المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌مقدمة العَلَّامَة المحقق المربي الشيخ عبد الهادي محمد الخرسة بسم الله - تنبيه الحائر على عدم جواز المسح على الجورب المعاصر

[محمد مهدي قشلان]

فهرس الكتاب

‌مقدمة العَلَّامَة المحقق المربي الشيخ عبد الهادي محمد الخرسة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربِّ العالَمين، اللهمَّ صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمدٍ النبيّ الأميّ الذي وصفه الله تعالى بقوله:{عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} . [التَّوْبة: 128]. وعلى آله وأصحابه وعلينا معهم آمين.

أمَّا بعدُ: ففي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: {مَنْ يُرِدِ الله بِهِ خيراً يُفَقِّهه في الدِّين} [متفق عليه]. فلا أحدَ يعلم أنَّ الله أرادَ به خيراً، وأنَّ عاقبتَه إلى خير إلا مَنْ فَقَّهَهُم اللهُ تعالى في الدِّين، وجاء في حديثٍ عنه صلى الله عليه وسلم: {يَحْمِلُ هذَا العِلمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ، يَنْفُونَ عَنهُ تَحرِيفَ الغَالِينَ، وَانْتِحَالَ المُبْطِلِينَ، وَتَأْوِيلَ

الْجَاهِلِينَ

(1)

.

(1)

أخرجه ابنُ عَدِي في الكامل 1/ 118، وابن حِبَّان في الثقات 4/ 10 (1607)، والآجِريُّ في الشريعة 1/ 269، وأبو نعيم في معرفة الصحابة 1/ 211 (732)، والبيهقي في الكبرى 10/ 209 (21439)، وفي دلائل النبوة 1/ 43 - 44، والخطيب البغدادي في شرف أصحاب الحديث ص 29.

ص: 5

هذا وقد أطلعني الأستاذُ الفَقيهُ المُحقِّقُ الشيخ: (محمد مهدي نذير قشلان) -حفظه الله تعالى وزاده توفيقاً وتأييداً ونفع به المسلمين-على رسالة فِقهيَّةٍ سمَّاها: "تنبيهُ الحائر على عدم جواز المسح على الجورب المعاصر" جمَعَ فيها أقوال أئمَّةِ الفقه في المذاهب الأربعة، وبَيَّنَ فيها الّراجح الصَّحيحَ الذي يُعمل به، والضعيفَ المرجوحَ الذي يُتركُ العمل به، وهذا العمل المبارك إن دلَّ على شيء فإنَّهُ يدلُّ على غَيرَةِ الشَّيخ على الفقه وأحكامه وما يتعرض له على أيدي الجاهلين والعابثينَ في دِينِ الله تعالى بأهوائهم، ويدلُّ على حرصه على المؤمنين بأن تكون عبادتُهم مستوفيةً الأقوالَ الصَّحِيحةَ المعتمدة في علم الفقه؛ لتكون مقبولة عند الله سبحانه وتعالى، وحِرصُ الفقيه والعالم على الأُمَّةِ وِراثةٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم في وصف الله تعالى له:{حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ} [التَّوْبِة: 128]، فأُهنِّئُهُ على ما آتاه الله تعالى من

ص: 6

غَيْرةٍ على دِينهِ ومن حِرصٍ على المؤمنين، وأدعو اللهَ تعالى له بمزيدِ التوفيقِ والتأييد وأن ينفع الله به أُمَّةَ الإسلام آمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وعلينا معهم. آمين.

تحريراً في يوم الجمعة:

17/ رجب/ 1443 هـ، الموافق لـ: 18/ شباط/ 2022 م

خادِمُ العِلْم وأهله

عبد الهادي محمد الخرسة الدمشقي الأزهري

ص: 7

صورة عن المقدمة والتقريظ بخط العَلَّامَة المحقق المربي الشيخ: عبد الهادي محمد الخرسة

ص: 8

‌مقدمة الدكتور الشيخ المُسند توفيق إبراهيم ضَمْرَة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربِّ العالَمين، والصَّلاة والسَّلام على سيَّد المرسلين سيدنا محمد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

أمَّا بعدُ: فإنَّ العلماءَ هُمْ ورَثَةُ الأنبياءِ، وإنَّ الأنبياءَ لم يُورِّثوا دِرهماً ولا ديناراً، وإنَّما ورَّثوا العِلمَ النَّافعَ، فمَن طَلبَ العِلْمَ فقد أخذَ بالحظِّ الوافِرِ، ولا شَكَّ أنَّ من أشرف العلوم التَّفقُّهُ في الدِّين، فهو من أعظمِ المِنن، وأجلِّ المِنَح، وأعلى الفضائل، وأسمى المنازل، وهو المفتاح الدقيق المُوصِلُ لفهم سُنَّة الحبيب صلى الله عليه وسلم؛ ذلك أن الفقهَ في الدِّين يُرشدُنا إلى معاني التنزيل ودفائنِه، ونُكَتِه ولطائفِه، ويُرشدُنا إلى عمل الطاعة وتجنُّب المعصية، ويتحصَّل منه الفضلُ العظيم في الكتاب، والثوابُ الكبير يوم الحساب.

ص: 9

قال أبو هريرة رضي الله عنه: "لَأنْ أتفقَّه ساعةً، أحبُّ إليَّ من أن أُحْيِيَ ليلةً أصلِّيها حتى أصبح، ولَفقيهٌ واحد أشدُّ على الشيطان من ألف عابدٍ، ولكل شيء دِعامة، ودِعامة الدِّين الفقهُ". [حلية الأولياء 2/ 192].

وكان عبدُ الله بن مسعود رضي الله عنه يقول: "لَأنْ أجلسَ في مجلسِ فقهٍ ساعةً، أحبُّ إليَّ من صيام يوم وقيام ليلة". [البيهقي في المدخل إلى علم السنن 2/ 722].

وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: "لَأنْ أَذكُرَ الفقهَ ساعةً، أحبُّ إليَّ من قيام ليلة". [الفقيه والمتفقه 1/ 102]

ومما اشتهر قول محمد بن شهاب الزُّهريِّ رحمه الله: "ما عُبِدَ اللهُ بمثلِ الفقه". [جامع بيان العلم وفضله 1/ 119]

وقد حصل بالتتبع والاستقراء اتِّفاقُ كلمة العلماء على أنَّ مِنْ أشرفِ العلوم جمعاً، وأعظمِها خيراً ونَفعاً عِلْمَ أحكامِ أفعالِ العباد، المشتهر بعدُ باسم "الفقه الإسلامي"، المشمول في عموم قول النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم:{مَنْ يُرِدِ الله بِهِ خيراً يُفَقِّهه في الدِّين} . [متفق عليه].

ص: 10

وهذا العلم يختص الله به من يشاء من عباده، وهو يحتاج إلى فطنة، وطول صحبة، ودأبٍ على القراءة والمطالعة، من غير كللٍ ولا مَلَل.

وللهِ دَرُّ الشَّافعيِّ رحمه الله حَيثُ قال:

أَخِي لَنْ تَنالَ العِلْمَ إِلَّا بِسِتَّةٍ

سَأُنْبِيكَ عَنْ تَفصِيلِهَا بِبَيَانِ

ذَكَاءٌ وَحِرْصٌ وَاجْتِهَادٌ وَبُلْغَةٌ

وَصُحْبَةُ أُسْتَاذٍ وَطُولُ زَمَانِ

هذا وقد قرَأْتُ رسالة الشيخ الأستاذ محمد مهدي نذير قشلان: "تنبيه الحائر على عدم جواز المسح على الجورب المعاصر" فأَلفَيتُها رِسالةً جامعةً مانعةً في بابِها، حَيثُ جَمعَ أقوالَ العلماء من المذاهب الأربعة حول المسح على الجوربين، وحرص كل الحرص على ضبط الأقوال، وإسنادها إلى قائليها، وإرجاعها إلى مصادرها، وكان مُوفَّقاً في تحرير موضع النِّزاعِ في هذه المسألة التي كثر فيها الخائضون بغيرِ عِلْمٍ ولا تحرٍّ، وخَلُص إلى أنَّ جُلَّ الجوارب اليوم غير صالحة للمسح عليها بعدَ استقراءٍ طويلٍ لأقوال العلماء والفقهاء

ص: 11

والمحققين.

أسألُ اللهَ تعالى أنْ يُجْزِلَ الثوابَ للمؤلِّفِ، وأنْ يجعلَ هذا العملَ المميَّزَ في صَحَائفِ أعمالِه ووالِدَيه، وأنْ يَنفعَ بهِ طلبةَ العلمِ، وأنْ يَكتُبَ اللهُ تعالى لهُم أجرَ الصدقةِ الجاريةِ، والعلمَ النافعَ الذي يَنفعُ النَّاس، إنهُ تعالى لا يُضيعُ أجرَ مَنْ أحسنَ عملاً.

تحريراً في يوم الخميس: 7/ شعبان/ 1443 هـ، الموافق لـ: 10/ آذار/ 2022 م

كتبه

توفيق إبراهيم ضَمْرَة

مدرس القرآن الكريم في المسجد

الحسيني الكبير والمجاز بإقراء العشر الصغرى والكبرى

ص: 12

بسم الله الرحمن الرحيم

‌بين يدي الرسالة:

عالجَتْ هذه الرّسالة مسألةً فقهية تتناولها الألسِنةُ والأقلامُ كُلَّ عام، خاصة في فصل الشتاء، حيث يحتدم النقاش فيها على صفحات التواصل الاجتماعي، وداخل دوائر نقاشية علمية وغير علمية، وكثيرًا ما تُوجَّهُ البوصلة إلى غير ما ينبغي أن تُوجَّه إليه، وغالباً لا يُناقش موضِعُ النِّزاعِ في مسألة "المسح على الجوربين"، إذ إنَّ موضع النِّزاعِ ليس في ثبوت مسحِ الجوربين عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن السلف الصَّالِح، إنما موضعُ النِّزاعِ: هل هذه الجوارب التي نَلبَسُها ينطبق عليها وصف الجوربين اللَّذينِ كانا يُمسح عليهما في عهد النبوَّةِ؟.

لذلك وضع الفقهاء شروطاً لجواز المسح على الجوربين سواء كانا من قماش أو جِلْدٍ، مُنَعَّلَينِ أو غيرَ مُنعَّلَينِ، وهذه الشروط أو بعضها لا ينطبق على الجورب الذي نَلبَسُهُ

ص: 13

اليوم؛ لكونه فَقَدَ شرطاً اتفق عليه الأئمة الأربعة وغيرهم؛ وهو "أن يكون سميكاً يمكن متابعة المشي فيه، كما يسير الإنسان بحذائه أو نعله".

وإليكم المسألة ورأي الأئمة الأربعة بذلك، مع عزو الكلام إلى مصدره، وقد اقتصرت على ذكر هذا الشرط دون غيره؛ لأنه موضع الاتفاق، بخلاف غيره من الشروط عند المذاهب الأربعة المشهورة.

وقد نَشَرتُ هذه المسألة في عام 1437 هـ 2016 م على وسائل التواصل الاجتماعي، فلاقت قَبولاً واستحساناً من أهل العلم-بفضل الله وتوفيقه-، ثم إني نشطت بحمد الله لجمع هذه المسألة في رسالة صغيرة استجابةً لطلب غير واحد منهم تثبيت المسألة في رسالة صغيرة يسهل تداولها، وأسأل الله أن أكون قد وفِّقتُ فيما كتبت، وأن يجعله خالصاً لوجهه الكريم.

ص: 14

شرطُ أن يكون الجورب سميكاً يمكن متابعة المشي فيه

هذا الشرط اتفق فقهاء المذاهب الأربعة على شرط توفره في الجوربين لجواز المسح عليهما، ونصوصهم تدل على أنَّ الجوارب المعروفة اليوم لا تنطبق عليها صفات الجوارب التي يَصحُّ المسح عليها، ولذا: لا دليل، ولا حجة، ولا معتمد، لمن يجيز المسح عليها إلا التَّمسك بالاسم، وهذا ليس بمستندٍ لحكم شرعي.

فإليك أيها القارئ النَّبيه نصوص الفقهاء من مصادرهم مرتبة حسب التاريخ الزمني للمذاهب الأربعة:

‌أولاً: مذهب الحنفية:

ذكر الإمام ابن عابدين في حاشيته على الحصكفي-رحمهما الله-: "ويُشْرَطُ لجواز المسحِ ثلاثةَ أُمور: منها: كونُهُ مِمَّا يُمكنُ مُتابعةُ المشيِ المُعتادِ فِيه فَرْسخاً فأكثر"

(1)

.

(1)

ولا يجوز المسح على الجوربين عند أبي حنيفة رحمه الله -إلا أن يكونا مجلدين أو منعلين. وقال الصاحبان: يجوز إذا كانا ثخينين، ويمكن متابعة المشي عليها، وإلى قولهما رجع الإمام أبو حنيفة وعليه الفتوى، قال الزيلعي:"ويروى رجوع أبي حنيفة إلى قولهما قبل موته، وعليه الفتوى" اهـ فإن كانا رقيقين يشفان الماء فلا يجوز المسح عليهما بالاتفاق، وإذا لم يكونا ثخينين ولا منعلين كذلك لا يجوز بالاتفاق بينهم.

(البناية شرح الهداية للإمام العيني 1/ 607 وما بعدها بتصرف)(تبيين الحقائق 1/ 52)

ص: 15

والفرسخ: ثلاثة أميال، اثنا عشر ألف خطوة،

والميل: 1848 م، فيكون الفرسخ مساوياً:(5544) م.

(رد المحتار على الدر المختار في شرح تنوير الأبصار المعروف بـ (حاشية ابن عابدين 1/ 261 - 263)

* وجاء في البحر الرائق شرح كنز الدقائق للفقيه الأصولي زين الدين الشهير بابن نجيم 970 هـ-رحمه الله:

"أنَّ ما كانَ رَقِيقاً مِنها لا يجوز المسح عليهِ اتِفاقاً؛ إلا أن يكونَ مجلداً أو مُنعَّلاً أو مُبطنًا، وما كان ثَخِيناً مِنها: فإنْ لم يكن مُجلَّداً أو مُنعَّلاً أو مُبَطَّناً فمختَلفٌ فِيهِ، وما كان فلا خِلافَ فِيهِ". اهـ.

(البحر الرائق - ابن نجيم 1/ 192)

ص: 16

‌ثانياً: مذهب المالكية

قال الحافظ ابن عَبْد البَر 463 هـ-رحمه الله: "فإن كان الجوربان مُجلَّدَين كالخُفَّين مسح عليهما، وقد روي عن مالك: منع المسح على الجوربين وإن كانا مجلدين، والأول أصح".

(الكافي في فقه أهل المدينة 1/ 178).

* وقال القاضي عبد الوهَّاب المالكي أحد أعلام المذهب المالكي 422 هـ-رحمه الله:

"ولا يجوز المسح على الجوربين غير المجلدين، خِلافاً لِمَنْ أجازه

؛ ولأنه لا يمكن متابعة المشي فيهما كما لو لفَّ على رِجلَيهِ خرقةً ".

(المعونة على مذهب عالم المدينة للقاضي عبد الوهاب 1/ 138)

ص: 17

‌ثالثاً: مذهب الشافعية:

قال الإمام النَّوَوِي 676 هـ رحمه الله:

"أنْ يكون -أي الخُفُّ-قويَّاً، بحيث يمكن متابعة المشي عليه بقدْرِ ما يحتاج إليه المسافر في حوائجه عند الحطِّ والتِّرحال، فلا يجوز المسح على اللَّفائف والجوارب المُتَّخذةِ مِنْ صوفٍ ولِبد ..

(1)

" (روضة الطالبين 1/ 126)

* وقال أيضاً:

(وإنْ لَبِسِ خُفًّا لا يُمكن متابعة المشي عليه لرقَّتِه أو لِثقلِهِ لمْ يَجز المسحُ عليه؛ لأنَّ الذي تدعو الحاجة إليه ما

(1)

قال النووي: هذه المسألة مشهورة، وفيها كلام مضطرب للأصحاب، ونص الشافعي رضي الله عنه-عليها في الأم كما قاله المصنف -أي أبو إسحاق الشيرازي-، وهو أنه يجوز المسح على الجورب بشرط أن يكون صفيقاً منعلاً، وهكذا قطع به جماعة

ا. هـ. فصريح قول الإمام أن الجورب إذا لم يكن منعلاً لم يُمسح عليه.

ثم قال النَّووي رحمه الله: "والصحيح بل الصواب ما ذكره القاضي أبو الطيب والقفال وجماعات من المحققين أنه: إن أمكن متابعة المشي عليه جاز كيف كان، وإلا فلا، وهكذا نقله الفوراني في الإبانة عن الأصحاب أجمعين فقال: قال أصحابنا: إن أمكن متابعة المشي على الجوربين جاز المسح عليهما، وإلا فلا ".

(المجموع شرح المهذب 1/ 499)

ص: 18

يُمكن متابعة المشي عليه، وما سواه لا تدعو الحاجة إليه فلم تتعلق به الرخصة).

(المجموع شرح المهذب 1/ 500)

* وقال أيضاً: "أمَّا ما لا يُمكن متابعة المشي عليه لِرقَّتِه فلا يجوز المسح عليه بلا خلاف ..

(1)

".

(المجموع شرح المهذب 1/ 501)

* وقال أيضاً: "قد ذكرنا أنَّ الصحيحَ من مذهبنا أن الجوربَ إن كان صفيقاً يمكن متابعة المشي عليه جاز المسح عليه وإلا فلا". (المجموع شرح المهذب 1/ 499)

(1)

أما ما ورد في المذهب من أنه يجوز المسح على الجورب الرقيق، فقد قال عنه الإمام النووي بأنه وجه غريب ضعيف. (المجموع 1/ 500)

ص: 19

‌رابعاً: مذهب الحنابلة:

قال ابن قدامة 620 هـ رحمه الله-في المغني: "إنَّما يجوز المسح على الجورب بالشَّرطَينِ اللَّذَين ذُكرا في الخُفِّ،

أحَدُهُمَا: أنْ يكون صَفيقاً، لا يَبدو منه شيءٌ مِنَ القَدَم.

الثّاني: أنْ يُمكن متابعة المشي فيه .. ، وعَلَّلَ الإمامُ أحمد بقوله: إنّما مسح القوم على الجوربين لأنَّه كان عندهم بمنزلة الخفِّ، يقوم مقام الخُفِّ في رِجْل الرَّجُلِ، يَذهبُ فيه الرَّجُل ويَجيء".

ا. هـ (المغني لابن قدامة 1/ 215 - 216).

* ويُلاحَظُ في كلام الإمام أحمد أنَّ شرط المسح على الجوربين أن يذهب فيه الرجل ويجيء كالخُفِّ إن أراد ذلك.

والواضح أن الذهاب والمجيء بالجوربين ليس في البيت على السُّجاد أو الرخام، وإنما خارج المنزل في طريقه إلى المسجد الذي يصلي به عادة، أو في طريقه إلى العمل، أو في طريقه إلى الأسواق أو في طريقه إلى الأسفار.

ص: 20

جاء في حاشية الروض:

"لأن ما لا يمكن متابعة المشي عليه لا تدعو الحاجة إليه فلم تتعلق به الرخصة". ا. هـ.

(حاشية الروض المربع لابن قاسم 1/ 219)

* وقال ابن تيميَّة 728 هـ-رحمه الله: "ما لا يُمكن مُتابعةُ المشي فيه إمَّا لضيقه أو ثِقَلِه أو تَكَسُّرِه بالمشي أو تعذُّرِه كرقيق الخِرَق أو اللُّبود، لم يجُز مسحُه؛ لأنّه ليس بمنصوصٍ ولا في معنى المنصوص".

(شرح العمدة 1/ 242).

*وجاء في شرح "زاد المستقنع في اختصار المقنع" لمحمد بن محمد المختار الشنقيطي -معاصر-:

"فإن الجورب الذي يجوز المسح عليه يشترط فيه أن يكون صفيقاً، وعلى ذلك كلمة أكثر مَنْ يَرى المسح على الجوربين، أنه لا بد أن يكون صفيقاً، وهي عبارات العلماء، لأن الجوارب الخفيفة الشّفافة هذه لم تكن موجودة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم؛ إنما كانوا يلبسون الجوارب الثخينة، وكانوا

ص: 21

يمشون بها، ولذلك كانوا يلفون الخرق على أقدامهم، وهو المُعبَّرُ عنه بالتساخين في بعض الروايات، وهذا يدل على ما اعتبره العلماء من اشتراط الصَّفاقَةِ أي: كونه صفيقاً، وأيضاً النظر يقتضيه، فإن الجورب مُنزَّلٌ منزلة الخُفِّ، والخفُّ أصله من الجلد، ولا يمكن للجورب أن يُنزَّلَ منزلَته إلا بالثّخانة، والصّفاقة، وعلى هذا فإنه يصح المسح عليه إذا كان صفيقاً ثخيناً فالذي يشف البشرة، أو يكون غير ثخين فإنه لا يمُسح عليه؛ لأنه غير معروف على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ومَن قال بجوازه يقوله بالقياس فيقول: أقيس هذا الشَّفاف على الجورب الموجود على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ..

ويجاب عنه: بأنه قياس مع الفارق، والفارق هنا مؤثر، ومن شرط صحة القياس واعتباره أن لا يكون قياساً مع الفارق ثم إن المسح على الخُفَّينِ رخصةٌ جاءت على صفة مخصوصة فيقتصر الحكم على الوارد، والقياس في مثل هذا ضيق.

وعليه فإنه لا يصح المسح على الجوربين إلا إذا كانا

ص: 22

صفيقين، كما نبَّه عليه الأئمة، ومنهم الإمام ابن قدامة -رحمة الله عليه-في المغني، وغيره من أصحاب المتون المشهورة في المذهب الحنبلي - الذين يقولون بجواز المسح على الجوربين -كالإمام الحَجَّاوي في الإقناع، وابن النَّجَّار في المُنتهى، وغيرهم رحمهم الله، كلُّهم نصُّوا على كونه صفيقاً؛ إخراجاً للخفيف الذي يصف البشرة، أو يكون غير ثخين. ا. هـ

(شرح زاد المستقنع للشنقيطي ص: 215)

ص: 23

‌ممن حكى الإجماع على أنَّ الجورب إذا كان رقيقاً، فإنه لا يجوز المسح عليه:

* الحافط ابن القَطَّان 628 هـ رحمه الله-حيث قال:

"وأجمع الجميع أنَّ الجوربين إذا لم يكونا كثيفين لم يجز المسح عليهما". (الإقناع في مسائل الإجماع 1/ 90).

* الفقيه الأصولي المحدث علاء الدين الكاساني الملقب بـ (ملك العلماء) 587 هـ-رحمه الله حيث قال:

"وأمَّا المسحُ على الجورَبين فإنْ كانا مجلَّدين أو مُنعَّلين يُجزئُه بلا خلافٍ عند أصحابنا، وإنْ لم يكونا مجلَّدين ولا منعَّلين فإنْ كانا رَقيقين يَشِفَّان الماء لا يجوز المسح عليهما بالإجماع".

(بدائع الصنائع 1/ 10)

= ولذلك قال الشيخ الدكتور مصطفى ديب البغا في كتابه: (بحوث في الفقه المقارن) بعد أن ذكر آراء العلماء:

"إنك ترى أنَّ الجميع أجازوا المسح على الجوربين، وأقوالهم كلها تدل على أن الجوارب المعروفة اليوم لا تنطبق

ص: 24

عليها صفات الجوارب التي يصحُّ المسح عليها، ولذا: لا دليل، ولا حجة، ولا معتمد لمن يجيز المسح عليها إلا التَّمسك بالاسم، وهذا ليس بمستند لحكم شرعي". ا. هـ

إذن فالذي يمسح على الجوربين العاديين لا تصح صلاته؛ إذْ إنَّ حدثه لم يرتفع، ووضوءَه لم يصح، ومن يفتي بذلك فقد خالف اتفاق الأُمَّة عبر العصور، وهو يتحمل إثم ذلك أمام الله تعالى.

وقد قال العَلَّامَة المحقق عبد الحميد طهماز-رحمه الله:

" قلَّ أنْ تتوفر هذه الشروط في الجوارب التي تُصنَعُ في هذا العصر، وقد كان الجورب يُتخذ من جلد يُلْبَسُ في القدم إلى الساق لا على هيئة الخُفِّ، أو يتخذ من غزل الصوف المفتول، يُلبَسُ في القدم إلى ما فوق الكعب، وقد اتفق الأئمة على عدم جواز المسح على الجوربين الرقيقين اللَّذينِ يشفَّان".

(الفقه الحنفي في ثوبه الجديد 1/ 98)

ص: 25

‌خلاصة وإضافة:

وخلاصة المسألة في المسح على الجوربين بعد الرجوع إلى مَظانِّها في بطون أمهات الكتب الفقهية في المذاهب الأربعة:

* أنه يجوز المسح على الجوربين باتفاق المذاهب الأربعة إذا كان الجوربان مُجلَّدين أو مُنعَّلين

(1)

ولا يَشِفُّ الجلد من تحتهما.

* أما إذا لم يكن الجوربان كذلك ففي المسألة خلاف:

1 -

فعند المالكية -وأحد قولَي أبي حنيفة- لا يصح المسح عليهما.

2 -

وعند الحنابلة والصاحبين من الحنفية، وهو المفتى به في المذهب الحنفي يجوز المسح بشرطين:

أحدهما: أن يكون الجورب صفيقاً لا يَشفّ الجلد من تحته.

والثاني: أن يمكن متابعة المشي عليه عرفاً.

(1)

وقد سَبقَ أنَّ الفرقَ بين المنعل والمجلد، أن المنعل ما جعل في أسفله جلدة، والمجلد ما جعل على أعلاه وفي أسفله.

ص: 26

3 -

أما الشافعية فهم أيضاً اشترطوا لجواز ذلك شرطين، لكن أحدهما متفق عليه بينهم، وهو: أن يكون الجورب صفيقاً، والثاني محل خلاف، فمنهم من يشترط أن يكون منعلاً، ومنهم من جوزه مطلقاً مادام يمكن تتابع المشي عليه وإن لم يكن منعلاً كما حقق النووي رحمه الله.

ومن هنا نعلم -وأؤكد مرة ثانية وثالثة-أنَّ الجورب الذي نَلبَسُهُ اليوم لا يصح المسح عليه على أي قول من أقوال المذاهب الأربعة، حتى عند القائلين بجواز المسح على الجوربين

(1)

؛ لأن المجيزين اشترطوا في الجورب شروطاً وأوصافاً تختلف تماماً عن الجوارب التي نَلْبَسُها اليوم، فهم يشترطون أن يكون الجورب سميكاً يمكن المشي عليه عادة بدون نعل أو حذاء، وهذا ما لا يتأتى في جوارب اليوم.

فأخبروني بربكم بعد أن قرأنا هذه الشروط، والشرط المتفق عليه عند الأئمة الأربعة "مِنْ كَوْن الجورب مِمَّا يُمكِنُ مُتابعةُ المشيِ المعتَاد فِيه"، إن لم نقل كما قال الشافعية: -بقدر ما

(1)

وهو ما ينسج من الصوف الغليظ، وقد يكون من القماش أو غيره.

ص: 27

يحتاج إليه المسافر في حوائجه عند الحط والترحال- كيف نُرخص لأنفسنا المسح على جواربنا اليوم التي في الحقيقة لا تصلح أن يسير بها الإنسان خطوات خارج البيت لِرقّتها وضعفها؟!.

وبذلك يتبيَّنُ لنا على وجه اليقين أنَّ جوارب عصرنا لا تشبه جوارب عصر السّلف الأول إلَّا بالاسم.

وإنني لأعلم أن بعض المعاصرين يفتي بجواز المسح على الجوربين الرقيقين؛ لكنه للأمانة العلميَّة قول شاذٌ لا اعتبار له، ولا صحة في عزو ذلك لمذهب الإمام أحمد

(1)

.

* ثم عندي سؤال لكل من يمسح على الجوارب المعاصرة:

كيف يرتاح قلبك لفتوى خالفت قول جمهور السلف الذين قاربوا عصر النبوة؟! ثم كيف تُعرِّضُ صحةَ وضوئِك ثم صحة صلاتك لخطر الفتوى؟!

كيفَ يطمئن قلبك وأنت تعلم أن وضوئك غير صحيح

(1)

انظر تحرير مذهب الإمام أحمد في هذه المسألة في كتاب "الحق الحقيق في حكم المسح على الجورب الرقيق" للشيخ نضال آله رشي ص: 16 إلى 20.

ص: 28

عند الجمهور من الفقهاء؛ صحيح عند بعض المعاصرين؟!!.

ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: {دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ} [رواه الترمذي والنسائي]، فالرُّخَصُ لا تُناط بالشكّ، ولا عِبرَةَ بالظَّنِّ البَيِّنِ خَطَؤُهُ، كما هي القاعدة الفقهية الأصولية، والأحكام لا تثبت بالاحتمالات، والأصل كما هو معلوم غسل القدمين، كما هو ظاهر القرآن، والعدول عنه لا يجوز إلا بأحاديث صحيحة اتفق على صحتها أئمة الحديث كأحاديث المسح على الخُفين، فالاحتياط للعبادة أن نقصر المسح على الخُفِّ أو على جوارب مجلدة أو منعلة أو ما كان في حكمهما، ولأن المسح على الخُفَّين رخصةٌ جاءت على صفة مخصوصة فيقتصر الحكم على الوارد، والقياس في مثل هذا ضيق جداً .. ، والخروج من اختلاف العلماء أفضل لأنه أبعد عن الشبهة.

وقد كان أبو عبد الرّحمن العمريّ الزّاهد يقول: "إِذَا كَانَ الْعَبْدُ وَرِعاً تَرَكَ مَا يُرِيبُهُ إِلَى مَا لَا يُرِيبهُ".

[الورع لابن أبي الدنيا ص: 54]

ص: 29

وقال صلى الله عليه وسلم: {وخَيْرُ دِينِكُمْ الوَرَعُ}

[الحاكم في المستدرك 1/ 170 قال الذهبي: على شرطهما]

وفي هذا القدر كفاية لأهل الدّراية، ولذوي العناية، ولمن أشرقت روحه بأنوار الهداية، والله الهادي إلى سواء السبيل.

نسأل الله السَّداد في الأقوال والأفعال والأحوال، وآخر دعوانا أَنِ الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ.

وكتبه:

محمد مهدي قشلان

رجاء دعوة صالحة 1443 هـ ـ 2022 م

ص: 30