَمَعْنَاهُ مَا مَرَّ مِنْ قَبْلُ أَنَّهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَهُ، وَأَعْطَاهُ أَجْرَ مِثْلِهِ، وَكَذَا يُخَيَّرُ فِي مَسْأَلَةِ الصَّبْغِ إذَا حَلَفَ إنْ شَاءَ
إنَّ كَوْنَ الْأَجِيرِ عَبْدًا أَكْثَرُ مِنْ كَوْنِهِ حُرًّا، فَبَنَى الْأَمْرَ عَلَى الْأَكْثَرِ، إذْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ ذَلِكَ أَكْثَرُ، بَلْ الظَّاهِرُ أَنَّ كَوْنَ الْأَجِيرِ حُرًّا أَكْثَرُ لِاسْتِقْلَالِهِ وَكَثْرَةُ احْتِيَاجِهِ إلَى الْأُجْرَةِ لِإِنْفَاقِ نَفْسِهِ وَعِيَالِهِ، وَأَيْضًا لَوْ كَانَ بِنَاءُ الْأَمْرِ عَلَى ذَلِكَ لَذَكَرَ سَائِرَ مَسَائِلِ الْأَجِيرِ أَيْضًا فِي هَذَا الْبَابِ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ.
(بَابُ الِاخْتِلَافِ فِي الْإِجَارَةِ)
لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ أَحْكَامِ اتِّفَاقِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، وَهُوَ الْأَصْلُ ذَكَرَ فِي هَذَا الْبَابِ أَحْكَامَ اخْتِلَافِهَا، وَهُوَ الْفَرْعُ، إذْ الِاخْتِلَافُ إنَّمَا يَكُونُ بِعَارِضٍ (قَوْلُهُ: وَإِذَا حَلَفَ فَالْخَيَّاطُ ضَامِنٌ، وَمَعْنَاهُ مَا مَرَّ مِنْ قَبْلُ أَنَّهُ بِالْخِيَارِ) يَعْنِي بِهِ مَا مَرَّ قَبْلَ بَابِ الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ فِي مَسْأَلَةِ: وَمَنْ دَفَعَ إلَى الْخَيَّاطِ ثَوْبًا لِيَخِيطَهُ قَمِيصًا بِدِرْهَمٍ فَخَاطَهُ قَبَاءً، كَذَا فِي الشُّرُوحِ. وَاعْتَرَضَ بِأَنَّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ كَانَا هُنَاكَ مُتَّفِقَيْنِ عَلَى أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ خِيَاطَةُ الْقَمِيصِ وَالْأَجِيرُ خَالَفَ فَخَاطَ قَبَاءً، وَهَاهُنَا قَدْ اخْتَلَفَا فِي أَصْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ فَعِنْدَ اخْتِلَافِ الْمَسْأَلَتَيْنِ كَيْفَ يَتَّحِدُ الْجَوَابُ؟ وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ اخْتَلَفَتْ صُورَتَا الْمَسْأَلَتَيْنِ ابْتِدَاءً وَلَكِنْ اتَّحَدَتَا انْتِهَاءً؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ هَذَا الْحُكْمَ هُنَا بَعْدَ حَلِفِ صَاحِبِ الثَّوْبِ، وَلَمَّا حَلَفَ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فَلَمْ يَبْقَ لِخِلَافِ الْآخَرِ اعْتِبَارٌ فَكَانَتَا فِي الْحُكْمِ فِي الِانْتِهَاءِ سَوَاءً، هَذَا خُلَاصَةُ مَا فِي النِّهَايَةِ
ضَمَّنَهُ قِيمَةَ الثَّوْبِ أَبْيَضَ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الثَّوْبَ وَأَعْطَاهُ أَجْرَ مِثْلِهِ لَا يُجَاوَزُ بِهِ الْمُسَمَّى. وَذَكَرَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ: يُضَمِّنُهُ مَا زَادَ الصَّبْغُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْغَصْبِ.
(وَإِنْ قَالَ: صَاحِبُ الثَّوْبِ عَمِلْته لِي بِغَيْرِ أَجْرٍ وَقَالَ الصَّانِعُ بِأَجْرٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُ صَاحِبِ الثَّوْبِ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ يُنْكِرُ تَقَوُّمَ عَمَلِهِ إذْ هُوَ يَتَقَوَّمُ بِالْعَقْدِ وَيُنْكِرُ الضَّمَانَ وَالصَّانِعُ يَدِّعِيهِ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ (وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إنْ كَانَ الرَّجُلُ حِرِّيفًا لَهُ) أَيْ خَلِيطًا لَهُ (فَلَهُ الْأَجْرُ وَإِلَّا فَلَا)؛ لِأَنَّ سَبْقَ مَا بَيْنَهُمَا يُعَيِّنُ جِهَةَ الطَّلَبِ بِأَجْرٍ جَرْيًا عَلَى مُعْتَادِهِمَا (وَقَالَ مُحَمَّدٌ: إنْ كَانَ الصَّانِعُ مَعْرُوفًا بِهَذِهِ الصَّنْعَةِ بِالْأَجْرِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ)؛ لِأَنَّهُ لَمَّا فَتَحَ الْحَانُوتَ لِأَجْلِهِ جَرَى ذَلِكَ مَجْرَى التَّنْصِيصِ عَلَى الْأَجْرِ اعْتِبَارًا لِلظَّاهِرِ، وَالْقِيَاسُ مَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ. وَالْجَوَابُ عَنْ اسْتِحْسَانِهِمَا أَنَّ الظَّاهِرَ لِلدَّفْعِ، وَالْحَاجَةُ هَاهُنَا إلَى الِاسْتِحْقَاقِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَالْعِنَايَةِ.
وَقَصَدَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ أَنْ يُجِيبَ عَنْ هَذَا الِاعْتِرَاضِ الْمَذْكُورِ بِوَجْهٍ آخَرَ فَقَالَ: وَلَك أَنْ تَقُولَ إذَا كَانَ الْحُكْمُ ذَلِكَ إذَا اتَّفَقَا فَبِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى إذَا اخْتَلَفَا مَعَ أَنَّ التَّشْبِيهَ غَيْرُ الْقِيَاسِ انْتَهَى. أَقُولُ: لَيْسَ ذَاكَ بِسَدِيدٍ. أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُمَا إذَا اتَّفَقَا عَلَى مُخَالَفَةِ الْمَأْمُورِ بِهِ كَانَ التَّعَدِّي مُقَرَّرًا عِنْدَهُمَا فَيَجِبُ الضَّمَانُ قَطْعًا. وَأَمَّا إذَا اخْتَلَفَا فِي الْمُخَالَفَةِ فَلَا تَعَدِّيَ عَلَى زَعْمِ الْأَجِيرِ فَفِي وُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ نَوْعُ خَفَاءٍ. فَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إذَا كَانَ الْحُكْمُ ذَلِكَ: أَيْ الضَّمَانُ إذَا اتَّفَقَا فَبِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى إذَا اخْتَلَفَا. وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ مَوْرِدَ الِاعْتِرَاضِ هُوَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ، وَمَعْنَاهُ مَا مَرَّ مِنْ قَبْلُ. وَالْمَفْهُومُ مِنْهُ هُوَ الِاتِّحَادُ فِي الْحُكْمِ لَا التَّشْبِيهُ، فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ مَعَ أَنَّ التَّشْبِيهَ غَيْرُ الْقِيَاسِ فَهَلَّا هُوَ لَغْوٌ هُنَا.
(قَوْلُهُ: وَالْجَوَابُ عَنْ اسْتِحْسَانِهِمَا أَنَّ الظَّاهِرَ لِلدَّفْعِ وَالْحَاجَةِ هَاهُنَا إلَى الِاسْتِحْقَاقِ) يَعْنِي أَنَّ الْحَاجَةَ هَاهُنَا إلَى الِاسْتِحْقَاقِ لَا إلَى الدَّفْعِ، وَالظَّاهِرُ إنَّمَا يَكُونُ حُجَّةً لِلدَّفْعِ دُونَ الِاسْتِحْقَاقِ. قَالَ بَعْضُ
بَابُ فَسْخِ الْإِجَارَةِ
قَالَ: (وَمَنْ اسْتَأْجَرَ دَارًا فَوَجَدَ بِهَا عَيْبًا يَضُرُّ بِالسُّكْنَى فَلَهُ الْفَسْخُ)؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ الْمَنَافِعُ، وَأَنَّهَا تُوجَدُ شَيْئًا فَشَيْئًا فَكَانَ هَذَا عَيْبًا حَادِثًا قَبْلَ الْقَبْضِ فَيُوجِبُ الْخِيَارَ كَمَا فِي الْبَيْعِ، ثُمَّ الْمُسْتَأْجِرُ إذَا اسْتَوْفَى الْمَنْفَعَةَ فَقَدْ رَضِيَ بِالْعَيْبِ فَيَلْزَمُهُ جَمِيعُ الْبَدَلِ كَمَا فِي الْبَيْعِ، وَإِنْ فَعَلَ الْمُؤَجِّرُ مَا أَزَالَ بِهِ الْعَيْبَ فَلَا خِيَارَ لِلْمُسْتَأْجِرِ لِزَوَالِ سَبَبِهِ.
قَالَ: (وَإِذَا خَرِبَتْ الدَّارُ أَوْ انْقَطَعَ شُرْبُ الضَّيْعَةِ أَوْ انْقَطَعَ الْمَاءُ عَنْ الرَّحَى انْفَسَخَتْ الْإِجَارَةُ)؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ قَدْ فَاتَ، وَهِيَ الْمَنَافِعُ الْمَخْصُوصَةُ قَبْلَ الْقَبْضِ فَشَابَهُ فَوْتُ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَمَوْتِ الْعَبْدِ الْمُسْتَأْجَرِ. وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: إنَّ الْعَقْدَ لَا يَنْفَسِخُ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ قَدْ فَاتَتْ عَلَى وَجْهٍ يُتَصَوَّرُ عَوْدُهَا فَأَشْبَهَ الْإِبَاقَ فِي الْبَيْعِ قَبْلَ الْقَبْضِ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْآجِرَ لَوْ بَنَاهَا لَيْسَ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَمْتَنِعَ وَلَا لِلْآجِرِ، وَهَذَا تَنْصِيصٌ مِنْهُ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَنْفَسِخْ لَكِنَّهُ يُفْسَخُ.
(وَلَوْ انْقَطَعَ مَاءُ الرَّحَى، وَالْبَيْتُ مِمَّا يَنْتَفِعُ بِهِ.
الْفُضَلَاءِ: فَرَّقَ بَيْنَ الظَّاهِرُ وَالِاسْتِصْحَابِ، فَالْأَوَّلُ يَصْلُحُ لِلِاسْتِحْقَاقِ كَأَخْبَارِ الْآحَادِ انْتَهَى. أَقُولُ: الْمُرَادُ بِالظَّاهِرِ هَاهُنَا ظَاهِرُ الْحَالِ، وَكَوْنُ مِثْلِ هَذَا الظَّاهِرِ حُجَّةً لِلِاسْتِحْقَاقِ مَمْنُوعٌ. وَأَمَّا أَخْبَارُ الْآحَادِ فَبِمَعْزِلٍ عَمَّا نَحْنُ فِيهِ فَإِنَّهَا مِنْ الْأَدِلَّةِ اللَّفْظِيَّةِ الظَّنِّيَّةِ تُوجِبُ الْعَمَلَ دُونَ الْعَمَلِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي الْأُصُولِ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ، وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ.
(بَابُ فَسْخِ الْإِجَارَةِ)
لِغَيْرِ الطَّحْنِ فَعَلَيْهِ عَنْ الْأَجْرِ بِحِصَّتِهِ)؛ لِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ.
قَالَ: (وَإِذَا مَاتَ أَحَدُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَقَدْ عَقَدَ الْإِجَارَةَ لِنَفْسِهِ انْفَسَخَتْ)؛ لِأَنَّهُ لَوْ بَقِيَ الْعَقْدُ تَصِيرُ الْمَنْفَعَةُ الْمَمْلُوكَةُ بِهِ أَوْ الْأُجْرَةُ الْمَمْلُوكَةُ لِغَيْرِ الْعَاقِدِ مُسْتَحَقَّةً بِالْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُ يَنْتَقِلُ بِالْمَوْتِ إلَى الْوَارِثِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ (وَإِنْ عَقَدَهَا لِغَيْرِهِ لَمْ تَنْفَسِخْ) مِثْلُ الْوَكِيلِ وَالْوَصِيِّ وَالْمُتَوَلِّي فِي الْوَقْفِ لِانْعِدَامِ مَا أَشَرْنَا إلَيْهِ مِنْ الْمَعْنَى.
ذَكَرَ بَابَ الْفَسْخِ آخِرًا؛ لِأَنَّ فَسْخَ الْعَقْدِ بَعْدَ وُجُودِ الْعَقْدِ لَا مَحَالَةَ فَنَاسَبَ ذِكْرُهُ آخِرًا (قَوْلُهُ: وَإِذَا مَاتَ أَحَدُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَقَدْ عَقَدَ الْإِجَارَةَ لِنَفْسِهِ انْفَسَخَتْ؛ لِأَنَّهُ لَوْ بَقِيَ الْعَقْدُ تَصِيرُ الْمَنْفَعَةُ الْمَمْلُوكَةُ بِهِ أَوْ الْأُجْرَةُ الْمَمْلُوكَةُ لِغَيْرِ الْعَاقِدِ مُسْتَحَقَّةً بِالْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُ يَنْتَقِلُ بِالْمَوْتِ إلَى الْوَارِثِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ: لِأَنَّ الِانْتِقَالَ مِنْ الْمُوَرِّثِ إلَى الْوَارِثِ لَا يُتَصَوَّرُ فِي الْمَنْفَعَةِ وَالْأُجْرَةِ الْمَمْلُوكَةِ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ يَنْعَقِدُ سَاعَةً فَسَاعَةً عَلَى الْمَنَافِعِ، فَلَوْ قُلْنَا بِالِانْتِقَالِ كَانَ ذَلِكَ قَوْلًا بِانْتِقَالِ مَا لَمْ يَمْلِكْ الْمُوَرِّثُ إلَى الْوَارِثِ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
أَقُولُ: فِيهِ بَحْثٌ؛ لِأَنَّهُ قَدْ مَرَّ فِي أَوَّلِ بَابِ الْأَجْرِ مَتَى يُسْتَحَقُّ أَنَّ الْأُجْرَةَ تُمْلَكُ بِأَحَدِ مَعَانٍ ثَلَاثَةٍ إمَّا بِشَرْطِ التَّعْجِيلِ، أَوْ بِالتَّعْجِيلِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ، أَوْ بِاسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ. فَلَوْ قُلْنَا بِالِانْتِقَالِ فِي الصُّورَتَيْنِ الْأَوَّلِيَّيْنِ فِيمَا إذَا مَاتَ الْمُؤَجِّرُ لَمْ يَلْزَمْ الْقَوْلُ بِانْتِقَالِ مَا لَمْ يَمْلِكْ الْمُوَرِّثُ إلَى الْوَارِثِ؛ لِأَنَّ الْمُوَرِّثَ قَدْ كَانَ مَلَكَ الْأُجْرَةَ فِي حَالِ حَيَاتِهِ بِتَعْجِيلِ الْأُجْرَةِ أَوْ بِشَرْطِ تَعْجِيلِهَا، فَالتَّعْلِيلُ الَّذِي ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ، وَإِنْ تَمَّ فِي حَقِّ الْمَنْفَعَةِ لَمْ يَتِمَّ فِي حَقِّ الْأُجْرَةِ. وَالْأَظْهَرُ فِي تَعْلِيلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يَفْصِلَ فَيُسْتَدَلَّ عَلَى انْفِسَاخِ الْإِجَارَةِ بِمَوْتِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُؤَجِّرِ وَالْمُسْتَأْجِرِ بِعِلَّةٍ مُسْتَقِلَّةٍ كَمَا وَقَعَ فِي الْكَافِي وَكَثِيرٍ مِنْ الشُّرُوحِ سِيَّمَا فِي النِّهَايَةِ نَقْلًا عَنْ الْمَبْسُوطِ حَيْثُ قَالَ فِيهَا: وَلَنَا طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا فِي مَوْتِ الْمُؤَجِّرِ فَنَقُولُ الْمُسْتَحَقُّ بِالْعَقْدِ الْمَنَافِعُ الَّتِي تَحْدُثُ عَلَى مِلْكِ الْمُؤَجِّرِ
قَالَ: (وَيَصِحُّ شَرْطُ الْخِيَارِ فِي الْإِجَارَةِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ لَا يُمْكِنُهُ رَدُّ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ بِكَمَالِهِ لَوْ كَانَ الْخِيَارُ لَهُ لِفَوَاتِ بَعْضِهِ، وَلَوْ كَانَ لِلْمُؤَجِّرِ فَلَا يُمْكِنُهُ التَّسْلِيمُ أَيْضًا عَلَى الْكَمَالِ، وَكُلُّ ذَلِكَ يَمْنَعُ الْخِيَارَ. وَلَنَا أَنَّهُ عَقْدُ مُعَامَلَةٍ لَا يُسْتَحَقُّ الْقَبْضُ فِيهِ فِي الْمَجْلِسِ فَجَازَ اشْتِرَاطُ الْخِيَارِ فِيهِ كَالْبَيْعِ وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا دَفْعُ الْحَاجَةِ، وَفَوَاتُ بَعْضُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فِي الْإِجَارَةِ لَا يَمْنَعُ الرَّدَّ بِخِيَارِ الْعَيْبِ، فَكَذَا بِخِيَارِ الشَّرْطِ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ رَدَّ الْكُلِّ مُمْكِنٌ فِي الْبَيْعِ دُونَ الْإِجَارَةِ فَيُشْتَرَطُ فِيهِ دُونَهَا وَلِهَذَا يُجْبَرُ الْمُسْتَأْجِرُ عَلَى الْقَبْضِ إذَا سَلَّمَ الْمُؤَجَّرَ بَعْدَ مُضِيِّ بَعْضِ الْمُدَّةِ.
وَقَدْ فَاتَ ذَلِكَ بِمَوْتِهِ فَتَبْطُلُ الْإِجَارَةُ لِفَوَاتِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ رَقَبَةَ الدَّارِ تَنْتَقِلُ إلَى الْوَارِثِ وَالْمَنْفَعَةُ تَحْدُثُ عَلَى مِلْكِ صَاحِبِ الرَّقَبَةِ لِمَا أَنَّ الْإِجَارَةَ تَتَحَدَّدُ فِي حَقِّ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ بِحَسَبِ مَا يَحْدُثُ مِنْ الْمَنْفَعَةِ، وَلَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ إلْزَامِ الْعَقْدِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ.
وَالطَّرِيقُ الْآخَرُ فِي مَوْتِ الْمُسْتَأْجِرِ أَنَّهُ لَوْ بَقِيَ الْعَقْدُ بَعْدَ مَوْتِهِ إنَّمَا يَبْقَى عَلَى أَنْ يَخْلُفَهُ الْوَارِثُ وَالْمَنْفَعَةُ الْمُجَرَّدَةُ لَا تُوَرَّثُ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُسْتَعِيرَ إذَا مَاتَ لَا يَخْلُفُهُ وَارِثُهُ فِي الْمَنْفَعَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمُسْتَعِيرَ مَالِكٌ لِلْمَنْفَعَةِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْوِرَاثَةَ خِلَافَةٌ وَلَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ إلَّا فِيمَا يَبْقَى وَقْتَيْنِ لِيَكُونَ مِلْكُ الْمُوَرِّثِ فِي الْوَقْتِ الْأَوَّلِ، وَيَخْلُفُهُ الْوَارِثُ فِيهِ فِي الْوَقْتِ الثَّانِي، وَالْمَنْفَعَةُ الْمَوْجُودَةُ فِي حَيَاةِ الْمُسْتَأْجِرِ لَا تَبْقَى لِتُوَرَّث، وَاَلَّتِي تَحْدُثُ بَعْدَهَا لَمْ تَكُنْ مَمْلُوكَةً لَهُ لِيَخْلُفَهُ الْوَارِثُ فِيهَا فَالْمِلْكُ لَا يَسْبِقُ الْوُجُودَ، وَإِذَا ثَبَتَ انْتِفَاءُ الْإِرْثِ تَعَيَّنَ بُطْلَانُ الْعَقْدِ كَعَقْدِ النِّكَاحِ يَرْتَفِعُ بِمَوْتِ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّ وَارِثَهُ لَا يَخْلُفُهُ فِيهِ، كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ، إلَى هُنَا لَفْظُ النِّهَايَةِ.
(قَوْلُهُ: وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ لَا يُمْكِنُهُ رَدُّ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ بِكَمَالِهِ لَوْ كَانَ الْخِيَارُ لَهُ لِفَوَاتِ بَعْضِهِ، وَلَوْ كَانَ لِلْمُؤَجِّرِ فَلَا يُمْكِنُهُ التَّسْلِيمُ أَيْضًا عَلَى الْكَمَالِ وَكُلُّ ذَلِكَ يَمْنَعُ الْخِيَارَ) أَقُولُ: فِي هَذَا الدَّلِيلِ لِلشَّافِعِيِّ شَيْءٌ، وَهُوَ أَنَّهُ قَدْ تَقَرَّرَ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْإِجَارَةَ عَلَى نَوْعَيْنِ: نَوْعٌ يَرِدُ الْعَقْدُ فِيهِ عَلَى الْعَمَلِ كَاسْتِئْجَارِ رَجُلٍ عَلَى صَبْغِ ثَوْبٍ أَوْ خِيَاطَتِهِ، وَنَوْعٌ يَرِدُ الْعَقْدُ فِيهِ عَلَى الْمَنْفَعَةِ كَاسْتِئْجَارِ دَارٍ لِلسُّكْنَى وَأَرْضٍ لِلزِّرَاعَةِ، وَالدَّلِيلُ الْمَزْبُورُ لَا يَتَمَشَّى فِي النَّوْعِ الْأَوَّلِ أَصْلًا؛ لِأَنَّ عَدَمَ إمْكَانِ رَدِّ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ بِكَمَالِهِ، وَعَدَمَ إمْكَانُ تَسْلِيمِهِ أَيْضًا عَلَى الْكَمَالِ إنَّمَا يَنْشَأُ مِنْ أَنْ يَتْلَفَ شَيْءٌ مِنْ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ بِمُضِيِّ مُدَّةِ الْخِيَارِ كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ فِي الْكَافِي وَالشُّرُوحِ، وَفِي الْعَقْدِ عَلَى الْعَمَلِ لَا يَتْلَفُ شَيْءٌ مِنْ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ قَبْلَ الْعَمَلِ قَطْعًا، وَكَذَا لَا يَتَمَشَّى فِي بَعْضٍ مِنْ النَّوْعِ الثَّانِي، وَهُوَ مَا لَا يَتَعَيَّنُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ فِيهِ بِالْمُدَّةِ بَلْ يَتَعَيَّنُ بِالتَّسْمِيَةِ، كَاسْتِئْجَارِ دَابَّةٍ لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا مِقْدَارًا مَعْلُومًا أَوْ يَرْكَبَهَا مَسَافَةً سَمَّاهَا، وَإِنَّمَا يَتَمَشَّى ذَلِكَ فِيمَا يَتَعَيَّنُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ فِيهِ بِالْمُدَّةِ مِنْ النَّوْعِ الثَّانِي كَاسْتِئْجَارِ دَارٍ لِلسُّكْنَى فَكَانَ الدَّلِيلُ الْمَزْبُورُ قَاصِرًا عَنْ إفَادَةِ مَا ادَّعَاهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ عَدَمِ صِحَّةِ شَرْطِ
قَالَ: (وَتُفْسَخُ الْإِجَارَةُ بِالْأَعْذَارِ) عِنْدَنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: لَا تُفْسَخُ إلَّا بِالْعَيْبِ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ عِنْدَهُ بِمَنْزِلَةِ الْأَعْيَانِ حَتَّى يَجُوزَ الْعَقْدُ عَلَيْهَا فَأَشْبَهَ الْبَيْعَ. وَلَنَا أَنَّ الْمَنَافِعَ غَيْرُ مَقْبُوضَةٍ وَهِيَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهَا فَصَارَ الْعُذْرُ فِي الْإِجَارَةِ كَالْعَيْبِ قَبْلَ الْقَبْضِ فِي الْبَيْعِ فَتَنْفَسِخُ بِهِ، إذْ الْمَعْنَى يَجْمَعُهُمَا وَهُوَ عَجْزُ الْعَاقِدِ عَنْ الْمُضِيِّ فِي مُوجِبِهِ إلَّا بِتَحَمُّلِ ضَرَرٍ زَائِدٍ لَمْ يَسْتَحِقَّ بِهِ، وَهَذَا هُوَ مَعْنَى الْعُذْرِ عِنْدَنَا (وَهُوَ كَمَنْ اسْتَأْجَرَ حَدَّادًا لِيَقْلَعَ ضِرْسَهُ لِوَجَعٍ بِهِ فَسَكَنَ الْوَجَعُ أَوْ اسْتَأْجَرَ طَبَّاخًا لِيَطْبُخَ لَهُ طَعَامَ الْوَلِيمَةِ فَاخْتَلَعَتْ مِنْهُ تُفْسَخُ الْإِجَارَةُ)؛ لِأَنَّ فِي الْمُضِيِّ عَلَيْهِ إلْزَامَ ضَرَرٍ زَائِدٍ لَمْ يُسْتَحَقَّ بِالْعَقْدِ (وَكَذَا مَنْ اسْتَأْجَرَ دُكَّانًا فِي السُّوقِ لِيَتَّجِرَ فِيهِ فَذَهَبَ مَالُهُ، وَكَذَا مَنْ أَجَّرَ دُكَّانًا أَوْ دَارًا ثُمَّ أَفْلَسَ، وَلَزِمَتْهُ دُيُونٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى قَضَائِهَا إلَّا بِثَمَنِ مَا أَجَّرَ فَسَخَ الْقَاضِي الْعَقْدَ وَبَاعَهَا فِي الدُّيُونِ)؛ لِأَنَّ فِي الْجَرْيِ عَلَى مُوجِبِ الْعَقْدِ إلْزَامَ ضَرَرٍ زَائِدٍ لَمْ يُسْتَحَقَّ بِالْعَقْدِ وَهُوَ الْحَبْسُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ لَا يُصَدَّقُ عَلَى عَدَمِ مَالٍ آخَرَ.
ثُمَّ قَوْلُهُ فَسَخَ الْقَاضِي الْعَقْدَ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ يَفْتَقِرُ إلَى قَضَاءِ الْقَاضِي
الْخِيَارِ فِي عَقْدِ الْإِجَارَةِ مُطْلَقًا فَلْيُتَأَمَّلْ.
(قَوْلُهُ: وَلَنَا أَنَّ الْمَنَافِعَ غَيْرُ مَقْبُوضَةٍ، وَهِيَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهَا، فَصَارَ الْعُذْرُ فِي الْإِجَارَةِ كَالْعَيْبِ قَبْلَ الْقَبْضِ فِي الْبَيْعِ فَتُفْسَخُ بِهِ إلَخْ) قَالَ ابْنُ الْعِزِّ: الْقَوْلُ بِفَسْخِ الْإِجَارَةِ بِالْأَعْذَارِ، وَمَوْتِ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ مِنْ غَيْرِ نَصٍّ وَلَا إجْمَاعٍ وَلَا قَوْلِ صَحَابِيٍّ بَلْ بِمُجَرَّدِ الِاعْتِبَارِ بِالْفَسْخِ بِالْعَيْبِ فِيهِ نَظَرٌ فَإِنَّهُ عَقْدٌ لَازِمٌ، وَلَا زَالَتْ الْأَعْذَارُ تَحْدُثُ فِي عُقُودِ الْإِجَارَاتِ، وَقَدْ يَمُوتُ أَحَدُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ الصَّحَابَةِ الْفَسْخُ بِذَلِكَ، وَلَوْ كَانَتْ الْإِجَارَةُ تَقْبَلُ الْفَسْخَ بِذَلِكَ لَنُقِلَ لِتَوَفُّرِ الْهِمَمِ عَلَى نَقْلِ مِثْلِهِ لِاحْتِيَاجِ النَّاسِ إلَيْهِ، وَقَدْ نُقِلَ عَنْهُمْ مَا هُوَ دُونَ ذَلِكَ. وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى الْقَوْلِ بِعَدَمِ الْفَسْخِ لِلْعُذْرِ، وَإِنْ كَانُوا قَدْ اعْتَبَرُوا الْعُذْرَ الْكَامِلَ فِيمَا لَوْ اكْتَرَى مَنْ يَقْلَعُ ضِرْسَهُ فَبَرِئَ وَانْقَلَعَ قَبْلَ قَلْعِهِ أَوْ اكْتَرَى كَحَّالًا لِيُكَحِّلَ عَيْنَهُ فَبَرِئَتْ أَوْ ذَهَبَتْ فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ مَا هُوَ دُونَهُ. إلَى هُنَا كَلَامُهُ.
أَقُولُ: نَظَرُهُ سَاقِطٌ جِدًّا، إذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ أَنْ لَا يَتَحَقَّقَ نَصٌّ وَلَا إجْمَاعٌ وَلَا قَوْلُ صَحَابِيٍّ فِي حَقِّ فَسْخِ الْإِجَارَةِ بِالْأَعْذَارِ أَنْ لَا يَصِحَّ الْقَوْلُ بِذَلِكَ، فَإِنَّ الْقِيَاسَ أَحَدُ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ الْأَرْبَعَةِ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ، فَيَكْفِي تَحَقُّقُ ذَلِكَ فِي إثْبَاتِ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ، وَقَدْ تَحَقَّقَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ فَصَارَ الْعُذْرُ فِي الْإِجَارَةِ كَالْعَيْبِ قَبْلَ الْقَبْضِ فِي الْبَيْعِ فَتُفْسَخُ بِهِ. وَبَيَّنَ الْجَامِعَ بِقَوْلِهِ: إذْ الْمَعْنَى يَجْمَعُهُمَا، وَهُوَ عَجْزُ الْعَاقِدِ عَنْ الْمُضِيِّ فِي مُوجِبِهِ إلَّا بِتَحَمُّلِ ضَرَرٍ زَائِدٍ لَمْ يُسْتَحَقَّ بِالْعَقْدِ، وَإِنَّمَا لَا يَجُوزُ الِاسْتِدْلَال بِالْقِيَاسِ لِوُرُودِ نَصٍّ يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، أَوْ انْعِقَادِ إجْمَاعٍ
فِي النَّقْضِ، وَهَكَذَا ذَكَرَ فِي الزِّيَادَاتِ فِي عُذْرِ الدَّيْنِ، وَقَالَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: وَكُلُّ مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ عُذْرٌ فَإِنَّ الْإِجَارَةَ فِيهِ تُنْتَقَضُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى قَضَاءِ الْقَاضِي.
وَوَجْهُهُ أَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْعَيْبِ قَبْلَ الْقَبْضِ فِي الْمَبِيعِ عَلَى مَا مَرَّ فَيَنْفَرِدُ الْعَاقِدُ بِالْفَسْخِ. وَوَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّهُ فَصْلٌ مُجْتَهَدٌ فِيهِ فَلَا بُدَّ مِنْ إلْزَامِ الْقَاضِي، وَمِنْهُمْ مَنْ وَفَّقَ فَقَالَ: إذَا كَانَ الْعُذْرُ ظَاهِرًا لَا يَحْتَاجُ إلَى الْقَضَاءِ لِظُهُورِ الْعُذْرِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ظَاهِرٍ كَالدَّيْنِ يَحْتَاجُ إلَى الْقَضَاءِ لِظُهُورِ الْعُذْرِ (وَمَنْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِيُسَافِرَ عَلَيْهَا ثُمَّ بَدَا لَهُ مِنْ السَّفَرِ فَهُوَ عُذْرٌ)؛ لِأَنَّهُ لَوْ مَضَى عَلَى مُوجِبِ الْعَقْدِ يَلْزَمُهُ ضَرَرٌ زَائِدٌ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَذْهَبُ لِلْحَجِّ فَذَهَبَ وَقْتُهُ أَوْ لِطَلَبِ غَرِيمِهِ فَحَضَرَ أَوْ لِلتِّجَارَةِ فَافْتَقَرَ (وَإِنْ بَدَا لِلْمُكَارِي فَلَيْسَ ذَلِكَ بِعُذْرٍ)؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَعْقِدَ وَيَبْعَثَ الدَّوَابَّ عَلَى يَدِ تِلْمِيذِهِ أَوْ أَجِيرِهِ (وَلَوْ مَرِضَ الْمُؤَاجِرُ فَقَعَدَ فَكَذَا الْجَوَابُ) عَلَى رِوَايَةِ الْأَصْلِ.
وَرَوَى الْكَرْخِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ عُذْرٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْرَى عَنْ ضَرَرٍ فَيَدْفَعُ عَنْهُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ دُونَ الِاخْتِيَارِ (وَمَنْ آجَرَ عَبْدَهُ ثُمَّ بَاعَهُ فَلَيْسَ بِعُذْرٍ)؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الضَّرَرُ بِالْمُضِيِّ عَلَى مُوجِبِ عَقْدٍ، وَإِنَّمَا يَفُوتُهُ الِاسْتِرْبَاحُ وَأَنَّهُ أَمْرٌ زَائِدٌ (وَإِذَا اسْتَأْجَرَ الْخَيَّاطُ غُلَامًا فَأَفْلَسَ وَتَرَكَ الْعَمَلَ فَهُوَ الْعُذْرُ)؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ الضَّرَرُ بِالْمُضِيِّ عَلَى مُوجِبِ الْعَقْدِ لِفَوَاتِ مَقْصُودِهِ وَهُوَ رَأْسُ مَالِهِ، وَتَأْوِيلُ الْمَسْأَلَةِ خَيَّاطٌ يَعْمَلُ لِنَفْسِهِ، أَمَّا الَّذِي يَخِيطُ بِأَجْرٍ فَرَأْسُ مَالِهِ الْخَيْطُ وَالْمَخِيطُ وَالْمِقْرَاضُ فَلَا يَتَحَقَّقُ الْإِفْلَاسُ فِيهِ.
(وَإِنْ أَرَادَ تَرْكَ الْخِيَاطَةِ، وَأَنْ يَعْمَلَ فِي الصَّرْفِ فَلَيْسَ بِعُذْرٍ)؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يُقْعِدَ الْغُلَامَ لِلْخِيَاطَةِ فِي نَاحِيَةٍ، وَهُوَ يَعْمَلُ فِي الصَّرْفِ فِي نَاحِيَةٍ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا اسْتَأْجَرَ دُكَّانًا لِلْخِيَاطَةِ فَأَرَادَ أَنْ يَتْرُكَهَا وَيَشْتَغِلَ بِعَمَلٍ آخَرَ حَيْثُ جَعَلَهُ عُذْرًا ذَكَرَهُ فِي الْأَصْلِ؛ لِأَنَّ الْوَاحِدَ لَا يُمْكِنُهُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْعَمَلَيْنِ، أَمَّا هَاهُنَا الْعَامِلُ شَخْصَانِ فَأَمْكَنَهُمَا (وَمَنْ اسْتَأْجَرَ غُلَامًا يَخْدُمُهُ فِي الْمِصْرِ ثُمَّ سَافَرَ فَهُوَ عُذْرٌ)؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْرَى عَنْ إلْزَامِ ضَرَرٍ زَائِدٍ؛ لِأَنَّ خِدْمَةَ السَّفَرِ أَشَقُّ،
عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، وَلَمْ يَقَعْ شَيْءٌ مِنْهُمَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ، وَكَوْنُ عَقْدِ الْإِجَارَةِ عَقْدًا لَازِمًا وَكَثْرَةُ حُدُوثِ الْأَعْذَارِ فِي عُقُودِ الْإِجَارَاتِ مِمَّا لَا يَقْدَحُ أَصْلًا فِي الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ فِي حُكْمِ فَسْخِ عَقْدِ الْإِجَارَةِ بِالْأَعْذَارِ، وَكَذَا مُجَرَّدُ أَنْ لَا يُنْقَلَ الْفَسْخُ بِذَلِكَ عَنْ الصَّحَابَةِ لَا يَقْدَحُ فِي صِحَّةِ الْقِيَاسِ عِنْدَ تَحَقُّقِ شَرَائِطِهِ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ جُمْلَةَ مَا تَشَبَّثَ بِهِ فِي تَرْوِيجِ نَظَرِهِ هُنَا أَضْعَفُ مِنْ بَيْتِ الْعَنْكَبُوتِ،
وَفِي الْمَنْعُ مِنْ السَّفَرِ ضَرَرٌ، وَكُلُّ ذَلِكَ لَمْ يُسْتَحَقَّ بِالْعَقْدِ فَيَكُونُ عُذْرًا (وَكَذَا إذَا أَطْلَقَ) لِمَا مَرَّ أَنَّهُ يَتَقَيَّدُ بِالْحَضَرِ، بِخِلَافِ مَا إذَا آجَرَ عَقَارًا ثُمَّ سَافَرَ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ إذْ الْمُسْتَأْجِرُ يُمْكِنُهُ اسْتِيفَاءُ الْمَنْفَعَةِ مِنْ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ بَعْدَ غَيْبَتِهِ، حَتَّى لَوْ أَرَادَ الْمُسْتَأْجِرُ السَّفَرَ فَهُوَ عُذْرٌ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَنْعِ مِنْ السَّفَرِ أَوْ إلْزَامِ الْأَجْرِ بِدُونِ السُّكْنَى وَذَلِكَ ضَرَرٌ.
مَسَائِلُ مَنْثُورَةٌ
قَالَ: (وَمَنْ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا أَوْ اسْتَعَارَهَا فَأَحْرَقَ الْحَصَائِدَ فَاحْتَرَقَ شَيْءٌ مِنْ أَرْضٍ أُخْرَى فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ)؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فِي هَذَا التَّسْبِيبِ فَأَشْبَهَ حَافِرَ الْبِئْرِ فِي دَارِ نَفْسِهِ. وَقِيلَ هَذَا إذَا كَانَتْ الرِّيَاحُ هَادِئَةً ثُمَّ تَغَيَّرَتْ، أَمَّا إذَا كَانَتْ مُضْطَرِبَةً يَضْمَنُ؛ لِأَنَّ مُوقِدَ النَّارِ يَعْلَمُ أَنَّهَا لَا تَسْتَقِرُّ فِي أَرْضِهِ.
قَالَ: (وَإِذَا أَقْعَدَ الْخَيَّاطُ أَوْ الصَّبَّاغُ فِي حَانُوتِهِ مَنْ يَطْرَحُ عَلَيْهِ الْعَمَلَ بِالنِّصْفِ فَهُوَ جَائِزٌ)
ثُمَّ إنَّ مَا ذَكَرَهُ كُلَّهُ مَنْقُوضٌ بِمَا اعْتَرَفَ بِهِ مِنْ أَنَّ الْعُذْرَ الْكَامِلَ مُعْتَبَرٌ، فَإِنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِي ذَلِكَ الْعُذْرِ أَيْضًا نَصٌّ وَلَمْ يَنْعَقِدْ عَلَيْهِ إجْمَاعٌ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ الصَّحَابَةِ فِيهِ شَيْءٌ، فَالْمَدَارُ فِي ذَلِكَ أَيْضًا هُوَ الْقِيَاسُ.
(مَسَائِلُ مَنْثُورَةٌ)
أَيْ مَسَائِلُ نُثِرَتْ عَنْ أَمَاكِنِهَا وَذُكِرَتْ هُنَا تَلَافِيًا لِمَا فَاتَ (قَوْلُهُ: وَإِذَا أَقْعَدَ الْخَيَّاطُ أَوْ الصَّبَّاغُ فِي حَانُوتِهِ مَنْ يَطْرَحُ عَلَيْهِ الْعَمَلَ بِالنِّصْفِ فَهُوَ جَائِزٌ) صُورَةُ الْمَسْأَلَةِ: إذَا كَانَ لِلْخَيَّاطِ أَوْ الصَّبَّاغِ دُكَّانٌ مَعْرُوفٌ، وَهُوَ رَجُلٌ مَشْهُورٌ عِنْدَ النَّاسِ وَلَهُ وَجَاهَةٌ وَلَكِنَّهُ غَيْرُ حَاذِقٍ فَيُقْعِدُ فِي دُكَّانِهِ رَجُلًا حَاذِقًا؛ لِيَتَقَبَّلَ الْعَمَلَ مِنْ النَّاسِ وَيَعْمَلَ ذَلِكَ الرَّجُلُ عَلَى أَنَّ مَا أَصَابَا مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، وَهَذَا فِي الْقِيَاسِ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ رَأْسَ مَالِ صَاحِبِ الدُّكَّانِ الْمَنْفَعَةُ، وَالْمَنْفَعَةُ لَا تَصْلُحُ رَأْسَ مَالِ الشَّرِكَةِ؛ وَلِأَنَّ الْمُتَقَبِّلَ لِلْعَمَلِ إنْ كَانَ صَاحِبَ الدُّكَّانِ فَالْعَامِلُ أَجِيرُهُ بِالنِّصْفِ، وَهُوَ مَجْهُولٌ؛ لِأَنَّ الْأُجْرَةَ إذَا كَانَتْ نِصْفَ مَا يَخْرُجُ مِنْ عَمَلِهِ كَانَتْ
لِأَنَّ هَذِهِ شَرِكَةُ الْوُجُوهِ فِي الْحَقِيقَةِ، فَهَذَا بِوَجَاهَتِهِ يَقْبَلُ وَهَذَا بِحَذَاقَتِهِ يَعْمَلُ فَتَنْتَظِمُ بِذَلِكَ الْمَصْلَحَةُ فَلَا تَضُرُّهُ الْجَهَالَةُ فِيمَا يَحْصُلُ.
قَالَ: (وَمَنْ اسْتَأْجَرَ جَمَلًا لِيَحْمِلَ عَلَيْهِ مَحْمَلًا وَرَاكِبَيْنِ إلَى مَكَّةَ جَازَ وَلَهُ الْمَحْمَلُ الْمُعْتَادُ)
مَجْهُولَةً لَا مَحَالَةَ، وَإِنْ كَانَ الْمُتَقَبِّلُ هُوَ الْعَامِلَ فَهُوَ مُسْتَأْجَرٌ لِمَوْضِعِ جُلُوسِهِ مِنْ دُكَّانِهِ بِنِصْفِ مَا يَعْمَلُ وَذَلِكَ أَيْضًا مَجْهُولٌ. وَالطَّحَاوِيُّ أَخَذَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِالْقِيَاسِ وَقَالَ: الْقِيَاسُ عِنْدِي أَوْلَى مِنْ الِاسْتِحْسَانِ.
وَفِي الِاسْتِحْسَانِ: يَجُوزُ هَذَا؛ لِأَنَّ هَذَا شَرِكَةُ التَّقَبُّلِ فِي الْعَمَلِ بِأَبْدَانِهَا سَوَاءٌ، فَيَصِيرُ رَأْسُ مَالِ أَحَدِهِمَا التَّقَبُّلَ، وَرَأْسُ مَالِ الْآخَرِ الْعَمَلَ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَجِبُ بِهِ الْأَجْرُ فَجَازَ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَالْكِفَايَةِ. وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ هَذِهِ لَيْسَتْ بِإِجَارَةٍ، وَإِنَّمَا هِيَ شَرِكَةُ الصَّنَائِعِ، وَهِيَ شَرِكَةُ التَّقَبُّلِ؛ لِأَنَّ شَرِكَةَ التَّقَبُّلِ أَنْ يَكُونَ ضَمَانُ الْعَمَلِ عَلَيْهِمَا، وَأَحَدُهُمَا يَتَوَلَّى الْقَبُولَ مِنْ النَّاسِ وَالْآخَرُ يَتَوَلَّى الْعَمَلَ لِحَذَاقَتِهِ، وَهُوَ مُتَعَارَفٌ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِجَوَازِهَا لِلتَّعَامُلِ بِهَا اهـ كَلَامُهُ. وَرَدَّ عَلَيْهِ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ قَوْلَهُ وَأَحَدُهُمَا يَتَوَلَّى الْقَبُولَ مِنْ النَّاسِ حَيْثُ قَالَ فِيهِ: بَحْثٌ، فَإِنَّ تَعَيُّنَ أَحَدِهِمَا لِتَوَلِّي الْقَبُولِ لَيْسَ بِلَازِمٍ فِي شَرِكَةِ التَّقَبُّلِ، وَلَعَلَّ مُرَادَهُ كَوْنُهُ مِنْ مُتَنَاوَلَاتِهَا فَفِي الْعِبَارَةِ مُسَامَحَةٌ. اهـ.
أَقُولُ: مَنْشَأُ تَوَهُّمِهِ جَعْلُ الْوَاوِ فِي قَوْلِ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ وَأَحَدُهُمَا يَتَوَلَّى الْقَبُولَ لِلْعَطْفِ وَحَمْلُ الْمَعْنَى عَلَى بَيَانِ تَعَيُّنِ أَحَدِهِمَا لِتَوَلِّي الْقَبُولِ فِي شَرِكَةِ التَّقَبُّلِ، وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ بِمُرَادٍ، بَلْ الْوَاوُ فِيهِ لِلْحَالِ. وَالْمَعْنَى أَنَّ شَرِكَةَ التَّقَبُّلِ أَنْ يَكُونَ ضَمَانُ الْعَمَلِ عَلَيْهِمَا حَالَ كَوْنِ أَحَدِهِمَا يَتَوَلَّى الْقَبُولَ مِنْ النَّاسِ فَيُفْهَمُ مِنْهُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَوِيَّةِ كَوْنُ الضَّمَانِ عَلَيْهِمَا حَالَ أَنْ يَتَوَلَّيَا الْقَبُولَ مِنْ النَّاسِ مَعًا فَيَصِيرُ قَوْلُ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ هُنَا بِمَنْزِلَةِ قَوْلُ صَاحِبِ الْكَافِي؛ لِأَنَّ تَفْسِيرَ شَرِكَةِ التَّقَبُّلِ أَنْ يَكُونَ ضَمَانُ الْعَمَلِ عَلَيْهِمَا، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا يَتَوَلَّى الْقَبُولَ مِنْ النَّاسِ لِجَاهِهِ، وَالْآخَرُ يَتَوَلَّى الْعَمَلَ لِحَذَاقَتِهِ. اهـ. فَلَا مَحْذُورَ فِي عِبَارَةِ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ وَلَا مُسَامَحَةَ.
ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ صَاحِبَ الْعِنَايَةِ لَيْسَ بِمُنْفَرِدٍ فِي التَّعْبِيرِ بِتِلْكَ الْعِبَارَةِ، بَلْ سَبَقَهُ إلَيْهِ صَاحِبُ مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ حَيْثُ قَالَ: لِأَنَّ تَفْسِيرَ شَرِكَةِ التَّقَبُّلِ أَنْ يَكُونَ ضَمَانُ الْعَمَلِ عَلَيْهِمَا وَأَحَدُهُمَا يَتَوَلَّى الْقَبُولَ مِنْ النَّاسِ لِجَاهِهِ، وَالْآخَرُ يَتَوَلَّى الْعَمَلَ لِحَذَاقَتِهِ، وَهُوَ مُتَعَارَفٌ، وَوَجَبَ الْقَوْلُ بِصِحَّتِهِ انْتَهَى (قَوْلُهُ: لِأَنَّ هَذِهِ شَرِكَةُ الْوُجُوهِ فِي الْحَقِيقَةِ فَهَذَا بِوَجَاهَتِهِ يَقْبَلُ، وَهَذَا بِحَذَاقَتِهِ يَعْمَلُ فَتَنْتَظِمُ بِذَلِكَ الْمَصْلَحَةُ فَلَا تَضُرُّهُ الْجَهَالَةُ فِيمَا يَحْصُلُ) قَالَ الْإِمَامُ الزَّيْلَعِيُّ فِي شَرْحِ الْكَنْزِ: قَالَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ: هَذِهِ شَرِكَةُ الْوُجُوهِ فِي الْحَقِيقَةِ، فَهَذَا
وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ؛ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيُّ لِلْجَهَالَةِ وَقَدْ يُفْضِي ذَلِكَ إلَى الْمُنَازَعَةِ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الرَّاكِبُ وَهُوَ مَعْلُومٌ وَالْمَحْمَلُ تَابِعٌ، وَمَا فِيهِ مِنْ الْجَهَالَةِ يَرْتَفِعُ بِالصَّرْفِ إلَى التَّعَارُفِ فَلَا يُفْضِي ذَلِكَ إلَى الْمُنَازَعَةِ وَكَذَا إذَا لَمْ يَرَ الْوَطَاءَ وَالدُّثُرَ. قَالَ:(وَإِنْ شَاهَدَ الْجَمَّالُ الْحِمْلَ فَهُوَ أَجْوَدُ)؛ لِأَنَّهُ أَنْفَى لِلْجَهَالَةِ وَأَقْرَبُ إلَى تَحَقُّقِ الرِّضَا. قَالَ: (وَإِنْ اسْتَأْجَرَ بَعِيرًا لِيَحْمِلَ عَلَيْهِ مِقْدَارًا مِنْ الزَّادِ فَأَكَلَ مِنْهُ فِي الطَّرِيقِ جَازَ لَهُ أَنْ يَرُدَّ عِوَضَ مَا أَكَلَ)؛ لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِ حِمْلًا مُسَمًّى فِي جَمِيعِ الطَّرِيقِ فَلَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ (وَكَذَا غَيْرُ الزَّادِ مِنْ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ) وَرَدُّ الزَّادِ مُعْتَادٌ عِنْدَ الْبَعْضِ كَرَدِّ الْمَاءِ فَلَا مَانِعَ مِنْ الْعَمَلِ بِالْإِطْلَاقِ.
بِوَجَاهَتِهِ يَقْبَلُ، وَهَذَا بِحَذَاقَتِهِ يَعْمَلُ، فِيهِ نَوْعُ إشْكَالٍ، فَإِنَّ تَفْسِيرَ شَرِكَةِ الْوُجُوهِ أَنْ يَشْتَرِكَا عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَا شَيْئًا بِوُجُوهِهِمَا وَيَبِيعَا وَلَيْسَ فِي هَذِهِ بَيْعٌ وَلَا شِرَاءٌ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ تَكُونَ شَرِكَةُ الْوُجُوهِ. وَإِنَّمَا هِيَ شَرِكَةُ الصَّنَائِعِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، إلَى هَاهُنَا كَلَامُهُ.
أَقُولُ: لَيْسَ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ بِشَرِكَةِ الْوُجُوهِ فِي قَوْلِهِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ شَرِكَةُ الْوُجُوهِ فِي الْحَقِيقَةِ مَا هُوَ الْمُصْطَلَحُ عَلَيْهِ الْمَارُّ فِي كِتَابِ الشَّرِكَةِ بَلْ مُرَادُهُ بِهَا هَاهُنَا مَا وَقَعَ فِيهِ تَقَبُّلُ الْعَمَلِ بِالْوَجَاهَةِ يُرْشِدُ إلَيْهِ قَوْلُهُ: فَهَذَا بِوَجَاهَتِهِ يَقْبَلُ، وَهَذَا بِحَذَاقَتِهِ يَعْمَلُ فَيَنْدَفِعُ الْإِشْكَالُ، وَلَا يَمْتَنِعُ كَوْنُهَا شَرِكَةَ الصَّنَائِعِ وَالتَّقَبُّلِ عَلَى الْمَعْنَى الْمُصْطَلَحِ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الشَّرِكَةِ. وَقَالَ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ فِي شَرْحِ الْوِقَايَةِ: فَفِي الْهِدَايَةِ حَمَلَهُ عَلَى شَرِكَةِ الْوُجُوهِ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ شَرِكَةُ الصَّنَائِعِ وَالتَّقَبُّلِ، فَكَأَنَّ صَاحِبَ الْهِدَايَةِ أَطْلَقَ شَرِكَةَ الْوُجُوهِ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا يَقْبَلُ الْعَمَلَ بِوَجَاهَتِهِ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ. وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ بَعْدَ نَقْلِ مَا ذَكَرَهُ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ: وَلَا يَخْفَى عَلَيْك أَنَّ فِي قَوْلِهِ فِي الْحَقِيقَةِ نَوْعَ نَبْوَةٍ عَنْ هَذَا انْتَهَى.
أَقُولُ: إنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ كَوْنِهَا شَرِكَةً أُخْرَى بَلْ هُوَ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ كَوْنِهَا إجَارَةً، وَأَنَّ مُرَادَهُ بِالْحَقِيقَةِ مَا يُقَابِلُ الظَّاهِرَ وَالصُّورَةَ لَا مَا يُقَابِلُ الْمَجَازَ، فَالْمَعْنَى أَنَّ هَذِهِ الْمُعَاقَدَةَ، وَإِنْ كَانَتْ بِحَسَبِ الصُّورَةِ وَظَاهِرِ الْحَالِ عَقْدُ إجَارَةٍ بِالنِّصْفِ إلَّا أَنَّهَا بِحَسَبِ حَقِيقَةِ الْحَالِ عَقْدُ شَرِكَةِ الْوُجُوهِ: أَيْ عَقْدُ شَرِكَةِ التَّقَبُّلِ بِالْوَجَاهَةِ فَلَا نَبْوَةَ عَنْ هَذَا فِي شَيْءٍ تَأَمَّلْ تَقِفْ.
كِتَابُ الْمُكَاتَبِ
قَالَ (وَإِذَا كَاتَبَ الْمَوْلَى عَبْدَهُ أَوْ أَمَتَهُ عَلَى مَالٍ شَرَطَهُ عَلَيْهِ وَقَبِلَ الْعَبْدُ ذَلِكَ صَارَ مُكَاتَبًا) أَمَّا الْجَوَازُ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى
(كِتَابُ الْمُكَاتَبِ)
قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: أَوْرَدَ عَقْدَ الْكِتَابَةِ بَعْدَ عَقْدِ الْإِجَارَةِ لِمُنَاسَبَةِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَقْدٌ يُسْتَفَادُ بِهِ الْمَالُ بِمُقَابَلَةِ مَا لَيْسَ بِمَالٍ عَلَى وَجْهٍ يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى ذِكْرِ الْعِوَضِ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ، وَبِهَذَا وَقَعَ الِاحْتِرَازُ عَنْ الْبَيْعِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ اهـ أَقُولُ: إنَّ قَوْلَهُ وَبِهَذَا وَقَعَ الِاحْتِرَازُ عَنْ الْبَيْعِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ مُسْتَدْرَكٌ بَلْ مُخْتَلٌّ، لِأَنَّهُ يُرَدُّ عَلَيْهِ أَنْ يُقَالَ: إنْ وَقَعَ الِاحْتِرَازُ
{فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا}
بِهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ عَنْ غَيْرِ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ أَيْضًا، فَمَا مَعْنَى تَخْصِيصِ تِلْكَ الثَّلَاثَةِ بِالذِّكْرِ؟ وَإِنْ لَمْ يَقَعْ الِاحْتِرَازُ بِهِ عَنْ غَيْرِهَا فَمَا فَائِدَةُ بَيَانِ وُقُوعِ الِاحْتِرَازِ بِهِ عَنْ تِلْكَ الثَّلَاثَةِ فَقَطْ، إذْ يُنْتَفَضُ حِينَئِذٍ مَا ذَكَرَهُ فِي وَجْهِ الْمُنَاسَبَةِ بِغَيْرِهَا مِنْ الْأَغْيَارِ، وَبِعِبَارَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ إنْ وَجَبَ الِاطِّرَادُ فِي وُجُوهِ الْمُنَاسَبَاتِ بَيْنَ كُتُبِ هَذَا الْفَنِّ لَزِمَ أَنْ لَا يَتَحَقَّقَ شَيْءٌ مِنْ تِلْكَ الْوُجُوهِ فِي غَيْرِ مَا ذُكِرَ فِيهِ فَيَلْزَمُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ الِاحْتِرَازُ عَنْ جَمِيعِ مَا عَدَاهُ، فَلَا مَعْنَى لِتَخْصِيصِ الِاحْتِرَازِ عَنْ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ بِالذِّكْرِ وَإِنْ لَمْ يَجِبْ الِاطِّرَادُ فِيهَا، بَلْ كَفَى تَحَقُّقُ كُلٍّ مِنْهَا فِيمَا ذُكِرَ فِيهِ سَوَاءٌ تَحَقَّقَ ذَلِكَ فِي غَيْرِهِ أَيْضًا أَمْ لَا لَمْ يَكُنْ فَائِدَةٌ فِي بَيَانِ وُقُوعِ الِاحْتِرَازِ بِمَا ذَكَرَهُ وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ عَنْ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ، سِيَّمَا إذَا لَمْ يَنْحَصِرْ مَا يَقَعُ الِاحْتِرَازُ بِذَلِكَ عَنْهُ فِي تِلْكَ الثَّلَاثَةِ. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْمُنَاسِبَ فِي وُجُوهِ الْمُنَاسَبَاتِ بَيْنَ هَذِهِ الْكُتُبِ هُوَ الِاطِّرَادُ، وَأَنَّ الْوَجْهَ الَّذِي ذَكَرَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ هَاهُنَا لَيْسَ بِمُتَحَقِّقٍ فِي غَيْرِ مَا نَحْنُ فِيهِ أَصْلًا كَمَا يَظْهَرُ بِالتَّأَمُّلِ الصَّادِقِ فَكَانَ مُطَّرِدًا، فَلَا وَجْهَ لِتَخْصِيصِ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ بِالذِّكْرِ مِنْ بَيْنِ مَا وَقَعَ عَنْهُ الِاحْتِرَازُ بِذَلِكَ الْوَجْهِ. ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ الْعِنَايَةِ نَقَلَ مَا ذَكَرَ فِي النِّهَايَةِ وَبَيَّنَ الْمُرَادَ مِنْهُ حَيْثُ قَالَ: قَالَ فِي النِّهَايَةِ: أَوْرَدَ عَقْدَ الْكِتَابَةِ بَعْدَ عَقْدِ الْإِجَارَةِ لِمُنَاسَبَةِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَقْدٌ يُسْتَفَادُ بِهِ الْمَالُ بِمُقَابَلَةِ مَا لَيْسَ بِمَالٍ عَلَى وَجْهٍ يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى ذِكْرِ الْعِوَضِ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ، وَبِهَذَا وَقَعَ الِاحْتِرَازُ عَنْ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ: يَعْنِي أَنَّ قَوْلَهُ بِمُقَابَلَةِ مَا لَيْسَ بِمَالٍ خَرَجَ بِهِ الْبَيْعُ وَالْهِبَةُ بِشَرْطِ الْعِوَضِ. وَقَوْلُهُ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ خَرَجَ بِهِ النِّكَاحُ وَالطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ عَلَى مَالٍ، فَإِنَّ ذِكْرَ الْعِوَضِ فِيهَا لَيْسَ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ، إلَى هُنَا لَفْظُ الْعِنَايَةِ. أَقُولُ: فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ نَقْلِهِ وَبَيَانِهِ اخْتِلَالٌ. أَمَّا فِي نَقْلِهِ فَلِأَنَّ الْهِبَةَ غَيْرُ مَذْكُورَةٍ فِي شَيْءٍ مِنْ نُسَخِ النِّهَايَةِ، وَقَدْ ضَمَّهَا فِي النَّقْلِ إلَى الْبَيْعِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ. وَأَمَّا فِي بَيَانِهِ فَلِأَنَّهُ قَيَّدَ الْهِبَةَ فِي الْبَيَانِ بِشَرْطِ الْعِوَضِ وَأَطْلَقَهَا فِي أَثْنَاءِ النَّقْلِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ قَوْلَهُ بِمُقَابَلَةِ مَا لَيْسَ بِمَالٍ يُخْرِجُهَا عَنْ الْإِطْلَاقِ، إذْ الْهِبَةُ بِلَا شَرْطٍ عِوَضٌ لَا مُقَابَلَةَ فِيهَا أَصْلًا فَتَخْرُجُ بِقَوْلِهِ بِمُقَابَلَةِ مَا لَيْسَ بِمَالٍ كَمَا تَخْرُجُ بِهِ الْهِبَةُ بِشَرْطِ الْعِوَضِ فَلَا وَجْهَ لِلتَّقْيِيدِ فِي الْبَيَانِ. وَأَيْضًا لَمْ يَكُنْ النِّكَاحُ مَذْكُورًا فِي نُسَخِ النِّهَايَةِ وَلَا فِيمَا نَقَلَهُ عَنْهَا، وَقَدْ تَعَرَّضَ فِي الْبَيَانِ لِخُرُوجِ النِّكَاحِ أَيْضًا بِقَوْلِهِ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ، وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ. وَأَيْضًا كَانَ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ مُطْلَقَيْنِ فِي الْمَنْقُولِ، وَقَدْ قُيِّدَ مَا فِي الْبَيَانِ بِكَوْنِهِمَا عَلَى مَالٍ وَجَعَلَهُمَا خَارِجَيْنِ بِقَوْلِهِ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ، وَلَمْ يَذْكُرْ خُرُوجَ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ بِغَيْرِ مَالٍ بِشَيْءٍ مِنْ الْقَيْدَيْنِ مَعَ أَنَّهُمَا يَخْرُجَانِ بِقَيْدِ الْمُقَابَلَةِ فِي قَوْلِهِ بِمُقَابَلَةِ مَا لَيْسَ بِمَالٍ كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْهِبَةِ بِلَا شَرْطِ عِوَضٍ فَتَأَمَّلْ. وَقَالَ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ: إنَّ ذِكْرَ الْمُكَاتَبِ عَقِيبَ كِتَابِ الْعَتَاقِ كَانَ أَنْسَبَ، وَلِهَذَا ذَكَرَ الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ فِي الْكَافِي كِتَابَ الْمُكَاتَبِ وَكِتَابَ الْوَلَاءِ عَقِيبَ كِتَابِ الْعَتَاقِ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ مَآلُهَا الْعِتْقُ بِمَالٍ وَالْوَلَاءُ حُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِ الْعِتْقِ أَيْضًا انْتَهَى. وَنَقَلَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فَزَيَّفَهُ حَيْثُ قَالَ: وَذُكِرَ فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ أَنَّ ذِكْرَ كِتَابِ الْمُكَاتَبِ عَقِيبَ كِتَابِ الْعَتَاقِ كَانَ أَنْسَبَ، وَلِهَذَا ذَكَرَهُ الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ فِي الْكَافِي عَقِيبَ كِتَابِ الْعَتَاقِ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ مَآلُهَا الْوَلَاءُ وَالْوَلَاءُ حُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِ الْعِتْقِ أَيْضًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْعِتْقَ إخْرَاجُ الرَّقَبَةِ عَنْ الْمِلْكِ بِلَا عِوَضٍ، وَالْكِتَابَةُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ بَلْ فِيهَا مِلْكُ الرَّقَبَةِ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
لِشَخْصٍ وَمَنْفَعَتُهُ لِغَيْرِهِ، وَهُوَ أَنْسَبُ لِلْإِجَارَةِ لِأَنَّ نِسْبَةَ الذَّاتِيَّاتِ أَوْلَى مِنْ نِسْبَةِ الْعَرَضِيَّاتِ، إلَى هُنَا لَفْظُ الْعِنَايَةِ. أَقُولُ: فِي نَقْلِهِ خَطَأٌ، لِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِي كَلَامِ صَاحِبِ الْغَايَةِ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ مَآلُهَا الْعِتْقُ، وَقَدْ قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي النَّقْلِ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ مَآلُهَا الْوَلَاءُ. وَبَيْنَهُمَا بَوْنٌ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَقْصُودَ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ بِقَوْلِهِ لِأَنَّ مَآلَهَا الْعِتْقُ بَيَانُ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ الْعَتَاقِ وَالْكِتَابَةِ، وَبِقَوْلِهِ وَالْوَلَاءُ حُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِ الْعِتْقِ أَيْضًا بَيَانُ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ الْعَتَاقِ وَالْوَلَاءِ أَيْضًا، وَكَأَنَّ صَاحِبَ الْعِنَايَةِ حَسِبَ مَجْمُوعَ الْكَلَامَيْنِ بَيَانًا لِلْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ الْعَتَاقِ وَالْكِتَابَةِ فَوَقَعَ فِيمَا وَقَعَ مِنْ تَغْيِيرِ الْعِبَارَةِ فِي النَّقْلِ تَدَبَّرْ. ثُمَّ إنَّ بَعْضَ الْفُضَلَاءِ بَعْدَمَا تَنَبَّهَ لِمَا فِي نَقْلِ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ مِنْ الْخُرُوجِ عَنْ سُنَنِ السَّدَادِ قَصَدَ رَدَّ تَزْيِيفَةِ أَيْضًا فَقَالَ: وَقَوْلُهُ وَالْكِتَابَةُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ إنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّهَا لَا إخْرَاجَ فِيهِ فَهُوَ كَالْمُكَابَرَةِ. أَلَا يَرَى أَنَّهُ إخْرَاجُ الْيَدِ حَالًا وَالرَّقَبَةِ مَآلًا، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِلَا عِوَضٍ فَمُسَلَّمٌ وَلَا تَمَسُّ الْحَاجَةُ إلَى الْمُنَاسَبَةِ فِي جَمِيعِ أَجْزَاءِ مَفْهُومِهِ مَعَ أَنَّ اعْتِبَارَ انْتِفَاءِ الْعِوَضِ فِي مَفْهُومِ الْعِتْقِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ أَيْضًا وَكَيْفَ وَالْعِتْقُ عَلَى مَالِ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِهِ. وَقَوْلُهُ لِأَنَّ نِسْبَةَ الذَّاتِيَّاتِ أَوْلَى مِنْ نِسْبَةِ الْعَرَضِيَّاتِ مَحَلُّ تَأَمُّلٍ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ، أَقُولُ: يُمْكِنُ دَفْعُ ذَلِكَ كُلِّهِ بِأَنَّ مُرَادَ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ أَنَّ الْعِتْقَ إخْرَاجُ الرَّقَبَةِ عَنْ الْمِلْكِ حَالٌّ بِلَا شَرْطِ عِوَضٍ، وَالْكِتَابَةُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ: أَيْ لَيْسَ فِيهَا إخْرَاجُ الرَّقَبَةِ عَنْ الْمِلْكِ حَالًّا وَلَيْسَتْ بِلَا شَرْطِ عِوَضٍ بَلْ هِيَ بِشَرْطِ عِوَضٍ فَيَسْقُطُ مَا ذَكَرَهُ ذَلِكَ الْقَائِلُ فِي كُلٍّ مَنْ شِقَّيْ تَرْدِيدِهِ. أَمَّا سُقُوطُ مَا ذَكَرَهُ فِي شِقِّهِ الْأَوَّلِ فَلِأَنَّهُ لَا شَكَّ فِي أَنَّ لَيْسَ فِي الْكِتَابَةِ إخْرَاجُ الرَّقَبَةِ عَنْ الْمِلْكِ حَالًّا وَإِنْ وُجِدَ فِيهَا مُطْلَقُ الْإِخْرَاجِ. وَأَمَّا سُقُوطُ مَا ذَكَرَهُ فِي شِقِّهِ الثَّانِي فَلِأَنَّ الْكَلَامَ فِي الْأَنْسَبِيَّةِ لَا فِي مُجَرَّدِ الْمُنَاسَبَةِ فَلَا تَمْشِيَةَ لِقَوْلِهِ وَلَا تَمَسُّ الْحَاجَةُ إلَى الْمُنَاسَبَةِ فِي جَمِيعِ أَجْزَاءِ مَفْهُومِهِ. ثُمَّ إنَّهُ لَمَّا كَانَ مُرَادُ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ بِقَوْلِهِ بِلَا عِوَضٍ بِلَا شَرْطِ عِوَضٍ لَا بِشَرْطِ لَا عِوَضَ كَمَا نَبَّهْنَا عَلَيْهِ مِنْ قَبْلُ لَمْ يُفِدْ قَوْلُ ذَلِكَ الْقَائِلِ، مَعَ أَنَّ اعْتِبَارَ انْتِفَاءِ الْعِوَضِ فِي مَفْهُومِ الْعِتْقِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ، لِأَنَّ اعْتِبَارَ انْتِفَاءِ الْعِوَضِ فِي مَفْهُومِ الْعِتْقِ مِمَّا لَا يَدَّعِيهِ أَحَدٌ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ ذَلِكَ أَنْ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ بِلَا عِوَضٍ بِشَرْطِ لَا عِوَضَ، وَأَمَّا إذَا كَانَ الْمُرَادُ بِهِ بِلَا شَرْطِ عِوَضٍ فَيَعُمُّ مَا بِشَرْطِ الْعِوَضِ أَيْضًا، إذْ قَدْ تَقَرَّرَ فِي مَوْضِعِهِ أَنْ بِلَا شَرْطِ شَيْءٍ أَعَمُّ مِنْ بِشَرْطِ شَيْءٍ، وَمِنْ بِشَرْطِ لَا شَيْءَ فَيَصِيرُ الْمُعْتَبَرُ فِي مَفْهُومِ الْعِتْقِ انْتِفَاءَ اعْتِبَارِ الْعِوَضِ لَا اعْتِبَارَ انْتِفَاءِ الْعِوَضِ فَيَدْخُلُ فِيهِ الْعِتْقُ عَلَى مَالٍ لِأَنَّ عَدَمَ اعْتِبَارِ شَيْءٍ لَيْسَ اعْتِبَارَ عَدَمِهِ كَمَا عُرِفَ. ثُمَّ إنَّ مُرَادَ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ بِالذَّاتِيَّاتِ فِي قَوْلِهِ لِأَنَّ نِسْبَةَ الذَّاتِيَّاتِ أَوْلَى مِنْ نِسْبَةِ الْعَرَضِيَّاتِ مَا هُوَ الدَّاخِلُ فِي الْمَفْهُومِ، وَبِالْعَرْضِيَّاتِ مَا هُوَ الْخَارِجُ عَنْهُ. إذْ قَدْ تَقَرَّرَ فِي مَوْضِعِهِ أَنَّ الذَّاتِيَّاتِ فِي الْأُمُورِ الِاعْتِبَارِيَّةِ مَا اعْتَبَرَهُ الْمُعْتَبِرُ دَاخِلًا فِيهَا، وَالْعَرَضِيَّاتِ مَا اعْتَبَرَهُ خَارِجًا عَنْهَا، بِخِلَافِ حَقَائِقِ النَّفْسِ الْأَمْرِيَّةِ، فَفِي الْكِتَابَةِ كَوْنُ مِلْكِ الرَّقَبَةِ لِشَخْصٍ وَهُوَ الْمَوْلَى وَكَوْنُ الْمَنْفَعَةِ لِغَيْرِهِ وَهُوَ الْمُكَاتَبُ دَاخِلٌ فِي مَفْهُومِهَا الْمُعْتَبَرِ عِنْدَ أَهْلِ الشَّرْعِ، وَأَمَّا الْعِتْقُ فَأَمْرٌ خَارِجٌ عَنْ مَفْهُومِهَا، وَإِنَّمَا هُوَ مَآلُهَا الْحَاصِلُ عِنْدَ أَدَاءِ كُلِّ الْبَدَلِ، وَكَذَا الْوَلَاءُ أَمْرٌ خَارِجٌ عَنْهُ فَإِنَّهُ حُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِ الْعِتْقِ فَكَانَ مُنَاسَبَةُ الْكِتَابَةِ بِالْإِجَارَةِ مِنْ حَيْثُ الذَّاتِيَّةُ وَبِالْعِتْقِ مِنْ حَيْثُ الْعَرَضِيَّةُ فَكَانَتْ أَنْسَبَ لِلْإِجَارَةِ مِنْ الْعِتْقِ. ثُمَّ إنَّ كَثِيرًا مِنْ الشُّرَّاحِ قَالُوا: وَقَدَّمَ الْإِجَارَةَ لِشَبَهِهَا بِالْبَيْعِ مِنْ حَيْثُ التَّمْلِيكُ وَالشَّرَائِطُ فَكَانَ أَنْسَبَ بِالتَّقْدِيمِ. ثُمَّ أَقُولُ: هَذَا أَمْرٌ عَجِيبٌ مِنْهُمْ، فَإِنَّ مُجَرَّدَ شَبَهِهَا مِنْ بَعْضِ الْحَيْثِيَّاتِ بِالْبَيْعِ الَّذِي مِنْ بَيْنِهِ وَبَيْنِهَا كُتُبٌ كَثِيرَةٌ غَيْرُ شَبِيهَةٍ بِالْبَيْعِ مِنْ تِلْكَ الْحَيْثِيَّاتِ وَغَيْرِهَا، فَكَيْفَ يَجْعَلُ هَاهُنَا وَجْهًا لِتَقْدِيمِهَا عَلَى الْكِتَابَةِ، وَهَلْ تَقْبَلُهُ الْفِطْرَةُ السَّلِيمَةُ. وَالْحَقُّ عِنْدِي أَنَّ وَجْهَ تَقْدِيمِ الْإِجَارَةِ هُوَ الْمُنَاسَبَةُ الْكَائِنَةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا ذَكَرَ قَبْلَهَا الْمُبَيَّنَةُ فِي صَدْرِ كِتَابِ الْإِجَارَاتِ فَإِنَّ تِلْكَ الْمُنَاسَبَاتِ لَمَّا اقْتَضَتْ ذِكْرَ الْإِجَارَةِ عَقِيبَ مَا ذُكِرَ قُبَيْلَهَا وَهُوَ الْهِبَةُ اقْتَضَتْ أَيْضًا بِالضَّرُورَةِ تَقْدِيمَ الْإِجَارَةِ عَلَى الْمُكَاتَبِ وَلَا يَفُوتُ أَمْرُ التَّعْقِيبِ. ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ الْعِنَايَةِ قَالَ: الْكِتَابَةُ عَقْدٌ بَيْنَ الْمَوْلَى وَعَبْدِهِ بِلَفْظِ الْكِتَابَةِ أَوْ مَا يُؤَدِّي مَعْنَاهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ اهـ. أَقُولُ: هَذَا تَعْرِيفٌ خَالٍ عَنْ التَّحْصِيلِ قَرِيبٌ مِنْ تَعْرِيفِ الشَّيْءِ بِنَفْسِهِ، فَإِنَّ مَنْ لَا يَعْلَمُ مَعْنَى الْكِتَابَةِ فِي الشَّرْعِ لَا يَعْلَمُ أَنَّ الْعَقْدَ الْجَارِيَ بَيْنَ الْمَوْلَى وَعَبْدِهِ بِلَفْظِ الْكِتَابَةِ أَوْ مَا يُؤَدِّي مَعْنَاهُ بَلْ مَعْرِفَةُ الثَّانِي تَتَوَقَّفُ عَلَى مَعْرِفَةِ الْأَوَّلِ كَمَا لَا يَخْفَى. وَلَعَلَّ الْبَاعِثَ
وَهَذَا لَيْسَ أَمْرَ إيجَابٍ بِإِجْمَاعٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ،
عَلَى وُقُوعِ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ فِي هَذَا الْمَضِيقِ أَنَّ صَاحِبَ النِّهَايَةِ لَمَّا قَالَ: وَأَمَّا الْكِتَابَةُ شَرْعًا فَإِنَّهَا عِبَارَةٌ عَنْ عَقْدٍ بَيْنَ الْمَوْلَى وَالْعَبْدِ بِلَفْظِ الْكِتَابَةِ أَوْ بِلَفْظٍ يُؤَدِّي مَعْنَاهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ عَلَى مَا يَجِيءُ عَلَى أَدَاءِ الْعَبْدِ مَالًا مَعْلُومًا لِمُقَابَلَةِ عِتْقٍ يَحْصُلُ لَهُ عِنْدَ أَدَائِهِ اهـ. حَسِبَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ أَنَّ تَعْرِيفَ الْكِتَابَةِ شَرْعًا قَدْ انْتَهَى عِنْدَ قَوْلِهِ أَوْ بِلَفْظٍ يُؤَدِّي مَعْنَاهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَقَطَعَ بِهِ الْكَلَامَ فِي كِتَابِهِ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا حَسِبَهُ فَإِنَّ قَوْلَ صَاحِبِ النِّهَايَةِ عَلَى أَدَاءِ الْعَبْدِ مَالًا مَعْلُومًا إلَخْ مِنْ تَمَامِ التَّعْرِيفِ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ عَقْدٌ بَيْنَ الْمَوْلَى وَالْعَبْدِ بَيَانٌ لِلْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَالْمَعْقُودِ بِهِ فَيَحْصُلُ بِالْمَجْمُوعِ مَعْرِفَةُ مَعْنَى الْكِتَابَةِ شَرْعًا كَمَا تَرَى، ثُمَّ إنَّ الْأَظْهَرَ فِي تَعْرِيفِهَا الشَّرْعِيِّ مَا ذُكِرَ فِي الْكَافِي وَالْكِفَايَةِ بِأَنْ يُقَالَ: الْكِتَابَةُ التَّحْرِيرُ يَدًا فِي الْحَالِ وَرَقَبَةً عِنْدَ أَدَاءِ الْمَالِ، وَمَا ذُكِرَ فِي الْوِقَايَةِ وَغَيْرِهَا بِأَنْ يُقَالَ: الْكِتَابَةُ إعْتَاقُ الْمَمْلُوكِ يَدًا حَالًّا وَرَقَبَةً مَآلًا فَلْيُتَبَصَّرْ (قَوْلُهُ وَهَذَا لَيْسَ أَمْرَ إيجَابٍ بِإِجْمَاعٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ) قَالَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ وَصَاحِبُ الْكِفَايَةِ: خُصَّ الْفُقَهَاءُ، لِأَنَّ عِنْدَ أَصْحَابِ الظَّوَاهِرِ كَدَاوُد الْأَصْفَهَانِيِّ وَمَنْ تَابَعَهُ أَنَّ هَذَا أَمْرُ إيجَابٍ، حَتَّى إذَا طَلَبَ الْعَبْدُ مِنْ مَوْلَاهُ الْكِتَابَةَ وَقَدْ عَلِمَ الْمَوْلَى فِيهِ خَيْرًا وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُكَاتِبَهُ اهـ. أَقُولُ: بَقِيَ إشْكَالٌ، وَهُوَ أَنَّ صَاحِبَ الْكَشَّافِ قَالَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: وَهَذَا الْأَمْرُ لِلنَّدَبِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ. وَعَنْ الْحَسَنِ: لَيْسَ ذَاكَ بِعَزْمٍ إنْ شَاءَ كَاتَبَ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يُكَاتِبْ. وَعَنْ عُمَرَ رضي الله عنه: هِيَ عَزْمَةٌ مِنْ عَزَمَاتِ اللَّهِ. وَعَنْ ابْنِ سِيرِينَ مِثْلُهُ، وَهُوَ مَذْهَبُ دَاوُد اهـ. فَعَلَى هَذَا كَيْفَ يَتِمُّ الْقَوْلُ بِأَنَّ هَذَا الْأَمْرَ لَيْسَ لِلْإِيجَابِ بِإِجْمَاعٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ وَعُمَرُ رضي الله عنه مِنْ أَجِلَّةِ الصَّحَابَةِ الْمَعْرُوفِينَ بِالْفِقْهِ وَالرِّوَايَةِ، وَابْنُ سِيرِينَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مِنْ أَعْيَانِ التَّابِعِينَ وَكِبَارِ الْفُقَهَاءِ وَالصَّالِحِينَ، وَعَنْ هَذَا قَالُوا: جَالِسْ الْحَسَنَ أَوْ ابْنَ سِيرِينَ، فَقَوْلُ عُمَرَ وَابْنِ سِيرِينَ بِالْوُجُوبِ يُنَافِي ادِّعَاءَ الْإِجْمَاعِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنْ لَيْسَ هَذَا الْأَمْرُ لِلْإِيجَابِ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُقَالَ: إنَّ مَا ذَكَرَ فِي الْكَشَّافِ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوُجُوبَ فِي هَذَا الْأَمْرِ رِوَايَةٌ مَحْضَةٌ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ سِيرِينَ لَا أَنَّهُ مَذْهَبُهُمَا الْمُقَرَّرُ، وَكَلَامُ الْمُصَنِّفِ بِنَاءً عَلَى مَا كَانَ مَذْهَبًا مُقَرَّرًا بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فَتَأَمَّلْ، وَقَالَ صَاحِبُ مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ: وَبِقَوْلِهِ بِإِجْمَاعِ الْفُقَهَاءِ يُحْتَرَزُ عَنْ قَوْلِ دَاوُد وَمَنْ تَابَعَهُ وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ وَعَطَاءٍ، وَرِوَايَةِ صَاحِبِ التَّقْرِيبِ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَرِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا: تَجِبُ الْكِتَابَةُ إذَا سَأَلَ الْعَبْدُ إذَا كَانَ ذَا أَمَانَةٍ وَذَا كَسْبٍ، إذْ الْأَمْرُ يُفِيدُ الْوُجُوبَ عَلَى تَقْدِيرِ عِلْمِ الْخَيْرِيَّةِ اهـ كَلَامُهُ. أَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ هَؤُلَاءِ فُقَهَاءُ سِيَّمَا الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ، فَكَيْفَ يَتِمُّ الِاحْتِرَازُ بِقَوْلِهِ بِإِجْمَاعِ الْفُقَهَاءِ عَنْ قَوْلِهِمْ بِالْإِيجَابِ فِي هَذَا الْأَمْرِ، وَقَوْلُهُمْ بِذَلِكَ يُنَافِي ادِّعَاءَ إجْمَاعِ الْفُقَهَاءِ عَلَى عَدَمِ الْإِيجَابِ فِي هَذَا الْأَمْرِ فَأَنَّى يَصِحُّ الِاحْتِرَازُ بِهِ عَنْهُ، اللَّهُمَّ أَنْ يَكُونَ مَدَارُ الِاحْتِرَازِ عَلَى عَدَمِ تَسْلِيمِ فِقْهِ بَعْضِهِمْ وَعَلَى عَدَمِ تَسْلِيمِ ثُبُوتِ قَوْلِ بَعْضِهِمْ بِذَلِكَ بِنَاءً عَلَى عَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِرُوَاةِ الْقَوْلِ بِذَلِكَ فَتَأَمَّلْ (قَوْلُهُ وَإِنَّمَا هُوَ أَمْرُ نَدْبٍ هُوَ الصَّحِيحُ) هَذَا احْتِرَازٌ عَمَّا قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: إنَّ الْأَمْرَ لِلْإِبَاحَةِ لَا لِلنَّدَبِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} وقَوْله تَعَالَى {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} مَذْكُورٌ عَلَى وِفَاقِ الْعَادَةِ، فَإِنَّهَا جَرَتْ عَلَى أَنَّ الْمَوْلَى إنَّمَا يُكَاتِبُ عَبْدَهُ إذَا عَلِمَ فِيهِ خَيْرًا، كَذَا فِي الشُّرُوحِ. أَقُولُ: بِهَذَا وَبِمَا مَرَّ آنِفًا مِنْ قَوْلِ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ يَكُونُ الْأَمْرُ فِيهِ لِلْوُجُوبِ يُظْهِرُ اخْتِلَالَ مَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ الزَّاهِدِيُّ
وَإِنَّمَا هُوَ أَمْرُ نَدْبٍ هُوَ الصَّحِيحُ. وَفِي الْحَمْلِ عَلَى الْإِبَاحَةِ إلْغَاءُ الشَّرْطِ إذْ هُوَ مُبَاحٌ بِدُونِهِ، أَمَّا النَّدْبِيَّةُ مُعَلَّقَةٌ بِهِ، وَالْمُرَادُ بِالْخَيْرِ الْمَذْكُورِ عَلَى مَا قِيلَ أَنْ لَا يَضُرَّ بِالْمُسْلِمِينَ بَعْدَ الْعِتْقِ، فَإِنْ كَانَ يَضُرُّ بِهِمْ فَالْأَفْضَلُ أَنْ لَا يُكَاتِبَهُ وَإِنْ كَانَ يَصِحُّ لَوْ فَعَلَهُ.
وَأَمَّا اشْتِرَاطُ قَبُولِ الْعَبْدِ فَلِأَنَّهُ مَالٌ يَلْزَمُهُ فَلَا بُدَّ مِنْ الْتِزَامِهِ وَلَا يُعْتَقُ إلَّا بِأَدَاءِ كُلِّ الْبَدَلِ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «أَيُّمَا عَبْدٍ كُوتِبَ عَلَى مِائَةِ دِينَارٍ فَأَدَّاهَا إلَّا عَشَرَةَ دَنَانِيرَ فَهُوَ عَبْدٌ» وَقَالَ عليه الصلاة والسلام «الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ» وَفِيهِ اخْتِلَافُ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم، وَمَا اخْتَرْنَاهُ قَوْلُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رضي الله عنه،
فِي شَرْحِ مُخْتَصَرِ الْقُدُورِيِّ فِي الْمَقَامِ حَيْثُ قَالَ: وَإِنَّهُ لِلنَّدَبِ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ انْتَهَى. إذْ قَدْ عُلِمَ مِنْهُمَا أَنَّ كَوْنَ الْأَمْرِ لِلنَّدَبِ فِي {فَكَاتِبُوهُمْ} لَيْسَ مِمَّا وَقَعَ عَلَيْهِ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ بَلْ وَقَعَ فِيهِ اخْتِلَافُهُمْ وَلَكِنَّ الْمُخْتَارَ هُوَ الْقَوْلُ بِأَنَّهُ لِلنَّدَبِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ (قَوْلُهُ وَفِي الْحَمْلِ عَلَى الْإِبَاحَةِ إلْغَاءُ الشَّرْطِ إذْ هُوَ مُبَاحٌ بِدُونِهِ) تَقْرِيرُهُ أَنَّ فِي الْحَمْلِ عَلَى الْإِبَاحَةِ إلْغَاءُ الشَّرْطِ وَهُوَ قَوْلُهُ {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} لِأَنَّ الْإِبَاحَةَ ثَابِتَةٌ بِدُونِهِ بِالِاتِّفَاقِ، وَكَلَامُ اللَّهِ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ وَغَيْرِهَا. وَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ حَيْثُ قَالَ فِيهِ: إنَّ مَفْهُومَ الشَّرْطِ لَا اعْتِبَارَ لَهُ عِنْدَنَا اهـ: أَقُولُ: هَذَا سَاقِطٌ، لِأَنَّ مَعْنَى عَدَمِ اعْتِبَارِ مَفْهُومِ الشَّرْطِ عِنْدَنَا أَنَّ التَّقْيِيدَ بِالشَّرْطِ لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَاهُ، لَا أَنْ لَيْسَ فِي ذِكْرِهِ فَائِدَةٌ أَصْلًا، فَإِنَّ هَذَا لَا يَلِيقُ بِكَلَامِ الْبَشَرِ فَضْلًا عَنْ كَلَامِ خَالِقِ الْقُوَى وَالْقَدَرِ. نَعَمْ يَرِدُ عَلَى ذَلِكَ مَنْعُ أَنَّ فِي الْحَمْلِ عَلَى الْإِبَاحَةِ إلْغَاءَ الشَّرْطِ الْمَذْكُورِ بَلْ فِيهِ فَائِدَةٌ وَهِيَ إخْرَاجُ الْكَلَامِ عَلَى مَجْرَى الْعَادَةِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ مَنْ قَالَ بِالْإِبَاحَةِ عَلَى مَا ذَكَرَ فِي عَامَّةِ الشُّرُوحِ (قَوْلُهُ وَالْمُرَادُ بِالْخَيْرِ الْمَذْكُورِ عَلَى مَا قِيلَ أَنْ لَا يَضُرَّ بِالْمُسْلِمِينَ بَعْدَ الْعِتْقِ، فَإِنْ كَانَ يَضُرُّ بِهِمْ فَالْأَفْضَلُ أَنْ لَا يُكَاتِبَهُ وَإِنْ كَانَ يَصِحُّ لَوْ فَعَلَهُ) أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: فَعَلَى هَذَا لَا يَكُونُ فِي الْحَمْلِ عَلَى الْإِبَاحَةِ إلْغَاءُ الشَّرْطِ، لِأَنَّ عَقْدَ الْكِتَابَةِ يَصِيرُ بِدُونِ الشَّرْطِ حِينَئِذٍ مَكْرُوهًا لَا مُبَاحًا، إذْ قَدْ تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ أَنَّ الْمُبَاحَ مَا اسْتَوَى طَرَفَا فِعْلِهِ وَتَرْكِهِ، وَأَنَّ الْمَكْرُوهَ مَا كَانَ طَرَفُ تَرْكِهِ أَوْلَى، إذَا كَانَ الْأَفْضَلُ عِنْدَ انْتِفَاءِ الشَّرْطِ الْمَذْكُورِ عَلَى الْمَعْنَى الْمَزْبُورِ أَنْ لَا يُكَاتِبَهُ كَانَ جَانِبُ التَّرْكِ أَوْلَى فَيَصِيرُ عَقْدُ الْكِتَابَةِ إذْ ذَاكَ مَكْرُوهًا لَا مُبَاحًا فَيُنَافِي قَوْلَهُ فِيمَا قَبْلُ، وَفِي الْحَمْلِ عَلَى الْإِبَاحَةِ إلْغَاءُ الشَّرْطِ إذْ هُوَ مُبَاحٌ بِدُونِهِ فَلْيُتَأَمَّلْ
(قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «أَيُّمَا عَبْدٍ كُوتِبَ عَلَى مِائَةِ دِينَارٍ فَأَدَّاهَا إلَّا عَشَرَةَ دَنَانِيرَ فَهُوَ عَبْدٌ» إلَخْ) قَالَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ: فَإِنْ قُلْت: اخْتِلَافُ الصَّحَابَةِ فِي الْمَسْأَلَةِ وَتَكَلُّمُهُمْ فِيهَا بِالرَّأْيِ يَدُلُّ عَلَى زِيَافَةِ الْحَدِيثِ كَمَا عُرِفَ، وَلِهَذَا زَيَّفْنَا مَا رَوَى أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ «ابْتَغُوا فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى خَيْرًا كَيْ لَا يَأْكُلَهَا الزَّكَاةُ» فِي إيجَابِ الزَّكَاةِ فِي مَالِ الصَّبِيِّ بِأَنَّ الصَّحَابَةَ رضي الله عنهم اخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ
وَيُعْتَقُ بِأَدَائِهِ وَإِنْ لَمْ يَقُلْ الْمَوْلَى إذَا أَدَّيْتهَا فَأَنْتَ حُرٌّ لِأَنَّ مُوجِبَ الْعَقْدِ يَثْبُتُ مِنْ غَيْرِ التَّصْرِيحِ بِهِ كَمَا فِي الْبَيْعِ، وَلَا يَجِبُ حَطُّ شَيْءٍ مِنْ الْبَدَلِ اعْتِبَارًا بِالْبَيْعِ.
الْمَسْأَلَةِ وَلَمْ يَحْتَجَّ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِهَذَا الْحَدِيثِ. قُلْت: جَازَ أَنَّهُ مَا بَلَغَ إلَيْهِمْ انْتَهَى كَلَامُهُ. أَقُولُ: فِي الْجَوَابِ بَحْثٌ، لِأَنَّهُ مُشْتَرَكُ الْإِلْزَامِ، إذْ يَجْرِي فِي كُلِّ مَوْضِعٍ وَقَعَ فِيهِ اخْتِلَافُ الصَّحَابَةِ أَنْ يُقَالَ: جَازَ إنْ لَمْ يَبْلُغْ إلَيْهِمْ الْحَدِيثُ فَيَلْزَمُ أَنْ لَا يَتِمَّ الِاسْتِدْلَال بِاخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ فِي مَسْأَلَةٍ وَتَكَلُّمِهِمْ فِيهَا بِالرَّأْيِ عَلَى زِيَافَةِ حَدِيثٍ قَطُّ مَعَ أَنَّهُ خِلَافُ مَا عُرِفَ. وَالْأَظْهَرُ فِي الْجَوَابِ أَنْ يَمْنَعَ كَوْنَ اخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِالرَّأْيِ، وَيُقَالُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اخْتِلَافُهُمْ فِيهَا بِاعْتِبَارِ وُرُودِ حَدِيثٍ آخَرَ بِخِلَافِ ذَلِكَ، كَمَا رُوِيَ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ «إذَا أَصَابَ الْمُكَاتَبُ مِيرَاثًا وَرِثَ بِحِسَابِ مَا عَتَقَ مِنْهُ» وَرُوِيَ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ «يُؤَدِّي الْمُكَاتَبُ بِحِصَّةِ مَا أَدَّى دِيَةَ حُرٍّ، وَبِمَا بَقِيَ دِيَةَ عَبْدٍ» كَمَا ذَكَرَ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ، وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَى زِيَافَةِ الْحَدِيثِ إنَّمَا هُوَ اخْتِلَافُهُمْ بِالرَّأْيِ، لِأَنَّ اسْتِعْمَالَ الرَّأْيِ فِي مَوْضِعِ النَّصِّ لَا يَجُوزُ عَلَى مَا عُرِفَ فِي الْأُصُولِ (قَوْلُهُ وَيُعْتَقُ بِأَدَائِهِ وَإِنْ لَمْ يَقُلْ الْمَوْلَى إذَا أَدَّيْتهَا فَأَنْتَ حُرٌّ لِأَنَّ مُوجِبَ الْعَقْدِ يَثْبُتُ مِنْ غَيْرِ التَّصْرِيحِ بِهِ كَمَا فِي الْبَيْعِ) وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ: لَا يُعْتَقُ مَا لَمْ يَقُلْ كَاتَبْتُك عَلَى كَذَا عَلَى أَنَّك إنْ أَدَّيْته إلَيَّ فَأَنْتَ حُرٌّ. قَالَ كَثِيرٌ مِنْ الشُّرَّاحِ: وَحَاصِلُ الِاخْتِلَافِ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ رَاجِعٌ إلَى تَفْسِيرِ الْكِتَابَةِ، فَعِنْدَنَا تَفْسِيرُهَا شَرْعًا ضَمُّ حُرِّيَّةِ الْيَدِ إلَى حُرِّيَّةِ الرَّقَبَةِ عِنْدَ الْأَدَاءِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَوْجَبْت حُرِّيَّةَ الْيَدِ فِي الْحَالِ وَحُرِّيَّةَ الرَّقَبَةِ عِنْدَ أَدَاءِ الْمَالِ، وَلَوْ نَصَّ عَلَى هَذَا عَتَقَ عِنْدَ الْأَدَاءِ، كَذَا هَذَا. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ: تَفْسِيرُهَا ضَمُّ نَجْمٍ إلَى نَجْمٍ، وَلَوْ نَصَّ عَلَيْهِ بِأَنْ قَالَ: ضَرَبْت عَلَيْك أَلْفًا عَلَى أَنْ تُؤَدِّيَهَا إلَيَّ كُلَّ شَهْرٍ كَذَا لَمْ يُعْتَقْ، كَذَا هَذَا انْتَهَى كَلَامُهُمْ. وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ بَعْدَ نَقْلِ هَذَا عَنْ الْحَوَاشِي الْجَلَّالِيَّةِ مَنْقُولًا فِيهَا عَنْ الْمَبْسُوطِ: لَا يَخْفَى عَلَيْك أَنَّ مَا ذُكِرَ مِنْ الضَّمِّ لَيْسَ بِتَفْسِيرِ الْكِتَابَةِ بَلْ مُوجِبُ الْعَقْدِ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ انْتَهَى. أَقُولُ: تَنْصِيصُ الْمُصَنِّفِ عَلَيْهِ مَمْنُوعٌ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى النَّاظِرِ فِي عِبَارَتِهِ هَاهُنَا، بَلْ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَدَّعِيَ تَنْصِيصَهُ عَلَى خِلَافِهِ بَعْدَ صَحِيفَةٍ حَيْثُ قَالَ: أَمَّا الْخُرُوجُ مِنْ يَدِهِ فَلِتَحْقِيقِ مَعْنَى الْكِتَابَةِ وَهُوَ الضَّمُّ انْتَهَى. وَلَئِنْ سَلِمَ ذَلِكَ فَكَوْنُ الضَّمِّ الْمَذْكُورِ مُوجِبَ الْعَقْدِ لَا يُنَافِي كَوْنَهُ تَفْسِيرًا لِلْكِتَابَةِ، لِأَنَّ مُوجِبَ الشَّيْءِ مِنْ لَوَازِمِهِ وَتَفْسِيرُ الشَّيْءِ بِلَازِمِهِ لَيْسَ بِعَزِيزٍ كَمَا هُوَ حَالُ الرُّسُومِ عَامَّةً. وَلَئِنْ سَلِمَ ذَلِكَ أَيْضًا فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِمْ رَاجِعٌ إلَى تَفْسِيرِ الْكِتَابَةِ رَاجِعٌ إلَى تَفْسِيرِ مُوجِبِ الْكِتَابَةِ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ كَمَا هُوَ الطَّرِيقَةُ الشَّائِعَةُ الْمُسَمَّاةُ بِالْمَجَازِ بِالْحَذْفِ، وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى {وَجَاءَ رَبُّكَ} أَيْ أَمْرُ رَبِّك وقَوْله تَعَالَى {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} أَيْ أَهْلَ الْقَرْيَةِ، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَلَا مَعْنَى لِرَدِّ كَلَامِ الثِّقَاتِ بِمَا هُوَ وَهْمٌ مَحْضٌ (قَوْلُهُ وَلَا يَجِبُ حَطُّ شَيْءٍ مِنْ الْبَدَلِ اعْتِبَارًا بِالْبَيْعِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ حَطُّ رُبْعِ الْبَدَلِ وَهُوَ قَوْلُ عُثْمَانَ رضي الله عنه لِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} فَإِنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ لِلْوُجُوبِ. وَالْجَوَابُ أَنَّ دَلَالَةَ الْآيَةِ عَلَى ذَلِكَ مَمْنُوعَةٌ لِأَنَّهُ قَالَ مِنْ مَالِ اللَّهِ وَهُوَ
قَالَ (وَيَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِطَ الْمَالَ حَالًّا وَيَجُوزُ مُؤَجَّلًا وَمُنَجَّمًا) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: لَا يَجُوزُ حَالًّا وَلَا بُدَّ مِنْ نَجْمَيْنِ، لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ التَّسْلِيمِ فِي زَمَانٍ قَلِيلٍ لِعَدَمِ الْأَهْلِيَّةِ قَبْلَهُ لِلرِّقِّ، بِخِلَافِ السَّلَمِ عَلَى أَصْلِهِ لِأَنَّهُ أَهْلٌ لِلْمِلْكِ فَكَانَ احْتِمَالُ الْقُدْرَةِ ثَابِتًا، وَقَدْ دَلَّ الْإِقْدَامُ عَلَى الْعَقْدِ عَلَيْهَا فَيَثْبُتُ. وَلَنَا ظَاهِرُ مَا تَلَوْنَا مِنْ غَيْرِ شَرْطِ التَّنْجِيمِ، وَلِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ وَالْبَدَلُ مَعْقُودٌ بِهِ فَأَشْبَهَ الثَّمَنَ فِي الْبَيْعِ فِي عَدَمِ اشْتِرَاطِ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ السَّلَمِ عَلَى أَصْلِنَا لِأَنَّ الْمُسَلَّمَ فِيهِ مَعْقُودٌ عَلَيْهِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ مَبْنَى الْكِتَابَةِ عَلَى الْمُسَاهَلَةِ فَيُمْهِلُهُ الْمَوْلَى ظَاهِرًا، بِخِلَافِ السَّلَمِ لِأَنَّ مَبْنَاهُ عَلَى الْمُضَايَقَةِ وَفِي الْحَالِ كَمَا امْتَنَعَ مِنْ الْأَدَاءِ يُرَدُّ إلَى الرِّقِّ.
يُطْلَقُ عَلَى أَمْوَالِ الْقُرَبِ كَالصَّدَقَاتِ وَالزَّكَوَاتِ، فَكَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَنَا أَنْ نُعْطِيَ الْمُكَاتَبِينَ مِنْ صَدَقَاتِنَا لِيَسْتَعِينُوا بِهِ عَلَى أَدَاءِ الْكِتَابَةِ، وَالْمَأْمُورُ بِهِ الْإِيتَاءُ وَهُوَ الْإِعْطَاءُ، وَالْحَطُّ لَا يُسَمَّى إعْطَاءً، وَالْمَالُ الَّذِي آتَانَا اللَّهُ هُوَ مَا فِي أَيْدِينَا لَا الْوَصْفُ الثَّابِتُ فِي ذِمَّةِ الْمُكَاتَبِينَ، فَحَمْلُهُ عَلَى حَطِّ رُبْعِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ عَمَلٌ بِلَا دَلِيلٍ، وَلَوْ سَلِمَ فَالْمُرَادُ بِهِ النَّدْبُ كَاَلَّذِي فِي قَوْلِهِ {فَكَاتِبُوهُمْ} لَا يُقَالُ: الْقُرْآنُ فِي النَّظْمِ لَا يُوجِبُ الْقُرْآنَ فِي الْحُكْمِ، لِأَنَّا لَمْ نَجْعَلْ الْقُرْآنَ مُوجِبًا نَقُولُ: الْأَمْرُ الْمُطْلَقُ عَلَى قَرِينَةٍ غَيْرِ الْوُجُوبِ لِلْوُجُوبِ، وَقَوْلُهُ {فَكَاتِبُوهُمْ} قَرِينَةٌ لِذَلِكَ. كَذَا فِي الْعِنَايَةِ. أَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى {فَكَاتِبُوهُمْ} لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ قَرِينَةً لِكَوْنِ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ {وَآتُوهُمْ} لِغَيْرِ الْوُجُوبِ بِدُونِ مُلَاحَظَةِ إيجَابِ الْقُرْآنِ فِي نَظْمِ الْقُرْآنِ فِي الْحُكْمِ، إذْ لَا دَلَالَةَ فِي مُجَرَّدِ كَوْنِ أَمْرٍ لِغَيْرِ الْوُجُوبِ عَلَى كَوْنِ أَمْرٍ آخَرَ أَيْضًا لِذَلِكَ حَتَّى يُجْعَلَ كَوْنُ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ بَعْدُ {فَكَاتِبُوهُمْ} لِلنَّدَبِ قَرِينَةً لِكَوْنِ الْأَمْرِ فِي {وَآتُوهُمْ} أَيْضًا لِذَلِكَ
(قَوْلُهُ بِخِلَافِ السَّلَمِ عَلَى أَصْلِهِ لِأَنَّهُ أَهْلٌ لِلْمِلْكِ فَكَانَ احْتِمَالُ الْقُدْرَةِ ثَابِتًا، وَقَدْ دَلَّ الْإِقْدَامُ عَلَى الْعَقْدِ عَلَيْهَا فَيَثْبُتُ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: احْتِمَالُ الْقُدْرَةِ فِي حَقِّ الْمُكَاتَبِ أَثْبَتُ، لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ مَأْمُورُونَ بِإِعَانَتِهِ، وَالطُّرُقُ مُتَّسَعَةٌ اسْتِدَانَةٌ وَاسْتِقْرَاضٌ وَاسْتِيهَابٌ وَاسْتِعَانَةٌ بِالزَّكَوَاتِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالْعُشُورِ وَالصَّدَقَاتِ، وَقَدْ دَلَّ الْإِقْدَامُ عَلَى الْعَقْدِ عَلَيْهَا فَتَثْبُتُ انْتَهَى، وَاقْتَفَى أَثَرَهُ الشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ. أَقُولُ: هَذَا السُّؤَالُ لَيْسَ بِوَارِدٍ، لِأَنَّهُ إنْ أُرِيدَ بِهِ أَنَّ احْتِمَالَ الْقُدْرَةِ قَبْلَ الْعَقْدِ أَثْبَتُ فِي حَقِّ الْمُكَاتَبِ فَلَيْسَ بِذَاكَ قَطْعًا، إذْ لَا أَهْلِيَّةَ فِيهِ لِلْمِلْكِ قَبْلَ الْعَقْدِ قَطُّ، فَأَنَّى يَثْبُتُ لَهُ احْتِمَالُ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمَالِ قَبْلَهُ، فَإِنْ
قَالَ (وَتَجُوزُ كِتَابَةُ الْعَبْدِ الصَّغِيرِ إذَا كَانَ يَعْقِلُ الشِّرَاءَ وَالْبَيْعَ) لِتَحَقُّقِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ، إذْ الْعَاقِلُ مِنْ أَهْلِ الْقَبُولِ وَالتَّصَرُّفُ نَافِعٌ فِي حَقِّهِ. وَالشَّافِعِيُّ يُخَالِفُنَا فِيهِ وَهُوَ بِنَاءً عَلَى مَسْأَلَةِ إذْنِ الصَّبِيِّ فِي التِّجَارَةِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ لَا يَعْقِلُ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ لِأَنَّ الْقَبُولَ لَا يَتَحَقَّقُ مِنْهُ فَلَا يَنْعَقِدُ الْعَقْدُ، حَتَّى لَوْ أَدَّى عَنْهُ غَيْرُهُ لَا يَعْتِقُ وَيَسْتَرِدُّ مَا دَفَعَ.
قَالَ (وَمَنْ قَالَ لِعَبْدِهِ: جَعَلْت عَلَيْك أَلْفًا تُؤَدِّيهَا إلَيَّ نُجُومًا أَوَّلُ النَّجْمِ كَذَا وَآخِرُهُ كَذَا فَإِذَا أَدَّيْتهَا فَأَنْتَ حُرٌّ وَإِنْ عَجَزْت فَأَنْتَ رَقِيقٌ فَإِنَّ هَذِهِ مُكَاتَبَةٌ) لِأَنَّهُ أَتَى بِتَفْسِيرِ الْكِتَابَةِ، وَلَوْ قَالَ: إذَا أَدَّيْت إلَيَّ أَلْفًا كُلَّ شَهْرٍ مِائَةً فَأَنْتِ حُرٌّ فَهَذِهِ مُكَاتَبَةٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي سُلَيْمَانَ. لِأَنَّ التَّنْجِيمَ يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ وَذَلِكَ بِالْكِتَابَةِ.
وَفِي نُسَخِ أَبِي حَفْصٍ لَا تَكُونُ مُكَاتَبَةً اعْتِبَارًا بِالتَّعْلِيقِ بِالْأَدَاءِ مَرَّةً.
قَالَ (وَإِذَا صَحَّتْ الْكِتَابَةُ خَرَجَ الْمُكَاتَبُ عَنْ يَدِ الْمَوْلَى وَلَمْ يَخْرُجْ عَنْ مِلْكِهِ)
أُرِيدَ بِهِ أَنَّ احْتِمَالَ الْقُدْرَةِ عَقِيبَ الْعَقْدِ أَثْبَتُ فِي حَقِّهِ فَهُوَ مُسَلَّمٌ، وَلَكِنْ لَا يُجْدِي نَفْعًا لِأَنَّ مَدَارَ فَرْقِ الشَّافِعِيِّ بَيْنَ الْكِتَابَةِ وَبَيْنَ السَّلَمِ عَلَى أَصْلِهِ إنَّمَا هُوَ ثُبُوتُ احْتِمَالِ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمَبِيعِ لِلْعَاقِدِ قَبْلَ الْعَقْدِ فِي السَّلَمِ لِكَوْنِ الْعَاقِدِ فِيهِ أَهْلًا لِلْمِلْكِ قَبْلَ الْعَقْدِ، بِخِلَافِ الْكِتَابَةِ فَإِنَّ الْعَاقِدَ فِيهَا لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلْمِلْكِ قَطُّ قَبْلَ الْعَقْدِ فَلَا يُتَصَوَّرُ ثُبُوتُ احْتِمَالِ الْقُدْرَةِ عَلَى الْبَدَلِ لَهُ قَبْلَ الْعَقْدِ، وَهَذَا أَمْرٌ ضَرُورِيٌّ لَا مَجَالَ لِإِنْكَارِهِ، فَلَا وَجْهَ لِلْمُنَاقَشَةِ فِيهِ كَمَا فَعَلَهُ الشَّارِحَانِ الْمَزْبُورَانِ. وَالْحَقُّ فِي الْجَوَابِ عَمَّا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ هَاهُنَا أَنْ يَسْلُكَ طَرِيقَةَ الْقَوْلِ بِالْمُوجِبِ فَيُقَالُ: سَلَّمْنَا أَنَّ الْعَقْدَ قَبْلَ عَقْدِ الْكِتَابَةِ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا مِنْ الْأَمْوَالِ وَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ لِعَدَمِ أَهْلِيَّتِهِ لِلْمِلْكِ قَبْلَهُ، وَلَكِنْ ثُبُوتُ الْمِلْكِ وَالْقُدْرَةِ عَلَيْهِ حَالَ الْعَقْدِ إنَّمَا يُشْتَرَطُ فِي حَقِّ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ دُونَ الْمَعْقُودِ بِهِ، أَلَا يُرَى أَنَّ الْمُفْلِسَ لَوْ اشْتَرَى أَمْوَالًا عَظِيمَةً يَصِحُّ شِرَاؤُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ مَالِكًا لِشَيْءٍ مِنْ الثَّمَنِ وَبَدَلُ الْكِتَابَةِ مَعْقُودٌ بِهِ فَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ مَالِكًا لَهُ حَالَ عَقْدِ الْكِتَابَةِ، بِخِلَافِ الْمُسَلَّمِ فِيهِ فَإِنَّهُ مَعْقُودٌ عَلَيْهِ، وَقَدْ أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ فِيمَا بَعْدُ حَيْثُ قَالَ: وَلِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ وَالْبَدَلُ مَعْقُودٌ بِهِ فَأَشْبَهَ الثَّمَنَ فِي الْبَيْعِ فِي عَدَمِ اشْتِرَاطِ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ السَّلَمِ عَلَى أَصْلِنَا لِأَنَّ الْمُسَلَّمَ فِيهِ مَعْقُودٌ عَلَيْهِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْقُدْرَةِ
أَمَّا الْخُرُوجُ مِنْ يَدِهِ فَلِتَحْقِيقِ مَعْنَى الْكِتَابَةِ وَهُوَ الضَّمُّ فَيَضُمُّ مَالِكِيَّةَ يَدِهِ إلَى مَالِكِيَّةِ نَفْسِهِ أَوْ لِتَحْقِيقِ مَقْصُودِ الْكِتَابَةِ وَهُوَ أَدَاءُ الْبَدَلِ فَيَمْلِكُ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ وَالْخُرُوجَ إلَى السَّفَرِ وَإِنْ نَهَاهُ الْمَوْلَى، وَأَمَّا عَدَمُ الْخُرُوجِ عَنْ مِلْكِهِ فَلِمَا رَوَيْنَا، وَلِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ وَمَبْنَاهُ عَلَى الْمُسَاوَاةِ، وَيَنْعَدِمُ ذَلِكَ بِتَنَجُّزِ الْعِتْقِ وَيَتَحَقَّقُ بِتَأَخُّرِهِ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ لَهُ نَوْعُ مَالِكِيَّةٍ وَيَثْبُتُ لَهُ فِي الذِّمَّةِ حَقٌّ مِنْ وَجْهٍ (فَإِنْ أَعْتَقَهُ عَتَقَ بِعِتْقِهِ) لِأَنَّهُ مَالِكٌ لِرَقَبَتِهِ (وَسَقَطَ عَنْهُ بَدَلُ الْكِتَابَةِ) لِأَنَّهُ مَا الْتَزَمَهُ إلَّا مُقَابَلًا بِحُصُولِ الْعِتْقِ بِهِ وَقَدْ حَصَلَ دُونَهُ.
قَالَ (وَإِذَا وَطِئَ الْمَوْلَى مُكَاتَبَتَهُ لَزِمَهُ الْعُقْرُ) لِأَنَّهَا صَارَتْ أَخَصَّ بِأَجْزَائِهَا تَوَسُّلًا إلَى الْمَقْصُودِ بِالْكِتَابَةِ وَهُوَ الْوُصُولُ إلَى الْبَدَلِ مِنْ جَانِبِهِ وَإِلَى الْحُرِّيَّةِ مِنْ جَانِبِهَا بِنَاءً عَلَيْهِ، وَمَنَافِعُ الْبُضْعِ مُلْحَقَةٌ بِالْأَجْزَاءِ وَالْأَعْيَانِ (وَإِنْ جَنَى عَلَيْهَا أَوْ عَلَى وَلَدِهَا لَزِمَتْهُ الْجِنَايَةُ) لِمَا بَيَّنَّا (وَإِنْ أَتْلَفَ مَالًا لَهَا غَرِمَ) لِأَنَّ الْمَوْلَى كَالْأَجْنَبِيِّ فِي حَقِّ أَكْسَابِهَا وَنَفْسِهَا، إذْ لَوْ لَمْ يُجْعَلْ كَذَلِكَ لَأَتْلَفَهُ الْمَوْلَى فَيَمْتَنِعُ حُصُولُ الْغَرَضِ الْمُبْتَغَى بِالْعَقْدِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
عَلَيْهِ اهـ تَدَبَّرْ
(قَوْلُهُ أَمَّا الْخُرُوجُ مِنْ يَدِهِ فَلِتَحْقِيقِ مَعْنَى الْكِتَابَةِ وَهُوَ الضَّمُّ فَيَضُمُّ مَالِكِيَّةَ يَدِهِ إلَى مَالِكِيَّةِ نَفْسِهِ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ
فَصْلٌ فِي الْكِتَابَةِ الْفَاسِدَةِ
قَالَ (وَإِذَا كَاتَبَ الْمُسْلِمُ عَبْدَهُ عَلَى خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ أَوْ عَلَى قِيمَةِ نَفْسِهِ فَالْكِتَابَةُ فَاسِدَةٌ) أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ الْخَمْرَ وَالْخِنْزِيرَ لَا يَسْتَحِقُّهُ الْمُسْلِمُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ فِي حَقِّهِ فَلَا يَصْلُحُ بَدَلًا فَيَفْسُدُ الْعَقْدُ.
وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الْقِيمَةَ مَجْهُولَةٌ قَدْرًا وَجِنْسًا وَوَصْفًا فَتَفَاحَشَتْ الْجَهَالَةُ وَصَارَ كَمَا إذَا كَاتَبَ عَلَى ثَوْبٍ أَوْ دَابَّةٍ، وَلِأَنَّهُ تَنْصِيصٌ عَلَى مَا هُوَ مُوجِبُ الْعَقْدِ الْفَاسِدِ لِأَنَّهُ مُوجِبٌ لِلْقِيمَةِ. قَالَ (فَإِنْ أَدَّى الْخَمْرَ عَتَقَ) وَقَالَ زُفَرُ: لَا يُعْتَقُ إلَّا بِأَدَاءِ قِيمَةِ نَفْسِهِ،
فِي شَرْحِ هَذَا الْمَحِلِّ: أَمَّا الْخُرُوجُ مِنْ يَدِهِ فَلِتَحْقِيقِ مَعْنَى الْكِتَابَةِ لُغَةً وَهُوَ الضَّمُّ فَيَضُمُّ مَالِكِيَّةَ يَدِهِ الْحَاصِلَةِ فِي الْحَالِ إلَى مَالِكِيَّةِ نَفْسِهِ الَّتِي تَحْصُلُ عِنْدَ الْأَدَاءِ. وَقَالَ: فَإِنْ قِيلَ: ضَمُّ الشَّيْءِ إلَى الشَّيْءِ يَقْتَضِي وُجُودَهُمَا وَمَالِكِيَّةُ النَّفْسِ فِي الْحَالِ لَيْسَتْ بِمَوْجُودَةٍ فَكَيْفَ يَتَحَقَّقُ الضَّمُّ؟ أُجِيبُ بِأَنْ مَالِكِيَّةَ النَّفْسِ قَبْلَ الْأَدَاءِ ثَابِتَةٌ مِنْ وَجْهٍ، وَلِهَذَا لَوْ جَنَى عَلَيْهِ الْمَوْلَى وَجَبَ عَلَيْهِ الْأَرْشُ، وَإِنْ وَطِئَ الْمُكَاتَبَةَ لَزِمَهُ الْعُقْرُ فَيَتَحَقَّقُ الضَّمُّ، انْتَهَى كَلَامُهُ. أَقُولُ: فِيهِ خَلَلٌ، لِأَنَّ هَذَا الْجَوَابَ يُنَافِي قَوْلَهُ فِيمَا قَبْلُ إلَى مَالِكِيَّةِ نَفْسِهِ الَّتِي تَحْصُلُ عِنْدَ الْأَدَاءِ، لِأَنَّ مُقْتَضَى هَذَا الْجَوَابِ أَنْ يَكُونَ الْمَضْمُومُ وَالْمَضْمُومُ إلَيْهِ مَوْجُودِينَ فِي الْحَالِ، وَالْمَدْلُولُ مَا قَالَهُ أَوَّلًا أَنْ يَكُونَ الْمَضْمُومُ إلَيْهِ حَاصِلًا عِنْدَ الْأَدَاءِ لَا فِي الْحَالِ، وَإِلَّا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ الَّتِي تَحْصُلُ عِنْدَ الْأَدَاءِ لَغْوًا مَحْضًا كَمَا لَا يَخْفَى. ثُمَّ إنَّ بَعْضَ الْفُضَلَاءِ بَعْدَ أَنْ تَنَبَّهَ لِمَا قُلْنَا قَالَ وَلَا يَخْفَى عَلَيْك أَيْضًا أَنَّ الْجَوَابَ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ لَا يَحْتَاجُ إلَى هَذَا، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: الضَّمُّ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ حِينَ وُجُودِ مَالِكِيَّةِ النَّفْسِ عَلَى قِيَاسِ ضَمِّ النَّجْمِ إلَى النَّجْمِ انْتَهَى. أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا بِسَدِيدٍ، إذْ لَوْ كَفَى تَحَقُّقُ الضَّمِّ حِينَ مَالِكِيَّةِ النَّفْسِ لَبَطَلَ أَصْلُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ وَهُوَ قَوْلُهُ أَمَّا الْخُرُوجُ مِنْ يَدِهِ فَلِتَحْقِيقِ مَعْنَى الْكِتَابَةِ وَهُوَ الضَّمُّ، فَإِنَّ تَحَقُّقَ الضَّمِّ حِينَ مَالِكِيَّةِ النَّفْسِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْ يَدِهِ فِي الْحَالِ، بَلْ يَتَيَسَّرُ بِالْخُرُوجِ مِنْ يَدِهِ حِينَ مَالِكِيَّةِ النَّفْسِ الَّتِي تَحْصُلُ عِنْدَ الْأَدَاءِ عَلَى مَا مَرَّ، وَمَبْنَى السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ عَلَى تَصْحِيحِ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْمَصِيرِ إلَى تَحْقِيقِ مَعْنَى الضَّمِّ فِي الْحَالِ.
(فَصْلٌ فِي الْكِتَابَةِ الْفَاسِدَةِ)
أَخَّرَ الْكِتَابَةَ الْفَاسِدَةَ عَنْ الصَّحِيحَةِ لِانْحِطَاطِ رُتْبَةِ الْفَاسِدَةِ عَنْ الصَّحِيحَةِ (قَوْلُهُ أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ الْخَمْرَ وَالْخِنْزِيرَ لَا يَسْتَحِقُّهُ الْمُسْلِمُ) عَبَّرَ عَنْ مَسْأَلَتَيْ الْكِتَابَةِ عَلَى الْخَمْرِ وَالْكِتَابَةِ عَلَى الْخِنْزِيرِ بِالْأَوَّلِ دُونَ الْأَوَّلَيْنِ لِاتِّحَادِهِمَا فِي جِهَةِ الْفَسَادِ وَهِيَ عَدَمُ تَحَقُّقِ الْمَالِيَّةِ فِي شَيْءٍ مِنْ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ فَكَأَنَّمَا صَارَا مَسْأَلَةً وَاحِدَةً، وَإِلَّا فَهُمَا مَسْأَلَتَانِ مُسْتَقِلَّتَانِ فِي الْحَقِيقَةِ كَمَسْأَلَةِ الْكِتَابَةِ عَلَى قِيمَةِ الْعَبْدِ، وَقَدْ أَوْمَأَ إلَى هَذِهِ النُّكْتَةِ فِي بَسْطِ نَفْسِ الْمَسَائِلِ أَيْضًا حَيْثُ أَعَادَ كَلِمَةَ عَلَى عِنْدَ ذِكْرِ الْقِيمَةِ دُونَ ذِكْرِ الْخِنْزِيرِ كَمَا تَرَى، وَلِهَذَا عَبَّرَ عَنْ عَقْدِ الْكِتَابَةِ عَلَى قِيمَةِ الْعَبْدِ بِالثَّانِي فَقَالَ: وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الْقِيمَةَ مَجْهُولًا إلَخْ مَعَ أَنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ
لِأَنَّ الْبَدَلَ هُوَ الْقِيمَةُ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله: أَنَّهُ يُعْتَقُ بِأَدَاءِ الْخَمْرِ لِأَنَّهُ بَدَلٌ صُورَةً، وَيُعْتَقُ بِأَدَاءِ الْقِيمَةِ أَيْضًا لِأَنَّهُ هُوَ الْبَدَلُ مَعْنًى.
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّهُ إنَّمَا يُعْتَقُ بِأَدَاءِ عَيْنِ الْخَمْرِ إذَا قَالَ إنْ أَدَّيْتهَا فَأَنْتَ حُرٌّ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ الْعِتْقُ بِالشَّرْطِ لَا بِعَقْدِ الْكِتَابَةِ، وَصَارَ كَمَا إذَا كَاتَبَ عَلَى مَيْتَةٍ أَوْ دَمٍ وَلَا فَصْلَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. وَوَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْمَيْتَةِ أَنَّ الْخَمْرَ وَالْخِنْزِيرَ مَالٌ فِي الْجُمْلَةِ فَأَمْكَنَ اعْتِبَارُ مَعْنَى الْعَقْدِ فِيهِ، وَمُوجِبُهُ الْعِتْقُ عِنْدَ أَدَاءِ الْعِوَضِ الْمَشْرُوطِ.
وَأَمَّا الْمَيْتَةُ فَلَيْسَتْ بِمَالٍ أَصْلًا فَلَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ مَعْنَى الْعَقْدِ فِيهِ فَاعْتُبِرَ فِيهِ مَعْنَى الشَّرْطِ وَذَلِكَ بِالتَّنْصِيصِ عَلَيْهِ (وَإِذَا عَتَقَ بِأَدَاءِ عَيْنِ الْخَمْرِ لَزِمَهُ أَنْ يَسْعَى فِي قِيمَتِهِ) لِأَنَّهُ وَجَبَ عَلَيْهِ رَدُّ رَقَبَتِهِ لِفَسَادِ الْعَقْدِ
مَسْأَلَةٌ ثَالِثَةٌ بِلَا رَيْبٍ.
(قَوْلُهُ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُعْتَقُ بِأَدَاءِ الْخَمْرِ لِأَنَّهُ بَدَلٌ صُورَةً، وَيُعْتَقُ بِأَدَاءِ الْقِيمَةِ أَيْضًا لِأَنَّهُ هُوَ الْبَدَلُ مَعْنًى) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: وَهَذَا الْحُكْمُ الَّذِي ذَكَرَهُ هُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عِنْدَ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي الْمَبْسُوطِ وَالذَّخِيرَةِ، فَعَلَى هَذَا كَانَ مِنْ حَقِّهِ أَنْ لَا يَخُصَّ أَبَا يُوسُفَ وَأَنْ لَا يَذْكُرَ بِكَلِمَةِ " عَنْ " انْتَهَى.
وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ نَقْلِ مَا فِي النِّهَايَةِ: قُلْت صَحِيحٌ إنْ كَانَ الْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي الْقِيمَةِ بَدَلًا عَنْ نَفْسِهِ، وَأَمَّا إذَا كَانَ بَدَلًا عَنْ الْخَمْرِ كَمَا ذُكِرَ فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ غَيْرَ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ انْتَهَى. وَقَالَ الشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ بَعْدَ نَقْلِ مَا فِي النِّهَايَةِ وَالْعِنَايَةِ جَمِيعًا قُلْت: سَوَاءٌ جَعَلَ الْأَلِفَ وَاللَّامَ فِي الْقِيمَةِ بَدَلًا عَنْ نَفْسِهِ أَوْ عَنْ الْخَمْرِ فَعِتْقُهُ بِأَدَاءِ الْخَمْرِ هُوَ ظَاهِرُ الرَّاوِيَةِ عِنْدَهُمْ، وَالشُّرَّاحُ مَا جَعَلُوا الْأَلِفَ وَاللَّامَ فِي الْقِيمَةِ إلَّا بَدَلًا عَنْ نَفْسِهِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ تَاجُ الشَّرِيعَةِ وَغَيْرُهُ انْتَهَى. أَقُولُ: مَا قَالَهُ الشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ لَيْسَ بِشَيْءٍ.
أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ ظَاهِرَ الرِّوَايَةِ إنَّمَا هُوَ عِتْقُهُ بِأَدَاءِ الْخَمْرِ وَبِأَدَاءِ قِيمَةِ نَفْسِهِ، وَالْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ هَاهُنَا بِكَلِمَةِ عَنْ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَجْعَلَ الْأَلِفَ وَاللَّامَ فِي الْقِيمَةِ بَدَلًا عَنْ الْخَمْرِ إنَّمَا يَكُونُ عِتْقُهُ بِأَدَاءِ عَيْنِ الْخَمْرِ وَبِأَدَاءِ قِيمَةِ الْخَمْرِ، وَهَذَا غَيْرُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ قَطْعًا، إذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ اشْتِرَاكِ الرِّوَايَتَيْنِ فِي أَحَدِ الْجُزْأَيْنِ وَهُوَ عِتْقُهُ بِأَدَاءِ عَيْنِ الْخَمْرِ اتِّحَادُهُمَا ضَرُورَةً اخْتِلَافَهُمَا بِالْجُزْءِ الْآخَرِ وَهُوَ عِتْقُهُ بِأَدَاءِ قِيمَةِ نَفْسِهِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَعِتْقُهُ بِأَدَاءِ قِيمَةِ الْخَمْرِ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى.
فَقَوْلُهُ سَوَاءٌ جَعَلَ الْأَلِفَ وَاللَّامَ فِي الْقِيمَةِ بَدَلًا عَنْ نَفْسِهِ أَوْ عَنْ الْخَمْرِ فَعِتْقُهُ بِأَدَاءِ الْخَمْرِ هُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عِنْدَهُمْ لَغْوٌ مَحْضٌ. وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ صَاحِبَ غَايَةِ الْبَيَانِ مِنْ الشُّرَّاحِ جَعَلَ الْأَلِفَ وَاللَّامَ فِي الْقِيمَةِ بَدَلًا عَنْ الْخَمْرِ حَيْثُ قَالَ فِي شَرْحِ الْمَقَامِ: وَأَبُو يُوسُفَ قَالَ: إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ عَيْنِ الْخَمْرِ وَقِيمَتِهَا بَدَلُ الْخَمْرِ بِاعْتِبَارِ الصُّورَةِ وَالْقِيمَةِ بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى فَعَتَقَ إذَا أَدَّى أَيَّهُمَا كَانَ انْتَهَى. وَأَشَارَ إلَى ذَلِكَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بِقَوْلِهِ وَأَمَّا إذَا كَانَ بَدَلًا
وَقَدْ تَعَذَّرَ بِالْعِتْقِ فَيَجِبُ رَدُّ قِيمَتِهِ كَمَا فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ إذَا تَلِفَ الْمَبِيعُ. قَالَ (وَلَا يَنْقُصُ عَنْ الْمُسَمَّى وَيُزَادُ عَلَيْهِ) لِأَنَّهُ عَقْدٌ فَاسِدٌ فَتَجِبُ الْقِيمَةُ عِنْدَ هَلَاكِ الْمُبْدَلِ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ كَمَا فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمَوْلَى مَا رَضِيَ بِالنُّقْصَانِ وَالْعَبْدُ رَضِيَ بِالزِّيَادَةِ كَيْ لَا يَبْطُلَ حَقُّهُ فِي الْعِتْقِ أَصْلًا فَتَجِبُ قِيمَتُهُ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ،
عَنْ الْخَمْرِ كَمَا ذَكَرَ فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ فَقَوْلُ الْعَيْنِيِّ وَالشُّرَّاحِ مَا جَعَلُوا الْأَلِفَ وَاللَّامَ فِي الْقِيمَةِ إلَّا بَدَلًا عَنْ نَفْسِهِ إنْ أَرَادَ بِهِ الْكُلِّيَّةَ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ وَإِلَّا فَلَيْسَ بِمُفِيدٍ (قَوْلُهُ وَهَذَا لِأَنَّ الْمَوْلَى مَا رَضِيَ بِالنُّقْصَانِ وَالْعَبْدُ رَضِيَ بِالزِّيَادَةِ كَيْ لَا يَبْطُلَ حَقُّهُ فِي الْعِتْقِ أَصْلًا فَتَجِبُ قِيمَتُهُ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ: وَهَذَا أَيْ وُجُوبُ الْقِيمَةِ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ لِأَنَّ الْمَوْلَى مَا رَضِيَ بِالنُّقْصَانِ سَوَاءٌ كَانَ فِي الْمُسَمَّى أَوْ فِي الْقِيمَةِ لِأَنَّهُ يَخْرُجُ مِلْكُهُ فِي مُقَابَلَةِ بَدَلٍ فَلَا يَرْضَى بِالنُّقْصَانِ لِأَنَّ بِعَدَمِ الْإِخْرَاجِ يَبْقَى مِلْكُهُ عَلَى مَا كَانَ فَلَا يَفُوتُ لَهُ شَيْءٌ، وَالْعَبْدُ رَضِيَ بِالزِّيَادَةِ سَوَاءٌ كَانَتْ فِي الْقِيمَةِ أَوْ فِي الْمُسَمَّى كَيْ لَا يَبْطُلَ حَقُّهُ فِي الْعِتْقِ أَصْلًا، فَإِنَّهُ إنْ لَمْ يَرْضَ بِهَا يَمْتَنِعُ الْمَوْلَى عَنْ الْعَقْدِ فَيُفَوِّتُ لَهُ إدْرَاكَ شَرَفِ الْحُرِّيَّةِ، انْتَهَى كَلَامُهُ.
أَقُولُ: هَذَا الشَّرْحُ غَيْرُ مُطَابِقٍ لِلْمَشْرُوحِ وَغَيْرُ تَامٍّ فِي نَفْسِهِ.
أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ كَلِمَةَ هَذَا فِي قَوْلِ الْمُصَنِّفِ، وَهَذَا إشَارَةٌ إلَى مَضْمُونِ قَوْلِهِ وَلَا يَنْقُصُ عَنْ الْمُسَمَّى وَيُزَادُ عَلَيْهِ، وَالْمَعْنَى وَهَذَا: أَيْ مَا ذُكِرَ مِنْ عَدَمِ النُّقْصَانِ عَنْ الْمُسَمَّى وَالزِّيَادَةِ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْمَوْلَى مَا رَضِيَ بِالنُّقْصَانِ عَنْ الْمُسَمَّى وَالْعَبْدُ رَضِيَ بِالزِّيَادَةِ عَلَيْهِ كَيْ لَا يَبْطُلَ حَقُّهُ فِي الْعِتْقِ بِالْكُلِّيَّةِ فَحِينَئِذٍ يَنْتَظِمُ الدَّلِيلُ وَالْمُدَّعِي بِلَا كُلْفَةٍ أَصْلًا، وَيُرْشِدُ إلَيْهِ تَحْرِيرُ صَاحِبِ الْكَافِي حَيْثُ قَالَ: وَلَا تَنْقُصُ عَنْ الْمُسَمَّى وَتُزَادُ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ رَضِيَ بِالْمُسَمَّى وَزِيَادَةً كَيْ لَا يَبْطُلُ حَقُّهُ فِي الْعِتْقِ أَصْلًا، وَالْمَوْلَى مَا رَضِيَ بِالنُّقْصَانِ عَنْهُ اهـ. وَأَمَّا عَلَى مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ مِنْ كَوْنِ كَلِمَةِ هَذِهِ إشَارَةً إلَى وُجُوبِ الْقِيمَةِ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ فَيَحْتَمِلُ كَلَامَ الْمُصَنِّفِ. لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالنُّقْصَانِ فِي قَوْلِهِ لِأَنَّ الْمَوْلَى مَا رَضِيَ بِالنُّقْصَانِ هُوَ النُّقْصَانُ عَنْ الْقِيمَةِ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ فِيمَا قَبْلُ وَلَا يَنْقُصُ عَنْ الْمُسَمَّى خَالِيًا عَنْ التَّعْلِيلِ وَالْبَيَانِ
وَفِيمَا إذَا كَاتَبَهُ عَلَى قِيمَتِهِ يُعْتَقُ بِأَدَاءِ الْقِيمَةِ لِأَنَّهُ هُوَ الْبَدَلُ.
وَأَمْكَنَ اعْتِبَارُ مَعْنَى الْعَقْدِ فِيهِ وَأَثَرُ الْجَهَالَةِ فِي الْفَسَادِ،
بِالْكُلِّيَّةِ مَعَ أَنَّهُ مَطْلَبٌ مَقْصُودٌ بِالْبَيَانِ هَاهُنَا كَمَا لَا يَخْفَى.
أَوْ يَكُونُ الْمُرَادُ بِذَلِكَ هُوَ النُّقْصَانُ عَنْ الْمُسَمَّى فَيَلْزَمُ أَنْ لَا يُطَابِقَ الدَّلِيلَ الْمُدَّعَى وَأَنْ لَا يُفِيدَهُ، إذْ لَا يَسْتَدْعِي عَدَمُ رِضَا الْمَوْلَى بِالنَّقْصِ عَنْ الْمُسَمَّى إلَّا وُجُوبَ الْمُسَمَّى دُونَ وُجُوبِ الْقِيمَةِ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ، لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ الْقِيمَةُ أَكْثَرَ مِنْ الْمُسَمَّى أَوْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِذَلِكَ هُوَ النُّقْصَانُ عَنْ الْمُسَمَّى وَالْقِيمَةِ جَمِيعًا كَمَا يُفْصِحُ عَنْهُ قَوْلُ الشَّارِحِ الْمَزْبُورِ، لِأَنَّ الْمَوْلَى مَا رَضِيَ بِالنُّقْصَانِ سَوَاءٌ كَانَ فِي الْمُسَمَّى أَوْ فِي الْقِيمَةِ، فَيُرَدُّ عَلَيْهِ أَنْ يُقَالَ: إنْ عُدِمَ رِضَاهُ بِالنُّقْصَانِ عَنْ الْمُسَمَّى مِمَّا لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي وُجُوبِ الْقِيمَةِ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ فَمَا مَعْنَى تَعْمِيمِ النُّقْصَانِ هَاهُنَا لِلنُّقْصَانِ عَنْ الْمُسَمَّى، فَلَعَلَّ الشَّارِحَ الْمَزْبُورَ إنَّمَا اغْتَرَّ بِقَوْلِ الْمُصَنِّفِ فِي آخِرِ كَلَامِهِ فَتَجِبُ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ، وَلَكِنَّهُ تَفْرِيعٌ عَلَى قَوْلِهِ وَالْعَبْدُ رَضِيَ بِالزِّيَادَةِ إلَخْ لَا عَلَى مَجْمُوعِ الدَّلِيلِ فَلَا وَجْهَ لِلِاغْتِرَارِ بِذَلِكَ أَيْضًا.
وَأَمَّا الثَّانِي: أَيْ أَنَّهُ غَيْرُ تَامٍّ فِي نَفْسِهِ فَلِأَنَّ قَوْلَهُ لِأَنَّ الْمَوْلَى مَا رَضِيَ بِالنُّقْصَانِ سَوَاءٌ كَانَ فِي الْمُسَمَّى أَوْ فِي الْقِيمَةِ مَمْنُوعٌ، كَيْفَ وَتَنْصِيصُ الْمَوْلَى عَلَى قَدْرٍ مُعَيَّنٍ مُسَمًّى دَلِيلٌ عَلَى رِضَاهُ بِهِ قَطْعًا سَوَاءٌ كَانَ نَاقِصًا عَنْ الْقِيمَةِ أَمْ لَا، فَمَا يُخَالِفُ رِضَاهُ إنَّمَا هُوَ النُّقْصَانُ عَنْ الْمُسَمَّى لَا غَيْرُ، وَلَئِنْ سَلِمَ فَيُنْتَقَضُ بِالْكِتَابَةِ الصَّحِيحَةِ إذَا كَانَ الْبَدَلُ الْمُسَمَّى فِيهَا أَقَلَّ مِنْ الْقِيمَةِ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ هُنَاكَ الزِّيَادَةُ عَلَى الْمُسَمَّى مِنْ الْقِيمَةِ قَطْعًا مَعَ جَرَيَانِ الدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ هَاهُنَا فِي تِلْكَ الصُّورَةِ أَيْضًا عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّةِ تَعْمِيمِ النُّقْصَانِ فِي قَوْلِهِ لِأَنَّ الْمَوْلَى مَا رَضِيَ بِالنُّقْصَانِ لِلنُّقْصَانِ الْكَائِنِ فِي الْمُسَمَّى وَفِي الْقِيمَةِ تَأَمَّلْ تَقِفْ. ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَلَعَلَّ التَّصَوُّرَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ يُسْقِطُ مَا قِيلَ اعْتِبَارُ الْقِيمَةِ إنَّمَا هُوَ بَعْدَ وُقُوعِ الْعِتْقِ بِأَدَاءِ عَيْنِ الْخَمْرِ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ بُطْلَانُ حَقِّهِ فِي الْعِتْقِ أَصْلًا بِعَدَمِ الرِّضَا بِالزِّيَادَةِ، لِأَنَّ اعْتِبَارَ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا إنَّمَا هُوَ عِنْدَ ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ لَا فِي بَقَائِهِ اهـ.
أَقُولُ: لَا يَخْفَى عَلَى ذِي فِطْرَةٍ سَلِيمَةٍ أَنَّ الَّذِي يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ الرِّضَا بِالزِّيَادَةِ عِنْدَ ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ إنَّمَا هُوَ عَدَمُ ثُبُوتِ الْعِتْقِ لَهُ رَأْسًا لَا بُطْلَانُ حَقِّهِ فِي الْعِتْقِ بَعْدَ ثُبُوتِ حَقِّهِ فِيهِ كَمَا تَقْتَضِيهِ عِبَارَةُ الْمُصَنِّفِ وَهِيَ قَوْلُهُ كَيْ لَا يَبْطُلَ حَقُّهُ فِي الْعِتْقِ، إذْ الظَّاهِرُ أَنَّ بُطْلَانَ حَقِّ شَخْصٍ فِي شَيْءٍ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ تَعَلُّقِ حَقِّهِ بِهِ أَوَّلًا. وَمَوْرِدُ مَا قِيلَ إنَّمَا هُوَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ كَيْ لَا يَبْطُلَ حَقُّهُ فِي الْعِتْقِ أَصْلًا كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي النِّهَايَةِ وَغَيْرِهَا، فَكَيْفَ يَسْقُطُ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ الشَّارِحِ الْمَزْبُورِ: الزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ عِنْدَ ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ؟ وَأَجَابَ جَمَاعَةٌ مِنْ الشُّرَّاحِ عَنْ ذَلِكَ السُّؤَالِ بِوَجْهٍ آخَرَ حَيْثُ قَالُوا: فَإِنْ قِيلَ: مَا وَجْهُ قَوْلِهِ كَيْ لَا يَبْطُلَ حَقُّهُ فِي الْعِتْقِ وَاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ بَعْدَ وُقُوعِ الْعِتْقِ بِأَدَاءِ الْخَمْرِ وَأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ الْبُطْلَانَ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ بُطْلَانُ حَقِّهِ فِي الْعِتْقِ؟ قُلْنَا: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي يَرَى صِحَّةَ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إذَا كَاتَبَهُ عَلَى الْخَمْرِ وَلَمْ يَقُلْ إنْ أَدَّيْتهَا فَأَنْتَ حُرٌّ فَأَدَّى الْخَمْرَ لَا يُعْتَقُ، فَلَوْ قَضَى الْقَاضِي بِتِلْكَ الرِّوَايَةِ يَبْطُلُ حَقُّهُ فِي الْعِتْقِ اهـ.
أَقُولُ: فِيهِ بَحْثٌ. أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ مُقْتَضَى هَذَا الْجَوَابِ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ كَيْ لَا يَبْطُلَ حَقُّهُ فِي الْعِتْقِ عِلَّةً لِعَدَمِ قَضَاءِ الْقَاضِي بِتِلْكَ الرِّوَايَةِ لَا لِرِضَا الْعَبْدِ بِالزِّيَادَةِ، وَالْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ خِلَافُهُ، وَالْكَلَامُ فِيمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ فَلَا يَتِمُّ ذَاكَ الْجَوَابُ.
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ ذَلِكَ عَلَى تَقْدِيرِ تَمَامِهِ إنَّمَا يَتَمَشَّى فِي صُورَةٍ إنْ لَمْ يَقُلْ الْمَوْلَى لِلْمُكَاتَبِ عَلَى الْخَمْرِ إنْ أَدَّيْتهَا فَأَنْتَ حُرٌّ، لَا فِي صُورَةٍ إنْ قَالَ لَهُ ذَلِكَ، إذْ لَا رِوَايَةَ لِعَدَمِ الْعِتْقِ عِنْدَ أَدَاءِ الْخَمْرِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ فَلَا رَأْيَ لِلْقَاضِي فِيهَا مَعَ أَنَّ مَا نَحْنُ فِيهِ يَعُمُّ الصُّورَتَيْنِ كَمَا لَا يَخْفَى، فَيَبْقَى السُّؤَالُ فِي صُورَةٍ.
ثُمَّ إنَّ صَاحِبَيْ النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ رَدَّا عَلَى الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا حَيْثُ قَالَا: ثُمَّ قَوْلُهُ كَيْ لَا يَبْطُلَ حَقُّهُ فِي الْعِتْقِ لَا يَصْلُحُ تَعْلِيلًا لِقَوْلِهِ وَالْعَبْدُ رَضِيَ بِالزِّيَادَةِ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ
بِخِلَافِ مَا إذَا كَاتَبَهُ عَلَى ثَوْبٍ حَيْثُ لَا يُعْتَقُ بِأَدَاءِ ثَوْبٍ لِأَنَّهُ لَا يُوقَفُ فِيهِ عَلَى مُرَادِ الْعَاقِدِ لِاخْتِلَافِ أَجْنَاسِ الثَّوْبِ فَلَا يَثْبُتُ الْعِتْقُ بِدُونِ إرَادَتِهِ.
قَالَ (وَكَذَلِكَ إنْ كَاتَبَهُ عَلَى شَيْءٍ بِعَيْنِهِ لِغَيْرِهِ لَمْ يَجُزْ) لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ.
يَكُونَ الْعَبْدُ غَيْرَ رَاضٍ بِالزِّيَادَةِ عَلَى الْمُسَمَّى وَإِنْ بَطَلَ حَقُّهُ فِي الْعِتْقِ، لِأَنَّ ذَلِكَ نَفْعٌ مَشُوبٌ بِالضَّرَرِ لِأَنَّ تَحَمُّلَ الزِّيَادَةِ ضَرَرٌ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ عِتْقُهُ نَفْعًا لَهُ اهـ.
أَقُولُ: لَيْسَ ذَاكَ بِسَدِيدٍ، لِأَنَّ تَحَمُّلَ الزِّيَادَةِ إنَّمَا يَكُونُ ضَرَرًا عَلَيْهِ لَوْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ بَاقِيَةً عَلَى مِلْكِهِ عِنْدَ عَدَمِ تَحَمُّلِ تِلْكَ الزِّيَادَةِ وَاخْتِيَارِ الرِّقِّ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لَا مَحَالَةَ فَإِنَّهُ إذَا اخْتَارَ الرِّقَّ يَصِيرُ جَمِيعُ مَا اكْتَسَبَهُ مِلْكًا لِمَوْلَاهُ، وَيَقْدِرُ الْمَوْلَى بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى أَنْ يَسْتَعْمِلَهُ كَيْفَ يَشَاءُ فَيَحْصُلُ بِهِ أَكْثَرُ مِنْ تِلْكَ الزِّيَادَةِ، فَلَمْ يَظْهَرْ فِي رِضَا الْعَبْدِ بِالزِّيَادَةِ ضَرَرٌ عَلَيْهِ وَلَا فِي عَدَمِ رِضَاهُ بِهَا نَفْعٌ لَهُ أَصْلًا. ثُمَّ قَالَا: وَالْأَوْلَى فِي تَعْلِيلِ ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: لِأَنَّ الْعَبْدَ لَمَّا عَقَدَ عَقْدَ الْكِتَابَةِ الْفَاسِدَةِ مَعَ مَوْلَاهُ كَانَ قَابِلًا قِيمَةَ نَفْسِهِ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ، لِأَنَّ ذَلِكَ مُوجَبُ عَقْدِ الْكِتَابَةِ الْفَاسِدَةِ وَهُوَ أَقْدَمَ عَلَيْهِ بِاخْتِيَارِهِ وَرِضَاهُ، ثُمَّ قِيمَةُ نَفْسِهِ قَدْ تَرْبُو عَلَى الْمُسَمَّى فَكَانَ رَاضِيًا بِالزِّيَادَةِ عَلَى الْمُسَمَّى ضَرُورَةً اهـ.
أَقُولُ: وَهُوَ أَيْضًا لَيْسَ بِسَدِيدٍ، لِأَنَّ فِي التَّعْلِيلِ بِمَا ذَكَرَاهُ مُصَادَرَةً عَلَى الْمَطْلُوبِ، فَإِنَّا بِصَدَدِ أَنْ يَثْبُتَ بِدَلِيلِ أَنَّ مُوجَبَ الْكِتَابَةِ الْفَاسِدَةِ قِيمَةُ نَفْسِ الْعَبْدِ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ وَمِنْ جُمْلَةِ مُقَدِّمَاتِ ذَلِكَ قَوْلُهُ وَالْعَبْدُ رَضِيَ بِالزِّيَادَةِ، فَلَوْ عَلَّلْنَا هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ بِمَا يُبْتَنَى عَلَى كَوْنِ الْوَاجِبِ فِي عَقْدِ الْكِتَابَةِ الْفَاسِدَةِ قِيمَةُ نَفْسِ الْعَبْدِ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ لَزِمَ الْمُصَادَرَةُ قَطْعًا.
ثُمَّ أَقُولُ: بَقِيَ شَيْءٌ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ لِأَنَّ الْمَوْلَى مَا رَضِيَ بِالنُّقْصَانِ إلَخْ دَلِيلٌ شَافٍ مُفِيدٌ لِتَمَامِ الْمُدَّعِي وَهُوَ أَنْ لَا تَنْقُصَ الْقِيمَةُ عَنْ الْمُسَمَّى وَتُزَادَ عَلَيْهِ، إلَّا أَنَّ قَوْلَهُ لِأَنَّهُ عَقْدٌ فَاسِدٌ فَتَجِبُ الْقِيمَةُ عِنْدَ هَلَاكِ الْمُبْدَلِ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ كَمَا فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ يُرَى مُسْتَدْرَكًا هَاهُنَا لِأَنَّهُ صَارَ مُسْتَغْنًى عَنْهُ بِمَا ذُكِرَ قَبْلَهُ مِنْ قَوْلِهِ لِأَنَّهُ وَجَبَ عَلَيْهِ رَدُّ رَقَبَتِهِ لِفَسَادِ الْعَقْدِ وَقَدْ تَعَذَّرَ بِالْعِتْقِ فَيَجِبُ رَدُّ قِيمَتِهِ، كَمَا فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ إذَا تَلِفَ الْمَبِيعُ وَلَيْسَ لَهُ دَلَالَةٌ عَلَى تَمَامِ الْمُدَّعِي فَإِنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنْ لَا تَنْقُصَ الْقِيمَةُ عَنْ الْمُسَمَّى فَلَمْ يَكُنْ فِي ذِكْرِهِ فَائِدَةٌ فَكَانَ الْأَوْلَى طَرْحُهُ مِنْ الْبَيِّنِ كَمَا فِي الْكَافِي (قَوْلُهُ لِأَنَّهُ لَا يُوقَفُ فِيهِ عَلَى مُرَادِ الْعَاقِدِ لِاخْتِلَافِ أَجْنَاسِ الثَّوْبِ فَلَا يَثْبُتُ الْعِتْقُ بِدُونِ إرَادَتِهِ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الثَّوْبَ عِوَضٌ وَالْعِوَضُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مُرَادًا، وَالْمُطْلَقُ مِنْهُ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ فِي الْخَارِجِ فَلَا يَكُونُ مُرَادًا فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْمُتَعَيَّنُ مُرَادًا، وَالِاطِّلَاعُ عَلَى ذَلِكَ مُتَعَذِّرٌ لِاخْتِلَافِ أَجْنَاسِهِ فَلَا يُعْتَقُ بِدُونِ إرَادَتِهِ، بِخِلَافِ الْقِيمَةِ فَإِنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ مَجْهُولَةً يُمْكِنُ اسْتِدْرَاكُ مُرَادِهِ بِتَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ، انْتَهَى كَلَامُهُ.
أَقُولُ: فِيهِ كَلَامٌ، أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ بِالْمُطْلَقِ فِي قَوْلِهِ وَالْمُطْلَقُ مِنْهُ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ فِي الْخَارِجِ فَرَدَّا مُبْهَمًا مِنْ الثَّوْبِ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ فِي الْخَارِجِ، إذْ الْإِبْهَامُ إنَّمَا يُنَافِي التَّعْيِينَ لَا الْوُجُودَ فِي الْخَارِجِ، وَكَمْ مِنْ شَيْءٍ جُزِمَ بِوُجُودِهِ فِي الْخَارِجِ وَإِنْ لَمْ تَتَعَيَّنَ خُصُوصِيَّتُهُ عِنْدَنَا وَإِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ مَفْهُومَهُ الْكُلِّيَّ فَنُسَلِّمُ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ فِي الْخَارِجِ، وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ حِينَئِذٍ قَوْلَهُ فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْمُتَعَيِّنُ مُرَادًا لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ هُوَ الْمُبْهَمُ فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ بُطْلَانِ هَذَا الِاحْتِمَالِ أَيْضًا. وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ لِمَانِعٍ أَنْ يَمْنَعَ إمْكَانَ اسْتِدْرَاكِ مُرَادِهِ بِتَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ فِي صُورَةِ الْكِتَابَةِ عَلَى الْقِيمَةِ بِنَاءً عَلَى تَقْرِيرِهِ فِي صُورَةِ الْكِتَابَةِ عَلَى الثَّوْبِ، إذْ قَدْ حَكَمَ فِيهِ بِتَعَيُّنِ كَوْنِ الْمُتَعَيِّنِ مُرَادًا وَبِتَعَذُّرِ الِاطِّلَاعِ عَلَى ذَلِكَ لِاخْتِلَافِ أَجْنَاسِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ
وَمُرَادُهُ شَيْءٍ يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ، حَتَّى لَوْ قَالَ كَاتَبْتُك عَلَى هَذِهِ الْأَلْفِ الدَّرَاهِمِ وَهِيَ لِغَيْرِهِ جَازَ لِأَنَّهَا لَا تَتَعَيَّنُ فِي الْمُعَاوَضَاتِ فَيَتَعَلَّقُ بِدَرَاهِمِ دَيْنٍ فِي الذِّمَّةِ فَيَجُوزُ.
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رضي الله عنه فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ أَنَّهُ يَجُوزُ، حَتَّى إذَا مَلَكَهُ وَسَلَّمَهُ يُعْتَقُ، وَإِنْ عَجَزَ يُرَدُّ فِي الرِّقِّ لِأَنَّ الْمُسَمَّى مَالٌ وَالْقُدْرَةَ عَلَى التَّسْلِيمِ مَوْهُومٌ فَأَشْبَهَ الصَّدَاقَ. قُلْنَا: إنَّ الْعَيْنَ فِي الْمُعَاوَضَاتِ مَعْقُودٌ عَلَيْهِ وَالْقُدْرَةُ عَلَى الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ شَرْطٌ لِلصِّحَّةِ إذَا كَانَ الْعَقْدُ يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ كَمَا فِي الْبَيْعِ، بِخِلَافِ الصَّدَاقِ فِي النِّكَاحِ لِأَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى مَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالنِّكَاحِ لَيْسَ بِشَرْطٍ، فَعَلَى مَا هُوَ تَابِعٌ فِيهِ أَوْلَى.
فَلَوْ أَجَازَ صَاحِبُ الْعَيْنِ ذَلِكَ فَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَجُوزُ لِأَنَّهُ يَجُوزُ الْبَيْعُ عِنْدَ الْإِجَازَةِ فَالْكِتَابَةُ أَوْلَى. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ اعْتِبَارًا بِحَالِ عَدَمِ الْإِجَازَةِ عَلَى مَا قَالَ فِي الْكِتَابِ، وَالْجَامِعُ أَنَّهُ لَا يُفِيدُ مِلْكَ الْمَكَاسِبِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ لِأَنَّهَا تَثْبُتُ لِلْحَاجَةِ إلَى الْأَدَاءِ مِنْهَا
وَلَا حَاجَةَ فِيمَا إذَا كَانَ الْبَدَلُ عَيْنًا مُعَيَّنًا، وَالْمَسْأَلَةُ فِيهِ
فِي صُورَةِ الْكِتَابَةِ عَلَى الْقِيمَةِ أَيْضًا، أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِ الْمُصَنِّفِ فِيمَا مَرَّ: وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الْقِيمَةَ مَجْهُولَةٌ قَدْرًا وَجِنْسًا وَوَصْفًا فَتَفَاحَشَتْ الْجَهَالَةُ وَصَارَ كَمَا إذَا كَاتَبَ عَلَى ثَوْبٍ أَوْ دَابَّةٍ اهـ.
فَكَيْفَ يُمْكِنُ اطِّلَاعُ الْمُقَوِّمِينَ عَلَى مُرَادِهِ فِي صُورَةِ الْكِتَابَةِ عَلَى
عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَجُوزُ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَجُزْ، غَيْرَ أَنَّهُ عِنْدَ الْإِجَازَةِ يَجِبُ تَسْلِيمُ عَيْنِهِ، وَعِنْدَ عَدَمِهَا يَجِبُ تَسْلِيمُ قِيمَتِهِ كَمَا فِي النِّكَاحِ، وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا صِحَّةُ التَّسْمِيَةِ لِكَوْنِهِ مَالًا، وَلَوْ مَلَكَ الْمُكَاتَبُ ذَلِكَ الْعَيْنَ، فَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَوَاهُ أَبُو يُوسُفَ أَنَّهُ إذَا أَدَّاهُ لَا يُعْتَقُ، وَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ لَمْ يَنْعَقِدْ الْعَقْدُ إلَّا إذَا قَالَ لَهُ إذَا أَدَّيْت إلَيَّ فَأَنْتَ حُرٌّ فَحِينَئِذٍ يُعْتَقُ بِحُكْمِ الشَّرْطِ، وَهَكَذَا عَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله.
وَعَنْهُ أَنَّهُ يُعْتَقُ قَالَ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَقُلْ، لِأَنَّ الْعَقْدَ يَنْعَقِدُ مَعَ الْفَسَادِ لِكَوْنِ الْمُسَمَّى مَالًا فَيُعْتَقُ بِأَدَاءِ الْمَشْرُوطِ.
وَلَوْ كَاتَبَهُ عَلَى عَيْنٍ فِي يَدِ الْمُكَاتَبِ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابَةِ عَلَى الْأَعْيَانِ، وَقَدْ عُرِفَ ذَلِكَ فِي الْأَصْلِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا وَجْهَ الرِّوَايَتَيْنِ فِي كِفَايَةِ الْمُنْتَهَى.
قَالَ (وَإِذَا كَاتَبَهُ عَلَى مِائَةِ دِينَارٍ عَلَى أَنْ يَرُدَّ الْمَوْلَى عَلَيْهِ عَبْدًا بِغَيْرِ عَيْنِهِ) فَالْكِتَابَةُ فَاسِدَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: هِيَ جَائِزَةٌ، وَيُقَسَّمُ الْمِائَةُ الدِّينَارِ عَلَى قِيمَةِ الْمُكَاتَبِ وَعَلَى قِيمَةِ عَبْدٍ وَسَطٍ فَيَبْطُلُ مِنْهَا حِصَّةُ الْعَبْدِ فَيَكُونُ مُكَاتَبًا بِمَا بَقِيَ لِأَنَّ الْعَبْدَ الْمُطْلَقَ يَصْلُحُ بَدَلَ الْكِتَابَةِ وَيَنْصَرِفُ إلَى الْوَسَطِ، فَكَذَا يَصْلُحُ مُسْتَثْنًى مِنْهُ وَهُوَ الْأَصْلُ فِي أَبْدَالِ الْعُقُودِ.
وَلَهُمَا أَنَّهُ لَا يُسْتَثْنَى الْعَبْدُ مِنْ الدَّنَانِيرِ، وَإِنَّمَا تُسْتَثْنَى قِيمَتُهُ وَالْقِيمَةُ لَا تَصْلُحُ بَدَلًا فَكَذَلِكَ مُسْتَثْنًى.
الْقِيمَةِ حَتَّى تَتَعَيَّنَ بِتَعْيِينِهِمْ فَتَأَمَّلْ
(قَوْلُهُ وَلَهُمَا أَنَّهُ لَا يُسْتَثْنَى الْعَبْدُ مِنْ الدَّنَانِيرِ، وَإِنَّمَا تُسْتَثْنَى قِيمَتُهُ وَالْقِيمَةُ لَا تَصْلُحُ بَدَلًا فَكَذَلِكَ مُسْتَثْنًى) يَعْنِي أَنَّهُمَا يُسَلِّمَانِ الْأَصْلَ الْمَذْكُورَ، وَلَكِنْ يَقُولَانِ ذَلِكَ فِيمَا صَحَّ اسْتِثْنَاؤُهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُورِدَ فَسَادَ الْعَقْدِ، وَهَاهُنَا اسْتِثْنَاءُ الْعَبْدِ عَيْنِهِ مِنْ الدَّرَاهِمِ غَيْرُ صَحِيحٍ لِاخْتِلَافِ الْجِنْسِ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاؤُهُ مِنْهَا بِاعْتِبَارِ قِيمَتِهِ وَهِيَ لَا تَصْلُحُ بَدَلَ الْكِتَابَةِ لِتَفَاحُشِ جَهَالَتِهَا قَدْرًا وَجِنْسًا وَوَصْفًا كَمَا مَرَّ فِي أَوَّلِ الْفَصْلِ، فَكَذَلِكَ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَقَعَ مُسْتَثْنًى مِنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ وَالْكَافِي.
أَقُولُ: يَرُدُّ عَلَى هَذَا التَّعْلِيلِ أَنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا تَصِحُّ الْكِتَابَةُ فِيمَا إذَا شَرَطَ أَنْ يَرُدَّ الْمَوْلَى عَلَيْهِ عَبْدًا مُعَيَّنًا أَيْضًا لِجَرَيَانِهِ فِيهِ أَيْضًا بِعَيْنِهِ، فَإِنَّ قِيمَةَ الْعَبْدِ الْمُعَيَّنِ أَيْضًا مَجْهُولَةٌ جَهَالَةً فَاحِشَةً، وَلِهَذَا لَوْ كَاتَبَ عَلَيْهَا لَمْ يَصِحَّ كَمَا مَرَّ فِي أَوَّلِ الْفَصْلِ، وَعَدَمُ الْمُجَانَسَةِ بَيْنَ عَيْنِ الْعَبْدِ الْمُعَيَّنِ وَبَيْنَ الدَّرَاهِمِ أَيْضًا ظَاهِرٌ، مَعَ أَنَّهُمْ صَرَّحُوا بِأَنَّ الْكِتَابَةَ صَحِيحَةٌ بِالِاتِّفَاقِ فِيمَا إذَا شَرَطَ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ عَبْدًا مُعَيَّنًا. وَالْعَجَبُ مِنْ صَاحِبِ الدُّرَرِ وَالْغُرَرِ أَنَّهُ عَلَّلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ بِوَجْهٍ آخَرَ، وَعَزَاهُ إلَى الزَّيْلَعِيِّ.
وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ النَّقْضَ بِمَا إذَا
قَالَ (وَإِذَا كَاتَبَهُ عَلَى حَيَوَانٍ غَيْرِ مَوْصُوفٍ فَالْكِتَابَةُ جَائِزَةٌ) مَعْنَاهُ أَنْ يُبَيِّنَ الْجِنْسَ وَلَا يُبَيِّنَ النَّوْعَ وَالصِّفَةَ (وَيَنْصَرِفُ إلَى الْوَسَطِ وَيُجْبَرُ عَلَى قَبُولِ الْقِيمَةِ) وَقَدْ مَرَّ فِي النِّكَاحِ، أَمَّا إذَا لَمْ يُبَيِّنْ الْجِنْسَ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ دَابَّةٌ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ يَشْمَلُ أَجْنَاسًا مُخْتَلِفَةً فَتُتَفَاحَشُ الْجَهَالَةُ، وَإِذَا بَيَّنَ الْجِنْسَ كَالْعَبْدِ وَالْوَصِيفِ فَالْجَهَالَةُ يَسِيرَةٌ وَمِثْلُهَا يُتَحَمَّلُ فِي الْكِتَابَةِ فَتُعْتَبَرُ جَهَالَةُ الْبَدَلِ بِجَهَالَةِ الْأَجَلِ فِيهِ.
شَرَطَ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ عَبْدًا مُعَيَّنًا وَجَعَلَ الْوَجْهَ الْمَذْكُورَ فِي الْكِتَابِ هُوَ الصَّوَابُ، وَعَزَاهُ إلَى الْكَافِي حَيْثُ قَالَ: لِأَنَّ هَذَا عَقْدٌ اشْتَمَلَ عَلَى بَيْعٍ وَكِتَابَةٍ، لِأَنَّ مَا كَانَ مِنْ الْمِائَةِ بِإِزَاءِ الْوَصِيفِ الَّذِي يَرُدُّهُ الْمَوْلَى بَيْعٌ وَمَا كَانَ مِنْهَا بِإِزَاءِ رَقَبَةِ الْمُكَاتَبِ كِتَابَةٌ فَيَكُونُ صَفْقَةً فِي صَفْقَةٍ فَلَا يَجُوزُ النَّهْيُ عَنْهَا، كَذَا قَالَ الزَّيْلَعِيُّ.
وَيَرُدُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَقْتَضِي عَدَمَ صِحَّةِ الْعَقْدِ إذَا شَرَطَ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ عَبْدًا مُعَيَّنًا أَوْ أَمَةً مُعَيَّنَةً، وَالْقَوْمُ صَرَّحُوا بِخِلَافِهِ، وَالصَّوَابُ مَا فِي الْكَافِي وَهُوَ أَنَّ بَدَلَ الْكِتَابَةِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ مَجْهُولُ الْقَدْرِ فَلَا يَصِحُّ كَمَا لَوْ كَاتَبَهُ عَلَى قِيمَةِ الْوَصِيفِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يُمْكِنُ اسْتِثْنَاؤُهُ مِنْ الدَّنَانِيرِ، وَإِنَّمَا تُسْتَثْنَى قِيمَتُهُ، وَالْقِيمَةُ لَا تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ بَدَلَ الْكِتَابَةِ لِجَهَالَتِهَا، فَكَذَا لَا تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ مُسْتَثْنًى مِنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ اهـ.
وَلَا يَخْفَى عَلَى ذِي فَطَانَةٍ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْوَجْهِ الَّذِي عَزَاهُ إلَى الزَّيْلَعِيِّ وَالْوَجْهِ الَّذِي عَزَاهُ إلَى الْكَافِي فِي وُرُودِ النَّقْضِ بِالصُّورَةِ الْمَزْبُورَةِ عَلَيْهِمَا، فَرَدُّ الْأَوَّلِ بِوُرُودِ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَاسْتِصْوَابُ الثَّانِي لَيْسَ بِمَعْقُولِ الْمَعْنَى
(قَوْلُهُ أَمَّا إذَا لَمْ يُبَيِّنْ الْجِنْسَ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ دَابَّةٌ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ يَشْمَلُ أَجْنَاسًا فَتَتَفَاحَشُ الْجَهَالَةُ، وَإِذَا بَيَّنَ الْجِنْسَ كَالْعَبْدِ وَالْوَصِيفِ فَالْجَهَالَةُ يَسِيرَةٌ وَمِثْلُهَا يُتَحَمَّلُ فِي الْكِتَابَةِ) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ: وَاعْتُرِضَ عَلَى الْمُصَنِّفِ بِأَنَّ شُمُولَ اللَّفْظِ لِلْأَجْنَاسِ لَوْ مَنَعَ الْجَوَازَ لَمَا جَازَتْ فِيمَا إذَا كَاتَبَ عَلَى عَبْدٍ، لِأَنَّ الْمُصَنِّفَ ذَكَرَ فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ أَنَّ الْعَبْدَ يَتَنَاوَلُ أَجْنَاسًا وَلِهَذَا لَمْ يُجَوِّزْ التَّوْكِيلَ بِشِرَاءِ الْعَبْدِ. وَالْجَوَابُ أَنَّ اللَّفْظَ إنْ شَمِلَ أَجْنَاسًا عَالِيَةً كَالدَّابَّةِ مَثَلًا أَوْ مُتَوَسِّطَةً كَالْمَرْكُوبِ مَنَعَ الْجَوَازَ مُطْلَقًا فِي الْكِتَابَةِ وَالْوَكَالَةِ وَالنِّكَاحِ وَالْبَيْعِ وَغَيْرِهَا، وَإِنْ شَمِلَ أَجْنَاسًا سَافِلَةً كَالْعَبْدِ مَنَعَهُ فِيمَا بُنِيَ عَلَى الْمُمَاكَسَةِ كَالْبَيْعِ وَالْوَكَالَةِ لَا فِيمَا بُنِيَ عَلَى الْمُسَامَحَةِ كَالْكِتَابَةِ وَالنِّكَاحِ انْتَهَى.
أَقُولُ: لَيْسَ السُّؤَالُ بِشَيْءٍ وَلَا الْجَوَابُ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ شُمُولَ اللَّفْظِ لِلْأَجْنَاسِ إنْ مَنَعَ الْجَوَازَ مَا جَازَتْ فِيمَا إذَا كَاتَبَ عَلَى عَبْدٍ، وَقَوْلُهُ لِأَنَّ الْمُصَنِّفَ ذَكَرَ فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ أَنَّ الْعَبْدَ يَتَنَاوَلُ أَجْنَاسًا وَلِهَذَا
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: لَا يَجُوزُ، وَهُوَ الْقِيَاسُ لِأَنَّهُ مُعَاوَضَةٌ فَأَشْبَهَ الْبَيْعَ.
وَلَنَا أَنَّهُ مُعَاوَضَةُ مَالٍ بِغَيْرِ مَالٍ أَوْ بِمَالٍ لَكِنْ عَلَى وَجْهٍ يَسْقُطُ الْمِلْكُ فِيهِ فَأَشْبَهَ النِّكَاحَ، وَالْجَامِعُ أَنَّهُ يُبْتَنَى عَلَى الْمُسَامَحَةِ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمُمَاكَسَةِ.
قَالَ (وَإِذَا كَاتَبَ النَّصْرَانِيُّ عَبْدَهُ عَلَى خَمْرٍ فَهُوَ جَائِزٌ) مَعْنَاهُ إذَا كَانَ مِقْدَارًا مَعْلُومًا وَالْعَبْدُ كَافِرًا لِأَنَّهَا مَالٌ فِي حَقِّهِمْ بِمَنْزِلَةِ الْخَلِّ فِي حَقِّنَا (وَأَيُّهُمَا أَسْلَمَ فَلِلْمَوْلَى قِيمَةُ الْخَمْرِ) لِأَنَّ الْمُسْلِمَ مَمْنُوعٌ عَنْ تَمْلِيكِ الْخَمْرِ وَتَمَلَّكَهَا، وَفِي التَّسْلِيمِ ذَلِكَ إذْ الْخَمْرُ غَيْرُ مُعَيَّنٍ فَيَعْجَزُ عَنْ تَسْلِيمِ الْبَدَلِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ قِيمَتُهَا، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا تَبَايَعَ الذِّمِّيَّانِ خَمْرًا ثُمَّ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا حَيْثُ يَفْسُدُ الْبَيْعُ عَلَى مَا قَالَهُ الْبَعْضُ، لِأَنَّ الْقِيمَةَ تَصْلُحُ بَدَلًا فِي الْكِتَابَةِ فِي الْجُمْلَةِ، فَإِنَّهُ لَوْ كَاتِب عَلَى وَصِيفٍ وَأَتَى بِالْقِيمَةِ يُجْبَرُ عَلَى الْقَبُولِ فَجَازَ أَنْ يَبْقَى الْعَقْدُ عَلَى الْقِيمَةِ، فَأَمَّا الْبَيْعُ فَلَا يَنْعَقِدُ
لَمْ يُجَوِّزْ التَّوْكِيلَ بِشِرَاءِ الْعَبْدِ فِرْيَةً بِلَا مِرْيَةٍ لِأَنَّ الْمُصَنِّفَ مَا ذَكَرَ قَطُّ فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ وَلَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ الْعَبْدَ يَتَنَاوَلُ أَجْنَاسًا، وَاَلَّذِي ذَكَرَهُ فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ إنَّمَا هُوَ أَنَّ الْعَبْدَ يَشْمَلُ أَنْوَاعًا، وَأَنَّ مَا يَشْمَلُ أَنْوَاعًا لَا يَصِحُّ التَّوْكِيلُ بِشِرَائِهِ إلَّا بِبَيَانِ الثَّمَنِ أَوْ النَّوْعِ، فَإِنَّهُ قَالَ هُنَاكَ: ثُمَّ إنْ كَانَ اللَّفْظُ يَجْمَعُ أَجْنَاسًا أَوْ مَا هُوَ فِي مَعْنَى الْأَجْنَاسِ لَا يَصِحُّ التَّوْكِيلُ وَإِنْ بَيَّنَ الثَّمَنَ، لِأَنَّ بِذَلِكَ الثَّمَنِ يُوجَدُ مِنْ كُلِّ جِنْسٍ فَلَا يُدْرَى مُرَادُ الْآمِرِ لِتَفَاحُشِ الْجَهَالَةِ، وَإِنْ كَانَ جِنْسًا يَجْمَعُ أَنْوَاعًا لَا يَصِحُّ إلَّا بِبَيَانِ الثَّمَنِ أَوْ النَّوْعِ، لِأَنَّ بِتَقْدِيرِ الثَّمَنِ يَصِيرُ النَّوْعُ مَعْلُومًا، وَبِذِكْرِ النَّوْعِ تَقِلُّ الْجَهَالَةُ فَلَا يَمْتَنِعُ الِامْتِثَالُ.
مِثَالُهُ: إذَا وَكَّلَهُ بِشِرَاءِ عَبْدٍ أَوْ جَارِيَةٍ لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ يَشْمَلَ أَنْوَاعًا، فَإِنَّ بَيَّنَ النَّوْعَ كَالتُّرْكِيِّ وَالْحَبَشِيِّ وَالْمُوَلَّدِ جَازَ، وَكَذَا إذَا بَيَّنَ الثَّمَنَ لِمَا ذَكَرْنَا اهـ.
فَهَلْ يَتَوَهَّمُ الْعَاقِلُ مِنْ ذَلِكَ الْكَلَامِ أَنَّ الْعَبْدَ يَتَنَاوَلُ أَجْنَاسًا حَتَّى يَجْعَلَهُ مَدَارًا لِلِاعْتِرَاضِ عَلَى الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا، وَقَدْ سَبَقَ إلَى هَذَا التَّوَهُّمِ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ؟ وَلَعَمْرِي إنَّهُ مِنْ الْعَجَائِبِ مِنْ أَمْثَالِ هَؤُلَاءِ الْفُحُولِ. وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الْجَوَابَ الْمَزْبُورَ مَعَ ابْتِنَائِهِ عَلَى الْقَوْلِ بِمَرَاتِبِ الْأَجْنَاسِ الَّذِي هُوَ مِنْ أُصُولِ أَهْلِ الْمَعْقُولِ دُونَ اصْطِلَاحَاتِ أَهْلِ الْفِقْهِ بِمَعْزِلٍ عَمَّا يُفْهَمُ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ فِي الْمَقَامَيْنِ: أَيْ فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ، وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ، أَمَّا هُنَاكَ فَلِمَا عَرَفْت آنِفًا، وَأَمَّا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ فَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُرَادُهُ مَا فِي الْجَوَابِ الْمَزْبُورِ لَزِمَهُ أَنْ يُقَيِّدَ بِالْجِنْسِ فِي قَوْلِهِ وَمَعْنَاهُ أَنْ يُبَيِّنَ الْجِنْسَ بِالْجِنْسِ الْعَالِي وَالْمُتَوَسِّطِ، إذًا بَيَانُ الْجِنْسِ الْأَسْفَلِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَى مُقْتَضَى ذَلِكَ الْجَوَابِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْبَيَانِ (قَوْلُهُ وَلَنَا أَنَّهُ مُعَاوَضَةُ مَالٍ بِغَيْرِ مَالٍ أَوْ بِمَالٍ، لَكِنْ عَلَى وَجْهٍ يَسْقُطُ الْمِلْكُ فِيهِ فَأَشْبَهَ النِّكَاحَ، وَالْجَامِعُ أَنَّهُ يُبْتَنَى عَلَى الْمُسَامَحَةِ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمُمَاكَسَةِ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ.
صَحِيحًا عَلَى الْقِيمَةِ فَافْتَرَقَا.
قَالَ (وَإِذَا قَبَضَهَا عَتَقَ) لِأَنَّ فِي الْكِتَابَةِ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ.
فَإِذَا وَصَلَ أَحَدُ الْعِوَضَيْنِ إلَى الْمَوْلَى سَلَّمَ الْعِوَضَ الْآخَرَ لِلْعَبْدِ وَذَلِكَ بِالْعِتْقِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْعَبْدُ مُسْلِمًا حَيْثُ لَمْ تَجُزْ الْكِتَابَةُ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْتِزَامِ الْخَمْرِ، وَلَوْ أَدَّاهَا عَتَقَ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَلَنَا أَنَّ هَذَا يَعْنِي مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ قِيَاسٌ فَاسِدٌ، لِأَنَّ قِيَاسَ الْكِتَابَةِ عَلَى الْبَيْعِ إمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ حَيْثُ ابْتِدَاؤُهَا أَوْ مِنْ حَيْثُ الِانْتِهَاءُ وَالْأَوَّلُ لَا يَصِحُّ لِأَنَّ الْبَيْعَ مُعَاوَضَةُ مَالٍ بِمَالٍ، وَالْكِتَابَةُ مُعَاوَضَةُ مَالٍ بِغَيْرِ مَالٍ لِأَنَّهَا فِي مُقَابَلَةِ فَكِّ الْحَجْرِ فِي الِابْتِدَاءِ، وَكَذَلِكَ الثَّانِي لِأَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ فِي الِانْتِهَاءِ مُعَاوَضَةَ مَالٍ بِمَالٍ وَهُوَ الرَّقَبَةُ لَكِنْ عَلَى وَجْهٍ يَسْقُطُ الْمِلْكُ فِيهِ فَأَشْبَهَ النِّكَاحَ فِي الِانْتِهَاءِ، وَفِي أَنَّ مَبْنَى كُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى الْمُسَامَحَةِ، وَهَذَا الْمِقْدَارُ كَافٍ فِي إلْحَاقِهَا بِالنِّكَاحِ.
وَقَوْلُهُ بِخِلَافِ الْبَيْعِ لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمُمَاكَسَةِ لِزِيَادَةِ اسْتِظْهَارٍ. انْتَهَى كَلَامُهُ. أَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ. أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُ جَعَلَ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ فَأَشْبَهَ النِّكَاحَ مُتَفَرِّعًا عَلَى الشِّقِّ الثَّانِي حَيْثُ قَالَ: فَأَشْبَهَ النِّكَاحَ فِي الِانْتِهَاءِ، وَلَيْسَ بِتَامٍّ لِأَنَّ كَوْنَ النِّكَاحِ فِي الِابْتِدَاءِ مُعَاوَضَةَ مَالٍ وَهُوَ الْمَهْرُ بِغَيْرِ مَالٍ وَهُوَ مَنْفَعَةُ الْبُضْعِ ظَاهِرٌ مُقَرَّرٌ عِنْدَهُمْ فِي مَحِلِّهِ.
أَمَّا كَوْنُهُ فِي الِانْتِهَاءِ مُعَاوَضَةَ مَالٍ بِمَالٍ فَغَيْرُ ظَاهِرٍ وَمِمَّا لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِنْ الشُّرَّاحِ هَاهُنَا سِوَى تَاجِ الشَّرِيعَةِ وَالْعَيْنِيِّ فَإِنَّهُمَا قَالَا فِي تَعْلِيلِ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ فَأَشْبَهَ النِّكَاحَ لِأَنَّ مَنَافِعَ الْبُضْعِ مَالٌ عِنْدَ الدُّخُولِ فَيَكُونُ مُعَاوَضَةَ مَالٍ بِمَالٍ انْتَهَى، فَكَانَ حَقُّ الْمَقَامِ أَنْ يُجْعَلَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ فَأَشْبَهَ النِّكَاحَ مُتَفَرِّعًا إمَّا عَلَى الشِّقِّ الْأَوَّلِ فَقَطْ أَوْ عَلَى مَجْمُوعِ الشِّقَّيْنِ.
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّهُ قَالَ: وَهَذَا
بَابُ مَا يَجُوزُ لِلْمُكَاتَبِ أَنْ يَفْعَلَهُ
قَالَ (وَيَجُوزُ لِلْمُكَاتَبِ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ وَالسَّفَرُ) لِأَنَّ مُوجَبَ الْكِتَابَةِ أَنْ يَصِيرَ حُرًّا يَدًا، وَذَلِكَ بِمَالِكِيَّةِ التَّصَرُّفِ مُسْتَبِدًّا بِهِ تَصَرُّفًا يُوَصِّلُهُ إلَى مَقْصُودِهِ وَهُوَ نَيْلُ الْحُرِّيَّةِ بِأَدَاءِ الْبَدَلِ، وَالْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، وَكَذَا السَّفَرُ لِأَنَّ التِّجَارَةَ رُبَّمَا لَا تَتَّفِقُ فِي الْحَضَرِ فَتَحْتَاجُ إلَى الْمُسَافَرَةِ، وَيَمْلِكُ الْبَيْعَ بِالْمُحَابَاةِ لِأَنَّهُ مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ، فَإِنَّ التَّاجِرَ
الْمِقْدَارُ كَافٍ فِي إلْحَاقِهَا بِالنِّكَاحِ، وَجُعِلَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمُمَاكَسَةِ لِزِيَادَةِ الِاسْتِظْهَارِ، وَلَيْسَ هَذَا بِتَامٍّ أَيْضًا لِأَنَّ مُجَرَّدَ مُشَابَهَةِ شَيْءٍ لِشَيْءٍ فِي وَجْهٍ لَا يُنَافِي مُشَابَهَتَهُ لِغَيْرِهِ فِي ذَلِكَ الْوَجْهِ أَوْ فِي وَجْهٍ آخَرَ، فَمُشَابَهَةُ عَقْدِ الْكِتَابَةِ لِلنِّكَاحِ فِيمَا ذُكِرَ لَا يُنَافِي مُشَابَهَتَهُ لِلْبَيْعِ أَيْضًا.
فَلَوْ لَمْ يَذْكُرْ قَوْلَهُ بِخِلَافِ الْبَيْعِ لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمُمَاكَسَةِ لَمَا ظَهَرَ اخْتِصَاصُ هَاتِيكَ الْمُشَابَهَةِ بِالنِّكَاحِ حَتَّى يَثْبُتَ عَدَمُ صِحَّةِ قِيَاسِ الشَّافِعِيِّ عَقْدَ الْكِتَابَةِ عَلَى الْبَيْعِ كَمَا هُوَ الْمَطْلُوبُ عَلَى مَا أَفْصَحَ عَنْهُ قَوْلُ الشَّارِحِ الْمَزْبُورِ. وَلَنَا أَنَّ هَذَا قِيَاسٌ فَاسِدٌ، لِأَنَّ قِيَاسَ الْكِتَابَةِ عَلَى الْبَيْعِ إمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ حَيْثُ الِابْتِدَاءُ أَوْ مِنْ حَيْثُ الِانْتِهَاءُ إلَخْ، فَكَانَ قَوْلُهُ بِخِلَافِ الْبَيْعِ عُمْدَةً فِي إثْبَاتِ الْمَطْلُوبِ وَلَمْ يَكُنْ لِزِيَادَةِ الِاسْتِظْهَارِ فَقَطْ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ.
(بَابُ مَا يَجُوزُ لِلْمُكَاتَبِ أَنْ يَفْعَلَهُ)
الظَّاهِرُ أَنَّ اكْتِفَاءَ الْمُصَنِّفِ فِي عِنْوَانِ هَذَا الْبَابِ بِمَا يَجُوزُ لِلْمُكَاتَبِ أَنْ يَفْعَلَهُ لِكَوْنِهِ الْعُمْدَةَ الْمَقْصُودَ بِالذَّاتِ، وَإِلَّا فَقَدْ ذُكِرَ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرٌ مِمَّا لَا يَجُوزُ لِلْمُكَاتَبِ أَنْ يَفْعَلَهُ كَمَا تَرَى.
ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ الْعِنَايَةِ قَالَ: لَمَّا ذَكَرَ أَحْكَامَ الْكِتَابَةِ الصَّحِيحَةِ وَالْفَاسِدَةِ شَرَعَ فِي بَيَانِ مَا يَجُوزُ لِلْمُكَاتَبِ أَنْ يَفْعَلَهُ وَمَا لَا يَجُوزُ لَهُ، فَإِنَّ جَوَازَ التَّصَرُّفِ يُبْتَنَى عَلَى الْعَقْدِ الصَّحِيحِ اهـ. وَاقْتَفَى أَثَرَهُ الشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ. أَقُولُ: لَا يَذْهَبُ عَلَى مَنْ لَهُ أَدْنَى مُسْكَةٍ سَمَاجَةُ التَّعْلِيلِ بِقَوْلِهِمَا فَإِنَّ جَوَازَ التَّصَرُّفِ يُبْتَنَى عَلَى الْعَقْدِ الصَّحِيحِ، فَإِنَّ هَذَا التَّعْلِيلَ لَا يَقْتَضِي تَأْخِيرَ هَذَا الْبَابِ عَنْ أَحْكَامِ الْكِتَابَةِ الْفَاسِدَةِ، بَلْ يَقْتَضِي تَقْدِيمَهُ عَلَيْهَا فَلَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ.
وَقَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: لَمَّا ذَكَرَ أَحْكَامَ الْكِتَابَةِ الصَّحِيحَةِ وَالْفَاسِدَةِ شَرَعَ فِي بَيَانِ مَا يَجُوزُ لِلْمُكَاتَبِ أَنْ يَفْعَلَهُ وَأَنْ لَا يَفْعَلَهُ انْتَهَى.
أَقُولُ: هَذَا سَالِمٌ مِمَّا يُتَّجَهُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الشَّارِحَانِ الْمَسْفُورَانِ، لَكِنْ فِيهِ أَيْضًا سَمَاجَةٌ لِأَنَّهُ جَعَلَ قَوْلَهُ وَأَنْ لَا يَفْعَلَهُ فِي حَيِّزِ يَجُوزُ وَعَطَفَهُ عَلَى أَنْ يَفْعَلَهُ فَصَارَ الْمَعْنَى شَرَعَ فِي بَيَانِ مَا يَجُوزُ أَنْ يَفْعَلَهُ الْمُكَاتَبُ وَمَا يَجُوزُ أَنْ لَا يَفْعَلَهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الَّذِي ذُكِرَ فِي هَذَا الْبَابِ وَقَصَدَ بَيَانَهُ إنَّمَا هُوَ مَا يَجُوزُ أَنْ يَفْعَلَهُ الْمُكَاتَبُ وَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَفْعَلَهُ كَمَا يُفْصِحُ عَنْهُ قَوْلُهُ وَلَا يَتَزَوَّجُ وَلَا يَهَبُ وَلَا يَتَصَدَّقُ وَلَا يَتَكَفَّلُ وَلَا يُقْرِضُ لَا مُجَرَّدَ مَا يَجُوزُ أَنْ لَا يَفْعَلَهُ، فَإِنَّ جَوَازَ أَنْ لَا يَفْعَلَ شَيْئًا لَا يُنَافِي جَوَازَ أَنْ يَفْعَلَهُ أَيْضًا كَمَا فِي الْأَشْيَاءِ الْمُبَاحَةِ الَّتِي يَسْتَوِي فِيهَا جَانِبَا الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ، وَمَا نَحْنُ فِيهِ لَيْسَ كَذَلِكَ قَطْعًا (قَوْلُهُ وَيَجُوزُ لِلْمُكَاتَبِ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ وَالسَّفَرُ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: قَدْ تَقَدَّمَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي كِتَابِ الْمُكَاتَبِ حَيْثُ قَالَ: وَإِذَا صَحَّتْ الْكِتَابَةُ خَرَجَ الْمُكَاتَبُ مِنْ يَدِ الْمَوْلَى وَلَمْ يَخْرُجْ مِنْ مِلْكِهِ، وَكَأَنَّهُ أَعَادَهَا تَمْهِيدًا لِقَوْلِهِ فَإِنْ شَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَخْرُجَ مِنْ الْكُوفَةِ فَلَهُ أَنْ يَخْرُجَ اسْتِحْسَانًا فَإِنَّهُ لَمْ يُبَيِّنْ ذَلِكَ بِبَيَانِهِ ثَمَّةَ اهـ.
قَدْ يُحَابِي فِي صَفْقَةٍ لِيَرْبَحَ فِي أُخْرَى.
قَالَ (فَإِنْ شَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَخْرُجَ مِنْ الْكُوفَةِ فَلَهُ أَنْ يَخْرُجَ اسْتِحْسَانًا) لِأَنَّ هَذَا الشَّرْطَ مُخَالِفٌ لِمُقْتَضَى الْعَقْدِ وَهُوَ مَالِكِيَّةُ الْيَدِ مِنْ جِهَةِ الِاسْتِبْدَادِ وَثُبُوتِ الِاخْتِصَاصِ فَبَطَلَ الشَّرْطُ وَصَحَّ الْعَقْدُ لِأَنَّهُ شَرْطٌ لَمْ يَتَمَكَّنْ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ، وَبِمِثْلِهِ لَا تَفْسُدُ الْكِتَابَةُ، وَهَذَا
أَقُولُ: لَا يَخْفَى عَلَيْك أَنَّ مَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ تَمْهِيدًا لِقَوْلِهِ الْمَذْكُورِ إنَّمَا هُوَ جَوَازُ السَّفَرِ لِلْمُكَاتَبِ لَا جَوَازُ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، فَحَدِيثُ الْإِعَادَةِ لِلتَّمْهِيدِ لَا يَتِمُّ عُذْرًا بِالنَّظَرِ إلَى مَسْأَلَتَيْ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ كَمَا تَرَى.
وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: لَا يَخْفَى عَلَيْك أَنَّهُ إنَّمَا ذَكَرَهُ هُنَاكَ اسْتِطْرَادًا، وَإِنَّمَا مَحِلُّ ذِكْرِهِ هُنَا وَهَذَا لَفْظُ الْقُدُورِيِّ هَاهُنَا انْتَهَى. أَقُولُ: وَهَذَا الَّذِي ذُكِرَ هُنَا لَيْسَ بِلَفْظِ الْقُدُورِيِّ، وَإِنَّمَا لَفْظُهُ: فَيَجُوزُ لَهُ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ وَالسَّفَرُ بِفَاءِ التَّفْرِيعِ عَلَى قَوْلِهِ وَإِذَا صَحَّتْ الْكِتَابَةُ خَرَجَ الْمُكَاتَبُ مِنْ يَدِ الْمَوْلَى وَلَمْ يَخْرُجْ مِنْ مِلْكِهِ، وَبِإِضْمَارِ الْمُكَاتَبِ دُونَ إظْهَارِهِ، وَاَلَّذِي ذُكِرَ هُنَا بِالْوَاوِ بَدَلِ فَاءِ التَّفْرِيعِ، وَبِإِظْهَارِ لَفْظِ الْمُكَاتَبِ إنَّمَا هُوَ لَفْظُ الْبِدَايَةِ.
نَعَمْ حَاصِلُ مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ، لَكِنْ هَذَا مُتَحَقِّقٌ فِيمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِيمَا مَرَّ أَيْضًا، فَإِنَّهُ قَالَ هُنَاكَ: فَيَمْلِكُ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ وَالْخُرُوجَ إلَى السَّفَرِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ حَاصِلَ مَعْنَاهُ مُتَّحِدٌ بِمَا ذَكَرَهُ هُنَا، وَعَنْ هَذَا قَالَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ: وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ وَقَعَ بَيَانُهَا مُكَرَّرًا لِأَنَّهُ ذَكَرَهَا فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الْمُكَاتَبِ عِنْدَ قَوْلِهِ وَإِذَا صَحَّتْ الْكِتَابَةُ خَرَجَ الْمُكَاتَبُ مِنْ يَدِ الْمَوْلَى وَلَمْ يَخْرُجْ مِنْ مِلْكِهِ، إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ فِي الْبِدَايَةِ ثَمَّةَ قَوْلِهِ فَيَجُوزُ لَهُ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ وَالسَّفَرُ، وَذَكَرَ جَوَازَ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالسَّفَرِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فِي الْبِدَايَةِ، فَلَمَّا بَلَغَ فِي الْهِدَايَةِ وَهِيَ شَرْحُ الْبِدَايَةِ هَذَا الْمَوْضِعَ سَاقَ الْكَلَامَ كَمَا سَاقَ مِنْ غَيْرِ إخْلَالٍ وَإِنْ كَانَ ذَكَرَ جَوَازَ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالسَّفَرِ فِي الْهِدَايَةِ قَبْلَ هَذَا اهـ فَتَبَصَّرْ
(قَوْلُهُ وَصَحَّ الْعَقْدُ لِأَنَّهُ شَرْطٌ لَمْ يَتَمَكَّنْ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ بِمِثْلِهِ لَا تَفْسُدُ الْكِتَابَةُ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَحِلِّ: يَعْنِي أَنَّ الشَّرْطَ الْبَاطِلَ إنَّمَا يُبْطِلُ الْكِتَابَةَ إذَا تَمَكَّنَ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ وَهُوَ أَنْ يَدْخُلَ فِي أَحَدِ الْبَدَلَيْنِ، كَمَا إذَا قَالَ كَاتَبْتُك عَلَى أَنْ تَخْدُمَنِي مُدَّةً أَوْ زَمَانًا، وَهَذَا لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا شَرْطَ فِي بَدَلِ الْكِتَابَةِ وَلَا فِيمَا يُقَابِلُهُ فَلَا تَفْسُدُ بِهِ الْكِتَابَةُ انْتَهَى. وَرَدَّ عَلَيْهِ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ حَيْثُ قَالَ: قَوْلُهُ وَلَا فِيمَا يُقَابِلُهُ مَمْنُوعٌ، فَإِنَّهُ مُقَابِلُهُ فَكُّ الْحَجْرِ وَحُرِّيَّةُ الْيَدِ وَالْمَنْعُ مِنْ الْخُرُوجِ تَخْصِيصٌ لِلْفَكِّ وَالْحُرِّيَّةِ فَلْيُتَأَمَّلْ، فَإِنَّ مُرَادَهُ بِمَا يُقَابِلُهُ هُوَ الْمُكَاتَبُ، إلَّا أَنَّ هَذَا الشَّرْطَ يَخْتَصُّ بِهِ أَيْضًا كَمَا سَيَجِيءُ بَعْدَ أَسْطُرٍ انْتَهَى.
أَقُولُ: لَيْسَ ذَاكَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّ كَوْنَ الْمَنْعِ مِنْ الْخُرُوجِ تَخْصِيصًا لِلْفَكِّ وَالْحُرِّيَّةِ لَا يَقْتَضِي كَوْنَهُ دَاخِلًا فِيهِمَا، فَإِنَّهُ تَخْصِيصُ الشَّيْءِ قَدْ يَكُونُ بِأَمْرٍ خَارِجٍ عَنْهُ أَخَصَّ مِنْهُ، كَمَا إذَا عَرَّفْنَا الْإِنْسَانَ بِالْحَيَوَانِ الضَّاحِكِ فَإِنَّ قَيْدَ الضَّاحِكِ يُخَصِّصُ الْحَيَوَانَ بِالْإِنْسَانِ مَعَ أَنَّهُ خَارِجٌ عَنْهُ قَطْعًا، وَمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ قَبِيلِ ذَلِكَ أَيْضًا، وَإِذْ لَا رَيْبَ أَنَّ الْمَنْعَ مِنْ الْخُرُوجِ خَارِجٌ عَنْ حَقِيقَةِ الْفَكِّ وَالْحُرِّيَّةِ، وَكَذَا الْحَالُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِمَا يُقَابِلُهُ هُوَ الْمُكَاتَبُ، فَإِنَّ اخْتِصَاصَ هَذَا الشَّرْطِ بِهِ لَا يَقْتَضِي دُخُولَهُ فِيهِ، بَلْ لَا مَجَالَ لِدُخُولِهِ فِيهِ أَصْلًا كَمَا لَا يَخْفَى.
وَاَلَّذِي نَفَاهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ إنَّمَا هُوَ دُخُولُ هَذَا الشَّرْطِ فِي بَدَلِ الْكِتَابَةِ أَوْ فِيمَا يُقَابِلُهُ، إذْ بِهِ يَتَحَقَّقُ التَّمَكُّنُ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ كَمَا عَيَّنَهُ (قَوْلُهُ وَهَذَا
لِأَنَّ الْكِتَابَةَ تُشْبِهُ الْبَيْعَ وَتُشْبِهُ النِّكَاحَ فَأَلْحَقْنَاهُ بِالْبَيْعِ فِي شَرْطٍ تَمَكَّنَ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ، كَمَا إذَا شَرَطَ خِدْمَةً مَجْهُولَةً لِأَنَّهُ فِي الْبَدَلِ وَبِالنِّكَاحِ فِي شَرْطٍ لَمْ يَتَمَكَّنْ فِي صُلْبِهِ هَذَا هُوَ الْأَصْلُ. أَوْ نَقُولُ: إنَّ الْكِتَابَةَ فِي جَانِبِ الْعَبْدِ إعْتَاقٌ لِأَنَّهُ إسْقَاطُ الْمِلْكِ، وَهَذَا الشَّرْطُ يَخُصُّ الْعَبْدَ فَاعْتُبِرَ إعْتَاقًا فِي حَقِّ هَذَا الشَّرْطِ، وَالْإِعْتَاقُ لَا يَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ.
قَالَ (وَلَا يَتَزَوَّجُ إلَّا بِإِذْنِ الْمَوْلَى)
لِأَنَّ الْكِتَابَةَ تُشْبِهُ الْبَيْعَ وَتُشْبِهُ النِّكَاحَ فَأَلْحَقْنَاهُ بِالْبَيْعِ فِي شَرْطٍ تَمَكَّنَ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ، كَمَا إذَا شَرَطَ خِدْمَةً مَجْهُولَةً لِأَنَّهُ فِي الْبَدَلِ وَبِالنِّكَاحِ فِي شَرْطٍ لَمْ يَتَمَكَّنْ فِي صُلْبِهِ هَذَا هُوَ الْأَصْلُ) أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: قَدْ مَرَّ قُبَيْلَ هَذَا الْبَابِ فِي مَسْأَلَةِ جَوَازِ الْكِتَابَةِ عَلَى حَيَوَانٍ غَيْرِ مَوْصُوفٍ أَنَّ أَئِمَّتَنَا قَالُوا بِمُشَابَهَةِ عَقْدِ الْكِتَابَةِ لِلنِّكَاحِ وَعَمِلُوا بِهَا.
وَرَدُّوا عَلَى الشَّافِعِيِّ قَوْلَهُ بِمُشَابَهَتِهِ لِلْبَيْعِ فَكَيْفَ يَصِحُّ مِنْهُمْ الْعَمَلُ هَاهُنَا بِشَبَهِهِ بِالْبَيْعِ أَيْضًا. وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ الْعَمَلَ بِالشَّبَهَيْنِ مَعًا فِيمَا يُمْكِنُ الْعَمَلُ بِهِمَا كَمَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ لَا يُنَافِي الْعَمَلَ بِأَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ دُونَ الْآخَرِ لِرُجْحَانِ الْأَوَّلِ عَلَى الثَّانِي فِيمَا لَا يُمْكِنُ الْعَمَلُ بِهِمَا مَعًا كَمَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْمَارَّةِ فَتَأَمَّلْ (قَوْلُهُ أَوْ نَقُولُ إنَّ الْكِتَابَةَ فِي جَانِبِ الْعَبْدِ إعْتَاقٌ لِأَنَّهُ إسْقَاطُ الْمِلْكِ، وَهَذَا الشَّرْطُ يَخُصُّ الْعَبْدَ إلَخْ) قَالَ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ: لَوْ قَالَ فِي جَانِبِ الْمَوْلَى إعْتَاقٌ أَوْ قَالَ فِي جَانِبِ الْعَبْدِ عِتْقٌ كَانَ أَوْلَى انْتَهَى.
أَقُولُ: كُلُّ مَنْ شِقَّيْ كَلَامِهِ مَنْظُورٌ فِيهِ. أَمَّا شِقُّهُ الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُ لَوْ قَالَ فِي جَانِبِ الْمَوْلَى إعْتَاقٌ لَمْ يَتِمَّ الْمَطْلُوبُ، لِأَنَّ هَذَا الشَّرْطَ يَخُصُّ الْعَبْدَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْمُصَنِّفُ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الْكِتَابَةِ إعْتَاقًا فِي جَانِبِ الْمَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ الشَّرْطُ الْمَذْكُورُ مُفَسَّرًا فِي جَانِبِ الْعَبْدِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ إعْتَاقًا فِي جَانِبِ الْعَبْدِ كَمَا لَا يَخْفَى فَلِهَذَا قَالَ: إنَّ الْكِتَابَةَ فِي جَانِبِ الْعَبْدِ إعْتَاقٌ.
وَأَمَّا شِقُّهُ الثَّانِي فَلِأَنَّ الْإِعْتَاقَ فِي قَوْلِهِ فِي جَانِبِ الْعَبْدِ إعْتَاقٌ مَصْدَرٌ مِنْ الْمَبْنِيِّ لِلْمَفْعُولِ دُونَ الْمَبْنِيِّ لِلْفَاعِلِ فَيَئُولُ إلَى الْعِتْقِ، فَكَانَ قَوْلُهُ فِي جَانِبِ الْعَبْدِ إعْتَاقٌ وَقَوْلُهُ فِي جَانِبِ الْعَبْدِ عِتْقٌ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ كَمَا لَا يَخْفَى. ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الْغَايَةِ: وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ ضَعِيفٌ، إذْ حَاصِلُ كَلَامِهِمْ أَنَّ الْكِتَابَةَ تُشْبِهُ الْعِتْقَ وَالْعِتْقُ لَا يَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ فَلَا تَفْسُدُ الْكِتَابَةُ أَيْضًا بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ لِشُبْهَةٍ بِالْعِتْقِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إذَا كَانَ لِشُبْهَةٍ بِالْعِتْقِ أَثَرٌ يَنْبَغِي أَنْ لَا تَفْسُدَ الْكِتَابَةُ أَيْضًا إذَا دَخَلَ الشَّرْطُ الْفَاسِدُ فِي صُلْبِ عَقْدِ الْكِتَابَةِ فَعُلِمَ أَنَّ هَذَا الْوَجْهَ مِنْ الْبَيَانِ ضَعِيفٌ. وَالْأَوْلَى مَا بَيَّنَّاهُ آنِفًا مِنْ رِعَايَةِ الشَّبَهَيْنِ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ.
وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ بَعْدَ نَقْلِ اعْتِرَاضِ صَاحِبِ الْغَايَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ: وَلَا يَخْفَى عَلَيْك أَنَّهُ يَجُوزُ دَفْعُهُ بِمُلَاحَظَةِ قَوْلِهِ مِنْ جَانِبِ الْعَبْدِ فَإِنَّهَا مِنْ جَانِبِ الْمَوْلَى مُعَاوَضَةٌ فَلِذَلِكَ فَسَدَتْ بِالدَّاخِلِ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ، أَوْ نَقُولُ يَنْدَفِعُ بِقَوْلِهِ فِي حَقِّ هَذَا الشَّرْطِ انْتَهَى. أَقُولُ: كُلٌّ مِنْ وَجْهَيْ دَفْعِهِ غَيْرُ سَالِمٍ. أَمَّا وَجْهُهُ الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ كَوْنَ الْكِتَابَةِ مِنْ جَانِبِ الْمَوْلَى مُعَاوَضَةً مُتَحَقِّقٌ فِي كُلِّ صُورَةٍ مِنْ الْكِتَابَةِ، فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ عِلَّةً لِلْفَسَادِ لَفَسَدَتْ بِغَيْرِ الدَّاخِلِ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ أَيْضًا، وَإِنْ
لِأَنَّ الْكِتَابَةَ فَكُّ الْحَجْرِ مَعَ قِيَامِ الْمِلْكِ ضَرُورَةَ التَّوَسُّلِ إلَى الْمَقْصُودِ، وَالتَّزَوُّجُ لَيْسَ وَسِيلَةً إلَيْهِ، وَيَجُوزُ بِإِذْنِ الْمَوْلَى لِأَنَّ الْمِلْكَ لَهُ (وَلَا يَهَبُ وَلَا يَتَصَدَّقُ إلَّا بِالشَّيْءِ الْيَسِيرِ) لِأَنَّ الْهِبَةَ وَالصَّدَقَةَ تَبَرُّعٌ وَهُوَ غَيْرُ مَالِكٍ لَيُمَلِّكَهُ، إلَّا أَنَّ الشَّيْءَ الْيَسِيرَ مِنْ ضَرُورَاتِ التِّجَارَةِ لِأَنَّهُ لَا يَجِدُ بُدًّا مِنْ ضِيَافَةٍ وَإِعَارَةٍ لِيَجْتَمِعَ عَلَيْهِ الْمُجَاهِزُونَ.
وَمَنْ مَلَكَ شَيْئًا يَمْلِكُ مَا هُوَ مِنْ ضَرُورَاتِهِ وَتَوَابِعِهِ (وَلَا يَتَكَفَّلُ) لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ مَحْضٌ، فَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَاتِ التِّجَارَةِ وَالِاكْتِسَابِ وَلَا يَمْلِكُهُ بِنَوْعَيْهِ نَفْسًا وَمَالًا لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ تَبَرُّعٌ (وَلَا يُقْرِضُ) لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ لَيْسَ مِنْ تَوَابِعِ الِاكْتِسَابِ (فَإِنْ وَهَبَ
رُجِعَ إلَى الْعَمَلِ بِكَوْنِهَا مُعَاوَضَةً فِيمَا دَخَلَ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ وَبِكَوْنِهَا إعْتَاقًا فِي غَيْرِ مَا دَخَلَ فِيهِ رِعَايَةً لِلشَّبَهَيْنِ رُجِعَ هَذَا الْوَجْهُ إلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ.
وَأَمَّا وَجْهُهُ الثَّانِي فَلِأَنَّ التَّقْيِيدَ بِقَوْلِهِ فِي حَقِّ هَذَا الشَّرْطِ لَا يَدْفَعُ الْإِشْكَالَ الْمَذْكُورَ. إذْ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إذَا كَانَ لِشَبَهِهِ بِالْعِتْقِ أَثَرٌ يَنْبَغِي أَنْ يُعْتَبَرَ إعْتَاقًا فِي غَيْرِ هَذَا الشَّرْطِ أَيْضًا
(قَوْلُهُ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ فَكُّ الْحَجْرِ مَعَ قِيَامِ الْمِلْكِ ضَرُورَةَ التَّوَسُّلِ إلَى الْمَقْصُودِ وَالتَّزَوُّجُ لَيْسَ وَسِيلَةً إلَيْهِ) قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: تَأَمَّلْ هَلْ يُمْكِنُ تَعْمِيمُ هَذَا الدَّلِيلِ لِعَدَمِ جَوَازِ تَزْوِيجِ الْمُكَاتَبَةِ نَفْسَهَا؟ وَقَالَ: وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ انْتَهَى.
أَقُولُ: بَلْ يُمْكِنُ تَعْمِيمُهُ لَهُ، إذْ الظَّاهِرُ أَنَّ مَدَارَ حُكْمِهِ بِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ هُوَ أَنَّ الْمُكَاتَبَةَ بِتَزْوِيجِ نَفْسَهَا تَتَمَلَّكُ الْمَهْرَ فَيَصِيرُ ذَلِكَ وَسِيلَةً إلَى اكْتِسَابِ الْمَالِ الَّذِي هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ الْكِتَابَةِ، وَمَأْخَذُ ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِيمَا سَيَأْتِي فِي تَعْلِيلِ مَسْأَلَةِ جَوَازِ تَزْوِيجِ الْمُكَاتَبِ أَمَتَهُ بِقَوْلِهِ لِأَنَّهُ اكْتِسَابُ الْمَالِ فَإِنَّهُ يَتَمَلَّكُ بِهِ الْمَهْرَ فَيَدْخُلُ تَحْتَ الْعَقْدِ انْتَهَى. لَكِنَّهُ لَيْسَ بِتَامٍّ، فَإِنَّ بَيْنَ تَزْوِيجِ الْمُكَاتَبَةِ نَفْسَهَا وَتَزْوِيجِ الْمُكَاتَبِ أَمَتَهُ فَرْقًا كَمَا صَرَّحُوا بِهِ فِي أَثْنَاءِ شَرْحِ مَسْأَلَةِ تَزْوِيجِ الْمُكَاتَبِ أَمَتَهُ فِيمَا سَيَأْتِي، وَقَدْ أَوْضَحَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ حَيْثُ سَأَلَ هُنَاكَ بِأَنَّ الْمُكَاتَبَ لَمَّا مَلَكَ تَزْوِيجَ أَمَتِهِ بِهَذِهِ الْعِلَّةِ يَنْبَغِي أَنْ تَمْلِكَ الْمُكَاتَبَةُ تَزْوِيجَ نَفْسِهَا لِوُجُودِ هَذِهِ الْعِلَّةِ فِيهَا لِأَنَّهَا تَكْسِبُ بِهِ الْمَهْرَ وَتُسْقِطُ نَفَقَتَهَا عَنْ نَفْسِهَا.
وَمَعَ ذَلِكَ ذَكَرَ فِي بَابِ جِنَايَةِ رَقِيقِ الْمُكَاتَبِ وَوَلَدِهِ مِنْ كِتَابِ عَتَاقِ الْمَبْسُوطِ أَنَّ الْمُكَاتَبَةَ لَا تَتَزَوَّجُ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى. وَأَجَابَ بِأَنَّ تَزْوِيجَ الْمُكَاتَبَةِ نَفْسَهَا لَيْسَ لِاكْتِسَابِ الْمَالِ بَلْ لِلتَّحْصِينِ وَالْعِفَّةِ، فَإِنَّ مَقْصُودَهَا مِنْ تَزْوِيجِ نَفْسِهَا شَيْءٌ آخَرُ سِوَى الْمَالِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ هَذَا الْعَقْدُ مِمَّا يَتَنَاوَلُهُ الْفَكُّ الثَّابِتُ بِالْكِتَابَةِ. وَقَالَ: وَبِهَذَا وَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ تَزْوِيجِ الْأَمَةِ، وَعَزَاهُ إلَى الْمَبْسُوطِ.
فَتَلَخَّصَ مِنْ ذَلِكَ الْجَوَابِ أَنَّ الدَّلِيلَ الْمَذْكُورَ هَاهُنَا يُمْكِنُ تَعْمِيمُهُ لِعَدَمِ جَوَازِ تَزْوِيجِ الْمُكَاتَبَةِ نَفْسَهَا أَيْضًا كَمَا لَا يَخْفَى تَأَمَّلْ تَقِفْ. نَعَمْ قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنْ الشُّرَّاحِ وَصَاحِبِ الْكَافِي بَعْدَ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ وَالتَّزَوُّجُ لَيْسَ وَسِيلَةً إلَيْهِ بَلْ فِيهِ الْتِزَامُ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ يُشْعِرُ بِاخْتِصَاصِ هَذَا الدَّلِيلِ بِالْمُكَاتَبِ، فَإِنَّ الْتِزَامَ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ فِي حَقِّ الْمُكَاتَبِ دُونَ الْمُكَاتَبَةِ، لَكِنْ الْكَلَامُ فِي إمْكَانِ تَعْمِيمِ الدَّلِيلِ الْوَاقِعِ فِي عِبَارَةِ الْمُصَنِّفِ، ثُمَّ إنَّ الدَّلِيلَ الْأَظْهَرَ الْخَالِيَ عَنْ شَائِبَةٍ تُوهِمُ الِاخْتِصَاصَ بِالْمُذَكَّرِ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْبَدَائِعِ حَيْثُ قَالَ: وَلَا يَجُوزُ لِلْمُكَاتَبِ أَنْ يَتَزَوَّجَ
عَلَى عِوَضٍ لَمْ يَصِحَّ) لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ ابْتِدَاءً (وَإِنْ زَوَّجَ أَمَتَهُ جَازَ) لِأَنَّهُ اكْتِسَابٌ لِلْمَالِ فَإِنَّهُ يَتَمَلَّكُ بِهِ الْمَهْرَ فَدَخَلَ تَحْتَ الْعَقْدِ.
قَالَ (وَكَذَلِكَ إنْ كَاتَبَ عَبْدَهُ) وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ، لِأَنَّ مَآلَهُ الْعِتْقُ وَالْمُكَاتَبُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ كَالْإِعْتَاقِ عَلَى مَالٍ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ عَقْدُ اكْتِسَابٍ لِلْمَالِ فَيَمْلِكُهُ كَتَزْوِيجِ الْأَمَةِ وَكَالْبَيْعِ وَقَدْ يَكُونُ هُوَ أَنْفَعَ لَهُ مِنْ الْمَبِيعِ لِأَنَّهُ لَا يُزِيلُ الْمِلْكَ إلَّا بَعْدَ وُصُولِ الْبَدَلِ إلَيْهِ وَالْبَيْعُ يُزِيلُهُ قَبْلَهُ وَلِهَذَا يَمْلِكُهُ الْأَبُ وَالْوَصِيُّ ثُمَّ هُوَ يُوجِبُ لِلْمَمْلُوكِ مِثْلَ مَا هُوَ ثَابِتٌ لَهُ. بِخِلَافِ الْإِعْتَاقِ عَلَى مَالٍ لِأَنَّهُ يُوجِبُ فَوْقَ مَا هُوَ ثَابِتٌ لَهُ. قَالَ: فَإِنْ أَدَّى الثَّانِي قَبْلَ أَنْ يُعْتَقَ الْأَوَّلُ فَوَلَاؤُهُ لِلْمَوْلَى، لِأَنَّ لَهُ فِيهِ نَوْعَ مِلْكٍ. وَتَصِحُّ إضَافَةُ الْإِعْتَاقِ إلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ، فَإِذَا تَعَذَّرَ إضَافَتُهُ إلَى مُبَاشِرِ الْعَقْدِ لِعَدَمِ الْأَهْلِيَّةِ أُضِيفَ إلَيْهِ كَمَا فِي الْعَبْدِ إذَا اشْتَرَى شَيْئًا (فَلَوْ أَدَّى الْأَوَّلُ بَعْدَ ذَلِكَ وَعَتَقَ لَا يَنْتَقِلُ الْوَلَاءُ إلَيْهِ) لِأَنَّ الْمَوْلَى جُعِلَ مُعْتِقًا وَالْوَلَاءُ لَا يَنْتَقِلُ عَنْ الْمُعْتِقِ (وَإِنْ أَدَّى الثَّانِي بَعْدَ عِتْقِ الْأَوَّلِ فَوَلَاؤُهُ لَهُ) لِأَنَّ الْعَاقِدَ مِنْ أَهْلِ ثُبُوتِ الْوَلَاءِ وَهُوَ الْأَصْلُ فَيَثْبُتُ لَهُ.
قَالَ (وَإِنْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ عَلَى مَالٍ أَوْ بَاعَهُ مِنْ نَفْسِهِ أَوْ زَوَّجَ عَبْدَهُ لَمْ يَجُزْ) لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَيْسَتْ مِنْ الْكَسْبِ وَلَا مِنْ تَوَابِعِهِ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُ إسْقَاطُ الْمِلْكِ عَنْ رَقَبَتِهِ
بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ، وَكَذَا الْمُكَاتَبَةُ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «أَيُّمَا عَبْدٍ تَزَوَّجَ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ فَهُوَ عَاهِرٌ» لِأَنَّ الْمَوْلَى يَمْلِكُ رَقَبَةَ الْمُكَاتَبِ وَالْمُكَاتَبُ يَمْلِكُ مَنَافِعَهُ وَمَكَاسِبَهُ فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ عَبْدٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ أَنَّهُ لَا يَنْفَرِدُ وَاحِدُهُمَا بِالنِّكَاحِ انْتَهَى كَلَامُهُ.
نَعَمْ مَا ذَكَرَهُ مِنْ الدَّلِيلَيْنِ بِعِبَارَتِهِ وَرَدَ فِي الْمُذَكَّرِ وَلَكِنْ بِدَلَالَتِهِ يَعُمُّ الْمُؤَنَّثَ أَيْضًا لَا مَحَالَةَ
(قَوْلُهُ وَإِنْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ عَلَى مَالٍ أَوْ بَاعَهُ مِنْ نَفْسِهِ أَوْ زَوَّجَ عَبْدَهُ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَيْسَتْ مِنْ الْكَسْبِ وَلَا مِنْ تَوَابِعِهِ)
وَإِثْبَاتُ الدَّيْنِ فِي ذَمِّهِ الْمُفْلِسِ فَأَشْبَهَ الزَّوَالَ بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَكَذَا الثَّانِي لِأَنَّهُ إعْتَاقٌ عَلَى مَالٍ فِي الْحَقِيقَةِ. وَأَمَّا الثَّالِثُ فَلِأَنَّهُ تَنْقِيصٌ لِلْعَبْدِ وَتَعْيِيبٌ لَهُ وَشَغْلُ رَقَبَتِهِ بِالْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ، بِخِلَافِ تَزْوِيجِ الْأَمَةِ لِأَنَّهُ اكْتِسَابٌ لِاسْتِفَادَتِهِ الْمَهْرَ عَلَى مَا مَرَّ.
قَالَ (وَكَذَلِكَ الْأَبُ وَالْوَصِيُّ فِي رَقِيقِ الصَّغِيرِ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ) لِأَنَّهُمَا يَمْلِكَانِ الِاكْتِسَابَ كَالْمُكَاتَبِ، وَلِأَنَّ فِي تَزْوِيجِ الْأَمَةِ وَالْكِتَابَةِ نَظَرًا لَهُ، وَلَا نَظَرَ فِيمَا سِوَاهُمَا وَالْوِلَايَةُ نَظَرِيَّةٌ. قَالَ (فَأَمَّا الْمَأْذُونُ لَهُ فَلَا يَجُوزُ لَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَهُ أَنْ يُزَوِّجَ أَمَتَهُ)
قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي حِلِّ هَذَا الْمَحَلِّ: قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْمُكَاتَبَ إنَّمَا يَمْلِكُ مَا كَانَ مِنْ التِّجَارَةِ أَوْ مِنْ ضَرُورَاتِهَا، وَإِعْتَاقُ الْعَبْدِ عَلَى مَالٍ وَغَيْرِهِ مِمَّا ذُكِرَ هَاهُنَا لَيْسَ مِنْ ذَلِكَ فَلَا يَمْلِكُهُ اهـ.
أَقُولُ: قَدْ أَخَلَّ الشَّارِحُ الْمَذْكُورُ بِحَقِّ الْمَقَامِ فِي تَقْرِيرِ الْكَلَامِ حَيْثُ قَالَ: إنَّ الْمُكَاتَبَ إنَّمَا يَمْلِكُ مَا كَانَ مِنْ التِّجَارَةِ أَوْ مِنْ ضَرُورَاتِهَا مَعَ أَنَّهُ يَمْلِكُ أَيْضًا مَا كَانَ مِنْ الِاكْتِسَابِ دُونَ التِّجَارَةِ وَضَرُورَاتِهَا كَتَزْوِيجِ أَمَتِهِ وَكِتَابَةِ عَبْدِهِ عَلَى مَا مَرَّ فَإِنَّ الِاكْتِسَابَ أَعَمُّ مِنْ التِّجَارَةِ كَمَا سَيَجِيءُ. فَالْحَقُّ هَاهُنَا عِبَارَةُ الْمُصَنِّفِ حَيْثُ قَالَ: لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَيْسَتْ مِنْ الْكَسْبِ وَلَا مِنْ تَوَابِعِهِ. لَا يُقَالُ: إنَّ مِثْلَ تَزْوِيجِ أَمَتِهِ مِنْ ضَرُورَاتِ التِّجَارَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ نَفْسِ التِّجَارَةِ فَانْدَرَجَ فِي قَوْلِهِ أَوْ مِنْ ضَرُورَاتِهَا.
لِأَنَّا نَقُولُ: لَيْسَ ذَلِكَ مِنْ ضَرُورَاتِهَا أَيْضًا لِأَنَّ الْمَأْذُونَ لَهُ يَمْلِكُ التِّجَارَةَ إجْمَاعًا وَلَا يَمْلِكُ تَزْوِيجَ أَمَتِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ كَمَا سَيَأْتِي. وَقَدْ تَقَرَّرَ عِنْدَهُمْ أَنَّ مَنْ مَلَكَ شَيْئًا يَمْلِكُ مَا هُوَ مِنْ ضَرُورَاتِهِ كَمَا مَرَّ مِنْ قَبْلُ، فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ ضَرُورَاتِهَا لَمَلَكَهُ الْمَأْذُونُ لَهُ أَيْضًا إجْمَاعًا. فَلَا مَحِيصَ عَنْ الْمَحْذُورِ فِي كَلَامِ الشَّارِحِ الْمَزْبُورِ إلَّا بِأَنْ يَجْعَلَ لَفْظَ التِّجَارَةِ فِي كَلَامِهِ مَجَازًا عَنْ مُطْلَقِ الْكَسْبِ إطْلَاقًا لِلْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ
(قَوْلُهُ وَكَذَلِكَ الْأَبُ وَالْوَصِيُّ فِي رَقِيقِ الصَّغِيرِ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ) يَعْنِي يَمْلِكُ الْأَبُ وَالْوَصِيُّ فِي رَقِيقِ الصَّغِيرِ مَا يَمْلِكُهُ الْمُكَاتَبُ فِي رَقِيقِ نَفْسِهِ، وَلَا يَمْلِكَانِ فِي رَقِيقِ الصَّغِيرِ مَا لَا يَمْلِكُهُ فِي رَقِيقِ نَفْسِهِ فَيَمْلِكَانِ تَزْوِيجَ أَمَةِ الصَّغِيرِ وَكِتَابَةَ عَبْدِهِ لَا تَزْوِيجَهُ وَلَا بَيْعَهُ مِنْ نَفْسِهِ وَلَا إعْتَاقَهُ عَلَى مَالٍ، كَذَا قَالُوا.
وَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ صَاحِبُ الْإِصْلَاحِ وَالْإِيضَاحِ حَيْثُ قَالَ فِيمَا نَقَلَ عَنْهُ فِي الْحَاشِيَةِ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الْإِعْتَاقُ عَلَى مَالٍ أَنْفَعُ مِنْ الْبَيْعِ عَلَى مَا مَرَّ وَلَا مَانِعَ هَاهُنَا، بِخِلَافِ الْمُكَاتَبِ فَإِنَّ كَوْنَ الْعِتْقِ فَوْقَ الْكِتَابَةِ مَانِعٌ ثَمَّةَ فَإِذَا مَلَكَا الْبَيْعَ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَمْلِكَا الْعِتْقَ عَلَى مَالٍ أَيْضًا اهـ.
أَقُولُ: لَمْ يَمُرَّ فِي هَذَا الْكِتَابِ وَلَا فِي كِتَابِهِ وَلَا فِي شَيْءٍ مِنْ الْكُتُبِ أَنَّ الْعِتْقَ أَنْفَعُ مِنْ الْبَيْعِ، وَإِنَّمَا الَّذِي مَرَّ وَتَقَرَّرَ فِي عَامَّةِ الْكُتُبِ أَنَّ الْكِتَابَةَ أَنْفَعُ مِنْ الْبَيْعِ لِأَنَّهَا لَا تُزِيلُ الْمِلْكَ إلَّا بَعْدَ وُصُولِ الْبَدَلِ إلَى الْمَالِكِ وَالْبَيْعُ يُزِيلُهُ قُبَيْلَهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْإِعْتَاقَ عَلَى مَالٍ يُزِيلُهُ قَبْلَهُ أَيْضًا مَعَ مَا فِيهِ مِنْ إثْبَاتِ الدَّيْنِ فِي ذِمَّةِ الْمُفْلِسِ كَمَا مَرَّ آنِفًا فَلَمْ يَكُنْ أَنْفَعَ مِنْ الْبَيْعِ لَا مَحَالَةَ وَلَا نَظِيرَ الْبَيْعِ فَبَطَلَ قَوْلُهُ فَإِذَا مَلَكَا الْبَيْعَ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَمْلِكَا الْعِتْقَ عَلَى مَالٍ أَيْضًا.
(قَوْلُهُ فَأَمَّا الْمَأْذُونُ لَهُ فَلَا يَجُوزُ لَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَهُ أَنْ يُزَوِّجَ أَمَتَهُ) أَقُولُ: فِي هَذَا التَّحْرِيرِ نَوْعُ إشْكَالٍ، لِأَنَّهُ إنْ كَانَ الْمُشَارُ إلَيْهِ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ قُبَيْلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ قَوْلِهِ وَإِنْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ عَلَى مَالٍ أَوْ بَاعَهُ نَفْسَهُ أَوْ زَوَّجَ عَبْدَهُ لَمْ يَجُزْ، فَمَعَ كَوْنِ كَلِمَةِ أَمَّا فِي قَوْلِهِ فَأَمَّا الْمَأْذُونُ لَهُ فَلَا يَجُوزُ لَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ مِمَّا يَأْبَاهُ، إذْ حُكْمُ مَا ذَكَرَ قُبَيْلَهُ أَيْضًا عَدَمُ الْجَوَازِ يُنَافِيهِ قَوْلُهُ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ لَهُ أَنْ يُزَوِّجَ أَمَتَهُ، فَإِنَّ تَزْوِيجَ الْأَمَةِ لَيْسَ بِدَاخِلٍ فِي هَاتِيكَ الصُّوَرِ الْمَذْكُورَةِ
وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الْمُضَارِبُ وَالْمُفَاوِضُ وَالشَّرِيكُ شَرِكَةَ عِنَانٍ هُوَ قَاسَهُ عَلَى الْمُكَاتَبِ وَاعْتَبَرَهُ بِالْإِجَارَةِ.
قُبَيْلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَمَا مَعْنَى بَيَانِ خِلَافِ أَبِي يُوسُفَ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ الْمُشَارُ إلَيْهِ بِذَلِكَ مَجْمُوعَ مَا ذُكِرَ فِي هَذَا الْبَابِ فَيُتَّجَهُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ بَعْضُ ذَلِكَ كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فَإِنَّهُمَا يَجُوزَانِ لِلْمَأْذُونِ لَهُ قَطْعًا كَمَا يَجُوزَانِ لِلْمُكَاتَبِ فَلَا مَعْنَى لِلسَّلْبِ الْكُلِّيِّ.
فَإِنْ قُلْت: الْمُشَارُ إلَيْهِ بِذَلِكَ مَجْمُوعُ مَا ذُكِرَ فِي هَذَا الْبَابِ أَصَالَةً، وَمَسْأَلَةُ جَوَازِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالسَّفَرِ إنَّمَا ذُكِرَتْ فِي أَوَّلِ هَذَا الْبَابِ تَمْهِيدًا لِقَوْلِهِ فَإِنْ شَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَخْرُجَ مِنْ الْكُوفَةِ إلَخْ كَمَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ ثَمَّةَ. قُلْت: قَدْ عَرَفْت هُنَاكَ أَنَّ مَا يَصْلُحُ لِلتَّمْهِيدِ إنَّمَا هُوَ مَسْأَلَةُ جَوَازِ السَّفَرِ دُونَ مَسْأَلَتَيْ جَوَازِ الْبَيْعِ وَجَوَازِ الشِّرَاءِ، فَحَدِيثُ الذَّكَرِ لِلتَّمْهِيدِ دُونَ الْأَصَالَةِ لَا يَتِمُّ عُذْرًا لَا هُنَاكَ وَلَا هُنَا.
وَاعْلَمْ أَنَّ صَاحِبَ الْوِقَايَةِ ذَكَرَ فِي هَذَا الْبَابِ أَوَّلًا مَا يَصِحُّ مِنْ تَصَرُّفَاتِ الْمُكَاتَبِ بِقَوْلِهِ صَحَّ بَيْعُهُ وَشِرَاؤُهُ وَسَفَرُهُ وَإِنْ شَرَطَ ضِدَّهُ وَإِنْكَاحُ أَمَتِهِ وَكِتَابَةُ عَبْدِهِ. وَثَانِيًا مَا لَا يَصِحُّ مِنْهَا بِقَوْلِهِ لَا تَزَوُّجُهُ إلَّا بِإِذْنِهِ وَلَا هِبَتُهُ وَلَوْ بِعِوَضٍ وَتَصَدُّقُهُ إلَّا بِيَسِيرٍ وَتَكَفُّلُهُ وَإِقْرَاضُهُ وَإِعْتَاقُ عَبْدِهِ وَلَوْ بِمَالٍ. ثُمَّ لَمَّا قَالَ: وَشَيْءٌ مِنْ ذَا لَا يَصِحُّ مِنْ مَأْذُونٍ وَمُضَارِبٍ وَشَرِيكٍ تَفَطَّنَ شَارِحُهَا صَدْرُ الشَّرِيعَةِ لِمَا فِي الْمُشَارِ إلَيْهِ مِنْ الِاشْتِبَاهِ وَالْإِشْكَالِ.
فَحَمَلَ الْإِشَارَةَ عَلَى الْمَنْفِيَّاتِ فَقَطْ وَهِيَ مِنْ قَوْلِهِ لَا تَزَوُّجُهُ إلَخْ لِكَوْنِهَا عَلَى قَرْنٍ وَاحِدٍ وَلَمْ يَحْمِلْهَا عَلَى مَجْمُوعِ الْمَنْفِيَّاتِ وَالْمُثْبَتَاتِ لِعَدَمِ تَمَامِهَا فِي صُورَتَيْ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ مِنْ الْمُثْبَتَاتِ. وَأَمَّا فِي هَذَا الْكِتَابِ فَلَا يَتَيَسَّرُ هَذَا التَّوْجِيهُ. أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ الْمَنْفِيَّاتِ لَمْ تُذْكَرْ فِيهِ عَلَى قَرْنٍ وَاحِدٍ بَلْ ذُكِرَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْمَنْفِيَّاتِ وَالْمُثْبَتَاتِ مُخْتَلِطَةً مَعَ الْأُخْرَى فَلَا تُفْهَمُ الْإِشَارَةُ إلَى الْبَعْضِ دُونَ الْآخَرِ مِنْ اللَّفْظِ.
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ قَوْلَهُ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ لَهُ أَنْ يُزَوِّجَ أَمَتَهُ يَمْنَعُ ذَلِكَ. لِأَنَّ تَزْوِيجَ الْأَمَةِ مِنْ قَبِيلِ الْمُثْبَتَاتِ فِي الْمُكَاتَبِ، وَأَنَا أَتَعَجَّبُ مِنْ شُرَّاحِ هَذَا الْكِتَابِ كَيْفَ لَمْ يَتَعَرَّضْ أَحَدٌ مِنْهُمْ هَاهُنَا لَا لِلتَّوْجِيهِ وَلَا لِلِاسْتِشْكَالِ مَعَ ظُهُورِ الرَّكَاكَةِ فِي التَّحْرِيرِ (قَوْلُهُ هُوَ قَاسَهُ عَلَى الْمُكَاتَبِ وَاعْتَبَرَهُ بِالْإِجَارَةِ) أَيْ أَبُو يُوسُفَ قَاسَ الْمَأْذُونَ لَهُ عَلَى الْمُكَاتَبِ، فَإِنَّ الْمُكَاتَبَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُزَوِّجَ أَمَتَهُ فَكَذَلِكَ الْمَأْذُونُ لَهُ، وَاعْتَبَرَ التَّزْوِيجَ بِالْإِجَارَةِ فَإِنَّ الْمَأْذُونَ لَهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُؤَجِّرَ عَبْدَهُ وَأَمَتَهُ فَكَذَلِكَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُزَوِّجَ أَمَتَهُ كَذَا فِي الشُّرُوحِ. أَقُولُ: فِي كُلٍّ
وَلَهُمَا أَنَّ الْمَأْذُونَ لَهُ يَمْلِكُ التِّجَارَةَ وَهَذَا لَيْسَ بِتِجَارَةٍ، فَأَمَّا الْمُكَاتَبُ يَتَمَلَّكُ الِاكْتِسَابَ وَهَذَا اكْتِسَابٌ،
مِنْ قِيَاسِهِ وَاعْتِبَارِهِ نَظَرٌ.
أَمَّا فِي الْأَوَّلِ فَلِأَنَّهُ لَوْ صَحَّ قِيَاسُ الْمَأْذُونِ لَهُ عَلَى الْمُكَاتَبِ فِيمَا يَجُوزُ لَهُ لَصَحَّ قِيَاسُهُ عَلَيْهِ فِي كِتَابَةِ عَبْدِهِ أَيْضًا، فَإِنَّ الْمُكَاتَبَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُكَاتِبَ عَبْدَهُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ لِلْمَأْذُونِ لَهُ أَيْضًا أَنْ يُكَاتِبَ عَبْدَهُ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ، مَعَ أَنَّ كِتَابَةَ الْمَأْذُونِ لَهُ عَبْدَهُ مِمَّا لَا يَجُوزُ بِالِاتِّفَاقِ.
وَأَمَّا فِي الثَّانِي فَإِنَّهُ لَوْ تَمَّ اعْتِبَارُ التَّزْوِيجِ بِالْإِجَارَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّ جَوَازَهَا لِلْمَأْذُونِ لَهُ يَقْتَضِي جَوَازَهُ لَهُ أَيْضًا لَزِمَ أَنْ يَجُوزَ تَزْوِيجُ عَبْدِهِ أَيْضًا كَمَا يَجُوزُ إجَارَةُ عَبْدِهِ وَأَمَتِهِ عَلَى مَا نَصُّوا عَلَيْهِ مَعَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ تَزْوِيجُ عَبْدِهِ بِالْإِجْمَاعِ. ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ النِّهَايَةِ قَالَ: ثُمَّ اسْتَعْمَلَ لَفْظَ الْقِيَاسِ فِي الْعَيْنَيْنِ وَهُمَا الْمَأْذُونُ وَالْمُكَاتَبُ، وَلَفْظَ الِاعْتِبَارِ فِي الْفِعْلَيْنِ وَهُمَا التَّزْوِيجُ وَالْإِجَارَةُ، لِأَنَّ الْمُمَاثَلَةَ بَيْنَ هَذَيْنِ الْعَيْنَيْنِ ظَاهِرَةٌ، وَإِذْ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا فَكُّ الْحَجْرِ وَإِطْلَاقُ التَّصَرُّفِ فَكَانَ شَرْطُ الْقِيَاسِ مَوْجُودًا فَاسْتَعْمَلَ لَفْظَ الْقِيَاسِ لِذَلِكَ.
وَأَمَّا فِي هَذَيْنِ الْفِعْلَيْنِ فَالْمُمَاثَلَةُ بَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ الْفِعْلِيَّةِ لَا غَيْرُ، لِمَا أَنَّ الْإِجَارَةَ مِنْ الْمُعَاوَضَاتِ الْمَالِيَّةِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ لِأَنَّ لِلْمَنْفَعَةِ حُكْمَ الْمَالِيَّةِ؛ أَلَا يُرَى أَنَّ الْحَيَوَانَ لَا يَثْبُتُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ بِمُقَابَلَةِ الْمَنَافِعِ كَمَا لَا يَثْبُتُ دَيْنًا بِمُقَابَلَةِ الْأَمْوَالِ الْحَقِيقِيَّةِ فِي الْبَيْعِ فَكَانَ اسْتِعْمَالُ لَفْظِ الِاعْتِبَارِ هُنَاكَ أَلْيَقَ اهـ كَلَامُهُ. أَقُولُ: فِيهِ بَحْثٌ.
أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ إذْ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا فَكُّ الْحَجْرِ وَإِطْلَاقُ التَّصَرُّفِ أَنَّ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا فَكَّ الْحَجْرِ وَإِطْلَاقَ جَمِيعِ التَّصَرُّفَاتِ فَلَيْسَ كَذَلِكَ قَطْعًا، إذْ لَا يَجُوزُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَثِيرٌ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ عَلَى مَا فُصِّلَ فِي كِتَابَيْهِمَا، وَإِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا فَكَّ الْحَجْرِ وَإِطْلَاقَ التَّصَرُّفِ الَّذِي أُطْلِقَ فِي الْآخَرِ أَيْضًا فَلَيْسَ كَذَلِكَ أَيْضًا؛ أَلَا يُرَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُكَاتَبِ أَنْ يُكَاتِبَ عَبْدَهُ وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِلْمَأْذُونِ لَهُ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا فَكَّ الْحَجْرِ وَإِطْلَاقُ التَّصَرُّفِ بَعْضٌ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ فِي الْجُمْلَةِ فَبِهَذَا الْقَدْرِ لَا تَتَحَقَّقُ الْمُمَاثَلَةُ الْمُصَحِّحَةُ لِلْقِيَاسِ فَضْلًا عَنْ ظُهُورِهَا.
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ قَوْلَهُ لِمَا أَنَّ الْإِجَارَةَ مِنْ الْمُعَاوَضَاتِ الْمَالِيَّةِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ إلَخْ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنْ تَكُونَ الْمُمَاثَلَةُ بَيْنَ ذَيْنَكَ الْفِعْلَيْنِ مِنْ حَيْثُ الْفِعْلِيَّةُ لَا غَيْرُ، فَإِنَّ انْتِفَاءَ الْمُمَاثَلَةِ الْغَيْرِ الْفِعْلِيَّةِ بَيْنَهُمَا مِنْ الْحَيْثِيَّةِ الْمَخْصُوصَةِ لَا يَسْتَدْعِي انْتِفَاءَهَا مِنْ الْحَيْثِيَّاتِ الْأُخَرِ الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا كَوْنُ كُلٍّ مِنْهُمَا مِنْ طَرِيقِ الْكَسْبِ فَلَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ.
وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ نَقْلِ مَا فِي النِّهَايَةِ وَفِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْقِيَاسِ إنْ كَانَ هُوَ الشَّرْعِيُّ فَذَلِكَ لَا يَكُونُ بَيْنَ عَيْنَيْنِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا نُسَلِّمُ أَوْلَوِيَّتَهُ اهـ. أَقُولُ: هَذَا النَّظَرُ مُنْدَفِعٌ، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِالْقِيَاسِ هُوَ الشَّرْعِيُّ كَمَا يُرْشِدُ إلَيْهِ جَعْلُهُ دَلِيلًا عَلَى الْمَسْأَلَةِ الشَّرْعِيَّةِ.
قَوْلُهُ فَذَلِكَ لَا يَكُونُ بَيْنَ عَيْنَيْنِ إنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ بَيْنَ نَفْسَيْ الْعَيْنَيْنِ مِنْ حَيْثُ ذَاتَيْهِمَا فَهُوَ مُسَلَّمٌ، وَلَكِنْ لَيْسَ مُرَادُ صَاحِبِ النِّهَايَةِ بِاسْتِعْمَالِ الْقِيَاسِ بَيْنَ الْعَيْنَيْنِ اسْتِعْمَالَهُ بَيْنَهُمَا مِنْ تِلْكَ الْحَيْثِيَّةِ، بَلْ مُرَادُهُ بِذَلِكَ اسْتِعْمَالُهُ بَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ عَمَلُهُمَا وَتَصَرُّفُهُمَا، وَلَا رَيْبَ فِي جَرَيَانِ الْقِيَاسِ الشَّرْعِيِّ بَيْنَهُمَا مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ بَيْنَ الْعَيْنَيْنِ بِحَيْثِيَّةٍ مِنْ الْحَيْثِيَّاتِ فَهُوَ فَاسِدٌ اسْتِعْمَالًا فِي مَعْنَى الْمُمَاثَلَةِ مِنْ لَفْظِ الِاعْتِبَارِ، حَتَّى أَنَّ مَعْنَى الْمُمَاثَلَةِ كَانَ مُعْتَبَرًا فِي أَصْلِ مَعْنَى الْقِيَاسِ مِنْ حَيْثُ اللُّغَةُ، وَعَنْ هَذَا قَالَ فِي صِحَاحِ الْجَوْهَرِيِّ وَغَيْرِهِ: قَاسَ الشَّيْءَ بِالشَّيْءِ قَدَّرَهُ عَلَى مِثَالِهِ، فَكَانَ اسْتِعْمَالُ لَفْظِ الْقِيَاسِ فِي الشَّيْئَيْنِ اللَّذَيْنِ بَيْنَهُمَا مُمَاثَلَةٌ ظَاهِرَةٌ، وَاسْتِعْمَالُ لَفْظِ الِاعْتِبَارِ فِي الْأَمْرَيْنِ اللَّذَيْنِ بَيْنَهُمَا مُمَاثَلَةٌ خَفِيَّةٌ أَوْلَى مِنْ الْعَكْسِ قَطْعًا، لِأَنَّ فِيهِ تَوْفِيَةَ الْأَقْوَى لِلْأَقْوَى وَالْأَضْعَفِ لِلْأَضْعَفِ.
ثُمَّ إنْ رَأَى صَاحِبُ الْعِنَايَةِ هَاهُنَا أَنْ يَكُونَ لَفْظُ الْقِيَاسِ وَلَفْظُ الِاعْتِبَارِ مُتَرَادِفَيْنِ حَيْثُ قَالَ قَبْلَ نَقْلِ مَا فِي النِّهَايَةِ: وَقَاسَهُ وَاعْتَبَرَهُ مُتَرَادِفَانِ اهـ.
أَقُولُ: إنْ أَرَادَ أَنَّهُمَا مُتَرَادِفَانِ مِنْ حَيْثُ اللُّغَةُ فَهُوَ مَمْنُوعٌ جِدًّا، وَإِنْ أَرَادَ
وَلِأَنَّهُ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِغَيْرِ الْمَالِ فَيُعْتَبَرُ بِالْكِتَابَةِ دُونَ الْإِجَارَةِ، إذْ هِيَ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ هَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ تَزْوِيجَ الْعَبْدِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
أَنَّهُمَا مُتَرَادِفَانِ فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ أَوْ الْمُصَنَّفِينَ فَلَا وَجْهَ فَلْيُتَّبَعْ (قَوْلُهُ وَلِأَنَّهُ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِغَيْرِ الْمَالِ فَيُعْتَبَرُ بِالْكِتَابَةِ دُونَ الْإِجَارَةِ إذْ هِيَ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ) أَقُولُ: يَرُدُّ عَلَى قَوْلِهِ إذْ هِيَ: أَيْ الْإِجَارَةُ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ أَنَّهُ يَلْزَمُ حِينَئِذٍ أَنْ يُنْتَقَضَ تَعْرِيفُهُمْ الْبَيْعَ بِمُبَادَلَةِ الْمَالِ بِمَالٍ بِالْإِجَارَةِ مَعَ أَنَّهُ تَعْرِيفٌ مُسَلَّمٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ بِوَجْهٍ آخَرَ حَيْثُ قَالَ: فِيهِ بَحْثٌ، لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَا ذَكَرَهُ الشَّارِحُونَ فِي وَجْهِ مُنَاسَبَةِ الْكِتَابَةِ فَلْيُتَأَمَّلْ اهـ. أَقُولُ: يُمْكِنُ التَّوْفِيقُ بَيْنَ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ هَاهُنَا وَبَيْنَ مَا ذَكَرَهُ الشُّرَّاحُ فِي وَجْهِ مُنَاسَبَةِ الْكِتَابَةِ بِالْإِجَارَةِ فِي صَدْرِ كِتَابِ الْمُكَاتَبِ وَهُوَ قَوْلُهُمْ أَوْرَدَ عَقْدَ الْكِتَابَةِ بَعْدَ عَقْدِ الْإِجَارَةِ لِمُنَاسَبَةِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَقْدٌ يُسْتَفَادُ بِهِ الْمَالُ بِمُقَابَلَةِ مَا لَيْسَ بِمَالٍ اهـ، بِأَنَّ مُرَادَهُمْ مَا لَيْسَ بِمَالٍ مَا لَيْسَ بِمَالٍ حَقِيقَةً، وَمُرَادُ الْمُصَنِّفِ بِالْمَالِ فِي قَوْلِهِ إذْ هِيَ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ مَا هُوَ مَالٌ حُكْمًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَالًا حَقِيقَةً، فَإِنَّ أَحَدَ الْبَدَلَيْنِ فِي عَقْدِ الْإِجَارَةِ وَهُوَ الْمَنْفَعَةُ جُعِلَ فِي حُكْمِ الْمَالِ بِتَسْلِيمِ رَقَبَةِ الْعَيْنِ وَإِقَامَتِهَا مَقَامَ الْمَنْفَعَةِ، بِخِلَافِ عَقْدِ الْكِتَابَةِ، وَيُفْصِحُ عَنْ كَوْنِ الْمُرَادِ بِالْمَالِ فِي قَوْلِهِ إذْ هِيَ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ مَا قُلْنَا قَوْلُ صَاحِبِ مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ فِي تَعْلِيلِ ذَلِكَ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ الْمَنْفَعَةَ فِي الْإِجَارَةِ فِي حُكْمِ الْمَالِ اهـ.
ثُمَّ أَقُولُ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ الْمَالُ فِي تَعْرِيفِهِمْ الْبَيْعَ بِمُبَادَلَةِ الْمَالِ بِالْمَالِ عَلَى الْمَالِ الْحَقِيقِيِّ دُونَ مَا يَتَنَاوَلُ الْحُكْمِيَّ بِنَاءً عَلَى قَاعِدَةِ انْصِرَافِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْكَمَالِ، فَحِينَئِذٍ لَا يُرَدُّ انْتِقَاضُ تَعْرِيفِ الْبَيْعِ بِالْإِجَارَةِ لِأَنَّ أَحَدَ الْبَدَلَيْنِ هُنَاكَ مَالٌ حُكْمًا لَا حَقِيقَةً كَمَا عَرَفْتَهُ آنِفًا. ثُمَّ إنَّ عَامَّةَ الشُّرَّاحِ قَالُوا فِي تَعْلِيلِ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ إذْ هِيَ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ فِي بَابِ الْإِجَارَةِ مَالٌ.
وَقَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ بَعْدَ ذَلِكَ التَّعْلِيلِ: وَلِأَنَّ الْمَنَافِعَ فِي بَابِ الْإِجَارَةِ تَصْلُحُ مَهْرًا فِي النِّكَاحِ مَعَ أَنَّ النِّكَاحَ شُرِعَ ابْتِغَاؤُهُ بِالْمَالِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} اهـ وَهَكَذَا قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ أَيْضًا غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ الْوَاوَ فِي قَوْلِهِ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ فِي بَابِ الْإِجَارَةِ تَصْلُحُ مَهْرًا فِي بَابِ النِّكَاحِ بَلْ جَعَلَهُ عِلَّةً لِمَا قَبْلَهُ.
أَقُولُ: فِيهِ بَحْثٌ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي بَابِ الْمَهْرِ مِنْ كِتَابِ النِّكَاحِ فِي تَعْلِيلِ قَوْلِهِ وَإِنْ تَزَوَّجَ حُرٌّ امْرَأَةً عَلَى خِدْمَتِهِ سَنَةً أَوْ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا حَيْثُ قَالَ بَعْدَ بَيَانِ خِلَافِ الشَّافِعِيِّ فِي ذَلِكَ: وَلَنَا أَنَّ الْمَشْرُوعَ إنَّمَا هُوَ الِابْتِغَاءُ بِالْمَالِ وَالتَّعْلِيمُ لَيْسَ بِمَالٍ، وَكَذَا الْمَنَافِعُ عَلَى أَصْلِنَا اهـ. فَإِنَّهُ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْمَنَافِعَ لَيْسَتْ بِمَالٍ عَلَى أَصْلِنَا سِيَّمَا فِي بَابِ النِّكَاحِ فَتَأَمَّلْ.
فَصْلٌ
قَالَ (وَإِذَا اشْتَرَى الْمُكَاتَبُ أَبَاهُ أَوْ ابْنَهُ دَخَلَ فِي كِتَابَتِهِ) لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ أَنْ يُكَاتِبَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْإِعْتَاقِ فَيُجْعَلُ مُكَاتَبًا تَحْقِيقًا لِلصِّلَةِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْحُرَّ مَتَى كَانَ يَمْلِكُ الْإِعْتَاقَ يُعْتَقُ عَلَيْهِ (وَإِنْ اشْتَرَى ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ لِأَوْلَادٍ لَهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي كِتَابَتِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَا: يَدْخُلُ)
اعْتِبَارًا بِقَرَابَةِ الْوِلَادِ إذْ وُجُوبُ الصِّلَةِ يَنْتَظِمُهُمَا وَلِهَذَا لَا يَفْتَرِقَانِ فِي الْحُرِّ فِي حَقِّ الْحُرِّيَّةِ. وَلَهُ أَنَّ لِلْمُكَاتَبِ كَسْبًا لَا مِلْكًا، غَيْرَ أَنَّ الْكَسْبَ يَكْفِي الصِّلَةَ فِي الْوِلَادِ حَتَّى أَنَّ الْقَادِرَ عَلَى الْكَسْبِ يُخَاطَبُ بِنَفَقَةِ الْوَالِدِ وَالْوَلَدِ وَلَا يَكْفِي فِي غَيْرِهِمَا حَتَّى لَا تَجِبَ نَفَقَةُ الْأَخِ إلَّا عَلَى الْمُوسِرِ، وَلِأَنَّ هَذِهِ قَرَابَةٌ تَوَسَّطَتْ بَيْنَ بَنِي الْأَعْمَامِ وَقَرَابَةِ الْوِلَادِ فَأَلْحَقْنَاهَا بِالثَّانِي فِي الْعِتْقِ،
فَصْلٌ)
لَمَّا فَرَغَ مِنْ ذِكْرِ مَسَائِلِ وُقُوعِ الْكِتَابَةِ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ شَرَعَ فِي ذِكْرِ مَسَائِلِ وُقُوعِهَا بِسَبِيلِ التَّبَعِيَّةِ وَمَا يَتْبَعُهَا لِأَنَّ التَّبَعَ يَتْلُو
وَبِالْأَوَّلِ فِي الْكِتَابَةِ وَهَذَا أَوْلَى لِأَنَّ الْعِتْقَ أَسْرَعُ نُفُوذًا مِنْ الْكِتَابَةِ، حَتَّى أَنَّ أَحَدَ الشَّرِيكَيْنِ إذَا كَاتَبَ كَانَ لِلْآخَرِ فَسْخُهُ، وَإِذَا أَعْتَقَ لَا يَكُونُ لَهُ فَسْخُهُ.
قَالَ (وَإِذَا اشْتَرَى أُمَّ وَلَدِهِ دَخَلَ وَلَدُهَا فِي الْكِتَابَةِ وَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهَا) وَمَعْنَاهُ إذَا كَانَ مَعَهَا وَلَدُهَا، أَمَّا دُخُولُ الْوَلَدِ فِي الْكِتَابَةِ فَلِمَا ذَكَرْنَاهُ. وَأَمَّا امْتِنَاعُ بَيْعِهَا فَلِأَنَّهَا تَبَعٌ لِلْوَلَدِ فِي هَذَا الْحُكْمِ، قَالَ عليه الصلاة والسلام «أَعْتَقَهَا وَلَدُهَا» وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا وَلَدُهَا فَكَذَا الْجَوَابُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لِأَنَّهَا أُمُّ وَلَدٍ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ.
الْأَصْلَ (قَوْلُهُ وَإِذَا اشْتَرَى أُمَّ وَلَدِهِ دَخَلَ وَلَدُهَا فِي الْكِتَابَةِ وَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهَا) هَذَا لَفْظُ الْقُدُورِيِّ. قَالَ الْمُصَنِّفُ: وَمَعْنَاهُ إذَا كَانَ مَعَهَا وَلَدُهَا.
وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ الْمَقَامِ: امْرَأَةُ الْمُكَاتَبِ الْقِنَّةُ إذَا وَلَدَتْ قَبْلَ أَنْ يَمْلِكَهَا الْمُكَاتَبُ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ فَمَلَكَهَا فَإِنْ مَلَكَهَا مَعَ الْوَلَدِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهَا بِالِاتِّفَاقِ. أَقُولُ: فِي عِبَارَتِهِ خَلَلٌ، لِأَنَّ الْقِنَّةَ بِالتَّاءِ فِي وَصْفِ الْمَرْأَةِ تُخَالِفُ اللُّغَةَ، إذْ قَدْ تَقَرَّرَ فِي كُتُبِ اللُّغَةِ عَامَّةً أَنَّ لَفْظَ الْقِنِّ يَسْتَوِي فِيهِ الِاثْنَانِ وَالْجَمْعُ وَالْمُؤَنَّثُ حَيْثُ قَالَ صَاحِبُ الْمُغْرِبِ: وَأَمَّا أَمَةٌ قِنَّةٌ فَلَمْ أَسْمَعْهُ اهـ.
(قَوْلُهُ وَأَمَّا امْتِنَاعُ بَيْعِهَا فَلِأَنَّهَا تَبَعٌ لِلْوَلَدِ فِي هَذَا الْحُكْمِ قَالَ عليه الصلاة والسلام «أَعْتَقَهَا وَلَدُهَا») قَالَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ: فَإِنْ قُلْت: إذَا ثَبَتَ لِلْوَلَدِ حَقِيقَةُ الْحُرِّيَّةِ يَثْبُتُ لِلْأُمِّ حَقُّهَا وَهَاهُنَا يَثْبُتُ لِلْوَلَدِ حَقُّ الْحُرِّيَّةِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَثْبُتَ لِلْأُمِّ حَقُّهَا تَحْقِيقًا لِانْحِطَاطِ رُتْبَتِهَا عَنْ الْوَلَدِ. قُلْت: لِلْكِتَابَةِ أَحْكَامٌ: مِنْهَا عَدَمُ جَوَازِ الْبَيْعِ فَيَثْبُتُ لِلْأُمِّ هَذَا الْحُكْمُ دُونَ الْكِتَابَةِ تَحْقِيقًا لِانْحِطَاطِ الرُّتْبَةِ.
فَإِنْ قُلْت: لِمَ لَا تَصِيرُ مُكَاتَبَةً تَبَعًا لِلْوَلَدِ؟ قُلْت: لِأَنَّ الْعَقْدَ مَا وَرَدَ عَلَيْهَا اهـ. أَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ عَدَمَ وُرُودِ الْعَقْدِ عَلَيْهَا لَا يَقْتَضِي أَنْ لَا تَصِيرَ مُكَاتَبَةً تَبَعًا لِلْوَلَدِ، وَإِنَّمَا يَقْتَضِي أَنْ لَا تَصِيرَ مُكَاتَبَةً أَصَالَةً، أَلَا يُرَى أَنَّ الْمُكَاتَبَ إذَا اشْتَرَى أَبَاهُ دَخَلَ أَبُوهُ فِي كِتَابَتِهِ وَيَصِيرُ مُكَاتَبًا تَبَعًا لِوَلَدِهِ كَمَا مَرَّ، مَعَ أَنَّ الْعَقْدَ مَا وَرَدَ عَلَى الْأَبِ هُنَاكَ أَيْضًا قَطْعًا. فَالصَّوَابُ فِي الْجَوَابِ عَنْ السُّؤَالِ الثَّانِي أَنْ يُقَالَ: إنَّمَا لَا تَصِيرُ مُكَاتَبَةً تَبَعًا لِوَلَدِهِ تَحْقِيقًا لِانْحِطَاطِ رُتْبَتِهَا عَنْ وَلَدِهَا فِي حَقِّ الْحُرِّيَّةِ، أَلَا يُرَى أَنَّهَا لَا تَصِيرُ حُرَّةً فِي الْحَالِ تَبَعًا لِحُرِّيَّةِ وَلَدِهَا فِي الْحَالِ بَلْ يَثْبُتُ لَهَا عِتْقٌ مُؤَجَّلٌ بِمَوْتِ سَيِّدِهَا عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ، فَكَذَا لَا تَصِيرُ مُكَاتَبَةً تَبَعًا لِوَلَدِهَا بَلْ يَثْبُتُ لَهَا بَعْضُ أَحْكَامِ الْكِتَابَةِ كَمَا ذُكِرَ فِي الْجَوَابِ عَنْ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ، بِخِلَافِ الْأَبِ إذَا مَلَكَهُ
وَلَهُ أَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ يَجُوزَ بَيْعُهَا وَإِنْ كَانَ مَعَهَا وَلَدٌ لِأَنَّ كَسْبَ الْمُكَاتَبِ مَوْقُوفٌ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مَا لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ، إلَّا أَنَّهُ يَثْبُتُ بِهِ هَذَا الْحَقُّ فِيمَا إذَا كَانَ مَعَهَا وَلَدٌ تَبَعًا لِثُبُوتِهِ فِي الْوَلَدِ بِنَاءً عَلَيْهِ، وَبِدُونِ الْوَلَدِ لَوْ ثَبَتَ ثَبَتَ ابْتِدَاءً وَالْقِيَاسُ يَنْفِيهِ (وَإِنْ وُلِدَ لَهُ وَلَدٌ مِنْ أَمَةٍ لَهُ دَخَلَ فِي كِتَابَتِهِ) لِمَا بَيَّنَّا فِي الْمُشْتَرَى (وَكَانَ حُكْمُهُ كَحُكْمِهِ وَكَسْبُهُ لَهُ) لِأَنَّ كَسْبَ الْوَلَدِ كَسْبٌ كَسَبَهُ وَيَكُونُ كَذَلِكَ قَبْلَ الدَّعْوَةِ فَلَا يَنْقَطِعُ بِالدَّعْوَةِ اخْتِصَاصُهُ، وَكَذَلِكَ إنْ وَلَدَتْ الْمُكَاتَبَةُ وَلَدًا لِأَنَّ حَقَّ امْتِنَاعِ الْبَيْعِ ثَابِتٌ فِيهَا مُؤَكَّدًا فَيَسْرِي إلَى الْوَلَدِ كَالتَّدْبِيرِ وَالِاسْتِيلَادِ.
وَلَدُهُ فَإِنَّهُ يَدْخُلُ فِي عَيْنِ حُرِّيَّةِ وَلَدِهِ سَوَاءٌ كَانَتْ حَقِيقَةُ الْحُرِّيَّةِ أَوْ حَقُّهَا تَحْقِيقًا لِلصِّلَةِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ عَلَى مَا مَرَّ.
ثُمَّ قَالَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ: فَإِنْ قُلْت: الْعَقْدُ مَا وَرَدَ عَلَى الْوَلَدِ أَيْضًا. قُلْت: وَرَدَ عَلَى الْمُكَاتَبِ وَالْوَلَدُ جُزْؤُهُ فَيَكُونُ وَارِدًا عَلَيْهِ بِخِلَافِ الْأَمَةِ اهـ. أَقُولُ: فِيهِ أَيْضًا نَظَرٌ، لِأَنَّ كَوْنَ قَرَابَةِ الْوَلَدِ قَرَابَةً جُزْئِيَّةً لَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ وُرُودُ الْعَقْدِ عَلَى الْأَبِ وُرُودًا عَلَى الْوَلَدِ أَيْضًا وَإِلَّا يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ كِتَابَةُ الْوَلَدِ أَيْضًا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ أَصَالَةً لَا تَبَعًا لِوَالِدِهِ فَلَا يَصِحُّ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ: أَمَّا دُخُولُ الْوَلَدِ فِي الْكِتَابَةِ فَلِمَا ذَكَرْنَا كَمَا لَا يَخْفَى. وَيَلْزَمُ أَيْضًا أَنْ لَا يَثْبُتَ.
فَرْقٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بَيْنَ مَا إذَا كَانَ مَعَهَا وَلَدُهَا فِي الِاشْتِرَاءِ وَبَيْنَ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ وَلَدُهَا مَعَهَا فِيهِ تَدَبَّرْ تَقِفْ (قَوْلُهُ وَلَهُ أَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ يَجُوزَ بَيْعُهَا وَإِنْ كَانَ مَعَهَا وَلَدٌ، إلَى قَوْلِهِ: وَبِدُونِ الْوَلَدِ لَوْ ثَبَتَ ثَبَتَ ابْتِدَاءً وَالْقِيَاسُ يَنْفِيهِ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الْقِيَاسُ كَمَا يَنْفِيهِ ابْتِدَاءً يَنْفِيهِ مَعَ الْوَلَدِ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي أَوَّلِ الدَّلِيلِ، فَتَخْصِيصُ نَفْيِهِ بِالِابْتِدَاءِ مَعَ أَنَّهُ مُنَافٍ لِصَدْرِ الْكَلَامِ تَحَكُّمٌ.
وَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَيْسَ بِتَحَكُّمٍ وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ الِاسْتِحْسَانِ بِالْأَثَرِ وَهُوَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «أَعْتَقَهَا وَلَدُهَا» وَلَا شَكَّ أَنَّ الْوَلَدَ إنَّمَا يُعْتِقُ الْأُمَّ إذَا مَلَكَهُ الْأَبُ. وَقَوْلُهُ وَالْقِيَاسُ يَنْفِيهِ: يَعْنِي وَلَا نَصَّ فِيهِ يُتْرَكُ بِهِ الْقِيَاسُ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ مَعَهَا وَلَدُهَا، إلَى هُنَا كَلَامُهُ.
أَقُولُ: فِي الْجَوَابِ بَحْثٌ، وَهُوَ أَنَّ الْأَثَرَ الْمَذْكُورَ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ مَا إذَا كَانَ مَعَهَا وَلَدُهَا وَبَيْنَ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهَا وَلَدٌ، بَلْ هُوَ بِظَاهِرِ إطْلَاقِهِ يَتَنَاوَلُ الصُّورَتَيْنِ مَعًا، فَقَوْلُهُ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْوَلَدَ إنَّمَا يُعْتِقُ الْأُمَّ إذَا مَلَكَهُ الْأَبُ إنْ أَرَادَ أَنَّ الْأَثَرَ الْمَذْكُورَ يَدُلُّ عَلَيْهِ فَهُوَ مَمْنُوعٌ جِدًّا، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّ ذَلِكَ الْمَعْنَى ثَابِتٌ مُقَرَّرٌ بِدُونِ دَلَالَةِ الْأَثَرِ الْمَذْكُورِ عَلَيْهِ فَهُوَ يُؤَدِّي إلَى الْمُصَادَرَةِ إذْ هُوَ أَوَّلُ الْمَسْأَلَةِ، فَإِنَّ الْإِمَامَيْنِ لَمْ يَقْبَلَاهُ فَلِهَذَا لَمْ يُجَوِّزَا بَيْعَ الْمُكَاتَبِ امْرَأَتَهُ الْمُشْتَرَاةَ الَّتِي وَلَدَتْ مِنْهُ قَبْلَ أَنْ يَمْلِكَهَا بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا أُمُّ وَلَدٍ لَهُ وَإِنْ لَمْ يَمْلِكْ وَلَدَهَا
قَالَ (وَمَنْ زَوَّجَ أَمَتَهُ مِنْ عَبْدِهِ ثُمَّ كَاتَبَهُمَا فَوَلَدَتْ مِنْهُ وَلَدًا دَخَلَ فِي كِتَابَتِهَا وَكَانَ كَسْبُهُ لَهَا) لِأَنَّ تَبَعِيَّةَ الْأُمِّ أَرْجَحُ وَلِهَذَا يَتْبَعُهَا فِي الرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ. قَالَ (وَإِنْ تَزَوَّجَ الْمُكَاتَبُ بِإِذْنِ مَوْلَاهُ امْرَأَةً زَعَمَتْ أَنَّهَا حُرَّةٌ فَوَلَدَتْ مِنْهُ ثُمَّ اسْتَحَقَّتْ فَأَوْلَادُهَا عَبِيدٌ وَلَا يَأْخُذُهُمْ بِالْقِيمَةِ، وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ يَأْذَنُ لَهُ الْمَوْلَى بِالتَّزْوِيجِ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: أَوْلَادُهَا أَحْرَارٌ بِالْقِيمَةِ)
لِأَنَّهُ شَارَكَ الْحُرَّ فِي سَبَبِ ثُبُوتِ هَذَا الْحَقِّ وَهُوَ الْغُرُورُ، وَهَذَا لِأَنَّهُ مَا رَغِبَ فِي نِكَاحِهَا إلَّا لِيَنَالَ حُرِّيَّةَ الْأَوْلَادِ، وَلَهُمَا أَنَّهُ مَوْلُودٌ بَيْنَ رَقِيقَيْنِ فَيَكُونُ رَقِيقًا، وَهَذَا لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ الْوَلَدَ يَتْبَعُ الْأُمَّ فِي الرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ، وَخَالَفَنَا هَذَا الْأَصْلَ فِي الْحُرِّ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم، وَهَذَا لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ لِأَنَّ حَقَّ الْمَوْلَى هُنَاكَ مَجْبُورٌ بِقِيمَةٍ نَاجِزَةٍ وَهَاهُنَا بِقِيمَةٍ مُتَأَخِّرَةٍ إلَى مَا بَعْدَ الْعِتْقِ
قَطُّ، عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْوَلَدَ إنَّمَا يُعْتِقُ الْأُمَّ إذَا مَلَكَهُ الْأَبُ لَيْسَ بِتَامٍّ عَلَى قَوْلِ أَصْحَابِنَا جَمِيعًا، لِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ بِالْمِلْكِ فِي قَوْلِهِ إذَا مَلَكَهُ الْأَبُ مِلْكَ الْيَمِينِ فَهُوَ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي إعْتَاقِ الْوَلَدِ أُمَّهُ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ، أَلَا يُرَى أَنَّ الْحُرَّ إذَا اسْتَوْلَدَ أَمَةَ نَفْسِهِ لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا بِالْأَثَرِ الْمَزْبُورِ بِعَيْنِهِ مَعَ أَنَّ الْوَلَدَ هُنَاكَ لَيْسَ بِمَمْلُوكٍ لِلْأَبِ مِلْكَ الْيَمِينِ بِلَا رَيْبٍ، وَإِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ مِلْكَ التَّصَرُّفِ فِي أَمْرِهِ بِالْوِلَايَةِ عَلَيْهِ فَهُوَ أَيْضًا لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي إعْتَاقِ الْوَلَدِ أُمَّهُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا، فَإِنَّ مَنْ اسْتَوْلَدَ أَمَةَ غَيْرِهِ بِنِكَاحٍ ثُمَّ مَلَكَهَا صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا جَمِيعًا عَلَى مَا مَرَّ فِي بَابِ الِاسْتِيلَادِ مِنْ كِتَابِ الْعَتَاقِ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا عِنْدَهُمْ، مَعَ أَنَّ التَّصَرُّفَ فِي أَمْرِ ذَلِكَ الْوَلَدِ فِي الْوِلَايَةِ عَلَيْهِ إنَّمَا هُوَ لِذَلِكَ الْغَيْرِ الَّذِي كَانَ مَوْلَى ذَلِكَ الْوَلَدِ بِسَبَبِ أَنْ كَانَتْ الْأَمَةُ مَمْلُوكَةً لَهُ عِنْدَ الِاسْتِيلَادِ لَا لِأَبِيهِ، فَظَهَرَ أَنَّ قَوْلَهُ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْوَلَدَ إنَّمَا يُعْتِقُ الْأُمَّ إذَا مَلَكَهُ الْأَبُ لَيْسَ بِتَامٍّ عَلَى كُلِّ حَالٍ
(وَقَوْلُهُ وَمَنْ زَوَّجَ أَمَتَهُ مِنْ عَبْدِهِ ثُمَّ كَاتَبَهُمَا فَوَلَدَتْ مِنْهُ وَلَدًا دَخَلَ فِي كِتَابَتِهَا وَكَانَ كَسْبُهُ لَهَا) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: دَخَلَ فِي كِتَابَتِهِمَا وَكَانَ كَسْبُهُ لَهَا أَيْ فِي الدُّخُولِ يَتْبَعُهُمَا،
فَيَبْقَى عَلَى الْأَصْلِ وَلَا يَلْحَقُ بِهِ.
قَالَ (وَإِنْ وَطِئَ الْمُكَاتَبُ أَمَةً عَلَى وَجْهِ الْمِلْكِ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى ثُمَّ اسْتَحَقَّهَا رَجُلٌ فَعَلَيْهِ الْعُقْرُ يُؤْخَذُ بِهِ فِي الْكِتَابَةِ، وَإِنْ وَطِئَهَا عَلَى وَجْهِ النِّكَاحِ لَمْ يُؤْخَذْ بِهِ حَتَّى يُعْتَقَ وَكَذَلِكَ الْمَأْذُونُ لَهُ) وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ ظَهَرَ الدَّيْنُ فِي حَقِّ الْمَوْلَى لِأَنَّ التِّجَارَةَ وَتَوَابِعَهَا دَاخِلَةٌ تَحْتَ الْكِتَابَةِ، وَهَذَا الْعُقْرُ مِنْ تَوَابِعِهَا، لِأَنَّهُ لَوْلَا الشِّرَاءُ لَمَا سَقَطَ الْحَدُّ وَمَا لَمْ يَسْقُطْ الْحَدُّ لَا يَجِبُ الْعُقْرُ. أَمَّا لَمْ يَظْهَرْ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي لِأَنَّ النِّكَاحَ لَيْسَ مِنْ الِاكْتِسَابِ فِي شَيْءٍ فَلَا تَنْتَظِمُهُ الْكِتَابَةُ كَالْكَفَالَةِ.
قَالَ (وَإِذَا اشْتَرَى الْمُكَاتَبُ جَارِيَةً شِرَاءً فَاسِدًا ثُمَّ وَطِئَهَا فَرَدَّهَا أُخِذَ بِالْعُقْرِ فِي الْمُكَاتَبَةِ، وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ لَهُ) لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ التِّجَارَةِ، فَإِنَّ التَّصَرُّفَ تَارَةً يَقَعُ صَحِيحًا وَمَرَّةً يَقَعُ فَاسِدًا، وَالْكِتَابَةُ وَالْإِذْنُ يَنْتَظِمَانِهِ بِنَوْعَيْهِ كَالتَّوْكِيلِ فَكَانَ ظَاهِرًا فِي حَقِّ الْمَوْلَى.
فَصْلٌ
قَالَ (وَإِذَا وَلَدَتْ الْمُكَاتَبَةُ مِنْ الْمَوْلَى
وَفِي الْكَسْبِ يَتْبَعُهَا خَاصَّةً، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْوَجْهُ لِأَنَّ فَائِدَةَ الدُّخُولِ هُوَ الْكَسْبُ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ وَغَيْرِهَا.
قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: فِيهِ تَأَمُّلٌ، إذْ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ فَائِدَتُهُ أَنْ يُعْتَقَ بِعِتْقِهَا سَوَاءٌ كَسَبَ أَمْ لَا بِأَنْ لَمْ يَبْلُغْ مَبْلَغَ الْكَسْبِ مَثَلًا انْتَهَى. أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ لِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ فَائِدَةَ دُخُولِ الْوَلَدِ فِي كِتَابَةِ الْأَبِ هُوَ الْكَسْبُ لَهُ لَا غَيْرُ، لِأَنَّهُ لَا يَتْبَعُ الْأَبَ فِي الرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ، فَلَمَّا كَانَ كَسْبُهُ لِلْأُمِّ خَاصَّةً لَمْ تَتَحَقَّقْ فَائِدَةٌ قَطُّ فِي دُخُولِهِ فِي كِتَابَةِ أَبِيهِ فَكَانَ الْقَوْلُ بِدُخُولِهِ فِي كِتَابَةِ أُمِّهِ فَقَطْ هُوَ الْوَجْهُ، ثُمَّ إنْ عَتَقَ الْوَلَدُ بِعِتْقِ أُمِّهِ إنَّمَا يَكُونُ فَائِدَةً لِلْوَلَدِ نَفْسِهِ لَا لِلدُّخُولِ فِيهِ. وَالْكَلَامُ فِي الثَّانِي.
وَلَئِنْ سَلِمَ تَعْمِيمُ الْفَائِدَةِ أَوْ جَعَلَ فَائِدَةَ الْوَلَدِ فَائِدَةً لِأُمِّهِ أَيْضًا فَتِلْكَ الْفَائِدَةُ أَيْضًا إنَّمَا تَتَحَقَّقُ بِالنَّظَرِ إلَى دُخُولِهِ فِي كِتَابَةِ أُمِّهِ فَقَطْ، فَلَا يُنَافِي كَوْنَ الْأَوَّلِ هُوَ الْوَجْهُ، بَلْ يُؤَيِّدُهُ. وَأَمَّا حَدِيثُ أَنْ لَا يَبْلُغَ الْوَلَدُ مَبْلَغَ الْكَسْبِ فَلَا فَائِدَةَ لَهُ هَاهُنَا، لِأَنَّ الْمُرَادَ بِفَائِدَةِ الدُّخُولِ مَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ فَائِدَةً فِي الْجُمْلَةِ، وَالْكَسْبُ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ حُصُولِهِ يَصِيرُ فَائِدَةً
(فَصْلٌ)
مَسَائِلُ هَذَا الْفَصْلِ نَوْعٌ آخَرُ مِنْ جِنْسِ مَسَائِلِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ، فَفَصَلَهَا بِفَصْلٍ وَوَصَلَهَا بِالذِّكْرِ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ
فَهِيَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَتْ مَضَتْ عَلَى الْكِتَابَةِ، وَإِنْ شَاءَتْ عَجَّزَتْ نَفْسَهَا، وَصَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ) لِأَنَّهَا تَلَقَّتْهَا جِهَتَا حُرِّيَّةٍ عَاجِلَةٌ بِبَدَلٍ وَآجِلَةٌ بِغَيْرِ بَدَلٍ فَتُخَيَّرُ بَيْنَهُمَا، وَنَسَبُ وَلَدِهَا ثَابِتٌ مِنْ الْمَوْلَى وَهُوَ حُرٌّ لِأَنَّ الْمَوْلَى يَمْلِكُ الْإِعْتَاقَ فِي وَلَدِهَا وَمَا لَهُ مِنْ الْمِلْكِ يَكْفِي لِصِحَّةِ الِاسْتِيلَادِ بِالدَّعْوَةِ. وَإِذَا مَضَتْ عَلَى الْكِتَابَةِ أَخَذَتْ الْعُقْرَ مِنْ مَوْلَاهَا لِاخْتِصَاصِهَا بِنَفْسِهَا وَبِمَنَافِعِهَا عَلَى مَا قَدَّمْنَا.
ثُمَّ إنْ مَاتَ الْمَوْلَى عَتَقَتْ بِالِاسْتِيلَادِ وَسَقَطَ عَنْهَا بَدَلُ الْكِتَابَةِ، وَإِنْ مَاتَتْ هِيَ وَتَرَكَتْ مَالًا تُؤَدَّى مِنْهُ مُكَاتَبَتُهَا وَمَا بَقِيَ مِيرَاثٌ لِابْنِهَا جَرْيًا عَلَى مُوجَبِ الْكِتَابَةِ، وَإِنْ لَمْ تَتْرُكْ مَالًا فَلَا سِعَايَةَ
قَوْلُهُ ثُمَّ إنْ مَاتَ الْمَوْلَى عَتَقَتْ بِالِاسْتِيلَادِ وَسَقَطَ عَنْهَا بَدَلُ الْكِتَابَةِ).
قَالَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ، فَإِنْ قُلْت: يَنْبَغِي أَنْ لَا يَسْقُطَ لِأَنَّ الْأَكْسَابَ تُسَلَّمُ لَهَا وَكَذَا أَوْلَادُهَا الَّتِي اشْتَرَاهَا بَعْدُ لِلْكِتَابَةِ وَهَذَا آيَةُ بَقَاءِ الْكِتَابَةِ. قُلْت: الْكِتَابَةُ تُشْبِهُ الْمُعَاوَضَةَ، وَبِالنَّظَرِ إلَى ذَلِكَ لَا يَسْقُطُ الْبَدَلُ وَتُشْبِهُ الشَّرْطَ، وَبِالنَّظَرِ إلَيْهِ يَسْقُطُ، أَلَا يُرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا يَبْطُلُ التَّعْلِيقُ فَلَمَّا عَتَقَتْ بِالِاسْتِيلَادِ بَطَلَتْ جِهَةُ الْكِتَابَةِ فَعَمِلْنَا بِالشَّبَهَيْنِ وَقُلْنَا بِسَلَامَةِ الْأَكْسَابِ عَمَلًا بِجِهَةِ الْمُعَاوَضَةِ، وَقُلْنَا بِسُقُوطِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ عَمَلًا بِجِهَةِ الشَّرْطِ، انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَقَدْ اقْتَفَى أَثَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ وَالشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ فِي هَذَا السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ. أَقُولُ: فِي الْجَوَابِ نَظَرٌ. أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُ قَدْ تَقَرَّرَ فِيمَا مَرَّ مِرَارًا أَنَّ الْعَمَلَ بِالشَّبَهَيْنِ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ فِيمَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْجِهَتَيْنِ، وَهَاهُنَا لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ جِهَةَ كَوْنِ الْكِتَابَةِ مُعَاوَضَةً تَسْتَلْزِمُ عَدَمَ سُقُوطِ الْبَدَلِ، وَجِهَةَ كَوْنِهَا شَرْطًا تَسْتَلْزِمُ سُقُوطَهُ، وَهُمَا: أَيْ السُّقُوطُ وَعَدَمُهُ مُتَنَافِيَانِ قَطْعًا لَا يُمْكِنُ اجْتِمَاعُهُمَا فِي مَحِلٍّ وَاحِدٍ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، وَتَنَافِي اللَّازِمَيْنِ يُوجِبُ تَنَافِي الْمَلْزُومَيْنِ فَلَا يُمْكِنُ اجْتِمَاعُهُمَا كَذَلِكَ.
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ الْعَمَلَ بِالشَّبَهَيْنِ لَوْ تُصُوِّرَ هَاهُنَا فَإِنَّمَا يُتَصَوَّرُ عِنْدَ ثُبُوتِ الْكِتَابَةِ لِأَنَّهَا هِيَ الْمُشَابِهُ لِكُلٍّ مِنْ الْمُعَاوَضَةِ وَالشَّرْطِ، لَا عِنْدَ بُطْلَانِهَا لِأَنَّهُ يَنْتَفِي حِينَئِذٍ مَحِلُّ الْمُشَابَهَةِ بِالْكُلِّيَّةِ، فَمَا مَعْنَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ الشُّرَّاحِ: فَلَمَّا عَتَقَتْ بِالِاسْتِيلَادِ بَطَلَتْ جِهَةُ الْكِتَابَةِ فَعَمِلْنَا بِالشَّبَهَيْنِ.
وَقُلْنَا بِسَلَامَةِ الْأَكْسَابِ عَمَلًا بِشَبَهِ الْمُعَاوَضَةِ، وَقُلْنَا بِسُقُوطِ الْكِتَابَةِ عَمَلًا بِشَبَهِ الشَّرْطِ. ثُمَّ أَقُولُ: الْحَقُّ
عَلَى الْوَلَدِ لِأَنَّهُ حُرٌّ، وَلَوْ وَلَدَتْ وَلَدًا آخَرَ لَمْ يَلْزَمْ الْمَوْلَى إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ لِحُرْمَةِ وَطْئِهَا عَلَيْهِ، فَلَوْ لَمْ يَدَّعِ وَمَاتَتْ مِنْ غَيْرِ وَفَاءٍ سَعَى هَذَا الْوَلَدُ لِأَنَّهُ مُكَاتَبٌ تَبَعًا لَهَا، فَلَوْ مَاتَ الْمَوْلَى بَعْدَ ذَلِكَ عَتَقَ وَبَطَلَ عَنْهُ السِّعَايَةُ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ أُمِّ الْوَلَدِ إذْ هُوَ وَلَدُهَا فَيَتْبَعُهَا.
قَالَ (وَإِذَا كَاتَبَ الْمَوْلَى أُمَّ وَلَدِهِ جَازَ) لِحَاجَتِهَا إلَى اسْتِفَادَةِ الْحُرِّيَّةِ قَبْلَ مَوْتِ الْمَوْلَى وَذَلِكَ بِالْكِتَابَةِ، وَلَا يُنَافِي بَيْنَهُمَا لِأَنَّهُ تَلَقَّتْهَا جِهَتَا حُرِّيَّةٍ (فَإِنْ مَاتَ الْمَوْلَى عَتَقَتْ بِالِاسْتِيلَادِ) لِتَعَلُّقِ عِتْقِهَا بِمَوْتِ السَّيِّدِ (وَسَقَطَ عَنْهَا بَدَلُ الْكِتَابَةِ) لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنْ إيجَابِ الْبَدَلِ الْعِتْقُ عِنْدَ الْأَدَاءِ، فَإِذَا عَتَقَتْ قَبْلَهُ لَمْ يُمْكِنْ تَوْفِيرُ الْغَرَضِ عَلَيْهِ فَسَقَطَ وَبَطَلَتْ الْكِتَابَةُ لِامْتِنَاعِ إبْقَائِهَا بِغَيْرِ فَائِدَةٍ،
فِي الْجَوَابِ عَنْ ذَلِكَ السُّؤَالِ مَا أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْآتِيَةِ بِقَوْلِهِ غَيْرَ أَنَّهُ تُسَلَّمُ لَهَا الْأَكْسَابُ وَالْأَوْلَادُ، لِأَنَّ الْكِتَابَةَ انْفَسَخَتْ فِي حَقِّ الْبَدَلِ وَبَقِيَتْ فِي حَقِّ الْأَكْسَابِ وَالْأَوْلَادِ، لِأَنَّ الْفَسْخَ لِنَظَرِهَا وَالنَّظَرُ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ انْتَهَى تَأَمَّلْ
(قَوْلُهُ وَإِذَا كَاتَبَ الْمَوْلَى أُمَّ وَلَدِهِ جَازَ لِحَاجَتِهَا إلَى اسْتِفَادَةِ الْحُرِّيَّةِ قَبْلَ مَوْتِ الْمَوْلَى وَذَلِكَ بِالْكِتَابَةِ، وَلَا تَنَافِي بَيْنَهُمَا لِأَنَّهُ تَلَقَّتْهَا جِهَتَا حُرِّيَّةٍ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: لَا يُقَالُ أَحَدُهُمَا يَقْتَضِي الْعِتْقَ بِبَدَلٍ وَالْآخَرُ بِلَا بَدَلٍ وَالْعِتْقُ الْوَاحِدُ لَا يَثْبُتُ بِهِمَا فَكَانَا مُتَنَافِيَيْنِ، لِأَنَّهُ لَا تَنَافِي بَيْنَهُمَا لِكَوْنِهِمَا جِهَتَيْ عِتْقٍ تَلَقَّتَاهَا عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ انْتَهَى. وَرَدَّ بَعْضَ الْفُضَلَاءِ قَوْلَهُ وَالْعِتْقُ الْوَاحِدُ لَا يَثْبُتُ بِهِمَا فَكَانَا مُتَنَافِيَيْنِ بِأَنْ قَالَ: إنْ أَرَادَ الْوَحْدَةَ الشَّخْصِيَّةَ فَغَيْرُ مُسَلَّمٍ، كَيْفَ وَفِي الْعِتْقِ بِالْكِتَابَةِ تُسَلَّمُ لَهَا الْأَكْسَابُ، بِخِلَافِ الْعِتْقِ بِأُمُومِيَّةِ الْوَلَدِ، وَإِنْ أَرَادَ النَّوْعِيَّةَ فَلَا تَنَافِي انْتَهَى.
أَقُولُ: وَهُوَ مَرْدُودٌ بِشِقَّيْهِ. أَمَّا شِقُّهُ الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ صَاحِبَ الْعِنَايَةِ إنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ وَالْعِتْقُ الْوَاحِدُ لَا يَثْبُتُ بِهِمَا الْوَحْدَةُ الشَّخْصِيَّةُ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ فَلَا مَجَالَ لِعَدَمِ تَسْلِيمِهِ، لِأَنَّهُ مَا قَالَ الْعِتْقُ الْوَاحِدُ يَثْبُتُ بِهِمَا حَتَّى لَا يَسْلَمَ ذَلِكَ وَيُجْعَلَ اخْتِلَافُ الْعِتْقِ بِالْكِتَابَةِ، وَالْعِتْقِ بِأُمُومِيَّةِ الْوَلَدِ فِي اللَّوَازِمِ سَنَدًا لِمَنْعِ ذَلِكَ، بَلْ قَالَ: الْعِتْقُ الْوَاحِدُ لَا يَثْبُتُ بِهِمَا، وَعَدَمُ ثُبُوتِ الْعِتْقِ الْوَاحِدِ الشَّخْصِيِّ بِالسَّبَبَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ فِي اللَّوَازِمِ أَمْرٌ جَلِيٌّ لَا يَقْبَلُ الْمَنْعَ، وَمَا ذَكَرَهُ ذَلِكَ الْبَعْضُ فِي مَعْرِضِ السَّنَدِ بِقَوْلِهِ كَيْفَ وَفِي الْعِتْقِ بِالْكِتَابَةِ إلَخْ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ سَنَدًا لِمَنْعِ ذَلِكَ، بَلْ إنَّمَا يَكُونُ عِلَّةً لِسُقُوطِ الْمَنْعِ عَنْهُ.
وَأَمَّا شِقُّهُ الثَّانِي فَلِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ فَلَا تَنَافِي فِي قَوْلِهِ، وَإِنْ أَرَادَ النَّوْعِيَّةَ فَلَا تَنَافِي أَنَّهُ لَا تَنَافِي بَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ الِاجْتِمَاعُ فَهُوَ مَمْنُوعٌ، كَيْفَ وَالْعِتْقُ بِالْكِتَابَةِ يَسْتَلْزِمُ سَلَامَةَ الْأَكْسَابِ لَهَا، بِخِلَافِ الْعِتْقِ بِأُمُومِيَّةِ الْوَلَدِ فَأَنَّى يَجْتَمِعَانِ مَعًا، وَإِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَا تَنَافِي بَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ
غَيْرَ أَنَّهُ تُسَلَّمُ لَهَا الْأَكْسَابُ وَالْأَوْلَادُ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ انْفَسَخَتْ فِي حَقِّ الْبَدَلِ وَبَقِيَتْ فِي حَقِّ الْأَكْسَابِ وَالْأَوْلَادِ، لِأَنَّ الْفَسْخَ لِنَظَرِهَا وَالنَّظَرُ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ.
وَلَوْ أَدَّتْ الْمُكَاتَبَةُ قَبْلَ مَوْتِ الْمَوْلَى عَتَقَتْ بِالْكِتَابَةِ لِأَنَّهَا بَاقِيَةٌ.
قَالَ (وَإِنْ كَاتَبَ مُدَبَّرَتَهُ جَازَ) لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْحَاجَةِ وَلَا تَنَافِي، إذْ الْحُرِّيَّةُ غَيْرُ ثَابِتَةٍ، وَإِنَّمَا الثَّابِتُ مُجَرَّدُ الِاسْتِحْقَاقِ (وَإِنْ مَاتَ الْمَوْلَى
التَّلَقِّي عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ فَهُوَ عَيْنُ مَا قَالَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي تَعْلِيلٍ لَا يُقَالُ (قَوْلُهُ غَيْرَ أَنَّهُ تُسَلَّمُ لَهَا الْأَكْسَابُ وَالْأَوْلَادُ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ انْفَسَخَتْ فِي حَقِّ الْبَدَلِ وَبَقِيَتْ فِي حَقِّ الْأَكْسَابِ وَالْأَوْلَادِ، لِأَنَّ الْفَسْخَ لِنَظَرِهَا وَالنَّظَرُ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ) قَالَ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ: وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: النَّظَرُ فِي إيفَاءِ حَقِّهَا إلَيْهَا وَحَقُّهَا الْحُرِّيَّةُ وَقَدْ حَصَلَ لَا فِي إبْطَالِ حَقِّ الْغَيْرِ، لِأَنَّ الْكَسْبَ حَصَلَ لَهَا قَبْلَ مَوْتِ الْمَوْلَى وَكَلَامِنَا فِيهِ، وَلَمْ تُعْتَقْ هِيَ قَبْلَ مَوْتِ الْمَوْلَى بَلْ هِيَ مَمْلُوكَةٌ حِينَئِذٍ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْكَسْبُ لِلْمَوْلَى لَا لَهَا لِأَنَّهَا عَتَقَتْ بِالِاسْتِيلَادِ لَا بِالْكِتَابَةِ انْتَهَى.
وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: بَعْدَ نَقْلِ هَذَا الْإِيرَادِ عَنْ الشَّارِحِ الْمَزْبُورِ: وَأَنْتَ خَبِيرٌ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إبْطَالُ حَقِّ الْغَيْرِ لِأَنَّهَا عَتَقَتْ وَهِيَ مُكَاتَبَةٌ، وَمِلْكُهَا يَمْنَعُ مِنْ ثُبُوتِ مِلْكِ الْغَيْرِ فِيهِ تَأَمَّلْ انْتَهَى. أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا بِدَفْعٍ صَحِيحٍ لِأَنَّ مِلْكَ الْمُكَاتَبِ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وَالْمُكَاتَبَةِ فِي أَكْسَابِهِمَا إنَّمَا هُوَ يَدًا لَا رَقَبَةً وَلِهَذَا لَا يَمْلِكَانِ التَّبَرُّعَ فِيهِمَا، وَإِنَّمَا رَقَبَةُ أَكْسَابِهِمَا مِلْكُ مَوْلَاهُمَا كَرَقَبَةِ أَنْفُسِهِمَا مَا لَمْ يُؤَدِّيَا بَدَلَ كِتَابَتِهِمَا بِالتَّمَامِ كَمَا يُفْهَمُ هَذَا كُلُّهُ مِمَّا سَبَقَ وَمِمَّا يَأْتِي.
فَقَوْلُهُ وَمِلْكُهَا يَمْنَعُ مِنْ ثُبُوتِ مِلْكِ الْغَيْرِ فِيهِ لَيْسَ بِجَيِّدٍ لِأَنَّ مِلْكَهَا فِي كَسْبِهَا يَدًا لَا يَمْنَعُ مِلْكَ الْغَيْرِ الَّذِي هُوَ الْمَوْلَى فِيهِ رَقَبَةً فَلَا يَنْدَفِعُ الِاسْتِشْكَالُ بِلُزُومِ إبْطَالِ حَقِّ الْغَيْرِ بِالنَّظَرِ إلَى مِلْكِ الرَّقَبَةِ ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَلَنَا فِي قَوْلِهِ تُسَلَّمُ لَهَا الْأَوْلَادُ أَيْضًا نَظَرٌ، لِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى ذِكْرِ الْأَوْلَادِ بِالتَّعْلِيلِ الَّذِي ذَكَرَهُ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ لَوْ اُعْتُبِرَتْ مَفْسُوخَةً أَيْضًا فِي حَقِّ الْأَوْلَادِ يَكُونُ النَّظَرُ لَهَا بَاقِيًا، لِأَنَّ حُكْمَ وَلَدِ أُمِّ الْوَلَدِ لَهُ حُكْمُ الْأُمِّ لِأَنَّهُ تَابِعٌ لِلْأُمِّ حَالَةَ الْوِلَادَةِ انْتَهَى كَلَامُهُ.
أَقُولُ: هَذَا النَّظَرُ سَاقِطٌ جِدًّا، لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَوْلَادِ الَّتِي ذُكِرَتْ بِالتَّعْلِيلِ الْمَذْكُورِ هِيَ الْأَوْلَادُ الَّتِي وُلِدَتْ قَبْلَ كِتَابَةِ أُمِّهَا مِنْ غَيْرِ مَوْلَى أُمِّهَا وَقَدْ اشْتَرَتْهَا أُمُّهَا حَالَةَ الْكِتَابَةِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ تَاجُ الشَّرِيعَةِ حَيْثُ فَسَّرَ الْأَوْلَادَ فِي قَوْلِ الْمُصَنِّفِ تُسَلَّمُ لَهَا الْأَكْسَابُ وَالْأَوْلَادُ بِقَوْلِهِ: أَيْ الْأَوْلَادُ الَّتِي اشْتَرَتْهَا الْمُكَاتَبَةُ فِي حَالِ الْكِتَابَةِ لَا الْأَوْلَادُ الَّتِي وَلَدَتْ مِنْ مَوْلَاهَا انْتَهَى.
وَلَا شَكَّ فِي الْحَاجَةِ إلَى التَّعْلِيلِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي بَيَانِ سَلَامَةِ أَمْثَالِ تِلْكَ الْأَوْلَادِ، إذْ لَوْ اُعْتُبِرَتْ الْكِتَابَةُ مَفْسُوخَةً أَيْضًا فِي حَقٍّ بِأَمْثَالِهِمْ لَكَانُوا أَرِقَّاءَ لِوَرَثَةِ الْمَوْلَى فَلَمْ يَكُنْ النَّظَرُ لَهَا بَاقِيًا فِي حَقِّهِمْ إذْ ذَاكَ قَطْعًا. وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي هَذَا الْمَقَامِ: وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الْكِتَابَةُ عَقْدُ أَحَدٍ فَكَيْفَ وَيُتَصَوَّرُ بُطْلَانُهُ وَعَدَمُ بُطْلَانِهِ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ؟ وَالْجَوَابُ أَنَّ تَحْقِيقَ كَلَامِهِ أَنَّ بُطْلَانَ عَقْدِ الْكِتَابَةِ يُتَصَوَّرُ بِاعْتِبَارَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَبْطُلَ بِعَجْزِ الْمُكَاتَبِ عَنْ إيفَاءِ الْبَدَلِ، وَالثَّانِي أَنْ يَبْطُلَ بِانْتِهَائِهِ بِإِيفَائِهِ.
وَبِالْأَوَّلِ يَعُودُ رَقِيقًا فَأَوْلَادُهُ وَأَكْسَابُهُ لِمَوْلَاهُ، وَبِالثَّانِي يُعْتَقُ هُوَ وَأَوْلَادُهُ وَيَخْلُصُ لَهُ مَا بَقِيَ مِنْ أَكْسَابِهِ، وَحَيْثُ احْتَجْنَا إلَى إبْطَالِ الْكِتَابَةِ نَظَرًا لِلْمُكَاتَبِ وَكَانَ النَّظَرُ لَهُ فِي الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ صِرْنَا إلَيْهِ.
أَقُولُ: لَا السُّؤَالُ شَيْءٌ وَلَا الْجَوَابُ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ كَوْنَ الْكِتَابَةِ عَقْدًا وَاحِدًا لَا يُنَافِي تَصَوُّرَ بُطْلَانِهِ وَعَدَمَ بُطْلَانِهِ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ إذَا كَانَا مِنْ جِهَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ، فَإِنَّهُمْ شَرَطُوا فِي تَحَقُّقِ التَّنَاقُضِ أُمُورًا مِنْهَا وَحْدَةُ الْجِهَةِ، وَهَاهُنَا لَمْ تَتَحَقَّقْ تِلْكَ الْوَحْدَةُ لِأَنَّ بُطْلَانَ عَقْدِ الْكِتَابَةِ مِنْ جِهَةِ الْبَدَلِ وَعَدَمَ بُطْلَانِهِ مِنْ جِهَةِ الْأَوْلَادِ وَالْأَكْسَابِ كَمَا يُفْصِحُ عَنْهُ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ، لِأَنَّ الْكِتَابَةَ انْفَسَخَتْ فِي حَقِّ الْبَدَلِ وَبَقِيَتْ فِي حَقِّ الْأَكْسَابِ وَالْأَوْلَادِ فَلَا مَحْذُورَ أَصْلًا. وَأَمَّا الثَّانِي فَلِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا أَنَّ انْتِهَاءَ الْكِتَابَةِ بِإِيفَاءِ الْبَدَلِ إنَّمَا هُوَ تَمَامُهَا وَتَقَرُّرُهَا، فَجُعِلَ أَحَدُ طَرِيقَيْ بُطْلَانِهَا مِمَّا لَا يُسَاعِدُهُ الْعَقْلُ وَالنَّقْلُ.
وَثَانِيهَا أَنَّ الْمُكَاتَبَةَ فِي مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ مِمَّنْ لَمْ يَقَعْ مِنْهُ إيفَاءُ الْبَدَلِ فَكَيْفَ يُحْمَلُ بُطْلَانُ الْكِتَابَةِ فِي حَقِّهَا عَلَى إيفَائِهِ وَاعْتِبَارِ غَيْرِ الْوَاقِعِ وَاقِعًا لِمُجَرَّدِ النَّظَرِ لَهَا مِمَّا لَا نَظِيرَ لَهُ فِي قَوَاعِدِ الشَّرْعِ.
وَثَالِثُهَا أَنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ انْفَسَخَتْ فِي حَقِّ الْبَدَلِ وَبَقِيَتْ فِي حَقِّ الْأَكْسَابِ وَالْأَوْلَادِ يُنَافِي الْمَعْنَى الَّذِي عَدَّهُ الشَّارِحُ الْمَزْبُورُ تَحْقِيقَ كَلَامِهِ، لِأَنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يُحْمَلَ الْمَقَامُ عَلَى انْتِهَاءِ الْكِتَابَةِ بِإِيفَاءِ تَمَامِ الْبَدَلِ يَصِيرُ إتْمَامُ الْكِتَابَةِ فِي حَقِّ الْبَدَلِ وَفِي حَقِّ الْأَكْسَابِ وَالْأَوْلَادِ عَلَى السَّوَاءِ كَمَا هُوَ الْحَالُ عِنْدَ إيفَاءِ الْبَدَلِ حَقِيقَةً فَلَا يَكُونُ لِاعْتِبَارِ انْفِسَاخِ الْكِتَابَةِ فِي حَقِّ الْبَدَلِ وَبَقَائِهَا فِي حَقِّ الْأَكْسَابِ وَالْأَوْلَادِ وَجْهٌ. وَرَابِعُهَا أَنَّ حَمْلَ بُطْلَانِ عَقْدِ الْكِتَابَةِ هَاهُنَا عَلَى الْمَعْنَى الثَّانِي الَّذِي تَخَيَّلَهُ هَذَا الشَّارِحُ لَا يَدْفَعُ أَصْلَ السُّؤَالِ، لِأَنَّ بُطْلَانَ الْعَقْدِ عَلَى أَيِّ مَعْنًى كَانَ وَعَدَمَهُ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ مُتَنَافِيَانِ قَطْعًا إذَا كَانَا مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ، وَإِنْ صِيرَ إلَى اخْتِلَافِ الْجِهَتَيْنِ لَا يَبْقَى احْتِيَاجٌ إلَى مُقَدِّمَةٍ مِنْ مُقَدِّمَاتِ الْجَوَابِ الْمَذْكُورِ أَصْلًا.
ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: لَا يُقَالُ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ تَسَامُحٌ لِأَنَّهُ عَلَّلَ بُطْلَانَهُ بِامْتِنَاعِ بَقَائِهِ مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ، ثُمَّ عَلَّلَهُ بِالنَّظَرِ لَهُ وَالْمَعْلُولُ الْوَاحِدُ بِالشَّخْصِ لَا يُعَلَّلُ بِعِلَّتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ، لِأَنَّ لِلْكِتَابَةِ جِهَتَيْنِ: جِهَةٌ هِيَ لِلْمُكَاتَبِ، وَجِهَةٌ هِيَ عَلَيْهِ، وَعَلَّلَ الثَّانِيَةَ بِالْأُولَى وَالْأُولَى بِالثَّانِيَةِ فَتَأَمَّلْهُ فَلَعَلَّهُ سَدِيدٌ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ. أَقُولُ: هَذَا السُّؤَالُ أَيْضًا لَيْسَ بِشَيْءٍ وَجَوَابُهُ لَيْسَ بِسَدِيدٍ.
أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ الْمَعْلُولَ الْوَاحِدَ بِالشَّخْصِ إنَّمَا لَا يُعَلَّلُ بِعِلَّتَيْنِ مُسْتَقِلَّتَيْنِ عَلَى سَبِيلِ الِاجْتِمَاعِ. وَأَمَّا عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ فَيُعَلَّلُ بِهِمَا قَطْعًا عَلَى مَا تَبَيَّنَ فِي مَوْضِعِهِ، وَالْأَمْرُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ وَفِي سَائِرِ الْمَسَائِلِ الَّتِي يُذْكَرُ لَهَا دَلِيلَانِ أَوْ أَدِلَّةٌ كَذَلِكَ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ فِي أَمْثَالِ ذَلِكَ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الدَّلِيلَيْنِ أَوْ الْأَدِلَّةِ مِمَّا يَصِحُّ أَنْ يُعَلَّلَ بِهِ الْمَطْلُوبُ بَدَلًا عَنْ الْآخَرِ.
وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهَا فَهِيَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ تَسْعَى فِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهَا أَوْ جَمِيعِ مَالِ الْكِتَابَةِ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: تَسْعَى فِي أَقَلَّ مِنْهُمَا. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: تَسْعَى فِي الْأَقَلِّ مِنْ ثُلُثَيْ قِيمَتِهَا وَثُلُثَيْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ، فَالْخِلَافُ فِي الْخِيَارِ وَالْمِقْدَارِ، فَأَبُو يُوسُفَ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْمِقْدَارِ، وَمَعَ مُحَمَّدٍ فِي نَفْيِ الْخِيَارِ. أَمَّا الْخِيَارُ فَفَرْعُ تَجَزُّؤِ الْإِعْتَاقِ عِنْدَهُ لَمَّا تَجَزَّأَ بَقِيَ الثُّلُثَانِ رَقِيقًا وَقَدْ تَلَقَّاهَا جِهَتَا حُرِّيَّةٍ بِبَدَلَيْنِ مُعَجَّلٌ بِالتَّدْبِيرِ وَمُؤَجَّلٌ بِالْكِتَابَةِ فَتُخَيَّرُ. وَعِنْدَهُمَا لَمَّا عَتَقَ كُلُّهَا بِعِتْقِ بَعْضِهَا فَهِيَ حُرَّةٌ وَجَبَ عَلَيْهَا أَحَدُ الْمَالَيْنِ فَتَخْتَارُ الْأَقَلَّ لَا مَحَالَةَ فَلَا مَعْنَى لِلتَّخْيِيرِ.
وَأَمَّا الْمِقْدَارُ فَلِمُحَمَّدٍ رحمه الله أَنَّهُ قَابَلَ الْبَدَلَ بِالْكُلِّ وَقَدْ سَلَّمَ لَهَا الثُّلُثَ بِالتَّدْبِيرِ فَمِنْ الْمُحَالِ أَنْ يَجِبَ الْبَدَلُ بِمُقَابَلَتِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ سَلَّمَ لَهَا الْكُلَّ بِأَنْ خَرَجَتْ مِنْ الثُّلُثِ يَسْقُطُ كُلُّ بَدَلِ الْكِتَابَةِ فَهُنَا يَسْقُطُ الثُّلُثُ وَصَارَ كَمَا إذَا تَأَخَّرَ التَّدْبِيرُ عَنْ الْكِتَابَةِ. وَلَهُمَا أَنَّ جَمِيعَ الْبَدَلِ مُقَابَلٌ بِثُلُثَيْ رَقَبَتِهَا فَلَا يَسْقُطُ مِنْهُ شَيْءٌ، وَهَذَا لِأَنَّ الْبَدَلَ وَإِنْ قُوبِلَ بِالْكُلِّ صُورَةً وَصِيغَةً لَكِنَّهُ مُقَيَّدٌ بِمَا ذَكَرْنَا مَعْنًى وَإِرَادَةً لِأَنَّهَا اسْتَحَقَّتْ حُرِّيَّةَ الثُّلُثِ ظَاهِرًا،
وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ كَوْنَ الْمُعَلَّلِ بِالْعِلَّةِ الْأُولَى الْجِهَةَ الَّتِي هِيَ عَلَى الْمُكَاتَبِ مَمْنُوعٌ، لِأَنَّ تِلْكَ الْجِهَةَ أَنْ يَلْزَمَهُ إبْقَاءُ الْبَدَلِ وَقَوْلُهُ لِامْتِنَاعِ إبْقَائِهَا مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ لَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، بَلْ يَدُلُّ عَلَى خِلَافِهِ لِأَنَّ عَدَمَ الْفَائِدَةِ بِسُقُوطِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ عَنْهَا، وَإِذَا أُسْقِطَ عَنْهَا الْبَدَلُ لَا يَلْزَمُهَا إيفَاؤُهُ قَطْعًا فَلَمْ يَكُنْ مَا ذَكَرَهُ مِنْ تَوْزِيعِ التَّعْلِيلَيْنِ عَلَى مَا لَهَا وَمَا عَلَيْهَا سَدِيدًا كَمَا لَا يَخْفَى
(قَوْلُهُ وَالْإِعْتَاقُ عِنْدَهُ لِمَا تَجَزَّأَ) بَقِيَ الثُّلُثَانِ رَقِيقًا وَقَدْ تَلَقَّاهَا جِهَتَا حُرِّيَّةٍ بِبَدَلَيْنِ مُعَجَّلٌ بِالتَّدْبِيرِ (وَمُؤَجَّلٌ بِالْكِتَابَةِ فَتُخَيَّرُ) لِأَنَّ فِي التَّخْيِيرِ فَائِدَةً وَإِنْ كَانَ جِنْسُ الْمَالِ مُتَّحِدًا لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ أَدَاءُ أَكْثَرِ الْمَالَيْنِ أَيْسَرَ بِاعْتِبَارِ الْأَجَلِ وَأَدَاءُ أَقَلِّهِمَا أَعْسَرَ لِكَوْنِهِ حَالًّا فَكَانَ التَّخْيِيرُ مُفِيدًا، كَذَا فِي عَامَّةِ الشُّرُوحِ.
وَعَزَاهُ فِي مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ إلَى مَبْسُوطِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ. أَقُولُ: فِيهِ شَيْءٌ وَهُوَ أَنَّ الْفَائِدَةَ الْمَذْكُورَةَ إنَّمَا تُتَصَوَّرُ فِي صُورَةِ إنْ كَانَ الْبَدَلُ الْمُعَجَّلُ بِالتَّدْبِيرِ أَقَلَّ مِنْ الْبَدَلِ الْمُؤَجَّلِ بِالْكِتَابَةِ.
وَأَمَّا فِي الْعَكْسِ فَلَا، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ أَدَاءَ الْأَقَلِّ الْمُؤَجَّلِ أَيْسَرُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ مِنْ أَدَاءِ الْأَكْثَرِ الْمُعَجَّلِ، فَلَا فَائِدَةَ فِي التَّخْيِيرِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَصْلًا لِتَعَيُّنِ اخْتِيَارِهَا الْأَقَلَّ لَا مَحَالَةَ كَمَا قَالَ صَاحِبَاهُ، مَعَ أَنَّ الْحُكْمَ بِالْخِيَارِ يَعُمُّ بِالصُّورَتَيْنِ عِنْدَهُ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ إطْلَاقِ الْمَسْأَلَةِ فِي الْكُتُبِ بِأَسْرِهَا (قَوْلُهُ وَعِنْدَهُمَا لَمَّا عَتَقَ كُلُّهَا بِعِتْقِ بَعْضِهَا فَهِيَ حُرَّةٌ وَجَبَ عَلَيْهَا أَحَدُ الْمَالَيْنِ فَتَخْتَارُ الْأَقَلَّ لَا مَحَالَةَ فَلَا مَعْنَى لِلتَّخْيِيرِ) وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ الْإِعْتَاقَ لَمَّا لَمْ يَتَجَزَّأْ عِنْدَهُمَا عَتَقَ كُلُّهَا بِالتَّدْبِيرِ لِعِتْقِ بَعْضِهَا بِهِ وَانْفَسَخَتْ الْكِتَابَةُ فَوَجَبَ السِّعَايَةُ فِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهَا لَا غَيْرُ.
وَأُجِيبُ بِأَنَّا قَدْ حَكَمْنَا بِصِحَّةِ الْكِتَابَةِ نَظَرًا لَهَا فَتَبْقِيَتُهَا لِذَلِكَ فَلَرُبَّمَا يَكُونُ بَدَلُهَا أَقَلَّ فَيَحْصُلُ النَّظَرُ بِوُجُوبِهِ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ أَخْذًا مِنْ شَرْحِ تَاجِ الشَّرِيعَةِ
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَلْتَزِمُ الْمَالَ بِمُقَابَلَةِ مَا يَسْتَحِقُّ حُرِّيَّتَهُ وَصَارَ كَمَا إذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثِنْتَيْنِ ثُمَّ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا عَلَى أَلْفٍ كَانَ جَمِيعُ الْأَلْفِ بِمُقَابَلَةِ الْوَاحِدَةِ الْبَاقِيَةِ لِدَلَالَةِ الْإِرَادَةِ، كَذَا هَاهُنَا، بِخِلَافِ مَا إذَا تَقَدَّمَتْ الْكِتَابَةُ وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الَّتِي تَلِيهِ لِأَنَّ الْبَدَلَ مُقَابَلٌ بِالْكُلِّ إذْ لَا اسْتِحْقَاقَ عِنْدَهُ فِي شَيْءٍ فَافْتَرَقَا قَالَ (وَإِنْ دَبَّرَ مُكَاتَبَتَهُ صَحَّ التَّدْبِيرُ) لِمَا بَيَّنَّا.
(وَلَهَا الْخِيَارُ، إنْ شَاءَتْ مَضَتْ عَلَى الْكِتَابَةِ، وَإِنْ شَاءَتْ عَجَّزَتْ نَفْسَهَا وَصَارَتْ مُدَبَّرَةً) لِأَنَّ الْكِتَابَةَ لَيْسَتْ بِلَازِمَةٍ فِي جَانِبِ الْمَمْلُوكِ، فَإِنْ مَضَتْ عَلَى كِتَابَتِهَا فَمَاتَ الْمَوْلَى وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهَا فَهِيَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَتْ سَعَتْ فِي ثُلُثَيْ مَالِ الْكِتَابَةِ أَوْ ثُلُثَيْ قِيمَتِهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَا: تَسْعَى فِي الْأَقَلِّ مِنْهُمَا، فَالْخِلَافُ فِي هَذَا الْفَصْلِ فِي الْخِيَارِ بِنَاءً عَلَى مَا ذَكَرْنَا. أَمَّا الْمِقْدَارُ فَمُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَوَجْهُهُ مَا بَيَّنَّا.
قَالَ (وَإِذَا أَعْتَقَ الْمَوْلَى مُكَاتَبَهُ عَتَقَ بِإِعْتَاقِهِ) لِقِيَامِ مِلْكِهِ فِيهِ (وَسَقَطَ بَدَلُ الْكِتَابَةِ) لِأَنَّهُ مَا الْتَزَمَهُ إلَّا مُقَابَلًا بِالْعِتْقِ وَقَدْ حَصَلَ لَهُ دُونَهُ فَلَا يَلْزَمُهُ،
أَقُولُ: فِي الْجَوَابِ إشْكَالٌ، لِأَنَّ الْقَوْلَ بِإِبْقَاءِ الْكِتَابَةِ فِيهَا بَعْدَ أَنْ عَتَقَ كُلُّهَا بِالتَّدْبِيرِ يُنَافِي قَوْلَ الْمُصَنِّفِ، وَعِنْدَهُمَا لَمَّا عَتَقَ كُلُّهَا بِعِتْقِ بَعْضِهَا فَهِيَ حُرَّةٌ، إذْ الظَّاهِرُ أَنَّ الْحُرِّيَّةَ وَالْكِتَابَةَ لَا يَجْتَمِعَانِ فِي شَخْصٍ وَاحِدٍ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، فَأَنَّى يُتَصَوَّرُ إبْقَاءُ الْكِتَابَةِ فِيهَا بَعْدَ أَنْ صَارَتْ حُرَّةً عِنْدَهُمَا.
فَإِنْ قُلْت: الْمُرَادُ إبْقَاءُ حُكْمِ الْكِتَابَةِ لَا إبْقَاءُ حَقِيقَتِهَا وَالْمُنَافِي لِلْحُرِّيَّةِ هُوَ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ. قُلْت: لَوْ أَبْقَى حُكْمَ الْكِتَابَةِ لِأَبْقَى تَأْجِيلَهَا لِأَنَّهُ مِنْ خَصَائِصِهَا. وَلِهَذَا قَالَ فِي الْكَافِي فِي تَقْرِيرِ دَلِيلِ الْإِمَامَيْنِ هُنَا. وَعِنْدَهُمَا لَمَّا عَتَقَ كُلُّهُ بِعِتْقِ ثُلُثِهِ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ لَا يَتَجَزَّأُ عِنْدَهُمَا بَطَلَتْ الْكِتَابَةُ وَبَطَلَ الْأَجَلُ لِأَنَّهُ مِنْ خَصَائِصِ الْكِتَابَةِ وَبَقِيَ أَصْلُ الْمَالِ عَلَيْهِ غَيْرَ مُؤَجَّلٍ إلَخْ.
وَلَوْ أَبْقَى تَأْجِيلَهَا لَزِمَ أَنْ لَا يَتِمَّ قَوْلُهُمَا فَتَخْتَارَ الْأَقَلَّ لَا مَحَالَةَ، فَلَا مَعْنَى لِلتَّخْيِيرِ لِجَوَازِ أَنْ تَخْتَارَ الْأَكْثَرَ الْمُؤَجَّلَ لِكَوْنِ أَدَائِهِ أَيْسَرَ مِنْ أَدَاءِ الْأَقَلِّ الْمُعَجَّلِ كَمَا مَرَّ فِي بَيَانِ دَلِيلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَيَكُونُ هَذَا هُوَ الْمَعْنَى لِلتَّخْيِيرِ فَلَا تَنْقَطِعُ مَادَّةُ الْإِشْكَالِ (قَوْلُهُ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَلْتَزِمُ الْمَالَ بِمُقَابَلَةِ مَا يَسْتَحِقُّ حُرِّيَّتَهُ) أَقُولُ: لِمَانِعٍ أَنْ يَمْنَعَ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ، فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ مُجَرَّدِ اسْتِحْقَاقِ الْحُرِّيَّةِ حَقِيقَةُ الْحُرِّيَّةِ، وَالثَّابِتُ فِي الْمُدَبَّرَةِ فِي الْحَالِ مُجَرَّدُ اسْتِحْقَاقِ الْحُرِّيَّةِ دُونَ حَقِيقَتِهَا فَجَازَ أَنْ يَحْتَاجَ إلَى اسْتِفَادَةِ حَقِيقَتِهَا عَاجِلًا فَتَلْتَزِمُ الْمَالَ بِمُقَابِلَتِهَا؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمَوْلَى أَنْ يُكَاتِبَ أُمَّ وَلَدِهِ بِالْإِجْمَاعِ مَعَ اسْتِحْقَاقِهَا حُرِّيَّةَ الْكُلِّ
وَالْكِتَابَةُ وَإِنْ كَانَتْ لَازِمَةً فِي جَانِبِ الْمَوْلَى وَلَكِنَّهُ يُفْسَخُ بِرِضَا الْعَبْدِ وَالظَّاهِرُ رِضَاهُ تَوَسُّلًا إلَى عِتْقِهِ بِغَيْرِ بَدَلٍ مَعَ سَلَامَةِ الْأَكْسَابِ لَهُ لِأَنَّا نُبْقِي الْكِتَابَةَ فِي حَقِّهِ.
قَالَ (وَإِنْ كَاتَبَهُ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ إلَى سَنَةٍ فَصَالَحَهُ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ مُعَجَّلَةٍ فَهُوَ جَائِزٌ) اسْتِحْسَانًا. وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ اعْتِيَاضٌ عَنْ الْأَجَلِ وَهُوَ لَيْسَ بِمَالٍ وَالدَّيْنُ مَالٌ فَكَانَ رِبًا، وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ مِثْلُهُ فِي الْحُرِّ
قَطْعًا لِعِتْقِهَا عِنْدَ مَوْتِ مَوْلَاهَا مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ دُونَ ثُلُثِهِ، فَإِذَا جَازَ الْتِزَامُ الْمَالِ مِنْ أُمِّ الْوَلَدِ بِمُقَابَلَةِ مَا تَسْتَحِقُّ حُرِّيَّتَهُ كُلًّا لِلِاحْتِيَاجِ إلَى اسْتِفَادَةِ الْحُرِّيَّةِ قَبْلَ مَوْتِ الْمَوْلَى كَمَا مَرَّ، فَلَأَنْ جَازَ ذَلِكَ مِنْ الْمُدَبَّرَةِ بِمُقَابَلَةِ مَا تَسْتَحِقُّ حُرِّيَّتَهُ بَعْضًا لِتِلْكَ الْعِلَّةِ بِعَيْنِهَا أَوْلَى كَمَا لَا يَخْفَى فَلْيُتَأَمَّلْ.
وَاسْتَشْكَلَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ هَذَا التَّعْلِيلَ بِوَجْهٍ آخَرَ حَيْثُ قَالَ: لَا يَتَمَشَّى عَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ فَإِنَّهُ اسْتَحَقَّ حُرِّيَّةَ الْكُلِّ عِنْدَهُ لِعَدَمِ تَجَزُّؤِ الْإِعْتَاقِ اهـ. أَقُولُ: ذَاكَ سَاقِطٌ لِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمُدَبَّرَ وَالْمُدَبَّرَةَ يَسْتَحِقَّانِ بِالتَّدْبِيرِ حُرِّيَّةَ الْكُلِّ عِنْدَهُ، بَلْ الظَّاهِرُ أَنَّهُمَا يَسْتَحِقَّانِ بِهِ حُرِّيَّةَ الثُّلُثِ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا وَلِهَذَا يُعْتَقَانِ عِنْدَ مَوْتِ الْمَوْلَى مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ وَيَسْعَيَانِ فِي ثُلُثِهِمَا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُمَا بِالْإِجْمَاعِ، وَثُبُوتُ عِتْقِ الْكُلِّ بِعِتْقِ الْبَعْضِ عِنْدَ مَوْتِ الْمَوْلَى عَلَى أَصْلِ الْإِمَامَيْنِ وَهُوَ عَدَمُ تَجَزُّؤِ الْإِعْتَاقِ لَا يُنَافِي اسْتِحْقَاقَ حُرِّيَّةِ الثُّلُثِ بِنَفْسِ التَّدْبِيرِ عِنْدَهُمَا أَيْضًا.
وَلَئِنْ سَلِمَ اسْتِحْقَاقُ الْمُدَبَّرِ وَالْمُدَبَّرَةِ بِنَفْسِ التَّدْبِيرِ حُرِّيَّةَ الْكُلِّ عِنْدَهُمَا فَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ لِأَنَّهَا اسْتَحَقَّتْ حُرِّيَّةَ الثُّلُثِ ظَاهِرًا هُوَ أَنَّهَا اسْتَحَقَّتْهَا مَجَّانًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَلْزَمَهَا سِعَايَةٌ فِي ذَلِكَ الثُّلُثِ كَمَا تَلْزَمُهَا فِي الثُّلُثَيْنِ الْآخَرَيْنِ، وَبِقَوْلِهِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَلْتَزِمُ الْمَالَ بِمُقَابَلَةِ مَا يَسْتَحِقُّ حُرِّيَّتَهُ هُوَ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَلْتَزِمُ الْمَالَ بِمُقَابَلَةِ مَا يَسْتَحِقُّ حُرِّيَّتَهُ مَجَّانًا، بِخِلَافِ مَا لَا يَسْتَحِقُّ حُرِّيَّتَهُ أَوْ يَسْتَحِقُّهَا وَلَكِنْ يَلْزَمُهُ أَدَاءُ مَالِ السِّعَايَةِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَلْتَزِمَ الْمَالَ بِمُقَابَلَتِهِ.
وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى يَتَمَشَّى عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْلِ أَبِي يُوسُفَ أَيْضًا تَفَكَّرْ تَفْهَمْ.
(قَوْلُهُ وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ اعْتِيَاضٌ عَنْ الْأَجَلِ وَهُوَ لَيْسَ بِمَالٍ وَالدَّيْنُ مَالٌ فَكَانَ رِبًا) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَحَلِّ: وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ لِأَنَّ هَذَا الصُّلْحَ اعْتِيَاضٌ عَمَّا لَيْسَ بِمَالٍ بِمَا هُوَ مَالٌ، لِأَنَّ الْأَجَلَ لَيْسَ بِمَالٍ وَالدَّيْنُ مَالٌ، وَذَلِكَ فِي عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ لَا يَجُوزُ وَعَقْدُ الْكِتَابَةِ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ، وَإِذَا لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ كَانَ خَمْسُمِائَةٍ بَدَلًا عَنْ أَلْفٍ وَذَلِكَ رِبًا اهـ كَلَامُهُ.
وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: أَشَارَ بِقَوْلِهِ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ وَذَلِكَ فِي عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ لَا يَجُوزُ إلَى قَوْلِهِ اعْتِيَاضٌ عَمَّا لَيْسَ بِمَالٍ بِمَا هُوَ مَالٌ، وَلَكِنَّهُ مَنْقُوضٌ بِالْمَهْرِ وَالْمَالِ الْمُقَابَلِ بِالطَّلَاقِ
وَمُكَاتَبِ الْغَيْرِ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْأَجَلَ فِي حَقِّ الْمُكَاتَبِ مَالٌ مِنْ وَجْهٍ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْأَدَاءِ إلَّا بِهِ فَأُعْطِيَ لَهُ حُكْمُ الْمَالِ، وَبَدَلُ الْكِتَابَةِ مَالٌ مِنْ وَجْهٍ حَتَّى لَا تَصِحَّ الْكَفَالَةُ بِهِ فَاعْتَدَلَا فَلَا يَكُونُ رِبًا، وَلِأَنَّ عَقْدَ الْكِتَابَةِ عَقْدٌ مِنْ وَجْهٍ
إلَّا أَنْ يُقَالَ ذَلِكَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ بِالنَّصِّ اهـ.
أَقُولُ: لَيْسَ ذَلِكَ مَنْقُوضًا بِالْمَهْرِ وَالْمَالِ الْمُقَابَلِ بِالطَّلَاقِ، لِأَنَّ الْمُرَادَ بِعَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ فِي قَوْلِهِ وَذَلِكَ فِي عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ لَا يَجُوزُ مَا ذُكِرَ الْعِوَضُ فِيهِ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ فَيَخْرُجُ مِنْهُ النِّكَاحُ وَالطَّلَاقُ عَلَى مَالٍ وَنَحْوُهُمَا، لِأَنَّ ذِكْرَ الْعِوَضِ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ. وَقَدْ صَرَّحَ الشُّرَّاحُ بِمِثْلِ هَذَا الْمَعْنَى فِي صَدْرِ كِتَابِ الْمُكَاتَبِ حَيْثُ قَالُوا: أَوْرَدَ عَقْدَ الْكِتَابَةِ بَعْدَ عَقْدِ الْإِجَارَةِ لِمُنَاسَبَةِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَقْدٌ يُسْتَفَادُ بِهِ الْمَالُ بِمُقَابَلَةِ مَا لَيْسَ بِمَالٍ عَلَى وَجْهٍ يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى ذِكْرِ الْعِوَضِ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ. وَقَالُوا: خَرَجَ بِقَوْلِنَا مَا لَيْسَ بِمَالٍ الْبَيْعُ وَالْهِبَةُ بِشَرْطِ الْعِوَضِ. وَخَرَجَ بِقَوْلِنَا بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ النِّكَاحُ وَالطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ عَلَى مَالٍ. فَإِنَّ ذِكْرَ الْعِوَضِ فِيهَا لَيْسَ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ اهـ.
ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: لَا يُقَالُ هَلَّا جُعِلَتْ إسْقَاطًا لِبَعْضِ الْحَقِّ لِيَجُوزَ لِأَنَّ الْإِسْقَاطَ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ فِي الْمُسْتَحَقِّ وَالْمُعَجَّلُ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحَقًّا اهـ. وَقَالَ ذَلِكَ الْبَعْضُ مِنْ الْفُضَلَاءِ: لَوْ صَحَّ هَذَا لَمْ تَجُزْ هِبَةُ الْمَهْرِ الْمُؤَجَّلِ وَإِسْقَاطُ الدُّيُونِ الْمُؤَجَّلَةِ اهـ.
أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا بِسَدِيدٍ، لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا هُوَ الْمُؤَجَّلُ، وَالْمُسْقَطُ أَيْضًا هُوَ الْمُؤَجَّلُ، وَلَيْسَ هُنَاكَ شَرْطُ شَيْءٍ مُعَجَّلٍ فِي الْمُقَابَلَةِ فَلَمْ يُوجَدْ التَّصَرُّفُ فِي غَيْرِ الْمُسْتَحَقِّ أَصْلًا، بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ فَإِنَّ الْخَمْسَمِائَةِ الْمُعَجَّلَةَ الَّتِي وَقَعَ عَلَيْهَا الصُّلْحُ لَيْسَتْ بِمُسْتَحَقَّةٍ بِعَقْدِ الْكِتَابَةِ فَلَمْ يُمْكِنْ حَمْلُ الصُّلْحِ إسْقَاطًا لِبَعْضِ الْحَقِّ وَاسْتِيفَاءً لِبَعْضِهِ الْآخَرِ، فَإِنَّ الْإِسْقَاطَ وَالِاسْتِيفَاءَ إنَّمَا يَتَحَقَّقَانِ فِي الْمُسْتَحَقِّ وَالْمُعَجَّلِ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحَقًّا فَلَا يُمْكِنُ الِاسْتِيفَاءُ. نَعَمْ لَوْ قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ لَا يُقَالُ هَلَّا جَعَلْت الصُّلْحَ إسْقَاطًا لِبَعْضِ الْحَقِّ وَاسْتِيفَاءً لِبَعْضِهِ الْآخَرِ لِأَنَّ الْإِسْقَاطَ وَالِاسْتِيفَاءَ إنَّمَا يَتَحَقَّقَانِ فِي الْمُسْتَحَقِّ وَالْمُعَجَّلِ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحَقًّا لَكَانَ أَظْهَرَ، لِأَنَّ تَأْثِيرَ قَوْلِهِ وَالْمُعَجَّلُ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحَقًّا فِي حَقِّ انْتِفَاءِ الِاسْتِيفَاءِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ دُونَ انْتِفَاءِ الْإِسْقَاطِ فِيهِ كَمَا لَا يَخْفَى، وَعَنْ هَذَا قَالَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ فِي شَرْحِ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ لِأَنَّهُ اعْتِيَاضٌ عَنْ الْأَجَلِ، لِأَنَّ الْمُعَجَّلَ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ بِالسَّبَبِ السَّابِقِ فَلَا يُمْكِنُ جَعْلُ الصُّلْحِ إسْقَاطًا لِلْبَعْضِ وَاسْتِيفَاءً لِلْبَعْضِ، فَلَوْ جُعِلَ إنَّمَا يُجْعَلُ اعْتِيَاضًا عَنْ الْخَمْسِمِائَةِ بِخَمْسِمِائَةٍ وَعَنْ الْأَجَلِ بِخَمْسِمِائَةٍ أُخْرَى، وَالِاعْتِيَاضُ عَنْ الْأَجَلِ لَا يَجُوزُ اهـ (قَوْلُهُ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْأَجَلَ فِي حَقِّ الْمُكَاتَبِ مَالٌ مِنْ وَجْهٍ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْأَدَاءِ إلَّا بِهِ) قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: فِيهِ مُنَاقَشَةٌ ظَاهِرَةٌ،
دُونَ وَجْهٍ وَالْأَجَلُ رِبًا مِنْ وَجْهٍ فَيَكُونُ شُبْهَةَ الشُّبْهَةِ، بِخِلَافِ الْعَقْدِ بَيْنَ الْحُرَّيْنِ لِأَنَّهُ عَقْدٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَكَانَ رِبًا وَالْأَجَلُ فِيهِ شُبْهَةٌ.
قَالَ (وَإِذَا كَاتَبَ الْمَرِيضُ عَبْدَهُ عَلَى أَلْفَيْ دِرْهَمٍ إلَى سَنَةٍ وَقِيمَتُهُ أَلْفٌ ثُمَّ مَاتَ وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُ وَلَمْ تُجِزْ الْوَرَثَةُ فَإِنَّهُ يُؤَدِّي ثُلُثَيْ الْأَلْفَيْنِ حَالًّا وَالْبَاقِيَ إلَى أَجَلِهِ أَوْ يُرَدُّ رَقِيقًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يُؤَدِّي ثُلُثَيْ الْأَلْفِ حَالًّا وَالْبَاقِيَ إلَى أَجَلِهِ)
لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَتْرُكَ الزِّيَادَةَ بِأَنْ يُكَاتِبَهُ عَلَى قِيمَتِهِ فَلَهُ أَنْ يُؤَخِّرَهَا وَصَارَ كَمَا إذَا خَالَعَ الْمَرِيضُ امْرَأَتَهُ عَلَى أَلْفٍ إلَى سَنَةٍ جَازَ، لِأَنَّ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا بِغَيْرِ بَدَلٍ، وَلَهُمَا أَنَّ جَمِيعَ الْمُسَمَّى بَدَلُ الرَّقَبَةِ حَتَّى أُجْرِيَ عَلَيْهَا أَحْكَامُ الْأَبْدَالِ وَحَقُّ الْوَرَثَةِ مُتَعَلِّقٌ بِالْمُبْدَلِ فَكَذَا بِالْبَدَلِ، وَالتَّأْجِيلُ إسْقَاطٌ مَعْنًى فَيُعْتَبَرُ مِنْ ثُلُثِ الْجَمِيعِ، بِخِلَافِ الْخُلْعِ لِأَنَّ الْبَدَلَ فِيهِ لَا يُقَابِلُ الْمَالَ فَلَمْ يَتَعَلَّقْ حَقُّ الْوَرَثَةِ بِالْمُبْدَلِ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِالْبَدَلِ، وَنَظِيرُ هَذَا إذَا بَاعَ الْمَرِيضُ دَارِهِ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ إلَى سَنَةٍ وَقِيمَتُهَا أَلْفٌ ثُمَّ مَاتَ وَلَمْ تُجِزْ الْوَرَثَةُ فَعِنْدَهُمَا يُقَالُ لِلْمُشْتَرِي أَدِّ ثُلُثَيْ جَمِيعِ الثَّمَنِ حَالًّا وَالثُّلُثَ إلَى أَجَلِهِ وَإِلَّا فَانْقُضْ الْبَيْعَ، وَعِنْدَهُ يُعْتَبَرُ الثُّلُثُ بِقَدْرِ الْقِيمَةِ لَا فِيمَا زَادَ عَلَيْهِ لِمَا بَيَّنَّا مِنْ الْمَعْنَى، قَالَ (وَإِنْ كَاتَبَهُ عَلَى أَلْفٍ إلَى سَنَةٍ وَقِيمَتُهُ أَلْفَانِ وَلَمْ تُجِزْ الْوَرَثَةُ يُقَالُ لَهُ أَدِّ ثُلُثَيْ الْقِيمَةِ حَالًّا أَوْ تُرَدُّ رَقِيقًا فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا) لِأَنَّ الْمُحَابَاةَ هَاهُنَا فِي الْقَدْرِ وَالتَّأْخِيرِ فَاعْتُبِرَ الثُّلُثُ فِيهِمَا.
إذْ قَدْ سَبَقَ أَنَّ الِاسْتِقْرَاضَ جَائِزٌ وَبِذَلِكَ الِاعْتِبَارِ صَحَّ الْكِتَابَةُ الْحَالَّةُ فَلْيُتَأَمَّلْ اهـ.
أَقُولُ: هَذِهِ الْمُنَاقَشَةُ إنَّمَا تُظْهِرُ أَنْ لَوْ أَرَادُوا بِنَفْيِ الْقُدْرَةِ عَلَى الْأَدَاءِ إلَّا بِهِ نَفْيَ الْقُدْرَةِ الْمُمْكِنَةِ وَهِيَ أَدْنَى مَا يَتَمَكَّنُ بِهِ مِنْ الْأَدَاءِ، وَأَمَّا إذَا أَرَادُوا بِذَلِكَ نَفْيَ الْقُدْرَةِ الْمُيَسَّرَةِ وَهِيَ مَا يُوجِبُ
بَابُ مَنْ يُكَاتِبُ عَنْ الْعَبْدِ
قَالَ (وَإِذَا كَاتَبَ الْحُرُّ عَنْ عَبْدٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، فَإِنْ أَدَّى عَنْهُ عَتَقَ، وَإِنْ بَلَغَ الْعَبْدُ فَقَبِلَ فَهُوَ مُكَاتَبٌ) وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يَقُولَ الْحُرُّ لِمَوْلَى الْعَبْدِ كَاتِبْ عَبْدَك عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنِّي إنْ أَدَّيْت إلَيْك أَلْفًا فَهُوَ حُرٌّ فَكَاتَبَهُ الْمَوْلَى عَلَى هَذَا يُعْتَقُ بِأَدَائِهِ بِحُكْمِ الشَّرْطِ، وَإِذَا قَبِلَ الْعَبْدُ صَارَ مُكَاتَبًا، لِأَنَّ الْكِتَابَةَ كَانَتْ مَوْقُوفَةٌ عَلَى إجَارَتِهِ وَقَبُولُهُ إجَازَةٌ، وَلَوْ لَمْ يَقُلْ عَلَى أَنِّي إنْ أَدَّيْت إلَيْك أَلْفًا فَهُوَ حُرٌّ فَأَدَّى لَا يُعْتَقُ قِيَاسًا لِأَنَّهُ لَا شَرْطَ وَالْعَقْدُ مَوْقُوفٌ عَلَى إجَازَةِ الْعَبْدِ.
وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يُعْتَقُ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ لِلْعَبْدِ الْغَائِبِ فِي تَعْلِيقِ الْعِتْقِ بِأَدَاءِ الْقَائِلِ فَيَصِحُّ فِي حَقِّ هَذَا الْحُكْمِ وَيُتَوَقَّفُ فِي حَقِّ لُزُومِ الْأَلْفِ عَلَى الْعَبْدِ. وَقِيلَ هَذِهِ هِيَ صُورَةُ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ (وَلَوْ أَدَّى الْحُرُّ الْبَدَلَ
الْيُسْرَ عَلَى الْأَدَاءِ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ فَلَا يَكُونُ لِلْمُنَاقَشَةِ مَجَالٌ لِظُهُورِ أَنَّ الْيُسْرَ عَلَى الْأَدَاءِ فِي حَقِّ الْمُكَاتَبِ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ بِالْأَجَلِ لِأَنَّهُ يَخْرُجُ عَنْ يَدِ الْمَوْلَى مُفْلِسًا فَيَمْتَنِعُ النَّاسُ غَالِبًا عَنْ إقْرَاضِهِ الْمَالَ فِي الْحَالِ فَيَعْسُرُ الْأَدَاءُ عَلَيْهِ جِدًّا بِدُونِ الْأَجَلِ وَإِنْ أَمْكَنَ فِي الْجُمْلَةِ.
عَلَى أَنَّ الْمُصَنِّفَ وَأَضْرَابَهُ لَمْ يَتَشَبَّثُوا فِي تَعْلِيلِ صِحَّةِ الْكِتَابَةِ الْحَالَّةِ عِنْدَنَا بِجَوَازِ الِاسْتِقْرَاضِ، بَلْ قَالُوا: إنَّ عَقْدَ الْكِتَابَةِ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ وَالْبَدَلُ مَعْقُودٌ بِهِ فَأَشْبَهَ الثَّمَنَ فِي الْبَيْعِ فِي عَدَمِ اشْتِرَاطِ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، وَأَنَّ مَبْنَى الْكِتَابَةِ عَلَى الْمُسَاهَلَةِ فَيُمْهِلُهُ الْمَوْلَى، وَمَتَى امْتَنَعَ مِنْ الْأَدَاءِ فِي الْحَالِ يُرَدُّ إلَى الرِّقِّ اهـ فَلَمْ يَتِمَّ قَوْلُ ذَلِكَ الْمُنَاقِشِ، وَبِذَلِكَ الِاعْتِبَارِ صَحَّ الْكِتَابَةُ الْحَالَّةُ فَتَدَبَّرْ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(بَابُ مِنْ يُكَاتَبُ عَنْ الْعَبْدِ)
لَا يَرْجِعُ عَلَى الْعَبْدِ) لِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ.
قَالَ (وَإِذَا كَاتَبَ الْعَبْدُ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ عَبْدٍ آخَرَ لِمَوْلَاهُ وَهُوَ غَائِبٌ، فَإِنْ أَدَّى الشَّاهِدُ أَوْ الْغَائِبُ عَتَقَا) وَمَعْنَى الْمَسْأَلَةِ أَنْ يَقُولَ الْعَبْدُ كَاتِبْنِي بِأَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَى نَفْسِي وَعَلَى فُلَانٍ الْغَائِبِ، وَهَذِهِ كِتَابَةٌ جَائِزَةٌ اسْتِحْسَانًا.
وَفِي الْقِيَاسِ: يَصِحُّ عَلَى نَفْسِهِ لِوِلَايَتِهِ عَلَيْهَا وَيُتَوَقَّفُ فِي حَقِّ الْغَائِبِ لِعَدَمِ الْوِلَايَةِ عَلَيْهِ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْحَاضِرَ بِإِضَافَةِ الْعَقْدِ إلَى نَفْسِهِ ابْتِدَاءً جَعَلَ نَفْسَهُ فِيهِ أَصْلًا وَالْغَائِبُ تَبَعًا، وَالْكِتَابَةُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مَشْرُوعَةٌ كَالْأَمَةِ إذَا كُوتِبَتْ دَخَلَ أَوْلَادُهَا فِي كِتَابَتِهَا تَبَعًا حَتَّى عَتَقُوا بِأَدَائِهَا وَلَيْسَ عَلَيْهِمْ مِنْ الْبَدَلِ شَيْءٌ وَإِذَا أَمْكَنَ تَصْحِيحُهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَنْفَرِدُ بِهِ الْحَاضِرُ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ بِكُلِّ الْبَدَلِ لِأَنَّ الْبَدَلَ عَلَيْهِ لِكَوْنِهِ أَصْلًا فِيهِ، وَلَا يَكُونُ عَلَى الْغَائِبِ مِنْ الْبَدَلِ شَيْءٌ لِأَنَّهُ تَبَعٌ فِيهِ.
قَالَ (وَأَيُّهُمَا أَدَّى عَتَقَا وَيُجْبَرُ الْمَوْلَى عَلَى الْقَبُولِ) أَمَّا الْحَاضِرُ فَلِأَنَّ الْبَدَلَ عَلَيْهِ. وَأَمَّا الْغَائِبُ فَلِأَنَّهُ يَنَالُ بِهِ شَرَفَ الْحُرِّيَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْبَدَلُ عَلَيْهِ وَصَارَ كَمُعِيرِ الرَّهْنِ إذَا أَدَّى الدَّيْنَ يُجْبَرُ الْمُرْتَهِنُ عَلَى الْقَبُولِ لِحَاجَتِهِ إلَى اسْتِخْلَاصِ عَيْنِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الدَّيْنُ عَلَيْهِ. قَالَ (وَأَيُّهُمَا أَدَّى لَا يَرْجِعُ عَلَى صَاحِبِهِ) لِأَنَّ الْحَاضِرَ قَضَى دَيْنًا عَلَيْهِ وَالْغَائِبُ مُتَبَرِّعٌ بِهِ غَيْرُ مُضْطَرٍّ إلَيْهِ.
لَمَّا فَرَغَ مِنْ ذِكْرِ أَحْكَامٍ تَتَعَلَّقُ بِالْأَصْلِ فِي الْكِتَابَةِ ذَكَرَ فِي هَذَا الْبَابِ أَحْكَامًا تَتَعَلَّقُ بِالنَّائِبِ فِيهَا، وَقَدَّمَ أَحْكَامَ الْأَصِيلِ لِأَنَّ
قَالَ (وَلَيْسَ لِلْمَوْلَى أَنْ يَأْخُذَ الْغَائِبَ بِشَيْءٍ) لِمَا بَيَّنَّا (فَإِنْ قَبِلَ الْعَبْدُ الْغَائِبُ أَوْ لَمْ يَقْبَلْ فَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْهُ بِشَيْءٍ، وَالْكِتَابَةُ لَازِمَةٌ لِلشَّاهِدِ) لِأَنَّ الْكِتَابَةَ نَافِذَةٌ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ قَبُولِ الْغَائِبِ فَلَا تَتَغَيَّرُ بِقَبُولِهِ، كَمَنْ كَفَلَ عَنْ غَيْرِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَبَلَغَهُ فَأَجَازَهُ لَا يَتَغَيَّرُ حُكْمُهُ، حَتَّى لَوْ أَدَّى لَا يُرْجَعُ عَلَيْهِ، كَذَا هَذَا.
قَالَ (وَإِذَا كَاتَبَتْ الْأَمَةُ عَنْ نَفْسِهَا وَعَنْ ابْنَيْنِ لَهَا صَغِيرَيْنِ فَهُوَ جَائِزٌ، وَأَيُّهُمْ أَدَّى لَمْ يَرْجِعْ عَلَى صَاحِبِهِ وَيُجْبَرُ الْمَوْلَى عَلَى الْقَبُولِ وَيُعْتَقُونَ) لِأَنَّهَا جَعَلَتْ نَفْسَهَا أَصْلًا فِي الْكِتَابَةِ وَأَوْلَادَهَا تَبَعًا عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى وَهِيَ أَوْلَى بِذَلِكَ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ.
الْأَصْلَ فِي تَصَرُّفِ الْمَرْءِ أَنْ يَكُونَ لِنَفْسِهِ
(قَوْلُهُ وَهِيَ أَوْلَى بِذَلِكَ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ) يَعْنِي أَنَّ هَذَا الْعَقْدَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَجُوزُ فِي حَقِّ الْأَجْنَبِيِّ، فَلَأَنْ يَجُوزَ فِي حَقِّ وَلَدِهَا أَوْلَى لِأَنَّ وَلَدَهَا أَقْرَبُ إلَيْهَا مِنْ الْأَجْنَبِيِّ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ.
قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ ذَلِكَ: وَأَقُولُ لَعَلَّهُ إشَارَةٌ إلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ بَعْضُ الْمَشَايِخِ أَنَّ ثُبُوتَ الْجَوَازِ هَاهُنَا قِيَاسٌ وَاسْتِحْسَانٌ، لِأَنَّ الْوَلَدَ تَابِعٌ لَهَا، بِخِلَافِ الْأَجْنَبِيِّ وَأَرَى أَنَّهُ الْحَقُّ اهـ.
وَأَنَا أَقُولُ: أَرَى أَنَّ الْحَقَّ خِلَافُهُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ ثُبُوتُ الْجَوَازِ هَاهُنَا أَيْضًا عَلَى وَجْهِ الِاسْتِحْسَانِ دُونَ الْقِيَاسِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ قَاضِي خَانْ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، وَمَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْكَافِي وَبَعْضٌ مِنْ شُرَّاحِ هَذَا الْكِتَابِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ ذَهَبَ إلَى أَنَّ ثُبُوتَ الْجَوَازِ هَاهُنَا عَلَى وَجْهِ الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ إنْ أَرَادَ بِوَجْهِ الْقِيَاسِ هَاهُنَا كَوْنَ الْوَلَدِ تَابِعًا لِلْأُمِّ فِي الْكِتَابَةِ مُطْلَقًا كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ لِأَنَّ الْوَلَدَ تَابِعٌ لَهَا، بِخِلَافِ الْأَجْنَبِيِّ فَلَيْسَ بِتَامٍّ، لِأَنَّ تَبَعِيَّةَ الْوَلَدِ لِلْأُمِّ فِي الْكِتَابَةِ مُطْلَقًا إنَّمَا تَكُونُ فِي الْوَلَدِ الَّذِي وَلَدَتْهُ فِي حَالِ الْكِتَابَةِ وَالْوَلَدِ الَّذِي اشْتَرَتْهُ فِي حَالِ الْكِتَابَةِ لَا فِي الْوَلَدِ الَّذِي وَلَدَتْهُ قَبْلَ الْكِتَابَةِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ أَحَاطَ بِمَسَائِلِ كِتَابِ الْمُكَاتَبِ خَبَرًا. وَلَا شَكَّ أَنَّ وَضْعَ مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ فِي كِتَابَةِ الْأَمَةِ عَنْ نَفْسِهَا وَعَنْ ابْنَيْنِ لَهَا مَوْلُودَيْنِ قَبْلَ الْكِتَابَةِ فَلَا يُتَصَوَّرُ هَاهُنَا التَّبَعِيَّةُ الْمُطْلَقَةُ، وَأَمَّا التَّبَعِيَّةُ الْحَاصِلَةُ بِالضَّمِّ إلَيْهَا فِي عَقْدِ الْكِتَابَةِ فَمِثْلُ هَذِهِ التَّبَعِيَّةِ مُتَحَقِّقَةٌ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى أَيْضًا بِلَا تَفَاوُتٍ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْمُصَنِّفُ هُنَاكَ.
وَقَالَ هَاهُنَا لِأَنَّهَا جُعِلَتْ
بَابُ كِتَابَةِ الْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ
قَالَ (وَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ أَذِنَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ أَنْ يُكَاتِبَ نَصِيبَهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَيَقْبِضَ بَدَلَ الْكِتَابَةِ فَكَاتَبَ وَقَبَضَ بَعْضَ الْأَلْفِ ثُمَّ عَجَزَ فَالْمَالُ لِلَّذِي قَبَضَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: هُوَ مُكَاتَبٌ بَيْنَهُمَا وَمَا أَدَّى
نَفْسُهَا أَصْلًا فِي الْكِتَابَةِ وَأَوْلَادُهَا تَبَعًا عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى اهـ مَعَ أَنَّ ثُبُوتَ الْجَوَازِ هُنَاكَ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِحْسَانِ دُونَ الْقِيَاسِ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنْ أَرَادَ بِوَجْهِ الْقِيَاسِ هَاهُنَا ثُبُوتَ وِلَايَةِ الْمُكَاتَبَةِ عَلَى أَوْلَادِهَا كَثُبُوتِهَا عَلَى نَفْسِهَا فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، إذْ قَدْ صَرَّحُوا قَاطِبَةً بِأَنَّ الْأُمَّ الْحُرَّةَ لَا وِلَايَةَ لَهَا عَلَى أَوْلَادِهَا فَكَيْفَ بِالْأَمَةِ، وَقَالُوا: هَذَا هُوَ السِّرُّ فِي وَضْعِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي الْأَمَةِ.
إذْ لَوْ وَضَعَهَا فِي الْعَبْدِ لَرُبَّمَا تُوُهِّمَ أَنَّ الْجَوَازَ لِثُبُوتِ وِلَايَةِ الْأَبِ عَلَيْهِمَا فَلَا يُعْلَمُ تَسَاوِي الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ فِي حُكْمِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
بَابُ كِتَابَةِ الْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ)
لَمَّا فَرَغَ مِنْ كِتَابَةِ عَبْدٍ غَيْرِ مُشْتَرَكٍ شَرَعَ فِي كِتَابَةِ الْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الِاشْتِرَاكِ كَذَا فِي غَايَةِ الْبَيَانِ.
وَقَالَ أَكْثَرُ الشُّرَّاحِ: ذَكَرَ كِتَابَةَ الِاثْنَيْنِ بَعْدَ كِتَابَةِ الْوَاحِدِ لِأَنَّ الِاثْنَيْنِ بَعْدَ الْوَاحِدِ. أَقُولُ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ هُوَ الرَّاجِحُ، لِأَنَّ الْوَجْهَ الثَّانِي لَا يَتَمَشَّى فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى مِنْ هَذَا الْبَابِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، بِخِلَافِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ تَأَمَّلْ تَقِفْ (قَوْلُهُ وَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ) قَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ: وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ وَهِيَ أَوْلَى اهـ. أَقُولُ: وَجْهُ الْأَوْلَوِيَّةِ أَنَّ حُكْمَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَعُمُّ مَا إذَا كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ وَمَا إذَا كَانَ بَيْنَ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ أَوْ بَيْنَ امْرَأَتَيْنِ، وَلَفْظُ شَرِيكَيْنِ يَنْتَظِمُ الْكُلَّ.
إمَّا بِجَعْلِ الشَّرِيكِ فَعِيلًا بِمَعْنَى مَفْعُولٍ مِنْ شَرِكَهُ فِي كَذَا فَإِنَّ كُلًّا مِنْ الْمُتَشَارِكَيْنِ فِي أَمْرٍ شَارِكٌ فِيهِ وَمَشْرُوكٌ وَالْفَعِيلُ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ يَسْتَوِي فِيهِ الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ، أَوْ بِصَيْرُورَةِ لَفْظِ الشَّرِيكِ مِنْ عِدَادِ الْأَسْمَاءِ الْجَامِدَةِ كَمَا قَالُوا فِي لَفْظِ التَّابِعِ وَنَحْوِهِ حَتَّى جَعَلُوا التَّوَابِعَ جَمْعَ تَابِعٍ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ فَيَتَنَاوَلُ الْمُذَكَّرَ وَالْمُؤَنَّثَ عَلَى السَّوِيَّةِ. ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ الْعِنَايَةِ لَمَّا أَخَذَ بِنُسْخَةِ: بَيْنَ شَرِيكَيْنِ حَيْثُ قَالَ: قَالَ: وَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ فَسَّرَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ قَوْلَهُ شَرِيكَيْنِ بِرَجُلَيْنِ حَيْثُ قَالَ: أَيْ بَيْنَ رَجُلَيْنِ.
أَقُولُ: هَذَا أَمْرٌ عَجِيبٌ إذْ لَا شَكَّ أَنَّ حُكْمَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِمَا إذَا كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَتَخْصِيصُ لَفْظٍ يَتَحَمَّلُ الْعُمُومَ لِلرَّجُلَيْنِ وَغَيْرِهِمَا بِالرَّجُلَيْنِ مِمَّا لَا وَجْهَ
فَهُوَ بَيْنَهُمَا) وَأَصْلُهُ أَنَّ الْكِتَابَةَ تَتَجَزَّأُ عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا بِمَنْزِلَةِ الْإِعْتَاقِ، لِأَنَّهَا تُفِيدُ الْحُرِّيَّةَ مِنْ وَجْهٍ فَتَقْتَصِرُ عَلَى نَصِيبِهِ عِنْدَهُ لِلتَّجَزُّؤِ، وَفَائِدَةُ الْإِذْنِ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ حَقُّ الْفَسْخِ كَمَا يَكُونُ لَهُ إذَا لَمْ يَأْذَنْ، وَإِذْنُهُ لَهُ بِقَبْضِ الْبَدَلِ إذْنٌ لِلْعَبْدِ بِالْأَدَاءِ فَيَكُونُ مُتَبَرِّعًا بِنَصِيبِهِ عَلَيْهِ فَلِهَذَا كَانَ كُلُّ الْمَقْبُوضِ لَهُ. وَعِنْدَهُمَا الْإِذْنُ بِكِتَابَةِ نَصِيبِهِ إذْنٌ بِكِتَابَةِ الْكُلِّ لِعَدَمِ التَّجَزُّؤِ، فَهُوَ أَصِيلٌ فِي النِّصْفِ وَكِيلٌ فِي النِّصْفِ فَهُوَ بَيْنَهُمَا وَالْمَقْبُوضُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا فَيَبْقَى كَذَلِكَ بَعْدَ الْعَجْزِ.
لَهُ هَاهُنَا أَصْلًا، وَلَوْ فَسَّرَ لَفْظَ رَجُلَيْنِ فِي نُسْخَةٍ بَيْنَ رَجُلَيْنِ بِالشَّرِيكَيْنِ مُطْلَقًا تَغْلِيبًا لِلذُّكُورِ عَلَى الْإِنَاثِ لَكَانَ لَهُ وَجْهٌ وَجِيهٌ لِاقْتِضَاءِ الْمَقَامِ إيَّاهُ فَكَيْفَ بِالْعَكْسِ (قَوْلُهُ وَأَصْلُهُ أَنَّ الْكِتَابَةَ تَتَجَزَّأُ عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا بِمَنْزِلَةِ الْإِعْتَاقِ لِأَنَّهَا تُفِيدُ الْحُرِّيَّةَ مِنْ وَجْهٍ فَتَقْتَصِرُ عَلَى نَصِيبِهِ عِنْدَهُ لِلتَّجَزُّؤِ. وَفَائِدَةُ الْإِذْنِ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ حَقُّ الْفَسْخِ كَمَا يَكُونُ لَهُ إذَا لَمْ يَأْذَنْ)
قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ: وَأَصْلُ هَذَا الِاخْتِلَافِ أَنَّ الْكِتَابَةَ تَتَجَزَّأُ عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا كَالْإِعْتَاقِ لِأَنَّهَا تُفِيدُ الْحُرِّيَّةَ مِنْ وَجْهٍ فَتَقْتَصِرُ عَلَى نَصِيبِهِ عِنْدَهُ، وَالْإِذْنُ لَا يُفِيدُ الِاشْتِرَاكَ فِي الْكِتَابَةِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ فَائِدَتُهُ انْتِفَاءَ مَا كَانَ لَهُ مِنْ حَقِّ الْفَسْخِ إنْ كَاتَبَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ اهـ كَلَامُهُ. وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ وَالْإِذْنُ لَا يُفِيدُ الِاشْتِرَاكَ فِي الْكِتَابَةِ: أَيْ عَلَى مَذْهَبِهِمَا اهـ.
أَقُولُ: هَذَا خَبْطٌ ظَاهِرٌ لِأَنَّ الْإِذْنَ يُفِيدُ الِاشْتِرَاكَ فِي الْكِتَابَةِ عَلَى مَذْهَبِهِمَا قَطْعًا؛ أَلَا يُرَى إلَى قَوْلِهِمَا فِي تَعْلِيلِ مَذْهَبِهِمَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْإِذْنَ بِكِتَابَةِ نَصِيبِهِ إذْنٌ بِكِتَابَةِ الْكُلِّ لِعَدَمِ التَّجَزُّؤِ فَهُوَ أَصِيلٌ فِي النِّصْفِ وَكِيلٌ فِي النِّصْفِ فَهُوَ بَيْنَهُمَا وَالْمَقْبُوضُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا فَيَبْقَى كَذَلِكَ بَعْدَ الْعَجْزِ اهـ. وَلَعَلَّ قَوْلَهُ عَلَى مَذْهَبِهِمَا وَقَعَ سَهْوًا مِنْ قَلَمِ النَّاسِخِ وَكَانَ الصَّحِيحُ عَلَى مَذْهَبِهِ. ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ الْعِنَايَةِ بَعْدَ أَنْ شَرَحَ
قَالَ (وَإِذَا كَانَتْ جَارِيَةٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ كَاتَبَاهَا فَوَطِئَهَا أَحَدُهُمَا فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ ثُمَّ وَطِئَهَا الْآخَرُ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ ثُمَّ عَجَزَتْ فَهِيَ أُمُّ وَلَدٍ لِلْأَوَّلِ) لِأَنَّهُ لَمَّا ادَّعَى أَحَدُهُمَا الْوَلَدَ صَحَّتْ دَعْوَتُهُ لِقِيَامِ الْمِلْكِ لَهُ فِيهَا وَصَارَ نَصِيبُهُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ، لِأَنَّ الْمُكَاتَبَةَ لَا تَقْبَلُ النَّقْلَ مِنْ مِلْكٍ إلَى مِلْكٍ فَتَقْتَصِرُ أُمُومِيَّةُ الْوَلَدِ عَلَى نَصِيبِهِ كَمَا فِي الْمُدَبَّرَةِ الْمُشْتَرَكَةِ، وَإِذَا ادَّعَى الثَّانِي وَلَدَهَا الْأَخِيرَ صَحَّتْ دَعْوَتُهُ لِقِيَامِ مِلْكِهِ ظَاهِرًا، ثُمَّ إذَا عَجَزَتْ بَعْدَ ذَلِكَ جُعِلَتْ الْكِتَابَةُ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ وَتَبَيَّنَ أَنَّ الْجَارِيَةَ كُلَّهَا أُمَّ وَلَدٍ لِلْأَوَّلِ لِأَنَّهُ زَالَ الْمَانِعُ مِنْ الِانْتِقَالِ وَوَطْؤُهُ سَابِقٌ (وَيَضْمَنُ نِصْفَ قِيمَتِهَا) لِأَنَّهُ تَمَلَّكَ نَصِيبَهُ لَمَّا اسْتَكْمَلَ الِاسْتِيلَادَ (وَنِصْفَ عُقْرِهَا) لِوَطْئِهِ جَارِيَةً مُشْتَرَكَةً (وَيَضْمَنُ شَرِيكُهُ كَمَالَ عُقْرِهَا وَقِيمَةَ الْوَلَدِ وَيَكُونُ ابْنَهُ) لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَغْرُورِ، لِأَنَّهُ حِينَ وَطِئَهَا كَانَ مِلْكُهُ قَائِمًا ظَاهِرًا.
دَلِيلَيْ الطَّرَفَيْنِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِالتَّمَامِ قَالَ: وَكَأَنَّ الْمُصَنِّفَ مَالَ إلَى قَوْلِهِمَا حَيْثُ أَخَّرَهُ اهـ.
وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: فِيهِ كَلَامٌ، لِأَنَّهُ يَأْبَى عَنْهُ تَرْجِيحُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي كِتَابِ الْعَتَاقِ اهـ. أَقُولُ: الَّذِي مَرَّ فِي كِتَابِ الْعَتَاقِ مَسْأَلَةُ الْعَتَاقِ وَالْمَذْكُورُ هَاهُنَا مَسْأَلَةُ الْكِتَابَةِ وَاسْتِلْزَامُ تَرْجِيحِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي مَسْأَلَةِ الْإِعْتَاقِ تَرْجِيحَهُ فِي مَسْأَلَةِ الْكِتَابَةِ مَمْنُوعٌ، سِيَّمَا إذَا كَانَتْ كِتَابَةُ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ بِإِذْنِ الْآخَرِ كَمَا نَحْنُ فِيهِ، فَمِنْ أَيْنَ يَثْبُتُ الْإِبَاءُ، وَلَئِنْ سَلِمَ الِاسْتِلْزَامُ بِنَاءً عَلَى كَوْنِ الْأَصْلِ فِي كِلْتَا الْمَسْأَلَتَيْنِ هُوَ التَّجَزُّؤُ وَعَدَمُهُ فَتَرْجِيحُ قَوْلِهِ هُنَاكَ لَمْ يَكُنْ بِالتَّصْرِيحِ بِهِ، بَلْ إنَّمَا فُهِمَ مِنْ تَأْخِيرِ دَلِيلِهِ فِي الْبَيَانِ، وَقَدْ عُكِسَ الْأَمْرُ هَاهُنَا، فَفُهِمَ مِنْهُ تَرْجِيحُ قَوْلِهِمَا لَا مَحَالَةَ، وَلَمَّا وَقَعَ التَّدَافُعُ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ حَمَلْنَا الثَّانِيَ عَلَى الرُّجُوعِ عَنْ الْأَوَّلِ كَمَا هُوَ الْمَخْلَصُ فِي أَمْثَالِ هَذَا فَلَا مَحْذُورَ تَدَبَّرْ
(قَوْلُهُ وَيَضْمَنُ شَرِيكُهُ كَمَالَ الْعُقْرِ وَقِيمَةَ الْوَلَدِ) قِيلَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَضْمَنَ شَرِيكُهُ قِيمَةَ الْوَلَدِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله لِأَنَّ حُكْمَ وَلَدِ أُمِّ الْوَلَدِ حُكْمُ أُمِّهِ، وَلَا قِيمَةَ لِأُمِّ الْوَلَدِ عِنْدَهُ فَكَذَا لِابْنِهَا. وَأُجِيبَ بِأَنَّ هَذَا عَلَى قَوْلِهِمَا.
وَأَمَّا عَلَى قَوْلِهِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ ضَمَانُ قِيمَةِ الْوَلَدِ. قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ ذِكْرِ ذَاكَ السُّؤَالِ: وَهَذَا الْجَوَابُ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ. أَقُولُ: يَعْنِي أَنَّ هَذَا الْجَوَابَ لَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِيمَا سَيَأْتِي بِقَوْلِهِ وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ كُلُّهُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ يُنَافِي هَذَا الْجَوَابَ قَطْعًا.
ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَقِيلَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي تَقَوُّمِ أُمِّ الْوَلَدِ رِوَايَتَانِ، فَيَكُونُ الْوَلَدُ مُتَقَوِّمًا عَلَى إحْدَاهُمَا فَكَانَ حُرًّا بِالْقِيمَةِ انْتَهَى.
وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ:
وَوَلَدُ الْمَغْرُورِ ثَابِتُ النَّسَبِ مِنْهُ حُرٌّ بِالْقِيمَةِ عَلَى مَا عُرِفَ لَكِنَّهُ وَطِئَ أُمَّ وَلَدِ الْغَيْرِ حَقِيقَةً فَيَلْزَمُهُ كَمَالُ الْعُقْرِ (وَأَيُّهُمَا دَفَعَ الْعُقْرَ إلَى الْمُكَاتَبَةِ جَازَ) لِأَنَّ الْكِتَابَةَ مَا دَامَتْ بَاقِيَةً فَحَقُّ الْقَبْضِ لَهَا لِاخْتِصَاصِهَا بِمَنَافِعِهَا وَأَبْدَالِهَا، وَإِذَا عَجَزَتْ تَرُدُّ الْعُقْرَ إلَى الْمَوْلَى لِظُهُورِ اخْتِصَاصِهِ (وَهَذَا) الَّذِي ذَكَرْنَا (كُلُّهُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: هِيَ أُمُّ وَلَدٍ لِلْأَوَّلِ وَلَا يَجُوزُ وَطْءُ الْآخَرِ)
لِأَنَّهُ لَمَّا ادَّعَى الْأَوَّلُ الْوَلَدَ صَارَتْ كُلُّهَا أُمَّ وَلَدٍ لَهُ لِأَنَّ أُمُومِيَّةَ الْوَلَدِ يَجِبُ تَكْمِيلُهَا بِالْإِجْمَاعِ مَا أَمْكَنَ، وَقَدْ أَمْكَنَ بِفَسْخِ الْكِتَابَةِ لِأَنَّهَا قَابِلَةٌ لِلْفَسْخِ فَتُفْسَخُ فِيمَا لَا تَتَضَرَّرُ بِهِ الْمُكَاتَبَةُ وَتَبْقَى الْكِتَابَةُ فِيمَا وَرَاءَهُ، بِخِلَافِ التَّدْبِيرِ لِأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ الْفَسْخَ، وَبِخِلَافِ بَيْعِ الْمُكَاتَبِ لِأَنَّ فِي تَجْوِيزِهِ إبْطَالَ الْكِتَابَةِ إذْ الْمُشْتَرِي
هَذَا مُخَالِفٌ لِمَا أَسْلَفَهُ الشَّارِحُ فِي بَابِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ مِنْ أَنَّ الرِّوَايَتَيْنِ فِي حَقِّ الْمُدَبَّرِ، وَأَمَّا فِي حَقِّ أُمِّ الْوَلَدِ فَاتَّفَقَتْ الرِّوَايَاتُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ بِالْبَيْعِ وَالْغَصْبِ لِأَنَّهُ لَا تَقَوُّمَ لِمَالِيَّتِهَا انْتَهَى. أَقُولُ: لَا ضَيْرَ فِي مُخَالَفَةِ مَا ذُكِرَ فِي هَذَا الْجَوَابِ الثَّانِي لِمَا أَسْلَفَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي بَابِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ، فَإِنَّهُ وَإِنْ أَسْلَفَهُ هُنَاكَ تَبَعًا لِصَاحِبِ النِّهَايَةِ إلَّا أَنَّ الْمُصَنِّفَ صَرَّحَ هُنَاكَ بِتَحَقُّقِ الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله فِي تَقَوُّمِ أُمِّ الْوَلَدِ أَيْضًا حَيْثُ قَالَ: وَإِنْ مَاتَتْ أُمُّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَقَالَا: عَلَيْهِ قِيمَتُهَا وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْهُ انْتَهَى.
وَالْمُجِيبُ بِهَذَا الْجَوَابِ الثَّانِي إنَّمَا هُوَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ وَصَاحِبُ الْكِفَايَةِ وَهُمَا لَمْ يَذْكُرَا فِي بَابِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ عَدَمَ تَحَقُّقِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي حَقِّ أُمِّ الْوَلَدِ، وَأَمَّا صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فَلَيْسَ بِمُجِيبٍ بِهَذَا الْجَوَابِ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ بَلْ هُوَ نَاقِلٌ مَحْضٌ فَلَا يُنَافِي مَا اخْتَارَهُ هُنَاكَ (قَوْلُهُ وَبِخِلَافِ بَيْعِ الْمُكَاتَبِ إلَخْ) هَذَا جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ
لَا يَرْضَى بِبَقَائِهِ مُكَاتِبًا.
وَإِذَا صَارَتْ كُلُّهَا أُمَّ وَلَدٍ لَهُ فَالثَّانِي وَطِئَ أُمَّ وَلَدِ الْغَيْرِ (فَلَا يَثْبُتُ نَسَبُ الْوَلَدِ مِنْهُ وَلَا يَكُونُ حُرًّا عَلَيْهِ بِالْقِيمَةِ) غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْحَدُّ عَلَيْهِ لِلشُّبْهَةِ (وَيَلْزَمُهُ جَمِيعُ الْعُقْرِ) لِأَنَّ الْوَطْءَ لَا يَعْرَى عَنْ إحْدَى الْغَرَامَتَيْنِ، وَإِذَا بَقِيَتْ الْكِتَابَةُ وَصَارَتْ كُلُّهَا مُكَاتَبَةً لَهُ، قِيلَ يَجِبُ عَلَيْهَا نِصْفُ بَدَلِ الْكِتَابَةِ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ انْفَسَخَتْ فِيمَا لَا تَتَضَرَّرُ بِهِ الْمُكَاتَبَةُ وَلَا تَتَضَرَّرُ بِسُقُوطِ نِصْفِ الْبَدَلِ.
وَقِيلَ يَجِبُ كُلُّ الْبَدَلِ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ لَمْ تَنْفَسِخْ إلَّا فِي حَقِّ التَّمَلُّكِ ضَرُورَةً فَلَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ سُقُوطِ نِصْفِ الْبَدَلِ وَفِي إبْقَائِهِ فِي حَقِّهِ نَظَرٌ لِلْمَوْلَى وَإِنْ كَانَ لَا تَتَضَرَّرُ الْمُكَاتَبَةُ بِسُقُوطِهِ، وَالْمُكَاتَبَةُ هِيَ الَّتِي تُعْطِي الْعُقْرَ لِاخْتِصَاصِهَا بِأَبْدَالِ مَنَافِعِهَا.
وَلَوْ عَجَزَتْ وَرُدَّتْ فِي الرِّقِّ تَرُدُّ إلَى الْمَوْلَى لِظُهُورِ اخْتِصَاصِهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا
هَلَّا قُلْتُمْ بِفَسْخِ الْكِتَابَةِ ضَمَانًا لِصِحَّةِ الْبَيْعِ فِيمَا إذَا بِيعَ الْمُكَاتَبُ كَمَا قُلْتُمْ بِفَسْخِ الْكِتَابَةِ ضَمَانًا لِصِحَّةِ الِاسْتِيلَادِ؟ وَوَجْهُ الْجَوَابِ أَنَّ فِي تَجَوُّزِ الْبَيْعِ إبْطَالَ الْكِتَابَةِ، إذْ الْمُشْتَرِي لَا يَرْضَى بِبَقَائِهِ مُكَاتَبًا، وَلَوْ أَبْطَلْنَاهَا تَضَرَّرَ بِهِ الْمُكَاتَبُ، وَفَسْخُ الْكِتَابَةِ فِيمَا يَتَضَرَّرُ بِهِ الْمُكَاتَبُ لَا يَصِحُّ، هَذَا مَا عَلَيْهِ جُمْهُورُ الشُّرَّاحِ فِي حَمْلِ مُرَادِ الْمُصَنِّفِ بِكَلَامِهِ هَذَا عَلَيْهِ.
وَقَدْ ذَكَرَ هَذَا السُّؤَالَ وَالْجَوَابَ صَرَاحَةً فِي الْكَافِي بِفَإِنْ قِيلَ. قُلْنَا: ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ الْعِنَايَةِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ هَذَا الْمَعْنَى لِكَلَامِ الْمُصَنِّفِ هَذَا بِقِيلِ قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَيَانًا لِقَوْلِهِ وَتَبْقَى الْكِتَابَةُ فِيمَا وَرَاءَهُ فَإِنَّ الْبَيْعَ مَا لَا يَتَضَرَّرُ بِهِ فَإِنَّ الْمُكَاتَبَ يَتَضَرَّرُ بِهِ فَتَبْقَى الْكِتَابَةُ كَمَا كَانَتْ انْتَهَى.
أَقُولُ: لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ لَهُ ذَوْقٌ صَحِيحٌ مَا فِيهِ مِنْ الرَّكَاكَةِ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ وَمِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى فَلْيُتَفَكَّرْ. وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: قَوْلُ الْمُصَنِّفِ هَذَا جَوَابٌ عِنْدِي عَنْ قِيَاسِ أَبِي حَنِيفَةَ نَقْلَ الْمُكَاتَبَةِ الْمَفْرُوضَةِ مِنْ مِلْكِ الثَّانِي إلَى مِلْكِ الْأَوَّلِ عَلَى بَيْعِهَا. وَوَجْهُهُ أَنَّ فِي النَّقْلِ لَا تَنْفَسِخُ
قَالَ (وَيَضْمَنُ الْأَوَّلُ لِشَرِيكِهِ فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله نِصْفَ قِيمَتِهَا مُكَاتَبَةً) لِأَنَّهُ تَمَلَّكَ نَصِيبَ شَرِيكِهِ وَهِيَ مُكَاتَبَةٌ فَيَضْمَنُهُ مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا لِأَنَّهُ ضَمَانُ التَّمَلُّكِ (وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ: يَضْمَنُ الْأَقَلَّ مِنْ نِصْفِ قِيمَتِهَا وَمِنْ نِصْفِ مَا بَقِيَ مِنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ) لِأَنَّ حَقَّ شَرِيكِهِ فِي نِصْفِ الرَّقَبَةِ عَلَى اعْتِبَارِ الْعَجْزِ، وَفِي نِصْفِ الْبَدَلِ عَلَى اعْتِبَارِ الْأَدَاءِ فَلِتَرَدُّدِهِ بَيْنَهُمَا يَجِبُ أَقَلُّهُمَا.
قَالَ (وَإِذَا كَانَ الثَّانِي لَمْ يَطَأْهَا وَلَكِنْ دَبَّرَهَا ثُمَّ عَجَزَتْ بَطَلَ التَّدْبِيرُ) لِأَنَّهُ لَمْ يُصَادِفْ الْمِلْكَ. أَمَّا عِنْدَهُمَا فَظَاهِرٌ لِأَنَّ الْمُسْتَوْلِدَ تَمَلَّكَهَا قَبْلَ الْعَجْزِ. وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله فَلِأَنَّهُ بِالْعَجْزِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ تَمَلَّكَ نَصِيبَهُ مِنْ وَقْتِ الْوَطْءِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ مُصَادِفُ مِلْكِ غَيْرِهِ وَالتَّدْبِيرُ يَعْتَمِدُ الْمِلْكَ، بِخِلَافِ النَّسَبِ لِأَنَّهُ يَعْتَمِدُ الْغُرُورَ عَلَى مَا مَرَّ.
قَالَ (وَهِيَ أُمُّ وَلَدٍ لِلْأَوَّلِ)
الْكِتَابَةُ مُطْلَقًا كَمَا فَصَّلَ بِخِلَافِ الْبَيْعِ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ.
أَقُولُ: أَنْتَ خَبِيرٌ بِأَنَّ الْقِيَاسَ الَّذِي ذَكَرَهُ لَمْ يَقَعْ مِنْ أَبِي حَنِيفَةَ قَطُّ فَكَيْفَ يَكُونُ هَذَا جَوَابًا عَنْ ذَاكَ (قَوْلُهُ وَيَضْمَنُ الْأَوَّلُ لِشَرِيكِهِ فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ نِصْفَ قِيمَتِهَا مُكَاتَبَةً، إلَى قَوْلِهِ: فَلِلتَّرَدُّدِ بَيْنَهُمَا يَجِبُ أَقَلُّهُمَا) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ: إذَا كَاتَبَ الرَّجُلَانِ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا كِتَابَةً وَاحِدَةً ثُمَّ أَعْتَقَ أَحَدُهُمَا نُصِيبَهُ يَضْمَنُ الْمُعْتِقُ لِشَرِيكِهِ نِصْفَ قِيمَتِهِ مُكَاتَبًا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا، لِأَنَّهُ ضَمَانُ التَّمَلُّكِ وَهُوَ لَا يَخْتَلِفُ بِالْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَضْمَنُ الْأَقَلَّ مِنْ نِصْفِ قِيمَتِهِ مُكَاتَبًا وَمِنْ نِصْفِ مَا بَقِيَ مِنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ، لِأَنَّ حَقَّ شَرِيكِهِ فِي نِصْفِ الرَّقَبَةِ عَلَى اعْتِبَارِ الْعَجْزِ وَفِي نِصْفِ الْبَدَلِ عَلَى اعْتِبَارِ الْأَدَاءِ، فَلِلتَّرَدُّدِ بَيْنَهُمَا يَجِبُ أَقَلُّهُمَا لِأَنَّهُ مُتَيَقَّنٌ.
قَالَ صَدْرُ الْإِسْلَامِ: لِأَنَّهُ لَوْ بَقِيَ مِنْ الْبَدَلِ دِرْهَمٌ يَكُونُ حِصَّتُهُ نِصْفَ دِرْهَمٍ وَقَدْ تَمَلَّكَهَا أَحَدُهُمَا بِالِاسْتِيلَادِ فَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ نِصْفُ الْقِيمَةِ وَهُوَ خَمْسُمِائَةٍ إذَا كَانَتْ قِيمَتُهَا أَلْفَ دِرْهَمٍ وَقَدْ وَصَلَ إلَيْهِ جَمِيعُ بَدَلِ نَصِيبِهِ مِنْ هَذِهِ الرَّقَبَةِ إلَّا نِصْفَ دِرْهَمٍ فَلِهَذَا أَوْجَبْنَا الْأَقَلَّ، هَذَا قَوْلُهُمَا فِي الْمُكَاتَبِ الْمُشْتَرَكِ إذَا أَعْتَقَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ، وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ قَوْلُهُمَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ، فَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ يَضْمَنُ الْأَوَّلُ لِشَرِيكِهِ نِصْفَ قِيمَتِهَا مُكَاتَبَةً، وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ مُحَمَّدٍ يَضْمَنُ الْأَوَّلُ الْأَقَلَّ مِنْ نِصْفِ قِيمَتِهَا مُكَاتَبَةً وَمِنْ نِصْفِ مَا بَقِيَ مِنْ الْبَدَلِ، وَالْوَجْهُ قَدْ ذَكَرْنَاهُ، إلَى هُنَا كَلَامُ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ. أَقُولُ: هَذَا شَرْحٌ فَاسِدٌ وَتَحْرِيرٌ مُخْتَلٌّ.
أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ قَوْلَهُ إذَا كَاتَبَ الرَّجُلَانِ عَبْدًا مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا كِتَابَةً وَاحِدَةً ثُمَّ أَعْتَقَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ يَضْمَنُ الْمُعْتِقُ لِشَرِيكِهِ نِصْفَ قِيمَتِهِ مُكَاتَبًا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا خَبْطٌ فَاحِشٌ، إذْ قَدْ صَرَّحَ فِي عَامَّةِ الْمُعْتَبَرَاتِ حَتَّى الْهِدَايَةِ نَفْسِهَا فِيمَا سَيَأْتِي بَعْدَ نِصْفِ صَفْحَةٍ بِأَنَّ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يُضَمِّنَ السَّاكِتُ الْمُعْتِقَ قِيمَةَ نَصِيبِهِ مُكَاتَبًا إنْ كَانَ مُوسِرًا
لِأَنَّهُ تَمَلَّكَ نَصِيبَ شَرِيكِهِ وَكَمَّلَ الِاسْتِيلَادَ عَلَى مَا بَيَّنَّا (وَيَضْمَنُ لِشَرِيكِهِ نِصْفَ عُقْرِهَا) لِوَطْئِهِ جَارِيَةً مُشْتَرَكَةً (وَنِصْفَ قِيمَتِهَا) لِأَنَّهُ تَمَلَّكَ نِصْفَهَا بِالِاسْتِيلَادِ وَهُوَ تَمَلَّكَ بِالْقِيمَةِ (وَالْوَلَدُ وَلَدُ الْأَوَّلِ) لِأَنَّهُ صَحَّتْ دَعْوَتُهُ لِقِيَامِ الْمُصَحِّحِ، وَهَذَا قَوْلُهُمْ جَمِيعًا. وَوَجْهُهُ مَا بَيَّنَّا.
قَالَ (وَإِنْ كَانَا كَاتَبَاهَا ثُمَّ أَعْتَقَهَا أَحَدُهُمَا وَهُوَ مُوسِرٌ ثُمَّ عَجَزَتْ يَضْمَنُ الْمُعْتِقُ لِشَرِيكِهِ نِصْفَ قِيمَتِهَا وَيَرْجِعُ بِذَلِكَ عَلَيْهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: لَا يَرْجِعُ عَلَيْهَا) لِأَنَّهَا لَمَّا عَجَزَتْ وَرُدَّتْ فِي الرِّقِّ تَصِيرُ كَأَنَّهَا لَمْ تَزَلْ قِنَّةً
وَيُسْتَسْعَى الْعَبْدُ إنْ كَانَ مُعْسِرًا بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ ضَمَانُ إعْتَاقٍ فَيَخْتَلِفُ بِالْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ.
وَمِنْ الْعَجَائِبِ قَوْلُ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ لِأَنَّهُ ضَمَانُ التَّمَلُّكِ وَهُوَ لَا يَخْتَلِفُ بِالْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ، إذْ لَا يَشْتَبِهُ عَلَى أَحَدٍ أَنَّ ضَمَانَ الْإِعْتَاقِ ضَمَانُ إفْسَادِ التَّمَلُّكِ لَا ضَمَانُ التَّمَلُّكِ، أَوْ لَمْ يَرَ قَوْلَ صَاحِبِ الْكِفَايَةِ بِصَدَدِ شَرْحِ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ هُنَا لِأَنَّهُ ضَمَانُ تَمَلُّكٍ فَأَمَّا إذَا أَعْتَقَهَا أَحَدُهُمَا أَوَّلًا كَانَ هَذَا ضَمَانَ إفْسَادِ الْمِلْكِ.
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ قَوْلَهُ هَذَا قَوْلُهُمَا فِي الْمُكَاتَبِ الْمُشْتَرَكِ إذَا أَعْتَقَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا ذَكَرَهُ فِيمَا قَبْلُ بِأَسْرِهِ كَانَ فِي حَقِّ الْمُكَاتَبِ الْمُشْتَرَكِ إذَا أَعْتَقَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ مَعَ أَنَّ مَا نَقَلَهُ عَنْ صَدْرِ الْإِسْلَامِ فِيمَا قَبْلُ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ فِي حَقِّ الْمُكَاتَبَةِ الْمُشْتَرَكَةِ إذَا تَمَلَّكَهَا أَحَدُهُمَا بِالِاسْتِيلَادِ.
وَأَمَّا ثَالِثًا فَلِأَنَّهُ صَرَفَ الْقِيَاسَ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ هَذَا إلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ مَعًا حَيْثُ قَالَ: وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ قَوْلُهُمَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ. فَعَلَى قِيَاسِ قَوْلَيْ أَبِي يُوسُفَ يَضْمَنُ الْأَوَّلُ لِشَرِيكِهِ نِصْفَ قِيمَتِهَا مُكَاتَبَةً، وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ مُحَمَّدٍ يَضْمَنُ الْأَقَلَّ مِنْ نِصْفِ قِيمَتِهَا مُكَاتَبَةً وَمِنْ نِصْفِ مَا بَقِيَ مِنْ الْبَدَلِ انْتَهَى.
مَعَ أَنَّ كَلَامَ الْمُصَنِّفِ فِي الْمَقِيسِ عَلَيْهِ وَهُوَ مَسْأَلَةُ الْإِعْتَاقِ عَلَى مَا سَيَأْتِي صَرِيحٌ فِي أَنَّ مُحَمَّدًا مَعَ أَبِي يُوسُفَ هُنَاكَ فِي أَنْ يَضْمَنَ السَّاكِتُ الْمُعْتِقُ قِيمَةَ نَصِيبِهِ مُكَاتَبًا إذَا كَانَ مُوسِرًا دُونَ الْأَقَلِّ مِنْهَا وَمِنْ نِصْفِ مَا بَقِيَ مِنْ الْبَدَلِ، فَكَيْفَ يَتِمُّ الْقِيَاسُ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ رحمه الله، نَعَمْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَنْ مُحَمَّدٍ رِوَايَتَانِ فِي مَسْأَلَةِ إعْتَاقِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ الْمُكَاتَبَ الْمُشْتَرَكَ بَيْنَهُمَا إحْدَاهُمَا مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِيمَا سَيَأْتِي، وَالْأُخْرَى مَا يُوَافِقُهُ قِيَاسُ مَا ذَكَرَهُ فِي مَسْأَلَةِ الِاسْتِيلَادِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا ذُكِرَ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ الْمُعْتَبَرَةِ كَالْكَافِي وَالْبَدَائِعِ، فَإِنَّ الْمَذْكُورَ فِيهِمَا فِي مَسْأَلَةِ الْإِعْتَاقِ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ هُوَ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى وَهِيَ ضَمَانُ الْأَقَلِّ مِنْ نِصْفِ الْقِيمَةِ وَمِنْ نِصْفِ مَا بَقِيَ مِنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ، لَكِنَّ كَلَامَنَا فِي عَدَمِ مُسَاعِدَةِ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ نَفْسِهِ لِصَرْفِ الْقِيَاسِ الَّذِي أَقْحَمَهُ فِي لَفْظِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ هَاهُنَا إلَى قَوْلِهِمَا مَعًا.
ثُمَّ أَقُولُ: الْوَجْهُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا أَنَّ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ مَسْأَلَةِ الِاسْتِيلَادِ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِ فِي مَسْأَلَةِ الْإِعْتَاقِ.
وَأَمَّا قَوْلُ مُحَمَّدٍ فِيهِ فَعَلَى خِلَافِ قَوْلِهِ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ: يُرْشِدُكَ إلَى هَذَا الْمَعْنَى قَطْعًا أُسْلُوبُ تَحْرِيرِ الْمُصَنِّفِ حَيْثُ قَالَ فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ: وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ بِزِيَادَةِ لَفْظِ قِيَاسٍ فِي الْأَوَّلِ وَحَذْفِهِ فِي الثَّانِي تَدَبَّرْ تَرْشُدْ (قَوْلُهُ وَهَذَا قَوْلُهُمْ جَمِيعًا) لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ مَعَ بَقَاءِ الْكِتَابَةِ وَهَاهُنَا مَا بَقِيَتْ لِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَوْلَدَهَا الْأَوَّلُ مَلَكَ نِصْفَ شَرِيكِهِ وَلَمْ يَبْقَ مِلْكٌ لِلْمُدَبَّرِ فِيهَا فَلَا يَصِحُّ تَدْبِيرُهُ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ وَغَيْرِهَا.
قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ فِيهِ: أَنَّهُ
وَالْجَوَابُ فِيهِ عَلَى الْخِلَافِ فِي الرُّجُوعِ وَفِي الْخِيَارَاتِ وَغَيْرِهَا كَمَا هُوَ مَسْأَلَةُ تَجَزُّؤِ الْإِعْتَاقِ وَقَدْ قَرَرْنَاهُ فِي الْإِعْتَاقِ، فَأَمَّا قَبْلَ الْعَجْزِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَ الْمُعْتِقَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ لَمَّا كَانَ يَتَجَزَّأُ عِنْدَهُ كَانَ أَثَرُهُ أَنْ يُجْعَلَ نَصِيبُ غَيْرِ الْمُعْتِقِ كَالْمُكَاتَبِ فَلَا يَتَغَيَّرُ بِهِ نَصِيبُ صَاحِبِهِ لِأَنَّهَا مُكَاتَبَةٌ قَبْلَ ذَلِكَ وَعِنْدَهُمَا لَمَّا كَانَ لَا يَتَجَزَّأُ بِعِتْقِ الْكُلِّ فَلَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ قِيمَةَ نَصِيبِهِ مُكَاتَبًا إنْ كَانَ مُوسِرًا، وَيُسْتَسْعَى الْعَبْدُ إنْ كَانَ مُعْسِرًا لِأَنَّهُ ضَمَانُ إعْتَاقٍ فَيَخْتَلِفُ بِالْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ.
قَالَ (وَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ دَبَّرَهُ أَحَدُهُمَا ثُمَّ أَعْتَقَهُ الْآخَرُ وَهُوَ مُوسِرٌ، فَإِنْ شَاءَ الَّذِي دَبَّرَهُ ضَمَّنَ الْمُعْتِقَ نِصْفَ قِيمَتِهِ مُدَبَّرًا، وَإِنْ شَاءَ اسْتَسْعَى الْعَبْدَ، وَإِنْ شَاءَ أَعْتَقَ، وَإِنْ أَعْتَقَهُ أَحَدُهُمَا ثُمَّ دَبَّرَهُ الْآخَرُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَ الْمُعْتِقَ وَيُسْتَسْعَى أَوْ يُعْتَقُ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله) وَوَجْهُهُ أَنَّ التَّدْبِيرَ يَتَجَزَّأُ عِنْدَهُ فَتَدْبِيرُ أَحَدِهِمَا يَقْتَصِرُ عَلَى نَصِيبِهِ لَكِنْ يَفْسُدُ بِهِ نَصِيبُ الْآخَرِ فَيَثْبُتُ لَهُ خِيرَةُ الْإِعْتَاقِ وَالتَّضْمِينِ وَالِاسْتِسْعَاءِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُهُ، فَإِذَا أَعْتَقَ لَمْ يَبْقَ لَهُ خِيَارُ التَّضْمِينِ وَالِاسْتِسْعَاءِ، وَإِعْتَاقُهُ يَقْتَصِرُ عَلَى نَصِيبِهِ لِأَنَّهُ يَتَجَزَّأُ عِنْدَهُ، وَلَكِنْ يَفْسُدُ بِهِ نَصِيبُ شَرِيكِهِ فَلَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ قِيمَةَ نَصِيبِهِ، وَلَهُ خِيَارُ الْعِتْقِ وَالِاسْتِسْعَاءِ أَيْضًا كَمَا هُوَ مَذْهَبُهُ وَيُضَمِّنُهُ قِيمَةَ نَصِيبِهِ مُدَبَّرًا لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ صَادَفَ الْمُدَبَّرَ.
ثُمَّ قِيلَ: قِيمَةُ الْمُدَبَّرِ تُعْرَفُ بِتَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ، وَقِيلَ يَجِبُ ثُلُثَا قِيمَتِهِ
يَنْبَغِي أَنْ يَمْلِكَهَا عِنْدَ مُحَمَّدٍ بِالْأَقَلِّ مِنْ نِصْفِ الْقِيمَةِ وَنِصْفِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ فَلْيُتَأَمَّلْ انْتَهَى.
أَقُولُ: يُمْكِنُ الْفَرْقُ بِأَنَّ وَجْهَ قَوْلِ مُحَمَّدٍ بِالْأَقَلِّ مِنْ نِصْفِ الْقِيمَةِ وَنِصْفِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ فِيمَا إذَا بَقِيَتْ الْكِتَابَةُ وَهُوَ أَنَّ حَقَّ شَرِيكِهِ فِي نِصْفِ الرَّقَبَةِ عَلَى اعْتِبَارِ الْعَجْزِ وَفِي نِصْفِ الْبَدَلِ عَلَى اعْتِبَارِ الْأَدَاءِ فَلِلتَّرَدُّدِ بَيْنَهُمَا يَجِبُ أَقَلُّهُمَا.
وَهَذَا الْوَجْهُ غَيْرُ مُتَمَشٍّ فِيمَا إذَا لَمْ يُبْقِ الْكِتَابَةَ لِأَنَّ كَوْنَ حَقِّ شَرِيكِهِ
زَهْوَ قِنٍّ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ أَنْوَاعٌ ثَلَاثَةٌ: الْبَيْعُ وَأَشْبَاهُهُ، وَالِاسْتِخْدَامُ وَأَمْثَالُهُ، وَالْإِعْتَاقُ وَتَوَابِعُهُ، وَالْفَائِتُ الْبَيْعُ فَيَسْقُطُ الثُّلُثُ. وَإِذَا ضَمَّنَهُ لَا يَتَمَلَّكُهُ بِالضَّمَانِ لِأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ الِانْتِقَالَ مِنْ مِلْكٍ إلَى مِلْكٍ، كَمَا إذَا غَصَبَ مُدَبَّرًا فَأَبَقَ. وَإِنْ أَعْتَقَهُ أَحَدُهُمَا أَوَّلًا كَانَ لِلْآخَرِ الْخِيَارَاتُ الثَّلَاثُ عِنْدَهُ، فَإِذَا دَبَّرَهُ لَمْ يَبْقَ لَهُ خِيَارُ التَّضْمِينِ وَبَقِيَ خِيَارُ الْإِعْتَاقِ وَالِاسْتِسْعَاءِ لِأَنَّ الْمُدَبَّرَ يُعْتَقُ وَيُسْتَسْعَى (وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: إذَا دَبَّرَهُ أَحَدُهُمَا فَعِتْقُ الْآخَرِ بَاطِلٌ) لِأَنَّهُ لَا يَتَجَزَّأُ عِنْدَهُمَا فَيَتَمَلَّكُ نَصِيبَ صَاحِبِهِ بِالتَّدْبِيرِ (وَيَضْمَنُ نِصْفَ قِيمَتِهِ مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا) لِأَنَّهُ ضَمَانُ تَمَلُّكٍ فَلَا يَخْتَلِفُ بِالْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ، وَيَضْمَنُ نِصْفَ قِيمَتِهِ قِنًّا لِأَنَّهُ صَادَفَهُ التَّدْبِيرُ وَهُوَ قِنٌّ (وَإِنْ أَعْتَقَهُ أَحَدُهُمَا فَتَدْبِيرُ الْآخَرِ بَاطِلٌ) لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ لَا يَتَجَزَّأُ فَعَتَقَ كُلُّهُ فَلَمْ يُصَادِفْ التَّدْبِيرُ الْمِلْكَ وَهُوَ يَعْتَمِدُهُ (وَيَضْمَنُ نِصْفَ قِيمَتِهِ إنْ كَانَ مُوسِرًا) وَيَسْعَى الْعَبْدُ فِي ذَلِكَ إنْ كَانَ مُعْسِرًا لِأَنَّ هَذَا ضَمَانُ الْإِعْتَاقِ فَيَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِالْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ عِنْدَهُمَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فِي نِصْفِ الْبَدَلِ عَلَى اعْتِبَارِ الْأَدَاءِ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ عِنْدَ بَقَاءِ الْكِتَابَةِ، وَأَمَّا بَعْدَ زَوَالِهَا فَيَصِيرُ مَا أَدَّتْهُ إلَى شَرِيكِهِ بِمَنْزِلَةِ الْعَدَمِ كَمَا هُوَ الْحَالُ فِي كُلِّ مُكَاتَبٍ عَجَزَ عَنْ أَدَاءِ تَمَامِ الْبَدَلِ فَانْفَسَخَتْ الْكِتَابَةُ فَحِينَئِذٍ يَتَعَيَّنُ حَقُّ شَرِيكِهِ فِي نِصْفِ الرَّقَبَةِ فَيَضْمَنُ نِصْفَ قِيمَتِهَا بِالِاتِّفَاقِ فَلْيُتَأَمَّلْ انْتَهَى.
بَابٌ مَوْتُ الْمُكَاتَبِ وَعَجْزُهُ وَمَوْتُ الْمَوْلَى
قَالَ (وَإِذَا عَجَزَ الْمُكَاتَبُ عَنْ نَجْمٍ نَظَرَ الْحَاكِمُ فِي حَالِهِ، فَإِنْ كَانَ لَهُ دَيْنٌ يَقْبِضُهُ أَوْ مَالٌ يَقْدُمُ عَلَيْهِ لَمْ يَعْجَلْ بِتَعْجِيزِهِ وَانْتَظَرَ عَلَيْهِ الْيَوْمَيْنِ أَوْ الثَّلَاثَةَ) نَظَرًا لِلْجَانِبَيْنِ، وَالثَّلَاثُ هِيَ الْمُدَّةُ الَّتِي ضُرِبَتْ لِإِبْلَاءِ الْأَعْذَارِ كَإِمْهَالِ الْخَصْمِ لِلدَّفْعِ وَالْمَدْيُونِ لِلْقَضَاءِ فَلَا يُزَادُ عَلَيْهِ (فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَجْهٌ وَطَلَبَ الْمَوْلَى تَعْجِيزَهُ عَجَّزَهُ وَفَسَخَ الْكِتَابَةَ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يُعَجِّزُهُ حَتَّى يَتَوَالَى عَلَيْهِ نَجْمَانِ)
لِقَوْلِ عَلِيٍّ رضي الله عنه: إذَا تَوَالَى عَلَى الْمُكَاتَبِ نَجْمَانِ رُدَّ فِي الرِّقِّ عَلَّقَهُ بِهَذَا الشَّرْطِ، وَلِأَنَّهُ عَقْدُ إرْقَاقٍ حَتَّى كَانَ أَحْسَنُهُ مُؤَجَّلَهُ وَحَالَةُ الْوُجُوبِ بَعْدَ حُلُولِ نَجْمٍ فَلَا بُدَّ مِنْ إمْهَالِ مُدَّةٍ اسْتِيسَارًا، وَأَوْلَى الْمُدَدِ مَا تَوَافَقَ عَلَيْهِ الْعَاقِدَانِ
(بَابُ مَوْتِ الْمُكَاتَبِ وَعَجْزِهِ وَمَوْتِ الْمَوْلَى)
تَأْخِيرُ بَابِ أَحْكَامِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ ظَاهِرُ التَّنَاسُبِ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مُتَأَخِّرَةٌ عَنْ عَقْدِ الْكِتَابَةِ، فَكَذَا بَيَانُ أَحْكَامِهَا (قَوْلُهُ وَالثَّلَاثُ هِيَ الْمُدَّةُ الَّتِي ضُرِبَتْ لِإِبْلَاءِ الْأَعْذَارِ كَإِمْهَالِ الْخَصْمِ لِلدَّفْعِ وَالْمَدْيُونِ لِلْقَضَاءِ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَالْمَدْيُونِ بِالْجَرِّ عَطْفٌ عَلَى كَإِمْهَالِ.
أَقُولُ: هَذَا بِحَسَبِ ظَاهِرِهِ غَيْرُ صَحِيحٍ قَطْعًا، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ الْمَدْيُونَ مَعْطُوفٌ عَلَى الْخَصْمِ وَالْمَعْنَى وَكَإِمْهَالِ الْمَدْيُونِ لِأَجْلِ
وَلَهُمَا أَنَّ سَبَبَ الْفَسْخِ قَدْ تَحَقَّقَ وَهُوَ الْعَجْزُ، لِأَنَّ مَنْ عَجَزَ عَنْ أَدَاءِ نَجْمٍ وَاحِدٍ يَكُونُ أَعْجَزَ عَنْ أَدَاءِ نَجْمَيْنِ، وَهَذَا لِأَنَّ مَقْصُودَ الْمَوْلَى الْوُصُولُ إلَى الْمَالِ عِنْدَ حُلُولِ نَجْمٍ وَقَدْ فَاتَ فَيُفْسَخُ إذَا لَمْ يَكُنْ رَاضِيًا بِدُونِهِ، بِخِلَافِ الْيَوْمَيْنِ وَالثَّلَاثَةِ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْهَا لِإِمْكَانِ الْأَدَاءِ فَلَمْ يَكُنْ تَأْخِيرًا، وَالْآثَارُ مُتَعَارِضَةٌ، فَإِنَّ الْمَرْوِيَّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ مُكَاتَبَةً لَهُ عَجَزَتْ عَنْ أَدَاءِ نَجْمٍ وَاحِدٍ فَرَدَّهَا فَسَقَطَ الِاحْتِجَاجُ بِهَا.
قَالَ (فَإِنْ أَخَلَّ بِنَجْمٍ عِنْدَ غَيْرِ السُّلْطَانِ فَعَجَزَ فَرَدَّهُ مَوْلَاهُ بِرِضَاهُ فَهُوَ جَائِزٌ) لِأَنَّ الْكِتَابَةَ تُفْسَخُ بِالتَّرَاضِي مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فَبِالْعُذْرِ أَوْلَى (وَلَوْ لَمْ يَرْضَ بِهِ الْعَبْدُ لَا بُدَّ مِنْ الْقَضَاءِ بِالْفَسْخِ) لِأَنَّهُ عَقْدٌ لَازِمٌ تَامٌّ فَلَا بُدَّ مِنْ الْقَضَاءِ أَوْ الرِّضَا كَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ بَعْدَ الْقَبْضِ.
الْقَضَاءِ (قَوْلُهُ وَلَهُمَا أَنَّ سَبَبَ الْفَسْخِ قَدْ تَحَقَّقَ وَهُوَ الْعَجْزُ، لِأَنَّ مَنْ عَجَزَ عَنْ أَدَاءِ نَجْمٍ وَاحِدٍ يَكُونُ أَعْجَزَ عَنْ أَدَاءِ نَجْمَيْنِ) أَقُولُ: فِيهِ شَيْءٌ، وَهُوَ أَنَّ دَلِيلَهُمَا هَذَا لَا يَتَمَشَّى فِي صُورَةِ إنْ عَجَزَ عَنْ أَدَاءِ آخِرِ النُّجُومِ الَّتِي تَوَافَقَا عَلَيْهِ بَعْدَ أَنْ أَدَّى سَائِرَ النُّجُومِ بِأَسْرِهَا، إذْ لَا يَلْزَمُهُ حِينَئِذٍ سِوَى أَدَاءِ نَجْمٍ وَاحِدٍ حَتَّى يَجْتَمِعَ عَلَيْهِ نَجْمَانِ عِنْدَ إمْهَالِهِ مُدَّةَ نَجْمٍ فَيَكُونَ أَعْجَزَ عَنْ أَدَائِهِمَا بَلْ يَكُونَ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ أَنْ يُؤَدِّيَ نَجْمًا وَاحِدًا فِي ضِعْفِ مُدَّتِهِ، وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ أَيْسَرُ لَهُ كَمَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ رحمه الله.
وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: فِيهِ تَأَمُّلٌ، فَإِنَّهُ إذَا كَانَ لَهُ دَيْنٌ يَقْبِضُهُ أَوْ مَالٌ يَقْدُمُ عَلَيْهِ لَا نُسَلِّمُ هَذِهِ الشَّرْطِيَّةَ انْتَهَى.
أَقُولُ: إنَّ قَوْلَهُ هَذِهِ الشَّرْطِيَّةُ لَيْسَ بِسَدِيدٍ، إذْ الظَّاهِرُ أَنَّ مَنْ فِي قَوْلِهِ مَنْ عَجَزَ عَنْ أَدَاءِ نَجْمٍ وَاحِدٍ مَوْصُولَةٌ، وَأَنَّ قَوْلَهُ يَكُونُ أَعْجَزَ عَنْ أَدَاءِ نَجْمَيْنِ خَبَرُ أَنَّ فِي قَوْلِهِ لِأَنَّ فَلَا شَرْطَ وَلَا جَزَاءَ فِي الْكَلَامِ حَتَّى تَكُونَ الْجُمْلَةُ شَرْطِيَّةً (قَوْلُهُ وَالْآثَارُ مُتَعَارِضَةٌ، فَإِنَّ الْمَرْوِيَّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ مُكَاتَبَةً لَهُ عَجَزَتْ عَنْ أَدَاءِ نَجْمٍ وَاحِدٍ فَرَدَّهَا فَسَقَطَ الِاحْتِجَاجُ بِهَا) هَذَا جَوَابٌ عَنْ اسْتِدْلَالِ أَبِي يُوسُفَ بِأَثَرِ عَلِيٍّ
قَالَ (وَإِذَا عَجَزَ الْمُكَاتَبُ عَادَ إلَى أَحْكَامِ الرِّقِّ) لِانْفِسَاخِ الْكِتَابَةِ (وَمَا كَانَ فِي يَدِهِ مِنْ الْأَكْسَابِ فَهُوَ لِمَوْلَاهُ) لِأَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّهُ كَسْبُ عَبْدِهِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ كَانَ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ أَوْ عَلَى مَوْلَاهُ وَقَدْ زَالَ التَّوَقُّفُ.
قَالَ (فَإِنْ مَاتَ الْمَكَاتِبُ وَلَهُ مَالٌ لَمْ تَنْفَسِخْ الْكِتَابَةُ وَقَضَى مَا عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ وَحَكَمَ بِعِتْقِهِ فِي آخَرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ حَيَاتِهِ وَمَا بَقِيَ فَهُوَ مِيرَاثٌ لِوَرَثَتِهِ وَيَعْتِقُ أَوْلَادُهُ) وَهَذَا قَوْلُ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنهما، وَبِهِ أَخَذَ عُلَمَاؤُنَا رضي الله عنهم. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: تَبْطُلُ الْكِتَابَةُ وَيَمُوتُ عَبْدًا وَمَا تَرَكَهُ لِمَوْلَاهُ، وَإِمَامُهُ فِي ذَلِكَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ رضي الله عنه، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْكِتَابَةِ عِتْقُهُ وَقَدْ تَعَذَّرَ إثْبَاتُهُ فَتَبْطُلُ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَثْبُتَ بَعْدَ الْمَمَاتِ مَقْصُودًا أَوْ يَثْبُتَ
- رضي الله عنه بِأَنَّ الْأَثَرَ الْمَرْوِيَّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَلَى مَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ يُعَارِضُهُ فَسَقَطَ الِاحْتِجَاجُ بِهَا: أَيْ بِالْآثَارِ لِلتَّعَارُضِ، لِأَنَّ الْآثَارَ إذَا تَعَارَضَتْ وَجُهِلَ التَّارِيخُ سَقَطَتْ فَيُصَارُ إلَى مَا بَعْدَهَا مِنْ الْحُجَّةِ فَيَبْقَى مَا قَالَاهُ مِنْ الدَّلِيلِ بِأَنَّ سَبَبَ الْفَسْخِ قَدْ تَحَقَّقَ إلَخْ سَالِمًا عَنْ الْمُعَارِضِ فَيَثْبُتُ الْفَسْخُ بِهِ، كَذَا فِي عَامَّةِ الشُّرُوحِ.
أَقُولُ: هُنَا إشْكَالٌ، لِأَنَّ مَا قَالَاهُ مِنْ الدَّلِيلِ الْمَعْقُولِ رَاجِعٌ إلَى الْقِيَاسِ عَلَى مُقْتَضَى مَا صَرَّحُوا بِهِ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ عِنْدَ بَيَانِ انْحِصَارِ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ فِي الْأَرْبَعَةِ مِنْ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِالْمَعْقُولِ رَاجِعٌ إلَى الْقِيَاسِ، وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ هَاهُنَا أَيْضًا حَيْثُ قَالَ: إنَّ الْآثَارَ مُتَعَارِضَةٌ وَالتَّارِيخُ مَجْهُولٌ فَيُصَارُ إلَى مَا بَعْدَهَا مِنْ الدَّلِيلِ وَهُوَ الْقِيَاسُ انْتَهَى.
وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ أَيْضًا أَنَّ الْقِيَاسَ لَا يَجْرِي فِي الْمَقَادِيرِ، وَمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ قَبِيلِ الْمَقَادِيرِ كَمَا أَفْصَحَ عَنْهُ كَثِيرٌ مِنْ الشُّرَّاحِ حَيْثُ قَالُوا: وَمَا رَوَيْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ كَالْمَرْوِيِّ عَنْ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام، لِأَنَّ مَا يَقُولُهُ الصَّحَابِيُّ مِنْ الْمَقَادِيرِ يُحْمَلُ عَلَى السَّمَاعِ لِأَنَّهُ لَا يُدْرِكُهُ الْقِيَاسُ انْتَهَى.
فَإِذَا تَعَارَضَتْ الْآثَارُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ وَتَسَاقَطَتْ كَمَا قَالُوا وَلَمْ يَصِحَّ الْقِيَاسُ فِي الْمَقَادِيرِ كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ فَكَيْفَ يَنْتَهِضُ مَا قَالَاهُ مِنْ الدَّلِيلِ الْمَعْقُولِ الَّذِي مَرْجِعُهُ إلَى الْقِيَاسِ حُجَّةً لَهُمَا فِي إثْبَاتِ مَا ذَهَبَا إلَيْهِ فِي جَوَابِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَلْيُتَأَمَّلْ
(قَوْلُهُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تَبْطُلُ الْكِتَابَةُ وَيَمُوتُ عَبْدًا. وَمَا تَرَكَهُ لِمَوْلَاهُ وَإِمَامُهُ فِي ذَلِكَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ رضي الله عنها، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْكِتَابَةِ عِتْقُهُ وَقَدْ تَعَذَّرَ إثْبَاتُهُ فَتَبْطُلُ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَحَلِّ: وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تَبْطُلُ الْكِتَابَةُ وَيَمُوتُ عَبْدًا وَمَا تَرَكَهُ فَلِمَوْلَاهُ، وَهُوَ قَوْلُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رضي الله عنه، وَاسْتَدَلَّ لِذَلِكَ بِالْمَعْقُولِ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْكِتَابَةِ عِتْقُهُ وَعِتْقُهُ بَاطِلٌ وَالْمَقْصُودُ مِنْهَا كَذَلِكَ انْتَهَى.
وَرَدَّ عَلَيْهِ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ بِأَنَّ قَوْلَهُ وَاسْتَدَلَّ لِذَلِكَ بِالْمَعْقُولِ إلَخْ لَا يُطَابِقُ الْمَشْرُوحَ لِدَلَالَتِهِ، عَلَى أَنَّهُ اسْتَدَلَّ بِأَثَرِ زَيْدٍ وَبِالْمَعْقُولِ حَيْثُ قَالَ الْمُصَنِّفُ: وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْوَاوِ الْعَاطِفَةُ انْتَهَى.
أَقُولُ: بَلْ هُوَ مُطَابِقٌ لِلْمَشْرُوحِ فَإِنَّ الْوَاوَ فِي قَوْلِهِ وَاسْتَدَلَّ
قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ مُسْتَنِدًا، لَا وَجْهَ إلَى الْأَوَّلِ لِعَدَمِ الْمَحَلِّيَّةِ، وَلَا إلَى الثَّانِي لِفَقْدِ الشَّرْطِ وَهُوَ الْأَدَاءُ، وَلَا إلَى الثَّالِثِ لِتَعَذُّرِ الثُّبُوتِ فِي الْحَالِ وَالشَّيْءُ يَثْبُتُ ثُمَّ يَسْتَنِدُ.
وَلَنَا أَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ، وَلَا يَبْطُلُ بِمَوْتِ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَهُوَ الْمَوْلَى فَكَذَا بِمَوْتِ الْآخَرِ، وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا الْحَاجَةُ إلَى إبْقَاءِ الْعَقْدِ لِإِحْيَاءِ الْحَقِّ، بَلْ أَوْلَى لِأَنَّ حَقَّهُ آكَدُ مِنْ حَقِّ الْمَوْلَى حَتَّى لَزِمَ الْعَقْدُ فِي جَانِبِهِ، وَالْمَوْتُ أَنَفَى لِلْمَالِكِيَّةِ مِنْهُ لِلْمَمْلُوكِيَّةِ
لِلْعَطْفِ أَيْضًا، وَالْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ مَعْنًى قَوْلُهُ: وَهُوَ قَوْلُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رضي الله عنه كَأَنَّهُ قَالَ أَخَذَ بِقَوْلِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَاسْتَدَلَّ لِمُدَّعَاهُ بِالْمَعْقُولِ أَيْضًا، كَمَا أَنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْكِتَابَةِ عَطْفٌ عَلَى مَعْنَى قَوْلِهِ وَإِمَامُهُ فِي ذَلِكَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ رضي الله عنه، كَأَنَّهُ قَالَ لِأَثَرِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْكِتَابَةِ إلَخْ، وَالْعَطْفُ بِحَسَبِ الْمَعْنَى شَائِعٌ فِي كَلَامِ الثِّقَاتِ، وَقَدْ صَرَّحَ بِجَوَازِ ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ الْمُحَقِّقِينَ فِي مَوَاضِعَ شَتَّى مِنْ كُتُبِ الْبَلَاغَةِ، فَتَطَابَقَ الشَّرْحُ وَالْمَشْرُوحُ فِي حَاصِلِ الْمَعْنَى كَمَا تَرَى، ثُمَّ إنَّ ذَلِكَ الْبَعْضَ قَالَ: وَالْمُوَافِقُ لِلْمَشْرُوحِ فَتَبْطُلُ الْكِتَابَةُ لِأَنَّ الْعُقُودَ إنَّمَا شُرِعَتْ لِأَحْكَامِهَا فَبُطْلَانُ الْحُكْمِ يَلْزَمُهُ بُطْلَانُ الْعَقْدِ انْتَهَى.
أَقُولُ: هَذَا كَلَامٌ خَالٍ عَنْ التَّحْصِيلِ لِأَنَّهُ كَانَ مَدَارَ رَدِّهِ عَلَى صَاحِبِ الْعِنَايَةِ بِعَدَمِ مُطَابِقَةِ شَرْحِهِ لِلْمَشْرُوحِ عَلَى تَحَقُّقِ الْوَاوِ الْعَاطِفَةِ فِي الْمَشْرُوحِ وَعَدَمِ تَحَقُّقِهِ فِي الشَّرْحِ عَلَى زَعْمِهِ، وَلَمْ يَتَحَقَّقْ ذَلِكَ فِيمَا ذَكَرَهُ نَفْسُهُ قَطُّ فَإِنَّهُ قَالَ: لِأَنَّ الْعُقُودَ إلَخْ بِدُونِ الْوَاوِ الْعَاطِفَةِ فَمَا مَعْنَى عَدَمِ مُطَابَقَةِ ذَلِكَ لِلْمَشْرُوحِ وَمُوَافَقَةِ هَذَا إيَّاهُ؟
وَأَيْضًا إنَّ الْفَاءَ فِي قَوْلِهِ فَتَبْطُلُ الْكِتَابَةُ مِمَّا لَا مَحَلَّ لَهُ فِي الْمَشْرُوحِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى الْفَطِنِ النَّاظِرِ فِي عِبَارَةِ الْمَشْرُوحِ (قَوْلُهُ بَلْ أَوْلَى لِأَنَّ حَقَّهُ آكَدُ مِنْ حَقِّ الْمَوْلَى) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: قَوْلُهُ بَلْ أَوْلَى يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا عَمَّا يُقَالُ لَيْسَ مَوْتُ الْمُكَاتَبِ كَمَوْتِ الْعَاقِدِ، لِأَنَّ الْعَقْدَ يَبْطُلُ بِمَوْتِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَهُوَ الْمُكَاتَبُ دُونَ الْعَاقِدِ.
وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُوجِبَ لِبَقَاءِ الْعَقْدِ بَعْدَ مَوْتِ الْعَاقِدِ هَاهُنَا إنَّمَا هُوَ الْحَاجَةُ، وَالْحَاجَةُ إلَى ذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِ الْمُكَاتَبِ أَدْعَى مِنْ حَيْثُ الْمُقْتَضَى وَالْمَانِعُ إلَخْ.
أَقُولُ: لَا يَذْهَبُ عَلَى ذِي فِطْرَةٍ سَلِيمَةٍ أَنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ هَذَا إنَّمَا هُوَ لِمُجَرَّدِ الْمُبَالَغَةِ فِي تَحَقُّقِ الْجَامِعِ الْمَذْكُورِ فِي جَانِبِ الْمَقِيسِ وَهُوَ مَوْتُ الْمُكَاتَبِ مِنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، وَلَا وَجْهَ لِتَجْوِيزِ كَوْنِهِ جَوَابًا عَمَّا يُقَالُ مِنْ طَرَفِ الْخَصْمِ لَيْسَ مَوْتُ الْمُكَاتَبِ كَمَوْتِ الْعَاقِدِ، لِأَنَّ الْعَقْدَ يَبْطُلُ بِمَوْتِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَهُوَ الْمُكَاتَبُ دُونَ الْعَاقِدِ، لِأَنَّ الْجَوَابَ عَنْهُ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ بِمَنْعِ
فَيَنْزِلُ حَيًّا تَقْدِيرًا، أَوْ تَسْتَنِدُ الْحُرِّيَّةُ بِاسْتِنَادِ سَبَبِ الْأَدَاءِ إلَى مَا قَبْلَ الْمَوْتِ وَيَكُونُ أَدَاءُ خَلَفِهِ كَأَدَائِهِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مُمْكِنٌ عَلَى مَا عُرِفَ تَمَامُهُ فِي الْخِلَافِيَّاتِ.
قَالَ (وَإِنْ لَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً
كَوْنِ الْمُكَاتَبِ نَفْسِهِ مَعْقُودًا عَلَيْهِ. وَبَيَانُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ إنَّمَا هُوَ سَلَامَةُ مَالِكِيَّةِ الْبَدَلِ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ وَالْمُصَنِّفُ لَمْ يَتَعَرَّضْ فِي كَلَامِهِ هَذَا لِمَنْعِ ذَلِكَ قَطُّ وَلَا لِبَيَانِ أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَاذَا، فَلَا مَجَالَ لَأَنْ يَكُونَ كَلَامُهُ هَذَا جَوَابًا عَنْ ذَلِكَ السُّؤَالِ، لِأَنَّ بُطْلَانَ الْعَقْدِ بِهَلَاكِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ أَمْرٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ لَا يَحْتَمِلُ جَوَازَهُ بِكَوْنِ الْحَاجَةِ أَدْعَى إلَى إبْقَائِهِ بَعْدَ أَنْ هَلَكَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ، فَلَا تُفِيدُ الْمُقَدِّمَاتُ الْمَذْكُورَةُ هَاهُنَا شَيْئًا فِي دَفْعِ ذَلِكَ السُّؤَالِ أَصْلًا، ثُمَّ إنَّ بَعْضَ الْفُضَلَاءِ قَدَحَ فِيمَا جَوَّزَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ مِنْ كَوْنِ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ هَذَا جَوَابًا عَمَّا ذَكَرَ بِوَجْهٍ آخَرَ حَيْثُ قَالَ: لَا يَخْلُو عَنْ بُعْدٍ بَعْدَ قَوْلِهِ لَا يَبْطُلُ بِمَوْتِ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فَكَذَا بِمَوْتِ الْآخَرِ فَإِنَّهُ صَرِيحٌ فِي عَدَمِ كَوْنِ الْمُكَاتَبِ مَعْقُودًا عَلَيْهِ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْكَلَامِ التَّنَزُّلِيِّ انْتَهَى.
أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا بِتَامٍّ لِأَنَّ كَوْنَ قَوْلِهِ لَا يَبْطُلُ بِمَوْتِ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فَكَذَا بِمَوْتِ الْآخَرِ صَرِيحًا فِي عَدَمِ كَوْنِ الْمُكَاتَبِ مَعْقُودًا عَلَيْهِ مَمْنُوعٌ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْمُكَاتَبُ مَعَ كَوْنِهِ أَحَدَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ مَعْقُودًا عَلَيْهِ أَيْضًا لِوُقُوعِ الْعَقْدِ عَلَى نَفْسِهِ، أَلَا يَرَى إلَى قَوْلِهِ فِي تَصْوِيرِ مَسْأَلَةِ كِتَابَةِ الْعَبْدِ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ عَبْدٍ آخَرَ لِمَوْلَاهُ غَائِبٍ بِأَنْ يَقُولَ الْعَبْدُ كَاتَبَنِي بِأَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَى نَفْسِي وَعَلَى فُلَانٍ الْغَائِبِ وَلَئِنْ سَلِمَ كَوْنُهُ صَرِيحًا فِي ذَلِكَ فَعَدَمُ كَوْنِ الْمُكَاتَبِ مَعْقُودًا عَلَيْهِ عِنْدَنَا لَا يَسْتَدْعِي عَدَمَ كَوْنِهِ كَذَلِكَ عِنْدَ الْخَصْمِ أَيْضًا، وَالسُّؤَالُ الْمَذْكُورُ إنَّمَا يُتَوَجَّهُ مِنْ قِبَلِ الْخَصْمِ.
فَلَوْ قَصَدَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ بَلْ أَوْلَى الْجَوَابَ عَنْهُ لَمْ يَكُنْ مُنَافِيًا لِقَوْلِهِ السَّابِقِ بَلْ يَكُونُ مُقَرَّرًا لَهُ فَلَا احْتِيَاجَ إلَى التَّنَزُّلِ، بَلْ لَا مَعْنَى لَهُ يَظْهَرُ ذَلِكَ كُلُّهُ بِالتَّأَمُّلِ الصَّادِقِ (قَوْلُهُ فَيَنْزِلُ حَيًّا تَقْدِيرًا أَوْ تَسْتَنِدُ الْحُرِّيَّةُ بِاسْتِنَادِ سَبَبِ الْأَدَاءِ إلَى مَا قَبْلَ الْمَوْتِ وَيَكُونُ أَدَاءُ خَلَفِهِ كَأَدَائِهِ) هَذَا إشَارَةٌ إلَى الْجَوَابِ عَمَّا ذَكَرَهُ الْخَصْمُ مِنْ التَّرْدِيدِ بِوَجْهَيْنِ ذَهَبَ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ يَعْتِقُ بَعْدَ الْمَوْتِ بِأَنْ يَنْزِلَ حَيًّا تَقْدِيرًا كَمَا أَنْزَلْنَا الْمَيِّتَ حَيًّا فِي حَقِّ بَقَاءِ التَّرِكَةِ عَلَى مِلْكِهِ فِيمَا إذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ مُسْتَغْرِقٌ وَفِي حَقِّ التَّجْهِيزِ وَالتَّكْفِينِ وَتَنْفِيذِ الْوَصَايَا فِي الثُّلُثِ، وَكَمَا قَدَّرْنَا الْمَوْلَى حَيًّا وَمَالِكًا وَمُعْتِقًا فِي فَصْلِ مَوْتِ الْمَوْلَى.
وَثَانِيهِمَا: أَنَّهُ يَعْتِقُ فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ حَيَاتِهِ بِأَنْ تَسْتَنِدَ الْحُرِّيَّةُ بِاسْتِنَادِ سَبَبِ الْأَدَاءِ إلَى مَا قَبْلَ الْمَوْتِ وَيُجْعَلُ أَدَاءُ خَلَفِهِ كَأَدَائِهِ بِنَفْسِهِ. هَذَا زُبْدَةُ مَا فِي شُرُوحِ هَذَا الْكِتَابِ وَغَيْرِهَا فِي هَذَا الْمَقَامِ. ثُمَّ أَقُولُ: مِنْ الْعَجَائِبِ هَاهُنَا أَنَّ صَاحِبَ الْإِصْلَاحِ وَالْإِيضَاحِ بَدَّلَ كَلِمَةَ أَوْ فِي أَوْ
وَتَرَكَ وَلَدًا مَوْلُودًا فِي الْكِتَابَةِ سَعَى فِي كِتَابَةِ أَبِيهِ عَلَى نُجُومِهِ فَإِذَا أَدَّى حَكَمْنَا بِعِتْقِ أَبِيهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَعِتْقِ الْوَلَدِ) لِأَنَّ الْوَلَدَ دَاخِلٌ فِي كِتَابَةٍ وَكَسْبُهُ كَكَسْبِهِ فَيَخْلُفُهُ فِي الْأَدَاءِ وَصَارَ كَمَا إذَا تَرَكَ وَفَاءً
(وَإِنْ تَرَكَ وَلَدًا مُشْتَرًى فِي الْكِتَابَةِ قِيلَ لَهُ إمَّا أَنْ تُؤَدِّيَ الْكِتَابَةَ حَالَّةً أَوْ تُرَدَّ رَقِيقًا) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَأَمَّا عِنْدَهُمَا يُؤَدِّيهِ إلَى أَجَلِهِ اعْتِبَارًا بِالْوَلَدِ الْمَوْلُودِ فِي الْكِتَابَةِ، وَالْجَامِعُ أَنَّهُ يُكَاتِبُ عَلَيْهِ تَبَعًا لَهُ وَلِهَذَا يَمْلِكُ الْمَوْلَى إعْتَاقَهُ بِخِلَافِ سَائِرِ أَكْسَابِهِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ أَنَّ الْأَجَلَ يَثْبُتُ شَرْطًا فِي الْعَقْدِ فَيَثْبُتُ فِي حَقِّ مَنْ دَخَلَ تَحْتَ الْعَقْدِ وَالْمُشْتَرَى لَمْ يَدْخُلْ لِأَنَّهُ لَمْ يُضِفْ إلَيْهِ الْعَقْدَ وَلَا يَسْرِي حُكْمُهُ إلَيْهِ لِانْفِصَالِهِ، بِخِلَافِ الْمَوْلُودِ فِي الْكِتَابَةِ لِأَنَّهُ مُتَّصِلٌ وَقْتَ الْكِتَابَةِ فَيَسْرِي الْحُكْمُ إلَيْهِ وَحَيْثُ دَخَلَ فِي حُكْمِهِ سَعَى فِي نُجُومِهِ
(فَإِنْ اشْتَرَى ابْنَهُ ثُمَّ مَاتَ وَتَرَكَ وَفَاءً وَرِثَهُ ابْنُهُ) لِأَنَّهُ لَمَّا حَكَمَ بِحُرِّيَّتِهِ فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ حَيَاتِهِ يُحْكَمُ بِحُرِّيَّةِ ابْنِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لِأَنَّهُ تَبَعٌ لِأَبِيهِ فِي الْكِتَابَةِ فَيَكُونُ هَذَا حُرًّا يَرِثُ عَنْ حُرٍّ (وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ هُوَ وَابْنُهُ مُكَاتَبَيْنِ كِتَابَةً وَاحِدَةً) لِأَنَّ الْوَلَدَ إنْ كَانَ صَغِيرًا فَهُوَ تَبَعٌ لِأَبِيهِ، وَإِنْ كَانَ كَبِيرًا جُعِلَا كَشَخْصٍ وَاحِدٍ، فَإِذَا حَكَمَ بِحُرِّيَّةِ الْأَبِ يَحْكُمُ بِحُرِّيَّتِهِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ عَلَى مَا مَرَّ.
تَسْتَنِدُ الْحُرِّيَّةُ بِكَلِمَةِ الْوَاوِ فَقَالَ فِي شَرْحِهِ فِي أَثْنَاءِ تَقْرِيرِ تَعْلِيلِ أَئِمَّتِنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَيَنْزِلُ حَيًّا تَقْدِيرًا وَتَسْتَنِدُ الْحُرِّيَّةُ بِاسْتِنَادِ سَبَبِ الْأَدَاءِ إلَى مَا قَبْلَ الْمَوْتِ.
وَقَالَ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى قَوْلِهِ وَتَسْتَنِدُ الْحُرِّيَّةُ: هَذَا مِنْ تَمَامِ التَّعْلِيلِ، فَمَنْ قَالَ أَوْ تَسْتَنِدُ فَقَطْ أَخْطَأَ انْتَهَى. وَفُسِّرَ الْقَائِلُ فِي حَاشِيَةٍ صُغْرَى بِصَاحِبِ الْهِدَايَةِ، وَلَا يَخْفَى عَلَى النَّاظِرِ فِي شُرُوحِ الْهِدَايَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْكُتُبِ الْمَبْسُوطَةِ أَنَّ الْمُخْطِئَ هُوَ هَذَا الْمُخَطِّئُ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ كَلِمَةِ أَوْ هُوَ الْإِشَارَةُ إلَى الْمَسْلَكَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ الْمُسْتَقِلَّيْنِ فِي إثْبَاتِ قَوْلِ أَئِمَّتِنَا فِي مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ، فَحَقُّ التَّعْبِيرِ أَنْ تُذْكَرَ كَلِمَةُ أَوْ دُونَ كَلِمَةِ الْوَاوِ، وَلَعَلَّ مَنْشَأَ غَلَطِ ذَاكَ الْمُخَطِّئِ أَنَّهُ زَعَمَ أَنَّ قَوْلَ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ أَوْ تَسْتَنِدُ الْحُرِّيَّةُ إلَخْ مَعْطُوفٌ عَلَى أَوَّلِ التَّعْلِيلِ وَهُوَ قَوْلُهُ وَلَنَا أَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَخَطَّأَهُ بِأَنَّهُ مِنْ تَمَامِ التَّعْلِيلِ الْمَذْكُورِ فَكَيْفَ يُعْطَفُ عَلَيْهِ بِكَلِمَةِ أَوْ، وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ فَيَنْزِلُ حَيًّا تَقْدِيرًا، وَأَنَّهُ لَا مَحْذُورَ فِي إتْمَامِ التَّعْلِيلِ بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ بَلْ فِيهِ تَرْبِيَةُ الْفَائِدَةِ بِتَوْسِيعِ الدَّائِرَةِ
(قَوْلُهُ وَلَا يَسْرِي حُكْمُهُ إلَيْهِ لِانْفِصَالِهِ) قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: فِيهِ بَحْثٌ انْتَهَى. أَقُولُ: الظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَهُ بِالْبَحْثِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَسْرِ حُكْمُ عَقْدِ الْكِتَابَةِ إلَيْهِ لَمَا دَخَلَ فِي كِتَابَةِ أَبِيهِ، وَقَدْ مَرَّ فِي أَوَّلِ فَصْلٍ مِنْ بَابِ مَا يَجُوزُ لِلْمُكَاتَبِ أَنْ يَفْعَلَهُ أَنَّهُ إذَا اشْتَرَى الْمُكَاتَبُ أَبَاهُ أَوْ ابْنَهُ دَخَلَ فِي كِتَابَتِهِ. وَأَيْضًا لَوْ لَمْ يَسْرِ حُكْمُهُ إلَيْهِ لَمَا عَتَقَ عِنْدَهُ بِأَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ حَالًّا، لَكِنَّهُ سَاقِطٌ بِوَجْهَيْهِ.
أَمَّا سُقُوطُ وَجْهِهِ الْأَوَّلِ فَلِأَنَّ دُخُولَ الْوَلَدِ الْمُشْتَرَى فِي كِتَابَةِ أَبِيهِ لَيْسَ لِسِرَايَةِ حُكْمِ عَقْدِ الْكِتَابَةِ الَّذِي جَرَى بَيْنَ الْمُكَاتَبِ وَمَوْلَاهُ إلَيْهِ، بَلْ يُجْعَلُ الْمُكَاتَبُ لِوَلَدِهِ بِاشْتِرَائِهِ إيَّاهُ تَحْقِيقًا لِلصِّلَةِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ كَمَا أَنَّ الْحُرَّ إذَا اشْتَرَى وَلَدَهُ يَصِيرُ مُعْتَقًا لَهُ بِالِاشْتِرَاءِ. وَأَمَّا سُقُوطُ وَجْهِ الثَّانِي فَلِأَنَّ عِتْقَ الْوَلَدِ الْمُشْتَرَى عِنْدَهُ بِأَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ حَالًّا لَيْسَ
قَالَ (وَإِنْ مَاتَ الْمُكَاتَبُ وَلَهُ وَلَدٌ مِنْ حُرَّةٍ وَتَرَكَ دَيْنًا وَفَاءً بِمُكَاتَبَتِهِ فَجَنَى الْوَلَدُ فَقُضِيَ بِهِ عَلَى عَاقِلَةِ الْأُمِّ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ قَضَاءً بِعَجْزِ الْمُكَاتَبِ) لِأَنَّ هَذَا الْقَضَاءَ يُقَرِّرُ حُكْمَ الْكِتَابَةِ، لِأَنَّ مِنْ قَضِيَّتِهَا إلْحَاقُ الْوَلَدِ بِمَوَالِي الْأُمِّ وَإِيجَابِ الْعَقْلِ عَلَيْهِمْ، لَكِنْ عَلَى وَجْهٍ يَحْتَمِلُ أَنْ يُعْتَقَ فَيَنْجَرَّ الْوَلَاءُ إلَى مَوَالِي الْأَبِ، وَالْقَضَاءُ بِمَا يُقَرِّرُ حُكْمَهُ لَا يَكُونُ تَعْجِيزًا (وَإِنْ اخْتَصَمَ مَوَالِي الْأُمِّ وَمَوَالِي الْأَبِ فِي وَلَائِهِ فَقَضَى بِهِ لِمَوَالِي الْأُمِّ فَهُوَ قَضَاءٌ بِالْعَجْزِ) لِأَنَّ هَذَا اخْتِلَافٌ فِي الْوَلَاءِ مَقْصُودًا، وَذَلِكَ يَنْبَنِي عَلَى بَقَاءِ الْكِتَابَةِ وَانْتِقَاضِهَا، فَإِنَّهَا إذَا فُسِخَتْ مَاتَ عَبْدًا وَاسْتَقَرَّ
لِأَجْلِ السِّرَايَةِ أَيْضًا بَلْ لِصَيْرُورَةِ الْمُكَاتَبِ إذْ ذَاكَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ مَاتَ عَنْ وَفَاءٍ، وَقَدْ أَفْصَحَ عَنْهُ صَاحِبُ الْكَافِي حَيْثُ قَالَ: وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُبَاعَ بَعْدَ مَوْتِهِ لِفَوَاتِ الْمَتْبُوعِ، وَلَكِنْ إذَا عَجَّلَ صَارَ كَأَنَّهُ مَاتَ عَنْ وَفَاءٍ انْتَهَى فَتَبَصَّرْ
(قَوْلُهُ وَإِنْ مَاتَ الْمُكَاتَبُ وَلَهُ وَلَدٌ مِنْ حُرَّةٍ إلَخْ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: ذَكَرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ وَاَلَّتِي بَعْدَهَا لِبَيَانِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا انْتَهَى. أَقُولُ: هَذَا كَلَامٌ لَا حَاصِلَ لَهُ، لِأَنَّ الْفَرْقَ مُتَحَقِّقٌ بَيْنَ كُلِّ مَسْأَلَتَيْنِ، وَإِلَّا لَمْ تَكُونَا مَسْأَلَتَيْنِ بَلْ صَارَتَا مَسْأَلَةً وَاحِدَةً، فَكُلُّ مَسْأَلَتَيْنِ إذَا ذُكِرَتَا يُعْرَفُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا، فَمَا وَجْهُ تَخْصِيصِ عِلِّيَّةِ بَيَانِ الْفَرْقِ بِذِكْرِ هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ؟ فَإِنْ قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ خَفِيٌّ فَكَانَ بَيَانُهُ أَهَمَّ فِيهِمَا وَلِهَذَا خَصَّ عَلِيَّتَهُ بِذِكْرِهِمَا.
قُلْنَا: خَفَاءُ الْفَرْقِ مُتَحَقِّقٌ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَسْأَلَتَيْنِ كَمَا لَا يَخْفَى، فَلَمْ يَتِمَّ وَجْهُ التَّخْصِيصِ، وَأَيْضًا لَوْ كَانَ ذِكْرُهُمَا لِمُجَرَّدِ بَيَانِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا لَمَا اسْتَحَقَّتْ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا لِلذِّكْرِ مُنْفَرِدَةً عَنْ الْأُخْرَى، وَلَا شَكَّ أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَسْأَلَةٌ مُهِمَّةٌ بِنَفْسِهَا مَقْصُودَةٌ بِالذِّكْرِ وَالْبَيَانِ، وَعَلَى أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ مَفْهُومَيْ هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ ظَاهِرٌ غَنِيٌّ عَنْ الْبَيَانِ، وَإِنَّمَا الْمُحْتَاجُ إلَى الْبَيَانِ هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ عَلِيَّتِهِمَا، وَبَيْنَ الْفَرْقِ بَيْنَ عَلِيَّتِهِمَا إنَّمَا وَقَعَ فِي الْهِدَايَةِ، وَهَاتَانِ الْمَسْأَلَتَانِ أَنْفُسُهُمَا مَذْكُورَتَانِ فِي الْبِدَايَةِ أَيْضًا بِدُونِ بَيَانِ الْعِلَّةِ، فَلَمْ يَكُنْ ذِكْرُهُمَا لِبَيَانِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا بَلْ كَانَ لِبَيَانِ حُكْمِهِمَا فِي أَنْفُسِهِمَا، وَيُفْهَمُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ الْحُكْمُ كَمَا فِي سَائِرِ الْمَسَائِلِ (قَوْلُهُ لِأَنَّ هَذَا الْقَضَاءَ يُقَرِّرُ حُكْمَ الْكِتَابَةِ، لِأَنَّ مِنْ قَضِيَّتِهَا إلْحَاقَ الْوَلَدِ بِمَوَالِي الْأُمِّ وَإِيجَابَ الْعَقْلِ عَلَيْهِمْ عَلَى وَجْهٍ يَحْتَمِلُ أَنْ يَعْتِقَ فَيَنْجَرَّ الْوَلَاءُ إلَى مَوَالِي الْأَبِ، وَالْقَضَاءُ بِمَا يُقَرَّرُ حُكْمُهُ لَا يَكُونَ تَعْجِيزًا).
قَالَ صَاحِبُ
الْوَلَاءُ عَلَى مَوَالِي الْأُمِّ، وَإِذَا بَقِيَتْ وَاتَّصَلَ بِهَا الْأَدَاءُ مَاتَ حُرًّا وَانْتَقَلَ الْوَلَاءُ إلَى مَوَالِي الْأَبِ، وَهَذَا فَصْلٌ مُجْتَهَدٌ فِيهِ فَيَنْفُذُ مَا يُلَاقِيهِ مِنْ الْقَضَاءِ فَلِهَذَا كَانَ تَعْجِيزًا.
قَالَ (وَمَا أَدَّى الْمُكَاتَبُ مِنْ الصَّدَقَاتِ إلَى مَوْلَاهُ ثُمَّ عَجَزَ فَهُوَ طَيِّبٌ لِلْمَوْلَى لِتَبَدُّلِ الْمِلْكِ) فَإِنَّ الْعَبْدَ يَتَمَلَّكُهُ صَدَقَةً وَالْمَوْلَى عِوَضًا عَنْ الْعِتْقِ، وَإِلَيْهِ وَقَعَتْ الْإِشَارَةُ النَّبَوِيَّةُ فِي حَدِيثِ بَرِيرَةَ رضي الله عنهما «هِيَ لَهَا صَدَقَةٌ وَلَنَا هَدِيَّةٌ» وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا أَبَاحَ لِلْغَنِيِّ وَالْهَاشِمِيِّ، لِأَنَّ الْمُبَاحَ لَهُ يَتَنَاوَلُهُ عَلَى مِلْكِ الْمُبِيحِ، وَنَظِيرُهُ الْمُشْتَرِي شِرَاءً فَاسِدًا إذَا أَبَاحَ لِغَيْرِهِ لَا يَطِيبُ لَهُ وَلَوْ مَلَكَهُ يَطِيبُ، وَلَوْ عَجَزَ قَبْلَ الْأَدَاءِ إلَى الْمَوْلَى فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ، وَهَذَا عِنْدَ مُحَمَّدٍ ظَاهِرٌ لِأَنَّ بِالْعَجْزِ يَتَبَدَّلُ الْمِلْكُ عِنْدَهُ، وَكَذَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَإِنْ كَانَ بِالْعَجْزِ يَتَقَرَّرُ مِلْكُ الْمَوْلَى عِنْدَهُ
الْعِنَايَةِ فِي حَلِّ هَذَا الْمَحَلِّ: لِأَنَّ هَذَا الْقَضَاءَ يُقَرِّرُ حُكْمَ الْكِتَابَةِ، وَكُلُّ مَا يُقَرِّرُ شَيْئًا لَا يُبْطِلُهُ. أَمَّا أَنَّهُ يُقَرِّرُ حُكْمَ الْكِتَابَةِ فَلِأَنَّ الْكِتَابَةَ تَسْتَلْزِمُ إلْحَاقَ الْوَلَدِ بِمَوَالِي الْأُمِّ وَإِيجَابَ الْعَقْلِ عَلَيْهِمْ عَلَى وَجْهٍ يَحْتَمِلُ أَنْ يَعْتِقَ الْمَكَاتِبُ فَيَنْجَرَّ وَلَاءُ ابْنِهِ إلَى مَوَالِيهِ، لِأَنَّ الْوَلَاءَ كَالنَّسَبِ وَالنَّسَبُ إنَّمَا يَثْبُتُ مِنْ قَوْمِ الْأُمِّ عِنْدَ تَعَذُّرِ إثْبَاتِهِ مِنْ الْأَبِ، حَتَّى لَوْ ارْتَفَعَ الْمَانِعُ مِنْ إثْبَاتِهِ مِنْهُ، كَمَا إذَا أَكْذَبَ الْمُكَاتَبُ الْمُلَاعِنُ نَفْسَهُ عَادَ النَّسَبُ إلَيْهِ فَكَذَلِكَ الْوَلَاءُ، فَكَانَ إيجَابُ الْعَقْلِ مِنْ لَوَازِمِهَا، وَثُبُوتُ اللَّازِمِ يُقَرِّرُ ثُبُوتَ مَلْزُومِهِ.
وَأَمَّا أَنَّ كُلَّ مَا يُقَرِّرُ شَيْئًا لَا يُبْطِلُهُ فَلِئَلَّا يَعُودَ عَلَى مَوْضُوعِهِ بِالنَّقْضِ انْتَهَى كَلَامُهُ. أَقُولُ: فِي تَقْرِيرِهِ نَوْعُ إشْكَالٍ عَلَى طَرِيقِ أَهْلِ الْمَعْقُولِ فَإِنَّ قَوْلَهُ ثُبُوتُ اللَّازِمِ يُقَرِّرُ ثُبُوتَ مَلْزُومِهِ مَمْنُوعٌ، إذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ ثُبُوتِ اللَّازِمِ ثُبُوتُ الْمَلْزُومِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ اللَّازِمُ أَعَمَّ مِنْ الْمَلْزُومِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ تَحَقُّقَ الْعَامِّ لَا يَسْتَلْزِمُ تَحَقُّقَ الْخَاصِّ، وَالظَّاهِرُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ عُمُومُ اللَّازِمِ لِأَنَّ إيجَابَ الْعَقْلِ عَلَى مَوَالِي الْأُمِّ يَتَحَقَّقُ فِي صُورَةِ أَنْ يَقْضِيَ بِعَجْزِ الْمَكَاتِبِ كَمَا يَتَحَقَّقُ فِي صُورَةِ أَنْ يَبْقَى عَلَى كِتَابَتِهِ فَلَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ.
ثُمَّ أَقُولُ: يُمْكِنُ دَفْعُهُ بِأَنَّ اللَّازِمَ هَاهُنَا لَيْسَ مُطْلَقَ إيجَابِ الْعَقْلِ عَلَى مَوَالِي الْأُمِّ، بَلْ إيجَابُهُ عَلَيْهِمْ عَلَى وَجْهٍ يَحْتَمِلُ أَنْ يَعْتِقَ الْمَكَاتِبُ فَيَجُرُّ وَلَاءَ ابْنِهِ إلَى مَوَالِيهِ وَإِيجَابُهُ عَلَيْهِمْ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ لَازِمٌ مُسَاوٍ لِصُورَةِ إبْقَاءِ الْكِتَابَةِ، إذْ فِي صُورَةِ الْقَضَاءِ بِالْعَجْزِ يَنْتَفِي هَذَا اللَّازِمُ بِانْتِفَاءِ جُزْئِهِ وَهُوَ احْتِمَالُ جَرِّ الْوَلَاءِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْآتِيَةِ، وَلَكِنْ بَقِيَ هَاهُنَا شَيْءٌ، وَهُوَ أَنَّ الْمَانِعَ أَنْ يَمْنَعَ ثُبُوتَ هَذَا اللَّازِمِ الْمُقَيَّدِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ، لِأَنَّ ثُبُوتَهُ فِيهِ يَتَوَقَّفُ عَلَى أَنْ لَا يَكُونَ الْقَضَاءُ بِمُوجِبِ جِنَايَةِ الْوَلَدِ عَلَى عَاقِلَةِ الْأُمِّ قَضَاءً بِعَجْزِ الْمُكَاتَبِ وَهُوَ أَوَّلُ الْمَسْأَلَةِ، فَلَا يَخْلُو التَّعْلِيلُ الْمَذْكُورُ عَنْ نَوْعِ الْمُصَادَرَةِ فَتَأَمَّلْ
(قَوْلُهُ وَمَا أَدَّى الْمُكَاتَبُ مِنْ الصَّدَقَاتِ إلَى مَوْلَاهُ ثُمَّ عَجَزَ فَهُوَ طَيِّبٌ لِلْوَلِيِّ لِتَبَدُّلِ الْمِلْكِ) وَتَبَدُّلُ الْمِلْكِ بِمَنْزِلَةِ تَبَدُّلِ الْعَيْنِ فِي الشَّرِيعَةِ، كَذَا فِي الْكَافِي وَعَامَّةِ الشُّرُوحِ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّ مِلْكَ
لِأَنَّهُ لَا خُبْثَ فِي نَفْسِ الصَّدَقَةِ، وَإِنَّمَا الْخُبْثُ فِي فِعْلِ الْآخِذِ لِكَوْنِهِ إذْلَالًا بِهِ.
وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِلْغَنِيِّ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ وَلِلْهَاشِمِيِّ لِزِيَادَةِ حُرْمَتِهِ وَالْأَخْذُ لَمْ يُوجَدْ مِنْ الْمَوْلَى فَصَارَ كَابْنِ السَّبِيلِ إذَا وَصَلَ إلَى وَطَنِهِ وَالْفَقِيرِ إذَا اسْتَغْنَى وَقَدْ بَقِيَ فِي أَيْدِيهِمَا مَا أَخَذَا مِنْ الصَّدَقَةِ فَإِنَّهُ يَطِيبُ لَهُمَا، وَعَلَى هَذَا إذَا أُعْتِقَ الْمُكَاتَبُ وَاسْتَغْنَى يَطِيبُ لَهُ مَا بَقِيَ مِنْ
الرَّقَبَةِ كَانَ لِلْمَوْلَى فَكَيْفَ يَتَحَقَّقُ تَبَدُّلُ الْمِلْكِ؟ قُلْنَا: مِلْكُ الرَّقَبَةِ لِلْمَوْلَى كَانَ مَغْلُوبًا فِي مُقَابَلَةِ مِلْكِ الْيَدِ لِلْمُكَاتَبِ، حَتَّى كَانَ لِلْمُكَاتَبِ أَنْ يَمْنَعَ الْمَوْلَى عَنْ التَّصَرُّفِ فِي مِلْكِهِ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْمَوْلَى أَنْ يَمْنَعَ الْمُكَاتَبَ عَنْ التَّصَرُّفِ فِي مِلْكِهِ، ثُمَّ بِالْعَجْزِ يَنْعَكِسُ الْأَمْرُ، وَلَيْسَ هَذَا إلَّا بِتَبَدُّلِ الْمِلْكِ لِلْمَوْلَى كَذَا قَالَ جُمْهُورُ الشُّرَّاحِ. وَاعْتِرَاضُ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ عَلَى هَذَا الْجَوَابِ حَيْثُ قَالَ بَعْدَ ذِكْرِ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ.
وَفِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ ذَلِكَ تَبَدُّلٌ، وَلَئِنْ كَانَ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ مِثْلَهُ بِمَنْزِلَةِ تَبَدُّلِ الْعَيْنِ اهـ. وَقَصَدَ الشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ دَفْعَ ذَلِكَ فَقَالَ: قُلْت أَوَّلُ كَلَامِهِ مَنْعٌ مُجَرَّدٌ، وَالثَّانِي دَعْوَى بِلَا بُرْهَانٍ اهـ.
أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ، فَإِنَّ الْمَنْعَ الْمُجَرَّدَ وَالْمَنْعَ مَعَ السَّنَدِ كِلَاهُمَا مِنْ دَأْبِ الْمُنَاظِرِينَ، غَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّ الثَّانِيَ أَقْوَى مِنْ الْأَوَّلِ، فَلَا يُفِيدُ قَوْلُهُ أَوَّلَ كَلَامِهِ مَنْعٌ مُجَرَّدٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُ وَالثَّانِي دَعْوَى بِلَا بُرْهَانٍ فَفَاسِدٌ، إذْ لَا دَعْوَى لَهُ فِي الثَّانِي بَلْ هُوَ أَيْضًا مَنْعٌ مَحْضٌ كَمَا تَرَى فَلَا يَلْزَمُهُ الْبُرْهَانُ، وَالصَّوَابُ فِي دَفْعِ ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: أَنَّ مَنْعَ التَّبَدُّلِ مُكَابَرَةٌ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ الِانْعِكَاسَ يَقْتَضِي التَّبَدُّلَ بَلْ هُوَ عَيْنُ التَّبَدُّلِ، وَإِنَّ مَنْعَ كَوْنِ مِثْلِ هَذَا التَّبَدُّلِ بِمَنْزِلَةِ تَبَدُّلِ الْعَيْنِ سَاقِطٌ، لِأَنَّ كَوْنَهُ بِمَنْزِلَةِ تَبَدُّلِ الْعَيْنِ إنَّمَا هُوَ فِي حُكْمِ الشَّرْعِ دُونَ الْحَقِيقَةِ، وَكَوْنُهُ بِمَنْزِلَةِ ذَلِكَ فِي حُكْمِ الشَّرْعِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ مِنْ قِبَلِ أَهْلِ الشَّرْعِ فَلَا مَجَالَ لِمَنْعِهِ. ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَلَعَلَّ الْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: الْمَوْلَى لَمْ يَكُنْ لَهُ مِلْكُ يَدٍ قَبْلَ الْعَجْزِ وَحَصَلَ بِهِ فَكَانَ تَبَدُّلًا اهـ.
وَرَدَّ عَلَيْهِ الشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ بِأَنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِلْكُ يَدٍ فَلَهُ مِلْكُ رَقَبَةٍ. أَقُولُ: هَذَا أَيْضًا كَلَامُ لَغْوٍ، إذْ أَنْ يَكُونَ لَهُ مِلْكُ رَقَبَةٍ قَبْلَ الْعَجْزِ لَا يُنَافِي تَحَقُّقَ التَّبَدُّلِ بِالنَّظَرِ إلَى مِلْكِ الْيَدِ، وَهُوَ كَافٍ فِي كَوْنِ مَا أُدِّيَ إلَى الْمُكَاتَبِ مِنْ الصَّدَقَاتِ طَيِّبًا لِلْمَوْلَى كَمَا صَرَّحُوا بِهِ.
وَالصَّوَابُ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِ هَاهُنَا أَنْ يُقَالَ: هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ فِي الْمَآلِ عَيْنُ الْجَوَابِ الَّذِي اخْتَارَهُ جُمْهُورُ الشُّرَّاحِ، وَأَوْرَدَ هُوَ النَّظَرَ عَلَيْهِ مَعَ مَا فِي ذَلِكَ الْجَوَابِ مِنْ الْمَزِيَّةِ وَهِيَ الْإِشَارَةُ إلَى وَجْهِ اعْتِبَارِهِمْ تَبَدُّلَ مِلْكِ الْيَدِ دُونَ بَقَاءِ مِلْكِ الرَّقَبَةِ بِأَنَّ مِلْكَ الرَّقَبَةِ مَغْلُوبٌ فِي مُقَابَلَةِ مِلْكِ الْيَدِ، فَكَانَ اعْتِبَارُ حَالِ الْغَالِبِ وَهِيَ التَّبَدُّلُ أَوْلَى مِنْ اعْتِبَارِ حَالِ الْمَغْلُوبِ وَهِيَ الْبَقَاءُ فَلَا وَجْهَ لِإِيرَادِ النَّظَرِ عَلَى ذَلِكَ الْجَوَابِ، وَذَكَرَ هَذَا مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ وَادِّعَاءُ أَنَّهُ أَوْلَى مِنْ ذَلِكَ (قَوْلُهُ لِأَنَّهُ لَا خُبْثَ فِي نَفْسِ الصَّدَقَةِ، وَإِنَّمَا الْخُبْثُ فِي فِعْلِ الْآخِذِ، إلَى قَوْلِهِ: وَالْأَخْذُ لَمْ يُوجَدْ مِنْ الْمَوْلَى).
الصَّدَقَةِ فِي يَدِهِ.
قَالَ (وَإِذَا جَنَى الْعَبْدُ فَكَاتَبَهُ مَوْلَاهُ وَلَمْ يَعْلَمْ بِالْجِنَايَةِ ثُمَّ عَجَزَ فَإِنَّهُ يَدْفَعُ أَوْ يَفْدِي) لِأَنَّ هَذَا مُوجِبُ جِنَايَةِ الْعَبْدِ فِي الْأَصْلِ وَلَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِالْجِنَايَةِ عِنْدَ الْكِتَابَةِ حَتَّى يَصِيرَ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ إلَّا أَنَّ الْكِتَابَةَ مَانِعَةٌ مِنْ الدَّفْعِ، فَإِذَا زَالَ عَادَ الْحُكْمُ الْأَصْلِيُّ (وَكَذَلِكَ إذَا جَنَى الْمُكَاتَبُ وَلَمْ يَقْضِ بِهِ حَتَّى عَجَزَ) لِمَا بَيَّنَّا مِنْ زَوَالِ الْمَانِعِ (وَإِنْ قَضَى بِهِ عَلَيْهِ فِي كِتَابَتِهِ ثُمَّ عَجَزَ فَهُوَ دَيْنٌ يُبَاعُ فِيهِ) لِانْتِقَالِ الْحَقِّ مِنْ الرَّقَبَةِ إلَى قِيمَتِهِ بِالْقَضَاءِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَقَدْ رَجَعَ أَبُو يُوسُفَ إلَيْهِ، وَكَانَ يَقُولُ أَوَّلًا يُبَاعُ فِيهِ وَإِنْ عَجَزَ قَبْلَ الْقَضَاءِ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ الدَّفْعِ وَهُوَ الْكِتَابَةُ قَائِمٌ وَقْتَ الْجِنَايَةِ، فَكَمَا وَقَعَتْ انْعَقَدَتْ مُوجِبَةً لِلْقِيمَةِ كَمَا فِي جِنَايَةِ
قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: فَعَلَى هَذَا لَوْ أَبَاحَ الْفَقِيرُ لِلْغَنِيِّ أَوْ الْهَاشِمِيِّ يَنْبَغِي أَنْ يَطِيبَ لَهُمَا عِنْدَهُ إذْ لَا أَخْذَ مِنْهُمَا كَمَا لَا يَخْفَى اهـ. أَقُولُ: إنْ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُمَا الْأَخْذُ مِنْ يَدِ الْمُتَصَدِّقِ فَقَدْ وُجِدَ مِنْهُمَا الْأَخْذُ مِنْ يَدِ الْفَقِيرِ حَيْثُ تَنَاوَلَا مَا كَانَ فِي يَدِهِ وَمِلْكِهِ فَقَدْ تَحَقَّقَ فِي حَقِّهِمَا هُنَاكَ سَبَبُ الْخُبْثِ، إذْ لَا فَرْقَ فِي إيرَاثِ الْخُبْثِ بَيْنَ أَخْذٍ مِنْ وَاحِدٍ وَأَخْذٍ مِنْ آخَرَ إذَا وُجِدَ الْإِذْلَالُ بِالْأَخْذِ، بِخِلَافِ الْمَوْلَى فِيمَا نَحْنُ فِيهِ فَإِنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الْأَخْذُ لَا مِنْ يَدِ الْمُتَصَدِّقِ وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَلَا مِنْ يَدِ الْعَبْدِ، فَإِنَّ أَكْسَابَهُ مِلْكُ مَوْلَاهُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، فَبِالْعَجْزِ لَا يَتَبَدَّلُ الْمِلْكُ فَلَا يُوجَدُ مِنْهُ الْأَخْذُ بَلْ يَبْقَى مِلْكُهُ فِي يَدِهِ عَلَى حَالِهِ كَمَا يُرْشِدُ إلَيْهِ تَشْبِيهُهُ بِابْنِ السَّبِيلِ إذَا وَصَلَ إلَى وَطَنِهِ وَالْفَقِيرِ إذَا اسْتَغْنَى وَقَدْ بَقِيَ فِي أَيْدِيهِمَا مَا أَخَذَا مِنْ الصَّدَقَةِ. فَإِنْ قُلْت: لَا شَكَّ أَنَّهُ كَانَ لِلْمُكَاتَبِ مِلْكُ الْيَدِ قَبْلَ الْعَجْزِ بِالِاتِّفَاقِ وَلِهَذَا كَانَ لَهُ مَنْعُ الْمَوْلَى عَنْ التَّصَرُّفِ فِيمَا فِي يَدِهِ، فَبِالْعَجْزِ انْتَقَلَ ذَلِكَ مِنْهُ إلَى الْمَوْلَى فَوُجِدَ مِنْ الْمَوْلَى الْأَخْذُ مِنْ يَدِ الْعَبْدِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ.
قُلْت: ذَاكَ الِانْتِقَالُ ضَرُورِيٌّ وَالْأَخْذُ فِعْلٌ اخْتِيَارِيٌّ فَلَا يُعَدُّ ذَلِكَ أَخْذًا، وَلَوْ سُلِّمَ أَنْ يُعَدَّ ذَلِكَ أَخْذًا فَاللَّازِمُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ أَخْذُ الْمَوْلَى مِلْكَ نَفْسِهِ مِنْ يَدِ عَبْدِهِ، وَاَلَّذِي كَانَ سَبَبًا لِلْخُبْثِ إنَّمَا هُوَ أَخْذُ مِلْكِ الْغَيْرِ مِنْ يَدِهِ
الْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ.
وَلَنَا أَنَّ الْمَانِعَ قَابِلٌ لِلزَّوَالِ لِلتَّرَدُّدِ وَلَمْ يَثْبُتْ الِانْتِقَالُ فِي الْحَالِ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَضَاءِ أَوْ الرِّضَا وَصَارَ كَالْعَبْدِ الْمَبِيعِ إذَا أَبَقَ قَبْلَ الْقَبْضِ يَتَوَقَّفُ الْفَسْخُ عَلَى الْقَضَاءِ لِتَرَدُّدِهِ وَاحْتِمَالِ عَوْدِهِ، كَذَا هَذَا، بِخِلَافِ التَّدْبِيرِ وَالِاسْتِيلَادِ لِأَنَّهُمَا لَا يَقْبَلَانِ الزَّوَالَ بِحَالٍ.
قَالَ (وَإِذَا مَاتَ الْمَوْلَى الْمَكَاتِبُ لَمْ تَنْفَسِخْ الْكِتَابَةُ) كَيْ لَا يُؤَدِّي إلَى إبْطَالِ حَقِّ الْمُكَاتَبِ، إذْ الْكِتَابَةُ سَبَبُ الْحُرِّيَّةِ وَسَبَبُ حَقِّ الْمَرْءِ حَقُّهُ (وَقِيلَ لَهُ أَدِّ الْمَالَ إلَى وَرَثَةِ الْمَوْلَى عَلَى نُجُومِهِ) لِأَنَّهُ اسْتِحْقَاقُ الْحُرِّيَّةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَالسَّبَبُ انْعَقَدَ كَذَلِكَ فَيَبْقَى بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَلَا يَتَغَيَّرُ، إلَّا أَنَّ الْوَرَثَةَ يَخْلُفُونَهُ
وَهُوَ يَتَحَقَّقُ عِنْدَ إبَاحَةِ الْفَقِيرِ لِلْغَنِيِّ أَوْ الْهَاشِمِيِّ فَوَضَحَ الْفَرْقُ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ مَا نَحْنُ فِيهِ
(قَوْلُهُ وَلَنَا أَنَّ الْمَانِعَ قَابِلٌ لِلزَّوَالِ لِتَرَدُّدِهِ وَلَمْ يَثْبُتْ الِانْتِقَالُ فِي الْحَالِ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَضَاءِ أَوْ الرِّضَا) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ وَلَمْ يَثْبُتْ الِانْتِقَالُ فِي الْحَالِ مُتَنَازَعٌ فِيهِ، لِأَنَّ مَذْهَبَ زُفَرَ رحمه الله أَنَّ جِنَايَةَ الْمُكَاتَبِ تَصِيرُ مَالًا فِي الْحَالِ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى الرِّضَا أَوْ الْقَضَاءِ فَمَا وَجْهُ
فِي الِاسْتِيفَاءِ (فَإِنْ أَعْتَقَهُ أَحَدُ الْوَرَثَةِ لَمْ يَنْفُذْ عِتْقُهُ) لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهُ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمُكَاتِبَ لَا يَمْلِكُ بِسَائِرِ أَسْبَابِ الْمِلْكِ فَكَذَا بِسَبَبِ الْوِرَاثَةِ.
وَإِنْ أَعْتَقُوهُ جَمِيعًا عَتَقَ وَسَقَطَ عَنْهُ بَدَلُ الْكِتَابَةِ لِأَنَّهُ يَصِيرُ إبْرَاءً عَنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ فَإِنَّهُ حَقُّهُمْ وَقَدْ جَرَى فِيهِ الْإِرْثُ، وَإِذَا بَرِئَ الْمُكَاتَبُ عَنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ يُعْتَقُ كَمَا إذَا أَبْرَأَهُ مَوْلَاهُ، إلَّا أَنَّهُ إذَا أَعْتَقَهُ أَحَدُ الْوَرَثَةِ لَا يَصِيرُ إبْرَاءً عَنْ نَصِيبِهِ، لِأَنَّا نَجْعَلُهُ إبْرَاءَ اقْتِضَاءٍ تَصْحِيحًا لِعِتْقِهِ. وَالْعِتْقُ لَا يَثْبُتُ بِإِبْرَاءِ الْبَعْضِ أَوْ أَدَائِهِ فِي الْمُكَاتَبِ لَا فِي بَعْضِهِ وَلَا فِي كُلِّهِ، وَلَا وَجْهَ إلَى إبْرَاءِ الْكُلِّ لِحَقِّ بَقِيَّةِ الْوَرَثَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
أَخْذِهِ فِي الدَّلِيلِ؟ قُلْنَا ظُهُورُهُ، فَإِنَّ التَّرَدُّدَ فِي زَوَالِ الْمَانِعِ يَمْنَعُ الِانْتِقَالَ لِإِمْكَانِ عَوْدِ الْمُوجِبِ الْأَصْلِيِّ اهـ كَلَامُهُ.
أَقُولُ: فِيهِ بَحْثٌ، إذْ لِمَانِعٍ أَنْ يَمْنَعَ أَنَّ مُجَرَّدَ التَّرَدُّدِ فِي زَوَالِ الْمَانِعِ يَمْنَعُ الِانْتِقَالَ، كَيْفَ وَهَذَا التَّرَدُّدُ مُتَحَقِّقٌ فِيمَا إذَا عَجَزَ بَعْدَ الْقَضَاءِ أَيْضًا مَعَ ثُبُوتِ الِانْتِقَالِ هُنَاكَ بِالِاتِّفَاقِ فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ لَا يَمْنَعَ هَاهُنَا أَيْضًا كَمَا هُوَ مَذْهَبُ زُفَرَ وَقَوْلُ أَبِي يُوسُفَ أَوَّلًا؟ فَمِنْ أَيْنَ يَثْبُتُ الظُّهُورُ، وَلَوْ سُلِّمَ أَنَّ مُجَرَّدَ التَّرَدُّدِ فِي زَوَالِ الْمَانِعِ يَمْنَعُ الِانْتِقَالَ فِي الْحَالِ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ وَلَمْ يَثْبُتْ الِانْتِقَالُ فِي الْحَالِ مُسْتَدْرَكًا بَعْدَ أَنْ قَالَ إنَّ الْمَانِعَ قَابِلٌ لِلزَّوَالِ لِلتَّرَدُّدِ، أَوْ كَانَ حَقُّهُ أَنْ يَقُولَ فَلَمْ يَثْبُتْ الِانْتِقَالُ فِي الْحَالِ بِالتَّفْرِيعِ عَلَى مَا قَبْلَهُ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى ذِي مُسْكَةٍ، وَكَأَنَّ صَاحِبَ الْكَافِي تَنَبَّهَ لِهَذَا حَيْثُ قَالَ: وَلَمَّا كَانَ الْمَانِعُ مُتَرَدِّدًا لَمْ يَثْبُتْ الِانْتِقَالُ عَنْ الْمُوجِبِ الْأَصْلِيِّ إلَّا بِالْقَضَاءِ أَوْ الرِّضَا.
(كِتَابُ الْوَلَاءِ)
أَوْرَدَ كِتَابَ الْوَلَاءِ عَقِيبَ كِتَابِ الْمُكَاتَبِ، لِأَنَّ الْوَلَاءَ مِنْ آثَارِ التَّكَاتُبِ بِزَوَالِ مِلْكِ الرَّقَبَةِ عِنْدَ أَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ مِنْ آثَارِ الْإِعْتَاقِ أَيْضًا إلَّا أَنَّ مُوجِبَاتِ تَرْتِيبِ الْكُتُبِ السَّابِقَةِ سَاقَتْ التَّكَاتُبَ إلَى هَذَا الْمَوْضِعِ فَوَجَبَ تَأْخِيرُ كِتَابِ الْوَلَاءِ عَنْ كِتَابِ الْمُكَاتَبِ لِئَلَّا يَتَقَدَّمَ الْأَثَرُ عَلَى الْمُؤَثِّرِ، ثُمَّ إنَّ الْوَلَاءَ لُغَةً مُشْتَقٌّ مِنْ الْوَلْيِ وَهُوَ الْقُرْبُ، وَحُصُولُ الثَّانِي بَعْدَ
كِتَابُ الْوَلَاءِ
الْوَلَاءُ نَوْعَانِ: وَلَاءُ عَتَاقَةٍ وَيُسَمَّى وَلَاءَ نِعْمَةٍ.
وَسَبَبُهُ الْعِتْقُ عَلَى مُلْكِهِ فِي الصَّحِيحِ، حَتَّى لَوْ عَتَقَ قَرِيبُهُ عَلَيْهِ بِالْوِرَاثَةِ كَانَ الْوَلَاءُ لَهُ. وَوَلَاءُ مُوَالَاةٍ، وَسَبَبُهُ الْعَقْدُ وَلِهَذَا يُقَالُ وَلَاءُ الْعَتَاقَةِ وَوَلَاءُ الْمُوَالَاةِ، وَالْحُكْمُ يُضَافُ إلَى
الْأَوَّلِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ وَيُسَمَّى وَلَاءُ الْعَتَاقَةِ وَوَلَاءُ الْمُوَالَاةِ بِهِ لِأَنَّ حُكْمَهُمَا وَهُوَ الْإِرْثُ يَقْرُبُ وَيَحْصُلُ عِنْدَ وُجُودِ شَرْطِهِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ، وَقِيلَ الْوَلَاءُ وَالْوَلَايَةُ بِالْفَتْحِ النُّصْرَةُ وَالْمَحَبَّةُ، إلَّا أَنَّهُ اخْتَصَّ فِي الشَّرْعِ بِوَلَاءِ الْعِتْقِ وَوَلَاءِ الْمُوَالَاةِ.
فَالْوَلَاءُ شَرْعًا عِبَارَةٌ عَنْ التَّنَاصُرِ سَوَاءٌ كَانَ بِالْإِعْتَاقِ أَوْ بِعَقْدِ الْمُوَالَاةِ، وَلِهَذَا قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ وَالْمَطْلُوبُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا التَّنَاصُرُ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ
أَقُولُ: فِيهِ فُتُورٌ.
أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْوَلِيَّ صِفَةُ الثَّانِي مِنْ الْمُتَقَارِبَيْنِ كَمَا يُفْصِحُ عَنْهُ قَوْلُهُ وَحُصُولُ الثَّانِي بَعْدَ الْأَوَّلِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ فَهُوَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ صِفَةُ حُكْمِ وَلَاءِ الْعَتَاقَةِ وَوَلَاءِ الْمُوَالَاةِ لَا صِفَةُ أَنْفُسِهِمَا فَكَيْفَ نُحْسِنُ تَسْمِيَتَهُمَا بِمَا لَا يَقُومُ مَعْنَى مَأْخَذِ اشْتِقَاقِهِ بِهِمَا بَلْ بِمَا هُوَ خَارِجٌ عَنْهُمَا وَهُوَ حُكْمُهُمَا.
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ مَا ذُكِرَ فِي الْمَبْسُوطِ مِنْ أَنَّ الْمَطْلُوبَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا التَّنَاصُرُ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ التَّنَاصُرِ غَيْرَهُمَا لِأَنْفُسِهِمَا، إذْ لَا يَخْفَى عَلَى الْفَطِنِ أَنَّ الْمَطْلُوبَ بِالشَّيْءِ لَا يَكُونُ نَفْسَهُ بَلْ يَكُونُ أَمْرًا مُغَايِرًا لَهُ، إذْ لَا مَعْنَى لِكَوْنِ الشَّيْءِ وَسِيلَةً إلَى نَفْسِهِ فَكَيْفَ يَتِمُّ الِاسْتِشْهَادُ عَلَى كَوْنِ وَلَاءِ الْعَتَاقَةِ وَوَلَاءِ الْمُوَالَاةِ فِي الشَّرْعِ عِبَارَةً عَنْ التَّنَاصُرِ بِأَنْ قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ وَالْمَطْلُوبُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا التَّنَاصُرُ، وَقَالَ فِي الْعِنَايَةِ:
الْوَلَاءُ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ النُّصْرَةِ وَالْمَحَبَّةِ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ الْوَلْيِ وَهُوَ الْقُرْبُ، وَحُصُولُ الثَّانِي بَعْدَ الْأَوَّلِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ. وَفِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ عِبَارَةٌ عَنْ تَنَاصُرٍ يُوجِبُ الْإِرْثَ وَالْعَقْلَ اهـ.
أَقُولُ: فِيهِ خَلَلٌ، لِأَنَّ الْوَلَاءَ الْمُشْتَقَّ مِنْ الْوَلْيِ الَّذِي هُوَ الْقُرْبُ لَا يَكُونُ عِبَارَةً عَنْ النُّصْرَةِ وَالْمَحَبَّةِ بَلْ يَكُونُ عِبَارَةً عَنْ الْقَرَابَةِ، لِأَنَّ الِاشْتِقَاقَ أَنْ تَجِدَ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ تَنَاسُبًا فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى، وَلَا تَنَاسُبَ فِي الْمَعْنَى بَيْنَ الْوَلْيِ الَّذِي مَعْنَاهُ الْقُرْبُ وَبَيْنَ الْوَلَاءِ بِمَعْنَى النُّصْرَةِ وَالْمَحَبَّةِ، وَإِنَّمَا التَّنَاسُبُ فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى بَيْنَ الْوَلْيِ بِمَعْنَى الْقُرْبِ وَبَيْنَ الْوَلَاءِ بِمَعْنَى الْقَرَابَةِ. وَعَنْ هَذَا قَالَ فِي الْكَافِي وَالْكِفَايَةِ: هُوَ مِنْ الْوَلْيِ بِمَعْنَى الْقُرْبِ، وَيُقَالُ بَيْنَهُمَا وَلَاءٌ: أَيْ قَرَابَةٌ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ» أَيْ وَصْلَةٌ كَوَصْلَةِ النَّسَبِ اهـ. فَالْوَلَاءُ الَّذِي يَكُونُ عِبَارَةٌ عَنْ النُّصْرَةِ وَالْمَحَبَّةِ إنَّمَا يُشْتَقُّ مِنْ الْوَلَايَةِ بِالْفَتْحِ بِمَعْنَى النُّصْرَةِ، وَعَنْ هَذَا قَالَ فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ بَعْدَ بَيَانِ كَوْنِ الْوَلَاءِ فِي اللُّغَةِ مُشْتَقًّا مِنْ الْوَلْيِ بِمَعْنَى الْقُرْبِ: وَقِيلَ الْوَلَاءُ وَالْوَلَايَةُ بِالْفَتْحِ النُّصْرَةُ وَالْمَحَبَّةُ إلَّا أَنَّهُ اخْتَصَّ فِي الشَّرْعِ بِوَلَاءِ الْعَتَاقَةِ وَوَلَاءِ الْمُوَالَاةِ اهـ. وَقَالَ فِي التَّبْيِينِ: هُوَ مِنْ الْوَلْيِ فَهُوَ قَرَابَةٌ حُكْمِيَّةٌ حَاصِلَةٌ مِنْ الْعِتْقِ أَوْ الْمُوَالَاةِ. ثُمَّ قَالَ: أَوْ مِنْ الْمُوَالَاةِ وَهِيَ مُفَاعَلَةٌ مِنْ الْوَلَايَةِ بِالْفَتْحِ وَهُوَ النُّصْرَةُ وَالْمَحَبَّةُ إلَّا أَنَّهُ اخْتَصَّ فِي الشَّرْعِ بِوَلَاءِ الْعَتَاقَةِ وَوَلَاءِ الْمُوَالَاةِ اهـ. فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ قَوْلَ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ الْوَلَاءُ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ النُّصْرَةِ وَالْمَحَبَّةِ وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ الْوَلْيِ وَهُوَ الْقُرْبُ خَلْطٌ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ وَإِخْلَالٌ بِحَقِّ الْبَيَانِ
(قَوْلُهُ وَسَبَبُهُ الْعِتْقُ عَلَى مِلْكِهِ فِي الصَّحِيحِ، حَتَّى لَوْ عَتَقَ قَرِيبُهُ عَلَيْهِ بِالْوِرَاثَةِ كَانَ الْوَلَاءُ لَهُ) إنَّمَا قَيَّدَ بِقَوْلِهِ فِي الصَّحِيحِ احْتِرَازًا عَنْ قَوْلِ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ سَبَبُهُ الْإِعْتَاقُ وَيَسْتَدِلُّونَ بِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» وَلَكِنَّهُ ضَعِيفٌ، فَإِنَّ مَنْ وَرِثَ قَرِيبَهُ فَعَتَقَ عَلَيْهِ كَانَ وَلَاؤُهُ لَهُ وَلَا
سَبَبِهِ، وَالْمَعْنَى فِيهِمَا التَّنَاصُرُ، وَكَانَتْ الْعَرَبُ تَتَنَاصَرُ بِأَشْيَاءَ، وَقَرَّرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم تَنَاصُرَهُمْ بِالْوَلَاءِ بِنَوْعَيْهِ فَقَالَ:«إنَّ مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْهُمْ وَحَلِيفُهُمْ مِنْهُمْ» وَالْمُرَادُ بِالْحَلِيفِ مَوْلَى الْمُوَالَاةِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُؤَكِّدُونَ الْمُوَالَاةَ بِالْحِلْفِ.
قَالَ (وَإِذَا أَعْتَقَ الْمَوْلَى مَمْلُوكَهُ فَوَلَاؤُهُ لَهُ) لِقَوْلِ عليه الصلاة والسلام «الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ»
إعْتَاقَ هُنَاكَ، فَالصَّحِيحُ أَنَّ سَبَبَهُ الْعِتْقُ عَلَى مِلْكِهِ، أَلَا يَرَى أَنَّهُ يُقَالُ: وَلَاءُ الْعَتَاقَةِ وَلَا يُقَالُ وَلَاءُ الْإِعْتَاقِ، وَالْحُكْمُ يُضَافُ إلَى سَبَبِهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» فَالْمُرَادُ أَنَّ الْوَلَاءَ لَهُ بِسَبَبِ الْعِتْقِ لَا بِسَبَبِ الْإِعْتَاقِ، فَإِنَّ فِي الْإِعْتَاقِ عِتْقًا بِدُونِ الْعَكْسِ، هَذَا زُبْدَةُ مَا فِي جُمْلَةِ الشُّرُوحِ هَاهُنَا.
وَقَالَ فِي الْبَدَائِعِ: أَمَّا سَبَبُ ثُبُوتِهِ فَالْعِتْقُ سَوَاءٌ كَانَ الْعِتْقُ حَاصِلًا بِصُنْعِهِ وَهُوَ الْإِعْتَاقُ أَوْ مَا يَجْرِي مُجْرَى الْإِعْتَاقِ شَرْعًا كَشِرَاءِ الْقَرِيبِ وَقَبُولِ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْوَصِيَّةِ، أَوْ بِغَيْرِ صُنْعِهِ بِأَنْ وَرِثَ قَرِيبَهُ، وَسَوَاءٌ أَعْتَقَهُ تَطَوُّعًا أَوْ عَنْ وَاجِبٍ عَلَيْهِ كَالْإِعْتَاقِ عَنْ كَفَّارَةِ الْقَتْلِ وَالظِّهَارِ وَالْإِفْطَارِ وَالْيَمِينِ وَالنَّذْرِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْإِعْتَاقُ بِغَيْرِ بَدَلٍ أَوْ بِبَدَلٍ وَهُوَ الْإِعْتَاقُ عَلَى مَالٍ، وَسَوَاءٌ كَانَ مُنَجَّزًا أَوْ مُعَلَّقًا بِشَرْطٍ أَوْ مُضَافًا إلَى وَقْتٍ، وَسَوَاءٌ كَانَ صَرِيحًا أَوْ يَجْرِي مَجْرَى الصَّرِيحِ أَوْ كِنَايَةً أَوْ يَجْرِي مَجْرَى الْكِنَايَةِ، وَكَذَا الْعِتْقُ الْحَاصِلُ بِالتَّدْبِيرِ وَالِاسْتِيلَادِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ إلَى هُنَا لَفْظُ الْبَدَائِعِ. أَقُولُ: كَوْنُ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ أَصْلًا فِي حَقِّ الصُّوَرِ الْمَزْبُورَةِ كُلِّهَا مَحَلُّ نَظَرٍ، فَإِنَّ فِي صُورَةِ إنْ كَانَ الْعِتْقُ حَاصِلًا بِغَيْرِ صُنْعِهِ كَمَا إذَا وَرِثَ قَرِيبَهُ لَا يُوجَدُ الْإِعْتَاقُ فَلَا تَنْدَرِجُ تَحْتَ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» فَلْيُتَأَمَّلْ فِي الدَّفْعِ (قَوْلُهُ وَالْمَعْنَى فِيهِمَا التَّنَاصُرُ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: قَوْلُهُ وَالْمَعْنَى فِيهِمَا التَّنَاصُرُ بَيَانُ مَفْهُومِهِمَا الشَّرْعِيِّ اهـ. أَقُولُ: فِيهِ بَحْثٌ، إذْ لَيْسَ مَفْهُومُهُمَا الشَّرْعِيُّ مُطْلَقَ التَّنَاصُرِ، بَلْ تَنَاصُرٌ يُوجِبُ الْإِرْثَ وَالْعَقْلَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الشَّارِحُ الْمَزْبُورُ وَغَيْرُهُ، وَبِهَذَا الْخُصُوصِ يَمْتَازُ مَفْهُومُهُمَا الشَّرْعِيُّ عَنْ مَفْهُومِهِمَا اللُّغَوِيِّ كَمَا عَرَفْت، فَلَوْ كَانَ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ الْمَذْكُورِ بَيَانَ مَفْهُومِهِمَا الشَّرْعِيِّ لَمَا أَطْلَقَ التَّنَاصُرَ بَلْ خَصَّصَهُ بِمَا هُوَ الْمُعْتَبَرُ فِي مَفْهُومِهِمَا الشَّرْعِيِّ، عَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ مُرَادُهُ بَيَانَ مَفْهُومِهِمَا لُغَوِيًّا كَانَ أَوْ شَرْعِيًّا لَقَالَ وَمَعْنَاهُمَا التَّنَاصُرُ دُونَ أَنْ يَقُولَ وَالْمَعْنَى فِيهِمَا التَّنَاصُرُ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ لَهُ دُرْبَةٌ بِأَسَالِيبِ الْكَلَامِ. وَالْحَقُّ أَنَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ الْمَذْكُورِ بَيَانُ الْمَقْصُودِ مِنْهُمَا لَا بَيَانُ مَفْهُومِهِمَا، وَعَنْ هَذَا قَالَ صَاحِبُ الْكَافِي بَدَلَ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ وَالْمَعْنَى فِيهِمَا التَّنَاصُرُ، وَالْمَطْلُوبُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا التَّنَاصُرُ كَمَا قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ أَيْضًا كَذَلِكَ كَمَا مَرَّ تَدَبَّرْ تَرْشُدْ
(قَوْلُهُ وَإِذَا أَعْتَقَ الْمَوْلَى مَمْلُوكَهُ فَوَلَاؤُهُ لَهُ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ») قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ الْحُكْمَ إذَا تَرَتَّبَ عَلَى مُشْتَقٍّ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُشْتَقَّ مِنْهُ عِلَّةٌ لِذَلِكَ الْحُكْمِ اهـ.
أَقُولُ: لَا يَذْهَبْ عَلَيْكَ أَنَّ حَلَّ هَذَا الْمَحَلِّ بِهَذَا الْوَجْهِ لَيْسَ بِسَدِيدٍ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ الْمَطْلُوبَ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَيَانُ مَنْ لَهُ الْوَلَاءُ لَا بَيَانُ عِلَّةِ الْوَلَاءِ، وَالْوَجْهُ الْمَذْكُورُ إنَّمَا يُفِيدُ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ فَلَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ، وَالصَّوَابُ أَنَّ وَجْهَ الِاسْتِدْلَالِ هَاهُنَا هُوَ أَنَّ لَامَ الْجِنْسِ فِي قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام " الْوَلَاءُ " وَلَامَ الِاخْتِصَاصِ فِي قَوْلِهِ " لِمَنْ أَعْتَقَ " تَدُلَّانِ عَلَى أَنَّ جِنْسَ الْوَلَاءِ لِمَنْ أَعْتَقَ دُونَ غَيْرِهِ كَمَا قَالُوا فِي قَوْله تَعَالَى {الْحَمْدُ لِلَّهِ} دَلَّ بِلَامَيْ الْجِنْسِ وَالِاخْتِصَاصِ عَلَى اخْتِصَاصِ جِنْسِ الْمَحَامِدِ بِاَللَّهِ تَعَالَى. ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ:
وَلِأَنَّ التَّنَاصُرَ بِهِ فَيَعْقِلُهُ وَقَدْ أَحْيَاهُ مَعْنًى بِإِزَالَةِ الرِّقِّ عَنْهُ فَيَرِثُهُ وَيَصِيرُ الْوَلَاءُ كَالْوِلَادِ، وَلِأَنَّ الْغُنْمَ بِالْغُرْمِ، وَكَذَا الْمَرْأَةُ تَعْتِقُ لِمَا رَوَيْنَا
فَإِنْ قِيلَ: الِاسْتِدْلَال بِهِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ يُنَاقِضُ جَعْلَ الْعِتْقِ سَبَبًا لِأَنَّ أَعْتَقَ مُشْتَقٌّ مِنْ الْإِعْتَاقِ.
فَالْجَوَابُ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الِاشْتِقَاقِ هُوَ مَصْدَرُ الثُّلَاثِيِّ وَهُوَ الْعِتْقُ انْتَهَى كَلَامُهُ. أَقُولُ: فِي جَوَابِهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ كَوْنَ مَصْدَرِ الثُّلَاثِيِّ أَصْلًا فِي الِاشْتِقَاقِ لَا يَسْتَدْعِي كَوْنَهُ أَصْلًا فِي الْعِلِّيَّةِ لِتَرَتُّبِ الْحُكْمِ عَلَى الْمُشْتَقِّ مِنْ الْمَزِيدِ عَلَيْهِ كَمَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ مَصَادِرِ الْمَزِيدَاتِ يَصْلُحُ عِلَّةً لِمَا لَا يَصْلُحُ لَهُ مَصَادِرُ الثُّلَاثِيِّ؛ أَلَا يُرَى أَنَّ الْإِعْتَاقَ مَثَلًا يَكُونُ عِلَّةً لِلْعِتْقِ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْعِتْقَ لَا يَكُونُ عِلَّةً لِنَفْسِهِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الصُّوَرِ، وَمَدَارُ السُّؤَالِ عَلَى الْعِلِّيَّةِ فَلَا يَدْفَعُهُ الْجَوَابُ الْمَزْبُورُ (قَوْلُهُ وَلِأَنَّ التَّنَاصُرَ بِهِ فَيَعْقِلُهُ وَقَدْ أَحْيَاهُ مَعْنًى بِإِزَالَةِ الرِّقِّ عَنْهُ فَيَرِثُهُ وَيَصِيرُ الْوَلَاءُ كَالْوِلَادِ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ: قَوْلُهُ وَلِأَنَّ التَّنَاصُرَ بِهِ: أَيْ بِسَبَبِ الْإِعْتَاقِ دَلِيلٌ عَلَى الْأَثَرَيْنِ الثَّابِتَيْنِ بِهِ وَهُوَ الْعَقْلُ وَالْمِيرَاثُ، وَتَقْرِيرُهُ الْمَوْلَى يَنْتَصِرُ بِمَوْلَاهُ بِسَبَبِ الْعِتْقِ، وَمَنْ يَنْتَصِرُ بِشَخْصٍ يَعْقِلُهُ لِأَنَّ الْغُنْمَ بِالْغُرْمِ فَحَيْثُ يَغْنَمُ بِنَصْرِهِ يَغْنَمُ عَقْلَهُ، وَالْمَوْلَى أَحْيَاهُ مَعْنًى بِإِزَالَةِ الرِّقِّ عَنْهُ لِأَنَّ الرَّقِيقَ هَالِكٌ حُكْمًا؛ أَلَا يُرَى أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ فِي حَقِّهِ كَثِيرٌ مِنْ الْأَحْكَامِ الَّتِي تَعَلَّقَتْ بِالْإِحْيَاءِ نَحْوِ الْقَضَاءِ وَالشَّهَادَةِ وَالسَّعْيِ إلَى الْجُمُعَةِ وَالْخُرُوجِ إلَى الْعِيدَيْنِ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ، وَبِالْإِعْتَاقِ تَثْبُتُ هَذِهِ الْأَحْكَامُ فِي حَقِّهِ فَكَانَ إحْيَاءً مَعْنًى، وَمَنْ أَحْيَا غَيْرَهُ مَعْنًى وَرِثَهُ كَالْوَالِدِ فَيَصِيرُ الْوَلَاءُ كَالْوِلَادِ وَالْوِلَادُ يُوجِبُ الْإِرْثَ فَكَذَلِكَ الْوَلَاءُ اهـ كَلَامُهُ.
أَقُولُ: فِي أَوَائِلِ تَقْرِيرِهِ الدَّلِيلَ خَلَلٌ، لِأَنَّهُ اعْتَبَرَ النَّصْرَ فِي جَانِبِ الْمَوْلَى بِمَعْنَى الْمُعْتَقِ بِالْفَتْحِ، وَالِانْتِصَارَ فِي جَانِبِ الْمَوْلَى بِمَعْنَى الْمُعْتِقِ بِالْكَسْرِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ تَأَمَّلَ فِي بَسْطِ كَلَامِهِ سِيَّمَا فِي قَوْلِهِ فَحَيْثُ يَغْنَمُ بِنَصْرِهِ يَغْرَمُ عَقْلَهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْعَكْسِ، إذْ الْمُعْتَقُ بِالْفَتْحِ يَنْتَصِرُ بِنَصْرِ الْمُعْتِقِ بِالْكَسْرِ حَيْثُ يَنَالُ شَرَفَ الْحُرِّيَّةِ بِسَبَبِ إعْتَاقِ ذَلِكَ إيَّاهُ فَهُوَ الْغَانِمُ، وَأَيْضًا قَدْ اسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَنْ يَنْتَصِرُ بِشَخْصٍ يَعْقِلُهُ بِأَنَّ الْغُنْمَ بِالْغُرْمِ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّهُ إنْ رَجَعَ ضَمِيرُ الْفَاعِلِ الْمُسْتَتِرِ فِي يَعْقِلُهُ إلَى مَنْ يَنْتَصِرُ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ سَوْقِ كَلَامِهِ لَمْ يَصِحَّ الْمُدَّعَى فِي نَفْسِهِ وَمَعَ ذَلِكَ لَا يُطَابِقُهُ الدَّلِيلُ الْمَذْكُورُ.
أَمَّا عَدَمُ صِحَّةِ الْمُدَّعَى فِي نَفْسِهِ فَلِأَنَّ الْعَاقِلَ فِي الشَّرْعِ هُوَ النَّاصِرُ لَا الْمُنْتَصِرُ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي مَوْضِعِهِ.
وَأَمَّا عَدَمُ مُطَابَقَةِ الدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ إيَّاهُ فَلِأَنَّ الْمُدَّعَى حِينَئِذٍ وُجُوبُ الْعَقْلِ الَّذِي هُوَ الْغُرْمُ بِالِانْتِصَارِ الَّذِي هُوَ الْغُنْمُ، وَالدَّلِيلُ الْمَذْكُورُ إنَّمَا يُفِيدُ عَكْسَ ذَلِكَ، فَالدَّلِيلُ الْمُطَابِقُ لَهُ عَكْسُ مَا ذَكَرَ وَهُوَ الْغُرْمُ بِالْغُنْمِ كَمَا هُوَ نَظْمُ الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ وَمَرَّ فِي هَذَا الْكِتَابِ أَيْضًا فِي بَابِ النَّفَقَةِ مِنْ كِتَابِ الطَّلَاقِ، وَإِنْ رَجَعَ ذَلِكَ الضَّمِيرُ إلَى شَخْصٍ فِي قَوْلِهِ مَنْ يَنْتَصِرُ بِشَخْصٍ لَمْ يَصِحَّ الدَّلِيلُ الْمَذْكُورُ أَصْلًا لِأَنَّ الْغَانِمَ هُوَ الْمُنْتَصِرُ بِشَخْصٍ وَالْغَارِمُ وَهُوَ ذَلِكَ الشَّخْصُ النَّاصِرُ. فَلَمْ يَجْتَمِعْ الْغُنْمُ وَالْغُرْمُ فِي شَخْصٍ وَاحِدٍ حَتَّى يَصِحَّ الِاسْتِدْلَال بِأَنَّ الْغُنْمَ بِالْغُرْمِ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ غُنْمَ شَخْصٍ لَا يَصِيرُ سَبَبًا لِغُرْمِ شَخْصٍ آخَرَ وَلَا الْعَكْسُ.
ثُمَّ أَقُولُ: الصَّوَابُ أَنَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ وَلِأَنَّ التَّنَاصُرَ بِهِ فَيَعْقِلُهُ هُوَ أَنَّ الْمُعْتَقَ بِالْفَتْحِ يَنْتَصِرُ بِنَصْرِ الْمُعْتِقِ بِالْكَسْرِ بِسَبَبِ إعْتَاقِهِ إيَّاهُ فَيَعْقِلُهُ: أَيْ فَيَعْقِلُ الْمُعْتِقُ بِالْكَسْرِ الْمُعْتَقَ بِالْفَتْحِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَدَارَ الْعَقْلِ أَنْ يَكُونَ نَاصِرًا كَمَا تَقَرَّرَ فِي كِتَابِ الْمَعَاقِلِ حَيْثُ صَرَّحُوا فِيهِ بِأَنَّ وَجْهَ ضَمِّ الْعَاقِلَةِ إلَى الْجَانِي فِي الدِّيَةِ دُونَ غَيْرِهِمْ هُوَ أَنَّ الْجَانِيَ إنَّمَا قَصْرُ الْقُوَّةِ فِيهِ وَتِلْكَ بِأَنْصَارِهِ وَهُمْ الْعَاقِلَةُ فَكَانُوا هُمْ الْمُقَصِّرِينَ فِي تَرْكِهِمْ مُرَاقَبَتَهُ فَخُصُّوا بِالضَّمِّ إلَيْهِ (قَوْلُهُ وَلِأَنَّ الْغُنْمَ بِالْغُرْمِ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: قَوْلُهُ وَلِأَنَّ الْغُنْمَ بِالْغُرْمِ يَخْدُمُ الْوَجْهَيْنِ فَلِهَذَا أَخَّرَهُ اهـ.
«وَمَاتَ مُعْتَقٌ لِابْنَةِ حَمْزَةَ رضي الله عنهما عَنْهَا وَعَنْ بِنْتٍ فَجَعَلَ النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام الْمَالَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ» . وَيُسْتَوَى فِيهِ الْإِعْتَاقُ بِمَالٍ وَبِغَيْرِهِ لِإِطْلَاقِ مَا ذَكَرْنَاهُ.
قَالَ (فَإِنْ شَرَطَ أَنَّهُ سَائِبَةٌ فَالشَّرْطُ بَاطِلٌ وَالْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ) لِأَنَّ الشَّرْطَ مُخَالِفٌ لِلنَّصِّ فَلَا يَصِحُّ.
قَالَ (وَإِذَا أَدَّى الْمُكَاتَبُ عَتَقَ وَوَلَاؤُهُ لِلْمَوْلَى وَإِنْ عَتَقَ بَعْدَ مَوْتِ الْمَوْلَى) لِأَنَّهُ عَتَقَ عَلَيْهِ بِمَا بَاشَرَ مِنْ السَّبَبِ وَهُوَ الْكِتَابَةُ وَقَدْ قَرَّرْنَاهُ فِي الْمُكَاتَبِ (وَكَذَا الْعَبْدُ الْمُوصَى بِعِتْقِهِ أَوْ بِشِرَائِهِ وَعِتْقِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ) لِأَنَّ فِعْلَ الْوَصِيِّ بَعْدَ مَوْتِهِ كَفِعْلِهِ وَالتَّرِكَةُ عَلَى حُكْمِ مِلْكِهِ
(وَإِنْ مَاتَ الْمَوْلَى عَتَقَ مُدَبَّرُوهُ وَأُمَّهَاتُ أَوْلَادِهِ) لِمَا بَيَّنَّا فِي الْعَتَاقِ (وَوَلَاؤُهُمْ لَهُ) لِأَنَّهُ أَعْتَقَهُمْ بِالتَّدْبِيرِ وَالِاسْتِيلَادِ
(وَمَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ عَتَقَ عَلَيْهِ) لِمَا بَيَّنَّا فِي الْعَتَاقِ (وَوَلَاؤُهُ لَهُ) لِوُجُودِ السَّبَبِ وَهُوَ الْعِتْقُ عَلَيْهِ
(وَإِذَا تَزَوَّجَ عَبْدُ رَجُلٍ أَمَةً لِآخَرَ فَأَعْتَقَ مَوْلَى الْأَمَةِ الْأَمَةَ وَهِيَ حَامِلٌ مِنْ الْعَبْدِ عَتَقَتْ وَعَتَقَ حَمْلُهَا، وَوَلَاءُ الْحَمْلِ لِمَوْلَى الْأُمِّ لَا يَنْتَقِلُ عَنْهُ أَبَدًا) لِأَنَّهُ عَتَقَ عَلَى مُعْتِقِ الْأُمِّ مَقْصُودًا إذْ هُوَ جُزْءٌ مِنْهَا يَقْبَلُ الْإِعْتَاقَ مَقْصُودًا فَلَا يَنْتَقِلُ وَلَاؤُهُ عَنْهُ عَمَلًا بِمَا رَوَيْنَا (وَكَذَلِكَ إذَا وَلَدَتْ وَلَدًا لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ) لِلتَّيَقُّنِ بِقِيَامِ الْحَمْلِ وَقْتَ الْإِعْتَاقِ (أَوْ وَلَدَتْ وَلَدَيْنِ أَحَدُهُمَا لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ) لِأَنَّهُمَا تَوْأَمَانِ يَتَعَلَّقَانِ مَعًا. وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا وَالَتْ رَجُلًا وَهِيَ حُبْلَى وَالزَّوْجُ وَالَى غَيْرَهُ حَيْثُ يَكُونُ وَلَاءُ الْوَلَدِ لِمَوْلَى الْأَبِ لِأَنَّ الْجَنِينَ غَيْرُ قَابِلٍ لِهَذَا الْوَلَاءِ مَقْصُودًا، لِأَنَّ تَمَامَهُ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ وَهُوَ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لَهُ.
أَقُولُ: يُرِيدُ بِالْوَجْهَيْنِ الْعَقْلَ وَالْإِرْثَ لَكِنَّهُ مَنْظُورٌ فِيهِ. أَمَّا أَوَّلًا فَلِمَا نَبَّهْنَا عَلَيْهِ فِيمَا مَرَّ آنِفًا مِنْ أَنَّ الدَّلِيلَ عَلَى أَنْ يَعْقِلَ الْمُعْتِقُ إنَّمَا هُوَ كَوْنُ الْغُرْمِ بِالْغُنْمِ لَا كَوْنُ الْغُنْمِ بِالْغُرْمِ، وَالْمَذْكُورُ هَاهُنَا هُوَ الثَّانِي فَكَيْفَ يَخْدُمُ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ.
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّهُ جَعَلَ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ فِيمَا قَبْلُ وَلِأَنَّ التَّنَاصُرَ بِهِ فَيَعْقِلُهُ مَبْنِيًّا عَلَى كَوْنِ الْغُنْمِ بِالْغُرْمِ كَمَا عَرَفْت فَكَيْفَ يَنْتَظِمُ حِينَئِذٍ وَاوُ الْعَطْفِ فِي قَوْلِ الْمُصَنِّفِ، وَلِأَنَّ الْغُنْمَ بِالْغُرْمِ بِالنَّظَرِ إلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَالْعَطْفُ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ. عَلَى أَنَّا لَوْ جَعَلْنَا قَوْلَ الْمُصَنِّفِ وَلِأَنَّ الْغُنْمَ بِالْغُرْمِ دَلِيلٌ عَلَى الْوَجْهَيْنِ مَعًا آلَ الْمَعْنَى إلَى أَنَّهُ إنَّمَا يَعْقِلُهُ لِأَنَّهُ يَرِثُهُ، وَإِنَّمَا يَرِثُهُ لِأَنَّهُ يَعْقِلُهُ فَأَدَّى إلَى الدَّوْرِ كَمَا لَا يَخْفَى.
فَالصَّوَابُ عِنْدِي أَنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ وَلِأَنَّ الْغُنْمَ بِالْغُرْمِ دَلِيلٌ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي فَقَطْ وَهُوَ الْإِرْثُ مَعْطُوفٌ بِحَسَبِ الْمَعْنَى عَلَى قَوْلِهِ وَقَدْ أَحْيَاهُ مَعْنًى بِإِزَالَةِ الرِّقِّ فَكَأَنَّهُ قَالَ: لِأَنَّهُ أَحْيَاهُ مَعْنًى بِإِزَالَةِ الرِّقِّ عَنْهُ فَيَرِثُهُ، وَلِأَنَّ الْغُنْمَ بِالْغُرْمِ فَحَيْثُ يَغْرَمُ عَقْلَهُ يَرِثُ مَالَهُ، كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ فِيمَا سَيَأْتِي وَمَاتَ مُعْتَقٌ لِابْنَةِ حَمْزَةَ رضي الله عنهما إلَخْ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ لِمَا رَوَيْنَا مَعْنًى كَمَا صَرَّحَ بِهِ الشَّارِحُ الْمَزْبُورُ وَغَيْرُهُ هُنَاكَ، وَنَظَائِرُ هَذَا أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى
(قَوْلُهُ وَإِذَا تَزَوَّجَ عَبْدُ رَجُلٍ أَمَةً لِآخَرَ فَأَعْتَقَ مَوْلَى الْأَمَةِ الْأَمَةَ وَهِيَ حَامِلٌ مِنْ الْعَبْدِ عَتَقَتْ وَعَتَقَ حَمْلُهَا، وَوَلَاءُ الْحَمْلِ لِمَوْلَى الْأُمِّ لَا يَنْتَقِلُ عَنْهُ أَبَدًا) هَذَا لَفْظُ الْقُدُورِيِّ. قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِهِ لِأَنَّهُ عَتَقَ عَلَى مُعْتِقِ الْأُمِّ مَقْصُودًا فَلَا يَنْتَقِلُ وَلَاؤُهُ عَنْهُ عَمَلًا بِمَا رَوَيْنَا.
وَقَالَ الشُّرَّاحُ: إنَّمَا صَارَ الْحَمْلُ مُعْتَقًا مَقْصُودًا لِأَنَّ الْمَوْلَى قَصَدَ إعْتَاقَ الْأُمِّ وَالْقَصْدُ إلَيْهَا بِالْإِعْتَاقِ قَصْدٌ إلَى جَمِيعِ أَجْزَائِهَا وَالْحَمْلُ جُزْءٌ مِنْهَا فَصَارَ مُعْتَقًا مَقْصُودًا اهـ. أَقُولُ: يَرَى الْمُخَالَفَةَ بَيْنَ مَا ذَكَرُوا هَاهُنَا وَبَيْنَ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي كِتَابِ الْعَتَاقِ فَإِنَّهُ قَالَ هُنَاكَ: وَإِنْ أَعْتَقَ حَامِلًا عَتَقَ حَمْلُهَا تَبَعًا لَهَا إذْ هُوَ مُتَّصِلٌ
قَالَ (فَإِنْ وَلَدَتْ بَعْدَ عِتْقِهَا لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ وَلَدًا فَوَلَاؤُهُ لِمَوَالِي الْأُمِّ) لِأَنَّهُ عَتَقَ تَبَعًا لِلْأُمِّ لِاتِّصَالِهِ بِهَا بَعْدَ عِتْقِهَا فَيَتْبَعُهَا فِي الْوَلَاءِ وَلَمْ يَتَيَقَّنْ بِقِيَامِهِ وَقْتَ الْإِعْتَاقِ حَتَّى يَعْتِقَ مَقْصُودًا (فَإِنْ أُعْتِقَ الْأَبُ جَرَّ وَلَاءَ ابْنِهِ وَانْتَقَلَ عَنْ مَوَالِي الْأُمِّ إلَى مَوَالِي الْأَبِ) لِأَنَّ الْعِتْقَ هَاهُنَا فِي الْوَلَدِ يَثْبُتُ تَبَعًا لِلْأُمِّ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْوَلَاءَ بِمَنْزِلَةِ النَّسَبِ قَالَ عليه الصلاة والسلام «الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ وَلَا يُورَثُ» ثُمَّ النَّسَبُ إلَى الْآبَاءِ فَكَذَلِكَ الْوَلَاءُ وَالنِّسْبَةُ إلَى مَوَالِي الْأُمِّ كَانَتْ لِعَدَمِ أَهْلِيَّةِ الْأَبِ ضَرُورَةً، فَإِذَا صَارَ أَهْلًا عَادَ الْوَلَاءُ إلَيْهِ؛ كَوَلَدِ الْمُلَاعَنَةِ يُنْسَبُ إلَى قَوْمِ الْأُمِّ ضَرُورَةً، فَإِذَا أَكَذَبَ الْمُلَاعِنُ نَفْسَهُ يُنْسَبُ إلَيْهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا أُعْتِقَتْ الْمُعْتَدَّةُ عَنْ مَوْتٍ أَوْ طَلَاقٍ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ مِنْ وَقْتِ الْمَوْتِ أَوْ الطَّلَاقِ حَيْثُ يَكُونُ الْوَلَدُ مَوْلًى لِمَوَالِي الْأُمِّ وَإِنْ أُعْتِقَ الْأَبُ لِتَعَذُّرِ إضَافَةِ الْعُلُوقِ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَالطَّلَاقِ الْبَائِنِ لِحُرْمَةِ الْوَطْءِ وَبَعْدَ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ لِمَا أَنَّهُ يَصِيرُ مُرَاجَعًا بِالشَّكِّ فَأُسْنِدَ إلَى حَالَةِ النِّكَاحِ فَكَانَ الْوَلَدُ مَوْجُودًا عِنْدَ الْإِعْتَاقِ فَعَتَقَ مَقْصُودًا
(وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ
بِهَا اهـ.
وَالظَّاهِرُ مِنْهُ أَنْ يَصِيرَ الْحَمْلُ مُعْتَقًا تَبَعًا أَلْبَتَّةَ لَا مَقْصُودًا فَلْيُتَأَمَّلْ فِي التَّوْفِيقِ (قَوْلُهُ فَإِنْ أُعْتِقَ الْأَبُ جَرَّ وَلَاءَ ابْنِهِ وَانْتَقَلَ عَنْ مَوَالِي الْأُمِّ إلَى مَوَالِي الْأَبِ) قَالَ فِي الْكَافِي: فَإِنْ قِيلَ: الْوَلَاءُ كَالنَّسَبِ وَالنَّسَبُ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ بَعْدَ ثُبُوتِهِ فَكَذَا الْوَلَاءُ يَجِبُ أَنْ لَا يَنْفَسِخَ بَعْدَ ثُبُوتِهِ. قُلْنَا: لَا يَنْفَسِخُ، وَلَكِنْ حَدَثَ وَلَاءٌ أَوْلَى مِنْهُ فَقُدِّمَ عَلَيْهِ كَمَا نَقُولُ فِي الْأَخِ إنَّهُ عَصَبَةٌ فَإِذَا حَدَثَ مَنْ هُوَ أَوْلَى مِنْهُ فِي الْإِرْثِ لَا يُبْطِلُ تَعْصِيبَهُ وَلَكِنْ يُقَدَّمُ عَلَيْهِ اهـ. وَذَكَرَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ أَيْضًا هَذَا السُّؤَالَ وَالْجَوَابَ نَقْلًا عَنْ الشَّيْخِ أَبِي نَصْرٍ. أَقُولُ: فِي الْجَوَابِ إشْكَالٌ، وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَنْفَسِخْ الْوَلَاءُ بَلْ قُدِّمَ عَلَيْهِ وَلَاءٌ أَوْلَى مِنْهُ فِي الْإِرْثِ لَزِمَ أَنْ تَرِثَ مَوَالِي الْأُمِّ عِنْدَ انْقِطَاعِ مَوَالِي الْأَبِ بَعْدَ انْتِقَالِ الْوَلَاءِ عَنْ مَوَالِيهَا إلَى مَوَالِيهِ كَمَا هُوَ الْحَالُ فِي الْعَصَبَةِ الْأَدْنَى عِنْدَ انْقِطَاعِ الْعَصَبَةِ الْأَوْلَى مِنْهُ كَالْأَخِ عِنْدَ عَدَمِ الِابْنِ وَالْأَبِ، وَلَمْ يُرْوَ عَنْ أَحَدٍ أَنْ يَرِثَ مَوَالِي الْأُمِّ بِالْوَلَاءِ فِي حَالٍ بَعْدَ أَنْ انْتَقَلَ عَنْهُمْ الْوَلَاءُ بِالْجَرِّ (قَوْلُهُ بِخِلَافِ مَا إذَا أُعْتِقَتْ الْمُعْتَدَّةُ عَنْ مَوْتٍ أَوْ طَلَاقٍ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ مِنْ وَقْتِ الْمَوْتِ أَوْ الطَّلَاقِ إلَخْ).
قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ: قَوْلُ الْمُصَنِّفِ هَذَا إلَخْ يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ فَإِذَا صَارَ أَهْلًا عَادَ الْوَلَاءُ إلَيْهِ: يَعْنِي إذَا وَلَدَتْ بَعْدَ عِتْقِهَا لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ ثُمَّ أُعْتِقَ الْأَبُ يَجُرُّ وَلَاءَ ابْنِهِ مِنْ مَوَالِي الْأُمِّ إلَى مَوَالِي نَفْسِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا وَلَدَتْ الْأَمَةُ الْمُعْتَدَّةُ عَنْ مَوْتٍ أَوْ طَلَاقٍ حَيْثُ لَا يَجُرُّ وَلَاءَ ابْنِهِ إلَى مَوَالِي نَفْسِهِ، وَإِنْ كَانَتْ الْوِلَادَةُ بَعْدَ عِتْقِهَا لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ بَلْ يَكُونُ وَلَاءُ الْوَلَدِ لِمَوَالِي أُمِّهِ
وَإِذَا تَزَوَّجَتْ مُعْتَقَةً بِعَبْدٍ فَوَلَدَتْ أَوْلَادًا فَجَنَى الْأَوْلَادُ فَعَقْلُهُمْ عَلَى مَوَالِي الْأُمِّ) لِأَنَّهُمْ عَتَقُوا تَبَعًا لِأُمِّهِمْ وَلَا عَاقِلَةَ لِأَبِيهِمْ وَلَا مَوْلَى، فَأُلْحِقُوا بِمَوَالِي الْأُمِّ ضَرُورَةً كَمَا فِي وَلَدِ الْمُلَاعَنَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا (فَإِنْ أُعْتِقَ الْأَبُ جَرَّ وَلَاءَ الْأَوْلَادِ إلَى نَفْسِهِ) لِمَا بَيَّنَّا (وَلَا يَرْجِعُونَ عَلَى عَاقِلَةِ الْأَبِ بِمَا عَقَلُوا) لِأَنَّهُمْ حِينَ عَقَلُوهُ كَانَ الْوَلَاءُ ثَابِتًا لَهُمْ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ لِلْأَبِ مَقْصُودًا لِأَنَّ سَبَبَهُ مَقْصُودٌ وَهُوَ الْعِتْقُ، بِخِلَافِ وَلَدِ الْمُلَاعَنَةِ إذَا عَقَلَ عَنْهُ قَوْمُ الْأُمِّ ثُمَّ أَكْذَبَ الْمُلَاعِنُ نَفْسَهُ حَيْثُ يَرْجِعُونَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ النَّسَبَ هُنَالِكَ يَثْبُتُ مُسْتَنِدًا إلَى وَقْتِ الْعُلُوقِ وَكَانُوا مَجْبُورِينَ عَلَى
وَإِنْ أَعْتَقَ الْأَبَ لِتَعَذُّرِ إضَافَةِ الْعُلُوقِ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ لِاسْتِحَالَتِهِ مِنْ الْمَيِّتِ وَإِلَى مَا بَعْدَ الطَّلَاقِ.
أَمَّا إذَا كَانَ بَائِنًا فَلِحُرْمَةِ الْوَطْءِ بَعْدَهُ. وَأَمَّا إذَا كَانَ رَجْعِيًّا فَلِئَلَّا يَصِيرَ مُرَاجِعًا بِالشَّكِّ فَأُسْنِدَ إلَى حَالَةِ النِّكَاحِ فَكَانَ الْحَمْلُ مَوْجُودًا عِنْدَ إعْتَاقِ الْأُمِّ فَعَتَقَ مَقْصُودًا فَلَا يَنْتَقِلُ انْتَهَى. وَأَدَّى صَاحِبُ الْعِنَايَةِ أَيْضًا هَذَا الْمَعْنَى وَلَكِنْ بِطَرِيقِ النَّقْضِ، وَالْجَوَابِ حَيْثُ قَالَ: وَنُوقِضَ قَوْلُهُ فَإِذَا صَارَ أَهْلًا عَادَ الْوَلَاءُ إلَيْهِ بِمَا إذَا أُعْتِقَتْ الْمُعْتَدَّةُ عَنْ مَوْتٍ بِأَنْ كَانَتْ الْأَمَةُ امْرَأَةَ مُكَاتَبٍ فَمَاتَ عَنْ وَفَاءٍ أَوْ أُعْتِقَتْ الْمُعْتَدَّةُ عَنْ طَلَاقٍ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ مِنْ وَقْتِ الْمَوْتِ أَوْ الطَّلَاقِ حَيْثُ يَكُونُ الْوَلَدُ مَوْلًى لِمَوَالِي الْأُمِّ لَمْ يَنْتَقِلْ عَنْهُمْ وَإِنْ أُعْتِقَ الْأَبُ.
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْعَوْدَ إلَيْهِ بِعَوْدِ الْأَهْلِيَّةِ، وَلَمْ يَثْبُتْ بِهَذَا الْعِتْقِ لِلْأَبِ أَهْلِيَّةٌ لِتَعَذُّرِ إضَافَةِ الْعُلُوقِ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَإِلَى مَا بَعْدَ الطَّلَاقِ الْبَائِنِ لِحُرْمَةِ الْوَطْءِ، وَكَذَلِكَ بَعْدَ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ لِمَا أَنَّهُ يَصِيرُ مُرَاجِعًا بِالشَّكِّ، لِأَنَّهَا إذَا جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا عِنْدَ الطَّلَاقِ فَلَا حَاجَةَ إلَى إثْبَاتِ الرَّجْعَةِ لِثُبُوتِ النَّسَبِ، وَاحْتَمَلَ أَنْ لَا يَكُونَ فَيَحْتَاجَ إلَى إثْبَاتِهَا لِيَثْبُتَ النَّسَبُ، وَإِذَا تَعَذَّرَ إضَافَتُهُ إلَى مَا بَعْدَ ذَلِكَ أُسْنِدَ إلَى حَالَةِ النِّكَاحِ فَكَانَ الْوَلَدُ مَوْجُودًا عِنْدَ الْإِعْتَاقِ فَعَتَقَ مَقْصُودًا، وَمَنْ عَتَقَ مَقْصُودًا لَا يَنْتَقِلُ وَلَاؤُهُ كَمَا تَقَدَّمَ انْتَهَى كَلَامُهُ.
أَقُولُ: مَدَارُ كَلَامِهِمْ عَلَى أَنْ يَكُونَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ بِخِلَافِ مَا إذَا أُعْتِقَتْ الْمُعْتَدَّةُ عَنْ مَوْتٍ أَوْ طَلَاقٍ إلَخْ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ فَإِذَا صَارَ أَهْلًا عَادَ الْوَلَاءُ إلَيْهِ، لَكِنَّهُ مَحَلُّ بَحْث، فَإِنَّ الْعَوْدَ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ فِيمَا إذَا ثَبَتَ الْوَلَاءُ أَوَّلًا لِمَوَالِي الْأُمِّ ثُمَّ انْتَقَلَ إلَى مَوَالِي الْأَبِ بِصَيْرُورَتِهِ أَهْلًا، وَهَذَا إنَّمَا يَتَحَقَّقُ فِيمَا إذَا تَقَدَّمَ عِتْقُ الْأُمِّ عَلَى عِتْقِ الْأَبِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ عِتْقَ الْأَبِ مُقَدَّمٌ عَلَى عِتْقِ الْأُمِّ فِي صُورَةِ إنْ عَتَقَتْ الْمُعْتَدَّةُ عَنْ مَوْتٍ، إذْ لَا مَجَالَ لِإِحْدَاثِ الْعِتْقِ فِي الْمَيِّتِ فَلَا يُتَصَوَّرُ فِي هَاتِيكَ الصُّورَةِ الْعَوْدُ أَصْلًا فَلَا يُتَوَهَّمُ بِهَا النَّقْضُ رَأْسًا عَلَى قَوْلِهِ فَإِذَا صَارَ أَهْلًا عَادَ الْوَلَاءُ إلَيْهِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى دَفْعِهِ بِقَوْلِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا أُعْتِقَتْ الْمُعْتَدَّةُ عَنْ مَوْتٍ، وَبِالْجُمْلَةِ لَا مِسَاسَ لِتِلْكَ الصُّورَةِ أَصْلًا بِمَسْأَلَةِ انْتِقَالِ الْوَلَاءِ بِالْجَرِّ بِخِلَافِ الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ وَهِيَ مَا إذَا أُعْتِقَتْ الْمُعْتَدَّةُ عَنْ طَلَاقٍ فَإِنَّهُ يَجُوزُ هُنَاكَ أَنْ يَقَعَ عِتْقُ الْأَبِ بَعْدَ عِتْقِ الْأُمِّ فَتَصِيرَ مَظِنَّةَ النَّقْضِ بِهَا عَلَى مَسْأَلَةِ جَرِّ الْوَلَاءِ فَيَحْسُنُ تَدَارُكُ دَفْعِهِ.
فَإِنْ قُلْت: قَدْ تَدَارَكَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ رَبْطَ الصُّورَةِ الْأُولَى أَيْضًا بِمَا نَحْنُ فِيهِ حَيْثُ قَالَ فِي تَصْوِيرِهَا: بِأَنْ كَانَتْ الْأَمَةُ امْرَأَةَ مُكَاتَبٍ فَمَاتَ عَنْ وَفَاءٍ فَأَدَّى إلَى تَأَخُّرِ عِتْقِ الْأَبِ عَنْ عِتْقِ الْأُمِّ. قُلْت: لَا يَتَيَسَّرُ التَّأَخُّرُ فِيمَا قَالَهُ أَيْضًا، إذْ قَدْ مَرَّ فِي كِتَابِ الْمُكَاتَبِ أَنَّ فِي الْمُكَاتَبِ الَّذِي مَاتَ عَنْ وَفَاءِ قَوْلَيْنِ عَنْ أَصْحَابِنَا أَحَدُهُمَا مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ وَهُوَ أَنَّهُ يُعْتَقُ فِي آخِرِ
ذَلِكَ فَيَرْجِعُونَ.
قَالَ (مَنْ تَزَوَّجَ مِنْ الْعَجَمِ بِمُعْتَقَةٍ مِنْ الْعَرَبِ فَوَلَدَتْ لَهُ أَوْلَادًا) فَوَلَاءُ أَوْلَادِهَا لِمَوَالِيهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رحمه الله. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: حُكْمُهُ حُكْمُ أَبِيهِ، لِأَنَّ النَّسَبَ إلَى الْأَبِ كَمَا إذَا كَانَ الْأَبُ عَرَبِيًّا، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْأَبُ عَبْدًا لِأَنَّهُ هَالِكٌ مَعْنًى
جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ حَيَاتِهِ، فَعَلَى هَذَا يَتَعَيَّنُ تَقَدُّمُ عِتْقِ الْأَبِ عَلَى عِتْقِ الْأُمِّ فِيمَا صَوَّرَهُ أَيْضًا. وَثَانِيهِمَا مَذْهَبُ الْبَعْضِ وَهُوَ أَنَّهُ يَعْتِقُ بَعْدَ الْمَوْتِ وَذَلِكَ بِأَنْ يَنْزِلَ حَيًّا تَقْدِيرًا فِي حَقِّ الْأَدَاءِ كَمَا يَنْزِلُ الْمَيِّتُ حَيًّا فِي حَقِّ التَّجْهِيزِ وَالتَّكْفِينِ، فَعَلَى هَذَا أَنَّ اللَّازِمَ فِيمَا صَوَّرَهُ أَيْضًا اعْتِبَارُ عِتْقِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ لَا اعْتِبَارُ عِتْقِهِ بَعْدَ عِتْقِ امْرَأَتِهِ الْمُعْتَدَّةِ عَنْ مَوْتِهِ حَتَّى يَتَأَخَّرَ عِتْقُهَا عَنْ عِتْقِهِ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُفْرَضَ تَحَقُّقُ الْأَدَاءِ عَمَّا تَرَكَهُ الْمُكَاتَبُ وَفَاءً بَعْدَمَا أُعْتِقَتْ امْرَأَتُهُ وَيُعْتَبَرُ عِتْقُهُ حِينَ تَحَقُّقِ الْأَدَاءِ بَعْدَ الْمَوْتِ عَلَى مَذْهَبِ الْبَعْضِ فَتَأَمَّلْ
(قَوْلُهُ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْأَبُ عَبْدًا لِأَنَّهُ هَالِكٌ مَعْنًى) لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا، وَلِأَنَّ الرِّقَّ أَثَرُ الْكُفْرِ وَالْكُفْرُ مَوْتٌ حُكْمِيٌّ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} أَيْ كَافِرًا فَهَدَيْنَاهُ، فَصَارَ هَذَا الْوَلَدُ كَأَنَّهُ لَا أَبَ لَهُ فَيُنْسَبُ إلَى مَوَالِي الْأُمِّ ضَرُورَةً، كَذَا فِي الشُّرُوحِ.
أَقُولُ: هَاهُنَا شَيْءٌ وَهُوَ أَنَّهُ إنْ كَانَ الْمُرَادُ بِكَوْنِ الْعَبْدِ هَالِكًا مَعْنَى أَنَّهُ فِي حُكْمِ الْمَيِّتِ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِمْ لِأَنَّ الرِّقَّ مِنْ أَثَرِ الْكُفْرِ، وَالْكُفْرُ مَوْتٌ حُكْمِيٌّ يَرُدُّ عَلَيْهِ أَنَّ مُجَرَّدَ مَوْتِ الْأَبِ لَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْوَلَاءِ لِمَوَالِيهِ، بَلْ إنَّمَا يَظْهَرُ أَثَرُ الْوَلَاءِ لَهُمْ بَعْدَ مَوْتِهِ، إذْ عِنْدَ حَيَاتِهِ هُوَ مُقَدَّمٌ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِذَلِكَ أَنَّهُ فِي حُكْمِ مَجْهُولِ الْأُبُوَّةِ وَأَنَّ وَلَدَهُ فِي حُكْمِ مَجْهُولِ النَّسَبِ كَمَا هُوَ الْمُتَبَادِرُ مِنْ قَوْلِهِمْ فَصَارَ هَذَا الْوَلَدُ كَأَنَّهُ لَا أَبَ لَهُ يُتَّجَهُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَلْزَمُ حِينَئِذٍ أَنْ لَا يَرِثَ مِنْ هَذَا الْوَلَدِ مَنْ يَنْتَمِي إلَيْهِ بِأَبِيهِ الْعَبْدِ مِنْ الْأَقَارِبِ الْأَحْرَارِ كَالْأَجْدَادِ وَالْجَدَّاتِ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَبْقَى أَبُوهُ ذَلِكَ عَبْدًا لِكَوْنِهِ فِي حُكْمِ مَجْهُولِ النَّسَبِ عَلَى الْفَرْضِ الْمَزْبُورِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْأَمْرَ لَيْسَ كَذَلِكَ إذْ قَدْ تَقَرَّرَ فِي كُتُبِ الْفَرَائِضِ أَنَّ الْمَحْرُومَ عَنْ الْمِيرَاثِ كَالْكَافِرِ وَالْقَاتِلِ وَالرَّقِيقُ لَا يَحْجُبُ مَنْ هُوَ أَبْعَدُ مِنْهُ عِنْدَ أَئِمَّتِنَا جَمِيعًا، بَلْ يَرِثُ الْأَبْعَدُ عِنْدَ حِرْمَانِ الْأَقْرَبِ، فَالْأَوْلَى هَاهُنَا أَنْ يُقَالَ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْأَبُ عَبْدًا
وَلَهُمَا أَنَّ وَلَاءَ الْعَتَاقَةِ قَوِيٌّ مُعْتَبَرٌ فِي حَقِّ الْأَحْكَامِ حَتَّى اُعْتُبِرَتْ الْكَفَاءَةُ فِيهِ، وَالنَّسَبُ فِي حَقِّ الْعَجَمِ ضَعِيفٌ فَإِنَّهُمْ ضَيَّعُوا أَنْسَابَهُمْ وَلِهَذَا لَمْ تُعْتَبَرْ الْكَفَاءَةُ فِيمَا بَيْنَهُمْ بِالنَّسَبِ، وَالْقَوِيُّ لَا يُعَارِضُهُ الضَّعِيفُ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْأَبُ عَرِيبًا لِأَنَّ أَنْسَابَ الْعَرَبِ قَوِيَّةٌ مُعْتَبَرَةٌ فِي حُكْمِ الْكَفَاءَةِ وَالْعَقْلِ، كَمَا أَنَّ تَنَاصُرَهُمْ بِهَا فَأَغْنَتْ عَنْ الْوَلَاءِ.
قَالَ رضي الله عنه: الْخِلَافُ فِي مُطْلَقِ الْمُعْتَقَةِ وَالْوَضْعُ فِي مُعْتَقَةِ الْعَرَبِ وَقَعَ اتِّفَاقًا
(وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: نَبَطِيٌّ كَافِرٌ تَزَوَّجَ بِمُعْتَقَةٍ كَافِرَةٍ ثُمَّ أَسْلَمَ النَّبَطِيُّ وَوَالَى رَجُلًا ثُمَّ وَلَدَتْ أَوْلَادًا. قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ: مَوَالِيهِمْ مَوَالِي أُمِّهِمْ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: مَوَالِيهمْ مَوَالِي أَبِيهِمْ) لِأَنَّ الْوَلَاءَ وَإِنْ كَانَ أَضْعَفَ فَهُوَ مِنْ جَانِبِ الْأَبِ فَصَارَ كَالْمَوْلُودِ بَيْنَ وَاحِدٍ مِنْ الْمَوَالِي وَبَيْنَ الْعَرَبِيَّةِ. وَلَهُمَا أَنَّ وَلَاءَ الْمُوَالَاةِ أَضْعَفُ حَتَّى يَقْبَلَ الْفَسْخَ، وَوَلَاءُ الْعَتَاقَةِ لَا يَقْبَلُهُ، وَالضَّعِيفُ لَا يَظْهَرُ فِي مُقَابَلَةِ الْقَوِيِّ، وَإِنْ كَانَ الْأَبَوَانِ مُعْتَقَيْنِ فَالنِّسْبَةُ إلَى قَوْمِ الْأَبِ لِأَنَّهُمَا اسْتَوَيَا، وَالتَّرْجِيحُ لِجَانِبِهِ لِشَبَهِهِ بِالنَّسَبِ أَوْ لِأَنَّ النُّصْرَةَ بِهِ أَكْثَرُ.
قَالَ (وَوَلَاءُ الْعَتَاقَةِ تَعْصِيبٌ وَهُوَ أَحَقُّ بِالْمِيرَاثِ مِنْ الْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ)«لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام لِلَّذِي اشْتَرَى عَبْدًا فَأَعْتَقَهُ هُوَ أَخُوك وَمَوْلَاك، إنْ شَكَرَك فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَشَرٌّ لَك، وَإِنْ كَفَرَك فَهُوَ خَيْرٌ لَك وَشَرٌّ لَهُ، وَلَوْ مَاتَ وَلَمْ يَتْرُكْ وَارِثًا كُنْت أَنْتَ عَصَبَتَهُ»
لِأَنَّهُ لَا أَهْلِيَّةَ لَهُ لِرِقِّهِ كَمَا مَرَّ، فَمَا لَمْ تَحْصُلْ الْأَهْلِيَّةُ لَهُ بِزَوَالِ رِقِّهِ لَا يَثْبُتُ الْوَلَاءُ لَهُ وَلَا لِمَوَالِيهِ سَوَاءٌ كَانَ حَيًّا أَوْ مَيِّتًا تَدَبَّرْ.
(قَوْلُهُ وَلَهُمَا أَنَّ وَلَاءَ الْعَتَاقَةِ قَوِيٌّ مُعْتَبَرٌ فِي حَقِّ الْأَحْكَامِ حَتَّى اُعْتُبِرَتْ الْكَفَاءَةُ فِيهِ، وَالنَّسَبُ فِي حَقِّ الْعَجَمِ ضَعِيفٌ، فَإِنَّهُمْ ضَيَّعُوا أَنْسَابَهُمْ وَلِهَذَا لَمْ تُعْتَبَرْ الْكَفَاءَةُ فِيمَا بَيْنَهُمْ بِالنَّسَبِ، وَالْقَوِيُّ لَا يُعَارِضُهُ الضَّعِيفُ) أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: ظَاهِرُ هَذَا التَّعْلِيلِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مَوَالِي الْأُمِّ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ مُقَدَّمِينَ فِي الْإِرْثِ عَلَى الْعَصَبَاتِ النِّسْبِيَّةِ لِأَوْلَادِهَا، بَلْ عَلَى أَصْحَابِ الْفَرَائِضِ لَهُمْ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ اسْتِحْقَاقَ كُلٍّ مِنْ الْعَصَبَاتِ النِّسْبَةَ وَأَصْحَابِ الْفَرَائِضِ بِالْقَرَابَةِ النِّسْبِيَّةِ، وَإِذَا كَانَ النَّسَبُ فِي حَقِّ الْعَجَمِ ضَعِيفًا لَا يَصْلُحُ
«وَوَرَّثَ ابْنَةَ حَمْزَةَ رضي الله عنهما عَلَى سَبِيلِ الْعُصُوبَةِ مَعَ قِيَامِ وَارِثٍ» وَإِذْ كَانَ عَصَبَةً تَقَدَّمَ عَلَى ذَوِي الْأَرْحَامِ وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه (فَإِنْ كَانَ لِلْمُعْتَقِ عَصَبَةٌ مِنْ النَّسَبِ فَهُوَ أَوْلَى مِنْ الْمُعْتِقِ)، لِأَنَّ الْمُعْتِقَ آخِرُ الْعَصَبَاتِ، وَهَذَا لِأَنَّ قَوْلَهُ عليه الصلاة والسلام «وَلَمْ يَتْرُكْ وَارِثًا» قَالُوا: الْمُرَادُ مِنْهُ وَارِثٌ هُوَ عَصَبَةٌ بِدَلِيلِ الْحَدِيثِ الثَّانِي فَتَأَخَّرَ عَنْ الْعَصَبَةِ دُونَ ذَوِي الْأَرْحَامِ.
قَالَ (فَإِنْ كَانَ لِلْمُعْتَقِ عَصَبَةٌ مِنْ النَّسَبِ فَهُوَ أَوْلَى) لِمَا ذَكَرْنَا (وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَصَبَةٌ مِنْ النَّسَبِ فَمِيرَاثُهُ لِلْمُعْتَقِ) تَأْوِيلُهُ إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ صَاحِبُ فَرْضٍ ذُو حَالٍ، أَمَّا إذَا كَانَ فَلَهُ الْبَاقِي بَعْدَ فَرْضِهِ لِأَنَّهُ عَصَبَةٌ عَلَى مَا رَوَيْنَا، وَهَذَا لِأَنَّ الْعَصَبَةَ مَنْ يَكُونُ التَّنَاصُرُ بِهِ لِبَيْتِ النِّسْبَةِ وَبِالْمَوَالِي الِانْتِصَارُ عَلَى مَا مَرَّ وَالْعَصَبَةُ تَأْخُذُ مَا بَقِيَ
(فَإِنْ مَاتَ الْمَوْلَى ثُمَّ مَاتَ الْمُعْتَقُ فَمِيرَاثُهُ لِبَنِي الْمَوْلَى دُونَ بَنَاتِهِ)، وَلَيْسَ لِلنِّسَاءِ مِنْ الْوَلَاءِ إلَّا مَا أَعْتَقْنَ أَوْ أَعْتَقَ مَنْ أَعْتَقْنَ أَوْ كَاتَبْنَ أَوْ كَاتَبَ مَنْ كَاتَبْنَ بِهَذَا اللَّفْظِ وَرَدَ الْحَدِيثُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَفِي آخِرِهِ «أَوْ جَرَّ وَلَاءَ وَلَاءِ مُعْتَقِهِنَّ» وَصُورَةُ الْجَرِّ قَدَّمْنَاهَا، وَلِأَنَّ ثُبُوتَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْقُوَّةِ فِي الْعِتْقِ مِنْ جِهَتِهَا فَيُنْسَبُ بِالْوَلَاءِ إلَيْهَا وَيُنْسَبُ إلَيْهَا مَنْ يُنْسَبُ إلَى مَوْلَاهَا، بِخِلَافِ النَّسَبِ لِأَنَّ سَبَبَ النِّسْبَةِ فِيهِ
أَنْ يُعَارِضَ وَلَاءَ الْعَتَاقَةِ قَدْ يُرَى أَنْ لَا يُعَارِضَ أَحَدٌ مِنْ الْعَجَمِ فِي الْإِرْثِ بِجِهَةِ نَسَبِهِ سَوَاءٌ كَانَتْ تِلْكَ الْجِهَةُ جِهَةَ الْعُصُوبَةِ أَوْ جِهَةَ الْفَرْضِ مَوَالِي الْعَتَاقَةِ لِقُوَّةِ وَلَاءِ الْعَتَاقَةِ وَضَعْفِ النَّسَبِ فِي حَقِّ الْعَجَمِ، وَمَعَ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ فِي الْإِرْثِ لَيْسَتْ كَذَلِكَ، إذْ قَدْ تَقَرَّرَ
الْفِرَاشِ، وَصَاحِبُ الْفِرَاشِ إنَّمَا هُوَ الزَّوْجُ، وَالْمَرْأَةُ مَمْلُوكَةٌ لَا مَالِكَةٌ، وَلَيْسَ حُكْمُ مِيرَاثِ الْمُعْتَقِ مَقْصُورًا عَلَى بَنِي الْمَوْلَى بَلْ هُوَ لِعَصَبَتِهِ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ، لِأَنَّ الْوَلَاءَ لَا يُورَثُ وَيَخْلُفُهُ فِيهِ مَنْ تَكُونُ النُّصْرَةُ بِهِ، حَتَّى لَوْ تَرَكَ الْمَوْلَى أَبًا وَابْنًا فَالْوَلَاءُ لِلِابْنِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ لِأَنَّهُ أَقْرَبُهُمَا عُصُوبَةً، وَكَذَلِكَ الْوَلَاءُ لِلْجَدِّ دُونَ الْأَخِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ فِي الْعُصُوبَةِ عِنْدَهُ.
وَكَذَا الْوَلَاءُ لِابْنِ الْمُعْتَقَةِ حَتَّى يَرِثَهُ دُونَ أَخِيهَا لِمَا ذَكَرْنَا، إلَّا أَنَّ عَقْلَ جِنَايَةِ الْمُعْتَقِ عَلَى أَخِيهَا لِأَنَّهُ مِنْ قَوْمِ أَبِيهَا وَجِنَايَتُهُ كَجِنَايَتِهَا
(وَلَوْ تَرَكَ الْمَوْلَى ابْنًا وَأَوْلَادَ ابْنٍ آخَرَ) مَعْنَاهُ بَنِي ابْنٍ آخَرَ (فَمِيرَاثُ الْمُعْتَقِ لِلِابْنِ دُونَ بَنِي الِابْنِ لِأَنَّ الْوَلَاءَ لِلْكِبَرِ) هُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ عِدَّةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم مِنْهُمْ عُمَرُ وَعَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَغَيْرُهُمْ رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ، وَمَعْنَاهُ الْقُرْبُ عَلَى مَا قَالُوا، وَالصُّلْبِيُّ أَقْرَبُ.
فِي كُتُبِ الْفَرَائِضِ وَسَيَجِيءُ فِي نَفْسِ هَذَا الْكِتَابِ أَيْضًا أَنَّ مَوَالِيَ الْعَتَاقَةِ مُطْلَقًا مُؤَخَّرُونَ فِي الْإِرْثِ عَنْ أَصْحَابِ الْفَرَائِضِ وَعَنْ الْعَصَبَاتِ النِّسْبِيَّةِ، وَإِنَّمَا يُقَدَّمُونَ عَلَى ذَوِي الْأَرْحَامِ فَلْيُتَأَمَّلْ فِي التَّوْجِيهِ.
فَصْلٌ فِي وَلَاءِ الْمُوَالَاةِ
قَالَ (وَإِذَا أَسْلَمَ رَجُلٌ عَلَى يَدِ رَجُلٍ وَوَالَاهُ عَلَى أَنْ يَرِثُهُ وَيَعْقِلَ عَنْهُ أَوْ أَسْلَمَ عَلَى يَدِ غَيْرِهِ وَوَالَاهُ فَالْوَلَاءُ صَحِيحٌ وَعَقْلُهُ عَلَى مَوْلَاهُ، فَإِنْ مَاتَ وَلَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ فَمِيرَاثُهُ لِلْمَوْلَى) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: الْمُوَالَاةُ لَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّ فِيهِ إبْطَالَ حَقِّ بَيْتِ الْمَالِ وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ فِي حَقِّ وَارِثٍ آخَرَ وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ عِنْدَهُ الْوَصِيَّةُ بِجَمِيعِ الْمَالِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُوصِي وَارِثٌ لِحَقِّ بَيْتِ الْمَالِ وَإِنَّمَا يَصِحُّ فِي الثُّلُثِ.
وَلَنَا قَوْله تَعَالَى {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} وَالْآيَةُ فِي الْمُوَالَاةِ. «وَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ رَجُلٍ أَسْلَمَ عَلَى يَدِ رَجُلٍ آخَرَ وَوَالَاهُ فَقَالَ: هُوَ أَحَقُّ النَّاسِ بِهِ مَحْيَاهُ وَمَمَاتَهُ» وَهَذَا يُشِيرُ إلَى الْعَقْلِ وَالْإِرْثِ فِي الْحَالَتَيْنِ هَاتَيْنِ، وَلِأَنَّ مَالَهُ حَقُّهُ فَيَصْرِفُهُ إلَى
(فَصْلٌ فِي وَلَاءِ الْمُوَالَاةِ)
أَخَّرَ وَلَاءَ الْمُوَالَاةِ عَنْ وَلَاءِ الْعَتَاقَةِ لِأَنَّ وَلَاءَ الْعَتَاقَةِ قَوِيٌّ لِأَنَّهُ غَيْرُ قَابِلٍ لِلتَّحَوُّلِ وَالِانْتِقَالِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ، بِخِلَافِ وَلَاءِ الْمُوَالَاةِ فَإِنَّ لِلْمَوْلَى فِيهِ أَنْ يَنْتَقِلَ قَبْلَ الْعَقْلِ، وَلِأَنَّهُ يُوجَدُ فِي وَلَاءِ الْعَتَاقَةِ الْإِحْيَاءُ الْحُكْمِيُّ وَلَا يُوجَدُ فِي وَلَاءِ الْمُوَالَاةِ إحْيَاءٌ أَصْلًا، وَلِأَنَّ وَلَاءَ الْعَتَاقَةِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فِي أَنَّهُ سَبَبٌ لِلْإِرْثِ وَأَنَّهُ مُقَدَّمٌ عَلَى ذَوِي الْأَرْحَامِ، بِخِلَافِ وَلَاءِ الْمُوَالَاةِ فَإِنَّ الشَّعْبِيَّ لَمْ يَقُلْ بِوَلَاءِ الْمُوَالَاةِ وَقَالَ: لَا وَلَاءَ إلَّا وَلَاءُ الْعَتَاقَةِ، وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ، ثُمَّ إنَّ مَعْنَى مُطْلَقِ الْوَلَاءِ لُغَةً وَشَرِيعَةً قَدْ تَقَدَّمَ فِي صَدْرِ كِتَابِ الْوَلَاءِ.
وَتَفْسِيرُ هَذَا الْوَلَاءِ عَلَى مَا ذَكَرَ فِي الذَّخِيرَةِ وَغَيْرِهَا هُوَ أَنْ يُسْلِمَ رَجُلٌ عَلَى يَدِ رَجُلٍ فَيَقُولَ لِلَّذِي أَسْلَمَ عَلَى يَدِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ وَالَيْتُكَ عَلَى أَنِّي إنْ مِتَّ فَمِيرَاثِي لَك، وَإِنْ جَنَيْتُ فَعَقْلِي عَلَيْك وَعَلَى عَاقِلَتِك وَقَبِلَ الْآخَرُ مِنْهُ
قَالَ فِي الْعِنَايَةِ وَالنِّهَايَةِ: وَلَهُ ثَلَاثُ شَرَائِطَ: إحْدَاهَا أَنْ يَكُونَ مَجْهُولَ النَّسَبِ بِأَنْ لَا يُنْسَبَ إلَى غَيْرِهِ، وَأَمَّا نِسْبَةُ غَيْرِهِ إلَيْهِ فَغَيْرُ مَانِعٍ. وَالثَّانِيَةُ أَنْ لَا يَكُونَ
حَيْثُ شَاءَ، وَالصَّرْفُ إلَى بَيْتِ الْمَالِ ضَرُورَةُ عَدَمِ الْمُسْتَحِقِّ لَا أَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ.
قَالَ (وَإِنْ كَانَ لَهُ وَارِثٌ فَهُوَ أَوْلَى مِنْهُ، وَإِنْ كَانَتْ عَمَّةٌ أَوْ خَالَةٌ أَوْ غَيْرُهُمَا مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ) لِأَنَّ الْمُوَالَاةَ عَقْدُهُمَا فَلَا يَلْزَمُ غَيْرُهُمَا، وَذُو الرَّحِمِ وَارِثٌ، وَلَا بُدَّ مِنْ شَرْطِ الْإِرْثِ وَالْعَقْلِ كَمَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ لِأَنَّهُ بِالِالْتِزَامِ وَهُوَ بِالشَّرْطِ، وَمِنْ شَرْطِهِ أَنْ لَا يَكُونَ الْمَوْلَى مِنْ الْعَرَبِ لِأَنَّ تَنَاصُرَهُمْ بِالْقَبَائِلِ فَأَغْنَى عَنْ الْمُوَالَاةِ. قَالَ (وَلِلْمَوْلَى أَنْ يَنْتَقِلَ عَنْهُ بِوَلَائِهِ إلَى غَيْرِهِ
لَهُ وَلَاءُ عَتَاقَةٍ وَلَا وَلَاءُ مُوَالَاةٍ مَعَ أَحَدٍ وَقَدْ عَقَلَ عَنْهُ.
وَالثَّالِثَةُ أَنْ لَا يَكُونَ عَرَبِيًّا انْتَهَى. أَقُولُ: فِيهِ كَلَامٌ. أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ الشَّرِيطَةَ الْأُولَى تُغْنِي عَنْ الشَّرِيطَةِ الثَّالِثَةِ، إذْ لَا جَهَالَةَ فِي نَسَبِ الْعَرَبِ فَيَظْهَرُ بِاشْتِرَاطِ كَوْنِ الْمُوَالِي مَجْهُولَ النَّسَبِ اشْتِرَاطُ أَنْ لَا يَكُونَ عَرَبِيًّا، إلَّا أَنْ يَكُونَ ذِكْرُ الثَّالِثَةِ اسْتِقْلَالٌ مِنْ قَبِيلِ التَّصْرِيحِ بِمَا عُلِمَ الْتِزَامًا.
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّهُ إنْ أُرِيدَ حَصْرُ شَرَائِطِ الْوَلَاءِ فِي هَذِهِ الثَّلَاثِ كَمَا هُوَ الْمُتَبَادِرُ مِنْ ذِكْرِ الْعَدَدِ فِي أَمْثَالِ هَذَا الْمَقَامِ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، إذْ مِنْ شَرَائِطِهِ أَيْضًا شَرْطُ الْإِرْثِ وَالْعَقْلُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْمُصَنِّفُ فِيمَا بَعْدُ حَيْثُ قَالَ: وَلَا بُدَّ مِنْ شَرْطِ الْإِرْثِ وَالْعَقْلِ كَمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ وَصَرَّحَ بِهِ فِي الْكَافِي أَيْضًا حَيْثُ قَالَ: وَإِنَّمَا يَصِحُّ وَلَاءُ الْمُوَالَاةِ بِشَرَائِطَ: مِنْهَا أَنْ يُشْتَرَطَ الْمِيرَاثُ وَالْعَقْلُ، وَصَرَّحَ بِهِ صَاحِبُ الْكِفَايَةِ أَيْضًا حَيْثُ قَالَ: وَلَهُ شَرَائِطُ، وَعَدَّ مِنْهَا أَنْ يُشْتَرَطَ الْإِرْثُ وَالْعَقْلُ، وَإِنْ لَمْ يُرِدْ حَصْرَ شَرَائِطِهِ فِي هَذِهِ الثَّلَاثِ يَكُونُ تَخْصِيصُ هَذِهِ الثَّلَاثِ بِالذِّكْرِ خَالِيًا عَنْ الْفَائِدَةِ وَيَكُونُ ذِكْرُ الْعَدَدِ عَبَثًا، وَلَا يَكُونُ لِلسُّؤَالِ وَالْجَوَابِ اللَّذَيْنِ ذَكَرَهُمَا صَاحِبُ الْعِنَايَةِ مُتَّصِلًا بِذَلِكَ كَمَا سَتَعْرِفُهُمَا وَجْهٌ لِأَنَّ مَدَارَهُمَا عَلَى إرَادَةِ الْحَصْرِ وَإِلَّا لَا يَتَوَجَّهُ ذَلِكَ السُّؤَالُ رَأْسًا فَلَا يَحْتَاجُ إلَى الْجَوَابِ عَنْهُ أَصْلًا.
وَقَالَ فِي الْعِنَايَةِ: فَإِنْ قِيلَ: مِنْ شَرْطِ الْعَقْدِ عَقْلُ الْأَعْلَى وَحُرِّيَّتُهُ فَإِنَّ مُوَالَاةَ الصَّبِيِّ وَالْعَبْدِ بَاطِلَةٌ فَكَيْفَ جَعَلَ الشَّرَائِطَ ثَلَاثًا. أُجِيبَ بِأَنَّ الْمَذْكُورَةَ إنَّمَا هِيَ الشَّرَائِطُ الْعَامَّةُ الْمُحْتَاجُ إلَيْهَا فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الصُّوَرِ، وَأَمَّا مَا ذَكَرْت فَإِنَّمَا هُوَ نَادِرٌ فَلَمْ يَذْكُرْهُ. أَقُولُ: فِي هَذَا الْجَوَابِ خَلَلٌ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ عَقْلِ الْأَعْلَى وَحُرِّيَّتِهِ أَيْضًا مِنْ الشَّرَائِطِ الْعَامَّةِ الْمُحْتَاجِ إلَيْهَا فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ صُوَرِ الْمُوَالَاةِ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ عَقْدَ الْمُوَالَاةِ لَا يَصِحُّ بِدُونِ عَقْلِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فِي شَيْءٍ مِنْ الصُّوَرِ، إذْ لَا يُتَصَوَّرُ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ بِدُونِ الْعَقْلِ، وَكَذَا لَا يَجُوزُ مُوَالَاةُ الْعَبْدِ أَصْلًا بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ وَإِنَّ أَذِنَ لَهُ مَوْلَاهُ فِي الْقَبُولِ كَانَ عَقْدُهُ كَعَقْدِ مَوْلَاهُ فَيَكُونُ الْوَلَاءُ لِلْمَوْلَى، نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْمَبْسُوطِ وَغَيْرِهِ فَلَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ وَأَمَّا مَا ذَكَرْتُ فَإِنَّمَا هُوَ نَادِرٌ فَلَمْ يَذْكُرْهُ.
ثُمَّ إنَّ فِي تَقْرِيرِ السُّؤَالِ أَيْضًا خَلَلًا، فَإِنَّ تَقْيِيدَ الْعَقْلِ بِعَقْلِ الْأَعْلَى فِي قَوْلِهِ مِنْ شَرْطِ الْعَقْدِ عَقْلُ الْأَعْلَى مِمَّا لَا وَجْهَ لَهُ، لِأَنَّ عَقْلَ الْأَسْفَلِ أَيْضًا شَرْطُ الْعَقْدِ، إذْ لَا يُتَصَوَّرُ الْإِيجَابُ بِدُونِ الْعَقْلِ كَمَا لَا يُتَصَوَّرُ الْقَبُولُ بِدُونِهِ، وَقَدْ أَفْصَحَ عَنْهُ صَاحِبُ الْبَدَائِعِ حَيْثُ قَالَ: وَأَمَّا شَرَائِطُ عَقْدِ الْمُوَالَاةِ فَمِنْهَا عَقْلُ الْعَاقِدَيْنِ، إذْ لَا صِحَّةَ لِلْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ بِدُونِ الْعَقْلِ انْتَهَى.
وَكَذَا تَقْيِيدُ الْحُرِّيَّةِ بِالْإِضَافَةِ إلَى ضَمِيرِ الْأَعْلَى فِي قَوْلِهِ وَحُرِّيَّتِهِ مِمَّا لَا وَجْهَ لَهُ، إذْ حُرِّيَّةُ الْأَسْفَلِ أَيْضًا شَرْطٌ بَلْ هِيَ أَظْهَرُ اشْتِرَاطًا مِنْ حُرِّيَّةِ الْأَعْلَى لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ إيجَابُ الْعَبْدِ عَقْدَ الْمُوَالَاةِ وَلَوْ أَذِنَ لَهُ مَوْلَاهُ فِي ذَلِكَ، وَيَجُوزُ قَبُولُهُ إيَّاهُ بِإِذْنِ مَوْلَاهُ وَيَصِيرُ الْوَلَاءُ لِمَوْلَاهُ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ، وَأَيْضًا لَا وَجْهَ لِتَرْكِ ذِكْرِ الْبُلُوغِ فِي أَثْنَاءِ تَقْرِيرِ السُّؤَالِ فَإِنَّهُ مِنْ شَرْطِ عَقْدِ الْمُوَالَاةِ كَالْعَقْلِ وَالْحُرِّيَّةِ، نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْمَبْسُوطِ وَالْبَدَائِعِ مَعَ أَنَّ قَوْلَهُ فَإِنَّ مُوَالَاةَ الصَّبِيِّ فِي وَقَوْلِهِ فَإِنَّ مُوَالَاةَ الصَّبِيِّ وَالْعَبْدِ بَاطِلَةٌ أَوْفَقُ بِاشْتِرَاطِ الْبُلُوغِ مِنْ اشْتِرَاطِ الْعَقْلِ، فَإِنَّ الصَّبِيَّ قَدْ يَكُونُ عَاقِلًا فَلَمْ يَكُنْ بُطْلَانُ مُوَالَاتِهِ لِعَدَمِ عَقْلِهِ بَلْ كَانَ لِعَدَمِ بُلُوغِهِ كَمَا لَا يَخْفَى
(قَوْلُهُ وَلَا بُدَّ مِنْ شَرْطِ الْإِرْثِ وَالْعَقْلِ كَمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ) أَشَارَ بِهِ إلَى مَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ بِقَوْلِهِ: وَإِذَا أَسْلَمَ الرَّجُلُ عَلَى يَدِ رَجُلٍ وَوَالَاهُ عَلَى أَنْ يَرِثَهُ وَيَعْقِلَ عَنْهُ، وَقَدْ مَرَّ مِنْ قَبْلُ. وَاعْتَرَضَ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ
مَا لَمْ يَعْقِلْ عَنْهُ) لِأَنَّهُ عَقْدٌ غَيْرُ لَازِمٍ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ، وَكَذَا لِلْأَعْلَى أَنْ يَتَبَرَّأَ عَنْ وَلَائِهِ لِعَدَمِ اللُّزُومِ، إلَّا أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي هَذَا أَنْ يَكُونَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الْآخَرِ كَمَا فِي عَزْلِ الْوَكِيلِ قَصْدًا، بِخِلَافِ مَا إذَا عَقَدَ الْأَسْفَلُ مَعَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ مَحْضَرٍ
عَلَى وُجُوبِ اشْتِرَاطِ الْإِرْثِ وَالْعَقْلِ فِي صِحَّةِ عَقْدِ الْمُوَالَاةِ حَيْثُ قَالَ: قَالَ الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ فِي مُخْتَصَرِ الْكَافِي: قَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: إذَا أَسْلَمَ الرَّجُلُ عَلَى يَدِ رَجُلٍ وَوَالَاهُ فَإِنَّهُ يَرِثُهُ وَيَعْقِلُ عَنْهُ، وَلَهُ أَنْ يَتَحَوَّلَ بِوَلَائِهِ إلَى غَيْرِهِ مَا لَمْ يَعْقِلْ عَنْهُ، فَإِذَا عَقَلَ عَنْهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَتَحَوَّلَ إلَى غَيْرِهِ.
وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، هَذَا لَفْظُ الْكَافِي بِعَيْنِهِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ شَرْطَ الْإِرْثِ وَالْعَقْلِ لَيْسَ بِمَوْقُوفٍ عَلَيْهِ صِحَّةُ الْمُوَالَاةِ بَلْ مُجَرَّدُ الْعَقْدِ كَافٍ بِأَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمَا وَالَيْتُك وَالْآخَرُ قَبِلْت، لِأَنَّ الْحَاكِمَ لَمْ يَذْكُرْ الْإِرْثَ وَالْعَقْلَ شَرْطًا لِصِحَّةِ الْمُوَالَاةِ بَلْ جَعَلَهُمَا حُكْمًا لَهَا بَعْدَ صِحَّتِهَا فَافْهَمْ.
وَيَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَا قَوْلُ الْقُدُورِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ: أَوْ أَسْلَمَ عَلَى يَدِ غَيْرِهِ وَوَالَاهُ. يُوَضِّحُهُ قَوْلُ صَاحِبِ التُّحْفَةِ: وَتَفْسِيرُ عَقْدِ الْمُوَالَاةِ مَنْ أَسْلَمَ عَلَى يَدِ رَجُلٍ وَقَالَ لَهُ أَنْتَ مَوْلَايَ تَرِثُنِي إذَا مِتَّ وَتَعْقِلُ عَنِّي إذَا جَنَيْتُ وَقَالَ الْآخَرُ قَبِلْت فَيَنْعَقِدُ بَيْنَهُمَا عَقْدُ الْمُوَالَاةِ، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ وَالتَّيْكَ وَالْآخَرُ قَبِلْت، وَكَذَا إذَا عَقَدَ مَعَ رَجُلٍ غَيْرِ الَّذِي أَسْلَمَ عَلَى يَدِهِ، إلَى هُنَا لَفْظُ التُّحْفَةِ انْتَهَى كَلَامُ صَاحِبِ الْغَايَةِ. أَقُولُ: لَا يَذْهَبُ عَلَى ذِي فِطْرَةٍ سَلِيمَةٍ أَنَّ شَيْئًا مِمَّا ذَكَرَهُ لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ الْإِرْثِ وَالْعَقْلِ فِي صِحَّةِ الْمُوَالَاةِ.
أَمَّا مَا نَقَلَهُ عَنْ الْكَافِي لِلْحَاكِمِ الشَّهِيدِ فَلِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَدَمُ وُقُوعِ الصَّرِيحِ بِاشْتِرَاطِهِمَا هُنَاكَ بِنَاءً عَلَى ظُهُورِ تَضَمُّنِ الْمُوَالَاةِ اشْتِرَاطَهُمَا، فَيَكُونُ قَوْلُهُ وَوَلَاءٌ فِي قَوْلِهِ إذَا أَسْلَمَ الرَّجُلُ عَلَى يَدِ رَجُلٍ وَوَالَاهُ مُغْنِيًا عَنْ ذِكْرِ ذَلِكَ فَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُجَرَّدَ أَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمَا وَالَيْتُك وَالْآخَرُ قَبِلْت كَافٍ فِي تَمَامِ عَقْدِ الْمُوَالَاةِ، وَجَعْلُ نَفْسِ الْإِرْثِ وَالْعَقْلِ حُكْمًا لِلْمُوَالَاةِ لَا يُنَافِي كَوْنَ ذِكْرِهِمَا فِي الْعَقْدِ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْعَقْد كَمَا لَا يَخْفَى.
وَأَمَّا قَوْلُ الْقُدُورِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ أَوْ أَسْلَمَ عَلَى يَدِ غَيْرِهِ وَوَالَاهُ فَلِأَنَّهُ لَا شَكَّ أَنَّ مُرَادَ الْقُدُورِيِّ بِقَوْلِهِ ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ بَيَانُ أَنَّ الْإِسْلَامَ عَلَى يَدِهِ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِيهَا. وَأَمَّا قَوْلُ صَاحِبِ التُّحْفَةِ: فَلِأَنَّ مَحِلَّ تَوَهُّمِ عَدَمِ اشْتِرَاطِ الْإِرْثِ وَالْعَقْلِ إنَّمَا هُوَ قَوْلُهُ وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ وَالَيْتُكَ وَالْآخَرُ قَبِلْت، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ بِذَلِكَ وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ وَالَيْتُكَ بَدَلَ قَوْلِهِ أَنْتَ مَوْلَايَ فَقَطْ لَا بَدَلَ مَجْمُوعِ قَوْلِهِ أَنْتَ مَوْلَايَ تَرِثُنِي إذَا مِتَّ وَتَعْقِلُ عَنِّي إذَا جَنَيْتُ فَلَا دَلَالَةَ عَلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِهِمَا. وَبِالْجُمْلَةِ إنَّ عَدَمَ التَّصْرِيحِ بِشَرْطٍ عِنْدَ تَفْسِيرِ عَقْدِ الْمُوَالَاةِ وَبَيَانِ صُورَةِ الْمُوَالَاةِ لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ ذَلِكَ، إذْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَدَمُ التَّصْرِيحِ بِهِ بِنَاءً عَلَى ظُهُورِهِ مِنْ بَيَانِهِمْ إيَّاهُ عَلَى الِاسْتِقْلَالِ، أَلَا يُرَى أَنَّ لِصِحَّةِ عَقْدِ الْمُوَالَاةِ شَرَائِطَ كَثِيرَةً، كَكَوْنِ الْمُوَالِي مَجْهُولَ النَّسَبِ، وَكَوْنِهِ غَيْرَ مُعْتَقٍ، وَكَوْنِهِ غَيْرَ عَرَبِيٍّ وَغَيْرِ ذَلِكَ، مَعَ أَنَّهُمْ لَمْ يُصَرِّحُوا بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ تَفْسِيرِ عَقْدِ الْمُوَالَاةِ وَبَيَانِ صُورَتِهِ.
(قَوْلُهُ إلَّا أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي هَذَا أَنْ يَكُونَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الْآخَرِ كَمَا فِي عَزْلِ الْوَكِيلِ قَصْدًا) أَوْرَدَ عَلَيْهِ بِأَنَّ سَبَبَ اشْتِرَاطِ حَضْرَةِ الْوَكِيلِ فِي حَقِّ الْعَزْلِ ظَاهِرٌ، وَهُوَ تَضَرُّرُ الْوَكِيلِ بِسَبَبِ الضَّمَانِ عِنْدَ رُجُوعِ الْحُقُوقِ عَلَيْهِ إذَا كَانَ نَقَدَ مِنْ مَالِ الْمُوَكِّلِ
مِنْ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ فَسْخٌ حُكْمِيٌّ بِمَنْزِلَةِ الْعَزْلِ الْحُكْمِيِّ فِي الْوَكَالَةِ. قَالَ (وَإِذَا عَقَلَ عَنْهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَتَحَوَّلَ بِوَلَائِهِ إلَى غَيْرِهِ) لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْغَيْرِ، وَلِأَنَّهُ قَضَى بِهِ الْقَاضِي، وَلِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ عِوَضٍ نَالَهُ كَالْعِوَضِ فِي الْهِبَةِ، وَكَذَا لَا يَتَحَوَّلُ وَلَدُهُ، وَكَذَا إذَا عَقَلَ عَنْ وَلَدِهِ لَمْ يَكُنْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَتَحَوَّلَ لِأَنَّهُمْ فِي حَقِّ الْوَلَاءِ كَشَخْصٍ وَاحِدٍ.
قَالَ (وَلَيْسَ لِمَوْلَى الْعَتَاقَةِ أَنْ يُوَالِيَ أَحَدًا) لِأَنَّهُ لَازِمٌ، وَمَعَ بَقَائِهِ لَا يَظْهَرُ الْأَدْنَى.
عَلَى مَا مَرَّ فِي الْوَكَالَةِ، فَمَا مَعْنَى اشْتِرَاطِ تَوَقُّفِ الْفَسْخِ هَاهُنَا عَلَى حَضْرَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَعْلَى وَالْأَسْفَلِ. وَأُجِيبَ عَنْهُ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ سَبَبَ الِاشْتِرَاطِ هَاهُنَا هُوَ السَّبَبُ هُنَالِكَ وَهُوَ دَفْعُ الضَّرَرِ، فَإِنَّ الْعَقْدَ كَانَ بَيْنَهُمَا، وَفِي تَفَرُّدِ أَحَدِهِمَا إلْزَامُ الْفَسْخِ عَلَى الْآخَرِ بِدُونِ عِلْمِهِ، وَنَفْسُ إلْزَامِ أَحَدِهِمَا حُكْمَ الْفَسْخِ عَلَى الْآخَرِ بِدُونِ عِلْمِهِ ضَرَرٌ لَا مَحَالَةَ، لِأَنَّ فِيهِ جَعْلَ عَقْدِ الرَّجُلِ الْعَاقِلِ الْبَالِغِ كَلَا عَقْدٍ، وَفِيهِ إبْطَالُ فِعْلِهِ فَلَا يَجُوزُ بِدُونِ الْعِلْمِ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ.
وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ: وَهَذَا الْوَجْهُ هُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ فِي الْمَبْسُوطِ، وَقَصَرَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ ذِكْرَ الْجَوَابِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَكَأَنَّهُ اخْتَارَهُ أَيْضًا.
أَقُولُ: هَذَا الْوَجْهُ مَحَلُّ الْكَلَامِ، فَإِنَّ كَوْنَ نَفْسِ إلْزَامِ الْفَسْخِ عَلَى الْآخَرِ ضَرَرًا أَمْرٌ ظَاهِرٌ لِمَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّ فِيهِ إبْطَالَ فِعْلِ الْعَاقِلِ الْبَالِغِ، وَأَمَّا مَدْخَلِيَّةُ عَدَمِ عِلْمِ الْآخَرِ بِذَلِكَ الْإِلْزَامِ فِي كَوْنِهِ ضَرَرًا فَغَيْرُ ظَاهِرٍ، إذْ عَلَى تَقْدِيرِ عِلْمِ الْآخَرِ بِهِ لَيْسَ لَهُ قُدْرَةٌ عَلَى دَفْعِ ذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ لِاسْتِقْلَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي فَسْخِ الْعَقْدِ عِنْدَ عِلْمِ الْآخِرِ بِلَا رَيْبٍ فَيَتَحَقَّقُ إبْطَالُ فِعْلِ الْآخَرِ فِي صُورَةِ الْعِلْمِ أَيْضًا بِالضَّرُورَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ عِلْمَ الْإِنْسَانِ بِالْأَمْرِ الَّذِي يَكْرَهُهُ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى دَفْعِهِ لَا يُجْدِي شَيْئًا، فَإِذَنْ لَمْ يَظْهَرْ كَوْنُ سَبَبِ اشْتِرَاطِ تَوَقُّفِ الْفَسْخِ هَاهُنَا عَلَى حَضْرَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَفْعَ الضَّرَرِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُقَالَ: دَفْعُ الضَّرَرِ وَإِنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ هَاهُنَا كَمَا تَعَيَّنَ فِي صُورَةِ الْعَزْلِ عَنْ الْوَكَالَةِ إلَّا أَنَّهُ مِمَّا يَحْتَمِلُ بِإِرْضَاءِ الْآخَرِ بِالْبِرِّ وَالْمُجَازَاةِ، لَكِنْ فِيهِ مَا فِيهِ فَتَأَمَّلْ.
وَثَانِيهِمَا: أَنَّ فَسْخَ أَحَدِهِمَا هَذَا الْعَقْدَ بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنْ صَاحِبِهِ يَتَضَمَّنُ إضْرَارًا بِصَاحِبِهِ. أَمَّا إذَا كَانَ الْفَسْخُ مِنْ الْأَسْفَلِ فَلِأَنَّهُ رُبَّمَا يَمُوتُ الْأَسْفَلُ فَيَحْسِبُ الْأَعْلَى أَنَّ مَالَهُ صَارَ مِيرَاثًا لَهُ فَيَتَصَرَّفُ فِيهِ فَيَصِيرُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ.
وَأَمَّا إذَا كَانَ الْفَسْخُ مِنْ الْأَعْلَى فَلِأَنَّ الْأَسْفَلَ رُبَّمَا يُعْتِقُ عَبِيدًا عَلَى حُسْبَانِ أَنَّ عَقْلَ عَبِيدِهِ عَلَى مَوْلَاهُ، وَلَوْ صَحَّ فَسْخُ الْأَعْلَى يَجِبُ الْعَقْلُ عَلَى الْأَسْفَلِ بِدُونِ عِلْمِهِ فَيَتَضَرَّرُ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ نَقْلًا عَنْ الذَّخِيرَةِ. أَقُولُ: هَذَا الْوَجْهُ فِي الْجَوَابِ هُوَ الصَّوَابُ، لِأَنَّ حَاصِلَهُ أَنَّ فِي الْفَسْخِ بِدُونِ عِلْمِ صَاحِبِهِ ضَرَرَ الِاغْتِرَارِ، وَفِي الْإِعْلَامِ دَفْعُ ذَلِكَ فَلَا بُدَّ مِنْهُ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا مَعْقُولُ الْمَعْنَى (قَوْلُهُ لِأَنَّهُ فَسْخٌ حُكْمِيٌّ بِمَنْزِلَةِ الْعَزْلِ الْحُكْمِيِّ فِي الْوَكَالَةِ) قِيلَ عَلَيْهِ لِمَاذَا يَجْعَلُ صِحَّةَ الْعَقْدِ مَعَ الثَّانِي مُوجِبَةَ بُطْلَانِ الْعَقْدِ الْأَوَّلِ؟ قُلْنَا: إنَّ الْوَلَاءَ كَالنَّسَبِ، وَالنَّسَبُ مَا دَامَ ثَابِتًا مِنْ إنْسَانٍ لَا يُتَصَوَّرُ ثُبُوتُهُ مِنْ غَيْرِهِ فَكَذَلِكَ الْوَلَاءُ، فَعَرَفْنَا أَنَّ مِنْ ضَرُورَةِ صِحَّةِ الْعَقْدِ مَعَ الثَّانِي بُطْلَانُ الْعَقْدِ الْأَوَّلِ، كَذَا فِي عَامَّةِ الشُّرُوحِ وَالْكَافِي، وَعَزَاهُ فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ إلَى الْمَبْسُوطِ.
أَقُولُ: فِي الْجَوَابِ بَحْثٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ أَنَّ قَوْلَهُمْ وَالنَّسَبُ مَا دَامَ ثَابِتًا مِنْ إنْسَانٍ لَا يُتَصَوَّرُ ثُبُوتُهُ مِنْ غَيْرِهِ مَمْنُوعٍ، فَإِنَّهُ إذَا كَانَتْ الْأَمَةُ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَيَاهُ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُمَا عِنْدَنَا كَمَا مَرَّ فِي بَابِ الِاسْتِيلَادِ مِنْ كِتَابِ الْعَتَاقِ مُدَلَّلًا وَمَشْرُوحًا، وَالثَّانِي أَنَّ قِيَاسَ الْوَلَاءِ عَلَى النَّسَبِ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَصِحَّ عَقْدُ الْوَلَاءِ مَعَ الثَّانِي بَعْدَ أَنْ يَصِحَّ مَعَ الْأَوَّلِ إذْ النَّسَبُ لَا يُتَصَوَّرُ ثُبُوتُهُ مِنْ إنْسَانٍ بَعْدَ ثُبُوتِهِ مِنْ آخَرَ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْوَلَاءُ كَذَلِكَ عَلَى مُقْتَضَى الْقِيَاسِ، فَمِنْ أَيْنَ يُتَصَوَّرُ الِاسْتِدْلَال بِصِحَّةِ عَقْدِ الْوَلَاءِ مَعَ الثَّانِي عَلَى بُطْلَانِ عَقْدِهِ مَعَ الْأَوَّلِ
كِتَابُ الْإِكْرَاهِ
قَالَ (الْإِكْرَاهُ يَثْبُتُ حُكْمُهُ إذَا حَصَلَ مِمَّنْ يَقْدِرُ عَلَى إيقَاعِ مَا تَوَعَّدَ بِهِ سُلْطَانًا كَانَ أَوْ لِصًّا)
ثُمَّ أَقُولُ: يُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ النَّسَبَ مَا دَامَ ثَابِتًا مِنْ إنْسَانٍ أَوَّلًا لَا يُتَصَوَّرُ ثُبُوتُهُ مِنْ غَيْرِهِ ثَانِيًا، وَثُبُوتُ نَسَبِ وَلَدِ الْأَمَةِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَ رَجُلَيْنِ مِنْهُمَا إنَّمَا هُوَ فِيمَا ادَّعَيَاهُ مَعًا.
وَأَمَّا إذَا ادَّعَاهُ أَحَدُهُمَا أَوَّلًا وَالْآخَرُ ثَانِيًا فَإِنَّمَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْ الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي كَمَا فُصِّلَ فِي بَابِ الِاسْتِيلَادِ مِنْ كِتَابِ الْعَتَاقِ، وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ الْقِيَاسَ فِي مُجَرَّدِ عَدَمِ صِحَّةِ اجْتِمَاعِ ثُبُوتِهِ لِلشَّخْصَيْنِ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ إذَا كَانَ ثُبُوتُهُ لَهُمَا عَلَى سَبِيلِ التَّعَاقُبِ لَا فِي عَدَمِ صِحَّةِ الِانْتِقَالِ مِنْ أَحَدِهِمَا إلَى الْآخَرِ فَإِنَّهُ أَمْرٌ آخَرُ نَاشِئٌ مِنْ كَوْنِ الثَّابِتِ لَازِمًا وَعَقْدُ الْوَلَاءِ عَقْدٌ غَيْرُ لَازِمٍ فَيُخَالِفُ النَّسَبَ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ فَلِهَذَا يَصِحُّ الِانْتِقَالُ فِيهِ دُونَ النَّسَبِ فَتَأَمَّلْ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ.
(كِتَابُ الْإِكْرَاهِ)
قِيلَ فِي مُنَاسَبَةِ الْوَضْعِ لَمَّا ذَكَرَ وَلَاءَ الْعَتَاقَةِ لِمُنَاسَبَةِ الْمُكَاتَبِ، وَذَكَرَ وَلَاءَ الْمُوَالَاةِ لِمُنَاسَبَةِ وَلَاءِ الْعَتَاقَةِ لَاقَ إيرَادُ الْإِكْرَاهِ عَقِيبَ وَلَاءِ الْمُوَالَاةِ لِمُنَاسَبَةِ أَنَّ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا تَغَيُّرَ حَالِ الْمُخَاطَبِ مِنْ الْحُرْمَةِ إلَى الْحِلِّ، فَإِنَّ وَلَاءَ الْمُوَالَاةِ يُغَيِّرُ حَالَ الْمُخَاطَبِ الَّذِي هُوَ الْمَوْلَى الْأَعْلَى مِنْ حُرْمَةِ تَنَاوُلِ مَالِ الْمَوْلَى الْأَسْفَلِ بَعْدَ مَوْتِهِ إلَى حِلِّهِ بِالْإِرْثِ، فَكَذَلِكَ الْإِكْرَاهُ يُغَيِّرُ حَالَ الْمُخَاطَبِ الَّذِي هُوَ الْمُكْرَهُ مِنْ حُرْمَةِ الْمُبَاشَرَةِ إلَى حِلِّهَا فِي عَامَّةِ الْمَوَاضِعِ.
ثُمَّ إنَّ الْإِكْرَاهَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ حَمْلِ الْإِنْسَانِ عَلَى شَيْءٍ يَكْرَهُهُ، يُقَالُ أَكْرَهْت فُلَانًا إكْرَاهًا: أَيْ حَمَلْته عَلَى أَمْرٍ يَكْرَهُهُ، وَأَمَّا فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ فَقَدْ ذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ أَنَّ الْإِكْرَاهَ اسْمٌ لِفِعْلٍ يَفْعَلُهُ الْمَرْءُ بِغَيْرِهِ فَيَنْتَفِي بِهِ رِضَاهُ أَوْ يَفْسُدُ بِهِ اخْتِيَارُهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْعَدِمَ بِهِ الْأَهْلِيَّةُ فِي حَقِّ الْمُكْرَهِ أَوْ يَسْقُطُ عَنْهُ الْخِطَابُ، فَإِنَّ الْمُكْرَهَ مُبْتَلًى وَالِابْتِلَاءُ يُقَرِّرُ الْخِطَابَ، أَلَا يَرَى أَنَّهُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ فَرْضٍ وَحَظْرٍ وَإِبَاحَةٍ وَرُخْصَةٍ، وَيَأْثَمُ مَرَّةً وَيُؤْجَرُ أُخْرَى وَهُوَ آيَةُ الْخِطَابِ
لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ اسْمٌ لِفِعْلٍ يَفْعَلُهُ الْمَرْءُ بِغَيْرِهِ فَيَنْتَفِي بِهِ رِضَاهُ أَوْ يَفْسُدُ بِهِ اخْتِيَارُهُ مَعَ بَقَاءِ أَهْلِيَّتِهِ، وَهَذَا إنَّمَا يَتَحَقَّقُ إذَا خَافَ الْمُكْرَهُ تَحْقِيقَ مَا تَوَعَّدَ بِهِ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ مِنْ الْقَادِرِ وَالسُّلْطَانِ وَغَيْرِهِ سِيَّانِ عِنْدَ تَحَقُّقِ الْقُدْرَةِ، وَاَلَّذِي قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ إنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا مِنْ السُّلْطَانِ لِمَا أَنَّ الْمَنَعَةَ لَهُ وَالْقُدْرَةُ لَا تَتَحَقَّقُ بِدُونِ الْمَنَعَةِ.
فَقَدْ قَالُوا هَذَا اخْتِلَافُ عَصْرٍ وَزَمَانٍ لَا اخْتِلَافُ حُجَّةٍ وَبُرْهَانٍ، وَلَمْ تَكُنْ الْقُدْرَةُ فِي زَمَنِهِ إلَّا لِلسُّلْطَانِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ تَغَيَّرَ الزَّمَانُ وَأَهْلُهُ، ثُمَّ كَمَا تُشْتَرَطُ قُدْرَةُ الْمُكْرِهِ لِتَحَقُّقِ الْإِكْرَاهِ يُشْتَرَطُ خَوْفُ الْمُكْرَهِ وُقُوعَ مَا يُهَدَّدُ بِهِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ يَفْعَلُهُ لِيَصِيرَ بِهِ مَحْمُولًا عَلَى مَا دُعِيَ إلَيْهِ مِنْ الْفِعْلِ.
قَالَ (وَإِذَا أُكْرِهَ الرَّجُلُ عَلَى بَيْعِ مَالِهِ أَوْ عَلَى شِرَاءِ سِلْعَةٍ أَوْ عَلَى أَنْ يُقِرَّ لِرَجُلٍ بِأَلْفٍ أَوْ يُؤَاجِرَ دَارِهِ فَأُكْرِهَ عَلَى ذَلِكَ بِالْقَتْلِ أَوْ بِالضَّرْبِ الشَّدِيدِ أَوْ بِالْحَبْسِ فَبَاعَ أَوْ اشْتَرَى فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَمْضَى الْبَيْعَ وَإِنْ شَاءَ فَسَخَهُ وَرَجَعَ بِالْمَبِيعِ) لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ هَذِهِ
وَذَكَرَ فِي الْإِيضَاحِ أَنَّ الْإِكْرَاهَ فِعْلٌ يُوجَدُ مِنْ الْمُكْرِهِ فَيُحْدِثُ فِي الْمَحَلِّ مَعْنًى فَيَصِيرُ بِهِ مَدْفُوعًا إلَى الْفِعْلِ الَّذِي طُلِبَ مِنْهُ.
وَذَكَرَ فِي الْوَافِي أَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ تَهْدِيدِ الْقَادِرِ غَيْرَهُ عَلَى مَا هَدَّدَهُ بِمَكْرُوهٍ عَلَى أَمْرٍ بِحَيْثُ يَنْتَفِي بِهِ الرِّضَا، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ، وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ: وَلَك أَنْ تَخْتَارَ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثِ أَيَّهَا شِئْت
قُلْت: وَقَدْ اخْتَارَ الْمُصَنِّفُ عِبَارَةَ الْمَبْسُوطِ كَمَا تَرَى، وَسَيَجِيءُ مَا يَتَعَلَّقُ بِتَفْسِيرِهَا. وَأَمَّا شَرْطُهُ وَحُكْمُهُ فَيَأْتِي فِي الْكِتَابِ أَثْنَاءَ الْمَسَائِلِ (قَوْلُهُ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ اسْمٌ لِفِعْلٍ يَفْعَلُهُ الْمَرْءُ بِغَيْرِهِ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَتَفْسِيرُهُ أَنْ يَحْمِلَ الْمَرْءُ غَيْرَهُ عَلَى الْمُبَاشَرَةِ حَمْلًا يَنْتَفِي بِهِ رِضَاهُ وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَعَ فَسَادِ اخْتِيَارٍ أَوْ مَعَ عَدَمِهِ، وَهُوَ إشَارَةٌ إلَى نَوْعَيْ الْإِكْرَاهِ وَيَفْسُدُ بِهِ اخْتِيَارُهُ، وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ عَدَمِ الرِّضَا وَهُوَ إشَارَةٌ إلَى الْقِسْمِ الْآخَرِ، لَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ " لَا " فِي أَوْ يَفْسُدُ بِهِ اخْتِيَارُهُ، فَذَلِكَ أَنْوَاعُ الْإِكْرَاهِ الثَّلَاثَةُ وَمَوْضِعُهُ أُصُولُ الْفِقْهِ اهـ كَلَامُهُ.
أَقُولُ: قَدْ خَرَجَ الشَّارِحُ الْمَذْكُورُ فِي تَفْسِيرِ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ هَذَا عَنْ سَنَنِ الصَّوَابِ، وَسَلَكَ مَسْلَكًا لَا يَرْتَضِيهِ أَحَدٌ مِنْ ذَوِي الْأَلْبَابِ، وَإِنْ شِئْت مَا هُوَ التَّحْقِيقُ فِي هَذَا الْمَقَامِ فَاسْتَمِعْ لِمَا نَتْلُو عَلَيْك مِنْ الْكَلَامِ: فَاعْلَمْ أَنَّ الشَّائِعَ الْمَذْكُورَ فِي عَامَّةِ الْكُتُبِ مِنْ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ هُوَ أَنَّ الْإِكْرَاهَ نَوْعَانِ: نَوْعٌ يُعْدِمُ الرِّضَا وَيُفْسِدُ الِاخْتِيَارَ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ بِقَتْلٍ أَوْ بِقَطْعِ عُضْوٍ وَهُوَ الْإِكْرَاهُ
الْعُقُودِ التَّرَاضِي، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ}
الْمُلْجِئُ، وَنَوْعٌ يُعْدِمُ الرِّضَا وَلَا يُفْسِدُ الِاخْتِيَارَ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ بِضَرْبٍ أَوْ بِقَيْدٍ أَوْ بِحَبْسٍ وَهُوَ الْإِكْرَاهُ الْغَيْرُ الْمُلْجِئِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا لَا يُنَافِي الْأَهْلِيَّةَ وَلَا الْخِطَابَ.
وَأَمَّا فَخْرُ الْإِسْلَامِ الْبَزْدَوِيُّ فَقَالَ فِي أُصُولِهِ: الْإِكْرَاهُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: نَوْعٌ يُعْدِمُ الرِّضَا وَيُفْسِدُ الِاخْتِيَارَ وَهُوَ الْمُلْجِئُ. وَنَوْعٌ يُعْدِمُ الرِّضَا وَلَا يُفْسِدُ الِاخْتِيَارَ وَهُوَ الَّذِي لَا يُلْجِئُ، وَنَوْعٌ آخَرُ لَا يُعْدِمُ الرِّضَا وَهُوَ أَنْ يَهُمَّ بِحَبْسِ أَبِيهِ أَوْ وَلَدِهِ أَوْ مَا يَجْرِي مُجْرَاهُ. وَالْإِكْرَاهُ بِجُمْلَتِهِ لَا يُنَافِي أَهْلِيَّتَهُ وَلَا يُوجِبُ وَضْعَ الْخِطَابِ اهـ. وَقَالَ صَاحِبُ الْكَشْفِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ مِنْ أُصُولِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ:
الْإِكْرَاهُ حَمْلُ الْغَيْرِ عَلَى أَمْرٍ يَكْرَهُهُ وَلَا يُرِيدُ مُبَاشَرَتَهُ لَوْلَا الْحَمْلُ عَلَيْهِ.
وَيَدْخُلُ فِي هَذَا التَّعْرِيفِ الْأَقْسَامُ الثَّلَاثَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْكِتَابِ. قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ: هُوَ اسْمٌ لِفِعْلٍ يَفْعَلُهُ الْإِنْسَانُ بِغَيْرِهِ فَيَنْتَفِي بِهِ رِضَاهُ أَوْ يَفْسُدُ بِهِ اخْتِيَارُهُ، وَلَمْ يَدْخُلْ فِيهِ الْقِسْمُ الثَّالِثُ الَّذِي ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْهُ مِنْ أَقْسَامِ الْإِكْرَاهِ لِعَدَمِ تَرَتُّبِ أَحْكَامِهِ عَلَيْهِ، إلَى هُنَا كَلَامُ صَاحِبِ الْكَشْفِ، إذَا عَرَفْت هَذَا فَقَدْ ظَهَرَ لَك أَنَّ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ هَاهُنَا مِنْ مَعْنَى الْإِكْرَاهِ.
وَمَا ذَكَرَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ فِي الْمَبْسُوطِ بِعَيْنِهِ، وَأَنَّ الْقِسْمَ الثَّالِثَ مِنْ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي أُصُولِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَمَا تَوَهَّمَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ دَاخِلٌ فِي مَعْنَى الْإِكْرَاهِ لُغَةً كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ صَاحِبُ الْكَشْفِ، وَهُوَ أَنَّ وَجْهَ عَدَمِ إدْخَالِ ذَلِكَ الْقِسْمِ فِي مَعْنَى الْإِكْرَاهِ شَرْعًا عَدَمُ تَرَتُّبِ أَحْكَامِ الْإِكْرَاهِ عَلَيْهِ، فَإِنَّ الْإِكْرَاهَ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ مَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ أَحْكَامُهُ، وَانْكَشَفَ عِنْدَك أَيْضًا سِتْرُ مَا وَقَعَ فِي عَامَّةِ الْكُتُبِ مِنْ تَنْوِيعِ الْإِكْرَاهِ إلَى نَوْعَيْنِ فَقَطْ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بِالْبَيَانِ فِي الْكُتُبِ الشَّرْعِيَّةِ أَحْوَالُ مَا هُوَ الْوَاقِعُ كَمَا عَرَفْت غَيْرُ صَحِيحٍ فِي نَفْسِهِ.
أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُ جَعَلَ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ فَيَنْتَفِي بِهِ رِضَاهُ أَعَمَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَعَ فَسَادِ اخْتِيَارٍ أَوْ مَعَ عَدَمِهِ مَعَ أَنَّ مُقَابَلَةَ قَوْلِهِ أَوْ يَفْسُدُ بِهِ رِضَاهُ تَمْنَعُهُ قَطْعًا، وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّهُ قَالَ: إنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ أَوْ يَفْسُدُ بِهِ اخْتِيَارٌ يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ عَدَمِ الرِّضَا، وَلَا مَعْنَى لَهُ لِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ أَنَّهُ بِحَسَبِ ظَاهِرِهِ: أَيْ بِدُونِ تَقْدِيرِ شَيْءٍ آخَرَ يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ فَلَيْسَ كَذَلِكَ قَطْعًا، لِأَنَّ فَسَادَ الِاخْتِيَارِ إنَّمَا يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ الرِّضَا لَا نَفْيَ عَدَمِهِ وَهُوَ ثُبُوتُ الرِّضَا، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ إذَا أُخْرِجَ عَنْ ظَاهِرِهِ بِتَقْدِيرِ " لَا " كَمَا ذَكَرَهُ فِيمَا بَعْدُ يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ فَلَيْسَ كَذَلِكَ أَيْضًا، إذْ بِتَقْدِيرِ لَا يَصِيرُ الْمَعْنَى أَوْ لَا يَفْسُدُ بِهِ اخْتِيَارُهُ وَذَلِكَ بِأَنْ يَصِحَّ اخْتِيَارُهُ مَعَهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ صِحَّةَ الِاخْتِيَارِ لَا تَسْتَلْزِمُ نَفْيَ عَدَمِ الرِّضَا وَهُوَ ثُبُوتُ الرِّضَا لِجَوَازِ أَنْ يَصِحَّ الِاخْتِيَارُ وَانْعِدَامُ الرِّضَا كَمَا فِي النَّوْعِ الْغَيْرِ الْمُلْجِئِ مِنْ نَوْعَيْ الْإِكْرَاهِ عَلَى مَا مَرَّ.
وَأَمَّا ثَالِثًا فَلِأَنَّهُ قَالَ وَهُوَ إشَارَةٌ إلَى الْقِسْمِ الْآخَرِ، لَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ لَا فِي أَوْ يَفْسُدُ بِهِ اخْتِيَارُهُ، وَهُوَ أَيْضًا مُخْتَلٌّ لِأَنَّ هَذَا التَّقْدِيرَ مَعَ كَوْنِهِ خِلَافَ الظَّاهِرِ جِدًّا سِيَّمَا فِي مَقَامِ التَّعْرِيفِ لَا يُجْدِي مَا ذَكَرَهُ مِنْ كَوْنِ مَقْصُودِ الْمُصَنِّفِ الْإِشَارَةَ إلَى الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ لِلْإِكْرَاهِ، لِأَنَّ نَفْيَ فَسَادِ الِاخْتِيَارِ إنَّمَا يُفِيدُ صِحَّةَ الِاخْتِيَارِ وَهِيَ لَا تَقْتَضِي الرِّضَا بَلْ تُحَقِّقُ عَدَمَ الرِّضَا أَيْضًا كَمَا عَرَفْت آنِفًا فَلَا تَحْصُلُ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ أَوْ يَفْسُدُ بِهِ الِاخْتِيَارُ عَلَى تَقْدِيرِ كَلِمَةِ " لَا " فِيهِ إلَى الْقِسْمِ الثَّالِثِ مِنْ الْإِكْرَاهِ لِصِدْقِهِ عَلَى الْقِسْمِ الثَّانِي مِنْ النَّوْعَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ كَمَا تَرَى، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُقَالَ: نَفْيُ فَسَادِ الِاخْتِيَارِ فِي مُقَابَلَةِ انْتِفَاءِ الرِّضَا يَدُلُّ عَلَى بَقَاءِ الرِّضَا فِي الْمُقَابِلِ فَيَخْرُجُ الْقِسْمُ الثَّانِي مِنْ النَّوْعَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ، لَكِنْ لَا يَخْفَى عَلَى ذِي مُسْكَةٍ أَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي نَسَبَهُ الشَّارِحُ الْمَزْبُورُ هَاهُنَا إلَى الْمُصَنِّفِ كَانَ يَحْصُلُ بِأَنْ يَقُولَ بَدَلَ قَوْلِهِ أَوْ يَفْسُدُ بِهِ اخْتِيَارُهُ أَوْ لَا بِمَعْنَى أَوْ لَا يَنْتَفِي بِهِ رِضَاهُ، فَهَلْ يُجَوِّزُ الْعَاقِلُ بِمِثْلِ الْمُصَنِّفِ أَنْ يَتْرُكَ ذَاكَ اللَّفْظَ الْأَقْصَرَ الْخَالِي عَنْ التَّمَحُّلَاتِ بِأَسْرِهَا لَوْ أَرَادَ إفَادَةَ ذَلِكَ الْمَعْنَى الَّذِي نَسَبَهُ الشَّارِحُ الْمَزْبُورُ إلَيْهِ وَيَخْتَارَ هَذَا اللَّفْظَ الْأَطْوَلَ الْمُشْتَمِلَ عَلَى تَمَحُّلَاتٍ كَثِيرَةٍ فِي إفَادَةِ ذَلِكَ الْمَعْنَى، وَلَعَمْرِي إنَّ رُتْبَةَ الْمُصَنِّفِ بِمَعْزِلٍ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ.
فَالْحَقُّ أَنَّ مُرَادَهُ بِقَوْلِهِ فَيَنْتَفِي بِهِ رِضَاهُ أَنْ يَنْتَفِيَ بِهِ رِضَاهُ بِدُونِ فَسَادِ اخْتِيَارِهِ بِقَرِينَةِ مُقَابَلَةِ قَوْلِهِ أَوْ يَفْسُدُ بِهِ
وَالْإِكْرَاهُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ يُعْدِمُ الرِّضَا فَيَفْسُدُ، بِخِلَافِ مَا إذَا أُكْرِهَ بِضَرْبِ سَوْطٍ أَوْ حَبْسِ يَوْمٍ أَوْ قَيْدِ يَوْمٍ لِأَنَّهُ لَا يُبَالِي بِهِ بِالنَّظَرِ إلَى الْعَادَةِ فَلَا يَتَحَقَّقُ بِهِ الْإِكْرَاهُ إلَّا إذَا كَانَ الرَّجُلُ صَاحِبَ مَنْصِبٍ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَسْتَضِرُّ بِهِ لِفَوَاتِ الرِّضَا، وَكَذَا الْإِقْرَارُ حُجَّةٌ لِتَرَجُّحِ جَنَبَةِ الصِّدْقِ فِيهِ عَلَى جَنَبَةِ الْكَذِبِ، وَعِنْدَ الْإِكْرَاهِ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ يَكْذِبُ لِدَفْعِ الْمَضَرَّةِ، ثُمَّ إذَا بَاعَ مُكْرَهًا وَسَلَّمَ مُكْرَهًا يَثْبُتُ بِهِ الْمِلْكُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَثْبُتُ لِأَنَّهُ بَيْعٌ مَوْقُوفٌ عَلَى الْإِجَازَةِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَجَازَ جَازَ وَالْمَوْقُوفُ قَبْلَ الْإِجَازَةِ لَا يُفِيدُ الْمِلْكَ، وَلَنَا أَنَّ رُكْنَ الْبَيْعِ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ مُضَافًا إلَى مَحَلِّهِ
اخْتِيَارُهُ فَإِنَّ الْعَامَّ إذَا قُوبِلَ بِالْخَاصِّ يُرَادُ بِهِ مَا عَدَا ذَلِكَ الْخَاصَّ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} فَكَانَ قَوْلُهُ فَيَنْتَفِي بِهِ رِضَاهُ إشَارَةً إلَى أَحَدِ نَوْعَيْ الْإِكْرَاهِ وَهُوَ غَيْرُ الْمُلْجِئِ، وَقَوْلُهُ أَوْ يَفْسُدُ بِهِ اخْتِيَارُهُ إشَارَةٌ إلَى النَّوْعِ الْآخَر مِنْهُمَا وَهُوَ الْمُلْجِئُ فَانْتَظَمَ كَلَامُهُ مِنْ غَيْرِ كُلْفَةٍ أَصْلًا وَانْطَبَقَ لِمَا فِي عَامَّةِ الْكُتُبِ
(قَوْلُهُ وَالْإِكْرَاهُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ يُعْدِمُ الرِّضَا) أَرَادَ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ الْقَتْلَ وَالضَّرْبَ الشَّدِيدَ وَالْحَبْسَ الْمَدِيدَ، وَهَذَا مَعَ كَوْنِهِ أَظْهَرَ مِنْ أَنْ يَخْفَى قَدْ خَفِيَ عَلَى الشَّارِحِ الْعَيْنِيِّ فَقَالَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ: يَعْنِي بِالْبَيْعِ وَأَخَوَاتِهِ، وَلَمْ يَدْرِ أَنَّ الْبَيْعَ وَأَخَوَاتِهِ مِنْ الْمُكْرَهِ عَلَيْهِ لَا مِنْ الْمُكْرَهِ بِهِ، وَهَذَا نَظِيرُ سَائِرِ سَقَطَاتِهِ فِي كِتَابِهِ هَذَا (قَوْلُهُ بِخِلَافِ مَا إذَا أُكْرِهَ بِضَرْبِ سَوْطٍ أَوْ حَبْسِ يَوْمٍ أَوْ قَيْدِ يَوْمٍ لِأَنَّهُ لَا يُبَالِي بِهِ بِالنَّظَرِ إلَى الْعَادَةِ فَلَا يَتَحَقَّقُ بِهِ الْإِكْرَاهُ) أَقُولُ: يَرِدُ عَلَى ظَاهِرِ هَذَا التَّحْرِيرِ أَنَّ آخِرَ الْكَلَامِ يُنَاقِضُ أَوَّلَهُ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي أَوَّلِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا أُكْرِهَ بِضَرْبِ سَوْطٍ أَوْ حَبْسِ يَوْمٍ أَوْ قَيْدِ يَوْمٍ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى تَحَقُّقِ الْإِكْرَاهِ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ أَيْضًا وَإِلَّا لَمَا قَالَ بِخِلَافِ مَا إذَا أُكْرِهَ بَلْ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ بِخِلَافِ مَا إذَا ضُرِبَ بِسَوْطٍ أَوْ حُبِسَ يَوْمًا أَوْ قُيِّدَ يَوْمًا، وَقَالَ فِي آخِرِهِ فَلَا يَتَحَقَّقُ بِهِ الْإِكْرَاهُ، وَهَذَا صَرِيحٌ فِي عَدَمِ تَحَقُّقِ الْإِكْرَاهِ فِي هَاتِيك الصُّوَرِ فَتَنَاقَضَا.
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِكْرَاهِ فِي قَوْلِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا أُكْرِهَ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيُّ وَهُوَ حَمْلُ الْإِنْسَانِ عَلَى أَمْرٍ يَكْرَهُهُ كَمَا مَرَّ، وَلَا شَكَّ فِي تَحَقُّقِ هَذَا الْمَعْنَى فِي هَاتِيك الصُّوَرِ، وَاَلَّذِي نَفَاهُ فِي آخِرِ الْكَلَامِ إنَّمَا هُوَ تَحَقُّقُ الْإِكْرَاهِ عَلَى مَعْنَاهُ الشَّرْعِيِّ الَّذِي تَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَحْكَامُهُ فَلَا تَنَاقُضَ.
وَلَك أَنْ تَقُولَ: التَّعْبِيرُ بِالْإِكْرَاهِ فِي قَوْلِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا أُكْرِهَ لِلْمُشَاكَلَةِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} فَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ لَفْظُ الْإِكْرَاهِ هُنَالِكَ حَقِيقَةً لَا لُغَوِيَّةً وَلَا شَرْعِيَّةً، بَلْ يَصِيرُ مَجَازًا فَلَا تَنَاقُضَ أَصْلًا (قَوْلُهُ وَكَذَا الْإِقْرَارُ حُجَّةٌ إلَخْ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ وَالْعِنَايَةِ: قَوْلُهُ وَكَذَا الْإِقْرَارُ حُجَّةٌ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ وَالْإِكْرَاهُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ يُعْدِمُ الرِّضَا فَيَفْسُدُ: أَيْ وَالْإِقْرَارُ أَيْضًا يَفْسُدُ بِالْإِكْرَاهِ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ إنَّمَا صَارَ حُجَّةً فِي غَيْرِ الْإِكْرَاهِ لِتَرَجُّحِ جَنَبَةِ الصِّدْقِ، وَعِنْدَ الْإِكْرَاهِ يَحْتَمِلُ الْكَذِبَ لِدَفْعِ الْمَضَرَّةِ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً اهـ.
أَقُولُ: الظَّاهِرُ عِنْدِي أَنَّ قَوْلَهُ وَكَذَا الْإِقْرَارُ حُجَّةٌ إلَخْ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ هَذِهِ الْعُقُودِ التَّرَاضِي إلَى قَوْلِهِ فَيَفْسُدُ لَا عَلَى قَوْلِهِ وَالْإِكْرَاهُ بِهَذَا الْأَشْيَاءِ يُعْدِمُ الرِّضَا فَيَفْسُدُ، لِأَنَّ قَوْلَهُ وَالْإِكْرَاهُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ
وَالْفَسَادُ لِفَقْدِ شَرْطِهِ وَهُوَ التَّرَاضِي فَصَارَ كَسَائِرِ الشُّرُوطِ الْمُفْسِدَةِ فَيَثْبُتُ الْمِلْكُ عِنْدَ الْقَبْضِ، حَتَّى لَوْ قَبَضَهُ وَأَعْتَقَهُ أَوْ تَصَرَّفَ فِيهِ تَصَرُّفًا لَا يُمْكِنُ نَقْضُهُ جَازَ، وَيَلْزَمُهُ الْقِيمَةُ كَمَا فِي سَائِرِ الْبِيَاعَاتِ الْفَاسِدَةِ وَبِإِجَازَةِ الْمَالِكِ يَرْتَفِعُ الْمُفْسِدُ وَهُوَ الْإِكْرَاهُ وَعَدَمُ الرِّضَا فَيَجُوزُ إلَّا أَنَّهُ لَا يَنْقَطِعُ بِهِ حَقُّ اسْتِرْدَادِ الْبَائِعِ وَإِنْ تَدَاوَلَتْهُ الْأَيْدِي وَلَمْ يَرْضَ الْبَائِعُ بِذَلِكَ بِخِلَافِ سَائِرِ الْبِيَاعَاتِ الْفَاسِدَةِ لِأَنَّ الْفَسَادَ فِيهَا لِحَقِّ الشَّرْعِ وَقَدْ تَعَلَّقَ بِالْبَيْعِ الثَّانِي حَقُّ الْعَبْدِ وَحَقُّهُ مُقَدَّمٌ لِحَاجَتِهِ، أَمَّا هَاهُنَا الرَّدُّ لِحَقِّ الْعَبْدِ وَهُمَا سَوَاءٌ فَلَا يَبْطُلُ حَقُّ الْأَوَّلِ لِحَقِّ الثَّانِي.
قَالَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: وَمَنْ جَعَلَ الْبَيْعَ الْجَائِزَ الْمُعْتَادَ بَيْعًا فَاسِدًا يَجْعَلُهُ كَبَيْعِ الْمُكْرَهِ حَتَّى يَنْقَضِ بَيْعُ الْمُشْتَرِي مِنْ غَيْرِهِ، لِأَنَّ الْفَسَادَ لِفَوَاتِ الرِّضَا، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ رَهْنًا لِقَصْدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ بَاطِلًا اعْتِبَارًا بِالْهَازِلِ وَمَشَايِخُ سَمَرْقَنْدَ رحمهم الله جَعَلُوهُ بَيْعًا جَائِزًا مُفِيدًا بَعْضَ الْأَحْكَامِ
يُعْدِمُ الرِّضَا بَعْضُ الدَّلِيلِ بِمَنْزِلَةِ الْكُبْرَى مِنْ غَيْرِ الشَّكْلِ الْأَوَّلِ فَعَطْفُ قَوْلِهِ وَكَذَا الْإِقْرَارُ حُجَّةٌ إلَخْ عَلَى تِلْكَ الْمُقَدِّمَةِ مِنْ الدَّلِيلِ يَقْتَضِي الْمُشَارَكَةَ فِي الْمُقَدِّمَةِ الْأُولَى، مَعَ أَنَّ الْمَذْكُورَ فِي حَيِّزِ قَوْلِهِ وَكَذَا الْإِقْرَارُ حُجَّةٌ دَلِيلٌ مُسْتَقِلٌّ فِي حَقِّ فَسَادِ الْإِقْرَارِ بِالْإِكْرَاهِ غَيْرُ مُسْتَمَدٍّ بِمُقَدِّمَةٍ مِنْ الدَّلِيلِ السَّابِقِ كَمَا يُفْصِحُ عَنْهُ التَّقْرِيرُ الْمَذْكُورُ فِي النِّهَايَةِ وَالْعِنَايَةِ، فَالْوَجْهُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى مَجْمُوعِ الدَّلِيلِ السَّابِقِ لَا عَلَى بَعْضِهِ، وَالذَّوْقُ الصَّحِيحُ يَشْهَدُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ كُلَّهُ تَدَبَّرْ تَرْشُدْ.
(قَوْلُهُ وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ بَاطِلًا اعْتِبَارًا بِالْهَازِلِ) قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ يَعْرِفُ مَعْنَى الْهَزْلِ أَنَّ بِهَذَا الْقَدْرِ لَا يَكُونُ الْمُتَكَلِّمُ هَازِلًا اهـ، أَقُولُ: لَمْ يَقُلْ مَنْ جَعَلَهُ بَاطِلًا
عَلَى مَا هُوَ الْمُعْتَادُ لِلْحَاجَةِ إلَيْهِ
قَالَ (فَإِنْ كَانَ قَبَضَ الثَّمَنَ طَوْعًا فَقَدْ أَجَازَ الْبَيْعَ) لِأَنَّهُ دَلِيلُ الْإِجَازَةِ كَمَا فِي الْبَيْعِ الْمَوْقُوفِ وَكَذَا إذَا سَلَّمَ طَائِعًا، بِأَنْ كَانَ الْإِكْرَاهُ عَلَى الْبَيْعِ لَا عَلَى الدَّفْعِ لِأَنَّهُ دَلِيلُ الْإِجَازَةِ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَكْرَهَهُ عَلَى الْهِبَةِ وَلَمْ يَذْكُرْ الدَّفْعَ فَوَهَبَ وَدَفَعَ حَيْثُ يَكُونُ بَاطِلًا، لِأَنَّ مَقْصُودَ الْمُكْرِهِ الِاسْتِحْقَاقُ لَا مُجَرَّدُ اللَّفْظِ، وَذَلِكَ فِي الْهِبَةِ بِالدَّفْعِ وَفِي الْبَيْعِ بِالْعَقْدِ عَلَى مَا هُوَ الْأَصْلُ، فَدَخَلَ الدَّفْعُ فِي الْإِكْرَاهِ عَلَى الْهِبَةِ دُونَ الْبَيْعِ. قَالَ (وَإِنْ قَبَضَهُ مُكْرَهًا فَلَيْسَ ذَلِكَ بِإِجَازَةٍ وَعَلَيْهِ رَدُّهُ إنْ كَانَ قَائِمًا فِي يَدِهِ) لِفَسَادِ الْعَقْدِ.
قَالَ (وَإِنْ هَلَكَ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي وَهُوَ غَيْرِ مُكْرَهٍ ضَمِنَ قِيمَتَهُ لِلْبَائِعِ) مَعْنَاهُ وَالْبَائِعُ مُكْرَهٌ لِأَنَّهُ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ بِحُكْمِ عَقْدٍ فَاسِدٍ
أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ بِهِ هَازِلٌ حَقِيقَةً حَتَّى يَتَّجِهَ عَلَيْهِ مَا ذَكَرَهُ ذَلِكَ الْقَائِلُ، بَلْ قَالَ: إنَّهُ كَالْهَازِلِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ بِلَفْظِ الْبَيْعِ هُنَاكَ لَا يَقْصِدُ مَعْنَى الْبَيْعِ، وَإِلَّا فَلَا شَكَّ أَنَّ مِنْ شَرْطِ كَوْنِ الْمُتَكَلِّمِ هَازِلًا حَقِيقَةً أَنْ تَجْرِيَ الْمُوَاضَعَةُ قَبْلَ الْعَقْدِ بِأَنْ يُقَالَ نَحْنُ نَتَكَلَّمُ بِلَفْظِ الْعَقْدِ هَازِلًا كَمَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ، وَفِي صُورَةِ بَيْعِ الْوَفَاءِ لَا يُوجَدُ ذَلِكَ الشَّرْطُ قَطْعًا، وَيُرْشِدُ إلَى كَوْنِ الْمُرَادِ مَا ذَكَرْنَاهُ قَوْلُهُ اعْتِبَارًا بِالْهَازِلِ، فَإِنَّ مَعْنَاهُ قِيَاسًا عَلَى الْهَازِلِ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْقِيَاسَ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ الْمُتَغَايِرَيْنِ بِحَسَبِ الذَّاتِ الْمُشْتَرِكَيْنِ فِي الْعِلَّةِ.
(وَلِلْمُكْرَهِ أَنْ يُضَمِّنَ الْمُكْرِهَ إنْ شَاءَ) لِأَنَّهُ آلَةٌ لَهُ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْإِتْلَافِ، فَكَأَنَّهُ دَفَعَ مَالَ الْبَائِعِ إلَى الْمُشْتَرِي فَيُضَمِّنُ أَيَّهمَا شَاءَ كَالْغَاصِبِ وَغَاصِبِ الْغَاصِبِ، فَلَوْ ضَمِنَ الْمُكْرَهُ رَجَعَ عَلَى الْمُشْتَرِي بِالْقِيمَةِ لِقِيَامِهِ مَقَامَ الْبَائِعِ، وَإِنْ ضَمِنَ الْمُشْتَرِي نَفَذَ كُلُّ شِرَاءٍ كَانَ بَعْدَ شِرَائِهِ لَوْ تَنَاسَخَتْهُ الْعُقُودُ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِالضَّمَانِ فَظَهَرَ أَنَّهُ بَاعَ مِلْكَهُ، وَلَا يَنْفُذُ مَا كَانَ لَهُ قَبْلَهُ لِأَنَّ الِاسْتِنَادَ إلَى وَقْتِ قَبْضِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَجَازَ الْمَالِكُ الْمُكْرَهَ عَقْدًا مِنْهَا حَيْثُ يَجُوزُ مَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ لِأَنَّهُ أَسْقَطَ حَقَّهُ وَهُوَ الْمَانِعُ فَعَادَ الْكُلُّ إلَى الْجَوَازِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ
(فَصْلٌ)
قَالَ أَكْثَرُ الشُّرَّاحِ: لَمَّا ذَكَرَ حُكْمَ الْإِكْرَاهِ الْوَاقِعِ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ شَرَعَ فِي بَيَانِ حُكْمِ الْإِكْرَاهِ الْوَاقِعِ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى
(وَإِنْ أُكْرِهَ عَلَى أَنْ يَأْكُلَ الْمَيْتَةَ أَوْ يَشْرَبَ الْخَمْرَ، إنْ أُكْرِهَ عَلَى ذَلِكَ بِحَبْسٍ أَوْ ضَرْبٍ أَوْ قَيْدٍ لَمْ يَحِلَّ لَهُ إلَّا أَنْ يُكْرَهَ بِمَا يَخَافُ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ عَلَى عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ، فَإِذَا خَافَ عَلَى ذَلِكَ وَسِعَهُ أَنْ يُقْدِمَ عَلَى مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ) وَكَذَا عَلَى هَذَا الدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ، لِأَنَّ تَنَاوُلَ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ إنَّمَا يُبَاحُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ كَمَا فِي الْمَخْمَصَةِ لِقِيَامِ الْمُحَرَّمِ فِيمَا وَرَاءَهَا، وَلَا ضَرُورَةَ إلَّا إذَا خَافَ عَلَى النَّفْسِ أَوْ عَلَى الْعُضْوِ، حَتَّى لَوْ خِيفَ عَلَى ذَلِكَ بِالضَّرْبِ وَغَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ يُبَاحُ لَهُ ذَلِكَ (وَلَا يَسَعُهُ أَنْ يَصْبِرَ عَلَى مَا تُوُعِّدَ بِهِ، فَإِنْ صَبَرَ حَتَّى أَوْقَعُوا بِهِ وَلَمْ يَأْكُلْ فَهُوَ آثِمٌ)
وَقَدَّمَ الْأَوَّلَ لِأَنَّ حَقَّ الْعَبْدِ مُقَدَّمٌ لِحَاجَتِهِ انْتَهَى.
أَقُولُ: فِيهِ كَلَامٌ، وَهُوَ أَنَّهُ قَدْ ذَكَرَ فِي هَذَا الْفَصْلِ حُكْمَ الْإِكْرَاهِ الْوَاقِعِ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ أَيْضًا كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الْإِكْرَاهِ عَلَى إتْلَافِ مَالِ مُسْلِمٍ بِأَمْرٍ يَخَافُ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ عَلَى عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ، وَكَمَا فِي مَسْأَلَةِ الْإِكْرَاهِ بِقَتْلٍ عَلَى قَتْلِ غَيْرِهِ فَلَمْ يَتِمَّ مَا ذَكَرُوهُ بِالنَّظَرِ إلَى مِثْلِ ذَلِكَ، فَالْأَشْبَهُ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ حَيْثُ قَالَ: إنَّمَا فَصَلَ بِفَصْلٍ لِأَنَّ مَا تَقَدَّمَ مِمَّا يَحِلُّ فِعْلُهُ قَبْلَ الْإِكْرَاهِ، وَمَسَائِلُ الْفَصْلِ لَيْسَتْ كَذَلِكَ لِأَنَّهَا مَحْظُورَةٌ قَبْلَ الْإِكْرَاهِ فِي حَالَةِ السَّعَةِ (قَوْلُهُ حَتَّى لَوْ خِيفَ عَلَى ذَلِكَ بِالضَّرْبِ وَغَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ يُبَاحُ لَهُ ذَلِكَ إلَخْ) أَقُولُ: فِي قَوْلِهِ يُبَاحُ لَهُ ذَلِكَ إشْكَالٌ، فَإِنَّ الْمُبَاحَ مَا اسْتَوَى طَرَفَا فِعْلِهِ وَتَرْكِهِ كَمَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ، وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ إذَا خِيفَ عَلَى النَّفْسِ أَوْ عَلَى الْعُضْوِ كَانَ طَرَفَا الْفِعْلِ رَاجِحًا بَلْ فَرْضًا كَمَا صُرِّحَ بِهِ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ، فَإِطْلَاقُ الْمُبَاحِ عَلَى ذَلِكَ مَعَ كَوْنِهِ مُنَافِيًا لِمَا تَقَرَّرَ عِنْدَهُمْ فِي تَفْسِيرِ مَعْنَى الْمُبَاحِ مُخَالِفٌ لِمَا صَرَّحُوا بِهِ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ مِنْ كَوْنِ ذَلِكَ فَرْضًا لِذَلِكَ فَتَأَمَّلْ (قَوْلُهُ وَلَا يَسَعُهُ أَنْ يَصْبِرَ عَلَى مَا تُوُعِّدَ بِهِ، فَإِنْ صَبَرَ حَتَّى أَوْقَعُوا بِهِ وَلَمْ يَأْكُلْ فَهُوَ آثِمٌ) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ: فَإِنْ قِيلَ: إضَافَةُ الْإِثْمِ إلَى تَرْكِ الْمُبَاحِ مِنْ بَابِ فَسَادِ الْوَضْعِ وَهُوَ فَسَادٌ.
فَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُبَاحَ إنَّمَا يَجُوزُ تَرْكُهُ، وَالْإِتْيَانُ بِهِ إذَا لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ مُحَرَّمٌ، وَهَاهُنَا قَدْ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ قَتْلُ النَّفْسِ الْمُحَرَّمُ فَصَارَ التَّرْكُ حَرَامًا، لِأَنَّ مَا أَفْضَى إلَى الْحَرَامِ حَرَامٌ انْتَهَى.
أَقُولُ: فِي الْجَوَابِ بَحْثٌ، لِأَنَّهُ إنْ أُرِيدَ بِهِ أَنَّ الْمُبَاحَ هَاهُنَا حَالَ كَوْنِهِ مُبَاحًا صَارَ تَرْكُهُ حَرَامًا لِإِفْضَائِهِ إلَى الْحَرَامِ فَهُوَ مَمْنُوعٌ جِدًّا؟ كَيْفَ وَالْمُبَاحُ مَا اسْتَوَى طَرَفَا فِعْلِهِ وَتَرْكِهِ وَمَا صَارَ طَرَفُ تَرْكِهِ حَرَامًا لَا يَسْتَوِي طَرَفَاهُ قَطْعًا، فَلَوْ صَارَ تَرْكُهُ حَرَامًا حَالَ كَوْنِهِ مُبَاحًا لَزِمَ اجْتِمَاعُ اسْتِوَاءِ الطَّرَفَيْنِ وَعَدَمُهُ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ وَهُوَ مُحَالٌ وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ أَنَّ مَا كَانَ مُبَاحًا فِي حَالَةٍ قَدْ يَصِيرُ تَرْكُهُ حَرَامًا فِي حَالَةٍ أُخْرَى لِعِلَّةٍ تَقْتَضِي ذَلِكَ فَيَنْقَلِبُ وَاجِبًا فَهُوَ مُسَلَّمٌ وَلَكِنْ مَا نَحْنُ فِيهِ لَيْسَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، لِأَنَّ نَحْوَ أَكْلِ الْمَيْتَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ إنَّمَا كَانَ مُبَاحًا حَالَةَ الِاضْطِرَارِ دُونَ حَالَةِ الِاخْتِيَارِ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ
لِأَنَّهُ لَمَّا أُبِيحَ كَانَ بِالِامْتِنَاعِ عَنْهُ مُعَاوِنًا لِغَيْرِهِ عَلَى هَلَاكِ نَفْسِهِ فَيَأْثَمُ كَمَا فِي حَالَةِ الْمَخْمَصَةِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَأْثَمُ لِأَنَّهُ رُخْصَةٌ إذْ الْحُرْمَةُ قَائِمَةٌ فَكَانَ آخِذًا بِالْعَزِيمَةِ. قُلْنَا: حَالَةُ الِاضْطِرَارِ مُسْتَثْنَاةٌ بِالنَّصِّ وَهُوَ تَكَلُّمٌ بِالْحَاصِلِ بَعْدَ الثُّنْيَا فَلَا مُحَرَّمَ فَكَانَ إبَاحَةً لَا رُخْصَةً إلَّا أَنَّهُ إنَّمَا يَأْثَمُ إذَا عَلِمَ بِالْإِبَاحَةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، لِأَنَّ فِي انْكِشَافِ الْحُرْمَةِ خَفَاءٌ فَيُعْذَرُ بِالْجَهْلِ فِيهِ كَالْجَهْلِ بِالْخِطَابِ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ أَوْ فِي دَارِ الْحَرْبِ. .
قَالَ (وَإِنْ أُكْرِهَ عَلَى الْكُفْرِ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ أَوْ سَبِّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِقَيْدٍ أَوْ حَبْسٍ أَوْ ضَرْبٍ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إكْرَاهًا حَتَّى يُكْرَهَ بِأَمْرٍ
صَيْرُورَةَ تَرْكِهِ حَرَامًا إنَّمَا هِيَ فِي حَالَةِ الِاضْطِرَارِ أَيْضًا، إذْ فِي حَالَةِ الِاخْتِيَارِ يَصِيرُ تَرْكُهُ وَاجِبًا قَطْعًا فَلَزِمَ أَنْ تَجْتَمِعَ إبَاحَتُهُ وَحُرْمَةُ تَرْكِهِ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، فَلَا يُتَصَوَّرُ الِانْقِلَابُ مِنْ الْإِبَاحَةِ إلَى الْوُجُوبِ بِحَسَبِ الْحَالَتَيْنِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ.
لَا يُقَالُ: سَبَبُ اسْتِوَاءِ الطَّرَفَيْنِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ هُوَ الْإِبَاحَةُ الْأَصْلِيَّةُ حَيْثُ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ النَّصُّ الْمُحَرِّمُ بِاسْتِثْنَاءِ حَالَةِ الِاضْطِرَارِ، وَسَبَبُ حُرْمَةِ التَّرْكِ فِيهِ الْمُسْتَلْزِمَةِ لِعَدَمِ اسْتِوَاءِ الطَّرَفَيْنِ إنَّمَا هُوَ إفْضَاءُ التَّرْكِ فِيهِ إلَى قَتْلِ النَّفْسِ الْمُحَرَّمِ أَوْ إلَى قَطْعِ الْعُضْوِ الْمُحَرَّمِ، فَلَا اسْتِحَالَةَ فِي اجْتِمَاعِ اسْتِوَاءِ الطَّرَفَيْنِ وَعَدَمِ اسْتِوَائِهِمَا فِيهِ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ لِأَنَّا نَقُولُ: اسْتِوَاءُ الطَّرَفَيْنِ وَعَدَمُ اسْتِوَائِهِمَا مُتَنَاقِضَانِ قَطْعًا، فَيَسْتَحِيلُ اجْتِمَاعُهُمَا فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، سَوَاءٌ كَانَا مُسْتَنِدَيْنِ إلَى سَبَبٍ وَاحِدٍ أَوْ إلَى سَبَبَيْنِ، وَنَظِيرُ هَذَا مَا حَقَّقَهُ الْفَاضِلُ الشَّرِيفُ فِي شَرْحِ الْمَوَاقِفِ فِي مَبَاحِثِ الْعِلَّةِ وَالْمَعْلُولِ، فَإِنَّهُ لَمَّا اسْتَدَلُّوا عَلَى أَنَّ الْوَاحِدَ بِالشَّخْصِ لَا يُعَلَّلُ بِعِلَّتَيْنِ مُسْتَقِلَّتَيْنِ بِأَنَّهُ لَوْ عُلِّلَ بِهِمَا لَكَانَ مُحْتَاجًا إلَى كُلِّ وَاحِدَة مِنْهُمَا وَمُسْتَغْنِيًا عَنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ.
قَالَ: لَا يُقَالُ مَنْشَأُ الِاحْتِيَاجِ إلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا هُوَ عِلِّيَّتُهَا لَهُ، وَمَنْشَأُ عَدَمِ الِاحْتِيَاجِ إلَيْهَا عِلِّيَّةُ الْأُخْرَى لَهُ فَلَا اسْتِحَالَةَ فِي اجْتِمَاعِهِمَا. لِأَنَّا نَقُولُ: احْتِيَاجُ الشَّيْءِ إلَى آخَرَ فِي وُجُودِهِ وَعَدَمُ احْتِيَاجِهِ إلَيْهِ فِيهِ مُتَنَاقِضَانِ، فَلَا يَجْتَمِعَانِ سَوَاءٌ كَانَا مُسْتَنِدَيْنِ إلَى سَبَبٍ وَاحِدٍ أَوْ إلَى سَبَبَيْنِ انْتَهَى كَلَامُهُ.
فَقَدْ ظَهَرَ بِمَا قَرَّرْنَاهُ مَا فِي كَلَامِ بَعْضِ الْفُضَلَاءِ أَيْضًا فِي هَذَا الْمَقَامِ فَلْيُنْظَرْ إلَيْهِ وَلْيُتَأَمَّلْ فِيهِ (قَوْلُهُ إلَّا أَنَّهُ إنَّمَا يَأْثَمُ إذَا عَلِمَ بِالْإِبَاحَةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ) قَالَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ: هَذَا جَوَابُ إشْكَالٍ كَأَنَّهُ يَقُولُ: إذَا ثَبَتَ إبَاحَتُهُ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَأْثَمَ، إذْ الْإِنْسَانُ لَا يَأْثَمُ بِتَرْكِ الْمُبَاحِ. فَأَجَابَ عَنْهُ بِأَنَّهُ يَأْثَمُ إذَا عَلِمَ بِالْإِبَاحَةِ وَلَمْ يَأْكُلْ حَتَّى تَلِفَ لِأَنَّهُ يَصِيرُ سَاعِيًا فِي إتْلَافِ نَفْسِهِ انْتَهَى، وَاقْتَفَى أَثَرَهُ الشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ.
أَقُولُ: لَا يَخْفَى عَلَى ذِي فِطْرَةٍ سَلِيمَةٍ أَنَّ كَلَامَ الْمُصَنِّفِ هَذَا لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا عَنْ ذَلِكَ الْإِشْكَالِ، إذْ لَا مُمَانَعَةَ لِلْعِلْمِ فِي أَنْ لَا يَأْثَمَ الْإِنْسَانُ بِتَرْكِ الْمُبَاحِ، فَإِنَّ الْمُبَاحَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مُبَاحٌ لَا يَأْثَمُ الْإِنْسَانُ بِتَرْكِهِ وَإِنْ عَلِمَ إبَاحَتَهُ، بَلْ بِالْعِلْمِ بِإِبَاحَتِهِ يَنْكَشِفُ عَدَمُ الْإِثْمِ فِي تَرْكِهِ، فَكَيْفَ يَحْصُلُ الْجَوَابُ بِقَوْلِهِ إلَّا أَنَّهُ إنَّمَا يَأْثَمُ إذَا عَلِمَ بِالْإِبَاحَةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ عَمَّا يُقَالُ إذَا ثَبَتَ إبَاحَتُهُ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَأْثَمَ، إذْ الْإِنْسَانُ لَا يَأْثَمُ بِتَرْكِ الْمُبَاحِ، فَالْوَجْهُ أَنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ هَذَا إنَّمَا هُوَ لِبَيَانِ
يَخَافُ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ عَلَى عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ) لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَيْسَ بِإِكْرَاهٍ فِي شُرْبِ الْخَمْرِ لِمَا مَرَّ، فَفِي الْكُفْرِ وَحُرْمَتُهُ أَشَدُّ أَوْلَى وَأَحْرَى. قَالَ (وَإِذَا خَافَ عَلَى ذَلِكَ وَسِعَهُ أَنْ يُظْهِرَ مَا أَمَرُوهُ بِهِ وَيُوَرِّي، فَإِنْ أَظْهَرَ ذَلِكَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ) لِحَدِيثِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ رضي الله عنه حَيْثُ اُبْتُلِيَ بِهِ، وَقَدْ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام «كَيْفَ وَجَدْت قَلْبَك؟ قَالَ مُطْمَئِنًّا بِالْإِيمَانِ، فَقَالَ عليه الصلاة والسلام: فَإِنْ عَادُوا فَعُدْ، وَفِيهِ نَزَلَ قَوْله تَعَالَى {إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ}» الْآيَةَ
أَنَّ الْحُكْمَ بِالْإِثْمِ عَلَى تَقْدِيرِ الصَّبْرِ، وَتَرْكُ الْأَكْلِ فِي مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ لَيْسَ عَلَى إطْلَاقِهِ، بَلْ فِيمَا إذَا عَلِمَ بِالْإِبَاحَةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ.
وَأَمَّا إذَا لَمْ يَعْلَمْ بِهَا فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ فِي تَرْكِهِ لِكَوْنِهِ مَعْذُورًا بِالْجَهْلِ فِي أَمْثَالِ هَذَا بِنَاءً عَلَى الْخَفَاءِ
(قَوْلُهُ فَقَالَ عليه الصلاة والسلام «فَإِنْ عَادُوا فَعُدْ» إلَخْ) قَالَ جُمْهُورُ الشُّرَّاحِ: مَعْنَى قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «فَإِنْ عَادُوا فَعُدْ» إنْ عَادُوا إلَى الْإِكْرَاهِ فَعُدْ إلَى طُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ لَا إلَى إجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ وَالطُّمَأْنِينَةِ جَمِيعًا كَمَا زَعَمَهُ الْبَعْضُ، لِأَنَّ أَدْنَى دَرَجَاتِ الْأَمْرِ الْإِبَاحَةُ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ إجْرَاءُ كَلِمَةِ الْكُفْرِ مُبَاحًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا تَنْكَشِفُ حُرْمَتُهُ أَصْلًا انْتَهَى.
وَعَزَاهُ فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ إلَى مَبْسُوطِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ. وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ بِأَنْ قَالَ: فِيهِ بَحْثٌ، فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ الْأَمْرُ لِلتَّرْخِيصِ. قَالَ الْعَلَّامَةُ النَّسَفِيُّ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الطَّلَاقِ مِنْ الْكَافِي: الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ لَا يَنْفِي الْحَظْرَ، فَإِنَّ الْمَحْظُورَ قَدْ يُرَخَّصُ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ حَتَّى لَا يَقَعَ فِي مَحْظُورٍ فَوْقَهُ كَالْحِنْثِ فِي الْيَمِينِ وَقَطْعِ الصَّلَاةِ إلَى آخِرِ مَا ذَكَرَهُ هُنَاكَ، فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَا ذَكَرَهُ هُنَا كَذَلِكَ انْتَهَى.
أَقُولُ: مُرَادُ الشُّرَّاحِ أَنَّ أَدْنَى دَرَجَاتِ مَا اسْتَعْمَلَ فِيهِ صِيغَةَ الْأَمْرِ حَقِيقَةً هُوَ الْإِبَاحَةُ، وَإِنَّمَا تُسْتَعْمَلُ فِي التَّرْخِيصِ وَنَحْوِهِ مَجَازًا، وَلَا بُدَّ فِي الْمَجَازِ مِنْ قَرِينَةٍ صَارِفَةٍ عَنْ الْحَمْلِ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ لَمْ تُوجَدْ الْقَرِينَةُ فَلَا جَرْمَ نَحْمِلُهَا عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَحَقِيقَةُ الْأَمْرِ إنَّمَا تُتَصَوَّرُ هَاهُنَا بِصَرْفِ الْإِعَادَةِ إلَى الطُّمَأْنِينَةِ دُونَ إجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ لِمَا بَيَّنُوا.
وَعَنْ هَذَا قَالَ الْعَلَّامَةُ النَّسَفِيُّ هَاهُنَا أَيْ عُدْ إلَى طُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ بِالْإِيمَانِ وَمَا قِيلَ فَعُدْ إلَى مَا كَانَ مِنْك مِنْ النَّيْلِ مِنِّي وَذِكْرِ آلِهَتِهِمْ بِخَيْرِ فَغَلَطٌ، لِأَنَّهُ لَا يُظَنُّ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ يَأْمُرُ
وَلِأَنَّ بِهَذَا الْإِظْهَارِ لَا يَفُوتُ الْإِيمَانُ حَقِيقَةً لِقِيَامِ التَّصْدِيقِ، وَفِي الِامْتِنَاعِ فَوْتُ النَّفْسِ حَقِيقَةً فَيَسَعُهُ الْمَيْلُ إلَيْهِ. قَالَ (فَإِنْ صَبَرَ حَتَّى قُتِلَ وَلَمْ يُظْهِرْ الْكُفْرَ كَانَ مَأْجُورًا) لِأَنَّ «خُبَيْبًا رضي الله عنه صَبَرَ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى صُلِبَ وَسَمَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَيِّدَ الشُّهَدَاءِ، وَقَالَ فِي مِثْلِهِ هُوَ رَفِيقِي فِي الْجَنَّةِ» وَلِأَنَّ الْحُرْمَةَ بَاقِيَةٌ، وَالِامْتِنَاعُ لِإِعْزَازِ الدِّينِ عَزِيمَةٌ، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ لِلِاسْتِثْنَاءِ. .
بِالتَّكَلُّمِ بِكَلِمَةِ الشِّرْكِ إلَى هُنَا كَلَامُهُ (قَوْلُهُ لِأَنَّ بِهَذَا الْإِظْهَارِ لَا يَفُوتُ الْإِيمَانُ حَقِيقَةً لِقِيَامِ التَّصْدِيقِ، وَفِي الِامْتِنَاعِ فَوْتُ النَّفْسِ حَقِيقَةً فَيَسَعُهُ الْمَيْلُ إلَيْهِ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ: قَوْلُهُ وَلِأَنَّ بِهَذَا الْإِظْهَارِ دَلِيلٌ مَعْقُولٌ.
وَوَجْهه أَنَّ الْإِيمَانَ لَا يَفُوتُ بِهَذَا الْإِظْهَارِ حَقِيقَةً لِأَنَّ الرُّكْنَ الْأَصْلِيَّ فِيهِ هُوَ التَّصْدِيقُ وَهُوَ قَائِمٌ حَقِيقَةً، وَالْإِقْرَارُ رُكْنٌ زَائِدٌ وَهُوَ قَائِمٌ تَقْدِيرًا، لِأَنَّ التَّكْرَارَ لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَفِي الِامْتِنَاعِ فَوْتُ النَّفْسِ حَقِيقَةً فَكَأَنَّمَا اجْتَمَعَ فِيهِ فَوْتُ حَقِّ الْعَبْدِ يَقِينًا وَفَوْتُ حَقِّ اللَّهِ تَوَهُّمًا فَيَسَعُهُ الْمَيْلُ إلَى إحْيَاءِ حَقِّهِ اهـ كَلَامُهُ. أَقُولُ: فِي تَقْرِيرِهِ خَلَلٌ.
أَمَّا أَوَّلًا فَإِنَّ قَوْلَهُ لِأَنَّ التَّكْرَارَ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي تَعْلِيلِ قَوْلِهِ وَهُوَ قَائِمٌ تَقْدِيرًا لَيْسَ بِسَدِيدٍ، لِأَنَّ عَدَمَ اشْتِرَاطِ التَّكْرَارِ لَا يَسْتَدْعِي قِيَامَ الْإِقْرَارِ تَقْدِيرًا، إذْ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ أَنْ لَا يَطْرَأَ عَلَيْهِ مَا يُضَادُّهُ كَمَا تَقَرَّرَ فِي مَوْضِعِهِ، وَالْمَفْرُوضُ هَاهُنَا طَرَيَانُهُ عَلَيْهِ، إذْ الْكَلَامُ فِي إظْهَارِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ وَهُوَ مُضَادٌّ لِلْإِقْرَارِ بِاللِّسَانِ. فَإِنْ قُلْت: إظْهَارُهَا إكْرَاهًا لَا يُضَادُّهُ الْإِقْرَارُ طَوَاعِيَةً، وَإِنَّمَا يُضَادُّهُ إظْهَارُهَا طَوَاعِيَةً. قُلْت: هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى جَوَازِ إظْهَارِهَا حَالَةَ الْإِكْرَاهِ وَهُوَ أَوَّلُ الْمَسْأَلَةِ، فَأَخْذُهُ فِي أَثْنَاءِ إقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَيْهَا مُصَادَرَةٌ فَبِهَذَا ظَهَرَ سُقُوطُ مَا قَالَهُ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ هَاهُنَا إنَّهُ كَكَلَامِ النَّاسِي وُجُودُهُ بِمَنْزِلَةِ الْعَدَمِ، فَإِنَّهُ أَيْضًا مَبْنِيٌّ عَلَى أَوَّلِ الْمَسْأَلَةِ فَيَسْتَلْزِمُ الْمُصَادَرَةَ.
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ قَوْلَهُ فَكَانَ مِمَّا اجْتَمَعَ فِيهِ فَوْتُ حَقِّ الْعَبْدِ يَقِينًا، وَفَوْتُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى تَوَهُّمًا يُشْعِرُ بِعَدَمِ فَوْتِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى حَقِيقَةً هَاهُنَا أَصْلًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ إذْ لَوْلَا فَوْتُ حَقِّهِ تَعَالَى حَقِيقَةً أَصْلًا لَمَا كَانَ مَأْجُورًا فِيمَا إذَا صَبَرَ حَتَّى قُتِلَ، وَلَا نُسَلِّمُ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ فِيمَا سَيَأْتِي، وَلِأَنَّ الْحُرْمَةَ بَاقِيَةٌ، إذْ الظَّاهِرُ أَنَّ الْحُرْمَةَ لَا تَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ تَوَهُّمِ فَوْتِ حَقِّهِ تَعَالَى بِدُونِ أَنْ يَفُوتَ حَقِيقَةً، بَلْ التَّحْقِيقُ أَنَّ إجْرَاءَ كَلِمَةِ الْكُفْرِ عَلَى اللِّسَانِ حَرَامٌ فِي كُلِّ حَالٍ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ الْحُرْمَةُ أَصْلًا، وَأَنَّ فِيهِ تَرْكَ حَقٍّ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، بَلْ هُوَ كُفْرٌ صُورَةً فِي حَالَةِ الْإِكْرَاهِ، وَكُفْرٌ صُورَةً وَمَعْنًى فِي حَالَةِ صِحَّةِ الِاخْتِيَارِ كَمَا صُرِّحَ بِهِ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ، إلَّا أَنَّ الْمُبْتَلَى بِالْإِكْرَاهِ عَلَيْهِ يَصِيرُ مَعْذُورًا حَالَةَ الْإِكْرَاهِ فَيَسَعُهُ الْمَيْلُ إلَيْهِ عِنْدَ طُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ إحْيَاءً لِحَقِّهِ مَعَ بَقَاءِ حُرْمَتِهِ أَبَدًا.
(قَوْلُهُ وَلِأَنَّ الْحُرْمَةَ بَاقِيَةٌ، وَالِامْتِنَاعُ لِإِعْزَازِ الدِّينِ عَزِيمَةٌ)، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ لِلِاسْتِثْنَاءِ (وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ إجْرَاءَ كَلِمَةِ الْكُفْرِ أَيْضًا مُسْتَثْنًى بِقَوْلِهِ {إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ}
قَالَ (وَإِنْ أُكْرِهَ عَلَى إتْلَافِ مَالِ مُسْلِمٍ بِأَمْرٍ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ عَلَى عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ وَسِعَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ) لِأَنَّ مَالَ الْغَيْرِ يُسْتَبَاحُ لِلضَّرُورَةِ كَمَا فِي حَالَةِ الْمَخْمَصَةِ وَقَدْ تَحَقَّقَتْ (وَلِصَاحِبِ الْمَالِ أَنْ يُضَمِّنَ الْمُكْرِهَ لِأَنَّ الْمُكْرَهَ آلَةٌ لِلْمُكْرِهِ فِيمَا يَصْلُحُ)
مِنْ قَوْلِهِ {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ} فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُبَاحًا كَأَكْلِ الْمَيْتَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ).
وَأُجِيبَ بِأَنَّ فِي الْآيَةِ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا وَتَقْدِيرُهُ: مَنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ مِنْ بَعْدِ إيمَانِهِ وَشَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنْ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ إلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ، فَاَللَّهُ تَعَالَى مَا أَبَاحَ إجْرَاءَ كَلِمَةِ الْكُفْرِ عَلَى لِسَانِهِمْ حَالَةَ الْإِكْرَاهِ، وَإِنَّمَا وَضَعَ عَنْهُمْ الْعَذَابَ وَالْغَضَبَ، وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ نَفْيِ الْغَضَبِ وَهُوَ حُكْمُ الْحُرْمَةِ عَدَمُ الْحُرْمَةِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ عَدَمِ الْحُكْمِ عَدَمُ الْعِلَّةِ كَمَا فِي شُهُودِ الشَّهْرِ فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ وَالْمَرِيضِ، فَإِنَّ السَّبَبَ مَوْجُودٌ وَالْحُكْمُ مُتَأَخِّرٌ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ الْغَضَبُ مُنْتَفِيًا مَعَ قِيَامِ الْعِلَّةِ الْمُوجِبَةِ لِلْغَضَبِ وَهِيَ الْحُرْمَةُ فَلَمْ يَثْبُتْ إبَاحَةُ إجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ، كَذَا فِي عَامَّةِ الشُّرُوحِ. وَعَزَاهُ فِي النِّهَايَةِ إلَى مَبْسُوطِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ.
قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ ذِكْرِ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ: وَفِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْعِلَّةِ إنْ كَانَ هُوَ الْمُصْطَلَحَ فَذَاكَ مُمْتَنِعُ التَّخَلُّفِ عَلَى الْحُكْمِ الَّذِي هُوَ مَعْلُولُهُ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهَا السَّبَبَ الشَّرْعِيَّ كَمَا مَثَّلَ بِهِ فَإِنَّمَا يَتَخَلَّفُ الْحُكْمُ عَنْهُ بِدَلِيلٍ آخَرَ شَرْعِيٍّ يُوجِبُ تَأْخِيرَهُ كَمَا فِي الْمِثَالِ الْمَذْكُورِ مِنْ قَوْله تَعَالَى {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} وَلَا دَلِيلَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ عَلَى ذَلِكَ اهـ.
أَقُولُ: هَذَا النَّظَرُ سَاقِطٌ جِدًّا، فَإِنَّهُ يَصِحُّ أَنْ نَخْتَارَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ شِقَّيْ التَّرْدِيدِ وَلَا يَلْزَمُ مَحْذُورٌ أَصْلًا، إذْ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْعِلَّةِ مَا هُوَ الْمُصْطَلَحُ عَلَيْهِ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ، وَهُوَ مَا كَانَ خَارِجًا عَنْ الشَّيْءِ مُؤَثِّرًا فِيهِ.
قَوْلُهُ فَذَاكَ مُمْتَنِعُ التَّخَلُّفِ عَنْ الْحُكْمِ الَّذِي هُوَ مَعْلُولُهُ مَمْنُوعٌ، فَإِنَّ وُجُوبَ مُقَارَنَةِ الْعِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ لِلْمَعْلُولِ إنَّمَا هُوَ فِي بَعْضِ أَقْسَامِهَا، وَهُوَ مَا كَانَ عِلَّةً اسْمًا وَمَعْنًى وَحُكْمًا دُونَ بَعْضِهَا الْآخَرِ وَهُوَ مَا كَانَ عِلَّةً اسْمًا فَقَطْ أَوْ اسْمًا وَمَعْنًى كَمَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ كُلُّهُ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ، فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ قَبِيلِ الثَّانِي فَلَا يَمْتَنِعُ التَّخَلُّفُ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهَا السَّبَبُ الشَّرْعِيُّ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ التَّمْثِيلِ، وَهُوَ مَا كَانَ خَارِجًا عَنْ الشَّيْءِ
آلَةً لَهُ وَالْإِتْلَافُ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ (وَإِنْ أَكْرَهَهُ بِقَتْلِهِ عَلَى قَتْلِ غَيْرِهِ لَمْ يَسَعْهُ أَنْ يُقْدِمَ عَلَيْهِ وَيَصْبِرُ حَتَّى يُقْتَلَ، فَإِنْ قَتَلَهُ كَانَ آثِمًا) لِأَنَّ قَتْلَ الْمُسْلِمِ مِمَّا لَا يُسْتَبَاحُ لِضَرُورَةٍ مَا فَكَذَا بِهَذِهِ الضَّرُورَةِ. .
قَالَ (وَالْقِصَاصُ عَلَى الْمُكْرِهِ إنْ كَانَ الْقَتْلُ عَمْدًا) قَالَ رضي الله عنه: وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَقَالَ زُفَرُ: يَجِبُ عَلَى الْمُكْرَهِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يَجِبُ عَلَيْهِمَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَجِبُ عَلَيْهِمَا. لِزُفَرَ أَنَّ الْفِعْلَ مِنْ الْمُكْرَهِ حَقِيقَةً وَحِسًّا، وَقَرَّرَ الشَّرْعُ حُكْمَهُ عَلَيْهِ وَهُوَ الْإِثْمُ، بِخِلَافِ الْإِكْرَاهِ عَلَى إتْلَافِ مَالِ الْغَيْرِ لِأَنَّهُ سَقَطَ حُكْمُهُ وَهُوَ الْإِثْمُ فَأُضِيفَ إلَى غَيْرِهِ، وَبِهَذَا يَتَمَسَّكُ الشَّافِعِيُّ فِي جَانِبِ الْمُكْرَهِ، وَيُوجِبُهُ عَلَى الْمُكْرِهِ أَيْضًا لِوُجُودِ التَّسْبِيبِ إلَى الْقَتْلِ مِنْهُ، وَلِلتَّسْبِيبِ فِي هَذَا حُكْمُ الْمُبَاشَرَةِ عِنْدَهُ كَمَا فِي شُهُودِ الْقِصَاصِ، وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْقَتْلَ بَقِيَ مَقْصُورًا عَلَى الْمُكْرَهِ مِنْ وَجْهٍ نَظَرًا إلَى التَّأْثِيمِ، وَأُضِيفَ إلَى الْمُكْرِهِ مِنْ وَجْهٍ نَظَرًا إلَى الْحَمْلِ فَدَخَلَتْ الشُّبْهَةُ فِي كُلِّ جَانِبٍ. وَلَهُمَا أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْقَتْلِ بِطَبْعِهِ إيثَارًا لِحَيَاتِهِ فَيَصِيرُ آلَةً لِلْمُكْرِهِ فِيمَا يَصْلُحُ آلَةً لَهُ وَهُوَ الْقَتْلُ بِأَنْ يُلْقِيهِ عَلَيْهِ وَلَا يَصْلُحُ آلَةً لَهُ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى دِينِهِ فَيَبْقَى الْفِعْلُ مَقْصُورًا عَلَيْهِ فِي حَقِّ الْإِثْمِ كَمَا نَقُولُ فِي الْإِكْرَاهِ عَلَى الْإِعْتَاقِ
وَلَمْ يَكُنْ مُؤَثِّرًا فِيهِ بَلْ كَانَ مُوصِلًا إلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ. وَقَوْلُهُ فَإِنَّمَا يَتَخَلَّفُ الْحُكْمُ عَنْهُ بِدَلِيلٍ آخَرَ شَرْعِيٍّ يُوجِبُ تَأْخِيرَهُ مَمْنُوعٌ، بَلْ
وَفِي إكْرَاهِ الْمَجُوسِيِّ عَلَى ذَبْحِ شَاةِ الْغَيْرِ يَنْتَقِلُ الْفِعْلُ إلَى الْمُكْرَهِ فِي الْإِتْلَافِ دُونَ الذَّكَاةِ حَتَّى يَحْرُمَ كَذَا هَذَا.
قَالَ (وَإِنْ أَكْرَهَهُ عَلَى طَلَاقِ امْرَأَتِهِ أَوْ عِتْقِ عَبْدِهِ فَفَعَلَ وَقَعَ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ عِنْدَنَا) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ وَقَدْ مَرَّ فِي الطَّلَاقِ. قَالَ (وَيَرْجِعُ عَلَى الَّذِي أَكْرَهَهُ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ) لِأَنَّهُ صَلَحَ آلَةً لَهُ فِيهِ مِنْ حَيْثُ الْإِتْلَافُ فَيُضَافُ إلَيْهِ
السَّبَبُ الشَّرْعِيُّ مُطْلَقًا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ سَبَبٌ يَجُوزُ تَخَلُّفُ الْحُكْمِ عَنْهُ، إذْ لَا بُدَّ أَنْ يَتَوَسَّطَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحُكْمِ عِلَّةٌ، فَمَا لَمْ تَتَحَقَّقْ تِلْكَ الْعِلَّةُ لَا يَتَحَقَّقُ الْحُكْمُ بِمُجَرَّدِ السَّبَبِ، وَهَذَا أَيْضًا مَعَ كَوْنِهِ مُقَرَّرًا فِي عِلْمِ الْأُصُولِ مَفْهُومٌ مِنْ نَفْسِ مَعْنَى السَّبَبِ الشَّرْعِيِّ، فَإِنَّ الْإِيصَالَ فِي الْجُمْلَةِ كَيْفَ يَسْتَلْزِمُ تَحَقُّقَ الْحُكْمِ، وَالْمِثَالُ الْمَذْكُورُ فِي الْجَوَابِ لَيْسَ فِي مَعْرِضِ التَّعْلِيلِ لِتَخَلُّفِ الْحُكْمِ عَنْ السَّبَبِ الشَّرْعِيِّ بَلْ هُوَ مَسُوقٌ لِمُجَرَّدِ التَّمْثِيلِ، فَتَحَقُّقُ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ تَأْخِيرِ الْحُكْمِ هُنَاكَ لَا يَقْتَضِي قِيَامَ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ فِي كُلِّ صُورَةٍ عَلَى حِدَةٍ، عَلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَجْعَلَ حَدِيثَ خُبَيْبٍ دَلِيلًا عَلَى بَقَاءِ الْحُرْمَةِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ بَعْدَ أَنْ نَفَى حُكْمَهُ وَهُوَ الْغَضَبُ، فَإِنَّ خُبَيْبًا رضي الله عنه لَمَّا أُكْرِهَ عَلَى إظْهَارِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ فَصَبَرَ وَلَمْ يُظْهِرْهَا حَتَّى قُتِلَ مَدَحَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَيْثُ سَمَّاهُ سَيِّدَ الشُّهَدَاءِ وَقَالَ «هُوَ رَفِيقِي فِي الْجَنَّةِ» وَلَوْ لَمْ تَبْقَ الْحُرْمَةُ أَبَدًا فِي إظْهَارِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ لَمَا وَسِعَهُ الصَّبْرُ عَلَى مَا تُوُعِّدَ بِهِ مِنْ الْقَتْلِ، وَلَمَا اسْتَحَقَّ الْمَدْحَ فِي ذَلِكَ لِأَنَّ فِي الِامْتِنَاعِ عَنْ الْمُبَاحِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ إعَانَةَ الْغَيْرِ عَلَى إهْلَاكِ نَفْسِهِ وَهِيَ حَرَامٌ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَأْثَمَ بِذَلِكَ كَمَا فِي حَالَةِ الْمَخْمَصَةِ كَمَا مَرَّ
(قَوْلُهُ وَيَرْجِعُ عَلَى الَّذِي أَكْرَهَهُ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ لِأَنَّهُ صَلَحَ آلَةً لَهُ فِيهِ مِنْ حَيْثُ الْإِتْلَافُ فَيُضَافُ إلَيْهِ) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ: وَمَنَعَ صَلَاحِيَّتَهُ لِذَلِكَ لِأَنَّ الْإِتْلَافَ يَثْبُتُ فِي ضِمْنِ التَّلَفُّظِ بِهَذَا اللَّفْظِ وَهُوَ لَا يَصْلُحُ آلَةً لَهُ فِي حَقِّ التَّلَفُّظِ فَكَذَا فِي حَقِّ مَا يَثْبُتُ فِي ضِمْنِهِ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْإِعْتَاقَ إتْلَافٌ وَهُوَ يَصْلُحُ آلَةً لَهُ فِيهِ، وَالتَّلَفُّظُ قَدْ يَنْفَكُّ عَنْهُ فِي الْجُمْلَةِ كَمَا فِي إعْتَاقِ الصَّبِيِّ فَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ آلَةً بِالنِّسْبَةِ إلَى الْإِتْلَافِ دُونَ التَّلَفُّظِ اهـ. أَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ الِانْفِكَاكَ فِي إعْتَاقِ الصَّبِيِّ إنَّمَا هُوَ مِنْ جِهَةِ ثُبُوتِ التَّلَفُّظِ بِدُونِ ثُبُوتِ الْإِعْتَاقِ، وَذَلِكَ لَا يُنَافِي ثُبُوتَ الْإِعْتَاقِ فِي ضِمْنِ التَّلَفُّظِ
فَلَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا، وَلَا سِعَايَةَ عَلَى الْعَبْدِ لِأَنَّ السِّعَايَةَ إنَّمَا تَجِبُ لِلتَّخْرِيجِ إلَى الْحُرِّيَّةِ أَوْ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ وَلَمْ يُوجَدْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا،
أَلْبَتَّةَ، وَإِنَّمَا يُنَافِيهِ عَكْسُ ذَلِكَ وَهُوَ أَنْ يَثْبُتَ الْإِعْتَاقُ بِدُونِ التَّلَفُّظِ، وَهَذَا غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ فِي صُورَةِ إعْتَاقِ الصَّبِيِّ فَلَمْ يَتِمَّ التَّمْثِيلُ وَلَا التَّقْرِيبُ.
وَكَأَنَّ بَعْضَ الْفُضَلَاءِ تَنَبَّهَ لِهَذَا حَيْثُ قَالَ: فِيهِ تَأَمُّلٌ، فَإِنَّ الَّذِي يَهُمُّنَا ثُبُوتُ الْإِعْتَاقِ لَا فِي ضِمْنِ التَّكَلُّمِ كَمَا إذَا وَرِثَ الْقَرِيبَ اهـ. أَقُولُ: لَكِنْ فِيهِ أَيْضًا خَلَلٌ، فَإِنَّ الثَّابِتَ فِي صُورَةِ إنْ وَرِثَ الْقَرِيبَ إنَّمَا هُوَ الْعِتْقُ دُونَ الْإِعْتَاقِ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ قَاطِبَةً، وَقَدْ مَرَّ فِي كِتَابِ الْوَلَاءِ مُفَصَّلًا، وَالْكَلَامُ هَاهُنَا فِي الْإِعْتَاقِ دُونَ مُجَرَّدِ الْعِتْقِ كَمَا لَا يَخْفَى، فَلَا يَتِمُّ التَّمْثِيلُ بِتِلْكَ الصُّورَةِ أَيْضًا وَلَا التَّقْرِيبُ.
ثُمَّ أَقُولُ: لَا فَائِدَةَ لِحَدِيثِ الِانْفِكَاكِ أَصْلًا فِي الْجَوَابِ هَاهُنَا فَإِنَّ كَوْنَ ثُبُوتِ الْإِتْلَافِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ فِي ضِمْنِ التَّلَفُّظِ أَمْرٌ مُقَرَّرٌ لَا يَقْبَلُ الْإِنْكَارَ، فَيَكُونُ مَدَارُ الْوُرُودِ السُّؤَالَ الْمَذْكُورَ لَا مَحَالَةَ، وَلَا يُجْدِي شَيْئًا فِي دَفْعِهِ انْفِكَاكُ الْإِتْلَافِ عَنْ التَّلَفُّظِ فِي صُورَةٍ أُخْرَى.
فَالْحَقُّ عِنْدِي فِي الْجَوَابِ أَنْ يُقَالَ: لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ صَلَاحِيَّةِ الْمُكْرَهِ لِلْآلِيَّةِ فِي حَقِّ التَّلَفُّظِ عَدَمُ صَلَاحِيَّتِهِ لَهَا فِي حَقِّ مَا ثَبَتَ فِي ضِمْنِهِ وَهُوَ الْإِتْلَافُ، لِأَنَّ عَدَمَ صَلَاحِيَّتِهِ لَهَا فِي حَقِّ التَّلَفُّظِ لِعِلَّةِ امْتِنَاعِ التَّكَلُّمِ بِلِسَانِ الْغَيْرِ، وَهِيَ غَيْرُ مُتَحَقِّقَةٍ فِي حَقِّ مَا ثَبَتَ فِي ضِمْنِهِ مِنْ الْإِتْلَافِ، فَإِنَّ الْمُكْرِهَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَأْخُذَ الْمُكْرَهَ وَيُلْقِيَهُ عَلَى الْمَالِ فَيُتْلِفَهُ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ فِيمَا مَرَّ (قَوْلُهُ فَلَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا) لِأَنَّهُ ضَمَانُ إتْلَافٍ فَلَا يَخْتَلِفُ بِالْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ. كَذَا فِي الْكَافِي وَغَيْرِهِ. فَإِنْ قِيلَ: يَنْبَغِي أَنْ لَا يُضَمَّنَ الْمُكْرِهُ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ بِعِوَضٍ حَصَلَ لِلْمُكْرَهِ وَهُوَ الْوَلَاءُ، وَالْإِتْلَافُ بِعِوَضٍ كَلَا إتْلَافَ.
أُجِيبَ بِأَنَّ الْإِتْلَافَ بِعِوَضٍ إنَّمَا يَكُونُ كَلَا إتْلَافَ إذَا كَانَ الْعِوَضُ مَالًا، كَمَا لَوْ أُكْرِهَ عَلَى أَكْلِ طَعَامِ الْغَيْرِ فَأَكَلَ فَإِنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَى الْمُكْرِهِ لِأَنَّهُ حَصَلَ لِلْمُكْرَهِ عِوَضٌ، أَوْ كَانَ فِي حُكْمِ الْمَالِ كَمَا فِي مَنَافِعِ الْبُضْعِ إذَا أَتْلَفَهَا مُكْرَهًا، لِأَنَّ مَنَافِعَهُ تُعَدُّ مَالًا عِنْدَ الدُّخُولِ، وَالْوَلَاءُ لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ النَّسَبِ، أَلَا تَرَى أَنَّ شَاهِدَيْ الْوَلَاءِ إذَا رَجَعَا لَا يَضْمَنَانِ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ.
أَقُولُ: هَذَا الْجَوَابُ يُشْكِلُ بِمَا لَوْ أُكْرِهَ عَلَى شِرَاءِ ذِي رَحِمٍ مِنْهُ فَعَتَقَ عَلَيْهِ فَإِنَّ الْمُكْرَهَ لَا يَرْجِعُ هُنَاكَ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ عَلَى الْمُكْرِهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ حَصَلَ لَهُ عِوَضٌ هُوَ صِلَةُ الرَّحِمِ، نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْبَدَائِعِ، وَلَا يَذْهَبُ عَلَيْكَ أَنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ لَيْسَتْ بِمَالٍ كَالْوَلَاءِ، أَمَّا حَقِيقَةً فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا حُكْمًا فَلِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ كَمَا قَالُوا فِي مَنَافِعِ الْبُضْعِ عِنْدَ الدُّخُولِ فَتَأَمَّلْ (قَوْلُهُ وَلَا سِعَايَةَ عَلَى الْعَبْدِ لِأَنَّ السِّعَايَةَ إنَّمَا تَجِبُ لِلتَّخْرِيجِ إلَى الْحُرِّيَّةِ أَوْ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ وَلَمْ يُوجَدْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا) بِخِلَافِ الْمَرِيضِ إذَا أَعْتَقَ
وَلَا يَرْجِعُ الْمُكْرَهُ عَلَى الْعَبْدِ بِالضَّمَانِ لِأَنَّهُ مُؤَاخَذٌ بِإِتْلَافِهِ. قَالَ (وَيَرْجِعُ بِنِصْفِ مَهْرِ الْمَرْأَةِ إنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْعَقْدِ مُسَمًّى يَرْجِعُ عَلَى الْمُكْرَهِ بِمَا لَزِمَهُ مِنْ الْمُتْعَةِ) لِأَنَّ مَا عَلَيْهِ كَانَ عَلَى شَرْفِ السُّقُوطِ بِأَنْ جَاءَتْ الْفُرْقَةُ مِنْ قِبَلِهَا، وَإِنَّمَا يَتَأَكَّدُ بِالطَّلَاقِ فَكَانَ إتْلَافًا لِلْمَالِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَيُضَافُ إلَى الْمُكْرَهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ إتْلَافٌ. بِخِلَافِ مَا إذَا دَخَلَ بِهَا لِأَنَّ الْمَهْرَ قَدْ تَقَرَّرَ بِالدُّخُولِ لَا بِالطَّلَاقِ.
(وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى التَّوْكِيلِ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ فَفَعَلَ الْوَكِيلُ جَازَ اسْتِحْسَانًا) لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ مُؤَثِّرٌ فِي فَسَادِ الْعَقْدِ، وَالْوَكَالَةُ لَا تَبْطُلُ
عَبْدَهُ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ، لِأَنَّ السِّعَايَةَ تَجِبُ ثَمَّةَ لِحَقِّ الْغُرَمَاءِ، وَبِخِلَافِ الرَّاهِنِ إذَا أَعْتَقَ الْمَرْهُونَ، وَهُوَ مُعْسِرٌ فَإِنَّهُ تَجِبُ السِّعَايَةُ لِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ، كَذَا فِي الْكَافِي وَعَامَّةِ الشُّرُوحِ.
قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَدَلَ ذَلِكَ: بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْعَبْدُ مَرْهُونًا فَأُكْرِهَ الرَّاهِنُ عَلَى إعْتَاقِهِ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ السِّعَايَةُ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ وَهُوَ الْمُرْتَهِنُ بِهِ اهـ.
أَقُولُ: لَمْ أَرَ مَا ذَكَرَهُ مِنْ وُجُوبِ السِّعَايَةِ عَلَى الْعَبْدِ إذَا أُكْرِهَ الرَّاهِنُ عَلَى إعْتَاقِهِ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ سِوَى شَرْحِ تَاجِ الشَّرِيعَةِ لِهَذَا الْكِتَابِ فَإِنَّهُ قَالَ فِيهِ هَاهُنَا: وَلَا يَتَعَلَّقُ بِالْعَبْدِ حَقُّ الْغَيْرِ أَيْضًا حَتَّى يَحْتَاجَ إلَى السِّعَايَةِ لِذَلِكَ مِثْلُ أَنْ يَكُونَ مَرْهُونًا فَأُكْرِهَ الرَّاهِنُ عَلَى إعْتَاقِهِ وَهُوَ مُعْسِرٌ فَحِينَئِذٍ تَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ السِّعَايَةُ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ بِرَقَبَتِهِ. وَأَمَّا هَاهُنَا فَلَمْ يَتَعَلَّقْ حَقُّ الْغَيْرِ بِالْعَبْدِ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ اهـ.
ولَعَلَّهُ غَلَطٌ وَقَعَ مِنْ تَاجِ الشَّرِيعَةِ فَاغْتَرَّ بِهِ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ، لِأَنَّ مُجَرَّدَ تَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ بِالْعَبْدِ الْمُعْتَقِ لَا يُوجِبُ السِّعَايَةَ عَلَيْهِ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ لَا يَقْدِرَ مُعْتِقُهُ عَلَى إيفَاءِ ذَلِكَ الْحَقِّ وَلِهَذَا قَالُوا: إذَا أَعْتَقَ الرَّاهِنُ الْعَبْدَ الْمَرْهُونَ وَهُوَ مُعْسِرٌ تَجِبُ السِّعَايَةُ عَلَى الْعَبْدِ لِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ حَيْثُ زَادُوا قَيْدَ الْإِعْسَارِ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ الرَّاهِنَ فِيمَا إذَا أُكْرِهَ عَلَى إعْتَاقِ عَبْدِهِ الْمَرْهُونِ فَفَعَلَ يَقْدِرُ عَلَى إيفَاءِ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ بِمَا ضُمِّنَهُ الْمُكْرِهُ مِنْ قِيمَةِ ذَلِكَ الْعَبْدِ
بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ، وَيَرْجِعُ عَلَى الْمُكْرِهِ اسْتِحْسَانًا لِأَنَّ مَقْصُودَ الْمُكْرِهِ زَوَالُ مِلْكِهِ إذَا بَاشَرَ الْوَكِيلُ، وَالنَّذْرُ لَا يَعْمَلُ فِيهِ الْإِكْرَاهِ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ، وَلَا رُجُوعَ عَلَى الْمُكْرِهِ بِمَا لَزِمَهُ لِأَنَّهُ لَا مُطَالِبَ لَهُ فِي الدُّنْيَا فَلَا يُطَالَبُ بِهِ فِيهَا، وَكَذَا الْيَمِينُ، وَالظِّهَارُ لَا يَعْمَلُ فِيهِمَا الْإِكْرَاهُ لِعَدَمِ احْتِمَالِهِمَا الْفَسْخَ، وَكَذَا الرَّجْعَةُ وَالْإِيلَاءُ وَالْفَيْءُ فِيهِ بِاللِّسَانِ لِأَنَّهَا تَصِحُّ مَعَ الْهَزْلِ، وَالْخُلْعُ مِنْ جَانِبِهِ طَلَاقٌ أَوْ يَمِينٌ لَا يَعْمَلُ فِيهِ الْإِكْرَاهُ، فَلَوْ كَانَ هُوَ مُكْرَهًا عَلَى الْخُلْعِ دُونَهَا لَزِمَهَا الْبَدَلُ لِرِضَاهَا بِالِالْتِزَامِ.
فَإِنَّ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ إيَّاهَا لِمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا تَجِبَ السِّعَايَةُ عَلَى الْعَبْدِ. ثُمَّ إنَّ قَوْلَ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْعَبْدُ مَرْهُونًا فَأُكْرِهَ الرَّاهِنُ عَلَى إعْتَاقِهِ إلَخْ لَا يَكَادُ يَصِحُّ هَاهُنَا لِأَنَّ تِلْكَ الصُّورَةَ دَاخِلَةٌ هَاهُنَا فِي إطْلَاقِ مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ فَكَيْفَ يَصِحُّ الْحُكْمُ بِالْمُخَالَفَةِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا نَحْنُ فِيهِ، بِخِلَافِ الصُّورَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ فِي الْكَافِي وَعَامَّةِ الشُّرُوحِ فَإِنَّهُمَا مَسْأَلَتَانِ مُغَايِرَتَانِ لِمَا نَحْنُ فِيهِ، فَيَصِحُّ الْحُكْمُ بِالْمُخَالَفَةِ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ مَا نَحْنُ فِيهِ، وَكَذَا قَوْلُ تَاجِ الشَّرِيعَةِ.
وَأَمَّا هَاهُنَا فَلَمْ يَتَعَلَّقْ حَقُّ الْغَيْرِ بِالْعَبْدِ إلَخْ لَيْسَ بِسَدِيدٍ، فَإِنَّهُ يُشْعِرُ بِالْمُخَالَفَةِ أَيْضًا بَيْنَ تِلْكَ الصُّورَةِ وَبَيْنَ مَا نَحْنُ فِيهِ، وَمَعَ أَنَّهَا دَاخِلَةٌ فِي إطْلَاقِ مَا نَحْنُ فِيهِ كَمَا لَا يَخْفَى، وَأَيْضًا لَوْ وَجَبَ السِّعَايَةُ عَلَى الْعَبْدِ فِي الصُّورَةِ الْمَزْبُورَةِ لَانْتَقَضَ بِهَا مَا ذَهَبَ إلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله مِنْ
قَالَ (وَإِنْ أَكْرَهَهُ عَلَى الزِّنَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، إلَّا أَنْ يُكْرِهَهُ السُّلْطَانُ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ لَا يَلْزَمُهُ الْحَدُّ) وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي الْحُدُودِ.
أَنَّ السِّعَايَةَ إنَّمَا تَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ لِلتَّخْرِيجِ إلَى الْحُرِّيَّةِ، إذْ لَا تَخْرِيجَ إلَى الْحُرِّيَّةِ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ لِمَا ذَكَرُوا أَنَّ الْعَبْدَ قَدْ خَرَجَ إلَى الْحُرِّيَّةِ بِالْإِعْتَاقِ فَلَا يُمْكِنُ تَخْرِيجُهُ إلَيْهَا ثَانِيًا فَلَزِمَ أَنْ لَا يَتِمَّ قَوْلُ تَاجِ الشَّرِيعَةِ وَصَاحِبِ الْعِنَايَةِ وَغَيْرِهِمَا فِي ذَيْلِ شَرْحِ هَذَا الْمَحِلِّ، وَهَذَا الْقَدْرُ مِنْ التَّعْلِيلِ كَافٍ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ سَالِمٌ عَنْ النَّقْضِ.
وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِهِمَا فَمُنْتَقِضٌ بِمَا إذَا أَعْتَقَ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ بِالسَّفَهِ فَإِنَّهُ يَعْتِقُ وَيَجِبُ عَلَيْهِ السِّعَايَةُ عِنْدَهُمَا وَقَدْ أَعْتَقَ مِلْكَهُ وَلَا حَقَّ لِأَحَدٍ فِيهِ فَيُزَادُ لَهُمَا فِي التَّعْلِيلِ وَهُوَ غَيْرُ مَحْجُورٍ عَلَيْهِ انْتَهَى تَأَمَّلْ تَفْهَمْ
(قَوْلُهُ وَإِنْ أَكْرَهَهُ عَلَى الزِّنَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله إلَّا أَنْ يُكْرِهَهُ السُّلْطَانُ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: لَا يَجِبُ الْحَدُّ) وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْإِكْرَاهِ كَوْنُهُ مُلْجِئًا وَذَلِكَ بِقُدْرَةِ الْمُكْرِهِ عَلَى الْإِيقَاعِ وَخَوْفِ الْمُكْرَهِ الْوُقُوعَ كَمَا مَرَّ، وَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ مِنْ غَيْرِ السُّلْطَانِ أَكْثَرُ تَحَقُّقًا، لِأَنَّ السُّلْطَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَفُوتُهُ فَهُوَ ذُو أَنَاةٍ فِي أَمْرِهِ وَغَيْرُهُ يَخَافُ الْفَوْتَ بِالِالْتِجَاءِ إلَى السُّلْطَانِ فَيُعَجِّلُ فِي الْإِيقَاعِ.
وَوَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْمُكْرَهَ يَعْجَزُ عَنْ دَفْعِ السُّلْطَانِ عَنْ نَفْسِهِ إذْ لَيْسَ فَوْقَهُ مَنْ يَلْتَجِئُ إلَيْهِ وَيَقْدِرُ عَلَى دَفْعِ اللِّصِّ بِالِالْتِجَاءِ إلَى السُّلْطَانِ، فَإِنْ اتَّفَقَ فِي مَوْضِعٍ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ نَادِرٌ لَا حُكْمَ لَهُ فَلَا يَسْقُطُ بِهِ الْحَدُّ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ وَالنِّهَايَةِ، وَهُوَ الْمُطَابِقُ لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ.
أَقُولُ: يَتَّجِهُ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ مِنْ قِبَلِ أَبِي حَنِيفَةَ
قَالَ (وَإِذَا أَكْرَهَهُ عَلَى الرِّدَّةِ لَمْ تَبِنْ امْرَأَتُهُ مِنْهُ) لِأَنَّ الرِّدَّةَ تَتَعَلَّقُ بِالِاعْتِقَادِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنًّا بِالْإِيمَانِ لَا يَكْفُرُ وَفِي اعْتِقَادِهِ الْكُفْرَ شَكٌّ فَلَا تَثْبُتُ الْبَيْنُونَةُ بِالشَّكِّ، فَإِنْ قَالَتْ الْمَرْأَةُ قَدْ بِنْتُ مِنْك وَقَالَ هُوَ قَدْ أَظْهَرْتُ ذَلِكَ وَقَلْبِي مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ
- رحمه الله أَنْ يُقَالَ: نُدْرَةُ ذَلِكَ مَمْنُوعٌ، كَيْفَ وَوُقُوعُ ظَفَرِ اللُّصُوصِ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ بِالنَّاسِ وَعَجْزُهُمْ عَنْ دَفْعِ شَرِّ هَؤُلَاءِ الْمُتَغَلِّبَةِ سِيَّمَا فِي الْمَوَاضِعِ النَّائِيَةِ عَنْ الْعُمْرَانِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى، وَلَئِنْ سَلَّمَ النُّدْرَةَ فَأَنْ لَا يَكُونَ لِلنَّادِرِ حُكْمٌ فِيمَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ مِنْ الْحُدُودِ سِيَّمَا فِي حَدِّ الزِّنَا كَمَا نَحْنُ فِيهِ مَمْنُوعٌ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ بِمُجَرَّدِ الِاحْتِمَالِ تَثْبُتُ الشُّبْهَةُ فَضْلًا عَنْ الْوُقُوعِ بِطَرِيقِ النُّدْرَةِ.
قَالَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ فِي هَذَا الْمَقَامِ: وَدَلِيلُهُمَا ظَاهِرٌ، لِأَنَّ الْكَلَامَ فِيمَا إذَا جَاءَ مِنْ غَيْرِ السُّلْطَانِ مَا يَأْتِي مِنْ السُّلْطَانِ فِي مَوْضِعٍ لَا مَدْفَعَ لَهُ عَادَةً، وَفِي مِثْلِ هَذَا السُّلْطَانُ وَغَيْرُهُ سَوَاءٌ، أَلَا يُرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي غَيْرِ الْمِصْرِ اُعْتُبِرَ بِالْإِجْمَاعِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ هَذَا مِمَّا لَا يَغْلِبُ عَلَيْهِ عَادَةً إذَا كَانَ فِي الْمِصْرِ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ يَلْحَقُهُ الْغَوْثُ مِنْ النَّاسِ أَوْ مِنْ السُّلْطَانِ فَيَنْدَفِعُ، وَالْحُكْمُ لَا يَنْبَنِي عَلَى النَّادِرِ، حَتَّى لَوْ كَانَ فِي مَوْضِعٍ يَغْلِبُ كَمَا فِي غَيْرِ الْمِصْرِ نَعْتَبِرُهُ كَذَا قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ عَلَاءُ الدِّينِ فِي شَرْحِ الْكَافِي انْتَهَى.
أَقُولُ: عَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ يُمْكِنُ أَنْ يَنْدَفِعَ مَنْعُ النُّدْرَةِ، وَلَكِنْ يَبْقَى مَنْعُ أَنْ لَا يَكُونَ لِلنَّادِرِ حُكْمٌ فِيمَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ كَمَا نَحْنُ فِيهِ عَلَى حَالِهِ. ثُمَّ أَقُولُ: إطْلَاقُ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ وَإِطْلَاقَاتِ عَامَّةِ الْمُعْتَبَرَاتِ فِي أَنَّ حُكْمَ الْإِكْرَاهِ مَخْصُوصٌ بِالسُّلْطَانِ عِنْدَهُ وَعَامٌّ لِكُلِّ مُتَغَلِّبٍ يَقْدِرُ عَلَى تَحْقِيقِ مَا هَدَّدَهُ بِهِ عِنْدَهُمَا مِمَّا لَا يُسَاعِدُ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْإِكْرَاهَ مِنْ غَيْرِ السُّلْطَانِ فِي غَيْرِ الْمِصْرِ مُعْتَبَرٌ بِالْإِجْمَاعِ، يَظْهَرُ ذَلِكَ بِالتَّأَمُّلِ فِي عِبَارَةِ الْكِتَابِ وَتَتَبُّعِ سَائِرِ الْمُعْتَبَرَاتِ. قَالَ الْإِمَامُ قَاضِي خَانْ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْإِكْرَاهِ مِنْ فَتَاوَاهُ: الْإِكْرَاهُ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا مِنْ السُّلْطَانِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَفِي قَوْلِ صَاحِبَيْهِ يَتَحَقَّقُ مِنْ كُلِّ مُتَغَلِّبٍ يَقْدِرُ عَلَى تَحْقِيقِ مَا هَدَّدَهُ بِهِ، وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى انْتَهَى. وَقَالَ فِي الذَّخِيرَةِ وَالْمُحِيطِ الْبُرْهَانِيِّ: وَمِنْ شَرْطِ صِحَّتِهِ أَنْ يَكُونَ الْإِكْرَاهُ مِنْ السُّلْطَانِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَعِنْدَهُمَا إذَا جَاءَ مِنْ غَيْرِ السُّلْطَانِ مَا يَجِيءُ مِنْ السُّلْطَانِ فَهُوَ إكْرَاهٌ صَحِيحٌ شَرْعًا. وَالِاخْتِلَافُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مَذْكُورٌ فِي مَسْأَلَةِ الزِّنَا، وَصُورَتُهَا: غَيْرُ السُّلْطَانِ إذَا أَكْرَهَ رَجُلًا عَلَى الزِّنَا فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله يَجِبُ الْحَدُّ عَلَى الزَّانِي كَأَنَّهُ بَاشَرَ الزِّنَا طَوْعًا، وَعَلَى قَوْلِهِمَا لَا حَدَّ عَلَيْهِ، فَظَنَّ بَعْضُ مَشَايِخِنَا أَنَّ الْخِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي الزِّنَا خَاصَّةً، وَأَمَّا فِي غَيْرِهِ فَإِكْرَاهُ غَيْرِ السُّلْطَانِ وَإِكْرَاهُ السُّلْطَانِ سَوَاءٌ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْخِلَافُ فِي الزِّنَا وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَحْكَامِ أَيْضًا سَوَاءٌ. وَاخْتَلَفُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ: بَعْضُهُمْ قَالَ هَذَا اخْتِلَافُ عَصْرٍ وَزَمَانٍ، وَبَعْضُهُمْ قَالَ هَذَا اخْتِلَافُ حُجَّةٍ وَبُرْهَانٍ انْتَهَى فَتَدَبَّرْ
(قَوْلُهُ لِأَنَّ الرِّدَّةَ تَتَعَلَّقُ بِالِاعْتِقَادِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنًّا بِالْإِيمَانِ لَا يَكْفُرُ وَفِي اعْتِقَادِهِ الْكُفْرَ شَكٌّ فَلَا تَثْبُتُ الْبَيْنُونَةُ بِالشَّكِّ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ كَلَامُهُ دَلِيلَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يُقَالَ إنَّ الرِّدَّةَ بِتَبَدُّلِ الِاعْتِقَادِ وَتَبَدُّلُ الِاعْتِقَادِ لَيْسَ بِثَابِتٍ لِقِيَامِ الدَّلِيلِ وَهُوَ الْإِكْرَاهُ.
وَالثَّانِي
فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ اسْتِحْسَانًا، لِأَنَّ اللَّفْظَ غَيْرُ مَوْضُوعٍ لِلْفُرْقَةِ وَهِيَ بِتَبَدُّلِ الِاعْتِقَادِ وَمَعَ الْإِكْرَاهِ لَا يَدُلُّ عَلَى التَّبَدُّلِ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ، بِخِلَافِ الْإِكْرَاهِ عَلَى الْإِسْلَامِ حَيْثُ يَصِيرُ بِهِ مُسْلِمًا، لِأَنَّهُ لَمَّا احْتَمَلَ وَاحْتَمَلَ رَجَّحْنَا الْإِسْلَامَ فِي الْحَالَيْنِ لِأَنَّهُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى
أَنْ يُقَالَ الرِّدَّةُ بِاعْتِقَادِ الْكُفْرِ وَفِي اعْتِقَادِهِ الْكُفْرَ شَكٌّ لِأَنَّهُ أَمْرٌ مُغَيَّبٌ لَا يُطَّلَعُ عَلَيْهِ إلَّا بِتَرْجَمَةِ اللِّسَانِ، وَقِيَامُ الْإِكْرَاهِ يَصْرِفُ عَنْ صِحَّةِ التَّرْجَمَةِ فَلَا تَثْبُتُ الْبَيْنُونَةُ الْمُتَرَتِّبَةُ عَلَى الْكُفْرِ بِالشَّكِّ انْتَهَى.
أَقُولُ: لَا يَذْهَبُ عَلَى ذِي فِطْرَةٍ سَلِيمَةٍ أَنَّ مَا قَالَهُ لَغْوٌ مِنْ الْكَلَامِ، لِأَنَّ مَا زَعَمَهُ دَلِيلَانِ مُتَّحِدَانِ فِي الْمَعْنَى، وَإِنَّمَا التَّغَايُرُ بَيْنَهُمَا فِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ وَهُوَ تَبَدُّلُ الِاعْتِقَادِ فِي الْأَوَّلِ وَاعْتِقَادُ الْكُفْرِ فِي الثَّانِي، وَلَا رَيْبَ أَنَّ تَبَدُّلَ اعْتِقَادِ الْمُسْلِمِ إنَّمَا يَكُونُ بِاعْتِقَادِ الْكُفْرِ فَاتَّحَدَا مَعْنًى فَمَا مَعْنَى جَعْلِهِمَا دَلِيلَيْنِ؟ وَإِنْ جُعِلَ مَدَارَ جَعْلِهِمَا دَلِيلَيْنِ مُجَرَّدُ تَغَايُرِهِمَا فِي اللَّفْظِ فَلَا مَعْنَى لِجَعْلِ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ دَلِيلَيْنِ أَيْضًا، لِأَنَّ الْوَاقِعَ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ هُوَ اللَّفْظُ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ كَمَا تَرَى (قَوْلُهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ اسْتِحْسَانًا لِأَنَّ اللَّفْظَ غَيْرُ مَوْضُوعٍ لِلْفُرْقَةِ وَهِيَ بِتَبَدُّلِ الِاعْتِقَادِ وَمَعَ الْإِكْرَاهِ لَا يَدُلُّ عَلَى التَّبَدُّلِ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي حَلِّ هَذَا الْمَحَلِّ: وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ اللَّفْظَ يَعْنِي كَلِمَةَ الْكُفْرِ غَيْرُ مَوْضُوعٍ لِلْفُرْقَةِ: يَعْنِي لَمْ يَظْهَرْ مِنْهَا ظُهُورًا بَيِّنًا مِنْ حَيْثُ الْحَقِيقَةُ حَتَّى يَكُونَ صَرِيحًا يَقُومُ اللَّفْظُ فِيهِ مَقَامَ مَعْنَاهُ كَمَا فِي الطَّلَاقِ، بَلْ دَلَالَتُهُ عَلَيْهَا مِنْ حَيْثُ إنَّ اللَّفْظَ دَلِيلٌ وَتَرْجَمَةٌ لِمَا فِي الْقَلْبِ.
فَإِنْ دَلَّ عَلَى تَبَدُّلِ الِاعْتِقَادِ الْمُسْتَلْزِمِ لِلْفُرْقَةِ كَانَ دَلَالَتُهُ عَلَيْهَا دَلَالَةً مَجَازِيَّةً وَمَعَ الْإِكْرَاهِ لَا يَدُلُّ عَلَى التَّبَدُّلِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ صَرِيحًا فِيهِ يَقُومُ لَفْظُهُ مَقَامَ مَعْنَاهُ فَلِهَذَا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ انْتَهَى كَلَامُهُ.
أَقُولُ: فِيهِ خَلَلٌ، فَإِنَّ قَوْلَهُ فَإِنْ دَلَّ عَلَى تَبَدُّلِ الِاعْتِقَادِ الْمُسْتَلْزِمِ لِلْفُرْقَةِ كَانَ دَلَالَتُهُ عَلَيْهَا دَلَالَةً مَجَازِيَّةً لَا يَكَادُ يَتِمُّ، إذْ لَا بُدَّ فِي الْمَجَازِ مِنْ كَوْنِ اللَّفْظِ مُسْتَعْمَلًا فِي الْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ، وَلَا شَكَّ أَنَّ اللَّفْظَ هَاهُنَا وَهُوَ كَلِمَةُ الْكُفْرِ غَيْرُ مُسْتَعْمَلٍ فِي الْفُرْقَةِ لَا حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا، وَإِنَّمَا هِيَ: أَيْ الْفُرْقَةُ أَثَرٌ لَازِمٌ لِمَعْنَى اللَّفْظِ وَهُوَ الِاعْتِقَادُ الرَّدِيءُ، فَلَمْ تَكُنْ دَلَالَةُ اللَّفْظِ عَلَيْهَا مَجَازِيَّةً بَلْ كَانَتْ الْتِزَامِيَّةً مَحْضَةً، فَكَانَ انْفِهَامُهَا مِنْ اللَّفْظِ بِطَرِيقِ الِاسْتِتْبَاعِ لَا بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ فَصَارَتْ مِنْ قَبِيلِ مُسْتَتْبَعَاتِ الْأَلْفَاظِ الْمُغَايِرَةِ لِلْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي عِلْمِ الْبَلَاغَةِ.
فَإِنْ قُلْتَ: يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْمَجَازِيَّةِ هَاهُنَا الْمُتَجَاوِزَةُ عَنْ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ إلَى أَيِّ شَيْءٍ كَانَ، لَا الْمُتَجَاوِزَةُ عَنْ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ إلَى الْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ فَقَطْ فَتَعُمُّ مُسْتَتْبَعَاتِ الْأَلْفَاظِ أَيْضًا. قُلْتُ: هَذَا الْمَعْنَى مَعَ كَوْنِهِ مُخَالِفًا لِلْعُرْفِ وَالِاصْطِلَاحِ بِالْكُلِّيَّةِ يَأْبَاهُ جِدًّا قَوْلُهُ مِنْ قَبْلُ: يَعْنِي لَمْ يَظْهَرْ فِيهَا ظُهُورًا بَيِّنًا مِنْ حَيْثُ الْحَقِيقَةُ فَتَأَمَّلْ.
فَالْوَجْهُ الْمُجْمَلُ الْمُفِيدُ الْمُطَابِقُ لِلْمَشْرُوحِ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ مَعْزِيًّا إلَى الْإِيضَاحِ حَيْثُ قَالَ: وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ غَيْرُ مَوْضُوعَةٍ لِلْفُرْقَةِ، وَإِنَّمَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ بِاعْتِبَارِ تَغَيُّرِ الِاعْتِقَادِ، وَالْإِكْرَاهُ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ تَغَيُّرِ الِاعْتِقَادِ فَلَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ، كَذَا فِي الْإِيضَاحِ اهـ.
(قَوْلُهُ بِخِلَافِ الْإِكْرَاهِ عَلَى الْإِسْلَامِ حَيْثُ يَصِيرُ بِهِ مُسْلِمًا، لِأَنَّهُ لَمَّا احْتَمَلَ وَاحْتَمَلَ رَجَّحْنَا الْإِسْلَامَ فِي الْحَالَيْنِ لِأَنَّهُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: وَكَأَنَّ هَذَا إشَارَةٌ إلَى مَا قَالَهُ الْإِمَامُ أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ وَهُوَ الْمَنْقُولُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رضي الله عنه: أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ التَّصْدِيقُ، وَالْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ شَرْطُ إجْرَاءِ الْأَحْكَامِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مَذْهَبَ أَهْلِ أُصُولِ الْفِقْهِ، فَإِنَّهُمْ يَجْعَلُونَ الْإِقْرَارَ رُكْنًا انْتَهَى. أَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ كَيْفَ يَكُونُ إشَارَةً إلَى مَا قَالَهُ الْإِمَامُ أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ
وَهَذَا بَيَانُ الْحُكْمِ، أَمَّا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى إذَا لَمْ يَعْتَقِدْهُ فَلَيْسَ بِمُسْلِمٍ، وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى الْإِسْلَامِ حَتَّى حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ ثُمَّ رَجَعَ لَمْ يُقْتَلْ لِتَمَكُّنِ الشُّبْهَةِ وَهِيَ دَارِئَةٌ لِلْقَتْلِ. وَلَوْ قَالَ الَّذِي أُكْرِهَ عَلَى إجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ أَخْبَرْتُ عَنْ أَمْرٍ مَاضٍ وَلَمْ أَكُنْ فَعَلْتُ بَانَتْ مِنْهُ حُكْمًا لَا دِيَانَةً. لِأَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّهُ طَائِعٌ بِإِتْيَانِ مَا لَمْ يُكْرَهْ عَلَيْهِ، وَحُكْمُ هَذَا الطَّائِعِ مَا ذَكَرْنَاهُ. وَلَوْ قَالَ أَرَدْت مَا طُلِبَ مِنِّي وَقَدْ خَطَرَ بِبَالٍ الْخَبَرُ عَمَّيْ مَضَى بَانَتْ دِيَانَةً وَقَضَاءً، لِأَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّهُ مُبْتَدِئٌ بِالْكُفْرِ هَازِلٌ بِهِ حَيْثُ عَلِمَ لِنَفْسِهِ مَخْلَصًا غَيْرَهُ.
وَعَلَى هَذَا إذَا أُكْرِهَ عَلَى الصَّلَاةِ لِلصَّلِيبِ وَسَبِّ مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام فَفَعَلَ وَقَالَ نَوَيْت بِهِ الصَّلَاةَ لِلَّهِ تَعَالَى وَمُحَمَّدٍ آخَرَ غَيْرَ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام بَانَتْ مِنْهُ قَضَاءً لَا دِيَانَةً، وَلَوْ صَلَّى لِلصَّلِيبِ وَسَبَّ مُحَمَّدًا النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام وَقَدْ خَطَرَ بِبَالِهِ الصَّلَاةُ لِلَّهِ تَعَالَى وَسَبِّ غَيْرِ
مَعَ تَمْشِيَتِهِ عَلَى الْمَذْهَبَيْنِ مَعًا، بَلْ تَمْشِيَتُهُ عَلَى الْمَذْهَبِ الثَّانِي أَظْهَرُ فِي حَالِ الْإِكْرَاهِ عَلَى الْإِسْلَامِ، لِأَنَّ الْإِقْرَارَ إذَا كَانَ رُكْنًا مِنْ الْإِيمَانِ كَانَ الْمُكْرَهُ عَلَى الْإِسْلَامِ آتِيًا بِأَحَدِ رُكْنَيْهِ فَيَظْهَرُ وَجْهُ الْحُكْمِ بِإِسْلَامِهِ، فَإِنَّهُ لَمَّا تَحَقَّقَ أَحَدُ رُكْنَيْ الْإِسْلَامِ مَعَ عَدَمِ الْجَزْمِ بِانْتِفَاءِ الْآخَرِ حَكَمْنَا بِوُجُودِ الْإِسْلَامِ تَرْجِيحًا لِجَانِبِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْإِيمَانُ هُوَ التَّصْدِيقَ وَكَانَ الْإِقْرَارُ شَرْطًا لِإِجْرَاءِ الْأَحْكَامِ، فَإِنَّهُ عَلَى هَذَا لَا يَتَحَقَّقُ شَيْءٌ مِنْ رُكْنَيْ الْإِيمَانِ فِي الْمُكْرَهِ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ الْمُتَحَقِّقُ فِيهِ مَا هُوَ خَارِجٌ عَنْ حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ شَرْطٌ لِإِجْرَاءِ الْأَحْكَامِ، فَوَجْهُ الْحُكْمِ بِالْإِسْلَامِ بِمُجَرَّدِ تَحَقُّقِ مَا هُوَ شَرْطٌ لِإِجْرَاءِ أَحْكَامِهِ لَا يَظْهَرُ ظُهُورَهُ فِي الْأَوَّلِ.
لَا يُقَالُ: كَيْفَ يَتَمَشَّى مَا فِي الْكِتَابِ عَلَى الْمَذْهَبِ الثَّانِي فِي حَالِ الْإِكْرَاهِ عَلَى الرِّدَّةِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الْإِقْرَارُ رُكْنًا مِنْ الْإِيمَانِ يَلْزَمُ أَنْ يَثْبُتَ حُكْمُ الرِّدَّةِ بِإِجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ عَلَى اللِّسَانِ لِأَنَّهُ يَنْتَفِي الْإِقْرَارُ إذْ ذَاكَ، وَانْتِفَاءُ رُكْنٍ وَاحِدٍ يَسْتَلْزِمُ انْتِفَاءَ الْكُلِّ لَا مَحَالَةَ.
لِأَنَّا نَقُولُ: إنَّ مَنْ قَالَ بِأَنَّ الْإِقْرَارَ رُكْنٌ مِنْ الْإِيمَانِ لَمْ يَقُلْ إنَّهُ رُكْنٌ أَصْلِيٌّ مِنْهُ كَالتَّصْدِيقِ، بَلْ قَالَ: إنَّهُ رُكْنٌ زَائِدٌ وَالتَّصْدِيقُ رُكْنٌ أَصْلِيٌّ، وَفَسَّرَ مَعْنَى كَوْنِهِ رُكْنًا زَائِدًا بِأَنَّ الشَّارِعَ اعْتَبَرَهُ فِي وُجُودِ الْمُرَكَّبِ، لَكِنْ إنْ عُدِمَ بِنَاءً عَلَى
النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام بَانَتْ مِنْهُ دِيَانَةً وَقَضَاءً لِمَا مَرَّ، وَقَدْ قَرَّرْنَاهُ زِيَادَةً عَلَى هَذَا فِي كِفَايَةِ الْمُنْتَهَى، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
كِتَابُ الْحَجْرِ
ضَرُورَةِ جَعْلِ الشَّارِعِ عَدَمَهُ عَفْوًا وَاعْتَبَرَ الْمُرَكَّبَ مَوْجُودًا حُكْمًا وَقَدْ بُيِّنَ ذَلِكَ فِي كُتُب الْأُصُولِ بِمَا لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ، فَعَلَى هَذَا يَظْهَرُ تَمَشِّي مَا فِي الْكِتَابِ عَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ أَيْضًا فِي حَالِ الْإِكْرَاهِ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْإِكْرَاهِ عَلَى الْكُفْرِ كَمَا لَا يَخْفَى تَأَمَّلْ تَقِفْ.
(كِتَابُ الْحَجْرِ)
أَوْرَدَ الْحَجْرَ عَقِيبَ الْإِكْرَاهِ لِأَنَّ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا سَلْبُ وِلَايَةِ الْمُخْتَارِ عَنْ الْجَرْيِ عَلَى مُوجِبِ الِاخْتِيَارِ، إلَّا أَنَّ الْإِكْرَاهَ لَمَّا كَانَ أَقْوَى تَأْثِيرًا لِأَنَّ فِيهِ سَلْبَهَا عَمَّنْ لَهُ اخْتِيَارٌ صَحِيحٌ وَوِلَايَةٌ كَامِلَةٌ، بِخِلَافِ الْحَجْرِ كَانَ أَحَقَّ بِالتَّقْدِيمِ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ.
وَمِنْ مَحَاسِنِ الْحَجْرِ أَنَّ فِيهِ شَفَقَةً عَلَى خَلْقِ اللَّهِ عز وجل وَهِيَ أَحَدُ قُطْبَيْ أَمْرِ الدِّيَانَةِ، وَالْآخَرُ التَّعْظِيمُ لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْوَرَى وَفَاوَتَ بَيْنَهُمْ فِي الْحِجْرِ، فَجَعَلَ بَعْضَهُمْ أُولِي الرَّأْيِ وَالنُّهَى، وَمِنْهُمْ أَعْلَامُ الْهُدَى وَمَصَابِيحُ الدُّجَى وَجَعَلَ بَعْضَهُمْ مُبْتَلًى بِبَعْضِ أَسْبَابِ الرَّدَى فِيمَا يَرْجِعُ إلَى مُعَامَلَاتِ الدُّنْيَا، كَالْمَجْنُونِ الَّذِي هُوَ عَدِيمُ الْعَقْلِ، وَالْمَعْتُوهِ الَّذِي هُوَ نَاقِصُ الْعَقْلِ، فَأَثْبَتَ الْحَجْرَ عَلَيْهِمَا عَنْ التَّصَرُّفَاتِ نَظَرًا مِنْ الشَّرْعِ لَهُمَا، لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ تَصَرُّفِهِمَا ضَرَرٌ يَلْزَمُهُمَا، إذْ لَيْسَ لَهُمَا عَقْلٌ كَامِلٌ يَرْدَعُهُمَا وَتَمْيِيزٌ وَافِرٌ يَرُدُّهُمَا، وَكَذَلِكَ حَجْرُ الصَّبِيِّ وَالرَّقِيقِ.
أُمًّا الصَّبِيُّ فَفِي أَوَّلِ أَحْوَالِهِ كَالْمَجْنُونِ وَفِي آخِرِهَا كَالْمَعْتُوهِ، فَمَا هُوَ الْمُتَوَقَّعُ مِنْ ضَرَرِهِمَا يُتَوَقَّعُ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ.
وَأَمَّا الرَّقِيقُ فَإِنَّهُ يَتَصَرَّفُ فِي مَالِ غَيْرِهِ لِأَنَّهُ لَا مَالَ لَهُ، وَلَا يَسْتَعْمِلُ مَنْ يَتَصَرَّفُ فِي مَالِ الْغَيْرِ مِثْلَ اسْتِعْمَالِهِ فِي مَالِ نَفْسِهِ عَادَةً، فَسَدَّ بَابَ التَّصَرُّفِ عَلَى الرَّقِيقِ بِالْحَجْرِ لِرِقِّهِ نَظَرًا لِلْمَوْلَى، ثُمَّ إنَّ الْحَجْرَ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْمَنْعُ فَإِنَّهُ مَصْدَرُ حَجَرَ عَلَيْهِ الْقَاضِي إذَا مَنَعَهُ. وَفِي الشَّرِيعَةِ هُوَ الْمَنْعُ عَنْ التَّصَرُّفِ فِي حَقِّ شَخْصٍ مَخْصُوصٍ وَهُوَ الصَّغِيرُ وَالرَّقِيقُ وَالْمَجْنُونُ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَالْعِنَايَةِ. أَقُولُ: فِيهِ قُصُورٌ.
أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ الْحَجْرَ فِي الشَّرِيعَةِ لَيْسَ هُوَ الْمَنْعَ عَنْ
قَالَ (الْأَسْبَابُ الْمُوجِبَةُ لِلْحَجْرِ ثَلَاثَةٌ: الصِّغَرُ، وَالرِّقُّ، وَالْجُنُونُ، فَلَا يَجُوزُ تَصَرُّفُ الصَّغِيرِ إلَّا بِإِذْنِ وَلِيِّهِ، وَلَا تَصَرُّفُ الْعَبْدِ إلَّا بِإِذْنِ سَيِّدِهِ، وَلَا تَصَرُّفُ الْمَجْنُونِ الْمَغْلُوبِ بِحَالٍ). أَمَّا الصَّغِيرُ فَلِنُقْصَانِ عَقْلِهِ، غَيْرَ أَنَّ إذْنَ الْوَلِيِّ آيَةُ أَهْلِيَّتِهِ، وَالرِّقُّ لِرِعَايَةِ حَقِّ الْمَوْلَى كَيْ لَا يَتَعَطَّلَ مَنَافِعُ عَبْدِهِ. وَلَا يَمْلِكُ رَقَبَتَهُ بِتَعَلُّقِ الدَّيْنِ بِهِ، غَيْرَ أَنَّ الْمَوْلَى بِالْإِذْنِ رَضِيَ بِفَوَاتِ حَقِّهِ، وَالْجُنُونُ لَا تُجَامِعُهُ الْأَهْلِيَّةُ فَلَا يَجُوزُ تَصَرُّفُهُ بِحَالٍ، أَمَّا الْعَبْدُ فَأَهْلٌ فِي نَفْسِهِ وَالصَّبِيُّ تُرْتَقَبُ أَهْلِيَّتُهُ فَلِهَذَا وَقَعَ الْفَرْقُ. قَالَ (وَمَنْ بَاعَ مِنْ هَؤُلَاءِ شَيْئًا وَهُوَ يَعْقِلُ الْبَيْعَ وَيَقْصِدُهُ فَالْوَلِيُّ بِالْخِيَارِ، إنْ شَاءَ أَجَازَهُ إذَا كَانَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ، وَإِنْ شَاءَ فَسَخَهُ) لِأَنَّ التَّوَقُّفَ فِي الْعَبْدِ لِحَقِّ الْمَوْلَى فَيَتَخَيَّرُ فِيهِ، وَفِي الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ نَظَرًا لَهُمَا فَيَتَحَرَّى مَصْلَحَتَهُمَا فِيهِ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَعْقِلَا الْبَيْعَ لِيُوجَدَ رُكْنُ الْعَقْدِ فَيَنْعَقِدُ مَوْقُوفًا عَلَى الْإِجَازَةِ، وَالْمَجْنُونُ قَدْ يَعْقِلُ الْبَيْعَ وَيَقْصِدُهُ وَإِنْ كَانَ لَا يُرَجِّحُ الْمَصْلَحَةَ عَلَى الْمَفْسَدَةِ وَهُوَ الْمَعْتُوهُ الَّذِي يَصْلُحُ وَكِيلًا عَنْ غَيْرِهِ كَمَا بَيَّنَّا فِي الْوَكَالَةِ. فَإِنْ قِيلَ: التَّوَقُّفُ عِنْدَكُمْ فِي الْبَيْعِ. أَمَّا الشِّرَاءُ فَالْأَصْلُ فِيهِ النَّفَاذُ عَلَى الْمُبَاشِرِ.
التَّصَرُّفِ مُطْلَقًا بَلْ هُوَ مَنْعٌ عَنْ التَّصَرُّفِ قَوْلًا لَا فِعْلًا كَمَا يُفْصِحُ عَنْهُ مَا سَيَأْتِي فِي الْكِتَابِ مِنْ أَنَّ هَذِهِ الْمَعَانِيَ الثَّلَاثَةَ يَعْنِي الصِّغَرَ وَالرِّقَّ وَالْجُنُونَ تُوجِبُ الْحَجْرَ فِي الْأَقْوَالِ دُونَ الْأَفْعَالِ. وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ الْمَحْجُورَ عَلَيْهِ غَيْرُ مُنْحَصِرٍ فِي الصَّغِيرِ وَالرَّقِيقِ وَالْمَجْنُونِ. بَلْ الْمُفْتِي الْمَاجِنُ وَالْمُتَطَبِّبُ الْجَاهِلُ وَالْمُكَارِي الْمُفْلِسُ مَحْجُورٌ عَلَيْهِمْ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، كَمَا صَرَّحُوا بِذَلِكَ كُلِّهِ فِي عَامَّةِ الْمُعْتَبَرَاتِ، وَسَيَأْتِي فِي الْكِتَابِ شَيْئًا فَشَيْئًا، فَقَوْلُهُ فِي ذَيْلِ التَّعْرِيفِ وَهُوَ الصَّغِيرُ وَالرَّقِيقُ وَالْمَجْنُونُ تَفْسِيرٌ زَائِدٌ وَتَقْيِيدٌ كَاسِدٌ. وَبِالْجُمْلَةِ فِي التَّعْرِيفِ الْمَزْبُورِ تَقْصِيرٌ مِنْ حَيْثُ إطْلَاقُ الْمُقَيَّدِ وَتَقْيِيدُ الْمُطْلَقِ.
وَقَالَ فِي الْكَافِي: الْحَجْرُ فِي اللُّغَةِ الْمَنْعُ. وَفِي الشَّرْعِ مَنْعٌ عَنْ التَّصَرُّفِ قَوْلًا بِصِغَرٍ وَرِقٍّ وَجُنُونٍ انْتَهَى.
أَقُولُ: فِيهِ تَدَارُكٌ لِلْمَحْذُورِ الْأَوَّلِ، وَلَكِنْ يَبْقَى الْمَحْذُورُ الثَّانِي عَلَى حَالِهِ كَمَا لَا يَخْفَى، فَالْأَوَّلُ مَا ذُكِرَ فِي مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ فَإِنَّهُ قَالَ فِيهِ: ثُمَّ الْحَجْرُ لُغَةً الْمَنْعُ مَصْدَرُ حَجَرَ عَلَيْهِ. وَشَرْعًا مَنْعٌ مَخْصُوصٌ وَهُوَ الْمَنْعُ مِنْ التَّصَرُّفِ قَوْلًا لِشَخْصٍ مَعْرُوفٍ مَخْصُوصٍ وَهُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْحَجْرِ بِأَيِّ سَبَبٍ كَانَ انْتَهَى تَدَبَّرْ
(قَوْلُهُ الْأَسْبَابُ الْمُوجِبَةُ لِلْحَجْرِ ثَلَاثَةٌ: الصِّغَرُ، وَالرِّقُّ، وَالْجُنُونُ) هَذِهِ الثَّلَاثَةُ بِالِاتِّفَاقِ. وَأَلْحَقَ بِمَا اُشْتُقَّ مِنْهَا ثَلَاثَةً أُخْرَى بِالِاتِّفَاقِ أَيْضًا وَهِيَ: الْمُفْتِي الْمَاجِنُ، وَالْمُتَطَبِّبُ الْجَاهِلُ، وَالْمُكَارِي الْمُفْلِسُ. وَأَمَّا حَجْرُ الْمَدْيُونِ وَالسَّفِيهِ بَعْدَمَا بَلَغَ رَشِيدًا فَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ.
أَقُولُ: قَدْ أَطْبَقَتْ كَلِمَةُ الْفُقَهَاءِ فِي كُتُبِ الْفُرُوعِ عَلَى إدْرَاجِ الْعَتَهِ فِي الْجُنُونِ
قُلْنَا: نَعَمْ إذَا وَجَدَ نَفَاذًا عَلَيْهِ كَمَا فِي شِرَاءِ الْفُضُولِيِّ، وَهَاهُنَا لَمْ نَجِدْ نَفَاذًا لِعَدَمِ الْأَهْلِيَّةِ أَوْ لِضَرَرِ الْمَوْلَى فَوَقَفْنَاهُ. قَالَ (وَهَذِهِ الْمَعَانِي الثَّلَاثَةُ تُوجِبُ الْحَجْرَ فِي الْأَقْوَالِ دُونَ الْأَفْعَالِ) لِأَنَّهُ لَا مَرَدَّ لَهَا لِوُجُودِهَا حِسًّا وَمُشَاهَدَةً
وَجَعْلِ الْأَسْبَابِ الْأَصْلِيَّةِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا ثَلَاثَةً وَهِيَ: الصِّغَرُ، وَالرِّقُّ، وَالْجُنُونُ.
وَفِي كُتُبِ الْأُصُولِ عَلَى جَعْلِ الْعَتَهِ قَسِيمًا لِلْجُنُونِ كَسَائِرِ الْأُمُورِ الْمُعْتَرِضَةِ عَلَى الْأَهْلِيَّةِ وَمُخَالِفًا لَهُ فِي أَكْثَرِ الْأَحْكَامِ، فَقَدْ خَالَفَ اصْطِلَاحُهُمْ فِي الْفُرُوعِ اصْطِلَاحَهُمْ فِي الْأُصُولِ وَهَذَا مِنْ النَّوَادِرِ (قَوْلُهُ وَهَذِهِ الْمَعَانِي الثَّلَاثَةُ) الَّتِي هِيَ الصِّغَرُ وَالرِّقُّ وَالْجُنُونُ تُوجِبُ الْحَجْرَ فِي الْأَقْوَالِ، حَتَّى أَوْجَبَ التَّوَقُّفَ فِي الْأَقْوَالِ الَّتِي تُرَدَّدُ بَيْنَ النَّفْعِ وَالضُّرِّ كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ بِطَرِيقِ الْعُمُومِ بَيْنَ الصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ وَالْعَبْدِ.
وَأَوْجَبَ الْحَجْرَ مِنْ الْأَصْلِ بِالْإِعْدَامِ فِي حُكْمِ أَقْوَالٍ تَتَمَحَّضُ ضَرَرًا كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ فِي حَقِّ الصَّغِيرِ، وَالْمَجْنُونُ دُونَ الْعَبْدِ فَإِنَّهُ يَمْلِكُ الطَّلَاقَ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَالْكِفَايَةِ. قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي حَلِّ هَذَا الْمَحَلِّ: وَهَذِهِ الْمَعَانِي الثَّلَاثَةُ: يَعْنِي الصِّغَرَ وَالرِّقَّ وَالْجُنُونَ تُوجِبُ الْحَجْرَ فِي الْأَقْوَالِ: يَعْنِي مَا تَرَدَّدَ مِنْهَا بَيْنَ النَّفْعِ وَالضُّرِّ كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ: أَيْ هَذِهِ الْمَعَانِي تُوجِبُ التَّوَقُّفَ عَلَى الْإِجَازَةِ عَلَى الْعُمُومِ بَيْنَ الصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ وَالْعَبْدِ، وَأَمَّا مَا يَتَمَحَّضُ مِنْهَا ضَرَرًا كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ فَإِنَّهُ يُوجِبُ الْإِعْدَامَ مِنْ الْأَصْلِ فِي حَقِّ الصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ دُونَ الْعَبْدِ، وَأَمَّا مَا يَتَمَحَّضُ مِنْهَا نَفْعًا كَقَبُولِ الْهِبَةِ وَالْهَدِيَّةِ وَالصَّدَقَةِ فَإِنَّهُ لَا حَجْرَ فِيهِ عَلَى الْعُمُومِ انْتَهَى كَلَامُهُ.
أَقُولُ: خَصَّصَ الشَّارِحُ الْمَزْبُورُ الْأَقْوَالَ الْمَذْكُورَةَ فِي مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ بِالْأَقْوَالِ الْمُتَرَدِّدَةِ بَيْنَ النَّفْعِ وَالضُّرِّ حَيْثُ قَالَ: أَعْنِي مَا تَرَدَّدَ مِنْهَا بَيْنَ النَّفْعِ وَالضُّرِّ كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، فَلَمَّا أَخْرَجَ عَنْ الْأَقْوَالِ مَا تَمَحَّضَ نَفْعًا وَمَا تَمَحَّضَ ضَرَرًا وَكَانَ فَائِدَةُ إخْرَاجِ الْأَوَّلِ ظَاهِرَةً لِعَدَمِ ثُبُوتِ الْحَجْرِ فِيهَا أَصْلًا دُونَ فَائِدَةِ ثُبُوتِ إخْرَاجِ الثَّانِي لِثُبُوتِ الْحَجْرِ فِيهِ أَيْضًا فِي حَقِّ الصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ خَصَّصَ مَعْنَى إيجَابِ الْحَجْرِ أَيْضًا حَيْثُ قَالَ: أَيْ هَذِهِ الْمَعَانِي تُوجِبُ التَّوَقُّفَ عَلَى الْإِجَازَةِ عَلَى الْعُمُومِ بَيْنَ الصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ وَالْعَبْدِ، وَأَشَارَ بِذَلِكَ إلَى عَدَمِ ثُبُوتِ الْحَجْرِ بِهَذَا الْمَعْنَى الْمَخْصُوصِ فِيمَا يَتَمَحَّضُ ضَرَرًا مِنْ الْأَقْوَالِ.
وَنَبَّهَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: وَأَمَّا مَا يَتَمَحَّضُ مِنْهَا ضَرَرًا كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ فَإِنَّهُ يُوجِبُ الْإِعْدَامَ مِنْ الْأَصْلِ فِي حَقِّ الصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ دُونَ الْعَبْدِ، وَلَا يَذْهَبُ عَلَيْك أَنَّ عِبَارَةَ الْكِتَابِ مَعَ عَدَمِ مُسَاعَدَتِهَا لِشَيْءٍ مِنْ التَّخْصِيصَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ يَلْزَمُ إذْ ذَاكَ مَحْذُورَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ عَلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى الَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ الشَّارِحُ الْمَزْبُورُ يَصِيرُ مَآلُ مَعْنَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ وَهَذِهِ الْمَعَانِي الثَّلَاثَةُ تُوجِبُ الْحَجْرَ فِي الْأَقْوَالِ مَعْنَى الْمَسْأَلَةِ السَّابِقَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ: وَمَنْ بَاعَ مِنْ هَؤُلَاءِ شَيْئًا أَوْ اشْتَرَاهُ وَهُوَ يَعْقِلُ الْبَيْعَ وَيَقْصِدُهُ فَالْوَلِيُّ بِالْخِيَارِ، إنْ شَاءَ أَجَازَهُ إذَا كَانَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ، وَإِنْ شَاءَ
بِخِلَافِ الْأَقْوَالِ، لِأَنَّ اعْتِبَارَهَا مَوْجُودَةً بِالشَّرْعِ وَالْقَصْدُ مِنْ شَرْطِهِ (إلَّا إذَا كَانَ فِعْلًا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ يَنْدَرِئُ
فَسَخَهُ فَلَا يَكُونُ فِي إعَادَةِ الثَّانِيَةِ فَائِدَةٌ إلَّا تَجَرُّدُ كَوْنِهَا تَوْطِئَةً لِقَوْلِهِ دُونَ الْأَفْعَالِ. وَثَانِيهِمَا أَنَّهُ لَا يُنَاسِبُ حِينَئِذٍ إدْرَاجَ مَا يَتَمَحَّضُ ضَرَرًا مِنْ الْأَقْوَالِ كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ، وَالْإِقْرَارُ فِي الْمَسَائِلِ الْمُتَفَرِّعَةِ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ وَهُوَ قَوْلُهُ وَهَذِهِ الْمَعَانِي الثَّلَاثَةِ تُوجِبُ الْحَجْرَ فِي الْأَقْوَالِ، وَقَدْ أَدْرَجَهُ فِيهَا فِي الْكِتَابِ حَيْثُ قَالَ فِيمَا بَعْدُ: وَالصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ لَا يَصِحُّ عُقُودُهُمَا وَلَا إقْرَارُهُمَا وَلَا يَقَعُ طَلَاقُهُمَا وَلَا عَتَاقُهُمَا.
وَصَرَّحَ الشَّارِحُ الْمَزْبُورُ وَغَيْرُهُ هُنَاكَ بِأَنَّ تِلْكَ الْمَسَائِلَ ذُكِرَتْ تَفْرِيعًا عَلَى الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ، وَقَدْ وَقَعَ التَّصْرِيحُ بِفَاءِ التَّفْرِيعِ فِي مُخْتَصَرِ الْقُدُورِيِّ فِي قَوْلِهِ فَالصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ لَا يَصِحُّ عُقُودُهُمَا وَلَا إقْرَارُهُمَا، وَلَا يَقَعُ طَلَاقُهُمَا وَلَا عَتَاقُهُمَا بَعْدَ قَوْلِهِ وَهَذِهِ الْمَعَانِي الثَّلَاثَةُ تُوجِبُ الْحَجْرَ فِي الْأَقْوَالِ دُونَ الْأَفْعَالِ فَتَعَيَّنَ التَّفْرِيعُ بِنَفْسِ عِبَارَتِهِ.
فَالْوَجْهُ عِنْدِي أَنَّ اللَّامَ فِي الْأَقْوَالِ فِي قَوْلِهِ تُوجِبُ الْحَجْرَ فِي الْأَقْوَالِ لِلْجِنْسِ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِإِيجَابِ الْحَجْرِ فِي قَوْلِهِ تُوجِبُ الْحَجْرَ فِي الْأَقْوَالِ مَا يَعُمُّ إيجَابَ التَّوَقُّفِ عَلَى الْإِجَازَةِ كَمَا فِي الْأَقْوَالِ الْمُتَرَدِّدَةِ بَيْنَ النَّفْعِ وَالضُّرِّ، وَإِيجَابُ الْإِعْدَامِ مِنْ الْأَصْلِ كَمَا فِي الْأَقْوَالِ الْمُتَمَحِّضَةِ لِلضَّرَرِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى إخْرَاجِ هَذَا الْقِسْمِ: أَعْنِي مَا تَمَحَّضَ ضَرَرًا عَنْ الْأَقْوَالِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْأَصْلِ الْمَسْفُورِ، بَلْ هَذَا الْقِسْمُ أَيْضًا دَاخِلٌ فِي جِنْسِ الْأَقْوَالِ فَيَشْمَلُهُ ذَلِكَ الْأَصْلُ فَيُنَاسِبُ تَفْرِيعَ الْمَسَائِلِ الْآتِيَةِ بِأَسْرِهَا عَلَيْهِ، وَلَا يَضُرُّ عَدَمُ تَحَقُّقِ الْحَجْرِ فِي الْأَقْوَالِ الَّتِي تَتَمَحَّضُ نَفْعًا، لِأَنَّ تَحَقُّقَ الْحَجْرِ فِي جِنْسِ الْأَقْوَالِ لَا يَقْتَضِي تَحَقُّقَهُ فِي جَمِيعِ أَفْرَادِهَا فَصَارَ الْأَصْلُ الْمَزْبُورُ مُجْمَلًا وَمَا فُرِّعَ عَلَيْهِ مِنْ الْمَسَائِلِ تَبْيِينًا لَهُ، فَمَا جُعِلَ فِي تِلْكَ الْمَسَائِلِ مِمَّا يُحْجَرُ فَهُوَ دَاخِلٌ تَحْتَ حُكْمِ الْحَجْرِ، وَمَا لَا فَلَا تَأَمَّلْ تَقِفْ (قَوْلُهُ بِخِلَافِ الْأَقْوَالِ لِأَنَّ اعْتِبَارَهَا مَوْجُودَةً بِالشَّرْعِ وَالْقَصْدُ مِنْ شَرْطِهِ) أَقُولُ: فِيهِ إشْكَالٌ، لِأَنَّ الطَّلَاقَ وَالْعَتَاقَ وَالْعَفْوَ عَنْ الْقِصَاصِ وَالْيَمِينَ وَالنَّذْرَ كُلَّهَا مِنْ الْأَقْوَالِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الشَّرْعِ مَعَ أَنَّ الْقَصْدَ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِاعْتِبَارِهَا فِي الشَّرْعِ، أَلَا يَرَى أَنَّ طَلَاقَ الْعَاقِلِ الْبَالِغِ هَازِلًا، وَكَذَا عَتَاقُ الْحُرِّ الْبَالِغِ الْعَاقِلِ هَازِلًا، وَكَذَا يَمِينُهُ هَازِلًا وَنَذْرُهُ هَازِلًا صَحِيحٌ مُعْتَبَرٌ فِي الشَّرْعِ عَلَى مَا صَرَّحُوا بِهِ فِي مَوَاضِعِهَا سِيَّمَا فِي مَبَاحِثِ الْهَزْلِ مِنْ كُتُبِ الْأُصُولِ، مَعَ أَنَّ الْهَزْلَ يُنَافِي الْقَصْدَ لَا مَحَالَةَ، فَإِنَّ عَدَمَ الْقَصْدِ وَالْإِرَادَةِ مُعْتَبَرٌ فِي نَفْسِ مَفْهُومِ الْهَزْلِ.
وَقَالَ فِي الْعِنَايَةِ: فَإِنْ قِيلَ: الْأَقْوَالُ مَوْجُودَةٌ حِسًّا وَمُشَاهَدَةً فَمَا بَالُهَا شَرْطُ اعْتِبَارِهَا مَوْجُودَةً شَرْطًا بِالْقَصْدِ دُونَ الْأَفْعَالِ؟ فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْأَقْوَالَ الْمَوْجُودَةَ حِسًّا وَمُشَاهَدَةً لَيْسَتْ عَيْنَ مَدْلُولَاتِهَا بَلْ هِيَ دَلَالَاتٌ عَلَيْهَا، وَيُمْكِنُ تَخَلُّفُ الْمَدْلُولِ عَنْ دَلِيلِهِ فَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ الْقَوْلُ الْمَوْجُودُ بِمَنْزِلَةِ الْمَعْدُومِ بِخِلَافِ الْأَفْعَالِ فَإِنَّ الْمَوْجُودَ مِنْهَا عَيْنُهَا، فَبَعْدَمَا وُجِدَتْ لَا يُمْكِنُ أَنْ تُجْعَلَ غَيْرَ مَوْجُودَةٍ. وَالثَّانِي أَنَّ الْقَوْلَ قَدْ يَقَعُ صِدْقًا وَقَدْ يَقَعُ كَذِبًا وَقَدْ يَقَعُ جِدًّا وَقَدْ يَقَعُ هَزْلًا
بِالشُّبُهَاتِ كَالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ) فَيُجْعَلُ عَدَمُ الْقَصْدِ فِي ذَلِكَ شُبْهَةً فِي حَقِّ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ.
قَالَ (وَالصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ لَا تَصِحُّ عُقُودُهُمَا وَلَا إقْرَارُهُمَا) لِمَا بَيَّنَّا (وَلَا يَقَعُ طَلَاقُهُمَا وَلَا عَتَاقُهُمَا) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «كُلُّ طَلَاقٍ وَاقِعٌ إلَّا طَلَاقَ الصَّبِيِّ وَالْمَعْتُوهِ» وَالْإِعْتَاقُ يَتَمَحَّضُ مَضَرَّةً، وَلَا وُقُوفَ لِلصَّبِيِّ عَلَى الْمَصْلَحَةِ فِي الطَّلَاقِ بِحَالٍ لِعَدَمِ الشَّهْوَةِ، وَلَا وُقُوفَ لِلْوَلِيِّ عَلَى عَدَمِ التَّوَافُقِ عَلَى اعْتِبَارِ بُلُوغِهِ حَدَّ الشَّهْوَةِ، فَلِهَذَا
فَلَا بُدَّ مِنْ الْقَصْدِ؛ أَلَا يُرَى أَنَّ الْقَوْلَ مِنْ الْحُرِّ الْبَالِغِ الْعَاقِلِ إذَا وُجِدَ هَزْلًا لَمْ يُعْتَبَرْ شَرْعًا فَكَذَا مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ، بِخِلَافِ الْأَفْعَالِ فَإِنَّهَا حَيْثُ وَقَعَتْ وَقَعَتْ حَقِيقَةً فَلَا يُمْكِنُ تَبْدِيلُهَا انْتَهَى.
أَقُولُ: فِي كُلٍّ مِنْ وَجْهَيْ الْجَوَابِ نَظَرٌ. أَمَّا فِي الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ غَيْرُ مُتَمَشٍّ فِي الْإِنْشَاءَاتِ لِأَنَّهَا إيجَادَاتٌ لَا يُمْكِنُ تَخَلُّفُ مَدْلُولَاتِهَا عَنْهَا، وَلَا يَخْفَى أَنَّ أَكْثَرَ الْأَقْوَالِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الشَّرْعِ فِي إفَادَةِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ مِنْ قَبِيلِ الْإِنْشَاءَاتِ فَلَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ.
وَأَمَّا فِي الثَّانِي فَلِأَنَّهُ مُنْتَقِضٌ بِمَا تَسَاوَى فِيهِ الْجَدُّ وَالْهَزْلُ مِنْ الْأَقْوَالِ كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَنَحْوِهِمَا تَدَبَّرْ تَفْهَمْ
(قَوْلُهُ وَالصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ لَا تَصِحُّ عُقُودُهُمَا وَلَا إقْرَارُهُمَا إلَخْ) أَرَادَ بِعَدَمِ الصِّحَّةِ عَدَمَ النَّفَاذِ لِمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ وَمَنْ بَاعَ مِنْ هَؤُلَاءِ شَيْئًا فَالْوَلِيُّ بِالْخِيَارِ، وَإِنَّمَا أَعَادَ الْمَسْأَلَةَ تَفْرِيعًا عَلَى الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ، وَهُوَ أَنَّ هَذِهِ الْمَعَانِي الثَّلَاثَةَ تُوجِبُ الْحَجْرَ عَنْ الْأَقْوَالِ لِتَنْسَاقَ الْقَوْلِيَّاتُ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ وَالنِّهَايَةِ.
قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ وَإِذَا أُرِيدَ بِالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ الصَّبِيُّ الْغَيْرُ الْعَاقِلِ وَالْمَجْنُونُ الْمَغْلُوبُ لَا يَحْتَاجُ إلَى تَأْوِيلِ عَدَمِ الصِّحَّةِ بِعَدَمِ النَّفَاذِ، وَيَخْلُصُ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ عَنْ وَصْمَةِ التَّكْرَارِ انْتَهَى.
وَقَدْ أُخِذَ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ آخِرِ كَلَامِ صَاحِبِ غَايَةِ الْبَيَانِ هَاهُنَا، فَإِنَّهُ قَالَ: أَرَادَ بِقَوْلِهِ لَا يَصِحُّ لَا يَنْفُذُ لِأَنَّ بَيْعَهُمَا وَسَائِرَ تَصَرُّفَاتِهِمَا الَّذِي يَتَرَدَّدُ بَيْنَ النَّفْعِ وَالضُّرِّ مَوْقُوفٌ عَلَى إجَازَةِ الْوَلِيِّ، أَلَا يُرَى إلَى مَا قَالَ قَبْلَ هَذَا بِقَوْلِهِ وَمَنْ بَاعَ مِنْ هَؤُلَاءِ شَيْئًا وَهُوَ يَعْقِلُ الْبَيْعَ وَيَقْصِدُهُ فَالْوَلِيُّ بِالْخِيَارِ، إنْ شَاءَ أَجَازَهُ، إلَّا إذَا أُرِيدَ بِقَوْلِهِ وَالصَّبِيُّ مَنْ لَا يَعْقِلُ أَصْلًا وَبِقَوْلِهِ وَالْمَجْنُونُ الَّذِي لَا يُفِيقُ أَصْلًا فَحِينَئِذٍ يَجْرِي قَوْلُهُ وَلَا يَصِحُّ عَلَى ظَاهِرِهِ انْتَهَى كَلَامُهُ.
أَقُولُ: لَا مَسَاغَ لِذَلِكَ الِاحْتِمَالِ لِأَنَّ حَمْلَ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ فِي قَوْلِهِ وَالصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ لَا تَصِحُّ عُقُودُهُمَا عَلَى الصَّبِيِّ الْغَيْرِ الْعَاقِلِ وَالْمَجْنُونِ الْمَغْلُوبِ فَقَطْ مِمَّا لَا تُسَاعِدُهُ الْقَاعِدَةُ، فَإِنَّ الْمُعَرَّفَ فَاللَّامُ التَّعْرِيفِ إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَعْهُودٌ إنَّمَا يُحْمَلُ عَلَى الْجِنْسِ فِي قَاعِدَةِ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ، وَعَلَى الِاسْتِغْرَاقِ فِي قَاعِدَةِ أَهْلِ الْأُصُولِ كَمَا تَقَرَّرَ كُلُّهُ فِي مَوْضِعِهِ، فَهَاهُنَا الصَّبِيُّ الْغَيْرُ الْعَاقِلِ وَالْمَجْنُونُ الْمَغْلُوبُ لَمْ يُعْهَدَا بِخُصُوصِهِمَا قَطْعًا، فَلَا بُدَّ أَنْ يُرَادَ بِالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ الْمَذْكُورَيْنِ هَاهُنَا جِنْسُهُمَا أَوْ جَمِيعُ أَفْرَادِهِمَا عَلَى إحْدَى الْقَاعِدَتَيْنِ لَا حِصَّةٌ مَخْصُوصَةٌ مِنْهُمَا كَمَا تُوُهِّمَ.
وَلَئِنْ سُلِّمَ مُسَاعَدَةُ الْقَاعِدَةِ لِذَلِكَ، فَلَوْ أُرِيدَ بِهِمَا هَاهُنَا ذَلِكَ الْقِسْمُ الْمُعَيَّنُ مِنْهُمَا لَزِمَ أَنْ لَا تَكُونَ أَحْكَامُ عُقُودِ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ وَالْمَجْنُونِ الْغَيْرِ الْمَغْلُوبِ الَّذِي هُوَ الْمَعْتُوهُ وَلَا أَحْكَامُ إقْرَارِهِمَا وَطَلَاقِهِمَا وَعَتَاقِهِمَا مَذْكُورَةً فِي كِتَابِ الْحَجْرِ أَصْلًا، إذْ مَوْضِعُ ذِكْرِ تِلْكَ الْأَحْكَامِ هُنَا وَلَمْ تُذْكَرْ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ، فَيَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ مَتْرُوكَةً سُدًى وَلَا يَخْفَى فَسَادُهُ.
وَلَا يَخْتَلِجَنَّ فِي وَهْمِكَ أَنَّهَا تُفْهَمُ مِمَّا ذُكِرَ دَلَالَةً، لِأَنَّ سَبَبَ الْحَجْرِ فِي الصَّبِيِّ الْغَيْرِ الْعَاقِلِ وَالْمَجْنُونِ الْمَغْلُوبِ أَقْوَى مِنْ سَبَبِهِ فِي غَيْرِهِمَا فَلَا يَدُلُّ عَدَمُ صِحَّةِ تَصَرُّفٍ فِي حَقِّهِمَا عَلَى عَدَمِ صِحَّتِهِ فِي حَقِّ غَيْرِهِمَا كَمَا لَا يَخْفَى (قَوْلُهُ وَالْإِعْتَاقُ يَتَمَحَّضُ مَضَرَّةً، وَلَا وُقُوفَ لِلصَّبِيِّ عَلَى الْمَصْلَحَةِ فِي الطَّلَاقِ بِحَالٍ لِعَدَمِ الشَّهْوَةِ، وَلَا وُقُوفَ لِلْوَلِيِّ عَلَى عَدَمِ التَّوَافُقِ عَلَى اعْتِبَارِ بُلُوغِهِ حَدَّ الشَّهْوَةِ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ: وَالْإِعْتَاقُ يَتَمَحَّضُ مَضَرَّةً لَا مَحَالَةَ، وَالطَّلَاقُ وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يَتَرَدَّدَ بَيْنَ النَّفْعِ وَالضُّرِّ بِاعْتِبَارِ مُوَافَقَةِ الْأَخْلَاقِ بَعْدَ
لَا يَتَوَقَّفَانِ عَلَى إجَازَتِهِ وَلَا يَنْفُذَانِ بِمُبَاشَرَتِهِ، بِخِلَافِ سَائِرِ الْعُقُودِ. قَالَ (وَإِنْ أَتْلَفَا شَيْئًا لَزِمَهُمَا ضَمَانُهُ) إحْيَاءً لِحَقِّ الْمُتْلَفِ عَلَيْهِ، وَهَذَا لِأَنَّ كَوْنَ الْإِتْلَافِ مُوجِبًا لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَصْدِ كَاَلَّذِي يَتْلَفُ بِانْقِلَابِ النَّائِمِ عَلَيْهِ وَالْحَائِطِ الْمَائِلِ بَعْدَ الْإِشْهَادِ، بِخِلَافِ الْقَوْلِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ.
قَالَ (فَأَمَّا)(الْعَبْدُ فَإِقْرَارُهُ نَافِذٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ) لِقِيَامِ أَهْلِيَّتِهِ (غَيْرُ نَافِذٍ فِي حَقِّ مَوْلَاهُ) رِعَايَةً لِجَانِبِهِ، لِأَنَّ نَفَاذَهُ لَا يَعْرَى عَنْ تَعَلُّقِ الدَّيْنِ بِرَقَبَتِهِ أَوْ كَسْبِهِ، وَكُلُّ ذَلِكَ إتْلَافُ مَالِهِ.
قَالَ (فَإِنْ أَقَرَّ بِمَالٍ لَزِمَهُ بَعْدَ الْحُرِّيَّةِ) لِوُجُودِ الْأَهْلِيَّةِ وَزَوَالِ الْمَانِعِ وَلَمْ يَلْزَمْهُ فِي الْحَالِ لِقِيَامِ الْمَانِعِ (وَإِنْ أَقَرَّ بِحَدٍّ أَوْ قِصَاصٍ لَزِمَهُ فِي الْحَالِ) لِأَنَّهُ مُبْقًى عَلَى أَصْلِ الْحُرِّيَّةِ فِي حَقِّ الدَّمِ حَتَّى لَا يَصِحُّ إقْرَارُ الْمَوْلَى عَلَيْهِ بِذَلِكَ (وَيَنْفُذُ طَلَاقُهُ) لِمَا رَوَيْنَا، وَلِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَا يَمْلِكُ الْعَبْدُ وَالْمُكَاتَبُ شَيْئًا إلَّا الطَّلَاقَ» وَلِأَنَّهُ عَارِفٌ بِوَجْهِ الْمَصْلَحَةِ فِيهِ فَكَانَ أَهْلًا، وَلَيْسَ فِيهِ إبْطَالُ مِلْكِ الْمَوْلَى وَلَا تَفْوِيتُ مَنَافِعِهِ فَيَنْفُذُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
الْبُلُوغِ، لَكِنَّ الصَّبِيَّ لَا وُقُوفَ لَهُ عَلَى الْمَصْلَحَةِ فِي الطَّلَاقِ بِحَالٍ.
أَمَّا فِي الْحَالِ فَلِعَدَمِ الشَّهْوَةِ، وَأَمَّا فِي الْمَآلِ فَلِأَنَّ عِلْمَ الْمَصْلَحَةِ فِيهِ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْعِلْمِ بِتَبَايُنِ الْأَخْلَاقِ وَتَنَافُرِ الطِّبَاعِ عِنْدَ بُلُوغِهِ حَدَّ الشَّهْوَةِ وَلَا عِلْمَ لَهُ بِذَلِكَ، وَالْوَلِيُّ وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يَقِفَ عَلَى مَصْلَحَتِهِ فِي الْحَالِ لَكِنْ لَا وُقُوفَ لَهُ عَلَى عَدَمِ التَّوَافُقِ عَلَى اعْتِبَارِ بُلُوغِهِ حَدَّ الشَّهْوَةِ انْتَهَى كَلَامُهُ.
أَقُولُ: فِيهِ بَحْثٌ. أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ جَعْلَهُ الطَّلَاقَ مِمَّا يَتَرَدَّدُ بَيْنَ النَّفْعِ وَالضُّرِّ مُخَالِفٌ لِمَا صَرَّحَ بِهِ نَفْسُهُ وَسَائِرُ الشُّرَّاحِ فِيمَا مَرَّ مِنْ أَنَّهُ مِمَّا يَتَمَحَّضُ ضَرَرًا. اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُحْمَلَ كَلَامُهُ هَاهُنَا عَلَى التَّنَزُّلِ وَالتَّسْلِيمِ فَتَأَمَّلْ.
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ بِالْمَصْلَحَةِ فِي قَوْلِهِ وَالْوَلِيُّ وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يَقِفَ عَلَى مَصْلَحَتِهِ فِي الْحَالِ مَصْلَحَةَ الصَّبِيِّ فِي الطَّلَاقِ كَمَا هُوَ الْمُلَائِمُ لِمَا نَحْنُ فِيهِ وَهُوَ الْمُطَابِقُ لِقَوْلِهِ مِنْ قَبْلُ لَكِنَّ الصَّبِيَّ لَا وُقُوفَ لَهُ عَلَى الْمَصْلَحَةِ فِي الطَّلَاقِ يَلْزَمُ أَنْ لَا يَتِمَّ قَوْلُهُ وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يَقِفَ عَلَى مَصْلَحَتِهِ فِي الْحَالِ، لِأَنَّ عِلَّةَ عَدَمِ الْوُقُوفِ عَلَى مَصْلَحَتِهِ فِي الطَّلَاقِ فِي الْحَالِ عَدَمُ شَهْوَتِهِ فِي الْحَالِ، كَمَا أَفْصَحَ عَنْهُ الْمُصَنِّفُ وَالشَّارِحُ الْمَزْبُورُ فِي تَعْلِيلِ عَدَمِ وُقُوفِ الصَّبِيِّ عَلَى تِلْكَ الْمَصْلَحَةِ، فَعِنْدَ تَقَرُّرِ هَاتِيكَ الْعِلَّةِ كَيْفَ يُمْكِنُ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَقِفَ عَلَى تِلْكَ الْمَصْلَحَةِ، وَإِنْ أَرَادَ بِالْمَصْلَحَةِ الْمَذْكُورَةِ مَصْلَحَتَهُ فِي غَيْرِ الطَّلَاقِ يَكُونُ ذِكْرُهَا لَغْوًا فِي إثْبَاتِ مَا نَحْنُ فِيهِ كَمَا لَا يَخْفَى.
بَابُ الْحَجْرِ لِلْفَسَادِ
(قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله: لَا يُحْجَرُ عَلَى الْحُرِّ الْبَالِغِ الْعَاقِلِ السَّفِيهِ، وَتَصَرُّفُهُ فِي مَالِهِ جَائِزٌ وَإِنْ كَانَ مُبَذِّرًا مُفْسِدًا يُتْلِفُ مَالَهُ فِيمَا لَا غَرَضَ لَهُ فِيهِ وَلَا مَصْلَحَةَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رحمه الله: يُحْجَرُ عَلَى السَّفِيهِ وَيُمْنَعُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ)
(بَابُ الْحَجْرِ لِلْفَسَادِ)
أَخَّرَ هَذَا الْبَابَ لِأَنَّ أَسْبَابَ الْحَجْرِ فِيمَا تَقَدَّمَ عَلَيْهِ سَمَاوِيَّةٌ. وَسَبَبُ الْحَجْرِ هَاهُنَا مُكْتَسَبٌ، وَالسَّمَاوِيُّ فِي التَّأْثِيرِ أَقْوَى فَكَانَ بِالتَّقْدِيمِ أَوْلَى، وَلِأَنَّ الْحَجْرَ فِي الْأَوَّلِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَفِي الثَّانِي مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَالْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ أَحْرَى بِالتَّقْدِيمِ.
قَالَ فِي الْعِنَايَةِ: وَالْمُرَادُ بِالْفَسَادِ هَاهُنَا هُوَ السَّفَهُ، وَهُوَ خِفَّةٌ تَعْتَرِي الْإِنْسَانَ فَتَحْمِلُهُ عَلَى الْعَمَلِ بِخِلَافِ مُوجَبِ الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ مَعَ قِيَامِ الْعَقْلِ، وَقَدْ غَلَبَ فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ عَلَى تَبْذِيرِ الْمَالِ وَإِتْلَافِهِ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الْعَقْلِ وَالشَّرْعِ انْتَهَى. أَقُولُ: فِي تَفْسِيرِ كُلٍّ مِنْ مَعْنَى السَّفَهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ شَيْءٌ. أَمَّا فِي الْأَوَّلِ فَهُوَ أَنَّ الْعَمَلَ بِخِلَافِ مُوجَبِ الْعَقْلِ مَعَ قِيَامِ الْعَقْلِ مُشْكِلٌ، إذْ الظَّاهِرُ أَنَّ مُوجَبَ الشَّيْءِ لَا يَتَخَلَّفُ عَنْهُ، وَعَنْ هَذَا قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ وَالْكَافِي: السَّفَهُ هُوَ الْعَمَلُ بِخِلَافِ مُوجَبِ الشَّرْعِ وَاتِّبَاعُ الْهَوَى وَتَرْكُ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْحِجَا.
وَأَمَّا فِي الثَّانِي فَهُوَ أَنَّهُ إنْ كَانَ مَعْنَى السَّفَهِ فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ تَبْذِيرَ الْمَالِ وَإِتْلَافَهُ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الْعَقْلِ وَالشَّرْعِ فَكَيْفَ الْقَوْلُ مِنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله بِعَدَمِ الْحَجْرِ عَلَى السَّفِيهِ، إذْ لَا مَسَاغَ لِعَدَمِ الْمَنْعِ عَمَّا هُوَ خِلَافُ مُقْتَضَى الشَّرْعِ عِنْدَ أَحَدِ الْفُقَهَاءِ.
وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِخِلَافِ مُوجَبِ الْعَقْلِ خِلَافُ مُوجَبِ حُكْمِ الْعَقْلِ لَا خِلَافُ مُوجَبِ نَفْسِ الْعَقْلِ، فَاللَّازِمُ عَدَمُ التَّخَلُّفِ عَنْ حُكْمِ الْعَقْلِ لَا عَنْ نَفْسِهِ وَلَا مَحْذُورَ فِيهِ لِإِمْكَانِ الْعَمَلِ بِخِلَافِ مَا أَوْجَبَهُ حُكْمُ الْعَقْلِ كَمَا هُوَ حَالُ النُّفُوسِ الْخَبِيثَةِ. وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ مَا هُوَ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الشَّرْعِ يَجِبُ أَنْ يُنْهَى عَنْهُ مُرْتَكِبُهُ بِاللِّسَانِ عَلَى الِاتِّفَاقِ، وَمِنْهُ عَمَلُ السَّفِيهِ بِالسَّفَهِ. وَأَمَّا الْحَجْرُ عَنْهُ بِمَعْنَى إبْطَالِ حُكْمِ التَّصَرُّفِ بِالْكُلِّيَّةِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ التَّصَرُّفُ فِي نَفْسِ مَالِ التَّصَرُّفِ فَهُوَ أَمْرٌ آخَرُ وَرَاءَ ذَلِكَ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ بِنَاءً عَلَى اسْتِدْعَائِهِ ضَرَرًا أَشَدَّ مِنْ ضَرَرِ إتْلَافِ الْمَالِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي الْكِتَابِ.
وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ: ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ مَسَائِلَ هَذَا الْبَابِ كُلَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، لَا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله فَإِنَّهُ لَا يَرَى الْحَجْرَ لِلْفَسَادِ وَالسَّفَهِ أَصْلًا انْتَهَى. أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا الْكَلَامُ بِسَدِيدٍ، فَإِنَّ أَكْثَرَ مَسَائِلِ هَذَا الْبَابِ مِمَّا اتَّفَقَ عَلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ كَقَوْلِهِ وَإِنْ أَعْتَقَ عَبْدًا نَفَذَ عِتْقُهُ، وَقَوْلُهُ وَلَوْ دَبَّرَ عَبْدَهُ جَازَ، وَقَوْلُهُ وَلَوْ جَاءَتْ جَارِيَتُهُ بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ وَكَانَ الْوَلَدُ حُرًّا وَالْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدِهِ، وَقَوْلُهُ وَإِنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً جَازَ نِكَاحُهَا وَإِنْ سَمَّى لَهَا مَهْرًا جَازَ مِنْهُ مِقْدَارُ مَهْرِ مِثْلِهَا.
لِأَنَّهُ مُبَذِّرٌ مَالَهُ بِصَرْفِهِ لَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَقْتَضِيه الْعَقْلُ فَيُحْجَرُ عَلَيْهِ نَظَرًا لَهُ اعْتِبَارًا بِالصَّبِيِّ بَلْ أَوْلَى، لِأَنَّ الثَّابِتَ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ احْتِمَالُ التَّبْذِيرِ وَفِي حَقِّهِ حَقِيقَتُهُ وَلِهَذَا مُنِعَ عَنْهُ الْمَالُ، ثُمَّ هُوَ لَا يُفِيدُ بِدُونِ الْحَجْرِ لِأَنَّهُ يُتْلِفُ بِلِسَانِهِ مَا مُنِعَ مِنْ يَدِهِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّهُ مُخَاطَبٌ عَاقِلٌ فَلَا يُحْجَرُ عَلَيْهِ اعْتِبَارًا بِالرَّشِيدِ
وَقَوْلُهُ وَلَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ وَجَبَ لَهَا النِّصْفُ، وَقَوْلُهُ وَتُخْرَجُ الزَّكَاةُ مِنْ مَالِ السَّفِيهِ وَيُنْفَقُ عَلَى أَوْلَادِهِ وَزَوْجَتِهِ وَمَنْ تَجِبُ نَفَقَتُهُ مِنْ ذَوِي أَرْحَامِهِ، وَقَوْلُهُ فَإِنْ أَرَادَ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ لَمْ يُمْنَعْ مِنْهَا، وَلَوْ أَرَادَ عُمْرَةً وَاحِدَةً لَمْ يُمْنَعْ مِنْهَا، وَقَوْلُهُ فَإِنْ مَرِضَ وَأَوْصَى بِوَصَايَا فِي الْقُرَبِ وَأَبْوَابِ الْخَيْرِ جَازَ ذَلِكَ فِي ثُلُثِ مَالِهِ، وَقَوْلُهُ وَلَا يُحْجَرُ الْفَاسِقُ عِنْدَنَا إذَا كَانَ مُصْلِحًا لِمَالِهِ.
وَإِنَّمَا الْمَسَائِلُ الْخِلَافِيَّةُ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ مِنْ مَسَائِلِ هَذَا الْبَابِ ثَلَاثٌ: ثِنْتَانِ مِنْهَا مَذْكُورَتَانِ فِي أَوَّلِ الْبَابِ فِي الْهِدَايَةِ وَالْبِدَايَةِ: إحْدَاهُمَا مَسْأَلَةُ أَنَّهُ لَا يُحْجَرُ السَّفِيهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَيُحْجَرُ عِنْدَهُمَا. وَأُخْرَاهُمَا مَسْأَلَةُ أَنَّ الْغُلَامَ الْبَالِغَ غَيْرَ رَشِيدٍ إذَا بَلَغَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً يُسَلَّمُ إلَيْهِ مَالُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَإِنْ لَمْ يُؤْنَسْ مِنْهُ الرُّشْدُ، وَعِنْدَهُمَا لَا يُدْفَعُ إلَيْهِ مَالُهُ أَبَدًا حَتَّى يُؤْنَسُ مِنْهُ رُشْدُهُ.
وَوَاحِدَةٌ مِنْهُمَا مَذْكُورَةٌ فِي آخِرِ الْبَابِ فِي الْهِدَايَةِ وَحْدَهَا وَهِيَ مَسْأَلَةُ أَنْ يَحْجُرَ الْقَاضِي بِسَبَبِ الْغَفْلَةِ عِنْدهمَا، وَمَعَ ذَلِكَ جُعِلَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ أَصْلًا فِي الذِّكْرِ وَقَوْلُهُمَا تَبَعًا لَهُ فَلَمْ يَبْقَ مِنْ مَسَائِلِ هَذَا الْبَابِ مَا هِيَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى قَوْلِهِمَا لَا عَلَى قَوْلِهِ إلَّا الْمَسْأَلَةَ الْأَخِيرَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي الْهِدَايَةِ وَحْدَهَا، فَكَيْفَ يَصِحُّ الْقَوْلُ بِأَنَّ مَسَائِلَ هَذَا الْبَابِ كُلَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ.
ثُمَّ أَقُولُ: لَوْ قَالَ بَدَلَ ذَلِكَ الْكَلَامِ: ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ تَلْقِيبَ هَذَا الْبَابِ بَابَ الْحَجْرِ لِلْفَسَادِ مَبْنِيٌّ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَإِنَّهُ لَا يَرَى الْحَجْرَ لِلْفَسَادِ وَالسَّفَهِ أَصْلًا لَكَانَ لَهُ وَجْهٌ صَحِيحٌ كَمَا لَا يَخْفَى (قَوْلُهُ لِأَنَّهُ مُبَذِّرٌ مَالَهُ بِصَرْفِهِ لَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْعَقْلُ فَيُحْجَرُ عَلَيْهِ نَظَرًا لَهُ اعْتِبَارًا بِالصَّبِيِّ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَاسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ لِأَنَّهُ مُبَذِّرٌ مَالَهُ بِصَرْفِهِ لَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْعَقْلُ، وَكُلُّ مَنْ هُوَ كَذَلِكَ يُحْجَرُ عَلَيْهِ نَظَرًا لَهُ كَالصَّبِيِّ فَهَذَا يُحْجَرُ عَلَيْهِ اهـ.
أَقُولُ: تَقْرِيرُهُ غَيْرُ مُطَابِقٍ لِلْمَشْرُوحِ، إذْ لَا يَخْفَى أَنَّ حَاصِلَ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ هُنَا قِيَاسُ السَّفِيهِ عَلَى الصَّبِيِّ قِيَاسًا تَقْرِيبًا فِي وُجُوبِ الْحَجْرِ، وَيُرْشِدُ إلَيْهِ قَطْعًا قَوْلُهُ فِيمَا سَيَأْتِي مِنْ قِبَلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ عَلَى مَنْعِ الْمَالِ وَلَا عَلَى الصَّبِيِّ، وَقَدْ قَرَّرَهُ الشَّارِحُ الْمَذْكُورُ عَلَى الْقِيَاسِ الْمَنْطِقِيِّ حَيْثُ قَدَّرَ الْكُبْرَى الْكُلِّيَّةَ وَجَعَلَ قَوْلَهُ فَيُحْجَرُ عَلَيْهِ نَتِيجَةَ الْقِيَاسِ كَمَا تَرَى.
ثُمَّ إنَّ صَاحِبَيْ النِّهَايَةِ وَالْعِنَايَةِ قَالَا: هَذَا الدَّلِيلُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ إنَّمَا يَصِحُّ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا عَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ، لِأَنَّ حَجْرَ السَّفِيهِ عِنْدَهُ بِطَرِيقِ الزَّجْرِ وَالْعُقُوبَةِ عَلَيْهِ لَا بِطَرِيقِ النَّظَرِ لَهُ، وَقَالَا: وَفَائِدَةُ هَذَا الْخِلَافِ بَيْنَهُمْ تَظْهَرُ فِيمَا إذَا كَانَ السَّفِيهُ مُفْسِدًا فِي دِينِهِ مُصْلِحًا فِي مَالِهِ كَالْفَاسِقِ. فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُحْجَرُ عَلَيْهِ زَجْرًا وَعُقُوبَةً، وَعِنْدَهُمَا لَا يُحْجَرُ عَلَيْهِ اهـ.
أَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ مَنْ كَانَ مُصْلِحًا فِي مَالِهِ لَا يُسَمَّى سَفِيهًا فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ كَمَا أَفْصَحَ عَنْهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِيمَا مَرَّ حَيْثُ قَالَ: وَقَدْ غَلَبَ فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ عَلَى تَبْذِيرِ الْمَالِ وَإِتْلَافِهِ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الْعَقْلِ وَالشَّرْعِ، وَأَمَّا كَوْنُ الْمُصْلِحِ فِي مَالِهِ إذَا كَانَ مُفْسِدًا فِي دِينِهِ يُسَمَّى بِالسَّفِيهِ عَلَى مَعْنَاهُ الْأَصْلِيِّ فَلَا يُجْدِي نَفْعًا هَاهُنَا، إذْ نَحْنُ بِصَدَدِ بَيَانِ حُكْمِ السَّفِيهِ فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ بِأَنَّهُ لَا يُحْجَرُ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَيُحْجَرُ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ، وَلَوْ كَانَ الْفَاسِقُ دَاخِلًا فِي السَّفِيهِ فِي عُرْفِهِمْ لَمَا صَحَّ بَيَانُ الْحُكْمِ بِالْوَجْهِ الْمَذْكُورِ، فَإِنَّ الْفَاسِقَ لَا يُحْجَرُ عَلَيْهِ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ أَئِمَّتِنَا كَمَا سَيَأْتِي فِي الْكِتَابِ (قَوْلُهُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ مُخَاطَبٌ عَاقِلٌ فَلَا يُحْجَرُ عَلَيْهِ اعْتِبَارًا بِالرَّشِيدِ) قِيلَ: يُشْكِلُ هَذَا بِالْعَبْدِ، فَإِنَّهُ مُخَاطَبٌ عَاقِلٌ أَيْضًا وَمَعَ ذَلِكَ يُحْجَرُ عَلَيْهِ.
وَأُجِيبَ بِوَجْهَيْنِ:
وَهَذَا لِأَنَّ فِي سَلْبِ وِلَايَتِهِ إهْدَارُ آدَمِيَّتِهِ وَإِلْحَاقُهُ بِالْبَهَائِمِ وَهُوَ أَشَدُّ ضَرَرًا مِنْ التَّبْذِيرِ فَلَا يُتَحَمَّلُ الْأَعْلَى لِدَفْعِ الْأَدْنَى، حَتَّى لَوْ كَانَ فِي الْحَجْرِ دَفْعُ ضَرَرٍ عَامٍّ كَالْحَجْرِ عَلَى الْمُتَطَبِّبِ الْجَاهِلِ وَالْمُفْتِي الْمَاجِنِ وَالْمُكَارِي الْمُفْلِسِ جَازَ فِيمَا يُرْوَى عَنْهُ، إذْ هُوَ دَفْعُ ضَرَرِ الْأَعْلَى بِالْأَدْنَى، وَلَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ عَلَى مَنْعِ الْمَالِ لِأَنَّ الْحَجْرَ أَبْلَغُ مِنْهُ فِي الْعُقُوبَةِ، وَلَا عَلَى الصَّبِيِّ لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ النَّظَرِ لِنَفْسِهِ، وَهَذَا قَادِرٌ عَلَيْهِ نَظَرَ لَهُ الشَّرْعُ مَرَّةً بِإِعْطَاءِ آلَةِ الْقُدْرَةِ وَالْجَرْيُ عَلَى خِلَافِهِ لِسُوءِ اخْتِيَارِهِ، وَمَنْعُ الْمَالِ مُفِيدٌ لِأَنَّ غَالِبَ السَّفَهِ فِي الْهِبَاتِ وَالصَّدَقَاتِ وَذَلِكَ يَقِفُ عَلَى الْيَدِ.
قَالَ (وَإِذَا حَجَرَ الْقَاضِي عَلَيْهِ ثُمَّ رُفِعَ إلَى قَاضٍ آخَرَ فَأَبْطَلَ حَجْرَهُ وَأَطْلَقَ عَنْهُ جَازَ) لِأَنَّ الْحَجْرَ مِنْهُ فَتْوَى وَلَيْسَ بِقَضَاءٍ؛ أَلَا يَرَى أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ الْمَقْضِيُّ لَهُ وَالْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ قَضَاءً فَنَفْسُ الْقَضَاءِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْإِمْضَاءِ، حَتَّى لَوْ رُفِعَ تَصَرُّفُهُ بَعْدَ الْحَجْرِ إلَى الْقَاضِي الْحَاجِرِ أَوْ إلَى غَيْرِهِ فَقَضَى بِبُطْلَانِ تَصَرُّفِهِ ثُمَّ رُفِعَ إلَى قَاضٍ آخَرَ نَفَذَ إبْطَالُهُ لِاتِّصَالِ الْإِمْضَاءِ بِهِ فَلَا يُقْبَلُ النَّقْضُ بَعْدَ ذَلِكَ
(ثُمَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إذَا بَلَغَ الْغُلَامُ غَيْرَ رَشِيدٍ لَمْ يُسَلَّمْ إلَيْهِ مَالُهُ حَتَّى يَبْلُغَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً، فَإِنْ تَصَرَّفَ فِيهِ قَبْلَ ذَلِكَ نَفَذَ
أَحَدُهُمَا أَنَّهُ ذَكَرَ الْمُخَاطَبَ مُطْلَقًا وَالْمُطْلَقُ يَنْصَرِفُ إلَى الْكَامِلِ، وَالْعَبْدُ لَيْسَ بِمُخَاطَبٍ كَامِلٍ لِسُقُوطِ الْخِطَابَاتِ الْمَالِيَّةِ عَنْهُ كَالزَّكَاةِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ وَالْأُضْحِيَّةِ وَالْكَفَّارَاتِ الْمَالِيَّةِ، وَسُقُوطُ بَعْضِ الْخِطَابَاتِ الْغَيْرِ الْمَالِيَّةِ كَالْحَجِّ وَصَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ وَالشَّهَادَاتِ وَشَطْرِ الْحُدُودِ وَغَيْرِهِمَا.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُخَاطَبِ فِي قَوْلِهِ إنَّهُ مُخَاطَبٌ هُوَ الْمُخَاطَبُ بِالتَّصَرُّفَاتِ الْمَالِيَّةِ بِدَلَالَةِ مَحَلِّ الْكَلَامِ، لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي الْحَجْرِ عَنْ التَّصَرُّفَاتِ الْمَالِيَّةِ كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالْهِبَاتِ وَالصَّدَقَاتِ فَحِينَئِذٍ لَا يَتَنَاوَلُ قَوْلُهُ إنَّهُ مُخَاطَبٌ الْعَبْدَ لِأَنَّهُ لَا مَالَ لَهُ فَلَا تَصَرُّفَ لَهُ فِي الْمَالِ وَلَا خِطَابَ فِيهِ، هَذَا زُبْدَةُ مَا فِي النِّهَايَةِ وَغَيْرِهَا.
أَقُولُ: بَقِيَ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ شَيْءٌ، وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ عَاقِلٌ بَعْدَ قَوْلِهِ إنَّهُ مُخَاطَبٌ مُسْتَدْرَكٌ لِأَنَّ الْمُخَاطَبَ لَا يَكُونُ إلَّا عَاقِلًا، فَإِنَّ مَا لَيْسَ بِعَاقِلٍ كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ
تَصَرُّفُهُ، فَإِذَا بَلَغَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً يُسَلَّمُ إلَيْهِ مَالُهُ وَإِنْ لَمْ يُؤْنَسْ مِنْهُ الرُّشْدُ. وَقَالَا: لَا يُدْفَعُ إلَيْهِ مَالُهُ أَبَدًا حَتَّى يُؤْنَسَ مِنْهُ رُشْدُهُ، وَلَا يَجُوزُ تَصَرُّفُهُ فِيهِ) لِأَنَّ عِلَّةَ الْمَنْعِ السَّفَهُ فَيَبْقَى مَا بَقِيَ الْعِلَّةُ وَصَارَ كَالصِّبَا. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّ مَنْعَ الْمَالِ عَنْهُ بِطَرِيقِ التَّأْدِيبِ، وَلَا يَتَأَدَّبُ بَعْدَ هَذَا ظَاهِرًا وَغَالِبًا؛ أَلَا يَرَى أَنَّهُ قَدْ يَصِيرُ جَدًّا فِي هَذَا السِّنِّ فَلَا فَائِدَةَ فِي الْمَنْعِ فَلَزِمَ الدَّفْعُ، وَلِأَنَّ الْمَنْعَ
لَيْسَ بِمُخَاطَبٍ لَا مَحَالَةَ
(قَوْلُهُ وَقَالَا: لَا يُدْفَعُ إلَيْهِ مَالُهُ أَبَدًا حَتَّى يُؤْنَسَ مِنْهُ رُشْدُهُ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَتَسَامُحُ عِبَارَتِهِ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَبَدِ وَحَتَّى ظَاهِرٌ اهـ.
أَقُولُ: يُمْكِنُ تَوْجِيهُ عِبَارَتِهِ بِأَنْ يُحْمَلَ الْأَبَدُ عَلَى الزَّمَانِ الطَّوِيلِ الْمُمْتَدِّ، كَمَا حَمَلَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ الْخُلُودَ فِي قَوْله تَعَالَى {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} عَلَى الْمُكْثِ الطَّوِيلِ، فَحِينَئِذٍ لَا تَدَافُعَ بَيْنَ الْأَبَدِ وَحَتَّى كَمَا لَا يَخْفَى (قَوْلُهُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ مَنْعَ الْمَالِ عَنْهُ بِطَرِيقِ التَّأْدِيبِ وَلَا يَتَأَدَّبُ بَعْدَ هَذَا ظَاهِرًا وَغَالِبًا، أَلَا يُرَى أَنَّهُ يَصِيرُ جَدًّا فِي هَذَا السِّنِّ فَلَا فَائِدَةَ فِي الْمَنْعِ فَلَزِمَ الدَّفْعُ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ وَهَذَا الدَّلِيلُ يُمْكِنُ أَنْ يُوَجَّهَ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يُقَالَ: سَلَّمْنَا أَنْ عِلَّةَ الْمَنْعِ السَّفَهُ، لَكِنَّ الْمَعْلُولَ هُوَ الْمَنْعُ مِنْ حَيْثُ التَّأْدِيبُ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مَحِلًّا لِلتَّأْدِيبِ وَلَا تَأْدِيبَ بَعْدَ هَذِهِ الْمُدَّةِ ظَاهِرًا وَغَالِبًا، لِأَنَّ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ يَصِيرُ جَدًّا بِاعْتِبَارِ أَقَلِّ مُدَّةِ الْبُلُوغِ فِي الْإِنْزَالِ وَهُوَ اثْنَتَا عَشْرَةَ سَنَةً، وَأَقَلُّ مُدَّةِ الْحَمْلِ وَهُوَ سِتَّةُ أَشْهُرٍ، وَإِذَا لَمْ يَبْقَ قَابِلًا لِلتَّأْدِيبِ فَلَا فَائِدَةَ فِي الْمَنْعِ فَلَزِمَ الدَّفْعُ.
وَالثَّانِي: أَنْ يُجْعَلَ مُعَارَضَةً فَيُقَالُ: مَا ذَكَرْتُمْ وَإِنْ دَلَّ عَلَى ثُبُوتِ الْمَدْلُولِ لَكِنْ عِنْدَنَا مَا يَنْفِيهِ، وَهُوَ أَنَّ مَنْعَ الْمَالِ عَنْهُ بِطَرِيقِ التَّأْدِيبِ إلَخْ اهـ كَلَامُهُ، وَقَدْ اقْتَفَى أَثَرَهُ الشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ.
أَقُولُ: فِي تَقْرِيرِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ عَلَى مَا ذَكَرَاهُ خَلَلٌ، إذْ عَلَى تَقْدِيرِ تَسْلِيمِ كَوْنِ عِلَّةِ الْمَنْعِ السَّفَهَ وَادَّعَاهُ أَنَّ الْمَعْلُولَ هُوَ الْمَنْعُ مِنْ حَيْثُ التَّأْدِيبُ دُونَ الْمَنْعِ الْمُطْلَقِ يَلْزَمُ أَنْ يَتَخَلَّفَ الْمَعْلُولُ عَنْ الْعِلَّةِ بَعْدَ تِلْكَ الْمُدَّةِ لِعَدَمِ تَحَقُّقِ الْمَنْعِ مِنْ حَيْثُ التَّأْدِيبُ بَعْدَهَا بِنَاءً عَلَى عَدَمِ كَوْنِ الْمَحَلِّ قَابِلًا لِلتَّأْدِيبِ مَعَ تَحَقُّقِ السَّفَهِ بَعْدَهَا أَيْضًا، وَلَا شَكَّ أَنَّ تَخَلُّفَ الْمَعْلُولِ عَنْ الْعِلَّةِ بَاطِلٌ، وَلِهَذَا قَالَ فِي دَلِيلِ الْإِمَامَيْنِ: فَيَبْقَى مَا بَقِيَ الْعِلَّةُ، فَاعْتِبَارُ التَّأْدِيبِ مَعَ الْمَنْعِ فِي جَانِبِ الْمَعْلُولِ بَاطِلٌ أَيْضًا لِاسْتِلْزَامِهِ ذَلِكَ الْبَاطِلَ الْمُحَالَ.
وَالصَّوَابُ عِنْدِي فِي تَقْرِيرِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ أَنْ يُقَالَ: إنَّ عِلَّةَ الْمَنْعِ لَيْسَ هُوَ السَّفَهُ وَحْدَهُ بَلْ هُوَ مَعَ قَصْدِ التَّأْدِيبِ، فَإِذَا لَمْ يَبْقَ الْمَحِلُّ قَابِلًا لِلتَّأْدِيبِ بَعْدَ تِلْكَ الْمُدَّةِ لَمْ يُقْصَدْ التَّأْدِيبُ بَعْدَهَا فَانْتَفَتْ الْعِلَّةُ بِانْتِفَاءِ أَحَدِ جُزْأَيْهَا وَهُوَ قَصْدُ التَّأْدِيبِ فَلَزِمَ انْتِفَاءُ الْمَعْلُولِ الَّذِي هُوَ الْمَنْعُ أَيْضًا بَعْدَهَا فَوَجَبَ الدَّفْعُ، فَصَارَ حَاصِلُ هَذَا الدَّلِيلِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ هُوَ الْمَنْعُ لَا التَّسْلِيمُ كَمَا تُوُهِّمَ (قَوْلُهُ وَلِأَنَّ الْمَنْعَ
بِاعْتِبَارِ أَثَرِ الصِّبَا وَهُوَ فِي أَوَائِلِ الْبُلُوغِ وَيَتَقَطَّعُ بِتَطَاوُلِ الزَّمَانِ فَلَا يَبْقَى الْمَنْعُ، وَلِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَوْ بَلَغَ رَشِيدًا ثُمَّ صَارَ سَفِيهًا لَا يُمْنَعُ الْمَالُ عَنْهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَثَرِ الصِّبَا، ثُمَّ لَا يَتَأَتَّى التَّفْرِيعُ عَلَى قَوْلِهِ وَإِنَّمَا التَّفْرِيعُ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَرَى الْحَجْرَ. فَعِنْدَهُمَا لَمَّا صَحَّ الْحَجْرُ لَا يَنْفُذُ بَيْعُهُ إذَا بَاعَ تَوْفِيرًا لِفَائِدَةِ الْحَجْرِ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ أَجَازَهُ الْحَاكِمُ لِأَنَّ رُكْنَ التَّصَرُّفِ قَدْ وُجِدَ وَالتَّوَقُّفُ لِلنَّظَرِ لَهُ وَقَدْ نَصَّبَ الْحَاكِمُ نَاظِرًا لَهُ فَيَتَحَرَّى الْمَصْلَحَةَ فِيهِ، كَمَا فِي الصَّبِيِّ الَّذِي يَعْقِلُ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ وَيَقْصِدُهُ.
بِاعْتِبَارِ أَثَرِ الصِّبَا وَهُوَ فِي أَوَائِلِ الْبُلُوغِ، وَيَنْقَطِعُ بِتَطَاوُلِ الزَّمَانِ فَلَا يَبْقَى الْمَنْعُ) فَإِنْ قِيلَ: الدَّفْعُ مُعَلَّقٌ بِإِينَاسِ الرُّشْدِ فَمَا لَمْ يُوجَدْ لَا يَجُوزُ الدَّفْعُ إلَيْهِ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الشَّرْطَ يُوجِبُ الْوُجُودَ عِنْدَ الْوُجُودِ لَا الْعَدَمَ عِنْدَ الْعَدَمِ. سَلَّمْنَاهُ، لَكِنَّهُ مُنْكَرٌ يُرَادُ بِهِ أَدْنَى مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ، وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ إذَا وَصَلَ الْإِنْسَانُ إلَى هَذِهِ الْحَالَةِ لِصَيْرُورَةِ فُرُوعِهِ أَصْلًا فَكَانَ مُتَنَاهِيًا فِي الْأَصَالَةِ.
أَقُولُ: الظَّاهِرُ أَنَّ كَوْنَهُ مُتَنَاهِيًا فِي الْأَصَالَةِ عِنْدَ وُصُولِهِ إلَى تِلْكَ الْمُدَّةِ لَا يَقْتَضِي رُشْدَهُ لِحُصُولِ ذَلِكَ فِي الْمَجْنُونِ أَيْضًا مَعَ عَدَمِ تَصَوَّرْ الرُّشْدِ فِيهِ. سَلَّمْنَاهُ لَكِنَّهُ لَا يُطَابِقُ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي وَضْعِ الْمَسْأَلَةِ مَعَ أَنَّهُ إذَا بَلَغَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً يُسَلَّمُ إلَيْهِ مَالُهُ وَإِنْ لَمْ يُؤْنَسْ مِنْهُ الرُّشْدُ. اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُرَادَ بِالرُّشْدِ هُنَاكَ الرُّشْدُ الْكَامِلُ، لَكِنْ لَا يُسَاعِدُهُ اللَّفْظُ وَيَأْبَاهُ دَلِيلُهُ، تَأَمَّلْ تَقِفْ (قَوْلُهُ لِأَنَّ رُكْنَ التَّصَرُّفِ قَدْ وُجِدَ وَالتَّوَقُّفُ لِلنَّظَرِ لَهُ وَقَدْ نَصَّبَ الْحَاكِمُ نَاظِرًا لَهُ فَيَتَحَرَّى الْمَصْلَحَةَ فِيهِ) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ: اسْتَدَلَّ عَلَى الْجَوَازِ وَالتَّوَقُّفِ بِقَوْلِهِ لِأَنَّ رُكْنَ التَّصَرُّفِ قَدْ وُجِدَ وَذَلِكَ يُوجِبُ الْجَوَازَ.
وَرُدَّ بِأَنَّ رُكْنَ التَّصَرُّفِ إذَا وُجِدَ مِنْ أَهْلِهِ يُوجِبُ ذَلِكَ وَالسَّفِيهُ لَيْسَ بِأَهْلٍ. وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ أَهْلٌ لِأَنَّ الْأَهْلِيَّةَ بِالْعَقْلِ وَالسَّفَهُ لَا يَنْفِيهِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَعَلَامَ التَّوَقُّفُ؟ أَجَابَ بِقَوْلِهِ لِلنَّظَرِ لَهُ، فَإِنَّ الْحَاكِمَ نَصَّبَ نَاظِرًا فَيَتَحَرَّى الْمَصْلَحَةَ فِيهِ كَمَا فِي الصَّبِيِّ الَّذِي يَعْقِلُ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ وَيَقْصِدُهُ، إلَى هُنَا لَفْظُ الْعِنَايَةِ، وَرَدَّ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ قَوْلَهُ وَاسْتَدَلَّ عَلَى الْجَوَازِ وَالتَّوَقُّفِ بِقَوْلِهِ لِأَنَّ رُكْنَ التَّصَرُّفِ وُجِدَ حَيْثُ قَالَ: هَذَا إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ فَقَطْ اهـ.
أَقُولُ: يُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ كَلَامُ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ هَاهُنَا عَلَى أَنَّ الْمُصَنِّفَ اسْتَدَلَّ عَلَى الْجَوَازِ وَالتَّوَقُّفِ بِقَوْلِهِ لِأَنَّ رُكْنَ التَّصَرُّفِ قَدْ وُجِدَ إلَخْ: أَيْ اسْتَدَلَّ عَلَى الْجَوَازِ بِقَوْلِهِ لِأَنَّ رُكْنَ التَّصَرُّفِ قَدْ وُجِدَ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى التَّوَقُّفِ بِقَوْلِهِ وَالتَّوَقُّفُ لِلنَّظَرِ إلَخْ، فَحَصَلَ
وَلَوْ بَاعَ قَبْلَ حَجْرِ الْقَاضِي جَازَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ حَجْرِ الْقَاضِي عِنْدَهُ، لِأَنَّ الْحَجْرَ دَائِرٌ بَيْنَ الضَّرَرِ وَالنَّظَرِ وَالْحَجْرُ لِنَظَرِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ فِعْلِ الْقَاضِي. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ يَبْلُغُ مَحْجُورًا عِنْدَهُ، إذْ الْعِلَّةُ هِيَ السَّفَهُ بِمَنْزِلَةِ الصِّبَا، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافُ إذَا بَلَغَ رَشِيدًا ثُمَّ صَارَ سَفِيهًا
(وَإِنْ أَعْتَقَ عَبْدًا نَفَذَ عِتْقُهُ عِنْدَهُمَا). وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَنْفُذُ. وَالْأَصْلُ عِنْدَهُمَا أَنَّ كُلَّ تَصَرُّفٍ يُؤَثِّرُ فِيهِ الْهَزْلُ يُؤَثِّرُ فِيهِ إلَخْ وَمَا لَا فَلَا، لِأَنَّ السَّفِيهَ فِي مَعْنَى الْهَازِلِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْهَازِلَ يُخْرِجُ كَلَامَهُ لَا عَلَى نَهْجِ كَلَامِ الْعُقَلَاءِ لِاتِّبَاعِ الْهَوَى وَمُكَابَرَةِ الْعَقْلِ لَا لِنُقْصَانٍ فِي عَقْلِهِ، فَكَذَلِكَ السَّفِيهُ وَالْعِتْقُ مِمَّا لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الْهَزْلُ فَيَصِحُّ مِنْهُ
مِنْ الْمَجْمُوعِ الِاسْتِدْلَال عَلَى الْجَوَازِ وَالتَّوَقُّفِ مَعًا وَإِنْ كَانَ الْحَاصِلُ مِنْ أَوَّلِ قَوْلِهِ هُوَ الِاسْتِدْلَال عَلَى الْجَوَازِ فَقَطْ. وَلَمَّا اتَّجَهَ عَلَى أَوَّلِ اسْتِدْلَالِهِ سُؤَالٌ ظَاهِرُ الْوُرُودِ تَصَدَّى الشَّارِحُ لِذِكْرِهِ مَعَ جَوَابِهِ فَوَقَعَ الْفَصْلُ بَيْنَ دَلِيلِ الْجَوَازِ وَدَلِيلِ التَّوَقُّفِ فِي الْبَيَانِ تَدَبَّرْ تَفْهَمْ
(قَوْلُهُ وَالْأَصْلُ عِنْدَهُمَا أَنَّ كُلَّ تَصَرُّفٍ يُؤَثِّرُ فِيهِ الْهَزْلُ يُؤَثِّرُ فِيهِ الْحَجْرُ وَمَا لَا فَلَا، إلَى قَوْلِهِ: وَالْعِتْقُ مِمَّا لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الْهَزْلُ فَيَصِحُّ مِنْهُ) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ: وَفِيهِ بَحْثٌ مِنْ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ أَنَّ السَّفِيهَ لَوْ حَنِثَ فِي يَمِينِهِ وَأَعْتَقَ رَقَبَةً لَمْ يُنْفِذْهُ الْقَاضِي، وَكَذَا لَوْ نَذَرَ بِهَدْيٍ أَوْ غَيْرِهِ لَمْ يُنْفِذْهُ.
فَهَذَا مِمَّا لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الْهَزْلُ بِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «ثَلَاثٌ جَدُّهُنَّ جَدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جَدٌّ» وَقَدْ أَثَّرَ فِيهِ الْحَجْرُ بِالسَّفَهِ. وَالثَّانِي أَنَّ الْهَازِلَ إذَا أَعْتَقَ عَبْدَهُ عَتَقَ وَلَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ سِعَايَةٌ وَالْمَحْجُورُ بِالسَّفَهِ إذَا أَعْتَقَهُ وَجَبَ عَلَيْهِ السِّعَايَةُ، فَالْهَزْلُ لَمْ يُؤَثِّرْ فِي وُجُوبِ السِّعَايَةِ وَالْحَجْرُ أَثَّرَ فِيهِ. وَالثَّالِثُ أَنَّ التَّعْلِيلَ الْمَذْكُورَ إنَّمَا يَصِحُّ فِي حَقِّ السَّفِيهِ لَا فِي حَقِّ الْهَازِلِ.
وَالصَّحِيحُ فِيهِ أَنْ يُقَالَ لِقَصْدِهِ اللَّعِبَ بِهِ دُونَ مَا وُضِعَ الْكَلَامُ لَهُ لَا لِنُقْصَانٍ فِي الْعَقْلِ. وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ الْقَضَاءَ بِالْحَجْرِ عَنْ التَّصَرُّفَاتِ الْمَالِيَّةِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْإِتْلَافِ يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ تَنْفِيذِ الْكَفَّارَاتِ وَالنُّذُورِ، لِأَنَّ فِي تَنْفِيذِهِمَا إضَاعَةَ الْمَقْصُودِ مِنْ الْحَجْرِ لِإِمْكَانِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي جَمِيعِ مَالِهِ بِالْيَمِينِ وَالْحِنْثِ وَالنَّذْرِ. وَعَنْ الثَّانِي مَا سَيَجِيءُ فِي الْكِتَابِ. وَعَنْ الثَّالِثِ أَنَّ قَصْدَ اللَّعِبِ بِالْكَلَامِ وَتَرْكَ مَا وُضِعَ لَهُ مِنْ مُكَابَرَةِ الْعَقْلِ وَاتِّبَاعِ الْهَوَى فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا اهـ.
أَقُولُ: فِي الْجَوَابِ عَنْ الْأَوَّلِ وَعَنْ الثَّانِي عَلَى
وَالْأَصْلُ عِنْدَهُ أَنَّ الْحَجْرَ بِسَبَبِ السَّفَهِ بِمَنْزِلَةِ الْحَجْرِ بِسَبَبِ الرِّقِّ حَتَّى لَا يَنْفُذُ بَعْدَهُ شَيْءٌ مِنْ تَصَرُّفَاتِهِ إلَّا الطَّلَاقَ كَالْمَرْقُوقِ، وَالْإِعْتَاقُ لَا يَصِحُّ مِنْ الرَّقِيقِ فَكَذَا مِنْ السَّفِيهِ (وَ) إذَا صَحَّ عِنْدَهُمَا (كَانَ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَسْعَى فِي قِيمَتِهِ) لِأَنَّ الْحَجْرَ لِمَعْنَى النَّظَرِ وَذَلِكَ فِي رَدِّ الْعِتْقِ إلَّا أَنَّهُ مُتَعَذِّرٌ فَيَجِبُ رَدُّهُ بِرَدِّ الْقِيمَةِ كَمَا فِي الْحَجْرِ عَلَى الْمَرِيضِ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا تَجِبُ السِّعَايَةُ لِأَنَّهَا لَوْ وَجَبَتْ إنَّمَا تَجِبُ حَقًّا لِمُعْتِقِهِ وَالسِّعَايَةُ مَا عُهِدَ وُجُوبُهَا فِي الشَّرْعِ إلَّا لِحَقِّ غَيْرِ الْمُعْتِقِ (وَلَوْ دَبَّرَ عَبْدَهُ جَازَ) لِأَنَّهُ يُوجِبُ حَقَّ الْعِتْقِ فَيُعْتَبَرُ بِحَقِيقَتِهِ إلَّا أَنَّهُ لَا تَجِبُ السِّعَايَةُ مَا دَامَ الْمَوْلَى حَيًّا لِأَنَّهُ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ
الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ بَحْثٌ أَيْضًا. أَمَّا فِي الْجَوَابِ عَنْ الْأَوَّلِ فَلِأَنَّ حَاصِلَ ذَلِكَ الْجَوَابِ بَيَانُ وَجْهِ عَدَمِ تَنْفِيذِ الْكَفَّارَاتِ وَالنُّذُورِ الْوَاقِعَةِ مِنْ السَّفِيهِ، وَهَذَا لَا يُجْدِي شَيْئًا فِي دَفْعِ الْبَحْثِ الْأَوَّلِ، لِأَنَّ حَاصِلَ ذَلِكَ الْبَحْثِ كَمَا تَرَى نَقَضَ كُلِّيَّةَ قَوْلِهِمَا إنَّ كُلَّ تَصَرُّفٍ يُؤَثِّرُ فِيهِ الْهَزْلُ يُؤَثِّرُ فِيهِ الْحَجْرُ، وَمَا لَا فَلَا، بِعَدَمِ تَنْفِيذِ الْقَاضِي تَصَرُّفَ السَّفِيهِ فِي الْكَفَّارَاتِ وَالنُّذُورِ مَعَ عَدَمِ تَأْثِيرِ الْهَزْلِ فِي شَيْءٍ مِنْهُمَا، فَمَا ذُكِرَ فِي الْجَوَابِ يُقَوِّي الْبَحْثَ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَدْفَعَهُ.
وَأَمَّا فِي الْجَوَابِ عَنْ الثَّانِي فَلِأَنَّ مَا سَيَجِيءُ فِي الْكِتَابِ هُوَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ، لِأَنَّ الْحَجْرَ لِمَعْنَى النَّظَرِ، وَذَلِكَ فِي رَدِّ الْعِتْقِ إلَّا أَنَّهُ مُتَعَذِّرٌ فَيَجِبُ رَدُّهُ بِرَدِّ الْقِيمَةِ كَمَا فِي الْحَجْرِ عَلَى الْمَرِيضِ، وَلَا يَذْهَبُ عَلَيْكَ أَنَّ هَذَا أَيْضًا لَا يَدْفَعُ نَقْضَ الْكُلِّيَّةِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي أَصْلِهِمَا كَمَا هُوَ حَاصِلُ الْبَحْثِ الثَّانِي أَيْضًا، بَلْ يُقَوِّيهِ كَمَا عَرَفْت آنِفًا.
ثُمَّ إنَّ بَعْضَ الْفُضَلَاءِ أَوْرَدَ عَلَى قَوْلِ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ فِي الْبَحْثِ الثَّالِثِ، وَالصَّحِيحُ فِيهِ أَنْ يُقَالَ لِقَصْدِهِ اللَّعِبَ بِهِ دُونَ مَا وُضِعَ الْكَلَامُ لَهُ حَيْثُ قَالَ فِيهِ بَحْثٌ، إذْ هَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ فِي السَّفِيهِ وَلَا بُدَّ مِنْ الِاشْتِرَاكِ اهـ. أَقُولُ: كَأَنَّهُ غَلِطَ فِي الِاسْتِخْرَاجِ فَتَوَهَّمَ أَنَّ الضَّمِيرَ الْمَجْرُورَ فِي قَوْلِهِ وَالصَّحِيحُ فِيهِ رَاجِعٌ إلَى التَّعْلِيلِ. فَاعْتَرَضَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَمَامِ التَّعْلِيلِ هَاهُنَا مِنْ الِاشْتِرَاكِ فِي الْعِلَّةِ، وَهَذَا الْمَعْنَى يَعْنِي قَصْدَ اللَّعِبِ دُونَ مَا وُضِعَ الْكَلَامُ لَهُ لَا يُوجَدُ فِي السَّفِيهِ، كَمَا أَنَّ الْمَعْنَى الْمَذْكُورَ
وَإِذَا مَاتَ وَلَمْ يُؤْنَسْ مِنْهُ الرُّشْدُ سَعَى فِي قِيمَتِهِ مُدَبَّرًا لِأَنَّهُ عَتَقَ بِمَوْتِهِ وَهُوَ مُدَبَّرٌ، فَصَارَ كَمَا إذَا أَعْتَقَهُ بَعْدَ التَّدْبِيرِ
(وَلَوْ جَاءَتْ جَارِيَتُهُ بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ وَكَانَ الْوَلَدُ حُرًّا وَالْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ) لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى ذَلِكَ لِإِبْقَاءِ نَسْلِهِ فَأُلْحِقَ بِالْمُصْلِحِ فِي حَقِّهِ (وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا وَلَدٌ وَقَالَ هَذِهِ أُمُّ وَلَدِي كَانَتْ بِمَنْزِلَةِ أُمِّ الْوَلَدِ لَا يَقْدِرُ عَلَى بَيْعِهَا، وَإِنْ مَاتَ سَعَتْ فِي جَمِيعِ قِيمَتِهَا) لِأَنَّهُ كَالْإِقْرَارِ بِالْحُرِّيَّةِ إذْ لَيْسَ لَهُ شَهَادَةُ الْوَلَدِ، بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْوَلَدَ شَاهِدٌ لَهَا. وَنَظِيرُهُ الْمَرِيضُ إذَا ادَّعَى وَلَدَ جَارِيَتِهِ فَهُوَ عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ.
قَالَ (وَإِنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً جَازَ نِكَاحُهَا) لِأَنَّهُ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الْهَزْلُ، وَلِأَنَّهُ مِنْ حَوَائِجِهِ الْأَصْلِيَّةِ (وَإِنْ سَمَّى لَهَا مَهْرًا جَازَ مِنْهُ مِقْدَارُ مَهْرِ مِثْلِهَا) لِأَنَّهُ مِنْ ضَرُورَاتِ النِّكَاحِ (وَبَطَلَ الْفَضْلُ) لِأَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ فِيهِ، وَهَذَا الْتِزَامٌ بِالتَّسْمِيَةِ وَلَا نَظَرَ لَهُ فِيهِ فَلَمْ تَصِحَّ الزِّيَادَةُ وَصَارَ كَالْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ (وَلَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا وَجَبَ لَهَا النِّصْفُ فِي مَالِهِ) لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ صَحِيحَةٌ إلَى مِقْدَارِ مَهْرِ الْمِثْلِ (وَكَذَا إذَا تَزَوَّجَ بِأَرْبَعِ نِسْوَةٍ أَوْ كُلَّ يَوْمٍ وَاحِدَةً) لِمَا بَيَّنَّا.
فِي الْكِتَابِ لَا يُوجَدُ فِي الْهَازِلِ عَلَى زَعْمِ صَاحِبِ الْبَحْثِ الثَّالِثِ، وَلَكِنْ لَا يَخْفَى عَلَى الْفَطِنِ أَنَّ الضَّمِيرَ الْمَزْبُورَ رَاجِعٌ إلَى حَقِّ
قَالَ (وَتُخْرَجُ الزَّكَاةُ مِنْ مَالِ السَّفِيهِ) لِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ (وَيُنْفَقُ عَلَى أَوْلَادِهِ وَزَوْجَتِهِ وَمَنْ تَجِبُ نَفَقَتُهُ مِنْ ذَوِي أَرْحَامِهِ) لِأَنَّ إحْيَاءَ وَلَدِهِ وَزَوْجَتِهِ مِنْ حَوَائِجِهِ، وَالْإِنْفَاقُ عَلَى ذِي الرَّحِمِ وَاجِبٌ عَلَيْهِ لِقَرَابَتِهِ، وَالسَّفَهُ لَا يُبْطِلُ حُقُوقَ النَّاسِ، إلَّا أَنَّ الْقَاضِيَ يَدْفَعُ الزَّكَاةَ إلَيْهِ لِيَصْرِفَهَا إلَى مَصْرِفِهَا، لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ نِيَّتِهِ لِكَوْنِهَا عِبَادَةً، لَكِنْ يَبْعَثُ أَمِينًا مَعَهُ كَيْ لَا يَصْرِفَهُ فِي غَيْرِ وَجْهِهِ. وَفِي النَّفَقَةِ يَدْفَعُ إلَى أَمِينِهِ لِيَصْرِفَهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِعِبَادَةٍ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى نِيَّتِهِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا حَلَفَ أَوْ نَذَرَ أَوْ ظَاهَرَ حَيْثُ لَا يَلْزَمُهُ الْمَالُ بَلْ يُكَفِّرُ يَمِينَهُ وَظِهَارَهُ بِالصَّوْمِ لِأَنَّهُ مِمَّا يَجِبُ بِفِعْلِهِ، فَلَوْ فَتَحْنَا هَذَا الْبَابَ يُبَذِّرُ أَمْوَالَهُ بِهَذَا الطَّرِيقِ، وَلَا كَذَلِكَ مَا يَجِبُ ابْتِدَاءً بِغَيْرِ فِعْلِهِ.
قَالَ (فَإِنْ أَرَادَ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ لَمْ يُمْنَعْ مِنْهَا) لِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ غَيْرِ صَنْعَةٍ (وَلَا يُسَلِّمُ الْقَاضِي النَّفَقَةَ إلَيْهِ وَيُسَلِّمُهَا إلَى ثِقَةٍ مِنْ الْحَاجِّ يُنْفِقُهَا عَلَيْهِ فِي طَرِيقِ الْحَجِّ) كَيْ لَا يُتْلِفُهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ (وَلَوْ أَرَادَ عُمْرَةً وَاحِدَةً لَمْ يُمْنَعْ مِنْهَا) اسْتِحْسَانًا لِاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي وُجُوبِهَا، بِخِلَافِ مَا زَادَ عَلَى مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ الْحَجِّ (وَلَا يُمْنَعُ مِنْ الْقِرَانِ) لِأَنَّهُ لَا يُمْنَعُ مِنْ إفْرَادِ السَّفَرِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَلَا يُمْنَعُ مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا (وَلَا يُمْنَعُ مِنْ أَنْ يَسُوقَ بَدَنَةً) تَحَرُّزًا عَنْ مَوْضِعِ الْخِلَافِ، إذْ عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنه لَا يُجْزِئُهُ غَيْرُهَا وَهِيَ جَزُورٌ أَوْ بَقَرَةٌ.
قَالَ (فَإِنْ مَرِضَ وَأَوْصَى بِوَصَايَا فِي الْقُرَبِ وَأَبْوَابِ الْخَيْرِ جَازَ ذَلِكَ فِي ثُلُثِهِ) لِأَنَّ نَظَرَهُ فِيهِ إذْ هِيَ حَالَةَ
الْهَازِلِ فِي قَوْلِهِ لَا فِي حَقِّ الْهَازِلِ.
فَالْمَعْنَى وَاَلَّذِي يَصِحُّ فِي حَقِّ الْهَازِلِ أَنْ يُقَالَ لِقَصْدِهِ اللَّعِبَ بِهِ دُونَ مَا وُضِعَ الْكَلَامُ لَهُ لَا مَا ذُكِرَ
انْقِطَاعِهِ عَنْ أَمْوَالِهِ وَالْوَصِيَّةُ تَخْلُفُ ثَنَاءً أَوْ ثَوَابًا، وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْ التَّفْرِيعَاتِ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا فِي كِفَايَةِ الْمُنْتَهَى.
قَالَ (وَلَا يُحْجَرُ عَلَى الْفَاسِقِ إذَا كَانَ مُصْلِحًا لِمَالِهِ عِنْدَنَا وَالْفِسْقُ الْأَصْلِيُّ وَالطَّارِئُ سَوَاءٌ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُحْجَرُ عَلَيْهِ زَجْرًا لَهُ وَعُقُوبَةً عَلَيْهِ كَمَا فِي السَّفِيهِ وَلِهَذَا لَمْ يُجْعَلْ أَهْلًا لِلْوِلَايَةِ وَالشَّهَادَةِ عِنْدَهُ. وَلَنَا قَوْله تَعَالَى {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} الْآيَةَ. وَقَدْ أُونِسَ مِنْهُ نَوْعُ رُشْدٍ فَتَتَنَاوَلُهُ النَّكِرَةُ الْمُطْلَقَةُ، وَلِأَنَّ الْفَاسِقَ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ عِنْدَنَا لِإِسْلَامِهِ فَيَكُونُ وَالِيًا لِلتَّصَرُّفِ، وَقَدْ قَرَّرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ
فِي الْكِتَابِ، فَإِنَّهُ إنَّمَا يَصِحُّ فِي حَقِّ السَّفِيهِ فَقَطْ، فَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ لِبَحْثِ ذَلِكَ الْقَائِلِ وَجْهٌ كَمَا لَا يَخْفَى
(قَوْلُهُ وَلَنَا قَوْله تَعَالَى {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} الْآيَةَ وَقَدْ أُونِسَ مِنْهُ نَوْعُ رُشْدٍ فَتَتَنَاوَلُهُ النَّكِرَةُ الْمُطْلَقَةُ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ وَفِي الْمَبْسُوطِ: فَقَوْلُهُ تَعَالَى رُشْدًا مُنْكَرٌ فِي مَوْضِعِ الْإِثْبَاتِ، وَالنَّكِرَةُ فِي مَوْضِعِ الْإِثْبَاتِ تَخُصُّ وَلَا تَعُمُّ، فَإِذَا أُوجِدَ رُشْدٌ مَا فُقِدَ وُجِدَ الشَّرْطُ فَيَجِبُ دَفْعُ الْمَالِ إلَيْهِ انْتَهَى.
أَقُولُ: تَقْرِيرُ دَلِيلِ أَئِمَّتِنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ، وَفِي الْمَبْسُوطِ: يَنْتَقِضُ بِقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي السَّفِيهِ الْمُصْلِحِ فِي دِينِهِ دُونَ مَالِهِ فَإِنَّهُ يُحْجَرُ عَلَيْهِ عِنْدَهُمَا كَمَا مَرَّ، مَعَ أَنَّهُ قَدْ أُونِسَ مِنْهُ نَوْعُ رُشْدٍ وَهُوَ الرُّشْدُ فِي دِينِهِ، فَتَتَنَاوَلُهُ النَّكِرَةُ الْمُطْلَقَةُ فَيَجِبُ أَنْ يُدْفَعَ إلَيْهِ أَيْضًا مَالُهُ.
وَالْأَظْهَرُ فِي تَقْرِيرِ اسْتِدْلَالِ أَئِمَّتِنَا بِالْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْكِفَايَةِ بَعْدَ ذِكْرِ مَا فِي الْكِتَابِ وَشَرْحُهُ عَلَى وَفْقِ مَا فِي الْمَبْسُوطِ حَيْثُ قَالَ: وَلِأَنَّ الرُّشْدَ فِي الْمَالِ مُرَادٌ بِالْإِجْمَاعِ، فَلَا يَكُونُ الرُّشْدُ فِي الدِّينِ مُرَادًا كَيْ لَا تَعُمَّ النَّكِرَةُ الْمُطْلَقَةُ، أَوْ لِأَنَّ الدَّفْعَ مُعَلَّقٌ بِإِينَاسِ رُشْدٍ وَاحِدٍ لِأَنَّهُ نَكِرَةٌ فِي مَوْضِعِ الْإِثْبَاتِ، فَلَا يَكُونُ الرُّشْدُ فِي الدِّينِ مُرَادًا لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ مُعَلَّقًا بِرُشْدَيْنِ انْتَهَى فَتَدَبَّرْ (قَوْلُهُ وَلِأَنَّ الْفَاسِقَ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ عِنْدَنَا لِإِسْلَامِهِ فَيَكُونُ وَالِيًا لِلتَّصَرُّفِ) أَقُولُ: يَرِدُ النَّقْضُ بِالسَّفِيهِ الْمُصْلِحِ فِي دِينِهِ دُونَ مَالِهِ عَلَى قَوْلِهِمَا لَا مَحَالَةَ، لِأَنَّ الْإِسْلَامَ فِيهِ أَيْضًا مُتَحَقِّقٌ بَلْ فِيهِ أَقْوَى، فَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ وَالِيًا لِلتَّصَرُّفِ أَيْضًا غَيْرَ
وَيَحْجُرُ الْقَاضِي عِنْدَهُمَا أَيْضًا وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ بِسَبَبِ الْغَفْلَةِ وَهُوَ أَنْ يُغْبَنَ فِي التِّجَارَاتِ وَلَا يَصْبِرُ عَنْهَا لِسَلَامَةِ قَلْبِهِ لِمَا فِي الْحَجْرِ مِنْ النَّظَرِ لَهُ.
(فَصْلٌ فِي حَدِّ الْبُلُوغِ)
مَحْجُورٍ عَلَيْهِ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله (قَوْلُهُ وَيَحْجُرُ الْقَاضِي عِنْدَهُمَا أَيْضًا؛ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ بِسَبَبِ الْغَفْلَةِ، وَهُوَ أَنْ يُغْبَنَ فِي التِّجَارَاتِ إلَخْ).
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّهُ خِلَافُ مَا ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَإِنَّهُ مَا حَجَرَ عَلَى حِبَّانَ بْنِ مُنْقِذٍ وَكَانَ يُغْبَنُ فِي التِّجَارَاتِ، بَلْ قَالَ لَهُ «قُلْ لَا خِلَابَةَ لِي الْخِيَارُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ» فَأَثْبَتَ لَهُ الْبَيْعَ بِشَرْطِ الْخِيَارِ وَمَا حَجَرَ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْحَجْرَ عَلَى الْمُغَفَّلِ ثَبَتَ بِدَلَالَةِ قَوْله تَعَالَى {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} لِمَا أَنَّهُ يُتْلِفُ الْأَمْوَالَ كَالسَّفِيهِ فَلَا يُعَارِضُهُ خَبَرُ الْوَاحِدِ، كَذَا ذَكَرَهُ تَاجُ الشَّرِيعَةِ. قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ ذِكْرِ الِاعْتِرَاضِ وَالْجَوَابِ. وَرُدَّ بِأَنَّ ذَلِكَ الْمَنْعَ الْمَالُ وَلَيْسَ النِّزَاعُ فِيهِ، وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي الْحَجْرِ انْتَهَى.
وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: يُفْهَمُ مِنْهُ الْحَجْرُ أَيْضًا بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ وَإِنْ لَمْ يُفِدْ الْمَنْعَ كَمَا سَبَقَ مِنْ دَلِيلِهِمَا اهـ.
أَقُولُ: وَيَجُوزُ أَنْ يُرَدَّ هَذَا أَيْضًا بِأَنَّ الْحَجْرَ أَبْلَغُ مِنْ مَنْعِ الْمَالِ فِي الْعُقُوبَةِ كَمَا مَرَّ فِي دَلِيلِ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى عَدَمِ الْحَجْرِ عَلَى السَّفِيهِ، فَأَنَّى يُفْهَمُ مِنْ مَنْعِ الْمَالِ الْحَجْرُ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ وَأَنَّ مَنْعَ الْمَالِ مُفِيدٌ لِأَنَّ غَالِبَ السَّفَهِ فِي الْهِبَاتِ وَالصَّدَقَاتِ، وَذَلِكَ يَقِفُ عَلَى الْيَدِ كَمَا مَرَّ هَذَا أَيْضًا فِي دَلِيلِهِ جَوَابًا عَنْ قَوْلِهِمَا الْمَنْعُ لَا يُفِيدُ بِدُونِ الْحَجْرِ فَيَسْقُطُ قَوْلُ ذَلِكَ الْقَائِلِ هَاهُنَا وَإِنْ لَمْ يُفِدْ الْمَنْعَ كَمَا سَبَقَ مِنْ دَلِيلِهِمَا. وَقَالَ الشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ بَعْدَ نَقْلِ مَا ذَكَرَهُ تَاجُ الشَّرِيعَةِ وَصَاحِبُ الْعِنَايَةِ قُلْت: فِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ فِي حَدِيثِ حِبَّانَ بْنِ مُنْقِذٍ نَوْعَ حَجْرٍ، لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام أَطْلَقَ لَهُ الْبُيُوعَ كُلَّهَا بِالْخِيَارِ فَصَارَ كَالْمَحْجُورِ فِي الْبُيُوعِ الْمُطْلَقَةِ فَافْهَمْ اهـ.
أَقُولُ: لَيْسَ مَا قَالَهُ بِشَيْءٍ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّهُ لَا حَجْرَ فِي الْحَدِيثِ الْمَزْبُورِ عَلَى حِبَّانَ فِي شَيْءٍ، بَلْ فِيهِ إرْشَادُهُ إلَى مَا يَلِيقُ بِحَالِهِ مِنْ شَرْطِ الْخِيَارِ فِي الْبَيْعِ، وَقَوْلُ الشَّارِحِ الْمَذْكُورُ فَصَارَ كَالْمَحْجُورِ فِي الْبُيُوعِ الْمُطْلَقَةِ يُشْعِرُ بِاعْتِرَافِهِ أَيْضًا بِأَنَّهُ لَمْ يَصِرْ مَحْجُورًا عَلَيْهِ حَقِيقَةً فِي شَيْءٍ فَلَا يُجْدِي مَا قَالَهُ شَيْئًا هَاهُنَا، وَلَوْ سُلِّمَ دَلَالَةُ الْحَدِيثِ عَلَى كَوْنِهِ مَحْجُورًا عَلَيْهِ فِي الْبُيُوعِ الْمُطْلَقَةِ: أَيْ فِي الْبُيُوعِ الَّتِي لَمْ يُشْتَرَطْ فِيهَا الْخِيَارُ فَلَا نَفْعَ لَهَا فِي دَفْعِ مَادَّةِ الِاعْتِرَاضِ هَاهُنَا فَإِنَّ مَذْهَبَ الْإِمَامَيْنِ وَالشَّافِعِيِّ أَنْ يَحْجُرَ الْقَاضِي عَلَى الْمُغَفَّلِ فِي بُيُوعِهِ مُطْلَقًا: أَيْ سَوَاءٌ شَرَطَ فِيهَا الْخِيَارَ أَمْ لَا، فَيَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّ الْحَجْرَ عَلَى الْمُغَفَّلِ فِي بُيُوعِهِ الَّتِي شُرِطَ فِيهَا الْخِيَارُ خِلَافُ مَا ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثِ حِبَّانَ بْنِ مُنْقِذٍ.
الْبُلُوغُ فِي اللُّغَةِ الْوُصُولُ، وَفِي الِاصْطِلَاحِ: انْتِهَاءُ الصِّغَرِ.
وَلَمَّا كَانَ الصِّغَرُ أَحَدَ أَسْبَابِ الْحَجْرِ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ بَيَانِ
قَالَ (بُلُوغُ الْغُلَامِ بِالِاحْتِلَامِ وَالْإِحْبَالِ وَالْإِنْزَالِ إذَا وَطِئَ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ فَحَتَّى يَتِمَّ لَهُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَبُلُوغُ الْجَارِيَةِ بِالْحَيْضِ وَالِاحْتِلَامِ وَالْحَبَلِ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ فَحَتَّى يَتِمَّ لَهَا سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً)، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَا: إذَا تَمَّ الْغُلَامُ وَالْجَارِيَةُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً فَقَدْ بَلَغَا، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَعَنْهُ فِي الْغُلَامِ تِسْعَ عَشْرَةَ سَنَةً. وَقِيلَ الْمُرَادُ أَنْ يَطْعَنَ فِي التَّاسِعِ عَشْرَةَ سَنَةً وَيَتِمُّ لَهُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً فَلَا اخْتِلَافَ. وَقِيلَ فِيهِ اخْتِلَافُ الرِّوَايَةِ لِأَنَّهُ ذَكَرَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ حَتَّى يَسْتَكْمِلَ تِسْعَ عَشْرَةَ سَنَةً، أَمَّا الْعَلَامَةُ فَلِأَنَّ الْبُلُوغَ بِالْإِنْزَالِ حَقِيقَةً وَالْحَبَلُ وَالْإِحْبَالُ لَا يَكُونُ إلَّا مَعَ الْإِنْزَالِ، وَكَذَا الْحَيْضُ فِي أَوَانِ الْحَبَلِ، فَجُعِلَ كُلُّ ذَلِكَ عَلَامَةَ الْبُلُوغِ، وَأَدْنَى الْمُدَّةِ لِذَلِكَ فِي حَقِّ الْغُلَامِ اثْنَتَا عَشْرَةَ سَنَةً، وَفِي حَقِّ الْجَارِيَةِ تِسْعُ سِنِينَ. وَأَمَّا السِّنُّ فَلَهُمْ الْعَادَةُ الْفَاشِيَّةُ أَنَّ الْبُلُوغَ لَا يَتَأَخَّرُ فِيهِمَا عَنْ هَذِهِ الْمُدَّةِ. وَلَهُ قَوْله تَعَالَى {حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} وَأَشُدُّ الصَّبِيِّ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً، هَكَذَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَتَابَعَهُ الْقُتَيْبِيُّ، وَهَذَا أَقَلُّ مَا قِيلَ فِيهِ فَيُبْنَى الْحُكْمُ عَلَيْهِ لِلتَّيَقُّنِ بِهِ، غَيْرَ أَنَّ الْإِنَاثَ نُشُوءُهُنَّ وَإِدْرَاكُهُنَّ أَسْرَعُ فَنَقَصْنَا فِي حَقِّهِنَّ سَنَةً لِاشْتِمَالِهَا عَلَى الْفُصُولِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي يُوَافِقُ وَاحِدٌ مِنْهَا الْمِزَاجَ لَا مَحَالَةَ.
قَالَ (وَإِذَا رَاهَقَ الْغُلَامُ أَوْ الْجَارِيَةُ الْحُلُمَ وَأَشْكَلَ أَمْرُهُ فِي الْبُلُوغِ فَقَالَ قَدْ بَلَغْتُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ وَأَحْكَامُهُ أَحْكَامُ الْبَالِغِينَ) لِأَنَّهُ مَعْنًى لَا يُعْرَفُ إلَّا مِنْ جِهَتِهِمَا ظَاهِرًا، فَإِذَا أَخْبَرَا بِهِ وَلَمْ يُكَذِّبْهُمَا الظَّاهِرُ قُبِلَ قَوْلُهُمَا فِيهِ، كَمَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْمَرْأَةِ فِي الْحَيْضِ.
انْتِهَائِهِ، وَهَذَا الْفَصْلُ لِبَيَانِ ذَلِكَ (قَوْلُهُ وَهَذَا أَقَلُّ مَا قِيلَ فِيهِ، فَيَنْبَنِي الْحُكْمُ عَلَيْهِ لِلتَّيَقُّنِ بِهِ) أَقُولُ: يَرِدُ عَلَى قَوْلِهِ لِلتَّيَقُّنِ بِهِ اعْتِرَاضٌ قَوِيٌّ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا شَكَّ أَنَّ الْمُتَيَقَّنَ بِهِ فِي بُلُوغِ الصَّبِيِّ رُشْدَهُ إنَّمَا هُوَ أَكْثَرُ مَا قِيلَ فِي أَشُدِّهِ مِنْ الْمَدَدِ دُونَ أَقَلِّ مَا قِيلَ فِيهِ مِنْهَا، لِأَنَّهُ إذَا بَلَغَ الْأَكْثَرَ مِنْهَا فَقَدْ بَلَغَ الْأَقَلَّ مِنْهَا دُونَ الْعَكْسِ.
نَعَمْ وُجُودُ الْأَقَلِّ فِي نَفْسِهِ لَا يَسْتَلْزِمُ وُجُودَ الْأَكْثَرِ، بِخِلَافِ الْعَكْسِ، لَكِنْ لَيْسَ الْكَلَامُ هَاهُنَا فِي وُجُودِ مُدَّةٍ فِي نَفْسِهَا بَلْ فِي كَوْنِ تِلْكَ الْمُدَّةِ أَشُدَّ الصَّبِيِّ، وَالْمُتَيَقَّنُ بِهِ فِيهِ إنَّمَا هُوَ أَكْثَرُ مَا قِيلَ فِي أَشُدِّهِ بِلَا رَيْبٍ، ثُمَّ إنِّي لَمْ أَرَ أَحَدًا مِنْ الشُّرَّاحِ حَامَ حَوْلَ هَذَا الْإِشْكَالِ سِوَى تَاجِ الشَّرِيعَةِ وَصَاحِبِ الْكِفَايَةِ، فَإِنَّهُمَا قَالَا: فَإِنْ قِيلَ: يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ بِالْأَكْثَرِ لِأَنَّهُ الْمُتَيَقَّنُ، إذْ الْأَدْنَى يَكُونُ فِي الْأَكْثَرِ دُونَ الْعَكْسِ.
قُلْنَا: أَوَّلُ الْآيَةِ {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ} إلَى قَوْلِهِ {حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} وَاَللَّهُ تَعَالَى مَدَّ الْحُكْمَ إلَى غَايَةِ الْأَشُدِّ، وَأَقَلُّ مَا قِيلَ فِي تَفْسِيرِهِ ثَمَانِيَ عَشَرَةَ وَهُوَ الْمُتَيَقَّنُ، إذْ لَوْ مَدَّ إلَى أَقْصَاهُ لَا بُدَّ أَنْ يَمُدَّ إلَى ثَمَانِيَ عَشَرَةَ، وَلَوْ مَدَّ إلَيْهَا لَا يَكُونُ مُمْتَدًّا إلَى أَقْصَاهُ فَكَانَتْ ثَمَانِيَ عَشَرَةَ مُتَيَقَّنًا فِي كَوْنِ الْحُكْمِ
بَابُ الْحَجْرِ بِسَبَبِ الدَّيْنِ
(قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا أَحْجُرُ فِي الدَّيْنِ، وَإِذَا وَجَبَتْ دُيُونٌ عَلَى رَجُلٍ وَطَلَبَ غُرَمَاؤُهُ حَبْسَهُ وَالْحَجْرَ عَلَيْهِ لَمْ أَحْجُرْ عَلَيْهِ) لِأَنَّ فِي الْحَجْرِ إهْدَارَ أَهْلِيَّتِهِ فَلَا يَجُوزُ لِدَفْعِ ضَرَرٍ خَاصٍّ
مُمْتَدًّا إلَيْهَا فَيُبْنَى الْحُكْمُ عَلَيْهِ انْتَهَى.
أَقُولُ: فِي الْجَوَابِ نَظَرٌ، لِأَنَّ الْأَشُدَّ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الْمَذْكُورَةِ مُنْتَهَى الْحُكْمِ السَّابِقِ، وَغَايَتُهُ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَطْعًا قَوْله تَعَالَى {حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} فَمُجَرَّدُ دُخُولِ مَدِّ الْحُكْمِ السَّابِقِ إلَى ثَمَانِيَ عَشَرَةَ فِي مَدِّهِ إلَى أَقْصَى مَا قِيلَ فِي تَفْسِيرِ الْأَشُدِّ لَا يَلْزَمُ كَوْنُ ثَمَانِيَ عَشَرَةَ مُنْتَهَى الْحُكْمِ السَّابِقِ وَغَايَتَهُ حَتَّى يَلْزَمَ كَوْنُهَا أَشُدَّهُ فِيمَا إذَا مَدَّ الْحُكْمَ إلَى أَقْصَاهُ أَيْضًا، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ وُجُودُهَا فِي نَفْسِهَا فِي ضِمْنِ وُجُودِ مُدَّةٍ أَكْثَرَ مِنْهَا فَلَمْ يَكُنْ مُتَيَقَّنًا بِهَا مِنْ حَيْثُ كَوْنُهَا الْأَشُدَّ بَلْ مِنْ حَيْثُ وُجُودُهَا فِي نَفْسِهَا، وَالْمَطْلُوبُ هَاهُنَا هُوَ الْأَوَّلُ دُونَ الثَّانِي، فَلَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ.
وَالْحَقُّ فِي أَصْلِ التَّعْلِيلِ أَنْ يُقَالَ: وَهَذَا أَقَلُّ مَا قِيلَ فِيهِ، فَيُبْنَى الْحُكْمُ عَلَيْهِ لِلِاحْتِيَاطِ كَمَا وَقَعَ فِي الْكَافِي وَالتَّبْيِينِ، إلَّا أَنَّهُ قَالَ فِي الْكَافِي بَعْدَ قَوْلِهِ لِلِاحْتِيَاطِ: وَلِأَنَّهُ مُتَيَقَّنٌ بِهِ، وَأَمَّا فِي التَّبْيِينِ فَقَدْ اكْتَفَى بِقَوْلِهِ لِلِاحْتِيَاطِ وَهُوَ الْأَصْوَبُ.
(بَابُ الْحَجْرِ بِسَبَبِ الدَّيْنِ)
تَلْقِيبُ هَذَا الْبَابِ بِالْحَجْرِ بِسَبَبِ الدَّيْنِ وَمَا قَبْلَهُ بِالْحَجْرِ لِلْفَسَادِ إمَّا عَلَى قَوْلِهِمَا فَقَطْ كَمَا قَالُوا فِي فَصْلِ تَكْبِيرَاتِ التَّشْرِيقِ مِنْ كِتَابِ الصَّلَاةِ وَفِي بَابِ مُقَاسَمَةِ الْجَدِّ مِنْ عِلْمِ الْفَرَائِضِ.
لِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ لَا يَرَى شَيْئًا مِنْهَا، وَإِمَّا عَلَى قَوْلِهِمْ جَمِيعًا بِنَاءً عَلَى تَعَلُّقِ نَظَرِ كُلِّهِمْ بِذَلِكَ إثْبَاتًا مِنْهُمَا وَنَفْيًا مِنْهُ. ثُمَّ إنَّ الْحَجْرَ بِسَبَبِ الدَّيْنِ لَمَّا كَانَ مَشْرُوطًا بِطَلَبِ الْغُرَمَاءِ كَانَ فِيهِ وَصْفٌ زَائِدٌ، فَصَارَ بِالنَّظَرِ إلَى مَا قَبْلَهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُرَكَّبِ مِنْ الْمُفْرَدِ فَلَا جَرْمَ آثَرَ تَأْخِيرَهُ عَنْهُ (قَوْلُهُ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله: لَا أَحْجُرُ فِي الدَّيْنِ، وَإِذَا وَجَبَ دُيُونٌ عَلَى رَجُلٍ وَطَلَبَ غُرَمَاؤُهُ حَبْسَهُ وَالْحَجْرَ عَلَيْهِ لَمْ أَحْجُرْ عَلَيْهِ، لِأَنَّ فِي الْحَجْرِ عَلَيْهِ إهْدَارَ أَهْلِيَّتِهِ فَلَا يَجُوزُ لِدَفْعِ ضَرَرٍ خَاصٍّ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي هَذَا الْمَقَامِ: وَأَبُو حَنِيفَةَ لَا يُجَوِّزُهُ لِأَنَّ فِيهِ إهْدَارَ أَهْلِيَّتِهِ، وَذَلِكَ ضَرَرٌ فَوْقَ ضَرَرِ الْمَالِ فَلَا يُتْرَكُ الْأَعْلَى لِلْأَدْنَى انْتَهَى.
أَقُولُ: لَا يَذْهَبُ عَلَيْك أَنَّ قَوْلَهُ فَلَا يُتْرَكُ الْأَعْلَى لِلْأَدْنَى لَا يُنَاسِبُ مَا قَبْلَهُ مِنْ الْمُقَدِّمَتَيْنِ بَلْ يُنَافِيهِ فِي الظَّاهِرِ، فَكَانَ حَقُّ الْعِبَارَةِ أَنْ يُقَالَ: فَلَا يُتَحَمَّلُ الْأَعْلَى لِدَفْعِ الْأَدْنَى كَمَا قَالَهُ الْمُصَنِّفُ فِي أَوَائِلِ بَابِ الْحَجْرِ لِلْفَسَادِ، وَأَشَارَ إلَيْهِ هَاهُنَا بِقَوْلِهِ فَلَا يَجُوزُ لِدَفْعِ ضَرَرٍ خَاصٍّ، وَعَنْ هَذَا قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: وَلَعَلَّ الْعِبَارَةَ فَلَا يُرْتَكَبُ، وَقَوْلُهُ فَلَا يُتْرَكُ
(فَإِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ لَمْ يَتَصَرَّفْ فِيهِ الْحَاكِمُ) لِأَنَّهُ نَوْعُ حَجْرٍ، وَلِأَنَّهُ تِجَارَةٌ لَا عَنْ تَرَاضٍ فَيَكُونُ بَاطِلًا بِالنَّصِّ
سَهْوٌ مِنْ النَّاسِخِ انْتَهَى.
ثُمَّ أَقُولُ: يُمْكِنُ تَوْجِيهُ مَا عَلَيْهِ النُّسَخُ الْآنَ بِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ أَنْ يُحْمَلَ الْمُرَادُ بِالْأَعْلَى فِي قَوْلِهِ فَلَا يُتْرَكُ الْأَعْلَى لِلْأَدْنَى عَلَى أَهْلِيَّةِ الْمَدْيُونِ لَا إهْدَارِ أَهْلِيَّتِهِ، وَبِالْأَدْنَى عَلَى الْمَالِ نَفْسِهِ لَا عَلَى ضَرَرِهِ، يُرْشِدُ إلَيْهِ أَنَّهُ قَالَ لِلْأَدْنَى وَلَمْ يَقُلْ لِدَفْعِ الْأَدْنَى كَمَا قَالَهُ الْمُصَنِّفُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ كَوْنَ إهْدَارِ أَهْلِيَّتِهِ ضَرَرًا فَوْقَ ضَرَرِ الْمَالِ إنَّمَا هُوَ بِسَبَبِ كَوْنِ أَهْلِيَّتِهِ أَعْلَى: أَيْ أَشْرَفَ، وَكَوْنِ الْمَالِ أَدْنَى: أَيْ أَخَسَّ، فَإِنَّ ضَرَرَ فَوْتِ الْأَشْرَفِ فَوْقَ ضَرَرِ فَوْتِ الْأَخَسِّ لَا مَحَالَةَ. فَإِنْ قُلْت: الْمُطَابِقُ لِقَوْلِهِ فِي السُّؤَالِ الْآتِي وَإِنَّمَا يَكُونُ الْأَوَّلُ أَعْلَى أَنْ لَوْ كَانَا فِي شَخْصٍ وَاحِدٍ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْأَعْلَى إهْدَارَ الْأَهْلِيَّةِ وَبِالْأَدْنَى ضَرَرًا يُقَابِلُهُ.
قُلْت: تَطْبِيقُ مَا فِي الْمَوْضِعَيْنِ فِي حَيِّزِ الْمُرَادِ غَيْرُ لَازِمٍ، فَإِنَّ عُلُوَّ نَفْسِ الْأَهْلِيَّةِ شَرَفًا وَعُلُوَّ إهْدَارِهَا ضَرَرًا مُتَلَازِمَانِ، وَكَذَا دَنَاءَةُ نَفْسِ الْمَالِ وَدَنَاءَةُ ضَرَرِهِ، فَجَازَ أَنْ يُرَادَ بِالْأَعْلَى وَالْأَدْنَى فِي مَوْضِعٍ نَفْسُ الْأَهْلِيَّةِ وَنَفْسُ الْمَالِ وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ ضَرَرُهُمَا، وَيَحْصُلُ بِهَذَا الْقَدْرِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ فِي كُلٍّ مِنْ الْمَوْضِعَيْنِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى الْمُتَأَمِّلِ.
وَالثَّانِي أَنْ يُحْمَلَ التَّرْكُ الْمَنْفِيُّ فِي قَوْلِهِ فَلَا يُتْرَكُ عَلَى مَعْنَى الْإِبْقَاءِ فَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ فَلَا يُتْرَكُ الْأَعْلَى لِلْأَدْنَى فَلَا يُبْقَى الضَّرَرُ الْأَعْلَى لِأَجْلِ الضَّرَرِ الْأَدْنَى: أَيْ لِأَجْلِ دَفْعِهِ، وَمَجِيءُ التَّرْكِ بِمَعْنَى الْإِبْقَاءِ وَاقِعٌ فِي التَّنْزِيلِ كَقَوْلِهِ جَلَّ اسْمُهُ {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ} أَيْ أَبْقَيْنَا، نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْقَامُوسِ وَشَائِعٌ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِينَ حَيْثُ يَقُولُونَ: تُرِكَ عَلَى حَالِهِ، وَوَقَعَ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَيْضًا فِي هَذَا الْبَابِ حَيْثُ قَالَ: وَيُتْرَكُ عَلَيْهِ دَسْتُ مِنْ ثِيَابِ بَدَنِهِ وَيُبَاعُ الْبَاقِي. فَإِنْ قُلْت: مَعْنَى الْإِبْقَاءِ لَا يُنَاسِبُ هَذَا الْمَحَلَّ، لِأَنَّ الْمُتَبَادِرَ مِنْ نَفْيِ إبْقَاءِ إهْدَارِ الْأَهْلِيَّةِ تَحَقُّقُ إهْدَارِهَا أَوَّلًا، إذْ الْبَقَاءُ فَرْعُ التَّحَقُّقِ.
وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنْ لَا يَجُوزَ إهْدَارُ أَهْلِيَّةِ الْإِنْسَانِ رَأْسًا لِأَنَّ فِيهِ إلْحَاقَهُ بِالْبَهَائِمِ. قُلْت: لَا نُسَلِّمُ تَبَادُرَ ذَلِكَ فِي صُورَةِ النَّفْيِ، وَكَوْنُ الْبَقَاءِ فَرْعَ التَّحَقُّقِ إنَّمَا هُوَ فِي الثُّبُوتِ، وَلَئِنْ سُلِّمَ ذَلِكَ فَيُمْكِنُ أَنْ يَلْتَزِمَ الْحَمْلَ عَلَى خِلَافِ الْمُتَبَادِرِ مِنْ ظَاهِرِ اللَّفْظِ بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ. وَالثَّالِثُ أَنْ تُحْمَلَ كَلِمَةُ لَا فِي قَوْلِهِ فَلَا يُتْرَكُ عَلَى الزَّائِدَةِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {لِئَلا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} وَفِي قَوْله تَعَالَى {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْأَمْثِلَةِ.
فَإِنْ قُلْت: قَدْ عُيِّنَتْ مَوَاقِعُ زِيَادَةِ لَا فِي أَكْثَرِ كُتُبِ النَّحْوِ: أَحَدُهُمَا مَعَ الْوَاوِ بَعْدَ النَّفْيِ. وَثَانِيهِمَا بَعْدَ " أَنْ " الْمَصْدَرِيَّةِ. وَثَالِثُهَا قَبْلَ الْقَسَمِ عَلَى قِلَّةٍ. وَرَابِعُهَا مَعَ الْمُضَافِ عَلَى الشُّذُوذِ، وَمَا نَحْنُ فِيهِ لَيْسَ مِنْهَا فِي شَيْءٍ. قُلْت: ذَكَرَ ابْنُ هِشَامٍ فِي مُغْنِي اللَّبِيبِ وُقُوعَ لَا الزَّائِدَةِ فِي مَوَاضِعَ مِنْ التَّنْزِيلِ، وَعَدَّ مِنْهَا قَوْله تَعَالَى {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ} فِيمَنْ فَتَحَ الْهَمْزَةَ.
وَقَالَ: فَقَالَ قَوْمٌ مِنْهُمْ الْخَلِيلُ وَالْفَارِسِيُّ لَا زَائِدَةٌ، وَإِلَّا لَكَانَ عُذْرًا لِلْكُفَّارِ، وَعَدَّ مِنْهَا أَيْضًا قَوْله تَعَالَى {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ} وَقَالَ فَقِيلَ لَا زَائِدَةٌ، وَالْمَعْنَى مُمْتَنِعٌ عَلَى أَهْلِ قَرْيَةٍ قَدَّرْنَا إهْلَاكَهُمْ لِكُفْرِهِمْ أَنَّهُمْ يَرْجِعُونَ عَنْ الْكُفْرِ إلَى قِيَامِ السَّاعَةِ اهـ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ لَيْسَا مِنْ الْمَوَاقِعِ الْأَرْبَعَةِ الْمُعَيَّنَةِ وَمُوَافِقَيْنِ لِمَا نَحْنُ فِيهِ، فَكَفَى بِهِمَا حُجَّةً لِهَذَا الْوَجْهِ مِنْ التَّوْجِيهِ.
فَإِنْ قُلْت: لَا يَنْتَظِمُ حِينَئِذٍ آخِرُ الْكَلَامِ وَهُوَ قَوْلُهُ لِلْأَدْنَى، إذْ لَا مَعْنَى لَأَنْ يُقَالَ: يُتْرَكُ الضَّرَرُ الْأَعْلَى لِلضَّرَرِ الْأَدْنَى، فَإِنَّ تَرْكَ الضَّرَرِ الْأَعْلَى لَيْسَ لِلضَّرَرِ الْأَدْنَى بَلْ لِكَوْنِهِ أَشَدَّ وَأَقْبَحَ مِنْهُ. ثُمَّ إنَّ هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ مَعْنَى قَوْلِهِ لِلْأَدْنَى لِدَفْعِ الْأَدْنَى، وَأَمَّا إذَا كَانَ مَعْنَاهُ ذَاكَ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ فَفَسَادُ الْمَعْنَى أَظْهَرُ، إذْ يَصِيرُ الْمَعْنَى إذْ ذَاكَ فَيُتْرَكُ الضَّرَرُ الْأَعْلَى لِدَفْعِ الضَّرَرِ الْأَدْنَى فَيَلْزَمُ أَنْ لَا يُتَحَمَّلَ شَيْءٌ مِنْ الضَّرَرَيْنِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ قَطْعًا.
قُلْت: يُمْكِنُ نَظْمُ ذَلِكَ بِأَنْ يُحْمَلَ اللَّامُ فِي قَوْلِهِ لِلْأَدْنَى عَلَى مَعْنَى عِنْدَ، فَيَكُونُ مَعْنَى الْكَلَامِ فَيُتْرَكُ الضَّرَرُ الْأَعْلَى عِنْدَ تَيَسُّرِ الضَّرَرِ الْأَدْنَى لِوُجُوبِ اخْتِيَارِ أَهْوَنِ الشَّرَّيْنِ، وَهَذَا مَعْنًى مُسْتَقِيمٌ كَمَا تَرَى، وَمَجِيءُ اللَّامِ بِمَعْنَى عِنْدَ قَدْ ذَكَرَهُ ابْنُ هِشَامٍ فِي مُغْنِي اللَّبِيبِ وَمَثَّلَهُ بِقَوْلِهِمْ كَتَبْتُهُ لِخَمْسٍ خَلَوْنَ، وَقَالَ: وَجَعَلَ مِنْهُ ابْنُ جِنِّي قِرَاءَةَ قَوْله تَعَالَى
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
{بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ} بِكَسْرِ اللَّامِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ اهـ.
وَالْإِنْصَافُ أَنَّ هَذَا الْوَجْهَ أَبْعَدُ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَا لِتَوْجِيهِ كَلَامِ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ هَاهُنَا لَكِنَّ مَقْصُودَنَا بَيَانُ جُمْلَةِ مَا لُوحِظَ مِنْ الِاحْتِمَالَاتِ فِي تَوْجِيهِ كَلَامِهِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ عَلَى الْقَوَاعِدِ الْعَقْلِيَّةِ وَالنَّقْلِيَّةِ. ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: فَإِنْ قِيلَ: إهْدَارُ الْأَهْلِيَّةِ ضَرَرٌ يَلْحَقُ الْمَدْيُونَ وَتَرْكُ الْحَجْرِ ضَرَرٌ يَلْحَقُ الدَّائِنَ، وَإِنَّمَا يَكُونُ الْأَوَّلُ أَعْلَى لَوْ كَانَ فِي شَخْصٍ وَاحِدٍ.
فَالْجَوَابُ أَنَّ ضَرَرَ الدَّائِنِ يَنْدَفِعُ بِالْحَبْسِ لَا مَحَالَةَ، وَالْحَبْسُ ضَرَرٌ يَلْحَقُ الْمَدْيُونَ مُجَازَاةً شَرْعًا، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ أَعْلَى مَا انْدَفَعَ بِهِ ضَرَرُ الدَّائِنِ وَإِهْدَارُ الْأَهْلِيَّةِ أَعْلَى مِنْ الْحَبْسِ فَيَكُونُ أَعْلَى مِنْ ضَرَرِ الدَّائِنِ اهـ كَلَامُهُ. أَقُولُ: حَاصِلُ السُّؤَالِ مَنْعُ كَوْنِ إهْدَارِ أَهْلِيَّةِ الْمَدْيُونِ أَعْلَى ضَرَرًا مِنْ ضَرَرِ الدَّائِنِ مُسْتَنِدًا بِكَوْنِهِمَا فِي شَخْصَيْنِ دُونَ شَخْصٍ وَاحِدٍ. وَحَاصِلُ الْجَوَابِ إثْبَاتُ الْمُقَدِّمَةِ الْمَمْنُوعَةِ بِطَرِيقِ قِيَاسِ الْمُسَاوَاةِ بِحَيْثُ يَظْهَرُ مِنْهُ بُطْلَانُ السَّنَدِ أَيْضًا. تَقْرِيرُهُ أَنَّ إهْدَارَ الْأَهْلِيَّةِ أَعْلَى ضَرَرًا مِنْ الْحَبْسِ، وَالْحَبْسُ أَعْلَى ضَرَرًا مِنْ ضَرَرِ الدَّائِنِ يَنْتِجُ أَنَّ إهْدَارَ الْأَهْلِيَّةِ أَعْلَى ضَرَرًا مِنْ ضَرَرِ الدَّائِنِ بِمُلَاحَظَةِ مُقَدِّمَةٍ مُقَرَّرَةٍ، وَهِيَ أَنَّ الْأَعْلَى مِنْ الْأَعْلَى مِنْ الشَّيْءِ أَعْلَى مِنْ ذَلِكَ الشَّيْءِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا الْقِيَاسَ يَقْتَضِي كَوْنَ إهْدَارِ الْأَهْلِيَّةِ أَعْلَى ضَرَرًا مِنْ ضَرَرِ الدَّائِنِ وَإِنْ كَانَ فِي شَخْصَيْنِ فَسَقَطَ الْمَنْعُ وَبَطَلَ السَّنَدُ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ فِي الْمُقَدِّمَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ الْقِيَاسِ الْمَزْبُورِ وَهِيَ قَوْلُنَا وَالْحَبْسُ أَعْلَى ضَرَرًا مِنْ ضَرَرِ الدَّائِنِ نَوْعُ خَفَاءٍ بَيَّنَهَا الشَّارِحُ الْمَذْكُورُ أَوَّلًا بِمَا حَاصِلُهُ أَنَّ ضَرَرَ الدَّائِنِ يَنْدَفِعُ بِالْحَبْسِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْحَبْسُ أَعْلَى ضَرَرًا مِنْ ضَرَرِ الدَّائِنِ لَمَّا انْدَفَعَ هَذَا بِذَاكَ.
ثُمَّ ذَكَرَ الْمُقَدِّمَةَ الْأُولَى وَالنَّتِيجَةَ لِظُهُورِهِمَا بِلَا بَيَانٍ. ثُمَّ أَقُولُ: فِي الْجَوَابِ بَحْثٌ. أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ قَوْلَهُ إنَّ ضَرَرَ الدَّائِنِ يَنْدَفِعُ بِالْحَبْسِ لَا مَحَالَةَ فِي حَيِّزِ الْمَنْعِ لِجَوَازِ أَنْ يَخْتَارَ الْمَدْيُونُ الْحَبْسَ أَبَدًا وَلَا يُوفِي حَقَّ الدَّائِنِ فَلَا يَنْدَفِعُ حِينَئِذٍ ضَرَرُ الدَّائِنِ.
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ الْحَبْسَ لَوْ كَانَ أَعْلَى ضَرَرًا مِنْ ضَرَرِ الدَّائِنِ لَمَّا جَازَ الْحَبْسُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله بِنَاءً عَلَى مُقْتَضَى قَوْلِهِ لَا يُتَحَمَّلُ الضَّرَرُ الْأَعْلَى لِدَفْعِ الضَّرَرِ الْأَدْنَى كَمَا هُوَ الْأَسَاسُ فِي إثْبَاتِ مَذْهَبِهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، مَعَ أَنَّ الْحَبْسَ جَائِزٌ بِالْإِجْمَاعِ وَمُتَعَيِّنٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ اخْتِيَارَ الْمَدْيُونِ الْحَبْسَ الْأَبَدِيَّ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى أَدَاءِ الدَّيْنِ بَعِيدٌ جِدًّا غَيْرُ وَاقِعٍ فِي الْعَادَةِ إلَّا بِغَايَةِ النُّدْرَةِ، وَمَبْنَى الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ عَلَى الْغَالِبِ الْأَكْثَرِ.
وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ الْحَبْسَ لَيْسَ لِمُجَرَّدِ دَفْعِ ضَرَرِ الْمَالِ عَنْ الدَّائِنِ، بَلْ هُوَ مَعَ ذَلِكَ جَزَاءٌ لِظُلْمِ الْمَدْيُونِ الدَّائِنَ بِالْمُمَاطَلَةِ، وَقَدْ صَرَّحَ الْمُصَنِّفُ فِي فَصْلِ الْحَبْسِ مِنْ قَضَاءِ الْقَضَاءِ بِكَوْنِ الْحَبْسِ مِنْ جَزَاءِ الْمُمَاطَلَةِ حَيْثُ قَالَ: وَإِذَا ثَبَتَ الْحَقُّ عِنْدَ الْقَاضِي وَطَلَبَ صَاحِبُ الْحَقِّ حَبْسَ غَرِيمِهِ لَمْ يُعَجِّلْ بِحَبْسِهِ وَأَمَرَهُ بِدَفْعِ مَا عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْحَبْسَ جَزَاءُ الْمُمَاطَلَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ ظُهُورِهَا وَأَشَارَ إلَيْهِ الشَّارِحُ الْمَذْكُورُ فِي أَثْنَاءِ الْجَوَابِ الْمَزْبُورِ بِقَوْلِهِ: وَالْحَبْسُ ضَرَرٌ يَلْحَقُ الْمَدْيُونَ مُجَازَاةً شَرْعًا، وَلَعَلَّ قَصْدَهُ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ كَانَ بَاعِثًا عَلَى ذِكْرِهِ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ أَثْنَاءَ الْجَوَابِ، وَإِلَّا فَلَا مَدْخَلَ لَهُ أَصْلًا فِي إثْبَاتِ الْمُقَدِّمَةِ الْمَمْنُوعَةِ فِي السُّؤَالِ كَمَا ظَهَرَ مِنْ تَقْرِيرِنَا السَّابِقِ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَاخْتِيَارُ الْحَبْسِ لِلْمُجَازَاةِ الشَّرْعِيَّةِ مَعَ انْدِفَاعِ ضَرَرِ الْمَالِ عَنْ الدَّائِنِ بِهِ أَيْضًا لَا لِمُجَرَّدِ دَفْعِ هَذَا الضَّرَرِ الَّذِي هُوَ أَدْنَى مِنْ ضَرَرِ الْحَبْسِ حَتَّى يَنْتَقِضَ بِهِ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يُتَحَمَّلُ الْأَعْلَى لِدَفْعِ الْأَدْنَى.
فَإِنْ قُلْت: هَبْ أَنَّ الْحَبْسَ لَيْسَ لِمُجَرَّدِ دَفْعِ ضَرَرِ الْمَالِ عَنْ الدَّائِنِ بَلْ لَهُ وَلِجَزَاءِ ظُلْمِ الْمُمَاطَلَةِ مَعًا لَكِنْ يَنْدَفِعُ بِهِ ظُلْمُ الْمُمَاطَلَةِ أَيْضًا كَمَا يُفْصِحُ عَنْهُ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ فِيمَا بَعْدُ، وَلَكِنْ يَحْبِسُهُ أَبَدًا حَتَّى يَبِيعَهُ فِي دَيْنِهِ إيفَاءً لِحَقِّ الْغُرَمَاءِ وَدَفْعًا لِظُلْمِهِ اهـ.
فَبِقِيَاسِ الْمُقَدِّمَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْجَوَابِ الْقَائِلَةِ: وَلَوْ لَمْ يَكُنْ أَعْلَى مَا انْدَفَعَ بِهِ ضَرَرُ الدَّائِنِ، يُقَالُ: وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْحَبْسُ أَعْلَى مِنْ ظُلْمِ الْمُمَاطَلَةِ لَمَا انْدَفَعَ بِهِ ذَلِكَ الظُّلْمُ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْحَبْسُ أَعْلَى مِنْ ظُلْمِ الْمُمَاطَلَةِ أَيْضًا فَيَعُودُ انْتِقَاضُ قَوْلِهِ لَا يُتَحَمَّلُ الْأَعْلَى لِدَفْعِ الْأَدْنَى بِالْحَبْسِ.
قُلْت: الْمُنْدَفِعُ بِالْحَبْسِ ظُلْمُهُ الْآتِي وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِ الْمُصَنِّفِ فِيمَا بَعْدُ دَفْعًا لِظُلْمِهِ لَا ظُلْمُهُ الْمَاضِي، إذْ لَا مَجَالَ لِدَفْعِ مَا تَحَقَّقَ فِيمَا مَضَى مِنْ الْمُمَاطَلَةِ لِأَنَّهُ عَرَضٌ لَا يَبْقَى، وَاَلَّذِي جُعِلَ الْحَبْسُ جَزَاءً لَهُ إنَّمَا هُوَ ظُلْمُهُ الْمَاضِي وَاخْتِيَارُ الْحَبْسِ لِمُجَازَاةِ ظُلْمِهِ الْمَاضِي مَعَ دَفْعِ ظُلْمِهِ الْآتِي وَدَفْعِ ضَرَرِ الْمَالِ عَنْ الدَّائِنِ أَيْضًا فَلَا يَتَمَشَّى النَّقْضُ بِالنَّظَرِ إلَى مُجَازَاةِ ظُلْمِهِ الْمَاضِي كَمَا لَا يَخْفَى. وَلَئِنْ سُلِّمَ
(وَلَكِنْ يَحْبِسُهُ أَبَدًا حَتَّى يَبِيعَهُ فِي دَيْنِهِ) إيفَاءً لِحَقِّ الْغُرَمَاءِ وَدَفْعًا لِظُلْمِهِ (وَقَالَا: إذَا طَلَبَ غُرَمَاءُ الْمُفْلِسِ الْحَجْرَ عَلَيْهِ حَجَرَ الْقَاضِي عَلَيْهِ
كَوْنُ الْحَبْسِ أَعْلَى مِنْ ظُلْمِهِ مُطْلَقًا وَمِنْ ضَرَرِ الدَّائِنِ فَنَقُولُ: إنَّ قَوْلَهُ لَا يُتَحَمَّلُ الْأَعْلَى لِدَفْعِ الْأَدْنَى قَوْلٌ عَلَى مُوجَبِ الْقِيَاسِ، وَالْحَبْسُ قَدْ ثَبَتَ بِالنَّصِّ مِنْ كِتَابٍ وَسُنَّةٍ عَلَى مَا صَرَّحُوا بِهِ فِي فَصْلِهِ وَفَصَّلُوهُ فَيُتْرَكُ بِهِ الْقِيَاسُ، بِخِلَافِ الْحَجْرِ بِسَبَبِ الدَّيْنِ فَإِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ بِنَصٍّ فَيَجْرِي فِيهِ الْقِيَاسُ وَيَسْقُطُ النَّقْضُ بِالْحَبْسِ قَطْعًا.
لَا يُقَالُ: الْحَجْرُ بِسَبَبِ الدَّيْنِ أَيْضًا ثَبَتَ بِالنَّصِّ وَهُوَ مَا رُوِيَ «أَنَّ مُعَاذًا رَكِبَتْهُ دُيُونٌ فَبَاعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَالَهُ وَقَسَمَ ثَمَنَهُ بَيْنَ غُرَمَائِهِ بِالْحِصَصِ» كَمَا ذُكِرَ فِي الْبَدَائِعِ وَالتَّبْيِينِ وَبَعْضِ شُرُوحِ هَذَا الْكِتَابِ دَلِيلًا عَلَى قَوْلِ الْإِمَامَيْنِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. لِأَنَّا نَقُولُ: أَجَابُوا عَنْهُ فِي تِلْكَ الْكُتُبِ أَيْضًا عَنْ قِيلِ أَبِي حَنِيفَةَ بِأَنَّ بَيْعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَالَ مُعَاذٍ كَانَ بِإِذْنِهِ، اسْتَعَانَ بِالنَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام، وَقَالُوا: وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ بَيْعَ مَالِهِ لَا يَجُوزُ حَتَّى يَأْمُرَهُ وَيَأْبَى، وَلَا يُظَنُّ بِمُعَاذٍ رضي الله عنه أَنْ يُخَالِفَ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَقَالَ فِي الْبَدَائِعِ: مَعَ مَا رُوِيَ «أَنَّهُ طَلَبَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَبِيعَ مَالَهُ لِيَنَالَ بَرَكَتَهُ فَيَصِيرَ دَيْنُهُ مَقْضِيًّا بِبَرَكَتِهِ» اهـ.
فَظَهَرَ أَنَّهُ لَا نَصَّ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْحَجْرِ بِسَبَبِ الدَّيْنِ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْمَدَارَ فِيهِ هُوَ الْقِيَاسُ. وَتَحْقِيقُ هَذَا الْمَقَامِ عَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ مِنْ الْأَسْرَارِ الَّتِي وُفِّقْت لَهَا بِتَوْفِيقِ اللَّهِ تَعَالَى. ثُمَّ إنَّ مِنْ الْعَجَائِبِ هَاهُنَا أَنِّي قَدْ اُبْتُلِيت فِي زَمَانٍ مِنْ الْأَزْمَانِ بِأَنْ أُمْتَحَنَ مَعَ بَعْضِ مَنْ عُدَّ مِنْ الْأَهَالِي وَالْأَعْيَانِ لِأَجْلِ بَعْضٍ مِنْ الْمَدَارِسِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ مِنْ كُتُبٍ ثَلَاثَةٍ: الْهِدَايَةُ، وَشَرْحُ الْمَوَاقِفِ، وَشَرْحُ الْمِفْتَاحِ، فَاتَّفَقَ أَنْ يَقَعَ الْبَحْثُ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ مِنْ أَوَّلِ هَذَا الْبَابِ، فَكَانَ اسْتِخْرَاجُ بَعْضٍ مِنْ أَصْحَابِ الِامْتِحَانِ فِي هَذَا الْمَقَامِ عَلَى أَنْ تَكُونَ كَلِمَةُ لَوْ فِي قَوْلِ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ فِي الْجَوَابِ: وَلَوْ لَمْ يَكُنْ أَعْلَى مَا انْدَفَعَ بِهِ ضَرَرُ الدَّائِنِ وَصْلِيَّةً، فَجَعَلَ كَلِمَةَ أَعْلَى مُضَافَةً إلَى كَلِمَةِ مَا، وَجَعَلَ كَلِمَةَ مَا مَوْصُولَةً، فَبَنَى عَلَى هَذَا الِاسْتِخْرَاجِ خُرَافَاتٍ مِنْ الْأَوْهَامِ، فَلَمَّا عَرَضَ ذَلِكَ عَلَى الصَّدْرَيْنِ اللَّذَيْنِ كَانَا حَكَمَيْنِ فِي ذَلِكَ الِامْتِحَانِ بَيَّنَّا بُطْلَانَهُ وَشَنَّعَا عَلَيْهِ جِدًّا، وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يَرْجِعْ عَنْ رَأْيِهِ الْبَاطِلِ بَلْ أَصَرَّ عَلَيْهِ، وَرَاجَعَ بَعْضَ الْوُزَرَاءِ وَاسْتَعَانَ بِشَهَادَةِ بَعْضٍ مِنْ جَهَلَةِ الْمُدَرِّسِينَ بِالْمَدَارِسِ الْعَالِيَةِ فَوَقَعَ النِّزَاعُ وَشَاعَ الْأَمْرُ حَتَّى كَادَ تَقَعُ فِتْنَةٌ عَظِيمَةٌ، وَلِلَّهِ دَرُّ مَنْ قَالَ: رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً عَرَفَ قَدْرَهُ فَلَمْ يَتَعَدَّ طَوْرَهُ (قَوْلُهُ وَلَكِنْ يَحْبِسُهُ أَبَدًا حَتَّى يَبِيعَهُ فِي دَيْنِهِ) أَقُولُ: يَرِدُ عَلَى ظَاهِرِ عِبَارَةِ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا مَا أَوْرَدَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ عَلَى نَظِيرِهَا فِي أَوَائِلِ بَابِ الْحَجْرِ لِلْفَسَادِ بِأَنْ قَالَ: تَسَامُحُ عِبَارَتِهِ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَبَدِ وَحَتَّى ظَاهِرٌ.
وَيُمْكِنُ تَوْجِيهُ عِبَارَتِهِ هَاهُنَا أَيْضًا بِمَا وَجَّهْنَا بِهِ عِبَارَتَهُ هُنَاكَ مِنْ حَمْلِ الْأَبَدِ عَلَى الزَّمَانِ الطَّوِيلِ الْمُمْتَدِّ.
وَيُمْكِنُ هَاهُنَا تَوْجِيهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ تَكُونَ كَلِمَةُ حَتَّى هَاهُنَا بِمَعْنَى كَيْ دُونَ إلَى، فَيَصِيرُ مَعْنَى الْكَلَامِ: وَلَكِنْ يَحْبِسُهُ أَبَدًا لِيَكُونَ سَبَبًا لِبَيْعِهِ، فَلَا مُسَامَحَةَ فِي الْجَمْعِ أَصْلًا إذْ الْمُسَامَحَةُ إنَّمَا هِيَ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَبَدِ وَحَتَّى بِمَعْنَى الِانْتِهَاءِ دُونَ السَّبَبِيَّةِ كَمَا لَا يَخْفَى، نَعَمْ لَا يُقْصَدُ بِالْأَبَدِ مَعْنَى الدَّوَامِ أَلْبَتَّةَ، وَلَكِنَّهُ أَمْرٌ آخَرُ وَرَاءَ الْمُسَامَحَةِ فِي الْجَمْعِ تَأَمَّلْ تَقِفْ (قَوْلُهُ وَقَالَا: إذَا طَلَبَ غُرَمَاءُ الْمُفْلِسِ الْحَجْرَ عَلَيْهِ حَجَرَ الْقَاضِي عَلَيْهِ) أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ مُفْلِسًا، بَلْ يَجُوزُ الْحَجْرُ عَلَى الْغَنِيِّ أَيْضًا عِنْدَهُمَا
نَظَرًا لِغُرَمَائِهِ
، بَلْ الْحَجْرُ بِسَبَبِ الدَّيْنِ إنَّمَا يُفِيدُ فَائِدَتَهُ فِي حَقِّ الْغَنِيِّ دُونَ الْمُفْلِسِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى الْفَطِنِ، فَذِكْرُ الْمُفْلِسِ فِي وَضْعِ الْمَسْأَلَةِ يُخِلُّ بِحَقٍّ.
لَا يُقَالُ: قَدْ ذُكِرَ فِي النِّهَايَةِ وَغَيْرِهَا نَقْلًا عَنْ الذَّخِيرَةِ أَنَّ مِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ قَالَ: مَسْأَلَةُ الْحَجْرِ بِسَبَبِ الدَّيْنِ بِنَاءً عَلَى مَسْأَلَةِ الْقَضَاءِ بِالْإِفْلَاسِ حَتَّى لَوْ حُجِرَ عَلَيْهِ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ أَنْ يُقْضَى عَلَيْهِ بِالْإِفْلَاسِ لَا يَصِحُّ حَجْرُهُ بِلَا خِلَافٍ، وَالْإِفْلَاسُ عِنْدَهُمَا يَتَحَقَّقُ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ فَيُمْكِنُ لِلْقَاضِي الْقَضَاءُ بِالْإِفْلَاسِ وَبِالْحَجْرِ بِنَاءً عَلَيْهِ.
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله: الْإِفْلَاسُ فِي حَالِ الْحَيَاةِ لَا يَتَحَقَّقُ، فَلَا يُمْكِنُهُ الْقَضَاءُ بِالْإِفْلَاسِ أَوَّلًا وَبِالْحَجْرِ بِنَاءً عَلَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مَسْأَلَةً مُبْتَدَأَةً، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ الْمَانِعُ مِنْ الْحَجْرِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ كَوْنُ الْحَجْرِ مُتَضَمِّنًا إلْحَاقَ الضَّرَرِ بِالْمَحْجُورِ وَلَا تَعَلُّقَ لَهُ بِالْقَضَاءِ
وَمَنَعَهُ مِنْ الْبَيْعِ وَالتَّصَرُّفِ وَالْإِقْرَارِ حَتَّى لَا يُضِرَّ بِالْغُرَمَاءِ) لِأَنَّ الْحَجْرَ عَلَى السَّفِيهِ إنَّمَا جَوَّزَاهُ نَظَرًا لَهُ، وَفِي هَذَا الْحَجْرِ نَظَرٌ لِلْغُرَمَاءِ لِأَنَّهُ عَسَاهُ يُلْجِئُ مَالَهُ فَيَفُوتُ حَقُّهُمْ، وَمَعْنَى قَوْلِهِمَا وَمَنَعَهُ مِنْ الْبَيْعِ أَنْ يَكُونَ بِأَقَلَّ مِنْ ثَمَنِ الْمِثْلِ، أَمَّا الْبَيْعُ بِثَمَنِ الْمِثْلِ لَا يُبْطِلُ حَقَّ الْغُرَمَاءِ وَالْمَنْعُ لِحَقِّهِمْ فَلَا يُمْنَعُ مِنْهُ. قَالَ (وَبَاعَ مَالَهُ إنْ امْتَنَعَ الْمُفْلِسُ مِنْ بَيْعِهِ وَقَسَمَهُ بَيْنَ غُرَمَائِهِ بِالْحِصَصِ عِنْدَهُمَا) لِأَنَّ الْبَيْعَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ لِإِيفَاءِ دَيْنِهِ حَتَّى يُحْبَسَ لِأَجْلِهِ، فَإِذَا امْتَنَعَ نَابَ الْقَاضِي مَنَابَهُ كَمَا فِي الْجَبِّ وَالْعُنَّةِ. قُلْنَا: التَّلْجِئَةُ مَوْهُومَةٌ، وَالْمُسْتَحَقُّ قَضَاءُ الدَّيْنِ، وَالْبَيْعُ لَيْسَ بِطَرِيقٍ مُتَعَيِّنٍ لِذَلِكَ، بِخِلَافِ الْجَبِّ وَالْعُنَّةِ وَالْحَبْسُ لِقَضَاءِ الدَّيْنِ بِمَا يَخْتَارُهُ مِنْ الطَّرِيقِ، كَيْفَ وَلَوْ صَحَّ الْبَيْعُ كَانَ الْحَبْسُ إضْرَارًا بِهِمَا بِتَأْخِيرِ حَقِّ الدَّائِنِ وَتَعْذِيبِ الْمَدْيُونِ فَلَا يَكُونُ مَشْرُوعًا. قَالَ (وَإِنْ كَانَ دَيْنُهُ دَرَاهِمَ وَلَهُ دَرَاهِمُ قَضَى الْقَاضِي بِغَيْرِ أَمْرِهِ) وَهَذَا بِالْإِجْمَاعِ، لِأَنَّ لِلدَّائِنِ حَقَّ الْأَخْذِ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ فَلِلْقَاضِي أَنْ يُعِينَهُ (وَإِنْ كَانَ دَيْنُهُ دَرَاهِمَ وَلَهُ دَنَانِيرُ أَوْ عَلَى ضِدِّ ذَلِكَ بَاعَهَا الْقَاضِي فِي دَيْنِهِ)
بِالْإِفْلَاسِ اهـ.
فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذِكْرُ الْمُفْلِسِ فِي وَضْعِ الْمَسْأَلَةِ فِي الْكِتَابِ بِنَاءٌ عَلَى اخْتِيَارِ قَوْلِ مَنْ قَالَ مَسْأَلَةُ الْحَجْرِ بِسَبَبِ الدَّيْنِ بِنَاءً عَلَى مَسْأَلَةِ الْقَضَاءِ بِالْإِفْلَاسِ.
لِأَنَّا نَقُولُ: مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ فِي تَضَاعِيفِ بَيَانِ الْمَذْهَبَيْنِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَتَقْرِيرِ دَلِيلِهِمَا كَقَوْلِهِ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ: وَإِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ لَمْ يَتَصَرَّفْ فِيهِ الْحَاكِمُ لِأَنَّهُ نَوْعُ حَجْرٍ، وَقَوْلُهُ فِي مَذْهَبِهِمَا لِأَنَّهُ عَسَاهُ يُلْجِئُ مَالَهُ فَيَفُوتُ حَقُّهُمْ، وَقَوْلُهُ فِيهِ أَيْضًا: وَبَاعَ مَالَهُ إنْ امْتَنَعَ الْمُفْلِسُ مِنْ بَيْعِهِ وَقَسَمَهُ بَيْنَ غُرَمَائِهِ بِالْحِصَصِ يَدُلُّ قَطْعًا عَلَى أَنْ لَيْسَ مَدَارُ مَا فِي الْكِتَابِ عَلَى اخْتِيَارِ قَوْلِ مَنْ قَالَ مَسْأَلَةُ الْحَجْرِ بِنَاءٌ عَلَى مَسْأَلَةِ الْقَضَاءِ بِالْإِفْلَاسِ، إذْ الْقَضَاءُ بِالْإِفْلَاسِ لَا يُتَصَوَّرُ فِيمَا إذَا ظَهَرَ مَالُهُ، وَتِلْكَ الْأَقْوَالُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْكِتَابِ صَرِيحَةٌ فِي ظُهُورِ مَالِهِ، بَلْ مَدَارُ مَا فِي الْكِتَابِ عَلَى اخْتِيَارِ قَوْلِ مَنْ جَعَلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مَسْأَلَةً مُبْتَدَأَةً غَيْرَ مَبْنِيَّةٍ عَلَى مَسْأَلَةِ الْقَضَاءِ بِالْإِفْلَاسِ كَمَا لَا يَخْفَى.
فَالْجَوَابُ أَنْ يُقَالَ: لَيْسَ الْمُرَادُ بِالْمُفْلِسِ فِي قَوْلِهِ إذَا طَلَبَ غُرَمَاءُ الْمُفْلِسِ الْحَجْرَ عَلَيْهِ مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيَّ، بَلْ الْمُرَادُ بِهِ أَمَّا مَنْ يَدَّعِي الْإِفْلَاسَ فَيَتَنَاوَلُ الْغَنِيَّ أَيْضًا، إذْ الظَّاهِرُ أَنَّ الْمَدْيُونَ الَّذِي لَا يُؤَدِّي دَيْنَهُ يَدَّعِي الْإِفْلَاسَ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا فِي نَفْسِهِ، وَأَمَّا مَنْ حَالُهُ حَالُ الْمُفْلِسِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْغَنِيَّ الَّذِي لَا يُؤَدِّي دَيْنَهُ حَالُهُ فِي عَدَمِ أَدَاءِ الدَّيْنِ حَالُ الْمُفْلِسِ فَلَا يَلْزَمُ تَخْصِيصُ الْمَسْأَلَةِ بِمَا هُوَ مُفْلِسٌ حَقِيقَةً (قَوْلُهُ يَمْنَعُهُ مِنْ الْبَيْعِ وَالتَّصَرُّفِ وَالْإِقْرَارِ حَتَّى لَا يُضِرَّ بِالْغُرَمَاءِ) أَقُولُ: وَجْهُ ذِكْرِ التَّصَرُّفِ الْمُطْلَقِ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالْإِقْرَارِ مَعَ أَنَّهُمَا مِنْ جِنْسِ التَّصَرُّفِ أَيْضًا غَيْرُ وَاضِحٍ، وَالْعُهْدَةُ فِي ذَلِكَ عَلَى الْقُدُورِيِّ، لِأَنَّ هَذِهِ الْعِبَارَةَ عِبَارَةُ الْقُدُورِيِّ وَالْمُصَنِّفُ مُعَبِّرٌ عَنْهُ، وَلَكِنَّهُ لَوْ أَصْلَحَهَا
وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ اسْتِحْسَانٌ. وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَبِيعَهُ كَمَا فِي الْعُرُوضِ، وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ أَنْ يَأْخُذَهُ جَبْرًا. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُمَا مُتَّحِدَانِ فِي الثَّمَنِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ مُخْتَلِفَانِ فِي الصُّورَةِ، فَبِالنَّظَرِ إلَى الِاتِّحَادِ يَثْبُتُ لِلْقَاضِي وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ، وَبِالنَّظَرِ إلَى الِاخْتِلَافِ يُسْلَبُ عَنْ الدَّائِنِ وِلَايَةُ الْأَخْذِ عَمَلًا بِالشَّبَهَيْنِ، بِخِلَافِ الْعُرُوضِ لِأَنَّ الْغَرَضَ يَتَعَلَّقُ بِصُوَرِهَا وَأَعْيَانِهَا، أَمَّا النُّقُوذُ فَوَسَائِلُ فَافْتَرَقَا
(وَيُبَاعُ فِي الدَّيْنِ النُّقُودُ ثُمَّ الْعُرُوض ثُمَّ الْعَقَارُ يُبْدَأُ بِالْأَيْسَرِ فَالْأَيْسَرِ) لِمَا فِيهِ مِنْ الْمُسَارَعَةِ إلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ مَعَ مُرَاعَاةِ جَانِبِ الْمَدْيُونِ (وَيُتْرَكُ عَلَيْهِ دَسْتُ مِنْ ثِيَابِ بَدَنِهِ وَيُبَاعُ الْبَاقِي) لِأَنَّ بِهِ كِفَايَةً وَقِيلَ دَسْتَانِ وَهُوَ اخْتِيَارُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيِّ، لِأَنَّهُ إذَا غَسَلَ ثِيَابَهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مَلْبَسٍ.
قَالَ (فَإِنْ أَقَرَّ فِي حَالِ الْحَجْرِ بِإِقْرَارٍ لَزِمَهُ ذَلِكَ بَعْدَ قَضَاءِ الدُّيُونِ)، لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهَذَا الْمَالِ حَقُّ الْأَوَّلِينَ فَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إبْطَالِ حَقِّهِمْ بِالْإِقْرَارِ لِغَيْرِهِمْ، بِخِلَافِ الِاسْتِهْلَاكِ لِأَنَّهُ مُشَاهَدٌ لَا مَرَدَّ لَهُ (وَلَوْ اسْتَفَادَ مَالًا آخَرَ بَعْدَ الْحَجْرِ نَفَذَ إقْرَارُهُ فِيهِ) لِأَنَّ حَقَّهُمْ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ لِعَدَمِهِ وَقْتَ الْحَجْرِ.
قَالَ (وَيُنْفَقُ عَلَى الْمُفْلِسِ مِنْ مَالِهِ وَعَلَى زَوْجَتِهِ وَوَلَدِهِ الصِّغَارِ وَذَوِي أَرْحَامِهِ مِمَّنْ يَجِبُ نَفَقَتُهُ عَلَيْهِ) لِأَنَّ حَاجَتَهُ الْأَصْلِيَّةَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى حَقِّ الْغُرَمَاءِ، وَلِأَنَّهُ حَقٌّ ثَابِتٌ لِغَيْرِهِ فَلَا
بِتَصَرُّفٍ لَكَانَ أَصْلَحَ كَمَا لَا يَخْفَى (قَوْلُهُ وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ اسْتِحْسَانًا) قَالَ كَثِيرٌ مِنْ الشُّرَّاحِ: إنَّمَا خَصَّ أَبَا حَنِيفَةَ بِالذِّكْرِ وَإِنْ كَانَ هَذَا بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ تَرِدُ عَلَى قَوْلِهِ لِأَنَّهُ كَانَ لَا يُجَوِّزُ بَيْعَ الْقَاضِي عَلَى الْمَدْيُونِ فِي الْعُرُوضِ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ فِي النَّقْدَيْنِ أَيْضًا لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ الْبَيْعِ وَهُوَ بَيْعُ الصَّرْفِ اهـ.
أَقُولُ: مَا ذَكَرُوهُ إنَّمَا يَتِمُّ أَنْ لَوْ كَانَ عِبَارَةُ الْمُصَنِّفِ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بِدُونِ ذِكْرِ قَوْلِهِ اسْتِحْسَانًا، وَأَمَّا عِنْدَ ذِكْرِ قَيْدِ الِاسْتِحْسَانِ كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ فَقَدْ كَانَ ذَلِكَ مَخْصُوصًا بِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله فِي الْحَقِيقَةِ، فَإِنَّ كَوْنَ جَوَازِ بَيْعِ النَّقْدَيْنِ بِطَرِيقِ الِاسْتِحْسَانِ دُونَ الْقِيَاسِ إنَّمَا هُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فَقَطْ، وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَيَجُوزُ بَيْعُ النَّقْدَيْنِ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ فَلَا احْتِيَاجَ إلَى الِاعْتِذَارِ تَدَبَّرْ
(قَوْلُهُ بِخِلَافِ الِاسْتِهْلَاكِ) قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الشُّرَّاحِ: قَوْلُهُ بِخِلَافِ الِاسْتِهْلَاكِ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ لَزِمَهُ ذَلِكَ بَعْدَ قَضَاءِ الدُّيُونِ: يَعْنِي أَنَّهُ إذَا اسْتَهْلَكَ مَالَ الْغَيْرِ فِي حَالَةِ الْحَجْرِ يُؤَاخَذُ بِضَمَانِهِ قَبْلَ قَضَاءِ الدُّيُونِ فَكَانَ التَّلَفُ عَلَيْهِ أُسْوَةً لِسَائِرِ الْغُرَمَاءِ اهـ كَلَامُهُ.
أَقُولُ: فِي تَفْسِيرِهِمْ نَوْعُ خَلَلٍ، إذْ فِي صُورَةِ اسْتِهْلَاكِ مَالِ الْغَيْرِ لَيْسَتْ الْمُؤَاخَذَةُ بِضَمَانِهِ مُتَقَدِّمَةً عَلَى قَضَاءِ الدُّيُونِ كَمَا يُوهِمُهُ قَوْلُهُمْ يُؤَاخَذُ بِضَمَانِهِ قَبْلَ قَضَاءِ الدُّيُونِ، بَلْ الْمُؤَاخَذَةُ بِذَلِكَ مَعَ قَضَاءِ الدُّيُونِ بِمَرْتَبَةٍ وَاحِدَةٍ. نَعَمْ قَوْلُهُمْ فَكَانَ التَّلَفُ عَلَيْهِ أُسْوَةً لِسَائِرِ الْغُرَمَاءِ صَرِيحٌ فِي كَوْنِ الْمَجْمُوعِ بِمَرْتَبَةٍ وَاحِدَةٍ، لَكِنَّ الْكَلَامَ فِي اسْتِدْرَاكِ أَوَّلِ كَلَامِهِمْ بَلْ اخْتِلَالِهِ، فَالْأَظْهَرُ الْأَخْصَرُ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ حَيْثُ قَالَ فِي شَرْحِ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ بِخِلَافِ الِاسْتِهْلَاكِ حَيْثُ يَصِيرُ الْمُتْلَفُ عَلَيْهِ أُسْوَةً لِلْغُرَمَاءِ بِلَا خِلَافٍ اهـ.
وَمَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ حَيْثُ قَالَ فِي شَرْحِ ذَلِكَ: حَيْثُ يَلْزَمُهُ ضَمَانُهُ فِي الْحَالِ وَيَكُونُ الْمُتْلَفُ عَلَيْهِ أُسْوَةً لِسَائِرِ الْغُرَمَاءِ اهـ
(قَوْلُهُ وَيُنْفَقُ عَلَى الْمُفْلِسِ مِنْ مَالِهِ وَعَلَى زَوْجَتِهِ وَوَلَدِهِ الصِّغَارِ) أَقُولُ: لَيْسَ الْمُفْلِسُ هَاهُنَا عَلَى مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ كَمَا مَرَّ نَظِيرُهُ، بَلْ عَدَمُ إرَادَةِ الْحَقِيقَةِ هَاهُنَا أَظْهَرُ
يُبْطِلُهُ الْحَجْرُ، وَلِهَذَا لَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً كَانَتْ فِي مِقْدَارِ مَهْرِ مِثْلِهَا أُسْوَةً لِلْغُرَمَاءِ.
قَالَ (فَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ لِلْمُفْلِسِ مَالٌ وَطَلَبَ غُرَمَاؤُهُ حَبْسَهُ وَهُوَ يَقُولُ لَا مَالَ لِي حَبَسَهُ الْحَاكِمُ فِي كُلِّ دَيْنٍ الْتَزَمَهُ بِعَقْدٍ كَالْمَهْرِ وَالْكَفَالَةِ) وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذَا الْفَصْلَ بِوُجُوهِهِ فِي كِتَابِ أَدَبِ الْقَاضِي مِنْ هَذَا الْكِتَابِ فَلَا نُعِيدُهَا.
إلَى أَنْ قَالَ: وَكَذَلِكَ إنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ لَا مَالَ لَهُ: يَعْنِي خَلَّى سَبِيلَهُ لِوُجُوبِ النَّظِرَةِ إلَى الْمَيْسَرَةِ، وَلَوْ مَرِضَ فِي الْحَبْسِ يَبْقَى فِيهِ إنْ كَانَ لَهُ خَادِمٌ يَقُومُ بِمُعَالَجَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَخْرَجَهُ تَحَرُّزًا عَنْ هَلَاكِهِ، وَالْمُحْتَرِفُ فِيهِ لَا يُمَكَّنُ مِنْ الِاشْتِغَالِ بِعَمَلِهِ هُوَ الصَّحِيحُ لِيَضْجَرَ قَلْبُهُ فَيَنْبَعِثَ عَلَى قَضَاءِ دَيْنِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ لَهُ جَارِيَةٌ وَفِيهِ مَوْضِعٌ يُمْكِنُهُ فِيهِ وَطْؤُهَا لَا يُمْنَعُ عَنْهُ لِأَنَّهُ قَضَاءُ إحْدَى الشَّهْوَتَيْنِ فَيُعْتَبَرُ بِقَضَاءِ الْأُخْرَى. قَالَ (وَلَا يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غُرَمَائِهِ بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنْ الْحَبْسِ يُلَازِمُونَهُ وَلَا يَمْنَعُونَهُ مِنْ التَّصَرُّفِ وَالسَّفَرِ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لِصَاحِبِ الْحَقِّ يَدٌ وَلِسَانٌ» أَرَادَ بِالْيَدِ الْمُلَازَمَةَ وَبِاللِّسَانِ التَّقَاضِيَ. قَالَ (وَيَأْخُذُونَ فَضْلَ كَسْبِهِ يُقْسَمُ بَيْنَهُمْ بِالْحِصَصِ) لِاسْتِوَاءِ حُقُوقِهِمْ فِي الْقُوَّةِ (وَقَالَا: إذَا فَلَّسَهُ
لِأَنَّ قَوْلَهُ مِنْ مَالِهِ يَأْبَى إرَادَتَهَا قَطْعًا، وَعَنْ هَذَا وَقَعَ فِي الْكَافِي وَغَيْرِهِ بَدَلُ الْمُفْلِسِ الْمَدْيُونُ، فَالْمُرَادُ بِلَفْظِ الْمُفْلِسِ فِي عِبَارَةِ الْكِتَابِ الْمَعْنَى الْمَجَازِيُّ عَلَى أَحَدِ التَّوَجُّهَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْتُهُمَا فِيمَا مَرَّ مِنْ قَبْلُ فَتَذَكَّرْ
لَمْ يُعْرَفْ لِلْمُفْلِسِ مَالٌ وَطَلَبَ غُرَمَاؤُهُ حَبْسَهُ وَهُوَ يَقُولُ لَا مَالَ لِي (قَوْلُهُ قَالَ فَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ لِلْمُفْلِسِ مَالٌ وَطَلَبَ غُرَمَاؤُهُ حَبْسَهُ وَهُوَ يَقُولُ لَا مَالَ لِي حَبَسَهُ الْحَاكِمُ فِي كُلِّ دَيْنٍ الْتَزَمَهُ بِعَقْدٍ كَالْمَهْرِ وَالْكَفَالَةِ) أَقُولُ: كَانَ لَفْظُ مُخْتَصَرِ الْقُدُورِيِّ وَالْبِدَايَةِ هَاهُنَا هَكَذَا: وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ لِلْمُفْلِسِ مَالٌ وَطَلَبَ غُرَمَاؤُهُ حَبْسَهُ وَهُوَ يَقُولُ لَا مَالَ لِي حَبَسَهُ الْحَاكِمُ فِي كُلِّ دَيْنٍ لَزِمَهُ بَدَلًا عَنْ مَالٍ حَصَلَ فِي يَدِهِ كَثَمَنِ الْمَبِيعِ وَبَدَلِ الْقَرْضِ وَفِي كُلِّ دَيْنٍ الْتَزَمَهُ بِعَقْدٍ كَالْمَهْرِ وَالْكَفَالَةِ اهـ.
وَقَدْ تَرَكَ الْمُصَنِّفُ فِي النَّقْلِ بَعْضَ ذَلِكَ مِنْ الْبَيْنِ كَمَا تَرَى، وَلَمْ يَظْهَرْ لِي وَجْهٌ لِذَلِكَ سِوَى الْحَمْلِ عَلَى النِّسْيَانِ مِنْ الْمُصَنِّفِ عِنْدَ كَتْبِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي الْهِدَايَةِ لِأَمْرٍ يَعْتَرِي الْإِنْسَانَ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ عَلَى مُقْتَضَى الْبَشَرِيَّةِ
(قَوْلُهُ إلَى أَنْ قَالَ: وَكَذَلِكَ إنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ لَا مَالَ لَهُ) قَوْلُهُ إلَى أَنْ قَالَ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ قَالَ، فَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ لِلْمُفْلِسِ مَالٌ: يَعْنِي قَالَ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ: فَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ لِلْمُفْلِسِ مَالٌ، إلَى أَنْ قَالَ: وَكَذَلِكَ إنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ لَا مَالَ لَهُ.
وَقَوْلُهُ يَعْنِي خَلَّى سَبِيلَهُ تَفْسِيرٌ مِنْ الْمُصَنِّفِ لِمُرَادِ الْقُدُورِيِّ بِقَوْلِهِ وَكَذَلِكَ إنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ لَا مَالَ لَهُ. وَقَوْلُهُ لِوُجُوبِ النَّظِرَةِ إلَى الْمَيْسَرَةِ تَعْلِيلٌ لِذَلِكَ.
وَأَقُولُ: كَانَ الْأَوْلَى وَالْأَظْهَرُ أَنْ يُقَدِّمَ الْمُصَنِّفُ قَوْلَهُ إلَى أَنْ قَالَ عَلَى قَوْلِهِ وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذَا الْفَصْلَ بِوُجُوهِهِ فِي كِتَابِ أَدَبِ الْقَاضِي لِئَلَّا يَعْتَرِضَ كَلَامُ نَفْسِهِ أَثْنَاءَ نَقْلِ كَلَامِ الْقُدُورِيِّ فَيُوَرِّثُ التَّشْوِيشَ لِلنَّاظِرِ فِي تَعَلُّقِ قَوْلِهِ إلَى أَنْ قَالَ بِقَوْلِهِ قَالَ فَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ لِلْمُفْلِسِ مَالٌ أَوْ أَنْ يَتْرُكَ قَوْلَهُ إلَى أَنْ قَالَ وَيَقُولُ قَالَ وَكَذَلِكَ إنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ لَا مَالَ لَهُ كَمَا هُوَ عَادَتُهُ فِي سَائِرِ الْمَوَاضِعِ حَتَّى يَكُونَ كَلَامًا مُسْتَقِلًّا كَنَظَائِرِهِ وَلَا يَكُونُ قَلِقًا كَمَا ذَكَرَهُ تَبَصَّرْ تَفْهَمْ (قَوْلُهُ وَيَأْخُذُونَ فَضْلَ كَسْبِهِ يُقْسَمُ بَيْنَهُمْ بِالْحِصَصِ لِاسْتِوَاءِ حُقُوقِهِمْ فِي الْقُوَّةِ) أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَذَا
الْحَاكِمُ حَالَ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ وَبَيْنَهُ إلَّا أَنْ يُقِيمُوا الْبَيِّنَةَ أَنَّ لَهُ مَالًا) لِأَنَّ الْقَضَاءَ بِالْإِفْلَاسِ عِنْدَهُمَا يَصِحُّ فَتَثْبُتُ الْعُسْرَةُ وَيَسْتَحِقُّ النَّظِرَةَ إلَى الْمَيْسَرَةِ. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله: لَا يَتَحَقَّقُ الْقَضَاءُ بِالْإِفْلَاسِ، لِأَنَّ مَالَ اللَّهِ تَعَالَى غَادٍ وَرَائِحٌ، وَلِأَنَّ وُقُوفَ الشُّهُودِ عَلَى عَدَمِ الْمَالِ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا ظَاهِرًا فَيَصْلُحُ لِلدَّفْعِ لَا لِإِبْطَالِ حَقِّ الْمُلَازَمَةِ. وَقَوْلُهُ إلَّا أَنْ يُقِيمُوا الْبَيِّنَةَ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ بَيِّنَةَ الْيَسَارِ تَتَرَجَّحُ عَلَى بَيِّنَةِ الْإِعْسَارِ لِأَنَّهَا أَكْثَرُ إثْبَاتًا، إذْ الْأَصْلُ هُوَ الْعُسْرَةُ. وَقَوْلُهُ فِي الْمُلَازَمَةِ لَا يَمْنَعُونَهُ مِنْ التَّصَرُّفِ وَالسَّفَرِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَدُورُ مَعَهُ أَيْنَمَا دَارَ وَلَا يُجْلِسُهُ فِي مَوْضِعٍ لِأَنَّهُ حَبْسٌ (وَلَوْ دَخَلَ دَارِهِ لِحَاجَتِهِ لَا يَتْبَعُهُ بَلْ يَجْلِسُ عَلَى بَابِ دَارِهِ إلَى أَنْ يَخْرُجَ) لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَوْضِعُ خَلْوَةٍ، وَلَوْ اخْتَارَ الْمَطْلُوبُ الْحَبْسَ وَالطَّالِبُ الْمُلَازَمَةَ فَالْخِيَارُ إلَى الطَّالِبِ لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي حُصُولِ الْمَقْصُودِ لِاخْتِيَارِهِ الْأَضْيَقَ عَلَيْهِ، إلَّا إذَا عَلِمَ الْقَاضِي أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهِ بِالْمُلَازَمَةِ ضَرَرٌ بَيِّنٌ بِأَنْ لَا يُمَكِّنَهُ مِنْ دُخُولِهِ دَارِهِ فَحِينَئِذٍ يَحْبِسُهُ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ
(وَلَوْ كَانَ الدَّيْنُ لِلرَّجُلِ عَلَى الْمَرْأَةِ لَا يُلَازِمُهَا) لِمَا فِيهَا مِنْ الْخَلْوَةِ بِالْأَجْنَبِيَّةِ وَلَكِنْ يَبْعَثُ امْرَأَةً أَمِينَةً تُلَازِمُهَا.
قَالَ (وَمَنْ أَفْلَسَ وَعِنْدَهُ مَتَاعٌ لِرَجُلٍ بِعَيْنِهِ ابْتَاعَهُ مِنْهُ فَصَاحِبُ الْمَتَاعِ أُسْوَةٌ لِلْغُرَمَاءِ فِيهِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: يَحْجُرُ الْقَاضِي عَلَى الْمُشْتَرِي بِطَلَبِهِ
التَّعْلِيلُ قَاصِرٌ عَنْ إفَادَةِ تَمَامِ الْمُدَّعَى، لِأَنَّ اسْتِوَاءَ حُقُوقِهِمْ فِي الْقُوَّةِ إنَّمَا يُفِيدُ عَدَمَ جَوَازِ تَقْدِيمِ بَعْضِهِمْ عَلَى الْبَعْضِ الْآخَرِ فَيَسْتَدْعِي وُجُوبَ الْقِسْمَةِ بَيْنَهُمْ وَلَا يُفِيدُ أَنْ تَكُونَ الْقِسْمَةُ بَيْنَهُمْ بِالْحِصَصِ: أَيْ بِقَدْرِ حِصَّةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِنْ الدَّيْنِ، بَلْ يُوهِمُ لُزُومَ
ثُمَّ لِلْبَائِعِ خِيَارُ الْفَسْخِ لِأَنَّهُ عَجَزَ الْمُشْتَرِي عَنْ إيفَاءِ الثَّمَنِ فَيُوجِبُ ذَلِكَ حَقَّ الْفَسْخِ كَعَجْزِ الْبَائِعِ عَنْ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ وَهَذَا لِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ، وَمِنْ قَضِيَّتِهِ الْمُسَاوَاةُ وَصَارَ كَالسَّلَمِ. وَلَنَا أَنَّ الْإِفْلَاسَ يُوجِبُ الْعَجْزَ عَنْ تَسْلِيمِ الْعَيْنِ وَهُوَ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ بِالْعَقْدِ فَلَا يَثْبُتُ حَقُّ الْفَسْخِ بِاعْتِبَارِهِ وَإِنَّمَا الْمُسْتَحَقُّ وَصْفٌ فِي الذِّمَّةِ: أَعْنِي الدَّيْنَ، وَبِقَبْضِ الْعَيْنِ تَتَحَقَّقُ بَيْنَهُمَا مُبَادَلَةٌ، هَذَا هُوَ الْحَقِيقَةُ فَيَجِبُ اعْتِبَارُهَا، إلَّا فِي مَوْضِعِ التَّعَذُّرِ كَالسَّلَمِ لِأَنَّ الِاسْتِبْدَالَ مُمْتَنِعٌ فَأَعْطَى لِلْعَيْنِ حُكْمَ الدَّيْنِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الِاسْتِوَاءِ فِيمَا أَخَذُوهُ، وَتَمَامُ الْمُدَّعَى هَاهُنَا وُجُوبُ الْقِسْمَةِ بَيْنَهُمْ بِالْحِصَصِ لَا مُجَرَّدُ وُجُوبِ الْقِسْمَةِ بَيْنَهُمْ فَلْيُتَأَمَّلْ
(قَوْلُهُ لِأَنَّهُ عَجَزَ الْمُشْتَرِي عَنْ إيفَاءِ الثَّمَنِ فَيُوجِبُ ذَلِكَ حَقَّ الْفَسْخِ كَعَجْزِ الْبَائِعِ عَنْ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ وَمِنْ قَضِيَّتِهِ الْمُسَاوَاةُ)
كِتَابُ الْمَأْذُونِ
الْإِذْنُ: الْإِعْلَامُ لُغَةً
قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي تَقْرِيرِ هَذَا الْمَحَلِّ: لِأَنَّهُ عَجَزَ الْمُشْتَرِي عَنْ إيفَاءِ الثَّمَنِ، وَالْعَجْزُ عَنْ إيفَاءِ الثَّمَنِ يُوجِبُ حَقَّ الْفَسْخِ قِيَاسًا عَلَى الْعَجْزِ عَنْ إيفَاءِ الْمَبِيعِ، وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ، وَمِنْ قَضِيَّتِهِ الْمُسَاوَاةُ اهـ.
وَرَدَّ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ قَوْلَهُ: وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ، حَيْثُ قَالَ: فِيهِ بَحْثٌ، بَلْ الْعِلَّةُ الْجَامِعَةُ هِيَ الْعَجْزُ عَنْ التَّسْلِيمِ، وَقَوْلُهُ: وَهَذَا لِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ. . . إلَخْ
لِبَيَانِ صِحَّةِ الْقِيَاسِ، فَلْيُتَأَمَّلْ اهـ. أَقُولُ: لَيْسَ ذَاكَ بِسَدِيدٍ، لِأَنَّ مُجَرَّدَ الْعَجْزِ عَنْ التَّسْلِيمِ لَا يَكَادُ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً جَامِعَةً فِي صِحَّةِ جَامِعَةً فِي صِحَّةِ الْقِيَاسِ هَا هُنَا بِدُونِ مُلَاحَظَةِ كَوْنِ الْعَقْدِ عَقْدَ مُعَاوَضَةٍ، وَإِلَّا لَزِمَ أَنْ يُوجِبَ الْعَجْزُ عَنْ التَّسْلِيمِ حَقَّ الْفَسْخِ فِي غَيْرِ عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ أَيْضَا، وَلَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ، فَالْمَدَارُ فِي تَحَقُّقِ الْعِلَّةِ الْجَامِعَةِ هَا هُنَا كَوْنُ الْبَيْعِ عَقْدَ مُعَاوَضَةٍ، وَهُوَ الْوَجْهُ لِبَيَانِ الْمُصَنِّفِ صِحَّةَ الْقِيَاسِ هَا هُنَا بِقَوْلِهِ: وَهَذَا لِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ.
وَمِنْ قَضِيَّتِهِ الْمُسَاوَاةُ وَالْقَوْلُ بِأَنَّ الْجَامِعَ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ وَمِنْ قَضِيَّتِهِ الْمُسَاوَاة لَيْسَ مِمَّا تَفَرَّدَ بِهِ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ، بَلْ أَطْبَقَتْ عَلَى التَّصْرِيحِ بِهِ كَلِمَةُ الثِّقَاتِ هَا هُنَا كَصَاحِبِ الْكَافِي وَصَاحِبِ مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ وَالْإِمَامِ الزَّيْلَعِيُّ وَغَيْرِهِمْ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(كِتَابُ الْمَأْذُونِ)
إيرَادُ كِتَابِ الْمَأْذُونِ بَعْدَ كِتَابِ الْحَجْرِ ظَاهِرُ الْمُنَاسَبَةِ، إذْ الْإِذْنُ يَقْتَضِي سَبْقَ الْحَجْرِ، فَلَمَّا تَرَتَّبَا وُجُودًا تَرَتَّبَا أَيْضًا ذِكْرًا وَمَا لِلتَّنَاسُبِ (قَوْلُهُ الْإِذْنُ الْإِعْلَامُ لُغَةً) أَقُولُ: لَمْ أَرَ قَطُّ فِي كُتُبِ اللُّغَةِ الْمُتَدَاوَلَةِ بَيْنَ الثِّقَاتِ مَجِيءَ الْإِذْنِ بِمَعْنَى الْإِعْلَامِ، وَإِنَّمَا الْمَذْكُورُ فِيهَا كَوْنُ الْأَذَانِ بِمَعْنَى الْإِعْلَامِ، فَقَوْلُهُ الْإِذْنُ الْإِعْلَامُ لُغَةً مَحَلُّ نَظَرٍ يَظْهَرُ ذَلِكَ لِمَنْ يُرَاجِعُ كُتُبَ اللُّغَةِ.
نَعَمْ قَدْ وَقَعَ فِي كَلَامِ كَثِيرٍ مِنْ الْمَشَايِخِ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ تَفْسِيرُ مَعْنَى الْإِذْنِ لُغَةً بِالْإِعْلَامِ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، وَلَعَلَّهُمْ تَسَامَحُوا فِي التَّفْسِيرِ فَعَبَّرُوا عَنْ مَعْنَى الْإِذْنِ مِنْ أَذِنَ لَهُ فِي الشَّيْءِ إذْنًا: أَيْ أَبَاحَهُ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْقَامُوسُ بِمَا يُلَازِمُهُ عَادَةً مِنْ الْإِعْلَامِ، وَلَا يَخْلُو عَنْ نَوْعِ الْإِيمَاءِ إلَيْهِ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ حَيْثُ قَالَ هَاهُنَا: يُحْتَاجُ إلَى بَيَانِ الْإِذْنِ لُغَةً وَشَرْعًا، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا لُغَةً فَالْإِذْنُ فِي الشَّيْءِ رَفْعُ الْمَانِعِ لِمَنْ هُوَ مَحْجُورٌ عَنْهُ وَإِعْلَامٌ بِإِطْلَاقِهِ فِيمَا حُجِرَ عَنْهُ مِنْ أَذِنَ لَهُ فِي الشَّيْءِ إذْنًا اهـ. ثُمَّ إنَّ مِنْ الْمُسْتَبْعَدِ هَاهُنَا مَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ الزَّيْلَعِيُّ حَيْثُ قَالَ فِي التَّبْيِينِ: وَالْإِذْنُ فِي اللُّغَةِ الْإِعْلَامُ، وَمِنْهُ الْأَذَانُ وَهُوَ الْإِعْلَامُ بِدُخُولِ الْوَقْتِ اهـ.
وَكَذَا مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْبَدَائِعِ حَيْثُ قَالَ فِي فَصْلِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ مِنْ كِتَابِ الْمَأْذُونِ: لِأَنَّ الْإِذْنَ هُوَ الْإِعْلَامُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} أَيْ إعْلَامٌ اهـ. فَإِنَّ مَدَارَ مَا ذَكَرَهُ اتِّحَادُ الْإِذْنِ وَالْأَذَانِ حَيْثُ اسْتَشْهَدَا بِمَعْنَى أَحَدِهِمَا عَلَى مَعْنًى آخَرَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ قَطْعًا، وَالْأَظْهَرُ فِي تَفْسِيرِ مَعْنَى الْإِذْنِ لُغَةً مَا ذَكَرَهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ خُوَاهَرْ زَادَهُ فِي مَبْسُوطِهِ حَيْثُ قَالَ: أَمَّا الْإِذْنُ فَهُوَ الْإِطْلَاقُ
وَفِي الشَّرْعِ: فَكُّ الْحَجْرِ وَإِسْقَاطُ الْحَقِّ عِنْدَنَا،
لُغَةً؛ لِأَنَّهُ ضِدُّ الْحَجْرِ وَهُوَ الْمَنْعُ فَكَانَ إطْلَاقًا عَنْ شَيْءٍ أَيَّ شَيْءٍ كَانَ اهـ.
(قَوْلُهُ وَفِي الشَّرْعِ فَكُّ الْحَجْرِ وَإِسْقَاطُ الْحَقِّ عِنْدنَا)
قَالَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ: يَعْنِي أَنَّ الْعَبْدَ كَانَ مَحْجُورًا عَنْ التَّصَرُّفِ لِحَقِّ الْمَوْلَى، فَإِذَا أَذِنَ لَهُ الْمَوْلَى أَسْقَطَ حَقَّ نَفْسِهِ اهـ. وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ: أَيْ إذْنُ الْمَوْلَى لِعَبْدِهِ فِي التِّجَارَةِ إسْقَاطٌ لِحَقِّ نَفْسِهِ الَّذِي كَانَ الْعَبْدُ لِأَجَلِهِ مَحْجُورًا عَنْ التَّصَرُّفِ فِي مَالِ الْمَوْلَى قَبْلَ إذْنِهِ، وَبِالْإِذْنِ أَسْقَطَ حَقَّ نَفْسِهِ عِنْدَهُ اهـ. وَقَالَ فِي الْعِنَايَةِ: فَإِنَّ الْمَوْلَى إذَا أَذِنَ لِعَبْدِهِ فِي التِّجَارَةِ أَسْقَطَ حَقَّ نَفْسِهِ الَّذِي كَانَ الْعَبْدُ لِأَجَلِهِ مَحْجُورًا عَنْ التَّصَرُّفِ فِي مَالِ الْمَوْلَى قَبْلَ إذْنِهِ اهـ.
وَقَالَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ: لِأَنَّهُ كَانَ لِلْمَوْلَى حَقٌّ فِي رَقَبَةِ الْعَبْدِ فَقَبْلَ الْإِذْنِ لَا تَتَعَلَّقُ الدُّيُونُ بِرَقَبَتِهِ وَلَا بِكَسْبِهِ، وَبَعْدَ الْإِذْنِ يَسْقُطُ هَذَا الْحَقُّ وَتَتَعَلَّقُ الدُّيُونُ بِهَا اهـ. وَقَالَ فِي الْكِفَايَةِ: وَفِي الشَّرْعِ فَكُّ الْحَجْرِ وَإِسْقَاطُ الْحَقِّ وَهُوَ حَقُّ الْمَوْلَى مَالِيَّةَ الْكَسْبِ وَالرَّقَبَةِ فَإِنَّهُ يَمْنَعُ تَعَلُّقَ حَقِّ الْغَيْرِ بِهَا صَوْنًا لِحَقِّ الْمَوْلَى، وَإِنَّهُ بِالْإِذْنِ أَسْقَطَ حَقَّهُ اهـ. فَتَلَخَّصَ مِنْ الْمَجْمُوعِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَقِّ هَاهُنَا حَقُّ الْمَوْلَى، وَقَدْ أَفْصَحَ عَنْهُ الْمُصَنِّفُ فِيمَا بَعْدُ حَيْثُ قَالَ: وَانْحِجَارُهُ عَنْ التَّصَرُّفِ لِحَقِّ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ مَا عَهِدَ تَصَرُّفَهُ إلَّا مُوجِبًا تَعَلُّقَ الدَّيْنِ بِرَقَبَتِهِ وَبِكَسْبِهِ وَذَلِكَ مَالٌ فَلَا بُدَّ مِنْ إذْنِهِ كَيْ لَا يَبْطُلَ حَقُّهُ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ اهـ. قَالَ صَاحِبُ الْإِصْلَاحِ وَالْإِيضَاحِ: الْمُرَادُ بِالْحَقِّ هَاهُنَا حَقُّ الْمَنْعِ لَا حَقُّ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ مَعَ اخْتِصَاصِهِ بِإِذْنِ الْعَبْدِ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمَوْلَى لَا يَسْقُطُ بِالْإِذْنِ وَلِذَلِكَ يَأْخُذُ مِنْ كَسْبِهِ جَبْرًا عَلَى مَا سَيَأْتِي، وَالْمُسْقِطُ هُوَ الْمَوْلَى إنْ كَانَ الْمَأْذُونُ رَقِيقًا وَالْوَلِيُّ إنْ كَانَ صَبِيًّا اهـ كَلَامَهُ. أَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ كَوْنَ الْمُرَادِ بِالْحَقِّ هَاهُنَا حَقُّ الْمَنْعِ لَا يُنَافِي كَوْنَهُ حَقُّ الْمَوْلَى، بَلْ يَقْتَضِيهِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمَنْعِ الْمُتَعَلِّقِ بِالْعَبْدِ هُوَ حَقُّ الْمَوْلَى لَا حَقُّ غَيْرِهِ: فَإِنَّ مَعْنَى حَقِّ الْمَنْعِ حَقٌّ هُوَ مَنْعٌ عَنْ التَّصَرُّفِ عَلَى أَنْ تَكُونَ الْإِضَافَةُ بَيَانِيَّةً، وَمَعْنَى حَقُّ الْمَوْلَى حَقٌّ هُوَ لِلْمَوْلَى، عَلَى أَنْ تَكُونَ الْإِضَافَةُ بِمَعْنَى اللَّامِ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْحَقَّ الَّذِي هُوَ مَنْعُ الْعَبْدِ عَنْ التَّصَرُّفِ إنَّمَا يَكُونُ لِلْمَوْلَى لَا لِغَيْرِهِ فَكَانَ حَقًّا لَهُ قَطْعًا.
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ بِهِ بِقَوْلِهِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمَوْلَى لَا يَسْقُطُ بِالْإِذْنِ أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ بِهِ أَصْلًا فَمَمْنُوعٌ، كَيْفَ وَسَيَأْتِي أَنَّهُ إذَا لَزِمَتْهُ دُيُونٌ تُحِيطُ بِكَسْبِهِ وَرَقَبَتِهِ تَعَلَّقَتْ بِكَسْبِهِ وَرَقَبَتِهِ جَمِيعًا فَيُبَاعُ كُلُّ ذَلِكَ لِلْغُرَمَاءِ فَيَسْقُطُ حَقُّ الْمَوْلَى فِي كَسْبِهِ وَرَقَبَتِهِ جَمِيعًا لَا مَحَالَةَ، وَإِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ بِهِ فِي الْجُمْلَةِ كَمَا إذَا لَمْ تُحِطْ بِهِمَا دُيُونٌ فَمُسَلَّمٌ، لَكِنْ لَا يُجْدِي نَفْعًا إذْ لَيْسَ الْمُرَادُ بِإِسْقَاطِ الْحَقِّ فِي مَعْنَى الْإِذْنِ شَرْعًا إسْقَاطُهُ بِالْكُلِّيَّةِ أَلْبَتَّةَ، بَلْ الْمُرَادُ بِهِ إسْقَاطُهُ فِي الْجُمْلَةِ، وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ فِي صُورَةِ إحَاطَةِ الدَّيْنِ بَلْ فِي صُورَةِ عَدَمِ إحَاطَتِهِ أَيْضًا بِالنَّظَرِ إلَى الْبَعْضِ السَّاقِطِ بِمِقْدَارِ الدَّيْنِ كَمَا لَا يَخْفَى، أَمَّا اخْتِصَاصُ حَقِّ الْمَوْلَى بِإِذْنِ الْعَبْدِ فَلَا يَضُرُّ إذْ الْمَقْصُودُ بِالذَّاتِ فِي كِتَابِ الْمَأْذُونِ بَيَانُ إذْنِ الْعَبْدِ، وَإِنَّمَا يَبِينُ فِيهِ إذْنُ الصَّبِيِّ أَيْضًا عَلَى سَبِيلِ التَّبَعِيَّةِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَدَارُ مَا ذَكَرَهُ فِي تَفْسِيرِ الْإِذْنِ فِي الشَّرْعِ عَلَى مَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالذَّاتِ فِي كِتَابِ الْمَأْذُونِ.
ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ النِّهَايَةِ قَالَ: وَأَمَّا حُكْمُهُ فَمَا هُوَ التَّفْسِيرُ الشَّرْعِيُّ وَهُوَ فَكُّ الْحَجْرِ الثَّابِتِ بِالرِّقِّ شَرْعًا عَمَّا يَتَنَاوَلُهُ الْإِذْنُ لَا الْإِنَابَةِ وَالتَّوْكِيلِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الشَّيْءِ مَا يَثْبُتُ بِهِ، وَالثَّابِتُ بِالْإِذْنِ فِي التِّجَارَةِ فَكُّ الْحَجْرِ عَنْ التِّجَارَةِ. وَقَالَ: هَذَا مَا ذَكَرَهُ فِي الْمَبْسُوطِ وَالْإِيضَاحِ وَالذَّخِيرَةِ وَالْمُغْنِي وَغَيْرِهَا اهـ. وَقَدْ اقْتَفَى أَثَرَهُ الْإِمَامُ الزَّيْلَعِيُّ حَيْثُ قَالَ فِي التَّبْيِينِ: وَحُكْمُهُ هُوَ التَّفْسِيرُ الشَّرْعِيُّ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ فَكِّ الْحَجْرِ اهـ. أَقُولُ: كَوْنُ حُكْمِ الْإِذْنِ مَا هُوَ تَفْسِيرُهُ الشَّرْعِيُّ غَيْرُ مَعْقُولِ الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ حُكْمَ الشَّيْءِ عَلَى مَا تَقَرَّرَ عِنْدَهُمْ إنَّمَا هُوَ أَثَرُهُ الثَّابِتُ بِهِ الْمُتَرَتِّبُ عَلَيْهِ، وَقَدْ أَشَارَ إلَيْهِ صَاحِبُ النِّهَايَةِ أَيْضًا بِقَوْلِهِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الشَّيْءِ مَا يَثْبُتُ بِهِ، وَلَا يَذْهَبُ عَلَى ذِي مُسْكَةٍ أَنَّ مَا يَثْبُتُ بِالشَّيْءِ وَيَصِيرُ أَثَرًا مُتَرَتِّبًا عَلَيْهِ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ تَفْسِيرًا لِذَلِكَ الشَّيْءِ مَحْمُولًا عَلَيْهِ بِالْمُوَاطَأَةِ. ثُمَّ أَقُولُ: لَيْسَ الْمَذْكُورُ فِي الذَّخِيرَةِ وَغَيْرِهَا أَنَّ حُكْمَهُ مَا هُوَ تَفْسِيرُهُ الشَّرْعِيُّ، بَلْ الْمَذْكُورُ فِيهَا هَكَذَا، وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِهِ فَنَقُولُ: حُكْمُهُ شَرْعًا عِنْدَنَا فَكُّ الْحَجْرِ الثَّابِتِ بِالرِّقِّ شَرْعًا عَمَّا يَتَنَاوَلُهُ الْإِذْنُ لَا الْإِنَابَةُ وَلَا التَّوْكِيلُ؛ لِأَنَّ حُكْمَ
وَالْعَبْدُ بَعْدَ ذَلِكَ يَتَصَرَّفُ لِنَفْسِهِ بِأَهْلِيَّتِهِ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ الرِّقِّ بَقِيَ أَهْلًا لِلتَّصَرُّفِ بِلِسَانِهِ النَّاطِقِ وَعَقْلِهِ الْمُمَيِّزِ وَانْحِجَارُهُ عَنْ التَّصَرُّفِ لِحَقِّ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ مَا عَهِدَ تَصَرُّفَهُ إلَّا مُوجِبًا تَعَلُّقَ الدَّيْنِ بِرَقَبَتِهِ وَبِكَسْبِهِ، وَذَلِكَ مَالُ الْمَوْلَى فَلَا بُدَّ مِنْ إذْنِهِ كَيْ لَا يَبْطُلَ حَقُّهُ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ، وَلِهَذَا لَا يَرْجِعُ بِمَا لَحِقَهُ مِنْ الْعُهْدَةِ عَلَى الْمَوْلَى،
الشَّيْءُ مَا يَثْبُتُ بِهِ، وَالثَّابِتُ بِالْإِذْنِ فِي التِّجَارَةِ فَكُّ الْحَجْرِ عَنْ التِّجَارَةِ اهـ. فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِفَكِّ الْحَجَرِ الْمَذْكُورِ فِيهَا مَا هُوَ مَصْدَرٌ مِنْ الْمَبْنِيِّ لِلْمَفْعُولِ فَيَئُولُ إلَى مَعْنَى انْفِكَاكِ الْحَجْرِ وَيَصِيرُ صِفَةً لِلْحَجْرِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُرَادَ بِفَكِّ الْحَجْرِ الْمَذْكُورِ فِي تَفْسِيرِ الْإِذْنِ شَرْعًا مَا هُوَ مَصْدَرٌ مِنْ الْمَبْنِيِّ لِلْفَاعِلِ وَصِفَةٌ لِلْإِذْنِ، فَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْمَذْكُورُ فِي تِلْكَ الْكُتُبِ حُكْمًا لِلْإِذْنِ الشَّرْعِيِّ، إذْ لَا رَيْبَ أَنَّ الِانْفِكَاكَ أَثَرٌ ثَابِتٌ بِالْفَكِّ كَالِانْكِسَارِ مَعَ الْكَسْرِ. ثُمَّ إنَّ الْأَظْهَرَ فِي بَيَانِ حُكْمِ الْإِذْنِ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ وَعَزَاهُ إلَى التُّحْفَةِ حَيْثُ قَالَ: وَأَمَّا حُكْمُهُ فَمِلْكُ الْمَأْذُونِ مَا كَانَ مِنْ قَبِيلِ التِّجَارَةِ وَتَوَابِعِهَا وَضَرُورَاتِهَا، وَعَدَمُ مِلْكِهِ مَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، إلَى هَذَا أَشَارَ فِي التُّحْفَةِ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الشَّيْءِ مَا يَثْبُتُ بِالشَّيْءِ، وَالثَّابِتُ بِالْإِذْنِ مَا قُلْنَا فَكَانَ حُكْمًا لَهُ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ.
(قَوْلُهُ وَالْعَبْدُ بَعْدَ ذَلِكَ يَتَصَرَّفُ لِنَفْسِهِ بِأَهْلِيَّتِهِ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ الرِّقِّ بَقِيَ أَهْلًا لِلتَّصَرُّفِ بِلِسَانِهِ النَّاطِقِ وَعَقْلِهِ الْمُمَيِّزِ) فَإِنْ قِيلَ: الْمَأْذُونُ عَدِيمُ الْأَهْلِيَّةِ لِحُكْمِ التَّصَرُّفِ وَهُوَ الْمِلْكُ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ أَهْلًا لِنَفْسِ التَّصَرُّفِ؛ لِأَنَّ التَّصَرُّفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ إنَّمَا تُرَادُ لِحُكْمِهَا وَهُوَ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِذَلِكَ فَلَا يَكُونُ أَهْلًا لِسَبَبِهِ.
أُجِيبُ بِأَنْ حُكْمَ التَّصَرُّفِ مِلْكُ الْيَدِ وَالرَّقِيقُ أَهْلٌ لِذَلِكَ، أَلَا يَرَى أَنَّ اسْتِحْقَاقَ مِلْكِ الْيَدِ يَثْبُتُ لَلْمُكَاتَبِ مَعَ قِيَامِ الرِّقِّ فِيهِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ مَعَ الرِّقِّ أَهْلٌ لِلْحَاجَةِ فَيَكُونُ أَهْلًا لِقَضَائِهَا وَأَدْنَى طَرِيقِ قَضَائِهَا مِلْكُ الْيَدِ فَهُوَ الْحُكْمُ الْأَصْلِيُّ لِلتَّصَرُّفِ، وَمِلْكُ الْعَيْنِ شُرِعَ لِلتَّوَصُّلِ إلَيْهِ فَمَا هُوَ الْحُكْمُ الْأَصْلِيُّ يَثْبُتُ لِلْعَبْدِ وَمَا وَرَاءَ ذَلِكَ يَخْلُفُهُ الْمَوْلَى فِيهِ، وَهُوَ نَظِيرُ مَنْ اشْتَرَى شَيْئًا عَلَى أَنَّ الْبَائِعَ بِالْخِيَارِ ثُمَّ مَاتَ، فَمَتَى اخْتَارَ الْبَائِعُ الْبَيْعَ يَثْبُتُ مِلْكُ الْعَيْنِ لِلْوَارِثِ عَلَى سَبِيلِ الْخِلَافَةِ عَنْ الْمُوَرِّثِ بِتَصَرُّفٍ بَاشَرَهُ الْمُوَرِّثُ بِنَفْسِهِ، كَذَا ذُكِرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ شُرُوحِ هَذَا الْكِتَابِ وَفِي عَامَّةِ كُتُبِ الْأُصُولِ.
أَقُولُ: فِيهِ بَحْثٌ؛ لِأَنَّهُمْ إنْ أَرَادُوا أَنَّ الرَّقِيقَ لَهُ مِلْكُ الْيَدِ بِأَهْلِيَّتِهِ الْأَصْلِيَّةِ الذَّاتِيَّةِ كَمَا هُوَ الْمُتَبَادَرُ مِنْ كَلَامِهِمْ يَشْكُلُ مَا تَقَرَّرَ عِنْدَهُمْ مِنْ أَنَّ الْمُكَاتَبَ مَمْلُوكٌ لِمَوْلَاهُ رَقَبَةً لَا يَدًا، وَالْمُدَبَّرُ مَمْلُوكٌ لَهُ يَدًا لَا رَقَبَةً، وَالْقِنُّ مَمْلُوكٌ لَهُ يَدًا وَرَقَبَةً، فَإِنَّ الرَّقِيقَ إذَا كَانَ مَالِكًا يَدَهُ فَكَيْفَ يَكُونُ مَمْلُوكًا لِمَوْلَاهُ يَدًا فِي صُورَةٍ إنْ كَانَ قِنًّا أَوْ مُدَبَّرًا، وَإِنْ أَرَادُوا أَنَّ لَهُ مِلْكُ الْيَدِ بِأَهْلِيَّتِهِ الْمُكْتَسَبَةِ مِنْ مَوْلَاهُ بِالْإِذْنِ أَوْ الْكِتَابَةِ فَلَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ، إذْ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ وَغَيْرِهِ صَرِيحٌ فِي أَنَّ أَصْلَ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْعَبْدَ الْمَأْذُونَ لَهُ مُتَصَرِّفٌ لِنَفْسِهِ بِأَهْلِيَّتِهِ الْأَصْلِيَّةِ الثَّابِتَةِ لَهُ بِلِسَانِهِ النَّاطِقِ وَعَقْلِهِ الْمُمَيِّزِ فَلْيُتَأَمَّلْ فِي التَّوْجِيهِ (قَوْلُهُ وَلِهَذَا لَا يَرْجِعُ بِمَا لَحِقَهُ مِنْ الْعُهْدَةِ عَلَى الْمَوْلَى)
وَلِهَذَا لَا يُقْبَلُ التَّأْقِيتُ، حَتَّى لَوْ أَذِنَ لِعَبْدِهِ يَوْمًا أَوْ شَهْرًا كَانَ مَأْذُونًا أَبَدًا حَتَّى يَحْجُرَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْإِسْقَاطَاتِ لَا تَتَوَقَّتُ
ثُمَّ الْإِذْنُ كَمَا يَثْبُتُ بِالصَّرِيحِ يَثْبُتُ بِالدَّلَالَةِ، كَمَا إذَا رَأَى عَبْدَهُ يَبِيعُ
قَالَ فِي الْعِنَايَةِ: وَصَحَّحَ الْمُصَنِّفُ كَوْنَهُ يَتَصَرَّفُ بِأَهْلِيَّةِ نَفْسِهِ بِقَوْلِهِ وَلِهَذَا لَا يَرْجِعُ بِمَا لَحِقَهُ مِنْ الْعُهْدَةِ عَلَى الْمَوْلَى، وَهَذَا؛ لِأَنَّ أَوَّلَ تَصَرُّفٍ يُبَاشِرُهُ الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ الشِّرَاءُ؛ لِأَنَّهُ لَا مَالَ لَهُ حَتَّى يَبِيعَ، وَالْعَبْدُ فِي الشِّرَاءِ مُتَصَرِّفٌ لِنَفْسِهِ لَا لِلْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ فِي ذِمَّتِهِ بِإِيجَابِ الثَّمَنِ فِيهَا، حَتَّى لَوْ امْتَنَعَ عَنْ الْأَدَاءِ حَالَ الطَّلَبِ حُبِسَ وَذِمَّتُهُ خَالِصُ حَقِّهِ لَا مَحَالَةَ، وَلِهَذَا لَوْ أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِالْقِصَاصِ صَحَّ وَإِنْ كَذَّبَهُ الْمَوْلَى فَكَانَ الشِّرَاءُ حَقًّا لَهُ.
وَهَذَا الْمَعْنَى يَقْتَضِي نَفَاذَ تَصَرُّفَاتِهِ قَبْلَ الْإِذْنِ أَيْضًا، لَكِنْ شَرَطْنَا إذْنُ الْمَوْلَى دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ بِغَيْرِ رِضَاهُ اهـ. وَهَذَا حَاصِلُ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ نَاقِلًا عَنْ الذَّخِيرَةِ.
أَقُولُ: يَرِدُ عَلَى ظَاهِرِ قَوْلِهِ؛ لِأَنَّ أَوَّلَ تَصَرُّفٍ يُبَاشِرُهُ الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ الشِّرَاءُ؛ لِأَنَّهُ لَا مَالَ لَهُ حَتَّى يَبِيعَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ مَالٌ يَبِيعُهُ أَنْ يَكُونَ أَوَّلَ تَصَرُّفِهِ الشِّرَاءُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ أَوَّلَ تَصَرُّفِهِ أَخْذُ الْمُضَارَبَةِ أَوْ إيجَارُ نَفْسِهِ فَإِنَّهُ يَمْلِكُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ ذَيْنِك التَّصَرُّفَيْنِ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْكِتَابِ، وَلَا يَقْتَضِي شَيْءٌ مِنْهُمَا أَنْ يَكُونَ لَهُ مَالٌ كَمَا لَا يَخْفَى، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: يَجُوزُ بِنَاءُ قَوْلِهِ الْمَزْبُورِ عَلَى مَا هُوَ الْأَصْلُ فِي التِّجَارَةِ وَمَا هُوَ الْغَالِبُ وُقُوعًا فِيهَا. وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي التِّجَارَةِ هُوَ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ كَمَا سَيَأْتِي التَّصْرِيحُ بِهِ مِنْ الْمُصَنِّفِ، وَأَنَّهُمَا هُمَا الْغَالِبُ وُقُوعًا فِي بَابِ التِّجَارَةِ، فَعَلَى مُقْتَضَى ذَلِكَ الْبِنَاءِ إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْعَبْدِ الْمَأْذُونِ فِي أَوَّلِ تَصَرُّفِهِ مَالٌ يَبِيعُهُ يَتَعَيَّنُ لَهُ الشِّرَاءُ ثَمَّةَ.
وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى قَوْلِ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ؛ لِأَنَّ أَوَّلَ تَصَرُّفٍ يُبَاشِرُهُ الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ الشِّرَاءُ بَلْ أَوَّلُ تَصَرُّفٍ يُبَاشِرُهُ مُؤَاجَرَةُ نَفْسِهِ. وَالْجَوَابُ أَنَّهُ عِنْدَ الْخَصْمِ فَإِنَّ مُؤَاجَرَةَ نَفْسِهِ غَيْرُ جَائِزَةٍ عِنْدَهُ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ عَلَى مَا سَيَجِيءُ. اهـ. أَقُولُ: فِي كُلٍّ مِنْ إيرَادِهِ وَجَوَابِهِ سَقَامَةٌ. أَمَّا فِي الْأَوَّلِ فَلِأَنَّهُ قَالَ: بَلْ أَوَّلُ تَصَرُّفٍ يُبَاشِرُهُ مُؤَاجَرَةُ نَفْسِهِ بِطَرِيقِ الْجَزْمِ، وَكَانَ الظَّاهِرُ أَنْ يَقُولَ: بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَوَّلَ تَصَرُّفٍ يُبَاشِرُهُ مُؤَاجَرَةُ نَفْسِهِ، عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ مُؤَاجَرَةُ نَفْسِهِ خَطَأٌ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْأَسَاسِ وَالْمُغْرِبِ، وَكَانَ الصَّوَابُ أَنْ يَقُولَ: بَدَلَ ذَلِكَ إيجَارُ نَفْسِهِ كَمَا قُلْت فِيمَا مَرَّ. وَأَمَّا فِي الثَّانِي فَلِأَنَّا بِصَدَدِ إثْبَاتِ مَا قُلْنَا إنَّ الْعَبْدَ الْمَأْذُونَ لَهُ يَتَصَرَّفُ بَعْدَ الْإِذْنِ لِنَفْسِهِ بِأَهْلِيَّتِهِ لَا بِصَدَدِ الْجَوَابِ عَمَّا قَالَهُ الْخَصْمُ، بَلْ لَمْ يَقَعْ التَّصْرِيحُ مِنْ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا بِمَا قَالَهُ الْخَصْمُ أَصْلًا فَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ تُحْمَلَ الْمُقَدِّمَةُ الْمَذْكُورَةُ عَلَى مَذْهَبِ الْخَصْمِ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ دُونَ مَذْهَبِنَا، عَلَى أَنَّهَا لَوْ حُمِلَتْ عَلَى مَذْهَبِ الْخَصْمِ لَمْ نَسْلَمْ أَيْضًا لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ أَوَّلَ تَصَرُّفٍ يُبَاشِرُهُ أَخْذُ الْمُضَارَبَةِ كَمَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ، وَالْخَصْمُ لَا يُنْكِرُ جَوَازَ ذَلِكَ فَلَمْ يُفِدْ الْحَمْلُ عَلَى مَذْهَبِهِ، فَاَلَّذِي يُمْكِنُ فِي الْجَوَابِ مَا قَدَّمْنَا لَا غَيْرَ (قَوْلُهُ وَلِهَذَا لَا يُقْبَلُ التَّأْقِيتُ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَصَحَّحَ الْمُصَنِّفُ كَوْنَهُ إسْقَاطًا عِنْدَنَا بِقَوْلِهِ وَلِهَذَا لَا يُقْبَلُ التَّأْقِيتُ. ثُمَّ قَالَ: فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ فَكُّ الْحَجْرِ وَإِسْقَاطُ الْحَقِّ مَذْكُورٌ فِي حَيِّزِ التَّعْرِيفِ فَكَيْفَ
وَيَشْتَرِي فَسَكَتَ يَصِيرُ مَأْذُونًا عِنْدَنَا خِلَافًا لَزُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ.
جَازَ الِاسْتِدْلَال عَلَيْهِ؟ فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَيْسَ بِاسْتِدْلَالٍ، وَإِنَّمَا هُوَ تَصْحِيحُ النَّقْلِ بِمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عِنْدَنَا مُعَرَّفٌ بِذَلِكَ كَمَا أَشَرْنَا إلَيْهِ. وَالثَّانِي أَنَّ حُكْمَهُ الشَّرْعِيَّ هُوَ تَعْرِيفُهُ فَكَانَ الِاسْتِدْلَال عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ حُكْمًا لَا مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ تَعْرِيفًا اهـ كَلَامَهُ. أَقُولُ: فِي كُلٍّ مِنْ وَجْهَيْ الْجَوَابِ نَظَرٌ. أَمَّا فِي الْأَوَّلِ فَلِأَنَّ تَصْحِيحَ النَّقْلِ بِمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عِنْدَنَا مُعَرَّفٌ بِذَلِكَ عَيْنُ الِاسْتِدْلَالِ، فَإِنَّ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ هُوَ الدَّلِيلُ، وَتَصْحِيحُ النَّقْلِ بِهِ هُوَ الِاسْتِدْلَال، فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ إنَّهُ لَيْسَ بِاسْتِدْلَالٍ.
وَأَمَّا فِي الثَّانِي فَلِأَنَّ كَوْنَ حُكْمِهِ الشَّرْعِيِّ هُوَ تَعْرِيفُهُ مِمَّا لَا يَكَادُ يَصِحُّ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الشَّيْءِ مَا هُوَ خَارِجٌ عَنْهُ مُبَايِنٌ لَهُ وَإِنْ كَانَ أَثَرًا مُتَرَتِّبًا عَلَيْهِ، وَتَعْرِيفُ الشَّيْءِ مَا هُوَ مَحْمُولٌ عَلَيْهِ بِالْمُوَاطَأَةِ مُتَّحِدٍ بِهِ فِي الذَّاتِ فَأَنَّى يَكُونُ أَحَدُهُمَا هُوَ الْآخَرُ، وَقَدْ مَرَّ مِثْلُ ذَلِكَ مِنْ قَبْلُ.
وَالْحَقُّ فِي الْجَوَابِ أَنْ يُقَالَ: لَيْسَ الِاسْتِدْلَال الْمَذْكُورُ عَلَى نَفْسِ التَّعْرِيفِ حَتَّى يَرِدَ أَنَّ التَّعْرِيفَ لَا يَقْبَلُ الِاسْتِدْلَالَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ تَصَوُّرٌ، وَالتَّصَوُّرُ لَا يُكْتَسَبُ مِنْ التَّصْدِيقِ بَلْ عَلَى الْحُكْمِ الضِّمْنِيِّ، كَأَنْ يُقَالَ: هَذَا التَّعْرِيفُ صَحِيحٌ، وَهَذَا التَّعْرِيفُ مُطَابِقٌ لِأُصُولِنَا أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ تِلْكَ الْأَحْكَامَ تَصْدِيقَاتٌ تَقْبَلُ الِاسْتِدْلَالَ عَلَيْهَا قَطْعًا، وَنَظِيرُ هَذَا مَا حَقَّقُوا فِي قِنِّهِ مِنْ أَنَّ الْمَنْعَ وَالنَّقْضَ وَالْمُعَارَضَةَ فِي التَّعْرِيفِ إنَّمَا تَتَوَجَّهُ إلَى الْأَحْكَامِ الضِّمْنِيَّةِ لَا إلَى نَفْسِ التَّعْرِيفَاتِ، تَدَبَّرْ تَرْشُدْ
وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَبِيعَ عَيْنًا مَمْلُوكًا أَوْ لِأَجْنَبِيٍّ بِإِذْنِهِ أَوْ بِغَيْرِ إذْنِهِ بَيْعًا صَحِيحًا أَوْ فَاسِدًا؛ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ رَآهُ يَظُنُّهُ مَأْذُونًا لَهُ فِيهَا فَيُعَاقِدُهُ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ لَوْ لَمْ يَكُنْ مَأْذُونًا لَهُ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْمَوْلَى رَاضِيًا بِهِ لَمَنَعَهُ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُمْ. .
قَالَ (وَإِذَا أَذِنَ الْمَوْلَى لِعَبْدِهِ فِي التِّجَارَةِ إذْنًا عَامًّا جَازَ تَصَرُّفُهُ فِي سَائِرِ التِّجَارَاتِ) وَمَعْنَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يَقُولَ لَهُ أَذِنْت لَك فِي التِّجَارَةِ وَلَا يُقَيِّدُهُ. وَوَجْهُهُ أَنَّ التِّجَارَةَ اسْمٌ عَامٌّ يَتَنَاوَلُ الْجِنْسَ فَيَبِيعُ وَيَشْتَرِي مَا بَدَا لَهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْأَعْيَانِ؛ لِأَنَّهُ أَصْلُ التِّجَارَةِ.
(وَلَوْ بَاعَ أَوْ اشْتَرَى بِالْغَبْنِ الْيَسِيرِ فَهُوَ جَائِزٌ) لِتَعَذُّرِ الِاحْتِرَازِ عَنْهُ (وَكَذَا بِالْفَاحِشِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله خِلَافًا لَهُمَا) هُمَا يَقُولَانِ إنَّ الْبَيْعَ بِالْفَاحِشِ مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ التَّبَرُّعِ، حَتَّى اُعْتُبِرَ مِنْ الْمَرِيضِ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ فَلَا يَنْتَظِمُهُ الْإِذْنُ كَالْهِبَةِ.
قَوْلُهُ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَبِيعَ عَيْنًا مَمْلُوكًا لِلْمَوْلَى أَوْ لِأَجْنَبِيٍّ بِإِذْنِهِ أَوْ بِغَيْرِ إذْنِهِ بَيْعًا صَحِيحًا أَوْ فَاسِدًا) قَالَ الْإِمَامُ الزَّيْلَعِيُّ فِي التَّبْيِينِ بَعْدَ أَنْ قَالَ مِثْلَ هَذَا: هَكَذَا ذَكَرَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ وَغَيْرُهُ. وَذَكَرَ قَاضِي خَانْ فِي فَتَاوَاهُ: إذَا رَأَى عَبْدَهُ يَبِيعُ عَيْنًا مِنْ أَعْيَانِ الْمَالِكِ فَسَكَتَ لَمْ يَكُنْ إذْنًا. وَكَذَا الْمُرْتَهِنُ إذَا رَأَى الرَّاهِنَ يَبِيعُ الرَّهْنَ فَسَكَتَ لَا يَبْطُلَ الرَّهْنُ اهـ.
أَقُولُ: كَأَنَّهُ فَهِمَ الْمُخَالَفَةَ بَيْنَ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ وَغَيْرُهُ وَبَيْنَ مَا ذَكَرَهُ قَاضِي خَانْ فِي فَتَاوَاهُ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا فَهِمَهُ، إذْ الظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَ الْإِمَامِ قَاضِي خَانْ أَنَّ سُكُوتَ الْمَالِكِ فِيمَا إذَا رَأَى عَبْدَهُ يَبِيعُ عَيْنًا مِنْ أَعْيَانِ مَالِهِ لَا يَصِيرُ إذْنًا فِي حَقِّ ذَلِكَ التَّصَرُّفِ الَّذِي صَادَفَهُ السُّكُوتُ لَا فِي حَقِّ سَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ ذَلِكَ الْعَبْدُ فِي بَابِ التِّجَارَةِ مُطْلَقًا. وَيُرْشِدُ إلَيْهِ قَوْلُهُ وَكَذَا الْمُرْتَهِنُ إذَا رَأَى الرَّاهِنَ يَبِيعَ الرَّهْنَ فَسَكَتَ لَا يَبْطُلُ الرَّهْنُ، فَإِنَّ الْمُرَادَ هُنَاكَ عَدَمُ صِحَّةِ التَّصَرُّفِ الَّذِي صَادَفَهُ السُّكُوتُ بِلَا رَيْبٍ، وَلَا دَلَالَةَ فِي كَلَامِ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ وَغَيْرِهِ عَلَى كَوْنِ السُّكُوتِ إذْنًا فِي حَقِّ التَّصَرُّفِ الَّذِي صَادَفَهُ السُّكُوتُ فِيمَا إذَا بَاعَ عَيْنًا مَمْلُوكًا لِلْمَوْلَى بِغَيْرِ رِضَاهُ، بَلْ خِلَافُهُ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي أَكْثَرِ الشُّرُوحِ وَعَامَّةِ الْمُعْتَبَرَاتِ. قَالَ فِي الْبَدَائِعِ: وَأَمَّا الْإِذْنُ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ فَنَحْوُ أَنْ يَرَى عَبْدَهُ يَبِيعُ وَيَشْتَرِي فَلَا يَنْهَاهُ فَيَصِيرُ مَأْذُونًا فِي التِّجَارَةِ عِنْدَنَا إلَّا فِي الْبَيْعِ الَّذِي صَادَفَهُ السُّكُوتُ.
وَأَمَّا فِي الشِّرَاءِ فَيَصِيرُ مَأْذُونًا، وَعِنْدَ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يَصِيرُ مَأْذُونًا اهـ. وَقَالَ فِي الْمُحِيطِ الْبُرْهَانِيِّ: قَالَ مُحَمَّدٌ رحمه الله فِي الْأَصْلِ: إذَا نَظَرَ الرَّجُلُ إلَى عَبْدِهِ وَهُوَ يَبِيعُ وَيَشْتَرِي وَلَمْ يَنْهَ عَنْ ذَلِكَ يَصِيرُ الْعَبْدُ مَأْذُونًا فِي التِّجَارَةِ عِنْدَ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ، وَإِذَا رَأَى عَبْدَهُ يَبِيعُ عَيْنًا مِنْ أَعْيَانِ مَالِهِ فَسَكَتَ يَصِيرُ مَأْذُونًا فِي التِّجَارَةِ، وَلَكِنْ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ مَالَ الْمَوْلَى.
قَالَ مُحَمَّدٌ رحمه الله: وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ رَأَى الْمَوْلَى عَبْدَهُ الْمُسْلِمَ يَشْتَرِي شَيْئًا بِالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ فَسَكَتَ يَصِيرُ الْعَبْدُ مَأْذُونًا فِي التِّجَارَةِ وَإِنْ كَانَ لَا يَجُوزُ هَذَا الشِّرَاءُ كَذَا هَاهُنَا اهـ. فَكَيْفَ يَجُوزُ حَمْلُ كَلَامِ قَاضِي خَانْ فِي فَتَاوَاهُ عَلَى خِلَافِ مَا نَصَّ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رحمه الله فِي الْأَصْلِ بِقَوْلِهِ وَإِذَا رَأَى عَبْدًا يَبِيعُ عَيْنًا مِنْ أَعْيَانِ مَالِهِ فَسَكَتَ يَصِيرُ مَأْذُونًا فِي التِّجَارَةِ، فَالْوَجْهُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى مَضْمُونِ قَوْلِهِ، وَلَكِنْ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ مَالَ الْمَوْلَى كَمَا بَيَّنَّاهُ (قَوْلُهُ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ رَآهُ يَظُنُّهُ مَأْذُونًا لَهُ فِيهَا فَيُعَاقِدُهُ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ لَوْ لَمْ يَكُنْ مَأْذُونًا لَهُ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْمَوْلَى رَاضِيًا بِهِ لَمَنَعَهُ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُمْ) قَالَ صَاحِبُ
وَلَهُ أَنَّهُ تِجَارَةٌ وَالْعَبْدُ مُتَصَرِّفٌ بِأَهْلِيَّةِ نَفْسِهِ فَصَارَ كَالْحُرِّ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الصَّبِيُّ الْمَأْذُونُ.
(وَلَوْ حَابَى فِي مَرَضِ مَوْتِهِ يُعْتَبَرُ مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَإِنْ كَانَ فَمِنْ جَمِيعِ مَا بَقِيَ)؛ لِأَنَّ الِاقْتِصَارَ فِي الْحُرِّ عَلَى الثُّلُثِ لِحَقِّ الْوَرَثَةِ وَلَا وَارِثَ لِلْعَبْدِ، وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ مُحِيطًا بِمَا فِي يَدِهِ يُقَالُ لِلْمُشْتَرِي أَدِّ جَمِيعَ الْمُحَابَاةِ وَإِلَّا فَارْدُدْ الْبَيْعَ كَمَا فِي الْحُرِّ.
(وَلَهُ أَنْ يُسَلِّمَ وَيَقْبَلَ السَّلَمَ)؛ لِأَنَّهُ تِجَارَةٌ.
(وَلَهُ أَنْ يُوَكِّلَ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ)؛ لِأَنَّهُ قَدْ لَا يَتَفَرَّغُ بِنَفْسِهِ
. قَالَ (وَيَرْهَنُ وَيُرْتَهَنُ)؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ تَوَابِعِ التِّجَارَةِ فَإِنَّهُ إيفَاءٌ وَاسْتِيفَاءٌ.
(وَيَمْلِكُ أَنْ يَتَقَبَّلَ الْأَرْضَ وَيَسْتَأْجِرَ الْأُجَرَاءَ وَالْبُيُوتَ)؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ
(وَيَأْخُذُ الْأَرْضَ مُزَارَعَةً)؛ لِأَنَّ فِيهِ تَحْصِيلُ الرِّبْحِ
(وَيَشْتَرِي طَعَامًا فَيَزْرَعُهُ فِي أَرْضِهِ)؛ لِأَنَّهُ يَقْصِدُ بِهِ الرِّبْحَ قَالَ عليه الصلاة والسلام «الزَّارِعُ يُتَاجِرُ رَبَّهُ» .
(وَلَهُ أَنْ يُشَارِكَ شَرِكَةَ عِنَان وَيَدْفَعَ الْمَالَ مُضَارَبَةً وَيَأْخُذُهَا)؛ لِأَنَّهُ مِنْ عَادَةِ التُّجَّارِ
(وَلَهُ أَنْ يُؤَاجِرَ نَفْسَهُ عِنْدَنَا) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ وَهُوَ يَقُولُ: لَا يَمْلِكُ الْعَقْدَ عَلَى نَفْسِهِ فَكَذَا عَلَى مَنَافِعِهَا؛ لِأَنَّهَا تَابِعَةٌ لَهَا. وَلَنَا أَنَّ نَفْسَهُ رَأْسُ مَالِهِ فَيَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِيهِ،
الْعِنَايَةِ فِي تَفْصِيلِ هَذَا التَّعْلِيلِ: وَقُلْنَا جَعَلَ سُكُوتَهُ حُجَّةً؛ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ بَيَانِ، إذْ النَّاسُ يُعَامَلُونَ الْعَبْدَ حِينَ عِلْمِهِمْ بِسُكُوتِ الْمَوْلَى وَمُعَامَلَتُهُمْ قَدْ تُفْضِي إلَى لُحُوقِ دُيُونٍ عَلَيْهِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَأْذُونًا تَتَأَخَّرُ الْمُطَالَبَةُ إلَى مَا بَعْدَ الْعِتْقِ، وَقَدْ يُعْتَقُ وَقَدْ لَا يُعْتَقُ وَفِي ذَلِكَ إضْرَارٌ بِالْمُسْلِمِينَ بِإِتْوَاءِ حَقِّهِمْ، وَلَا إضْرَارَ فِي الْإِسْلَامِ، وَلَيْسَ لِلْمَوْلَى فِيهِ ضَرَرٌ مُتَحَقِّقٌ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ قَدْ يَلْحَقُهُ وَقَدْ لَا يَلْحَقُهُ،
إلَّا إذَا كَانَ يَتَضَمَّنُ إبْطَالَ الْإِذْنِ كَالْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ يَنْحَجِرُ بِهِ، وَالرَّهْنُ؛ لِأَنَّهُ يُحْبَسُ بِهِ فَلَا يَحْصُلُ مَقْصُودُ الْمَوْلَى. أَمَّا الْإِجَارَةُ فَلَا يَنْحَجِرُ بِهِ وَيَحْصُلُ بِهِ الْمَقْصُودُ وَهُوَ الرِّبْحُ فَيَمْلِكُهُ. .
قَالَ (فَإِنْ أَذِنَ لَهُ فِي نَوْعٍ مِنْهَا دُونَ غَيْرِهِ فَهُوَ
فَكَانَ مَوْضِعَ بَيَانِ أَنَّهُ رَاضٍ بِهِ أَوَّلًا، وَالسُّكُوتُ فِي مَوْضِعِ الْحَاجَةِ إلَى الْبَيَانِ بَيَانٌ اهـ.
وَاعْتَرَضَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ مِنْ جَانِبِ الْخَصْمِ عَلَى قَوْلِهِ وَالنَّاسُ يُعَامِلُونَ الْعَبْدَ حِينَ عِلْمِهِمْ بِسُكُوتِ الْمَوْلَى حَيْثُ قَالَ لَهُمَا أَنْ يَقُولَا ذَلِكَ لِحَمَاقَةِ الْمُعَامِلِ حَيْثُ اغْتَرَّ بِمُجَرَّدِ السُّكُوتِ وَلَمْ يَسْأَلْ مِنْ الْمَوْلَى وَلِذَلِكَ نَظَائِرُ اهـ. أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا بِوَارِدٍ؛ لِأَنَّ الْمُعَامِلَ لَا يَغْتَرُّ بِمُجَرَّدِ السُّكُوتِ بَلْ يَعْتَمِدُ عَلَى مَا جَرَى عَلَيْهِ الْعُرْفُ مِنْ أَنْ مَنْ لَا يَرْضَى بِتَصَرُّفِ عَبْدِهِ يَنْهَاهُ عَنْهُ وَيُؤَدِّبُهُ عَلَيْهِ.
وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ فِي الْكَافِي وَغَيْرِهِ حَيْثُ قَالُوا: وَلَنَا أَنَّ الْعَادَةَ جَرَتْ بِأَنَّ مَنْ لَا يَرْضَى بِتَصَرُّفِ عَبْدِهِ يَنْهَاهُ عَنْهُ وَيُؤَدِّبُهُ عَلَيْهِ، فَإِذَا لَمْ يَنْهَ عُلِمَ أَنَّهُ رَاضٍ فَجُعِلَ سُكُوتَهُ إذْنًا دَلَالَةً دَفْعًا لِلْغُرُورِ عَنْ النَّاسِ، فَإِنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ ذَلِكَ إطْلَاقًا مِنْهُ فَيُبَايِعُونَهُ حَمْلًا لِفِعْلِهِ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ الشَّرْعُ وَالْعُرْفُ، كَمَا فِي سُكُوتِ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام عِنْدَ أَمْرٍ يُعَايِنُهُ عَنْ التَّغْيِيرِ. وَسُكُوتِ الْبِكْرِ وَسُكُوتِ الشَّفِيعِ اهـ. فَبَعْدَ ذَلِكَ كَيْفَ يَحْتَاجُ الْمُعَامِلُ إلَى السُّؤَالِ مِنْ الْمَوْلَى، وَكَيْفَ يَحْمِلُ الْعَاقِلُ عَدَمَ سُؤَالِهِ عَلَى حَمَاقَتِهِ، وَهَلَّا تَكُونُ النَّظَائِرُ لِمَا عَامَلَهُ دُونَ خِلَافِهِ؟ ثُمَّ أَقُولُ: بَقِيَ شَيْءٌ فِي تَقْرِيرِ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ، وَهُوَ أَنَّهُ جَعَلَ ضَرَرَ الْمَوْلَى غَيْرَ مُعْتَبَرٍ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مُتَحَقِّقٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الدَّيْنَ قَدْ يَلْحَقُهُ وَقَدْ لَا يَلْحَقُهُ، وَجَعَلَ ضَرَرَ الْمُسْلِمِينَ مُعْتَبَرًا مَعَ أَنَّهُ أَيْضًا غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الدُّيُونَ قَدْ تَلْحَقُهُ وَقَدْ لَا تَلْحَقُهُ.
فَمَا الْفَرْقُ وَالرُّجْحَانُ؟ لَا بُدَّ مِنْ الْبَيَانِ. ثُمَّ قَالَ فِي الْعِنَايَةِ: فَإِنْ قِيلَ: عَيْنُ ذَلِكَ التَّصَرُّفِ الَّذِي رَآهُ مِنْ الْبَيْعِ غَيْرُ صَحِيحٍ فَكَيْفَ يَصِحُّ غَيْرُهُ، وَكَذَا إذَا رَأَى أَجْنَبِيًّا يَبِيعُ مِنْ مَالِهِ وَسَكَتَ لَمْ يَكُنْ إذْنًا، وَالْمُرْتَهِنُ إذَا رَأَى الرَّاهِنَ يَبِيعُ الرَّهْنَ وَسَكَتَ لَمْ يَكُنْ إذْنًا، وَإِذَا رَأَى رَقِيقَهُ يُزَوِّجُ نَفْسَهُ وَسَكَتَ لَمْ يَكُنْ إذْنًا، فَمَا الْفَرْقُ؟ أُجِيبُ بِأَنَّ الضَّرَرَ فِي التَّصَرُّفِ الَّذِي رَآهُ مُتَحَقِّقٌ بِإِزَالَةِ مِلْكِهِ عَمَّا يَبِيعُهُ فِي الْحَالِ فَلَا يَثْبُتُ بِالسُّكُوتِ، وَلَيْسَ فِي ثُبُوتِ الْإِذْنِ فِي غَيْرِهِ ذَلِكَ لِمَا قُلْنَا إنَّ الدَّيْنَ قَدْ يَلْحَقُهُ وَقَدْ لَا يَلْحَقُهُ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ السُّكُوتِ إذْنًا بِالنَّظَرِ إلَى ضَرَرٍ مُتَوَهَّمٍ كَوْنُهُ إذْنًا بِالنَّظَرِ إلَى مُتَحَقِّقٍ، وَهُوَ الْجَوَابُ عَنْ بَيْعِ الْأَجْنَبِيِّ مَالَهُ، وَفِي الرَّهْنِ لَمْ يَصِرْ سُكُوتُهُ إذْنًا؛ لِأَنَّ جَعْلَهُ إذْنًا يُبْطِلُ مِلْكَ الْمُرْتَهِنِ عَنْ الْيَدِ، وَقَدْ لَا يَصِلُ إلَى يَدِهِ مِنْ مَحَلٍّ آخَرَ فَكَانَ فِي ذَلِكَ ضَرَرٌ مُتَحَقِّقٌ.
لَا يُقَالُ: الرَّاهِنُ أَيْضًا يَتَضَرَّرُ بِبُطْلَانِ مِلْكِهِ عَنْ الثَّمَنِ، فَتَرْجِيحُ ضَرَرِ الْمُرْتَهِنِ تَحَكُّمٌ؛ لِأَنَّ بُطْلَانَ مِلْكِهِ عَنْ الثَّمَنِ مَوْقُوفٌ؛ لِأَنَّ بَيْعَ الْمَرْهُونِ مَوْقُوفٌ عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَبُطْلَانُ مِلْكِ الْمُرْتَهِنِ عَنْ الْيَدِ بَاتٌّ فَكَانَ أَقْوَى. وَأَمَّا الرَّقِيقُ عَبْدًا كَانَ أَوْ أَمَةً إذَا زَوَّجَ نَفْسَهُ فَإِنَّمَا لَمْ يَصِرْ السُّكُوتُ فِيهِ إذْنًا.
قَالَ بَعْضُ الشَّارِحِينَ نَاقِلًا عَنْ مَبْسُوطِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ السُّكُوتَ إنَّمَا يَصِيرُ إذْنًا وَإِجَازَةً دَفْعًا لِلضَّرَرِ، وَلَا ضَرَرَ عَلَى أَحَدٍ فِي نِكَاحِ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ يَكُونُ مَوْقُوفًا؛ لِأَنَّ نِكَاحَ الْمَمْلُوكِ مَمْلُوكُ الْمَوْلَى لِمَا فِيهِ مِنْ إصْلَاحِ مِلْكِهِ، وَمَنَافِعُ بُضْعِ الْمَمْلُوكَةِ كَذَلِكَ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ إبْطَالُ مِلْكِهِ بِغَيْرِ رِضَاهُ فَكَانَ مَوْقُوفًا، وَأَمْكَنَ فَسْخُهُ فَلَا يَتَضَرَّرُ بِهِ أَحَدٌ. وَقِيلَ: فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ لَا كَلَامَ فِي أَنَّ نِكَاحَ الرَّقِيقِ مَوْقُوفٌ عَلَى إذْنِ الْمَوْلَى وَإِجَازَتِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ أَنَّ سُكُوتَهُ إجَازَةٌ أَوْ لَا، وَلَعَلَّ الصَّوَابَ أَنْ يُقَالَ: إنَّ فِي ذَلِكَ ضَرَرًا مُحَقَّقًا لِلْمَوْلَى فَلَا يَكُونُ السُّكُوتُ إذْنًا، إلَى هُنَا لَفْظُ الْعِنَايَةِ. وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: وَعِنْدِي أَنَّ النَّظَرَ غَيْرُ وَارِدٍ؛ لِأَنَّ كَوْنَ السُّكُوتِ إذْنًا كَانَ لِأَجْلِ دَفْعِ الضَّرَرِ فَحَيْثُ لَا ضَرَرَ يَبْقَى عَلَى الْقِيَاسِ وَلَا يُجْعَلُ إذْنًا اهـ.
أَقُولُ: كَأَنَّهُ لَمْ يَفْهَمْ مُرَادَ مَنْ أَوْرَدَ النَّظَرَ، إذْ لَا كَلَامَ فِي أَنَّ كَوْنَ السُّكُوتِ إذْنًا كَانَ لِأَجْلِ دَفْعِ الضَّرَرِ، وَإِنَّمَا هُوَ فِي أَنَّ نِكَاحَ الرَّقِيقِ هَلْ فِيهِ ضَرَرٌ أَمْ لَا، إذْ لَا شَكَّ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى إذْنِ الْمَوْلَى، فَإِنْ كَانَ سُكُوتُهُ إذْنًا تَحَقَّقَ الضَّرَرُ فِيهِ وَإِلَّا فَلَا
مَأْذُونٌ فِي جَمِيعِهَا) وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ: لَا يَكُونُ مَأْذُونًا إلَّا فِي ذَلِكَ النَّوْعِ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا نَهَاهُ عَنْ التَّصَرُّفِ فِي نَوْعٍ آخَرَ. لَهُمَا أَنَّ الْإِذْنَ تَوْكِيلٌ وَإِنَابَةٌ مِنْ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ يَسْتَفِيدُ الْوِلَايَةَ مِنْ جِهَتِهِ وَيَثْبُتُ الْحُكْمُ وَهُوَ الْمِلْكُ لَهُ دُونَ الْعَبْدِ، وَلِهَذَا يَمْلِكُ حَجْرَهُ فَيَتَخَصَّصُ بِمَا خَصَّهُ بِهِ كَالْمُضَارِبِ. وَلَنَا أَنَّهُ إسْقَاطُ الْحَقِّ وَفَكُّ الْحَجْرِ عَلَى مَا بَيِّنَاهُ، وَعِنْدَ ذَلِكَ تَظْهَرُ مَالِكِيَّةُ الْعَبْدِ فَلَا يَتَخَصَّصُ بِنَوْعٍ دُونَ نَوْعٍ، بِخِلَافِ الْوَكِيلِ؛ لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ فِي مَالِ غَيْرِهِ فَيَثْبُتُ لَهُ الْوِلَايَةُ مِنْ جِهَتِهِ، وَحُكْمُ التَّصَرُّفِ وَهُوَ الْمِلْكُ وَاقِعٌ لِلْعَبْدِ حَتَّى كَانَ لَهُ أَنْ يَصْرِفَهُ إلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ
فَحَيْثُ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ سُكُوتُهُ إذْنًا فِي صُورَةِ تَزْوِيجِ الرَّقِيقِ نَفْسَهُ لَمْ يُفِدْ كَوْنَ نِكَاحِهِ مَوْقُوفًا عَلَى إذْنِهِ عَدَمُ ثُبُوتِ الضَّرَرِ فِيهَا وَإِنْ بَنَى عَدَمَ ثُبُوتِ الضَّرَرِ فِيهَا عَلَى عَدَمِ كَوْنِ سُكُوتِهِ فِيهَا إذْنًا لَزِمَ الْمُصَادَرَةُ، إذْ هُوَ أَوَّلُ الْكَلَامِ الَّذِي طُولِبَ الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا نَحْنُ فِيهِ فِي أَصْلِ السُّؤَالِ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ فِي النَّظَرِ وَإِنَّمَا هُوَ فِي أَنَّ سُكُوتَهُ إجَازَةٌ أَوْ لَا، تَأَمَّلْ تَقِفْ
(قَوْلُهُ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا نَهَاهُ عَنْ التَّصَرُّفِ فِي نَوْعٍ آخَرَ) يَعْنِي إذَا نَهَاهُ عَنْ التَّصَرُّفِ فِي نَوْعٍ آخَرَ مِنْ التِّجَارَةِ بَعْدَ أَنْ أَذِنَ لَهُ فِي نَوْعٍ مَخْصُوصٍ مِنْهَا فَالْخِلَافُ فِيهِ كَالْخِلَافِ فِيمَا إذَا سَكَتَ عَنْ النَّهْيِ عَنْ التَّصَرُّفِ فِي نَوْعٍ آخَرَ مِنْهَا بَعْدَ أَنْ أَذِنَ لَهُ فِي نَوْعٍ مَخْصُوصٍ مِنْهَا.
وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ سَوَاءٌ نَهَى عَنْ غَيْرِ ذَلِكَ النَّوْعِ أَوْ سَكَتَ عَنْهُ يَكُونُ مَأْذُونًا فِي جَمِيعِ التِّجَارَاتِ، خِلَافًا لَزُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ كَمَا ذَكَرَ فِي الْإِيضَاحِ وَنُقِلَ عَنْهُ فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ. قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي هَذَا الْمَقَامِ: وَكَذَا لَوْ كَانَ أَذِنَ لَهُ إذْنًا عَامًا ثُمَّ نَهَاهُ عَنْ نَوْعٍ اهـ.
أَقُولُ: هَذَا الشَّرْحُ لَا يُطَابِقُ الْمَشْرُوحَ، إذْ الْمُرَادُ بِهِ مَا قَرَّرْنَاهُ آنِفًا يَدُلُّ عَلَيْهِ لَفْظٌ آخَرُ فِي قَوْلِ الْمُصَنِّفِ إذَا نَهَاهُ عَنْ التَّصَرُّفِ فِي نَوْعٍ آخَرَ، وَيَأْبَى ذَلِكَ مَا قَالَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ قَطْعًا، كَيْفَ وَمَسْأَلَةُ الْإِذْنِ الْعَامِّ قَدْ مَرَّتْ مَعَ مُتَفَرِّعَاتِهَا فِي الصَّحِيفَةِ الْأُولَى، وَنَحْنُ الْآنَ بِصَدَدِ بَيَانِ مَسْأَلَةِ الْإِذْنِ فِي نَوْعٍ خَاصٍّ فَلَا مَعْنَى لِخَلْطِهِ حَدِيثَ الْإِذْنِ الْعَامِّ هَاهُنَا كَمَا لَا يَخْفَى.
(قَوْلُهُ وَلَنَا أَنَّهُ إسْقَاطٌ وَفَكُّ الْحَجْرِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ، وَعِنْدَ ذَلِكَ تَظْهَرُ مَالِكِيَّةُ الْعَبْدِ فَلَا يُتَخَصَّصُ بِنَوْعٍ دُونَ نَوْعٍ) أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ
وَالنَّفَقَةِ، وَمَا اسْتَغْنَى عَنْهُ يَخْلُفُهُ الْمَالِكُ فِيهِ.
قَالَ (وَإِنْ أَذِنَ لَهُ فِي شَيْءٍ بِعَيْنِهِ فَلَيْسَ بِمَأْذُونٍ)؛ لِأَنَّهُ اسْتِخْدَامٌ، وَمَعْنَاهُ أَنْ يَأْمُرَهُ بِشِرَاءِ ثَوْبٍ مُعَيَّنٍ لِلْكِسْوَةِ أَوْ طَعَامٍ رِزْقًا لِأَهْلِهِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ صَارَ مَأْذُونًا يَنْسَدُّ عَلَيْهِ بَابُ الِاسْتِخْدَامِ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ: أَدِّ إلَيَّ الْغَلَّةَ كُلَّ شَهْرٍ كَذَا، أَوْ قَالَ أَدِّ إلَيَّ أَلْفًا وَأَنْتَ حُرٌّ؛ لِأَنَّهُ طَلَبَ مِنْهُ الْمَالَ وَلَا يَحْصُلُ إلَّا بِالْكَسْبِ، أَوْ قَالَ لَهُ اُقْعُدْ صَبَّاغًا أَوْ قَصَّارًا؛ لِأَنَّهُ أَذِنَ بِشِرَاءِ مَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ وَهُوَ نَوْعٌ فَيَصِيرُ مَأْذُونًا فِي الْأَنْوَاعِ. .
قَالَ (وَإِقْرَارُ الْمَأْذُونِ بِالدُّيُونِ وَالْغُصُوبِ جَائِزٌ وَكَذَا بِالْوَدَائِعِ)؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ مِنْ تَوَابِعِ التِّجَارَةِ،
إنْ أُرِيدَ أَنَّهُ إسْقَاطُ الْحَقِّ بِجُمْلَتِهِ وَفَكُّ الْحَجْرِ بِذِمَّتِهِ فَهُوَ مَمْنُوعٌ. كَيْفَ وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَصَحَّ هِبَتُهُ وَإِقْرَاضُهُ وَنَحْوُهُمَا مِنْ التَّبَرُّعَاتِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ قَطْعًا كَمَا سَيَأْتِي فِي الْكِتَابِ، وَإِنْ أُرِيدَ أَنَّهُ إسْقَاطُ الْحَقِّ وَفَكُّ الْحَجْرِ فِي بَعْضِ التَّصَرُّفَاتِ فَهُوَ مُسَلَّمٌ، لَكِنْ لَا يَثْبُتُ بِهِ الْمُدَّعَى إذْ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ إسْقَاطُهُ وَفَكُّهُ فِي جَمِيعِ التَّصَرُّفَاتِ حَتَّى يَلْزَمَ أَنْ يَكُونَ مَأْذُونًا لَهُ فِي جَمِيعِهَا كَمَا هُوَ الْمُدَّعَى.
فَإِذَا قُلْت: الْمُرَادُ أَنَّهُ إسْقَاطُ الْحَقِّ وَفَكُّ الْحَجْرِ فِي بَعْضٍ مُعَيَّنٍ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ وَهُوَ جِنْسُ التِّجَارَةِ وَالْمُدَّعَى كَوْنُهُ مَأْذُونًا لَهُ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ هَذَا الْجِنْسِ لَا فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ أَجْنَاسِ التَّصَرُّفَاتِ فَلَا يُرَدُّ النَّقْضُ بِالتَّبَرُّعَاتِ وَلَا عَدَمُ ثُبُوتِ الْمُدَّعَى. قُلْت: فَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إنْ أُرِيدَ بِقَوْلِهِ فَلَا يَتَخَصَّصُ بِنَوْعٍ دُونَ نَوْعٍ أَنَّهُ لَا يَتَخَصَّصُ بِذَلِكَ إذَا أَطْلَقَهُ وَلَمْ يُقَيِّدْهُ بِنَوْعٍ فَهُوَ مُسَلَّمٌ، لَكِنْ لَا يُجْدِي طَائِلًا؛ لِأَنَّ مَا نَحْنُ فِيهِ صُورَةُ التَّقْيِيدِ، وَإِنْ أُرِيدَ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَتَخَصَّصُ بِنَوْعٍ دُونَ نَوْعٍ وَإِنْ قَيَّدَهُ بِذَلِكَ فَهُوَ مَمْنُوعٌ، كَيْفَ وَهَلَّا يَتَوَقَّفُ تَمَامُهُ عَلَى أَوَّلِ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْإِذْنُ فِي نَوْعٍ مِنْ التِّجَارَةِ إذْنًا فِي جَمِيعِهَا فَيُؤَدِّي إلَى الْمُصَادَرَةِ عَلَى الْمَطْلُوبِ.
فَإِنْ قُلْت: عَلَّلَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ فَلَا يُتَخَصَّصُ بِنَوْعٍ دُونَ نَوْعٍ بِقَوْلِهِ لِكَوْنِ التَّخْصِيصِ إذْ ذَاكَ تَصَرُّفًا فِي مِلْكِ الْغَيْرِ وَهُوَ لَا يَجُوزُ اهـ فَلَا مُصَادَرَةَ عَلَى الْمَطْلُوبِ. قُلْت: ذَاكَ التَّعْلِيلُ لَيْسَ بِتَامٍّ، إذْ لِقَائِلٍ أَيْضًا أَنْ يَقُولَ: إنَّمَا يَكُونُ التَّخْصِيصُ تَصَرُّفًا فِي مِلْكِ الْغَيْرِ أَنْ لَوْ أَطْلَقَ الْإِذْنَ أَوَّلًا فَيَتَحَقَّقُ إسْقَاطُ الْحَقِّ وَفَكُّ الْحَجْرِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَظَهَرَ مَالِكِيَّةُ الْعَبْدِ فِي التِّجَارَاتِ مُطْلَقًا ثُمَّ خَصَّصَهُ بِنَوْعٍ مِنْهَا، وَمَا نَحْنُ فِيهِ لَيْسَ كَذَلِكَ. إذْ الْكَلَامُ فِيمَا إذَا قَيَّدَهُ أَوَّلًا فَقَالَ أَذِنْت لَك فِي هَذَا النَّوْعِ فَقَطْ،
إذْ لَوْ لَمْ يَصِحَّ لَاجْتَنَبَ النَّاسُ مُبَايَعَتَهُ وَمُعَامَلَتَهُ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَا إذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ إذَا كَانَ الْإِقْرَارُ فِي صِحَّتِهِ، فَإِنْ كَانَ فِي مَرَضِهِ يُقَدَّمُ دَيْنُ الصِّحَّةِ كَمَا فِي الْحُرِّ، بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ بِمَا يَجِبُ مِنْ الْمَالِ لَا بِسَبَبِ التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّهُ كَالْمَحْجُورِ فِي حَقِّهِ.
. قَالَ (وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ)؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِتِجَارَةٍ.
قَالَ (وَلَا يُزَوِّجُ مَمَالِيكَهُ) وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُزَوِّجُ الْأَمَةَ؛ لِأَنَّهُ تَحْصِيلُ الْمَالِ بِمَنَافِعِهَا فَأَشْبَهَ إجَارَتَهَا. وَلَهُمَا أَنَّ الْإِذْنَ يَتَضَمَّنُ التِّجَارَةَ وَهَذَا لَيْسَ بِتِجَارَةٍ، وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ تَزْوِيجَ الْعَبْدِ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الصَّبِيِّ الْمَأْذُونِ وَالْمُضَارِبِ وَالشَّرِيكِ شَرِكَةَ عِنَانٍ وَالْأَبِ وَالْوَصِيِّ. .
قَالَ (وَلَا يُكَاتِبُ)؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِتِجَارَةٍ، إذْ هِيَ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ، وَالْبَدَلُ فِيهِ مُقَابَلٌ بِفَكِّ الْحَجْرِ فَلَمْ يَكُنْ تِجَارَةً (إلَّا أَنْ يُجِيزَهُ الْمَوْلَى وَلَا دَيْنَ عَلَيْهِ)؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى قَدْ مَلَكَهُ
وَلَا شَكَّ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ كَلَامُ وَاحِدٍ لَيْسَ لِأَوَّلِهِ حُكْمٌ مُسْتَقِلٌّ وَلِآخِرِهِ الَّذِي هُوَ قَيْدُهُ حُكْمٌ آخَرُ، بَلْ لِلْمَجْمُوعِ حُكْمٌ وَاحِدٌ يَتِمُّ أَوَّلُهُ بِآخِرِهِ، فَمِنْ أَيْنَ يَلْزَمُ التَّصَرُّفُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ؟ تَأَمَّلْ جِدًّا. ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَنُوقِضَ بِالْإِذْنِ فِي النِّكَاحِ، فَإِنَّهُ فَكُّ الْحَجْرِ وَإِسْقَاطُ الْحَقِّ، وَإِذَا أَذِنَ لِلْعَبْدِ أَنْ يَتَزَوَّجَ فُلَانَةَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ غَيْرَهَا.
وَأُجِيبُ بِأَنَّ الْإِذْنَ فِيهِ تَصَرُّفٌ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ لَا فِي مِلْكِ الْغَيْرِ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ تَصَرُّفٌ مَمْلُوكٌ لِلْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا بِوَلِيٍّ، وَالرِّقُّ أَخْرَجَ الْعَبْدَ مِنْ أَهْلِيَّةِ الْوِلَايَةِ عَلَى نَفْسِهِ فَكَانَتْ الْوِلَايَةُ لِلْمَوْلَى، وَلِهَذَا جَازَ أَنْ يُجْبِرَهُ عَلَيْهِ فَكَانَ الْعَبْدُ كَالْوَكِيلِ وَالنَّائِبِ عَنْ مَوْلَاهُ فَيَتَخَصَّصُ بِمَا خَصَّهُ بِهِ مِنْ التَّصَرُّفِ.
وَيَصِيرُ الْعَبْدُ نَائِبًا عَنْهُ وَتَرْجِعُ الْحُقُوقُ إلَى الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ فِي الْكِتَابَةِ سَفِيرٌ. .
قَالَ (وَلَا يُعْتِقُ عَلَى مَالٍ)؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْكِتَابَةَ فَالْإِعْتَاقُ أَوْلَى
(وَلَا يُقْرِضُ)؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ مَحْضٌ كَالْهِبَةِ
(وَلَا يَهَبُ بِعِوَضٍ وَلَا بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَكَذَا لَا يَتَصَدَّقُ)؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ تَبَرُّعٌ بِصَرِيحِهِ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً أَوْ ابْتِدَاءً فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْإِذْنِ بِالتِّجَارَةِ. قَالَ (إلَّا أَنْ يُهْدِيَ الْيَسِيرَ مِنْ الطَّعَامِ أَوْ يُضَيِّفَ مَنْ يُطْعِمُهُ)؛ لِأَنَّهُ مِنْ ضَرُورَاتِ التِّجَارَةِ اسْتِجْلَابًا لِقُلُوبِ الْمُجَاهِزِينَ، بِخِلَافِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا إذْنَ لَهُ أَصْلًا فَكَيْفَ يَثْبُتُ مَا هُوَ مِنْ ضَرُورَاتِهِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمَحْجُورَ عَلَيْهِ إذَا أَعْطَاهُ الْمَوْلَى قُوتَ يَوْمِهِ فَدَعَا بَعْضَ رُفَقَائِهِ عَلَى ذَلِكَ الطَّعَامِ فَلَا بَأْسَ بِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَعْطَاهُ قُوتَ شَهْرٍ؛ لِأَنَّهُمْ لَوْ أَكَلُوهُ قَبْلَ الشَّهْرِ يَتَضَرَّرُ بِهِ
فَإِنْ قِيلَ: قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الضَّرَرَ اللَّاحِقَ بِالْمَوْلَى يَمْنَعُ الْإِذْنَ وَقَدْ يَتَضَرَّرُ الْمَوْلَى بِغَيْرِ مَا خَصَّهُ بِهِ مِنْ التَّصَرُّفِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ عَالِمًا بِالتِّجَارَةِ فِي الْبَزِّ دُونَ الْخَزِّ. أُجِيبُ بِأَنَّهُ ضَرَرٌ غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ، وَلَئِنْ كَانَ فَلَهُ مَدْفَعٌ وَهُوَ التَّوْكِيلُ بِهِ عَلَى أَنَّ جَوَازَ التَّصَرُّفِ بِالْغَبْنِ الْفَاحِشِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَدْفَعُ ذَلِكَ وَبِالْجُمْلَةِ إذَا ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ أَنَّهُ يَتَصَرَّفُ بِأَهْلِيَّتِهِ وَمَالِكِيَّتِهِ فَلَيْسَ السُّؤَالُ وَارِدًا، إلَى هُنَا كَلَامُهُ. أَقُولُ: إنَّ قَوْلَهُ وَبِالْجُمْلَةِ إلَخْ لَيْسَ بِشَيْءٍ. أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ حَاصِلَ السُّؤَالِ أَنَّهُ قَدْ يَلْحَقُ الضَّرَرُ بِالْمَوْلَى عِنْدَ تَصَرُّفِ الْعَبْدِ بِغَيْرِ مَا خَصَّهُ بِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ ثُبُوتَ كَوْنِ الْعَبْدِ مُتَصَرِّفًا بِأَهْلِيَّتِهِ وَمَالِكِيَّتِهِ لَا يَدْفَعُ وُرُودَ ذَلِكَ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ الْمُتَصَرِّفَ بِأَهْلِيَّتِهِ وَمَالِكِيَّتِهِ لَا يَمْلِكُ الْإِضْرَارَ بِالْغَيْرِ، إذْ لَا إضْرَارَ فِي الْإِسْلَامِ.
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّهُ يَرُدُّ السُّؤَالَ بِطَرِيقِ الْمُعَارَضَةِ عَلَى مَا ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ لَا مَحَالَةَ، وَإِلَّا يَلْزَمُ أَنْ يَنْسَدَّ بَابُ الْمُعَارَضَةِ بِالْكُلِّيَّةِ؛ لِأَنَّهَا إقَامَةُ الدَّلِيلِ عَلَى خِلَافِ مَا أَقَامَ عَلَيْهِ الْخَصْمُ الدَّلِيلَ مَعَ أَنَّهَا طَرِيقٌ مَقْبُولٌ لَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ، وَلَا شَكَّ أَنَّ السُّؤَالَ الْمَزْبُورَ مُعَارَضَةٌ، فَالْوَجْهُ فِي الْجَوَابِ عَنْهُ مَا ذَكَرَهُ فِي أَوَائِلِ جَوَابِهِ دُونَ
الْمَوْلَى. قَالُوا: وَلَا بَأْسَ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَتَصَدَّقَ مِنْ مَنْزِلِ زَوْجِهَا بِالشَّيْءِ الْيَسِيرِ كَالرَّغِيفِ وَنَحْوِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مَمْنُوعٍ عَنْهُ فِي الْعَادَةِ. .
قَالَ (وَلَهُ أَنْ يَحُطَّ مِنْ الثَّمَنِ بِالْعَيْبِ مِثْلَ مَا يَحُطُّ التُّجَّارُ)؛ لِأَنَّهُ مِنْ صَنِيعِهِمْ، وَرُبَّمَا يَكُونُ الْحَطُّ أَنْظَرُ لَهُ مِنْ قَبُولِ الْمَعِيبِ ابْتِدَاءً، بِخِلَافِ مَا إذَا حَطَّ مِنْ غَيْرِ عَيْبٍ؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ مَحْضٌ بَعْدَ تَمَامِ الْعَقْدِ فَلَيْسَ مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ، وَلَا كَذَلِكَ الْمُحَابَاةُ فِي الِابْتِدَاءِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَحْتَاجُ إلَيْهَا عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ
(وَلَهُ أَنْ يُؤَجِّلَ فِي دَيْنٍ وَجَبَ لَهُ)؛ لِأَنَّهُ مِنْ عَادَةِ التُّجَّارِ. .
قَالَ (وَدُيُونُهُ مُتَعَلِّقَةٌ بِرَقَبَتِهِ يُبَاعُ لِلْغُرَمَاءِ إلَّا أَنْ يَفْدِيَهُ الْمَوْلَى) وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ: لَا يُبَاعُ وَيُبَاعُ كَسْبُهُ فِي دَيْنِهِ بِالْإِجْمَاعِ. لَهُمَا أَنَّ غَرَضَ الْمَوْلَى مِنْ الْإِذْنِ تَحْصِيلُ مَالٍ لَمْ يَكُنْ لَا تَفْوِيتُ مَالٍ قَدْ كَانَ لَهُ،
قَوْلِهِ هَذَا
. (قَوْلُهُ وَدُيُونُهُ مُتَعَلِّقَةٌ بِرَقَبَتِهِ يُبَاعُ لِلْغُرَمَاءِ) أَيْ يَبِيعُهُ الْقَاضِي لِدَيْنِ الْغُرَمَاءِ بِغَيْرِ رِضَا الْمَوْلَى. فَإِنْ قِيلَ: مَا وَجْهُ الْبَيْعِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ لَا يَرَى الْحَجْرَ عَلَى الْحُرِّ الْعَاقِلِ بِسَبَبِ الدَّيْنِ وَبَيْعُ الْقَاضِي الْعَبْدَ بِغَيْرِ رِضَا مَوْلَاهُ حَجْرٌ عَلَيْهِ. أُجِيبُ بِأَنْ ذَلِكَ لَيْسَ بِحَجْرٍ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ مَحْجُورًا عَنْ بَيْعِهِ، إذْ لَا يَجُوزُ لِلْمَوْلَى بَيْعُ الْعَبْدِ الْمَدْيُونِ بِغَيْرِ رِضَا الْغُرَمَاءِ وَحَجْرُ الْمَحْجُورِ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ فَكَانَ كَالتَّرِكَةِ الْمُسْتَغْرِقَةِ بِالدَّيْنِ فِي جَوَازِ أَنْ يَبِيعَهَا الْقَاضِي عَلَى الْوَرَثَةِ إنْ امْتَنَعُوا عَنْ قَضَاءِ الدَّيْنِ فَإِنَّهُ لَا يُعَدُّ حَجْرًا لِكَوْنِهِمْ مَحْجُورِينَ عَنْ بَيْعِهَا قَبْلَ ذَلِكَ بِغَيْرِ رِضَا الْغُرَمَاءِ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ وَعَامَّةِ الشُّرُوحِ، وَعَزَاهُ فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ إلَى الذَّخِيرَةِ. أَقُولُ: فِي الْجَوَابِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْسِمُ مَادَّةَ الْإِشْكَالِ، إذْ لِسَائِلٍ أَنْ يُعِيدَ الْكَلَامَ إلَى كَوْنِهِ مَحْجُورًا عَنْ بَيْعِهِ قَبْلَ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَقْتَضِي الْحَجْرَ عَلَى الْحُرِّ الْعَاقِلِ بِسَبَبِ الدَّيْنِ فَيَشْكُلُ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ.
ثُمَّ إنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّرِكَةِ الْمُسْتَغْرِقَةِ بِالدِّينِ ظَاهِرٌ، إذْ لَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ لِلْوَرَثَةِ فِي التَّرِكَةِ الْمُسْتَغْرِقَةِ بِالدَّيْنِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْغَرِيمِ يُقَدَّمُ عَلَى حَقِّ الْوَارِثِ، وَلِهَذَا إذَا أَعْتَقَ الْوَرَثَةُ عَبْدًا مِنْ التَّرِكَةِ الْمُسْتَغْرِقَةِ بِالدَّيْنِ لَا يَنْفُذُ إعْتَاقُهُمْ، بِخِلَافِ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ لَهُ فَإِنَّ مِلْكَ الْمَوْلَى فِيهِ بَاقٍ وَلِهَذَا يَنْفُذُ إعْتَاقُهُ إيَّاهُ، وَسَيَأْتِي ذَلِكَ كُلُّهُ فِي الْكِتَابِ، فَسَبَبُ كَوْنِ الْوَرَثَةِ مَحْجُورِينَ عَنْ بَيْعِ التَّرِكَةِ الْمُسْتَغْرِقَةِ بِالدِّينِ إنَّمَا هُوَ عَدَمُ كَوْنِهَا مَمْلُوكَةً لَهُمْ فَلَا يُنْتَقَضُ بِهِ أَصْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ أَنْ لَا يَرَى الْحَجْرَ بِسَبَبِ الدَّيْنِ.
وَأَمَّا كَوْنُ الْمَوْلَى مَحْجُورًا عَنْ بَيْعِ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ لَهُ فَلَا سَبَبَ لَهُ سِوَى الدَّيْنِ فَيَلْزَمُ أَنْ يُنْتَقَضَ بِهِ أَصْلُهُ كَمَا لَا يَخْفَى فَتَأَمَّلْ (قَوْلَهُ إلَّا أَنْ يَفْدِيَهُ الْمَوْلَى) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَقَوْلُهُ إلَّا أَنْ يَفْدِيَهُ الْمَوْلَى إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْبَيْعَ إنَّمَا يَجُوزُ إذَا كَانَ الْمَوْلَى حَاضِرًا؛ لِأَنَّ اخْتِيَارَ الْفِدَاءِ مِنْ الْغَائِبِ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ اهـ. أَقُولُ: فِيهِ بَحْثٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ إلَّا أَنْ يَفْدِيَهُ الْمَوْلَى إنَّمَا يُشِيرُ إلَى أَنَّ عَدَمَ جَوَازِ الْبَيْعِ عِنْدَ الْفِدَاءِ كَمَا هُوَ الْحَاصِلُ مِنْ الِاسْتِثْنَاءِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ إذَا كَانَ الْمَوْلَى حَاضِرًا بِنَاءً عَلَى أَنَّ اخْتِيَارَ الْفِدَاءِ مِنْ الْغَائِبِ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ، وَأَمَّا أَنَّ الْبَيْعَ إنَّمَا يَجُوزُ إذَا كَانَ الْمَوْلَى حَاضِرًا فَلَا إشَارَةَ فِي قَوْلِهِ الْمَذْكُورِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْفِدَاءَ مِنْ الْمَوْلَى إنَّمَا يُتَصَوَّرُ عِنْدَ حُضُورِ الْمَوْلَى أَوْ نَائِبِهِ.
وَأَمَّا عَدَمُ الْفِدَاءِ مِنْهُ فَكَمَا يُتَصَوَّرُ عِنْدَ حُضُورِ الْمَوْلَى أَوْ نَائِبِهِ كَذَلِكَ يُتَصَوَّرُ عِنْدَ غَيْبَتِهِمَا أَيْضًا كَمَا لَا يَخْفَى. وَالْبَيْعُ إنَّمَا يَجُوزُ فِيمَا إذَا لَمْ يَقَعْ الْفِدَاءُ مِنْ الْمَوْلَى كَمَا هُوَ الْحَاصِلُ مِنْ الْبَاقِي بَعْدَ الثِّنْيَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْمَذْكُورَةِ، فَلَمَّا تَصَوَّرَ عَدَمَ الْفِدَاءِ فِي كُلٍّ مِنْ صُورَتَيْ الْحُضُورِ وَالْغَيْبَةِ احْتَمَلَ جَوَازَ الْبَيْعِ فِي كُلٍّ مِنْ تَيْنِكَ الصُّورَتَيْنِ أَيْضًا فَمِنْ أَيْنَ حَصَلَتْ الْإِشَارَةُ إلَى انْحِصَارِ جَوَازِهِ فِي صُورَةِ حُضُورِ الْمَوْلَى؟ نَعَمْ الْبَيْعُ إنَّمَا يَجُوزُ إذَا كَانَ الْمَوْلَى حَاضِرًا كَمَا صَرَّحُوا بِهِ فِي الشُّرُوحِ وَعَامَّةِ الْمُعْتَبَرَاتِ حَيْثُ قَالُوا: هَذَا إذَا كَانَ الْمَوْلَى حَاضِرًا.
فَأَمَّا إذَا كَانَ غَائِبًا
وَذَلِكَ فِي تَعْلِيقِ الدَّيْنِ بِكَسْبِهِ، حَتَّى إذَا فَضَلَ شَيْءٌ مِنْهُ عَنْ الدَّيْنِ يَحْصُلُ لَهُ لَا بِالرَّقَبَةِ، بِخِلَافِ دَيْنِ الِاسْتِهْلَاكِ؛ لِأَنَّهُ نَوْعُ جِنَايَةٍ، وَاسْتِهْلَاكُ الرَّقَبَةِ بِالْجِنَايَةِ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْإِذْنِ. وَلَنَا أَنَّ الْوَاجِبَ فِي ذِمَّةِ الْعَبْدِ ظَهَرَ وُجُوبُهُ فِي حَقِّ الْمَوْلَى فَيَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ اسْتِيفَاءً كَدِينِ الِاسْتِهْلَاكِ، وَالْجَامِعُ دَفْعُ الضَّرَرِ عَنْ النَّاسِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ سَبَبَهُ التِّجَارَةُ وَهِيَ دَاخِلَةٌ تَحْتَ الْإِذْنِ، وَتَعَلُّقُ الدَّيْنِ بِرَقَبَتِهِ اسْتِيفَاءٌ حَامِلٌ عَلَى الْمُعَامَلَةِ، فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ صَلُحَ غَرَضًا لِلْمَوْلَى، وَيَنْعَدِمُ الضَّرَرُ فِي حَقِّهِ بِدُخُولِ الْمَبِيعِ فِي مِلْكِهِ،
فَإِنَّهُ لَا يَبِيعُ الْعَبْدَ حَتَّى يَحْضُرَ الْمَوْلَى، فَإِنَّ الْخَصْمَ فِي رَقَبَةِ الْعَبْدِ هُوَ الْمَوْلَى فَلَا يَجُوزُ الْبَيْعُ إلَّا بِحَضْرَتِهِ أَوْ بِحَضْرَةِ نَائِبِهِ، بِخِلَافِ الْكَسْبِ فَإِنَّهُ يُبَاعُ بِالدَّيْنِ وَإِنْ كَانَ الْمَوْلَى غَائِبًا؛ لِأَنَّ الْخَصْمَ فِيهِ هُوَ الْعَبْدُ اهـ. لَكِنَّ الْكَلَامَ فِي حُصُولِ الْإِشَارَةِ إلَيْهِ فِي قَوْلِ الْمُصَنِّفِ إلَّا أَنْ يَفْدِيَهُ الْمَوْلَى كَمَا ادَّعَاهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ تَدَبَّرْ (قَوْلُهُ وَهَذَا؛ لِأَنَّ سَبَبَهُ التِّجَارَةُ وَهِيَ دَاخِلَةٌ تَحْتَ الْإِذْنِ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَهَذَا إشَارَةٌ إلَى دَفْعِ الضَّرَرِ وَبَيَانُهُ أَنَّ سَبَبَ هَذَا الدَّيْنِ التِّجَارَةُ؛ لِأَنَّهُ الْمَفْرُوضُ وَالتِّجَارَةُ دَاخِلَةٌ تَحْتَ الْإِذْنِ بِلَا خِلَافٍ فَسَبَبُهَا دَاخِلٌ تَحْتَهُ، وَإِذَا كَانَ دَاخِلًا تَحْتَهُ كَانَ مُلْتَزَمًا، فَلَوْ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِرَقَبَتِهِ اسْتِيفَاءً كَانَ إضْرَارًا؛ لِأَنَّ الْكَسْبَ قَدْ لَا يُوجَدُ وَالْعِتْقُ كَذَلِكَ فَتُتْوَى حُقُوقُ النَّاسِ. وَقَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَيَانًا لِقَوْلِهِ ظَهَرَ وُجُوبُهُ فِي حَقِّ الْمَوْلَى اهـ. أَقُولُ: لَا يَخْفَى عَلَى ذِي فِطْرَةٍ سَلِيمَةٍ أَنَّ الْأَوْجَهَ هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ ثَانِيًا بِقَوْلِهِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَيَانًا إلَخْ وَإِنْ كَانَ أُسْلُوبُ تَحْرِيرِهِ يُشْعِرُ بِخِلَافِهِ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ كَوْنَ سَبَبِ
وَتَعَلُّقُهُ بِالْكَسْبِ لَا يُنَافِي تَعَلُّقَهُ بِالرَّقَبَةِ فَيَتَعَلَّقُ بِهِمَا، غَيْرَ أَنَّهُ يَبْدَأُ بِالْكَسْبِ فِي الِاسْتِيفَاءِ لِحَقِّ الْغُرَمَاءِ وَإِبْقَاءً لِمَقْصُودِ الْمَوْلَى، وَعِنْدَ انْعِدَامِهِ يُسْتَوْفَى مِنْ الرَّقَبَةِ. وَقَوْلُهُ فِي الْكِتَابِ دُيُونُهُ الْمُرَادُ مِنْهُ دَيْنٌ وَجَبَ بِالتِّجَارَةِ أَوْ بِمَا هُوَ فِي مَعْنَاهَا كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالْإِجَارَةِ وَالِاسْتِئْجَارِ وَضَمَانِ الْغُصُوبِ وَالْوَدَائِعِ وَالْأَمَانَاتِ إذَا جَحَدَهَا، وَمَا يَجِبُ مِنْ الْعُقْرِ بِوَطْءِ الْمُشْتَرَاةِ بَعْدَ الِاسْتِحْقَاقِ لِاسْتِنَادِهِ إلَى الشِّرَاءِ فَيَلْحَقُ بِهِ
الدَّيْنِ التِّجَارَةُ وَكَوْنَ التِّجَارَةِ دَاخِلَةٌ تَحْتَ الْإِذْنِ لَا مَدْخَلَ لِخُصُوصِيَّةِ شَيْءٍ مِنْهُمَا فِي حَقِّ تَضَرُّرِ النَّاسِ. فَإِنَّهُمْ يَتَضَرَّرُونَ بِتَوَى حَقِّهِمْ سَوَاءٌ كَانَ سَبَبَ الدَّيْنِ التِّجَارَةُ أَوْ غَيْرُهَا كَصَدَاقِ امْرَأَةٍ تَزَوَّجَهَا الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى، وَسَوَاءً كَانَتْ التِّجَارَةُ تِجَارَةً دَاخِلَةً تَحْتَ الْإِذْنِ أَوْ تِجَارَةً غَيْرَ دَاخِلَةٍ تَحْتَهُ، كَمَا إذَا لَحِقَ بِالْعَبْدِ الْمَحْجُورِ دَيْنٌ بِسَبَبِ التِّجَارَةِ. وَأَمَّا فِي حَقِّ ظُهُورِ وُجُوبِ الدَّيْنِ فِي حَقِّ الْمَوْلَى فَلِخُصُوصِيَّةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَدْخَلٌ لَا مَحَالَةَ، فَبِالْحَمْلِ عَلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ لَا يُتِمَّ الْفَائِدَةَ وَالتَّقْرِيبَ. وَأَمَّا بِالْحَمْلِ عَلَى الْمَعْنَى الثَّانِي فَيُتِمُّ كُلَّ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ عَنْ تَعَلُّقِ الدَّيْنِ بِرَقَبَةِ الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ كَانَ لُزُومُ إبْطَالِ حَقِّ الْمَوْلَى مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ، وَإِذَا ظَهَرَ وُجُوبُ الدَّيْنِ فِي ذِمَّةِ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ فِي حَقِّ الْمَوْلَى بِدُخُولِ سَبَبِهِ تَحْتَ إذْنِ الْمَوْلَى زَالَ ذَلِكَ الْمَانِعُ قَطْعًا فَتَعَلَّقَ الدَّيْنُ بِرَقَبَتِهِ.
وَمِمَّا يُقَرِّرُ الْمَعْنَى الثَّانِي تَحْرِيرُ صَاحِبِ الْكَافِي دَلِيلَنَا هَاهُنَا حَيْثُ قَالَ: وَلَنَا أَنَّ هَذَا دَيْنٌ ظَهَرَ وُجُوبُهُ فِي حَقِّ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ بِسَبَبِ التِّجَارَةِ وَإِذْنُهُ قَدْ ظَهَرَ فِي حَقِّ التِّجَارَةِ فَتُبَاعُ رَقَبَةُ الْعَبْدِ فِيهِ كَدِينِ الِاسْتِهْلَاكِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ النَّاسِ، وَكَذَا تَحْرِيرُ صَاحِبِ الْغَايَةِ إيَّاهُ حَيْثُ قَالَ: وَلَنَا أَنَّهُ دَيْنٌ وَاجِبٌ عَلَى الْعَبْدِ ظَهَرَ وُجُوبُهُ فِي حَقِّ الْمَوْلَى فَيَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ قِيَاسًا عَلَى دَيْنِ الِاسْتِهْلَاكِ. أَمَّا وُجُوبُهُ عَلَى الْعَبْدِ فَظَاهِرٌ.
وَأَمَّا ظُهُورُهُ فِي حَقِّ الْمَوْلَى فَلِأَنَّ سَبَبَ الدَّيْنِ هُوَ التِّجَارَةُ بِإِذْنِ الْمَوْلَى فَكَانَ ظَاهِرًا فِي حَقِّ الْمَوْلَى لَا مَحَالَةَ، وَإِذَا ظَهَرَ فِي حَقِّ الْمَوْلَى تَعَلَّقَ بِرَقَبَتِهِ اسْتِيفَاءً كَمَا فِي دَيْنِ الِاسْتِهْلَاكِ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَقَرَّ الْمَحْجُورُ حَيْثُ يَثْبُتُ الدَّيْنُ عَلَيْهِ وَلَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ الْمَوْلَى لِعَدَمِ إذْنِهِ اهـ كَلَامَهُ. ثُمَّ إنَّ بَعْضَ الْفُضَلَاءِ قَالَ: هَاهُنَا: وَلَعَلَّ الْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ وَهَذَا إشَارَةٌ إلَى تَعَلُّقِ الدَّيْنِ بِرَقَبَتِهِ اهـ.
وَكَأَنَّهُ أَخَذَ هَذَا الْمَعْنَى مِمَّا ذَكَرَهُ صَاحِبُ مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَحَلِّ حَيْثُ قَالَ قَوْلُهُ وَهَذَا: أَيْ كَوْنُ دَيْنِ تِجَارَتِهِ مُتَعَلِّقًا بِرَقَبَتِهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ سَبَبَهُ التِّجَارَةُ، وَهِيَ أَيْ التِّجَارَةُ دَاخِلَةٌ تَحْتَ الْإِذْنِ اهـ. أَقُولُ: هَذَا الِاحْتِمَالُ هَاهُنَا لَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ تَعَلُّقَ الدَّيْنِ بِرَقَبَتِهِ أَصْلُ الْمُدَّعَى الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الْخِلَافُ لِزُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ، وَلَوْ كَفَى فِي إثْبَاتِ
قَالَ (وَيُقَسَّمُ ثَمَنُهُ بَيْنَهُمْ بِالْحِصَصِ) لِتَعَلُّقِ حَقِّهِمْ بِالرَّقَبَةِ فَصَارَ كَتَعَلُّقِهَا بِالتَّرِكَةِ (فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ مِنْ دُيُونِهِ طُولِبَ بِهِ بَعْدَ الْحُرِّيَّةِ) لِتَقَرُّرِ الدَّيْنِ فِي ذِمَّتِهِ وَعَدَمِ وَفَاءِ الرَّقَبَةِ بِهِ (وَلَا يُبَاعُ ثَانِيًا) كَيْ لَا يَمْتَنِعَ الْبَيْعُ أَوْ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ الْمُشْتَرِي (وَيَتَعَلَّقُ دَيْنُهُ بِكَسْبِهِ سَوَاءً حَصَلَ قَبْلَ لُحُوقِ الدَّيْنِ أَوْ بَعْدَهُ وَيَتَعَلَّقُ بِمَا يَقْبَلُ مِنْ الْهِبَةِ)؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى إنَّمَا يَخْلُفُهُ فِي الْمِلْكِ بَعْدَ فَرَاغِهِ عَنْ حَاجَةِ الْعَبْدِ وَلَمْ يَفْرُغْ (وَلَا يَتَعَلَّقُ بِمَا انْتَزَعَهُ الْمَوْلَى مِنْ يَدِهِ قَبْلَ الدَّيْنِ) لِوُجُودِ شَرْطِ الْخُلُوصِ لَهُ (وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ غَلَّةَ مِثْلِهِ بَعْدَ الدَّيْنِ)؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ يَحْجُرُ عَلَيْهِ فَلَا يَحْصُلُ الْكَسْبُ، وَالزِّيَادَةُ عَلَى
ذَلِكَ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّ سَبَبَهُ التِّجَارَةُ وَهِيَ دَاخِلَةٌ تَحْتَ الْإِذْنِ لَكَانَ بَاقِي الْمُقَدِّمَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي دَلِيلِنَا الْمَزْبُورِ مُسْتَدْرِكَةً.
وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْعُمْدَةَ فِي إثْبَاتِ مَطْلُوبِنَا هَذَا إنَّمَا هِيَ قَوْلُهُ ظَهَرَ وُجُوبُهُ فِي حَقِّ الْمَوْلَى فَهُوَ الْمُحْتَاجُ إلَى الْبَيَانِ، وَتَعَلُّقُ الدَّيْنِ بِرَقَبَتِهِ نَتِيجَةٌ مُتَفَرِّعَةٌ عَلَيْهِ، وَلِذَلِكَ فَرَّعَ عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ إيَّاهُ بِقَوْلِهِ فَيَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ، فَالْوَجْهُ أَنْ تَكُونَ كَلِمَةُ هَذَا فِي قَوْلِهِ وَهَذَا إشَارَةٌ إلَى ظُهُورِ وُجُوبِ ذَلِكَ الدَّيْنِ فِي حَقِّ الْمَوْلَى لَا غَيْرَ، وَهَذَا كُلُّهُ يَظْهَرُ بِالتَّأَمُّلِ الصَّادِقِ (قَوْلُهُ وَيُقَسَّمُ ثَمَنُهُ بَيْنَهُمْ بِالْحِصَصِ لِتَعَلُّقِ حَقِّهِمْ بِالرَّقَبَةِ فَصَارَ كَتَعَلُّقِهَا بِالتَّرِكَةِ، فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ مِنْ دُيُونِهِ طُولِبَ بِهِ بَعْدَ الْحُرِّيَّةِ لِتَقَرُّرِ الدَّيْنِ فِي ذِمَّتِهِ وَعَدَمِ وَفَاءِ الرَّقَبَةِ بِهِ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ: إذَا بَاعَ الْقَاضِي الْعَبْدَ يُقَسِّمُ ثَمَنَهُ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ بِالْحِصَصِ لِتَعَلُّقِ حَقِّهِمْ بِالرَّقَبَةِ فَصَارَ كَتَعَلُّقِ الْحُقُوقِ بِالتَّرِكَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِالثَّمَنِ وَفَاءٌ يَضْرِبُ كُلُّ غَرِيمٍ فِي الثَّمَنِ بِقَدْرِ حَقِّهِ، كَالتَّرِكَةِ إذَا ضَاقَتْ عَنْ إيفَاءِ حُقُوقِ الْغُرَمَاءِ، فَإِنْ بَقِيَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ دُيُونِهِ: أَيْ دُيُونِ الْعَبْدِ طُولِبَ بِهِ بَعْدَ الْحُرِّيَّةِ لِتَقَرُّرِ الدَّيْنِ فِي ذِمَّتِهِ وَعَدَمِ وَفَاءِ الرَّقَبَةِ بِهِ اهـ كَلَامَهُ.
أَقُولُ: فِي تَقْرِيرِهِ خَلَلٌ، فَإِنَّ ذِكْرَ قَوْلِهِ فَإِنْ بَقِيَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ دُيُونِهِ بِطَرِيقِ الشَّرْطِيَّةِ سِيَّمَا مَعَ أَدَاةِ التَّفْرِيعِ بَعْدَ أَنْ قَالَ: وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِالثَّمَنِ وَفَاءٌ لَيْسَ بِمُسْتَقِيمٍ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ بِالثَّمَنِ وَفَاءٌ يَتَعَيَّنُ بَقَاءُ شَيْءٍ مِنْ دُيُونِهِ عَلَيْهِ فَمَا مَعْنَى الشَّرْطِيَّةِ، وَكَانَ حَقُّ التَّحْرِيرِ أَنْ يَقُولَ: فَمَا بَقِيَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ دُيُونِهِ طُولِبَ بِهِ بَعْدَ الْحُرِّيَّةِ، بِخِلَافِ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ مِنْ دُيُونِهِ طُولِبَ بِهِ بَعْدَ الْحُرِّيَّةِ فَإِنَّهُ فِي مَوْقِعِهِ إذْ لَمْ يُعَيِّنْ فِيمَا قَبْلَهُ عَدَمَ وَفَاءِ الثَّمَنِ بِالدُّيُونِ، بَلْ إنَّمَا ذَكَرَ مُجَرَّدَ تَقْسِيمِ ثَمَنِهِ بَيْنَهُمْ بِالْحِصَصِ فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ بِالثَّمَنِ وَفَاءٌ وَأَنْ لَا يَكُونَ فَحَسُنَتْ الشَّرْطِيَّةُ وَأَدَاةُ التَّفْرِيعِ كَمَا لَا يَخْفَى.
(قَوْلُهُ لِأَنَّ الْمَوْلَى إنَّمَا يَخْلُفُهُ فِي الْمِلْكِ بَعْدَ فَرَاغِهِ عَنْ حَاجَةِ الْعَبْدِ وَلَمْ يَفْرُغْ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ قَوْلِهِ وَلَمْ يَفْرُغْ: فَكَانَ كَكَسْبٍ غَيْرِ مُنْتَزَعٍ اهـ. أَقُولُ: قَدْ أَخَلَّ بِحَقِّ الْمَقَامِ بِمَا زَادَهُ، فَإِنَّ
غَلَّةِ الْمِثْلِ يَرُدُّهَا عَلَى الْغُرَمَاءِ لِعَدَمِ الضَّرُورَةِ فِيهَا وَتَقَدُّمِ حَقِّهِمْ. .
قَالَ (فَإِنْ حُجِرَ عَلَيْهِ لَمْ يَنْحَجِرْ حَتَّى يَظْهَرَ حَجْرُهُ بَيْنَ أَهْلِ سُوقِهِ)؛ لِأَنَّهُ لَوْ انْحَجَرَ لَتَضَرَّرَ النَّاسُ بِهِ لِتَأَخُّرِ حَقِّهِمْ إلَى مَا بَعْدَ الْعِتْقِ لِمَا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِرَقَبَتِهِ وَكَسْبِهِ وَقَدْ بَايَعُوهُ عَلَى رَجَاءِ ذَلِكَ، وَيُشْتَرَطُ عِلْمُ أَكْثَرِ أَهْلِ سُوقِهِ، حَتَّى لَوْ حُجِرَ عَلَيْهِ فِي السُّوقِ وَلَيْسَ فِيهِ إلَّا رَجُلٌ أَوْ رَجُلَانِ لَمْ يَنْحَجِرْ، وَلَوْ بَايَعُوهُ جَازَ، وَإِنْ بَايَعَهُ الَّذِي عَلِمَ بِحَجْرِهِ وَلَوْ حُجِرَ عَلَيْهِ فِي بَيْتِهِ بِمَحْضَرٍ مِنْ أَكْثَرِ أَهْلِ سُوقِهِ يَنْحَجِرُ، وَالْمُعْتَبَرُ شُيُوعُ الْحَجْرِ وَاشْتِهَارُهُ فَيُقَامُ ذَلِكَ مَقَامَ الظُّهُورِ عِنْدَ الْكُلِّ كَمَا فِي تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ مِنْ الرُّسُلِ عليهم السلام، وَيَبْقَى الْعَبْدُ مَأْذُونًا إلَى أَنْ يَعْلَمَ بِالْحَجْرِ كَالْوَكِيلِ إلَى أَنْ يَعْلَمَ بِالْعَزْلِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ يَتَضَرَّرُ بِهِ حَيْثُ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ الدَّيْنِ مِنْ خَالِصِ مَالِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ وَمَا رَضِيَ بِهِ، وَإِنَّمَا يُشْتَرَطُ الشُّيُوعُ فِي الْحَجْرِ إذَا كَانَ الْإِذْنُ شَائِعًا. أَمَّا إذَا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ إلَّا الْعَبْدُ ثُمَّ حُجِرَ عَلَيْهِ بِعِلْمٍ مِنْهُ يَنْحَجِرُ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ فِيهِ. .
قَالَ (وَلَوْ مَاتَ الْمَوْلَى أَوْ جُنَّ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ مُرْتَدًّا صَارَ الْمَأْذُونُ مَحْجُورًا عَلَيْهِ)؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ غَيْرُ لَازِمٍ، وَمَا لَا يَكُونُ لَازِمًا مِنْ التَّصَرُّفِ يُعْطَى لِدَوَامِهِ حُكْمُ الِابْتِدَاءِ، هَذَا هُوَ الْأَصْلُ فَلَا بُدَّ مِنْ قِيَامِ أَهْلِيَّةِ الْإِذْنِ فِي حَالَةِ الْبَقَاءِ وَهِيَ تَنْعَدِمُ بِالْمَوْتِ وَالْجُنُونِ، وَكَذَا بِاللُّحُوقِ
التَّشْبِيهَ بِكَسْبٍ غَيْرِ مُنْتَزَعٍ يُشْعِرُ بِكَوْنِ التَّعْلِيلِ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ مُخْتَصًّا بِمَا يَقْبَلُهُ الْعَبْدُ مِنْ الْهِبَةِ، مَعَ أَنَّهُ يَعُمُّ تَعَلُّقَ دَيْنِهِ بِكَسْبِهِ وَتَعَلُّقَهُ بِمَا يَقْبَلُهُ مِنْ الْهِبَةِ لِجَرَيَانِهِ فِي الصُّورَتَيْنِ مَعًا بِلَا تَفَاوُتٍ، كَيْفَ وَلَوْ كَانَ مَخْصُوصًا بِصُورَةِ قَبُولِ الْهِبَةِ لَبَقِيَتْ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى
لِأَنَّهُ مَوْتٌ حُكْمًا حَتَّى يُقَسَّمَ مَالُهُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ. .
قَالَ (وَإِذَا أَبَقَ الْعَبْدُ صَارَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَبْقَى مَأْذُونًا؛ لِأَنَّ الْإِبَاقَ لَا يُنَافِي ابْتِدَاءَ الْإِذْنِ، فَكَذَا لَا يُنَافِي الْبَقَاءَ وَصَارَ كَالْغَصْبِ. وَلَنَا أَنَّ الْإِبَاقَ حَجْرُ دَلَالَةٍ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَرْضَى بِكَوْنِهِ مَأْذُونًا عَلَى وَجْهٍ يَتَمَكَّنُ مِنْ تَقْضِيَةِ دَيْنِهِ بِكَسْبِهِ، بِخِلَافِ ابْتِدَاءِ الْإِذْنِ؛ لِأَنَّ الدَّلَالَةَ لَا مُعْتَبَرَ بِهَا عِنْدَ وُجُودِ التَّصْرِيحِ بِخِلَافِهَا، وَبِخِلَافِ الْغَصْبِ؛ لِأَنَّ الِانْتِزَاعَ مِنْ يَدِ الْغَاصِبِ مُتَيَسِّرٌ. .
قَالَ (وَإِذَا)(وَلَدَتْ الْمَأْذُونُ لَهَا مِنْ مَوْلَاهَا) فَذَلِكَ حَجْرٌ عَلَيْهَا خِلَافًا لَزُفَرَ، وَهُوَ يَعْتَبِرُ حَالَةَ الْبَقَاءِ بِالِابْتِدَاءِ. وَلَنَا أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ يُحْصِنُهَا بَعْدَ الْوِلَادَةِ فَيَكُونُ دَلَالَةَ الْحَجْرِ عَادَةً، بِخِلَافِ الِابْتِدَاءِ؛ لِأَنَّ الصَّرِيحَ قَاضٍ عَلَى الدَّلَالَةِ.
(وَيَضْمَنُ الْمَوْلَى قِيمَتَهَا إنْ)(رَكِبَتْهَا دُيُونٌ) لِإِتْلَافِهِ مَحِلًّا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْغُرَمَاءِ، إذْ بِهِ يَمْتَنِعُ الْبَيْعُ وَبِهِ يُقْضَى حَقُّهُمْ. .
قَالَ (وَإِذَا اسْتَدَانَتْ الْأَمَةُ الْمَأْذُونُ لَهَا أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهَا فَدَبَّرَهَا الْمَوْلَى فَهِيَ مَأْذُونٌ لَهَا عَلَى حَالِهَا) لِانْعِدَامِ دَلَالَةِ الْحَجْرِ، إذْ الْعَادَةُ مَا جَرَتْ بِتَحْصِينِ الْمُدَبَّرَةِ، وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ حُكْمَيْهَا أَيْضًا، وَالْمَوْلَى ضَامِنٌ لِقِيمَتِهَا لِمَا قَرَّرْنَاهُ فِي أُمِّ الْوَلَدِ. .
قَالَ (وَإِذَا حُجِرَ عَلَى الْمَأْذُونِ لَهُ فَإِقْرَارُهُ جَائِزٌ فِيمَا فِي يَدِهِ مِنْ الْمَالِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ)
وَهِيَ تَعَلُّقُ دَيْنِهِ بِكَسْبِهِ بِلَا ذِكْرِ دَلِيلٍ عَلَيْهَا مَعَ كَوْنِهَا الْعُمْدَةُ فِي الْمَقَامِ، وَلَمْ يُعْهَدْ مِثْلُهُ مِنْ الْمُصَنِّفِ رحمه الله قَطُّ
(قَوْلُهُ بِخِلَافِ ابْتِدَاءِ الْإِذْنِ؛ لِأَنَّ الدَّلَالَةَ لَا مُعْتَبَرَ بِهَا عِنْدَ وُجُودِ التَّصْرِيحِ بِخِلَافِهَا) أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إذَا لَمْ يَكُنْ لِلدَّلَالَةِ اعْتِبَارٌ عِنْدَ وُجُودِ التَّصْرِيحِ بِخِلَافِهَا يَنْبَغِي أَنْ لَا يَصِيرَ الْآبِقُ مَحْجُورًا فِي الْبَقَاءِ أَيْضًا، إذْ قَدْ وُجِدَ التَّصْرِيحُ بِالْإِذْنِ مِنْ الْمَوْلَى فِي الِابْتِدَاءِ فَكَانَتْ دَلَالَةُ الْإِبَاقِ عَلَى الْحَجْرِ فِي الْبَقَاءِ مُخَالِفَةً لِذَاكَ التَّصْرِيحِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا تُعْتَبَرَ. ثُمَّ أَقُولُ: يُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ بِأَنَّ وُجُودَ التَّصْرِيحِ بِالْإِذْنِ فِي الِابْتِدَاءِ لَا يَقْتَضِي وُجُودَهُ إلَى حَالِ الْإِبَاءِ، فَالْمَعْلُومُ قَطْعًا إنَّمَا هُوَ وُجُودُهُ فِي الِابْتِدَاءِ.
وَأَمَّا وُجُودُهُ فِي الْبَقَاءِ فَإِنَّمَا يُعْرَفُ بِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ وَهُوَ حُجَّةٌ ضَعِيفَةٌ، وَلِذَلِكَ تَكُونُ دَافِعَةً لَا مُثْبِتَةً، فَيَجُوزُ أَنْ تُرَجَّحُ الدَّلَالَةُ عَلَيْهَا، وَعَنْ هَذَا اُعْتُبِرَتْ
وَمَعْنَاهُ أَنْ يُقَرَّ بِمَا فِي يَدِهِ أَنَّهُ أَمَانَةٌ لِغَيْرِهِ أَوْ غَصْبٌ مِنْهُ أَوْ يُقَرَّ بِدَيْنٍ عَلَيْهِ فَيُقْضَى مِمَّا فِي يَدِهِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: لَا يَجُوزُ إقْرَارُهُ. لَهُمَا أَنَّ الْمُصَحِّحَ لِإِقْرَارِهِ إنْ كَانَ الْإِذْنَ فَقَدْ زَالَ بِالْحَجْرِ، وَإِنْ كَانَ الْيَدَ فَالْحَجْرُ أَبْطَلَهَا؛ لِأَنَّ يَدَ الْمَحْجُورِ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ وَصَارَ كَمَا إذَا أَخَذَ الْمَوْلَى كَسْبَهُ مِنْ يَدِهِ قَبْلَ إقْرَارِهِ أَوْ ثَبَتَ حَجْرُهُ بِالْبَيْعِ مِنْ غَيْرِهِ، وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ فِي حَقِّ الرَّقَبَةِ بَعْدَ الْحَجْرِ، وَلَهُ أَنَّ الْمُصَحِّحَ هُوَ الْيَدُ، وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ إقْرَارُ الْمَأْذُونِ فِيمَا أَخَذَهُ الْمَوْلَى مِنْ يَدِهِ وَالْيَدُ بَاقِيَةٌ حَقِيقَةً، وَشَرْطُ بُطْلَانِهَا بِالْحَجْرِ حُكْمًا فَرَاغُهَا عَنْ حَاجَتِهِ، وَإِقْرَارُهُ دَلِيلُ تَحَقُّقِهَا، بِخِلَافِ مَا إذَا انْتَزَعَهُ الْمَوْلَى مِنْ يَدِهِ قَبْلَ الْإِقْرَارِ؛ لِأَنَّ يَدَ الْمَوْلَى ثَابِتَةٌ حَقِيقَةً وَحُكْمًا فَلَا تَبْطُلُ بِإِقْرَارِهِ، وَكَذَا مِلْكُهُ ثَابِتٌ فِي رَقَبَتِهِ فَلَا يَبْطُلُ بِإِقْرَارِهِ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَهُ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ قَدْ تَبَدَّلَ بِتَبَدُّلِ الْمِلْكِ
فِي الْبَقَاءِ دُونَ الِابْتِدَاءِ تَأَمَّلْ
(قَوْلَهُ لَهُمَا أَنَّ الْمُصَحِّحَ لِإِقْرَارِهِ إنْ كَانَ الْإِذْنُ فَقَدْ زَالَ بِالْحَجْرِ، وَإِنْ كَانَ الْيَدُ فَالْحَجْرُ أَبْطَلَهَا؛ لِأَنَّ يَدَ الْمَحْجُورِ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: فَإِنْ قُلْت: يَشْكُلُ عَلَى هَذَا مَا ذَكَرَهُ فِي وَدِيعَةِ الْمَبْسُوطِ بِقَوْلِهِ عَبْدٌ اسْتَوْدَعَ رَجُلًا وَدِيعَةً ثُمَّ غَابَ لَمْ يَكُنْ لِمَوْلَاهُ أَنْ يَأْخُذَ الْوَدِيعَةَ تَاجِرًا كَانَ الْعَبْدُ أَوْ مَحْجُورًا عَلَيْهِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِيَدِ الْمَحْجُورِ اعْتِبَارٌ لَمَا اشْتَرَطَ حَضْرَتَهُ بَلْ جَعَلَ مَا أَوْدَعَهُ بِمَنْزِلَةِ ثَوْبٍ هَبَّتْ بِهِ الرِّيحُ وَأَلْقَتْهُ فِي حِجْرِ رَجُلٍ؛ لِأَنَّ فَائِدَةُ عَدَمِ اعْتِبَارِ الْيَدِ هِيَ أَنْ يَكُونَ وُجُودُهَا وَعَدَمُهَا بِمَنْزِلَةٍ وَلَمْ تُجْعَلْ كَذَلِكَ، فَعُلِمَ بِهَذَا أَنَّ لِيَدِهِ اعْتِبَارًا وَإِنْ كَانَ مَحْجُورًا، وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا مَا ذَكَرَهُ الْإِمَام الْأُسْرُوشَنِيُّ فِي وَدِيعَةِ أَحْكَامِ الصِّغَارِ فِي تَعْلِيلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ: لِأَنَّ الْعَبْدَ آدَمِيٌّ لَهُ يَدٌ حُكْمِيَّةٌ فَلَا يَكُونُ لِمَوْلَاهُ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْ الْمُودَعِ مَا لَمْ يَحْضُرْ الْعَبْدُ.
قُلْت: تِلْكَ الْمَسْأَلَةُ مُؤَوَّلَةٌ ذُكِرَ تَأْوِيلُهَا فِي الْفَصْلِ السَّادِسِ عَشَرَ مِنْ وَدِيعَةِ الذَّخِيرَةِ فَقَالَ: وَهَذَا إذَا لَمْ يَعْلَمْ الْمُودَعُ أَنَّ الْوَدِيعَةَ كَسْبُ الْعَبْدِ، وَأَمَّا إذَا عَلِمَ أَنَّهُ كَسْبُهُ فَلِلْمَوْلَى حَقُّ الْأَخْذِ، وَكَذَلِكَ إذَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهَا كَسْبُ الْعَبْدِ وَلَكِنْ عَلِمَ أَنَّهَا مَالُ الْمَوْلَى كَانَ لِلْمَوْلَى أَنْ يَأْخُذَ، إلَى هُنَا كَلَامُ صَاحِبِ النِّهَايَةِ. وَقَدْ اقْتَفَى أَثَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي ذِكْرِ هَذَا السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ لَكِنْ بِعِبَارَةٍ أُخْرَى أَخْصَرَ مِنْ الْأُولَى.
أَقُولُ: ذَلِكَ الْجَوَابُ لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ، فَإِنَّ تَأْوِيلَ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ بِمَا ذُكِرَ مَعَ كَوْنِهِ مِمَّا يَأْبَاهُ قَطْعًا مَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ الْأُسْرُوشَنِيُّ فِي وَدِيعَةِ أَحْكَامِ الصِّغَارِ فِي تَعْلِيلِ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ بِمَا مَرَّ فِي آخَرِ السُّؤَالِ
عَلَى مَا عُرِفَ فَلَا يَبْقَى مَا ثَبَتَ بِحُكْمِ الْمِلْكِ، وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ خَصْمًا فِيمَا بَاشَرَهُ قَبْلَ الْبَيْعِ. .
قَالَ (وَإِذَا لَزِمَتْهُ دُيُونٌ تُحِيطُ بِمَالِهِ وَرَقَبَتِهِ لَمْ يَمْلِكْ الْمَوْلَى مَا فِي يَدِهِ.
لَا يُجْدِي نَفْعًا فِي دَفْعِ الْإِشْكَالِ النَّاشِئِ مِنْ الْمُقَدِّمَةِ الْقَائِلَةِ إنَّ يَدَ الْمَحْجُورِ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ، إذْ قَدْ تَقَرَّرَ بَعْدَ ذَلِكَ التَّأْوِيلِ أَنَّ فِي صُورَةِ أَنْ لَا يَعْلَمَ الْمُودَعُ أَنَّ الْوَدِيعَةَ الَّتِي أَوْدَعَهَا الْعَبْدُ الْمَحْجُورُ كَسْبُ ذَلِكَ الْعَبْدِ أَوْ مَالُ مَوْلَاهُ لَيْسَ لِلْمَوْلَى أَنْ يَأْخُذَهَا، بَلْ إنَّمَا يَأْخُذُهَا ذَلِكَ الْعَبْدُ، فَقَدْ تَحَقَّقَ أَنْ يَكُونَ لِلْمَحْجُورِ يَدٌ مُعْتَبَرَةٌ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ فَلَمْ يَكُنْ فِي تِلْكَ الْمُقَدِّمَةِ كُلِّيَّةً، وَمَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا كُلِّيَّةً لَا يَثْبُتُ مُدَّعَى الْإِمَامَيْنِ فِي مَسْأَلَتِنَا فَلَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ.
لَا يُقَالُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِمَا فِي التَّعْلِيلِ؛ لِأَنَّ يَدَ الْمَحْجُورِ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ أَنَّ يَدَهُ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ فِي شَيْءٍ مِنْ الصُّوَرِ الْمُنْدَرِجَةِ تَحْتَ مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ، وَهَذَا الْقَدْرُ مِنْ الْكُلِّيَّةِ يَكْفِي فِي إثْبَاتِ مُدَّعَاهُمَا هَاهُنَا. لِأَنَّا نَقُولُ: هَذَا الْقَدْرُ مِنْ الْكُلِّيَّةِ أَيْضًا غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ؛ لِأَنَّ مِنْ الصُّوَرِ الْمُنْدَرِجَةِ تَحْتَ مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ إقْرَارُهُ بَعْدَ الْحَجْرِ بِأَنَّ مَا فِي يَدِهِ أَمَانَةٌ لِغَيْرِهِ، فَفِي هَذِهِ الصُّورَةِ إذَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ مَا فِي يَدِهِ كَسْبُهُ أَوْ مَالُ مَوْلَاهُ فَلَا جَرَمَ أَنْ تَكُونَ يَدُهُ إذْ ذَاكَ مُعْتَبَرَةٌ عَلَى مُقْتَضَى مَا مَرَّ فِي مَسْأَلَةِ الْمَبْسُوطِ وَتَقَرَّرَ بَعْدَ تَأْوِيلِهَا، وَمِنْ تِلْكَ الصُّوَرِ أَيْضًا إقْرَارُهُ بَعْدَ الْحَجْرِ بِأَنَّ مَا فِي يَدِهِ غَصْبٌ مِنْ غَيْرِهِ، فَفِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَيْضًا إذَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ كَسْبُهُ أَوْ مَالُ مَوْلَاهُ تَكُونُ يَدُهُ مُعْتَبَرَةً عَلَى مُقْتَضَى ذَلِكَ إذَا لَمْ يَكُنْ عَيْنُ الْمَغْصُوبِ مُتَغَيِّرًا بِفِعْلِهِ بِأَنْ لَمْ يَزُلْ اسْمُهُ وَعِظَمُ مَنَافِعِهِ، إذْ لَا يَزُولُ عَنْهُ حِينَئِذٍ مِلْكُ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ كَمَا سَيَجِيءُ فِي كِتَابِ الْغَصْبِ فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَسْبِ ذِي الْيَدِ، تَدَبَّرْ تَفْهَمْ.
(قَوْلَهُ فَلَا يَبْقَى مَا ثَبَتَ بِحُكْمِ الْمِلْكِ) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ: يَعْنِي بِهِ الْإِذْنَ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ لِلْعَبْدِ بِحُكْمِ أَنَّهُ مِلْكُ الْمَوْلَى وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ الْمِلْكُ اهـ. وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى اسْتِخْرَاجُ سَائِرُ الشُّرَّاحِ أَيْضًا هَذَا الْمَحَلَّ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ عِبَارَتُهُمْ، مِنْهَا مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْغَايَةِ فَإِنَّهُ قَالَ: أَيْ لَا يَبْقَى لِلْعَبْدِ الْمَأْذُونِ بَعْدَ بَيْعِهِ مَا ثَبَتَ لَهُ مِنْ الْإِذْنِ قَبْلَ الْبَيْعِ بِحُكْمِ أَنَّهُ مِلْكُ الْمَوْلَى فَلَا جَرَمَ لَمْ يَصِحَّ إقْرَارُهُ بِمَا فِي يَدِهِ بَعْدَ الْبَيْعِ لِعَدَمِ بَقَاءِ الْإِذْنِ اهـ. أَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ عَدَمَ بَقَاءِ الْإِذْنِ مُقَرَّرٌ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ أَيْضًا، وَهُوَ مَا إذَا حَجَرَ الْمَوْلَى عَلَى الْمَأْذُونِ لَهُ بِدُونِ أَنْ يَبِيعَهُ، وَالْمُصَنِّفُ هَاهُنَا بِصَدَدِ الْفَرْقِ مِنْ قَبْلِ أَبِي حَنِيفَةَ بَيْنَ مَا نَحْنُ فِيهِ وَبَيْنَ مَا إذَا بَاعَهُ، فَلَوْ كَانَ مُرَادُهُ بِمَا ثَبَتَ بِحُكْمِ الْمِلْكِ فِي قَوْلِهِ فَلَا يَبْقَى مَا ثَبَتَ بِحُكْمِ الْمِلْكِ هُوَ الْإِذْنُ لِمَا كَانَ لِذِكْرِ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ: أَعْنِي قَوْلَهُ فَلَا يَبْقَى مَا ثَبَتَ بِحُكْمِ الْمِلْكِ فَائِدَةٌ أَصْلًا هَاهُنَا لِعَدَمِ اخْتِصَاصِ عَدَمِ بَقَاءِ الْإِذْنِ بِمَا إذَا بَاعَهُ دُونَ مَا نَحْنُ فِيهِ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ الْمَذْكُورُ لَغْوًا مِنْ الْكَلَامِ، وَلَا يَنْبَغِي ذَلِكَ لِمِثْلِ الْمُصَنِّفِ، وَالْوَجْهُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ بِمَا ثَبَتَ بِحُكْمِ الْمِلْكِ فِي قَوْلِهِ الْمَزْبُورِ يَدُهُ الْحُكْمِيَّةُ كَمَا هُوَ الْمُنَاسِبُ لِقَوْلِهِ فِيمَا قَبْلُ وَالْيَدُ بَاقِيَةٌ حَقِيقَةً وَشَرْطُ بُطْلَانِهَا بِالْحَجْرِ حُكْمًا فَرَاغُهَا عَنْ حَاجَتِهِ. وَلَمَّا كَانَ تَبَدُّلُ الْمِلْكِ فِيمَا إذَا بَاعَهُ بِمَنْزِلَةِ تَبَدُّلِ الذَّاتِ لَمْ يَبْقَ مَا ثَبَتَ بِحُكْمِ الْمِلْكِ الْأَوَّلِ مِنْ يَدِهِ الْحُكْمِيَّةِ، بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ، فَإِنَّ الْبَدَنِيَّةَ بَاقِيَةٌ حَقِيقَةً وَحُكْمًا مَا لَمْ يُفَرِّعْ عَنْ حَاجَتِهِ، وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى تَظْهَرُ فَائِدَةُ هَاتِيك الْمُقَدِّمَةِ جِدًّا، فَتَأَمَّلْ وَكُنْ الْحَاكِمَ الْفَيْصَلَ
. (قَوْلَهُ وَإِذَا لَزِمَتْهُ دُيُونٌ تُحِيطُ بِمَالِهِ وَرَقَبَتِهِ إلَخْ) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ: إذَا لَزِمَتْهُ دُيُونٌ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ تُحِيطَ بِمَالِهِ وَرَقَبَتِهِ، أَوْ لَا تُحِيطَ بِشَيْءٍ مِنْ
وَلَوْ أَعْتَقَ مِنْ كَسْبِهِ عَبْدًا لَمْ يَعْتِقْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَا: يَمْلِكُ مَا فِي يَدِهِ وَيَعْتِقُ وَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ)؛ لِأَنَّهُ وُجِدَ سَبَبُ الْمِلْكِ فِي كَسْبِهِ وَهُوَ مِلْكُ رَقَبَتِهِ وَلِهَذَا يَمْلِكُ إعْتَاقَهَا، وَوَطْءَ الْجَارِيَةِ الْمَأْذُونِ لَهَا، وَهَذَا آيَةُ كَمَالِهِ، بِخِلَافِ الْوَارِثِ؛ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ الْمِلْكُ لَهُ نَظَرًا لِلْمُوَرِّثِ وَالنَّظَرُ فِي ضِدِّهِ عِنْدَ إحَاطَةِ الدَّيْنِ بِتَرِكَتِهِ. أَمَّا مِلْكُ الْمَوْلَى فَمَا ثَبَتَ نَظَرًا لِلْعَبْدِ. وَلَهُ أَنَّ مِلْكَ الْمَوْلَى إنَّمَا يَثْبُتُ خِلَافُهُ عَنْ الْعَبْدِ عِنْدَ فَرَاغِهِ عَنْ حَاجَتِهِ كَمِلْكِ الْوَارِثِ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ وَالْمُحِيطُ بِهِ الدَّيْنُ مَشْغُولٌ بِهَا فَلَا يَخْلُفُهُ فِيهِ، وَإِذَا عُرِفَ ثُبُوتُ الْمِلْكِ وَعَدَمُهُ فَالْعِتْقُ فُرَيْعَتُهُ، وَإِذَا نَفَذَ عِنْدَهُمَا يَضْمَنُ قِيمَتَهُ لِلْغُرَمَاءِ لِتَعَلُّقِ حَقِّهِمْ بِهِ. قَالَ (وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الدَّيْنُ مُحِيطًا بِمَالِهِ جَازَ عِتْقُهُ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا) أَمَّا عِنْدَهُمَا فَظَاهِرٌ، وَكَذَا عِنْدَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْرَى عَنْ قَلِيلِهِ، فَلَوْ جُعِلَ مَانِعًا
ذَلِكَ، أَوْ أَحَاطَتْ بِمَالِهِ دُونَ رَقَبَتِهِ. فَالْأَوَّلُ كَمَا إذَا أَذِنَ لِلْعَبْدِ فَاشْتَرَى عَبْدًا يُسَاوِي أَلْفًا وَالْمَأْذُونُ أَيْضًا يُسَاوِي أَلْفًا وَعَلَيْهِ أَلْفَا دِرْهَمٍ. وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ. وَالثَّالِثُ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ اهـ. أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَذِهِ الْقِسْمَةُ لَيْسَتْ بِحَاصِرَةٍ، إذْ هُنَا احْتِمَالُ قِسْمٍ رَابِعٍ وَهُوَ أَنْ تُحِيطَ بِرَقَبَتِهِ دُونَ مَالِهِ عَلَى عَكْسِ الْقِسْمِ الثَّالِثِ. وَالْجَوَابُ أَنَّهُ قَدْ تَقَرَّرَ فِيمَا مَرَّ أَنَّهُ يَبْدَأُ بِكَسْبِ الْمَأْذُونِ الْمَدْيُونِ فِي الِاسْتِيفَاءِ، وَعِنْدَ انْعِدَامِ كَسْبِهِ يُسْتَوْفَى مِنْ رَقَبَتِهِ، فَعُلِمَ مِنْهُ أَنْ تَعَلُّقَ الدَّيْنِ بِكَسْبِهِ كَانَ مُقَدَّمًا عَلَى تَعَلُّقِهِ بِرَقَبَتِهِ فَلَمْ يُتَصَوَّرْ فِي الشَّرْعِ أَنْ تُحِيطَ دُيُونُهُ بِرَقَبَتِهِ دُونَ مَالِهِ الَّذِي هُوَ كَسْبُهُ، فَكَانَتْ الْأَقْسَامُ الَّتِي يُمْكِنُ تَحَقُّقُهَا فِي الشَّرْعِ مُنْحَصِرَةً فِي الثَّلَاثَةِ فِيمَا إذَا لَزِمَتْهُ دُيُونٌ، وَلِهَذَا لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى قِسْمٍ آخَرَ هُوَ احْتِمَالٌ عَقْلِيٌّ مَحْضٌ لَا تَحَقُّقَ لَهُ فِي الشَّرْعِ.
(قَوْلُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الدَّيْنُ مُحِيطًا بِمَالِهِ جَازَ عِتْقُهُ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا) الظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَهُ إذَا لَمْ يَكُنْ الدَّيْنُ مُحِيطًا بِمَالِهِ وَرَقَبَتِهِ جَازَ عِتْقُهُ
لَانْسَدَّ بَابُ الِانْتِفَاعِ بِكَسْبِهِ فَيَخْتَلُّ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ الْإِذْنِ وَلِهَذَا لَا يَمْنَعُ مِلْكَ الْوَارِثِ وَالْمُسْتَغْرَقُ يَمْنَعُهُ. .
قَالَ (وَإِذَا بَاعَ مِنْ الْمَوْلَى شَيْئًا بِمِثْلِ قِيمَتِهِ جَازَ)؛ لِأَنَّهُ كَالْأَجْنَبِيِّ عَنْ كَسْبِهِ إذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِكَسْبِهِ (وَإِنْ بَاعَهُ بِنُقْصَانٍ لَمْ يَجُزْ مُطْلَقًا)؛ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ فِي حَقِّهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا حَابَى الْأَجْنَبِيَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ لَا تُهْمَةَ فِيهِ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ الْمَرِيضُ مِنْ الْوَارِثِ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ حَيْثُ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُ،
فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْكَافِي وَسَائِرِ الْكُتُبِ الْمُعْتَبَرَةِ، إلَّا أَنَّهُ اكْتَفَى بِذِكْرِ قَوْلِهِ بِمَالِهِ وَلَمْ يَذْكُرْ وَرَقَبَتَهُ بِنَاءً عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا مِنْ أَنَّ تَعَلُّقَ الدُّيُونِ بِكَسْبِهِ مُقَدَّمٌ عَلَى تَعَلُّقِهَا بِرَقَبَتِهِ، وَإِذَا لَمْ تُحِطْ الدُّيُونُ بِمَالِهِ يَتَعَيَّنُ عَدَمُ إحَاطَتِهَا بِرَقَبَتِهِ فَلَمْ يَحْتَجْ إلَى ذِكْرِ الثَّانِي بَعْدَ ذِكْرِ الْأَوَّلِ، وَمَا وَقَعَ فِي عَامَّةِ الْكُتُبِ فَمِنْ قَبِيلِ التَّصْرِيحِ بِمَا عُلِمَ الْتِزَامًا لِمُجَرَّدِ الِاحْتِيَاطِ.
ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ هَاهُنَا هُوَ حُكْمُ الْقِسْمِ الثَّانِي مِنْ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ الْمَارِّ ذِكْرُهَا فِي التَّقْسِيمِ الَّذِي نَقَلْنَاهُ عَنْ الْعِنَايَةِ فِيمَا قَبْلُ، وَحُكْمُ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ مِنْهَا مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ مِنْ قَبْلُ بِقَوْلِهِ وَإِذَا لَزِمَتْهُ دُيُونٌ تُحِيطُ بِمَالِهِ وَرَقَبَتِهِ لَمْ يَمْلِكْ الْمَوْلَى مَا فِي يَدِهِ، وَلَوْ أَعْتَقَ مِنْ كَسْبِهِ عَبْدًا لَمْ يَعْتِقْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: يَمْلِكُ مَا فِي يَدِهِ وَيَعْتِقُ وَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ.
وَأَمَّا حُكْمُ الْقِسْمِ الثَّالِثِ مِنْهَا فَلَمْ يُذْكَرْ فِي الْكِتَابِ قَطُّ، وَعَنْ هَذَا قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ. وَأَمَّا الثَّالِثُ فَلَمْ يَذْكُرْهُ فِي الْكِتَابِ، وَنَقَلَ بَعْضُ الشَّارِحِينَ عَنْ بُيُوعِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّ الْعِتْقَ فِيهِ جَائِزٌ اهـ. وَأَرَادَ بِبَعْضِ الشَّارِحِينَ صَاحِبَ غَايَةِ الْبَيَانِ فَإِنَّهُ قَالَ: قَالَ فِي بُيُوعِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ مُحَمَّدٌ عَنْ يَعْقُوبَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي رَجُلٍ أَذِنَ لِعَبْدِهِ فِي التِّجَارَةِ فَاشْتَرَى عَبْدًا يُسَاوِي أَلْفًا وَهُوَ يُسَاوِي أَلْفًا وَعَلَى الْأَوَّلِ أَلْفُ دِرْهَمٍ دَيْنًا فَأَعْتَقَ الْمَوْلَى الْعَبْدَ الْمُشْتَرَى فَعِتْقُهُ جَائِزٌ، وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ مِثْلُ قِيمَتِهِمَا لَمْ يَجُزْ عِتْقُهُ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: عِتْقُهُ جَائِزٌ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا اهـ. أَقُولُ: فِي جَوَازِ عِتْقِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فِي بُيُوعِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَهُوَ الْقِسْمُ الثَّالِثُ مِنْ الْأَقْسَامِ الْمَارِّ ذِكْرُهَا إشْكَالٌ عَلَى مُقْتَضَى دَلِيلِهِ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ لِإِثْبَاتِ مَذْهَبِهِ فِي الْقِسْمِ الْخِلَافِيِّ الَّذِي ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ أَوَّلًا وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ثَانِيًا، فَإِنَّ حَاصِلَ ذَاكَ الدَّلِيلِ أَنَّ مِلْكَ الْمَوْلَى إنَّمَا يَثْبُتُ خِلَافُهُ عَنْ الْعَبْدِ عِنْدَ فَرَاغِهِ عَنْ حَاجَتِهِ، وَالْمَالُ الَّذِي أَحَاطَ بِهِ الدَّيْنُ مَشْغُولٌ بِحَاجَتِهِ فَلَا يَخْلُفُهُ فِيهِ فَلَا يَثْبُتُ فِيهِ الْمِلْكُ، وَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ الْمِلْكُ لَمْ يَجُزْ إعْتَاقُهُ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ جَمِيعَ مُقَدِّمَاتِ ذَلِكَ الدَّلِيلِ جَارِيَةٌ بِعَيْنِهَا فِيمَا إذَا أَحَاطَتْ الدُّيُونُ بِكَسْبِهِ دُونَ رَقَبَتِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ إعْتَاقُهُ فِيهِ أَيْضًا
. (قَوْلُهُ وَإِذَا بَاعَ مِنْ الْمَوْلَى شَيْئًا بِمِثْلِ قِيمَتِهِ جَازَ؛ لِأَنَّهُ كَالْأَجْنَبِيِّ عَنْ كَسْبِهِ إذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ) أَقُولُ: فِي هَذَا التَّعْلِيلِ شَيْءٌ، وَهُوَ أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ جَوَابَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِاتِّفَاقِ أَصْحَابِنَا كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ عَدَمُ ذِكْرِ الْخِلَافِ فِي الْكِتَابِ، وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ حَيْثُ قَالَ: اعْلَمْ أَنَّ الْعَبْدَ الْمَأْذُونَ الْمَدْيُونَ إذَا بَاعَ مِنْ مَوْلَاهُ شَيْئًا بِمِثْلِ قِيمَتِهِ جَازَ بِاتِّفَاقِ أَصْحَابِنَا جَمِيعًا اهـ. وَكَوْنُهُ كَالْأَجْنَبِيِّ عَنْ كَسْبِهِ إذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ غَيْرُ ظَاهِرٍ عَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، إذْ قَدْ مَرَّ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى أَنَّهُمَا قَالَا: الْمَوْلَى يَمْلِكُ مَا فِي يَدِ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ وَلَوْ أَحَاطَتْ دُيُونُهُ بِمَالِهِ وَرَقَبَتِهِ، وَلِهَذَا لَوْ أَعْتَقَ مِنْ كَسْبِهِ عَبْدًا يَعْتِقُ عِنْدَهُمَا فَكَيْفَ يَتِمُّ الْقَوْلُ بِأَنَّ الْمَوْلَى كَالْأَجْنَبِيِّ عَنْ كَسْبِهِ إذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ عَلَى أَصْلِهِمَا حَتَّى يَتَمَشَّى التَّعْلِيلُ الْمَذْكُورُ عَلَى قَوْلِهِمْ جَمِيعًا فَلْيُتَأَمَّلْ فِي التَّوْجِيهِ.
(قَوْلَهُ وَبِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ الْمَرِيضُ مِنْ الْوَارِثِ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ حَيْثُ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: وَهَذَا الْخِلَافُ مُتَعَلِّقٌ بِأَوَّلِ الْمَسْأَلَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ وَإِذَا بَاعَ مِنْ الْمَوْلَى شَيْئًا بِمِثْلِ قِيمَتِهِ جَازَ هَذَا عَلَى تَقْدِيرِ الْوَاوِ فِي قَوْلِهِ وَبِخِلَافِ اهـ. وَرَدَّ عَلَيْهِ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ حَيْثُ قَالَ بَعْدَ نَقْلِ ذَلِكَ عَنْهُ.
لِأَنَّ حَقَّ بَقِيَّةِ الْوَرَثَةِ تَعَلَّقَ بِعَيْنِهِ حَتَّى كَانَ لِأَحَدِهِمْ الِاسْتِخْلَاصُ بِأَدَاءِ قِيمَتِهِ. أَمَّا حَقُّ الْغُرَمَاءِ تَعَلَّقَ بِالْمَالِيَّةِ لَا غَيْرَ فَافْتَرَقَا. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: إنْ بَاعَهُ بِنُقْصَانٍ يَجُوزُ الْبَيْعُ، وَيُخَيَّرُ الْمَوْلَى إنْ شَاءَ أَزَالَ الْمُحَابَاةَ، وَإِنْ شَاءَ نَقَضَ الْبَيْعَ، وَعَلَى الْمَذْهَبَيْنِ الْيَسِيرُ مِنْ الْمُحَابَاةِ وَالْفَاحِشُ سَوَاءٌ. وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الِامْتِنَاعَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الْغُرَمَاءِ وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ الضَّرَرُ عَنْهُمْ، وَهَذَا
وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّهُ مَعْطُوفٌ بِلَا مَعْطُوفٍ عَلَيْهِ، بَلْ الْمُنَاسِبُ لِذَلِكَ عَدَمُ الْوَاوِ اهـ.
أَقُولُ: بَلْ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّهُ مَعْطُوفٌ بِلَا مَعْطُوفٍ عَلَيْهِ لَيْسَ بِصَحِيحِ، فَإِنَّهُ مَعْطُوفٌ حِينَئِذٍ عَلَى قَوْلِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا حَابَى الْأَجْنَبِيَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله عَلَى أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الْكَلَامِ وَهَاتَانِ الْمَسْأَلَتَانِ: أَعْنِي قَوْلَ الْقُدُورِيِّ وَإِذَا بَاعَ مِنْ الْمَوْلَى شَيْئًا بِمِثْلِ قِيمَتِهِ جَازَ، وَقَوْلُهُ وَإِنْ بَاعَهُ بِنُقْصَانٍ لَمْ يَجُزْ مُلَابَسَتَانِ، بِخِلَافِ مَا إذَا حَابَى الْأَجْنَبِيَّ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ الْمَرِيضُ مِنْ الْوَارِثِ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ، لَكِنْ عَلَى التَّوْزِيعِ بِطَرِيقِ اللَّفِّ وَالنَّشْرِ الْغَيْرِ الْمُتَرَتِّبِ: أَيْ الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ مُلَابِسَةٌ، بِخِلَافِ مَا إذَا حَابَى الْأَجْنَبِيَّ وَالْمَسْأَلَةُ الْأُولَى مُلَابِسَةٌ، بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ الْمَرِيضُ مِنْ
بِخِلَافِ الْبَيْعِ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ بِالْمُحَابَاةِ الْيَسِيرَةِ حَيْثُ يَجُوزُ وَلَا يُؤْمَرُ بِإِزَالَةِ الْمُحَابَاةِ، وَالْمَوْلَى يُؤْمَرُ بِهِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ بِالْيَسِيرِ مِنْهُمَا مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ التَّبَرُّعِ وَالْبَيْعِ لِدُخُولِهِ تَحْتَ تَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ فَاعْتَبَرْنَاهُ تَبَرُّعًا فِي الْبَيْعِ مَعَ الْمَوْلَى لِلتُّهْمَةِ غَيْرَ تَبَرُّعٍ فِي حَقِّ الْأَجْنَبِيِّ لِانْعِدَامِهَا، وَبِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ بِالْكَثِيرِ مِنْ الْمُحَابَاةِ حَيْثُ لَا يَجُوزُ أَصْلًا عِنْدَهُمَا، وَمِنْ الْمَوْلَى يَجُوزُ وَيُؤْمَرُ بِإِزَالَةِ الْمُحَابَاةِ؛ لِأَنَّ الْمُحَابَاةَ لَا تَجُوزُ مِنْ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ عَلَى أَصْلِهِمَا إلَّا بِإِذْنِ الْمَوْلَى، وَلَا إذْنَ فِي الْبَيْعِ مَعَ الْأَجْنَبِيِّ وَهُوَ إذْنٌ بِمُبَاشَرَتِهِ بِنَفْسِهِ، غَيْرَ أَنَّ إزَالَةَ الْمُحَابَاةِ لِحَقِّ الْغُرَمَاءِ، وَهَذَانِ الْفَرْقَانِ عَلَى أَصْلِهِمَا.
قَالَ (وَإِنْ بَاعَهُ الْمَوْلَى شَيْئًا بِمِثْلِ الْقِيمَةِ أَوْ أَقَلَّ جَازَ الْبَيْعُ)؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى أَجْنَبِيٌّ عَنْ كَسْبِهِ إذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ وَلَا تُهْمَةَ فِي هَذَا الْبَيْعِ؛ وَلِأَنَّهُ مُفِيدٌ فَإِنَّهُ يَدْخُلُ فِي كَسْبِ الْعَبْدِ مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ وَيَتَمَكَّنُ الْمَوْلَى مِنْ أَخْذِ الثَّمَنِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ هَذَا التَّمَكُّنُ وَصِحَّةُ التَّصَرُّفِ تَتْبَعُ الْفَائِدَةَ (فَإِنْ سَلَّمَ الْمَبِيعَ إلَيْهِ قَبْلَ قَبْضِ الثَّمَنِ بَطَلَ الثَّمَنُ)؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمَوْلَى فِي الْعَيْنِ مِنْ حَيْثُ الْحَبْسُ، فَلَوْ بَقِيَ بَعْدَ سُقُوطِهِ يَبْقَى فِي الدَّيْنِ وَلَا يَسْتَوْجِبُهُ الْمَوْلَى عَلَى عَبْدِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الثَّمَنُ عَرَضًا؛ لِأَنَّهُ يَتَعَيَّنُ وَجَازَ أَنْ يَبْقَى حَقُّهُ مُتَعَلِّقًا بِالْعَيْنِ. قَالَ (وَإِنْ أَمْسَكَهُ فِي يَدِهِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الثَّمَنَ جَازَ)؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ لَهُ حَقُّ الْحَبْسِ فِي الْمَبِيعِ وَلِهَذَا كَانَ أَخَصَّ بِهِ مِنْ الْغُرَمَاءِ، وَجَازَ أَنْ يَكُونَ لِلْمَوْلَى حَقٌّ فِي الدَّيْنِ إذَا
الْوَارِثِ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ، لَا أَنَّ كِلْتَا الْمَسْأَلَتَانِ مُلَابَسَتَانِ بِكِلَا الْخِلَافَيْنِ، فَإِذَنْ يَتَحَقَّقُ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ وَيَصِحُّ الْمَعْنَى كَمَا لَا يَخْفَى.
ثُمَّ إنَّ فِي تَصْحِيحِ الْعَطْفِ عَلَى تَقْدِيرِ الْوَاوِ تَوْجِيهًا آخَرَ أَشَارَ إلَيْهِ صَاحِبُ مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ حَيْثُ قَالَ: قَوْلُهُ وَبِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ الْمَرِيضُ مُتَعَلِّقٌ بِأَوَّلِ الْمَسْأَلَةِ وَمَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ وَإِنْ بَاعَهُ بِنُقْصَانٍ لَمْ يَجُزْ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى. تَقْدِيرُ الْكَلَامِ: وَإِنْ بَاعَ مِنْ الْمَوْلَى بِمِثْلِ قِيمَتِهِ
كَانَ يَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِ (وَلَوْ بَاعَهُ بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ يُؤْمَرُ بِإِزَالَةِ الْمُحَابَاةِ أَوْ بِنَقْضِ الْبَيْعِ) كَمَا بَيَّنَّا فِي جَانِبِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ تَعَلَّقَ بِهَا حَقُّ الْغُرَمَاءِ. .
قَالَ (وَإِذَا أَعْتَقَ الْمَوْلَى الْمَأْذُونَ وَعَلَيْهِ دُيُونٌ فَعِتْقُهُ جَائِزٌ)؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ فِيهِ بَاقٍ وَالْمَوْلَى ضَامِنٌ لَقِيمَتِهِ لِلْغُرَمَاءِ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ مَا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّهُمْ بَيْعًا وَاسْتِيفَاءً مِنْ ثَمَنِهِ (وَمَا بَقِيَ مِنْ الدُّيُونِ يُطَالَبُ بِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ)؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ فِي ذِمَّتِهِ وَمَا لَزِمَ الْمَوْلَى إلَّا بِقَدْرِ مَا أَتْلَفَ ضَمَانًا فَبَقِيَ الْبَاقِي عَلَيْهِ كَمَا كَانَ (فَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ ضَمِنَ الدَّيْنَ لَا غَيْرَ)؛ لِأَنَّ حَقَّهُمْ بِقَدْرِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا أَعْتَقَ الْمُدَبَّرَ وَأُمَّ الْوَلَدِ الْمَأْذُونِ لَهُمَا وَقَدْ رَكِبَتْهُمَا دُيُونٌ
جَازَ، بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ بِالنُّقْصَانِ حَيْثُ لَمْ يَجُزْ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ الْمَرِيضُ، هَذَا عَلَى تَقْدِيرِ الْوَاوِ فِي قَوْلِهِ وَبِخِلَافِ اهـ.
وَالْعَجَبُ أَنَّ صَاحِبَ الْعِنَايَةِ وَإِنْ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا مِنْ التَّوْجِيهِ الْوَجِيهِ، إلَّا أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ قَدْ رَأَى تَوْجِيهَ صَاحِبِ مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ، وَمَعَ ذَلِكَ جَزَمَ بِأَنَّهُ مَعْطُوفٌ بِلَا مَعْطُوفٍ عَلَيْهِ بِدُونِ أَنْ يُبَيِّنَ الْفَسَادَ فِي تَوْجِيهِ صَاحِبِ مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ. نَعَمْ فِي تَوْجِيهِهِ تَمَحُّلٌ لَا يَخْفَى، وَلَكِنْ لَا يَخْفَى أَيْضًا أَنَّهُ لَيْسَ بِأَبْعَدَ وَأَقْبَحَ مِمَّا اخْتَارَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ نَفْسُهُ حَيْثُ قَالَ: وَالظَّاهِرُ عَدَمُ الْوَاوِ بِجَعْلِهِ مُتَعَلِّقًا بِأَوَّلِ الْمَسْأَلَةِ، وَفِي كَلَامِهِ تَعْقِيدٌ إلَى آخِرِ مَا ذَكَرَهُ كَمَا سَيَأْتِي نَقْلُهُ وَبَيَانُ حَالِهِ.
وَقَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ بَعْدَ كَلَامِهِ السَّابِقِ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِدُونِ الْوَاوِ فَيَتَعَلَّقُ بِحُكْمِ قَوْلِهِ الْمُتَّصِل بِهِ. وَهُوَ قَوْلُهُ بِخِلَافِ مَا إذَا حَابَى الْأَجْنَبِيَّ: أَيْ أَنَّهُ يَجُوزُ فِي كُلِّ حَالٍ: أَعْنِي إذَا كَانَتْ الْمُحَابَاةُ يَسِيرَةً أَوْ فَاحِشَةً أَوْ كَانَ الْبَيْعُ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ، وَبَيْعُ الْمَرِيضِ مِنْ وَارِثِهِ لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي كُلِّ حَالٍ مِنْ هَذِهِ الْأَحْوَالِ، وَهَذَا أَوْجَهُ، وَلَكِنَّ النُّسْخَةَ بِالْوَاوِ تَأْبَاهُ، اهـ كَلَامَهُ. وَرَدَّ عَلَيْهِ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ كَلَامَهُ هَذَا أَيْضًا حَيْثُ قَالَ بَعْدَ نَقْلِهِ أَيْضًا عَنْهُ: قُلْت ذَلِكَ أَوْجَهُ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظِ بِالْقُرْبِ دُونَ الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ قَوْلِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا حَابَى الْأَجْنَبِيَّ جَوَازُ الْمُحَابَاةِ مَعَهُ مُطْلَقًا، وَلَا يُرَدُّ بَيْعُ الْمَرِيضِ مِنْ وَارِثِهِ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ إشْكَالًا عَلَيْهِ حَتَّى يَحْتَاجَ إلَى الْجَوَابِ اهـ.
أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا أَيْضًا بِوَارِدٍ؛ لِأَنَّهُ كَمَا يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا حَابَى الْأَجْنَبِيَّ جَوَازُ الْمُحَابَاةِ مَعَهُ مُطْلَقًا، كَذَلِكَ يُفْهَمُ مِنْهُ جَوَازُ بَيْعِهِ مِنْهُ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ، غَيْرَ أَنَّ الْأَوَّلَ مَفْهُومٌ بِالْعِبَارَةِ وَالثَّانِي مَفْهُومٌ بِالدَّلَالَةِ؛ لِأَنَّهُ إذَا جَازَتْ الْمُحَابَاةُ مَعَهُ فَلَأَنْ جَازَ الْبَيْعُ مِنْهُ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ أَوْلَى كَمَا لَا يَخْفَى. وَعَنْ هَذَا قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا حَابَى الْأَجْنَبِيَّ: أَيْ أَنَّهُ يَجُوزُ فِي كُلِّ حَالٍ: أَعْنِي إذَا كَانَتْ الْمُحَابَاةُ يَسِيرَةً أَوْ فَاحِشَةً أَوْ كَانَ الْبَيْعُ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ فَإِذْن اتَّجَهْت الْمُطَالَبَةُ بِالْفَرْقِ بَيْنَ بَيْعِ الْعَبْدِ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ وَبَيْنَ بَيْعِ الْمَرِيضِ مِنْ الْوَارِثِ حَيْثُ جَازَ الْأَوَّلُ دُونَ الثَّانِي، مَعَ أَنَّ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا تَعَلُّقُ حَقِّ الْغَيْرِ بِالْمَبِيعِ فَاحْتَاجَ إلَى الْجَوَابِ عَنْهَا بِقَوْلِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ الْمَرِيضُ مِنْ الْوَارِثِ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ حَيْثُ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُ؛ لِأَنَّ حَقَّ بَقِيَّةِ الْوَرَثَةِ تَعَلَّقَ بِعَيْنِهِ:
لِأَنَّ حَقَّ الْغُرَمَاءِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِرَقَبَتِهِمَا اسْتِيفَاءً بِالْبَيْعِ فَلَمْ يَكُنْ الْمَوْلَى مُتْلِفًا حَقَّهُمْ فَلَمْ يَتَضَمَّنْ شَيْئًا.
يَعْنِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُ بَيْعُ الْمَرِيضِ مِنْ الْوَارِثِ بِمِثْلِ قِيمَةِ الْمَبِيعِ بِنَاءً عَلَى تَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ بِعَيْنِهِ فَكَيْفَ يَجُوزُ بَيْعُهُ مِنْهُ بِالْمُحَابَاةِ، وَقَدْ سَلَكَ هَاهُنَا أَيْضًا مَسْلَكَ الدَّلَالَةِ فَلَا مَحْذُورَ فِي تَرْكِ الْوَاوِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَجْعَلَ قَوْلَهُ الْمَذْكُورَ مُتَعَلِّقًا بِحُكْمِ قَوْلِهِ الْمُتَّصِلِ بِهِ.
وَقَالَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ: قُلْت يَنْبَغِي أَنْ يَأْتِيَ بِالْمَسْأَلَةِ بِلَا وَاوٍ؛ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَسْأَلَةٍ مُورِدَةٍ نَقْضًا عَلَى مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ دُونَ قَوْلِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا حَابَى الْأَجْنَبِيَّ؛ لِأَنَّهُ لِبَيَانِ الْفَرْقِ بَيْنَ مَا إذَا بَاعَهُ مِنْ الْمَوْلَى بِنُقْصَانٍ لَمْ يَجُزْ وَمَعَ الْأَجْنَبِيِّ جَازَ، وَإِنَّمَا أَدْخَلَ الْوَاوَ فِيهِ لِئَلَّا يُتَوَهَّمُ أَنَّهُ نَقْضٌ عَلَى بَيْعِ الْمَرِيضِ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ بِالْمُحَابَاةِ فَأَدْخَلَ الْوَاوَ لِدَفْعِ هَذَا الْوَهْمِ اهـ. أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا بِسَدِيدٍ.
أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ قَوْلَهُ؛ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَسْأَلَةٍ مُورِدَةٍ نَقْضًا عَلَى مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ دُونَ قَوْلِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا حَابَى الْأَجْنَبِيَّ؛ لِأَنَّهُ لِبَيَانِ الْفَرْقِ بَيْنَ مَا إذَا بَاعَهُ مِنْ الْمَوْلَى بِنُقْصَانٍ لَمْ يَجُزْ وَمَعَ الْأَجْنَبِيِّ جَازَ كَلَامٌ خَالٍ عَنْ التَّحْصِيلِ؛ لِأَنَّ مَسْأَلَةَ الْكِتَابِ هَاهُنَا اثْنَتَانِ: أُولَاهُمَا قَوْلُهُ وَإِذَا بَاعَ مِنْ الْمَوْلَى شَيْئًا بِمِثْلِ قِيمَتِهِ جَازَ، وَأُخْرَاهُمَا قَوْلُهُ وَإِنْ بَاعَهُ بِنُقْصَانٍ لَمْ يَجُزْ، فَكَمَا أَنَّ قَوْلَهُ بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ الْمَرِيضُ مِنْ الْوَارِثِ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ لِدَفْعِ تَوَهُّمِ انْتِقَاضِ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى بِمَسْأَلَةِ بَيْعِ الْمَرِيضِ مِنْ الْوَارِثِ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ، كَذَلِكَ قَوْلُهُ بِخِلَافِ مَا إذَا حَابَى الْأَجْنَبِيَّ لِدَفْعِ تَوَهُّمِ انْتِقَاضِ الْمَسْأَلَةِ الْأُخْرَى بِمَسْأَلَةِ الْمُحَابَاةِ الْمَأْذُونِ مَعَ الْأَجْنَبِيِّ، وَكَمَا أَنَّ قَوْلَهُ بِخِلَافِ مَا إذَا حَابَى الْأَجْنَبِيَّ لِبَيَانِ الْفَرْقِ بَيْنَ مَا إذَا بَاعَ الْمَأْذُونُ مِنْ مَوْلَاهُ شَيْئًا بِنُقْصَانٍ وَبَيْنَ مَا إذَا بَاعَهُ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ بِنُقْصَانٍ كَذَلِكَ قَوْلُهُ وَبِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ الْمَرِيضُ مِنْ الْوَارِثِ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ لِبَيَانِ الْفَرْقِ بَيْنَ مَا إذَا بَاعَ الْمَأْذُونُ مِنْ مَوْلَاهُ شَيْئًا بِمِثْلِ قِيمَتِهِ وَبَيْنَ مَا إذَا بَاعَهُ الْمَرِيضُ مِنْ وَارِثِهِ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ.
فَإِنْ أَرَادَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ بِقَوْلِهِ الْمَذْكُورِ أَنَّ الْأُولَى مِنْ الْمَسْأَلَتَيْنِ الْمَزْبُورَتَيْنِ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ: أَيْ مُخْتَصَرِ الْقُدُورِيِّ دُونَ الْأُخْرَى مِنْهُمَا فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، إذْ كِلْتَاهُمَا مَسْأَلَتَانِ مَذْكُورَتَانِ مَعًا فِي مُخْتَصَرِ الْقُدُورِيِّ، وَإِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّهُمَا وَإِنْ كَانَتَا مَعًا مَسْأَلَتَيْ الْكِتَابِ إلَّا أَنَّ قَوْلَهُ وَبِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ الْمَرِيضُ إلَخْ لِدَفْعِ تَوَهُّمِ الِانْتِقَاضِ دُونَ قَوْلِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا حَابَى الْأَجْنَبِيَّ فَإِنَّهُ لِبَيَانِ الْفَرْقِ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ أَيْضًا؛ لِأَنَّ دَفْعَ تَوَهُّمِ الِانْتِقَاضِ إنَّمَا يَكُونُ بِبَيَانِ الْفَرْقِ، فَقَصْدُ أَحَدِهِمَا يَسْتَلْزِمُ قَصْدَ الْآخَرِ عَلَى أَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِهَذَا الْمَعْنَى فِي إثْبَاتِ الْمَسْأَلَةِ بِلَا وَاوٍ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى الْفَطِنِ فَلَا يَثْبُتُ مُدَّعَاهُ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّ قَوْلَهُ وَبِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ الْمَرِيضُ مُتَعَلِّقٌ بِأُولَى مَسْأَلَتَيْ الْكِتَابِ، وَقَوْلُهُ وَبِخِلَافِ مَا إذَا حَابَى الْأَجْنَبِيَّ مُتَعَلِّقٌ بِأُخْرَاهُمَا فَلَا مَعْنَى لِلْوَاوِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْأُولَى؟ قُلْنَا: قَدْ تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْأَدَبِ أَنَّ الْوَاوَ لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ لَا تَرْتِيبَ فِيهَا، فَمَدْخُولُهَا لَا يَقْتَضِي التَّأَخُّرَ لَا فِي الْوُقُوعِ وَلَا فِي التَّعَلُّقِ، فَلَا مَحْذُورَ فِي إتْيَانِ الْوَاوِ هَاهُنَا أَصْلًا.
وَأَمَّا ثَانِيًا؛ فَلِأَنَّ قَوْلَهُ وَإِنَّمَا أَدْخَلَ الْوَاوَ فِيهِ لِئَلَّا يُتَوَهَّمُ أَنَّهُ نَقْضٌ عَلَى بَيْعِ الْمَرِيضِ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ بِالْمُحَابَاةِ فَأَدْخَلَ الْوَاوَ لِدَفْعِ هَذَا الْوَهْمِ لَيْسَ بِتَامٍّ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ الْوَاوُ فِيهِ لِلْعَطْفِ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ الْمُتَبَادَرُ.
فَإِنْ كَانَ الْمَحَلُّ صَالِحًا لِلْعَطْفِ فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ مِنْ قَبْلُ يَنْبَغِي أَنْ يَأْتِيَ بِالْمَسْأَلَةِ بِلَا وَاوٍ؛ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَسْأَلَةٍ مُورِدَةٍ نَقْضًا عَلَى مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ صَالِحًا لَهُ فَكَيْفَ يَصِحُّ إدْخَالُ وَاوِ الْعَطْفِ فِيمَا لَا يَصْلُحُ لِلْعَطْفِ لِمُجَرَّدِ دَفْعِ تَوَهُّمِ شَيْءٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْوَاوُ لِلْعَطْفِ فَمِنْ أَيْنَ يَنْدَفِعُ ذَلِكَ التَّوَهُّمُ، وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَالظَّاهِرُ عَدَمُ الْوَاوِ بِجَعْلِهِ مُتَعَلِّقًا بِأَوَّلِ الْمَسْأَلَةِ، وَفِي كَلَامِهِ تَعْقِيدٌ، وَتَقْدِيرُ كَلَامِهِ هَكَذَا: وَإِنْ بَاعَ مِنْ الْمَوْلَى شَيْئًا بِمِثْلِ الْقِيمَةِ جَازَ؛ لِأَنَّهُ كَالْأَجْنَبِيِّ عَنْ كَسْبِهِ إذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ، بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ الْمَرِيضُ مِنْ الْوَارِثِ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ حَيْثُ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُ؛ لِأَنَّ حَقَّ بَقِيَّةِ الْوَرَثَةِ تَعَلَّقَ بِعَيْنِهِ: أَيْ عَيْنِ مَالِ الْمَيِّتِ حَتَّى كَانَ لِأَحَدِهِمْ الِاسْتِخْلَاصُ بِأَدَاءِ قِيمَتِهِ.
أَمَّا حَقُّ الْغُرَمَاءِ فَيَتَعَلَّقُ بِالْمَالِيَّةِ لَا غَيْرَ فَافْتَرَقَا: أَيْ الْمَوْلَى وَالْمَرِيضُ فِي جَوَازِ الْبَيْعِ مِنْ الْمَوْلَى بِمِثْلِ الْقِيمَةِ دُونَ الْوَارِثِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَذْكُرُ قَوْلَهُ وَإِنْ بَاعَ بِنُقْصَانٍ لَمْ يَجُزْ. . . إلَخْ. اهـ كَلَامُهُ. أَقُولُ: لَا يَخْفَى عَلَى ذِي فِطْرَةٍ سَلِيمَةٍ أَنَّ جَعْلَ الظَّاهِرِ هَاهُنَا عَدَمَ الْوَاوِ وَبِنَاءَهُ عَلَى حَمْلِ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ عَلَى مِثْلِ هَذَا التَّعْقِيدِ الْقَبِيحِ عُدُولٌ عَنْ سُنَنِ الصَّوَابِ وَخُرُوجٌ عَنْ دَائِرَةِ الْإِنْصَافِ، وَلَعَلَّ هَذَا أَقْبَحُ الِاحْتِمَالَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي حَلِّ هَذَا الْمَحَلِّ. ثُمَّ إنَّ فِي تَقْرِيرِهِ خَلَلًا آخَرَ فَإِنَّهُ قَالَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ فَافْتَرَقَا:
قَالَ (وَإِنْ بَاعَهُ الْمَوْلَى وَعَلَيْهِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِرَقَبَتِهِ وَقَبَضَهُ الْمُشْتَرِي وَغَيَّبَهُ، فَإِنْ شَاءَ الْغُرَمَاءُ ضَمَّنُوا الْبَائِعَ قِيمَتَهُ، وَإِنْ شَاءُوا ضَمَّنُوا الْمُشْتَرِيَ)؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّهُمْ حَتَّى كَانَ لَهُمْ أَنْ يَبِيعُوهُ، إلَّا أَنْ يَقْضِيَ الْمَوْلَى دَيْنَهُمْ وَالْبَائِعُ مُتْلِفٌ حَقَّهُمْ بِالْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ وَالْمُشْتَرِي بِالْقَبْضِ وَالتَّغْيِيبِ فَيُخَيَّرُونَ فِي التَّضْمِينِ (وَإِنْ شَاءُوا أَجَازُوا الْبَيْعَ وَأَخَذُوا الثَّمَنَ)؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمْ وَالْإِجَازَةُ اللَّاحِقَةُ كَالْإِذْنِ السَّابِقِ كَمَا فِي الْمَرْهُونِ (فَإِنْ ضَمَّنُوا الْبَائِعَ قِيمَتَهُ ثُمَّ رُدَّ عَلَى الْمَوْلَى بِعَيْبٍ فَلِلْمَوْلَى أَنْ يَرْجِعَ بِالْقِيمَةِ وَيَكُونَ حَقُّ الْغُرَمَاءِ فِي الْعَبْدِ)؛ لِأَنَّ سَبَبَ الضَّمَانِ قَدْ زَالَ وَهُوَ الْبَيْعُ وَالتَّسْلِيمُ، وَصَارَ كَالْغَاصِبِ إذَا بَاعَ وَسَلَّمَ وَضَمِنَ الْقِيمَةَ ثُمَّ رَدَّ عَلَيْهِ بِالْعَيْبِ كَانَ لَهُ أَنْ يَرُدَّ عَلَى الْمَالِكِ وَيَسْتَرِدَّ الْقِيمَةَ كَذَا هَذَا.
أَيْ الْمَوْلَى وَالْمَرِيضُ، وَكَانَ الصَّوَابُ أَنْ يَقُولَ: أَيْ الْعَبْدُ وَالْمَرِيضُ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى الْمُتَأَمِّلِ.
وَالْعَجَبُ أَنَّهُ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي جَوَازِ الْبَيْعِ مِنْ الْمَوْلَى بِمِثْلِ الْقِيمَةِ دُونَ الْوَارِثِ فَيَئُولُ الْمَعْنَى عَلَى هَذَا، إلَى أَنْ يُقَالَ فِي جَوَازِ بَيْعِ الْمَوْلَى مِنْ الْمَوْلَى دُونَ جَوَازِ بَيْعِ الْمَرِيضِ مِنْ الْوَارِثِ وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ
(قَوْلُهُ وَإِنْ بَاعَهُ الْمَوْلَى وَعَلَيْهِ دُيُونٌ تُحِيطُ بِرَقَبَتِهِ وَقَبَضَهُ الْمُشْتَرِي وَغَيَّبَهُ، فَإِنْ شَاءَ الْغُرَمَاءُ ضَمَّنُوا الْبَائِعَ قِيمَتَهُ، وَإِنْ شَاءُوا ضَمَّنُوا الْمُشْتَرِيَ) قَالَ الشُّرَّاحُ: إنَّمَا قَيَّدَ سَبَبَ ضَمَانِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي بِمَا ذَكَرَ مِنْ التَّسْلِيمِ وَالتَّغْيِيبِ، وَلَمْ يَكْتَفِ بِمُجَرَّدِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَضْمَنَانِ بِمُجَرَّدِهِمَا بَلْ بِتَغْيِيبِ مَا فِيهِ حَقُّ الْغُرَمَاءِ وَهُوَ الْعَبْدُ؛ لِأَنَّهُمْ يَسْتَسْعَوْنَهُ أَوْ يَبِيعُونَهُ كَمَا يُرِيدُونَ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَفُوتُ بِالتَّسْلِيمِ وَالتَّغْيِيبِ لَا بِمُجَرَّدِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ اهـ.
أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: فَإِذَنْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الضَّمَانُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى الْمُشْتَرِي فَقَطْ فَإِنَّ تَغْيِيبَ الْعَبْدِ الَّذِي فِيهِ حَقُّ الْغُرَمَاءِ إنَّمَا وَقَعَ مِنْهُ دُونَ الْبَائِعِ وَلَوْلَا التَّغْيِيبُ لَأَمْكَنَ لَهُمْ أَنْ يَرُدُّوا الْبَيْعَ فَيَسْتَسْعَوْنَ الْعَبْدِ أَوْ يَبِيعُونَهُ فَلَا ضَمَانَ حِينَئِذٍ عَلَى أَحَدٍ كَمَا سَيَجِيءُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْآتِيَةِ. فَإِنْ قُلْت: تَغْيِيبُ ذَاكَ الْعَبْدِ وَإِنْ وَقَعَ مِنْ الْمُشْتَرِي دُونَ الْبَائِعِ إلَّا أَنَّ فِي الْبَائِعِ أَيْضًا سَبَبِيَّةٌ لَهُ إذْ لَوْلَا بَيْعُهُ وَتَسْلِيمُهُ لَمَا غَيَّبَهُ الْمُشْتَرِي. قُلْت: نَعَمْ، إلَّا أَنَّ سَبَبِيَّةَ ذَلِكَ بَعِيدَةٌ، وَقَدْ تَقَرَّرَ عِنْدَهُمْ وَمَرَّ مِرَارًا أَنَّ الْحُكْمَ يُضَافُ إلَى أَقْرَبِ الْأَسْبَابِ فَتَأَمَّلْ.
ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ الْعِنَايَةِ
قَالَ (وَلَوْ كَانَ الْمَوْلَى بَاعَهُ مِنْ رَجُلٍ وَأَعْلَمَهُ بِالدَّيْنِ فَلِلْغُرَمَاءِ أَنْ يَرُدُّوا الْبَيْعَ) لِتَعَلُّقِ حَقِّهِمْ وَهُوَ حَقُّ الِاسْتِسْعَاءِ وَالِاسْتِيفَاءِ مِنْ رَقَبَتِهِ، وَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَائِدَةٌ، فَالْأَوَّلُ تَامٌّ مُؤَخَّرٌ وَالثَّانِي نَاقِصٌ مُعَجَّلٌ، وَبِالْبَيْعِ تَفُوتُ هَذِهِ الْخِيرَةُ فَلِهَذَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَرُدُّوهُ. قَالُوا: تَأْوِيلُهُ إذَا لَمْ يَصِلْ إلَيْهِمْ الثَّمَنُ، فَإِنْ وَصَلَ وَلَا مُحَابَاةَ فِي الْبَيْعِ لَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَرُدُّوهُ لِوُصُولِ حَقِّهِمْ إلَيْهِمْ.
قَالَ: وَلَكِنْ بَقِيَ شَيْءٌ وَهُوَ أَنَّ حَقَّهُمْ كَانَ فِي بَيْعِ الْعَبْدِ وَالْمَوْلَى قَدْ رَفَعَ عَنْهُمْ الْمُؤْنَةَ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ، كَالْوَصِيِّ إذَا بَاعَ التَّرِكَةَ بِغَيْرِ إذْنِ الْغُرَمَاءِ. وَأُجِيبُ عَنْ ذَلِكَ بِأَنْ حَقَّهُمْ لَمْ يَنْحَصِرْ فِي الْبَيْعِ بَلْ لَهُمْ الِاسْتِسْعَاءُ وَقَدْ فَاتَ بِالْبَيْعِ، وَحَقُّ الْغُرَمَاءِ مُنْحَصِرٌ فِي بَيْعِ التَّرِكَةِ فَافْتَرَقَا اهـ كَلَامُهُ. أَقُولُ: لَا يَتَّجِهُ السُّؤَالُ الْمَذْكُورُ عَلَى مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ أَصْلًا؛ لِأَنَّ وَضْعَهَا فِيمَا إذَا كَانَ ثَمَنُ الْعَبْدِ أَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ، وَأَمَّا إذَا كَانَ ثَمَنُهُ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ أَوْ مُسَاوِيًا لَهَا فَلَا يَثْبُتُ لِلْغُرَمَاءِ الْخِيَارُ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. بَلْ يَتَعَيَّنُ لَهُمْ إذْ ذَاكَ إجَازَةُ الْبَيْعِ وَأَخْذُ الثَّمَنِ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ فِي التَّضْمِينِ، وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ الثِّقَاتِ مِنْهُمْ تَاجُ الشَّرِيعَةِ حَيْثُ قَالَ: وَهَذَا الْخِيَارُ إذَا كَانَ الثَّمَنُ أَقَلَّ مِنْ الْقِيمَةِ.
أَمَّا إذَا كَانَ أَكْثَرَ أَوْ مُسَاوِيًا فَلَا خِيَارَ لَهُمْ اهـ. وَمِنْهُمْ صَاحِبُ الْغَايَةِ حَيْثُ قَالَ بَعْدَ ذِكْرِ تَمَامِ الْمَسْأَلَةِ وَبَيَانِ أَنَّهُ لَفْظُ مُحَمَّدٍ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: هَذَا إذَا بَاعَهُ بِأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ، فَأَمَّا إذَا بَاعَهُ بِقِيمَتِهِ أَوْ بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ وَقَبَضَ وَهُوَ فِي يَدِهِ فَلَا فَائِدَةَ فِي التَّضْمِينِ وَلَكِنْ يَدْفَعُ الثَّمَنَ إلَيْهِمْ اهـ.
فَإِذَا كَانَتْ مَسْأَلَتُنَا هَذِهِ فِيمَا إذَا كَانَ ثَمَنُ الْعَبْدِ الَّذِي بَاعَهُ الْمَوْلَى بِهِ أَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ لَمْ يَتَّجِهْ أَنْ يُقَالَ إنَّ حَقَّهُمْ كَانَ فِي بَيْعِ الْعَبْدِ وَالْمَوْلَى قَدْ رَفَعَ عَنْهُمْ الْمُؤْنَةَ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ؛ لِأَنَّ حَقَّهُمْ كَانَ فِي بَيْعِ الْعَبْدِ بِقِيمَتِهِ وَالْمَوْلَى قَدْ بَاعَهُ بِأَقَلَّ مِنْهَا فَقَدْ قَصَّرَ وَتَعَدَّى فَوَجَبَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ قَطْعًا.
ثُمَّ أَقُولُ: فِي الْجَوَابِ الْمَذْكُورِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ حَاصِلَهُ أَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَى الْمَوْلَى تَفْوِيتُهُ حَقَّ الِاسْتِسْعَاءِ الْغُرَمَاءَ بِبَيْعِهِ الْعَبْدَ، وَمُقْتَضَى هَذَا أَنْ يَجِبَ عَلَى الْمَوْلَى ضَمَانُ الدُّيُونِ بِالتَّمَامِ دُونَ ضَمَانِ قِيمَةِ الْعَبْدِ فَقَطْ؛ لِأَنَّهُمْ كَانَ لَهُمْ أَنْ يَسْتَسْعُوا الْعَبْدَ فِي جَمِيعِ دُيُونِهِ لَهُمْ لَا فِي مِقْدَارِ قِيمَتِهِ فَقَطْ، وَقَدْ فَاتَ بِالْبَيْعِ وَالتَّغْيِيبِ حَقُّ الِاسْتِسْعَاءِ بِالْكُلِّيَّةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَضْمَنَ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي جَمِيعَ مَا فَوَّتَاهُ وَهُوَ جَمِيعُ مَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ بِالِاسْتِسْعَاءِ مِنْ الدُّيُونِ، وَلَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ، وَإِنَّمَا الَّذِي قَالُوا بِهِ أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِمَا ضَمَانُ مِقْدَارِ قِيمَةِ الْعَبْدِ لَا غَيْرَ فَتَدَبَّرْ.
(قَوْلَهُ قَالُوا تَأْوِيلُهُ إذَا لَمْ يَصِلْ إلَيْهِمْ الثَّمَنُ، فَإِنْ وَصَلَ وَلَا مُحَابَاةَ فِي الْبَيْعِ لَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَرُدُّوهُ لِوُصُولِ حَقِّهِمْ إلَيْهِمْ) قَالَ صَاحِبُ
قَالَ (فَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ غَائِبًا فَلَا خُصُومَةَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُشْتَرِي) مَعْنَاهُ إذَا أَنْكَرَ الدَّيْنَ وَهَذَا (عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: الْمُشْتَرِي خَصْمُهُمْ وَيَقْضِي لَهُمْ بِدَيْنِهِمْ) وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا اشْتَرَى دَارًا وَوَهَبَهَا وَسَلَّمَهَا وَغَابَ ثُمَّ حَضَرَ الشَّفِيعُ فَالْمَوْهُوبُ لَهُ لَيْسَ بِخَصْمٍ عِنْدَهُمَا خِلَافًا لَهُ. وَعَنْهُمَا مِثْلُ قَوْلِهِ فِي مَسْأَلَةِ الشُّفْعَةِ. لِأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَدَّعِي الْمِلْكَ لِنَفْسِهِ فَيَكُونُ خَصْمًا لِكُلِّ مَنْ يُنَازِعُهُ. وَلَهُمَا أَنَّ الدَّعْوَى تَتَضَمَّنُ فَسْخَ الْعَقْدِ وَقَدْ قَامَ بِهِمَا فَيَكُونُ الْفَسْخُ قَضَاءً عَلَى الْغَائِبِ. .
النِّهَايَةِ فِي هَذَا اللَّفْظِ نَوْعُ نَظَرٍ، إذْ كَانَ مِنْ حَقِّهِ أَنْ يُقَالَ: وَتَأْوِيلُهُ إذَا بَاعَ بِثَمَنٍ لَا يَفِي بِدُيُونِهِمْ كَمَا هُوَ الْمَذْكُورُ فِي بَابِ جِنَايَةِ الْعَبْدِ مِنْ كِتَابِ الْجَامِعِ الْكَبِيرِ لِفَخْرِ الْإِسْلَامِ وَمَأْذُونَيْ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِقَاضِي خَانْ وَالذَّخِيرَةِ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْبَيْعِ مُحَابَاةٌ وَلَكِنَّ الثَّمَنَ كَانَ لَا يَفِي بِدُيُونِهِمْ كَانَ لَهُمْ أَنْ يَرُدُّوا الْبَيْعَ لِفَوَاتِ حَقِّهِمْ فِي الِاسْتِسْعَاءِ فِيمَا بَقِيَ مِنْ دُيُونِهِمْ عَلَى الْعَبْدِ، وَبِمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ لَا يَحْصُلُ هَذَا الْمَعْنَى، وَهُوَ انْسِدَادُ بَابِ الرَّدِّ لَهُمْ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَفِي الثَّمَنُ بِدُيُونِهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْبَيْعِ مُحَابَاةٌ فَتَبْقَى لَهُمْ وِلَايَةُ الرَّدِّ لِاسْتِسْعَاءِ بَاقِي الدُّيُونِ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُرِيدَ بِقَوْلِهِ فَإِنَّ وَصَلَ وَلَا مُحَابَاةَ فِي الْبَيْعِ رِضَا الْغُرَمَاءِ بِأَخْذِهِمْ الثَّمَنَ، فَإِنَّهُمْ لَمَّا أَخَذُوا الثَّمَنَ كَانُوا رَاضِينَ بِالْبَيْعِ فَيَنْسَدُّ حِينَئِذٍ بَابُ الرَّدِّ، وَلَكِنَّ احْتِمَالَ إرَادَةِ إحْضَارِ الثَّمَنِ وَالتَّخْلِيَةِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الثَّمَنِ بِلَفْظِ الْوُصُولِ بَاقٍ فَلَا يَنْتَهِضُ ذَلِكَ اللَّفْظُ حِينَئِذٍ بَيَانًا لِانْسِدَادِ بَابِ الرَّدِّ لَهُمْ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَكَانَ الْمَعْقُولُ مَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ قَاضِي خَانْ فِي جَامِعِهِ بِقَوْلِهِ: وَتَأْوِيلُهُ إذَا بَاعَ بِثَمَنٍ لَا يَفِي بِدُيُونِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ كَانَ لَهُمْ حَقُّ الِاسْتِسْعَاءِ إلَى أَنْ يَصِلَ إلَيْهِمْ دُيُونُهُمْ، وَبَعْدَ الْبَيْعِ لَا يُمْكِنُهُمْ الِاسْتِسْعَاءُ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي فَكَانَ لَهُمْ أَنْ يَنْقُضُوا الْبَيْعَ، وَإِنْ كَانَ فِي الثَّمَنِ وَفَاءٌ بِدُيُونِهِمْ لَا يَكُونُ لَهُمْ وِلَايَةُ نَقْضِ الْبَيْعِ. إلَى هُنَا كَلَامُ صَاحِبِ النِّهَايَةِ.
وَقَدْ نَقَلَهُ صَاحِبُ مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ بِعَيْنِ عِبَارَتِهِ. وَأَمَّا صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فَنَقَلَهُ بِطَرِيقِ الْإِجْمَالِ وَأَوْرَدَ النَّظَرَ عَلَى الْجَوَابِ حَيْثُ قَالَ: قِيلَ فِي عِبَارَتِهِ تَسَامُحٌ؛ لِأَنَّ وُصُولَ الثَّمَنِ إلَيْهِمْ مَعَ عَدَمِ الْمُحَابَاةِ فِي الْبَيْعِ لَا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الرَّدِّ لِجَوَازِ أَنْ يَصِلَ إلَيْهِمْ الثَّمَنُ وَلَا مُحَابَاةَ فِي الْبَيْعِ لَكِنَّ لَا يَفِي الثَّمَنُ بِدُيُونِهِمْ فَيَبْقَى لَهُمْ وِلَايَةُ الرَّدِّ وَالِاسْتِسْعَاءِ فِي الدُّيُونِ.
وَأُجِيبُ بِأَنَّهُمْ قَدْ رَضُوا بِسُقُوطِ حَقِّهِمْ حَيْثُ قَبَضُوا الثَّمَنَ فَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ وِلَايَةُ الرَّدِّ. وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ يَذْهَبُ بِفَائِدَةِ قَوْلِهِ وَلَا مُحَابَاةَ فِي الْبَيْعِ، فَإِنَّهُمْ إذَا قَبَضُوا الثَّمَنَ وَرَضُوا بِهِ سَقَطَ حَقُّهُمْ وَإِنْ كَانَ فِيهِ مُحَابَاةٌ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ.
أَقُولُ: أَوَّلًا فِي الْجَوَابِ الْمَذْكُورِ نَظَرٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مُرَادُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ فَإِنْ وَصَلَ وَلَا مُحَابَاةَ فِي الْبَيْعِ مَا ذَكَرَ فِي ذَلِكَ الْجَوَابِ لِمَا تَمَّ تَعْلِيلُهُ بِقَوْلِهِ لِوُصُولِ حَقِّهِمْ إلَيْهِمْ، فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الثَّمَنِ وَفَاءٌ بِدُيُونِهِمْ لَمْ يَصِلْ إلَيْهِمْ حَقُّهُمْ بِالتَّمَامِ، وَوُصُولُ بَعْضِ حَقِّهِمْ إلَيْهِمْ لَمْ يُفِدْ شَيْئًا فِي نَفْيِ رَدِّهِمْ الْبَيْعَ كَمَا بَيَّنَ فِي السُّؤَالِ، بَلْ كَانَ حَقُّ التَّعْلِيلِ حِينَئِذٍ أَنْ يُقَالَ لِرِضَاهُمْ بِسُقُوطِ حَقِّهِمْ.
وَأَقُولُ ثَانِيًا: يُمْكِنُ الْجَوَابُ عَنْ النَّظَرِ الَّذِي أَوْرَدَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بِأَنَّ فَائِدَةَ قَوْلِهِ وَلَا مُحَابَاةَ فِي الْبَيْعِ حِينَئِذٍ هِيَ أَنَّ لَهُمْ أَنْ يَقُولُوا فِي صُورَةِ الْمُحَابَاةِ إنَّمَا قَبَضْنَا الثَّمَنَ عَلَى اعْتِقَادِ أَنْ
قَالَ (وَمَنْ قَدِمَ مِصْرًا وَقَالَ أَنَا عَبْدٌ لِفُلَانٍ فَاشْتَرَى وَبَاعَ لَزِمَهُ كُلُّ شَيْءٍ مِنْ التِّجَارَةِ)؛ لِأَنَّهُ إنْ أَخْبَرَ بِالْإِذْنِ فَالْإِخْبَارُ دَلِيلٌ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يُخْبِرْ فَتَصَرُّفُهُ دَلِيلٌ عَلَيْهِ، إذْ الظَّاهِرُ أَنَّ الْمَحْجُورَ يَجْرِي عَلَى مُوجِبِ حَجْرِهِ وَالْعَمَلُ بِالظَّاهِرِ هُوَ الْأَصْلُ فِي الْمُعَامَلَاتِ كَيْ لَا يَضِيقَ الْأَمْرُ عَلَى النَّاسِ،
لَا مُحَابَاةَ فِي الْبَيْعِ، فَإِذَا عَلِمْنَا الْمُحَابَاةَ فِيهِ لَا نَرْضَى بِهَا، بَلْ نَرُدُّ الْبَيْعَ فَنَتْبَعُ الْعَبْدَ بِتَمَامِ الْقِيمَةِ، بِخِلَافِ مَا إذَا يَكُنْ فِي الْبَيْعِ مُحَابَاةٌ فَإِنَّهُ لَا يَتَمَشَّى فِيهِ ذَلِكَ الْعُذْرُ فَافْتَرَقَا.
ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَلَعَلَّ الصَّوَابَ أَنْ يُقَالَ: قَوْلُهُ وَلَا مُحَابَاةَ فِي الْبَيْعِ مَعْنَاهُ أَنَّ الثَّمَنَ يَفِي بِدُيُونِهِمْ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ وَالثَّانِي نَاقِصٌ مُعَجَّلٌ، فَإِنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ نَاقِصًا إذَا لَمْ يَفِ بِالدُّيُونِ اهـ. أَقُولُ: وَفِيهِ نَظَرٌ.
أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَعْنَى قَوْلِهِ وَلَا مُحَابَاةَ فِي الْبَيْعِ أَنَّ الثَّمَنَ يَفِي بِدُيُونِهِمْ لَذَهَبَتْ فَائِدَةُ قَوْلِهِ فَإِنْ وَصَلَ فِي قَوْلِهِ فَإِنْ وَصَلَ وَلَا مُحَابَاةَ، وَفَائِدَةُ قَوْلِهِ إذَا لَمْ يَصِلْ إلَيْهِمْ الثَّمَنُ فِي قَوْلِهِ وَتَأْوِيلُهُ إذَا لَمْ يَصِلْ إلَيْهِمْ الثَّمَنُ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ الثَّمَنَ إذَا كَانَ يَفِي بِدُيُونِهِمْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَنْ يَرُدُّوا الْبَيْعَ سَوَاءٌ وَصَلَ إلَيْهِمْ الثَّمَنُ أَوْ لَمْ يَصِلَ، إذْ لَا يَبْقَى لَهُمْ حِينَئِذٍ حَقُّ الِاسْتِسْعَاءِ بَلْ يَتَعَيَّنُ حَقُّ الِاسْتِيفَاءِ مِنْ رَقَبَتِهِ فَلَا تُتَصَوَّرُ فَائِدَةٌ فِي الرَّدِّ فَلَا يَثْبُتُ لَهُمْ الْخِيَرَةُ. وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ مَعْنَى انْتِفَاءِ الْمُحَابَاةِ فِي الْبَيْعِ لَيْسَ عَيْنَ مَعْنَى وَفَاءِ الثَّمَنِ بِدُيُونِهِمْ وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَأَنَّ أَحَدَهُمَا لَا يَسْتَلْزِمُ الْآخَرَ أَصْلًا لِجَوَازِ أَنْ تَنْتَفِي الْمُحَابَاةُ فِي الْبَيْعِ، وَلَا يَفِي الثَّمَنُ بِدُيُونِهِمْ، وَجَوَازُ أَنَّهُ يَفِي الثَّمَنُ بِدُيُونِهِمْ وَلَا تَنْتَفِي الْمُحَابَاةُ فَلَمْ يَصِحَّ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ وَلَا مُحَابَاةَ فِي الْبَيْعِ أَنَّ الثَّمَنَ يَفِي بِدُيُونِهِمْ لَا بِحَسَبِ الْحَقِيقَةِ وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَلَا بِحَسَبِ التَّجَوُّزِ أَوْ الْكِنَايَةِ لِعَدَمِ الْعَلَاقَةِ الْمُصَحِّحَةِ بَيْنَهُمَا
(قَوْلُهُ وَمَنْ قَدِمَ مِصْرًا وَقَالَ أَنَا عَبْدٌ لِفُلَانٍ فَاشْتَرَى وَبَاعَ لَزِمَهُ كُلُّ شَيْءٍ مِنْ التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّهُ، إنْ أَخْبَرَ بِالْإِذْنِ فَالْإِخْبَارُ دَلِيلٌ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يُخْبِرْ فَتَصَرُّفُهُ دَلِيلٌ عَلَيْهِ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ: أَيْ فَتَصَرُّفُهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ مَأْذُونٌ فِي التِّجَارَةِ وَقَالَ: هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ جَوَابُ الِاسْتِحْسَانِ. وَأَمَّا جَوَابُ الْقِيَاسِ فَأَنْ لَا يُقْبَلَ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْ شَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَخْبَرَ أَنَّهُ مَمْلُوكٌ وَهَذَا إقْرَارٌ عَلَى نَفْسِهِ.
وَالثَّانِي أَخْبَرَ أَنَّهُ مَأْذُونٌ فِي التِّجَارَةِ وَهَذَا إقْرَارٌ عَلَى الْمَوْلَى، وَإِقْرَارُهُ عَلَيْهِ لَا يَصْلُحُ حُجَّةً. وَأَمَّا وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ فَمَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ اهـ.
وَاقْتَفَى أَثَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ إثْرَ ذَلِكَ. أَقُولُ: تَحْرِيرُ هَذَا الْمَحِلِّ عَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ لَا يَخْلُو عَنْ الِاخْتِلَالِ، فَإِنَّ قَوْلَهُمَا فِي تَقْرِيرِ وَجْهِ الْقِيَاسِ وَالثَّانِي أَخْبَرَ أَنَّهُ مَأْذُونٌ فِي التِّجَارَةِ وَهَذَا إقْرَارٌ عَلَى الْمَوْلَى غَيْرُ مُتَمَشٍّ فِي أَحَدِ شِقَّيْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَهُوَ مَا إذَا لَمْ يُخْبِرْ بِالْإِذْنِ، إذْ لَا إخْبَارَ مِنْ الْعَبْدِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ فَلَا إقْرَارَ عَلَى الْمَوْلَى فِيهَا.
وَأَمَّا جَعْلُ الْإِخْبَارِ فِي قَوْلِهِمَا وَالثَّانِي أَخْبَرَ أَنَّهُ مَأْذُونٌ فِي التِّجَارَةِ أَعَمُّ مِنْ الْإِخْبَارِ الْحَقِيقِيِّ وَالْحُكْمِيِّ، وَادِّعَاءُ أَنَّ فِي ذَلِكَ الشِّقِّ إخْبَارًا حُكْمِيًّا عَنْ كَوْنِهِ مَأْذُونًا وَهُوَ تَصَرُّفُهُ تَصَرُّفَ الْمَأْذُونِ فَتَمَحُّلٌ جِدًّا كَمَا لَا يَخْفَى. فَالْأَوْلَى هَاهُنَا تَحْرِيرُ صَاحِبِ الْكَافِي، فَإِنَّهُ جَعَلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ عَلَى وَجْهَيْنِ، وَذَكَرَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَجْهَ قِيَاسٍ.
وَوَجْهَ اسْتِحْسَانٍ عَلَى الِاسْتِقْلَالِ حَيْثُ قَالَ: وَالْمَسْأَلَةُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يُخْبِرَ أَنَّ مَوْلَاهُ أَذِنَ لَهُ فَيُصَدَّقُ اسْتِحْسَانًا عَدْلًا كَانَ أَوْ غَيْرَ عَدْلٍ. وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يُصَدَّقُ؛ لِأَنَّهُ مُجَرَّدُ دَعْوَى مِنْهُ فَلَا يُصَدَّقُ إلَّا بِحُجَّةٍ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي» وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ النَّاسَ تَعَامَلُوا ذَلِكَ، وَإِجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ حُجَّةٌ يُخَصُّ بِهَا الْأَثَرُ وَيُتْرَكُ بِهَا الْقِيَاسُ وَالنَّظَرُ، وَلِأَنَّ فِي ذَلِكَ ضَرُورَةٌ وَبَلْوَى فَإِنَّ الْإِذْنَ لَا بُدَّ مِنْهُ لِصِحَّةِ تَصَرُّفِهِ، وَإِقَامَةُ الْحُجَّةِ عِنْدَ كُلِّ عَقْدٍ غَيْرُ مُمْكِنٍ، وَالْأَصْلُ أَنَّ مَا ضَاقَ عَلَى النَّاسِ أَمْرُهُ اتَّسَعَ حُكْمُهُ، وَمَا عَمَّتْ بَلِيَّتُهُ سَقَطَتْ قَضِيَّتُهُ. وَثَانِيهِمَا أَنْ يَبِيعَ وَيَشْتَرِيَ وَلَا يُخْبِرَ بِشَيْءٍ، وَالْقِيَاسُ فِيهِ أَنْ لَا يَثْبُتُ الْإِذْنُ؛ لِأَنَّ السُّكُوتَ مُحْتَمَلٌ.
(إلَّا أَنَّهُ لَا يُبَاعُ حَتَّى يَحْضُرَ مَوْلَاهُ)؛ لِأَنَّهُ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي الرَّقَبَةِ؛ لِأَنَّهَا خَالِصُ حَقِّ الْمَوْلَى، بِخِلَافِ الْكَسْبِ؛ لِأَنَّهُ حَقُّ الْعَبْدِ عَلَى مَا بَيَّنَّا (فَإِنْ حَضَرَ فَقَالَ هُوَ مَأْذُونٌ بِيعَ فِي الدَّيْنِ)؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ الدَّيْنُ فِي حَقِّ الْمَوْلَى (وَإِنْ قَالَ هُوَ مَحْجُورٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ)؛ لِأَنَّهُ مُتَمَسِّكٌ بِالْأَصْلِ. .
فَصْلٌ
(وَإِذَا أَذِنَ وَلِيُّ الصَّبِيِّ لِلصَّبِيِّ فِي التِّجَارَةِ فَهُوَ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ كَالْعَبْدِ الْمَأْذُونِ إذَا كَانَ يَعْقِلُ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ حَتَّى يَنْفُذَ تَصَرُّفُهُ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَنْفُذُ؛ لِأَنَّ حَجْرَهُ لِصِبَاهُ فَيَبْقَى بِبَقَائِهِ، وَلِأَنَّهُ مُوَلًّى عَلَيْهِ حَتَّى يَمْلِكَ الْوَلِيُّ
وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَثْبُتُ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ مَأْذُونٌ؛ لِأَنَّ أُمُورَ الْمُسْلِمِينَ مَحْمُولَةٌ عَلَى الصَّلَاحِ مَا أَمْكَنَ وَلَا يَثْبُتُ الْجَوَازُ إلَّا بِالْإِذْنِ فَوَجَبَ أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ، وَالْعَمَلُ بِالظَّاهِرِ هُوَ الْأَصْلُ فِي الْمُعَامَلَاتِ دَفْعًا لِلشَّرَرِ عَنْ النَّاسِ.
وَالْقِيَاسُ أَنْ يَشْتَرِطَ عَدَالَةَ الْمُخْبِرِ؛ لِأَنَّ الْحُجَّةَ خَبَرُ الْعَدْلِ. وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يُشْتَرَطُ لِلضَّرُورَةِ أَوْ الْبَلْوَى، إلَى هُنَا كَلَامُهُ.
وَاقْتَفَى أَثَرَهُ صَاحِبُ مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْكِتَابِ وَالْإِمَامُ الزَّيْلَعِيُّ فِي شَرْحِ الْكَنْزِ (قَوْلُهُ إلَّا أَنَّهُ لَا يُبَاعُ حَتَّى يَحْضُرَ مَوْلَاهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي الرَّقَبَةِ لِأَنَّهَا خَالِصُ حَقِّ الْمَوْلَى، بِخِلَافِ الْكَسْبِ؛ لِأَنَّهُ حَقُّ الْعَبْدِ عَلَى مَا بَيَّنَّا) أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ؛ لِأَنَّهَا خَالِصُ حَقِّ الْمَوْلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا حَقُّ الْعَبْدِ وَلَا حَقُّ الْغُرَمَاءِ فَهُوَ مَمْنُوعٌ، إذْ قَدْ تَقَرَّرَ فِيمَا مَرَّ أَنَّ حَقَّ الْغُرَمَاءِ يَتَعَلَّقُ بِرَقَبَةِ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ حَتَّى كَانَ لَهُمْ أَنْ يَبِيعُوهُ لِاسْتِيفَاءِ دُيُونِهِمْ إلَّا أَنْ يَفْدِيَ الْمَوْلَى دُيُونَهُمْ، وَإِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا حَقُّ الْعَبْدِ كَمَا هُوَ الْمُتَبَادَرُ مِنْ قَوْلِهِ بِخِلَافِ الْكَسْبِ؛ لِأَنَّهُ حَقُّ الْعَبْدِ فَهُوَ مُسَلَّمٌ، لَكِنْ لَا يَتِمُّ بِهِ التَّعْلِيلُ حِينَئِذٍ عَلَى أَنْ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي الرَّقَبَةِ أَصْلًا؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْنَعُ أَنْ يُقْبَلَ قَوْلُهُ فِيهَا لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغُرَمَاءِ بِهَا كَمَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي ثُبُوتِ الْإِذْنِ لَهُ وَلُزُومِ كُلِّ شَيْءٍ فِي التِّجَارَةِ لِئَلَّا يَضِيقَ الْأَمْرُ عَلَى النَّاسِ فَلْيُتَأَمَّلْ.
وَالْأَظْهَرُ فِي تَعْلِيلِ قَوْلِهِ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي الرَّقَبَةِ: أَيْ فِي حَقِّ بَيْعِ الرَّقَبَةِ أَنْ يُقَالَ: لِأَنَّ بَيْعَ الرَّقَبَةِ لَيْسَ مِنْ لَوَازِمِ الْإِذْنِ فِي التِّجَارَةِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا أَذِنَ الْمُدَبَّرَ وَأُمَّ الْوَلَدِ وَلَحِقَهُمَا الدَّيْنُ لَا يُبَاعَانِ وَهُمَا مَأْذُونٌ لَهُمَا كَمَا ذَكَرَ فِي النِّهَايَةِ وَغَيْرِهَا. اهـ.
(فَصْلٌ)
لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ أَحْكَامِ إذْنِ الْعَبْدِ فِي التِّجَارَةِ شَرَعَ فِي بَيَانِ أَحْكَامِ إذْنِ الصَّبِيِّ وَالْمَعْتُوهِ، وَقَدَّمَ الْأَوَّلَ لِكَثْرَةِ وُقُوعِهِ (قَوْلُهُ وَإِذَا أَذِنَ وَلِيُّ الصَّبِيِّ لِلصَّبِيِّ فِي التِّجَارَةِ فَهُوَ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ كَالْعَبْدِ الْمَأْذُونِ إذَا كَانَ يَعْقِلُ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ حَتَّى يَنْفُذَ تَصَرُّفُهُ)
التَّصَرُّفَ عَلَيْهِ وَيَمْلِكَ حَجْرَهُ فَلَا يَكُونُ وَالِيًا لِلْمُنَافَاةِ وَصَارَ كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ، بِخِلَافِ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقَامُ بِالْوَلِيِّ، وَكَذَا الْوَصِيَّةُ عَلَى أَصْلِهِ فَتَحَقَّقَتْ الضَّرُورَةُ إلَى تَنْفِيذِهِ مِنْهُ.
أَمَّا بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فَيَتَوَلَّاهُ الْوَلِيُّ فَلَا ضَرُورَةَ هَاهُنَا. وَلَنَا أَنَّ التَّصَرُّفَ الْمَشْرُوعَ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ فِي مَحَلِّهِ عَنْ وِلَايَةٍ شَرْعِيَّةٍ فَوَجَبَ تَنْفِيذُهُ عَلَى مَا عُرِفَ تَقْرِيرُهُ فِي الْخِلَافِيَّاتِ. وَالصِّبَا سَبَبُ الْحَجْرِ لِعَدَمِ الْهِدَايَةِ لَا لِذَاتِهِ، وَقَدْ ثَبَتَتْ نَظَرًا إلَى إذْنِ الْوَلِيِّ،
أَقُولُ: كَانَ الظَّاهِرُ أَنْ يَقُولَ فِي جَوَابِ الْمَسْأَلَةِ: فَهُوَ فِي التِّجَارَةِ كَالْعَبْدِ الْمَأْذُونِ لِيُطَابِقَ مَا قَبْلَهُ مِنْ قَوْلِهِ فِي التِّجَارَةِ، وَلِيَعُمَّ غَيْرَ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ مِنْ سَائِرِ أَسْبَابِ التِّجَارَاتِ لِنُفُوذِ تَصَرُّفِهِ فِي سَائِرِهَا أَيْضًا عِنْدَنَا، وَكَأَنَّهُ قَصَدَ الِاكْتِفَاءَ بِذِكْرِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ لِكَوْنِهِمَا مِنْ أُصُولِ أَسْبَابِ التِّجَارَاتِ، إلَّا أَنَّهُ آثَرَ اللَّفْظَ الْكَثِيرَ عَلَى اللَّفْظِ الْقَلِيلِ مَعَ كَوْنِ الثَّانِي أَعَمَّ وَأَظْهَرَ فِي إفَادَةِ تَمَامِ الْمُرَادِ.
وَهَذَا مَا فِي عِبَارَةِ مُخْتَصَرِ الْقُدُورِيِّ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ قَصَرَ الْمُصَنِّفُ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى حَيْثُ قَصَرَ فِي الْبِدَايَةِ عَلَى قَوْلِهِ إذَا كَانَ يَعْقِلُ الْبَيْعَ وَكَانَ عِبَارَةُ الْمُخْتَصَرِ إذَا كَانَ يَعْقِلُ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ، وَأَصَرَّ عَلَى ذَلِكَ فِي الْهِدَايَةِ أَيْضًا مَعَ ظُهُورِ مَزِيَّةِ مَا فِي عِبَارَةِ الْمُخْتَصَرِ؛ لِأَنَّ تَعَقُّلَهُ الْبَيْعَ فَقَطْ غَيْرُ كَافٍ فِي كَوْنِهِ كَالْعَبْدِ الْمَأْذُونِ نَافِذَ التَّصَرُّفِ فِي بَابِ التِّجَارَةِ مُطْلَقًا، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَقْبَلَ الشِّرَاءَ أَيْضًا بِأَنْ يَعْرِفَ أَنَّ الْبَيْعَ سَالِبٌ لِلْمِلْكِ وَالشِّرَاءَ جَالِبٌ لَهُ، وَيَعْرِفُ الْغَبْنَ الْيَسِيرَ مِنْ الْغَبْنِ الْفَاحِشِ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ (قَوْلُهُ وَالصِّبَا سَبَبُ الْحَجْرِ لِعَدَمِ الْهِدَايَةِ لَا لِذَاتِهِ، وَقَدْ ثَبَتَتْ نَظَرًا إلَى إذْنِ الْوَلِيِّ) هَذَا جَوَابٌ عَنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ حَجْرَهُ لِصَبَاهُ فَيَبْقَى بِبَقَائِهِ.
تَقْرِيرُهُ أَنَّ الصِّبَا سَبَبُ الْحَجْرِ لِعَدَمِ هِدَايَةِ الصَّبِيِّ فِي أُمُورِ التِّجَارَةِ لَا لِذَاتِهِ فَصَارَ هُوَ كَالْعَبْدِ فِي كَوْنِ حَجْرِهِ لِغَيْرِهِ، فَإِذَا أَذِنَ لَهُ الْوَلِيُّ زَالَ ذَلِكَ الْغَيْرُ؛ لِأَنَّهُ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى ثُبُوتِ هِدَايَتِهِ فِي أُمُورِ التِّجَارَةِ، إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ هَادِيًا فِيهَا لَمَا أَذِنَ لَهُ
وَبَقَاءُ وِلَايَتِهِ لِنَظَرِ الصَّبِيِّ لِاسْتِيفَاءِ الْمَصْلَحَةِ بِطَرِيقَيْنِ وَاحْتِمَالِ تَبَدُّلِ الْحَالِ، بِخِلَافِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ؛ لِأَنَّهُ ضَارٌّ مَحْضٌ فَلَمْ يُؤَهَّلْ لَهُ. وَالنَّافِعُ الْمَحْضُ كَقَبُولِ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ يُؤَهَّلُ لَهُ قَبْلَ الْإِذْنِ، وَالْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ دَائِرٌ بَيْنَ النَّفْعِ وَالضَّرَرِ فَيُجْعَلُ أَهْلًا لَهُ بَعْدَ الْإِذْنِ لَا قَبْلَهُ، لَكِنْ قَبْلَ الْإِذْنِ يَكُونُ مَوْقُوفًا مِنْهُ عَلَى إجَازَةِ الْوَلِيِّ لِاحْتِمَالِ وُقُوعِهِ نَظَرًا، وَصِحَّةُ التَّصَرُّفِ فِي نَفْسِهِ، وَذِكْرُ الْوَلِيِّ فِي الْكِتَابِ يَنْتَظِمُ الْأَبَ وَالْجَدَّ عِنْدَ عَدَمِهِ وَالْوَصِيَّ وَالْقَاضِي وَالْوَالِي، بِخِلَافِ صَاحِبِ الشُّرَطِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ إلَيْهِ تَقْلِيدُ الْقُضَاةِ،
الْوَلِيُّ فَيَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ كَمَا لَوْ أَذِنَ الْمَوْلَى لِلْعَبْدِ كَذَا فِي الشُّرُوحِ. أَقُولُ: يَرُدُّ عَلَى ظَاهِرِ هَذَا الْجَوَابِ أَنْ يُقَالَ: لَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَنَفَذَ تَصَرُّفُ الصَّبِيِّ بِدُونِ إذْنِ الْوَلِيِّ إذَا عَلِمَ هِدَايَتَهُ فِي أُمُورِ التِّجَارَةِ بِدَلِيلٍ مِنْ الدَّلَائِلِ، غَيْرَ إذْنِ الْوَلِيِّ لِحُصُولِ الْعِلْمِ إذْ ذَاكَ أَيْضًا بِزَوَالِ ذَلِكَ الْغَيْرِ الَّذِي حُجِرَ الصَّبِيُّ بِسَبَبِهِ وَهُوَ عَدَمُ الْهِدَايَةِ، مَعَ أَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ الْكُتُبِ عَدَمُ نَفَاذِ تَصَرُّفِهِ بِغَيْرِ إذْنِ الْوَلِيِّ أَصْلًا فِيمَا هُوَ دَائِرٌ بَيْنَ النَّفْعِ وَالضُّرِّ كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَنَحْوِهِمَا فَتَأَمَّلْ.
(قَوْلَهُ وَبَقَاءُ وِلَايَتِهِ لِنَظَرِ الصَّبِيِّ لِاسْتِيفَاءِ الْمَصْلَحَةِ بِطَرِيقِينَ وَاحْتِمَالِ تَبَدُّلِ الْحَالِ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَقَوْلُهُ وَبَقَاءُ وِلَايَتِهِ جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ لَوْ ثَبَتَ لَهُ الْهِدَايَةُ بِالْإِذْنِ لَمْ يَبْقَ الْوَلِيُّ وَلِيًّا.
وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ بَقَاءَ وِلَايَتِهِ بَعْدَ ذَلِكَ لِأَمْرَيْنِ لِلنَّظَرِ لَهُ، فَإِنَّ الصِّبَا مِنْ أَسْبَابِ الْمَرْحَمَةِ بِالْحَدِيثِ، وَفِي اعْتِبَارِ كَلَامِهِ فِي التَّصَرُّفِ نَفْعٌ مَحْضٌ لِاسْتِيفَاءِ الْمَصْلَحَةِ بِطَرِيقَيْنِ: أَيْ بِمُبَاشَرَةِ وَلِيِّهِ لَهُ، وَبِمُبَاشَرَةِ نَفْسِهِ، فَكَانَ مَرْحَمَةً فِي حَقِّهِ فَوَجَبَ اعْتِبَارُهُ، وَلِاحْتِمَالِ تَبَدُّلِ الْحَالِ فَإِنَّ حَالَ الصَّبِيِّ يَحْتَمِلُ أَنْ يَتَبَدَّلَ مِنْ الْهِدَايَةِ إلَى غَيْرِهَا فَأَبْقَيْنَا وِلَايَةَ الْوَلِيِّ لِيَتَدَارَكَ ذَلِكَ اهـ كَلَامَهُ. أَقُولُ: فِي تَقْرِيرِهِ شَيْءٌ. أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ قَوْلَهُ وَفِي اعْتِبَارِ كَلَامِهِ فِي التَّصَرُّفِ نَفْعٌ مَحْضٌ غَيْرُ مُسَلَّمٍ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي التَّصَرُّفِ الدَّائِرِ بَيْنَ النَّفْعِ وَالضُّرِّ فَإِنَّ تَصَرُّفَهُ الَّذِي هُوَ نَافِعٌ مَحْضٌ كَقَبُولِ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ يَنْفُذُ بِغَيْرِ إذْنِ الْوَلِيِّ أَيْضًا.
وَتَصَرُّفُهُ الَّذِي هُوَ ضَارٌّ مَحْضٌ كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ لَا يَنْفُذُ بِإِذْنِ الْوَلِيِّ أَيْضًا، وَإِنَّمَا الَّذِي يَتَوَقَّفُ نَفَاذُهُ عَلَى إذْنِ الْوَلِيِّ عِنْدَنَا تَصَرُّفُهُ الدَّائِرُ بَيْنَ النَّفْعِ وَالضُّرِّ كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فَكَيْفَ يَكُونُ فِي اعْتِبَارِ كَلَامِهِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ التَّصَرُّفِ نَفْعٌ مَحْضٌ؟ فَالْوَجْهُ أَنْ يُقَالَ بَدَلَ قَوْلِهِ الْمَذْكُورِ وَفِي اعْتِبَارِ كَلَامِهِ فِي التَّصَرُّفِ
وَالشَّرْطُ أَنْ يَعْقِلَ كَوْنَ الْبَيْعِ سَالِبًا لِلْمِلْكِ جَالِبًا لِلرِّبْحِ، وَالتَّشْبِيهُ بِالْعَبْدِ الْمَأْذُونِ لَهُ يُفِيدُ أَنَّ مَا يَثْبُتُ فِي الْعَبْدِ مِنْ الْأَحْكَامِ يَثْبُتُ فِي حَقِّهِ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ فَكُّ الْحَجْرِ وَالْمَأْذُونُ يَتَصَرَّفُ بِأَهْلِيَّةِ نَفْسِهِ عَبْدًا كَانَ أَوْ صَبِيًّا، فَلَا يَتَقَيَّدُ تَصَرُّفُهُ بِنَوْعٍ دُونَ نَوْعٍ.
وَيَصِيرُ مَأْذُونًا بِالسُّكُوتِ كَمَا فِي الْعَبْدِ،.
نَظَرٌ لَهُ. وَأَمَّا ثَانِيًا؛ فَلِأَنَّ مُقْتَضَى تَقْرِيرِهِ الْمَزْبُورِ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ وَاحْتِمَالُ تَبَدُّلِ الْحَالِ مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ لِنَظَرِ الصَّبِيِّ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى النَّاظِرِ فِي مُقَدِّمَاتِ تَقْرِيرِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ لِاسْتِيفَاءِ الْمَصْلَحَةِ بِطَرِيقَيْنِ، وَدَاخِلٌ مَعَهُ فِي حَيِّزِ قَوْلِهِ لِنَظَرِ الصَّبِيِّ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ تَدَارُكَ احْتِمَالِ تَبَدُّلِ الْحَالِ أَيْضًا نَظَرٌ لِلصَّبِيِّ فَلَا وَجْهَ لِجَعْلِهِ مُقَابِلًا لَهُ. ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ وَبَقَاءُ وِلَايَتِهِ إلَخْ يَحْتَمِلُ الْوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ جَوَابًا عَنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَلِأَنَّهُ مُوَلًّى عَلَيْهِ إلَخْ.
وَثَانِيهِمَا: أَنْ يَكُونَ جَوَابًا عَنْ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ لَوْ صَارَ الصَّبِيُّ وَلِيًّا لِلتَّصَرُّفِ بِإِذْنِ وَلِيِّهِ لَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَبْقَى وَلِيُّهُ وَلِيًّا فِي التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ، فَصَاحِبُ النِّهَايَةِ ذَكَرَ كِلَا الْوَجْهَيْنِ، وَصَاحِبُ الْعِنَايَةِ اخْتَارَ الثَّانِي كَمَا تَرَى، وَكَثِيرٌ مِنْ الشُّرَّاحِ اخْتَارُوا الْأَوَّلَ فَعَلَيْك بِالِاخْتِيَارِ ثُمَّ الِاخْتِيَارِ.
(قَوْلُهُ وَالتَّشْبِيهُ بِالْعَبْدِ الْمَأْذُونِ لَهُ يُفِيدُ أَنَّ مَا ثَبَتَ فِي الْعَبْدِ مِنْ الْأَحْكَامِ يَثْبُتُ فِي حَقِّهِ) أَيْ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ أَرَادَ بِهِ قَوْلَهُ فَهُوَ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ كَالْعَبْدِ الْمَأْذُونِ، كَذَا فِي غَايَةِ الْبَيَانِ وَغَيْرِهَا. أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: تَشْبِيهُ الصَّبِيِّ بِالْعَبْدِ الْمَأْذُونِ إنَّمَا يُفِيدُ ثُبُوتَ أَحْكَامِ الْعَبْدِ عَامَّةً فِي حَقِّهِ إنْ كَانَ التَّشْبِيهُ عَلَى الْعُمُومِ، أَوْ عَلَى الْإِطْلَاقِ.
وَأَمَّا إذَا عَيَّنَ مَا فِيهِ الْمُشَابَهَةُ كَمَا وَقَعَ فِي الْكِتَابِ حَيْثُ قَالَ فَهُوَ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ كَالْعَبْدِ الْمَأْذُونِ، فَإِفَادَةُ الْمَأْذُونِ التَّعْمِيمَ مَمْنُوعَةٌ جِدًّا فَلْيُتَأَمَّلْ. وَقَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: فَإِنْ قُلْت: كَيْفَ يَسْتَقِيمُ تَعْمِيمُ قَوْلِهِ إنَّ مَا ثَبَتَ فِي الْعَبْدِ مِنْ الْأَحْكَامِ يَثْبُتُ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ الْمَأْذُونِ مَعَ التَّخَلُّفِ فِي بَعْضِهَا وَهُوَ أَنَّ الْمَوْلَى مَحْجُورٌ عَنْ التَّصَرُّفِ فِي مَالِ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ إذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِمَالِهِ وَالْوَلِيُّ لَيْسَ بِمَحْجُورٍ عَنْ التَّصَرُّفِ فِي مَالِ الصَّبِيِّ الْمَأْذُونِ وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِمَالِهِ وَالرِّوَايَةُ عَنْ الْمَبْسُوطِ. قُلْت: الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ مَا ذَكَرْته مِنْ الْحَجَرِ وَعَدَمِهِ فَهُوَ فِي انْحِجَارِ الْمَوْلَى وَعَدَمِ انْحِجَارِ الْوَلِيِّ فِي الْمَالِ، وَمَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ مِنْ التَّعْمِيمِ فِي تَصَرُّفِ الْعَبْدِ فِي مَالِهِ وَتَصَرُّفِ الصَّبِيِّ فِي مَالِهِ فَلَا يَرُدُّ نَقْضًا لِاخْتِلَافِ التَّصَرُّفَيْنِ. وَالثَّانِي هُوَ مَا ذَكَرَهُ فِي الْمَبْسُوطِ، وَإِنَّمَا يَمْلِكُ الْأَبُ أَوْ الْوَصِيُّ التَّصَرُّفَ فِي مَالِ الصَّبِيِّ سَوَاءً كَانَ عَلَى الصَّبِيِّ دَيْنٌ أَوْ لَا؛ لِأَنَّ دَيْنَ الْحُرِّ فِي ذِمَّتِهِ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِمَالِهِ، بِخِلَافِ دَيْنِ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ فَإِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِكَسْبِهِ وَيَصِيرُ الْمَوْلَى مِنْ التَّصَرُّفِ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ إذَا كَانَ الدَّيْنُ مُسْتَغْرِقًا اهـ كَلَامَهُ. وَاقْتَفَى أَثَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي ذِكْرِ ذَاكَ السُّؤَالِ وَوَجْهَيْ الْجَوَابِ وَلَكِنْ سَلَكَ مَسْلَكَ الْإِجْمَالِ. أَقُولُ: الْوَجْهُ الثَّانِي لَا يُصْلَحُ جَوَابًا عَنْ السُّؤَالِ الْمَذْكُورِ؛ لِأَنَّ حَاصِلَ هَذَا الْوَجْهِ بَيَانُ عِلَّةِ انْحِجَارِ الْمَوْلَى عَنْ التَّصَرُّفِ فِي مَالِ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ إذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِمَالِهِ وَعَدَمُ انْحِجَارِ الْوَلِيِّ عَنْ التَّصَرُّفِ فِي مَالِ الصَّبِيِّ الْمَأْذُونِ وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِمَالِهِ، وَذَلِكَ لَا يُفِيدُ اسْتِقَامَةَ التَّعْلِيلِ فِي قَوْلِ الْمُصَنِّفِ إنَّ مَا ثَبَتَ فِي الْعَبْدِ مِنْ الْأَحْكَامِ يَثْبُتُ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ الْمَأْذُونِ بَلْ يُؤَيِّدُ عَدَمَ اسْتِقَامَتِهِ كَمَا لَا يَخْفَى. وَمَدَارُ السُّؤَالِ الْمَذْكُورِ عَلَى التَّعْمِيمِ
وَيَصِحُّ إقْرَارُهُ بِمَا فِي يَدِهِ مِنْ كَسْبِهِ، وَكَذَا بِمَوْرُوثِهِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، كَمَا يَصِحُّ إقْرَارُ الْعَبْدِ.
وَلَا يَمْلِكُ تَزْوِيجَ عَبْدِهِ وَلَا كِتَابَتِهِ كَمَا فِي الْعَبْدِ وَالْمَعْتُوهِ الَّذِي يَعْقِلُ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ بِمَنْزِلَةِ الصَّبِيِّ يَصِيرُ مَأْذُونًا بِإِذْنِ الْأَبِ وَالْجَدِّ وَالْوَصِيِّ دُونَ غَيْرِهِمْ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ، وَحُكْمُهُ حُكْمُ الصَّبِيِّ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمُسْتَفَادِ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ لَا غَيْرَ.
وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: لَعَلَّ خُلَاصَةَ الْجَوَابِ الثَّانِي مَنْعُ دَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَى الْعُمُومِ. أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا أَيْضًا بِسَدِيدٍ. أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ دَلَالَةَ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ وَهُوَ قَوْلُهُ إنَّ مَا يَثْبُتُ فِي الْعَبْدِ مِنْ الْأَحْكَامِ يَثْبُتُ فِي حَقِّهِ عَلَى الْعُمُومِ ظَاهِرَةٌ لَا تَقْبَلُ الْمَنْعَ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ " مَا " مِنْ أَلْفَاظِ الْعُمُومِ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ وَقَدْ تَأَكَّدَ بَيَانُهَا بِقَوْلِهِ مِنْ الْأَحْكَامِ، فَإِنَّ الْجَمْعَ الْمُعَرَّفَ بِاللَّامِ أَيْضًا مِنْ أَلْفَاظِ الْعُمُومِ وَالِاسْتِغْرَاقِ إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَعْهُودٌ كَمَا تَقَرَّرَ هَذَا أَيْضًا فِي عِلْمِ الْأُصُولِ. وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِي الْجَوَابِ الثَّانِي أَصْلًا عَلَى مَنْعِ دَلَالَةِ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ عَلَى الْعُمُومِ وَلَا تَعَرُّضَ لَهُ فِيهِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ، وَإِنَّمَا مَضْمُونُهُ مُجَرَّدُ بَيَانِ الْعِلَّةِ فِي انْحِجَارِ الْمَوْلَى عَنْ التَّصَرُّفِ فِي مَالِ الْعَبْدِ وَعَدَمِ انْحِجَارِ الْوَلِيِّ عَنْ التَّصَرُّفِ فِي مَالِ الصَّبِيِّ فَحَمْلُ ذَلِكَ الْجَوَابِ عَلَى مَنْعِ دَلَالَةِ الْكَلَامِ مِمَّا لَا سَبِيلَ إلَيْهِ أَصْلًا
(قَوْلُهُ وَيَصِحُّ إقْرَارُهُ بِمَا فِي يَدِهِ مِنْ كَسْبِهِ) أُورِدَ عَلَيْهِ بِأَنَّ الْوِلَايَةَ الْمُتَعَدِّيَةَ فَرْعُ الْوِلَايَةِ الْقَائِمَةِ، وَالْوَلِيُّ لَا يَمْلِكُ الْإِقْرَارَ عَلَى مَالِ الصَّبِيِّ فَكَيْفَ يَمْلِكُهُ الصَّبِيُّ بِإِذْنِ الْوَلِيِّ؟ أُجِيبُ عَنْهُ فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ بِأَنَّ الْوَلِيَّ إنَّمَا لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ قَوْلٌ مِنْ الْمَرْءِ عَلَى نَفْسِهِ، وَمَا يَثْبُتُ عَلَى الْغَيْرِ بِقَوْلِهِ فَهُوَ شَهَادَةٌ، وَإِقْرَارُ الْوَلِيِّ عَلَى الصَّغِيرِ قَوْلٌ عَلَى الْغَيْرِ فَيَكُونُ شَهَادَةً وَشَهَادَةُ الْفَرْدِ لَا تَكُونُ حُجَّةً.
وَأَمَّا قَوْلُ الصَّبِيِّ بَعْدَ الْإِذْنِ فَهُوَ إقْرَارٌ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ وَهُوَ مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ وَمِمَّا لَا تَتِمُّ التِّجَارَةُ إلَّا بِهِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ إذَا عَلِمُوا أَنَّ إقْرَارَهُ لَا يَصِحُّ يَتَحَرَّزُونَ عَنْ مُعَامَلَتِهِ، فَإِنَّ مَنْ يُعَامِلُهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ أَنْ يُشْهِدَ عَلَيْهِ شَاهِدِينَ فَلِهَذَا جَازَ إقْرَارُهُ اهـ. أَقُولُ: هَذَا الْجَوَابُ لَا يَدْفَعَ السُّؤَالَ الْمَذْكُورَ؛ لِأَنَّ حَاصِلَهُ بَيَانُ عِلِّيَّةِ عَدَمِ صِحَّةِ إقْرَارِ الْوَلِيِّ عَلَى الصَّبِيِّ وَصِحَّةِ إقْرَارِ الصَّبِيِّ بِنَفْسِهِ عَلَى مَالِ نَفْسِهِ، وَهَذَا مِمَّا لَا يُؤَثِّرُ كَمَا تَرَى فِي انْدِفَاعِ الْإِيرَادِ بِأَنَّ الْوِلَايَةَ الْمُتَعَدِّيَةَ فَرْعُ الْوِلَايَةِ الْقَائِمَةِ، وَهَاهُنَا لَمْ تَتَحَقَّقْ الْوِلَايَةُ الْقَائِمَةُ فَكَيْفَ تَتَحَقَّقُ الْوِلَايَةُ الْمُتَعَدِّيَةُ؟ وَكَأَنَّ صَاحِبَ الْعِنَايَةِ تَنَبَّهَ لِمَا فِي الْجَوَابِ الْمَزْبُورِ حَيْثُ لَمْ يَذْكُرْهُ بَلْ قَالَ بَدَلَهُ. وَالْجَوَابُ أَنَّهُ أَفَادَهُ مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ مِنْ تَوَابِعِ التِّجَارَةِ وَالْوَلِيُّ يَمْلِكُ الْإِذْنَ بِالتِّجَارَةِ وَتَوَابِعِهَا اهـ.
أَقُولُ: هَذَا الْجَوَابُ أَيْضًا غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَرَادَ أَنَّ الْوَلِيَّ يَمْلِكُ الْإِذْنَ بِالتِّجَارَةِ وَتَوَابِعِهَا فَيَمْلِكُ أَيْضًا نَفْسَ التِّجَارَةِ وَتَوَابِعَهَا الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا إقْرَارُهُ عَلَى مَالِ الصَّبِيِّ فَمَمْنُوعٌ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ إقْرَارَ الْوَلِيِّ عَلَى مَالِ الصَّبِيِّ لَيْسَ مِنْ تَوَابِعِ التِّجَارَةِ بَلْ لَيْسَ مِمَّا يَصِحُّ أَصْلًا فَأَنَّى يَمْلِكُهُ الْوَلِيُّ. وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ الْوَلِيَّ يَمْلِكُ الْإِذْنَ بِالتِّجَارَةِ وَتَوَابِعِهَا الَّتِي مِنْ
كِتَابُ الْغَصْبِ
الْغَصْبُ فِي اللُّغَةِ: أَخْذُ الشَّيْءِ مِنْ الْغَيْرِ عَلَى سَبِيلِ التَّغَلُّبِ لِلِاسْتِعْمَالِ فِيهِ
جُمْلَتِهَا إقْرَارُ الصَّبِيِّ عَلَى مَالِ نَفْسِهِ، وَإِنْ لَمْ يَمْلِكْ نَفْسَ الْإِقْرَارِ عَلَيْهِ فَمُسَلَّمٌ، وَلَكِنْ لَا يُجْدِي هَذَا شَيْئًا فِي دَفْعِ السُّؤَالِ الْمَذْكُورِ؛ لِأَنَّ اللَّازِمَ مِنْهُ أَنْ يُمَلِّكَ الْوَلِيُّ الْإِذْنَ لِلصَّبِيِّ بِالْإِقْرَارِ وَلَا كَلَامَ فِيهِ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي أَنَّ تَمَلُّكَ الصَّبِيِّ الْإِقْرَارَ عَلَى نَفْسِهِ بِإِذْنِ الْوَلِيِّ وِلَايَةٌ مُتَعَدِّيَةٌ مِنْ الْوَلِيِّ إلَى الصَّبِيِّ، وَالْوِلَايَةُ الْمُتَعَدِّيَةُ فَرْعُ الْوِلَايَةِ الْقَائِمَةِ وَالْوَلِيُّ لَا يَمْلِكُ نَفْسَ الْإِقْرَارِ عَلَى الصَّبِيِّ بِالْإِجْمَاعِ فَلَمْ تَكُنْ لَهُ وِلَايَةٌ قَائِمَةٌ فِي حَقِّ نَفْسِ الْإِقْرَارِ عَلَى الصَّبِيِّ فَكَيْفَ تَتَعَدَّى مِنْهُ الْوِلَايَةُ إلَى الصَّبِيِّ فِي حَقِّ ذَلِكَ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ حَدِيثَ أَنْ يَمْلِكَ الْوَلِيُّ الْإِذْنَ بِالتِّجَارَةِ وَتَوَابِعِهَا فِي أَثْنَاءِ الْجَوَابِ عَنْ هَذَا الْإِشْكَالِ يَصِيرُ لَغْوًا مِنْ الْكَلَامِ. ثُمَّ أَقُولُ: لَعَلَّ الصَّوَابَ فِي الْجَوَابِ مَنْعُ كَوْنِ وِلَايَةِ الصَّبِيِّ وِلَايَةً مُتَعَدِّيَةً، إذْ قَدْ تَقَرَّرَ فِيمَا مَرَّ أَنَّ الصَّبِيَّ يَتَصَرَّفُ بِأَهْلِيَّتِهِ وَالصِّبَا لَيْسَ سَبَبَ الْحَجْرِ لِذَاتِهِ بَلْ لِعَدَمِ هِدَايَتِهِ، وَإِذْنُ الْوَلِيِّ إنَّمَا يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى زَوَالِ ذَلِكَ الْمَانِعِ كَمَا كَانَ الْبُلُوغُ دَلِيلًا عَلَيْهِ لَا أَنَّهُ يَكْتَسِبُ الْوِلَايَةَ مِنْ إذْنِهِ، إلَّا أَنَّ الصِّبَا لَمَّا كَانَ مِنْ أَسْبَابِ الْمَرْحَمَةِ بِالْحَدِيثِ لَمْ يُؤَهَّلْ الصَّبِيُّ أَصْلًا لِمَا هُوَ ضَارٌّ مَحْضٌ وَأُهِّلَ لِمَا هُوَ نَفْعٌ مَحْضٌ قَبْلَ الْإِذْنِ وَبَعْدَهُ، وَأُهِّلَ لِمَا هُوَ دَائِرٌ بَيْنَ النَّفْعِ وَالضُّرِّ بَعْدَ الْإِذْنِ فَقَطْ، وَالْإِقْرَارُ لَمَّا كَانَ مِنْ تَوَابِعِ التِّجَارَةِ دَارَ بَيْنَ النَّفْعِ وَالضُّرِّ، إذْ مَنْ لَا يُقْبَلُ إقْرَارُهُ يَحْتَرِزُ النَّاسُ عَنْ مُعَامَلَتِهِ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ فَأُهِّلَ الصَّبِيُّ لَهُ بَعْدَ الْإِذْنِ وَكَانَتْ وِلَايَتُهُ عَلَيْهِ ذَاتِيَّةً لَا مُتَعَدِّيَةً مِنْ الْوَلِيِّ، فَتَبَصَّرْ فَإِنَّ هَذَا تَوْجِيهٌ حَسَنٌ وَجَوَابٌ شَافٍ تَنْحَسِمُ بِهِ مَادَّةُ الْإِشْكَالِ بِالْكُلِّيَّةِ.
(كِتَابُ الْغَصْبِ)
إيرَادُ الْغَصْبِ بَعْدَ الْإِذْنِ فِي التِّجَارَةِ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْغَصْبَ مِنْ أَنْوَاعِ التِّجَارَةِ مَآلًا حَتَّى أَنَّ إقْرَارَ الْمَأْذُونِ لَمَّا صَحَّ بِدُيُونِ التِّجَارَةِ دُونَ غَيْرِهَا صَحَّ بِدَيْنِ الْغَصْبِ، وَلَمْ يَصِحَّ بِدِينِ الْمَهْرِ لِكَوْنِ الْأَوَّلِ مِنْ التِّجَارَةِ دُونَ الثَّانِي فَكَانَ ذِكْرُ النَّوْعِ بَعْدَ
وَفِي الشَّرِيعَةِ: أَخْذُ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ مُحْتَرَمٍ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَالِكِ عَلَى وَجْهٍ يُزِيلُ يَدَهُ.
ذِكْرِ الْجِنْسِ مُنَاسِبًا. وَالثَّانِي أَنَّ الْمَغْصُوبَ مَا دَامَ قَائِمًا بِعَيْنِهِ فِي يَدِ الْغَاصِبِ لَا يَكُونُ الْغَاصِبُ مَالِكًا لِرَقَبَتِهِ فَصَارَ كَالْعَبْدِ الْمَأْذُونِ فَإِنَّهُ غَيْرُ مَالِكٍ لِرَقَبَةِ مَا فِي يَدِهِ مِنْ أَمْوَالِ التِّجَارَةِ وَإِنْ كَانَ يَتَصَرَّفُ فِيهِ تَصَرُّفَ الْمُلَّاكِ، فَذَكَر أَحَدَ الْمُتَجَانِسَيْنِ مُتَّصِلًا بِالْآخَرِ مِنْ الْمُنَاسَبَةِ إلَّا أَنَّهُ قَدَّمَ الْإِذْنَ فِي التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّهُ مَشْرُوعٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَالْغَصْبُ لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَالْعِنَايَةِ.
أَقُولُ: فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ بَحْثٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ كَوْنَ الْغَصْبِ مِنْ أَنْوَاعِ التِّجَارَةِ مَآلًا إنَّمَا يُفِيدُ الْمُنَاسَبَةَ بَيْنَ الْغَصْبِ وَبَيْنَ جِنْسِ التِّجَارَةِ لَا بَيْنَ الْغَصْبِ وَبَيْنَ الْإِذْنِ فِي التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ نَفْسَهُ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ التِّجَارَةِ قَطُّ بَلْ هُوَ فَكُّ الْحَجْرِ وَإِسْقَاطُ الْحَقِّ عِنْدَنَا عَلَى مَا مَرَّ فِي صَدْرِ كِتَابِ الْمَأْذُونِ، وَالْمَذْكُورُ فِي كِتَابِ الْمَأْذُونِ مَسَائِلُ نَفْسِ الْإِذْنِ لَا مَسَائِلُ جِنْسِ التِّجَارَةِ فَلَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ. وَالثَّانِي أَنَّ مُنَاسَبَةَ ذِكْرِ النَّوْعِ بَعْدَ ذِكْرِ الْجِنْسِ مُتَحَقِّقَةً فِي سَائِرِ أَنْوَاعِ التِّجَارَةِ أَيْضًا فَيَنْتَقِضُ ذَاكَ الْوَجْهُ بِهَا طَرْدًا. وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْ كُلٍّ مِنْهُمَا بِنَوْعِ عِنَايَةٍ: أَمَّا عَنْ الْأَوَّلِ فَبِأَنْ يُقَالُ: إنَّ الْإِذْنَ نَفْسَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ جِنْسِ التِّجَارَةِ إلَّا أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِجِنْسِ التِّجَارَةِ وَمَخْصُوصٌ بِهِ فَكَانَ لِلْغَصْبِ مُنَاسَبَةٌ لِلْإِذْنِ نَفْسِهِ أَيْضًا بِوَاسِطَةِ تَعَلُّقِهِ بِجِنْسِ التِّجَارَةِ.
وَأَمَّا عَنْ الثَّانِي فَبِأَنْ يَدَّعِيَ عَدَمَ لُزُومِ الِاطِّرَادِ فِي وُجُوهِ الْمُنَاسِبَاتِ بَيْنَ كُتُبِ هَذَا الْفَنِّ. وَيُقَالُ: إنَّ هَاتِيك الْوُجُوهِ مُصَحِّحَاتٌ لَا مُرَجِّحَاتٌ أَلْبَتَّةَ فَلَا ضَيْرَ فِي تَحَقُّقِهَا فِي غَيْرِ مَا سَبَقَتْ لَهُ أَيْضًا. ثُمَّ إنَّ الْأَظْهَرَ فِي وَجْهِ الْمُنَاسَبَةِ هَاهُنَا مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ حَيْثُ قَالَ: وَجْهُ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ الْكِتَابَيْنِ عِنْدِي أَنَّ الْمَأْذُونَ يَتَصَرَّفُ فِي الشَّيْءِ بِالْإِذْنِ الشَّرْعِيِّ وَالْغَاصِبَ يَتَصَرَّفُ لَا بِإِذْنٍ شَرْعِيٍّ فَكَانَ بَيْنُهُمَا مُنَاسَبَةُ الْمُقَابَلَةِ، إلَّا أَنَّهُ قَدَّمَ كِتَابَ الْمَأْذُونِ؛ لِأَنَّهُ مَشْرُوعٌ وَالْغَصْبُ لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ اهـ.
وَاعْلَمْ أَنَّ مَحَاسِنَ الْغَصْبِ مِنْ حَيْثُ الْأَحْكَامِ لَا مِنْ حَيْثُ الْإِقْدَامِ كَمَا فِي الْجِنَايَاتِ وَالدِّيَاتِ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ بَيَانِ كِتَابِ الْغَصْبِ هُوَ بَيَانُ حُكْمِهِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْغَصْبِ شَيْءٌ مِنْ الْإِبَاحَةِ فَضْلًا عَنْ الْحُسْنِ وَالطَّاعَةِ بَلْ هُوَ عُدْوَانٌ مَحْضٌ وَظُلْمٌ صِرْفٌ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَغَيْرِهَا (قَوْلُهُ وَفِي الشَّرِيعَةِ أَخْذُ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ مُحْتَرَمٍ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَالِكِ عَلَى وَجْهٍ يُزِيلُ يَدَهُ) أَقُولُ: لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُزَادَ عَلَى هَذَا التَّعْرِيفِ قَيْدَانِ: أَحَدُهُمَا قَيْدُ أَوْ يُقْصِرَ يَدَهُ بِأَنْ يُقَالَ عَلَى وَجْهٍ يُزِيلُ يَدَهُ أَوْ يُقْصِرَ يَدَهُ لِئَلَّا يَخْرُجُ عَلَى تَعْرِيفِ الْغَصْبِ فِي الشَّرْعِ مَا أَخَذَهُ الْغَاصِبُ مِنْ يَدِ غَيْرِ الْمَالِكِ، كَمَا إذَا أَخَذَهُ مِنْ يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ أَوْ مِنْ يَدِ الْمُرْتَهِنِ أَوْ مِنْ يَدِ الْمُودَعِ فَإِنَّ الْغَاصِبَ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ وَإِنْ لَمْ يُزِلْ يَدَ الْمَالِكِ عَنْ مَالِهِ بِنَاءً عَلَى عَدَمِ كَوْنِهِ فِي يَدِهِ وَقْتَ الْغَصْبِ وَإِزَالَةِ فَرْعِ تَحَقُّقِهَا إلَّا أَنَّهُ قَصَّرَ يَدَهُ عَنْ مَالِهِ فِي هَاتِيك الصُّوَرِ أَيْضًا.
وَعَنْ هَذَا قَالَ فِي الْمُحِيطِ الْبُرْهَانِيِّ: الْغَصْبُ شَرْعًا أَخْذُ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ مُحْتَرَمٍ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَالِكِ عَلَى وَجْهٍ يُزِيلُ يَدَ الْمَالِكِ إنْ كَانَ فِي يَدِهِ، أَوْ يُقْصِرُ يَدَهُ إنْ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ اهـ. وَهَكَذَا قَالَ فِي الْكَافِي أَيْضًا، وَثَانِيهِمَا قَيْدٌ عَلَى سَبِيلِ الْمُجَاهَرَةِ كَمَا وَقَعَ فِي الْبَدَائِعِ لِئَلَّا يَدْخُلَ فِي تَعْرِيفِ الْغَصْبِ شَرِيعَةُ السَّرِقَةِ، فَإِنَّ الِامْتِيَازَ بَيْنَ السَّرِقَةِ وَالْغَصْبِ فِي الشَّرْعِ إنَّمَا يَكُونُ بِأَنْ كَانَ الْغَصْبُ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
عَلَى سَبِيلِ الْجِهَارِ وَالسَّرِقَةُ عَلَى سَبِيلِ الْخُفْيَةِ وَالِاسْتِسْرَارِ مَعَ الِاشْتِرَاكِ بَيْنَهُمَا فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرَ لِتَعْرِيفِ الْغَصْبِ شَرِيعَةً فِي الْكِتَابِ. ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ صَدْرَ الشَّرِيعَةِ قَدْ تَنَبَّهَ لِلُّزُومِ زِيَادَةِ الْقَيْدِ الثَّانِي عَلَى هَذَا التَّعْرِيفِ حَيْثُ قَالَ فِي شَرْحِ الْوِقَايَةِ: ثُمَّ لَا بُدَّ أَنْ يُزَادَ عَلَى هَذَا التَّعْرِيفِ لَا عَلَى سَبِيلِ الْخُفْيَةِ لَتَخْرُجَ السَّرِقَةُ اهـ.
وَرَدَّ عَلَيْهِ صَاحِبُ الْإِصْلَاحِ وَالْإِيضَاحِ حَيْثُ قَالَ: فَإِنْ قُلْت: أَلَيْسَ يَصْدُقُ الْحَدُّ الْمَذْكُورُ عَلَى السَّرِقَةِ؟ قُلْت: نَعَمْ، إلَّا أَنَّ فِي السَّرِقَةِ خُصُوصِيَّةً بِهَا كَانَتْ مِنْ جُمْلَةِ أَسْبَابِ الْحَدِّ فَدَخَلَ مَسَائِلَهَا بِاعْتِبَارِ تِلْكَ الْخُصُوصِيَّةِ فِي الْحُدُودِ، وَذَلِكَ لَا يُنَافِي دُخُولَهَا بِاعْتِبَارِ أَصْلِهَا فِي الْغَصْبِ كَالشِّرَاءِ مِنْ الْفُضُولِيِّ فَإِنَّهُ غَصْبٌ مَعَ أَنَّهُ مَذْكُورٌ فِي بَابِ الْفُضُولِيِّ مِنْ كِتَابِ الْبُيُوعِ بِاعْتِبَارِ مَا فِيهِ مِنْ خُصُوصِيَّةٍ بِهَا صَارَتْ مِنْ مَسَائِلِهَا، وَمَنْ ذَهَبَ عَلَيْهِ هَذِهِ الدَّقِيقَةُ تَصَدَّى لِإِخْرَاجِهَا عَلَى الْحَدِّ الْمَذْكُورِ بِزِيَادَةِ قَوْلِهِ لَا عَلَى سَبِيلِ الْخُفْيَةِ، وَلَمْ يَدْرِ أَنَّهُ حِينَئِذٍ يَخْرُجُ عَنْهُ بَعْضُ أَفْرَادِ الْغَصْبِ كَأَخْذِ مَالٍ غَيْرِ مُحَرَّزٍ عَلَى سَبِيلِ الْخُفْيَةِ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ.
أَقُولُ: فِيهِ خَلَلٌ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ أَنَّ السَّرِقَةَ بِخُصُوصِيَّتِهَا الَّتِي كَانَتْ مِنْ جُمْلَةِ أَسْبَابِ الْحَدِّ دَاخِلَةٌ فِي التَّعْرِيفِ الْمَذْكُورِ، إذْ لَا مَنْعَ لِشَيْءٍ مِنْ خُصُوصِيَّتِهَا عَنْ صِدْقِ التَّعْرِيفِ الْمَذْكُورِ عَلَيْهَا كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى ذِي فِطْنَةٍ، وَإِنَّمَا تَكُونُ خُصُوصِيَّتُهَا مَانِعَةً عِنْدَ صِدْقِ تَعْرِيفِ الْغَصْبِ عَلَيْهَا لَوْ زِيدَ عَلَى التَّعْرِيفِ الْمَذْكُورِ قَيْدٌ عَلَى سَبِيلِ الْمُجَاهَرَةِ أَوْ لَا عَلَى سَبِيلِ الْخُفْيَةِ، فَإِنَّ مِنْ خُصُوصِيَّتِهَا أَنْ تَكُونَ عَلَى سَبِيلِ الْخُفْيَةِ كَمَا تَقَرَّرَ فِي كِتَابِهَا، وَلَا شَكَّ أَنَّ قَيْدَ عَلَى سَبِيلِ الْمُجَاهَرَةِ أَوْ لَا عَلَى سَبِيلِ الْخُفْيَةِ يُنَافِي الصِّدْقَ عَلَى مَا كَانَ عَلَى سَبِيلِ الْخُفْيَةِ، فَإِذَا كَانَتْ السَّرِقَةُ بِخُصُوصِيَّتِهَا الَّتِي كَانَتْ مِنْ جُمْلَةِ أَسْبَابِ الْحَدِّ دَاخِلَةً فِي التَّعْرِيفِ الْمَذْكُورِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ التَّعْرِيفُ صَالِحًا لَأَنْ يَكُونَ حَدًّا لِلْغَصْبِ فِي الشَّرْعِ، وَإِلَّا لَزِمَ أَنْ تَكُونَ السَّرِقَةُ بِخُصُوصِيَّتِهَا غَصْبًا شَرْعِيًّا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لَا مَحَالَةَ لِلْقَطْعِ بِتَخَالُفِ حُكْمَيْ السَّرِقَةِ وَالْغَصْبِ فِي الشَّرْعِ فَلَغَا قَوْلُهُ وَذَلِكَ لَا يُنَافِي دُخُولَهُمَا بِاعْتِبَارِ أَصْلِهِمَا بِالْغَصْبِ كَمَا لَا يَخْفَى.
وَالثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ كَالشِّرَاءِ مِنْ الْفُضُولِيِّ فَإِنَّهُ غَصْبٌ مَعَ أَنَّهُ مَذْكُورٌ فِي بَابِ الْفُضُولِيِّ مِنْ كِتَابِ الْبُيُوعِ لَيْسَ بِسَدِيدٍ؛ لِأَنَّ مُجَرَّدَ الشِّرَاءِ مِنْ الْفُضُولِيِّ لَيْسَ بِغَصْبٍ قَطْعًا، وَإِنَّمَا الَّذِي يَصِيرُ غَصْبًا أَخْذُ الْمُشْتَرِي مِنْ يَدِ الْفُضُولِيِّ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَالِكِ، وَهُوَ لَيْسَ بِبَيْعٍ جَزْمًا وَلَيْسَ بِمَذْكُورٍ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ أَصْلًا، وَإِنَّمَا الْمَذْكُورُ فِيهِ نَفْسُ الشِّرَاءِ مِنْ الْفُضُولِيِّ فَلَا صِحَّةَ فِي التَّمْثِيلِ وَلَا فِي التَّعْلِيلِ. وَالثَّالِثُ أَنَّ قَوْلَهُ كَأَخْذِ مَالٍ غَيْرِ مُحَرَّزٍ عَلَى سَبِيلِ الْخُفْيَةِ فِي قَوْلِهِ وَلَمْ يَدْرِ أَنَّهُ حِينَئِذٍ يُخْرِجُ عَنْهُ بَعْضَ أَفْرَادِ الْغَصْبِ كَأَخْذِ مَالٍ غَيْرِ مُحَرَّزٍ عَلَى سَبِيلِ الْخُفْيَةِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّ مَا كَانَ غَيْرَ مُحَرَّزً كَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَخْذُهُ عَلَى سَبِيلِ الْخُفْيَةِ، فَإِنَّ عَدَمَ الْإِحْرَازِ يُنَافِي الِاخْتِفَاءَ، وَعَنْ هَذَا قَالَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ فِي فَصْلِ الْحِرْزِ وَالْأَخْذِ مِنْهُ مِنْ كِتَابِ السَّرِقَةِ: الْحِرْزُ لَا بُدَّ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الِاسْتِسْرَارَ لَا يَتَحَقَّقُ بِدُونِهِ اهـ. ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ الْإِصْلَاحِ وَالْإِيضَاحِ غَيَّرَ التَّعْرِيفَ الْمَذْكُورَ بِوَجْهٍ آخَرَ حَيْثُ قَالَ بَدَلَ قَوْلِهِمْ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَالِكِ: بِلَا إذْنِ مَنْ لَهُ الْإِذْنُ.
وَقَالَ فِي شَرْحِهِ: وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلْ بِلَا إذْنِ مَالِكِهِ؛ لِأَنَّ كَوْنَ الْمَأْخُوذِ مِلْكًا لَيْسَ بِشَرْطٍ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ، فَإِنَّ الْمَوْقُوفَ مَضْمُونٌ بِالْإِتْلَافِ وَلَيْسَ بِمَمْلُوكٍ أَصْلًا صَرَّحَ بِهِ فِي الْبَدَائِعِ اهـ. أَقُولُ: وَفِيهِ أَيْضًا خَلَلٌ؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ فِي الشَّرْعِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ حَبْسُ الْعَيْنِ عَلَى مِلْكِ الْوَاقِفِ وَالتَّصَدُّقُ بِالْمَنْفَعَةِ بِمَنْزِلَةِ الْعَارِيَّةِ، وَعِنْدَهُمَا حَبْسُ الْعَيْنِ عَلَى حُكْمِ مِلْكِ اللَّهِ تَعَالَى فَيَزُولُ مِلْكُ الْوَاقِفِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى عَلَى وَجْهٍ تَعُودُ مَنْفَعَتُهُ إلَى الْعِبَادِ، وَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا تَقَرَّرَ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْوَقْفِ فَعَلَى كِلَا الْقَوْلَيْنِ يَكُونُ الْمَوْقُوفُ مَمْلُوكًا فَكَيْفَ يَتِمُّ قَوْلُهُ إنَّ الْمَوْقُوفَ لَيْسَ بِمَمْلُوكٍ أَصْلًا، وَلَئِنْ سَلِمَ تَمَامُ ذَلِكَ فَكَوْنُ الْمَوْقُوفِ مَضْمُونًا لَا يَقْتَضِي كَوْنَهُ مَغْصُوبًا شَرْعِيًّا، فَإِنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ لَيْسَ بِحُكْمٍ مَخْصُوصٍ بِالْغَصْبِ الشَّرْعِيِّ، بَلْ يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ فِي غَيْرِهِ أَيْضًا بِنَوْعٍ مِنْ التَّعَدِّي وَالْجِنَايَةِ؛ أَلَا يَرَى أَنَّ زَوَائِدَ الْمَغْصُوبِ كَوَلَدِ الْمَغْصُوبَةِ، وَثَمَرَةِ الْبُسْتَانِ الْمَغْصُوبِ لَيْسَ بِمَغْصُوبَةٍ عِنْدَنَا شَرْعًا لِعَدَمِ تَحَقُّقِ إزَالَةِ يَدِ الْمَالِكِ عَنْهَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ يَدَ الْمَالِكِ كَانَتْ ثَابِتَةً عَلَيْهَا حَتَّى يُزِيلَهَا الْغَاصِبُ، بَلْ هِيَ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْغَاصِبِ إنْ هَلَكَتْ لَا يَضْمَنُهَا عِنْدَنَا كَمَا صَرَّحُوا بِهِ قَاطِبَةً وَسَيَجِيءُ فِي الْكِتَابِ، مَعَ
حَتَّى كَانَ اسْتِخْدَامُ الْعَبْدِ وَحَمْلُ الدَّابَّةِ غَصْبًا دُونَ الْجُلُوسِ عَلَى الْبِسَاطِ، ثُمَّ إنْ كَانَ مَعَ الْعِلْمِ فَحُكْمُهُ الْمَأْثَمُ وَالْمَغْرَمُ، وَإِنْ كَانَ بِدُونِهِ فَالضَّمَانُ؛ لِأَنَّهُ حَقُّ الْعَبْدِ فَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى قَصْدِهِ وَلَا إثْمَ؛ لِأَنَّ الْخَطَأَ مَوْضُوعٌ.
. قَالَ (وَمَنْ غَصَبَ شَيْئًا لَهُ مِثْلٌ كَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ فَهَلَكَ فِي يَدِهِ فَعَلَيْهِ مِثْلُهُ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: فَعَلَيْهِ ضَمَانُ مِثْلِهِ، وَلَا تَفَاوُتَ بَيْنَهُمَا، وَهَذَا لِأَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الْمِثْلُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}
أَنَّهُ إذَا تَعَدَّى فِيهَا يَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ بِالِاتِّفَاقِ عَلَى مَا صَرَّحُوا بِهِ قَاطِبَةً أَيْضًا وَسَيَجِيءُ فِي الْكِتَابِ، وَكَذَا إذَا قَتَلَ رَجُلٌ عَبْدَ رَجُلٍ خَطَأً فِي يَدِ مَالِكِهِ يَجِبُ عَلَيْهِ ضَمَانُ قِيمَةِ الْعَبْدِ بِلَا خِلَافٍ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِغَصْبٍ فِي الشَّرْعِ عِنْدَ أَحَدٍ. وَبِالْجُمْلَةِ فَرْقٌ بَيْنَ ضَمَانِ الْغَصْبِ وَضَمَانِ الْإِتْلَافِ كَمَا نَصُّوا عَلَيْهِ، فَمِنْ أَيْنَ ثَبَتَ تَحَقُّقُ حَقِيقَةِ الْغَصْبِ الشَّرْعِيِّ فِي إتْلَافِ الْمَوْقُوفِ حَتَّى يُرَدَّ بِهِ النَّقْضُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ ثِقَاتُ الْمَشَايِخِ فِي تَعْرِيفِ الْغَصْبِ فَيُحْتَاجُ إلَى تَغْيِيرِهِ؟
(قَوْلُهُ حَتَّى كَانَ اسْتِخْدَامُ الْعَبْدِ وَحَمْلُ الدَّابَّةِ غَصْبًا دُونَ الْجُلُوسِ عَلَى الْبِسَاطِ)؛ لِأَنَّهُ بِالِاسْتِخْدَامِ وَالْحَمْلِ أَثْبَتَ يَدَ التَّصَرُّفِ عَلَيْهِ، وَمِنْ ضَرُورَاتِهِ إزَالَةُ يَدِ الْمَالِكِ عَنْهُ فَتَحَقَّقَ الْغَصْبُ. بِخِلَافِ الْجُلُوسِ عَلَى الْبِسَاطِ؛ لِأَنَّ الْبَسْطَ فِعْلُ الْمَالِكِ وَقَدْ بَقِيَ أَثَرُ فِعْلِهِ فِي الِاسْتِعْمَالِ وَمَا بَقِيَ أَثَرُ فِعْلِهِ تَبْقَى يَدُهُ، فَلَمْ يُوجَدَ إزَالَةُ يَدِ الْمَالِكِ فَلَمْ يَتَحَقَّقْ الْغَصْبُ، كَذَا قَالُوا. قَالَ ابْنُ الْعِزِّ: وَفِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا مُؤَاخَذَةٌ لَفْظِيَّةٌ، وَهِيَ فِي قَوْلِهِ وَحَمْلِ الدَّابَّةِ: يَعْنِي وَالْحَمْلُ عَلَيْهَا وَحَقُّهُ أَنْ يَقُولَ وَتَحْمِيلُ الدَّابَّةِ؛ لِأَنَّ حَمَلَ لَا يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ إلَى اثْنَيْنِ وَإِنَّمَا يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ إلَى وَاحِدٍ وَإِلَى آخَرَ بِحَرْفِ الْجَرِّ، تَقُولُ حَمَلَتْ الْمَتَاعَ عَلَى الدَّابَّةِ فَيَصِحُّ إضَافَةُ الْمَصْدَرِ مِنْهُ إلَى الْمَتَاعِ لَا إلَى الدَّابَّةِ فَتَقُولُ: حَمْلُ الْمَتَاعِ وَلَا تَقُولُ حَمْلُ الدَّابَّةِ، إلَّا أَنْ يُضَعَّفَ الْفِعْلُ فَيَتَعَدَّى إلَى اثْنَيْنِ بِنَفْسِهِ فَتَقُولُ: حَمَّلْت الدَّابَّةَ الْمَتَاعَ، فَحِينَئِذٍ تَصِحُّ إضَافَةُ مَصْدَرِهِ إلَى الدَّابَّةِ فَتَقُولُ تَحْمِيلُ الدَّابَّةِ؛ لِأَنَّ التَّحْمِيلَ مَصْدَرُ حَمَّلَ الْمُضَعَّفُ لِلتَّعْدِيَةِ اهـ كَلَامَهُ.
أَقُولُ: هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ ظَاهِرٌ، وَكَأَنَّ صَاحِبَ الْكَافِي عَنْ هَذَا غَيَّرَ عِبَارَةَ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا فَقَالَ: حَتَّى كَانَ اسْتِخْدَامُ عَبْدِ الْغَيْرِ وَالْحَمْلُ عَلَى دَابَّةِ الْغَيْرِ غَصْبًا، وَلَكِنْ يُمْكِنُ تَوْجِيهُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا بِمَا وَجَّهَ بِهِ الْفَاضِلُ الشَّرِيفُ فِي شَرْحِ الْمِفْتَاحِ قَوْلَ الْعَلَّامَةِ الْكَاكِيِّ افْتِخَارًا بِمُوَاظَبَتِهَا حَيْثُ قَالَ: وَالْأَصْلُ أَنْ يُقَالَ بِالْمُوَاظَبَةِ عَلَيْهَا: أَيْ عَلَى الْعِبَادَةِ، إلَّا أَنَّهُ نَزَعَ الْخَافِضَ وَعَدَّى الْمَصْدَرَ بِالْإِيصَالِ اهـ. وَقَصَدَ بِهِ الْجَوَابَ عَنْ قَوْلِ الْمُحَقِّقِ التَّفْتَازَانِيِّ هُنَاكَ، وَفِي تَعْدِيَةِ الْمُوَاظَبَةِ بِنَفْسِهَا نَظَرٌ، وَالصَّوَابُ بِالْمُوَاظَبَةِ عَلَيْهَا اهـ تَأَمَّلْ (قَوْلُهُ ثُمَّ إنْ كَانَ مَعَ الْعِلْمِ فَحُكْمُهُ الْمَأْثَمُ وَالْمَغْرَمُ، وَإِنْ كَانَ بِدُونِهِ فَالضَّمَانُ) أَقُولُ: هَذَا إنَّمَا يَتِمُّ فِيمَا إذَا هَلَكَ الْمَغْصُوبُ فِي يَدِ الْغَاصِبِ، وَأَمَّا إذَا كَانَ قَائِمًا فِي يَدِهِ فَحُكْمُهُ رَدُّ الْعَيْنِ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْكِتَابِ، وَكَانَ الْمُنَاسِبُ بِهَذَا الْمَقَامِ بَيَانُ حُكْمِهِ الْكُلِّيِّ دُونَ حُكْمِهِ الْخَاصِّ بِصُورَةِ الْهَلَاكِ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَبْنِيَ كَلَامَهُ هُنَا عَلَى مَا قِيلَ إنَّ الْمُوجِبَ الْأَصْلِيَّ لِلْغَصْبِ مُطْلَقًا هُوَ الْقِيمَةُ وَرَدُّ الْعَيْنِ مُخَلِّصٌ كَمَا سَيَجِيءُ ذِكْرُهُ، وَلَكِنَّهُ قَوْلٌ ضَعِيفٌ جِدًّا عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ تَقْرِيرُ الْمُصَنِّفِ فِيمَا بَعْدُ وَصَرَّحُوا بِهِ فِي الشُّرُوحِ ثُمَّ، فَكَيْفَ يَلِيقُ بِمِثْلِ الْمُصَنِّفِ بِنَاءُ
وَلِأَنَّ الْمِثْلَ أَعْدَلُ لِمَا فِيهِ مِنْ مُرَاعَاةِ الْجِنْسِ وَالْمَالِيَّةِ فَكَانَ أَدْفَعَ لِلضَّرَرِ. قَالَ (فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى مِثْلِهِ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ يَوْمَ يَخْتَصِمُونَ) وَهَذَا (عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَوْمَ الْغَصْبِ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَوْمَ الِانْقِطَاعِ) لِأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَمَّا انْقَطَعَ الْتَحَقَ بِمَا لَا مِثْلَ لَهُ فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَ انْعِقَادِ السَّبَبِ إذْ هُوَ الْمُوجِبُ. وَلِمُحَمَّدٍ أَنَّ الْوَاجِبَ الْمِثْلُ فِي الذِّمَّةِ.
كَلَامِهِ عَلَى ذَلِكَ
(قَوْلُهُ وَلِأَنَّ الْمِثْلَ أَعْدَلُ لِمَا فِيهِ مِنْ مُرَاعَاةِ الْجِنْسِ وَالْمَالِيَّةِ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ وَالْعِنَايَةِ: لِأَنَّ الْحِنْطَةَ مِثْلًا مِثْلُ الْحِنْطَةِ جِنْسًا، وَمَالِيَّةُ الْحِنْطَةِ الْمُؤَدَّاةِ مِثْلُ مَالِيَّةِ الْحِنْطَةِ الْمَغْصُوبَةِ؛ لِأَنَّ الْجُودَةَ سَاقِطَةُ الْعِبْرَةِ فِي الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ اهـ.
أَقُولُ: الظَّاهِرُ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ التَّعَرُّضِ هَاهُنَا لِبَيَانِ كَوْنِ الْجُودَةِ سَاقِطَةَ الْعِبْرَةِ فِي الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ دَفْعُ وُرُودِ سُؤَالٍ عَلَى أَنْ يَكُونَ فِي إيجَابِ الْمِثْلِ مُرَاعَاةُ الْمَالِيَّةِ بِظُهُورِ تَحَقُّقِ الِاخْتِلَافِ بَيْنَ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ بِالْجُودَةِ وَالرَّدَاءَةِ، وَلَكِنَّ انْدِفَاعَهُ بِذَلِكَ غَيْرُ وَاضِحٍ عِنْدِي؛ لِأَنَّهُ إنْ أُرِيدَ بِكَوْنِ الْجُودَةِ سَاقِطَةَ الْعِبْرَةِ فِي الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ أَنَّهُ لَا تَفَاوَتَ بَيْنَ جَيِّدِهَا وَرَدِيئِهَا فِي الْمَالِيَّةِ فَهُوَ مَمْنُوعٌ، إذْ التَّفَاضُلُ فِي الْقِيمَةِ بَيْنَهُمَا فِي الْمُتَعَارَفِ ظَاهِرٌ جِدًّا.
وَإِنْ أُرِيدَ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَا عِبْرَةَ بِالتَّفَاوُتِ بَيْنَ الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ فِي وَصْفِ الْجَوْدَةِ وَالرَّدَاءَةِ عِنْدَ أَهْلِ الشَّرْعِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «جَيِّدُهَا وَرَدِيئُهَا سَوَاءٌ» فَهُوَ مُسَلَّمٌ لَا كَلَامَ فِيهِ، لَكِنْ لَا يَنْدَفِعُ بِهِ السُّؤَالُ الْمُتَّجِهُ عَلَى قَوْلِ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا لِمَا فِيهِ مِنْ مُرَاعَاةِ الْجِنْسِ وَالْمَالِيَّةِ بِأَنَّ مُرَاعَاةَ الْمَالِيَّةِ فِي إيجَابِ الْمِثْلِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ لِتَحَقُّقِ الِاخْتِلَافِ بَيْنَ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ بِالْجُودَةِ وَالرَّدَاءَةِ وَذَلِكَ يَقْتَضِي التَّفَاوُتَ بَيْنَهُمَا فِي الْمَالِيَّةِ، بَلْ لَا يَخْفَى عَلَى ذِي فِطْرَةٍ سَلِيمَةٍ أَنَّ عَدَمَ الِاعْتِبَارِ لِتَفَاوُتِ الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ فِي وَصْفِ الْجُودَةِ وَالرَّدَاءَةِ عِنْدَ أَهْلِ الشَّرْعِ يُؤَيِّدُ وَرَوَّدَ ذَلِكَ السُّؤَالَ هَاهُنَا، إذْ لَوْ كَانَ عِنْدَهُمْ اعْتِبَارٌ لِتَفَاوُتِهَا فِي ذَلِكَ لَمَا تَصَوَّرَ التَّفَاوُتَ فِي الْمَالِيَّةِ عِنْدَ مُرَاعَاةِ التَّسَاوِي فِي الْوَصْفِ أَيْضًا تَأَمَّلْ تَقِفْ (قَوْلُهُ لِأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَمَّا انْقَطَعَ الْتَحَقَ بِمَا لَا مِثْلَ لَهُ فَتُعْتَبَرُ قِيمَةُ يَوْمِ انْعِقَادِ السَّبَبُ إذْ هُوَ الْمُوجِبُ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: فَإِنْ قُلْت: لِمَ قَدَّمَ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ فِي التَّعْلِيلِ وَلَمْ يُوَسِّطْهُ كَمَا هُوَ حَقُّهُ؟ قُلْت: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ الْمُخْتَارُ قَوْلُهُ لِقُوَّةِ دَلِيلِهِ إذْ فِيهِ إثْبَاتُ الْحُكْمِ بِحَسَبِ ثُبُوتِ الْمُوجِبِ؛ لِأَنَّ الْمَغْصُوبَ دَخَلَ فِي ضَمَانِ الْغَاصِبِ مِنْ وَقْتِ الْغَصْبِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ اعْتِبَارُ الْقِيمَةِ مِنْ وَقْتِ الْغَصْبِ. وَالثَّانِي لِإِثْبَاتِ الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ بِحَسَبِ تَرْتِيبِ الزَّمَانِ عَلَى تِلْكَ الْأَقْوَالِ، فَإِنَّ أَوَّلَ الْأَوْقَاتِ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ يَوْمُ الْغَصْبِ، ثُمَّ يَوْمُ الِانْقِطَاعِ، ثُمَّ يَوْمُ الْخُصُومَةِ. فَإِيرَادُ الْأَقْوَالِ عَلَى تَرْتِيبِ هَذِهِ الْأَزْمِنَةِ لَمْ يَتَأَتَّ إلَّا بِتَقْدِيمِ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ ثُمَّ بِقَوْلِ مُحَمَّدٍ ثُمَّ بِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رحمهم الله اهـ كَلَامَهُ. وَقَدْ ذَكَرَ الْوَجْهَ الثَّانِي فَقَطْ بِطَرِيقِ الْإِجْمَالِ فِي مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ أَيْضًا، وَكَذَا ذَكَرَ ذَلِكَ الْوَجْهَ فَقَطْ فِي الْعِنَايَةِ أَيْضًا وَلَكِنْ بِطَرِيقِ النَّقْلِ بِقِيلَ. أَقُولُ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ ذَيْنِك الْوَجْهَيْنِ مَنْظُورٌ فِيهِ.
أَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ مَا ذُكِرَ فِيهِ لَا يَدُلُّ عَلَى قُوَّةِ دَلِيلِ أَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّ الْمَغْصُوبَ الْمِثْلِيَّ إنَّمَا دَخَلَ فِي ضَمَانِ الْغَاصِبِ وَقْتَ الْغَصْبِ بِضَمَانِ الْمِثْلِ، ثُمَّ انْتَقَلَ إلَى ضَمَانِ الْقِيمَةِ بِالِانْقِطَاعِ كَمَا أَفْصَحَ عَنْهُ الْمُصَنِّفُ فِي ذِكْرِ دَلِيلِ مُحَمَّدٍ، فَمِنْ أَيْنَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ اعْتِبَارُ الْقِيمَةِ مِنْ وَقْتِ الْغَصْبِ دُونَ وَقْتِ الِانْقِطَاعِ حَتَّى يَلْزَمَ قُوَّةُ دَلِيلِهِ، وَلَوْ سَلَّمَ قُوَّةَ دَلِيلِهِ فَهِيَ
وَإِنَّمَا يُنْتَقَلُ إلَى الْقِيمَةِ بِالِانْقِطَاعِ فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَ الِانْقِطَاعِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ النَّقْلَ لَا يَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ الِانْقِطَاعِ، وَلِهَذَا لَوْ صَبَرَ إلَى أَنْ يُوجَدَ جِنْسُهُ لَهُ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَنْتَقِلُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْخُصُومَةِ وَالْقَضَاءِ بِخِلَافِ مَا لَا مِثْلَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ مُطَالَبٌ بِالْقِيمَةِ بِأَصْلِ السَّبَبِ كَمَا وُجِدَ فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ عِنْدَ ذَلِكَ. .
قَالَ (وَمَا لَا مِثْلَ لَهُ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ يَوْمَ غَصَبَهُ) مَعْنَاهُ الْعَدَدِيَّاتُ الْمُتَفَاوِتَةُ،
تَقْتَضِي تَأْخِيرَ دَلِيلِهِ إذْ مِنْ عَادَةِ الْمُصَنِّفِ الْمُسْتَمِرَّةِ أَنْ يُؤَخِّرَ الْقَوِيَّ عِنْدَ ذِكْرِ الْأَدِلَّةِ عَلَى الْأَقْوَالِ الْمُخْتَلِفَةِ لِيَقَعَ الْمُؤَخَّرُ بِمَنْزِلَةِ الْجَوَابِ عَنْ الْمُقَدَّمِ، وَإِنْ كَانَ يُقَدِّمُ الْقَوِيَّ فِي الْأَكْثَرِ عِنْدَ نَقْلِ أَصْلِ الْأَقْوَالِ، وَهَذَا مِمَّا لَا سُتْرَةَ بِهِ عِنْدَ مَنْ لَهُ قَدَمٌ رَاسِخٌ فِي مَعْرِفَةِ أَسَالِيبِ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ. وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي فَلِأَنَّ إثْبَاتَ تِلْكَ الْأَقْوَالِ بِحَسَبِ التَّرْتِيبِ الزَّمَانِيِّ مِمَّا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ نَظَرٌ فِقْهِيٌّ أَصْلًا، فَتَغْيِيرُ الْمُصَنِّفِ أُسْلُوبَهُ الْمُقَرَّرَ بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ الْأَمْرِ الْوَهْمِيِّ مِمَّا لَا يُنَاسِبُ بِشَأْنِهِ الرَّفِيعِ، فَالْوَجْهُ عِنْدِي أَنَّ الْمُصَنِّفَ جَرَى هَاهُنَا أَيْضًا عَلَى عَادَتِهِ الْمُقَرَّرَةِ مِنْ تَأْخِيرِ الْأَقْوَى فَالْأَقْوَى عِنْدَ ذِكْرِ الْأَدِلَّةِ عَلَى الْأَقْوَالِ الْمُخْتَلِفَةِ لِيَحْصُلَ الْجَوَابُ مِنْ الْمُتَأَخِّرِ لِلْمُتَقَدِّمِ كَمَا حَصَلَ هَاهُنَا أَيْضًا ذَلِكَ عَلَى مَا يَشْهَدُ بِهِ التَّأَمُّلُ الصَّادِقُ. قَالَ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ فِي شَرْحِ الْوِقَايَةِ: أَقُولُ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ أَعْدَلُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ مِنْ نَوْعِهِ فِي يَوْمِ الْخُصُومَةِ، وَالْقِيمَةُ تُعْتَبَرُ بِكَثْرَةِ الرَّغَبَاتِ وَقِلَّتِهَا، وَفِي الْمَعْدُومِ هَذَا مُتَعَذِّرٌ أَوْ مُتَعَسِّرٌ، وَيَوْمَ الِانْقِطَاعِ لَا ضَبْطَ لَهُ. وَأَيْضًا لَمْ يَنْتَقِلْ إلَى الْقِيمَةِ فِي هَذَا الْيَوْمِ إذَا لَمْ يُوجَدْ مِنْ الْمَالِكِ طَلَبٌ، وَأَيْضًا عِنْدَ وُجُودِ الْمِثْلِ لَمْ يَنْتَقِلْ وَعِنْدَ عَدَمِهِ لَا قِيمَةَ لَهُ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ.
وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ بَعْدَ نَقْلِ كَلَامِ صَدْرِ الشَّرِيعَةِ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِمَا ذَكَرَ فِي النِّهَايَةِ حَيْثُ قَالَ: وَحَدُّ الِانْقِطَاعِ مَا ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ الثَّلْجِيُّ، وَهُوَ أَنْ لَا يُوجَدَ فِي السُّوقِ الَّذِي يُبَاعُ فِيهِ وَإِنْ كَانَ يُوجَدُ فِي الْبُيُوتِ، وَعَلَى هَذَا انْقِطَاعُ الدَّرَاهِمِ اهـ. وَقَدْ سَبَقَهُ إلَى هَذَا الْجَوَابِ صَاحِبُ الْإِصْلَاحِ وَالْإِيضَاحِ. أَقُولُ: وَيُمْكِنُ رَدُّ هَذَا الْجَوَابِ بِأَنْ يَجُوزَ أَنْ يَكُونَ مُرَادُ صَدْرِ الشَّرِيعَةِ بِالْمَعْدُومِ مَا هُوَ مَعْدُومٌ فِي السُّوقِ الَّذِي يُبَاعُ فِيهِ لَا الْمَعْدُومَ فِي الْخَارِجِ مُطْلَقًا، وَكَأَنَّهُ لِهَذَا قَالَ: وَفِي الْمَعْدُومِ هَذَا مُتَعَذِّرٌ أَوْ مُتَعَسِّرٌ: يَعْنِي أَنَّهُ بَعْدَمَا عَدِمَ فِي السُّوقِ الَّذِي يُبَاعُ فِيهِ إنْ لَمْ يُوجَدْ فِي الْبُيُوتِ أَيْضًا يَتَعَذَّرُ التَّقْوِيمُ، وَإِنْ وُجِدَ فِيهَا يَتَعَسَّرُ التَّقْوِيمُ؛ لِأَنَّ مِعْيَارَ تَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ هُوَ السُّوقُ الَّذِي يُبَاعُ فِيهِ الْأَشْيَاءُ، وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ لَا يَتَيَسَّرُ التَّقْوِيمُ الْعَادِلُ، وَكَذَا مُرَادُهُ بِعَدَمِ بَقَاءِ شَيْءٍ فِي قَوْلِهِ لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ مِنْ نَوْعِهِ فِي يَوْمِ الْخُصُومَةِ عَدَمُ بَقَائِهِ فِي السُّوقِ الَّذِي يُبَاعُ فِيهِ، فَعَلَى هَذَا لَا يُمْكِنُ الْجَوَابُ عَنْهُ بِمَا ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ الثَّلْجِيُّ فِي حَدِّ الِانْقِطَاعِ كَمَا لَا يَخْفَى.
(قَوْلُهُ بِخِلَافِ مَا لَا مِثْلَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ مُطَالَبٌ بِالْقِيمَةِ بِأَصْلِ السَّبَبِ كَمَا وُجِدَ فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ عِنْدَ ذَلِكَ) أَقُولُ: فِيهِ إشْكَالٌ؛ لِأَنَّ هَذَا لَا يَتِمُّ عَلَى مَا سَيَجِيءُ عَنْ قَرِيبٍ مِنْ أَنَّ الْمُوجِبَ الْأَصْلِيَّ فِي الْغَصْبِ عَلَى مَا قَالُوا هُوَ رَدُّ الْعَيْنِ، وَإِنَّمَا رَدُّ الْقِيمَةِ مُخَلِّصٌ خَلْفًا، إذْ الْمُطَالِبُ بِأَصْلِ السَّبَبِ حِينَئِذٍ فِيمَا لَا مِثْلَ لَهُ أَيْضًا إنَّمَا هُوَ رَدُّ الْعَيْنِ؛ لِأَنَّهُ الْوَاجِبُ الْأَصْلِيُّ مُطْلَقًا، وَإِنَّمَا يَنْتَقِلُ إلَى الْقِيمَةِ بِهَلَاكِ الْعَيْنِ فَيَنْبَغِي أَنْ تُعْتَبَرَ قِيمَتُهُ وَقْتَ هَلَاكِ عَيْنِهِ لَا وَقْتَ وُجُودِ أَصْلِ السَّبَبِ وَهُوَ الْغَصْبُ، أَلَا يَرَى أَنَّ الْوَاجِبَ بَعْدَ هَلَاكِ الْعَيْنِ فِيمَا لَهُ مِثْلٌ هُوَ الْمِثْلُ فِي الذِّمَّةِ، وَإِنَّمَا يُنْتَقَلُ إلَى الْقِيمَةِ بِالِانْقِطَاعِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ فَتُعْتَبَرُ قِيمَةُ وَقْتِ الِانْقِطَاعِ عِنْدَهُ، وَبِقَضَاءِ الْقَاضِي عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ وَقْتَ الْخُصُومَةِ وَالْقَضَاءِ عِنْدَهُ وَلَا تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ وَقْتَ وُجُودِ أَصْلِ السَّبَبِ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْهُمَا.
وَبِالْجُمْلَةِ الْفَرْقُ بَيْنَ مَا لَا مِثْلَ لَهُ وَبَيْنَ مَا لَهُ مِثْلٌ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ بِأَنَّ الْقِيمَةَ تُعْتَبَرُ فِي الْأَوَّلِ عِنْدَ وُجُودِ أَصْلِ السَّبَبِ، وَفِي الثَّانِي عِنْدَ الِانْتِقَالِ إلَى الْقِيمَةِ غَيْرُ وَاضِحٍ عَلَى مَا قَالُوا: إنَّ الْمُوجِبَ الْأَصْلِيَّ فِي الْغَصْبِ مُطْلَقًا هُوَ رَدُّ الْعَيْنِ، وَإِنَّمَا رَدُّ الْقِيمَةِ مُخَلِّصٌ خَلْفًا كَمَا سَيَجِيءُ: وَأَمَّا عَلَى مَا قِيلَ:
لِأَنَّهُ لَمَّا تَعَذَّرَ مُرَاعَاةُ الْحَقِّ فِي الْجِنْسِ فَيُرَاعَى فِي الْمَالِيَّةِ وَحْدَهَا دَفْعًا لِلضَّرَرِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ. أَمَّا الْعَدَدِيُّ الْمُتَقَارِبُ فَهُوَ كَالْمَكِيلِ حَتَّى يَجِبَ مِثْلُهُ لِقِلَّةِ التَّفَاوُتِ. وَفِي الْبُرِّ الْمَخْلُوطِ بِالشَّعِيرِ الْقِيمَةُ؛ لِأَنَّهُ لَا مِثْلَ لَهُ. .
قَالَ (وَعَلَى الْغَاصِبِ رَدُّ الْعَيْنِ الْمَغْصُوبَةِ) مَعْنَاهُ مَا دَامَ
إنَّ الْمُوجِبَ الْأَصْلِيَّ هُوَ الْقِيمَةُ وَرَدُّ الْعَيْنِ مُخَلِّصٌ كَمَا سَيَجِيءُ أَيْضًا فَلَا يَتِمُّ دَلِيلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَلَا دَلِيلُ مُحَمَّدٍ رَأْسًا، إذْ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّ الْمُوجِبَ الْأَصْلِيَّ فِي الْغَصْبِ غَيْرُ الْقِيمَةِ، وَإِنَّمَا يُنْتَقَلُ إلَيْهَا بِأَمْرٍ عَارِضٍ، فَالْمَقَامُ لَا يَخْلُو عَنْ الْإِشْكَالِ عَلَى كُلِّ حَالٍ
(قَوْله وَمَا لَا مِثْلَ لَهُ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ يَوْمَ غَصَبَهُ، مَعْنَاهُ الْعَدَدِيَّاتُ الْمُتَفَاوِتَةُ) يَعْنِي مَعْنَى قَوْلِ الْقُدُورِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ مَا لَا مِثْلَ لَهُ الْعَدَدِيَّاتُ الْمُتَفَاوِتَةُ.
قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ أَخْذًا مِنْ النِّهَايَةِ: وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ مَعْنَاهُ الشَّيْءُ الَّذِي لَا يَضْمَنُ بِمِثْلِهِ مِنْ جِنْسِهِ؛ لِأَنَّ الَّذِي لَا مِثْلَ لَهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَذَلِكَ كَالْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَفَاوِتَةِ مِثْلُ الدَّوَابِّ وَالثِّيَابِ اهـ. أَقُولُ: هَذَا الَّذِي عَدَّهُ تَحْقِيقًا مِمَّا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ، بَلْ لَا حَاصِلَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ بِالشَّيْءِ الَّذِي لَا يَضْمَنُ بِمِثْلِهِ مِنْ جِنْسِهِ مَا لَا يَكُونُ لَهُ مِثْلٌ مِنْ جِنْسِهِ وَلَا يَضْمَنُ بِمِثْلِهِ مِنْ جِنْسِهِ فَيُنَافِيهِ تَعْلِيلُهُ بِقَوْلِهِ؛ لِأَنَّ الَّذِي لَا مِثْلَ لَهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّ مَا لَا يَكُونُ لَهُ مِثْلٌ مِنْ جِنْسِهِ لَا يَكُونُ لَهُ مِثْلٌ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ أَيْضًا بِالْأَوْلَوِيَّةِ فَلَا يَكُونُ لَهُ مِثْلٌ أَصْلًا.
وَقَدْ قَالَ فِي التَّعْلِيلِ: إنَّ الَّذِي لَا مِثْلَ لَهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِهِ مَا لَا مِثْلَ لَهُ فِي قَوْلِهِ وَمَا لَا مِثْلَ لَهُ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ يَوْمَ غَصَبَهُ، وَإِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ مَا لَهُ مِثْلٌ مِنْ جِنْسِهِ، وَلَكِنْ لَا يُضْمَنُ بِمِثْلِهِ مِنْ جِنْسِهِ بَلْ يُضْمَنُ بِقِيمَتِهِ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ تَعْلِيلِهِ، فَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ هَذَا مَعْنَى قَوْلِ الْقُدُورِيِّ مَا لَا مِثْلَ لَهُ فِي قَوْلِهِ وَمَا لَا مِثْلَ لَهُ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ يَلْزَم الِاخْتِلَالُ فِي وَضَعَ الْمَسْأَلَةِ، إذْ يَصِيرُ حِينَئِذٍ مَعْنَى الْمَسْأَلَةِ وَمَا لَا يُضْمَنُ بِمِثْلِهِ مِنْ جِنْسِهِ بَلْ يُضْمَنُ بِقِيمَتِهِ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ.
أَيْ يُضْمَنُ بِقِيمَتِهِ فَيُشْبِهُ جَوَابَ الْمَسْأَلَةِ بِلَغْوٍ مِنْ الْكَلَامِ لِكَوْنِهِ مَعْلُومًا بِصَدْرِ الْمَسْأَلَةِ. وَبِالْجُمْلَةِ تَفْسِيرُ مَا لَا مِثْلَ لَهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِمَا لَا يَضْمَنُ بِمِثْلِهِ كَمَا فَعَلَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ وَالنِّهَايَةِ، وَكَذَا تَفْسِيرُ مَا لَهُ مِثْلٌ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى بِمَا يُضْمَنُ بِمِثْلِهِ كَمَا فَعَلَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ مِمَّا لَا تَقْبَلُهُ فِطْرَةٌ سَلِيمَةٌ لِاسْتِلْزَامِهِ اعْتِبَارَ جَوَابِ الْمَسْأَلَةِ فِي صَدْرِ الْمَسْأَلَةِ فَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِمْ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى أَيْضًا وَمَنْ غَصَبَ شَيْئًا لَهُ مِثْلٌ فَهَلَكَ فِي يَدِهِ فَعَلَيْهِ ضَمَانُ مِثْلِهِ، وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنْ الِاسْتِدْرَاكِ وَاللَّاغِيَةِ.
فَالْحَقُّ عِنْدِي أَنَّ الْمُرَادَ بِمَا لَهُ مِثْلٌ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى مَا لَهُ مِثْلٌ صُورَةً وَمَعْنًى وَهُوَ الْمِثْلُ الْكَامِلُ الَّذِي يَنْصَرِفُ إلَيْهِ الْمِثْلُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، وَبِمَا لَا مِثْلَ لَهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَا لَا مِثْلَ لَهُ فِي صُورَةٍ وَمَعْنًى، وَإِنْ كَانَ لَهُ مِثْلٌ مَعْنًى فَقَطْ وَهُوَ الْقِيمَةُ الَّتِي هِيَ الْمِثْلُ الْقَاصِرُ.
وَقَدْ أَفْصَحَ عَنْ نَوْعَيْ الْمِثْلِ فِي الْكَافِي حَيْثُ قَالَ مِنْ قَبْلُ: إنَّ الْمِثْلَ نَوْعَانِ: كَامِلٌ وَهُوَ الْمِثْلُ صُورَةً وَمَعْنًى وَهُوَ الْأَصْلُ فِي ضَمَانِ الْعُدْوَانِ حَتَّى صَارَ بِمَنْزِلَةِ الْأَصْلِ، وَقَاصِرٌ وَهُوَ الْمِثْلُ مَعْنًى وَهُوَ الْقِيمَةُ، وَالْقَاصِرُ لَا يَكُونُ مَشْرُوعًا مَعَ احْتِمَالِ الْأَصْلِ؛ لِأَنَّهُ خَلَفٌ عَنْ الْمِثْلِ الْكَامِلِ اهـ.
فَيَصِيرُ مَعْنَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: وَمَا لَا يَكُونُ لَهُ مِثْلٌ كَامِلٌ فَعَلَيْهِ مِثْلُهُ الْقَاصِرُ وَهُوَ الْقِيمَةُ فَيَنْتَظِمُ الْمَقَامَ بِلَا كُلْفَةٍ، قَالَ فِي الْكَافِي بَعْدَ ذِكْرِ مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ: وَقَالَ مَالِكٌ: يَضْمَنُ مِثْلَهُ صُورَةً مِنْ جِنْسِ ذَلِكَ لِمَا تَلَوْنَا. وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ شُرَيْحٍ: " مَنْ كَسَرَ عَصَا فَهِيَ لَهُ وَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا " وَهِيَ الْمُرَادُ بِالْمِثْلِ الْمَذْكُورِ فِي النَّصِّ اهـ.
أَقُولُ: يُرَدُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ كَانَتْ الْقِيمَةُ هِيَ الْمُرَادُ بِالْمِثْلِ الْمَذْكُورِ فِي النَّصِّ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} لَمَا تَمَّ الِاسْتِدْلَال بِذَلِكَ النَّصّ الشَّرِيفِ عَلَى وُجُوبِ ضَمَانِ الْمِثْلِ صُورَةً وَمَعْنًى عَلَى مَنْ غَصَبَ شَيْئًا لَهُ مِثْلٌ كَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ فَهَلَكَ فِي يَدِهِ، وَقَدْ مَرَّ الِاسْتِدْلَال بِهِ عَلَى ذَلِكَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى، وَهُوَ الَّذِي أَشَارَ إلَيْهِ فِي الْكَافِي وَغَيْرِهِ بِقَوْلِهِ لِمَا تَلَوْنَا فَتَدَبَّرْ.
(قَوْلَهُ أَمَّا الْعَدَدِيُّ الْمُتَقَارِبُ فَهُوَ كَالْمَكِيلِ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ: وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى الْمَكِيلِ وَلَمْ يَقُلْ كَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ؛ لِأَنَّ مِنْ الْمَوْزُونَاتِ مَا لَيْسَ بِمِثْلِيٍّ وَهُوَ الْمَوْزُونُ الَّذِي فِي تَبْعِيضِهِ ضَرَرٌ كَالْمَصُوغِ مِنْ الْقُمْقُمِ وَالطَّشْتِ اهـ. أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَوْ كَانَ اقْتِصَارُهُ عَلَى الْمَكِيلِ لِذَلِكَ الشَّيْءِ الَّذِي ذَكَرَهُ لَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ فِيمَا مَرَّ أَيْضًا حَيْثُ قَالَ: وَمَنْ غَصَبَ شَيْئًا لَهُ مِثْلٌ كَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ فَهَلَكَ فِي يَدِهِ فَعَلَيْهِ مِثْلُهُ
قَائِمًا لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تَرُدَّ» وَقَالَ عليه الصلاة والسلام «لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَأْخُذَ مَتَاعَ أَخِيهِ لَاعِبًا وَلَا جَادًّا، فَإِنْ أَخَذَهُ فَلْيَرُدَّهُ عَلَيْهِ» وَلِأَنَّ الْيَدَ حَقٌّ مَقْصُودٌ وَقَدْ فَوَّتَهَا عَلَيْهِ فَيَجِبُ إعَادَتُهَا بِالرَّدِّ إلَيْهِ، وَهُوَ الْمُوجِبُ الْأَصْلِيُّ عَلَى مَا قَالُوا، وَرَدُّ الْقِيمَةِ مُخَلِّصٌ خَلَفًا؛ لِأَنَّهُ قَاصِرٌ، إذْ الْكَمَالُ فِي رَدِّ الْعَيْنِ وَالْمَالِيَّةِ. وَقِيلَ الْمُوجِبُ الْأَصْلِيُّ الْقِيمَةُ وَرَدُّ الْعَيْنِ مُخَلِّصٌ، وَيَظْهَرُ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ،
وَلَيْسَ فَلَيْسَ. وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بِوَجْهٍ آخَرَ حَيْثُ قَالَ بَعْدَ نَقَلَ مَا فِي النِّهَايَةِ بِقِيلَ: وَلَيْسَ بِوَاضِحٍ؛ لِأَنَّ مِنْ الْمَكِيلِ مَا هُوَ كَذَلِكَ كَالْبُرِّ الْمَخْلُوطِ بِالشَّعِيرِ فَإِنَّهُ لَا مِثْلَ لَهُ فَفِيهِ الْقِيمَةُ اهـ. أَقُولُ: يُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ بِالْمَكِيلِ
(وَالْوَاجِبُ الرَّدُّ فِي الْمَكَانِ الَّذِي غَصَبَهُ) لِتَفَاوُتِ الْقِيَمِ بِتَفَاوُتِ الْأَمَاكِنِ (فَإِنْ ادَّعَى هَلَاكَهَا حَبَسَهُ الْحَاكِمُ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ بَاقِيَةً لَأَظْهَرَهَا ثُمَّ قَضَى عَلَيْهِ بِبَدَلِهَا)؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ رَدُّ الْعَيْنِ وَالْهَلَاكُ بِعَارِضٍ، فَهُوَ يَدَّعِي أَمْرًا عَارِضًا خِلَافَ الظَّاهِرِ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ، كَمَا إذَا ادَّعَى الْإِفْلَاسَ وَعَلَيْهِ ثَمَنُ مَتَاعٍ فَيُحْبَسُ إلَى أَنْ يُعْلَمَ مَا يَدَّعِيهِ، فَإِذَا عَلِمَ الْهَلَاكَ سَقَطَ عَنْهُ رَدُّهُ فَيَلْزَمُهُ رَدُّ بَدَلِهِ وَهُوَ الْقِيمَةُ. .
قَالَ (وَالْغَصْبُ فِيمَا يُنْقَلُ وَيُحَوَّلُ)؛ لِأَنَّ الْغَصْبَ بِحَقِيقَتِهِ يَتَحَقَّقُ فِيهِ دُونَ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ إزَالَةَ الْيَدِ بِالنَّقْلِ.
(وَإِذَا غَصَبَ عَقَارًا فَهَلَكَ فِي يَدِهِ لَمْ يَضْمَنْهُ) وَهَذَا
فِي قَوْلِهِ أَمَّا الْعَدَدِيُّ الْمُتَقَارِبُ فَهُوَ كَالْمَكِيلِ حَتَّى يَجِبَ مِثْلُهُ لِقِلَّةِ التَّفَاوُتِ هُوَ الْمَكِيلُ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ بَعْدَهُ وَفِي الْبُرِّ الْمَخْلُوطِ بِالشَّعِيرِ الْقِيمَةُ؛ لِأَنَّهُ لَا مِثْلَ لَهُ، وَبِقَرِينَةِ شُهْرَةِ اعْتِبَارِ الْجِنْسِ مَعَ الْمَكِيلِ فِي تَحَقُّقِ الْمُمَاثَلَةِ فِي الْكَيْلِ كَمَا تَقَرَّرَ فِي بَابِ الرِّبَا مِنْ الْبُيُوعِ
(قَوْله وَالْغَصْبُ فِيمَا يُنْقَلُ وَيُحَوَّلُ) أَيْ الْغَصْبُ يَتَقَرَّرُ فِيمَا يُنْقَلُ وَيُحَوَّلُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ؛ لِأَنَّ الْغَصْبَ بِحَقِيقَتِهِ وَيَتَحَقَّق فِيهِ، كَذَا فِي مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ. ثُمَّ إنَّ الْمَقْصُودَ بَيَانُ تَحَقُّقِ الْغَصْبِ فِيمَا يُنْقَلُ وَيُحَوَّلُ دُونَ غَيْرِهِ لَا بَيَانُ مُجَرَّدِ تَحَقُّقِهِ فِي الْمَنْقُولِ، إذْ لَا خِلَافَ فِيهِ وَلَا اشْتِبَاهَ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ وَالِاشْتِبَاهُ فِي عَدَمِ تَحَقُّقِهِ فِي غَيْرِ الْمَنْقُولِ فَهُوَ الْمَقْصُودُ الْأَصْلِيُّ بِالْبَيَانِ هَاهُنَا فَالْقَصْرُ مُعْتَبَرٌ فِي التَّرْكِيبِ الْمَذْكُورِ: أَعْنِي قَوْلَهُ وَالْغَصْبُ فِيمَا يُنْقَلُ وَيُحَوَّلُ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ تَاجُ الشَّرِيعَةِ حَيْثُ قَالَ فِي تَفْسِيرِ ذَلِكَ: أَيْ تَحَقُّقِ الْغَصْبِ فِي الْمَنْقُولِ دُونَ غَيْرِهِ. وَأَشَارَ إلَيْهِ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ أَيْضًا حَيْثُ قَالَ فِي تَفْسِيرِ ذَلِكَ: أَيْ تَحَقُّقُ الْغَصْبِ فِي الْمَنْقُولِ دُونَ غَيْرِهِ، وَأَشَارَ إلَيْهِ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ أَيْضًا حَيْثُ قَالَ: الْغَصْبُ كَائِنٌ فِيمَا يُنْقَلُ وَيُحَوَّلُ لَا فِي الْعَقَارِ، بَلْ أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ نَفْسُهُ حَيْثُ قَالَ فِي تَعْلِيلِ ذَلِكَ: لِأَنَّ الْغَصْبَ بِحَقِيقَتِهِ يَتَحَقَّقُ فِيهِ دُونَ غَيْرِهِ. قُلْت: بَقِيَ الْكَلَامُ فِي أَنَّ أَدَاةَ الْقَصْرِ فِي التَّرْكِيبِ الْمَزْبُورِ مَاذَا؟ فَلَعَلَّهَا هِيَ تَعْرِيفُ الْمُسْنَدِ إلَيْهِ فَاللَّامُ الْجِنْسِ، فَإِنَّهُ يُفِيدُ قَصْرَ الْمُسْنَدِ إلَيْهِ عَلَى الْمُسْنَدِ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ فِي عِلْمِ الْأَدَبِ، وَمَثَّلُوهُ بِنَحْوِ التَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ وَالْكَرَمِ فِي الْعَرَبِ وَالْإِمَامِ مِنْ قُرَيْشٍ.
(قَوْلُهُ لِأَنَّ الْغَصْبَ بِحَقِيقَتِهِ يَتَحَقَّقُ فِيهِ دُونَ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ إزَالَةَ الْيَدِ بِالنَّقْلِ) أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَذَا الْقَدْرُ مِنْ الدَّلِيلِ بِدُونِ التَّفْصِيلِ الْآتِي فِي دَلِيلِ عَدَمِ الضَّمَانِ فِي غَصْبِ الْعَقَارِ لَا يُفِيدُ الْمُدَّعِي هَاهُنَا كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ أَحَاطَ بِحَقِيقَةِ الْمَقَامِ خُبْرًا، وَبِذِكْرِ التَّفْصِيلِ الْآتِي هُنَاكَ يُسْتَغْنَى عَنْ ذِكْرِ الدَّلِيلِ هَاهُنَا. فَالْأَحْسَنُ أَنْ يُكْتَفَى بِمَا سَيَأْتِي فِي تَعْلِيلِ جَوَابِ مَسْأَلَةِ غَصْبِ الْعَقَارِ الْمُتَفَرِّعَةِ عَلَى الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ هَاهُنَا كَمَا اُكْتُفِيَ بِبَيَانِ الْخِلَافِ هُنَاكَ عَنْ بَيَانِهِ هَاهُنَا، فَإِنَّ الْخِلَافَ الْمَذْكُورَ هُنَاكَ مُتَحَقِّقٌ هَاهُنَا أَيْضًا لَا مَحَالَة
(قَوْله وَإِذَا غَصَبَ عَقَارًا فَهَلَكَ فِي يَدِهِ لَمْ يَضْمَنْهُ)
عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَضْمَنُهُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ لِتَحَقُّقِ إثْبَاتِ الْيَدِ، وَمِنْ ضَرُورَتِهِ زَوَالُ يَدِ الْمَالِكِ لِاسْتِحَالَةِ اجْتِمَاعِ الْيَدَيْنِ عَلَى مَحَلٍّ وَاحِدٍ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ فَيَتَحَقَّقُ الْوَصْفَانِ وَهُوَ الْغَصْبُ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فَصَارَ كَالْمَنْقُولِ وَجُحُودِ الْوَدِيعَةِ.
أَقُولُ: كَانَ اللَّائِقُ بِالْمُصَنِّفِ أَنْ يَذْكُرَ الْفَاءَ بَدَلَ الْوَاوِ فِي قَوْلِهِ وَإِذَا غَصَبَ عَقَارًا إلَخْ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُتَفَرِّعَةٌ عَلَى مَا سَبَقَ مِنْ الْأَصْلِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُظْهِرَ عَلَامَةَ التَّفْرِيعِ فِي اللَّفْظِ كَمَا وَقَعَ فِي سَائِرِ الْكُتُبِ، فَذُكِرَتْ كَلِمَةُ الْفَاءِ فِي عَامَّتِهَا وَكَلِمَةُ حَتَّى فِي الْمُحِيطِ حَيْثُ قَالَ فِيهِ: وَشَرْطُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ كَوْنُ الْمَأْخُوذِ مَنْقُولًا، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرُ، حَتَّى أَنَّ غَصْبَ الْعَقَارِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ فِي قَوْلِهِ الْآخَرَ لَا يَنْعَقِدُ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ اهـ. وَالْعَجَبُ أَنَّ كَلِمَةَ الْفَاءِ كَانَتْ مَذْكُورَةً فِي مُخْتَصَرِ الْقُدُورِيِّ فَبَدَّلَهَا الْمُصَنِّفُ بِالْوَاوِ فِي الْبِدَايَةِ وَالْهِدَايَةِ. ثُمَّ أَقُولُ: الْمُرَادُ بِالْغَصْبِ فِي قَوْلِهِ وَإِذَا غَصَبَ عَقَارًا هُوَ الْغَصْبُ اللُّغَوِيُّ دُونَ الْغَصْبِ الشَّرْعِيِّ، فَلَا يَتَّجِهُ أَنْ يُقَالَ: قَدْ تَقَرَّرَ فِيمَا مَرَّ أَنَّ حُكْمَ الْغَصْبِ مُطْلَقًا عِنْدَ هَلَاكِ الْعَيْنِ الْمَغْصُوبَةِ فِي يَدِ الْغَاصِبِ هُوَ الضَّمَانُ فَكَيْفَ يَصِحُّ الْحُكْمُ هَاهُنَا بِعَدَمِ الضَّمَانِ فِي غَصْبِ الْعَقَارِ وَهَلَاكِهِ فِي يَدِ الْغَاصِبِ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ إنَّمَا هُوَ حُكْمُ الْغَصْبِ الشَّرْعِيِّ دُونَ اللُّغَوِيِّ، وَالْمُتَحَقِّقُ هَاهُنَا هُوَ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ فَلَا مُنَافَاةَ.
قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: إطْلَاقُ لَفْظِ الْغَصْبِ هُنَا مَجَازٌ عَلَى سَبِيلِ الْمُشَاكَلَةِ اهـ. أَقُولُ فِيهِ: إنَّ الْمَصِيرَ إلَى الْمَجَازِ إنَّمَا هُوَ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْحَقِيقَةِ، وَهُنَا الْحَقِيقَةُ اللُّغَوِيَّةُ مُتَيَسِّرَةٌ فَلَا يُصَارُ إلَى الْمَجَازِ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُرِيدَ بِالْمَجَازِ الْمَجَازَ بِالنَّظَرِ إلَى الْوَضْعِ الشَّرْعِيِّ دُونَ الْمَجَازِ الْمُطْلَقِ فَلَا يُنَافِي كَوْنَهُ حَقِيقَةً بِالنَّظَرِ إلَى الْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ، وَلَكِنْ حَقُّ الْأَدَاءِ مَا قَدَّمْنَاهُ كَمَا لَا يَخْفَى. وَقَالَ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ: وَقَدْ اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ الْمَشَايِخِ فِي غَصْبِ الدُّورِ وَالْعَقَارِ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَتَحَقَّقُ فِيهَا الْغَصْبُ وَلَكِنْ لَا عَلَى وَجْهٍ يُوجِبُ الضَّمَانَ، وَإِلَيْهِ مَال الْقُدُورِيُّ فِي قَوْلِهِ وَإِذَا غَصَبَ عَقَارًا فَهَلَكَ فِي يَدِهِ لَمْ يَضْمَنْهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ الْغَصْبِ وَنَفَى الضَّمَانَ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَتَحَقَّقُ أَصْلًا، وَإِلَيْهِ مَالَ أَكْثَرُ الْمَشَايِخِ اهـ كَلَامَهُ. أَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ أَنَّ بَعْضَهُمْ قَالَ يَتَحَقَّقُ الْغَصْبُ الشَّرْعِيُّ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ فَلَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ، إذْ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ إنَّ الْغَصْبَ الشَّرْعِيَّ يَتَحَقَّقُ عِنْدَهُمَا فِيهَا، كَيْفَ وَلَوْ قَالَهُ لَمَا صَحَّ مِنْهُ أَنْ يَقُولَ لَا عَلَى وَجْهٍ يُوجِبُ الضَّمَانَ، فَإِنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ عِنْدَ هَلَاكِ الْمَغْصُوبِ فِي يَدِ الْغَاصِبِ حُكْمٌ مُقَرَّرٌ لِمُطْلَقِ الْغَصْبِ الشَّرْعِيِّ لَا يَتَخَلَّفُ عَنْهُ عِنْدَ أَحَدٍ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِالْغَصْبِ فِي عِبَارَةِ مَنْ أَثْبَتَ الْغَصْبَ وَنَفَى الضَّمَانَ هُوَ الْغَصْبُ اللُّغَوِيُّ دُونَ الشَّرْعِيِّ كَمَا بَيَّنَّاهُ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ بَعْضَهُمْ قَالَ يَتَحَقَّقُ فِيهَا الْغَصْبُ اللُّغَوِيُّ وَلَا يُوجِبُ الضَّمَانَ، وَبَعْضُهُمْ قَالَ لَا يَتَحَقَّقُ فِيهَا الْغَصْبُ اللُّغَوِيُّ أَيْضًا فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ أَحَدًا قَالَ إنَّ الْغَصْبَ اللُّغَوِيَّ لَا يَتَحَقَّقُ فِيهَا؛ لِأَنَّ الْغَصْبَ اللُّغَوِيَّ عَلَى مَا مَرَّ فِي صَدْرِ الْكِتَابِ أَخْذُ الشَّيْءِ مِنْ الْغَيْرِ عَلَى سَبِيلِ التَّغَلُّبِ، وَلَا شَكَّ فِي تَحَقُّقِ هَذَا الْمَعْنَى فِي الْعَقَارِ إذَا لَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِ إزَالَةُ يَدِ الْمَالِكِ أَصْلًا فَضْلًا عَنْ إزَالَةِ
وَلَهُمَا أَنَّ الْغَصْبَ إثْبَاتُ الْيَدِ بِإِزَالَةِ يَدِ الْمَالِكِ بِفِعْلٍ فِي الْعَيْنِ، وَهَذَا لَا يُتَصَوَّرُ فِي الْعَقَارِ؛ لِأَنَّ يَدَ الْمَالِكِ لَا تَزُولُ إلَّا بِإِخْرَاجِهِ عَنْهَا، وَهُوَ فِعْلٌ فِيهِ لَا فِي الْعَقَارِ فَصَارَ كَمَا إذَا بَعُدَ الْمَالِكُ عَنْ الْمَوَاشِي. وَفِي الْمَنْقُولِ: النَّقْلُ فِعْلٌ فِيهِ وَهُوَ الْغَصْبُ. وَمَسْأَلَةُ الْجُحُودِ مَمْنُوعَةٌ، وَلَوْ سُلِّمَ فَالضَّمَانُ هُنَاكَ بِتَرْكِ الْحِفْظِ الْمُلْتَزَمِ وَبِالْجُحُودِ تَارِكٌ لِذَلِكَ. قَالَ (وَمَا نَقَصَهُ مِنْهُ بِفِعْلِهِ أَوْ سُكْنَاهُ ضَمِنَهُ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا)؛ لِأَنَّهُ إتْلَافٌ وَالْعَقَارُ يُضْمَنُ بِهِ كَمَا إذَا نَقَلَ تُرَابَهُ؛ لِأَنَّهُ فِعْلٌ فِي الْعَيْنِ وَيَدْخُلُ فِيمَا قَالَهُ إذَا انْهَدَمَتْ الدَّارُ بِسُكْنَاهُ وَعَمَلِهِ، فَلَوْ غَصَبَ دَارًا وَبَاعَهَا وَسَلَّمَهَا وَأَقَرَّ بِذَلِكَ وَالْمُشْتَرِي يُنْكِرُ غَصْبَ الْبَائِعِ وَلَا بَيِّنَةَ لِصَاحِبِ الدَّارِ فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي الْغَصْبِ
يَدِهِ بِفِعْلٍ فِي الْعَيْنِ كَمَا هُوَ الْمَانِعُ عَنْ تَحَقُّقِ الْأَصْلِ الشَّرْعِيِّ عِنْدَهُمَا فِي الْعَقَارِ عَلَى مَا سَتَعْرِفُهُ فَلَا يَصْدُرُ مِمَّنْ لَهُ أَدْنَى تَمْيِيزٍ إنْكَارُ تَحَقُّقِ الْغَصْبِ اللُّغَوِيِّ فِي الْعَقَارِ فَضْلًا عَنْ مِثْلِ مَشَايِخِنَا هَؤُلَاءِ الْأَجِلَّاءِ (قَوْلُهُ وَلَهُمَا أَنَّ الْغَصْبَ إثْبَاتُ الْيَدِ بِإِزَالَةِ يَدِ الْمَالِكِ بِفِعْلٍ فِي الْعَيْنِ وَهَذَا لَا يُتَصَوَّرُ فِي الْعَقَارِ؛ لِأَنَّ يَدَ الْمَالِكِ لَا تَزُولُ إلَّا بِإِخْرَاجِهِ عَنْهَا وَهُوَ فِعْلٌ فِيهِ لَا فِي الْعَقَارِ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي حَلَّ هَذَا الْمَحَلِّ: وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْغَصْبَ إثْبَاتُ الْيَدِ بِإِزَالَةِ يَدِ الْمَالِكِ: أَيْ بِسَبَبِ ذَلِكَ، وَهَذَا أَيْ هَذَا الْمَجْمُوعُ لَا يُتَصَوَّرُ فِي الْعَقَارِ؛ لِأَنَّ يَدَ الْمَالِكِ لَا تَزُولُ إلَّا بِإِخْرَاجِهِ، أَيْ بِإِخْرَاجِ الْمَالِكِ عَنْهَا: أَيْ عَنْ الْعَقَارِ بِمَعْنَى الضَّيْعَةِ أَوْ الدَّارِ، وَهُوَ أَيْ الْإِخْرَاجُ فِعْلٌ فِي الْمَالِكِ لَا فِي الْعَقَارِ فَانْتَفَى إزَالَةُ الْيَدِ وَالْكُلُّ يَنْتَفِي بِانْتِفَاءِ جُزْئِهِ اهـ.
أَقُولُ: فِي تَقْرِيرِهِ قُصُورٌ. أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُ جَعَلَ الْبَاءَ فِي قَوْلِ الْمُصَنِّفِ بِإِزَالَةِ يَدِ الْمَالِكِ لِلسَّبَبِيَّةِ، وَلَيْسَ بِوَاضِحٍ إذْ عَلَى تَقْدِيرِ تَحَقُّقِ السَّبَبِيَّةِ بَيْنَ إثْبَاتِ يَدِ الْغَاصِبِ وَبَيْنَ إزَالَةِ يَدِ الْمَالِكِ كَانَ السَّبَبُ هُوَ إثْبَاتُ يَدِ الْغَاصِبِ دُونَ إزَالَةِ يَدِ الْمَالِكِ لِكَوْنِ الْأَوَّلِ وُجُودِيًّا وَأَصْلًا صَادِرًا مِنْ الْغَاصِبِ. وَالثَّانِي أَمْرًا عَدَمِيًّا مُتَفَرِّعًا عَلَى الْأَوَّلِ. وَأَيْضًا لَوْ كَانَ الْبَاءُ الْمَزْبُورَةُ لِلسَّبَبِيَّةِ كَانَ مَعْنَى كَلَامِ الْمُصَنِّفِ: وَلَهُمَا أَنَّ الْغَصْبَ إثْبَاتُ الْيَدِ الْمُسَبَّبِ عَنْ إزَالَةِ يَدِ الْمَالِكِ بِفِعْلٍ فِي الْعَيْنِ فَلَا يُفْهَمُ مِنْهُ كَوْنُ الْغَصْبِ عِنْدَهُمَا مَجْمُوعُ إثْبَاتِ الْيَدِ الْعَادِيَةِ وَإِزَالَةِ يَدِ الْمَالِكِ بِفِعْلٍ فِي الْعَيْنِ
هُوَ الصَّحِيحُ قَالَ (وَإِذَا انْتَقَصَ بِالزِّرَاعَةِ يَغْرَمُ النُّقْصَانَ)؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ الْبَعْضَ فَيَأْخُذُ رَأْسَ مَالِهِ وَيَتَصَدَّقُ بِالْفَضْلِ. قَالَ (وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يَتَصَدَّقُ بِالْفَضْلِ) وَسَنَذْكُرُ الْوَجْهَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ. .
قَالَ (وَإِذَا هَلَكَ النَّقْلِيُّ فِي يَدِ الْغَاصِبِ بِفِعْلِهِ أَوْ بِغَيْرِ فِعْلِهِ ضَمِنَهُ)
كَمَا هُوَ الْمَقْصُودُ، فَالْوَجْهُ أَنْ يَكُونَ الْبَاءُ ثَمَّةَ لِلْمُصَاحِبَةِ فَيَكُونُ الْمَعْنَى: وَلَهُمَا أَنَّ الْغَصْبَ إثْبَاتُ الْيَدِ مَعَ إزَالَةِ يَدِ الْمَالِكِ بِفِعْلٍ فِي الْعَيْنِ فَحِينَئِذٍ يَنْتَظِمُ الْمَعْنَى وَيَحْصُلُ الْمَقْصُودُ. وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ الْمُتَبَادَرَ مِنْ قَوْلِهِ فَانْتَفَى إزَالَةُ الْيَدِ بِدُونِ التَّقْيِيدِ أَنْ لَا تَتَحَقَّقُ إزَالَةُ الْيَدِ أَصْلًا فِي غَصْبِ الْعَقَارِ عِنْدَهُمَا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ إذْ قَدْ مَرَّ فِي تَعْلِيلِ قَوْلِ مُحَمَّدٍ إنَّ مِنْ ضَرُورَةِ إثْبَاتِ الْيَدِ زَوَالُ يَدِ الْمَالِكِ لِاسْتِحَالَةِ اجْتِمَاعِ الْيَدَيْنِ عَلَى مَحَلٍّ وَاحِدٍ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، وَفِي تَعْلِيلِ قَوْلِهِمَا هَاهُنَا لَمْ يَتَعَرَّضْ لِنَفْيِ تِلْكَ الْمُقَدِّمَةِ، وَلَيْسَتْ بِقَابِلَةٍ لِلنَّفْيِ وَالْمَنْعِ لِتَقَرُّرِهَا وَبَدَاهَتِهَا فَلَا جَرَمَ كَانَتْ مُسَلَّمَةً عِنْدَهُمَا أَيْضًا فَكَيْفَ يَتِمُّ تَقْرِيرُ دَلِيلِهِمَا بِوَجْهِ يُشْعِرُ بِانْتِفَاءِ إزَالَةِ الْيَدِ أَصْلًا فِي غَصْبِ الْعَقَارِ؟
فَالْأَوْلَى فِي تَقْرِيرِ دَلِيلِهِمَا وَحَلِّ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا أَنْ يُقَالَ: وَلَهُمَا أَنَّ الْغَصْبَ إثْبَاتُ الْيَدِ الْعَادِيَةِ مَعَ إزَالَةِ يَدِ الْمَالِكِ بِفِعْلٍ فِي الْعَيْنِ لَا مَعَ إزَالَةِ يَدِ الْمَالِكِ مُطْلَقًا: أَيْ سَوَاءً كَانَتْ بِفِعْلٍ فِي الْعَيْنِ أَوْ بِفِعْلٍ فِي الْمَالِكِ، وَمَا كَانَ مِنْ ضَرُورَةِ إثْبَاتِ الْيَدِ إنَّمَا هُوَ زَوَالُ يَدِ الْمَالِكِ مُطْلَقًا لَا زَوَالُهَا بِوَجْهٍ خَاصٍّ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بِفِعْلٍ فِي الْعَيْنِ، وَهَذَا يَعْنِي مَجْمُوعَ مَا اُعْتُبِرَ فِي حَقِيقَةِ الْغَصْبِ مِنْ إزَالَةِ الْيَدِ الْعَادِيَةِ مَعَ إزَالَةِ يَدِ الْمَالِكِ بِفِعْلٍ فِي الْعَيْنِ لَا يُتَصَوَّرُ فِي الْعَقَارِ؛ لِأَنَّ يَدَ الْمَالِكِ فِي الْعَقَارِ لَا تَزُولُ إلَّا بِإِخْرَاجِ الْمَالِكِ عَنْهَا: أَيْ عَنْ الْعَيْنِ الْمَغْصُوبَةِ، وَهُوَ أَيْ ذَلِكَ الْإِخْرَاجُ فِعْلٌ فِي الْمَالِكِ لَا فِي الْعَقَارِ فَلَمْ يُوجَدْ فِيهَا إزَالَةُ يَدِ الْمَالِكِ بِفِعْلٍ فِي الْعَيْنِ فَلَمْ يَتَحَقَّقْ فِيهِ حَقِيقَةُ الْغَصْبِ فَلَمْ يَلْزَمْ الضَّمَانُ عِنْدَ هَلَاكِهِ فِي يَدِ الْآخِذِ، وَبِهَذَا التَّقْرِيرِ يُثْبِتُ مُدَّعَى الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ وَالْإِمَامِ الثَّانِي، وَيَخْرُجُ الْجَوَابُ عَمَّا ذُكِرَ فِي دَلِيلِ إمَامِنَا الثَّالِثِ وَالشَّافِعِيِّ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى ذِي فِطْرَةٍ سَلِيمَةٍ.
وَاسْتَشْكَلَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ هَذَا التَّعْلِيلَ حَيْثُ قَالَ: لَيْتَ شِعْرِي بِأَيِّ دَلِيلٍ ثَبَتَ كَوْنُ إزَالَةِ يَدِ الْمَالِكِ بِفِعْلٍ فِي الْعَيْنِ وَمَتَى ثَبَتَ، بَلْ مَفْهُومُ إزَالَةِ الْيَدِ تَحَقُّقُهُ فِي إخْرَاجِ الْمَالِكِ أَظْهَرُ اهـ.
أَقُولُ: قَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ بِدَلِيلٍ ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْبَدَائِعِ حَيْثُ قَالَ: وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ فَمَرَّا عَلَى أَصْلِهِمَا أَنَّ الْغَصْبَ إزَالَةُ يَدِ الْمَالِكِ عَنْ مَالِهِ بِفِعْلٍ فِي الْمَالِ وَلَمْ يُوجَدْ فِي الْعَقَارِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ هَذَا شَرْطُ تَحَقُّقِ الْغَصْبِ الِاسْتِدْلَال بِضَمَانِ الْغَصْبِ، فَإِنَّ أَخْذَ الضَّمَانِ مِنْ الْغَاصِبِ تَفْوِيتُ يَدِهِ عَنْهُ بِفِعْلٍ فِي الضَّمَانِ فَيُسْتَدْعَى وُجُودَ مِثْلِهِ مِنْهُ فِي الْمَغْصُوبِ لِيَكُونَ اعْتِدَاءً بِالْمِثْلِ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ فَتَأَمَّلْ. ثُمَّ أَوْرَدَ ذَلِكَ الْبَعْضَ عَلَى قَوْلِ الْمُصَنِّفِ فِي تَعْلِيلِ قَوْلِهِمَا وَهَذَا لَا يُتَصَوَّرُ
وَفِي أَكْثَرِ نُسَخِ الْمُخْتَصَرِ: وَإِذَا هَلَكَ الْغَصْبُ وَالْمَنْقُولُ هُوَ الْمُرَادُ لِمَا سَبَقَ أَنَّ الْغَصْبَ فِيمَا يُنْقَلُ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ دَخَلَ فِي ضَمَانِهِ بِالْغَصْبِ السَّابِقِ إذْ هُوَ السَّبَبُ. وَعِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ رَدِّهِ يَجِبُ رَدُّ الْقِيمَةِ أَوْ يَتَقَرَّرُ بِذَلِكَ السَّبَبُ وَلِهَذَا تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْغَصْبِ.
(وَإِنْ نَقَصَ فِي يَدِهِ ضَمِنَ النُّقْصَانَ)؛ لِأَنَّهُ يَدْخُلُ جَمِيعُ أَجْزَائِهِ فِي ضَمَانِهِ بِالْغَصْبِ، فَمَا تَعَذَّرَ رَدُّ عَيْنِهِ يَجِبُ رَدُّ قِيمَتِهِ،
فِي الْعَقَارِ بِأَنْ قَالَ: لِلْخَصْمِ أَنْ يَقُولَ: إنَّمَا لَمْ يَضْمَنْ فِيهِ لِانْتِفَاءِ إثْبَاتِ الْيَدِ فَتَأَمَّلْ اهـ.
أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ، إذْ لَيْسَ فِي الْخُصُومِ مَنْ يُنْكِرُ تَحَقُّقَ إثْبَاتِ الْيَدِ فِيهِ، وَلَا مَنْ يَقُولُ بِعَدَمِ الضَّمَانِ فِيهِ كَمَا عَرَفْته آنِفًا فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَقُولَ الْخَصْمُ إنَّمَا لَمْ يَضْمَنْ فِيهِ لِانْتِفَاءِ إثْبَاتِ الْيَدِ
(قَوْلُهُ وَفِي أَكْثَرِ نُسَخِ الْمُخْتَصَرِ: وَإِذَا هَلَكَ الْغَصْبُ وَالْمَنْقُولُ هُوَ الْمُرَادُ لِمَا سَبَقَ أَنَّ الْغَصْبَ فِيمَا يُنْقَلُ) أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إنْ أَرَادَ أَنَّ الْغَصْبَ الشَّرْعِيَّ فِيمَا يُنْقَلُ فَهُوَ مُسَلَّمٌ، وَلَكِنْ لَا يُعْلَمُ بِهِ كَوْنُ الْمَنْقُولِ هُوَ الْمُرَادُ بِالْغَصْبِ الْمَذْكُورِ هَاهُنَا فِي أَكْثَرِ نُسَخِ الْمُخْتَصَرِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِذَلِكَ الْغَصْبُ اللُّغَوِيُّ وَهُوَ يَعُمُّ الْمَنْقُولَ وَغَيْرَهُ؛ أَلَا يَرَى أَنَّهُ ذَكَرَ الْغَصْبَ فِيمَا مَرَّ فِي قَوْلِهِ وَإِذَا غَصَبَ عَقَارًا فَهَلَكَ فِي يَدِهِ لَمْ يَضْمَنْهُ وَأَرَادَ بِهِ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيَّ لَا مَحَالَةَ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ الْغَصْبَ مُطْلَقًا فِيمَا يُنْقَلُ فَهُوَ مَمْنُوعٌ جِدًّا. وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ الْمُرَادَ هُوَ الْأَوَّلُ، وَلَا يُرَدُّ جَوَازُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْغَصْبِ الْمَذْكُورِ هَاهُنَا فِي أَكْثَرِ نُسَخِ الْمُخْتَصَرِ الْغَصْبُ اللُّغَوِيُّ دُونَ الشَّرْعِيِّ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى اللُّغَوِيَّ فِي الْمَنْقُولَاتِ الشَّرْعِيَّةِ مَعْنَى مَجَازِيٌّ بِالنَّظَرِ إلَى وَضْعِ أَهْلِ الشَّرْعِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ، بَلْ فِي عِلْمِ الْبَيَانِ أَيْضًا، فَلَا بُدَّ فِي إرَادَةِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ بِالْمَنْقُولَاتِ الشَّرْعِيَّةِ فِي تَخَاطُبِ أَهْلِ الشَّرْعِ مِنْ قَرِينَةٍ وَهَاهُنَا الْقَرِينَةُ مُنْتَفِيَةٌ فَوَجَبَ الْحَمْلُ عَلَى الْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ فِيمَا مَرَّ وَإِذَا غَصَبَ عَقَارًا، فَإِنَّ قَوْلَهُ قُبَيْلَ ذَلِكَ وَالْغَصْبُ فِيمَا يُنْقَلُ وَيُحَوَّلُ قَرِينَةٌ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْغَصْبِ فِي قَوْلِهِ غَصَبَ عَقَارًا مَعْنَاهُ اللُّغَوِيُّ دُونَ الشَّرْعِيِّ تَدَبَّرْ.
(قَوْلُهُ وَلِهَذَا تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْغَصْبِ) أَقُولُ: فِيهِ شَيْءٌ، وَهُوَ أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ مَسْأَلَتَنَا هَذِهِ تَعُمُّ الْمِثْلِيَّ وَغَيْرَ الْمِثْلِيِّ مِنْ الْمَنْقُولَاتِ لِعُمُومِ الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ فِي جَوَابِهَا كُلًّا مِنْهُمَا، مَعَ أَنَّ قَوْلَهُ وَلِهَذَا تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْغَصْبِ لَا يَتَمَشَّى فِي صُورَةِ الْمِثْلِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رحمهم الله، إذْ قَدْ تَقَرَّرَ فِيمَا مَرَّ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي هَاتِيك الصُّورَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْخُصُومَةِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ قِيمَتُهُ يَوْمَ الِانْقِطَاعِ فَلَمْ يَتِمَّ التَّقْرِيبُ لِكَوْنِ الْمَسْأَلَةِ اتِّفَاقِيَّةً
(قَوْلُهُ وَإِنْ نَقَصَ فِي يَدِهِ ضَمِنَ النُّقْصَانَ؛ لِأَنَّهُ يَدْخُلُ جَمِيعُ أَجْزَائِهِ فِي ضَمَانِهِ بِالْغَصْبِ، فَمَا تَعَذَّرَ رَدُّ عَيْنِهِ يَجِبُ رَدُّ قِيمَتِهِ) أَقُولُ: فِي هَذَا التَّعْلِيلِ قُصُورٌ، إذْ قَدْ صَرَّحَ فِي عَامَّةِ الشُّرُوحِ بِأَنَّ مَسْأَلَتَنَا هَذِهِ تَعُمُّ مَا كَانَ النُّقْصَانُ فِي بَدَنِ الْمَغْصُوبِ مِثْلَ أَنْ كَانَ جَارِيَةً فَاعْوَرَّتْ أَوْ نَاهِدَةَ الثَّدْيَيْنِ فَانْكَسَرَ ثَدْيُهَا، وَمَا كَانَ فِي غَيْرِ بَدَنِهِ مِثْلَ أَنْ كَانَ عَبْدًا مُحْتَرِفًا فَنَسِيَ الْحِرْفَةَ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ التَّعْلِيلَ الْمَذْكُورَ لَا يَتَمَشَّى فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ؛ لِأَنَّ النُّقْصَانَ
بِخِلَافِ تَرَاجُعِ السِّعْرِ إذَا رَدَّ فِي مَكَان الْغَصْبِ؛ لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ فُتُورِ الرَّغَبَاتِ دُونَ فَوْتِ الْجُزْءِ، وَبِخِلَافِ الْمَبِيعِ؛ لِأَنَّهُ ضَمَانُ عَقْدٍ. أَمَّا الْغَصْبُ فَقَبْضٌ وَالْأَوْصَافُ تُضْمَنُ بِالْفِعْلِ لَا بِالْعَقْدِ عَلَى مَا عُرِفَ. قَالَ رضي الله عنه: وَمُرَادُهُ غَيْرُ الرِّبَوِيِّ، أَمَّا فِي الرِّبَوِيَّات لَا يُمْكِنُهُ تَضْمِينُ النُّقْصَانِ مَعَ اسْتِرْدَادِ الْأَصْلِ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى الرِّبَا. .
قَالَ (وَمَنْ غَصَبَ عَبْدًا فَاسْتَغَلَّهُ فَنَقَصَتْهُ الْغَلَّةُ فَعَلَيْهِ النُّقْصَانُ)؛ لِمَا بَيَّنَّا (وَيَتَصَدَّقُ بِالْغَلَّةِ) قَالَ رضي الله عنه وَهَذَا عِنْدَهُمَا أَيْضًا.
فِيهَا مِنْ حَيْثُ الْأَوْصَافُ دُونَ الْأَجْزَاءِ. فَالْأَوْلَى فِي التَّعْلِيلِ أَنْ يُقَالَ: لِأَنَّهُ يَدْخُلُ جَمِيعُ أَجْزَائِهِ وَأَوْصَافِهِ فِي ضَمَانه بِالْغَصْبِ فَإِنَّهُ أَوْفَى بِالصُّورَتَيْنِ مَعًا وَأَوْفَقُ لِقَوْلِهِ الْآتِي: وَبِخِلَافِ الْمَبِيعِ؛ لِأَنَّهُ ضَمَانُ عَقْدٍ، أَمَّا الْغَصْبُ فَقَبْضٌ، وَالْأَوْصَافُ تُضْمَنُ بِالْفِعْلِ لَا بِالْعَقْدِ عَلَى مَا عُرِفَ تَأَمَّلْ تَقِفْ (قَوْلَهُ وَمُرَادُهُ غَيْرُ الرِّبَوِيِّ، أَمَّا فِي الرِّبَوِيَّاتِ لَا يُمْكِنُهُ تَضْمِينُ النُّقْصَانِ مَعَ اسْتِرْدَادِ الْأَصْلِ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى الرِّبَا) يَعْنِي أَنَّ مُرَادَ الْقُدُورِيِّ بِقَوْلِهِ وَإِنْ نَقَصَ فِي يَدِهِ ضَمِنَ النُّقْصَانَ غَيْرَ الرِّبَوِيِّ، وَأَمَّا فِي الرِّبَوِيَّاتِ: أَيْ فِي الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ الَّتِي لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا بِجِنْسِهَا مُتَفَاضِلًا فَلَا يُمْكِنُ لِلْمَالِكِ تَضْمِينُ النُّقْصَانِ فِي الْوَصْفِ مَعَ اسْتِرْدَادِ الْأَصْلِ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى الرِّبَا، هَذَا فَحْوَى كَلَامِهِ.
أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: عَدَمُ إمْكَانِ ذَلِكَ مُسَلَّمٌ فِيمَا إذَا كَانَ نُقْصَانُ الرِّبَوِيَّاتِ فِي الْأَوْصَافِ كَمَا إذَا غَصَبَ حِنْطَةً تَعَفَّنَتْ فِي يَدِهِ، إذْ لَا اعْتِبَارَ لِلتَّفَاوُتِ فِي الْوَصْفِ عِنْدَنَا فِي الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ فَيُؤَدِّي تَضْمِينُ النُّقْصَانِ فِي الْوَصْفِ مَعَ اسْتِرْدَادِ الْأَصْلِ إلَى الرِّبَا لَا مَحَالَةَ، وَأَمَّا فِيمَا إذَا كَانَ نُقْصَانُهَا فِي الْأَجْزَاءِ كَمَا إذَا غَصَبَ كَيْلِيًّا أَوْ وَزْنِيًّا فَتَلِفَ بَعْضُ أَجْزَائِهِ فَنَقَصَ قَدْرُهُ كَيْلًا أَوْ وَزْنًا فَيُمْكِنُ لِصَاحِبِ الْمَالِ تَضْمِينَ النُّقْصَانِ مَعَ اسْتِرْدَادِ الْبَاقِي مِنْ الْأَصْلِ بِلَا تَأَدٍّ إلَى الرِّبَا أَصْلًا كَمَا لَا يَخْفَى، فَمَا مَعْنَى تَخْصِيصِ مُرَادِ الْقُدُورِيِّ بِغَيْرِ الرِّبَوِيِّ، وَالْقَوْلُ بِعَدَمِ إمْكَانِ تَضْمِينِ النُّقْصَانِ مَعَ اسْتِرْدَادِ الْأَصْلِ فِي الرِّبَوِيَّاتِ مُطْلَقًا فَتَأَمَّلْ.
وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ: قَالَ الْمُصَنِّفُ: وَمُرَادُهُ أَيْ مُرَادُ الْقُدُورِيِّ بِقَوْلِهِ وَإِنْ نَقَصَ فِي يَدِهِ ضَمِنَ النُّقْصَانَ غَيْرَ الرِّبَوِيِّ، أَمَّا فِي الرِّبَوِيَّاتِ كَمَا إذَا غَصَبَ حِنْطَةً فَعَفِنَتْ عِنْدَهُ أَوْ إنَاءَ فِضَّةٍ فَانْهَشَمَ فِي يَدِهِ فَلَا يُمْكِنُهُ تَضْمِينَ النُّقْصَانِ مَعَ اسْتِرْدَادِ الْأَصْلِ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى الرِّبَا، لَكِنَّ صَاحِبَهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ ذَلِكَ بِعَيْنِهِ وَلَا شَيْءَ لَهُ غَيْرَهُ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ وَضَمَّنَهُ مِثْلَهُ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ. أَقُولُ: تَقْرِيرُ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ هَاهُنَا وَإِنْ كَانَ مُطَابِقًا لِمَا ذُكِرَ فِي الْكَافِي وَمَا ذُكِرَ فِي النِّهَايَةِ نَقْلًا عَنْ الْإِيضَاحِ إلَّا أَنَّهُ مَنْظُورٌ فِيهِ عِنْدِي.
أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُ قَدْ صَرَّحَ فِي شُرُوحِ الْهِدَايَةِ فِيمَا مَرَّ حَتَّى الْعِنَايَةِ نَفْسِهَا
وَعِنْدَهُ لَا يَتَصَدَّقُ بِالْغَلَّةِ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا أَجَّرَ الْمُسْتَعِيرُ الْمُسْتَعَارَ. لِأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ حَصَلَ فِي ضَمَانِهِ وَمِلْكِهِ. أَمَّا الضَّمَانُ فَظَاهِرٌ، وَكَذَا الْمِلْكُ؛ لِأَنَّ الْمَضْمُونَاتِ تُمْلَكُ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ مُسْتَنِدًا عِنْدَنَا. وَلَهُمَا أَنَّهُ حَصَلَ بِسَبَبٍ خَبِيثٍ وَهُوَ التَّصَرُّفُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ، وَمَا هَذَا حَالُهُ فَسَبِيلُهُ التَّصَدُّقُ، إذْ الْفَرْعُ يَحْصُلُ عَلَى وَصْفِ الْأَصْلِ وَالْمِلْكُ الْمُسْتَنِدُ نَاقِصٌ فَلَا يَنْعَدِمُ بِهِ الْخَبَثُ.
(فَلَوْ هَلَكَ الْعَبْدُ فِي يَدِ الْغَاصِبِ حَتَّى ضَمِنَهُ لَهُ أَنْ يَسْتَعِينَ بِالْغَلَّةِ فِي أَدَاءِ الضَّمَانِ)؛ لِأَنَّ الْخَبَثَ لِأَجَلِ الْمَالِكِ، وَلِهَذَا لَوْ أَدَّى إلَيْهِ يُبَاحُ لَهُ التَّنَاوُلُ فَيَزُولُ الْخَبَثُ بِالْأَدَاءِ إلَيْهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَهُ فَهَلَكَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي ثُمَّ اُسْتُحِقَّ وَغَرِمَهُ
وَفِي سَائِرِ الْمُعْتَبَرَاتِ أَيْضًا بِأَنَّ الْوَزْنِيَّ الَّذِي فِي تَبْعِيضِهِ مَضَرَّةٌ كَالْمَصُوغِ مِنْ الْقُمْقُمِ وَالطَّسْتِ لَيْسَ بِمِثْلِيٍّ بَلْ هُوَ مِنْ ذَوَاتِ الْقِيَمِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ إنَاءَ فِضَّةٍ مِنْ ذَلِكَ الْقَبِيلِ فَكَيْفَ يَتِمُّ تَمْثِيلُ الرِّبَوِيَّاتِ هَاهُنَا بِإِنَاءِ فِضَّةٍ انْهَشَمَ فِي يَدِهِ. وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّهُ كَيْفَ يَصِحُّ قَوْلُهُ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ وَضَمَّنَهُ مِثْلَهُ، وَتَضْمِينُ الْمِثْلِ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ فِي الْمِثْلِيَّاتِ دُونَ ذَوَاتِ الْقِيَمِ الَّتِي مِنْهَا إنَاءُ فِضَّةٍ عَلَى مُقْتَضَى مَا صَرَّحُوا بِهِ كَمَا مَرَّ آنِفًا، فَلَعَلَّ الْحَقَّ فِي حُكْمِ غَصْبِ إنَاءِ فِضَّةٍ إذَا نَقَصَ فِي يَدِهِ مَا نَقَلَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ عَنْ مُخْتَصَرِ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ الْكَرْخِيِّ مِنْ أَنَّ صَاحِبَهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِعَيْنِهِ وَلَا شَيْءَ لَهُ غَيْرُ ذَلِكَ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ مِنْ الذَّهَبِ، وَعِبَارَةُ الْكَرْخِيِّ هَكَذَا: وَإِنْ كَانَ الْإِنَاءُ فِضَّةً فَهُوَ بِالْخِيَارِ، إنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِعَيْنِهِ وَلَا شَيْءَ لَهُ غَيْرَ ذَلِكَ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ مِنْ الذَّهَبِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْإِنَاءُ مِنْ ذَهَبٍ فَهُوَ بِالْخِيَارِ، إنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِعَيْنِهِ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ قِيمَتَهُ مِنْ الْفِضَّةِ انْتَهَتْ.
وَنَقَلَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ مِثْلَ ذَلِكَ عَنْ الْمَبْسُوطِ بِطَرِيقِ التَّفْصِيلِ، غَيْرَ أَنَّ الْوَاقِعَ فِيهِ قَلْبُ فِضَّةٍ بَدَلَ إنَاءِ فِضَّةٍ حَيْثُ قَالَ. وَفِي الْمَبْسُوطِ: وَإِنْ اسْتَهْلَكَ قَلْبَ فِضَّةٍ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ مِنْ الذَّهَبِ مَصُوغًا عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَضْمَنُ قِيمَتَهُ مِنْ جِنْسِهِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ لِلْجُودَةِ وَالرَّدَاءَةِ وَالصَّنْعَةِ فِي الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ قِيمَةٌ، وَعِنْدَنَا لَا قِيمَةَ لَهَا عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ بِجِنْسِهَا، فَلَوْ أَوْجَبْنَا مِثْلَ قِيمَتِهَا مِنْ جِنْسِهَا أَدَّى إلَى الرِّبَا، أَوْ لَوْ أَوْجَبْنَا مِثْلَ وَزْنِهَا كَانَ فِيهِ إبْطَالُ حَقِّ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ عَنْ الْجُودَةِ وَالصَّنْعَةِ، فَلِمُرَاعَاةِ حَقِّهِ وَالتَّحَرُّزِ عَنْ الرِّبَا قُلْنَا يَضْمَنُ الْقِيمَةَ مِنْ الذَّهَبِ مَصُوغًا اهـ
(قَوْلُهُ لِأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ حَصَلَ فِي ضَمَانِهِ وَمِلْكِهِ. أَمَّا الضَّمَانُ فَظَاهِرٌ، وَكَذَا الْمِلْكُ؛ لِأَنَّ الْمَضْمُونَاتِ تُمْلَكُ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ مُسْتَنِدًا عِنْدَنَا) أَقُولُ: فِيهِ نَوْعُ تَأَمُّلٍ؛ لِأَنَّ الَّذِي حَصَلَ فِي ضَمَانِهِ وَمِلْكِهِ إنَّمَا هُوَ الْبَعْضُ الْفَائِتُ مِنْ الْمَغْصُوبِ دُونَ
لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَعِينَ بِالْغَلَّةِ فِي أَدَاءِ الثَّمَنِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْخَبَثَ مَا كَانَ لِحَقِّ الْمُشْتَرِي إلَّا إذَا كَانَ لَا يَجِدُ غَيْرَهُ؛ لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ، وَلَهُ أَنْ يَصْرِفَهُ إلَى حَاجَةِ نَفْسِهِ، فَلَوْ أَصَابَ مَالًا تَصَدَّقَ بِمِثْلِهِ إنْ كَانَ غَنِيًّا وَقْتَ الِاسْتِعْمَالِ، وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِمَا ذَكَرْنَا. .
قَالَ (وَمَنْ غَصَبَ أَلْفًا فَاشْتَرَى بِهَا جَارِيَةً فَبَاعَهَا بِأَلْفَيْنِ ثُمَّ اشْتَرَى بِالْأَلْفَيْنِ جَارِيَةً فَبَاعَهَا بِثَلَاثَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ فَإِنَّهُ يَتَصَدَّقُ بِجَمِيعِ الرِّبْحِ، وَهَذَا عِنْدَهُمَا) وَأَصْلُهُ أَنَّ الْغَاصِبَ أَوْ الْمُودَعَ إذَا تَصَرَّفَ فِي الْمَغْصُوبِ أَوْ الْوَدِيعَةِ وَرَبِحَ لَا يَطِيبُ لَهُ الرِّبْحُ عِنْدَهُمَا، خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ، وَقَدْ مَرَّتْ الدَّلَائِلُ وَجَوَابُهُمَا فِي الْوَدِيعَةِ أَظْهَرُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَنِدُ الْمِلْكُ إلَى مَا قَبْلَ التَّصَرُّفِ لِانْعِدَامِ سَبَبِ الضَّمَانِ فَلَمْ يَكُنْ التَّصَرُّفُ فِي مِلْكِهِ ثُمَّ هَذَا ظَاهِرٌ فِيمَا يَتَعَيَّنُ بِالْإِشَارَةِ، أَمَّا فِيمَا لَا يَتَعَيَّنُ كَالثَّمَنَيْنِ
مَجْمُوعِ الْمَغْصُوبِ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِيمَا إذَا نَقَصَتْهُ الْقِلَّةُ فَوَجَبَ عَلَيْهِ ضَمَانُ النُّقْصَانِ مَعَ اسْتِرْدَادِ الْأَصْلِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْغَلَّةَ: أَيْ الْأُجْرَةَ بِمُقَابَلَةِ مَنَافِعِ مَجْمُوعِ الْعَبْدِ الْمَغْصُوبِ الْمُسْتَغَلِّ لَا بِمُقَابِلَةِ مَنْفَعَةِ وَصْفِهِ الْفَائِتِ فَقَطْ، فَمَا وَجْهُ الْقَوْلِ بِأَنْ لَا يَتَصَدَّقُ بِشَيْءٍ مِنْ الْغَلَّةِ أَصْلًا فَتَفَكَّرْ
(قَوْلَهُ فَلَوْ أَصَابَ مَالًا تَصَدَّقَ بِمِثْلِهِ إنْ كَانَ غَنِيًّا وَقْتَ الِاسْتِعْمَالِ، وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِمَا ذَكَرْنَا) فَسَّرَ جُمْهُورُ الشُّرَّاحِ وَقْتَ الِاسْتِعْمَالِ بِوَقْتِ اسْتِهْلَاكِ الثَّمَنِ، وَنَقَلَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ عَنْ الْمَبْسُوطِ بِعِبَارَةٍ صَرِيحَةٍ فِيهَا فَسَّرُوا بِهِ وَقْتَ الِاسْتِعْمَالِ حَيْثُ قَالَ: وَفِي الْمَبْسُوطِ: فَإِذَا أَصَابَ بَعْدَ ذَلِكَ مَالًا تَصَدَّقَ بِمِثْلِهِ إنْ كَانَ اسْتَهْلَكَ الثَّمَنَ يَوْمَ اسْتَهْلَكَهُ وَهُوَ غَنِيٌّ، وَإِنْ كَانَ مُحْتَاجًا يَوْمَ اسْتَهْلَكَ الثَّمَنَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ اهـ.
أَقُولُ: فِيهِ إشْكَالٌ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ غَنِيًّا وَقْتَ اسْتِهْلَاكِ الثَّمَنِ وَيَصِيرُ فَقِيرًا وَقْتَ الِاسْتِعَانَةِ بِالْغَلَّةِ فِي أَدَاءِ الثَّمَنِ إلَى الْمُشْتَرِي، فَفِي هَذِهِ الصُّورَةِ كَيْفَ يُؤَثِّرُ الْغِنَى السَّابِقُ الثَّابِتُ وَقْتَ اسْتِهْلَاكِ الثَّمَنِ فِي حَقِّ الْغَلَّةِ الْمَصْرُوفَةِ إلَى حَاجَتِهِ فِي حَالِ فَقْرِهِ اللَّاحِقِ حَتَّى يَلْزَمَهُ التَّصَدُّقُ بِمِثْلِهَا عِنْدَ إصَابَتِهِ مَالًا، أَوَ لَا يَرَى أَنَّهُ لَوْ صَرَفَهَا إلَى حَاجَةِ غَيْرِهِ مِنْ سَائِرِ الْفُقَرَاءِ لَمْ يَلْزَمْهُ التَّصَدُّقُ بِمِثْلِهَا مِنْ بَعْدُ أَصْلًا؛ فَفِيمَا إذَا صَرَفَهَا إلَى حَاجَةِ نَفْسِهِ حَالَ فَقْرِهِ كَانَ أَوْلَى بِذَلِكَ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ فِيمَا قَبْلُ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُقَالَ: وَجْهُ تَأْثِيرِ الْغِنَى السَّابِقِ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ هُوَ أَنَّهُ إنْ لَمْ يَسْتَهْلِكْ الثَّمَنَ حَالَ غِنَاهُ بِلَا ضَرُورَةٍ لَاحْتَمَلَ أَنْ يَبْقَى ذَلِكَ الثَّمَنُ إلَى وَقْتِ لُزُومِ أَدَاءِ الثَّمَنِ إلَى الْمُشْتَرِي فَلَا يَحْتَاجُ إلَى الِاسْتِعَانَةِ بِالْغَلَّةِ، لَكِنَّ ذَلِكَ الِاحْتِمَالَ أَمْرٌ مَوْهُومٌ يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ مَدَارًا لِلْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ فَتَدَبَّرْ.
وَفَسَّرَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ وَقْتَ الِاسْتِعْمَالِ الْمَذْكُورِ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ بِوَقْتِ الصَّرْفِ إلَى حَاجَةِ نَفْسِهِ. أَقُولُ: هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ، وَلَكِنْ فِيهِ أَيْضًا شَيْءٌ، وَهُوَ أَنَّ الصَّرْفَ إلَى حَاجَةِ نَفْسِهِ إنَّمَا يَجُوزُ رَأْسًا إذَا كَانَ لَا يَجِدُ غَيْرَ تِلْكَ الْغَلَّةِ كَمَا أَفْصَحَ عَنْهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَعِينَ بِالْغَلَّةِ فِي أَدَاءِ الثَّمَنِ إلَيْهِ إلَّا إذَا كَانَ لَا يَجِدُ غَيْرَهُ، وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ إذَا كَانَ لَا يَجِدُ غَيْرَ ذَلِكَ كَانَ فَقِيرًا أَلْبَتَّةَ فَلَمْ يَكُنْ وَجْهٌ لِتَرْدِيدِ الْمُصَنِّفِ حِينَئِذٍ بِقَوْلِهِ فَلَوْ أَصَابَ مَالًا تَصَدَّقَ بِمِثْلِهِ إنْ كَانَ غَنِيًّا وَقْتَ الِاسْتِعْمَالِ وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، إذْ مَعْنَاهُ فَبَعْدَ أَنْ صَرَفَهَا إلَى حَاجَةِ
فَقَوْلُهُ فِي الْكِتَابِ اشْتَرَى بِهَا إشَارَةً إلَى أَنَّ التَّصَدُّقَ إنَّمَا يَجِبُ إذَا اشْتَرَى بِهَا وَنَقَدَ مِنْهَا الثَّمَنَ. أَمَّا إذَا أَشَارَ إلَيْهَا وَنَقَدَ مِنْ غَيْرِهَا أَوْ نَقَدَ مِنْهَا وَأَشَارَ إلَى غَيْرِهَا أَوْ أَطْلَقَ إطْلَاقًا وَنَقَدَ مِنْهَا بِطِيبٍ لَهُ، وَهَكَذَا قَالَ الْكَرْخِيُّ؛ لِأَنَّ الْإِشَارَةَ إذَا كَانَتْ لَا تُفِيدُ التَّعْيِينَ لَا بُدَّ أَنْ يَتَأَكَّدَ بِالنَّقْدِ لِيَتَحَقَّقَ الْخَبَثُ. وَقَالَ مَشَايِخُنَا: لَا يَطِيبُ لَهُ قَبْلَ أَنْ يَضْمَنَ، وَكَذَا بَعْدَ الضَّمَانِ بِكُلِّ حَالٍ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ لِإِطْلَاقِ الْجَوَابِ فِي الْجَامِعَيْنِ وَالْمُضَارَبَةِ. .
قَالَ (وَإِنْ اشْتَرَى بِالْأَلْفِ جَارِيَةً تُسَاوِي أَلْفَيْنِ فَوَهَبَهَا أَوْ طَعَامًا فَأَكَلَهُ لَمْ يَتَصَدَّقْ بِشَيْءٍ)، وَهَذَا قَوْلُهُمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الرِّبْحَ إنَّمَا يَتَبَيَّنُ عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ.
نَفْسِهِ لَوْ أَصَابَ مَالًا إلَخْ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُقَالَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ غَنِيًّا وَلَا يَجِدُ غَيْرَ ذَلِكَ بِأَنْ كَانَ ابْنَ السَّبِيلِ فَتَأَمَّلْ
(قَوْلَهُ فَقَوْلُهُ فِي الْكِتَابِ اشْتَرَى بِهَا إشَارَةٌ إلَى أَنَّ التَّصَدُّقَ إنَّمَا يَجِبُ إذَا اشْتَرَى بِهَا وَنَقَدَ مِنْهَا) أَقُولُ: فِي عِبَارَةِ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا تَسَامُحٌ؛ لِأَنَّ حَاصِلَهَا يَئُولُ إلَى أَنْ يُقَالَ فَقَوْلُهُ فِي الْكِتَابِ اشْتَرَى بِهَا إشَارَةً إلَى نَفْسِهِ وَإِلَى غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ اشْتَرَى بِهَا فِي قَوْلِهِ إنَّمَا يَجِبُ إذَا اشْتَرَى بِهَا وَنَقَدَ مِنْهَا نَفْسَ مَا فِي الْكِتَابِ، وَقَوْلُهُ وَنَقَدَ مِنْهَا أَمْرٌ مُغَايِرٌ لَهُ، وَلَا مَعْنَى لِلْقَوْلِ بِأَنَّ فِي الشَّيْءِ إشَارَةً إلَى نَفْسِهِ وَإِلَى غَيْرِهِ كَمَا لَا يَخْفَى، فَالظَّاهِرُ أَنْ يُقَالَ: فَقَوْلُهُ فِي الْكِتَابِ اشْتَرَى بِهَا إشَارَةً إلَى أَنَّ التَّصَدُّقَ إنَّمَا يَجِبُ إذَا أَشَارَ إلَيْهَا وَنَقَدَ مِنْهَا إذْ حِينَئِذٍ لَا يَلْزَمُ الْمَحْذُورُ الْمَذْكُورُ، وَتَظْهَرُ الْمُقَابَلَةُ بِقَوْلِهِ بَعْدَهُ: وَأَمَّا إذَا أَشَارَ إلَيْهَا وَنَقَدَ مِنْ غَيْرِهَا أَوْ نَقَدَ مِنْهَا وَأَشَارَ إلَى غَيْرِهَا كَمَا لَا يَذْهَبُ عَلَى ذِي مُسْكَةٍ.
ثُمَّ إنَّ مَأْخَذَ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ ثُمَّ هَذَا ظَاهِرٌ فِيمَا يَتَعَيَّنُ بِالْإِشَارَةِ إلَى قَوْلِهِ وَهُوَ الْمُخْتَارُ لِإِطْلَاقِ الْجَوَابِ فِي الْجَامِعَيْنِ وَالْمُضَارَبَةُ مَا ذَكَرَهُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، وَلَفْظُهُ: إذَا أَشَارَ إلَيْهَا وَنَقَدَ مِنْهَا بَدَلَ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ إذَا اشْتَرَى بِهَا وَنَقَدَ مِنْهَا، فَإِنَّهُ قَالَ هُنَاكَ: وَهَذَا وَاضِحٌ فِيمَا يَتَعَيَّنُ بِالْإِشَارَةِ إلَيْهِ. فَأَمَّا فِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فَقَدْ ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ إذَا اشْتَرَى بِهَا يَتَصَدَّقُ بِالرِّبْحِ وَظَاهِرُ هَذِهِ الْعِبَارَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ بِهَا إذَا أَشَارَ إلَيْهَا وَنَقَدَ مِنْهَا. وَكَانَ الْكَرْخِيُّ يَقُولُ فِي الْمَسْأَلَةِ إنَّ ذَلِكَ عَلَى أَوْجُهٍ: إمَّا أَنْ يُشِيرَ إلَيْهَا وَيَنْقُدَ مِنْهَا، وَإِمَّا أَنْ يُشِيرَ إلَيْهَا وَيَنْقُدَ مِنْ غَيْرِهَا، وَإِمَّا أَنْ يُطْلِقَ إطْلَاقًا وَيَنْقُدَ مِنْهَا أَوْ يُشِيرَ إلَى غَيْرِهَا وَيَنْقُدَ مِنْهَا. وَفِي كُلِّ ذَلِكَ يَطِيبُ إلَّا أَنْ يُشِيرَ إلَيْهَا وَيَنْقُدَ مِنْهَا فَإِنَّ الْإِشَارَةَ إلَيْهَا لَا تُفِيدُ التَّعْيِينَ فَيَسْتَوِي وُجُودُهَا
فَصْلٌ فِيمَا يَتَغَيَّرُ بِعَمَلِ الْغَاصِبِ
قَالَ (وَإِذَا تَغَيَّرَتْ الْعَيْنُ الْمَغْصُوبَةُ بِفِعْلِ الْغَاصِبِ حَتَّى زَالَ اسْمُهَا وَعِظَمُ مَنَافِعُهَا زَالَ مِلْكُ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ عَنْهَا وَمَلَكَهَا الْغَاصِبُ وَضَمِنَهَا، وَلَا يَحِلُّ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِهَا حَتَّى يُؤَدِّيَ بَدَلَهَا، كَمَنْ غَصَبَ شَاةً وَذَبَحَهَا وَشَوَاهَا أَوْ طَبَخَهَا
وَعَدَمُهَا إلَّا أَنْ يَتَأَكَّدَ بِالنَّقْدِ مِنْهَا. قَالَ مَشَايِخُنَا: بَلْ لَا يَطِيبُ بِكُلِّ حَالٍ أَنْ يَتَنَاوَلَ مِنْ الْمُشْتَرِي قَبْلَ أَنْ يَضْمَنَ، وَبَعْدَ الضَّمَانِ لَا يَطِيبُ الرِّبْحُ بِكُلِّ حَالٍ، وَإِطْلَاقُ الْجَوَابِ هَاهُنَا وَالْمُضَارَبَةُ وَالْجَامِعُ الْكَبِيرُ دَلِيلٌ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ وَهُوَ الْمُخْتَارُ، إلَى هُنَا لَفْظُ فَخْرِ الْإِسْلَامِ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ.
وَقَالَ فِي الذَّخِيرَةِ: قَالَ مَشَايِخُنَا: الْفَتْوَى الْيَوْمَ عَلَى قَوْلِ الْكَرْخِيِّ لِكَثْرَةِ الْحَرَامِ دَفْعًا لِلْحَرَجِ عَنْ النَّاسِ، وَعَلَى هَذَا تَقَرَّرَ: أَيْ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ.
(فَصْلٌ فِيمَا يَتَغَيَّرُ بِعَمَلِ الْغَاصِبِ)
قَالَ فِي الْعِنَايَةِ: لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ حَقِيقَةِ الْغَصْبِ وَحُكْمِهِ مِنْ وُجُوبِ رَدِّ الْعَيْنِ أَوْ الْمِثْلِ أَوْ الْقِيمَةِ أَعْقَبَهُ بِذِكْرِ مَا يَزُولُ بِهِ مِلْكُ الْمَالِكِ؛ لِأَنَّهُ عَارِضٌ وَحَقُّهُ الْفَصْلُ عَمَّا قَبْلَهُ اهـ.
أَقُولُ: فِيهِ كَلَامٌ. أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ مَا يَزُولُ بِهِ مِلْكُ الْمَالِكِ وَإِنْ كَانَ عَارِضًا لِأَصِلْ الْغَصْبِ إلَّا أَنَّ رَدَّ الْمِثْلِ أَوْ الْقِيمَةِ مُتَفَرِّعٌ عَلَى تَحَقُّقِ هَذَا الْعَارِضِ، فَإِنَّ مُوجِبَ أَصْلِ الْغَصْبِ إنَّمَا هُوَ رَدُّ الْعَيْنِ، وَلَا يُصَارُ إلَى رَدِّ الْمِثْلِ أَوْ الْقِيمَةِ إلَّا بَعْدَ هَلَاكِ الْعَيْنِ كَمَا تَقَرَّرَ فِيمَا مَرَّ، فَلَمْ يَكُنْ رَدُّ الْمِثْلِ أَوْ الْقِيمَةِ إلَّا بَعْدَ هَلَاكِ الْعَيْنِ حُكْمُ الْغَصْبِ إلَّا بَعْدَ حُدُوثِ ذَلِكَ الْعَارِضِ، فَكَانَ بِالتَّأْخِيرِ أَحْرَى مِنْهُ.
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ كَوْنَ مَا يَزُولُ بِهِ مِلْكُ الْمَالِكِ عَارِضًا إنَّمَا يَقْتَضِي اسْتِحْقَاقَهُ لِلتَّأْخِيرِ لَا لِفَصْلِهِ عَمَّا قَبْلَهُ بِأَنْ يُورِدَ فِي فَصْلٍ عَلَى حِدَةٍ فَلَمْ يَتَّمَ قَوْلُهُ وَحَقُّهُ الْفَصْلُ عَمَّا قَبْلَهُ، وَكَأَنَّ صَاحِبَ الْغَايَةِ تَدَارَكَهُ حَيْثُ قَالَ: لِأَنَّهُ عَارِضٌ فَنَاسَبَ أَنْ يُذْكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ، لَكِنْ لَا يَتِمُّ بِهِ تَمَامَ التَّقْرِيبِ إذْ الْمَقْصُودُ بَيَانُ وَجْهِ ذِكْرِ مَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ الْعَارِضِ مِنْ الْمَسَائِلِ فِي فَصْلٍ عَلَى حِدَةٍ لَا بَيَانُ وَجْهِ مُجَرَّدِ ذِكْرِهِ مُتَأَخِّرًا عَمَّا قَبْلَهُ (قَوْلُهُ وَإِذَا تَغَيَّرَتْ الْعَيْنُ الْمَغْصُوبَةُ بِفِعْلِ الْغَاصِبِ حَتَّى زَالَ اسْمُهَا وَعِظَمُ مَنَافِعِهَا زَالَ مِلْكُ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ عَنْهَا وَمَلَكَهَا الْغَاصِبُ وَضَمِنَهَا، وَلَا يَحِلُّ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِهَا حَتَّى يُؤَدِّيَ بَدَلَهَا) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ: قَوْلُهُ بِفِعْلِ الْغَاصِبِ احْتِرَازٌ عَمَّا إذَا تَغَيَّرَ بِغَيْرِ فِعْلِهِ، مِثْلَ أَنْ صَارَ الْعِنَبُ زَبِيبًا بِنَفْسِهِ أَوْ خَلًّا
أَوْ حِنْطَةً فَطَحَنَهَا أَوْ حَدِيدًا فَاِتَّخَذَهُ سَيْفًا أَوْ صُفْرًا فَعَمِلَهُ آنِيَةٌ) وَهَذَا كُلُّهُ عِنْدَنَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: لَا يَنْقَطِعَ حَقُّ الْمَالِكِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله، غَيْرَ أَنَّهُ إذَا اخْتَارَ أَخْذَ الدَّقِيقِ لَا يُضَمِّنُهُ النُّقْصَانَ عِنْدَهُ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى الرِّبَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُضَمِّنُهُ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَزُولُ مِلْكُهُ عَنْهُ لَكِنَّهُ يُبَاعُ فِي دَيْنِهِ وَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ الْغُرَمَاءِ بَعْدَ مَوْتِهِ. لِلشَّافِعِيِّ أَنَّ الْعَيْنَ بَاقٍ فَيَبْقَى عَلَى مِلْكِهِ
أَوْ الرُّطَبُ تَمْرًا، فَإِنَّ الْمَالِكَ فِيهِ بِالْخِيَارِ، إنْ شَاءَ أَخَذَهُ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ وَضَمَّنَهُ. وَقَوْلُهُ حَتَّى زَالَ اسْمُهَا احْتِرَازٌ عَمَّا إذَا غَصَبَ شَاةً فَذَبَحَهَا فَإِنَّهُ لَمْ يَزُلْ بِالذَّبْحِ مِلْكُ مَالِكِهَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَزُلْ اسْمُهَا. يُقَالُ شَاةٌ مَذْبُوحَةٌ وَشَاةٌ حَيَّةٌ.
وَقَوْلُهُ وَعِظَمُ مَنَافِعِهَا يَتَنَاوَلُ الْحِنْطَةَ إذَا غَصَبَهَا وَطَحَنَهَا، فَإِنَّ الْمَقَاصِدَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِعَيْنِ الْحِنْطَةِ كَجَعْلِهَا هَرِيسَةً وَكِشْكًا وَنَشَاءً وَبَدْرًا وَغَيْرَهَا تَزُولُ بِالطَّحْنِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ تَأْكِيدٌ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ زَالَ اسْمُهَا يَتَنَاوَلُهُ، فَإِنَّهَا إذَا طُحِنَتْ صَارَتْ تُسَمَّى دَقِيقًا لَا حِنْطَةً. إلَى هُنَا لَفْظُ الْعِنَايَةِ.
أَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّ كَوْنَ قَيْدِ وَعِظَمِ مَنَافِعِهَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَذْكُورٌ لِمُجَرَّدِ التَّأْكِيدِ مَعَ وُقُوعِهِ فِي عِبَارَاتٍ عَامَّةِ الْمُعْتَبَرَاتِ مِنْ الْمُطَوَّلَاتِ وَالْمُخْتَصَرَاتِ عَلَى الِاطِّرَادِ بَعِيدٌ جِدًّا لَا تَقْبَلُهُ الطِّبَاعُ السَّلِيمَةُ، فَالْحَمْلُ عَلَيْهِ مِنْ ضِيقِ الْعَطَنِ. وَالصَّوَابُ أَنَّهُ احْتِرَازٌ عَمَّا إذَا غَصَبَ شَاةً فَذَبَحَهَا وَأَرَّبَهَا، فَإِنَّهُ لَا يَزُولُ بِالذَّبْحِ وَالتَّأْرِيبِ مِلْكُ مَالِكِهَا كَمَا سَيَأْتِي فِي الْكِتَابِ، مَعَ أَنَّهُ زَالَ اسْمُهَا بَعْدَ التَّأْرِيبِ وَلَكِنْ لَمْ يَزُلْ عِظَمُ مَنَافِعِهَا وَهُوَ اللَّحْمِيَّةُ كَمَا سَيَأْتِي التَّصْرِيحُ بِهِ فِي عَامَّةِ الشُّرُوحِ حَتَّى الْعِنَايَةِ نَفْسِهَا وَلِهَذَا لَمْ يَزُلْ مِلْكُ مَالِكِهَا عَنْهَا تَدَبَّرْ (قَوْلَهُ غَيْرَ أَنَّهُ إذَا اخْتَارَ أَخْذَ الدَّقِيقِ لَا يُضَمِّنُهُ النُّقْصَانَ عِنْدَهُ) قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ نُقْصَانُ الْقِيمَةِ.
أَقُولُ: ظُهُورُهُ مَمْنُوعٌ، كَيْفَ وَقَدْ قَالَ عَامَّةُ الشُّرَّاحِ فِي بَيَانِ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ فِيمَا سَيَأْتِي: وَلَنَا أَنَّهُ أَحْدَثَ صَنْعَةً مُتَقَوِّمَةً؛ لِأَنَّ قِيمَةَ الْحِنْطَةِ تَزْدَادُ بِجَعْلِهَا دَقِيقًا، وَكَذَا قِيمَةُ الشَّاةِ تَزْدَادُ بِطَبْخِهَا، فَإِذَا ازْدَادَ قِيمَةُ الْحِنْطَةِ بِجَعْلِهَا دَقِيقًا فَأَنَّى يُتَصَوَّرُ هُنَاكَ نُقْصَانُ الْقِيمَةِ، بَلْ الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ نُقْصَانُ الْوَصْفِ كَمَا إذَا عَفِنَتْ، وَقَدْ أَفْصَحَ عَنْهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ حَيْثُ قَالَ: لِأَنَّ الدَّقِيقَ عَيْنُ الْحِنْطَةِ مِنْ وَجْهٍ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ كَمَا قَبْلَ الطَّحْنِ. ثُمَّ قَالَ: وَالدَّلِيلُ عَلَى بَقَاءِ جِنْسِ الْحِنْطَةِ فِيهِ جَرَيَانُ الرِّبَا بَيْنَهُمَا، وَلَا يَجْرِي الرِّبَا إلَّا بِاعْتِبَارِ الْمُجَانَسَةِ. وَقَالَ: فَلَمَّا ثَبَتَتْ الْمُجَانَسَةِ بَيْنَ الْحِنْطَةِ وَدَقِيقِهَا كَانَ أَخْذُ الدَّقِيقِ بِمَنْزِلَةِ أَخْذِ عَيْنِ الْحِنْطَةِ، وَلَوْ أَخَذَ عَيْنَ الْحِنْطَةِ كَانَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ مَعَهَا شَيْئًا آخَرَ لِنُقْصَانِ صِفَتِهَا بِسَبَبِ الْعُفُونَةِ لِأَدَائِهِ إلَى الرِّبَا عَلَى مَا مَرَّ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا اهـ. اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُرَادُ ذَلِكَ الْقَائِلِ أَيْضًا بِنُقْصَانِ الْقِيمَةِ نُقْصَانُهَا بِسَبَبِ فَوَاتِ الْوَصْفِ لَا نُقْصَانَهَا بِمُجَرَّدِ الطَّحْنِ مِنْ غَيْرِ نُقْصَانِ الْوَصْفِ، لَكِنَّ الظَّاهِرَ فِي مِثْلِهِ إضَافَةُ النُّقْصَانِ إلَى الْوَصْفِ لَا إلَى الْقِيمَةِ كَمَا لَا يَخْفَى.
(قَوْلُهُ لِلشَّافِعِيِّ أَنَّ الْعَيْنَ بَاقٍ إلَخْ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: قَوْلُهُ
وَتَتْبَعُهُ الصَّنْعَةُ كَمَا إذَا هَبَّتْ الرِّيحُ فِي الْحِنْطَةِ وَأَلْقَتْهَا فِي طَاحُونَةٍ فَطُحِنَتْ. وَلَا مُعْتَبَرَ بِفِعْلِهِ؛ لِأَنَّهُ مَحْظُورٌ فَلَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِلْمِلْكِ عَلَى مَا عُرِفَ، فَصَارَ كَمَا إذَا انْعَدَمَ الْفِعْلُ أَصْلًا وَصَارَ كَمَا إذَا ذَبَحَ الشَّاةَ الْمَغْصُوبَةَ وَسَلَخَهَا وَأَرَّبَهَا.
وَلَنَا أَنَّهُ أَحْدَثَ صَنْعَةً مُتَقَوِّمَةً صَيَّرَ حَقَّ الْمَالِكِ هَالِكًا مِنْ وَجْهٍ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَبَدَّلَ الِاسْمُ وَفَاتَ مُعْظَمُ الْمَقَاصِدِ وَحَقُّهُ فِي الصَّنْعَةِ قَائِمٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَيَتَرَجَّحُ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي هُوَ فَائِتٌ مِنْ وَجْهٍ، وَلَا نَجْعَلُهُ سَبَبًا لِلْمِلْكِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَحْظُورٌ، بَلْ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ إحْدَاثُ الصَّنْعَةِ،
وَلِلشَّافِعِيِّ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى الرِّبَا. أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا بِسَدِيدٍ، فَإِنَّ الْوَاوَ غَيْرُ مَوْجُودَةٍ هَاهُنَا فِي نُسَخِ الْهِدَايَةِ الصَّحِيحَةِ أَصْلًا، وَلَوْ سُلِّمَ وُجُودُهَا فَالظَّاهِرُ أَنَّهَا لِلِابْتِدَاءِ، إذْ لَوْ كَانَتْ لِلْعَطْفِ عَلَى قَوْلِهِ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى الرِّبَا لَزِمَ الْفَصْلُ بَيْنَ الْمَعْطُوفَيْنِ بِكَلَامٍ أَجْنَبِيٍّ وَهُوَ قَوْلُهُ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَضْمَنُهُ، وَقَوْلُهُ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَزُولُ مِلْكُهُ عَنْهُ إلَخْ.
وَلَا يَخْفَى عَلَى مَنْ لَهُ دُرْبَةٌ بِأَسَالِيبِ الْكَلَامِ رَكَاكَةُ ذَلِكَ جِدًّا وَكَوْنُهُ بِمَعْزِلٍ عَنْ شَأْنِ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ. وَرَدَّ عَلَيْهِ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ بِوَجْهٍ آخَرَ حَيْثُ قَالَ: فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ تَعْلِيلًا لِعَدَمِ جَوَازِ ضَمَانِهِ النُّقْصَانَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ هَذَا خَلَفٌ اهـ.
أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ لِلشَّافِعِيِّ أَنَّ الْعَيْنَ بَاقٍ أَنَّ لَهُ فِي إثْبَاتِ مَذْهَبِهِ كَذَا، وَهَذَا هُوَ الْمَعْنَى أَيْضًا عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ وَلِلشَّافِعِيِّ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى الرِّبَا، إلَّا أَنَّ لَهُ فِي إثْبَاتِ مَذْهَبِ أَبِي يُوسُفَ كَذَا حَتَّى يَلْزَمَ أَنْ يَكُونَ تَعْلِيلًا لِعَدَمِ جَوَازِ ضَمَانِ النُّقْصَانِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، كَيْفَ وَلَوْ لَزِمَ مَا تَوَهَّمَهُ مِنْ الْمَحْذُورِ هَاهُنَا لَلَزِمَ ذَلِكَ فِي كُلِّ مَوْضِعِ الْخِلَافِ يُقَالُ فِيهِ عِنْدَ إقَامَةِ أَدِلَّةِ الْمَذَاهِبِ لَهُ كَذَا وَلَهُ كَذَا وَلَنَا كَذَا، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ الْمَذْكُورَ ثَانِيًا أَوْ ثَالِثًا مِنْ تِلْكَ الْأَدِلَّةِ بِالْوَاوِ مَعْطُوفٌ عَلَى الْأَوَّلِ، مَعَ أَنَّ مُدَّعَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا يُخَالِفُ الْآخَرَ، وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ قَوْلِهِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ.
وَلَنَا أَنَّهُ أَحْدَثَ صَنْعَةً مُتَقَوِّمَةً فَإِنَّهُ مَعْطُوفٌ قَطْعًا عَلَى قَوْلِهِ لِلشَّافِعِيِّ أَنَّ الْعَيْنَ بَاقٍ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ بِتَعْلِيلٍ لِمَا عَلَّلَهُ الشَّافِعِيُّ بِلَا رَيْبٍ. فَالْوَجْهُ فِي صِحَّةِ الْعَطْفِ فِي أَمْثَالِ ذَلِكَ كُلِّهَا أَنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُ لَهُ فِي إثْبَاتِ مَذْهَبِهِ كَذَا وَلَنَا
بِخِلَافِ الشَّاةِ؛ لِأَنَّ اسْمَهَا بَاقٍ بَعْدَ الذَّبْحِ وَالسَّلْخِ، وَهَذَا الْوَجْهُ يَشْمَلُ الْفُصُولَ الْمَذْكُورَةَ وَيَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ غَيْرُهَا فَاحْفَظْهُ. وَقَوْلُهُ وَلَا يَحِلُّ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِهَا حَتَّى يُؤَدِّيَ بَدَلَهَا اسْتِحْسَانٌ، وَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ لَهُ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَزُفَرَ، وَهَكَذَا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، رَوَاهُ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ. وَوَجْهُهُ ثُبُوتُ الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ لِلتَّصَرُّفِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ وَهَبَهُ أَوْ بَاعَهُ جَازَ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «فِي الشَّاةِ الْمَذْبُوحَةِ الْمَصْلِيَّةِ بِغَيْرِ رِضَا صَاحِبِهَا أَطْعِمُوهَا الْأَسَارَى» أَفَادَ الْأَمْرُ بِالتَّصَدُّقِ زَوَالَ مِلْكِ الْمَالِكِ وَحُرْمَةَ الِانْتِفَاعِ لِلْغَاصِبِ قَبْلَ الْإِرْضَاءِ،
فِي إثْبَاتِ مَذْهَبِنَا كَذَا، وَلَا مَحْذُورَ فِيهِ أَصْلًا فَاحْفَظْ هَذَا فَإِنَّهُ يَنْفَعُكَ فِي مَوَاضِعَ شَتَّى (قَوْلُهُ بِخِلَافِ الشَّاةِ؛ لِأَنَّ اسْمَهَا بَاقٍ بَعْدَ الذَّبْحِ وَالسَّلْخِ) هَذَا جَوَابٌ عَنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَصَارَ كَمَا إذَا ذَبَحَ الشَّاةَ الْمَغْصُوبَةَ وَسَلَخَهَا وَأَرَّبَهَا، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْعِلَّةَ حُدُوثُ الْفِعْلِ مِنْ الْغَاصِبِ وَعَلَى وَجْهٍ يَتَبَدَّلُ الِاسْمُ، وَاسْمُ الشَّاةِ بَعْدَ الذَّبْحِ بَاقٍ؛ لِأَنَّهُ يُقَال شَاةٌ مَذْبُوحَةٌ مَسْلُوخَةٌ كَمَا يُقَالُ شَاةٌ حَيَّةٌ. فَإِنْ قِيلَ: الْكَلَامُ فِيهَا بَعْدَ التَّأْرِيبِ، وَلَا يُقَالُ شَاةٌ مَأْرُوبَةٌ بَلْ يُقَالُ لَحْمٌ مَأْرُوبٌ فَقَدْ حَصَلَ الْفِعْلُ وَتَبَدَّلَ الِاسْمُ وَلَمْ يَنْقَطِعْ حَقُّ الْمَالِكِ. أُجِيبُ بِأَنَّهُ كَذَلِكَ، إلَّا أَنَّهُ لَمَّا ذَبَحَهَا فَقَدْ أَبْقَى اسْمَ الشَّاةِ فِيهَا مَعَ تَرْجِيحِ جَانِبِ اللَّحْمِيَّةِ فِيهَا إذْ مُعْظَمُ الْمَقْصُودِ مِنْهَا اللَّحْمُ ثُمَّ السَّلْخُ وَالتَّأْرِيبُ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يُفَوِّتُ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالذَّبْحِ بَلْ يُحَقِّقُهُ فَلَا يَكُونُ دَلِيلُ تَبَدُّلِ الْعَيْنِ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ وَغَيْرِهَا. أَقُولُ: الْجَوَابُ الْمَذْكُورُ لَا يَدْفَعُ السُّؤَالَ الْوَارِدَ عَلَى الْمُصَنِّفِ فِيمَا ذَكَرَهُ جَوَابًا عَمَّا اسْتَشْهَدَ بِهِ الشَّافِعِيُّ مِنْ مَسْأَلَةِ ذَبْحِ الشَّاةِ الْمَغْصُوبَةِ وَسَلْخِهَا وَتَأْرِيبِهَا، فَإِنَّهُ عَلَّلَ الْمُخَالَفَةَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا نَحْنُ فِيهِ بِبَقَاءِ اسْمِ الشَّاةِ فِيهَا بَعْدَ الذَّبْحِ وَالسَّلْخِ فَوَرَدَ عَلَيْهِ قَطْعًا أَنْ يُقَالَ: الْكَلَامُ فِي الشَّاةِ الَّتِي ذُبِحَتْ ثُمَّ أُرِّبَتْ، وَلَا شَكَّ أَنَّ اسْمَ الشَّاةِ لَمْ يَبْقَ بَعْدَ التَّأْرِيبِ فَلَمْ تَتَحَقَّقُ الْمُخَالَفَةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ حَيْثُ تَبَدُّلُ الِاسْمِ وَعَدَمِ تَبَدُّلِهِ، فَلَمْ يَصْلُحُ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ جَوَابًا عَمَّا اسْتَشْهَدَ بِهِ الشَّافِعِيُّ. نَعَمْ يُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَمَّا اسْتَشْهَدَ بِهِ الشَّافِعِيُّ بِمَا قُرِّرَ فِي الْجَوَابِ الْمَذْكُورِ، لَكِنَّهُ لَا يَدْفَعُ قُصُورَ مَا أَجَابَ بِهِ الْمُصَنِّفُ عَنْهُ، وَمَدَارُ السُّؤَالِ الْمَزْبُورِ عَلَى ذَلِكَ فَلَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ
وَلِأَنَّ فِي إبَاحَةِ الِانْتِفَاعِ فَتْحُ بَابِ الْغَصْبِ فَيَحْرُمُ قَبْلَ الْإِرْضَاءِ حَسْمًا لِمَادَّةِ الْفَسَادِ وَنَفَاذِ بَيْعِهِ وَهِبَتِهِ مَعَ الْحُرْمَةِ لِقِيَامِ الْمِلْكِ كَمَا فِي الْمِلْكِ الْفَاسِدِ. وَإِذَا أَدَّى الْبَدَلَ يُبَاحُ لَهُ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمَالِكِ صَارَ مُوَفًّى بِالْبَدَلِ فَحَصَلَتْ مُبَادَلَةٌ بِالتَّرَاضِي، وَكَذَلِكَ إذَا أَبْرَأَهُ لِسُقُوطِ حَقِّهِ بِهِ، وَكَذَا إذَا أَدَّى بِالْقَضَاءِ أَوْ ضَمِنَهُ الْحَاكِمُ أَوْ ضَمِنَهُ الْمَالِكُ لِوُجُودِ الرِّضَا مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْضِي إلَّا بِطَلَبِهِ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا غَصَبَ حِنْطَةً فَزَرَعَهَا أَوْ نَوَاةً فَغَرَسَهَا غَيْرَ أَنَّهُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُبَاحُ الِانْتِفَاعُ فِيهِمَا قَبْلَ أَدَاءِ الضَّمَانِ لِوُجُودِ الِاسْتِهْلَاكِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ لِقِيَامِ الْعَيْنِ فِيهِ مِنْ وَجْهٍ. وَفِي الْحِنْطَةِ يَزْرَعُهَا لَا يَتَصَدَّقُ بِالْفَضْلِ عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا، وَأَصْلُهُ مَا تَقَدَّمَ. .
(قَوْلُهُ وَكَذَا إذَا أَدَّى بِالْقَضَاءِ أَوْ ضَمِنَهُ الْحَاكِمُ أَوْ ضَمِنَهُ الْمَالِكُ لِوُجُودِ الرِّضَا مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْضِي إلَّا بِطَلَبِهِ) فِي الْمَعْنَى الْمُرَادِ مِنْ قَوْلِهِ أَوْ ضَمِنَهُ الْحَاكِمُ وَمِنْ قَوْلِهِ أَوْ ضَمِنَهُ الْمَالِكُ نَوْعُ اشْتِبَاهٍ، وَعَنْ هَذَا اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ الشُّرَّاحِ فِي تَفْسِيرِهِمَا، فَقَالَ صَاحِبُ الْكِفَايَةِ فِي شَرْحِ قَوْلِهِ أَوْ ضَمِنَهُ الْحَاكِمُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ مَنْ كَانَ الْقَاضِي وَلِيًّا لَهُ، أَوْ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ قَضَى بِالضَّمَانِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْضِي إلَّا بِطَلَبِهِ اهـ.
وَاخْتَارَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ الِاحْتِمَالَ الْأَوَّلَ حَيْثُ قَالَ فِي بَيَانِ قَوْلِهِ أَوْ ضَمِنَهُ الْحَاكِمُ بِأَنْ كَانَ الْمَغْصُوبُ مَالَ الْيَتِيمِ أَوْ الْغَائِبِ، وَكَذَا اخْتَارَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ حَيْثُ قَالَ فِي تَفْسِيرِ ذَلِكَ: يَعْنِي إذَا كَانَ مَالَ الْيَتِيمِ. أَقُولُ: يَرُدُّ عَلَى الِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ أَنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ فِي التَّعْلِيلِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْضِي إلَّا بِطَلَبِهِ غَيْرُ مُسَاعِدٍ لِذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَنْ كَانَ الْقَاضِي وَلِيًّا لَهُ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ الطَّلَبُ فِي قَضَاءِ الْقَاضِي لَهُ بِحَقِّهِ، بَلْ قَدْ لَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الطَّلَبُ كَمَا إذَا كَانَ الْيَتِيمُ صَغِيرًا جِدًّا وَكَمَا إذَا كَانَ الْغَائِبُ بَعِيدًا غَيْرَ عَالِمٍ بِالْقَضِيَّةِ أَصْلًا. وَيَرُدُّ عَلَى الِاحْتِمَالِ الثَّانِي أَنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ قَبْلَ هَذَا وَكَذَا إذَا أَدَّى بِالْقَضَاءِ يَأْبَى ذَلِكَ، إذْ حِينَئِذٍ يَلْزَمُ التَّكْرَارُ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنْ طَلَبَ الْقَاضِي فِي حُكْمِ طَلَبِ مَنْ كَانَ الْقَاضِي وَلِيًّا لَهُ لِكَوْنِهِ نَائِبًا مَنَابَهُ، فَكَانَ الْقَضَاءُ هُنَاكَ أَيْضًا بِطَلَبِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ حُكْمًا. وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْقَضَاءِ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ ضَمِنَهُ الْحَاكِمُ قَضَى بِالضَّمَانِ مُجَرَّدُ الْقَضَاءِ بِالضَّمَانِ بِدُونِ وُقُوعِ أَدَاءِ الْبَدَلِ مِنْ الْغَاصِبِ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ قُبَيْلَ ذَلِكَ، وَكَذَا إذَا أَدَّى بِالْقَضَاءِ أَدَاءَ الْبَدَلِ بِالْقَضَاءِ فَافْتَرَقَا وَلَا تَكْرَارَ. ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الْكِفَايَةِ: وَمَعْنَى قَوْلِهِ أَوْ ضَمِنَهُ الْمَالِكُ أَخَذَ الضَّمَانَ أَوْ تَرَاضَيَا عَلَى مِقْدَارٍ مِنْ الضَّمَانِ اهـ. أَقُولُ: يَرُدُّ عَلَيْهِ أَيْضًا أَنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ فِيمَا قَبْلُ وَإِذَا أَدَّى الْبَدَلَ يُبَاحُ: يَعْنِي عَنْ هَذَا الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ أَدَاءَ الْغَاصِبِ الْبَدَلَ يَسْتَلْزِمُ أَخْذَ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ الضَّمَانَ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ أَوْ ضَمِنَهُ الْمَالِكُ مُسْتَدْرِكًا. وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِتَضْمِينِ الْمَالِكِ أَخْذُهُ الضَّمَانَ بِغَيْرِ رِضَا الْغَاصِبِ وَبِغَيْرِ الْقَضَاءِ دُونَ مُطْلَقِ أَخْذِ الضَّمَانِ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ فِيمَا قَبْلُ وَإِذَا أَدَّى الْبَدَلَ أَدَاؤُهُ بِرِضَاهُ دُونَ مُطْلَقِ الْأَدَاءِ وَإِلَّا يَلْزَمُ اسْتِدْرَاكُ قَوْلِهِ وَكَذَا إذَا أَدَّى بِالْقَضَاءِ، وَأَدَاؤُهُ بِرِضَاهُ إنَّمَا يَسْتَلْزِمُ أَخْذَ الضَّمَانِ بِرِضَاهُ دُونَ أَخْذِهِ بِغَيْرِ رِضَاهُ فَلَا اسْتِدْرَاكَ.
بَقِيَ الْكَلَامُ فِي قَوْلِ صَاحِبِ الْكِفَايَةِ أَوْ تَرَاضَيَا عَلَى مِقْدَارٍ مِنْ الضَّمَانِ فَإِنَّهُ يَقْتَضِي الِاسْتِدْرَاكَ، إذْ التَّرَاضِي قَدْ كَانَ مُعْتَبَرًا فِي قَوْلِ الْمُصَنِّفِ وَإِذَا أَدَّى الْبَدَلَ يُبَاحُ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ تَعْلِيلُهُ هُنَاكَ بِقَوْلِهِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمَالِكِ صَارَ مُوَفًّى بِالْبَدَلِ فَحَصَلَتْ مُبَادَلَةٌ بِالتَّرَاضِي. وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ أَيْضًا بِأَنَّ الْمُرَادَ هَاهُنَا التَّرَاضِي عَلَى مِقْدَارٍ مِنْ الضَّمَانِ: أَيْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُ، وَالْمُرَادُ فِيمَا تَقَدَّمَ التَّرَاضِي عَلَى أَدَاءِ كُلِّ الضَّمَانِ فَحَصَلَ التَّغَايُرُ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ
قَالَ (وَإِنْ غَصَبَ فِضَّةً أَوْ ذَهَبًا فَضَرَبَهَا دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ أَوْ آنِيَةً لَمْ يَزُلْ مِلْكُ مَالِكِهَا عَنْهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَيَأْخُذُهَا وَلَا شَيْءَ لِلْغَاصِبِ، وَقَالَا: يَمْلِكُهَا الْغَاصِبُ وَعَلَيْهِ مِثْلُهَا)؛ لِأَنَّهُ أَحْدَثَ صَنْعَةً مُعْتَبَرَةً صَيَّرَ حَقَّ الْمَالِكِ هَالِكًا مِنْ وَجْهٍ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ كَسَرَهُ وَفَاتَ بَعْضُ الْمَقَاصِدِ وَالتِّبْرُ لَا يَصْلُحُ رَأْسَ الْمَالِ فِي الْمُضَارَبَاتِ وَالشَّرِكَاتِ وَالْمَضْرُوبُ يَصْلُحُ لِذَلِكَ. وَلَهُ أَنَّ الْعَيْنَ بَاقٍ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الِاسْمَ بَاقٍ وَمَعْنَاهُ الْأَصْلِيُّ الثَّمَنِيَّةُ وَكَوْنُهُ مَوْزُونًا وَأَنَّهُ بَاقٍ حَتَّى يَجْرِيَ فِيهِ الرِّبَا بِاعْتِبَارِهِ وَصَلَاحِيَّتِهِ لِرَأْسِ الْمَالِ مِنْ أَحْكَامِ الصَّنْعَةِ دُونَ الْعَيْنِ، وَكَذَا الصَّنْعَةُ فِيهَا غَيْرُ مُتَقَوِّمَةٍ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّهُ لَا قِيمَةَ لَهَا عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ بِجِنْسِهَا. .
قَالَ (وَمِنْ غَصَبَ سَاجَةً فَبَنَى عَلَيْهَا زَالَ مِلْكُ مَالِكِهَا عَنْهَا وَلَزِمَ الْغَاصِبَ قِيمَتُهَا) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لِلْمَالِكِ أَخْذُهَا، وَالْوَجْهُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ قَدَّمْنَاهُ.
وَانْدَفَعَ الِاسْتِدْرَاكُ، لَكِنْ لَا يَخْفَى عَلَى ذِي فِطْرَةٍ سَلِيمَةٍ أَنَّ حَمْلَ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ أَوْ ضَمِنَهُ الْمَالِكُ عَلَى التَّرَاضِي عَلَى مِقْدَارٍ مِنْ الضَّمَانِ مِمَّا لَا يُسَاعِدُهُ اللَّفْظُ جِدًّا، وَلَا يُفْهَمُ مِنْهُ ذَلِكَ الْمَعْنَى مِنْ حَيْثُ الْعَرَبِيَّةُ أَصْلًا. وَقَالَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ أَوْ ضَمِنَهُ الْمَالِكُ: أَيْ طَلَبَ الْمَالِكُ مِنْ الْغَاصِبِ الضَّمَانَ بِحِلِّ الِانْتِفَاعِ قَبْلَ أَدَاءِ الضَّمَانِ اهـ، وَاقْتَفَى أَثَرَهُ الشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ. أَقُولُ: فِيهِ أَيْضًا بُعْدٌ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ وَالْمَعْنَى كَمَا لَا يَخْفَى فَتَأَمَّلْ
(قَوْلُهُ وَمَنْ غَصَبَ سَاجَةً فَبَنَى عَلَيْهَا زَالَ مِلْكُ مَالِكِهَا عَنْهَا وَلَزِمَ الْغَاصِبَ قِيمَتُهَا) ذَكَرَ فِي الذَّخِيرَةِ أَنَّ ذَلِكَ فِيمَا إذَا كَانَتْ قِيمَةُ الْبِنَاءِ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَةِ السَّاجَةِ. وَأَمَّا إذَا كَانَتْ قِيمَةُ السَّاجَةِ أَكْثَرَ مِنْ الْبِنَاءِ فَلَمْ يَزُلْ
وَوَجْهٌ آخَرُ لَنَا فِيهِ أَنَّ فِيمَا ذَهَبَ إلَيْهِ إضْرَارًا بِالْغَاصِبِ بِنَقْضِ بِنَائِهِ الْحَاصِلِ مِنْ غَيْرِ خَلَفٍ، وَضَرَرُ الْمَالِكِ فِيمَا ذَهَبْنَا إلَيْهِ مَجْبُورٌ بِالْقِيمَةِ، فَصَارَ كَمَا إذَا خَاطَ بِالْخَيْطِ الْمَغْصُوبِ بَطْنَ جَارِيَتِهِ أَوْ عَبْدَهُ أَوْ أَدْخَلَ اللَّوْحَ الْمَغْصُوبَ فِي سَفِينَتِهِ. ثُمَّ قَالَ الْكَرْخِيُّ وَالْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرَ: إنَّمَا لَا يُنْقَضُ إذَا بَنَى فِي حَوَالِي السَّاجَةِ،
مِلْكُ مَالِكِهَا اهـ. قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ نَقْلِ مَا فِي الذَّخِيرَةِ: وَسَيَظْهَرُ لَك وَجْهُ ذَلِكَ إنْ تَأَمَّلْت فِي قَوْلِهِ وَجْهٌ آخَرُ لَنَا فِيهِ اهـ.
أَقُولُ: لَا يَذْهَبُ عَلَى مَنْ لَهُ ذَوْقٌ صَحِيحٌ أَنَّهُ لَا يَظْهَرُ وَجْهُ ذَلِكَ بِالتَّأَمُّلِ فِي قَوْلِهِ وَجْهٌ آخَرُ لَنَا فِيهِ؛ لِأَنَّ حَاصِلَهُ أَنَّ ضَرَرَ الْغَاصِبِ فِيمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الشَّافِعِيُّ ضَرَرٌ مِنْ غَيْرِ خَلَفٍ، وَضَرَرُ الْمَالِكِ فِيمَا ذَهَبْنَا إلَيْهِ ضَرَرٌ مَجْبُورٌ بِالْقِيمَةِ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ الضَّرَرَ الْمَجْبُورَ دُونَ الضَّرَرِ الْمَحْضِ فَلَا يَرْتَكِبُ الضَّرَرَ الْأَعْلَى عِنْدَ إمْكَانِ الْعَمَلِ بِالضَّرَرِ الْأَدْنَى. وَلَا يَخْفَى عَلَى ذِي فِطْرَةٍ سَلِيمَةٍ أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي هَذَا الْمَعْنَى بَيْنَ أَنْ يَكُونَ قِيمَةُ الْبِنَاءِ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَةِ السَّاجَةِ وَبَيْنَ الْعَكْسِ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ الضَّرَرَ الْمَحْضَ أَشَدُّ وَأَثْقَلُ مِنْ الضَّرَرِ الْمَجْبُورِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، فَلَا بُدَّ أَنْ يُتَحَمَّلَ الثَّانِي لِدَفْعِ الْأَوَّلِ عَلَى كُلِّ حَالٍ عَمَلًا بِاخْتِيَارِ أَهْوَنِ الشَّرَّيْنِ كَمَا هُوَ الْقَاعِدَةُ الْمُقَرَّرَةُ، وَإِنَّمَا كَانَ يَظْهَرُ وَجْهُ ذَلِكَ لَوْ كَانَ كِلَا الضَّرَرَيْنِ مَجْبُورَيْنِ بِالْقِيمَةِ، فَإِنَّمَا هُوَ أَقَلُّ قِيمَةً حِينَئِذٍ يَكُونُ أَخَفَّ وَأَيْسَرَ تَحَمُّلًا وَلَيْسَ فَلَيْسَ.
ثُمَّ أَقُولُ: لَعَلَّ وَجْهَ ذَلِكَ يَظْهَرُ بِالتَّأَمُّلِ فِي قَوْلِهِ وَالْوَجْهُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ قَدَّمْنَاهُ، فَإِنَّ مَا قَدَّمَهُ مِنْ جَانِبِنَا هُوَ قَوْلُهُ وَلَنَا أَنَّهُ أَحْدَثَ صَنْعَةً مُتَقَوِّمَةً صَيَّرَ حَقَّ الْمَالِكِ هَالِكًا، وَلَا شَكَّ أَنَّ قِيمَةَ الْبِنَاءِ إذَا كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَةِ السَّاجَةِ كَانَ الْبِنَاءُ غَالِبًا عَلَى السَّاجَةِ فَيَصِحُّ إذْ ذَاكَ أَنْ يُقَالَ: إنَّ الْغَاصِبَ أَحْدَثَ صَنْعَةً مُتَقَوِّمَةً صَيَّرَ إحْدَاثُهَا حَقَّ الْمَالِكِ هَالِكًا مِنْ وَجْهٍ لِظُهُورِ صِحَّةِ تَصْيِيرِ الْغَالِبِ الْمَغْلُوبِ هَالِكًا مِنْ وَجْهٍ، وَأَمَّا إذَا كَانَتْ قِيمَةُ السَّاجَةِ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَةِ الْبِنَاءِ فَإِنَّمَا تَكُونُ السَّاجَةُ غَالِبَةً عَلَى الْبِنَاءِ فَيَشْكُلُ هُنَاكَ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ أَحْدَثَ صَنْعَةً مُتَقَوِّمَةً صَيَّرَ حَقَّ الْمَالِكِ هَالِكًا مِنْ وَجْهٍ، إذْ تَصْيِيرُ الْمَغْلُوبِ الْغَالِبَ هَالِكًا غَيْرُ ظَاهِرٍ تَأَمَّلْ تَفْهَمْ (قَوْلَهُ وَوَجْهٌ آخَرُ لَنَا فِيهِ أَنَّ فِيمَا ذَهَبَ إلَيْهِ إضْرَارًا بِالْغَاصِبِ بِنَقْضِ بِنَائِهِ الْحَاصِلِ مِنْ غَيْرِ خَلَفٍ وَضَرَرُ الْمَالِكِ فِيمَا ذَهَبْنَا إلَيْهِ مَجْبُورٌ بِالْقِيمَةِ) بَيَانُهُ أَنَّ فِيمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنها إضْرَارًا بِالْغَاصِبِ؛ لِأَنَّ فِيهِ إبْطَالُ حَقِّهِ، وَفِيمَا قُلْنَا إضْرَارٌ بِالْمَالِكِ، وَلَكِنَّ ضَرَرَ الْمَالِكِ مَجْبُورٌ بِالْعِوَضِ وَهُوَ الْقِيمَةُ، فَكَانَ فَوَاتُ حَقِّهِ كَلَا فَوَاتٍ، وَضَرَرُ الْغَاصِبِ لَيْسَ بِمَجْبُورٍ بِشَيْءٍ فَيَفُوتُ حَقُّهُ لَا إلَى خَلَفٍ، فَكَانَ قَطْعُ حَقِّ الْمَالِكِ أَوْلَى مِنْ قَطْعِ حَقِّ الْغَاصِبِ، كَذَا فِي غَايَةِ الْبَيَانِ.
أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: يُشْكِلُ هَذَا الْوَجْهُ مِنْ التَّعْلِيلِ بِمَا إذَا غَصَبَ سَاحَةً بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ فَبَنَى عَلَيْهَا، فَإِنَّهُ لَا يَزُولُ مِلْكُ الْمَالِكِ عَنْهَا كَمَا سَيَأْتِي فِي الْكِتَابِ مَعَ جَرَيَانِ الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ بِعَيْنِهِ هُنَاكَ أَيْضًا كَمَا لَا يَخْفَى. نَعَمْ يُوجَدُ هُنَاكَ وَجْهٌ آخَرُ فَارَقَ بَيْنَهُمَا، لَكِنَّ الْكَلَامَ فِي انْتِقَاضِ هَذَا الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ فِي مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ بِتِلْكَ الْمَسْأَلَةِ الْآتِيَةِ فَتَأَمَّلْ (قَوْلَهُ كَمَا إذَا خَاطَ بِالْخَيْطِ الْمَغْصُوبِ بَطْنَ جَارِيَتِهِ أَوْ عَبْدِهِ أَوْ أَدْخَلَ اللَّوْحَ الْمَغْصُوبَ فِي سَفِينَتِهِ) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ: فَإِنْ قِيلَ: عَدَمُ جَوَازِ نَزْعِ الْخَيْطِ وَاللَّوْحِ عِنْدَهُ مِنْ حَيْثُ إنَّ فِيهِ تَلَفُ النَّاسِ لَا؛ لِأَنَّ الْمَالِكَ
مَا إذَا بَنَى عَلَى نَفْسِ السَّاجَةِ يُنْقَضُ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِيهِ. وَجَوَابُ الْكِتَابِ يَرُدُّ ذَلِكَ وَهُوَ الْأَصَحُّ. .
قَالَ (وَمِنْ ذَبَحَ شَاةَ غَيْرِهِ فَمَالِكُهَا بِالْخِيَارِ، إنْ شَاءَ ضَمَّنَّهُ قِيمَتَهَا وَسَلَّمَهَا إلَيْهِ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ نُقْصَانَهَا، وَكَذَا الْجَزُورُ، وَكَذَا إذَا قَطَعَ يَدَهُمَا) هَذَا هُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ. وَجْهُهُ أَنَّهُ إتْلَافٌ مِنْ وَجْهٍ بِاعْتِبَارِ
مَلَكَ ذَلِكَ بِمَا صَنَعَ فَلَا يَصْلُحُ لِلِاسْتِشْهَادِ لِاخْتِلَافِ الْمُنَاطِ. قُلْنَا: ثَبَتَ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا حَقُّ الْمَالِكِ وَغَيْرِهِ، وَجَعَلَ حَقَّ غَيْرِهِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ بِإِبْطَالِهِ زِيَادَةُ ضَرَرٍ بِالنِّسْبَةِ إلَى ضَرَرِ الْمَالِكِ فَكَانَتَا مُتَسَاوِيَتَيْنِ اهـ. وَرَدَّ عَلَيْهِ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ بِأَنْ قَالَ: كَيْفَ يُقَاسُ ذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ الْبِنَاءُ وَالسَّاجَةُ كِلَاهُمَا لِشَخْصٍ وَاحِدٍ يُبَاحُ لَهُ نَقْضُ بِنَائِهِ وَإِخْرَاجُ السَّاجَةِ مِنْ تَحْتِهِ، بِخِلَافِ اللَّوْحِ وَالسَّفِينَةِ وَالْخَيْطِ وَالْجَارِيَةِ فَإِنَّهَا لَوْ كَانَتْ لِمَالِكٍ وَاحِدٍ لَا يُبَاحُ لَهُ نَزْعُ الْخَيْطِ وَاللَّوْحِ فَلْيُتَأَمَّلْ اهـ. أَقُولُ: لَيْسَ ذَلِكَ بِشَيْءٍ إذْ لَا يَجِبُ فِي صِحَّةِ الْقِيَاسِ اشْتَرَاك الْمَقِيسِ وَالْمَقِيسِ عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ، بَلْ يَكْفِي اشْتِرَاكُهُمَا فِي الْعِلَّةِ الَّتِي هِيَ مَنَاطُ الْحُكْمِ وَهَاهُنَا كَذَلِكَ فَإِنَّ الْعِلَّةَ فِي الْمَقِيسِ عَلَيْهِ لُحُوقُ زِيَادَةِ ضَرَرٍ بِغَيْرِ الْمَالِكِ عَلَى تَقْدِيرِ إبْطَالِ حَقِّهِ وَهُوَ مُتَحَقِّقٌ فِي الْمَقِيسِ أَيْضًا بِلَا رَيْبٍ، عَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْبِنَاءُ وَالسَّاجَةُ كِلَاهُمَا لِشَخْصٍ وَاحِدٍ صَارَ بِمَعْزِلٍ عَمَّا نَحْنُ فِيهِ، إذْ لَا يَتَحَقَّقُ الْغَصْبُ هُنَاكَ، وَلَا يَكُونُ صَاحِبُ الْبِنَاءِ مُتَصَرِّفًا فِي مِلْكِ الْغَيْرِ حِينَئِذٍ فَلَا يَكُونُ دَاخِلًا فِيمَا وَقَعَ مَقِيسًا هَاهُنَا، وَلَا تَتَحَقَّقُ فِيهِ الْعِلَّةُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي الْمَقِيسِ عَلَيْهِ وَهِيَ لُحُوقُ زِيَادَةِ ضَرَرٍ بِغَيْرِ الْمَالِكِ عَلَى تَقْدِيرِ إبْطَالِ حَقِّهِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ تَعَلُّقٌ بِمَا نَحْنُ فِيهِ وَلَا بِالْقِيَاسِ الْمَذْكُورِ فِيهِ أَصْلًا.
(قَوْلُهُ وَجَوَابُ الْكِتَابِ يَرُدُّ ذَلِكَ) قَالَ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ: وَلَنَا فِي قَوْلِهِ وَجَوَابُ الْكِتَابِ يَرُدُّ ذَلِكَ: أَيْ جَوَابُ مُخْتَصَرِ الْقُدُورِيِّ يَرُدُّ مَا قَالَهُ الْكَرْخِيُّ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الْقُدُورِيَّ يَرْوِي عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْجُرْجَانِيِّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الرَّازِيّ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الْكَرْخِيِّ، فَكَيْفَ يَرُدُّ مُجَرَّدُ جَوَابِ الْقُدُورِيِّ قَوْلَ الْكَرْخِيِّ وَسَنَدُ رِوَايَتِهِ إلَيْهِ. نَعَمْ يَجُوزُ رُجْحَانِ قَوْلِ الْمُتَأَخِّرِ عَلَى الْمُتَقَدِّمِ بِإِقَامَةِ الدَّلِيلِ، أَمَّا بِمُجَرَّدِ الرِّوَايَةِ فَلَا اهـ كَلَامَهُ.
أَقُولُ: نَظَرُهُ سَاقِطٌ؛ لِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ أَنَّ اسْتِنَادَ رِوَايَةِ الْقُدُورِيِّ فِي جَمِيعِ مَسَائِلِ مُخْتَصَرِهِ أَوْ فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِهَا إلَى الْكَرْخِيِّ فَهُوَ مَمْنُوع، كَيْف وَقَدْ صَرَّحَ هَذَا الشَّارِحُ نَفْسُهُ بِأَنَّ الْقُدُورِيَّ قَالَ فِي شَرْحِهِ لِمُخْتَصَرِ الْكَرْخِيِّ: وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ يَقُولُ: الْمَسْأَلَةُ مَوْضُوعَةٌ عَلَى أَنَّهُ بَنَى عَلَى حَوَالَيْ السَّاجَةِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فِي الْبِنَاءِ عَلَى مِلْكِهِ فَلَا يُنْقَضُ.
وَأَمَّا إذَا بَنَى عَلَى نَفْسِ السَّاجَةِ يُنْقَضُ بِنَاؤُهُ؛ لِأَنَّهُ تَعَدَّى فِيهِ. وَكَانَ الْهِنْدُوَانِيُّ يَخْتَارُ هَذَا الْقَوْلَ. وَقَدْ ذَكَرَ فِي كِتَابِ الصَّرْفِ فِيمَنْ غَصَبَ دِرْهَمًا فَجَعَلَهُ عُرْوَةَ مُزَادَةً سَقَطَ حَقُّ مَالِكِهِ، وَالْفِضَّةُ لَا يَسْقُطُ حَقُّ مَالِكِهَا فِيهَا بِالصِّيَاغَةِ، وَإِنَّمَا أَسْقَطَهُ بِكَوْنِهَا تَابِعَةً لِلْمَزَادَةِ، وَهَذَا لَا يَكُونُ إلَّا بِعَمَلٍ يُوقِعُهُ فِيهَا عَلَى وَجْهِ التَّعَدِّي فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَسْأَلَةَ عَلَى إطْلَاقِهَا وَأَنَّهُ لَا حَقَّ لِلْمَالِكِ فِي السَّاجَةِ فِي الْوَجْهَيْنِ.
وَقَالَ: إلَى هُنَا لَفْظُ الْقُدُورِيِّ. وَلَا يَذْهَبُ عَلَيْك أَنَّ مَا نَقَلَهُ عَنْ الْقُدُورِيِّ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْقُدُورِيَّ لَا يَقْبَلُ رِوَايَةَ الْكَرْخِيِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى التَّقْيِيدِ بِأَنْ بَنَى عَلَى حَوَالَيْ السَّاجَةِ، وَيُسْتَدَلُّ عَلَى إطْلَاقِهَا بِمَسْأَلَةِ كِتَابِ الصَّرْفِ كَمَا تَرَى، فَتَعَيَّنَ أَنَّ رِوَايَةَ الْقُدُورِيِّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ بِأَنْ قَالَ فَبَنَى عَلَيْهَا لَا يَسْتَنِدُ إلَى الْكَرْخِيِّ، بَلْ هُوَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ لَهُ وَمُتَمَسِّكٌ بِمَسْأَلَةِ كِتَابِ الصَّرْفِ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ اسْتِنَادَ رِوَايَةِ الْقُدُورِيِّ فِي أَكْثَرِ الْمَسَائِلِ إلَى الْكَرْخِيِّ بِالطَّرِيقِ الْمَزْبُورِ فَهُوَ مُسَلَّمٌ، لَكِنْ لَا يُجْدِي ذَلِكَ هَاهُنَا شَيْئًا فَإِنَّ الْكَلَامَ فِي مَسْأَلَةِ السَّاجَةِ وَهُوَ فِي رِوَايَتِهَا يُخَالِفُ الْكَرْخِيَّ كَمَا عَرَفَتْ.
(قَوْلُهُ وَمَنْ ذَبَحَ شَاةَ غَيْرَهُ فَمَالِكُهَا بِالْخِيَارِ، إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهَا وَسَلَّمَهَا إلَيْهِ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ نُقْصَانَهَا، وَكَذَا الْجَزُورُ) وَهُوَ مَا أُعِدَّ لِلذَّبْحِ مِنْ الْإِبِلِ، مِنْ الْجَزْرِ وَهُوَ
فَوْتِ بَعْضِ الْأَغْرَاضِ مِنْ الْحَمْلِ وَالدَّرِّ وَالنَّسْلِ وَبَقَاءِ بَعْضِهَا وَهُوَ اللَّحْمُ فَصَارَ كَالْخَرْقِ الْفَاحِشِ فِي الثَّوْبِ،
الْقَطْعُ يَقَعُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَهِيَ تُؤَنَّثُ، كَذَا قَالُوا: وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْجَزُورَ بَعْدَمَا ذَكَرَ الْحُكْمَ فِي الشَّاةِ مِنْ الْخِيَارِ بَيْنَ تَضْمِينِ الْقِيمَةِ وَتَضْمِينِ النُّقْصَانِ لِدَفْعِ شُبْهَةٍ تَرِدُ عَلَى اخْتِيَارِ تَضْمِينِ النُّقْصَانِ بِأَنْ يُقَالَ: النُّقْصَانُ بِالذَّبْحِ فِي الشَّاةِ إنَّمَا كَانَ بِسَبَبِ تَفْوِيتِ صَلَاحِيَّتِهَا لِلدَّرِّ وَالنَّسْلِ وَالْجَزُورُ هِيَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلذَّبْحِ فَلَمْ يَكُنْ الدَّرُّ وَالنَّسْلُ مَطْلُوبَيْنِ هَاهُنَا فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَضْمَنَ الْغَاصِبُ النُّقْصَانَ بَلْ اسْتَحَقَّ أَجْرَ الْمِثْلِ مِنْ جِزَارَتِهِ عَلَى الْمَالِكِ؛ لِأَنَّهُ حَقَّقَ مَقْصُودَهُ فِيهَا فَكَانَ زِيَادَةً لَا نُقْصَانًا، كَمَا إذَا غَصَبَ ثَوْبًا فَصَبَغَهُ أَحْمَرَ حَيْثُ يَضْمَنُ الْمَالِكُ لِلْغَاصِبِ مَا زَادَ الصِّبْغُ إذَا اخْتَارَ أَخْذَ الثَّوْبِ لِكَوْنِ صَبْغِ الْحُمْرَةِ زِيَادَةٌ فَدَفَعَ تِلْكَ الشُّبْهَةِ بِقَوْلِهِ وَكَذَا الْجَزُورُ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ نَفْسَ إزَالَةِ الْحَيَاةِ عَنْ الْحَيَوَانِ نُقْصَانٌ فَكَانَ لِلْمَالِكِ الْخِيَارُ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِلْمَالِكِ مَقْصُودٌ فِيهَا سِوَى الدَّرِّ وَالنَّسْلِ مِنْ الِاسْمَانِ وَتَبْقِيَتِهَا إلَى زَمَانٍ لِيُحَصِّلَ مَقَاصِدَهُ مِنْهَا، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ. وَأَفَادَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ خُلَاصَةَ هَذَا الْمَعْنَى بِعِبَارَةٍ أُخْرَى حَيْثُ قَالَ: وَإِنَّمَا خَصَّهُ لِدَفْعِ مَا عَسَى أَنْ يُتَوَهَّمَ أَنَّ غَاصِبَهُ يَجِبُ أَنْ يَسْتَحِقَّ أَجْرَ الْمِثْلِ لِجِزَارَتِهِ عَلَى الْمَالِكِ؛ لِأَنَّهُ حَقَّقَ مَقْصُودَهُ فِيهِ فَكَانَ ذَلِكَ زِيَادَةٌ فِيهِ لَا نُقْصَانًا حَيْثُ أُعِدَّ لِلْجَزْرِ غَيْرُ مَطْلُوبٍ مِنْهُ الدَّرُّ وَالنَّسْلُ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ نَفْسَ إزَالَةِ الْحَيَاةِ عَنْ الْحَيَوَانِ نُقْصَانٌ فَكَانَ لِلْمَالِكِ الْخِيَارُ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ لَهُ فِيهِ مَقْصُودٌ سِوَاهُمَا مِنْ زِيَادَةِ الِاسْمَانِ وَالتَّأْخِيرِ إلَى وَقْتٍ آخَرَ لِمَصْلَحَةٍ لَهُ فِي ذَلِكَ اهـ كَلَامَهُ. .
وَرَدَّ عَلَيْهِ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ قَوْلَهُ وَإِنَّمَا خَصَّهُ لِدَفْعِ مَا عَسَى أَنْ يُتَوَهَّمَ أَنَّ غَاصِبَهُ يَجِبُ أَنْ يَسْتَحِقَّ أَجْرَ الْمِثْلِ حَيْثُ قَالَ: لَا مَجَالَ لِهَذَا التَّوَهُّمِ أَصْلًا؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ غَصْبًا فَهُوَ تَبَرُّعٌ لَا يَسْتَحِقُّ بِهِ الْأَجْرَ. وَقَالَ: فَالْأَوْلَى طَيُّ قَضِيَّةِ اسْتِحْقَاقِ أَجْرِ الْمِثْلِ مِنْ الْبَيْنِ وَيَقُولُ بَدَلَهُ إنَّ ذَابِحَهُ يَجِبُ أَنْ لَا يَكُونَ غَاصِبًا اهـ. أَقُولُ: إنَّ قَوْلَهُ لَا مَجَالَ لِهَذَا التَّوَهُّمِ أَصْلًا تَحَكُّمٌ. وَقَوْلُهُ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ غَصْبًا فَهُوَ تَبَرُّعٌ لَا يَسْتَحِقُّ بِهِ الْأَجْرَ غَيْرَ مُسَلَّمٍ، فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مُتَبَرِّعًا لِمَا زَادَهُ الصَّبْغُ فِيمَا
وَلَوْ كَانَتْ الدَّابَّةُ غَيْرَ مَأْكُولِ اللَّحْمِ فَقَطَعَ الْغَاصِبُ طَرَفَهَا لِلْمَالِكِ أَنْ يُضَمِّنَهُ جَمِيعَ قِيمَتِهَا لِوُجُودِ الِاسْتِهْلَاكِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، بِخِلَافِ قَطْعِ طَرَفِ الْعَبْدِ الْمَمْلُوكِ حَيْثُ يَأْخُذُهُ مَعَ أَرْشِ الْمَقْطُوعِ؛ لِأَنَّ الْآدَمِيَّ يَبْقَى مُنْتَفَعًا بِهِ بَعْدَ قَطْعِ الطَّرَفِ. .
قَالَ (وَمَنْ خَرَقَ ثَوْبَ غَيْرِهِ خَرْقًا يَسِيرًا ضَمِنَ نُقْصَانَهُ وَالثَّوْبُ لِمَالِكِهِ)؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ قَائِمٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَإِنَّمَا دَخَلَهُ عَيْبٌ فَيَضْمَنُهُ (وَإِنْ خَرَقَ خَرْقًا كَبِيرًا يُبْطِلَ عَامَّةَ مَنَافِعِهِ فَلِمَالِكِهِ أَنْ يُضَمِّنَهُ جَمِيعَ قِيمَتِهِ)؛ لِأَنَّهُ اسْتِهْلَاكٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَكَأَنَّهُ أَحْرَقَهُ. قَالَ رضي الله عنه: مَعْنَاهُ يَتْرُكُ الثَّوْبَ عَلَيْهِ: وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الثَّوْبَ وَضَمَّنَهُ النُّقْصَانَ؛ لِأَنَّهُ تَعْيِيبٌ مِنْ وَجْهٍ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْعَيْنَ بَاقٍ، وَكَذَا بَعْضُ الْمَنَافِعِ قَائِمٌ، ثُمَّ إشَارَةُ الْكِتَابِ إلَى
إذَا أَخَذَ ثَوْبَ غَيْرِهِ فَصَبَغَهُ أَحْمَرَ، بَلْ ضَمِنَهُ لِلْمَالِكِ إذَا اخْتَارَ أَخْذَ الثَّوْبِ كَمَا سَيَأْتِي، فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ لَا يَكُونَ مُتَبَرِّعًا لِمَا زَادَهُ الذَّبْحُ فِيمَا إذَا ذَبَحَ جَزُورَ غَيْرِهِ، بَلْ اسْتَحَقَّ أَجْرَ الْمِثْلِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ حَقَّقَ مَقْصُودَ الْمَالِكِ، وَهَذَا الْقَدْرُ مِنْ الْقِيَاسِ إنْ لَمْ يَكُنْ مَنَاطًا لِلِاجْتِهَادِ فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَنْشَأً لِلتَّوَهُّمِ، فَلَا بُدَّ مِنْ دَفْعِ ذَلِكَ التَّوَهُّمِ؟ فَأَشَارَ الْمُصَنِّفُ إلَى دَفْعِهِ بِقَوْلِهِ وَكَذَا الْجَزُورُ وَهَذَا هُوَ مُرَادُ الشُّرَّاحِ هَاهُنَا وَلَا غُبَارَ عَلَيْهِ.
(قَوْلُهُ وَلَوْ كَانَتْ الدَّابَّةُ غَيْرَ مَأْكُولِ اللَّحْمِ فَقَطَعَ الْغَاصِبُ طَرَفهَا لِلْمَالِكِ أَنْ يُضَمِّنَهُ جَمِيعَ قِيمَتِهَا لِوُجُودِ الِاسْتِهْلَاكِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: قِيلَ لَيْسَ لِتَقْيِيدِهِ بِغَيْرِ مَأْكُولِ اللَّحْمِ فَائِدَةٌ، فَإِنَّ حُكْمَ مَأْكُولِهِ أَيْضًا كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ عَطَفَ قَوْلَهُ وَكَذَا إذَا قَطَعَ يَدَهُمَا عَلَى قَوْلِهِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهَا وَسَلَّمَهَا إلَيْهِ وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ نُقْصَانَهَا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمَا فِي الْحُكْمِ سَوَاءٌ. وَمِنْ الشَّارِحِينَ مَنْ قَالَ: هَذَا إنَّمَا هُوَ عَلَى اخْتِيَارِ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ، وَالظَّاهِرُ وُجُوبُ تَضْمِينِ الْقِيمَةِ بِلَا خِيَارٍ فِيهِمَا: يَعْنِي فِي مَأْكُولِ اللَّحْمِ وَغَيْرِ مَأْكُولِهِ إذَا قَطَعَ طَرَفَهُ فَكَانَ فَائِدَةُ ذِكْرِهِ رَدُّ ذَلِكَ الظَّاهِرِ، وَفِيهِ نَظَرٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَفَى أَنْ يَقُولَ: وَكَذَلِكَ إذَا كَانَتْ غَيْرَ مَأْكُولِ اللَّحْمِ. وَالثَّانِي أَنَّ التَّعْلِيلَ يَدُلُّ عَلَى مُغَايَرَةِ الْحُكْمِ بَيْنَ قَطْعِ طَرَفِ مَأْكُولِ اللَّحْمِ وَغَيْرِ مَأْكُولِهِ حَيْثُ قَالَ فِي الْأَوَّلِ: إنَّهُ إتْلَافٌ مِنْ وَجْهٍ، وَفِي الثَّانِي: لِوُجُودِ الِاسْتِهْلَاكِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، إلَى هُنَا لَفْظُ الْعِنَايَةِ اهـ.
أَقُولُ: الْقَائِلُ بِعَدَمِ فَائِدَةِ التَّقْيِيدِ بِغَيْرِ مَأْكُولِ اللَّحْمِ إنَّمَا هُوَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَصَاحِبُ مِعْرَاجِ الدَّارِيَّةِ، وَأَمَّا الْمُرَادُ بِمَنْ قَالَ فِي قَوْلِهِ وَمِنْ الشَّارِحِينَ مَنْ قَالَ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ هُوَ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ إذْ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الشَّارِحِينَ بِمَا يُشْبِهُ الْقَوْلَ الْمَذْكُورَ سِوَى صَاحِبِ الْغَايَةِ، إلَّا أَنَّ مَا نَقَلَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ لَيْسَ عَيْنَ عِبَارَةِ صَاحِبِ الْغَايَةِ أَيْضًا، فَإِنَّ عَيْنَ عِبَارَتِهِ هَكَذَا: هَذَا الْفَرْقُ بَيْنَ مَأْكُولِ اللَّحْمِ وَغَيْرِ مَأْكُولِ اللَّحْمِ فِي قَطْعِ الطَّرَفِ عَلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ، وَالظَّاهِرُ وُجُوبُ تَضْمِينِ جَمِيعِ الْقِيمَةِ فِيهَا بِلَا خِيَارٍ، وَقَدْ مَرَّ مِنْ قَبْلُ هَذَا اهـ.
وَلَا يَخْفَى عَلَى ذِي مُسْكَةٍ أَنَّهُ لَا يَرُدُّ عَلَى هَاتِيك الْعِبَارَةِ شَيْءٌ مِنْ وَجْهَيْ نَظَرِ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ؛ لِأَنَّ مَدَارَ وُرُودِهِمَا عَلَى حَمْلِ مُرَادِ الْمُصَنِّفِ عَلَى تَسْوِيَةِ مَأْكُولِ اللَّحْمِ وَغَيْرِ مَأْكُولِهِ فِي الْحُكْمِ، وَعِبَارَةُ صَاحِبِ الْغَايَةِ تُنَادِي عَلَى حَمْلِ مُرَادِهِ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا حَيْثُ قَالَ: هَذَا الْفَرْقُ بَيْنَ مَأْكُولِ اللَّحْمِ وَغَيْرِ مَأْكُولِ اللَّحْمِ فِي قَطْعِ الطَّرَفِ عَلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ تَبَصَّرْ. ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَالظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ نَفْيَ خِيَارِ الْمَالِكِ بَيْنَ
أَنَّ الْفَاحِشَ مَا يَبْطُلُ بِهِ عَامَّةُ الْمَنَافِعِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْفَاحِشَ مَا يَفُوتُ بِهِ بَعْضُ الْعَيْنِ وَجِنْسُ الْمَنْفَعَةِ وَيَبْقَى بَعْضُ الْعَيْنِ وَبَعْضُ الْمَنْفَعَةِ، وَالْيَسِيرُ مَا لَا يَفُوتُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ الْمَنْفَعَةِ، وَإِنَّمَا يَدْخُلُ فِيهِ النُّقْصَانُ؛ لِأَنَّ مُحَمَّدًا جَعَلَ فِي الْأَصْلِ قَطْعَ الثَّوْبِ نُقْصَانًا فَاحِشًا وَالْفَائِتُ بِهِ بَعْضُ الْمَنَافِعِ. .
قَالَ (وَمَنْ غَصَبَ أَرْضًا فَغَرَسَ فِيهَا أَوْ بَنَى قِيلَ لَهُ
تَضْمِينِ قِيمَتِهَا وَبَيْنَ إمْسَاكِ الْجُثَّةِ وَتَضْمِينِ نُقْصَانِهَا وَيَكُونُ ذَلِكَ اخْتِيَارًا مِنْهُ وَإِنْ كَانَ نَقْلُ الْكُتُبِ عَلَى خِلَافِهِ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي الذَّخِيرَةِ وَالْمُغْنِي فَقَالَ: وَفِي الْمُنْتَقَى: هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ: رَجُلٌ قَطَعَ يَدَ حِمَارٍ أَوْ رِجْلَهُ وَكَانَ لِمَا بَقِيَ قِيمَةٌ فَلَهُ أَنْ يُمْسِكَ وَيَأْخُذَ النُّقْصَانَ اهـ كَلَامَهُ.
أَقُولُ: لِمَانِعٍ أَنْ يَمْنَعَ مُخَالَفَةَ مَا اخْتَارَهُ الْمُصَنِّفُ لِنَقْلِ الْكُتُبِ الْمَذْكُورَةِ؛ لِأَنَّ مَا رَوَاهُ هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ رحمه الله مِنْ جَوَازِ اخْتِيَارِ الْإِمْسَاكِ وَأَخْذِ النُّقْصَانِ فِيمَا إذَا قَطَعَ طَرَفًا مِنْ غَيْرِ مَأْكُولِ اللَّحْمِ مُقَيَّدٌ بِأَنْ كَانَ لِمَا بَقِيَ قِيمَةٌ كَمَا تَرَى، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَا اخْتَارَهُ الْمُصَنِّفُ وُجُوبَ تَضْمِينِ جَمِيعِ الْقِيمَةِ فِيمَا إذَا لَمْ يَكُنْ لِمَا بَعْدَ قَطْعِ الطَّرَفِ قِيمَةٌ، بِدَلَالَةِ قَوْلِهِ لِوُجُودِ الِاسْتِهْلَاكِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُوجَدُ الِاسْتِهْلَاكُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فِيمَا إذَا كَانَ لِمَا بَقِيَ بَعْدَ قَطْعِ الطَّرَفِ قِيمَةٌ، بَلْ يَبْقَى فِيهِ مَنْفَعَةُ الْقِيمَةِ فَيَصِيرُ هَالِكًا مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ، وَكَأَنَّ صَاحِبَ الْكِفَايَةِ تَنَبَّهَ لِذَلِكَ حَيْثُ قَالَ فِي شَرْحِ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ: وَلَوْ كَانَتْ الدَّابَّةُ غَيْرَ مَأْكُولِ اللَّحْمِ فَقَطَعَ الْغَاصِبُ طَرَفَهَا لِلْمَالِكِ أَنْ يُضَمِّنَهُ جَمِيعَ قِيمَتِهَا: أَيْ الْوَاجِبُ هُنَا جَمِيعُ الْقِيمَةِ إذَا لَمْ يَكُنْ لِلدَّابَّةِ مَنْفَعَةٌ بَعْدَ قَطْعِ طَرَفِهَا لِوُجُودِ الِاسْتِهْلَاكِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، أَمَّا إذَا كَانَ لِمَا بَقِيَ قِيمَةٌ فَلَهُ أَنْ يُمْسِكَ وَيَأْخُذَ النُّقْصَانَ، وَنَقَلَ مَا فِي
اقْلَعْ الْبِنَاءَ وَالْغَرْسَ وَرُدَّهَا) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ» وَلِأَنَّ مِلْكَ صَاحِبِ الْأَرْضِ بَاقٍ، فَإِنَّ الْأَرْضَ لَمْ تَصِرْ مُسْتَهْلَكَةً وَالْغَصْبُ لَا يَتَحَقَّقُ فِيهَا، وَلَا بُدَّ لِلْمِلْكِ مِنْ سَبَبٍ فَيُؤْمَرُ الشَّاغِلُ بِتَفْرِيغِهَا، كَمَا إذَا شَغَلَ ظَرْفَ غَيْرِهِ بِطَعَامِهِ (فَإِنْ كَانَتْ الْأَرْضُ تَنْقُصُ بِقَلْعِ ذَلِكَ فَلِلْمَالِكِ أَنْ يُضَمِّنَ لَهُ قِيمَةَ الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ مَقْلُوعًا وَيَكُونَانِ لَهُ)؛ لِأَنَّ فِيهِ نَظَرًا لَهُمَا وَدُفِعَ الضَّرَرُ عَنْهُمَا. وَقَوْلُهُ قِيمَتُهُ مَقْلُوعًا مَعْنَاهُ قِيمَةُ بِنَاءٍ أَوْ شَجَرٍ يُؤْمَرُ بِقَلْعِهِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِيهِ، إذْ لَا قَرَارَ لَهُ فِيهِ فَتَقُومُ الْأَرْضُ بِدُونِ الشَّجَرِ وَالْبِنَاءِ وَتَقُومُ وَبِهَا شَجَرٌ أَوْ بِنَاءٌ، لِصَاحِبِ الْأَرْضِ أَنْ يَأْمُرَهُ بِقَلْعِهِ فَيَضْمَنُ فَضْلَ مَا بَيْنَهُمَا. .
قَالَ (وَمَنْ غَصَبَ ثَوْبًا فَصَبَغَهُ أَحْمَرَ أَوْ سَوِيقًا فَلَتَّهُ بِسَمْنٍ فَصَاحِبُهُ بِالْخِيَارِ، إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَةَ ثَوْبٍ أَبْيَضَ وَمِثْلَ السَّوِيقِ وَسَلَّمَهُ لِلْغَاصِبِ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَهُمَا وَغَرِمَ مَا زَادَ الصَّبْغُ وَالسَّمْنُ فِيهِمَا) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الثَّوْبِ: لِصَاحِبِهِ أَنْ يَمْسِكَهُ وَيَأْمُرَ الْغَاصِبَ بِقَلْعِ الصَّبْغِ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ اعْتِبَارًا بِفَصْلِ السَّاحَةِ
الْمُنْتَقَى مِنْ رِوَايَةِ هِشَامٍ عَنْ مُحَمَّدٍ رحمه الله
(قَوْلُهُ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «لَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ») صَحَّحَهُ فِي الْمُغْرِبِ بِتَنْوِينِ عَرَقٍ حَيْثُ قَالَ: أَيْ لِذِي عَرَقٍ ظَالِمٍ، وَهُوَ الَّذِي يَغْرِسُ فِي الْأَرْضِ غَرْسًا عَلَى وَجْهِ الِاغْتِصَابِ لِيَسْتَوْجِبَهَا وُصِفَ الْعَرَقُ بِالظُّلْمِ الَّذِي هُوَ صِفَةُ صَاحِبِهِ مَجَازًا، وَقَدْ رُوِيَ بِالْإِضَافَةِ لَيْسَ لِعِرْقِ غَاصِبٍ ثُبُوتٌ بَلْ يُؤْمَرُ بِقَلْعِهِ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ وَغَيْرِهَا.
أَقُولُ: فِيمَا ذَكَرَ فِي الْمُغْرِبِ شَيْءٌ، وَهُوَ أَنَّهُ قَدَّرَ الْمُضَافَ أَوَّلًا حَيْثُ قَالَ: أَيْ لِذِي عَرَقٍ ظَالِمٍ، وَجَعَلَ وَصْفَ الْعَرَقِ بِالظُّلْمِ تَجَوُّزًا ثَانِيًا، وَبَيْنَهُمَا تَنَافُرٌ؛ لِأَنَّهُ إذَا قَدَّرَ الْمُضَافَ يَصِيرُ ظَالِمُ صِفَةً لَهُ لَا لِعَرَقٍ كَمَا قَالُوا فِي قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «مَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ عَتَقَ عَلَيْهِ» أَنَّ قَوْلَهُ مَحْرَمٌ صِفَةُ ذَا وَجَرَّهُ لِلْجِوَارِ فَيَتِمُّ مَعْنَى الْكَلَامِ عَلَى حَقِيقَتِهِ فَلَا يَكُونُ لِلْمَصِيرِ إلَى التَّجَوُّزِ وَجْهٌ، وَعَنْ هَذَا ذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْفَائِقِ مَا ذَكَرَهُ الْمُطَرِّزِيُّ فِي الْمُغْرِبِ خَلَا الْقَوْلِ بِوَصْفِ الْعَرَقِ بِالظُّلْمِ عَلَى سَبِيلِ التَّجَوُّزِ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُرَادُ صَاحِبِ الْمُغْرِبِ بِقَوْلِهِ أَيْ لِذِي عَرَقٍ ظَالِمٍ مُجَرَّدُ تَصْوِيرِ الْمَعْنَى، لَا أَنَّ هُنَاكَ مُضَافًا مَحْذُوفًا مُقَدَّرًا. وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: وَلَا مَجَالَ لِكَوْنِ ظَالِمٍ نَعْتًا لِذِي؛ لِأَنَّهُ مَعْرِفَةٌ اهـ. أَقُولُ: هَذَا الْكَلَامُ مِنْ مِثْلِ ذَلِكَ أَمْرٌ عَجِيبٌ، فَإِنَّ ذَا الَّذِي بِمَعْنَى صَاحِبِ لَا يَكُونُ إلَّا مُضَافًا، وَيَكُونُ نَكِرَةً إنْ أُضِيفَ إلَى نَكِرَةٍ، وَمَعْرِفَةً إنْ أُضِيفَ إلَى مَعْرِفَةٍ. وَعَنْ هَذَا قَالَ الْجَوْهَرِيُّ فِي صِحَاحِهِ: وَأَمَّا ذُو الَّذِي بِمَعْنَى صَاحِبِ فَلَا يَكُونُ إلَّا مُضَافًا، فَإِنْ وَصَفْت بِهِ نَكِرَةً أَضَفْتَهُ إلَى نَكِرَةٍ، وَإِنْ وَصَفْت بِهِ مَعْرِفَةً أَضَفْتَهُ إلَى الْأَلِفِ وَاللَّامِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تُضِيفَهُ إلَى مُضْمَرٍ وَلَا إلَى زَيْدٍ وَمَا أَشْبَهَهُ اهـ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْمُضَافَ إلَيْهِ الَّذِي فِيمَا نَحْنُ فِيهِ هُوَ عَرَقٌ نَكِرَةٌ فَيَكُونُ الْمُضَافُ أَيْضًا نَكِرَةً، فَلَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ وَلَا مَجَالَ لِكَوْنِ ظَالِمٍ نَعْتًا لِذِي؛ لِأَنَّهُ مَعْرِفَةٌ، وَكَأَنَّ وَهْمَهُ ذَهَبَ إلَى ذِي الَّتِي هِيَ مُؤَنَّثُ ذَا مِنْ أَسْمَاءِ الْإِشَارَةِ الَّتِي هِيَ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَعَارِفِ. وَنِعْمَ مَا قَالُوا: لِكُلِّ جَوَادٍ كَبْوَةٌ، وَلِكُلِّ صَارِمٍ نَبْوَةٌ.
(قَوْلُهُ وَلِأَنَّ مِلْكَ صَاحِبِ الْأَرْضِ بَاقٍ فَإِنَّ الْأَرْضَ لَمْ تَصِرْ مُسْتَهْلَكَةً وَالْغَصْبُ لَا يَتَحَقَّقُ فِيهَا إلَخْ) أَقُولُ: لِمُتَوَهِّمٍ أَنْ يَتَوَهَّمَ أَنَّ قَوْلَهُ فِي التَّعْلِيلِ وَالْغَصْبِ لَا يَتَحَقَّقُ فِيهَا يُنَافِي وَضْعَ الْمَسْأَلَةِ فِي الْغَصْبِ بِأَنْ قَالَ: وَمَنْ غَصَبَ أَرْضًا فَغَرَسَ فِيهَا أَوْ بَنَى. فَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْغَصْبِ الْمَذْكُورِ فِي وَضْعِ الْمَسْأَلَةِ هُوَ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيُّ، وَبِالْغَصْبِ الْمَنْفِيِّ تَحَقُّقُهُ فِي الْأَرْضِ فِي أَثْنَاءِ
بَنَى فِيهَا؛ لِأَنَّ التَّمْيِيزَ مُمْكِنٌ، بِخِلَافِ السَّمْنِ فِي السَّوِيقِ؛ لِأَنَّ التَّمْيِيزَ مُتَعَذِّرٌ. وَلَنَا مَا بَيَّنَّا أَنَّ فِيهِ رِعَايَةَ الْجَانِبَيْنِ وَالْخِيَرَةُ لِصَاحِبِ الثَّوْبِ لِكَوْنِهِ صَاحِبَ الْأَصْلِ، بِخِلَافِ السَّاحَةِ بَنَى فِيهَا؛ لِأَنَّ النَّقْضَ لَهُ بَعْدَ النَّقْضِ؛ أَمَّا الصِّبْغُ فَيَتَلَاشَى، وَبِخِلَافِ مَا إذَا انْصَبَغَ بِهُبُوبِ الرِّيحِ؛ لِأَنَّهُ لَا جِنَايَةَ مِنْ صَاحِبِ الصَّبْغِ لِيَضْمَنَ الثَّوْبَ فَيَتَمَلَّكُ صَاحِبُ الْأَصْلِ الصِّبْغَ. قَالَ أَبُو عِصْمَةَ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ: وَإِنْ شَاءَ رَبُّ الثَّوْبِ بَاعَهُ وَيَضْرِبُ بِقِيمَتِهِ أَبْيَضَ وَصَاحِبُ الصَّبْغِ بِمَا زَادَ الصِّبْغُ فِيهِ؛ لِأَنَّ لَهُ أَنْ لَا يَتَمَلَّكَ الصَّبْغَ بِالْقِيمَةِ، وَعِنْدَ امْتِنَاعِهِ تَعَيَّنَ رِعَايَةُ الْجَانِبَيْنِ فِي الْبَيْعِ وَيَتَأَتَّى، هَذَا فِيمَا إذَا انْصَبَغَ الثَّوْبُ بِنَفْسِهِ، وَقَدْ ظَهَرَ بِمَا ذَكَرْنَا لِوَجْهٍ فِي السَّوِيقِ، غَيْرَ أَنَّ السَّوِيقَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ فَيَضْمَنُ مِثْلَهُ وَالثَّوْبُ مِنْ ذَوَاتِ الْقِيَمِ فَيَضْمَنُ قِيمَتَهُ. وَقَالَ فِي الْأَصْلِ: يَضْمَنُ قِيمَةَ السَّوِيقِ؛ لِأَنَّ السَّوِيقَ يَتَفَاوَتُ بِالْقَلْيِ فَلَمْ يَبْقَ مِثْلِيًّا. وَقِيلَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْمِثْلُ سَمَّاهُ بِهِ لِقِيَامِهِ مَقَامَهُ، وَالصُّفْرَةُ كَالْحُمْرَةِ. وَلَوْ صَبَغَهُ أَسْوَدَ فَهُوَ نُقْصَانٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا زِيَادَةٌ. وَقِيلَ هَذَا اخْتِلَافُ عَصْرٍ وَزَمَانٍ. وَقِيلَ إنْ كَانَ ثَوْبًا يُنْقِصُهُ السَّوَادُ فَهُوَ نُقْصَانٌ، وَإِنْ كَانَ ثَوْبًا يُزِيدُ فِيهِ السَّوَادُ فَهُوَ كَالْحُمْرَةِ وَقَدْ عُرِفَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَلَوْ كَانَ ثَوْبًا تُنْقِصُهُ الْحُمْرَةُ بِأَنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا فَتَرَاجَعَتْ بِالصَّبْغِ إلَى عِشْرِينَ، فَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يُنْظَرُ إلَى ثَوْبٍ تُزِيدُ فِيهِ الْحُمْرَةُ، فَإِنْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ خَمْسَةً يَأْخُذُ ثَوْبَهُ وَخَمْسَةَ دَرَاهِمَ؛ لِأَنَّ إحْدَى الْخَمْسَتَيْنِ جُبِرَتْ بِالصَّبْغِ.
التَّعْلِيلِ هُوَ مَعْنَاهُ الشَّرْعِيُّ عَلَى أَصْلِ أَئِمَّتِنَا فَلَا مُنَافَاةَ. وَقَالَ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ: قَدْ مَرَّ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الْغَصْبِ عِنْدَ قَوْلِهِ وَالْغَصْبُ فِيمَا يُنْقَلُ وَيُحَوَّلُ أَنَّ عِبَارَاتِ مَشَايِخِنَا اخْتَلَفَتْ فِي غَصْبِ الدُّورِ وَالْعَقَارِ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَتَحَقَّقُ فِيهَا الْغَصْبُ، وَلَكِنْ لَا عَلَى وَجْهٍ يُوجِبُ الضَّمَانَ، وَإِلَيْهِ مَالَ الْقُدُورِيُّ فِي قَوْلِهِ وَإِذَا غَصَبَ عَقَارًا فَهَلَكَ لَمْ يَضْمَنْهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، فَعَلَى هَذَا لَا يَرِدُ السُّؤَالُ عَلَى قَوْلِهِ وَمَنْ غَصَبَ أَرْضًا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَتَحَقَّقُ فَيُجَابُ عَنْهُ أَنْ يُقَالَ: لَمَّا تَصَوَّرَ بِصُورَةِ الْغَصْبِ سَمَّاهُ غَصْبًا كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {إِلا إِبْلِيسَ} ؛ لِأَنَّهُ تَصَوَّرَ بِصُورَةِ الْمَلَائِكَةِ اهـ كَلَامَهُ. أَقُولُ: قَدْ مَرَّ مِنَّا أَيْضًا هُنَاكَ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ مَشَايِخِنَا: إنَّ الْغَصْبَ الشَّرْعِيَّ يَتَحَقَّقُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ فِي الْعَقَارِ، وَلَوْ قَالَ ذَلِكَ
(فَصْلٌ)
وَمَنْ غَصَبَ عَيْنًا فَغَيَّبَهَا فَضَمَّنَهُ الْمَالِكُ قِيمَتَهَا مَلَكَهَا وَهَذَا عِنْدَنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَمْلِكُهَا لِأَنَّ الْغَصْبَ عُدْوَانٌ مَحْضٌ فَلَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِلْمِلْكِ كَمَا فِي الْمُدَبَّرِ. وَلَنَا أَنَّهُ مَلَكَ الْبَدَلَ بِكَمَالِهِ، وَالْمُبَدَّلُ قَابِلٌ لِلنَّقْلِ مِنْ مِلْكٍ إلَى مِلْكٍ فَيَمْلِكُهُ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ، بِخِلَافِ الْمُدَبَّرِ لِأَنَّهُ غَيْرُ قَابِلٍ لِلنَّقْلِ لِحَقِّ الْمُدَبَّرِ،
لَمَا صَحَّ مِنْهُ أَنْ يَقُولَ لَا عَلَى وَجْهٍ يُوجِبُ الضَّمَانَ، فَإِنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ عِنْدَ هَلَاكِ الْمَغْصُوبِ فِي يَدِ الْغَاصِبِ حُكْمٌ مُقَرَّرٌ لِمُطْلَقِ الْغَصْبِ الشَّرْعِيِّ لَا يَتَخَلَّفُ عَنْهُ عِنْدَ أَحَدٍ، وَإِنَّمَا اغْتَرَّ صَاحِبُ الْغَايَةِ بِاسْتِعْمَالِ بَعْضِ الْمَشَايِخِ لَفْظَ الْغَصْبِ فِي الْعَقَارِ. وَتَوْجِيهُ ذَلِكَ عَلَى طَرَفِ التَّمَامِ بِحَمْلِهِ عَلَى الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ كَمَا قَرَّرْنَاهُ آنِفًا، فَلَا وَجْهَ لِبِنَاءِ عَدَمِ وُرُودِ السُّؤَالِ عَلَى قَوْلِهِ وَمَنْ غَصَبَ أَرْضًا عَلَى الْقَوْلِ بِتَحَقُّقِ الْغَصْبِ الشَّرْعِيِّ فِي الْعَقَارِ، عَلَى أَنَّهُ لَوْ بَنَى عَلَيْهِ لَوَرَدَ السُّؤَالُ عَلَى قَوْلِ الْمُصَنِّفِ فِي تَعْلِيلِ ذَلِكَ، وَالْغَصْبُ لَا يَتَحَقَّقُ فِيهَا إذْ يَلْزَمُ حِينَئِذٍ أَنْ لَا يُطَابِقَ التَّعْلِيلُ الْمُعَلِّلَ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ الَّذِي ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْغَايَةِ عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ الْقَوْلِ بِتَحَقُّقِ الْغَصْبِ فِي الْعَقَارِ بِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ فِي صُورَةِ الْغَصْبِ سَمَّاهُ غَصْبًا فَلَهُ وَجْهٌ؛ وَلَكِنْ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْحَمْلِ عَلَى الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ مَنْدُوحَةٌ عَنْهُ كَمَا لَا يَخْفَى.
(فَصْلٌ)
لَمَّا فَرَغَ مِنْ ذِكْرِ كَيْفِيَّةِ مَا يُوجِبُ الْمِلْكَ لِلْغَاصِبِ بِالضَّمَانِ ذَكَرَ فِي هَذَا الْفَصْلِ مَسَائِلَ مُتَفَرِّقَةً تَتَّصِلُ بِمَسَائِلِ الْغَصْبِ كَمَا هُوَ دَأْبُ الْمُصَنِّفِينَ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ، وَذَكَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ أَيْضًا بِعِبَارَةٍ أَقْصَرَ. أَقُولُ: فِيهِ كَلَامٌ وَهُوَ أَنَّ الْمَذْكُورَ فِي الْفَصْلِ السَّابِقِ مَا يُوجِبُ الْمِلْكَ لِلْغَاصِبِ بِفِعْلِهِ وَعَمَلِهِ لَا بِالضَّمَانِ كَمَا يُشْعِرُ بِهِ هُنَاكَ عِنْوَانُ الْفَصْلِ حَيْثُ قَالَ: فَصْلٌ فِيمَا يَتَغَيَّرُ بِعَمَلِ الْغَاصِبِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَطْعًا قَوْلُهُ: وَإِذَا تَغَيَّرَتْ الْعَيْنُ الْمَغْصُوبَةُ بِفِعْلِ الْغَاصِبِ حَتَّى زَالَ اسْمُهَا وَعَظُمَ مَنَافِعُهَا زَالَ مِلْكُ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ عَنْهَا وَمَلَكَهَا الْغَاصِبُ، وَلَوْ سَلَّمَ ذَلِكَ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَذْكُرَ فِي الْفَصْلِ السَّابِقِ مَا ذَكَرَ فِي صَدْرِ هَذَا الْفَصْلِ وَهُوَ قَوْلُهُ وَمَنْ غَصَبَ عَيْنًا فَغَيَّبَهَا فَضَمَّنَهُ الْمَالِكُ قِيمَتَهَا مَلَكَهَا فَإِنَّهُ مِنْ قَبِيلِ مَا يُوجِبُ الْمِلْكَ لِلْغَاصِبِ بِالضَّمَانِ صَرِيحًا (قَوْلُهُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَمْلِكُهَا؛ لِأَنَّ الْغَصْبَ عُدْوَانٌ مَحْضٌ فَلَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِلْمِلْكِ كَمَا فِي الْمُدَبَّرِ. وَلَنَا أَنَّهُ مَلَكَ الْبَدَلَ بِكَمَالِهِ، وَالْمُبْدَلُ قَابِلٌ لِلنَّقْلِ مِنْ مِلْكٍ إلَى مِلْكٍ فَيَمْلِكُهُ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ شَرْحِ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ: وَكَلَامُهُ يُشِيرُ إلَى أَنَّ سَبَبَ الْمِلْكِ هُوَ الْغَصْبُ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ
نَعَمْ قَدْ يُفْسَخُ التَّدْبِيرُ بِالْقَضَاءِ لَكِنَّ الْبَيْعَ بَعْدَهُ يُصَادِفُ الْقِنَّ.
قَالَ (وَالْقَوْلُ فِي الْقِيمَةِ قَوْلُ الْغَاصِبِ مَعَ يَمِينِهِ) لِأَنَّ الْمَالِكَ يَدَّعِي الزِّيَادَةَ وَهُوَ يُنْكِرُ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ مَعَ يَمِينِهِ (إلَّا أَنْ يُقِيمَ الْمَالِكُ الْبَيِّنَةَ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ)؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتَهُ بِالْحُجَّةِ الْمُلْزِمَةِ.
تَعْلِيلُ الشَّافِعِيِّ بِذَلِكَ مُنَاسِبًا اهـ. وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ حَيْثُ قَالَ: فِيهِ بَحْثٌ، فَإِنَّ عَدَمَ مُنَاسَبَتِهِ لَا يُهِمُّنَا، غَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ وَجْهًا آخَرَ لَنَا فِي الْجَوَابِ اهـ.
أَقُولُ: كَيْفَ لَا يُهِمُّنَا عَدَمُ مُنَاسَبَةِ تَعْلِيلِهِ وَهُوَ خَصْمُنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَتَزْيِيفُ دَلِيلِ خَصْمِنَا مِمَّا يُهِمُّنَا لَا مَحَالَةَ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ سَبَبُ الْمِلْكِ هُوَ الْغَصْبُ عِنْدَنَا لَكَانَ يَنْبَغِي عَلَى الْمُصَنِّفِ بَيَانُ عَدَمِ مُنَاسَبَةِ تَعْلِيلِهِ لِمَا قُلْنَا لِيَتَزَيَّفَ بِهِ دَلِيلُهُ. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ اسْتَغْنَى الْمُصَنِّفُ عَنْ تَزْيِيفِ دَلِيلِهِ بِهَذَا الْوَجْهِ بِمَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ وَلَنَا أَنَّهُ مَلَكَ الْبَدَلَ بِكَمَالِهِ إلَخْ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ ذَلِكَ الْبَعْضُ بِقَوْلِهِ غَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ وَجْهًا آخَرَ لَنَا فِي الْجَوَابِ. قُلْنَا: مَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ وَلَنَا أَنَّهُ مَلَكَ الْبَدَلَ إلَخْ لَا يَصْلُحُ جَوَابًا آخَرَ عَمَّا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ، وَلَا يَنْدَفِعُ بِهِ إشْكَالُ أَنْ يَكُونَ مَا هُوَ عُدْوَانٌ مَحْضٌ سَبَبًا لِلْمِلْكِ كَمَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ فِي تَعْلِيلِهِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ سَبَبُ الْمِلْكِ عِنْدَنَا هُوَ الْغَصْبُ لَمَا تَرَكَ مَنْعَ كَوْنِ الْغَصْبِ سَبَبًا لِلْمِلْكِ عِنْدَنَا فِي الْجَوَابِ عَمَّا قَالَهُ الْخَصْمُ، فَهَلْ يَسْتَغْنِي الْعَاقِلُ عَنْ مِثْلِ هَذَا الْأَمْرِ الْجَلِيِّ الْقَاطِعِ عِنْدَ إمْكَانِ التَّشَبُّثِ بِهِ بِمِثْلِ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِمَّا هُوَ كَثِيرٌ مِنْ الْمُقَدِّمَاتِ خَفِيُّ الدَّلَالَةَ عَلَى دَفْعِ مَا قَالَهُ الْخَصْمُ كَمَا تَرَى، فَصَحَّ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ مِنْ أَنَّ سَوْقَ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا يُشِيرُ إلَى أَنَّ سَبَبَ الْمِلْكِ عِنْدَنَا هُوَ الْغَصْبُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْقَاضِي أَبُو زَيْدٍ فِي الْأَسْرَارِ حَيْثُ قَالَ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: الْغَصْبُ يُفِيدُ الْمِلْكَ فِي الْمَغْصُوبِ عِنْدَ الْقَضَاءِ بِالضَّمَانِ أَوْ التَّرَاضِي عَلَيْهِ (قَوْلُهُ إلَّا أَنْ يُقِيمَ الْمَالِكُ الْبَيِّنَةَ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ) فَإِنْ عَجَزَ الْمَالِكُ عَنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ وَطَلَبَ يَمِينَ الْغَاصِبِ وَلِلْغَاصِبِ بَيِّنَةٌ تَشْهَدُ
قَالَ (فَإِنْ ظَهَرَتْ الْعَيْنُ وَقِيمَتُهَا أَكْثَرُ مِمَّا ضَمِنَ وَقَدْ ضَمِنَهَا بِقَوْلِ الْمَالِكِ أَوْ بِبَيِّنَةٍ أَقَامَهَا أَوْ بِنُكُولِ الْغَاصِبِ عَنْ الْيَمِينِ فَلَا خِيَارَ لِلْمَالِكِ وَهُوَ الْغَاصِبُ)؛ لِأَنَّهُ تَمَّ لَهُ الْمِلْكُ بِسَبَبٍ اتَّصَلَ بِهِ رِضَا الْمَالِكِ حَيْثُ ادَّعَى هَذَا الْمِقْدَارَ. قَالَ (فَإِنْ كَانَ ضَمِنَهُ بِقَوْلِ الْغَاصِبِ مَعَ يَمِينِهِ فَهُوَ بِالْخِيَارِ، إنْ شَاءَ أَمْضَى الضَّمَانَ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْعَيْنَ وَرَدَّ الْعِوَضَ)؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتِمَّ رِضَاهُ بِهَذَا الْمِقْدَارِ حَيْثُ يَدَّعِي الزِّيَادَةَ وَأَخَذَهُ دُونَهَا لِعَدَمِ الْحُجَّةِ. وَلَوْ ظَهَرَتْ الْعَيْنُ وَقِيمَتُهَا مِثْلَ مَا ضَمَّنَهُ أَوْ دُونَهُ فِي هَذَا الْفَصْلِ الْأَخِيرِ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَهُوَ الْأَصَحُّ خِلَافًا لِمَا قَالَهُ الْكَرْخِيُّ رحمه الله أَنَّهُ لَا خِيَارَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتِمَّ رِضَاهُ حَيْثُ لَمْ يُعْطِ لَهُ مَا يَدَّعِيهِ وَالْخِيَارُ لِفَوَاتِ الرِّضَا.
قَالَ (وَمَنْ غَصَبَ عَبْدًا فَبَاعَهُ فَضَمَّنَهُ الْمَالِكُ قِيمَتَهُ فَقَدْ جَازَ بَيْعُهُ، وَإِنْ أَعْتَقَهُ ثُمَّ ضَمِنَ الْقِيمَةَ لَمْ يَجُزْ عِتْقُهُ)؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ الثَّابِتَ فِيهِ نَاقِصٌ لِثُبُوتِهِ مُسْتَنِدًا أَوْ ضَرُورَةً، وَلِهَذَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ الْأَكْسَابِ دُونَ الْأَوْلَادِ، وَالنَّاقِصُ يَكْفِي لِنُقُودِ الْبَيْعِ دُونَ
بِقِيمَةِ الْمَغْصُوبِ لَمْ تُقْبَلْ بَيِّنَتُهُ، بَلْ يَحْلِفُ عَلَى دَعْوَاهُ؛ لِأَنَّ بَيِّنَتَهُ تَنْفِي الزِّيَادَةَ، وَالْبَيِّنَةُ عَلَى النَّفْيِ لَا تُقْبَلُ.
وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: يَنْبَغِي أَنْ تُقْبَلَ لِإِسْقَاطِ الْيَمِينِ كَالْمُودِعِ إذَا ادَّعَى رَدَّ الْوَدِيعَةَ فَإِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهُ، وَلَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ قُبِلَتْ، وَكَانَ الْقَاضِي أَبُو عَلِيٍّ النَّسَفِيُّ يَقُولُ: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عُدَّتْ مُشْكِلَةً. وَمِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ هَذِهِ وَمَسْأَلَةِ الْوَدِيعَةِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ الْمُودِعَ لَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا الْيَمِينُ، وَبِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ أَسْقَطْتَهَا وَارْتَفَعْتَ الْخُصُومَةُ. وَأَمَّا الْغَاصِبُ فَعَلَيْهِ هَاهُنَا الْيَمِينُ وَالْقِيمَةُ، وَبِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ لَمْ يَسْقُطْ إلَّا الْيَمِينُ فَلَا يَكُونُ فِي مَعْنَى الْمُودِعِ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ وَغَيْرِهَا. أَقُولُ: فِيمَا ذَكَرُوا مِنْ وَجْهِ الْفَرْقِ نَظَرٌ، فَإِنَّهُ إنَّمَا يُفِيدُ أَنْ لَا يَكُونَ الْغَاصِبُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَالْمُودِعِ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ حَيْثُ وَجَبَ عَلَى الْغَاصِبِ الْيَمِينُ وَالْقِيمَةُ وَلَمْ يَجِبْ عَلَى الْمُودَعِ إلَّا الْيَمِينُ
الْعِتْقِ كَمِلْكِ الْمُكَاتَبِ.
قَالَ (وَوَلَدُ الْمَغْصُوبَةِ وَنَمَاؤُهَا، وَثَمَرَةُ الْبُسْتَانِ الْمَغْصُوبِ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْغَاصِبِ إنْ هَلَكَ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، إلَّا أَنْ يُتَعَدَّى فِيهَا أَوْ يَطْلُبَهَا مَالِكُهَا فَيَمْنَعُهَا إيَّاهُ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: زَوَائِدُ الْمَغْصُوبِ مَضْمُونَةٌ مُتَّصِلَةً كَانَتْ أَوْ مُنْفَصِلَةً لِوُجُودِ الْغَصْبِ، وَهُوَ إثْبَاتُ الْيَدِ عَلَى مَالِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ رِضَاهُ، كَمَا فِي الظَّبْيَةِ الْمُخْرَجَةِ مِنْ الْحَرَمِ إذَا وَلَدَتْ فِي يَدِهِ يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ. وَلَنَا أَنَّ الْغَصْبَ إثْبَاتُ الْيَدِ عَلَى مَالِ الْغَيْرِ عَلَى وَجْهٍ يُزِيلُ يَدَ الْمَالِكِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَيَدُ الْمَالِكِ مَا كَانَتْ ثَابِتَةً عَلَى هَذِهِ الزِّيَادَةِ حَتَّى يُزِيلَهَا الْغَاصِبُ،
وَهَذَا لَا يُنَافِي صِحَّةَ قِيَاسِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى مَسْأَلَةِ الْوَدِيعَةِ فِي قَبُولِ الْبَيِّنَةِ لِإِسْقَاطِ الْيَمِينِ؛ لِأَنَّ الِاتِّحَادَ بَيْنَهُمَا فِي هَذِهِ الْجِهَةِ كَافٍ فِي صِحَّةِ الْقِيَاسِ، وَلَا يَضُرُّهَا وُجُوبُ الْقِيمَةِ عَلَى الْغَاصِبِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ فِيمَا إذَا عَجَزَ الْمَالِكُ عَنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى الْأَكْثَرِ إنَّمَا هُوَ عَلَى الْأَقَلِّ الَّذِي كَانَ مُعْتَرِفًا بِهِ، وَلَيْسَ مَقْصُودُهُ مِنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ إلَّا مُجَرَّدُ إسْقَاطِ الْيَمِينِ عَلَى الزِّيَادَةِ عَنْ نَفْسِهِ، وَإِذَا حَصَلَ لَهُ هَذِهِ الْفَائِدَةُ صَارَ فِي مَعْنَى الْمُودِعِ مِنْ جِهَةِ اتِّحَادِ فَائِدَةِ قَبُولِ الْبَيِّنَةِ فَتَدَبَّرْ
(قَوْلُهُ وَلَنَا أَنَّ الْغَصْبَ إثْبَاتُ الْيَدِ عَلَى مَالِ الْغَيْرِ عَلَى وَجْهٍ يُزِيلُ يَدَ الْمَالِكِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَيَدُ الْمَالِكِ مَا كَانَتْ ثَابِتَةً عَلَى هَذِهِ الزِّيَادَةِ حَتَّى يُزِيلَهَا الْغَاصِبُ) وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ هَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَضْمَنَ الْوَلَدَ إذَا غَصَبَ الْجَارِيَةَ حَامِلًا؛ لِأَنَّ الْيَدَ كَانَتْ ثَابِتَةً عَلَيْهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا إذَا غَصَبَهَا غَيْرَ حَامِلٍ فَحَبِلَتْ فِي يَدِ الْغَاصِبِ وَوَلَدَتْ، وَالرِّوَايَةُ فِي الْأَسْرَارِ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْحَمْلَ قَبْلَ الِانْفِصَالِ لَيْسَ بِمَالٍ، بَلْ يُعَدُّ عَيْبًا فِي الْأَمَةِ فَلَمْ يُصَدَّقُ عَلَيْهِ إثْبَاتُ الْيَدِ عَلَى مَالِ الْغَيْرِ كَذَا فِي الْعِنَايَةِ وَكَثِيرٍ مِنْ الشُّرُوحِ. أَقُولُ: فِي الْجَوَابِ بَحْثٌ؛ لِأَنَّ الْحَمْلَ قَبْلَ الِانْفِصَالِ لَوْ لَمْ يَكُنْ مَالًا لَمَا صَحَّ إعْتَاقُهُ وَتَدْبِيرُهُ، إذْ الظَّاهِرُ أَنَّ مَحَلَّ الْإِعْتَاقِ وَالتَّدْبِيرِ لَا يَكُونُ إلَّا مَالًا مَمْلُوكًا، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي مَحَلِّهِ أَنَّهُ يَصِحُّ إعْتَاقُهُ وَتَدْبِيرُهُ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مَالًا. وَلَئِنْ سُلِّمَ أَنَّ مَحَلَّ الْإِعْتَاقِ وَالتَّدْبِيرِ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مَالًا بَلْ يَكْفِي أَنْ يَكُونَ مِلْكًا، وَأَنَّ الْمِلْكَ يَجُوزُ أَنْ يَتَحَقَّقَ فِي غَيْرِ الْمَالِ أَيْضًا.
فَالْجَوَابُ الْمَذْكُورُ لَا يُصْلِحُ عِبَارَةَ الْكِتَابِ؛ لِأَنَّ الْحَاصِلَ مِنْهُ أَنَّ وَجْهَ عَدَمِ ضَمَانِ الْوَلَدِ فِيمَا إذَا غَصَبَ الْجَارِيَةَ حَامِلًا هُوَ عَدَمُ كَوْنِ الْحَمْلِ قَبْلَ الِانْفِصَالِ مَالًا، لَا أَنَّ يَدَ الْمَالِكِ مَا كَانَتْ ثَابِتَةً عَلَيْهِ، وَقَدْ قَالَ فِي الْكِتَابِ: وَيَدُ الْمَالِكِ مَا كَانَتْ ثَابِتَةً عَلَى هَذِهِ الزِّيَادَةِ حَتَّى يُزِيلَهَا الْغَاصِبُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الْعِبَارَةَ لَا تَتَنَاوَلُ مَا إذَا غَصَبَ الْجَارِيَةَ حَامِلًا مَعَ أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ الزِّيَادَةَ فِي هَاتِيكَ الصُّورَةِ أَيْضًا كَمَا ذَكَرَ فِي الْأَسْرَارِ، فَلَمْ يَنْدَفِعْ وُرُودُ
وَلَوْ اُعْتُبِرَتْ ثَابِتَةً عَلَى الْوَلَدِ لَا يُزِيلُهَا، إذْ الظَّاهِرُ عَدَمُ الْمَنْعِ، حَتَّى لَوْ مَنَعَ الْوَلَدَ بَعْدَ طَلَبِهِ يَضْمَنُهُ، وَكَذَا إذَا تَعَدَّى فِيهِ كَمَا قَالَ فِي الْكِتَابِ: وَذَلِكَ بِأَنْ أَتْلَفَهُ أَوْ ذَبَحَهُ وَأَكَلَهُ أَوْ بَاعَهُ وَسَلَّمَهُ، وَفِي الظَّبْيَةِ الْمُخْرَجَةِ لَا يَضْمَنُ وَلَدَهَا إذَا هَلَكَ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْإِرْسَالِ لِعَدَمِ الْمَنْعِ، وَإِنَّمَا يَضْمَنُهُ إذَا هَلَكَ بَعْدَهُ لِوُجُودِ الْمَنْعِ بَعْدَ طَلَبِ صَاحِبِ الْحَقِّ وَهُوَ الشَّرْعُ، عَلَى هَذَا أَكْثَرُ مَشَايِخِنَا.
وَلَوْ أَطْلَقَ الْجَوَابَ فَهُوَ ضَمَانُ جِنَايَةٍ،
الِاعْتِرَاضِ الْمَذْكُورِ عَلَى عِبَارَةِ الْكِتَابِ كَمَا لَا يَخْفَى (قَوْلُهُ وَلَوْ اُعْتُبِرَتْ ثَابِتَةً عَلَى الْوَلَدِ لَا يُزِيلُهَا إذْ الظَّاهِرُ عَدَمُ الْمَنْعِ) أَقُولُ: هَذَا إنَّمَا يَتِمُّ فِيمَا إذَا غَصَبَ الْجَارِيَةَ غَيْرَ حَامِلٍ فَحَبِلَتْ فِي يَدِ الْغَاصِبِ.
وَأَمَّا فِيمَا إذَا غَصَبَهَا حَامِلًا فَلَا؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ كَانَ جُزْءًا مِنْ أُمِّهِ حِينَ الْغَصْبِ فَكَانَ إزَالَةُ يَدِ الْمَالِكِ عَنْ أُمِّهِ مُسْتَلْزِمًا لِإِزَالَتِهَا عَنْهُ أَيْضًا ضَرُورَةَ اسْتِلْزَامِ إزَالَةِ الْيَدِ عَنْ الْكُلِّ إزَالَتَهَا عَنْ أَجْزَائِهِ، فَلَا يُتَصَوَّرُ إذْ ذَاكَ أَنْ يُقَالَ: وَلَوْ اُعْتُبِرَتْ ثَابِتَةً عَلَى الْوَلَدِ لَا يُزِيلُهَا، وَلَا يَصِحُّ التَّعْلِيلُ بِأَنْ يُقَالَ: إذْ الظَّاهِرُ عَدَمُ الْمَنْعِ؛ لِأَنَّ مَنْعَ الْكُلِّ بِإِزَالَةِ يَدِ الْمَالِكِ عَنْهُ مَنْعٌ لِجُزْئِهِ أَيْضًا، وَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ مَا إذَا غَصَبَهَا حَامِلًا وَبَيْنَ مَا إذَا غَصَبَهَا غَيْرَ حَامِلٍ فَحَبِلَتْ فِي يَدِ الْغَاصِبِ فِي كَوْنِ الْوَلَدِ غَيْرَ مَضْمُونٍ عِنْدَنَا، فَكَانَ التَّعْلِيلُ الْمَذْكُورُ قَاصِرًا عَنْ إفَادَةِ تَمَامِ الْمَسْأَلَةِ.
قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَعُورِضَ بِأَنَّ الْأُمَّ مَضْمُونَةٌ أَلْبَتَّةَ، وَالْأَوْصَافُ الْقَارَّةُ فِي الْأُمَّهَاتِ تَسْرِي إلَى الْأَوْلَادِ كَالْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ وَالْمِلْكِ فِي الشِّرَاءِ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الضَّمَانَ لَيْسَ بِصِفَةٍ قَارَّةٍ فِي الْأُمِّ بَلْ هُوَ لُزُومُ حَقٍّ فِي ذِمَّةِ الْغَاصِبِ فَإِنْ وَصَفَ بِهِ الْمَالَ كَانَ مَجَازًا اهـ كَلَامُهُ.
وَقَدْ سَبَقَهُ إلَى ذِكْرِ مَضْمُونِ هَذَا السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ صَاحِبَا النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ. أَقُولُ: فِي الْجَوَابِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ مَصْدَرٌ لِلْفِعْلِ الْمُتَعَدِّي، يُقَالُ: ضَمِنَهُ ضَمَانًا، وَلِمِثْلِ هَذَا الْمَصْدَرِ تَعَلُّقٌ بِالْفَاعِلِ، وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ يَصِيرُ وَصْفًا لَهُ
وَلِهَذَا يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِهَا، وَيَجِبُ بِالْإِعَانَةِ وَالْإِشَارَةِ، فَلَأَنْ يَجِبَ بِمَا هُوَ فَوْقَهَا وَهُوَ إثْبَاتُ الْيَدِ عَلَى مُسْتَحِقِّ الْأَمْنِ أَوْلَى وَأَحْرَى.
قَالَ (وَمَا نَقَصَتْ الْجَارِيَةُ بِالْوِلَادَةِ فِي ضَمَانِ الْغَاصِبِ، فَإِنْ كَانَ فِي قِيمَةِ الْوَلَدِ وَفَاءً بِهِ انْجَبَرَ
وَتَعَلُّقٌ بِالْمَفْعُولِ بِهِ، وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ يَصِيرُ وَصْفًا لَهُ أَيْضًا، وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ الْمُحَقِّقُ التَّفْتَازَانِيُّ فِي التَّلْوِيحِ فِي فَصْلِ أَلْفَاظِ الْعَامِّ وَحَقَّقَهُ حَيْثُ قَالَ: إنَّ الْفِعْلَ الْمُتَعَدِّيَ مُحْتَاجٌ إلَى الْمَفْعُولِ بِهِ فِي التَّعَقُّلِ وَالْوُجُودِ جَمِيعًا، وَإِلَى الْمَفْعُولِ فِيهِ فِي الْوُجُودِ فَقَطْ. وَقَالَ: وَلَهُ تَعَلُّقٌ بِالْفَاعِلِ، وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ هُوَ وَصْفٌ لَهُ، وَتَعَلُّقٌ بِالْمَفْعُولِ بِهِ، وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ هُوَ وَصْفٌ لَهُ.
وَقَالَ: وَلَا امْتِنَاعَ فِي قِيَامِ الْإِضَافِيَّاتِ بِالْمُضَافِينَ، وَرَدَّ بِهِ قَوْلَ صَاحِبِ الْكَشْفِ إنَّ الضَّرْبَ قَائِمٌ بِالضَّارِبِ فَلَا يَقُومُ بِالْمَضْرُوبِ لِامْتِنَاعِ قِيَامِ الْوَصْفِ الْوَاحِدِ بِشَخْصَيْنِ، فَقَدْ ظَهَرَ مِنْهُ أَنَّ الضَّمَانَ كَمَا يُوصَفُ بِهِ الْغَاصِبُ حَقِيقَةً فَيُقَالُ هُوَ ضَامِنٌ يُوصَفُ بِهِ الْمَالُ أَيْضًا حَقِيقَةً فَيُقَالُ هُوَ مَضْمُونٌ، فَقَوْلُ هَؤُلَاءِ الشُّرَّاحِ فَإِنْ وُصِفَ بِهِ الْمَالُ كَانَ مَجَازًا مَمْنُوعٌ جِدًّا.
وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: فَإِنْ قِيلَ: قَدْ وُجِدَ الضَّمَانُ فِي مَوَاضِعَ وَلَمْ تَتَحَقَّقْ الْعِلَّةُ الْمَذْكُورَةُ فِيهَا فَكَانَ أَمَارَةَ زَيْفِهَا، وَذَلِكَ كَغَاصِبِ الْغَاصِبِ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ وَإِنْ لَمْ يُزِلْ يَدَ الْمَالِكِ بَلْ أَزَالَ يَدَ الْغَاصِبِ، وَكَالْمُلْتَقِطِ إذَا لَمْ يَشْهَدْ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْإِشْهَادِ وَلَمْ يُزِلْ يَدًا، وَالْمَغْرُورُ إذَا مَنَعَ الْوَلَدَ يَضْمَنُ بِهِ الْوَلَدَ وَلَمْ يُزِلْ يَدًا فِي حَقِّ الْوَلَدِ، وَيَضْمَنُ الْأَمْوَالَ بِالْإِتْلَافِ تَسَبُّبًا كَحَفْرِ الْبِئْرِ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ وَلَيْسَ ثَمَّةَ إزَالَةُ يَدِ أَحَدٍ وَلَا إثْبَاتُهَا.
فَالْجَوَابُ أَنَّ مَا قُلْنَا إنَّ الْغَصْبَ عَلَى التَّفْسِيرِ الْمَذْكُورِ يُوجِبُ الضَّمَانَ مُطَّرِدٌ لَا مَحَالَةَ. وَأَمَّا أَنَّ كُلَّ مَا يُوجِبُ الضَّمَانَ كَانَ غَصْبًا فَلَمْ يُلْتَزَمْ ذَلِكَ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الضَّمَانُ حُكْمًا نَوْعِيًّا يَثْبُتُ كُلُّ شَخْصٍ مِنْهُ بِشَخْصٍ مِنْ الْعِلَّةِ مِمَّا يَكُونُ تَعَدِّيًا، إلَى هُنَا كَلَامُهُ. أَقُولُ: هَذَا الْجَوَابُ لَيْسَ بِتَامٍّ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُفِيدُ أَنْ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِالسُّؤَالِ الْمَذْكُورِ أَنَّ قَوْلَك الْغَصْبُ عَلَى التَّفْسِيرِ الْمَذْكُورِ يُوجِبُ الضَّمَانَ غَيْرَ مُنْعَكِسٍ لَتَحَقَّقَ وُجُوبُ الضَّمَانِ فِي الصُّورَةِ الْمَزْبُورَةِ بِدُونِ تَحَقُّقِ الْغَصْبِ عَلَى التَّفْسِيرِ الْمَذْكُورِ فِيهَا. وَأَمَّا إذَا كَانَ الْمُرَادُ بِذَلِكَ أَنَّ تَعْلِيلَ مَسْأَلَتِنَا بِالْعِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْكِتَابِ مُنْتَقَضٌ بِالصُّورَةِ الْمَزْبُورَةِ؛ لِأَنَّ حَاصِلَ هَذِهِ الْعِلَّةِ أَنَّ تَفْسِيرَ الْغَصْبِ بِمَا ذَكَرْنَا لَمْ يَتَحَقَّقْ فِي زَوَائِدِ الْمَغْصُوبِ فَلَمْ يَجِبْ الضَّمَانُ فِيهَا، وَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ التَّفْسِيرَ غَيْرُ مُتَحَقَّقٍ فِي الصُّورَةِ الْمَزْبُورَةِ أَيْضًا مَعَ وُجُوبِ الضَّمَانِ فِيهَا فَلَا يَدْفَعُ ذَلِكَ الْجَوَابُ الْمَذْكُورُ ذَلِكَ السُّؤَالَ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى الْفَطِنِ. فَالْأَوْلَى فِي السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ مَا فُصِّلَ فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ، فَإِنْ شِئْت فَرَاجِعْهُمَا.
(قَوْلُهُ وَلِهَذَا يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِهَا) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَحَلِّ: أَيْ يَتَكَرَّرُ الْجَزَاءُ بِتَكَرُّرِ هَذِهِ الْجِنَايَةِ، فَإِنَّهُ لَوْ أَدَّى الضَّمَانَ بِسَبَبِ إخْرَاجِ الصَّيْدِ عَنْ الْحَرَمِ ثُمَّ أَرْسَلَهُ فِي الْحَرَمِ ثُمَّ أَخْرَجَ ذَلِكَ الصَّيْدَ مِنْ الْحَرَمِ يَجِبُ ضَمَانٌ آخَرُ، كَذَا وَجَدْتُ بِخَطِّ شَيْخِي، وَلَكِنْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ يَتَكَرَّرُ وُجُوبُ الْإِرْسَالِ بِتَكَرُّرِ هَذِهِ الْجِنَايَةِ الَّتِي هِيَ الْإِخْرَاجُ مِنْ الْحَرَمِ، وَهَذَا أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَوْفَقُ لِرِوَايَةِ الْمَبْسُوطِ فِي الْمَنَاسِكِ حَيْثُ جَعَلَ هُنَاكَ إيصَالَ صَيْدِ الْحَرَمِ إلَى الْحَرَمِ بِمَنْزِلَةِ إيصَالُ
النُّقْصَانُ بِالْوَلَدِ وَسَقَطَ ضَمَانُهُ عَنْ الْغَاصِبِ) وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ: لَا يَنْجَبِرُ النُّقْصَانُ بِالْوَلَدِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ مِلْكُهُ فَلَا يَصْلُحُ جَابِرًا لِمِلْكِهِ كَمَا فِي وَلَدِ الظَّبْيَةِ، وَكَمَا إذَا هَلَكَ الْوَلَدُ قَبْلَ الرَّدِّ أَوْ مَاتَتْ الْأُمُّ وَبِالْوَلَدِ وَفَاءٌ، وَصَارَ كَمَا إذَا جَزَّ صُوفَ شَاةِ غَيْرِهِ أَوْ قَطَعَ قَوَائِمَ شَجَرِ غَيْرِهِ أَوْ خَصَى عَبْدَ غَيْرِهِ أَوْ عَلَّمَهُ الْحِرْفَةَ فَأَضْنَاهُ التَّعْلِيمُ.
وَلَنَا أَنَّ سَبَبَ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ وَاحِدٌ، وَهُوَ الْوِلَادَةُ أَوْ الْعُلُوقُ عَلَى مَا عُرِفَ،
الْمَغْصُوبِ إلَى يَدِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ.
وَفِي الْغَصْبِ إذَا وَصَلَ الْمَغْصُوبُ إلَى الْمَالِكِ كَمَا غُصِبَ لَا يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الْغَاصِبِ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ يَتَكَرَّرُ وُجُوبُ الرَّدِّ إلَى الْمَالِكِ بِتَكَرُّرِ الْغَصْبِ فَكَذَا هُنَا، إلَى هُنَا لَفْظُ النِّهَايَةِ. وَاقْتَفَى أَثَرَهُ أَكْثَرُ الشُّرَّاحِ فِي تَجْوِيزِ الْمَعْنَيَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ هَاهُنَا، وَلَكِنْ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ سِوَاهُ بِتَرْجِيحِ الْمَعْنَى الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ، وَمِنْهُمْ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ حَيْثُ قَالَ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَحَلِّ: وَلِهَذَا يَتَكَرَّرُ الْجَزَاءُ بِتَكَرُّرِ هَذِهِ الْجِنَايَةِ فَإِنَّهُ لَوْ أَدَّى الضَّمَانَ بِسَبَبِ إخْرَاجِ الصَّيْدِ عَنْ الْحَرَمِ ثُمَّ أَرْسَلَهُ فِيهِ ثُمَّ أَخْرَجَ ذَلِكَ الصَّيْدَ مِنْ الْحَرَمِ وَجَبَ جَزَاءٌ آخَرُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ يَتَكَرَّرُ وُجُوبُ الْإِرْسَالِ بِتَكَرُّرِ هَذِهِ الْجِنَايَةِ الَّتِي هِيَ الْإِخْرَاجُ مِنْ الْحَرَمِ اهـ كَلَامُهُ.
أَقُولُ: لَا جَوَازَ عِنْدِي لِلْمَعْنَى الثَّانِي هَاهُنَا أَصْلًا فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْأَوْلَى كَمَا زَعَمَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: فَإِنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِهَا مُتَفَرِّعٌ عَلَى قَوْلِهِ فَهُوَ ضَمَانُ جِنَايَةٍ كَمَا تَرَى، وَلَا يَصِحُّ هَذَا التَّفَرُّعُ عَلَى تَقْدِيرِ حَمْلِ قَوْلِهِ يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِهَا عَلَى الْمَعْنَى الثَّانِي؛ لِأَنَّ تَكَرُّرَ وُجُوبِ الْإِرْسَالِ بِتَكَرُّرِ الْإِخْرَاجِ مِنْ الْحَرَمِ لَا يَكُونُ أَمَارَةً عَلَى كَوْنِ ضَمَانِ وَلَدِ الظَّبْيَةِ ضَمَانَ جِنَايَتِهِ لَا ضَمَانَ غَصْبٍ فَإِنَّ تَكَرُّرَ وُجُوبِ الْإِرْسَالِ بِتَكَرُّرِ الْإِخْرَاجِ مِنْ الْحَرَمِ يَنْتَظِمُ كَوْنَ ضَمَانِ وَلَدِ الظَّبْيَةِ ضَمَانَ جِنَايَةٍ وَكَوْنَهُ ضَمَانَ غَصْبٍ عَلَى السَّوَاءِ كَمَا لَا يَخْفَى، بَلْ رِوَايَةُ الْمَبْسُوطِ فِي الْمَنَاسِكِ أَوْفَقُ لِكَوْنِهِ ضَمَانَ غَصْبٍ عَلَى مَا قَرَّرَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ حَيْثُ قَالَ: جَعَلَ هُنَاكَ إيصَالَ صَيْدِ الْحَرَمِ إلَى الْحَرَمِ بِمَنْزِلَةِ إيصَالِ الْمَغْصُوبِ إلَى يَدِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ وَفِي الْغَصْبِ إذَا وَصَلَ الْمَغْصُوبُ إلَى الْمَالِكِ كَمَا غُصِبَ لَا يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الْغَاصِبِ مِنْ شَيْءٍ.
وَلَكِنْ يَتَكَرَّرُ وُجُوبُ الرَّدِّ إلَى الْمَالِكِ بِتَكَرُّرِ الْغَصْبِ فَكَذَا هُنَا اهـ تَدَبَّرْ تَقِفُ
(قَوْلُهُ وَلَنَا أَنَّ سَبَبَ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ وَاحِدٌ وَهُوَ الْوِلَادَةُ أَوْ الْعُلُوقُ عَلَى مَا عُرِفَ) ذَهَبَتْ جَمَاعَةٌ مِنْ الشُّرَّاحِ وَهُمْ أَصْحَابُ الْكِفَايَةِ وَالنِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ إلَى أَنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ عَلَى مَا عُرِفَ إشَارَةٌ إلَى مَا يَجِيءُ فِي مَسْأَلَةِ مَنْ غَصَبَ جَارِيَةً فَزَنَى بِهَا، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ وَهُوَ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ إلَى أَنَّهُ إشَارَةٌ إلَى مَا ذُكِرَ فِي طَرِيقَةِ الْخِلَافِ. وَاخْتَارَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ الثَّانِي، وَذَكَرَ الْأَوَّلَ أَيْضًا بِطَرِيقِ النَّقْلِ حَيْثُ قَالَ: يَعْنِي فِي طَرِيقَةِ الْخِلَافِ، وَقِيلَ فِي مَسْأَلَةِ مَنْ غَصَبَ جَارِيَةً فَزَنَى بِهَا عَلَى مَا يَجِيءُ اهـ.
أَقُولُ: لَا مَجَالَ عِنْدِي لِلْحَمْلِ عَلَى الْأَوَّلِ أَصْلًا؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالسَّبَبِ هَاهُنَا سَبَبُ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ، وَبِمَا يَجِيءُ فِي مَسْأَلَةِ مَنْ غَصَبَ جَارِيَةً فَزَنَى بِهَا
وَعِنْدَ ذَلِكَ لَا يُعَدُّ نُقْصَانًا فَلَا يُوجِبُ ضَمَانًا، وَصَارَ كَمَا إذَا غَصَبَ جَارِيَةً سَمِينَةً فَهَزَلَتْ ثُمَّ سَمِنَتْ أَوْ سَقَطَتْ ثَنِيَّتُهَا ثُمَّ نَبَتَتْ أَوْ قُطِعَتْ يَدُ الْمَغْصُوبِ فِي يَدِهِ وَأَخَذَ أَرْشَهَا وَأَدَّاهُ مَعَ الْعَبْدِ يُحْتَسَبُ عَنْ نُقْصَانِ الْقَطْعِ، وَوَلَدُ الظَّبْيَةِ مَمْنُوعٌ، وَكَذَا إذَا مَاتَتْ الْأُمُّ. وَتَخْرِيجُ الثَّانِيَةِ أَنَّ الْوِلَادَةَ لَيْسَتْ بِسَبَبٍ لِمَوْتِ الْأُمِّ، إذْ الْوِلَادَةُ لَا تُفْضِي إلَيْهِ غَالِبًا، وَبِخِلَافِ مَا إذَا مَاتَ الْوَلَدُ قَبْلَ الرَّدِّ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ رَدِّ أَصْلِهِ لِلْبَرَاءَةِ، فَكَذَا لَا بُدَّ مِنْ رَدِّ خَلَفِهِ، وَالْخِصَاءُ لَا يُعَدُّ زِيَادَةً؛ لِأَنَّهُ غَرَضُ بَعْضِ الْفَسَقَةِ، وَلَا اتِّحَادَ فِي السَّبَبِ فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ الْمَسَائِلِ؛ لِأَنَّ سَبَبَ النُّقْصَانِ الْقَطْعُ
سَبَبُ الْمَوْتِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَا هُوَ سَبَبٌ لِأَحَدِهِمَا لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِلْآخَرِ أَيْضًا أَلْبَتَّةَ، حَتَّى يَصِحَّ حَوَالَةُ مَعْرِفَةِ أَحَدِهِمَا عَلَى مَعْرِفَةِ الْآخَرِ، أَلَا يَرَى إلَى قَوْلِ الْمُصَنِّفِ فِيمَا سَيَأْتِي وَتَخْرِيجُ الثَّانِيَةِ أَنَّ الْوِلَادَةَ لَيْسَتْ بِسَبَبٍ لِمَوْتِ الْأُمِّ إذْ لَا تُفْضِي إلَيْهِ غَالِبًا اهـ.
فَإِنَّ ذَاكَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْوِلَادَةَ لَا تَكُون سَبَبًا لِمَوْتِ الْأُمِّ، وَيُعْلَمُ مِنْهُ دَلَالَةً أَنَّ الْعُلُوقَ أَيْضًا لَا يَكُونُ سَبَبًا لَهُ؛ لِأَنَّ إفْضَاءَهُ إلَى الْمَوْتِ أَبْعَدُ مِنْ إفْضَاءِ الْوِلَادَةِ إلَيْهِ كَمَا لَا يَخْفَى، مَعَ أَنَّهُ حَكَمَ هَاهُنَا بِأَنَّ سَبَبَ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ هُوَ الْوِلَادَةُ وَالْعُلُوقُ. ثُمَّ إنَّ الْمَعْرُوفَ فِي الْحَوَالَةِ عَلَى مَا يَجِيءُ أَنْ يُقَالَ عَلَى مَا يَجِيءُ أَوْ عَلَى مَا سَيُعْرَفُ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ، وَأَمَّا أَنْ يُقَالَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ عَلَى مَا عُرِفَ فَلَمْ يُعْرَفْ قَطُّ، فَالْوَجْهُ هُوَ الْحَمْلُ عَلَى مَا عُرِفَ فِي طَرِيقَةِ الْخِلَافِ لَا غَيْرَ (قَوْلُهُ وَعِنْدَ ذَلِكَ لَا يُعَدُّ نُقْصَانًا فَلَا يُوجِبُ ضَمَانًا)؛ لِأَنَّ السَّبَبَ الْوَاحِدَ لَمَّا أَثَّرَ فِي الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ كَانَتْ الزِّيَادَةُ خَلَفًا عَنْ النُّقْصَانِ، كَالْبَيْعِ لَمَّا أَزَالَ الْمَبِيعَ عَنْ مِلْكِ الْبَائِعِ دَخَلَ الثَّمَنُ فِي مِلْكِهِ فَكَانَ الثَّمَنُ خَلَفًا عَنْ مَالِيَّةِ الْمَبِيعِ لِاتِّحَادِ السَّبَبِ، حَتَّى إنَّ الشَّاهِدَيْنِ إذَا شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ بِبَيْعِ شَيْءٍ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ فَقَضَى الْقَاضِي بِهِ ثُمَّ رَجَعَا لَمْ يَضْمَنَا شَيْئًا، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْفَوَاتَ إلَى خَلَفٍ كَلَا فَوَاتٍ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ.
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ جَوَابٌ لِلْخَصْمِ عَنْ أَصْلِ دَلِيلِهِ، وَهُوَ أَنَّ الْوَلَدَ مِلْكُ الْمَوْلَى فَلَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ جَابِرًا لِنُقْصَانٍ وَقَعَ فِي مِلْكِهِ بَلْ هُوَ عَلَى حَالِهِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُصَنِّفَ أَشَارَ إلَى جَوَابِهِ بِقَوْلِهِ لَا يُعَدُّ نُقْصَانًا، فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يُعَدَّ نُقْصَانًا لَمْ يَحْتَجْ إلَى جَابِرٍ، فَإِطْلَاقُ الْجَابِرِ عَلَيْهِ تَوَسُّعٌ، هَذَا زُبْدَةُ مَا فِي النِّهَايَةِ وَالْعِنَايَةِ. أَقُولُ: الْجَوَابُ مَنْظُورٌ فِيهِ، فَإِنَّ النُّقْصَانَ أَمْرٌ مُحَقَّقٌ لَا مَجَالَ لِإِنْكَارِ وُقُوعِهِ، إذْ وَضْعُ مَسْأَلَتِنَا فِيمَا إذَا نَقَصَتْ الْجَارِيَةُ بِالْوِلَادَةِ، وَلَا يُرَى وَجْهٌ لَأَنْ لَا يُعَدُّ ذَلِكَ النُّقْصَانُ الْمُحَقَّقُ نُقْصَانًا سِوَى انْجِبَارِ ذَلِكَ النُّقْصَانِ بِالزِّيَادَةِ الَّتِي هِيَ الْوَلَدُ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ كَلَامُ الشُّرَّاحِ قَاطِبَةً فِي شَرْحِ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ وَعِنْدَ ذَلِكَ لَا يُعَدُّ نُقْصَانًا كَمَا مَرَّ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ (فَإِنْ كَانَ فِي قِيمَةِ الْوَلَدِ وَفَاءً بِهِ جُبِرَ النُّقْصَانِ بِالْوَلَدِ وَسَقَطَ ضَمَانُهُ عَنْ الْغَاصِبِ)، وَلَوْ كَانَ إطْلَاقُ الْجَابِرِ عَلَيْهِ تَوَسُّعًا وَلَمْ يُوجَدْ الْجَبْرُ حَقِيقَةً لَمْ يَظْهَرْ وَجْهٌ لَأَنْ يُعَدَّ نُقْصَانُ الْمَغْصُوبِ الْوَاقِعِ فِي يَدِ الْغَاصِبِ نُقْصَانًا مُوجِبًا لِلضَّمَانِ فِي سَائِرِ الْمَوَاضِعِ، وَأَنْ لَا يُعَدَّ نُقْصَانُهُ الْوَاقِعُ فِي يَدِ الْغَاصِبِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ نُقْصَانًا مُوجِبًا لِلضَّمَانِ عِنْدَنَا بَلْ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ تَحَكُّمًا بَحْتًا، وَحَاشَا لِأَئِمَّتِنَا مِنْ ذَلِكَ فَلْيُتَأَمَّلْ.
(قَوْلُهُ وَصَارَ كَمَا إذَا غَصَبَ جَارِيَةً سَمِينَةً فَهَزَلَتْ ثُمَّ سَمِنَتْ أَوْ سَقَطَتْ ثَنِيَّتُهَا ثُمَّ نَبَتَتْ) أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَا اتِّحَادَ
وَالْجَزُّ، وَسَبَبَ الزِّيَادَةِ النُّمُوُّ، وَسَبَبَ النُّقْصَانِ التَّعْلِيمُ، وَالزِّيَادَةُ سَبَبَهَا الْفَهْمُ. .
قَالَ (وَمَنْ غَصَبَ جَارِيَةً فَزَنَى بِهَا فَحَبِلَتْ ثُمَّ رَدَّهَا وَمَاتَتْ فِي نِفَاسِهَا يَضْمَنُ قِيمَتَهَا يَوْمَ عَلِقَتْ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي الْحُرَّةِ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: لَا يَضْمَنُ فِي الْأَمَةِ أَيْضًا) لَهُمَا أَنَّ الرَّدَّ قَدْ صَحَّ، وَالْهَلَاكُ بَعْدَهُ بِسَبَبٍ حَدَثَ فِي يَدِ الْمَالِكِ وَهُوَ الْوِلَادَةُ
فِي السَّبَبِ فِي هَاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ سَبَبَ النُّقْصَانِ وَهُوَ الْهُزَالُ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى وَسُقُوطُ الثَّنِيَّةِ فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ يُغَايِرُ سَبَبَ الزِّيَادَةِ وَهِيَ السِّمَنُ فِي الْأُولَى وَنَبْتُ الثَّنِيَّةِ فِي الثَّانِيَةِ. وَقَدْ رَدَّ الْمُصَنِّفُ فِيمَا بَعْدُ قِيَاسَ الْخَصْمِ عَلَى نَحْوِ جَزِّ صُوفِ شَاةٍ وَقَطْعِ قَوَائِمِ الشَّجَرِ بِعَدَمِ الِاتِّحَادِ فِي السَّبَبِ فِي الْمَقِيسِ عَلَيْهِ فَكَيْفَ تَشَبَّثَ هَاهُنَا بِالْقِيَاسِ عَلَى تَيْنِكَ الصُّورَتَيْنِ مَعَ عَدَمِ الِاتِّحَادِ فِي السَّبَبِ فِيهَا أَيْضًا. ثُمَّ أَقُولُ فِي الْجَوَابِ: إنَّ الْفَرْقَ بِاتِّحَادِ السَّبَبِ وَعَدَمِ اتِّحَادِهِ إنَّمَا يُؤَثِّرُ فِي قَدْحِ الْقِيَاسِ فِي عَدَمِ سُقُوطِ الضَّمَانِ كَمَا هُوَ مُدَّعَى الْخَصْمِ، إذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ سُقُوطِهِ عِنْدَ عَدَمِ اتِّحَادِ السَّبَبِ عَدَمُ سُقُوطِهِ عِنْدَ اتِّحَادِهِ، إذْ يُمْكِنُ عِنْدَ اتِّحَادِهِ أَنْ لَا يُعَدَّ النُّقْصَانُ نُقْصَانًا كَمَا ذَكَرُوهُ، بِخِلَافِ عَدَمِ اتِّحَادِهِ، إذْ لَا وَجْهَ عِنْدَهُ أَصْلًا لِئَلَّا يُعَدَّ النُّقْصَانُ نُقْصَانًا، وَلَا يَقْدَحُ ذَلِكَ الْفَرْقُ فِي الْقِيَاسِ فِي سُقُوطِ الضَّمَانِ كَمَا هُوَ مُدَّعَانَا؛ لِأَنَّهُ إذَا سَقَطَ الضَّمَانُ عِنْدَ عَدَمِ اتِّحَادِ السَّبَبِ مَعَ عَدَمِ جَوَازِ أَنْ لَا يُعَدُّ النُّقْصَانُ هُنَاكَ نُقْصَانًا فَلَأَنْ يَسْقُطُ الضَّمَانُ عِنْدَ اتِّحَادِ السَّبَبِ مَعَ جَوَازِ أَنْ لَا يُعَدَّ النُّقْصَانُ هُنَا نُقْصَانًا أَوْلَى كَمَا لَا يَخْفَى فَتَدَبَّرْ، فَإِنَّهُ وَجْهٌ لَطِيفٌ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْقِيَاسَيْنِ وَلَمْ أُسْبَقْ إلَى كَشْفِهِ وَبَيَانِهِ. وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: وَالْفَرْقُ أَنَّ الثَّنِيَّةَ لَا قِيمَةَ لَهَا بِخِلَافِ الْقَوَائِمِ وَالصُّوفِ اهـ. أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ الثَّنِيَّةَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا قِيمَةٌ إلَّا أَنَّ سُقُوطَهَا يُورِثُ نُقْصَانًا لِلْجَارِيَةِ بِلَا رَيْبٍ، وَالْكَلَامُ فِي نُقْصَانِ الْجَارِيَةِ الْمَغْصُوبَةِ فَلَا يُفِيدُ ذَلِكَ الْفَرْقُ شَيْئًا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ
(قَوْلُهُ وَالْهَلَاكُ بَعْدَهُ بِسَبَبٍ حَدَثَ فِي يَدِ الْمَالِكِ وَهُوَ الْوِلَادَةُ)
فَلَا يَضْمَنُ الْغَاصِبُ. كَمَا إذَا حُمَّتْ فِي يَدِ الْغَاصِبِ ثُمَّ رَدَّهَا فَهَلَكَتْ. أَوْ زَنَتْ فِي يَدِهِ ثُمَّ رَدَّهَا فَجُلِدَتْ فَهَلَكَتْ مِنْهُ، وَكَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً قَدْ حَبِلَتْ عِنْدَ الْبَائِعِ فَوَلَدَتْ عِنْدَ الْمُشْتَرِي وَمَاتَتْ فِي نِفَاسِهَا لَا يَرْجِعُ عَلَى الْبَائِعِ بِالثَّمَنِ. وَلَهُ أَنَّهُ غَصَبَهَا وَمَا انْعَقَدَ فِيهَا سَبَبُ التَّلَفِ وَرُدَّتْ وَفِيهَا ذَلِكَ فَلَمْ يُوجَدْ الرَّدُّ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَخَذَ فَلَمْ يَصِحَّ الرَّدُّ، وَصَارَ كَمَا إذَا جَنَتْ فِي يَدِ الْغَاصِبِ جِنَايَةً فَقُتِلَتْ بِهَا فِي يَدِ الْمَالِكِ، أَوْ دُفِعَتْ بِهَا بِأَنْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ خَطَأً يُرْجَعُ عَلَى الْغَاصِبِ بِكُلِّ الْقِيمَةِ. كَذَا هَذَا. بِخِلَافِ الْحُرَّةِ؛ لِأَنَّهَا لَا تُضْمَنُ بِالْغَصْبِ لِيَبْقَى ضَمَانُ الْغَصْبِ بَعْدَ فَسَادِ الرَّدِّ. وَفِي فَصْلِ الشِّرَاءِ الْوَاجِبِ ابْتِدَاءِ التَّسْلِيمِ. مَا ذَكَرْنَا شَرْطُ صِحَّةِ الرَّدِّ وَالزِّنَا سَبَبٌ لِجَلْدٍ مُؤْلِمٍ لَا جَارِحٍ وَلَا مُتْلِفٍ فَلَمْ يُوجَدْ السَّبَبُ فِي يَدِ الْغَاصِبِ. .
قَالَ (وَلَا يَضْمَنُ الْغَاصِبُ مَنَافِعَ مَا غَصَبَهُ إلَّا أَنْ يَنْقُصَ بِاسْتِعْمَالِهِ فَيَغْرَمُ النُّقْصَانَ)
أَقُولُ: يُرَدُّ عَلَيْهِ فِي الظَّاهِرِ أَنَّهُ جَعَلَ الْوِلَادَةَ هَاهُنَا سَبَبًا لِلْهَلَاكِ، وَقَدْ صَرَّحَ فِيمَا مَرَّ بِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِسَبَبٍ لِلْمَوْتِ حَيْثُ قَالَ: وَتَخْرِيجُ
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَضْمَنُهَا، فَيَجِبُ أَجْرُ الْمِثْلِ، وَلَا فَرْقَ فِي الْمَذْهَبَيْنِ بَيْنَ مَا إذَا عَطَّلَهَا أَوْ سَكَنَهَا. وَقَالَ مَالِكٌ: إنْ سَكَنَهَا يَجِبُ أَجْرُ الْمِثْلِ، وَإِنْ عَطَّلَهَا لَا شَيْءَ عَلَيْهِ. لَهُ أَنَّ الْمَنَافِعَ أَمْوَالٌ مُتَقَوِّمَةٌ حَتَّى تُضْمَنَ بِالْعُقُودِ فَكَذَا بِالْغُصُوبِ. وَلَنَا أَنَّهَا حَصَلَتْ عَلَى مِلْكِ الْغَاصِبِ لِحُدُوثِهَا فِي إمْكَانِهِ إذْ هِيَ لَمْ تَكُنْ حَادِثَةً فِي يَدِ الْمَالِكِ؛ لِأَنَّهَا أَعْرَاضٌ لَا تَبْقَى فَيَمْلِكُهَا دَفْعًا لِحَاجَتِهِ، وَالْإِنْسَانُ لَا يَضْمَنُ مِلْكَهُ، كَيْفَ وَأَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ
الثَّانِيَةِ أَنَّ الْوِلَادَةَ لَيْسَتْ بِسَبَبٍ لِمَوْتِ الْأُمِّ، إذَا لَا تُفْضِي إلَيْهِ غَالِبًا فَكَانَ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ تَدَافُعٌ فَلْيُتَأَمَّلْ فِي التَّوْجِيهِ
(قَوْلُهُ وَلَنَا أَنَّهَا حَصَلَتْ عَلَى مِلْكِ الْغَاصِبِ لِحُدُوثِهَا فِي إمْكَانِهِ، إذْ هِيَ لَمْ تَكُنْ حَادِثَةً فِي يَدِ الْمَالِكِ؛ لِأَنَّهَا أَعْرَاضٌ لَا تَبْقَى فَيَمْلِكُهَا دَفْعًا لِحَاجَتِهِ وَالْإِنْسَانُ لَا يَضْمَنُ مِلْكَهُ) لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: مُقْتَضَى هَذَا الدَّلِيلِ أَنْ لَا تَجِبَ الْأُجْرَةُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ فِيمَا إذَا حَدَثَتْ الْمَنَافِعُ فِي يَدِهِ كَمَا فِي اسْتِئْجَارِ الدُّورِ وَالْأَرَاضِيِ وَالدَّوَابِّ وَنَحْوِهَا؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ كَمَا لَا يَضْمَنُ مِلْكَهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْأُجْرَةُ بِمُقَابَلَةِ مِلْكِهِ مَعَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْأُجْرَةُ فِي ذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَمْ أَرَ أَحَدًا حَامَ حَوْلَ جَوَابِ هَذَا الْإِشْكَالِ مَعَ ظُهُورِ وُرُودِهِ إلَّا صَاحِبَ غَايَةِ الْبَيَانِ فَإِنَّهُ قَالَ: وَالْجَوَابُ عَنْ مَسْأَلَةِ الْإِيجَابِ.
قُلْنَا: لَا تَجِبُ الْأُجْرَةُ عِنْدَنَا بِمُقَابَلَةِ الْمَنَافِعِ بَلْ بِمُقَابَلَةِ التَّمْكِينِ مِنْ جِهَةِ الْمَالِكِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْمَنَافِعِ إلَّا بِتَمَكُّنِهِ كَانَ ذَلِكَ طَرِيقًا لِلْوُصُولِ إلَى اسْتِيفَاءِ الْمَنَافِعِ فَأَعْطَى لِمَا هُوَ وَسِيلَةٌ إلَى الْمَنْفَعَةِ حُكْمَ الْمَنْفَعَةِ فِي حَقِّ وُجُوبِ الْأُجْرَةِ بِاعْتِبَارِ الْحَاجَةِ اهـ.
أَقُولُ: هَذَا الْجَوَابُ وَإِنْ كَانَ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُخَلِّصًا هَاهُنَا إلَّا أَنَّهُ يَسْتَدْعِي تَرْكَ ظَاهِرِ كَثِيرٍ مِمَّا ذَكَرُوا فِي كِتَابِ الْإِجَارَاتِ، كَقَوْلِهِمْ الْإِجَارَةُ تَمْلِيكُ النَّافِعِ بِعِوَضٍ، وَقَوْلِهِمْ وَالْقِيَاسُ يَأْبَى جَوَازَهَا؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ الْمَنْفَعَةُ وَهِيَ مَعْدُومَةٌ، وَقَوْلُهُمْ وَتَنْعَقِدُ الْإِجَارَةُ سَاعَةً فَسَاعَةً عَلَى حَسْبِ حُدُوثِ الْمَنَافِعِ؛ لِأَنَّ الْمُعَاوَضَةَ تَقْتَضِي التَّسَاوِي، وَالْمِلْكَ فِي الْمَنْفَعَةِ الَّتِي هِيَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ يَقَعُ سَاعَةً فَسَاعَةً عَلَى حَسْبِ حُدُوثِهَا فَكَذَا فِي بَدَلِهَا وَهُوَ الْأُجْرَةُ، وَقَوْلُهُمْ وَالدَّارُ أُقِيمَتْ مَقَامَ الْمَنْفَعَةِ فِي حَقِّ إضَافَةِ الْعَقْدِ إلَيْهَا لِيَرْتَبِطَ الْإِيجَابُ بِالْقَبُولِ ثُمَّ عَمَلُهُ يَظْهَرُ فِي حَقِّ الْمَنْفَعَةِ مِلْكًا وَاسْتِحْقَاقًا حَالَ وُجُوبِ الْمَنْفَعَةِ، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَقْوَالِ الدَّالَّةِ عَلَى كَوْنِ الْأُجْرَةِ بِمُقَابَلَةِ الْمَنَافِعِ، وَلَعَلَّ تَأْوِيلَ كُلِّهَا مُتَعَسِّرٌ بَلْ مُتَعَذِّرٌ تَأَمَّلَ تَقِفُ.
ثُمَّ أَقُولُ: الْأَوْلَى فِي الْجَوَابِ عِنْدِي أَنْ يُقَالَ: اقْتِضَاءُ الدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ عَدَمَ وُجُوبِ الْأُجْرَةِ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ فِيمَا إذَا حَدَثَتْ الْمَنَافِعُ فِي يَدِهِ إنَّمَا هُوَ عَلَى مُوجِبِ الْقِيَاسِ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْإِجَارَاتِ أَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَى جَوَازَهَا، إلَّا أَنَّهَا جُوِّزَتْ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ بِالنَّصِّ اسْتِحْسَانًا لِحَاجَةِ النَّاسِ إلَيْهَا، وَأَنَّ جَوَازَهَا عِنْدَنَا بِاعْتِبَارِ إقَامَةِ الْعَيْنِ الَّتِي هِيَ لِوُجُودِ الْمَنْفَعَةِ كَالدَّارِ مَثَلًا مَقَامَ
غَصْبُهَا وَإِتْلَافُهَا؛ لِأَنَّهُ لَا بَقَاءَ لَهَا، وَلِأَنَّهَا لَا تُمَاثِلُ الْأَعْيَانَ لِسُرْعَةِ فَنَائِهَا وَبَقَاءِ الْأَعْيَانِ،
الْمَنْفَعَةِ فِي حَقِّ صِحَّةِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ، فَيَجُوزُ فِي الْإِجَارَةِ أَنْ تَجِبَ الْأُجْرَةُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ بِمُقَابَلَةِ الْمَنَافِعِ الَّتِي حَصَلَتْ عَلَى مِلْكِهِ بِحُدُوثِهَا فِي يَدِهِ إذَا وَقَعَ التَّرَاضِي عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ إقَامَةِ الْعَيْنِ الَّتِي هِيَ مِلْكُ الْمُؤَجِّرِ وَسَبَبٌ لِوُجُودِ الْمَنْفَعَةِ مَقَامَ الْمَنْفَعَةِ عَلَى مُوجِبِ الِاسْتِحْسَانِ بِالنَّصِّ، بِخِلَافِ الْغَصْبِ فَإِنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا فَلَا يُرْتَكَبُ فِيهِ مَا يُخَالِفُ الْقِيَاسَ فَتَدَبَّرْ (قَوْلُهُ: وَلِأَنَّهَا لَا تُمَاثِلُ الْأَعْيَانَ لِسُرْعَةِ فَنَائِهَا وَبَقَاءِ الْأَعْيَانِ) أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَذَا الدَّلِيلُ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنَافِعَ الْمَغْصُوبِ لَا تُضْمَنُ بِالْأَعْيَانِ لِعَدَمِ الْمُمَاثَلَةِ بَيْنَهُمَا، وَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمَا لَا تُضْمَنُ بِالْمَنَافِعِ الْمُمَاثِلَةِ لَهَا وَالْمُدَّعَى عَدَمُ مَضْمُونِيَّتِهَا أَصْلًا فَلَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ.
وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ عَنْهُ بِأَنَّ مَبْنَى تَقْرِيرِ الْمُصَنِّفِ هَذَا الدَّلِيلَ عَلَى الْوَجْهِ الْمَزْبُورِ تَقَرُّرُ عَدَمِ مَضْمُونِيَّتِهَا بِالْمَنَافِعِ بِالْإِجْمَاعِ، فَكَأَنَّهُ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِنَفْيِ هَذَا الِاحْتِمَالِ لِظُهُورِهِ، يُرْشِدُ إلَى ذَلِكَ تَقْرِيرُ صَاحِبِ الْكَافِي هَذَا الدَّلِيلَ حَيْثُ قَالَ: وَلَئِنْ سَلَّمْنَا تَصَوُّرَ غَصْبِهَا فَلَا يُمْكِنُ تَضَمُّنُهَا؛ لِأَنَّهَا لَوْ صَارَتْ مَضْمُونَةً عَلَى الْغَاصِبِ فَإِمَّا أَنْ تُضْمَنَ بِالْمَنَافِعِ وَهُوَ بَاطِلٌ وَلَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ، أَوْ بِالْأَعْيَانِ وَهُوَ بَاطِلٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّهَا لَا تُمَاثِلُ الْأَعْيَانَ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ أَعْرَاضٌ لَا تَبْقَى وَقْتَيْنِ وَالْعَيْنُ تَبْقَى أَوْقَاتًا. وَبَيْنَ مَا يَبْقَى وَمَا لَا يَبْقَى تَفَاوُتٌ عَظِيمٌ، وَضَمَانُ الْعُدْوَانِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمُمَاثَلَةِ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ، وَيُرْشِدُ إلَيْهِ أَيْضًا تَقْرِيرُ صَاحِبِ غَايَةِ الْبَيَانِ ذَلِكَ الدَّلِيلَ حَيْثُ قَالَ: وَلِأَنَّ الْمَنَافِعَ لَوْ كَانَتْ مَضْمُونَةً عَلَى الْغَاصِبِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ تَكُونَ مَضْمُونَةً بِأَمْثَالِهَا مِنْ الْمَنَافِعِ، أَوْ بِغَيْرِهَا مِنْ الْأَعْيَانِ كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَضْمُونَةً بِالْأَمْثَالِ وَهِيَ الْمَنَافِعُ؛ لِأَنَّهُ لَا قَائِلَ بِذَلِكَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَضْمُونَةً بِالْأَعْيَانِ لِعَدَمِ الْمُمَاثَلَةِ، وَالْمُمَاثَلَةُ شَرْطٌ فِي ضَمَانِ الْعُدْوَانِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} اهـ. قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَاعْتُرِضَ بِمَا إذَا أَتْلَفَ مَا يُسْرِعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ فَإِنَّهُ يَضْمَنُهُ بِالدَّرَاهِمِ الَّتِي تَبْقَى، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُمَاثَلَةَ مِنْ حَيْثُ الْفَنَاءُ وَالْبَقَاءُ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ، وَبِمَا إذَا اسْتَأْجَرَ الْوَصِيُّ لِلْيَتِيمِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ بِدَرَاهِمِ الْيَتِيمِ فَإِنَّهُ جَائِزٌ لَا مَحَالَةَ، وَلَوْ كَانَ مَا ذَكَرْتُمْ صَحِيحًا لَمَا جَازَ؛ لِأَنَّ الْقُرْبَانَ إلَى مَالِ الْيَتِيمِ لَا يَجُوزُ إلَّا بِالْوَجْهِ الْأَحْسَنِ.
وَأُجِيبَ عَنْ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الْمُمَاثَلَةَ الْمُعْتَبَرَةَ هِيَ مَا تَكُونُ بَيْنَ بَاقٍ وَبَاقٍ لَا بَيْنَ بَاقٍ وَأَبْقَى فَكَانَ السُّؤَالُ غَيْرَ وَارِدٍ، وَهَذَا رَاجِعٌ إلَى أَنَّهَا تُعْتَبَرُ بَيْنَ جَوْهَرَيْنِ لَا بَيْنَ جَوْهَرٍ وَعَرَضٍ، أَلَا يَرَى أَنَّ بَيْعَ الثِّيَابِ بِالدَّرَاهِمِ جَائِزٌ وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا يَبْلَى دُونَ الْآخَرِ، وَعَنْ الثَّانِي بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ شِرَاءَ الثِّيَابِ بِدَرَاهِمِ الْيَتِيمِ جَائِزٌ لِلْوَصِيِّ مَعَ وُجُودِ التَّفَاوُتِ كَمَا ذَكَرْنَا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْقُرْبَانَ بِالْأَحْسَنِ فِي مَالِ الْيَتِيمِ هُوَ مَا لَا يُعَدُّ عَيْبًا فِي التَّصَرُّفَاتِ اهـ كَلَامُهُ. أَقُولُ: فِيمَا ذَكَرَهُ فِي كُلٍّ مِنْ الْجَوَابَيْنِ شَيْءٌ. أَمَّا فِي الْأَوَّلِ؛ فَلِأَنَّ تَنْوِيرَهُ بِقَوْلِهِ أَلَا يَرَى أَنَّ بَيْعَ الثِّيَابِ بِالدَّرَاهِمِ جَائِزٌ وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا يَبْلَى دُونَ الْآخَرِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّ جَوَازَ نَوْعٍ مِنْ التَّفَاوُتِ بَيْنَ الْبَدَلَيْنِ فِي الْبَيْعِ لَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ فِي ضَمَانِ الْعُدْوَانِ؛ لِأَنَّ لِلْعَقْدِ وَالرِّضَا تَأْثِيرًا فِي تَجْوِيزِ كَثِيرٍ مِنْ التَّفَاوُتِ، وَعَنْ هَذَا قَالُوا: يَجُوزُ بَيْعُ عَبْدٍ قِيمَتُهُ أَلْفٌ بِأُلُوفٍ وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ التَّفَاوُتُ فِي ضَمَانِ الْعُدْوَانِ قَطْعًا، أَلَا يَرَى أَنَّ التَّفَاوُتَ بَيْنَ جَوْهَرٍ وَعَرَضٍ يَجُوزُ أَيْضًا بِالْعَقْدِ كَمَا إذَا اسْتَأْجَرَ مَنْفَعَةَ دَارٍ مَثَلًا بِدَرَاهِمَ مُعَيَّنَةٍ مَعَ أَنَّ الْمُمَاثَلَةَ الْمُعْتَبَرَةَ فِي ضَمَانِ الْعُدْوَانِ لَا تُتَصَوَّرُ بَيْنَ جَوْهَرٍ وَعَرَضٍ كَمَا صَرَّحَا بِهِ.
وَأَمَّا فِي الثَّانِي؛ فَلِأَنَّ جَوَازَ شِرَاءِ الثِّيَابِ بِدَرَاهِمِ الْيَتِيمِ لِلْوَصِيِّ لَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ اسْتِئْجَارِ الْوَصِيِّ لِلْيَتِيمِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ بِدَرَاهِمِهِ؛ لِأَنَّ التَّفَاوُتَ فِي الْأَوَّلِ بَيْنَ جَوْهَرٍ وَجَوْهَرٍ وَهُوَ تَفَاوُتٌ غَيْرُ فَاحِشٍ، وَالتَّفَاوُتُ فِي الثَّانِي بَيْنَ جَوْهَرٍ وَعَرَضٍ وَهُوَ تَفَاوُتٌ فَاحِشٌ، وَلَا شَكَّ أَنَّ جَوَازَ تَصَرُّفِ الْوَصِيِّ فِي مَالِ الْيَتِيمِ بِالتَّفَاوُتِ الْغَيْرِ الْفَاحِشِ لَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ تَصَرُّفِهِ بِالتَّفَاوُتِ الْفَاحِشِ، أَلَا يَرَى أَنَّ التَّفَاوُتَ الْفَاحِشَ الَّذِي بَيْنَ جَوْهَرٍ وَعَرَضٍ يَمْنَعُ الْمُمَاثَلَةَ الْمُعْتَبَرَةَ فِي ضَمَانِ الْعُدْوَانِ دُونَ التَّفَاوُتِ الْغَيْرِ الْفَاحِشِ الَّذِي بَيْنَ جَوْهَرٍ وَجَوْهَرٍ، فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ فِي تَصَرُّفِ
وَقَدْ عَرَفْت هَذِهِ الْمَآخِذَ فِي الْمُخْتَلِفِ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهَا مُتَقَوِّمَةٌ فِي ذَاتِهَا، بَلْ تُقَوَّمُ ضَرُورَةً عِنْدَ وُرُودِ الْعَقْدِ وَلَمْ يُوجَدْ الْعَقْدُ، إلَّا أَنَّ مَا اُنْتُقِصَ بِاسْتِعْمَالِهِ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ لِاسْتِهْلَاكِهِ بَعْضَ أَجْزَاءِ الْعَيْنِ.
الْوَصِيِّ فِي مَالِ الْيَتِيمِ أَيْضًا كَذَلِكَ؟ فَمِنْ أَيْنَ ثَبَتَتْ دَلَالَةُ جَوَازِ شِرَاءِ الثِّيَابِ بِدَرَاهِمِ الْيَتِيمِ لِلْوَصِيِّ عَلَى أَنَّ الْقُرْبَانَ بِالْأَحْسَنِ فِي مَالِ الْيَتِيمِ هُوَ مُجَرَّدُ مَا لَا يُعَدُّ عَيْبًا فِي التَّصَرُّفَاتِ. نَعَمْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْقُرْبَانِ الْأَحْسَنِ فِي قَوْله تَعَالَى {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} ذَلِكَ الْمَعْنَى لَكِنَّهُ إنَّمَا يُعْرَفُ بِدَلِيلٍ آخَرَ لَا بِمَا ذَكَرَ مِنْ جَوَازِ شِرَاءِ الثِّيَابِ بِدَرَاهِمِ الْيَتِيمِ لِلْوَصِيِّ.
(قَوْلُهُ وَقَدْ عَرَفْت هَذِهِ الْمَآخِذَ فِي الْمُخْتَلِفِ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْمَآخِذِ: أَيْ الْعِلَلِ الَّتِي هِيَ مَنَاطُ الْحُكْمِ، مَا ذَكَرَهُ أَوَّلًا بِقَوْلِهِ؛ لِأَنَّهَا حَصَلَتْ فِي مِلْكِ الْغَاصِبِ، وَثَانِيًا بِقَوْلِهِ إنَّهَا لَا يَتَحَقَّقُ غَصْبُهَا وَإِتْلَافُهَا، وَثَالِثًا بِقَوْلِهِ: لِأَنَّهَا لَا تُمَاثِلُ الْأَعْيَانَ إلَخْ اهـ.
أَقُولُ: فِيهِ نَوْعُ خَلَلٍ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: أَوْ مَا ذَكَرَهُ، بِكَلِمَةِ أَوْ وَهِيَ لِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْعِلَلَ الَّتِي كَانَتْ مَنَاطَ الْحُكْمِ هَاهُنَا وَأَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ بِهَذِهِ الْمَآخِذِ هِيَ مَا ذَكَرَهُ أَوَّلًا وَثَانِيًا وَثَالِثًا بِأَقْوَالِهِ الْمَزْبُورَةِ لَا أَمْرٌ آخَرُ، فَكَيْفَ يَصِحُّ الْعَطْفُ بِكَلِمَةِ أَوْ.
وَقَالَ صَاحِبُ الْغَايَةِ هَاهُنَا: أَرَادَ بِالْمَآخِذِ الْعِلَلَ الَّتِي هِيَ مَنَاطُ الْحُكْمِ، وَأَرَادَ بِالْمَآخِذِ مَا ذَكَرَهُ أَوَّلًا بِقَوْلِهِ إنَّهَا حَصَلَتْ فِي مِلْكِ الْغَاصِبِ وَثَانِيًا إنَّهَا لَا يَتَحَقَّقُ غَصْبُهَا وَإِتْلَافُهَا وَثَالِثًا إنَّهَا لَا تُمَاثِلُ الْأَعْيَانَ، وَالشَّرْطُ فِي ضَمَانِ الْعُدْوَانِ الْمُمَاثَلَةُ بِالنَّصِّ اهـ.
أَقُولُ: يُرَدُّ عَلَى ظَاهِرِهِ أَنَّ الْعِلَلَ الَّتِي هِيَ مَنَاطُ الْحُكْمِ هَاهُنَا هِيَ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ أَوَّلًا وَثَانِيًا وَثَالِثًا بِعَيْنِهِ كَمَا عَرَفْتَهُ آنِفًا، فَمَا مَعْنَى قَوْلِ هَذَا الشَّارِحِ أَرَادَ بِالْمَآخِذِ هَذَا وَأَرَادَ بِهَا ذَاكَ، وَالْعَطْفُ يَقْتَضِي التَّغَايُرَ بَيْنَ الْمَعْطُوفَيْنِ، لَكِنْ يُمْكِنُ تَوْجِيهُهُ بِأَنْ يَكُونَ مَقْصُودُهُ بِقَوْلِهِ أَرَادَ بِالْمَآخِذِ الْعِلَلَ الَّتِي هِيَ مَنَاطُ الْحُكْمِ تَفْسِيرَ مَعْنَى الْمَآخِذِ هَاهُنَا، وَبِقَوْلِهِ وَأَرَادَ بِالْمَآخِذِ مَا ذَكَرَهُ إلَخْ تَفْسِيرَ مَا صَدَقَ عَلَيْهِ الْمَآخِذُ هَاهُنَا وَتَعَيُّنَهُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَرَادَ بِمَعْنَى الْمَآخِذِ هَاهُنَا هَذَا وَأَرَادَ بِمَا صَدَقَ عَلَيْهِ الْمَآخِذُ هَاهُنَا ذَاكَ، وَالْمُغَايَرَةُ بَيْنَ الْمَفْهُومِ وَمَا صَدَقَ عَلَيْهِ ظَاهِرُهُ فَيَصِحُّ الْعَطْفُ، إلَّا أَنَّهُ لَوْ قَالَ فِي الثَّانِي وَأَرَادَ بِهَذِهِ الْمَآخِذِ مَا ذَكَرَهُ إلَخْ لَكَانَ أَحْسَنَ لِكَوْنِهِ أَدَلَّ عَلَى إرَادَةِ مَا صَدَقَ عَلَيْهِ الْمَآخِذُ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى الْفَطِنِ. ثُمَّ أَقُولُ: بَقِيَ فِي هَذَا الْمَقَامِ بَحْثٌ قَوِيٌّ، وَهُوَ أَنَّهُ قَدْ صَرَّحَ فِي مُعْتَبَرَاتِ الْفَتَاوَى بِأَنَّ مَنَافِعَ الْغَصْبِ مَضْمُونَةٌ عِنْدَنَا أَيْضًا فِي الْوَقْفِ وَمَالِ الْيَتِيمِ وَمَا كَانَ مُعَدًّا لِلْإِجَارَةِ مَعَ أَنَّ الْعِلَلَ الْمَذْكُورَةَ الَّتِي هِيَ مَنَاطُ الْحُكْمِ بِعَدَمِ ضَمَانِ مَنَافِعِ الْغَصْبِ جَارِيَةٌ بِعَيْنِهَا فِي تِلْكَ الصُّوَرِ أَيْضًا. فَإِنْ قُلْت: الْعِلَلُ الْمَذْكُورَةُ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ وَالْقَوْلُ بِضَمَانِ الْمَنَافِعِ فِي تِلْكَ الصُّوَرِ مُوجِبُ الِاسْتِحْسَانِ نَظَرًا لِلْوَقْفِ وَمَالِ الْيَتِيمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَيَجُوزُ تَرْكُ الْقِيَاسِ بِالِاسْتِحْسَانِ. قُلْت: ذَلِكَ فِيمَا يُتَصَوَّرُ وَيُمْكِنُ، وَتِلْكَ الْعِلَلُ بَعْضُهَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ تَصَوُّرِ الْغَصْبِ وَالْعُدْوَانِ فِي الْمَنَافِعِ، وَبَعْضُهَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ إمْكَانِ تَضْمِينِ الْمَنَافِعِ بِالْأَعْيَانِ لِعَدَمِ الْمُمَاثَلَةِ بَيْنَهُمَا، وَبِنَاءُ ضَمَانِ الْعُدْوَانِ عَلَى الْمُمَاثَلَةِ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ، فَإِجْرَاءُ الِاسْتِحْسَانِ فِي خِلَافِ ذَلِكَ مُشْكِلٌ جِدًّا.
(فَصْلٌ فِي غَصْبِ مَا لَا يُتَقَوَّمُ)
قَالَ (وَإِذَا أَتْلَفَ الْمُسْلِمُ خَمْرَ الذِّمِّيِّ أَوْ خِنْزِيرَهُ ضَمِنَ قِيمَتَهُمَا، فَإِنْ أَتْلَفَهُمَا لِمُسْلِمٍ لَمْ يَضْمَنْ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَضْمَنُهَا لِلذِّمِّيِّ أَيْضًا وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا أَتْلَفَهُمَا ذِمِّيٌّ عَلَى ذِمِّيٍّ أَوْ بَاعَهُمَا الذِّمِّيُّ مِنْ الذِّمِّيِّ. لَهُ أَنَّهُ سَقَطَ تَقَوُّمُهُمَا فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ فَكَذَا فِي حَقِّ الذِّمِّيِّ؛ لِأَنَّهُمْ أَتْبَاعٌ لَنَا فِي الْأَحْكَامِ فَلَا يَجِبُ بِإِتْلَافِهِمَا مَالٌ مُتَقَوِّمٌ وَهُوَ الضَّمَانُ. وَلَنَا أَنَّ التَّقْوِيمَ بَاقٍ فِي حَقِّهِمْ، إذْ الْخَمْرُ لَهُمْ كَالْخَلِّ لَنَا وَالْخِنْزِيرُ لَهُمْ كَالشَّاةِ لَنَا.
(فَصْلٌ فِي غَصْبِ مَا لَا يُتَقَوَّمُ)
قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ أَحْكَامِ غَصْبِ مَا يُتَقَوَّمُ وَهُوَ الْأَصْلُ؛ لِأَنَّ الْغَصْبَ بِحَدِّهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ شَرْعًا فِي بَيَانِ أَحْكَامِ غَصْبِ مَا لَا يُتَقَوَّمُ بِاعْتِبَارِ عَرَضِيَّةٍ أَنْ يَصِيرَ مُتَقَوِّمًا، إمَّا بِاعْتِبَارِ دِيَانَةِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ بِأَنَّهُ مُتَقَوِّمٌ أَوْ بِتَغَيُّرِهِ فِي نَفْسِهِ إلَى التَّقْوِيمِ اهـ كَلَامُهُ. وَقَدْ اقْتَفِي أَثَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ. أَقُولُ: لَا يَذْهَبُ عَلَيْك أَنَّهُ لَا حَاجَةَ هُنَا إلَى الْمَصِيرِ إلَى اعْتِبَارِ عَرَضِيَّةٍ أَنْ يَصِيرَ مَا لَا يُتَقَوَّمُ مُتَقَوِّمًا بِأَحَدِ الِاعْتِبَارَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ، بَلْ لَا وَجْهَ لَهُ عِنْدَ النَّظَرِ الدَّقِيقِ؛ لِأَنَّ الْمُبَيَّنَ فِي هَذَا الْفَصْلِ ضَمَانُ مَا لَا يُتَقَوَّمُ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ وَعَدَمُ ضَمَانِهِ فِي بَعْضِهَا، فَفِي مَا لَا ضَمَانَ فِيهِ كَإِتْلَافِ خَمْرِ الْمُسْلِمِ وَخِنْزِيرِهِ لَا وَجْهَ لِاعْتِبَارِ عَرَضِيَّةٍ أَنْ يَصِيرَ مُتَقَوِّمًا بِاعْتِبَارٍ مَا أَصْلًا. فَإِنَّ اعْتِبَارَ عَرَضِيَّةِ أَنْ يَصِيرَ مُتَقَوِّمًا مِمَّا لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي حُكْمِ عَدَمِ الضَّمَانِ قَطْعًا بَلْ لَهُ نَوْعُ إبَاءٍ عَنْهُ، وَلَعَلَّ بَعْضَ الشُّرَّاحِ تَنَبَّهَ لِهَذَا فَتَرَكَ حَدِيثَ اعْتِبَارِ عَرَضِيَّةِ أَنْ يَصِيرَ مُتَقَوِّمًا مِنْهُمْ الشَّارِحُ الْكَاكِيُّ حَيْثُ قَالَ: لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ غَصْبِ مَا يُتَقَوَّمُ إذْ هُوَ الْأَصْلُ شَرَعَ فِي بَيَانِ غَصْبِ مَا لَا يُتَقَوَّمُ اهـ. وَمِنْهُمْ الشَّارِحُ الْأَتْقَانِيُّ حَيْثُ قَالَ: لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ غَصْبِ مَا يُتَقَوَّمُ وَهُوَ الْأَصْلُ شَرَعَ فِي بَيَانِ غَصْبِ مَا لَا يُتَقَوَّمُ كَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ هَلْ يَجِبُ بِهِ الضَّمَانُ أَمْ لَا اهـ (قَوْلُهُ وَلَنَا أَنَّ التَّقَوُّمَ بَاقٍ فِي حَقِّهِمْ، إذَا الْخَمْرُ لَهُمْ كَالْخَلِّ لَنَا وَالْخِنْزِيرُ لَهُمْ كَالشَّاةِ لَنَا) أَقُولُ: فِيهِ إشْكَالٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْخَصْمَ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
قَالَ: إنَّهُمْ أَتْبَاعٌ لَنَا فِي الْأَحْكَامِ، وَتَمَسَّكَ بِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «إذَا قَبِلُوا عَقْدَ الذِّمَّةِ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ لَهُمْ مَا لِلْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ» كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْكَافِي وَعَامَّةِ الشُّرُوحِ. فَكَيْفَ يَتِمُّ التَّعْلِيلُ بِأَنَّ التَّقَوُّمَ بَاقٍ فِي حَقِّهِمْ فِي مُقَابَلَةِ ذَلِكَ الْحَدِيثِ الدَّالِ عَلَى كَوْنِهِمْ أَتْبَاعًا لَنَا فِي الْأَحْكَامِ، وَالتَّعْلِيلُ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ غَيْرُ صَحِيحٍ عَلَى مَا عُرِفَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ.
فَإِنْ قُلْت: نَحْنُ أُمِرْنَا أَنْ نَتْرُكَهُمْ وَمَا يَدِينُونَ كَمَا ذَكَرَ فِي أَثْنَاءِ التَّعْلِيلِ مَنْ قَبْلَنَا، فَيَدُلُّ النَّصُّ الْمُتَضَمِّنُ لِهَذَا الْأَمْرِ وَهُوَ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «اُتْرُكْهُمْ وَمَا يَدِينُونَ» عَلَى مُدَّعَانَا هَاهُنَا. قُلْت: لِلْخَصْمِ أَنْ يَقُولَ: الْمُرَادُ بِمَا يَدِينُونَ: الدِّيَانَاتُ دُونَ الْمُعَامَلَاتِ، وَمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ الْمُعَامَلَاتِ؛ وَلَئِنْ سُلِّمَ الْعُمُومَ لِلْمُعَامَلَاتِ أَيْضًا فَيَتَحَقَّقُ التَّعَارُضُ بَيْنَ النَّصَّيْنِ فَمِنْ أَيْنَ يَثْبُتُ الرُّجْحَانُ؟. وَالثَّانِي أَنَّهُ قَدْ تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِالْإِيمَانِ وَالْعُقُوبَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ وَبِالْعِبَادَاتِ أَيْضًا فِي حَقِّ الْمُؤَاخَذَةِ فِي الْآخِرَةِ. وَأَمَّا فِي حَقِّ وُجُوبِ الْأَدَاءِ فِي الدُّنْيَا فَمُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ الْمُعَامَلَاتِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونُوا مُخَاطَبِينَ بِالْخِطَابِ الدَّالِّ عَلَى عَدَمِ تَقَوُّمِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ أَيْضًا. ثُمَّ أَقُولُ يُمْكِنُ الْجَوَابُ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: أَمَّا عَنْ الْأَوَّلِ فَبِأَنْ يُقَالَ: مَا نَحْنُ فِيهِ مُخَصَّصٌ بِالْإِجْمَاعِ مِنْ عُمُومِ النَّصِّ الدَّالِّ عَلَى كَوْنِهِمْ أَتْبَاعًا لَنَا فِي الْأَحْكَامِ، فَإِنَّ عُمَرَ رضي الله عنه حِينَ سَأَلَ عُمَّالَهُ مَاذَا تَصْنَعُونَ بِمَا يَمُرُّ بِهِ أَهْلُ الذِّمَّةِ مِنْ الْخُمُورِ؟ فَقَالُوا نُعَشِّرُهَا قَالَ لَا تَفْعَلُوا. وَلَوْ هُمْ بَاعُوهَا وَخُذُوا الْعُشْرَ مِنْ أَثْمَانِهَا، فَقَدْ جَعَلَهَا مَالًا مُتَقَوِّمًا فِي حَقِّهِمْ حَيْثُ جَوَّزَ بَيْعَهَا وَأَمَرَ بِأَخْذِ الْعُشْرِ مِنْ ثَمَنِهَا وَلَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ فَحَلَّ مَحَلَّ الْإِجْمَاعِ وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ بَعْضُ الشُّرَّاحِ. وَأَمَّا عَنْ الثَّانِي فَبِأَنْ يُقَالَ: كَوْنُ الْكُفَّارِ مُخَاطَبِينَ بِالْمُعَامَلَاتِ وَنَحْوِهَا فِيمَا يَتَحَمَّلُ الْخِطَابُ التَّعْمِيمَ لَهُمْ أَيْضًا، وَأَمَّا فِيمَا لَا يَتَحَمَّلُهُ فَلَا يَكُونُونَ مُخَاطَبِينَ بِذَلِكَ قَطْعًا، وَمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ قَبِيلِ الثَّانِي؛ لِأَنَّ الْخَمْرَ كَانَتْ مُتَقَوِّمَةً فِي شَرِيعَةِ مَنْ قَبْلَنَا وَفِي صَدْرِ شَرِيعَتِنَا، وَالْأَصْلُ أَنَّ مَا ثَبَتَ يَبْقَى إلَى أَنْ يُوجَدَ الْمُزِيلُ، وَالْمُزِيلُ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} وُجِدَ فِي حَقِّنَا بِدَلِيلِ السِّبَاقِ وَالسِّيَاقِ، فَبَقِيَ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ هَذَا الْخِطَابِ عَلَى مَا كَانَ مِنْ قَبْلُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْكَافِي وَالْكِفَايَةِ، فَلَمْ يَبْقَ مَجَالٌ لِلتَّعْمِيمِ لِلْكُفَّارِ أَيْضًا.
وَكَذَا الْحَالُ فِي الْخِنْزِيرِ عَلَى مَا حَقَّقَهُ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ حَيْثُ قَالَ: تَحْقِيقُ ذَلِكَ أَنَّ الْخَمْرَ وَالْخِنْزِيرَ كَانَا حَلَالَيْنِ فِي الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ، وَكَذَا فِي حَقِّ هَذِهِ الْأُمَّةِ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ وَرَدَ الْخِطَابُ بِالْحُرْمَةِ خَاصًّا فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ فَكَانَا حَرَامًا عَلَيْهِمْ وَبَقِيَا حَلَالًا عَلَى الْكُفَّارِ كَنِكَاحِ الْمُشْرِكَاتِ كَانَ حَلَالًا فِي حَقِّ النَّاسِ كَافَّةً ثُمَّ وَرَدَ التَّحْرِيمُ خَاصًّا فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ فَبَقِيَ حَلَالًا فِي حَقِّ الْكُفَّارِ فَكَذَا هَاهُنَا أَلَا يَرَى إلَى خِطَابِ اللَّهِ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} وَالْمُؤْمِنُ هُوَ الَّذِي يُفْلِحُ إذَا اجْتَنَبَ الْخَمْرَ، وَقَالَ تَعَالَى {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} إلَى هُنَا لَفْظُ غَايَةِ الْبَيَانِ. ثُمَّ إنَّ التَّحْقِيقَ الَّذِي لَا مَحِيدَ عَنْهُ هَاهُنَا مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْبَدَائِعِ حَيْثُ قَالَ: وَأَمَّا الْكَلَامُ فِي الْمَسْأَلَةِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى فَبَعْضُ مَشَايِخِنَا قَالُوا: الْخَمْرُ مُبَاحٌ فِي حَقِّ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَكَذَا الْخِنْزِيرُ، فَالْخَمْرُ فِي حَقِّهِمْ كَالْخَلِّ فِي حَقِّنَا وَالْخِنْزِيرُ فِي حَقِّهِمْ كَالشَّاةِ فِي حَقِّنَا فِي حَقِّ الْإِبَاحَةِ شَرْعًا، فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَالًا مُتَقَوِّمًا فِي حَقِّهِمْ.
وَدَلِيلُ الْإِبَاحَةِ فِي حَقِّهِمْ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُنْتَفِعٌ بِهِ حَقِيقَةً صَالِحٌ لِإِقَامَةِ مَصْلَحَةِ الْبَقَاءِ، وَالْأَصْلُ فِي أَسْبَابِ الْبَقَاءِ هُوَ الْإِطْلَاقُ، إلَّا أَنَّ الْحُرْمَةَ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ ثَبَتَتْ نَصًّا غَيْرَ مَعْقُولِ الْمَعْنَى، أَوْ مَعْقُولَ الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ هَاهُنَا أَوْ يُوجَدُ لَكِنَّهُ يَقْتَضِي الْحِلَّ لَا الْحُرْمَةَ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ} ؛ لِأَنَّ الصَّدَّ لَا يُوجَدُ فِي الْكَفَرَةِ، وَالْعَدَاوَةُ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَاجِبُ الْوُقُوعِ؛ لِأَنَّهَا سَبَبُ الْمُنَازَعَةِ، وَالْمُنَازَعَةُ سَبَبُ الْهَلَاكِ، وَهَذَا يُوجِبُ الْحِلَّ لَا الْحُرْمَةَ فَلَا تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ فِي حَقِّهِمْ. وَبَعْضُهُمْ قَالُوا: إنَّ الْحُرْمَةَ ثَابِتَةٌ فِي حَقِّهِمْ كَمَا هِيَ ثَابِتَةٌ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِشَرَائِعَ هِيَ حُرُمَاتٌ عِنْدَنَا هُوَ الصَّحِيحُ مِنْ الْأَقْوَالِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ. وَعَلَى هَذَا طَرِيقُ الضَّمَانِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْخَمْرَ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَالًا مُتَقَوِّمًا فِي الْحَالِ فَهِيَ بِعَرَضٍ أَنْ تَصِيرَ مَالًا مُتَقَوِّمًا فِي الثَّانِي بِالتَّخَلُّلِ وَالتَّخْلِيلِ، وَوُجُوبُ ضَمَانِ الْغَصْبِ وَالْإِتْلَافِ يَعْتَمِدُ كَوْنَ الْمَحَلِّ الْمَغْصُوبِ وَالْمُتْلَفِ مَالًا مُتَقَوِّمًا فِي الْجُمْلَةِ وَلَا يَقِفُ عَلَى ذَلِكَ الْحَالِ، أَلَا يَرَى أَنَّ الْمُهْرَ وَالْجَحْشَ وَمَا
وَنَحْنُ أُمِرْنَا بِأَنْ نَتْرُكَهُمْ وَمَا يَدِينُونَ وَالسَّيْفُ مَوْضُوعٌ فَيَتَعَذَّرُ الْإِلْزَامُ، وَإِذَا بَقِيَ التَّقَوُّمُ فَقَدْ وُجِدَ إتْلَافُ مَالٍ مَمْلُوكٍ مُتَقَوِّمٍ فَيَضْمَنُهُ. بِخِلَافِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ؛ لِأَنَّ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْأَدْيَانِ لَا يَدِينُ تَمَوُّلَهُمَا، إلَّا أَنَّهُ تَجِبُ قِيمَةُ الْخَمْرِ وَإِنْ كَانَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ مَمْنُوعٌ عَنْ تَمْلِيكِهِ لِكَوْنِهِ إعْزَازًا لَهُ، بِخِلَافِ مَا إذَا جَرَتْ الْمُبَايَعَةُ بَيْنَ الذِّمِّيِّينَ؛ لِأَنَّ الذِّمِّيَّ غَيْرُ مَمْنُوعٍ عَنْ تَمْلِيكِ الْخَمْرِ وَتَمَلُّكِهَا.
لَا مَنْفَعَةَ لَهُ فِي الْحَالِ مَضْمُونٌ بِالْغَصْبِ وَالْإِتْلَافِ. وَالثَّانِي أَنَّ الشَّرْعَ مَنَعَنَا عَنْ التَّعَرُّضِ لَهُمْ بِالْمَنْعِ عَنْ شُرْبِ الْخَمْرِ وَأَكْلِ الْخِنْزِيرِ حِسًّا لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: أُمِرْنَا أَنْ نَتْرُكَهُمْ وَمَا يَدِينُونَ، وَمِثْلُهُ لَا يَكْذِبُ وَقَدْ دَانُوا شُرْبَ الْخَمْرِ وَأَكْلَ الْخِنْزِيرِ فَلَزِمَنَا تَرْكُ التَّعَرُّضِ لَهُمْ فِي ذَلِكَ، وَنَفْيُ الضَّمَانِ بِالْغَصْبِ وَالْإِتْلَافِ يُفْضِي إلَى التَّعَرُّضِ؛ لِأَنَّ السَّفِيهَ إذَا عَلِمَ أَنَّهُ إذَا غَصَبَ أَوْ أَتْلَفَ لَا يُؤَاخَذُ بِالضَّمَانِ يَقْدُمُ عَلَى ذَلِكَ، وَفِي ذَلِكَ مَنْعُهُمْ وَالتَّعَرُّضُ لَهُمْ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ إلَى هُنَا لَفْظُ الْبَدَائِعِ.
(قَوْلُهُ وَنَحْنُ أُمِرْنَا بِأَنْ نَتْرُكَهُمْ وَمَا يَدِينُونَ) أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: فَلِمَ لَا نَتْرُكُهُمْ وَمَا يَدِينُونَ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ كَإِحْدَاثِ الْبَيْعَةِ وَالْكَنِيسَةِ وَكَرُكُوبِ الْخَيْلِ وَحَمْلِ السِّلَاحِ فَإِنَّهُمْ يُمْنَعُونَ مِنْهَا عَلَى مَا مَرَّ فِي كِتَابِ السَّيْرِ.
وَالْجَوَابُ أَنَّ أَمْثَالَهَا مُسْتَثْنًى مِمَّا يَدِينُونَ بِدَلَائِلَ ذُكِرَتْ فِي مَوْضِعِهَا، كَمَا أَنَّ الرِّبَا مُسْتَثْنًى مِنْ عُقُودِهِمْ بِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «أَلَا مَنْ أَرْبَى فَلَيْسَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ عَهْدٌ» عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ عَنْ قَرِيبٍ. قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ أَخْذًا مِنْ النِّهَايَةِ، وَنُوقِضَ بِمَا إذَا مَاتَ الْمَجُوسِيُّ عَنْ ابْنَتَيْنِ إحْدَاهُمَا امْرَأَتُهُ فَإِنَّهَا لَا تَسْتَحِقُّ بِالزَّوْجِيَّةِ شَيْئًا مِنْ الْمِيرَاثِ مَعَ اعْتِقَادِهِمْ صِحَّةَ ذَلِكَ النِّكَاحِ، وَصِحَّةُ النِّكَاحِ تُوجِبُ تَوْرِيثَ الْمَرْأَةِ مِنْ زَوْجِهَا فِي جَمِيعِ الْأَدْيَانِ إذَا لَمْ يُوجَدْ الْمَانِعُ وَلَمْ يُوجَدْ فِي دِيَانَتِهِمْ ثُمَّ لَمْ نَتْرُكْهُمْ وَمَا يَدِينُونَ. وَأُجِيبُ بِأَنْ لَا نُسَلِّمَ أَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ التَّوْرِيثَ بِأَنْكِحَةِ الْمَحَارِمِ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ بَيَانٍ اهـ. وَاعْتَرَضَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ عَلَى الْجَوَابِ حَيْثُ قَالَ فِيهِ: إنَّ مُرَادَ النَّاقِضِ أَنَّا إذَا حَكَمْنَا بَيْنَهُمْ عَلَى شَرْعِ الْإِسْلَامِ بِطَلَبِهِمْ ذَلِكَ لَا نُوَرِّثُهَا اهـ. أَقُولُ: لَيْسَ فِيمَا ذَكَرَهُ كَبِيرُ حَاصِلٍ، إذْ مُرَادُ الْمُجِيبِ أَيْضًا أَنَّ عَدَمَ تَوْرِيثِنَا إيَّاهَا إذَا حَكَمْنَا بَيْنَهُمْ عَلَى شَرْعِ الْإِسْلَامِ بِطَلَبِهِمْ ذَلِكَ لِعَدَمِ ثُبُوتِ اعْتِقَادِهِمْ التَّوْرِيثَ بِأَنْكِحَةِ الْمَحَارِمِ. نَعَمْ يَعْتَقِدُ الْمَجُوسِيُّ صِحَّةَ نِكَاحِ الْمَحَارِمِ، وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ اعْتِقَادِ صِحَّةِ النِّكَاحِ اعْتِقَادُ اسْتِحْقَاقِ الْمِيرَاثِ؛ أَلَا يَرَى أَنَّ الْمِيرَاثَ يَمْتَنِعُ بِالرِّقِّ وَاخْتِلَافِ الدِّينِ مَعَ صِحَّةِ النِّكَاحِ، وَقَدْ صَرَّحَ بِهَذَا التَّفْصِيلِ فِي النِّهَايَةِ، وَإِنْ أَرَادَ ذَلِكَ الْقَائِلُ أَنَّهُمْ لَوْ اعْتَقَدُوا التَّوْرِيثَ بِأَنْكِحَةِ الْمَحَارِمِ وَطَلَبُوا ذَلِكَ لَمْ نَحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِذَلِكَ أَيْضًا عَلَى شَرْعِ الْإِسْلَامِ، فَلَا فَائِدَةَ فِيهِ؛ لِأَنَّ مَا يَضُرُّنَا إنَّمَا هُوَ النَّقْضُ بِمَا هُوَ أَمْرٌ وَاقِعٌ لَا بِمَا هُوَ فَرْضٌ مَحْضٌ. ثُمَّ أَقُولُ: بَقِيَ هَاهُنَا كَلَامٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ لِلسَّائِلِ أَنْ يُورِدَ النَّقْضَ حِينَئِذٍ بِمُسْلِمٍ مَاتَ عَنْ زَوْجَةٍ كَافِرَةٍ فَإِنَّهَا لَا تَسْتَحِقُّ شَيْئًا مِنْ الْمِيرَاثِ عِنْدَنَا لِاخْتِلَافِ الدِّينَيْنِ، مَعَ أَنَّ وُجُوبَ تَوْرِيثِ الزَّوْجَةِ مِنْ زَوْجِهَا مُقَرَّرٌ فِي جَمِيعِ الْأَدْيَانِ إذَا لَمْ يُوجَدْ مَانِعٌ، وَالظَّاهِرُ
وَهَذَا بِخِلَافِ الرِّبَا؛ لِأَنَّهُ مُسْتَثْنًى عَنْ عُقُودِهِمْ، وَبِخِلَافِ الْعَبْدِ الْمُرْتَدِّ يَكُونُ لِلذِّمِّيِّ؛ لِأَنَّا مَا ضَمِنَّا لَهُمْ تَرْكَ التَّعَرُّضِ لَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ الِاسْتِخْفَافِ بِالدِّينِ، وَبِخِلَافِ مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ عَامِدًا إذَا كَانَ لِمَنْ يُبِيحُهُ؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْمُحَاجَّةِ ثَابِتَةٌ. .
أَنَّ الْكُفْرَ لَيْسَ بِمَانِعٍ عَنْ الْإِرْثِ فِي اعْتِقَادِ الْكُفْرِ وَلَمْ نَتْرُكْهُمْ وَمَا يَدِينُونَ هُنَاكَ، فَتَأَمَّلْ فِي الْجَوَابِ.
(قَوْلُهُ وَهَذَا بِخِلَافِ الرِّبَا) مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ لِأَنَّ الذِّمِّيَّ غَيْرُ مَمْنُوعٍ عَنْ تَمْلِيكِ الْخَمْرِ وَتَمَلُّكِهَا، كَذَا قَالَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ الشُّرَّاحِ. وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ نَقْلِ ذَلِكَ: وَالْأَوْلَى أَنْ يَتَعَلَّقَ بِقَوْلِهِ نَحْنُ أُمِرْنَا أَنْ نَتْرُكَهُمْ، وَمَا يَدِينُونَ إلَخْ لِاتِّسَاقِ مَا بَعْدَهُ مِنْ الْعَطْفِ حِينَئِذٍ اهـ أَقُولُ: تَعَلُّقُهُ بِمَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ غَيْرُ ظَاهِرِ السَّدَادِ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ هَذَا مَعَ كَوْنِهَا مِمَّا يَأْبَى ذَلِكَ جِدًّا لَا يَسْتَقِيمُ أَنْ يَكُونَ الرِّبَا مِنْ خِلَافِ قَوْلِهِ نَحْنُ أُمِرْنَا أَنْ نَتْرُكَهُمْ وَمَا يَدِينُونَ؛ لِأَنَّ الرِّبَا لَمَّا كَانَ مُسْتَثْنًى مِنْ عُقُودِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ فِسْقًا مِنْهُمْ لَا تَدَيُّنًا لِثُبُوتِ حُرْمَةِ الرِّبَا فِي دِينِهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ} كَمَا صَرَّحُوا بِهِ قَاطِبَةً، حَتَّى صَاحِبُ الْعِنَايَةِ نَفْسُهُ لَمْ يَكُنْ مَنْعُنَا إيَّاهُمْ عَنْ الرِّبَا مُخَالِفًا لِقَوْلِهِ نَحْنُ أُمِرْنَا أَنْ نَتْرُكَهُمْ وَمَا يَدِينُونَ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى ذِي مُسْكَةٍ. وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ (وَهَذَا بِخِلَافِ الرِّبَا) مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ (نَحْنُ أُمِرْنَا أَنْ نَتْرُكَهُمْ وَمَا يَدِينُونَ) يَصِيرُ الْمَعْنَى: وَهَذَا أَيْ قَوْلُهُ، وَنَحْنُ أُمِرْنَا أَنْ نَتْرُكَهُمْ وَمَا يَدِينُونَ مُلْتَبِسٌ بِخِلَافِ الرِّبَا، وَلَيْسَ هَذَا الْمَعْنَى بِسَدِيدٍ لِعَدَمِ مُلَابَسَةِ الْخِلَافِ بَيْنَهُمَا كَمَا بَيَّنَّا آنِفًا.
وَأَمَّا عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ (وَهَذَا بِخِلَافِ الرِّبَا) مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ؛ (لِأَنَّ الذِّمِّيَّ غَيْرُ مَمْنُوعٍ عَنْ تَمْلِيكِ الْخَمْرِ وَتَمَلُّكِهَا كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْ الشُّرَّاحِ) فَيَصِيرُ الْمَعْنَى وَهَذَا أَيْ عَدَمُ كَوْنِ الذِّمِّيِّ مَمْنُوعًا عَنْ تَمْلِيكِ الْخَمْرِ وَتَمَلُّكِهَا مُلْتَبِسٌ بِخِلَافِ الرِّبَا لِكَوْنِهِمْ مَمْنُوعِينَ عَنْ الرِّبَا. وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى سَدِيدٌ وَأَنَّ كَلِمَةَ هَذَا الَّتِي يُشَارُ بِهَا إلَى الْقَرِيبِ فِي مَحَلِّهَا حِينَئِذٍ.
وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: بَلْ الْأَوْلَى أَنْ يَتَعَلَّقَ بِقَوْلِهِ: فَيَضْمَنُهُ، وَالْإِشَارَةُ إلَى مَا ذَكَرَ مِنْ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ اهـ أَقُولُ هَذَا أَقْبَحُ مِمَّا قَالَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَتْ الْإِشَارَةُ بِهَذَا إلَى الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ بِتَأْوِيلِ مَا ذَكَرَ كَمَا زَعَمَهُ يَصِيرُ الْمَعْنَى: وَهَذَا أَيْ مَا ذَكَرَ مِنْ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ مُلْتَبِسٌ بِخِلَافِ الرِّبَا فَلَا يَبْقَى لِتَعَلُّقِ قَوْلِهِ (وَهَذَا بِخِلَافِ الرِّبَا) بِقَوْلِهِ (فَيَضْمَنُهُ) مَعْنًى وَإِنْ صِيرَ إلَى التَّقْدِيرِ بِأَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ: وَهَذَا بِخِلَافِ الرِّبَا فِي الضَّمَانِ فَيَحْصُلُ نَوْعُ تَعَلُّقٍ بِقَوْلِهِ فَيَضْمَنُهُ فَلَا يَكُونُ سَدِيدًا أَيْضًا؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ فِي الْإِتْلَافِ، وَمَسْأَلَةُ الرِّبَا مِمَّا لَا مِسَاسَ لَهُ بِذَلِكَ تَدَبَّرْ تَفْهَمْ.
(قَوْلُهُ وَبِخِلَافِ مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ لِمَنْ يُبِيحُهُ؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْمُحَاجَّةِ ثَابِتَةٌ) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ: يَعْنِي لَمَّا أُمِرْنَا أَنْ نَتْرُكَ أَهْلَ الذِّمَّةِ عَلَى مَا اعْتَقَدُوهُ مِنْ الْبَاطِلِ وَجَبَ عَلَيْنَا أَنْ نَتْرُكَ أَهْلَ الِاجْتِهَادِ
قَالَ (فَإِنْ غَصَبَ مِنْ مُسْلِمٍ خَمْرًا فَخَلَّلَهَا أَوْ جِلْدَ مَيْتَةٍ فَدَبَغَهُ فَلِصَاحِبِ الْخَمْرِ أَنْ يَأْخُذَ الْخَلَّ بِغَيْرِ شَيْءٍ وَيَأْخُذَ جِلْدَ الْمَيْتَةِ وَيَرُدَّ عَلَيْهِ مَا زَادَ الدِّبَاغُ فِيهِ)، وَالْمُرَادُ بِالْفَصْلِ الْأَوَّلِ إذَا خَلَّلَهَا بِالنَّقْلِ مِنْ الشَّمْسِ إلَى الظِّلِّ وَمِنْهُ إلَى الشَّمْسِ، وَبِالْفَصْلِ الثَّانِي إذَا دَبَغَهُ بِمَا لَهُ قِيمَةٌ كَالْقَرَظِ وَالْعَفْصِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَالْفَرْقُ أَنَّ هَذَا التَّخْلِيلَ تَطْهِيرٌ لَهُ بِمَنْزِلَةِ غَسْلِ الثَّوْبِ النَّجِسِ فَيَبْقَى عَلَى مِلْكِهِ إذْ لَا تَثْبُتُ الْمَالِيَّةُ بِهِ وَبِهَذَا الدِّبَاغِ اتَّصَلَ بِالْجِلْدِ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ لِلْغَاصِبِ كَالصَّبْغِ فِي الثَّوْبِ فَكَانَ بِمَنْزِلَتِهِ فَلِهَذَا يَأْخُذُ الْخَلَّ بِغَيْرِ شَيْءٍ وَيَأْخُذُ الْجِلْدَ وَيُعْطِي مَا زَادَ الدِّبَاغُ فِيهِ. وَبَيَانُهُ أَنَّهُ يَنْظُرُ إلَى قِيمَتِهِ ذَكِيًّا غَيْرَ مَدْبُوغٍ، وَإِلَى قِيمَتِهِ مَدْبُوغًا فَيَضْمَنُ فَضْلَ مَا بَيْنَهُمَا، وَلِلْغَاصِبِ أَنْ يَحْبِسَهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ كَحَقِّ الْحَبْسِ فِي الْبَيْعِ. قَالَ (وَإِنْ اسْتَهْلَكَهُمَا ضَمِنَ الْخَلَّ وَلَمْ يَضْمَنْ الْجِلْدَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: يَضْمَنُ الْجِلْدَ مَدْبُوغًا وَيُعْطِي مَا زَادَ الدِّبَاغُ فِيهِ)
عَلَى مَا اعْتَقَدُوهُ مَعَ احْتِمَالِ الصِّحَّةِ فِيهِ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى.
وَحِينَئِذٍ يَجِبُ أَنْ نَقُولَ بِمُوجِبِ الضَّمَانِ عَلَى مَنْ أَتْلَفَ مَتْرُوكَ التَّسْمِيَةِ عَامِدًا؛ لِأَنَّهُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ فِي اعْتِقَادِ الشَّافِعِيِّ. وَوَجْهُ الْجَوَابِ مَا قَالَهُ أَنَّ وِلَايَةَ الْمُحَاجَّةِ ثَابِتَةٌ، وَالدَّلِيلُ الدَّالُّ عَلَى حُرْمَتِهِ قَائِمٌ فَلَمْ يُعْتَبَرْ اعْتِقَادُهُمْ فِي إيجَابِ الضَّمَانِ هَذَا مَا قَالُوهُ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ وِلَايَةَ الْمُحَاجَّةِ ثَابِتَةٌ؛ لِأَنَّ الدَّلِيلَ الدَّالَّ عَلَى تَرْكِ الْمُحَاجَّةِ مَعَ أَهْلِ الذِّمَّةِ دَالٌّ عَلَى تَرْكِهَا مَعَ الْمُجْتَهِدِينَ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى عَلَى مَا قَرَّرْتُمْ.
وَالْجَوَابُ أَنَّ الدَّلِيلَ هُوَ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «اُتْرُكُوهُمْ وَمَا يَدِينُونَ» وَكَانَ ذَلِكَ بِعَقْدِ الذِّمَّةِ وَهُوَ مُنْتَفٍ فِي حَقِّ الْمُجْتَهِدِينَ، إلَى هُنَا لَفْظُ الْعِنَايَةِ. وَاعْتَرَضَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ عَلَى الْجَوَابِ الْمَذْكُورِ فِي الْآخَرِ حَيْثُ قَالَ: فِيهِ بَحْثٌ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ يُنَفِّذُ مَا حَكَمَ بِهِ قَاضٍ آخَرُ عَلَى خِلَافِ مَذْهَبِهِ اهـ أَقُولُ: هَذَا سَاقِطٌ جِدًّا. أَمَّا أَوَّلًا؛ فَلِأَنَّ الْقَاضِيَ إنَّمَا يُنَفِّذُ مَا حَكَمَ بِهِ قَاضٍ آخَرُ إذَا لَمْ يَكُنْ مَا حَكَمَ بِهِ مِمَّا يُخَالِفُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ الْمَشْهُورَةَ وَالْإِجْمَاعَ، وَأَمَّا إذَا كَانَ مَا حَكَمَ بِهِ مِمَّا يُخَالِفُ شَيْئًا مِنْ هَاتِيك الثَّلَاثَةِ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُنَفِّذَهُ الْقَاضِي أَصْلًا كَمَا صَرَّحُوا بِذَلِكَ كُلِّهِ فِي كِتَابِ الْقَضَاءِ، وَمَثَّلُوا مَا يُخَالِفُ الْكِتَابَ بِالْحُكْمِ بِحِلِّ مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ عَامِدًا فَإِنَّهُ مُخَالِفٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} وَالْكَلَامُ هَاهُنَا فِي مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ عَامِدًا فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ فِيهِ التَّنْفِيذُ. وَأَمَّا ثَانِيًا؛ فَلِأَنَّ حَاصِلَ الْجَوَابِ الْمَذْكُورِ أَنَّ عِلَّةَ الْأَمْرِ بِالتَّرْكِ فِي قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «اُتْرُكُوهُمْ وَمَا يَدِينُونَ» هِيَ عَقْدُ الذِّمَّةِ، وَهُوَ مُنْتَفٍ فِي حَقِّ الْمُجْتَهِدِينَ فَلَا يُتَصَوَّرُ إلْحَاقُ الْمُجْتَهِدِينَ بِأَهْلِ الذِّمَّةِ فِي تَرْكِ الْمُحَاجَّةِ لَا دَلَالَةً وَلَا قِيَاسًا. وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا يَدْفَعُ السُّؤَالُ بِأَنَّ الدَّلِيلَ الدَّالَّ عَلَى تَرْكِ الْمُحَاجَّةِ مَعَ أَهْلِ الذِّمَّةِ دَالٌّ عَلَى تَرْكِهَا مَعَ الْمُجْتَهِدِينَ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى، وَأَنَّ حَدِيثَ تَنْفِيذِ الْقَاضِي مَا حَكَمَ بِهِ قَاضٍ آخَرُ عَلَى خِلَافِ مَذْهَبِهِ
وَلَوْ هَلَكَ فِي يَدِهِ لَا يَضْمَنُهُ بِالْإِجْمَاعِ.
أَمَّا الْخَلُّ؛ فَلِأَنَّهُ لَمَّا بَقِيَ عَلَى مِلْكِ مَالِكِهِ وَهُوَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ ضَمِنَهُ بِالْإِتْلَافِ، يَجِبُ مِثْلُهُ؛ لِأَنَّ الْخَلَّ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ. وَأَمَّا الْجِلْدُ فَلَهُمَا أَنَّهُ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ الْمَالِكِ حَتَّى كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ وَهُوَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ فَيَضْمَنُهُ مَدْبُوغًا بِالِاسْتِهْلَاكِ وَيُعْطِيهِ الْمَالِكُ مَا زَادَ الدِّبَاغُ فِيهِ كَمَا إذَا غَصَبَ ثَوْبًا فَصَبَغَهُ ثُمَّ اسْتَهْلَكَهُ وَيَضْمَنُهُ وَيُعْطِيه الْمَالِكُ مَا زَادَ الصَّبْغُ فِيهِ، وَلِأَنَّهُ وَاجِبُ الرَّدِّ، فَإِذَا فَوَّتَهُ عَلَيْهِ خَلَّفَهُ قِيمَتَهُ كَمَا فِي الْمُسْتَعَارِ. وَبِهَذَا
لَا يَقْدَحُ فِي دَفْعِ الْجَوَابِ الْمَذْكُورِ وَالسُّؤَالِ الْمَزْبُورِ، بَلْ هُوَ كَلَامٌ مَعْلُومٌ وَجْهُهُ فِي مَحِلِّهِ
(قَوْلُهُ وَلَوْ هَلَكَ فِي يَدِهِ لَا يَضْمَنُ بِالْإِجْمَاعِ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَالْمُجْمَعُ عَلَيْهِ لَا يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ؛ لِأَنَّ دَلِيلَهُ الْإِجْمَاعُ فَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْهُ الْمُصَنِّفُ اهـ أَقُولُ: هَذَا لَيْسَ بِسَدِيدٍ؛ لِأَنَّ الَّذِي لَا يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ بِالْإِجْمَاعِ الَّذِي هُوَ أَحَدُ الْأَدِلَّةِ الْأَرْبَعَةِ الشَّرْعِيَّةِ فَإِنَّ الْإِجْمَاعَ عَلَيْهِ بِالْمَعْنَى الْمَذْكُورِ يَكْفِي دَلِيلًا عَلَيْهِ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ بِالْإِجْمَاعِ هَاهُنَا هُوَ إجْمَاعُ أَئِمَّتِنَا الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ وَقَعَ الْخِلَافُ بَيْنَ أَعْظَمِهِمْ وَبَيْنَ صَاحِبَيْهِ فِيمَا ذُكِرَ آنِفًا مِنْ مَسْأَلَةِ الِاسْتِهْلَاكِ، لَا إجْمَاعَ الْأُمَّةِ الَّذِي هُوَ مِنْ الْأَدِلَّةِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْإِجْمَاعَ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِاتِّفَاقِ جَمِيعِ الْمُجْتَهِدِينَ الْمَوْجُودِينَ فِي عَصْرٍ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم عَلَى حُكْمٍ شَرْعِيٍّ وَهُوَ غَيْرُ ثَابِتٍ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ، كَيْفَ وَقَدْ قَالَ فِي مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ هَاهُنَا: وَعِنْدَ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ: يَعْنِي مَالِكًا وَالشَّافِعِيَّ وَأَحْمَدَ لَوْ تَخَلَّلَتْ الْخَمْرَةُ بِنَفْسِهَا وَهَلَكَتْ فِي يَدِ الْغَاصِبِ يَضْمَنُ، وَأَمَّا إذَا تَخَلَّلَتْ بِفِعْلِ الْغَاصِبِ لَا يَضْمَنُ.
وَفِي الْجِلْدِ الْمَدْبُوغِ عَلَى قَوْلٍ لَا يَلْزَمُهُ رَدُّهُ وَلَا يَضْمَنُ، وَفِي قَوْلٍ وَجَبَ رَدُّهُ وَيَضْمَنُ اهـ. فَظَهَرَ مِنْهُ مُخَالَفَةُ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ لِأَئِمَّتِنَا فِي بَعْضِ صُوَرِ الْهَلَاكِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ أَنَّ مَالِكًا مِنْ مُعَاصِرِي أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيَّ مِنْ مُعَاصِرِي مُحَمَّدٍ، فَلَمْ يَتَحَقَّقْ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ فِي زَمَنِهِمْ عَلَى عَدَمِ الضَّمَانِ فِي بَعْضِ صُوَرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَطْعًا، وَلَمْ يُنْقَلْ إجْمَاعُ أُمَّةٍ أُخْرَى مِنْ قَبْلُ، فَلَمْ يُمْكِنُ حَمْلُ الْإِجْمَاعِ الْمَذْكُورِ عَلَى إجْمَاعِ الْأُمَّةِ كَمَا لَا يَخْفَى وَقَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ هَاهُنَا وَلَمْ يَذْكُرْ الدَّلِيلَ لِقَوْلِهِ وَلَوْ هَلَكَ فِي يَدِهِ لَا يَضْمَنُ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ دَلِيلَهُ ظَاهِرٌ، وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ ضَمِنَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَضْمَنَ قِيمَتَهُ يَوْمَ الْغَصْبِ أَوْ يَوْمَ الْهَلَاكِ، وَلَا وَجْهَ لِضَمَانِ قِيمَتِهِ يَوْمَ الْغَصْبِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْخَمْرِ وَجِلْدِ الْمَيْتَةِ قِيمَةٌ يَوْمَ الْغَصْبِ، وَلَا وَجْهَ لِضَمَانِ قِيمَتِهِ يَوْمَ الْهَلَاكِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ فِعْلٌ فِي هَلَاكِهِ، وَالضَّمَانُ لَا يَجِبُ إلَّا بِفِعْلٍ مَوْصُوفٍ بِالتَّعَدِّي اهـ كَلَامُهُ. أَقُولُ: ظُهُورُ هَذَا الدَّلِيلِ الْمُفَصَّلِ الدَّائِرِ عَلَى التَّرْدِيدِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ، وَلَوْ سُلِّمَ فَكَوْنُهُ أَظْهَرَ مِنْ سَائِرِ الْأَدِلَّةِ الَّتِي ذَكَرَهَا لِسَائِرِ الْمَسَائِلِ سِيَّمَا دَلِيلُ وُجُوبِ الضَّمَانِ فِي اسْتِهْلَاكِ الْخَلِّ مَمْنُوعٌ، وَلَوْ سُلِّمَ فَلَيْسَ مِنْ دَأْبِ الْمُصَنِّفِ تَرْكُ ذِكْرِ الدَّلِيلِ بِالْكُلِّيَّةِ فِي شَيْءٍ مِنْ الْمَسَائِلِ. ثُمَّ أَقُولُ: لَعَلَّ وَجْهَ عَدَمِ ذِكْرِ الْمُصَنِّفِ دَلِيلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هَاهُنَا انْفِهَامُهُ مِمَّا ذَكَرَهُ فِي دَلِيلِ مَسْأَلَةِ الِاسْتِهْلَاكِ يُرْشِدُك إلَيْهِ قَطْعًا قَوْلُهُ فِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ وَبِهَذَا فَارَقَ الْهَلَاكُ بِنَفْسِهِ، تَبَصَّرْ تُرْشَدْ.
(قَوْلُهُ كَمَا إذَا غَصَبَ ثَوْبًا فَصَبَغَهُ ثُمَّ اسْتَهْلَكَهُ وَيَضْمَنُهُ وَيُعْطِيهِ الْمَالِكُ مَا زَادَ الصَّبْغُ فِيهِ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ نَفْسَ الْغَصْبِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ يُوجِبُ الضَّمَانَ بِخِلَافِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ اهـ. أَقُولُ: هَذَا النَّظَرُ سَاقِطٌ جِدًّا، إذَا لَا نُسَلِّمُ أَوَّلًا أَنَّ نَفْسَ الْغَصْبِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ يُوجِبُ الضَّمَانَ فَإِنَّ نَفْسَ الْغَصْبِ إنَّمَا يُوجِبُ رَدَّ الْعَيْنِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي صَدْرِ كِتَابِ الْغَصْبِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ ضَمَانُ الْمِثْلِ أَوْ الْقِيمَةِ بِالْهَلَاكِ أَوْ الِاسْتِهْلَاكِ، وَلَئِنْ سُلِّمَ ذَلِكَ فَكَوْنُ نَفْسِ الْغَصْبِ
فَارَقَ الْهَلَاكُ بِنَفْسِهِ.
وَقَوْلُهُمَا يُعْطِي مَا زَادَ الدِّبَاغُ فِيهِ مَحْمُولٌ عَلَى اخْتِلَافِ الْجِنْسِ. أَمَّا عِنْدَ اتِّحَادِهِ فَيَطْرَحُ عَنْهُ ذَلِكَ الْقَدْرَ وَيُؤْخَذُ مِنْهُ الْبَاقِي لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ فِي الْأَخْذِ مِنْهُ ثُمَّ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِ.
وَلَهُ أَنَّ التَّقَوُّمَ حَصَلَ بِصُنْعِ الْغَاصِبِ وَصَنْعَتُهُ مُتَقَوِّمَةٌ لِاسْتِعْمَالِهِ مَالًا مُتَقَوِّمًا فِيهِ، وَلِهَذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَحْبِسَهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ مَا زَادَ الدِّبَاغُ فِيهِ فَكَانَ حَقًّا لَهُ وَالْجِلْدُ تَبَعٌ لَهُ فِي حَقِّ التَّقَوُّمِ، ثُمَّ الْأَصْلُ وَهُوَ الصَّنْعَةُ غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَيْهِ فَكَذَا التَّابِعُ، كَمَا إذَا هَلَكَ مِنْ غَيْرِ صَنْعَةٍ، بِخِلَافِ وُجُوبِ الرَّدِّ حَالَ قِيَامِهِ؛ لِأَنَّهُ يَتْبَعُ الْمِلْكَ، وَالْجِلْدُ غَيْرُ تَابِعٍ لِلصَّنْعَةِ فِي حَقِّ الْمِلْكِ لِثُبُوتِهِ قَبْلَهَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَقَوِّمًا، بِخِلَافِ الذَّكِيِّ وَالثَّوْبِ؛ لِأَنَّ التَّقَوُّمَ فِيهِمَا كَانَ ثَابِتًا قَبْلَ الدَّبْغِ وَالصَّبْغِ فَلَمْ يَكُنْ تَابِعًا لِلصَّنْعَةِ،
سَبَبًا لِلضَّمَانِ لَا يُنَافِي كَوْنَ الِاسْتِهْلَاكِ أَيْضًا سَبَبًا لَهُ، وَمَقْصُودُ الْمُصَنِّفِ قِيَاسُ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ عَلَى تِلْكَ الصُّورَةِ فِي كَوْنِ التَّعَدِّي بِالِاسْتِهْلَاكِ سَبَبًا لِضَمَانِ الْمُتَعَدِّي مَا اسْتَهْلَكَهُ وَإِعْطَاءِ الْمَالِكِ مَا زَادَهُ الصَّنْعَةُ، وَهَذَا الْمَعْنَى مُتَّحِدٌ بَيْنَ الْمَقِيسِ وَالْمَقِيسِ عَلَيْهِ، غَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّ فِي جَانِبِ الْمَقِيسِ عَلَيْهِ سَبَبًا آخَرَ لِلضَّمَانِ، وَهَذَا لَا يُنَافِي صِحَّةَ الْقِيَاسِ عَلَيْهِ فِي السَّبَبِ الْمُشْتَرَكِ، وَقَدْ أَشَارَ إلَيْهِ صَاحِبُ النِّهَايَةِ حَيْثُ قَالَ فِي حِلِّ هَذَا الْمَحَلِّ: إنَّ الِاسْتِهْلَاكَ جِنَايَةٌ مُوجِبَةٌ لِلضَّمَانِ فِي مَحَلٍّ هُوَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ، وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ لَمَّا بَقِيَ الْجِلْدُ عَلَى مِلْكِ صَاحِبِهِ بَعْدَمَا صَارَ مَالًا مُتَقَوِّمًا كَمَا فِي الثَّوْبِ، إلَّا أَنَّ هُنَاكَ السَّبَبُ الْأَوَّلُ وَهُوَ الْغَصْبُ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ أَيْضًا، فَلَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ بِأَيِّ السَّبَبَيْنِ شَاءَ، هَاهُنَا السَّبَبُ الْأَوَّلُ وَهُوَ الْغَصْبُ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلضَّمَانِ فَتَعَيَّنَ التَّضْمِينُ بِالسَّبَبِ الثَّانِي فَكَانَ هُوَ فِي السَّبَبِ كَغَيْرِهِ وَلَوْ اسْتَهْلَكَهُ غَيْرُهُ كَانَ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ أَنْ يُضَمِّنَ الْمُسْتَهْلِكَ وَيُعْطِي الْغَاصِبَ مَا زَادَ الدِّبَاغُ فِيهِ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ.
(قَوْلُهُ ثُمَّ الْأَصْلُ وَهُوَ الصَّنْعَةُ غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَيْهِ فَكَذَا التَّابِعُ كَمَا إذَا هَلَكَ مِنْ غَيْرِ صُنْعِهِ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ قَوْلِهِ كَمَا إذَا هَلَكَ مِنْ غَيْرِ صُنْعِهِ: فَإِنَّ عَدَمَ الضَّمَانِ هُنَاكَ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْأَصْلَ وَهُوَ الصَّنْعَةُ غَيْرُ مَضْمُونٍ فَكَذَلِكَ الْجِلْدُ، وَإِلَّا فَالْغَصْبُ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ فِي الْهَلَاكِ وَالِاسْتِهْلَاكِ اهـ كَلَامُهُ، وَاقْتَفَى أَثَرَهُ الشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ. فِيهِ نَظَرٌ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ عَدَمَ الضَّمَانِ فِي صُورَةِ الْهَلَاكِ مِنْ غَيْرِ صُنْعِهِ لَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْأَصْلَ وَهُوَ الصَّنْعَةَ غَيْرُ مَضْمُونٍ، فَكَذَلِكَ الْجِلْدُ كَمَا يَقْتَضِيهِ قَوْلُ الشَّارِحِينَ الْمَزْبُورِينَ، وَإِلَّا فَالْغَصْبُ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ فِي الْهَلَاكِ وَالِاسْتِهْلَاكِ، بَلْ الظَّاهِرُ أَنَّ عَدَمَ الضَّمَانِ هُنَاكَ بِاعْتِبَارِ عَدَمِ تَحَقُّقِ فِعْلٍ مَوْصُوفٍ بِالتَّعَدِّي هُنَاكَ كَتَحَقُّقِهِ فِي صُورَةِ الِاسْتِهْلَاكِ عَلَى مَا أَشَارَ إلَيْهِ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَصَاحِبُ الْعِنَايَةِ أَيْضًا فِي تَعْلِيلِ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا مَرَّ وَكَوْنُ الْغَصْبِ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ فِي كُلٍّ مِنْ صُورَتَيْ الْهَلَاكِ وَالِاسْتِهْلَاكِ إنَّمَا هُوَ عِنْدَ تَحْقِيقِ الْغَصْبِ الشَّرْعِيِّ وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ لَمْ يَتَحَقَّقْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ كَوْنَ الْمَأْخُوذِ مَالًا مُتَقَوِّمًا مُعْتَبَرٌ فِي حَقِيقَةِ الْغَصْبِ الشَّرْعِيِّ كَمَا تَقَرَّرَ فِي صَدْرِ الْكِتَابِ، وَجِلْدُ الْمَيْتَةِ لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ قَبْلَ الدِّبَاغِ قَطْعًا، وَإِنَّمَا يَصِيرُ مُتَقَوِّمًا بِالدِّبَاغِ، وَكَلَامُنَا فِيمَا إذَا غَصَبَ جِلْدَ الْمَيْتَةِ فَدَبَغَهُ فَحِينَ الْأَخْذِ لَمْ يَتَحَقَّقْ الْغَصْبُ الشَّرْعِيُّ الْمُوجِبُ لِلضَّمَانِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ بِلَا رَيْبٍ، وَيُؤَيِّدُ مَا قُلْنَا إنَّ الْخَمْرَ الْمُتَخَلِّلَةَ بِنَفْسِهَا أَيْضًا غَيْرُ مَضْمُونَةٍ فِي صُورَةِ الْهَلَاكِ بِالْإِجْمَاعِ كَمَا مَرَّ، وَلَيْسَ فِيهَا صَنْعَةٌ مُتَقَوِّمَةٌ يَتْبَعُهَا تَقَوُّمُهَا، فَلَوْ كَانَ مُجَرَّدُ الْغَصْبِ وَهُوَ الْأَخْذُ جَبْرًا بِدُونِ
وَلَوْ كَانَ قَائِمًا فَأَرَادَ الْمَالِكُ أَنْ يَتْرُكَهُ عَلَى الْغَاصِبِ فِي هَذَا الْوَجْهِ وَيُضَمِّنَهُ قِيمَتَهُ قِيلَ: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْجِلْدَ لَا قِيمَةَ لَهُ، بِخِلَافِ صَبْغِ الثَّوْبِ؛ لِأَنَّ لَهُ قِيمَةً.
وَقِيلَ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إذَا تَرَكَهُ عَلَيْهِ وَضَمَّنَهُ عَجَزَ الْغَاصِبُ عَنْ رَدِّهِ فَصَارَ كَالِاسْتِهْلَاكِ، وَهُوَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ.
تَحَقُّقِ الْغَصْبِ الشَّرْعِيِّ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ فِي الْهَلَاكِ وَالِاسْتِهْلَاكِ، أَوْ كَانَ مُجَرَّدُ حُصُولِ التَّقَوُّمِ لِلْمَأْخُوذِ بَعْدَ الْأَخْذِ كَافِيًا فِي تَحَقُّقِ الْغَصْبِ الشَّرْعِيِّ لَوَجَبَ الضَّمَانُ فِي صُورَةِ هَلَاكِ الْخَمْرِ الْمُتَخَلَّلَةِ بِنَفْسِهَا فِي يَدِ الْآخِذِ جَبْرًا مَعَ أَنَّهُ خِلَافُ مَا عَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ.
ثُمَّ أَقُولُ: لَمَّا ظَهَرَ بِمَا بَيَّنَّاهُ أَنَّ كَوْنَ مُرَادِ الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ كَمَا إذَا هَلَكَ مِنْ غَيْرِ صُنْعِهِ مَا ذَكَرَهُ الشَّارِحَانِ الْمَزْبُورَانِ مِمَّا يَلِيق بِقَدْرِهِ الْجَلِيلِ وَإِنْ كَانَ فِي ظَاهِرِ لَفْظِهِ مُسَاعِدَةٌ لِذَلِكَ كَانَ حَقًّا عَلَيْنَا أَنْ نَحْمِلَ كَلَامَهُ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ فَنَقُولُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ بِقَوْلِهِ كَمَا إذَا هَلَكَ مِنْ غَيْرِ صُنْعِهِ هُوَ التَّشْبِيهُ وَالتَّنْظِيرُ فِي مُجَرَّدِ عَدَمِ وُجُوبِ الضَّمَانِ وَإِنْ كَانَ السَّبَبُ مُخْتَلِفًا فِي الصُّورَتَيْنِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ بِقَوْلِهِ الْمَذْكُورِ هُوَ الْقِيَاسُ عَلَى تِلْكَ الصُّورَةِ فِي خُصُوصِ السَّبَبِ، وَهُوَ كَوْنُ الْأَصْلِ الَّذِي هُوَ الصَّنْعَةُ غَيْرَ مَضْمُونٍ فَكَذَا التَّابِعُ، لَكِنْ مِنْ حَيْثُ جَوَازُ أَنْ يَكُونَ هَذَا السَّبَبُ سَبَبًا أَيْضًا فِي صُورَةِ هَلَاكِ الْمَدْبُوغِ فِي يَدِهِ مِنْ غَيْرِ صُنْعِهِ لَا مِنْ حَيْثُ وُجُوبِ أَنْ يَكُونَ هَذَا السَّبَبُ هُوَ السَّبَبُ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ كَمَا يَقْتَضِيه قَوْلُهُمَا، وَإِلَّا فَالْغَصْبُ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ فِي الْهَلَاكِ وَالِاسْتِهْلَاكِ، فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَجِبْ أَنْ يَكُونَ هَذَا السَّبَبُ هُوَ السَّبَبُ لِعَدَمِ الضَّمَانِ فِي صُورَةِ الْهَلَاكِ بَلْ جَازَ أَنْ يَكُونَ لَهُ فِيهَا سَبَبٌ آخَرُ وَهُوَ عَدَمُ تَحَقُّقِ فِعْلٍ مَوْصُوفٍ بِالتَّعَدِّي كَمَا مَرَّ بَيَانُهُ لَمْ يَجِبْ الضَّمَانُ هُنَاكَ بِانْتِفَاءِ هَذَا السَّبَبِ؛ لِأَنَّ انْتِفَاءَ أَحَدِ السَّبَبَيْنِ الْمُسْتَقِلَّيْنِ لَا يُوجِبُ انْتِفَاءَ الْمُسَبِّبِ فَيَلْزَمُ أَنْ لَا يَصِحَّ قَوْلُهُمَا، وَإِلَّا فَالْغَصْبُ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ فِي الْهَلَاكِ وَالِاسْتِهْلَاكِ تَأَمَّلْ تَقِفْ (قَوْلُهُ وَلَوْ كَانَ قَائِمًا فَأَرَادَ الْمَالِكُ أَنْ يَتْرُكَهُ عَلَى الْغَاصِبِ فِي هَذَا الْوَجْهِ وَيُضَمِّنَهُ قِيمَتَهُ. قِيلَ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْجِلْدَ لَا قِيمَةَ لَهُ، بِخِلَافِ صَبْغِ الثَّوْبِ؛ لِأَنَّ لَهُ قِيمَةً) قَالَ الشُّرَّاحُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ قِيلَ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ: أَيْ مُطْلَقًا بِلَا خِلَافٍ، وَيَقْتَضِي هَذَا التَّفْسِيرُ مُقَابَلَةَ قَوْلِهِ: وَقِيلَ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا لَهُ ذَلِكَ كَمَا لَا يَخْفَى أَقُولُ: تَعْلِيلُ هَذَا الْقَوْلِ الِاتِّفَاقِيِّ بِقَوْلِهِ؛ لِأَنَّ الْجِلْدَ لَا قِيمَةَ لَهُ، بِخِلَافِ صَبْغِ الثَّوْبِ؛ لِأَنَّ لَهُ قِيمَةً مُشْكِلٌ عِنْدِي، فَإِنَّهُ لَا يَتَمَشَّى عَلَى أَصْلِ الْإِمَامَيْنِ، إذْ قَدْ مَرَّ أَنَّ أَصْلَهُمَا أَنَّ الْجِلْدَ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ الْمَالِكِ وَهُوَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ فَيَضْمَنُهُ مَدْبُوغًا بِالِاسْتِهْلَاكِ وَيُعْطِيهِ الْمَالِكُ مَا زَادَ الدِّبَاغُ فِيهِ، كَمَا إذَا غَصَبَ ثَوْبًا فَصَبَغَهُ ثُمَّ اسْتَهْلَكَهُ يَضْمَنُهُ وَيُعْطِيهِ الْمَالِكُ مَا زَادَ الصَّبْغُ فِيهِ، وَالتَّعْلِيلُ الْمَذْكُورُ هَاهُنَا صَرِيحٌ فِي خِلَافِ ذَلِكَ كَمَا تَرَى.
لَا يُقَالُ: الْمُرَادُ هَاهُنَا أَنَّ الْجِلْدَ لَا قِيمَةَ لَهُ وَقْتَ الْغَصْبِ، بِخِلَافِ الثَّوْبِ فَإِنَّ لَهُ قِيمَةً وَقْتَئِذٍ، وَالْمُرَادُ بِمَا مَرَّ أَنَّ الْجِلْدَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ بَعْدَ الدِّبَاغِ فَصَارَ كَالثَّوْبِ بَعْدَهُ فَلَا مُنَافَاةَ؛ لِأَنَّا نَقُولُ الْكَلَامُ فِيمَا إذَا أَرَادَ الْمَالِكُ أَنْ يَتْرُكَهُ عَلَى الْغَاصِبِ وَيُضَمِّنَهُ قِيمَتَهُ بَعْدَ أَنْ صَارَ مَالًا مُتَقَوِّمًا بِالدِّبَاغِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ فِي هَذَا الْوَجْهِ فَلَا وَجْهَ لِتَعْلِيلِ مَا قِيلَ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ بِلَا خِلَافٍ بِأَنَّ الْجِلْدَ لَا قِيمَةَ لَهُ وَقْتَ الْغَصْبِ، بِخِلَافِ الثَّوْبِ فَإِنَّ عَدَمَ تَقَوُّمِ جِلْدِ الْمَيْتَةِ وَقْتَ الْغَصْبِ لَا يُنَافِي عِنْدَهُمَا كَوْنَهُ مَضْمُونًا عَلَى الْغَاصِبِ بَعْدَ أَنْ صَارَ مَالًا مُتَقَوِّمًا بِالدِّبَاغِ، وَهَذَا يَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ عِنْدَهُمَا بِالِاسْتِهْلَاكِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ بِنَاءً عَلَى كَوْنِهِ مَالًا مُتَقَوِّمًا بِالدِّبَاغِ بَاقِيًا عَلَى مِلْكِ الْمَالِكِ كَمَا مَرَّ. عَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ هَاهُنَا أَنَّ الْجِلْدَ لَا قِيمَةَ لَهُ وَقْتَ الْغَصْبِ لَقَالَ الْمُصَنِّفُ بِخِلَافِ الثَّوْبِ دُونَ أَنْ يَقُولَ بِخِلَافِ صَبْغِ الثَّوْبِ؛ لِأَنَّ الصَّبْغَ فِي الثَّوْبِ بِإِزَاءِ الدِّبَاغِ فِي الْجِلْدِ تَأَمَّلْ (قَوْلُهُ لِأَنَّهُ إذَا تَرَكَهُ عَلَيْهِ وَضَمَّنَهُ عَجَزَ الْغَاصِبُ عَنْ رَدِّهِ فَصَارَ كَالِاسْتِهْلَاكِ وَهُوَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الْعَجْزَ فِي الِاسْتِهْلَاكِ لِأَمْرٍ مِنْ جِهَةِ
ثُمَّ قِيلَ: يُضَمِّنُهُ قِيمَةَ جِلْدٍ مَدْبُوغٍ وَيُعْطِيهِ مَا زَادَ الدِّبَاغُ فِيهِ كَمَا فِي الِاسْتِهْلَاكِ. وَقِيلَ يُضَمِّنُهُ قِيمَةَ جِلْدِ ذَكِيٍّ غَيْرِ مَدْبُوغٍ، وَلَوْ دَبَغَهُ بِمَا لَا قِيمَةَ لَهُ كَالتُّرَابِ وَالشَّمْسِ فَهُوَ لِمَالِكِهِ بِلَا شَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ غَسْلِ الثَّوْبِ. وَلَوْ اسْتَهْلَكَهُ الْغَاصِبُ يَضْمَنُ قِيمَتَهُ مَدْبُوغًا.
وَقِيلَ طَاهِرًا غَيْرَ مَدْبُوغٍ؛ لِأَنَّ وَصْفَ الدِّبَاغَةِ هُوَ الَّذِي حَصَّلَهُ فَلَا يَضْمَنُهُ. وَجْهُ الْأَوَّلِ وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ أَنَّ صِفَةَ الدِّبَاغَةِ تَابِعَةٌ لِلْجِلْدِ فَلَا تُفْرَدُ عَنْهُ، وَإِذَا صَارَ الْأَصْلُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ فَكَذَا صِفَتُهُ، وَلَوْ خَلَّلَ الْخَمْرَ بِإِلْقَاءِ الْمِلْحِ فِيهِ قَالُوا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ: صَارَ مِلْكًا لِلْغَاصِبِ وَلَا شَيْءَ لَهُ عَلَيْهِ.
وَعِنْدَهُمَا أَخَذَهُ الْمَالِكُ وَأَعْطَى مَا زَادَ الْمِلْحُ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ دَبْغِ الْجِلْدِ، وَمَعْنَاهُ هَاهُنَا أَنْ يُعْطِيَ مِثْلَ وَزْنِ الْمِلْحِ مِنْ الْخَلِّ، وَإِنْ أَرَادَ الْمَالِكُ تَرْكَهُ عَلَيْهِ وَتَضْمِينَهُ فَهُوَ عَلَى مَا قِيلَ. وَقِيلَ فِي دَبْغِ الْجِلْدِ وَلَوْ اسْتَهْلَكَهَا لَا يَضْمَنُهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا كَمَا فِي دَبْغِ الْجِلْدِ، وَلَوْ خَلَّلَهَا بِإِلْقَاءِ الْخَلِّ فِيهَا، فَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ إنْ صَارَ خَلًّا مِنْ سَاعَتِهِ يَصِيرُ مِلْكًا لِلْغَاصِبِ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ اسْتِهْلَاكٌ لَهُ وَهُوَ غَيْرُ مُتَقَوِّمٍ، وَإِنْ لَمْ تَصِرْ خَلًّا إلَّا بَعْدَ زَمَانٍ بِأَنْ كَانَ الْمُلْقَى فِيهِ خَلًّا قَلِيلًا فَهُوَ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ كِلَيْهِمَا؛ لِأَنَّ خَلْطَ الْخَلِّ بِالْخَلِّ فِي التَّقْدِيرِ وَهُوَ عَلَى أَصْلِهِ لَيْسَ بِاسْتِهْلَاكٍ
الْغَاصِبِ وَفِيمَا تَرَكَهُ وَضَمَّنَهُ الْقِيمَةَ مِنْ جِهَةِ الْمَالِكِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ جَوَازِ التَّضْمِينِ فِي صُورَةٍ تَعَدَّى فِيهَا الْغَاصِبُ جَوَازَهُ فِيمَا لَيْسَ كَذَلِكَ اهـ.
أَقُولُ: يُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْ هَذَا النَّظَرِ بِأَنَّ الْعَجْزَ فِي الِاسْتِهْلَاكِ لَمَّا كَانَ لِأَمْرٍ مِنْ جِهَةِ الْغَاصِبِ لِذَلِكَ الْعَجْزِ فِيمَا تَرَكَهُ الْمَالِكُ عَلَى الْغَاصِبِ وَضَمَّنَهُ الْقِيمَةَ كَانَ الْأَمْرُ مِنْ جِهَةِ الْغَاصِبِ فَإِنَّ الْمَالِكَ إنَّمَا تَرَكَهُ عَامَّةً وَضَمَّنَهُ الْقِيمَةَ بِسَبَبِ أَنَّ الْغَاصِبَ زَادَ عَلَيْهِ مَا لَهُ قِيمَةٌ فَوَجَبَ عَلَى الْمَالِكِ عَلَى تَقْدِيرِ أَخْذِهِ إعْطَاءُ مَا يُقَابِلُ ذَلِكَ الزَّائِدَ وَهُوَ لَا يَقْدِرُ عَلَى إعْطَائِهِ وَلَا يُهِمُّهُ ذَلِكَ فَكَانَ السَّبَبُ الْأَصْلِيُّ لِعَجْزِ الْغَاصِبِ عَنْ رَدِّهِ فِعْلَ نَفْسِهِ؛ أَلَا يَرَى أَنَّهُ لَوْ دَبَغَهُ بِمَا لَا قِيمَةَ لَهُ وَكَانَ هُوَ لِمَالِكِهِ بِلَا شَيْءٍ كَمَا سَيَجِيءُ لَمْ يَكُنْ لِلْمَالِكِ تَرْكُهُ عَلَيْهِ وَتَضَمُّنُهُ الْقِيمَةَ عِنْدَ أَحَدٍ أَصْلًا.
(قَوْلُهُ ثُمَّ قِيلَ يُضَمِّنُهُ قِيمَةَ جِلْدٍ مَدْبُوغٍ وَيُعْطِيهِ مَا زَادَ الدِّبَاغُ فِيهِ كَمَا فِي الِاسْتِهْلَاكِ. وَقِيلَ يُضَمِّنُهُ قِيمَةَ جِلْدٍ ذَكِيٍّ غَيْرِ مَدْبُوغٍ) يَعْنِي اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي كَيْفِيَّةِ التَّضْمِينِ عَلَى قَوْلِهِمَا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ يُضَمِّنُهُ قِيمَةَ جِلْدٍ ذَكِيٍّ مَدْبُوغٍ وَيُعْطِيهِ مَا زَادَ الدِّبَاغُ فِيهِ كَمَا فِي صُوَرِ الِاسْتِهْلَاكِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُضَمِّنُهُ قِيمَةَ جِلْدٍ ذَكِيٍّ غَيْرِ
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ هُوَ لِلْغَاصِبِ فِي الْوَجْهَيْنِ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ نَفْسَ الْخَلْطِ اسْتِهْلَاكٌ عِنْدَهُ، وَلَا ضَمَانَ فِي الِاسْتِهْلَاكِ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ مِلْكَ نَفْسِهِ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَضْمَنُ بِالِاسْتِهْلَاكِ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ لِمَا بَيَّنَّا. وَيَضْمَنُ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ مِلْكَ غَيْرِهِ. وَبَعْضُ الْمَشَايِخِ أَجْرَوْا جَوَابَ الْكِتَابِ عَلَى إطْلَاقِهِ لِلْمَالِكِ أَنْ يَأْخُذَ الْخَلَّ فِي الْوُجُوهِ كُلِّهَا بِغَيْرِ شَيْءٍ؛ لِأَنَّ الْمُلْقَى فِيهِ يَصِيرُ مُسْتَهْلَكًا فِي الْخَمْرِ فَلَمْ يَبْقَ مُتَقَوِّمًا. وَقَدْ كَثُرَتْ فِيهِ أَقْوَالُ الْمَشَايِخِ وَقَدْ أَثْبَتْنَاهَا فِي كِفَايَةِ الْمُنْتَهَى. .
قَالَ (وَمَنْ كَسَرَ لِمُسْلِمٍ بَرْبَطًا أَوْ طَبْلًا أَوْ مِزْمَارًا أَوْ دُفًّا أَوْ أَرَاقَ لَهُ سَكَرًا أَوْ مُنَصَّفًا فَهُوَ ضَامِنٌ، وَبَيْعُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ جَائِزٌ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لَا يَضْمَنُ وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا. وَقِيلَ الِاخْتِلَافُ فِي الدُّفِّ وَالطَّبْلِ الَّذِي يُضْرَبُ لِلَّهْوِ. فَأَمَّا طَبْلُ الْغُزَاةِ وَالدُّفُّ الَّذِي يُبَاحُ ضَرْبُهُ فِي الْعُرْسِ يُضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ. وَقِيلَ الْفَتْوَى فِي الضَّمَانِ عَلَى قَوْلِهِمَا. وَالسَّكَرُ اسْمٌ لِلنِّيءِ مِنْ مَاءِ الرُّطَبِ إذَا اشْتَدَّ. وَالْمُنَصَّفُ مَا ذَهَبَ نِصْفُهُ بِالطَّبْخِ. وَفِي الْمَطْبُوخِ أَدْنَى طَبْخَةٍ وَهُوَ الْبَاذَقُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رِوَايَتَانِ فِي التَّضْمِينِ وَالْبَيْعِ. لَهُمَا أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ أُعِدَّتْ لِلْمَعْصِيَةِ فَبَطَلَ تَقَوُّمُهَا كَالْخَمْرِ، وَلِأَنَّهُ فَعَلَ مَا فَعَلَ آمِرًا بِالْمَعْرُوفِ وَهُوَ بِأَمْرِ الشَّرْعِ فَلَا يَضْمَنُهُ كَمَا إذَا فَعَلَ بِإِذْنِ الْإِمَامِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا أَمْوَالٌ لِصَلَاحِيَّتِهَا لِمَا يَحِلُّ مِنْ وُجُوهِ الِانْتِفَاعِ وَإِنْ صَلُحَتْ لِمَا لَا يَحِلُّ فَصَارَ كَالْأَمَةِ الْمُغَنِّيَةِ. وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْفَسَادَ بِفِعْلِ فَاعِلٍ مُخْتَارٍ فَلَا يُوجِبُ سُقُوطَ التَّقَوُّمِ، وَجَوَازُ الْبَيْعِ وَالتَّضْمِينِ مُرَتَّبَانِ عَلَى الْمَالِيَّةِ وَالتَّقَوُّمِ وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ بِالْيَدِ إلَى الْأُمَرَاءِ لِقُدْرَتِهِمْ وَبِاللِّسَانِ إلَى غَيْرِهِمْ، وَتَجِبُ قِيمَتُهَا غَيْرُ صَالِحَةٍ لِلَّهْوِ كَمَا فِي الْجَارِيَةِ الْمُغَنِّيَةِ وَالْكَبْشِ النَّطُوحِ وَالْحَمَامَةِ الطَّيَّارَةِ وَالدِّيكِ الْمُقَاتِلِ وَالْعَبْدِ الْخَصِيِّ تَجِبْ الْقِيمَةُ غَيْرُ صَالِحَةٍ لِهَذِهِ الْأُمُورِ، كَذَا هَذَا، وَفِي السَّكَرِ وَالْمُنَصَّفِ تَجِبُ قِيمَتُهُمَا، وَلَا يَجِبُ الْمِثْلُ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ مَمْنُوعٌ عَنْ تَمَلُّكِ عَيْنِهِ وَإِنْ كَانَ لَوْ فَعَلَ جَازَ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا أَتْلَفَ عَلَى نَصْرَانِيٍّ صَلِيبًا حَيْثُ
مَدْبُوغٍ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ.
أَقُولُ: ثَمَرَةُ هَذَا الِاخْتِلَافِ غَيْرُ ظَاهِرَةٍ عِنْدِي فَإِنَّ قِيمَةَ جِلْدٍ مَدْبُوغٍ بَعْدَ أَنْ يُطْرَحَ عَنْهَا قَدْرُ مَا زَادَ الدِّبَاغُ فِيهِ هِيَ قِيمَةُ جِلْدٍ ذَكِيٍّ غَيْرِ مَدْبُوغٍ بِعَيْنِهَا، إذَا قَدْ قَالَ الْمُصَنِّفُ فِيمَا مَرَّ فِي بَيَانِ أَخْذِ الْجِلْدِ وَإِعْطَاءِ مَا زَادَ الدِّبَاغُ فِيهِ أَنَّهُ يَنْظُرُ إلَى قِيمَتِهِ ذَكِيًّا غَيْرَ مَدْبُوغٍ وَإِلَى قِيمَتِهِ مَدْبُوغًا فَيَضْمَنُ مَا بَيْنَهُمَا، وَذَاكَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ مَا بَقِيَ مِنْ قِيمَةِ جِلْدٍ مَدْبُوغٍ بَعْدَ إعْطَاءِ مَا زَادَ الدِّبَاغُ فِيهِ هُوَ قِيمَةُ جِلْدٍ ذَكِيٍّ بِعَيْنِهَا، فَمَا فَائِدَةُ الِاخْتِلَافُ الْمَذْكُورُ وَالْمَآلُ وَاحِدٌ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ.
يَضْمَنُ قِيمَتَهُ صَلِيبًا؛ لِأَنَّهُ مُقَرٌّ عَلَى ذَلِكَ. .
قَالَ (وَمَنْ غَصَبَ أُمَّ وَلَدٍ أَوْ مُدَبَّرَةً فَمَاتَتْ فِي يَدِهِ ضَمِنَ قِيمَةَ الْمُدَبَّرَةِ وَلَا يَضْمَنُ قِيمَةَ أُمِّ الْوَلَدِ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: يَضْمَنُ قِيمَتَهُمَا؛ لِأَنَّ مَالِيَّةَ الْمُدَبَّرَةِ مُتَقَوِّمَةٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَمَالِيَّةَ أُمِّ الْوَلَدِ غَيْرُ مُتَقَوِّمَةٍ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا مُتَقَوِّمَةٌ، وَالدَّلَائِلُ ذَكَرْنَاهَا فِي كِتَابِ الْعَتَاقِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ.
كِتَابُ الشُّفْعَةِ
(كِتَابُ الشُّفْعَةِ)
وَجْهُ مُنَاسَبَةِ الشُّفْعَةِ بِالْغَصْبِ تَمَلُّكُ إنْسَانٍ مَالَ غَيْرِهِ بِلَا رِضَاهُ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا. وَالْحَقُّ تَقْدِيمُهَا عَلَيْهِ لِكَوْنِهَا مَشْرُوعَةً دُونَهُ، لَكِنَّ تَوَافُرَ الْحَاجَةِ إلَى مَعْرِفَتِهِ لِلِاحْتِرَازِ عَنْهُ مَعَ كَثْرَتِهِ بِكَثْرَةِ أَسْبَابِهِ مِنْ الِاسْتِحْقَاقِ فِي الْبِيَاعَاتِ وَالْأَشْرِبَةِ وَالْإِجَارَاتِ وَالشَّرِكَاتِ وَالْمُزَارَعَاتِ أَوْجَبَ تَقْدِيمَهَا، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ وَكَثِيرٍ مِنْ الشُّرُوحِ.
أَقُولُ: لَا يَذْهَبُ عَلَيْك أَنَّ الْوُجُوهَ الْمُوجِبَةَ لِتَرْتِيبِ الْكُتُبِ السَّالِفَةِ عَلَى النَّمَطِ الْمُتَقَدِّمِ كَمَا مَرَّ بَيَانُهَا قَدْ سَاقَتْ ذِكْرَ كِتَابِ الشُّفْعَةِ إلَى هُنَا، فَلَا حَاجَةَ إلَى الِاعْتِذَارِ عَنْ تَقْدِيمِ الْغَصْبِ عَلَى الشُّفْعَةِ بِقَوْلِهِ لَكِنَّ تَوَفُّرَ الْحَاجَةِ إلَى مَعْرِفَتِهِ إلَخْ، فَلَا وَجْهَ لِقَوْلِهِ وَالْحَقُّ تَقْدِيمُهَا عَلَيْهِ إلَخْ عِنْدَ مُلَاحَظَةِ تِلْكَ الْوُجُوهِ الْمُوجِبَةِ لِتَرْتِيبِ الْكُتُبِ السَّالِفَةِ عَلَى النَّمَطِ الْمُتَقَدِّمِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى ذِي فِطْرَةٍ سَلِيمَةٍ.
قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ بَعْدَ أَنْ تَنَبَّهَ لِبَعْضِ مَا قُلْنَاهُ: ثُمَّ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِي وَجْهِ التَّقْدِيمِ إنَّ الْغَصْبَ يَعُمُّ الْعَقَارَ وَالْمَنْقُولَ بِخِلَافِ الشُّفْعَةِ، وَالْأَعَمُّ يَسْتَحِقُّ التَّقْدِيمَ اهـ.
أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا بِسَدِيدٍ، إذْ الْغَصْبُ لَا يَعُمُّ الْعَقَارَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ حِينَئِذٍ، بَلْ الْغَصْبُ عِنْدَهُمَا إنَّمَا يُتَصَوَّرُ فِي الْمَنْقُولِ دُونَ الْعَقَارِ كَمَا مَرَّ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الْغَصْبِ مُفَصَّلًا وَمَشْرُوحًا، وَإِنَّمَا يَتَأَتَّى عُمُومُ الْغَصْبِ لِلْعَقَارِ وَالْمَنْقُولِ عَلَى أَصْلِ مُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ كَمَا مَرَّ أَيْضًا ثَمَّةَ، وَلَا وَجْهَ لِبِنَاءِ وَجْهِ التَّقْدِيمِ عَلَى خِلَافِ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ إمَامُنَا الْأَعْظَمُ وَإِمَامُنَا الثَّانِي، إذْ لَوْ كَفَى مُجَرَّدُ كَوْنِ الْعُمُومِ مَحَلَّ اجْتِهَادِ مُجْتَهِدٍ لَمْ يَتِمَّ قَوْلُهُ بِخِلَافِ الشُّفْعَةِ، فَإِنَّ الشُّفْعَةَ أَيْضًا تَعُمُّ الْعَقَارَ وَالْمَنْقُولَ عِنْدَ مَالِكٍ فَإِنَّهَا وَاجِبَةٌ فِي السُّفُنِ أَيْضًا عِنْدَهُ عَلَى مَا صَرَّحُوا بِهِ وَسَيَأْتِي فِي الْكِتَابِ.
ثُمَّ إنَّ مِنْ مَحَاسِنِ الشُّفْعَةِ دَفْعَ ضَرَرِ الْجِوَارِ وَهُوَ مَادَّةُ الْمَضَارِّ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم «لَا ضَرَرَ وَلَا إضْرَارَ فِي الْإِسْلَامِ» وَلَا شَكَّ لِأَحَدٍ فِي حُسْنِ دَفْعِ ضَرَرِ التَّأَذِّي بِسَبَبِ سُوءِ
الشُّفْعَةُ مُشْتَقَّةٌ مِنْ الشَّفْعِ وَهُوَ الضَّمُّ، سُمِّيَتْ بِهَا لِمَا فِيهَا مِنْ ضَمِّ الْمُشْتَرَاةِ إلَى عَقَارِ الشَّفِيعِ. .
قَالَ (الشُّفْعَةُ وَاجِبَةٌ لِلْخَلِيطِ فِي نَفْسِ الْمَبِيعِ ثُمَّ لِلْخَلِيطِ فِي حَقِّ الْمَبِيعِ كَالشُّرْبِ وَالطَّرِيقِ ثُمَّ لِلْجَارِ) أَفَادَ هَذَا اللَّفْظُ ثُبُوتَ حَقِّ الشُّفْعَةِ لِكُلِّ
الْمُجَاوَرَةِ عَلَى الدَّوَامِ، وَقَدْ جَاءَ فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى {لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا} أَيْ لَأُلْزِمَنَّهُ صُحْبَةَ الْأَضْدَادِ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ.
ثُمَّ إنَّ الشُّفْعَةَ فِي اللُّغَةِ مَأْخُوذَةٌ مِنْ الشَّفْعِ وَهُوَ الضَّمُّ، سُمِّيَتْ بِهَا لِمَا فِيهَا مِنْ ضَمِّ الْمُشْتَرَاةِ إلَى مِلْكِ الشَّفِيعِ، وَمِنْهُ شَفَاعَةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِلْمُذْنِبِينَ؛ لِأَنَّهُ يَضُمُّهُمْ بِهَا إلَى الطَّاهِرِينَ.
وَفِي الشَّرِيعَةِ: هِيَ تَمَلُّكُ الْبُقْعَةِ جَبْرًا عَلَى الْمُشْتَرِي بِمَا قَامَ عَلَيْهِ، كَذَا فِي عَامَّةِ الشُّرُوحِ وَالْمُتُونِ، إلَّا أَنَّهُ وَقَعَ فِي بَعْضِهَا تَمَلُّكُ الْعَقَارِ بَدَلَ تَمَلُّكِ الْبُقْعَةِ، وَصَرَّحَ فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ بِزِيَادَةِ قَيْدٍ فِي آخِرِ التَّعْرِيفِ وَهُوَ قَوْلُهُ بِشَرِكَةٍ أَوْ جِوَارٍ وَتُرِكَ ذِكْرُهُ فِي الْأَكْثَرِ بِنَاءً عَلَى ظُهُورِهِ. أَقُولُ: فِي الْكُلِّ إشْكَالٌ، وَهُوَ أَنَّهُ إنْ كَانَتْ حَقِيقَةُ الشُّفْعَةِ فِي الشَّرِيعَةِ هِيَ التَّمَلُّكُ الْمَذْكُورُ فِي عَامَّةِ الْكُتُبِ يَلْزَمُ أَنْ لَا يَصِحَّ مَا تَقَرَّرَ عِنْدَهُمْ، وَسَيَجِيءُ فِي الْكِتَابِ مِنْ أَنَّ الشُّفْعَةَ تَجِبُ: أَيْ تَثْبُتُ بِعَقْدِ الْبَيْعِ وَتَسْتَقِرُّ بِالْإِشْهَادِ وَتُمَلَّكُ بِالْأَخْذِ إذَا سَلَّمَهَا الْمُشْتَرِي أَوْ حَكَمَ بِهَا حَاكِمٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ تَحْقِيقَ التَّمَلُّكِ فِي الشُّفْعَةِ عِنْدَ أَخْذِ الْبُقْعَةِ الْمَشْفُوعَةِ بِالتَّرَاضِي أَوْ قَضَاءِ الْقَاضِي، فَإِنْ كَانَتْ حَقِيقَةُ الشُّفْعَةِ فِي الشَّرِيعَةِ نَفْسَ ذَلِكَ التَّمَلُّكِ لَزِمَ أَنْ لَا يَكُونَ لِقَوْلِهِمْ الشُّفْعَةَ تَثْبُتُ بِعَقْدِ الْبَيْعِ وَتَسْتَقِرُّ بِالْإِشْهَادِ صِحَّةً، إذَا الثُّبُوتُ وَالِاسْتِقْرَارُ لَا يُتَصَوَّرُ بِدُونِ التَّحَقُّقِ وَحِينَ عَقْدِ الْبَيْعِ وَالْإِشْهَادِ لَمْ يُوجَدْ الْأَخْذُ بِالتَّرَاضِي وَلَا قَضَاءِ الْقَاضِي لَا مَحَالَةَ فَلَمْ يُوجَدْ التَّمَلُّكُ أَيْضًا، فَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ تَكُونَ الشُّفْعَةُ نَفْسَ ذَلِكَ التَّمَلُّكِ كَيْفَ يُتَصَوَّرُ ثُبُوتُهَا بِعَقْدِ الْبَيْعِ وَاسْتِقْرَارُهَا بِالْإِشْهَادِ.
وَأَيْضًا قَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّ حُكْمَ الشُّفْعَةِ جَوَازُ طَلَبِ الشُّفْعَةِ وَثُبُوتُ الْمِلْكِ بِالْقَضَاءِ أَوْ الرِّضَا، فَلَوْ كَانَتْ الشُّفْعَةُ نَفْسَ التَّمَلُّكِ لَمَا صَلُحَ شَيْءٌ مِنْ جَوَازِ طَلَبِ الشُّفْعَةِ وَثُبُوتِ الْمِلْكِ لَأَنْ يَكُونَ حُكْمًا لِلشُّفْعَةِ. أَمَّا الْأَوَّلُ؛ فَلِأَنَّهُ لَا شَكَّ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ طَلَبِ الشُّفْعَةِ إنَّمَا هُوَ الْوُصُولُ إلَى تَمَلُّكِ الْبُقْعَةِ الْمَشْفُوعَةِ، وَعِنْدَ حُصُولِ تَمَلُّكِهَا الَّذِي هُوَ الشُّفْعَةُ عَلَى الْفَرْضِ الْمَذْكُورِ لَا يَبْقَى مُحَالُ جَوَازِ طَلَبِ الشُّفْعَةِ ضَرُورَةَ بُطْلَانِ طَلَبِ الْحَاصِلِ، وَحُكْمُ الشَّيْءِ يُقَارِنُ ذَلِكَ الشَّيْءَ أَوْ يُعْقِبُهُ وَلَا يَتَقَدَّمُ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَصْلُحْ جَوَازُ طَلَبِ الشُّفْعَةِ لَأَنْ يَكُونَ حُكْمًا لِلشُّفْعَةِ عَلَى التَّقْدِيرِ أَنْ تَكُونَ الشُّفْعَةُ نَفْسَ التَّمَلُّكِ. وَأَمَّا الثَّانِي؛ فَلِأَنَّ ثُبُوتَ الْمِلْكِ هُوَ عَيْنُ التَّمَلُّكِ فِي الْمَعْنَى، وَحُكْمُ الشَّيْءِ مَا يُغَايِرُهُ وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ فَلَمْ يَصْلُحْ ثُبُوتُ الْمِلْكِ أَيْضًا لَأَنْ يَكُونَ حُكْمًا لِلشُّفْعَةِ عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِ الشُّفْعَةِ نَفْسَ التَّمَلُّكِ. فَالْأَظْهَرُ عِنْدِي فِي تَعْرِيفِ الشُّفْعَةِ فِي الشَّرِيعَةِ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ حَيْثُ قَالَ: ثُمَّ الشُّفْعَةُ عِبَارَةٌ عَنْ حَقِّ التَّمَلُّكِ فِي الْعَقَارِ لِدَفْعِ ضَرَرِ الْجِوَارِ
اهـ. فَإِنَّهُ إذَا كَانَتْ حَقِيقَةُ الشُّفْعَةِ فِي الشَّرِيعَةِ مُجَرَّدُ حَقِّ التَّمَلُّكِ دُونَ حَقِيقَةِ التَّمَلُّكِ يَنْدَفِعُ الْإِشْكَالُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ بِحَذَافِيرِهِ، وَيَظْهَرُ ذَلِكَ بِالتَّأَمُّلِ الصَّادِقِ، وَلَعَلَّ مُرَادَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ أَيْضًا ذَلِكَ وَلَكِنَّهُمْ تَسَامَحُوا فِي الْعِبَارَةِ.
ثُمَّ إنَّ سَبَبَ الشُّفْعَةِ عِنْدَ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ اتِّصَالُ مِلْكِ الشَّفِيعِ بِمِلْكِ الْبَائِعِ؛ لِأَنَّ الشُّفْعَةَ إنَّمَا تَجِبُ لِدَفْعِ ضَرَرِ الدَّخِيلِ عَنْ الْأَصِيلِ وَهُوَ ضَرَرُ سُوءِ الْمُعَامَلَةِ وَالْمُعَاشَرَةِ، وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ هَذَا الضَّرَرُ عِنْدَ اتِّصَالِ مِلْكِ الشَّفِيعِ بِالْمَبِيعِ. وَكَانَ الْخَصَّافُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ الشُّفْعَةُ تَجِبُ بِالْبَيْعِ ثُمَّ تَجِبُ بِالطَّلَبِ، فَهُوَ إشَارَةٌ مِنْهُ إلَى أَنَّ
وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ وَأَفَادَ التَّرْتِيبَ، أَمَّا الثُّبُوتُ فَلِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «الشُّفْعَةُ لِشَرِيكٍ لَمْ يُقَاسِمْ» وَلِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام
كِلَيْهِمَا سَبَبٌ عَلَى التَّعَاقُبِ وَأَنَّهُ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الشُّفْعَةَ إذَا وَجَبَبْت بِالْبَيْعِ لَا يُتَصَوَّرُ وُجُوبُهَا ثَانِيًا بِالطَّلَبِ. وَذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رحمه الله أَنَّ الشَّرِكَةَ مَعَ الْبَيْعِ عِلَّةٌ لِوُجُوبِ الشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِهِمَا.
قَالَ: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ بِأَنَّ الشِّرَاءَ شَرْطٌ وَالشَّرِكَةَ عِلَّةٌ وَسَبَبٌ، فَإِنَّ الشَّفِيعَ لَوْ سَلَّمَ الشُّفْعَةَ قَبْلَ الْبَيْعِ لَا يَصِحُّ، وَلَوْ سَلَّمَ بَعْدَ الْبَيْعِ يَصِحُّ، وَلَوْ كَانَ سَبَبُ وُجُوبِ الشُّفْعَةِ الشَّرِكَةَ وَحْدَهَا لَصَحَّ التَّسْلِيمُ قَبْلَ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ يَحْصُلُ بَعْدَ وُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ؛ أَلَا يَرَى أَنَّ الْإِبْرَاءَ عَنْ سَائِرِ الْحُقُوقِ بَعْدَ وُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ جَائِزٌ، وَلَمَّا لَمْ يَصِحَّ تَسْلِيمُ الشُّفْعَةِ قَبْلَ الْبَيْعِ عَرَفْنَا أَنَّ الشَّرِكَةَ وَحْدَهَا لَيْسَتْ بِعِلَّةٍ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الشُّفْعَةِ بِالشَّرِكَةِ عِنْدَ الْبَيْعِ أَوْ بِالشَّرِكَةِ وَالْبَيْعِ وَتَأَكُّدَهَا بِالطَّلَبِ وَثُبُوتِ الْمِلْكِ فِي الْبُقْعَةِ الْمَشْفُوعَةِ بِالْقَضَاءِ أَوْ بِالرِّضَا، كَذَا فِي الذَّخِيرَةِ، وَذَكَرَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ مَعْزِيًّا إلَى الْمَبْسُوطِ وَالذَّخِيرَةِ وَالتُّحْفَةِ وَغَيْرِهَا. أَقُولُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُ الْخَصَّافِ بِقَوْلِهِ الشُّفْعَةَ تَجِبُ بِالْبَيْعِ ثُمَّ تَجِبُ بِالطَّلَبِ أَنَّهَا تَجِبُ بِالْبَيْعِ ثُمَّ يَتَأَكَّدُ وُجُوبُهَا وَيَسْتَقِرُّ بِالطَّلَبِ فَيَئُولُ إلَى مَا ذَكَرَهُ غَيْرُهُ مِنْ الْقَوْلِ الصَّحِيحِ الْمُخْتَارِ. وَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ ثُمَّ تَجِبُ بِالطَّلَبِ نَظِيرُ مَا ذَكَرَهُ الْمُفَسِّرُونَ فِي قَوْله تَعَالَى {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} مِنْ أَنَّ مَعْنَاهُ ثَبِّتْنَا عَلَى هَدْيِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ بِكَوْنِ نَفْسِ الْهَدْيِ مُتَحَقِّقَةً قَبْلَ الطَّلَبِ، وَلَعَلَّ نَظَائِرَ هَذَا فِي كَلَامِ الْبُلَغَاءِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى. وَالْعَجَبُ أَنَّ عَامَّةَ ثِقَاتِ الْمَشَايِخِ حَمَلُوا كَلَامَ ذَلِكَ الْهُمَامِ الَّذِي لَهُ يَدٌ طُولَى فِي الْفِقْهِ عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي هُوَ بَيِّنُ الْبُطْلَانِ وَلَمْ يَحْمِلْهُ أَحَدٌ عَلَى الْمَعْنَى الصَّحِيحِ مَعَ كَوْنِهِ عَلَى طَرَفِ الثُّمَامِ
(قَوْلُهُ أَمَّا الثُّبُوتُ فَلِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «الشُّفْعَةُ لِشَرِيكٍ لَمْ يُقَاسِمْ») أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَذَا الْحَدِيثُ وَإِنْ دَلَّ عَلَى بَعْضِ الْمُدَّعَى وَهُوَ ثُبُوتُ حَقِّ الشُّفْعَةِ لِلشَّرِيكِ إلَّا أَنَّهُ يَنْفِي بَعْضَهُ الْآخَرَ وَهُوَ ثُبُوتُهُ لِغَيْرِ الشَّرِيكِ أَيْضًا كَالْجَارِ الْمُلَاصِقِ؛ لِأَنَّ اللَّامَ فِي الشُّفْعَةِ الْمَذْكُورَةِ لِلْجِنْسِ لِعَدَمِ الْعَهْدِ، وَتَعْرِيفُ الْمُسْنَدِ إلَيْهِ فَاللَّامُ الْجِنْسِ يُفِيدُ قَصْرَ الْمُسْنَدِ إلَيْهِ عَلَى الْمُسْنَدِ كَمَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْأَدَبِ، وَمَثَّلَ بِنَحْوِ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «الْأَئِمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ» سِيَّمَا وَقَدْ أَدْخَلَ عَلَى الْمُسْنَدِ هَاهُنَا لَامَ الِاخْتِصَاصِ كَمَا تَرَى فَكَانَ عَرِيقًا فِي إفَادَة الْقَصْرِ كَمَا فِي {الْحَمْدُ لِلَّهِ} عَلَى مَا قَالُوا، فَانْتَفَى اقْتِضَاءُ حَقِّ الشُّفْعَةِ عَنْ غَيْرِ الشَّرِيكِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فَلْيُتَأَمَّلْ فِي الْجَوَابِ.
قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ ذِكْرِ الْحَدِيثِ الْمَزْبُورِ: أَيْ تَثْبُتُ الشُّفْعَةُ لِلشَّرِيكِ إذَا كَانَتْ الدَّارُ مُشْتَرَكَةً فَبَاعَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ نَصِيبَهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، أَمَّا إذَا بَاعَ بَعْدَهَا فَلَمْ يَبْقَ لِلشَّرِيكِ الْآخَرِ حَقٌّ لَا فِي الدَّاخِلِ وَلَا فِي نَفْسِ الدَّارِ فَحِينَئِذٍ لَا شُفْعَةَ اهـ. وَاعْتَرَضَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ عَلَى قَوْلِهِ أَمَّا إذَا بَاعَ بَعْدَهَا إلَخْ ثُمَّ وَجَّهَهُ حَيْثُ قَالَ: هَذَا قَوْلٌ بِمَفْهُومِ الصِّفَةِ، وَنَحْنُ لَا نَقُولُ بِهِ إلَّا أَنْ يُقَالَ التَّخْصِيصُ بِدَلَالَةِ اللَّامِ الِاخْتِصَاصِيَّةِ اهـ.
أَقُولُ: كُلٌّ مِنْ اعْتِرَاضِهِ وَتَوْجِيهِهِ سَاقِطٌ. أَمَّا الْأَوَّلُ؛ فَلِأَنَّ قَوْلَ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ: وَأَمَّا إذَا بَاعَ إلَخْ لَيْسَ بِدَاخِلٍ فِي تَفْسِيرِ مَعْنَى الْحَدِيثِ الْمَزْبُورِ حَتَّى يَتَّجِهَ عَلَيْهِ أَنْ يُقَالَ هَذَا قَوْلٌ بِمَفْهُومِ الصِّفَةِ، وَنَحْنُ لَا نَقُولُ بِهِ، بَلْ هُوَ كَلَامُ نَفْسِهِ ذَكَرَهُ بِطَرِيقِ الِاسْتِطْرَادِ بَيَانًا لِلْوَاقِعِ، وَأَمَّا الثَّانِي؛ فَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَتْ اللَّامُ الِاخْتِصَاصِيَّةُ مَدَارًا لِلتَّخْصِيصِ بِمَعْنَى الْقَصْرِ لَزِمَ أَنْ يَدُلَّ الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ عَلَى عَدَمِ ثُبُوتِ حَقِّ الشُّفْعَةِ لِلْجَارِ الْمُلَاصِقِ أَيْضًا لِكَوْنِهِ غَيْرَ شَرِيكٍ لَمْ يُقَاسِمْ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ حُجَّةً عَلَيْنَا لَا لَنَا (قَوْلُهُ وَلِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام
«جَارُ الدَّارِ أَحَقُّ بِالدَّارِ وَالْأَرْضِ، يَنْتَظِرُ لَهُ وَإِنْ كَانَ غَائِبًا إذَا كَانَ طَرِيقُهُمَا وَاحِدًا» وَلِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «الْجَارُ أَحَقُّ بِسَقَبِهِ، قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا سَقَبُهُ؟ قَالَ شُفْعَتُهُ» وَيُرْوَى «الْجَارُ أَحَقُّ بِشُفْعَتِهِ» وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا شُفْعَةَ بِالْجِوَارِ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «الشُّفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقْسَمُ، فَإِذَا وَقَعَتْ الْحُدُودُ وَصُرِفَتْ الطَّرِيقُ فَلَا شُفْعَةَ»
«جَارُ الدَّارِ أَحَقُّ بِالدَّارِ وَالْأَرْضِ يَنْتَظِرُ لَهُ وَإِنْ كَانَ غَائِبًا إذَا كَانَ طَرِيقُهُمَا وَاحِدًا» ) أَيْ جَارُ الدَّارِ أَحَقُّ بِالدَّارِ وَجَارُ الْأَرْضِ أَحَقُّ بِالْأَرْضِ.
وَقَوْلُهُ " يَنْتَظِرُ لَهُ وَإِنْ كَانَ غَائِبًا ": أَيْ الشَّفِيعُ يَكُونُ عَلَى شُفْعَتِهِ إنْ غَابَ، إذَا لَا تَأْثِيرَ لِلْغَيْبَةِ فِي إبْطَالِ حَقٍّ تَقَرَّرَ سَبَبُهُ، كَذَا قَالَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ.
وَيَقْرُبُ مِنْهُ قَوْلُ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ: يَعْنِي يَكُونُ عَلَى شُفْعَتِهِ مُدَّةَ غَيْبَتِهِ، إذْ لَا تَأْثِيرَ لِلْغَيْبَةِ فِي إبْطَالِ حَقٍّ تَقَرَّرَ سَبَبُهُ اهـ. قَالَ فِي النِّهَايَةِ: وَفِي رِوَايَةِ الْأَسْرَارِ يَنْتَظِرُ بِهَا إذَا كَانَ غَائِبًا، ثُمَّ قَالَ فِي الْأَسْرَارِ: فَإِنْ قِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ أَحَقُّ بِهَا عَرْضًا عَلَيْهِ لِلْبَيْعِ؛ أَلَا يَرَى أَنَّهُ فَسَّرَ الْحَقَّ بِالِانْتِظَارِ إذَا كَانَ غَائِبًا.
قُلْنَا: إنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم جَعَلَهُ أَحَقَّ عَلَى الْإِطْلَاقِ فَيَكُونُ أَحَقَّ بِهَا قَبْلَ الْبَيْعِ وَبَعْدَهُ. وَقَوْلُهُ (يَنْتَظِرُ) تَفْسِيرٌ لِبَعْضِ مَا شَمَلَهُ كَلِمَةُ أَحَقَّ؛ وَلِأَنَّ مَا رُوِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ الشَّرِيدِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ أَرْضٍ بِيعَتْ لَيْسَ لِأَحَدٍ فِيهَا شِرْكٌ وَلَا نَصِيبٌ فَقَالَ: الْجَارُ أَحَقُّ بِشُفْعَتِهِ» فَهَذَا يُبْطِلُ ذَلِكَ التَّأْوِيلَ اهـ وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ عَلَى قَوْلِهِ وَإِنْ كَانَ غَائِبًا مُقْتَضَى كَلِمَةِ إنْ الْوَصْلِيَّةِ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ غَائِبًا يَنْتَظِرُ لَهُ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى، فَفِي كَلَامِهِ بَحْثٌ تَأَمَّلْهُ اهـ.
أَقُولُ: الْمَذْكُورُ فِي كَثِيرٍ مِنْ نُسَخِ الْهِدَايَةِ إنْ كَانَ غَائِبًا بِدُونِ الْوَاوِ، وَاَلَّذِي ذَكَرَ فِي حَاشِيَةِ ذَلِكَ الْقَائِلِ أَيْضًا تِلْكَ النُّسْخَةِ فَحِينَئِذٍ لَا يَظْهَرُ كَوْنُ كَلِمَةِ إنْ وَصْلِيَّةً، بَلْ الْمُتَبَادَرُ أَنْ تَكُونَ شَرْطِيَّةً. وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ الْأَسْرَارِ حَيْثُ وَقَعَ فِيهَا إذَا كَانَ غَائِبًا، فَعَلَى ذَلِكَ لَا يُتَوَهَّمُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى إذَا لَمْ يَكُنْ غَائِبًا يَنْتَظِرُ لَهُ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى.
وَأَمَّا عَلَى الرِّوَايَةِ بِالْوَاوِ وَهِيَ الْأَكْثَرُ وُقُوعًا فِي الشُّرُوحِ فَلَا مَحْذُورَ فِيهَا أَيْضًا؛ لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ يَنْتَظِرُ لَهُ وَإِنْ كَانَ غَائِبًا عَلَى مَا بَيَّنُوا أَنَّهُ يَكُونُ عَلَى شُفْعَتِهِ وَإِنْ غَابَ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ إذَا كَانَ عَلَى شُفْعَتِهِ حَالَ غَيْبَتِهِ فَلَأَنْ يَكُونَ عَلَى شُفْعَتِهِ حَالَ حُضُورِهِ أَوْلَى بِالطَّرِيقِ، وَإِنْ تَرَكَ الِانْتِظَارَ عَلَى مَعْنَاهُ الْأَصْلِيِّ وَهُوَ التَّوَقُّفُ فِي مُهْلَةٍ وَكَانَ الْمَعْنَى يَنْتَظِرُ لَهُ إلَى أَنْ يَجِيءَ وَيَفْرُغَ مِنْ شُفْعَتِهِ تَحَقَّقَتْ الْأَوْلَوِيَّةُ أَيْضًا فِيمَا إذَا لَمْ يَكُنْ غَائِبًا؛ لِأَنَّهُ إذَا وَجَبَ الِانْتِظَارُ لَهُ إلَى أَنْ يَجِيءَ وَيَفْرُغَ مِنْ شُفْعَتِهِ مَعَ بُعْدِ زَمَانِ الِانْتِظَارِ فَلَأَنْ يَجِبَ الِانْتِظَارُ لَهُ إلَى فَرَاغِهِ مِنْ شُفْعَتِهِ عِنْدَ حُضُورِهِ أَوْلَى لِحُصُولِ الِانْفِصَالِ بَيْنَهُمَا فِي زَمَانٍ قَلِيلٍ تَأَمَّلْ تَفْهَمْ.
(قَوْلُهُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا شُفْعَةَ بِالْجِوَارِ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «الشُّفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ، فَإِنْ وَقَعَتْ الْحُدُودُ وَصُرِفَتْ الطُّرُقُ فَلَا شُفْعَةَ») قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ اللَّامَ لِلْجِنْسِ كَقَوْلِ عليه الصلاة والسلام ' «الْأَئِمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ» فَتَنْحَصِرُ الشُّفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ: يَعْنِي إذَا كَانَ قَابِلًا لِلْقِسْمَةِ، وَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ فَلَا شُفْعَةَ فِيهِ عِنْدَهُ، وَأَنَّهُ قَالَ «فَإِذَا وَقَعَتْ الْحُدُودُ وَصُرِفَتْ الطُّرُقُ فَلَا شُفْعَةَ» وَفِيهِ دَلَالَةٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى عَدَمِ الشُّفْعَةِ فِي الْمَقْسُومِ وَالشَّرِيكُ فِي حَقِّ الْمَبِيعِ وَالْجَارُ حَقُّ كُلٍّ مِنْهُمَا مَقْسُومٌ فَلَا شُفْعَةَ فِيهِ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ اهـ.
أَقُولُ: فِي تَقْرِيرِهِ نَوْعُ خَلَلٍ
وَلِأَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ مَعْدُولٌ بِهِ عَنْ سُنَنِ الْقِيَاسِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَمَلُّكِ الْمَالِ عَلَى الْغَيْرِ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ، وَقَدْ وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ، وَهَذَا لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ؛ لِأَنَّ مُؤْنَةَ الْقِسْمَةِ تَلْزَمُهُ فِي الْأَصْلِ دُونَ الْفَرْعِ، وَلَنَا مَا رَوَيْنَا،
لِأَنَّ قَوْلَهُ وَالشَّرِيكُ فِي الْحَقِّ الْمَبِيعِ وَالْجَارُ حَقُّ كُلٍّ مِنْهُمَا مَقْسُومٌ يُنَاقِضُ أَوَّلُهُ آخِرَهُ، فَإِنَّ مَعْنَى الشَّرِيكِ فِي حَقِّ الْمَبِيعِ مَنْ لَمْ يَكُنْ حَقُّهُ مَقْسُومًا بَلْ كَانَ حَقُّ الْمَبِيعِ مُشَاعًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْآخَرِ، وَقَدْ حُكِمَ عَلَيْهِ بِكَوْنِ حَقِّهِ مَقْسُومًا وَذَلِكَ تَنَاقُضٌ لَا يَخْفَى، وَقَصَدَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ دَفْعَ ذَلِكَ حَيْثُ قَالَ: فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَكُونُ حَقِّ الشَّرِيكِ فِي حَقِّ الْمَبِيعِ مَقْسُومًا؟. قُلْنَا: مُرَادُهُ حَقُّ كُلٍّ مِنْهُمَا مِنْ الْمِلْكِ اهـ.
أَقُولُ فَحِينَئِذٍ يَخْتَلُّ تَفْرِيغُ قَوْلِهِ فَلَا شُفْعَةَ فِيهِ عَلَى قَوْلِهِ وَالشَّرِيكُ فِي حَقِّ الْمَبِيعِ وَالْجَارُ حَقُّ كُلٍّ مِنْهُمَا مَقْسُومٌ، إذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ حَقِّ كُلٍّ مِنْهُمَا مِنْ الْمِلْكِ فَقَطْ مَقْسُومًا أَنْ لَا يَثْبُتَ فِيهِ شُفْعَةٌ عَلَى مُقْتَضَى دَلَالَةِ قَوْلِهِ «فَإِذَا وَقَعَتْ الْحُدُودُ وَصُرِفَتْ الطُّرُقُ فَلَا شُفْعَةَ» فَإِنَّ دَلَالَتَهُ عَلَى عَدَمِ الشُّفْعَةِ فِي الْمَقْسُومِ مِنْ جِهَتَيْنِ مَعًا: أَيْ مِنْ جِهَةِ نَفْسِ الْمِلْكِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ " فَإِذَا وَقَعَتْ الْحُدُودُ " وَمِنْ جِهَةِ حَقِّ الْمَبِيعِ وَهُوَ الطَّرِيقُ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ " وَصُرِفَتْ الطُّرُقُ ".
وَالْأَوْلَى فِي تَقْرِيرِ الْمَقَامِ أَنْ يُقَالَ: وَأَنَّهُ قَالَ «فَإِذَا وَقَعَتْ الْحُدُودُ وَصُرِفَتْ الطُّرُقُ فَلَا شُفْعَةَ» وَفِيهِ دَلَالَةٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى عَدَمِ الشُّفْعَةِ فِي الْمَقْسُومِ مِنْ جِهَةِ وُقُوعِ الْحُدُودِ وَمِنْ جِهَةِ صَرْفِ الطُّرُقِ، وَالْجَارُ الْمُلَاصِقُ حَقُّهُ مَقْسُومٌ مِنْ تِينِك الْجِهَتَيْنِ مَعًا فَلَا شُفْعَةَ فِيهِ، إذْ عَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ يَقَعُ الِاخْتِلَالُ بِالْكُلِّيَّةِ وَيُطَابِقُ الشَّرْحُ الْمَشْرُوحَ، فَإِنَّ الْمُصَنِّفَ قَالَ: وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا شُفْعَةَ بِالْجِوَارِ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ دَلِيلًا عَلَيْهِ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِغَيْرِ الْجِوَارِ. نَعَمْ طَعَنَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ فِي تَخْصِيصِهِ بِالْجِوَارِ بِالذِّكْرِ حَيْثُ قَالَ: لَيْسَ لِتَخْصِيصِ هَذَا زِيَادَةُ فَائِدَةٍ؛ لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ كَمَا لَا يَقُولُ بِالشُّفْعَةِ بِالْجِوَارِ فَكَذَلِكَ لَا يَقُولُ بِالشُّفْعَةِ بِالشَّرِكَةِ فِي الْحُقُوقِ أَيْضًا، وَكَذَلِكَ لَا يَقُولُ بِالشُّفْعَةِ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ كَالْبِئْرِ وَالنَّهْرِ اهـ. وَلَكِنْ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: وَجْهُ تَخْصِيصِهِ ذَلِكَ بِالذِّكْرِ عَدَمُ مُسَاعَدَةِ دَلِيلِ الشَّافِعِيِّ لِعَدَمِ ثُبُوتِ الشُّفْعَةِ إلَّا فِي حَقِّ الْجَارِ تَدَبَّرْ (قَوْلُهُ: وَقَدْ وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ وَهَذَا لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ؛ لِأَنَّ مُؤْنَةَ الْقِسْمَةِ تَلْزَمُهُ فِي الْأَصْلِ دُونَ الْفَرْعِ) فَسَّرَ صَاحِبُ مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ وَصَاحِبُ الْعِنَايَةِ وَالشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ الْمُشَارَ إلَيْهِ بِهَذَا فِي قَوْلِ الْمُصَنِّفِ وَهَذَا لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ بِالْجَارِ حَيْثُ قَالُوا وَهَذَا: أَيْ الْجَارُ، وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ وَحْدَهُ بَعْدَ أَنْ قَالَ: أَيْ الْجَارِ: يَعْنِي شُفْعَةَ الْجَارِ، وَسَكَتَ غَيْرُ هَؤُلَاءِ الشُّرَّاحِ عَنْ تَفْسِيرِ هَذَا هُنَا، وَفَسَّرَ عَامَّتُهُمْ الْفَرْعَ فِي قَوْلِهِ دُونَ الْفَرْعِ بِالْجَارِ أَيْضًا، وَفَسَّرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بِالْمَقْسُومِ وَتَبِعَهُ الْعَيْنِيُّ وَأَجْمَعُوا عَلَى تَفْسِيرِ الْأَصْلِ بِمَا لَمْ يُقْسَمْ. أَقُولُ: الْحَقُّ الْوَاضِحُ عِنْدِي أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا وَالْفَرْعِ كِلَيْهِمَا هُوَ الْمَقْسُومُ لَا غَيْرَ؛ لِأَنَّهُ لَا حَاصِلَ لَأَنْ يُقَالَ: الْجَارُ لَيْسَ فِي مَعْنَى مَا لَمْ يُقْسَمْ إذَا لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِأَنَّ الْجَارَ فِي حُكْمِ مَا لَمْ يُقْسَمْ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّ الْمَقْسُومَ فِي حُكْمِ مَا لَمْ يُقْسَمْ إذَا وُجِدَ الِاتِّصَالُ بِمِلْكِ الْبَائِعِ، وَلَا صِحَّةَ لَأَنْ يُقَالَ الْجَارُ فَرْعٌ لِمَا لَمْ يُقْسَمْ؛ لِأَنَّ الَّذِي فِي حُكْمِ مَا لَمْ يُقْسَمْ إنَّمَا هُوَ
وَلِأَنَّ مِلْكَهُ مُتَّصِلٌ بِمِلْكِ الدَّخِيلِ اتِّصَالَ تَأْبِيدٍ وَقَرَارٍ فَيَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الشُّفْعَةِ عِنْدَ وُجُودِ الْمُعَاوَضَةِ بِالْمَالِ اعْتِبَارًا بِمَوْرِدِ الشَّرْعِ، وَهَذَا لِأَنَّ الِاتِّصَالَ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ إنَّمَا انْتَصَبَ سَبَبًا فِيهِ لِدَفْعِ ضَرَرِ الْجِوَارِ، إذْ هُوَ مَادَّةُ الْمَضَارِّ عَلَى مَا عُرِفَ، وَقَطْعُ هَذِهِ الْمَادَّةِ بِتَمَلُّكِ الْأَصْلِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الضَّرَرَ فِي حَقِّهِ بِإِزْعَاجِهِ عَنْ خُطَّةِ آبَائِهِ أَقْوَى،
الْمَقْسُومُ لَا الْجَارُ نَفْسُهُ، وَهَذَا مِمَّا لَا سُتْرَةَ بِهِ.
فَعَامَّةُ الشُّرَّاحِ خَرَجُوا فِي تَفْسِيرِ كُلٍّ مِنْ الْمَوْضِعَيْنِ عَنْ سُنَنِ الصَّوَابِ. وَأَمَّا صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فَقَدْ أَصَابَ فِي تَفْسِيرِ الْفَرْعِ حَيْثُ قَالَ فِيهِ: وَهُوَ الْمَقْسُومُ، وَلَمْ يُصِبْ فِي تَفْسِيرِ هَذَا حَيْثُ قَالَ فِيهِ: أَيْ الْجَارُ، إلَّا أَنَّهُ لَمَّا ذَاقَ بَشَاعَةَ هَذَا التَّفْسِيرِ قَالَ بَعْدَهُ: يَعْنِي شُفْعَةَ الْجَارِ لَكِنَّهُ لَيْسَ بِتَامٍّ أَيْضًا، إذْ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ أَيْضًا بِأَنَّ شُفْعَةَ الْجَارِ فِي مَعْنَى نَفْسِ مَا لَمْ يُقْسَمْ إلَّا أَنْ يُقَدَّرَ مُضَافٌ آخَرُ فِي قَوْلِهِ مَعْنَاهُ أَيْضًا فَيَصِيرُ الْمَعْنَى لَيْسَ فِي مَعْنَى شُفْعَتِهِ: أَيْ شُفْعَةِ مَا لَمْ يُقْسَمْ، لَكِنْ لَا يَخْفَى أَنَّهُ تَمَحُّلٌ بَعْدَ تَمَحُّلٍ بِلَا ضَرُورَةٍ دَاعِيَةٍ إلَى شَيْءٍ مِنْهُمَا فَالْحَقُّ مَا قُلْته لِقَوْلِهِ (وَلِأَنَّ مِلْكَهُ مُتَّصِلٌ بِمِلْكِ الدَّخِيلِ اتِّصَالَ تَأْبِيدٍ وَقَرَارٍ) قَالَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ: ذِكْرُ التَّأْبِيدِ احْتِرَازٌ عَنْ الْمَنْقُولِ وَالسُّكْنَى بِالْعَارِيَّةِ، وَذِكْرُ الْقَرَارِ احْتِرَازٌ عَنْ الْمُشْتَرِي شِرَاءً فَاسِدًا، فَإِنَّهُ لَا قَرَارَ لَهُ إذْ النَّقْضُ وَاجِبٌ دَفْعًا لِلْفَسَادِ اهـ. وَاقْتَفَى أَثَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ. وَرَدَّ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ قَوْلَهُ وَالسُّكْنَى بِالْعَارِيَّةِ حَيْثُ قَالَ: لَيْسَ لِلْمُسْتَعِيرِ مِلْكٌ حَتَّى يُحْتَرَزَ عَنْهُ اهـ. أَقُولُ: إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِلْكٌ مِنْ حَيْثُ الرُّقْبَةُ فَلَهُ مِلْكٌ مِنْ حَيْثُ الْمَنْفَعَةُ؛ لِأَنَّ الْإِعَارَةَ تَمْلِيكُ الْمَنَافِعِ بِلَا عِوَضٍ عَلَى مَا عُرِفَ فِي كِتَابِ الْعَارِيَّةِ، فَكَانَ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ مُتَّصِلٌ بِمِلْكِ الدَّخِيلِ مُتَنَاوِلًا الدَّارَ الْمَسْكُونَةَ بِالْعَارِيَّةِ أَيْضًا فَحَصَلَ بِقَوْلِهِ اتِّصَالُ تَأْبِيدٍ الِاحْتِرَازُ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ.
(قَوْلُهُ فَيَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الشُّفْعَةِ عِنْدَ وُجُودِ الْمُعَارَضَةِ بِالْمَالِ اعْتِبَارًا بِمَوْرِدِ الشَّرْعِ) قَالَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ: قَوْلُهُ عِنْدَ وُجُودِ الْمُعَارَضَةِ بِالْمَالِ احْتِرَازٌ عَنْ الْإِجَارَةِ وَالدَّارِ الْمَوْهُوبَةِ وَالْمَجْعُولَةِ رَهْنًا اهـ وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَهُوَ احْتِرَازٌ عَنْ الْإِجَارَةِ وَالْمَرْهُونَةِ وَالْمَجْعُولَةِ مَهْرًا اهـ.
وَتَبِعَهُ الشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ. أَقُولُ: فِيهِ بَحْثٌ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ وَإِنْ كَانَ لَهُ مِلْكٌ فِي الدَّارِ الْمُسْتَأْجَرَةِ مِنْ حَيْثُ الْمَنْفَعَةُ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ تَمْلِيكُ الْمَنَافِعِ بِعِوَضٍ فَتَحَقَّقَ لَهُ فِيهَا نَوْعُ مِلْكٍ كَمَا فِي الْمُسْتَعِيرِ عَلَى مَا مَرَّ آنِفًا، إلَّا أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا قَدْ خَرَجَا بِقَوْلِهِ اتِّصَالَ تَأْبِيدٍ فِيمَا قَبْلُ فَمَا مَعْنَى الِاحْتِرَازِ عَنْ الْإِجَارَةِ مَرَّةً أُخْرَى بِقَوْلِهِ هَاهُنَا عِنْدَ وُجُودِ الْمُعَارَضَةِ بِالْمَالِ: وَأَمَّا الْمُرْتَهِنُ فَلَا مِلْكَ لَهُ فِي الدَّارِ الْمَرْهُونَةِ لَا مِنْ حَيْثُ الرَّقَبَةُ وَلَا مِنْ حَيْثُ الْمَنْفَعَةُ، فَقَدْ خَرَجَ بِالْمِلْكِ الْمَذْكُورِ مِنْ قَبْلُ قَطْعًا مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ قَيْدِ التَّأْبِيدِ فَلَا مَعْنَى لِلِاحْتِرَازِ عَنْ الدَّارِ الْمَرْهُونَةِ بِالْقَيْدِ الْمَذْكُورِ هَاهُنَا أَصْلًا.
وَالْحَقُّ أَنَّ هَذَا الْقَيْدَ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ مِثْلِ الدَّارِ الْمَوْرُوثَةِ وَالْمَوْهُوبَةِ وَالْمُوصَى بِهَا وَالْمَجْعُولَةِ مَهْرًا، فَإِنَّ فِي كُلٍّ مِنْهَا يَتَحَقَّقُ الْمِلْكُ وَالتَّأْبِيدُ وَالْقَرَارُ، لَكِنْ لَا شُفْعَةَ فِيهَا لِعَدَمِ تَحَقُّقِ الْمُعَارَضَةِ الْمَالِيَّةِ فِي شَيْءٍ مِنْهَا (قَوْلُهُ لِأَنَّ الضَّرَرَ فِي حَقِّهِ بِإِزْعَاجِهِ عَنْ خُطَّةِ آبَائِهِ أَقْوَى) قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: الدَّلِيلُ أَخَصُّ مِنْ الْمُدَّعَى، فَإِنَّ الشَّفِيعَ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ فِي خُطَّةِ آبَائِهِ، بَلْ قَدْ يَكُونُ
وَضَرَرُ الْقِسْمَةِ مَشْرُوعٌ لَا يَصْلُحُ عِلَّةً لِتَحْقِيقِ ضَرَرِ غَيْرِهِ.
مَالِكًا بِالشِّرَاءِ أَوْ الْهِبَةِ اهـ.
أَقُولُ: الْمَعْنَى الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الدَّلِيلِ أَنَّ الضَّرَرَ فِي حَقِّهِ بِإِزْعَاجِهِ عَنْ خُطَّتِهِ الْأَصْلِيَّةِ الْمُتَقَرِّرَةِ أَقْوَى فَيَعُمُّ مَا كَانَ مِلْكًا لَهُ بِالشِّرَاءِ أَوْ الْهِبَةِ إلَّا أَنَّهُ عَبَّرَ عَنْ أَصَالَةِ خُطَّتِهِ وَتَقَرُّرِهَا بِإِضَافَتِهَا إلَى آبَائِهِ مُبَالَغَةً فِي بَيَانِ أَصَالَتِهَا وَتَقَرُّرِهَا، وَبِنَاءً عَلَى مَا هُوَ الْأَكْثَرُ وُقُوعًا فِي الْعَادَةِ، فَأَخَصِّيَّةُ الدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ بِالنَّظَرِ إلَى ظَاهِرِ اللَّفْظِ دُونَ الْمَعْنَى الْمَقْصُودِ مِنْهُ فَلَا مَحْذُورَ فِيهِ (قَوْلُهُ وَضَرَرُ الْقِسْمَةِ مَشْرُوعٌ لَا يَصْلُحُ عِلَّةً لِتَحْقِيقِ ضَرَرِ غَيْرِهِ) هَذَا جَوَابٌ عَنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ مُؤْنَةَ الضَّرَرِ تَلْزَمُهُ فِي الْأَصْلِ دُونَ الْفَرْعِ: يَعْنِي أَنَّ التَّعْلِيلَ بِذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ مُؤْنَةَ الْقِسْمَةِ أَمْرٌ مَشْرُوعٌ لَا يَصْلُحُ عِلَّةً لِتَحْقِيقِ ضَرَرٍ غَيْرِ مَشْرُوعٍ وَهُوَ تَمَلُّكُ مَالِ الْغَيْرِ بِدُونِ رِضَاهُ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ.
قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ بَيَانِ ذَلِكَ: وَلَمْ يَذْكُرْ الْجَوَابَ عَنْ اسْتِدْلَالِهِ بِالْحَدِيثِ؛ لِأَنَّهُ فِي حَيِّزِ التَّعَارُضِ اهـ.
أَقُولُ: هَذَا عُذْرٌ بَارِدٌ بَلْ كَاسِدٌ؛ لِأَنَّ كَوْنَ الْحَدِيثِ الَّذِي اسْتَدَلَّ بِهِ الْخَصْمُ فِي حَيِّزِ التَّعَارُضِ بِالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَيْنَاهُ لَا يُسَوِّغُ الِاسْتِغْنَاءَ عَنْ ذِكْرِ الْجَوَابِ، فَإِنَّ حُكْمَ التَّعَارُضِ هُوَ التَّسَاقُطُ إنْ لَمْ يَظْهَرْ الرُّجْحَانُ فِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ، وَلَمْ يَتَيَسَّرْ الْمُخَلِّصُ الْجَامِعُ بَيْنَهُمَا عِنْدَ الطَّلَبِ كَمَا عُرِفَ فِي عِلْمِ أُصُولِ الْفِقْهِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ التَّسَاقُطِ هَاهُنَا يَلْزَمُ أَنْ لَا يَثْبُتَ مُدَّعَانَا كَمَا لَا يَثْبُتُ مُدَّعَاهُ، وَذَلِكَ يُخِلُّ بِمَطْلُوبِنَا هَاهُنَا لَا مَحَالَةَ فَلَا بُدَّ مِنْ الْجَوَابِ. إمَّا بِبَيَانِ الرُّجْحَانِ فِيمَا رَوَيْنَاهُ أَوْ بِبَيَانِ الْمُخَلِّصِ عَلَى وَفْقِ قَاعِدَةِ الْأُصُولِ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُقَالَ: يَكْفِينَا دَلِيلُنَا الْعَقْلِيُّ عِنْدَ تَحَقُّقِ حُكْمِ التَّعَارُضِ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ لَكِنْ فِيهِ مَا فِيهِ. وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَقَدْ أَجَابَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ قَوْلَهُ عليه الصلاة والسلام «الشُّفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ» مِنْ بَابِ تَخْصِيصِ الشَّيْءِ بِالذِّكْرِ وَهُوَ لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ مَا عَدَاهُ، وَبِأَنَّ قَوْلَهُ «فَإِذَا وَقَعَتْ الْحُدُودُ وَصُرِفَتْ الطُّرُقُ» مُشْتَرَكُ الْإِلْزَامِ؛ لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام عَلَّقَ عَدَمَ الشُّفْعَةِ بِالْأَمْرَيْنِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّهُ إذَا وَقَعَتْ الْحُدُودُ وَلَمْ تُصْرَفْ الطُّرُقُ بِأَنْ كَانَ الطَّرِيقُ وَاحِدًا تَجِبُ الشُّفْعَةُ اهـ.
أَقُولُ: فِي كُلٍّ مِنْ هَذَيْنِ الْجَوَابَيْنِ نَظَرٌ. أَمَّا فِي الْأَوَّلِ وَهُوَ الَّذِي فِي الْكَافِي وَعَامَّةِ الشُّرُوحِ؛ فَلِأَنَّ مَدَارَ اسْتِدْلَالِ الشَّافِعِيِّ بِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «الشُّفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ» لَيْسَ عَلَى مُجَرَّدِ تَخْصِيصِ كَوْنِ الشُّفْعَةِ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ بِالذِّكْرِ حَتَّى يَتِمَّ الْجَوَابُ عَنْهُ بِأَنَّ تَخْصِيصَ الشَّيْءِ بِالذِّكْرِ لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ مَا عَدَاهُ، بَلْ مَدَارُ اسْتِدْلَالِهِ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ اللَّامَ فِي الشُّفْعَةِ لِلْجِنْسِ لِعَدَمِ الْمَعْهُودِ فَيَقْتَضِي قَصْرَ الشُّفْعَةِ عَلَى مَا لَمْ يُقْسَمْ كَمَا فِي قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «الْأَئِمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ» وَقَدْ صَرَّحُوا بِهِ فِي أَثْنَاءِ تَقْرِيرِ وَجْهِ اسْتِدْلَالِهِ بِذَلِكَ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ أَدَاةَ الْقَصْرِ تَدُلُّ عَلَى نَفْيِ مَا عَدَا الْمَذْكُورِ، فَالْأَوْلَى فِي الْجَوَابِ عَنْهُ مَا ذَكَرَهُ تَاجُ الشَّرِيعَةِ، وَهُوَ أَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ كَمَا تَدْخُلَانِ فِي الِاسْمِ لِلِاسْتِغْرَاقِ تَدْخُلَانِ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ، كَمَا يُقَالُ الْعَالِمُ فِي الْبَلَدِ فُلَانٌ وَإِنْ كَانَ
وَأَمَّا التَّرْتِيبُ فَلِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «الشَّرِيكُ أَحَقُّ مِنْ الْخَلِيطِ، وَالْخَلِيطُ أَحَقُّ مِنْ الشَّفِيعِ» فَالشَّرِيكُ فِي نَفْسِ الْمَبِيعِ وَالْخَلِيطُ فِي حُقُوقِ الْمَبِيعِ وَالشَّفِيعُ هُوَ الْجَارُ.
فِيهِ عُلَمَاءٌ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ يَكُونُ الْمُرَادُ بِمَا فِي ذَلِكَ الْحَدِيثِ أَقْوَى الْأَسْبَابِ، وَنَحْنُ نَقُولُ: إنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ أَقْوَى وَلِهَذَا قَدَّمْنَاهُ عَلَى غَيْرِهِ اهـ.
وَأَمَّا فِي الثَّانِي؛ فَلِأَنَّ حُصُولَ الْإِلْزَامِ لِلشَّافِعِيِّ بِقَوْلِهِ " فَإِنْ وَقَعَتْ الْحُدُودُ وَصُرِفَتْ الطَّرِيقُ " عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ فِي الْجَوَابِ الْمَزْبُورِ مَمْنُوعٌ، فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ وَإِنْ قَالَ بِمَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ إلَّا أَنَّ لَهُ شَرَائِطَ عِنْدَهُ: مِنْهَا أَنْ لَا يَخْرُجَ الْكَلَامُ مَخْرَجَ الْعَادَةِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ} عَلَى مَا عُرِفَ فِي الْأُصُولِ، فَلَهُ أَنْ يَقُولَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ إنَّ قَوْلَهُ وَصُرِفَتْ الطُّرُقُ خَرَجَ مَخْرَجَ الْعَادَةِ بِكَوْنِ صَرْفِ الطُّرُقِ عِنْدَ الْقِسْمَةِ غَالِبُ الْوُقُوعِ فَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إذَا كَانَ الطَّرِيقُ وَاحِدًا تَجِبُ الشُّفْعَةُ، وَلَئِنْ سُلِّمَ حُصُولُ الْإِلْزَامِ لَهُ بِذَلِكَ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ إنَّهُ مُشْتَرَكُ الْإِلْزَامِ؛ لِأَنَّ فِيهِ اعْتِرَافًا بِكَوْنِهِ مُلْزِمًا إيَّانَا أَيْضًا، وَلَوْ كُنَّا مُلْزَمِينَ بِذَلِكَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَمَا الْفَائِدَةُ لَنَا فِي كَوْنِ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا مُلْزَمًا بِهِ، وَتِلْكَ الْمُقَدِّمَةُ إنَّمَا يُصَارُ إلَيْهَا فِي الْعُلُومِ الْعَقْلِيَّةِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، وَعَلَى هَذَا لَمْ يَقَعْ التَّعْبِيرُ بِأَنَّهُ مُشْتَرَكُ الْإِلْزَامِ فِي غَيْرِ كَلَامِ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ. فَالْأَوْلَى فِي الْجَوَابِ عَنْ آخِرِ ذَلِكَ الْحَدِيثِ. وَهُوَ قَوْلُهُ «فَإِذَا وَقَعَتْ الْحُدُودُ وَصُرِفَتْ الطُّرُقُ فَلَا شُفْعَةَ» مَا أُشِيرَ إلَيْهِ فِي الْكَافِي، وَذُكِرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ الشُّرُوحِ مِنْ أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ كَوْنُهُ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِ الْحَدِيثِ بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ الرَّاوِي فَلَا يَكُونُ حُجَّةً لِلْخَصْمِ فِي عَدَمِ اسْتِحْقَاقِ الشُّفْعَةِ لِلْجَارِ مَعَ مَا صَحَّ مِنْ الْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى ثُبُوتِ الشُّفْعَةِ لِلْجَارِ. وَلَئِنْ ثَبَتَ كَوْنُهُ مِنْ نَفْسِ الْحَدِيثِ فَالْمُرَادُ نَفْيُ الشُّفْعَةِ الثَّابِتَةِ بِسَبَبِ الشَّرِكَةِ عَمَلًا بِمَا رَوَيْنَاهُ: أَيْ جَمْعًا بَيْنَ ذَلِكَ الْحَدِيثِ وَبَيْنَ مَا رَوَيْنَاهُ أَوْ مَعْنَاهُ فَلَا شُفْعَةَ بِسَبَبِ الْقِسْمَةِ الْحَاصِلَةِ بِوُقُوعِ الْحُدُودِ وَصَرْفِ الطَّرِيقِ، وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ لَمَّا كَانَ فِيهَا مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ كَانَتْ مَوْضِعَ أَنْ يُتَوَهَّمَ اسْتِحْقَاقُ الشُّفْعَةِ بِهَا كَالْبَيْعِ، فَبَيَّنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَدَمَ ثُبُوتِ الشُّفْعَةِ بِهَا إزَالَةً لِذَلِكَ الْوَهْمِ. وَأَوْرَدَ عَلَيْنَا مِنْ قِبَلِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ فِي رِوَايَةٍ «إنَّمَا الشُّفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ» وَإِنَّمَا لِإِثْبَاتِ الْمَذْكُورِ وَنَفْيِ مَا عَدَاهُ.
وَأُجِيبُ عَنْهُ بِعِبَارَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ. قَالَ فِي الْكَافِي وَالْكَافِيَةِ: وَإِنَّمَا قَدْ تَقْتَضِي تَأْكِيدَ الْمَذْكُورِ لَا نَفْيَ غَيْرِ الْمَذْكُورِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ} اهـ. وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ: وَكَلِمَةُ إنَّمَا قَدْ تَجِيءُ لِلْإِثْبَاتِ بِطَرِيقِ الْكَمَالِ، كَمَا يُقَالُ إنَّمَا الْعَالِمُ فِي الْبَلَدِ زَيْدٌ: أَيْ الْكَامِلُ فِيهِ، وَالْمَشْهُورُ بِهِ زَيْدٌ وَلَمْ يَرِدْ بِهِ نَفْيَ الْعِلْمِ عَنْ غَيْرِهِ، وَهَاهُنَا كَذَلِكَ فَإِنَّ الشَّرِيكَ الَّذِي لَمْ يُقَاسِمْ هُوَ الشَّرِيكُ فِي الْبُقْعَةِ وَهُوَ كَامِلٌ فِي سَبَبِ اسْتِحْقَاقِ الشُّفْعَةِ حَتَّى لَا يُزَاحِمَهُ غَيْرُهُ فَكَانَ مَحْمُولًا عَلَى إثْبَاتِ الْمَذْكُورِ بِطَرِيقِ الْكَمَالِ دُونَ نَفْيِ غَيْرِهِ اهـ.
وَقَالَ فِي الْبَدَائِعِ: أَمَّا الْحَدِيثُ فَلَيْسَ فِي صَدْرِهِ نَفْيُ الشُّفْعَةِ عَنْ الْمَقْسُومِ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ إنَّمَا لَا تَقْتَضِي نَفْيَ غَيْرِ الْمَذْكُورِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} وَهَذَا لَا يَنْفِي أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ صلى الله عليه وسلم بَشَرًا مِثْلَهُمْ اهـ.
أَقُولُ: فِيمَا ذَكَرَ فِي الْبَدَائِعِ خَلَلٌ بَيِّنٌ، إذْ قَدْ تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْأَدَبِ أَنَّهُ يُؤَخَّرُ الْمَقْصُورُ عَلَيْهِ فِي " إنَّمَا " وَلَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهُ عَلَى غَيْرِهِ فَالْمَقْصُورُ فِي قَوْله تَعَالَى {إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} مَدْلُولٌ أَنَا وَالْمَقْصُورُ عَلَيْهِ هُوَ الْبَشَرِيَّةُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِمْ إنَّمَا لِإِثْبَاتِ الْمَذْكُورِ وَنَفْيِ غَيْرِ الْمَذْكُورِ هُوَ الْمَقْصُورُ عَلَيْهِ إذْ بِإِثْبَاتِ ذَلِكَ وَنَفْيِ غَيْرِهِ يَحْصُلُ مَعْنَى الْقَصْرِ عَلَيْهِ كَمَا لَا يَخْفَى، فَقَوْلُهُ وَهَذَا لَا يَنْفِي أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ عليه الصلاة والسلام بَشَرًا مِثْلَهُمْ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنْ لَا تَقْتَضِيَ كَلِمَةُ إنَّمَا نَفْيَ غَيْرِ الْمَذْكُورِ الَّذِي هُوَ الْمَقْصُورُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُورَ عَلَيْهِ فِي قَوْله تَعَالَى {إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} إنَّمَا هُوَ الْبَشَرِيَّةُ لَا غَيْرُهُ عليه الصلاة والسلام وَالْحَاصِلُ أَنَّ كَلِمَةَ إنَّمَا فِي الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ لِقَصْرِ الْمُسْنَدِ إلَيْهِ عَلَى الْمُسْنَدِ دُونَ الْعَكْسِ لَا مَحَالَةَ.
وَقَوْلُهُ وَهَذَا لَا يَنْفِي أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ عليه الصلاة والسلام بَشَرًا مِثْلَهُمْ يَبْتَنِي عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ هُوَ الْعَكْسُ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ قَطْعًا (قَوْلُهُ وَأَمَّا التَّرْتِيبُ فَلِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «الشَّرِيكُ أَحَقُّ مِنْ الْخَلِيطِ، وَالْخَلِيطُ أَحَقُّ مِنْ الشَّفِيعِ»، فَالشَّرِيكُ فِي نَفْسِ الْمَبِيعِ وَالْخَلِيطُ فِي حُقُوقِ الْمَبِيعِ وَالشَّفِيعُ هُوَ الْجَارُ) قَالَ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ: فَسَّرَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ الشَّرِيكَ بِمَنْ كَانَ شَرِيكًا فِي نَفْسِ الْمَبِيعِ، وَالْخَلِيطَ بِمَنْ كَانَ
وَلِأَنَّ الِاتِّصَالَ بِالشَّرِكَةِ فِي الْمَبِيعِ أَقْوَى؛ لِأَنَّهُ فِي كُلِّ جُزْءٍ، وَبَعْدَهُ الِاتِّصَالُ فِي الْحُقُوقِ؛ لِأَنَّهُ شَرِكَةٌ فِي مَرَافِقِ الْمِلْكِ، وَالتَّرْجِيحُ يَتَحَقَّقُ بِقُوَّةِ السَّبَبِ، وَلِأَنَّ ضَرَرَ الْقِسْمَةِ إنْ لَمْ يَصْلُحْ عِلَّةً صَلَحَ مُرَجِّحًا. .
قَالَ (وَلَيْسَ لِلشَّرِيكِ فِي الطَّرِيقِ وَالشِّرْبِ وَالْجَارِ شُفْعَةٌ مَعَ الْخَلِيطِ فِي الرَّقَبَةِ) لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ مُقَدَّمٌ. قَالَ (فَإِنْ سُلِّمَ فَالشُّفْعَةُ لِلشَّرِيكِ فِي الطَّرِيقِ، فَإِنْ سُلِّمَ أَخَذَهَا الْجَارُ) لِمَا بَيَّنَّا مِنْ التَّرْتِيبِ، وَالْمُرَادُ بِهَذَا الْجَارُ الْمُلَاصِقُ، وَهُوَ الَّذِي عَلَى ظَهْرِ الدَّارِ الْمَشْفُوعَةِ وَبَابُهُ فِي سِكَّةٍ أُخْرَى. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ مَعَ وُجُودِ الشَّرِيكِ فِي الرَّقَبَةِ لَا شُفْعَةَ لِغَيْرِهِ سَلَّمَ أَوْ اسْتَوْفَى؛ لِأَنَّهُمْ مَحْجُوبُونَ بِهِ. وَوَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ السَّبَبَ تَقَرَّرَ فِي حَقِّ الْكُلِّ، إلَّا أَنَّ لِلشَّرِيكِ حَقُّ التَّقَدُّمِ، فَإِذَا سَلَّمَ كَانَ لِمَنْ يَلِيهِ
شَرِيكًا فِي حُقُوقِ الْمَبِيعِ وَهُمَا فِي اللُّغَةِ سَوَاءٌ اهـ.
وَاقْتَفَى أَثَرَهُ الشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ. أَقُولُ: إنْ كَانَ مُرَادُهُمَا مُؤَاخَذَةَ الْمُصَنِّفِ بِتَفْسِيرِهِ الْمَزْبُورِ كَمَا هُوَ الْمُتَبَادَرُ مِنْ ظَاهِرِ لَفْظِهِمَا فَالْجَوَابُ هَيِّنٌ، فَإِنَّهُ لَمَّا وَقَعَ فِي الْحَدِيثِ «الشَّرِيكُ أَحَقُّ مِنْ الْخَلِيطِ» عُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالشَّرِيكِ هُنَاكَ غَيْرُ الْخَلِيطِ، إذْ لَا مَعْنَى لِكَوْنِ الشَّيْءِ أَحَقَّ مِنْ نَفْسِهِ فَلَا بُدَّ أَنْ يُحْمَلَ أَحَدُهُمَا عَلَى نَوْعٍ مِمَّا أُطْلِقَ عَلَيْهِ فِي اللُّغَةِ وَالْآخَرُ عَلَى نَوْعٍ آخَرَ مِنْهُ. ثُمَّ لَمَّا كَانَتْ مَزِيَّةُ الشَّرِكَةِ فِي نَفْسِ الْمَبِيعِ عَلَى الشَّرِيكِ فِي حُقُوقِ الْمَبِيعِ أَظْهَرَ وَأَجْلَى فَسَّرَ الْمُفَضَّلَ بِالْأَوَّلِ وَالْمُفَضَّلَ عَلَيْهِ بِالثَّانِي وَلَمْ يَعْكِسْ فَلَا غُبَارَ عَلَيْهِ
(قَوْلُهُ قَالَ وَلَيْسَ لِلشَّرِيكِ فِي الطَّرِيقِ وَالشُّرْبِ وَالْجَارِ شُفْعَةٌ مَعَ الْخَلِيطِ فِي الرَّقَبَةِ) أَقُولُ: لَا يُرَى لِقَوْلِهِ هَذَا فَائِدَةٌ سِوَى الْإِيضَاحِ وَالتَّأْكِيدِ بَعْدَ أَنْ قَالَ قُبَيْلَهُ الشُّفْعَةُ وَاجِبَةٌ لِلْخَلِيطِ فِي نَفْسِ الْمَبِيعِ، ثُمَّ لِلْخَلِيطِ فِي حَقِّ الْمَبِيعِ كَالشُّرْبِ وَالطَّرِيقِ ثُمَّ لِلْجَارِ، فَإِنَّ ذَلِكَ كَمَا أَفَادَ ثُبُوتَ حَقِّ الشُّفْعَةِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ أَفَادَ التَّرْتِيبَ أَيْضًا كَمَا صَرَّحَ بِهِ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ. كَيْفَ لَا وَكَلِمَةُ ثُمَّ صَرِيحَةٌ فِي إفَادَةِ التَّأْخِيرِ، وَلَيْسَ لِلْمُتَأَخِّرِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ حَقٌّ عِنْدَ وُجُودِ الْمُتَقَدِّمِ فِيهِ بِلَا رَيْبٍ (قَوْلُهُ فَإِنْ سُلِّمَ فَالشُّفْعَةُ لِلشَّرِيكِ فِي الطَّرِيقِ، فَإِنْ سُلِّمَ أَخَذَهَا الْجَارُ لِمَا بَيَّنَّا مِنْ التَّرْتِيبِ) أَقُولُ: تَعْلِيلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِقَوْلِهِ لِمَا بَيَّنَّا مِنْ التَّرْتِيبِ غَيْرُ تَامٍّ،؛ لِأَنَّ مَا بَيَّنَّهُ مِنْ التَّرْتِيبِ لَا يَقْتَضِي أَنْ يَسْتَحِقَّ الْمُتَأَخِّرُ عِنْدَ وُجُوبِ الْمُتَقَدِّمِ وَتَسْلِيمِهِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمُتَأَخِّرُ مَحْجُوبًا بِالتَّقَدُّمِ كَمَا فِي الْمِيرَاثِ عَلَى مَا قَالَ بِهِ أَبُو يُوسُفَ فِي غَيْرِ ظَاهِرَةِ الرِّوَايَةِ، إذْ حِينَئِذٍ لَا يَسْتَحِقُّ الْمُتَأَخِّرُ شَيْئًا عِنْدَ وُجُودِ الْمُتَقَدِّمِ سَلَّمَ أَوْ اسْتَوْفَى مَعَ بَقَاءِ التَّرْتِيبِ عَلَى حَالِهِ بِاتِّفَاقِ الرِّوَايَاتِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ التَّعْلِيلُ الْمَذْكُورُ تَامًّا لَوْ كَانَتْ الْمَسْأَلَةُ هَكَذَا، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ الْخَلِيطُ فِي الرَّقَبَةِ فَالشُّفْعَةُ لِلشَّرِيكِ فِي الطَّرِيقِ أَوْ الشُّرْبِ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ هَذَا أَيْضًا أَخَذَهَا الْجَارُ؛ لِأَنَّ التَّرْتِيبَ يَقْتَضِي هَذَا الْمَعْنَى لَا مَحَالَةَ، فَالْمُنَاسِبُ أَنْ يَتْرُكَ التَّعْلِيلَ الْمَذْكُورَ هَاهُنَا أَوْ يَكْتَفِي بِمَا سَيَأْتِي مِنْ قَوْلِهِ وَوَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ السَّبَبَ تَقَرَّرَ فِي حَقِّ الْكُلِّ إلَخْ
بِمَنْزِلَةِ دَيْنِ الصِّحَّةِ مَعَ دَيْنِ الْمَرَضِ، وَالشَّرِيكُ فِي الْمَبِيعِ قَدْ يَكُونُ فِي بَعْضٍ مِنْهَا كَمَا فِي مَنْزِلٍ مُعَيَّنٍ مِنْ الدَّارِ أَوْ جِدَارٍ مُعَيَّنٍ مِنْهَا وَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْجَارِ فِي مَنْزِلٍ، وَكَذَا عَلَى الْجَارِ فِي بَقِيَّةِ الدَّارِ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّ اتِّصَالَهُ أَقْوَى وَالْبُقْعَةَ وَاحِدَةٌ.
ثُمَّ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الطَّرِيقُ أَوْ الشِّرْبُ خَاصًّا حَتَّى تَسْتَحِقَّ الشُّفْعَةُ بِالشَّرِكَةِ فِيهِ فَالطَّرِيقُ الْخَاصُّ أَنْ لَا يَكُونَ نَافِذًا، وَالشِّرْبُ الْخَاصُّ أَنْ يَكُونَ نَهْرًا لَا تَجْرِي فِيهِ السُّفُنُ وَمَا تَجْرِي فِيهِ فَهُوَ عَامٌّ. وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْخَاصَّ أَنْ يَكُونَ نَهْرًا يُسْقَى مِنْهُ قَرَاحَانِ أَوْ ثَلَاثَةٌ، وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ عَامٌّ، وَإِنْ كَانَتْ سِكَّةٌ غَيْرَ نَافِذَةٍ يَتَشَعَّبُ مِنْهَا سِكَّةٌ غَيْرُ نَافِذَةٍ وَهِيَ مُسْتَطِيلَةٌ فَبِيعَتْ دَارٌ فِي السُّفْلَى فَلِأَهْلِهَا الشُّفْعَةُ خَاصَّةً دُونَ أَهْلِ الْعُلْيَا، وَإِنْ بِيعَتْ لِلْعُلْيَا فَلِأَهْلِ السِّكَّتَيْنِ، وَالْمَعْنَى مَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ أَدَبِ الْقَاضِي. وَلَوْ كَانَ نَهْرٌ صَغِيرٌ يَأْخُذُ مِنْهُ نَهْرٌ أَصْغَرُ مِنْهُ فَهُوَ عَلَى قِيَاسِ الطَّرِيقِ فِيمَا بَيَّنَّاهُ. .
قَالَ (وَلَا يَكُونُ الرَّجُلُ بِالْجُذُوعِ عَلَى الْحَائِطِ شَفِيعَ شَرِكَةٍ وَلَكِنَّهُ شَفِيعُ جِوَارٍ)؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ هِيَ الشَّرِكَةُ فِي الْعَقَارِ وَبِوَضْعِ الْجُذُوعِ لَا يَصِيرُ شَرِيكًا فِي الدَّارِ إلَّا أَنَّهُ جَارٌ مُلَازِقٌ. قَالَ (وَالشَّرِيكُ فِي الْخَشَبَةِ تَكُونُ عَلَى حَائِطِ الدَّارِ جَارٌ) لِمَا بَيَّنَّا. .
قَالَ (وَإِذَا اجْتَمَعَ الشُّفَعَاءُ فَالشُّفْعَةُ بَيْنَهُمْ عَلَى عَدَدِ رُءُوسِهِمْ وَلَا يُعْتَبَرُ اخْتِلَافُ الْأَمْلَاكِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هِيَ عَلَى
قَوْلُهُ وَالشَّرِيكُ فِي الْمَبِيعِ قَدْ يَكُونُ فِي بَعْضٍ مِنْهَا كَمَا فِي مَنْزِلٍ مُعَيَّنٍ مِنْ الدَّارِ) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ أَخْذًا مِنْ النِّهَايَةِ: مِثْلُ أَنْ يَكُونَ فِي دَارٍ كَبِيرَةٍ بُيُوتٌ وَفِي بَيْتٍ مِنْهَا شَرِكَةٌ فَالشُّفْعَةُ لِلشَّرِيكِ دُونَ الْجَارِ اهـ.
أَقُولُ: فِي هَذَا التَّمْثِيلِ قُصُورٌ لِأَنَّ الْمَنْزِلَ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ دُونَ الدَّارِ وَفَوْقَ الْبَيْتِ، وَأَقَلُّهُ بَيْتَانِ أَوْ ثَلَاثَةٌ نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْمُغْرِبِ، وَعُلِمَ ذَلِكَ فِيمَا مَرَّ فِي بَابِ الْحُقُوقِ مِنْ كِتَابِ الْبُيُوعِ فَتَمْثِيلُ الشَّرِكَةِ فِي الْمَنْزِلِ بِشَرِكَةٍ فِي بَيْتٍ يُخَالِفُ اصْطِلَاحَ هَذَا الْفَنِّ، وَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إلَيْهِ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ فَلَا وَجْهَ لِارْتِكَابِهِ (قَوْلُهُ وَالْبُقْعَةُ وَاحِدَةٌ) يَعْنِي بُقْعَةَ الدَّارِ الْمَبِيعَةِ وَاحِدَةٌ، فَإِذَا صَارَ الشَّفِيعُ أَحَقُّ بِبَعْضِهَا كَمَنْزِلٍ مُعَيَّنٍ مِنْهَا أَوْ جِدَارٍ مُعَيَّنٍ مِنْهَا صَارَ أَحَقَّ بِجَمِيعِهَا.
قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: فِي شَرْحِ قَوْلِهِ وَالْبُقْعَةُ وَاحِدَةٌ: أَرَادَ الْمَوْضِعُ الَّذِي هُوَ مُشْتَرِكٌ بَيْنَ الْبَائِعِ وَالشَّفِيعِ
مَقَادِيرِ الْأَنْصِبَاءِ؛ لِأَنَّ الشُّفْعَةَ مِنْ مَرَافِقِ الْمِلْكِ؛ أَلَا يَرَى أَنَّهَا لِتَكْمِيلِ مَنْفَعَتِهِ فَأَشْبَهَ الرِّبْحَ وَالْغَلَّةَ وَالْوَلَدَ وَالثَّمَرَةَ. وَلَنَا أَنَّهُمْ اسْتَوَوْا فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ وَهُوَ الِاتِّصَال فَيَسْتَوُونَ فِي الِاسْتِحْقَاقِ؛ أَلَا يَرَى أَنَّهُ لَوْ انْفَرَدَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ اسْتَحَقَّ كُلَّ الشُّفْعَةِ. وَهَذَا آيَةُ كَمَالِ السَّبَبِ وَكَثْرَةُ الِاتِّصَالِ تُؤْذِنُ بِكَثْرَةِ الْعِلَّةِ، وَالتَّرْجِيحُ بِقُوَّةِ الدَّلِيلِ لَا بِكَثْرَتِهِ، وَلَا قُوَّةَ هَاهُنَا لِظُهُورِ الْأُخْرَى بِمُقَابِلَتِهِ وَتَمَلُّكُ مِلْكِ غَيْرِهِ لَا يُجْعَلُ ثَمَرَةً مِنْ ثَمَرَاتِ مِلْكِهِ، بِخِلَافِ الثَّمَرَةِ وَأَشْبَاهِهَا، وَلَوْ أَسْقَطَ بَعْضُهُمْ حَقَّهُ فَهِيَ لِلْبَاقِينَ فِي الْكُلِّ عَلَى عَدَدِهِمْ؛ لِأَنَّ الِانْتِقَاصَ لِلْمُزَاحَمَةِ مَعَ كَمَالِ السَّبَبِ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَقَدْ انْقَطَعَتْ. وَلَوْ كَانَ الْبَعْضُ غُيَّبًا يَقْضِي بِهَا بَيْنَ الْحُضُورِ عَلَى عَدَدِهِمْ؛ لِأَنَّ الْغَائِبَ لَعَلَّهُ لَا يَطْلُبُ، وَإِنْ قَضَى لِحَاضِرٍ بِالْجَمِيعِ ثُمَّ حَضَرَ آخَرُ يَقْضِي لَهُ بِالنِّصْفِ، وَلَوْ حَضَرَ ثَالِثٌ فَبِثُلُثِ مَا فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ تَحْقِيقًا لِلتَّسْوِيَةِ، فَلَوْ سَلَّمَ الْحَاضِرَ بَعْدَمَا قَضَى لَهُ بِالْجَمِيعِ لَا يَأْخُذُ الْقَادِمُ إلَّا النِّصْفَ؛ لِأَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي بِالْكُلِّ لِلْحَاضِرِ
وَذَلِكَ فِي حُكْمِ شَيْءٍ وَاحِدٍ، فَإِذَا صَارَ أَحَقَّ بِالْبَعْضِ كَانَ أَحَقَّ بِالْجَمِيعِ اهـ.
أَقُولُ: فِيهِ خَلَلٌ؛ لِأَنَّ الْمَوْضِعَ الَّذِي هُوَ مُشْتَرِكٌ بَيْنَ الْبَائِعِ وَالشَّفِيعِ فِي مَسْأَلَتِنَا هُوَ مَنْزِلٌ مُعَيَّنٌ مِنْ الدَّارِ أَوْ جِدَارٌ مُعَيَّنٌ مِنْهَا، وَوَحْدَةُ ذَلِكَ لَا تُؤَثِّرُ فِي اسْتِحْقَاقِ الشَّفِيعِ جَمِيعَ الدَّارِ. وَإِنَّمَا الْمُؤَثِّرُ فِيهِ وَحْدَةُ مَجْمُوعِ الدَّارِ وَهِيَ لَا تَلْزَمُ مِنْ تَفْسِيرِ الشَّارِحِ الْمَزْبُورِ.
وَأَيْضًا قَوْلُهُ فَإِذَا صَارَ أَحَقَّ بِالْبَعْضِ كَانَ أَحَقَّ بِالْجَمِيعِ إنَّمَا يُطَابِقُ وَحْدَةَ مَجْمُوعِ الدَّارِ الْمَبِيعَةِ لَا وَحْدَةَ الْمَوْضِعِ الَّذِي هُوَ مُشْتَرِكٌ بَيْنَ الْبَائِعِ وَالشَّفِيعِ، فَكَانَ بَيْنَ أَوَّلِ كَلَامِهِ
يَقْطَعُ حَقَّ الْغَائِبِ عَنْ النِّصْفِ بِخِلَافِ مَا قَبْلَ الْقَضَاءِ. .
قَالَ (وَالشُّفْعَةُ تَجِبُ بِعَقْدِ الْبَيْعِ) وَمَعْنَاهُ بَعْدَهُ لَا أَنَّهُ هُوَ السَّبَبُ؛ لِأَنَّ سَبَبَهَا الِاتِّصَالُ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ،
وَآخِرَهُ تَنَافُرٌ لَا يَخْفَى
(قَوْلُهُ وَالشُّفْعَةُ تَجِبُ بِعَقْدِ الْبَيْعِ وَمَعْنَاهُ بَعْدَهُ) أَقُولُ كَوْنُ مَعْنَاهُ بَعْدَهُ مَحَلَّ كَلَامٍ مِنْ حَيْثُ الْعَرَبِيَّةُ، فَإِنَّ مَجِيءَ الْبَاءِ بِمَعْنَى بَعْدُ لَمْ يُذْكَرْ فِي مَشَاهِيرِ كُتُبِ الْعَرَبِيَّةِ، فَالْأَظْهَرُ أَنْ تَكُونَ الْبَاءُ فِي قَوْلِهِ تَجِبُ بِعَقْدِ الْبَيْعِ بِمَعْنَى مَعَ لِلْمُصَاحَبَةِ وَالْمُقَارَنَةِ، فَإِنَّهُ كَثِيرٌ شَائِعٌ مَذْكُورٌ فِي عَامَّةِ مُعْتَبَرَاتِ كُتُبِ الْأَدَبِ، وَالْمَعْنَى الْمَقْصُودُ هَاهُنَا يَحْصُلُ بِهِ أَيْضًا بِلَا كُلْفَةٍ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى الْفَطِنِ الْمُتَأَمِّلِ، فَلَا مُقْتَضَى لِلْعُدُولِ عَنْهُ (قَوْلُهُ لَا أَنَّهُ هُوَ السَّبَبُ؛ لِأَنَّ سَبَبَهَا الِاتِّصَالُ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ) يَعْنِي فِي قَوْلِهِ وَلَنَا أَنَّهُمْ اسْتَوَوْا فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ وَهُوَ الِاتِّصَالُ كَمَا ذُكِرَ فِي الْعِنَايَةِ وَكَثِيرٍ مِنْ الشُّرُوحِ، أَوْ فِي قَوْلِهِ؛ لِأَنَّ الِاتِّصَالَ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ إنَّمَا انْتَصَبَ سَبَبًا فِيهِ لِدَفْعِ ضَرَرِ الْجِوَارِ كَمَا ذُكِرَ فِي الْكِفَايَةِ، قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا تَجِبُ لِدَفْعِ ضَرَرِ الدَّخِيلِ عَنْ الْأَصِيلِ بِسُوءِ الْمُعَامَلَةِ وَالْمُعَاشَرَةِ.
وَالضَّرَرُ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِاتِّصَالِ مِلْكِ الْبَائِعِ بِمِلْكِ الشَّفِيعِ.
وَلِهَذَا قُلْنَا بِثُبُوتِهَا لِلشَّرِيكِ فِي حُقُوقِ الْمَبِيعِ وَلِلْجَارِ لِتَحَقُّقِ ذَلِكَ اهـ.
أَقُولُ: فِي قَوْلِهِمْ وَالضَّرَرُ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِاتِّصَالِ مِلْكِ الْبَائِعِ بِمِلْكِ الشَّفِيعِ مُنَاقَشَةٌ؛ لِأَنَّهُمْ إنْ أَرَادُوا بِذَلِكَ أَنَّ الضَّرَرَ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِمُجَرَّدِ اتِّصَالِ مِلْكِ الْبَائِعِ بِمِلْكِ الشَّفِيعِ يَلْزَمُهُمْ أَنْ يَتَحَقَّقَ الضَّرَرُ لِلشَّفِيعِ قَبْلَ أَنْ يَبِيعَ الْبَائِعُ مِلْكَهُ لِتَحْقِيقِ اتِّصَالِ مِلْكِهِ بِمِلْكِ الشَّفِيعِ قَبْلَ الْبَيْعِ فَيَلْزَمُهُمْ أَنْ تَجِبَ الشُّفْعَةُ قَبْلَهُ أَيْضًا لِدَفْعِ ذَلِكَ الضَّرَرِ.
وَلَيْسَ كَذَلِكَ قَطْعًا. وَإِنْ أَرَادُوا بِهِ أَنَّ الضَّرَرَ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِمَدْخَلِيَّةِ اتِّصَالِ مِلْكِ الْبَائِعِ بِمِلْكِ الشَّفِيعِ فَهَذَا لَا يُنَافِي مَدْخَلِيَّةَ الْبَيْعِ أَيْضًا فَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ سَبَبُهَا هُوَ الِاتِّصَالَ كَمَا ادَّعَوْا فَلْيُتَأَمَّلْ.
ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَرُدَّ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الِاتِّصَالُ هُوَ السَّبَبُ لَجَازَ تَسْلِيمُهَا قَبْلَ الْبَيْعِ لِوُجُودِهِ بَعْدَ السَّبَبِ؛ أَلَا يَرَى أَنَّ الْإِبْرَاءَ عَنْ سَائِرِ الْحُقُوقِ بَعْدَ وُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ صَحِيحٌ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْبَيْعَ شَرْطٌ وَلَا وُجُودَ لِلْمُشْتَرَطِ قَبْلَهُ.
وَرُدَّ بِأَنَّهُ لَا اعْتِبَارَ لِوُجُودِ الشَّرْطِ بَعْدَ تَحَقُّقِ السَّبَبِ فِي حَقِّ صِحَّةِ التَّسْلِيمِ كَأَدَاءِ الزَّكَاةِ قَبْلَ الْحَوْلِ وَإِسْقَاطِ الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ قَبْلَ حُلُولِ الْأَجَلِ.
وَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ شَرْطُ الْوُجُوبِ وَلَا كَلَامَ فِيهِ، وَإِنَّمَا هُوَ فِي شَرْطِ الْجَوَازِ وَامْتِنَاعِ الْمَشْرُوطِ قَبْلَ تَحَقُّقِ الشَّرْطِ غَيْرُ خَافٍ عَلَى أَحَدٍ اهـ كَلَامُهُ. أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: امْتِنَاعُ تَحَقُّقِ الْمَشْرُوطِ قَبْلَ تَحَقُّقِ الشَّرْطِ ضَرُورِيٌّ، سَوَاءٌ كَانَ الْمَشْرُوطُ هُوَ الْجَوَازُ أَوْ الْوُجُوبُ، فَإِذَا كَانَ عَدَمُ تَحَقُّقِ شَرْطِ الْجَوَازِ مَانِعًا عَنْ اتِّصَالِ السَّبَبِ بِالْمَحَلِّ كَمَا قَالُوا لَزِمَ
وَالْوَجْهُ فِيهِ أَنَّ الشُّفْعَةَ إنَّمَا تَجِبُ إذَا رَغِبَ الْبَائِعُ عَنْ مِلْكِ الدَّارِ، وَالْبَيْعُ يُعَرِّفُهَا وَلِهَذَا يُكْتَفَى بِثُبُوتِ الْبَيْعِ فِي حَقِّهِ حَتَّى يَأْخُذَهَا الشَّفِيعُ إذَا أَقَرَّ الْبَائِعُ بِالْبَيْعِ وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي يُكَذِّبُهُ. .
قَالَ (وَتَسْتَقِرُّ بِالْإِشْهَادِ، وَلَا بُدَّ مِنْ طَلَبِ الْمُوَاثَبَةِ)؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ ضَعِيفٌ يَبْطُلُ بِالْإِعْرَاضِ، فَلَا بُدَّ مِنْ الْإِشْهَادِ وَالطَّلَبِ لِيُعْلَمَ بِذَلِكَ رَغْبَتُهُ فِيهِ دُونَ إعْرَاضِهِ عَنْهُ،
أَنْ يَكُونَ عَدَمُ تَحَقُّقِ شَرْطِ الْوُجُوبِ أَيْضًا مَانِعًا عَنْ ذَلِكَ فَلَزِمَ أَنْ لَا يَكُونَ الْوَاجِبُ مُتَأَدِّيًا بِأَدَاءِ الزَّكَاةِ قَبْلَ الْحَوْلِ لِعَدَمِ تَحْقِيقِ شَرْطِ الْوُجُوبِ قَبْلَهُ، وَكَذَا الْحَالُ فِي إسْقَاطِ الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ قَبْلَ حُلُولِ الْأَجَلِ مَعَ أَنَّ الْمُصَرَّحَ بِهِ فِي مَوْضِعِهِ خِلَافُ ذَلِكَ.
ثُمَّ أَقُولُ: يُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْوُجُوبِ فِي قَوْلِهِ إنَّ ذَلِكَ شَرْطُ الْوُجُوبِ هُوَ وُجُوبُ الْأَدَاءِ دُونَ نَفْسِ الْوُجُوبِ، فَإِنَّ نَفْسَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ يَتَحَقَّقُ بِمِلْكِ النِّصَابِ النَّامِي، وَحَوَلَانُ الْحَوْلِ إنَّمَا هُوَ شَرْطُ وُجُوبِ أَدَائِهَا كَمَا صَرَّحُوا بِهِ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ، وَكَذَا حُلُولُ الْأَجَلِ فِي الدُّيُونِ الْمُؤَجَّلَةِ إنَّمَا هُوَ شَرْطُ وُجُوبِ أَدَائِهَا لَا شَرْطُ نَفْسِ وُجُوبِهَا، وَاللَّازِمُ أَنْ لَا يَتَحَقَّقَ وُجُوبُ الْأَدَاءِ قَبْلَ الْحَوْلِ وَقَبْلَ حُلُولِ الْأَجَلِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ لَا يَكُونَ الْوَاجِبُ بِنَفْسِ الْوُجُوبِ مُتَأَدِّيًا بِأَدَاءِ الزَّكَاةِ قَبْلَ حُلُولِ الْحَوْلِ وَبِأَدَاءِ الدَّيْنِ قَبْلَ حُلُولِ الْأَجَلِ، وَالْمُصَرَّحُ بِهِ فِي مَوْضِعِهِ إنَّمَا هُوَ تَأَدِّي الْوَاجِبِ بِنَفْسِ الْوُجُوبِ لَا غَيْرَ.
(قَوْلُهُ وَالْوَجْهُ فِيهِ أَنَّ الشُّفْعَةَ إنَّمَا تَجِبُ إذَا رَغِبَ الْبَائِعُ مِنْ مِلْكِ الدَّارِ وَالْبَيْعِ يُعَرِّفُهَا) أَيْ يُعَرِّفُ رَغْبَةَ الْبَائِعِ عَنْ مِلْكِ الدَّارِ، وَفَسَّرَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ ضَمِيرَ فِيهِ فِي قَوْلِهِ وَالْوَجْهُ فِيهِ بِهَذَا التَّأْوِيلِ حَيْثُ قَالَ: وَالْوَجْهُ فِيهِ: أَيْ هَذَا التَّأْوِيلِ، وَتَبِعَهُ الْعَيْنِيُّ.
أَقُولُ: لَا يَذْهَبُ عَلَى ذِي فِطْرَةٍ سَلِيمَةٍ أَنَّهُ لَا مَدْخَلَ لِلتَّأْوِيلِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ وَمَعْنَاهُ بَعْدَهُ لَا أَنَّهُ هُوَ السَّبَبُ فِي جَرَيَانِ هَذَا الْوَجْهِ، إذْ هُوَ جَارٍ بِعَيْنِهِ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى كَلَامِ الْقُدُورِيِّ أَنَّ الْبَيْعَ هُوَ السَّبَبُ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى الْفَطِنِ، فَلَا حَاجَةَ إلَى بِنَاءِ هَذَا الْوَجْهِ عَلَى ذَلِكَ التَّأْوِيلِ بِإِرْجَاعِ ضَمِيرِ فِيهِ إلَيْهِ، بَلْ لَا وَجْهَ لَهُ عِنْدَ التَّحْقِيقِ؛ لِأَنَّ الْمُصَنِّفَ عَلَّلَ تَأْوِيلَهُ الْمَذْكُورَ بِقَوْلِهِ؛ لِأَنَّ سَبَبَهَا الِاتِّصَالُ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ، فَمَا مَعْنَى أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ وَالْوَجْهُ فِيهِ تَعْلِيلًا لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ؟ فَالْحَقُّ أَنَّ قَوْلَهُ وَالْوَجْهُ فِيهِ إلَخْ مُتَّصِلٌ بِأَوَّلِ الْكَلَامِ وَهُوَ قَوْلُهُ وَالشُّفْعَةُ تَجِبُ بِعَقْدِ الْبَيْعِ، وَمِنْ عَادَةِ الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ إذَا كَانَ فِي عِبَارَةِ الْمَسْأَلَةِ عُقْدَةٌ يَحِلُّهَا ثُمَّ يَذْكُرُ دَلِيلَ الْمَسْأَلَةِ وَهَاهُنَا أَيْضًا فَعَلَ ذَلِكَ.
(قَوْلُهُ وَلِهَذَا يَكْفِي بِثُبُوتِ الْبَيْعِ فِي حَقِّهِ حَتَّى يَأْخُذَهَا الشَّفِيعُ إذَا أَقَرَّ الْبَائِعُ بِالْبَيْعِ وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي يُكَذِّبُهُ) أَقُولُ: فِيهِ تَأَمُّلٌ، إذْ قَدْ تَقَرَّرَ فِيمَا مَرَّ أَنَّ عِلَّةَ ثُبُوتِ حَقِّ الشُّفْعَةِ عِنْدَنَا، إنَّمَا هِيَ دَفْعُ ضَرَرِ الدَّخِيلِ عَنْ الْأَصِيلِ بِسُوءِ الْمُعَامَلَةِ وَالْمُعَاشَرَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ الضَّرَرَ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ عِنْدَ ثُبُوتِ الْبَيْعِ فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ هُوَ الدَّخِيلُ لَا عِنْدَ ثُبُوتِهِ فِي حَقِّ الْبَائِعِ مَعَ تَكْذِيبِهِ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ أَصِيلٌ كَالشَّفِيعِ، فَمِنْ أَيْنَ يَتَحَقَّقُ ضَرَرُ الدَّخِيلِ عِنْدَ عَدَمِ ثُبُوتِ الْبَيْعِ فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي حَتَّى يَثْبُتَ حَقُّ الشُّفْعَةِ لِدَفْعِ ذَلِكَ الضَّرَرِ تَفَكَّرْ.
قَالَ فِي الْعِنَايَةِ: وَنُوقِضَ بِمَا إذَا بَاعَ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لَهُ أَوْ وَهَبَ وَسَلَّمَ فَإِنَّ الرَّغْبَةَ عَنْهُ قَدْ عُرِفَتْ وَلَيْسَ لِلشَّفِيعِ الشُّفْعَةُ.
وَأُجِيبُ بِأَنَّ فِي ذَلِكَ تَرَدُّدًا لِبَقَاءِ الْخِيَارِ لِلْبَائِعِ، بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ فَإِنَّهُ يُخْبِرُ بِهِ عَنْ انْقِطَاعِ مِلْكِهِ عَنْهُ بِالْكُلِّيَّةِ فَعُومِلَ بِهِ كَمَا
وَلِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى إثْبَاتِ طَلَبِهِ عِنْدَ الْقَاضِي وَلَا يُمْكِنُهُ إلَّا بِالْإِشْهَادِ. .
قَالَ (وَتُمْلَكُ بِالْأَخْذِ إذَا سَلَّمَهَا الْمُشْتَرِي أَوْ حَكَمَ بِهَا الْحَاكِمُ)؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ لِلْمُشْتَرِي قَدْ تَمَّ فَلَا يَنْتَقِلُ إلَى الشَّفِيعِ إلَّا بِالتَّرَاضِي أَوْ قَضَاءِ الْقَاضِي كَمَا فِي الرُّجُوعِ وَالْهِبَةِ. وَتَظْهَرُ فَائِدَةُ هَذَا فِيمَا إذَا مَاتَ الشَّفِيعُ بَعْدَ الطَّلَبَيْنِ وَبَاعَ دَارِهِ الْمُسْتَحَقَّ بِهَا الشُّفْعَةُ أَوْ بِيعَتْ دَارٌ بِجَنْبِ الدَّارِ الْمَشْفُوعَةِ قَبْلَ حُكْمِ الْحَاكِمِ أَوْ تَسْلِيمِ الْمُخَاصِمِ لَا تُوَرَّثُ عَنْهُ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى وَتَبْطُلُ شُفْعَتُهُ فِي الثَّانِيَةِ وَلَا يَسْتَحِقُّهَا فِي الثَّالِثَةِ لِانْعِدَامِ الْمِلْكِ لَهُ. ثُمَّ قَوْلُهُ تَجِبُ بِعَقْدِ الْبَيْعِ بَيَانٌ أَنَّهُ لَا يَجِبُ إلَّا عِنْدَ مُعَارَضَةِ الْمَالِ بِالْمَالِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
زَعَمَهُ، وَالْهِبَةُ لَا تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ غَرَضَ الْوَاهِبِ الْمُكَافَأَةُ وَلِهَذَا كَانَ لَهُ الرُّجُوعُ فَلَا يَنْقَطِعُ عَنْهُ حَقُّهُ بِالْكُلِّيَّةِ انْتَهَى.
أَقُولُ: فِي الْجَوَابِ عَنْ النَّقْضِ بِصُورَةِ الْهِبَةِ بَحْثٌ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ مَدَارُ ذَلِكَ عَلَى مُجَرَّدِ كَوْنِ غَرَضِ الْوَاهِبِ الْمُكَافَأَةُ لَا يَسْتَقِيمُ أَصْلًا، فَإِنَّ كَوْنَ غَرَضِهِ الْمُكَافَأَةُ لَا يُنَافِي رَغْبَتَهُ عَنْ مِلْكِهِ؛ أَلَا يَرَى أَنَّ غَرَضَ الْبَائِعِ أَيْضًا الْمُكَافَأَةُ بِالثَّمَنِ مَعَ أَنَّهُ لَا يُنَافِي رَغْبَتَهُ عَنْ الْمَبِيعِ بَلْ يَدُلُّ عَلَيْهَا كَمَا ذَكَرُوا وَإِنْ كَانَ مَدَارُهُ عَلَى صِحَّةِ الرُّجُوعِ لِلْوَاهِبِ وَعَدَمِ انْقِطَاعِ حَقِّهِ عَنْ الْمَوْهُوبِ بِالْكُلِّيَّةِ لَا يَدْفَعُ النَّقْضَ بِالْهِبَةِ الَّتِي لَا يَصِحُّ الرُّجُوعُ فِيهَا.
كَمَا إذَا وَهَبَ لِقَرِيبِهِ الْمَحْرَمِ أَوْ لِزَوْجَتِهِ وَأَخَذَ الْعِوَضَ عَنْهَا بِغَيْرِ شَرْطٍ فِي الْعَقْدِ، إذْ غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يَتَحَقَّقُ فِيهِ الْمَانِعُ عَنْ الرُّجُوعِ، فَإِنَّ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ لَا يَصِحُّ رُجُوعُ الْوَاهِبِ وَيَنْقَطِعُ حَقُّهُ عَنْ الْمَوْهُوبِ بِالْكُلِّيَّةِ كَانْقِطَاعِ حَقِّ الْبَائِعِ عَنْ الْمَبِيعِ مَعَ أَنَّهُ لَا شُفْعَةَ فِيهَا فَبَقِيَ النَّقْضُ بِهَا
(قَوْلُهُ: وَلِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى إثْبَاتِ طَلَبِهِ عِنْدَ الْقَاضِي وَلَا يُمْكِنُهُ إلَّا بِالْإِشْهَادِ) أَقُولُ: فِيهِ شَيْءٌ وَهُوَ أَنَّ احْتِيَاجَهُ إلَى إثْبَاتِ طَلَبِهِ عِنْدَ الْقَاضِي إنَّمَا هُوَ إذَا أَنْكَرَ الْمُشْتَرِي طَلَبَهُ، وَأَمَّا إذَا لَمْ يُنْكِرْهُ فَلَا احْتِيَاجَ إلَى ذَلِكَ، فَعَلَى مُقْتَضَى هَذَا التَّعْلِيلِ يَنْبَغِي أَنْ لَا تَبْطُلَ الشُّفْعَةُ بِتَرْكِ الْإِشْهَادِ فِيمَا إذَا لَمْ يُنْكِرْ الْخَصْمُ طَلَبَهُ، مَعَ أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ كَلِمَاتِهِمْ بُطْلَانُهَا بِتَرْكِ ذَلِكَ مُطْلَقًا.
فَإِنْ قُلْتَ: وَقْتُ الْإِشْهَادِ مُقَدَّمٌ عَلَى وَقْتِ الْخُصُومَةِ، فَفِي وَقْتِ الْإِشْهَادِ إنْكَارُ الْخَصْمِ طَلَبَهُ وَعَدَمُ إنْكَارِهِ إيَّاهُ غَيْرُ مَعْلُومٍ، فَإِنَّ تَرْكَ الْإِشْهَادِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لَمْ يُعْلِمْ رَغْبَتَهُ فِيهِ، بَلْ يُحْتَمَلُ إعْرَاضُهُ عَنْهُ فَلِهَذَا تَبْطُلُ الشُّفْعَةُ بِتَرْكِ الْإِشْهَادِ مُطْلَقًا. قُلْتُ: هَذَا مُشِيرٌ إلَى التَّعْلِيلِ الْأَوَّلِ وَلَا كَلَامَ فِيهِ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي أَنَّ التَّعْلِيلَ الثَّانِيَ هَلْ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا مُسْتَقِلًّا هَاهُنَا كَمَا يَقْتَضِيهِ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ؛ وَلِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَيْهِ إلَى آخِرِهِ
(قَوْلُهُ وَتُمْلَكُ بِالْأَخْذِ إذَا سَلَّمَهَا الْمُشْتَرِي أَوْ حَكَمَ بِهَا حَاكِمٌ) أَقُولُ: فِي عِبَارَةِ الْكِتَابِ هَاهُنَا قُصُورٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ قَوْلَهُ أَوْ حَكَمَ بِهَا حَاكِمٌ عَطْفٌ عَلَى (سَلَّمَهَا الْمُشْتَرِي) وَقَدْ وَقَعَ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ فِي حَيِّزِ الْأَخْذِ فَكَانَ الْأَخْذُ مُعْتَبَرًا فِي التَّسْلِيمِ فَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ مُعْتَبَرًا فِي حُكْمِ الْحَاكِمِ أَيْضًا عَلَى مُقْتَضَى الْعَطْفِ، إذْ قَدْ تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْأَدَبِ أَنَّ الْمَعْطُوفَ فِي حُكْمِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فِي كُلِّ أَمْرٍ يَجِبُ لِلْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ بِالنَّظَرِ إلَى مَا قَبْلَهُ، مَعَ أَنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ لِلشَّفِيعِ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ قَبْلَ أَخْذِهِ الدَّارَ عَلَى مَا نَصُّوا عَلَيْهِ حَيْثُ قَالَ فِي الْكَافِي بَعْدَ قَوْلِهِ أَوْ حَكَمَ بِهَا حَاكِمٌ: فَإِنَّهُ يَثْبُتَ الْمِلْكُ بِحُكْمِهِ وَإِنْ لَمْ يَأْخُذْ الدَّارَ.
وَقَالَ فِي شَرْحِ الْكَنْزِ لِلزَّيْلَعِيِّ: أَيْ تُمْلَكُ الدَّارُ الْمَشْفُوعَةُ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ: إمَّا بِالْأَخْذِ إذَا سَلَّمَهَا الْمُشْتَرِي بِرِضَاهُ. أَوْ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ مِنْ غَيْرِ أَخْذٍ. وَقَالَ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ فِي شَرْحِ قَوْلِ صَاحِبِ الْوِقَايَةِ وَتُمْلَكُ بِالْأَخْذِ بِالتَّرَاضِي أَوْ بِقَضَاءِ الْقَاضِي قَوْلُهُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي عَطْفٌ عَلَى الْأَخْذِ لَا عَلَى التَّرَاضِي؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ إذَا حَكَمَ يَثْبُتُ الْمِلْكُ لِلشَّفِيعِ قَبْلَ أَخْذِهِ انْتَهَى. وَكَانَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ غَافِلٌ عَنْ ذَلِكَ حَيْثُ قَالَ: وَهُوَ أَيْ التَّمَلُّكُ إنَّمَا يَكُونُ بِالْأَخْذِ، إمَّا بِتَسْلِيمِ الْمُشْتَرِي أَوْ بِقَضَاءِ الْقَاضِي، فَإِنَّهُ
بَابُ طَلَبِ الشُّفْعَةِ وَالْخُصُومَةِ فِيهَا
قَالَ (وَإِذَا عَلِمَ الشَّفِيعُ بِالْبَيْعِ أَشْهَدَ فِي مَجْلِسِهِ ذَلِكَ عَلَى الْمُطَالَبَةِ) اعْلَمْ أَنَّ الطَّلَبَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: طَلَبُ الْمُوَاثَبَةِ وَهُوَ أَنْ يَطْلُبَهَا كَمَا عَلِمَ، حَتَّى لَوْ بَلَغَ الشَّفِيعُ الْبَيْعَ وَلَمْ يَطْلُبْ شُفْعَةً بَطَلَتْ الشُّفْعَةُ لِمَا ذَكَرْنَا، وَلِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «الشُّفْعَةُ لِمَنْ وَاثَبَهَا» وَلَوْ أُخْبِرَ بِكِتَابٍ وَالشُّفْعَةُ فِي أَوَّلِهِ أَوْ فِي وَسَطِهِ فَقَرَأَ الْكِتَابَ إلَى آخِرِهِ بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ وَعَلَى هَذَا عَامَّةُ الْمَشَايِخِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مُحَمَّدٍ.
وَعَنْهُ أَنَّ لَهُ مَجْلِسَ الْعِلْمِ، وَالرِّوَايَتَانِ فِي النَّوَادِرِ. وَبِالثَّانِيَةِ أَخَذَ الْكَرْخِيُّ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ لَهُ خِيَارُ التَّمَلُّكِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ زَمَانِ التَّأَمُّلِ كَمَا فِي الْمُخَيَّرَةِ، وَلَوْ قَالَ بَعْدَمَا بَلَغَهُ
صَرِيحٌ فِي اعْتِبَارِ الْأَخْذِ فِي قَضَاءِ الْقَاضِي أَيْضًا. وَثَانِيهمَا أَنَّ تَسْلِيمَ الدَّارِ الْمَشْفُوعَةِ لَيْسَ بِوَظِيفَةِ الْمُشْتَرِي دَائِمًا، فَإِنَّ الْمُصَنِّفَ صَرَّحَ فِيمَا مَرَّ آنِفًا بِأَنَّهُ يَكْتَفِي بِثُبُوتِ الْبَيْعِ فِي حَقِّ الْبَائِعِ حَتَّى يَأْخُذَهَا الشَّفِيعُ إذَا أَقَرَّ الْبَائِعُ بِالْبَيْعِ وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي يُكَذِّبُهُ فَفِي هَذِهِ الصُّورَةِ إنَّمَا يُسَلِّمُهَا الْبَائِعُ دُونَ الْمُشْتَرِي فَكَانَ الْأَحَقُّ بِالْمَقَامِ أَنْ يُقَالَ إذَا سَلَّمَهَا الْخَصْمُ بَدَلَ قَوْلِهِ إذَا سَلَّمَهَا الْمُشْتَرِي لِيَشْمَلَ تَسْلِيمَ الْمُشْتَرِي وَتَسْلِيمَ الْبَائِعِ كَمَا قَالَ الْمُصَنِّفُ فِيمَا بَعْدُ قَبْلَ حُكْمِ الْحَاكِمِ أَوْ تَسْلِيمِ الْمُخَاصِمِ تَبَصَّرْ.
(بَابُ طَلَبِ الشُّفْعَةِ وَالْخُصُومَةِ فِيهَا)
لَمَّا لَمْ تَثْبُتْ الشُّفْعَةُ بِدُونِ الطَّلَبِ شَرَعَ فِي بَيَانِهِ وَكَيْفِيَّتِهِ وَتَقْسِيمِهِ، كَذَا فِي عَامَّةِ الشُّرُوحِ. أَقُولُ: هَذَا بَيَانٌ مِنْ الشُّرَّاحِ لِوَجْهِ ذِكْرِ الشَّطْرِ الْأَوَّلِ مِنْ شَطْرَيْ عِنْوَانِ الْبَابِ وَهُوَ طَلَبُ الشُّفْعَةِ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ أَحَدٌ مِنْهُمْ لِوَجْهِ ذِكْرِ الشَّطْرِ الثَّانِي مِنْهُمَا وَهُوَ قَوْلُهُ وَالْخُصُومَةُ فِيهَا، وَلَعَلَّ وَجْهَهُ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ لِلْخُصُومَةِ فِي الشُّفْعَةِ شَأْنٌ مَخْصُوصٌ وَتَفَاصِيلٌ زَائِدَةٌ عَلَى سَائِرِ الْخُصُومَاتِ كَمَا سَتَظْهَرُ شَرَعَ فِي بَيَانِهَا أَيْضًا أَصَالَةً (قَوْلُهُ اعْلَمْ أَنَّ الطَّلَبَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: طَلَبُ الْمُوَاثَبَةِ وَهُوَ أَنْ يَطْلُبَهَا كَمَا عَلِمَ، حَتَّى لَوْ بَلَغَهُ الْبَيْعُ وَلَمْ يَطْلُبْ بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ لِمَا ذَكَرْنَا) قَالَ الشُّرَّاحُ: قَوْلُهُ لِمَا ذَكَرْنَا إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ قَبْلَ الْبَابِ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ ضَعِيفٌ يَبْطُلُ بِالْإِعْرَاضِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْإِشْهَادِ وَالطَّلَبِ لِيُعْلَمَ بِذَلِكَ رَغْبَتُهُ فِيهِ دُونَ إعْرَاضٍ عَنْهُ.
أَقُولُ: فَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: مَا ذَكَرَهُ هُنَاكَ كَمَا يَدُلُّ عَلَى لُزُومِ طَلَبِ الْمُوَاثَبَةِ يَدُلُّ أَيْضًا عَلَى لُزُومِ الْإِشْهَادِ فِيهِ حَيْثُ قَالَ: فَلَا بُدَّ مِنْ الْإِشْهَادِ وَالطَّلَبِ، وَسَيَأْتِي التَّصْرِيحُ مِنْهُ بِأَنَّ الْإِشْهَادَ فِيهِ لَيْسَ بِلَازِمٍ إنَّمَا هُوَ لِنَفْيِ التَّجَاحُدِ. وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِشْهَادِ الْمَذْكُورِ هُنَاكَ هُوَ الَّذِي فِي طَلَبِ التَّقْرِيرِ دُونَ طَلَبِ الْمُوَاثَبَةِ يُرْشِدُ إلَيْهِ تَقْدِيمُ الْإِشْهَادِ عَلَى الطَّلَبِ فِي قَوْلِهِ فَلَا بُدَّ الْإِشْهَادُ وَالطَّلَبُ، إذْ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْإِشْهَادِ هُنَاكَ هُوَ الْإِشْهَادَ عَلَى طَلَبِ الْمُوَاثَبَةِ لَكَانَ ذِكْرُ الطَّلَبِ بَعْدَهُ لَغْوًا، إذْ لَا يُتَصَوَّرُ الْإِشْهَادُ عَلَى طَلَبِ الْمُوَاثَبَةِ بِدُونِ تَحَقُّقِ نَفْسِ ذَلِكَ الطَّلَبِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ قُبَيْلَ ذَلِكَ وَتَسْتَقِرُّ بِالْإِشْهَادِ إذْ الشُّفْعَةُ لَا تَسْتَقِرُّ إلَّا بَعْدَ طَلَبِ التَّقْرِيرِ وَالْإِشْهَادِ عَلَى مُقْتَضَى مَا سَيَأْتِي فِي الْكِتَابِ فَلَا تَنَافِي بَيْنَ كَلَامَيْ الْمُصَنِّفِ (قَوْلُهُ وَلِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «الشُّفْعَةُ لِمَنْ وَاثَبَهَا») أَقُولُ: فِي وَجْهِ الِاسْتِدْلَالِ بِهَذَا الْحَدِيثِ نَوْعُ إشْكَالٍ،
الْبَيْعُ الْحَمْدُ لِلَّهِ أَوْ " لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ " أَوْ قَالَ " سُبْحَانَ اللَّهِ " لَا تَبْطُلُ شُفْعَتُهُ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ حَمْدٌ عَلَى الْخَلَاصِ مِنْ جِوَارِهِ وَالثَّانِيَ تَعَجُّبٌ مِنْهُ لِقَصْدِ إضْرَارِهِ، وَالثَّالِثَ لِافْتِتَاحِ كَلَامِهِ فَلَا يَدُلُّ شَيْءٌ مِنْهُ عَلَى الْإِعْرَاضِ، وَكَذَا إذَا قَالَ مَنْ ابْتَاعَهَا وَبِكَمْ بِيعَتْ؛ لِأَنَّهُ يَرْغَبُ فِيهَا بِثَمَنٍ دُونَ ثَمَنٍ وَيَرْغَبُ عَنْ مُجَاوَرَةِ بَعْضٍ دُونَ بَعْضٍ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ فِي الْكِتَابِ أَشْهَدُ فِي مَجْلِسِهِ ذَلِكَ عَلَى الْمُطَالَبَةِ طَلَبَ الْمُوَاثَبَةِ، وَالْإِشْهَادُ فِيهِ لَيْسَ بِلَازِمٍ، إنَّمَا هُوَ لِنَفْيِ التَّجَاحُدِ وَالتَّقْيِيدُ بِالْمَجْلِسِ إشَارَةً إلَى مَا اخْتَارَهُ الْكَرْخِيُّ.
وَيَصِحُّ الطَّلَبُ بِكُلِّ لَفْظٍ يُفْهَمُ مِنْهُ طَلَبُ الشُّفْعَةِ كَمَا لَوْ قَالَ: طَلَبْت الشُّفْعَةَ أَوْ أَطْلُبُهَا أَوْ أَنَا طَالِبُهَا؛ لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ لِلْمَعْنَى، وَإِذَا بَلَغَ الشَّفِيعُ بَيْعَ الدَّارِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْإِشْهَادُ حَتَّى
لِأَنَّهُ إنْ كَانَ مَدَارُهُ عَلَى نَفْيِ الشُّفْعَةِ عَمَّنْ لَمْ يُوَاثِبْهَا بِطَرِيقِ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ فَنَحْنُ لَا نَقُولُ بِمَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ فَكَيْفَ يَكُونُ حُجَّةً لَنَا؟ وَإِنْ كَانَ مَدَارُهُ عَلَى أَنَّ لَامَ الْجِنْسِ فِي الشُّفْعَةِ وَلَامَ الِاخْتِصَاصِ فِي «لِمَنْ وَاثَبَهَا» تَدُلَّانِ عَلَى اخْتِصَاصِ الشُّفْعَةِ بِمَنْ وَاثَبَهَا، كَمَا قَالُوا فِي {الْحَمْدُ لِلَّهِ} أَنَّ لَامَيْ الْجِنْسِ وَالِاخْتِصَاصِ دَلَّتَا عَلَى الْحَمْدِ بِاَللَّهِ تَعَالَى، فَيَرُدُّ عَلَيْنَا النَّقْضَ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «الشُّفْعَةُ لِشَرِيكٍ لَمْ يُقَاسِمْ» كَمَا ذَكَرَ فِي صَدْرِ هَذَا الْكِتَابِ، إذْ يَلْزَمُ حِينَئِذٍ أَنْ يَدُلَّ ذَلِكَ أَيْضًا عَلَى نَفْيِ الشُّفْعَةِ عَمَّنْ لَيْسَ بِشَرِيكٍ لَمْ يُقَاسِمْ مَعَ أَنَّ الشُّفْعَةَ ثَابِتَةٌ عِنْدَنَا لِغَيْرِ الشَّرِيكِ أَيْضًا كَالْجَارِ الْمُلَاصِقِ فَتَأَمَّلْ (قَوْلُهُ وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ فِي الْكِتَابِ أَشْهَدَ فِي مَجْلِسِهِ ذَلِكَ عَلَى الْمُطَالَبَةِ، طَلَبُ الْمُوَاثَبَةِ وَالْإِشْهَادُ فِيهِ لَيْسَ بِلَازِمٍ إنَّمَا هُوَ لِنَفْيِ التَّجَاحُدِ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ طَلَبَ الْمُوَاثَبَةِ لَيْسَ لِإِثْبَاتِ الْحَقِّ، وَإِنَّمَا شَرْطُ هَذَا الطَّلَبِ لِيُعْلَمَ أَنَّهُ غَيْرُ مُعْرِضٍ عَنْ الشُّفْعَةِ وَغَيْرُ رَاضٍ بِجِوَارِ هَذَا الدَّخِيلِ وَالْإِشْهَادُ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِيهِ اهـ.
وَاقْتَفَى أَثَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ وَعَدَّهُ تَحْقِيقًا حَيْثُ قَالَ: وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ طَلَبَ الْمُوَاثَبَةِ لَيْسَ لِإِثْبَاتِ الْحَقِّ، وَإِنَّمَا شَرْطٌ لِيُعْلَمَ أَنَّهُ غَيْرُ مُعْرِضٍ عَنْ الشُّفْعَةِ وَالْإِشْهَادُ فِي ذَلِكَ لَيْسَ بِشَرْطٍ اهـ. أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: طَلَبُ التَّقْرِيرِ وَالْإِشْهَادِ أَيْضًا لَيْسَ لِإِثْبَاتِ الْحَقِّ بَلْ لِيُعْلَمَ أَنَّهُ غَيْرُ مُعْرِضٍ عَنْ الشُّفْعَةِ، وَإِنَّمَا الَّذِي لِإِثْبَاتِ الْحَقِّ طَلَبُ الْخُصُومَةِ مَعَ أَنَّ الْإِشْهَادَ فِي طَلَبِ التَّقْرِيرِ لَازِمٌ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ فِي بَيَانِ طَلَبِ التَّقْرِيرِ وَالْإِشْهَادِ فِيمَا بَعْدُ، فَكَانَ ذَلِكَ الْوَجْهُ الَّذِي عَدَّهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ تَحْقِيقًا مَنْقُوضًا بِلُزُومِ الْإِشْهَادِ فِي طَلَبِ التَّقْرِيرِ كَمَا تَرَى. فَإِنْ قُلْتَ لُزُومُ الْإِشْهَادِ فِي طَلَبِ التَّقْرِيرِ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى إثْبَاتِ طَلَبِهِ عِنْدَ الْقَاضِي وَلَا يُمْكِنُهُ إلَّا بِالْإِشْهَادِ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِيمَا قَبْلَ الْبَابِ، وَسَيَأْتِي ذِكْرُهُ مَرَّةً أُخْرَى فِي بَيَانِ طَلَبِ التَّقْرِيرِ وَالْإِشْهَادِ فِي هَذَا الْبَابِ. قُلْتُ: ذَاكَ إنَّمَا يَكُونُ وَجْهًا لِلُزُومِ الْإِشْهَادِ فِي طَلَبِ التَّقْرِيرِ، وَهُوَ لَا يَدْفَعُ انْتِقَاضَ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرَهُ الشَّارِحَانِ الْمَزْبُورَانِ لِعَدَمِ لُزُومِ الْإِشْهَادِ فِي طَلَبِ الْمُوَاثَبَةِ بِلُزُومِهِ فِي طَلَبِ التَّقْرِيرِ كَمَا بَيَّنَّاهُ، وَكَلَامُنَا فِي هَذَا الْوَجْهِ عَلَى أَنَّ فِي ذَلِكَ الْوَجْهِ أَيْضًا كَلَامًا؛ لِأَنَّهُ إنْ أُرِيدَ أَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى إثْبَاتِ طَلَبِهِ عِنْدَ الْقَاضِي كَأَنْ اعْتَرَفَ بِهِ الْخَصْمُ فَهُوَ مَمْنُوعٌ، وَإِنْ أُرِيدَ أَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى إثْبَاتِهِ عِنْدَ التَّجَاحُدِ فَكَذَا الْحَالُ فِي طَلَبِ الْمُوَاثَبَةِ أَيْضًا، ثُمَّ أَقُولُ: يُمْكِنُ أَنْ يَمْنَعَ لُزُومَ الْإِشْهَادِ فِي طَلَبِ التَّقْرِيرِ أَيْضًا بِنَاءً عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ قَاضِي خَانَ فِي فَتَاوَاهُ حَيْثُ قَالَ: وَإِنَّمَا سُمِّيَ الثَّانِي طَلَبَ الْإِشْهَادِ لَا لِأَنَّ الْإِشْهَادَ شَرْطٌ بَلْ لِيُمْكِنَهُ إثْبَاتُ الطَّلَبِ عِنْدَ جُحُودِ الْخَصْمِ اهـ. فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِشْهَادَ فِي طَلَبِ التَّقْرِيرِ أَيْضًا لَيْسَ بِلَازِمٍ، بَلْ إنَّمَا هُوَ لِنَفْيِ التَّجَاحُدِ كَمَا فِي طَلَبِ الْمُوَاثَبَةِ، وَبِنَاءً عَلَى مَا ذَكَرَهُ
يُخْبِرَهُ رَجُلَانِ أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ أَوْ وَاحِدٌ عَدْلٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُشْهِدَ إذَا أَخْبَرَهُ وَاحِدٌ حُرًّا كَانَ أَوْ عَبْدًا صَبِيًّا كَانَ أَوْ امْرَأَةً إذَا كَانَ الْخَبَرُ حَقًّا.
وَأَصْلُ الِاخْتِلَافِ فِي عَزْلِ الْوَكِيلِ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ بِدَلَائِلِهِ وَأَخَوَاتِهِ فِيمَا تَقَدَّمَ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُخَيَّرَةِ إذَا أَخْبَرَتْ عِنْدَهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إلْزَامُ حُكْمٍ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا أَخْبَرَهُ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ خَصْمٌ فِيهِ وَالْعَدَالَةُ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ فِي الْخُصُومِ. وَالثَّانِي طَلَبُ التَّقْرِيرِ وَالْإِشْهَادِ؛ لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ لِإِثْبَاتِهِ عِنْدَ الْقَاضِي عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَلَا يُمْكِنُهُ الْإِشْهَادُ ظَاهِرًا عَلَى طَلَبِ الْمُوَاثَبَةِ؛ لِأَنَّهُ عَلَى فَوْرِ الْعِلْمِ بِالشِّرَاءِ فَيَحْتَاجُ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى طَلَبِ الْإِشْهَادِ وَالتَّقْرِيرِ وَبَيَانُهُ مَا قَالَ فِي الْكِتَابِ (ثُمَّ يَنْهَضُ مِنْهُ) يَعْنِي مِنْ الْمَجْلِسِ (وَيَشْهَدُ عَلَى الْبَائِعِ إنْ كَانَ الْمَبِيعُ فِي يَدِهِ) مَعْنَاهُ لَمْ يُسَلَّمْ إلَى الْمُشْتَرِي (أَوْ عَلَى الْمُبْتَاعِ أَوْ عِنْدَ الْعَقَارِ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ اسْتَقَرَّتْ شُفْعَتُهُ) وَهَذَا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَصْمٌ فِيهِ؛ لِأَنَّ لِلْأَوَّلِ الْيَدَ وَلِلثَّانِي الْمِلْكَ، وَكَذَا يَصِحُّ الْإِشْهَادُ عِنْدَ الْمَبِيعِ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ مُتَعَلِّقٌ بِهِ، فَإِنْ سَلَّمَ الْبَائِعُ الْمَبِيعَ لَمْ يَصِحَّ الْإِشْهَادُ عَلَيْهِ لِخُرُوجِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ خَصْمًا، إذْ لَا يَدَ لَهُ وَلَا مِلْكَ
صَاحِبُ الْبَدَائِعِ حَيْثُ قَالَ: وَأَمَّا الْإِشْهَادُ عَلَى ظَاهِرِ الطَّلَبِ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ، وَإِنَّمَا هُوَ لِتَوَثُّقِهِ عَلَى تَقْدِيرِ الْإِنْكَارِ كَمَا فِي الطَّلَبِ الْأَوَّلِ اهـ. فَحِينَئِذٍ كَانَ الْوَجْهُ الَّذِي ذَكَرَهُ الشَّارِحَانِ الْمَزْبُورَانِ سَالِمًا مِنْ الِانْتِقَاضِ كَمَا لَا يَخْفَى.
(قَوْلُهُ وَقَالَا: يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَشْهَدَ إذَا أَخْبَرَهُ وَاحِدٌ حُرًّا كَانَ أَوْ عَبْدًا صَبِيًّا أَوْ امْرَأَةً إذَا كَانَ الْخَبَرُ حَقًّا) أَقُولُ: فِي التَّقْيِيدِ بِقَوْلِهِ إذَا كَانَ الْخَبَرُ حَقًّا ضَرْبُ إشْكَالٍ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِيمَا إذَا بَلَغَ الشَّفِيعَ بَيْعُ الدَّارِ بِالْإِخْبَارِ، وَفِي ذَلِكَ إنَّمَا يَحْصُلُ لَهُ الْعِلْمُ بِكَوْنِ الْخَبَرِ حَقًّا لِسَبَبِ الْوُثُوقِ بِإِخْبَارِ مُخْبِرِهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَدَارَ الْوُثُوقِ بِإِخْبَارِ مُخْبِرِهِ فِيمَا إذَا كَانَ طَرِيقُ الْعِلْمِ مُنْحَصِرًا فِي الْإِخْبَارِ هُوَ حَالُ الْمُخْبِرِ كَعَدَالَتِهِ وَتَعَدُّدِهِ مِمَّا يُورِثُ الْوُثُوقَ بِإِخْبَارِهِ، وَلِهَذَا اعْتَبَرَهُ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ الْعَدَدِ وَالْعَدَالَةِ شَرْطًا عِنْدَهُمَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ وَفِي نَظَائِرِهِ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ بَلْ كَانَ خَبَرُ الْوَاحِدِ مُطْلَقًا كَافِيًا فَمَا مَعْنَى تَعْلِيقِ وُجُوبِ الْإِشْهَادِ عَلَى الشَّفِيعِ إذَا أَخْبَرَهُ وَاحِدٌ مُطْلَقًا بِكَوْنِ الْخَبَرِ حَقًّا وَلَا طَرِيقَ لِلْعِلْمِ بِكَوْنِهِ حَقًّا فِي صُورَةِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ سِوَى إخْبَارِ الْوَاحِدِ.
فَإِنْ أَفَادَ مِثْلُ ذَلِكَ الْإِخْبَارِ الْعِلْمَ تَعَيَّنَ كَوْنُهُ حَقًّا، وَإِنْ لَمْ يُفِدْهُ فَلَا مَجَالَ لِلْعِلْمِ بِكَوْنِهِ حَقًّا، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ لَا يُرَى لِلتَّعْلِيقِ بِكَوْنِهِ حَقًّا وَجْهٌ ظَاهِرٌ فَتَفَكَّرْ
فَصَارَ كَالْأَجْنَبِيِّ. وَصُورَةُ هَذَا الطَّلَبِ أَنْ يَقُولَ: إنَّ فُلَانًا اشْتَرَى هَذِهِ الدَّارَ وَأَنَا شَفِيعُهَا وَقَدْ كُنْت طَلَبْت الشُّفْعَةَ وَأَطْلُبُهَا الْآنَ فَاشْهَدُوا عَلَى ذَلِكَ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ تَسْمِيَةُ الْمَبِيعِ وَتَحْدِيدُهُ؛ لِأَنَّ الْمُطَالَبَةَ لَا تَصِحُّ إلَّا فِي مَعْلُومٍ. وَالثَّالِثُ طَلَبُ الْخُصُومَةِ وَالتَّمَلُّكِ، وَسَنَذْكُرُ كَيْفِيَّتَهُ مِنْ بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. .
قَالَ (وَلَا تَسْقُطُ الشُّفْعَةُ بِتَأْخِيرِ هَذَا الطَّلَبِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: إنْ تَرَكَهَا شَهْرًا بَعْدَ الْإِشْهَادِ بَطَلَتْ) وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ، مَعْنَاهُ: إذَا تَرَكَهَا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إذَا تَرَكَ الْمُخَاصَمَةَ فِي مَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِ الْقَاضِي تَبْطُلُ شُفْعَتُهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا مَضَى مَجْلِسٌ مِنْ مَجَالِسِهِ وَلَمْ يُخَاصِمْ فِيهِ اخْتِيَارًا دَلَّ ذَلِكَ عَلَى إعْرَاضِهِ وَتَسْلِيمِهِ. وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَسْقُطْ بِتَأْخِيرِ الْخُصُومَةِ مِنْهُ أَبَدًا يَتَضَرَّرُ بِهِ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ التَّصَرُّفُ حَذَارِ نَقْضِهِ مِنْ جِهَةِ الشَّفِيعِ فَقَدَّرْنَاهُ بِشَهْرٍ؛ لِأَنَّهُ آجِلٌ وَمَا دُونَهُ عَاجِلٌ عَلَى مَا مَرَّ فِي الْأَيْمَانِ. وَوَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى أَنَّ الْحَقَّ مَتَى ثَبَتَ وَاسْتَقَرَّ لَا يَسْقُطُ إلَّا بِإِسْقَاطِهِ وَهُوَ التَّصْرِيحُ بِلِسَانِهِ كَمَا فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ، وَمَا ذَكَرَ مِنْ الضَّرَرِ يَشْكُلُ بِمَا إذَا كَانَ غَائِبًا، وَلَا فَرْقَ فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي بَيْنَ الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ، وَلَوْ عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الْبَلَدِ قَاضٍ لَا تَبْطُلُ شُفْعَتُهُ بِالتَّأْخِيرِ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْخُصُومَةِ إلَّا عِنْدَ الْقَاضِي فَكَانَ عُذْرًا.
. قَالَ (وَإِذَا تَقَدَّمَ الشَّفِيعُ إلَى الْقَاضِي فَادَّعَى الشِّرَاءَ وَطَلَبَ الشُّفْعَةَ سَأَلَ الْقَاضِي الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَإِنْ اعْتَرَفَ بِمِلْكِهِ الَّذِي يُشْفَعُ بِهِ وَإِلَّا كَلَّفَهُ بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ)؛ لِأَنَّ الْيَدَ ظَاهِرٌ مُحْتَمِلٌ فَلَا تَكْفِي لِإِثْبَاتِ الِاسْتِحْقَاقِ. قَالَ رحمه الله: يَسْأَلُ الْقَاضِي الْمُدَّعِيَ قَبْلَ أَنْ يُقْبِلَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَنْ مَوْضِعِ الدَّارِ وَحُدُودِهَا؛ لِأَنَّهُ ادَّعَى حَقًّا فِيهَا فَصَارَ
ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّهُ مِمَّا يَجِبُ التَّنَبُّهُ لَهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِشْهَادِ هَاهُنَا نَفْسُ طَلَبِ الْمُوَاثَبَةِ لَا الْإِشْهَادُ عَلَى ذَلِكَ الطَّلَبِ، وَإِلَّا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ هَاهُنَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَشْهَدَ مُنَاقِضًا لِقَوْلِهِ فِيمَا مَرَّ وَالْإِشْهَادُ فِيهِ لَيْسَ بِلَازِمٍ، وَقَدْ نَبَّهَ عَلَيْهِ تَاجُ الشَّرِيعَةِ عِنْدَ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ وَالْإِشْهَادُ فِيهِ لَيْسَ بِلَازِمٍ حَيْثُ قَالَ: هَذَا لَا يُنَاقِضُ قَوْلَهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَشْهَدَ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْأَوَّلِ الْإِشْهَادُ عَلَى الطَّلَبِ، وَمِنْ الثَّانِي طَلَبُ الْمُوَاثَبَةِ وَأَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَطْلُبَ الشُّفْعَةَ اهـ.
وَسَيَأْتِي نَظِيرُ هَذَا فِي الْكِتَابِ فِي أَوَّلِ بَابِ مَا يَبْطُلُ بِهِ الشُّفْعَةُ، فَإِنَّهُ لَمَّا قَالَ هُنَاكَ وَإِذَا تَرَكَ الشَّفِيعُ الْإِشْهَادَ حِينَ عَلِمَ بِالْبَيْعِ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ حَمَلَ عَامَّةُ الشُّرَّاحِ الْإِشْهَادَ الْمَذْكُورَ هُنَاكَ عَلَى نَفْسِ طَلَبِ الْمُوَاثَبَةِ لِئَلَّا يُخَالِفَ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ قَبْلُ وَذَكَرَ فِي الذَّخِيرَةِ وَغَيْرِهَا أَيْضًا مِنْ أَنَّ الْإِشْهَادَ فِي طَلَبِ الْمُوَاثَبَةِ لَيْسَ بِلَازِمٍ، وَإِنَّمَا هُوَ لِنَفْيِ التَّجَاحُدِ (قَوْلُهُ وَصُورَةُ هَذَا الطَّلَبِ أَنْ يَقُولَ: إنَّ فُلَانًا اشْتَرَى هَذِهِ الدَّارَ أَنَا شَفِيعُهَا وَقَدْ كُنْت طَلَبْتُ الشُّفْعَةَ وَأَطْلُبُهَا الْآنَ فَاشْهَدُوا عَلَى ذَلِكَ) أَقُولُ: فِي هَذَا التَّصْوِيرِ نَوْعُ تَقْصِيرٍ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَتَمَشَّى فِيمَا إذَا كَانَ الْإِشْهَادُ عِنْدَ الدَّارِ، فَإِنَّ الْإِشَارَةَ بِهَذِهِ الدَّارِ إنَّمَا تُتَصَوَّرُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، وَالْمَذْكُورُ فِيمَا قَبْلُ مَجْمُوعُ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ لِلْإِشْهَادِ: أَعْنِي الْإِشْهَادَ عَلَى الْبَائِعِ أَوْ عَلَى الْمُشْتَرِي أَوْ عِنْدَ الْعَقَارِ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مُجَرَّدَ التَّمْثِيلِ دُونَ إحَاطَةِ الْأَقْسَامِ، لَكِنَّهُ لَا يَدْفَعُ التَّقْصِيرَ حَقِيقَةً، فَالْأَوْلَى الْجَامِعُ لِلْأَقْسَامِ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الذَّخِيرَةِ حَيْثُ قَالَ: وَصُورَةُ هَذَا الطَّلَبِ أَنْ يَحْضُرَ الشَّفِيعُ عِنْدَ الدَّارِ وَيَقُولُ: إنَّ
كَمَا إذَا ادَّعَى رَقَبَتَهَا، وَإِذَا بَيَّنَ ذَلِكَ يَسْأَلُهُ عَنْ سَبَبِ شُفْعَتِهِ لِاخْتِلَافِ أَسْبَابِهَا، فَإِنْ قَالَ: أَنَا شَفِيعُهَا بِدَارٍ لِي تُلَاصِقُهَا الْآنَ تَمَّ دَعْوَاهُ عَلَى مَا قَالَهُ الْخَصَّافُ. وَذَكَرَ فِي الْفَتَاوَى تَحْدِيدَ هَذِهِ الدَّارِ الَّتِي يُشْفَعُ بِهَا أَيْضًا، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْكِتَابِ الْمَوْسُومِ بِالتَّجْنِيسِ وَالْمَزِيدِ. قَالَ (فَإِنْ عَجَزَ عَنْ الْبَيِّنَةِ اسْتَحْلَفَ الْمُشْتَرِيَ بِاَللَّهِ مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ مَالِكٌ لِلَّذِي ذَكَرَهُ مِمَّا يُشْفَعُ بِهِ) مَعْنَاهُ بِطَلَبِ الشَّفِيعِ؛ لِأَنَّهُ ادَّعَى عَلَيْهِ مَعْنًى لَوْ أَقَرَّ بِهِ لَزِمَهُ، ثُمَّ هُوَ اسْتِحْلَافٌ عَلَى مَا فِي يَدِهِ فَيَحْلِفُ عَلَى الْعِلْمِ (فَإِنْ نَكَلَ أَوْ قَامَتْ لِلشَّفِيعِ بَيِّنَةٌ ثَبَتَ مِلْكُهُ فِي الدَّارِ الَّتِي يُشْفَعُ بِهَا وَثَبَتَ الْجِوَارُ فَبَعْدَ ذَلِكَ سَأَلَهُ الْقَاضِي) يَعْنِي الْمُدَّعَى عَلَيْهِ (هَلْ ابْتَاعَ أَمْ لَا، فَإِنْ أَنْكَرَ الِابْتِيَاعَ قِيلَ لِلشَّفِيعِ أَقِمْ الْبَيِّنَةَ)؛ لِأَنَّ الشُّفْعَةَ لَا تَجِبُ إلَّا بَعْدَ ثُبُوتِ الْبَيْعِ وَثُبُوتُهُ بِالْحُجَّةِ. قَالَ (فَإِنْ عَجَزَ عَنْهَا اسْتَحْلَفَ الْمُشْتَرِيَ بِاَللَّهِ مَا ابْتَاعَ أَوْ بِاَللَّهِ مَا اسْتَحَقَّ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الدَّارِ شُفْعَةً مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرَهُ) فَهَذَا عَلَى الْحَاصِلِ، وَالْأَوَّلُ عَلَى السَّبَبِ وَقَدْ اسْتَوْفَيْنَا الْكَلَامَ فِيهِ
فُلَانًا اشْتَرَى هَذِهِ الدَّارَ وَأَنَا شَفِيعُهَا بِالْجِوَارِ بِدَارٍ حُدُودُهَا كَذَا، وَقَدْ كُنْت طَلَبْت الشُّفْعَةَ وَأَنَا أَطْلُبُهَا الْآنَ أَيْضًا فَاشْهَدُوا بِذَلِكَ، أَوْ يَحْضُرَ الْمُشْتَرِي وَيَقُولُ: هَذَا مُشْتَرٍ مِنْ فُلَانٍ دَارًا الَّتِي حُدُودُهَا كَذَا وَأَنَا شَفِيعُهَا بِالْجِوَارِ إلَى آخِرِ مَا ذَكَرْنَا. أَوْ يَحْضُرَ الْبَائِعُ وَيَقُولُ: هَذَا بَاعَ مِنْ فُلَانٍ دَارًا الَّتِي حُدُودُهَا كَذَا إلَى آخِرِ مَا ذَكَرْنَا اهـ.
(قَوْلُهُ وَإِذَا بَيَّنَ ذَلِكَ يَسْأَلُهُ عَنْ سَبَبِ شُفْعَتِهِ لِاخْتِلَافِ أَسْبَابِهَا، فَإِنْ قَالَ أَنَا شَفِيعُهَا بِدَارٍ لِي تُلَاصِقُهَا تَمَّ دَعْوَاهُ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: قِيلَ لَمْ يَتِمَّ بَعْدُ، بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَسْأَلَهُ وَيَقُولُ هَلْ قَبَضَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ أَوْ لَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَقْبِضْ لَمْ تَصِحَّ الدَّعْوَى عَلَى الْمُشْتَرِي مَا لَمْ يَحْضُرْ الْبَائِعُ، ثُمَّ يَسْأَلُهُ عَنْ السَّبَبِ ثُمَّ يَقُولُ لَهُ مَتَى أُخْبِرْت بِالشِّرَاءِ لِيَعْلَمَ أَنَّ الْمُدَّةَ طَالَتْ أَوْ لَا، فَإِنَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ إذَا تَطَاوَلَتْ، فَالْقَاضِي لَا يَلْتَفِتُ إلَى دَعْوَاهُ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى.
وَقَالَ: وَهَذَا لَا يَلْزَمُ الْمُصَنِّفَ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّ الْفَتْوَى عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي عَدَمِ الْبُطْلَانِ بِالتَّأْخِيرِ. ثُمَّ قَالَ: وَقِيلَ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ سَأَلَهُ عَنْ طَلَبِ الْإِشْهَادِ، فَإِذَا قَالَ طَلَبْتُ حِينَ عَلِمْتُ إذْ أُخْبِرْتُ عَنْ غَيْرِ لُبْثٍ سَأَلَهُ عَنْ طَلَبِ الِاسْتِقْرَارِ
فِي الدَّعْوَى، وَذَكَرْنَا الِاخْتِلَافَ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ، وَإِنَّمَا يُحَلِّفُهُ عَلَى الْبَتَاتِ؛ لِأَنَّهُ اسْتِحْلَافُ فِعْلِ نَفْسِهِ وَعَلَى مَا فِي يَدِهِ أَصَالَةً، وَفِي مِثْلِهِ يَحْلِفُ عَلَى الْبَتَاتِ. .
قَالَ (وَتَجُوزُ الْمُنَازَعَةُ فِي الشُّفْعَةِ وَإِنْ لَمْ يُحْضِرْ الشَّفِيعُ الثَّمَنَ إلَى مَجْلِسِ الْقَاضِي، فَإِذَا قَضَى الْقَاضِي بِالشُّفْعَةِ لَزِمَهُ إحْضَارُ الثَّمَنِ) وَهَذَا ظَاهِرُ رِوَايَةِ الْأَصْلِ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا يَقْضِي حَتَّى يُحْضِرَ الشَّفِيعُ الثَّمَنَ، وَهُوَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الشَّفِيعَ عَسَاهُ يَكُونُ مُفْلِسًا فَيَتَوَقَّفُ الْقَضَاءُ عَلَى إحْضَارِهِ حَتَّى لَا يَتْوِيَ مَالُ الْمُشْتَرِي. وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّهُ لَا ثَمَنَ لَهُ عَلَيْهِ قَبْلَ الْقَضَاءِ وَلِهَذَا لَا يُشْتَرَطُ تَسْلِيمُهُ، فَكَذَا لَا يُشْتَرَطُ إحْضَارُهُ (وَإِذَا قَضَى لَهُ بِالدَّارِ فَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَحْبِسَهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الثَّمَنَ) وَيَنْفُذُ الْقَضَاءُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ فَصْلٌ مُجْتَهَدٌ فِيهِ وَوَجَبَ عَلَيْهِ الثَّمَنُ فَيُحْبَسُ فِيهِ، فَلَوْ أَخَّرَ أَدَاءَ الثَّمَنِ بَعْدَ مَا قَالَ لَهُ ادْفَعْ الثَّمَنَ إلَيْهِ لَا تَبْطُلُ شُفْعَتُهُ؛ لِأَنَّهَا تَأَكَّدَتْ بِالْخُصُومَةِ عِنْدَ الْقَاضِي. قَالَ (وَإِنْ أَحْضَرَ الشَّفِيعُ الْبَائِعَ، وَالْمَبِيعُ فِي يَدِهِ فَلَهُ أَنْ يُخَاصِمَهُ فِي الشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّ الْيَدَ لَهُ وَهِيَ يَدٌ مُسْتَحَقَّةٌ) وَلَا يَسْمَعُ الْقَاضِي الْبَيِّنَةَ حَتَّى يَحْضُرَ الْمُشْتَرِي فَيَفْسَخَ الْبَيْعَ بِمَشْهَدٍ مِنْهُ وَيَقْضِيَ بِالشُّفْعَةِ
فَإِنْ قَالَ طَلَبْته مِنْ غَيْرِ تَأْخِيرٍ سَأَلَهُ عَنْ الْمَطْلُوبِ بِحَضْرَتِهِ هَلْ كَانَ أَقْرَبَ إلَيْهِ مِنْ غَيْرِهِ. فَإِنْ قَالَ نَعَمْ فَقَدْ صَحَّحَ دَعْوَاهُ اهـ.
أَقُولُ: الْقَائِلُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ أَخْذًا مِنْ الذَّخِيرَةِ، وَتَبِعَهُ بَعْضٌ آخَرُ مِنْ الشُّرَّاحِ، وَقَدْ غَيَّرَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ عِبَارَتَهُمْ فِي النَّقْلِ وَأَفْسَدَ. فَإِنَّ عِبَارَتَهُمْ كَانَتْ هَكَذَا: ثُمَّ إذَا سَأَلَهُ عَنْ طَلَبِ الْمُوَاثَبَةِ فَقَالَ طَلَبْتُ حِينَ عَلِمْتُ أَوْ قَالَ حِينَ أُخْبِرْتُ مِنْ غَيْرِ لُبْثٍ سَأَلَهُ عَنْ طَلَبِ الْإِشْهَادِ هَلْ طَلَبَ الْإِشْهَادَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ تَأْخِيرٍ وَتَقْصِيرٍ، فَإِنْ قَالَ نَعَمْ سَأَلَهُ إنَّ الَّذِي طَلَبْت بِحَضْرَتِهِ هَلْ كَانَ أَقْرَبَ إلَيْهِ مِنْ غَيْرِهِ، فَإِنْ قَالَ نَعَمْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْإِشْهَادَ قَدْ صَحَّ، ثُمَّ إذَا تَبَيَّنَ مَا يَصِحُّ عِنْدَهُ الطَّلَبُ فَقَدْ صَحَّحَ دَعْوَاهُ، إلَى هُنَا عِبَارَتُهُمْ.
وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ هِيَ الْمُطَابِقَةُ لِمَا فِي الذَّخِيرَةِ، وَهِيَ الصَّحِيحَةُ دُونَ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي نَقْلِهِ؛ لِأَنَّهُ عَبَّرَ عَنْ طَلَبِ الْمُوَاثَبَةِ بِطَلَبِ الْإِشْهَادِ حَيْثُ قَالَ: وَقِيلَ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ سَأَلَهُ عَنْ طَلَبِ الِاسْتِقْرَارِ، وَلَا يَذْهَبُ عَلَيْك أَنَّ إطْلَاقَ طَلَبِ الْإِشْهَادِ عَلَى طَلَبِ الْمُوَاثَبَةِ يُخَالِفُ اصْطِلَاحَ الْفُقَهَاءِ جِدًّا، يَظْهَرُ ذَلِكَ مِمَّا أَحَطْت بِهِ خَيْرًا فِي أَقْسَامِ الطَّلَبِ. وَأَيْضًا قَدْ قِيلَ فِيمَا قَبْلُ سَأَلَهُ مَتَى أُخْبِرْتَ
عَلَى الْبَائِعِ وَيَجْعَلَ الْعُهْدَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ لِلْمُشْتَرِي وَالْيَدَ لِلْبَائِعِ، وَالْقَاضِي يَقْضِي بِهِمَا لِلشَّفِيعِ فَلَا بُدَّ مِنْ حُضُورِهِمَا، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ الدَّارُ قَدْ قُبِضَتْ حَيْثُ لَا يُعْتَبَرُ حُضُورُ الْبَائِعِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ أَجْنَبِيًّا إذْ لَا يَبْقَى لَهُ يَدٌ وَلَا مِلْكٌ. وَقَوْلُهُ فَيَفْسَخُ الْبَيْعَ بِمَشْهَدٍ مِنْهُ إشَارَةٌ إلَى عِلَّةٍ أُخْرَى وَهِيَ أَنَّ الْبَيْعَ فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي إذَا كَانَ يَنْفَسِخُ لَا بُدَّ مِنْ حُضُورِهِ لِيَقْضِيَ بِالْفَسْخِ عَلَيْهِ، ثُمَّ وَجْهُ هَذَا الْفَسْخِ الْمَذْكُورِ أَنْ يَنْفَسِخَ فِي حَقِّ الْإِضَافَةِ لِامْتِنَاعِ قَبْضِ الْمُشْتَرِي بِالْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ وَهُوَ يُوجِبُ الْفَسْخَ، إلَّا أَنَّهُ يَبْقَى أَصْلُ الْبَيْعِ لِتَعَذُّرِ انْفِسَاخِهِ؛ لِأَنَّ الشُّفْعَةَ بِنَاءٌ عَلَيْهِ، وَلَكِنَّهُ تَتَحَوَّلُ الصَّفْقَةُ إلَيْهِ وَيَصِيرُ كَأَنَّهُ هُوَ الْمُشْتَرِي مِنْهُ فَلِهَذَا يَرْجِعُ بِالْعُهْدَةِ عَلَى الْبَائِعِ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَبَضَهُ الْمُشْتَرِي فَأَخَذَهُ مِنْ يَدِهِ
بِالشِّرَاءِ وَكَيْفَ صَنَعْتَ حِينَ أُخْبِرْتَ بِالشِّرَاءِ، وَقَدْ نَقَلَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ أَيْضًا فِيمَا قَبْلُ، فَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يُقَالَ هَاهُنَا ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ سَأَلَهُ عَنْ طَلَبِ الْإِشْهَادِ وَمُرَادُهُ طَلَبُ الْمُوَاثَبَةِ يَصِيرُ الْمَعْنَى: ثُمَّ بَعْدَ السُّؤَالِ عَنْ طَلَبِ الْمُوَاثَبَةِ سَأَلَهُ عَنْ طَلَبِ الْمُوَاثَبَةِ؛ لِأَنَّ سُؤَالَهُ قَبْلَهُ بِكَيْفَ صَنَعْتَ حِينَ أُخْبِرْتَ سُؤَالٌ عَنْ طَلَبِ الْمُوَاثَبَةِ لَا مَحَالَةَ فَيَلْزَمُ تَكْرَارُ السُّؤَالِ عَنْ طَلَبِ الْمُوَاثَبَةِ. بِخِلَافِ مَا إذَا قِيلَ ثُمَّ إذَا سَأَلَهُ عَنْ طَلَبِ الْمُوَاثَبَةِ سَأَلَهُ عَنْ طَلَبِ الْإِشْهَادِ كَمَا وَقَعَ فِي عِبَارَتِهِمْ، فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ حِينَئِذٍ شَيْءٌ مِنْ الْمَحْذُورَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ، أَمَّا عَدَمُ الْمُخَالَفَةِ لِاصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا عَدَمُ لُزُومِ تَكْرَارِ السُّؤَالِ عَنْ طَلَبِ الْمُوَاثَبَةِ فَإِنَّ الْكَلَامَ إذْ ذَاكَ مُلْقًى
حَيْثُ تَكُونُ الْعُهْدَةُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِالْقَبْضِ. وَفِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ امْتَنَعَ قَبْضُ الْمُشْتَرِي وَأَنَّهُ يُوجِبُ الْفَسْخَ، وَقَدْ طَوَّلْنَا الْكَلَامَ فِيهِ فِي كِفَايَةِ الْمُنْتَهَى بِتَوْفِيقِ اللَّهِ تَعَالَى. .
قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى دَارًا لِغَيْرِهِ فَهُوَ الْخَصْمُ لِلشَّفِيعِ)؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْعَاقِدُ، وَالْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ فَيَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ. قَالَ (إلَّا أَنْ يُسَلِّمَهَا إلَى الْمُوَكِّلِ)؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لَهُ يَدٌ وَلَا مِلْكٌ فَيَكُونُ الْخَصْمُ هُوَ الْمُوَكِّلُ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ كَالْبَائِعِ مِنْ الْمُوَكِّلِ عَلَى مَا عُرِفَ فَتَسْلِيمُهُ إلَيْهِ كَتَسْلِيمِ الْبَائِعِ إلَى الْمُشْتَرِي فَتَصِيرُ الْخُصُومَةُ مَعَهُ، إلَّا أَنَّهُ مَعَ ذَلِكَ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُوَكِّلِ فَيَكْتَفِي بِحُضُورِهِ فِي الْخُصُومَةِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ، وَكَذَا إذَا كَانَ الْبَائِعُ وَكِيلَ الْغَائِبِ فَلِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَهَا مِنْهُ إذَا كَانَتْ فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّهُ عَاقِدٌ وَكَذَا إذَا كَانَ الْبَائِعُ وَصِيًّا لِمَيِّتٍ فِيمَا يَجُوزُ بَيْعُهُ لِمَا ذَكَرْنَا. .
قَالَ (وَإِذَا قَضَى الْقَاضِي لِلشَّفِيعِ بِالدَّارِ وَلَمْ يَكُنْ رَآهَا فَلَهُ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ، وَإِنْ وَجَدَ بِهَا عَيْبًا فَلَهُ أَنْ يَرُدَّهَا وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي شَرَطَ الْبَرَاءَةَ مِنْهُ)؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ بِمَنْزِلَةِ الشِّرَاءِ؛ أَلَا يَرَى أَنَّهُ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ فَيَثْبُتُ فِيهِ الْخِيَارَانِ كَمَا فِي الشِّرَاءِ، وَلَا يَسْقُطُ بِشَرْطِ الْبَرَاءَةِ مِنْ الْمُشْتَرِي وَلَا بِرُؤْيَتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِنَائِبٍ عَنْهُ فَلَا يَمْلِكُ إسْقَاطَهُ.
فِي صُورَةِ الشَّرْطِيَّةِ فَقَدَّمَهَا، وَهُوَ قَوْلُهُمْ إذَا سَأَلَهُ عَنْ طَلَبِ الْمُوَاثَبَةِ إشَارَةٌ إلَى مَا ذَكَرُوا فِيمَا قَبْلَ السُّؤَالِ بِكَيْفَ صَنَعْتَ حِينَ أُخْبِرْتَ وَلَيْسَ فِيهِ حُكْمٌ جَدِيدٌ حَتَّى يَلْزَمَ التَّكْرَارُ تَأَمَّلْ تَفْهَمْ
(قَوْلُهُ وَمَنْ اشْتَرَى دَارًا لِغَيْرِهِ فَهُوَ الْخَصْمُ لِلشَّفِيعِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْعَاقِدُ، وَالْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ) أَقُولُ: هَذَا التَّعْلِيلُ يَجْرِي بِعَيْنِهِ فِيمَا إذَا سَلَّمَهَا الْمُوَكِّلُ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ بِخَصْمٍ هُنَاكَ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُزَادَ عَلَيْهِ قَيْدٌ فَارِقٌ بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ بِأَنْ يُقَالَ بَعْدَ قَوْلِهِ وَالْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ، وَلَهُ يَدٌ فِي الدَّارِ، وَكَأَنَّ الْمُصَنِّفَ إنَّمَا تَرَكَ ذِكْرَ ذَلِكَ الْقَيْدِ اعْتِمَادًا عَلَى انْفِهَامِهِ مِنْ تَعْلِيلِ صُورَةِ التَّسْلِيمِ.
فَصْلٌ فِي الِاخْتِلَافِ
قَالَ (وَإِنْ اخْتَلَفَ الشَّفِيعُ وَالْمُشْتَرِي فِي الثَّمَنِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي)؛ لِأَنَّ الشَّفِيعَ يَدَّعِي اسْتِحْقَاقَ الدَّارِ عَلَيْهِ عِنْدَ نَقْدِ الْأَقَلِّ وَهُوَ يُنْكِرُ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ مَعَ يَمِينِهِ، وَلَا يَتَحَالَفَانِ؛ لِأَنَّ الشَّفِيعَ إنْ كَانَ يَدَّعِي عَلَيْهِ اسْتِحْقَاقَ الدَّارِ فَالْمُشْتَرِي لَا يَدَّعِي عَلَيْهِ شَيْئًا لِتَخَيُّرِهِ بَيْنَ التَّرْكِ وَالْأَخْذِ وَلَا نَصَّ هَاهُنَا، فَلَا يَتَحَالَفَانِ.
(فَصْلٌ فِي الِاخْتِلَافِ)
لَمَّا ذَكَرَ مَسَائِلَ الِاتِّفَاقِ بَيْنَ الشَّفِيعِ وَالْمُشْتَرِي شَرَعَ فِي مَسَائِلِ الِاخْتِلَافِ بَيْنَهُمَا، وَقَدَّمَ الْأَوَّلَ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ هُوَ الِاتِّفَاقُ (قَوْلُهُ وَلَا نَصَّ هَاهُنَا فَلَا يَتَحَالَفَانِ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمُقَامِ: إنَّمَا النَّصُّ فِي حَقِّ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي مَعَ وُجُودِ مَعْنَى الْإِنْكَارِ مِنْ الطَّرَفَيْنِ هُنَاكَ فَوَجَبَ الْيَمِينُ لِذَلِكَ فِي الطَّرَفَيْنِ، وَلَمْ يُوجَدْ الْإِنْكَارُ هُنَا فِي طَرَفِ الشَّفِيعِ فَلَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَى مَا وَرَدَ فِيهِ النَّصُّ فَلِذَلِكَ لَمْ يَجِبْ التَّحَالُفُ هُنَا اهـ.
وَاقْتَفَى أَثَرَهُ صَاحِبُ مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ كَمَا هُوَ دَأْبُهُ فِي أَكْثَرِ الْمَوَاضِعِ، وَتَحْرِيرُ صَاحِبِ غَايَةِ الْبَيَانِ أَيْضًا يُشْعِرُ بِذَلِكَ، فَإِنَّهُ بَعْدَمَا بَيَّنَ عَدَمَ وُجُوبِ التَّحَالُفِ هُنَا عَلَى نَهْجِ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ قَبْلُ قَالَ: فَلَمْ يَكُنْ اخْتِلَافُهُمَا فِي مَعْنَى مَا وَرَدَ بِهِ النَّصُّ وَهُوَ قَوْلُ عليه الصلاة والسلام «إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ وَالسِّلْعَةُ قَائِمَةٌ تَحَالَفَا وَتَرَادَّا» فَلَا جَرَمَ لَمْ يَجِبْ التَّحَالُفُ اهـ.
أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا بِشَرْحٍ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ وُجُودَ مَعْنَى الْإِنْكَارِ مِنْ الطَّرَفَيْنِ فِي اخْتِلَافِ الْمُتَبَايِعَيْنِ إنَّمَا هُوَ فِيمَا إذَا وَقَعَ الِاخْتِلَافُ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَأَمَّا إذَا وَقَعَ بَعْدَ الْقَبْضِ فَمَعْنَى الْإِنْكَارِ هُنَاكَ أَيْضًا إنَّمَا يُوجَدُ فِي طَرَفٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الْمُشْتَرِي، فَكَانَ التَّحَالُفُ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ مُخَالِفًا لِلْقِيَاسِ، وَلَكِنَّا عَرَّفْنَاهُ بِالنَّصِّ وَهُوَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ وَالسِّلْعَةُ قَائِمَةٌ بِعَيْنِهَا تَحَالَفَا وَتَرَادَّا» وَقَدْ مَرَّ ذَلِكَ كُلُّهُ مُسْتَوْفِيًا فِي بَابِ التَّحَالُفِ مِنْ كِتَابِ الدَّعْوَى، فَلَوْ كَانَ الْوَجْهُ فِي عَدَمِ كَوْنِ مَا نَحْنُ فِيهِ فِي مَعْنَى مَا وَرَدَ فِيهِ النَّصُّ أَنْ لَا يُوجَدَ مَعْنَى الْإِنْكَارِ مِنْ الطَّرَفَيْنِ لَانْتَقَضَ ذَلِكَ قَطْعًا بِصُورَةِ اخْتِلَافِ الْمُتَبَايِعَيْنِ بَعْدَ الْقَبْضِ. وَالصَّوَابُ أَنَّ وَجْهَ عَدَمِ كَوْنِ مَا نَحْنُ فِيهِ مَعْنَى مَا وَرَدَ فِيهِ النَّصُّ هُوَ أَنَّ الشَّفِيعَ مَعَ الْمُشْتَرِي لَيْسَ فِي مَعْنَى الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لِانْتِفَاءِ شَرْطِ الْبَيْعِ وَهُوَ التَّرَاضِي فَلَا يَلْحَقَانِ بِهِمَا فِي حُكْمِ التَّحَالُفِ.
وَقَدْ أَفْصَحَ عَنْهُ تَاجُ الشَّرِيعَةِ حَيْثُ قَالَ: وَلَيْسَ هَذَا فِي مَعْنَى مَا وَرَدَ فِيهِ النَّصُّ بِالتَّحَالُفِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ؛ لِأَنَّ رُكْنَ الْبَيْعِ وَإِنْ وُجِدَ لَكِنْ بِالنَّظَرِ إلَى فَوَاتِ شَرْطِهِ وَهُوَ الرِّضَا لَمْ يُوجَدْ فَلَا يَلْحَقُ بِهِ اهـ. قَالَ الزَّيْلَعِيُّ فِي شَرْحِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ الْكَنْزِ: وَلَا يَتَحَالَفَانِ؛ لِأَنَّ التَّحَالُفَ عُرِفَ بِالنَّصِّ فِيمَا إذَا وُجِدَ الْإِنْكَارَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَالدَّعْوَى مِنْ الْجَانِبَيْنِ، الْمُشْتَرِي لَا يَدَّعِي عَلَى الشَّفِيعِ شَيْئًا فَلَا يَكُونُ الشَّفِيعُ مُنْكِرًا فَلَا يَكُونُ فِي مَعْنَى مَا وَرَدَ النَّصُّ فَامْتَنَعَ الْقِيَاسُ اهـ.
أَقُولُ: الْخَلَلُ فِي كَلَامِهِ أَشَدُّ وَأَظْهَرُ. فَإِنَّهُ قَالَ أَوَّلًا: لِأَنَّ التَّحَالُفَ عُرِفَ بِالنَّصِّ فِيمَا إذَا وُجِدَ الْإِنْكَارُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَالدَّعْوَى مِنْ الْجَانِبَيْنِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ عُرِفَ بِالنَّصِّ أَيْضًا فِيمَا لَا إنْكَارَ
قَالَ (وَلَوْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ لِلشَّفِيعِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: الْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهَا أَكْثَرُ إثْبَاتًا) فَصَارَ كَبَيِّنَةِ الْبَائِعِ وَالْوَكِيلِ وَالْمُشْتَرِي مِنْ الْعَدُوِّ. وَلَهُمَا أَنَّهُ لَا تَنَافِي بَيْنَهُمَا فَيُجْعَلُ كَأَنَّ الْمَوْجُودَ بَيْعَانِ، وَلِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ بِأَيِّهِمَا شَاءَ وَهَذَا بِخِلَافِ الْبَائِعِ مَعَ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَوَالَى بَيْنَهُمَا عَقْدَانِ إلَّا بِانْفِسَاخِ الْأَوَّلِ وَهَاهُنَا الْفَسْخُ لَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ الشَّفِيعِ وَهُوَ التَّخْرِيجُ لِبَيِّنَةِ الْوَكِيلِ؛ لِأَنَّهُ كَالْبَائِعِ وَالْمُوَكِّلِ كَالْمُشْتَرِي مِنْهُ، كَيْفَ وَأَنَّهَا مَمْنُوعَةٌ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ،
وَلَا دَعْوَى إلَّا مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ كَمَا إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ بَعْدَ الْقَبْضِ عَلَى مَا صَرَّحُوا بِهِ قَاطِبَةً حَتَّى نَفْسَهُ فِي كِتَابِ الدَّعْوَى، بَلْ الَّذِي عُرِفَ بِالنَّصِّ هَذِهِ الصُّورَةُ؛ لِأَنَّ التَّحَالُفَ فِيمَا إذَا وُجِدَ الْإِنْكَارُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَالدَّعْوَى مِنْ الْجَانِبَيْنِ ثَابِتٌ بِالْقِيَاسِ بِدُونِ ذَلِكَ النَّصِّ.
وَقَالَ آخِرًا فَامْتَنَعَ الْقِيَاسُ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ امْتِنَاعَ الْقِيَاسِ لَا يَقْتَضِي امْتِنَاعَ الْإِلْحَاقِ بِطَرِيقِ دَلَالَةِ النَّصِّ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ الْأُمُورِ لَا يَجْرِي فِيهِ الْقِيَاسُ وَيَصِحُّ إثْبَاتُهُ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ فَبِمُجَرَّدِ امْتِنَاعِ الْقِيَاسِ هَاهُنَا لَا يَتِمُّ الْمَطْلُوبُ، فَحَقُّ الْعِبَارَةِ أَنْ يُقَالَ فَلَا يَلْحَقُ بِهِ لِيَعُمَّ الْقِيَاسَ وَالدَّلَالَةَ (قَوْلُهُ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: الْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهَا أَكْثَرُ إثْبَاتًا) أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الْبَيِّنَةُ إنَّمَا تُسْمَعُ مِنْ الْمُدَّعِي، وَالْمُشْتَرِي لَا يَدَّعِي عَلَى الشَّفِيعِ شَيْئًا وَلِهَذَا لَا يَتَحَالَفَانِ بِالِاتِّفَاقِ كَمَا مَرَّ آنِفًا، فَلَزِمَ أَنْ لَا تَصِحَّ بَيِّنَةُ الْمُشْتَرِي أَصْلًا فَضْلًا عَنْ أَنْ تُرَجَّحَ عَلَى بَيِّنَةِ الشَّفِيعِ كَمَا قَالَهُ أَبُو يُوسُفَ.
ثُمَّ أَقُولُ: يُمْكِنُ الْجَوَابُ عَنْهُ بِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ وَإِنْ كَانَ مُدَّعًى عَلَيْهِ لَا مُدَّعِيًا فِي الْحَقِيقَةِ إلَّا أَنَّهُ مُدَّعٍ صُورَةً حَيْثُ يَدَّعِي زِيَادَةَ الثَّمَنِ، وَمَنْ كَانَ مُدَّعِيًا صُورَةً تُسْمَعُ بَيِّنَتُهُ إذَا أَقَامَهَا، كَمَا فِي الْمُودَعِ إذَا ادَّعَى رَدَّ الْوَدِيعَةِ عَلَى الْمُودِعِ وَأَقَامَ عَلَيْهِ بَيِّنَةً عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَحِلِّهِ.
وَأَمَّا الْحَلِفُ فَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَى مَنْ كَانَ مُدَّعًى عَلَيْهِ حَقِيقَةً وَلَا يَجِبُ عَلَى مَنْ كَانَ مُدَّعًى عَلَيْهِ صُورَةً؛ أَلَا يَرَى أَنَّ الْمُودَعَ إذَا ادَّعَى رَدَّ الْوَدِيعَةِ عَلَى الْمُودِعِ وَعَجَزَ عَنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ فَإِنَّمَا يَجِبُ الْحَلِفُ عَلَى الْمُودَعِ لِكَوْنِهِ مُنْكِرَ الضَّمَانِ حَقِيقَةً، وَلَا يَجِبُ عَلَى الْمُودِعِ مَعَ كَوْنِهِ فِي صُورَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِرَدِّ الْوَدِيعَةِ عَلَيْهِ فَكَانَ لِلْمُشْتَرِي فِيمَا نَحْنُ فِيهِ مَجَالُ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ وَإِنْ لَمْ يَجِبْ عَلَى خَصْمِهِ الْحَلِفُ أَصْلًا فَرَجَّحَ أَبُو يُوسُفَ بَيِّنَتَهُ بِنَاءً عَلَى كَوْنِهَا أَكْثَرَ إثْبَاتًا، وَبِهَذَا التَّفْصِيلِ تَبَيَّنَ أَنَّ قَوْلَ صَدْرِ الشَّرِيعَةِ فِي شَرْحِ الْوِقَايَةِ فِي هَذَا الْمُقَامِ وَحُجَّتُهُمَا مَا ذَكَرْنَا مُؤَيِّدًا بِهِ مَا ذَكَرَهُ قَبْلَهُ بِقَوْلِهِ؛ لِأَنَّ الشَّفِيعَ يَدَّعِي اسْتِحْقَاقَ الدَّارِ عِنْدَ نَقْدِ الْأَقَلِّ وَالْمُشْتَرِي يُنْكِرُهُ لَيْسَ بِسَدِيدٍ.
وَعَنْ هَذَا لَمْ يُحْكَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ الِاحْتِجَاجُ بِذَلِكَ مَعَ ظُهُورِهِ جِدًّا، وَإِنَّمَا حُكِيَ عَنْهُ الطَّرِيقَتَانِ اللَّتَانِ ذَكَرَهُمَا الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ وَلَهُمَا أَنَّهُ لَا تَنَافِي إلَخْ، وَبِقَوْلِهِ؛ لِأَنَّ بَيِّنَةَ الشَّفِيعِ مُلْزِمَةٌ إلَخْ، حَكَى أُولَاهُمَا مُحَمَّدٌ وَأَخَذَ بِهَا، وَحَكَى ثَانِيَتَهُمَا أَبُو يُوسُفَ وَلَمْ يَأْخُذْ بِهَا كَمَا ذَكَرُوا فِي الشُّرُوحِ.
(قَوْلُهُ وَهُوَ التَّخْرِيجُ لِبَيِّنَةِ الْوَكِيلِ؛ لِأَنَّهُ كَالْبَائِعِ وَالْمُوَكِّلُ كَالْمُشْتَرِي مِنْهُ) أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إنْ أُرِيدَ أَنَّ الْوَكِيلَ كَالْبَائِعِ وَالْمُوَكِّلَ كَالْمُشْتَرِي مِنْهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَهُوَ مَمْنُوعٌ لِظُهُورِ الِاخْتِلَافِ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ، وَإِنْ أُرِيدَ أَنَّ الْوَكِيلَ
وَأَمَّا الْمُشْتَرِي مِنْ الْعَدُوِّ فَقُلْنَا ذُكِرَ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ أَنَّ الْبَيِّنَةَ بَيِّنَةُ الْمَالِكِ الْقَدِيمِ. فَلَنَا أَنْ نَمْنَعَ (وَبَعْدَ التَّسْلِيمِ نَقُولُ: لَا يَصِحُّ الثَّانِي هُنَالِكَ إلَّا بِفَسْخِ الْأَوَّلِ، أَمَّا هَاهُنَا فَبِخِلَافِهِ)، وَلِأَنَّ بَيِّنَةَ الشَّفِيعِ مُلْزِمَةٌ وَبَيِّنَةَ الْمُشْتَرِي غَيْرُ مُلْزِمَةٍ وَالْبَيِّنَاتُ لِلْإِلْزَامِ. .
قَالَ (وَإِذَا ادَّعَى الْمُشْتَرِي ثَمَنًا وَادَّعَى الْبَائِعُ أَقَلَّ مِنْهُ وَلَمْ يَقْبِضْ الثَّمَنَ أَخَذَهَا الشَّفِيعُ بِمَا قَالَهُ الْبَائِعُ وَكَانَ ذَلِكَ حَطًّا عَنْ الْمُشْتَرِي)؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْأَمْرَ إنْ كَانَ عَلَى مَا قَالَ الْبَائِعُ فَقَدْ وَجَبَتْ الشُّفْعَةُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى مَا قَالَ الْمُشْتَرِي فَقَدْ حَطَّ الْبَائِعُ بَعْضَ الثَّمَنِ، وَهَذَا الْحَطُّ يَظْهَرُ فِي حَقِّ الشَّفِيعِ عَلَى مَا نُبَيِّنُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَلِأَنَّ التَّمَلُّكَ عَلَى الْبَائِعِ بِإِيجَابِهِ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِي مِقْدَارِ الثَّمَنِ مَا بَقِيَتْ مُطَالَبَتُهُ فَيَأْخُذُ الشَّفِيعُ بِقَوْلِهِ. قَالَ (وَلَوْ ادَّعَى الْبَائِعُ الْأَكْثَرَ يَتَحَالَفَانِ وَيَتَرَادَّانِ، وَأَيُّهُمَا نَكَلَ ظَهَرَ أَنَّ الثَّمَنَ مَا يَقُولُهُ الْآخَرُ فَيَأْخُذُهَا الشَّفِيعُ بِذَلِكَ، وَإِنْ حَلَفَا يَفْسَخُ الْقَاضِي الْبَيْعَ عَلَى مَا عُرِفَ وَيَأْخُذُهَا الشَّفِيعُ بِقَوْلِ الْبَائِعِ)؛ لِأَنَّ فَسْخَ الْبَيْعِ لَا يُوجِبُ بُطْلَانَ حَقِّ الشَّفِيعِ. قَالَ (وَإِنْ كَانَ قَبَضَ الثَّمَنَ أَخَذَ بِمَا قَالَ الْمُشْتَرِي إنْ شَاءَ وَلَمْ يَلْتَفِتْ إلَى قَوْلِ الْبَائِعِ)؛ لِأَنَّهُ لَمَّا
وَالْمُوَكِّلَ كَالْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي فِي بَعْضِ الْوُجُوهِ فَهُوَ مُسَلَّمٌ، وَلَكِنَّ الشَّفِيعَ وَالْمُشْتَرِيَ أَيْضًا بِمَنْزِلَةِ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي فِي بَعْضِ الْوُجُوهِ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ قَاطِبَةً فَلَا يَتِمُّ الْفَرْقُ فَلْيُتَأَمَّلْ فِي الدَّفْعِ (قَوْلُهُ وَبَعْدَ التَّسْلِيمِ نَقُولُ: لَا يَصِحُّ الثَّانِي هُنَالِكَ إلَّا بِفَسْخِ الْأَوَّلِ، أَمَّا هَاهُنَا فَبِخِلَافِهِ) أَقُولُ: يُرَدُّ عَلَى ظَاهِرِهِ أَنَّ الْبَيْعَ الثَّانِيَ لَا يَصِحُّ هُنَا أَيْضًا، وَلَا يُفْسَخُ الْأَوَّلُ ضَرُورَةَ عَدَمِ تَصَوُّرِ بَيْعِ شَيْءٍ وَاحِدٍ مِنْ شَخْصٍ وَاحِدٍ مَرَّتَيْنِ إلَّا بِفَسْخِ الْأَوَّلِ، وَيَدُلُّ عَلَى لُزُومِ الْفَسْخِ هُنَا أَيْضًا قَوْلُ الْمُصَنِّفِ فِيمَا قَبْلُ وَهَاهُنَا الْفَسْخُ لَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ الشَّفِيعِ حَيْثُ نَفَى ظُهُورَ الْفَسْخِ فِي حَقِّ الشَّفِيعِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي تَحَقُّقَ الْفَسْخِ فِي نَفْسِهِ وَالْجَوَابُ أَنَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ بِالْفَسْخِ فِي قَوْلِهِ لَا يَصِحُّ الثَّانِي هُنَالِكَ إلَّا بِفَسْخِ الْأَوَّلِ، أَمَّا هَاهُنَا فَبِخِلَافِهِ هُوَ الْفَسْخُ فِي حَقِّ الثَّالِثِ وَهُوَ الْمَالِكُ الْقَدِيمُ هُنَالِكَ وَالشَّفِيعُ هُنَا لَا الْفَسْخُ فِي حَقِّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، وَاَلَّذِي لَزِمَ تَحَقُّقُهُ ضَرُورَةً فِي الْفَصْلَيْنِ مَعًا هُوَ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ، فَمَعْنَى كَلَامِ الْمُصَنِّفِ هُنَا
اسْتَوْفَى الثَّمَنَ انْتَهَى حُكْمُ الْعَقْدِ، وَخَرَجَ هُوَ مِنْ الْبَيِّنِ وَصَارَ هُوَ كَالْأَجْنَبِيِّ وَبَقِيَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ الْمُشْتَرِي وَالشَّفِيعِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ. وَلَوْ كَانَ نَقْدُ الثَّمَنِ غَيْرَ ظَاهِرٍ فَقَالَ الْبَائِعُ بِعْت الدَّارَ بِأَلْفٍ وَقَبَضْت الثَّمَنَ يَأْخُذُهَا الشَّفِيعُ بِأَلْفٍ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا بَدَأَ بِالْإِقْرَارِ بِالْبَيْعِ تَعَلَّقَتْ الشُّفْعَةُ بِهِ، فَبِقَوْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ قَبَضْتُ الثَّمَنَ يُرِيدُ إسْقَاطَ حَقِّ الشَّفِيعِ فَيُرَدُّ عَلَيْهِ. وَلَوْ قَالَ قَبَضْت الثَّمَنَ وَهُوَ أَلْفٌ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى قَوْلِهِ؛ لِأَنَّ بِالْأَوَّلِ وَهُوَ الْإِقْرَارُ بِقَبْضِ الثَّمَنِ خَرَجَ مِنْ الْبَيِّنِ وَسَقَطَ اعْتِبَارُ قَوْلِهِ فِي مِقْدَارِ الثَّمَنِ
فَصْلٌ فِيمَا يُؤْخَذُ بِهِ الْمَشْفُوعُ
قَالَ (وَإِذَا حَطَّ الْبَائِعُ عَنْ الْمُشْتَرِي بَعْضَ الثَّمَنِ يَسْقُطُ ذَلِكَ عَنْ الشَّفِيعِ، وَإِنْ حَطَّ جَمِيعَ الثَّمَنِ لَمْ يَسْقُطْ عَنْ الشَّفِيعِ)
أَنَّ الْفَسْخَ يَظْهَرُ فِي حَقِّ الثَّانِي هُنَالِكَ كَمَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، أَمَّا هُنَا فَبِخِلَافِهِ: أَيْ لَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ الثَّالِثِ.
وَثَمَرَةُ هَذَا الِاخْتِلَافِ أَنَّ الثَّالِثَ هُنَالِكَ وَهُوَ الْمَالِكُ الْقَدِيمُ يَأْخُذُ الْعَبْدَ الْمَأْسُورَ مِنْ الْمُشْتَرِي مِنْ الْعَدُوِّ بِالثَّمَنِ الثَّانِي، وَأَمَّا الثَّالِثُ هُنَا وَهُوَ الشَّفِيعُ فَيَأْخُذُ الدَّارَ مِنْ الْمُشْتَرِي بِأَيِّ الثَّمَنَيْنِ شَاءَ. فَإِنْ قُلْتَ: نَعَمْ مَعْنَى كَلَامِ الْمُصَنِّفِ ذَلِكَ قَطْعًا، وَلَكِنْ مَا وَجْهُ ظُهُورِ الْفَسْخِ هُنَالِكَ فِي حَقِّ الْمَالِكِ الْقَدِيمِ وَعَدَمِ ظُهُورِهِ هُنَا فِي حَقِّ الشَّفِيعِ مَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا؟ قُلْتُ: حَقُّ الشَّفِيعِ تَعَلَّقَ بِالدَّارِ مِنْ وَقْتِ وُجُودِ الْبَيْعِ الْأَوَّلِ، وَأَمَّا حَقُّ الْمَالِكِ الْقَدِيمِ فَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِالْعَبْدِ الْمَأْسُورِ إلَّا بَعْدَ الْإِخْرَاجِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، وَالْإِخْرَاجُ إلَيْهَا لَمْ يَكُنْ إلَّا بِالْبَيْعِ الثَّانِي فَافْتَرَقَا، وَحَلُّ هَذَا الْمَقَامُ بِهَذَا الْوَجْهِ مِمَّا يُهِمُّ، وَقَدْ أَهْمَلَهُ الشُّرَّاحُ مَعَ الْتِزَامِهِمْ بَيَانَ الظَّوَاهِرِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَوَاضِعِ.
(فَصْلٌ فِيمَا يُؤْخَذُ بِهِ الْمَشْفُوعُ)
لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ أَحْكَامِ الْمَشْفُوعِ وَهُوَ الْأَصْلُ؛ لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ مِنْ حَقِّ الشُّفْعَةِ شَرَعَ فِي بَيَانِ مَا يُؤْخَذُ بِهِ الْمَشْفُوعُ وَهُوَ الَّذِي
لِأَنَّ حَطَّ الْبَعْضِ يَلْتَحِقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ فَيَظْهَرُ فِي حَقِّ الشَّفِيعِ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ مَا بَقِيَ، وَكَذَا إذَا حَطَّ بَعْدَمَا أَخَذَهَا الشَّفِيعُ بِالثَّمَنِ يَحُطُّ عَنْ الشَّفِيعِ حَتَّى يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ الْقَدْرِ، بِخِلَافِ حَطِّ الْكُلِّ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْتَحِقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ بِحَالٍ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْبُيُوعِ.
(وَإِنْ زَادَ الْمُشْتَرِي لِلْبَائِعِ لَمْ تَلْزَمْ الزِّيَادَةُ فِي حَقِّ الشَّفِيعِ)؛ لِأَنَّ فِي اعْتِبَارِ الزِّيَادَةِ ضَرَرًا بِالشَّفِيعِ لِاسْتِحْقَاقِهِ الْأَخْذَ بِمَا دُونَهَا. بِخِلَافِ الْحَطِّ؛ لِأَنَّ فِيهِ مَنْفَعَةً لَهُ، وَنَظِيرُ الزِّيَادَةِ إذَا جَدَّدَ الْعَقْدَ بِأَكْثَرَ مِنْ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ لَمْ يَلْزَمْ الشَّفِيعَ حَتَّى كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ لِمَا بَيَّنَّا كَذَا هَذَا. .
قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى دَارًا بِعَرَضٍ أَخَذَهَا الشَّفِيعُ بِقِيمَتِهِ)؛ لِأَنَّهُ مِنْ ذَوَاتِ الْقِيَمِ (وَإِنْ اشْتَرَاهَا بِمَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ أَخَذَهَا بِمِثْلِهِ)؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ. وَهَذَا لِأَنَّ الشَّرْعَ أَثْبَتَ لِلشَّفِيعِ وِلَايَةَ التَّمَلُّكِ عَلَى الْمُشْتَرِي بِمِثْلِ مَا تَمَلَّكَهُ فَيُرَاعَى بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ كَمَا فِي الْإِتْلَافِ وَالْعَدَدِيِّ الْمُتَقَارِبِ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ.
(وَإِنْ بَاعَ عَقَارًا بِعَقَارٍ أَخَذَ الشَّفِيعُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِقِيمَةِ الْآخَرِ)؛ لِأَنَّهُ بَدَلُهُ وَهُوَ مِنْ ذَوَاتِ الْقِيَمِ فَيَأْخُذُهُ بِقِيمَتِهِ. قَالَ (وَإِذَا بَاعَ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ فَلِلشَّفِيعِ الْخِيَارُ، إنْ شَاءَ أَخَذَهَا بِثَمَنِ حَالٍّ، وَإِنْ شَاءَ صَبَرَ حَتَّى يَنْقَضِيَ الْأَجَلُ ثُمَّ يَأْخُذُهَا،
يُؤَدِّيهِ الشَّفِيعُ؛ لِأَنَّهُ ثَمَنٌ وَالثَّمَنُ تَابِعٌ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ
(قَوْلُهُ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ أَثْبَتَ لِلشَّفِيعِ وِلَايَةَ التَّمَلُّكِ عَلَى الْمُشْتَرِي بِمِثْلِ مَا يَمْلِكُهُ) أَقُولُ: كَانَ الظَّاهِرُ أَنْ يَقُولَ بِمِثْلِ مَا يَمْلِكُ بِهِ؛ لِأَنَّ الشَّفِيعَ إنَّمَا يَتَمَلَّكُ بِمِثْلِ الثَّمَنِ الَّذِي تَمَلَّكَ بِهِ الْمُشْتَرِي لَا بِمِثْلِ الْبَيْعِ الَّذِي يَمْلِكُهُ الْمُشْتَرِي، وَعَنْ هَذَا قُلْنَا إذَا اشْتَرَى دَارًا بِعَرَضٍ يَأْخُذُهَا الشَّفِيعُ بِقِيمَةِ الْعَرَضِ الَّذِي هُوَ الثَّمَنُ لَا بِقِيمَةِ الدَّارِ الَّتِي هِيَ الْبَيْعُ كَمَا قَالَهُ أَهْلُ الْمَدِينَةِ عَلَى مَا ذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ. وَفِي الْكَافِي: الْفَارِقُ بَيْنَهُمَا هُوَ الْبَاءُ فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِهَا هَاهُنَا، لَقَدْ أَحْسَنَ صَاحِبُ الْكَافِي حَيْثُ قَالَ: وَلَنَا أَنَّ الشَّفِيعَ يَتَمَلَّكُ بِمِثْلِ مَا يَتَمَلَّكُ بِهِ الْمُشْتَرِي وَالْمِثْلُ نَوْعَانِ: كَامِلٌ هُوَ الْمِثْلُ صُورَةً وَمَعْنًى، وَقَاصِرٌ
وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا فِي الْحَالِ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ) وَقَالَ زُفَرُ: لَهُ ذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ؛ لِأَنَّ كَوْنَهُ مُؤَجَّلًا وَصْفٌ فِي الثَّمَنِ كَالزِّيَافَةِ وَالْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ بِهِ فَيَأْخُذُ بِأَصْلِهِ وَوَصْفِهِ كَمَا فِي الزُّيُوفِ. وَلَنَا أَنَّ الْأَجَلَ إنَّمَا يَثْبُتُ بِالشَّرْطِ، وَلَا شَرْطَ فِيمَا بَيْنَ الشَّفِيعِ وَالْبَائِعِ أَوْ الْمُبْتَاعِ، وَلَيْسَ الرِّضَا بِهِ فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي رِضًا بِهِ فِي حَقِّ الشَّفِيعِ لِتَفَاوُتِ النَّاسِ فِي الْمَلَاءَةِ، وَلَيْسَ الْأَجَلُ وَصْفَ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّهُ حَقُّ الْمُشْتَرِي؛ وَلَوْ كَانَ وَصْفًا لَهُ لَتَبِعَهُ فَيَكُونُ حَقًّا لِلْبَائِعِ كَالثَّمَنِ وَصَارَ كَمَا إذَا اشْتَرَى شَيْئًا بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ ثُمَّ وَلَّاهُ غَيْرَهُ لَا يَثْبُتُ الْأَجَلُ إلَّا بِالذِّكْرِ كَذَا هَذَا، ثُمَّ إنْ أَخَذَهَا بِثَمَنٍ حَالٍّ مِنْ الْبَائِعِ سَقَطَ الثَّمَنُ عَنْ الْمُشْتَرِي لِمَا بَيَّنَّا مِنْ قَبْلُ، وَإِنْ أَخَذَهَا مِنْ الْمُشْتَرِي رَجَعَ الْبَائِعُ عَلَى الْمُشْتَرِي بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ كَمَا كَانَ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ الَّذِي جَرَى بَيْنَهُمَا لَمْ يَبْطُلْ بِأَخْذِ الشَّفِيعِ فَبَقِيَ مُوجِبُهُ فَصَارَ
وَهُوَ الْمِثْلُ مَعْنًى اهـ
(قَوْلُهُ وَلَيْسَ الرِّضَا بِهِ فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي رِضًا بِهِ فِي حَقِّ الشَّفِيعِ لِتَفَاوُتِ النَّاسِ فِي الْمَلَاءَةِ). قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: هَذَا دَلِيلٌ آخَرُ تَقْدِيرُهُ لَا بُدَّ فِي الشُّفْعَةِ مِنْ الرِّضَا لِكَوْنِهَا مُبَادَلَةً، وَلَا رِضَا فِي حَقِّ الشَّفِيعِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْأَجَلِ؛ لِأَنَّ الرِّضَا بِهِ فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي لَيْسَ بِرِضًا فِي حَقِّ الشَّفِيعِ لِتَفَاوُتِ النَّاسِ فِي الْمَلَاءَةِ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَهُوَ مَصْدَرُ مَلُؤَ الرَّجُلُ. وَقَالَ: وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَمَّا كَانَ الرِّضَا شَرْطًا وَجَبَ أَنْ لَا يَثْبُتَ حَقُّ الشُّفْعَةِ لِانْتِفَائِهِ مِنْ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي جَمِيعًا، وَحَيْثُ ثَبَتَ بِدُونِهِ جَازَ أَنْ يَثْبُتَ الْأَجَلُ كَذَلِكَ. وَالْجَوَابُ أَنَّ ثُبُوتَهُ بِدُونِهِ ضَرُورِيٌّ. وَلَا ضَرُورَةَ فِي ثُبُوتِ الْأَجَلِ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ وَقَدْ اقْتَفَى أَثَرَهُ الشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ. أَقُولُ: لَا يَخْفَى عَلَى ذِي فِطْرَةٍ سَلِيمَةٍ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِدَلِيلٍ آخَرَ، بَلْ إنَّمَا هُوَ تَتِمَّةُ الدَّلِيلِ السَّابِقِ ذُكِرَ لِدَفْعِ مَا عَسَى يُتَوَهَّمُ أَنْ يُقَالَ شَرْطُ الْأَجَلِ وَإِنْ لَمْ يَتَحَقَّقْ بَيْنَ الْبَائِعِ وَالشَّفِيعِ صَرِيحًا لَكِنْ تَحَقَّقَ بَيْنَهُمَا ضِمْنًا مِنْ حَيْثُ إنَّ الرِّضَا بِالْأَجَلِ فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي رِضًا بِهِ فِي حَقِّ الشَّفِيعِ. وَوَجْهُ الدَّفْعِ ظَاهِرٌ مِنْ قَوْلِهِ وَلِتَفَاوُتِ النَّاسِ فِي الْمَلَاءَةِ فَلَا احْتِيَاجَ أَصْلًا إلَى مَا ارْتَكَبَهُ الشَّارِحَانِ الْمَزْبُورَانِ مِنْ تَقْرِيرِ مُقَدَّمَاتٍ لِجَعْلِ ذَلِكَ دَلِيلًا مُسْتَقِلًّا، وَإِيرَادُ سُؤَالٍ وَالْتِزَامُ جَوَابٍ بَعِيدٌ عَنْهُ، بَلْ لَا وَجْهَ لِلْقَوْلِ بِأَنَّهُ لَا بُدَّ فِي الشُّفْعَةِ مِنْ الرِّضَا عِنْدَ مَنْ أَحَاطَ بِمَسَائِلِ الشُّفْعَةِ خُبْرًا، كَيْفَ وَقَدْ صَرَّحُوا بِخِلَافِهِ فِي مَوَاضِعَ شَتَّى مِنْ كِتَابِ الشُّفْعَةِ، سِيَّمَا عِنْدَ قَوْلِهِمْ وَيَمْلِكُ الشَّفِيعُ الدَّارَ إمَّا بِالتَّرَاضِي أَوْ بِقَضَاءِ الْقَاضِي حَيْثُ جَعَلُوا قَضَاءَ الْقَاضِي مُقَابِلًا لِلتَّرَاضِي، وَاعْتَبَرُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَبَبًا مُسْتَقِلًّا لِلْمِلْكِ.
(قَوْلُهُ ثُمَّ إنْ أَخَذَهَا بِثَمَنٍ حَالٍّ مِنْ الْبَائِعِ سَقَطَ الثَّمَنُ عَنْ الْمُشْتَرِي لِمَا بَيَّنَّا مِنْ قَبْلُ، وَإِنْ أَخَذَهَا مِنْ الْمُشْتَرِي رَجَعَ الْبَائِعُ عَلَى الْمُشْتَرِي بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ كَمَا كَانَ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: قَوْلُهُ وَإِنْ أَخَذَهَا مِنْ الْمُشْتَرِي رَجَعَ الْبَائِعُ عَلَى الْمُشْتَرِي
كَمَا إذَا بَاعَهُ بِثَمَنٍ حَالٍّ وَقَدْ اشْتَرَاهُ مُؤَجَّلًا، وَإِنْ اخْتَارَ الِانْتِظَارَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ لَهُ أَنْ لَا يَلْتَزِمَ زِيَادَةَ الضَّرَرِ مِنْ حَيْثُ النَّقْدِيَّةُ. وَقَوْلُهُ فِي الْكِتَابِ وَإِنْ شَاءَ صَبَرَ حَتَّى يَنْقَضِيَ الْأَجَلُ مُرَادُهُ الصَّبْرُ عَنْ الْأَخْذِ، أَمَّا الطَّلَبُ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ حَتَّى لَوْ سَكَتَ عَنْهُ بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ خِلَافًا لِقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ إنَّمَا يَثْبُتُ بِالْبَيْعِ، وَالْأَخْذُ يَتَرَاخَى عَنْ الطَّلَبِ، وَهُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْ الْأَخْذِ فِي الْحَالِ بِأَنْ يُؤَدِّيَ الثَّمَنَ حَالًّا فَيُشْتَرَطُ الطَّلَبُ عِنْدَ الْعِلْمِ بِالْبَيْعِ. .
بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ إلَخْ يُوهِمُ أَنَّ الشَّفِيعَ يَمْلِكُ بِبَيْعٍ جَدِيدٍ وَهُوَ مَذْهَبُ بَعْضُ الْمَشَايِخِ كَمَا تَقَدَّمَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ هُوَ بِطَرِيقِ تَحَوُّلِ الصَّفْقَةِ كَمَا هُوَ الْمُخْتَارُ، لَكِنْ يَتَحَوَّلُ مَا كَانَ مُقْتَضَى الْعَقْدِ، وَالْأَجَلُ مُقْتَضَى الشَّرْطِ فَبَقِيَ مَعَ مَنْ ثَبَتَ الشَّرْطُ فِي حَقِّهِ اهـ.
وَاقْتَفَى أَثَرَهُ الشَّارِحُ أَقُولُ: هَذَا خَبْطٌ فَاحِشٌ مِنْهُمَا، مَدَارُهُ عَدَمُ الْفَرْقِ بَيْنَ مَا إذَا قَبَضَهَا الْمُشْتَرِي فَأَخَذَهَا الشَّفِيعُ مِنْ يَدِهِ وَبَيْنَ مَا إذَا لَمْ يَقْبِضْهَا الْمُشْتَرِي، وَإِذَا أَخَذَهَا الشَّفِيعُ مِنْ يَدِ الْبَائِعِ فَإِنَّ الِاخْتِلَافَ فِي أَنَّ الدَّارَ الْمَشْفُوعَةَ هَلْ تَنْتَقِلُ إلَى الشَّفِيعِ بِطَرِيقِ تَحَوُّلِ الصَّفْقَةِ أَمْ بِعَقْدٍ جَدِيدٍ إنَّمَا هُوَ فِيمَا إذَا أَخَذَهَا الشَّفِيعُ مِنْ يَدِ الْبَائِعِ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهَا الْمُشْتَرِي، وَأَمَّا فِيمَا إذَا أَخَذَهَا الشَّفِيعُ مِنْ يَدِ الْمُشْتَرِي بَعْدَ أَنْ قَبَضَهَا فَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِأَنَّ انْتِقَالَهَا إلَى الشَّفِيعِ هُنَاكَ بِطَرِيقِ تَحَوُّلِ الصَّفْقَةِ وَلَا مَجَالَ لَهُ أَصْلًا وَإِنَّمَا هُوَ بِطَرِيقِ عَقْدٍ جَدِيدٍ بِالْإِجْمَاعِ وَلَقَدْ نَادَى إلَيْهِ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ فِي أَوَاخِرِ بَابِ طَلَبِ الشُّفْعَةِ وَالْخُصُومَةِ فِيهَا بِخِلَافِ مَا إذَا قَبَضَهُ الْمُشْتَرِي فَأَخَذَهُ مِنْ يَدِهِ حَيْثُ تَكُونُ الْعُهْدَةُ عَلَيْهِ بِالْقَبْضِ؛ لِأَنَّهُ تَمَّ مِلْكُهُ بِالْقَبْضِ. وَفِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ امْتَنَعَ قَبْضُ الْمُشْتَرِي أَنَّهُ يُوجِبُ الْفَسْخَ اهـ.
فَالصَّوَابُ أَنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا ثُمَّ إنْ أَخَذَهَا بِثَمَنٍ حَالٍّ مِنْ الْبَائِعِ سَقَطَ الثَّمَنُ عَنْ الْمُشْتَرِي إشَارَةً إلَى صُورَةِ أَخْذِهَا مِنْ يَدِ الْبَائِعِ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهَا الْمُشْتَرِي. وَقَوْلُهُ لِمَا بَيَّنَّا مِنْ قَبْلُ إشَارَةً إلَى مَا ذَكَرَهُ فِي بَابِ طَلَبِ الشُّفْعَةِ وَالْخُصُومَةِ فِيهَا مِنْ أَنَّ الْعَقْدَ يَنْفَسِخُ فِي حَقِّ الْإِضَافَةِ إلَى الْمُشْتَرِي، وَتَتَحَوَّلُ الصَّفْقَةُ إلَى الشَّفِيعِ عَلَى مَا هُوَ الْمُخْتَارُ، فَإِنَّ قَوْلَهُ وَإِنْ أَخَذَهَا مِنْ الْمُشْتَرِي رَجَعَ الْبَائِعُ عَلَى الْمُشْتَرِي بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ كَمَا كَانَ إشَارَةً إلَى صُورَةِ أَخْذِهَا مِنْ يَدِ الْمُشْتَرِي بَعْدَ أَنْ قَبَضَهَا. وَقَوْلُهُ لِأَنَّ الشَّرْطَ الَّذِي جَرَى بَيْنَهُمَا لَمْ يَبْطُلْ بِأَخْذِ الشَّفِيعِ فَبَقِيَ مُوجِبُهُ فَصَارَ كَمَا إذَا بَاعَهُ بِثَمَنٍ حَالٍّ، وَقَدْ اشْتَرَاهُ مُؤَجَّلًا، إشَارَةً إلَى أَنَّ تَمَلُّكَ الشَّفِيعِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ بِعَقْدٍ جَدِيدٍ كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ فِي الْبَابِ الْمَزْبُورِ بِقَوْلِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا قَبَضَهُ الْمُشْتَرِي فَأَخَذَهُ مِنْ يَدِهِ حَيْثُ تَكُونُ الْعُهْدَةُ عَلَيْهِ بِالْقَبْضِ؛ لِأَنَّهُ تَمَّ مِلْكُهُ بِالْقَبْضِ اهـ.
فَكَانَ كُلٌّ مِنْ الْمَسْأَلَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ هُنَا مُطَابِقًا لِمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْبَابِ الْمَزْبُورِ فَلَا غُبَارَ عَلَى شَيْءٍ مِنْهُمَا أَصْلًا (قَوْلُهُ وَهُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْ الْأَخْذِ فِي الْحَالِ بِأَنْ يُؤَدِّيَ الثَّمَنَ حَالًّا فَيُشْتَرَطُ الطَّلَبُ عِنْدَ الْعِلْمِ بِالْبَيْعِ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: قَوْلُهُ وَهُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْ الْأَخْذِ فِي الْحَالِ جَوَابٌ عَنْ قَوْلِ
قَالَ (وَإِنْ اشْتَرَى ذِمِّيٌّ بِخَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ دَارًا وَشَفِيعُهَا ذِمِّيٌّ أَخَذَهَا بِمِثْلِ الْخَمْرِ وَقِيمَةِ الْخِنْزِيرِ)؛ لِأَنَّ هَذَا الْبَيْعَ مَقْضِيٌّ بِالصِّحَّةِ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَحَقُّ الشُّفْعَةِ يَعُمُّ الْمُسْلِمَ وَالذِّمِّيَّ، وَالْخَمْرُ لَهُمْ كَالْخَلِّ لَنَا وَالْخِنْزِيرُ كَالشَّاةِ، فَيَأْخُذُ فِي الْأَوَّلِ بِالْمِثْلِ وَالثَّانِي بِالْقِيمَةِ. قَالَ (وَإِنْ كَانَ شَفِيعُهَا مُسْلِمًا أَخَذَهَا بِقِيمَةِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ) أَمَّا الْخِنْزِيرُ فَظَاهِرٌ، وَكَذَا الْخَمْرُ لِامْتِنَاعِ التَّسَلُّمِ وَالتَّسْلِيمِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ فَالْتَحَقَ بِغَيْرِ الْمِثْلِيِّ، وَإِنْ كَانَ شَفِيعُهَا مُسْلِمًا وَذِمِّيًّا أَخَذَ الْمُسْلِمُ نِصْفَهَا بِنِصْفِ قِيمَةِ الْخَمْرِ وَالذِّمِّيُّ نِصْفَهَا بِنِصْفِ مِثْلِ الْخَمْرِ اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ، فَلَوْ أَسْلَمَ الذِّمِّيُّ أَخَذَهَا بِنِصْفِ
أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ.
وَتَقْرِيرُهُ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ الْأَخْذُ، وَلَئِنْ كَانَ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُتَمَكِّنٍ مِنْ الْأَخْذِ فِي الْحَالِ بَلْ هُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْهُ بِأَنْ يُؤَدِّيَ الثَّمَنَ حَالًّا انْتَهَى.
أَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ، أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ الْمُصَنِّفَ لَمْ يَتَعَرَّضْ فِيمَا قَبْلُ لِدَلِيلِ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ كَمَا تَرَى، فَالتَّصَدِّي لِلْجَوَابِ عَنْهُ بِمَنْعِ بَعْضِ مُقَدِّمَاتِهِ كَمَا قَرَّرَهُ الشَّارِحُ الْمَزْبُورُ بَعِيدٌ جِدًّا، بَلْ هُوَ خَارِجٌ عَمَّا عَلَيْهِ دَأْبُ الْمُصَنِّفِ فِي نَظَائِرِهِ. وَأَمَّا ثَانِيًا؛ فَلِأَنَّ مَنْعَ كَوْنِ الْمَقْصُودِ بِهِ الْأَخْذَ كَمَا ذَكَرَهُ الشَّارِحُ الْمَزْبُورُ فِي أَوَّلِ التَّقْرِيرِ مِمَّا لَا يُفْهَمُ مِنْ عِبَارَةِ الْمُصَنِّفِ فِي قَوْلِهِ الْمَذْكُورِ بِوَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ الدَّلَالَاتِ فَكَيْفَ يَصِحُّ حَمْلُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا ثَالِثًا فَلِأَنَّ قَوْلَهُ (وَلَئِنْ كَانَ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُتَمَكِّنٍ مِنْ الْأَخْذِ فِي الْحَالِ بَلْ هُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْهُ بِأَنْ يُؤَدِّيَ الثَّمَنَ حَالًّا) مِمَّا لَا يَكَادُ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا عَنْ دَلِيلِ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ؛ لِأَنَّ دَلِيلَهُ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْمَبْسُوطِ وَفِي شَرْحِ هَذَا الْكِتَابِ حَتَّى الْعِنَايَةَ نَفْسَهَا أَنَّ الطَّلَبَ غَيْرُ مَقْصُودٍ بِعَيْنِهِ بَلْ لِلْأَخْذِ، وَهُوَ فِي الْحَالِ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْأَخْذِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَطْلُبُهُ وَهُوَ الْأَخْذُ بَعْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ أَوْ الْأَخْذِ فِي الْحَالِ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ فَلَا فَائِدَةَ فِي طَلَبِهِ فِي الْحَالِ، فَسُكُوتُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرَ فِيهِ فَائِدَةً لَا لِإِعْرَاضِهِ عَنْ الْأَخْذِ انْتَهَى. وَلَا يَذْهَبُ عَلَى ذِي مُسْكَةٍ أَنَّ مَنْعَ عَدَمِ تَمَكُّنِهِ مِنْ الْأَخْذِ فِي الْحَالِ بِنَاءً عَلَى تَمَكُّنِهِ مِنْهُ بِأَنْ يُؤَدِّيَ الثَّمَنَ حَالًّا لَا يُجْدِي طَائِلًا فِي دَفْعِ مَا ذَكَرَ فِي دَلِيلِهِ مِنْ أَنَّهُ فِي الْحَالِّ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْأَخْذِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَطْلُبُهُ، فَإِنَّ أَدَاءَ الثَّمَنِ حَالًّا لَيْسَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَطْلُبُهُ، وَلَيْسَ بِلَازِمٍ لَهُ أَلْبَتَّةَ، وَخِلَافُ أَبِي يُوسُفَ فِي قَوْلِهِ الْآخَرِ فِيمَا إذَا لَمْ يَخْتَرْ الشَّفِيعُ أَخْذَهَا بِثَمَنٍ حَالٍّ بَلْ اخْتَارَ الِانْتِظَارَ إلَى حُلُولِ الْأَجَلِ فَكَيْفَ يَكُونُ تَمَكُّنُهُ مِنْ الْأَخْذِ فِي الْحَالِ بِأَنْ يُؤَدِّيَ الثَّمَنَ حَالًّا جَوَابًا عَنْ ذَلِكَ، وَالْحَقُّ أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُ الْمُصَنَّفِ وَهُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْ الْأَخْذِ فِي الْحَالِ إلَخْ عَلَى تَتْمِيمِ دَلِيلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ بِأَنْ يُجْعَلَ دَلِيلًا بِحَسْبِ الْمَعْنَى عَلَى ثُبُوتِ حَقِّ الشُّفْعَةِ لَهُ بِالْبَيْعِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ تَقْرِيرُ صَاحِبِ الْكَافِي وَكَثِيرٍ مِنْ الشُّرَّاحِ أَخْذًا مِنْ الْمَبْسُوطِ حَيْثُ قَالُوا بَعْدَ ذِكْرِ وَجْهِ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخِرِ: وَجْهٌ ظَاهِرٌ
قِيمَةِ الْخَمْرِ لِعَجْزِهِ عَنْ تَمْلِيكِ الْخَمْرِ وَبِالْإِسْلَامِ يَتَأَكَّدُ حَقُّهُ لَا أَنْ يَبْطُلَ، فَصَارَ كَمَا إذَا اشْتَرَاهَا بِكُرٍّ مِنْ رُطَبٍ فَحَضَرَ الشَّفِيعُ بَعْدَ انْقِطَاعِهِ يَأْخُذُ بِقِيمَةِ الرُّطَبِ كَذَا هَذَا.
فَصْلٌ
قَالَ (وَإِذَا بَنَى الْمُشْتَرِي فِيهَا أَوْ غَرَسَ ثُمَّ قُضِيَ لِلشَّفِيعِ بِالشُّفْعَةِ فَهُوَ بِالْخِيَارِ، إنْ شَاءَ أَخَذَهَا بِالثَّمَنِ وَقِيمَةِ الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ، وَإِنْ شَاءَ كَلَّفَ الْمُشْتَرِيَ قَلْعَهُ) وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يُكَلَّفُ الْقَلْعَ وَيُخَيَّرُ بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ بِالثَّمَنِ وَقِيمَةِ الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ وَبَيْنَ أَنْ يَتْرُكَ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، إلَّا أَنَّ عِنْدَهُ لَهُ أَنْ يُقْلِعَ وَيُعْطِي قِيمَةَ الْبِنَاءِ لِأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ مُحِقٌّ فِي الْبِنَاءِ لِأَنَّهُ بَنَاهُ عَلَى أَنَّ الدَّارَ مِلْكُهُ، وَالتَّكْلِيفُ بِالْقَلْعِ مِنْ أَحْكَامِ الْعُدْوَانِ وَصَارَ كَالْمَوْهُوبِ لَهُ وَالْمُشْتَرِي شِرَاءً فَاسِدًا، وَكَمَا إذَا زَرَعَ الْمُشْتَرِي فَإِنَّهُ لَا يُكَلَّفُ الْقَلْعَ، وَهَذَا لِأَنَّ فِي إيجَابِ الْأَخْذِ بِالْقِيمَةِ دَفْعَ أَعْلَى الضَّرَرَيْنِ بِتَحَمُّلِ الْأَدْنَى فَيُصَارَ إلَيْهِ وَوَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ بَنَى فِي مَحِلٍّ تَعَلَّقَ بِهِ حَقٌّ مُتَأَكِّدٌ لِلْغَيْرِ
الرِّوَايَةِ أَنَّ حَقَّهُ فِي الشُّفْعَةِ قَدْ ثَبَتَ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ أَخَذَ بِثَمَنٍ حَالٍّ كَانَ لَهُ ذَلِكَ، وَالسُّكُوتُ عَنْ الطَّلَبِ بَعْدَ ثُبُوتِ حَقِّهِ مُبْطِلٌ شُفْعَتَهُ. انْتَهَى تَبَصَّرْ.
(فَصْلٌ)
مَسَائِلُ هَذَا الْفَصْلِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى تَغَيُّرِ الْمَشْفُوعِ إمَّا بِالزِّيَادَةِ أَوْ بِالنُّقْصَانِ بِنَفْسِهِ أَوْ بِفِعْلِ الْغَيْرِ، فَلَمَّا كَانَ الْمُتَغَيِّرُ فَرْعًا عَلَى غَيْرِ الْمُتَغَيِّرِ كَانَ جَدِيرًا بِالتَّأْخِيرِ فِي فَصْلٍ عَلَى حِدَةٍ
(قَوْلُهُ وَهَذَا لِأَنَّ فِي إيجَابِ الْأَخْذِ بِالْقِيمَةِ دَفْعَ أَعْلَى الضَّرَرَيْنِ بِتَحَمُّلِ الْأَدْنَى فَيُصَارَ إلَيْهِ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ وَهَذَا: أَيْ وَهَذَا الْمُدَّعِي الَّذِي قُلْنَا وَهُوَ أَنْ لَا يُكَلَّفَ الْمُشْتَرِي بِقَلْعِ
مِنْ غَيْرِ تَسْلِيطٍ مِنْ جِهَةِ مَنْ لَهُ الْحَقُّ فَيُنْقَضُ كَالرَّاهِنِ إذَا بَنَى فِي الْمَرْهُونِ، وَهَذَا لِأَنَّ حَقَّهُ أَقْوَى مِنْ حَقِّ الْمُشْتَرِي لِأَنَّهُ يَتَقَدَّمُ عَلَيْهِ وَهَذَا يَنْقُضُ بَيْعَهُ وَهِبَتَهُ وَغَيْرَهُ مِنْ تَصَرُّفَاتِهِ، بِخِلَافِ الْهِبَةِ وَالشِّرَاءِ الْفَاسِدِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، لِأَنَّهُ
الْبِنَاءِ انْتَهَى وَبِذَلِكَ الْمَعْنَى فَسَّرَهُ سَائِرُ الشُّرَّاحِ أَيْضًا وَلَكِنْ بِعِبَارَاتٍ شَتَّى فَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: أَيْ مَا قُلْنَا إنَّهُ لَا يُكَلَّفُ، وَقَالَ صَاحِبُ الْكِفَايَةِ: أَيْ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ إنَّهُ لَا يُكَلَّفُ الْمُشْتَرِي قَلْعَ الْبِنَاءِ وَقَالَ صَاحِبُ مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ: أَيْ الْقَوْلُ بِعَدَمِ إيجَابِ الْقَلْعِ وَوُجُوبِ قِيمَةِ الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ وَقَالَ الشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ: أَيْ مَا قُلْنَا مِنْ عَدَمِ إيجَابِ الْقَلْعِ وَوُجُوبِ قِيمَةِ الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ. أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: قَدْ تَلَخَّصَ مِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ: أَيْ الْمُشَارِ إلَيْهِ بِكَلِمَةِ هَذَا فِي قَوْلِهِ (وَهَذَا لِأَنَّ فِي إيجَابِ الْأَخْذِ بِالْقِيمَةِ إلَخْ) أَصْلُ مُدَّعَى أَبِي يُوسُفَ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ (لِأَنَّ فِي إيجَابِ الْأَخْذِ بِالْقِيمَةِ إلَخْ) دَلِيلًا عَلَيْهِ، فَيَنْبَغِيَ أَنْ يَقُولَ: وَلِأَنَّ فِي إيجَابِ الْأَخْذِ بِالْقِيمَةِ إلَخْ عَلَى مَا هُوَ الطَّرِيقُ الْمَعْهُودَةُ عِنْدَ تَعَدُّدِ الْأَدِلَّةِ وَالْجَوَابُ أَنَّ مِنْ عَادَةِ الْمُصَنِّفِ فِي كِتَابِهِ هَذَا أَنَّهُ إذَا أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ لَمِّيَّةَ مَسْأَلَةٍ بَعْدَ بَيَانِ إنِّيَّتِهَا سَلَكَ هَذَا الْمَسْلَكَ إيمَاءً إلَى أَنَّ مُفَادَ الدَّلِيلَيْنِ مُخْتَلِفٌ مِنْ حَيْثُ الْإِنِّيَّةُ وَاللَّمِّيَّةُ وَإِنْ كَانَ أَصْلُ الْمُدَّعَى وَاحِدًا وَكَأَنَّهُمَا صَارَا دَلِيلَيْنِ عَلَى شَيْئَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فَلِيَكُنْ هَذَا عَلَى ذِكْرٍ مِنْك فَإِنَّهُ يَنْفَعُك فِي مَوَارِدِهَا وَقَدْ كُنْت نَبَّهْت عَلَيْهِ مِنْ قَبْلُ أَيْضًا فَلَا تَغْفُلْ
(قَوْلُهُ وَهَذَا لِأَنَّ حَقَّهُ أَقْوَى مِنْ حَقِّ الْمُشْتَرِي لِأَنَّهُ يَتَقَدَّمُ عَلَيْهِ) أَقُولُ: هُنَا كَلَامٌ، وَهُوَ أَنَّ الْمُصَنِّفَ قَالَ قَبْلَ بَابِ طَلَبِ الشُّفْعَةِ فِي تَعْلِيلِ قَوْلِهِ تَمَلَّكَ بِالْأَخْذِ إذَا سَلَّمَهَا الْمُشْتَرِي أَوْ حَكَمَ بِهِمَا حَاكِمٌ، لِأَنَّ الْمِلْكَ لِلْمُشْتَرِي قَدْ يَنْتَقِلُ إلَى الشَّفِيعِ إلَّا بِالتَّرَاضِي أَوْ بِقَضَاءِ الْقَاضِي وَبَيَّنَ ذَاكَ وَمَا قَالَ هُنَا تَدَافَعَ، فَإِنَّ الْمُتَفَهَّمَ فِيمَا ذَكَرَهُ هُنَاكَ تَقَدُّمُ الْمُشْتَرِي عَلَى الشَّفِيعِ حَيْثُ يَثْبُتُ الْمِلْكُ أَوَّلًا لِلْمُشْتَرِي ثُمَّ يَثْبُتُ مِنْهُ إلَى الشَّفِيعِ بِالتَّرَاضِي أَوْ بِقَضَاءِ الْقَاضِي، وَمَا ذَكَرَهُ هُنَا صَرِيحٌ فِي تَقَدُّمِ الشَّفِيعِ عَلَى الْمُشْتَرِي فَمَا التَّوْفِيقُ؟. وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ بِمَا ذَكَرَهُ هَاهُنَا تَقَدُّمُ الشَّفِيعِ عَلَى الْمُشْتَرِي فِي الِاسْتِحْقَاقِ، وَبِمَا ذَكَرَهُ هُنَاكَ تَقَدُّمُ الْمُشْتَرِي عَلَى الشَّفِيعِ فِي الْمِلْكِ، وَالتَّمَلُّكُ مُغَايِرٌ لِلِاسْتِحْقَاقِ وَمُؤَخَّرٌ عَنْهُ، إذْ قَدْ تَقَرَّرَ فِيمَا قَبْلَ بَابِ طَلَبِ الشُّفْعَةِ أَنَّ لِلشُّفْعَةِ أَحْوَالًا ثَلَاثَةً: الِاسْتِحْقَاقُ، وَالِاسْتِقْرَارُ، وَالتَّمَلُّكُ، وَأَنَّ الْأَوَّلَ يَثْبُتُ بِاتِّصَالِ الْمِلْكِ لِشَرْطِ الْبَيْعِ، وَالثَّانِيَ بِالْإِشْهَادِ، وَالثَّالِثَ بِالْأَخْذِ بِالتَّرَاضِي أَوْ بِقَضَاءِ الْقَاضِي، فَلَا تَدَافُعَ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ فِي الْمَقَامَيْنِ إذْ كَوْنُ الشَّفِيعِ أَقْدَمَ فِي الِاسْتِحْقَاقِ لَا يُنَافِي كَوْنَ الْمُشْتَرِي أَقْدَمَ فِي التَّمَلُّكِ كَمَا لَا يَخْفَى
(قَوْلُهُ بِخِلَافِ الْهِبَةِ وَبِخِلَافِ الشِّرَاءِ الْفَاسِدِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الشُّرَّاحِ: إنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ بِخِلَافِ الْهِبَةِ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ مِنْ غَيْرِ تَسْلِيطٍ مِنْ جِهَةِ مَنْ لَهُ الْحَقُّ، فَإِنَّ فِيهَا تَسْلِيطًا مِنْ جِهَتِهِ أَقُولُ: فِيهِ بَحْثٌ، لِأَنَّ الْمُصَنِّفَ عَلَّلَ الْخِلَافَ الْمَذْكُورَ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا قَوْلُهُ لِأَنَّهُ حَصَلَ بِتَسْلِيطٍ مِنْ جِهَةِ مَنْ لَهُ الْحَقُّ وَثَانِيهِمَا قَوْلُهُ وَلِأَنَّ حَقَّ الِاسْتِرْدَادِ فِيهِمَا ضَعِيفٌ، فَلَوْ كَانَ قَوْلُهُ بِخِلَافِ الْهِبَةِ مُتَّصِلًا بِمَا ذَكَرَهُ هَؤُلَاءِ الشُّرَّاحُ لَمَا صَحَّ تَعْلِيلُ الْخِلَافِ الْمَذْكُورِ بِالْوَجْهِ الثَّانِي لِأَنَّهُ إنْ كَانَتْ عِلَّةُ كَوْنِ حَقِّ الِاسْتِرْدَادِ فِيهِمَا ضَعِيفًا وَكَوْنِ التَّسْلِيطِ فِيهِمَا مِنْ جِهَةِ مَنْ لَهُ الْحَقُّ كَانَ رَاجِعًا إلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فَلَا مَعْنَى لِجَعْلِهِ وَجْهًا آخَرَ مَعْطُوفًا عَلَى الْأَوَّلِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ عِلَّةُ ذَلِكَ كَوْنَ التَّسْلِيطِ فِيهِمَا مِنْ جِهَةِ مَنْ لَهُ الْحَقُّ فَلَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ تَعْلِيلًا لِلْخِلَافِ الْمُتَّصِلِ بِقَوْلِهِ مِنْ غَيْرِ تَسْلِيطٍ مِنْ جِهَةِ مَنْ لَهُ الْحَقُّ فَالْحَقُّ عِنْدِي أَنَّ قَوْلَهُ بِخِلَافِ الْهِبَةِ إلَخْ مُتَّصِلٌ بِمَجْمُوعِ مَا ذُكِرَ مِنْ وَجْهِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ فَالْمَعْنَى أَنَّ مَضْمُونَ هَذَا الْوَجْهِ مُلَابِسٌ بِخِلَافِ الْهِبَةِ وَبِخِلَافِ الشِّرَاءِ الْفَاسِدِ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ التَّعْلِيلُ بِقَوْلِهِ لِأَنَّهُ حَصَلَ بِتَسْلِيطٍ مِنْ جِهَةِ مَنْ لَهُ الْحَقُّ نَاظِرًا إلَى قَوْلِهِ فِي وَجْهِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ مِنْ غَيْرِ تَسْلِيطٍ مِنْ جِهَةِ مَنْ لَهُ الْحَقُّ، وَيَكُونُ
حَصَلَ بِتَسْلِيطٍ مِنْ جِهَةِ مَنْ لَهُ الْحَقُّ، وَلِأَنَّ حَقَّ الِاسْتِرْدَادِ فِيهِمَا ضَعِيفٌ وَلِهَذَا لَا يَبْقَى بَعْدَ الْبِنَاءِ، وَهَذَا الْحَقُّ يَبْقَى فَلَا مَعْنَى لِإِيجَابِ الْقِيمَةِ كَمَا فِي الِاسْتِحْقَاقِ، وَالزَّرْعُ يُقْلَعُ قِيَاسًا.
التَّعْلِيلُ بِقَوْلِهِ وَلِأَنَّ حَقَّ الِاسْتِرْدَادِ فِيهِمَا ضَعِيفٌ نَاظِرًا إلَى قَوْلِهِ فِيهِ لِأَنَّ حَقَّهُ أَقْوَى مِنْ حَقِّ الْمُشْتَرِي فَيَتِمُّ التَّعْلِيلَانِ مَعًا بِلَا غُبَارٍ وَقَالَ جُمْهُورُ الشُّرَّاحِ: إنَّمَا قَيَّدَ بِقَوْلِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله لِأَنَّ عَدَمَ جَوَازِ الِاسْتِرْدَادِ وَالْبَائِعِ فِي الشِّرَاءِ الْفَاسِدِ إذَا بَنَى الْمُشْتَرِي فِيمَا اشْتَرَاهُ إنَّمَا هُوَ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَلَهُ الِاسْتِرْدَادُ بَعْدَ الْبِنَاءِ كَالشَّفِيعِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ انْتَهَى.
أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إذَا جَازَ عِنْدَهُمَا الِاسْتِرْدَادُ بَعْدَ الْبِنَاءِ فِي الشِّرَاءِ الْفَاسِدِ أَيْضًا فَكَيْفَ يَتِمُّ قِيَاسُ أَبِي يُوسُفَ فِي دَلِيلِهِ الْمَذْكُورِ فِي مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ بِقَوْلِهِ وَصَارَ كَالْمَوْهُوبِ لَهُ وَالْمُشْتَرِي شِرَاءً فَاسِدًا، فَإِنَّ جَوَازَ الِاسْتِرْدَادِ فِي الشِّرَاءِ الْفَاسِدِ يُنَافِي قِيَاسَ الْمُشْتَرِي فِي مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ عَلَى الْمُشْتَرِي شِرَاءً فَاسِدًا فِي أَنَّهُ لَا يُكَلَّفُ الْقَلْعُ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَبِي يُوسُفَ هُنَا فَإِنْ قُلْت: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ بِقَوْلِهِ وَالْمُشْتَرِي شِرَاءً فَاسِدًا فِي دَلِيلِهِ الْمَذْكُورِ مُجَرَّدُ الِاحْتِجَاجِ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ بِمَذْهَبِهِ فِي الشِّرَاءِ الْفَاسِدِ كَمَا أَفْصَحَ عَنْهُ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ حَيْثُ قَالَ فِي شَرْحِ قَوْلِهِ وَالْمُشْتَرِي شِرَاءً فَاسِدًا: هَذَا احْتِجَاجٌ مِنْ أَبِي يُوسُفَ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ بِمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ قُلْت: ذَلِكَ بَعِيدٌ عَنْ عِبَارَةِ الْكِتَابِ جِدًّا لِأَنَّ قِيَاسَهُ الْمَزْبُورُ لَمْ يُذْكَرْ بِصَدَدِ الْجَوَابِ عَمَّا قَالَهُ صَاحِبَاهُ، بَلْ ذُكِرَ بِصَدَدِ إثْبَاتِ مُدَّعَاهُ، فَكَيْفَ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ لِمُجَرَّدِ الِاحْتِجَاجِ عَلَى الْخَصْمِ سِيَّمَا عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ فَقَطْ مِنْ مَذْهَبِهِ فِي الشِّرَاءِ الْفَاسِدِ ثُمَّ أَقُولُ: الْأَوْجَهُ فِي التَّوْجِيهِ أَنْ يُقَالَ: إنَّ لِأَبِي يُوسُفَ فِي الْبِنَاءِ بَعْدَ الشِّرَاءِ الْفَاسِدِ قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ لِلْبَائِعِ حَقَّ اسْتِرْدَادِ الْمَبِيعِ بَعْدَ ذَلِكَ وَقَدْ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي فَصْلِ أَحْكَامِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ مِنْ كِتَابِ الْبُيُوعِ.
وَثَانِيهِمَا: أَنَّهُ لَيْسَ لِلْبَائِعِ ذَلِكَ كَمَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَقَدْ نَقَلَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ هُنَاكَ عَنْ الْإِيضَاحِ حَيْثُ قَالَ: وَذَكَرَ فِي الْإِيضَاحِ أَنَّ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ هَذَا قَوْلُهُ الْأَوَّلُ وَقَوْلُهُ آخِرًا مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ اهـ وَكَذَا لِأَبِي يُوسُفَ فِي مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يُكَلَّفُ الْقَلْعُ إلَخْ، وَهَذَا مَا رَوَاهُ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ وَثَانِيهِمَا مِثْلُ مَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ بِأَنْ قَالَ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَهَا بِالثَّمَنِ وَقِيمَةِ الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ، وَإِنْ شَاءَ كَلَّفَ الْمُشْتَرِيَ قَلْعَهُ، وَهَذَا رِوَايَةُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَرِوَايَةُ ابْنِ سِمَاعَةَ وَبِشْرِ بْنِ الْوَلِيدِ وَعَلِيِّ بْنِ الْجَعْدِ وَالْحَسَنِ بْنِ أَبِي مَالِكٍ عَنْهُ، صَرَّحَ بِذَلِكَ كُلِّهُ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ وَذَكَرَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ: وَإِذَا قَدْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قِيَاسُ أَبِي يُوسُفَ بِقَوْلِهِ وَالْمُشْتَرِي شِرَاءً فَاسِدًا فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَبْنِيًّا عَلَى قَوْلِهِ الْآخَرِ مِنْ قَوْلَيْهِ فِي مَسْأَلَةِ الْبِنَاءِ بَعْدَ الشِّرَاءِ الْفَاسِدِ، وَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ لِلْبَائِعِ حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ كَمَا هُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فِيهَا، وَيَكُونَ تَقْيِيدُ الْمُصَنِّفِ قَوْلَهُ وَبِخِلَافِ الشِّرَاءِ الْفَاسِدِ بِقَوْلِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ احْتِرَازًا عَنْ قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَعَنْ أَحَدِ قَوْلَيْ أَبِي يُوسُفَ فِيهَا وَهُوَ قَوْلُهُ الْأَوَّلُ كَمَا عَرَفْت فَتَدَبَّرْ
(قَوْلُهُ وَلِهَذَا لَا يَبْقَى بَعْدَ الْبِنَاءِ وَهَذَا الْحَقُّ يَبْقَى) قَالَ صَاحِبُ
وَإِنَّمَا لَا يُقْلَعُ اسْتِحْسَانًا لِأَنَّ لَهُ نِهَايَةً مَعْلُومَةً وَيَبْقَى بِالْأَجْرِ وَلَيْسَ فِيهِ كَثِيرُ ضَرَرٍ، وَإِنْ أَخَذَهُ بِالْقِيمَةِ يَعْتَبِرُ قِيمَتَهُ مَقْلُوعًا كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي الْغَصْبِ (وَلَوْ أَخَذَهَا الشَّفِيعُ فَبَنَى فِيهَا أَوْ غَرَسَ ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ رَجَعَ بِالثَّمَنِ) لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَخَذَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ وَلَا يَرْجِعُ بِقِيمَةِ الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ، لَا عَلَى الْبَائِعِ إنْ أَخَذَهَا مِنْهُ، وَلَا عَلَى الْمُشْتَرِي إنْ أَخَذَهَا مِنْهُ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَرْجِعُ لِأَنَّهُ مُتَمَلِّكٌ عَلَيْهِ فَنَزَلَا مَنْزِلَةَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي، وَالْفَرْقُ عَلَى مَا هُوَ الْمَشْهُورُ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ مَغْرُورٌ مِنْ جِهَةِ الْبَائِعِ وَمُسَلَّطٌ عَلَيْهِ مِنْ جِهَتِهِ، وَلَا غُرُورَ وَلَا تَسْلِيطَ فِي حَقِّ الشَّفِيعِ مِنْ الْمُشْتَرِي لِأَنَّهُ مَجْبُورٌ عَلَيْهِ
غَايَةِ الْبَيَانِ: هَذَا إيضَاحٌ لِضَعْفِ حَقِّ الِاسْتِرْدَادِ فِي الْهِبَةِ وَالشِّرَاءِ الْفَاسِدِ، وَلَكِنْ فِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الِاسْتِرْدَادَ بَعْدَ الْبِنَاءِ فِي الشِّرَاءِ الْفَاسِدِ إنَّمَا لَا يَبْقَى عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ لَا عَلَى مَذْهَبِ أَبِي يُوسُفَ فَكَيْفَ يُحْتَجُّ بِمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى صِحَّةِ مَذْهَبِهِ، وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنْ يَقُولَ: هَذَا مَذْهَبُك لَا مَذْهَبِي، وَعِنْدِي حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ بَعْدَ الْبِنَاءِ بَاقٍ فِي الشِّرَاءِ الْفَاسِدِ اهـ.
أَقُولُ: نَظَرُهُ سَاقِطٌ جِدًّا، لِأَنَّ هَذَا الْإِيضَاحَ مِنْ مُتَفَرِّعَاتِ قَوْلِهِ بِخِلَافِ الْهِبَةِ وَبِخِلَافِ الشِّرَاءِ الْفَاسِدِ، وَقَوْلُهُ ذَلِكَ جَوَابٌ عَنْ قِيَاسِ أَبِي يُوسُفَ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ وَالْمُشْتَرِي شِرَاءً فَاسِدًا كَمَا صَرَّحَ بِهِ ذَلِكَ النَّاظِرُ وَغَيْرُهُ، وَقِيَاسُهُ عَلَى الْمُشْتَرِي شِرَاءً فَاسِدًا إنَّمَا يَتِمُّ عَلَى الْقَوْلِ بِعَدَمِ بَقَاءِ حَقِّ الِاسْتِرْدَادِ لِلْبَائِعِ بَعْدَ أَنْ بَنَى الْمُشْتَرِي شِرَاءً فَاسِدًا، فَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ بِقِيَاسِهِ الْمَذْكُورِ إثْبَاتَ مُدَّعَاهُ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ عِبَارَةِ الْكِتَابِ عَلَى مَا نَبَّهْنَا عَلَيْهِ مِنْ قَبْلُ كَانَ قِيَاسُهُ الْمَذْكُورُ مَبْنِيًّا عَلَى قَوْلِهِ الْآخَرِ فِي مَسْأَلَةِ الِاسْتِرْدَادِ وَهُوَ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقُولَ هَذَا مَذْهَبُك لَا مَذْهَبِي، وَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ بِقِيَاسِهِ الْمَذْكُورِ مُجَرَّدَ الِاحْتِجَاجِ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ بِمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ ذَلِكَ النَّاظِرُ فِي شَرْحِ ذَاكَ الْمَقَامِ، فَلَا شَكَّ فِي انْدِفَاعِ الِاحْتِجَاجِ عَلَيْهِ بِمَا ذَكَرَهُ مِنْ الْفَرْقِ وَالْإِيضَاحِ عَلَى مَذْهَبِهِ، فَلَا مَعْنَى لِقَوْلِ ذَلِكَ النَّاظِرِ فَكَيْفَ يُحْتَجُّ بِمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى صِحَّةِ مَذْهَبِهِ وَأَجَابَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ عَنْ النَّظَرِ الْمَزْبُورِ بِوَجْهَيْنِ آخَرَيْنِ حَيْثُ قَالَ: قِيلَ فِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الِاسْتِرْدَادَ بَعْدَ الْبِنَاءِ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ إنَّمَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ فَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ لَا يَصِحُّ وَالْجَوَابُ أَنَّهُ يَكُونُ عَلَى غَيْرِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَوْ لِأَنَّهُ كَانَ ثَابِتًا بِدَلِيلٍ ظَاهِرٍ لَمْ يُعْتَبَرْ بِخِلَافِهِمَا اهـ كَلَامُهُ.
أَقُولُ: فِي كُلٍّ مِنْ وَجْهَيْ الْجَوَابِ نَظَرٌ أَمَّا فِي الْأَوَّلِ فَلِأَنَّ الْمُصَنِّفَ بِصَدَدِ بَيَانِ وَجْهِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ كَمَا تَرَى فَلَا مَجَالَ لِحَمْلِ كَلَامِهِ الْمَذْكُورِ فِي ذَلِكَ الصَّدَدِ عَلَى غَيْرِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَأَمَّا فِي الثَّانِي فَلِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الدَّلِيلَ الظَّاهِرَ الَّذِي كَانَ عَدَمُ بَقَاءِ حَقِّ الِاسْتِرْدَادِ بَعْدَ الْبِنَاءِ فِي الشِّرَاءِ الْفَاسِدِ ثَابِتًا بِهِ إنَّمَا هُوَ حُصُولُ ذَلِكَ الشِّرَاءِ بِتَسْلِيطٍ مِنْ جِهَةِ مَنْ لَهُ الْحَقُّ وَهُوَ الْبَائِعُ كَمَا فِي الْبَيْعِ الصَّحِيحِ فَإِنَّهُ الْمَذْكُورُ دَلِيلًا عَلَى ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ دُونَ غَيْرِهِ، وَقَدْ جَعَلَهُ الْمُصَنِّفُ هَاهُنَا دَلِيلًا أَوَّلًا فَكَيْفَ يَبْتَنِي عَلَيْهِ تَمَامُ الدَّلِيلِ الثَّانِي الَّذِي كَلَامُنَا فِيهِ، تَبَصَّرْ تَفْهَمْ
(قَوْلُهُ وَالْفَرْقُ عَلَى مَا هُوَ الْمَشْهُورُ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ مَغْرُورٌ مِنْ جِهَةِ الْبَائِعِ وَمُسَلَّطٌ عَلَيْهِ، وَلَا تَسْلِيطَ وَلَا غُرُورَ فِي حَقِّ الشَّفِيعِ مِنْ الْمُشْتَرِي لِأَنَّهُ مَجْبُورٌ عَلَيْهِ) أَقُولُ: كَانَ الْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: وَلَا غُرُورَ وَلَا تَسْلِيطَ فِي حَقِّ الشَّفِيعِ لَا مِنْ الْبَائِعِ وَلَا مِنْ الْمُشْتَرِي. L
قَالَ (وَإِذَا انْهَدَمَتْ الدَّارُ أَوْ احْتَرَقَ بِنَاؤُهَا أَوْ جَفَّ شَجَرُ الْبُسْتَانِ بِغَيْرِ فِعْلِ أَحَدٍ فَالشَّفِيعُ بِالْخِيَارِ، إنْ شَاءَ أَخَذَهَا بِجَمِيعِ الثَّمَنِ) لِأَنَّ الْبِنَاءَ وَالْغَرْسَ تَابِعٌ حَتَّى دَخَلَا فِي الْبَيْعِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرٍ فَلَا يُقَابِلُهُمَا شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ مَا لَمْ يَصِرْ مَقْصُودًا وَلِهَذَا جَازَ بَيْعُهَا مُرَابَحَةً بِكُلِّ الثَّمَنِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، بِخِلَافِ مَا إذَا غَرِقَ نِصْفُ الْأَرْضِ حَيْثُ يَأْخُذُ الْبَاقِيَ بِحِصَّتِهِ لِأَنَّ الْفَائِتَ بَعْضُ الْأَصْلِ قَالَ.
(وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ) لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ عَنْ تَمَلُّكِ الدَّارِ بِمَالِهِ قَالَ (وَإِنْ نَقَضَ الْمُشْتَرِي الْبِنَاءَ قِيلَ لِلشَّفِيعِ إنْ شِئْت فَخُذْ الْعَرْصَةَ بِحِصَّتِهَا، وَإِنْ شِئْت فَدَعْ) لِأَنَّهُ صَارَ مَقْصُودًا بِالْإِتْلَافِ فَيُقَابِلُهُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْهَلَاكَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ (وَلَيْسَ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ النَّقْضَ) لِأَنَّهُ صَارَ مَفْصُولًا فَلَمْ يَبْقَ تَبَعًا قَالَ (وَمَنْ ابْتَاعَ أَرْضًا وَعَلَى نَخْلِهَا ثَمَرٌ أَخَذَهَا الشَّفِيعُ بِثَمَرِهَا) وَمَعْنَاهُ إذَا ذُكِرَ الثَّمَرُ فِي الْبَيْعِ لِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ مِنْ غَيْرِ ذِكْرٍ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ اسْتِحْسَانٌ وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَأْخُذُهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ يُتْبَعُ؛ أَلَا يَرَى أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرٍ فَأَشْبَهَ الْمَتَاعَ فِي الدَّارِ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ بِاعْتِبَارِ الِاتِّصَالِ صَارَ تَبَعًا لِلْعَقَارِ كَالْبِنَاءِ فِي الدَّارِ، وَمَا كَانَ مُرَكَّبًا فِيهِ فَيَأْخُذُهُ الشَّفِيعُ قَالَ (وَكَذَلِكَ إنْ ابْتَاعَهَا وَلَيْسَ فِي النَّخِيلِ ثَمَرٌ فَأَثْمَرَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي) يَعْنِي يَأْخُذُهُ الشَّفِيعُ لِأَنَّهُ مَبِيعٌ تَبَعًا لِأَنَّ الْبَيْعَ سَرَى إلَيْهِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي وَلَدِ الْمَبِيعِ قَالَ (فَإِنْ جَدَّهُ الْمُشْتَرِي ثُمَّ جَاءَ الشَّفِيعُ لَا يَأْخُذُ الثَّمَرَ فِي الْفَصْلَيْنِ جَمِيعًا) لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ تَبَعًا لِلْعَقَارِ وَقْتَ الْأَخْذِ حَيْثُ صَارَ مَفْصُولًا عَنْهُ فَلَا يَأْخُذُهُ
لِيَعُمَّ مَا أَخَذَ مِنْ الْبَائِعِ وَمَا أَخَذَهُ مِنْ الْمُشْتَرِي وَيُطَابِقُ قَوْلَهُ فِيمَا قَبْلُ، وَلَا يَرْجِعُ بِقِيمَةِ الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ لَا عَلَى الْبَائِعِ إنْ أَخَذَ مِنْهُ، وَلَا عَلَى الْمُشْتَرِي إنْ أَخَذَ مِنْهُ وَعَنْ هَذَا قَالَ فِي الْكَافِي: وَلَا غُرُورَ فِي حَقِّ الشَّفِيعِ لِأَنَّهُ تَمَلَّكَ عَنْ صَاحِبِ الْيَدِ جَبْرًا بِغَيْرِ اخْتِيَارٍ مِنْهُ وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ نَقْلًا عَنْ الْمَبْسُوطِ: وَلَا غُرُورَ فِي حَقِّ الشَّفِيعِ لَا مِنْ جَانِبِ الْبَائِعِ وَلَا مِنْ جَانِبِ الْمُشْتَرِي لِأَنَّهُ تَمَلُّكٌ عَنْ صَاحِبِ الْيَدِ جَبْرًا مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ فَلَا يَرْجِعُ اهـ.
وَرَدَّ صَاحِبُ الْإِصْلَاحِ وَالْإِيضَاحِ التَّعْلِيلَ بِالْأَخْذِ جَبْرًا حَيْثُ قَالَ: إنَّمَا لَا يَرْجِعُ بِقِيمَةِ الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ عَلَى أَحَدٍ، لَا لِأَنَّهُ أُخِذَ جَبْرًا لِأَنَّهُ لَا يَتَمَشَّى فِيمَا أُخِذَ بِالتَّرَاضِي، بَلْ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَغْرُورٍ،، وَالْمُشْتَرِي إنَّمَا يَرْجِعُ عَلَى الْبَائِعِ لِأَنَّهُ مَغْرُورٌ مِنْ جِهَتِهِ أَقُولُ: لَيْسَ ذَلِكَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّ قَيْدَ الْجَبْرِ مَأْخُوذٌ فِي تَعْرِيفِ الشُّفْعَةِ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي عَامَّةِ الْكُتُبِ، حَتَّى أَنَّ ذَلِكَ الرَّادَّ نَفْسَهُ أَيْضًا أَخَذَ ذَاكَ الْقَيْدَ فِي تَعْرِيفِهَا حَيْثُ قَالَ فِي مَتْنِهِ: الشُّفْعَةُ تَمَلُّكُ مَبِيعِ عَقَارٍ جَبْرًا بِمِثْلِ ثَمَنِهِ، وَفَسَّرَ فِي شَرْحِهِ قُيِّدَ جَبْرًا بِمَعْنَى يَعُمُّ صُورَةَ الْأَخْذِ بِالتَّرَاضِي أَيْضًا حَيْثُ قَالَ: يَعْنِي لَا يُعْتَبَرُ اخْتِيَارُهُ لَا أَنَّهُ يُعْتَبَرُ عَدَمُ اخْتِيَارِهِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ تَوْجِيهَهُ هُنَاكَ هُوَ التَّوْجِيهُ هَاهُنَا، وَلَا يُخِلُّ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْمُشْتَرِي مَعَ الْبَائِعِ وَبَيْنَ الشَّفِيعِ مَعَ خَصْمِهِ لِتَمَامِ ذَلِكَ الْفَرْقِ بِاعْتِبَارِ الِاخْتِيَارِ فِي الْأَوَّلِ وَعَدَمِ اعْتِبَارِهِ فِي الثَّانِي، وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى اعْتِبَارِ الِاخْتِيَارِ فِي الْأَوَّلِ وَاعْتِبَارِ عَدَمِهِ فِي الثَّانِي
قَالَ فِي الْكِتَابِ (وَإِنْ جَدّه الْمُشْتَرِي سَقَطَ عَنْ الشَّفِيعِ حِصَّتُهُ) قَالَ رضي الله عنه (وَهَذَا جَوَابُ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ) لِأَنَّهُ دَخَلَ فِي الْبَيْعِ مَقْصُودًا فَيُقَابِلُهُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ (أَمَّا فِي الْفَصْلِ الثَّانِي يَأْخُذُ مَا سِوَى الثَّمَرِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ) لِأَنَّ الثَّمَرَ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا عِنْدَ الْعَقْدِ فَلَا يَكُونُ مَبِيعًا إلَّا تَبَعًا فَلَا يُقَابِلُهُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
بَابُ مَا تَجِبُ فِيهِ الشُّفْعَةُ وَمَا لَا تَجِبُ
قَالَ (الشُّفْعَةُ وَاجِبَةٌ فِي الْعَقَارِ وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُقْسَمُ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا شُفْعَةَ فِيمَا لَا يُقْسَمُ، لِأَنَّ الشُّفْعَةَ إنَّمَا وَجَبَتْ دَفْعًا لِمُؤْنَةِ الْقِسْمَةِ، وَهَذَا لَا يَتَحَقَّقُ فِيمَا لَا يُقْسَمُ وَلَنَا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «الشُّفْعَةُ فِي كُلِّ شَيْءٍ عَقَارٌ أَوْ رَبْعٌ» إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْعُمُومَاتِ، وَلِأَنَّ الشُّفْعَةَ سَبَبُهَا الِاتِّصَالُ فِي الْمِلْكِ وَالْحِكْمَةَ دَفْعُ ضَرَرِ سُوءِ الْجِوَارِ عَلَى
تَأَمَّلْ تَقِفْ. بَقِيَ شَيْءٌ فِي كَلَامِ صَاحِبِ الْإِصْلَاحِ وَالْإِيضَاحِ وَهُوَ أَنَّهُ نَفَى كَوْنَ مَدَارِ الْفَرْقِ الْجَبْرَ وَالِاخْتِيَارَ وَحَكَمَ بِأَنَّ مَدَارَهُ الْغُرُورُ وَعَدَمُ الْغُرُورِ، فَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إنْ كَانَ سَبَبُ الْغُرُورِ فِي الْمُشْتَرِي وَعَدَمُ الْغُرُورِ فِي الشَّفِيعِ كَوْنَ الْبَائِعِ مُخْتَارًا وَخَصْمِ الشَّفِيعِ مَجْبُورًا كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ تَقْرِيرِ الْمُصَنِّفِ يَلْزَمُ الْمَصِيرُ إلَى مَا نَفَاهُ.
وَإِنْ كَانَ سَبَبُهُمَا غَيْرَ ذَلِكَ فَهُوَ غَيْرُ وَاضِحٍ سِيَّمَا بَيْنَ الشَّفِيعِ الْآخِذِ بِرِضَا خَصْمِهِ وَبَيْنَ الْمُشْتَرِي مِنْ الْبَائِعِ وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ بِأَنْ يُقَالَ: سَبَبُ غُرُورِ الْمُشْتَرِي الْتِزَامُ الْبَائِعِ لَهُ سَلَامَةَ الْمَبِيعِ كَمَا يُشِيرُ إلَيْهِ تَقْرِيرُ صَاحِبِ النِّهَايَةِ حَيْثُ قَالَ: إنَّ الْمُشْتَرِيَ مَغْرُورٌ مِنْ جِهَةِ الْبَائِعِ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِالثَّمَنِ وَقِيمَةِ الْبِنَاءِ لِدَفْعِ الْغُرُورِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْبَائِعَ الْتَزَمَ لِلْمُشْتَرِي السَّلَامَةَ اهـ وَالظَّاهِرُ أَنَّ خَصْمَ الشَّفِيعِ وَإِنْ رَضِيَ بِأَخْذِهِ لَكِنْ لَمْ يَلْتَزِمْ لَهُ السَّلَامَةَ فَافْتَرَقَا، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ
(بَابُ مَا تَجِبُ فِيهِ الشُّفْعَةُ وَمَا لَا تَجِبُ) ذَكَرَ تَفْصِيلَ مَا تَجِبُ فِيهِ الشُّفْعَةُ وَمَا لَا تَجِبُ بَعْدَ ذِكْرِ نَفْسِ الْوُجُوبِ مُجْمَلًا، لِأَنَّ التَّفْصِيلَ بَعْدَ الْإِجْمَالِ كَذَا فِي الشُّرُوحِ
(قَوْلُهُ الشُّفْعَةُ وَاجِبَةٌ فِي الْعَقَارِ) قَالَ جُمْهُورُ الشُّرَّاحِ: الْعَقَارُ كُلُّ مَا لَهُ أَصْلٌ مِنْ دَارٍ أَوْ ضَيْعَةٍ أَقُولُ: تَفْسِيرُهُمْ الْعَقَارَ بِهَذَا الْوَجْهِ مِمَّا يَأْبَاهُ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ الْآتِي ذِكْرُهُ فِي تَعْلِيلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «الشُّفْعَةُ فِي كُلِّ شَيْءٍ عَقَارٌ أَوْ رَبْعٌ» لِأَنَّ الرَّبْعَ هُوَ الدَّارُ بِعَيْنِهَا كَمَا صُرِّحَ بِهِ فِي كُتُبِ اللُّغَةِ وَنَصَّ عَلَيْهِ الشُّرَّاحُ هَاهُنَا، وَقَدْ عَطَفَ ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ عَلَى الْعَقَارِ، وَالْعَطْفُ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ بَيْنَ الْمَعْطُوفَيْنِ فَكَيْفَ يَتَيَسَّرُ إدْرَاجُ الدَّارِ فِي مَعْنَى الْعَقَارِ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُجْعَلَ مَا فِي الْحَدِيثِ مِنْ قَبِيلِ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} لَكِنَّ النُّكْتَةَ فِيهِ غَيْرُ وَاضِحَةٍ،
مَا مَرَّ، وَأَنَّهُ يَنْتَظِمُ الْقِسْمَيْنِ مَا يُقْسَمُ وَمَا لَا يُقْسَمُ وَهُوَ الْحَمَّامُ وَالرَّحَى وَالْبِئْرُ وَالطَّرِيقُ.
قَالَ (وَلَا شُفْعَةَ فِي الْعُرُوضِ وَالسُّفُنِ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَا شُفْعَةَ إلَّا فِي رَبْعٍ أَوْ حَائِطٍ» وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى مَالِكٍ فِي إيجَابِهَا فِي السُّفُنِ، وَلِأَنَّ الشُّفْعَةَ إنَّمَا وَجَبَتْ لِدَفْعِ ضَرَرِ سُوءِ الْجِوَارِ عَلَى الدَّوَامِ، وَالْمِلْكُ فِي الْمَنْقُولِ لَا يَدُومُ حَسَبَ دَوَامِهِ فِي الْعَقَارِ فَلَا يُلْحَقُ بِهِ وَفِي بَعْضِ نُسَخِ الْمُخْتَصَرِ وَلَا شُفْعَةَ فِي الْبِنَاءِ وَالنَّخْلِ إذَا بِيعَتْ دُونَ الْعَرْصَةِ وَهُوَ صَحِيحٌ مَذْكُورٌ فِي الْأَصْلِ، لِأَنَّهُ لَا قَرَارَ لَهُ فَكَانَ نَقْلِيًّا، وَهَذَا بِخِلَافِ الْعُلُوِّ حَيْثُ يُسْتَحَقُّ بِالشُّفْعَةِ وَيُسْتَحَقُّ بِهِ الشُّفْعَةُ فِي السُّفْلِ إذَا لَمْ يَكُنْ طَرِيقُ الْعُلُوِّ فِيهِ، لِأَنَّهُ بِمَا لَهُ مِنْ حَقِّ الْقَرَارِ الْتَحَقَ بِالْعَقَارِ قَالَ (وَالْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ فِي الشُّفْعَةِ سَوَاءٌ) لِلْعُمُومَاتِ وَلِأَنَّهُمَا يَسْتَوِيَانِ فِي السَّبَبِ وَالْحِكْمَةِ فَيَسْتَوِيَانِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ، وَلِهَذَا يَسْتَوِي فِيهِ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى وَالصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ وَالْبَاغِي وَالْعَادِلُ وَالْحُرُّ وَالْعَبْدُ إذَا كَانَ مَأْذُونًا أَوْ مُكَاتَبًا
عَلَى أَنَّ عَطْفَ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ بِكَلِمَةٍ أَوْ مِمَّا لَمْ يُسْمَعْ قَطُّ ثُمَّ أَقُولُ: قَالَ الْإِمَامُ الْمُطَرِّزِيُّ فِي الْمُغْرِبِ: وَالْعَقَارُ الضَّيْعَةُ، وَقِيلَ كُلُّ مَالٍ لَهُ أَصْلٌ مِنْ دَارٍ أَوْ ضَيْعَةٍ اهـ فَلَعَلَّ مَا وَقَعَ فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ وَارِدٌ عَلَى أَوَّلِ التَّفْسِيرَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فِي الْمُغْرِبِ لِلْعَقَارِ وَهُوَ التَّفْسِيرُ الْمُخْتَارُ عِنْدَ صَاحِبِ الْمُغْرِبِ كَمَا يُشْعِرُ بِهِ تَحْرِيرُهُ، وَمَا ذَكَرَهُ جُمْهُورُ الشُّرَّاحِ هَاهُنَا مُطَابِقٌ لِلتَّفْسِيرِ الثَّانِي مِنْهُمَا، فَكَأَنَّهُمْ اخْتَارُوهُ هَاهُنَا لِكَوْنِهِ الْمُنَاسِبَ لِلْمَقَامِ مِنْ الشُّفْعَةِ كَمَا تَثْبُتُ فِي الضَّيْعَةِ تَثْبُتُ فِي الدَّارِ وَنَحْوِهَا أَيْضًا عَلَى مَا صَرَّحُوا بِهِ ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّهُ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ فِي الصِّحَاحِ فِي فَصْلِ الْعَيْنِ مِنْ بَابِ الرَّاءِ: وَالْعَقَارُ بِالْفَتْحِ الْأَرْضُ وَالضِّيَاعُ وَالنَّخْلُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ مَا لَهُ دَارٌ وَلَا عَقَارٌ اهـ وَقَالَ فِي فَصْلِ الضَّادِ مِنْ بَابِ الْعَيْنِ مِنْ الصِّحَاحِ: وَالضَّيْعَةُ الْعَقَارُ وَالْجَمْعُ ضِيَاعٌ اهـ أَقُولُ: فِي كَلَامِهِ اخْتِلَالٌ لِأَنَّهُ فَسَّرَ الْعَقَارَ أَوَّلًا بِمَا يَشْمَلُ الْأَقْسَامَ الثَّلَاثَةَ وَهِيَ الْأَرْضُ وَالضِّيَاعُ وَالنَّخْلُ، ثُمَّ فَسَّرَ الضَّيْعَةَ الَّتِي هِيَ مُفْرَدُ الضِّيَاعِ بِالْعَقَارِ فَلَزِمَ تَفْسِيرُ الْأَخَصِّ بِالْأَعَمِّ كَمَا تَرَى
(قَوْلُهُ وَلَا شُفْعَةَ فِي الْعُرُوضِ وَالسُّفُنِ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَا شُفْعَةَ إلَّا فِي رَبْعٍ أَوْ حَائِطٍ») أَقُولُ: فِيهِ شَيْءٌ وَهُوَ أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ وَجْهَ الِاسْتِدْلَالِ بِهَذَا الْحَدِيثِ هُوَ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام حَصْرُ ثُبُوتِ الشُّفْعَةِ فِي الرَّبْعِ وَالْحَائِطِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى انْتِفَاءِ حَقِّ الشُّفْعَةِ فِي غَيْرِهِمَا وَمِنْ غَيْرِهِمَا الْعُرُوض وَالسُّفُنُ، فَيُرَدُّ عَلَيْهِ أَنَّ مُقْتَضَى ذَلِكَ الْحَصْرِ أَنْ لَا تَثْبُتَ الشُّفْعَةُ فِي عَقَارٍ غَيْرِ رَبْعٍ وَحَائِطٍ أَيْضًا كَضَيْعَةٍ خَالِيَةٍ مَثَلًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ قَطْعًا فَكَيْفَ يَتِمُّ التَّمَسُّكُ بِهِ؟ فَإِنْ قُلْت: يُمْكِنُ أَنْ يَحْصُلَ الْقَصْرُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ عَلَى الْقَصْرِ الْإِضَافِيِّ دُونَ الْحَقِيقِيِّ بِأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ قَصْرَ ثُبُوتِهَا عَلَى رَبْعٍ وَحَائِطٍ بِالْإِضَافَةِ لِلْعُرُوضِ وَالسُّفُنِ لَا قَصْرَهُ عَلَيْهِمَا بِالنِّسْبَةِ إلَى جَمِيعِ مَا عَدَاهُمَا فَلَا يُرَدُّ الْمَحْذُورُ الْمَزْبُورُ قُلْت: مِنْ أَيْنَ تَفْهَمُ أَنَّ إضَافَةَ ذَلِكَ الْقَصْرِ إلَى الْعُرُوضِ وَالسُّفُنِ لَا إلَى الْعُرُوضِ فَقَطْ دُونَ السُّفُنِ، وَلَا إلَى مَا يَعُمُّ شَيْئًا مِمَّا سِوَى الْعُرُوضِ وَالسُّفُنِ وَمَا الْقَرِينَةُ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى يَتِمَّ الِاسْتِدْلَال بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ وَيَصِيرَ حُجَّةً عَلَى مَالِكٍ فِي إيجَابِهَا فِي السُّفُنِ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فَتَأَمَّلْ
قَالَ (وَإِذَا مَلَكَ الْعَقَارَ بِعِوَضٍ هُوَ مَالٌ وَجَبَتْ فِيهِ الشُّفْعَةُ) لِأَنَّهُ أَمْكَنَ مُرَاعَاةُ شَرْطِ الشَّرْعِ فِيهِ وَهُوَ التَّمَلُّكُ بِمِثْلِ مَا تَمَلَّكَ بِهِ الْمُشْتَرِي صُورَةً أَوْ قِيمَةً عَلَى مَا مَرَّ قَالَ (وَلَا شُفْعَةَ فِي الدَّارِ الَّتِي يَتَزَوَّجُ الرَّجُلُ عَلَيْهَا أَوْ يُخَالِعُ الْمَرْأَةَ بِهَا أَوْ يَسْتَأْجِرُ بِهَا دَارًا أَوْ غَيْرَهَا أَوْ يُصَالِحُ بِهَا عَنْ دَمٍ عَمْدٍ أَوْ يَعْتِقُ عَلَيْهَا عَبْدًا) لِأَنَّ الشُّفْعَةَ عِنْدَنَا إنَّمَا تَجِبُ فِي مُبَادَلَةِ الْمَالِ بِالْمَالِ لِمَا بَيَّنَّا، وَهَذِهِ الْأَعْوَاضُ لَيْسَتْ بِأَمْوَالٍ، فَإِيجَابُ الشُّفْعَةِ فِيهَا خِلَافُ الْمَشْرُوعِ وَقَلْبُ الْمَوْضُوعِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ تَجِبُ فِيهَا الشُّفْعَةُ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَعْوَاضَ مُتَقَوِّمَةٌ عِنْدَهُ فَأَمْكَنَ الْأَخْذُ بِقِيمَتِهَا إنْ تَعَذَّرَ بِمِثْلِهَا كَمَا فِي الْبَيْعِ بِالْعَرْضِ، بِخِلَافِ الْهِبَةِ لِأَنَّهُ لَا عِوَضَ فِيهَا رَأْسًا
قَوْلُهُ وَإِذَا مَلَكَ الْعَقَارَ بِعِوَضٍ هُوَ مَالٌ وَجَبَتْ فِيهِ الشُّفْعَةُ لِأَنَّهُ أَمْكَنَ مُرَاعَاةُ شَرْطِ الشَّرْعِ فِيهِ وَهُوَ التَّمَلُّكُ بِمِثْلِ مَا تَمَلَّكَ بِهِ الْمُشْتَرِي صُورَةً أَوْ قِيمَةً عَلَى مَا مَرَّ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ: قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الشُّفْعَةَ إنَّمَا تَجِبُ فِي الْعَقَارِ، وَمِنْ شَرْطِهَا أَنْ تَتَمَلَّكَ بِعِوَضٍ هُوَ مَالٌ، لِأَنَّ مُرَاعَاةَ شَرْطِ الشَّرْعِ وَهُوَ التَّمَلُّكُ بِمِثْلِ مَا مَلَكَ الْمُشْتَرِي صُورَةً فِي ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ أَوْ قِيمَةً فِي ذَوَاتِ الْقِيَمِ عَلَى مَا مَرَّ فِي فَصْلِ مَا يُؤْخَذُ بِهِ الْمَشْفُوعُ وَاجِبَةٌ، وَهِيَ إنَّمَا تُمْكِنُ إذَا كَانَ الْعِوَضُ مَالًا، فَإِنَّ الشَّرْعَ قَدَّمَ الشَّفِيعَ عَلَى الْمُشْتَرِي فِي إثْبَاتِ حَقِّ الْأَخْذِ لَهُ بِذَلِكَ السَّبَبِ لَا بِإِنْشَاءِ سَبَبٍ آخَرَ وَلِهَذَا لَا تَجِبُ فِي الْمَوْهُوبِ، لِأَنَّهُ لَوْ أَخَذَهُ أَخَذَهُ بِعِوَضٍ فَكَانَ سَبَبًا غَيْرَ السَّبَبِ الَّذِي تَمَلَّكَ بِهِ الْمُتَمَلِّكُ اهـ أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَهُ بِلَا عِوَضٍ بِالسَّبَبِ الَّذِي تَمَلَّكَ بِهِ الْمُتَمَلِّكُ وَهُوَ الْوَصِيَّةُ بِلَا عِوَضٍ لَا يُقَالُ: لَا يُتَصَوَّرُ الْهِبَةُ بِدُونِ رِضَا الْوَاهِبِ وَالْمُتَمَلِّكُ لَا يَرْضَى بِخُرُوجِ الْمَوْهُوبِ مِنْ يَدِهِ بِلَا عِوَضٍ فَلَا يَمْلِكُ الشَّفِيعُ أَخْذَهُ بِلَا عِوَضٍ لِأَنَّا نَقُولُ: مَدَارُ الشُّفْعَةِ عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِ رِضَا الْمُتَمَلِّكِ، وَعَنْ هَذَا قَالُوا: إنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ مَعْدُولٌ عَنْ سُنَنِ الْقِيَاسِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَمَلُّكِ الْمَالِ عَلَى الْغَيْرِ بِغَيْرِ رِضَاهُ كَمَا مَرَّ فِي صَدْرِ كِتَابِ الشُّفْعَةِ، فَلَا تَأْثِيرَ لِحَدِيثِ عَدَمِ رِضَا الْمُتَمَلِّكِ بِخُرُوجِ الْمَوْهُوبِ مِنْ يَدِهِ بِلَا عِوَضٍ فِي عَدَمِ ثُبُوتِ حَقِّ الشُّفْعَةِ فِي الْمَوْهُوبِ، فَالْوَجْهُ التَّامُّ فِي عَدَمِ ثُبُوتِ حَقِّ الشُّفْعَةِ فِي الْمَوْهُوبِ وَالْمَوْرُوثِ وَأَمْثَالِهِمَا مَا ذُكِرَ فِي الْكَافِي وَغَيْرِهِ، وَهُوَ أَنَّ الشُّفْعَةَ عِنْدَنَا تَخْتَصُّ بِمُعَاوَضَةِ مَالٍ بِمَالٍ لِأَنَّهَا ثَبَتَتْ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ بِالْآثَارِ فِي مُعَاوَضَةِ مَالٍ بِمَالٍ فَيُقْتَصَرُ عَلَيْهَا
(قَوْلُهُ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ تَجِبُ فِيهَا الشُّفْعَةُ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَعْوَاضَ مُتَقَوِّمَةٌ عِنْدَهُ فَأَمْكَنَ الْأَخْذُ بِقِيمَتِهَا) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ: وَهِيَ مَهْرُ الْمِثْلِ، وَأَجْرُ الْمِثْلِ فِي التَّزْوِيجِ وَالْخُلْعِ وَالْإِجَارَةِ وَقِيمَةِ الدَّارِ وَالْعَبْدِ فِي الصُّلْحِ وَالْإِعْتَاقِ اهـ أَقُولُ: فِي قَوْلِهِ
وَقَوْلُهُ يَتَأَتَّى فِيمَا إذَا جَعَلَ شِقْصًا مِنْ دَارٍ مَهْرًا أَوْ مَا يُضَاهِيهِ لِأَنَّهُ لَا شُفْعَةَ عِنْدَهُ إلَّا فِيهِ وَنَحْنُ نَقُولُ: إنَّ تَقَوُّمَ مَنَافِعِ الْبُضْعِ فِي النِّكَاحِ وَغَيْرِهَا بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ ضَرُورِيٌّ فَلَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ الشُّفْعَةِ، وَكَذَا الدَّمُ وَالْعِتْقُ غَيْرُ مُتَقَوِّمٍ لِأَنَّ الْقِيمَةَ مَا يَقُومُ مَقَامَ غَيْرِهِ فِي الْمَعْنَى الْخَاصِّ الْمَطْلُوبِ وَلَا يَتَحَقَّقُ فِيهِمَا، وَعَلَى هَذَا إذَا تَزَوَّجَهَا بِغَيْرِ مَهْرٍ ثُمَّ فَرَضَ لَهَا الدَّارَ مَهْرًا لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَفْرُوضِ فِي الْعَقْدِ فِي كَوْنِهِ مُقَابِلًا بِالْبُضْعِ، بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَهَا بِمَهْرِ الْمِثْلِ أَوْ بِالْمُسَمَّى لِأَنَّهُ مُبَادَلَةُ مَالٍ بِمَالٍ، وَلَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى دَارٍ عَلَى أَنْ تَرُدَّ عَلَيْهِ أَلْفًا فَلَا شُفْعَةَ فِي جَمِيعِ الدَّارِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَا: تَجِبُ فِي حِصَّةِ الْأَلْفِ لِأَنَّهُ مُبَادَلَةٌ مَالِيَّةٌ فِي حَقِّهِ.
وَهُوَ يَقُولُ مَعْنَى الْبَيْعِ فِيهِ تَابِعٌ وَلِهَذَا يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ النِّكَاحِ وَلَا يَفْسُدُ بِشَرْطِ النِّكَاحِ فِيهِ، وَلَا شُفْعَةَ فِي الْأَصْلِ فَكَذَا فِي التَّبَعِ، وَلِأَنَّ الشُّفْعَةَ شُرِعَتْ فِي الْمُبَادَلَةِ الْمَالِيَّةِ الْمَقْصُودَةِ
وَقِيمَةُ الدَّارِ نَظَرٌ، إذْ الْكَلَامُ فِي قِيمَةِ الْأَعْوَاضِ الَّتِي جُعِلَتْ بَدَلًا لِلدَّارِ فِي الصُّوَرِ الْمَذْكُورَةِ لَا فِي قِيمَةِ نَفْسِ الدَّارِ، وَالْعِوَضُ فِي صُورَةِ الصُّلْحِ هُوَ دَمُ الْعَمْدِ، فَالْوَاجِبُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ قِيمَةُ دَمِ الْعَمْدِ عَلَى زَعْمِهِ لَا قِيمَةُ الدَّارِ لَا يُقَالُ: لَمَّا جُعِلَ دَمُ الْعَمْدِ عِوَضًا مِنْ الدَّارِ صَارَتْ قِيمَتُهُ قِيمَةَ الدَّارِ لِأَنَّا نَقُولُ: لَوْ اقْتَضَى هَذَا الْقَدْرُ أَنْ تَصِيرَ قِيمَةُ أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ قِيمَةً لِلْآخَرِ لَكَانَ قِيمَةُ الْأَعْوَاضِ الْمَذْكُورَةِ فِي الصُّورَةِ الْمَزْبُورَةِ كُلِّهَا قِيمَةَ الدَّارِ لِكَوْنِ كُلٍّ مِنْهُمَا عِوَضًا مِنْ الدَّارِ وَلَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ، بَلْ وَقَعَ التَّصْرِيحُ بِخِلَافِهِ فِي سَائِرِ الصُّوَرِ فِي نَفْسِ الْعِنَايَةِ أَيْضًا، ثُمَّ إنَّ بَعْضَ الْفُضَلَاءِ لَمَّا تَنَبَّهَ لِإِجْمَالِ مَا قُلْنَا قَالَ: كَأَنَّ الْكَلَامَ فِي قِيمَةِ الْأَعْوَاضِ لَا فِي قِيمَةِ الدَّارِ وَالْعَبْدِ فَتَأَمَّلْ.
اهـ أَقُولُ: لَمْ يُصِبْ فِي زِيَادَتِهِ الْعَبْدَ وَإِلْحَاقِهِ بِالدَّارِ فِي الْمُؤَاخَذَةِ، فَإِنَّ الْعَبْدَ مَأْخُوذٌ فِي جَانِبِ الْأَعْوَاضِ الْمُقَابِلَةِ لِلدَّارِ كَمَا يُفْصِحُ عَنْهُ عِبَارَةُ الْكِتَابِ، فَكَوْنُ الْكَلَامِ فِي قِيمَةِ الْأَعْوَاضِ لَا يُنَافِي اعْتِبَارَ قِيمَةِ الْعَبْدِ فِي صُورَةِ الْإِعْتَاقِ. نَعَمْ الْعِوَضُ إعْتَاقُ الْعَبْدِ لَا نَفْسُ الْعَبْدِ، لَكِنْ مَنْ يَجْعَلُ الْإِعْتَاقَ مُتَقَوِّمًا لَا بُدَّ لَهُ مِنْ الْمَصِيرِ إلَى قِيمَةِ الْعَبْدِ فِي تَقْوِيمِهِ، وَالْكَلَامُ هُنَا عَلَى أَصْلِهِ، وَأَمَّا التَّحْقِيقُ مِنْ قِبَلِنَا فَسَيَجِيءُ مِنْ بَعْدُ
(قَوْلُهُ وَكَذَا الدَّمُ وَالْعِتْقُ غَيْرُ مُتَقَوِّمٍ) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ:
حَتَّى أَنَّ الْمُضَارِبَ إذَا بَاعَ دَارًا وَفِيهَا رِبْحٌ لَا يَسْتَحِقُّ رَبُّ الْمَالِ الشُّفْعَةَ فِي حِصَّةِ الرِّبْحِ لِكَوْنِهِ تَابِعًا فِيهِ قَالَ (أَوْ يُصَالِحُ عَلَيْهَا بِإِنْكَارٍ، فَإِنْ صَالَحَ عَلَيْهَا بِإِقْرَارٍ وَجَبَتْ الشُّفْعَةُ) قَالَ رضي الله عنه: هَكَذَا ذُكِرَ فِي أَكْثَرِ نُسَخِ الْمُخْتَصَرِ، وَالصَّحِيحُ أَوْ يُصَالِحُ عَنْهَا بِإِنْكَارٍ مَكَانَ قَوْلِهِ أَوْ يُصَالِحُ عَلَيْهَا، لِأَنَّهُ إذَا صَالَحَ عَنْهَا بِإِنْكَارٍ بَقِيَ الدَّارُ فِي يَدِهِ فَهُوَ يَزْعُمُ أَنَّهَا لَمْ تَزُلْ عَنْ مِلْكِهِ، وَكَذَا إذَا صَالَحَ عَنْهَا بِسُكُوتٍ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ بَذَلَ الْمَالَ افْتِدَاءً لِيَمِينِهِ وَقَطْعًا لِشَغَبِ خَصْمِهِ، كَمَا إذَا أَنْكَرَ صَرِيحًا، بِخِلَافِ مَا إذَا صَالَحَ عَنْهَا بِإِقْرَارٍ لِأَنَّهُ مُعْتَرِفٌ بِالْمِلْكِ لِلْمُدَّعِي، وَإِنَّمَا اسْتَفَادَهُ بِالصُّلْحِ فَكَانَ مُبَادَلَةً مَالِيَّةً.
أَمَّا إذَا صَالَحَ عَلَيْهَا بِإِقْرَارٍ أَوْ سُكُوتٍ أَوْ إنْكَارٍ وَجَبَتْ الشُّفْعَةُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ لِأَنَّهُ أَخَذَهَا عِوَضًا عَنْ حَقِّهِ فِي زَعْمِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ جِنْسِهِ فَيُعَامَلَ بِزَعْمِهِ قَالَ (وَلَا شُفْعَةَ فِي هِبَةٍ لِمَا ذَكَرْنَا، إلَّا أَنْ تَكُونَ بِعِوَضٍ مَشْرُوطٍ) لِأَنَّهُ بَيْعٌ انْتِهَاءً، وَلَا بُدَّ مِنْ الْقَبْضِ وَأَنْ لَا يَكُونَ الْمَوْهُوبُ وَلَا عِوَضُهُ شَائِعًا لِأَنَّهُ هِبَةٌ ابْتِدَاءً وَقَدْ قَرَّرْنَاهُ فِي كِتَابِ الْهِبَةِ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ الْعِوَضُ مَشْرُوطًا فِي الْعَقْدِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا هِبَةٌ مُطْلَقَةٌ، إلَّا أَنَّهُ أُثِيبَ مِنْهَا فَامْتَنَعَ الرُّجُوعُ قَالَ (وَمَنْ بَاعَ بِشَرْطِ الْخِيَارِ فَلَا شُفْعَةَ لِلشَّفِيعِ) لِأَنَّهُ يَمْنَعُ زَوَالَ الْمِلْكِ عَنْ الْبَائِعِ (فَإِنْ أُسْقِطَ الْخِيَارُ وَجَبَتْ الشُّفْعَةُ) لِأَنَّهُ زَالَ الْمَانِعُ عَنْ الزَّوَالِ وَيُشْتَرَطُ الطَّلَبُ عِنْدَ سُقُوطِ الْخِيَارِ فِي الصَّحِيحِ لِأَنَّ الْبَيْعَ يَصِيرُ سَبَبًا لِزَوَالِ الْمِلْكِ عِنْدَ ذَلِكَ.
(وَإِنْ اشْتَرَى بِشَرْطِ الْخِيَارِ وَجَبَ الشُّفْعَةُ) لِأَنَّهُ لَا يَمْنَعُ زَوَالَ الْمِلْكِ عَنْ الْبَائِعِ بِالِاتِّفَاقِ، وَالشُّفْعَةُ تُبْتَنَى عَلَيْهِ عَلَى مَا مَرَّ، وَإِذَا أَخَذَهَا فِي الثُّلُثِ وَجَبَ الْبَيْعُ لِعَجْزِ الْمُشْتَرِي عَنْ الرَّدِّ، وَلَا خِيَارَ لِلشَّفِيعِ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ بِالشَّرْطِ،
إنَّمَا أَفْرَدَهُمَا لِأَنَّ تَقَوُّمَهُمَا أَبْعَدُ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا بِمَالَيْنِ فَضْلًا عَنْ التَّقَوُّمِ اهـ أَقُولُ: فِيهِ بَحْثٌ، لِأَنَّ تَمَامَهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى كَوْنِ سَائِرِ
وَهُوَ لِلْمُشْتَرِي دُونَ الشَّفِيعِ، وَإِنْ بِيعَتْ دَارٌ إلَى جَنْبِهَا وَالْخِيَارُ لِأَحَدِهِمَا فَلَهُ الْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ أَمَّا لِلْبَائِعِ فَظَاهِرٌ لِبَقَاءِ مِلْكِهِ فِي الَّتِي يُشْفَعُ بِهَا، وَكَذَا إذَا كَانَ لِلْمُشْتَرِي وَفِيهِ إشْكَالٌ أَوْضَحْنَاهُ فِي الْبُيُوعِ فَلَا نُعِيدُهُ، وَإِذَا أَخَذَهَا كَانَ إجَازَةً مِنْهُ لِلْبَيْعِ، بِخِلَافِ مَا إذَا اشْتَرَاهَا وَلَمْ يَرَهَا حَيْثُ لَا يَبْطُلُ خِيَارُهُ بِأَخْذِ مَا بِيعَ بِجَنْبِهَا بِالشُّفْعَةِ، لِأَنَّ خِيَارَ الرُّؤْيَةِ لَا يَبْطُلُ بِصَرِيحِ الْإِبْطَالِ فَكَيْفَ بِدَلَالَتِهِ، ثُمَّ إذَا حَضَرَ شَفِيعُ الدَّارِ الْأُولَى لَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا دُونَ الثَّانِيَةِ لِانْعِدَامِ مِلْكِهِ فِي الْأُولَى حِينَ بِيعَتْ الثَّانِيَةُ
قَالَ (وَمَنْ ابْتَاعَ دَارًا شِرَاءً فَاسِدًا فَلَا شُفْعَةَ فِيهَا) أَمَّا قَبْلَ الْقَبْضِ فَلِعَدَمِ زَوَالِ مِلْكِ الْبَائِعِ، وَبَعْدَ الْقَبْضِ لِاحْتِمَالِ الْفَسْخِ،
الْأَعْوَاضِ الْمَذْكُورَةِ مَالًا وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُتَقَوِّمَةً، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَإِنَّهَا أَيْضًا لَيْسَتْ بِأَمْوَالٍ عِنْدَنَا، وَقَدْ أَفْصَحَ عَنْهُ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ فِيمَا قَبْلُ وَهَذِهِ الْأَعْوَاضُ لَيْسَتْ بِأَمْوَالٍ، وَقَوْلُهُ فِي بَابِ الْمَهْرِ مِنْ كِتَابِ النِّكَاحِ أَنَّ الْمَنَافِعَ لَيْسَتْ بِأَمْوَالٍ عَلَى أَصْلِنَا وَالْحَقُّ عِنْدِي فِي تَعْلِيلِ أَنَّ تَقَوُّمَهُمَا أَبْعَدُ أَنْ يُقَالَ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا بِمُتَقَوِّمَيْنِ أَصْلًا: أَيْ لَا بِالتَّقَوُّمِ الضَّرُورِيِّ وَلَا بِغَيْرِ الضَّرُورِيِّ كَمَا مَرَّ آنِفًا
(قَوْلُهُ وَفِيهِ إشْكَالٌ أَوْضَحْنَاهُ فِي الْبُيُوعِ فَلَا نُعِيدُهُ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ: هَذِهِ الْحَوَالَةُ فِي حَقِّ الْإِشْكَالِ غَيْرُ رَائِجَةٍ، بَلْ فِيهِ جَوَابُ الْإِشْكَالِ لَا الْإِشْكَالُ وَهُوَ قَوْلُهُ (وَمَنْ اشْتَرَى دَارًا عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ فَبِيعَتْ دَارٌ بِجَنْبِهَا إلَخْ) وَقِيلَ إذَا كَانَتْ الْحَوَالَةُ فِي حَقِّ جَوَابِ الْإِشْكَالِ رَائِجَةً كَانَتْ فِي حَقِّ الْإِشْكَالِ كَذَلِكَ، لِأَنَّ الْجَوَابَ يَتَضَمَّنُ السُّؤَالَ، وَقِيلَ لَمْ يَقُلْ فِي بُيُوعِ هَذَا الْكِتَابِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَوْضَحَهُ فِي كِفَايَةِ الْمُنْتَهَى، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ أَخْذًا مِنْ مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ أَقُولُ: لَا يَذْهَبُ عَلَيْك أَنَّ قَوْلَهُ فَلَا نُعِيدُهُ يَأْبَى عَنْ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ بِقَوْلِهِ أَوْضَحْنَاهُ فِي الْبُيُوعِ إيضَاحَهُ فِي بُيُوعِ كِفَايَةِ الْمُنْتَهَى، لِأَنَّ ذِكْرَ شَيْءٍ فِي كِتَابِهِ هَذَا بَعْد أَنْ ذَكَرَهُ فِي كِفَايَةِ الْمُنْتَهَى لَا يُعَدُّ إعَادَةً، وَإِلَّا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ أَكْثَرُ مَسَائِلِ هَذَا الْكِتَابِ بَلْ جَمِيعُهَا مِنْ قَبِيلِ الْإِعَادَةِ لِكَوْنِهَا مَذْكُورَةً فِي كِفَايَةِ الْمُنْتَهَى
(قَوْلُهُ وَمَنْ ابْتَاعَ دَارًا شِرَاءً فَاسِدًا) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَفِي قَوْلِهِ وَمَنْ ابْتَاعَ دَارًا شِرَاءً فَاسِدًا تَلْوِيحٌ إلَى أَنَّ عَدَمَ الشُّفْعَةِ إنَّمَا هُوَ فِيمَا إذَا وَقَعَ فَاسِدًا ابْتِدَاءً، لِأَنَّ الْفَسَادَ إذَا كَانَ بَعْدَ انْعِقَادِهِ صَحِيحًا فَحَقُّ الشُّفْعَةِ بَاقٍ عَلَى حَالِهِ اهـ وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ فِي بَيَانِ وَجْهِ التَّلْوِيحِ حَيْثُ أَتَى بِالْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْحُدُوثِ لَا الِاسْتِمْرَارِ اهـ أَقُولُ: هَذَا الْكَلَامُ مِنْهُ
وَحَقُّ الْفَسْخِ ثَابِتٌ بِالشَّرْعِ لِدَفْعِ الْفَسَادِ، وَفِي إثْبَاتِ حَقِّ الشُّفْعَةِ تَقْرِيرُ الْفَسَادِ فَلَا يَجُوزُ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي فِي الْبَيْعِ الصَّحِيحِ لِأَنَّهُ صَارَ أَخَصَّ بِهِ تَصَرُّفًا وَفِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ مَمْنُوعٌ عَنْهُ قَالَ (فَإِنْ سَقَطَ حَقُّ الْفَسْخِ
عَجِيبٌ، لِأَنَّ حُدُوثَ الْفَسَادِ كَمَا يُوجَدُ فِيمَا إذَا وَقَعَ فِي ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ يُوجَدُ أَيْضًا فِيمَا إذَا وَقَعَ بَعْدَ انْعِقَادِهِ صَحِيحًا، بَلْ الْحُدُوثُ فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ أَظْهَرُ وَأَجْلَى لِأَنَّ الْفَسَادَ يَحْصُلُ فِيهَا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ فِي ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ وَأَمَّا فِي الصُّورَةِ الْأُولَى فَهُوَ حَاصِلٌ فِي الِابْتِدَاءِ وَالِانْتِهَاءِ فَفِيهَا اسْتِمْرَارُ الْفَسَادِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ، فَمُجَرَّدُ الْإِتْيَانِ بِالْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ إنْ لَمْ يَكُنْ مُلَوِّحًا إلَى الثَّانِيَةِ فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُلَوِّحًا إلَى الْأُولَى وَالصَّوَابُ أَنَّ وَجْهَ التَّلْوِيحِ إلَى ذَلِكَ هُوَ أَنَّهُ جَعَلَ قَوْلَهُ شِرَاءً فَاسِدًا قَيْدًا لِلِابْتِيَاعِ الَّذِي هُوَ أَصْلُ الْعَقْدِ، فَعُلِمَ بِهِ أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ الْفَسَادُ فِي ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ لَا الْفَسَادُ الطَّارِئُ وَهَذَا مِمَّا لَا سُتْرَةَ بِهِ
(قَوْلُهُ وَحَقُّ الْفَسْخِ ثَابِتٌ بِالشَّرْعِ لِدَفْعِ الْفَسَادِ، وَفِي إثْبَاتِ حَقِّ الشُّفْعَةِ تَقْرِيرُ الْفَسَادِ) وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ لَا يَثْبُتَ الْمُفْسِدُ فِي حَقِّ الشَّفِيعِ لِئَلَّا يَلْزَمَ تَقْرِيرُ الْفَسَادِ
وَجَبَتْ الشُّفْعَةُ لِزَوَالِ الْمَانِعِ، وَإِنْ بِيعَتْ دَارٌ بِجَنْبِهَا وَهِيَ فِي يَدِ الْبَائِعِ بَعْدُ فَلَهُ الشُّفْعَةُ لِبَقَاءِ مِلْكِهِ، وَإِنْ سَلَّمَهَا إلَى الْمُشْتَرِي فَهُوَ شَفِيعُهَا لِأَنَّ الْمِلْكَ لَهُ) ثُمَّ إنْ سَلَّمَ الْبَائِعُ قَبْلَ الْحُكْمِ بِالشُّفْعَةِ لَهُ بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ كَمَا إذَا بَاعَ، بِخِلَافِ مَا إذَا سَلَّمَ بَعْدَهُ لِأَنَّ بَقَاءَ مِلْكِهِ فِي الدَّارِ الَّتِي يُشْفَعُ بِهَا بَعْدَ الْحُكْمِ بِالشُّفْعَةِ لَيْسَ بِشَرْطٍ فَبَقِيَتْ الْمَأْخُوذَةُ بِالشُّفْعَةِ عَلَى مِلْكِهِ، وَإِنْ اسْتَرَدَّهَا الْبَائِعُ مِنْ الْمُشْتَرِي قَبْلَ الْحُكْمِ بِالشُّفْعَةِ لَهُ بَطَلَتْ لِانْقِطَاعِ مِلْكِهِ عَنْ الَّتِي يُشْفَعُ بِهَا قَبْلَ الْحُكْمِ بِالشُّفْعَةِ، وَإِنْ اسْتَرَدَّهَا بَعْدَ الْحُكْمِ بَقِيَتْ الثَّانِيَةُ عَلَى مِلْكِهِ لِمَا بَيَّنَّا
وَإِنْ ثَبَتَ فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي كَمَا لَا يَثْبُتُ الْخِيَارُ الثَّابِتُ لِلْمُشْتَرِي الَّذِي اشْتَرَاهَا بِشَرْطِ الْخِيَارِ فِي حَقِّ الشَّفِيعِ فَيَسْتَحِقَّهَا بِدُونِ شَرْطِ الْخِيَارِ كَمَا مَرَّ مِنْ قَبْلُ فِي قَوْلِهِ وَلَا خِيَارَ لِلشَّفِيعِ لِأَنَّهُ ثَبَتَ بِالشَّرْطِ وَهُوَ لِلْمُشْتَرِي دُونَ الشَّفِيعِ وَأُجِيبُ عَنْهُ بِأَنَّ فَسَادَ الْبَيْعِ إنَّمَا يَثْبُتُ لِمَعْنًى رَاجِعٍ إلَى الْعِوَضِ، إمَّا بِالشَّرْطِ فِي حَقِّهِ أَوْ لِفَسَادٍ فِي نَفْسِهِ كَجَعْلِ الْخَمْرِ ثَمَنًا، فَلَوْ أَسْقَطْنَا الْعِوَضَ لِفَسَادٍ فِيهِ بَقِيَ الْبَيْعُ بِلَا ثَمَنٍ وَهُوَ فَاسِدٌ أَيْضًا فَلَا يُمْكِنُ انْفِكَاكُ الْبَيْعِ عَنْ مُفْسِدٍ فَلَا تَثْبُتُ الشُّفْعَةُ هُنَاكَ وَأَمَّا الْخِيَارُ فَإِنَّمَا يَثْبُتُ لِلْمُشْتَرِي لِمَعْنًى خَارِجٍ عَنْ الْعِوَضَيْنِ، إذْ هُوَ لِلتَّأَمُّلِ وَالتَّرَوِّي، فَبِإِسْقَاطِهِ فِي حَقِّ الشَّفِيعِ لَا يَلْزَمُ الْفَسَادُ، فَإِنَّ الْبَيْعَ الصَّحِيحَ يُمْكِنُ وُجُودُهُ بِلَا شَرْطِ خِيَارٍ، هَذَا زُبْدَةُ مَا فِي الشُّرُوحِ وَأَوْرَدَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ عَلَى قَوْلِهِمْ فَلَوْ أَسْقَطْنَا الْعِوَضَ لِفَسَادٍ فِيهِ بَقِيَ الْبَيْعُ بِلَا ثَمَنٍ حَيْثُ قَالَ: فِيهِ بَحْثٌ، إذْ لَا حَاجَةَ إلَى إسْقَاطِ الْعِوَضِ، بَلْ يَكْفِي إسْقَاطُ الشَّرْطِ كَمَا فِي شَرْطِ الْخِيَارِ وَاعْتِبَارِ قِيمَةِ مِثْلِ الْخَمْرِ فَتَدَبَّرْ اهـ.
أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ، لِأَنَّ شَيْئًا مِنْ إسْقَاطِ الشَّرْطِ وَاعْتِبَارِ قِيمَةِ مِثْلِ الْخَمْرِ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ بِدُونِ إسْقَاطِ نَفْسِ الْعِوَضِ مِمَّا لَا يُتَصَوَّرُ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ إسْقَاطَ الشَّرْطِ الْمُفْسِدِ الرَّاجِعِ إلَى الْعِوَضِ فِي عَقْدِ الْمُتَبَايِعَيْنِ بِالْبَيْعِ الْفَاسِدِ يَسْتَدْعِي إسْقَاطَ نَفْسِ الْعِوَضِ الْمُعَيَّنِ فِي ذَلِكَ الْعَقْدِ ضَرُورَةَ انْتِفَاءِ الْمَشْرُوطِ بِانْتِفَاءِ شَرْطِهِ وَأَمَّا إمْكَانُ عَدَمِ إسْقَاطِ مَا يَصْلُحُ لَأَنْ يَكُونَ عِوَضًا فِي مُطْلَقِ الْبَيْعِ فَغَيْرُ مُفِيدٍ، لِأَنَّ الشَّفِيعَ إنَّمَا يَسْتَحِقُّ أَخْذَ الْمَشْفُوعِ بِالثَّمَنِ الَّذِي أَخَذَ بِهِ الْمُشْتَرِي لَا بِمُطْلَقِ جِنْسِ الثَّمَنِ وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ اعْتِبَارَ قِيمَةِ مِثْلِ الْخَمْرِ فِي الْبَيْعِ الْوَاقِعِ بَيْنَ الْمُسْلِمَيْنِ غَيْرُ مُمْكِنٍ، لِأَنَّ مِثْلَ الْخَمْرِ لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ عِنْدَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ اعْتِبَارُ الْقِيمَةِ لِمَا لَا قِيمَةَ لَهُ وَأَمَّا فِي الْبَيْعِ الْوَاقِعِ بَيْنَ الْكُفَّارِ فَيُمْكِنُ اعْتِبَارُ الْقِيمَةِ لَهُ لِكَوْنِهِ مَالًا مُتَقَوِّمًا عِنْدَ هُمْ، لَكِنَّ مِثْلَ ذَلِكَ الْبَيْعِ الصَّادِرِ مِنْهُمْ بَيْعٌ صَحِيحٌ وَالشُّفْعَةُ ثَابِتَةٌ فِيهِ كَمَا مَرَّ فِي فَصْلِ مَا يُؤْخَذُ بِهِ الْمَشْفُوعُ، وَالْكَلَامُ هُنَا فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ فَلَا مَعْنَى
قَالَ (وَإِذَا اقْتَسَمَ الشُّرَكَاءُ الْعَقَارَ فَلَا شُفْعَةَ لِجَارِهِمْ بِالْقِسْمَةِ) لِأَنَّ الْقِسْمَةَ فِيهَا مَعْنَى الْإِفْرَازِ وَلِهَذَا يَجْرِي فِيهَا الْجَبْرُ؛ وَالشُّفْعَةُ مَا شُرِعَتْ إلَّا فِي الْمُبَادَلَةِ الْمُطْلَقَةِ قَالَ (وَإِذَا اشْتَرَى دَارًا فَسَلَّمَ الشَّفِيعُ الشُّفْعَةَ ثُمَّ رَدَّهَا الْمُشْتَرِي بِخِيَارِ رُؤْيَةٍ أَوْ شَرْطٍ أَوْ بِعَيْبٍ بِقَضَاءِ قَاضٍ فَلَا شُفْعَةَ لِلشَّفِيعِ) لِأَنَّهُ فَسْخٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَعَادَ إلَى قَدِيمِ مِلْكِهِ وَالشُّفْعَةُ فِي إنْشَاءِ الْعَقْدِ، وَلَا فَرْقَ فِي هَذَا بَيْنَ الْقَبْضِ وَعَدَمِهِ (وَإِنْ رَدَّهَا بِعَيْبٍ بِغَيْرِ قَضَاءٍ أَوْ تَقَايَلَا الْبَيْعَ فَلِلشَّفِيعِ الشُّفْعَةُ) لِأَنَّهُ فَسْخٌ فِي حَقِّهِمَا لِوِلَايَتِهِمَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا وَقَدْ قَصَدَا الْفَسْخَ وَهُوَ بَيْعٌ جَدِيدٌ فِي حَقٍّ ثَالِثٍ لِوُجُودِ حَدِّ الْبَيْعِ وَهُوَ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ بِالتَّرَاضِي وَالشَّفِيعُ ثَالِثٌ، وَمُرَادُهُ الرَّدُّ بِالْعَيْبِ بَعْدَ الْقَبْضِ لِأَنَّ قَبْلَهُ فَسْخٌ مِنْ الْأَصْلِ وَإِنْ
لِلْإِيرَادِ الْمَذْكُورِ أَصْلًا
(قَوْلُهُ وَإِذَا اقْتَسَمَ الشُّرَكَاءُ الْعَقَارَ فَلَا شُفْعَةَ لِجَارِهِمْ بِالْقِسْمَةِ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ فِيهَا مَعْنَى الْإِفْرَازِ وَلِهَذَا يَجْرِي فِيهَا الْجَبْرُ؛ وَالشُّفْعَةُ مَا شُرِعَتْ إلَّا فِي الْمُبَادَلَةِ الْمُطْلَقَةِ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَلِأَنَّهَا لَوْ وَجَبَتْ لَوَجَبَتْ لِلْمُقَاسِمِ لِكَوْنِهِ جَارًا بَعْدَ الْإِفْرَازِ وَهُوَ مُتَعَذِّرٌ اهـ أَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ كَوْنَ الْمُقَاسِمِ جَارًا بَعْدَ الْإِفْرَازِ لَا يَقْتَضِي ثُبُوتَ حَقِّ الشُّفْعَةِ لَهُ لِأَنَّ سَبَبَ اسْتِحْقَاقِ الشُّفْعَةِ إنْ لَمْ يَكُنْ مُقَدَّمًا عَلَى زَوَالِ مِلْكِ الْمَالِكِ عَنْ الْعَقَارِ الْمَشْفُوعِ فَلَا أَقَلَّ مِنْ كَوْنِهِ مَعَهُ وَقَدْ تَأَخَّرَ عَنْهُ هُنَا حَيْثُ حَصَلَ الْجِوَارُ بَعْدَ الْإِفْرَازِ الَّذِي يَزُولُ بِهِ مِلْكُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُقْتَسِمِينَ عَنْ الْجُزْءِ الشَّائِعِ فِي حِصَّةِ الْآخَرِ وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ وُجُوبِ الشُّفْعَةِ لِلْمُقَاسِمِ لِأَجَلِ مَانِعٍ يَمْنَعُ عَنْهُ وَهُوَ التَّعَذُّرُ الْمَذْكُورُ عَدَمُ وُجُوبِهَا لِلْجَارِ الْآخَرِ الَّذِي يَتَحَقَّقُ فِي حَقِّهِ ذَلِكَ الْمَانِعُ فَلَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ؛ وَقَالَ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ: وَلِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَتْ الشُّفْعَةُ وَجَبَتْ لِلْمُقَاسِمِ لِأَنَّهُ شَرِيكٌ وَالشَّرِيكُ أَوْلَى مِنْ الْجَارِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَدَّمَ الْجَارُ عَلَى الشَّرِيكِ اهـ أَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ أَيْضًا أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ الْمُقَاسِمَ إنَّمَا كَانَ شَرِيكًا قَبْلَ الِاقْتِسَامِ، وَأَمَّا بَعْدَهُ فَقَدْ صَارَ جَارًا فَلَا يَلْزَمُ تَقَدُّمُ الْجَارِ عَلَى الشَّرِيكِ وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ تَقَدُّمَ الْجَارِ عَلَى الشَّرِيكِ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ وَيَبْطُلُ لَوْ ثَبَتَ لِذَلِكَ الشَّرِيكِ حَقُّ الشُّفْعَةِ، وَأَمَّا إذَا لَمْ يَثْبُتْ لَهُ حَقُّهَا لِمَانِعٍ كَمَا نَحْنُ فِيهِ فَلَا يُتَصَوَّرُ تَقَدُّمُ الْجَارِ عَلَى الشَّرِيكِ فِي اسْتِحْقَاقِ الشُّفْعَةِ فَضْلًا عَنْ بُطْلَانِ ذَلِكَ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا اشْتَرَى دَارًا فَسَلَّمَ الشَّرِيكَ الشُّفْعَةَ فِيهَا أَخَذَهَا الْجَارُ لِسُقُوطِ حَقِّ الشَّرِيكِ كَمَا مَرَّ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الشُّفْعَةِ، وَلَا يَلْزَمُ فِيهِ أَنْ يُقَدَّمَ الْجَارُ عَلَى الشَّرِيكِ فَمَا ظَنُّك فِيمَا نَحْنُ فِيهِ
(قَوْلُهُ وَمُرَادُهُ الرَّدُّ بِالْعَيْبِ بَعْدَ الْقَبْضِ) قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الشُّرَّاحِ: أَيْ مُرَادُ الْقُدُورِيِّ فِي قَوْلِهِ أَوْ بِعَيْبٍ بِقَضَاءِ قَاضٍ الرَّدُّ بِالْعَيْبِ بَعْدَ الْقَبْضِ، وَرَدَّ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ حَيْثُ
كَانَ بِغَيْرِ قَضَاءٍ عَلَى مَا عُرِفَ؛ وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: وَلَا شُفْعَةَ فِي قِسْمَةٍ وَلَا خِيَارِ رُؤْيَةٍ، وَهُوَ بِكَسْرِ الرَّاءِ، وَمَعْنَاهُ: لَا شُفْعَةَ بِسَبَبِ الرَّدِّ بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ لِمَا بَيَّنَّاهُ، وَلَا تَصِحُّ الرِّوَايَةُ بِالْفَتْحِ عَطْفًا عَلَى الشُّفْعَةِ لِأَنَّ الرِّوَايَةَ مَحْفُوظَةٌ فِي كِتَابِ الْقِسْمَةِ أَنَّهُ يَثْبُتُ فِي الْقِسْمَةِ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ وَخِيَارُ الشَّرْطِ لِأَنَّهُمَا يَثْبُتَانِ لِخَلَلٍ فِي الرِّضَا فِيمَا يَتَعَلَّقُ لُزُومُهُ بِالرِّضَا، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي الْقِسْمَةِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ
قَالَ: قَالَ الشَّارِحُونَ قَوْلُهُ وَمُرَادُهُ: أَيْ مُرَادُ الْقُدُورِيِّ فِي قَوْلِهِ أَوْ بِعَيْبٍ بِقَضَاءِ قَاضٍ الرَّدُّ بِالْعَيْبِ بَعْدَ الْقَبْضِ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ يُنَاقِضُ قَوْلَهُ هُنَاكَ وَلَا فَرْقَ فِي هَذَا بَيْنَ الْقَبْضِ وَعَدَمِهِ اهـ وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بَعْدَ نَقْلِ كَلَامِ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ: وَفِيهِ كَلَامٌ، وَهُوَ أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: مُرَادُ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ كَوْنُ التَّقْيِيدِ بِالْقَضَاءِ لَغْوًا فِي صُورَةِ عَدَمِ الْقَبْضِ لَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْقَبْضِ وَعَدَمِهِ حَتَّى يُنَاقِضَ مَا سَبَقَ فَيَتِمَّ كَلَامُ الشَّارِحِينَ كَمَا لَا يَخْفَى فَلْيُتَأَمَّلْ اهـ.
كَلَامُهُ يَعْنِي يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ مِنْ جَانِبِ هَؤُلَاءِ الشَّارِحِينَ إنَّ مُرَادَ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ بِحَمْلِ قَوْلِ الْقُدُورِيِّ أَوْ بِعَيْبٍ بِقَضَاءِ قَاضٍ عَلَى الرَّدِّ بِالْعَيْبِ بَعْدَ الْقَبْضِ، صِيَانَةُ كَلَامِ الْقُدُورِيِّ عَنْ اللَّغْوِ، فَإِنَّ الرَّدَّ قَبْلَ الْقَبْضِ لَمَّا كَانَ فَسْخًا مِنْ الْأَصْلِ لَمْ يَثْبُتْ بِهِ لَهُ حَقُّ الشُّفْعَةِ أَصْلًا سَوَاءً كَانَ بِقَضَاءٍ أَوْ بِغَيْرِ قَضَاءٍ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ أَوْ بِعَيْبٍ بِقَضَاءِ قَاضٍ هُوَ الرَّدُّ بِالْعَيْبِ بَعْدَ الْقَبْضِ لَكَانَ التَّقْيِيدُ بِالْقَضَاءِ لَغْوًا فِي صُورَةِ عَدَمِ الْقَبْضِ، وَلَيْسَ مُرَادُ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ الْفَرْقَ بَيْنَ الْقَبْضِ وَعَدَمِهِ فِي الْحُكْمِ فِيمَا إذَا كَانَ الرَّدُّ بِالْقَضَاءِ حَتَّى يُنَاقِضَ قَوْلَهُ هُنَا فِيمَا سَبَقَ. أَقُولُ: الْحَقُّ أَنَّ مُرَادَ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ، وَأَنَّ مَا ذَكَرَهُ ذَلِكَ الْبَعْضُ سَاقِطٌ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُرَادُهُ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ هَؤُلَاءِ الشَّارِحُونَ لَمَا ذَكَرَ قَوْلَهُ وَمُرَادُهُ الرَّدُّ بِالْعَيْبِ بَعْدَ الْقَبْضِ فِيمَا بَعْدَ بَيَانِ قَوْلِ الْقُدُورِيِّ وَإِنْ رَدَّهَا بِعَيْبٍ بِغَيْرِ قَضَاءٍ إلَخْ بَلْ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَذْكُرَهُ قَبْلَهُ أَثْنَاءَ بَيَانِ قَوْلِهِ ثُمَّ رَدَّهَا الْمُشْتَرِي بِخِيَارِ رُؤْيَةٍ أَوْ شَرْطٍ أَوْ بِعَيْبٍ بِقَضَاءِ قَاضٍ، وَهَذَا مِمَّا لَا يَذْهَبُ عَلَى ذِي فِطْرَةٍ سَلِيمَةٍ لَهُ دُرْبَةٌ بِأَسَالِيبِ كَلَامِ الثِّقَاتِ سِيَّمَا الْمُصَنِّفُ وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ عَدَمَ ظُهُورِهِ فَائِدَةَ التَّقْيِيدِ بِالْقَضَاءِ بِالنَّظَرِ إلَى صُورَةِ عَدَمِ الْقَبْضِ لَا يَقْتَضِي كَوْنَ التَّقْيِيدِ بِالْقَضَاءِ لَغْوًا عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِ قَوْلِ الْقُدُورِيِّ أَوْ بِعَيْبٍ بِقَضَاءِ قَاضٍ عَامًّا شَامِلًا لِصُورَتَيْ الْقَبْضِ وَعَدَمِهِ، لِأَنَّ ظُهُورَ فَائِدَةِ التَّقْيِيدِ بِالنَّظَرِ إلَى بَعْضِ أَفْرَادِ الْكَلَامِ الْعَامِّ كَافٍ فِي كَوْنِ ذَلِكَ الْكَلَامِ الْمُقَيَّدِ بِذَلِكَ الْقَيْدِ مَصُونًا عَنْ اللَّغْوِ وَغَيْرَ مُخِلٍّ بِعُمُومِهِ فَرْدًا آخَرَ أَيْضًا، إذَا لَمْ يَكُنْ الْقَيْدُ مُنَافِيًا لِعُمُومِ ذَلِكَ الْفَرْدِ الْآخَرِ، وَهَاهُنَا كَذَلِكَ فَإِنَّ الْقَضَاءَ كَمَا يُتَصَوَّرُ بَعْدَ الْقَبْضِ يُتَصَوَّرُ قَبْلَ الْقَبْضِ أَيْضًا، غَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّ تَأْثِيرَ الْقَضَاءِ فِي عَدَمِ ثُبُوتِ حَقِّ الشُّفْعَةِ إنَّمَا يَظْهَرُ فِيمَا بَعْدَ الْقَبْضِ تَأَمَّلْ تَقِفْ
بَابُ مَا يَبْطُلُ بِهِ الشُّفْعَةُ
قَالَ (وَإِذَا تَرَكَ الشَّفِيعُ الْإِشْهَادَ حِينَ عَلِمَ بِالْبَيْعِ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ) لِإِعْرَاضِهِ عَنْ الطَّلَبِ وَهَذَا لِأَنَّ الْإِعْرَاضَ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ حَالَةَ الِاخْتِيَارِ وَهِيَ عِنْدَ الْقُدْرَةِ (وَكَذَلِكَ إنْ أَشْهَدَ فِي الْمَجْلِسِ وَلَمْ يَشْهَدْ عَلَى أَحَدِ
بَابُ مَا يَبْطُلُ بِهِ الشُّفْعَةُ)
لَمَّا كَانَ بُطْلَانُ الشَّيْءِ يَقْتَضِي سَابِقَةَ ثُبُوتِهِ ذَكَرَ مَا يَبْطُلُ بِهِ الشُّفْعَةُ بَعْدَ ذِكْرِ مَا يَثْبُتُ بِهِ الشُّفْعَةُ
(قَوْلُهُ وَإِذَا تَرَكَ الشَّفِيعُ الْإِشْهَادَ حِينَ عَلِمَ الْبَيْعَ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ لِإِعْرَاضِهِ عَنْ الطَّلَبِ) فَإِنْ قِيلَ: جَعَلَ تَرْكَ الْإِشْهَادِ هَاهُنَا مُبْطِلًا لِلشُّفْعَةِ وَذَكَرَ قَبْلَ هَذَا فِي بَابِ طَلَبِ الشُّفْعَةِ أَنَّ الْإِشْهَادَ لَيْسَ بِلَازِمٍ، وَإِنَّمَا هُوَ لِنَفْيِ التَّجَاحُدِ، وَكَذَلِكَ ذَكَرَ فِي الذَّخِيرَةِ وَغَيْرِهَا أَنَّ الْإِشْهَادَ لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ أَصْحَابُنَا الْإِشْهَادَ عِنْدَ هَذَا الطَّلَبِ فِي الْكُتُبِ بِطَرِيقِ الِاحْتِيَاطِ، حَتَّى لَوْ أَنْكَرَ الْمُشْتَرِي هَذَا الطَّلَبَ يَتَمَكَّنُ الشَّفِيعُ مِنْ إثْبَاتِهِ لَا لِأَنَّهُ شَرْطٌ لَازِمٌ وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ الْإِشْهَادُ شَرْطًا لَازِمًا لَمْ يَكُنْ تَرْكُهُ مُبْطِلًا لِلشُّفْعَةِ فَمَا وَجْهُ التَّوْفِيقِ بَيْنَهُمَا؟ قُلْنَا: يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهَذَا الْإِشْهَادِ نَفْسَ طَلَبِ الْمُوَاثَبَةِ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ طَلَبُ الْمُوَاثَبَةِ لَا يَنْفَكُّ عَنْ الْإِشْهَادِ فِي حَقِّ عِلْمِ الْقَاضِي سَمَّى هَذَا الطَّلَبَ إشْهَادًا، وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا مَا ذَكَرَهُ مِنْ التَّعْلِيلِ فِي حَقِّ تَرْكِ طَلَبِ الْمُوَاثَبَةِ مِثْلُ مَا ذَكَرَهُ مِنْ التَّعْلِيلِ هَاهُنَا.
كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ وَاكْتَفَى تَاجُ الشَّرِيعَةِ وَصَاحِبُ الْكِفَايَةِ بِتَفْسِيرِ الْإِشْهَادِ الْمَذْكُورِ هَاهُنَا بِطَلَبِ الْمُوَاثَبَةِ حَيْثُ قَالَا: وَإِذَا تَرَكَ الشَّفِيعُ الْإِشْهَادَ: أَيْ طَلَبَ الْمُوَاثَبَةِ وَاسْتَغْنَوْا بِهَذَا التَّفْسِيرِ عَنْ التَّعَرُّضِ لِتَفْصِيلِ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ بِالْكُلِّيَّةِ وَفَسَّرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ أَيْضًا بِمَا فَسَّرَاهُ بِهِ وَلَكِنْ قَالَ بَعْدَهُ: وَإِنَّمَا فَسَّرْنَا بِذَلِكَ لِئَلَّا يُرَدَّ مَا ذُكِرَ قَبْلَ هَذَا أَنَّ الْإِشْهَادَ لَيْسَ بِشَرْطٍ، فَإِنَّ تَرْكَ مَا لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي شَيْءٍ لَا يُبْطِلُهُ وَيُعَضِّدُهُ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ مِنْ قَبْلُ: وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ فِي الْكِتَابِ أَشْهَدَ فِي مَجْلِسِهِ ذَلِكَ عَلَى الْمُطَالَبَةِ طَلَبُ الْمُوَاثَبَةِ.
وَقَوْله هَاهُنَا لِإِعْرَاضِهِ عَنْ الطَّلَبِ إلَى هُنَا كَلَامُهُ أَقُولُ: فِيهِ خَلَلٌ، لِأَنَّ جَعْلَ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ هُنَا لِإِعْرَاضِهِ عَنْ الطَّلَبِ عَاضِدًا: أَيْ مُعِينًا لِكَوْنِ الْمُرَادِ بِالْإِشْهَادِ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ هَاهُنَا نَفْسَ طَلَبِ الْمُوَاثَبَةِ، صَحِيحٌ، إذْ لَوْ كَانَ الْإِشْهَادُ هَاهُنَا عَلَى مَعْنَاهُ الظَّاهِرِيِّ لَقَالَ فِي تَعْلِيلِ بُطْلَانِ الشُّفْعَةِ بِتَرْكِهِ لِإِعْرَاضِهِ عَنْ الْإِشْهَادِ دُونَ أَنْ يُقَالَ لِإِعْرَاضِهِ عَنْ الطَّلَبِ، وَهُوَ الَّذِي أَشَارَ إلَيْهِ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ بِقَوْلِهِمَا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا ذَكَرَهُ مِنْ التَّعْلِيلِ فِي حَقِّ تَرْكِ طَلَبِ الْمُوَاثَبَةِ
الْمُتَبَايِعَيْنِ وَلَا عِنْدَ الْعَقَارِ) وَقَدْ أَوْضَحْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ قَالَ (وَإِنْ صَالَحَ مِنْ شُفْعَتِهِ عَلَى عِوَضٍ بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ وَرَدَّ الْعِوَضَ) لِأَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ لَيْسَ بِحَقٍّ مُتَقَرِّرٍ فِي الْمَحِلِّ، بَلْ هُوَ مُجَرَّدُ حَقِّ التَّمَلُّكِ فَلَا يَصِحُّ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ، وَلَا يَتَعَلَّقُ إسْقَاطُهُ بِالْجَائِزِ مِنْ الشَّرْطِ فَبِالْفَاسِدِ أَوْلَى فَيَبْطُلَ الشَّرْطُ وَيَصِحَّ الْإِسْقَاطُ
مِثْلَ مَا ذَكَرَهُ مِنْ التَّعْلِيلِ هَاهُنَا اهـ.
وَأَمَّا جَعْلُ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ مِنْ قَبْلُ وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ فِي الْكِتَابِ أَشْهَدَ فِي مَجْلِسِهِ ذَلِكَ عَلَى الْمُطَالَبَةِ طَلَبُ الْمُوَاثَبَةِ عَاضِدًا أَيْضًا لِذَلِكَ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، إذْ لَا يَذْهَبُ عَلَى ذِي مُسْكَةٍ أَنَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ هُنَاكَ بِقَوْلِهِ الْمَذْكُورِ هُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ فِي الْكِتَابِ عَلَى الْمُطَالَبَةِ طَلَبُ الْمُوَاثَبَةِ لَا طَلَب التَّقْرِيرِ، وَلَيْسَ مُرَادُهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ فِي الْكِتَابِ أَشْهَدَ عَلَى طَلَبِ الْمُوَاثَبَةِ، إذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ مَعْنَى مَا فِي الْكِتَابِ طَلَبَ فِي مَجْلِسِهِ ذَلِكَ عَلَى الْمُطَالَبَةِ وَفَسَادُهُ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى غَيْرُ خَافٍ عَلَى أَحَدٍ، وَالْمُفَسَّرُ هَاهُنَا بِطَلَبِ الْمُوَاثَبَةِ نَفْسُ الْإِشْهَادِ فَأَيْنَ هَذَا مِنْ ذَلِكَ وَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا عَاضِدًا لِلْآخَرِ
(قَوْلُهُ وَإِنْ صَالَحَ مِنْ شُفْعَتِهِ عَلَى عِوَضٍ بَطَلَتْ الشُّفْعَةُ وَرَدَّ الْعِوَضَ، لِأَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ لَيْسَ بِحَقٍّ مُتَقَرِّرٍ فِي الْمَحِلِّ بَلْ هُوَ مُجَرَّدُ حَقِّ التَّمَلُّكِ فَلَا يَصِحُّ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ، وَلَا يَتَعَلَّقُ إسْقَاطُهُ بِالْجَائِزِ مِنْ الشَّرْطِ فَبِالْفَاسِدِ أَوْلَى فَيَبْطُلَ الشَّرْطُ وَيَصِحَّ الْإِسْقَاطُ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي شَرْح هَذَا الْمَقَامِ: وَإِنْ صَالَحَ مِنْ شُفْعَتِهِ عَلَى عِوَضٍ بَطَلَتْ الشُّفْعَةُ وَرَدَّ الْعِوَضَ أَمَّا بُطْلَانُ الشُّفْعَةِ فَلِأَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ لَيْسَ بِحَقٍّ مُتَقَرِّرٍ فِي الْمَحِلِّ لِأَنَّهُ مُجَرَّدُ حَقِّ التَّمَلُّكِ، وَمَا لَيْسَ بِحَقٍّ مُتَقَرِّرٍ فِي الْمَحِلِّ لَا يَصِحُّ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ وَأَمَّا رَدُّ الْعِوَضِ فَلِأَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ إسْقَاطٌ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْجَائِزِ مِنْ الشَّرْطِ: يَعْنِي الشَّرْطَ الْمُلَائِمَ، وَهُوَ أَنْ يُعَلَّقَ إسْقَاطُهُ بِشَرْطٍ لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الْمَالِ، مِثْلُ قَوْلِ الشَّفِيعِ لِلْمُشْتَرِي سَلَّمْتُك شُفْعَةَ هَذِهِ الدَّارِ إنْ أَجَرْتَنِيهَا أَوْ أَعَرْتَنِيهَا، فَبِالْفَاسِدِ وَهُوَ مَا ذُكِرَ فِيهِ الْمَالُ أَوْلَى اهـ كَلَامُهُ.
أَقُولُ: هَذَا شَرْحٌ سَقِيمٌ غَيْرُ مُطَابِقٍ لِلْمَشْرُوحِ، لِأَنَّهُ وَزَّعَ تَعْلِيلَ الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ لِأَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ لَيْسَ بِحَقٍّ مُتَقَرِّرٍ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فِي الْمَحِلِّ إلَخْ إلَى قَوْلِهِ بَطَلَتْ الشُّفْعَةُ وَإِلَى قَوْلِهِ وَرَدَّ الْعِوَضَ، فَجَعَلَ قَوْلَهُ لِأَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ إلَى قَوْلِهِ فَلَا يَصِحُّ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ دَلِيلًا عَلَى قَوْلِهِ بَطَلَتْ الشُّفْعَةُ، وَجَعَلَ قَوْلَهُ وَلَا يَتَعَلَّقُ إسْقَاطُهُ إلَخْ دَلِيلًا عَلَى قَوْلِهِ وَرَدَّ الْعِوَضَ بِطَرِيقِ اللَّفِّ وَالنَّشْرِ الْمُرَتَّبِ وَلَا يَخْفَى عَلَى ذِي فِطْرَةٍ سَلِيمَةٍ مُتَأَمِّلٍ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ بِأَدْنَى تَأَمُّلٍ أَنَّ حَقَّ التَّوْزِيعِ عَلَى عَكْسِ ذَلِكَ، وَهَذَا مَعَ كَوْنِهِ مِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَطْعًا مَعْنَى الْمَقَامِ يُرْشِدُ إلَيْهِ جِدًّا التَّفْرِيعَانِ الْمَذْكُورَانِ فِي ذَيْلِ الدَّلِيلَيْنِ الْحَاصِلَيْنِ مِنْ التَّوْزِيعِ: أَعْنِي قَوْلَهُ فَلَا يَصِحُّ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ فِي الْأَوَّلِ وَقَوْلُهُ فَيَبْطُلُ الشَّرْطُ وَيَصِحُّ الْإِسْقَاطُ فِي الثَّانِي تَبَصَّرْ وَاعْتَرَضَ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ عَلَى قَوْلِ الْمُصَنِّفِ وَلَا يَتَعَلَّقُ إسْقَاطُهُ بِالْجَائِزِ مِنْ الشَّرْطِ فَبِالْفَاسِدِ أَوْلَى حَيْثُ قَالَ: وَلَنَا فِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ إسْقَاطَ حَقِّ الشُّفْعَةِ يَتَعَلَّقُ بِالْجَائِزِ مِنْ الشَّرْطِ، أَلَا يَرَى إلَى مَا قَالَ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ: لَوْ قَالَ الشَّفِيعُ سَلَّمْتُ شُفْعَةَ هَذِهِ الدَّارِ إنْ كُنْتَ اشْتَرَيْتَهَا لِنَفْسِك وَقَدْ اشْتَرَاهَا لِغَيْرِهِ، أَوْ قَالَ لِلْبَائِعِ سَلَّمْتهَا لَك إنَّ كُنْتَ بِعْتَهَا لِنَفْسِك وَقَدْ بَاعَهَا لِغَيْرِهِ فَهَذَا لَيْسَ بِتَسْلِيمٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الشَّفِيعَ عَلَّقَ التَّسْلِيمَ بِشَرْطٍ، وَصَحَّ هَذَا التَّعْلِيقُ لِأَنَّ تَسْلِيمَ الشُّفْعَةِ إسْقَاطٌ مَحْضٌ كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَلِهَذَا لَا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ، وَمَا كَانَ إسْقَاطًا مَحْضًا صَحَّ تَعْلِيقُهُ بِالشَّرْطِ وَمَا صَحَّ تَعْلِيقُهُ بِالشَّرْطِ لَا يُتْرَكُ إلَّا بَعْد وُجُودِ الشَّرْط فَلَا يُتْرَكُ التَّسْلِيمُ اهـ.
قَالَ الشَّارِح الْعَيْنِيّ بَعْدَ نَقْلِ هَذَا النَّظَرِ عَنْ صَاحِب الْغَايَة: قُلْت: اسْتِخْرَاج هَذَا النَّظَرِ الْغَيْر الْوَارِد مِنْ قَوْل الشَّيْخِ أَبِي الْمُعَيَّنِ النَّسَفِيِّ فِي شَرْحِ الْجَامِع الْكَبِير حَيْثُ قَالَ فِيهِ: فَإِنْ قِيلَ: إذَا لَمْ يَجِب الْعِوَض يَجِب أَنْ لَا تُبْطَلَ الشُّفْعَةُ أَيْضًا، لِأَنَّهُ إنَّمَا أَبْطَلَ حَقّه بِشَرْطِ سَلَامَة الْعِوَض، فَإِذَا لَمْ يُسْلَم وَجَبَ أَنْ لَا تُبْطَل كَمَا فِي الْكَفَالَة إذَا صَالَحَ الْكَفِيلُ الْمَكْفُولَ لَهُ عَلَى مَال حَتَّى يُبَرِّئهُ مِنْ الْكَفَالَة لِمَا لَمْ يَجِب الْعِوَض لَمْ تَثْبُت الْبَرَاءَة.
قِيلَ لَهُ بِأَنَّ الْمَال لَا يَصْلُح عِوَضًا عَنْ الشُّفْعَة فَصَارَ كَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِير فِي بَاب الْخُلْع وَالصُّلْح عَنْ دَم الْعَمْد وَثَمَّةَ يَقَع الطَّلَاق وَيَسْقُط الْقِصَاص إذَا وَجَدَ الْقَبُول مِنْ الْمَرْأَة وَالْقَاتِل وَلَمْ يَجِب شَيْء، كَذَا هُنَا وَأَمَّا الصُّلْح عَنْ الْكَفَالَة بِالنَّفْسِ فَكَذَلِكَ عَلَى مَا ذَكَر مُحَمَّد فِي كِتَاب الشُّفْعَة مِنْ الْمَبْسُوط، وَكِتَاب الْكَفَالَة وَالْحَوَالَة مِنْ الْمَبْسُوط فِي رِوَايَة أَبِي حَفْص، وَعَلَى مَا ذَكَر فِي كِتَاب الْحَوَالَة وَالْكَفَالَة مِنْ الْمَبْسُوط فِي رِوَايَة أَبِي سَلِيمَانِ لَا يَبْرَأ، وَيَحْتَاج إلَى الْفَرْقِ، وَالْفَرْقُ أَنَّ حَقَّ الشَّفِيع قَدْ سَقَطَ بِعِوَضٍ مَعْنًى فَإِنَّ الثَّمَن سَلَّمَ لَهُ، فَإِنَّهُ مَتَى أَخَذَ الدَّار بِالشُّفْعَةِ وَجَبَ عَلَيْهِ الثَّمَنُ فَمَتَى سَلَّمَ لَهُ الثَّمَن فَقَدْ سَلَّمَ لَهُ نَوْعَ عِوَضٍ بِإِزَاءِ التَّسْلِيم فَلَا بُدّ مِنْ الْقَوْل بِسُقُوطِ حَقِّهِ فِي الشُّفْعَة فَأَمَّا الْمَكْفُول لَهُ فَلَمْ يَرْضَ بِسُقُوطِ حَقِّهِ عَنْ الْكَفِيل بِغَيْرِ عِوَضٍ وَلَمْ يَحْصُلْ لَهُ عِوَضٌ أَصْلًا فَلَا يَسْقُط حَقّه فِي الْكَفَالَة اهـ.
وَمِنْ هَذَا الْجَوَاب يُحَصَّل الْجَوَابُ عَنْ النَّظَر الْمَذْكُور؛ إلَى هُنَا لَفْظ شَرْحِ الْعَيْنِيّ أَقُول: لَا يَذْهَب عَلَيْك أَنَّهُ لَا يُحَصَّل مِنْ الْجَوَابُ الْمَذْكُور فِي كَلَام الشَّيْخ أَبِي الْمُعَيَّن الْجَوَابُ عَنْ النَّظَر الْمَذْكُورِ، بَلْ لَا مِسَاس لَهُ بِذَلِكَ لِأَنَّ مَا وَقَعَ مِنْ السُّؤَال وَالْجَوَاب فِي كَلَام الشَّيْخ أَبِي الْمُعَيَّن مُتَعَلِّق بِأَصْلِ الْمَسْأَلَة، وَالنَّظَر الْمَذْكُورُ مُتَعَلِّق بِمُقَدَّمَةِ الدَّلِيل وَهِيَ قَوْله وَلَا يَتَعَلَّق إسْقَاطه بِالْجَائِزِ مِنْ الشَّرْط فَأَحَدهمَا بِمَعْزِلِ عَنْ الْآخِر، كَيْف لَا وَقَدْ ذَكَر صَاحِب الْغَايَة أَوَّلًا كَلَام الشَّيْخ أَبِي الْمُعَيَّن بِتَمَامِهِ نَقْلًا عَنْهُ حَيْثُ قَالَ: وَأُورِدَ الشَّيْخ أَبُو الْمُعَيَّنِ النَّسَفِيُّ فِي شَرْحِ الْجَامِع سُؤَالًا وَجَوَابًا فِي هَذَا الْمَوْضِع قَالَ: فَإِنْ قِيلَ: إذَا لَمْ يَجِب الْعِوَض يَجِب أَنْ لَا تُجِبْ شُفْعَته أَيْضًا إلَى آخِر كَلَامه، ثُمَّ أُورِد نَظَرُهُ الْمَذْكُور فِي حَاشِيَة أُخْرَى، وَلَمْ يَجِب عَنْهُ؛ فَبَيْنهمَا بَوْن لَا يَخْفَى ثُمَّ قَالَ صَاحِب الْعِنَايَة: وَقَوْله عَلَى عِوَضٍ إشَارَة إلَى أَنَّ الصُّلْح إذَا كَانَ عَلَى بَعْض الدَّار صَحَّ وَلَمْ تَبْطُلْ الشُّفْعَة لِأَنَّ ذَلِكَ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدهمَا أَنْ يُصَالِحهُ عَلَى أَخْذِ نِصْفِ الدَّار بِنِصْفِ الثَّمَن، وَفِيهِ الصُّلْح جَائِز لِفَقْدِ الْإِعْرَاض.
وَالثَّانِي أَنْ يُصَالِحهُ عَلَى أَخَذَ بَيْتٍ بِعَيْنِهِ مِنْ الدَّار بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَن، وَالصُّلْح فِيهِ لَا يَجُوز لِأَنَّ حِصَّتَهُ مَجْهُولَةٌ وَلَهُ الشُّفْعَة لِفَقْدِ الْإِعْرَاض اهـ.
أَقُول: فِيهِ بَحْثُ، أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّا لَا نُسَلِّم أَنَّ فِي قَوْله عَلَى عِوَضٍ إشَارَة إلَى أَنَّ الصُّلْح إذَا كَانَ عَلَى بَعْض الدَّار صَحَّ وَلَمْ تَبْطُلْ الشُّفْعَة، إذْ لَا يُتَصَوَّر إشَارَةُ قَوْلِهِ الْمَذْكُورِ إلَى ذَلِكَ إلَّا بِطَرِيقِ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَة، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَفْهُوم قَوْله عَلَى عِوَضٍ بِطَرِيقِ الْمُخَالَفَة هُوَ مَعْنَى بِلَا عِوَضٍ، وَهُوَ يَعُمّ بَعْض الدَّار وَكُلّ الدَّار وَمَا لَيْسَ بِدَارِ وَلَا عِوَضَ أَصْلًا، إذْ لَا يُصْلَح شَيْء مِنْهُمَا لَأَنْ يَكُون عِوَضًا فَيَصِير الصُّلْح
وَكَذَا لَوْ بَاعَ شُفْعَتَهُ بِمَالٍ لِمَا بَيَّنَّا، بِخِلَافِ الْقِصَاصِ لِأَنَّهُ حَقٌّ مُتَقَرِّرٌ، وَبِخِلَافِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ لِأَنَّهُ اعْتِيَاضٌ عَنْ مِلْكٍ فِي الْمَحِلِّ وَنَظِيرُهُ إذَا قَالَ لِلْمُخَيَّرَةِ اخْتَارِينِي بِأَلْفٍ أَوْ قَالَ الْعِنِّينُ لِامْرَأَتِهِ اخْتَارِي تَرْكَ الْفَسْخِ بِأَلْفٍ فَاخْتَارَتْ سَقَطَ الْخِيَارُ وَلَا يَثْبُتُ الْعِوَضُ، وَالْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ فِي هَذَا بِمَنْزِلَةِ الشُّفْعَةِ فِي رِوَايَةٍ، وَفِي أُخْرَى: لَا تَبْطُلُ الْكَفَالَةُ وَلَا يَجِبُ الْمَالُ وَقِيلَ هَذِهِ رِوَايَةٌ فِي الشُّفْعَةِ، وَقِيلَ هِيَ فِي الْكَفَالَةِ خَاصَّةً وَقَدْ عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ قَالَ (وَإِذَا مَاتَ الشَّفِيعُ بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تُورَثُ عَنْهُ.
قَالَ رضي الله عنه: مَعْنَاهُ إذَا مَاتَ بَعْدَ الْبَيْعِ قَبْلَ الْقَضَاءِ بِالشُّفْعَةِ، أَمَّا إذَا مَاتَ
فِي جَمِيعِ هَذِهِ الصُّوَرِ بِلَا عِوَضٍ، وَأَنَّ مَفْهُومَ قَوْلِهِ فِي جَوَابِ الْمَسْأَلَةِ بَطَلَتْ الشُّفْعَةُ وَرَدَّ الْعِوَضَ يَعُمُّ أَيْضًا مَا صَحَّ الشَّرْطُ وَبَطَلَتْ الشُّفْعَةُ وَمَا لَمْ يَصِحَّ الشَّرْطُ وَلَمْ تَبْطُلْ الشُّفْعَةُ وَمَا صَحَّ الشَّرْطُ وَالشُّفْعَةُ أَيْضًا، فَمِنْ بَيْنِ هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتِ كَيْفَ يَحْصُلُ الْإِشَارَةُ إلَى خُصُوصِ أَنَّ الصُّلْحَ إذَا كَانَ عَلَى بَعْضِ الدَّارِ صَحَّ وَلَمْ تَبْطُلْ الشُّفْعَةُ كَمَا فِي الْوَجْهَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرَهُمَا.
نَعَمْ الْحُكْمُ فِي الْوَجْهَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ كَمَا قَالَهُ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْمَبْسُوطِ وَعَامَّةِ الْمُعْتَبَرَاتِ، لَكِنَّ الْكَلَامَ فِي عَدَمِ تَمَامِ إشَارَةِ عِبَارَةِ الْكِتَابِ إلَيْهِ كَمَا ادَّعَاهَا صَاحِبُ الْعِنَايَةِ وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ تَعْلِيلَ جَوَازِ الصُّلْحِ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ مِنْ الْوَجْهَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرَهُمَا بِفَقْدِ الْإِعْرَاضِ مِمَّا لَا يَكَادُ يَتِمُّ، لِأَنَّ فَقْدَ الْإِعْرَاضِ مُتَحَقِّقٌ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي مِنْهُمَا أَيْضًا كَمَا صَرَّحَ بِهِ مَعَ عَدَمِ جَوَازِ الصُّلْحِ فِيهِ لِجَهَالَةِ الْحِصَّةِ الْمَشْرُوطَةِ فِي الصُّلْحِ عَلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ، فَالْوَجْهُ فِي تَعْلِيلِ جَوَازِ الصُّلْحِ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ أَنْ يُقَالَ لِكَوْنِ الْحِصَّةِ مَعْلُومَةً تَدَبَّرْ
(قَوْلُهُ وَكَذَا لَوْ بَاعَ شُفْعَتَهُ بِمَالٍ لِمَا بَيَّنَّا)
بَعْدَ قَضَاءِ الْقَاضِي قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ وَقَبَضَهُ فَالْبَيْع لَازِمٌ لِوَرَثَتِهِ، وَهَذَا نَظِيرُ الِاخْتِلَافِ فِي خِيَارِ الشَّرْطِ وَقَدْ مَرَّ فِي الْبُيُوعِ، وَلِأَنَّهُ بِالْمَوْتِ يَزُولُ مِلْكُهُ عَنْ دَارِهِ وَيَثْبُتُ الْمِلْكُ لِلْوَارِثِ بَعْدَ الْبَيْعِ وَقِيَامُهُ وَقْتَ الْبَيْعِ وَبَقَاؤُهُ لِلشَّفِيعِ إلَى وَقْتِ الْقَضَاءِ شَرْطًا فَلَا يَسْتَوْجِبُ الشُّفْعَةَ بِدُونِهِ (وَإِنْ مَاتَ الْمُشْتَرِي لَمْ تَبْطُلْ) لِأَنَّ الْمُسْتَحِقَّ بَاقٍ وَلَمْ يَتَغَيَّرْ سَبَبُ حَقِّهِ، وَلَا يُبَاعُ فِي دَيْنِ الْمُشْتَرِي وَوَصِيَّتِهِ، وَلَوْ بَاعَهُ الْقَاضِي أَوْ الْوَصِيُّ أَوْ أَوْصَى الْمُشْتَرِي فِيهَا بِوَصِيَّةٍ فَلِلشَّفِيعِ أَنْ يُبْطِلَهُ وَيَأْخُذَ الدَّارَ لِتَقَدُّمِ حَقِّهِ وَلِهَذَا يُنْقَضُ تَصَرُّفُهُ فِي حَيَاتِهِ قَالَ (وَإِذَا بَاعَ الشَّفِيعُ مَا يُشْفَعُ بِهِ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى لَهُ بِالشُّفْعَةِ بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ) لِزَوَالِ سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ قَبْلَ التَّمَلُّكِ وَهُوَ الِاتِّصَالُ بِمِلْكِهِ وَلِهَذَا يَزُولُ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِشِرَاءِ الْمَشْفُوعَةِ كَمَا إذَا سَلَّمَ صَرِيحًا أَوْ إبْرَاءً عَنْ الدَّيْنِ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِهِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ الشَّفِيعُ دَارِهِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لَهُ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ الزَّوَالَ فَبَقِيَ الِاتِّصَالُ قَالَ (وَوَكِيلُ الْبَائِعِ إذَا بَاعَ وَهُوَ الشَّفِيعُ فَلَا شُفْعَةَ لَهُ، وَوَكِيلُ الْمُشْتَرِي إذَا ابْتَاعَ فَلَهُ
أَشَارَ بِهِ إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ لَيْسَ بِحَقٍّ مُتَقَرِّرٍ فِي الْمَحِلِّ، بَلْ هُوَ مُجَرَّدُ حَقِّ التَّمَلُّكِ فَلَا يَصِحُّ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ مَا بَيَّنَهُ لَا يَفِي بِتَمَامِ الْمُدَّعَى هُنَا، إذْ لَا إسْقَاطَ فِي الْبَيْعِ فَلَا بُدَّ مِنْ مُلَاحَظَةِ مُقَدِّمَةٍ أُخْرَى اهـ.
أَقُولُ: نَعَمْ لَا إسْقَاطَ فِي الْبَيْعِ الْحَقِيقِيِّ، وَأَمَّا مَا نَحْنُ فِيهِ وَهُوَ بَيْعُ الشُّفْعَةِ بِمَالٍ فَلَيْسَ بِبَيْعٍ حَقِيقَةً يُعْرَفُ ذَلِكَ مِمَّا بَيَّنَهُ مِنْ قَبْلُ وَهُوَ قَوْلُهُ لِأَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ لَيْسَ بِحَقٍّ مُتَقَرِّرٍ، إلَى قَوْلِهِ فَلَا يَصِحُّ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ، فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَصِحَّ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ لَمْ يَكُنْ
الشُّفْعَةُ) وَالْأَصْلُ أَنَّ مَنْ بَاعَ أَوْ بِيعَ لَا شُفْعَةَ لَهُ، وَمَنْ اشْتَرَى أَوْ اُبْتِيعَ لَهُ فَلَهُ الشُّفْعَةُ، لِأَنَّ الْأَوَّلَ بِأَخْذِ الْمَشْفُوعَةِ يَسْعَى فِي نَقْضِ مَا تَمَّ مِنْ جِهَتِهِ وَهُوَ الْبَيْعُ، وَالْمُشْتَرِي لَا يُنْقَضُ شِرَاؤُهُ بِالْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ لِأَنَّهُ مِثْلُ الشِّرَاءِ (وَكَذَلِكَ لَوْ ضَمِنَ الدَّرْكَ عَنْ الْبَائِعِ وَهُوَ الشَّفِيعُ فَلَا شُفْعَةَ لَهُ) وَكَذَلِكَ إذَا بَاعَ وَشَرَطَ الْخِيَارَ لِغَيْرِهِ فَأَمْضَى الْمَشْرُوطُ لَهُ الْخِيَارُ الْبَيْعَ وَهُوَ الشَّفِيعُ فَلَا شُفْعَةَ لَهُ، لِأَنَّ الْبَيْعَ تَمَّ بِإِمْضَائِهِ، بِخِلَافِ جَانِبِ الْمَشْرُوطِ لَهُ الْخِيَارُ مِنْ جَانِبِ الْمُشْتَرِي
قَالَ (وَإِذَا بَلَغَ الشَّفِيعَ أَنَّهَا بِيعَتْ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَسَلَّمَ ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهَا بِيعَتْ بِأَقَلَّ أَوْ بِحِنْطَةٍ أَوْ شَعِيرٍ قِيمَتُهَا أَلْفٌ أَوْ أَكْثَرُ فَتَسْلِيمُهُ بَاطِلٌ وَلَهُ الشُّفْعَةُ) لِأَنَّهُ إنَّمَا سَلَّمَ لِاسْتِكْثَارِ الثَّمَنِ فِي الْأَوَّلِ وَلِتَعَذُّرِ الْجِنْسِ الَّذِي بَلَغَهُ وَتَيَسُّرِ مَا بِيعَ بِهِ فِي الثَّانِي إذْ الْجِنْسُ مُخْتَلِفٌ، وَكَذَا كُلُّ مَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ أَوْ عَدَدِيٍّ مُتَقَارِبٍ، بِخِلَافِ مَا إذَا عَلِمَ أَنَّهَا بِيعَتْ بِعَرَضٍ، قِيمَتُهُ أَلْفٌ أَوْ أَكْثَرُ، لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِيهِ الْقِيمَةُ وَهِيَ دَرَاهِمُ أَوْ دَنَانِيرُ، وَإِنْ بَانَ أَنَّهَا بِيعَتْ بِدَنَانِيرَ قِيمَتُهَا أَلْفٌ فَلَا شُفْعَةَ لَهُ، وَكَذَا إذَا كَانَتْ أَكْثَرَ وَقَالَ زُفَرُ: لَهُ الشُّفْعَةُ لِاخْتِلَافِ الْجِنْسِ وَلَنَا أَنَّ الْجِنْسَ مُتَّحِدٌ فِي حَقِّ الثَّمَنِيَّةِ
بَيْعًا حَقِيقِيًّا لِأَنَّهُ مِنْ الْمُعَاوَضَاتِ الْمَالِيَّةِ وَلَمْ يَكُنْ أَيْضًا شَيْئًا مِنْ الْمُعَاوَضَاتِ أَصْلًا فَلَا جَرَمَ كَانَ إسْقَاطًا فَتَمَّ بِهِ الْمَطْلُوبُ هُنَا، وَعَنْ هَذَا قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ: لَوْ بَاعَ شُفْعَتَهُ بِمَالٍ كَانَ تَسْلِيمًا، لِأَنَّ الْبَيْعَ تَمْلِيكُ مَالٍ بِمَالٍ وَحَقُّ الشُّفْعَةِ لَا يَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ فَيَصِيرَ كَلَامُهُ عِبَارَةً عَنْ الْإِسْقَاطِ مَجَازًا كَبَيْعِ الزَّوْجِ زَوْجَتَهُ مِنْ نَفْسِهَا اهـ
(قَوْلُهُ وَإِذَا بَلَغَ الشَّفِيعَ أَنَّهَا بِيعَتْ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَسَلَّمَ ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهَا بِيعَتْ بِأَقَلَّ أَوْ بِحِنْطَةٍ أَوْ شَعِيرٍ قِيمَتُهَا أَلْفٌ أَوْ أَكْثَرُ فَتَسْلِيمُهُ بَاطِلٌ وَلَهُ الشُّفْعَةُ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: تَقْيِيدُهُ بِقَوْلِهِ قِيمَتُهَا أَلْفٌ أَوْ أَكْثَرُ غَيْرُ مُفِيدٍ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ قِيمَتُهَا أَقَلَّ مِمَّا اشْتَرَى مِنْ الدَّرَاهِمِ كَانَ تَسْلِيمُهُ بَاطِلًا أَيْضًا، لِأَنَّ إطْلَاقَ مَا ذَكَرَهُ فِي الْمَبْسُوطِ وَالْإِيضَاحِ دَلِيلٌ عَلَيْهِ حَيْثُ قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ: وَكَذَلِكَ لَوْ أُخْبِرَ أَنَّ الثَّمَنَ عَبْدٌ أَوْ ثَوْبٌ ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّهُ كَانَ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا فَهُوَ عَلَى شُفْعَتِهِ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ أَنَّ قِيمَةَ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ أَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهِ الَّتِي اشْتَرَاهَا بِهِ أَوْ أَكْثَرُ، وَكَذَلِكَ تَعْلِيلُهُ دَالٌّ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ فِي الْإِيضَاحِ مِنْ الْإِطْلَاقِ وَالتَّعْلِيلِ دَالٌّ عَلَيْهِ.
وَهَكَذَا أَيْضًا اسْتَدَلَّ فِي الذَّخِيرَةِ بِمَا ذَكَرَهُ فِي الْمَبْسُوطِ وَقَالَ: فَلَوْ أُخْبِرَ أَنَّ الثَّمَنَ شَيْءٌ
قَالَ (وَإِذَا قِيلَ لَهُ إنَّ الْمُشْتَرِيَ فُلَانٌ فَسَلَّمَ الشُّفْعَةَ ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ غَيْرُهُ فَلَهُ الشُّفْعَةُ) لِتَفَاوُتِ الْجِوَارِ (وَلَوْ عَلِمَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ هُوَ مَعَ غَيْرِهِ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ نَصِيبَ غَيْرِهِ) لِأَنَّ التَّسْلِيمَ لَمْ يُوجَدْ فِي حَقِّهِ (وَلَوْ بَلَغَهُ شِرَاءُ النِّصْفِ فَسَلَّمَ ثُمَّ ظَهَرَ شِرَاءُ الْجَمِيعِ فَلَهُ الشُّفْعَةُ) لِأَنَّ التَّسْلِيمَ لِضَرَرِ الشَّرِكَةِ وَلَا شَرِكَةَ، وَفِي عَكْسِهِ لَا شُفْعَةَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ فِي الْكُلِّ تَسْلِيمٌ فِي أَبْعَاضِهِ
هُوَ مِنْ ذَوَاتِ الْقِيَمِ فَسَلَّمَ ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّهُ كَانَ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا فَهُوَ عَلَى الشُّفْعَةِ، هَكَذَا ذَكَرَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ ثُمَّ قَالَ: فَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ لَوْ أُخْبِرَ أَنَّ الثَّمَنَ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَإِذَا ظَهَرَ أَنَّهُ مَكِيلٌ أَوْ مَوْزُونٌ فَهُوَ عَلَى شُفْعَتِهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ إلَى هُنَا لَفْظُ النِّهَايَةِ، وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: قَالَ فِي النِّهَايَةِ: تَقْيِيدُهُ بِقَوْلِهِ قِيمَتُهَا أَلْفٌ أَوْ أَكْثَرُ غَيْرُ مُفِيدٍ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ قِيمَتُهَا أَقَلَّ مِمَّا اشْتَرَى مِنْ الدَّرَاهِمِ كَانَ تَسْلِيمُهُ بَاطِلًا أَيْضًا وَتَكَلَّفَ لِذَلِكَ كَثِيرًا وَهُوَ يَعْلَمُ بِالْأَوْلَوِيَّةِ، فَإِنَّ التَّسْلِيمَ إذَا لَمْ يَصِحَّ فِيمَا إذَا ظَهَرَ الثَّمَنُ أَكْثَرَ مِنْ الْمُسَمَّى فَلَأَنْ لَا يَصِحَّ إذَا ظَهَرَ أَقَلَّ أَوْلَى اهـ.
أَقُولُ: مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ لَا يَدْفَعُ مَا قَالَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ مِنْ كَوْنِ التَّقْيِيدِ الْوَاقِعِ فِي عِبَارَةِ الْكِتَابِ بِقَوْلِهِ قِيمَتُهَا أَلْفٌ أَوْ أَكْثَرُ غَيْرُ مُفِيدٍ، فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ جَوَابُ الْمَسْأَلَةِ غَيْرَ مُخْتَلَفٍ فِيمَا إذَا كَانَ قِيمَتُهَا أَلْفًا أَوْ أَكْثَرَ أَوْ أَقَلَّ كَانَ التَّقْيِيدُ بِكَوْنِهَا أَلْفًا، أَوْ أَكْثَرَ غَيْرَ مُفِيدٍ قَطْعًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُخِلًّا بِنَاءً عَلَى إيهَامِهِ فِي بَادِئِ الرَّأْيِ تَقْيِيدَ الْحُكْمِ أَيْضًا فَلَا أَقَلَّ مِنْ كَوْنِهِ مُسْتَدْرِكًا، وَإِنْ عَدَّ السُّلُوكَ مَسْلَكَ الدَّلَالَةِ بِالْأَوْلَوِيَّةِ مَعَ كَوْنِهَا أَمْرًا مُبْهَمًا فِي هَذَا الْمَقَامِ كَفَى أَنْ يُقَالَ قِيمَتُهَا أَكْثَرُ فَإِنَّ التَّسْلِيمَ إذَا لَمْ يَصِحَّ فِيمَا إذَا ظَهَرَ الثَّمَنُ أَكْثَرَ مِنْ الْمُسَمَّى فَلَأَنْ لَا يَصِحَّ فِيمَا إذَا ظَهَرَ أَقَلَّ مِنْهُ أَوْ مُسَاوِيًا لَهُ أَوْلَى فَلَا مُخَلِّصَ مِنْ اسْتِدْرَاكِ أَحَدِ الْقَيْدَيْنِ
(قَوْلُهُ وَإِذَا قِيلَ لَهُ إنَّ الْمُشْتَرِيَ فُلَانٌ فَسَلَّمَ الشُّفْعَةَ ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ غَيْرُهُ فَلَهُ الشُّفْعَةُ لِتَفَاوُتِ الْجِوَارِ) يَعْنِي لِتَفَاوُتِ النَّاسِ فِي الْجِوَارِ، فَالرِّضَا بِجِوَارِ هَذَا لَا يَكُونُ رِضًا بِجِوَارِ ذَاكَ كَذَا فِي الْكَافِي قَالَ مُحَمَّدٌ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ: لَوْ قَالَ الشَّفِيعُ سَلَّمْت شُفْعَةَ هَذِهِ الدَّارِ إنْ كُنْتَ اشْتَرَيْتَهَا لِنَفْسِك وَقَدْ اشْتَرَاهَا لِغَيْرِهِ فَهَذَا لَيْسَ بِتَسْلِيمٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الشَّفِيعَ عَلَّقَ التَّسْلِيمَ بِشَرْطٍ، وَصَحَّ هَذَا التَّعْلِيقُ لِأَنَّ تَسْلِيمَ الشُّفْعَةِ إسْقَاطٌ مَحْضٌ كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ فَصَحَّ تَعْلِيقُهُ بِالشَّرْطِ وَلَا يُتْرَكُ إلَّا بَعْدَ وُجُودِهِ اهـ.
وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ هَاهُنَا بَعْدَ نَقْلِ مَا قَالَهُ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ: وَهَذَا كَمَا تَرَى يُنَاقِضُ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ فِيمَا تَقَدَّمَ وَلَا يَتَعَلَّقُ إسْقَاطُهُ بِالْجَائِزِ مِنْ الشَّرْطِ فَبِالْفَاسِدِ أَوْلَى اهـ وَلَا يَخْفَى أَنَّ كَلَامَ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ هُنَا خُلَاصَةُ النَّظَرِ الَّذِي أَوْرَدَهُ
فَصْلٌ
قَالَ (وَإِذَا بَاعَ دَارًا إلَّا مِقْدَارَ ذِرَاعٍ مِنْهَا فِي طُولِ الْحَدِّ الَّذِي يَلِي الشَّفِيعَ فَلَا شُفْعَةَ لَهُ) لِانْقِطَاعِ الْجِوَارِ، وَهَذِهِ حِيلَةٌ، وَكَذَا إذَا وَهَبَ مِنْهُ هَذَا الْمِقْدَارَ وَسَلَّمَهُ إلَيْهِ لِمَا بَيَّنَّا، قَالَ (وَإِذَا ابْتَاعَ مِنْهَا سَهْمًا بِثَمَنٍ ثُمَّ ابْتَاعَ بَقِيَّتَهَا فَالشُّفْعَةُ لِلْجَارِ فِي السَّهْمِ الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي) لِأَنَّ الشَّفِيعَ جَارٍ فِيهِمَا، إلَّا أَنَّ الْمُشْتَرِيَ فِي الثَّانِي شَرِيكٌ فَيَتَقَدَّمُ عَلَيْهِ،
الشَّارِحُ الْأَتْقَانِيُّ فِيمَا تَقَدَّمَ عَلَى قَوْلِ الْمُصَنِّفِ وَنَقَلْنَاهُ عَنْهُ، وَذَكَرْنَا مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ الْكَلِمَاتِ هُنَالِكَ.
وَقَصَدَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ دَفْعَ ذَلِكَ حَيْثُ قَالَ: وَأَنْتَ خَبِيرٌ بِأَنَّهُ فَرَّقَ مَا بَيْنَ شَرْطٍ وَشَرْطٍ، فَمَا سَبَقَ كَانَ مِنْ الشُّرُوطِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى الْإِعْرَاضِ عَنْ الشُّفْعَةِ وَالرِّضَا بِالْجِوَارِ مُطْلَقًا، بِخِلَافِ مَا ذُكِرَ هُنَا فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَتَيَسَّرْ لِلشَّفِيعِ أَدَاءُ مَا اشْتَرَى بِهِ الدَّارَ لَمْ يَدُلَّ تَسْلِيمُهُ عَلَى الْإِعْرَاضِ، إذْ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى أَخْذِهِ، وَكَذَا تَسْلِيمُهُ لِزَيْدٍ لَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا بِجِوَارِ عَمْرٍو فَلْيُتَأَمَّلْ اهـ كَلَامُهُ أَقُولُ: هَذَا لَيْسَ بِسَدِيدٍ، لِأَنَّ حَاصِلَهُ حَمْلُ الشَّرْطِ الْمَذْكُورِ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ فِيمَا سَبَقَ عَلَى الشَّرْطِ الْمَخْصُوصِ وَهُوَ الشَّرْطُ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى الْإِعْرَاضِ، وَحَمْلُ الشَّرْطِ الْمَذْكُورِ فِي كَلَامِ الْإِمَامِ مُحَمَّدٍ فِي الْجَامِعِ عَلَى الشَّرْطِ الْمَخْصُوصِ الْآخَرِ وَهُوَ الشَّرْطُ الَّذِي لَا يَدُلُّ عَلَى الْإِعْرَاضِ وَلَا يَخْفَى عَلَى الْفَطِنِ أَنَّ شَيْئًا مِنْ كَلَامَيْهِمَا لَا يُسَاعِدُ ذَلِكَ أَصْلًا، أَمَّا كَلَامُ الْمُصَنِّفِ فَلِأَنَّهُ قَالَ: وَلَا يَتَعَلَّقُ إسْقَاطُهُ بِالْجَائِزِ مِنْ الشَّرْطِ فَبِالْفَاسِدِ أَوْلَى، وَلَا شَكَّ أَنَّ أَوْلَوِيَّةَ عَدَمِ تَعَلُّقِ إسْقَاطِهِ بِالْفَاسِدِ مِنْ عَدَمِ تَعَلُّقِ إسْقَاطِهِ بِالْجَائِزِ مِنْ الشَّرْطِ إنَّمَا تَظْهَرُ إذَا كَانَ الْمُرَادُ بِالشَّرْطِ الْجَائِزِ جِنْسَ الشَّرْطِ الْجَائِزِ لَا الشَّرْطَ الْجَائِزَ الْمَخْصُوصَ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ لِخُصُوصِهِ حَالَةٌ مَانِعَةٌ عَنْ التَّعْلِيقِ لَمْ تُوجَدْ تِلْكَ فِي الْفَاسِدِ، وَأَمَّا كَلَامُ الْإِمَامِ مُحَمَّدٍ فَلِأَنَّهُ قَالَ: لِأَنَّ تَسْلِيمَ الشُّفْعَةِ إسْقَاطٌ مَحْضٌ كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ فَصَحَّ تَعْلِيقُهُ بِالشَّرْطِ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَا يَتَفَرَّعُ عَلَى كَوْنِ تَسْلِيمِ الشُّفْعَةِ إسْقَاطًا مَحْضًا إنَّمَا هُوَ صِحَّةُ تَعْلِيقِهِ بِالشَّرْطِ مُطْلَقًا لَا صِحَّةُ تَعْلِيقِهِ بِشَرْطٍ مُعَيَّنٍ، سِيَّمَا الشَّرْطَ الَّذِي لَا يَدُلُّ عَلَى الْإِعْرَاضِ، فَإِنَّ كَوْنَهُ إسْقَاطًا يَقْتَضِي الْإِعْرَاضَ دُونَ عَدَمِ الْإِعْرَاضِ، تَأَمَّلْ تَقِفْ
(فَصْلٌ)
لَمَّا كَانَتْ الشُّفْعَةُ تَسْقُطُ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ عُلِمَ تِلْكَ الْأَحْوَالُ فِي هَذَا الْفَصْلِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْجَارُ فَاسِقًا يُتَأَذَّى بِهِ، وَفِي اسْتِعْمَالِ الْحِيلَةِ لِإِسْقَاطِ الشُّفْعَةِ يَحْصُلُ الْخَلَاصُ مِنْ مِثْلِ هَذَا الْجَارِ فَاحْتِيجَ إلَى بَيَانِهِ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ وَغَيْرِهَا، وَلَمَّا كَانَ يَتَّجِهُ عَلَى ظَاهِرِ هَذَا التَّوْجِيهِ أَنَّ الْبَائِعَ يُخْرِجُ الْمَبِيعَ مِنْ يَدِهِ وَمِلْكِهِ بِالْبَيْعِ فَيَحْصُلُ بِهِ الْخَلَاصُ لَهُ مِنْ أَذِيَّةِ مِثْلِ ذَلِكَ الْجَارِ الْفَاسِقِ فَمَا الِاحْتِيَاجُ إلَى اسْتِعْمَالِ الْحِيلَةِ لِإِسْقَاطِ شُفْعَتِهِ؟ تَدَارَكَ دَفْعَ ذَلِكَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ حَيْثُ قَالَ: قَوْلُ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ يُتَأَذَّى بِهِ فِي قَوْلِهِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْجَارُ فَاسِقًا يُتَأَذَّى بِهِ بِأَنْ قَالَ فِي اسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ، وَقَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ ذَلِكَ فِيمَا إذَا كَانَ لِلْبَائِعِ دَارٌ أُخْرَى وَرَاءَ دَارِهِ الْمَبِيعَةِ فَتَدَبَّرْ اهـ أَقُولُ: الْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنْ يُقَالَ الْمَقْصُودُ مِنْ إسْقَاطِ شُفْعَةِ مِثْلِ ذَلِكَ الْجَارِ الْفَاسِقِ الَّذِي يُتَأَذَّى بِهِ دَفْعُ تَأَذِّي الْجِيرَانِ الْمُلَاصِقِينَ بِالدَّارِ الْمَبِيعَةِ دُونَ دَارِ ذَلِكَ الْجَارِ الْفَاسِقِ، لَا دَفْعُ مُجَرَّدِ تَأَذِّي نَفْسِ الْبَائِعِ، وَلَا يَذْهَبُ عَلَيْك أَنَّ هَذِهِ
فَإِنْ أَرَادَ الْحِيلَةَ ابْتَاعَ السَّهْمَ بِالثَّمَنِ إلَّا دِرْهَمًا مَثَلًا وَالْبَاقِي بِالْبَاقِي، وَإِنْ ابْتَاعَهَا بِثَمَنٍ ثُمَّ دَفَعَ إلَيْهِ ثَوْبًا عِوَضًا عَنْهُ فَالشُّفْعَةُ بِالثَّمَنِ دُونَ الثَّوْبِ لِأَنَّهُ عَقْدٌ آخَرُ، وَالثَّمَنُ هُوَ الْعِوَضُ عَنْ الدَّارِ قَالَ رضي الله عنه: وَهَذِهِ حِيلَةٌ أُخْرَى تَعُمُّ الْجِوَارَ وَالشَّرِكَةَ فَيُبَاعَ بِأَضْعَافِ قِيمَتِهِ وَيُعْطَى بِهَا ثَوْبٌ بِقَدْرِ قِيمَتِهِ، إلَّا أَنَّهُ لَوْ اسْتَحَقَّتْ الْمَشْفُوعَةُ يَبْقَى كُلُّ الثَّمَنِ عَلَى مُشْتَرِي الثَّوْبِ لِقِيَامِ الْبَيْعِ الثَّانِي فَيَتَضَرَّرَ بِهِ وَالْأَوْجَهُ أَنْ يُبَاعَ بِالدَّرَاهِمِ الثَّمَنُ دِينَارٌ حَتَّى إذَا اسْتَحَقَّ الْمَشْفُوعُ يَبْطُلُ الصَّرْفُ فَيَجِبَ رَدُّ الدِّينَارُ لَا غَيْرُ
قَالَ (وَلَا تُكْرَهُ الْحِيلَةُ
الْفَائِدَةَ مِمَّا تَتَحَقَّقُ فِي كَثِيرٍ مِنْ الصُّوَرِ، بِخِلَافِ مَا ذَكَرَهُ ذَلِكَ الْبَعْضُ فَتَدَبَّرْ
(قَوْلُهُ وَالْأَوْجَهُ أَنْ يُبَاعَ بِالدَّرَاهِمِ الثَّمَنُ دِينَارٌ حَتَّى إذَا اسْتَحَقَّ الْمَشْفُوعُ يَبْطُلُ الصَّرْفُ فَيَجِبَ رَدُّ الدِّينَارِ لَا غَيْرُ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: وَبَيَانُ ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ فِي شُفْعَةِ فَتَاوَى قَاضِي خَانْ فَقَالَ: وَمِنْ الْحِيلَةِ أَنَّهُ إذَا أَرَادَ أَنْ يَبِيعَ الدَّارَ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ يَبِيعُهَا بِعِشْرِينَ أَلْفًا ثُمَّ يَقْبِضُ تِسْعَةَ آلَافٍ وَخَمْسَمِائَةٍ وَيَقْبِضُ بِالْبَاقِي عَشَرَةَ دَنَانِيرَ أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ، فَلَوْ أَرَادَ الشَّفِيعُ أَنْ يَأْخُذَهَا يَأْخُذُهَا بِعِشْرِينَ أَلْفًا فَلَا يَرْغَبُ فِي الشُّفْعَةِ، وَلَوْ اسْتَحَقَّ الدَّارَ عَلَى الْمُشْتَرِي لَا يَرْجِعُ الْمُشْتَرِي بِعِشْرِينَ أَلْفًا، وَإِنَّمَا يَرْجِعُ بِمَا أَعْطَاهُ لِأَنَّهُ إذَا اسْتَحَقَّ الدَّارَ ظَهَرَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ ثَمَنُ الدَّارِ فَيَبْطُلَ الصَّرْفُ كَمَا لَوْ بَاعَ الدِّينَارَ بِالدَّرَاهِمِ الَّتِي لِلْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ ثُمَّ تَصَادَقَا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَإِنَّهُ يَبْطُلُ الصَّرْفُ اهـ وَاقْتَفَى أَثَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي بَيَانِ مَعْنَى كَلَامِ الْمُصَنِّفِ هَذَا بِذَلِكَ الْمَعْنَى الْمَذْكُورِ فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ، إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِكَوْنِ ذَلِكَ مَذْكُورًا فِيهَا بَلْ جَعَلَهُ شَرْحًا مَحْضًا لِكَلَامِ الْمُصَنِّفِ حَيْثُ قَالَ: وَقَوْلُهُ وَالْأَوْجَهُ إلَخْ تَقْرِيرُهُ إذَا أَرَادَ أَنْ يَبِيعَ الدَّارَ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ إلَى آخِرِ مَا ذُكِرَ فِي النِّهَايَةِ مَعْزِيًّا إلَى فَتَاوَى قَاضِي خَانْ أَقُولُ: لَا يَذْهَبُ عَلَى ذِي فِطْنَةٍ أَنَّ مَعْنَى كَلَامِ الْمُصَنِّفِ هَذَا لَيْسَ عَيْنَ مَا ذُكِرَ فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ وَفِي الشَّرْحَيْنِ الْمَزْبُورَيْنِ: فَإِنَّ مَعْنَى كَلَامِهِ أَنْ يُبَاعَ بِكُلِّ الدَّرَاهِمِ الَّتِي هِيَ الثَّمَنُ دِينَارٌ، وَمَعْنَى مَا ذُكِرَ فِيهَا أَنْ يَقْبِضَ بَعْضَ ثَمَنِهَا وَيُبَاعَ بِالْبَاقِي دَنَانِيرَ، وَعَنْ هَذَا قَالَ الْمُصَنِّفُ فِيمَا إذَا اسْتَحَقَّ الْمَشْفُوعُ فَيَجِبَ رَدُّ الدِّينَارِ لَا غَيْرُ، وَقَالُوا ثَمَّةَ لَا يَرْجِعُ الْمُشْتَرِي بِعِشْرِينَ أَلْفًا، وَإِنَّمَا يَرْجِعُ بِمَا أَعْطَاهُ نَعَمْ كِلَا الْعَيْنَيْنِ مُشْتَرَكَانِ فِي أَنْ يَعُمَّا الْجِوَارَ وَالشَّرِكَةَ وَأَنْ لَا يَتَضَرَّرَ بَائِعُ الدَّارِ فِيهَا لِعَدَمِ لُزُومِ رُجُوعِ مُشْتَرِي الدَّارِ عَلَيْهِ بِكُلِّ الثَّمَنِ عِنْدَ ظُهُورِ مَنْ يَسْتَحِقُّ الدَّارَ فِي شَيْءٍ مِنْهُمَا فَصَارَ أَحَدُهُمَا نَظِيرَ الْآخَرِ فِي الْحِيلَةِ لَا عَيْنَهُ، فَلَا يَصْلُحُ أَحَدُهُمَا لَأَنْ يَكُونَ بَيَانًا وَشَرْحًا لِلْآخَرِ كَمَا لَا يَخْفَى
(قَوْلُهُ وَلَا تُكْرَهُ الْحِيلَةُ
فِي إسْقَاطِ الشُّفْعَةِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَتُكْرَهُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ) لِأَنَّ الشُّفْعَةَ إنَّمَا وَجَبَتْ لِدَفْعِ الضَّرَرِ، وَلَوْ أَبَحْنَا الْحِيلَةَ مَا دَفَعْنَاهُ وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ مَنَعَ عَنْ إثْبَاتِ الْحَقِّ فَلَا يُعَدُّ ضَرَرًا، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الْحِيلَةُ فِي إسْقَاطِ الزَّكَاةِ
مَسَائِلُ مُتَفَرِّقَةٌ
قَالَ (وَإِذَا اشْتَرَى خَمْسَةُ نَفَرٍ دَارًا مِنْ رَجُلٍ فَلِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ نَصِيبَ أَحَدِهِمْ، وَإِنْ اشْتَرَاهَا رَجُلٌ مِنْ خَمْسَةٍ أَخَذَهَا كُلَّهَا أَوْ تَرَكَهَا) وَالْفَرْقُ أَنَّ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي بِأَخْذِ الْبَعْضِ تَتَفَرَّقُ الصَّفْقَةُ عَلَى الْمُشْتَرِي فَيَتَضَرَّرَ بِهِ زِيَادَةَ الضَّرَرِ، وَفِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يَقُومُ الشَّفِيعُ مَقَامَ أَحَدِهِمْ فَلَا تَتَفَرَّقُ الصَّفْقَةُ، وَلَا فَرْقَ فِي هَذَا بَيْنَ مَا إذَا كَانَ قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ بَعْدَهُ هُوَ الصَّحِيحُ، إلَّا أَنَّ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يُمْكِنُهُ أَخْذُ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ إذَا نَقَدَ مَا عَلَيْهِ مَا لَمْ يَنْقُدْ الْآخَرُ حِصَّتَهُ كَيْ لَا يُؤَدِّيَ إلَى تَفْرِيقِ الْيَدِ عَلَى الْبَائِعِ بِمَنْزِلَةِ أَحَدِ الْمُشْتَرِيَيْنِ، بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الْقَبْضِ لِأَنَّهُ سَقَطَتْ يَدُ الْبَائِعِ، وَسَوَاءً سَمَّى لِكُلِّ بَعْضٍ ثَمَنًا أَوْ كَانَ الثَّمَنُ جُمْلَةً، لِأَنَّ الْعِبْرَةَ فِي هَذَا لِتَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ لَا لِلثَّمَنِ، وَهَاهُنَا تَفْرِيعَاتٌ ذَكَرْنَاهَا
فِي إسْقَاطِ الشُّفْعَةِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله وَتُكْرَهُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رحمه الله) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ أَخْذًا مِنْ النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ: اعْلَمْ أَنَّ الْحِيلَةَ فِي هَذَا الْبَابِ إمَّا أَنْ تَكُونَ لِلرَّفْعِ بَعْدَ الْوُجُوبِ أَوْ لِدَفْعِهِ؛ فَالْأَوَّلُ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ الْمُشْتَرِي لِلشَّفِيعِ أَنَا أُولِيهَا لَك فَلَا حَاجَةَ لَك فِي الْأَخْذِ فَيَقُولَ نَعَمْ تَسْقُطُ بِهِ الشُّفْعَةُ وَهُوَ مَكْرُوهٌ بِالْإِجْمَاعِ وَالثَّانِي مُخْتَلَفٌ فِيهِ قَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ: غَيْرُ مَكْرُوهٍ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ مَكْرُوهٌ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَهُوَ الَّذِي ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ، وَهَذَا الْقَائِلُ قَاسَ فَصْلَ الشُّفْعَةِ عَلَى فَصْلِ الزَّكَاةِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا تُكْرَهُ الْحِيلَةُ لِمَنْعِ وُجُوبِ الشُّفْعَةِ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي فَصْلِ الزَّكَاةِ انْتَهَى أَقُولُ: فِي هَذَا التَّقْرِيرِ شَيْءٌ، وَهُوَ أَنَّهُ
فِي كِفَايَةِ الْمُنْتَهَى
قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى نِصْفَ دَارِ غَيْرَ مَقْسُومٍ فَقَاسَمَهُ الْبَائِعُ أَخَذَ الشَّفِيعُ النِّصْفَ الَّذِي صَارَ لِلْمُشْتَرِي أَوْ يَدَعُ) لِأَنَّ الْقِسْمَةَ مِنْ تَمَامِ الْقَبْضِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَكْمِيلِ الِانْتِفَاعِ وَلِهَذَا يَتِمُّ الْقَبْضُ بِالْقِسْمَةِ فِي الْهِبَةِ، وَالشَّفِيعُ لَا يَنْقُضُ الْقَبْضَ وَإِنْ كَانَ لَهُ نَفْعٌ فِيهِ بِعَوْدِ الْعُهْدَةِ عَلَى الْبَائِعِ، فَكَذَا لَا يُنْقَضُ مَا هُوَ مِنْ تَمَامِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ نَصِيبَهُ مِنْ الدَّارِ الْمُشْتَرِكَةِ وَقَاسَمَ الْمُشْتَرِيَ الَّذِي لَمْ يَبِعْ حَيْثُ يَكُونُ لِلشَّفِيعِ نَقْضُهُ، لِأَنَّ الْعَقْدَ مَا وَقَعَ مَعَ الَّذِي قَاسَمَ فَلَمْ تَكُنْ الْقِسْمَةُ مِنْ تَمَامِ الْقَبْضِ الَّذِي هُوَ حُكْمُ الْعَقْدِ بَلْ هُوَ تَصَرُّفٌ بِحُكْمِ الْمِلْكِ فَيَنْقُضَهُ الشَّفِيعُ كَمَا يَنْقُضُ بَيْعَهُ وَهِبَتَهُ، ثُمَّ إطْلَاقُ الْجَوَابِ فِي الْكِتَابِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشَّفِيعَ يَأْخُذُ النِّصْفَ الَّذِي صَارَ لِلْمُشْتَرِي فِي أَيِّ جَانِبٍ كَانَ وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَا يَمْلِكُ إبْطَالَ حَقِّهِ بِالْقِسْمَةِ وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إنَّمَا يَأْخُذُهُ إذَا وَقَعَ فِي جَانِبِ الدَّارِ الَّتِي يُشْفَعُ بِهَا لِأَنَّهُ لَا يَبْقَى جَارًا فِيمَا يَقَعُ فِي الْجَانِبِ الْآخَرِ.
قَالَ (وَمَنْ بَاعَ دَارًا وَلَهُ عَبْدٌ مَأْذُونٌ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَلَهُ الشُّفْعَةُ، وَكَذَا إذَا كَانَ الْعَبْدُ هُوَ الْبَائِعُ فَلِمَوْلَاهُ الشُّفْعَةُ) لِأَنَّ الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ تَمَلُّكٌ بِالثَّمَنِ فَيَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الشِّرَاءِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ مُفِيدٌ لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ لِلْغُرَمَاءِ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ لِأَنَّهُ يَبِيعُهُ لِمَوْلَاهُ، وَلَا شُفْعَةَ لِمَنْ يَبِيعُ لَهُ
قَالَ (وَتَسْلِيمُ الْأَبِ وَالْوَصِيِّ الشُّفْعَةَ عَلَى الصَّغِيرِ جَائِزٌ
إمَّا أَنْ يُرَادَ بِالْإِجْمَاعِ وَالِاخْتِلَافِ فِي قَوْلِهِ (وَهُوَ مَكْرُوهٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَالثَّانِي مُخْتَلَفٌ فِيهِ) إجْمَاعُ الْمُجْتَهِدِينَ وَاخْتِلَافُهُمْ فِي نَفْسِ الْمَسْأَلَةِ أَوْ إجْمَاعُ الْمَشَايِخِ وَاخْتِلَافُهُمْ فِي الرِّوَايَةِ.
وَأَيًّا مَّا كَانَ لَا يَخْلُو التَّقْرِيرُ الْمَذْكُورُ عَنْ اضْطِرَابٍ أَمَّا عَلَى الْأَوَّلِ فَلِأَنَّ الْقَطْعَ بِكَوْنِ الثَّانِي مُخْتَلَفًا فِيهِ لَا يَكُونُ تَامًّا حِينَئِذٍ، لِأَنَّ اخْتِلَافَ الِاجْتِهَادِ فِي الثَّانِي إنَّمَا كَانَ عَلَى قَوْلِ بَعْضِ الْمَشَايِخِ مِنْ الرُّوَاةِ وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ بَعْضِهِمْ فَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُجْتَهِدِينَ فِي عَدَمِ كَرَاهَةِ الْحِيلَةِ فِي هَذَا الْفَصْلِ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ بَيْنَهُمْ فِي فَصْلِ الزَّكَاةِ كَمَا ذَكَرَهُ وَأَمَّا عَلَى الثَّانِي كَمَا هُوَ الْمُتَبَادَرُ مِنْ قَوْلِهِ قَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ غَيْرُ مَكْرُوهٍ إلَخْ، فَلِأَنَّ الْقَطْعَ بِكَوْنِ الْأَوَّلِ مَكْرُوهًا لَا يَصِحُّ حِينَئِذٍ لِأَنَّ شَمْسَ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيَّ رَوَى عَدَمَ كَرَاهَةِ الِاحْتِيَالِ فِي بَابِ الشُّفْعَةِ عَلَى كُلِّ حَالٍ حَيْثُ قَالَ فِي بَابِ الشُّفْعَةِ بِالْعُرُوضِ مِنْ الْمَبْسُوطِ بَعْدَ مَا ذَكَرَ وُجُوهَ الْحِيَلِ وَالِاسْتِعْمَالِ بِهَذِهِ الْحِيَلِ لِإِبْطَالِ حَقِّ الشُّفْعَةِ: لَا بَأْسَ بِهِ، أَمَّا قَبْلَ وُجُوبِ الشُّفْعَةِ فَلَا إشْكَالَ فِيهِ، وَكَذَلِكَ
عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَزُفَرُ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: هُوَ عَلَى شُفْعَتِهِ إذَا بَلَغَ) قَالُوا: وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا بَلَغَهُمَا شِرَاءُ دَارٍ بِجِوَارِ دَارِ الصَّبِيِّ فَلَمْ يَطْلُبَا الشُّفْعَةَ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ تَسْلِيمُ الْوَكِيلِ بِطَلَبِ الشُّفْعَةِ فِي رِوَايَةِ كِتَابِ الْوِكَالَةِ وَهُوَ الصَّحِيحُ لِمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ أَنَّهُ حَقٌّ ثَابِتٌ لِلصَّغِيرِ فَلَا يَمْلِكَانِ إبْطَالَهُ كَدِيَتِهِ وَقَوْدِهِ، وَلِأَنَّهُ شُرِعَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ فَكَانَ إبْطَالُهُ إضْرَارًا بِهِ وَلَهُمَا أَنَّهُ فِي مَعْنَى التِّجَارَةِ فَيَمْلِكَانِ تَرْكَهُ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ أَوْجَبَ بَيْعًا لِلصَّبِيِّ صَحَّ رَدُّهُ مِنْ الْأَبِ وَالْوَصِيِّ، وَلِأَنَّهُ دَائِرٌ بَيْنَ النَّفْعِ وَالضَّرَرِ، وَقَدْ يَكُونُ النَّظَرُ فِي تَرْكِهِ لِيَبْقَى الثَّمَنُ عَلَى مِلْكِهِ وَالْوِلَايَةُ نَظَرِيَّةٌ فَيَمْلِكَانِهِ وَسُكُوتُهُمَا كَإِبْطَالِهِمَا لِكَوْنِهِ دَلِيلَ الْإِعْرَاضِ، وَهَذَا إذَا بِيعَتْ بِمِثْلِ قِيمَتِهَا، فَإِنْ بِيعَتْ بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهَا بِمَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ قِيلَ جَازَ التَّسْلِيمُ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ تَمَحَّضَ نَظَرًا وَقِيلَ لَا يَصِحُّ بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْأَخْذَ فَلَا يَمْلِكُ التَّسْلِيمَ كَالْأَجْنَبِيِّ، وَإِنْ بِيعَتْ بِأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهَا مُحَابَاةً كَثِيرَةً، فَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ التَّسْلِيمُ مِنْهُمَا أَيْضًا وَلَا رِوَايَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
بَعْدَ الْوُجُوبِ إذَا لَمْ يَكُنْ قَصْدُ الْمُشْتَرِي الْإِضْرَارَ بِهِ وَإِنَّمَا قَصْدُهُ الدَّفْعُ عَنْ مِلْكِ نَفْسِهِ ثُمَّ قَالَ: وَقِيلَ هَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَأَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ فَيُكْرَهُ ذَلِكَ عَلَى قِيَاسِ اخْتِلَافِهِمْ فِي الِاحْتِيَالِ لِإِسْقَاطِ الِاسْتِبْرَاءِ وَلِلْمَنْعِ مِنْ وُجُوبِ الزَّكَاةِ انْتَهَى قَالَ الْإِمَامُ قَاضِي خَانْ فِي فَتَاوَاهُ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ فِي الْأَصْلِ: الْحِيلَةُ فِي إسْقَاطِ الشُّفْعَةِ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْكَرَاهَةَ قَالُوا: عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ لَا تُكْرَهُ، وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ تُكْرَهُ وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ الْحِيلَةِ لِمَنْعِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ وَمَنْعِ الِاسْتِبْرَاءِ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ لَا تُكْرَهُ وَقَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ: تُكْرَهُ الْحِيلَةُ لِإِسْقَاطِ الشُّفْعَةِ بَعْدَ الْوُجُوبِ لِأَنَّهُ احْتِيَالٌ لِإِبْطَالِ حَقٍّ وَاجِبٍ، وَقَبْلَ الْوُجُوبِ إنْ كَانَ الْجَارُ فَاسِقًا يُتَأَذَّى مِنْهُ فَلَا بَأْسَ بِهِ وَقَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ: لَا بَأْسَ بِالِاحْتِيَالِ لِإِبْطَالِ حَقِّ الشُّفْعَةِ عَلَى كُلِّ حَالٍ أَمَّا قَبْلَ وُجُوبِ الشُّفْعَةِ
كِتَابُ الْقِسْمَةِ
الْقِسْمَةُ فِي الْأَعْيَانِ الْمُشْتَرَكَةِ مَشْرُوعَةٌ، لِأَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام بَاشَرَهَا فِي الْمَغَانِمِ وَالْمَوَارِيثِ، وَجَرَى
فَلَا شَكَّ؛ كَمَا لَوْ تَرَكَ اكْتِسَابَ الْمَالِ لِمَنْعِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ، وَبَعْدَ وُجُوبِ الشُّفْعَةِ لَا يُكْرَهُ الِاحْتِيَالُ أَيْضًا لِأَنَّهُ احْتِيَالٌ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ لَا لِإِضْرَارٍ بِالْغَيْرِ، فَظَاهِرُ مَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ دَلِيلٌ عَلَى هَذَا، إلَى هُنَا لَفْظُ فَتَاوَى قَاضِي خَانْ
(كِتَابُ الْقِسْمَةِ) مُنَاسَبَةُ الْقِسْمَةِ بِالشُّفْعَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مِنْ نَتَائِجِ النَّصِيبِ الشَّائِعِ لِمَا أَنَّ أَقْوَى أَسْبَابِ الشُّفْعَةِ الشَّرِكَةُ، فَأَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ إذَا أَرَادَ الِافْتِرَاقَ مَعَ بَقَاءِ مِلْكِهِ طَلَبَ الْقِسْمَةَ وَمَعَ عَدَمِ بَقَائِهِ بَاعَ فَوَجَبَ عِنْدَهُ الشُّفْعَةُ؛ هَذَا زُبْدَةُ مَا فِي عَامَّةِ الشُّرُوحِ وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ بَعْدَ ذَلِكَ: أَوْ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ نَافِيَةٌ لِلشُّفْعَةِ قَاطِعَةٌ لِوُجُوبِهَا رُجُوعًا إلَى قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «الشُّفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ، فَإِذَا وَقَعَتْ الْحُدُودُ وَصُرِفَتْ الطُّرُقُ فَلَا شُفْعَةَ» وَالنَّفْيُ يَقْتَضِي سَبْقَ الثُّبُوتِ فَكَانَتْ بَيْنَ الشُّفْعَةِ وَالْقِسْمَةِ مُنَاسَبَةُ الْمُضَادَّةِ، وَالْمُتَضَادَّانِ يَفْتَرِقَانِ أَبَدًا مَعَ تَقَدُّمِ الْمُثْبَتِ عَلَى الْمَنْفِيِّ كَمَا فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ انْتَهَى.
أَقُولُ: فِيهِ بَحْثٌ، لِأَنَّ كَوْنَ الْقِسْمَةِ نَافِيَةً لِلشُّفْعَةِ قَاطِعَةً لِوُجُوبِهَا رُجُوعًا إلَى قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «الشُّفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ، فَإِذَا وَقَعَتْ الْحُدُودُ وَصُرِفَتْ الطُّرُقُ فَلَا شُفْعَةَ» إنَّمَا يَتَمَشَّى عَلَى أَصْلِ الشَّافِعِيِّ، فَإِنَّهُ لَمْ يُجَوِّزْ الشُّفْعَةَ بِالْجِوَارِ، وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ، وَأَمَّا عَلَى أَصْلِ أَئِمَّتِنَا فَلَا، لِأَنَّهُمْ جَوَّزُوا الشُّفْعَةَ بِالْجِوَارِ أَيْضًا وَاسْتَدَلُّوا عَلَيْهِ بِأَحَادِيثَ أُخَرَ وَأَجَابُوا عَنْ اسْتِدْلَالِهِ
التَّوَارُثُ بِهَا مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، ثُمَّ هِيَ لَا تَعْرَى عَنْ مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ، لِأَنَّ مَا يَجْتَمِعُ لِأَحَدِهِمَا بَعْضُهُ كَانَ لَهُ وَبَعْضُهُ كَانَ لِصَاحِبِهِ فَهُوَ يَأْخُذُهُ عِوَضًا عَمَّا بَقِيَ مِنْ حَقِّهِ فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ فَكَانَ مُبَادَلَةً وَإِفْرَازًا، وَالْإِفْرَازُ هُوَ الظَّاهِرُ فِي الْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ لِعَدَمِ التَّفَاوُتِ، حَتَّى كَانَ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَأْخُذَ نَصِيبَهُ حَالَ غَيْبَةِ صَاحِبِهِ، وَلَوْ اشْتَرَيَاهُ فَاقْتَسَمَاهُ يَبِيعُ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ مُرَابَحَةً بِنِصْفِ الثَّمَنِ، وَمَعْنَى الْمُبَادَلَةِ هُوَ الظَّاهِرُ فِي الْحَيَوَانَاتِ وَالْعُرُوضِ لِلتَّفَاوُتِ حَتَّى لَا يَكُونَ لِأَحَدِهِمَا أَخْذُ نَصِيبِهِ عِنْدَ غَيْبَةِ الْآخَرِ.
وَلَوْ اشْتَرَيَاهُ فَاقْتَسَمَاهُ لَا يَبِيعُ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ مُرَابَحَةً بَعْدَ الْقِسْمَةِ
بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ بِأَنَّ آخِرَ الْحَدِيثِ وَهُوَ قَوْلُهُ «فَإِذَا وَقَعَتْ الْحُدُودُ وَصُرِفَتْ الطُّرُقُ فَلَا شُفْعَةَ» لَيْسَ بِثَابِتٍ، وَلَئِنْ ثَبَتَ فَمَعْنَاهُ نَفْيُ الشُّفْعَةِ بِسَبَبِ الْقِسْمَةِ الْحَاصِلَةِ بِوُقُوعِ الْحُدُودِ وَصَرْفِ الطُّرُقِ، فَإِنَّ الْقِسْمَةَ لَمَّا كَانَ فِيهَا مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ كَانَ الْمَوْضِعُ مَوْضِعَ أَنْ يُشْكِلَ أَنَّهُ هَلْ يُسْتَحَقُّ بِهَا الشُّفْعَةُ كَالْبَيْعِ؟ فَبَيَّنَ عليه الصلاة والسلام عَدَمَ ثُبُوتِ الشُّفْعَةِ بِهَا، وَقَدْ مَرَّ الْجَوَابُ بِهَذَا التَّفْصِيلِ عَنْ اسْتِدْلَالِ الشَّافِعِيِّ بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الشُّفْعَةِ فِي عَامَّةِ الشُّرُوحِ حَتَّى النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ، فَمَا مَعْنَى بِنَاءِ وَجْهِ الْمُنَاسَبَةِ هَاهُنَا عَلَى مَا هُوَ الْمُزَيَّفُ هُنَاكَ ثُمَّ إنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّ النَّفْيَ يَقْتَضِي سَبْقَ الثُّبُوتِ يُنَافِي مَا تَقَرَّرَ فِي الْمَعْقُولَاتِ مِنْ أَنَّ السَّلْبَ لَا يَقْتَضِي وُجُودَ الْمَوْضُوعِ، وَأَنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْمُتَضَادَّيْنِ يَفْتَرِقَانِ أَبَدًا مَعَ تَقَدُّمِ الْمُثْبَتِ عَلَى الْمَنْفِيِّ مَمْنُوعٌ.
أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} وقَوْله تَعَالَى {خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} وَنَحْوَ ذَلِكَ كَيْفَ تَقَدَّمَ الْمَنْفِيُّ هُنَاكَ عَلَى الْمُثْبَتِ قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَقَدَّمَ الشُّفْعَةَ لِأَنَّ بَقَاءَ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ أَصْلٌ انْتَهَى أَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ، وَهُوَ أَنَّهُ كَمَا أَنَّ فِي الشُّفْعَةِ بَقَاءَ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ حَيْثُ يَبْقَى فِيهَا الشُّيُوعُ عَلَى حَالِهِ وَإِنْ زَالَ مِلْكُ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ كَذَلِكَ فِي الْقِسْمَةِ بَقَاءُ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ حَيْثُ يَبْقَى فِيهَا مِلْكُ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ فِي الْبَعْضِ عَلَى حَالِهِ وَإِنْ زَالَ الشُّيُوعُ، بَلْ هَذَا الْبَقَاءُ هُوَ الْمُنَاسِبُ لِمَا ذَكَرُوا فِي وَجْهِ مُنَاسَبَةِ الْقِسْمَةِ بِالشُّفْعَةِ مِنْ أَنَّ أَحَدَ الشَّرِيكَيْنِ إذَا أَرَادَ الِافْتِرَاقَ مَعَ بَقَاءِ مِلْكِهِ طَلَبَ الْقِسْمَةَ وَمَعَ عَدَمِ بَقَائِهِ بَاعَ فَوَجَبَ عِنْدَهُ الشُّفْعَةُ، فَكَوْنُ بَقَاءِ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ أَصْلًا لَا يُرَجِّحُ تَقْدِيمَ الشُّفْعَةِ كَمَا لَا يَخْفَى ثُمَّ إنَّ الْقِسْمَةَ فِي اللُّغَةِ: اسْمٌ لِلِاقْتِسَامِ كَالْقُدْوَةِ لِلِاقْتِدَاءِ وَالْأُسْوَةِ لِلِائْتِسَاءِ وَفِي الشَّرِيعَةِ: جَمْعُ النَّصِيبِ الشَّائِعِ فِي مَكَان مُعَيَّنٍ
وَسَبَبُهَا طَلَبُ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ الِانْتِفَاعَ بِنَصِيبِهِ عَلَى الْخُلُوصِ وَرُكْنُهَا
الْفِعْلُ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ الْإِفْرَازُ وَالتَّمْيِيزُ بَيْنَ النَّصِيبَيْنِ كَالْكَيْلِ فِي الْمَكِيلَاتِ وَالْوَزْنِ فِي الْمَوْزُونَاتِ وَالذَّرْعِ فِي الْمَذْرُوعَاتِ وَالْعَدِّ فِي الْمَعْدُودَاتِ وَشَرْطُهَا أَنْ لَا تَفُوتَ الْمَنْفَعَةُ بِالْقِسْمَةِ وَلِهَذَا لَا يُقْسَمُ الْحَائِطُ وَالْحَمَّامُ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ
(قَوْلُهُ وَمَعْنَى الْمُبَادَلَةِ هُوَ الظَّاهِرُ فِي الْحَيَوَانَاتِ وَالْعُرُوضِ لِلتَّفَاوُتِ حَتَّى لَا يَكُونَ لِأَحَدِهِمَا أَخْذُ نَصِيبِهِ عِنْدَ غَيْبَةِ الْآخَرِ. وَلَوْ اشْتَرَيَاهُ فَاقْتَسَمَاهُ لَا يَبِيعُ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ مُرَابَحَةً بَعْدَ الْقِسْمَةِ) وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ مَا يَأْخُذُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَيْسَ بِمِثْلٍ لِمَا تَرَكَ عَلَى صَاحِبِهِ بِيَقِينٍ فَلَمْ يَكُنْ بِمَنْزِلَةِ أَخْذِ الْعَيْنِ حُكْمًا، كَذَا
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فِي الْعِنَايَةِ أَقُولُ: هُنَا إشْكَالٌ، وَهُوَ أَنَّهُ قَدْ عُلِمَ مِمَّا ذُكِرَ آنِفًا فِي الْكِتَابِ وَالشُّرُوحِ أَنَّ الْقِسْمَةَ لَا تَعْرَى عَنْ مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ وَالْإِفْرَازِ فِي جَمِيعِ الصُّوَرِ، سَوَاءً كَانَتْ فِي ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ أَوْ فِي غَيْرِ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ، لِأَنَّهُ مَا مِنْ جُزْءٍ مُعَيَّنٍ إلَّا وَهُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى النَّصِيبَيْنِ فَمَا يَأْخُذُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَعْضُهُ كَانَ مِلْكَهُ لَمْ يَسْتَفِدْهُ مِنْ صَاحِبِهِ وَبَعْضُهُ الْآخَرُ كَانَ لِصَاحِبِهِ فَصَارَ لَهُ عِوَضًا عَمَّا بَقِيَ مِنْ حَقِّهِ فِي يَدِ صَاحِبِهِ، فَكَانَ الْقِسْمَةُ فِي كُلِّ صُورَةٍ بِالنَّظَرِ إلَى الْبَعْضِ الَّذِي كَانَ مِلْكَهُ إفْرَازًا وَبِالنَّظَرِ إلَى الْبَعْضِ الْآخَرِ مُبَادَلَةً، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَكَوْنُ مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ
هُوَ الظَّاهِرُ فِي غَيْرِ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ كَالْحَيَوَانَاتِ وَالْعُرُوضِ غَيْرُ وَاضِحٍ، إذْ غَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّ الْبَعْضَ الَّذِي يَأْخُذُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِوَضًا عَمَّا بَقِيَ مِنْ حَقِّهِ فِي يَدِ صَاحِبِهِ لَيْسَ بِمِثْلٍ بِيَقِينٍ لِمَا تَرَكَ عَلَى صَاحِبِهِ مِنْ حَقِّهِ فِي غَيْرِ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ فَلَمْ يَكُنْ أَخْذُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ أَخْذِ عَيْنِ حَقِّهِ حُكْمًا فَلَمْ يَتَحَقَّقْ مَعْنَى الْإِفْرَازِ فِيهِ بِالنَّظَرِ إلَى ذَلِكَ الْبَعْضِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ لَا يَتَحَقَّقَ الْإِفْرَازُ فِيهِ بِالنَّظَرِ إلَى الْبَعْضِ الَّذِي هُوَ عَيْنُ حَقِّهِ فِي الْحَقِيقَةِ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ أَخْذَهُ هَذَا الْبَعْضَ إفْرَازٌ لَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ مُبَادَلَةٌ، فَقَدْ تَحَقَّقَ فِي غَيْرِ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ بِالنَّظَرِ إلَى مَا يَأْخُذُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ عَيْنِ حَقِّهِ إفْرَازٌ بِدُونِ الْمُبَادَلَةِ، وَبِالنَّظَرِ إلَى مَا يَأْخُذُهُ مِنْ نَصِيبِ صَاحِبِهِ مُبَادَلَةٌ بِدُونِ الْإِفْرَازِ فَكَانَ مَعْنَيَا الْإِفْرَازِ وَالْمُبَادَلَةِ فِيهِ مُتَسَاوِيَيْنِ، فَمِنْ أَيْنَ ثَبَتَ ظُهُورُ مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ فِيهِ كَمَا ادَّعَوْهُ قَاطِبَةً، بِخِلَافِ مَا قَالُوا فِي ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ كَالْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ مِنْ ظُهُورِ مَعْنَى الْإِفْرَازِ فِيهَا فَإِنَّهُ وَاضِحٌ، لِأَنَّ أَخْذَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيهَا مَا هُوَ عَيْنُ حَقِّهِ مِنْ نَصِيبِهِ إفْرَازٌ بِلَا شُبْهَةٍ، وَأَخْذُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيهَا مَا هُوَ نَصِيبُ صَاحِبِهِ بِمَنْزِلَةِ أَخْذِ عَيْنِ حَقِّهِ لِكَوْنِ نَصِيبِ صَاحِبِهِ فِيهَا مِثْلُ حَقِّهِ بِيَقِينٍ.
وَأَخْذُ الْمِثْلِ بِيَقِينٍ يُجْعَلُ كَأَخْذِ الْعَيْنِ حُكْمًا كَمَا فِي الْقَرْضِ فَتَحَقَّقَ فِيهَا مَعْنَى الْإِفْرَازِ بِالنَّظَرِ إلَى الْبَعْضِ الْآخَرِ أَيْضًا فَكَانَ هُوَ الظَّاهِرُ فِيهَا وَالْحَاصِلُ أَنَّهُمْ لَوْ قَالُوا: مَعْنَى الْإِفْرَازِ ظَاهِرٌ فِي ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ وَغَيْرُ ظَاهِرٍ فِي غَيْرِ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ بَلْ مَعْنَيَا الْإِفْرَازِ وَالْمُبَادَلَةِ سِيَّانِ فِيهِ لَكَانَ الْأَمْرُ هَيِّنًا، وَلَمَّا قَالُوا: مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ ظَاهِرٌ فِي غَيْرِ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ أَشْكَلَ ذَلِكَ كَمَا تَرَى وَذَكَرَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَجْهًا أَبْسَطَ مِمَّا ذُكِرَ فِي الْعِنَايَةِ لِظُهُورِ مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ فِي غَيْرِ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ نَاقِلًا عَنْ الْمُغْنِي حَيْثُ قَالَ: وَمَعْنَى الْمُبَادَلَةِ هُوَ الظَّاهِرُ فِي غَيْرِ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ كُلِّهَا، وَبِهِ صَرَّحَ فِي الْمُغْنِي وَغَيْرِهِ فَقَالَ فِي الْمُغْنِي: وَأَمَّا الْقِسْمَةُ فِي غَيْرِ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ فَشَبَهُ الْمُبَادَلَةِ فِيهَا رَاجِحٌ لِأَنَّهَا إفْرَازٌ حُكْمًا مِنْ وَجْهٍ، وَمِنْ حَيْثُ الْحَقِيقَةُ هِيَ مُبَادَلَةٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ أَمَّا الْحَقِيقَةُ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا الْحُكْمُ فَلِأَنَّ نِصْفَ مَا يَأْخُذُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِثْلٌ لِمَا تَرَكَ عَلَى صَاحِبِهِ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ.
وَأَخْذُ الْمِثْلِ كَأَخْذِ الْعَيْنِ حُكْمًا فَكَانَ إفْرَازًا، إلَّا أَنَّ مَا يَأْخُذُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَيْسَ بِمِثْلٍ لِمَا تَرَكَ عَلَى صَاحِبِهِ بِيَقِينٍ، لِأَنَّ الْمَقْسُومَ لَيْسَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ، وَفِيمَا لَيْسَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ لَا تَثْبُتُ الْمُعَادَلَةُ بِيَقِينٍ، فَالْإِفْرَازُ مَعَ الْمُبَادَلَةِ اسْتَوَيَا فِي الْحُكْمِ ثُمَّ تَرَجَّحَتْ الْمُبَادَلَةُ بِالْحَقِيقَةِ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ أَقُولُ: لَا يَذْهَبُ عَلَيْك أَنَّ الْإِشْكَالَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ يَتَّجِهُ عَلَيْهِ مَعَ زِيَادَةٍ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى تَحَقُّقِ رُجْحَانِ مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ فِيمَا يَأْخُذُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ نَصِيبِ صَاحِبِهِ عِوَضًا عَمَّا تَرَكَ عَلَى صَاحِبِهِ مِنْ حَقِّ نَفْسِهِ لَا عَلَى تَحَقُّقِ رُجْحَانِ ذَلِكَ فِي الْمَقْسُومِ كُلِّهِ، كَيْفَ وَمَا يَأْخُذُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ نَصِيبِ نَفْسِهِ لَا يُوجَدُ فِيهِ إلَّا إفْرَازٌ مَحْضٌ، لِأَنَّ مَعْنَى الْإِفْرَازِ أَنْ يَقْبِضَ عَيْنَ حَقِّهِ وَأَخْذُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَصِيبَ نَفْسِهِ قَبْضٌ لِعَيْنِ حَقِّهِ لَا غَيْرُ وَالْمُدَّعِي رُجْحَانَ الْمُبَادَلَةِ فِي الْقِسْمَةِ الشَّامِلَةِ لِجَمِيعِ أَجْزَاءِ الْمَقْسُومِ فِي غَيْرِ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ، وَهُوَ غَيْرُ لَازِمٍ مِنْ الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ، بَلْ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى رُجْحَانِ مَعْنَى الْإِفْرَازِ فِي ذَلِكَ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ أَخْذَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَيْنَ حَقِّهِ مِنْ نَصِيبِ نَفْسِهِ إفْرَازٌ مَحْضٌ، وَإِذَا كَانَ أَخْذُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَصِيبَ صَاحِبِهِ أَخْذًا لِمِثْلِ مَا تَرَكَ عَلَى صَاحِبِهِ مِنْ حَقِّ نَفْسِهِ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ، وَكَانَ أَخْذُ ذَلِكَ
إلَّا أَنَّهَا إذَا كَانَتْ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ أَجْبَرَ الْقَاضِي عَلَى الْقِسْمَةِ عِنْدَ طَلَبِ أَحَدِ الشُّرَكَاءِ لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى الْإِفْرَازِ لِتَقَارُبِ الْمَقَاصِدِ وَالْمُبَادَلَةُ مِمَّا يَجْرِي فِيهِ الْجَبْرُ كَمَا فِي قَضَاءِ الدَّيْنِ، وَهَذَا لِأَنَّ أَحَدَهُمْ بِطَلَبِ الْقِسْمَةِ يَسْأَلُ الْقَاضِيَ أَنْ يَخُصَّهُ بِالِانْتِفَاعِ بِنَصِيبِهِ وَيَمْنَعَ الْغَيْرَ عَنْ الِانْتِفَاعِ بِمِلْكِهِ، فَيَجِبَ عَلَى الْقَاضِي إجَابَتُهُ وَإِنْ كَانَتْ أَجْنَاسًا مُخْتَلِفَةً لَا يُجْبِرُ الْقَاضِي عَلَى قِسْمَتِهَا لِتَعَذُّرِ الْمُعَادَلَةِ بِاعْتِبَارِ فُحْشِ التَّفَاوُتِ فِي الْمَقَاصِدِ، وَلَوْ تَرَاضَوْا عَلَيْهَا جَازَ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمْ قَالَ (وَيَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يُنَصِّبَ قَاسِمًا يَرْزُقُهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ لِيَقْسِمَ بَيْنَ النَّاسِ بِغَيْرِ أَجْرٍ) لِأَنَّ الْقِسْمَةَ مِنْ جِنْسِ عَمَلِ الْقَضَاءِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَتِمُّ بِهِ قَطْعُ الْمُنَازَعَةِ فَأَشْبَهَ رِزْقَ الْقَاضِي، وَلِأَنَّ مَنْفَعَةَ نَصْبِ الْقَاسِمِ تَعُمُّ الْعَامَّةَ
الْمِثْلِ كَأَخْذِ الْعَيْنِ حُكْمًا فَكَانَ إفْرَازًا كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ كَانَ مَعْنَى الْإِفْرَازِ فِي ذَلِكَ ظَاهِرًا رَاجِحًا لِتَحَقُّقِهِ فِي جَمِيعِ أَجْزَاءِ الْمَقْسُومِ وَتَحَقُّقُ الْمُبَادَلَةِ فِي بَعْضِهَا كَمَا تَحَقَّقْته
(قَوْلُهُ إلَّا أَنَّهَا إذَا كَانَتْ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ أَجْبَرَ الْقَاضِي عَلَى الْقِسْمَةِ عِنْدَ طَلَبِ أَحَدِ الشُّرَكَاءِ لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى الْإِفْرَازِ لِتَقَارُبِ الْمَقَاصِدِ) هَذَا جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ يَرِدُ عَلَى قَوْلِهِ وَمَعْنَى الْمُبَادَلَةِ هُوَ الظَّاهِرُ فِي الْحَيَوَانِ وَالْعُرُوضِ بِأَنْ يُقَالَ: لَوْ كَانَ مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ هُوَ الظَّاهِرُ فِي ذَلِكَ لَمَا أُجْبِرَ الْآبِي عَلَى الْقِسْمَةِ فِي غَيْرِ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ، كَذَا فِي عَامَّةِ الشُّرُوحِ أَقُولُ: هَاهُنَا أَيْضًا إشْكَالٌ، وَهُوَ أَنَّهُ إنْ أُرِيدَ بِقَوْلِهِ لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى الْإِفْرَازِ أَنَّ فِيهِ مَعْنَى الْإِفْرَازِ بِالنَّظَرِ إلَى النَّصِيبِ الَّذِي يَأْخُذُهُ أَحَدُ الشُّرَكَاءِ لِعَيْنِ حَقِّهِ فَلَا يُجْدِي نَفْعًا فِي دَفْعِ السُّؤَالِ، إذْ يَبْقَى الْكَلَامُ حِينَئِذٍ فِي الْإِجْبَارِ عَلَى أَخْذِ النَّصِيبِ الْآخَرِ الَّذِي يَتَحَقَّقُ مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ بِالنَّظَرِ إلَيْهِ وَيَظْهَرُ عَلَى مَا قَالُوا، وَإِنْ أُرِيدَ بِذَلِكَ أَنَّ فِيهِ مَعْنَى الْإِفْرَازِ بِالنَّظَرِ إلَى النَّصِيبِ الَّذِي كَانَ لِصَاحِبِهِ وَيَأْخُذُهُ عِوَضًا عَمَّا تَرَكَ عَلَى صَاحِبِهِ مِنْ حَقِّ نَفْسِهِ كَمَا هُوَ الْمُلَائِمُ لِقَوْلِهِ لِتَقَارُبِ الْمَقَاصِدِ فَذَلِكَ يُنَافِي مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْقَوْلِ بِأَنَّ مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ هُوَ الظَّاهِرُ فِي غَيْرِ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ، إذْ لَا شَكَّ فِي تَحَقُّقِ مَعْنَى الْإِفْرَازِ فِيهِ بِالنَّظَرِ إلَى النَّصِيبِ الَّذِي يَأْخُذُهُ أَحَدُ الشُّرَكَاءِ لِعَيْنِ حَقِّهِ وَإِذَا تَحَقَّقَ فِيهِ مَعْنَى الْإِفْرَازِ بِالنَّظَرِ إلَى النَّصِيبِ الْآخَرِ أَيْضًا كَانَ مَعْنَى الْإِفْرَازِ فِيهِ ظَاهِرًا جِدًّا، فَأَنَّى يُتَصَوَّرُ الْقَوْلُ بِأَنَّ مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ هُوَ الظَّاهِرُ فِيهِ فَتَأَمَّلْ ثُمَّ أَقُولُ: لَوْ قَالَ الْمُصَنِّفُ لِأَنَّ فِيهِ إمْكَانَ الْمُعَادَلَةِ بَدَلَ قَوْلِهِ لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى الْإِفْرَازِ لَكَانَ سَالِمًا عَنْ هَذَا الْإِشْكَالِ، وَكَانَ مُنَاسِبًا لَا مَحَالَةَ لِقَوْلِهِ لِتَعَذُّرِ الْمُعَادَلَةِ فِي تَعْلِيلِ عَدَمِ الْإِجْبَارِ عَلَى الْقِيمَةِ فِيمَا إذَا كَانَتْ أَجْنَاسًا مُخْتَلِفَةً كَمَا سَيَأْتِي تَبَصَّرْ تَقِفْ
(قَوْلُهُ وَالْمُبَادَلَةُ مِمَّا يَجْرِي فِيهِ الْجَبْرُ كَمَا فِي قَضَاءِ الدَّيْنِ) يَعْنِي أَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْجَبْرِ وَالْمُبَادَلَةِ لِأَنَّهَا مِمَّا يَجْرِي فِيهِ الْجَبْرُ كَمَا فِي قَضَاءِ الدَّيْنِ، فَإِنَّ الْمَدْيُونَ يُجْبَرُ عَلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ وَالدُّيُونُ تُقْضَى بِأَمْثَالِهَا عَلَى مَا عُرِفَ، فَصَارَ مَا يُؤَدِّي الْمَدْيُونُ بَدَلًا عَمَّا فِي ذِمَّتِهِ أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: جَرَيَان الْجَبْرِ فِي قَضَاءِ الدَّيْنِ لِكَوْنِ مَا أَخَذَهُ الدَّائِنُ مِنْ الْبَدَلِ مِثْلَ مَا ثَبَتَ فِي ذِمَّةِ الْمَدْيُونِ بِيَقِينٍ، وَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّ أَخْذَ مِثْلِ الْحَقِّ بِيَقِينٍ بِمَنْزِلَةِ أَخْذِ الْعَيْنِ، وَعَنْ هَذَا جَعَلُوا أَخْذَ الْمِثْلِ فِي الْقَرْضِ كَأَخْذِ الْعَيْنِ فَجَعَلُوا الْقَرْضَ لِذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْعَارِيَّةِ، بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ غَيْرِ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ، فَإِنَّ مَا يَأْخُذُهُ أَحَدُ الشُّرَكَاءِ فِيهِ مِنْ نَصِيبِ الْآخَرِ لَيْسَ مِثْلَ مَا تَرَكَ عَلَيْهِ مِنْ حَقِّ نَفْسِهِ بِيَقِينٍ فَلَمْ يَكُنْ بِمَنْزِلَةِ أَخْذِ عَيْنِ الْحَقِّ، وَعَنْ هَذَا قَالُوا: إنَّ مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ فِيهِ هُوَ الظَّاهِرُ، فَمِنْ ذَلِكَ نَشَأَ السُّؤَالُ الْمُقَدَّرُ وَاحْتِيجَ إلَى الْجَوَابِ الَّذِي نَحْنُ بِصَدَدِهِ، فَكَيْفَ يَتِمُّ قِيَاسُ جَرَيَانِ الْجَبْرِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ عَلَى جَرَيَانِهِ فِي قَضَاءِ الدَّيْنِ مَعَ تَحَقُّقِ الْفَرْقِ الْوَاضِحِ بَيْنَهُمَا
(قَوْلُهُ وَلَوْ تَرَاضَوْا عَلَيْهَا جَازَ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمْ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَحِلِّ: وَلَوْ تَرَاضَوْا عَلَى ذَلِكَ جَازَ، لِأَنَّ الْقِسْمَةَ فِي مُخْتَلِفِ الْجِنْسِ مُبَادَلَةٌ كَالتِّجَارَةِ، وَالتَّرَاضِي فِي التِّجَارَةِ شَرْطٌ بِالنَّصِّ انْتَهَى أَقُولُ: هَذَا الشَّرْحُ غَيْرُ مُطَابِقٍ لِلْمَشْرُوحِ، وَلَيْسَ بِتَامٍّ فِي نَفْسِهِ لِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ أَنَّ الْقِسْمَةَ فِي مُخْتَلِفِ الْجِنْسِ مُبَادَلَةٌ مَحْضَةٌ كَالتِّجَارَةِ فَهُوَ مَمْنُوعٌ، كَيْفَ وَقَدْ تَقَرَّرَ فِيمَا مَرَّ أَنَّ الْقِسْمَةَ مُطْلَقًا لَا تَعْرَى عَنْ مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ وَالْإِفْرَازِ، إلَّا أَنَّ مَعْنَى الْإِفْرَازِ هُوَ الظَّاهِرُ فِي ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ، وَمَعْنَى الْمُبَادَلَةِ هُوَ الظَّاهِرُ فِي غَيْرِهَا، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ الْمُبَادَلَةَ فِي قِسْمَةِ مُخْتَلِفِ الْجِنْسِ هِيَ الظَّاهِرَةُ فَهُوَ مُسَلَّمٌ، لَكِنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ فِي قِسْمَةِ غَيْرِ مُخْتَلِفِ الْجِنْسِ مِنْ غَيْرِ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ مَعَ أَنَّ التَّرَاضِيَ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِيهَا، عَلَى أَنَّ كَوْنَ التَّرَاضِي شَرْطًا فِي التِّجَارَةِ بِالنَّصِّ لَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ ذَلِكَ شَرْطًا فِي قِسْمَةِ مُخْتَلِفِ الْجِنْسِ أَيْضًا لِأَنَّ قِسْمَتَهُ لَيْسَتْ فِي مَعْنَى
فَتَكُونَ كِفَايَتُهُ فِي مَالِهِمْ غُرْمًا بِالْغُنْمِ قَالَ (فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ نَصَّبَ قَاسِمًا يَقْسِمُ بِالْأَجْرِ) مَعْنَاهُ بِأَجْرٍ عَلَى الْمُتَقَاسِمِينَ، لِأَنَّ النَّفْعَ لَهُمْ عَلَى الْخُصُوصِ، وَبِقَدْرِ أَجْرِ مِثْلِهِ كَيْ لَا يَتَحَكَّمَ بِالزِّيَادَةِ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَرْزُقَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّهُ أَرْفَقُ بِالنَّاسِ وَأَبْعَدُ عَنْ التُّهْمَةِ.
(وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَدْلًا مَأْمُونًا عَالِمًا بِالْقِسْمَةِ) لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ عَمَلِ الْقَضَاءِ، وَلِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْقُدْرَةِ وَهِيَ بِالْعِلْمِ، وَمِنْ الِاعْتِمَادِ عَلَى قَوْلِهِ وَهُوَ بِالْأَمَانَةِ (وَلَا يُجْبِرُ الْقَاضِي النَّاسَ عَلَى قَاسِمٍ وَاحِدٍ) مَعْنَاهُ لَا يُجْبِرُهُمْ عَلَى أَنْ يَسْتَأْجِرُوهُ لِأَنَّهُ لَا جَبْرَ عَلَى الْعُقُودِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ تَعَيَّنَ لَتَحَكَّمَ بِالزِّيَادَةِ عَلَى أَجْرِ مِثْلِهِ (وَلَوْ اصْطَلَحُوا فَاقْتَسَمُوا جَازَ، إلَّا إذَا كَانَ فِيهِمْ صَغِيرٌ فَيَحْتَاجُ إلَى أَمْرِ الْقَاضِي) لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُمْ عَلَيْهِ (وَلَا يَتْرُكُ الْقُسَّامَ يَشْتَرِكُونَ) كَيْ لَا تَصِيرَ الْأُجْرَةُ غَالِيَةً بِتَوَاكُلِهِمْ، وَعِنْدَ عَدَمِ الشَّرِكَةِ يَتَبَادَرُ كُلٌّ مِنْهُمْ إلَيْهِ خِيفَةَ الْفَوْتِ فَيُرَخِّصُ الْأَجْرَ قَالَ (وَأُجْرَةُ الْقِسْمَةِ عَلَى عَدَدِ الرُّءُوسِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا عَلَى قَدْرِ الْأَنْصِبَاءِ) لِأَنَّهُ مُؤْنَةُ الْمِلْكِ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهِ كَأُجْرَةِ الْكَيَّالِ وَالْوَزَّانِ وَحَفْرِ الْبِئْرِ الْمُشْتَرَكَةِ وَنَفَقَةِ الْمَمْلُوكِ الْمُشْتَرَكِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْأَجْرَ مُقَابَلٌ بِالتَّمْيِيزِ، وَأَنَّهُ لَا يَتَفَاوَتُ، وَرُبَّمَا يَصْعُبُ الْحِسَابُ بِالنَّظَرِ إلَى الْقَلِيلِ، وَقَدْ يَنْعَكِسُ الْأَمْرُ فَيَتَعَذَّرَ اعْتِبَارُهُ فَيَتَعَلَّقَ الْحُكْمُ
التِّجَارَةِ فِي كُلِّ الْوُجُوهِ، إذْ الْقِسْمَةُ مُطْلَقًا لَا تَعْرَى عَنْ مَعْنَى الْإِفْرَازِ أَلْبَتَّةَ، بِخِلَافِ التِّجَارَةِ، فَكَيْفَ تَلْحَقُ إحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى وَالْحَقُّ عِنْدِي أَنَّ مَعْنَى كَلَامِ الْمُصَنِّفِ هُنَا هُوَ أَنَّهُمْ لَوْ تَرَاضَوْا عَلَيْهَا جَازَ، لِأَنَّهُ الْحَقُّ لِهَؤُلَاءِ دُونَ غَيْرِهِمْ وَعَدَمُ الْجَبْرِ عَلَى قِسْمَةِ مُخْتَلِفِ الْأَجْنَاسِ لِخَوْفِ أَنْ يَبْقَى حَقُّ أَحَدِهِمْ عَلَى الْآخَرِ لِتَعَذُّرِ الْمُعَادَلَةِ بِاعْتِبَارِ فُحْشِ التَّفَاوُتِ فِي الْمَقَاصِدِ، وَإِذَا تَرَاضَوْا عَلَى ذَلِكَ فَقَدْ أَسْقَطَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حَقَّهُ الْبَاقِيَ عَلَى الْآخَرِ فَصَحَّتْ الْقِسْمَةُ بِلَا رَيْبٍ، اُنْظُرْ إلَى هَذَا الْمَعْنَى الْوَجِيهِ الْوَاضِحِ هَلْ يُشْبِهُ بِمَا ذَكَرَهُ ذَلِكَ الشَّارِحُ
(قَوْلُهُ مَعْنَاهُ بِأَجْرٍ عَلَى الْمُتَقَاسِمِينَ لِأَنَّ النَّفْعَ لَهُمْ عَلَى الْخُصُوصِ) أَقُولُ: قَوْلُهُ لِأَنَّ النَّفْعَ لَهُمْ عَلَى الْخُصُوصِ يُنَافِي بِحَسَبِ الظَّاهِرِ قَوْلَهُ فِيمَا مَرَّ آنِفًا وَلِأَنَّ مَنْفَعَةَ نَصْبِ الْقَاسِمِ تَعُمُّ الْعَامَّةَ فَتَكُونَ كِفَايَتُهُ فِي مَالِهِمْ غُرْمًا بِالْغُنْمِ فَتَأَمَّلْ فِي التَّوْفِيقِ
(قَوْلُهُ وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَدْلًا مَأْمُونًا عَالِمًا بِالْقِسْمَةِ) قَالَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ: ذِكْرُ الْأَمَانَةِ بَعْدَ الْعَدَالَةِ وَإِنْ كَانَتْ مِنْ لَوَازِمِهَا لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ ظَاهِرِ الْأَمَانَةِ انْتَهَى. وَاقْتَفَى أَثَرَهُ صَاحِبُ الْكِفَايَةِ ثُمَّ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ وَرَدَّ هَذَا التَّوْجِيهَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى شَرْحِ الْوِقَايَةِ، فَإِنَّ صَاحِبَ الْوِقَايَةِ لَمَّا اكْتَفَى بِقَوْلِهِ وَيَجِبُ كَوْنُهُ عَدْلًا عَالِمًا بِهَا قَالَ ذَلِكَ الْبَعْضُ لَمْ يَقُلْ عَدْلًا مَأْمُونًا عَالِمًا
بِأَصْلِ التَّمْيِيز، بِخِلَافِ حَفْرِ الْبِئْرِ لِأَنَّ الْأَجْرَ مُقَابَلٌ بِنَقْلِ التُّرَابِ وَهُوَ يَتَفَاوَتُ، وَالْكَيْلُ وَالْوَزْنُ إنْ كَانَ لِلْقِسْمَةِ قِيلَ هُوَ عَلَى الْخِلَافِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْقِسْمَةِ فَالْأَجْرُ مُقَابَلٌ بِعَمَلِ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ وَهُوَ يَتَفَاوَتُ وَهُوَ الْعُذْرُ لَوْ أُطْلِقَ وَلَا يُفَصَّلُ وَعَنْهُ أَنَّهُ عَلَى الطَّالِبِ دُونَ الْمُمْتَنِعِ لِنَفْعِهِ وَمَضَرَّةِ الْمُمْتَنِعِ قَالَ.
(وَإِذَا حَضَرَ الشُّرَكَاءُ عِنْدَ الْقَاضِي وَفِي أَيْدِيهِمْ دَارٌ أَوْ ضَيْعَةٌ وَادَّعَوْا أَنَّهُمْ وَرِثُوهَا عَنْ فُلَانٍ لَمْ يَقْسِمْهَا الْقَاضِي عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ حَتَّى يُقِيمُوا الْبَيِّنَةَ عَلَى مَوْتِهِ وَعَدَدِ وَرَثَتِهِ وَقَالَ صَاحِبَاهُ: يَقْسِمُهَا بِاعْتِرَافِهِمْ، وَيَذْكُرُ فِي كِتَابِ الْقِسْمَةِ أَنَّهُ قَسَمَهَا بِقَوْلِهِمْ وَإِنْ كَانَ الْمَالُ الْمُشْتَرَكُ مَا سِوَى الْعَقَارِ وَادَّعَوْا أَنَّهُ مِيرَاثٌ قَسَمَهُ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا، وَلَوْ ادَّعَوْا فِي الْعَقَارِ أَنَّهُمْ اشْتَرَوْهُ قَسَمَهُ بَيْنَهُمْ) لَهُمَا أَنَّ الْيَدَ دَلِيلُ الْمِلْكِ وَالْإِقْرَارَ أَمَارَةُ الصِّدْقِ وَلَا مُنَازِعَ لَهُمْ فَيَقْسِمَهُ بَيْنَهُمْ كَمَا فِي الْمَنْقُولِ الْمَوْرُوثِ وَالْعَقَارِ الْمُشْتَرَى، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَا مُنْكِرَ وَلَا بَيِّنَةَ إلَّا عَلَى الْمُنْكِرِ فَلَا يُفِيدُ، إلَّا أَنَّهُ يَذْكُرُ فِي كِتَابِ الْقِسْمَةِ أَنَّهُ قَسَمَهَا بِإِقْرَارِهِمْ لِيَقْتَصِرَ عَلَيْهِمْ وَلَا يَتَعَدَّاهُمْ وَلَهُ أَنْ يَقْسِمَ قَضَاءً عَلَى الْمَيِّتِ إذْ التَّرِكَةُ مُبْقَاةٌ عَلَى مِلْكِهِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، حَتَّى لَوْ حَدَثَتْ
بِهَا كَمَا وَقَعَ فِي الْهِدَايَةِ، لِأَنَّ الْأَمَانَةَ مِنْ لَوَازِمِ الْعَدَالَةِ وَقَالَ: وَالتَّوْجِيهُ بِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ ظَاهِرِ الْأَمَانَةِ كَمَا وَقَعَ فِي الْكِفَايَةِ لَيْسَ بِتَامٍّ، لِأَنَّ ظُهُورَ الْعَدَالَةِ يَسْتَلْزِمُ ظُهُورَهَا كَمَا لَا يَخْفَى اهـ، أَقُولُ: الْمَذْكُورُ فِي الْهِدَايَةِ نَفْسُ الْعَدَالَةِ لَا ظُهُورُهَا، فَاسْتِلْزَامُ ظُهُورِهَا ظُهُورَ الْأَمَانَةِ لَا يَقْتَضِي اسْتِدْرَاكَ ذِكْرِ الْأَمَانَةِ الْمُرَادِ بِهَا ظُهُورُهَا فَإِنْ قُلْت: فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْعَدَالَةِ ظُهُورُهَا كَمَا أُرِيدَ فِي الْأَمَانَةِ حَتَّى يُسْتَغْنَى بِذِكْرِ الْعَدَالَةِ عَنْ ذِكْرِ الْأَمَانَةِ بِالْكُلِّيَّةِ قُلْت: إرَادَةُ ظُهُورِ الْعَدَالَةِ مِنْ لَفْظِ الْعَدَالَةِ خِلَافُ الظَّاهِرِ لَا تُفْهَمُ مِنْ لَفْظِهَا وَحْدَهُ بِدُونِ الْقَرِينَةِ، وَأَمَّا إرَادَةُ ظُهُورِ الْأَمَانَةِ مِنْ لَفْظِ الْأَمَانَةِ الْوَاقِعَةِ فِي الْكِتَابِ فَبِقَرِينَةِ تَقَدُّمِ ذِكْرِ الْعَدَالَةِ الْمُسْتَلْزِمَةِ لِنَفْسِ الْأَمَانَةِ نَعَمْ لَوْ قَالَ فِي الْكِتَابِ ابْتِدَاءً ظَاهِرَ الْعَدَالَةِ بَدَلَ قَوْلِهِ عَدْلًا لَحَصَلَ الْغِنَى عَنْ ذِكْرِ الْأَمَانَةِ، لَكِنَّ مُرَادَ
الزِّيَادَةُ قَبْلَهَا تُنَفَّذُ وَصَايَاهُ فِيهَا وَتُقْضَى دُيُونُهُ مِنْهَا، بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الْقِسْمَةِ، وَإِذَا كَانَتْ قَضَاءً عَلَى الْمَيِّتِ فَالْإِقْرَارُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَيْهِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْبَيِّنَةِ وَهُوَ مُفِيدٌ، لِأَنَّ بَعْضَ الْوَرَثَةِ يَنْتَصِبُ خَصْمًا عَنْ الْمُورِثِ.
وَلَا يَمْتَنِعُ ذَلِكَ بِإِقْرَارِهِ كَمَا فِي الْوَارِثِ أَوْ الْوَصِيِّ الْمُقِرِّ بِالدَّيْنِ فَإِنَّهُ يُقْبَلُ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ مَعَ إقْرَارِهِ، بِخِلَافِ الْمَنْقُولِ لِأَنَّ فِي الْقِسْمَةِ نَظَرًا لِلْحَاجَةِ إلَى الْحِفْظِ أَمَّا الْعَقَارُ فَمُحْصَنٌ بِنَفْسِهِ، وَلِأَنَّ الْمَنْقُولَ مَضْمُونٌ عَلَى مَنْ وَقَعَ فِي يَدِهِ، وَلَا كَذَلِكَ الْعَقَارُ عِنْدَهُ،
هَؤُلَاءِ الشُّرَّاحِ تَوْجِيهُ الْعِبَارَةِ الْوَاقِعَةِ فِي الْكِتَابِ لَا نَفْيُ مَجَالِ إفَادَةِ الْمَعْنَى الْمَقْصُودِ هَاهُنَا بِعِبَارَةٍ أَخَصْرَ مِمَّا وَقَعَ فِي الْكِتَابِ
(قَوْلُهُ وَهُوَ مُفِيدٌ لِأَنَّ بَعْضَ الْوَرَثَةِ يَنْتَصِبُ خَصْمًا عَنْ الْمُورِثِ وَلَا يَمْتَنِعُ ذَلِكَ بِإِقْرَارِهِ كَمَا فِي الْوَارِثِ أَوْ الْوَصِيِّ الْمُقِرِّ بِالدَّيْنِ فَإِنَّهُ تُقْبَلُ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ مَعَ إقْرَارِهِ) قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: وَأَنْتَ خَبِيرٌ بِأَنَّهُ لَا أَوْلَوِيَّةَ لِأَحَدِ الْوَرَثَةِ بِأَنْ يَكُونَ مُدَّعِيًا وَالْآخَرُ بِكَوْنِهِ مُدَّعًى عَلَيْهِ فَكِلَاهُمَا مَجْهُولٌ، بِخِلَافِ الْمَقِيسِ عَلَيْهِ لِتَعَيُّنِ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ هُنَاكَ وَجَوَابُهُ ظَاهِرٌ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ إذَا قَالَ لَا أَقْسِمُ حَتَّى تُقِيمُوا الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمَوْتِ وَعَدَدِ الْوَرَثَةِ هُمْ يَجْعَلُونَ أَحَدَهُمْ مُدَّعِيًا لِيَحْصُلَ مَقْصُودُهُمْ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ. أَقُولُ: لَا اسْتِشْكَالَهُ شَيْءٌ وَلَا جَوَابَهُ أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ لِلْقَاضِي وِلَايَةُ التَّعْيِينِ فِي أَمْثَالِ هَذَا الْمَقَامِ تَحْصِيلًا لِمَقْصُودِهِمْ فَتَرْتَفِعَ الْجَهَالَةُ بِتَعْيِينِهِ، وَعَنْ هَذَا قَالَ فِي الذَّخِيرَةِ فِي بَيَانِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: فَالْقَاضِي يَسْمَعُ الْبَيِّنَةَ وَيَقْسِمُ الدَّارَ وَيَجْعَلُ أَحَدَ الْحَاضِرَيْنِ مُدَّعِيًا وَالْآخَرَ مُدَّعًى عَلَيْهِ، عَلَى أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْوَرَثَةِ الْحَاضِرِينَ صُلُوحًا لَأَنْ يَكُونَ مُدَّعِيًا فِي دَعْوَى حَقِّ نَفْسِهِ عَلَى الْآخَرِ وَمُدَّعًى عَلَيْهِ فِي دَعْوَى الْآخَرِ حَقَّهُ عَلَيْهِ، فَكُلٌّ مِنْهُمْ يَصِيرُ مُدَّعِيًا وَمُدَّعًى عَلَيْهِ مِنْ حَيْثِيَّتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَى فِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ فَلَا تُتَوَهَّمُ الْجَهَالَةُ حِينَئِذٍ أَصْلًا. وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ مُقْتَضَاهُ أَنْ يَتَوَقَّفَ اسْتِمَاعُ الْقَاضِي الْبَيِّنَةَ وَقِسْمَةُ الدَّرَاهِمِ بَيْنَهُمْ عَلَى جَعْلِهِمْ أَحَدَهُمْ عَلَى التَّعْيِينِ مُدَّعِيًا وَلَمْ يُسْمَعْ ذَلِكَ مِنْ أَحَدٍ وَلَمْ يُرَ فِي شَيْءٍ مِنْ الْكُتُبِ، فَإِنَّهُمْ إنْ لَمْ يَعْلَمُوا مَعْنَى الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَصْلًا فَضْلًا عَنْ أَنْ يَعْلَمُوا مِثْلَ هَذِهِ الدَّقِيقَةِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ انْتِصَابِ الْوَرَثَةِ خُصَمَاءَ عَنْ الْمُورِثِ يَقْسِمُ الْقَاضِي الدَّارَ بَيْنَهُمْ بِالْإِجْمَاعِ بَعْدَ أَنْ أَقَامُوا الْبَيِّنَةَ عَلَى مَوْتِ الْمُورِثِ وَعَدَدِ الْوَرَثَةِ
وَبِخِلَافِ الْمُشْتَرَى لِأَنَّ الْمَبِيعَ لَا يَبْقَى عَلَى مِلْكِ الْبَائِعِ وَإِنْ لَمْ يَقْسِمْ فَلَمْ تَكُنْ الْقِسْمَةُ قَضَاءً عَلَى الْغَيْرِ قَالَ (وَإِنْ ادَّعَوْا الْمِلْكَ وَلَمْ يَذْكُرُوا كَيْفَ انْتَقَلَ إلَيْهِمْ قَسَمَهُ بَيْنَهُمْ) لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْقِسْمَةِ قَضَاءٌ عَلَى الْغَيْرِ، فَإِنَّهُمْ مَا أَقَرُّوا بِالْمِلْكِ لِغَيْرِهِمْ قَالَ رضي الله عنه: هَذِهِ رِوَايَةُ كِتَابِ الْقِسْمَةِ.
(وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: أَرْضٌ ادَّعَاهَا رَجُلَانِ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا فِي أَيْدِيهِمَا وَأَرَادَا الْقِسْمَةَ لَمْ يَقْسِمْهَا حَتَّى يُقِيمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا لَهُمَا) لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ لِغَيْرِهِمَا ثُمَّ قِيلَ هُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ
كَمَا هُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ بِأَسْرِهَا
(قَوْلُهُ وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: أَرْضٌ ادَّعَاهَا رَجُلَانِ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا فِي أَيْدِيهِمَا وَأَرَادَا الْقِسْمَةَ لَمْ يَقْسِمْهَا حَتَّى يُقِيمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا لَهُمَا لِاحْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ لِغَيْرِهِمَا) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ: أَعَادَ لَفْظَ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِأَنَّهُ يُفِيدُ أَنَّهُ لَا يَقْسِمُ حَتَّى يُقِيمَا الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمِلْكِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ مَا فِي أَيْدِيهِمَا مِلْكًا لِغَيْرِهِمَا، فَإِنَّهُمَا لَمَّا لَمْ يَذْكُرَا السَّبَبَ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مِيرَاثًا فَيَكُونَ مِلْكًا لِلْغَيْرِ، وَأَنْ يَكُونَ مُشْتَرًى فَيَكُونَ مِلْكًا لَهُمَا لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ تَكُونَ الْأَمْلَاكُ فِي يَدِ مَالِكِهَا فَلَا يَقْسِمُ احْتِيَاطًا انْتَهَى أَقُولُ: لَا يَخْفَى عَلَى ذِي فِطْنَةٍ سَلِيمَةٍ أَنَّ قَوْلَهُ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ تَكُونَ الْأَمْلَاكُ فِي يَدِ مَالِكِهَا غَيْرَ مُفِيدٍ هَاهُنَا، بَلْ هُوَ مُخِلٌّ بِالْمَقَامِ لِأَنَّ ذَاكَ الْأَصْلَ: أَعْنِي كَوْنَ الْأَمْلَاكِ فِي يَدِ مَالِكِهَا يُرَجِّحُ كَوْنَ مَا فِي أَيْدِيهِمَا مِلْكًا لَهُمَا فَيَنْبَغِي أَنْ يَقْسِمَ بِدُونِ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ، مَعَ أَنَّ جَوَابَ مَسْأَلَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنْ لَا يَقْسِمَ بِدُونِهَا كَمَا تَرَى، فَالصَّوَابُ أَنْ يَتْرُكَ تِلْكَ الْمُقَدَّمَةَ فِي تَعْلِيلِ مَسْأَلَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، وَإِنَّمَا يَحْتَاجُ إلَيْهَا فِي بَيَانِ وَجْهِ رِوَايَةِ كِتَابِ الْقِسْمَةِ كَمَا مَرَّتْ مِنْ قَبْلُ وَاعْتَرَضَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ عَلَى قَوْلِ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ فَإِنَّهُمَا لَمَّا لَمْ يَذْكُرَا السَّبَبَ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مِيرَاثًا إلَى آخِرِهِ حَيْثُ قَالَ: فِيهِ بَحْثٌ، بَلْ الْمُحْتَمَلُ هُنَا أَنْ لَا يَكُونَ مِلْكًا لَهُمَا لَا إرْثًا وَلَا شِرَاءً، كَيْفَ وَلَوْ كَانَ مِلْكًا لَهُمَا لَتَعَرَّضَا لَهُ، وَبِهِ يَظْهَرُ وَجْهُ التَّوْفِيقِ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ فَإِنَّ فِي الْأُولَى ادَّعَوْا الْمِلْكَ انْتَهَى.
أَقُولُ: يُمْكِنُ دَفْعُ ذَلِكَ بِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ أَنَّ الْمُحْتَمَلَ هُنَا أَنْ لَا يَكُونَ مِلْكًا لَهُمَا أَصْلًا لَا غَيْرُ فَهُوَ مَمْنُوعٌ وَقَوْلُهُ كَيْفَ وَلَوْ كَانَ مِلْكًا لَهُمَا لَتَعَرَّضَا لَهُ غَيْرُ تَامٍّ، فَإِنَّ عَدَمَ التَّعَرُّضِ لِشَيْءٍ لَا يُنَافِي احْتِمَالَهُ فِي الْوَاقِعِ، وَإِنَّمَا يُنَافِي تَقَرُّرَهُ وَتَعَيُّنَهُ كَيْفَ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِلْمِلْكِ لَهُمَا احْتِمَالٌ أَصْلًا لَمَا جَازَ اسْتِمَاعُ الْبَيِّنَةِ لَهُ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ ذَلِكَ أَيْضًا مُحْتَمَلٌ هُنَا فَهُوَ مُسَلَّمٌ لَكِنْ لَا يَضُرُّ ذَلِكَ بِصِحَّةِ التَّعْلِيلِ الَّذِي ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ لِأَنَّ مُجَرَّدَ احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ مِيرَاثًا وَأَنْ يَكُونَ مُشْتَرًى يَكْفِي فِي أَنْ لَا يَقْسِمَ بِدُونِ الْبَيِّنَةِ احْتِيَاطًا ثُمَّ إنَّ هَذَا كُلَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ اسْتِدْرَاكِ قَوْلِ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ تَكُونَ الْأَمْلَاكُ فِي يَدِ مَالِكِهَا لِإِخْلَالِهِ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ كَمَا نَبَّهْنَا عَلَيْهِ آنِفًا. وَأَمَّا عَلَى تَقْدِيرِ اعْتِبَارِهِ فِي تَعْلِيلِ رِوَايَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ كَمَا فَعَلَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فَيَسْقُطَ جِدًّا مَا ذَكَرَهُ ذَلِكَ الْقَائِلُ مِنْ احْتِمَالِ أَنْ لَا يَكُونَ مِلْكًا لَهُمَا أَصْلًا لِدَلَالَةِ ثُبُوتِ أَيْدِيهِمَا عَلَى أَنَّ مَا فِيهَا مِلْكٌ لَهُمَا، وَيَكُونُ سَبَبُ عَدَمِ تَعَرُّضِهِمَا لِكَوْنِهِ مِلْكًا لَهُمَا هُوَ الِاعْتِمَادُ عَلَى دَلَالَةِ ذَلِكَ
وَقِيلَ قَوْلُ الْكُلِّ، وَهُوَ الْأَصَحُّ لِأَنَّ قِسْمَةَ الْحِفْظِ فِي الْعَقَارِ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ، وَقِسْمَةُ الْمِلْكِ تَفْتَقِرُ إلَى قِيَامِهِ وَلَا مِلْكَ فَامْتَنَعَ الْجَوَازُ قَالَ (وَإِذَا حَضَرَ وَارِثَانِ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ عَلَى الْوَفَاةِ وَعَدَدِ الْوَرَثَةِ وَالدَّارُ فِي أَيْدِيهمْ وَمَعَهُمْ وَارِثٌ غَائِبٌ قَسَمَهَا الْقَاضِي بِطَلَبِ الْحَاضِرِينَ وَيُنَصِّبُ وَكِيلًا يَقْبِضُ نَصِيبَ الْغَائِبِ، وَكَذَا لَوْ كَانَ مَكَانَ الْغَائِبِ صَبِيٌّ يَقْسِمُ وَيُنَصِّبُ وَصِيًّا يَقْبِضُ نَصِيبَهُ) لِأَنَّ فِيهِ نَظَرًا لِلْغَائِبِ وَالصَّغِيرِ، وَلَا بُدَّ مِنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ عِنْدَهُ أَيْضًا خِلَافًا لَهُمَا كَمَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ (وَلَوْ كَانُوا مُشْتَرِينَ لَمْ يَقْسِمْ مَعَ غَيْبَةِ أَحَدِهِمْ) وَالْفَرْقُ أَنْ مِلْكَ الْوَارِثِ مِلْكُ خِلَافَةٍ حَتَّى يُرَدَّ بِالْعَيْبِ وَيُرَدُّ عَلَيْهِ بِالْعَيْبِ فِيمَا اشْتَرَاهُ الْمُورِثُ أَوْ بَاعَ وَيَصِيرُ مَغْرُورًا بِشِرَاءِ الْمُورِثِ فَانْتَصَبَ أَحَدُهُمَا خَصْمًا عَنْ الْمَيِّتِ فِيمَا فِي يَدِهِ وَالْآخَرُ عَنْ نَفْسِهِ فَصَارَتْ الْقِسْمَةُ قَضَاءً بِحَضْرَةِ الْمُتَخَاصِمِينَ.
أَمَّا الْمِلْكُ الثَّابِتُ بِالشِّرَاءِ مِلْكٌ مُبْتَدَأٌ وَلِهَذَا لَا يُرَدُّ بِالْعَيْبِ عَلَى بَائِعِ بَائِعِهِ
عَلَيْهِ فَتَدَبَّرْ
(قَوْلُهُ وَقِيلَ قَوْلُ الْكُلِّ وَهُوَ الْأَصَحُّ، لِأَنَّ قِسْمَةَ الْحِفْظِ فِي الْعَقَارِ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ وَقِسْمَةَ الْمَلِكِ تَفْتَقِرُ إلَى قِيَامِهِ وَلَا مِلْكَ فَامْتَنَعَ الْجَوَازُ) يَعْنِي أَنَّ الْقِسْمَةَ نَوْعَانِ: قِسْمَةٌ لِحَقِّ الْمِلْكِ لِتَكْمِيلِ الْمَنْفَعَةِ، وَقِسْمَةٌ لِحَقِّ الْيَدِ لِأَجْلِ الْحِفْظِ وَالصِّيَانَةِ، وَالثَّانِي فِي الْعَقَارِ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ فَتَعَيَّنَ قِسْمَةُ الْمِلْكِ وَقِسْمَةُ الْمِلْكِ تَفْتَقِرُ إلَى قِيَامِ الْمِلْكِ وَلَا مِلْكَ بِدُونِ الْبَيِّنَةِ فَامْتَنَعَ الْجَوَازُ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ.
أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إنَّ هَذَا التَّقْرِيرَ يَقْتَضِي أَنْ لَا تَجُوزَ الْقِسْمَةُ بِدُونِ الْبَيِّنَةِ عَلَى قَوْلِ الْكُلِّ فِيمَا إذَا ادَّعَوْا الشِّرَاءَ أَيْضًا فِي الْعَقَارِ مَعَ أَنَّهُ قَدْ سَبَقَ أَنَّهُ تَجُوزُ الْقِسْمَةُ فِيهِ بِدُونِ الْبَيِّنَةِ بِالِاتِّفَاقِ.
وَيَقْتَضِي أَيْضًا أَنْ لَا تَجُوزَ الْقِسْمَةُ بِدُونِ الْبَيِّنَةِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ أَيْضًا فِيمَا إذَا ادَّعَوْا الْإِرْثَ فِي الْعَقَارِ وَمَعَ أَنَّهُ قَدْ سَبَقَ أَيْضًا أَنَّهُمَا يَقُولَانِ بِجَوَازِهَا فِيهِ بِمُجَرَّدِ اعْتِرَافِهِمْ ثُمَّ أَقُولُ: يَجُوزُ أَنْ لَا يَكُونَ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ رحمه الله بِقَوْلِهِ وَلَا مِلْكَ مَا حَمَلَ عَلَيْهِ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ مِنْ أَنَّهُ لَا مِلْكَ بِدُونِ الْبَيِّنَةِ لِانْتِقَاضِهِ بِصُورَةِ ادِّعَائِهِمْ الشِّرَاءَ عَلَى قَوْلِ الْكُلِّ، وَبِصُورَةِ ادِّعَائِهِمْ الْإِرْثَ أَيْضًا عَلَى قَوْلِهِمَا كَمَا نَبَّهْت عَلَيْهِ آنِفًا، بَلْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَا مِلْكَ فِي دَعْوَاهُمَا: أَيْ لَمْ يَدَّعِيَا الْمِلْكَ وَلَمْ يَتَعَرَّضَا لَهُ أَصْلًا فِي رِوَايَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، بَلْ إنَّمَا ادَّعَيَا أَنَّهَا فِي أَيْدِيهِمَا وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ مَا مَرَّ مِنْ رِوَايَةِ كِتَابِ الْقِسْمَةِ فَإِنَّهُمْ ادَّعَوْا هُنَاكَ صَرِيحَ الْمِلْكِ فَافْتَرَقَتَا فَحِينَئِذٍ لَا انْتِقَاضَ بِالصُّورَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ لِأَنَّهُمْ ادَّعَوْا فِيهِمَا سَبَبَ الْمِلْكِ مِنْ الْإِرْثِ أَوْ الشِّرَاءِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا ذَكَرَهُ تَاجُ الشَّرِيعَةِ حَيْثُ قَالَ: قِيلَ إنَّمَا اخْتَلَفَ الْجَوَابُ لِاخْتِلَافِ الْوَضْعِ فَمَوْضُوعُ كِتَابِ الْقِسْمَةِ فِيمَا إذَا ادَّعَيَا الْمِلْكَ ابْتِدَاءً وَمَوْضُوعُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فِيمَا إذَا ادَّعَيَا الْيَدَ ابْتِدَاءً،
فَلَا يَصْلُحُ الْحَاضِرُ خَصْمًا عَنْ الْغَائِبِ فَوَضَحَ الْفَرْقُ (وَإِنْ كَانَ الْعَقَارُ فِي يَدِ الْوَارِثِ الْغَائِبِ أَوْ شَيْءٍ مِنْهُ لَمْ يُقْسَمْ، وَكَذَا إذَا كَانَ فِي يَدِ مُودِعِهِ، وَكَذَا إذَا كَانَ فِي يَدِ الصَّغِيرِ) لِأَنَّ الْقِسْمَةَ قَضَاءٌ عَلَى الْغَائِبِ وَالصَّغِيرِ بِاسْتِحْقَاقِ يَدِهِمَا مِنْ غَيْرِ خَصْمٍ حَاضِرٍ عَنْهُمَا، وَأَمِينُ الْخَصْمِ لَيْسَ بِخَصْمٍ عَنْهُ فِيمَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ، وَالْقَضَاءُ مِنْ غَيْرِ الْخَصْمِ لَا يَجُوزُ.
وَلَا فَرْقَ فِي هَذَا الْفَصْلِ بَيْنَ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ وَعَدَمِهَا هُوَ الصَّحِيحُ كَمَا أُطْلِقَ فِي الْكِتَابِ قَالَ (وَإِنْ حَضَرَ وَارِثٌ وَاحِدٌ لَمْ يَقْسِمْ وَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ) لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ حُضُورِ خَصْمَيْنِ، لِأَنَّ الْوَاحِدَ لَا يَصْلُحُ مُخَاصِمًا وَمُخَاصَمًا، وَكَذَا مُقَاسِمًا وَمُقَاسَمًا، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْحَاضِرُ اثْنَيْنِ عَلَى مَا بَيَّنَّا (وَلَوْ كَانَ الْحَاضِرُ كَبِيرًا وَصَغِيرًا نَصَبَ الْقَاضِي عَنْ الصَّغِيرِ وَصِيًّا وَقَسَمَ إذَا أُقِيمَتْ الْبَيِّنَةُ، وَكَذَا إذَا حَضَرَ وَارِثٌ كَبِيرٌ وَمُوصًى لَهُ بِالثُّلُثِ فِيهَا وَطَلَبَا الْقِسْمَةَ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمِيرَاثِ وَالْوَصِيَّةِ يَقْسِمُهُ) لِاجْتِمَاعِ الْخَصْمَيْنِ الْكَبِيرِ عَنْ الْمَيِّتِ وَالْمُوصَى لَهُ عَنْ نَفْسِهِ، وَكَذَا الْوَصِيُّ عَنْ الصَّبِيِّ كَأَنَّهُ حَضَرَ بِنَفْسِهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ لِقِيَامِهِ مَقَامَهُ
وَبَيَانُهُ أَنَّهُمَا لَمَّا ادَّعَيَا الْمِلْكَ ابْتِدَاءً وَالْيَدُ ثَابِتَةٌ وَمَنْ فِي يَدِهِ شَيْءٌ يُقْبَلُ قَوْلُهُ أَنَّهُ مِلْكُهُ مَا لَمْ يُنَازِعْهُ غَيْرُهُ، إذْ الْأَصْلُ أَنَّ الْأَمْلَاكَ فِي يَدِ الْمُلَّاكِ فَيُعْتَبَرُ هَذَا الظَّاهِرُ وَإِنْ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مِلْكَ الْغَيْرِ لِأَنَّهُ احْتِمَالٌ بِلَا دَلِيلٍ فَيُقْسَمُ بَيْنَهُمَا بِنَاءً عَلَى الظَّاهِرِ، أَمَّا إذَا ادَّعَيَا الْيَدَ وَأَعْرَضَا عَنْ ذِكْرِ الْمِلْكِ مَعَ حَاجَتِهِمَا إلَى بَيَانِهِ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُمَا لِأَنَّهُمَا طَلَبَا الْقِسْمَةَ مِنْ الْقَاضِي وَالْقِسْمَةُ فِي الْعَقَارِ لَا تَكُونُ إلَّا بِالْمِلْكِ، فَلَمَّا سَكَتُوا عَنْهُ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمِلْكَ لَيْسَ لَهُمَا فَتَأَكَّدَ ذَلِكَ الِاحْتِمَالُ السَّابِقُ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُمَا بَعْدَ ذَلِكَ إلَّا بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ لِيَزُولَ هَذَا الِاحْتِمَالُ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ لِغَيْرِهِمَا، إلَى هُنَا كَلَامُهُ فَتَبَصَّرْ
(قَوْلُهُ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ قَضَاءٌ عَلَى الْغَائِبِ وَالصَّغِيرِ بِاسْتِحْقَاقِ يَدِهِمَا مِنْ غَيْرِ خَصْمٍ حَاضِرٍ عَنْهُمَا) يَعْنِي أَنَّ فِي هَذِهِ الْقِسْمَةِ قَضَاءً عَلَى الْغَائِبِ أَوْ الصَّغِيرِ بِإِخْرَاجِ شَيْءٍ مِمَّا كَانَ فِي يَدِهِ عَنْ يَدِهِ مِنْ غَيْرِ خَصْمٍ حَاضِرٍ عَنْهُمَا، كَذَا التَّقْرِيرُ فِي الْكَافِي وَالْمَبْسُوطِ أَقُولُ: فِي هَذَا التَّعْلِيلِ شَيْءٌ، وَهُوَ أَنَّهُ إنَّمَا يَتِمُّ إذَا كَانَ الْعَقَارُ كُلُّهُ فِي يَدِ الْغَائِبِ أَوْ الصَّغِيرِ، أَوْ كَانَ مِنْهُ شَيْءٌ زَائِدٌ قَدْرُهُ عَلَى حِصَّةِ الْغَائِبِ أَوْ الصَّغِيرِ مِنْ الْمِيرَاثِ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا، وَأَمَّا فِيمَا إذَا كَانَ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا مِنْ الْعَقَارِ شَيْءٌ يُسَاوِي قَدْرُهُ حِصَّةَ ذَلِكَ مِنْ الْمِيرَاثِ أَوْ يَصِيرُ أَقَلَّ مِنْهَا فَلَا يَتَمَشَّى فِيهَا ذَلِكَ التَّعْلِيلُ، إذْ لَا يَلْزَمُ فِيهِ الْقَضَاءُ عَلَى الْغَائِبِ أَوْ الصَّغِيرِ بِإِخْرَاجِ شَيْءٍ مِمَّا كَانَ فِي يَدِهِ عَنْ يَدِهِ بَلْ يَلْزَمُ إبْقَاءُ مَا كَانَ فِي يَدِهِ عَلَى يَدِهِ فِي صُورَةِ التَّسَاوِي وَزِيَادَةُ شَيْءٍ عَلَيْهِ مِمَّا فِي يَدِ الْحَاضِرِينَ فِي صُورَةِ النُّقْصَانِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا هُوَ السِّرُّ فِي عَدَمِ وُقُوعِ ذِكْرٍ أَوْ شَيْءٍ مِنْهُ فِي وَضْعِ الْمَسْأَلَةِ فِي مُخْتَصَرِ الْقُدُورِيِّ، فَإِنَّ هَذَا الْقَيْدَ فِي وَضْعِهَا مِنْ زِيَادَةِ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ فَتَأَمَّلْ
فَصْلٌ فِيمَا يُقْسَمُ وَمَا لَا يُقْسَمُ
قَالَ (وَإِذَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الشُّرَكَاءِ يَنْتَفِعُ بِنَصِيبِهِ قَسَمَ بِطَلَبِ أَحَدِهِمْ) لِأَنَّ الْقِسْمَةَ حَقٌّ لَازِمٌ فِيمَا يَحْتَمِلُهَا عِنْدَ طَلَبِ أَحَدِهِمْ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ (وَإِنْ كَانَ يَنْتَفِعُ أَحَدُهُمْ وَيَسْتَضِرُّ بِهِ الْآخَرُ لِقِلَّةِ نَصِيبِهِ، فَإِنْ طَلَبَ صَاحِبُ الْكَثِيرِ قَسَمَ، وَإِنْ طَلَبَ صَاحِبُ الْقَلِيلِ لَمْ يَقْسِمْ) لِأَنَّ الْأَوَّلَ يَنْتَفِعُ بِهِ فَيُعْتَبَرَ طَلَبُهُ، وَالثَّانِي مُتَعَنِّتٌ فِي طَلَبِهِ فَلَمْ يُعْتَبَرْ وَذَكَرَ الْجَصَّاصُ عَلَى قَلْبِ هَذَا لِأَنَّ صَاحِبَ الْكَثِيرِ يُرِيدُ الْإِضْرَارَ بِغَيْرِهِ وَالْآخَرُ يَرْضَى بِضَرَرِ نَفْسِهِ وَذَكَرَ الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ فِي مُخْتَصَرِهِ أَنَّ أَيَّهمَا طَلَبَ الْقِسْمَةَ يَقْسِمُ الْقَاضِي، وَالْوَجْهُ انْدَرَجَ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ وَالْأَصَحُّ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ الْأَوَّلُ (وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَسْتَضِرُّ لِصِغَرِهِ
(فَصْلٌ فِيمَا يُقْسَمُ وَمَا لَا يُقْسَمُ)
لَمَّا تَنَوَّعَتْ مَسَائِلُ الْقِسْمَةِ إلَى مَا يُقْسَمُ وَمَا لَا يُقْسَمُ شَرَعَ فِي بَيَانِهِمَا فِي فَصْلٍ عَلَى حِدَةٍ
(قَوْلُهُ وَالْأَصَحُّ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ الْأَوَّلُ) لِأَنَّ رِضَا صَاحِبِ الْقَلِيلِ بِالْتِزَامِ الضَّرَرِ لَا يُلْزِمُ الْقَاضِيَ شَيْئًا، وَإِنَّمَا الْمُلْزَمُ طَلَبُ الْإِنْصَافِ مِنْ الْقَاضِي وَإِيصَالُهُ إلَى مَنْفَعَةِ مِلْكِهِ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ عِنْدَ طَلَبِهِ الْقَلِيلَ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ، وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي الذَّخِيرَةِ، وَزَادَ عَلَيْهِ فِي النِّهَايَةِ وَالْكِفَايَةِ أَنْ يُقَالَ: أَلَا تَرَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إذَا كَانَ لَا يَنْتَفِعُ بِنَصِيبِهِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ وَطَلَبَا جَمِيعًا الْقِسْمَةَ لَمْ يَقْسِمْهَا الْقَاضِي بَيْنَهُمَا، فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ الطَّالِبُ مَنْ لَا يَنْتَفِعُ بِنَصِيبِهِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ انْتَهَى أَقُولُ: هَذِهِ الزِّيَادَةُ تُخَالِفُ مَا سَيَأْتِي فِي الْكِتَابِ بِقَوْلِهِ وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَسْتَضِرُّ لِصِغَرِهِ لَمْ يَقْسِمْهَا إلَّا بِتَرَاضِيهِمَا، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَاضِيَ يَقْسِمُهَا عِنْدَ تَرَاضِي الشَّرِيكَيْنِ وَطَلَبِهِمَا الْقِسْمَةَ، وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ الْمُصَنِّفُ هُنَاكَ حَيْثُ قَالَ: وَيَجُوزُ بِتَرَاضِيهِمَا لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمَا وَهُمَا أَعْرَفُ بِشَأْنِهِمَا، أَمَّا الْقَاضِي يَعْتَمِدُ الظَّاهِرَ انْتَهَى ثُمَّ إنَّك لَوْ تَأَمَّلْت حَقَّ التَّأَمُّلِ وَجَدْت نَوْعًا مِنْ التَّدَافُعِ بَيْنَ أَصْلِ مَا ذَكَرُوا فِي وَجْهِ أَصَحِّيَّةِ
لَمْ يَقْسِمْهَا إلَّا بِتَرَاضِيهِمَا) لِأَنَّ الْجَبْرَ عَلَى الْقِسْمَةِ لِتَكْمِيلِ الْمَنْفَعَةِ، وَفِي هَذَا تَفْوِيتُهَا، وَتَجُوزُ بِتَرَاضِيهِمَا لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمَا وَهُمَا أَعْرَفُ بِشَأْنِهِمَا.
أَمَّا الْقَاضِي فَيَعْتَمِدُ الظَّاهِرَ قَالَ (وَيُقْسَمُ الْعُرُوض إذَا كَانَتْ مِنْ صِنْفٍ وَاحِدٍ) لِأَنَّ عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ يَتَّحِدُ الْمَقْصُودُ فَيَحْصُلَ التَّعْدِيلُ فِي الْقِسْمَةِ وَالتَّكْمِيلُ فِي الْمَنْفَعَةِ (وَلَا يَقْسِمُ الْجِنْسَيْنِ بَعْضَهُمَا فِي بَعْضٍ) لِأَنَّهُ لَا اخْتِلَاطَ بَيْنَ الْجِنْسَيْنِ فَلَا تَقَعُ الْقِسْمَةُ تَمْيِيزًا بَلْ تَقَعُ مُعَاوَضَةً، وَسَبِيلُهَا التَّرَاضِي دُونَ جَبْرِ الْقَاضِي (وَيَقْسِمُ كُلَّ مَكِيلٍ وَمَوْزُونٍ كَثِيرٍ أَوْ قَلِيلٍ وَالْمَعْدُودِ الْمُتَقَارِبِ وَتِبْرِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْحَدِيدِ وَالنُّحَاسِ وَالْإِبِلِ بِانْفِرَادِهَا وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَلَا يَقْسِمُ شَاةً وَبَعِيرًا وَبِرْذَوْنًا وَحِمَارًا وَلَا يَقْسِمُ الْأَوَانِيَ) لِأَنَّهَا بِاخْتِلَافِ الصَّنْعَةِ الْتَحَقَتْ بِالْأَجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ (وَيَقْسِمُ الثِّيَابَ الْهَرَوِيَّةَ) لِاتِّحَادِ الصِّنْفِ (وَلَا يَقْسِمُ ثَوْبًا وَاحِدًا) لِاشْتِمَالِ الْقِسْمَةِ عَلَى الضَّرَرِ إذْ هِيَ لَا تَتَحَقَّقُ إلَّا بِالْقَطْعِ (وَلَا ثَوْبَيْنِ إذَا اخْتَلَفَتْ قِيمَتُهُمَا) لِمَا بَيَّنَّا، بِخِلَافِ ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ إذَا جُعِلَ ثَوْبٌ بِثَوْبَيْنِ أَوْ ثَوْبٌ وَرُبْعُ ثَوْبٍ بِثَوْبٍ وَثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ ثَوْبٍ لِأَنَّهُ قِسْمَةُ الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ وَذَلِكَ جَائِزٌ.
(وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يَقْسِمُ الرَّقِيقَ وَالْجَوَاهِرَ) لِتَفَاوُتِهِمَا (وَقَالَا: يَقْسِمُ الرَّقِيقَ) لِاتِّحَادِ الْجِنْسِ كَمَا فِي الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ وَرَقِيقِ الْمَغْنَمِ وَلَهُ أَنَّ التَّفَاوُتَ فِي الْآدَمِيِّ فَاحِشٌ لِتَفَاوُتِ الْمَعَانِي الْبَاطِنَةِ فَصَارَ كَالْجِنْسِ الْمُخْتَلِفِ بِخِلَافِ الْحَيَوَانَاتِ لِأَنَّ التَّفَاوُتَ فِيهَا يَقِلُّ عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى مِنْ بَنِي آدَمَ جِنْسَانِ وَمِنْ الْحَيَوَانَاتِ جِنْسٌ
الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ أَوَّلًا وَبَيْنَ ذَاكَ التَّعْلِيلِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمَا إلَى قَوْلِهِ أَمَّا الْقَاضِي يَعْتَمِدُ الظَّاهِرَ فَتَأَمَّلْ
وَاحِدٌ، بِخِلَافِ الْمَغَانِمِ لِأَنَّ حَقَّ الْغَانِمِينَ فِي الْمَالِيَّةِ حَتَّى كَانَ لِلْإِمَامِ بَيْعُهَا وَقِسْمَةُ ثَمَنِهَا وَهُنَا يَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِ وَالْمَالِيَّةِ جَمِيعًا فَافْتَرَقَا وَأَمَّا الْجَوَاهِرُ فَقَدْ قِيلَ إذَا اخْتَلَفَ الْجِنْسُ لَا يَقْسِمُ كَاللَّآلِئِ وَالْيَوَاقِيتِ وَقِيلَ لَا يَقْسِمُ الْكِبَارَ مِنْهَا لِكَثْرَةِ التَّفَاوُتِ، وَيَقْسِمُ الصِّغَارَ لِقِلَّةِ التَّفَاوُتِ.
وَقِيلَ يَجْرِي الْجَوَابُ عَلَى إطْلَاقِهِ لِأَنَّ جَهَالَةَ الْجَوَاهِرِ أَفْحَشُ مِنْ جَهَالَةِ الرَّقِيقِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ تَزَوَّجَ عَلَى لُؤْلُؤَةٍ أَوْ يَاقُوتَةٍ أَوْ خَالَعَ عَلَيْهَا لَا تَصِحُّ التَّسْمِيَةُ، وَيَصِحُّ ذَلِكَ عَلَى عَبْدٍ فَأَوْلَى أَنْ لَا يُجْبَرَ عَلَى الْقِسْمَةِ.
قَالَ (وَلَا يُقْسَمُ حَمَّامٌ وَلَا بِئْرٌ، وَلَا رَحًى إلَّا بِتَرَاضِي الشُّرَكَاءِ، وَكَذَا الْحَائِطُ بَيْنَ الدَّارَيْنِ) لِأَنَّهَا تَشْتَمِلُ عَلَى الضَّرَرِ فِي الطَّرَفَيْنِ، إذْ لَا يَبْقَى كُلُّ نَصِيبٍ مُنْتَفَعًا بِهِ انْتِفَاعًا مَقْصُودًا فَلَا يَقْسِمُ الْقَاضِي بِخِلَافِ التَّرَاضِي لِمَا بَيَّنَّا
قَوْلُهُ وَلَا يُقْسَمُ حَمَّامٌ وَلَا بِئْرٌ وَلَا رَحًى إلَّا بِرِضَا الشُّرَكَاءِ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَالْأَصْلُ فِي هَذَا أَنَّ الْجَبْرَ فِي الْقِسْمَةِ إنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ انْتِفَاءِ الضَّرَرِ عَنْهُمَا بِأَنْ يَبْقَى نَصِيبُ كُلٍّ مِنْهُمَا بَعْدَ الْقِسْمَةِ مُنْتَفَعًا بِهِ انْتِفَاعَ ذَلِكَ الْجِنْسِ وَفِي قِسْمَةِ الْحَمَّامِ وَالْبِئْرِ وَالرَّحَى ضَرَرٌ لَهُمَا أَوْ لِأَحَدِهِمَا فَلَا يُقْسَمُ إلَّا بِالتَّرَاضِي انْتَهَى أَقُولُ: تَقْرِيرُ الْأَصْلِ بِهَذَا الْوَجْهِ لَيْسَ بِسَدِيدٍ، إذْ قَدْ تَقَرَّرَ فِيمَا مَرَّ أَنَّهُ إذَا كَانَ أَحَدُ الشُّرَكَاءِ يَنْتَفِعُ بِنَصِيبِهِ وَالْآخَرُ يَسْتَضِرُّ بِنَصِيبِهِ لِقِلَّتِهِ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَقْسِمُ بِطَلَبِ صَاحِبِ الْكَثِيرِ فَقَطْ عَلَى الْقَوْلِ الْأَصَحِّ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ، وَبِطَلَبِ صَاحِبِ الْقَلِيلِ فَقَطْ عَلَى مَا ذَكَرَهُ عَلَى الْجَصَّاصُ، وَبِطَلَبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ، وَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورَةِ يُنْتَقَضُ ذَلِكَ التَّقْرِيرُ بِتِلْكَ الْمَسْأَلَةِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى ذِي مُسْكَةٍ فَالصَّوَابُ الْمُوَافِقُ لِقَوْلِ الْمُصَنِّفِ فِي التَّعْلِيلِ لِأَنَّهُ يَشْتَمِلُ عَلَى الضَّرَرِ فِي الطَّرَفَيْنِ إلَخْ أَنْ يُقْتَصَرَ فِي بَيَانِ أَصْلِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ عَلَى لُزُومِ الضَّرَرِ لِكُلِّ
قَالَ (وَإِذَا كَانَتْ دُورٌ مُشْتَرَكَةً فِي مِصْرٍ وَاحِدٍ قَسَمَ كُلَّ دَارٍ عَلَى حِدَتِهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَا: إنْ كَانَ الْأَصْلَحُ لَهُمْ قِسْمَةَ بَعْضِهَا فِي بَعْضٍ قَسَمَهَا) وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الْأَقْرِحَةُ الْمُتَفَرِّقَةُ الْمُشْتَرِكَةُ لَهُمَا أَنَّهَا جِنْسٌ وَاحِدٌ اسْمًا وَصُورَةً، وَنَظَرًا إلَى أَصْلِ السُّكْنَى أَجْنَاسٌ مَعْنًى نَظَرًا إلَى اخْتِلَافِ الْمَقَاصِدِ، وَوُجُوهِ السُّكْنَى فَيُفَوَّضُ التَّرْجِيحُ إلَى الْقَاضِي وَلَهُ أَنَّ الِاعْتِبَارَ لِلْمَعْنَى وَهُوَ الْمَقْصُودُ، وَيَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ الْبُلْدَانِ وَالْمَحَالِّ وَالْجِيرَانِ وَالْقُرْبِ إلَى الْمَسْجِدِ وَالْمَاءِ اخْتِلَافًا فَاحِشًا فَلَا يُمْكِنُ التَّعْدِيلُ فِي الْقِسْمَةِ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِشِرَاءِ دَارٍ، وَكَذَا لَوْ تَزَوَّجَ عَلَى دَارٍ لَا تَصِحُّ التَّسْمِيَةُ كَمَا هُوَ الْحُكْمُ فِيهِمَا فِي الثَّوْبِ بِخِلَافِ الدَّارِ الْوَاحِدَةِ إذَا اخْتَلَفَتْ بُيُوتُهَا، لِأَنَّ فِي قِسْمَةِ كُلِّ بَيْتٍ عَلَى حِدَةٍ ضَرَرًا فَقُسِمَتْ الدَّارُ قِسْمَةً وَاحِدَةً قَالَ رضي الله عنه: تَقْيِيدُ الْوَضْعِ فِي الْكِتَابِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الدَّارَيْنِ إذَا كَانَتَا فِي مِصْرَيْنِ لَا تَجْتَمِعَانِ فِي الْقِسْمَةِ عِنْدَهُمَا، وَهُوَ رِوَايَةُ هِلَالٍ عَنْهُمَا وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يُقْسَمُ إحْدَاهُمَا فِي الْأُخْرَى وَالْبُيُوتُ فِي مُحَلَّةٍ أَوْ مَحَالٍ تُقْسَمُ قِسْمَةً وَاحِدَةً لِأَنَّ التَّفَاوُتَ فِيمَا بَيْنَهَا يَسِيرٌ، وَالْمَنَازِلُ الْمُتَلَازِقَةُ كَالْبُيُوتِ وَالْمُتَبَايِنَةُ كَالدُّورِ لِأَنَّهُ بَيْنَ الدَّارِ وَالْبَيْتِ عَلَى مَا مَرَّ مِنْ قَبْلُ فَأَخَذَ شَبِيهًا مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ.
قَالَ (وَإِنْ كَانَتْ دَارٌ وَضِيعَةٌ أَوْ دَارٌ وَحَانُوتٌ قُسِمَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى حِدَةٍ) لِاخْتِلَافِ الْجِنْسِ. قَالَ رضي الله عنه: جَعَلَ الدَّارَ وَالْحَانُوتَ جِنْسَيْنِ، وَكَذَا ذَكَرَ الْخَصَّافُ وَقَالَ فِي إجَارَاتِ الْأَصْلِ: إنَّ إجَارَةَ مَنَافِعِ الدَّارِ بِالْحَانُوتِ لَا تَجُوزُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمَا جِنْسٌ وَاحِدٌ، فَيُجْعَلَ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ أَوْ تُبْنَى حُرْمَةُ الرِّبَا هُنَالِكَ عَلَى شُبْهَةِ الْمُجَانَسَةِ
وَاحِدٍ مِنْ الشُّرَكَاءِ، وَيُجْعَلَ ذَلِكَ مَدَارًا لِعَدَمِ الْجَبْرِ فِي الْقِسْمَةِ
(قَوْلُهُ وَإِنْ كَانَتْ دَارٌ وَضِيعَةٌ أَوْ دَارٌ وَحَانُوتٌ قُسِمَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى حِدَةٍ لِاخْتِلَافِ الْجِنْسِ) قَالَ الْمُصَنِّفُ: جَعَلَ الدَّارَ وَالْحَانُوتَ جِنْسَيْنِ، وَكَذَا ذَكَرَ الْخَصَّافُ. وَقَالَ فِي إجَارَاتِ الْأَصْلِ: إنَّ إجَارَةَ مَنَافِعِ الدَّارِ بِالْحَانُوتِ لَا يَجُوزُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمَا جِنْسٌ وَاحِدٌ، فَيُجْعَلَ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ أَوْ تُبْنَى حُرْمَةُ الرِّبَا هُنَالِكَ عَلَى شُبْهَةِ الْمُجَانَسَةِ. وَاسْتَشْكَلَ التَّوْجِيهَ الثَّانِيَ صَاحِبُ الْكَافِي حَيْثُ قَالَ: وَقِيلَ هُمَا مُخْتَلِفَانِ جِنْسًا رِوَايَةً وَاحِدَةً، وَالْفَسَادُ ثَمَّةَ بِشُبْهَةِ الْمُجَانَسَةِ بِاعْتِبَارِ اتِّحَادِ مَنْفَعَتِهِمَا وَهُوَ السُّكْنَى، كَذَا ذَكَرَهُ فِي الْهِدَايَةِ، وَهُوَ مُشْكِلٌ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى اعْتِبَارِ شُبْهَةِ الشُّبْهَةِ وَالشُّبْهَةُ هِيَ الْمُعْتَبَرَةُ دُونَ النَّازِلَةِ عَنْهَا.
وَقَدْ قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيُّ: إمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ أَوْ يَكُونَ مِنْ مُشْكِلَاتِ هَذَا الْكِتَابِ، إلَى هُنَا كَلَامُ صَاحِبِ الْكَافِي وَأَوْضَحَ إشْكَالَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ ثُمَّ أَجَابَ عَنْهُ حَيْثُ قَالَ: وَاسْتَشْكَلَ كَلَامُهُ هَذَا لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى اعْتِبَارِ شُبْهَةِ الشُّبْهَةِ، فَإِنَّ الْجِنْسَ إذَا اتَّحَدَ كَانَ بِمَنْزِلَةِ مُبَادَلَةِ الشَّيْءِ بِجِنْسِهِ نَسِيئَةً، وَبِالْجِنْسِ يَحْرُمُ النَّسَاءُ عِنْدَنَا كَمَا تَقَدَّمَ، وَفِي ذَلِكَ شُبْهَةُ الرِّبَا، فَإِذَا اُعْتُبِرَتْ شُبْهَةُ الْجِنْسِيَّةِ كَانَ ذَلِكَ اعْتِبَارًا لِشُبْهَةِ الشُّبْهَةِ، وَالْمُعْتَبَرُ الشُّبْهَةُ دُونَ النَّازِلِ عَنْهَا
فَصْلٌ فِي كَيْفِيَّةِ الْقِسْمَةِ
وَقَدْ قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيُّ: إمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ أَوْ يَكُونَ مِنْ مُشْكِلَاتِ هَذَا الْكِتَابِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: لَا إشْكَالَ فِيهِ، لِأَنَّ الْمُرَادَ بِشُبْهَةِ الْمُجَانَسَةِ الشُّبْهَةُ الثَّابِتَةُ بِهَا لِأَنَّهُ قَالَ جِنْسٌ وَاحِدٌ فَكَيْفَ يَقُولُ بِشُبْهَةِ الْمُجَانَسَةِ انْتَهَى كَلَامُهُ.
أَقُولُ: فِي الْجَوَابِ خَلَلٌ، إذْ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِشُبْهَةِ الْمُجَانَسَةِ الشُّبْهَةَ الثَّابِتَةَ بِنَفْسِ الْمُجَانَسَةِ لَمَا تَمَّ التَّوْفِيقُ بَيْنَ مَسْأَلَتِنَا وَمَسْأَلَةِ إجَارَاتِ الْأَصْلِ بِقَوْلِهِ أَوْ تُبْنَى حُرْمَةُ الرِّبَا هُنَالِكَ عَلَى شُبْهَةِ الْمُجَانَسَةِ، إذْ يَصِيرُ مَدَارُ مَسْأَلَةِ إجَارَاتِ الْأَصْلِ حِينَئِذٍ عَلَى اتِّحَادِ الدَّارِ وَالْحَانُوتِ فِي الْجِنْسِ وَمَدَارُ مَسْأَلَتِنَا عَلَى اخْتِلَافِهِمَا فِي الْجِنْسِ قَطْعًا، فَتَتَنَاقَضَانِ، وَالْمُصَنِّفُ قَصَدَ التَّوْفِيقَ بِذَلِكَ فَنَشَأَ مِنْهُ الْإِشْكَالُ الْمَذْكُورُ ثُمَّ إنَّ قَوْلَهُ لِأَنَّهُ قَالَ جِنْسٌ وَاحِدٌ فَكَيْفَ يَقُولُ بِشُبْهَةِ الْمُجَانَسَةِ لَيْسَ بِسَدِيدٍ، إذْ لَمْ يَقَعْ التَّصْرِيحُ فِي إجَارَاتِ الْأَصْلِ بِأَنْ قَالَ جِنْسٌ وَاحِدٌ، وَلَوْ وَقَعَ كَانَ الْمُرَادُ كَجِنْسٍ وَاحِدٍ عَلَى طَرِيقِ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ بِحَذْفِ أَدَاةِ التَّشْبِيهِ عَلَى مَا عُرِفَ فَلَا يُنَافِي الْقَوْلَ بِشُبْهَةِ الْمُجَانَسَةِ كَمَا لَا يَخْفَى؛ قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ فِي تَفْسِيرِ مَعْنَى قَوْلِ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ، لِأَنَّ الْمُرَادَ بِشُبْهَةِ الْمُجَانَسَةِ الشُّبْهَةُ الثَّابِتَةُ بِهَا: يَعْنِي أَنَّهُمَا مُتَّحِدَا الْجِنْسِ نَظَرًا إلَى أَصْلِ السُّكْنَى فَتُبْنَى حُرْمَةُ الرِّبَا عَلَيْهِ وَمُخْتَلِفَاهُ نَظَرًا إلَى اخْتِلَافِ الْمَقَاصِدِ فَاعْتُبِرَ ذَلِكَ فِي الْقِسْمَةِ فَلْيُتَأَمَّلْ انْتَهَى أَقُولُ: لَيْسَ ذَلِكَ بِمُسْتَقِيمٍ، لِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ مَعَ كَوْنِهِ غَيْرَ مُسْتَفَادٍ مِنْ عِبَارَةِ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ أَصْلًا لَا يَصِحُّ أَنْ يُرَادَ هَاهُنَا أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُ لَا يَدْفَعُ الْإِشْكَالَ الْمَذْكُورَ، إذْ حَاصِلُهُ أَنَّ اتِّحَادَهُمَا فِي الْجِنْسِ غَيْرُ مُقَرَّرٍ، بَلْ هُنَاكَ شَبَّهَا الِاتِّحَادَ وَالِاخْتِلَافَ فِي الْجِنْسِ مِنْ جِهَتَيْنِ فَكَانَ فِي الْجِنْسِيَّةِ شُبْهَةٌ فَيَئُولَ بِنَاءُ حُرْمَةِ الرِّبَا عَلَى ذَلِكَ إلَى اعْتِبَارِ شُبْهَةِ الشُّبْهَةِ كَمَا عَرَفْت فِيمَا مَرَّ.
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ مَا ذَكَرَهُ مِنْ اتِّحَادِ الْجِنْسِ نَظَرًا إلَى أَصْلِ السُّكْنَى وَاخْتِلَافِهِ نَظَرًا إلَى اخْتِلَافِ الْمَقَاصِدِ مُتَحَقِّقٌ فِي الدُّورِ الْمُشْتَرَكَةِ فِي مِصْرٍ وَاحِدٍ أَيْضًا، فَبِنَاءً عَلَى أَصْلِ ذَلِكَ خَالَفَ أَبَا حَنِيفَةَ صَاحِبَاهُ هُنَاكَ فَقَالَا: إنْ كَانَ الْأَصْلَحُ لَهُمْ قِسْمَةَ بَعْضِهَا فِي بَعْضٍ قَسَمَهَا الْقَاضِي كَمَا مَرَّ فِي الْكِتَابِ، فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ فِي مَسْأَلَتِنَا مَا ذُكِرَ لَمَا وَافَقَ الْإِمَامَانِ أَبَا حَنِيفَةَ هَاهُنَا فِي وُجُوبِ قِسْمَةِ كُلِّ وَاحِدٍ عَلَى حِدَةٍ، وَاتِّفَاقُهُمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَعَ كَوْنِهِ مُتَفَهِّمًا مِنْ عَدَمِ بَيَانِ الْخِلَافِ فِيهَا فِي الْكِتَابِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي الْبَدَائِعِ حَيْثُ قَالَ فِيهِ: أَمَّا دَارٌ وَضِيعَةٌ أَوْ دَارٌ وَحَانُوتٌ فَلَا يُجْمَعُ بِالْإِجْمَاعِ بَلْ يُقْسَمُ كُلُّ وَاحِدٍ عَلَى حِدَتِهِ لِاخْتِلَافِ الْجِنْسِ انْتَهَى
(فَصْلٌ فِي كَيْفِيَّةِ الْقِسْمَةِ)
لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ مَا يُقْسَمُ وَمَا لَا يُقْسَمُ شَرَعَ فِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ الْقِسْمَةِ فِيمَا يُقْسَمُ، لِأَنَّ الْكَيْفِيَّةَ صِفَةٌ فَتَتْبَعْ جَوَازَ أَصْلِ الْقِسْمَةِ
قَالَ (وَيَنْبَغِي لِلْقَاسِمِ أَنْ يُصَوِّرَ مَا يَقْسِمُهُ) لِيُمْكِنَهُ حِفْظُهُ (وَيَعْدِلَهُ) يَعْنِي يُسَوِّيَهُ عَلَى سِهَامِ الْقِسْمَةِ وَيُرْوَى يَعْزِلَهُ: أَيْ يَقْطَعَهُ بِالْقِسْمَةِ عَنْ غَيْرِهِ (وَيَذْرَعَهُ) لِيَعْرِفَ قَدْرَهُ (وَيُقَوِّمَ الْبِنَاءَ) لِحَاجَتِهِ إلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ (وَيَفْرِزَ كُلَّ نَصِيبٍ عَنْ الْبَاقِي بِطَرِيقِهِ وَشُرْبِهِ حَتَّى لَا يَكُونَ لِنَصِيبِ بَعْضِهِمْ بِنَصِيبِ الْآخَرِ تَعَلُّقٌ) فَتَنْقَطِعَ الْمُنَازَعَةُ وَيَتَحَقَّقَ مَعْنَى الْقِسْمَةِ عَلَى التَّمَامِ (ثُمَّ يُلَقِّبَ نَصِيبًا بِالْأَوَّلِ، وَاَلَّذِي يَلِيهِ بِالثَّانِي وَالثَّالِثُ عَلَى هَذَا ثُمَّ يُخْرِجَ الْقُرْعَةَ، فَمَنْ خَرَجَ اسْمُهُ أَوَّلًا فَلَهُ السَّهْمُ الْأَوَّلُ، وَمَنْ خَرَجَ ثَانِيًا فَلَهُ السَّهْمُ الثَّانِي) وَالْأَصْلُ أَنْ يَنْظُرَ فِي ذَلِكَ إلَى أَقَلِّ الْأَنْصِبَاءِ، حَتَّى إذَا كَانَ الْأَقَلُّ ثُلُثًا جَعَلَهَا أَثْلَاثًا، وَإِنْ كَانَ سُدُسًا جَعَلَهَا أَسْدَاسًا لِتَمَكُّنِ الْقِسْمَةِ، وَقَدْ شَرَحْنَاهُ مُشَبَّعًا فِي كِفَايَةِ الْمُنْتَهَى بِتَوْفِيقِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَوْلُهُ فِي الْكِتَابِ: وَيَفْرِزَ كُلَّ نَصِيبٍ بِطَرِيقِهِ وَشُرْبِهِ بَيَانُ الْأَفْضَلِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ أَوْ لَمْ يُمْكِنْ جَازَ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ بِتَفْصِيلِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَالْقُرْعَةُ لِتَطْيِيبِ الْقُلُوبِ وَإِزَاحَةِ تُهْمَةِ الْمِيلِ،
الَّذِي هُوَ الْمَوْصُوفُ
(قَوْلُهُ وَالْقُرْعَةُ لِتَطْيِيبِ الْقُلُوبِ وَإِزَاحَةِ تُهْمَةِ الْمَيْلِ) قَالَ الشُّرَّاحُ: هَذَا جَوَابُ الِاسْتِحْسَانِ، وَالْقِيَاسُ يَأْبَاهَا لِأَنَّ اسْتِعْمَالَ الْقُرْعَةِ تَعْلِيقُ الِاسْتِحْقَاقِ بِخُرُوجِ الْقُرْعَةِ وَهُوَ فِي مَعْنَى الْقِمَارِ وَالْقِمَارُ حَرَامٌ، وَلِهَذَا لَمْ يُجَوِّزْ عُلَمَاؤُنَا اسْتِعْمَالَهَا فِي دَعْوَى النَّسَبِ وَدَعْوَى الْمِلْكِ وَتَعْيِينِ الْعِتْقِ أَوْ الْمُطَلَّقَةِ، وَلَكِنَّا تَرَكْنَا الْقِيَاسَ هَاهُنَا بِالسُّنَّةِ وَالتَّعَامُلِ الظَّاهِرِ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى يَوْمِنَا هَذَا مِنْ غَيْرِ نَكِيرِ مُنْكِرٍ، وَلَيْسَ هَذَا فِي مَعْنَى الْقِمَارِ، لِأَنَّ أَصْلَ الِاسْتِحْقَاقِ فِي الْقِمَارِ يَتَعَلَّقُ بِمَا يُسْتَعْمَلُ فِيهِ، وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ لَا يَتَعَلَّقُ أَصْلُ الِاسْتِحْقَاقِ بِخُرُوجِ الْقُرْعَةِ، لِأَنَّ الْقَاسِمَ لَوْ قَالَ أَنَا عَدَلْت فِي الْقِسْمَةِ فَخُذْ أَنْتَ هَذَا الْجَانِبَ وَأَنْتَ ذَاكَ الْجَانِبَ، كَانَ مُسْتَقِيمًا إلَّا أَنَّهُ رُبَّمَا يُتَّهَمُ فِي ذَلِكَ فَيَسْتَعْمِلَ الْقُرْعَةَ لِتَطْيِيبِ قُلُوبِ الشُّرَكَاءِ وَنَفْيِ تُهْمَةِ الْمَيْلِ عَنْ نَفْسِهِ
حَتَّى لَوْ عَيَّنَ لِكُلٍّ مِنْهُمْ نَصِيبًا مِنْ غَيْرِ إقْرَاعٍ جَازَ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْقَضَاءِ فَيَمْلِكَ الْإِلْزَامَ. قَالَ (وَلَا يَدْخُلُ فِي الْقِسْمَةِ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ إلَّا بِتَرَاضِيهِمْ لِأَنَّهُ لَا شَرِكَةَ فِي الدَّرَاهِمِ وَالْقِسْمَةُ مِنْ حُقُوقِ الِاشْتِرَاكِ)، وَلِأَنَّهُ يَفُوتُ بِهِ التَّعْدِيلُ فِي الْقِسْمَةِ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا يَصِلُ إلَى عَيْنِ الْعَقَارِ وَدَرَاهِمُ الْآخَرِ فِي ذِمَّتِهِ وَلَعَلَّهَا لَا تُسَلَّمُ لَهُ (وَإِذَا كَانَ أَرْضٌ وَبِنَاءٌ؛ فَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَقْسِمُ كُلَّ ذَلِكَ عَلَى اعْتِبَارِ الْقِيمَةِ) لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ الْمُعَادَلَةِ إلَّا بِالتَّقْوِيمِ وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَقْسِمُ الْأَرْضَ بِالْمَسَّاحَةِ لِأَنَّهُ هُوَ الْأَصْلُ فِي الْمَمْسُوحَاتِ، ثُمَّ يَرُدُّ مَنْ وَقَعَ الْبِنَاءُ فِي نَصِيبِهِ أَوْ مَنْ كَانَ نَصِيبُهُ أَجْوَدَ دَرَاهِمَ عَلَى الْآخَرِ حَتَّى يُسَاوِيَهُ فَتَدْخُلَ الدَّرَاهِمُ فِي الْقِسْمَةِ ضَرُورَةً كَالْأَخِ لَا وِلَايَةَ لَهُ فِي الْمَالِ، ثُمَّ يَمْلِكُ تَسْمِيَةَ الصَّدَاقِ ضَرُورَةَ التَّزْوِيجِ وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَرُدُّ عَلَى شَرِيكِهِ بِمُقَابَلَةِ الْبِنَاءِ مَا يُسَاوِيهِ مِنْ الْعَرْصَةِ، وَإِذَا بَقِيَ فَضْلٌ وَلَمْ يُمْكِنْ تَحْقِيقُ التَّسْوِيَةِ بِأَنْ كَانَ لَا تَفِي الْعَرْصَةُ بِقِيمَةِ الْبِنَاءِ فَحِينَئِذٍ يُرَدُّ لِلْفَضْلِ دَرَاهِمُ، لِأَنَّ الضَّرُورَةَ فِي هَذَا الْقَدْرِ فَلَا يُتْرَكُ الْأَصْلُ إلَّا بِهَا.
وَهَذَا يُوَافِقُ رِوَايَةَ الْأَصْلِ قَالَ (فَإِنْ قَسَمَ بَيْنَهُمْ وَلِأَحَدِهِمْ مَسِيلٌ فِي نَصِيبِ الْآخَرِ أَوْ طَرِيقٌ لَمْ يَشْتَرِطْ فِي الْقِسْمَةِ)، فَإِنْ أَمْكَنَ صَرْفُ الطَّرِيقِ وَالْمَسِيلِ عَنْهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَطْرِقَ فِي نَصِيبِ الْآخَرِ لِأَنَّهُ أَمْكَنَ تَحْقِيقُ مَعْنَى الْقِسْمَةِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ
وَذَلِكَ جَائِزٌ، أَلَا يَرَى أَنَّ يُونُسَ عليه السلام فِي مِثْلِ هَذَا اسْتَعْمَلَ الْقُرْعَةَ مَعَ أَصْحَابِ السَّفِينَةِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} وَذَلِكَ لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُ هُوَ الْمَقْصُودُ، وَلَكِنْ لَوْ أَلْقَى نَفْسَهُ فِي الْمَاءِ رُبَّمَا نُسِبَ إلَى مَا لَا يَلِيقُ بِالْأَنْبِيَاءِ فَاسْتَعْمَلَ الْقُرْعَةَ لِذَلِكَ، وَكَذَلِكَ زَكَرِيَّا عليه السلام اسْتَعْمَلَ الْقُرْعَةَ مَعَ الْأَحْبَارِ فِي ضَمِّ مَرْيَمَ إلَى نَفْسِهِ مَعَ عِلْمِهِ بِكَوْنِهِ أَحَقَّ بِهَا مِنْهُمْ لِكَوْنِ خَالَتِهَا عِنْدَهُ تَطْيِيبًا لِقُلُوبِهِمْ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} «وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُقْرِعُ بَيْنَ نِسَائِهِ إذَا أَرَادَ السَّفَرَ تَطْيِيبًا لِقُلُوبِهِنَّ» ، انْتَهَى كَلَامُهُمْ وَعَزَا فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ هَذَا التَّفْصِيلَ إلَى الْمَبْسُوطِ
(وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ فُسِخَتْ الْقِسْمَةُ) لِأَنَّ الْقِسْمَةَ مُخْتَلَّةٌ لِبَقَاءِ الِاخْتِلَاطِ فَتُسْتَأْنَفَ بِخِلَافِ الْبَيْعِ حَيْثُ لَا يَفْسُدُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ تَمَلُّكُ الْعَيْنِ، وَأَنَّهُ يُجَامَعُ تَعَذُّرُ الِانْتِفَاعِ فِي الْحَالِ، أَمَّا الْقِسْمَةُ لِتَكْمِيلِ الْمَنْفَعَةِ وَلَا يَتِمُّ ذَلِكَ إلَّا بِالطَّرِيقِ، وَلَوْ ذَكَرَ الْحُقُوقَ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ كَذَلِكَ الْجَوَابُ، لِأَنَّ مَعْنَى الْقِسْمَةِ الْإِفْرَازُ وَالتَّمْيِيزُ، وَتَمَامُ ذَلِكَ بِأَنْ لَا يَبْقَى لِكُلِّ وَاحِدٍ تَعَلُّقٌ بِنَصِيبِ الْآخَرِ وَقَدْ أَمْكَنَ تَحْقِيقُهُ بِصَرْفِ الطَّرِيقِ وَالْمَسِيلِ إلَى غَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ فَيُصَارَ إلَيْهِ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ إذَا ذُكِرَ فِيهِ الْحُقُوقُ حَيْثُ يَدْخُلُ فِيهِ مَا كَانَ لَهُ مِنْ الطَّرِيقِ وَالْمَسِيلِ، لِأَنَّهُ أَمْكَنَ تَحْقِيقُ مَعْنَى الْبَيْعِ وَهُوَ التَّمْلِيكُ مَعَ بَقَاءِ هَذَا التَّعَلُّقِ بِمِلْكِ غَيْرِهِ وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي يَدْخُلُ فِيهَا لِأَنَّ الْقِسْمَةَ لِتَكْمِيلِ الْمَنْفَعَةِ وَذَلِكَ بِالطَّرِيقِ وَالْمَسِيلِ فَيَدْخُلَ عِنْدَ التَّنْصِيصِ بِاعْتِبَارِهِ، وَفِيهَا مَعْنَى الْإِفْرَازِ وَذَلِكَ بِانْقِطَاعِ التَّعَلُّقِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، فَبِاعْتِبَارِهِ لَا يَدْخُلُ مِنْ غَيْرِ تَنْصِيصٍ، بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ حَيْثُ يَدْخُلُ فِيهَا بِدُونِ التَّنْصِيصِ، لِأَنَّ كُلَّ الْمَقْصُودِ الِانْتِفَاعُ وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِإِدْخَالِ الشُّرْبِ وَالطَّرِيقِ فَيَدْخُلَ مِنْ غَيْرِ ذِكْرٍ (وَلَوْ اخْتَلَفُوا فِي رَفْعِ الطَّرِيقِ بَيْنَهُمْ فِي الْقِسْمَةِ، إنْ كَانَ يَسْتَقِيمُ لِكُلِّ وَاحِدٍ طَرِيقٌ يَفْتَحُهُ فِي نَصِيبِهِ قَسَمَ الْحَاكِمُ مِنْ غَيْرِ طَرِيقٍ يُرْفَعُ لِجَمَاعَتِهِمْ) لِتَحَقُّقِ الْإِفْرَازِ بِالْكُلِّيَّةِ دُونَهُ.
(وَإِنْ كَانَ لَا يَسْتَقِيمُ ذَلِكَ رَفَعَ طَرِيقًا بَيْنَ جَمَاعَتِهِمْ) لِيَتَحَقَّقَ تَكْمِيلُ الْمَنْفَعَةِ فِيمَا وَرَاءَ الطَّرِيقِ (وَلَوْ اخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِهِ جُعِلَ عَلَى عَرْضِ بَابِ الدَّارِ وَطُولِهِ) لِأَنَّ الْحَاجَةَ تَنْدَفِعُ بِهِ (وَالطَّرِيقُ عَلَى سِهَامِهِمْ كَمَا كَانَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ) لِأَنَّ الْقِسْمَةَ فِيمَا وَرَاءَ الطَّرِيقِ لَا فِيهِ (وَلَوْ شَرَطُوا أَنْ يَكُونَ الطَّرِيقُ
أَقُولُ: بَيْنَ أَوَّلِ كَلَامِهِمْ هَذَا وَآخِرِهِ تَدَافُعٌ، لِأَنَّهُمْ صَرَّحُوا أَوَّلًا بِأَنَّ مَشْرُوعِيَّةَ اسْتِعْمَالِ الْقُرْعَةِ هَاهُنَا جَوَابُ الِاسْتِحْسَانِ، وَالْقِيَاسُ يَأْبَى ذَلِكَ لِكَوْنِهِ فِي مَعْنَى الْقِمَارِ. وَقَالُوا آخِرًا إنَّ هَذَا لَيْسَ فِي مَعْنَى الْقِمَارِ، وَبَيَّنُوا الْفَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِمَارِ، وَذَكَرُوا وُرُودَ
بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا جَازَ وَإِنْ كَانَ أَصْلُ الدَّارِ نِصْفَيْنِ) لِأَنَّ الْقِسْمَةَ عَلَى التَّفَاضُلِ جَائِزَةٌ بِالتَّرَاضِي.
قَالَ (وَإِذَا كَانَ سُفْلٌ لَا عُلُوَّ عَلَيْهِ وَعُلُوٌّ لَا سُفْلَ لَهُ وَسُفْلٌ لَهُ عُلُوٌّ قُوِّمَ كُلُّ وَاحِدٍ عَلَى حِدَتِهِ وَقُسِمَ بِالْقِيمَةِ وَلَا مُعْتَبَرَ بِغَيْرِ ذَلِكَ) قَالَ
نَظَائِرَ لَهُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَقَدْ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِمَّا يَأْبَاهُ الْقِيَاسُ أَصْلًا بَلْ هُوَ مِمَّا يَقْتَضِيهِ الْقِيَاسُ أَيْضًا فَتَدَافَعَا
(قَوْلَهُ وَإِذَا كَانَ سُفْلٌ لَا عُلُوَّ لَهُ وَعُلُوٌّ لَا سُفْلَ لَهُ وَسُفْلٌ لَهُ عُلُوٌّ إلَى آخِرِهِ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: صُورَةُ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يَكُونَ عُلُوٌّ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ وَسُفْلُهُ لِآخَرَ وَسُفْلٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا وَعُلُوُّهُ لِآخَرَ وَبَيْتٌ كَامِلٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا وَالْكُلُّ فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ أَوْ فِي دَارَيْنِ لَكِنْ تَرَاضَيَا عَلَى الْقِسْمَةِ وَطَلَبَا مِنْ الْقَاضِي الْقِسْمَةَ وَإِنَّمَا قَيَّدْنَا بِذَلِكَ لِئَلَّا يُقَالَ تَقْسِيمُ الْعُلُوِّ مَعَ السُّفْلِ قِسْمَةٌ وَاحِدَةٌ إذَا كَانَتْ الْبُيُوتُ مُتَفَرِّقَةً لَا يَصِحُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله انْتَهَى وَقَدْ أَخَذَ الشَّارِحُ الْمَزْبُورُ ذَلِكَ التَّقْيِيدَ مِمَّا ذُكِرَ فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ مِنْ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ بِأَنْ يُقَالَ: فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يُقْسَمُ الْعُلُوُّ مَعَ السُّفْلِ قِسْمَةً وَاحِدَةً عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّ الْبُيُوتَ الْمُتَفَرِّقَةَ لَا تُقْسَمُ قِسْمَةً وَاحِدَةً إذَا لَمْ تَكُنْ فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ؟ قُلْنَا: مَوْضُوعُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُمَا كَانَا فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ، وَالْبَيْتَانِ فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يُقْسَمُ قِسْمَةَ جَمْعٍ، وَلَئِنْ كَانَا فِي دَارَيْنِ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا تَرَاضَيَا عَلَى الْقِسْمَةِ، وَلَكِنْ طَلَبُوا مِنْ الْقَاضِي الْمُعَادَلَةَ فِيمَا بَيْنَهُمْ.
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ تَجُوزُ الْقِسْمَةُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ حَالَةَ الرِّضَا انْتَهَى وَقَدْ ذُكِرَ هَذَا السُّؤَالُ وَالْجَوَابُ فِي الذَّخِيرَةِ أَيْضًا، فَهِيَ الْمَأْخَذُ الْأَصْلِيُّ أَقُولُ: فِيهِ إشْكَالٌ مِنْ حَيْثُ الرِّوَايَةُ وَالدِّرَايَةُ أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ ذَلِكَ التَّقْيِيدَ مُخَالِفٌ لِرِوَايَاتِ عَامَّةِ الْكُتُبِ، مِنْهَا مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الْفَصْلِ السَّابِقِ حَيْثُ قَالَ: وَالْبُيُوتُ فِي مَحِلٍّ أَوْ مَحَالَّ تُقْسَمُ قِسْمَةً وَاحِدَةً لِأَنَّ التَّفَاوُتَ فِيهَا يَسِيرٌ انْتَهَى وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَحَلَّةَ فَوْقَ الدَّارِ، فَإِذَا قُسِمَتْ الْبُيُوتُ فِي مَحَالَّ مُتَعَدِّدَةٍ قِسْمَةً وَاحِدَةً بِالْإِجْمَاعِ، فَلَأَنْ قُسِمَتْ فِي دُورٍ مُتَعَدِّدَةٍ قِسْمَةً وَاحِدَةً بِالْإِجْمَاعِ أَوْلَى كَمَا لَا يَخْفَى وَمِنْهَا مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْكَافِي فِي الْفَصْلِ السَّابِقِ حَيْثُ قَالَ: ثُمَّ هِيَ عَلَى ثَلَاثَةِ فُصُولٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ: الدُّورُ، وَالْبُيُوتُ، وَالْمَنَازِلُ فَالدُّورُ لَا تُقْسَمُ عِنْدَهُ قِسْمَةً وَاحِدَةً إلَّا بِرِضَا الشُّرَكَاءِ سَوَاءً كَانَتْ مُتَبَايِنَةً أَوْ مُتَلَازِقَةً، وَالْبُيُوتُ تُقْسَمُ قِسْمَةً وَاحِدَةً سَوَاءً كَانَتْ مُتَبَايِنَةً أَوْ مُتَلَازِقَةً، لِأَنَّهَا لَا تَتَفَاوَتُ فِي مَعْنَى السُّكْنَى وَلِهَذَا تُؤَجَّرُ بِأُجْرَةٍ وَاحِدَةٍ فِي كُلِّ مَحِلَّةٍ، وَالْمَنَازِلُ الْمُتَلَازِقَةُ كَالْبُيُوتِ تُقْسَمُ قِسْمَةً وَاحِدَةً، وَالْمُتَبَايِنَةُ كَالدُّورِ لَا تُقْسَمُ قِسْمَةً وَاحِدَةً لِأَنَّ الْمَنْزِلَ فَوْقَ الْبَيْتِ وَدُونَ الدَّارِ، فَأُلْحِقَتْ الْمَنَازِلُ بِالْبُيُوتِ إذَا كَانَتْ مُتَلَازِقَةً، وَبِالدُّورِ إذَا كَانَتْ مُتَبَايِنَةً.
وَقَالَا فِي الْفُصُولِ كُلِّهَا: يَنْظُرُ الْقَاضِي إلَى أَعْدَلِ الْوُجُوهِ لِيُمْضِيَ الْقِسْمَةَ عَلَى ذَلِكَ انْتَهَى وَهَكَذَا ذَكَرَ فِي الْفَصْلِ السَّابِقِ فِي عَامَّةِ الشُّرُوحِ حَتَّى قَالَ فِي الْعِنَايَةِ هُنَاكَ: وَالْبُيُوتُ تُقْسَمُ مُطْلَقًا لِتَقَارُبِهَا فِي مَعْنَى السُّكْنَى وَمِنْهَا مَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ قَاضِي خَانْ فِي فَتَاوَاهُ حَيْثُ قَالَ: وَإِنْ كَانَ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ بَيْتَانِ لَهُ أَنْ يَجْمَعَ نَصِيبَ أَحَدِهِمَا فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ مُتَّصِلَيْنِ كَانَا أَوْ مُنْفَصِلَيْنِ، وَلَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا مَنْزِلَانِ إنْ كَانَ مُنْفَصِلَيْنِ فَهُمَا كَالدَّارَيْنِ لَا يُجْمَعُ نَصِيبُ أَحَدِهِمَا فِي مَنْزِلٍ وَاحِدٍ وَلَكِنَّهُ يُقْسَمُ كُلُّ مَنْزِلٍ قِسْمَةً عَلَى حِدَةٍ، وَلَوْ كَانَا مُتَّصِلَيْنِ فَهُمَا كَالْبَيْتَيْنِ لَهُ أَنْ يَجْمَعَ نَصِيبَ أَحَدِهِمَا فِي مَنْزِلٍ وَاحِدٍ، وَهَذَا كُلُّهُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ صَاحِبَاهُ: الدَّارُ وَالْبَيْتُ سَوَاءٌ وَالرَّأْيُ فِيهِ لِلْقَاضِي انْتَهَى
رضي الله عنه: هَذَا عِنْدَ مُحَمَّدٍ رحمه الله: وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: يُقْسَمُ بِالذَّرْعِ؛ لِمُحَمَّدٍ أَنَّ السُّفْلَ يَصْلُحُ لِمَا لَا يَصْلُحُ لَهُ الْعُلُوُّ مِنْ اتِّخَاذِهِ بِئْرَ مَاءٍ أَوْ سِرْدَابًا أَوْ إصْطَبْلًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَتَحَقَّقُ التَّعْدِيلُ إلَّا بِالْقِيمَةِ، وَهُمَا يَقُولَانِ إنَّ الْقِسْمَةَ بِالذَّرْعِ هِيَ الْأَصْلُ، لِأَنَّ الشَّرِكَةَ فِي الْمَذْرُوعِ لَا فِي الْقِيمَةِ فَيُصَارَ إلَيْهِ مَا أَمْكَنَ، وَالْمُرَاعَى التَّسْوِيَةُ فِي السُّكْنَى لَا فِي الْمَرَافِقِ ثُمَّ اخْتَلَفَا فِيمَا بَيْنَهُمَا فِي كَيْفِيَّةِ الْقِسْمَةِ بِالذَّرْعِ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله: ذِرَاعٌ مِنْ سُفْلٍ بِذِرَاعَيْنِ مِنْ عُلُوٍّ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رحمه الله: ذِرَاعٌ بِذِرَاعٍ قِيلَ أَجَابَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى عَادَةِ أَهْلِ عَصْرِهِ أَوْ أَهْلِ بَلَدِهِ فِي تَفْضِيلِ السُّفْلِ عَلَى الْعُلُوِّ وَاسْتِوَائِهِمَا وَتَفْضِيلِ السُّفْلِ مَرَّةً وَالْعُلُوِّ أُخْرَى.
وَقِيلَ هُوَ اخْتِلَافُ مَعْنًى وَوَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّ مَنْفَعَةَ السُّفْلِ تَرْبُو عَلَى مَنْفَعَةِ الْعُلُوِّ بِضَعْفِهِ لِأَنَّهَا تَبْقَى بَعْدَ فَوَاتِ
وَمِنْهَا مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْبَدَائِعِ حَيْثُ قَالَ: وَأَمَّا الْبَيْتَانِ فَيُقْسَمَانِ قِسْمَةَ جَمْعٍ بِالْإِجْمَاعِ مُتَّصِلَيْنِ كَانَا أَوْ مُنْفَصِلَيْنِ. اهـ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمُعْتَبَرَاتِ وَلَا يَخْفَى عَلَى ذِي فِطْنَةٍ أَنَّ مَدْلُولَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يُقْسَمَ الْبَيْتَانِ أَوْ الْبُيُوتُ عِنْدَهُ قِسْمَةً وَاحِدَةً عَلَى الْإِطْلَاقِ وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّهُ إنْ أُرِيدَ بِالتَّرَاضِي فِي قَوْلِهِ أَوْ فِي دَارَيْنِ لَكِنْ تَرَاضَيَا عَلَى الْقِسْمَةِ تَرَاضِيَهُمَا فِيمَا بَيْنَهُمَا عَلَى قِسْمَةٍ مُعَيَّنَةٍ لَزِمَ أَنْ لَا يَسْتَقِيمَ بَيَانُ الْخِلَافِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَيْنَ أَئِمَّتِنَا الثَّلَاثَةِ عَلَى الْوَجْهِ الْمُفَصَّلِ فِي الْكِتَابِ، إذْ يَرْتَفِعُ الْخِلَافُ حِينَئِذٍ بِالْكُلِّيَّةِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ الْقِسْمَةُ عَلَى وَفْقِ تَرَاضِيهِمَا عَلَى شَيْءٍ مُعَيَّنٍ كَيْفَمَا كَانَ بِلَا خِلَافٍ مِنْ أَحَدٍ؛ أَلَا يَرَى أَنَّ الدُّورَ مُطْلَقًا لَا تُقْسَمُ قِسْمَةً وَاحِدَةً عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ تَرَاضِي الشُّرَكَاءِ فِيمَا بَيْنَهُمْ عَلَى تِلْكَ الْقِسْمَةِ تُقْسَمُ بِهَا عِنْدَهُ أَيْضًا كَمَا صَرَّحُوا بِهِ قَاطِبَةً، وَإِنْ أُرِيدَ بِالتَّرَاضِي الْمَذْكُورِ تَرَاضِيهِمَا عَلَى مُجَرَّدِ الْقِسْمَةِ بِدُونِ تَعْيِينِ شَيْءٍ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ عِبَارَةِ النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ وَالذَّخِيرَةِ وَهِيَ قَوْلُهُمْ: وَلَئِنْ كَانَا فِي دَارَيْنِ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا تَرَاضَوْا عَلَى الْقِسْمَةِ وَلَكِنْ طَلَبُوا مِنْ الْقَاضِي الْمُعَادَلَةَ فِيمَا بَيْنَهُمْ لَمْ يُفِدْ التَّقْيِيدُ بِذَلِكَ شَيْئًا لِأَنَّهُمَا إنَّمَا تَرَاضَيَا حِينَئِذٍ عَلَى الْقِسْمَةِ الْعَادِلَةِ، فَإِنْ كَانَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْبُيُوتَ الْمُتَفَرِّقَةَ لَا تُقْسَمُ قِسْمَةً وَاحِدَةً، فَالظَّاهِرُ أَنَّ وَجْهَهُ عَدَمُ إمْكَانِ التَّعْدِيلِ فِي قِسْمَتِهَا قِسْمَةً وَاحِدَةً كَمَا قَالَ فِي الدُّورِ، فَإِذَا لَمْ يُمْكِنُ التَّعْدِيلُ فِيهَا فَكَيْفَ تَجُوزُ بِمُجَرَّدِ تَرَاضِيهِمَا عَلَى الْقِسْمَةِ مَعَ طَلَبِ الْمُعَادَلَةِ فِيهَا وَبِالْجُمْلَةِ لَا يُرَى مَعْنًى فِقْهِيٌّ فَارَقَ بَيْنَ صُدُورِ التَّصْرِيحِ بِالتَّرَاضِي عَلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى مِنْهُمَا وَعَدَمِ صُدُورِهِ، فَمَا مَعْنَى اخْتِلَافِ جَوَابِ الْمَسْأَلَةِ فِي الصُّورَتَيْنِ فَتَأَمَّلْ
(قَوْلَهُ لِمُحَمَّدٍ أَنَّ السُّفْلَ يَصْلُحُ لِمَا لَا يَصْلُحُ لَهُ الْعُلُوُّ مِنْ اتِّخَاذِهِ بِئْرَ مَاءٍ أَوْ سِرْدَابًا أَوْ إصْطَبْلًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَتَحَقَّقُ التَّعْدِيلُ إلَّا بِالْقِيمَةِ) أَقُولُ: كَانَ الظَّاهِرُ فِي التَّعْلِيلِ مِنْ قِبَلِ مُحَمَّدٍ أَنْ يُزَادَ عَلَى قَوْلِهِ إنَّ السُّفْلَ يَصْلُحُ لِمَا لَا يَصْلُحُ لَهُ الْعُلُوُّ، وَإِنَّ الْعُلُوَّ يَصْلُحُ لِمَا لَا يَصْلُحُ لَهُ السُّفْلُ كَدَفْعِ ضَرَرِ النَّدَى فِي مَوْضِعٍ يَكْثُرُ فِيهِ النَّدَى وَاسْتِنْشَاقُ الْهَوَاءِ الْمُلَائِمِ وَغَيْرُ ذَلِكَ، فَإِنَّ مُجَرَّدَ صَلَاحِيَّةِ السُّفْلِ لِمَا لَا يَصْلُحُ لَهُ الْعُلُوُّ بِدُونِ الْعَكْسِ تَقْتَضِي تَفْضِيلَ السُّفْلِ عَلَى الْعُلُوِّ مُطْلَقًا كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، فَلَا يُنَافِي تَقْسِيمُ ذِرَاعٍ مِنْ سُفْلٍ بِذِرَاعَيْنِ مِنْ عُلُوٍّ، بِخِلَافِ تَفْضِيلِ السُّفْلِ مَرَّةً وَتَفْضِيلِ الْعُلُوِّ أُخْرَى فَإِنَّهُ يُنَافِي الْقِسْمَةَ بِالذَّرْعِ أَصْلًا وَيَقْتَضِي الْمَصِيرَ إلَى الْقِسْمَةِ بِالْقِيمَةِ لِيَتَحَقَّقَ التَّعْدِيلُ، وَعَنْ هَذَا قَالَ فِيمَا سَيَأْتِي: وَلِمُحَمَّدٍ أَنَّ الْمَنْفَعَةَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ بِالْإِضَافَةِ إلَيْهِمَا، فَلَا يُمْكِنُ التَّعْدِيلُ إلَّا بِالْقِيمَةِ وَقَالَ: وَالْفَتْوَى الْيَوْمَ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ
(قَوْلُهُ قِيلَ أَجَابَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى عَادَةِ أَهْلِ عَصْرِهِ أَوْ أَهْلِ بَلَدِهِ فِي تَفْضِيلِ السُّفْلِ عَلَى الْعُلُوِّ وَاسْتِوَائِهِمَا وَتَفْضِيلِ السُّفْلِ مَرَّةً وَالْعُلُوِّ أُخْرَى وَقِيلَ هُوَ اخْتِلَافُ مَعْنًى) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ بِأَنَّ
الْعُلُوِّ، وَمَنْفَعَةُ الْعُلُوِّ لَا تَبْقَى بَعْدَ فِنَاءِ السُّفْلِ، وَكَذَا السُّفْلُ فِيهِ مَنْفَعَةُ الْبِنَاءِ وَالسُّكْنَى، وَفِي الْعُلُوِّ السُّكْنَى لَا غَيْرُ إذْ
مَبْنَى هَذَا الِاخْتِلَافِ اخْتِلَافُ عَادَةِ أَهْلِ الْعَصْرِ وَالْبُلْدَانِ فِي تَفْضِيلِ السُّفْلِ عَلَى الْعُلُوِّ أَوْ الْعَكْسُ مِنْ ذَلِكَ أَوْ اسْتِوَاؤُهُمَا، أَوْ هُوَ مَعْنًى فِقْهِيٌّ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَجَابَ كُلٌّ مِنْهُمْ عَلَى عَادَةِ أَهْلِ عَصْرِهِ أَجَابَ أَبُو حَنِيفَةَ بِنَاءً عَلَى مَا شَاهَدَ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ فِي اخْتِيَارِ السُّفْلِ عَلَى الْعُلُوِّ. وَأَبُو يُوسُفَ بِنَاءً عَلَى مَا شَاهَدَ مِنْ أَهْلِ بَغْدَادَ فِي التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْعُلُوِّ وَالسُّفْلِ فِي مَنْفَعَةِ السُّكْنَى. وَمُحَمَّدٌ بِنَاءً عَلَى مَا شَاهَدَ مِنْ اخْتِلَافِ الْعَادَاتِ فِي الْبُلْدَانِ مِنْ تَفْضِيلِ السُّفْلِ مَرَّةً وَالْعُلُوِّ أُخْرَى انْتَهَى أَقُولُ: فِي أَوَائِلِ تَحْرِيرِهِ خَلَلٌ حَيْثُ قَالَ أَوْ الْعَكْسُ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ عَكْسَ تَفْضِيلِ السُّفْلِ عَلَى الْعُلُوِّ مُطْلَقًا إنَّمَا هُوَ تَفْضِيلُ الْعُلُوِّ عَلَى السُّفْلِ مُطْلَقًا، وَهُوَ لَيْسَ بِمَذْهَبِ أَحَدٍ فِي الِاخْتِلَافِ الْمَذْكُورِ، وَإِنَّمَا الْمَذْهَبُ فِيهِ تَفْضِيلُ السُّفْلِ عَلَى الْعُلُوِّ مُطْلَقًا كَمَا قَالَ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ وَاسْتِوَاؤُهُمَا كَمَا قَالَ بِهِ أَبُو يُوسُفَ، وَتَفْضِيلُ السُّفْلِ مَرَّةً وَالْعُلُوِّ أُخْرَى كَمَا قَالَ بِهِ مُحَمَّدٌ، وَلَيْسَ الثَّالِثُ بِعَكْسِ الْأَوَّلِ كَمَا لَا يَخْفَى وَلِلَّهِ دَرُّ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ فِي حُسْنِ تَحْرِيرِهِ وَإِصَابَتِهِ حَيْثُ قَالَ فِي تَفْضِيلِ السُّفْلِ عَلَى الْعُلُوِّ وَاسْتِوَائِهِمَا وَتَفْضِيلِ السُّفْلِ مَرَّةً وَالْعُلُوِّ أُخْرَى: فَأَصَابَ الْمُحَزَّ فِي إفَادَةِ عَيْنِ الْمَذَاهِبِ الثَّلَاثَةِ الْوَاقِعَةِ فِي الِاخْتِلَافِ الْمَذْكُورِ كَمَا تَرَى
(قَوْلُهُ وَكَذَا السُّفْلُ فِيهِ مَنْفَعَةُ الْبِنَاءِ وَالسُّكْنَى وَفِي الْعُلُوِّ السُّكْنَى لَا غَيْرُ) قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: هَذَا مُخَالِفٌ لِقَوْلِهِ وَالْمُرَاعَى التَّسْوِيَةُ فِي السُّكْنَى لَا الْمَرَافِقُ، إلَّا أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ وَمَا ذَكَرَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَهُوَ غَيْرُ ظَاهِرٍ اهـ أَقُولُ: لَيْسَ ذَاكَ بِسَدِيدٍ، أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ فِيمَا مَرَّ وَالْمُرَاعَى التَّسْوِيَةُ فِي السُّكْنَى لَا فِي الْمَرَافِقِ أَنَّ الْمُرَاعَى فِي نَفْسِ الْقِسْمَةِ بِالذَّرْعِ الَّتِي هِيَ الْأَصْلُ التَّسْوِيَةُ فِي السُّكْنَى لَا فِي الْمَرَافِقِ، إذْ الِاتِّحَادُ فِي الْجِنْسِ يَحْصُلُ بِالِاتِّحَادِ فِي مَنْفَعَةِ السُّكْنَى بِدُونِ الِاحْتِيَاجِ إلَى الِاتِّحَادِ فِي الْمَرَافِقِ، فَيُصَارَ إلَى مَا هُوَ الْأَصْلُ عِنْدَ الِاتِّحَادِ فِي الْجِنْسِ مِنْ قِسْمَةِ الْعَيْنِ دُونَ الْقِيمَةِ، وَمُرَادُهُ هَاهُنَا بِقَوْلِهِ وَكَذَا السُّفْلُ فِيهِ مَنْفَعَةُ الْبِنَاءِ وَالسُّكْنَى وَفِي الْعُلُوِّ السُّكْنَى لَا غَيْرُ بَيَانُ مُرَاعَاةِ مَنْفَعَةِ غَيْرِ السُّكْنَى أَيْضًا فِي كَيْفِيَّةِ الْقِسْمَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَهِيَ ذِرَاعٌ مِنْ سُفْلٍ بِذِرَاعَيْنِ مِنْ عُلُوٍّ، وَلَا يُعَدُّ فِي أَنْ يُرَاعَى فِي كَيْفِيَّةِ الْقِسْمَةِ بِالذَّرْعِ مَا لَا يُرَاعَى فِي نَفْسِ الْقِسْمَةِ بِالذَّرْعِ، فَإِنَّ نَفْسَ الْقِسْمَةِ بِالذَّرْعِ قَدْ تَتَحَقَّقُ مُنْفَكَّةً عَنْ تِلْكَ الْكَيْفِيَّةِ كَمَا فِي قِسْمَةِ الْبَيْتِ السُّفْلِيِّ فَقَطْ أَوْ الْعُلْوِيِّ فَقَطْ فَلَا مُخَالَفَةَ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ فِي الْمَقَامَيْنِ كَمَا لَا يَخْفَى وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ إلَّا أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ وَمَا ذَكَرَهُ أَبُو حَنِيفَةَ، فَإِنَّ الْمَذْكُورَ فِيمَا مَرَّ بِقَوْلِهِ وَالْمُرَاعَى التَّسْوِيَةُ فِي السُّكْنَى لَا فِي الْمَرَافِقِ إنَّمَا هُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَالْمَذْكُورُ هَاهُنَا بِقَوْلِهِ وَكَذَا السُّفْلُ فِيهِ مَنْفَعَةُ السُّكْنَى إلَى آخِرِهِ إنَّمَا هُوَ وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَحْدَهُ،
لَا يُمْكِنُهُ الْبِنَاءُ عَلَى عُلُوِّهِ إلَّا بِرِضَا صَاحِبِ السُّفْلِ، فَيُعْتَبَرَ ذِرَاعَانِ مِنْهُ بِذِرَاعٍ مِنْ السُّفْلِ وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمَقْصُودَ أَصْلُ السُّكْنَى وَهُمَا يَتَسَاوَيَانِ فِيهِ، وَالْمَنْفَعَتَانِ مُتَمَاثِلَتَانِ لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَفْعَلَ مَا لَا يَضُرُّ بِالْآخَرِ عَلَى أَصْلِهِ وَلِمُحَمَّدٍ أَنَّ الْمَنْفَعَةَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ بِالْإِضَافَةِ إلَيْهِمَا فَلَا يُمْكِنُ التَّعْدِيلُ إلَّا بِالْقِيمَةِ، وَالْفَتْوَى الْيَوْمَ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ رحمه الله وَقَوْلُهُ لَا يَفْتَقِرُ إلَى التَّفْسِيرِ، وَتَفْسِيرُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله فِي مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ أَنْ يُجْعَلَ بِمُقَابَلَةِ مِائَةِ ذِرَاعٍ مِنْ الْعُلُوِّ الْمُجَرَّدِ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ وَثُلُثُ ذِرَاعٍ مِنْ الْبَيْتِ الْكَامِلِ لِأَنَّ الْعُلُوَّ مِثْلُ نِصْفِ السُّفْلِ فَثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ وَثُلُثٌ مِنْ السُّفْلِ سِتَّةٌ وَسِتُّونَ وَثُلُثَانِ مِنْ الْعُلُوِّ الْمُجَرَّدِ وَمَعَهُ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ وَثُلُثُ ذِرَاعٍ مِنْ الْعُلُوِّ فَبَلَغَتْ مِائَةَ ذِرَاعٍ تُسَاوِي مِائَةً مِنْ الْعُلُوِّ الْمُجَرَّدِ، وَيُجْعَلُ بِمُقَابَلَةِ مِائَةِ ذِرَاعٍ مِنْ السُّفْلِ الْمُجَرَّدِ مِنْ الْبَيْتِ الْكَامِلِ سِتَّةٌ وَسِتُّونَ وَثُلُثَا ذِرَاعٍ، لِأَنَّ عُلُوَّهُ مِثْلُ نِصْفِ سُفْلِهِ فَبَلَغَتْ مِائَةَ ذِرَاعٍ كَمَا ذَكَرْنَا، وَالسُّفْلُ الْمُجَرَّدُ سِتَّةٌ وَسِتُّونَ وَثُلُثَانِ لِأَنَّهُ ضَعْفُ الْعُلُوِّ فَيُجْعَلَ بِمُقَابَلَةِ مِثْلِهِ وَتَفْسِيرُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنْ يُجْعَلَ بِإِزَاءِ خَمْسِينَ ذِرَاعًا مِنْ الْبَيْتِ الْكَامِلِ مِائَةُ ذِرَاعٍ مِنْ السُّفْلِ الْمُجَرَّدِ، وَمِائَةُ ذِرَاعٍ مِنْ الْعُلُوِّ الْمُجَرَّدِ، لِأَنَّ السُّفْلَ وَالْعُلُوَّ عِنْدَهُ سَوَاءٌ، فَخَمْسُونَ ذِرَاعًا مِنْ الْبَيْتِ الْكَامِلِ بِمَنْزِلَةِ مِائَةِ ذِرَاعٍ خَمْسُونَ مِنْهَا سُفْلٌ وَخَمْسُونَ مِنْهَا عُلُوٌّ قَالَ (وَإِذَا اخْتَلَفَ الْمُتَقَاسِمُونَ وَشَهِدَ الْقَاسِمَانِ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا) قَالَ رضي الله عنه: هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا تُقْبَلُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ أَوَّلًا، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ.
وَذَكَرَ الْخَصَّافُ قَوْلَ مُحَمَّدٍ مَعَ قَوْلِهِمَا وَقَاسَمَا الْقَاضِيَ وَغَيْرَهُمَا سَوَاءٌ، لِمُحَمَّدٍ أَنَّهُمَا شَهِدَا عَلَى فِعْلِ أَنْفُسِهِمَا فَلَا تُقْبَلُ، كَمَنْ عَلَّقَ عِتْقَ عَبْدِهِ بِفِعْلِ غَيْرِهِ فَشَهِدَ ذَلِكَ الْغَيْرُ عَلَى فِعْلِهِ وَلَهُمَا أَنَّهُمَا شَهِدَا عَلَى فِعْلِ غَيْرِهِمَا وَهُوَ الِاسْتِيفَاءُ وَالْقَبْضُ لَا عَلَى فِعْلِ أَنْفُسِهِمَا، لِأَنَّ فِعْلَهُمَا التَّمْيِيزُ وَلَا حَاجَةَ إلَى الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ، أَوْ لِأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ مَشْهُودًا بِهِ لِمَا أَنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ بِالْقَبْضِ وَالِاسْتِيفَاءِ وَهُوَ فِعْلُ الْغَيْرِ فَتُقْبَلَ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: إذَا قَسَمَا بِأَجْرٍ لَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِلَيْهِ مَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ لِأَنَّهُمَا يَدَّعِيَانِ إيفَاءَ عَمَلٍ اُسْتُؤْجِرَا عَلَيْهِ فَكَانَتْ شَهَادَةً صُورَةً وَدَعْوَى مَعْنًى فَلَا تُقْبَلُ إلَّا أَنَّا نَقُولُ: هُمَا لَا يَجُرَّانِ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ إلَى أَنْفُسِهِمَا مَغْنَمًا
وَمَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ بِمَعْزِلٍ عَنْ ذَيْنِك الْقَوْلَيْنِ مَعًا فَلَا تَأْثِيرَ لِلْفَرْقِ بَيْنَ مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ، وَمَا ذَكَرَهُ أَبُو حَنِيفَةَ فِي دَفْعِ الْمُخَالَفَةِ بَيْنَهُمَا كَمَا ادَّعَاهَا، عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ وَهُوَ غَيْرُ ظَاهِرٍ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، إذْ لَا شَكَّ فِي ظُهُورِ الْفَرْقِ بَيْنَ مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ وَمَا ذَكَرَهُ أَبُو حَنِيفَةَ كَمَا تَرَى
(قَوْلُهُ وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمَقْصُودَ أَصْلُ السُّكْنَى) أَقُولُ: حَقُّ التَّحْرِيرِ أَنْ يُقَالَ: إنَّ أَصْلَ الْمَقْصُودِ هُوَ السُّكْنَى، وَهَذَا ظَاهِرٌ لَلْفَطِنِ الْمُتَدَبِّرِ فِي الْمَقَامِ
(قَوْلُهُ وَالسُّفْلُ الْمُجَرَّدُ سِتَّةٌ وَسِتُّونَ وَثُلُثَانِ لِأَنَّهُ ضَعْفُ الْعُلُوِّ فَيُجْعَلَ بِمُقَابَلَةِ مِثْلِهِ) قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: قَوْلُهُ وَالسُّفْلُ الْمُجَرَّدُ إلَى آخِرِهِ مُسْتَدْرَكٌ لَا حَاجَةَ إلَيْهِ كَمَا لَا يَخْفَى انْتَهَى أَقُولُ: دَعْوَى اسْتِدْرَاكِهِ بِالْكُلِّيَّةِ خُرُوجٌ عَنْ دَائِرَةِ الْإِنْصَافِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ فِيمَا قَبْلُ لِأَنَّ الْعُلُوَّ مِثْلُ نِصْفِ السُّفْل لَيْسَ بِبَيَانٍ كَامِلٍ لِقَوْلِهِ وَيُجْعَلُ بِمُقَابَلَةِ مِائَةِ ذِرَاعٍ مِنْ السُّفْلِ الْمُجَرَّدِ مِنْ الْبَيْتِ الْكَامِلِ سِتَّةٌ وَسِتُّونَ وَثُلُثَا ذِرَاعٍ، وَإِنَّمَا يَكْمُلُ الْبَيَانُ بِقَوْلِهِ وَالسُّفْلُ الْمُجَرَّدُ: أَيْ سُفْلُ الْبَيْتِ الْكَامِلِ سِتَّةٌ وَسِتُّونَ وَثُلُثَانِ لِأَنَّهُ
لِاتِّفَاقِ الْخُصُومِ عَلَى إيفَائِهِمَا الْعَمَلَ الْمُسْتَأْجَرَ عَلَيْهِ وَهُوَ التَّمْيِيزُ، وَإِنَّمَا الِاخْتِلَافُ فِي الِاسْتِيفَاءِ فَانْتَفَتْ التُّهْمَةُ (وَلَوْ شَهِدَ قَاسِمٌ وَاحِدٌ لَا تُقْبَلُ) لِأَنَّ شَهَادَةَ الْفَرْدِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ عَلَى الْغَيْرِ، وَلَوْ أَمَرَ الْقَاضِي أَمِينَهُ بِدَفْعِ الْمَالِ إلَى آخَرَ يُقْبَلُ قَوْلُ الْأَمِينِ فِي دَفْعِ الضَّمَانِ عَنْ نَفْسِهِ وَلَا يُقْبَلُ فِي إلْزَامِ الْآخَرِ إذَا كَانَ مُنْكِرًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
بَاب دَعْوَى الْغَلَطِ فِي الْقِسْمَةِ وَالِاسْتِحْقَاقِ فِيهَا
قَالَ (وَإِذَا ادَّعَى أَحَدُهُمْ الْغَلَطَ وَزَعَمَ أَنَّ مِمَّا أَصَابَهُ شَيْئًا فِي يَدِ صَاحِبِهِ وَقَدْ أَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ بِالِاسْتِيفَاءِ لَمْ يُصَدَّقْ عَلَى ذَلِكَ إلَّا بِبَيِّنَةٍ) لِأَنَّهُ يَدَّعِي فَسْخَ الْقِسْمَةِ بَعْدَ وُقُوعِهَا فَلَا يُصَدَّقُ إلَّا بِحُجَّةٍ (فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ اسْتَحْلَفَ الشُّرَكَاءَ فَمَنْ نَكَلَ مِنْهُمْ جُمِعَ بَيْنَ نَصِيبِ النَّاكِلِ وَالْمُدَّعِي فَيُقْسَمَ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ أَنْصِبَائِهِمَا)، لِأَنَّ النُّكُولَ حُجَّةٌ فِي حَقِّهِ خَاصَّةً
ضِعْفُ الْعُلُوِّ فَيُجْعَلَ بِمُقَابَلَةِ مِثْلِهِ: أَيْ بِمُقَابِلَةِ مِثْلِهِ مِنْ السُّفْلِ الْمُجَرَّدِ الَّذِي لَا عُلُوَّ عَلَيْهِ أَصْلًا نَعَمْ حَقُّ الْبَيَانِ أَنْ يُؤَخَّرَ قَوْلُهُ فَبَلَغَتْ مِائَةَ ذِرَاعٍ كَمَا ذَكَرْنَا عَلَى قَوْلِهِ فَيُجْعَلَ بِمُقَابَلَةِ مِثْلِهِ تَبَصَّرْ تَفْهَمْ
(بَابُ دَعْوَى الْغَلَطِ فِي الْقِسْمَةِ وَالِاسْتِحْقَاقِ فِيهَا)
لَمَّا كَانَ دَعْوَى الْغَلَطِ وَالِاسْتِحْقَاقِ مِنْ الْعَوَارِضِ الَّتِي عَسَى أَنْ تَقَعَ وَأَنْ لَا تَقَعَ أُخَرُ ذَكَرَهَا؛ قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ أَخْذًا مِنْ غَايَةِ الْبَيَانِ: وَالْأَصْلُ فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّ الِاخْتِلَافَ إمَّا أَنْ يَكُونَ فِي مِقْدَارِ مَا حَصَلَ بِالْقِسْمَةِ أَوْ فِي أَمْرٍ بَعْدَ الْقِسْمَةِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ تَحَالَفَا وَتُفْسَخُ الْقِسْمَةُ إنْ لَمْ يَكُنْ فِي دَعْوَاهُ مُتَنَاقِضًا، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَحُكْمُهُ «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» اهـ وَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ حَيْثُ قَالَ: فِيهِ بَحْثٌ، فَإِنَّهُمْ إذَا اخْتَلَفُوا فِي التَّقْوِيمِ وَالْقِسْمَةِ بِالتَّرَاضِي أَوْ بِقَضَاءِ الْقَاضِي وَالْغَبْنُ يَسِيرٌ لَا تَحَالُفَ فِيهِ وَلَا بَيِّنَةَ وَلَا يَمِينَ كَمَا يَجِيءُ انْتَهَى أَقُولُ: ذَلِكَ مُنْدَفِعٌ، فَإِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْمُقْسِمَ فِي الْأَصْلِ الْمَزْبُورِ هُوَ الِاخْتِلَافُ الْمُلْتَفَتُ إلَيْهِ الْمُعْتَبَرُ فِي الشَّرْعِ، وَمَا ذَكَرَهُ ذَلِكَ الْمُعْتَرِضُ مِنْ الصُّورَتَيْنِ وَهُمَا الِاخْتِلَافُ فِي التَّقْوِيمِ فِيمَا إذَا كَانَتْ الْقِسْمَةُ بِالتَّرَاضِي وَالِاخْتِلَافُ فِيهِ فِيمَا إذَا كَانَتْ بِقَضَاءِ الْقَاضِي، وَلَكِنَّ الْغَبْنَ يَسِيرٌ خَارِجٌ عَنْ الْمُقْسِمِ الْمَذْكُورِ لِعَدَمِ الِالْتِفَاتِ إلَيْهِ فِي الشَّرْعِ كَمَا سَيَجِيءُ، فَلَا يُرَدُّ بِهِ النَّقْضُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ الْقِسْمَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فِي الْأَصْلِ الْمَزْبُورِ
(قَوْلُهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ اسْتَحْلَفَ الشُّرَكَاءَ) لِأَنَّهُمْ لَوْ أَقَرُّوا لَزِمَهُمْ، فَإِذَا أَنْكَرُوا اُسْتُحْلِفُوا لِرَجَاءِ النُّكُولِ، كَذَا فِي الْكَافِي وَعَامَّةِ الشُّرُوحِ
فَيُعَامَلَانِ عَلَى زَعْمِهِمَا قَالَ رضي الله عنه: يَنْبَغِي أَنْ لَا تُقْبَلَ دَعْوَاهُ أَصْلًا لِتَنَاقُضِهِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ مَنْ بَعْدُ (وَإِنْ قَالَ قَدْ اسْتَوْفَيْتُ حَقِّي وَأَخَذْتُ بَعْضَهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ خَصْمِهِ مَعَ يَمِينِهِ) لِأَنَّهُ يَدَّعِي عَلَيْهِ الْغَصْبَ وَهُوَ مُنْكِرٌ (وَإِنْ قَالَ أَصَابَنِي إلَى مَوْضِعِ كَذَا فَلَمْ يُسَلِّمْهُ إلَيَّ وَلَمْ يَشْهَدْ عَلَى نَفْسِهِ بِالِاسْتِيفَاءِ وَكَذَّبَهُ شَرِيكُهُ تَحَالَفَا وَفُسِخَتْ الْقِسْمَةُ)
وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ حَيْثُ قَالَ: لَوْ صَحَّ هَذَا لَدَلَّ عَلَى وُجُوبِ تَحْلِيفِ الْمُقَرِّ لَهُ إذَا ادَّعَى الْمُقِرُّ أَنَّهُ كَذَبَ فِي إقْرَارِهِ مَعَ أَنَّهُ لَا تَحْلِيفَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ انْتَهَى أَقُولُ: لَيْسَ ذَاكَ بِوَارِدٍ إذْ قَدْ تَقَرَّرَ فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ أَنَّ حُكْمَ الْإِقْرَارِ ظُهُورُ الْمُقَرِّ بِهِ بِلَا تَصْدِيقٍ مِنْ الْمُقِرِّ لَهُ إلَّا فِي نَسَبِ الْوِلَادِ وَنَحْوِهِ، وَلَكِنْ يُرَدُّ الْإِقْرَارُ بِرَدِّ الْمُقِرِّ لَهُ، إلَّا بَعْدَ تَصْدِيقِهِ فَإِنَّهُ لَا يُرَدُّ حِينَئِذٍ أَصْلًا فَإِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ فَادَّعَاهُ الْمُقِرُّ أَنَّهُ كَذَبَ فِي إقْرَارِهِ إنْ كَانَ بَعْدَ تَصْدِيقِ الْمُقَرِّ لَهُ إيَّاهُ فِي إقْرَارِهِ لَا يَدُلُّ مَا ذَكَرُوا هَاهُنَا عَلَى وُجُوبِ تَحْلِيفِ الْمُقَرِّ لَهُ هُنَاكَ إذْ لَا يَتَمَشَّى فِيهِ أَنْ يُقَالَ لَوْ أَقَرَّ الْمُقَرُّ لَهُ بِكَذِبِ الْمُقِرِّ فِي إقْرَارِهِ بَعْدَ تَصْدِيقِهِ إيَّاهُ فِي إقْرَارِهِ لَزِمَهُ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْإِقْرَارَ لَمَّا لَمْ يُرَدَّ بَعْدَ تَصْدِيقِ الْمُقَرِّ لَهُ لَمْ يَلْزَمْ الْمُقَرَّ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِشَيْءٍ بِإِقْرَارِهِ بِكَذِبِ الْمُقِرِّ فِي إقْرَارِهِ، وَإِلَّا لَزِمَ أَنْ يُرَدَّ الْإِقْرَارُ الْأَوَّلُ بِرَدِّ الْمُقَرِّ لَهُ ذَلِكَ بَعْدَ تَصْدِيقِهِ إيَّاهُ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الِادِّعَاءُ قَبْلَ تَصْدِيقِ الْمُقَرِّ لَهُ الْمُقِرَّ فِي إقْرَارِهِ فَلَا يَدُلُّ مَا ذَكَرُوا هَاهُنَا أَيْضًا عَلَى ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَتَمَشَّى فِيهِ أَنْ يُقَالَ: لَوْ أَقَرَّ الْمُقَرُّ لَهُ بِكَذِبِ الْمُقِرِّ فِي إقْرَارِهِ لَزِمَهُ ذَلِكَ.
وَلَكِنْ لَا يَتَمَشَّى فِيهِ أَنْ يُقَالَ فَإِذَا أَنْكَرَ اُسْتُحْلِفَ كَمَا قَالُوا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ، لِأَنَّهُ إذَا أَنْكَرَ ذَلِكَ كَانَ مُصَدِّقًا لَهُ فِي إقْرَارِهِ، لِأَنَّ إنْكَارَ كَذِبِهِ فِي إقْرَارِهِ يَقْتَضِي تَصْدِيقَهُ فِي إقْرَارِهِ، فَبَعْدَ ذَلِكَ لَا يَقْبَلُ الْإِقْرَارُ الرَّدَّ فَلَا فَائِدَةَ فِي اسْتِحْلَافِهِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَجِبْ تَحْلِيفُ الْمُقَرِّ لَهُ هُنَاكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ، تَأَمَّلْ فِيمَا قُلْنَا فَلَعَلَّ فِيهِ دِقَّةً. ثُمَّ أَقُولُ: لَكِنْ بَقِيَ فِيمَا ذَكَرُوا شَيْءٌ وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُمْ لِرَجَاءِ النُّكُولِ فِي قَوْلِهِمْ فَإِذَا أَنْكَرُوا اُسْتُحْلِفُوا لِرَجَاءِ النُّكُولِ إنَّمَا يَرْتَبِطُ بِمَا قَبْلَهُ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ إنَّ النُّكُولَ إقْرَارٌ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ إنَّهُ بَذْلٌ لَا إقْرَارَ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى مَا مَرَّ فِي كِتَابِ الدَّعْوَى مُفَصَّلًا فَلَا فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ إقْرَارًا لَا يَلْزَمُ مِنْ لُزُومِ إقْرَارِهِمْ لَوْ أَقَرُّوا وُجُوبَ اسْتِحْلَافِهِمْ إذَا أَنْكَرُوا لِرَجَاءِ النُّكُولِ فَلَا يَرْتَبِطُ آخِرُ كَلَامِهِمْ بِأَوَّلِهِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى الْفَطِنِ
(قَوْلُهُ قَالَ رضي الله عنه: يَنْبَغِي أَنْ لَا تُقْبَلَ دَعْوَاهُ أَصْلًا لِتَنَاقُضِهِ) قَالَ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ فِي شَرْحِ الْوِقَايَةِ بَعْدَ نَقْلِ هَذَا عَنْ الْهِدَايَةِ: وَفِي الْمَبْسُوطِ وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ مَا يُؤَيِّدُ هَذَا، وَقَالَ: وَجْهُ رِوَايَةِ الْمَتْنِ أَنَّهُ اعْتَمَدَ عَلَى فِعْلِ الْقَاسِمِ فِي إقْرَارِهِ بِاسْتِيفَائِهِ حَقَّهُ، ثُمَّ لَمَّا تَأَمَّلَ حَقَّ التَّأَمُّلِ ظَهَرَ الْغَلَطُ فِي فِعْلِهِ فَلَا يُؤَاخَذُ بِذَلِكَ الْإِقْرَارِ عِنْدَ ظُهُورِ الْحَقِّ انْتَهَى.
وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ بَعْدَ نَقْلِ مَا ذَكَرَهُ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ: وَفِيهِ بَحْثٌ، فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا الْإِقْرَارِ إنْ كَانَ مَانِعًا عَنْ صِحَّةِ الدَّعْوَى لَا تُسْمَعُ الْبَيِّنَةُ لِابْتِنَائِهِ عَلَى صِحَّةِ الدَّعْوَى، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَانِعًا يَنْبَغِي أَنْ يَتَحَالَفَا.
أَقُولُ: يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ لَيْسَ بِمَانِعٍ عَنْ صِحَّةِ الدَّعْوَى، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَحَالَفَا بِنَاءً عَلَى مَا حَقَّقَهُ صَاحِبُ الذَّخِيرَةِ حَيْثُ قَالَ: وَأَمَّا دَعْوَى الْغَلَطِ فِي مِقْدَارِ الْوَاجِبِ بِالْقِسْمَةِ فَنَوْعَانِ: نَوْعٌ يُوجِبُ التَّحَالُفَ، وَنَوْعٌ لَا يُوجِبُ التَّحَالُفَ. وَاَلَّذِي يُوجِبُ التَّحَالُفَ أَنْ يَدَّعِيَ أَحَدُ الْمُتَقَاسِمَيْنِ غَلَطًا فِي مِقْدَارِ الْوَاجِبِ بِالْقِسْمَةِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَكُونُ مُدَّعِيًا
لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي مِقْدَارِ مَا حَصَلَ لَهُ بِالْقِسْمَةِ فَصَارَ نَظِيرَ الِاخْتِلَافِ فِي مِقْدَارِ الْمَبِيعِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَحْكَامِ التَّحَالُفِ فِيمَا تَقَدَّمَ (وَلَوْ اخْتَلَفَا فِي التَّقْوِيمِ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَيْهِ) لِأَنَّهُ دَعْوَى الْغَبْنِ وَلَا مُعْتَبَرَ بِهِ فِي الْبَيْعِ فَكَذَا فِي الْقِسْمَةِ لِوُجُودِ التَّرَاضِي، إلَّا إذَا كَانَتْ الْقِسْمَةُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي وَالْغَبْنُ فَاحِشٌ (لِأَنَّ تَصَرُّفَهُ مُقَيَّدٌ بِالْعَدْلِ)
الْغَصْبَ بِدَعْوَى الْغَلَطِ وَاَلَّذِي لَا يُوجِبُ التَّحَالُفَ أَنْ يَدَّعِيَ الْغَلَطَ فِي مِقْدَارِ الْوَاجِبِ بِالْقِسْمَةِ عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ مُدَّعِيًا الْغَصْبَ بِدَعْوَى الْغَلَطِ وَقَالَ فِي النَّوْعِ الْأَوَّلِ: وَإِنَّمَا وَجَبَ التَّحَالُفُ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ فِي مَعْنَى الْبَيْعِ، وَفِي الْبَيْعِ إذَا وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي مِقْدَارِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ يَتَحَالَفَانِ إذَا كَانَ قَائِمًا هَكَذَا فِي الْقِسْمَةِ وَقَالَ: هَذَا إذَا لَمْ يَسْبِقْ مِنْهُمَا إقْرَارٌ بِاسْتِيفَاءِ الْحَقِّ وَأَمَّا إذَا سَبَقَ لَا تُسْمَعُ دَعْوَى الْغَلَطِ إلَّا مِنْ حَيْثُ الْغَصْبُ وَقَالَ فِي النَّوْعِ الثَّانِي: إذَا كَانَ يَجِبُ التَّحَالُفُ بِاعْتِبَارِ اخْتِلَافِهِمَا فِي مِقْدَارِ الْوَاجِبِ بِالْقِسْمَةِ كَمَا فِي النَّوْعِ الْأَوَّلِ، فَبِاعْتِبَارِ دَعْوَى الْغَصْبِ لَا يَجِبُ التَّحَالُفُ كَمَا فِي سَائِرِ الْمَوَاضِعِ، وَالتَّحَالُفُ أَمْرٌ عُرِفَ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ فَإِذَا وَجَبَ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ لَا يَجِبُ انْتَهَى فَتَلَخَّصَ مِنْهُ وَجْهُ عَدَمِ وُجُوبِ التَّحَالُفِ فِيمَا إذَا أَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ بِالِاسْتِيفَاءِ مَعَ اسْتِمَاعِ دَعْوَاهُ كَمَا وَقَعَ فِي مَتْنِ الْكِتَابِ فَحَصَلَ بِهِ الْجَوَابُ عَنْ بَحْثِ ذَلِكَ الْقَائِلِ قَطْعًا، بَلْ حَصَلَ بِهِ الْجَوَابُ عَمَّا قَالَهُ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ أَيْضًا مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَى التَّكَلُّفِ الَّذِي ذَكَرَهُ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ، لِأَنَّ دَعْوَى الْغَلَطِ عَلَى وَجْهٍ يَتَضَمَّنُ دَعْوَى الْغَصْبِ بَعْدَ الِاسْتِيفَاءِ كَمَا هُوَ النَّوْعُ الثَّانِي مِنْ النَّوْعَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فِي الذَّخِيرَةِ لَا يُنَاقِضُ الْإِقْرَارَ بِاسْتِيفَاءِ حَقِّهِ مِنْ قَبْلُ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى الْمُتَأَمِّلِ
(قَوْلُهُ لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي مِقْدَارِ مَا حَصَلَ لَهُ بِالْقِسْمَةِ فَصَارَ نَظِيرَ الِاخْتِلَافِ فِي مِقْدَارِ الْمَبِيعِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَحْكَامِ التَّحَالُفِ فِيمَا تَقَدَّمَ) أَقُولُ: فِيهِ بَحْثٌ، وَهُوَ أَنَّ مَا تَقَدَّمَ فِي بَابِ التَّحَالُفِ مِنْ كِتَابِ الدَّعْوَى هُوَ أَنَّ التَّحَالُفَ فِيمَا إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ فِي الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ عَلَى وِفَاقِ الْقِيَاسِ، لِأَنَّ أَحَدَ الْمُتَبَايِعَيْنِ يَدَّعِي الزِّيَادَةَ وَالْآخَرَ يُنْكِرُهَا، وَإِنَّ الْآخَرَ يَدَّعِي وُجُوبَ تَسْلِيمِ الْبَدَلِ بِمَا قَالَهُ وَأَحَدَهُمَا يُنْكِرُهُ فَصَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُنْكِرًا فَيَحْلِفَ، وَأَمَّا بَعْدَ الْقَبْضِ فَمُخَالِفٌ لِلْقِيَاسِ لِأَنَّ الْقَابِضَ مِنْهُمَا لَا يَدَّعِي شَيْئًا حَتَّى يُنْكِرَهُ الْآخَرُ فَيَحْلِفَ عَلَيْهِ، لَكِنَّا عَرَفْنَا التَّحَالُفَ فِيهِ بِالنَّصِّ وَهُوَ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ وَالسِّلْعَةُ قَائِمَةٌ بِعَيْنِهَا تَحَالَفَا وَتَرَادَّا» فَإِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ فَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ قَابِضٌ نَصِيبَهُ فَإِنَّهُ ذُو الْيَدِ وَلَا يَدَّعِي عَلَى الْآخَرِ شَيْئًا، وَإِنَّمَا يَدَّعِي الْآخَرُ عَلَيْهِ بَعْضَ مَا فِي يَدِهِ فَكَانَ التَّحَالُفُ فِيهِ مُخَالِفًا لِلْقِيَاسِ، وَلَا مَجَالَ لِإِجْرَاءِ النَّصِّ الْمَزْبُورِ هُنَا لَا بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ لِأَنَّ ذَلِكَ النَّصَّ كَانَ وَارِدًا فِي الْبَيْعِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ، وَقَدْ تَقَرَّرَ عِنْدَهُمْ أَنَّ مَا يَرِدُ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ يَخْتَصُّ بِمَوْرِدِهِ وَلَا بِطَرِيقِ دَلَالَةِ النَّصِّ، لِأَنَّ الْقِسْمَةَ لَيْسَتْ فِي مَعْنَى الْبَيْعِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ إذْ فِيهَا مَعْنَى الْإِفْرَازِ وَالْمُبَادَلَةِ مَعًا كَمَا مَرَّ فِي صَدْرِ كِتَابِ الْقِسْمَةِ، وَالْبَيْعُ مُبَادَلَةٌ مَحْضَةٌ لَيْسَ فِيهِ مَعْنَى الْإِفْرَازِ، وَلَا بُدَّ فِي الْإِلْحَاقِ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ مِنْ الْأَوْلَوِيَّةِ أَوْ التَّسَاوِي عَلَى مَا عُرِفَ
(وَلَوْ اقْتَسَمَا دَارًا وَأَصَابَ كُلُّ وَاحِدٍ طَائِفَةً فَادَّعَى أَحَدُهُمْ بَيْتًا فِي يَدِ الْآخَرِ أَنَّهُ مِمَّا أَصَابَهُ بِالْقِسْمَةِ وَأَنْكَرَ الْآخَرُ فَعَلَيْهِ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ) لِمَا قُلْنَا (وَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ يُؤْخَذُ بِبَيِّنَةِ الْمُدَّعِي) لِأَنَّهُ خَارِجٌ، وَبَيِّنَةُ الْخَارِجِ تَتَرَجَّحُ عَلَى بَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ (وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْإِشْهَادِ عَلَى الْقَبْضِ تَحَالَفَا وَتَرَادَّا، وَكَذَا إذَا اخْتَلَفَا فِي الْحُدُودِ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ يُقْضَى لِكُلِّ وَاحِدٍ بِالْجُزْءِ الَّذِي هُوَ فِي يَدِ صَاحِبِهِ) لِمَا بَيَّنَّا (وَإِنْ قَامَتْ لِأَحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ قُضِيَ لَهُ، وَإِنْ لَمْ تَقُمْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا تَحَالَفَا) كَمَا فِي الْبَيْعِ.
فَصْلٌ
قَالَ (وَإِذَا اسْتَحَقَّ بَعْضَ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ لَمْ تُفْسَخْ الْقِسْمَةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَرَجَعَ بِحِصَّةِ ذَلِكَ فِي نَصِيبِ
فِي مَوْضِعِهِ وَلَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ مِنْهُمَا هُنَا فَلْيُتَأَمَّلْ فِي الدَّفْعِ
(قَوْلُهُ وَلَوْ اقْتَسَمَا دَارًا وَأَصَابَ كُلُّ وَاحِدٍ طَائِفَةً فَادَّعَى أَحَدُهُمَا بَيْتًا فِي يَدِ الْآخَرِ أَنَّهُ مِمَّا أَصَابَهُ بِالْقِسْمَةِ وَأَنْكَرَ الْآخَرُ فَعَلَيْهِ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ لِمَا قُلْنَا) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ: قَوْلُهُ لِمَا قُلْنَا إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ لَمْ يُصَدَّقْ عَلَى ذَلِكَ إلَّا بِبَيِّنَةٍ لِأَنَّهُ يَدَّعِي فَسْخَ الْقِسْمَةِ بَعْدَ وُقُوعِهَا انْتَهَى. وَاسْتَشْكَلَهُ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ حَيْثُ قَالَ: فَسْخُ الْقِسْمَةِ لَيْسَ بِظَاهِرٍ، فَإِنَّ الْمُدَّعَى شَيْءٌ مُعَيَّنٌ وَهُوَ الْبَيْتُ، فَإِذَا نَوَّرَ دَعْوَاهُ بِالْبَيِّنَةِ يُحْكَمُ بِالْبَيْتِ لِلْمُدَّعِي انْتَهَى أَقُولُ: الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِفَسْخِ الْقِسْمَةِ فِي قَوْلِهِ لِأَنَّهُ يَدَّعِي فَسْخَ الْقِسْمَةِ بَعْدَ وُقُوعِهَا فَسْخُ الْقِسْمَةِ الْمُعَايِنَةِ حَالَ الْخُصُومَةِ الدَّالَّةِ فِي الظَّاهِرِ عَلَى كَوْنِ ذَلِكَ الْبَيْتِ فِي نَصِيبِ ذِي الْيَدِ لَا فَسْخُ الْقِسْمَةِ عَنْ أَصْلُهَا وَالِاسْتِئْنَافُ بِقِسْمَةٍ أُخْرَى حَتَّى يُنَافِيَ مَا سَيَجِيءُ فِي الْفَصْلِ الْآتِي مِنْ أَنَّهُ إذَا اُسْتُحِقَّ بَعْضُ مُعَيَّنٍ مِنْ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا لَا تُفْسَخُ الْقِسْمَةُ بِالْإِجْمَاعِ فِي الصَّحِيحِ وَتَحَقَّقَ فَسْخُ الْقِسْمَةِ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ إذَا نَوَّرَ دَعْوَاهُ بِالْبَيِّنَةِ ظَاهِرٌ لَا يَخْفَى
(فَصْلٌ)
صَاحِبِهِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: تُفْسَخُ الْقِسْمَةُ) قَالَ رضي الله عنه: ذَكَرَ الِاخْتِلَافَ فِي اسْتِحْقَاقِ بَعْضٍ بِعَيْنِهِ، وَهَكَذَا ذُكِرَ فِي الْأَسْرَارِ.
وَالصَّحِيحُ أَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي اسْتِحْقَاقِ بَعْضٍ شَائِعٍ مِنْ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا، فَأَمَّا فِي اسْتِحْقَاقِ بَعْضٍ مُعَيَّنٍ لَا تُفْسَخُ الْقِسْمَةُ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَوْ اُسْتُحِقَّ بَعْضٌ شَائِعٌ فِي الْكُلِّ تُفْسَخُ بِالِاتِّفَاقِ، فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ. وَلَمْ يَذْكُرْ قَوْلَ مُحَمَّدٍ، وَذَكَرَهُ أَبُو سُلَيْمَانَ مَعَ أَبِي يُوسُفَ وَأَبُو حَفْصٍ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ الْأَصَحُّ.
لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ الْغَلَطِ شَرَعَ فِي بَيَانِ الِاسْتِحْقَاقِ (قَوْلُهُ قَالَ رضي الله عنه: ذَكَرَ الِاخْتِلَافَ فِي اسْتِحْقَاقِ بَعْضٍ بِعَيْنِهِ وَهَكَذَا ذَكَرَ فِي الْأَسْرَارِ) أَيْ قَالَ الْمُصَنِّفُ: ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ الِاخْتِلَافَ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ فِي اسْتِحْقَاقِ بَعْضٍ مُعَيَّنٍ مِنْ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا، وَهَكَذَا ذَكَرَ الِاخْتِلَافَ فِي الْأَسْرَارِ. قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: وَصِفَةُ الْحَوَالَةِ هَذِهِ إلَى الْأَسْرَارِ وَقَعَتْ سَهْوًا، لِأَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مَذْكُورَةٌ فِي الْأَسْرَارِ فِي الشَّائِعِ وَضْعًا وَتَعْلِيلًا مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَتَكْرَارًا بِلَفْظِ الشَّائِعِ غَيْرَ مَرَّةٍ انْتَهَى. أَقُولُ: وَتَعْدِيَةُ الْحَوَالَةِ بِكَلِمَةِ إلَى فِي قَوْلِ صَاحِبِ النِّهَايَةِ وَصِفَةُ الْحَوَالَةِ هَذِهِ إلَى الْأَسْرَارِ وَقَعَتْ سَهْوًا أَيْضًا، وَالْمُطَابِقُ لِلُّغَةِ تَعْدِيَتُهَا بِكَلِمَةِ عَلَى. وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ نَقْلِ كَلَامِ صَاحِبِ النِّهَايَةِ بِعَيْنِ عِبَارَتِهِ: وَأَقُولُ: وَفِي قَوْلِهِ ذَكَرَ الِاخْتِلَافَ فِي اسْتِحْقَاقِ بَعْضٍ بِعَيْنِهِ أَيْضًا نَظَرٌ. فَإِنَّ قَوْلَ الْقُدُورِيِّ وَإِذَا اسْتَحَقَّ بَعْضَ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ لَيْسَ بِنَصٍّ فِي ذَلِكَ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ بِعَيْنِهِ مُتَعَلِّقًا بِنَصِيبِ أَحَدِهِمَا لَا بِبَعْضٍ فَيَكُونُ تَقْرِيرُ كَلَامِهِ؛ وَإِذَا اسْتَحَقَّ بَعْضٌ شَائِعٌ فِي نَصِيبِ أَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ وَحِينَئِذٍ يَكُونُ الِاخْتِلَافُ فِي الشَّائِعِ
لِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ بِاسْتِحْقَاقِ بَعْضٍ شَائِعٍ ظَهَرَ شَرِيكٌ ثَالِثٌ لَهُمَا، وَالْقِسْمَةُ بِدُونِ رِضَاهُ بَاطِلَةٌ، كَمَا إذَا اُسْتُحِقَّ بَعْضٌ شَائِعٌ فِي النَّصِيبَيْنِ، وَهَذَا لِأَنَّ بِاسْتِحْقَاقِ جُزْءٍ شَائِعٍ يَنْعَدِمُ مَعْنَى الْقِسْمَةِ وَهُوَ الْإِفْرَازُ لِأَنَّهُ يُوجِبُ الرُّجُوعَ بِحِصَّتِهِ فِي نَصِيبِ الْآخَرِ شَائِعًا، بِخِلَافِ الْمُعَيَّنِ.
وَلَهُمَا أَنَّ مَعْنَى الْإِفْرَازِ لَا يَنْعَدِمُ بِاسْتِحْقَاقِ جُزْءٍ شَائِعٍ فِي نَصِيبِ أَحَدِهِمَا وَلِهَذَا جَازَتْ الْقِسْمَةُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فِي الِابْتِدَاءِ بِأَنْ كَانَ النِّصْفُ الْمُقَدَّمُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ ثَالِثٍ وَالنِّصْفُ الْمُؤَخَّرُ بَيْنَهُمَا لَا شَرِكَةَ لِغَيْرِهِمَا فِيهِ فَاقْتَسَمَا عَلَى أَنَّ لِأَحَدِهِمَا مَا لَهُمَا مِنْ الْمُقَدَّمِ وَرُبُعِ الْمُؤَخَّرِ يَجُوزُ فَكَذَا فِي الِانْتِهَاءِ وَصَارَ كَاسْتِحْقَاقِ شَيْءٍ مُعَيَّنٍ، بِخِلَافِ الشَّائِعِ فِي النَّصِيبَيْنِ لِأَنَّهُ لَوْ بَقِيَتْ الْقِسْمَةُ لَتَضَرَّرَ الثَّالِثُ بِتَفَرُّقِ نَصِيبِهِ
لَا فِي الْمُعَيَّنِ انْتَهَى. أَقُولُ: لَا يَخْفَى عَلَى ذِي فِطْرَةٍ سَلِيمَةٍ أَنَّ كَلَامَ الْقُدُورِيِّ إنْ لَمْ يَكُنْ نَصًّا فِيمَا حَمَلَ عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ فَهُوَ ظَاهِرٌ فِيهِ بِحَيْثُ لَا يَشْتَبِهُ عَلَى أَحَدٍ مِنْ فُحُولِ الْعُلَمَاءِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ بِعَيْنِهِ لَوْ لَمْ يَكُنْ مُتَعَلِّقًا بِبَعْضٍ كَانَ الْبَعْضُ الْمَذْكُورُ فِي هَاتِيك الْمَسْأَلَةِ مُبْهَمًا فَلَا يُعْلَمُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْبَعْضُ الْمُعَيَّنُ أَوْ الشَّائِعُ فَيَخْتَلُّ وَضْعُ الْمَسْأَلَةِ. وَأَيْضًا لَوْ كَانَ قَوْلُهُ بِعَيْنِهِ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا كَانَ لِمُجَرَّدِ التَّأْكِيدِ بَلْ صَارَ بِمَنْزِلَةِ اللَّغْوِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ، وَأَمَّا إذَا كَانَ مُتَعَلِّقًا بِبَعْضٍ يَكُونُ تَأْسِيسًا مُفِيدًا لِلْمُرَادِ مُزِيلًا لِلْإِبْهَامِ فَأَنَّى هَذَا مِنْ ذَلِكَ. عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي أَمْثَالِ هَذَا التَّرْكِيبِ تَعَلُّقُ الْقَيْدِ بِالْمُضَافِ دُونَ الْمُضَافِ إلَيْهِ كَمَا بَيَّنَ فِي مَحَلِّهِ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ كَلَامَ الْقُدُورِيِّ ظَاهِرٌ فِيمَا حَمَلَ عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ أَنَّ الظَّاهِرَ يُوجِبُ الْحُكْمَ قَطْعًا كَالنَّصِّ عَلَى أَحَدِ مَعْنَيَيْ الْقَطْعِيِّ وَهُوَ مَا يَقْطَعُ الِاحْتِمَالَ النَّاشِئَ عَنْ دَلِيلٍ، إلَّا أَنَّ التَّفَاوُتَ بَيْنَهُمَا: أَيْ بَيْنَ الظَّاهِرِ وَالنَّصِّ إنَّمَا يَظْهَرُ عِنْدَ التَّعَارُضِ فَيُقَدَّمُ النَّصُّ عَلَى الظَّاهِرِ عِنْدَهُ وَلَمْ يُعَارِضْ الظَّاهِرَ هُنَا نَصٌّ فَوَجَبَ الْحُكْمُ بِمُوجِبِهِ (قَوْلُهُ لِأَبِي يُوسُفَ إنَّ بِاسْتِحْقَاقِ بَعْضٍ شَائِعٍ ظَهَرَ شَرِيكٌ ثَالِثٌ لَهُمَا وَالْقِسْمَةُ بِدُونِ رِضَاهُ بَاطِلَةٌ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي تَعْلِيلِ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ: أَعْنِي قَوْلَهُ وَالْقِسْمَةُ بِدُونِ رِضَاهُ بَاطِلَةٌ لِأَنَّ مَوْضُوعَ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا إذَا تَرَاضَيَا عَلَى الْقِسْمَةِ لِأَنَّهُ اعْتَبَرَ الْقِيمَةَ فِيهَا فَلَا بُدَّ مِنْ التَّرَاضِي انْتَهَى. وَمَأْخَذُ تَعْلِيلِهِ هَذَا مَا نَقَلَهُ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ عَنْ الْإِمَامِ عَلَاءِ الدِّينِ الْإِسْبِيجَابِيِّ حَيْثُ قَالَ: وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ عَلَاءُ الدِّينِ الْإِسْبِيجَابِيُّ فِي شَرْحِ الْكَافِي: وَضْعُ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا إذَا تَرَاضَيَا عَلَى الْقِسْمَةِ لِأَنَّهُ اعْتَبَرَ الْقِيمَةَ وَالْقِسْمَةُ بِالْقِيمَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا تَصِحُّ إلَّا عَنْ تَرَاضٍ انْتَهَى. وَأَوْرَدَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ عَلَى
فِي النَّصِيبَيْنِ، أَمَّا هَاهُنَا لَا ضَرَرَ بِالْمُسْتَحِقِّ فَافْتَرَقَا، وَصُوَرُ الْمَسْأَلَةِ: إذَا أَخَذَ أَحَدُهُمَا الثُّلُثَ الْمُقَدَّمَ مِنْ الدَّارِ وَالْآخَرُ الثُّلُثَيْنِ مِنْ الْمُؤَخَّرِ وَقِيمَتُهُمَا سَوَاءٌ ثُمَّ اسْتَحَقَّ نِصْفَ الْمُقَدَّمِ، فَعِنْدَهُمَا إنْ شَاءَ نَقَضَ الْقِسْمَةَ دَفْعًا لِعَيْبِ التَّشْقِيصِ، وَإِنْ شَاءَ رَجَعَ عَلَى صَاحِبِهِ بِرُبُعِ مَا فِي يَدِهِ مِنْ الْمُؤَخَّرِ، لِأَنَّهُ لَوْ اسْتَحَقَّ كُلَّ الْمُقَدَّمِ رَجَعَ بِنِصْفِ مَا فِي يَدِهِ، فَإِذَا اسْتَحَقَّ النِّصْفَ رَجَعَ بِنِصْفِ النِّصْفِ وَهُوَ الرُّبُعُ اعْتِبَارًا لِلْجُزْءِ بِالْكُلِّ، وَلَوْ بَاعَ صَاحِبُ الْمُقَدَّمِ نِصْفَهُ ثُمَّ اسْتَحَقَّ النِّصْفَ الْبَاقِي شَائِعًا رَجَعَ بِرُبُعِ مَا فِي يَدِ الْآخَرِ عِنْدَهُمَا لِمَا ذَكَرْنَا وَسَقَطَ خِيَارُهُ بِبَيْعِ الْبَعْضِ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ: مَا فِي يَدِ صَاحِبِهِ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ وَيَضْمَنُ قِيمَةَ نِصْفِ مَا بَاعَ لِصَاحِبِهِ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ تَنْقَلِبُ فَاسِدَةً عِنْدَهُ، وَالْمَقْبُوضُ بِالْعَقْدِ الْفَاسِدِ مَمْلُوكٌ فَنَفَذَ الْبَيْعُ فِيهِ وَهُوَ مَضْمُونٌ بِالْقِيمَةِ فَيَضْمَنُ نِصْفَ نَصِيبِ صَاحِبِهِ.
قَوْلُ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ لِأَنَّ مَوْضِعَ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا إذَا تَرَاضَيَا عَلَى الْقِسْمَةِ حَيْثُ قَالَ: لَا حَاجَةَ إلَى الْقَوْلِ بِوَضْعِ الْمَسْأَلَةِ فِي صُورَةِ التَّرَاضِي، فَإِنَّهَا إذَا كَانَتْ بِقَضَاءِ الْقَاضِي تَبْطُلُ إذَا لَمْ يَرْضَ الْغَائِبُ عَلَى مَا يَجِيءُ فِي شَرْحِ قَوْلِهِ وَلَوْ أَبْرَأَهُ الْغُرَمَاءُ انْتَهَى أَقُولُ: لَيْسَ ذَاكَ بِصَحِيحٍ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ الْقِسْمَةَ بَيْنَ الْوَرَثَةِ إذَا كَانَتْ بِقَضَاءِ الْقَاضِي لَا تَبْطُلُ بِعَدَمِ رِضَا الْغَائِبِ، أَلَا يَرَى إلَى مَا مَرَّ فِي الْكِتَابِ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الْقِسْمَةِ مِنْ قَوْلِهِ وَإِذَا حَضَرَ وَارِثَانِ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ عَلَى الْوَفَاةِ وَعَدَدِ الْوَرَثَةِ وَالدَّارُ فِي أَيْدِيهِمْ وَمَعَهُمْ وَارِثٌ غَائِبٌ قَسَمَهَا الْقَاضِي بِطَلَبِ الْحَاضِرِينَ وَيُنَصِّبُ لِلْغَائِبِ وَكِيلًا بِقَبْضِ نَصِيبِهِ انْتَهَى. وَلَوْ بَطَلَتْ الْقِسْمَةُ بِعَدَمِ رِضَا الْغَائِبِ لَمَا سَاغَ لِلْقَاضِي الْقِسْمَةُ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ بِمُجَرَّدِ طَلَبِ الْحَاضِرِينَ. ثُمَّ إنَّ قَوْلَهُ عَلَى مَا يَجِيءُ فِي شَرْحِ قَوْلِهِ وَلَوْ أَبْرَأَ الْغُرَمَاءُ لَيْسَ بِحَوَالَةٍ رَابِحَةٍ إذْ لَا شَيْءَ فِي شَرْحِ ذَلِكَ مَا يُوهِمُ بُطْلَانَهَا سِوَى قَوْلِ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ بِخِلَافِ مَا إذَا ظَهَرَ وَارِثٌ أَوْ الْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ أَوْ الرُّبُعِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ وَقَالَتْ الْوَرَثَةُ: نَحْنُ نَقْضِي حَقَّهُمَا فَإِنَّ الْقِسْمَةَ تُنْقَضُ إنْ لَمْ يَرْضَ الْوَارِثُ أَوْ الْمُوصَى لَهُ لِأَنَّ حَقَّهُمَا فِي عَيْنُ التَّرِكَةِ فَلَا يُنْقَلُ إلَى مَالٍ آخَرَ إلَّا بِرِضَاهُمَا انْتَهَى لَكِنَّ الْمُرَادَ بِانْتِقَاضِ الْقِسْمَةِ فِي صُورَةِ ظُهُورِ الْوَارِثِ أَوْ الْمُوصَى لَهُ انْتِقَاضُهَا فِي قَدْرِ حَقِّهِمَا مِنْ عَيْنِ التَّرِكَةِ لَا انْتِقَاضَهَا فِي مَجْمُوعِ التَّرِكَةِ بِالْكُلِّيَّةِ بِحَيْثُ يَحْتَاجُ إلَى الِاسْتِئْنَافِ كَمَا هُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ، أَوْ الْمُرَادُ انْتِقَاضُهَا بِالْكُلِّيَّةِ أَيْضًا لَكِنْ فِي صُورَةِ الْقِسْمَةِ بِالتَّرَاضِي دُونَ الْقِسْمَةِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي، إذْ لَا تُنْقَضُ الْقِسْمَةُ بِالْكُلِّيَّةِ فِيمَا إذَا ظَهَرَ وَارِثٌ أَوْ الْمُوصَى لَهُ إذَا كَانَتْ الْقِسْمَةُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي، نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْبَدَائِعِ حَيْثُ قَالَ فِيهِ: مُوجِبُ نَقْضِ الْقِسْمَةِ بَعْدَ وُجُودِهَا أَنْوَاعٌ: مِنْهَا ظُهُورُ دَيْنٍ عَلَى الْمَيِّتِ إذَا طَلَبَ الْغُرَمَاءُ دُيُونَهُمْ وَلَا مَالَ لِلْمَيِّتِ سِوَاهُ وَلَا قَضَاهُ الْوَرَثَةُ مِنْ مَالِ أَنْفُسِهِمْ ثُمَّ قَالَ: وَمِنْهَا ظُهُورُ الْوَصِيَّةِ لِأَنَّ الْمُوصَى لَهُ شَرِيكُ الْوَرَثَةِ، أَلَا يَرَى أَنَّهُ لَوْ هَلَكَ مِنْ التَّرِكَةِ شَيْءٌ قَبْلَ الْقِسْمَةِ لَهَلَكَ مِنْ الْوَرَثَةِ وَالْمُوصَى لَهُ جَمِيعًا وَالْبَاقِي عَلَى الشَّرِكَةِ بَيْنَهُمْ وَلَوْ اقْتَسَمُوا وَثَمَّةَ وَارِثٌ غَائِبٌ تُنْقَضُ فَكَذَا هَذَا. وَقَالَ: وَهَذَا إذَا كَانَتْ الْقِسْمَةُ بِالتَّرَاضِي، فَإِنْ كَانَتْ بِقَضَاءِ الْقَاضِي لَا تُنْقَضُ لِأَنَّ الْمُوصَى لَهُ وَإِنْ كَانَ كَوَاحِدٍ مِنْ الْوَرَثَةِ لَكِنَّ الْقَاضِيَ
قَالَ (وَلَوْ وَقَعَتْ الْقِسْمَةُ ثُمَّ ظَهَرَ فِي التَّرِكَةِ دَيْنٌ مُحِيطٌ رُدَّتْ الْقِسْمَةُ) لِأَنَّهُ يَمْنَعُ وُقُوعَ الْمِلْكِ لِلْوَارِثِ، وَكَذَا إذَا كَانَ غَيْرَ مُحِيطٍ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغُرَمَاءِ بِالتَّرِكَةِ، إلَّا إذَا بَقِيَ مِنْ التَّرِكَةِ مَا يَفِي بِالدَّيْنِ وَرَاءَ مَا قَسَمَ لِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى نَقْضِ الْقِسْمَةِ فِي إيفَاءِ حَقِّهِمْ، وَلَوْ أَبْرَأَهُ الْغُرَمَاءُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ أَوْ أَدَّاهُ الْوَرَثَةُ مِنْ مَالِهِمْ وَالدَّيْنُ مُحِيطٌ أَوْ غَيْرُ مُحِيطٍ جَازَتْ الْقِسْمَةُ لِأَنَّ الْمَانِعَ قَدْ زَالَ. وَلَوْ ادَّعَى أَحَدُ الْمُتَقَاسِمَيْنِ دَيْنًا فِي التَّرِكَةِ صَحَّ دَعْوَاهُ لِأَنَّهُ لَا تَنَاقُضَ، إذْ الدَّيْنُ يَتَعَلَّقُ بِالْمَعْنَى وَالْقِسْمَةُ تُصَادِفُ الصُّورَةَ، وَلَوْ ادَّعَى عَيْنًا بِأَيِّ سَبَبٍ كَانَ لَمْ يُسْمَعْ لِلتَّنَاقُضِ، إذْ الْإِقْدَامُ عَلَى الْقِسْمَةِ اعْتِرَافٌ بِكَوْنِ الْمَقْسُومِ مُشْتَرَكًا.
إذَا قَسَمَ عِنْدَ غَيْبَةِ أَحَدِ الْوَرَثَةِ لَا تُنْقَضُ قِسْمَتُهُ، لِأَنَّ الْقِسْمَةَ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ مَحَلُّ الِاجْتِهَادِ، وَقَضَاءُ الْقَاضِي إذَا صَادَفَ مَحَلَّ الِاجْتِهَادِ يَنْفُذُ وَلَا يُنْقَضُ. ثُمَّ قَالَ: وَمِنْهَا ظُهُورُ الْوَارِثِ، حَتَّى لَوْ اقْتَسَمُوا ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّ ثَمَّةَ وَارِثًا آخَرَ نُقِضَتْ قِسْمَتُهُمْ، وَلَوْ كَانَتْ الْقِسْمَةُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي لَا تُنْقَضُ لِمَا ذَكَرْنَا، إلَى هُنَا لَفْظُهُ، ثُمَّ إنَّ ذَلِكَ الْبَعْضَ أَوْرَدَ أَيْضًا عَلَى قَوْلِ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ لِأَنَّهُ اعْتَبَرَ الْقِيمَةَ فِيهَا فَلَا بُدَّ مِنْ التَّرَاضِي حَيْثُ قَالَ: فِيهِ بَحْثٌ، فَإِنَّ الْقِيمَةَ مُعْتَبَرَةٌ فِيمَا إذَا كَانَتْ الْقِسْمَةُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي أَيْضًا بَلْ اعْتِبَارُهَا فِيهِ آكَدُ، وَلِهَذَا لَوْ كَانَ بِالْغَبْنِ الْفَاحِشِ فِي أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ تُفْسَخُ عَلَى مَا مَرَّ فِي الدَّرْسِ السَّابِقِ انْتَهَى. أَقُولُ: هَذَا أَيْضًا لَيْسَ بِصَحِيحٍ، لِأَنَّ الْقِسْمَةَ بِالْقِيمَةِ لَا تَصِحُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَصْلًا إلَّا عَنْ تَرَاضٍ، وَهَذَا مَعَ كَوْنِهِ مِمَّا نَصَّ عَلَيْهِ شَيْخُ الْإِسْلَامِ عَلَاءُ الدِّينِ الْإِسْبِيجَابِيُّ فِي شَرْحِ الْكَافِي لِلْحَاكِمِ الشَّهِيدِ بِصَدَدِ بَيَانِ وَضْعِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ ظَاهِرٌ مِنْ أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَسَائِلِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي الْكِتَابِ، فَاعْتِبَارُ الْقِيمَةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِ كَمَا يَقْتَضِيه تَصْوِيرُهَا الْمَذْكُورُ فِي عَامَّةِ الْكُتُبِ حَتَّى فِي كُتُبِ مُحَمَّدٍ رحمه الله يَدُلُّ عَلَى أَنَّ وَضْعَهَا فِيمَا إذَا تَرَاضَيَا عَلَى الْقِسْمَةِ لَا فِيمَا إذَا كَانَتْ بِقَضَاءِ الْقَاضِي؛ فَقَوْلُهُ فَإِنَّ الْقِيمَةَ مُعْتَبَرَةٌ فِيمَا إذَا كَانَتْ الْقِسْمَةُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي أَيْضًا إنْ أَرَادَ أَنَّهَا مُعْتَبَرَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي صُورَةِ الْقَضَاءِ أَيْضًا فَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّهَا مُعْتَبَرَةٌ فِي صُورَةِ الْقَضَاءِ أَيْضًا عِنْدَ غَيْرِ أَبِي حَنِيفَةَ فَلَا يُجْدِي شَيْئًا، فَإِنَّ عَدَمَ اعْتِبَارِهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ كَافٍ فِي تَمَامِ مَا قَالَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةُ. وَقَوْلُهُ بَلْ اعْتِبَارُهَا فِيهَا آكَدُ فِي عَدَمِ الْإِصَابَةِ، لِأَنَّ تَحَقُّقَ الْغَبْنِ الْفَاحِشِ لَا يَنْحَصِرُ فِي أَنْ يَكُونَ قِيمَةُ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَةِ الْآخَرِ، بَلْ قَدْ يَتَحَقَّقُ الْغَبْنُ بِكَوْنِ عَيْنِ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ أَكْثَرَ مِنْ عَيْنِ الْآخَرِ مِنْ جِهَةِ الْوَزْنِ أَوْ الْكَيْلِ أَوْ الذَّرْعِ أَوْ الْعَدَدِ مِمَّا يَلِيقُ بِجِنْسِ الْمَقْسُومِ؛ فَأَبُو حَنِيفَةَ يَعْتَبِرُ فِي غَبْنِ الْقِسْمَةِ بِالْقَضَاءِ التَّفَاوُتَ فِي الْعَيْنِ بِإِحْدَى الْجِهَاتِ الْمَذْكُورَةِ دُونَ التَّفَاوُتِ فِي الْقِيمَةِ، وَمَا مَرَّ فِي الْفَصْلِ السَّابِقِ مِنْ مَسْأَلَةِ فَسْخِ الْقِيمَةِ بِالْغَبْنِ الْفَاحِشِ لَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ الْغَبْنِ مِنْ جِهَةِ الْقِيمَةِ أَلْبَتَّةَ، بَلْ قَدْ ذُكِرَ هُنَاكَ فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ لِلْغَبْنِ مِثَالٌ هُوَ صَرِيحٌ فِي التَّفَاوُتِ فِي الْعَيْنِ بِأَنْ يُقَالَ وَإِنْ اقْتَسَمَا مِائَةَ شَاةٍ فَأَصَابَ أَحَدَهُمَا خَمْسٌ وَخَمْسُونَ شَاةً وَأَصَابَ الْآخَرَ خَمْسٌ وَأَرْبَعُونَ شَاةً فَادَّعَى صَاحِبُ الْأَكْثَرِ الْغَبْنَ إلَى آخِرِ الْمَسْأَلَةِ (قَوْلُهُ وَلَوْ ادَّعَى أَحَدُ الْمُتَقَاسِمَيْنِ دَيْنًا فِي التَّرِكَةِ صَحَّ دَعْوَاهُ، لِأَنَّهُ لَا تَنَاقُضَ، إذْ الدَّيْنُ يَتَعَلَّقُ بِالْمَعْنَى وَالْقِسْمَةُ تُصَادِفُ الصُّورَةَ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إنْ لَمْ تَكُنْ دَعْوَاهُ بَاطِلَةً لِعَدَمِ التَّنَاقُضِ فَلْتَكُنْ بَاطِلَةً بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا إذَا صَحَّتْ كَانَ
فَصْلٌ فِي الْمُهَايَأَةِ
الْمُهَايَأَةُ جَائِزَةٌ اسْتِحْسَانًا لِلْحَاجَةِ إلَيْهِ، إذْ قَدْ يَتَعَذَّرُ الِاجْتِمَاعُ عَلَى الِانْتِفَاعِ فَأَشْبَهَ الْقِسْمَةَ. وَلِهَذَا يَجْرِي فِيهِ
لَهُ أَنْ يَنْقُضَ الْقِسْمَةَ، وَذَلِكَ سَعَى فِي نَقْضِ مَا تَمَّ مِنْ جِهَتِهِ، وَالْجَوَابُ أَنَّهُ إذَا ثَبَتَ الدَّيْنُ بِالْبَيِّنَةِ لَمْ تَكُنْ الْقِسْمَةُ تَامَّةً فَلَا يَلْزَمُ ذَلِكَ انْتَهَى أَقُولُ: فِي الْجَوَابِ بَحْثٌ، لِأَنَّهُ إذَا ثَبَتَ الدَّيْنُ بِالْبَيِّنَةِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ الْقِسْمَةُ تَامَّةً مِنْ حَيْثُ أَصْلِ الِاسْتِحْقَاقِ فَقَدْ كَانَتْ تَامَّةً مِنْ جِهَتِهِ حَيْثُ رَضِيَ بِهَا أَوَّلًا فَلَزِمَ السَّعْيُ فِي نَقْضِ مَا تَمَّ مِنْ جِهَتِهِ وَمَدَارُ السُّؤَالِ عَلَيْهِ، فَإِنَّ السَّعْيَ فِي نَقْضِ مَا تَمَّ مِنْ جِهَتِهِ غَيْرُ مَقْبُولٍ عَلَى قَاعِدَةِ الشَّرْعِ كَمَا عُرِفَ فِي نَظَائِرِهِ. وَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ بِوَجْهٍ آخَرَ حَيْثُ قَالَ: أَنْتَ خَبِيرٌ بِأَنَّ اسْتِمَاعَ الْبَيِّنَةِ بَعْدَ تَبَيُّنِ صِحَّةِ الدَّعْوَى لَا عَلَى الْعَكْسِ، وَهَذِهِ الدَّعْوَى غَيْرُ صَحِيحَةٍ لِاسْتِلْزَامِهَا السَّعْيَ فِي نَقْضِ مَا تَمَّ مِنْ جِهَتِهِ فَكَيْفَ تُسْمَعُ الْبَيِّنَةُ. وَالْأَوْلَى أَنْ يُجَابَ بِمَنْعِ اسْتِلْزَامِهَا ذَلِكَ الْجَوَازَ أَنْ يَظْهَرَ لَهُ مَالٌ آخَرُ أَوْ يُؤَدِّيَهُ سَائِرُ الْوَرَثَةِ مِنْ مَالِهِمْ فَلْيُتَأَمَّلْ انْتَهَى كَلَامُهُ أَقُولُ: وَأَنْتَ خَبِيرٌ بِأَنَّ كَوْنَ اسْتِمَاعِ الْبَيِّنَةِ بَعْدَ تَبَيُّنِ صِحَّةِ الدَّعْوَى لَا عَلَى الْعَكْسِ غَيْرُ مُفِيدٍ هَاهُنَا، فَإِنَّ الْمُجِيبَ لَا يَقُولُ: إنَّ هَذِهِ الدَّعْوَى غَيْرُ صَحِيحَةٍ فِي ابْتِدَاءِ الْأَمْرِ ثُمَّ تَبَيَّنَ صِحَّتَهَا بَعْدَ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ بَلْ يَقُولُ: إنَّهَا صَحِيحَةٌ فِي الِابْتِدَاءِ بِنَاءً عَلَى عَدَمِ تَقَرُّرِ تَمَامِ الْقِسْمَةِ، بَلْ احْتِمَالُ ثُبُوتِ الدَّيْنِ بِالْبَيِّنَةِ، فَمَآلُ جَوَابِه مَنْعُ اسْتِلْزَامِهَا ذَلِكَ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ فَلَا يَلْزَمُ ذَلِكَ، فَالْقَاطِعُ لِعِرْقِ ذَلِكَ الْجَوَابِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ لُزُومَ السَّعْيِ فِي نَقْضِ مَا تَمَّ مِنْ جِهَتِهِ أَمْرٌ مُقَرَّرٌ لَا مَرَدَّ لَهُ بِثُبُوتِ الدَّيْنِ بِالْبَيِّنَةِ، وَإِنَّمَا الَّذِي لَا يَلْزَمُ تَمَامُ الْقِسْمَةِ مِنْ حَيْثُ أَصْلِ الِاسْتِحْقَاقِ، وَذَلِكَ لَا يَدْفَعُ السُّؤَالَ الْمَزْبُورَ. ثُمَّ إنَّ قَوْلَ ذَلِكَ الْبَعْضِ: وَالْأَوْلَى أَنْ يُجَابَ بِمَنْعِ اسْتِلْزَامِهَا ذَلِكَ لِجَوَازِ أَنْ يَظْهَرَ لَهُ مَالٌ آخَرُ أَوْ يُؤَدِّيَهُ سَائِرُ الْوَرَثَةِ مِنْ مَالِهِمْ، فَمِمَّا لَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَفَوَّهَ بِهِ الْعَاقِلُ فَضْلًا عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ الْقَائِلِ، لِأَنَّ الْكَلَامَ فِيمَا إذَا لَمْ يَظْهَرْ لَهُ مَالٌ آخَرُ وَلَمْ يُؤَدِّهِ سَائِرُ الْوَرَثَةِ إذْ الْحُكْمُ فِيمَا إذَا بَقِيَ مِنْ التَّرِكَةِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ مَا يَفِي بِالدَّيْنِ أَوْ أَدَّاهُ الْوَرَثَةُ مِنْ مَالِهِمْ قَدْ مَرَّ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ مُفَصَّلًا،
(فَصْلٌ فِي الْمُهَايَأَةِ)
لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ أَحْكَامِ قِسْمَةِ الْأَعْيَانِ شَرَعَ فِي بَيَانِ أَحْكَامِ قِسْمَةِ الْأَعْرَاضِ الَّتِي هِيَ الْمَنَافِعُ، وَأَخَّرَهَا عَنْ قِسْمَةِ الْأَعْيَانِ لِكَوْنِ الْأَعْيَانِ أَصْلًا وَالْمَنَافِعِ فَرْعًا عَلَيْهَا.
ثُمَّ إنَّ الْمُهَايَأَةَ فِي اللُّغَةِ: مُفَاعَلَةٌ مُشْتَقَّةٌ مِنْ الْهَيْئَةِ وَهِيَ الْحَالَةُ الظَّاهِرَةُ لِلْمُتَهَيِّئِ لِلشَّيْءِ، وَإِبْدَالُ الْهَمْزَةِ أَلِفًا لُغَةٌ فِيهَا، وَالتَّهَايُؤُ تَفَاعُلٌ مِنْهَا وَهُوَ أَنْ يَتَوَاضَعُوا عَلَى أَمْرٍ فَيَتَرَاضَوْا بِهِ، وَحَقِيقَتُهُ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمْ يَرْضَى بِحَالَةٍ وَاحِدَةٍ وَيَخْتَارُهَا. يُقَالُ هَايَأَ فُلَانٌ فُلَانًا وَتَهَايَأَ الْقَوْمُ. وَفِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ: هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ قِسْمَةِ الْمَنَافِعِ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ (قَوْلُهُ الْمُهَايَأَةُ جَائِزَةٌ اسْتِحْسَانًا لِلْحَاجَةِ إلَيْهِ) قَالَ الشُّرَّاحُ: وَالْقِيَاسُ يَأْبَى جَوَازَهَا، لِأَنَّهَا مُبَادَلَةُ الْمَنْفَعَةِ بِجِنْسِهَا، إذْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ
جَبْرُ الْقَاضِي كَمَا يَجْرِي فِي الْقِسْمَةِ، إلَّا أَنَّ الْقِسْمَةَ أَقْوَى مِنْهُ فِي اسْتِكْمَالِ الْمَنْفَعَةِ لِأَنَّهُ جَمْعُ الْمَنَافِعِ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ، وَالتَّهَايُؤُ جَمْعٌ عَلَى التَّعَاقُبِ، وَلِهَذَا لَوْ طَلَبَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ الْقِسْمَةَ وَالْآخَرُ الْمُهَايَأَةَ يَقْسِمُ الْقَاضِي لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي التَّكْمِيلِ. وَلَوْ وَقَعَتْ فِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ ثُمَّ طَلَبَ أَحَدُهُمَا الْقِسْمَةَ يَقْسِمُ وَتَبْطُلُ الْمُهَايَأَةُ لِأَنَّهُ أَبْلَغُ، وَلَا يَبْطُلُ التَّهَايُؤُ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا وَلَا بِمَوْتِهِمَا لِأَنَّهُ لَوْ انْتَقَضَ لَاسْتَأْنَفَهُ الْحَاكِمُ فَلَا فَائِدَةَ فِي النَّقْضِ ثُمَّ الِاسْتِئْنَافِ (وَلَوْ تَهَايَأَ فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ عَلَى أَنْ يَسْكُنَ هَذَا طَائِفَةٌ وَهَذَا طَائِفَةٌ أَوْ هَذَا عُلُوَّهَا وَهَذَا سُفْلَهَا جَازَ) لِأَنَّ الْقِسْمَةَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ جَائِزَةٌ فَكَذَا الْمُهَايَأَةُ، وَالتَّهَايُؤُ فِي هَذَا الْوَجْهِ إفْرَازٌ لِجَمِيعِ الْأَنْصِبَاءِ لَا مُبَادَلَةٌ وَلِهَذِهِ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّأْقِيتُ (وَلِكُلِّ وَاحِدٍ أَنْ يَسْتَغِلَّ مَا أَصَابَهُ
الشَّرِيكَيْنِ يَنْتَفِعُ فِي نَوْبَتِهِ بِمِلْكِ شَرِيكِهِ عِوَضًا عَنْ انْتِفَاعِ شَرِيكِهِ بِمِلْكِهِ فِي نَوْبَتِهِ اهـ أَقُولُ: فِيهِ شَيْءٌ، وَهُوَ أَنَّ مَا ذَكَرُوا فِي وَجْهِ إبَاءِ الْقِيَاسِ جَوَازَهَا إنَّمَا يَتِمُّ فِي صُورَةِ التَّهَايُؤِ مِنْ حَيْثُ الزَّمَانِ بِأَنْ يَنْتَفِعَ أَحَدُهُمَا بِعَيْنٍ وَاحِدٍ مُدَّةً وَيَنْتَفِعَ الْآخَرُ بِهِ مُدَّةً أُخْرَى، لَا فِي صُورَةِ التَّهَايُؤِ مِنْ حَيْثُ الْمَكَانِ كَمَا إذَا تَهَايَأَ فِي دَارٍ عَلَى أَنْ يَسْكُنَ أَحَدُهُمَا نَاحِيَةً وَالْآخَرُ نَاحِيَةً أُخْرَى مِنْهَا، فَإِنَّ التَّهَايُؤَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ إفْرَازٌ لِجَمِيعِ الْأَنْصِبَاءِ لَا مُبَادَلَةٌ، وَلِهَذَا لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّأْقِيتُ كَمَا سَيَجِيءُ فِي الْكِتَابِ عَنْ قَرِيبٍ.
وَالظَّاهِرُ مِنْ تَقْرِيرَاتِهِمْ كَوْنُ جَوَازِ التَّهَايُؤِ عَلَى الْإِطْلَاقِ أَمْرًا اسْتِحْسَانِيًّا مُخَالِفًا لِلْقِيَاسِ، وَمَا ذَكَرُوا فِي بَيَانِهِ لَا يَفِي بِذَلِكَ كَمَا تَرَى (قَوْلُهُ إلَّا أَنَّ الْقِسْمَةَ أَقْوَى مِنْهُ فِي اسْتِكْمَالِ الْمَنْفَعَةِ، لِأَنَّهُ جَمْعُ الْمَنَافِعِ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ وَالتَّهَايُؤُ جَمْعٌ عَلَى التَّعَاقُبِ) أَقُولُ: فِي كُلِّيَّةِ هَذَا التَّعْلِيلِ نَظَرٌ، إذْ قَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّ التَّهَايُؤَ قَدْ يَكُونُ مِنْ حَيْثُ الزَّمَانِ وَقَدْ يَكُونُ مِنْ حَيْثُ الْمَكَانِ، وَسَيَأْتِي فِي ذَلِكَ الْكِتَابِ أَيْضًا، وَالْجَمْعُ عَلَى التَّعَاقُبِ إنَّمَا هُوَ فِي التَّهَايُؤِ مِنْ حَيْثُ الزَّمَانِ، وَأَمَّا فِي التَّهَايُؤِ مِنْ حَيْثُ الْمَكَانِ فَيَتَحَقَّقُ جَمْعُ الْمَنَافِعِ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ كَمَا سَنُحَقِّقُهُ. نَعَمْ إنَّ الْقِسْمَةَ فِي الْأَعْيَانِ أَقْوَى بِلَا رَيْبٍ مِنْ مُطْلَقِ التَّهَايُؤِ الَّذِي هُوَ قِسْمَةُ الْمَنَافِعِ لِحُصُولِ التَّمَلُّكِ فِي الْأُولَى مِنْ حَيْثُ الذَّاتِ وَالْمَنْفَعَةِ، وَفِي الثَّانِي مِنْ حَيْثُ الْمَنْفَعَةِ فَحَسْبَ (قَوْلُهُ وَالتَّهَايُؤُ فِي هَذَا الْوَجْهِ إفْرَازٌ لِجَمِيعِ الْأَنْصِبَاءِ لَا مُبَادَلَةٌ)
بِالْمُهَايَأَةِ شُرِطَ ذَلِكَ فِي الْعَقْدِ أَوْ لَمْ يُشْتَرَطْ) لِحُدُوثِ الْمَنَافِعِ عَلَى مِلْكِهِ (وَلَوْ تَهَايَئَا فِي عَبْدٍ وَاحِدٍ عَلَى أَنْ يَخْدُمَ هَذَا يَوْمًا وَهَذَا يَوْمًا جَازَ)، وَكَذَا هَذَا فِي الْبَيْتِ الصَّغِيرِ (لِأَنَّ الْمُهَايَأَةَ قَدْ تَكُونُ فِي الزَّمَانِ،
وَلِهَذَا لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّأْقِيتُ، هَذَا إيضَاحٌ أَنَّهُ إفْرَازٌ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُبَادَلَةً كَانَ تَمْلِيكُ الْمَنَافِعِ بِالْعِوَضِ فَيَلْحَقُ بِالْإِجَارَةِ حِينَئِذٍ فَيُشْتَرَطُ التَّأْقِيتُ، كَذَا فِي الشَّرْحِ. أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إنْ أُرِيدَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مُبَادَلَةً مِنْ كُلِّ وَجْهٍ كَانَ مُلْحَقًا بِالْإِجَارَةِ فَيُشْتَرَطُ فِيهِ التَّأْقِيتُ كَمَا يُشْتَرَطُ فِي الْإِجَارَةِ فَهُوَ مُسَلَّمٌ، لَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ كَوْنِهِ مُبَادَلَةً مِنْ كُلِّ وَجْهٍ كَوْنُهُ إفْرَازًا مِنْ وَجْهٍ حَتَّى يَثْبُتَ كَوْنُهُ إفْرَازًا لِجَمِيعِ الْأَنْصِبَاءِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ إفْرَازًا مِنْ وَجْهٍ وَمُبَادَلَةً مِنْ وَجْهٍ بِأَنْ يَكُونَ إفْرَازًا لِنَصِيبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الْمَنْفَعَةِ فِي النَّاحِيَةِ الَّتِي يَسْكُنُ هُوَ فِيهَا وَمُبَادَلَةً لِنَصِيبِهِ مِنْهَا فِي النَّاحِيَةِ الْأُخْرَى بِنَصِيبِ الْآخَرِ فِي النَّاحِيَةِ الَّتِي يَسْكُنُ هُوَ فِيهَا، كَمَا قَالُوا فِي قِسْمَةِ الْأَعْيَانِ عَلَى مَا مَرَّ فِي صَدْرِ كِتَابِ الْقِسْمَةِ أَنَّهَا لَا تُعَرَّى عَنْ الْمُبَادَلَةِ وَالْإِفْرَازِ لِأَنَّ مَا يَجْتَمِعُ لِأَحَدِهِمَا، بَعْضُهُ كَانَ لَهُ وَبَعْضُهُ كَانَ لِصَاحِبِهِ فَهُوَ يَأْخُذُهُ عِوَضًا عَمَّا بَقِيَ مِنْ حَقِّهِ فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ فَكَانَ مُبَادَلَةً وَإِفْرَازًا، وَإِنْ أُرِيدَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مُبَادَلَةً وَلَوْ بِوَجْهٍ كَانَ مُلْحَقًا بِالْإِجَارَةِ فَيُشْتَرَطُ فِيهِ التَّأْقِيتُ كَمَا يُشْتَرَطُ فِي الْإِجَارَةِ فَهُوَ مَمْنُوعٌ، لِأَنَّ الْإِجَارَةَ مُبَادَلَةُ الْمَنْفَعَةِ بِالْعِوَضِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ اشْتِرَاطِ التَّأْقِيتِ فِيهَا اشْتِرَاطُهُ فِيمَا هُوَ إفْرَازٌ مِنْ وَجْهٍ وَمُبَادَلَةٌ مِنْ وَجْهٍ.
قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي تَعْلِيلِ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ وَالتَّهَايُؤُ فِي هَذَا الْوَجْهِ إفْرَازٌ لِجَمِيعِ الْأَنْصِبَاءِ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَجْمَعُ جَمِيعَ مَنَافِعِ أَحَدِهِمَا فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ شَائِعَةً فِي الْبَيْتَيْنِ، وَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الْآخَرِ انْتَهَى. وَقَدْ سَبَقَهُ إلَى هَذَا التَّوْجِيهِ تَاجُ الشَّرِيعَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ، أَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ جَمِيعَ الْمَنَافِعِ الشَّائِعَةِ فِي الْبَيْتَيْنِ فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ مُحَالٌ لِعَدَمِ جَوَازِ انْتِقَالِ الْعِوَضِ مِنْ مَحَلٍّ إلَى مَحَلٍّ آخَرَ كَمَا تَقَرَّرَ فِي مَحَلِّهِ فَكَيْفَ يَتَمَكَّنُ الْقَاضِي مِنْ جَمْعِهَا. فَإِنْ قُلْت: لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ الْقَاضِيَ يَجْمَعُهَا حَقِيقَةً حَتَّى يَتَوَجَّهَ مَا ذَكَرَ، بَلْ الْمُرَادُ أَنَّ الْقَاضِيَ يَعْتَبِرُ جَمْعَهَا لِئَلَّا يَكُونَ ذَلِكَ التَّهَايُؤُ مُبَادَلَةً فَيُشْتَرَطُ فِيهِ التَّأْقِيتُ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ وَلِهَذَا لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّأْقِيتُ. قُلْت: اشْتِرَاطُ التَّأْقِيتِ فِيهِ لَيْسَ بِأَصْعَبَ مِنْ اعْتِبَارِ الْمُحَالِ مُتَحَقِّقًا حَتَّى يَرْتَكِبَ الثَّانِيَ لِأَجْلِ دَفْعِ الْأَوَّلِ، وَأَيْضًا اعْتِبَارُ الْمُحَالِ مُتَحَقِّقًا لَيْسَ بِأَوْلَى وَأَسْهَلَ مِنْ عَدَمِ اعْتِبَارِ شَرْطِ الْإِجَارَةِ هَاهُنَا لِلضِّرْوَةِ حَتَّى يَرْتَكِبَ الْأَوَّلَ دُونَ الثَّانِي وَتَرْكُ كَثِيرٍ مِمَّا يُعْتَبَرُ فِي الشَّرْعِ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ شَائِعٌ فِي قَوَاعِدِ الشَّرْعِ: أَلَا يَرَى إلَى مَا ذَكَرُوا فِيمَا مَرَّ آنِفًا مِنْ أَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَى جَوَازَ التَّهَايُؤِ لِأَنَّهُ مُبَادَلَةُ الْمَنْفَعَةِ بِجِنْسِهَا وَهِيَ لَا تَجُوزُ عِنْدَنَا عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي كِتَابِ الْإِجَارَاتِ لَكِنَّا تَرَكْنَا الْقِيَاسَ فِيهِ لِضَرُورَةِ حَاجَةِ النَّاسِ إلَيْهِ، عَلَى أَنَّ لُزُومَ اشْتِرَاطِ التَّأْقِيتِ فِيهِ عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ اعْتِبَارِ جَمْعِ الْأَنْصِبَاءِ فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ مَمْنُوعٌ، لِأَنَّهُ إنَّمَا يَلْزَمُ ذَلِكَ أَنْ لَوْ كَانَ التَّهَايُؤُ فِي الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ مُبَادَلَةً مِنْ كُلِّ وَجْهٍ.
وَأَمَّا إذَا كَانَ إفْرَازًا مِنْ وَجْهٍ وَمُبَادَلَةً مِنْ وَجْهٍ فَلَا يَلْزَمُ ذَلِكَ لِأَنَّ اشْتِرَاطَ التَّأْقِيتِ فِيمَا هُوَ مُبَادَلَةٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ كَمَا قَرَّرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ (قَوْلُهُ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ أَنْ يَسْتَغِلَّ مَا أَصَابَهُ بِالْمُهَايَأَةِ شُرِطَ ذَلِكَ فِي الْعَقْدِ أَوْ لَمْ يُشْتَرَطْ لِحُدُوثِ الْمَنَافِعِ عَلَى مِلْكِهِ) قَالَ تَاجُ الشَّرِيعَةُ: فَإِنْ قُلْت: الْمَنَافِعُ فِي الْعَارِيَّةِ تَحْدُثُ عَلَى مِلْكِ الْمُسْتَعِيرِ وَمَعَ هَذَا لَا يَمْلِكُ الْإِجَازَةَ قُلْت لِجَوَازِ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ الْمُعِيرُ قَبْلَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ فَلَا فَائِدَةَ انْتَهَى. أَقُولُ: جَوَازُ الِاسْتِرْدَادِ قَبْلَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ هَاهُنَا أَيْضًا مُتَحَقِّقٌ، إذْ قَدْ مَرَّ فِي الْكِتَابِ أَنَّهُ لَوْ وَقَعَتْ الْمُهَايَأَةُ فِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ ثُمَّ طَلَبَ أَحَدُهُمَا الْقِسْمَةَ يُقْسَمُ وَتَبْطُلُ الْمُهَايَأَةُ لِكَوْنِ الْقِسْمَةِ أَبْلَغَ، فَمَعَ احْتِمَالِ أَنْ يَطْلُبَ الْآخَرُ الْقِسْمَةَ وَتَبْطُلُ الْمُهَايَأَةُ قَبْلَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ كَيْفَ يَمْلِكُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَسْتَغِلَّ مَا أَصَابَهُ بِالْمُهَايَأَةِ بِنَاءً عَلَى حُدُوثِ الْمَنَافِعِ عَلَى مِلْكِهِ، وَلَا فَائِدَةَ فِي الِاسْتِغْلَالِ عَلَى تَقْدِيرِ طَلَبِ الْآخَرِ الْقِسْمَةَ قَبْلَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ كَمَا فِي صُورَةِ الِاسْتِعَارَةِ (قَوْلُهُ وَلَوْ تَهَايَأَ فِي عَبْدٍ وَاحِدٍ عَلَى أَنْ يَخْدُمَ هَذَا يَوْمًا وَهَذَا يَوْمًا جَازَ وَكَذَا هَذَا فِي الْبَيْتِ الصَّغِيرِ لِأَنَّ الْمُهَايَأَةَ قَدْ تَكُونُ فِي الزَّمَانِ
وَقَدْ تَكُونُ مِنْ حَيْثُ الْمَكَانِ) وَالْأَوَّلُ مُتَعَيِّنٌ هَاهُنَا (وَلَوْ اخْتَلَفَا فِي التَّهَايُؤِ مِنْ حَيْثُ الزَّمَانِ وَالْمَكَانُ فِي مَحَلٍّ يَحْتَمِلُهُمَا يَأْمُرُهُمَا الْقَاضِي بِأَنْ يَتَّفِقَا) لِأَنَّ التَّهَايُؤَ فِي الْمَكَانِ أَعْدَلُ وَفِي الزَّمَانِ أَكْمَلُ، فَلَمَّا اخْتَلَفَتْ الْجِهَةُ لَا بُدَّ مِنْ الِاتِّفَاقِ (فَإِنْ اخْتَارَاهُ مِنْ حَيْثُ الزَّمَانِ يُقْرَعُ فِي الْبِدَايَةِ) نَفْيًا لِلتُّهَمَةِ (وَلَوْ تَهَايَئَا فِي الْعَبْدَيْنِ عَلَى أَنْ يَخْدُمَ هَذَا هَذَا الْعَبْدُ وَالْآخَرَ الْآخَرُ جَازَ عِنْدَهُمَا) لِأَنَّ الْقِسْمَةَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ جَائِزَةٌ عِنْدَهُمَا جَبْرًا مِنْ الْقَاضِي وَبِالتَّرَاضِي فَكَذَا الْمُهَايَأَةُ. وَقِيلَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَقْسِمُ الْقَاضِي. وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْهُ لِأَنَّهُ لَا يَجْرِي فِيهِ الْجَبْرُ عِنْدَهُ.
وَقَدْ تَكُونُ مِنْ حَيْثُ الْمَكَانِ. وَالْأَوَّلُ مُتَعَيِّنٌ هَاهُنَا) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّ هَذَا إفْرَازٌ أَوْ مُبَادَلَةٌ لِأَنَّهُ عَطَفَهُ عَلَى صُورَةِ الْإِفْرَازِ فَكَانَ مَعْلُومًا انْتَهَى. أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا بِسَدِيدٍ لِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ أَنَّهُ قَدْ عُلِمَ مِنْ عَطْفِهِ عَلَى صُورَةِ الْإِفْرَازِ أَنَّهُ أَيْضًا إفْرَازٌ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَعْطُوفَ فِي حُكْمِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، لِأَنَّ مُجَرَّدَ الْعَطْفِ لَا يَقْتَضِي اشْتِرَاكَ الْمَعْطُوفَيْنِ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ؛ أَلَا يَرَى أَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْمَسَائِلِ الْمُتَبَايِنَةِ فِي الْأَحْكَامِ يُعْطَفُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ، عَلَى أَنَّ التَّهَايُؤَ فِي الْعَبْدِ الْوَاحِدِ وَفِي الْبَيْتِ الصَّغِيرِ تَهَايُؤٌ مِنْ حَيْثُ الزَّمَانِ، وَلَا مَجَالَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ لَأَنْ يَكُونَ إفْرَازًا كَمَا يُفْهَمُ مِنْ أَدِلَّةِ الْمَسَائِلِ الْآتِيَةِ سِيَّمَا مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ التَّهَايُؤِ عَلَى الِاسْتِغْلَالِ فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ وَالتَّهَايُؤِ عَلَى الِاسْتِغْلَالِ فِي الدَّارَيْنِ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ قَدْ عُلِمَ مِنْ عَطْفِهِ عَلَى صُورَةِ الْإِفْرَازِ أَنَّهُ لَيْسَ إفْرَازًا بِنَاءً عَلَى لُزُومِ التَّغَايُرِ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ أَيْضًا، إذْ يَكْفِي فِي الْعَطْفِ الْمُغَايَرَةُ بَيْنَهُمَا بِحَسْبِ الذَّاتِ، وَلَا يَلْزَمُ فِيهِ الْمُغَايَرَةُ بَيْنَهُمَا فِي جَمِيعِ الْأَوْصَافِ وَالْأَحْكَامِ حَتَّى يَتِمَّ مَا ذَكَرُوهُ.
وَبِالْجُمْلَةِ لَا دَلَالَةَ لِلْعَطْفِ هَاهُنَا عَلَى كَوْنِ الْمَذْكُورِ بِطَرِيقِ الْعَطْفِ مِنْ قَبِيلِ الْإِفْرَازِ وَالْمُبَادَلَةِ، فَالتَّشَبُّثُ بِحَدِيثِ الْعَطْفِ هَاهُنَا مِمَّا لَا مَعْنَى لَهُ أَصْلًا كَمَا لَا يَخْفَى ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: فَإِنْ كَانَتْ الْمُهَايَأَةُ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ وَالْمَنْفَعَةُ مُتَفَاوِتَةٌ تَفَاوُتًا يَسِيرًا كَمَا فِي الثِّيَابِ وَالْأَرَاضِيِ تُعْتَبَرُ إفْرَازًا
وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَقْسِمُ الْقَاضِي عِنْدَهُ أَيْضًا، لِأَنَّ الْمَنَافِعَ مِنْ حَيْثُ الْخِدْمَةِ قَلَّمَا تَتَفَاوَتُ، بِخِلَافِ أَعْيَانِ الرَّقِيقِ لِأَنَّهَا تَتَفَاوَتُ تَفَاوُتًا فَاحِشًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ (وَلَوْ تَهَايَئَا فِيهِمَا عَلَى أَنَّ نَفَقَةَ كُلِّ عَبْدٍ عَلَى مَنْ يَأْخُذُهُ جَازَ) اسْتِحْسَانًا لِلْمُسَامَحَةِ فِي إطْعَامِ الْمَمَالِيكِ بِخِلَافِ شَرْطِ الْكِسْوَةِ لَا يُسَامَحُ فِيهَا (وَلَوْ تَهَايَئَا فِي دَارَيْنِ عَلَى أَنْ يَسْكُنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَارًا جَازَ وَيُجْبِرُ الْقَاضِي عَلَيْهِ) وَهَذَا عِنْدَهُمَا ظَاهِرٌ، لِأَنَّ الدَّارَيْنِ عِنْدَهُمَا كَدَارٍ وَاحِدَةٍ.
وَقَدْ قِيلَ لَا يُجْبِرُ عِنْدَهُ اعْتِبَارًا بِالْقِسْمَةِ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّهَايُؤُ فِيهِمَا أَصْلًا بِالْجَبْرِ لِمَا قُلْنَا، وَبِالتَّرَاضِي لِأَنَّهُ بَيْعُ السُّكْنَى بِالسُّكْنَى، بِخِلَافِ قِسْمَةِ رَقَبَتِهِمَا لِأَنَّ بَيْعَ بَعْضُ أَحَدِهِمَا بِبَعْضِ الْآخَرِ جَائِزٌ. وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ التَّفَاوُتَ يَقِلُّ فِي الْمَنَافِعِ فَيَجُوزُ بِالتَّرَاضِي وَيَجْرِي فِيهِ جَبْرُ الْقَاضِي وَيُعْتَبَرُ إفْرَازًا أَمَّا يَكْثُرُ التَّفَاوُتُ فِي أَعْيَانِهِمَا فَاعْتُبِرَ مُبَادَلَةً (وَفِي الدَّابَّتَيْنِ لَا يَجُوزُ التَّهَايُؤُ عَلَى الرُّكُوبِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ) اعْتِبَارًا بِقِسْمَةِ الْأَعْيَانِ.
وَلَهُ أَنَّ الِاسْتِعْمَالَ يَتَفَاوَتُ بِتَفَاوُتِ الرَّاكِبِينَ فَإِنَّهُمْ بَيْنَ حَاذِقٍ وَأَخْرَقَ. وَالتَّهَايُؤُ فِي الرُّكُوبِ فِي دَابَّةٍ وَاحِدَةٍ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ لِمَا قُلْنَا، بِخِلَافِ الْعَبْدِ لِأَنَّهُ يَخْدُمُ بِاخْتِيَارِهِ فَلَا يَتَحَمَّلُ زِيَادَةً عَلَى طَاقَتِهِ وَالدَّابَّةُ تَحْمِلُهَا. وَأَمَّا التَّهَايُؤُ فِي الِاسْتِغْلَالِ يَجُوزُ فِي الدَّارِ الْوَاحِدَةِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
مِنْ وَجْهٍ، مُبَادَلَةً مِنْ وَجْهٍ حَتَّى لَا يَنْفَرِدَ أَحَدُهُمَا بِهَذِهِ الْمُهَايَأَةِ، وَإِذَا طَلَبَهَا أَحَدُهُمَا وَلَمْ يَطْلُبْ الْآخَرُ قِسْمَةَ الْأَصْلِ أُجْبِرَ عَلَيْهَا، وَقِيلَ تُعْتَبَرُ إفْرَازًا مِنْ وَجْهٍ، عَارِيَّةً مِنْ وَجْهٍ، لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مُبَادَلَةً لَمَا جَازَتْ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ لِأَنَّهُ يَكُونُ مُبَادَلَةَ الْمَنْفَعَةِ بِجِنْسِهَا وَأَنَّهُ يُحَرِّمُ رِبَا النَّسَاءِ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ لِأَنَّ الْعَارِيَّةَ لَيْسَ فِيهَا عِوَضٌ وَهَذَا بِعِوَضٍ وَرِبَا النَّسَاءِ ثَابِتٌ عِنْدَ أَحَدِ وَصْفَيْ الْعِلَّةِ بِالنَّصِّ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فِيمَا هُوَ مُبَادَلَةٌ فِي الْأَعْيَانِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَلَا يَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهِ انْتَهَى أَقُولُ: هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مَأْخُوذٌ مِنْ الذَّخِيرَةِ وَالْمَبْسُوطِ، وَقَدْ ذَكَرَ فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ أَيْضًا بِنَوْعِ تَفْصِيلٍ وَلَكِنْ فِيهِ بَحْثٌ، وَهُوَ أَنَّهُ قَدْ مَرَّ فِي كِتَابِ الْإِجَارَاتِ أَنَّ إجَارَةَ الْمَنَافِعِ بِجِنْسِهَا كَإِجَارَةِ السُّكْنَى بِالسُّكْنَى وَاللُّبْسِ بِاللُّبْسِ وَالرُّكُوبِ بِالرُّكُوبِ غَيْرُ صَحِيحَةٍ عِنْدَنَا.
وَقَالُوا فِي تَعْلِيلِ ذَلِكَ: إنَّ الْجِنْسَ بِانْفِرَادِهِ يُحَرِّمُ النَّسَاءَ عِنْدَنَا فَصَارَ كَبَيْعِ الْقُوهِيُّ بِالْقُوهِيِّ نَسِيئَةً. وَقَالَ الْمُصَنِّفُ هُنَاكَ: وَإِلَيْهِ أَشَارَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَلَوْ كَانَ رِبَا النَّسَاءِ عِنْدَ وُجُودِ أَحَدِ وَصْفَيْ الْعِلَّةِ وَهِيَ الْقَدْرُ مَعَ الْجِنْسِ مُخْتَصًّا بِمَوْرِدِ النَّصِّ وَهُوَ الْبَيْعُ غَيْرَ مُتَعَدٍّ إلَى غَيْرِهِ لَمَا تَمَّ. اسْتَدَلَّ أَئِمَّتُنَا فِي الْإِجَارَاتِ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ إجَارَةِ الْمَنَافِعِ بِجِنْسِهَا بِرِبَا النَّسَاءِ. نَعَمْ لَنَا دَلِيلٌ آخَرُ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ ذَلِكَ كَمَا مَرَّ أَيْضًا فِي الْكِتَابِ هُنَاكَ لَكِنَّ الْكَلَامَ فِي الدَّلِيلِ الْأَوَّلِ الَّذِي ارْتَضَاهُ فُحُولُ الْفُقَهَاءِ قَاطِبَةً حَتَّى أَشَارَ إلَيْهِ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ كَلَامِهِ السَّابِقِ: وَإِنْ كَانَتْ فِي الْجِنْسِ الْمُخْتَلِفِ كَالدُّورِ وَالْعَبِيدِ تُعْتَبَرُ مُبَادَلَةً مِنْ كُلِّ وَجْهٍ حَتَّى لَا تَجُوزَ بِدُونِ رِضَاهُمَا، لِأَنَّ الْمُهَايَأَةَ قِسْمَةُ الْمَنَافِعِ وَقِسْمَةُ الْمَنَافِعِ مُعْتَبَرَةٌ بِقِسْمَةِ الْأَعْيَانِ وَقِسْمَةُ الْأَعْيَانِ اُعْتُبِرَتْ مُبَادَلَةً مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فِي الْجِنْسِ الْمُخْتَلِفِ، فَكَذَا قِسْمَةُ الْمَنَافِعِ انْتَهَى، أَقُولُ: وَهَذَا أَيْضًا مَأْخُوذٌ مِنْ الْكُتُبِ الْمَذْكُورَةِ وَلَكِنَّهُ مَحَلُّ بَحْثٍ أَيْضًا.
أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُ قَدْ ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ مِنْ قَبْلِ أَنَّ التَّهَايُؤَ مِنْ حَيْثُ الْمَكَانِ إفْرَازٌ لِجَمِيعِ الْأَنْصِبَاءِ لَا مُبَادَلَةً، وَلِهَذَا لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّأْقِيتُ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ التَّهَايُؤَ فِي الْجِنْسِ الْمُخْتَلِفِ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ بِأَنْ انْتَفَعَ أَحَدُ الْوَرَثَةِ بِأَحَدِ الْأَجْنَاسِ وَالْآخَرُ بِالْآخَرِ كَمَا فِي الدُّورِ وَالْعَبِيدَ فَيَصِيرُ مِنْ قَبِيلِ التَّهَايُؤِ
وَفِي الْعَبْدِ الْوَاحِدِ وَالدَّابَّةِ الْوَاحِدَةِ لَا يَجُوزُ. وَوَجْهُ الْفَرْقِ هُوَ أَنَّ النَّصِيبَيْنِ، يَتَعَاقَبَانِ فِي الِاسْتِيفَاءِ، وَالِاعْتِدَالُ ثَابِتٌ فِي الْحَالِ. وَالظَّاهِرُ بَقَاؤُهُ فِي الْعَقَارِ وَتَغَيُّرُهُ فِي الْحَيَوَانِ لِتَوَالِي أَسْبَابِ التَّغَيُّرِ عَلَيْهِ فَتَفُوتُ الْمُعَادَلَةُ. وَلَوْ زَادَتْ الْغَلَّةُ فِي نَوْبَةِ أَحَدِهِمَا عَلَيْهَا فِي نَوْبَةِ الْآخَرِ يَشْتَرِكَانِ فِي الزِّيَادَةِ لِيَتَحَقَّقَ التَّعْدِيلُ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ التَّهَايُؤُ عَلَى الْمَنَافِعِ فَاسْتَغَلَّ أَحَدُهُمَا فِي نَوْبَتِهِ زِيَادَةً، لِأَنَّ التَّعْدِيلَ فِيمَا وَقَعَ عَلَيْهِ التَّهَايُؤُ حَاصِلٌ وَهُوَ الْمَنَافِعُ فَلَا تَضُرُّهُ زِيَادَةُ الِاسْتِغْلَالِ مِنْ بَعْدُ (وَالتَّهَايُؤُ عَلَى الِاسْتِغْلَالِ فِي الدَّارَيْنِ جَائِزٌ) أَيْضًا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِمَا بَيَّنَّا، وَلَوْ فَضَلَ غَلَّةُ أَحَدِهِمَا لَا يَشْتَرِكَانِ فِيهِ بِخِلَافِ الدَّارِ الْوَاحِدَةِ. وَالْفَرْقُ أَنَّ فِي الدَّارَيْنِ مَعْنَى التَّمْيِيزِ، وَالْإِفْرَازُ رَاجِحٌ لِاتِّحَادِ زَمَانِ الِاسْتِيفَاءِ، وَفِي الدَّارِ الْوَاحِدَةِ يَتَعَاقَبُ الْوُصُولُ فَاعْتُبِرَ قَرْضًا وَجُعِلَ كُلُّ وَاحِدٍ فِي نَوْبَتِهِ كَالْوَكِيلِ عَنْ صَاحِبِهِ فَلِهَذَا يَرُدُّ عَلَيْهِ حِصَّتَهُ مِنْ الْفَضْلِ، وَكَذَا يَجُوزُ فِي الْعَبْدَيْنِ عِنْدَهُمَا اعْتِبَارًا بِالتَّهَايُؤِ فِي الْمَنَافِعِ، وَلَا يَجُوزُ عِنْدَهُ لِأَنَّ التَّفَاوُتَ فِي أَعْيَانِ الرَّقِيقِ أَكْثَرُ مِنْهُ مِنْ حَيْثُ الزَّمَانِ فِي الْعَبْدِ الْوَاحِدِ فَأَوْلَى أَنْ يَمْتَنِعَ الْجَوَازُ،
مِنْ حَيْثُ الْمَكَانِ فَكَيْفَ يَتِمُّ الْقَوْلُ بِأَنَّ الْمُهَايَأَةَ إنْ كَانَتْ فِي الْجِنْسِ الْمُخْتَلِفِ تُعْتَبَرُ مُبَادَلَةً. وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّهُ لَوْ اُعْتُبِرَتْ الْمُهَايَأَةُ فِي الْجِنْسِ الْمُخْتَلِفِ مُبَادَلَةً مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لَكَانَتْ الْمُهَايَأَةُ فِي الدُّورِ كَإِجَارَةِ السُّكْنَى بِالسُّكْنَى وَفِي الْعَبِيدِ كَإِجَارَةِ الْخِدْمَةِ بِالْخِدْمَةِ. وَمِثْلُ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْإِجَارَاتِ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَجْمُوعُ قَوْلِهِ كَالدُّورِ وَالْعَبِيدِ مِثَالًا وَاحِدًا، فَالْمُرَادُ مِثْلُ أَنْ يَتَهَايَأَ عَلَى أَنْ يَسْكُنَ أَحَدُهُمَا الدُّورَ وَيَسْتَخْدِمَ الْآخَرُ الْعَبِيدَ لَكِنَّهُ بَعِيدٌ جِدًّا سِيَّمَا فِي مُقَابَلَةِ قَوْلِهِ مِنْ قَبْلُ كَمَا فِي الثِّيَابِ وَالْأَرَاضِي.
وَأَمَّا ثَالِثًا فَلِأَنَّ قَوْلَهُ وَقِسْمَةُ الْأَعْيَانِ اُعْتُبِرَتْ مُبَادَلَةً مِنْ كُلِّ وَجْهٍ مَمْنُوعٌ، إذْ قَدْ تَقَرَّرَ فِي صَدْرِ كِتَابِ الْقِسْمَةِ أَنَّ قِسْمَةَ الْأَعْيَانِ مُطْلَقًا لَا تُعَرَّى عَنْ مَعْنَى الْإِفْرَازِ، وَمَعْنَى الْمُبَادَلَةِ إلَّا أَنَّ مَعْنَى الْإِفْرَازِ هُوَ الظَّاهِرُ فِي ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ، وَمَعْنَى الْمُبَادَلَةِ هُوَ الظَّاهِرُ فِي غَيْرِ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ، غَيْرَ أَنَّ ذَلِكَ الْغَيْرَ إنْ كَانَ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ أَجْبَرَ الْقَاضِي عَلَى الْقِسْمَةِ عِنْدَ طَلَبِ أَحَدِ الشُّرَكَاءِ، وَإِنْ كَانَ أَجْنَاسًا مُخْتَلِفَةً لَا يُجْبِرُ الْقَاضِي عَلَى قِسْمَتِهَا لِتَعَذُّرِ الْمُعَادَلَةِ بِاعْتِبَارِ فُحْشِ التَّفَاوُتِ فِي الْمَقَاصِدِ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ بِمَا ذَكَرَ هَاهُنَا أَنَّ قِسْمَةَ الْأَعْيَانِ فِي الْجِنْسِ الْمُخْتَلِفِ اُعْتُبِرَتْ مُبَادَلَةً مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فِي الْحَقِيقَةِ فَلَا يُنَافِي مَا تَقَرَّرَ فِي صَدْرِ الْكِتَابِ، لَكِنَّ فِيهِ مَا فِيهِ فَتَأَمَّلْ (قَوْلُهُ وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ النَّصِيبَيْنِ يَتَعَاقَبَانِ فِي الِاسْتِيفَاءِ وَالِاعْتِدَالُ ثَابِتٌ فِي الْحَالِ، وَالظَّاهِرُ بَقَاؤُهُ فِي الْعَقَارِ وَتَغَيُّرُهُ فِي الْحَيَوَانِ لِتَوَالِي أَسْبَابِ التَّغَيُّرِ عَلَيْهِ فَتَفُوتُ الْمُعَادَلَةُ) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ: لِأَنَّ الِاسْتِغْلَالَ إنَّمَا يَكُونُ بِالِاسْتِعْمَالِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ عَمَلَهُ فِي الزَّمَانِ الثَّانِي لَا يَكُونُ كَمَا كَانَ فِي الْأَوَّلِ، لِأَنَّ الْقُوَى الْجُسْمَانِيَّةَ مُتَنَاهِيَةٌ انْتَهَى.
أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: مُقْتَضَى هَذَا الْوَجْهِ أَنْ لَا يَجُوزَ التَّهَايُؤُ فِي الْعَبْدِ الْوَاحِدِ عَلَى نَفْسِ الْمَنَافِعِ كَمَا لَا يَجُوزُ عَلَى الِاسْتِغْلَالِ، إذْ الظَّاهِرُ أَنَّ مَنَافِعَهُ الَّتِي هِيَ أَعْمَالُهُ لَا تَكُونُ فِي الزَّمَانِ الثَّانِي كَمَا كَانَتْ فِي الْأَوَّلِ لِتَنَاهِي الْقُوَى الْجُسْمَانِيَّةِ فَتَفُوتُ الْمُعَادَلَةُ، مَعَ أَنَّ التَّهَايُؤَ فِي الْعَبْدِ الْوَاحِدِ عَلَى مَنَافِعِهِ جَائِزٌ بِالِاتِّفَاقِ كَالتَّهَايُؤِ عَلَى مَنْفَعَةِ الْبَيْتُ الصَّغِيرِ كَمَا مَرَّ مِنْ قَبْلُ فِي الْكِتَابِ. ثُمَّ أَقُولُ: يُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ التَّهَايُؤَ فِي الْعَبْدِ عَلَى الْخِدْمَةِ إنَّمَا جُوِّزَ ضَرُورَةً أَنَّهَا لَا تَبْقَى فَيَتَعَذَّرُ قِسْمَتُهَا، وَلَا ضَرُورَةَ فِي الْغَلَّةِ لِأَنَّهَا أَعْيَانٌ بَاقِيَةٌ تَرِدُ الْقِسْمَةُ عَلَيْهَا فَافْتَرَقَا، وَسَيَجِيءُ فِي الْكِتَابِ عَيْنُ هَذَا الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَنْفَعَةِ وَالْغَلَّةِ فَتَبَصَّرْ (قَوْلُهُ وَلَا يَجُوزُ عِنْدَهُ لِأَنَّ التَّفَاوُتَ فِي أَعْيَانِ الرَّقِيقِ أَكْثَرُ مِنْهُ مِنْ حَيْثُ الزَّمَانُ فِي الْعَبْدِ الْوَاحِدِ فَأَوْلَى أَنْ يَمْتَنِعَ الْجَوَازُ) وَعُورِضَ بِأَنْ مَعْنَى الْإِفْرَازِ وَالتَّمْيِيزُ رَاجِعٌ فِي غَلَّةِ الْعَبْدَيْنِ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
وَالتَّهَايُؤُ فِي الْخِدْمَةِ جُوِّزَ ضَرُورَةً، وَلَا ضَرُورَةَ فِي الْغَلَّةِ لِإِمْكَانِ قِسْمَتِهَا لِكَوْنِهَا عَيْنًا، وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ هُوَ التَّسَامُحُ فِي الْخِدْمَةِ وَالِاسْتِقْصَاءُ فِي الِاسْتِغْلَالِ فَلَا يَتَقَاسَمَانِ (وَلَا يَجُوزُ فِي الدَّابَّتَيْنِ عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا) وَالْوَجْهُ مَا بَيَّنَّاهُ فِي الرُّكُوبِ (وَلَوْ كَانَ نَخْلٌ أَوْ شَجَرٌ أَوْ غَنَمٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ فَتَهَايَئَا عَلَى أَنْ يَأْخُذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا طَائِفَةً يَسْتَثْمِرُهَا أَوْ يَرْعَاهَا وَيَشْرَبُ أَلْبَانَهَا لَا يَجُوزُ) لِأَنَّ الْمُهَايَأَةَ فِي الْمَنَافِعِ ضَرُورَةٌ أَنَّهَا لَا تَبْقَى فَيَتَعَذَّرُ قِسْمَتُهَا، وَهَذِهِ أَعْيَانٌ بَاقِيَةٌ تَرِدُ عَلَيْهَا الْقِسْمَةُ عِنْدَ حُصُولِهَا. وَالْحِيلَةُ أَنْ يَبِيعَ حِصَّتَهُ مِنْ الْآخَرِ ثُمَّ يَشْتَرِيَ كُلَّهَا بَعْدَ مُضِيِّ نَوْبَتِهِ أَوْ يَنْتَفِعَ بِاللَّبَنِ بِمِقْدَارٍ مَعْلُومٍ اسْتِقْرَاضًا لِنَصِيبِ صَاحِبِهِ، إذْ قَرْضُ الْمُشَاعِ جَائِزٌ.
يَصِلُ إلَى الْغَلَّةِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَصِلُ إلَيْهَا فِيهِ صَاحِبُهُ فَكَانَ كَالْمُهَايَأَةِ فِي الْخِدْمَةِ. وَأَجَبْت بِأَنَّ التَّفَاوُتَ يَمْنَعُ مِنْ رُجْحَانِ مَعْنَى الْإِفْرَازِ، بِخِلَافِ الْخِدْمَةِ لِمَا بَيَّنَّا وَمِنْ وَجْهِ الْأَصَحِّ أَنَّ الْمَنَافِعَ مِنْ حَيْثُ الْخِدْمَةِ قَلَّمَا تَتَفَاوَتُ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ أَقُولُ: فِي الْجَوَابِ نَظَرٌ.
إذْ قَدْ مَرَّ فِي بَيَانِ فَوْتِ الْمُعَادَلَةِ فِي التَّهَايُؤِ فِي الْعَبْدِ الْوَاحِدِ عَلَى الِاسْتِغْلَالِ أَنَّ الِاسْتِغْلَالَ إنَّمَا يَكُونُ عَلَى حَسْبِ الِاسْتِعْمَالِ. فَلَمَّا قَلَّ التَّفَاوُتُ فِي الْمَنَافِعِ مِنْ حَيْثُ الْخِدْمَةِ لَزِمَ أَنْ يَقِلَّ التَّفَاوُتُ فِي الْغَلَّةُ أَيْضًا بِالضَّرُورَةِ. فَلَمْ يَظْهَرْ وَجْهُ الْمُخَالَفَةِ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ السِّرُّ فِي أَنَّ جَمَاعَةً مِنْ الشُّرُوحِ ذَكَرُوا مَضْمُونَ الْمُعَارَضَةِ الْمَزْبُورَةِ بِطَرِيقِ بَيَانِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ مِنْ قِبَلِ الْإِمَامَيْنِ وَعَزَوْهُ إلَى الْمَبْسُوطِ وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لِلْجَوَابِ عَنْهُ أَصْلًا فَتَدَبَّرْ (قَوْلُهُ وَالتَّهَايُؤُ فِي الْخِدْمَةِ جُوِّزَ ضَرُورَةً وَلَا ضَرُورَةَ فِي الْغَلَّةِ لِإِمْكَانِ قِسْمَتِهَا لِكَوْنِهَا عَيْنًا) هَذَا جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمَا اعْتِبَارًا بِالتَّهَايُؤِ فِي الْمَنَافِعِ، وَبَيَانُ الضَّرُورَةِ مَا سَيَذْكُرُهُ بَعْدَ هَذَا أَنَّ الْمَنَافِعَ لَا تَبْقَى فَيَتَعَذَّرُ قِسْمَتُهَا. قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: عَلَّلَ التَّهَايُؤَ فِي الْمَنَافِعِ مِنْ قَبْلُ بِقَوْلِهِ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ مِنْ حَيْثُ الْخِدْمَةِ قَلَّمَا تَتَفَاوَتُ، وَعَلَّلَهُ هَاهُنَا بِضَرُورَةِ تَعَذُّرِ الْقِسْمَةِ، وَفِي ذَلِكَ تَوَارُدُ عِلَّتَيْنِ مُسْتَقِلَّتَيْنِ عَلَى حُكْمٍ وَاحِدٍ بِالشَّخْصِ وَهُوَ بَاطِلٌ.
وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ الْمَذْكُورَ مِنْ قِبَلِ تَتِمَّةِ هَذَا التَّعْلِيلِ، لِأَنَّ عِلَّةَ الْجَوَازِ تَعَذُّرُ الْقِسْمَةِ وَقِلَّةُ التَّفَاوُتِ جَمِيعًا، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِلَّةٌ مُسْتَقِلَّةٌ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ أَقُولُ: لَا السُّؤَالُ بِشَيْءٍ وَلَا الْجَوَابُ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ الْبَاطِلَ إنَّمَا هُوَ تَوَارُدُ الْعِلَّتَيْنِ الْمُسْتَقِلَّتَيْنِ عَلَى الْوَاحِدِ بِالشَّخْصِ عَلَى طَرِيقِ الِاجْتِمَاعِ لَا تَوَارُدُهُمَا عَلَيْهِ عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ كَمَا تَقَرَّرَ فِي مَوْضِعِهِ، وَاللَّازِمُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ هُوَ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلُ، إذْ لَا يَخْفَى أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ إيرَادِ الْعِلَلِ الْمُتَعَدِّدَةِ فِي أَمْثَالِ هَذَا الْمَقَامِ هُوَ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا
كِتَابُ الْمُزَارَعَةِ
(قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله: الْمُزَارَعَةُ بِالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ بَاطِلَةٌ) اعْلَمْ أَنَّ الْمُزَارَعَةَ لُغَةً: مُفَاعَلَةٌ مِنْ الزَّرْعِ. وَفِي الشَّرِيعَةِ: هِيَ عَقْدٌ عَلَى الزَّرْعِ بِبَعْضِ الْخَارِجِ. وَهِيَ فَاسِدَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ: هِيَ جَائِزَةٌ لِمَا رُوِيَ أَنَّ «أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام عَامَلَ أَهْلَ خَيْبَرَ عَلَى نِصْفِ مَا يَخْرُجُ مِنْ ثَمَرٍ أَوْ زَرْعٍ»
تَصْلُحُ لِإِفَادَةِ الْمُدَّعِي بِالِاسْتِقْلَالِ بَدَلًا عَنْ الْأُخْرَى، وَفَائِدَةُ ذَلِكَ بَيَانُ طُرُقٍ مُخْتَلِفَةٍ مُوَصِّلَةٍ إلَى الْمَطْلُوبِ لِيَسْلُكَ الطَّالِبُ أَيَّ طَرِيقٍ شَاءَ. وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ تَعْلِيلِ الْمُصَنِّفِ بِإِحْدَى الْعِلَّتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ فِي كُلٍّ مِنْ الْمَوْضِعَيْنِ الْمُتَفَرِّقَيْنِ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عِلَّةً مُسْتَقِلَّةً، وَإِلَّا يَلْزَمُ أَنْ لَا يُفِيدَ شَيْءٌ مِنْهَا الْمُدَّعِيَ فِي مَقَامِهِ ضَرُورَةَ عَدَمِ حُصُولِ الْمَطْلُوبِ بِجُزْءِ الْعِلَّةِ، عَلَى أَنَّ اسْتِقْلَالَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فِي الْإِفَادَةِ بَيِّنٌ، أَمَّا قِلَّةُ التَّفَاوُتِ فَلِأَنَّ الْقَلِيلَ فِي حُكْمِ الْعَدَمِ فِي عَامَّةِ أَحْكَامِ الشَّرْعِ وَأَمَّا ضَرُورَةُ تَعَذُّرِ الْقِسْمَةِ فَلِأَنَّ الضَّرُورَاتِ تُبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ عَلَى مَا عُرِفَ، وَلَيْتَ شِعْرِي مَاذَا يَصْنَعُ الشَّارِحُ الْمَزْبُورُ فِي قَوْلِ الْمُصَنِّفِ فِيمَا بَعْدُ: وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ هُوَ التَّسَامُحُ فِي الْخِدْمَةِ إلَى آخِرِهِ وَقَدْ اعْتَرَفَ بِأَنَّهُ وَجْهٌ آخَرُ لِإِبْطَالِ الْقِيَاسِ، وَكَذَا فِي نَظَائِرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَدِلَّةِ الْمُتَعَدِّدَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَسَائِلِ، فَهَلْ يُجْعَلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جُزْءَ الْعِلَّةِ لَا عِلَّةً مُسْتَقِلَّةً، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ.
(كِتَابُ الْمُزَارَعَةِ)
لَمَّا كَانَ الْخَارِجُ مِنْ الْأَرْضِ فِي عَقْدِ الْمُزَارَعَةُ مِنْ أَنْوَاعِ مَا يَقَعُ فِيهِ الْقِسْمَةُ ذَكَرَ الْمُزَارَعَةَ عَقِيبَ الْقِسْمَةِ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ (قَوْلُهُ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْمُزَارَعَةُ بِالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ بَاطِلَةٌ) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ: إنَّمَا قَيَّدَ بِالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ لِيُبَيِّنَ مَحَلَّ النِّزَاعِ، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُعَيِّنْ أَصْلًا أَوْ عَيَّنَ دَرَاهِمَ مُسَمَّاةً كَانَتْ فَاسِدَةً بِالْإِجْمَاعِ انْتَهَى. أَقُولُ: يَرُدُّ عَلَى ظَاهِرِهِ أَنَّ الْمُزَارَعَةَ بِالنِّصْفِ وَبِالْخُمُسِ وَبِغَيْرِهِمَا مِنْ الْكُسُورِ مَحَلُّ النِّزَاعِ أَيْضًا فَكَيْفَ يَتَبَيَّنُ بِالتَّقْيِيدِ بِالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ مَحَلُّ النِّزَاعِ؟ فَالْوَجْهُ مَا ذُكِرَ فِي سَائِرِ الشُّرُوحُ مِنْ أَنَّهُ إنَّمَا قَيَّدَ بِالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ مَعَ أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الْمُزَارَعَةُ فِي جَمِيعِ الصُّوَرِ عِنْدَهُ تَبَرُّكًا بِلَفْظِ الْحَدِيثِ فَإِنَّهُ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام نَهَى عَنْ الْمُخَابَرَةِ فَقِيلَ: وَمَا الْمُخَابَرَةُ؟ قَالَ: الْمُزَارَعَةُ بِالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ» وَإِنَّمَا خَصَّ فِي الْحَدِيثِ بِذَلِكَ لِمَكَانِ الْعَادَةِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بِذَلِكَ التَّقْدِيرِ انْتَهَى، وَاَلَّذِي يُمْكِنُ فِي تَوْجِيهِ مَا فِي الْعِنَايَةِ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِقَوْلِهِ إنَّمَا قَيَّدَ بِالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ مُقَابَلَةَ التَّقْيِيدِ بِالْإِطْلَاقِ لَا مُقَابَلَةَ التَّقْيِيدِ بِالتَّقْيِيدِ: يَعْنِي أَنَّهُ قَيَّدَ بِالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ وَلَمْ يُطْلِقْ عَنْ الْقَيْدِ بِالْكُلِّيَّةِ لَا أَنَّهُ قَيَّدَ بِهَذَا الْقَيْدِ الْمَخْصُوصِ وَهُوَ الثُّلُثُ وَالرُّبُعُ وَلَمْ يُقَيِّدْ بِقَيْدٍ آخَرَ
وَلِأَنَّهُ عَقْدُ شَرِكَةٍ بَيْنَ الْمَالِ وَالْعَمَلِ فَيَجُوزُ اعْتِبَارًا بِالْمُضَارَبَةِ وَالْجَامِعُ دَفْعُ الْحَاجَةِ، فَإِنَّ ذَا الْمَالِ قَدْ لَا يَهْتَدِي إلَى الْعَمَلِ وَالْقَوِيُّ عَلَيْهِ لَا يَجِدُ الْمَالَ، فَمَسَّتْ الْحَاجَةُ إلَى انْعِقَادِ هَذَا الْعَقْدِ بَيْنَهُمَا بِخِلَافِ دَفْعِ الْغَنَمِ وَالدَّجَاجِ وَدُودَ الْقَزِّ مُعَامَلَةً بِنِصْفِ الزَّوَائِدِ لِأَنَّهُ لَا أَثَرَ هُنَاكَ لِلْعَمَلِ فِي تَحْصِيلِهَا فَلَمْ تَتَحَقَّقْ شَرِكَةٌ. وَلَهُ مَا رُوِيَ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام نَهَى عَنْ الْمُخَابَرَةِ وَهِيَ الْمُزَارَعَةُ» وَلِأَنَّهُ اسْتِئْجَارٌ بِبَعْضِ مَا يَخْرُجُ مِنْ عَمَلِهِ فَيَكُونُ فِي مَعْنَى قَفِيزِ الطَّحَّانِ، وَلِأَنَّ الْأَجْرَ مَجْهُولٌ أَوْ مَعْدُومٌ وَكُلُّ ذَلِكَ مُفْسِدٌ، وَمُعَامَلَةُ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام أَهْلَ خَيْبَرَ كَانَ خَرَاجَ مُقَاسَمَةٍ بِطَرِيقِ الْمَنِّ وَالصُّلْحِ وَهُوَ جَائِزٌ (وَإِذَا فَسَدَتْ عِنْدَهُ فَإِنْ سَقَى الْأَرْضَ وَكَرَبَهَا وَلَمْ يَخْرُجْ شَيْءٌ مِنْهُ فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ) لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى إجَارَةٍ فَاسِدَةٍ، وَهَذَا إذَا كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِ صَاحِبِ الْأَرْضِ.
وَإِذَا كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِهِ فَعَلَيْهِ
كَالنِّصْفِ وَغَيْرِهِ، لَكِنَّ فِيهِ مَا فِيهِ كَمَا تَرَى (قَوْلُهُ وَلِأَنَّهُ عَقْدُ شَرِكَةٍ بَيْنَ الْمَالِ وَالْعَمَلِ فَيَجُوزُ اعْتِبَارًا بِالْمُضَارَبَةِ) قَالَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ: قُلْت الرِّبْحُ فِي الْمُضَارَبَةِ يَحْصُلُ بِمَالٍ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ وَبِعَمَلٍ مِنْ الْجَانِبِ الْآخَرِ فَتَنْعَقِدُ شَرِكَةٌ بَيْنَهُمَا فِي الرِّبْحِ وَهُنَا كَذَلِكَ انْتَهَى.
أَقُولُ: لَمْ يَجُزْ فِي الْمُضَارَبَةِ أَنْ يَكُونَ الْمَالُ وَالْعَمَلُ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ وَلِهَذَا قَالُوا هُنَاكَ: وَشَرْطُ الْعَمَلِ عَلَى رَبِّ الْمَالِ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ وَهُنَا جَازَ لِمَا سَيَأْتِي فِي الْكِتَابِ أَنَّهُ إذَا كَانَتْ الْأَرْضُ لِوَاحِدٍ وَالْعَمَلُ وَالْبَقَرُ وَالْبَذْرُ لِوَاحِدٍ جَازَتْ الْمُزَارَعَةُ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْبَذْرَ مَالٌ بَلْ الْبَقَرُ أَيْضًا مَالٌ وَقَدْ اجْتَمَعَا مَعَ الْعَمَلِ فِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ فَكَيْفَ يَتِمُّ اعْتِبَارُ الْمُزَارَعَةِ مُطْلَقًا بِالْمُضَارَبَةِ فَتَأَمَّلْ (قَوْلُهُ لِأَنَّهُ لَا أَثَرَ هُنَاكَ لِلْعَمَلِ فِي تَحْصِيلِهَا) قَالَ صَاحِبُ مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَحَلِّ: لِأَنَّهُ أَيْ الزَّوَائِدَ عَلَى تَأْوِيلِ الزَّائِدِ انْتَهَى. أَقُولُ: هَذَا تَعَسُّفٌ قَبِيحٌ لَا يَقْبَلُهُ ذُو فِطْرَةٍ سَلِيمَةٍ عِنْدَ مُسَاغٍ أَنْ يَحْمِلَ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ لِأَنَّهُ عَلَى الشَّأْنِ كَمَا لَا يَخْفَى (قَوْلُهُ وَمُعَامَلَةُ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام أَهْلَ خَيْبَرَ كَانَ خَرَاجَ مُقَاسَمَةٍ بِطَرِيقِ الْمَنِّ وَالصُّلْحِ وَهُوَ جَائِزٌ) قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: هَذَا مُخَالِفٌ لِمَا أَسْلَفَهُ فِي بَابِ الْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ أَنَّ أَرْضَ الْعَرَبِ كُلَّهَا أَرْضُ عُشْرٍ. فَإِنَّ خَيْبَرَ مِنْ أَرْضِ الْعَرَبِ اهـ.
أَقُولُ: كَوْنُ خَيْبَرَ مِنْ أَرْضِ الْعَرَبِ مَمْنُوعٌ، كَيْفَ وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْبَابِ الْمَذْكُورِ أَيْضًا أَنَّ أَرْضَ الْعَرَبُ لَا يُقِرُّ أَهْلُهَا عَلَيْهَا عَلَى الْكُفْرِ، فَإِنَّ مُشْرِكِي الْعَرَبِ لَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ إلَّا الْإِسْلَامُ أَوْ السَّيْفُ، وَقَدْ «أَقَرَّ النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام أَهْلَ خَيْبَرَ عَلَى أَرَاضِيِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ» ، وَذَكَرُوا حَدَّ أَرْضِ الْعَرَبِ طُولًا وَعَرْضًا فِي الْبَابِ الْمَذْكُورِ، فَمَنْ أَتْقَنَ ذَاكَ فِي مَوْضِعِهِ لَعَلَّهُ يَحْكُمُ بِأَنَّ خَيْبَرَ لَيْسَتْ مِنْ أَرْضِ الْعَرَبِ
أَجْرُ مِثْلِ الْأَرْضِ وَالْخَارِجُ فِي الْوَجْهَيْنِ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ لِأَنَّهُ نَمَاءُ مِلْكِهِ وَلِلْآخَرِ الْأَجْرُ كَمَا فَصَّلْنَا، إلَّا أَنَّ الْفَتْوَى عَلَى قَوْلِهِمَا لِحَاجَةِ النَّاسِ إلَيْهَا وَلِظُهُورِ تَعَامُلِ الْأُمَّةِ بِهَا. وَالْقِيَاسُ يُتْرَكُ بِالتَّعَامُلِ كَمَا فِي الِاسْتِصْنَاعِ
(ثُمَّ الْمُزَارَعَةُ لِصِحَّتِهَا عَلَى قَوْلِ مَنْ يُجِيزُهَا شُرُوطٌ: أَحَدُهَا كَوْنُ الْأَرْضُ صَالِحَةً لِلزِّرَاعَةِ) لِأَنَّ الْمَقْصُودَ لَا يَحْصُلُ بِدُونِهِ (وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ رَبُّ الْأَرْضِ وَالْمُزَارِعُ مِنْ أَهْلِ الْعَقْدِ وَهُوَ لَا يَخْتَصُّ بِهِ) لِأَنَّهُ عَقَدَ مَا لَا يَصِحُّ إلَّا مِنْ الْأَهْلِ (وَالثَّالِثُ بَيَانُ الْمُدَّةِ) لِأَنَّهُ عَقْدٌ عَلَى مَنَافِعِ الْأَرْضِ أَوْ مَنَافِعِ الْعَامِلِ وَالْمُدَّةُ هِيَ الْمِعْيَارُ لَهَا لِيَعْلَمَ بِهَا (وَالرَّابِعُ بَيَانُ مَنْ عَلَيْهِ الْبَذْرُ) قَطْعًا لِلْمُنَازَعَةِ وَإِعْلَامًا لِلْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَهُوَ مَنَافِعُ الْأَرْضِ أَوْ مَنَافِعُ الْعَامِلِ.
قَوْلُهُ وَالْخَارِجُ فِي الْوَجْهَيْنِ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ لِأَنَّهُ نَمَاءُ مِلْكِهِ) قِيلَ قَوْلُهُ لِأَنَّهُ نَمَاءُ مِلْكِهِ مَنْقُوضٌ بِمَنْ غَصَبَ بَذْرًا فَزَرَعَهُ فَإِنَّ الزَّرْعَ لَهُ وَإِنْ كَانَ نَمَاءُ مِلْكِ صَاحِبِ الْبَذْرِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْغَاصِبَ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ بِاخْتِيَارِهِ وَتَحْصِيلِهِ فَكَانَ إضَافَةُ الْحَادِثِ إلَى عَمَلِهِ أَوْلَى، وَالْمُزَارِعُ عَامِلٌ بِأَمْرِ غَيْرِهِ فَجَعَلَ الْعَمَلَ مُضَافًا إلَى الْآمِرِ. كَذَا فِي الْعِنَايَةِ وَغَيْرِهَا. أَقُولُ: النَّقْضُ غَيْرُ وَارِدٍ أَصْلًا، وَالْجَوَابُ غَيْرُ دَافِعٍ لِمَا ذَكَرَ.
أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ الزَّرْعَ فِي الصُّوَرِ الْمَذْكُورَةِ لَيْسَ بِنَمَاءِ مِلْكِ صَاحِبِ الْبَذْرِ وَإِنَّمَا هُوَ نَمَاءُ مِلْكِ الْغَاصِبِ، إذْ قَدْ مَرَّ فِي فَصْلِ مَا يَتَغَيَّرُ بِعَمَلِ الْغَاصِبِ مِنْ كِتَابِ الْغَصْبِ أَنَّهُ إذَا تَغَيَّرَتْ الْعَيْنُ الْمَغْصُوبَةُ بِفِعْلِ الْغَاصِبِ حَتَّى زَالَ اسْمُهَا وَعَظُمَ مَنَافِعُهَا زَالَ مِلْكُ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ عَنْهَا وَمَلَكَهَا الْغَاصِبُ وَضَمِنَهَا عِنْدَنَا. وَمِثْلُ ذَلِكَ بِأَمْثِلَةٍ: مِنْهَا مَا إذَا غَصَبَ حِنْطَةً فَزَرَعَهَا، فَقَدْ تَبَيَّنَ مِنْهُ أَنَّ الْبَذْرَ بِالْغَصْبِ وَالزَّرْعِ يَصِيرُ مِلْكَ الْغَاصِبِ فَيَكُونُ الزَّرْعُ نَمَاءَ مِلْكِهِ قَطْعًا. وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ مَحَلَّ النَّقْضِ إنَّمَا هُوَ قَوْلُهُ لِأَنَّهُ نَمَاءُ مِلْكِهِ، وَمَا ذَكَرَ فِي الْجَوَابِ لَا يُفِيدُ الْفَرْقَ بَيْنَ الْغَاصِبِ وَالْمُزَارِعِ مِنْ جِهَةِ مَوْرِدِ النَّقْضِ، وَإِنَّمَا يُفِيدُ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا مِنْ جِهَةِ كَوْنِ أَحَدِهِمَا عَامِلًا لِنَفْسِهِ بِاخْتِيَارِهِ وَالْآخَرِ عَامِلًا بِأَمْرِ غَيْرِهِ، وَالْكَلَامُ فِي الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي فَلَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ (قَوْلُهُ إلَّا أَنَّ الْفَتْوَى عَلَى قَوْلِهِمَا لِحَاجَةِ النَّاسِ إلَيْهَا وَلِظُهُورِ تَعَامُلِ الْأُمَّةِ بِهَا، وَالْقِيَاسُ يُتْرَكُ بِالتَّعَامُلِ كَمَا فِي الِاسْتِصْنَاعِ) أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: نَعَمْ إنَّ الْقِيَاسَ يُتْرَكُ بِالتَّعَامُلِ، وَلَكِنَّ النَّصَّ لَا يُتْرَكُ بِذَلِكَ لِأَنَّ التَّعَامُلَ إجْمَاعٌ عَمَلِيٌّ، وَالْإِجْمَاعُ لَا يُنْسَخُ بِهِ الْكِتَابُ وَلَا السُّنَّةُ عَلَى مَا عُرِفَ فِي عِلْمُ الْأُصُولِ.
فَبَقِيَ تَمَسُّكُ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله بِالسُّنَّةِ، وَهِيَ مَا رُوِيَ «عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ نَهَى عَنْ الْمُخَابَرَةِ وَهِيَ الْمُزَارَعَةُ سَالِمًا عَمَّا يَدْفَعُهُ» فَمَا وَجْهُ الْفَتْوَى عَلَى قَوْلِهِمَا، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ لَهُمَا أَنْ يَدْفَعَا ذَلِكَ
(وَالْخَامِسُ بَيَانُ نَصِيبِ مَنْ لَا بَذْرَ مِنْ قِبَلِهِ) لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّهُ عِوَضًا بِالشَّرْطِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا، وَمَا لَا يُعْلَمُ لَا يَسْتَحِقُّ شَرْطًا بِالْعَقْدِ. (وَالسَّادِسُ أَنْ يُخَلِّيَ رَبُّ الْأَرْضِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعَامِلِ، حَتَّى لَوْ شَرَطَ عَمَلَ رَبِّ الْأَرْضِ يُفْسِدُ الْعَقْدَ) لِفَوَاتِ التَّخْلِيَةِ (وَالسَّابِعُ الشَّرِكَةُ فِي الْخَارِجِ بَعْدَ حُصُولِهِ) لِأَنَّهُ يَنْعَقِدُ شَرِكَةً فِي الِانْتِهَاءِ، فَمَا يَقْطَعُ هَذِهِ الشَّرِكَةَ كَانَ مُفْسِدًا لِلْعَقْدِ (وَالثَّامِنُ بَيَانُ جِنْسِ الْبَذْرِ) لِيَصِيرَ الْأَجْرُ مَعْلُومًا.
قَالَ (وَهِيَ عِنْدَهُمَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: إنْ كَانَتْ الْأَرْضُ وَالْبَذْرُ لِوَاحِدٍ وَالْبَقَرُ وَالْعَمَلُ لِوَاحِدٍ جَازَتْ الْمُزَارَعَةُ) لِأَنَّ الْبَقَرَ آلَةُ الْعَمَلِ فَصَارَ كَمَا إذَا اسْتَأْجَرَ خَيَّاطًا لِيَخِيطَ بِإِبْرَةِ الْخَيَّاطِ،
بِحَمْلِ الْمَرْوِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى مَا إذَا شُرِطَ فِي عَقْدِ الْمُزَارَعَةِ شَرْطٌ مُفْسِدٌ، إذْ قَدْ رُوِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَشْتَرِطُونَ فِيهِ شَيْئًا مَعْلُومًا مِنْ الْخَارِجِ لِرَبِّ الْأَرْضِ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مُفْسِدٌ عِنْدَهُمَا. وَقَدْ أَشَارَ إلَيْهِ صَاحِبُ الْكَافِي حَيْثُ قَالَ: فَإِنْ قِيلَ: التَّعَامُلُ عَلَى خِلَافِ النَّصِّ بَاطِلٌ. قُلْنَا: النُّصُوصُ الْوَارِدَةُ فِي الْمُجْتَهِدَاتِ صُوَرُ النُّصُوصِ، وَإِلَّا لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ الْخِلَافُ فِيهَا أَوْ تَحَمُّلُهَا عَلَى مَا إذَا شَرَطَ شَرْطًا مُفْسِدًا، فَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَشْتَرِطُونَ فِيهَا شَيْئًا مَعْلُومًا مِنْ الْخَارِجِ لِرَبِّ الْأَرْضِ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مُفْسِدٌ عِنْدَهُمَا، إلَى هُنَا كَلَامُهُ
(قَوْلُهُ وَالْخَامِسُ بَيَانُ نَصِيبِ مَنْ لَا بَذْرَ مِنْ قِبَلِهِ لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّهُ عِوَضًا بِالشَّرْطِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا) أَقُولُ: لَا شَكَّ أَنَّ بَيَانَ نَصِيبِ كُلٍّ مِنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ مِمَّا لَا بُدَّ مِنْهُ فِي عَقْدِ الْمُزَارَعَةِ، فَعَدَّ بَيَانَ نَصِيبِ مَنْ لَا بَذْرَ مِنْ قِبَلِهِ مِنْ الشَّرَائِطِ دُونَ بَيَانِ نَصِيبِ الْآخَرِ مِمَّا لَا يُجْدِي كَبِيرَ طَائِلٍ فَتَأَمَّلْ (قَوْلُهُ وَالسَّابِعُ الشَّرِكَةُ فِي الْخَارِجِ بَعْدَ حُصُولِهِ لِأَنَّهُ يَنْعَقِدُ شَرِكَةً فِي الِانْتِهَاءِ فَمَا يَقْطَعُ هَذِهِ الشَّرِكَةَ كَانَ مُفْسِدًا لِلْعَقْدِ) قَالَ كَثِيرٌ مِنْ الشُّرَّاحِ: لِأَنَّهُ إذَا شَرَطَ فِيهَا مَا يَقْطَعُ الشَّرِكَةَ فِي الْخَارِجِ تَبْقَى إجَارَةً مَحْضَةً، وَالْقِيَاسُ يَأْبَى جَوَازَ الْإِجَارَةِ الْمَحْضَةِ بِأَجْرٍ مَعْدُومٍ انْتَهَى.
أَقُولُ: فِيهِ شَيْءٌ، وَهُوَ أَنَّ الْقِيَاسَ كَمَا يَأْبَى جَوَازَ قِيَاسِ الْإِجَارَةِ الْمَحْضَةِ بِأَجْرٍ مَعْدُومٍ يَأْبَى جَوَازَهَا بِأَجْرٍ مَوْجُودٍ أَيْضًا، إذَا قَدْ تَقَرَّرَ فِي كِتَابِ الْإِجَارَةِ أَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَى جَوَازَ الْإِجَارَةِ مُطْلَقًا لِكَوْنِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ الَّذِي هُوَ الْمَنْفَعَةُ غَيْرَ مَوْجُودٍ فِي الْحَالِ، لَكِنَّا جَوَّزْنَاهَا اسْتِحْسَانًا لِحَاجَةِ النَّاسِ إلَيْهَا فَكَيْفَ يَتِمُّ الِاسْتِدْلَال بِمُجَرَّدِ أَنْ يَأْبَى الْقِيَاسُ جَوَازَهَا عَلَى فَسَادِ الْمُزَارَعَةِ عَلَى تَقْدِيرِ بَقَائِهَا إجَارَةً مَحْضَةً، فَالْأَظْهَرُ أَنْ يُقَالَ بَدَلَ قَوْلُهُمْ وَالْقِيَاسُ يَأْبَى جَوَازَ الْإِجَارَةِ الْمَحْضَةِ بِأَجْرٍ مَعْدُومٍ وَالْإِجَارَةُ الْمَحْضَةُ بِأَجْرٍ مَعْدُومٍ فَاسِدَةٌ قَطْعًا. ثُمَّ أَقُولُ: لَا يَذْهَبُ عَلَى ذِي فِطْرَةٍ سَلِيمَةٍ أَنَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا غَيْرُ مَا ذَكَرَهُ هَؤُلَاءِ الشُّرَّاحُ، فَإِنَّهُمْ عَلَّلُوا كَوْنَ مَا يَقْطَعُ هَذِهِ الشَّرِكَةَ مُفْسِدًا لِلْعَقْدِ بِأَنَّهُ إذَا شَرَطَ فِيهَا مَا يَقْطَعُ الشَّرِكَةَ فِي الْخَارِجِ تَبْقَى إجَارَةً مَحْضَةً، وَالْقِيَاسُ يَأْبَى جَوَازَ الْإِجَارَةِ الْمَحْضَةِ بِأَجْرٍ مَعْدُومٍ، وَالْمُصَنِّفُ فَرَّعَ كَوْنَ مَا يَقْطَعُ هَذِهِ الشَّرِكَةَ مُفْسِدًا لِلْعَقْدِ عَلَى مَا قَبْلَهُ حَيْثُ قَالَ فَمَا يَقْطَعُ هَذِهِ الشَّرِكَةَ كَانَ مُفْسِدًا لِلْعَقْدِ فَقَدْ جَعَلَ عِلَّةَ ذَلِكَ مَا قَبْلَهُ وَهُوَ مَضْمُونُ قَوْلِهِ لِأَنَّهُ يَنْعَقِدُ شَرِكَةً فِي الِانْتِهَاءِ فَمُرَادُهُ أَنَّ عَقْدَ الْمُزَارَعَةِ شَرِكَةٌ فِي الِانْتِهَاءِ وَإِنْ كَانَ إجَارَةً فِي الِابْتِدَاءِ فَكَانَ مَعْنَى الشَّرِكَةِ مُعْتَبَرًا فِي انْعِقَادِ الْمُزَارَعَةِ، فَمَا يَقْطَعُ هَذِهِ الشَّرِكَةَ يَنْفِي الْمَعْنَى الْمُعْتَبَرَ فِي انْعِقَادِهَا فَيُفْسِدُ عَقْدَ الْمُزَارَعَةِ لَا مَحَالَةَ.
(قَوْلُهُ وَهِيَ عِنْدَهُمَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ)
(وَإِنْ كَانَ الْأَرْضُ لِوَاحِدٍ وَالْعَمَلُ وَالْبَقَرُ وَالْبَذْرُ لِوَاحِدٍ جَازَتْ) لِأَنَّهُ اسْتِئْجَارُ الْأَرْضِ بِبَعْضٍ مَعْلُومٍ مِنْ الْخَارِجِ فَيَجُوزُ كَمَا إذَا اسْتَأْجَرَهَا بِدَرَاهِمَ مَعْلُومَةٍ (وَإِنْ كَانَتْ الْأَرْضُ وَالْبَذْرُ وَالْبَقَرُ لِوَاحِدٍ وَالْعَمَلُ مِنْ آخَرَ جَازَتْ) لِأَنَّهُ اسْتَأْجَرَهُ لِلْعَمَلِ بِآلَةِ الْمُسْتَأْجِرِ فَصَارَ كَمَا إذَا اسْتَأْجَرَ خَيَّاطًا لِيَخِيطَ ثَوْبَهُ بِإِبْرَتِهِ أَوْ طَيَّانًا لِيُطَيِّنَ بِمَرِّهِ (وَإِنْ كَانَتْ الْأَرْضُ وَالْبَقَرُ لِوَاحِدٍ وَالْبَذْرُ وَالْعَمَلُ لِآخَرَ فَهِيَ بَاطِلَةٌ) وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ مَسَائِلَ الْمُزَارَعَةِ فِي الْجَوَازِ وَالْفَسَادِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَصْلٍ وَهُوَ أَنَّ الْمُزَارَعَةَ تَنْعَقِدُ إجَارَةً وَتَتِمُّ شَرِكَةً، وَانْعِقَادُهَا إجَارَةً إنَّمَا هُوَ عَلَى مَنْفَعَةِ الْأَرْضِ أَوْ عَلَى مَنْفَعَةِ الْعَامِلِ دُونَ مَنْفَعَةِ غَيْرِهِمَا مِنْ مَنْفَعَةِ الْبَقَرِ وَالْبَذْرِ لِأَنَّهَا اسْتِئْجَارٌ بِبَعْضِ الْخَارِجِ. وَهُوَ لَا يَجُوزُ قِيَاسًا لَكِنَّا جَوَّزْنَاهُ فِي الْأَرْضِ وَالْعَامِلِ لِوُرُودِ الشَّرْعِ بِهِ فِيهِمَا. أَمَّا فِي الْأَرْضِ فَأَثَرُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنه وَتَعَامُلُ النَّاسِ. وَأَمَّا فِي الْعَامِلِ فَعَمَلُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَعَ أَهْلِ خَيْبَرَ. وَالتَّعَامُلُ لَمْ يَرِدْ الشَّرْعُ بِهِ فِي الْبَذْرِ وَالْبَقَرُ فَأَخَذْنَا فِيهِمَا بِالْقِيَاسِ. فَكُلُّ مَا كَانَ مِنْ صُوَرِ الْجَوَازِ فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ اسْتِئْجَارِ الْأَرْضِ أَوْ الْعَامِلِ بِبَعْضِ الْخَارِجِ أَوْ كَانَ الْمَشْرُوطُ عَلَى أَحَدِهِمَا شَيْئَيْنِ مُتَجَانِسَيْنِ وَلَكِنَّ الْمَنْظُورَ فِيهِ هُوَ اسْتِئْجَارُ الْأَرْضِ أَوْ الْعَامِلِ بِبَعْضِ الْخَارِجِ لِكَوْنِهِ مَوْرِدَ الْأَثَرِ، وَكُلُّ مَا كَانَ مِنْ صُوَرِ عَدَمِ الْجَوَازِ فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ اسْتِئْجَارِ الْآخَرِينَ، أَوْ كَانَ الْمَشْرُوطُ عَلَى أَحَدِهِمَا شَيْئَيْنِ غَيْرَ مُتَجَانِسَيْنِ فَلَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا تَبَعًا لِلْآخَرِ وَلَكِنَّ الْمَنْظُورَ فِيهِ هُوَ اسْتِئْجَارُ غَيْرِ الْأَرْضِ وَالْعَامِلِ بِبَعْضِ الْخَارِجِ لِعَدَمِ وُرُودِ الشَّرْعِ فِي غَيْرِهِمَا، وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ الَّذِي تَدُورُ عَلَيْهِ مَسَائِلُ الْمُزَارَعَةِ. كَذَا فِي الشُّرُوحِ، وَأَشَارَ إلَيْهِ فِي الذَّخِيرَةِ وَجَامِعِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ.
ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ الْعِنَايَةُ بَعْدَ مَا ذَكَرَ الْأَصْلَ الْمَزْبُورَ قَالَ: فَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَلَا عَلَيْنَا فِي تَطْبِيقِ الْوُجُوهِ عَلَى الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ. فَأَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ فَهُوَ مِمَّا كَانَ الْمَشْرُوطُ عَلَى أَحَدِهِمَا شَيْئَيْنِ مُتَجَانِسَيْنِ، فَإِنَّ الْأَرْضَ وَالْبَذْرَ مِنْ جِنْسٍ وَالْعَمَلَ وَالْبَقَرَ مِنْ جِنْسٍ وَالْمَنْظُورُ إلَيْهِ الِاسْتِئْجَارُ يُجْعَلُ كَأَنَّ الْعَامِلَ اسْتَأْجَرَ الْأَرْضَ أَوْ رَبُّ الْأَرْضِ اسْتَأْجَرَ الْعَامِلَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَالثَّالِثُ مِمَّا فِيهِ اسْتِئْجَارُ الْأَرْضِ وَالْعَامِلِ. وَأَمَّا الْوَجْهُ الرَّابِعُ عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ فَبَاطِلٌ، لِأَنَّ الْمَشْرُوطَ شَيْئَانِ غَيْرُ مُتَجَانِسَيْنِ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا تَابِعًا لِلْآخَرِ، بِخِلَافِ الْمُتَجَانِسَيْنِ فَإِنَّ الْأَشْرَفَ أَوْ الْأَصْلَ يَجُوزُ أَنْ يَسْتَتْبِعَ الْأَخَسَّ وَالْفَرْعَ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ. أَقُولُ: فِيهِ خَلَلٌ، لِأَنَّهُ جَوَّزَ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ أَنْ يَجْعَلَ الْعَامِلَ مُسْتَأْجِرًا الْأَرْضَ وَأَنْ يَجْعَلَ رَبَّ الْأَرْضِ مُسْتَأْجِرًا الْعَامِلَ وَلَا مَجَالَ فِيهِ لِلْأَوَّلِ، بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَأْجِرُ فِيهِ هُوَ رَبُّ الْأَرْضِ لِأَنَّ الْبَذْرَ كَانَ مِنْ قِبَلِهِ فِي هَذَا الْوَجْهِ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِيمَا مَرَّ فِي الشَّرْطِ الرَّابِعِ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الْمُزَارَعَةِ عِنْدَهُمَا أَنَّ الْبَذْرَ إذَا كَانَ مِنْ قِبَلِ رَبِّ الْأَرْضِ كَانَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَنَافِعَ الْعَامِلِ فَكَانَ الْمُسْتَأْجِرُ هُوَ رَبَّ الْأَرْضِ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْعَامِلُ مُسْتَأْجِرًا فِيمَا إذَا كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِهِ، إذْ يَكُونُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ مَنَافِعَ الْأَرْضِ، وَعَنْ هَذَا قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِ جَوَازُ الْمُزَارَعَةِ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ: لِأَنَّ الْبَقَرَ آلَةُ الْعَمَلِ فَصَارَ كَمَا إذَا اسْتَأْجَرَ خَيَّاطًا لِيَخِيطَ بِإِبْرَةِ الْخَيَّاطِ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ التَّصْرِيحِ بِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ فِي هَذَا الْوَجْهِ هُوَ رَبُّ الْأَرْضِ وَالْعَامِلَ هُوَ الْأَجِيرُ كَالْخَيَّاطِ (قَوْلُهُ وَإِنْ كَانَتْ الْأَرْضُ لِوَاحِدٍ وَالْعَمَلُ وَالْبَقَرَةُ وَالْبَذْرُ لِوَاحِدٍ جَازَتْ لِأَنَّهُ اسْتِئْجَارُ الْأَرْضِ بِبَعْضٍ مَعْلُومٍ مِنْ الْخَارِجِ فَيَجُوزُ كَمَا إذَا اسْتَأْجَرَهَا بِدَرَاهِمَ مَعْلُومَةٍ) أَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ، إذْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ اسْتِئْجَارُ الْأَرْضِ بِبَعْضٍ مَعْلُومٍ كَمَا إذَا اسْتَأْجَرَهَا بِدَرَاهِمَ مَعْلُومَةٍ، فَإِنَّ اسْتِئْجَارَ الْأَرْضِ بِبَعْضٍ مِنْ الْخَارِجِ اسْتِئْجَارٌ بِبَعْضٍ مَجْهُولٍ أَوْ مَعْدُومٍ، وَكُلُّ ذَلِكَ مُفْسِدٌ كَمَا مَرَّ فِي دَلِيلِ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ الْمُزَارَعَةِ، كَيْفَ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ اسْتِئْجَارًا بِبَعْضٍ
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَجُوزُ أَيْضًا، لِأَنَّهُ لَوْ شَرَطَ الْبَذْرَ وَالْبَقَرَ عَلَيْهِ يَجُوزُ فَكَذَا إذَا شُرِطَ وَحْدَهُ وَصَارَ كَجَانِبِ الْعَامِلِ. وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ مَنْفَعَةَ الْبَقَرِ لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ مَنْفَعَةِ الْأَرْضِ. لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْأَرْضِ قُوَّةٌ فِي طَبْعِهَا يَحْصُلُ بِهَا النَّمَاءُ،
مَعْلُومٍ لَكَانَتْ الْمُزَارَعَةُ جَائِزَةً عَلَى مُقْتَضَى الْقِيَاسِ أَيْضًا.
وَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّ الْقِيَاسَ يَقْتَضِي أَنْ لَا تَجُوزَ الْمُزَارَعَةُ مُطْلَقًا لِكَوْنِهَا اسْتِئْجَارًا بِبَعْضِ الْخَارِجِ. وَهُوَ لَا يَجُوزُ لَكِنَّا جَوَّزْنَاهَا فِيمَا إذَا كَانَتْ اسْتِئْجَارَ مَنْفَعَةِ الْأَرْضِ أَوْ الْعَامِلِ اسْتِحْسَانًا بِالنَّصِّ وَالتَّعَامُلِ وَلَمْ نُجَوِّزْهَا فِيمَا سِوَى ذَلِكَ عَمَلًا بِالْقِيَاسِ لِعَدَمِ وُرُودِ الشَّرْعِ بِهِ فِيهِ. فَالْحَقُّ فِي تَعْلِيلِ جَوَازِ هَذَا الْوَجْهِ أَنْ يُقَالَ: لِأَنَّهُ اسْتِئْجَارُ الْأَرْضِ بِبَعْضِ الْخَارِجِ وَهُوَ جَائِزٌ بِالنَّصِّ وَتَعَامُلِ الْأُمَّةِ (قَوْلُهُ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَجُوزُ أَيْضًا. لِأَنَّهُ لَوْ شُرِطَ الْبَذْرُ وَالْبَقَرُ عَلَيْهِ يَجُوزُ فَكَذَا إذَا شُرِطَ وَحْدَهُ وَصَارَ كَجَانِبِ الْعَامِلِ) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ: وَوَجْهُ غَيْرِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ مَا قَالَ فِي الْكِتَابِ: لَوْ شُرِطَ الْبَذْرُ وَالْبَقَرُ عَلَيْهِ: أَيْ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ جَازَ، فَكَذَا إذَا شُرِطَ الْبَقَرُ وَحْدَهُ وَصَارَ كَجَانِبِ الْعَامِلُ إذَا شُرِطَ الْبَقَرُ عَلَيْهِ. وَالْجَوَابُ أَنَّ الْبَذْرَ إذَا اجْتَمَعَ مَعَ الْأَرْضِ اسْتَتْبَعَتْهُ لِلتَّجَانُسِ وَضَعْفِ جِهَةِ الْبَقَرِ مَعَهُمَا فَكَانَ اسْتِئْجَارًا لِلْعَامِلِ، وَأَمَّا إذَا اجْتَمَعَ الْأَرْضُ وَالْبَقَرُ فَلَمْ تَسْتَتْبِعْهُ، وَكَذَا فِي الْجَانِبِ الْآخَرِ فَكَانَ فِي كُلٍّ مِنْ الْجَانِبَيْنِ مُعَارَضَةٌ بَيْنَ اسْتِئْجَارِ الْأَرْضِ وَغَيْرِ الْأَرْضِ وَالْعَامِلِ وَغَيْرِهِ فَكَانَ بَاطِلًا اهـ أَقُولُ: فِي هَذَا الْجَوَابِ بَحْثٌ أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ الْبَذْرَ إذَا اجْتَمَعَ مَعَ الْأَرْضِ تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ رَبُّ الْأَرْضِ مُسْتَأْجِرًا وَالْعَامِلُ أَجِيرًا فَلَا يَبْقَى لِحَدِيثِ اسْتِتْبَاعِ الْأَرْضِ الْبَذْرَ مَحَلٌّ لِأَنَّ الْمَصِيرَ إلَيْهِ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ لُزُومُ اسْتِئْجَارِ الْبَذْرِ أَصَالَةً، وَإِذَا تَعَيَّنَ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الصُّورَةُ مِنْ قَبِيلِ اسْتِئْجَارِ الْعَامِلِ دُونَ الْجَانِبِ الْآخَرِ لَمْ يَبْقَ احْتِمَالُ لُزُومِ اسْتِئْجَارِ الْبَذْرِ، سَوَاءٌ اسْتَتْبَعَتْهُ الْأَرْضُ أَمْ لَا فَلَمْ يَكُنْ لِلِاسْتِتْبَاعِ تَأْثِيرٌ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ قَطُّ.
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ قَوْلَهُ فَكَانَ فِي كُلٍّ مِنْ الْجَانِبَيْنِ مُعَارَضَةٌ
وَمَنْفَعَةُ الْبَقَرِ صَلَاحِيَةٌ يُقَامُ بِهَا الْعَمَلُ كُلُّ ذَلِكَ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَمْ يَتَجَانَسَا فَتَعَذَّرَ أَنْ تُجْعَلَ تَابِعَةً لَهَا، بِخِلَافِ جَانِبِ الْعَامِلِ لِأَنَّهُ تَجَانَسَتْ الْمَنْفَعَتَانِ فَجُعِلَتْ تَابِعَةً لِمَنْفَعَةِ الْعَامِلِ. وَهَاهُنَا وَجْهَانِ آخَرَانِ لَمْ يَذْكُرْهُمَا: أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ لِأَحَدِهِمَا وَالْأَرْضُ وَالْبَقَرُ وَالْعَمَلُ لِآخَرَ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ يَتِمُّ شَرِكَةً بَيْنَ الْبَذْرِ وَالْعَمَلِ وَلَمْ يَرِدْ بِهِ الشَّرْعُ. وَالثَّانِي أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ الْبَذْرِ وَالْبَقَرِ.
وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَيْضًا لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ عِنْدَ الِانْفِرَادِ فَكَذَا عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ، وَالْخَارِجُ فِي الْوَجْهَيْنِ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ فِي رِوَايَةٍ اعْتِبَارًا بِسَائِرِ الْمُزَارَعَاتِ الْفَاسِدَةِ، وَفِي رِوَايَةٍ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ وَيَصِيرُ مُسْتَقْرِضًا لِلْبَذْرِ
بَيْنَ اسْتِئْجَارِ الْأَرْضِ وَغَيْرِ الْأَرْضِ وَالْعَامِلِ. وَغَيْرُهُ يُشْعِرُ بِجَوَازِ اعْتِبَارِ اسْتِئْجَارِ كُلٍّ مِنْ جَانِبَيْ رَبِّ الْأَرْضِ وَالْعَامِلِ فِي الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ. وَقَدْ مَرَّ مِرَارًا أَنَّ الْبَذْرَ يُعِينُ الْجَانِبَ الَّذِي وُجِدَ فِيهِ لَأَنْ يَكُونَ مُسْتَأْجِرًا لِلْآخَرِ. فَالْوَجْهُ فِي الْجَوَابِ أَنْ يُقَالَ: إذَا شَرَطَ الْبَذْرَ وَالْبَقَرَ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ كَانَ اسْتِئْجَارًا لِلْعَامِلِ لَا لِغَيْرِهِ أَصْلًا فَكَانَ صَحِيحًا قَطْعًا، وَأَمَّا إذَا لَمْ يَشْرِطْ الْبَذْرَ عَلَيْهِ بَلْ شَرَطَ عَلَيْهِ الْبَقَرَ وَحْدَهُ كَانَ اسْتِئْجَارًا لِلْأَرْضِ وَغَيْرِهَا الَّذِي هُوَ الْبَقَرُ. وَلَيْسَ الثَّانِي تَابِعًا لِلْأَوَّلِ لِعَدَمِ التَّجَانُسِ كَمَا بَيَّنَ فِي وَجْهِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ فَكَانَ بَاطِلًا لِعَدَمِ وُرُودِ الشَّرْعِ لِاسْتِئْجَارِ الْبَقَرِ أَصَالَةً بِبَعْضٍ مِنْ الْخَارِجِ فَتَدَبَّرْ (قَوْلُهُ وَهَاهُنَا وَجْهَانِ آخَرَانِ لَمْ يَذْكُرْهُمَا إلَخْ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَثَمَّةَ وَجْهٌ آخَرُ لَمْ يَذْكُرَاهُ جَمِيعًا وَهُوَ أَنْ يَشْتَرِكَ أَرْبَعَةٌ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ مِنْ
قَابِضًا لَهُ لِاتِّصَالِهِ بِأَرْضِهِ.
قَالَ (وَلَا تَصِحُّ الْمُزَارَعَةُ إلَّا عَلَى مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ) لِمَا بَيَّنَّا (وَأَنْ يَكُونَ الْخَارِجُ شَائِعًا بَيْنَهُمَا) تَحْقِيقًا لِمَعْنَى الشَّرِكَةِ (فَإِنْ شَرَطَا لِأَحَدِهِمَا قُفْزَانًا مُسَمَّاةً فَهِيَ بَاطِلَةٌ) لِأَنَّ بِهِ تَنْقَطِعُ الشَّرِكَةُ لِأَنَّ الْأَرْضَ عَسَاهَا لَا تُخْرِجُ إلَّا هَذَا الْقَدْرَ، فَصَارَ كَاشْتِرَاطِ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ لِأَحَدِهِمَا فِي الْمُضَارَبَةِ، وَكَذَا إذَا شَرَطَا أَنْ يَرْفَعَ صَاحِبُ الْبَذْرِ بَذْرَهُ وَيَكُونُ الْبَاقِي بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى قَطْعِ الشَّرِكَةِ فِي بَعْضٍ مُعَيَّنٍ أَوْ فِي جَمِيعِهِ بِأَنْ لَمْ يُخْرِجْ إلَّا قَدْرَ الْبَذْرِ فَصَارَ كَمَا إذَا شَرَطَا رَفْعَ الْخَرَاجِ، وَالْأَرْضُ خَرَاجِيَّةٌ وَأَنْ يَكُونَ الْبَاقِي بَيْنَهُمَا لِأَنَّهُ مُعَيَّنٌ، بِخِلَافِ مَا إذَا شَرَطَ صَاحِبُ الْبَذْرِ عُشْرَ الْخَارِجُ لِنَفْسِهِ أَوْ لِلْآخَرِ وَالْبَاقِي بَيْنَهُمَا لِأَنَّهُ مُعَيَّنٌ مُشَاعٌ فَلَا يُؤَدِّي إلَى قَطْعِ الشَّرِكَةِ، كَمَا إذَا شَرَطَا رَفْعَ الْعُشْرِ، وَقِسْمَةُ الْبَاقِي بَيْنَهُمَا وَالْأَرْضُ عُشْرِيَّةٌ.
قَالَ (وَكَذَا إذَا)(شَرَطَا مَا عَلَى الْمَاذِيَانَاتِ وَالسَّوَّاقِي) مَعْنَاهُ لِأَحَدِهِمَا، لِأَنَّهُ إذَا شَرَطَ لِأَحَدِهِمَا زَرْعَ مَوْضِعٍ مُعَيَّنٍ أَفْضَى ذَلِكَ إلَى قَطْعِ الشَّرِكَةِ، لِأَنَّهُ لَعَلَّهُ لَا يَخْرُجُ إلَّا
وَاحِدٍ وَالْعَمَلُ مِنْ آخَرَ وَالْبَقَرُ مِنْ آخَرَ وَالْأَرْضُ مِنْ آخَرَ.
أَقُولُ: الظَّاهِرُ أَنَّ الْكَلَامَ فِي الْعَقْدِ الْجَارِي بَيْنَ الِاثْنَيْنِ، وَإِلَّا فَثَمَّةَ وُجُوهٌ أُخَرُ لَمْ يَذْكُرَاهَا وَلَا أَحَدَ غَيْرُهُمَا، وَهِيَ أَنْ يَشْتَرِكَ ثَلَاثَةٌ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ مِنْ وَاحِدٍ وَالْعَمَلُ مِنْ آخَرَ وَالْبَاقِيَانِ مِنْ آخَرَ، أَوْ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ مِنْ وَاحِدٍ وَالْبَقَرُ مِنْ آخَرَ وَالْبَاقِيَانِ مِنْ آخَرَ، أَوْ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْبَقَرُ مِنْ وَاحِدٍ وَالْأَرْضُ مِنْ آخَرَ وَالْبَاقِيَانِ مِنْ آخَرَ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الصُّوَرِ الْمُمْكِنَةِ بَيْنَ الثَّلَاثَةِ، فَكَانَ التَّعَرُّضُ هَاهُنَا لِلْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ خُرُوجًا عَنْ الصَّدَدِ، وَعَنْ هَذَا تَرَى عَامَّةَ الشُّرَّاحِ لَمْ يَتَعَرَّضُوهُ أَصْلًا. وَالْأَوْلَى هَاهُنَا أَنْ يُقَالَ: وَثَمَّةُ وَجْهٌ آخَرُ لَمْ يَذْكُرَاهُ جَمِيعًا، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْبَقَرُ لِأَحَدِهِمَا وَالْبَوَاقِي الثَّلَاثَةُ لِلْآخَرِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ صَاحِبُ النِّهَايَةِ عِنْدَ بَيَانِ وَجْهِ ضَبْطِ الْأَوْجُهِ فِي صَدْرِ الْمَسْأَلَةِ وَبَيَانِ انْحِصَارِهَا عَقْلًا فِي سَبْعَةٍ. وَقَالَ: إنَّ حُكْمَهُ كَحُكْمِ أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ لِأَحَدِهِمَا وَالْبَاقِي لِلْآخَرِ وَهُوَ الْفَسَادُ. وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ مُتَّصِلًا بِكَلَامِهِ السَّابِقِ: قَالَ مُحَمَّدٌ فِي كِتَابِ الْآثَارِ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنُ الْأَوْزَاعِيُّ عَنْ وَاصِلِ بْنِ أَبِي جَمِيلٍ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ «وَقَعَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَلْغَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَاحِبَ الْأَرْضِ وَجَعَلَ لِصَاحِبِ الْفَدَّانِ أَجْرًا مُسَمًّى وَجَعَلَ لِصَاحِبِ الْعَمَلِ دِرْهَمًا لِكُلِّ يَوْمٍ وَأَلْحَقَ الزَّرْعَ كُلَّهُ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ» .
ثُمَّ قَالَ: وَمَعْنَى قَوْلِهِ أَلْغَى صَاحِبَ الْأَرْضِ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ شَيْئًا مِنْ الْخَارِجِ لَا أَنَّهُ لَا يَسْتَوْجِبُ أَجْرَ مِثْلِ الْأَرْضِ، وَأَعْطَى لِصَاحِبِ الْعَمَلِ كُلَّ يَوْمٍ دِرْهَمًا لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ أَجْرَ مِثْلِ عَمَلِهِ. وَلَمْ يَذْكُرْ أَجْرَ الْفَدَّانِ لِكَوْنِهِ مَعْلُومًا مِنْ أَجْرِ الْعَامِلِ انْتَهَى كَلَامُهُ. أَقُولُ: تَوْجِيهُهُ الْمَرْوِيُّ عَنْ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام بِمَا ذَكَرَهُ مَحَلُّ كَلَامٍ. أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ كَوْنَ مَعْنَى قَوْلِهِ أَلْغَى صَاحِبَ الْأَرْضِ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ شَيْئًا مِنْ الْخَارِجِ مِمَّا يَأْبَاهُ مُقَابَلَةُ قَوْلِهِ وَجَعَلَ لِصَاحِبِ الْفَدَّانِ أَجْرًا مُسَمًّى وَجَعَلَ لِصَاحِبِ الْعَمَلِ دِرْهَمًا لِكُلِّ يَوْمٍ، إذْ لَمْ يَجْعَلْ لِصَاحِبِ الْفَدَّانِ وَلِصَاحِبِ الْعَمَلِ أَيْضًا شَيْئًا مِنْ الْخَارِجِ بَلْ جَعَلَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَجْرًا كَمَا صَرَّحَ بِهِ الرَّاوِي، فَكَيْفَ يَحْسُنُ مُقَابَلَتُهُمَا بِإِلْغَاءِ صَاحِبِ الْأَرْضِ بِالْمَعْنَى الَّذِي
مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، عَلَى هَذَا إذَا شَرَطَ لِأَحَدِهِمَا مَا يَخْرُجُ مِنْ نَاحِيَةٍ مُعَيَّنَةٍ وَلِآخَرَ مَا يَخْرُجُ مِنْ نَاحِيَةٍ أُخْرَى (وَكَذَا إذَا شَرَطَ لِأَحَدِهِمَا التِّبْنَ وَلِلْآخَرِ الْحَبَّ) لِأَنَّهُ عَسَى أَنْ يُصِيبَهُ آفَةٌ فَلَا يَنْعَقِدُ الْحَبُّ وَلَا يَخْرُجُ إلَّا التِّبْنُ (وَكَذَا إذَا شَرَطَا التِّبْنَ نِصْفَيْنِ وَالْحَبُّ لِأَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ) لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى قَطْعِ الشَّرِكَةِ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَهُوَ الْحَبُّ (وَلَوْ شَرَطَ الْحَبَّ نِصْفَيْنِ وَلَمْ يَتَعَرَّضَا لِلتِّبْنِ صَحَّتْ) لِاشْتِرَاطِهِمَا الشَّرِكَةَ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ، (ثُمَّ التِّبْنُ يَكُونُ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ) لِأَنَّهُ نَمَاءُ بَذْرِهِ وَفِي حَقِّهِ لَا يَحْتَاجُ إلَى الشَّرْطِ.
وَالْمُفْسِدُ هُوَ الشَّرْطُ، وَهَذَا سُكُوتٌ عَنْهُ. وَقَالَ مَشَايِخُ بَلْخٍ رحمهم الله: التِّبْنُ بَيْنَهُمَا أَيْضًا اعْتِبَارًا لِلْعُرْفِ فِيمَا لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِ الْمُتَعَاقِدَانِ، وَلِأَنَّهُ تَبَعٌ لِلْحَبِّ وَالتَّبَعُ يَقُومُ بِشَرْطِ الْأَصْلِ. (وَلَوْ شَرَطَا الْحَبَّ نِصْفَيْنِ وَالتِّبْنَ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ صَحَّتْ) لِأَنَّهُ حُكْمُ الْعَقْدِ (وَإِنْ شَرَطَا التِّبْنَ لِلْآخَرِ فَسَدَتْ) لِأَنَّهُ شَرْطٌ يُؤَدِّي إلَى قَطْعِ الشَّرِكَةِ بِأَنْ لَا يَخْرُجَ إلَّا التِّبْنُ وَاسْتِحْقَاقُ غَيْرِ صَاحِبِ الْبَذْرِ بِالشَّرْطِ. قَالَ (وَإِذَا صَحَّتْ الْمُزَارَعَةُ فَالْخَارِجُ عَلَى الشَّرْطِ) لِصِحَّةِ الِالْتِزَامِ (وَإِنْ لَمْ تُخْرِجْ الْأَرْضُ شَيْئًا فَلَا شَيْءَ لِلْعَامِلِ) لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّهُ شَرِكَةً، وَلَا
ذَكَرَهُ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُقَالَ: ذَلِكَ الْمَعْنَى وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُسَاعِدُهُ ظَاهِرُ اللَّفْظِ لَكِنَّ الضَّرُورَةَ دَعَتْ إلَيْهِ وَصَارَتْ قَرِينَةً عَلَيْهِ، إذْ لَا مَحَالَةَ أَنَّهُ لَمْ يَتَحَقَّقْ هُنَاكَ مَا يَقْتَضِي كَوْنَ صَاحِبِ الْأَرْضِ مُتَبَرِّعًا، فَلَا جَرَمَ أَنَّهُ اسْتَوْجَبَ أَجْرَ مِثْلَ أَرْضِهِ.
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ قَوْلَهُ وَلَمْ يَذْكُرْ أَجْرَ الْفَدَّانِ لِكَوْنِهِ مَعْلُومًا مِنْ أَجْرِ الْعَامِلِ مَنْظُورٌ فِيهِ، إذَا لَا يَخْفَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ التَّوَافُقُ بَيْنَ أَجْرِ الْفَدَّانِ وَأَجْرِ الْعَامِلِ، بَلْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَجْرُ أَحَدِهِمَا نِصْفَ أَجْرِ الْآخَرِ أَوْ ثُلُثَهُ أَوْ رُبُعَهُ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ فَكَيْفَ يَعْلَمُ أَجْرَ أَحَدِهِمَا مِنْ الْآخَرِ سِيَّمَا إذَا كَانَ الْمُعَيَّنُ مُؤَخَّرًا عَنْ الْمُبْهَمِ فِي الذِّكْرِ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُقَالَ: كَانَ الْعُرْفُ جَارِيًا فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ عَلَى اعْتِبَارِ تَسَاوِيهِمَا فِي الْأَجْرِ فَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يَعْلَمَ أَجْرَ أَحَدِهِمَا مِنْ أَجْرِ الْآخَرِ، لَكِنَّ الْأَظْهَرَ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ عَدَمُ ذِكْرِ أَجْرِ الْفَدَّانِ عَلَى التَّعْيِينِ بِنَاءً عَلَى عَدَمِ جَزْمِ الرَّاوِي بِعَيْنِ الْأَجْرِ الَّذِي جَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِصَاحِبِ الْفَدَّانِ فَقَالَ: وَجَعَلَ لِصَاحِبِ الْفَدَّانِ أَجْرًا مُسَمًّى: يَعْنِي جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَجْرًا سَمَّاهُ، وَلَكِنْ لَا أَجْزِمُ بِخُصُوصِهِ كَمَا أَجْزِمُ بِخُصُوصِ مَا جَعَلَهُ لِصَاحِبِ الْعَمَلِ
(قَوْلُهُ وَكَذَا إذَا شَرَطَ لِأَحَدِهِمَا التِّبْنَ وَلِلْآخَرِ الْحَبَّ لِأَنَّهُ عَسَى تُصِيبُهُ آفَةٌ فَلَا يَنْعَقِدُ الْحَبُّ وَلَا يَخْرُجُ إلَّا التِّبْنُ) أَقُولُ: فِي هَذَا التَّعْلِيلِ قُصُورٌ، إذْ عَلَى تَقْدِيرِ انْعِقَادِ الْحَبِّ أَيْضًا يُفْسِدُ الشَّرْطُ الْمَذْكُورُ عَقْدَ الْمُزَارَعَةِ لِكَوْنِهِ مُؤَدِّيًا إلَى قَطْعِ الشَّرِكَةِ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَهُوَ الْحَبُّ، وَالشَّرِكَةُ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ لَوَازِمِ صِحَّةِ عَقْدِ الْمُزَارَعَةِ كَمَا هُوَ الْأَصْلُ الْمُقَرَّرُ الْمَبْنِيُّ عَلَيْهِ الْمَسَائِلُ الْآتِيَةُ كَمَا تَرَى، فَالْأَوْلَى فِي تَعْلِيلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يُقَالَ: لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى قَطْعِ الشَّرِكَةِ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَهُوَ الْحَبُّ كَمَا قَالَهُ فِي تَعْلِيلِ الْمَسْأَلَةِ الْآتِيَةِ الْمُتَّصِلَةِ بِهَا.
وَكَأَنَّ صَاحِبَ الْكَافِي تَنَبَّهَ لِمَا قُلْنَا حَيْثُ تَرَكَ التَّعْلِيلَ الَّذِي ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ هُنَا، وَجَمَعَ الْمَسْأَلَتَيْنِ فِي تَعْلِيلٍ وَاحِدٍ فَقَالَ: وَكَذَا لَوْ شَرَطَ لِأَحَدِهِمَا التِّبْنَ وَلِلْآخَرِ الْحَبَّ، أَوْ شَرَطَ التِّبْنَ نِصْفَيْنِ وَالْحَبَّ لِأَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ لِأَنَّهُ يَقْطَعُ الشَّرِكَةَ فِي الْحَبِّ وَهُوَ الْمَقْصُودُ انْتَهَى (قَوْلُهُ وَإِذَا صَحَّتْ الْمُزَارَعَةُ فَالْخَارِجُ عَلَى الشَّرْطِ لِصِحَّةِ الِالْتِزَامِ، وَإِنْ لَمْ تُخْرِجْ الْأَرْضُ شَيْئًا فَلَا شَيْءَ لِلْعَامِلِ) أَقُولُ: عِبَارَةُ الْكِتَابِ هَاهُنَا قَاصِرَةٌ عَنْ إفَادَةِ تَمَامِ الْمُرَادِ، لِأَنَّ الْمُزَارَعَةَ الصَّحِيحَةَ كَمَا
شَرِكَةَ فِي غَيْرِ الْخَارِجِ، وَإِنْ كَانَتْ إجَارَةً فَالْأَجْرُ مُسَمًّى فَلَا يَسْتَحِقُّ غَيْرَهُ، بِخِلَافِ مَا إذَا فَسَدَتْ لِأَنَّ أَجْرَ الْمِثْلِ فِي الذِّمَّةِ وَلَا تَفُوتُ الذِّمَّةُ بِعَدَمِ الْخَارِجِ قَالَ (وَإِذَا فَسَدَتْ فَالْخَارِجُ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ) لِأَنَّهُ نَمَاءُ مِلْكِهِ، وَاسْتِحْقَاقُ الْأَجْرِ بِالتَّسْمِيَةِ وَقَدْ فَسَدَتْ فَبَقِيَ النَّمَاءُ كُلُّهُ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ.
قَالَ (وَلَوْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِ رَبِّ الْأَرْضِ فَلِلْعَامِلِ أَجْرُ مِثْلِهِ لَا يُزَادُ عَلَى مِقْدَارِ مَا شَرَطَ لَهُ مِنْ الْخَارِجِ) لِأَنَّهُ رَضِيَ بِسُقُوطِ الزِّيَادَةِ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبَى يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ (وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ بَالِغًا مَا بَلَغَ، لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى مَنَافِعَهُ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ فَتَجِبُ عَلَيْهِ قِيمَتُهَا إذْ لَا مِثْلَ لَهَا) وَقَدْ مَرَّ فِي الْإِجَارَاتِ (وَإِنْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِ الْعَامِلِ فَلِصَاحِبِ الْأَرْضِ أَجْرُ مِثْلِ أَرْضِهِ) لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى مَنَافِعَ الْأَرْضِ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ فَيَجِبُ رَدُّهَا وَقَدْ تَعَذَّرَ. وَلَا مِثْلَ لَهَا فَيَجِبُ رَدُّ قِيمَتِهَا. وَهَلْ يُزَادُ عَلَى مَا شَرَطَ لَهُ مِنْ الْخَارِجِ؟ فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ (وَلَوْ جَمَعَ بَيْنَ الْأَرْضِ وَالْبَقَرِ حَتَّى فَسَدَتْ الْمُزَارَعَةُ فَعَلَى الْعَامِلِ أَجْرُ
تَكُونُ اسْتِئْجَارًا لِلْعَامِلِ وَذَلِكَ فِيمَا إذَا كَانَ الْبَذْرُ مِنْ جَانِبِ رَبِّ الْأَرْضِ كَذَلِكَ تَكُونُ اسْتِئْجَارًا لِلْأَرْضِ وَذَلِكَ فِيمَا إذَا كَانَ الْبَذْرُ مِنْ جَانِبِ الْعَامِلِ. وَقَوْلُهُ وَإِنْ لَمْ تُخْرِجْ الْأَرْضُ شَيْئًا فَلَا شَيْءَ لِلْعَامِلِ يُفِيدُ حُكْمَ الصُّورَةِ الْأُولَى دُونَ الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ، بَلْ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ الْحُكْمِ فِي الثَّانِيَةِ عَلَى خِلَافِ الْحُكْمِ فِي الْأُولَى بِمُقْتَضَى قَوْلِهِمْ إنَّ تَخْصِيصَ الشَّيْءِ بِالذِّكْرِ فِي الرِّوَايَاتِ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَاهُ، فَكَانَ الظَّاهِرُ أَنْ يُقَالَ: وَإِنْ لَمْ تُخْرِجْ الْأَرْضُ شَيْئًا فَلَا شَيْءَ لِأَحَدٍ مِنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ. لَا يُقَالُ: عَلَّلَ الْمُصَنِّفُ قَوْلَهُ وَإِنْ لَمْ تُخْرِجْ الْأَرْضُ شَيْئًا فَلَا شَيْءَ لِلْعَامِلِ بِقَوْلِهِ لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّهُ شَرِكَةً وَلَا شَرِكَةَ فِي غَيْرِ الْخَارِجِ، وَإِنْ كَانَتْ إجَارَةً فَالْأَجْرُ مُسَمًّى فَلَا يَسْتَحِقُّ غَيْرَهُ.
وَلَمَّا جَرَى هَذَا التَّعْلِيلُ فِي صُورَةِ اسْتِئْجَارِ الْأَرْضِ أَيْضًا فُهِمَ مِنْهُ حُكْمُ هَذِهِ الصُّورَةِ أَيْضًا فَاكْتَفَى بِذِكْرِهِ.
مِثْلِ الْأَرْضِ وَالْبَقَرِ) هُوَ الصَّحِيحُ، لِأَنَّ لَهُ مَدْخَلًا فِي الْإِجَارَةِ وَهِيَ إجَارَةٌ مَعْنًى (وَإِذَا اسْتَحَقَّ رَبُّ الْأَرْضِ الْخَارِجَ لِبَذْرِهِ فِي الْمُزَارَعَةِ الْفَاسِدَةِ طَابَ لَهُ جَمِيعُهُ) لِأَنَّ النَّمَاءَ حَصَلَ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ لَهُ (وَإِنْ اسْتَحَقَّهُ الْعَامِلُ أَخَذَ قَدْرَ بَذْرِهِ وَقَدْرَ أَجْرِ الْأَرْضِ وَتَصَدَّقَ بِالْفَضْلِ) لِأَنَّ النَّمَاءَ يَحْصُلُ مِنْ الْبَذْرِ وَيَخْرُجُ مِنْ الْأَرْضِ، وَفَسَادُ الْمِلْكِ فِي مَنَافِعِ الْأَرْضِ أَوْجَبَ خُبْثًا فِيهِ.
فَمَا سُلِّمَ لَهُ بِعِوَضٍ طَابَ لَهُ وَمَا لَا عِوَضَ لَهُ تَصَدَّقَ بِهِ
قَالَ (وَإِذَا عُقِدَتْ الْمُزَارَعَةُ فَامْتَنَعَ صَاحِبُ الْبَذْرِ مِنْ الْعَمَلُ لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ) لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الْمُضِيُّ فِي الْعَقْدِ إلَّا بِضَرَرٍ يَلْزَمُهُ. فَصَارَ كَمَا
لِأَنَّا نَقُولُ: عِبَارَةُ الْمَسْأَلَةِ عِبَارَةُ مُخْتَصَرِ الْقُدُورِيِّ، وَالْمُؤَاخَذَةُ بِقُصُورِهَا فِي إفَادَةِ تَمَامِ الْمُرَادِ إنَّمَا تُرَدُّ عَلَى الْقُدُورِيِّ، فَالتَّعْلِيلُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ بَعْدَ مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ كَيْفَ يَدْفَعُ عَنْهُ التَّقْصِيرَ السَّابِقَ. وَلَئِنْ سُلِّمَ ذَلِكَ فَلَا نُسَلِّمُ جَرَيَانَ التَّعْلِيلِ الْمَذْكُورِ وَتَمَامُهُ فِي صُورَةِ اسْتِئْجَارِ الْأَرْضِ أَيْضًا؛ أَلَا تَرَى أَنَّ عَامَّةَ الشُّرَّاحِ ذَكَرُوا أَنَّ قَوْلَهُ وَإِنْ كَانَتْ إجَارَةً فَالْأَجْرُ مُسَمًّى فَلَا يَسْتَحِقُّ غَيْرَهُ يُشْكِلُ بِمَنْ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا بِعَيْنٍ فَعَمِلَ الْأَجِيرُ وَهَلَكَتْ الْعَيْنُ قَبْلَ التَّسْلِيمِ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ أَجْرُ الْمِثْلِ فَلْيَكُنْ هَذَا مِثْلَهُ، لِأَنَّ الْمُزَارَعَةَ صَحَّتْ وَالْأَجْرُ مُسَمًّى وَهَلَكَ الْأَجْرُ قَبْلَ التَّسْلِيمِ. وَأَجَابُوا عَنْهُ بِأَنَّ الْأَجْرَ هَاهُنَا هَلَكَ بَعْدَ التَّسْلِيمِ لِأَنَّ الْمُزَارِعَ قَبَضَ الْبَذْرَ الَّذِي يَتَفَرَّعُ مِنْهُ الْخَارِجُ وَقَبْضُ الْأَصْلِ قَبْضٌ لِفَرْعِهِ، وَالْأُجْرَةُ الْعَيْنُ إذَا هَلَكَتْ بَعْدَ التَّسْلِيمِ إلَى الْأَجِيرِ لَا يَجِبُ لِلْأَجِيرِ شَيْءٌ آخَرُ فَكَذَا هَاهُنَا انْتَهَى.
وَلَا يَذْهَبُ عَلَيْك أَنَّ هَذَا الْجَوَابَ لَا يَتَمَشَّى فِي صُورَةِ اسْتِئْجَارِ الْأَرْضِ فَإِنَّ رَبَّ الْأَرْضِ لَا يَقْبِضُ الْبَذْرَ الَّذِي يَتَفَرَّعُ
إذَا اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا لِيَهْدِمَ دَارِهِ (وَإِنْ امْتَنَعَ الَّذِي لَيْسَ مِنْ قِبَلِهِ الْبَذْرُ أَجْبَرَهُ الْحَاكِمُ عَلَى الْعَمَلِ) لِأَنَّهُ لَا يَلْحَقُهُ بِالْوَفَاءِ بِالْعَقْدِ ضَرَرٌ وَالْعَقْدُ لَازِمٌ بِمَنْزِلَةِ الْإِجَارَةِ، إلَّا إذَا كَانَ عُذْرٌ يَفْسَخُ بِهِ الْإِجَارَةَ فَيَفْسَخُ بِهِ الْمُزَارَعَةَ. قَالَ (وَلَوْ امْتَنَعَ رَبُّ الْأَرْضِ وَالْبَذْرُ مِنْ قِبَلِهِ وَقَدْ كَرَبَ الْمُزَارِعُ الْأَرْضَ فَلَا شَيْءَ لَهُ فِي عَمَلُ الْكِرَابِ) قِيلَ هَذَا فِي الْحُكْمِ، فَأَمَّا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى يَلْزَمُهُ اسْتِرْضَاءُ الْعَامِلِ لِأَنَّهُ غَرَّهُ فِي ذَلِكَ.
قَالَ (وَإِذَا مَاتَ أَحَدُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ بَطَلَتْ الْمُزَارَعَةُ) اعْتِبَارًا بِالْإِجَارَةِ، وَقَدْ مَرَّ الْوَجْهُ فِي الْإِجَارَاتِ، فَلَوْ كَانَ دَفَعَهَا فِي ثَلَاثِ سِنِينَ فَلَمَّا نَبَتَ الزَّرْعُ فِي السَّنَةِ الْأُولَى وَلَمْ يَسْتَحْصِدْ الزَّرْعَ حَتَّى مَاتَ رَبُّ الْأَرْضِ تَرَكَ الْأَرْضَ فِي يَدِ الْمُزَارِعِ حَتَّى يَسْتَحْصِدَ الزَّرْعَ وَيَقْسِمَ عَلَى الشَّرْطِ، وَتَنْتَقِضُ الْمُزَارَعَةُ فِيمَا بَقِيَ مِنْ السَّنَتَيْنِ لِأَنَّ فِي إبْقَاءِ الْعَقْدِ فِي السَّنَةِ الْأُولَى مُرَاعَاةً لِلْحَقَّيْنِ،
مِنْهُ الْخَارِجُ حَتَّى يَكُونَ قَبْضُهُ قَبْضًا لِفَرْعِهِ فَلَمْ يَتِمَّ التَّعْلِيلُ الْمَذْكُورُ فِي حَقِّ هَاتِيك الصُّورَةِ فَتَعَيَّنَ الْقُصُورُ تَأَمَّلْ
(قَوْلُهُ وَلَوْ امْتَنَعَ رَبُّ الْأَرْضِ وَالْبَذْرُ مِنْ قِبَلِهِ وَقَدْ كَرَبَ الْمُزَارِعُ الْأَرْضَ فَلَا شَيْءَ لَهُ فِي عَمَلِ الْكِرَابِ) لِأَنَّ الْمَأْتِيَّ بِهِ مُجَرَّدُ الْمَنْفَعَةِ، وَهُوَ لَا يَتَقَوَّمُ إلَّا بِالْعَقْدِ، وَالْعَقْدُ قَوَّمَهُ بِجُزْءٍ مِنْ الْخَارِجِ وَقَدْ فَاتَ، كَذَا فِي عَامَّةِ الشُّرُوحِ. وَقَالَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ، وَلِأَنَّ الْمُزَارِعَ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ لِأَنَّهُ اسْتَأْجَرَ الْأَرْضَ لِيُقِيمَ الْعَمَلَ فِيهَا لِنَفْسِهِ، وَالْعَامِلُ لِنَفْسِهِ لَا يَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ عَلَى غَيْرِهِ انْتَهَى. أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا بِسَدِيدٍ، إذَا قَدْ مَرَّ مِرَارًا وَتَقَرَّرَ أَنَّ الْبَذْرَ إذَا كَانَ مِنْ قِبَلِ رَبِّ الْأَرْضِ تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَأْجِرُ هُوَ رَبَّ الْأَرْضِ، وَالْمَفْرُوضُ فِي مَسْأَلَتِنَا أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِ رَبِّ الْأَرْضِ فَكَيْفَ يَتِمُّ الْقَوْلُ بِأَنَّ الْمُزَارِعَ اسْتَأْجَرَ الْأَرْضَ لِيُقِيمَ الْعَمَلَ فِيهَا لِنَفْسِهِ.
(قَوْلُهُ وَإِذَا مَاتَ أَحَدُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ بَطَلَتْ الْمُزَارَعَةُ اعْتِبَارًا بِالْإِجَارَةِ) هَذَا جَوَابُ الْقِيَاسِ، وَأَمَّا فِي الِاسْتِحْسَانِ فَيَبْقَى عَقْدُ الْمُزَارَعَةِ إلَى أَنْ يَسْتَحْصِدَ الزَّرْعَ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ، وَعَزَاهُ فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ إلَى الْمَبْسُوطِ وَالذَّخِيرَةِ. وَقَالَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْعِنَايَةِ:
بِخِلَافِ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ ضَرَرٌ بِالْعَامِلِ فَيُحَافِظُ فِيهِمَا عَلَى الْقِيَاسِ (وَلَوْ مَاتَ رَبُّ الْأَرْضِ قَبْلَ الزِّرَاعَةِ بَعْدَ مَا كَرَبَ الْأَرْضَ وَحَفَرَ الْأَنْهَارَ انْتَقَضَتْ الْمُزَارَعَةُ) لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إبْطَالُ مَالٍ عَلَى الْمُزَارِعِ (وَلَا شَيْءَ لِلْعَامِلِ بِمُقَابَلَةِ مَا عَمِلَ) لِمَا نُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
(وَإِذَا فُسِخَتْ الْمُزَارَعَةُ بِدَيْنٍ فَادِحٍ لَحِقَ صَاحِبَ الْأَرْضِ فَاحْتَاجَ إلَى بَيْعِهَا جَازَ) كَمَا فِي الْإِجَارَةِ (وَلَيْسَ لِلْعَامِلِ أَنْ يُطَالِبَهُ بِمَا كَرَبَ الْأَرْضَ وَحَفَرَ الْأَنْهَارَ بِشَيْءٍ)
وَاعْلَمْ أَنَّهُ أَرَادَ بِقَوْلِهِ وَإِذَا مَاتَ أَحَدُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ بَعْدَ الزَّرْعِ لِأَنَّ الَّذِي يَكُونُ قَبْلَهُ مَذْكُورٌ فِيمَا يَلِيه، وَلَمْ يُفَصِّلْ بَيْنَ مَا إذَا نَبَتَ الزَّرْعُ أَوْ لَمْ يَنْبُتْ. وَلَكِنَّهُ ذَكَرَ جَوَابَ النَّابِتِ فِي قَوْلِهِ (وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ) فَلَمَّا نَبَتَ الزَّرْعُ فِي السَّنَةِ الْأُولَى وَلَمْ يَذْكُرْ جَوَابَ مَا لَمْ يَنْبُتْ عِنْدَ مَوْتِهِ، وَلَعَلَّهُ تَرَكَ ذَلِكَ اعْتِمَادًا عَلَى دُخُولِهِ فِي إطْلَاقِ أَوَّلِ الْمَسْأَلَةِ انْتَهَى. أَقُولُ: فِيهِ بَحْثٌ، لِأَنَّ مَا ذَكَرَهُ فِي أَوَّلِ الْمَسْأَلَةُ إنَّمَا هُوَ جَوَابُ الْقِيَاسِ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ قَاطِبَةً فَيَدْخُلُ فِيهِ مَا نَبَتَ الزَّرْعُ عِنْدَ مَوْتِهِ وَمَا لَمْ يَنْبُتْ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مُرَادَهُ بِالْجَوَابِ فِي قَوْلِهِ وَلَكِنَّهُ ذَكَرَ جَوَابَ النَّابِتِ فِي قَوْلِهِ فِي وَجْهِ الِاسْتِحْسَانِ: فَلَمَّا نَبَتَ الزَّرْعُ فِي السَّنَةِ الْأُولَى وَلَمْ يَذْكُرْ جَوَابَ مَا لَمْ يَنْبُتْ عِنْدَ مَوْتِهِ إنَّمَا هُوَ جَوَابُ الِاسْتِحْسَانِ، فَكَيْفَ يَتِمُّ قَوْلُهُ وَلَعَلَّهُ تَرَكَ ذَلِكَ اعْتِمَادًا عَلَى دُخُولِهِ فِي أَوَّلِ إطْلَاقِ الْمَسْأَلَةِ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ دُخُولَهُ فِي جَوَابِ الْقِيَاسِ لَا يَقْتَضِي دُخُولَهُ فِي جَوَابِ الِاسْتِحْسَانِ أَيْضًا، وَعَنْ هَذَا اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الذَّخِيرَةِ حَيْثُ قَالَ: وَإِذَا مَاتَ رَبُّ الْأَرْضِ بَعْدَ الزِّرَاعَةِ قَبْلَ النَّبَاتِ هَلْ تَبْقَى الْمُزَارَعَةُ؟ فِيهِ اخْتِلَافُ الْمَشَايِخِ انْتَهَى.
(قَوْلُهُ وَإِذَا فُسِخَتْ الْمُزَارَعَةُ بِدَيْنٍ فَادِحٍ لِحَقِّ صَاحِبِ الْأَرْضِ فَاحْتَاجَ إلَى بَيْعِهَا جَازَ كَمَا فِي الْإِجَارَةِ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ: ثُمَّ هَلْ يُحْتَاجُ فِي فَسْخِ الْمُزَارَعَةِ إلَى قَضَاءِ الْقَاضِي أَوْ إلَى الرِّضَا؟ ذَكَرَ فِي الذَّخِيرَةِ فِيهِ اخْتِلَافُ الرِّوَايَاتِ فَقَالَ: لَا بُدَّ لِصِحَّةِ الْفَسْخِ مِنْ الْقَضَاءِ أَوْ الرِّضَا عَلَى رِوَايَةِ الزِّيَادَاتِ لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى الْإِجَارَةِ، وَعَلَى رِوَايَةِ كِتَابِ الْمُزَارَعَةِ وَالْإِجَارَاتِ وَالْجَامِعِ الصَّغِيرِ لَا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى الْقَضَاءِ وَلَا إلَى الرِّضَا، بَعْضُ مَشَايِخِنَا الْمُتَأَخِّرِينَ أَخَذُوا بِرِوَايَةِ الزِّيَادَاتِ، وَبَعْضُهُمْ أَخَذَ بِرِوَايَةِ الْأَصْلِ وَالْجَامِعِ الصَّغِيرِ انْتَهَى. وَقَالَ فِي الْعِنَايَةِ: وَالتَّشْبِيهُ بِالْإِجَارَةِ يُشِيرُ إلَى أَنَّهُ اخْتَارَ رِوَايَةَ الزِّيَادَاتِ فَإِنَّهُ عَلَيْهَا لَا بُدَّ لِصِحَّةِ الْفَسْخِ مِنْ الْقَضَاءِ أَوْ الرِّضَا لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى الْإِجَارَةِ، وَعَلَى رِوَايَةِ كِتَابِ الْمُزَارَعَةِ وَالْإِجَارَاتِ وَالْجَامِعِ الصَّغِيرِ لَا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى ذَلِكَ انْتَهَى أَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ التَّشْبِيهَ بِالْإِجَارَةِ إنَّمَا يَصْلُحُ لِلْإِشَارَةِ إلَى أَنَّهُ اخْتَارَ رِوَايَةَ الزِّيَادَاتِ أَنْ لَوْ كَانَتْ الرِّوَايَةُ فِي الْإِجَارَةِ مَقْصُورَةً عَلَى افْتِقَارِ الْفَسْخِ فِيهَا إلَى الْقَضَاءِ أَوْ الرِّضَا، أَوْ كَأَنَّ الْمُصَنِّفَ قَدْ اخْتَارَ هُنَاكَ صَرِيحًا رِوَايَةَ افْتِقَارِ الْفَسْخِ إلَى أَحَدِهِمَا وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْهُمَا، فَإِنَّ الْمُصَنِّفَ قَالَ هُنَاكَ: ثُمَّ قَوْلُ الْقُدُورِيِّ فَسْخُ الْقَاضِي إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ يَفْتَقِرُ إلَى قَضَاءِ الْقَاضِي فِي النَّقْضِ، وَهَكَذَا ذَكَرَ فِي الزِّيَادَاتِ فِي عُذْرِ الدَّيْنِ.
وَقَالَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: وَكُلُّ مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ عُذْرٌ فَالْإِجَارَةُ فِيهِ تَنْتَقِضُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى قَضَاءِ الْقَاضِي انْتَهَى فَتَأَمَّلْ (قَوْلُهُ وَلَيْسَ لِلْعَامِلِ أَنْ يُطَالِبَهُ بِمَا كَرَبَ الْأَرْضَ وَحَفَرَ الْأَنْهَارَ بِشَيْءٍ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ: الْفَسْخُ بَعْدَ عَقْدِ الْمُزَارَعَةِ وَعَمَلِ الْعَامِلِ يُتَصَوَّرُ فِي صُوَرٍ ثَلَاثٍ، ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ صُورَتَيْنِ مِنْهَا، وَهُمَا مَا إذَا فُسِخَ بَعْدَ مَا كَرَبَ الْأَرْضَ وَحَفَرَ الْأَنْهَارَ، وَمَا إذَا فُسِخَ بَعْدَ نَبَاتِ الزَّرْعِ قَبْلَ أَنْ يُسْتَحْصَدَ، وَلَمْ يَذْكُرْ مَا إذَا فُسِخَ بَعْدَ مَا زَرَعَ الْعَامِلُ الْأَرْضَ إلَّا
لِأَنَّ الْمَنَافِعَ إنَّمَا تَتَقَوَّمُ بِالْعَقْدِ وَهُوَ إنَّمَا قُوِّمَ بِالْخَارِجِ فَإِذَا انْعَدَمَ الْخَارِجُ لَمْ يَجِبْ شَيْءٌ (وَلَوْ نَبَتَ الزَّرْعُ وَلَمْ يُسْتَحْصَدْ لَمْ تُبَعْ الْأَرْضُ فِي الدَّيْنِ حَتَّى يُسْتَحْصَدَ الزَّرْعُ) لِأَنَّ فِي الْبَيْعِ إبْطَالَ حَقِّ الْمُزَارِعِ، وَالتَّأْخِيرُ أَهْوَنُ مِنْ الْإِبْطَالِ (وَيُخْرِجُهُ الْقَاضِي مِنْ الْحَبْسِ إنْ كَانَ حَبَسَهُ بِالدَّيْنِ لِأَنَّهُ لَمَّا امْتَنَعَ بَيْعَ الْأَرْضِ لَمْ يَكُنْ هُوَ ظَالِمًا وَالْحَبْسُ جَزَاءُ الظُّلْمِ).
أَنَّهُ لَمْ يَنْبُتْ بَعْدُ حَتَّى لَحِقَ رَبَّ الْأَرْضِ دَيْنٌ فَادِحٌ هَلْ لَهُ أَنْ يَبِيعَ الْأَرْضَ؟ ذَكَرَ فِي الذَّخِيرَةِ أَنَّ فِيهِ اخْتِلَافَ الْمَشَايِخِ، وَكَانَ الشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ الْعَتَّابِيُّ يَقُولُ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ فِي الْأَرْضِ عَيْنُ مَالٍ قَائِمٍ، لِأَنَّ التَّبْذِيرَ اسْتِهْلَاكٌ وَلِهَذَا قَالُوا: إنَّ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ فَسْخَ الْمُزَارَعَةِ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى اسْتِهْلَاكِ مَالِهِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ يَحْصُلُ لَهُ فِي الْحَالِ، وَحُصُولُهُ فِي الثَّانِي غَيْرُ مَعْلُومٍ فَكَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَا قَبْلَ التَّبْذِيرِ.
وَكَانَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الْحَافِظُ يَقُولُ: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّ التَّبْذِيرَ اسْتِنْمَاءُ مَالٍ وَلَيْسَ بِاسْتِهْلَاكٍ؛ أَلَا يَرَى أَنَّ الْأَبَ وَالْوَصِيَّ يَمْلِكَانِ زِرَاعَةَ أَرْضِ الصَّبِيِّ وَلَا يَمْلِكَانِ اسْتِهْلَاكَ مَالِ الصَّبِيِّ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ لِلْمُزَارِعِ فِي الْأَرْضِ عَيْنُ مَالٍ قَائِمٍ انْتَهَى. وَقَالَ فِي الْعِنَايَةِ: لَمْ يَذْكُرْ الْمُصَنِّفُ الصُّورَةَ الثَّالِثَةَ، وَهِيَ مَا إذَا فُسِخَ بَعْدَ مَا زَرَعَ الْعَامِلُ الْأَرْضَ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَنْبُتْ حَتَّى لَحِقَ رَبَّ الْأَرْضِ دَيْنٌ فَادِحٌ هَلْ لَهُ أَنْ يَبِيعَ الْأَرْضَ؟ فِيهِ اخْتِلَافُ الْمَشَايِخِ. قَالَ بَعْضُهُمْ: لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ فِي الْأَرْضِ عَيْنٌ قَائِمٌ، لِأَنَّ التَّبْذِيرَ اسْتِهْلَاكٌ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَا قَبْلَ التَّبْذِيرِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّ التَّبْذِيرَ اسْتِنْمَاءٌ وَلَيْسَ بِاسْتِهْلَاكٍ، وَلِهَذَا يَمْلِكُ الْأَبُ وَالْوَصِيُّ زِرَاعَةَ أَرْضِ الصَّبِيِّ وَلَا يَمْلِكَانِ اسْتِهْلَاكَ مَالِهِ فَكَانَ لِلْمُزَارِعِ فِي الْأَرْضِ عَيْنٌ قَائِمٌ، وَلَعَلَّ هَذَا اخْتِيَارُ الْمُصَنِّفِ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ لِأَنَّ الْبَذْرَ إنْ كَانَ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ لَمْ يَكُنْ فِيهَا مَالُ الْغَيْرِ حَتَّى يَكُونَ مَانِعًا عَنْ الْبَيْعِ، وَإِنْ كَانَ لِلْعَامِلِ فَقَدْ دَخَلَتْ فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ انْتَهَى. أَقُولُ: إنَّ قَوْلَهُ وَإِنْ كَانَ لِلْعَامِلِ فَقَدْ دَخَلَتْ فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ كَلَامٌ خَالٍ عَنْ التَّحْصِيلِ، لِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ بِدُخُولِهَا فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ دُخُولَهَا فِي نَفْسِ الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ جِدًّا، إذْ قَدْ اعْتَبَرَ فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ نَبَاتَ الزَّرْعِ وَفِي الصُّورَةِ الثَّالِثَةِ عَدَمَ نَبَاتِهِ، فَأَنَّى يُتَصَوَّرُ دُخُولُ إحْدَاهُمَا فِي الْأُخْرَى.
وَإِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ دُخُولَهَا فِي حُكْمِ الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ فَهُوَ صَحِيحٌ عَلَى قَوْلِ بَعْضِ الْمَشَايِخِ، لَكِنْ لَا يَصْلُحُ لَأَنْ يَكُونَ وَجْهًا لِعَدَمِ ذِكْرِ تِلْكَ
قَالَ (وَإِذَا انْقَضَتْ مُدَّةُ الْمُزَارَعَةِ وَالزَّرْعُ لَمْ يُدْرَكْ كَانَ عَلَى الْمُزَارِعِ أَجْرُ مِثْلِ نَصِيبِهِ مِنْ الْأَرْضِ إلَى أَنْ يُسْتَحْصَدَ وَالنَّفَقَةُ عَلَى الزَّرْعِ عَلَيْهِمَا عَلَى مِقْدَارِ حُقُوقِهِمَا) مَعْنَاهُ حَتَّى يُسْتَحْصَدَ، لِأَنَّ فِي تَبْقِيَةِ الزَّرْعِ بِأَجْرِ الْمِثْلِ تَعْدِيلَ النَّظَرِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فَيُصَارُ إلَيْهِ، وَإِنَّمَا كَانَ الْعَمَلُ عَلَيْهِمَا لِأَنَّ الْعَقْدَ قَدْ انْتَهَى بِانْتِهَاءِ الْمُدَّةِ وَهَذَا عَمَلٌ فِي الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا مَاتَ رَبُّ الْأَرْضِ وَالزَّرْعُ بَقْلٌ حَيْثُ يَكُونُ الْعَمَلُ فِيهِ عَلَى الْعَامِلِ، لِأَنَّ هُنَاكَ أَبْقَيْنَا الْعَقْدَ فِي مُدَّتِهِ وَالْعَقْدُ يَسْتَدْعِي الْعَمَلَ عَلَى الْعَامِلِ، أَمَّا هَاهُنَا الْعَقْدُ قَدْ انْتَهَى فَلَمْ يَكُنْ هَذَا إبْقَاءَ ذَلِكَ الْعَقْدِ فَلَمْ يَخْتَصَّ الْعَامِلُ بِوُجُوبِ الْعَمَلِ عَلَيْهِ (فَإِنْ أَنْفَقَ أَحَدُهُمَا بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهِ وَأَمْرِ الْقَاضِي فَهُوَ مُتَطَوِّعٌ) لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِ (وَلَوْ أَرَادَ رَبُّ الْأَرْضِ أَنْ يَأْخُذَ الزَّرْعَ بَقْلًا لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ) لِأَنَّ فِيهِ إضْرَارًا بِالْمُزَارِعِ، (وَلَوْ)(أَرَادَ الْمُزَارِعُ) أَنْ يَأْخُذَهُ بَقْلًا قِيلَ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ اقْلَعْ الزَّرْعَ فَيَكُونُ بَيْنَكُمَا أَوْ أَعْطِهِ قِيمَةَ نَصِيبِهِ أَوْ أَنْفِقْ أَنْتَ عَلَى الزَّرْعُ وَارْجِعْ بِمَا تُنْفِقُهُ فِي حِصَّتِهِ، لِأَنَّ الْمُزَارِعَ لَمَّا امْتَنَعَ مِنْ الْعَمَلِ لَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ، لِأَنَّ إبْقَاءَ الْعَقْدِ بَعْدَ وُجُودِ الْمَنْهِيِّ نَظَرٌ لَهُ وَقَدْ تَرَكَ النَّظَرَ لِنَفْسِهِ.
وَرَبُّ الْأَرْضِ مُخَيَّرٌ بَيْنَ هَذِهِ الْخِيَارَاتِ
الصُّورَةِ بِالْكُلِّيَّةِ، لِأَنَّ دُخُولَهَا فِي حُكْمِ الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ عَلَى قَوْلِ بَعْضِ الْمَشَايِخِ إنَّمَا يُعْرَفُ بِبَيَانِ حُكْمِهَا مِنْ قَبْلُ، وَإِذَا لَمْ يَذْكُرْ تِلْكَ الصُّورَةَ قَطُّ فَمِنْ أَيْنَ يُعْلَمُ أَنَّ حُكْمَهَا كَحُكْمِ الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ كَمَا قَالَ بِهِ بَعْضُ الْمَشَايِخِ، أَوْ كَحُكْمِ الصُّورَةِ الْأُولَى كَمَا قَالَ بِهِ بَعْضُهُمْ الْآخَرُ وَالْأَوْجَهُ عِنْدِي أَنَّ الْمُصَنِّفَ إنَّمَا لَمْ يَذْكُرْ تِلْكَ الصُّورَةَ تَأَسِّيًا بِالْإِمَامِ مُحَمَّدٍ رحمه الله، فَإِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْهَا فِي كِتَابِهِ كَمَا بَيَّنَهُ صَاحِبُ الذَّخِيرَةِ حَيْثُ قَالَ: وَإِنْ كَانَ الْمُزَارِعُ قَدْ زَرَعَ الْأَرْضَ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَنْبُتْ بَعْدُ حَتَّى لَحِقَ رَبَّ الْأَرْضِ دَيْنٌ فَادِحٌ هَلْ لَهُ أَنْ يَبِيعَ الْأَرْضَ؟ لَمْ يَذْكُرْ مُحَمَّدٌ رحمه الله هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي الْكِتَابِ، وَقَدْ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهَا انْتَهَى
(قَوْلُهُ لِأَنَّ الْمُزَارِعَ لَمَّا امْتَنَعَ مِنْ الْعَمَلِ لَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ، لِأَنَّ إبْقَاءَ الْعَقْدِ بَعْدَ وُجُودِ الْمَنْهِيِّ نَظَرٌ لَهُ وَقَدْ تَرَكَ النَّظَرَ لِنَفْسِهِ) فَإِنْ قِيلَ: تَرْكُ النَّظَرِ لِنَفْسِهِ
لِأَنَّ بِكُلِّ ذَلِكَ يُسْتَدْفَعُ الضَّرَرُ (وَلَوْ مَاتَ الْمُزَارِعُ بَعْدَ نَبَاتِ الزَّرْعِ فَقَالَتْ وَرَثَتُهُ نَحْنُ نَعْمَلُ إلَى أَنْ يُسْتَحْصَدَ الزَّرْعُ وَأَبَى رَبُّ الْأَرْضِ فَلَهُمْ ذَلِكَ) لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ (وَلَا أَجْرَ لَهُمْ بِمَا عَمِلُوا) لِأَنَّا أَبْقَيْنَا الْعَقْدَ نَظَرًا لَهُمْ، فَإِنْ أَرَادُوا قَلْعَ الزَّرْعِ لَمْ يُجْبَرُوا عَلَى الْعَمَلِ لِمَا بَيَّنَّا، وَالْمَالِكُ عَلَى الْخِيَارَاتِ الثَّلَاثِ لِمَا بَيَّنَّا. قَالَ (وَكَذَلِكَ أُجْرَةُ الْحَصَادِ وَالرِّفَاعِ وَالدِّيَاسِ وَالتَّذْرِيَةِ عَلَيْهِمَا بِالْحِصَصِ. فَإِنْ شَرَطَاهُ فِي الْمُزَارَعَةِ عَلَى الْعَامِلِ فَسَدَتْ) وَهَذَا الْحُكْمُ لَيْسَ بِمُخْتَصٍّ بِمَا ذَكَرَ مِنْ الصُّورَةِ وَهُوَ انْقِضَاءُ الْمُدَّةِ وَالزَّرْعُ لَمْ يُدْرَكْ بَلْ هُوَ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْمُزَارَعَاتِ. وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الْعَقْدَ يَتَنَاهَى بِتَنَاهِي الزَّرْعِ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ فَيَبْقَى مَالٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا وَلَا عَقْدَ فَيَجِبُ مُؤْنَتُهُ عَلَيْهِمَا. وَإِذَا شَرَطَ فِي الْعَقْدِ ذَلِكَ وَلَا يَقْتَضِيهِ وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ لِأَحَدِهِمَا يَفْسُدُ الْعَقْدُ كَشَرْطِ الْحَمْلِ أَوْ الضِّمْنِ عَلَى الْعَامِلِ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَجُوزُ إذَا شَرَطَ ذَلِكَ عَلَى الْعَامِلِ لِلتَّعَامُلِ اعْتِبَارًا بِالِاسْتِصْنَاعِ وَهُوَ اخْتِيَارُ مَشَايِخِ بَلْخٍ. قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ: هَذَا هُوَ الْأَصَحُّ فِي دِيَارِنَا. فَالْحَاصِلُ أَنَّ مَا كَانَ مِنْ عَمَلٍ قَبْلَ الْإِدْرَاكِ كَالسَّقْيِ وَالْحِفْظِ فَهُوَ عَلَى الْعَامِلِ، وَمَا كَانَ مِنْهُ بَعْدَ الْإِدْرَاكِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ فَهُوَ عَلَيْهِمَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ كَالْحَصَادِ وَالدِّيَاسِ وَأَشْبَاهِهِمَا عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ، وَمَا كَانَ
إنَّمَا يَجُوزُ إذَا لَمْ يَتَضَرَّرْ بِهِ غَيْرُهُ وَهَاهُنَا يَتَضَرَّرُ رَبُّ الْأَرْضِ وَاسْتِدْفَاعُ الضَّرَرِ لَيْسَ بِمُنْحَصِرٍ فِيمَا ذَكَرَ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِالْمَنْعِ عَنْ الْقَلْعِ كَرْبُ الْأَرْضِ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ رَبَّ الْأَرْضِ مُتَعَنِّتٌ فِي طَلَبِ الْقَلْعِ لِانْتِفَاعِهِ بِنَصِيبِهِ وَبِأَجْرِ الْمِثْلِ فَرُدَّ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ الْمُزَارِعِ فَإِنَّهُ يَرُدُّ عَنْ نَفْسِهِ بِالْقَلْعِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرِ الْمِثْلِ فَرُبَّمَا يَخَافُ أَنْ يُصِيبَهُ مِنْ الزَّرْعِ مَا لَا يَفِي بِذَلِكَ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ وَغَيْرِهَا أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إنَّ رَبَّ الْأَرْضِ أَيْضًا لَيْسَ بِمُتَعَنِّتٍ فِي طَلَبِ الْقَلْعِ، بَلْ هُوَ يَرُدُّ عَنْ نَفْسِهِ بِالْقَلْعِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ النَّفَقَةِ عَلَى تَقْدِيرِ الْإِبْقَاءِ، فَرُبَّمَا يَخَافُ أَنْ يُصِيبَهُ مِنْ الزَّرْعِ مَا لَا يَفِي بِنَفَقَةِ حِصَّتِهِ فَلْيُتَأَمَّلْ اهـ
بَعْدَ الْقِسْمَةِ فَهُوَ عَلَيْهِمَا. وَالْمُعَامَلَةُ عَلَى قِيَاسُ هَذَا مَا كَانَ قَبْلَ إدْرَاكِ الثَّمَرِ مِنْ السَّقْيِ وَالتَّلْقِيحِ وَالْحِفْظِ فَهُوَ عَلَى الْعَامِلِ، وَمَا كَانَ بَعْدَ الْإِدْرَاكِ كَالْجَدَادِ وَالْحِفْظِ فَهُوَ عَلَيْهِمَا؛ وَلَوْ شَرَطَ الْجَدَادَ عَلَى الْعَامِلِ لَا يَجُوزُ بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّهُ لَا عُرْفَ فِيهِ.
وَمَا كَانَ بَعْدَ الْقِسْمَةِ فَهُوَ عَلَيْهِمَا لِأَنَّهُ مَالٌ مُشْتَرَكٌ وَلَا عَقْدَ، وَلَوْ شَرَطَ الْحَصَادَ فِي الزَّرْعِ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ لَا يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ لِعَدَمِ الْعُرْفِ فِيهِ، وَلَوْ أَرَادَا فَصْلَ الْقَصِيلِ أَوْ جَدَّ التَّمْرِ بُسْرًا أَوْ الْتِقَاطَ الرُّطَبِ فَذَلِكَ عَلَيْهِمَا لِأَنَّهُمَا أَنْهَيَا الْعَقْدَ لَمَّا عَزَمَا عَلَى الْفَصْلِ وَالْجَدَادِ بُسْرًا فَصَارَ كَمَا بَعْدَ الْإِدْرَاكِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
كِتَابُ الْمُسَاقَاةِ
(قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْمُسَاقَاةُ بِجُزْءٍ مِنْ الثَّمَرِ بَاطِلَةٌ، وَقَالَا: جَائِزَةٌ إذَا ذَكَرَ مُدَّةً مَعْلُومَةً وَسَمَّى جُزْءًا مِنْ الثَّمَرِ مُشَاعًا)
(كِتَابُ الْمُسَاقَاةِ)
قَالَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ: كَانَ مِنْ حَقِّ الْوَضْعِ أَنْ يُقَدِّمَ كِتَابَ الْمُسَاقَاةِ عَلَى كِتَابِ الْمُزَارَعَةِ. لِأَنَّ الْمُسَاقَاةَ جَائِزَةٌ بِلَا خِلَافٍ.
وَلِهَذَا قَدَّمَ الطَّحَاوِيُّ الْمُسَاقَاةَ عَلَى الْمُزَارَعَةُ فِي مُخْتَصَرِهِ. إلَّا أَنَّ الْمُزَارَعَةَ لَمَّا كَانَتْ كَثِيرَةَ الْوُقُوعِ فِي عَامَّةِ الْبِلَادِ وَكَانَ الْحَاجَةُ إلَيْهَا أَكْثَرَ مِنْ الْمُسَاقَاةِ فَقُدِّمَتْ عَلَى الْمُسَاقَاةِ. وَلِأَنَّ الْمُزَارَعَةَ لَمَّا وَقَعَ فِيهَا الْخِلَافُ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ كَانَتْ الْحَاجَةُ إلَى عِلْمِهَا أَمَسَّ فَقُدِّمَتْ. وَلِأَنَّ تَفْرِيعَاتِهَا أَكْثَرُ مِنْ تَفْرِيعَاتِ الْمُسَاقَاةِ انْتَهَى. أَقُولُ: فِي تَقْرِيرِهِ نَوْعُ خَلَلٍ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي أَوَائِلِ كَلَامِهِ: لِأَنَّ الْمُسَاقَاةَ جَائِزَةٌ بِلَا خِلَافٍ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي عَدَمَ وُقُوعِ الْخِلَافِ أَصْلًا فِي جَوَازِ الْمُسَاقَاةِ. وَلَيْسَ كَذَلِكَ قَطْعًا لِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ لَمْ يُجَوِّزْهَا كَمَا ذَكَرَ فِي نَفْسِ الْكِتَابِ حَيْثُ قَالَ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْمُسَاقَاةُ بِجُزْءٍ مِنْ الثَّمَرِ بَاطِلَةٌ. وَكَذَا زُفَرُ لَمْ يُجَوِّزْهَا كَمَا ذَكَرَ فِي عَامَّةِ الشُّرُوحِ. وَقَالَ جُمْهُورُ الشُّرَّاحِ: كَانَ مِنْ حَقِّ الْمُسَاقَاةِ أَنْ تُقَدَّمَ عَلَى الْمُزَارَعَةِ لِكَثْرَةِ مَنْ يَقُولُ بِجَوَازِهَا، وَلِوُرُودِ الْأَحَادِيثِ فِي مُعَامَلَةِ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام بِأَهْلِ خَيْبَرَ، إلَّا أَنَّ اعْتِرَاضَ مُوجِبَيْنِ صَوَّبَ إيرَادَ الْمُزَارَعَةِ قَبْلَ الْمُسَاقَاةِ: أَحَدُهُمَا شِدَّةُ الِاحْتِيَاجُ إلَى مَعْرِفَةِ أَحْكَامِ الْمُزَارَعَةِ لِكَثْرَةِ وُقُوعِهَا، وَالثَّانِي كَثْرَةُ تَفْرِيعِ مَسَائِلِ الْمُزَارَعَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُسَاقَاةِ.
أَقُولُ: فِيهِ أَيْضًا شَيْءٌ، وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُمْ وَلِوُرُودِ الْأَحَادِيثِ فِي مُعَامَلَةِ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام بِأَهْلِ خَيْبَرَ مَحَلُّ نَظَرٍ، فَإِنَّ الْأَحَادِيثَ كَمَا وَرَدَتْ فِي حَقِّ الْمُسَاقَاةِ وَرَدَتْ فِي حَقِّ الْمُزَارَعَةِ أَيْضًا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ، سِيَّمَا الْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ بِطُرُقٍ شَتَّى فِي قِصَّةِ
وَالْمُسَاقَاةُ: هِيَ الْمُعَامَلَةُ وَالْكَلَامُ فِيهَا كَالْكَلَامِ فِي الْمُزَارَعَةِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: الْمُعَامَلَةُ جَائِزَةٌ، وَلَا تَجُوزُ الْمُزَارَعَةُ إلَّا تَبَعًا لِلْمُعَامَلَةِ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي هَذَا الْمُضَارَبَةُ، وَالْمُعَامَلَةُ أَشْبَهُ بِهَا لِأَنَّ فِيهِ شَرِكَةً فِي الزِّيَادَةِ دُونَ الْأَصْلِ. وَفِي الْمُزَارَعَةِ لَوْ شَرَطَا الشَّرِكَةَ فِي الرِّبْحِ دُونَ الْبَذْرِ بِأَنْ شَرَطَا رَفْعَهُ مِنْ رَأْسِ الْخَارِجِ تَفْسُدُ، فَجَعَلْنَا الْمُعَامَلَةَ أَصْلًا، وَجَوَّزْنَا الْمُزَارَعَةَ تَبَعًا لَهَا كَالشُّرْبِ فِي بَيْعِ الْأَرْضِ وَالْمَنْقُولِ فِي وَقْفِ الْعَقَارِ، وَشَرْطُ الْمُدَّةِ قِيَاسٌ فِيهَا لِأَنَّهَا إجَارَةٌ مَعْنًى كَمَا فِي الْمُزَارَعَةُ.
وَفِي الِاسْتِحْسَانِ: إذَا لَمْ يُبَيِّنْ الْمُدَّةَ يَجُوزُ وَيَقَعُ عَلَى أَوَّلِ ثَمَرٍ يَخْرُجُ، لِأَنَّ الثَّمَرَ لِإِدْرَاكِهَا وَقْتٌ مَعْلُومٌ وَقَلَّمَا يَتَفَاوَتُ وَيَدْخُلُ فِيمَا مَا هُوَ الْمُتَيَقَّنُ، وَإِدْرَاكُ الْبَذْرِ فِي أُصُولِ الرَّطْبَةِ فِي هَذَا بِمَنْزِلَةِ إدْرَاكِ الثِّمَارِ، لِأَنَّ لَهُ نِهَايَةً مَعْلُومَةً فَلَا يُشْتَرَطُ بَيَانُ الْمُدَّةِ، بِخِلَافِ الزَّرْعِ لِأَنَّ ابْتِدَاءَهُ يَخْتَلِفُ كَثِيرًا خَرِيفًا
أَهْلِ خَيْبَرَ. وَعَنْ هَذَا قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الْمُزَارَعَةِ: وَهِيَ يَعْنِي الْمُزَارَعَةَ فَاسِدَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: جَائِزَةٌ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام عَامَلَ أَهْلَ خَيْبَرَ عَلَى نِصْفِ مَا يَخْرُجُ مِنْ ثَمَرٍ أَوْ زَرْعٍ» انْتَهَى وَكَأَنَّ كُلًّا مِنْ فَرِيقَيْ الشُّرَّاحِ اطَّلَعَ عَلَى مَا فِي كَلَامِ الْآخَرِ مِنْ الْخَلَلِ حَيْثُ تَرَكَ مَا أَخَلَّ بِهِ الْآخَرُ كَمَا تَرَى (قَوْلُهُ وَالْمُسَاقَاةُ هِيَ الْمُعَامَلَةُ) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ: وَالْمُسَاقَاةُ هِيَ الْمُعَامَلَةُ بِلُغَةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَمَفْهُومُهَا اللُّغَوِيُّ هُوَ الشَّرْعِيُّ، وَهِيَ مُعَاقَدَةُ دَفْعِ الْأَشْجَارِ وَالْكُرُومِ إلَى مَنْ يَقُومُ بِإِصْلَاحِهَا عَلَى أَنْ يَكُونَ لَهُ سَهْمٌ مَعْلُومٌ مِنْ ثَمَرِهَا انْتَهَى، وَرَدَّ عَلَيْهِ صَاحِبُ الْإِصْلَاحِ وَالْإِيضَاحِ حَيْثُ قَالَ: هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ الْمُعَامَلَةِ بِلُغَةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَفِي الشَّرْعِ عَقْدٌ عَلَى دَفْعِ الشَّجَرِ إلَى مَنْ يُصْلِحُهُ بِجُزْءٍ مِنْ ثَمَرِهِ، وَقَالَ فِي الْحَاشِيَةِ: فَمَفْهُومُهَا اللُّغَوِيُّ أَعَمُّ مِنْ الشَّرْعِيِّ لَا عَيْنَهُ كَمَا تَوَهَّمَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ انْتَهَى أَقُولُ: لَيْسَ ذَلِكَ بِوَارِدٍ، إذْ الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُعَامَلَةِ فِي قَوْلِهِ الْمُسَاقَاةُ هِيَ الْمُعَامَلَةُ الْمَعْهُودَةُ بَيْنَ النَّاسِ الْمُسَمَّاةُ بِالْمُسَاقَاةِ بِلُغَةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَهِيَ مُعَاقَدَةُ دَفْعُ الْأَشْجَارُ وَالْكُرُومِ إلَى مَنْ يَقُومُ بِإِصْلَاحِهَا عَلَى أَنْ يَكُونَ لَهُ سَهْمٌ مَعْلُومٌ مِنْ ثَمَرِهَا.
وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهَا مُطْلَقَ الْمُعَامَلَةِ الشَّامِلَةِ لِمِثْلِ الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَسَائِرِ الْعُقُودِ حَتَّى يَكُونَ مَفْهُومُهَا اللُّغَوِيُّ أَعَمَّ مِنْ مَفْهُومِهَا الشَّرْعِيِّ، وَإِلَّا يَلْزَمُ أَنْ لَا يَصِحَّ قَوْلُهُ الْمُسَاقَاةُ هِيَ الْمُعَامَلَةُ بِلُغَةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ لَا يُطْلِقُونَ لَفْظَ الْمُسَاقَاةِ عَلَى كُلِّ مُعَامَلَةٍ، بَلْ إنَّمَا يُطْلِقُونَهُ عَلَى مُعَامَلَةٍ مَخْصُوصَةٍ مَعْهُودَةٍ بَيْنَ النَّاسِ. وَقَدْ اعْتَرَفَ ذَلِكَ الرَّادُّ أَيْضًا بِأَنَّ الْمُسَاقَاةَ عِبَارَةٌ عَنْ الْمُعَامَلَةِ بِلُغَةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ مَفْهُومُهَا اللُّغَوِيُّ أَعَمَّ مِنْ الشَّرْعِيِّ كَمَا لَا يَخْفَى
(قَوْلُهُ وَالْكَلَامُ فِيهَا كَالْكَلَامِ فِي الْمُزَارَعَةِ) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ: يَعْنِي شَرَائِطَهَا هِيَ الشَّرَائِطُ الَّتِي ذُكِرْت لِلْمُزَارَعَةِ انْتَهَى أَقُولُ: فِي هَذَا التَّفْسِيرِ خَلَلٌ، لِأَنَّ الشَّرَائِطَ الَّتِي ذُكِرَتْ لِلْمُزَارَعَةِ لَيْسَ كُلُّهَا شَرْطًا لِلْمُسَاقَاةِ، فَإِنَّ شَرَائِطَ الْمُسَاقَاةِ أَرْبَعَةٌ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ
وَصَيْفًا وَرَبِيعًا، وَالِانْتِهَاءُ بِنَاءٌ عَلَيْهِ فَتَدْخُلُهُ الْجَهَالَةُ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا دَفَعَ إلَيْهِ غَرْسًا قَدْ عُلِّقَ وَلَمْ يَبْلُغْ الثَّمَرُ مُعَامَلَةً حَيْثُ لَا يَجُوزُ إلَّا بِبَيَانِ الْمُدَّةِ لِأَنَّهُ يَتَفَاوَتُ بِقُوَّةِ الْأَرَاضِيِ وَضَعْفِهَا تَفَاوُتًا فَاحِشًا، وَبِخِلَافِ مَا إذَا دَفَعَ نَخِيلًا أَوْ أُصُولَ رُطَبَةٍ عَلَى أَنْ يَقُومَ عَلَيْهَا أَوْ أَطْلَقَ فِي الرُّطَبَةِ تَفْسُدُ الْمُعَامَلَةُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ لِذَلِكَ نِهَايَةٌ مَعْلُومَةٌ، لِأَنَّهَا تَنْمُو مَا تُرِكَتْ فِي الْأَرْضِ فَجُهِلَتْ الْمُدَّةُ (وَيُشْتَرَطُ تَسْمِيَةُ الْجُزْءِ مُشَاعًا) لِمَا بَيَّنَّا فِي الْمُزَارَعَةِ إذْ شَرْطُ جُزْءٍ مُعَيَّنٍ يَقْطَعُ الشَّرِكَةَ (فَإِنْ سَمَّيَا فِي الْمُعَامَلَةِ وَقْتًا يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ الثَّمَرُ فِيهَا فَسَدَتْ الْمُعَامَلَةُ) لِفَوَاتِ الْمَقْصُودِ وَهُوَ الشَّرِكَةُ فِي الْخَارِجِ (وَلَوْ سَمَّيَا مُدَّةً قَدْ يَبْلُغُ الثَّمَرُ فِيهَا وَقَدْ يَتَأَخَّرُ عَنْهَا جَازَتْ) لِأَنَّا لَا نَتَيَقَّنُ بِفَوَاتِ الْمَقْصُودِ، ثُمَّ لَوْ خَرَجَ فِي الْوَقْتِ الْمُسَمَّى فَهُوَ عَلَى الشَّرِكَةِ لِصِحَّةِ الْعَقْدِ، وَإِنْ تَأَخَّرَ فَلِلْعَامِلِ أَجْرُ الْمِثْلِ لِفَسَادِ الْعَقْدِ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ الْخَطَأَ فِي الْمُدَّةِ الْمُسَمَّاةِ فَصَارَ كَمَا إذَا عَلِمَ ذَلِكَ فِي الِابْتِدَاءِ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَخْرُجْ أَصْلًا لِأَنَّ الذَّهَابَ بِآفَةٍ فَلَا يَتَبَيَّنُ فَسَادَ الْمُدَّةِ فَيَبْقَى الْعَقْدُ صَحِيحًا، وَلَا شَيْءَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ.
قَالَ (وَتَجُوزُ الْمُسَاقَاةُ فِي النَّخْلِ وَالشَّجَرِ وَالْكَرْمِ وَالرِّطَابِ وَأُصُولِ الْبَاذِنْجَانِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ: لَا تَجُوزُ إلَّا فِي الْكَرْمِ وَالنَّخْلِ، لِأَنَّ جَوَازَهَا بِالْأَثَرِ وَقَدْ خَصَّهُمَا وَهُوَ حَدِيثُ خَيْبَرَ. وَلَنَا أَنَّ الْجَوَازَ لِلْحَاجَةِ وَقَدْ عَمَّتْ، وَأَثَرُ خَيْبَرَ لَا يَخُصُّهُمَا لِأَنَّ أَهْلَهَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فِي الْأَشْجَارِ
الْإِمَامُ قَاضِي خَانٍ فِي فَتَاوَاهُ، وَذَكَرَ فِي النِّهَايَةِ وَغَيْرِهَا أَيْضًا. وَشَرَائِطُ الْمُزَارَعَةِ ثَمَانِيَةٌ كَمَا مَرَّ فِي الْكِتَابِ فِي أَوَائِلِ الْمُزَارَعَةِ، فَكَيْفَ يَتِمُّ الْقَوْلُ بِأَنَّ شَرَائِطَ الْمُسَاقَاةِ هِيَ الشَّرَائِطُ الَّتِي ذُكِرَتْ لِلْمُزَارَعَةِ، وَقَدْ سَبَقَ صَاحِبُ الْكِفَايَةِ إلَى هَذَا التَّفْسِيرِ الَّذِي ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ، وَلَكِنْ قَيَّدَهُ بِمَا يُصْلِحُهُ فِي الْجُمْلَةِ حَيْثُ قَالَ: أَيْ وَشَرَائِطُهَا هِيَ الشَّرَائِطُ الَّتِي ذُكِرَتْ لِلْمُزَارَعَةِ مِمَّا يَصْلُحُ شَرْطًا لِلْمُسَاقَاةِ انْتَهَى.
ثُمَّ أَقُولُ: لَعَلَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ وَالْكَلَامُ فِيهَا كَالْكَلَامِ فِي الْمُزَارَعَةِ أَنَّ الدَّلِيلَ عَلَى جَوَازِهَا أَوْ عَدَمِ جَوَازِهَا عَلَى الْقَوْلَيْنِ كَمَا مَرَّ فِي الْمُزَارَعَةِ، وَيُرْشِدُ إلَيْهِ قَوْلُهُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ الْمُعَامَلَةُ جَائِزَةٌ، وَلَا تَجُوزُ الْمُزَارَعَةُ إلَّا تَبَعًا إلَخْ، فَإِنَّهُ بَيَانُ قَوْلٍ ثَالِثٍ فَارِقٍ بَيْنَ كَوْنِ الْمُزَارَعَةِ أَصْلًا وَكَوْنِهَا تَبَعًا، فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ وَالْكَلَامُ فِيهَا كَالْكَلَامِ فِي الْمُزَارَعَةِ بَيَانَ شُرُوطِ الْمُسَاقَاةِ كَانَ ذِكْرُهُ بَيْنَ بَيَانِ الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورَةِ أَجْنَبِيًّا كَمَا لَا يَذْهَبُ عَلَى ذِي فَطَانَةٍ (قَوْلُهُ لِأَنَّهَا تَنْمُو مَا تُرِكَتْ فِي الْأَرْضِ فَجُهِلَتْ الْمُدَّةُ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَقَوْلُهُ لِأَنَّهَا تَنْمُو مَا تُرِكَتْ فِي الْأَرْضُ دَلِيلُ الرَّطْبَةِ وَلَمْ يَذْكُرْ دَلِيلَ النَّخِيلِ وَالرَّطْبَةِ إذَا شَرَطَ الْقِيَامَ عَلَيْهِمَا حَتَّى يَذْهَبَ أُصُولُهُمَا لِأَنَّهُ لَا نِهَايَةَ لِذَلِكَ فَكَانَ غَيْرَ مَعْلُومٍ. وَفِي نُسْخَةٍ فَكَانَ مَعْلُومًا انْتَهَى. أَقُولُ: فِيهِ كَلَامٌ. أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ كَوْنَ قَوْلِهِ لِأَنَّهَا تَنْمُو مَا تُرِكَتْ فِي الْأَرْضِ دَلِيلُ الرَّطْبَةِ وَحْدَهَا مَمْنُوعٌ، بَلْ يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ
وَالرِّطَابِ أَيْضًا، وَلَوْ كَانَ كَمَا زَعَمَ فَالْأَصْلُ فِي النُّصُوصِ أَنْ تَكُونَ مَعْلُولَةً سِيَّمَا عَلَى أَصْلِهِ (وَلَيْسَ لِصَاحِبِ الْكَرْمِ أَنْ يُخْرِجَ الْعَامِلَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ) لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِي الْوَفَاءِ بِالْعَقْدِ (وَكَذَا لَيْسَ لِلْعَامِلِ أَنْ يَتْرُكَ الْعَمَلَ بِغَيْرِ عُذْرٍ) بِخِلَافِ الْمُزَارَعَةِ بِالْإِضَافَةِ إلَى صَاحِبِ الْبَذْرِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ. قَالَ (فَإِنْ دَفَعَ نَخْلًا فِيهِ تَمْرٌ مُسَاقَاةً وَالتَّمْرُ يَزِيدُ بِالْعَمَلِ جَازَ وَإِنْ كَانَتْ قَدْ انْتَهَتْ لَمْ يَجُزْ) وَكَذَا عَلَى هَذَا إذَا دَفَعَ الزَّرْعَ وَهُوَ بَقْلٌ جَازَ، وَلَوْ اُسْتُحْصِدَ وَأُدْرِكَ لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّ الْعَامِلَ إنَّمَا يَسْتَحِقُّ بِالْعَمَلِ، وَلَا أَثَرَ لِلْعَمَلِ بَعْدَ التَّنَاهِي وَالْإِدْرَاكِ، فَلَوْ جَوَّزْنَاهُ لَكَانَ اسْتِحْقَاقًا بِغَيْرِ عَمَلٍ وَلَمْ يَرِدْ بِهِ الشَّرْعُ، بِخِلَافِ مَا قَبْلَ ذَلِكَ لِتَحَقُّقِ الْحَاجَةِ إلَى الْعَمَلِ.
قَالَ (وَإِذَا فَسَدَتْ الْمُسَاقَاةُ فَلِلْعَامِلِ أَجْرُ مِثْلِهِ) لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ، وَصَارَ كَالْمُزَارَعَةِ إذَا فَسَدَتْ.
قَالَ (وَتَبْطُلُ الْمُسَاقَاةُ بِالْمَوْتِ) لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى الْإِجَارَةِ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِيهَا، فَإِنْ مَاتَ رَبُّ الْأَرْضِ وَالْخَارِجُ بُسْرٌ فَلِلْعَامِلِ أَنْ يَقُومَ عَلَيْهِ كَمَا كَانَ يَقُومُ قَبْلَ ذَلِكَ إلَى أَنْ يُدْرِكَ الثَّمَرَ، وَإِنْ كَرِهَ ذَلِكَ وَرَثَةُ رَبِّ الْأَرْضُ اسْتِحْسَانًا فَيَبْقَى الْعَقْدُ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ، وَلَا ضَرَرَ فِيهِ عَلَى الْآخَرِ (وَلَوْ الْتَزَمَ الْعَامِلُ الضَّرَرَ يُتَخَيَّرُ وَرَثَةُ الْآخَرِ بَيْنَ أَنْ يَقْسِمُوا الْبُسْرَ عَلَى الشَّرْطِ وَبَيْنَ أَنْ يُعْطُوهُ قِيمَةَ نَصِيبِهِ مِنْ الْبُسْرِ وَبَيْنَ أَنْ يُنْفِقُوا عَلَى الْبُسْرِ حَتَّى يَبْلُغَ فَيَرْجِعُوا بِذَلِكَ فِي حِصَّةِ الْعَامِلِ مِنْ الثَّمَرِ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ إلْحَاقُ الضَّرَرِ بِهِمْ)، وَقَدْ بَيَّنَّا نَظِيرَهُ فِي الْمُزَارَعَةِ (وَلَوْ مَاتَ الْعَامِلُ فَلِوَرَثَتِهِ أَنْ يَقُومُوا عَلَيْهِ وَإِنْ كَرِهَ رَبُّ الْأَرْضِ) لِأَنَّ فِيهِ النَّظَرَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ (فَإِنْ أَرَادُوا أَنْ يَصْرِمُوهُ بُسْرًا كَانَ صَاحِبُ الْأَرْضِ بَيْنَ الْخِيَارَاتِ الثَّلَاثَةِ) الَّتِي بَيَّنَّاهَا.
دَلِيلًا عَلَى الْمَجْمُوعِ لِجَرَيَانِهِ فِي الْمَجْمُوعِ، كَيْفَ لَا وَلَا شَكَّ أَنَّ الدَّلِيلَ وَهُوَ قَوْلُهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِذَلِكَ نِهَايَةٌ مَعْلُومَةٌ يَعُمُّ الْمَجْمُوعَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَعُمَّ ذَلِكَ الدَّلِيلُ أَيْضًا الْمَجْمُوعَ عِنْدَ إمْكَانُ ذَلِكَ.
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ مَا ذَكَرَهُ مِنْ الْعُذْرِ لِعَدَمِ ذِكْرِ الْمُصَنِّفِ دَلِيلَ النَّخِيلِ وَالرَّطْبَةِ إذَا شَرَطَا الْقِيَامَ عَلَيْهِمَا حَتَّى يَذْهَبَ أُصُولُهُمَا لَيْسَ بِتَامٍّ. أَمَّا عَلَى النُّسْخَةِ الْأُولَى الَّتِي مَعْنَاهَا لِأَنَّهُ لَا نِهَايَةَ لِذَلِكَ: أَيْ لِزَمَانِ ذَهَابِ أُصُولِهِمَا، فَكَانَ أَيْ الْمُدَّةُ بِتَأْوِيلِ الْوَقْتِ غَيْرَ مَعْلُومٍ فَلِأَنَّهُ يَرُدُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ إنَّمَا يُفِيدُ تَحَقُّقَ تِينِك الصُّورَتَيْنِ أَيْضًا، وَلَا يَتِمُّ عُذْرًا لِعَدَمِ ذِكْرِ دَلِيلِهِمَا كَمَا هُوَ الْمَقْصُودُ. وَأَمَّا عَلَى النُّسْخَةِ الثَّانِيَةِ الَّتِي مَعْنَاهَا لِأَنَّهُ لَا نِهَايَةَ لِذَلِكَ فَكَانَ مَعْلُومًا: أَيْ كَانَ دَلِيلُ تِينك الصُّورَتَيْنِ مَعْلُومًا لِظُهُورِ إفْسَادِ جَهَالَةِ الْمُدَّةِ الْعَقْدَ فَلَمْ يَحْتَجْ إلَى ذِكْرِهِ، فَلِأَنَّهُ يَرُدُّ عَلَيْهِ أَنْ يَقْتَضِيَ أَنْ لَا يَذْكُرَ دَلِيلَ الرَّطْبَةِ أَيْضًا، لِأَنَّ حَاصِلَ ذَلِكَ الدَّلِيلِ أَيْضًا جَهَالَةُ الْمُدَّةِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَذْكُرَ ذَلِكَ أَيْضًا بِنَاءً عَلَى كَوْنِهِ مَعْلُومًا فَتَأَمَّلْ
(قَوْلُهُ وَلَوْ الْتَزَمَ الْعَامِلُ الضَّرَرَ يَتَخَيَّرُ وَرَثَةُ الْآخَرِ بَيْنَ أَنْ يَقْتَسِمُوا الْبُسْرَ عَلَى الشَّرْطِ، وَبَيْنَ أَنْ يُعْطُوهُ قِيمَةَ نَصِيبِهِ مِنْ الْبُسْرِ، وَبَيْنَ أَنْ يُنْفِقُوا عَلَى الْبُسْرِ حَتَّى يَبْلُغَ فَيَرْجِعُوا بِذَلِكَ فِي حِصَّةِ الْعَامِلِ مِنْ الثَّمَرِ) قَالَ الْإِمَامُ الزَّيْلَعِيُّ فِي شَرْحِ الْكَنْزِ: وَفِي رُجُوعِهِمْ فِي حِصَّتِهِ فَقَطْ إشْكَالٌ.
(وَإِنْ مَاتَا جَمِيعًا فَالْخِيَارُ لِوَرَثَةِ الْعَامِلِ) لِقِيَامِهِمْ مَقَامَهُ، وَهَذَا خِلَافَةٌ فِي حَقٍّ مَالِيٍّ وَهُوَ تَرْكُ الثِّمَارِ عَلَى الْأَشْجَارِ إلَى وَقْتِ الْإِدْرَاكِ لَا أَنْ يَكُونَ وَارِثُهُ فِي الْخِيَارِ (فَإِنْ أَبَى وَرَثَةُ الْعَامِلِ أَنْ يَقُومُوا عَلَيْهِ كَانَ الْخِيَارُ فِي ذَلِكَ لِوَرَثَةِ رَبِّ الْأَرْضُ) عَلَى مَا وَصْفنَا. قَالَ (وَإِذَا انْقَضَتْ مُدَّةُ الْمُعَامَلَةِ وَالْخَارِجُ بُسْرٌ أَخْضَرُ فَهَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ، وَلِلْعَامِلِ أَنْ يَقُومَ عَلَيْهَا إلَى أَنْ يُدْرِكَ لَكِنْ بِغَيْرِ أَجْرٍ) لِأَنَّ الشَّجَرَ لَا يَجُوزُ اسْتِئْجَارُهُ، بِخِلَافِ الْمُزَارَعَةِ فِي هَذَا لِأَنَّ الْأَرْضَ يَجُوزُ اسْتِئْجَارُهَا، وَكَذَلِكَ الْعَمَلُ كُلُّهُ عَلَى الْعَامِلِ هَاهُنَا وَفِي الْمُزَارَعَةِ فِي هَذَا عَلَيْهِمَا، لِأَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ أَجْرُ مِثْلِ الْأَرْضِ بَعْدَ انْتِهَاءِ الْمُدَّةِ عَلَى الْعَامِلِ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ الْعَمَلَ وَهَاهُنَا لَا أَجْرَ فَجَازَ أَنْ يَسْتَحِقَّ الْعَمَلَ كَمَا يَسْتَحِقُّ قَبْلَ انْتِهَائِهَا.
قَالَ (وَتُفْسَخُ بِالْأَعْذَارِ) لِمَا بَيَّنَّا فِي الْإِجَارَاتِ، وَقَدْ بَيَّنَّا وُجُوهَ الْعُذْرِ فِيهَا.
وَمِنْ جُمْلَتِهَا أَنْ يَكُونَ الْعَامِلُ سَارِقًا يَخَافُ عَلَيْهِ سَرِقَةَ السَّعَفِ وَالثَّمَرِ قَبْلَ الْإِدْرَاكِ لِأَنَّهُ يُلْزِمُ صَاحِبَ الْأَرْضِ ضَرَرًا لَمْ يَلْتَزِمْهُ فَتُفْسَخُ بِهِ. وَمِنْهَا مَرَضُ الْعَامِلِ إذَا كَانَ يُضْعِفُهُ عَنْ الْعَمَلِ، لِأَنَّ فِي إلْزَامِهِ اسْتِئْجَارَ الْأُجَرَاءِ زِيَادَةَ ضَرَرٍ عَلَيْهِ وَلَمْ يَلْتَزِمْهُ فَيُجْعَلُ ذَلِكَ عُذْرًا، وَلَوْ أَرَادَ الْعَامِلُ تَرْكَ ذَلِكَ الْعَمَلِ هَلْ يَكُونُ عُذْرًا؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ.
وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَرْجِعُوا عَلَيْهِ بِجَمِيعِهِ لِأَنَّ الْعَامِلَ إنَّمَا يَسْتَحِقُّ بِالْعَمَلِ وَكَانَ الْعَمَلُ كُلُّهُ عَلَيْهِ. وَلِهَذَا إذَا اخْتَارَ الْمُضِيَّ أَوْ لَمْ يَمُتْ صَاحِبُهُ كَانَ الْعَمَلُ كُلُّهُ عَلَيْهِ. فَلَوْ رَجَعُوا عَلَيْهِ بِحِصَّتِهِ فَقَطْ يُؤَدِّي إلَى اسْتِحْقَاقِ الْعَامِلِ بِلَا عَمَلٍ فِي بَعْضِ الْمُدَّةِ، وَكَذَا هَذَا الْإِشْكَالُ وَارِدٌ فِي الْمُزَارَعَةِ أَيْضًا انْتَهَى. وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ بَعْدَ نَقْلِ ذَلِكَ: قُلْت: لَا إشْكَالَ، إذْ مَعْنَى الْكَلَامِ يَرْجِعُونَ فِي حِصَّةِ الْعَامِلِ بِجَمِيعِ مَا أَنْفَقُوا لَا بِحِصَّتِهِ كَمَا فَهِمَهُ هَذَا الْعَلَّامَةُ انْتَهَى. أَقُولُ: مَا قَالَهُ ذَلِكَ الْبَعْضُ مِنْ الْمَعْنَى خِلَافُ مَا صَرَّحُوا بِهِ فِي هَذَا الْمَقَامِ فَإِنَّ عِبَارَةَ الْكَافِي لِلْعَلَّامَةِ النَّسَفِيِّ وَعِبَارَةَ شَرْحِ الْكَافِي لِلْحَاكِمِ الشَّهِيدِ وَعِبَارَةَ غَايَةِ الْبَيَانِ وَغَيْرَهَا هَكَذَا، وَإِنْ شَاءُوا أَنْفَقُوا عَلَى الْبُسْرِ حَتَّى يَبْلُغَ وَيَرْجِعُوا بِنِصْفِ نَفَقَتِهِمْ فِي حِصَّةِ الْعَامِلِ مِنْ الثَّمَرِ كَمَا مَرَّ فِي الْمُزَارَعَةِ انْتَهَى. وَلَا شَكَّ أَنَّهَا صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ مَا يَرْجِعُونَ بِهِ نِصْفُ نَفَقَتِهِمْ لَا جَمِيعَهَا فَأَنَّى يَتَيَسَّرُ الْحَمْلُ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ.
(قَوْلُهُ وَلَوْ أَرَادَ الْعَامِلُ تَرْكَ ذَلِكَ الْعَمَلِ هَلْ يَكُونُ عُذْرًا؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ: يَعْنِي فِي كَوْنِ تَرْكِ الْعَمَلِ عُذْرًا رِوَايَتَانِ: فِي إحْدَاهُمَا لَا يَكُونُ عُذْرًا، وَيُجْبَرُ عَلَى
وَتَأْوِيلُ إحْدَاهُمَا أَنْ يَشْتَرِطَ الْعَمَلَ بِيَدِهِ فَيَكُونَ عُذْرًا مِنْ جِهَتِهِ (وَمَنْ دَفَعَ أَرْضًا بَيْضَاءَ إلَى رَجُلٍ سِنِينَ مَعْلُومَةً يَغْرِسُ فِيهَا شَجَرًا عَلَى أَنْ تَكُونَ الْأَرْضُ وَالشَّجَرُ بَيْنَ رَبِّ الْأَرْضِ وَالْغَارِسِ نِصْفَيْنِ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ) لِاشْتِرَاطِ الشَّرِكَةِ فِيمَا كَانَ حَاصِلًا قَبْلَ الشَّرِكَةِ لَا بِعَمَلِهِ (وَجَمِيعُ الثَّمَرِ وَالْغَرْسِ لِرَبِّ الْأَرْضِ وَلِلْغَارِسِ قِيمَةُ غَرْسِهِ وَأَجْرُ مِثْلِهِ فِيمَا عَمِلَ) لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى قَفِيزِ الطَّحَّانِ: إذْ هُوَ اسْتِئْجَارٌ بِبَعْضِ مَا يَخْرُجُ مِنْ عَمَلِهِ وَهُوَ نِصْفُ الْبُسْتَانُ فَيَفْسُدُ وَتَعَذَّرَ رَدُّ الْغِرَاسِ لِاتِّصَالِهَا بِالْأَرْضِ فَيَجِبُ قِيمَتُهَا وَأَجْرُ مِثْلِهِ لِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي قِيمَةِ الْغِرَاسِ لِتَقَوُّمِهَا بِنَفْسِهَا
ذَلِكَ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَازِمٌ لَا يُفْسَخُ إلَّا مِنْ عُذْرٍ وَهُوَ مَا يَلْحَقُهُ بِهِ ضَرَرٌ وَهُنَا لَيْسَ كَذَلِكَ، وَفِي الْأُخْرَى عُذْرٌ انْتَهَى. أَقُولُ: فِي تَفْسِيرِ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ بِالْوَجْهِ الْمَذْكُورِ خَلَلٌ، إذْ يَصِيرُ حَاصِلُ مَعْنَاهُ حِينَئِذٍ فِي كَوْنِ تَرْكِ الْعَمَلِ عُذْرًا رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا كَوْنُهُ عُذْرًا وَالْأُخْرَى عَدَمُ كَوْنِهِ عُذْرًا فَيُؤَدِّي إلَى كَوْنِ الشَّيْءِ ظَرْفًا لِنَفْسِهِ وَلِنَقِيضِهِ وَلَا يَخْفَى بُطْلَانُ ذَلِكَ، وَالْوَجْهُ عِنْدِي أَنَّ مَعْنَى قَوْلِ الْمُصَنِّفِ فِيهِ رِوَايَتَانِ فِي جَوَابِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ هَلْ يَكُونُ عُذْرًا؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا بِالْإِيجَابِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ عُذْرًا، وَالْأُخْرَى بِالسَّلْبِ وَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ عُذْرًا فَحِينَئِذٍ لَا غُبَارَ فِيهِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى الْفَطِنِ (قَوْلُهُ وَتَأْوِيلُ إحْدَاهُمَا أَنْ يَشْرِطَ الْعَمَلَ بِيَدِهِ فَيَكُونَ عُذْرًا مِنْ جِهَتِهِ) أَقُولُ: فِيهِ أَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ عُذْرًا مِنْ جِهَتِهِ أَنْ لَوْ تَرَكَ ذَلِكَ الْعَمَلَ اضْطِرَارًا بِسَبَبِ حُدُوثِ مَرَضٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، وَأَمَّا إذَا تَرَكَهُ بِالِاخْتِيَارِ فَلَا يَظْهَرُ وَجْهُ كَوْنِهِ عُذْرًا مِنْ جِهَتِهِ، وَالْكَلَامُ هَاهُنَا فِي التَّرْكِ الِاخْتِيَارِيِّ، لِأَنَّ التَّرْكَ الِاضْطِرَارِيَّ إنَّمَا يَكُونُ بِسَبَبِ عُذْرٍ مُقَرَّرٍ.
وَقَدْ مَرَّ مَسْأَلَةُ جَوَازِ الْفَسْخِ بِالْأَعْذَارِ رِوَايَةً وَاحِدَةً، فَذِكْرُ مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ بَعْدَهَا وَبَيَانُ وُقُوعِ الرِّوَايَتَيْنِ فِيهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِتَرْكِ ذَلِكَ الْعَمَلِ فِي قَوْلِهِ وَلَوْ أَرَادَ الْعَامِلُ تَرْكَ ذَلِكَ الْعَمَلِ هُوَ التَّرْكُ الِاخْتِيَارِيُّ لَا غَيْرُ فَتَأَمَّلْ (قَوْلُهُ وَتَعَذَّرَ رَدُّ الْغِرَاسِ لِاتِّصَالِهَا بِالْأَرْضِ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: يَعْنِي لَوْ وَقَعَ الْغِرَاسُ وَسَلَّمَهَا لَمْ يَكُنْ تَسْلِيمًا لِشَجَرِ الْغِرَاسِ، بَلْ يَكُونُ تَسْلِيمًا لِقِطْعَةِ خَشَبَةٍ، وَهُوَ مَا شَرَطَ ذَلِكَ، بَلْ شَرَطَ تَسْلِيمَ الشَّجَرِ بِقَوْلِهِ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْأَرْضُ وَالشَّجَرُ بَيْنَ رَبِّ الْأَرْضِ وَالْغَارِسِ نِصْفَيْنِ، فَلَمَّا لَمْ يُمْكِنْ تَسْلِيمُهَا وَهِيَ نَابِتَةٌ وَجَبَ رَدُّ قِيمَتِهَا انْتَهَى وَاقْتَفَى أَثَرَهُ فِي شَرْحُ هَذَا الْمَحَلِّ عَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ صَاحِبُ مِعْرَاجِ الدَّارِيَةِ وَصَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَاعْتَرَضَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ عَلَى قَوْلِهِمْ لَوْ قَلَعَ الْغِرَاسَ وَسَلَّمَهَا لَمْ يَكُنْ تَسْلِيمًا لِلشَّجَرِ بَلْ يَكُونُ تَسْلِيمًا لِقِطْعَةِ خَشَبَةٍ حَيْثُ قَالَ: فِيهِ بَحْثٌ، إذْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ حِينَئِذٍ لَمْ يَكُنْ تَسْلِيمًا لِلشَّجَرِ انْتَهَى.
أَقُولُ: مَنْعُ ذَلِكَ مُكَابَرَةٌ، لِأَنَّ الشَّجَرَ عَلَى مَا نُصَّ عَلَيْهِ فِي عَامَّةِ كُتُبِ اللُّغَةِ مَا كَانَ عَلَى سَاقٍ مِنْ نَبَاتِ الْأَرْضِ، فَإِذَا قَلَعَ الْغِرَاسَ لَمْ يُصَدَّقْ عَلَيْهِ هَذَا الْحَدُّ فَلَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ لَفْظُ الشَّجَرِ فَلَا يَكُونُ تَسْلِيمُ الْمَقْلُوعِ تَسْلِيمًا لِلشَّجَرِ لَا مَحَالَةَ بَلْ يَكُونُ تَسْلِيمًا لِقِطْعَةِ خَشَبَةٍ كَمَا قَالَهُ هَؤُلَاءِ الشُّرَّاحُ، نَعَمْ إنَّ قَوْلَهُمْ كَانَ الْمَشْرُوطُ تَسْلِيمَ الشَّجَرِ لَا تَسْلِيمَ قِطْعَةِ خَشَبَةٍ مُسْتَدْرَكٌ لَا يُجْدِي طَائِلًا هَاهُنَا، لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْغَارِسِ لِلشَّجَرِ لَيْسَ بِمُقْتَضَى الشَّرْطِ بَلْ يَكُونُ
وَفِي تَخْرِيجِهَا طَرِيقٌ آخَرُ بَيَّنَّاهُ فِي كِفَايَةِ الْمُنْتَهَى، وَهَذَا أَصَحُّهُمَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
كِتَابُ الذَّبَائِحِ
الشَّجَرُ مِلْكًا لَهُ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ، وَلِهَذَا يَجِبُ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ رَدُّ قِيمَةِ تَمَامِ الْغِرَاسِ مَعَ كَوْنِ الْمَشْرُوطِ أَنْ يَكُونَ الْأَرْضُ وَالشَّجَرُ بَيْنَ رَبِّ الْأَرْضِ وَالْغَارِسِ نِصْفَيْنِ تَدَبَّرْ تَرْشُدْ (قَوْلُهُ وَفِي تَخْرِيجِهَا طَرِيقٌ آخَرُ بَيَّنَّاهُ فِي كِفَايَةِ الْمُنْتَهَى) يَعْنِي وَفِي تَخْرِيجِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ طَرِيقٌ آخَرُ: أَيْ دَلِيلٌ آخَرُ سِوَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِنَا هَذَا مِنْ طَرِيقِ قَفِيزِ الطَّحَّانِ بَيَّنَّاهُ: أَيْ بَيَّنَّا ذَلِكَ الطَّرِيقَ الْآخَرَ فِي كِفَايَةِ الْمُنْتَهَى، قَالَ كَثِيرٌ مِنْ الشُّرَّاحِ فِي تَفْسِيرِ ذَلِكَ الطَّرِيقِ: وَهُوَ شِرَاءُ رَبِّ الْأَرْضِ نِصْفَ الْغِرَاسِ مِنْ الْعَامِلِ بِنِصْفِ أَرْضِهِ، أَوْ شِرَاؤُهُ جَمِيعَ الْغِرَاسِ بِنِصْفِ أَرْضِهِ وَنِصْفِ الْخَارِجِ، فَكَانَ عَدَمُ جَوَازِ هَذَا الْعَقْدِ لِجَهَالَةِ الْغِرَاسِ نِصْفَهَا أَوْ جَمِيعَهَا لَا لِاعْتِبَارِ مَعْنَى الِاسْتِئْجَارِ الَّذِي هُوَ فِي مَعْنَى قَفِيزِ الطَّحَّانِ انْتَهَى، أَقُولُ: يَرُدُّ عَلَى الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ مِمَّا ذَكَرُوهُ وَهِيَ قَوْلُهُمْ أَوْ شِرَاؤُهُ جَمِيعَ الْغِرَاسِ بِنِصْفِ أَرْضِهِ وَنِصْفِ الْخَارِجِ أَنَّهَا لَا تَصْلُحُ لَأَنْ تَكُونَ طَرِيقَ تَخْرِيجِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، لِأَنَّ وَضْعَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْأَرْضُ وَالشَّجَرُ بَيْنَ رَبُّ الْأَرْضِ وَالْغَارِسِ نِصْفَيْنِ.
وَفِي الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ يَكُونُ جَمِيعُ الْغِرَاسِ لِرَبِّ الْأَرْضِ فَلَا يُتَصَوَّرُ الْمُنَاصَفَةُ فِي الشَّجَرِ.
(كِتَابُ الذَّبَائِحِ)
قَالَ جُمْهُورُ الشُّرَّاحِ: الْمُنَاسَبَةُ بَيْنَ الْمُزَارَعَةِ وَالذَّبَائِحِ كَوْنُهُمَا إتْلَافًا فِي الْحَالِ لِلِانْتِفَاعِ فِي الْمَآلِ، فَإِنَّ الْمُزَارَعَةَ إنَّمَا تَكُونُ بِإِتْلَافِ الْحَبِّ فِي الْأَرْضِ لِلِانْتِفَاعِ بِمَا يَنْبُتُ مِنْهَا، وَالذَّبْحُ إتْلَافُ الْحَيَوَانِ بِإِزْهَاقِ رُوحِهِ فِي الْحَالِ لِلِانْتِفَاعِ بِلَحْمِهِ بَعْدَ ذَلِكَ انْتَهَى. أَقُولُ: يُتَّجَهُ عَلَى ظَاهِرِ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْمُنَاسَبَةِ أَنَّهُ إنَّمَا يَقْتَضِي تَعْقِيبَ الْمُزَارَعَةِ بِالذَّبَائِحِ دُونَ تَعْقِيبِ الْمُسَاقَاةِ بِالذَّبَائِحِ، إذْ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
لَا إتْلَافَ فِي الْمُسَاقَاةِ. وَاَلَّذِي وَقَعَ فِي تَرْتِيبِ الْكِتَابِ تَعْقِيبُ الْمُسَاقَاةِ بِالذَّبَائِحِ لَا تَعْقِيبُ الْمُزَارَعَةِ بِهَا فَلَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ. اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُقَالَ: جَعَلُوا الْمُزَارَعَةَ وَالْمُسَاقَاةَ فِي حُكْمِ شَيْءٍ وَاحِدٍ بِنَاءً عَلَى اتِّحَادِهِمَا فِي أَكْثَرِ الشَّرَائِطِ وَالْأَحْكَامِ كَمَا تَقَرَّرَ فِي مَبَاحِثِهِمَا، فَكَانَتْ الْمُنَاسَبَةُ الْمَذْكُورَةُ بَيْنَ الْمُزَارَعَةِ وَالذَّبَائِحِ بِمَنْزِلَةِ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ الْمُسَاقَاةِ وَالذَّبَائِحِ فَاكْتَفَوْا بِذَلِكَ، وَعَنْ هَذَا تَرَى كَثِيرًا مِنْ أَصْحَابِ مُعْتَبَرَاتِ الْفَتَاوَى كَالذَّخِيرَةِ وَالْمُحِيطِ وَفَتَاوَى قَاضِي خَانٍ وَغَيْرِهَا اكْتَفَوْا بِذِكْرِ كِتَابِ الْمُزَارَعَةِ وَجَعَلُوا الْمُسَاقَاةَ بَابًا مِنْهَا وَعَنْوَنَوهَا بِالْمُعَامَلَةِ، وَذِكْرُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْمُزَارَعَةِ وَالْمُسَاقَاةِ فِي الْكِتَابِ بِكِتَابٍ عَلَى حِدَةٍ لَا يَدُلُّ عَلَى اسْتِبْدَادِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِذَاتِهَا وَاخْتِصَاصِهَا بِأَحْكَامِهَا، بَلْ يَكْفِي جِهَةُ التَّغَايُرِ بَيْنَهُمَا فِي الْجُمْلَةِ.
أَلَا يَرَى أَنَّهُمْ ذَكَرُوا الصَّرْفَ بِكِتَابٍ عَلَى حِدَةٍ عَقِيبَ ذِكْرِهِمْ كِتَابَ الْبُيُوعِ مَعَ أَنَّهُ أَنْوَاعُ الْبُيُوعِ قَطْعًا كَمَا صَرَّحُوا بِهِ، ثُمَّ إنَّ الذَّبَائِحَ جَمْعُ ذَبِيحَةٍ وَهِيَ اسْمُ مَا يُذْبَحُ كَالذَّبْحِ وَالذَّبْحُ مَصْدَرُ ذَبَحَ إذَا قَطَعَ الْأَوْدَاجَ، كَذَا فِي الْكَافِي وَالْكِفَايَةِ اعْلَمْ أَنَّ بَعْضَ الْعِرَاقِيِّينَ مِنْ مَشَايِخِنَا ذَهَبُوا إلَى أَنَّ الذَّبْحَ مَحْظُورٌ عَقْلًا لِمَا فِيهِ مِنْ إيلَامِ الْحَيَوَانِ وَلَكِنَّ الشَّرْعَ أَحَلَّهُ قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ فِي الْمَبْسُوطِ بَعْدَ نَقْلِ قَوْلِهِمْ: وَهَذَا عِنْدِي بَاطِلٌ، لِأَنَّ «رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَتَنَاوَلُ اللَّحْمَ قَبْلَ مَبْعَثِهِ» وَلَا يُظَنُّ بِهِ أَنَّهُ كَانَ يَأْكُلُ ذَبَائِحَ الْمُشْرِكِينَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَذْبَحُونَ بِأَسْمَاءِ الْأَصْنَامِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ كَانَ يَذْبَحُ وَيَصْطَادُ بِنَفْسِهِ، وَمَا كَانَ يَفْعَلُ مَا كَانَ مَحْظُورًا عَقْلًا كَالْكَذِبِ وَالظُّلْمِ وَالسَّفَهِ انْتَهَى. وَقَالَ فِي الْعِنَايَةِ بَعْدَ ذِكْرِ ذَلِكَ: أُجِيبَ بِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَا كَانَ يَأْكُلُ ذَبَائِحَ أَهْلُ الْكِتَابِ وَلَيْسَ الذَّبْحُ كَالْكَذِبِ وَالظُّلْمِ. لِأَنَّ الْمَحْظُورَ الْعَقْلِيَّ ضَرْبَانِ: مَا يُقْطَعُ بِتَحْرِيمِهِ فَلَا يَرِدُ الشَّرْعُ بِإِبَاحَتِهِ إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ، وَمَا فِيهِ نَوْعُ تَجْوِيزٍ مِنْ حَيْثُ تَصَوُّرِ مَنْفَعَةٍ فَيَجُوزُ أَنْ يَرِدَ الشَّرْعُ بِإِبَاحَتِهِ وَيُقَدَّمَ عَلَيْهِ قَبْلَهُ نَظَرًا إلَى نَفْعِهِ كَالْحِجَامَةِ لِلْأَطْفَالِ وَتَدَاوِيهِمْ بِمَا فِيهِ أَلَمٌ لَهُمْ انْتَهَى.
وَقَالَ الْعَيْنِيُّ بَعْدَ نَقْلِ مَا قَالَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ: وَالْجَوَابُ الْمَذْكُورُ فِي الْعِنَايَةِ: قُلْت كُلٌّ مِنْ الْكَلَامَيْنِ لَا يَخْلُو عَنْ نَظَرٍ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَذْبَحُ بِنَفْسِهِ قَبْلَ الْبَعْثَةِ. وَأَمَّا الثَّانِي فَكَذَلِكَ يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَأْكُلُ مِنْ ذَبَائِحِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ أَكَلَ شَيْئًا مِنْ الذَّبِيحَةِ إلَّا بَعْدَ الْبَعْثَةِ انْتَهَى. أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ، لِأَنَّ كَوْنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَتَنَاوَلُ اللَّحْمَ قَبْلَ الْبَعْثَةِ أَمْرٌ مُتَوَاتِرٌ لَا يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَذْبَحُ بِنَفْسِهِ عِنْدَ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ أَنْ لَا يُظَنَّ بِهِ عليه الصلاة والسلام أَنَّهُ كَانَ يَأْكُلُ ذَبَائِحَ الْمُشْرِكِينَ كَمَا ذَكَرَهُ، وَالْمُجِيبُ يَمْنَعُ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى جَوَازِ أَنَّهُ كَانَ كَانَ يَأْكُلُ ذَبَائِحَ أَهْلِ الْكِتَابِ.
قَالَ (الذَّكَاةُ شَرْطُ حِلِّ الذَّبِيحَةِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ} وَلِأَنَّ بِهَا يَتَمَيَّزُ الدَّمُ النَّجِسُ مِنْ اللَّحْمُ الطَّاهِرُ. وَكَمَا يَثْبُتُ بِهِ الْحِلُّ يَثْبُتُ بِهِ الطَّهَارَةُ فِي الْمَأْكُولِ وَغَيْرُهُ، فَإِنَّهَا تُنْبِئُ عَنْهَا. وَمِنْهَا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «ذَكَاةُ الْأَرْضِ يُبْسُهَا» وَهِيَ اخْتِيَارِيَّةٌ كَالْجُرْحِ فِيمَا بَيْنَ اللَّبَّةِ وَاللَّحْيَيْنِ، وَاضْطِرَارِيَّةٌ وَهِيَ الْجُرْحُ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ مِنْ الْبَدَنُ. وَالثَّانِي كَالْبَدَلِ عَنْ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ لَا يُصَارُ إلَيْهِ إلَّا عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ الْأَوَّلِ.
وَهَذَا آيَةُ الْبَدَلِيَّةِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْأَوَّلَ أَعْمَلُ فِي إخْرَاجِ الدَّمِ وَالثَّانِيَ أَقْصَرُ فِيهِ، فَاكْتَفَى بِهِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ الْأَوَّلِ، إذْ التَّكْلِيفُ بِحَسْبِ الْوُسْعِ. وَمِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ الذَّابِحُ صَاحِبَ مِلَّةِ التَّوْحِيدِ إمَّا اعْتِقَادًا كَالْمُسْلِمِ أَوْ دَعْوَى كَالْكِتَابِيِّ، وَأَنْ يَكُونَ حَلَالًا
وَلَا يَلْزَمُهُ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ وَلَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِكَوْنِهِ مَانِعًا لَا مُسْتَدِلًّا فَلَا مَحَلَّ لِنَظَرِهِ أَصْلًا (قَوْلُهُ قَالَ الذَّكَاةُ شَرْطُ حِلِّ الذَّبِيحَةِ) قَالَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ: وَهَذَا وَقَعَ عَلَى خِلَافِ وَضْعِ الْكِتَابِ. لِأَنَّهُ إذَا ذَكَرَ لَفْظَ قَالَ فِي أَوَّلِ الْمَسْأَلَةِ كَانَ يُشِيرُ بِهِ إلَى مَا ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَوْ مُخْتَصَرِ الْقُدُورِيِّ، وَهُنَا لَمْ تَقَعْ الْإِشَارَةُ إلَى أَحَدِهِمَا، وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْهُ فِي الْبِدَايَةِ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُورِدَ لَفْظَ قَالَ أَوْ يَقُولُ قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ مُشِيرًا بِهِ إلَى نَفْسِهِ انْتَهَى. وَقَالَ الْعَيْنِيُّ بَعْدَ نَقْلِ ذَلِكَ: قُلْت هَذَا تَطْوِيلٌ بِلَا فَائِدَةٍ، لِأَنَّهُ ذَكَرَ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ الْكِتَابِ لَفْظَةَ قَالَ بِإِضْمَارِ الْفَاعِلِ وَأَرَادَ بِهِ نَفْسَهُ، فَهَذَا أَيْضًا مِثْلُهُ، وَلَا يَلْزَمُ تَعْيِينُ الْفَاعِلِ؛ أَلَا يَرَى أَنَّهُ عِنْدَ إسْنَادُ الْقَوْلِ إلَى الْقُدُورِيِّ أَوْ مُحَمَّدِ بْنُ الْحَسَنِ لَمْ يُصَرِّحْ بِفَاعِلِهِ، وَكَذَلِكَ عِنْدَ إسْنَادِهِ إلَى نَفْسِهِ، وَلَا يَخْفَى هَذَا إلَّا عَلَى مَنْ لَمْ يُمَيِّزْ مَسَائِلَ الْقُدُورِيِّ مِنْ مَسَائِلِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، وَمَنْ لَمْ يُمَيِّزْ بَيْنَهُمَا لَمْ يَسْتَحِقَّ الْخَوْضَ فِي الْهِدَايَةِ انْتَهَى كَلَامُهُ.
أَقُولُ: الْحَقُّ مَا ذَكَرَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ وَقَوْلِ الْعَيْنِيِّ ذَكَرَ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ الْكِتَابِ لَفْظَةَ قَالَ بِإِضْمَارِ الْفَاعِلِ وَأَرَادَ بِهِ نَفْسَهُ، إنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ ذَكَرَهَا فِي أَوَّلِ الْمَسْأَلَةِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ الْكِتَابِ مُشِيرًا بِهَا إلَى نَفْسِهِ فَهُوَ فِرْيَةٌ بِلَا مِرْيَةٍ، فَإِنَّهُ إذَا ذَكَرَهَا فِي أَوَّلِ الْمَسْأَلَةِ كَانَ يُشِيرُ بِهَا إلَى مَا ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَوْ مُخْتَصَرِ الْقُدُورِيِّ عَلَى الِاطِّرَادِ كَمَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْغَايَةِ، وَإِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّهُ ذَكَرَهَا فِي غَيْرِ أَوَّلِ الْمَسْأَلَةِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ الْكِتَابِ مُشِيرًا بِهَا إلَى نَفْسِهِ فَهُوَ وَاقِعٌ، وَلَكِنْ إذَا ذَكَرَهَا فِي مِثْلِ تِلْكَ الْمَوَاضِعِ كَأَنْ يَقُولَ قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ عَلَى مَا وَقَعَ فِي النُّسَخِ الْقَدِيمَةِ أَوْ قَالَ رضي الله عنه عَلَى مَا وَقَعَ فِي النُّسَخِ الْجَدِيدَةِ وَلَمْ يَقَعْ مِنْهُ ذِكْرُ لَفْظَةِ قَالَ وَحْدَهَا فِي مِثْلِ تِلْكَ الْمَوَاضِعِ قَطُّ، وَهَذَا غَيْرُ خَافٍ عَلَى مَنْ لَهُ دَارِيَةٌ بِأَسَالِيبِ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ، فَالشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ مُكَابِرٌ فِيمَا ذَكَرَهُ هَاهُنَا (قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ} فَإِنَّ حُكْمَ مَا بَعْدَ الِاسْتِثْنَاءِ يُخَالِفُ مَا قَبْلَهُ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى قَبْلَهُ
خَارِجَ الْحَرَمِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَالَ (وَذَبِيحَةُ الْمُسْلِمِ وَالْكِتَابِيِّ حَلَالٌ) لِمَا تَلَوْنَا. وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} وَيَحِلُّ إذَا كَانَ يَعْقِلُ التَّسْمِيَةَ وَالذَّبِيحَةَ وَيَضْبِطُ وَإِنْ كَانَ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا أَوْ امْرَأَةً، أَمَّا إذَا كَانَ لَا يَضْبِطُ وَلَا يَعْقِلُ التَّسْمِيَةَ وَالذَّبِيحَةَ لَا تَحِلُّ لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ عَلَى الذَّبِيحَةِ شَرْطٌ بِالنَّصِّ وَذَلِكَ
{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} إلَى آخِرِهِ.
فَاسْتَثْنَى مِنْ الْحُرْمَةِ الْمُذَكَّى فَيَكُونُ حَلَالًا. قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَالْمُرَتَّبُ عَلَى الْمُشْتَقِّ مَعْلُولٌ لِلصِّفَةِ الْمُشْتَقِّ مِنْهَا، لَكِنْ لَمَّا كَانَ الْحِلُّ ثَابِتًا بِالشَّرْعِ جُعِلَتْ شَرْطًا انْتَهَى. أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا الْكَلَامُ مِنْهُ بِمَعْقُولِ الْمَعْنَى، لِأَنَّ ثُبُوتَ الْحِلِّ بِالشَّرْعِ مِمَّا لَا يُنَافِي كَوْنَ الصِّفَةِ الْمُشْتَقِّ مِنْهَا الَّتِي هِيَ الذَّكَاةُ عِلَّةَ الْحُكْمِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى عَلَى ذِي مُسْكَةٍ.
(قَوْلُهُ وَذَبِيحَةُ الْمُسْلِمِ وَالْكِتَابِيِّ حَلَالٌ) لِمَا تَلَوْنَا وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} عَنَى بِقَوْلِهِ لِمَا تَلَوْنَا قَوْله تَعَالَى {إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ} وَهُوَ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ وقَوْله تَعَالَى {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} فِي حَقِّ الْكِتَابِيِّ مِنْ بَابِ اللَّفِّ وَالنَّشْرِ، كَذَا ذَكَرَهُ تَاجُ الشَّرِيعَةِ، وَهُوَ الْأَحْسَنُ عِنْدِي أَيْضًا فِي بَيَانِ مُرَادِ الْمُصَنِّفِ هُنَا. قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَقَوْلُهُ لِمَا تَلَوْنَا إشَارَةٌ إلَى قَوْله تَعَالَى {إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ} وَلَمَا اسْتَشْعَرَ أَنْ يُقَالَ {إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ} عَامٌّ مَخْصُوصٌ لِخُرُوجِ الْوَثَنِيِّ وَالْمُرْتَدِّ وَالْمَجُوسِيِّ فَلَا يَكُونُ قَاطِعًا فِي الْإِفَادَةِ، ضَمَّ إلَيْهِ قَوْلَهُ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} إلَى هُنَا كَلَامُهُ أَقُولُ: فِيهِ بَحْثٌ.
أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْخِطَابَ فِي قَوْله تَعَالَى {إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ} عَامٌّ لِلْكُفَّارِ بَلْ الظَّاهِرُ أَنَّهُ مَخْصُوصٌ بِالْمُؤْمِنِينَ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ وَالسِّيَاقُ فِي النَّظْمِ الشَّرِيفِ، أَلَا يَرَى أَنَّ مَا قَبْلَهُ أَوَّلَ سُورَةِ الْمَائِدَةِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} وَلَا شَكَّ أَنَّ الْخِطَابَاتِ الْوَاقِعَةَ هُنَا لِلْمُؤْمِنِينَ خَاصَّةً
بِالْقَصْدِ.
وَصِحَّةُ الْقَصْدِ بِمَا ذَكَرْنَا. وَالْأَقْلَفُ وَالْمَخْتُونُ سَوَاءٌ لِمَا ذَكَرْنَا، وَإِطْلَاقُ الْكِتَابِيِّ يَنْتَظِمُ الْكِتَابِيَّ وَالذِّمِّيَّ وَالْحَرْبِيَّ وَالْعَرَبِيَّ وَالتَّغْلِبِيَّ، لِأَنَّ الشَّرْطَ قِيَامُ الْمِلَّةِ عَلَى مَا مَرَّ. قَالَ (وَلَا تُؤْكَلُ ذَبِيحَةُ الْمَجُوسِيِّ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ غَيْرَ نَاكِحِي نِسَائِهِمْ وَلَا آكِلِي ذَبَائِحِهِمْ» وَلِأَنَّهُ لَا يَدَّعِي التَّوْحِيدَ فَانْعَدَمَتْ الْمِلَّةُ اعْتِقَادًا وَدَعْوَى. قَالَ (وَالْمُرْتَدِّ) لِأَنَّهُ لَا مِلَّةَ لَهُ. فَإِنَّهُ لَا يُقِرُّ عَلَى مَا انْتَقَلَ إلَيْهِ، بِخِلَافِ الْكِتَابِيِّ إذَا تَحَوَّلَ إلَى غَيْرِ دِينِهِ لِأَنَّهُ يُقِرُّ عَلَيْهِ عِنْدَنَا فَيُعْتَبَرُ مَا هُوَ عَلَيْهِ عِنْدَ الذَّبْحِ لَا مَا قَبْلَهُ. قَالَ (وَالْوَثَنِيِّ) لِأَنَّهُ لَا يَعْتَقِدُ الْمِلَّةَ.
ثُمَّ قَالَ عز وجل {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ} وَقَالَ الْقَاضِي الْبَيْضَاوِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ: إنَّ قَوْله تَعَالَى {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} إلَخْ بَيَانٌ لِمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ، فَلَا جَرَمَ وَيَكُونُ الْخِطَابُ فِي {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ} وَ {إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ} لِلْمُؤْمِنِينَ خَاصَّةً أَيْضًا فَلَا يَكُونُ مِمَّا يَعُمُّ الْوَثَنِيَّ وَنَحْوَهُ، وَلَئِنْ سُلِّمَ عُمُومُهُ لِلْوَثَنِيِّ وَنَحْوِهِ أَيْضًا فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ الْعَامِّ الَّذِي خَصَّ مِنْهُ الْبَعْضَ، بَلْ هُوَ مِنْ قَبِيلِ الْعَامِّ الَّذِي نُسِخَ بَعْضُهُ بِإِخْرَاجِ الْوَثَنِيِّ وَالْمَجُوسِيِّ وَالْمُرْتَدِّ مِنْ حُكْمِهِ، إذْ قَدْ تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ أَنَّ التَّخْصِيصَ عِنْدَنَا إنَّمَا يُطْلَقُ عَلَى قَصْرِ الْعَامِّ عَلَى بَعْضِ مَا يَتَنَاوَلُهُ بِمَا هُوَ مُسْتَقِلٌّ مَوْصُولٌ بِالْعَامِّ، وَأَنَّ قَصْرَهُ عَلَى بَعْضِ مَا يَتَنَاوَلُهُ بِمَا هُوَ مُسْتَقِلٌّ غَيْرُ مَوْصُولٍ بِهِ هُوَ النَّسْخُ لَا التَّخْصِيصَ، وَأَنَّ الَّذِي لَا يَكُونُ قَطْعِيًّا إنَّمَا هُوَ الْعَامُّ الَّذِي خَصَّ مِنْهُ بَعْضَ مَا يَتَنَاوَلُهُ دُونَ الْعَامِّ الَّذِي نَسَخَ بَعْضَ مَا يَتَنَاوَلُهُ فَإِنَّهُ يَكُونُ قَطْعِيًّا فِي الْبَاقِي بِلَا رَيْبٍ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ قَبِيلِ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ لِأَنَّ الَّذِي يُخْرِجُ الْوَثَنِيَّ وَنَحْوَهُ غَيْرُ مَوْصُولٍ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ} فَكَانَ قَطْعِيًّا فِي الْإِفَادَةِ.
وَلَئِنْ سُلِّمَ كَوْنُهُ ظَنِّيًّا غَيْرَ قَاطِعٍ فِي الْإِفَادَةِ فَهُوَ كَافٍ فِي إفَادَةِ الْمَطْلُوبِ هُنَا بِلَا حَاجَةٍ إلَى ضَمِّ شَيْءٍ آخَرَ، إذْ قَدْ تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ أَيْضًا أَنَّ الدَّلِيلَ الظَّنِّيَّ يُفِيدُ وُجُوبَ الْعَمَلِ وَإِنْ لَمْ يُفِدْ وُجُوبَ الِاعْتِقَادِ وَمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ الْعَمَلِيَّاتِ وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ مِثْلَ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي قَوْله تَعَالَى {إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ} يُتَّجَهُ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} بِأَنْ يُقَالَ أَيْضًا: إنَّهُ عَامٌّ مَخْصُوصٌ لِخُرُوجِ مَا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَيَقْتَضِي أَنْ يُضَمَّ إلَيْهِ أَيْضًا دَلِيلٌ آخَرُ. وَأَمَّا ثَالِثًا فَلِأَنَّ الضَّمَّ الْمَذْكُورَ إنَّمَا يُفِيدُ فِي حَقِّ ذَبِيحَةِ الْكِتَابِيِّ دُونَ ذَبِيحَةِ الْمُسْلِمِ لِاخْتِصَاصِ الدَّلِيلِ الْمَضْمُومِ بِالْكِتَابِيِّ فَيَلْزَمُ أَنْ يَبْقَى الدَّلِيلُ قَاصِرًا عَنْ إفَادَةِ حِلِّ ذَبِيحَةِ الْمُسْلِمِ عَلَى مَبْنَى زَعْمِ الشَّارِحِ الْمَزْبُورِ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّ الدَّلِيلَ الثَّانِيَ إذَا أَفَادَ حِلَّ ذَبِيحَةِ الْكِتَابِيِّ أَفَادَ حِلَّ ذَبِيحَةِ الْمُسْلِمِ أَيْضًا دَلَالَةً. ثُمَّ إنَّ الْمُرَادَ بِالطَّعَامِ فِي قَوْله تَعَالَى {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} ذَبَائِحُهُمْ قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: طَعَامُهُمْ ذَبَائِحُهُمْ. وَاسْتَدَلَّ صَاحِبُ الْكَافِي وَكَثِيرٌ مِنْ الشُّرَّاحِ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُحْمَلُ عَلَى ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِتَخْصِيصِ أَهْلِ الْكِتَابِ بِالذِّكْرِ فَائِدَةٌ، إذْ يَسْتَوِي الْكِتَابِيُّ وَغَيْرُهُ فِيمَا سِوَى الذَّبَائِحِ مِنْ الْأَطْعِمَةِ، فَإِنَّ الْمَجُوسِيَّ إذَا اصْطَادَ سَمَكَةً حَلَّ أَكْلُهَا.
وَرَدَّ عَلَيْهِمْ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ حَيْثُ قَالَ بَعْدَ نَقْلِ اسْتِدْلَالِهِمْ الْمَذْكُورِ: وَفِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّ التَّخْصِيصَ بِاسْمِ الْعَلَمِ لَا يَدُلُّ عَلَى النَّفْيِ عَمَّا سِوَاهُ اهـ أَقُولُ: لَيْسَ ذَاكَ بِشَيْءٍ، إذْ لَا يَخْفَى عَلَى الْفَطِنِ أَنَّهُ لَيْسَ مَدَارُ اسْتِدْلَالِهِمْ الْمَذْكُورِ عَلَى أَنَّ التَّخْصِيصَ بِاسْمِ الْعَلَمِ يَدُلُّ عَلَى النَّفْيِ عَمَّا سِوَاهُ، بَلْ مُرَادُهُمْ كَمَا يُنَادِي عَلَيْهِ كَلَامُهُمْ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُحْمَلْ عَلَى ذَلِكَ لَخَلَا تَخْصِيصُ أَهْلِ الْكِتَابِ بِالذِّكْرِ فِي كَلَامِ رَبِّ الْعِزَّةُ عَنْ الْفَائِدَةِ تَعَالَى عَنْهُ عُلُوًّا كَبِيرًا، وَلَا يَذْهَبُ عَلَيْك أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِهَذَا الْوَجْهِ مُتَمَشٍّ عَلَى أَصْلِ مَنْ لَا يَقُولُ بِمَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ أَيْضًا، إذْ لَا يَرْضَى أَحَدٌ بِخُلُوِّ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ الْفَائِدَةِ (قَوْلُهُ وَالْأَقْلَفُ وَالْمَخْتُونُ سَوَاءٌ لِمَا ذَكَرْنَا) اخْتَلَفَ الشُّرَّاحُ فِي تَعْيِينِ مُرَادِ الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ لِمَا ذَكَرْنَا، فَقَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ
قَالَ (وَالْمُحَرَّمُ) يَعْنِي مِنْ الصَّيْدِ (وَكَذَا لَا يُؤْكَلُ مَا ذُبِحَ فِي الْحَرَمِ مِنْ الصَّيْدِ) وَالْإِطْلَاقُ فِي الْمُحَرَّمِ يَنْتَظِمُ الْحِلَّ وَالْحَرَمَ، وَالذَّبْحُ فِي الْحَرَمِ يَسْتَوِي فِيهِ الْحَلَالُ وَالْمُحْرِمُ، وَهَذَا لِأَنَّ الذَّكَاةَ فِعْلٌ مَشْرُوعٌ وَهَذَا الصَّنِيعُ مُحَرَّمٌ فَلَمْ تَكُنْ ذَكَاةً، بِخِلَافِ مَا إذَا ذَبَحَ الْمُحْرِمُ غَيْرَ الصَّيْدِ أَوْ ذَبَحَ فِي الْحَرَمِ غَيْرَ الصَّيْدِ صَحَّ لِأَنَّهُ فِعْلٌ مَشْرُوعٌ، إذْ الْحَرَمُ لَا يُؤَمِّنُ الشَّاةَ، وَكَذَا لَا يَحْرُمُ ذَبْحُهُ عَلَى الْمُحْرِمُ.
قَالَ (وَإِنْ تَرَكَ الذَّابِحُ التَّسْمِيَةَ عَمْدًا فَالذَّبِيحَةُ مَيْتَةٌ لَا تُؤْكَلُ وَإِنْ تَرَكَهَا نَاسِيًا أُكِلَ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: أُكِلَ فِي الْوَجْهَيْنِ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يُؤْكَلُ فِي الْوَجْهَيْنِ وَالْمُسْلِمُ وَالْكِتَابِيُّ فِي تَرْكُ التَّسْمِيَةُ سَوَاءٌ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا تَرَكَ التَّسْمِيَةَ عِنْدَ إرْسَالِ الْبَازِي وَالْكَلْبِ، وَعِنْدَ الرَّمْيِ، وَهَذَا الْقَوْلُ مِنْ الشَّافِعِيِّ مُخَالِفٌ لِلْإِجْمَاعِ فَإِنَّهُ لَا خِلَافَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَهُ فِي حُرْمَةِ مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ عَامِدًا، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ بَيْنَهُمْ فِي مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ نَاسِيًا.
فَمِنْ مَذْهَبِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّهُ يَحْرُمُ، وَمِنْ مَذْهَبِ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم أَنَّهُ يَحِلُّ، بِخِلَافِ مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ عَامِدًا، وَلِهَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَالْمَشَايِخُ رحمهم الله: إنَّ مَتْرُوكَ التَّسْمِيَةِ
وَغَايَةُ الْبَيَانِ أَرَادَ بِهِ الْآيَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ وَهُمَا قَوْله تَعَالَى {إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ} وقَوْله تَعَالَى {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} لِأَنَّ الْخِطَابَ عَامٌّ، وَرَدَّهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ حَيْثُ قَالَ بَعْدَ نَقْلِهِ: وَفِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ عَادَتَهُ فِي مِثْلِهِ لِمَا تَلَوْنَا.
وَقَالَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ: أَرَادَ بِهِ قَوْلَهُ لِأَنَّ حِلَّ الذَّبِيحَةِ يَعْتَمِدُ الْمِلَّةَ. وَرَدَّهُ أَيْضًا صَاحِبُ الْعِنَايَةِ حَيْثُ قَالَ بَعْدَ نَقْلِهِ أَيْضًا: وَهَذَا لَيْسَ بِمَذْكُورٍ فِي الْكِتَابِ أَقُولُ: يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ مِنْ جَانِبِ تَاجَ الشَّرِيعَةِ إنَّ ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَذْكُورًا فِي الْكِتَابِ صَرَاحَةً إلَّا أَنَّهُ مَذْكُورٌ فِيهِ ضِمْنًا حَيْثُ قَالَ فِيمَا مَرَّ: وَمِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ الذَّابِحُ صَاحِبَ مِلَّةِ التَّوْحِيدِ ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَالْأَوْلَى أَنْ يُجْعَلَ إشَارَةً إلَى الْآيَةِ وَإِلَى قَوْلِهِ وَلِأَنَّ بِهِ يَتَمَيَّزُ الدَّمُ النَّجِسُ مِنْ اللَّحْمِ الطَّاهِرِ وَعَادَتُهُ فِي مِثْلِهِ ذَلِكَ انْتَهَى أَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ قَوْلَهُ وَلِأَنَّ بِهِ يَتَمَيَّزُ الدَّمُ النَّجِسُ مِنْ اللَّحْمِ الطَّاهِرِ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ الذَّكَاةِ شَرْطَ حِلِّ الذَّبِيحَةِ وَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَهْلَ الذَّبْحِ مَنْ هُوَ كَيْفَ وَتَمَيُّزُ الدَّمِ النَّجِسُ مِنْ اللَّحْمِ الطَّاهِرِ يَحْصُلُ بِذَبْحِ الْوَثَنِيِّ وَالْمَجُوسِيِّ وَالْمُرْتَدِّ أَيْضًا مَعَ أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلذَّبْحِ قَطْعًا، وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ لِمَا ذَكَرْنَا تَعْلِيلٌ لِاسْتِوَاءِ الْأَقْلَفِ وَالْمَخْتُونِ فِي الْأَهْلِيَّةِ لِلذَّبْحِ فَكَيْفَ يَصْلُحُ أَنْ يُجْعَلَ إشَارَةً إلَى مَا لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى ذَلِكَ أَصْلًا وَهُوَ قَوْلُهُ لِأَنَّ بِهِ يَتَمَيَّزُ الدَّمُ النَّجِسُ مِنْ اللَّحْمِ الطَّاهِرِ.
ثُمَّ أَقُولُ: هُنَا احْتِمَالٌ آخَرُ أَقْرَبُ مِمَّا ذَكَرُوا، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ لِمَا ذَكَرْنَا إشَارَةً إلَى قَوْلِهِ وَيَحِلُّ إذَا كَانَ يَعْقِلُ التَّسْمِيَةَ وَالذَّبِيحَةَ وَيَضْبِطُ وَإِنْ كَانَ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا أَوْ امْرَأَةً، فَإِنَّهُ قَدْ عُلِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ مَدَارَ حِلِّ الذَّبِيحَةِ أَنْ يَكُونَ الذَّابِحُ مِمَّنْ يَعْقِلُ التَّسْمِيَةَ وَالذَّبِيحَةَ وَيَضْبِطُ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْأَقْلَفَ وَالْمَخْتُونَ لَا يَتَفَاوَتَانِ فِي ذَلِكَ فَكَانَا سَوَاءً فِي حُكْمِ حِلِّ ذَبِيحَتِهِمَا تَدَبَّرْ تَفْهَمْ
(قَوْلُهُ وَإِنْ تَرَكَ الذَّابِحُ التَّسْمِيَةَ عَمْدًا فَالذَّبِيحَةُ مَيْتَةٌ لَا تُؤْكَلُ وَإِنْ تَرَكَهَا نَاسِيًا أُكِلَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُؤْكَلُ فِي الْوَجْهَيْنِ وَقَالَ مَالِكٌ: لَا تُؤْكَلُ فِي الْوَجْهَيْنِ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَحَلِّ إنْ تَرَكَ الذَّابِحُ التَّسْمِيَةَ عِنْدَ الذَّبْحِ اخْتِيَارِيًّا كَانَ أَوْ اضْطِرَارِيًّا عَامِدًا أَوْ نَاسِيًا قَالَ الشَّافِعِيُّ بِشُمُولِ الْجَوَازِ، وَمَالِكٌ بِشُمُولِ الْعَدَمِ وَعُلَمَاؤُنَا فَصَّلُوا، إنْ تَرَكَهَا عَامِدًا فَالذَّبِيحَةُ مَيْتَةٌ لَا تُؤْكَلُ وَإِنْ تَرَكَهَا نَاسِيًا أُكِلَ انْتَهَى.
أَقُولُ: كَأَنَّهُ حَسِبَ أَنَّهُ أَتَى فِي شَرْحِ هَذَا الْمَحَلِّ بِكَلَامٍ مُجْمَلٍ جَامِعٍ لِأَقْسَامِ الْمَسْأَلَةِ كُلِّهَا لَكِنَّهُ أَخَلَّ بِحَقِّ الْمَقَامِ فِي تَحْرِيرِهِ هَذَا أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ قَوْلَهُ عِنْدَ الذَّبْحِ يُنَافِي تَعْمِيمَ الذَّبْحِ لِلِاخْتِيَارِيِّ وَالِاضْطِرَارِيِّ كَمَا يَقْتَضِيه قَوْلُهُ اخْتِيَارِيًّا كَانَ أَوْ اضْطِرَارِيًّا لِأَنَّهُمْ صَرَّحُوا بِأَنَّ كَوْنَ التَّسْمِيَةِ عِنْدَ الذَّبْحِ إنَّمَا تُشْتَرَطُ فِي الذَّكَاةِ الِاخْتِيَارِيَّةِ، وَأَمَّا فِي الِاضْطِرَارِيَّةِ فَيُشْتَرَطُ كَوْنُ التَّسْمِيَةِ عِنْدَ الْإِرْسَالِ وَالرَّمْيِ لَا غَيْرُ، وَسَيَجِيءُ ذَلِكَ
عَامِدًا لَا يَسَعُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ، وَلَوْ قَضَى الْقَاضِي بِجَوَازِ بَيْعِهِ لَا يَنْفُذُ لِكَوْنِهِ مُخَالِفًا لِلْإِجْمَاعِ، لَهُ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «الْمُسْلِمُ يَذْبَحُ عَلَى اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى سَمَّى أَوْ لَمْ يُسَمِّ» وَلِأَنَّ التَّسْمِيَةَ لَوْ كَانَتْ شَرْطًا لِلْحِلِّ لَمَا سَقَطَتْ بِعُذْرِ النِّسْيَانِ كَالطَّاهِرَةِ فِي بَابِ الصَّلَاةِ، وَلَوْ كَانَتْ شَرْطًا فَالْمِلَّةُ أُقِيمَتْ مَقَامَهَا كَمَا فِي النَّاسِي، وَلَنَا الْكِتَابُ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} الْآيَةَ، نَهْيٌ وَهُوَ لِلتَّحْرِيمِ.
فِي الْكِتَابِ أَيْضًا. وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ وَالشَّارِحُ الْمَزْبُورِ أَيْضًا فِيمَا بَعْدُ: وَعَلَى هَذَا الْخِلَافُ إذَا تَرَكَ التَّسْمِيَةَ عِنْدَ إرْسَالِ الْبَازِي وَالْكَلْبِ وَعِنْدَ الرَّمْيِ يُنَافِي تَعْمِيمَ الذَّبْحِ فِي مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ لِلِاخْتِيَارِيِّ وَالِاضْطِرَارِيِّ، إذْ الظَّاهِرُ أَنَّ الْقِيَاسَ الْمُسْتَفَادَ مِنْ قَوْلِهِ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافُ إذَا تَرَكَ التَّسْمِيَةَ عِنْدَ إرْسَالِ الْبَازِي إلَى آخِرِهِ يَقْتَضِي عَدَمَ دُخُولِ الْمَقِيسِ فِي جَانِبِ الْمَقِيسِ عَلَيْهِ (قَوْلُهُ لَهُ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «الْمُسْلِمُ يَذْبَحُ عَلَى اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى سَمَّى أَوْ لَمْ يُسَمِّ») أَقُولُ: فِيهِ أَنَّ دَلِيلَهُ هَذَا قَاصِرٌ عَنْ إفَادَةِ تَمَامِ مُدَّعَاهُ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ وَالْكِتَابِيَّ فِي تَرْكِ التَّسْمِيَةِ سَوَاءٌ كَمَا مَرَّ آنِفًا، وَهَذَا الْحَدِيثُ إنَّمَا يَنْتَهِضُ حُجَّةً فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ وَحْدَهُ (قَوْلُهُ وَلَنَا الْكِتَابُ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} نَهْيٌ وَهُوَ لِلتَّحْرِيمِ) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ: وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ السَّلَفَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الذِّكْرُ حَالَ الذَّبْحِ لَا غَيْرُ، وَصِلَةُ عَلَى تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الذِّكْرُ بِاللِّسَانِ، يُقَالُ ذَكَرَ عَلَيْهِ إذَا ذَكَرَ بِاللِّسَانِ، وَذَكَرَهُ إذَا ذَكَرَ.
وَالْإِجْمَاعُ وَهُوَ مَا بَيَّنَّا. وَالسُّنَّةُ وَهُوَ حَدِيثُ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ الطَّائِيِّ رضي الله عنه فَإِنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ فِي آخِرِهِ «فَإِنَّك إنَّمَا سَمَّيْت عَلَى كَلْبِك وَلَمْ تُسَمِّ عَلَى كَلْبِ غَيْرِك» عَلَّلَ الْحُرْمَةَ بِتَرْكِ التَّسْمِيَةِ.
وَمَالِكٌ يَحْتَجُّ بِظَاهِرِ مَا ذَكَرْنَا، إذْ لَا فَصْلَ فِيهِ وَلَكِنَّا نَقُولُ: فِي اعْتِبَارِ ذَلِكَ مِنْ الْحَرَجِ مَا لَا يَخْفَى، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ كَثِيرُ النِّسْيَانِ وَالْحَرَجُ مَدْفُوعٌ وَالسَّمْعُ غَيْرُ مُجْرًى عَلَى ظَاهِرِهِ، إذْ لَوْ أُرِيدَ بِهِ لَجَرَتْ الْمُحَاجَّةُ وَظَهَرَ الِانْقِيَادُ وَارْتَفَعَ الْخِلَافُ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلُ. وَالْإِقَامَةُ فِي حَقِّ النَّاسِي وَهُوَ مَعْذُورٌ لَا يَدُلُّ عَلَيْهَا فِي حَقِّ الْعَامِدِ وَلَا عُذْرَ، وَمَا رَوَاهُ مَحْمُولٌ عَلَى حَالَةِ النِّسْيَانِ ثُمَّ التَّسْمِيَةُ فِي ذَكَاةِ الِاخْتِيَارِ تُشْتَرَطُ عِنْدَ الذَّبْحِ وَهِيَ عَلَى الْمَذْبُوحِ. وَفِي الصَّيْدِ تُشْتَرَطُ عِنْدَ الْإِرْسَالِ وَالرَّمْيِ وَهِيَ عَلَى الْآلَةِ، لِأَنَّ الْمَقْدُورَ لَهُ فِي الْأَوَّلِ الذَّبْحُ وَفِي الثَّانِي الرَّمْيُ وَالْإِرْسَالُ دُونَ الْإِصَابَةِ فَتُشْتَرَطُ عِنْدَ فِعْلٍ يَقْدِرُ
بِالْقَلْبِ وَقَوْلُهُ {وَلا تَأْكُلُوا} عَامٌّ مُؤَكَّدٌ بِمَنْ الِاسْتِغْرَاقِيَّة الَّتِي تُفِيدُ التَّأْكِيدَ، وَتَأْكِيدُ الْعَامِّ بِنَفْيِ احْتِمَالِ الْخُصُوصِ فَهُوَ غَيْرُ مُحْتَمِلٍ لِلتَّخْصِيصِ فَيَعُمُّ كُلَّ مَا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ حَالَ الذَّبْحِ عَامِدًا كَانَ أَوْ نَاسِيًا، إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ جَعَلَ النَّاسِيَ ذَاكِرًا لِعُذْرٍ كَانَ مِنْ جِهَتِهِ وَهُوَ النِّسْيَانُ فَإِنَّهُ مِنْ الشَّرْعِ بِإِقَامَةِ الْمِلَّةِ مَقَامَ الذِّكْرِ دَفْعًا لِلْحَرَجِ كَمَا أَقَامَ الْأَكْلَ نَاسِيًا مَقَامَ الْإِمْسَاكِ فِي الصَّوْمِ لِذَلِكَ انْتَهَى. أَقُولُ: فِيهِ كَلَامٌ. أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ مُقْتَضَى قَوْلِهِ أَنَّ السَّلَفَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الذِّكْرُ حَالَ الذَّبْحِ لَا غَيْرُ أَنْ يَكُونَ قَوْله تَعَالَى {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} دَالًّا عَلَى أَنْ لَا يُؤْكَلَ الْمَذْبُوحُ بِالذَّبْحِ الِاضْطِرَارِيِّ أَصْلًا، لِأَنَّ ذِكْرَ اسْمِ اللَّهِ عَلَيْهِ إنَّمَا يَكُونُ حَالَ الْإِرْسَالِ وَالرَّمْيِ لَا حَالَ الذَّبْحِ كَمَا نَصُّوا عَلَيْهِ، فَكَانَ مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ حَالَ الذَّبْحِ فَلَزِمَ أَنْ يَدْخُلَ تَحْتَ النَّهْيِ عَنْ الْأَكْلِ فِي الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ، مَعَ أَنَّ حِلَّ أَكْلِ الْمَذْبُوحِ بِالذَّبْحِ الِاضْطِرَارِيِّ إذَا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ حَالَ الْإِرْسَالِ وَالرَّمْيِ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ بِلَا رَيْبٍ.
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ قَوْلَهُ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ جَعَلَ النَّاسِيَ ذَاكِرًا لِعُذْرٍ كَانَ مِنْ جِهَتِهِ وَهُوَ النِّسْيَانُ يُنَافِي قَوْلَهُ فِيمَا قَبْلُ فَهُوَ غَيْرُ مُحْتَمِلٍ لِلتَّخْصِيصِ فَيَعُمُّ كُلَّ مَا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ حَالَ الذَّبْحِ عَامِدًا كَانَ أَوْ نَاسِيًا، لِأَنَّ جَعْلَ الشَّرْعِ النَّاسِي، ذَاكِرًا لَا يُتَصَوَّرُ بِدُونِ تَخْصِيصِ النَّاسِي مِنْ عُمُومِ قَوْله تَعَالَى {مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} لَمَّا كَانَ عَامِدًا وَنَاسِيًا وَتَخْصِيصُ الشَّيْءِ مِمَّا هُوَ غَيْرُ مُحْتَمِلٍ لِلتَّخْصِيصِ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ أَيْضًا فَتَحَقَّقَ التَّنَافِي بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ تَأَمَّلْ تَقِفْ (قَوْلُهُ وَمَالِكٌ يَحْتَجُّ بِظَاهِرِ مَا ذَكَرْنَا إذْ لَا فَصْلَ فِيهِ) قَالَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ: أَيْ لَا فَصْلَ فِي ظَاهِرِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْآيَةِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ {مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} يَشْمَلُ الْعَمْدَ وَالنِّسْيَانَ جَمِيعًا لِعَدَمِ الْقَيْدِ بِأَحَدِهِمَا انْتَهَى. وَقَالَ فِي الْعِنَايَةِ: اسْتَدَلَّ مَالِكٌ بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} فَإِنَّ فِيهِ.
عَلَيْهِ، حَتَّى إذَا أَضْجَعَ شَاةً وَسَمَّى فَذَبَحَ غَيْرَهَا بِتِلْكَ التَّسْمِيَةِ لَا يَجُوزُ. وَلَوْ رَمَى إلَى صَيْدٍ وَسَمَّى وَأَصَابَ غَيْرَهُ حَلَّ، وَكَذَا فِي الْإِرْسَالِ، وَلَوْ أَضْجَعَ شَاةً وَسَمَّى ثُمَّ رَمَى بِالشَّفْرَةِ وَذَبَحَ بِالْأُخْرَى أُكِلَ، وَلَوْ سَمَّى عَلَى سَهْمٍ ثُمَّ رَمَى بِغَيْرِهِ صَيْدًا لَا يُؤْكَلُ.
قَالَ (وَيُكْرَهُ أَنْ يَذْكُرَ مَعَ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى شَيْئًا غَيْرَهُ. وَأَنْ يَقُولَ عِنْدَ الذَّبْحِ: اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ مِنْ فُلَانٍ) وَهَذِهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: إحْدَاهَا أَنْ يَذْكُرَ مَوْصُولًا لَا مَعْطُوفًا فَيُكْرَهُ وَلَا تَحْرُمُ الذَّبِيحَةُ. وَهُوَ الْمُرَادُ بِمَا قَالَ. وَنَظِيرُهُ أَنْ يَقُولَ: بِاسْمِ اللَّهِ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ. لِأَنَّ الشَّرِكَةَ لَمْ تُوجَدْ فَلَمْ يَكُنْ الذَّبْحُ وَاقِعًا لَهُ. إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ لِوُجُودِ الْقُرْآنِ صُورَةً فَيُتَصَوَّرُ بِصُورَةِ الْمُحَرَّمِ. وَالثَّانِيَةُ أَنْ يَذْكُرَ مَوْصُولًا عَلَى وَجْهِ الْعَطْفِ وَالشَّرِكَةِ بِأَنْ يَقُولَ: بِاسْمِ اللَّهِ وَاسْمِ فُلَانٍ، أَوْ يَقُولَ: بِاسْمِ اللَّهِ وَفُلَانٍ. أَوْ بِاسْمِ اللَّهِ وَمُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ بِكَسْرِ الدَّالِ فَتَحْرُمُ الذَّبِيحَةُ لِأَنَّهُ أَهَلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ.
وَالثَّالِثَةُ أَنْ يَقُولَ مَفْصُولًا عَنْهُ صُورَةً وَمَعْنًى بِأَنْ يَقُولَ قَبْلَ التَّسْمِيَةِ وَقَبْلَ أَنْ يُضْجِعَ الذَّبِيحَةَ أَوْ بَعْدَهُ، وَهَذَا لَا بَأْسَ بِهِ لِمَا رُوِيَ عَنْ «النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ بَعْدَ الذَّبْحِ اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ هَذِهِ عَنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ مِمَّنْ شَهِدَ لَك بِالْوَحْدَانِيَّةِ وَلِي بِالْبَلَاغِ» وَالشَّرْطُ هُوَ الذِّكْرُ الْخَالِصُ الْمُجَرَّدُ عَلَى مَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه جَرِّدُوا التَّسْمِيَةَ حَتَّى لَوْ قَالَ عِنْدَ الذَّبْحِ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي لَا يَحِلُّ لِأَنَّهُ دُعَاءٌ وَسُؤَالٌ، وَلَوْ قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ أَوْ سُبْحَانَ اللَّهِ يُرِيدُ التَّسْمِيَةَ حَلَّ، وَلَوْ عَطَسَ عِنْدَ الذَّبْحِ فَقَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ لَا يَحِلُّ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ. لِأَنَّهُ يُرِيدُ بِهِ الْحَمْدَ عَلَى نِعَمِهِ دُونَ التَّسْمِيَةِ. وَمَا تَدَاوَلَتْهُ الْأَلْسُنُ عِنْدَ الذَّبْحِ وَهُوَ قَوْلُهُ بِاسْمِ اللَّهِ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ مَنْقُولٌ عَنْ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما فِي قَوْله تَعَالَى {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ}
قَالَ (وَالذَّبْحُ بَيْنَ الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ) وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: لَا بَأْسَ بِالذَّبْحِ فِي الْحَلْقِ كُلِّهِ وَسَطِهِ وَأَعْلَاهُ وَأَسْفَلِهِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «الذَّكَاةُ مَا بَيْنَ اللَّبَّةِ
النَّهْيَ بِأَبْلَغِ وَجْهٍ وَهُوَ تَأْكِيدُهُ بِمِنْ الِاسْتِغْرَاقِيَّة عَنْ أَكْلِ مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ، وَهُوَ بِإِطْلَاقِهِ يَقْتَضِي الْحُرْمَةَ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ انْتَهَى. أَقُولُ: الظَّاهِرُ مِمَّا ذَكَر فِي هَذَيْنِ الشَّرْحَيْنِ أَنْ يَكُونَ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ مَا ذَكَرْنَا فِي قَوْلِهِ، وَمَالِكٌ يَحْتَجُّ بِظَاهِرِ مَا ذَكَرْنَا هُوَ قَوْله تَعَالَى {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} فَيُرَدُّ عَلَيْهِ أَنْ يُقَالَ: إنَّ عَادَتَهُ فِي مِثْلِهِ أَنْ يَقُولَ مَا تَلَوْنَا فَمَا مَعْنَى الْمُخَالَفَةِ لَهَا هُنَا، وَقَدْ مَرَّ نَظِيرُ هَذَا مِنْ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ فِي الصَّفْحَةِ الْأُولَى، فَالْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ بِقَوْلِهِ مَا ذَكَرْنَا فِي قَوْلِهِ وَمَالِكٌ يَحْتَجُّ بِظَاهِرِ مَا ذَكَرْنَا مَجْمُوعَ مَا ذَكَرَهُ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لَا الْكِتَابَ وَحْدَهُ فَلَا يَلْزَمُهُ تَرْكُ عَادَتُهُ، لِأَنَّ عَادَتَهُ أَنْ يَقُولَ لِمَا تَلَوْنَا فِيمَا
وَاللَّحْيَيْنِ»، وَلِأَنَّهُ مَجْمَعُ الْمَجْرَى وَالْعُرُوقِ فَيَحْصُلُ بِالْفِعْلِ فِيهِ إنْهَارُ الدَّمِ عَلَى أَبْلَغِ الْوُجُوهِ فَكَانَ حُكْمُ الْكُلِّ سَوَاءً.
قَالَ (وَالْعُرُوقُ الَّتِي تُقْطَعُ فِي الذَّكَاةِ أَرْبَعَةٌ: الْحُلْقُومُ، وَالْمَرِيءُ، وَالْوَدَجَانِ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «أَفْرِ الْأَوْدَاجَ بِمَا شِئْت» .
إذَا أَرَادَ الْكِتَابَ وَحْدَهُ، وَأَنْ يَقُولَ لِمَا رَوَيْنَا فِيمَا إذَا أَرَادَ السُّنَّةَ وَحْدَهَا، فَلَمَّا أَرَادَ مَجْمُوعَهُمَا هَاهُنَا أَتَى بِكَلِمَةٍ جَامِعَةٍ فَقَالَ: وَمَالِكٌ يَحْتَجُّ بِظَاهِرِ مَا ذَكَرْنَا: يَعْنِي قَوْله تَعَالَى {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} فَحَدِيثُ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ الطَّائِيِّ إذْ لَا فَصْلَ فِي ظَاهِرِ كُلٍّ مِنْهُمَا كَمَا تَرَى.
(كَيْفِيَّته)(قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «أَفْرِ الْأَوْدَاجَ بِمَا شِئْت») قَالَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ: الْفَرْيُ: الْقَطْعُ لِلْإِصْلَاحِ وَالْإِفْرَاءُ: الْقَطْعُ لِلْإِفْسَادِ، فَيَكُونُ كَسْرُ الْهَمْزَةِ هُنَا أَلْيَقَ انْتَهَى وَاقْتَفَى أَثَرَهُ صَاحِبُ الْكِفَايَةِ وَالْعِنَايَةِ غَيْرَ أَنَّ صَاحِبَ الْكِفَايَةِ أَتَى بِعَيْنِ لَفْظِهِ. وَأَمَّا صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فَذَكَرَ لَفْظَ أَنْسَبَ بَدَلَ لَفْظِ أَلْيَقَ وَقَالَ وَلِهَذَا قَالَ الْمُصَنِّفُ بَعْدَ هَذَا الْوُرُودِ الْأَمْرُ بِفَرْيِهِ أَقُولُ: فِيمَا ذَكَرَهُ هَؤُلَاءِ الشُّرَّاحُ نَظَرٌ، لِأَنَّ صَاحِبَ الْقَامُوسِ عَمَّمَ الْفَرْيَ وَالْإِفْرَاءَ لِلْإِصْلَاحِ وَالْإِفْسَادِ بِلَا فَرْقٍ بَيْنَهُمَا حَيْثُ قَالَ: فَرَاهُ يَفْرِيه: شَقَّهُ فَاسِدًا أَوْ صَالِحًا كَفَرَاهُ وَأَفْرَاهُ انْتَهَى. فَعَلَى هَذَا لَا يَتِمُّ مَا ذَكَرُوهُ أَصْلًا. وَأَمَّا صَاحِبُ الْمُغْرِبِ فَقَدْ ذَكَرَ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا، إلَّا أَنَّهُ جَعَلَ الذَّبْحَ مِنْ قَبِيلِ الْإِفْرَاءِ دُونَ الْفَرْيِ حَيْثُ قَالَ عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ: وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْإِفْرَاءِ وَالْفَرْيِ أَنَّهُ قَطْعٌ لِلْإِفْسَادِ وَشَقٌّ كَمَا يَفْرِي الذَّابِحُ السَّبُعَ، وَالْفَرْيُ قَطْعٌ لِلْإِصْلَاحِ كَمَا يَفْرِي الْخَرَّازُ الْأَدِيمَ انْتَهَى.
فَعَلَى هَذَا لَا يَتِمُّ قَوْلُهُمْ فَيَكُونُ كَسْرُ الْهَمْزَةِ هُنَا أَلْيَقَ، إذَا لَا شَكَّ أَنَّ الذَّبْحَ إذَا كَانَ مِنْ قَبِيلِ الْإِفْرَاءِ دُونَ الْفَرْيِ كَانَ فَتْحُ الْهَمْزَةِ هُنَا هُوَ الْأَلْيَقَ وَالْأَنْسَبَ ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ الْمُغْرِبِ قَالَ: وَقَدْ جَاءَ فَرَى بِمَعْنَى أَفْرَى أَيْضًا، إلَّا أَنَّهُ لَمْ يُسْمَعْ بِهِ فِي الْحَدِيثِ انْتَهَى. فَعَلَى هَذَا لَا مَجَالَ لِكَسْرِ الْهَمْزَةِ فِي الْحَدِيثِ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مَسْمُوعٍ فِيهِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ أَلْيَقَ وَأَنْسَبَ. وَأَمَّا قَوْلُ الْمُصَنِّفِ فِيمَا بَعْدُ فِي أَثْنَاءِ
وَهِيَ اسْمُ جَمْعٍ وَأَقَلُّهُ الثَّلَاثُ فَيَتَنَاوَلُ الْمَرِيءَ وَالْوَدَجَيْنِ، وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ فِي الِاكْتِفَاءِ بِالْحُلْقُومِ وَالْمَرِيءِ، إلَّا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ قَطْعُ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ إلَّا بِقَطْعِ الْحُلْقُومِ فَيَثْبُتُ قَطْعُ الْحُلْقُومِ بِاقْتِضَائِهِ، وَبِظَاهِرِ مَا ذَكَرْنَا يَحْتَجُّ مَالِكٌ وَلَا يُجَوِّزُ الْأَكْثَرَ مِنْهَا بَلْ يَشْتَرِطُ قَطْعَ جَمِيعِهَا (وَعِنْدَنَا إنْ قَطَعَهَا حَلَّ الْأَكْلُ، وَإِنْ قَطَعَ أَكْثَرَهَا فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) وَقَالَا: لَا بُدَّ مِنْ قَطْعِ الْحُلْقُومِ وَالْمَرِيءِ وَأَحَدِ الْوَدَجَيْنِ. قَالَ رضي الله عنه: هَكَذَا ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ الِاخْتِلَافَ فِي مُخْتَصَرِهِ. وَالْمَشْهُورُ فِي كُتُبِ مَشَايِخِنَا رحمهم الله أَنَّ هَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَحْدَهُ. وَقَالَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: إنْ قَطَعَ نِصْفَ الْحُلْقُومِ وَنِصْفَ الْأَوْدَاجِ لَمْ يُؤْكَلْ. وَإِنْ قَطَعَ أَكْثَرَ الْأَوْدَاجِ وَالْحُلْقُومَ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ أُكِلَ.
وَلَمْ يَحْكِ خِلَافًا فَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِيهِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إذَا قَطَعَ
تَعْلِيلِ قَوْلِ مُحَمَّدٍ: وَلِوُرُودِ الْأَمْرِ بِفَرْيِهِ فَلَعَلَّهُ جَرَى مِنْهُ عَلَى اسْتِعْمَالِ فَرَى بِمَعْنَى أَفْرَى أَيْضًا كَمَا ذَكَرَ فِي الْمُغْرِبِ، وَلَا يُنَافِيه عَدَمُ السَّمَاعِ بِهِ فِي الْحَدِيثِ لِأَنَّ مَا ذَكَرَهُ فِيمَا بَعْدُ لَفْظُ نَفْسِهِ لَا لَفْظُ الْحَدِيثِ. أَوْ اخْتِيَارٌ مِنْهُ لِعَدَمِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْفَرْيِ وَالْإِفْرَاءِ مُطْلَقًا كَمَا ذَكَرَهُ فِي الْقَامُوسِ، فَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُفْهَمَ هَذَا الْمَقَامُ (قَوْلُهُ وَهِيَ اسْمُ جَمْعٍ وَأَقَلُّهُ الثَّلَاثُ فَيَتَنَاوَلُ الْمَرِيءَ وَالْوَدَجَيْنِ وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ فِي الِاكْتِفَاءِ بِالْحُلْقُومِ وَالْمَرِيءِ) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ: احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِأَنَّهُ جَمْعُ الْأَوْدَاجِ وَمَا ثَمَّةَ إلَّا الْوَدَجَانِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَا مَا يَحْصُلُ بِهِ زُهُوقُ الرُّوحِ وَهُوَ بِقَطْعِ الْحُلْقُومِ وَالْمَرِيءِ لِأَنَّ الْحَيَوَانَ لَا يَعِيشُ بَعْدَ قَطْعِهِمَا أَقُولُ: يَرُدُّ عَلَى هَذَا الِاحْتِجَاجِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمَقْصُودُ بِهِ مُجَرَّدَ مَا يَحْصُلُ بِهِ زُهُوقُ الرُّوحِ لَكَفَى قَطْعُ وَاحِدٍ مِنْ الْحُلْقُومِ وَالْمَرِيءِ، إذْ الْحَيَوَانُ لَا يَعِيشُ بَعْدَ قَطْعِ أَحَدِهِمَا أَيْضًا كَمَا لَا يَخْفَى.
وَقَدْ أَفْصَحَ عَنْهُ الْمُصَنِّفُ فِي تَقْرِيرِ دَلِيلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِيمَا بَعْدُ حَيْثُ قَالَ: لِأَنَّهُ لَا يَحْيَا بَعْدَ قَطْعِ مَجْرَى النَّفْسِ أَوْ الطَّعَامِ، وَمَعَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ لَمْ يَقُلْ بِكِفَايَةِ قَطْعِ أَحَدِهِمَا بَلْ شَرَطَ قَطْعَهُمَا مَعًا، وَقَالَ فِي الْعِنَايَةِ بَعْدَ ذِكْرِ الِاحْتِجَاجِ الْمَزْبُورِ: وَهُوَ ضَعِيفٌ لَفْظًا وَمَعْنًى، أَمَّا اللَّفْظُ فَلِأَنَّ الْأَوْدَاجَ لَا دَلَالَةَ لَهَا عَلَى الْحُلْقُومِ وَالْمَرِيءِ أَصْلًا، وَأَمَّا مَعْنًى فَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ إسَالَةُ الدَّمِ النَّجِسِ، وَهُوَ إنَّمَا يَحْصُلُ بِقَطْعِ مَجْرَاهُ انْتَهَى. أَقُولُ: مَا ذَكَرَهُ فِي وَجْهِ ضَعْفِهِ لَفْظًا لَيْسَ بِسَدِيدٍ، إذْ قَدْ ذَكَرَ فِي الِاحْتِجَاجِ الْمَزْبُورِ وَجْهَ دَلَالَةِ الْأَوْدَاجِ عَلَى الْحُلْقُومِ وَالْمَرِيءِ بِأَنَّهُ جَمْعُ الْأَوْدَاجِ، وَمَا ثَمَّةَ إلَّا الْوَدَجَانِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَا مَا يَحْصُلُ بِهِ زُهُوقُ الرُّوحِ وَهُوَ بِقَطْعِ الْحُلْقُومِ وَالْمَرِيءِ فَلَا مَعْنَى بَعْدَ ذَلِكَ لِمُجَرَّدِ نَفْيِ دَلَالَتِهِمَا عَلَيْهِمَا بَلْ لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ مَحْذُورٍ كَمَا لَا يَخْفَى (قَوْلُهُ إلَّا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ قَطْعُ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ إلَّا بِقَطْعِ الْحُلْقُومِ فَيَثْبُتُ قَطْعُ الْحُلْقُومِ بِاقْتِضَائِهِ) قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: فِيهِ بَحْثٌ، لِأَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ الَّذِي سَيَذْكُرُهُ فِي تَعْلِيلِ أَبِي حَنِيفَةَ حَمْلُ الْأَوْدَاجِ عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ حَيْثُ بَنَى تَعْلِيلَهُ عَلَى قِيَامِ الْأَكْثَرِ مَقَامَ الْكُلِّ فَحِينَئِذٍ يَثْبُتُ قَطْعُ الْحُلْقُومِ بِتَنَاوُلِ اللَّفْظِ لَا بِاقْتِضَائِهِ انْتَهَى.
أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ، لِأَنَّ مَا سَيَجِيءُ مِنْ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ فِي تَعْلِيلِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَإِنْ اقْتَضَى حَمْلَ الْأَوْدَاجِ عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الِاسْتِغْرَاقُ مِنْ جِهَةٍ
الثَّلَاثَ: أَيَّ ثَلَاثٍ كَانَ يَحِلُّ، وَبِهِ كَانَ يَقُولُ أَبُو يُوسُفَ أَوَّلًا ثُمَّ رَجَعَ إلَى مَا ذَكَرْنَا. وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَعْتَبِرُ أَكْثَرَ كُلِّ فَرْدٍ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، لِأَنَّ كُلَّ فَرْدٍ مِنْهَا أَصْلٌ بِنَفْسِهِ لِانْفِصَالِهِ عَنْ غَيْرِهِ وَلِوُرُودِ الْأَمْرِ بِفَرْيِهِ فَيُعْتَبَرُ أَكْثَرُ كُلِّ فَرْدٍ مِنْهَا. وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ قَطْعِ الْوَدَجَيْنِ إنْهَارُ الدَّمِ فَيَنُوبُ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ، إذْ كُلُّ وَاحِدٌ مِنْهُمَا مَجْرَى الدَّمِ. أَمَّا الْحُلْقُومُ فَيُخَالِفُ الْمَرِيءَ فَإِنَّهُ مَجْرَى الْعَلَفِ وَالْمَاءِ، وَالْمَرِيءُ مَجْرَى النَّفَسِ فَلَا بُدَّ مِنْ قَطْعِهِمَا. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْأَكْثَرَ يَقُومُ مَقَامَ الْكُلِّ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَحْكَامِ، وَأَيَّ ثَلَاثٍ قَطَعَهَا فَقَدْ قَطَعَ الْأَكْثَرَ مِنْهَا وَمَا هُوَ الْمَقْصُودُ يَحْصُلُ بِهَا هُوَ إنْهَارُ الدَّمِ الْمَسْفُوحِ وَالتَّوْحِيَةُ فِي إخْرَاجِ الرُّوحِ، لِأَنَّهُ لَا يَحْيَا بَعْدَ قَطْعِ مَجْرَى النَّفَسِ أَوْ الطَّعَامِ، وَيَخْرُجُ الدَّمُ بِقَطْعِ أَحَدِ الْوَدَجَيْنِ فَيُكْتَفَى بِهِ تَحَرُّزًا عَنْ زِيَادَةِ التَّعْذِيبِ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَطَعَ النِّصْفَ لِأَنَّ الْأَكْثَرَ بَاقٍ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَقْطَعْ شَيْئًا احْتِيَاطًا لِجَانِبِ الْحُرْمَةِ.
قَالَ (وَيَجُوزُ الذَّبْحُ بِالظُّفْرِ وَالسِّنِّ وَالْقَرْنِ إذَا كَانَ مَنْزُوعًا حَتَّى لَا يَكُونَ بِأَكْلِهِ بَأْسٌ، إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ هَذَا الذَّبْحُ)
وَاحِدَةٍ كَدَلَالَةِ اللَّفْظِ عَلَيْهِ عِبَارَةً، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَتَحَقَّقَ الِاسْتِغْرَاقُ بِدَلَالَةِ اللَّفْظِ عَلَى قَطْعِ الثَّلَاثَةِ عِبَارَةً، وَعَلَى قَطْعِ الرَّابِعِ أَيْضًا اقْتِضَاءً كَمَا ذَكَرَهُ هَاهُنَا، إذْ لَا شَكَّ أَنَّهُ يَحْصُلُ مِنْ الْمَجْمُوعِ اسْتِغْرَاقُ الْعُرُوقِ الْأَرْبَعَةِ كُلِّهَا. وَإِنْ كَانَ مِنْ جِهَتَيْ الدَّلَالَةِ: أَعْنِي الْعِبَارَةَ وَالِاقْتِضَاءَ فَلَا تَدَافُعَ بَيْنَ كَلَامَيْ الْمُصَنِّفِ كَمَا تَوَهَّمَ (قَوْلُهُ وَيَخْرُجُ الدَّمُ بِقَطْعِ أَحَدِ الْوَدَجَيْنِ فَيُكْتَفَى بِهِ تَحَرُّزًا عَنْ زِيَادَةِ التَّعْذِيبِ) أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَوْ كَانَ فِي قَطْعِ الْوَدَجَيْنِ مَعًا زِيَادَةُ التَّعْذِيبِ وَكَانَ فِي الِاكْتِفَاءِ بِقَطْعِ أَحَدِهِمَا تَحَرُّزٌ عَنْهَا لَمَا كَانَ قَطْعُ الْعُرُوقِ الْأَرْبَعَةِ جَمِيعًا فِي الذَّكَاةِ أَوْلَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْضًا، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الِاكْتِفَاءُ بِقَطْعِ أَحَدِ الْوَدَجَيْنِ أَوْلَى فَإِنَّ تَعْذِيبَ الْحَيَوَانِ بِلَا فَائِدَةٍ مِمَّا يَجِبُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ قَوَاعِدِ الْفِقْهِ، مَعَ أَنَّهُ صَرَّحَ فِي الشُّرُوحِ وَغَيْرِهَا
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْمَذْبُوحُ مَيْتَةٌ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «كُلُّ مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَأَفْرَى الْأَوْدَاجَ مَا خَلَا الظُّفْرِ وَالسِّنِّ فَإِنَّهُمَا مُدَى الْحَبَشَةِ» وَلِأَنَّهُ فِعْلٌ غَيْرُ مَشْرُوعٍ فَلَا يَكُونُ ذَكَاةً كَمَا إذَا ذُبِحَ بِغَيْرِ الْمَنْزُوعِ، وَلَنَا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «أَنْهِرْ الدَّمَ بِمَا شِئْت» وَيُرْوَى «أَفْرِ الْأَوْدَاجَ بِمَا شِئْت» وَمَا رَوَاهُ مَحْمُولٌ عَلَى غَيْرِ الْمَنْزُوعِ فَإِنَّ الْحَبَشَةَ كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ، وَلِأَنَّهُ آلَةٌ جَارِحَةٌ فَيَحْصُلُ بِهِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَهُوَ إخْرَاجُ الدَّمِ وَصَارَ كَالْحَجَرِ وَالْحَدِيدِ، بِخِلَافِ غَيْرِ الْمَنْزُوعِ لِأَنَّهُ يُقْتَلُ بِالثِّقْلِ فَيَكُونُ فِي مَعْنَى الْمُنْخَنِقَةِ، وَإِنَّمَا يُكْرَهُ لِأَنَّ فِيهِ اسْتِعْمَالَ جُزْءِ الْآدَمِيِّ وَلِأَنَّ فِيهِ إعْسَارًا عَلَى الْحَيَوَانِ وَقَدْ أُمِرْنَا فِيهِ بِالْإِحْسَانِ.
قَالَ (وَيَجُوزُ الذَّبْحُ بِاللِّيطَةِ وَالْمَرْوَةِ وَكُلِّ شَيْءٍ أَنْهَرَ الدَّمَ إلَّا السِّنَّ الْقَائِمَ وَالظُّفْرَ الْقَائِمَ) فَإِنَّ الْمَذْبُوحَ بِهِمَا مَيْتَةٌ لِمَا بَيَّنَّا، وَنَصَّ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ عَلَى أَنَّهَا مَيْتَةٌ لِأَنَّهُ وَجَدَ فِيهِ نَصًّا. وَمَا لَمْ يَجِدْ فِيهِ نَصًّا يَحْتَاطُ فِي ذَلِكَ، فَيَقُولُ فِي الْحِلِّ لَا بَأْسَ بِهِ وَفِي الْحُرْمَةِ يَقُولُ يُكْرَهُ أَوْ لَمْ يُؤْكَلْ. قَالَ (وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُحِدَّ الذَّابِحُ شَفْرَتَهُ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَةَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ» وَيُكْرَهُ أَنْ يُضْجِعَهَا ثُمَّ يُحِدَّ الشَّفْرَةَ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام «أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا أَضْجَعَ شَاةً وَهُوَ يُحِدُّ شَفْرَتَهُ فَقَالَ: لَقَدْ أَرَدْت أَنْ تُمِيتَهَا مَوْتَاتٍ، هَلَّا حَدَدْتهَا قَبْلَ أَنْ تُضْجِعَهَا» قَالَ (وَمَنْ بَلَغَ بِالسِّكِّينِ النُّخَاعَ أَوْ قَطَعَ الرَّأْسَ كُرِهَ لَهُ ذَلِكَ
بِأَنَّ قَطْعَ الْجَمِيعِ أَوْلَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْضًا فَتَأَمَّلْ.
قَالَ فِي الْعِنَايَةِ: لَا يُقَالُ الْأَوْدَاجُ جَمْعٌ دَخَلَ عَلَيْهِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ، وَلَيْسَ ثَمَّةَ مَعْهُودٌ فَيَنْصَرِفُ إلَى الْوَاحِدَةِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} لِأَنَّ مَا تَحْتَهُ لَيْسَ أَفْرَادَهُ حَقِيقَةً، وَالِانْصِرَافُ إلَى الْجِنْسِ فِيمَا يَكُونُ كَذَلِكَ انْتَهَى. وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ حَيْثُ قَالَ: فِيهِ بَحْثٌ، فَإِنَّهُ إنَّمَا يُحْمَلُ عَلَى الْجِنْسِ إذَا تَعَذَّرَ حَمْلُهُ عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ وَهَاهُنَا لَيْسَ كَذَلِكَ انْتَهَى. أَقُولُ: لَيْسَ لِهَذَا الْإِيرَادِ مِسَاسٌ بِالْكَلَامِ الْمَذْكُورِ فِي الْعِنَايَةِ، إذْ لَمْ يَقُلْ فِيهَا إنَّ الْجَمْعَ حُمِلَ هَاهُنَا عَلَى الْجِنْسِ حَتَّى يُمْكِنَ أَنْ يُورِدَ عَلَيْهِ أَنَّ الْمُعَرَّفَ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ إنَّمَا يُحْمَلُ عَلَى الْجِنْسِ عِنْدَ أَرْبَابُ عِلْمِ الْأُصُولِ إذَا تَعَذَّرَ حَمْلُهُ عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ، وَهَاهُنَا لَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ قَالَ فِيهَا: إنَّ مَا نَحْنُ فِيهِ لَيْسَ أَفْرَادَهُ حَقِيقَةً، لِأَنَّ إطْلَاقَهُ عَلَى غَيْرِ الْوَدَجَيْنِ بِطَرِيقِ التَّغْلِيبِ وَالِانْصِرَاف إلَى الْجِنْسِ فِيمَا يَكُونُ كَذَلِكَ: أَيْ فِيمَا يَكُونُ مَا تَحْتَهُ مِنْ أَفْرَادِهِ حَقِيقَةً فَصَارَ حَاصِلُهُ نَفْيَ جَوَازِ الْحَمْلِ عَلَى الْجِنْسِ هَاهُنَا فَلَا يُتَّجَهُ عَلَيْهِ الْإِيرَادُ الْمَذْكُورُ أَصْلًا.
(قَوْلُهُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْمَذْبُوحُ مَيْتَةٌ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «كُلُّ مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَأَفْرَى الْأَوْدَاجَ مَا خَلَا الظُّفْرِ وَالسِّنُّ فَإِنَّهُمَا مُدَى الْحَبَشَةِ») أَقُولُ: هَذَا الْحَدِيثُ لَا يَدُلُّ عَلَى تَمَامِ مُدَّعَى الشَّافِعِيِّ، بَلْ يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ مُدَّعَاهُ فِي الْبَعْضِ، فَإِنَّ الْقَرْنَ أَيْضًا دَاخِلٌ فِي الْمُدَّعَى مَعَ أَنَّ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ أَكْلِ الْمَذْبُوحِ بِذَلِكَ بَلْ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِهِ حَيْثُ اسْتَثْنَى الظُّفْرَ وَالسِّنَّ فَبَقِيَ مَا عَدَاهُمَا فِي حُكْمِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ (قَوْلُهُ وَلِأَنَّهُ فِعْلٌ غَيْرُ مَشْرُوعٍ فَلَا يَكُونُ ذَكَاةً) أَقُولُ: فِيهِ بَحْثٌ، لِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ إنَّهُ فِعْلٌ غَيْرُ مَشْرُوعٍ أَنَّهُ مُحَرَّمٌ فَهُوَ مَمْنُوعٌ عِنْدَنَا بَلْ هُوَ أَوَّلُ الْمَسْأَلَةِ، وَإِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّهُ مَكْرُوهٌ فَهُوَ مُسَلَّمٌ، وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ ذَكَاةً حِينَئِذٍ بَلْ هُوَ أَيْضًا أَوَّلُ الْمَسْأَلَةِ فَإِنَّهُ مَكْرُوهٌ
وَتُؤْكَلُ ذَبِيحَتُهُ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: قَطَعَ مَكَانَ بَلَغَ. وَالنُّخَاعُ عِرْقٌ أَبْيَضُ فِي عَظْمِ الرَّقَبَةِ، أَمَّا الْكَرَاهَةُ فَلِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام «أَنَّهُ نَهَى أَنْ تُنْخَعَ الشَّاةُ إذَا ذُبِحَتْ» وَتَفْسِيرُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ: أَنْ يَمُدَّ رَأْسَهُ حَتَّى يَظْهَرَ مَذْبَحُهُ، وَقِيلَ أَنْ يَكْسِرَ عُنُقَهُ قَبْلَ أَنْ يَسْكُنَ مِنْ الِاضْطِرَابِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مَكْرُوهٌ، وَهَذَا لِأَنَّ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ وَفِي قَطْعِ الرَّأْسِ زِيَادَةَ تَعْذِيبِ الْحَيَوَانِ بِلَا فَائِدَةٍ وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَا فِيهِ زِيَادَةَ إيلَامٍ لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي الذَّكَاةِ مَكْرُوهٌ.
وَيُكْرَهُ أَنْ يَجُرَّ مَا يُرِيدُ ذَبْحَهُ بِرِجْلِهِ إلَى الْمَذْبَحِ، وَأَنْ تُنْخَعَ الشَّاةُ قَبْلَ أَنْ تَبْرُدَ: يَعْنِي تَسْكُنَ مِنْ الِاضْطِرَابِ، وَبَعْدَهُ لَا أَلَمَ فَلَا يُكْرَهُ النَّخْعُ وَالسَّلْخُ، إلَّا أَنَّ الْكَرَاهَةَ لِمَعْنًى زَائِدٍ وَهُوَ زِيَادَةُ الْأَلَمِ قَبْلَ الذَّبْحِ أَوْ بَعْدَهُ فَلَا يُوجِبُ التَّحْرِيمَ فَلِهَذَا قَالَ: تُؤْكَلُ ذَبِيحَتُهُ. قَالَ (فَإِنْ ذَبَحَ الشَّاةَ مِنْ قَفَاهَا فَبَقِيَتْ حَيَّةٌ حَتَّى قَطَعَ الْعُرُوقَ حَلَّ) لِتَحَقُّقِ الْمَوْتِ بِمَا هُوَ ذَكَاةٌ، وَيُكْرَهُ لِأَنَّ فِيهِ زِيَادَةَ الْأَلَمِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ فَصَارَ كَمَا إذَا جَرَحَهَا ثُمَّ قَطَعَ الْأَوْدَاجَ (وَإِنْ مَاتَتْ قَبْلَ قَطْعِ الْعُرُوقِ لَمْ تُؤْكَلْ) لِوُجُودِ الْمَوْتِ بِمَا لَيْسَ بِذَكَاةٍ فِيهَا. قَالَ (وَمَا اسْتَأْنَسَ مِنْ الصَّيْدِ فَذَكَاتُهُ الذَّبْحُ، وَمَا تَوَحَّشَ مِنْ النَّعَمِ فَذَكَاتُهُ الْعَقْرُ وَالْجُرْحُ) لِأَنَّ ذَكَاةَ الِاضْطِرَارِ إنَّمَا يُصَارُ إلَيْهِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ ذَكَاةِ الِاخْتِيَارِ عَلَى مَا مَرَّ، وَالْعَجْزُ مُتَحَقِّقٌ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ (وَكَذَا مَا تَرَدَّى مِنْ النَّعَمِ فِي بِئْرٍ وَوَقَعَ الْعَجْزُ عَنْ ذَكَاةِ الِاخْتِيَارِ) لِمَا بَيَّنَّا. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَحِلُّ بِذَكَاةِ الِاضْطِرَارِ فِي الْوَجْهَيْنِ لِأَنَّ ذَلِكَ نَادِرٌ.
وَنَحْنُ نَقُولُ: الْمُعْتَبَرُ حَقِيقَةُ الْعَجْزِ وَقَدْ تَحَقَّقَ فَيُصَارُ إلَى الْبَدَلِ، كَيْفَ وَإِنَّا لَا نُسَلِّمُ النُّدْرَةَ بَلْ هُوَ
عِنْدَنَا، وَلَكِنَّهُ ذَكَاةٌ يَجُوزُ أَكْلُ الْمَذْبُوحِ بِهِ كَمَا أَفْصَحَ عَنْهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ حَتَّى لَا يَكُونَ بِأَكْلِهِ بَأْسٌ، إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ هَذَا الذَّبْحُ فَلَمْ يَخْلُ هَذَا التَّعْلِيلُ الْمَذْكُورُ مِنْ قِبَلِ الشَّافِعِيُّ عَنْ الْمُصَادَرَةِ عَلَى الْمَطْلُوبِ كَمَا تَرَى (قَوْلُهُ وَالنُّخَاعُ عِرْقٌ أَبْيَضُ فِي عَظْمِ الرَّقَبَةِ).
قَالَ فِي الْمُغْرِبِ: النُّخَاعُ خَيْطٌ أَبْيَضُ فِي جَوْفِ عَظْمِ الرَّقَبَةِ يَمْتَدُّ إلَى الصُّلْبِ، وَالْفَتْحُ وَالضَّمُّ لُغَةٌ فِي الْكَسْرِ، وَمَنْ قَالَ هُوَ عِرْقٌ فَقَدْ سَهَا، إنَّمَا ذَلِكَ الْبِخَاعُ بِالْبَاءِ يَكُونُ فِي الْقَفَا، وَمِنْهُ بَخَعَ الشَّاةَ إذَا بَلَغَ بِالذَّبْحِ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ، فَالْبَخْعُ أَبْلَغُ مِنْ النَّخْعِ انْتَهَى. وَذَكَرَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ مَا فِي الْمُغْرِبِ بِعَيْنِهِ غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَنْسُبْهُ إلَى الْمُغْرِبِ فَصَاحِبُ الْعِنَايَةِ كَأَنَّهُ حَسِبَ أَنَّ صَاحِبَ النِّهَايَةِ ذَكَرَ مَا ذَكَرَهُ هُنَا مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ حَيْثُ قَالَ: فَسَّرَهُ الْمُصَنِّفُ بِأَنَّهُ عِرْقٌ أَبْيَضُ فِي عَظْمِ الرَّقَبَةِ، وَنَسَبَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ إلَى السَّهْوِ وَقَالَ: هُوَ خَيْطٌ أَبْيَضُ فِي جَوْفِ عَظْمِ الرَّقَبَةِ يَمْتَدُّ إلَى الصُّلْبِ. وَرُدَّ بِأَنَّ بَدَنَ الْحَيَوَانِ مُرَكَّبٌ مِنْ عِظَامٍ وَأَعْصَابٍ وَعُرُوقٍ هِيَ شَرَايِينُ وَأَوْتَارٌ وَمَا ثَمَّةَ شَيْءٌ يُسَمَّى بِالْخَيْطِ أَصْلًا، إلَى هُنَا لَفْظُ الْعِنَايَةِ. أَقُولُ: الرَّدُّ الْمَذْكُورُ مَرْدُودٌ، لِأَنَّ مَا ذَكَرَهُ مِنْ الْعِظَامِ وَالْأَعْصَابِ وَالْعُرُوقِ إنَّمَا هُوَ أَعْضَاءٌ مُفْرَدَةٌ لِبَدَنِ الْحَيَوَانِ، وَلَهُ أَعْضَاءٌ أُخَرُ مُفْرَدَةٌ كَالْغُضْرُوفِ وَالرِّبَاطِ وَالْغِشَاءِ وَاللَّحْمِ وَالشَّحْمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَمُرَكَّبَةٌ تَرْكِيبًا أَوَّلِيًّا كَالْعَضَلِ، أَوْ ثَانِيًا كَالْعَيْنِ، أَوْ ثَالِثًا كَالْوَجْهِ، ثُمَّ الرَّأْسُ مَثَلًا عَلَى مَا بُيِّنَ كُلُّهُ فِي كُتُبِ الطِّبِّ.
غَالِبٌ. وَفِي الْكِتَابِ أَطْلَقَ فِيمَا تَوَحَّشَ مِنْ النَّعَمِ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ الشَّاةَ إذَا نَدَّتْ فِي الصَّحْرَاءِ فَذَكَاتُهَا الْعَقْرُ، وَإِنْ نَدَّتْ فِي الْمِصْرِ لَا تَحِلُّ بِالْعَقْرِ لِأَنَّهَا لَا تَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهَا فَيُمْكِنُ أَخْذُهَا فِي الْمِصْرُ فَلَا عَجْزَ، وَالْمِصْرُ وَغَيْرُهُ سَوَاءٌ فِي الْبَقَرِ وَالْبَعِيرِ لِأَنَّهُمَا يَدْفَعَانِ عَنْ أَنْفُسِهِمَا فَلَا يَقْدِرُ عَلَى أَخْذِهِمَا، وَإِنْ نَدَّا فِي الْمِصْرِ فَيَتَحَقَّقُ الْعَجْزُ، وَالصِّيَالُ كَالنَّدِّ إذَا كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَخْذِهِ، حَتَّى لَوْ قَتَلَهُ الْمَصُولُ عَلَيْهِ وَهُوَ يُرِيدُ الذَّكَاةَ حَلَّ أَكْلُهُ. قَالَ (وَالْمُسْتَحَبُّ فِي الْإِبِلِ النَّحْرُ، فَإِنْ ذَبَحَهَا جَازَ وَيُكْرَهُ. وَالْمُسْتَحَبُّ فِي الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ الذَّبْحُ فَإِنْ نَحَرَهُمَا جَازَ وَيُكْرَهُ) أَمَّا الِاسْتِحْبَابُ فَلِمُوَافَقَةِ السُّنَّةِ الْمُتَوَارَثَةِ وَلِاجْتِمَاعِ الْعُرُوقِ فِيهَا فِي الْمَنْحَرِ وَفِيهِمَا فِي الْمَذْبَحِ، وَالْكَرَاهَةُ لِمُخَالَفَةِ السُّنَّةِ وَهِيَ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ فَلَا تَمْنَعُ الْجَوَازَ وَالْحِلَّ خِلَافًا لِمَا يَقُولُهُ مَالِكٌ إنَّهُ لَا يَحِلُّ.
قَالَ (وَمَنْ نَحَرَ نَاقَةً أَوْ ذَبَحَ بَقَرَةً فَوَجَدَ فِي بَطْنِهَا جَنِينًا مَيِّتًا لَمْ يُؤْكَلْ أَشْعَرَ أَوْ لَمْ يُشْعِرْ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَالْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: إذَا تَمَّ خَلْقُهُ أُكِلَ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «ذَكَاةُ الْجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ» وَلِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ الْأُمِّ حَقِيقَةً لِأَنَّهُ مُتَّصِلٌ بِهَا حَتَّى يُفْصَلَ بِالْمِقْرَاضِ وَيَتَغَذَّى بِغِذَائِهَا وَيَتَنَفَّسُ بِتَنَفُّسِهَا، وَكَذَا حُكْمًا حَتَّى يَدْخُلَ فِي الْبَيْعِ الْوَارِدِ عَلَى الْأُمِّ وَيُعْتَقَ بِإِعْتَاقِهَا. وَإِذَا كَانَ جُزْءًا مِنْهَا فَالْجُرْحُ فِي الْأُمِّ ذَكَاةٌ لَهُ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ ذَكَاتِهِ كَمَا فِي الصَّيْدِ. وَلَهُ أَنَّهُ أَصْلٌ فِي الْحَيَاةِ حَتَّى تُتَصَوَّرَ حَيَاتُهُ بَعْدَ مَوْتِهَا وَعِنْدَ ذَلِكَ يُفْرَدُ بِالذَّكَاةِ، وَلِهَذَا يُفْرَدُ بِإِيجَابِ الْغُرَّةِ وَيُعْتَقُ بِإِعْتَاقٍ مُضَافٍ إلَيْهِ، وَتَصِحُّ الْوَصِيَّةُ لَهُ وَبِهِ، وَهُوَ حَيَوَانٌ دَمَوِيٌّ، وَمَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ الذَّكَاةِ وَهُوَ الْمَيْزُ بَيْنَ الدَّمِ وَاللَّحْمِ لَا يَتَحَصَّلُ بِجُرْحِ الْأُمِّ، إذْ هُوَ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِخُرُوجِ الدَّمِ عَنْهُ فَلَا يُجْعَلُ تَبَعًا فِي حَقِّهِ، بِخِلَافِ الْجُرْحِ فِي الصَّيْدِ لِأَنَّهُ سَبَبٌ لِخُرُوجِهِ نَاقِصًا فَيُقَامُ مَقَامَ الْكَامِلِ فِيهِ عِنْدَ التَّعَذُّرِ.
وَإِنَّمَا يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ تَحَرِّيًا لِجَوَازِهِ كَيْ لَا يَفْسُدَ بِاسْتِثْنَائِهِ، وَيُعْتَقُ بِإِعْتَاقِهَا كَيْ لَا يَنْفَصِلَ مِنْ الْحُرَّةِ وَلَدَ رَقِيقٍ.
فَإِنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ وَمَا ثَمَّةَ شَيْءٌ يُسَمَّى بِالْخَيْطِ أَنَّهُ مَا فِي الْأَعْضَاءِ الْمُفْرَدَةِ الْمَخْصُوصَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا شَيْءٌ يُسَمَّى بِالْخَيْطِ فَهُوَ مُسَلَّمٌ، لَكِنْ لَا يُجْدِي شَيْئًا إذْ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِأَنَّ النُّخَاعَ مِنْ تِلْكَ الْأَعْضَاءِ الْمَخْصُوصَةِ حَتَّى يَلْزَمَ مِنْ أَنْ لَا يُسَمَّى شَيْءٌ مِنْ تِلْكَ الْأَعْضَاءِ بِالْخَيْطِ أَنْ لَا يَكُونَ النُّخَاعُ خَيْطًا، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ مَا فِي أَعْضَاءِ بَدَنِ الْحَيَوَانِ وَأَجْزَائِهِ مُطْلَقًا شَيْءٌ يُسَمَّى بِالْخَيْطِ فَهُوَ مَمْنُوعٌ جِدًّا، كَيْفَ وَلَا شَكَّ أَنَّ النُّخَاعَ مِنْ أَجْزَائِهِ وَكُتُبُ اللُّغَةِ مَشْحُونَةٌ بِتَفْسِيرِهِ بِالْخَيْطِ: مِنْهَا الْمُغْرِبُ كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي صَدْرِ الْكَلَامِ، وَمِنْهَا صِحَاحُ الْجَوْهَرِيِّ فَإِنَّهُ قَالَ فِيهِ: وَهُوَ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ الَّذِي فِي جَوْفِ الْفَقَارِ، وَمِنْهَا الْقَامُوسُ فَإِنَّهُ قَالَ فِيهِ: وَالنُّخَاعُ مُثَلَّثَةٌ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ فِي جَوْفِ الْفَقَارِ يَنْحَدِرُ مِنْ الدِّمَاغِ وَيَتَشَعَّبُ مِنْهُ شُعَبٌ فِي الْجِسْمِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مُعْتَبَرَاتِ كُتُبِ اللُّغَةِ.
فَصْلٌ فِيمَا يَحِلُّ أَكْلُهُ وَمَا لَا يَحِلُّ
قَالَ (وَلَا يَجُوزُ أَكْلُ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ وَلَا ذِي مِخْلَبٍ مِنْ الطُّيُورِ) لِأَنَّ «النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام نَهَى عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنْ الطُّيُورِ وَكُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ» . وَقَوْلُهُ مِنْ السِّبَاعِ ذُكِرَ عَقِيبَ النَّوْعَيْنِ فَيَنْصَرِفُ إلَيْهِمَا فَيَتَنَاوَلُ سِبَاعَ الطُّيُورِ وَالْبَهَائِمِ لِأَكْلِ مَا لَهُ مِخْلَبٌ أَوْ نَابٌ. وَالسَّبُعُ كُلُّ مُخْتَطِفٍ مُنْتَهِبٍ جَارِحٍ قَاتِلٍ عَادٍ عَادَةً. وَمَعْنَى التَّحْرِيمِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ كَرَامَةُ بَنِي آدَمَ كَيْ لَا يَعْدُوَ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأَوْصَافِ الذَّمِيمَةِ إلَيْهِمْ بِالْأَكْلِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ الضَّبُعُ وَالثَّعْلَبُ، فَيَكُونُ الْحَدِيثُ حُجَّةً عَلَى الشَّافِعِيِّ رحمه الله فِي إبَاحَتِهِمَا، وَالْفِيلُ ذُو نَابٍ فَيُكْرَهُ، وَالْيَرْبُوعُ
(فَصْلٌ فِيمَا يَحِلُّ أَكْلُهُ وَمَا لَا يَحِلُّ)
لَمَّا ذَكَرَ أَحْكَامَ الذَّبَائِحِ شَرَعَ فِي تَفْصِيلِ الْمَأْكُولِ مِنْهَا وَغَيْرِ الْمَأْكُولِ، إذْ الْمَقْصُودُ الْأَصْلِيُّ مِنْ شَرْعِيَّةِ الذَّبْحِ، التَّوَصُّلُ إلَى الْأَكْلِ. وَقَدَّمَ الذَّبْحَ لِأَنَّ وَسِيلَةَ الشَّيْءِ تُقَدَّمُ عَلَيْهِ فِي الذِّكْرِ
(قَوْلُهُ وَقَوْلُهُ مِنْ السِّبَاعِ ذُكِرَ عَقِيبَ النَّوْعَيْنِ فَيَنْصَرِفُ إلَيْهَا فَيَتَنَاوَلُ سِبَاعَ الطُّيُورِ وَالْبَهَائِمِ لَا كُلِّ مَا لَهُ مِخْلَبٌ أَوْ نَابٌ) قَالَ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ: وَهَكَذَا قَرَّرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ خُوَاهَرْ زَادَهْ فِي شَرْحِ الْمَبْسُوطِ. ثُمَّ قَالَ: وَلَنَا فِي هَذَا التَّقْرِيرِ نَظَرٌ لِأَنَّ الثِّقَاتِ مِنْ الْمُحَدِّثِينَ رَوَوْا الْحَدِيثَ بِأَجْمَعِهِمْ بِتَقْدِيمِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ عَلَى كُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنْ الطُّيُورِ فَلَا يَتَمَشَّى هَذَا التَّقْرِيرُ، وَلَوْ صَحَّتْ تِلْكَ الرِّوَايَةُ فَنَمْنَعُ انْصِرَافَ قَوْلِهِ مِنْ السِّبَاعِ إلَى النَّوْعَيْنِ جَمِيعًا، لِأَنَّ قَوْلَهُ وَكُلِّ ذِي نَابٍ أَوْلَى بِالِانْصِرَافِ إلَيْهِ لِكَوْنِهِ أَقْرَبَ انْتَهَى. أَقُولُ: قَوْلُهُ لِأَنَّ قَوْلَهُ وَكُلِّ ذِي نَابٍ أَوْلَى بِالِانْصِرَافِ إلَيْهِ لِكَوْنِهِ أَقْرَبَ لَيْسَ بِتَامٍّ، لِأَنَّ كَوْنَهُ أَقْرَبَ إنَّمَا يَقْتَضِي أَوْلَوِيَّةَ انْصِرَافِهِ إلَيْهِ مِنْ انْصِرَافِهِ إلَى أَوَّلِ النَّوْعَيْنِ لَا إلَى النَّوْعَيْنِ جَمِيعًا، وَمُدَّعَى الشَّيْخَيْنِ انْصِرَافُهُ إلَيْهِمَا مَعًا فَلَا يَقْدَحُ فِيهِ مَا ذَكَرَهُ، وَالْوَجْهُ أَنْ يُقَالَ: بَيَّنَ النَّوْعَ الْأَوَّلَ بِقَوْلِهِ مِنْ الطُّيُورِ وَهُوَ يَأْبَى أَنْ يَكُونَ الْبَيَانُ الْمَذْكُورُ فِي ذَيْلِ النَّوْعِ الثَّانِي وَهُوَ قَوْلُهُ مِنْ السِّبَاعِ مَصْرُوفًا إلَى النَّوْعَيْنِ جَمِيعًا، إذْ الْمُتَبَادَرُ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْ الْبَيَانَيْنِ قَيْدًا لِمَا قُرِنَ بِهِ مِنْ أَحَدِ النَّوْعَيْنِ مَذْكُورًا بِإِزَاءِ الْآخَرِ فَكَيْفَ يُبْنَى الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ عَلَى مَا هُوَ خِلَافُ الْمُتَبَادَرِ مِنْ الْكَلَامِ فَتَدَبَّرْ
(قَوْلُهُ وَالسَّبُعُ كُلُّ مُخْتَطِفٍ مُنْتَهِبٍ جَارِحٍ قَاتِلٍ عَادٍ عَادَةً) قَالَ الشُّرَّاحُ: الْفَرْقُ بَيْنَ الِاخْتِطَافِ وَالِانْتِهَابِ أَنَّ الِاخْتِطَافَ
وَابْنُ عِرْسٍ مِنْ السِّبَاعِ الْهَوَامِّ.
وَكَرِهُوا أَكْلَ الرَّخَمِ وَالْبُعَاثِ لِأَنَّهُمَا يَأْكُلَانِ الْجِيَفَ قَالَ (وَلَا بَأْسَ بِغُرَابِ الزَّرْعِ) لِأَنَّهُ يَأْكُلُ الْحَبَّ وَلَا يَأْكُلُ الْجِيَفَ وَلَيْسَ مِنْ سِبَاعِ الطَّيْرِ.
قَالَ (وَلَا يُؤْكَلُ الْأَبْقَعُ الَّذِي يَأْكُلُ الْجِيَفَ، وَكَذَا الْغُدَافُ)
(وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا بَأْسَ بِأَكْلِ الْعَقْعَقِ) لِأَنَّهُ يُخَلَّطُ فَأَشْبَهَ الدَّجَاجَةَ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُكْرَهُ لِأَنَّ غَالِبَ أَكْلِهِ الْجِيَفُ
قَالَ (وَيُكْرَهُ أَكْلُ الضَّبُعِ وَالضَّبِّ وَالسُّلَحْفَاةِ وَالزُّنْبُورِ وَالْحَشَرَاتِ كُلِّهَا) أَمَّا الضَّبُعُ فَلِمَا ذَكَرْنَا، وَأَمَّا الضَّبُّ فَلِأَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام نَهَى عَائِشَةَ رضي الله عنهما حِينَ سَأَلَتْهُ عَنْ أَكْلِهِ. وَهِيَ حُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ فِي إبَاحَتِهِ، وَالزُّنْبُورُ مِنْ الْمُؤْذِيَاتِ. وَالسُّلَحْفَاةُ مِنْ خَبَائِثِ الْحَشَرَاتِ وَلِهَذَا لَا يَجِبُ عَلَى الْمُحْرِمِ بِقَتْلِهِ شَيْءٌ، وَإِنَّمَا تُكْرَهُ الْحَشَرَاتُ كُلُّهَا اسْتِدْلَالًا بِالضَّبِّ لِأَنَّهُ مِنْهَا.
قَالَ (وَلَا يَجُوزُ أَكْلُ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ وَالْبِغَالِ)
مِنْ فِعْلِ الطُّيُورِ وَالِانْتِهَابَ مِنْ فِعْلِ السِّبَاعِ الْبَهَائِمِ انْتَهَى. أَقُولُ: فَعَلَى هَذَا كَانَ يَنْبَغِي لِلْمُصَنِّفِ أَنْ يَقُولَ وَالسَّبُعُ كُلُّ مُخْتَطِفٍ أَوْ مُنْتَهِبٍ إلَى آخِرِ مَا ذَكَرَهُ، لِأَنَّ قَوْلَهُ وَالسَّبُعُ كُلُّ مُخْتَطِفٍ مُنْتَهِبٍ يُشْعِرُ بِاجْتِمَاعِ الِاخْتِطَافِ وَالِانْتِهَابِ فِي كُلِّ سَبُعٍ وَذَا لَا يُتَصَوَّرُ عَلَى الْفَرْقِ الْمَذْكُورِ كَمَا لَا يَخْفَى
(قَوْلُهُ وَكَرِهُوا أَكْلَ الرَّخَمِ وَالْبُغَاثِ لِأَنَّهُمَا يَأْكُلَانِ الْجِيَفَ) الرَّخَمُ جَمْعُ رَخَمَةٍ. وَهُوَ طَائِرٌ أَبْقَعُ يُشْبِهُ النَّسْرَ فِي الْخِلْقَةِ يُقَالُ لَهُ الْأَنُوقُ كَذَا فِي الصِّحَاحِ. وَالْبُغَاثُ طَائِرٌ أَبْغَثُ إلَى الْغُبْرَةِ دُوَيْنَ الرَّخَمَةِ، بَطِيءُ الطَّيَرَانِ كَذَا فِي الصِّحَاحِ أَيْضًا مَعْزِيًّا إلَى ابْنِ السِّكِّيتِ. وَقَالَ فِي الْقَامُوسِ: الْبُغَاثُ مُثَلَّثَةَ الْأَوَّلِ: طَائِرٌ أَغْبَرُ انْتَهَى. قَالَ جُمْهُورُ الشُّرَّاحِ هُنَا الْبُغَاثُ مَا لَا يَصِيدُ مِنْ صِغَارِ الطَّيْرِ وَضِعَافِهِ وَقَالَ بَعْضٌ مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ: كَالْعَصَافِيرِ وَنَحْوِهَا أَقُولُ: هَذَا التَّفْسِيرُ مِنْهُمْ لَا يُنَاسِبُ مَا فِي الْكِتَابِ أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُ يَتَنَاوَلُ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ أَيْضًا كَالْعَصَافِيرِ فَإِنَّهَا مِمَّا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ بِلَا خِلَافٍ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الصَّيْدِ وَالذَّبَائِحِ مِنْ فَتَاوَى قَاضِي خَانْ. وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ كَثِيرًا مِمَّا لَا يَصِيدُ مِنْ صِغَارِ الطَّيْرِ وَضِعَافِهِ لَا يَأْكُلُ الْجِيَفَ بَلْ يَأْكُلُ الْحَبَّ كَمَا لَا يَخْفَى، فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْبُغَاثِ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ مَا فَسَّرُوهُ بِهِ لَزِمَ أَنْ لَا يَتِمَّ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ لِأَنَّهُمَا يَأْكُلَانِ الْجِيَفَ. نَعَمْ وَقَعَ فِي بَعْضِ كُتُبِ اللُّغَةِ تَفْسِيرُ الْبُغَاثِ بِمَا فَسَّرَهُ الشُّرَّاحُ بِهِ هَاهُنَا فَإِنَّهُ قَالَ فِي دِيوَانِ الْأَدَبِ: الْبُغَاثُ مَا لَا يَصِيدُ مِنْ الطَّيْرِ، وَقَالَ فِي الْمُغْرِبِ: الْبُغَاثُ مَا لَا يَصِيدُ مِنْ صِغَارِ الطَّيْرِ كَالْعَصَافِيرِ وَنَحْوِهَا، وَقَالَ فِي الصِّحَاحِ: قَالَ الْفَرَّاءُ: بُغَاثُ الطَّيْرِ شِرَارُهَا وَمَا لَا يَصِيدُ مِنْهَا. انْتَهَى، إلَّا أَنَّ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ لَا يَصْلُحُ أَنْ يُجْعَلَ تَفْسِيرًا لِمَا فِي الْكِتَابِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْوَجْهَيْنِ. وَإِنَّمَا التَّفْسِيرُ الْمُنَاسِبُ لِمَا فِي الْكِتَابِ مَا قَدَّمْنَاهُ مِمَّا ذَكَرَ فِي الصِّحَاحِ أَوَّلًا مَعْزِيًّا إلَى ابْنِ السِّكِّيتِ، وَمَا ذَكَرَهُ فِي الْقَامُوسِ أَيْضًا تَبَصَّرْ تَرْشُدْ.
(قَوْلُهُ وَإِنَّمَا تُكْرَهُ الْحَشَرَاتُ كُلُّهَا اسْتِدْلَالًا بِالضَّبِّ لِأَنَّهُ مِنْهَا) قَالَ صَاحِبُ مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ: أَيْ لِأَنَّ الضَّبَّ مِنْ الْحَشَرَاتِ، فَإِذَا رُتِّبَ الْحُكْمُ عَلَى الْجِنْسِ يَنْسَحِبُ عَلَى جَمِيعِ أَفْرَادِهِ كَمَا إذَا قَالَ طَبِيبٌ لِمَرِيضٍ لَا تَأْكُلْ لَحْمَ الْبَعِيرِ يَتَنَاوَلُ نَهْيُهُ كُلَّ أَفْرَادِهِ
لِمَا رَوَى خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ رضي الله عنه «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ لُحُومِ الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ» وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه «أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام أَهْدَرَ الْمُتْعَةَ وَحَرَّمَ لُحُومَ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ يَوْمَ خَيْبَرَ»
قَالَ (وَيُكْرَهُ لَحْمُ الْفَرَسِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ رحمهم الله: لَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ لِحَدِيثِ جَابِرٍ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ، وَأَذِنَ فِي لُحُومِ الْخَيْلِ يَوْمَ خَيْبَرَ» وَلِأَبِي حَنِيفَةَ قَوْله تَعَالَى {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} خَرَجَ مَخْرَجَ الِامْتِنَانِ وَالْأَكْلُ مِنْ أَعْلَى مَنَافِعِهَا، وَالْحَكَمُ لَا يَتْرُكُ الِامْتِنَانَ بِأَعْلَى النِّعَمِ وَيَمْتَنُّ بِأَدْنَاهَا، وَلِأَنَّهُ آلَةُ إرْهَابِ الْعَدُوِّ فَيُكْرَهُ أَكْلُهُ احْتِرَامًا لَهُ وَلِهَذَا يُضْرَبُ لَهُ بِسَهْمٍ فِي الْغَنِيمَةِ، وَلِأَنَّ فِي إبَاحَتِهِ تَقْلِيلَ آلَةِ الْجِهَادِ، وَحَدِيثُ.
جَابِرٍ
انْتَهَى. وَاقْتَفَى أَثَرَهُ الْعَيْنِيُّ. أَقُولُ: لَيْسَ ذَاكَ بِسَدِيدٍ لِأَنَّ الِاسْتِدْلَالَ عَلَى كَرَاهَةِ الْحَشَرَاتِ كُلِّهَا بِكَرَاهَةِ الضَّبِّ لِكَوْنِهِ مِنْ تِلْكَ الْحَشَرَاتِ إنَّمَا هُوَ مِنْ قَبِيلِ أَنْ يَتَرَتَّبَ الْحُكْمُ عَلَى فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْجِنْسِ فَيَنْسَحِبَ ذَلِكَ الْحُكْمُ عَلَى سَائِرِ أَفْرَادِ ذَاكَ الْجِنْسِ أَيْضًا لَا مِنْ قَبِيلِ أَنْ يَتَرَتَّبَ الْحُكْمُ عَلَى الْجِنْسِ فَيَنْسَحِبَ ذَلِكَ الْحُكْمُ عَلَى جَمِيعِ أَفْرَادِ ذَاكَ الْجِنْسِ أَيْضًا كَمَا تَوَهَّمَهُ ذَانِكَ الشَّارِحَانِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ هُوَ أَنَّهُ إنَّمَا تُكْرَهُ الْحَشَرَاتُ كُلُّهَا لِأَنَّ الضَّبَّ مِنْهَا، وَقَدْ وَرَدَ فِي كَرَاهَةِ أَكْلِهِ النَّصُّ فَيُسْتَدَلُّ بِكَرَاهَةِ أَكْلِهِ عَلَى كَرَاهَةِ أَكْلِ سَائِرِ الْحَشَرَاتِ أَيْضًا بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ لِاشْتِرَاكِ كُلِّهَا فِي عِلَّةِ الْكَرَاهَةِ. ثُمَّ أَقُولُ: لَيْتَ شِعْرِي لِمَ وَقَعَ الْمُصَنِّفُ فِي هَذَا الْمَضِيقِ وَلَمْ يَتَشَبَّثْ فِي إثْبَاتِ كَرَاهَةِ أَكْلِ الْحَشَرَاتِ كُلِّهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} وَالظَّاهِرُ أَنَّ
مُعَارَضٌ بِحَدِيثِ خَالِدٍ رضي الله عنه، وَالتَّرْجِيحُ لِلْمُحَرِّمِ. ثُمَّ قِيلَ: الْكَرَاهَةُ عِنْدَهُ كَرَاهَةُ تَحْرِيمٍ. وَقِيلَ كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. وَأَمَّا لَبَنُهُ فَقَدْ قِيلَ: لَا بَأْسَ بِهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي شُرْبِهِ تَقْلِيلُ آلَةِ الْجِهَادِ.
قَالَ (وَلَا بَأْسَ بِأَكْلِ الْأَرْنَبِ) لِأَنَّ «النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام أَكَلَ مِنْهُ حِينَ أُهْدِيَ إلَيْهِ مَشْوِيًّا وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ رضي الله عنهم بِالْأَكْلِ مِنْهُ» ، وَلِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ السِّبَاعِ وَلَا مِنْ أَكَلَةِ الْجِيَفِ فَأَشْبَهَ الظَّبْيَ
قَالَ (وَإِذَا ذُبِحَ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ طَهُرَ جِلْدُهُ وَلَحْمُهُ إلَّا الْآدَمِيَّ وَالْخِنْزِيرَ) فَإِنَّ الذَّكَاةَ لَا تَعْمَلُ فِيهِمَا، أَمَّا الْآدَمِيُّ فَلِحُرْمَتِهِ وَكَرَامَتِهِ وَالْخِنْزِيرُ لِنَجَاسَتِهِ كَمَا فِي الدِّبَاغِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الذَّكَاةُ لَا تُؤَثِّرُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يُؤَثِّرُ فِي إبَاحَةِ اللَّحْمِ أَصْلًا. وَفِي طَهَارَتِهِ وَطَهَارَةِ الْجِلْدِ تَبَعًا وَلَا تَبَعَ بِدُونِ الْأَصْلِ وَصَارَ كَذَبْحِ الْمَجُوسِيِّ. وَلَنَا أَنَّ الذَّكَاةَ مُؤَثِّرَةٌ فِي إزَالَةِ الرُّطُوبَاتِ وَالدِّمَاءِ السَّيَّالَةِ وَهِيَ النَّجِسَةُ دُونَ ذَاتِ الْجِلْدِ وَاللَّحْمِ، فَإِذَا زَالَتْ طَهُرَ كَمَا فِي الدِّبَاغِ. وَهَذَا الْحُكْمُ مَقْصُودٌ فِي الْجِلْدِ كَالتَّنَاوُلِ فِي اللَّحْمِ وَفِعْلُ الْمَجُوسِيِّ إمَاتَةٌ فِي الشَّرْعِ فَلَا بُدَّ مِنْ الدِّبَاغِ، وَكَمَا يَطْهُرُ لَحْمُهُ يَطْهُرُ شَحْمُهُ، حَتَّى لَوْ وَقَعَ فِي الْمَاءِ الْقَلِيلِ لَا يُفْسِدُهُ خِلَافًا لَهُ. وَهَلْ يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ فِي غَيْرِ الْأَكْلِ؟ قِيلَ: لَا يَجُوزُ اعْتِبَارًا بِالْأَكْلِ. وَقِيلَ يَجُوزُ كَالزَّيْتِ إذَا خَالَطَهُ وَدَكُ الْمَيْتَةِ. وَالزَّيْتُ غَالِبٌ لَا يُؤْكَلُ وَيُنْتَفَعُ بِهِ فِي غَيْرِ الْأَكْلِ
قَالَ (وَلَا يُؤْكَلُ مِنْ حَيَوَانِ الْمَاءِ إلَّا السَّمَكَ) وَقَالَ مَالِكٌ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِإِطْلَاقِ جَمِيعِ مَا فِي الْبَحْرِ. وَاسْتَثْنَى بَعْضُهُمْ الْخِنْزِيرَ وَالْكَلْبَ وَالْإِنْسَانَ.
وَعَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ أَطْلَقَ ذَاكَ كُلَّهُ، وَالْخِلَافُ فِي الْأَكْلِ وَالْبَيْعِ وَاحِدٌ لَهُمْ قَوْله تَعَالَى
الْحَشَرَاتِ كُلَّهَا مِنْ الْخَبَائِثِ فَحِينَئِذٍ يَتِمُّ الِاسْتِدْلَال بِكَرَاهَةِ الضَّبِّ عَلَى كَرَاهَةِ الْحَشَرَاتِ كُلِّهَا كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ
(مَا يَحِلُّ أَكْلُهُ وَمَا لَا يَحِلّ)(قَوْلُهُ ثُمَّ قِيلَ الْكَرَاهَةُ عِنْدَهُ كَرَاهَةُ تَحْرِيمٍ، وَقِيلَ كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي تَعْلِيلِ كَوْنِ الْأَوَّلِ أَصَحَّ: لِأَنَّهُ رُوِيَ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ سَأَلَ أَبَا حَنِيفَةَ رحمه الله: إذَا قُلْتَ فِي شَيْءٍ أَكْرَهُهُ فَمَا رَأْيُك فِيهِ؟ قَالَ التَّحْرِيمُ انْتَهَى. أَقُولُ فِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ هَذَا إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ الْأَوَّلِ أَصَحَّ أَنْ لَوْ كَانَ الْمَرْوِيُّ مِنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله فِي هَاتِيكَ الْمَسْأَلَةِ مُنْحَصِرًا فِي لَفْظِ أَكْرَهُهُ فَكَأَنَّ بَعْضَهُمْ حَمَلَهُ عَلَى التَّحْرِيمِ وَبَعْضَهُمْ حَمَلَهُ عَلَى التَّنْزِيهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ الْمَرْوِيُّ عَنْهُ فِيهَا لَفْظَانِ: أَحَدُهُمَا لَا يُعْجِبُنِي أَكْلُهُ وَبِهِ أَخَذَ مَنْ قَالَ بِكَرَاهَةِ التَّنْزِيهِ، وَثَانِيهِمَا أَكْرَهُهُ وَبِهِ أَخَذَ مَنْ قَالَ بِكَرَاهَةِ التَّحْرِيمِ، فَمَبْنَى اخْتِلَافِ الْفَرِيقَيْنِ اخْتِلَافُ اللَّفْظَيْنِ الْمَرْوِيَّيْنِ عَنْهُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الشُّرَّاحُ قَاطِبَةً حَتَّى شَارِحَ الْمَزْبُورِ نَفْسِهِ أَيْضًا حَيْثُ قَالَ مُتَّصِلًا بِتَعْلِيلِهِ الْمَذْكُورِ: وَمَبْنَى اخْتِلَافِ الْمَشَايِخِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى اخْتِلَافِ اللَّفْظِ الْمَرْوِيِّ عَنْهُ فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْهُ: رَخَّصَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي لَحْمِ الْخَيْلِ فَأَمَّا أَنَا فَلَا يُعْجِبُنِي أَكْلُهُ وَهَذَا يُلَوِّحُ إلَى التَّنْزِيهِ وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: أَكْرَهُهُ وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى التَّحْرِيمِ عَلَى مَا رَوَيْنَا عَنْ أَبِي يُوسُفَ اهـ تَأَمَّلْ
{أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ، وَقَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام فِي الْبَحْرِ «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ وَالْحِلُّ مَيْتَتُهُ» وَلِأَنَّهُ لَا دَمَ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ إذْ الدَّمَوِيُّ لَا يَسْكُنُ الْمَاءَ وَالْمُحَرَّمُ هُوَ الدَّمُ فَأَشْبَهَ السَّمَكَ. قُلْنَا: قَوْله تَعَالَى {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} وَمَا سِوَى السَّمَكِ خَبِيثٌ. «وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ عليه الصلاة والسلام عَنْ دَوَاءٍ يُتَّخَذُ فِيهِ الضُّفْدَعُ» ، وَنَهَى عَنْ بَيْعِ السَّرَطَانِ وَالصَّيْدُ الْمَذْكُورُ فِيمَا تَلَا مَحْمُولٌ عَلَى الِاصْطِيَادِ وَهُوَ مُبَاحٌ فِيمَا لَا يَحِلُّ، وَالْمَيْتَةُ الْمَذْكُورَةُ فِيمَا رَوَى مَحْمُولَةٌ عَلَى السَّمَكِ وَهُوَ حَلَالٌ مُسْتَثْنًى مِنْ ذَلِكَ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ، أَمَّا الْمَيْتَتَانِ فَالسَّمَكُ وَالْجَرَادُ وَأَمَّا الدَّمَانِ فَالْكَبِدُ وَالطِّحَالُ» قَالَ (وَيُكْرَهُ أَكْلُ الطَّافِي مِنْهُ) وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ لِإِطْلَاقِ مَا رَوَيْنَا، وَلِأَنَّ مَيْتَةَ الْبَحْرِ مَوْصُوفَةٌ بِالْحِلِّ بِالْحَدِيثِ. وَلَنَا مَا رَوَى جَابِرٌ رضي الله عنه عَنْ. النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام أَنَّهُ قَالَ «مَا نَضَبَ عَنْهُ الْمَاءُ فَكُلُوا، وَمَا لَفَظَهُ الْمَاءُ فَكُلُوا، وَمَا طَفَا فَلَا تَأْكُلُوا» وَعَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ مِثْلُ مَذْهَبِنَا، وَمَيْتَةُ الْبَحْرِ مَا لَفَظَهُ الْبَحْرُ لِيَكُونَ مَوْتُهُ مُضَافًا إلَى الْبَحْرِ لَا مَا مَاتَ فِيهِ مِنْ غَيْرِ آفَةٍ.
قَالَ (وَلَا بَأْسَ بِأَكْلِ الْجِرِّيثِ وَالْمَارْمَاهِي وَأَنْوَاعِ السَّمَكِ وَالْجَرَادِ بِلَا ذَكَاةٍ) وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَحِلُّ الْجَرَادُ إلَّا أَنْ يَقْطَعَ الْآخِذُ رَأْسَهُ أَوْ يَشْوِيَهُ لِأَنَّهُ صَيْدُ الْبَرِّ، وَلِهَذَا يَجِبُ عَلَى الْمُحْرِمِ بِقَتْلِهِ جَزَاءٌ يَلِيقُ بِهِ فَلَا يَحِلُّ إلَّا بِالْقَتْلِ كَمَا فِي سَائِرِهِ. وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا رَوَيْنَا. وَسُئِلَ عَلِيٌّ رضي الله عنه عَنْ الْجَرَادِ يَأْخُذُهُ الرَّجُلُ مِنْ الْأَرْضِ وَفِيهَا الْمَيِّتُ وَغَيْرُهُ فَقَالَ: كُلْهُ كُلَّهُ. وَهَذَا عُدَّ مِنْ فَصَاحَتِهِ، وَدَلَّ عَلَى إبَاحَتِهِ وَإِنْ مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ، بِخِلَافِ السَّمَكِ إذَا مَاتَ مِنْ غَيْرِ آفَةٍ لِأَنَّا خَصَّصْنَاهُ بِالنَّصِّ الْوَارِدِ فِي الطَّافِي، ثُمَّ الْأَصْلُ فِي السَّمَكِ عِنْدَنَا أَنَّهُ إذَا مَاتَ بِآفَةٍ يَحِلُّ كَالْمَأْخُوذِ، وَإِذَا مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ مِنْ غَيْرِ آفَةٍ لَا يَحِلُّ كَالطَّافِي، وَتَنْسَحِبُ عَلَيْهِ فُرُوعٌ كَثِيرَةٌ بَيَّنَّاهَا فِي كِفَايَةِ الْمُنْتَهَى. وَعِنْدَ التَّأَمُّلِ يَقِفُ الْمُبَرِّزُ عَلَيْهَا: مَا إذَا قَطَعَ بَعْضَهَا فَمَاتَ يَحِلُّ أَكْلُ مَا أُبِينَ وَمَا بَقِيَ. لِأَنَّ مَوْتَهُ بِآفَةٍ وَمَا أُبِينَ مِنْ الْحَيِّ وَإِنْ كَانَ مَيِّتًا فَمَيْتَتُهُ حَلَالٌ. وَفِي الْمَوْتِ بِالْحَرِّ وَالْبَرْدِ رِوَايَتَانِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ لَهُمْ قَوْله تَعَالَى {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ) أَقُولُ: الظَّاهِرُ أَنَّ ضَمِيرَ لَهُمْ رَاجِعٌ إلَى جَمِيعِ مَنْ خَالَفَنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى التَّفْصِيلِ الْمَذْكُورِ، إذَا لَمْ يَذْكُرْ فِيمَا بَعْدُ سِوَى دَلِيلِ أَئِمَّتِنَا، مَعَ أَنَّ التَّمَسُّكَ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ لَا يَتَمَشَّى عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ مِنْهُمْ بِاسْتِثْنَاءِ الْخِنْزِيرِ وَالْكَلْبِ وَالْإِنْسَانِ كَمَا مَرَّ ذَلِكَ أَيْضًا، إذْ عَلَى ذَلِكَ الْقَوْلِ يَلْزَمُ الْفَصْلُ كَمَا لَا يَخْفَى فَتَأَمَّلْ
(قَوْلُهُ وَلِأَنَّ مَيْتَةَ الْبَحْرِ مَوْصُوفَةٌ بِالْحِلِّ لِلْحَدِيثِ) أَقُولُ: لَا يَذْهَبُ عَلَى الْفَطِنِ أَنَّ هَذَا الْقَدْرَ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ لَا يُفِيدُ مُدَّعَى مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ بِدُونِ الْمَصِيرِ إلَى إطْلَاقِ ذَلِكَ الْحَدِيثِ أَيْضًا لِلسَّمَكِ الطَّافِي وَعِنْدَ ذَلِكَ لَا يَظْهَرُ وَجْهُ جَعْلِهِ دَلِيلًا مُسْتَقِلًّا كَمَا هُوَ مُقْتَضَى تَحْرِيرِ الْمُصَنِّفِ، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ لِإِطْلَاقِ مَا رَوَيْنَا وَإِطْلَاقِ حَدِيثِ حِلِّ مَيْتَةِ الْبَحْرِ.
كِتَابُ الْأُضْحِيَّةِ
(كِتَابُ الْأُضْحِيَّةِ)
أَوْرَدَ الْأُضْحِيَّةَ عَقِيبَ الذَّبَائِحِ لِأَنَّ الْأُضْحِيَّةَ ذَبِيحَةٌ خَاصَّةٌ وَالْخَاصُّ بَعْدَ الْعَامِّ، كَذَا قَالُوا. أَقُولُ: فِيهِ مُنَاقَشَةٌ هِيَ أَنَّهُمْ إنْ أَرَادُوا أَنَّ الْخَاصَّ يَكُونُ بَعْدَ الْعَامِّ فِي الْوُجُودِ فَهُوَ مَمْنُوعٌ، إذْ قَدْ تَقَرَّرَ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ أَنَّهُ لَا وُجُودَ لِلْعَامِّ إلَّا فِي ضِمْنِ الْخَاصِّ، وَإِنْ أَرَادُوا أَنَّ الْخَاصَّ يَكُونُ بَعْدَ الْعَامِّ فِي التَّعَقُّلِ فَهُوَ إنَّمَا يَكُونُ إذَا كَانَ الْعَامُّ ذَاتِيًّا لِلْخَاصِّ وَكَانَ الْخَاصُّ مَعْقُولًا بِالْكُنْهِ كَمَا عُرِفَ، وَكَوْنُ الْأَمْرِ كَذَلِكَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ مَمْنُوعٌ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: تَمْيِيزُ الذَّاتِيِّ مِنْ الْعَرَضِيِّ إنَّمَا يَتَعَسَّرُ فِي حَقَائِقِ النَّفْسِ الْأَمْرِيَّةِ.
وَأَمَّا فِي الْأُمُورِ الْوَضْعِيَّةِ وَالِاعْتِبَارِيَّة كَمَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ فَكُلُّ مَا اُعْتُبِرَ دَاخِلًا فِي مَفْهُومِ شَيْءٍ يَصِيرُ ذَاتِيًّا لِذَلِكَ الشَّيْءِ، وَيَكُونُ تَصَوُّرُ ذَلِكَ الشَّيْءِ بِالْأُمُورِ الدَّاخِلَةِ فِي مَفْهُومِهِ تَصَوُّرًا لَهُ بِالْكُنْهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَعْنَى الذَّبْحِ دَاخِلٌ فِي مَعْنَى الْأُضْحِيَّةِ لُغَةً وَشَرِيعَةً فَيَتَوَقَّفُ تَعَقُّلُهَا عَلَى تَعَقُّلِ مَعْنَى الذَّبْحِ فَيَتِمُّ التَّقْرِيبُ عَلَى اخْتِيَارِ الشِّقِّ الثَّانِي تَأَمَّلْ تَقِفْ.
ثُمَّ إنَّ بَيَانَ مَعْنَى الْأُضْحِيَّةِ لُغَةً وَشَرِيعَةً قَدْ اخْتَلَفَتْ فِيهِ عِبَارَاتُ الشُّرَّاحِ، فَقَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: أَمَّا لُغَةً فَالْأُضْحِيَّةُ اسْمُ الشَّاةِ وَنَحْوِهَا تُذْبَحُ فِي يَوْمِ الْأَضْحَى انْتَهَى. أَقُولُ: فِيهِ نَوْعُ مُخَالَفَةٍ لِمَا ذُكِرَ فِي مَشَاهِيرِ كُتُبِ اللُّغَةِ مِنْ الْقَامُوسِ وَالصِّحَاحِ وَغَيْرِهِمَا، فَإِنَّ الْمَذْكُورَ فِيهَا أَنَّ الْأُضْحِيَّةَ شَاةٌ تُذْبَحُ يَوْمَ الْأَضْحَى وَلَمْ يُذْكَرْ فِي وَاحِدٍ مِنْهَا عُمُومُ الْأُضْحِيَّةِ لِشَيْءٍ مِنْ غَيْرِ الشَّاةِ كَمَا يُشْعِرُ بِهِ لَفْظُ وَنَحْوِهَا فِي عِبَارَةِ صَاحِبِ النِّهَايَةِ، وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ: الْأُضْحِيَّةُ فِي اللُّغَةِ اسْمُ مَا يُذْبَحُ فِي يَوْمِ الْأَضْحَى انْتَهَى.
أَقُولُ: فِيهِ سَمَاحَةٌ ظَاهِرَةٌ، فَإِنَّهُ يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَا يُذْبَحُ فِي يَوْمِ الْأَضْحَى مِنْ مِثْلِ الدَّجَاجَةِ وَالْحَمَامَةِ وَنَحْوِهِمَا مِمَّا لَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ لَفْظُ الْأُضْحِيَّةِ لَا بِحَسَبِ الشَّرْعِ وَلَا بِحَسَبِ اللُّغَةِ وَقَالَ صَاحِبَا الْكَافِي وَالْكِفَايَةِ: هِيَ مَا يُضَحَّى بِهَا: أَيْ يُذْبَحُ انْتَهَى. أَقُولُ: فِيهِ خَلَلٌ بَيِّنٌ، فَإِنَّهُ يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَا يُذْبَحُ فِي يَوْمِ الْأَضْحَى وَغَيْرِهِ، وَإِنَّمَا هَذَا مَعْنَى الذَّبِيحَةِ مُطْلَقًا، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأُضْحِيَّةَ أَخَصُّ مِنْهَا. ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ:
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وَأَمَّا شَرْعًا فَالْأُضْحِيَّةُ اسْمٌ لِحَيَوَانٍ مَخْصُوصٍ وَهُوَ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالضَّأْنُ وَالْمَعَزُ بِسِنٍّ مَخْصُوصٍ، وَهُوَ الثَّنِيُّ فَصَاعِدًا مِنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ الْأَرْبَعَةِ، وَالْجَذَعُ مِنْ الضَّأْنِ يُذْبَحُ بِنِيَّةِ الْقُرْبَةِ فِي يَوْمٍ مَخْصُوصٍ وَهُوَ يَوْمُ الْأَضْحَى عِنْدَ وُجُودِ شَرَائِطِهَا وَسَبَبِهَا انْتَهَى.
وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَفِي الشَّرِيعَةِ عِبَارَةٌ عَنْ ذَبْحِ حَيَوَانٍ مَخْصُوصٍ فِي وَقْتٍ مَخْصُوصٍ وَهُوَ يَوْمُ الْأَضْحَى انْتَهَى. أَقُولُ: يَرُدُّ عَلَى ظَاهِرِهِ أَنَّ الْأُضْحِيَّةَ فِي الشَّرِيعَةِ عِبَارَةٌ عَمَّا يُذْبَحُ مِنْ حَيَوَانٍ مَخْصُوصٍ فِي وَقْتٍ مَخْصُوصٍ لَا عَنْ ذَبْحِ ذَلِكَ الْحَيَوَانِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، فَإِنَّ هَذَا مَعْنَى التَّضْحِيَةِ لَا مَعْنَى الْأُضْحِيَّةِ، وَقَدْ لَوَّحَ إلَيْهِ صَاحِبُ الْإِصْلَاحِ وَالْإِيضَاحِ حَيْثُ قَالَ: هِيَ فِي الشَّرِيعَةِ مَا يُذْبَحُ فِي يَوْمِ الْأَضْحَى بِنِيَّةِ الْقُرْبَةِ.
وَقَالَ فِيمَا نُقِلَ عَنْهُ: وَمَنْ قَالَ عِبَارَةٌ عَنْ ذَبْحِ حَيَوَانٍ مَخْصُوصٍ فِي وَقْتٍ مَخْصُوصٍ فَإِنَّهُ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْأُضْحِيَّةِ وَالتَّضْحِيَةِ وَانْتَهَى. أَقُولُ: يُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِحَمْلِ الْكَلَامِ عَلَى الْمُسَامَحَةِ بِنَاءً عَلَى ظُهُورِ الْمُرَادِ فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِذَبْحِ حَيَوَانٍ مَخْصُوصٍ هُوَ الْحَيَوَانُ الْمَذْبُوحُ نَفْسُهُ، وَهَذَا كَمَا قِيلَ فِي تَعْرِيفِ الْعِلْمِ بِحُصُولِ صُورَةِ الشَّيْءِ فِي الْعَقْلِ
قَالَ (الْأُضْحِيَّةُ وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ حُرٍّ مُسْلِمٍ مُقِيمٍ مُوسِرٍ فِي يَوْمِ الْأَضْحَى عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ وَلَدِهِ الصِّغَارِ) أَمَّا الْوُجُوبُ فَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ وَالْحَسَنِ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمهم الله. وَعَنْهُ أَنَّهَا سُنَّةٌ، ذَكَرَهُ فِي الْجَوَامِعِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَاجِبَةٌ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، وَهَكَذَا ذَكَرَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ الِاخْتِلَافَ. وَجْهُ السُّنَّةِ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «مَنْ أَرَادَ
أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ هُوَ الصُّورَةُ الْحَاصِلَةُ فِي الْعَقْلِ عَلَى الْمُسَامَحَةِ كَمَا حَقَّقَهُ الشَّرِيفُ الْجُرْجَانِيُّ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ مِنْ تَصَانِيفِهِ. وَطَعَنَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ فِي التَّعْرِيفِ الَّذِي ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بِوَجْهٍ آخَرَ حَيْثُ قَالَ: اعْلَمْ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي التَّعْرِيفِ مِنْ قَيْدٍ آخَرَ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ بِسِنٍّ مَخْصُوصٍ لِئَلَّا يَنْتَقِضَ التَّعْرِيفُ انْتَهَى. أَقُولُ: يُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ أَيْضًا بِأَنَّ قَوْلَهُ حَيَوَانٍ مَخْصُوصٍ يُغْنِي عَنْ ذَلِكَ الْقَيْدِ الْآخَرِ، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِالْمَخْصُوصِ مَا يَعُمُّ الْمَخْصُوصَ النَّوْعِيَّ وَهُوَ الْأَنْوَاعُ الْأَرْبَعَةُ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالضَّأْنُ وَالْمَعَزُ، وَالْمَخْصُوصُ السِّنِّيُّ أَيْضًا وَهُوَ الثَّنِيُّ فَصَاعِدًا مِنْ الْأَنْوَاعِ الْأَرْبَعَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَالْجَذَعُ مِنْ الضَّأْنِ وَحْدَهُ، فَلَا يَنْتَقِضُ التَّعْرِيفُ بِشَيْءٍ. نَعَمْ لَوْ فَصَلَهُ كَمَا وَقَعَ فِي النِّهَايَةِ وَغَيْرِهَا لَكَانَ أَظْهَرَ، لَكِنَّهُ سَلَكَ مَسْلَكَ الْإِجْمَالِ اعْتِمَادًا عَلَى ظُهُورِ تَفْصِيلِ ذَلِكَ فِي تَضَاعِيفِ الْمَسَائِلِ الْآتِيَةِ.
ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ:
وَأَمَّا شَرَائِطُهَا فَنَوْعَانِ: شَرَائِطُ الْوُجُوبِ، وَشَرَائِطُ الْأَدَاءِ. أَمَّا شَرَائِطُ الْوُجُوبِ فَالْيَسَارُ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ وُجُوبُ صَدَقَةِ الْفِطْرِ وَالْإِسْلَامُ وَالْوَقْتُ وَهُوَ أَيَّامُ النَّحْرِ، حَتَّى لَوْ وَلَدَتْ الْمَرْأَةُ وَلَدًا بَعْدَ أَيَّامِ النَّحْرِ لَا تَجِبُ الْأُضْحِيَّةُ لِأَجْلِهِ. ثُمَّ قَالَ: وَأَمَّا شَرَائِطُ الْأَدَاءِ فَالْوَقْتُ، وَلَوْ ذَهَبَ الْوَقْتُ تَسْقُطُ الْأُضْحِيَّةُ، إلَّا أَنَّ فِي حَقِّ الْمُقِيمِينَ بِالْأَمْصَارِ يُشْتَرَطُ شَرْطٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ صَلَاةِ الْعِيدِ، ثُمَّ قَالَ: وَأَمَّا سَبَبُهَا فَهُوَ الْمُبْهَمُ فِي هَذَا الْكِتَابِ، فَإِنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الْأُضْحِيَّةِ وَوَصْفَ الْقُدْرَةِ فِيهَا بِأَنَّهَا مُمْكِنَةٌ أَوْ مُيَسَّرَةٌ لَمْ يُذْكَرْ لَا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَلَا فِي فُرُوعِهِ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَأَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: إنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الْأُضْحِيَّةِ الْوَقْتُ وَهُوَ أَيَّامُ النَّحْرِ وَالْغِنَى شَرْطُ الْوُجُوبِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ لِأَنَّ السَّبَبَ إنَّمَا يُعْرَفُ بِنِسْبَةِ الْحُكْمِ إلَيْهِ وَتَعَلُّقِهِ بِهِ، إذْ الْأَصْلُ فِي إضَافَةِ الشَّيْءِ إلَى الشَّيْءِ أَنْ يَكُونَ حَادِثًا بِهِ سَبَبًا، وَكَذَا إذَا لَازَمَهُ فَتَكَرَّرَ بِتَكَرُّرِهِ كَمَا عُرِفَ ثُمَّ هَاهُنَا تَكَرُّرُ وُجُوبِ الْأُضْحِيَّةِ بِتَكَرُّرِ الْوَقْتِ ظَاهِرٌ، وَكَذَلِكَ الْإِضَافَةُ فَإِنَّهُ يُقَالُ يَوْمُ الْأَضْحَى كَمَا يُقَالُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ وَيَوْمُ الْعِيدِ، وَإِنْ كَانَ الْأَصْلُ هُوَ إضَافَةُ الْحُكْمِ إلَى سَبَبِهِ كَمَا فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ، وَلَكِنْ قَدْ يُضَافُ السَّبَبُ إلَى حُكْمِهِ كَمَا فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَمِثْلُ هَذِهِ الْإِضَافَةِ فِي الْأُضْحِيَّةِ لَمْ تُوجَدْ فِي حَقِّ الْمَالِ؛ أَلَا يُرَى أَنَّهُ لَا يُقَالُ أُضْحِيَّةُ الْمَالِ وَلَا مَالُ الْأُضْحِيَّةِ فَلَا يَكُونُ الْمَالُ سَبَبَهَا انْتَهَى.
أَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ الْوَقْتَ لَمَّا كَانَ شَرْطَ وُجُوبِ الْأُضْحِيَّةِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ لَمْ يَبْقَ مَجَالٌ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِوُجُوبِهَا، لِأَنَّ الشَّيْءَ الْوَاحِدَ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ شَرْطًا وَسَبَبًا لِشَيْءٍ وَاحِدٍ آخَرَ، إذْ قَدْ تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ أَنَّ الشَّرْطَ وَالسَّبَبَ قِسْمَانِ قَدْ اُعْتُبِرَ فِي أَحَدِهِمَا مَا يُنَافِي الْآخَرَ، فَإِنَّهُ قَدْ اُعْتُبِرَ فِي السَّبَبِ أَنْ يَكُونَ مُوصِلًا إلَى الْمُسَبِّبِ فِي الْجُمْلَةِ، وَفِي الشَّرْطِ أَنْ يَكُونَ مُوصِلًا إلَى الْمَشْرُوطِ أَصْلًا بَلْ كَانَ وُجُودُ الْمَشْرُوطِ مُتَوَقِّفًا عَلَيْهِ، وَمِنْ الْمُمْتَنِعِ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ وَاحِدٌ مُوصِلًا إلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ آخَرَ، وَأَنْ لَا يَكُونَ مُوصِلًا إلَيْهِ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ لِاقْتِضَائِهِ اجْتِمَاعَ النَّقِيضَيْنِ، وَعَنْ هَذَا قَالُوا فِي الصَّلَاةِ إنَّ الْوَقْتَ سَبَبٌ لِوُجُوبِهَا وَشَرْطٌ لِأَدَائِهَا فَلَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا وَشَرْطًا بِالنِّسْبَةِ إلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ
(قَوْلُهُ الْأُضْحِيَّةُ وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ حُرٍّ مُسْلِمٍ مُقِيمٍ مُوسِرٍ فِي يَوْمِ الْأَضْحَى) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ أَخْذًا مِنْ النِّهَايَةِ: وَهِيَ وَاجِبَةٌ بِالْقُدْرَةِ الْمُمْكِنَةِ، بِدَلِيلِ أَنَّ الْمُوسِرَ إذَا اشْتَرَى شَاةً لِلْأُضْحِيَّةِ فِي أَوَّلِ
أَنْ يُضَحِّيَ مِنْكُمْ فَلَا يَأْخُذْ مِنْ شَعْرِهِ وَأَظْفَارِهِ شَيْئًا» وَالتَّعْلِيقُ بِالْإِرَادَةِ يُنَافِي الْوُجُوبَ، وَلِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً
يَوْمِ النَّحْرِ وَلَمْ يُضَحِّ حَتَّى مَضَتْ أَيَّامُ النَّحْرِ ثُمَّ افْتَقَرَ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِعَيْنِهَا أَوْ بِقِيمَتِهَا وَلَا تَسْقُطُ عَنْهُ الْأُضْحِيَّةُ، فَلَوْ كَانَتْ بِالْقُدْرَةِ الْمُيَسِّرَةِ لَكَانَ دَوَامُهَا شَرْطًا كَمَا فِي الزَّكَاةِ وَالْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ حَيْثُ تَسْقُطُ بِهَلَاكِ النِّصَابِ وَالْخَارِجِ وَاصْطِلَامِ الزَّرْعِ آفَةً لَا يُقَالُ أَدْنَى مَا يَتَمَكَّنُ بِهِ الْمَرْءُ مِنْ إقَامَتِهَا تَمَلُّكُ قِيمَةِ مَا يَصْلُحُ لِلْأُضْحِيَّةِ وَلَمْ تَجِبْ إلَّا بِمِلْكِ النِّصَابِ.
فَدَلَّ أَنَّ وُجُوبَهَا بِالْقُدْرَةِ الْمُيَسِّرَةِ لِأَنَّ اشْتِرَاطَ النِّصَابِ لَا يُنَافِي وُجُوبَهَا بِالْمُمَكِّنَةِ كَمَا فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ، وَهَذَا لِأَنَّهَا وَظِيفَةٌ مَالِيَّةٌ نَظَرًا إلَى شَرْطِهَا وَهُوَ الْحُرِّيَّةُ فَيُشْتَرَطُ فِيهَا الْغِنَى كَمَا فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ. لَا يُقَالُ: لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَوَجَبَ التَّمْلِيكُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْقُرَبَ الْمَالِيَّةَ قَدْ تَحْصُلُ بِالْإِتْلَافِ كَالْإِعْتَاقِ وَالْمُضَحِّي إنْ تَصَدَّقَ بِاللَّحْمِ فَقَدْ حَصَلَ النَّوْعَانِ: أَعْنِي التَّمْلِيكَ وَالْإِتْلَافَ بِإِرَاقَةِ الدَّمِ، وَإِنْ لَمْ يَتَصَدَّقْ حَصَلَ الْأَخِيرُ، إلَى هُنَا لَفْظُ الْعِنَايَةِ. وَاعْتَرَضَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ عَلَى قَوْلِهِ بِدَلِيلِ أَنَّ الْمُوسِرَ إذَا اشْتَرَى شَاةً لِلْأُضْحِيَّةِ فِي أَوَّلِ يَوْمِ النَّحْرِ وَلَمْ يُضَحِّ حَتَّى مَضَتْ أَيَّامُ النَّحْرِ إلَخْ حَيْثُ قَالَ فِيهِ: إنَّ الْمُشْتَرِيَ إذَا كَانَ فَقِيرًا حِينَ اشْتَرَاهَا لَهَا وَلَمْ يُضَحِّ حَتَّى مَضَتْ الْأَيَّامُ فَكَذَا الْحُكْمُ. فَفِي دَلَالَةِ مَا ذَكَرَهُ عَلَى مَطْلُوبِهِ بَحْثٌ، إذْ لَيْسَ فِي الْفَقِيرِ قُدْرَةٌ لَا مُمَكِّنَةٌ وَلَا مُيَسِّرَةٌ، فَذَلِكَ لِلِاشْتِرَاءِ بِنِيَّةِ الْأُضْحِيَّةِ لَا لِلْقُدْرَةِ فَلْيُتَأَمَّلْ انْتَهَى. أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ، إذْ لَا نِزَاعَ لِأَحَدٍ فِي أَنَّ عِلَّةَ وُجُوبِ الْأُضْحِيَّةِ عَلَى الْمُوسِرِ هِيَ الْقُدْرَةُ عَلَى النِّصَابِ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ هُنَا فِي أَنَّ الْقُدْرَةَ الَّتِي تَجِبُ بِهَا الْأُضْحِيَّةُ عَلَى الْمُوسِرِ هَلْ هِيَ الْقُدْرَةُ الْمُمَكِّنَةُ أَمْ الْقُدْرَةُ الْمُيَسِّرَةُ، فَاسْتَدَلَّ صَاحِبُ النِّهَايَةِ عَلَى أَنَّهَا هِيَ الْقُدْرَةُ الْمُمَكِّنَةُ بِمَسْأَلَةٍ ذُكِرَتْ فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ، وَهِيَ أَنَّ الْمُوسِرَ إذَا اشْتَرَى شَاةً لِلْأُضْحِيَّةِ فِي أَوَّلِ أَيَّامِ النَّحْرِ فَلَمْ يُضَحِّ حَتَّى مَضَتْ أَيَّامُ النَّحْرِ ثُمَّ افْتَقَرَ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِعَيْنِهَا أَوْ بِقِيمَتِهَا وَلَا تَسْقُطُ عَنْهُ الْأُضْحِيَّةُ، وَاقْتَفَى أَثَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ، وَلَا شَكَّ فِي اسْتِقَامَةِ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ، إذْ لَوْ كَانَ وُجُوبُهَا بِالْقُدْرَةِ الْمُيَسِّرَةِ لَكَانَ دَوَامُهَا شَرْطًا عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ، وَلَا يَضُرُّهُ اشْتِرَاكُ الْمُعْسِرِ مَعَ الْمُوسِرِ فِي حُكْمِ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ وُجُوبُ التَّصَدُّقِ بِعَيْنِهَا أَوْ بِقِيمَتِهَا، لِأَنَّ عِلَّةَ الْوُجُوبِ فِي الْمُعْسِرِ هِيَ الِاشْتِرَاءُ بِنِيَّةِ الْأُضْحِيَّةِ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ لَا الْقُدْرَةُ، وَعِلَّتُهُ فِي الْمُوسِرِ هِيَ الْقُدْرَةُ لَا الِاشْتِرَاءُ بِنِيَّةِ الْأُضْحِيَّةِ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ أَيْضًا، فَبَعْدَ أَنْ تَقَرَّرَ أَنَّ عِلَّتَهُ فِي الْمُوسِرِ هِيَ الْقُدْرَةُ لَا غَيْرُ.
تَكُونُ تِلْكَ الْمَسْأَلَةُ دَلِيلًا وَاضِحًا عَلَى تَعْيِينِ أَنَّ الْمُرَادَ بِتِلْكَ الْقُدْرَةِ هِيَ الْمُمَكِّنَةُ لَا الْمُيَسِّرَةُ، عَلَى أَنَّ اشْتِرَاكَ الْمُعْسِرِ مَعَ الْمُوسِرِ فِي حُكْمِ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ مَمْنُوعٌ إذَا الْوَاجِبُ فِي صُورَةٍ إنْ كَانَ الْمُشْتَرِي مُعْسِرًا هُوَ التَّصَدُّقُ بِعَيْنِهَا حَيَّةً لَا غَيْرُ، بِخِلَافِ إنْ كَانَ مُوسِرًا كَمَا سَيَجِيءُ فِي الْكِتَابِ مُفَصَّلًا. وَقَالَ ذَلِكَ الْبَعْضُ: ثُمَّ ظَاهِرُ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ وَتَفُوتُ بِمُضِيِّ الْوَقْتِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ وُجُوبَهَا لَيْسَ بِالْقُدْرَةِ الْمُمَكِّنَةِ، وَإِلَّا لَمْ تَسْقُطْ وَكَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُضَحِّيَ وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِ شَاةً فِي يَوْمِ النَّحْرِ اهـ. أَقُولُ: وَلَيْسَ هَذَا أَيْضًا بِشَيْءٍ، لِأَنَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ هُنَاكَ فَوَاتُ أَدَاءِ الضَّحِيَّةِ بِمُضِيِّ الْوَقْتِ لَا سُقُوطُهَا بِالْكُلِّيَّةِ فِي حَقِّ الْمُقِيمِ أَيْضًا، فَإِنَّ الْأَدَاءَ وَهُوَ تَسْلِيمُ عَيْنِ الثَّابِتِ بِالْأَمْرِ يَفُوتُ بِمُضِيِّ الْوَقْتِ فِي الْوَاجِبَاتِ الْمُؤَقَّتَةِ مُطْلَقًا، لِأَنَّ الْوَقْتَ شَرْطٌ لِأَدَائِهَا عَلَى مَا عُرِفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ.
وَأَمَّا الْقَضَاءُ وَهُوَ تَسْلِيمُ مِثْلِ الْوَاجِبِ بِالْأَمْرِ فَلَا يَسْقُطُ بِمُضِيِّ الْوَقْتِ، وَإِنَّمَا الْفَائِتُ بِمُضِيِّهِ شَرْطُ الْوَقْتِ لَا غَيْرُ، وَهَذَا أَيْضًا مِمَّا عُرِفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِيهِ أَيْضًا أَنَّ الْقَضَاءَ قَدْ يَكُونُ بِمِثْلٍ مَعْقُولٍ كَالصَّلَاةِ لِلصَّلَاةِ، وَقَدْ يَكُونُ بِمِثْلٍ غَيْرِ مَعْقُولٍ كَالْفِدْيَةِ لِلصَّوْمِ وَثَوَابِ النَّفَقَةِ لِلْحَجِّ، وَعَدُّوا الْأُضْحِيَّةَ مِنْ الْقِسْمِ الثَّانِي وَقَالُوا: إنَّ أَدَاءَهَا فِي وَقْتِهَا بِإِرَاقَةِ الدَّمِ وَقَضَاءَهَا بَعْدَ مُضِيِّ وَقْتِهَا بِالتَّصَدُّقِ بِعَيْنِهَا أَوْ بِقِيمَتِهَا، فَقَوْلُ ذَلِكَ الْبَعْضِ ثُمَّ ظَاهِرُ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ وَتَفُوتُ بِمُضِيِّ الْوَقْتِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ وُجُوبَهَا لَيْسَ بِالْقُدْرَةِ الْمُمَكِّنَةِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ، وَقَوْلُهُ وَإِلَّا لَمْ تَسْقُطْ وَكَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُضَحِّيَ وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِ شَاةً فِي يَوْمِ النَّحْرِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، إذْ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِسُقُوطِهَا بَعْدَ وُجُوبِهَا حَتَّى يَصِحَّ قَوْلُهُ وَإِلَّا لَمْ تَسْقُطْ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِصِحَّةِ أَدَاءِ الْمُؤَقَّتَاتِ بَعْدَ مُضِيِّ وَقْتِهَا حَتَّى يَصِحَّ قَوْلُهُ وَكَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُضَحِّيَ وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِ شَاةً فِي يَوْمِ النَّحْرِ فَإِنَّ التَّضْحِيَةَ إرَاقَةُ الدَّمِ، وَهِيَ إنَّمَا تُقْبَلُ فِي وَقْتِ الْأَدَاءِ لَا بَعْدَهُ، وَإِنَّمَا الَّذِي يَلْزَمُ بَعْدَهُ قَضَاؤُهَا وَهُوَ إنَّمَا يَكُونُ بِالتَّصَدُّقِ بِعَيْنِهَا أَوْ بِقِيمَتِهَا لَا بِغَيْرِهِ.
ثُمَّ قَالَ ذَلِكَ الْبَعْضُ: وَسَيَقُولُ الْمُصَنِّفُ إنَّهَا تُشْبِهُ الزَّكَاةَ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا تَسْقُطُ بِهَلَاكِ الْمَالِ
عَلَى الْمُقِيمِ لَوَجَبَتْ عَلَى الْمُسَافِرِ لِأَنَّهُمَا لَا يَخْتَلِفَانِ فِي الْوَظَائِفِ الْمَالِيَّةِ كَالزَّكَاةِ وَصَارَ كَالْعَتِيرَةِ.
وَوَجْهُ الْوُجُوبِ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «مَنْ وَجَدَ سَعَةً وَلَمْ يُضَحِّ فَلَا يَقْرَبَنَّ مُصَلَّانَا» وَمِثْلُ هَذَا الْوَعِيدِ لَا يَلْحَقُ بِتَرْكِ غَيْرِ الْوَاجِبِ، وَلِأَنَّهَا قُرْبَةٌ يُضَافُ إلَيْهَا وَقْتُهَا. يُقَالُ يَوْمَ الْأَضْحَى، وَذَلِكَ يُؤْذِنُ بِالْوُجُوبِ لِأَنَّ الْإِضَافَةَ لِلِاخْتِصَاصِ وَهُوَ بِالْوُجُودِ، وَالْوُجُوبُ هُوَ الْمُفْضِي إلَى الْوُجُودِ ظَاهِرًا بِالنَّظَرِ إلَى الْجِنْسِ، غَيْرَ أَنَّ الْأَدَاءَ يَخْتَصُّ بِأَسْبَابٍ يَشُقُّ عَلَى الْمُسَافِرِ اسْتِحْضَارُهَا وَيَفُوتُ بِمُضِيِّ الْوَقْتِ فَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ الْجُمُعَةِ، وَالْمُرَادُ بِالْإِرَادَةِ فِيمَا رُوِيَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
قَبْلَ مُضِيِّ أَيَّامِ النَّحْرِ كَالزَّكَاةِ تَسْقُطُ بِهَلَاكِ النِّصَابِ، بِخِلَافِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ لِأَنَّهَا لَا تَسْقُطُ بِهَلَاكِ الْمَالِ بَعْدَ مَا طَلَعَ الْفَجْرُ مِنْ يَوْمِ الْفِطْرِ انْتَهَى.
وَهَذَا كَالصَّرِيحِ فِي أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِيهَا هُوَ الْقُدْرَةُ الْمُيَسِّرَةُ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ. أَقُولُ: وَهَذَا أَيْضًا سَاقِطٌ جِدًّا، لِأَنَّ الْأُضْحِيَّةَ إنَّمَا تَسْقُطُ بِهَلَاكِ الْمَالِ قَبْلَ مُضِيِّ أَيَّامِ النَّحْرِ لَا بِهَلَاكِهِ بَعْدَ مُضِيِّهَا، حَتَّى لَوْ افْتَقَرَ بَعْدَ مُضِيِّهَا كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِعَيْنِهَا أَوْ بِقِيمَتِهَا كَمَا مَرَّ بَيَانُهُ. وَوَجْهُ ذَلِكَ مَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ مِنْ أَنَّ وُجُوبَ الْأَدَاءِ فِي الْمُؤَقَّتَاتِ الَّتِي يَفْضُلُ الْوَقْتُ عَنْ أَدَائِهَا كَالصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا إنَّمَا يَثْبُتُ آخِرَ الْوَقْتِ، إذْ هُنَا يَتَوَجَّهُ الْخِطَابُ حَقِيقَةً لِأَنَّهُ فِي ذَلِكَ الْآنَ يَأْثَمُ بِالتَّرْكِ لَا قَبْلَهُ، حَتَّى إذَا مَاتَ فِي الْوَقْتِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَالْأُضْحِيَّةُ مِنْ هَاتِيكَ الْمُؤَقَّتَاتِ فَتَسْقُطُ بِهَلَاكِ الْمَالِ قَبْلَ مُضِيِّ وَقْتِهَا، وَلَا تَسْقُطُ بِهَلَاكِهِ بَعْدَ مُضِيِّ وَقْتِهَا لِتَقَرُّرِ سَبَبِ وُجُوبِ أَدَائِهَا إذْ ذَاكَ، بَلْ يَلْزَمُ قَضَاؤُهَا بِالتَّصَدُّقِ بِعَيْنِهَا أَوْ بِقِيمَتِهَا، بِخِلَافِ الزَّكَاةِ فَإِنَّهَا مِنْ الْوَاجِبَاتِ الْمُطْلَقَةِ دُونَ الْمُؤَقَّتَةِ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ فَتَسْقُطُ بِهَلَاكِ النِّصَابِ مُطْلَقًا: أَيْ فِي أَيِّ وَقْتٍ كَانَ لِاعْتِبَارِ الْقُدْرَةِ الْمُيَسِّرَةِ فِيهَا، وَمِنْ شَرْطِ تِلْكَ الْقُدْرَةِ بَقَاؤُهَا لِبَقَاءِ الْوَاجِبِ لِئَلَّا يَنْقَلِبَ إلَى الْعُسْرِ كَمَا عُرِفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، فَلَوْ كَانَ الْمُعْتَبَرُ فِي الْأُضْحِيَّةِ أَيْضًا هُوَ الْقُدْرَةُ الْمُيَسِّرَةُ لَزِمَ أَنْ تَسْقُطَ الْأُضْحِيَّةُ أَدَاءً وَقَضَاءً بِهَلَاكِ الْمَالِ بَعْدَ أَيَّامِ النَّحْرِ أَيْضًا لِكَوْنِ دَوَامِ الْقُدْرَةِ الْمُيَسِّرَةِ شَرْطًا لَا مَحَالَةَ وَمُرَادُ الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ الْمَزْبُورِ بَيَانُ مُشَابَهَةِ الْأُضْحِيَّةِ بِالزَّكَاةِ فِي مُجَرَّدِ سُقُوطِهَا بِهَلَاكِ الْمَالِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ لَا فِي السُّقُوطِ بِهَلَاكِهِ فِي كُلِّ حَالٍ. وَمِنْ الْبَيِّنِ فِيهِ قَوْلُهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا تَسْقُطُ بِهَلَاكِ الْمَالِ قَبْلَ مُضِيِّ أَيَّامِ النَّحْرِ كَالزَّكَاةِ بِهَلَاكِ النِّصَابِ حَيْثُ قَيَّدَ هَلَاكَ الْمَالِ بِكَوْنِهِ قَبْلَ مُضِيِّ أَيَّامِ النَّحْرِ فِي سُقُوطِ الْأُضْحِيَّةِ، وَأَطْلَقَ هَلَاكَ النِّصَابِ فِي سُقُوطِ الزَّكَاةِ، وَالْعَجَبُ أَنَّ هَذَا الْفَرْقَ مَعَ وُضُوحِهِ كَيْفَ خَفِيَ عَلَى ذَلِكَ الْبَعْضِ حَتَّى جَعَلَ كَلَامَ الْمُصَنِّفِ كَالصَّرِيحِ فِي خِلَافِهِ
(قَوْلُهُ وَوَجْهُ الْوُجُوبِ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «مَنْ وَجَدَ سَعَةً وَلَمْ يُضَحِّ فَلَا يَقْرَبَنَّ مُصَلَّانَا» وَمِثْلُ هَذَا الْوَعِيدِ لَا يَلْحَقُ بِتَرْكِ غَيْرِ الْوَارِدِ) اعْتَرَضَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ
مَا هُوَ ضِدُّ السَّهْوِ لَا التَّخْيِيرُ. وَالْعَتِيرَةُ مَنْسُوخَةٌ، وَهِيَ شَاةٌ تُقَامُ فِي رَجَبٍ عَلَى مَا قِيلَ، وَإِنَّمَا اخْتَصَّ الْوُجُوبُ بِالْحُرِّيَّةِ لِأَنَّهَا وَظِيفَةٌ مَالِيَّةٌ لَا تَتَأَدَّى إلَّا بِالْمِلْكِ، وَالْمَالِكُ هُوَ الْحُرُّ؛ وَبِالْإِسْلَامِ لِكَوْنِهَا قُرْبَةً، وَبِالْإِقَامَةِ لِمَا بَيَّنَّا، وَالْيَسَارِ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ اشْتِرَاطِ السَّعَةِ؛ وَمِقْدَارُهُ مَا يَجِبُ بِهِ صَدَقَةُ الْفِطْرِ وَقَدْ مَرَّ فِي الصَّوْمِ،
- صلى الله عليه وسلم «مَنْ تَرَكَ سُنَّتِي لَمْ تَنَلْهُ شَفَاعَتِي» وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى التَّرْكِ اعْتِقَادًا أَوْ التَّرْكِ أَصْلًا، فَإِنَّ تَرْكَ السُّنَّةِ أَصْلًا حَرَامٌ قَدْ تَجِبُ الْمُقَاتَلَةُ بِهِ، لِأَنَّ فِيهِ تَرْكَ الْأَذَانِ وَلَا مُقَاتَلَةَ فِي غَيْرِ الْحَرَامِ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ وَغَيْرِهَا.
أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: ذَاكَ التَّأْوِيلُ مُحْتَمَلٌ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ الْحَدِيثِ أَيْضًا بِأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام " وَلَمْ يُضَحِّ " هُوَ تَرْكُ التَّضْحِيَةِ اعْتِقَادًا أَوْ تَرْكُهَا أَصْلًا فَلَا يَتِمُّ الِاسْتِدْلَال بِهِ عَلَى الْوُجُوبِ كَمَا لَا يَخْفَى، ثُمَّ قَالَ فِي الْعِنَايَةِ: وَعُورِضَ بِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «كُتِبَتْ عَلَيَّ الْأُضْحِيَّةُ وَلَمْ تُكْتَبْ عَلَيْكُمْ» وَقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «ضَحُّوا فَإِنَّهَا سُنَّةُ أَبِيكُمْ إبْرَاهِيمَ» وَبِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ رضي الله عنهما كَانَا لَا يُضَحِّيَانِ السَّنَةَ وَالسَّنَتَيْنِ مَخَافَةَ أَنْ يَرَاهَا النَّاسُ وَاجِبَةً. وَأُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الْمَكْتُوبَةَ الْفَرْضُ، وَنَحْنُ نَقُولُ بِأَنَّهَا غَيْرُ فَرْضٍ وَإِنَّمَا هِيَ وَاجِبَةٌ وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّهُ مُشْتَرِكُ الْإِلْزَامِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ " ضَحُّوا " أَمْرٌ وَهُوَ لِلْوُجُوبِ، وَقَوْلُهُ " فَإِنَّهَا سُنَّةُ أَبِيكُمْ " أَيْ طَرِيقَتُهُ، فَالسُّنَّةُ هِيَ الطَّرِيقَةُ الْمَسْلُوكَةُ فِي الدِّينِ. وَعَنْ الثَّالِثِ بِأَنَّهُمَا كَانَا لَا يُضَحِّيَانِ فِي حَالَةٍ الْإِعْسَارِ مَخَافَةَ أَنْ يَرَاهَا النَّاسُ وَاجِبَةً عَلَى الْمُعْسِرِينَ انْتَهَى. أَقُولُ: فِي تَقْرِيرِهِ الْجَوَابَ عَنْ الثَّانِي خَلَلٌ فَإِنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّهُ مُشْتَرِكُ الْإِلْزَامِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ قَوْلُهُ ضَحُّوا أَمْرًا وَكَانَ الْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ وَجَازَ أَنْ تُحْمَلَ السُّنَّةُ فِي قَوْلِهِ " فَإِنَّهَا سُنَّةُ أَبِيكُمْ " عَلَى الطَّرِيقَةِ الْمَسْلُوكَةِ فِي الدِّينِ وَهِيَ تَعُمُّ الْوَاجِبَ أَيْضًا تَعَيَّنَ جَانِبُنَا وَلَمْ نَشْتَرِكْ فِي الْإِلْزَامِ قَطُّ، فَالصَّوَابُ فِي تَقْرِيرِ الْجَوَابِ عَنْ الثَّانِي مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْكَافِي حَيْثُ قَالَ: وَقَوْلُهُ ضَحُّوا دَلِيلُنَا لِأَنَّهُ أَمْرٌ فَيُفِيدُ الْوُجُوبَ، وَقَوْلُهُ فَإِنَّهَا سُنَّةُ أَبِيكُمْ لَا يَنْفِي الْوُجُوبَ لِأَنَّ السُّنَّةَ هِيَ الطَّرِيقَةُ فِي الدِّينِ وَاجِبَةً كَانَتْ أَوْ غَيْرَ وَاجِبَةٍ انْتَهَى.
وَأَوْرَدَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ عَلَى الْجَوَابِ عَنْ الْأَوَّلِ حَيْثُ قَالَ: فِيهِ بَحْثٌ، فَإِنَّهُ رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «ثَلَاثٌ كُتِبَتْ عَلَيَّ وَهُنَّ لَكُمْ تَطَوُّعٌ» الْحَدِيثَ انْتَهَى. أَقُولُ: الْمَقْصُودُ مِنْ الْجَوَابِ الْمَذْكُورِ دَفْعُ مُعَارَضَةِ الْخَصْمِ بِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «كُتِبَتْ عَلَيَّ الْأُضْحِيَّةُ وَلَمْ تُكْتَبْ عَلَيْكُمْ» وَلَا شَكَّ فِي انْدِفَاعِ تِلْكَ الْمُعَارَضَةِ بِالْجَوَابِ الْمَذْكُورِ، وَمَا ذَكَرَهُ ذَلِكَ الْبَعْضُ مِنْ رِوَايَةِ الدَّارَقُطْنِيِّ لَا يَقْدَحُ فِي تَمَامِ ذَلِكَ الْجَوَابِ بِالنَّظَرِ إلَى مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ مُعَارَضَةً أُخْرَى لِأَصْلِ الْمُدَّعَى، وَلَعَلَّ جُمْهُورَ الشُّرَّاحِ إنَّمَا لَمْ يَتَعَرَّضُوا لِلْجَوَابِ عَنْهُ أَصَالَةً لِكَوْنِهِ ضَعِيفًا غَيْرَ صَالِحٍ لِلْمُعَارَضَةِ لِمَا رَوَيْنَا، لِأَنَّ الدَّارَقُطْنِيّ أَخْرَجَهُ عَنْ جَابِرٍ الْجُعْفِيِّ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا وَجَابِرٌ الْجُعْفِيُّ ضَعِيفٌ
وَبِالْوَقْتِ وَهُوَ يَوْمُ الْأَضْحَى لِأَنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بِهِ، وَسَنُبَيِّنُ مِقْدَارَهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَتَجِبُ عَنْ نَفْسِهِ لِأَنَّهُ أَصْلٌ فِي الْوُجُوبِ عَلَيْهِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ، وَعَنْ وَلَدِهِ الصَّغِيرِ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى نَفْسِهِ فَيَلْحَقُ بِهِ كَمَا فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ. وَهَذِهِ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ.
وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ لَا تَجِبُ عَنْ وَلَدِهِ وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ، بِخِلَافِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ لِأَنَّ السَّبَبَ هُنَاكَ رَأْسٌ يَمُونُهُ وَيَلِي عَلَيْهِ وَهُمَا مَوْجُودَانِ فِي الصَّغِيرِ وَهَذِهِ قُرْبَةٌ مَحْضَةٌ. وَالْأَصْلُ فِي الْقُرَبِ أَنْ لَا تَجِبَ عَلَى الْغَيْرِ بِسَبَبِ الْغَيْرِ وَلِهَذَا لَا تَجِبُ عَنْ عَبْدِهِ وَإِنْ كَانَ يَجِبُ عَنْهُ صَدَقَةُ فِطْرِهِ، وَإِنْ كَانَ لِلصَّغِيرِ مَالٌ يُضَحِّي عَنْهُ أَبُوهُ أَوْ وَصِيُّهُ مِنْ مَالِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَزُفَرُ وَلِلشَّافِعِيِّ رحمه الله رحمهم الله: يُضَحِّي مِنْ مَالِ نَفْسِهِ لَا مِنْ مَالِ الصَّغِيرِ، فَالْخِلَافُ فِي هَذَا كَالْخِلَافِ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ. وَقِيلَ لَا تَجُوزُ التَّضْحِيَةُ مِنْ مَالِ الصَّغِيرِ، فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا، لِأَنَّ هَذِهِ الْقُرْبَةَ تَتَأَدَّى بِالْإِرَاقَةِ وَالصَّدَقَةُ بَعْدَهَا تَطَوُّعٌ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ مِنْ مَالِ الصَّغِيرِ، وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَأْكُلَ كُلَّهُ. وَالْأَصَحُّ أَنْ يُضَحِّيَ مِنْ مَالِهِ وَيَأْكُلَ مِنْهُ مَا أَمْكَنَهُ وَيَبْتَاعَ بِمَا بَقِيَ مَا يَنْتَفِعُ بِعَيْنِهِ.
قَالَ (وَيَذْبَحُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ شَاةً أَوْ يَذْبَحُ بَقَرَةً أَوْ بَدَنَةً عَنْ سَبْعَةٍ) وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا تَجُوزَ إلَّا عَنْ وَاحِدٍ، لِأَنَّ الْإِرَاقَةَ وَاحِدَةٌ وَهِيَ الْقُرْبَةُ، إلَّا أَنَّا تَرَكْنَاهُ بِالْأَثَرِ وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ «نَحَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ وَالْبَدَنَةَ عَنْ سَبْعَةٍ» . وَلَا نَصَّ فِي الشَّاةِ، فَبَقِيَ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ. وَتَجُوزُ عَنْ
كَمَا ذَكَرَهُ أَهْلُ الْحَدِيثِ. وَقَالَ صَاحِبُ التَّنْقِيحِ: وَرُوِيَ مِنْ طُرُقٍ أُخْرَى وَهُوَ ضَعِيفٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ انْتَهَى
(قَوْلُهُ وَبِالْوَقْتِ وَهُوَ يَوْمُ الْأَضْحَى لِأَنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بِهِ) أَقُولُ: هُنَا شَائِبَةُ مُصَادَرَةٍ، لِأَنَّ قَوْلَهُ وَبِالْوَقْتِ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ بِالْحُرِّيَّةِ فِي قَوْلِهِ وَإِنَّمَا اخْتَصَّ الْوُجُوبُ بِالْحُرِّيَّةِ فَيَصِيرُ الْمَعْنَى: وَإِنَّمَا اخْتَصَّ وُجُوبُ الْأُضْحِيَّةِ بِالْوَقْتِ الَّذِي هُوَ يَوْمُ الْأَضْحَى لِأَنَّهَا: أَيْ الْأُضْحِيَّةَ مُخْتَصَّةٌ بِهِ: أَيْ بِذَلِكَ الْوَقْتِ فَيَئُولُ إلَى تَعْلِيلِ الِاخْتِصَاصِ بِالِاخْتِصَاصِ كَمَا تَرَى. لَا يُقَالُ: الْمَذْكُورُ فِي الْعِلَّةِ اخْتِصَاصُ الْأُضْحِيَّةِ نَفْسِهَا بِذَلِكَ الْوَقْتِ، وَالْمُعْتَبَرُ فِي الْمُدَّعَى اخْتِصَاصُ وُجُوبِ الْأُضْحِيَّةِ فَاللَّازِمُ هُنَا تَعْلِيلُ اخْتِصَاصِ وُجُوبِ الْأُضْحِيَّةِ بِذَلِكَ الْوَقْتِ بِاخْتِصَاصِ نَفْسِ الْأُضْحِيَّةِ بِهِ وَلَا مُصَادَرَةَ فِيهِ. لِأَنَّا نَقُولُ: لَا مَعْنَى لِاخْتِصَاصِ الْأُضْحِيَّةِ بِذَلِكَ الْوَقْتِ سِوَى اخْتِصَاصِ وُجُوبِهَا بِهِ إذْ لَا شَكَّ فِي إمْكَانِ عَمَلِ التَّضْحِيَةِ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ لِأَنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بِهِ أَنَّ وُجُوبَهَا مُخْتَصٌّ بِهِ فَيَلْزَمُ الْمَحْذُورُ الْمَذْكُورُ، وَكَأَنَّ صَاحِبَ الْكَافِي تَنَبَّهَ لِهَذَا حَيْثُ غَيَّرَ عِبَارَةَ الْمُصَنِّفِ فِيمَا قَبْلُ فَقَالَ بَدَلَ قَوْلِهِ وَإِنَّمَا اخْتَصَّ الْوُجُوبُ بِالْحُرِّيَّةِ إلَخْ، وَالتَّقْيِيدُ بِالْحُرِّيَّةِ لِأَنَّهَا قُرْبَةٌ مَالِيَّةٌ مُفْتَقِرَةٌ إلَى الْمِلْكِ وَالْحُرُّ هُوَ الْمَالِكُ ثُمَّ قَالَ: وَالْوَقْتِ لِاخْتِصَاصِهَا بِهِ فَاللَّازِمُ حِينَئِذٍ تَعْلِيلُ التَّقْيِيدِ بِالْوَقْتِ بِاخْتِصَاصِ الْأُضْحِيَّةِ بِذَلِكَ الْوَقْتِ وَلَا مُصَادَرَةَ فِيهِ. فَإِنْ قُلْت: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ وَإِنَّمَا اخْتَصَّ الْوُجُوبَ بِالْحُرِّيَّةِ وَإِنَّمَا اخْتَصَّهُ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ بِالْحُرِّيَّةِ عَلَى أَنْ يَكُونَ كَلِمَةُ
(اخْتَصَّ) مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ
(وَالْوُجُوبَ) مَفْعُولَهُ وَيَكُونُ مُرَادُهُ هُنَا بِقَوْلِهِ لِأَنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بِهِ أَنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بِهِ فِي الشَّرْعِ، فَاللَّازِمُ تَعْلِيلُ تَخْصِيصِ الْقُدُورِيِّ وُجُوبَ الْأُضْحِيَّةِ بِالْوَقْتِ بِاخْتِصَاصِ الْأُضْحِيَّةِ فِي الشَّرْعِ بِذَلِكَ الْوَقْتِ وَلَا مُصَادَرَةَ فِيهِ. قُلْت: فَحِينَئِذٍ يَصِيرُ مَعْنَى الْكَلَامِ فِي هَذَا الْمَقَامِ بِمَنْزِلَةِ اللَّغْوِ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بَيَانُ الِاخْتِصَاصِ الشَّرْعِيِّ، وَتَعْلِيلُ ذَلِكَ الِاخْتِصَاصِ كَمَا فَعَلَهُ بِاخْتِصَاصِهِ بِالْحُرِّيَّةِ وَبِالْإِسْلَامِ وَبِالْإِقَامَةِ وَبِالْيَسَارِ. وَعَلَى الْمَعْنَى
سِتَّةٍ أَوْ خَمْسَةٍ أَوْ ثَلَاثَةٍ، ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ رحمه الله فِي الْأَصْلِ، لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ عَنْ السَّبْعَةِ فَعَمَّنْ دُونَهُمْ أَوْلَى، وَلَا تَجُوزُ عَنْ ثَمَانِيَةٍ أَخْذًا بِالْقِيَاسِ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ وَكَذَا إذَا كَانَ نَصِيبُ أَحَدِهِمْ أَقَلَّ مِنْ السُّبُعِ، وَلَا تَجُوزُ عَنْ الْكُلِّ لِانْعِدَامِ وَصْفِ الْقُرْبَةِ فِي الْبَعْضِ، وَسَنُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَالَ مَالِكٌ: تَجُوزُ عَنْ أَهْلِ بَيْتٍ وَاحِدٍ وَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ سَبْعَةٍ، وَلَا تَجُوزُ عَنْ أَهْلِ بَيْتَيْنِ وَإِنْ كَانُوا أَقَلَّ مِنْهَا لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «عَلَى كُلِّ أَهْلِ بَيْتٍ فِي كُلِّ عَامٍ أَضْحَاةٌ وَعَتِيرَةٌ» قُلْنَا: الْمُرَادُ مِنْهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ قَيِّمُ أَهْلِ الْبَيْتِ لِأَنَّ الْيَسَارَ لَهُ يُؤَيِّدُهُ مَا يُرْوَى «عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ فِي كُلِّ عَامٍ أَضْحَاةٌ وَعَتِيرَةٌ» وَلَوْ كَانَتْ الْبَدَنَةُ بَيْنَ نِصْفَيْنِ تَجُوزُ فِي الْأَصَحِّ، لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ ثَلَاثَةُ الْأَسْبَاعِ جَازَ نِصْفُ السُّبُعِ تَبَعًا، وَإِذَا جَازَ عَلَى الشَّرِكَةِ فَقِسْمَةُ اللَّحْمِ بِالْوَزْنِ لِأَنَّهُ مَوْزُونٌ، وَلَوْ اقْتَسَمُوا جُزَافًا لَا يَجُوزُ إلَّا إذَا كَانَ مَعَهُ شَيْءٌ مِنْ الْأَكَارِعِ وَالْجِلْدِ اعْتِبَارًا بِالْبَيْعِ.
قَالَ (وَلَوْ اشْتَرَى بَقَرَةً يُرِيدُ أَنْ يُضَحِّيَ بِهَا عَنْ نَفْسِهِ ثُمَّ اشْتَرَكَ فِيهَا سِتَّةٌ مَعَهُ جَازَ اسْتِحْسَانًا) وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ لِأَنَّهُ أَعَدَّهَا لِلْقُرْبَةِ فَيُمْنَعُ عَنْ بَيْعِهَا تَمَوُّلًا وَالِاشْتِرَاكُ هَذِهِ صِفَتُهُ.
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ قَدْ يَجِدُ بَقَرَةً سَمِينَةً يَشْتَرِيهَا وَلَا يَظْفَرُ بِالشُّرَكَاءِ وَقْتَ الْبَيْعِ، وَإِنَّمَا يَطْلُبُهُمْ بَعْدَهُ فَكَانَتْ الْحَاجَةُ إلَيْهِ مَاسَّةً فَجَوَّزْنَاهُ دَفْعًا لِلْحَرَجِ، وَقَدْ أَمْكَنَ لِأَنَّ بِالشِّرَاءِ لِلتَّضْحِيَةِ لَا يَمْتَنِعُ الْبَيْعُ، وَالْأَحْسَنُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ قَبْلَ الشِّرَاءِ لِيَكُونَ أَبْعَدَ عَنْ الْخِلَافِ، وَعَنْ صُورَةِ الرُّجُوعِ فِي الْقُرْبَةِ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُكْرَهُ الِاشْتِرَاكُ بَعْدَ الشِّرَاءِ لِمَا بَيَّنَّا.
قَالَ (وَلَيْسَ عَلَى الْفَقِيرِ وَالْمُسَافِرِ أُضْحِيَّةٌ) لِمَا بَيَّنَّا. وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ كَانَا لَا يُضَحِّيَانِ إذَا كَانَا مُسَافِرَيْنِ، وَعَنْ عَلِيٍّ: وَلَيْسَ عَلَى الْمُسَافِرِ جُمُعَةٌ وَلَا أُضْحِيَّةٌ
قَالَ (وَوَقْتُ الْأُضْحِيَّةِ يَدْخُلُ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ)، إلَّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَهْلِ الْأَمْصَارِ الذَّبْحُ حَتَّى يُصَلِّيَ الْإِمَامُ الْعِيدَ، فَأَمَّا أَهْلُ السَّوَادِ فَيَذْبَحُونَ بَعْدَ الْفَجْرِ.
وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام
الْمَذْكُورِ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْمُبَيَّنُ وَالْمُعَلَّلُ هُنَا مُجَرَّدَ تَخْصِيصِ الْقُدُورِيِّ وُجُوبَهَا بِالْوَقْتِ بِدُونِ أَنْ يُبَيِّنَ وَيُعْلِمَ اخْتِصَاصَهُ الشَّرْعِيَّ بِذَلِكَ الْوَقْتِ بِشَيْءٍ أَصْلًا، وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ
(قَوْلُهُ وَوَقْتُ الْأُضْحِيَّةِ يَدْخُلُ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَهْلِ الْأَمْصَارِ الذَّبْحُ حَتَّى يُصَلِّيَ الْإِمَامُ الْعِيدَ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ تُشِيرُ إلَى مَا ذَكَرَهُ فِي الْمَبْسُوطِ بِقَوْلِهِ وَمَنْ ضَحَّى قَبْلَ الصَّلَاةِ فِي الْمِصْرِ لَا يُجْزِيهِ لِعَدَمِ الشَّرْطِ لَا لِعَدَمِ الْوَقْتِ. أَقُولُ: فِي هَذَا إشْكَالٌ، لِأَنَّ الْحَدِيثَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرَهُمَا الْمُصَنِّفُ فِيمَا بَعْدُ وَجَعَلَهُمَا الْأَصْلَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَكَذَا سَائِرُ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي بَيَانِ وَقْتِ جَوَازِ التَّضْحِيَةِ لَا يَدُلُّ شَيْءٌ مِنْهَا عَلَى دُخُولِ وَقْتِ الْأُضْحِيَّةِ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ فِي حَقِّ أَهْلِ الْأَمْصَارِ، بَلْ يَدُلُّ ظَاهِرُ كُلٍّ مِنْهَا عَلَى أَنَّ أَوَّلَ وَقْتِهَا فِي حَقِّ مَنْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ بَعْدَ الصَّلَاةِ فَمِنْ أَيْنَ أَخَذَ دُخُولَهَا وَقْتَهَا بِطُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ فِي حَقِّ أَهْلِ الْأَمْصَارِ أَيْضًا، وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَتَحَقَّقَ الْمَأْخَذُ لِذَلِكَ فَالْإِشْكَالُ
«مَنْ ذَبَحَ شَاةً قَبْلَ الصَّلَاةِ فَلْيُعِدْ ذَبِيحَتَهُ، وَمَنْ ذَبَحَ بَعْدَ الصَّلَاةِ فَقَدْ تَمَّ نُسُكُهُ وَأَصَابَ سُنَّةَ الْمُسْلِمِينَ» وَقَالَ عليه الصلاة والسلام «إنَّ أَوَّلَ نُسُكِنَا فِي هَذَا الْيَوْمِ الصَّلَاةُ ثُمَّ الْأُضْحِيَّةُ» غَيْرُ أَنَّ هَذَا الشَّرْطَ فِي حَقِّ مَنْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَهُوَ الْمِصْرِيُّ دُونَ أَهْلِ السَّوَادِ، لِأَنَّ التَّأْخِيرَ لِاحْتِمَالِ التَّشَاغُلِ بِهِ عَنْ الصَّلَاةِ، وَلَا مَعْنَى لِلتَّأْخِيرِ فِي حَقِّ الْقَرَوِيِّ وَلَا صَلَاةَ عَلَيْهِ، وَمَا رَوَيْنَاهُ حُجَّةٌ عَلَى مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي نَفْيِهِمَا الْجَوَازَ بَعْدَ الصَّلَاةِ قَبْلَ نَحْرِ الْإِمَامِ، ثُمَّ الْمُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ مَكَانُ الْأُضْحِيَّةِ، حَتَّى لَوْ كَانَتْ فِي السَّوَادِ وَالْمُضَحِّي فِي الْمِصْرِ يَجُوزُ كَمَا انْشَقَّ الْفَجْرُ، وَلَوْ كَانَ عَلَى الْعَكْسِ لَا يَجُوزُ إلَّا بَعْدَ الصَّلَاةِ. وَحِيلَةُ الْمِصْرِيِّ إذَا أَرَادَ التَّعْجِيلَ أَنْ يَبْعَثَ بِهَا إلَى خَارِجِ الْمِصْرِ فَيُضَحِّيَ بِهَا كَمَا طَلَعَ الْفَجْرُ، لِأَنَّهَا تُشْبِهُ الزَّكَاةَ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا تَسْقُطُ بِهَلَاكِ الْمَالِ قَبْلَ مُضِيِّ أَيَّامِ النَّحْرِ كَالزَّكَاةِ بِهَلَاكِ النِّصَابِ فَيُعْتَبَرُ فِي الصَّرْفِ مَكَانُ الْمَحَلِّ لَا مَكَانُ الْفَاعِلِ اعْتِبَارًا بِهَا، بِخِلَافِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ لِأَنَّهَا لَا تَسْقُطُ بِهَلَاكِ الْمَالِ بَعْدَمَا طَلَعَ الْفَجْرُ مِنْ يَوْمِ الْفِطْرِ
وَلَوْ ضَحَّى بَعْدَمَا صَلَّى أَهْلُ الْمَسْجِدِ وَلَمْ يُصَلِّ أَهْلُ الْجَبَّانَةِ أَجْزَأَهُ اسْتِحْسَانًا لِأَنَّهَا صَلَاةٌ مُعْتَبَرَةٌ، حَتَّى لَوْ اكْتَفَوْا بِهَا أَجْزَأَتْهُمْ وَكَذَا عَلَى عَكْسِهِ.
وَقِيلَ هُوَ جَائِزٌ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا.
بَاقٍ، لِأَنَّهُ إذْ لَمْ تَتَأَدَّ الْأُضْحِيَّةُ بِالذَّبْحِ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ قَبْلَ الصَّلَاةِ فِي حَقِّ أَهْلِ الْأَمْصَارِ بَلْ لَمْ يُمْكِنْ أَدَاؤُهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ فِي حَقِّهِمْ لِعَدَمِ تَحَقُّقِ الشَّرْطِ فَمَا مَعْنَى جَعْلِ ذَلِكَ الْوَقْتِ قَبْلَ الصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ وَقْتًا لِلْأُضْحِيَّةِ فِي حَقِّ أَهْلِ الْأَمْصَارِ أَيْضًا، وَمَا ثَمَرَةُ ذَلِكَ؟ وَالظَّاهِرُ أَنَّ ثَمَرَةَ كَوْنِ وَقْتٍ مَا وَقْتَ الْوَاجِبِ صِحَّةُ أَدَاءِ ذَلِكَ الْوَاجِبِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَلَا أَقَلَّ مِنْ إمْكَانِ أَدَائِهِ فِيهِ فَتَأَمَّلْ.
ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ الْوِقَايَةِ قَالَ فِي تَحْرِيرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: وَأَوَّلُ وَقْتِهَا بَعْدَ الصَّلَاةِ إنْ ذَبَحَ فِي مِصْرٍ، وَبَعْدَ طُلُوعِ فَجْرِ يَوْمِ النَّحْرِ إنْ ذَبَحَ فِي غَيْرِهِ، وَآخِرُهُ قُبَيْلَ غُرُوبِ الْيَوْمِ الثَّالِثِ انْتَهَى. وَرَدَّ عَلَيْهِ صَاحِبُ الْإِصْلَاحِ وَالْإِيضَاحِ حَيْثُ قَالَ فِي مَتْنِهِ: وَأَوَّلُ وَقْتِهَا بَعْدَ طُلُوعِ فَجْرِ يَوْمِ النَّحْرِ، وَآخِرُهُ قُبَيْلَ غُرُوبِ الْيَوْمِ الثَّالِثِ، وَشَرَطَ تَقْدِيمَ الصَّلَاةِ عَلَيْهَا إنْ ذَبَحَ فِي مِصْرٍ، وَإِنْ ذَبَحَ فِي غَيْرِهِ لَا.
وَقَالَ فِيمَا نُقِلَ عَنْهُ فِي الْحَاشِيَةِ: هَذَا مِنْ الْمَوَاضِعِ الَّتِي أَخْطَأَ فِيهَا تَاجُ الشَّرِيعَةِ حَيْثُ زَعَمَ أَنَّ أَوَّلَ وَقْتِهَا يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ مَكَانِ الْفِعْلِ وَلَمْ يَتَنَبَّهْ لَهُ تَاجُ الشَّرِيعَةِ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
أَقُولُ: لَا خَطَأَ فِي كَلَامِ تَاجِ الشَّرِيعَةِ أَصْلًا، فَإِنَّ مُرَادَهُ بِقَوْلِهِ وَأَوَّلُ وَقْتِهَا أَوَّلُ وَقْتِ أَدَائِهَا لَا أَوَّلُ وَقْتِ وُجُوبِهَا، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ إذَا كَانَ تَقْدِيمُ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ شَرْطًا فِي حَقِّ أَهْلِ الْأَمْصَارِ كَانَ أَوَّلُ وَقْتِ أَدَائِهَا فِي حَقِّهِمْ بَعْدَ الصَّلَاةِ، وَإِنْ كَانَ أَوَّلُ وَقْتِ وُجُوبِهَا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ وَيُؤَيِّدُهُ جِدًّا عِبَارَةُ الْإِمَامِ قَاضِي خَانْ فِي فَتَاوَاهُ حَيْثُ قَالَ: وَوَقْتُ الْأَدَاءِ لِمَنْ كَانَ فِي الْمِصْرِ بَعْدَ فَرَاغِ الْإِمَامِ عَنْ صَلَاةِ الْعِيدِ انْتَهَى
(قَوْلُهُ وَلَوْ ضَحَّى بَعْدَمَا صَلَّى أَهْلُ الْمَسْجِدِ وَلَمْ يُصَلِّ أَهْلُ الْجَبَّانَةِ أَجْزَأَهُ اسْتِحْسَانًا لِأَنَّهَا صَلَاةٌ مُعْتَبَرَةٌ حَتَّى لَوْ اكْتَفَوْا بِهَا أَجْزَأَتْهُمْ) قَالَ الشُّرَّاحُ: قَوْلُهُ أَجْزَأَهُ اسْتِحْسَانًا يُشِيرُ إلَى أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ قِيَاسًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ اعْتِبَارَ جَانِبِ أَهْلِ الْجَبَّانَةِ يَمْنَعُ الْجَوَازَ وَاعْتِبَارَ جَانِبِ أَهْلِ الْمَسْجِدِ يُجَوِّزُ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ قَبْلَ الصَّلَاةِ مِنْ وَجْهٍ وَبَعْدَ الصَّلَاةِ مِنْ وَجْهٍ فَوَقَعَ الشَّكُّ، وَفِي الْعِبَادَاتِ يُؤْخَذُ بِالِاحْتِيَاطِ، وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ انْتَهَى. أَقُولُ: هُنَا بَحْثٌ، وَهُوَ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ مِنْ وَجْهِ الِاسْتِحْسَانِ لَا يَدْفَعُ وَجْهَ الْقِيَاسِ الَّذِي ذَكَرُوهُ، لِأَنَّ كَوْنَ صَلَاةِ أَهْلِ الْمَسْجِدِ صَلَاةً مُعْتَبَرَةً لَا يُنَافِي كَوْنَ صَلَاةِ أَهْلِ الْجَبَّانَةِ أَيْضًا صَلَاةً مُعْتَبَرَةً، كَيْفَ وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ وَكَذَا عَلَى عَكْسِهِ صَرِيحٌ فِي أَنَّ
قَالَ (وَهِيَ جَائِزَةٌ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ: يَوْمُ النَّحْرِ وَيَوْمَانِ بَعْدَهُ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ بَعْدَهُ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «أَيَّامُ التَّشْرِيقِ كُلُّهَا أَيَّامُ ذَبْحٍ» وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم أَنَّهُمْ قَالُوا: أَيَّامُ النَّحْرِ ثَلَاثَةٌ أَفْضَلُهَا أَوَّلُهَا وَقَدْ قَالُوهُ سَمَاعًا لِأَنَّ الرَّأْيَ لَا يَهْتَدِي إلَى الْمَقَادِيرِ، وَفِي الْأَخْبَارِ تَعَارُضٌ فَأَخَذْنَا بِالْمُتَيَقَّنِ وَهُوَ الْأَقَلُّ، وَأَفْضَلُهَا أَوَّلُهَا كَمَا قَالُوا وَلِأَنَّ فِيهِ مُسَارَعَةً إلَى أَدَاءِ الْقُرْبَةِ وَهُوَ الْأَصْلُ إلَّا لِمُعَارِضٍ. وَيَجُوزُ الذَّبْحُ فِي لَيَالِيِهَا إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ لِاحْتِمَالِ الْغَلَطِ فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ، وَأَيَّامُ النَّحْرِ ثَلَاثَةٌ، وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ ثَلَاثَةٌ، وَالْكُلُّ يَمْضِي بِأَرْبَعَةٍ أَوَّلُهَا نَحْرٌ لَا غَيْرُ وَآخِرُهَا تَشْرِيقٌ لَا غَيْرُ، وَالْمُتَوَسِّطَانِ نَحْرٌ وَتَشْرِيقٌ، وَالتَّضْحِيَةُ فِيهَا أَفْضَلُ مِنْ التَّصَدُّقِ بِثَمَنِ الْأُضْحِيَّةِ لِأَنَّهَا تَقَعُ وَاجِبَةً أَوْ سُنَّةً، وَالتَّصَدُّقُ تَطَوُّعٌ مَحْضٌ فَتَفْضُلُ عَلَيْهِ، لِأَنَّهَا تَفُوتُ بِفَوَاتِ وَقْتِهَا، وَالصَّدَقَةُ يُؤْتَى بِهَا فِي الْأَوْقَاتِ كُلِّهَا فَنَزَلَتْ مَنْزِلَةَ الطَّوَافِ وَالصَّلَاةِ فِي حَقِّ الْآفَاقِيِّ
(وَلَوْ لَمْ يُضَحِّ حَتَّى مَضَتْ أَيَّامُ النَّحْرِ إنْ كَانَ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ كَانَ فَقِيرًا وَقَدْ اشْتَرَى الْأُضْحِيَّةَ تَصَدَّقَ بِهَا حَيَّةً وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا تَصَدَّقَ بِقِيمَةِ
صَلَاةَ أَهْلِ الْجَبَّانَةِ أَيْضًا صَلَاةٌ مُعْتَبَرَةٌ وَإِلَّا لَمْ يَجُزْ الْعَكْسُ، فَإِذَا كَانَتْ كِلْتَا الصَّلَاتَيْنِ مُعْتَبَرَةً وَقَعَ الشَّكُّ فِي جَوَازِ التَّضْحِيَةِ بَعْدَ إحْدَى الصَّلَاتَيْنِ قَبْلَ الْأُخْرَى وَاقْتَضَى الْأَخْذُ بِالِاحْتِيَاطِ فِي الْعِبَادَاتِ عَدَمَ جَوَازِهَا، فَلَمْ يَتِمَّ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ فِي مُقَابَلَةِ وَجْهِ الْقِيَاسِ الَّذِي ذَكَرُوهُ فَكَيْفَ يَتْرُكُ بِهِ الْقِيَاسَ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى جَوَابِ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ
(قَوْلُهُ وَهِيَ جَائِزَةٌ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ: يَوْمُ النَّحْرِ وَيَوْمَانِ بَعْدَهُ) أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إنَّ قَوْلَهُ وَيَوْمَانِ بَعْدَهُ يُشْعِرُ بِأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ أَيَّامِ النَّحْرِ لِأَنَّ مَعْنَاهُ: وَيَوْمَانِ بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا كَانَ بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ لَيْسَ بِيَوْمِ النَّحْرِ، وَقَدْ قَالَ فِيمَا بَعْدُ أَيَّامُ النَّحْرِ ثَلَاثَةٌ. وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ يَوْمُ النَّحْرِ هُوَ يَوْمُ النَّحْرِ الْمَحْضِ، وَالْيَوْمَانِ اللَّذَانِ بَعْدَهُ لَيْسَا بِنَحْرٍ مَحْضٍ وَإِنَّمَا هُمَا نَحْرٌ وَتَشْرِيقٌ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْكِتَابِ. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ يَوْمَ النَّحْرِ بِالْإِفْرَادِ صَارَ بِمَنْزِلَةِ الْعَلَمِ لِلْيَوْمِ الْأَوَّلِ مِنْ أَيَّامِ النَّحْرِ وَهُوَ يَوْمُ الْعِيدِ، وَأَمَّا أَيَّامُ النَّحْرِ بِالْجَمْعِ فَيَتَنَاوَلُ يَوْمَ الْعِيدِ وَالْيَوْمَيْنِ اللَّذَيْنِ بَعْدَهُ عَلَى السَّوِيَّةِ، فَلَا تَدَافُعَ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ فِي الْمَقَامَيْنِ تَبَصَّرْ تَرْشُدْ
(قَوْلُهُ وَلَوْ لَمْ يُضَحِّ حَتَّى مَضَتْ أَيَّامُ النَّحْرِ، إنْ كَانَ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ كَانَ فَقِيرًا وَقَدْ اشْتَرَى الْأُضْحِيَّةَ تَصَدَّقَ بِهَا حَيَّةً) قَالَ فِي مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ: قَيْدُ الْإِيجَابِ
شَاةٍ اشْتَرَى أَوْ لَمْ يَشْتَرِ) لِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَى الْغَنِيِّ.
وَتَجِبُ عَلَى الْفَقِيرِ بِالشِّرَاءِ بِنِيَّةِ التَّضْحِيَةِ عِنْدَنَا، فَإِذَا فَاتَ الْوَقْتُ وَجَبَ عَلَيْهِ التَّصَدُّقُ إخْرَاجًا لَهُ عَنْ الْعُهْدَةِ، كَالْجُمُعَةِ تُقْضَى بَعْدَ فَوَاتِهَا ظُهْرًا، وَالصَّوْمِ بَعْدَ الْعَجْزِ فِدْيَةً
قَالَ: (وَلَا يُضَحِّي بِالْعَمْيَاءِ وَالْعَوْرَاءِ وَالْعَرْجَاءِ الَّتِي لَا تَمْشِي إلَى الْمَنْسِكِ وَلَا الْعَجْفَاءِ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: «لَا تُجْزِئُ فِي الضَّحَايَا أَرْبَعَةٌ: الْعَوْرَاءُ الْبَيِّنُ عَوَرُهَا وَالْعَرْجَاءُ الْبَيِّنُ عَرْجُهَا وَالْمَرِيضَةُ الْبَيِّنُ مَرَضُهَا، وَالْعَجْفَاءُ الَّتِي لَا تُنْقِي» قَالَ (وَلَا تُجْزِئُ مَقْطُوعَةُ الْأُذُنِ وَالذَّنَبِ). أَمَّا الْأُذُنُ فَلِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «اسْتَشْرِفُوا الْعَيْنَ وَالْأُذُنَ» أَيْ اُطْلُبُوا سَلَامَتَهُمَا. وَأَمَّا الذَّنَبُ فَلِأَنَّهُ عُضْوٌ كَامِلٌ مَقْصُودٌ فَصَارَ كَالْأُذُنِ. قَالَ (وَلَا الَّتِي ذَهَبَ أَكْثَرُ أُذُنِهَا وَذَنَبِهَا، وَإِنْ بَقِيَ أَكْثَرُ الْأُذُنِ وَالذَّنَبِ جَازَ) لِأَنَّ لِلْأَكْثَرِ حُكْمَ الْكُلِّ بَقَاءً وَذَهَابًا وَلِأَنَّ الْعَيْبَ الْيَسِيرَ لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ فَجُعِلَ
عَلَى نَفْسِهِ غَيْرُ مُفِيدٍ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ وَاجِبًا بِدُونِ الْإِيجَابِ عَلَى نَفْسِهِ فَالْحُكْمُ كَذَلِكَ انْتَهَى. أَقُولُ: لَيْسَ ذَاكَ بِسَدِيدٍ، لِأَنَّ الْحُكْمَ هُنَا هُوَ التَّصَدُّقُ بِهَا حَيَّةً، وَلَيْسَ الْحُكْمُ كَذَلِكَ فِيمَا لَوْ كَانَ وَاجِبًا بِدُونِ الْإِيجَابِ عَلَى نَفْسِهِ، فَإِنَّ الْحُكْمَ هُنَاكَ هُوَ التَّصَدُّقُ بِقِيمَتِهَا لَا التَّصَدُّقُ بِعَيْنِهَا حَيَّةً كَمَا أَفْصَحَ عَنْهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ
(وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا تَصَدَّقَ بِقِيمَةِ شَاةٍ أَوْ لَمْ يَشْتَرِ)
(قَوْلُهُ فَإِذَا فَاتَ الْوَقْتُ وَجَبَ عَلَيْهِ التَّصَدُّقُ إخْرَاجًا لَهُ عَنْ الْعُهْدَةِ، كَالْجُمُعَةِ تُقْضَى بَعْدَ فَوَاتِهَا ظُهْرًا، وَالصَّوْمِ بَعْدَ الْعَجْزِ فِدْيَةً) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَحَلِّ: فَإِذَا فَاتَ وَقْتُ التَّقَرُّبِ بِالْإِرَاقَةِ وَالْحَقُّ مُسْتَحَقٌّ وَجَبَ التَّصَدُّقُ بِالْعَيْنِ أَوْ الْقِيمَةِ إخْرَاجًا لَهُ عَنْ الْعُهْدَةِ كَالْجُمُعَةِ تُقْضَى بَعْدَ فَوَاتِهَا ظُهْرًا، وَالصَّوْمِ بَعْدَ الْعَجْزِ فِدْيَةً، وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ إنَّ قَضَاءَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ فِي الْأَدَاءِ بِجِنْسٍ خِلَافِ جِنْسِ الْأَدَاءِ انْتَهَى. وَرَدَّ عَلَيْهِ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ حَيْثُ قَالَ قَوْلُهُ وَجَبَ التَّصَدُّقُ بِالْعَيْنِ لَا يُلَائِمُ الِاعْتِبَارَ بِالْجُمُعَةِ وَالصَّوْمِ، وَمُرَادُ الْمُصَنِّفِ التَّصَدُّقُ بِالْقِيمَةِ لِلْغَنِيِّ الْغَيْرِ الْمُوجِبِ كَمَا لَا يَخْفَى انْتَهَى. أَقُولُ: ذَاكَ سَاقِطٌ إذْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَا يُلَائِمُ الِاعْتِبَارَ بِالْجُمُعَةِ وَالصَّوْمِ، لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ بِهِمَا مِنْ حَيْثُ إنَّ الْقَضَاءَ بِغَيْرِ الْمِثْلِ كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بِقَوْلِهِ وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ إنَّ قَضَاءَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ فِي الْأَدَاءِ بِجِنْسٍ خِلَافِ جِنْسِ الْأَدَاءِ، وَلَا يَذْهَبُ عَلَى ذِي فِطْنَةٍ أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى مُتَحَقِّقٌ فِي التَّصَدُّقِ بِالْعَيْنِ أَيْضًا، لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ فِي الْأَدَاءِ إرَاقَةُ الدَّمِ، وَالتَّصَدُّقُ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْإِرَاقَةِ سَوَاءٌ كَانَ بِالْقِيمَةِ أَوْ بِالْعَيْنِ، ثُمَّ إنَّ كَوْنَ مُرَادِ الْمُصَنِّفِ بِالتَّصَدُّقِ فِي قَوْلِهِ فَإِذَا فَاتَ الْوَقْتُ وَجَبَ عَلَيْهِ التَّصَدُّقُ هُوَ التَّصَدُّقُ بِالْقِيمَةِ لِلْغَنِيِّ الْغَيْرِ الْمُوجِبِ وَحْدَهُ كَمَا زَعَمَهُ ذَلِكَ الْبَعْضُ مِمَّا لَا يُنَاسِبُ شَأْنَ الْمُصَنِّفِ جِدًّا، إذْ يَلْزَمُ حِينَئِذٍ أَنْ يَتْرُكَ بَيَانَ وَجْهِ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا إذَا كَانَ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ كَانَ فَقِيرًا وَقَدْ اشْتَرَاهَا بِنِيَّةِ الْأُضْحِيَّةِ فَيَكُونُ ذَلِكَ تَقْصِيرًا مِنْهُ فِي إفَادَةِ حَقِّ الْمَقَامِ بِلَا ضَرُورَةٍ، وَحَاشَى لَهُ مِنْ ذَلِكَ. فَالْحَقُّ أَنَّ مُرَادَهُ بِالتَّصَدُّقِ الْمَذْكُورِ مَا يَعُمُّ التَّصَدُّقَ بِالْعَيْنِ وَبِالْقِيمَةِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بِقَوْلِهِ وَجَبَ التَّصَدُّقُ بِالْعَيْنِ أَوْ الْقِيمَةِ
(قَوْلُهُ وَلَا يُضَحِّي بِالْعَمْيَاءِ وَالْعَوْرَاءِ وَإِلَخْ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: لَمَّا ذَكَرَ مَا يَجُوزُ بِهِ الْأُضْحِيَّةُ شَرَعَ فِي بَيَانِ مَا لَا يَجُوزُ بِهِ الْأُضْحِيَّةُ انْتَهَى.
عَفْوًا، وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي مِقْدَارِ الْأَكْثَرِ. فَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ عَنْهُ: وَإِنْ قُطِعَ مِنْ الذَّنَبِ أَوْ الْأُذُنِ أَوْ الْعَيْنِ أَوْ الْأَلْيَةِ الثُّلُثُ أَوْ أَقَلُّ أَجْزَأَهُ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ لَمْ يُجْزِهِ لِأَنَّ الثُّلُثَ تَنْفُذُ فِيهِ الْوَصِيَّةُ مِنْ غَيْرِ رِضَا الْوَرَثَةِ فَاعْتُبِرَ قَلِيلًا، وَفِيمَا زَادَ لَا تَنْفُذُ إلَّا بِرِضَاهُمْ فَاعْتُبِرَ كَثِيرًا، وَيُرْوَى عَنْهُ الرُّبُعُ لِأَنَّهُ يَحْكِي حِكَايَةَ الْكَمَالِ عَلَى مَا مَرَّ فِي الصَّلَاةِ، وَيُرْوَى الثُّلُثُ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام فِي حَدِيثِ الْوَصِيَّةِ «الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ» وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: إذَا بَقِيَ الْأَكْثَرُ مِنْ النِّصْفِ أَجْزَأَهُ اعْتِبَارًا لِلْحَقِيقَةِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي الصَّلَاةِ وَهُوَ اخْتِيَارُ الْفَقِيهِ أَبِي اللَّيْثِ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: أَخْبَرْت بِقَوْلِي أَبَا حَنِيفَةَ، فَقَالَ قَوْلِي هُوَ قَوْلُك. قِيلَ هُوَ رُجُوعٌ مِنْهُ إلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ قَوْلِي قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِك. وَفِي كَوْنِ النِّصْفِ مَانِعًا رِوَايَتَانِ عَنْهُمَا كَمَا فِي انْكِشَافِ الْعُضْوِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، ثُمَّ مَعْرِفَةُ الْمِقْدَارِ فِي غَيْرِ الْعَيْنِ مُتَيَسَّرٌ، وَفِي الْعَيْنِ قَالُوا: تُشَدُّ الْعَيْنُ الْمَعِيبَةُ بَعْدَ أَنْ لَا تَعْتَلِفَ الشَّاةُ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ ثُمَّ يُقَرَّبُ الْعَلَفُ إلَيْهَا قَلِيلًا قَلِيلًا، فَإِذَا رَأَتْهُ مِنْ مَوْضِعٍ أُعْلِمَ عَلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ ثُمَّ تُشَدُّ عَيْنُهَا الصَّحِيحَةُ وَقُرِّبَ إلَيْهَا الْعَلَفُ قَلِيلًا قَلِيلًا حَتَّى إذَا رَأَتْهُ مِنْ مَكَان أُعْلِمَ عَلَيْهِ. ثُمَّ يُنْظَرُ إلَى تَفَاوُتِ مَا بَيْنَهُمَا، فَإِنْ كَانَ ثُلُثًا فَالذَّاهِبُ الثُّلُثُ، وَإِنْ كَانَ نِصْفًا فَالنِّصْفُ.
قَالَ (وَيَجُوزُ أَنْ)(يُضَحِّيَ بِالْجَمَّاءِ) وَهِيَ الَّتِي لَا قَرْنَ لَهَا لِأَنَّ الْقَرْنَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مَقْصُودٌ، وَكَذَا مَكْسُورَةُ الْقَرْنِ لِمَا قُلْنَا (وَالْخَصِيِّ) لِأَنَّ لَحْمَهَا أَطْيَبُ وَقَدْ صَحَّ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ضَحَّى بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ مَوْجُوءَيْنِ» (وَالثَّوْلَاءِ) وَهِيَ الْمَجْنُونَةُ، وَقِيلَ هَذَا إذَا كَانَتْ تَعْتَلِفُ لِأَنَّهُ لَا يُخِلُّ بِالْمَقْصُودِ، أَمَّا إذَا كَانَتْ لَا تَعْتَلِفُ فَلَا تُجْزِئُهُ.
وَالْجَرْبَاءُ إنْ كَانَتْ سَمِينَةً جَازَ لِأَنَّ الْجَرَبَ فِي الْجِلْدِ وَلَا نُقْصَانَ فِي اللَّحْمِ، وَإِنْ كَانَتْ مَهْزُولَةً لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْجَرَبَ فِي اللَّحْمِ فَانْتَقَصَ. وَأَمَّا الْهَتْمَاءُ وَهِيَ الَّتِي لَا أَسْنَانَ لَهَا؛ فَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِي الْأَسْنَانِ الْكَثْرَةُ وَالْقِلَّةُ، وَعَنْهُ إنْ بَقِيَ مَا يُمْكِنُهُ الِاعْتِلَافُ بِهِ أَجْزَأَهُ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ. وَالسَّكَّاءُ وَهِيَ الَّتِي لَا أُذُنَ لَهَا خِلْقَةً
أَقُولُ: هَذَا لَيْسَ بِسَدِيدٍ، إذْ لَا يَذْهَبُ عَلَيْك أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ فِيمَا قَبْلُ مَا يَجُوزُ بِهِ الْأُضْحِيَّةُ، وَإِنَّمَا يَذْكُرُهُ فِيمَا بَعْدُ بِقَوْلِهِ وَيَجُوزُ أَنْ يُضَحِّيَ بِالْجَمَّاءِ وَالْخَصِيِّ وَالثَّوْلَاءِ إلَى آخِرِهِ. وَاَلَّذِي ذَكَرَهُ فِيمَا قَبْلُ إنَّمَا هُوَ صِفَةُ الْأُضْحِيَّةِ مِنْ الْوُجُوبِ أَوْ السُّنِّيَّةِ وَشَرَائِطُهَا مِنْ الْحُرِّيَّةِ وَالْإِسْلَامِ وَنَحْوِهِمَا، وَمَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْأُضْحِيَّةُ وَعَدَدِ مَنْ يُذْبَحُ عَنْهُ كُلٌّ مِنْ الشَّاةِ وَالْبَقَرَةِ وَالْبَدَنَةِ وَأَوَّلِ وَقْتِ الْأُضْحِيَّةِ وَعَدَدِ أَيَّامِهَا وَمَا يَتَعَلَّقُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَاتِيكَ الْأُمُورِ مِنْ الْفُرُوعِ وَالْأَحْكَامِ كَمَا حَقَّقَهُ مِنْ قَبْلُ، وَلَعَلَّ صَاحِبَ الْعِنَايَةِ تَدَارَكَهُ حَيْثُ قَالَ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ: هَذَا بَيَانُ مَا لَا يَجُوزُ التَّضْحِيَةُ بِهِ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِذِكْرِ مَا يَجُوزُ التَّضْحِيَةُ بِهِ
(قَوْلُهُ وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي مِقْدَارِ الْأَكْثَرِ إلَخْ) أَقُولُ تَطْبِيقُ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله عَلَى عِبَارَةِ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ مُشْكِلٌ، لِأَنَّ عِبَارَتَهَا أَكْثَرُ أُذُنِهَا وَذَنَبِهَا بِصِيغَةِ التَّفْضِيلِ إلَى الْأُذُنِ وَالذَّنَبِ، وَهِيَ تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْجُزْءُ الْبَاقِي مِنْهَا أَقَلَّ، وَهَذَا
لَا تَجُوزُ، لِأَنَّ مَقْطُوعَ أَكْثَرِ الْأُذُنِ إذَا كَانَ لَا يَجُوزُ فَعَدِيمُ الْأُذُنِ أَوْلَى
(وَهَذَا) الَّذِي ذَكَرْنَا (إذَا كَانَتْ هَذِهِ الْعُيُوبُ قَائِمَةً وَقْتَ الشِّرَاءِ، وَلَوْ اشْتَرَاهَا سَلِيمَةً ثُمَّ تَعَيَّبَتْ بِعَيْبٍ مَانِعٍ إنْ كَانَ غَنِيًّا عَلَيْهِ غَيْرُهَا، وَإِنْ فَقِيرًا تُجْزِئُهُ هَذِهِ) لِأَنَّ الْوُجُوبَ عَلَى الْغَنِيِّ بِالشَّرْعِ ابْتِدَاءً لَا بِالشِّرَاءِ فَلَمْ تَتَعَيَّنْ بِهِ، وَعَلَى الْفَقِيرِ بِشِرَائِهِ بِنِيَّةِ الْأُضْحِيَّةِ فَتَعَيَّنَتْ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ ضَمَانُ نُقْصَانِهِ كَمَا فِي نِصَابِ الزَّكَاةِ، وَعَنْ هَذَا الْأَصْلِ قَالُوا: إذَا مَاتَتْ الْمُشْتَرَاةُ لِلتَّضْحِيَةِ؛ عَلَى الْمُوسِرِ مَكَانَهَا أُخْرَى وَلَا شَيْءَ عَلَى الْفَقِيرِ، وَلَوْ ضَلَّتْ أَوْ سُرِقَتْ فَاشْتَرَى أُخْرَى ثُمَّ ظَهَرَتْ الْأُولَى فِي أَيَّامِ النَّحْرِ عَلَى الْمُوسِرِ ذَبْحُ إحْدَاهُمَا وَعَلَى الْفَقِيرِ ذَبْحُهُمَا (وَلَوْ أَضْجَعَهَا فَاضْطَرَبَتْ فَانْكَسَرَتْ رِجْلُهَا فَذَبَحَهَا أَجْزَأَهُ اسْتِحْسَانًا) عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، لِأَنَّ حَالَةَ الذَّبْحِ وَمُقَدِّمَاتِهِ مُلْحَقَةٌ بِالذَّبْحِ فَكَأَنَّهُ حَصَلَ بِهِ اعْتِبَارًا وَحُكْمًا (وَكَذَا لَوْ تَعَيَّبَتْ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فَانْفَلَتَتْ ثُمَّ أُخِذَتْ مِنْ فَوْرِهِ، وَكَذَا بَعْدَ فَوْرِهِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ) لِأَنَّهُ حَصَلَ بِمُقَدِّمَاتِ الذَّبْحِ.
قَالَ (وَالْأُضْحِيَّةُ مِنْ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ)
غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ. أَمَّا فِي رِوَايَةِ الرُّبُعِ وَرِوَايَةِ الثُّلُثِ فَظَاهِرٌ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ الرُّبُعَ لَيْسَ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَرْبَاعٍ وَلَا الثُّلُثَ بِأَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثَيْنِ.
وَأَمَّا فِي رِوَايَةِ الْأَكْثَرِ مِنْ الثُّلُثِ فَلِأَنَّ الْأَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ إذْ لَمْ يُجَاوِزْ النِّصْفَ لَمْ يَصِرْ أَكْثَرَ الْكُلِّ، وَفِي رِوَايَةِ الْأَكْثَرِ مِنْ الثُّلُثِ عَنْهُ لَمْ يَشْتَرِطْ تَجَاوُزَ النِّصْفِ وَلَا الْوُصُولَ إلَى النِّصْفِ، بَلْ اعْتَبَرَ الزِّيَادَةَ عَلَى الثُّلُثِ فِي الْجُمْلَةِ فَلَمْ يَلْزَمْ فِي عَدَمِ الْإِجْزَاءِ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَيْضًا ذَهَابُ أَكْثَرِ الْأُذُنِ وَالذَّنَبِ، فَكَيْفَ يَرْبُطُ قَوْلَهُ وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي مِقْدَارِ الْأَكْثَرِ بِمَا قَبْلَهُ مِنْ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ، فَإِنْ قُلْت: لَيْسَ الْمُرَادُ بِالْأَكْثَرِ فِي عِبَارَةِ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ مَعْنَى التَّفْضِيلِ، بَلْ هُوَ بِمَعْنَى الْكَثِيرِ كَمَا يُرْشِدُ إلَيْهِ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ فِي بَيَانِ وَجْهِ رِوَايَةِ الْأَكْثَرِ مِنْ الثُّلُثِ، وَفِيمَا زَادَ لَا تَنْفُذُ إلَّا بِرِضَاهُمْ فَاعْتُبِرَ كَثِيرًا.
وَقَوْلُهُ فِي بَيَانِ وَجْهِ رِوَايَةِ الثُّلُثِ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام فِي حَدِيثِ الْوَصِيَّةِ «الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ» ثُمَّ لَيْسَ الْمُرَادُ بِالْكَثِيرِ أَيْضًا الْكَثِيرَ بِالْإِضَافَةِ إلَى الْجُزْءِ الْبَاقِي وَإِلَّا يَعُودُ الْمَحْذُورُ، بَلْ الْمُرَادُ بِهِ الْكَثِيرُ فِي نَفْسِهِ، وَالْإِضَافَةُ إلَى الْأُذُنِ وَالذَّنَبِ لِمُجَرَّدِ بَيَانِ مَحَلِّ
لِأَنَّهَا عُرِفَتْ شَرْعًا وَلَمْ تُنْقَلْ التَّضْحِيَةُ بِغَيْرِهَا مِنْ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام وَلَا مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم. قَالَ (وَيُجْزِئُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ الثَّنِيُّ فَصَاعِدًا. إلَّا الضَّأْنَ فَإِنَّ الْجَذَعَ مِنْهُ يُجْزِئُ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «ضَحُّوا بِالثَّنَايَا إلَّا أَنْ يُعْسِرَ عَلَى أَحَدِكُمْ فَلْيَذْبَحْ الْجَذَعَ مِنْ الضَّأْنِ» وَقَالَ عليه الصلاة والسلام «نِعْمَتْ الْأُضْحِيَّةُ الْجَذَعُ مِنْ الضَّأْنِ» قَالُوا: وَهَذَا إذَا كَانَتْ عَظِيمَةً بِحَيْثُ لَوْ خُلِطَتْ بِالثُّنْيَانِ يَشْتَبِهُ عَلَى النَّاظِرِ مِنْ بَعِيدٍ. وَالْجَذَعُ مِنْ الضَّأْنِ مَا تَمَّتْ لَهُ سِتَّةُ أَشْهُرٍ فِي مَذْهَبِ الْفُقَهَاءِ، وَذَكَرَ الزَّعْفَرَانِيُّ أَنَّهُ ابْنُ سَبْعَةِ أَشْهُرٍ. وَالثَّنِيُّ مِنْهَا وَمِنْ الْمَعَزِ سَنَةٌ، وَمِنْ الْبَقَرِ ابْنُ سَنَتَيْنِ، وَمِنْ الْإِبِلِ ابْنُ خَمْسِ سِنِينَ، وَيَدْخُلُ فِي الْبَقَرِ الْجَامُوسُ لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِهِ، وَالْمَوْلُودُ بَيْنَ الْأَهْلِيِّ وَالْوَحْشِيِّ يَتْبَعُ الْأُمَّ لِأَنَّهَا هِيَ الْأَصْلُ فِي التَّبَعِيَّةِ، حَتَّى إذَا نَزَا الذِّئْبُ عَلَى الشَّاةِ يُضَحَّى بِالْوَلَدِ.
قَالَ (وَإِذَا اشْتَرَى سَبْعَةٌ بَقَرَةً لِيُضَحُّوا بِهَا فَمَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ النَّحْرِ وَقَالَتْ الْوَرَثَةُ اذْبَحُوهَا عَنْهُ وَعَنْكُمْ أَجْزَأَهُمْ، وَإِنْ كَانَ شَرِيكُ السِّتَّةِ نَصْرَانِيًّا أَوْ رَجُلًا يُرِيدُ اللَّحْمَ لَمْ يُجْزِ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ) وَوَجْهُهُ أَنَّ الْبَقَرَةَ تَجُوزُ عَنْ سَبْعَةٍ، وَلَكِنَّ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ قَصْدُ الْكُلِّ الْقُرْبَةَ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ جِهَاتُهَا كَالْأُضْحِيَّةِ وَالْقِرَانِ وَالْمُتْعَةِ عِنْدَنَا لِاتِّحَادِ الْمَقْصُودِ وَهُوَ الْقُرْبَةُ، وَقَدْ وُجِدَ هَذَا الشَّرْطُ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ الضَّحِيَّةَ عَنْ الْغَيْرِ عُرِفَتْ قُرْبَةً؛ أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام ضَحَّى عَنْ أَمَتِهِ عَلَى مَا رَوَيْنَا مِنْ قَبْلُ، وَلَمْ يُوجَدْ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي لِأَنَّ النَّصْرَانِيَّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا، وَكَذَا قَصْدُ اللَّحْمِ يُنَافِيهَا. وَإِذَا لَمْ يَقَعْ الْبَعْضُ قُرْبَةً وَالْإِرَاقَةُ لَا تَتَجَزَّأُ فِي حَقِّ الْقُرْبَةِ لَمْ يَقَعْ الْكُلُّ أَيْضًا فَامْتَنَعَ الْجَوَازُ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ اسْتِحْسَانٌ. وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، لِأَنَّهُ تَبَرَّعَ بِالْإِتْلَافِ فَلَا يَجُوزُ عَنْ غَيْرِهِ كَالْإِعْتَاقِ عَنْ الْمَيِّتِ، لَكِنَّا نَقُولُ: الْقُرْبَةُ قَدْ تَقَعُ عَنْ الْمَيِّتِ كَالتَّصَدُّقِ، بِخِلَافِ الْإِعْتَاقِ لِأَنَّ فِيهِ إلْزَامَ الْوَلَاءِ عَلَى الْمَيِّتِ (فَلَوْ ذَبَحُوهَا عَنْ صَغِيرٍ فِي الْوَرَثَةِ أَوْ أُمِّ وَلَدٍ جَازَ) لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ قُرْبَةٌ (وَلَوْ مَاتَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ فَذَبَحَهَا الْبَاقُونَ بِغَيْرِ إذْنِ الْوَرَثَةِ لَا تُجْزِيهِمْ) لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ بَعْضُهَا قُرْبَةً، وَفِيمَا تَقَدَّمَ وُجِدَ الْإِذْنُ مِنْ الْوَرَثَةِ فَكَانَ قُرْبَةً.
قَالَ (وَيَأْكُلُ مِنْ لَحْمِ الْأُضْحِيَّةِ وَيُطْعِمُ الْأَغْنِيَاءَ وَالْفُقَرَاءَ وَيَدَّخِرُ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «كُنْت نَهَيْتُكُمْ عَنْ أَكْلِ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ فَكُلُوا
الْكَثْرَةِ، فَحِينَئِذٍ يُمْكِنُ تَطْبِيقُ كُلٍّ مِنْ الرِّوَايَاتِ الْمَذْكُورَةِ عَلَى عِبَارَةِ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ، قُلْت: شَرْطُ اسْتِعْمَالِ صِيغَةِ التَّفْضِيلِ مُجَرَّدَةً عَنْ مَعْنَى التَّفْضِيلِ أَنْ تَكُونَ عَارِيَّةً عَنْ اللَّامِ وَالْإِضَافَةِ وَمِنْ كَمَا تَقَرَّرَ فِي مَوْضِعِهِ.
وَفِي عِبَارَةِ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ وَقَعَتْ مُضَافَةً فَلَا يَصِحُّ تَجْرِيدُهَا عَنْ مَعْنَى التَّفْضِيلِ عَلَى قَاعِدَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَلَئِنْ أَغْمَضْنَا عَنْ ذَلِكَ لَا يَصِحُّ تَعْلِيلُ الْمُصَنِّفِ تِلْكَ الْمَسْأَلَةَ بِقَوْلِهِ لِأَنَّ لِلْأَكْثَرِ حُكْمَ الْكُلِّ بَقَاءً وَذَهَابًا عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يُحْمَلَ الْأَكْثَرُ عَلَى الْكَثِيرِ الْمُطْلَقِ، إذْ لَوْ كَانَ لِلْكَثِيرِ مُطْلَقًا حُكْمُ الْكُلِّ بَقَاءً وَذَهَابًا لَزِمَ أَنْ يُعْتَبَرَ الْأُذُنُ وَالذَّنَبُ بَاقِيًا وَذَاهِبًا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، فِيمَا إذَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْبَاقِي وَالذَّاهِبِ مِنْهُمَا كَثِيرًا فِي نَفْسِهِ،
مِنْهَا وَادَّخِرُوا» وَمَتَى جَازَ أَكْلُهُ وَهُوَ غَنِيٌّ جَازَ أَنْ يُؤَكِّلَهُ غَنِيًّا
قَالَ (وَيُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَنْقُصَ الصَّدَقَةَ عَنْ الثُّلُثِ) لِأَنَّ الْجِهَاتِ ثَلَاثَةٌ: الْأَكْلُ وَالِادِّخَارُ لِمَا رَوَيْنَا، وَالْإِطْعَامُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} فَانْقَسَمَ عَلَيْهَا أَثْلَاثًا.
قَالَ (وَيَتَصَدَّقُ بِجِلْدِهَا) لِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْهَا (أَوْ يَعْمَلُ مِنْهُ آلَةً تُسْتَعْمَلُ فِي الْبَيْتِ) كَالنِّطْعِ وَالْجِرَابِ وَالْغِرْبَالِ وَنَحْوِهَا، لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِهِ غَيْرُ مُحَرَّمٍ (وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَشْتَرِيَ بِهِ مَا يَنْتَفِعُ بِعَيْنِهِ فِي الْبَيْتِ مَعَ بَقَائِهِ) اسْتِحْسَانًا، وَذَلِكَ مِثْلُ مَا ذَكَرْنَا لِأَنَّ لِلْبَدَلِ حُكْمَ الْمُبْدَلِ، (وَلَا يَشْتَرِي بِهِ مَا لَا يَنْتَفِعُ بِهِ إلَّا بَعْدَ اسْتِهْلَاكِهِ كَالْخَلِّ وَالْأَبَازِيرِ) اعْتِبَارًا بِالْبَيْعِ بِالدَّرَاهِمِ.
وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ تَصَرُّفٌ عَلَى قَصْدِ التَّمَوُّلِ، وَاللَّحْمُ بِمَنْزِلَةِ الْجِلْدِ فِي الصَّحِيحِ، فَلَوْ بَاعَ الْجِلْدَ أَوْ اللَّحْمَ بِالدَّرَاهِمِ أَوْ بِمَا لَا يَنْتَفِعُ بِهِ إلَّا بَعْدَ اسْتِهْلَاكِهِ تَصَدَّقَ بِثَمَنِهِ، لِأَنَّ الْقُرْبَةَ انْتَقَلَتْ إلَى بَدَلِهِ، وَقَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «مَنْ بَاعَ جِلْدَ أُضْحِيَّتِهِ فَلَا أُضْحِيَّةَ لَهُ» يُفِيدُ كَرَاهَةَ الْبَيْعِ، الْبَيْعُ جَائِزٌ لِقِيَامِ الْمِلْكِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى التَّسْلِيمِ.
قَالَ (وَلَا يُعْطِي أُجْرَةَ الْجَزَّارِ مِنْ الْأُضْحِيَّةِ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام لِعَلِيٍّ رضي الله عنه «تَصَدَّقْ بِجِلَالِهَا وَخِطَامِهَا وَلَا تُعْطِ أَجْرَ الْجَزَّارِ مِنْهَا شَيْئًا» وَالنَّهْيُ عَنْهُ نَهْيٌ عَنْ الْبَيْعِ أَيْضًا لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْبَيْعِ.
قَالَ (وَيُكْرَهُ أَنْ يَجُزَّ صُوفَ أُضْحِيَّتِهِ وَيَنْتَفِعَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَذْبَحَهَا) لِأَنَّهُ الْتَزَمَ إقَامَةَ الْقُرْبَةِ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا، بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الذَّبْحِ لِأَنَّهُ أُقِيمَتْ الْقُرْبَةُ بِهَا كَمَا فِي الْهَدْيِ، وَيُكْرَهُ أَنْ يَحْلُبَ لَبَنَهَا فَيَنْتَفِعَ بِهِ كَمَا فِي الصُّوفِ.
قَالَ (وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَذْبَحَ أُضْحِيَّتَهُ بِيَدِهِ إنْ كَانَ يُحْسِنُ الذَّبْحَ) وَإِنْ كَانَ لَا يُحْسِنُهُ فَالْأَفْضَلُ أَنْ يَسْتَعِينَ بِغَيْرِهِ، وَإِذَا اسْتَعَانَ بِغَيْرِهِ يَنْبَغِي أَنْ يَشْهَدَهَا بِنَفْسِهِ «لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام لِفَاطِمَةَ رضي الله عنها قُومِي فَاشْهَدِي أُضْحِيَّتَك، فَإِنَّهُ يُغْفَرُ لَك بِأَوَّلِ قَطْرَةٍ مِنْ دَمِهَا كُلُّ ذَنْبٍ»
قَالَ (وَيُكْرَهُ أَنْ
كَمَا إذَا ذَهَبَ رُبُعُهُمَا أَوْ ثُلُثُهُمَا أَوْ أَكْثَرُ مِنْ ثُلُثِهِمَا فِي الْجُمْلَةِ عَلَى مَا وَقَعَ فِي الرِّوَايَاتِ الْمَذْكُورَةِ فَيَلْزَمُ جَمْعُ الْحُكْمَيْنِ الْمُتَضَادَّيْنِ تَأَمَّلْ تَقِفْ
(قَوْلُهُ وَيُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَنْقُصَ الصَّدَقَةَ عَنْ الثُّلُثِ لِأَنَّ الْجِهَاتِ ثَلَاثَةٌ: الْأَكْلُ وَالِادِّخَارُ لِمَا رَوَيْنَا، وَالْإِطْعَامُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} انْقَسَمَ عَلَيْهَا أَثْلَاثًا) أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الْأَمْرُ الْمُطْلَقُ لِلْوُجُوبِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ كَمَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ، فَالظَّاهِرُ مِنْ قَوْله تَعَالَى {وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} وُجُوبُ الْإِطْعَامِ، وَالْمُدَّعَى اسْتِحْبَابُهُ فَلْيُتَأَمَّلْ فِي الْجَوَابِ
(قَوْلُهُ وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَشْتَرِيَ بِهِ مَا يَنْتَفِعُ بِعَيْنِهِ فِي الْبَيْتِ مَعَ بَقَائِهِ اسْتِحْسَانًا، وَذَلِكَ مِثْلُ مَا ذَكَرْنَا لِأَنَّ لِلْبَدَلِ حُكْمَ الْمُبْدَلِ) أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إنَّهُ تَعْلِيلٌ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ وَهُوَ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «مَنْ بَاعَ جِلْدَ أُضْحِيَّتِهِ فَلَا أُضْحِيَّةَ لَهُ» فَإِنَّهُ يَتَنَاوَلُ بِإِطْلَاقِهِ بَيْعَ الْجِلْدِ بِمَا يَنْتَفِعُ بِعَيْنِهِ مَعَ بَقَائِهِ أَيْضًا، وَالتَّعْلِيلُ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ غَيْرُ مَقْبُولٍ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ فَلْيُتَأَمَّلْ فِي الدَّفْعِ
(قَوْلُهُ وَلَا يَشْتَرِي بِهِ مَا لَا يَنْتَفِعُ بِهِ إلَّا بَعْدَ اسْتِهْلَاكِهِ كَالْخَلِّ وَالْأَبَازِيرِ اعْتِبَارًا بِالْبَيْعِ بِالدَّرَاهِمِ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ تَصَرُّفٌ عَلَى قَصْدِ التَّمَوُّلِ) أَقُولُ: فِيهِ بَحْثٌ. أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ اعْتِبَارَ ذَلِكَ بِالْبَيْعِ بِالدَّرَاهِمِ غَيْرُ وَاضِحٍ، فَإِنَّ الدَّرَاهِمَ مِمَّا لَا يَنْتَفِعُ بِعَيْنِهَا أَصْلًا، أَيْ لَا مَعَ بَقَائِهَا
يَذْبَحَهَا الْكِتَابِيُّ) لِأَنَّهُ عَمَلٌ هُوَ قُرْبَةٌ وَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا، فَلَوْ أَمَرَهُ فَذَبَحَ جَازَ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الذَّكَاةِ، وَالْقُرْبَةُ أُقِيمَتْ بِإِنَابَتِهِ وَنِيَّتِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَمَرَ الْمَجُوسِيَّ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الذَّكَاةِ فَكَانَ إفْسَادًا
قَالَ (وَإِذَا غَلِطَ رَجُلَانِ فَذَبَحَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أُضْحِيَّةَ الْآخَرِ أَجْزَأَ عَنْهُمَا وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا) وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ، وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ مَنْ ذَبَحَ أُضْحِيَّةَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ لَا يَحِلُّ لَهُ ذَلِكَ وَهُوَ ضَامِنٌ لِقِيمَتِهَا، وَلَا يُجْزِئُهُ عَنْ الْأُضْحِيَّةِ فِي الْقِيَاسِ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَجُوزُ وَلَا ضَمَانَ عَلَى الذَّابِحِ، وَهُوَ قَوْلُنَا.
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُ ذَبَحَ شَاةَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَيَضْمَنُ، كَمَا إذَا ذَبَحَ شَاةً اشْتَرَاهَا الْقَصَّابُ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهَا تَعَيَّنَتْ لِلذَّبْحِ لِتَعَيُّنِهَا لِلْأُضْحِيَّةِ حَتَّى وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُضَحِّيَ بِهَا بِعَيْنِهَا فِي أَيَّامِ النَّحْرِ. وَيُكْرَهُ أَنْ يُبْدِلَ بِهَا غَيْرَهَا فَصَارَ الْمَالِكُ مُسْتَعِينًا بِكُلِّ مَنْ يَكُونُ أَهْلًا لِلذَّبْحِ آذِنًا لَهُ دَلَالَةً لِأَنَّهَا تَفُوتُ بِمُضِيِّ هَذِهِ الْأَيَّامِ، وَعَسَاهُ يَعْجَزُ عَنْ إقَامَتِهَا بِعَوَارِضَ فَصَارَ كَمَا إذَا ذَبَحَ شَاةً شَدَّ الْقَصَّابُ رِجْلَهَا، فَإِنْ قِيلَ: يَفُوتُهُ أَمْرٌ مُسْتَحَبٌّ وَهُوَ أَنْ يَذْبَحَهَا بِنَفْسِهِ أَوْ يَشْهَدَ الذَّبْحَ فَلَا يَرْضَى بِهِ. قُلْنَا: يَحْصُلُ لَهُ بِهِ مُسْتَحَبَّانِ آخَرَانِ، صَيْرُورَتُهُ مُضَحِّيًا لِمَا عَيَّنَهُ، وَكَوْنُهُ مُعَجِّلًا بِهِ فَيَرْتَضِيهِ، وَلِعُلَمَائِنَا رحمهم الله مِنْ هَذَا الْجِنْسِ مَسَائِلُ اسْتِحْسَانِيَّةٌ، وَهِيَ أَنَّ مَنْ طَبَخَ لَحْمَ غَيْرِهِ أَوْ طَحَنَ حِنْطَتَهُ أَوْ رَفَعَ جَرَّتَهُ فَانْكَسَرَتْ أَوْ حَمَّلَ عَلَى دَابَّتِهِ فَعَطِبَتْ كُلُّ ذَلِكَ بِغَيْرِ أَمْرِ الْمَالِكِ يَكُونُ ضَامِنًا، وَلَوْ وَضَعَ الْمَالِكُ اللَّحْمَ فِي الْقِدْرِ وَالْقِدْرَ عَلَى الْكَانُونِ وَالْحَطَبَ تَحْتَهُ، أَوْ جَعَلَ الْحِنْطَةَ فِي الدَّوْرَقِ وَرَبَطَ الدَّابَّةَ عَلَيْهِ، أَوْ رَفَعَ الْجَرَّةَ وَأَمَالَهَا إلَى نَفْسِهِ أَوْ حَمَّلَ عَلَى دَابَّتِهِ فَسَقَطَ فِي الطَّرِيقِ، فَأَوْقَدَ هُوَ النَّارَ فِيهِ وَطَبَخَهُ، أَوْ سَاقَ الدَّابَّةَ فَطَحَنَهَا، أَوْ أَعَانَهُ عَلَى رَفْعِ الْجَرَّةِ فَانْكَسَرَتْ فِيمَا بَيْنَهُمَا، أَوْ حَمَّلَ عَلَى دَابَّتِهِ مَا سَقَطَ فَعَطِبَتْ لَا يَكُونُ ضَامِنًا فِي هَذِهِ الصُّوَرِ كُلِّهَا اسْتِحْسَانًا لِوُجُودِ الْإِذْنِ دَلَالَةً.
إذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ فِي مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ: ذَبَحَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أُضْحِيَّةَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ صَرِيحًا فَهِيَ خِلَافِيَّةُ زُفَرَ بِعَيْنِهَا وَيَتَأَتَّى فِيهَا الْقِيَاسُ وَالِاسْتِحْسَانُ كَمَا ذَكَرْنَا، فَيَأْخُذُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَسْلُوخَةً
وَلَا بَعْدَ اسْتِهْلَاكِهَا، وَإِنَّمَا هِيَ وَسِيلَةٌ مَحْضَةٌ فَالْمَقْصُودُ مِنْهَا التَّمَوُّلُ لَا غَيْرُ، بِخِلَافِ مِثْلِ الْخَلِّ وَالْأَبَازِيرِ فَإِنَّهُ مِمَّا يُنْتَفَعُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ اسْتِهْلَاكِهِ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ الِانْتِفَاعَ دُونَ التَّمَوُّلِ، وَالِانْتِفَاعُ بِنَفْسِ جِلْدِ الْأُضْحِيَّةِ غَيْرُ مُحَرَّمٍ فَكَذَا بِبَدَلِهِ.
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ عَدَمَ جَوَازِ بَيْعِ جِلْدِ الْأُضْحِيَّةِ بِالدَّرَاهِمِ إنَّمَا ثَبَتَ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ عَلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ، فَإِنَّهُ بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ وَجْهَ الِاسْتِحْسَانِ فِي جَوَازِ بَيْعِهِ بِمَا يُنْتَفَعُ بِعَيْنِهِ مَعَ بَقَائِهِ بِأَنَّهُ جَازَ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِالْجِلْدِ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِالْبَدَلِ، لِأَنَّ الْبَدَلَ لَهُ حُكْمُ الْمُبْدَلِ.
قَالَ: فَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يَجُوزَ بَيْعُ الْجِلْدِ بِالدَّرَاهِمِ أَيْضًا، إلَّا أَنَّا تَرَكْنَا الْقِيَاسَ بِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام لِعَلِيٍّ رضي الله عنه «وَلَا تُعْطِ أَجْرَ الْجَزَّارِ مِنْهَا» فَإِذَا أَعْطَى أَجْرَ الْجَزَّارِ مِنْهَا يَصِيرُ بَائِعَ اللَّحْمِ وَالْجِلْدِ بِالدَّرَاهِمِ وَقَدْ ثَبَتَ الْمَنْعُ عَنْهُ، بِخِلَافِ الْقِيَاسِ فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ انْتَهَى.
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَكَيْفَ يَتِمُّ قِيَاسُ عَدَمِ جَوَازِ بَيْعِ الْجِلْدِ بِمِثْلِ الْخَلِّ وَالْأَبَازِيرِ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ بَيْعِهِ بِالدَّرَاهِمِ كَمَا يَقْتَضِيهِ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ اعْتِبَارًا بِالْبَيْعِ بِالدَّرَاهِمِ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ مِنْ شَرْطِ الْقِيَاسِ أَنْ لَا يَكُونَ حُكْمُ الْأَصْلِ مَعْدُولًا عَنْ الْقِيَاسِ، فَالْأَظْهَرُ أَنْ يَتْرُكَ الْقِيَاسَ عَلَى الْبَيْعِ بِالدَّرَاهِمِ فِي تَعْلِيلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَيُقَالُ فِي تَعْلِيلِهَا لِأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا عَنْ عَيْنِ الْجِلْدِ قَائِمًا مَقَامَهُ لِعَدَمِ الِانْتِفَاعِ بِهِ كَالِانْتِفَاعِ بِعَيْنِ الْجِلْدِ فَلَمْ يَكُنْ حُكْمُهُ كَحُكْمِ عَيْنِ الْجِلْدِ بِخِلَافِ مَا يُنْتَفَعُ بِعَيْنِهِ مَعَ بَقَائِهِ كَمَا مَرَّ، وَقَدْ أَشَارَ إلَيْهِ صَاحِبُ الْبَدَائِعِ حَيْثُ قَالَ: وَلَهُ أَنْ يَبِيعَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ بِمَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ
مِنْ صَاحِبِهِ، وَلَا يُضَمِّنُهُ لِأَنَّهُ وَكِيلُهُ فِيمَا فَعَلَ دَلَالَةً، فَإِذَا كَانَا قَدْ أَكَلَا ثُمَّ عَلِمَا فَلْيُحَلِّلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ وَيُجْزِيهِمَا، لِأَنَّهُ لَوْ أَطْعَمَهُ فِي الِابْتِدَاءِ يَجُوزُ، وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا فَكَذَا لَهُ أَنْ يُحَلِّلَهُ فِي الِانْتِهَاءِ وَإِنْ، تَشَاحَّا فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يُضَمِّنَ صَاحِبَهُ قِيمَةَ لَحْمِهِ ثُمَّ يَتَصَدَّقُ بِتِلْكَ الْقِيمَةِ لِأَنَّهَا بَدَلٌ عَنْ اللَّحْمِ فَصَارَ كَمَا لَوْ بَاعَ أُضْحِيَّتَهُ، وَهَذَا لِأَنَّ التَّضْحِيَةَ لَمَّا وَقَعَتْ عَنْ صَاحِبِهِ كَانَ اللَّحْمُ لَهُ
وَمَنْ أَتْلَفَ لَحْمَ أُضْحِيَّةِ غَيْرِهِ كَانَ الْحُكْمُ مَا ذَكَرْنَاهُ
(وَمَنْ غَصَبَ شَاةً فَضَحَّى بِهَا ضَمِنَ قِيمَتَهَا وَجَازَ عَنْ أُضْحِيَّتِهِ) لِأَنَّهُ مَلَكَهَا بِسَابِقِ الْغَصْبِ،
مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ مِنْ مَتَاعِ الْبَيْتِ كَالْجِرَابِ وَالْمُنْخُلِ، لِأَنَّ الْبَدَلَ الَّذِي يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ يَقُومُ مَقَامَ الْمُبْدَلِ، فَكَانَ الْمُبْدَلُ قَائِمًا مَعْنًى وَكَانَ الِانْتِفَاعُ بِهِ كَالِانْتِفَاعِ بِعَيْنِ الْجِلْدِ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ بِالدَّرَاهِمِ أَوْ الدَّنَانِيرِ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ فَلَا يَقُومُ مَقَامَ الْجِلْدِ فَلَا يَكُونُ الْجِلْدُ قَائِمًا مَعْنًى انْتَهَى
(قَوْلُهُ فَصَارَ كَمَا لَوْ بَاعَ أُضْحِيَّتَهُ) قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الشُّرَّاحِ فِي بَيَانِ مَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ: يَعْنِي أَنَّهُ لَوْ بَاعَ أُضْحِيَّتَهُ وَاشْتَرَى بِثَمَنِهَا غَيْرَهَا، فَلَوْ كَانَ غَيْرُهَا أَنْقَضَ مِنْ الْأُولَى تَصَدَّقَ بِمَا فَضَلَ عَلَى الثَّانِيَةِ، وَلَوْ لَمْ يَشْتَرِ حَتَّى مَضَتْ أَيَّامُ النَّحْرِ تَصَدَّقَ بِثَمَنِهَا كُلِّهِ انْتَهَى. أَقُولُ: قَدْ تَكَلَّمُوا فِي بَيَانِ مُرَادِ الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ الْمَذْكُورِ جِدًّا حَيْثُ جَعَلُوهُ صُورَتَيْنِ، فَزَادُوا فِي الصُّورَةِ الْأُولَى اشْتَرَى غَيْرَهَا بِثَمَنِهَا، وَاعْتَبَرُوا التَّصَدُّقَ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ فِي بَعْضِ الثَّمَنِ دُونِ كُلِّهِ، وَزَادُوا فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ مَضَى أَيَّامُ النَّحْرِ، وَلَيْسَ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ هَذَا مَا يَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَلَيْسَ فِي الْمَقَامِ مَا يَقْتَضِي شَيْئًا مِنْهَا كَمَا لَا يَخْفَى، مَعَ أَنَّ الْأَمْرَ فِي مَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ عَلَى طَرَفِ التَّمَامِ بِحَمْلِهِ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ: أَيْ كَمَا لَوْ بَاعَ لَحْمَ أُضْحِيَّتِهِ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِهِ الْإِشَارَةَ إلَى مَا مَرَّ فِي الْكِتَابِ مِنْ قَوْلِهِ وَلَوْ بَاعَ الْجِلْدَ وَاللَّحْمَ بِالدَّرَاهِمِ أَوْ بِمَا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ إلَّا بِاسْتِهْلَاكِهِ تَصَدَّقَ بِثَمَنِهِ تَدَبَّرْ
(قَوْلُهُ وَمَنْ أَتْلَفَ لَحْمَ أُضْحِيَّةِ غَيْرِهِ كَانَ الْحُكْمُ مَا ذَكَرْنَاهُ) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ. وَقَوْلُهُ وَمَنْ أَتْلَفَ لَحْمَ أُضْحِيَّةِ غَيْرِهِ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ وَإِنْ تَشَاحَّا: يَعْنِي إنْ تَشَاحَّا عَنْ التَّحْلِيلِ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتْلِفًا لَحْمَ أُضْحِيَّةِ صَاحِبِهِ، وَمَنْ أَتْلَفَ لَحْمَ أُضْحِيَّةِ صَاحِبِهِ كَانَ الْحُكْمُ فِيهِ مَا ذَكَرْنَاهُ وَهُوَ قَوْلُهُ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يُضَمِّنَ صَاحِبَهُ قِيمَةَ لَحْمِهِ انْتَهَى، أَقُولُ لَيْسَ هَذَا التَّوْجِيهُ بِوَجِيهٍ. فَإِنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ فَإِنْ تَشَاحَّا فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يُضَمِّنَ صَاحِبَهُ قِيمَةَ لَحْمِهِ مَسْأَلَةٌ تَامَّةٌ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ دَلِيلٍ مُغَايِرٍ لَهَا، وَفِي التَّوْجِيهِ الْمَذْكُورِ قَدْ أَخَذَ مُقَدَّمَ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ وَإِنْ تَشَاحَّا وَضُمَّ إلَيْهِ تَالٍ مُغَايِرٌ لِتَالِي الْمَسْأَلَةِ غَيْرُ مَذْكُورٍ فِي الْكِتَابِ أَصْلًا، فَصَارَ إنْ تَشَاحَّا عَنْ التَّحْلِيلِ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتْلِفًا لَحْمَ أُضْحِيَّةِ صَاحِبِهِ، وَجَعَلَ ذَلِكَ صُغْرَى الدَّلِيلِ وَجَعَلَ كُبْرَاهُ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ بَعْدَ الْمُقَدِّمَاتِ الْكَثِيرَةِ، وَمَنْ أَتْلَفَ لَحْمَ أُضْحِيَّةِ غَيْرِهِ كَانَ الْحُكْمُ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ وَالْحَقُّ عِنْدِي أَنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ وَمَنْ أَتْلَفَ لَحْمَ أُضْحِيَّةِ غَيْرِهِ كَانَ الْحُكْمُ مَا ذَكَرْنَاهُ مُتَّصِلٌ بِمَا قَبْلَهُ وَهُوَ قَوْلُهُ وَهَذَا لِأَنَّ التَّضْحِيَةَ لَمَّا وَقَعَتْ مِنْ صَاحِبِهِ كَانَ اللَّحْمُ لَهُ. فَمَا قَبْلَهُ بِمَنْزِلَةِ الصُّغْرَى وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ الْكُبْرَى، وَمَجْمُوعُهُمَا دَلِيلٌ تَامٌّ عَلَى أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ وَإِنْ تَشَاحَّا فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يُضَمِّنَ صَاحِبَهُ قِيمَةَ لَحْمِهِ فَمَعْنَى الدَّلِيلِ أَنَّ تَضْحِيَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَمَّا وَقَعَتْ مِنْ صَاحِبِهِ كَانَ اللَّحْمُ الَّذِي أَتْلَفَهُ بِالْأَكْلِ لِصَاحِبِهِ لَا لِنَفْسِهِ. وَمَنْ أَتْلَفَ لَحْمَ أُضْحِيَّةِ غَيْرِهِ كَانَ الْحُكْمُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَضْمِينِ صَاحِبِهِ إيَّاهُ
بِخِلَافِ مَا لَوْ أُودِعَ شَاةً فَضَحَّى بِهَا لِأَنَّهُ يُضَمِّنُهُ بِالذَّبْحِ فَلَمْ يَثْبُتْ الْمِلْكُ لَهُ إلَّا بَعْدَ الذَّبْحِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
قِيمَةَ لَحْمِهِ، وَلَيْتَ شِعْرِي أَنَّ صَاحِبَ التَّوْجِيهِ الْأَوَّلِ مَاذَا يَصْنَعُ فِي حَقِّ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ، وَهَذَا لِأَنَّ التَّضْحِيَةَ لَمَّا وَقَعَتْ مِنْ صَاحِبِهِ كَانَ اللَّحْمُ لَهُ فَهَلْ يَجْعَلُهُ وَحْدَهُ دَلِيلًا آخَرَ عَلَى أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ أَمْ يَجْعَلُهُ مُتَّصِلًا بِشَيْءٍ آخَرَ غَيْرِ أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ، فَانْظُرْ وَتَبَصَّرْ هَلْ يَتَيَسَّرُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ؟