المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الرسالة الخامسة عشرة   كتاب تنبيه الولاة والحكام على أحكام شاتم خير - تنبيه الولاة والحكام على أحكام شاتم خير الأنام أو أحد أصحابه الكرام عليه وعليهم الصلاة والسلام

[ابن عابدين]

فهرس الكتاب

الرسالة الخامسة عشرة

كتاب تنبيه الولاة والحكام على أحكام شاتم خير الأنام أو أحد أصحابه الكرام

عليه وعليهم الصلاة والسلام

تأليف أعلم علماء زمانه أفضل فضلاء أوانه خاتمة المحققين عمدة الجهابذة المدققين مولانا السيد الشريف السيد محمد عابدين عليه رحمة أرحم الراحمين

ص: 313

الرسالة الخامسة عشر

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي شرع لنا شرعا رصينا احكمه غاية الاحكام * وفرض على عباده اتباع ما بينه لهم من الاحكام * وجدلهم حدودا نهى عن تعديها وعن الزيادة فيها واناطها بالولاة والحكام * وجعلها زاجرة عن الطغيان والعدوان وارتكاب الحوب والآثام * فهي في الحقيقة رحمة لعباده اذبها بقاء هذا العام على اتم نظام * ولما كانت اشد العقوبات امر بدرئها بالشبهات فلا يثبت الحد الا بسند قوي تام * فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه وربما وقع في الحمى من حوله حام * فلذلك أمرنا بدره القتل عمن اظهر الاسلام * وان دلت قرائن على ان اسلامه كان خوفا من الجسام * ومن رحمته تعالى ان قيض لهذه الشريعة امناء نفوا عنها الشكوك والاوهام * واذن لصغيرهم بالا ستدراك على كبيرهم وان كان من الاعلام * حيث ظهر الحق واتضح وضوح البدر في ليلة التمام * فالحق لا يخفى ومصباحه لا يطفا وان عم الظلام * وافضل الصلاة واتم السلام * على سيدنا محمد خاتم الانبياء الكرام وصفوة الملك العليم العلام * المبعوث رحمة للعالمين وقدوة للعاملين من خاص وعام * والمطهر من كل دنس وعيب والمبرأ عن كل وصمة وريب والموصوف بالعفو والصفح والاخلاق العظام * الذي عظمت رأفته ورحمته بسائر الخلق وفاقت محاسنه في الخلق والخلق على سائر الانام * وجاء بالايات البينات والمعجزات الواضحات ووجبت طاعته وتعظيمه على ذوى الحلم والاحلام * فمن اطاعه فقد اطاع الله ومن عصاه فقد الله وباء بسوء المنقلب فى ساعة القيام * صلاة وسلاما لائقين بجنابه الاقدس وعلو مقامه الانفس عدد ثمر الاكمام * وقطر الغمام لا يعتريهما انقضاء ولا انصرام * على مر الليالي والايام * والشهور والاعوام * وعلى آله واصحابه واحبابه واحزابه مصابيح الظلام * وبدور التمام (اما بعد) فيقول العبد الفقير والعاجز الحقير محمد امين الشهير بابن عابدين * عمه مولاه بالانعام * وغفر له ولوالديه ولمن له حق عليه ومنحه واياهم حسن الختام (هذا) كتاب سميته تنبيه الولاة والحكام على احكام شاتم خير الانام * او احد اصحابه

ص: 314

الكرام * عليه وعليهم الصلاة والسلام * وكان الداعي لتأليفه * ووضعه وترصيفه * انى كنت ذكرت في كتابي العقود الدريه * تنقح الفتاوى لحامديه نبذة من احكام هذا الشقى اللعين * الذى خلع من عنقه ربقة الدين * بسبب استطالته على سيد المرسلين * وحبيب رب العالمين * ولكنى على حسب ما ظهر لى من النقول والادلة القوية * اظهرت الانقياد وتركت العصبية * وملت الى قبول توبته وعدم قتله ان رجع الى الاسلام وان كان لا يشفى صدرى منه الا احراقه وقتله بالحسام * ولكن لا مجال للعقل * بعد اتضاح النقل * وكان قد اطلع على تلك النبذة التي كتبتها علامة عصره * ويتيمة دهره * ذو الفضل الظاهر* والذكاء الباهر والعلوم الغزيرة * والمزايا الشهيرة * الشيخ عبد الستار افندى الاتاسى مفتى حمص حالا * زاده الله تعالى مجدا واجلالا * فسنح له بعض اشكالات في تلك المسئلة * اذ هى من اعظم المعضلات المشكله * قد زلت فيها افهام المهرة الكمله * فترجح عنده قتل هذا الشقى وان تاب * وارسل الى ما سنح له طالبا للجواب * لاظهار الحق والصواب * ودفع الشك والارتياب * فقصدت اولا أن اذكر الجواب عما طلب * على وجه الاختصار كما كتب * ثم لما رأيت تلك المسئلة * مشكلة معضله * يحار معانيها في فهم معانيها * وكان ذلك متوقفا على مقدمات * ونقل عبارات * يستدعيها المقام * فاقتضى ذلك نوع بسط في الكلام لتوضيح المرام * فانى لم ار من أئمتنا الحنفية من اوضح هذه المسئلة حق الايضاح ولكن اذا غابت الشمس يستضاء بالمصباح * واما غير ائمتنا فقد بسطوا فيها الكلام فمن المالكية الامام القاضي عياض فى اواخر كتابه الشفاء * ثم تبعه على ذلك من الحنابلة الإمام شيخ الاسلام ابو العباس احمد بن تيميه الف فيها كتابا ضخما سماه الصارم المسلول * على شاتم الرسول * وقد رأيت الآن منه نسخة قديمة عليها خطه رحمه الله تعالى * ثم تبعه على ذلك من الشافعية خاتمة المجتهدين تقى الدين ابو الحسن على السبكي والف فيها كتابا سماه السيف المسلول على من سب الرسول فتطفلت على موائد هؤلاء الكرام * وجمعت كتابي هذا من كلامهم وكلام غيرهم من الإعلام * ورتبته على بابين (الباب الاول) فى حكم ساب سيد الأحباب (الباب الثانى) فى حكم ساب احد الاصحاب" وقدمت على الشروع في المقصود قولى اللهم فاطر السموات والارض عالم الغيب والشهادة انت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدنى لما اختلف فيه من الحق باذنك انك تهدى من تشاء الى صراط مستقيم وسددنى واعصمنى من الزيغ والهوى

ص: 315

واحفظ قلبي ولساني وقلمى فى هذا المقام العظيم عن الخطأ في حكمك انك على كل شيء قدير لا عاصم الا انت يا ارحم الراحمين، واجعل ذلك السعى مشكورا خالصا لوجهك الكريم يرضيك ويرضى حبيبك جدى المصطفى الذى لم يحمل لتاخير فى الدنيا والاخرة الا بواسطته صلى الله تعالى عليه وسلم واختم لنا بخير في عافية بلا محنة وادخلنا بشفاعته جنتك يارب العالمين (الباب الاول) فى حكم ساب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وفيه ثلاثة فصول * احدها في وجوب قتله اذا لم يتب * والثانى فى توبته واستتابته وتحرير مذهب أبي حنيفة في ذلك * والثالث في حكم سابه من اهل الذمه (الفصل الاول) فى وجوب قتله اذا لم يتب وذلك مجمع عليه والكلام فيه فى مسئلتين * احداهما في نقل كلام العلماء في ذلك ودليله * والثانية فى انه يقتل كفرا او حدا مع الكفر (المسئلة الاولى) قال الامام خاتمة المجتهدين تقى الدين ابو الحسن على بن عبد الكافى السبكي رحمه الله تعالى في كتابه السيف المسلول على من سب الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم قال القاضي عياض اجمعت الامة على قتل منتقصة من المسلمين وسابه قال ابو بكر ابن المنذر أجمع عوام اهل العلم على ان من سب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عليه القتل وممن قال ذلك مالك بن انس والليث واحد واسحاق وهو مذهب الشافعي قال عياض وبمثله قال ابو حنيفة واصحابه والثورى واهل الكوفة والاوزاعى فى المسلم وقال محمد بن سحنون اجمع العلماء على ان شاتم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم والمنتقص له كافر والوعيد جار عليه بعذاب الله تعالى له ومن شك في كفره وعذابه كفر وقال ابو سليمان الخطابي لا اعلم احدا من المسلمين اختلف في وجوب قتله اذا كان مسلما * وعن اسحاق بن راهويه أحد الائمة الاعلام فال اجمع المسلمون ان من سب الله تعالى او سب رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم او دفع شيئا مما انزل الله تعالى او قتل نبيا من انبياء الله عز وجل انه كافر بذلك وان كان مقررا بكل ما انزل الله تعالى * وهذه نقول معتضدة بدليلها وهو الاجماع. ولا عبرة بما اشار اليه ابن حزم الظاهرى من الخلاف في تكفير المستخف به فانه شيء لا يعرف لاحد من العلماء ومن استقرأ سير الصحابة تحقق اجماعهم على ذلك فانه نقل عنهم في قضايا مختلفة منتشرة يستفيض نقلها ولم ينكره احد * وما حكى عن بعض الفقهاء من انه اذا لم يستحل لا يكفر زلة عظيمة وخطا عظيم لا يثبت عن احد من العلماء المعتبرين ولا يقوم عليه دليل صحيح، فاما الدليل على كفره فالكتاب والسنة والاجماع والقياس (اما الكتاب) فقوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا

ص: 316

مُهِينًا} وقوله تعالى {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وقال تعالى {مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61)} فهذه الآيات تدل على كفره وقتله والاذى هو الشر الخفيف فان زاد كان ضررا كذا قال الخطابي وغيره (واما السنة) فقول النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في الحديث الثابت في الصحيحين لما خطب في قصة الافك واستعذر من عبد الله بن ابي بن سلول فقال من يعذرني من رجل بلغنى اذاه فى اهلى فقال سعد بن معاذ سيد الأوس انا يا رسول الله اعذرك منه ان كان من الاوس ضربت عنقه وان كان من اخواننا الخزرج امرتنا ففعلنا امرك فقول سعد بن معاذ هذا دليل على ان قتل مؤذيه صلى الله تعالى عليه وسلم كان معلونا عندهم واقره النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ولم ينكره ولا قال له انه لا يجوز قتله (ومن) السنة ايضا حديث عبد الله بن سعد بن ابي سرح وهو في سنن ابي داود من حديث نصر بن اسباط عن السدى عن مصعب بن سعد عن سعد قال لما كان يوم فتح مكة امن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الناس الا اربعة نفر وامرأتين وسماهم وابن ابى سرح فيلما دعا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الى البيعة جاء به عثمان رضى الله تعالى عنه حتى اوقفه على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال يا رسول الله بايع عبد الله فرفع رأسه فنظر اليه مليا كل ذلك يأبى فبايعه بعد ثلاث ثم اقبل على اصحابه فقال ما كان منكم رجل رشيد يقوم الى هذا حين رآني كففت عن بيعته فيقتله فقالوا ما ندري يا رسول الله ما في نفسك الا (بفتح الهمزة وتشديد اللام) اومأت الينا قال انه لا ينبغي لنبي ان تكون له خائنا الاعين واخرجه النسائى ايضا واسماعيل السدى واسباط بن نصر روي لهما مسلم وفيه ما كلام لكن الحديث مشهور جدا عند اهل السير كلهم وكان ابن ابي سرح يكتب الوحى لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ثم ارتد مشركا وصار الى قريش بمكة فقال انى كنت اصرف محمدا حيث اريد من قولى عزيز حكيم او علم حليم فيقول نعم كل صواب فلما كان بعد الفتح امر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بقتله وقتل جماعة وهؤلاء الذين اهدر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم دمهم منهم من كان مسلما فارتد كابن ابى سرح وانضاف الى ردته ما حصل منه في حق النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فلذلك اهدر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم دمه حتى جاء به عثمان رضي الله تعالى عنه فبايعه صلى الله تعالى عليه وسلم وهو بلاشك دليل على قتل العاب قبل التوبة (ومن) السنة ايضا ما رواه القاضى عياض ان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال من سب نبيا فاقتلوه ومن سب

ص: 317

اصحابي فاضربوه وفيه عبد العزيز بن محمد بن الحسين بن زباله فقد جرحه ابن حبان وغيره وقد رواه ايضا الخلال والازجى من حديث على بن ابى طالب قال قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من سب نبيا قتل ومن سب اصحابي جلد وابن الصلاح لم يقف على اسناده فينبغى النظر فيه (واما الاجماع) فقد تقدم (واما القياس) فلان المرتد ثبت قتله بالاجماع والنصوص المتظاهرة ومنها قوله صلى الله تعالى عليه وسلم من بدل دينه فاقتلوه والساب مرتد مبدل لدينه وتمام الادلة في السيف المسلول وغيره اقتصرنا منها على هذه النبذة اليسيرة (المسئلة الثانية) في ان قتل الساب للكفر أو للحد اعلم ان المرتد يقتل بالاجماع كما مر وتوبته مقبولة باجماع اكثر العلماء اذا لم يكن زنديقا وروى عن الحسن البصرى انه لا تقبل توبة المرتد بل يقتل وان اسلم وهو خلاف المشهور من مذهب الصحابة والتابعين ومن بعدهم ثم لاشك ان قتله اذا لم يتب ليس كقتل الكافر الا صلى الحربي حيث يتخير فيه الامام بين القتل والاسترقاق ووضع الجزية عليه حتى يصير له ما لنا ولا يجبر على الإسلام والمرتد بخلاف ذلك فانه يجبر على الاسلام ويقتل ان ابى وكان ذكرا بالغا ولا يؤمن ولا يسترق ولا توضع عليه الجزية فعلم ان العلة في هذا الحكم ليس هو مطلق الكفر بل خصوص الردة ممن كان مسلما فتكون الردة كفرا خاصا يوجب القتل للرجل على وجه لا تخبير فيه ان لم يسلم ويكون القتل عقوبة خاصة واجبة لله تعالى مرتبة على خصوص الردة كما رتب الرجم على زنا المحصن. وبهذا يظهر لك ان قتل المرتد حد لان الحد فى اللغة المنع ومنه سمى البواب حداد المنعه عن الدخول وكذا السبحان لمنعه عن الخروج وسميت العقوبات الخالصة حدودا لانها موانع عن المعاودة الى ارتكاب اسبابها * وفى الشريعة كما فى الكنز والهداية وغيرهما عقوبة مقدرة الله تعالى فتخرج التعزير لعدم التقدير فيه وخرج القصاص لأنه حق العبد فلا يسمى حدا اصطلاحا على المشهور والحد لا يقبل الاسقاط بعد ثبوت سببه فلا تجوز الشفاعة فيه ولذا انكر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم على اسامة بن زيد حين شفع فى المخزومية التي سرقت فقال اتشفع في حد من حدود الله تعالى قال فى البحر والتحقيق ان الحدود موانع قبل الفعل زواجر بعده اي ان العلم بشرعيتها يمنع الاقدام على الفعل وايقاعه بعده يمنع من العود اليه فهى من حقوق الله تعالى لانها شرعت مصلحة تعود الى كافة الناس فكان حكمها الأصلى الانزجار عما يتضرر به العباد وصيانة دار الاسلام عن الفساد ففي حد الزنا صيانة الانساب وفي حد السرقة صيانة الاموال وفى حد الشرب صيانة العقول وفى حد

ص: 318

القذف صيانة الاعراض فالحدود اربعة انتهى (اقول) اى على ما ذكروه في كتاب الحدود والا فهى اكثر منها اذ منها حد قاطع الطريق باقسامه الاربعة وكذا منها حد المرتد اذ هو اعظم مصلحة تعود الى العباد لان فيه حفظ الدين الذي هو اعظم من حفظ الاربعة المذكورة ولو ترك المرتد بلا قتل لتتابع ارتداد كثير من ضعفة الايمان و كأن علماءنا اقتصروا فى كتاب الحدود على الاربعة المذكورة وذكروا حد قطاع الطريق والمرتدين فى كتاب الجهاد لمناسبة القتال معهم وتجهيز الجيوش والله تعالى اعلم (فان قلت) كون قتل المرتد حدا ينافي ما صرحوا به من ان الحد لا يسقط بالتوبة والمرتد بعد ثبوت ردته اذا تاب واسلم تصبح توبته ولا يقتل (قلت) قتل المرتد لم يجب الخصوص الردة بل وجب لها ولارادته البقاء على الكفر والعلة ذات الجزئين تنتفى بانتفاء احدهما فلا تبقى الردة موجبة للقتل وحدها بعد العود الى الاسلام لان القتل جزاء الفعلين معا ولذا يعرض عليه الاسلام اولا ان لم يسلم فهو انما يسمى حدا ما دام باقيا على ردته لانه جزاء كفره والمقصود الاعظم منه اجباره بالعود الى الاسلام فاذا اسلم حصل المقصود وكان مقتضى القياس ان لا يسقط بعد وجوبه كباقى الحدود ولعل هذا وجه ما روي عن الحسن البصرى من انه يقتل وان اسلم لكن ترك عامة العلماء ذلك القياس لوجود النصوص منها قوله تعالى {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} وقوله صلى الله تعالى عليه وسلم (الاسلام يجب ما قبله) وذلك عام في كل كافر فيشمل المرتد على ان الزاني اذا ثبت عليه الزنا بإقراره بشروطه ثم رجع لا يحد * فقد ظهر لك مما قررناه ان قتل المرتد حد وان لم ار من صرح به من ائمتنا الحنفية نعم هو داخل تحت تعريفهم الجد كما علمت وان قلنا انه ليس بحد لا يضرنا وانما المراد تحقيق المسئلة بل عدم تسميته حدا انفع لنا فى اثبات مطلوبنا الآتى (فان قلت) اذا كان قتل المرتد حد الزم اقامته على الرجال والنساء كما هو شان الحدود (قلت) كان القياس ذلك ولكن اخرج منه النساء عندنا لهن للكفر هذا كله ما ظهر لى من القواعد الفقهيه وهو ما حققه الامام السبكى ونقله عن جماعة ثم قال وليس يلزم من كونه حدا ان لا يسقط بالاسلام الا ترى انا اختلفنا في حد الزنا هل يسقط بالتوبة ام لامع الاجماع على تسميته حدا فلا يمتنع ان يكون قتل المرتد حدا وان سقط بالاسلام ومن ظن انا متي سميناه حدا لا يسقط بالاسلام فهو غالط انتهى (اذا علمت) ذلك فتقول الساب المسلم مرتد قطعا فالكلام فيه كالكلام في المرتد فيكون قتله حدا ايضا لكن هل قتله لعموم الردة او لخصوص الشتم او لهما معا محل نظر وربما اشعر حديث

ص: 319

من سب نبيا فاقتلوه مع حديث من بدل دينه فاقتلوه ان قتله لهما معا لان تعليق الحكم على الوصف يشعر بان الوصف هو العلة وقد علق القتل في الاول على السب فاقتضى انه علة الحكم وعلق فى الحديث الآخر على التبديل فاقتضى انه علة الحكم ايضا ولا مانع من اجتماع علتين شرعيتين على معلول واحد ولكن قد يقال ان السب لم يكن علة لذاته بل لكونه ردة لانه المعنى الذي يفهمه كل احد وكون السب بخصوصه هو علة القتل يحتاج الى دليل اذ لا شك ان السب كفر خاص فيدخل تحت عموم من بدل دينه فاقتلوه وبالاسلام تزول علة القتل لأن معنى فاقتلوه اي ما دام مبدلا لدينه لما علمت من اتفاق جهور الأئمة على قبول توبة المرتد ودرء القتل عنه بالاسلام ويدل على ان العلة الكفر لا خصوص السب عندنا ان الساب اذا كان كافرا لا يقتل عندنا الا اذار اه الامام سياسة ولو كان السب هو العلة لقتل به حدا لا سياسة فاحفظ هذا التقريره فانه ينفعك فيما سيأتى مع مزيد تحرير (الفصل الثاني) في توبته واستتابته وتحرير مذهب ابي حنيفة فى ذلك وفيه ثلاث مسائل (المسئلة الاولى) فى قول توبته بالاسلام اعلم انه قد اختلف العلماء فيه قال في الشفاء قال ابو بكر بن المنذر اجمع عوام اهل العلم على ان من سب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يقتل * وممن قال ذلك مالك ابن انس والليث واحد واسحاق وهو مذهب الشافعي وهو مقتضى قول ابى بكر رضى الله تعالى عنه ولا تقبل توبته عند هؤلاء. وبمثله قال ابو حنيفة واصحابه والثورى واهل الكوفة والاوزاعى فى المسلم لكنهم قالوا هي ردة * وروى مثله الوليد بن مسلم عن مالك * وروى الطبرى مثله عن ابي حنيفة واصحابه فيمن ينقصه صلى الله تعالى عليه وسلم او برئ منه او كذبه وقال سحنون فيمن سبه ذلك ردة كالزندقة ثم نقل عن كثير من المتهم المالكية نحو ذلك وذكر الادلة على ذلك * وقال فى محل اخر قال ابو حنيفة واصحابه من برئ من محمد او كذب به فهو مرتد حلال الدم الا ان يرجع وقال في الباب الثاني في حكم سابه وشانئه ومنتقصه ومؤذيه وعقوبته قد قدمنا ما هو سب وأذى فى حقه عليه الصلاة والسلام وذكرنا اجماع العلماء على قتل فاعل ذلك وقائله او تخيير الامام في قتله او صلبه على ما ذكرناه وقررنا الحجج عليه * وبعد فاعلم ان مشهور مذهب مالك واصحابه وقول السلف وجمهور العلماء قتله حدا لا كفرا ان اظهر التوبة منه ولهذا لا تقبل عندهم توبته ولا تنفعه استقالته وحكمه حكم الزنديق سواء كانت توبته بعد القدرة عليه والشهادة على قوله او جاء تائبا من قبل نفسه لانه حد وجب لا تسقطه التوبة كسائر الحدود قال القابسي اذا اقر بالسب وتاب منه

ص: 320

واظهر التوبة قتل بالسب لانه هو حد، وقال محمد بن ابي زيد مثله واما ما بينه وبين الله تعالى فتوبته تنفعه وقال ابن سحنون من شتم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم من الموحدين ثم تاب لم تزل توبته عنه القتل وكذلك قد اختلف في الزنديق اذا جاء تائبا قال القاضي عياض ومسئلة ساب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أقوى لا يتصور فيها الخلاف لانه حق متعلق للنبي ولامته بسببه لا تسقطه التوبة كسائر حقوق الادميين والزنديق اذا تاب بعد القدرة عليه فعند مالك والليث واسحق واحمد لا تقبل توبته وعند الشافعى تقبل واختلف فيه عن ابي حنيفة وابي يوسف وحكى ابن المنذر عن على بن ابى طالب رضى الله تعالى عنه يستتاب * قال محمد بن سحنون ولم يزل القتل عن المسلم بالتوبة من سبه عليه الصلاة والسلام لأنه لم ينتقل من دين الى غيره وانما فعل شيئًا حده عندنا القتل لا عفو فيه لاحد كالزنديق لانه لا ينتقل من ظاهر الى ظاهر وقال القاضي ابو محمد بن نصر محتجا لسقوط اعتبار توبته والفرق بينه وبين من سب الله تعالى على مشهور القول باستتابته ان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بشر والبشر جنس تلحقهم المعرة الا من اكرمه الله تعالى بنبوته والبارى تعالى منزه عن جميع المعايب قطعا وليس من جنس تلحق المعرة لجنسه وليس سبه عليه السلام كالارتداد المقبول فيه التوبة لان الارتداد معنى ينفرد به المرتد لا حق فيه لغيره من الادميين فقبلت توبته (ثم) قال القاضي عياض وكلام شيوخنا هؤلاء مبنى على القول بقتله حدا لا كفرا واما على رواية الوليد بن مسلم عن مالك

(1)

ومن وافقه على ذلك ممن ذكرناه وقال به من اهل العلم فقد صرحوا انه ردة قالوا ويستتاب منها فان تاب نكل (بتشديد الكاف) وان ابى قتل فحكم له بحكم المرتد مطلقا فى هذا الوجه والوجه الأول اشهر واظهر لما قدمناه انتهى (المسئلة الثانية) فى استتابة الساب قال القاضي عياض اذا قلنا بالاستتابة حيث تصح فالاختلاف فيها على الاختلاف فى توبتة المرتد اذ لافرق فقد اختلف السلف في جوبها وصورتها ومدتها فذهب الجمهور من اهل العلم الى ان المرتد يستتاب وحكى ابن القصار انه اجماع من الصحابة الى اخر ما ذكره في الشفاء. وقال الام السبكي لاشك ان من قال لا تقبل توبتة يقول انه لا يستتاب واما من يقول بقبول

(1)

قوله ومن وافقه على ذلك ممن ذكرناه اى بقوله اولا و بمثله قال ابو حنيفة واصحابه والثورى واهل الكوفة والاوزاعى انتهى فهؤلاء كلهم وافقوا الوليد بن مسلم عن مالك على انه ردة يستتاب منها كما دل عليه قوله فيما مر وروى مثله الوليد بعد قوله لكنهم قالوا هي ردة منه

ص: 321

توبته فظاهر كلامهم انهم يقولون باستتابته كما يستتاب المرتد بل هو فرد من افراد المرتدين الى آخر ما ذكره فى السيف المسلول من نقل مذاهب الأئمة والاستدلال لها * وسيأتى فى المسئلة الثالثة تصريح أئمتنا بان حكمه حكم المرتدين ويفعل به ما يفعل بهم وح فيجرى فيه ما ذكره اصحاب المتون قال في الكنز يعرض الاسلام على المرتد وتكشف شبهته ويحبس ثلاثة ايام فان اسلم والا قتل واسلامه ان يتبرأ عن الاديان او عما انتقل اليه وكره قتله قبله ولم يضمن قاتله * ولا تقتل المرتده بل تحبس حتى تسلم انتهى وظاهر المذهب ان العرض مستحب عندنا لا واجب وانه بعد العرض يقتل من ساعته الا اذا طلب الاستمهال او كان الامام يرجو اسلامه واذا استمهل فظاهر المبسوط الوجوب وفى رواية يستحب امهاله مطلقا وتمام ذلك مبين في فتح القدير والبحر وغيرهما فلا نطيل بذكره (المسئلة الثالثة) في تحرير حكم الساب على مذهب ابى حنيفة وهو المقصود من هذا الكتاب اعلم انه قد تحصل من كلام القاضي عياض ان فى الساب روايتين عن الامام مالك (الاولى) أنه يقتل حدا لا كفرا اى ان السب فى نفسه حده القتل عنده مع قطع النظر عن كونه مكفرا وعليها لا يسقط عنه القتل بتوبته واسلامه (والرواية) الثانية رواية الوليد عن مالك ومن وافقه انه ردة فحكمه حكم سائر المرتدين فتقبل توبته وبه ظهران قول القاضي عياض الذى نقلناه اول هذا الفصل وبمثله قال ابو حنيفة واصحابة الخ يرجع الضمير فى قوله وبمثله الى القتل المذكور ضمنا في قوله يقتل لا الى عدم قبول التوبة المذكور ضمنا فى قوله ولا تقبل توبته بدليل قوله لكنهم قالوا هي ردة حيث استدرك به على المثلية فان قوله وبمثله يوهم ان ابا حنيفة ومن ذكر معه قائلون بأنه يقتل وبانه لا تقبل توبته فاستدرك بقوله لكنهم قالوا هي ردة اى فيقتل ان لم يتب كما هو حكم الردة ولو لم يكن المراد ذلك لما صح الاستدراك لانه لم يخالف احد من المسلمين في كونها ردة وانما اختلفوا فيما زاد على كونها ردة وهو عدم قبول التوبة فابو حنيفة ومن ذكر معه قالوا حكمه حكم المرتد بلا زيادة وهو معنى قوله لكنهم قالوا هي ردة * وبدليل قوله وروى مثله الوليد بن مسلم عن مالك فانك علمت ان رواية الوليد عن مالك أنه ردة ويستتاب منها وبدليل قوله وروى الطبرى مثله عن ابي حنيفة واصحابه بعد ذكره رواية الوليد المذكورة فظهر قطعا من كلامه ان قبول التوبة بمعنى انه لا يقتل هو قول ابي حنيفة واصحابه والثورى واهل الكوفة والاوزاعى وانه هو رواية الوليد ابن مسلم عن مالك وان الرواية المشهورة عن مالك عدم قبول التوبة بناء على ان القتل حدوان هذه الرواية قال

ص: 322

بها احمد والليث والشافعى لكن ما نقله عن الامام احمد هو المشهور من مذهبه * واما ما نقله عن الامام الشافعى فهو خلاف المشهور من مذهبه نعم هو موافق لما قاله ابو بكر الفارسي من الشافعيه من انه كما لا يسقط حد القذف بالتوبة لا يسقط القتل الواجب بسب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بالتوبة وادعى فيه الاجماع ووافقه الشيخ ابو بكر القفال واستحسنه امام الحرمين * قال الامام السبكى ولكن المشهور على الالسنة وعند الحكام وما زالوا يحكمون به على ان مذهب الشافعي قبول التوبة ثم اول كلام الفارسي بان مراده السب بالقذف بالزنا قال ولهذا اختلفت عبارات الناقلين لكلام الفارسي وامام الحرمين ذكره بلفظ القذف وصرح بعدم قبول التوبه * ثم قال السبكى وحاصل المنقول عند الشافعية أنه متى لم يسلم قتل قطعا ومتى اسلم فان كان السب قذفا فالاوجه الثلاثة هل يقتل او يجلد او لا شئ وان كان غير قذف فلا اعرف فيه نقلا للشافعية غير قبول توبته * ثم قال هذا ما وجدته للشافعية فى ذلك وللحنفية فى قبول التوبة قريب من الشافعية ولا يوجد للحنفية غير قبول التوبة وكلتا الطائفتين لم ارهم تكلموا في مسئلة السب مستقلة بل في ضمن نقض الذمى العهد وكان الحامل على ذلك ان المسلم لا يسب ثم قال واما الحنابلة فكلامهم قريب من كلام المالكية والمشهور عن احد عدم قبول توبته وعنه رواية بقبولها فذهبه كمذهب مالك سواء هذا تحرير المنقول في ذلك انتهى (اقول) فقد تحرر من ذلك بشهادة هؤلاء العدول الثقات المؤتمنين ان مذهب ابى حنيفة قبول التوبة كمذهب الشافعي (وفى) الصارم المسلول لشيخ الاسلام ابن تيمية قال وكذلك ذكر جماعة آخرون من اصحابنا انه يقتل ساب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ولا تقبل توبته سواء كان مسلما او كافرا وعامة هؤلاء لما ذكروا المسئلة قالوا خلافا لابي حنيفة والشافعي وقولهما أى ابى حنيفة والشافعى ان كان مسلما يستتاب فان تاب والا قتل كالمرتد وان كان ذميا فقال ابو حنيفة لا ينقض عهده واختلف اصحاب الشافعي فيه انتهى * ثم قال بعد ورقة قال ابو الخطاب اذا قذف ام النبي صلى الله تعالى عليه وسلم

(1)

لا تقبل التوبة منه وفى الكافر اذا سبها ثم اسلم روايتان وقال ابو حنيفة والشافعي تقبل توبته في الحالين انتهى ثم قال بعد اربع اوراق فى فصل استتابة المسلم وقبول توبته اذا سب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قد ذكرنا ان المشهور عن مالك واحمد

(1)

قوله لا تقبل التوبة منه اى لانه سب وتنقيص بل هو اعظم سب لانه طعن في النسب الشريف الطاهر المبرأ من سفاحات الجاهلية وما كانوا عليه منه.

ص: 323

انه لا يستتاب ولا يسقط القتل عنه وهو قول الليث بن سعد وذكر القاضي عياض انه المشهور من قول السلف وجمهور العلماء وهو احد الوجهين لاصحاب الشافعي وحكى عن مالك واحمد انه تقبل توبته وهو قول ابى حنيفة واصحابه وهو المشهور من مذهب الشافعي بناء على قبول توبة المرتد انتهى * فانظر كيف صرح في هذه المواضع المتعددة مع نقله عن جماعات من ائمة مذهب الحنابلة بان مذهب ابي حنيفة قبول توبته وكفى بهؤلاء الأئمة حجة فى اثبات ذلك * فقد اتفق على نقل ذلك عن الحنفية القاضي عياض والطبرى والسبكى وابن تيمية وائمة مذهبه ولم يذكر واحد منهم خلاف ذلك عن الحنفية * بل يكفى فى ذلك الامام السبكى وحده فقد قيل في حقه لو درست المذاهب الاربعة لاملاها من صدره * وهذا كله حجة فى اثبات ذلك كما ذكرنا لو خلت كتب الحنفية عن ذكر الحكم فيها ولكنها لم تخل عن ذلك (فقد رأيت في كتاب الخراج للامام ابي يوسف في باب الحكم في المرتدين عن الاسلام بعد نحو ورقتين منه ما نصه وقال ابو يوسف وايما رجل مسلم سب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم او كذبه او عابه او تنقصة فقد كفر بالله تعالى وبانت منه امرأته فان تاب والا قتل وكذلك المرأة الا ان ابا حنيفة قال لا تقتل المرأة وتجبر على الاسلام انتهى بلفظه وحروفه وقوله الا ان ابا حنيفة الخ استثناء من قوله والا قتل اى ان لم يتب قتل ولما كان قتله اذا لم يتب متفقا عليه بين ائمة الدين نبه على انه ليس على اطلاقه بل يخرج منه المرأة عند شيخه ابي حنيفة واتباعه فانها لا تقتل عندهم للنهى عن قتل النساء وقد اشار بقوله فان تاب والا قتل الى انه ان تاب سقطت عنه عقوبة الدنيا والآخرة فلا يقتل بعد اسلامه والا لم يصح قوله والا قتل فانه علق القتل على عدم توبته فعلينا ان معنى قبول توبته عندنا سقوط القتل عنه فى الدنيا ونجاته من العذاب فى الاخرة ان طابق باطنه ظاهره وهذا ايضا صريح النقول التي قدمناها فليس قبول توبته خاصا بالنسبة الى الآخرة مع بقاء حق الدنيا بلزوم قتله والا لم يبق فرق بين مذهبنا ومذهب المالكية والحنابلة القائلين بعدم قبول توبته لانهم متفقون على قبولها فى حق احكام الآخرة * فقد ثبت ان العلماء رحمهم الله تعالى حيث ذكروا القبول وعدمه في هذه المسئلة فان مرادهم به بالنسبة الى القتل الذى هو الحكم الدنيوى واما الحكم الاخروى فانه مبنى على حسن العقيدة وصدق التوبة باطنا وذلك مما يختص بعلمه علام الغيوب جل وعلا (ورأيت) في كتاب النتف الحسان لشيخ الاسلام السعدى فى كتاب المرتد ما نصه والسابع من سب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فانه مرتد وحكمه حكم المرتد ويفعل به ما يفعل

ص: 324

بالمرتد انتهى بحروفه ومعلوم ان من احكام المرتد قبول توبته وسقوط القتل عنه بها (ورأيت) في فتاوى مؤيد زاده ما نصه وكل من سب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم او ابغضه كان مرتدا واما ذووا العهود من الكفار اذا فعلوا ذلك لم يخرجوا من عهودهم وامروا ان لا يعودوا فان عادوا عزروا ولم يقتلوا كذا في شرح الطحاوى انتهى بحروفه ثم قال ومن سب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم او ابغضه كان ذلك منه ردة وحكمه حكم المرتدين شرح الطحاوى قال ابو حنيفة واصحابه من برئ من محمد او كذب به فهو مرتد حلال الدم الا ان يرجع من الشفاء انتهى (وكذلك) رأيت فى معين الحكام معزيا الى شرح الطحاوى ما صورته من سب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم او ابغضه كان ذلك منه ردة حكمه حكم المرتدين انتهى وكذا نقله في منح الغفار عن معين الحكام المذكور (وفى) نور العين اصلاح جامع الفصولين عن الحاوى

(1)

من سب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يكفر ولا توبة له سوى تجديد الإيمان انتهى (فهذه) النقول عن اهل المذهب صريحة فى ان حكم الساب المذكور اذا تاب قبلت توبته فى حق القتل وقدمنا نقول غير اهل المذهب عن مذهبنا وهي صريحة فيما ذكرنا ولم يحك احد خلافا فثبت اتفاق اهل المذهب على الحكم المذكور (وقد) صرح ائمتنا المتقدمون أيضا في عامة الكتب فى باب الردة عند ذكرهم الالفاظ المكفرة المتعلقة بسب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم او غيره من الانبياء والملائكة بقولهم كفر او بقولهم فهو كافر * قال فى التتار خانيه من لم يقر ببعض الانبياء او عاب نبيا بشئ أو لم يرض بسنة من سنن المرسلين صلى الله تعالى عليهم وسلم فقد كفر * وفى التتمة سئل على بن احمد عمن نسب الى الانبيا الفواحش كالرمى بالزنا ونحوه الذى يقوله الحشوية في يوسف عليه السلام قال يكفر لانه شتم لهم واستخفاف بهم وقال بعضهم لا يكفر * وقال

(1)

ثم رأيت فى حاوى الزاهدى برمز الاسرار ما نصه ولو سب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يكفر ولا توبة له سوى تجديد الايمان وقال بعض المتأخرين لا توبة له اصلا فيقتل حدا استدلالا بقوله صلى الله تعالى عليه وسلم حين نصر بفتح مكة من سب النبي فاقتلوه لكن الاصح لا يقتل بعد تجديد الايمان لانه عليه الصلاة والسلام نهى عليا رضى الله تعالى عنه عن قتل من قال لا اله الا الله محمد رسول الله من اهل مكة الذين أمره بقتلهم بما روى عنه آنفا لسبهم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قبله وهذا لان موجب سبه الكفر فموجبه القتل وتجديد الإيمان يرفع هذا الكفر فيرفع موجبه ايضا وهو القتل انتهى منه

ص: 325

ابو حفص الكبير كل من اراد بقلبه بغض النبي صلى الله تعالى عله وسلم يكفر وكذلك لو قال لو كان فلان نبيا لم اومن به فقد كفر * وفي المحيط لو قال لشعر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم شعير يكفر عند بعض المشايخ وعند البعض لا يكفر الا اذا قال ذلك بطريق الاهانة * وفى الظهيرية ان اراد بالتصغير التعظيم لا يكفر وفي الينابيع لو عاب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بشئ من العيوب يكفر وفي المحيط لو قال لا ادرى ان النبي كان انسيا او جنيا يكفر وان قال كان طويل الظفر فقد قيل يكفر لو على وجه الاهانة ولو قال للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم ذلك الرجل قال كذا وكذا فقد قيل يكفر انتهى الى غير ذلك من الالفاظ التي ذكروها واطلقوا فيها لفظ الكفر ولم يقل احد منهم لا توبة له او يقتل وان اسلم بل اطلقوا ذلك اعتمادا على ما قرروه فى اول باب الردة من بيان حكم المرتد وانه ان اسلم فيها والا قتل ولو كان حكم تلك الالفاظ المذكورة مخالفا لبقية الفاظ الردة لوجب بيانه بان يقولوا لكنه يقتل وان اسلم فعلم ان مرادهم التسوية بين جميع الفاظ الردة في قبول التوبة بالاسلام وان كانت سبا لنبي او غيره فكيف بعد التصريح بذلك كما تلوناه عليك من عباراتهم المارة (على) ان عبارات متون المذهب المعتبرة كلها ناطقة بذلك من حيث العموم (قال) فى مختصر القدورى واذ ارتد المسلم عن الاسلام عرض عليه الاسلام فان كانت له شبهة كشفت له ويحبس تلاثة ايام فان اسلم والا قتل الخ (وقال) فى متن الكنز يعرض الاسلام على المرتد وتكشف شبهته ويحبس ثلاثة ايام فان اسلم والا قتل (وقال) فى متن المختار واذا ارتد المسلم والعياذ بالله تعالى عن الاسلام يحبس ثلاثة ايام ويؤخذ عليه الاسلام فان اسلام والا قتل (وقال) فى متن الملتقى من ارتد والعياذ بالله تعالى عرض عليه الاسلام وكشفت شبهته ان كانت فان استمهل حبس ثلاثة ايام والا قتل وهكذا فى عامة المتون وكذا فى الهداية والجامع الصغير للامام محمد وغيرهما ولا شبهة ان الساب مرتد فيدخل في عموم المرتدين فهو مما نطقت به متون المذهب فضلا عن شروحه وفتاويه * ومن القواعد المقرره ان مفاهيم الكتب معتبرة ومسئلتنا هذه لو كانت ماخوذة من مفاهيم المتون لكفى مع انها داخلة فى العموم اذ مما هو مقرر فى كتب الاصول ان دلالة العام على افراده قطعية عندنا وانه يوجب الحكم فيما تناوله كما اوضحنا ذلك في حواشينا نسمات الاسحار على شرح المنار للشيخ علاء الدين المسمى افاضة الانوار * ولا يخفى ان لفظ من ارتد ولفظ المرتد المعرف بإداة التعريف عام وكذا لفظ المسلم في قول القدورى واذا ارتد المسلم ومما يدل على ارادتهم العموم فى ذلك اخراجهم المرأة من هذا العموم وتصريحهم

ص: 326

بان حكمها انها تحبس ولا تقتل وقد تقرر فى كتب الاصول ايضا ان الاستثناء من دلائل العموم * فقد ظهر لك ان عدم قتل الساب اذا اسلم وتاب منصوص عليه في المتون بعبارة النص لانه داخل تحت ما سيق له نظم الكلام لا بطريق الدلالة او الاشارة او الاقتضاء وفى غير المتون منصوص عليه بخصوصه وكفى بذلك دلالة على افادة حكمه اذ دلالة التنصيص والتصريح على الدلالات والله تعالى اعلم (فان قلت) لا نسلم ارادة العموم في عبارة المتون وان كانت عامة بدليل ان اصحاب الشروح والفتاوى ذكروا ان المختار فى الزنديق والساحر أنهما يقتلان ولا تقبل توبتهما بعد الاخذ (قلت) ما فى المتون انما هو بيان لموجب الردة لان تعليق الحكم على المشتق يؤذن بعلية الاشتقاق كما قدمناه فقولهم المرتد يقتل الا ان يسلم معناه يقتل لردته فاذا لنتفى موجب القتل بالاسلام انتفى القتل وهذا باق على عمومه لم يخرج منه شئ واما الزنديق والساحر فانما قتلا وان تابا لا لخصوص الردة وانما هو لدفع شرهم او ضررهما عن العباد كقتل البغاة والاعونة والخناق والخوارج وان كانوا مسلمين فما فى الشروح والفتاوى بيان لموجب شئ اخر غير الردة وهو السعى فى الارض بالفساد كما سيأتي توضيحه فبقى كلام المتون على عمومه شاملا للساب لان علة قتله انما هي ردته كما حققناه وسيأتى له زيادة توضيح ايضا (فان قلت) جميع ما قررته واضح ولكنا رأينا في كلام بعض المتأخرين ما يخالفه فقد قال فى البزازية ما نصه اذا سب الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم او واحدا من الأنبياء عليهم السلام فانه يقتل حدا ولا توبة له اصلا سواء بعد القدرة عليه والشهادة او جاء تائبا من قبل نفسه كالزنديق لانه حد وجب فلا يسقط بالتوبة ولا يتصور فيه خلاف لا حد لانه حق تعلق به حق العبد فلا يسقط بالتوبة كسائر حقوق الادميين وكحد القذف لا يزول بالتوبة بخلاف ما اذا سب الله تعالى ثم تاب لانه حق الله تعالى ولان النبي بشروا البشر تلحقهم المعرة الا من اكرمه الله تعالى والبارى تعالى منزه عن جميع المعايب وبخلاف الارتداد لأنه معنى ينفرد به المرتد لاحق فيه لغيره من الادميين ولكونه بشرا قلنا اذا شتمه عليه السلام سكران لا يعفى ويقتل حدا وهذا مذهب ابى بكر الصديق رضى الله تعالى عنه والامام الاعظم

(1)

والبدرى واهل الكوفة والمشهور من مذهب مالك واصحابه قال الخطابي لا اعلم احدا من المسلمين اختلف في وجوب قتله اذا كان مسلما وقال سحنون المالكي اجمع العلماء ان شاتمه كافر وحكمه القتل ومن شك فى عذابه وكفره كفر قال الله تعالى (ملعونين

(1)

قوله والبدرى كذا فى البزازية وصوابه والثورى كما في الشفاء وغيره منه

ص: 327

اينما ثقفوا اخذوا وقتلوا تقتيلا) الآية وروى عبد الله بن موسى بن جعفر عن على بن موسى عن ابيه عن جده عن محمد بن على بن الحسين عن حسين بن علي عن ابيه انه صلى الله تعالى عليه وسلم قال من سب نبيا فاقتلوه ومن سب اصحابي فاضربوه وامر صلى الله تعالى عليه وسلم بقتل كعب بن الاشرف بلا انذار وكان يؤذيه صلى الله تعالى عليه وسلم وكذا امر بقتل ابى رافع اليهودي وكذا امر بقتل ابن اخطل لهذا وان كان متعلقا باستار الكعبة ودلائل المسئلة تعرف في كتاب الصارم المسلول على شاتم الرسول * انتهى كلام البزازية وتبعه صاحب الدرر والغرر * وكذا قال المحقق ابن الهمام في فتح القدير كل من ابغض رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بقلبه كان مرتدا فالساب بطريق اولى ثم يقتل حدا عندنا فلا تقبل توبته في اسقاط القتل قالوا هذا مذهب اهل الكوفة ومالك ونقل عن ابى بكر الصديق ولا فرق بين ان يجي تائبا من نفسه او شهد عليه بذلك بخلاف غيره من المكفرات فان الانكار فيها توبة فلا تعمل الشهادة معه حتى قالوا يقتل وان سب سكران ولا يعفى عنه ولا بد من تقييده عما اذا كان سكره بسبب محظور باشره اختيارا بلا اكراه والا فهو كالمجنون قال الخطابي لا اعلم احدا خالف في وجوب قتله

(1)

واما مثله في حقه تعالى فتعمل توبته فى اسقاط قتله انتهى * وتبعه على ذلك العلامة ابن نجيم في الاشباه والنظائر وفى البحر وعبارة الاشباه كل كافر تاب فتوبته مقبولة فى الدنيا والآخره الا جماعة الكافر بسب نبي وبسب الشيخين او احدهما وبالسحر ولو امرأة وبالزندقة. اذا اخذ قبل توبته انتهى * وقال فى البحر ما نصه وفى الجوهرة من سب الشيخين أو طعن فيهما كفر ويجب قتله ثم ان رجع وتاب وجدد الاسلام هل تقبل توبته ام لا قال الصدر الشهيد لا تقبل توبته واسلامه ونقتله وبه اخذ الفقيه ابو الليث السمرقندى وابو نصر الدبوسي وهو المختار للفتوى انتهى ما فى البحر * وتبعه تلميذه الشيخ محمد بن عبد الله الغزى التمرتاشي في متن التنويره وقال في شرحه منح الغفار ان هذا يقوى القول بعدم قبول توبة ساب الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم وهو الذي ينبغي التعويل عليه في الافتاء والقضاء رعاية الجانب حضرة المصطفى صلى الله تعالى عليه وسلم * وافتى به التمرتاشي في فتاواه وكذا افتى به العلامة الخير الرملى فى فتاواه * ومشى عليه صاحب النهر والثمر نبلا لى فهؤلاء عمدة المتأخرين قد قالوا خلاف ما قدمته فبين لنا اى الكلامين ارجح حتى تتبعه ونعمل به

(1)

قوله واما مثله اي مثل ما ذكر من البغض والسب حالة كونه واقعا في حقه تعالى منه.

ص: 328

(قلت) ما ذكرته ايها السائل * من هذه النقول والدلائل * مخالف لما قدمته لك فقد تعارضت عباراتهم في هذه المسئله * فصارت مشكلة * ولزم النظر الدقيق * فيما يكون به الترجيح او التوفيق * ويتوقف ذلك على ذكر مقدمه * عند علمائنا مسلمه * قال الشيخ الامام العلامة الشيخ امين الدين بن عبد العال في فتاواه جوابا عن مسئلة ناقلا عن الخلاصة وقاضى خان والحاوى القدسى وغيرهم * اذا اختلفت الروايات عن ابي حنيفة في مسئلة فالاولى ان يأخذ باقواها حجة ومتى كان قول ابى يوسف ومحمد موافقا لقول الامام لا يجوز التعدى عنه والعمل برواية منفردة عنه الا فيما مست الضرورة اليه وعلم انه لو كان حيا وراى ما راى لافتي به فح يعمل بتلك الرواية واذا كان معه احد صاحبيه كابي حنيفة وابى يوسف او كابي حنيفة ومحمد فهو كالحكم فيها اذا حصلت الموافقة بين الكل وان حصلت المخالفة منهما له يؤخذ بقوله ولا يخير في ذلك المفتى * وفى شرح الطحاوى المفتى بالخيار ان شاء اخذ بقول ابي حنيفة وان شاء اخذ بقولهما وقال عبد الله بن المبارك ينبغي ان يؤخذ بقول ابي حنيفة وفى قاضى خان ان كان مع ابي حنيفة احد صاحبيه يؤخذ بقولهما لوفور الشرائط واستجماع ادلة الصواب وان خالفاه فلا يخلو اما ان تكون المخالفة حجة وبرهان فيوخذ بقول الامام او مخالفة عصر وزمان كالقضاء بظاهر العدالة فيؤخذ بقولهما لتغير احوال الزمان وفى المزارعة والمعاملة يختار قولهما لاجتماع المتأخرين على ذلك وفيما سوى ذلك يخير المفتى المجتهد ويعمل بما افضى اليه رايه وقال ابن المبارك يؤخذ بقول ابى حنيفة والاصح ان العبرة لقوة الدليل * ومتى لم يوجد فى المسئلة رواية عن ابي حنيفة يؤخذ بظاهر قول ابي يوسف ان كان ثم بظاهر قول محمد ان كان ثم بظاهر قول زفر كذلك ثم بظاهر قول الحسن كذلك فان لم يوجد لهؤلاء نص فى المسئلة ولا لمن شاكلهم من كبار الاصحاب ينظر فان تكلم فيها المتأخرون واتفقوا على قول واحد يؤخذ به وان اختلفوا يؤخذ بقول الاكثرين وما اعتمده الكبار من المشايخ المعروفين كابي حفص وابى جعفر وابي الليث والطحاوى وغيرهم من امثالهم * وان لم يوجد منهم جواب فح ينظر المفتى فيها نظر تأمل دقيق * لعله ان يقف على التحقيق * ويقربه الى الرشد والسداد * لبيان درجة الراسخين الامجاد * والمراد بالمفتي الذي يتخير بين الاقوال هو المجتهد الذى له قوة نظر واستنباط * واما اهل زماننا واشياخهم واشياخ اشياخهم فلا يسمون مفتين بل ناقلون حاكون * هذا ما رأيت عليه مشايخنا كمولانا الشيخ برهان الدين الكركي ومولانا الشيخ عبد البر ابن الشحنه والشيخ

ص: 329

محب الدين بن شرباش ومن شاكلهم ولا يحل لاحد ان يتكلم جزافا لوجاهته او خوفا على منصبه وحرمته وليخش الله تعالى ويراقبه فانه عظيم لا يتجاسر عليه الا كل شقى جاهل وليحذر من قوله صلى الله تعالى عليه وسلم اتخذ الناس روسا جهالا فافنوا بغير علم فضلوا واضلوا * ومتى اخذ المفتى بقول واحد من اصحاب ابي حنيفة يعلم قطعا ان القول الذى اخذ به هو قول ابي حنيفة فانه روى عن جميع اصحاب ابى حنيفة من الكبار كابي يوسف ومحمد وزفر والحسن أنهم قالوا ما قلنا في مسئلة قولا الا وهى رواية عن ابي حنيفة واقسموا عليه ايمانا غلاظا فاذا كان الامر كذلك والحالة هذه لم يتحقق بحمد الله فى الفقه جواب ولا مذهب الا له كيف ما كان وما نسب الى غيره الا مجازا وهو كقول القائل قولى قوله ومذهبي مذهبه هذا آخر ما أوردناه ارشدك الله تعالى انتهى كلام الشيخ امين الدين رحمه الله تعالى (فاذا علمت ذلك فاعلم ان جميع ما قاله البزازى ماخوذ من الشفا للقاضي عياض ومن الصارم المسلول لابن تيمية فانه ذكر فيه كثيرا من كلام الشفاء لموافقته لمذهبه وقد نقل ذلك صاحب البزازيه مع تصرف في التعبير اصاب فى بعض منه دون بعض ولما جعل القاضي عياض الساب بمنزلة الزنديق بنى عليه قوله انه لا يتصور في عدم قبول توبته خلاف لا حد اى اذا كان في حكم الزنديق والزنديق لا توبة له عند سائر الائمة فكذلك لاتوبة للساب عند جميع الأئمة ولا يخفى ان هذا الاستدلال على طريق الالزام اى انه يلزم الجميع القول بذلك فليس مراده انه لم يصدر خلاف بين المجتهدين في حكم الساب فانه مخالف لما صرح به نفسه من وقوع اختلاف الرواية عن امام مذهبه حيث روى الوليد بن مسلم عن الامام مالك ان السب ردة فيستتاب منها ولا يقتل وانه قال بمثله ابو حنيفة واصحابه والثوري واهل الكوفة والاوزاعى وكأن البزازى ظن ان قوله ولا يتصور فيه خلاف لا حد انه اراد حكاية الاجماع على ذلك فجزم بان مذهب ابي حنيفة عدم قبول التوبة ولم يتفطن لما قلنا ولا لما نقله فى الشفاء والصارم المسلول عن ابي حنيفة وغيرهم ممن وافقه كما قدمناه عنهما (الشفاء والصارم) من العبارات الصريحة * وايضا فليس فيما نقله البزازي عن الخطابي وسحنون دلالة لما قاله لانه ليس في كلامهما تصريح بعدم سقوط القتل بعد التوبة فمرادهما حكاية الاجماع على كفره وردته قبل التوبة والدليل على ذلك قول سحنون ومن شك فى عذابه وكفره كفر اذ لا يصح حمل ذلك على ما بعد التوبة لأنه يلزم عليه تكفير الائمة المجتهدين القائلين بقبول توبته وعدم قتله كابي حنيفة والشافعي والثورى والاوزاعي وغيرهم فتعين ما قلنا وكذلك ما استدل

ص: 330

به البزازى تبعا للشفا والصارم المسلول من الحديث ومن الأمر بقتل كعب وابي رافع وابن اخطل ليس فيه دلالة على قتله بعد التوبة اذ لا شك ان كلا من هؤلاء الثلاثة المأمور بقتلهم من اشد الكفرة اذى وضررا للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم ولم ينقل اسلام واحد منهم والكلام فى القتل بعد الاسلام * وقد ظهران ما قاله البزازى بناء على ما فهمه من كلام الشفا ومن كلام من نقل عنهم الاجماع وهو ان مرادهم الاجماع على عدم قبول توبته مطلقا وقد علمت ان حمله على الاطلاق غير صحيح * وح فليس في كلام هؤلاء الذين نقل عنهم البزازى دلالة على ان مذهبنا عدم قبول التوبة (فان قلت) من اين علمت ان البزازي اعتمد في النقل على كلام الشفاء فلعله اخذه من كتب المذهب (قلت) لما رأينا تصريح الأئمة الثقات بان مذهب ابي حنيفة خلاف ما قاله ورأينا كتب المذهب ناطقة بذلك كما قدمناه صريحا في عبارة الخراج لابي يوسف امام المذهب واستعاض النقل بذلك عن شرح الطحاوي الذي هو عمدة المذهب وكذا في عبارة النتف وكذا عبارات متون المذهب قاطبة كما قدمناه مفصلا علمنا ان البزازى لا مستند له الا عبارة الشفاء الا ترى كيف نقل عن مشايخ المالكية ثم احال دلائل المسئلة على الصارم المسلول لعمدة الحنابلة شيخ الاسلام ابن تيميه ولو كان له مستند عن احد من اهل مذهبه لذكره لانه اثبت لمدعاه * والظه ان صاحب الدرر قلد البزازي في ذلك فنقل الحكم جاز ما به لما رأه مسطورا كذلك فى البزازية التى هى من كتب المذهب وكذلك فعل المحقق ابن الهمام ثم توارد المسئلة كذلك من بعدهم * كما ذكر ذلك في منح الغفار حيث قال بعد ما عزى المسئلة للبزازية وفتح القدير وغيرهما لكن سمعت من مولانا شيخ الاسلام امين الدين بن عبد العال مفتى الحنفية بالديار المصريه ان صاحب الفتح تبع البزازى فى ذلك وان البزازى تبع صاحب الصارم المسلول فانه عزا فى البزازية ما نقله من ذلك اليه ولم يعزه الى احد من علماء الحنفية انتهى وقد نقل فى معين الحكام انها ردة وحكمه وحكم المرتدين وكذا فى النتف وممن نقل انها ردة عن ابي حنيفة القاضي عياض فى الشفاء الخ انتهى كلام منح الغفار باختصار (وقد ذكر) العلامة السيد احمد الحموى فى حاشية الاشباه نقلا عن بعض العلماء ان ما ذكره ابن نجيم في فى الاشباه من عدم قبول التوبة قد انكره عليه اهل عصره وان ذلك انما يحفظ لبعض اصحاب مالك كما نقله القاضي عياض وغيره اما على طريقتنا فلا انتهى (ثم) ما فهمه البزازى من عبارة الشفا من ان المراد حكاية اجماع الائمة مطلقا كما مر وقع مثله للعلامة القهستاني حيث قال فى شرح مختصر النقاية لو عاب نبيا من الأنبياء عليهم

ص: 331

الصلاة والسلام قبلت توبته كما فى شرح الطحاوى وغيره لكن في شفا القاضى عياض عن اصحابنا وغيرهم من المذاهب الحق ان توبته لم تقبل وقل بالاجماع انتهى فانظر كيف فهم ان مراد الشفا حكاية الاجماع على قتله مطلقا اى ولو تاب وهذا فهم لا يصح قطعا كيف وقد حكى فى الشفا الخلاف في المسئلة فيما اذا تاب وصرح بالنقل عن ابي حنيفة وغيره بقبول توبته ودرء القتل عنه بها كما هو رواية الوليد ابن مسلم عن مالك كما قدمناه * وانظر ايضا كيف عزا قبول التوبة الى شرح الطحاوى وغيره من كتب المذهب وعزا عدم القبول الى الشفا ولو وجد نقلا عن كتاب من كتب المذهب بعدم القبول لعزى المسئلة اليه واستغنى عن العزو الى كتب غير المذهب * وما كان ينبغى له ولا للبزازى ان يفعلا ذلك فان فيه ايهاما عظيما لمن بعدهما وقد وقع كما رأيت حيث تابع البزازى من بعده على شيء لا أصل له في كتب المذهب ولا نقله احد ممن قبلهم وانما المنقول والمحكى عن ائمتنا خلافه بلا حكاية خلاف (واما) ما عزاه فى البحر الى الجوهرة فانه لا اصل له ايضا ولا وجود له فى الجوهرة كما نبه عليه صاحب النهر ومن انكر ذلك فليراجع نسخ الجوهرة على انه لو كان ثابتا فهو مخالف لما في كتب المذهب كما ستعرفه في الباب الثاني ان شاء الله تعالى (هذا) وللعلامة التحرير الشهير بحسام حلبي من عظماء علماء دولة السلطان سليم خان بن بايزيد خان العثماني رسالة لطيفة الفها ردا على البزازية في حكم تلك المسئلة ذكر حاصلها في اواخر نور العين. فقال اعلم ان سب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كفر وارتداد لانه مناف لتعظيمه والايمان به الثابت بالادلة القطعية التى لا شبهة فيها فسبه جحود له فيكون كفرا فيقتل به ان لم يتب وهذا مجمع عليه بين المجتهدين لكنه ان تاب وعاد الى الاسلام تقبل توبته فلا يقتل عند الحنفية والشافعية خلافا للمالكية والحنبلية على ما صرح به شيخ الاسلام على السبكي في كتاب السيف المسلول فى سب الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم * وذكر فى الحاوى من سب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يكفر ولا توبة له سوى تجديد الايمان * الى ان قال فى آخر تلك الرسالة المفهوم من كلمات صاحب الشفا أن قتل الساب ليس حدا عند ابو حنيفة بل كفرا والكفر يزول بالتوبة والاسلام فيزول القتل بزوال سببه * ثم قال وبالجملة قد تتبعنا كتب الحنفية فلم نجد القول بعدم قبول توبة الساب عندهم سوى ما ذكر في الفتاوى البزازية وقد عرفت بطلانه ومنشأ غلطه فيما مر فى أوائل الرسالة فتذكر انتهى ملخصا (قال) صاحب نور العين يقول الحقير يؤيد ما ذكره من تخطئة ما في البزازية

ص: 332

ما ذكر في بعض الفتاوى نقلا عن كتاب الخراج للامام ابي يوسف رحمه الله تعالى ان من سب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يكفر فان تاب تقبل توبته ولا يقتل عنده وعند ابي حنيفة خلافا لمحمد انتهى

(1)

(فان قلت) قوله خلافا لمحمد يدل على ان فى المسئلة خلافا عند ائمتنا وان محمدا رحمه الله تعالى يقول كقول مالك واحمد فليكن ما ذكره فى البزازية مبنيا على قول محمد ومعلوم أن قوله قول للامام فكيف يخطأ صاحب البزازية ومن تابعه (قلت) عبارة الخراج التي اطلعت عليها ورايتها ليس فيها ذكر الخلاف وقد ذكرتها لك من قبل بحروفها وبعض

(1)

ثم رأيت بعد نحو عشر سنين من تأليف هذا الكتاب في حاشية شيخ مشايخنا العلامة فقيه عصره الشيخ مصطفى الرجتى الايوبى على الدر المختار ما يؤيد ما قلناه حيث قال بعد كلام مانصه ومقتضى كلام الشفا وابن ابى جمرة في شرح مختصر البخاري في حديث ان فريضة الحج ادركت ابى الخ ان هذا اى عدم قبول التوبة مذهب مالك وان مذهب ابى حنيفة والشافعى ان حكمه حكم المرتد وقد علم ان المرتد تقبل توبته ويؤيده ما نقله هنا عن النتف وما عطف عليها من الكتب المعتمدة في المذهب من ان حكمه حكم المرتد واذا كان هذا في ساب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ففي ساب الشيخين او احدهما لا يتحتم قتله بالاولى بل انكر الصديق رضى الله تعالى عنه جواز قتله حين سبه بعض أهل الشر فاراد بعض من حضر عنده قتله فقال له الصديق انه لا يقتل الا ساب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وانه خاص به (فقد) تحرران المذهب كذهب الشافعى قبول توبته كما هو رواية ضعيفة عن مالك وما عداه فانه اما نقل عن غير اهل المذهب وكانه بعض المالكية او طرة مجهولة لم يعلم كاتبها او لامر آخر هو تبين زندقته والزنديق لا تقبل توبته عندنا لانه متهم فيها وهو الذى مال اليه شيخ الاسلام ابو السعود فكن على بصيرة في الاحكام ولا تغتر بكل امر مستغرب وتغفل عن الصواب والله تعالى اعلم انتهى ما في حاشية الرحمتي على الدر المختار من باب المرتد * ثم رأيت ايضا بخط شيخ مشايخنا العلامة النقيه الشيخ ابراهيم السايحاني بهامش نسخته الدر المختار عند قوله وقد صرح في التنف ومعين الحكام وشرح الطحاوى وحاوى الزاهدى وغيرها بان حكمه كالمرتد والعجب كل العجب حيث سمع المصنف كلام شيخ الاسلام يعنى ابن عبد العال ورأى هذه النقول كيف لا يشطب متنه عن شئ يستدعى تقليل امة محمد البحر الطامي الذى لا يتغير بجبال الضرر وقد اسمعنى بعض مشايخى رسالة حاصلها انه لا يقتل بعد الاسلام وان هذا هو المذهب اهـ ما رأيته بخطه رحمه الله تعالى منه.

ص: 333

الفتاوى المذكور مجهول فالله اعلم به على انه لو ثبت خلاف محمد فى المسئلة لا يعدل عن قول ابى حنيفة وابي يوسف الذي مشى عليه اصحاب المتون وغيرهم * ولاسيما والتعبير بقوله خلافا لمحمد مشير الى ضعفه ولو كان لمحمد خلاف في هذه المسئلة لتمسك به البزازى ومن تابعه ولم يعدل عن النقل عنه الى النقل عن المالكية * على ان البزازي لم يدع ان ذلك قول فى المذهب بل دعواه انه مما انعقد عليه اجماع الائمة وقد تيقنت بطلانه مما نقلناه لك وان المجمع عليه هو الحكم بكفر الساب وقتله قبل التوبة وليس ذلك محل النزاع وانما كلامنا في قبول توبته ودرء القتل عنه بالاسلام كما هو حكم سائر المرتدين (فان قلت) سلمنا ان مذهب الحنفية قبول توبته وانه لا خلاف عندهم في ذلك ولكن مرادهم قبول توبته بينه وبين ربه تعالى بمعنى انه يموت مسلما ولا ينافي ذلك لزوم قتله لأنه جزاؤه في الدنيا لكن زنا او سرق ثم تاب لا يسقط جزاؤه الدنيوى بتوبته وح فلا مخالفة بين كلام البزازى ومن تبعه وبين كلام غيره (قلت) من تحقق مناط الخلاف لم يخف عليه الجواب فاعد النظر مرة اخرى الى العبارة التي نقلناها عن الشفا تراها صريحة فى ان الخلاف فى لزوم القتل وعدمه وكذا عبارة شيخ الاسلام ابن تيميه فى الصارم المسلول وكذا عبارة ابي يوسف في الخراج حيث قال فان تاب والا قتل فعلق القتل على عدم التوبة لا على السب وكذا عبارة شرح الطحاوى حيث قال وحكمه حكم المرتدين وكذا عبارة الحاوى حيث قال لا توبة له سوى تجديد الايمان وكذا عبارات متون المذهب قاطبة حيث قالوا يعرض على المرتد الاسلام فان تاب والا قتل وقد اشرنا فى اثناء كلامنا عند ذكر هذه النقول الى دفع هذا السؤال (فان قلت) ان مذهب الحنفية ان كل معصية ليس فيها حد مقدر يجب التعزير فيها وانه مفوض الى رأى القاضى وانه قد يكون بالقتل في بعض المواضع لبعض أهل الكبائر كالاعونة والظلمة ومن اعتاد قتل الناس بغير محدد كالخناق وكاللوطى ونحوهم مما ذكروه وكن رأى رجلا يزني بمحرمه على ما فيه من الخلاف فليكن كلام البزازى ومن تبعه مبنيا على ذلك اذ لا شك ان هذا الساب الشقى اللعين اقبح اهل الكبائر غاية ما فى الباب ان البزازى تجوز عن التعزير بالحد (قلت) لا شك ان هذا الساب مرتد والمرتد له جزاء مقدر قبل توبته وهو القتل ونحن قد حققنا ان القتل حد المرتد وانه لا يلزم من كونه حدا ان لا يسقط بالتوبة فلا يسمى قتله تعزير الخروج التعزير عن تعريف الحد بقيد التقدير كما بيناه سابقا * فان كان مرادك انه يعزر قبل التوبة بالقتل فلا حاجة الى تسميته تعزيرا ولا نزاع لاحد في لزوم قتله ان لم يتب * وان كان مرادك انه بعد التوبة يقتل تعزيرا لدخوله تحت

ص: 334

اهل الكبائر فنقول لا يمكننا التزامه مطلقا لان ما ذكروه من الامثلة انما هو في كبائر خاصة عم ضرر اصحابها ولا يمكن دفع شرهم الا بالقتل كالاعونة والظلمة والمكاسين وكالساحر والزنديق ونحوه من اهل البدع والخوارج * واما اللوطى فمنصوص على قتله من اهل المذهب فنتبع ما نصوا لنا عليه ونفتى الناس به على انهم قيدوا قتله بما اذا اعتاد اللواطة وجعلوا قتله سياسة فكان ايضا ممن لا يرتدع ولا يندفع ضرره الا بالقتل ولسنا من اهل القياس حتى نقيس عليه الساب او غيره الا ترمى ان من ثبت عليه الزنا باقراره عند الامام ثم رجع عن اقراره سقط عنه الحد مع انه لا يمكننا ان نفتى الحاكم بان له ان يقتله تعزيرا بعد ثبوت زناه باقراره فان رجوعة او جب شبهة تسقط الحد عنه ولم تنف زناه اصلا اذ لاشك ان الانسان مؤاخذ باقراره على نفسه وكذا المرتد اذا كانت ردته بغير السب ثم اسلم لا نفتى الحاكم بانه مخير في قتله مع انه قد فعل اعظم الكبائر قطعا فكذلك اذا كانت ردته بالسب الا اذا وجد نقل عن اهل المذهب كأئمتنا الثلاثة او من بعدهم من اهل التخريج والاستنباط او اهل الترجيح والتصحيح على ما عرف في طبقاتهم التي ذكرها ابن الكمال * وليس البرازي ومن تبعه من اهل ديوان تلك الكتيبة بل ان علت رايتهم في المبارزة عند اضطراب الاقوال فغاية امرهم ان تتبعهم فى تقوية احد قولين مصححين على الاخر * حتى ان المحقق ابن الهمام وناهيك به من بطل مقدام اذا خرج عن جادة المذهب بحسب ما يظهر له من الدليل لا يتبع كما قال تلميذه خاتمة الحفاظ الزيني قاسم بن قطلوبغا انه لا عبرة بابحاث شيخنا اذا خالفت المنقول انتهى * وايضا فان نفس المحقق ابن الهمام لم يقبل ابحات الامام الطرسوسي صاحب انفع الوسائل وقال عنه انه لم يكن من اهل الفقه * وقال ايضا في فتح القدير من باب البغاة ان الذي صح عن المجتهدين فى الخوارج عدم تكفيرهم ويقع في كلام اهل المذاهب تكفير كثير لكن ليس من كلام الفقهاء الذى هم المجتهدون بل من غيرهم ولا عبرة بغير الفقهاء انتهى كلامه نعم لو قيل اذا تكرر السب من هذا الشقى الخبيث بحيث انه كلما اخذ تاب يقتل وكذا لو ظهر ان ذلك معتاده وتجاهر به كان ذلك قولا وجيها كما ذكر وامثله في الذمى ويكون ح بمنزلة الزنديق واما بدون ذلك فلا يجوز الافتاء بقتله بعد اسلامه حدا او تعزيرا ما لم نرنقلا صريحا عن اهل المذهب الذين ذكرناهم ولا يجوز لنا تقليد البزازى ومن تبعه فى ذلك حيث لم ترلهم سالفا ومستندا بل رأينا صريح النقول في المذهب وغيره مخالفة لكلامهم (فان قلت) اذا كنت لا تعول على كلام البزازي ومن تبعه يلزم منه طعنك فيهم بانهم لم يتثبتوا في هذه المسئلة التي

ص: 335

امرها خطير ويؤدى عدم الثقة بهم وقد قال العلامة ابن الشيحنة في شرح النظم الوهبانى وغيره في نظير هذا البحث وحاشا ان يلعب امناء الله اعنى علماء الاحكام بالحلال والحرام والكفر والاسلام بل لا يقولون الا الحق انتي (قلت) حاشالله ان اطعن فيهم مع اعتقادى بانى لا اصلح خادما لنعالهم ونهاية شرفي ان افهم بعض كلامهم وان يعفو عنى ربى بسببهم ويحشرنى في زمرة اتباعهم فانهم سلفنا ائمة الهدى ومصابيح الدجى ولكن ما ذكرنا من صريح النقول عن ائمتنا الحنفية اساطين العلماء الذين هم اعلم بالمذهب من البزازى كابي يوسف والطحاوى وصاحب النتف والحاوى واصحاب المتون وكذا ما نقلناه عن القاضي عياض وابن يتمية والسبكى يدل على ان البزازى قد اشتبه عليه الحال ولاسيما ما رأيناه من تصريح العلماء بانه اخطأ فى هذه المسئلة وتبعه من بعده على ظن ان ما ذكره منقول فى المذهب فترجح لنا ما قلناه بيانا للحكم الشرعى من غير طعن في علو مقامه ومقام غيره فان من فضل الله تعالى ان صان هذه الشريعة بامناء حفظوها وبينوها وانه سبحانه امر بالبيان ونهى عن الكتمان ولم ياذن لهم بالمداهنة ولا بالمحاباة ولم يزل العلماء يستدرك بعضهم على بعض وان كان اباه او شيخه او اكبر منه او مثله كل ذلك لحفظ هذه الشريعة الطاهرة وقد ابى الله تعالى العصمة لكتاب غير كتابه فما يقع لبعض العلماء من الخطأ تارة يكون من سبق القلم وتارة يكون من اشتباه حكم باخر او نحو ذلك وكل ذلك لا يحط من مقدارهم شيئًا ولا يلزم منه عدم الثقة بهم قطعا لأنه لا لوم عليهم والغالب ان الخطأ يكون من واحد فيأتى من بعده فيتابعه * كما ذكر نظير ذلك صاحب البحر قبل كتاب الصرف في بحث ما يبطل بالشرط الفاسد ولا يصح تعليقه * حيث قال وقد يقع كثيرا ان مؤلفا يذكر شيئًا خطأ في كتابه فيأتى من بعده من المشايخ فينقلون تلك العبارة من غير تغيير ولا تنبيه فيكثر الناقلون لها واصلها لواحد مخطئ كما وقع في هذا الموضع ولا عيب بذلك على المذهب لان مولانا محمد ابن الحسن ضابط المذهب رحمه الله تعالى لم يذكر جملة ما لا يصح تعليقه بالشرط وما يصح على هذ الوجه وقد نبهنا على مثل ذلك فى المسائل الفقهيه فى قول قاضي خان وغيره ان الامانات تنقلب مضمونة بالموت عن تجهيل الا في ثلاث ثم الى تتبعت كلامهم فوجدت سبعة اخرى زائدة على الثلاثة ثم انى نبهت على ان اصل هذه العبارة للناطفى اخطأ فيها ثم تداولوها انتهى ما في البحر (قلت) وقد وقع لهذا الحقير ايضا التنبيه على مثل ذلك في عدة مسائل. منها ما وقع لصاحب الجوهرة من ان المفتى به جواز الاستئجار على تلاوة القرآن وتبعه

ص: 336

على ذلك جماعة من العلماء كمنلا مسكين والقهستانى وصاحب البحر وبعض محشى الاشباه والعلائى وغيرهم بل عامة اهل العصر على ذلك وهو سبق قلم من صاحب الجوهرة لان المفتى به جواز الاستئجار على تعليم القرآن لا على تلاوته فان اصل مذهب ابي حنيفة واصحابه كلهم انه لا يجوز الاستئجار على الطاعات اصلا حتى على تعليم القرآن كما هو مصرح به في كتب المذهب متونا وشروحا وفتاوى ولكن افتى المتأخرون من مشايخ المذهب الذين هم اهل الاختيار والترجيح بالجواز على التعليم وزاد بعضهم الاذان والامامة للضرورة وهى خوف ضياع القرآن وتعطيل الاذان والامامة اللذين هما من شعائر الدين لان المعلمين كان لهم عطايا من بيت المال ثم انقطعت فاذا لم ياخذوا الاجرة لا يشتغلون بالتعليم والاذان والامامة فيلزم ضياع الدين فافتي المتأخرون بجواز الاستئجار لهذه الضرورة كما صرحوا بذلك فى عامة كتب اصحابنا * ولاشك انه لو انتظم بيت المال وعادت العطايا على حالها لا يسع احدا من المتأخرين ان يقول بالجواز اصلا لعدم الضرورة لانهم ما خالفوا المذهب الا لخوف الضرورة المذكورة لعلمهم بان ابا حنيفة واصحابه لو كانوا احياء لافتوا بالجواز لهذه الضرورة * ومعلوم قطعا انه لا ضرورة تدعو الى القول بجواز الاستئجار على مجرد التلاوة واهداء ثوابها الى روح المستأجر او روح احد من أمواته * فكيف يسوغ لصاحب الجوهرة ان يقول المفتى به جواز الاستئجار على اللاوة المجردة ويخالف اصل المذهب وما افتى به المتأخرون لان ما افتوا به من الجواز انما هو فيما فيه ضرورة ضياع الدين دون غيره حتى صرح اصحاب الفتاوى بانه لو اوصى لقارئ يقرأ عند قبره فالوصية باطلة وعللوا ذلك بقولهم لانه يشبه الاستئجار على التلاوة فعلمنا ان الاستئجار على التلاوة غير صحيح * وقد قالوا ان الآخذ والمعطى آثمان ولم نر لصاحب الجوهرة سلفا من اصحاب المذهب اهل التصحيح والترجيح حتى يكون لنا شبهة فى اتباعه بل او وجد ذلك لم يعدل عن اصل المذهب وما مشى عليه اصحاب المتون والشروح والفتاوى فعلمنا انه سبق قلمه من التعليم الى التلاوة ومع هذا قد تبعه جماعة كثيرون حتى انهم لم يكتفوا بذلك بل صاروا يقولون ان مذهب المتاخرين المفتى به جواز الاستئجار على الطاعات ويطلقون العبارة مع انه يلزم منه انه يجوز للرجل ان يستأجر من يصوم عنه او يصلى عنه ولااظن احدا من المسلمين يقول بذلك. وقد كنت بسطت الكلام على هذه المسئلة فى رسالة سميتها شفاء العليل وبل الغليل في بطلان الوصية بالختمات والتهاليل فان اردت الوقوف على عين اليقين فارجع اليها فان فيها ما يشفى ويكفي فان ما ذكرناه

ص: 337

منها هنا كقطرة من بحر او شذرة من عقد نحر (وكذا) وقع لهذا الحقير التنبيه على غير هذه المسئلة مما يشبهها مما حررناه في حاشيتنا رد المحتار على الدر المختار وحاشيتنا منحة الخالق على البحر الرائق وكذا فى غيرهما مما امتن الله تعالى به علينا ببركة انفاس مشايخنا ادام الله تعالى مددهم واصلا الينا وعم بهم نفع المسلمين امين وهذا ما اقتضاء الاستشهاد واستغفر الله العظيم من ان يكون ذلك تزكية للنفس الأمارة بالسوء (فان قلت) اذا كان الامر كذلك لا ينبغى للمفتى ان يفتى بمجرد المراجعة من كتاب وان كان ذلك الكتاب مشهورا (قلت) نعم. وكذلك

شعر

لا تحسب الفقه تمرا انت اكله

لن تبلغ الفقه حتى تلعق الصبرا

اذ لو كان الفقه يحصل مجرد القدرة على مراجعة المسئلة من مظانها لكان اسهل شيء ولما احتاج الى التفقه على استاذ ماهر وفكر ثاقب باهر

شعر

لو كان هذا العلم يدرك بالمنى

ما كنت تبصر في البرية جاهلا

فكثيرا ما تذكر المسئلة في كتاب * ويكون ما في كتاب اخر هو الصحيح او الصواب. وقد تطلق في بعض المواضع عن بعض قيودها وتقيد في موضع آخر * ولهذا قال العلامة ابن نجيم في رسالة الفساقي ما نصه ومن هنا يعلم كما قال ابن الغرس رحمه الله تعالى ان فهم المسائل على وجه التحقيق يحتاج الى معرفة اصلين * احدهما ان اطلاقات الفقهاء فى الغالب مقيدة بقيود يعرفها صاحب الفهم المستقيم الممارس للاصول والفروع وانما يسكتون عنها اعتمادا على صحة فهم الطالب * والثانى ان هذه المسائل اجتهادية معقولة المغنى لا يعرف الحكم فيها على الوجه التام الا بمعرفة وجه الحكم الذي بنى عليه وتفرع عنه والا فتشتبه المسائل على الطالب ويحار ذهنه فيها لعدم معرفة المبنى ومن اهمل ما ذكرناه حار في الخطا والغلط انتهى (وقال) فى البحر من كتاب القضا عن التتارخانية وكره بعضهم الافتاء والصحيح عدم الكراهة للاهل ولا ينبغى الافتاء الا لمن عرف اقاويل العلماء وعرف من اين قالوا فان كان فى المسئلة خلاف لا يختار قولا يجيب به حتى يعرف حجته وينبغى السؤال من افقه اهل زمانه فان اختلفوا تحرى (فان قلت) قد ذكر الامام العلامة المفتى ابو السعود افندى العمادى ما يفيد ان الساب المذكور زنديق ومعلوم ان المعتمد في المذهب أن الزنديق بعد رفعه الى الحاكم يقتل ولا تقبل توبته وعبارته على ما نقله عنه الشيخ علاء الدين فى الدر المختار حيث قال ثم رأيت في معروضات المفتى ابى السعود سؤالا ملخصه ان طالب علم ذكر عنده حديث نبوى فقال اكل احاديث النبي صلى الله تعالى عليه وسلم صدق يعمل بها فاجاب بأنه يكفر اولا بسبب

ص: 338

استفهامه الانكارى وثانيا بالحاقه الشين للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم ففى كفره الاول عن اعتقاده يؤمر بتجديد الإيمان فلا يقتل والثاني يفيد الزندقة فبعد اخذه لا تقبل توبته اتفاقا فيقتل وقبله اختلف فى قبول توبته فعند ابي حنيفة تقبل فلا يقتل وعند بقية الأئمة لاتقبل ويقتل حدا فلذلك ورد امر سلطاني سنة 944 اربع واربعين وتسعماية لقضاة الممالك المحمية برعاية رأى الجانبين بانه ان ظهر صلاحه وحسن توبته واسلامه لا يقتل ويكتفى بتعزيره وحبسه عملا بقول الامام الاعظم وان لم يكن من اناس يفهم خيرهم يقتل عملا بقول بقية الأئمة ثم فى سنة 955 خمس وخمسين وتسعمائة تقرر هذا الامر باخر فينظر القائل من اى الفريقين هو فيعمل بمقتضاه انتهى فليحفظ وليكن التوفيق انتهى ما في الدر المختار (وحاصله) تخصيص الخلاف في قبول توبته وعدمه بما قبل اخذه ورفعه الى الحاكم اما بعد رفعه فلا تقبل توبته بناء على انه زنديق والزنديق يقتل عند ابي حنيفه على اصح الروايتين عنه وعلى هذا فيحصل التوفيق بين القولين كما افاده الشيخ علاء الدين بحمل قول من قال لا تقبل توبته كالبزازى ومن تبعه على ما بعد اخذه ورفعه الى الحاكم وجل قول الذين نقلت عنهم انه ان لم يسلم قتل وان حكمه حكم المرتد على ما قبل الاخذ وح فليس في كلام احد الفريقين خطا والتوفيق اولى من شق العصا (قلت) مستعيذا بالله تعالى من ميل الى هوى نفس * او اتباع ظن او حدس * ان ما ذكرته من كلام المحقق ابى السعود يناقض اوله آخره * فان اوله يدل على ان الخلاف فيما قبل اخذ موان مذهب ابى جنيفة قبول التوبة وانه بعد اخذه لا خلاف في عدم القبول واما اخره فانه يدل على ان الخلاف المذكور انما هو فيما بعد اخذه حيث ذكر ان الامر السلطاني للقضاة انه ان ظهر صلاحه قبلوا توبته واكتفوا بتعزيرهم له وحبسه عملا بقول ابى حنيفة وان لم يظهر صلاحه قتلوه ولم يقبلوا توبته عملا بمذهب الغير ولا يخفى ان الامر بالتفصيل المذكور لا يكون الا بعد اخذه ورفعه للحاكم ففيه الجزم بان قبول التوبة حقول الامام وعدمه مذهب الغير * وهذا موافق لما نقلناه عن امتنا ومؤيد لدعوانا وقد جزم به ابو السعود في فتوى اخرى سنذكرها عنه فى آخر الكتاب * ولكن نرخى العنان ونمشى على ما افاده اول كلامه (فنقول) قول انصاف بلا ميل ولا اعتساف ان كلام أمة مذهبنا الذي نقلناه عنهم صريح فى ان الساب تقبل توبته وان حكمه حكم المرتد وانه يفعل به ما يفعل بالمرتد وانه لا توبة له الا الاسلام وهذا وان امكن حمله على ما قبل رفعه الى الحاكم حتى لا ينافى ما ذكره المحقق ابو السعود اولا ويكون توفيقا بين القولين لكنه

ص: 339

خلاف الظاهر فان ما قدمناه مطلق شامل لما بعد الاخذ والرفع الى الحاكم لان هذا معنى قولهم حكمه حكم المرتد والا فهو مخالف له فدعوى تخصيصه تحتاج الى نقل عن ائمة المذهب ولم نر احدا نقل عنهم ذلك * على انه لا يمكن التوفيق بعد دعوى التخصيص بما ذكر فان البزازى وصاحب الفتح صرح كل منهما بانه يقتل قبل الاخذ وبعده فمن اين يحصل التوفيق بل تبقى المنافاة بين القولين قطعا وصار هذا قولا اخر فالاقوال ح ثلاثة واذا تعارض كلام اهل المذهب الذين هم المجتهدون مع كلام غيرهم من المتأخرين بلا استناد منهم الى نقل عن المجتهدين تتبع اهل المذهب المجتهدين فانك قد سمعت ما نقلناه عن فتح القدير من قوله انه لا اعتبار بكلام غير المجتهدين * فالا برأ للذمة ما صرح به الامام ابو يوسف والامام الطحاوى وغيرهما من اهل المذهب وغيرهم حتى نرى نقلا صريحا يخالفه عمن يكون مثلهم وفي رتبتهم فح تثبت التعارض بين القولين ونطلب الترجيح من اهله لا من قبل انفسنا وما لم نر نقلا لا نعدل عن المجتهدين كيف وقد راينا من جاء بعد البرازى وصاحب الفتح قد انكروا عليهما ذلك وصرحوا بأنه ليس مذهبنا * ومتابعة العلامة ابن نجيم لهما في كتابيه البحر والاشباه لا تفيد خصوصا مع انكار اهل عصره عليه بذلك كما قدمنا نقله عن الحموى * وقد علمت ايضا صريح كلام العلماء الراسخين من غير اهل مذهبنا كالقاضي عياض والطبرى وابن تيمية والسبكى بان مذهب ابي حنيفة واصحابه ان ذلك ردة يستتاب منها فان تاب والا قتل على خلاف ما يقوله الامام مالك والامام احمد وهل تكون استتابته الا بعد رفعه الى الحاكم (واما) كونه قد صار زنديقا بهذا الكلام. ففيه ما لا يخفى على ذوى الافهام * نعم الواقع في عبارة صاحب الشفاء ان حكمه حكم الزنديق وهذا يفيد اتحاد حكمهما على مذهبه بمعنى ان كلا منها لا تقبل توبته بالنسبة الى القتل * واما انه صار زنديقا فهو فى حيز المنع * فان الزنديق كما في فتح القدير وغيره من لا يتدين بدين ويظهر تدينه بالاسلام كالمنافق الذي يبطن الكفر ويظهر الاسلام وطريق العلم بحاله اما بان يعثر بعض الناس عليه او يسر اعتقاده الى من امن اليه وكل منهما يقتل ومثلهما الساحر. قال في البحر عن الخانية وقال الفقيه ابو الليث اذا تاب الساحر قبل ان يؤخذ تقبل توبته ولا يقتل وان اخذ ثم تاب لم تقبل توبته ويقتل وكذا الزنديق المعروف الداعي والفتوى على هذا القول انتهى * وقال صاحب الخلاصة وفى النوازل الخناق والساحر يقتلان لانهما ساعيان فى الأرض بالفساد فان تابا ان قبل الظفر بهما قبلت توبتهما وبعدما اخذا لا تقبل ويقتلان كما فى قطاع الطريق وكذا الزنديق المعروف الداعى

ص: 340

إليه أي إلى مذهب الالحاد انتهى * وذكر فى التجنيس أن الزنديق على ثلاثة أقسام إما أن يكون زنديقًا من الأصل على الشرك أو يكون مسلمًا أو ذميًا فتزندق ففى الأول يترك على شركه ما لم يكن عربيًا وفى الثانى يعرض عليه الإسلام فإن اسلم وإلا قتل لأنه مرتد وفى الثالث يترك على حاله لأن الكفر ملة واحدة * قال العلامة ابن كمال باشا في رسالته في الزنديق قوله فى الثانى يعرض الخ صريح فى أن الزنديق الإسلامي لا يفارق المرتد فى الحكم وقد نبهب على أن ذلك إذا لم يكن داعيًا إلى الضلال ساعيًا في إفساد الدين معروفًا به فإن كان داعيًا معروفًا وتاب باختياره قبل أن يؤخذ لا يقتل وبعده قتل انتهى * فعلم أن قتل هؤلاء إنما هو لسعيهم بالفساد فهم كقطاع الطريق لأن ضررهم عام فإن الساحر يؤذى بسحره عباد الله تعالى فى أبدانهم وأموالهم وكذا الخناق أي من تكرر منه الخنق أي قتل الناس غيلة بلا محدد وضرر الزنديق الداعي إلى الالحاد اشد لأن ضرره في الدين فإنه يضل ضعفة اليقين بالحاده واظهاره لهم سمة المسلمين فلهذا قتلوا كقطاع الطريق بل هؤلاء أضر (فانظر) بالله بعين الانصاف هل يكون الشاتم الساب زنديقًا على هذا الاعتبار وإن كان كفره اشنع لأن علة قتل هؤلاء ليست مجرد الكفر وإنما هى دفع الضرر العام* عن الانام * كما يقتل الخناق وقطاع الطريق * وإن كانوا من أهل الإيمان والتصديق (فإن) قال قائل أن سبه دليل على خبث باطنه وإن ما يظهره من التدين بالإسلام نفاق وزندقة (قلنا) له لا نسلم ذلك ومن أين اطلعنا على باطنه بمجرد ذلك إذ لو كان ذلك دليلًا على ماقلت لزم أن يكون سب الله تعالى كذلك على إنك علمت أن الزنديق الذي يقتل ولا تقبل توبته هو المعروف بالزندقة الداعى إليها وهذا ليس كذلك وإنما كان معروفًا بالاسلام ولا يدعو أحدًا إلى أن يفعل كفعله الشنيع بل الغالب أنه إنما تصدر منه كلمة السب عند شدة غيظة ونكايته ممن خاصمه في أمر ونحو ذلك نعم أو كان معروفًا بهذا الفعل الفظيع * داعيًا إلى اعتقاده الشنيع* فلاشك ح ولا ارتياب * في زندقته وقتله وإن تاب (إذا علمت) ذلك ظهر لك أن ما ذكره العلامة أبو السعود من أنه زنديق بمجرد السب غير موافق لما ذكره ائمتنا في تعريف الزنديق والالما ذكروه في حكم الساب (على) أن حكمه بالكفر على ذلك الطالب للعلم الذي قال أكل أحاديث النبي صلى الله تعالى عليه وسلم صدق يعمل بها فيه نظر ظاهر لامكان جمل كلام ذلك الطالب على معنى صحيح لأن النفى الذى تضمنه الاستفهام داخل على كل فهو من سلب العموم لا من عموم السلب فهو كقولك ما كل الرمان مأكول أي بل بعضه مأكول وبعضه غير مأكول وهنا يمكن حمل كلامه على أن مراده به أنه ليس كل الاحاديث التي تعزى إلى النبي

ص: 341

صلى الله تعالى علية وسلم صدقًا يعمل بها بل بعضها فإن منها ما هو الموضوع والضعيف والصحيح والحسن وما كان صحيحًا أو حسنًا فمنه المنسوخ والمأول وقد صرح المحدثون بأن حكمهم على الحديث بالصحة أو الضعف إنما هو بناء على الظاهر من حال الرواة إما في نفس الأمر فيمكن كون المحكوم بصحته لم يقله عليه الصلاة والسلام والمحكوم بضعفه قد قاله فإن الراوى الثقة الضابط يجوز عليه السهو والنسيان وغير الضابط ولو كانت عادته الكذب يجوز أن يكون احتاط وصدق فى حديث رواه فإنه كما قيل (قد يصدق الكذوب) وبعد هذا الاحتمال الذى هو المتبادر من مثل طالب العلم الذي له وقوف على هذه الاشياء كيف يحكم عليه بالكفر فضلًا عن الزندقة * قال في جامع الفصولين الطحاوى عن أصحابنا لا يخرج الرجل عن الإيمان الا جحود ما ادخله فيه ثم ما تيقن انه ردة يحكم بها فيه وما يشك انه ردة لا يحكم بها إذ الإسلام الثابت لا يزول بشك مع أن الإسلام يعلو وينبغي للعالم إذا رفع إليه هذا أن لا يبادر بتكفير أهل الإسلام مع أنه يقضى بصحة اسلام المكره انتهى * وفي الفتاوى الصغرى الكفر شئ عظيم فلا اجعل المؤمن كافر امتي وجدت رواية أنه لا يكفر انتهى * وفى الخلاصة وغيرها إذا كان في المسئلة وجوه توجت التكفير ووجه واحد يمنع التكفير فعلى المفتى أن يميل إلى الوجه الذي يمنع التكفير تحسينا للظن بالمسلم زاد فى البزازية الا إذا صرح بإرادة موجب الكفر * وفى التتارخانية لا يكفر بالمحتمل لأن الكفر نهاية في العقوبة فيستدعى نهاية في الجناية ومع الاحتمال لا نهاية كذا فى البحر * ثم قال صاحب البحر والذي تحررانه لا يفتى بكفر مسلم أمكن جل كلامه على محمل حسن أو كان في كفره اختلاف ولو رواية ضعيفة فعلى هذا فأكثر الفاظ التكفير المذكورة لا يفتى بالتكفير بها ولقد الزمت نفسى أن لا افتى بشئ منها انتهى قال الشيخ خير الدين الرملى ولو (وصليه) كانت الرواية لغير أهل مذهبنا ويدل على ذلك اشتراط كون ما يوجب الكفر مجمعا عليه انتهى (فقد) علم أن تكفير هذا القائل ممالا ينبغى القول به مع هذه النقول الصريحة عن أهل المذهب فكيف القول بكونه صار زنديقًا نعم أن كان مراد ذلك القائل الاستخفاف بأحاديث النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فلاشك أنه يكفر وان كنا لا نفتي بكفره لاحتمال كلامه المعنى الصحيح مالم نطلع على ما اراده من المعنى القبيح (ثم اعلم) أن الذي تحرر لنا من مسئلة الساب أن الحنفية فيها ثلاثة أقوال * الأول أنه تقبل توبته ويندرئ عنه القتل بهاوانه يستتاب كما هو رواية الوليد عن مالك وهو المنقول عن أبي حنيفة وأصحابه كما صرح بذلك علماء المذاهب الثلاثة كالقاضي عياض في الشفا وذكر أن الامام الطبرى نقله عنه إيضًا وكذا صرح به شيخ الإسلام ابن تيميه وكذا شيخ الإسلام النقي السبكي

ص: 342

وهو الموافق لما صرح به الحنفية كالامام أبي يوسف فى كتابه الخراج من أنه أن لم يتب قتل حيث علق قتله على عدم التوبة فدل على أنه لا يقتل بعدها ولما صرح به في النتف ونقلوه في عدة كتب عن شرح الطحاوى من أنه مرتد وحكمه حكم المرتد ويفعل به ما يفعل بالمرتد ولما صرح به فى الحاوى من أنه ليس له توبة سوى تجديد الإسلام وهو الموافق إيضًا لاطلاق عبارات المتون كافة وهى الموضوعة لنقل المذهب وهذا باطلاقه شامل لما قبل الرفع إلى الحاكم ولما بعده * والقول الثانى ما ذكره فى البزازية اخذا من الشفا والصارم المسلول من أنه لا تقبل توبته مطلقًا لاقبل الرفع ولا بعده وهو مذهب المالكية والحنابلة وتبعه على ذلك العلامة خسرو فى الدرر والمحقق ابن الهمام في فتح القدير وابن نجيم فى البحر والاشباه والتمرتاشى في التنوير والمنح والشيخ خير الدين في فتاواه وغيرهم * والقول الثالث ما ذكره المحقق أبو السعود افندى العمادي من التفصيل وهو أنه تقبل توبته قبل رفعه إلى الحاكم لا بعده وتبعه عليه الشيخ علاء الدين في الدر المختار وجعله مجمل القولين الأولين * وقد علمت أنه لا يمكن التوفيق به للمباينة الكلية بين القولين * وإن القول الثانى انكره كثير من الحنفية وقالوا أن صاحب البزازية تابع فيه مذهب الغير وكذا انكره أهل عصر صاحب البحر * وعلمت أيضًا أن الذي خط عليه كلام المحقق أبى السعود اخراهوان مذهبنا قبول التوبة وعدم القتل ولو بعد رفعه إلى الحاكم وهذا هو القول الأول بعينة ففيه رد على صاحب البزازية ومن تبعه وإنما جعلناه قولا ثالثا بناء على ما افاده أول كلامه تنزلا وارخاء للعنان (فيا اخى) هذه الاقوال الثلاثة بين يديك قد اوضحتها لك وعرضتها عليك * فاختر منها لنفسك * ما ينجيك عند حلول رمسك * وانصف من نفسك حتى تميز

(1)

غثها من سمينها ولجينها من لجينها * والذي يغلب على ظني في هذا الموضع الخطر والأمر العسر * واختاره لخاصة نفسى وارتضيه * ولا الزم أحدًا أن يقلدني فيه * على حسب ما ظهر لفكرى الفاتر * ونظرى القاصر* هو العمل بما ثبت نقله عن أبى حنيفة وأصحابه لامور (منها) أنه كما يلزم المجتهد اتباع ما أداه إليه اجتهاده يلزم المقلد له ما دام مقلدا له أن يتبعه في ذلك كما نصوا عليه * وفى حاشية الاشباه للبيرى في قاعدة المشقة تجلب التيسير ما نصه وفي ما يجب على هذه الأئمة في حق الائمة الاربعة لمولانا سيدى على بن ميمون أعلم أيها السائل أنه يجب على كل واحد منا متابعة أمامه في جميع ما بلغه عنه ومن لم يفعل فهو عاص الله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم انتهى (ومنها) أنه إذا كان

(1)

الغث بفتح الغين المعجمة المهزول واللجين بالضم مصغرا الفضة وكامير زبد افواه الابل منه

ص: 343

مع أبي حنيفة أحد صاحبيه لا يعدل عن قولهما فكيف بما ثبت أنه قوله وقول أصحابه (ومنها) أنه إذا اختلف المتقدمون والمتأخرون في مسئلة لا يعدل عما قاله المتقدمون كذا رايته في بعض كتب أصحابنا وقد نسيت الآن اسم ذلك الكتاب ثم رأيته ذكر ذلك في انفع الوسائل وفي حاشية الاشباه للغزى * ومثله ما فى جامع الفصولين قبيل الفصل العشرين رامزا للواقعات قال في ضمن مسئلة أجاب بعض أئمة زمانه وإن لم يعتمد على جوابهم الخ فهذا قول صاحب الواقعات فى ائمة زمانه فكيف من بعدهم * ومثله ما قدمناه عن فتح القدير من أنه لا عبرة بقول غير الفقهاء الذين هم المجتهدون وكذا ما قدمناه عن فتاوى الشيخ آمين الدين بن عبد العال (ومنها) ما صرحوا به من أنه إذا تعارض مافي المتون والشروح يقدم ما فى المتون لانها موضوعة لنقل ظاهر المذهب وقد علمت دلالة ما في المتون على مسئلتنا المذكورة دلالة ظاهرة (ومنها) أنه اتى بالشهادتين العاصمتين للدم والمال بالنص وقد حكمنا بإسلامه وقبول توبته عند الله تعالى فمن قال أن حده القتل ولا يسقط بتوبته لا بدله من دليل قاطع لأن الحدود من المقدرات ونصب المقادير بالرأى لا يصح ولم يصح عن مجتهدنا الذى جعلنا مذهبه قلادة في عنقنا قول ولا دليل حتى تتبعه بل وجدنا النقل عنه من الثقات بخلافه فكيف يسوغ القول به ولسنا مجتهدين ولا مقلدين لمجتهد آخر قائل بذلك (ومنها) أن أمر الدم خطر عظيم حتى لو فتح الامام حصنا أو بلدة وعلم أن فيها مسلمًا لا يحل له قتل أحد من أهلها لاحتمال أن يكون المقتول هو المسلم* فلو فرضنا أن هذه النقول قد تعارضت فالاحوط في حقنا أن لا نقتله لعدم الجزم بأنه مستحق القتل فإنه إذا دار الأمر بين تركه مع استحقاقه للقتل وبين قتله عدم استحقاقه له تعين تركه لخطر الدماء فإن استباحة دماء الموحدين خطر * قال فى الشفاء والخطا في ترك ألف كافر اهون من الخطأ في سفك محجمة من دم مسلم واحد وقد قال عليه الصلاة والسلام فاذا قالوها يعنى الشهادة عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله تعالى فالعصمة مقطوع بها مع الشهادة ولا ترتفع ويستباح خلافها الا بقاطع ولا قاطع من شرع ولا قياس عليه والادلة في ذلك متعارضة مع احتمالها للتأويل بلا نص صريح * وليس لنا أن ننصب بآرائنا حدوادا وزواجر وإنما كلفنا بالعمل بما ظهر أنه من شرع نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم فحيث قال لنا الشارع افتلو قتلنا وحيث قال لا تقتلو اتركنا وحيث لم نجد نصا قطعيا * ولا نقلًا عن مجتهدنا مرضيا * فعلينا أن نتوقف ولا نقول محبتنا لنبينا صلى الله تعالى عليه وسلم تقتضى أن نقتل من استطال عليه وإن اسلم

ص: 344

لأن المحبة شرطها الاتباع لا الابتداع فاننا نخشى أن يكون صلى الله تعالى عليه وسلم أول من يسألنا عن دمه يوم القيمة فالواجب علينا الكف عنه حيث اسلم وحسابه على ربه العالم بما فى قلبه كما كان صلى الله تعالى عليه وسلم يقبل الإسلام في الظاهر * ويكل الأمر إلى عالم السرائر (ومنها) أنه لو كان حده القتل وإن تاب عندنا لزم أن تكون علة القتل هى خصوص السب لا كونه من جزئيات الردة فيلزم قتل الساب إذا كان ذميًا لوجود العلة مع أن المتون مصرحة بأنه لا ينتقض عهده بذلك * نعم للحاكم قتله إذا رأى ذلك سياسة لاحدًا كما سيأتي مع بيان شرطه (ومنها) أنه إذا تعارض دليلان أحدهما يقتضى التحريم والآخر يقتضى الاباحة قدم المحرم كما نص عليه علماؤنا (ومنها) أن الحدود تدرأ بالشبهات * قال فى الاشباء والنظائر القاعدة السادسة الحدود تدرأ بالشبهات وهو حديث رواه الجلال السيوطى معزيا إلى ابن عدى من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما* وأخرج ابن ماجه من حديث أبى هريرة ادفعوا الحدود ما استطعتم وأخرج الترمذى والحاكم من حديث عائشة رضى الله تعالى عنها ادرؤ الحدود عن المسلمين ما استعطتم فإن وجدتم للمسلمين مخرجًا فخلوا سبيلهم فإن الإمام لأن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة * وأخرج الطبراني عن بن مسعود رضى الله تعالى عنه موقوفًا ادرؤ الحدود والقتل عن عباد الله ما استطعتم * وفى فتح القدير اجمع فقهاء الامصار على أن الحدود تدرأ بالشبهات والحديث المروى في ذلك متفق عليه وتلقته الامة بالقبول انتهى ما فى الاشباه (ومنها) ما قدمناه في قصة ابن أبي سرح فإنه بعد ما اسلم ارتدو وقع منه ما وقع من الافتراء والطعن على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ثم جاء به عثمان رضي الله تعالى عنه فبايعه صلى الله تعالى عليه وسلم وقبل إسلامه ولم يقتله فلو كان قتله حدا من الحدود الشرعية التي لا يجوز تركها ولا العفو عنها ولا الشفاعة فيها لما تركه صلى الله تعالى عليه وسلم مع أنه عليه الصلاة والسلام اعرض عنه أو لا حتى يقتله بعض أصحابه ورواية أنه اسلم قبل مجيئه لم تثبت بل أنكرها أهل السير كما ذكره الإمام السبكى* وقد وردان عثمان قال للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم بعد ذلك فى ابن أبى سرح أنه نفر منك كلما لقيك قال الم ابايعه واؤمنه قال بلى ولكنه يتذكر جرمه فى الإسلام فقال عليه الصلاة والسلام الإسلام يجب ما قبله ففيه بيان أن كلا من القتل والاثم زال بالاسلام وإن قتله كان حقا لله تعالى لاحقا لعبد والا لم يسقط بالاسلام * وما قيل أنه حقه صلى الله تعالى عليه وسلم وقد سقط بعفوه في حياته فلا يسقط بعد موته بالتوبة لعدم عفو صاحب الحق وإنما الساقط

ص: 345

بالتوبة الاثم ولهذا ورد من سب نبيا فاقتلوه * فجوابه أن لفظ العفو إنما اعتبر لا دلالة على الرضا بالسقوط وقد علم من كرمه صلى الله تعالى عليه وسلم أنه لا ينتقم لنفسه وانه أرحم لامته من انفسهم إلا أن تنتهك حرمات الله تعالى فينتقم الله وإذا صار ذلك حقالله تعالى سقط بالتوبة * وحديث من سب نبيا فاقتلوه مثل حديث من بدل دينه فاقتلوه فإن معناه مالم يتب باتفاق معظم المجتهدين فلا دلالة فيه على قتل المرتد مطلقًا فكذلك الساب وأيضًا فإن القتل ليس لخصوص السب عندنا بل لكونه من جزئيات الردة الموجبة للقتل وإلا لكان حده القتل وإن كان ذميًا والمذهب خلافه كما مر * ولو سلم أن السب علة القتل فمعلوم أنه إنما كان علة لما تضمينه من الكفر والردة وكل مرتد تقبل توبته فكذلك هذا * وكون العلة هي ذات السب مع قطع النظر عن كونه كفرًا حتى لو فرض سب بلا كفر يكون موجبًا للقتل فيبقى أثره بعد التوبة ولا يزول إلا بالقتل يحتاج إلى دليل خاص وفى اثباته تسكب العبرات والا لما ساغ المجتهد فيه خلاف * واما من أمر صلى الله تعالى عليه وسلم بقتلهم مثل كعب بن الاشرف وابي رافع وابن اخطل وغيرهم ممن اهدر دمه يوم فتح مكة فإنهم كانوا كفارًا ولا يثبت المطلوب إلا إذا ثبت أن أحدهم أسلم ثم اهدر صلى الله تعالى وسلم دمه ودونه خرط القتاد واسلام ابن أبي سرح لم يثبت كما مر فلم يكن أراد قتله بعد إسلامه وإنما أراد ذلك في حال ردته * وإما حكاية الاجماح على قتل الساب فإنما ذلك قبل التوبة بدليل قول الحاكين للاجماع ومن شك في كفره وقتله كفر إذ لا يصح ذلك بعد التوبة لقول كثير من المجتهدين بعدم قتله وكفره بعد التوبة * فلم يثبت دليل على قتله بعد التوبة وإن (وصلية) قلنا أن ذلك حق ادمى * كيف والدليل قام على خلافه وهو قوله صلى الله تعالى عليه وسلم الإسلام يجب ما قبله فإن كلمة ما عامة قيدخل فيها ما كان حقه فيكون ذلك عفوا منه صلى الله تعالى عليه وسلم بمنزلة قوله من أسلم عفوت عنه * ويؤيده كما قال الإمام السبكى أنه ورد فى قصة هبار بن الاسود بن عبد المطلب وكان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أمر بقتله ثم جاء ووقف عليه وتلفظ بالشهادتين وقال قد كنت مولعًا فى سبك واذاك وكنت مخذولًا فاصفح عنى قال الزبير رضى الله تعالى عنه فجعلت انظر إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وإنه ليطاطى رأسه مما يعتذر هبار و جعل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول قد عفوت عنك والاسلام يجب ما كان قبله فهذا يقتضى العموم وانه يجب ما كان قبله من السب وغيره وإن لم يكن هبار حين السب مسلمًا فإن العبرة لعموم اللفظ * فإن فرضننا أن قتل الساب حق آدمى وهو النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقد جعل إسلامه عفوا عنه

ص: 346

ولذا لم يثبت أنه قتل بعد الإسلام أحدًا آذاه فلا يسوغ للخليفه بعده استيفاء حقه الذي عفا عنه أو احتمل عفوه عنه وأن ثبت عدم عفوه فلا بد من دليل يدل على أن الخليفة بعده قائم مقامه في استيفاء حقه الخاص * وإن كان قتل الساب المصلحة الناس عامة لما اسقطه عليه الصلاة والسلام فى حياته مع أنه قد عفا عن ابن أبي سرح وغيره وإن كان ذلك لحق الله تعالى لاجترائه على انبياء الله تعالى ورسله والطعن في الدين فإنه يسقط بالاسلام فإنه يجب ما قبله وقد قال عز وجل ممم {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ} ممم إلى قوله {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} فهذه الآيات نص في قبول توبة المرتد ويدخل في عمومها لساب وفي الحديث الصحيح لا يحل دم امرئ يشهد أن لا اله إلا الله وإن محمدًا رسول الله الا بإحدى ثلاث الثيب الزاني والنفس بالنفس والمبدل لدينه المفارق للجماعة * والساب بعد إسلامه ليس متصفًا بشئ من هذه الثلاث ومن سب الله تعالى يقتل بالاجماع مالم يتب فكذا هذا * وكون السب إمارة على خبث باطنه لا يعارض الصريح وهو الإسلام بعده * الا ترى إلى قوله صلى الله تعالى عليه وسلم هلا شققت عن قلبه وقوله تعالى {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} وقوله عليه السلام امرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا اله إلا الله وقد كان عليه الصلات والسلام يقبل من المنافقين علانيتهم ويكل سرائرهم إلى الله تعالى مع أخبار الله تعالى له أنهم اتخذوا إيمانهم جنة أي وقاية وانهم يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد اسلامهم وهموا بمالم ينالوا إلى غير ذلك مما يطول المقام بذكره * وقد قال الإمام السبكي بعد تقريره أدلة المسئلة ولقد اقمت برهة من الدهر متوقفًا فى قبول توبته مائلًا إلى عدم قبولها لما قدمته من حكاية الفارسى الاجماع ولما يقال من التعليل بحق الآدمي حتى كان الان نظرت فى المسئلة حق النظر واستوفيت الفكر فكان هذا منتهى نظرى فإن كان صوابا فمن الله وإن كان خطأ فمنى والله ورسوله بريئان منه ولكنا متعبدون (بفتح الباء الموحودة المشددة) بما دل إليه علمنا وفهمنا اللهم إنك تعلم أن هذا الذى وصل إليه علمى وفهمى لم احاب به أحد أو لم اكذب فيه إمامًا غير ما فهمته من نفس شريعتك وسنة نبيك محمد صلى الله تعالى عليه وسلم انتهى كلامه رحمه الله تعالى (فهذا) الذي ذكرناه لك أن لم يدل دلالة قاطعة على صحة ما قلناه فلا اقل من أن يورث شبهة يستبرئ بها المتقى لدينه وعرضه من أن يجزم بحكم شرعى * بلا سند قوى * ومن تحيز مع الفئة التي تكون ارجى للسلامة * فقد خلص نفسه

ص: 347

من اللوم والندامه * وصور فى نفسك انك واقف بين يدى الله تعالى يوم القيامة * وقد اتبع كل مقلد امامه * وسألك عمن قلدته في هذه الفضية * وكان قد ثبت عندك قول إمامك بالنقول الجليه * هل يخلصك من بطشه قولك قلدت صاحب البزازيه * وأنت تعلم أنه ومن تبعه ليسوا من أهل الترجيح * فضلًا عن أن يكونوا من أهل الاجتهاد الصحيح * وأنه لا يسوغ لاحد فى هذه الاعصار سوى تقليد أحد الأئمة الاربعة * وأنه مادام مقلدا له فالواجب عليه أن يتبعه ولاسيما إذا كنت قاضيًا أو مفتيًا امرك موليك بمذهب خاص* فما جوابك هناك ولات حين مناص* وهذا ماقلته على اعتقادى خطابا لنفسى* ومن ظهر له ما ظهر لي من أهل جنسى* والا فليس لي في الزام غيرى باعتقادي مساغ * وما على الرسول إلا البلاغ (فإن قلت) قد ثبت عندنا بهذا التحرير * الساطع المنير* ارجحية القول بعدم القتل بعد الإسلام* وأنه هو الثابت عن أبي حنيفة وأصحابه الاعلام * لكن قد ذكر المحقق أبو السعود فى آخر كلامه الذي ذكرناه سابقا أنه ورد أمر سلطانى يعنى من جهة المرحوم السلطان سليمان خان لقضاة ممالكه بأن ينظروا في حال هذا الساب * إذا أسلم وتاب* أن ظهر لهم صلاحه وحسن توبته لا يقتل ويكتفى بتعزيره وحبسه عملًا بقول الحنفية* والا قتل عملًا بقول باقى الأئمة يعنى الحنابلة والمالكية* ومن المعلوم أن حضرة السلطان* نصره الرحمن له أن يولى القضاة* بأن يحكموا على أي مذهب كان* كما أن له أن يخصص القضاء بمذهب أو مكان أو زمان فحيث كان مدهبنا قبول التوبة مطلقًا فليكن حكم القاضى بعدم القبول حيث لم يظهر له حسن التوبة نافذا على قول الإمام مالك أو الإمام أحمد (قلت) ما أمر به المرحوم السلطان سليمان هو من الحسن بمكان * فانفس المؤمن لا تشتفى من هذا الساب اللعين* الطاعن فى سيد الآولين والآخرين* إلا بقتله وصلبه بعد تعذيبه وضربه* فإن ذلك هو اللائق بحاله* الزاجر لا مثاله* عن سيئ افعاله * فنتوصل إلى ذلك بالحكم به على مذهب القائل به من المجتهدين* لئلا يجعل التوبة وسيلة إلى خلاصه كلما أراد الشم والطعن في الدين * إما إذا علم منه حسن التوبة والايمان* وإن ما صدر منه إنما كان من هفوات اللسان فالاولى تعزيره بمادون القتل* جريا على مذهبنا الثابت بالنقل * بل ادعى الإمام السبكى أن عدم قتله ح محل وفاق حيث قال وارى أن مالكا وغيره من أئمة الدين لا يقولون بذلك أي عدم قبول التوبة إلا في محل التهمة فهو محمل قول مالك ومن وافقه انتهى لكن لى شبهة قدمة في هذه المسئلة وامثالها من حيث أن القاضى وكيل عن السلطان لأنه ماذون من جهته ونائب عنه

ص: 348

فإذا خصص له تخصص والا بقى على اطلاقه ومعلوم أن الاذن يبطل بموت الآذن له وبموت الماذون له وعزله فلابد لكل قاض من اذن جديد فإن كان سلطان زماننا ايده الله تعالى بنصره أذن بذلك للقاضى الذى يسمع تلك الدعوى صح وإلا فلا وفى ادب القضاة من الفتاوى الخيرية (سئل) فيما لو منع السلطان قضاته عن سماع ما مضى عليه خمس عشرة سنة من الدعاوى هل يستمر ذلك أبدًا أولًا (اجاب) لا يستمر ذلك أبدًا بل إذا اطلق السماع للمنوع بعد المنع جاز وكذا لو ولى غيره واطلق له ذلك يجرى على اطلاقه فيسمع كل دعوى وكذا لومات السلطان وولى سلطان غيره فولى قاضيًا ولم يمنعه بل اطلق له قائلا وليتك لتقضى بين الناس جاز له سماع كل دعوى إذا اتى المدعى بشرائط صحتها الشرعية* والحاصل أن القاضى وكيل عن السلطان والوكيل يستفيد التصرف من موكله فإذا خصص له تخصص وإذا عمم تعمم والقضاء يتخصص بالزمان والمكان والحوادث والاشخاص وإذا اختلف المدعى والمدعى عليه فى المنع وإلا طلاق فالمرجع هو القاضى لأن وجوب سماع الدعوى وعدمه خاص به لا تعلق للمتداعيين به فإذا قال منعنى السلطان عن سماعها لا ينازع في ذلك وإذا قال اطلق لى سماعها كان القول قوله مالم يثبت المحكوم عليه المنع بالبينة الشرعية بعد الحكم عليه لخصمه فيتبين بطلان الحكم لأنه ليس قاضيًا فيما منع عنه فحكمه حكم الرعية في ذلك وإذا اتاه خبر بالمنع من عدل أو كتاب أو رسول عمل به كما يعمل بالمشافهة من السلطان ومن علم أنه وكيل عنه وعلم احكام الوكيل استخرج مسائل كثيرة تتعلق هذا المبحث وهان الأمر وانكشف له الحال والله تعالى أعلم انتهى ما في الخيرية (فإن قلت) سلمنا أن القاضى وكيل عن موليه لكن نقل العلامة الحموى في حاشية الاشباء من كتاب القضاء عن بعض العلماء أنه علم من عادة سلاطيننا نصرهم الله تعالى أنه إذا تولى سلطان عرض عليه قانون من قبله وأخذ امره باتباعه* قال الحموى اقول اخبرنى استاذى شيخ الإسلام يحى افندى الشهير بالمنقارى أن السلاطين الآن يأمرون قضاتهم في جميع ولاياتهم أن لا يسمعوا دعوى بعد مضى خمس عشرة سنة سوى الوقف والارث انتهى (قلت) أخذ الأمر باتباع السلطان لمن قبله بمعنى أنه يلزم نفسه باتباع قانون من قبله أي أنه إذا ولى قاضيًا مثلًا يأمره بما كان من قبله يأمر قضاته به وهذا لا يلزم منه أن تكون قضاته مامورين بالأوامر السابقة بل لا بدله حين التولية أن يأمره بذلك* فلو قال لرجل وليتك قضاء الشام مثلًا فقد صار نائبا عنه مطلقًا فإذا قال له وانهاك أن تسمع دعوى مضى عليها خمس عشرة سنة صار ذلك

ص: 349

تخصيصًا للاطلاق وصار معزولًا عن سماعها وحكمه حكم الرعية فيها * ومما هو محقق في قضاة زماننا أنه يكتب للقاضى منهم في منشوره تقييده بالحكم بما صح من أقوال أبى حنيفة فليس له أن يحكم بالضعيف ولا بالمرجوح فضلًا عن الحكم بمذهب المالكي أو الحنبلي إلا إذا استثنى له مسئلة الساب وكون المرحوم السلطان سليمان استثناها لقضاة ممالكه إذا لم يظهر حسن توبته وإسلامه لا يلزم منه أن تكون مستثناة القضاة زماننا بل لو ولى سلطان زماننا ايده الله تعالى قاضيًا وامره بالحكم بما صح من قول أبى حنيفة إلا في مسئلة الساب ثم عزله وولاه مرة ثانية أو ولى غيره لا بد له من أمر جديد واستثناء جديد كما لو وكل وكيلًا وكالة مطلقة الا كذا ثم عزله ووكله ثانيًا وكالة مطلقة ولم يستثن له شيئا (فإن قلت) المظنون بهم من الخير والصلاح والوفاء بالعهد انهم لا يولون القضاة الأعلى حسب ما عهد إليهم حتى صار ذلك عرفًا شائعًا معلومًا عندهم ولا يحتاج أن ينص لكل قاض في منشوره على ذلك بل العرف المذكور يفيده حيث كان القاضي كالوكيل وقد صرحوا بانه لو وكل رجلًا بشراء شئ وكان سعره معروفًا فاشتراه بازيد لا ينفذ على الموكل وكذا لو وكله بيع شئ فباعه بالنسيئة إلى أجل لا يباع إلى مثله عادة لا ينفذ عليه وما ذاك الا لما صرحوا به من أن المعروف عرفا كالمشروط شرطا ويؤيد ذلك ذكرهم في الكتب عدم سماع الدعوى بعد خمس عشرة سنة للامر السلطاني فلو لم يكن الحال كما ذكرنا لاحتاجوا أن يقيدوا ذلك بزمن السلطان الآمر أو أن ورد أمر حادث من كل سلطان ولو كان ينقضى حكمه بالعزل أو الموت لم يكن لذكرهم ذلك فى الكتب كبير فائدة (قلت) هذا كلام حسن فإن من رأيناه من أهل الافتاء ومن قبلهم لا يزالون يفتون بعدم سماع الدعوى التي مضى عليها خمس عشرة سنة ويعللون ذلك بالنهى السلطاني عن سماعها مع أن لم نتحقق النهى من كل سلطان لكل قاض فالظاهر بناء ذلك على ما ذكر فى السؤال فإن هذه المسئلة مما شاعت وزاعت بين الخاص والعام حتى أن القاضى إذا أراد سماع الدعوى بعد خمس عشرة سنة يعرض للدولة العلية حتى يأذن له حضرة السلطان بسماعها ولكن مسئلة الساب لم يشتهر أمر السلطاني سليمان بها حتى أنه لا يعرف ذلك الاخواص الخواص * لكن قد يقال هي داخلة في عموم العهد الذى يلتزمه كل سلطان من سلاطين زماننا فلا يولون القضاة الأعلى حسب ما التزموه من العهد بناء على ماهو المظنون بهم من الخير والصلاح لكن إذا كان ذلك مبنيا على هذا الظن كان ذلك شبهة في اسقاط الحدود فان حكم القاضي بأن حد الساب القتل لا ينفذ حتى يثبت أنه ماذون له بذلك على مذهب

ص: 350

مالك أو أجد مع أن الثابت في منشور كل قاض في زماننا تقييد الحكم بأصح أقوال أبي حنيفة فليس له الحكم بغير الأصح من المذهب فكيف بمذهب الغير *وهذا التقييد صريح فيعارض دلالة الحال المظنونة المحتملة* وقد علمت أن عدم قبول توبة انساب لم يثبت عن أبي حنيفة فضلًا عن كونه الأصح في مذهبه وحيث كان ذلك مذهب الغير كما حققناه وصرح به المولى أبو السعود أيضًا فلابد لصحة الحكم به من صريح الاذن حتى يكون ذلك استثناء مما قيده له في منشوره صريحًا وإلا فالاحتمال *لا يعارض الصريح بحال (على) أن القاضى المقلد لو حكم بخلاف مذهبه ففى نفاذه كلام فمال صاحب البحر تبعا للبزازية إلى النفاذ* ولكن نقل في القنية عن المحيط وغيره عدم النفاذ وجزم به المحقق في فتح القدير وتلميذه العلامة قاسم* وقال في النهران ما في الفتح يجب أن يعول عليه في المذهب وما في البزازية محمول على أنه رواية عنهما انتهى* ولا يخفى أن الخلاف المذكور إنما هو حيث لم يقيد له موليه الحكم بمذهب أبى حنيفة فلو قيد كما هو الواقع الآن وكان القاضي حنفيًا فلا يتأتى الخلاف لأنَّه معزول من جهة موليه عن الحكم بغير مذهبه* فقد اجتمع عليه التقييد من جهتين جهة تقييد السلطان له بذلك وجهة التزامه في نفسه لذلك المذهب وكل واحدة من الجهتين بخصوصها مانعة من نفاذ حكمه على خلاف مذهبه الذى اعتقد صحته واعتمد أن يجعله حجته عند ربه تعالى (فلهذا) كتبت في تنقيح الحامدية أنه حيث لم يظهر للقاضي حسن توبة هذا الساب ومال إلى قتله فلابد له من أن ينصب قاضيًا حنبليًا أو مالكيًا ليحكم بذلك على مذهبه وينفذه القاضى الحنفي فيرتفع الخلاف لأن المسئلة اجتهادية ولكن لابد أن يكون ذلك القاضى مأذونًا بتولية القضاة وهو المسمى قاضي القضاة كقاضى مصر ودمشق الشام ونحوهما والله تعالى أعلم (هذا) غاية ما وصل إليه علمي* وانتهى إليه فهمي* في تقرير هذه المسائل* بحسب ما ظهر لي من النقول والدلائل* فإن كان صوابًا فهو من الله تعالى بمدد رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم وإن كان خطأ فهو من نفسى وأنا أعرض ذلك بين يدي ساداتي العلماء * الذين جعلهم الله تعالى على شرعه أمناء* فمن ظهر له حسنه فليتبعه وليدع لي بالرحمة* ومن ظهر له خلاف ذلك فليجتنبه وليستغفر لي من هذه الوصمة.

{تتمة} قال الإمام السبكي رحمه الله تعالى اعلم أنا وإن اخترنا أن من أسلم وحسن إسلامه تقبل توبته ويسقط قتله وهو ناج في الآخرة ولكنا نخاف على من يصدر ذلك منه خاتمة السوء نسأل الله تعالى العافية فإن التعرض لجناب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عظيم وغيرة الله له شديدة وجايته بالغة

ص: 351

فيخاف على من وقع فيه بسب أو عيب أو تنقص أو أمر ما أن يخذله الله تعالى ولا يرجع له ايمان ولا يوفقه لهدايته ولهذا ترى الكفرة في القلاع والحصون متى تعرضوا لذلك هلكوا وكثير ممن رأيناه وسمعنا به تعرض لشيء من ذلك وإن نجا من القتل في الدنيا بلغنا عنهم خاتمة ردية نسأل الله تعالى السلامة وليس ذلك ببدع لغيرة الله تعالى لنبيه صلى الله تعالى عليه وسلم وما من أحد وقع في شيء من ذلك في هذه الأزمنة مما شاهدناه أو سمعناه الا لم يزل منكوسا في اموره كلها في حياته ومماته فالحذر كل الحذر والتحفظ كل التحفظ وجمع اللسان والقلب عن الكلام في الأنبياء إلا بالتعظيم والإجلال والتوقير والصلاة والتسليم وذلك بعض ما أوجب الله تعالى لهم من التعظيم.

(الفصل الثالث) في حكم الساب من أهل الذمة قال الإمام السبكى في السيف المسلول قال أبو سليمان الخطابي قال مالك من شتم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم من اليهود والنصارى قتل إلا أن يسلم وكذا قال أحمد * وقال الشافعي يقتل الذمي إذا سب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وتبرأ منه الذمة واحتج في ذلك بخبر كعب ابن الأشرف * وحكى عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى قال لا يقتل الذمي بشتم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لأن ما هم عليه من الشرك أعظم وقال القاضي عياض إما الذى إذا صرح بسب أو عرض أو استخف بقدره أو وصفه بغير الوجه الذى كفر به فلا خلاف عندنا في قتله أن لم يسلم لانا لم نعطه الذمة والعهد على هذا وهو قول عامة العلماء إلا أبا حنيفة والثورى واتباعهما من أهل الكوفة فإنهم قالوا لا يقتل لأن ما هو عليه من الشرك أعظم ولكن يؤدب ويعزر * وقال الإمام السبكي أيضًا ما حاصله لا أعلم خلافًا بين القائلين بقتله من المذاهب الثلاثة المالكية والشافعية والحنابلة في أنه لا تصح توبته مع بقائه على الكفر إما إذا أسلم ففي كل من المذاهب الثلاثة خلاف إما المالكية فمن مالك روايتان مشهورتان في سقوط القتل عنه بالإسلام وإن قالوا في المسلم لا يسقط القتل عنه بالإسلام بعد السب أي على الرواية المشهورة عن مالك خلافًا لرواية الوليد عنه وإما الحنابلة فكذلك عندهم في توبة الساب ثلاث روايات أحداها تقبل توبته مطلقًا أي مسلمًا كان أو كافرًا الثانية لا تقبل مطلقًا الثالثة تقبل توبة الذمى بالإسلام لا توبة المسلم والمشهور عندهم عدم القبول مطلقًا * وأما الشافعية فالمشهور عندهم القبول مطلقًا * وأما استتابته فإن قلنا لا يسقط القتل عنه بالإسلام فلا يستتاب وإن قلنا يسقط فقد ذهب بعض العلماء أيضًا إلى أنه لا يستتاب ويكون كالاسير الحربي يقتل قبل الاستتابة فإن أسلم سقط عنه القتل وهذا وجه في مذهب أحمد على الرواية بسقوط

ص: 352

القتل بالإسلام وقريب منه في مذهب مالك وإما أصحاب الشافعي فلم يصرحوا بذلك وقد تقدم عنهم في المسلم أنه يستتاب والوجه القطع هنا بأن الاستتابة لا تجب إما استحبابها فلا يبعد القول به اهـ.

(أقول) والمصرح به عندنا في المتون والشروح أن الذمي لا ينتقض عهده بسب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وكذا بالاباء عن الجزية والزنا بمسلمة وقتل مسلم * وذكر شيخ الإسلام العلامة العينى رواية في نقض عهده في الامتناع عن أداء الجزية ونقل عن الشافعي انتقاضه بالسب ثم قال واختيارى هذا أي ما قاله الشافعي * وقال العلامة المحقق الشيخ كمال الدين ابن الهمام والذي عندى أن سبه صلى الله تعالى عليه وسلم أو نسبة ما لا ينبغى إلى الله تعالى أن كان مما لا يعتقدونه كنسبة الولد إلى الله تعالى وتقدسن عن ذلك إذا اظهره يقتل به وينتقض عهده وإن لم يظهره ولكن عثر عليه وهو يكتمه فلا وهذا لأن دفع القتل والقتال عنهم بقبول الجزية الذي هو المراد بالاعطاء مقيد بكونهم صاغرين أذلاء بالنص ولا خلاف أن المراد استمرار ذلك لا عند مجرد القبول وإظهار ذلك منه ينافى قيد قبول الجزية دافعًا لقتله لأنَّه الغاية في التمرد وعدم الالتفات والاستخفاف بالإسلام والمسلمين فلا يكون جاريًا على العقد الذى يدفع عنه القتل وهو أن يكون صاغرًا ذليلًا الخ* ورده في البحر بأنه بحث مخالف للمذهب قال وقد أفاد العلامة قاسم في فتاواه أنه لا يعمل بابحاث شيخه ابن الهمام المخالفة للمذهب نعم نفس المؤمن تميل إلى مذهب المخالف في مسئلة السب لكن اتباعنا للمذهب واجب وفى الحاوى القدسى ويؤدب الذمي ويعاقب على شتمه دين الإسلام أو النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أو القرآن انتهى كلام البحر* وكذا رد ما ذكره الإمام العينى بأنه لا أصل له في الرواية وأجاب العلامة الشيخ خير الدين الرملي في حواشيه على البحر بأنه لا يلزم من عدم النقض عدم القتل وقوله لا أصل له في الرواية فاسد إذ صرحوا قاطبة بأنه يعزر على ذلك ويؤدب وهو يدل على جواز قتله زجرا لغيره إذ يجوز الترقى في التعزير إلى القتل إذا عظم موجبه ومذهب الشافعى عدم النقض به كمذهبنا على الأصح قال ابن السبكي لا ينبغى أن يفهم من عدم الانتقاض أنه لا يقتل فإن ذلك لا يلزم وقد حقق ذلك الوالد في كتابه السيف المسلول وصحيح أنه يقتل وإن (وصليه) قلنا بعدم انتقاض العهد انتهى كلام ابن السبكي فانظر إلى قوله لا ينبغي أن يفهم من عدم الانتقاض أن لا يقتل وليس في المذهب ما ينفى قتله خصوصًا إذا اظهر ماهو الغاية في التمرد وعدم الاكتراث والاستخفاف واستعلى على المسلمين على وجه صار متمردًا عليهم فما بحثه في الفتح في النقض مسلم مخالفته للمذهب وأما ما بحثه في القتل فغير مسلم

ص: 353

مخالفته للمذهب تأمل انتهى كلام الخير الرملى وقال شيخ الإسلام الشيخ على المقدسي في شرحه على نظم الكنز بعد نقله كلام العينى والفتح ما نصه وهو مما يميل إليه كل مسلم والمتون والشروح خلاف ذلك أقول ولنا أن نؤدب الذمي تعزيرًا شديدا بحيث لو مات كان دمه هدرًا كما عرف أن من مات في تعزيرًا وحد لا شيء فيه انتهى

(والحاصل) أن الذمي يجوز قتله عندنا لكن لا حدا بل تعزيرًا فقتله ليس مخالفًا للمذهب وإما أنه ينتقض عهده فمخالف للمذهب أي على ما هو المشهور منه في المتون والشروح وإلا ففى حاشية السيد محمد أبى السعود الازهرى على شرح منلا مسكين قال وفى الذخيرة إذا ذكره بسوء يعتقده ويتدين به بأن قال أنه ليس برسول أو أنه قتل اليهود بغير حق أو نسبه إلى الكذب فعند بعض الأئمة لا ينتقض عهده إما إذا ذكره بما لا يعتقده ولا يتدين به كما لو نسبه إلى الزنا أو طعن في نسبه ينتقض انتهى * وبه يتأيد ما بحثه الإمام العيني والمحقق ابن الهمام من حيث الانتقاض أيضًا فليس خارجًا عن المذهب بالكلية نعم هو خلاف المشهور

(وقال) الشيخ تقى الدين بن تيمية في الصارم المسلول عند ذكره مذهب الحنفية في هذه المسئلة ما نصه وأما أبو حنيفة وأصحابه فقالوا لا ينتقض العهد بالسب ولا يقتل الذمي بذلك لكن يعزر على إظهار ذلك كما يعزر على إظهار المنكرات التي ليس لهم فعلها كإظهار أصواتهم بكتابهم ونحو ذلك وحكاه الطحاوى عن الثورى ومن أصولهم يعنى الحنفية أن ما لا قتل فيه عندهم مثل القتل بالمثقل والجماع في غير القبل إذا تكرر فللإمام أن يقتل فاعله وكذلك له أن يزيد على الحد المقدر إذا رأى المصلحة في ذلك ويحملون ما جاء عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وعن أصحابه من القتل في مثل هذه الجرائم على أنه رأى المصلحة في ذلك ويسمونه القتل سياسة وكان حاصله أن له أن يعزر بالقتل في الجرائم التي تعظمت بالتكرار وشرع القتل في جنسها ولهذا أفتى أكثرهم بقتل أكثر من سب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم من أهل الذمة وإن أسلم بعد أخذه وقالوا يقتل سياسة وهذا متوجه على أصولهم انتهى كلام الحافظ ابن تيمية * فانظر كيف نسب القول بقتله سياسة إلى أكثر الحنفية وابن تيمية كان في عصر السبعمائة (بتقديم السين) فالذين نقل عنهم أن لم يكونوا من المتقدمين أهل الاجتهاد فهم من أهل الترجيح أو من يماثلهم* ولهذا قال في الدر المختار قلت وبه أفتى شيخيا الخير الرملي وهو قول الشافعى ثم رأيت في معروضات المفتى أبى السعود أنه ورد أمر سلطاني بالعمل بقول أئمتنا القائلين بقتله إذا ظهر أنه معتاده و به أفتى ثم أفتى في بكر اليهودى قال لبشر النصراني نبيكم عيسى عليه السلام ولد

ص: 354

زنا بأنه يقتل لسبه للأنبياء عليهم الصلاة والسلام انتهى* قلت ويؤيده أن ابن كمال باشا في أحاديثه الأربعينية في الحديث الرابع والثلاثين يا عائشة لا تكوني فاحشة قال ما نصه والحق أنه يقتل عندنا إذا أعلن بشتمه عليه الصلاة والسلام صرح به في سير الذخيرة حيث قال واستدل محمد لبيان قتل المرأة إذا أعلنت بشتم الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم بما روي أن

(1)

عمر بن عدي لما سمع عصماء بنت مروان تؤذى الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم فقتلها ليلا فمدحه صلى الله تعالى عليه وسلم على ذلك انتهى ما في الدر المختار للشيخ علاء الدين رحمه الله تعالى * وعصماء هذه ذكر قصتها الإمام السبكي عن الإمام الواقدى وغيره وحاصلها إنها كانت تؤذى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وتحرض عليه وقالت فيه شعرا وقال ابن عبد البر في الاستيعاب عمير الخطمي القارى من بني خطمة من الأنصار كان أعمى وكانت له أخت تشتم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقتلها الخ* لا يقال كيف قتلت مع أن النساء لا يقتلن للكفر عندنا لانا نقول إنما قتلت لسعيها في الأرض بالسفاد لأنها كانت تهجو النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وتؤذيه وتحرض الكفار عليه وقد صرحوا بأن الساحر يقتل ولو امرأه ولاشك أن ضرر هذه أشد من الساحر والزنديق وقاطع الطريق فمن أعلن بشتمه صلى الله تعالى عليه وسلم مثل هذه يقتل وبما نقله في الدر المختار عن ابن كمال علم أن ما بحثه في فتح القدير من قتل الذمي الساب قول محرر المذهب الإمام محمد ابن الحسن وقدمنا أنه أفتى به أكثر الحنفية وإن أسلم بعد أخذه فلم يكن مخالفًا للمذهب وإن كان المذهب عندنا أنه لا ينتقض عهده أي لا يصير حربيا بحيث يسترق ويصير ماله فيأ للمسلمين وهو موافق لما في المتون والشروح حيث قالوا ولا ينتقض عهده ولم يقولوا ولا يقتل ولا يلزم من عدم نقض عهده عدم قتله فيقتل عندنا سياسة إذا تكرر منه ذلك وأعلن به وإن أسلم على ما نقله سيخ الإسلام ابن تيمية عن أكثر الحنفية (فإن قلت) ما الفرق بينه وبين المسلم حيث جزمت بأن مذهب أبي حنيفة وأصحابه أن الساب المسلم إذا تاب وأسلم لا يقتل (قلت) المسلم ظاهر حاله أن السب إنما صدر منه عن غيظ وجق وسبق لسان لا عن اعتقاد جازم فإذا تاب وأناب وأسلم قبلنا إسلامه بخلاف الكافر فإن ظاهر حاله يدل على اعتقاد ما يقول وأنَّه أراد الطمن في الدين ولذلك قلنا فيما مر أن المسلم أيضًا إذا تكرر منه ذلك وصار معروفًا بهذا الاعتقاد داعيًا إليه يقتل ولا تقبل توبته وإسلامه كالزنديق فلا فرق ح بين المسلم والذمى لأن كلا منهما إذا تكرر منه ذلك وصار معروفًا به دل ذلك على أنه يعتقد

(1)

قوله أن عمر كذا في الدر المختار وصوابه عمير بالتصغير منه.

ص: 355

ما يقول وعلى خبث باطنه وظاهره وسعيه في الأرض بالفساد وإن توبته إنما كانت تقية ليدفع بها عن نفسه القتل ويتمكن من أذية رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأمته المؤمنين ويضل من شاء من ضعفة اليقين (قال) في التتارخانيه وسئل فقهاء سمرقند في سنة سبع وستين وثلاثمائة عن رجل يظهر الإسلام ويصلى ويصوم ويظهر التوحيد والايمان محمد صلى الله تعالى عليه وسلم سنين كثيرة ثم أقر على نفسه بأني كنت في هذه السنين الماضية معتقدا لمذهب القرامطة وكنت أدعو الناس والآن قد تبت ورجعت إلى الإسلام وهو يظهر الآن ما كان يظهر من قبل من دين الإسلام إلا أنه يتهم بمذهب القرامطه كما كان يتهم وكان سبب إقراره أنه عثر عليه وهدد بالقتل حتى أقر بمذهبه قال أبو عبد الكريم بن محمد أن قتل القرامطة في الجملة واجب واستيصالهم فرض لأنهم في الحقيقة كفار مرتدون وفسادهم في دين الإسلام أعظم الفساد وضررهم أشد الضرر (وأما الجواب) في مثل هذا الواحد الذى وصف في هذا السؤال فإن بعض مشايخنا قال يتغفل فيقتل أي تطلب غفلته في عرفان مذهبه وقال بعضهم يقتل من غير استغفال لأن من ظهر منه اعتقاد هذا المذهب ودعا الناس لا يصدق فيما يدعى بعد ذلك من التوبة ولو أنه قبل منه ذلك هدموا الإسلام وأضلوا المسلمين من غير أن يمكن قتلهم انتهى * وأطال في ذلك ونقل عدة فتاوى عن أئمتنا وغيرهم بنحو ذلك فراجعه * والمقصود من نقله بيان عدم قبول توبة من وقفنا على خبث باطنه وخشية ضرره وإضلاله فلا نقبل إسلامه وتوبته وإن كان يظهر الإسلام فكيف بمن كان كافرًا خبيث الاعتقاد* وتجاهر بالشتم والإلحاد * ثم لما رأى الحسام * بادر إلى الإسلام * فلا ينبغي لمسلم التوقف في قتله، وإن تاب لكن بشرط تكرر ذلك منه وتجاهره به* كما علمته مما نقلنا عن الحافظ ابن تيمية عن أكثر الحنفية ومما نقلناه عن المفتي أبى السعود (فإن قلت) قال ابن المؤيد في فتاواه كل من سب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أو أبغضه كان مرتدًا وأما ذووا العهود من الكفار إذا فعلوا ذلك لم يخرجوا من عهودهم وأمروا أن لا يعودوا فإن عادوا عزروا ولم يقتلوا كذا في شرح الطحاوى انتهى فهذا مخالف لما مر من القتل سياسة (قلت قد يجاب بحمل هذا على ما إذا عثر عليهم وهم يكتمونه ولم يتجاهروا به أو يراد بقوله ولم يقتلوا أي حدا لزوما بل سياسة مفوضة إلى رأي الإمام يفعلها حيث رأى بها المصلحة قال في متن الملتقى من كتاب الحدود ولا يجمع بين جلد ورجم ولا بين جلد ونفي الاسياسة * قال العلائي في شرحه بعد قوله الاسياسة أي مصلحة وتعزير أو هذا لا يختص بالزنابل

ص: 356

يجوز في كل جناية رأى الإمام المصلحة في النفي والقتل كقتل مبتدع توهم انتشار بدعته وإن لم يحكم بكفره إلى آخر ما أطال به هناك فراجعه* وفيه عن شرح الباقاني والبحر والنهر ما نصه واعلم أنهم يذكرون في حكم السياسة أن الإمام يفعلها ولم يقولوا القاضى وظاهره أن القاضى ليس له الحكم بالسياسة ولا العمل بها انتهى* وعليه فقوله ولم يقتلوا أي * يحكم القاضى بقتلهم بل هو مفوض لرأي الإمام كما قلنا والله تعالى أعلم.

(خاتمة) قال في الشفاء وحكم من سب سائر أنبياء الله تعالى وملائكته أو استخف بهم أو كذبهم فيما أتوا به أو أنكرهم أو جحدهم حكم نبينا عليه السلام على مساق ما قدمناه فمن شتم الأنبياء أو واحدًا منهم أو تنقصه قتل ولم يستتب ومن سبهم من أهل الذمة قتل إلا أن يسلم وقول أبى حنيفة وأصحابه على أصلهم من كذب بأحد الأنبياء أو تنقص أحدًا منهم أو برئ منه فهو مرتد انتهى ملخصا* ثم قال وهذا فيمن تكلم فيهم على جملة الملائكة والنبيين أو على معين ممن حققنا كونه منهم إما من لم يثبت بالاخبار أو الإجماع كونه منهم كهاروت وماروت والخضر ولقمان وذى القرنين ومريم وآسية وخالد بن سنان فليس الحكم في سابهم كذلك ولكن يزجر ويؤدب بقدر حال المقول فيه انتهى ملخطا، وكذا قال الإمام السبكى سب سائر الأنبياء والملائكة كسب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بلا خلاف انتهى * وذكر مثله شيخ الإسلام ابن تيمية ونصوص أئمتنا من الفروع التي ذكروها في كتبهم صريحة في ذلك أيضًا أعرضنا عنها خشية التطويل ولسهولة مراجعتها لمن أرادها وقد أكثر أئمتنا من ذكر الألفاظ والأفعال المكفرة مما هو سب أو استخفاف بنبينا أو غيره من الأنبياء أو الملائكة عليه وعليهم الصلاة والسلام قدمنا بعضها في أوائل الفصل الثانى* واعلم أن ما ذكرناه من أبحاث هذه المسئلة في هذا الباب* نبذة يسيرة مما تركناه خشية الاطناب* ولكن في ذلك كفاية لذوي الألباب * والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.

(الباب الثاني) في حكم ساب أحد الصحابة رضى الله تعالى عنهم* اعلم أرشدنى الله وإياك * وتولى هداي وهداك * أن أفضل الأمة بعد نبيها صلى الله تعالى عليه وسلم أصحابه الذين نصروه * وبذلوا مهجهم في مرضاته وليس من مؤمن ولا مؤمنة إلا ولهم في عنقه أعظم منة فيجب علينا تعظيمهم واحترامهم ويحرم سبهم والطعن فيهم ونسكت عما جرى بينهم من الحروب فإنه كان عن اجتهاد هذا كله مذهب أهل الحق وهم أهل السنة والجماعة وهم الصحابة والتابعون والأئمة المجتهدون ومن خرج عن هذا الطريق فهو ضال مبتدع أو كافر (قال) القاضي عياض في آخر فصل من الشفاء سب آل بيته وأزواجه وأصحابه عليه الصلاة والسلام

ص: 357

حرام ثم قال بعد سوقه لبعض ما ورد في فضلهم وفي حق من آذاهم* وقد اختلف العلماء في هذا فمشهور مذهب مالك في ذلك الاجتهاد والأدب الموجع قال مالك رحمه الله تعالى من شتم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قتل ومن شتم أصحابه أدب وقال أيضًا من شتم أحدًا من أصحاب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أبا بكر أو عمر أو عثمان أو معاوية أو عمرو بن العاص فإن قال كانوا في ضلال

(1)

قتل وإن شتمهم يغير هذا من مشاتمة الناس نكل نكالًا شديدًا* وقال ابن حبيب من غلا من الشيعة إلى بغض عثمان والبراءة منه أدب أدبًا شديدًا ومن زاد إلى بغض أبى بكر وعمر فالعقوبة أشد ويكرر ضربه ويطال سجنه حتى يموت ولا يبلغ به القتل إلا بسب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وقال سحنون من كفر أحدًا من أصحاب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عليا أو عثمان أو غيرهما يوجع ضربًا وحكى أبو محمد بن زيد عن سحنون من قال في أبي بكر وعمر وعثمان وعلى أنهم كانوا في ضلال وكفر قتل ومن شتم غيرهم من الصحابة بمثل هذا نكل النكال الشديد وروى عن مالك من سب أبا بكر جلد ومن سب عائشة قتل ثم حكى القاضي عياض قولين فيمن سب غير عائشة من أزواج النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أحدهما أنه يقتل لأنَّه سب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بسب حليلته والآخر أنها كسائر الصحابة يجلد حد المفترى قال وبالأول أقول انتهى.

(وقال) شيخ الإسلام ابن تيمية قال القاضي أبو يعلى من قذف عائشة بما برأها الله تعالى منه كفر بلا خلاف وقد حكى الإجماع على هذا غير واحد والأصح أن من قذف واحدة من أمهات المؤمنين فهو كقذف عائشة وأما من سب أحدًا من أصحابه صلى الله تعالى عليه وسلم من أهل بيته أو غيرهم فقد أطلق الإمام أحمد أنه يضرب ضربًا نكالًا وتوقف عن كفره وقتله * قال أبو طالب سألت أحمد عمن شتم أصحاب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال القتل أجبن عنه ولكن اضربه ضربًا نكالًا* وقال ابن المنذر لا أعلم أحدًا يوجب قتل من سب من بعد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم * وقال القاضي أبو يعلى الذي عليه الفقهاء في سب الصحابة أن كان مستحلا لذلك كفر وإلا فسق ولم يكفر سواء كفرهم أو طعن في دينهم مع إسلامهم وقد قطع طائفة من الفقهاء من أهل الكوفة وغيرهم بقتل من سب الصحابة وكفر الرافضة وصرح جماعات من أصحابنا بكفر الخوارج المعتقدين البراءة من علي وعثمان ويكفر الرافضة الذين كفرو الصحابة وفسقوهم وسبوهم اهـ ملخصا

(1)

قوله قتل أي لأنَّه اعتقد ما هم عليه كفرا مع أنهم كانوا في أعلا مراتب الدين ومن اعتقد الإسلام كفرا فقد كفر تأمل منه.

ص: 358

وقد أطال كثيرًا وأطاب فراجعه ولخص نبذة من كلامه الإمام السبكي ولم يزد شيأ.

(وقال) العلامة ابن حجر المكي في كتابه الأعلام في قواطع الإسلام وفى وجه حكاه القاضي حسين في تعليقه أنه يلحق بسب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم سب الشيخين وعثمان وعلى وعبارة البغوى من أنكر خلافة أبي بكر يبدع ولا يكفر ومن سب أحدًا من الصحابة ولم يستحل يفسق واختلفوا في كفر من سب الشيخين قال الزركشي كالسبكي وينبغي أن يكون الخلاف فيما إذا سبه لأمر خاص به إما لو سبه لكونه صحابيًا فينبغى القطع بتكفيره لأن ذلك استخفاف بحق الصحابة وفيه تعريض بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم انتهى.

* هذا خلاصة ما في المسئلة لأئمة المذاهب الثلاثة.

(فصل) في نقل بعض ما رأيته لعلمائنا في ذلك وتحرير المسئلة على وجه الصواب إن شاء الله تعالى.

* قال في التتارخانيه لو قذف عائشة رضى الله تعالى عنها بالزنا كفر بالله تعالى ولو قذف سائر نسوة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لا يكفر ويستحق اللعنة ولو قال عمر وعثمان وعلي لم يكونوا أصحابا لا يكفر ويستحق اللعنة ولو قال أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه لم يكن من الصحابة يكفر لأن الله تعالى سماه صاحبه بقوله إذ يقول لصاحبه لا تخزن * وفى الظهيرية ومن أنكر إمامة أبى بكر فهو كافر على قول بعضهم وقال بعضهم مبتدع وليس بكافر والصحيح أنه كافر وكذا من أنكر خلافة عمر وهو أصح الأقوال انتهى.

* وفي الحاوى القدسي ومن قذف عائشة بالزنا أو قال أبو بكر لم يكن من الصحابة أو قال الله برئ من علي يكفر * وقال في البزازية ويجب إكفار الروافض بقولهم برجعة الأموات إلى الدنيا وتناسخ الأرواح وانتقال روح الإله إلى الأئمة وأن الأئمة آلهة وبقولهم بخروج إمام ناطق بالحق وانقطاع الأمر والنهي إلى أن يخرج وبقولهم أن جبريل عليه السلام غلط في الوحي إلى محمد صلى الله عليه وسلم دون علي كرم الله وجهه وأحكام هؤلاء أحكام المرتدين ومن أنكر خلافة أبى بكر رضى الله تعالى عنه فهو كافر في الصحيح ومنكر خلافة عمر رضى الله تعالى عنه كافر في الأصح ويجب إكفار الخوارج في إكفارهم جميع الأمة سواهم ويجب إكفارهم بإكفار عثمان وعلي وطلحة والزبير وعائشة رضى الله تعالى عنهم.

* ثم قال وفى الخلاصة الرافضي إذا كان يسب الشيخين ويلعنهما فهو كافر وإن كان يفضل عليا عليهما فهو مبتدع انتهى.

(تنبيه) اعلم أن المفهوم من هذه النقول المنقولة عن علماء مذهبنا وغيرهم أن المحكوم عليه بالكفر في هذه المسائل حكمه حكم المرتد فتقبل توبته* إن أسلم وينبغى تقييد القول بكفر من سب الشيخين بكونه فعله مستحلا كما تقدم في كلام ابن تيمية

ص: 359

وابن حجر ويدل عليه أن صاحب الخلاصة صوره في الرافضي فإن الرافضي يستحل ذلك ولاشك أن الشتم واللعن محرمان وأدنى مراتبهما أنهما غيبة والغيبة محرمة بنص القرآن فيكون قد استحل ما جاء القرآن بتحريمه وإيضًا انعقد اجماع أهل السنة والجماعة الذين هم أهل الإجماع على حرمة سب الشيخين ولعنهما وصار ذلك مشهورًا بحيث لا يخفى على أحد من خواصهم وعوامهم فيكون معلومًا من الدين بالضرورة كحرمة الزنا وشرب الخمر ولاشك في كفر مستحل ذلك وعلى هذا فالذي يظهر أنه لا فرق بين سب الشيخين أو غيرهما ممن علم كونه من الصحابة قطعا كما لو كان السب لجملة الصحابة رضى الله تعالى عنهم ولكن ينبغى تقييده بما إذا لم يكن السب عن تأويل كسب الخوارج لعلي رضي الله تعالى عنه بناء على ما هو المشهور من عدم تكفير أهل البدع لبناء بدعتهم على شبهة دليل وتأويل ويدل عليه ما في متن المختار وشرحه المسمى بالاختيار حيث قال فصل الخوارج والبغاة مسلمون قال الله تعالى {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} وقال علي رضى الله تعالى عنه إخواننا بغوا علينا وكل بدعة تخالف دليلًا يوجب العلم والعمل به قطعا فهى كفر وكل بدعة لا تخالف ذلك وإنما تخالف دليلًا يوجب العمل ظاهرًا فهى بدعة وضلال وليس بكفر واتفق الأئمة على تضليل أهل البدع أجمع وتخطئتهم* وسب أحد من الصحابة وبغضه لا يكون كفرا لكن يضلل فإن عليا رضى الله تعالى عنه لم يكفر شاتمة حتى لم يقتله انتهى وسيأتي قريبا في كلام الفتح بيان قوله لم يكفر شاتمة الخ* ففى هذا الكلام الجزم بعدم كفر الخوارج ودلالة صريحة على أن السب إذا كان عن تأويل ولو فاسدًا لا يكفر به وعلى أن كل واحد من الصحابة في هذا الحكم سواء وعلى أن البدعة التي تخالف الدليل القطعي الموجب للعلم أي الاعتقاد والعمل لا تعتبر شهة في نفي التكفير عن صاحبها كما لو أدته بدعته إلى قذف عائشة بما برأها الله تعالى منه بنص القرآن القطعى أو إلى نفي صحبة الصديق الثابتة بالقرآن أو إلى أن جبريل غلط في الوحى وأشياه ذلك مما مر * ويدل على ذلك أيضًا ما قاله العلامة التفتازاني في شرح العقائد ونصه وما وقع بينهم أي الصحابة من المنازعات والمحاربات فله محامل تأويلات فسبهم والطعن فيهم إذا كان مما يخالف الأدلة القطعية فكفر كقذف عائشة رضى الله تعالى عنها وإلا فبدعة وفسق الخ.

(أقول) وقيد بقذف عائشة رضى الله تعالى احترازًا عن قذف غيرها من الزوجات الطاهرات تبعًا لما قدمناه عن التتارخانيه لأن قذفها تكذيب للكتاب العزيز بخلاف قذف غيرها وقد تقدم في كلام القاضى

ص: 360

عياض وابن تيمية ترجيح عدم الفرق لمافيه من الحاق الشين به صلى الله تعالى عليه

وسلم والذي يظهر لي ارجعية ماذكره أئمتنا بدليل أن من وقع في الافك من الصحابة

كمسطح و حسان رضى الله تعالى عنهما لم يحكم بكفره بل عاتب الله تعالى الصديق

رضى الله تعالى عنه على حلفه أن لا ينفق على مسطح بقوله تعالى (ولا يأتل والوا

الفضل) الآية فيعلم منه أن نفس قذف السيدة عائشة قبل نزول القرآن ببرائتها

لم يكن كفرا فأما بعده فإنما صار قذفها كفرا لما فيه من تكذيب القرآن وهذا مما

اختصت به على سائر الزوجات الطاهرات صح هذا ما ظهر لي حال الكتابة والله تعالى

أعلم. رجعنا إلى ماكنا في صدده من الاستدلال على عدم تكفير الساب للصحابة

بتأويل فنقول وقد عرف في فتح القدير الخوارج بانهم قوم لهم منعة وحمية خرجوا

على الإمام الحق بتأويل يرون أنه على باطل كفرا ومعصية توجب قتاله بتأويلهم

يستحلون دماء المسلمين واموالهم ويسبون نساءهم ويكفرون أصحاب رسول الله

صلى الله تعالى عليه وسلم. ثم قال في فتح القدير وحكمهم عند وجهور الفقهاء

وجمهور أهل الحديث حكم البغاة وذهب بعض أهل الحديث إلى انهم مرتدون.

قال ابن المنذر ولا أعلم احدا وافق أهل الحديث على تكفيرهم وهذا يقتضى

نقل اجماع الفقهاء وذكر في المحيط أن بعض الفقهاء لا يكفر احدا من أهل البدع

وبعضهم يكفرون بعض أهل البدع وهو من خالف ببدعته دليلا قط ميا ونسبه

إلى أكثر أهل السنة والنقل الأول أثبت نعم يقع في كلام أهل المذاهب تكفير

كثير ولكن ليس من كلام الفقهاء الذين هم المجتهدون بل من غيرهم ولا عبرة بغير

الفقهاء والمنقول عن المجتهدين ماذكرنا وابن المنذر اعرف بنقل كلام المجتهدين.

وما ذكره محمد بن الحسن من حديث كثير الحضرمي يدل على عدم تكفير

الخوارج وهو قول الحضر مى دخلت مسجد الكوفة من قبل أبواب كندة فإذا نفر

خمسة يشتمون عليا رضى الله تعالى عنه وفيهم رجل عليه برنس يقول اعاهد

الله لا قتله فتعلقت به وتفرقت أصحابه فأتت به عليا رضى الله تعالى عنه فقلت

انى سمعت هذا يعاهد الله ليقتلنك فقال ادن ويحك من انت فقال أنا سوار المنقرى

فقال على رضى الله تعالى عنه خل عنه فقلت اخلى عنه وقد عاهد الله ليقتلنك فقال

افاقتله ولم يقتلنى قلت فإنه قد شتمك قال فاشتمه أن شيئت اودعه. ففى هذا دليل

أن ما لم يكن للخارجين منعة لا يقتلهم وانهم ليسوا كفار إلا بشتم على ولا بقتله قبل

إلا إذا استحله فإن من استحل قتل مسلم فهو كافر ولابد من تقييده بان لا يكون

القتل بغير حق أو عن تأويل والالزم تكفيرهم لأن الخوارج يستحملون القتل

ص: 361

بتأويلهم الباطل انتهى ما في فتح القدير. ثم ذكر ما يدل على ذلك من كلام الإمام محمد أيضًا فراجعه واقرأه في البحر.

(أقول) والقول الثاني الذي ذكره في المحيط هو ما قدمناه عن شرح الاختيار وشرح العقائد ويمكن التوفيق بينه وبين ما حكاه ابن المنذر بأن مراد الذين كفروا من خالف ببدعته دليلا قطعيا من اتبع هواه بلا شبهة دليل أصلا من زعم غلط جبريل ونحوه ممن كذب ببدعته النصوص القطعية بخلاف الخوارج الذين خرجوا على سيدنا كرم الله وجهه فإنهم خرجوا عليه بزعمهم أن من حكم غير الله تعالى فهو كافر وكذا المعتزلة ونحوهم من أهل البدع. كما أشار إلى ذلك العلامة المحقق الشيخ إبراهيم الحلبي في شرحه الكبير على منية المصلى في باب الإمامة حيث قال بعد كلام وعلى هذا يجب أن يحمل المنقول أي عن أبى حنيفة والشافعي من عدم تكفير أهل القبلة على ما عداها غلاة الروافض ومن ضاهاهم فإن أمثالهم لم يحصل منهم بذل وسع في الاجتهاد فإن من يقول أن عليا هو الإله أو بأن جبريل غلط ونحو ذلك من السخف إنما هو متبع مجرد الهوى وهو أسوأ

(1)

حالا ممن قال ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى فلا يتأتى من مثل الإمامين العظيمين (أي أبى حنيفة والشافعى أن لا يحكم بأنهم من أكفر الكفرة وإنما كلامهما في مثل من له شبهة فيما ذهب إليه وإن كان ما ذهب إليه عند التحقيق في حد ذاته كفرا كمنكر الرؤية وعذاب القبر ونحو ذلك فإن فيه إنكار حكم النصوص المشهورة والإجماع إلا أن لهم شبهة قياس الغائب على الشاهد ونحو ذلك مما علم في الكلام وكمنكر خلافة الشيخين والساب لهما فإن فيه إنكار حكم الإجماع القطعي إلا أنهم ينكرون حجية الإجماع باتهامهم الصحابة فكان لهم شبهه في الجملة وإن كانت ظاهرة البطلان بالنظر إلى الدليل فبسبب تلك الشبهة التي أدى إليها اجتهاد هم لم يحكم بكفرهم مع أن معتقدهم كفر احتياطا بخلاف مثل من ذكرنا من الغلاة فتأمل * انتهى وهو تحقيق* بالقبول حقيق* وبه يتحقق ما ذكرناه من التوفيق، وحاصله أن المحكوم بكفره من أداه هواه وبدعته إلى مخالفة دليل قطعى لا يسوغ فيه تأويل أصلا كرد آية قرآنية أو تكذيب نبي أو إنكار أحد أركان الإسلام ونحو ذلك بخلاف غيرهم كمن اعتقد أن عليا هو الأحق بالخلافة وصاروا يسبون الصحابة لأنهم منعوه حقه ونحوهم فلا يحكم بكفره

(1)

قوله وهو أسوأ حالا الخ أي لأنه اعتقد الألوهية في علي والذين عبدوا الأصنام لم يعتقدوا الألوهية فيها وإنما عبدوها تقربا إلى الله تعالى الذى هو الإله وإنما سموها آلهة لاشراكهم إياها له تعالى في العبادة منه.

ص: 362

احتياطا وإن كان معتقدهم في نفسه كفرا أي يكفر به من اعتقده بلا شبهة تأويل.

(ومما) يزيد ذلك وضوحا. ما صرحوا به في كتبهم متونا وشروحا. من قولهم ولا تقبل شهادة من يظهر سب السلف * ثم قالوا وتقبل شهادة أهل الأهواء إلا الخطابية وفسروا السلف بالصالحين منهم كالصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين فقد صرحوا بقبول شهادة أهل الاهواء ولو لم يكونوا مسلمين لما قبلت شهادتهم. وإنما اخرجوا الخطابية لأنهم فرقه يرون شهادة الزور لأشياعهم أو للمحالف فالعلة فيهم تهمة الكذب لا الكفر * وفى المواقف ما يقتضى أن العلة فيهم الكفر حيث ذكر أنهم قالوا الأئمة أنبياء وأبو الخطاب نبي بل زادوا على ذلك أن الائمة آلهة والحسنين أبناء الله وجعفر إله لكن أبو الخطاب أفضل منه ومن على انتهى. وكذا لم يقبلو شهادة من يظهر سب السلف لاظهاره فسقه بخلاف من يكتم السب * قال ابن ملك في شرح المجمع وترد شهادة من يظهر سب السلف لأنَّه يكون ظاهر الفسق وتقبل من أهل الاهواء الجبر والقدر والرافض والخوارج والتشبيه والتعطيل انتهى. وفي شرح المجمع للعيني لا تقبل شهادة من يظهر حب السلف بالإجماع لأنَّه إذا اظهر ذلك فقد أظهر فسقه بخلاف من يكتمه لأنَّه فاسق مستور. وكذا علله في الجوهرة، وفى شرح الكنز للزيلعي أو يظهر بسب السلف يعنى الصالحين منهم وهم الصحابة والتابعون لأن هذه الأشياء تدل على قصور عقله وقلة مرؤته ومن لم يمتنع عن مثلها لا يمتنع عن الكذب عادة بخلاف ما لو كان يخفى السب انتهى. وكتب المذهب مشحونة بذلك. وكذا نص المحدثون على قبول روايتهم على خلاف بينهم فيمن كان داعيا إلى بدعته وفى شرح التحرير للمحقق ابن أمير حاج عن شيخه الحافظ ابن حجر المعتمد أن الذى ترد روايته من أنكر متواترا من الشرع معلوما من الدين بالضرورة وكذا من اعتقد عكسه فأما من لم يكن بهذه الصفة وانضم إلى ذلك ضبطه لما يرويه مع ورعه وتقواه فلا مانع من قبوله انتهى فهذا أقوى دليل على أن أهل الاهواء لا يحكم بكفرهم وكذا من يسب عامة الصحابة وإلا لما ساغ قبول روايتهم للاحاديث التي تثبت بها أحكام الدين لكن لا تقبل شهادتهم إذا اظهروا السب لما ذكرنا فلو كان من يظهر سب الشيخين أو غيرهما عن تأويل كافرا لما ساغ التعليل لرد شهادته بإظهار فسقه وعدم مبالاته بإظهار الكذب بل كان الواجب أن يقال لا تقبل شهادته لكفره كما قالوا في أهل الأهواء إذا كان هوى يكفر به صاحبه لا تقبل أي لكفره * والمراد بالهوى المكفر الذى لا يكون فيه شبهة اجتهاد كهوى المجسمة والاتحادية والحلولية ونحوهم ممن مر ذكرهم. ومن أراد معرفة من

ص: 363

يكفر ببدعته ومن لا يكفر وما في ذلك من البيان المزيل للخفاء فعليه بما حرره القاضي عياض في آخر الشفاء وينبغي أن يستثنى من عدم تكفير أهل البدع من يكفر جميع الصحابة لتكذيبه صريح الآيات القرآنية والاحاديث النبوية الدالة على تفضيلهم على البرية وعلى أن الله قد رضى عنهم ورضوا عنه ثم رأيت صاحب الشفاء صرح بذلك حيث قال وكذا وقع الإجماع على تكفير كل من دافع نص الكتاب إلى أن قال وكذلك يقطع بتكفير كل قائل قال قولا يتوصل إلى تضليل الأمة وتكفير جميع الصحابة كقول الكهيلية من الرافضة بتكفير جميع الأمة بعد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إذ لم يقدموا عليا وكفرت عليها إذ لم يتقدم وأبطل حقه في التقديم فهؤلاء قد كفروا من وجوه لأنهم ابطلوا الشريعة بأسرها إذ قد انقطع نقلها ونقل القرآن إذ ناقلوه كفرة على زعمهم الخ فتأمل (إذا علمت ذلك) ظهر لك أن ما مر عن الخلاصة من أن الرافضي إذا كان يسب الشيخين ويلعنهما فهو كافر مخالف لما في كتب المذهب من المتون والشروح الموضوعة لنقل ظاهر الرواية ولما قدمنا عن الاختيار وشرح القائد بل مخالف للاجماع على ما نقله ابن المنذر كمام في عبارة فتح القدير وكذا ما قدمناه في عبارة شيخ الإسلام ابن تيمية من قوله وقال ابن المنذر لا أعلم أحدا يوجب قتل من سب من بعد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وإذا كان هذا فيمن يظهر سب جميع السلف فكيف من يسب الشيخين فقط فعلم أن ذلك ليس قولا لأحد من المجتهدين وإنما هو قول لمن حدث بعدهم وقدم في عبارة الفتح أنه لا عبرة بغير كلام الفقهاء المجتهدين اللهم إلا أن يكون المراد بما في الخلاصة أنه كافر إذا كان سبه لهما لأجل الصحبة أو كان مستحلا لذلك بلا شبهة تأويل أركان من غلاة الروافض ممن يعتقد كفر جميع الصحابة أو ممن يعتقد التناسخ والوهية على ونحو ذلك أو المراد أنه كافر أي اعتقد ما هو كفر وإن لم نحكم بكفره احتياطا أو هو مبنى على قول البعض بتكفير أهل البدع.

(فإن قلت) قال في البحر ما نصه وفي الجوهرة من سب الشيخين أو طعن فيهما كفر ويجب قتله ثم إن رجع وتاب وجدد الإسلام هل تقبل توبته أم لا قال الصدر الشهيد لا تقبل توبته وإسلامه ونقتله وبه أخذ الفقيه أبو الليث السمرقندي وأبو نصر الدبوسي وهو المختار للفتوى انتهى وتبعه على ذلك تلميذه صاحب المنح وقال أن هذا يقوى القول بأنه لا نقبل توبة ساب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم.

(قلت) قد رد على صاحب البحر أخوه صاحب النهر بأن هذا لا وجود له في الجوهرة وإنما وجد في هامش بعض النسخ فالحق بالأصل انتهى. وحيث كان ذلك في هامش نسخة لا يعلم صدق كاتبه

ص: 364

من كذبه لا يجوز الأخذ به وجعله حكما شرعيا من أحكام الله تعالى التي لا تثبت إلا بأحد الأدلة الأربعة الكتاب والسنة والإجماع والقياس الصحيح من أهله وكتاب الجوهرة شرح القدوري لأبي بكر الحدادي كتاب مشهور متداول يوجد بأيدي صغار الطلبة فليراجعه من أراد ذلك ليريح باله * ويزيح أشكاله. وقد راجعته أيضًا فلم أجد هذا النقل فيه بل فيه ما يناقضه فإنه قال في الشهادات ولا تقبل شهادة من يظهر سب السلف الصالحين لظهور فسقه والمراد بالسلف الصالحين الصحابة والتابعون فقال لظهور فسقه ولم يقل لكفره * وقال في بحث الجزية فيما إذا سب الكافر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ولأن سب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يجرى مجرى سب الله تعالى انتهى فلا يكون سب الشيخين أقوى من سب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم الجاري مجرى سب الله تعالى الذى تقبل فيه التوبة * وقال في بحث الردة وفي الخجندى إذا ارتد البالغ عن الإسلام فإنه يستتاب فإن تاب وأسلم وإلا قتل الخ فمن ادعى وجود ذلك بالجوهرة فعليه إحضار النقل (ولا يقال) أن صاحب البحر قد نقله فيكفينا ذلك (لأنا نقول) قد رد عليه أخوه صاحب النهر بأن ذلك لا أصل له كما علمت فإذا تعارض كلام هذين العالمين فعليك التثبت فإن المجازفة في أحكام الله تعالى حرام بالإجماع فراجع كتب المذهب حتى تقف على الصواب وانى قد كفيتك المؤنة وراجعت وأثبت لك في هذا الكتاب ما يصير به الغبي على بصيرة تامة إن شاء الله تعالى * وحيث تحققت ما في الباب الأول مما عليه المعول وهو المنقول عن أبي حنيفة وأصحابه من أن توبة ساب المصطفى صلى الله تعالى عليه وسلم مقبولة عاصمة لدمه وماله كما هو حكم عامة أهل الردة علمت يقينا أن ما نقل عن الجوهرة لا أصل له لأن مقام الشيخين وإن كان عاليا لكن مقام من تشرفا بخدمته صلى الله تعالى عليه وسلم أعلا. وأيضا فإن المالكية والحنابلة القائدين بعدم قبول توبة ساب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لم نر أحدا منهم قال كذلك في ساب الشيخين مع أنهم عللوا عدم قبول التوبة بكون السب حق عبد ومقتضى ذلك أنه لا تقبل توبة سابهما ولا ساب غيرهما من الصحابة لأنه حق عبد أيضًا فحيث لم يقولوا بذلك هنا كان من يقول بقبول التوبة هناك قائلا بقبولها هنا أيضًا بالاولى

(1)

وعن هذا قال العلامة الحموى في حاشية الأشباه بعد نقله العبارة النهر المارة أقول على فرض ثبوت ذلك في عامة نسخ الجوهرة لا وجه له يظهر لما قدمنا من قبول توبة من سب الأنبياء عندنا خلافا للمالكية والحنابلة وإذا كان

(1)

قوله وعن هذا الخ يؤيد ذلك أيضًا ما نقلناه في الهامش عن حاشية شيخ مشايخنا الرجتى فراجعه أيضًا منه.

ص: 365

كذلك فلا وجه للقول بعدم قبول توبة من سب الشيخين بالطريق الأولى بل لم يثبت ذلك عن أحد من الأئمة فيما أعلم انتهى كلامه * ولا يخفى أن هذا ليس من البحث المعارض للمنقول حتى يقال أنه غير مقبول بل هو من معارضة المنقول على فرض ثبوته بالمنقول الثابت عن أصحاب المذهب بالدلالة الأولوية كدلالة حرمة التأفيف على حرمة الضرب * على أنك قد علمت مما قررناه في هذا الباب أن الساب إذا كان رافضيا اعتقد شبهة مسوغة في اعتقاده للسب لم يحكم بكفره فضلا عن عدم قبول توبته إلا إذا كان يعتقد ما يخالف دليلا قطعيا كإنكار صحبة الصديق وقذف الصديقة ونحو ذلك فيكفر بذلك لا بالسب أو لم يكن معتقدا شبهة لكنه استحل السب فح يكفر لاستحلاله المحرم قطعا بلا شبهة أما لو سب بدون ذلك كله لم يخرج عن الإسلام كما علمته مما نقلناه عن كتب المذهب متونا وشروحا وغيرها نعم للإمام تأديبه وتعزيره بما يراه مناسبا في حقه ولعل من قال أنه يقتل أراد به قتله سياسة لا كفرا.

(والحاصل) أن الحكم بالكفر على ساب الشيخين أو غيرهما من الصحابة مطلقا قول ضعيف لا ينبغى الافتاء به ولا التعويل عليه لما علمته من النقول المعتبرة فإن الكفر أمر عظيم لم يتجاسر أحد من الائمة على الحكم به إلا بالأدلة الواضحة العارية عن الشبهة كما علمته مما قررناه. على أنك قد علمت مما ذكرناه في الباب الأول أنه لا يفتى بكفر مسلم أمكن حمل كلامه على محمل حسن أو كان في كفره اختلاف ولو رواية ضعيفة. وعلمت أيضًا قول صاحب البحر ولقد ألزمت نفسي أن لا أفتي بشيء منها أي من ألفاظ التكفير المذكورة في كتب الفتاوى ومنها هذه المسئلة المذكورة في الخلاصة فإن غالب هذه مخالفة لما اشتهر عن الأئمة من عدم تكفير أهل القبلة إلا ما كان الكفر فيه ظاهرا كقذف عائشة ونحوه. ولهذا صرح علماؤنا بأنه لا يفتى بما في كتب الفتاوى إذا خالف ما في المتون والشروح. وقد ذكر الإمام قاضي القضاة شمس الدين الحريرى أحد شراح الهداية في كتابه إيضاح الاستدلال على إبطال الاستبدال نقلا عن الإمام صدر الدين سليمان أن هذه الفتاوى هي اختيارات المشايخ فلا تعارض كتب المذهب قال وكذا كان يقول غيره من مشايخنا وبه أقول أيضًا انتهى فقد ثبت أن الأحوط عدم التكفير في مسئلتنا اتباعا لما في كتب المذهب فضلا عن عدم قبول التوبة فإنه إن ثبت نقله فهو نقل غريب مع أنه لم يثبت كما مر فخذ ما أتيتك به وكن من الشاكرين ولا عليك من كثرة المخالفين، واستغفر الله العظيم (هذا وقد رأيت) في هذه المسئلة رسالة لخاتمة العلماء الراسخين شيخ القراء والفقهاء والمحدثين سيدى منلا علي القاري رحمه الله تعالى مال فيها إلى ما ذكرته

ص: 366

فلا بأس بتلخيص حاصلها وذلك حيث قال اعلم أن من القواعد القطعية في العقائد الشرعية. أن قتل الأنبياء. أو طعنهم في الاشياء * كفر بإجماع العلماء. فمن قتل نبيا أو قتله نبي فهوا شقى الاشقياء * وأما قتل العلماء والأولياء وسبهم فليس بكفر إلا إذا كان على وجه الاستحلال أو الاستخفاف فقاتل عثمان وعلي رضى الله تعالى عنهما لم يقل بكفره أحد من العلماء إلا الخوارج في الأول والروافض في الثانى * وأما قذف عائشة فكفر بالإجماع وكذا الانكار صحبة الصديق لمخالفة نص الكتاب بخلاف من أنكر صحبة عمر أو على وإن كانت صحبتهما بطريق التواتر إذ ليس إنكار كل متواتر كفرا ألا ترى أن من أنكر جود حاتم بل وجوده أو عدالة انوشروان وشهوده لا يصير كافرا إذ ليس مثل هذا مما علم من الدين بالضرورة * وأما من سب أحدا من الصحابة فهو فاسق ومبتدع بالإجماع إلا إذا اعتقد أنه مباح أو يترتب عليه ثواب كما عليه بعض الشيعة أو اعتقد كفر الصحابة فإنه كافر بالإجماع * فإذا سب أحد منهم فينظر فإن كان معه قرائن حالية على ما تقدم من الكفريات فكافر وإلا ففاسق وإنما يقتل عند علمائنا سياسة لدفع فسادهم وشرهم وإلا فقد قال عليه الصلاة والسلام في حديث صحيح لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله إلا بإحدى ثلاث الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة رواه البخارى وأبو داود والترمذي والنسائي فقد جاء بصيغة الحصر فلا يقتل أهل البدعة إلا إذا صاروا من أهل البغي وكذا لا يقتل تارك الصلاة خلافا للشافعي. وأما حديث من ترك الصلاة فقد كفر فمؤول عند أهل السنة بالمستحل أو معناه قرب إلى الكفر أو جره إلى الكفر ثم لاشك أن أصول الأدلة هي الكتاب والستة والإجماع وليس في تكفير ساب الصحابة أو الشيخين إجماع ولا كتاب بل آحاديث أحاد الإسناد ظنية الدلالة وما اشتهر على السنة العوام من أن سب الشيخين كفر فلم أر نقله صريحا وعلى تقدير ثبوته فلا ينبغي أن يحمل على ظاهره لاحتمال تأويله بما مر في حديث تارك الصلاة إذا لو جل الأحاديث كلها على الظاهر لاشكل ضبط القواعد وحيث دخل الاحتمال سقط الاستدلال لاسيما في قتل المسلم وتكفيره وقد قيل لو كان تسعة وتسعون دليلا على كفر أحد ودليل واحد على إسلامه ينبغي للمفتي أن يعمل بذلك الدليل الواحد لأن خطاه في خلاصه. خير من خطا في حده وقصاصه. لا يقال كيف نسبت القول بتكفير ساب الشيخين إلى العوام مع ذكره في بعض كتب الفتاوى. لأنا نقول أنه ليس بمنقول عن أحد من أئمتنا المتقدمين كأبي حنيفة وأصحابه. وقد صرح التفتازانى بأن سب الصحابة بدعة وفسق وكذا صرح أبو الشكور السالمي في تمهيده بأن سب الصحابة ليس بكفر

ص: 367

وقد ورد عنه صلى الله تعالى عليه وسلم أن من سب الأنبياء قتل ومن سب أصحابي جلد رواه الطبراني. ثم لا وجه تخصيص الشيخين بما ذكر فإن الختنين (أي عثمان وعليا) بل سائر الصحابة كذلك كما يستفاد من عموم الأحاديث وخصوصها وقد ورد عنه عليه الصلاة والسلام من سب عليا فقد سبني ومن سبني فقد سب الله رواه أحمد والحاكم عن أم سلمة (ثم قال) رحمه الله تعالى فهذا تحقيق هذه المسئلة المشكلة. فمن اعتقد غير هذا فليجدد عقيدته. ويترك حميته وجاهليته. ومن ادعى بطلان هذا البيان * فعليه أن يظهر في ميدان البرهان. والله المستعان. وقد ثبت عنه صلى الله تعالى عليه وسلم أن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها رواه أبو داود والحاكم والبيهقى فوالله العظيم * رب النبي الكريم. أنى لو عرفت أحدا أعلم مني بالكتاب والسنة من جهة مبناهما. أو من طريق معناهما. لقصدت إليه. ولو حبوا بالوقوف لديه وهذا لا أقوله فخرا. بل تحدثا بنعمة الله تعالى وشكرا. واستزيد به من ربي ما يكون لي ذخرا. انتهى كلام سيدى منلا علي القاري وفى كلامه إشارة إلى أنه مجدد عصره وما أجدره بذلك. ولا ينكر عليه ما هنالك * إلا كل متعصب هالك. وقد أطال رحمه الله تعالى ونفعنا به في هذه الرسالة بالرد على من أنكر عليه القول بعدم التكفير ثم تكلم على الشيعة المبتدعة وحط كلامه على قتلهم سياسة * ثم قال بعد كلام ثم مما يجب التنبيه عليه هو أنه قد علم مما قدمنا أنه لا يثبت الكفر إلا بالأدلة القطعية * وإذا جوز علماؤنا الحنفية. قتل الرافضي بالشروط الشرعية على طريق السياسة العرفية * فلا يجوز إحراقه بالنار بل يقتل بالسيف ونحوه لقوله عليه الصلاة والسلام (إِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةِ) بل اللائق أن يستتاب * وإن أظهر شبهة يؤتى له بالجواب * ويجب أن يتفحص عنه هل سب جاهلا أو خاطئا أو مكرها أو مستحلا ثم بعد قتله يجب تكفينه والصلاة عليه لقوله عليه الصلاة والسلام (صلوا على كل بر وفاجر) الخ (أقول) ولاشك أن كلامه هذا في غير الغلاة من الروافض وإلا فالغلاة منهم كفار قطعا فيجب التفحص كما قال فحيث ثبت أن ذلك الساب منهم قتل لأنهم زنادقة ملحدون وعلى هؤلاء الفرقة الضالة يحمل كلام العلماء الذين أفتوا بكفرهم وسبي ذراريهم (قال) العلامة محمد الكواكبي الحلبي في شرحه على منظومته الفقهية المسماة بالفرائد السنية في فصل الجزية قال بعد كلام ما نصه وعلى هذا المنوال أفتى العلامة أبو السعود لما سئل عن الشيعة أيحل قتالهم وهل يكون المقتول منا شهيدا مع أنهم

ص: 368

يدعون أن رئيسهم من آل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وكيف يجوز قتالهم وهم يقولون لا إله إلا الله (فأجاب) أن قتالهم جهاد أكبر والمقتول منا في المعركة شهيد وأنهم باغون في الخروج عن طاعة الإمام وكافرون من وجوه كثيرة وأنهم خارجون عن الثلاث وسبعين فرقة من الفرق الإسلامية لأنهم اخترعوا كفرا وضلالا مركبا من أهواء الفرق المذكورة وأن كفرهم لا يستمر على وتيرة واحدة بل يتزايد شيئا فشيئا فمن كفرهم أنهم يهينون الشريعة الشريفة والكتب الشرعية وأئمة الدين ويسجدون لرئيسهم اللعين ويستحلون ما ثبتت حرمته بالأدلة القطعية ويسبون الشيخين رضى الله تعالى عنهما

(1)

وسبهما كفر ويسبون الصديقة ويطيلون ألسنتهم في حقها وقد نزلت براءة ساحتها ونزاهتها رضى الله تعالى عنها يلحقون بذلك الشين بحضرة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وهو سب منهم لحضرته عليه الصلاة والسلام

(2)

فلذا أجمع علماء الأعصار على إباحة قتلهم وأن من شك في كفرهم كان كافرا فعند الإمام الأعظم وسفيان الثورى والأوزاعي أنهم إذا تابوا ورجعوا عن كفرهم إلى الإسلام نجوا من القتل ويرجى العفو كسائر الكفار إذا تابوا وأما عند مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وليث بن سعد وسائر العلماء العظام فلا تقبل توبتهم ولا يعتبر إسلامهم ويقتلون حدا. ثم إمامنا أيده الله تعالى إذا عمل بأحد أقوال الأئمة كان مشروعا وأما من تفرق في البلاد منهم ولم يظهر عليه آثار اعتقادهم الشنيع فلا يتعرض إليه ولا تجرى عليه الأحكام المذكورة وأما رئيسهم ومن تابعه وقاتل لقتاله فلا توقف في شأنه أصلا لارتكابهم أنواع الكفر المذكورة بالتواتر ولا ريب أن القتال معهم أهم من القتال مع سائر الكفار فإن أبا بكر رضى الله تعالى عنه قدم القتال مع مسيلمة ومن تابعه على القتال مع غيره مع أن أطراف المدينة كانت مملوة من الكفرة ولم تفتح الشام ولا غيرها من البلاد إلا بعد تطهير الأرض من مسيلمة وأشياعه وهكذا فعل على رضى الله تعالى عنه في قتال الخوارج فالجهاد فيهم أهم بلا ريب ولا شبهة بأن قتيلنا في معركتهم شهيد وأما ما ذكر من انتساب رئيسهم إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فحاشا أن

(1)

قوله وسبهما كفر قد علمت ما فيه منه.

(2)

قوله فلذا أجمع الخ هذا وما بعده تفريع على أن قذفهم للسيدة عائشة رضى الله تعالى عنها سب لحضرته عليه الصلاة والسلام فيجرى فيهم الخلاف الجاري في سابه صلى الله تعالى عليه وسلم وكون هذا القذف سبا له عليه الصلاة والسلام غير مسلم كما علم مما تقدم والله تعالى أعلم منه.

ص: 369

يكون له مع هذه الأفعال الشنيعة علاقة في هذا النسب الطاهر وإنما رئيسهم الكبير إسماعيل في ابتداء خروجه كما نقل عن الثقات جاء إلى مشهد على الرضا وأكره من به من السادات الكرام وسائر الأشراف العظام وهددهم بالقتل فأظهروا الامتثال واصطنعوا له نسبا ومع ذلك تداركوا وألحقوه بمن هو معروف بأنه عقيم بين علماء الأنساب وهو موسى الثاني ابن حمزة بن موسى الكاظم الذي هو سابع الأئمة الاثنى عشر عند الإمامية وإنما العقب من أخيه أبى محمد قاسم بن حمزة بن موسى الكاظم ولو فرض صحة نسبه فإذا لم يكن له دين كان مع الكفرة على السواء وإنما آل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم من يحمى شريعته وهذا كنعان ابن النبي نوح من صلبه لم ينجه من عذاب الدنيا والآخرة نسبه إلى أبيه ولو كان ذلك يجدى نفعا لما عذب واحد من بني آدم النبي انتهى.

(وسئل) أيضًا عن عساكر الإسلام إذا سبوا أحدا من أولاد القزل باش وهم الشيعة المذكورون فهل يكونون أرقاء ويصح بيعهم وشراؤهم.

(فأجاب) بأن آباء هم وأمهاتهم حيث كانوا على المذهب الباطل يسبون الصحابة ويطيلون الألسنة على الصديقة فقد ورد قول ضعيف بأن أولادهم الصغار جدا الذين لا يعقلون الدين يكونون أرقاء وأما من يكون منهم ابن خمس سنين أو ستة يتلفظ بكلمة الشهادة فإنه مسلم لا يكون رقيقا أصلا ولا يسرى إليه كفر آبائه وأمهاته انتهى ما في شرح الكواكبي.

(أقول) والأحسن ما في فتاوى ابن الشلبي حيث سئل عن طائفة ينطقون بالشهادتين غير أنهم لا يصلون ولا يصومون ويعظمون الصليب والكنائس ويتبركون بها.

(فأجاب) بما حاصله إن نطقوا بالشهادتين مقرين بهما في وقت ما ثم صدر منهم ما ذكر فهم مرتدون تجرى عليهم أحكام المرتدين ويجبر نساؤهم وصبيانهم المميزون على الإسلام ولا يقتلون وإن نطقوا بهما غير منفكين عن تعظيم الصليب فهم كفار ولا ينفعهم نطقهم بهما ما لم يتبرؤا عما يخالف ملة الإسلام ثم إذا حكمنا بكفرهم فإن كانوا أهل كتاب يحل وطئ نسائهم بالنكاح وملك اليمين وإلا فلا انتهى ملخصا.

وألظه أن الغلاة من الروافض المحكوم بكفرهم لا ينفكون عن اعتقادهم الباطل في حال إتيانهم بالشهادتين وغيرهما من أحكام الشرع كالصوم والصلاة فهم كفار لا مرتدون ولا أهل كتاب والله الموفق للصواب * نسأله سبحانه أن يحفظنا من الزيغ والزلل. ويمن علينا بحسن الختام عند تناهى الأجل ويعصم ألسنتنا من القول الباطل. وقلوبنا من كل اعتقاد عاطل * وأن يستر عوراتنا. ويؤمن روعاتنا. ويجعلنا من المعظمين والموقرين. ظاهرا وباطنا لهذا النبي الأمين. وآله وصحبه الطيبين الطاهرين. وأن

ص: 370

يجعل ما عنيت بجمعه خالصا لوجهه الكريم، موجبا للفوز لديه في جنات النعيم، وأن يتجاوز بحلمه عما سطره القلم من خطأ ووهم.

رب اغفر لى ولوالدي ولمشايخي ولمن له حق علي.

والحمد لله الذى بنعمته تتم الصالحات، وصلى الله تعالى على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين - والحمد لله رب العالمين

وقد فرغت من تحريره وتنميقه وتقريره، في نهار الثلاثاء الحادي والعشرين من جمادى الأولى سنة سبع وثلاثين ومأتين وألف

والحمد لله رب العالمين

ص: 371