المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌إهداء إهداء إلى أمي وأبي (رحمهما الله) فقد تعبا كثيرًا - توجيه المتشابه اللفظي في القرآن الكريم عند المفسرين - دراسة في تفسيري الرازي والألوسي

[ريم عبد الفتاح البحيري]

فهرس الكتاب

‌إهداء

إهداء إلى أمي وأبي (رحمهما الله) فقد تعبا كثيرًا في تربيتي وتوجيهي، وصبرا عليَّ صبرًا جميلًا فجزاهما الله عني خير ما جزى والدًا عن ولده. أسأل الله أن يجعل هذا العمل في ميزان حسناتهما، وأن يرحمهما رحمةً واسعةً لا عذاب بعدها أبدًا، وأن يسكنهما الفردوس الأعلى من الجنة دون سابقة حساب ولا عذاب وجميع موتى المسلمين.

إلى إخوتي الذين تولوا تربيتي بعد وفاة أمي وأبي، وتعاونوا معي كثيرًا، ووفروا لي كل الوسائل حتى خرج هذا البحث، فجزاهم الله عني خير الجزاء.

إلى أمي الثانية (د / ناهد مصطفى الكاشف) التي علمتني وربتني وصبرت عليَّ كثيرًا فجزاها الله عني خير الجزاء.

إليهم جميعًا أهدي كتابي.

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحيم

‌مقدمة:

الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد: فإن من أعظم العلوم التي يفني المرء عمره في تعلمها هي علوم القرآن، وتفسيره، وتدبره، حتى يعبد الله على بصيرة، وحتى يتدبر كتاب الله، قال تعالى:{كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ}

(1)

.

ومن أجل العلوم التى عُنيت بالقرآن وإظهار كنوزه (علم المتشابه اللفظي)، الذي اهتم علماؤه بتوضيح سبب اختلاف التعبير القرآني من موضع لآخر، وإبطال مزاعم التكرار في النص القرآني، وإبراز بلاغة التعبير القرآني في كل موضع من المواضع.

فإن القرآن نزل بألفاظ العرب ومعانيها، ومذاهبها في الإيجاز والاختصار، والإطالة والتوكيد، والإشارة إلى الشيء، ولو كان كل فن من العلوم شيئًا واحدًا: لم يكن عالم ولا متعلم، ولا خفيّ ولا جليّ؛ لأن فضائل الأشياء تعرف بأضدادها، فالخير يعرف بالشر، والنفع يعرف بالضرّ، والمحكم يعرف بالمتشابه. وإن مما يفيد في حفظ القرآن، معرفة الآيات المتشابهة الألفاظ وكيفية التمييز بينها.

وقد كُنت عند تلاوة القرآن أقف عند بعض الآيات المتشابهة الألفاظ لمعرفة أماكن ورودها في القرآن، وأتأمل في التمييز بين تلك الآيات، فتيسّر لي معرفة آيات كثيرة متشابهة الألفاظ، وذلك بالتقديم والتأخير، أو زيادة حرف أو أكثر، أو كلمة فأكثر.

وقد تصدى كثير من العلماء والمفسرين لتوجيه آيات المتشابه اللفظي في القرآن الكريم، وكان من أهم التفاسير التي تناولت آيات المتشابه اللفظي بالتوجيه تفسيرا الإمامين الرازي والألوسي، فعكفت عليهما دراسة وتطبيقًا مع استقراء توجيه آيات المتشابه اللفظي التي نص عليها الإمامان، مع بيان ما أضافه هذان العالمان الجليلان لهذا العلم.

(1)

سورة ص: الآية 29.

ص: 3

والله أسأل أن يجعل هذا العمل خالصًا لوجهه الكريم، وأن يوفقني ويلهمني الرشد والصواب في كل ما أقول وأعمل، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

هذا الكتاب يتكون من مقدمة وأربعة فصول وخاتمة.

أما المقدمة: فتتضمن مشكلة البحث، أسباب اختيار الموضوع، أهداف البحث، الدراسات السابقة، وجه اختلاف هذه الدراسة عن الدراسات السابقة، والاسئلة الافتراضية التي يجيب عنها البحث، وخطته، ومنهجه.

الفصل الأول: التعريف بعلم المتشابه اللفظي، ويشتمل على أربعة مباحث:

المبحث الأول: مفهوم المتشابه لغةً واصطلاحًا.

المبحث الثاني: أهمية علم المتشابه اللفظي.

المبحث الثالث: أبرز من صنف في علم المتشابه اللفظي.

المبحث الرابع: أنواع المتشابه اللفظي في القرآن الكريم.

الفصل الثاني: الإمام الرازي ومنهجه في توجيه المتشابه اللفظي في القرآن الكريم، ويشتمل على أربعة مباحث:

المبحث الأول: التعريف بالإمام الرازي ونشأته وحياته وأهم كتبه.

المبحث الثاني: التعريف بتفسير الإمام الرازي (مفاتيح الغيب).

المبحث الثالث: منهج الإمام الرازي في توجيه المتشابه اللفظي في القرآن الكريم.

المطلب الأول: أهم الملامح والسمات التي تميز بها منهج الإمام الرازي في توجيه المتشابه اللفظي في القرآن الكريم.

المطلب الثاني: مصادر الإمام الرازي في توجيه المتشابه اللفظي في القرآن الكريم

أولًا: العلماء الذين نقل عنهم الإمام الرازي وذكرهم في تفسيره.

ص: 4

ثانيًا: موقف الإمام الرازي من علماء المتشابه اللفظي.

ثالثًا: أثره في المعاصرين

المطلب الثالث: ما انفرد به الإمام الرازي عن جميع علماء المتشابه اللفظي.

المطلب الرابع: مآخذ على منهج الإمام الرازي في توجيه المتشابه اللفظي في القرآن الكريم.

المبحث الرابع: أنواع المتشابه اللفظي في تفسير الإمام الرازي مع ذكر بعض النماذج.

الفصل الثالث: الإمام الألوسي ومنهجه في توجيه المتشابه اللفظي في القرآن الكريم، ويشتمل على أربعة مباحث:

المبحث الأول: التعريف بالإمام الألوسي ونشأته وحياته وأهم كتبه.

المبحث الثاني: التعريف بتفسير الإمام الألوسي (روح المعاني).

المبحث الثالث: منهج الإمام الألوسي في توجيه المتشابه اللفظي في القرآن الكريم.

المطلب الأول: أهم الملامح والسمات التي تميز بها منهج الإمام الألوسي في توجيه المتشابه اللفظي في القرآن الكريم.

المطلب الثاني: مصادر الإمام الآلوسي في توجيه المتشابه اللفظي في القرآن الكريم

أولًا: العلماء الذين نقل عنهم الإمام الألوسي وذكرهم في تفسيره.

ثانيًا: موقف الإمام الألوسي من علماء المتشابه اللفظي.

ثالثًا: أثره في المعاصرين

المطلب الثالث: ما انفرد به الإمام الألوسي عن جميع علماء المتشابه اللفظي.

المطلب الرابع: مآخذ على منهج الإمام الألوسي في توجيه المتشابه اللفظي في القرآن الكريم.

المبحث الرابع: أنواع المتشابه اللفظي في تفسير الإمام الألوسي مع ذكر بعض النماذج.

الفصل الرابع: مقارنة بين الإمامين الرازي والألوسي، ويشتمل على أربعة مباحث:

ص: 5

المبحث الأول: مقارنة عامة بين منهج الإمامين في توجيه المتشابه اللفظي في القرآن الكريم.

المبحث الثاني: أوجه التشابه بين الإمامين الرازي والألوسي في توجيه المتشابه اللفظي في القرآن الكريم.

المطلب الأول: مسائل المتشابه اللفظي التي اتفق الإمامان في توجيهها في الحروف.

المطلب الثاني: مسائل المتشابه اللفظي التي اتفق الإمامان في توجيهها في اللفظ والتركيب.

المبحث الثالث: أوجه الاختلاف بين الإمامين الرازي والألوسي في توجيه المتشابه اللفظي في القرآن الكريم.

المطلب الأول: مسائل المتشابه اللفظي التي اختلف الإمامان في توجيهها في الحروف.

المطلب الثاني: مسائل المتشابه اللفظي التي اختلف الإمامان في توجيهها في اللفظ والتركيب.

المبحث الرابع: ما انفرد به كل إمامٍ عن الآخر.

المطلب الأول: ما انفرد به الإمام الرازي عن الإمام الألوسي.

المطلب الثاني: ما انفرد به الإمام الألوسي عن الإمام الرازي

الخاتمة: وتشمل أهم النتائج التي توصلت إليها، مع ذكر بعض التوصيات.

الفهارس: واشتملت على فهرس الآيات القرآنية، وفهرس الحديث الشريف، وفهرس المصادر والمراجع، وفهرس الموضوعات.

ص: 6

‌الفصل الأول التعريف بعلم المتشابه اللفظي

ويشتمل على أربعة مباحث:

المبحث الأول: مفهوم المتشابه لغةً واصطلاحًا.

المبحث الثاني: أهمية علم المتشابه اللفظي.

المبحث الثالث: أبرز من صنف في علم المتشابه اللفظي.

المبحث الرابع: أنواع المتشابه اللفظي في القرآن الكريم.

ص: 7

‌المبحث الأول مفهوم المتشابه لغةً واصطلاحًا

تعريف المتشابه في اللغة:

الشين والباء والهاء أصل واحد يدل على تشابه الشيء وتشاكله، وصفاء ولونا، يقال: شَبه وشِبه ومشبه، والشبه من الجواهر الذي يشبه الذهب والمشبهات من الأمور: المشكلات، واشتبه الأمر إذا أُشكلا

(1)

.

والشِّبه والشَّبَه والشبيه: المِثْلُ، والجمع: أشباه. وأشبه الشيءُ الشيءَ: ماثله

(2)

.

وشبه: ما له شِبْه وشَبَهٌ وشبيه، وفيه شَبَه منه، وقد أشبه أباه وشابهه، وما أشبهه بأبيه، وتشابه الشيئان واشتبها، وشبّهته به وشبّهته إياه، واشتبهت الأمور وتشابهت: التبست لإشباه بعضها بعضًا

(3)

.

وشابهه وأشبهه: ماثله، وتشابها واشتبها: أشبه كل منهما الآخر حتى التبسا

(4)

.

ويفصل القول فيه الإمام «ابن قتيبة»

(5)

فيقول: «وأصل التشابه: أن يشبه اللفظ اللفظ في الظاهر، والمعنيان مختلفان، قال الله عز وجل في وصف الجنة:{وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا}

(6)

، أي متفق المناظر، مختلف الطعوم، وقال:{تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ}

(7)

، أي يشبه بعضها بعضًا في الكفر والقسوة.

(1)

«معجم مقاييس اللغة» ، أحمد بن فارس بن زكرياء القزويني الرازي، المحقق: عبد السلام محمد هارون، دار الفكر، 1399 هـ - 1979 م، (3/ 243).

(2)

«لسان العرب» ، محمد بن مكرم بن على، أبو الفضل، جمال الدين ابن منظور الأنصاري، دار صادر - بيروت، الطبعة: الثالثة - 1414 هـ، (13/ 503).

(3)

«أساس البلاغة» ، أبو القاسم محمود بن عمرو بن أحمد، الزمخشري، تحقيق: محمد باسل عيون السود، الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، الطبعة: الأولى، 1419 هـ - 1998، ((1/ 493).

(4)

«القاموس المحيط» ، مجد الدين أبو طاهر محمد بن يعقوب الفيروزآبادى، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، بيروت- لبنان، (4/ 299).

(5)

ابن قتيبة: هو عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري، وُلد سنة (213 هـ)، نزيل بغداد، كان رأسًا في اللغة، له تصانيف كثيرة منها معاني القرآن، مختلف الحديث، دلائل النبوة، مات سنة (276 هـ)، ينظر:«سير أعلام النبلاء» ، شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قَايْماز الذهبي (ت: 748 هـ)، تحقيق: مجموعة من المحققين بإشراف الشيخ شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، ط: 3، 1405 هـ/ 1985، ((13/ 296)، و «بغية الوعاة» (2/ 63).

(6)

سورة البقرة، جزء من، الآية (25).

(7)

سورة البقرة: الآية (118).

ص: 8

ومنه يقال: اشتبه عليَّ الأمر، إذا أشبه غيره فلم تكد تفرق بينهما، وَشَبَّهْتَ عليَّ: أي إذا لَبَّسْتَ الحق بالباطل، ومنه قيل لأصحاب المخاريق أصحاب الشُّبه لأنهم يشَبِّهُون الباطل بالحق»

(1)

.

كما عده بعض العلماء من المشكل فيقول «المناوي»

(2)

: «المتشابه: المشكل الذي يحتاج إلى فكر وتأمل»

(3)

.

من هذا يتبين لنا أن المتشابه عند أهل اللغة يطلق على ما تماثل من الأشياء، وأشبه بعضها بعضًا.

تعريف المتشابه في الاصطلاح: فينقسم إلى نوعين:

الأول: المتشابه المقابل للمحكم: قيل: المتشابه: ما يحتمل وجوهًا، والمحكم: ما يَحتمل وجهًا واحدًا

(4)

.

وقيل: «المحكم: ما استقل بنفسه والمتشابه: ما لا يستقل بنفسه إلا برده إلى غيره»

(5)

.

الثاني: المتشابه اللفظي:

يعد الإمام «الزركشي»

(6)

أول من عرَّف المتشابه اللفظي تعريفًا محددًا في كتابه: «البرهان» حيث عرفه بأنه: «هو إيراد القصة الواحدة في سور شتى وفواصل مختلفة ويكثر في إيراد

(1)

«تأويل مشكل القرآن» ، عبد الله بن قتيبة، تحقيق: إبراهيم شمس الدين، دار الكتب العلمية، (ص: 68).

(2)

المناوي هو محمد عبد الرؤوف بن تاج العارفين ابن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري، زين الدين. المشهور بالمناوي. ولد سنة: 952 هـ وتوفي سنة: 1031 هـ. عاش في القاهرة، وتوفي بها. ينظر:«خلاصة الأثر» (2/ 412)، و «البدر الطالع» (1/ 357).

(3)

«التوقيف في مهمات التعاريف» ، لمحمد المناوي، تحقيق الدكتور عبد الحميد صالح حمدان، الطبعة الأولى، عالم الكتب، (ص: 295).

(4)

«البرهان في علوم القرآن» ، للزركشي، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، الطبعة الثالثة، دار التراث القاهرة (2/ 70).

(5)

«الإتقان في علوم القرآن» ، لجلال الدين السيوطي، تحقيق: مركز الدراسات القرآنية، مجمع الملك فهد (4/ 1336).

(6)

بدر الدين الزركشي أبو عبد الله، بدر الدين، محمد بن بهادر بن عبد الله الزَّرْكَشِيِّ المصري، فقيه، أصولي، له مؤلفات في علوم كثيرة. وُلد في القاهرة سنة 745 هـ، وتُوفي سنة 794 هـ. ينظر:«طبقات الشافعية» ، لابن قاضي (3/ 167)، و «الدرر الكامنة» (3/ 397).

ص: 9

القصص والأنباء، وحكمته التصرف في الكلام، وإتيانه على ضروب ليعلمهم عجزهم عن جميع ذلك مبتدأ به ومكررًا»

(1)

.

وقد تناوله الإمام «السيوطي»

(2)

في الوجه السادس في كتابه: «معترك الأقران» وعرَّفه بأنه: «القصة الواحدة ترد في سورٍ شتى وفواصل مختلفة بأن يأتي في موضع واحد مقدمًا وفي آخر مؤخرًا، كقوله في سورة البقرة:{وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ}

(3)

وفي سورة الأعراف: {وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا}

(4)

، ثم ذكر أمثلة متعددة على الآيات المتشابهات

(5)

.

ومن الأقوال التي ذكرها ابن جرير الطبري

(6)

في معنى المتشابه اللفظي: «هو ما اشتبهت الألفاظ به من قصصهم عند التكرار في السور، بقصة باتفاق الألفاظ واختلاف المعاني وبقصة باختلاف الألفاظ واتفاق المعاني»

(7)

.

وعرفه د/ محمد الصامل بأنه: «ما توارد من الآيات بنوع من التبديل والتغيير»

(8)

.

قال د/ صالح الشثري: «المراد بالمتشابه اللفظي في القرآن: الآيات التي تكررت في القرآن الكريم في القصة الواحدة من قصص القرآن أو موضوعاته في ألفاظ متشابهة وصور متعددة، وفواصل شتى، وأساليب متنوعة، تقديمًا وتأخيرًا، وذكرًا وحذفًا، وتعريفًا وتنكيرًا، وإفرادًا وجمعًا، وإيجازًا وإطنابًا، وإبدال حرف بحرف آخر، أو كلمة بكلمة أخرى، ونحو ذلك. مع اتفاق المعنى العام،

(1)

البرهان في علوم القرآن»، للزركشي، (1/ 112).

(2)

هو جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر بن محمد ابن سابق الدين الخضيري السيوطي، (القاهرة 849 هـ- 911 هـ)، من كبار علماء المسلمين، نشأ يتيمًا، وحفظ القرآن صغيرًا، كان مكثرًا من التأليف جدًا. ينظر:«حسن المحاضرة» (1/ 289 - 297)، و «البدر الطالع» (1/ 229).

(3)

سورة البقرة، الآية:(58).

(4)

سورة الأعراف، الآية:(161).

(5)

ينظر: «معترك الأقران في إعجاز القرآن» ، لجلال الدين السيوطي، تحقيق: أحمد شمس الدين، دار الكتب العلمية بيروت، (1/ 68) ترجمة رقم:(73).

(6)

هو أبو جعفر الطبري صاحب التفسير والتاريخ الشهير كان إماما في التفسير والقراءات والسنن والحديث والفقه والتاريخ ولد سنة 224 هـ وتوفي سنة 310 هـ. ينظر: «وفيات الأعيان» (4/ 191).

(7)

«تفسير الطبري» ، جامع البيان في تأويل القرآن، للطبري، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان (3/ 174).

(8)

«من بلاغة المتشابه اللفظي في القرآن الكريم» ، محمد الصامل، دار إشبليا، الطبعة الأولى (ص: 13).

ص: 10

لغرض بلاغي، أو لمعنى دقيق يراد تقريره لا يدركه إلا من أتاه الله علمًا وفهمًا لأسرار كتابه، وهي بحق كنز ثمين من كنوز إعجازه وسر من أسرار بيانه»

(1)

.

وما يعنيني في بحثي هو النوع الثاني (المتشابه اللفظي).

(1)

«المتشابه اللفظي في القرآن الكريم وأسراره البلاغية» ، لصالح الشثري، مجمع الملك فهد، المدينة المنورة (ص: 13).

ص: 11

‌المبحث الثاني أهمية علم المتشابه اللفظي

ترجع أهمية علم المتشابه اللفظي إلى اهتمامه بجانب دقيق من جوانب علوم القرآن والتفسير وهو توجيه الفرق بين الآيات المتشابهات والوقوف على أسرار اختيار اللفظ في هذا الموضع واختلافه في الموضع الآخر وهذا يعين القارئ على:

1 -

تدبر كلام الله عز وجل وفهمه جيدًا، والوقوف على سبب اختلاف الألفاظ، وفهم الآيات جيدًا.

2 -

يعين الحافظ على ضبط حفظه، ورسوخ الآيات المتشابهات في قلبه، وعدم حدوث أي لحن أو خطأ في حفظه بين مواضع المتشابه، بالإضافة إلى فهمه لهذه المواضع وتدبرها.

ولهذا الغرض تحديدًا صنف العلماء مؤلفات في المتشابه اللفظي.

وقد نبه الإمام ابن المنادى

(1)

رحمه الله على الأسباب التي دفعت القراء إلى جمع المتشابه اللفظي في القرآن فقال: «أما الأنواع المرجوة منافعها في تقوية حفظ الحافظ، والمجربة معاونتها لأدارب المتحفظ فقد قدمنا ذكرها، وذكر شواهدها المأثورة فيها، ولم يبق إلا النوع الذي استحدثه فريق من القراء ولقبوه (المتشابه) وإنما حملهم على وضعهم إياه للقراءة ردًا على سوء الحفظ، وحداهم كون القرآن ذا قصص، وتقديم وتأخير كثير، ترداد أنبائه ومواعظه، وتكرار أخبار من سلف من الأنبياء والمهلكين والأشقياء، يأتي بعضه بكلام متساوي الأبنية والمعاني على تفريق ذلك في آي القرآن وسوره، وقد يجئ حرف غير هذا الضرب، فيأتي بالواو مرة وبالفاء مرة، وآخر يأتي بالإدغام تارة وبالبيان تارة، وأسماء متماثلة، فاستحبوا أن يجمعوا من حروف متشابه القرآن ما إذا حفظ منع من الغلط»

(2)

.

3 -

يجعل قلب العبد ممتلئًا بقدرة الله عز وجل وعظمته خاصة مع الاجتهاد في فهم كتاب الله والوقوف على أسراره ومعانيه، وبيان وجوه الإعجاز بين المواضع المختلفة، ومعرفة دقائق الأسلوب البياني في القرآن الكريم.

(1)

هو أحمد بن جعفر بن محمد بن عبيد الله بن يزيد أبو الحسين بن المنادى، سمع جده محمدًا وأباه جعفرًا، صنف كتبًا كثيرة، وجمع علومًا جمة، توفي سنة 336 هـ. ينظر:«البداية والنهاية» ، لابن كثير، تحقيق: عبد الله بن عبد المحسن التركي، الناشر: دار هجر للطباعة والنشر والتوزيع والإعلان، الطبعة: الأولى، 1418 هـ -1997، ((11/ 219)، و «طبقات الحنابلة» (2/ 3).

(2)

«متشابه القرآن الكريم» لأحمد بن جعفر بن المنادي، (ص: 59) تحقيق: عبد الله الغنيمان، الجامعة الإسلامية، ط 1، 1408 هـ.

ص: 12

يقول الدكتور محمد الصامل: «وإن من أعظم مظاهر إعجازه البياني ذلك التشابه العجيب بين كثير من آياته. فقد تتشابه الآيتان أو الثلاث، أو أكثر من ذلك في معظم ألفاظها وتختلف في بعضها، ويكون الاختلاف على وجوه منها، تقديم بعض الألفاظ في موضع، وتأخرها في موضع آخر، أو ذكر حرف مكان آخر، أو كلمة مكان أخرى، أو مجيء كلمة في مكان وخلو المكان الآخر منها أو غير ذلك من مظاهر التشابه اللفظي»

(1)

.

4 -

الرد على الملحدين الطاعنين في كتاب الله الذين يدَّعون أن القرآن به تكرار لا هدف له فيُثبت علم المتشابه اللفظي بلاغة التكرار، ووجه الحكمة في كل موضع.

يؤكد الإمام الزركشي على فائدة التكرار وأنه من الفصاحة فيقول: «وقد غلط من أنكر كونه – التكرار – من أساليب الفصاحة ظنًا أنه لا فائدة له، وليس كذلك، بل هو من محاسنها، لا سيما إذا تعلق بعضه ببعض؛ وذلك أن عادة العرب في خطاباتها إذا أبهمت بشيء إرادة لتحقيقه وقرب وقوعه، أو قصدت الدعاء عليه، كررته توكيدا، وكأنها تقيم تكراره مقام المقسم عليه، أو الاجتهاد في الدعاء عليه، حيث تقصِد الدعاء؛ وإنما نزل القرآن بلسانهم، وكانت مخاطباته جاريةً فيما بين بعضهم وبعض، وبهذا المسلك تستحكم الحجة عليهم في عجزهم عن المعارضة. وعلى ذلك يحتمل ما ورد من تكرار المواعظ والوعد والوعيد، لأن الإنسان مجبول من الطبائع المختلفة، وكلها داعية إلى الشهوات، ولا يقمع ذلك إلا تكرار المواعظ والقوارع»

(2)

.

5 -

يدعو إلى البحث والتأمل في كتاب الله خاصة مع وعورة مسلكه، وتحير الكثير في معرفة سبب توجيه المتشابه، واختلاف المتشابه من موضع لآخر، وهذا ما حثنا عليه الله عز وجل فقال تعالى:{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}

(3)

، كما أن هذا يجعل المرء يجتهد أكثر وأكثر فيزيد ثوابه وأجره.

يقول الدكتور صالح الشثري: «ولعل من دواعي قلة التأليف في هذا العلم وعورة مسلكه، ودقة مباحثه وغموضها إلا لمن امتلك الأدوات، ورزق الصبر والنظر الدقيق المكرر»

(4)

.

ص: 13

6 -

أيضًا علم المتشابه اللفظي يعد دلالة على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم حيث تتجلى الصور البدعية والمعاني العظيمة مطوية في ثناياه، مع أنه أمي لم يقرأ ولم يكتب، قال تعالى:{وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ}

(1)

.

7 -

يعين علم المتشابه اللفظي على المحافظة على علوم القرآن، وذلك لأن البحث في أوجه التشابه ومحاولة توجيهها يحتاج إلى النظر في اللغة والنحو والبلاغة وأصول الفقه وغيرها، فكان المتشابه اللفظي بذلك سببًا في تحصيل علوم كثيرة

(2)

.

8 – علم المتشابه اللفظي يجعل الباحث يتيقن أن علمه قليلٌ متدبرًا قوله تعالى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا}

(3)

؛ لأن الباحث مهما حاول توجيه المتشابه لابد أن يقف عند بعض المواضع قائلًا: الله أعلم بمراده أو يقولها بعد توجيهه لبعض المواضع، فمثلًا الإمام الرازي وهو عالم بحر ذكر بعض المواضع دون أن يوجهها، وبعضها الآخر بعد توجيهها قال: الله أعلم بمراده.

(1)

سورة العنكبوت: الآية (48).

(2)

«أثر دلالة السياق القرآني في توجيه معنى المتشابه اللفظي في القص/ القرآني دراسة نظرية تطبيقية على آيات قص/ نوح وهود وصالح وشعيب عليهم السلام» ، للباحثة: تهاني بنت سالم باحويرث، (ص: 34، 35)، رسالة ماجستير، جامعة أم القرى.

(3)

سورة الإسراء: الآية (85).

ص: 14

‌المبحث الثالث: أبرز من صنف في علم المتشابه اللفظي

المتأمل في كتب المتشابه اللفظي يجد أن التصنيف فيه انقسم إلى اتجاهين:

الأول: جمع آيات المتشابه اللفظي دون توجيه:

بدأ التصنيف في علم المتشابه اللفظي بجمع الآيات المتشابهات دون التوجيه، وبيان سبب الاختلاف بين الموضعين، وكان من أوائل ما صُنف في هذا الشأن كتاب متشابه القرآن لعلي بن حمزة الكسائي

(1)

في القرن الثاني الهجري وقد صرح فيه بهدفه من تأليفه قائلًا: «ليكون كتابنا هذا عونًا للقارئ على قراءته وتقوية على حفظه»

(2)

.

الثاني: توجيه آيات المتشابه اللفظي:

معنى التوجيه لغةً: الوجه: مستقبل كل شئ ومنه قوله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ}

(3)

، وَوَجَّه فلانًا في حاجة: أرسله، والوجه في المسألة: ما ظهر لك منها، ويقال: واجَهَهُ بقول أو نقد: جَبَهَه به وراجعه

(4)

.

وقد تحدث الإمام الكرماني

(5)

في مقدمة كتابه «البرهان في متشابه القرآن لما فيه من الحجة والبيان» عن معنى توجيه المتشابه اللفظي حيث قال: «ولكني أفردت هذا الكتاب لبيان المتشابه؛ فإن الأئمة - رحمهم الله تعالى - قد شرعوا في تصنيفه واقتصروا على ذكر الآية ونظيرتها، ولم يشتغلوا بذكر وجوهها وعللها والفرق بين الآية ومثلها»

(6)

.

(1)

هو علي بن حمزة بن عبد الله بن بهمن بن فيروز، الأسدي المعروف بالكسائي النحوي أحد أئمة القراء من أهل الكوفة. ولد في الكوفة نحو (120 هـ)، وقيل: في سبب تسميته الكسائي: أنه كان يحضر مجلس حمزة بالليل ملتفًا في كساء، وقيل: أحرم في كساء، فلقب الكسائي يُنظر:«إنباه الرواة على أنباه النحاة» ، القفطي (2/ 256)، و «الأعلام» ، للزركلي، (4/ 283).

(2)

يُنظر: «متشابه القرآن» للكسائي، تحقيق: د/ محمد محمد داود، دار المنار للنشر والتوزيع، (ص: 40).

(3)

سورة البقرة، الآية:(115). ويُنظر: «تاج العروس من جواهر القاموس» للزبيدي، تحقيق: علي هلالي، ط 2، الكويت، إصدار وزارة الإعلام، سلسلة التراث العربي، 1407 هـ، (36/ 535 - 540).

(4)

يُنظر: «المعجم الوسيط» ، مجمع اللغة العربية، مصر، مكتبة الشروق الدولية، (2/ 1015)، و «المعجم الوجيز» ، مجمع اللغة العربية، مطابع الأهرام، مكتبة دبي للتوزيع (ص: 661، 662).

(5)

هو محمود بن حمزة بن نصر، أبو القاسم برهان الدين الكَرْماني، النحوي، تاج القراء، تُوفي سنة 505 هـ تقريبًا، يُنظر ترجمته في:«غاية النهاية» ، لابن الجزري (2/ 291)، و «طبقات المفسرين» للداودي (2/ 312).

(6)

«البرهان في توجيه متشابه القرآن لما فيه من الحجة والبيان» ، للكرماني، تحقيق: السيد الجميلي، مركز الكتاب للنشر، القاهرة، (ص: 12).

ص: 15

وظهر هذا الاتجاه مع ظهور الطاعنين والقائلين بالتكرار في النص القرآني.

فقد ذكر الإمام الإسكافي (أول من صنف كتابًا مستقلًا في توجيه المتشابه اللفظي) أن من أسباب تأليفه لدرة التنزيل: ((" ولطعن الجاحدين ردًا، ولمسلك الملحدين سدًا " وفي نهاية الكتاب يقول: " هذا آخر ما تكلمنا عليه من الآيات التي يقصد الملحدون التطرق منها إلى عيبها))

(1)

وقد مر علم المتشابه اللفظي بعدة مراحل حتى وصل إلى مرحلة التوجيه ومعرفة سبب اختلاف المواضع، وقد قامت عدة محاولات اجتهادية لمعرفة المراحل المختلفة التي مر بها علم المتشابه اللفظي.

قال الدكتور محمد البركة: «إن القول في تقسيم علم من العلوم إلى مراحل متغايرة قول اجتهادي، يختلف باختلاف الباحثين، ومدى اطلاعهم وسبرهم لذلك العلم. وعلى كل فالأمر فيه واسع، وليس في ذلك قول فصل يُذعن له كل أحد»

(2)

.

ومن هذه المحاولات الاجتهادية:

وضع آيدين محقق الدرة تصورًا لمراحل نشأة علم المتشابه اللفظي وتطورها ولخصها في أربع مراحل وها هي بإيجاز شديد:

1 – النشأة والتأليف وذكر فيها كتاب الكسائي: (متشابه القرآن)، وكتاب ابن المنادي:(متشابه القرآن العظيم).

2 – التوسع في هذا الباب والتأليف.

3 -

حصر المتشابهات على أساس كل سورة سورة بحسب ترتيب المصحف.

4 -

توجيه الأسباب وبيان السبب

(3)

.

كما قام أحد الباحثين بالتوسع في تقسيم المراحل التي مر بها علم المتشابه اللفظي وخَلُص في بحثه إلى تقسيمها إلى سبع مراحل:

(1)

يُنظر: «درة التنزيل وغرة التأويل» ، تحقيق ودراسة مصطفى آيدين، (1/ 138) ط 1، جامعة أم القرى، مكة المكرمة.

(2)

«المتشابه اللفظي في القرآن الكريم وتوجيهه دراسة موضوعية» ، لمحمد البركة، (1/ 88)، رسالة ماجستير، جامعة الإمام محمد بن سعود.

(3)

يُنظر: «درة التنزيل وغرة التأويل» ، تحقيق ودراسة مصطفى آيدين، (1/ 64 - 68) ط 1، جامعة أم القرى، مكة المكرمة.

ص: 16

الأولى: مرحلة ما قبل الجمع والتدوين، الثانية: مرحلة الجمع والتدوين، الثالثة: مرحلة التوجيه، الرابعة: مرحلة النظم، الخامسة: مرحلة الركود، السادسة: مرحلة الفهارس والمعاجم القرآنية، السابعة: مرحلة الدراسة والتجديد

(1)

، وقد قام الباحث بالحديث عن كل مرحلة من المراحل

(2)

.

وعلى هذا يمكن أن نقسم المؤلفات التي اهتمت بجمع وتوجيه الآيات المتشابهة إلى قسمين:

القسم الأول: كتب ركزت على توجيه آيات المتشابه اللفظي في كتب مستقلة أُلفت في توجيه المتشابه اللفظي. ومن أشهر تلك الكتب:

- كتاب (درة التنزيل وغرة التأويل) للخطيب الإسكافي

(3)

، وهو أهم كتاب في هذا الباب، وأول كتاب صُنف في توجيه آيات المتشابه اللفظي.

- كتاب (البرهان في توجيه متشابه القرآن لما فيه من الحجة والبيان) لمحمود بن حمزة الكرماني.

- كتاب (ملاك التأويل القاطع بذوي الإلحاد والتعطيل) لابن الزبير الغرناطي وهو من أوسع الكتب التي تناولت الكثير من المواضع.

- كتاب (كشف المعاني في المتشابه من المثاني) لبدر الدين ابن جماعة

(4)

.

- كتاب (فتح الرحمن بكشف ما يلتبس من القرآن)، للشيخ زكريا الأنصاري

(5)

وهو اختصار لكتاب (البرهان).

(1)

يُنظر: «توجيه المتشابه اللفظي بين القدامى والمحدثين» ، د/ محمد رجائي أحمد الجبالي، رسالة دكتوراه، جامعة ملايا، كوالالمبور، (ص: 70 – 71).

(2)

يُنظر المرجع السابق (ص: 70 - 91).

(3)

هو أبو عبد الله محمد بن عبد الله الأصبهاني يُعرف بالخطيب الإسكافي (ت: 420 هـ) عالم من كبار علماء الأدب واللغة في عصره، من أهل أصفهان، كان إسكافيًا، ثم خطيبًا بالري، من أشهر كتبه درة التنزيل وغرة التأويل. يُنظر ترجمته في:«معجم الأدباء» (6/ 2549)، و «الأعلام» للزركلي (6/ 221 - 227).

(4)

هو أبو عبد الله بدر الدين محمد إبراهيم بن سعد بن جماعة الكناني الحموي الشافعي، (639 هـ-733 هـ) من العلماء بالحديث وسائر علوم الدين. وُلد في حماة. وولي الحكم والخطابة بالقدس، ثم القضاء بمصر، فقضاء الشام، ثم قضاء مصر إلى أن شاخ وعمي، كان من خيار القضاة، وتوفي بمصر. يُنظر ترجمته في:«البداية والنهاية» ، (4/ 163)، و «شذرات الذهب» ، (6/ 105)، و «طبقات الشافعية» ، (1/ 386).

(5)

هو الشيخ الإمام، شيخ مشايخ الإسلام قاضي القضاة زين الدين أبو يحيى زكريا بن محمد بن زكريا الأنصاري السُنَيكي -نسبة إلى سُنَيكة من قرى محافظة الشرقية بمصر- المصري، الأزهري، الشافعي، (823 - 926 هـ) يُنظر ترجمته في:«الكواكب السائرة بأعيان المئة العاشرة» لنجم الدين الغزي (1/ 196 – 207)، و «الأعلام» للزركلي (3/ 46).

ص: 17

وقد قام د/ صالح الشثري بتناول هذه الكتب، وأصحابها، ومناهجهم في رسالته (المتشابه اللفظي في القرآن الكريم وأسراره البلاغية)

(1)

.

القسم الثاني:

توجيه آيات المتشابه اللفظي في كتب التفسير وعلوم القرآن التي اهتمت بهذا الأمر وقد تطرق محقق درة التنزيل د/ مصطفى آيدين إلى كتب التفسير التي تناولت بعض مسائل المتشابه اللفظي بالتوجيه.

يقول د/ مصطفى آيدين: "ويلحق بهذا النوع كتب تعرض أصحابها- في بعض المواضع للحديث عن توجيه المتشابه اللفظي في القرآن الكريم، أثناء تفسير القرآن الكريم، أو رد شبهات الطاعنين، ولكنهم تناولوا هذا النوع من التوجيه بمنهج آخر، غير الذي لجأ إليه أصحاب الكتب المتخصصة في هذا الفن، من طرح سؤال وجواب»

(2)

.

ولا ننسى في هذا المقام التنبيه إلى أن هؤلاء قد يفوقون وإن كان في قليل من المواضع على تعليلات وتوجيهات أصحاب هذا الشأن، وقد أشرت إليها في هوامش الكتاب في كثير من الأحيان.

ومن تلك الكتب:

«تأويل مشكل القرآن» ، لابن قتيبة ت 276 هـ، و «جامع البيان عن تأويل آي القرآن» ، لابن جرير الطبري ت 310 هـ، و «معاني القرآن» لأبي جعفر النحاس ت 338 هـ، و «تنزيه القرآن عن المطاعن» ، للقاضي عبد الجبار بن أحمد ت 415 هـ، و «الكشاف» للزمخشري 538 هـ، و «المحرر الوجيز» ، لابن عطية ت 542 هـ، و «زاد المسير» لابن الجوزي ت 597 هـ، و «التفسير الكبير» للفخر الرازي 606 هـ، و «الجامع لأحكام القرآن» للقرطبي ت 671 هـ، و «أنموذج جليل في أسئلة وأجوبة من غرائب آي التنزيل» لمحمد بن أبي بكر الرازي صاحب مختار الصحاح توفي بعد سنة 691 هـ، و «غرائب القرآن ورغائب الفرقان» للحسين بن محمد

(1)

«المتشابه اللفظي في القرآن الكريم وأسراره البلاغية» ، (من ص: 13 - 108).

(2)

لا أتفق (الباحثة) مع د/ مصطفى آيدين في أن المفسرين لم يعرضوا المتشابه اللفظي في سؤال وجواب وسأوضح بالأمثلة أن الإمام الرازي مثلًا ذكر الكثير من مواضع المتشابه اللفظي في سؤال وجواب عند الحديث عن منهج الإمام الرازي في توجيه المتشابه اللفظي في القرآن الكريم. ينظر «تفسيره الكبير» (2/ 21)، وللمزيد يُنظر:«درة التنزيل وغرة التأويل» للإسكافي (1/ 143، 144).

ص: 18

النيسابوري ت 728 هـ، و «لباب التأويل في معاني التنزيل» للخازن ت 741 هـ، و «البحر المحيط» لأبي حيان ت 745 هـ، و «الدر المصون في علوم الكتاب المكنون» للسمين الحلبي ت 756 هـ، و «تفسير القرآن العظيم» لابن كثير ت 774 هـ، و «بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز» ، لمحمد بن يعقوب الفيروز آبادي ت 817 هـ، و «الفتوحات الإلهية» ، المعروف بحاشية الجمل للشيخ سليمان بن عمر ت 1204 هـ، و «روح المعاني» للآلوسي ت 270 هـ، و «تفسير التحرير والتنوير» لابن عاشور ت 1393 هـ)

(1)

.

كما قال محقق كتاب البرهان للكرماني: «لقد وجدت أن بعض المفسرين كأبي السعود وأبي حيان تعرضوا في قليل من المواضع للحديث عن المكرر، ولكنهم عالجوه بمنهج آخر غير الذي لجأ إليه الكرماني. وإن كان قليل منها تفوق على تعليلات الكرماني»

(2)

.

- فإن كان هناك علماء اهتموا بتوجيه آيات المتشابه اللفظي في كتب مستقلة مثل الإسكافي صاحب درة التنزيل الذي كان أول من قدم كتابًا مستقلًا في توجيه الآيات المتشابهات، وابن الزبير الثقفي الأندلسي فارس هذا الميدان صاحب ملاك التأويل الذي يُعتبر أوسع الكتب التي توسعت في توجيه آيات المتشابه اللفظي، وكذلك الكرماني صاحب كتاب البرهان في متشابهات القرآن، وابن جماعة في كشف المعاني، والأنصاري في فتح الرحمن.

- فإني أجد أن هناك من المفسرين من حرص على توجيه آيات المتشابه اللفظي أثناء تفسيرهم للآيات المتشابهات أمثال: الزمخشري، والرازي، وأبي حيان، وأبي السعود، والألوسي، وابن عاشور، وبعض المفسرين قد يفوقون في تعليلاتهم وتوجيهاتهم أصحاب الكتب التي استقلت بالتأليف في المتشابه، بل نجد تأثر علماء المتشابه اللفظي بهم في كتبهم كما تأثر الإمام ابن الزبير الثقفي الأندلسي بعدد من المفسرين في ملاك التأويل، ونقل رأي الإمام الرازي في بعض المسائل كما سأوضح عند الحديث عن منهج الإمام الرازي في توجيه المتشابه اللفظي في القرآن الكريم.

- فلا يكاد يخلو كتاب من كتب التفسير إلا وقد تطرق لتوجيه بعض آيات المتشابه اللفظي بل حتى كتب التفسير بالمأثور لم تخلُ من توجيه بعض آيات المتشابه اللفظي فنجد مثلًا في تفسير ابن كثير عند تفسير قوله تعالى: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ

(1)

«درة التنزيل وغرة التأويل» ، (1/ 82 - 85) باختصار.

(2)

«البرهان في توجيه متشابه القرآن» ، للكرماني، تحقيق: عبد القادر أحمد عطا، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، (مقدمة/ 14).

ص: 19

وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}

(1)

.

هذا أمر ثالث من الله تعالى باستقبال المسجد الحرام من جميع أقطار الأرض، وقد اختلفوا في حكمة هذا التكرار ثلاث مرات، فقيل: تأكيد؛ لأنه أول ناسخ وقع في الإسلام على ما نص عليه ابن عباس وغيره، وقيل: بل هو منزل على أحوال، فالأمر الأول لمن هو مشاهد الكعبة، والثاني لمن هو في مكة غائبًا عنها، والثالث لمن هو في بقية البلدان، هكذا وجهه فخر الدين الرازي. وقال القرطبي: الأول لمن هو بمكة، والثاني لمن هو في بقية الأمصار، والثالث لمن خرج في الأسفار، ورجح هذا الجواب القرطبي، وقيل: إنما ذكر ذلك لتعلقه بما قبله أو بعده من السياق، فقال:

أولًا: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا}

(2)

إلى قوله: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ}

(3)

، فذكر في هذا المقام إجابته إلى طلبته وأمره بالقبلة التي كان يود التوجه إليها ويرضاها.

وقال في الأمر الثاني: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}

(4)

، فذكر أنه الحق من الله وارتقى عن المقام الأول، حيث كان موافقًا لرضا الرسول صلى الله عليه وسلم فبين أنه الحق أيضًا من الله يحبه ويرتضيه، وذكر في الأمر الثالث حكمة قطع حجة المخالف من اليهود الذين كانوا يتحججون باستقبال الرسول إلى قبلتهم، وقد كانوا يعلمون بما في كتبهم أنه سيصرف إلى قبلة إبراهيم عليه السلام إلى الكعبة، وكذلك مشركو العرب انقطعت حجتهم لما صرف الرسول صلى الله عليه وسلم عن قبلة اليهود إلى قبلة إبراهيم التي هي أشرف، وقد كانوا يعظمون وأعجبهم استقبال الرسول صلى الله عليه وسلم إليها، وقيل غير ذلك من الأجوبة عن حكمة التكرار، وقد بسطها فخر الدين الرازي وغيره، والله – سبحان الله – أعلم

(5)

.

(1)

سورة البقرة، الآية:(149).

(2)

سورة البقرة، الآية:(144).

(3)

سورة البقرة، الآية:(144).

(4)

سورة البقرة، الآية:(149).

(5)

تفسير ابن كثير، (1/ 463) تحقيق: سامي محمد سلامة، دار طيبة، الطبعة الثالثة

ص: 20

*بل حتى نجد في التفاسير المجملة توجيه بعض مسائل المتشابه اللفظي:

فقد قال الإمام السعدي

(1)

عند تفسير قوله تعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}

(2)

: «تقدم تفسيرها، وكررها؛ لقطع التعلق بالمخلوقين، وأن المعول عليه ما اتصف به الإنسان، لا عمل أسلافه وآبائه، فالنفع الحقيقي بالأعمال، لا بالانتساب المجرد للرجال»

(3)

.

أيضًا قال عند تفسير قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ}

(4)

: «وذكر الله الظلمات بالجمع، لكثرة موادها، وتنوع طرقها. ووحد النور؛ لكون الصراط الموصلة إلى الله واحدة، لا تعدد فيها، وهي: الصراط المتضمنة للعلم بالحق، والعمل به كما قال تعالى:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}

(5)

»

(6)

. فنوع المتشابه هنا بالجمع والإفراد جمع (الظلمات) وإفراد (النور).

*وفي ضوء عنايتي بالنظر في كتب التفسير ودورها في توجيه المتشابه اللفظي يمكنني القول

أن المفسرين ليسوا على درجة واحدة، فمنهم المكثر ومنهم المقل.

*فمن المكثرين:

- فخر الدين الرازي: يُعَد تفسيره " مفاتيح الغيب " من أوسع التفاسير التي تعرضت لتعليل أوجه المتشابه اللفظي، وربما أطال في بعض المواضع، وقد أخذ فريق من المفسرين بعده نص كلامه في ذلك وضمَّنوه في تفاسيرهم كالألوسي (أخذ منه الكثير من المسائل وتعقبه في بعضها) وابن كثير وابن عاشور وغيرهم، وأخذ منه بعض علماء المتشابه اللفظي كابن الزبير وابن جماعة.

(1)

هو الشيخ العلامة المفسر أبو عبد الله عبد الرحمن بن ناصر آل سعدي، من بني تميم، ولد في عنيزة في القصيم في الثاني عشر من محرم عام 1307 هـ، عُرف بالعلم وله عدة مؤلفات، يُنظر ترجمته في:«روضة الناظرين عن مآثر علماء نجد وحوداث السنين» ، للشيخ محمد بن عثمان القاضي (1/ 219 (، و «علماء نجد خلال ثمان قرون»، للشيخ عبد الله البسام (3/ 218).

(2)

سورة البقرة، الآية:(141).

(3)

«تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان» ، العلامة الشيخ: عبد الرحمن بن ناصر السعدي، دار العقيدة، الطبعة الثانية (ص: 71).

(4)

سورة الأنعام، الآية:(1).

(5)

سورة الأنعام، الآية:(153).

(6)

«تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان» (ص: 347).

ص: 21

((وممن سلكوا هذا السبيل أيضا الإمام الرازي في التفسير الكبير، إذ نلحظ حرصه الواضح على توجيه بعض المتشابهات، وخاصة ما جاء في الجزء الأول من سورة البقرة، فلا يكاد يترك موضعًا من مواضع التشابه في أول جزء إلا ويبدي فيه رأيًا، وإن لم يجد فيه رأي تجده يفوض علمه إلى الله تعالى.))

(1)

- الإمام الطاهر بن عاشور: يُعد تفسيره التحرير والتنوير من أنفس تفاسير المتأخرين التي تُعنى بالدقائق اللفظية والمباحث اللغوية والنحوية والبلاغية، وفيه ما لا يوجد في غيره من التفاسير على كثرتها.

*ومن المقلين:

- الزمخشري: يُعد تفسيره " الكشّاف " من أهم التفاسير التي تعرضت لبيان المتشابه وتوجيهه، وهو من المقلين المقتصدين في التعليل، ولكن مع قلة مسائل المتشابه اللفظي التي تناولها إلا أنها اتسمت بقوة التوجيه حتى استمد منه كثير من المفسرين كالرازي والبيضاوي والنسفي وأبي السعود والألوسي وابن عاشور، وأخذ منه بعض علماء المتشابه اللفظي كابن الزبير توجيه العديد من المسائل.

وبهذا يتبين لنا أن للمفسرين جهودًا واضحةً في إثراء علم المتشابه اللفظي وتوجيهه، وسأتطرق في بحثي للحديث عن اثنين من أهم المفسرين، وهما الإمام فخر الدين الرازي، والإمام الألوسي متحدثة عن منهجيهما في تناول المتشابه اللفظي، ثم أقوم بعمل مقارنة بينهما في الفصل الأخير بإذن الله.

(1)

الاعتماد في الحروف المشكلة في القرآن الكريم، للشريف أبي إسماعيل موسى بن الحسين المعروف بالمَعدَّل، تحقيق: عبد الله عبد القادر، دار: الكتب العلمية، بيروت، ص 44، 45

ص: 22

‌المبحث الرابع: أنواع المتشابه اللفظي في القرآن الكريم

قامت محاولات اجتهادية لحصر أنواع المتشابه اللفظي في القرآن الكريم.

فقد قسم ابن الجوزي المتشابه اللفظي إلى ثلاثة أنواع: «أحدها إبدال كلمة بكلمة، أو حرف بحرف، الثاني: الزيادة والنقصان في الحروف والكلمات، والثالث: التقديم والتأخير»

(1)

.

وهذا التقسيم ناقص؛ لأنه لم يستوعب كل الأنواع، بل وقد قام أيضًا الراغب الأصفهاني بوضع تقسيم للمتشابه في كتابه المفردات في غريب القرآن

(2)

.

ومن أشهر من وضع تقسيم معتبر لأنواع المتشابه اللفظي بدر الدين الزركشي في كتابه البرهان فقد قسم المتشابه اللفظي إلى ثمانية أنواع وأفرد له خمسة عشر فصلًا من كتابه البرهان في علوم القرآن

(3)

.

وقد اكتفى السيوطي بذكر أمثلة على أنواع المتشابه اللفظي في كتابه الإتقان في علوم القرآن

(4)

.

وقد قام د/ محمد فاضل السامرائي بإضافة ثمانية أنواع أخرى على ما ذكره الزركشي

(5)

.

وفيما يلي أفضل تقسيم لأنواع المتشابه اللفظي حسب ما قرأت في هذا الشأن:

النوع الأول: المتشابه بالتقديم والتأخير: وهو أربعة أقسام:

الأول: تقديم كلمة وتأخيرها مثاله؛ قوله سبحانه: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى}

(6)

، وقوله تعالى:{وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى}

(7)

.

(1)

يُنظر: «فنون الأفنان في علوم القرآن» ، أبو الفرج بن الجوزي، تحقيق: حسن ضياء الدين عتر، دار البشائر، ط 1، (ص: 420 - 477).

(2)

يُنظر: «المفردات في غريب القرآن» للأصفهاني، تحقيق: صفوان داووي دار العلم، ط 1، (ص: 254).

(3)

يُنظر: «البرهان في علوم القرآن» للزركشي (1/ 111 - 155).

(4)

يُنظر: «الإتقان في علوم القرآن» للسيوطي، تحقيق مركز الدراسات القرآنية (ص: 1478).

(5)

يُنظر: «دراسة المتشابه اللفظي في آي التنزيل» ، د/ محمد السامرائي، دار ابن كثير، الطبعة الأولى (ص: 24، 25).

(6)

سورة القصص، الآية:(20).

(7)

سورة يس، الآية:(20).

ص: 23

الثاني: تقديم جملة وتأخيرها: مثاله قوله تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}

(1)

، وقوله سبحانه:{ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}

(2)

الثالث: الاختلاف في ترتيب المتعاطفات: مثاله قوله سبحانه: {يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ}

(3)

، وقوله تعالى:{يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ}

(4)

الرابع: تقديم الضمير وتأخيره: مثاله قوله تعالى: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ}

(5)

، وقوله سبحانه:{وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ}

(6)

.

النوع الثاني: المتشابه بالإبدال: وهو ثلاثة أنواع:

الأول: إبدال حرف بآخر: مثاله قوله سبحانه: {كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى}

(7)

، وقوله تعالى:{كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى}

(8)

الثاني: إبدال كلمة بكلمة: مثاله قوله تعالى: {قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا}

(9)

، وقوله سبحانه:{قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا}

(10)

.

الثالث: إبدال جملة بجملة: مثاله قوله تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ}

(11)

.

وقوله سبحانه: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}

(12)

.

(1)

سورة الأنعام، الآية:(102).

(2)

سورة غافر، الآية:(62).

(3)

سورة المعارج، الآيات:(11 – 13).

(4)

سورة عبس، الآيات:(34 - 36).

(5)

سورة البقرة، الآية:(173).

(6)

سورة المائدة، الآية:(3).

(7)

سورة الرعد، الآية:(2).

(8)

سورة لقمان، الآية:(29).

(9)

سورة البقرة، الآية:(170).

(10)

سورة لقمان، الآية:(21).

(11)

سورة إبراهيم، الآية:(34).

(12)

سورة النحل، الآية:(18).

ص: 24

النوع الثالث: المتشابه بالإثبات والحذف: وهو ثلاثة أنواع:

الأول: إثبات حرف وحذفه، مثاله قوله تعالى:{وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا}

(1)

، وقوله سبحانه:{وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا}

(2)

.

الثاني: إثبات كلمة وحذفها، مثاله قوله سبحانه:{وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ}

(3)

، وقوله تعالى:{وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ}

(4)

.

الثالث: إثبات أكثر من كلمة وحذفها، مثاله قوله تعالى:{وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}

(5)

، وقوله سبحانه:{وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}

(6)

.

النوع الرابع: المتشابه بالجمع والإفراد:

مثاله قوله سبحانه: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ}

(7)

، وقوله تعالى:{وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ}

(8)

.

ومن هذا القبيل قوله عز وجل: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً}

(9)

، وقوله تعالى:{قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ}

(10)

.

النوع الخامس: المتشابه بالتذكير والتأنيث:

(1)

سورة هود، الآية:(77).

(2)

سورة العنكبوت، الآية:(33).

(3)

سورة البقرة، الآية:(193).

(4)

سورة الأنفال، الآية:(39).

(5)

سورة آل عمران، الآية:(189).

(6)

سورة المائدة، الآية:(17).

(7)

سورة المؤمنون، الآية:(9).

(8)

سورة الأنعام، الآية:(92).

(9)

سورة البقرة، الآية:(80).

(10)

سورة آل عمران، الآية:(24).

ص: 25

مثاله قوله سبحانه: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ}

(1)

، وقوله تعالى:{إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ}

(2)

.

ومن هذا القبيل قوله عز وجل: {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ}

(3)

، وقوله تعالى:{وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ}

(4)

.

النوع السادس: المتشابه بالتعريف والتنكير:

مثاله قوله تعالى: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا} وقوله سبحانه: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا}

(5)

.

ومن هذا القبيل قوله عز وجل: {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ}

(6)

، وقوله تعالى:{وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ}

(7)

.

النوع السابع: المتشابه بالإظهار والإضمار: وهو نوعان:

الأول: وضع المظهر موضع المضمر، ومثاله قوله سبحانه:{وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}

(8)

وقوله تعالى: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَالنَّاسِلَا يَعْلَمُونَ}

(9)

.

ومن هذا القبيل قوله عز وجل: {قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ}

(10)

، وقوله تعالى:{قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ}

(11)

.

(1)

سورة الأنعام، الآية:(90).

(2)

سورة يوسف، الآية:(104).

(3)

سورة هود، الآية:(67).

(4)

سورة هود، الآية:(94).

(5)

سورة إبراهيم، الآية:(35).

(6)

سورة البقرة، الآية:(61).

(7)

سورة آل عمران، الآية:(21).

(8)

سورة الأنعام، الآية:(37).

(9)

سورة الأعراف، الآية:(187).

(10)

سورة الأعراف، الآية:(123).

(11)

سورة طه، الآية:(71).

ص: 26

الثاني: الاختلاف في الضمائر، ومثاله قوله تعالى:{بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ}

(1)

، وقوله سبحانه:{بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ}

(2)

.

ومن هذا القبيل قوله عز وجل: {فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ}

(3)

، وقوله تعالى:{فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ}

(4)

.

النوع الثامن: المتشابه باختلاف الصيغة الصرفية: وهو أنواع:

الأول: متشابه بالإدغام والفك، مثاله قوله سبحانه:{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ}

(5)

، وقوله تعالى:{وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ}

(6)

، ومن هذا القبيل قوله عز وجل:{لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ}

(7)

، وقوله تعالى:{لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ}

(8)

.

الثاني: متشابه بالتضعيف وعدمه، مثاله قوله تعالى:{وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ}

(9)

، وقوله سبحانه:{وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ}

(10)

. ومن هذا القبيل قوله عز وجل: {وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ}

(11)

، وقوله تعالى:{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ}

(12)

الثالث: متشابه بالتجريد والزيادة، مثاله قوله تعالى:{فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ}

(13)

، وقوله سبحانه:{فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ}

(14)

. ومن هذا القبيل قوله عز وجل: {سَاحِرٍ عَلِيمٍ} [الأعراف: 112]

(15)

، وقوله تعالى:{سَحَّارٍ عَلِيمٍ}

(16)

.

(1)

سورة الأنبياء، الآية:(44).

(2)

سورة الزخرف، الآية:(29).

(3)

سورة البقرة، الآية:(55).

(4)

سورة النساء، الآية:(153).

(5)

سورة النساء، الآية:(115).

(6)

سورة الحشر، الآية:(4).

(7)

سورة الأنعام، الآية:(42).

(8)

سورة الأعراف، الآية:(94).

(9)

سورة البقرة، الآية:(49).

(10)

سورة الأعراف، الآية:(141).

(11)

سورة البقرة، الآية:(57).

(12)

سورة طه، الآية:(80).

(13)

سورة البقرة، الآية:(38).

(14)

سورة طه، الآية:(123).

(15)

سورة الأعراف، الآية:(112).

(16)

سورة الشعراء، الآية:(37).

ص: 27

الرابع: متشابه بالماضي والحاضر، مثاله قوله تعالى:{كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ}

(1)

، وقوله سبحانه:{كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ}

(2)

.

الخامس: متشابه بالبناء للفاعل والبناء للمفعول، مثاله قوله تعالى:{وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا}

(3)

، وقوله سبحانه:{وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا}

(4)

.

السادس: متشابه بجمع السلامة وجمع التكسير، مثاله قوله سبحانه:{نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ}

(5)

، وقوله تعالى:{نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ}

(6)

. ومن هذا القبيل قوله عز وجل: {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ}

(7)

، وقوله تعالى:{وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ}

(8)

.

النوع التاسع: المتشابه بالإجمال والتفصيل: مثاله قوله تعالى: {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً}

(9)

، وقوله سبحانه:{وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ}

(10)

.

النوع العاشر: المتشابه بالإضافة وعدمها: مثاله قوله سبحانه: {اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ}

(11)

، وقوله تعالى:{وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ}

(12)

. ومن هذا القبيل قوله عز وجل: {وَقَبْلَ غُرُوبِهَا}

(13)

، وقوله تعالى:{وَقَبْلَ الْغُرُوبِ}

(14)

.

(1)

سورة الحجر: الآية (112).

(2)

سورة الشعراء، الآية:(200).

(3)

سورة البقرة، الآية:(58).

(4)

سورة الأعراف، الآية:(161).

(5)

سورة البقرة، الآية:(58).

(6)

سورة الأعراف، الآية:(161).

(7)

سورة البقرة، الآية:(61).

(8)

سورة آل عمران، الآية:(112).

(9)

سورة البقرة، الآية:(51).

(10)

سورة الأعراف، الآية:(142).

(11)

سورة البقرة، الآية:(40).

(12)

سورة المائدة، الآية:(7).

(13)

سورة طه، الآية:(130).

(14)

سورة ق، الآية:(39). ويُنظر: «دلالة السياق وأثرها في توجيه المتشابه اللفظي في قصة سيدنا موسى» ، فهد بن شتوي بن عبد المعين الشتوي – رسالة ماجستير – جامعة أم القرى (ص: 105 - 131) بتصرف.

ص: 28

لم يذكر هذا التقسيم التكرار من أنواع المتشابه اللفظي وذكره د/ محمد فاضل السامرائي في الأنواع التي أضافها على تقسيم الزركشي

(1)

.

وقد ذكر د/ عبد الجواد خلف محقق كتاب كشف المعاني في المتشابه من المثاني لبدر الدين بن جماعة أن التشابه قد يكون باعتبار عدد المرات التي يتكرر فيها اللفظ أو الجملة، ثم ذكر أنه ورد في القرآن الكريم على أربعة عشر ضربًا على سبيل الحصر، ثم أوردها، فلترجع إليها إذا شئت

(2)

.

أيضًا قام د/ محمد القاضي بالحديث عن أنواع المتشابه اللفظي في القرآن الكريم حيث قسم كتابه: (المتشابه اللفظي في القرآن الكريم رؤية في التفسير من خلال اللغة والسياق) إلى فصول، ذكر في الفصل الأول:(آيات التشابه العام)، وفي الفصل الثاني:(المتشابه المختلف في إبدال كلمة)، وفي الفصل الثالث:(المتشابه المختلف في أحوال الاسم)، وفي الفصل الرابع:(المتشابه المختلف في أحوال الفعل)، وفي الفصل الخامس:(المتشابه المختلف في زيادة أو حذف)، وفي الفصل السادس:(المتشابه المختلف في تقديم أو تأخير).

(3)

.

(1)

يُنظر: «دراسة المتشابه اللفظي في آي التنزيل» ، (ص: 25).

(2)

يُنظر: «كشف المعاني في المتشابه على المثاني» ، لبدر الدين بن جماعة، تحقيق: د/ عبد الجواد خلف، دار الوفاء للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة: الأولى، (ص: 51 - 58).

(3)

يُنظر: «المتشابه اللفظي في القرآن الكريم رؤية في التفسير من خلال اللغة والسياق» ، د/ محمد القاضي، دار الصحوة، الطبعة الأولى، (ص: 53 – 275).

ص: 29

‌الفصل الثاني الإمام الرازي ومنهجه في توجيه المتشابه اللفظي في القرآن الكريم

ويشتمل على أربعة مباحث:

المبحث الأول: التعريف بالإمام الرازي ونشأته وحياته وأهم كتبه.

المبحث الثاني: التعريف بتفسير الإمام الرازي (مفاتيح الغيب).

المبحث الثالث: منهج الإمام الرازي في توجيه المتشابه اللفظي في القرآن الكريم.

المطلب الأول: أهم الملامح والسمات التي تميز بها منهج الإمام الرازي في توجيه المتشابه اللفظي في القرآن الكريم.

المطلب الثاني: مصادر الإمام الرازي في توجيه المتشابه اللفظي في القرآن الكريم

أولًا: العلماء الذين نقل عنهم الإمام الرازي وذكرهم في تفسيره.

ثانيًا: موقف الإمام الرازي من علماء المتشابه اللفظي.

ثالثًا: أثره في المعاصرين

المطلب الثالث: ما انفرد به الإمام الرازي عن جميع علماء المتشابه اللفظي.

المطلب الرابع: مآخذ على منهج الإمام الرازي في توجيه المتشابه اللفظي في القرآن الكريم.

المبحث الرابع: أنواع المتشابه اللفظي في تفسير الإمام الرازي مع ذكر بعض النماذج.

ص: 30

‌المبحث الأول التعريف بالإمام الرازي ونشأته وحياته وأهم كتبه

‌أولًا: نسبه وكنيته ولقبه:

أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين بن علي الرازي المولد، الطبرستاني الأصل القرشي التيمي البكري الشافعي الأشعري المُلقب بفخر الدين الرازي أو ابن خطيب الري. هو إمام مفسر فقيه أصولي

(1)

.

‌ثانيًا: مولده:

ولد في مدينة الري

(2)

، سنة أربع وأربعين وخمس مائة في شهر رمضان المبارك، ونشأ في بيت علم، فقد كان والده أحد علماء الشافعية في مدينة الري، فنهل من علمه إلى أن مات

(3)

.

‌ثالثًا: نشأته العلمية:

كان الإمام الرازي شديد الإعجاب بوالده

(4)

فيذكر اسمه بإجلال واحترام ويدعوه "بالإمام السعيد" ويجعله شيخه وأستاذه ويذكر السلسلة العلمية التي تلقاها عنه بكل اعتزاز.

يقول ابن خلكان متحدثًا عن السلسلة العلمية للرازي: وذكر فخر الدين في كتابه الذي سماه تحصيل الحق أنه اشتغل في علم الأصول على والده ضياء الدين عمر، ووالده على أبي القاسم سليمان بن ناصر الأنصاري، وهو على إمام الحرمين أبي المعالي، وهو على الأستاذ أبي إسحاق الإسفرايني، وهو على الشيخ أبي الحسين الباهلي، وهو على شيخ السنة أبي الحسن علي

(1)

يُنظر: «وفيات الأعيان» ، لابن خلكان، تحقيق: إحسان عباس، دار صادر بيروت - (4/ 248، 249). تاريخ الإسلام للذهبي، تحقيق: بشار عواد، دار الغرب الإسلامي ط 1، (13/ 137). و «البداية والنهاية» ، (13/ 65).

(2)

مدينة بفارس تقع جنوب سلسلة الجبال الإيرانية، وهي اليوم جزء من طهران، يُنظر: معجم البلدان، لياقوت الحموي، دار صادر، بيروت، (3/ 116 - 122).

(3)

يُنظر: سير أعلام النبلاء للذهبي، (16/ 52) ترجمة رقم:(5437).

(4)

يُنظر: «التفسير الكبير» ، دار الفكر، بيروت - لبنان، الطبعة الأولى 1401 هـ (1/ 3)

ص: 31

بن إسماعيل الأشعري، وهو على أبي علي الجبائي

(1)

أولًا، ثم رجع عن مذهبه ونصر مذهب أهل السنة والجماعة، وأما اشتغاله في المذهب - يعني الفقه - فإنه اشتغل على والده، ووالده على أبي محمد الحسين بن مسعود الفراء البغوي، وهو على القاضي حسين المروزي وهو على القفال المروزي، وهو على أبي زيد المروزي، وهو على أبي إسحاق المروزي، وهو على أبي العباس بن سريج، وهو على أبي القاسم الأنماطي، وهو على أبي إبراهيم المزني، وهو على الإمام الشافعي رضي الله عنه»

(2)

.

وإلى جانب ذلك نجد أن الإمام الرازي قد رزقه الله همة عالية في الطلب ونهمة شديدة في التحصيل جعلت منه عالمًا فذًا، بحرًا زاخرًا في شتى العلوم.

‌رابعًا: مذهبه وعقيدته:

كان الرازي شافعي المذهب

(3)

، أشعري العقيدة

(4)

كما اهتم الرازي بالفلسفة وعلم الكلام، واضطراب الرازي إنما نشأ من تعمقه في علم الكلام والفلسفة، واختلاطهما في فكره، وقد أورثه ذلك حيرةً واضطرابًا، فتاره يميل إلى المتكلمين تارةً، وإلى المتفلسفة تارةً، ويحار ويقف تارةً أخرى، وليس هذا تعمدًا منه لنصر الباطل؛ بل يقول بحسب ما توافقه الأدلة العقلية في نظره وبحثه

(5)

، وقد ندم الرازي على اشتغاله بالفلسفة وعلم الكلام، وعدل عن ذلك.

(1)

هو محمد بن عبد الوهّاب بن سلام الجبائي، المعروف بأبي علي الجبائي. شيخ المعتزلة ورئيس علماء الكلام في عصره، مؤسس فرقة الجبائية. ولد سنة (235 هـ- 849 م) في مدينة جُبّى في محافظة خوزستان، وتوفي في البصرة سنة (303 هـ- 916 م). ينظر ترجمته في: تاريخ بغداد (11/ 55)، وميزان الاعتدال (2/ 618)، والبداية والنهاية (11/ 176).

(2)

وفيات الأعيان (4/ 252).

(3)

يُنظر: «التفسير الكبير» (المسائل الفقهية في سورة الفاتحة استشهد كثيرًا برأي الشافعي)، (1/ 194 - 223)، و «مناقب الإمام الشافعي» للرازي، تحقيق: أحمد حجازي السقا (ص: 193).

(4)

يُنظر: موقف الرازي من آيات الصفات في تفسيره الكبير مفاتيح الغيب " دراسة نقدية تطبيقية في ضوء عقيدة أهل السنة " للباحثة: سامية بنت ياسين البدري، رسالة ماجستير، جامعة أم القرى تناولت عقيدة الرازي في الأسماء والصفات وأثنى عليها الشيخ صالح بن فوزان الفوزان.

(5)

«موقف الرازي من القضاء والقدر في التفسير الكبير» ، دراسة نقدية في ضوء عقيدة أهل السنة والجماعة، الباحثة: أنفال بنت يحيى إمام، رسالة ماجستير، جامعة أم القرى، (ص: 20).

ص: 32

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: «وكذلك أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي، فقد قال في كتابه الذي صنفه في أقسام اللذات: لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية؛ فما رأيتها تشفي عليلا، ولا تروي غليلا، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن، اقرأ في الإثبات {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}

(1)

و {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ}

(2)

.

واقرأ في النفي {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}

(3)

، {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا}

(4)

، {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا}

(5)

، ثم قال: ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي، وكان يتمثل كثيرًا:

نِهَايَةُ إِقْدَامِ الْعُقُولِ عقالُ

وَأَكْثَرُ سَعْيِ الْعَالَمِينَ ضَلالُ

وَأَرْوَاحُنَا فِي غَفْلَةٍ مِنْ جُسُومِنَا

وَحَاصِلُ دُنْيَانَا أَذًى وَوَبَالُ

وَلَمْ نَسْتَفِدْ مِنْ بَحْثِنَا طُولَ عُمْرِنَا

سِوَى أَنْ جَمَعْنَا فِيهِ قِيلَ وَقَالُوا

(6)

‌خامسًا: مصنفاته:

له تصانيف كثيرة ومفيدة في كل فن، وقد بلغ عدد مصنفاته نحو مائتي مصنف

(7)

من أهمها: التفسير الكبير الذي سماه "مفاتيح الغيب"، وقد جمع فيه ما لا يوجد في غيره من التفاسير، وله" المحصول في علم الأصول" و"الكتاب الكبير في الطب" و "ونهاية الإيجاز في دراية الإعجاز" في البلاغة، و "الأربعين في أصول الدين"، و" كتاب الهندسة.

(8)

.

(1)

سورة طه، الآية:(5).

(2)

سورة فاطر، الآية:(10).

(3)

سورة الشورى الآبة 11).

(4)

سورة طه، الآية:(110).

(5)

سورة مريم، الآية:(65).

(6)

الأبيات لابن الأهدل في «وفيات الأعيان» ، (4/ 250)، و «تاريخ الإسلام» (61/ 209)، و «مرآة الجنان» (4/ 10). وينظر: مجموع الفتاوى، لشيخ الإسلام: أحمد بن تيمية، وزارة الشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد السعودية - مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، 1425 هـ، (4/ 72، 73).

(7)

يُنظر البداية والنهاية لابن كثير، (13/ 65).

(8)

ذكر كلًا من الدكتور الزركان، والدكتور العماري، والدكتور محمد العريبي، أسماء كتب الرازي، وأشاروا إلى المطبوع منها والمخطوط، يُنظر:«فخر الدين الرازي وآراءه الكلامية والفلسفية» ، (ص: 40 - 164)، و «الإمام فخر الدين الرازي حياته وآثاره» (ص: 209 - 213)، و «المنطلقات الفكرية عند الإمام الفخر الرازي» (ص: 100 - 121).

ص: 33

‌سادسًا: وفاته:

توفي سنة ست وستمائة بهراة

(1)

، في يوم الاثنين، يوم عيد الفطر سنة 606 هـ

(2)

، وكتب وصية قبل وفاته

(3)

.

(1)

إحدى مدن خرسان الكبار، وهي مدينة أفغانية تقع في الشمال الغربي من البلاد على الحدود الأفغانية الإيرانية، على بعد 650 كم من العاصمة كابل يُنظر:«معجم البلدان» ، لأبي عبد الله ياقوت بن عبد الله الحموي الرومي البغدادي، دار صادر، بيروت، (5/ 396، 397).

(2)

طبقات الشافعية الكبرى لابن السبكي، تحقيق: محمود محمد الطناحي/ عبد الفتاح محمد الحلو، هجر للطباعة والنشر والتوزيع، ط: 2، 1413 هـ (8/ 93).

(3)

يُنظر نص الوصية: عيون الأنباء، موفق الدين أبي العباس أحمد بن القاسم بن خليفة السعدي الخزرجي شرح وتحقيق د/ نزار رضا، دار مكتبة الحياة، بيروت، (ص: 466 - 468). تاريخ الإسلام للذهبي، تحقيق د/ بشار عواد، دار الغرب الإسلامي، ط 1، (13/ 143 - 145). طبقات الشافعية لابن كثير، تحقيق: عبد الحفيظ منصور، دار المدار الإسلامي، ط 1، (2/ 719 - 721).

ص: 34

‌المبحث الثاني التعريف بتفسير الإمام الرازي (مفاتيح الغيب)

التفسير الكبير أو مفاتيح الغيب هو كتاب تفسير للقرآن من تأليف شيخ الإسلام الفخر الرازي، التفسير الكبير ومفاتيح الغيب ما هما إلا وجهان لعملة واحدة،؛ وذلك لأنهما اسمان مشهوران بين العلماء والباحثين لتفسير واحد ألفه الإمام فخر الدين الرازي، وقد حاول بعض العلماء الجمع بين هذين الاسمين قائلين: ألف الرازي تفسيره الكبير المسمى مفاتيح الغيب.

وهذا التفسير يعد أهم تفاسير المدرسة التفسيرية المنتمية إلى التفسير بالرأي المحمود، بل وأفضلها على الإطلاق، إذ يعد هذا التفسير موسوعة علمية متخصصة في مجال الدين الإسلامي عامة، وعلم التفسير على وجه الخصوص، بالإضافة إلى ذلك، أنه عمدة التفاسير العقلية للقرآن الذي يمثل ذروة المحاولة العقلية لفهم القرآن، بل هو مستودع ضخم للتوجيهات العقلية والأقوال النظرية في التفسير، ويعد تفسيراً شاملاً لكونه اشتمل على الجمع بين التفسير بالعقل السليم والنقل الصحيح، فضلاً عن شموله لأبحاث فياضة تضم أنواعاً شتى من مسائل العلوم المختلفة، كما يعد من أطول التفاسير القديمة والحديثة، وأكثرها تفصيلاً وعرضاً للآراء، ومناقشة للمعتقدات والمذاهب المختلفة

(1)

.

يقع تفسير الرازي في اثنين وثلاثين جزءًا في ستة عشر مجلدًا من القطع الكبير، مطبوعة ومتداولة بين أهل العلم، حيث يحظى بين دارسي القرآن بالشهرة الواسعة؛ نظرًا لما يشتمل عليه من أبحاث فياضة تضم أنواعًا شتى من مسائل العلوم المختلفة، كما يعد من أمهات كتب التفسير بالرأي

(2)

.

(1)

يُنظر: «الرازي مفسرًا» ، د/ محسن عبد المجيد، الطبعة الأولى، بغداد- دار الحرية للطباعة 1974 م، (1/ 53)

(2)

«الحديث النبوي في تفسير الفخر الرازي تحقيق ودراسة» ، إسماعيل فهمي عبد اللاه، رسالة دكتوراة جامعة جنوب الوادي.

ص: 35

بدأ الإمام الرازي كتابة تفسيره في آخر حياته، بعد أن جاوز الخمسين من عمره، وبعد أن حصل من العلوم المختلفة ما يؤهله للقيام بهذا العمل، وبعدما نضج عقله وكون فكره واكتملت أدواته، فأعطى عصارة جهده لهذا التفسير الضخم الكبير

(1)

.

وقد بين الإمام الرازي سبب تأليفه لتفسيره فقال في مقدمته: (اعلم أنه مر على لساني في بعض الأوقات أن هذه السورة الكريمة (يقصد سورة الفاتحة) يمكن أن يستنبط من فوائدها ونفائسها عشرة آلاف مسألة، فاستبعد هذا بعض الحساد، وقوم من أهل الجهل والغي والعناد، وحملوا ذلك على ما ألفوه من أنفسهم من التعليقات الفارغة عن المعاني، والكلمات الخالية عن تحقيق المعاقد والمباني، فلما شرعت في تصنيف هذا الكتاب قدمت هذه المقدمة لتصير كالتنبيه على ما ذكرناه أمر ممكن الحصول قريب الوصول

(2)

.

اختلف العلماء في مسألة نسبة التفسير الكبير كله إلى الرازي، والذي يقرأ التفسير الكبير لا يكاد يلحظ فيه تفاوتًا في المنهج والمسلك، بل يجري الكتاب من أوله إلى آخره على نمط واحد وطريقة واحدة، تجعل الناظر فيه يجزم أن الكتاب من أوله إلى آخره هو من تأليف الرازي

(3)

.

وقد سار الإمام الرازي في تفسيره على المنهج التحليلي، فتراه يتبع طريقة التحليل والتفصيل التام للنص القرآني

(4)

، وما يتعلق به من مباحث أصولية، وكلامية، وفقهية، ولغوية، ونحوية، وبلاغية، وكونية ورياضية وغيرها

(5)

.

وقد جمع الإمام الرازي في تفسيره من الغرائب والعجائب، فاتسم تفسيره بكثرة الاستنباطات والاستطرادات التي تبعد كثيرًا عن مجال التفسير

(6)

.

(1)

يُنظر: «وفيات الأعيان» ، (3/ 249).

(2)

يُنظر: «التفسير الكبير» (1/ 11).

(3)

«التفسير والمفسرين» ، للذهبي، دار الحديث، القاهرة، (1/ 251).

(4)

«تفسير الفخر الرازي للكفر في القرآن الكريم» ، لمحمد محمود، رسالة دكتوراة، مقدمة لقسم التفسير، كلية أصول الدين، جامعة الأزهر، (1/ 33). «التناسب في تفسير الرازي» لمنال المسعودي رسالة دكتوراة جامعة أم القرى، (ص: 55، 56).

(5)

يُنظر: فلاسفة الإسلام، لفتح الله خليف، دار الجامعات المصرية، الإسكندرية، (ص: 315 - 337).

(6)

يُنظر: البحر المحيط، لأبي حيان، دراسة وتحقيق: الشيخ عادل أحمد، والشيخ على محمد معوض وآخرون، دار الكتب العلمية، بيروت ط 1، (1/ 511).

ص: 36

تأثر الإمام الرازي في تفسيره بمن سبقه من العلماء، وخير شاهد على ذلك أنه اعتمد في تأليف تفسيره على مؤلفات مجموعة من العلماء حيث نقل من كتب أبي داود، والترمذي، والإمام أحمد، والبيهقي وغيرهم. كذلك ذكر آراء أئمة المفسرين كابن عباس، ومجاهد، وقتادة، وعبد الله بن مسعود، إبراهيم النخعي، وعطاء بن أبي رباح، والسدّي، وسعيد بن جبير، وابن الكلبي، والجصاص صاحب تفسير أحكام القرآن. وفي اللغة نقل عن كبار الرواة كالأصمعي، وأبي عبيدة، والفراء، والزجاج وغيرهم. ومن المفسرين الذين نقل عنهم: مقاتل بن سليمان، وأبو إسحاق الثعلبي، وعلي بن أحمد الواحدي، وابن قتيبة، ومحمد بن جرير الطبري، والباقلاني، وابن فورك وسماه الرازي بالأستاذ، والقفال. ونقل عن كثير من علماء المعتزلة منهم: الجبائي، وأبو مسلم الأصفهاني، وأبو بكر الأصم، وأبو الحسن الرماني، والقاضي عبد الجبار، والزمخشري صاحب التفسير المشهور بالكشاف؛ وذلك لما في تفسيره من دقائق اللغة والبلاغة أفاد منها كثير من المفسرين من بعده

(1)

.

الإمام الرازي له تأثير كبير في المفسرين الذين جاؤوا بعده ومما يدل على ذلك أن كثيراً منهم أخذ من تفسيره، ومن هؤلاء: ناصر الدين البيضاوي، أبو حيان الأندلسي

(2)

، ابن كثير

(3)

، نظام الدين النيسابوري، الآلوسي

(4)

، محمد رشيد رضا

(5)

، وغيرهم.

(1)

يُنظر: التفسير الكبير (1/ 10، 19، 23، 24، 37، 38، 47، 75، 103، 105، 106، 118، 121، 125، 187، 198، 217، 228، 232، 233، 234، 254، 256، 282، 287، 297، 298، 301، 320، 331، 332، 343، 353، 356، 378، 379، 381، 390، 391، 392، 398، 399، 417، 434، 440، 446، 455، 462، 478، 484، 484، 502، 503، 506، 540، 563، 564، 612، 617، 618، 622، 642، 657، 662، 673، 705، 709، 711، 714، 724، 750، 768، 770، 802، 840، 850، 887، 899، 912، 1003، 1075، 1077، 1154، 1177، 1314، 1349، 1350، 1378، 1427، 1435، 1475، 1481، 1836، 1941، 2180، 2552، 2894، 2958، 3052، 3064، 3149، 3409، 4676).

(2)

يُنظر: البحر المحيط، لأبي حيان (3/ 493).

(3)

يُنظر: تفسير القرآن العظيم، لابن كثير، (1/ 121، 123، 186، 203، 235).

(4)

روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، الطبعة الأولى، بيروت: دار إحياء التراث العربي، (د. ت)، (1/ 37).

(5)

يُنظر: تفسير القرآن الحكيم المشهور بتفسير المنار، لمحمد رشيد رضا، الطبعة الأولى، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1990 م) 7/ 526)، (10/ 171)، (12/ 145).

ص: 37

إنَّ التفسير الكبير للرازي له مزايا عديدة: تتمثل في إبراز الصلة بين جمل الآية وبين آيات السورة، باعتبارها وحدة موضوعية متكاملة، كما أنه اهتم بإظهار النظم القرآني، واستخدام العلوم المختلفة في تفسير القرآن، والإكثار من توليد المسائل والمباحث، وترك الإسرائيليات والخرافات والأساطير التي لا طائل تحتها وما إلى ذلك من ميزات عديدة، والكتاب بين يدي القارئ بذلك يعتبر مائدة كبرى، حوت أطيب المآكل والمشارب وقطوف الثمرات، يشبع ويروي بها أهل العلم ودارسوا القرآن وعلومه أفئدتهم وظمأهم من هذا التفسير

(1)

.

(1)

يُنظر: تعريف الدارسين بمناهج المفسرين، د. صلاح عبد الفتاح الخالدي، ص 491 - 92 الطبعة الأولى دمشق- دار القلم، 2002 م، (ص: 491، 492). مناهج المفسرين، الدكتور منيع عبد الحليم محمود، القاهرة- مكتبة الإيمان، ط 2، 2003 م، (ص: 120). التفسير والمفسرون، محمد حسين الذهبي، (1/ 294، 296).

ص: 38

‌المبحث الثالث منهج الإمام الرازي في توجيه المتشابه اللفظي في القرآن الكريم

الإمام الرازي قام بتوجيه مسائل كثيرة من مسائل المتشابه اللفظي حوالي ثلاثمائة مسألة (موضع)، أطال التوجيه أحيانًا، واختصر أحيانًا، ومن يقرأ تفسير الإمام الرازي يشعر بكثرة توجيهه لآيات المتشابه اللفظي، وأنه أمام عالم فذ لا يقل توجيهه لمسائل المتشابه اللفظي عن أي عالم من علماء المتشابه اللفظي الذين خصصوا كتبًا مستقلة في علم المتشابه اللفظي؛ بل أجد تأثر غيره من علماء المتشابه اللفظي بتوجيهاته كابن الزبير، وابن جماعة مثلا، كما سأوضح من خلال البحث بإذن الله.

(وممن سلكوا هذا السبيل أيضا الإمام الرازي في التفسير الكبير، إذ نلحظ حرصه الواضح على توجيه بعض المتشابهات، وخاصة ما جاء في الجزء الأول من سورة البقرة، فلا يكاد يترك موضعًا من مواضع التشابه في أول جزء إلا ويبدي فيه رأيًا، وإن لم يجد فيه رأي تجده يفوض علمه إلى الله تعالى.)

(1)

ومن خلال هذا المبحث سأبين بعون الله وتوفيقه أهم الملامح والسمات التي تميز بها منهج الإمام الرازي في توجيه المتشابه اللفظي في القرآن الكريم، وأهم العلماء الذين تأثر بهم، وأهم العلماء الذين تأثروا به في كتبهم، وما انفرد به عنهم.

(1)

الاعتماد في الحروف المشكلة في القرآن الكريم، للشريف أبي إسماعيل موسى بن الحسين المعروف بالمَعدَّل، تحقيق: عبد الله عبد القادر، دار: الكتب العلمية، بيروت، ص 44، 45

ص: 39

‌المطلب الأول أهم الملامح والسمات التي تميز بها منهج الإمام الرازي في توجيه المتشابه اللفظي في القرآن الكريم

سأجعل الكلام مقسوما على قسمين؛ أحدهما لبيان بعض الأمور الوصفية العامة بطريقة الرازي في التعامل مع توجيه المتشابه اللفظي والثاني يوصف الجانب التطبيقي عند الرازي في توجيه المتشابه.

‌القسم الأول: المسلك العام للرازي في توجيه المتشابه:

‌أولًا: طريقة الإمام الرازي في عرض المتشابه:

*الإمام الرازي في كثير من الأحيان يعرض المتشابه اللفظي بأسلوب المناقشة ومخاطبة القارئ، وهو الأسلوب الذي اعتمده الإمام الإسكافي، وسار عليه أكثر من صنف في هذا العلم

(1)

.

يبدأ بعرض المتشابه بأسلوب التشويق كقوله: «لِم قال ههنا

»، أو «وفي موضع آخر

»، أو «فإن قال قائل

»، أو «فإن قيل

»، وأحيانا يبدأ صيغة السؤال بقوله:«ما الفرق؟» ، وأحيانا بقوله:«ما الفائدة؟» ، كما فعل الإمام الإسكافي ومن سار خلفه من علماء المتشابه اللفظي في كتبهم المستقلة التي خصصوها لتوجيه آيات المتشابه اللفظي. *مثال: قال الإمام الرازي: «لم قال ههنا: {لَا رَيْبَ فِيهِ}

(2)

، وفي موضع آخر {لَا فِيهَا غَوْلٌ}

(3)

؟ الجواب: لأنهم يقدمون الأهم فالأهم، وههنا الأهم نفي الريب بالكلية عن الكتاب، ولو قلت: لا فيه ريب لأوهم أن هناك كتاب آخر حصل الريب فيه لا هاهنا، كما قصد في قوله:{لَا فِيهَا غَوْلٌ} تفضيل خمر الجنة على خمور الدنيا، فإنها لا تغتال العقول كما تغتالها خمرة الدنيا»

(4)

.

(1)

للمزيد يُنظر: درة التنزيل وغرة التأويل للإسكافي (1/ 143، 144).

(2)

سورة البقرة، الآية:(2).

(3)

سورة الصافات، الآية:(47).

(4)

يُنظر: التفسير الكبير (2/ 21).

ص: 40

*مثال آخر: قال الإمام الرازي: «فإن قيل: ما الفائدة في أنه تعالى قال في صفة المنافقين: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ}

(1)

، وههنا قال في صفة المؤمنين {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}

(2)

فلم ذكر في المنافقين لفظ (من) وفي المؤمنين لفظ {أَوْلِيَاءُ} ؟

قلنا: قوله في صفة المنافقين: {بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ} يدل على نفاق الأتباع، كالأمر المتفرع من نفاق الأسلاف، والأمر في نفسه كذلك، لأن نفاق الأتباع وكفرهم حصل بسبب التقليد لأولئك الأكابر، وبسبب مقتضى الهوى والطبيعة والعادة، بل بسبب المشاركة في الاستدلال والتوفيق والهداية، فلهذا السبب قال تعالى في المنافقين {بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ} وقال في المؤمنين {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} »

(3)

.

*وأحيانا يذكر الموضعين ثم يذكر (فما الفرق)، تمامًا كما فعل علماء المتشابه اللفظي في كتبهم التي خصصوها لتوجيه المتشابه اللفظي.

مثال: قال الإمام الرازي: «فإن قيل: قال ههنا: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ}

(4)

ذكر الحق بالألف واللام معرفة، وقال في سورة آل عمران {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ}

(5)

نكرة وكذلك في هذه السورة {وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ}

(6)

فما الفرق؟ الجواب: الحق معلوم فيما بين المسلمين الذي يوجب القتل، قال عليه السلام:«لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث، كفر بعد إيمان وزنا بعد إحصان وقتل نفس بغير حق»

(7)

، فالحق المذكور بحرف التعريف إشارة إلى هذا وأما

(1)

سورة التوبة، الآية:(67).

(2)

سورة التوبة، الآية:(71).

(3)

االتفسير الكبير (16/ 134).

(4)

سورة البقرة، الآية:(61).

(5)

سورة آل عمران، الآية:(21).

(6)

سورة آل عمران، الآية:(112).

(7)

رواه النسائي في «سننه» ، كتاب تحريم الدم، ذكر ما يحل به دم المسلم (7/ 91)، حديث رقم:(4017). من حديث عائشة. والحديث أصله متفق عليه رواه البخاري في «صحيحه» ، كتاب الديات، باب قول الله تعالى:{أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصا/ فمن تصدق به فهو كفارة له ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون} [المائدة: 45]، صحيح البخاري (9/ 5)، حديث رقم:(6878)، ومسلم في «صحيحه» ، كتاب القسامة والمحاربين والقصا/ والديات، باب ما يباح به دم المسلم (3/ 1302)، حديث رقم:(1676) من حديث عبد الله بن عمر بلفظ: «لا يحل دم امرئ مسلم، يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة» .

ص: 41

الحق المنكر فالمراد به تأكيد العموم أي لم يكن هناك حق لا هذا الذي يعرفه المسلمون ولا غيره البتة»

(1)

.

‌ثانيا: أسلوب الإمام الرازي في التوجيه:

أ. يمتاز في أغلب المواضع بالإيجاز والسهولة والاختصار الذي لا يُشعر القارئ بالملل وأيضا يُحقق بُغيته في معرفة الفرق بين الموضعين،، لكنه قام باختصار بعض المسائل في حين أنها تحتاج إلى بسط، وهذا مما يؤخذ عليه.

والأمثلة على هذا كثيرة منها:

ما ذكره الإمام الرازي في تفسير قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ}

(2)

قال: «أن الله تعالى قدم في هذه الآية قبول الشفاعة على أخذ الفدية وذكر هذه الآية في هذه السورة بعد العشرين والمائة وقدم قبول الفدية على ذكر الشفاعة فما الحكمة فيه؟ الجواب أن من ميله إلى حب المال أشد من ميله إلى علو النفس فإنه يقدم التمسك بالشافعين على إعطاء الفدية ومن كان بالعكس يقدم الفدية على الشفاعة ففائدة تغيير الترتيب الإشارة إلى هذين الصنفين»

(3)

.

وفي تفسير قول الله عز وجل {رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ}

(4)

: يقول: «فإن قيل: لم قالوا في هذه الآية {إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَاد} وقالوا في تلك الآية {إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَاد}

(5)

. قلت: الفرق والله أعلم أن هذه الآية في مقام الهيبة، يعني أن

(1)

التفسير الكبير، (3/ 111).

(2)

سورة البقرة، الآية: (48 (.

(3)

التفسير الكبير، (3/ 58).

(4)

سورة آل عمران، الآية:(9).

(5)

سورة آل عمران، الآية:(194).

ص: 42

الإلهية تقتضي الحشر والنشر لينتصف المظلومين من الظالمين، فكان ذكره باسمه الأعظم أولى في هذا المقام، أما قوله في آخر السورة {إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَاد} فذاك المقام مقام طلب العبد من ربه أن ينعم عليه بفضله، وأن يتجاوز عن سيئاته فلم يكن المقام مقام هيبة»

(1)

.

وفي تفسير قول الله عز وجل: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا}

(2)

يقول: «لقائل أن يقول: إنه تعالى قال {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} فقدم ذكر النفس على ذكر المال، وفي الآية التي نحن فيها وهي قوله:{وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ} قدم ذكر المال على النفس، فما السبب فيه؟

وجوابه: أن النفس أشرف من المال، فالمشتري قدم ذكر النفس تنبيهًا على أن الرغبة فيها أشد، والبائع أخر ذكرها تنبيهًا على أن المضايقة فيها أشد، فلا يرضى ببذلها إلا في آخر المراتب»

(3)

.

من خلال الأمثلة السابقة يتضح سهولة أسلوب الإمام الرازي في التوجيه وإيجازه الذي يجعل القارئ لا يشعر بالملل وفي نفس الوقت يحقق نهمه وبُغيته في معرفة الفرق بين المواضع وهذا هو الغالب على أكثر توجيهات الإمام الرازي لآيات المتشابه اللفظي في القرآن الكريم.

*ومن الأمثلة على أنه قام باختصار بعض المسائل في حين أنها تحتاج إلى بسط:

عند ذكر الفرق بين (نَزَّل - أنزل) قال الإمام الرازي: «قد ذكرنا في تفسير قوله تعالى: {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مّمَّا نَزَّلْنَا على عَبْدِنَا}

(4)

أن التنزيل مختص بالنزول على سبيل التدريج، والإنزال مختص بما يكون النزول فيه دفعة واحدة، ولهذا قال الله تعالى:{نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ}

(5)

، إذا ثبت هذا فنقول: لما كان المراد هاهنا من قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} أنزل من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا،

(1)

التفسير الكبير، (7/ 197).

(2)

سورة النساء آية (95).

(3)

التفسير الكبير (11/ 8).

(4)

سورة البقرة، الآية:(23).

(5)

سورة آل عمران، الآية:(3).

ص: 43

لا جرم ذكره بلفظ الإنزال دون التنزيل، وهذا يدل على أن هذا القول راجح على سائر الأقوال»

(1)

.

الإمام الرازي لم يُذكر سائر الأقوال كما أن قوله: «أن التنزيل مختص بالنزول على سبيل التدريج» لا يناسب قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا}

(2)

.

وقد أطال د/ فاضل السامرائي في ذكر الفرق بين (أنزل - نزَّل) ونقل رأي ابن الزبير وخلاصة ما ذكره: «نَزَّل يمكن أن يُستعمل لأكثر من معنى، فإن هذا الفعل قد يكون للتدرج والتكثير كما ذكرت، وقد يكون للمبالغة والاهتمام، فما استعمل فيه " نزَّل " يكون أهم وآكد مما استعمل فيه (أنزل)»

(3)

، ثم ذكر أمثلة كثيرة.

ب. إطالة التوجيه أحيانًا، بل وذكر عدة أوجه لاختلاف الألفاظ من موضع لأخر:

ومن الأمثلة على ذلك:

*قال الإمام الرازي في تفسير قول الله عز وجل: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا * دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}

(4)

.

ذكر الإمام الرازي الفرق بين درجة ودرجات

(5)

، فقال الإمام الرازي: «لقائل أن يقول: إنه ذكر أولًا درجة، وههنا درجات، وجوابه من وجوه:

(1)

التفسير الكبير، (5/ 93، 94).

(2)

سورة الفرقان، الآية:(32).

(3)

بلاغة الكلمة في التعبير القرآني، د/ فاضل السامرائي، شركة العاتك لصناعة الكتاب للطباعة والنشر والتوزيع - القاهرة، الطبعة الثانية، (ص: 59 - 65).

(4)

سورة النساء الآيتين (95، 96).

(5)

نوع المتشابه متشابه بالجمع والإفراد

ص: 44

الأول: المراد بالدرجة ليس هو الدرجة الواحدة بالعدد، بل بالجنس، والواحد بالجنس يدخل تحته الكثير بالنوع، وذلك هو الأجر العظيم، والدرجات الرفيعة في الجنة المغفرة والرحمة.

الثاني: أن المجاهد أفضل من القاعد الذي يكون من الأضراء بدرجة، ومن القاعد الذي يكون من الأصحاء بدرجات، وهذا الجواب إنما يتمشى إذا قلنا بأن قوله {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} لا يوجب حصول المساواة بين المجاهدين وبين القاعدين الأضراء.

الثالث: فضل الله المجاهدين في الدنيا بدرجة واحدة وهي الغنيمة، وفي الآخرة بدرجات كثيرة في الفضل والرحمة والمغفرة.

الرابع: قال في أول الآية {وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا}

(1)

، ولا يمكن أن يكون المراد من هذا المجاهد هو المجاهد بالمال والنفس فقط، وإلا حصل التكرار، فوجب أن يكون المراد منه من كان مجاهدًا على الإطلاق في كل الأمور أعني من عمل الظاهر، وهو جهاد بالنفس والمال والقلب وهو أشرف أنواع المجاهدة، كما قال عليه السلام «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر»

(2)

وحاصل هذا الجهاد صرف القلب من الالتفات إلى غير الله إلى الاستغراق في طاعة الله، ولما كان هذا المقام أعلى مما قبله لا جرم جعل فضيلة الأول درجة، وفضيلة هذا الثاني درجات»

(3)

.

*وعند ذكر الفرق بين موضعي سورتي البقرة والأعراف في الفرق بين (فانفجرت - فانبجست) أطال الإمام الرازي التوجيه وذكر عدة وجوه حيث قال: «أنه تعالى ذكر ههنا (فانفجرت) وفي

(1)

سورة النساء، الآية:(95).

(2)

رواه الخطيب البغدادي فى تاريخه (13/ 324)، حديث رقم:(523) عن جابر، ومن طريقه ابن الجوزي في ذم الهوى (ص: 39). هذا الحديث فيه يحيى بن العلّاء البجلي، قال عنه أحمد بن حنبل: كذّاب يضع الحديث، وقال يحيى بن معين: ليس بشيء، وقال الدارقطي: متروك الحديث. يُنظر تهذيب الكمال (8/ 76) رقم: (7490). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (11/ 197): «وأمّا الحديث الّذي يرويه بعضهم، أنّه قال فى غزوة تبوك: رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر، فلا أصل له، ولم يروه أحد من أهل المعرفة بأقوال النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأفعاله، وجهاد الكفار من أعظم الأعمال، بل هو أفضل ما تطوّع به الإنسان» . وقال الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة (5/ 478)، حديث رقم:(2460): منكر.

(3)

التفسير الكبير، (11/ 9).

ص: 45

الأعراف (فانبجست) وبينهما تناقض لأن الانفجار خروج الماء بكثرة والانبجاس خروج الماء قليلا.

الجواب من ثلاثة أوجه:

أحدها: الفجر الشق في الأصل، والانفجار الانشقاق، ومنه الفاجر؛ لأنه يشق عصا المسلمين بخروجه إلى الفسق، والانبجاس اسم للشق الضيق القليل فهما مختلفان اختلاف العام والخاص فلا يتناقضان.

وثانيها: لعله انبجس أولا ثم انفجر ثانيا، وكذا العيون يظهر منها الماء قليلا ثم يكثر لدوام خروجه.

وثالثها: لا يمتنع أن حاجتهم كانت تشتد إلى الماء فينفجر، أي يخرج الماء كثيرًا ثم كانت تقل فكان ينبجس أي يخرج قليلًا

(1)

.

من خلال الأمثلة يتضح أن الإمام الرازي أطال التوجيه وذكر عدة أوجه لاختلاف اللفظ من موضع لآخر وهذا مُلاحظ في بعض مسائل المتشابه اللفظي التي تناولها الإمام الرازي بالتوجيه

(2)

.

ج. طول النفس في توجيه جميع مسائل المتشابه اللفظي بين الآيات في بعض المواضع:

أطال النفس في توجيه المتشابه اللفظي بين الآيات في بعض المواضع، وتناول توجيه جميع المتشابهات الواردة بين الآيات، ووصل أحيانا إلى عشرة فروق بين الآيتين تناولهم جميعًا بالتوجيه والتحليل دون كلل.

ومن ذلك توجيه الإمام الرازي للفروق بين الآيات في سورتي البقرة والأعراف:

قول الله عز وجل في سورة البقرة: {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ * فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ}

(3)

.

(1)

التفسير الكبير، (3/ 103).

(2)

يُنظر: التفسير الكبير، (2/ 3، 170)، (3/ 4، 28، 207).

(3)

سورة البقرة، الآيتان:(58، 59).

ص: 46

قول الله عز وجل في سورة الأعراف: {وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ * فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ}

(1)

.

الإمام الرازي تناول الفروق العشرة بين الآيات بالتوجيه ولم يغفل عن أي موضع من مواضع المتشابه اللفظي.

قال الإمام الرازي: (وهاهنا سؤالات: السؤال الأول: لم قال في سورة البقرة: {وإِذْ قُلْنَا} ، وَقَالَ فِي الْأَعْرَافِ:{وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ} ؟

الجواب: أن الله تعالى صرح في أول القرآن بأن قائل هذا القول هو الله تعالى إزالة للإبهام ولأنه ذكر في أول الكلام: {اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ}

(2)

، ثم أخذ يعدد [نعمه] نعمة نعمة فاللائق بهذا المقام أن يقول: وإذ قلنا أما في سورة الأعراف فلا يبقى في قوله تعالى وإذ قيل لهم إبهام بعد تقديم التصريح به في سورة البقرة.

السؤال الثاني: لم قال في البقرة: {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا} وفي الأعراف: {اسْكُنُوا} ؟

الجواب: الدخول مقدم على السكون ولا بد منهما فلا جرم ذكر الدخول في السورة المتقدمة والسكون في السورة المتأخرة.

السؤال الثالث: لم قال في البقرة: {فَكُلُوا} بالفاء وفي الأعراف: {وَكُلُوا} بالواو؟

والجواب هاهنا هو الذي ذكرناه في قوله تعالى في سورة البقرة: وكلا منها رغدا وفي الأعراف: {فَكُلَا} .

السؤال الرابع: لم قال في البقرة: نغفر لكم خطاياكم وفي الأعراف: {نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ} .

الجواب: الخطايا جمع الكثرة والخطيئات جمع السلامة فهو للقلة، وفي سورة البقرة لما أضاف ذلك القول إلى نفسه فقال:{وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ} ، لا جرم قرن به ما يليق جوده وكرمه

(1)

سورة الأعراف، الآيتان:(161، 162).

(2)

سورة البقرة، الآية:(200).

ص: 47

وهو غفران الذنوب الكثيرة، فذكر بلفظ الجمع الدال على الكثرة، وفي الأعراف لما لم يضف ذلك إلى نفسه بل قال:{وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ} لا جرم ذكر ذلك بجمع القلة، فالحاصل أنه لما ذكر الفاعل ذكر ما يليق بكرمه من غفران الخطايا الكثيرة وفي الأعراف لما لم يسم الفاعل لم يذكر اللفظ الدال على الكثرة.

السؤال الخامس: لم ذكر قوله: رغدا في البقرة وحذفه في الأعراف؟

الجواب عن هذا السؤال كالجواب في الخطايا والخطيئات لأنه لما أسند الفعل إلى نفسه لا جرم ذكر معه الإنعام الأعظم وهو أن يأكلوا رغدا، وفي الأعراف لما لم يسند الفعل إلى نفسه لم يذكر الإنعام الأعظم فيه.

السؤال السادس: لم ذكر في البقرة: وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة وفي الأعراف قدم المؤخر؟

الجواب: الواو للجمع المطلق وأيضا فالمخاطبون بقوله: ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة، يحتمل أن يقال: إن بعضهم كانوا مذنبين والبعض الآخر ما كانوا مذنبين، فالمذنب لا بد أن يكون اشتغاله بحط الذنوب مقدما على الاشتغال بالعبادة لأن التوبة عن الذنب مقدمة على الاشتغال بالعبادات المستقبلة لا محالة، فلا جرم كان تكليف هؤلاء أن يقولوا أولا «حطة» ثم يدخلوا الباب سجدا، وأما الذي لا يكون مذنبا فالأولى به أن يشتغل أولا بالعبادة ثم يذكر التوبة، ثانيا: على سبيل هضم النفس وإزالة العجب في فعل تلك العبادة فهؤلاء يجب أن يدخلوا الباب سجدا أولا ثم يقولوا حطة ثانيا، فلما احتمل كون أولئك المخاطبين منقسمين إلى هذين القسمين لا جرم ذكر الله تعالى حكم كل واحد منهما في سورة أخرى.

السؤال السابع: لم قال: وسنزيد المحسنين في البقرة مع الواو وفي الأعراف {سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ} من غير الواو؟

الجواب: أما في الأعراف فذكر فيه أمرين: أحدهما: قول الحطة وهو إشارة إلى التوبة، وثانيها: دخول الباب سجدا وهو إشارة إلى العبادة، ثم ذكر جزاءين:

أحدهما: قوله تعالى: {نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ} وهو واقع في مقابلة قول الحطة

ص: 48

والآخر: قوله: سنزيد المحسنين وهو واقع في مقابلة دخول الباب سجدا فترك الواو يفيد توزع كل واحد من الجزاءين على كل واحد من الشرطين. وأما في سورة البقرة فيفيد كون مجموع المغفرة والزيادة جزاء واحدا لمجموع الفعلين أعني دخول الباب وقول الحطة.

السؤال الثامن: قال الله تعالى في سورة البقرة: فبدل الذين ظلموا قولا وفي الأعراف: فبدل الذين ظلموا منهم قولا فما الفائدة في زيادة كلمة «منهم» في الأعراف؟

الجواب: سبب زيادة هذه اللفظة في سورة الأعراف أن أول القصة هاهنا مبني على التخصيص بلفظ «من» لأنه تعالى قال: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ}

(1)

فذكر أن منهم من يفعل ذلك ثم عدد صنوف إنعامه عليهم وأوامره لهم، فلما انتهت القصة قال الله تعالى: فبدل الذين ظلموا منهم فذكر لفظة: منهم في آخر القصة كما ذكرها في أول القصة ليكون آخر الكلام مطابقا لأوله فيكون الظالمون من قوم موسى بإزاء الهادين منهم فهناك ذكر أمة عادلة، وهاهنا ذكر أمة جابرة وكلتاهما من قوم موسى فهذا هو السبب في ذكر هذه الكلمة في سورة الأعراف، وأما في سورة البقرة فإنه لم يذكر في الآيات التي قبل قوله: فبدل الذين ظلموا تمييزا وتخصيصا حتى يلزم في آخر القصة ذكر ذلك التخصيص فظهر الفرق.

السُّؤَالُ التَّاسِعُ: لِمَ قَالَ فِي الْبَقَرَة {فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا}

(2)

وقال في الأعراف {فَأَرْسَلْنَا}

(3)

؟

الجواب: الإنزال يفيد حدوثه في أول الأمر والإرسال يفيد تسلطه عليهم واستئصاله لهم بالكلية، وذلك إنما يحدث بالآخرة.

السؤال العاشر: لم قال في البقرة: {بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ}

(4)

، وَفِي الأعراف: بِما {بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ}

(5)

؟

(1)

سورة الأعراف، الآية:(159).

(2)

سورة البقرة، الآية:(59).

(3)

سورة الأعراف، الآية:(162).

(4)

سورة البقرة، الآية:(59).

(5)

سورة الأعراف، الآية:(162).

ص: 49

الجواب: أنه تعالى لما بين في سورة البقرة كون ذلك الظلم فسقا اكتفى بلفظ الظلم في سورة الأعراف لأجل ما تقدم من البيان في سورة البقرة والله أعلم))

(1)

.

من خلال المثال المذكور يتضح طول نفس الإمام الرازي في توجيه جميع مواضع المتشابه اللفظي بين بعض الآيات وهو ما قام به في بعض المواضع كمقارنته بين آيتي سورة التوبة: {فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ}

(2)

.

*تناول الإمام الرازي توجيه الفروق الأربعة بين الآيتين ثم بين الحكمة من تكرار الآية في سورة التوبة

(3)

.

*وكما فعل عند المقارنة بين آيتي سورتي البقرة وآل عمران في قوله تعالي: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}

(4)

.

وقوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ}

(5)

، فقد أطال النفس في ذكر الفروق بين الآيتين

(6)

، وفعل ذلك أيضًا في عدة مواضع

(7)

*وأحيانا يذكر الفرق بين قصتين ويطيل النفس في ذلك ويذكر توجيه جميع مواضع المتشابه اللفظي بين القصتين كما فعل أثناء توجيهه لمواضع المتشابه اللفظي بين قصتي نوح وهود في سورة الأعراف

(8)

.

(1)

التفسير الكبير (3/ 98 - 101).

(2)

سورة التوبة، الآية:(55). والآية (85)

(3)

يُنظر: التفسير الكبير، (16/ 157 - 159).

(4)

سورة البقرة، الآية:(164).

(5)

سورة آل عمران، الآية:(190).

(6)

يُنظر: التفسير الكبير (9/ 138، 139)

(7)

يُنظر: التفسير الكبير (25/ 92، 93).

(8)

يُنظر: التفسير الكبير، (14/ 161 - 163).

ص: 50

*كما قام الإمام الرازي بتوجيه آيات المتشابه اللفظي الخاصة بالحروف المقطعة وأطال التوجيه، ونقل العديد من الأراء وناقشها وحللها

(1)

، ورجح رأى الإمام قطرب

(2)

.

*يقول الإمام الرازي: «واعلم أن بعد هذا المذهب الذي نصرناه بالأقوال التي حكيناها قول قطرب: من أن المشركين قال بعضهم لبعض {لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ}

(3)

فكان إذا تكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول هذه السورة بهذه الألفاظ ما فهموا منها شيئا، والإنسان حريص على ما منع، فكانوا يصغون إلى القرآن ويتفكرون ويتدبرون في مقاطعه ومطالعه، رجاء أنه ربما جاء كلام يفسر ذلك المبهم، ويوضح ذلك المشكل. فصار ذلك وسيلة إلى أن يصيروا مستمعين للقرآن ومتدبرين في مطالعه ومقاطعه. والذي يؤكد هذا المذهب أمران: أحدهما: أن هذه الحروف ما جاءت إلا في أوائل السور، وذلك يوهم أن الغرض ما ذكرنا والثاني: أن العلماء قالوا: إن الحكمة في إنزال المتشابهات هي أن المعلل لما علم اشتمال القرآن على المتشابهات فإنه يتأمل القرآن ويجتهد في التفكر فيه على رجاء أنه ربما وجد شيئا يقوي قوله وينصر مذهبه، فيصير ذلك سببا لوقوفه على المحكمات المخلصة له عن الضلالات، فإذا جاز إنزال المتشابهات التي توهم الضلالات لمثل هذا الغرض فلأن يجوز إنزال هذه الحروف التي لا توهم شيئا من الخطأ والضلال لمثل هذا الغرض كان أولى. أقصى ما في الباب أن يقال: لو جاز ذلك فليجز أن يتكلم بالزنجية مع العربي وأن يتكلم بالهذيان لهذا الغرض، وأيضا فهذا يقدح في كون القرآن هدى وبيانا، لكنا نقول: لم لا يجوز أن يقال: إن الله تعالى إذا تكلم بالزنجية مع العربي- وكان ذلك متضمنا لمثل هذه المصلحة- فإن ذلك يكون جائزا؟ وتحقيقه أن الكلام فعل من الأفعال، والداعي إليه قد يكون هو الإفادة، وقد يكون غيرها، قوله:«إنه يكون هذيانا» قلنا: إن عنيت بالهذيان الفعل الخالي عن المصلحة بالكلية فليس الأمر كذلك، وإن عنيت به الألفاظ الخالية عن الإفادة فلم قلت إن ذلك يقدح في الحكمة إذا كان فيها وجوه أخر

(1)

يُنظر: التفسير الكبير، (2/ 3 - 12).

(2)

هو محمد بن المستنير بن أحمد، أبو علي النحوي اللغوي البصري، أحد من اختلف إلى سيبويه وتعلم منه، وكان يدلج إليه، وإذا خرج رآه على بابه غدوة وعشية، فقال له: ما أنت إلا قطرب ليل! فلقب به. واشتهر بمثلثات قطرب، تُوفي سنة 206 هـ، يُنظر ترجمته في:«الفهرست» لابن النديم (58، 59)، و «تاريخ بغداد» للخطيب البغدادي (3/ 298، 299).

(3)

سورة فصلت، الآية:(26).

ص: 51

من المصلحة سوى هذا الوجه؟ وأما وصف القرآن بكونه هدى وبيانا فذلك لا ينافي ما قلناه، لأنه إذا كان الغرض ما ذكرناه كان استماعها من أعظم وجوه البيان والهدى والله أعلم»

(1)

.

ثالثًا: ذكر توجيه المتشابه في الموضع الأول:

*أ. الإمام الرازي غالبًا يذكر توجيه المتشابه اللفظي في الآية الأولى (الموضع الأول)، وحين يعرض متشابه الآية الثانية (الموضع الثاني) يقول سبق توجيه المتشابه، كما فعل الإمام الإسكافي ومن سار خلفه من علماء المتشابه اللفظي في كتبهم المستقلة التي خصصوها لتوجيه آيات المتشابه اللفظي.

ومثال ذلك: الموضع الأول: قال: «قال ههنا {الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ} يقصد قول الله عز وجل {ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ}

(2)

بتقديم الضال، وقال في آخر السورة {وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ}

(3)

بتقديم المكذبين، فهل بينهما فرق؟ قلت نعم، وذلك أن المراد من الضالين ههنا هم الذين صدر منهم الإصرار على الحنث العظيم، فضلوا في سبيل الله ولم يصلوا إليه ولم يوحدوه، وذلك ضلال عظيم ثم كذبوا رسله وقالوا {أَئِذَا مِتْنَا}

(4)

، فكذبوا بالحشر فقال:{أَيُّهَا الضَّالُّونَ} الذين أشركتم {الْمُكَذِّبُونَ} الذين أنكرتم الحشر، لأكلون ما تكرهون، وأما هناك فقال لهم (أيها المكذبون) الذين كذبتم بالحشر {الضَّالُّونَ} في طريق الخلاص الذين يهتدون إلى النعيم، وفيه وجه آخر وهو أن الخطاب هنا مع الكفار فقال: ياأيها الذين ضللتم أولًا وكذبتم ثانيًا والخطاب في آخر السورة مع محمد صلى الله عليه وسلم يبين له حال الأزواج الثلاثة فقال: المقربون في روح وريحان وجنة ونعيم، وأصحاب اليمين في سلام، وأما المكذبون الذين كذبوا فقد ضلوا فقدم تكذيبهم إشارة إلى كرامة محمد صلى الله عليه وسلم حيث بين أن أقوى في عقابهم تكذبيهم والذي يدل على أن هذا الكلام هناك مع محمد صلى الله عليه وسلم قوله {فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ}

(5)

.

(1)

يُنظر: التفسير الكبير، (2/ 12).

(2)

سورة الواقعة، الآية:(51).

(3)

سورة الواقعة، الآية:(92).

(4)

سورة الواقعة، الآية:(47).

(5)

سورة الواقعة، الآية:(91). ويُنظر: التفسير الكبير، (29/ 175).

ص: 52

الموضع الثاني: قال الإمام الرازي: «قال ههنا: {مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ}

(1)

، وقال من قبل:{ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ}

(2)

وقد بينا فائدة التقديم والتأخير هناك»

(3)

.

فالإمام الرازي قام بتوجيه المتشابه في الموضع الأول عند ذكر الآية الأولى {ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ} فبين الفرق بين الآيتين وحين ذكر الآية الثانية {مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ} قال: وقد بينا فائدة التقديم والتأخير هناك، وهذا ما فعله في كثير من المواضع

(4)

.

*ب. لكنه أحيانًا لا يأتي بتوجيه المتشابه في الآية المتقدمة، ويأتي به في الآية المتأخرة.

فعند تفسير الإمام الرازي لقوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}

(5)

، قال: «لم قال في سورة البقرة {مِنْ مِّثْلِهِ}

(6)

، وقال ههنا:{فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ} ؟

والجواب: أن محمدًا صلى الله عليه وسلم كان رجلًا أميًا، لم يتلمذ لأحد ولم يطالع كتابًا، فقال في سورة البقرة:{فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِّثْلِهِ} يعني فليأت إنسان يساوي محمدًا عليه السلام في عدم التلمذ وعدم مطالعة الكتب وعدم الانشغال بالعلوم، بسورة تساوي هذه السورة، وحيث ظهر العجز ظهر المعجز. فهذا لا يدل على أن السورة نفسها معجزة، ولكنه يدل على أن ظهور مثل هذه السورة مثل إنسان مثل محمد صلى الله عليه وسلم في عدم التلمذ والتعلم معجز، ثم إنه تعالى بين في هذه السورة أن تلك السورة في نفسها معجز، فإن الخلق وإن تلمذوا وتعلموا وطالعوا وتفكروا، فإنه لا يمكنهم الإتيان بمعارضة سورة واحدة من هذه السور، فلا جرم قال في هذه الآية:{فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ} ولا شك أن هذا ترتيب عجيب في باب التحدي وإظهار المعجز»

(7)

.

(1)

سورة الواقعة، الآية:(92).

(2)

سورة الواقعة، الآية:(51).

(3)

التفسير الكبير، (29/ 204).

(4)

يُنظر: التفسير الكبير، (5/ 94، 98)، (19/ 134)، (28/ 88 - 89)، (30/ 20).

(5)

سورة يونس، الآية:(38).

(6)

سورة البقرة، الآية:(23).

(7)

التفسير الكبير، (17/ 101).

ص: 53

فقد قام الإمام الرازي بتوجيه المتشابه في الموضع الثاني في سورة يونس، ولم يوجهه في الموضع الأول في سورة البقرة.

وعند تفسيره لقوله تعالى {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ}

(1)

: قال: «قال تعالى في سورة الحاقة {فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ * وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ}

(2)

، والضريع غير الغسلين (والجواب) من وجهين:(الأول) أن النار دركات فمن أهل النار من طعامه الزموم، ومنهم من طعامه الغسلين، ومنهم من طعامه الضريع، ومنهم من شرابه الحميم، ومنهم من شرابه الصديد، لكل باب منهم جزء مقسوم (الثاني) يحتمل أن يكون الغسلين من الضريع، ويكون ذلك كقوله: مالي طعام إلا من الشاء، ثم يقول: مالي طعام إلا من اللبن، ولا تناقض لأن اللبن من الشاء»

(3)

.

أرى هنا أن الإمام الرازي قام بتوجيه المتشابه اللفظي في الآية المتأخرة (في الموضع الثاني){لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ} ، ولم يوجهه في الآية الأولى (في الموضع الأول){وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ} ، وهذا ما قام به في بعض المواضع

(4)

.

ج. إلا أنه أحيانًا يذكر بعض التوجيه في الآية الأولى (الموضع الأول) ولكنه يفصله أكثر في الآية الثانية (الموضع الثاني).

ومثال ذلك: الموضع الأول: قوله ههنا {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً}

(5)

، يفيد أن المواعدة كانت من أول الأمر على الأربعين، وقوله في الأعراف:{وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ}

(6)

يفيد أن المواعدة كانت في أول الأمر على الثلاثين فكيف التوفيق بينهما؟ أجاب

(1)

سورة الغاشية، الآية:(6).

(2)

سورة الحاقة، الآيتان:(35، 36).

(3)

التفسير الكبير، (31/ 154).

(4)

يُنظر: التفسير الكبير، (9/ 138، 139)، (12/ 134)، (13/ 222)، (16/ 134)، (16/ 157 - 159، 240)، (25/ 39).

(5)

سورة البقرة، الآية:(51).

(6)

سورة الأعراف، الآية:(142).

ص: 54

الحسن البصري فقال ليس المراد أن وعده كان ثلاثين ليلة ثم بعد ذلك وعده بعشر لكنه وعده أربعين ليلة جميعًا، وهو كقوله {ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ}

(1)

.

الموضع الثاني عند تفسيره لسورة الأعراف قال: واعلم أنه تعالى قال في سورة البقرة: {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} ، وذكر تفصيل تلك الأربعين في هذه الآية.

فإن قيل: وما الحكمة ههنا من ذكر الثلاثين ثم إتمامها بعشر؟ وأيضًا فقوله: {فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} كلام عار عن الفائدة؛ لأن كل أحد يعلم أن الثلاثين مع العشر يكون أربعين.

قلنا: أما الجواب عن السؤال الأول من وجوه:

الوجه الأول: أنه تعالى أمر موسى عليه وسلم يصوم ثلاثين يومًا وهو شهر ذي القعدة، فلم أتم الثلاثين أنكر خلوف فيه فتسوك، فقالت الملائكة كنا نشم من فيك رائحة المسك فأفسدته بالسواك فأوحى الله تعالى إليه أما علمت أن خلوف فم الصائم أطيب عندي من ريح المسك، فأمره الله تعالى أن يزيد عليها عشرة أيام من ذي الحجة لهذا السبب.

الوجه الثاني: في فائدة هذا التفضيل أن الله أمره أن يصوم ثلاثين يومًا وأن يعمل فيها ما يقربه إلى الله تعالى ثم أنزلت التوارة عليه في العشر البواقي، وكلمه أيضًا فيه. فهذا هو الفائدة في تفصيل الأربعين إلى الثلاثين وإلى العشرة.

الوجه الثالث: ما ذكره أبو مسلم الأصفهاني في سورة طه ما دل على أن موسى بادر إلى ميقات ربه قبل موته، والدليل عليه قوله تعالى:{وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَامُوسَى * قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي}

(2)

فجائز أن يكون موسى أتى الطور عند تمام الثلاثين، فلما أعلمه الله خبر قومه مع السامري رجع إلى قومه قبل تمام ما وعده الله تعالى، ثم عاد إلى الميقات في عشرة أخرى، فتم أربعين ليلة.

(1)

التفسير الكبير، (3/ 79).

(2)

سورة طه، الآيتان، (83، 84).

ص: 55

الوجه الرابع: قال بعضهم لا يمتنع أن يكون الوعد الأول حضره موسى عليه السلام، وحده، والوعد الثاني حضره المختارون معه ليسمعوا كلام الله تعالى، فصار الوعد مختلفًا لاختلاف حال الحاضرين. والله أعلم

والجواب عن السؤال الثاني: أنه تعالى إنما قال: {أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} إزالة لتوهم أن ذلك العشر من الثلاثين، كأنه كان عشرين، ثم أتمه بعشر، فصار ثلاثين، فأزال هذا الإيهام

(1)

.

بعرض موضعي المتشابه نجد أن الرازي ذكر بعض توجيه المتشابه في الآية الأولى (في الموضع الأول)، ولكنه فصله أكثر في الآية الثانية (في الموضع الثاني)، وهذا ما قام به أحيانًا

(2)

.

*د. وأحيانًا يذكر توجيه المتشابه في الموضع الذي يذكره ولا يبين توجيه الموضع الآخر، وهذا مما يؤخذ عليه.

ومثال ذلك: قال الإمام الرازي: «لقائل أن يقول: إنه تعالى قدم الموت على الحياة في آيات منها قوله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ}

(3)

، وقال {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ}

(4)

وحكى عن إبراهيم أنه قال في ثنائه على الله تعالى {وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ}

(5)

، فلأي سبب قدم في هذه الآية ذكر الحياة على الموت حيث قال:{رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ}

(6)

؟

(والجواب) لأن المقصود من ذكر الدليل إذا كان هو الدعوة إلى الله تعالى وجب أن يكون الدليل في غاية الوضوح، ولا شك أن عجائب الخلقة حال الحياة أكثر، وإطلاع الإنسان عليها أتم، فلا جرم وجب تقديم الحياة ههنا في الذكر»

(7)

.

(1)

التفسير الكبير، (14/ 235 - 236).

(2)

يُنظر: التفسير الكبير، (15/ 36)، (19/ 50 - 51).

(3)

سورة البقرة، الآية:(28).

(4)

سورة الملك، الآية:(2).

(5)

سورة الشعراء، الآية:(81).

(6)

سورة البقرة، الآية:(258).

(7)

التفسير الكبير، (7/ 25).

ص: 56

من خلال المثال يتضح أن الإمام الرازي قام بتوجيه المتشابه في الموضع الثاني (تقديم الحياة على الموت)، ولم يذكر التوجيه في الموضع الأول (سبب تقديم الموت على الحياة في الآيات التي استدل بها) وهذا ما قام به في بعض المواضع

(1)

.

*هـ. وأحيانًا يذكر التوجيه مرة أخرى، ولكن مختصرًا في الموضع الثاني.

ومثال ذلك: قال: «ذكر في سورة البقرة: {يُذَبِّحُونَ}

(2)

، وفي سورة الأعراف:{يُقَتِّلُونَ}

(3)

وههنا (ويذبحون) مع الواو فما الفرق؟

والجواب: قال تعالى في سورة البقرة: {يُذَبِّحُونَ} بغير واو لأنه تفسير لقوله {سُوءَ الْعَذَابِ}

(4)

، وفي التفسير لا يحسن ذكر الواو تقول: أتاني القوم زيد وعمرو. لأنك أردت أن تفسر القوم بهما ومثله قوله تعالى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}

(5)

، فالآثام لما صار مفسرًا بمضاعفة العذاب لا جرم حذف عنه الواو، أما في هذه السورة فقد أدخل الواو فيه، لأن المعنى أنهم يعذبونهم بغير التذبيح وبالتذبيح أيضًا فقوله {يُذَبِّحُونَ} نوع آخر من العذاب، لا أنه تفسير لما قبله»

(6)

.

أرى هنا أن الإمام الرازي ذكر التوجيه في الموضع الثاني أثناء تفسيره لسورة إبراهيم مختصرًا، أما الموضع الأول في سورة البقرة فقد ذكره بتفصيل أكثر.

قال: «ذكر في هذه السورة {يُذَبِّحُونَ} بلا واو وفي سورة إبراهيم ذكره بالواو والوجه فيه أنه إذا جعل قوله {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ}

(7)

مفسرًا بسائر التكاليف الشاقة سوى الذبح وجعل الذبح شيئًا آخر سوى سوء العذاب احتيج فيه إلى الواو، وفي الموضعين يحتمل الوجهين إلا أن الفائدة التي يجوز أن تكون هي المقصودة من ذكر حرف العطف في سورة إبراهيم أن يقال: إنه تعالى

(1)

يُنظر التفسير الكبير، (7/ 25)، (20/ 15).

(2)

سورة البقرة، الآية:(49).

(3)

سورة الأعراف، الآية:(141).

(4)

سورة البقرة، الآية:(49).

(5)

سورة الفرقان، الآيتان:(68، 69).

(6)

التفسير الكبير، (19/ 86).

(7)

سورة البقرة، الآية:(49).

ص: 57

قال قبل تلك الآية: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ}

(1)

.

والتذكير بأيام الله لا يحصل إلا بتعداد نعم الله تعالى فوجب أن يكون المراد من قوله: {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ}

(2)

نوعًا من العذاب والمراد من قوله: {وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ}

(3)

نوعًا آخر ليكون التخلص منهما نوعين من النعمة؛ فلهذا وجب ذكر العطف هناك، وأما في هذه الآية لم يرد الأمر إلا بتذكير جنس النعمة وهي قوله:{اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ}

(4)

فسواء كان المراد من سوء العذاب هو الذبح أو غيره كان تذكير جنس النعمة حاصلًا فظهر الفرق

(5)

.

من خلال المثال وبعرض موضعي المتشابه يتضح أن الإمام الرازي قام بتوجيه المتشابه في الآية الأولى (الموضع الأول في سورة البقرة) بشئ من التفصيل، وأعاد التوجيه مرة أخرى في الآية الثانية (الموضع الثاني في سورة إبراهيم)، ولكنه مختصر، وهذا ما قام به في بعض المواضع

(6)

.

*و. أحيانًا يأتي بتوجيه مختلف للمتشابه في الموضع الثاني عنه في الموضع الأول:

مثال: الآيات في سورتي البقرة والأعراف (الأمر بدخول القرية)، فقد قام في سورة البقرة بتوجيه عشر مسائل من مسائل المتشابه اللفظي في سورة البقرة وأعاد توجيه ثمانية مسائل في سورة الأعراف باختلاف في التوجيه في بعض مسائل المتشابه اللفظي في سورة البقرة عنها في سورة الأعراف

(7)

، وقد قام بهذا في مسائل أخرى

(8)

.

(1)

سورة إبراهيم، الآية:(5).

(2)

سورة البقرة، الآية:(49).

(3)

سورة إبراهيم، الآية:(6).

(4)

سورة البقرة، الآية:(40).

(5)

التفسير الكبير، (3/ 72، 73).

(6)

يُنظر: التفسير الكبير، (4/ 60)، (19/ 134).

(7)

يُنظر توجيه المتشابه في تفسير سورتي البقرة والأعراف: التفسير الكبير، (3/ 98 - 101)، (15/ 37 - 39).

(8)

يُنظر: التفسير الكبير، (3/ 4، 5)، (14/ 48).

ص: 58

*رابعًا: في بعض الأحيان يأتي بالمتشابه ولا يوجهه، ويرد العلم إلى الله.

ومن ذلك قوله في تفسير قوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)}

(1)

: «فإن قال قائل: إن الله تعالى ذكر هذه الآية في سورة المائدة هكذا {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}

(2)

وَفِي سورة الحج: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}

(3)

فهل في اختلاف هذه الآيات بتقديم الصنوف وتأخيرها ورفع «الصابئين» في آية ونصبها في أخرى فائدة تقتضي ذلك؟ والجواب: لما كان المتكلم أحكم الحاكمين فلا بد لهذه التغييرات من حكم وفوائد، فإن أدركنا تلك الحكم فقد فزنا بالكمال وإن عجزنا أحلنا القصور على عقولنا لا على كلام الحكيم والله أعلم

(4)

.

أرى أنه لم يُوضح الفرق بين الآيات الثلاثة فقد ذكر المتشابه ولم يوجهه

*وفي تفسير قوله تعالى: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا}

(5)

يقول: «فقال ههنا في قصة أحد في هؤلاء {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُم مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا} وفي قصة بدر {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ}

(6)

، ففي قصة أحد قدم الأمنة على النعاس، وفي قصة بدر قدم النعاس على الأمنة»

(7)

.

*فالإمام الرازي ذكر المتشابه اللفظي، ولكنه لم يوجهه وقام بهذا في مواضع أخرى

(8)

.

(1)

سورة البقرة، الآية:(62).

(2)

سورة المائدة، الآية:(69).

(3)

سورة الحج، الآية:(17).

(4)

التفسير الكبير، (3/ 113).

(5)

سورة آل عمران، الآية:(154).

(6)

سورة الأنفال، الآية:(11).

(7)

التفسير الكبير، (9/ 45).

(8)

يُنظر: التفسير الكبير، (10/ 242)، (13/ 231)، (20/ 4).

ص: 59

وأحيانًا يوجه المتشابه، بل ويطيل النفس في ذكر جميع المواضع، ثم يرد العلم إلى الله ويقول: الله أعلم بأسرار كتابه، أو يقول: وتمام العلم بها عند الله تعالى حتى لا يدعي لنفسه الصواب الكامل

(1)

.

ومثال ذلك: حين ذكر الإمام الرازي الفروق بين آيتي سورتي البقرة والأعراف عند تفسيره لسورة الأعراف

(2)

.

*قول الله عز وجل في سورة البقرة: {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ}

(3)

، وقول الله عز وجل في سورة الأعراف:{وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ}

(4)

، بعد أن قام بتوجيه مواضع المتشابه اللفظي بين الآيتين قال:«فهذا ما خطر بالبال في ذكر فوائد هذه الألفاظ المختلفة، وتمام العلم بها عند الله تعالى»

(5)

.

(1)

يُنظر: التفسير الكبير، (9/ 138، 139)، (15/ 37 - 39).

(2)

ذكر الإمام الرازي توجيه عشر مواضع للمتشابه اللفظي بين الآيتين عند تفسيره لسورة البقرة وأعاد توجيه ثمانية مواضع بين الآيتين عند تفسيره لسورة الأعراف.

(3)

سورة البقرة، الآية:(58).

(4)

سورة الأعراف، الآية:(161).

(5)

يُنظر: التفسير الكبير، (15/ 37 - 39).

ص: 60

‌القسم الثاني: ملامح الاشتغال التطبيقي عند الرازي في توجيه المتشابه اللفظي:

‌أولًا: ما اعتمد عليه الإمام الرازي في التوجيه:

إن توجيه المتشابه عمل ليس باليسير ولكي يتمكن العالم من بيان الفروق الدقيقة بين المواضع فإنه يحتاج ليس فقط لعدة تفسيرية متكاملة كاللغة والحديث والقراءات وإنما كذلك يلزمه توظيف معطيات فنون أخرى كالبلاغة والسياق والفقه. والناظر في توجيه المتشابه عند الرازي يجد بروز هذه التكاملية في الادوات وهو ما مكنه من توجيه المتشابه على نحو مدقق بارع.

فقد اعتمد على اللغة والمعنى، وعلم النحو، والقراءات، والفقه، والحديث، والسياق، وظهرت بلاغة المتشابه اللفظي من تقديم وتأخير، وذكر وحذف، وتعريف وتنكير، وعناية فائقة بتوجيه المكرر من الآيات والألفاظ، وغيرهم واضحة في توجيهه للمتشابه اللفظي فهو عالم بحر فمن الطبيعي أن نجد علمه الواسع في مختلف العلوم ظاهرًا جليًا في توجيه آيات المتشابه اللفظي.

‌أ. علم النحو:

*ومن الأمثلة على استشهاد الإمام الرازي بعلم النحو في التوجيه: قال الإمام الرازي في قول الله عز وجل: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ}

(1)

، ((قوله:(مما في بطونه) الضمير عائد إلى الأنعام فكان الواجب أن يقال مما في بطونها، وذكر النحويون فيها وجوهًا: الأول: أن لفظ الأنعام لفظ مفرد وضع لإفادة جمع، كالرهط والقوم والبقر والنعم، فهو بحسب اللفظ لفظ مفرد فيكون ضميره ضمير الواحد، وهو التذكير، وبحسب المعنى جمع فيكون ضميره ضمير الجمع، وهو التأنيث؛ فلهذا السبب قال ههنا في بطونه، وقال في سورة المؤمنين (في بطونها)

(2)

.

(1)

سورة النحل، الآية: (66 (.

(2)

نوع المتشابه: متشابه بالتذكير والتأنيث.

ص: 61

الثاني: قوله (في بطونه) أي في بطون ما ذكرناه، وهذا جواب الكسائي، قال المبرد: هذا شائع في القرآن، قال تعالى:{فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي}

(1)

يعني هذا الشئ الطالع ربي، وقال {كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ * فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ}

(2)

أي ذكر هذا الشئ.

واعلم أن هذا يجوز فيما يكون تأنيثه غير حقيقي، أما الذي تأنيثه حقيقًا، فلا يجوز، فإنه لا يجوز في مستقيم الكلام أن يقال جاريتك ذهب، ولا غلامك ذهبت على تقدير أن نحمله على النسمة، الثالث: أن فيه إضمارًا، والتقدير: نسقيكم مما في بطونه اللبن إذ ليس كلها ذات لبن))

(3)

*وقال أيضًا في الفرق بين {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ}

(4)

، و {وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ}

(5)

، في سورتي البقرة والجمعة:«فإن قيل: إنه تعالى قال هاهنا: ولن يتمنوه أبدا وقال في سورة الجمعة: ولا يتمنونه أبدا فلم ذكر هاهنا (لن) وفي سورة الجمعة «لا» قلنا: إنهم في هذه السورة، ادعوا أن الدار الآخرة خالصة لهم من دون الناس وادعوا في سورة الجمعة أنهم أولياء لله من دون الناس والله تعالى أبطل هذين الأمرين بأنه لو كان كذلك لوجب أن يتمنوا الموت والدعوى الأولى أعظم من الثانية إذ السعادة القصوى هي الحصول في دار الثواب، وأما مرتبة الولاية فهي وإن كانت شريفة إلا أنها إنما تراد ليتوسل بها إلى الجنة فلما كانت الدعوة الأولى أعظم لا جرم بين تعالى فساد قولهم بلفظ:«لن» لأنه أقوى الألفاظ النافية ولما كانت الدعوى الثانية ليست في غاية العظمة لا جرم اكتفى في إبطالها بلفظ «لا» لأنه ليس في نهاية القوة في إفادة معنى النفي والله أعلم»

(6)

.

*من خلال هذه الأمثلة وغيرها يتضح اعتماد الإمام الرازي على علم النحو في توجيه المتشابه اللفظي في القرآن الكريم، وهذا ما قام به في مسائل كثيرة

(7)

.

(1)

سورة الأنعام، الآية:(78).

(2)

سورة عبس، الآيتان:(11، 12).

(3)

التفسير الكبير (20/ 66)

(4)

سورة البقرة، الآية:(95).

(5)

سورة الجمعة، الآية:(7).

(6)

التفسير الكبير، (3/ 207).

(7)

يُنظر: التفسير الكبير (3/ 152 - 153، 25/ 116).

ص: 62

*‌

‌ب. علم القراءات:

كما يتضح اعتماد الإمام الرازي على علم القراءات في توجيه المتشابه اللفظي في القرآن الكريم.

فيقول في الفرق بين (أنجينا - نجَّينا):

((المسألة الأولى: قرأ عاصم وحمزة والكسائي (قل من ينجيكم) بالتشديد في الكلمتين، والباقون بالتخفيف. قال الواحدي: والتشديد والتخفيف لغتان منقولتان من نجا، فإن شئت نقلت بالهمزة، وإن شئت نقلت بتضعيف العين: مثل: أفرحته وفرحته، وأغرمته وغرمته، وفي القرآن {فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ}

(1)

، وَفِي آيَةٍ أُخْرَى {وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا}

(2)

ولما جاء التنزيل باللغتين معا ظهر استواء القراءتين في الحسن، غير أن الاختيار التشديد، لأن ذلك من الله كان غير مرة، وأيضا قرأ عاصم في رواية أبي بكر خفية بكسر الخاء والباقون بالضم، وهما لغتان، وعلى هذا الاختلاف في سورة الأعراف، وعن الأخفش في خفية وخفية أنهما لغتان، وأيضا الخفية من الإخفاء، والخفية من الرهب، وأيضا {لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ}

(3)

. قرأ عاصم وحمزة والكسائي لئن أنجانا على المغايبة، والباقون لئن أنجيتنا على الخطاب، فأما الأولون: وهم الذين قرءوا على المغايبة، فقد اختلفوا. قرأ عاصم بالتفخيم، والباقون بالإمالة، وحجة من قرأ على المغايبة أن ما قبل هذا اللفظ، وما بعده مذكور بلفظ المغايبة، فأما ما قبله فقوله: تدعونه وأما ما بعده فقوله: قل الله ينجيكم منها وأيضا فالقراءة بلفظ الخطاب توجب الإضمار، والتقدير: يقولون لئن أنجيتنا، والإضمار خلاف الأصل. وحجة من قرأ على المخاطبة قوله تعالى في آية أخرى {لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} ))

(4)

.

*ويقول في تفسير قول الله عز وجل {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا}

(5)

: «قُرئ خطيئاتهم بالهمزة وخطياتهم بقلبها ياء وإدغامها وخطاياهم وخطيئتهم

(1)

سورة الأعراف، الآية:(72).

(2)

سورة فصلت، الآية:(18).

(3)

سورة يونس، الآية:(22).

(4)

التفسير الكبير، (13/ 22).

(5)

سورة نوح، الآية: (25 (.

ص: 63

بالتوحيد على إرادة الجنس، ويجوز أن يراد به الكفر. واعلم أن الخطايا والخطيئات كلامها جمع خطيئة؛ إلا أن الأول جمع التكسير والثاني جمع سلامة، وقد تقدم الكلام فيها في البقرة عند قوله (نغفر لكم خطاياكم) وفي الأعراف عند قوله (خطيئاتكم)»

(1)

.

*بل أحيانًا يستفيد حكمًا فقهيًا من اختلاف القراءات في آيات المتشابه اللفظي: حيث قال: «الفرع الثاني: أنه إذا أفطر كيف يقضي؟ فمذهب علي وابن عمر والشعبي أنه يقضيه متتابعا وقال الباقون: التتابع مستحب وإن فرق جاز حجة الأولين وجهان الأول: أن قراءة أبي (فعدة من أيام متتابعات) والثاني: أن القضاء نظير الأداء فلما كان الأداء متتابعا، فكذا القضاء.

حجة الفرقة الثانية: أن قوله: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}

(2)

نكرة في سياق الإثبات، فيكون ذلك أمرا بصوم أيام على عدد تلك الأيام مطلقا، فيكون التقييد بالتتابع مخالفا لهذا التعميم، وعن أبي عبيدة بن الجراح أنه قال: إن الله لم يرخص لكم في فطره وهو يريد أن يشق عليكم في قضائه، إن شئت فواتر وإن شئت ففرق والله أعلم»

(3)

.

فقد استفاد الإمام الرازي حكمين فقهيين من اختلاف القراءات بين آيتي المتشابه اللفظي {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ}

(4)

، {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}

(5)

.

من خلال الأمثلة السابقة يتضح اعتماد الإمام الرازي على علم القراءات في توجيه المتشابه اللفظي في القرآن الكريم.

كما يتضح اتجاه الإمام الرازي الفقهي في توجيهه لآيات المتشابه اللفظي فهو شافعي، وكثيرًا ما يستشهد بالإمام الشافعي حتى في توجيهه لآيات المتشابه اللفظي حيث قال: «إن الله تعالى ذكر في مناسك الحج الأيام المعدودات، والأيام المعلومات فقال هنا:{وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ}

(6)

وَقَالَ فِي سُورَةِ الْحَجِّ: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ}

(7)

،

(1)

التفسير الكبير، (30/ 145).

(2)

سورة البقرة، الآية:(184).

(3)

التفسير الكبير، (5/ 84).

(4)

قراءة أبي بن كعب.

(5)

نوع المتشابه: متشابه بإبدال كلمة (متتابعات) بكلمة (أخر).

(6)

سورة البقرة، الآية:(203).

(7)

سورة الحج، الآية:(28).

ص: 64

فمذهب الشافعي رضي الله عنه أن المعلومات هي العشر الأول من ذي الحجة آخرها يوم النحر، وأما المعدودات فثلاثة أيام بعد يوم النحر، وهي أيام التشريق»

(1)

، فقد نقل رأى الإمام الشافعي عند ذكر آيتي المتشابه اللفظي (أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ)، (أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ)

(2)

.

‌ج. اللغة والمعاني:

كما اعتمد على اللغة والمعاني في توجيه المتشابه اللفظي في القرآن الكريم ومثال ذلك: قوله في تفسير قوله تعالى: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا}

(3)

: «فإن قيل: لِم قال في الشفاعة الحسنة {يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ} وقال في الشفاعة السيئة {يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا} وهل لاختلاف هذين اللفظين فائدة؟

قلنا: الكفل اسم للنصيب الذي عليه يكون اعتماد الناس، وإنما يقال كفل البعير لأنك حميت ظهر البعير بذلك الكساء عن الآفة، وحمى الراكب بدنه بذلك الكساء عن ارتماس ظهر البعير فيتأذى به، ويقال للضامن: كفيل وقال عليه الصلاة والسلام: «أنا وكافل اليتيم كهاتين»

(4)

. فثبت أن الكفل هو النصيب الذي عليه يعتمد الإنسان في تحصيل المصالح لنفسه ودفع المفاسد عن نفسه، إذا ثبت هذا فنقول: قوله (ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها) أي يحصل له منها نصيب يكون ذلك النصيب ذخيرة له منها نصيب يكون ذلك النصيب ذخيرة له في معاشه ومعاده، والمقصود حصول ضد ذلك {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}

(5)

والغرض منه التنبيه على أن الشفاعة المؤدية إلى سقوط الحق وقوة الباطل تكون عظيمة العقاب عند الله تعالى»

(6)

.

(1)

التفسير الكبير (5/ 208).

(2)

نوع المتشابه: متشابه بإبدال كلمة بكلمة، ويُنظر: التفسير الكبير (6/ 116).

(3)

سورة النساء، الآية:(85).

(4)

رواه البخاري في «صحيحه» ، كتاب الأدب، باب فضل من يعول يتيما، (8/ 9)، حديث رقم:(6005) من حديث سهل بن سعد.

(5)

سورة التوبة، الآية:(34).

(6)

التفسير الكبير، (10/ 213).

ص: 65

*‌

‌د. السياق:

كما اعتمد الإمام الرازي على السياق في التوجيه ومن الأمثلة على ذلك عند ذكر الفرق بين (خطايا- خطيئات) قال: «لِم قال في البقرة: نغفر لكم خطاياكم وفي الأعراف: {نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ} ؟

الجواب: الخطايا جمع الكثرة والخطيئات جمع السلامة فهو للقلة، وفي سورة البقرة لما أضاف ذلك القول إلى نفسه فقال:{وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ} ، لا جرم قرن به ما يليق جوده وكرمه وهو غفران الذنوب الكثيرة، فذكر بلفظ الجمع الدال على الكثرة، وفي الأعراف لما لم يضف ذلك إلى نفسه بل قال:{وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ} لا جرم ذكر ذلك بجمع القلة، فالحاصل أنه لما ذكر الفاعل ذكر ما يليق بكرمه من غفران الخطايا الكثيرة وفي الأعراف لما لم يسم الفاعل لم يذكر اللفظ الدال على الكثرة»

(1)

.

‌هـ. بلاغة المتشابه اللفظي في تفسير الرازي:

ظهرت بلاغة المتشابه اللفظي من تقديم وتأخير، وذكر وحذف، وتعريف وتنكير، وعناية فائقة بتوجيه المكرر من الآيات والألفاظ، وغيرهم واضحة في توجيهه للمتشابه اللفظي، وسأذكر العديد من الأمثلة على ذلك عند الحديث عن أنواع المتشابه اللفظي في تفسير الرازي.

‌ثانيًا: الإمام الرازي أحيانًا يعقد مقارنة في المتشابه اللفظي بين آية وحديث:

ومن الأمثلة على ذلك: «لقائل أن يقول لم وُصف المهديون بالكثرة -يقصد قوله تعالى: {وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا}

(2)

- والقلة صفتهم لقوله {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}

(3)

، {وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} ، ولحديث «الناس كأبل مائة لا تجد فيها راحلة»

(4)

، وحديث «الناس أخبر قلة»

(5)

.

(1)

التفسير الكبير، (3/ 99).

(2)

سورة البقرة، الآية:(26).

(3)

سورة سبأ، الآية:(13).

(4)

متفق عليه: رواه البخاري في «صحيحه» ، كتاب الرقاق، باب رفع الأمانة (8/ 104)، حديث رقم:(6498)، ومسلم في «صحيحه» ، كتاب فضائل الصحابة رضي الله تعالى عنهم، باب قوله صلى الله عليه وسلم: الناس كإبل مائة لا تجد فيها راحلة (4/ 1973)، حديث رقم:(2547) عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.

(5)

لم أقف عليه بهذا اللفظ وقد رَوَاهُ ابْن عدي فِي الكامل في ضعفاء الرجال (2/ 210)، عن أبي الدرداء بلفظ:«وَجَدْتُ النَّاسَ اخْبُرْ تَقْلِهْ» ينظر: اللآلئ المنثورة في الأحاديث المشهورة (ص: 111)، المقاصد الحسنة، للسخاوي وضعفه (ص: 45).

ص: 66

والجواب: أهل الهدى كثير في أنفسهم وحيث يوصفون بالقلة إنما يوصفون بها بالقياس إلى أهل الضلال، وأيضًا فإن قليل من المهديين كثير في الحقيقة وإن قلوا في الصورة فسموا بالكثير ذهابًا إلى الحقيقة»

(1)

.

أيضًا قال تفسير قول الله عز وجل: {يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ}

(2)

: «قدم التعذيب في الذكر على الرحمة مع أن رحمته سابقة كما قال عليه السلام حاكيا عنه: «سبقت رحمتي غضبي»

(3)

. فنقول ذلك لوجهين: (أحدهما): أن السابق ذكر الكفار فذكر العذاب لسبق ذكر مستحقيه بحكم الإيعاد وعقبه بالرحمة، وكما ذكر، بعد إثبات الأصل الأول وهو التوحيد - التهديد بقوله:{وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ}

(4)

كذلك ذكر بعد إثبات الأصل الآخر التهديد بذكر التعذيب، وذكر الرحمة وقع تبعًا لئلا يكون العذاب مذكورًا وحده وهذا يحقق قوله (سبقت رحمتي غضبي) وذلك؛ لأن الله حيث كان المقصود ذكر العذاب لم يمحضه في الذكر بل ذكر الرحمة معه

(5)

.

‌ثالثًا: ومن أهم ما يميز توجيه الإمام الرازي للمتشابه اللفظي في القرآن الكريم أنه يكثر من توجيه المكرر،

سواء كان التكرار في الآية كلها فيبين سبب تكرار الآية، أو كان التكرار بين بعض الألفاظ في الآيتين، فيبين سبب تكرار تلك الألفاظ، وينفي مزاعم حدوث التكرار في كتاب الله، ويثبت بلاغة تكرار بعض الألفاظ والآيات.

(1)

التفسير الكبير (2/ 161)، نوع المتشابه: متشابه بإبدال جملة بجملة.

(2)

سورة العنكبوت، الآية:(21)، نوع المتشابه: متشابه بالتقديم والتأخير.

(3)

متفق عليه: رواه البخاري في «صحيحه» ، كتاب التوحيد، باب قوله تعالى:{ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين} ، (9/ 160)، حديث رقم:(7553). ومسلم في «صحيحه» ، كتاب التوبة، باب في سعة رحمة الله تعالى وأنها سبقت غضبه (4/ 2108)، حديث رقم:(2751)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه

(4)

سورة العنكبوت، الآية:(18).

(5)

التفسير الكبير، (25/ 50).

ص: 67

*فأحيانا يذكر أن الفائدة من التكرار هي التأكيد، وأحيانا يضيف فائدة أخرى، وأحيانا يذكر عدة وجوه للتكرار بين الآيات.

*ومن الأمثلة على ذلك:

*قال الإمام الرازي في تفسير قول الله عز وجل: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ}

(1)

: «أن في تكرار (الذين ظلموا) زيادة في تقبيح أمرهم وإيذانًا بأن إنزال الرجز عليهم لظلمهم»

(2)

.

*وفي تفسير قول الله عز وجل {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}

(3)

يقول: «فإن قيل لِم كررت الآية؟ قلنا فيه قولان: (أحدهما) أنه عنى بالآية الأولى إبراهيم ومن ذكر معه والثانية أسلاف اليهود قال الجبائي، قال القاضي: هذا بعيد لأن أسلاف اليهود والنصارى لم يجر لهم ذكر مصرح، وموضع الشبهة في هذا القول أن القوم لما قالوا في إبراهيم وبنيه إنهم كانوا هودًا فكأنهم قالوا إنهم كانوا على مثل طريقة أسلافنا من اليهود، فصار سلفهم في حكم المذكورين فجاز أن يقال: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ} ويعينهم ولكن ذلك كالتعسف بل المذكور السابق هو إبراهيم وبنوه، فقوله {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ} يجب أن يكون عائدًا إليهم، والقول الثاني أنه متى اختلفت الأوقات والأحوال والمواطن لم يكن التكرارعبثًا؛ فكأنه تعالى قال: ما هذا إلا بشر فوصف هؤلاء الأنبياء فيما أنتم عليه من الدين لا يسوغ التقليد في هذا الجنس فعليكم بترك الكلام في تلك الأمة فلها ما كسبت، ويُنظروا فيما دعاهم إليه محمد صلى الله عليه وسلم فإن ذلك أنفع لكم وأعود عليكم ولا تسألون إلا عن عملكم»

(4)

.

*وذكر خمسة أوجه في تكرار قول الله عز وجل: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}

(5)

.

(6)

، وقام بتوجيه العديد من المواضع

(7)

.

(1)

سورة البقرة، الآية:(59).

(2)

التفسير الكبير (3/ 97).

(3)

سورة البقرة، الآية:(141).

(4)

التفسير الكبير (4/ 99، 100).

(5)

سورة البقرة، الآية:(150).

(6)

يُنظر: التفسير الكبير (4/ 151 - 153).

(7)

يُنظر أيضا: التفسير الكبير (5/ 193، 194)، (11/ 46، 71، 72)، (15/ 219)، (29/ 97، 98).

ص: 68

*وأحيانًا يذكر الآيات المكررة من باب الأمر بالشئ نهي عن ضده

* حيث قال: «لقائل أن يقول: لا فرق بين أن يقول ({فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ}

(1)

وبين قوله {وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا}

(2)

؛ لأن الأمر بالشئ نهي عن ضده فما الفائدة في التكرار؟

(والجواب): الأمر لا يفيد إلا مرة واحدة، فلا يتناول كل الأوقات، أما النهي فإنه يتناول كل الأوقات، فلعله يمسكها بمعروف في الحال، ولكن في قلبه أن يضارها في الزمان المستقبل، فلما قال تعالى {وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا} ، اندفعت الشبهات وزالت الاحتمالات»

(3)

.

*وفي تفسير قول الله تعالى: {أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ}

(4)

يقول: «فإن قيل: لما قال (أموات) علم أنهم غير أحياء فما الفائدة في قوله (غير أحياء)؟

الجواب من وجهين: الأول: إن الإله هو الحي الذي لا يحصل عقيب حياة موت، وهذه الأصنام أموات لا يحصل عقب موتها الحياة. والثاني: أن هذا الكلام مع الكفار الذين يعبدون الأصنام، وهم في نهاية الجهالة والضلالة، ومن تكلم مع الجاهل الغر الغبي فقد يحسن أن يعبر عن المعنى الواحد بالعبارت الكثيرة، وغرضه منه الإعلام بكون ذلك المخاطب في غاية الغباوة وإنه إنما يعيد تلك الكلمات لكون ذلك السامع في غاية الجهالة، وإنه لا يفهم المعنى المقصود بالعبارة الواحدة»

(5)

.

*كما أجد أن الإمام الرازي قد عرض السر في تكرار بعض القصص في بعض السور، وأبطل مزاعم القائلين بالتكرار، وبيَّن سبب تكرار القصة وبلاغته.

*فيقول في سر تكرار قصة سيدنا نوح في سورتي يونس وهود: «فإن قال قائل: إنه تعالى ذكر هذه القصة في سورة يونس إنه أعادها ههنا مرة أخرى، فما الفائدة من هذا التكرار؟

(1)

سورة البقرة، الآية:(231).

(2)

سورة البقرة، الآية:(231).

(3)

التفسير الكبير (6/ 118).

(4)

سورة النحل، الآية:(21).

(5)

التفسير الكبير (20/ 16).

ص: 69

قلنا: إن القصة الواحدة قد ينتفع بها من وجوه: ففي السورة الأولى كان الكفار يستعجلون نزول العذاب، فذكر تعالى قصة نوح في بيان أن قومه كانوا يكذبونه بسبب أن العذاب ما كان يظهر ثم في العاقبة ظهر، فكذا في واقعة محمد صلى الله عليه وسلم، وفي هذه السورة ذكر هذه القصة لأجل أن الكفار كانوا يبالغون في الايحاش، فذكر الله تعالى هذه القصة لبيان أن إقدام الكفار على الإيذاء والايحاش كان حاصلًا في زمان نوح إلا أنه لما صبر نال الفتح والظفر، فكن يامحمد كذلك لتنال المقصود، ولما كان وجه الانتفاع بهذه القصة في كل سورة من وجه آخر لم يكن تكريرها خاليًا من الفائدة»

(1)

.

‌رابعًا: الإمام الرازي أحيانا أثناء توجيهه للمتشابه يحاول الجمع بين الموضعين:

*قال الإمام الرازي: «أما قوله تعالى: {فَلَا تَقْرَبُوهَا}

(2)

ففيه إشكالان الأول: أن قوله تعالى: تلك حدود الله إشارة إلى كل ما تقدم، والأمور المتقدمة بعضها إباحة وبعضها حظر فكيف قال في الكل فلا تقربوها والثاني: أنه تعالى قال في آية أخرى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا}

(3)

، وقال في آية المواريث {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ}

(4)

وقال هاهنا: فلا تقربوها فكيف الجمع بينهما؟ والجواب عن السؤالين من وجوه:

الأول: وهو الأحسن والأقوى أن من كان في طاعة الله والعمل بشرائعه فهو متصرف في حيز الحق، فنهي أن يتعداه لأن من تعداه وقع في حيز الضلال، ثم بولغ في ذلك فنهي أن يقرب الحد الذي هو الحاجز بين حيز الحق والباطل، لئلا يداني الباطل وأن يكون بعيدا عن الطرف فضلا أن يتخطاه كما قال عليه الصلاة والسلام:«إِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى وَحِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ فَمَنْ رَتَعَ حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ»

(5)

.

(1)

التفسير الكبير، (18/ 9، 10).

(2)

سورة البقرة، الآية:(187).

(3)

سورة البقرة، الآية:(229).

(4)

سورة النساء، الآية:(14).

(5)

رواه مسلم في «صحيحه» ، كتاب المساقاة، باب أخذ الحلال وترك الشبهات (3/ 1219)، حديث رقم:(1599) من حديث النعمان بن بشير.

ص: 70

الثاني: ما ذكره أبو مسلم الأصفهاني: لا تقربوها أي لا تتعرضوا لها بالتغيير كقوله: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ}

(1)

.

الثالث: أن الأحكام المذكورة فيما قبل وإن كانت كثيرة إلا أن أقربها إلى هذه الآية إنما هو قوله: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ}

(2)

، وقبل هذه الآية قوله:{ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ}

(3)

وذلك يوجب حرمة الأكل والشرب في النهار، وقبل هذه الآية قوله:{وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ}

(4)

وهو يقتضي تحريم مواقعة غير الزوجة والمملوكة وتحريم مواقعتهما في غير المأتى وتحريم مواقعتهما في الحيض والنفاس والعدة والردة، وليس فيه إلا إباحة الشرب والأكل والوقاع في الليل، فلما كانت الأحكام المتقدمة أكثرها تحريمات، لا جرم غلب جانب التحريم فقال:{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها} أي تلك الأشياء التي منعتم عنها إنما منعتم عنها بمنع الله ونهيه عنها فلا تقربوها

(5)

.

*والشاهد أن الإمام الرازي قال (فكيف الجمع بينهما؟) فحاول الجمع بين الموضعين وهذا كثير في توجيهه لآيات المتشابه اللفظي

(6)

.

*‌

‌خامسًا: أحيانا يجعل موضعي المتشابه اللفظي بمعنى واحد:

مثال: قال الإمام الرازي: «والعرب تضع هذه اللام في موضع " أن " قال تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ}

(7)

، وفي موضع آخر {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا}

(8)

وهما بمعنى واحد»

(9)

.

*فالإمام الرازي جعل موضعي المتشابه (أن يطفئوا - ليطفئوا) بمعنى واحد؛ استنادًا لما ذهب إليه بعض النحاة من أن العرب تضع اللام في موضع "أن".

(1)

سورة الإسراء، الآية:(34).

(2)

سورة البقرة، الآية:(187).

(3)

سورة البقرة، الآية:(187).

(4)

سورة البقرة، الآية:(187).

(5)

التفسير الكبير، (5/ 124، 125).

(6)

التفسير الكبير، (5/ 92 - 94)، (25/ 60 - 110).

(7)

سورة التوبة، الآية:(32).

(8)

سورة الصف، الآية:(8).

(9)

التفسير الكبير، (14/ 1).

ص: 71

*في حين أجد أن الإسكافي فرق بين الموضعين، حيث قال: «قوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}

(1)

، وقال في سورة الصف:{يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}

(2)

.

للسائل أن يسأل فيقول: قال تعالى في الآية الأولى: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ} ، وقال في الثانية {لِيُطْفِئُوا} فما الذي أوجب اختصاص الأولى بما اختصت به؟، والثانية باللام دون أن تكون مثل الأولى بـ أن وهي الأصل في تعدي الإرادة إليه؟

والجواب أن يقال: إن الإرادة في الآية الأولى تعلقت بإطفاء نور الله بأفواههم، وإطفاء نور الله إنما يكون بما حاولوا من دفع الحق بالباطل فالحق يسمى نورا، لأن حججه وبراهينه تضيء لطالبه بها إليه، والباطل هو قوله بأفواههم، وهو ما أخبر الله تعالى به قبل عن اليهود والنصارى فقال:{وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ}

(3)

أي: هو قول لا حقيقة له، ولا محصول له، وبمثله لا يدفع الحق وبالأفواه لا يطفأ هذا النور كما يطفأ السراج؛ لأن هذا النور وإن أشبهه في أنه يهدي ويبين الحق من الباطل، فهو بخلافه في الامتناع من الإطفاء كما يتهيأ ذلك في السراج.

والنور يجوز أن يكون الآية المنيرة والحجة الساطعة ويجوز أن يكون المراد به القرآن، ويجوز أن يكون المراد به النبي صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا}

(4)

.

فالسراج المنير يسمى نورا، وكل واحد من الثلاثة إذا دفعوه جاز أن يقال: حاولوا إطفاءه والخبر عن اليهود والنصارى الذين قال فيهم عز وجل: {ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ}

(5)

أي: يشاكلون بإثباتهم لله بنا وشريكا قول من أثبت مع الله آلهة: {وَمَا

(1)

سورة التوبة، الآية:(32).

(2)

سورة الصف، الآية:(8).

(3)

سورة التوبة، الآية:(30).

(4)

سورة الأحزاب، الآيتان:(45 - 46).

(5)

سورة التوبة، الآية:(30).

ص: 72

أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}

(1)

. وهذا واضح الإرادة إلى هذا المراد ظاهر، وهو وجه الكلام والأصل. وأما الآية في سورة الصف، وتعليق الإرادة فيها بالإطفاء مع زيادة اللام، فإن للنحوين في ذلك مذهبين:

أحدهما: أن اللام توضع موضع أن لكثرة ما يقال: زرتك لتكرمني، فاللام لما شهرت بنيابتها عن أن وقيامها مقامها في الموقع، كان تعدى الفعل إليها مع ما بعدها من الفعل كتعديه إلى أن وما تنصبه من المسقبل فيقال قصدت أن تفرح وقصدت لتفرح، وهذا لا يكون إلا على سبيل التوسع دون الحقيقة.

فأما المذهب الآخر فللمحققين وهو أن الفعل معدى إلى المفعول محذوف، واللام الداخلة على الفعل المنصوب تكون منبئة على العلة التي لها أنشئ الفعل.

والمراد في الآية على هذا التحقيق: يريدون أن يكذبوا ليطفئوا نور الله بأفواههم لأن قبلها: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}

(2)

، فقوله:{يُرِيدُونَ} لم يذكر فيه مفعول ما يريدون اعتمادا على ما نبه عليه بقوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ}

(3)

فكأنه قيل: يريدون افتراء الكذب ليطفئوا نور الله، وهو على نحو قوله: أردت لكيما يعلم الناس أنها سراويل قيس والوفود شهود، وأن لا يقولوا غاب قيس وهذه سراويل عادي نمته ثمود أي: أردت أن انزع سراويلي ليعلم الناس إذا رأوا طولها على أنها عادي القامة، ثمودي الخلقة.

فلهذا خصت الآية الثانية بدخول اللام على يطفئوا، ولما كان المراد في الآية الأولى الإطفاء بالأفواه لما دل عليه مفتتح العشر وهو:{وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ}

(4)

، كانت الإرادة معداة إلى إطفاء نور الله تعالى بأفواههم، وهو ما

(1)

سورة التوبة، الآية:(31).

(2)

سورة الصف، الآية:(7).

(3)

سورة الصف، الآية:(7).

(4)

سورة التوبة، الآية:(30).

ص: 73

حكى الله تعالى عنهم أنه قولهم بأفواههم، أي: يريدون أن يدفعوا الحق بالباطل من أفواههم، وهذا واضح»

(1)

.

مثال آخر: قال في قوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ}

(2)

: «فأوجب بعد رعاية حقوق الأبوين رعاية حقوق الأولاد وقوله {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ} أي من خوف الفقر أي من ذكر الخوف وقد صرح بذكر الخوف في قوله {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ}

(3)

والمراد منه النهي عن الوأد، إذ كانوا يدفنون البنات أحياء، بعضهم للغيرة، وبعضهم خوف الفقر، وهو السبب الغالب»

(4)

.

*فالإمام الرازي جعل موضعي المتشابه (من إملاق - خشية إملاق) بمعنى واحد وهو خوف الفقر دون أن يفصل ويبين الفرق بين الموضعين.

*في حين نرى أن الإمام الإسكافي في درة التنزيل بيّن الفرق بين الموضعين حيث قال: «فأما قوله في سورة الأنعام: (نحن نرزقكم وإياهم) فلأن قبله (ولا تقتلوا أولادكم من إملاق) أي: من أجل إملاق وانقطاع مال وزاد، وهذا نهي عن قتلهم مع فقرهم وخوفهم على أنفسهم إذا لزمتهم مؤونة غيرهم، فكأنه قال: الذي يدعوكم إليه من حالكم في أنفسكم ثم في غيركم يجب أن تشفقوا منه فإني أرزقكم وإياهم.

وأما الآية التانية فإنه قال فيها: {خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ} والإملاق غير واقع، فكأنه قال: خوف الفقر على الأولاد، وكان عقب هذا إزالة الخوف عنهم، ثم عن القائلين، أي لا تقتلوهم لما تخشون عليهم من الفقر، فالله يرزقهم وإياكم، فقدم في كل موضع من الموضعين ما اقتضى تقديمه، وأخر ما اقتضى الموضع تأخيره. والله أعلم»

(5)

.

(1)

درة التنزيل وغرة التأويل، (2/ 704 - 709).

(2)

سورة الأنعام، الآية:(151).

(3)

سورة الإسراء، الآية:(31).

(4)

التفسير الكبير، (13/ 245).

(5)

درة التنزيل وغرة التأويل، (2/ 561 - 563).

ص: 74

وقد ذهب أيضًا ابن الزبير إلى رأى الإسكافي، قال: «قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ}

(1)

، وفى سورة بنى إسرائيل (الإسراء):{وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ}

(2)

، ففى الأولى "من إملاق" و"نرزقكم" بتقديم ضمير المخاطبين فللسائل أن يسأل عن وجه هذا الاختلاف فى الآيتين مع اتحاد المقصد فيهما؟

والجواب عن ذلك: والله أعلم أن المخاطبين بآية الأنعام إنما كان فعلهم ذلك من أجل الفقر الحاصل حين فعلهم ذلك، فقيل من إملاق أى من أجل الاملاق الحاصل، ثم قيل لهم "نحن نرزقكم وإياهم" فقدم رزقه تعالى لهم لحصول فقرهم فى الحال ليكون أمنع لهم، وكأن السياق يشعر بتشفيع الأولاد فى رفع فقر الآباء القاتلين فكأن قد قيل لهم: إنما ترزقون بهم فلا تقتلوهم، فتأكد تقديم ضمير الآباء لهذا الغرض.

*وأما الآية الآخرى فقصد بها كفار العرب، وكأن وأدهم البنات خشية الفقر المتوقع والعجز عن مؤنتهن فيما يتوقعونه مستقبلا فقيل "خشية إملاق" فجعلت الخشية هى العلة فى فعلهم، فانتصبت على ذلك، والمعلول الذي هو الإملاق لم يقع بعد وضمن تعالى لهم رزقهم ورزق أولادهم ودفع ذلك المتوقع ليرفع ذلك خشيتهم، فلهذا قدم هنا ضمير الأولاد ثم عطف عليه ضمير الآباء. وكان الأهم هنا فقدم، وجاء كل فى الموضعين على ما يجب ويناسب، والله أعلم»

(3)

.

(1)

سورة الأنعام، الآية:(151).

(2)

سورة الإسراء، الآية:(31).

(3)

ملاك التأويل القاطع بذوي الإلحاد لابن الزبير الثقفي تحقيق: سعيد الفلاح، (1/ 478 - 480).

ص: 75

‌المطلب الثاني

مصادر الإمام الرازي في توجيه المتشابه اللفظي في القرآن الكريم

‌أولًا: العلماء الذين نقل عنهم الإمام الرازي وذكرهم في تفسيره:

تأثر بالعالم النحوي عبد القاهر النحوي

(1)

حين ذكر الفرق بين قوله تعالى (ناصح أمين) و (أنصح لكم)

(2)

. كما نقل رأى الإمام الواحدي

(3)

في الفائدة في تكرار قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا} [البقرة: 253]

(4)

، ورحج رأى الإمام قطرب في الحروف المقطعة

(5)

، كما نقل رأي الزمخشري في عدة مسائل

(6)

، ونقل رأي الإمام الكلبي في مسألة وصف القرآن بكونه هدى ورحمة لقومٍ يؤمنون ووصفه بأنه هدى للناس

(7)

، ونقل رأي الإمام القفال في تكرار الرؤية في قوله تعالى:{إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَاأَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ}

(8)

، ونقل رأي غيره بصيغة (العلماء) أحيانا

(9)

، ونقل رأي غيره بصيغة (قالوا) دون أن يصرح أحيانًا

(10)

.

(1)

هو أبو بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن بن محمد الجرجاني (400 - 471 هـ)، نحوي وَمتكلم، وُلِد في جرجان لأسرةٍ رقيقة الحال، نشأ ولوعاً بالعلم، مُحبّاً للثقافة، فأقبل على الكتب يلتهمها، وخاصةً كتب النحو والأدب. ينظر ترجمته في: تاريخ الإسلام (10/ 332).

(2)

يُنظر: التفسير الكبير، (14/ 162).

(3)

هو الإمام العلامة، الأستاذ أبو الحسن علي بن أحمد بن محمد بن علي الواحدي، النيسابوري، الشافعي، صاحب "التفسير"، وإمام علماء، توفي 468 هـ. ينظر ترجمته في: سير أعلام النبلاء (18/ 340).

(4)

سورة البقرة، الآية:(253)، ويُنظر: التفسير الكبير، (6/ 221).

(5)

يُنظر: التفسير الكبير، (2/ 12).

(6)

يُنظر: التفسير الكبير، (22/ 142، 143)، (25/ 45، 46، 154).

(7)

يُنظر نص المسألة في: التفسير الكبير، (20/ 64).

(8)

سورة يوسف، الآية:(4، يُنظر نص المسألة: التفسير الكبير، (18/ 89).

(9)

يُنظر: التفسير الكبير، (2/ 170)، (4/ 151 - 153).

(10)

يُنظر: التفسير الكبير، (2/ 57)، (18/ 89).

ص: 76

بروز شخصية الإمام الرازي في النقل:

أ. فهو أحيانًا يأتي برأى غيره وينتقده:

ومثال ذلك: حين نقل رأى الجبائي في فائدة تكرير الأمر بالهبوط في تفسير قوله تعالى: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}

(1)

.

قال: «ذكروا في فائدة تكرير الأمر بالهبوط وجهين (الأول) قال الجبائي: الهبوط الأول غير الثاني فالأول من الجنة إلى السماء الدنيا، والثاني من سماء الدنيا إلى الأرض، وهذا ضغيف من وجهين (أحدهما) أنه قال في الهبوط الأول (ولكم في الأرض مستقر) فلو كان الاستقرار في الأرض إنما حصل بالهبوط الثاني لكان ذكر قوله (اهبطوا منها) والضمير في (منها) عائد إلى الجنة، وذلك يقتضي كون الهبوط الثاني من الجنة، (الوجه الثاني) أن التكرير لأجل التأكيد، وعندي فيه وجه ثالث أقوى من هذين الوجهين وهو أن آدم وحواء لما أتيا بالزلة أمرا بالهبوط، فتابا بعد الأمر بالهبوط، ووقع في قلبهما أن الأمر بالهبوط لما كان بسبب الزلة فبعد التوبة وجب ألا يبقى الأمر بالهبوط، فأعاد الله تعالى الأمر بالهبوط مرة ثانية ليعلما أن الأمر بالهبوط ما كان جزاء على ارتكاب الزلة حتى يزول بزوالها، بل الأمر بالهبوط باق بعد التوبة؛ لأن الأمر به كان تحقيقًا للوعد المتقدم في قوله {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً}

(2)

فإن قيل ما جواب الشرط الأول؟ قلنا: الشرط الثاني مع جوابه، كقولك إن جئتني فإن قدرت أحسنت إليك

(3)

.

ب. وأحيانًا يستدل برأي غيره فقط دون أن ينتقده ودون أن يذكر أي رأي أخر

مثال ذلك: قال الإمام الرازي: «قوله ههنا: {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً}

(4)

يفيد أن المواعدة كانت من أول الأمر على الأربعين، وقوله في الأعراف {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ}

(5)

يفيد أن المواعدة كانت في أول الأمر على الثلاثين فكيف التوفيق بينهما؟ أجاب

(1)

سورة البقرة، الآية:(38).

(2)

سورة البقرة، الآية:(30).

(3)

التفسير الكبير، (3/ 28).

(4)

سورة البقرة، الآية:(51).

(5)

سورة الأعراف، الآية:(142).

ص: 77

الحسن البصري فقال: ليس المراد أن وعده كان ثلاثين ليلة ثم بعد ذلك وعده بعشر لكنه وعده أربعين ليلة جميعًا، وهو كقوله:{ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ}

(1)

.

فقد استدل الرازي بقول الحسن البصري دون أن يضيف عليه، كما نقل رأى أبي عمرو بن العلاء

(2)

، في الفرق بين (فانفجرت - فانبجست)

(3)

،

ج. وأحيانا يذكر رأى غيره، ويستدل به ويضيف عليه

(4)

.

*‌

‌ثانيًا: موقف الإمام الرازي من علماء المتشابه اللفظي:

وبالنسبة لعلماء المتشابه اللفظي فقد تأثر الإمام الرازي بالإمام الإسكافي (ت: 420 هـ) دون أن يشير إلى ذلك، واتفق مع الإمام الكرماني (505 هـ) في عدة مسائل، وتأثر به الإمام ابن الزبير الثقفي (ت: 708 هـ) في توجيه بعض مسائل المتشابه اللفظي في القرآن الكريم، وتأثر به أيضًا الإمام ابن جماعة (ت: 733 هـ)، والإمام الأنصاري (925 هـ).

ثأثر الإمام الرازي بالإمام الإسكافي (ت: 420) في توجيه المتشابه اللفظي في القرآن الكريم: الناظر في تفسير الإمام الرازي يجد أنه لم يشر إلى العلامة الإسكافي، ولا إلى كتاب درة التنزيل لكننا نجد أنه تأثر به في توجيه بعض مسائل المتشابه اللفظي دون أن يشير، وهذه المسائل تؤكد إطلاع الإمام الرازي على كتابه.

يقول د/ صالح الشثري: «(أما أثر الكتاب (يقصد درة التنزيل) في كتب التفسير التي تعني بالإعجاز القرآني، ولها اهتمام بتوجيه الآيات المتشابهة تشابهًا لفظيًا مثل الكشاف للزمخشري (ت 538)، والتفسير الكبير للفخر الرازي (ت 604)، والبحر المحيط لأبي حيان (ت 754)، وروح

(1)

التفسير الكبير، (3/ 79).

(2)

أبو عمرو بن العلاء بن عمار بن العريان بن عبد الله بن الحصين المازني التميمي البصري (68 أو 70 - 154 هـ) هو أحد القراء السبعة، أمه من بني حَنِيْفَة، وقد نشأ بالبصرة، ومات بالكوفة أيام المنصور. ينظر ترجمته في: جمال القراء (2/ 450)، تهذيب الكمال (34/ 120، 130)، وفيات الأعيان (3/ 466).

(3)

يُنظر: تفسير الكبير، (15/ 36).

(4)

سبق ذكر المثال، يُنظر أيضا: التفسير الكبير، (4/ 151).

ص: 78

المعاني للألوسي (ت 1270)، والتحرير والتنوير لابن عاشور (ت 1393)، وغيرها من التفاسير، فأمر واضح أيضًا ويعرف ذلك من خلال توجيه الآيات المتشابهة، إذ أن الخطيب الإسكافي متقدم عليهم جميعًا، حيث توفى رحمه الله عام 420 هـ، ففي ضوء ما بحثته في الباب الثاني، والثالث، أجد في الغالب معنى كلام الإسكافي في توجيههم للآيات المتشابهة، وأحيانًا نص كلامه، ومع هذا لا أجد تصريحًا باسمه أو ذكرًا لكتابه في توجيهاتهم، حتى عند المفسرين المتأخرين»

(1)

.

ومن خلال بحثي اتفق (الباحثة) مع ما ذهب إليه د/ صالح الشثري فالإمام الرازي مثلًا نقل بعض المسائل من العلامة الإسكافي دون أن يشير، لكنه ذكر تفسير روح المعاني ولا اتفق معه؛ لأن الإمام الألوسي ذكر كتاب درة التنزيل ثلاث مرات في تفسيره.

وسأعرض الآن المسائل التي تأثر فيها الإمام الرازي بالعلامة الإسكافي وفي كل مسألة أذكر ما قاله الإمام الرازي في تفسيره ثم أنقل ما قاله العلامة الإسكافي في درة التنزيل.

المسائل التي تأثر فيها الإمام الرازي بالعلامة الإسكافي في توجيه المتشابه اللفظي في القرآن الكريم دون أن يشير:

المسألة الأولى:

قال الإمام الرازي: «لقائل إن يقول: إنه تعالى قال ههنا (وكلا منها رغدًا)، وقال في الأعراف (فكلا من حيث شئتما) فعطف (كلا) على قوله "اسكن" في سورة البقرة بالواو، وفي سورة الأعراف بالفاء فما الحكمة؟ والجواب: كل فعل عُطف عليه شئ، وكان الفعل بمنزلة الشرط، وذلك الشئ بمنزلة الجزء عطف الثاني على الأول بالفاء دون الواو كقوله تعالى {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا}

(2)

، فعطف كلوا على ادخلوا بالفاء لما كان وجود الأكل منها متعلقًا بدخولها فكأنه قال إن أدخلتموها أكلتم منها، فالدخول موصول إلى الأكل، والأكل متعلق وجوده بوجوده يبين ذلك قوله تعالى في مثل هذه الآية من سورة {وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ

(1)

المتشابه اللفظي في القرآن الكريم وأسراره البلاغية، (ص: 22، 23).

(2)

سورة البقرة، الآية:(58).

ص: 79

اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ}

(1)

، فعطف كلوا على قوله اسكنوا بالواو دون الفاء لأن اسكنوا من السكنى وهي المقام مع طول اللبث والأكل لا يختص وجوده بوجوده لأن من دخل بستانًا قد يأكل منه وإن كان مجتازًا فلما لم يتعلق الثاني بالأول تعلق الجزاء بالشرط وجب العطف بالواو دون الفاء، إذا ثبت هذا فنقول: إن "اسكن" يقال لمن دخل مكانًا فيراد منه الزم المكان الذي دخلته ولا تنتقل منه، ويقال أيضًا لمن لم يدخل اسكن هذا المكان يعني ادخله واسكن فيه ففي سورة البقرة إنما ورد بعد أن كان آدم في الجنة فكان المراد منه اللبث والاستقرار وقد بينا أن الأكل لا يتعلق به فلا جرم ورد بلفظ الواو، وفي سورة الأعراف هذا الأمر إنما ورد قيل أن دخل الجنة فكان المراد منه دخول الجنة، وقد بينا أن الأكل يتعلق به فلا جرم ورد بلفظ الفاء والله أعلم»

(2)

.

وقال الإمام الإسكافي في درة التنزيل: «فأول آية ابتدأت بها قوله تعالى: {وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ}

(3)

، وقال في سورة الأعراف:{وَيَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ}

(4)

.

فعطف (كلا) على (اسكن) بالفاء في هذه السورة وعطفها عليه في سورة البقرة بالواو والأصل في ذلك أن كل فعل عطف عليه ما يتعلق به تعلق الجواب بالإبتداء، وكان الأول مع الثاني بمعنى الشرط والجزاء، فالأصل فيه عطف الثاني على الأول بالفاء دون الواو كقوله تعالى:{وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا}

(5)

، فعطف كلوا على ادخلوا بالفاء لما كان وجود الأكل منها متعلقا بدخولها، فكأنه قال: إن دخلتموها أكلتم منها، فالدخول موصل إلى الأكل، والأكل متعلق وجوده بوجوده. يبين ذلك قوله تعالى في مثل هذه من سورة الأعراف:{وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ}

(6)

، فعطف (كلوا) على قوله (اسكنوا) بالواو دون الفاء، لأن اسكنوا من السكنى، وهي المقام مع طول لبث. والأكل

(1)

سورة الأعراف، الآية:(161).

(2)

التفسير الكبير، (3/ 4 - 5).

(3)

سورة البقرة، الآية:(35).

(4)

سورة الأعراف، الآية:(19).

(5)

سورة البقرة، الآية:(58).

(6)

سورة الأعراف، الآية:(161).

ص: 80

لا يختص وجوده بوجوده، لأن من يدخل بستانا قد يأكل منه وإن كان مجتازا، فلما لم يتعلق الثاني بالأول تعلق الجواب بالابتداء وجب العطف بالواو دون الفاء، وعلى هذا قوله تعالى في الآية التي بدأت بذكرها {وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا}

(1)

، وبقي أن أبين المراد بالفاء في قوله تعالى {فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا}

(2)

مع عطفه على قوله {اسْكُنْ} وهو أن اسكن يقال لمن دخل مكانا، فيراد به: الزم المكان الذي دخلته ولا تنتقل منه، ويقال أيضا لمن لم يدخله اسكن هذا المكان، يعني ادخله واسكنه، كما تقول لمن تعرض عليه دارا ينزلها سكنى فتقول: اسكن هذه الدار فاصنع فيها ما شئت من الصناعات، معناه: ادخلها ساكنا لها فافعل فيها كذا وكذا، فعلى هذا الوجه قوله تعالى في سورة الأعراف:{وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا .. } بالفاء فالحمل على هذا المعنى في هذه الآية أولى، عز من قائل وجل قال لإبليس:{قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا}

(3)

فكأنه قال لآدم: اسكن أنت وزوجك الجنة، أي: ادخل، فيقال: اسكن، يعني ادخل ساكنا، ليوافق الدخول الخروج، ويكون أحد الخطابين لهما قبل الدخول، والآخر بعده، مبالغة في الإعذار، وتأكيد للإنذار وتحققا لمعنى قوله: عز وجل {وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ}

(4)

.

من خلال عرض رأى الإمامين الجليلين يتضح أن الإمام الرازي قد نقل من الإمام الإسكافي دون أن يشير إلى ذلك.

لكن الإمام الرازي قد ذكر توجيهًا آخر عند تفسيره لسورة الأعراف (الموضع الثاني للمتشابه) حيث يقول: «وهو أنه تعالى قال في سورة البقرة (وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا) بالواو، وقال ههنا (فَكُلَا) بالفاء فما السبب فيه؟، وجوابه من وجهين: الأول: أن الواو تفيد الجمع المطلق، والفاء تفيد الجمع على سبيل التعقيب، فالمفهوم من الفاء نوع داخل المفهوم من الواو، ولا منافاة بين النوع والجنس، ففي سورة البقرة ذكر الجنس، وفي سورة الأعراف ذكر النوع»

(5)

.

(1)

سورة البقرة، الآية:(35).

(2)

سورة الأعراف، الآية:(19).

(3)

سورة الأعراف، الآية:(18).

(4)

سورة البقرة، الآية:(35). ويُنظر: درة التنزيل وغرة التأويل، (1/ 222 - 225).

(5)

التفسير الكبير، (14/ 48).

ص: 81

المسألة الثانية:

قال الإمام الرازي: «ذكر في هذه السورة {يُذَبِّحُونَ} بلا واو وفي سورة إبراهيم ذكره مع الواو، والوجه فيه أنه جعل قوله {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ}

(1)

مفسرًا بقوله {يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ} لم يحتج إلى الواو، وأما إذا جعل قوله (يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ) مفسرًا بسائر التكاليف الشاقة سوى الذبح وجعل الذبح شيئًا آخر سوى سوء العذاب احتيج فيه إلى الواو، وفي الموضعين يحتمل الوجهين إلا أن الفائدة التي يجوز أن تكون هي المقصودة من ذكر حرف العطف في سورة إبراهيم أن يقال: إنه تعالى قال قبل تلك الآية {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ}

(2)

، والتذكير بأيام الله لا يحصل إلا بتعداد نعم الله تعالى فوجب أن يكون المراد من قوله:{يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} نوعًا من العذاب والمراد من قوله {وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ} نوعًا آخر ليكون التخلص منهما نوعين من النعمة.

فلهذا وجب ذكر العطف هناك، وأما في هذه الآية لم يرد الأمر إلا بتذكير جنس النعمة وهي قوله:{اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ}

(3)

فسواء كان المراد من سوء العذاب هو الذبح أو غيره كان تذكير جنس النعمة حاصلًا فظهر الفرق»

(4)

.

وقال الإمام الإسكافي في درة التنزيل: «قوله تعالى: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ}

(5)

.

وقوله عز من قائل في سورة ابراهيم عليه السلام: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ}

(6)

.

فأدخل الواو في قوله: {وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ} في سورة إبراهيم، وحذفها منه في سورة البقرة، وجعل {يُذَبِّحُونَ} بدلا من قوله:{يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} .

(1)

سورة البقرة، الآية:(49).

(2)

سورة إبراهيم، الآية:(5).

(3)

سورة البقرة، الآية:(40).

(4)

يُنظر: التفسير الكبير، (3/ 72، 73).

(5)

سورة البقرة، الآية:(49).

(6)

سورة إبراهيم، الآية:(6).

ص: 82

والقول في ذلك: أنه إذا جعل {يُذَبِّحُونَ} بدلا من قوله: {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} لم يحتج إلى الواو، وإذا جعل قوله:{يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} عبارة عن ضروب من المكروه هي غير ذبح الأبناء لم يكن الثاني إلا بالواو، وفي الموضعين يحتمل الوجهان إلا أن الفائدة التي تجوز أن تكون خصصت لها الآية في سورة إبراهيم بالعطف بالواو، هي أنها وقعت هنا في خبر قد ضمن خبرا متعلقا به، لأنه قال قبله:{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُم بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ}

(1)

، ثم قال:{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} فضمن إخباره عن إرساله موسى بآياته إخباره عنه بتنبيه قومه على نعمة الله ودعائهم إلى شكرها، فكان قوله {وَيُذَبِّحُونَ} في هذه السورة في قصة مضمنة قصة تتعلق بها، هي قوله تعالى:{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا} .

والقصة المعطوفة على مثلها يقوى معنى العطف فيها فيختار فيما كان يجوز في العطف على سبيل الإيثار، لا على سبيل الجواز، وليس كذلك موقع {يُذَبِّحُونَ} في الآية التي في سورة البقرة؛ لأنه تعالى أخبر عن نفسه بإنجازه بني إسرائيل، وهناك أخبر عن موسى عليه السلام أنه قال لقومه كذا، بعد أن أخبر عنه أنه أرسله إليهم بآياته. فافترق الموضعان من هذه الجهة»

(2)

.

من خلال عرض رأى الإمامين الجليلين يتضح أن الإمام الرازي قد نقل من الإمام الإسكافي دون أن يشير إلى ذلك.

المسألة الثالثة:

قال الإمام الرازي: «لم قال في البقرة {نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ}

(3)

وفي الأعراف: {نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ}

(4)

؟ الجواب: الخطايا جمع الكثرة والخطيئات جمع للسلامة فهو للقلة، وفي سورة البقرة لما أضاف ذلك القول إلى نفسه فقال:{وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ} لا جرم قرن به ما يليق جوده وكرمه وهو غفران الذنوب الكثيرة فذكر بلفظ الجمع الدال على الكثرة، وفي الأعراف لما لم

(1)

سورة إبراهيم، الآية:(5).

(2)

درة التنزيل وغرة التأويل، (1/ 230 - 232).

(3)

سورة البقرة، الآية:(58).

(4)

سورة الأعراف، الآية:(161).

ص: 83

يضف ذلك إلى نفسه بل قال {وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ}

(1)

لا جرم ذكر ذلك بجمع القلة، فالحاصل أنه لما ذكر الفاعل ذكر ما يليق بكرمه من غفران الخطايا الكثير (هـ) وفي الأعراف لما لم يسم الفاعل لم يذكر اللفظ الدال على الكثرة»

(2)

.

وقال الإمام الإسكافي في درة التنزيل: «فأما الكلام في (الخطايا) واختيارها في سورة البقرة فلأنها بناء موضوع للجمع الأكثر، والخطيئات جمع السلامة وهي للأقل الدليل على ذلك أنك إذا صغرت الدراهم قلت: دريهمات، فتردها إلى الواحد، وتصغره ثم تجمعه على لفظ القليل الملائم للتصغير، وكذلك الخطايا، لو صغرت لقلت: خطيئات فرددتها إلى خطيئة ثم صغرتها على خطيئة ثم جمعتها جمع السلامة الذي هو على حد التثنية المنبئ عن العدد الأقل من الجمع، فإذا ظهر الفرق بين الخطايا والخطيئات، وكان هذا الجمع المكسر موضوعا للكثير، والمسلم موضوعا للقليل استعمل لفظ الكثير في الموضع الذي جعل الإخبار فيه نفسه بقوله: {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا

} وشرط لمن قام بهذه الطاعة ما يشرطه الكريم إذا وعد من مغفرته الخطايا كلها، وقرن إلى الأخبار عن نفسه جل ذكره ما يليق بجوده وكرمه فأتى باللفظ الموضوع للشمول فيصير كالتوكيد بالعموم لو قال: نغفر لكم خطاياكم كلها أجمع.

ولما لم يسند الفعل في سورة الأعراف إلى نفسه عز اسمه وإنما قال: {وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ}

(3)

فلم يسم الفاعل، أتى بلفظ (الخطيئات)، وإن كان المراد بها الكثرة كالمراد بالخطايا إلا أنه أتى في الأول لما ذكر الفاعل بما هو لائق بضمانه من اللفظ، ولما لم يسم الفاعل في الثاني في سورة الأعراف وضع اللفظ غير موضعه للفرقان بين ما يؤتى به على الأصل وبين ما يعدل عنه إلى الفرع

(4)

.

من خلال عرض رأى الإمامين الجليلين يتضح أن الإمام الرازي قد نقل من الإمام الإسكافي دون أن يشير إلى ذلك.

(1)

سورة الأعراف، الآية:(161).

(2)

التفسير الكبير، (3/ 99).

(3)

سورة الأعراف، الآية:(161).

(4)

درة التنزيل وغرة التأويل، (1/ 235 - 237).

ص: 84

المسألة الرابعة:

قال الإمام الرازي: «لم ذكر قوله {رَغَدًا} في البقرة وحذفه في الأعراف؟ الجواب عن هذا السؤال كالجواب في الخطايا والخطيئات لأنه لما أسند الفعل إلى نفسه لا جرم ذكر معه الإنعام الأعظم وهو أن يأكلوا رغدًا، وفي الأعراف لما لم يسند الفعل إلى نفسه لم يذكر الإنعام الأعظم فيه»

(1)

.

وقال الإمام الإسكافي في درة التنزيل: «والمسألة الثالثة في الإتيان بقوله (رغدا) في هذه السورة وحذفها في سورة الأعراف فالجواب عنها كالجواب في الخطايا والخطيئات، لأنه لما أسند الفعل إلى نفسه تعالى كان اللفظ بالأشرف الأكرم، فذكر معه الإنعام الأجسم، وهو أن يأكلوا رغدا، ولما لم يسند الفعل في سورة الأعراف إلى نفسه لم يكن مثل الفعل الذي في سورة البقرة، فلم يذكر معه ما ذكر فيها من الإكرام الأوفر، وإذا تقدم اسم المنعم الكريم افتضى ذكر نعمته الكريمة»

(2)

.

من خلال عرض رأى الإمامين الجليلين يتضح أن الإمام الرازي قد نقل من الإمام الإسكافي دون أن يشير إلى ذلك.

المسألة الخامسة:

قال الإمام الرازي: «قال الله تعالى في سورة البقرة {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا} [البقرة: 59] وفي الأعراف {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا} [الأعراف: 162] فما الفائدة في زيادة كلمة "منهم" في الأعراف؟

الجواب: سبب زيادة هذه اللفظة في سورة الأعراف أن أول القصة ههنا مبني على التخصيص بلفظ "من"؛ لأنه تعالى قال: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ}

(3)

فذكر أن منهم من يفعل ذلك ثم عدد صنوف إنعامه عليهم وأوامره لهم، فلما انتهت القصة قال الله تعالى:{فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا} فذكر لفظة "منهم" في آخر القصة ليكون آخر الكلام مطابقًا لأوله فيكون الظالمون من قوم موسى بازاء الهادين منهم فهناك ذكر أمة عادلة، وههنا ذكر أمة جابرة، وكلتاهما من قوم موسى فهذا هو السبب في ذكر هذه الكلمة في سورة الأعراف،

(1)

التفسير الكبير، (3/ 99).

(2)

درة التنزيل وغرة التأويل، (1/ 237).

(3)

سورة الأعراف، الآية:(159).

ص: 85

وأما في سورة البقرة فإنه لم يذكر في الآيات التي قبل قوله: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا} تمييزًا وتخصيصًا حتى يلزم في آخر القصة ذكر ذلك التخصيص فظهر الفرق»

(1)

.

وقال الإمام الإسكافي في درة التنزيل: «وللسائل أن يسأل فيقول: هل في زيادة (منهم) في هذه الآية في سورة الأعراف حكمة وفائدة تقتضيانها ليستا في سورة البقرة؟

والجواب أن يقال: إن قوله تعالى: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا .. } وإن لم يذكر فيه منهم معلوم أن المراد بالظالمين: الذين ظلموا من المخاطبين بقوله: {ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ} ، {فَكُلُوا} ، {وَقُولُوا حِطَّةٌ} ، فالذين ظلموا من هؤلاء هم الموصوفون بالتبديل، والمغيرون لما قدم إليهم من القول إلا أن في سورة الأعراف معنى يقتضي زيادة منهم هناك ولا يقتضيها هنا، وهو أن أول القصة في سورة الأعراف مبني على التخصيص والتمييز بدليل لفظ من لأنه قال تعالى:{وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ}

(2)

، فذكر أن منهم من يفعل ذلك، ثم عد صنوفا إنعامه عليهم، وأوامره لهم، فلما انتهت قال:{فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ .. } فأتى في آخر ما حكى عنهم من مقابلة نعم الله عليهم بتبديلهم ما قدم به القول إليه فأتى بلفظ من التي هي للتخصيص والتمييز بناء على أول القصة التي هي: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى .. } ليكون آخر (5/ ب) الكلام لأوله مساوقا، وعجزه لصدره مطابقا، فيكون الظالمون من قول موسى بإزاء الهادين منهم، وهناك ذكر أمة هادية عادلة، وهنا ذكر أمة مبدلة عادية مائلة، وكلتاهما من قوم موسى، فاقتضت التسوية في المقابلة ذكر (مِنْهُمْ) في سورة الأعراف»

(3)

.

من خلال عرض رأى الإمامين الجليلين يتضح أن الإمام الرازي قد نقل من الإمام الإسكافي دون أن يشير إلى ذلك.

(1)

التفسير الكبير (3/ 100).

(2)

سورة الأعراف، الآية:(159).

(3)

درة التنزيل وغرة التأويل، (1/ 243، 244).

ص: 86

المسألة السادسة:

قال الإمام الرازي: «ذكر ههنا {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً}

(1)

، وفي آل عمران {إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ}

(2)

، ولقائل أن يقول لم كانت الأولى معدودة والثانية معدودات والموصوف في المكانين موصوف واحد وهو "أيامًا"؟ والجواب أن الاسم كان مذكرًا فالأصل في صفة الجمع التاء يقال كوز وكيزان مكسورة وثياب مقطوعة وإن كان الأصل في صفة الجمع الألف والتاء فيما واحده مذكر في بعض الصور نادرًا نحو حمام وحمامات وجمل سبطر وسبطرات وعلى هذا ورد قوله تعالى:{فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ} ، و {فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ} فالله تعالى تكلم في سورة البقرة بما هو الأصل:{أَيَّامًا مَّعْدُودَةً} وفي آل عمران بما هو الفرع»

(3)

.

وقال الإمام الإسكافي في درة التنزيل: «قوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً}

(4)

، وفي سورة آل عمران:{قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ}

(5)

، فإن قيل: فما الفرق بين اللفظتين؟ ولم كانت الأولى (معدودة) والثانية (معدودات) والموصوف في المكانين موصوف واحد وهو قوله: (أياما)؟

والجواب عنه أن يقال: إن الجمع بالألف والتاء أصله للمؤنث نحو مسلمة ومسلمات، وصفحة وصفحات، ومكسورة ومكسورات، ولا يجيء الجمع الذي واحده مذكر هذا المجيء إلا ألفاظ معدودة، نحو حمام وحمامات، وجمل سبطر وجمال سبطرات، وأسد سبطرات، أي: تسبطر عند الوثوب وأما قولهم: كوز مكسور، وجرة مكسورة، فإن ما فيه هاء التأنيث يجمع على" مكسورات" فيقال: جرار مكسورات، وكيزان مكسورة، وليس قولك: كيزان مكسورات بأصل، بل المستعمل المستمر في ذلك أن يقال:"كيزان مكسورة" و"ثياب مقطوعة" و"سرر مرفوعة" و"أكواب موضوعة"، و"نمارق مصفوفة"، فالصفة الجارية على جمع المذكر الواحد يستمر فيه التأنيث على الحد الذي بينته.

(1)

سورة البقرة، الآية:(80).

(2)

سورة آل عمران، الآية:(24).

(3)

التفسير الكبير (3/ 152، 153).

(4)

سورة البقرة، الآية:(80).

(5)

سورة آل عمران، الآية:(24).

ص: 87

وعلامة الجمع المؤنث الواحد: الألف والتاء في الأصل، فلما كان "معدودة" من الطرد المستمر، استعمل لفظها في الأول، ولما كان الجمع بالألف والتاء قد يكون فيما واحد مذكر وإن قل، فكان على سبيل من سبل المجاز، يستعمل ذلك فيه كقوله تعالى:{وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ}

(1)

، وقال {فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ}

(2)

.

والأيام جمع يوم، وهو مذكر، فيكون هذا على أحد الوجهين، إما أن يكون المراد: اذكروا الله في ساعات أيام معلومات ومعدودات، لأن المراد أن يكبر الله تعالى في اليوم الواحد في أدبار الصلوات الخمس المكتوبة، فحذفت الساعات، وأقيم المضاف إليها مقامها، وإما أن يكون ألحق بما في واحد علامة التأنيث لاستوائهما في الجمع ودخولهما في الفرعية التي يكتسبان بها لفظ المؤنث.

فلما قيل: جرار مكسورة، والجرة مؤنثة جاز أيضا "كيزان مكسورات" حملا على الجمع الذي ليس بحقيقي، وإذا كان ذلك ف (معدودة) المذكورة في الآية التي في سورة البقرة مستمرة في بابها وباب غيرها، والجمع بالألف والتاء ليس بمستمر، وإنما هو على ضرب من التشبيه بما أصله الألف والتاء، فكان استعمالها أولا أولى، ولجواز الألف والتاء على غير طريق الاستمرار استعمل في الثاني ليشمل الأصل والجائز بالاستعمال

فأما المعنى في القلة فسواء في قوله (معدودة) و (معدودات)، وقد قال أيضا (أيام معلومات) على أن تكون الأيام المعلومة في الأصل تسعة فثلاثة منها أيام معلومة، وثلاثة أخرى منها مثلها، وثلاثة ثالثة معلومة، فتجمع هذه الثلاثات على الأيام المعلومات، لأن واحدتها أيام معلومة، والمعلومة تجمع على المعلومات»

(3)

.

من خلال عرض رأى الإمامين الجليلين يتضح أن الإمام الرازي قد نقل من الإمام الإسكافي دون أن يشير إلى ذلك.

(1)

سورة البقرة، الآية:(203).

(2)

سورة الحج، الآية:(28).

(3)

درة التنزيل وغرة التأويل، (1/ 260 - 265).

ص: 88

المسألة السابعة:

قال الإمام الرازي: «إنما قال في هذه السورة: {بَلَدًا آمِنًا}

(1)

، على التنكير وقال في سورة إبراهيم:{هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا}

(2)

، على التعريف لوجهين:

(الأول): أن الدعوة الأولى وقعت ولم يكن المكان قد جعل بلدًا، كأنه قال: اجعل هذا الوادي بلدًا أمنًا لأنه تعالى حكى عنه أنه قال: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ}

(3)

فقال: ههنا اجعل هذا الوادي بلدًا أمنًا. والدعوة الثانية وقعت وقد جعل بلدًا، فكأنه قال: اجعل هذا المكان الذي الذي صيرته بلدًا ذا أمن وسلامة، كقولك: جعلت هذا الرجل آمنًا.

(الثاني): أن تكون الدعوتان وقعتا بعدما صار المكان بلدًا، فقوله:{اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا} تقديره: اجعل هذا البلد بلدًا آمنا، كقولك: كان اليوم يومًا حارًا، وهذا إنما تذكره للمبالغة في وصفه بالحرارة، لأن التنكير يدل على المبالغة، فقوله:{رب اجعل هذا بلدًا أمنًا} معناه: اجعله من البلدان الكاملة في الأمن، وإما قوله:{رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا} فليس فيه إلا طلب الأمن لا طلب المبالغة»

(4)

.

وقال الإمام الإسكافي في درة التنزيل: «قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا}

(5)

، وقال في سورة إبراهيم:{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا}

(6)

.

لسائل أن يسأل فيقول: لم كان في سورة البقرة بلدا نكرة، وفي سورة ابراهيم معرفة؟

والجواب عن ذلك من وجهين:

أحدهما: أن يقال: إن الدعوة الأولى وقعت، ولم يكن المكان قد جعل بلدا، فكأنه قال: رب اجعل هذا الوادي بلدا آمنا، لأن الله تعالى حكى عنه أنه قال:{رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} [إبراهيم: 37] بعد قوله: اجعل هذا الوادي بلدا آمنا، ووجه الكلام فيه: تنكير بلد الذي هو مفعول ثان، وهذا مفعول أول. والدعوة الثانية وقعت وقد جعل الوادي

(1)

سورة البقرة، الآية:(126).

(2)

سورة إبراهيم، الآية:(35).

(3)

سورة إبراهيم، الآية:(37).

(4)

التفسير الكبير (4/ 60).

(5)

سورة البقرة، الآية:(126).

(6)

سورة إبراهيم، الآية:(35).

ص: 89

بلدا، فكأنه قال: اجعل هذا المكان الذي صيرته كما أردت ومصرته كما سألت ذا أمن على من أوى إليه ولاذ به فيكون البلد على هذا عطف بيان على مذهب سيبويه، وصفة على مذهب أبي العباس المبرد وآمنا مفعولا ثانيا، فعرف حيث عرف بالبلدية، ونكر حيث كان مكانا من الأمكنة غير مشهور بالتميز عنها بخصوصية من عمارة وسكنى الناس.

والجواب الثاني: أن تكون الدعوتان واقعتين بعد ما صار المكان بلدا، وإنما طلب من الله تعالى أن يجعله آمنا، وللقائل أن يقول: اجعل ولدك هذا ولدا أديبا، وهو ليس يأمره بأن يجعله ولدا، لأن ذلك ليس إليه، وإنما أمره بتأديبه، فكأنه قال: اجعله على هذه الصفة، وهذا كما يقول: كن رجلا موصوفا بالسخاء، وليس يأمره بأن يكون رجلا، وإنما يأمره بما يجعله وصفا له من السخاء، فذكر الموصوف وأتبعه الصفة، وهذا كما تقول: كان اليوم حارا، فتجعل يوما خبر كان، وحارا صفة له، ولم تقصد أن تخبر عن اليوم بأنه كان يوما، لأنه يصير خبرا غير مفيد، وإنما القصد أن تخبر عن حر اليوم، فكان الأصل أن تقولك كان اليوم حارا، وأعدت لفظ يوم لتجمع بين الصفة والموصوف، فكأنك قلت: كان هذا اليوم من الأيام الحارة، وكذلك تقول: كانت الليلة ليلة باردة، فتنصب ليلة على أنها خبر كان وحكم الخبر أن يتم به الكلام، ولم قلت: كانت الليلة ليلة لم يكن الكلام تاما، لأن القصد إلى الصفة دون الموصوف فكذلك قوله تعالى:{رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا}

(1)

، يجوز أن يكون المراد: اجعل هذا البلد بلدا آمنا، فيدعو له بالأمن بعد ما قد صار بلدا على ما مثلت، ويكون مثل قوله:{رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا}

(2)

. وتكون الدعوة واحدة قد أخبر الله تعالى عنها في الموضعين.

فأما قول من يقول: إنه جعل الأول نكرة، فلما أعيد ذكرها أعيد بلفظ المعرفة، كما تقول: رأيت رجلا، فأكرمت الرجل، فليس بشيء، وليس ما ذكره مثلا لهذا، ولا هذا المكان مكانه»

(3)

.

من خلال عرض رأى الإمامين الجليلين يتضح أن الإمام الرازي قد نقل من الإمام الإسكافي دون أن يشير إلى ذلك.

(1)

سورة البقرة، الآية:(126).

(2)

سورة إبراهيم، الآية:(35).

(3)

درة التنزيل وغرة التأويل، (ص: 282 - 287).

ص: 90

موقف الإمام الرازي من الإمام الكرماني (505 هـ):

أرى أن الإمام الرازي لم يشر إلى الإمام الكرماني المتقدم عليه ولا إلى كتابه: «البرهان في متشابه القرآن» ، ولم ينقل منه نقلًا كما فعل مع الإمام الإسكافي، لكنه اتفق معه في توجيه عدة مسائل.

من هذه المسائل: تكرار قوله تعالى: {اهْبِطُوا مِنْهَا}

(1)

.

قال الإمام الرازي: قال: «ذكروا في فائدة تكرير الأمر بالهبوط وجهين (الأول) قال الجبائي: الهبوط الأول غير الثاني فالأول من الجنة إلى السماء الدنيا، والثاني من سماء الدنيا إلى الأرض، وهذا ضغيف من وجهين:

(أحدهما) أنه قال في الهبوط الأول (ولكم في الأرض مستقر) فلو كان الاستقرار في الأرض إنما حصل بالهبوط الثاني لكان ذكر قوله (اهبطوا منها) والضمير في (منها) عائد إلى الجنة، وذلك يقتضي كون الهبوط الثاني من الجنة.

(الوجه الثاني): أن التكرير لأجل التأكيد، وعندي فيه وجه ثالث أقوى من هذين الوجهين وهو أن آدم وحواء لما أتيا بالزلة أمرا بالهبوط، فتابا بعد الأمر بالهبوط، ووقع في قلبهما أن الأمر بالهبوط لما كان بسبب الزلة فبعد التوبة وجب ألا يبقى الأمر بالهبوط، فأعاد الله تعالى الأمر بالهبوط مرة ثانية ليعلما أن الأمر بالهبوط ما كان جزاء على ارتكاب الزلة حتى يزول بزوالها، بل الأمر بالهبوط باق بعد التوبة؛ لأن الأمر به كان تحقيقًا للوعد المتقدم في قوله {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً}

(2)

فإن قيل ما جواب الشرط الأول؟ قلنا: الشرط الثاني مع جوابه، كقولك إن جئتني فإن قدرت أحسنت إليك»

(3)

.

قال الإمام الكرماني: «{اهْبِطُوا مِنْهَا} كرر الأمر بالهبوط؛ لأن الأول من الجنة والثاني من السماء»

(4)

.

(1)

سورة البقرة، الآية:(38).

(2)

سورة البقرة، الآية:(30).

(3)

التفسير الكبير، (3/ 28).

(4)

البرهان في توجيه متشابه القرآن، (ص: 19).

ص: 91

فالإمام الرازي نقل رأي الجبائي وانتقده وذكر توجيه آخر، أمَّا الإمام الكرماني فقد اتفق معه.

أيضًا الفائدة في تكرار قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا}

(1)

.

قال الإمام الرازي: «{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا} فإن قيل: فما الفائدة في التكرار؟

قلنا: قال الواحدي رحمه الله تعالى: إنما كرره تأكيدًا للكلام وتكذيبًا لمن زعم أنهم فعلوا ذلك من عند أنفسهم ولم يجر به قضاء ولا قدر من الله تعالى»

(2)

.

وقال الإمام الكرماني: «{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا} كرر هنا تأكيدًا، وقيل ليس بتكرار؛ لأن الأول للجماعة والثاني للمؤمنين.

وقيل: كرر تكذيبا لمن زعم أن ذلك لم يكن بمشيئة الله تعالى»

(3)

.

فالإمام الرازي نقل رأي الإمام الواحدي، والإمام الكرماني اتفق معه لكنه لم يصرح برأي الإمام الواحدي ونقله بصيغة التمريض "قيل".

نقل الإمامان الرازي والكرماني رأي الإمام الإسكافي في الفرق بين قوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً}

(4)

. {قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ}

(5)

.

نقل الإمامان الرازي والكرماني رأي الإمام الإسكافي في الفرق بين قوله تعالى: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ}

(6)

. وقوله تعالى: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ}

(7)

.

(1)

سورة البقرة، الآية:(253).

(2)

التفسير الكبير، (6/ 221).

(3)

البرهان في توجيه متشابه القرآن، (ص: 31).

(4)

سورة البقرة، الآية:(80).

(5)

آل عمران، الآية:(24). ويُنظر نص المسألة: التفسير الكبير، (3/ 152 - 153)، البرهان في توجيه متشابه القرآن (ص: 22)، درة التنزيل (ص: 260 - 265).

(6)

سورة البقرة، الآية:(59).

(7)

سورة الأعراف، الآية:(162). ويُنظر نص المسألة: التفسير الكبير، (3/ 100)، البرهان في توجيه متشابه القرآن (ص: 20 - 21)، درة التنزيل (ص: 243 - 244).

ص: 92

أيضًا اتفق الإمامان الرازي والكرماني في توجيه بعض المسائل منها:

الفرق بين (خطاياكم - خطيئاتكم) بين سورتي البقرة والأعراف

(1)

، الفرق بين (درجة - درجات) في سورة النساء

(2)

.

*تأثر الإمام ابن الزبير الثقفي بالإمام الرازي في توجيه المتشابه اللفظي في القرآن الكريم:

المتأمل في كتاب ملاك التأويل يجد أن الإمام ابن الزبير الثقفي الأندلسي قد تأثر بالإمام الرازي في توجيه بعض مسائل المتشابه اللفظي في القرآن الكريم، ونقل منه.

يقول أستاذي د/ ياسر الصعيدي حين تحدث عن مصادر ابن الزبير: (مفاتيح الغيب للفخر الرازي: لمحمد بن عمر بن الحسن المعروف بالفخر الرازي (544 - 606 هـ). أشار ابن الزبير إلى أن هذا التفسير منسوب إليه بقوله: «وقد أطنب أبو الفضل بن الخطيب- رحمه الله في التفسير المنسوب إليه فيما أورده في تفسير الفاتحة، وما تعرض لهذا بشئ

(3)

. وعلى الرغم من ذلك فقد نقل منه كثيرًا، ونقد كلامه في مواطن كثيرة»

(4)

.

يقول د/ محمد السامرائي: «وقد نقل عنه (يقصد الرازي) صاحب الملاك في مواضع كثيرة من كتابه، منها أنه عندما ذكر قوله تعالى {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ}

(5)

، وقوله {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ}

(6)

، ذكر رأيه في سبب تخصيص الآية الأولى بقوله:(لَا يَشْعُرُونَ) والثانية بقوله: (لَا يَعْلَمُونَ) فقال: " إنما في آخر هذه الآية (لَا يَعْلَمُونَ) وفيما قبلها (لَا يَشْعُرُونَ) لوجهين:

أحدهما: أن الوقف على أن المؤمنين على الحق وهم على الباطل أمر عقلي نظري، وأما أن النفاق وما فيه من البغي يفضي إلى الفساد في الأرض فضروري جارٍ مجرى المحسوس.

(1)

يُنظر نص المسألة: التفسير الكبير، (3/ 99)، البرهان في توجيه متشابه القرآن (ص: 20).

(2)

يُنظر نص المسألة: التفسير الكبير، (11/ 9)، البرهان في توجيه متشابه القرآن (ص: 41).

(3)

أحال د/ ياسر الصعيدي إلى ملاك التأويل، (1/ 163).

(4)

أحال د/ ياسر الصعيدي إلى ملاك التأويل، (1/ 212، 603، 604)، (2/ 695، 726، 781، 828). ويُنظر: توجيه المتشابه في القرآن الكريم، دراسة في ملاك التأويل لابن الزبير الأندلسي، د/ ياسر الصعيدي، دار النابغة للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 1436 هـ (ص: 125).

(5)

سورة البقرة، الآية:(12).

(6)

سورة البقرة، الآية:(13).

ص: 93

الثاني: أنه لما ذكر السفه وهو جهل كان ذكر العلم أحسن طباقًا له "

(1)

ونكتفي بهذا القدر ولا داعي لاستقصاء جميع آرائه التي ذكرت في الملاك»

(2)

.

وقال د/ صالح الشثري: «من مصادر ابن الزبير في كتابه ما نقله من أقوال علماء التفسير، فاعتمد على من سبقه من العلماء في إيضاح الاختلاف بين الآيات المتشابهة، أما أبرزهم: جار الله الزمخشري في كتاب الكشاف، والفخر الرازي في التفسير الكبير

(3)

، وابن عطية في المحرر الموجز، والقرطبي في الجامع، والطبري في تفسيره

(4)

.

ومن المسائل التي اتفق فيها الإمام ابن الزبير مع الإمام الرازي في توجيها: توجيه الفرق بين قوله تعالى: {فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ}

(5)

، وقوله تعالى:{فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي}

(6)

.

حيث قال الإمام ابن الزبير في توجيه هذه المسألة: «بعد تمهيد الجواز في قوله: {فَأَنْفُخُ فِيهِ} في الآية الأولى وتأنيثه في الآية الثانية في قوله تعالى: {فَتَنْفُخُ فِيهَا} ما اتحاد ما يعود عليه. فأقول وأسأل الله توفيقه، قال الزمخشري في الأولى: الضمير للكاف أي في ذلك الشئ المماثل لهيئة الطير فيكون طائرًا أي فيصير طائرًا كبقية الطيور، وقال في قوله: (فَتَنْفُخُ فِيهَا) الضمير للكاف لأنها صفة الهيئة التي كان يخلقها عيسى وينفخ فيها ولا يرجع إلى الهيئة المضاف إليها لأنها ليست من خلقه ولا نفخه في شئ، قال: وكذلك الضمير في تكون انتهى نص كلامه وهو بين»

(7)

.

(1)

أحال د/ محمد السامرائي إلى: ملاك التأويل (1/ 34)، التفسير الكبير (2/ 75).

(2)

أحال د/ محمد السامرائي إلى: ملاك التأويل (1/ 144 - 261)، (2/ 623، 820، 919، 920). ويُنظر: دراسة المتشابه اللفظي من آي التنزيل في كتاب ملاك التأويل (ص: 57، 58).

(3)

أحال د/ صالح الشثري إلى: ملاك التأويل، (1/ 290، 289، 299، 256، 305، 392)، (2/ 1010، 1111).

(4)

المتشابه اللفظي في القرآن الكريم وأسراره البلاغية، (ص: 71).

(5)

سورة آل عمران، الآية:(49).

(6)

سورة المائدة، الآية:(110)، نوع المتشابه في هذه المسألة: متشابه بتذكير الضمير وتأنيثه.

(7)

ملاك التأويل (1/ 301).

ص: 94

وقال الإمام الرازي في هذه المسألة: «والجواب: أن قوله كهيئة الطير أي هيئة مثل هيئة الطير فقوله فتنفخ فيها الضمير للكاف، لأنها صفة الهيئة التي كان يخلقها عيسى وينفخ فيها ولا يرجع إلى الهيئة المضاف إليها لأنها ليست من خلقه ولا نفخه في شيء. إذا عرفت هذا فنقول: الكاف تؤنث بحسب المعنى لدلالتها على الهيئة التي هي مثل هيئة الطير وتذكر بحسب الظاهر. وإذا كان كذلك جاز أن يقع الضمير عنها تارة على وجه التذكير وأخرى على وجه التأنيث»

(1)

.

فالإمام ابن الزبير قد نقل رأي الزمخشري في هذه المسألة، واتفق معه الإمام الرازي.

*تأثر الإمام ابن جماعة (ت: 733 هـ) بالإمام الرازي في توجيه المتشابه اللفظي في القرآن الكريم

المتأمل في كتاب كشف المعاني في المتشابه من المثاني يجد أن الإمام ابن جماعة قد تأثر بالإمام الرازي في توجيه بعض مسائل المتشابه اللفظي، ونقل منه.

يقول د/ سالم السكري: «الإمام فخر الدين محمد بن عمر الرازي المتوفي سنه 606 هـ في تفسيره المسمى: مفاتيح الغيب وقد ثأثر به ابن جماعة في عدة مسائل منها: مسالة 110 حيث قال: قوله تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا}

(2)

وقال تعالى {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ}

(3)

وقوله تعالى {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ}

(4)

، والأنبياء أولى بذلك منا، فكيف الجمع بين الموضعين؟

جوابه: أن المنفي على ما أظهروه مع ما أبطنوه، معناه لا نعلم حقيقة جوابهم باطنًا وظاهرًا، بل أنت المتفرد بعلم ذلك إلا ما علمتنا، ولذلك قالوا:{إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ}

(5)

وإنما نعلم ظاهر جوابهم، أما باطنه فأنت أعلم به.

(1)

التفسير الكبير، (12/ 134).

(2)

سورة المائدة، الآية:(109).

(3)

سورة النساء، الآية:(41).

(4)

سورة البقرة، الآية:(143).

(5)

سورة المائدة، الآية:(109).

ص: 95

جواب آخر: أن معنى جوابهم لما كان في حياتنا ولا علم لنا بما كان منهم بعد موتنا لأن الأمور محالة على خواتيمها.

وهذا مما أخذه ابن جماعة عن الفخر الرازي، ذلك أن الفخر قال عند تفسيرآية المائدة: ظاهر قوله {لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ}

(1)

يدل على أن الأنبياء لا يشهدون لأممهم، والجمع بين هذا وبين قوله فكيف اذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا مشكل ورد قوله تعالى:{فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا}

(2)

مشكل، وأيضًا قوله تعالى:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ}

(3)

فإذا كانت أمتنا تشهد لسائر الناس، فالأنبياء أولي بأن يشهدوا لأممهم بذلك؟

والجواب عنه من وجوه، وذكر رحمه الله منها في الوجه الثالث - وقال: وهو الأصح وهو الذي اختاره ابن عباس - أنهم إنما قالوا لا علم لنا لأنك تعلم ما أظهروا وما أضمروا، ونحن لا نعلم إلا ما أظهروه، فعلمك فيهم أنفذ من علمنا؛ فلهذا المعنى نفوا العلم عن أنفسهم لأن علمهم عند الله كلا علم.

الجواب الرابع: أنهم قالوا: لا علم لنا إلا أن علمنا جوابهم لنا وقت حياتنا، ولا نعلم ما كان منهم بعد وفاتنا والجزاء والثواب إنما يحصلان على الخاتمة، وذلك غير معلوم لنا فلهذا المعنى قالوا: لا علم لنا وقوله (إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) يشهد بصحة هذين الجوابين.

فهذان الوجهان اللذان ذكرهما الفخر الرازي هما نفس ما أجاب به ابن جماعة على هذه المسألة، الأمر الذي يدل على أنه قد تأثر بالفخر الرازي وأنه كان يقتصر في الجواب على ما صح من الأوجه»

(4)

.

(1)

سورة المائدة، الآية:(109).

(2)

سورة النساء، الآية:(41).

(3)

سورة البقرة، الآية:(143).

(4)

متشابه النظم في القرآن الكريم كشف المعاني في متشابه المثاني لابن جماعة (أنموذجا)، د/ سالم السكري، جامعة الأزهر، (ص: 31 - 32).

ص: 96

*أيضًا من المسائل التي تأثر فيها الإمام ابن جماعة بالإمام الرازي:

الفرق بين قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ}

(1)

، وقوله تعالى {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}

(2)

.

قال الإمام ابن جماعة: «قوله تعالى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ}

(3)

، وقال في الرعد:{أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}

(4)

؟

جوابه: أن المراد "بالذكر" ذكر عظمة الله وجلاله، وشدة انتقامه ممن عصى أمره لأن الآية عند اختلاف الصحابة في غنائم بدر، فناسب ذكر التخويف.

وآية الرعد: نزلت فيمن هداه الله وأناب إليه، والمراد بذلك الذكر: ذكر رحمته وعفوه ولطفه لمن أطاعه وأناب إليه.

وجُمع بينهما في آية الزمر فقال تعالى: {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ}

(5)

أي: عند ذكر عظمته وجلاله وعقابه، ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر رحمته وعفوه وكرمه»

(6)

.

وقال الإمام الرازي: «فإن قيل: إنه تعالى قال هاهنا: {وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ}

(7)

، وقال في آية أخرى:{الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ} فكيف الجمع بينهما؟ وأيضا قال في آية أخرى: {ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ} قلنا: الاطمئنان إنما يكون عن ثلج اليقين، وشرح الصدر بمعرفة التوحيد، والوجل إنما يكون من خوف العقوبة، ولا منافاة بين هاتين الحالتين، بل نقول: هذان الوصفان اجتمعا في آية واحدة، وهي قوله تعالى: تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله والمعنى: تقشعر الجلود من خوف عذاب الله، ثم تلين جلودهم وقلوبهم عند رجاء ثواب الله»

(8)

.

(1)

سورة الأنفال، الآية:(2).

(2)

سورة الرعد، الآية:(28). نوع المتشابه في هذه المسألة: متشابه بإبدال جملة بجملة.

(3)

سورة الأنفال، الآية:(2).

(4)

سورة الرعد، الآية:(28). نوع المتشابه في هذه المسألة: متشابه بإبدال جملة بجملة.

(5)

سورة الزمر، الآية:(23).

(6)

كشف المعاني في المتشابه من المثاني، (ص: 189 - 190).

(7)

سورة الأنفال، الآية:(2).

(8)

التفسير الكبير، (15/ 122).

ص: 97

أيضًا الفرق بين التقديم والتأخير في قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ}

(1)

.

وقوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ}

(2)

.

فقد قال الإمام ابن جماعة: «قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا} ، ثم قال:{الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً} قدم (الزَّانِيَةُ) أولًا و (الزَّانِي) ثانيًا؟

جوابه: أن المرأة هي الأصل في الزنا غالبًا لتزينها وتطميع الرجل بها، وقيل: لأن شهوة النساء أشد من الرجال، فلذلك قدمها أولًا، وقدم الرجل ثانيًا، لأن الرجل هو الأصل في عقد النكاح لأنه الخاطب، فناسب ما ذكرناه تقديم النساء أولًا والرجال ثانيًا»

(3)

.

وقال الإمام الرازي: «لم قدمت الزانية على الزاني في الآية المتقدمة وهاهنا بالعكس الجواب: سبقت تلك الآية لعقوبتها على جنايتها، والمرأة هي المادة في الزنا، وأما الثانية فمسوقة لذكر النكاح والرجل أصل فيه لأنه هو الراغب والطال»

(4)

.

مما سبق يتضح أن الإمام ابن جماعة قد تأثر في توجيهه لهذه المسألة بالإمام الرازي.

(1)

سورة النور، الآية:(2).

(2)

سورة النور، الآية:(3).

(3)

كشف المعاني في المتشابه من المثاني، (ص: 269 - 270).

(4)

التفسير الكبير، (23/ 152).

ص: 98

*تأثر الإمام زكريا الأنصاري (ت: 926 هـ) بالإمام الرازي في توجيه المتشابه اللفظي في القرآن الكريم:

المتأمل في كتاب فتح الرحمن بكشف ما يلتبس من القرآن يجد أن الإمام ابن جماعة قد تأثر بالإمام الرازي في توجيه بعض مسائل المتشابه اللفظي، ونقل منه.

خاصةً في بعض المسائل التي لم يواجهها أحد من علماء المتشابه اللفظي وانفرد بها الإمام الأنصاري عن علماء المتشابه اللفظي مما يقوي القول إن الإمام الأنصاري قد تأثر في توجيهها بالإمام الرازي.

ومن هذه المسائل:

انفرد الإمام الأنصاري عن علماء المتشابه اللفظي بتوجيه الفرق بين قوله تعالى: {فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ}

(1)

، وقوله تعالى {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}

(2)

.

قال الإمام الأنصاري: «قوله تعالى: (فَاتَّقُوا النَّارَ) إن قلت: كيف عرف النار ههنا، ونكرها في التحريم؟

قلت: لأن الخطاب في هذه مع المنافقين، وهم في أسفل النار المحيطة بهم، فَعُرِّفت بلام الاستغراق، أو العهد الذهني، وفي تلك مع المؤمنين، والذي يُعذَّب من عصاتهم بالنَّار، يكون في جزءٍ من أعلاها، فناسب تنكيرها لتقليلها.

وقيل: لأن تلك الآية نزلت قبل هذه بمكة، فلم تكن النار التي وقودها الناس والحجارة معروفة فنكرها ثمَّ، وهذه نزلت بالمدينة فعُرِّفَتْ، إشارة إلى ما عرفوه أولًا. ورُدَّ هذا بأن (آية التحريم) نزلت بالمدينة بعد الآية هنا»

(3)

.

(1)

سورة البقرة، الآية:(24).

(2)

سورة التحريم، الآية:(6)، نوع المتشابه في هذه المسألة: متشابه بالتعريف والتنكير، تعريف النار في سورة البقرة وتنكيرها في سورة التحريم.

(3)

فتح الرحمن بكشف ما يلتبس من القرآن، لأبي يحيى الأنصاري، تحقيق: محمد على الصابوني، دار القرآن الكريم، بيروت، الطبعة الأولى (ص: 19 - 20).

ص: 99

قال الإمام الرازي في هذه المسألة: «فلم جاءت النار الموصوفة بهذه الجملة منكرة في سورة التحريم وهاهنا معرفة؟ الجواب: تلك الآية نزلت بمكة فعرفوا منها نارا موصوفة بهذه الصفة ثم نزلت هذه بالمدينة مستندة إلى ما عرفوه أولا»

(1)

.

فالإمام الأنصاري ذكر رأيين، الرأي الثاني بصيغة "قيل" وهو رأي الإمام الرازي؛ ولكن الإمام الأنصاري لم يتفق معه.

ومن ذلك أيضًا: انفرد الإمام الأنصاري عن علماء المتشابه اللفظي بتوجيه المتشابه في قوله تعالى: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً}

(2)

.

قال الإمام الأنصاري: «قوله تعالى: {فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} قلت: ما فائدته مع علمه ممَّا قبله؟ قلت: فائدته التوكيد، والعلم بأن العشر ليال، لا ساعات، ورفع توهم أن العشر داخلةٌ في الثلاثين، بمعنى أنها كانت عشرين وأُتَّمت بعشر»

(3)

.

قال الإمام الرازي في هذه المسألة: «أنه تعالى إنما قال: (أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) إزالة لتوهم أن ذلك العشر من الثلاثين لأنه يحتمل أتممناها بعشر من الثلاثين، كأنه كان عشرين، ثم أتممه بعشر، فصار ثلاثين، فأزال هذا الايهام»

(4)

.

فقد تأثر الإمام الأنصاري في توجيهه لهذه المسألة بالإمام الرازي.

وأيضًا في قول الله عز وجل: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ}

(5)

.

قال الإمام الأنصاري: «قوله تعالى: {وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} فإن قلت: ما الحكمة في تقديم الشفاعة هنا، وعكسه فيما يأتي؟

(1)

التفسير الكبير، (2/ 133).

(2)

سورة الأعراف، الآية:(142).

(3)

فتح الرحمن بكشف ما يلتبس من القرآن، (ص: 207).

(4)

التفسير الكبير، (14/ 236).

(5)

سورة البقرة، الآية:(48).

ص: 100

قلت: للإشارة هنا إلى مَنْ ميلُه إلى حبِّ نفسه أشدُّ منه إلى حبِّ المال، وَثَمَّ إلى مَنْ هو بعكس ذلك»

(1)

.

قال الإمام الرازي في هذه المسألة: «أن الله تعالى قدم في هذه الآية قبول الشفاعة على أخذ الفدية وذكر هذه الآية في هذه السورة بعد العشرين والمائة وقدم قبول الفدية على ذكر الشفاعة فما الحكمة فيه؟

الجواب: أن من كان ميله إلى حب المال أشد من ميله إلى علو النفس فإنه يقدم التمسك بالشافعين على إعطاء الفدية ومن كان بالعكس يقدم الفدية على الشفاعة، ففائدة تغيير الترتيب، الإشارة إلى هذين الصنفين»

(2)

.

فالإمام الأنصاري قد تأثر في توجيهه لهذه المسألة بالإمام الرازي.

‌ثالثًا: أثره في المعاصرين:

تأثر بعض المعاصرين بالإمام الرازي في توجيه بعض مسائل المتشابه اللفظي في القرآن الكريم كالصامل والسامرائي

مثال: في قوله تعالى " وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنتُمْ تَخْرُجُونَ "

(3)

نقل د/ فاضل السامرائي رأي الإمام الرازي حيث قال: قال ههنا " إِذَا أَنتُمْ تَخْرُجُونَ " وقال في خلق الإنسان أولًا: " ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ "

(4)

فنقول: هناك يكون خلق وتقدير وتدريج وتراخ حتى يصير التراب قابلًا للحياة فينفخ فيه روحه فإذا هو بشر، وأما في الإعادة لا يكون تدريج وتراخ فلم يقل ههنا: ثم "

(5)

يقول د/ محمد الجبالي: (لوبحثنا في كتب السامرائي عن آثار علماء المتشابه اللفظي في القرآن لوجدناها قليلة، وأكثر هذه الآثار نجدها للغرناطي وكتابه (ملاك التأويل)، ثم برهان الكرماني، ثم كتاب الدرة للخطيب الإسكافي، كما يرجع أحيانًا إلى برهان الزركشي، لكنا نجد

(1)

فتح الرحمن بكشف ما يلتبس من القرآن، (ص: 24).

(2)

التفسير الكبير، (3/ 58).

(3)

سورة الروم الآية 25

(4)

سورة الروم الآية 20

(5)

التعبير القرآني، د/ فاضل السامرائي، دار عمار، عمان، الأردن، الطبعة الثامثة 1434 هـ ص 201، وأحال د/ فاضل السامرائي إلى (التفسير الكبير 25/ 116)

ص: 101

السامرائي يعود أكثر إلى علماء التفسير ويكثر الرجوع إليهم خاصة الكشاف، والرازي، وفتح القدير، والبحر المحيط، والطلال، وروح المعاني، وابن القيم، أما كتب اللغة فعلى رأسها اللسان، ثم كتاب سيبويه)

(1)

* * *

‌المطلب الثالث

ما انفرد به الإمام الرازي عن جميع علماء المتشابه اللفظي

(2)

انفرد الإمام الرازي عن جميع علماء المتشابه اللفظي بتوجيه الكثير من مسائل المتشابه اللفظي، ما يزيد عن مائة مسألة.

فعلى سبيل المثال نجد أن الإمام الرازي انفرد عند تفسيره لسورة البقرة بتوجيه سبع عشرة مسألة من مسائل المتشابه اللفظي، هذه المسائل ذكرها الإمام الرازي في الموضع الأول للمتشابه (سورة البقرة) وهناك مواضع أخرى للمتشابه بين سورة البقرة والسور الأخرى ذكرها في الموضع الثاني (السور الأخرى)

(3)

.

مسائل المتشابه اللفظي التي انفرد الإمام الرازي بتوجيهها عن علماء المتشابه اللفظي عند تفسيره لسورة البقرة:

المسألة الأولى: التقديم والتأخير بين قوله: {لَا رَيْبَ فِيهِ}

(4)

، {لَا فِيهَا غَوْلٌ}

(5)

، متشابه بتقديم حرف الجر (في) في سورة الصافات، وتأخيره في سورة البقرة

(6)

.

المسألة الثانية: تكرار (أُولَئِكَ) في قوله تعالى: {أولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}

(7)

.

(1)

توجيه المتشابه اللفظي بين القدامى والمحدثين الجزء الثاني ص 81

(2)

بإذن الله سأذكر هذه الانفرادات كاملة في كتاب آخر

(3)

فمثلًا قام الإمام الرازي بالمقارنة بين موضعي المتشابه اللفظي بين سورتي البقرة وآل عمران {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} في الموضع الثاني للمتشابه (سورة آل عمران)، يُنظر: التفسير الكبير، (9/ 138 - 139)، كذلك قام بالمقارنة بين أوائل سورتي البقرة ولقمان في الموضع الثاني للمتشابه (سورة لقمان)، يُنظر: التفسير الكبير، (25/ 140 - 141).

(4)

سورة البقرة، الآية:(2).

(5)

سورة الصافات، الآية:(47).

(6)

يُنظر نص المسألة: التفسير الكبير، (2/ 21).

(7)

سورة البقرة، الآية:(5). ويُنظر نص المسألة: التفسير الكبير، (2/ 38).

ص: 102

المسألة الثالثة: الزيادة والنقصان بين قوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} ، وقوله تعالى:{أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ}

(1)

، زيادة حرف (الواو) في آية سورة البقرة (وأُولَئِكَ)، ونقصانه في آية سورة الأعراف (أُولَئِكَ).

(2)

المسألة الرابعة: الفرق بين الختم، والغشاوة، والران، والطبع والكنان، ذكر ذلك عند تفسير قوله تعالى:{خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [البقرة: 7] "، متشابه بإبدال كلمة بكلمة

(3)

.

المسألة الخامسة: تكرار حرف الجر (على) في قوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ}

(4)

.

المسألة السادسة: الفرق بين قوله تعالى {وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا}

(5)

، وبين قوله تعالى {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}

(6)

، {وَقَلِيلٌ مَا هُمْ}

(7)

، وحديث:«الناس كأبل مائة لا تجد فيها راحلة»

(8)

، وحديث «الناس أخبر قلة»

(9)

، متشابه بإبدال جملة بجملة

(10)

.

المسألة السابعة: الفرق بين قوله تعالى: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ}

(11)

، {وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ}

(12)

، متشابه بإبدال جملة بجملة

(13)

.

(1)

سورة الأعراف، الآية:(179).

(2)

يُنظر نص المسألة: التفسير الكبير، (2/ 38).

(3)

يُنظر نص المسألة: التفسير الكبير، (2/ 57، 58).

(4)

يُنظر نص المسألة: التفسير الكبير، (2/ 59).

(5)

سورة البقرة، الآية:(26).

(6)

سورة سبأ، الآية:(13).

(7)

سورة ص، الآية:(24).

(8)

سبق تخريجه (ص: 106).

(9)

سبق تخريجه (ص: 106).

(10)

يُنظر نص المسألة: التفسير الكبير، (2/ 161)، وسبق ذكرها عند الحديث في البحث.

(11)

سورة البقرة، الآية:(40).

(12)

سورة البقرة، الآية:(41).

(13)

يُنظر نص المسألة: التفسير الكبير، (3/ 44 - 45).

ص: 103

المسألة الثامنة: الفرق بين قوله تعالى: {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً}

(1)

، وقوله تعالى:{وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ}

(2)

، متشابه بالإجمال والتفصيل

(3)

.

تنبيه: ذكر الإمام الأنصاري سبب تكرار {فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} ، وهو معلوم من قوله:} وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ}، ولكنه لم يوجه هذه المسألة الإجمال في قوله تعالى في سورة البقرة:{وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} والتفصيل: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} في سورة الأعراف.

المسألة التاسعة: تكرار (الَّذِينَ ظَلَمُوا) في قوله تعالى: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ}

(4)

.

المسألة العاشرة: تكرار قوله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (92)}

(5)

.

المسألة الحادية عشر: تكرار قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ}

(6)

.

المسألة الثانية عشر: الفرق بين قراءة: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}

(7)

، وقراءة (فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ متتابعات)، متشابه بإبدال كلمة (آخر) بكلمة (متتابعات)

(8)

.

(1)

سورة البقرة، الآية:(51).

(2)

سورة الأعراف، الآية:(142).

(3)

يُنظر نص المسألة: التفسير الكبير، (3/ 79)، (14/ 235 - 236).

(4)

سورة البقرة، الآية:(59)، يُنظر نص المسألة: التفسير الكبير، (3/ 97).

(5)

سورة البقرة، الآية:(92)، يُنظر نص المسألة: التفسير الكبير، (3/ 201).

(6)

سورة البقرة، الآية:(93)، يُنظر نص المسألة: التفسير الكبير، (3/ 201 - 202).

(7)

سورة البقرة، الآية:(184).

(8)

يُنظر نص المسألة: التفسير الكبير، (4/ 84).

ص: 104

المسألة الثالثة عشر: الفرق بين قوله تعالى {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ}

(1)

، وقوله تعالى:{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ}

(2)

، {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ}

(3)

، متشابه بإبدال كلمة شهر بكلمة ليلة

(4)

.

المسألة الرابعة عشر: الفرق بين قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ}

(5)

، وقوله تعالى:{وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ}

(6)

، متشابه بإبدال كلمة معدودات بكلمة معدودات

(7)

.

المسألة الخامسة عشر: الحكمة من تكرار قوله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا}

(8)

، وهو مفهوم من قوله تعالى {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}

(9)

.

المسألة السادسة عشر: الفائدة من تكرار قوله تعالى: {وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا}

(10)

، وهو مفهوم من قوله تعالى:(فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ)

(11)

.

المسألة السابعة عشر: تكرار قوله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ}

(12)

، بعد قوله تعالى:{مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ}

(13)

.

*كما انفرد عن جميع علماء المتشابه اللفظي بالمقارنة بين آيتي سورتي البقرة وآل عمران

(1)

سورة البقرة، الآية:(185).

(2)

سورة القدر، الآية:(1).

(3)

سورة الدخان، الآية:(3).

(4)

يُنظر نص المسألة: التفسير الكبير، (5/ 92).

(5)

سورة البقرة، الآية:(203).

(6)

سورة الحج، الآية:(28).

(7)

يُنظر نص المسألة: التفسير الكبير، (5/ 208).

(8)

سورة البقرة، الآية:(231).

(9)

سورة البقرة، الآية:(229)، يُنظر نص المسألة: التفسير الكبير، (6/ 116).

(10)

سورة البقرة، الآية:(231).

(11)

يُنظر نص المسألة: التفسير الكبير، (6/ 118).

(12)

سورة البقرة، الآية:(241).

(13)

سورة البقرة، الآية:(236).

ص: 105

قوله تعالي: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}

(1)

.

وقوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ}

(2)

، فقد أطال النفس في ذكر الفروق بين الآيتين

(3)

.

*كما انفرد عن جميع علماء المتشابه اللفظي بتوجيه جميع مسائل المتشابه اللفظي الستة بين قصتي نوح وهود في سورة الأعراف

(4)

.

ملاحظة: علماء المتشابه اللفظي وجهوا مسألتين فقط من الستة، وقاموا بالمقارنة بين سورة الأعراف وسور أخرى، وانفرد الرازي بتوجيه جميع المسائل بين القصتين في سورة الأعراف.

* عند تفسيره لسورة العنكبوت انفرد عن علماء المتشابه اللفظي بتوجيه ثلاثٍ وعشرين مسألة من مسائل المتشابه اللفظي

(5)

.

* توجيه جميع مسائل المتشابه اللفظي الستة بين قصتي نوح وهود في سورة الأعراف حيث انفرد عن علماء المتشابه اللفظي بتوجيه أربع مسائل}

(6)

.

*اعتنى الإمام الرازي عناية فائقة بتوجيه المكرر من الألفاظ والآيات تفوق عناية علماء المتشابه اللفظي به باستثناء الكرماني، لكنه تميز أيضًا عن الإمام الكرماني بإطالة التوجيه أحيانًا وذكر عدة أوجه، فيما جاءت توجيهات الإمام الكرماني للمكرر كلها موجزة، وقد ذكرت عدة أمثلة عند الحديث عن عناية الإمام الرازي بتوجيه المكرر من الألفاظ والآيات.

(1)

سورة البقرة، الآية:(164).

(2)

سورة آل عمران، الآية:(190).

(3)

يُنظر نص المسائل: التفسير الكبير (9/ 138، 139)

(4)

يُنظر نص المسائل: التفسير الكبير، (14/ 161 - 163).

(5)

يُنظر نص المسائل: التفسير الكبير، (25/ 37، 39، 54، 55، 56، 58، 60، 61، 63، 64، 65، 86، 92، 93).

(6)

يُنظر نص المسائل: التفسير الكبير،} 14/ 161 - 163}.

ص: 106

‌المطلب الرابع

مآخذ على منهج الإمام الرازي في توجيه المتشابه اللفظي في القرآن الكريم

لا يخلو توجيه الإمام الرازي للمتشابه اللفظي في القرآن الكريم من بعض المآخذ على أهميته في مجاله كأي عمل بشري لابد أن يعتريه بعض النقص.

ومن هذه المآخذ:

أولًا: يؤخذ على الإمام الرازي أنه ترك الكثير من مسائل المتشابه اللفظي دون توجيه، وحين يتحدث الإمام الرازي في توجيه آيات المتشابه اللفظي فالقارئ يتوقع منه أن يذكر توجيه جميع المسائل لأنه عالم بحر يوسع ويستفيض، ولعلنا نجد له عذرًا أن تفسيره لا يُعتبر كتابًا خاصًا بالمتشابه اللفظي، كما أنه لم يسبقه كتابًا خاصًا بالمتشابه اللفظي، باستثناء درة التنزيل للإمام الإسكافي والبرهان للإمام الكرماني، ولم يأت حتى الآن من استوعب توجيه جميع مسائل المتشابه اللفظي في كتاب واحد.

ثانيًا: أيضًا يؤخذ على الإمام الرازي أنه أورد بعض المسائل دون توجيه فجعل القارئ في حاجة إلى معرفة سبب اختلاف الألفاظ ثم لم يذكر أي توجيه، وقد ذكرت أمثلة على ذلك، كما أنه قام باختصار بعض المواضع التي كانت تحتاج إلى بسط.

ثالثًا: أيضًا يؤخذ عليه أنه لم يشر إلى كتاب درة التنزيل للإمام الإسكافي رغم إطلاعه عليه.

ص: 107

‌المبحث الرابع أنواع المتشابه اللفظي في تفسير الإمام الرازي مع ذكر نماذج الإمام الرازي في تفسيره تعرض لأنواع المتشابه اللفظي المختلفة وتناولها بالتوجيه وبيان الفرق بين المواضع، بشكل يؤكد ويبرز بلاغة المتشابه اللفظي في تفسيره.

وقد سبق الحديث على أنواع المتشابه اللفظي في الفصل الأول وبتطبيق هذه الأنواع على تفسير الرازي نجد أن الإمام الرازي قد استوعب كل الأنواع بالإضافة إلى إكثاره من توجيه المكرر.

*أمثلة من تفسير الإمام الرازي على أنواع المتشابه اللفظي:

‌النوع الأول: المتشابه بالتقديم والتأخير: أكثر الإمام الرازي من توجيه المتشابه من نوع التقديم والتأخير

ومثال ذلك: قوله في تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ}

(1)

: «السؤال السادس: لم ذكر في البقرة: وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة وفي الأعراف قدم المؤخر؟

الجواب: الواو للجمع المطلق وأيضا فالمخاطبون بقوله: ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة، يحتمل أن يقال: إن بعضهم كانوا مذنبين والبعض الآخر ما كانوا مذنبين، فالمذنب لا بد أن يكون اشتغاله بحط الذنوب مقدما على الاشتغال بالعبادة لأن التوبة عن الذنب مقدمة على الاشتغال بالعبادات المستقبلة لا محالة، فلا جرم كان تكليف هؤلاء أن يقولوا أولا «حطة» ثم يدخلوا الباب سجدا، وأما الذي لا يكون مذنبا فالأولى به أن يشتغل أولا بالعبادة ثم يذكر التوبة، ثانيا: على سبيل هضم النفس وإزالة العجب في فعل تلك العبادة فهؤلاء يجب أن يدخلوا الباب سجدا أولا ثم يقولوا حطة ثانيا، فلما احتمل كون أولئك المخاطبين منقسمين إلى هذين القسمين لا جرم ذكر الله تعالى حكم كل واحد منهما في سورة أخرى»

(2)

.

ومثال آخر: قوله في تفسير قول الله عز وجل: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى

(1)

سورة البقرة، الآية:(58).

(2)

التفسير الكبير، (3/ 100).

ص: 108

الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا}

(1)

: «لقائل أن يقول: إنه تعالى قال: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ}

(2)

، فقدم ذكر النفس على ذكر المال، وفي الآية التي نحن فيها وهي قوله (والمجاهدون بأموالهم وأنفسهم) قدم ذكر المال على النفس، فما السبب فيه؟

وجوابه: أن النفس أشرف من المال، فالمشتري قدم ذكر النفس تنبيهًا على أن الرغبة فيها أشد، والبائع أخر ذكرها تنبيهًا على أن المضايقة فيها أشد، فلا يرضى ببذلها إلا في آخر المراتب»

(3)

.

‌النوع الثاني: المتشابه بالإبدال:

ومن ذلك ما ذكره في تفسير قوله تعالى: {وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ}

(4)

.

لقائل أن يقول: إنه تعالى قال ههنا (وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا) وقال في الأعراف (فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا) فعطف " كلا " على قوله " اسكن" في سورة البقرة بالواو وفي سورة الأعراف بالفاء فما الحكمة؟

الجواب: كل فعل عطف عليه شئ، وكان الفعل بمنزلة الشرط، وذلك الشئ بمنزلة الجزء عطف الثاني على الأول بالفاء دون الواو كقوله تعالى {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا}

(5)

فعطف كلوا على قوله اسكنوا بالواو دون الفاء لما كان وجود الأكل متعلقًا بدخولها فكأنه قال إن أدخلتموها أكلتم منها، فالدخول موصول إلى الأكل، والأكل متعلق وجوده بوجوده يبين ذلك قوله تعالى في مثل هذه الآية من سورة الأعراف {وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ}

(6)

، فعطف كلوا على قوله اسكنوا بالواو دون الفاء؛ لأن اسكنوا من السكنى وهي المقام مع طول اللبث والأكل لا يختص وجوده بوجوده لأن لأن من دخل بستانًا قد يأكل

(1)

سورة النساء، الآية:(95).

(2)

سورة التوبة، الآية:(111).

(3)

التفسير الكبير م 11/ 8).

(4)

سورة البقرة، الآية:(35).

(5)

سورة البقرة، الآية:(58).

(6)

سورة الأعراف، الآية:(161).

ص: 109

منه وإن كان مجتازًا فلما لم يتعلق الثاني بالأول تعلق الجزاء بالشرط وجب العطف بالواو دون الفاء إذا ثبت هذا فنقول: إن "اسكن" يقال لمن دخل مكانًا فيراد منه الزم المكان الذي دخلته ولا تنتقل عنه، ويقال أيضًا لمن لم يدخل اسكن هذا المكان يعني ادخله واسكن فيه ففي سورة البقرة هذا الأمر إنما ورد بعد أن كان آدم في الجنة فكان المراد منه اللبث والاستقرار، وقد بينا أن الأكل لا يتعلق به فلا جرم ورد بلفظ الواو، وفي سورة الأعراف هذا الأمر إنما ورد قيل أن دخل الجنة فكان المراد منه دخول الجنة، وقد بينا أن الأكل يتعلق به فلا جرم ورد بلفظ الفاء والله أعلم»

(1)

.

مثال آخر:

قال الإمام الرازي عند تفسير قوله تعالى: {وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}

(2)

: «قال ههنا

(3)

{وَلَقَدْ تَّرَكْنَاهَا} وقال في سورة العنكبوت: {وَجَعَلْنَاهَا آيَةً}

(4)

قلنا: هما وإن كانا في المعنى واحدًا على ما تقدم بيانه لكن لفظ الترك يدل على الجعل والفراغ بالأيام فكأنها هنا مذكورة بالتفصيل حيث أن الأمطار من السماء وتفجير الأرض وذكر السفينة بقوله {ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ}

(5)

، وذكر جريها فقال:{تَّرَكْنَاهَا} إشارة إلى تمام الفعل المقدور، وقال هناك (وَجَعَلْنَاهَا) إشارة إلى بعض ذلك»

(6)

.

‌النوع الثالث: المتشابه بالإثبات والحذف

ومن ذلك قول الإمام الرازي عند تفسيره قوله تعالى: «السؤال الخامس: لم ذكر قوله: رغدا في البقرة وحذفه في الأعراف؟

(1)

التفسير الكبير، (3/ 4 - 5).

(2)

سورة القمر، الآية:(15).

(3)

يقصد سورة القمر.

(4)

سورة العنكبوت، الآية:(15).

(5)

سورة القمر، الآية:(13).

(6)

التفسير الكبير، (29/ 41).

ص: 110

الجواب عن هذا السؤال كالجواب في الخطايا والخطيئات لأنه لما أسند الفعل إلى نفسه لا جرم ذكر معه الإنعام الأعظم وهو أن يأكلوا رغدا، وفي الأعراف لما لم يسند الفعل إلى نفسه لم يذكر الإنعام الأعظم فيه»

(1)

.

‌النوع الرابع: المتشابه بالجمع والإفراد:

ومن ذلك قوله قال الرازي: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَّعْدُودَةً} : «ذكر ههنا: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَّعْدُودَةً} وفي آل عمران: {إِلَّا أَيَّامًا مَّعْدُودَات} ولقائل أن يقول لم كانت الأولى معدودة والثانية معدودات والموصوف في المكانين موصوف واحد وهو "أيامًا"؟

والجواب: أن الاسم كان مذكرًا فالأصل في صفة الجمع التاء يقال كوز وكيزان مكسورة وثياب مقطوعة وإن كان الأصل في صفة الجمع الألف والتاء فيما واحده مذكر في بعض الصور نادرًا نحو حمام وحمامات وجمل سبطر وسبطرات وعلى هذا ورد قوله تعالى (في أيام معدودات) و (في أيام معلومات) فالله تعالى تكلم في سورة البقرة بما هو الأصل (أيامًا معدودة)، وفي آل عمران بما هو الفرع»

(2)

.

‌النوع الخامس: المتشابه بالتذكير والتأنيث:

ومن ذلك قوله في تفسير قول الله عز وجل: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ}

(3)

: «قوله: {مِمَّا فِي بُطُونِهِ} الضمير عائد إلى الإنعام فكان الواجب أن يقال مما في بطونها، وذكر النحويون فيها وجوهًا: الأول: أن لفظ الأنعام لفظ مفرد وضع لافادة جمع، كالرهط والقوم والبقر والنعم، فهو بحسب اللفظ لفظ مفرد فيكون ضميره ضمير الجمع، وهو التأنيث، فلهذا السبب قال ههنا في بطونه، وقال في سورة المؤمنين (في بطونها) الثاني قوله (في بطونه) أي في بطون ما ذكرناه وهذا جواب الكسائي، قال المبرد: هذا شائع في القرآن، قال تعالى:{فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا} يعني هذا الشئ

(1)

التفسير الكبير (3/ 99).

(2)

التفسير الكبير، (3/ 152، 153).

(3)

سورة النحل، الآية:(66).

ص: 111

الطالع ربي وقال: {كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ * فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ}

(1)

، أي: ذكر هذا الشئ، واعلم أن هذا يجوز فيما يكون تأنيثه غير حقيقي، أما الذي تأنيثه حقيقًا، فلا يجوز، فإنه لا يجوز في مستقيم الكلام أن يقال جاريتك ذهب، ولا غلامك ذهبت على تقدير أن نحمله على النسمة، الثالث: أن فيه إضمارًا والتقدير: نسقيكم مما في بطونه اللبن إذ ليس كلها ذات لبن»

(2)

.

مثال آخر: قوله في تفسير قوله تعالى: {فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي}

(3)

: «أنه تعالى ذكر ههنا (فَتَنْفُخُ فِيهَا) وذكر في آل عمران (فَأَنْفُخُ فِيهِ).

والجواب: أن قوله (كهيئة الطير) أي هيئة مثل هيئة الطير فقوله (فتنفخ فيها) الضمير للكاف لأنها صفة الهيئة التي كان يخلقها عيسى وينفخ فيها ولا يرجع إلى الهيئة المضافة إليها لأنها ليست من خلقه ولا نفخة في شئ.

إذا عرفت هذا فنقول: الكاف تؤنث بحسب المعنى لدلالتها على الهيئة التي هي مثل هيئة الطير وتذكر بحسب الظاهر. وإذا كان كذلك جاز أن يقع الضمير عنها تارة على وجه التذكير وأخرى على وجه التأنيث»

(4)

.

‌النوع السادس: المتشابه بالتعريف والتنكير:

ومن ذلك قوله عند تفسيرقوله تعالى {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ}

(5)

: «فإن قيل: قال ههنا: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} ذكر الحق بالألف واللام معرفة، وقال في سورة آل عمران:{إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ}

(6)

نكرة وكذلك في هذه السورة: {وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ}

(7)

فما الفرق؟ الجواب: الحق معلوم فيما بين المسلمين الذي يوجب القتل،

(1)

سورة عبس، الآيتان:(11، 12).

(2)

التفسير الكبير، (20/ 66).

(3)

سورة المائدة، الآية:(110).

(4)

التفسير الكبير، (12/ 134).

(5)

سورة البقرة، الآية:(61).

(6)

سورة آل عمران، الآية:(21).

(7)

سورة آل عمران، الآية:(112).

ص: 112

قال عليه السلام: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث، كفر بعد إيمان وزنا بعد إحصان وقتل نفس بغير حق»

(1)

، فالحق المذكور بحرف التعريف إشارة إلى هذا، وأما الحق المنكر فالمراد به تأكيد العموم أي لم يكن هناك حق لا هذا الذي يعرفه المسلمون ولا غيره البتة

(2)

.

‌النوع السابع: المتشابه بالإظهار والإضمار:

ومن ذلك قوله في تفسير قوله تعالى: {رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ}

(3)

: «فإن قيل: لم قالوا في هذه الآية {إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} وقالوا في تلك الآية {إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَاد}. قلت: الفرق والله أعلم أن هذه الآية في مقام الهيبة، يعني أن الإلهية تقتضي الحشر والنشر لينتصف المظلومين من الظالمين، فكان ذكره باسمه الأعظم أولى في هذا المقام، أما قوله في آخر السورة {إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} فذاك المقام مقام طلب العبد من ربه أن ينعم عليه بفضله، وأن يتجاوز عن سيئاته فلم يكن المقام مقام هيبة، فلا جرم قال: {إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ}»

(4)

.

‌النوع الثامن: المتشابه باختلاف الصيغة الصرفية:

ومن ذلك قوله في تفسير قوله تعالى: «قال: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ}

(5)

، وأما هود عليه السلام فقال:{أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ}

(6)

فنوح عليه السلام قال (أَنْصَحُ لَكُمْ) وهو صيغة الفعل وهود عليه السلام قال: (وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ) وهو صيغة اسم الفاعل ونوح عليه السلام قال {وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} وهود عليه السلام لم يقل ذلك، ولكنه زاد فيه كونه أمينًا، والفرق بين الصورتين أن الشيخ عبد القاهر النحوي ذكر في كتابه دلائل الإعجاز أن صيغة الفعل تدل على التجدد ساعة فساعة، وأما صيغة اسم الفاعل فإنها دالة على الثبات والاستمرار على ذلك الفعل.

(1)

سبق تخريجه (ص: 42).

(2)

التفسير الكبير، (3/ 111).

(3)

سورة آل عمران، الآية:(9).

(4)

التفسير الكبير، (7/ 197).

(5)

سورة الأعراف، الآية:(62).

(6)

سورة الأعراف، الآية:(68).

ص: 113

وإذا ثبت هذا فنقول: أن القوم كانوا يبالغون في السفاهة على نوح عليه السلام، ثم أنه في اليوم الثاني كان يعود إليهم ويدعوهم إلى الله، وقد ذكر تعالى عنه ذلك فقال:{قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا}

(1)

فلما كانت عادة نوح عليه السلام العود إلى تجديد تلك الدعوة في كل يوم وفي كل ساعة لا جرم ذكره بصيغة الفعل، فقال (وَأَنْصَحُ لَكُمْ) وأما هود عليه السلام فقال (وأنا لكم ناصح) يدل على كونه مثبتًا في تلك النصيحة مستقرًا فيها»

(2)

.

‌النوع التاسع: المتشابه بالإجمال والتفصيل:

ومن ذلك قوله في تفسير قوله تعالى: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً}

(3)

: «فإن قيل: وما الحكمة ههنا من ذكر الثلاثين ثم إتمامها بعشر؟ وأيضًا فقوله (فتم ميقات ربه أربعين ليلة) كلام عار عن الفائدة، لأن كل أحد يعلم أن الثلاثين مع العشر يكون أربعين.

قلنا أما الجواب عن السؤال الأول من وجوه:

الوجه الأول: أنه تعالى أمر موسى عليه وسلم يصوم ثلاثين يومًا وهو شهر ذي القعدة فلم أتم الثلاثين أنكر خلوف فيه فتسوك فقالت الملائكة كنا نشم من فيك رائحة المسك فأفسدته بالسواك فأوحى الله تعالى إليه أما علمت أن خلوف فم الصائم أطيب عندي من ريح المسك، فأمره الله تعالى أن يزيد عليها عشرة أيام من ذي الحجة لهذا السبب.

الوجه الثاني: في فائدة هذا التفضيل أن الله أمره أن يصوم ثلاثين يومًا وأن يعمل فيها ما يقربه إلى الله تعالى ثم أنزلت التوارة عليه في العشر البواقي، وكلمه أيضًا فيه. فهذا هو الفائدة في تفصيل الأربعين إلى الثلاثين وإلى العشرة.

الوجه الثالث: ما ذكره أبو مسلم الأصفهاني في سورة طه ما دل على أن موسى بادر إلى ميقات ربه قبل موته، والدليل عليه قوله تعالى: {وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى

(1)

سورة نوح، الآية:(5).

(2)

التفسير الكبير، (14/ 162).

(3)

سورة الأعراف، الآية:(142).

ص: 114

أَثَرِي}

(1)

فجائز أن يكون موسى أتى الطور عند تمام الثلاثين، فلما أعلمه الله خبر قومه مع السامري رجع إلى قومه قبل تمام ما وعده الله تعالى، ثم عاد إلى الميقات في عشرة أخرى، فتم أربعين ليلة.

الوجه الرابع: قال بعضهم لا يمتنع أن يكون الوعد الأول حضره موسى عليه السلام وحده، والوعد الثاني حضره المختارون معه ليسمعوا كلام الله تعالى، فصار الوعد مختلفًا لاختلاف حال الحاضرين. والله أعلم.

والجواب عن السؤال الثاني: أنه تعالى إنما قال (أربعين ليلة) إزالة لتوهم أن ذلك العشر من الثلاثين، كأنه كان عشرين ثم أتمه بعشر، فصار ثلاثين، فأزال هذا الإيهام»

(2)

.

‌النوع العاشر: المتشابه بالإضافة وعدمها

ومن ذلك قوله في تفسير قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ}

(3)

: «وعلى ذلك ففيه لطيفة وهي أن الله تعالى قال: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ}

(4)

، وقال ههنا (بَطْشَتَنَا) ولم يقل (بطشنا) وذلك لأن قوله تعالى:{إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} بيان لجنس بطشه، فإذا كان جنسه شديد فكيف الكبرى منه؟، وأما لوط عليه السلام فذكر لهم البطشة الكبرى لئلا يكون مقصرًا في التبليغ»

(5)

.

وبهذا فإن الإمام الرازي استوعب في تفسيره جميع أنواع المتشابه اللفظي بالإضافة إلى إكثاره من توجيه المكرر من الآيات والقصص، وقد ذكرت أمثلة كثيرة من قبل.

(1)

سورة طه، الآيتان:(83، 84).

(2)

التفسير الكبير، (14/ 235 - 236).

(3)

سورة القمر، الآية:(36).

(4)

سورة البروج، الآية:(12).

(5)

التفسير الكبير، (29/ 60 - 61).

ص: 115

‌الفصل الثالث الإمام الألوسي ومنهجه في توجيه المتشابه اللفظي للقرآن الكريم

ويشتمل على أربعة مباحث:

المبحث الأول: التعريف بالإمام الألوسي ونشأته وحياته وأهم كتبه.

المبحث الثاني: التعريف بتفسير الإمام الألوسي (روح المعاني).

المبحث الثالث: منهج الإمام الألوسي في توجيه المتشابه اللفظي في القرآن الكريم.

المطلب الأول: أهم الملامح والسمات التي تميز بها منهج الإمام الألوسي في توجيه المتشابه اللفظي في القرآن الكريم.

المطلب الثاني: مصادر الإمام الآلوسي في توجيه المتشابه اللفظي في القرآن الكريم

أولًا: العلماء الذين نقل عنهم الإمام الألوسي وذكرهم في تفسيره.

ثانيًا: موقف الإمام الألوسي من علماء المتشابه اللفظي.

ثالثًا: أثره في المعاصرين

المطلب الثالث: ما انفرد به الإمام الألوسي عن جميع علماء المتشابه اللفظي.

المطلب الرابع: مآخذ على منهج الإمام الألوسي في توجيه المتشابه اللفظي في القرآن الكريم.

المبحث الرابع: أنواع المتشابه اللفظي في تفسير الإمام الألوسي مع ذكر بعض النماذج.

ص: 116

‌المبحث الأول التعريف بالإمام الألوسي ونشأته وحياته وأهم كتبه

‌أولًا: نسبه ولقبه:

هو الشيخ شهاب الدين محمود بن السيد عبد الله أفندي الآلوسي البغدادي ينتهي نسبه الشريف من جهة الأب إلى الحسين بن علي رضي الله عنهما، ومن جهة الأم إلى الحسن بن علي رضي الله عنهما

(1)

.

والآلوسي نسبة إلى قرية آلوس، جاء في معجم البلدان:«ألوس: اسم رجل سميت به بلدة على الفرات»

(2)

.

‌ثانيًا: مولده:

وُلد يوم الجمعة منتصف شعبان في العام السابع عشر بعد الألف والمائتين.

(3)

‌ثالثًا: مكانته:

قال د/ حسين الذهبي

(4)

: «كان رحمه الله شيخ العلماء في العراق، وآية من آيات الله العظام، ونادرة من نوادر الأيام، جمع كثيرًا من العلوم، حتى أصبح علامة في المنقول والمعقول، فهامة في الفروع والأصول، محدثًا لا يجاري، ومفسرًا لكتاب الله لا يباري

وكان كثيرًا ما ينشد:

سهري لتنقيح العلوم ألذ لي

من وصل غانية وطيب عناق»

(5)

.

(1)

حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر عبد الرزاق البيطار، تحقيق محمد بهجة البيطار، ط 2، بيروت: دار صادر، 1413 هـ (ص: 16).

(2)

معجم البلدان، الحموي، بيروت: دار صادر، (1/ 246).

(3)

جلاء العينين بمحاكمة الأحمدين، خير الدين نعمان بن محمود الآلوسي، ط 1، بيروت: المكتبة العصرية، 2006 م، (ص: 64).

(4)

هو محمد حسين الذهبي وُلد عام 1915، وتلقى العلم على يد جلة من علماء عصره، باحث مفسر من كبار علماء الأزهر، شغل منصب أستاذ بالمعهد الديني بالقاهرة، ثم بكلية أصول الدين بالأزهر، فوزيرا للأوقاف، واختير أمينًا مساعدًا لمجمع البحوث العلمية ثم عميدًا لكية الشريعة وأصول الدين، وكان مفسرًا نابغًا، وقد أختير وزيرًا للأوقاف عام 1976 م بمصر ولم يمكث بهذا المنصب كثيرًا، وتوفي سنة 1977، من أشهر كتبه (التقسير والمفسرون)، (الإسرائيليات في التفسير والحديث)، ترجمته في مقدمة كتابه التفسير والمفسرون. ويُنظر:«إتمام الأعلام (ذيل لكتاب الأعلام للزركلي)» ، نزار أباظة/ محمد رياض المالح، دار صادر- بيروت، تاريخ النشر: 1999 م (ص: 42).

(5)

التفسير والمفسرون (1/ 301).

ص: 117

‌رابعًا: مذهبه العقدي:

أما بالنسبة لعقيدته: «من الصعب جدًا أن نصدر حكمًا قولًا واحدًا على عقيدة الآلوسي وذلك لتعدد مشاربه، فعيقدته تتجاذبها أربعة مذاهب: مذهب السلف، ومذهب التفويض، ومذهب الأشاعرة، ومذهب التصوف والغالب عليه مذهب السلف، وبما أن الحكم للغالب والآلوسي عُرف عنه الصدق في القصد وسعة العلم والذكاء وتحريه للحق والتمسك بالدليل، ولم يكن له مذهب باطل يتعصب له في معتقده ويدافع عنه، فإنه يمكن أن نقول "أنه سلفي في الجملة»

(1)

.

قال د/ حسين الذهبي: «وكان رحمه الله عالما باختلاف المذاهب، مطلعًا على الملل والنحل، سلفي الاعتقاد، ونراه في كتابه روح المعاني يفصح عن مذهبه، فقد ذهب إلى ما ذهب إليه جمهور السلف في الصفات إذ قال: " ثم اعلم أن كثيرًا من الناس جعل الصفات النقلية من الاستواء واليد والقدم والنزول إلى السماء الدنيا والضحك والتعجب وأمثالها من المتشابه، ومذهب السلف والأشعري رحمه الله من أعيانهم كما أبانت عن حاله الإبانة أنها صفات ثابتة وراء العقل ما كلفنا إلا اعتقاد ثبوتها مع اعتقاد عدم التجسيم والتشبيه لئلا يضاد النقل العقل»

(2)

.

ومما يؤكد ذلك ما جاء في وصيته لأبنائه قبل وفاته حيث كتب لهم: " يابَني عليكم في باب العقائد بعقيدة السلف فإنها أسلم بل أنصف، وهي أعلم وأحكم، فهي أبعد عن القول عن الله بما لا يُعلم

(3)

.

(1)

جهود أبي الثناء الآلوسي في الرد على الرافضة، عبد الله البخاري، ط 1، القاهرة: دار ابن عفان، (ص: 91).

(2)

التفسير والمفسرون، (1/ 251). ويُنظر: روح المعاني للألوسي، (3/ 87).

(3)

جهود أبي الثناء في الرد على الرافضة، (ص: 94).

ص: 118

‌خامسًا: مذهبه الفقهي:

قال الذهبي عن مذهبه الفقهي: «كان رحمه الله يُقلد الإمام الأعظم أبا حنيفة النعمان - رضى الله عنه - في كثير من المسائل، وكان في آخر أمره يميل إلى الاجتهاد»

(1)

.

وقال أيضًا حفيده أبو المعالي محمود شكري الألوسي

(2)

: «وكان في صباه شافعي المذهب، لا يميل لسواه ولا يذهب إلى غيره، وقلد مدة إفتائه الإمام أبا حنيفة في معاملاته وبقي على ما كان عليه في عباداته وكان بعد عزله يقول: أنا شافعي ما لم يظهر لي الدليل، وإلا فليس عن العمل به محيل، حيث أن العالم إذا علم الدليل لا يعذر بالتقليد، وليس عن العمل باجتهاده من محيد»

(3)

.

مؤلفاته:

له مؤلفات كثيرة تدل على غزارة علمه ومن أهم مؤلفاته العلمية:

1) «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ، تفسيره ويعد موسوعة علمية قيمة في علم التنزيل.

2) «الأجوبة العراقية على الأسئلة الإيرانية» ؛ تصدى فيها لأسئلة الروافض.

3) «النفحات القدسية في الرد على الإمامية» .

4) «نشوة الشمول في السفر إلى إسلامبول وهو عن رحلته إلى الأستانة» .

5) «غرائب الاغتراب» .

6) «دقائق التفسير» .

(1)

التفسير والمفسرون، (1/ 251).

(2)

هو محمود شكري بن عبد الله بن شهاب الدين محمود الآلوسي الحسيني أبو المعالي وُلد في رصافة بغداد، وأخذ العلم عن أبيه وعمه وغيرهما، له المسك الأذفر في تراجم علماء القرن الثالث، توفي في بغداد سنة: 1391 هـ، يُنظر: مشاهير علماء نجد وغيرهم، عبد الرحمن بن عبد اللطيف آل شيخ، دار اليمامة الطبعة الأولى (ص: 286).

(3)

المسك الأذفر في نشر مزايا القرنين الثاني عشر والثالث عشر - الآلوسي، السيد محمود شكري، طبعة الدار العربية للموسوعات، (ص: 147).

ص: 119

7) «حاشية قطر الندى» .

8) «المقامات الآلوسية» .

9) «رسالة في الجهاد» .

وغيرها كثير من الرسائل والمؤلفات المطبوعة والمخطوطة.

‌وفاته:

تُوفي رحمه الله تعالى في حادي وعشرين من ذي القعدة الحرام سنة ألف ومائتين وسبعين، وبلغ عمره نحو ثلاث وخمسين سنة

(1)

.

(1)

حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر، (2/ 125).

ص: 120

‌المبحث الثاني التعريف بتفسير الألوسي (روح المعاني)

أولًا: سبب كتابة الألوسي لتفسيره:

يقول الإمام الألوسي في مقدمة تفسيره عن السبب الحامل له على تأليف تفسيره: «رأيت في بعض ليالي الجمعة من رجب الأصم سنة الألف والمائتين والاثنتين والخمسين بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم رؤية لا أعدها أضغاث أحلام، ولا أحسبها خيالات أوهام، أن الله جل شأنه وعظم سلطانه أمرني بطي السماوات والأرض، ورتق فتقهما على الطول والعرض، فرفعت يدا إلى السماء، وخفضت الأخرى إلى مستقر الماء، ثم انتبهت من نومتي وأنا مستعظم رؤيتي، فجعلت أفتش لها عن تعبير، فرأيت في بعض الكتب أنها إشارة إلى تأليف تفسير، فرددت حينئذ على النفس تعللها القديم، وشرعت مستعينا بالله تعالى العظيم»

(1)

.

أما بالنسبة لسبب تسمية تفسيره بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» :

يقول الدكتور حسين الذهبي رحمه الله: «ولما انتهى منه جعل يفكر ما اسمه؟ وبماذا يدعوه؟ فلم يظهر له اسم تهتش له الضمائر؟ وتبتش من سماعه الخواطر، فعرض الأمر على وزير الوزراء على رضا باشا، فسماه على الفور: (روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني»

(2)

.

مكانة هذا التفسير من التفاسير التي تقدمته:

«هذا التفسير - والحق يقال - قد أفرغ فيه مؤلِّفه وسعه، وبذل جهده، حتى أخرجه للناس تفسيراً جامعاً لآراء السلف رواية ودراية، ومشتملاً على أقوال الخلف بكل أمانة وعناية، فهو جامع لخلاصة ما سبقه من التفاسير، فتراه ينقل لك عن تفسير ابن عطية، وتفسير أبي حيان، وتفسير الكشاف، وتفسير أبي السعود، وتفسير البيضاوي، وتفسير الفخر الرازي وغيرها من كتب التفاسير المعتبرة.

وهو إذا نقل عن تفسير أبي السعود يقول غالباً: قال شيخ الإسلام وإذا نقل عن تفسير البيضاوي يقول: قال القاضي وإذا نقل عن تفسير الفخر الرازي يقول - غالبًا -: قال الإمام وهو إذ ينقل

(1)

روح المعاني، (1/ 5).

(2)

التفسير والمفسرون، (1/ 303).

ص: 121

عن هذه التفاسير ينصب نفسه حكماً عدلاً بينها، ويجعل من نفسه نقاداً مدققاً، ثم يبدي رأيه حرًا فيما ينقل، فتراه كثيراً يعترض على ما ينقله عن أبي السعود، أو عن البيضاوي، أو عن أبي الحيان أو عن غيرهم.

كما تراه يتعقب الفخر الرازي في كثير من المسائل، ويرد عليه على الخصوص في بعض المسائل الفقهية، انتصارًا منه لمذهب أبي حنيفة، ثم إنه إذا استصوب أمرًا لبعض من ينقل عنهم، انتصر لهم ورجحه على ما عداه»

(1)

.

قال الدكتور محمد المغراوي حفظه الله: «وعلى كل حال فكتاب الآلوسي يُعتبر موسوعة كبيرة في كثير من أنواع العلوم، وعنده صبر على تطويل البحوث»

(2)

.

«وجملة القول فروح المعاني للعلامة الآلوسي ليس الا موسوعة تفسيرية قيمة، جمعت جل ما قاله علماء التفسير الذين تقدموا عليه، مع النقد الحر، والترجيح الذي يعتمد على قوه الذهن وصفاء القريحة، وهو وإن كان يستطرد إلى نواح علمية مختلفة، مع توسع يكاد يخرج عن مهمته كمفسر إلا أنه متزن في كل ما يتكلم فيه، مما يشهد له بغزارة العلم على اختلاف في نواحيه، وشمول الإحاطة بكل ما يتكلم فيه، فجزاه الله عن العلم وأهله خير الجزاء، إنه سميع مجيب»

(3)

.

أما بالنسبة لمنهج الإمام الألوسي في تفسيره:

يمكن اعتبار منهج الإمام الآلوسي رحمه الله في تفسيره منهج شامل تقريبا لكل مناحى التفسير، من بيان، ولغة، وتعرض لأسباب النزول والقراءات، والمسائل النحوية، والمسائل الفقهية، والعلوم الكونية، واستعراض للآراء المختلفة في التفسير، والتعقيب عليها بالتفنيد، أو القبول، أو الترجيح والموازنة، وغير ذلك، مما جعل تفسيره موسوعة شاملة لشتى العلوم والفنون.

(1)

التفسير والمفسرون، (1/ 252 - 253).

(2)

المفسرون بين التأويل والإثبات في آيات الصفات، محمد المغراوي، ط 1، بيروت مؤسسة الرسالة، (ص: 1292).

(3)

التفسير والمفسرون، (1/ 257).

ص: 122

ويمكن إجمال منهجه في التفسير فيما يلي:

يستهل تفسيره رحمه الله بذكرٍ مكان نزول السورة وهل هي مكية أم مدنية ثم يذكر أسماء السورة وفضائلها، ثم يذكر مناسبات السور والآيات ومقاصد السور كذالك

(1)

.

(1)

جهود الإمام الآلوسي رحمه الله في رد شبهات الشيعة من خلال تفسيره روح المعاني، الباحث: عبد الله نعمان، رسالة ماجستير، جامعة المدينة العالمية، ماليزيا، (ص: 27، 28).

ص: 123

‌المبحث الثالث منهج الإمام الألوسي في توجيه المتشابه اللفظي في القرآن الكريم

الإمام الألوسي قام بتوجيه عدد لا بأس به من مسائل المتشابه اللفظي حوالي مائة وخمسين مسألة، أطال التوجيه أحيانًا، واختصر التوجيه في أغلبها.

ومن خلال هذا المبحث سأبين بعون الله وتوفيقه أهم الملامح والسمات التي تميز بها منهج الإمام الألوسي في توجيه المتشابه اللفظي في القرآن الكريم.

‌المطلب الأول

أهم الملامح والسمات التي تميز منهج الإمام الألوسي في توجيه المتشابه اللفظي في القرآن الكريم

‌القسم الأول: المسلك العام للإمام الألوسي في توجيه المتشابه:

•‌

‌ أولًا: طريقة الإمام الألوسي في عرض المتشابه:

اختلف الإمام الألوسي عن الإمام الرازي في طريقة عرض المتشابه فقد ترك أسلوب الخطاب والمناقشة الذي اعتمده الإمام الإسكافي في الدرة، ومن سار على دربه ممَّن صنف في هذا العلم، وعمد مباشرةً إلى ذكر المتشابه اللفظي وبيان الفرق بين الموضعين كالإمام الكرماني

(1)

.

مثال ذلك: قال الإمام الألوسي عند تفسيره قوله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ}

(2)

: «وبعض صحح أن القرآن في نفسه هدى في كل شيء حتى معرفة الله تعالى لمن تأمل في أدلته العقلية وحججه اليقينية كما يشعر به ظاهر قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ}

(3)

ويكون الاقتصار على المتقين هنا بناء على تفسيرنا الهداية مدحاً لهم ليبين سبحانه أنهم الذين اهتدوا وانتفعوا به كما قال تعالى: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ

(1)

الإمام الكرماني ترك أيضًا أسلوب الخطاب والمناقشة للمزيد يُنظر: توجيه المتشابه اللفظي في القرآن الكريم بين القدامى والمحدثين الجزء الأول (ص: 138، 139).

(2)

سورة البقرة، الآية:(2).

(3)

سورة البقرة، الآية:(185).

ص: 124

يخشاها}

(1)

مع عموم إنذاره صلى الله عليه وسلم وأما غيرهم فلا {وَإِذَا قَرَأْتَ القرءان جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الذين لَا يُؤْمِنُونَ بالاخرة حِجَابًا مَّسْتُورًا}

(2)

، و {لا يَزِيدُ الظالمين إَلاَّ خَسَارًا}

(3)

.

مثال آخر: قال أيضًا عند تفسير قوله تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُنظروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ}

(4)

: «وذكر أن التحقيق أنه سبحانه قال هنا: {ثُمَّ يُنظروا} وفي غير ما موضع {فيُنظروا}

(5)

؛ لأن المقام هنا يقتضي ثم دونه في هاتيك المواضع وذلك لتقدم قوله تعالى فيما نحن فيه: {أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِم مّن قَرْنٍ مكناهم فِى الارض}

(6)

مع قوله سبحانه وتعالى: {وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ}

(7)

، والأول يدل على أن الهالكين طوائف كثيرة. والثاني يدل على أن المنشأ بعدهم أيضاً كثيرون فيكون أمرهم بالسير دعاء لهم إلى العلم بذلك فيكون المراد به استقراء البلاد ومنازل أهل الفساد على كثرتها ليروا الآثار في ديار بعد ديار وهذا مما يحتاج إلى زمان ومدة طويلة تمنع من التعقيب الذي تقتضيه الفاء ولا كذلك في المواضع الاخر اه، ولا يخلو عن دغدغة. واختار غير واحد أن السير متحد هناك وهنا ولكنه أمر ممتد يعطف النظر عليه بالفاء تارةُ نظرًا إلى آخره وتارةً أخرى نظراً إلى أوله وكذا شأن كل ممتد «

(8)

.

فالإمام الألوسي عرض المتشابه مباشرة ثم ذكر التوجيه دون أن يطرح سؤال وجواب.

‌ثانيا: أسلوب الإمام الألوسي في التوجيه:

أ. أسلوب الإمام الألوسي في التوجيه يشبه كثيرًا أسلوب الإمام الرازي فيمتاز في أغلب المواضع بالإيجاز، والسهولة، والاختصار التي لا يُشعر القارئ بالملل، لكنه قام باختصار بعض المسائل في حين أنها تحتاج إلى بسط، وهذا مما يؤخذ عليه.

(1)

سورة العاشية، الآية:(45).

(2)

سورة الإسراء، الآية:(45).

(3)

سورة الإسراء، الآية:(82). ويُنظر: روح المعاني، (ص: 112، 113).

(4)

سورة الأنعام، الآية:(11).

(5)

سورة آل عمران، الآية:(137)، النمل، الآية:(36)، العنكبوت، الآية:(20)، الروم، الآية:(42).

(6)

سورة الأنعام، الآية:(6).

(7)

سورة الأنعام، الآية:(6).

(8)

روح المعاني، (4/ 98).

ص: 125

ومن الأمثلة على الايجاز والاختصار في التوجيه:

قال الإمام الألوسي عند تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ}

(1)

: «وغير سبحانه الأسلوب حيث قال أولاً: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ}

(2)

وهنا {وَإِذَا قُلْنَا} بضمير العظمة لأن في الأول خلق آدم واستخلافه، فناسب ذكر الربوبية مضافاً إلى أحب خلفائه إليه وهنا المقام مقام إبراد أمر يناسب العظمة وأيضاً في السجود تعظيم، فلما أمر بفعله لغيره أشار إلى كبريائه الغنية عن التعظيم»

(3)

.

وعند تفسيره لقوله تعالى: {وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}

(4)

قال: «وفصلت الآية السابقة بـ {يَتَفَكَّرُونَ}

(5)

؛ لأنها كانت لبيان الأحكام والمصالح والمنافع والرغبة فيها التي هي محل تصرف العقل والتبيين للمؤمنين فناسب التفكر، وهذه الآية بـ {يَتَذَكَّرُونَ} لأنها تذييل للإخبار بالدعوة إلى الجنة والنار التي لا سبيل إلى معرفتها إلا النقل والتبيين لجميع الناس فناسب التذكر»

(6)

.

أيضًا عند تفسيره لقول الله عز وجل: {فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ}

(7)

قال: «لا تعارض بين ماهنا وقوله سبحانه: {كَأَنَّهَا جَانٌّ}

(8)

بناء على أن الجان هي الحية الصغيرة لما قالوا: إن القصة غير واحدة، أو أن المقصود من ذلك تشبيهاً في خفة الحركة بالجان لا بيان جثتها، أو لما قيل: إنها انقلبت جاناً وصارت ثعباناً فحكيت الحالتان في آيتين»

(9)

.

من خلال الأمثلة السابقة يتضح سهولة أسلوب الإمام الألوسي في التوجيه وإيجازه، وهذا هو الغالب على أكثر توجيهاته.

(1)

سورة البقرة، الآية:(34).

(2)

سورة البقرة، الآية:(30).

(3)

روح المعاني، (1/ 230).

(4)

سورة البقرة، الآية:(219).

(5)

سورة البقرة، الآية:(30).

(6)

روح المعاني، (1/ 514).

(7)

سورة الأعراف، الآية:(107).

(8)

سورة النمل، الآية:(10).

(9)

روح المعاني، (5/ 20).

ص: 126

*ومن الأمثلة على أنه قام باختصار بعض المسائل في حين أنها تحتاج إلى بسط:

عندما تفسيره لقول الله تعالى: {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا}

(1)

قال: «والمراد بها العموم لقرينة المقام وعدم المرجح أي أيّ مكان من الجنة شئتما وأباح لهما الأكل كذلك إزاحة للعذر في التناول مما حظر، ولم تجعل متعلقة بـ {اسكن} ، لأن عموم الأمكنة مستفاد من جعل الجنة مفعولا به له، مع أن التكريم في الأكل من كل ما يريد منها لا في عدم تعيين السكنى ولأن قوله تعالى في آية أخرى:{فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا}

(2)

يستدعي ما ذكرنا»

(3)

.

وفي الموضع الثاني (سورة الأعراف) عند تفسيره لقول الله عز وجل: {وَيَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ}

(4)

: «{فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا} لتعميم التشريف والإيذان بتساويهما في مباشرة المأمور به فإن حواء أسوة له عليه السلام في حق الأكل بخلاف السكنى فإنها تابعة له فيها ولتعليق النهي الآتي بهما صريحاً، والمعنى فكلا منها حيث شئتما كما في البقرة، ولم يذكر {رَغَدًا} هنا ثقة بما ذكر هناك»

(5)

.

فالإمام الألوسي لم يبين الفرق بين موضعي المتشابه: {وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا} ، {فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا} عند تفسيره لموضعي المتشابه في سورتي البقرة والأعراف، مع أن المقام يحتاج إلى بسط.

ب. إطالة التوجيه أحيانًا، بل وذكر عدة أوجه لاختلاف الألفاظ من موضع لأخر:

مثال ذلك: قال عند تفسيره قول الله عز وجل: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}

(6)

: «{قُلْنَا اهبطوا مِنْهَا جَمِيعًا} كرر للتأكيد،

(1)

سورة البقرة، الآية:(35).

(2)

سورة الأعراف، الآية:(19).

(3)

روح المعاني، (1/ 236).

(4)

سورة الأعراف، الآية:(19).

(5)

روح المعاني، (4/ 339).

(6)

سورة البقرة، الآية:(38).

ص: 127

فالفصل لكمال الاتصال والفاء في {فَتَلَقَّى}

(1)

للاعتراض، إذ لا يجوز تقدم المعطوف على التأكيد، وفائدته الإشارة إلى مزيد الاهتمام بشأن التوبة وأنه يجب المبادرة إليها، ولا يمهل فإنه ذنب آخر مع ما في ذلك من إظهار الرغبة بصلاح حاله عليه السلام وفراغ باله، وإزالة ما عسى يتشبث به الملائكة عليهم السلام، وقد فضل عليهم وأمروا بالسجود له، أو كرر ليتعلق عليه معنى آخر غير الأول، إذ ذكر إهباطهم أولاً: للتعادي وعدم الخلود، والأمر فيه تكويني. وثانياً: ليهتدي من يهتدي، ويضل من يضل، والأمر فيه تكليفي، ويسمى هذا الأسلوب في البديع الترديد فالفصل حينئذ للانقطاع لتباين الغرضين، وقيل: إن إنزال القصص للاعتبار بأحوال السابقين، ففي تكرير الأمر تنبيه على أن الخوف الحاصل من تصور إهباط آدم عليه السلام المقترن بأحد هذين الأمرين من التعادي والتكليف كاف لمن له حزم، وخلا عن عذر أن تعوقه عن مخالفة حكمه تعالى، فكيف المخالفة الحاصلة من تصور الإهباط المقترن بهما؟ فلو لم يعد الأمر لعطف {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم} على الأول: فلا يفهم إلا إهباط مترتب عليه جميع هذه الأمور، ويحتمل على بعد أن تكون فائدة التكرار التنبيه على أنه تعالى هو الذي أراد ذلك، ولولا إرادته لما كان ما كان؛ ولذلك أسند الإهباط إلى نفسه مجرداً عن التعليق بالسبب بعد إسناد إخراجهما إلى الشيطان، فهو قريب من قوله عز شأنه:{وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكن الله رمى}

(2)

وقال الجبائي: إن الأول: من الجنة إلى السماء. والثاني: منها إلى الأرض، ويضعفه ذكر {وَلَكُمْ فِى الارض مُسْتَقَرٌّ}

(3)

عقيب الأول و {جَمِيعاً} حال من فاعل {اهبطوا} أي مجتمعين، سواء كان في زمان واحد أو لا، وقد يفهم الاتحاد في الزمان من سياق الكلام، كما قيل به في {فَسَجَدَ الملائكة كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ}

(4)

وأبعد ابن عطية فجعله تأكيداً لمصدر محذوف أي هبوطاً جميعاً»

(5)

.

مثال آخر: أيضًا عند تفسير قوله تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ}

(6)

قال: «{وَيُعَلّمُكُمُ الكتاب والحكمة}

(1)

سورة البقرة، الآية:(37).

(2)

سورة الأنفال، الآية:(17).

(3)

سورة البقرة، الآية:(36).

(4)

سورة الحجر، الآية:(30).

(5)

روح المعاني، (1/ 239).

(6)

سورة البقرة، الآية:(151).

ص: 128

صفة إثر صفة وأخرت لأن تعليم الكتاب وتفهيم ما انطوى عليه من الحكمة الإلهية والأسرار الربانية إنما يكون بعد التخلي عن دنس الشرك ونجس الشك بالاتباع، وأما قبل ذلك فالكفر حجاب، وقدم التزكية على التعليم في هذه الآية وأخرها عنه في دعوة إبراهيم لاختلاف المراد بها في الموضعين، ولكل مقام مقال، وقيل: التزكية عبارة عن تكميل النفس بحسب القوة العملية وتهذيبها المتفرع على تكميلها بحسب القوة النظرية الحاصل بالتعليم المترتب على التلاوة إلا أنها وسطت بين التلاوة والتعليم المترتب عليها للإيذان بأن كلاً من الأمور المترتبة نعمة جليلة على حيالها مستوجبة للشكر ولو روعي ترتيب الوجود كما في دعوة إبراهيم عليه الصلاة والسلام لتبادر إلى الفهم كون الكل نعمة واحدة، وقيل: قدمت التزكية تارة وأخرت أخرى لأنها علة غائية لتعليم الكتاب والحكمة، وهي مقدمة في القصد والتصور مؤخرة في الوجود والعمل فقدمت وأخرت رعاية لكل منهما، واعترض بأن غاية التعليم صيرورتهم أزكياء عن الجهل لا تزكية الرسول عليه الصلاة والسلام إياها المفسرة بالحمل على ما يصيرون به أزكياء لأن ذلك إما بتعليمه إياهم أو بأمرهم بالعمل به فهي إما نفس التعليم أو أمر لا تعلق له به، وغاية ما يمكن أن يقال: إن التعليم باعتبار أنه يترتب عليه زوال الشك وسائر الرذائل تزكيته إياهم فهو باعتبار غاية وباعتبار مغيا كالرمي. والقتل في قولهم: رماه فقتله فافهم»

(1)

.

*أيضًا قام بتوجيه آيات المتشابه اللفظي الخاصة بالحروف المقطعة وأطال التوجيه ونقل الكثير من الآراء

(2)

.

ج. طول النفس في توجيه جميع مسائل المتشابه اللفظي بين الآيات في بعض المواضع.

ومن ذلك تناول الإمام الألوسي للفروق بين آيتي الأمر بدخول القرية في سورتي البقرة والأعراف حيث قال: «وقد ذكر مولانا الإمام الرازي رحمه الله تعالى أن هذه الآية ذكرت في الأعراف مع مخالفة من وجوه لنكات. الأول: قال هنا: {وَإِذْ قُلْنَا}

(3)

لما قدم ذكر النعم؛ فلا بد من ذكر

(1)

روح المعاني، (1/ 417).

(2)

يُنظر: توجيه الإمام الألوسي للحروف المقطعة ونقله للآراء، روح المعاني، (1/ 101 - 106).

(3)

سورة البقرة، الآية:(58).

ص: 129

المنعم، وهناك {وَإِذْ قِيلَ}

(1)

إذ لا إبهام بعد تقديم التصريح به. الثاني: قال هنا: {أَدْخِلُواْ} وهناك {اسكنوا} لأن الدخول مقدم، ولذا قدم وضعاً المقدم طبعاً. الثالث: قال هنا: {خطاياكم} بجمع الكثرة لما أضاف ذلك القول إلى نفسه، واللائق بجوده غفران الذنوب الكثيرة، وهناك {خطيئاتكم} بجمع القلة إذ لم يصرح بالفاعل. الرابع: قال هنا: {رَغَدًا} دون هناك لإسناد الفعل إلى نفسه هنا، فناسب ذكر الإنعام الأعظم وعدم الإسناد هناك.

الخامس: قال هنا: {ادخلوا الباب سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ} وهناك بالعكس، لأن الواو لمطلق الجمع، وأيضاً المخاطبون يحتمل أن يكون بعضهم مذنبين، والبعض الآخر ما كانوا كذلك، فالمذنب لا بد وأن يكون اشتغاله بحط الذنب مقدماً على اشتغاله بالعبادة، فلا جرم كان تكليف هؤلاء أن يقولوا:(حطة) ثم يدخلوا وأما الذي لا يكون مذنباً، فالأولى به أن يشتغل أولاً: بالعبادة ثم يذكر التوبة. ثانياً: للهضم وإزالة العجب فهؤلاء يجب أن يدخلوا ثم يقولوا فلما احتمل كون أولئك المخاطبين منقسمين إلى ذين القسمين، لا جرم ذكر حكم كل واحد منهما في سورة أخرى. السادس: قال هنا: {وَسَنَزِيدُ} بالواو وهناك بدونه، إذ جعل هنا المغفرة مع الزيادة جزاءاً واحداً لمجموع الفعلين، وأما هناك فالمغفرة جزاء قول (حطة) والزيادة جزاء الدخول فترك (الواو) يفيد توزع كل من الجزاءين على كل من الشرطين.

السابع: قال هناك: {الذين ظَلَمُوا مِنْهُمْ}

(2)

وهنا لم يذكر (منهم) لأن أول القصة هناك مبني على التخصيص بـ {مِنْ} حيث قال: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق}

(3)

فخص في آخر الكلام ليطابق أوله؛ ولما لم يذكر في الآيات التي قبل {فَبَدَّلَ} هنا تمييزاً وتخصيصاً لم يذكر في آخر القصة ذلك. الثامن: قال هنا: {فَأَنزَلْنَا} وهناك {فَأَرْسَلْنَا} ؛ لأن الإنزال يفيد حدوثه في أول الأمر، والإرسال يفيد تسليطه عليهم واستئصاله لهم، وذلك يكون بالآخرة. التاسع: قال هنا: {فَكُلُوا}

(4)

بالفاء وهناك بالواو لما مر في {وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا}

(5)

وهو أن كل فعل عطف عليه

(1)

سورة الأعراف، الآية:(161).

(2)

سورة الأعراف، الآية:(162).

(3)

سورة الأعراف، الآية:(159).

(4)

سورة البقرة، الآية:(58).

(5)

سورة البقرة، الآية:(35).

ص: 130

شيء وكان الفعل بمنزلة الشرط، وذلك الشيء بمنزلة الجزاء عطف الثاني على الأول بالفاء دون الواو فلما تعلق الأكل بالدخول قيل في سورة البقرة:{فَكُلُوا} ولما لم يتعلق الأكل بالسكون في الأعراف قيل: {وَكُلُوا} . العاشر: قال هنا: {يَفْسُقُونَ} وهناك {يَظْلِمُونَ}

(1)

؛ لأنه لما بين هنا كون الفسق ظلماً اكتفى بلفظ الظلم هناك انتهى. ولا يخفى ما في هذه الأجوبة من النظر، أما في الأول والثاني والثامن والعاشر فلأنها إنما تصح إذا كانت سورة البقرة متقدمة على سورة الأعراف نزولاً كما أنها متقدمة عليها ترتيباً وليس كذلك، فإن سورة البقرة كلها مدنية، وسورة الأعراف كلها مكية إلا ثمان آيات من قوله تعالى:{وَسْئَلْهُمْ عَنِ القرية} إلى قوله تعالى: {وَإِذ نَتَقْنَا الجبل}

(2)

وقوله تعالى: {اسكنوا هذه القرية}

(3)

داخل في الآيات المكية، فحينئذ لا تصح الأجوبة المذكورة. وأما ما ذكر في التاسع فيرد عليه منع عدم تعلق الأكل بالسكون لأنهم إذا سكنوا القرية، تتسبب سكناهم للأكل منها كما ذكر الزمخشري، فقد جمعوا في الوجود بين سكناها والأكل منها، فحينئذ لا فرق بين {كُلُوا} و {فَكُلُوا} فلا يتم الجواب، وأما الثالث فلأنه تعالى وإن قال في الأعراف {وَإِذْ قِيلَ}

(4)

لكنه قال في السورتين: {نَّغْفِرْ لَكُمْ}

(5)

وأضاف الغفران إلى نفسه، فبحكم تلك اللياقة ينبغي أن يذكر في السورتين جمع الكثرة بل لا شك أن رعاية {نَّغْفِرْ لَكُمْ} أولى من رعاية {وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ} لتعلق الغفران بالخطايا كما لا يخفى على العارف بالمزايا. وأما الرابع فلأنه تعالى وإن لم يسند الفعل إلى نفسه تعالى لكنه مسند إليه في نفس الأمر، فينبغي أن يذكر الإنعام الأعظم في السورتين.

وأما الخامس فلأن القصة واحدة، وكون بعضهم مذنبين وبعضهم غير مذنبين محقق فعلى مقتضى ما ذكر ينبغي أن يذكر {وَقُولُوا حِطَّةٌ} مقدماً في السورتين. وأما السادس فلأن القصة واحدة، وأن الواو لمطلق الجمع، وقوله تعالى:{نَّغْفِرْ} في مقابلة {قُولُواْ} سواء قدم أو أخر، وقوله تعالى:{وَسَنَزِيدُ} في مقابلة {وادخلوا} سواء ذكر الواو أو ترك، وأما السابع فلأنه تعالى

(1)

سورة الأعراف، الآية:(162).

(2)

سورة الأعراف، الآية:(163).

(3)

سورة الأعراف، الآية:(161).

(4)

سورة الأعراف، الآية:(161).

(5)

سورة الأعراف، الآية:(161).

ص: 131

قد ذكر هنا قبل {فَبَدَّلَ} ما يدل على التخصيص والتمييز، حيث قال سبحانه:{وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الغمام وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ المن والسلوى كُلُوا مِنْ طيبات مَا رزقناكم}

(1)

الخ بكافات الخطاب وصيغته فاللائق حينئذ أن يذكر لفظ (منهم) أيضاً، والجواب الصحيح عن جميع هذه السؤالات وما حكاها ما ذكره الزمخشري من أنه لا بأس باختلاف العبارتين إذا لم يكن هناك تناقض، ولا تناقض بين قوله تعالى:{اسكنوا هذه القرية}

(2)

، وقوله:{وَكُلُوا} ؛ لأنهم إذا سكنوا القرية فتسبب سكناهم للأكل منها، فقد جمعوا في الوجود بين سكناها والأكل منها، وسواء قدموا (الحطة) على دخول الباب أو أخروها، فهم جامعون في الإيجاد بينهما، وترك ذكر الرغد لا يناقض إثباته، وقوله تعالى:{نَّغْفِرْ لَكُمْ خطاياكم سَنَزِيدُ المحسنين}

(3)

موعد بشيئين بالغفران والزيادة، وطرح الواو لا يخل لأنه استئناف مرتب على تقدير قول القائل: ماذا بعد الغفران؟ فقيل له: {سَنَزِيدُ المحسنين} وكذلك زيادة {مِنْهُمْ} زيادة بيان، و {فَأَرْسَلْنَا} ، و {أَنزَلْنَا} ، و {يَظْلِمُونَ} ، و {يَفْسُقُونَ} من دار واحد، انتهى.

وبالجملة التفنن في التعبير لم يزل دأب البلغاء، وفيه من الدلالة على رفعة شأن المتكلم ما لا يخفى، والقرآن الكريم مملوء من ذلك، ومن رام بيان سر لكل ما وقع فيه منه فقد رام ما لا سبيل إليه إلا بالكشف الصحيح والعلم اللدني، والله يؤتي فضله من يشاء، وسبحان من لا يحيط بأسرار كتابه إلا هو»

(4)

.

من خلال المثال يتضح طول نفس الإمام الألوسي فقد قام بتوجيه جميع مسائل المتشابه اللفظي بين الآيات، وعرض رأى الإمام الرازي، وتعقبه، ورد عليه، وذكر توجيهات آخرى لمواضع المتشابه اللفظي بين الآيتين.

‌ثالثًا: ذكر توجيه المتشابه في الموضع الأول:

أ. الإمام الألوسي غالبًا يذكر توجيه المتشابه اللفظي في الآية الأولى (الموضع الأول):

(1)

سورة البقرة، الآية:(157).

(2)

سورة الأعراف، الآية:(161).

(3)

سورة الأعراف، الآية:(161).

(4)

روح المعاني، (1/ 268، 269).

ص: 132

مثال ذلك: عند تفسير قوله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ}

(1)

، قال: «وبعض صحح أن القرآن في نفسه هدى في كل شيء حتى معرفة الله تعالى لمن تأمل في أدلته العقلية وحججه اليقينية كما يشعر به ظاهر قوله تعالى: {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدي للناس}

(2)

ويكون الاقتصار على المتقين هنا بناء على تفسيرنا الهداية مدحاً لهم ليبين سبحانه أنهم الذين اهتدوا وانتفعوا به كما قال تعالى: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يخشاها}

(3)

مع عموم إنذاره صلى الله عليه وسلم وأما غيرهم فلا {وَإِذَا قَرَأْتَ القرءان جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الذين لَا يُؤْمِنُونَ بالاخرة حِجَابًا مَّسْتُورًا}

(4)

و {لا يَزِيدُ الظالمين إَلاَّ خَسَارًا}

(5)

وأما القول بأن التقدير هدى للمتقين والكافرين فحذف لدلالة المتقين على حد {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر}

(6)

فمما لا يلتفت إليه هذا»

(7)

.

ب. لكنه أحيانًا لا يأتي بتوجيه المتشابه في الآية المتقدمة ويأتي به في الآية المتأخرة.

مثال ذلك: عند تفسير قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ}

(8)

قال: «وقد تفنن في التعبير فجاءت الشفاعة أولاً: بلفظ القبول متقدمة على العدل وهنا: النفع متأخرة عنه، ولعله كما قيل إشارة إلى انتفاء أصل الشيء وانتفاء ما يترتب عليه، وأعطي المقدم وجوداً تقدمه ذكراً، والمتأخر وجوداً تأخره ذكراً، وقيل: إن ما سبق كان للأمر بالقيام بحقوق النعم السابقة، وما هنا لتذكير نعمة بها فضلهم على العالمين وهي نعمة الإيمان ببني زمانهم، وانقيادهم لأحكامه ليغتنموها ويؤمنوا ويكونوا من الفاضلين لا المفضولين وليتقوا بمتابعته عن أهوال القيامة وخوفها كما اتقوا بمتابعة موسى عليه السلام»

(9)

.

(1)

سورة البقرة، الآية:(2).

(2)

سورة البقرة، الآية:(185).

(3)

سورة النازعات، الآية:(45).

(4)

سورة الإسراء، الآية:(45).

(5)

سورة الإسراء، الآية:(82).

(6)

سورة النحل، الآية:(81).

(7)

روح المعاني، (1/ 112، 113).

(8)

سورة البقرة، الآية:(123).

(9)

روح المعاني، (1/ 371).

ص: 133

ج. إلا أنه أحيانًا بعض التوجيه في الآية الأولى (الموضع الأول) ولكنه يفصله أكثر في الآية الثانية (الموضع الثاني).

مثال ذلك: عند تفسير قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}

(1)

قال: «بقي هاهنا: بيان النكتة في تغيير الأسلوب حيث قدم في الظاهر هاهنا وفي {حم} السجدة خلق الأرض وما فيها على خلق السموات وعكس في النازعات ولعل ذلك لأن المقام في الأولين مقام الامتنان فمقتضاه تقديم ما هو نعمة نظراً إلى المخاطبين فكأنه قال سبحانه وتعالى: هو الذي دبر أمركم قبل خلق السماء قم خلق السماء، والمقام في الثالثة مقام بيان كمال القدرة فمقتضاه تقديم ما هو أدل على كمالها، هذا والذي يفهم من بعض عبارات القوم قدس الله تعالى أسرارهم أن المحدد ويقال له سماء أيضاً مخلوق قبل الأرض وما فيها، وأن الأرض نفسها خلقت بعد، ثم بعد خلقها خلقت السموات السبع، ثم بعد السبع خلق ما في الأرض من معادن ونبات، ثم ظهر عالم الحيوان، ثم عالم الإنسان، فمعنى {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِى الارض} حينئذ قدره أو أراد إيجاده أو أوجد مواذه، ومعنى {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ} الخ في الآية الأخرى على نحو هذا، وخلق الأرض فيها على ظاهره ولا يأباه قوله سبحانه: {فَقَالَ لَهَا وَلِلاْرْضِ ائتيا} الخ لجواز حمله على معنى ائتيا بما خلقت فيكما من التأثير والتأثر وإبراز ما أودعتكما من الأوضاع المختلفة والكائنات المتنوعة، أو إتيان السماء حدوثها وإتيان الأرض أن تصير مدحوة أو ليأت كل منكما الأخرى في حدوث ما أريد توليده منكما، وبعد هذا كله لا يخلو البحث من صعوبة، ولا زال الناس يستصعبونه من عهد الصحابة رضي الله تعالى عنهم إلى الآن، ولنا فيه إن شاء الله تعالى عودة بعد عودة، ونسأل الله تعالى التوفيق»

(2)

.

فالإمام الألوسي عند تفسيره لسورة البقرة (الموضع الأول للمتشابه) ذكر التوجيه مختصرًا، وعند تفسيره لسورة فصلت أعاد التوجيه مرة أخرى وأطال جدًا وذكر الكثير من الآراء

(3)

.

(1)

سورة البقرة، الآية:(29).

(2)

روح المعاني، (1/ 219).

(3)

يُنظر نص المسألة: روح المعاني، (12/ 357).

ص: 134

د. وأحيانًا يذكر توجيه المتشابه في الموضع الذي يذكره ولا يبين توجيه الموضع الآخر، وهذا مما يؤخذ عليه.

مثال ذلك: عند تفسير قوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا}

(1)

قال: «وإنما قدم سبحانه وتعالى هنا ذكر الأموال على الأنفس وعكس في قوله عز شأنه: {إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وأموالهم}

(2)

؛ لأن النفس أشرف من المال فقدم المشتري النفس تنبيهاً على أن الرغبة فيها أشد وأخر البائع تنبيهاً على أن المماكسة فيها أشد فلا يرضى ببذلها إلا في فائدة»

(3)

.

هـ. وأحيانًا يذكر التوجيه مرة أخرى ولكن مختصرًا في الموضع الثاني:

مثال ذلك: عند تفسير قوله تعالى: {قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}

(4)

قال: «بقي أمر تقديم التعليم على التزكية في آية البقرة ولعله كان إيذاناً بشرافة التحلية كما أشرنا إليه هناك فتأمل»

(5)

.

فقد قام الإمام الألوسي بتوجيه المتشابه في الموضع الأول (سورة البقرة)

(6)

، وحين أتي للموضع الثاني أختصر التوجيه، وأشار إلى ذكره سابقًا.

*و. وأحيانًا يأتي بتوجيه مختلف للمتشابه في الموضع الثاني عنه في الموضع الأول:

(1)

سورة النساء، الآية:(95).

(2)

سورة التوبة، الآية:(111).

(3)

روح المعاني، (3/ 118).

(4)

سورة آل عمران، الآية:(164).

(5)

روح المعاني، (2/ 326).

(6)

يُنظر نص الموضع الأول: روح المعاني، (1/ 417).

ص: 135

مثال: عند تفسير الإمام الألوسي لآيتي دخول القرية في سورتي البقرة والأعراف في الموضع الأول (سورة البقرة) تعقب آراء الإمام الرازي، ورجح آراء الزمخشري، ولكنه عند تفسير سورة الأعراف (الموضع الثاني) ذكر توجيهات آخرى للمتشابه، ونقل بعضها من الإمام الرازي

(1)

(الإمام الرازي أيضًا ذكر توجيهات للمتشابه بين الآيتين في سورة الأعراف مختلفة عنها في سورة البقرة وقد وضحت ذلك عند الحديث عن منهج الإمام الرازي، وسأقوم بالحديث عن ذلك بالتفصيل عند المقارنة بين الإمامين).

‌رابعًا: في بعض الأحيان يأتي بالمتشابه ولا يوجهه، ويرد العلم إلى الله.

مثال ذلك: عند تفسير قوله تعالى: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ}

(2)

قال: «وفي حكاية التوبيخ ههنا بهذه العبارة وفي سورة الحجر بقوله تعالى: {قَالَ يإِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ الساجدين}

(3)

وفي سورة ص بقوله سبحانه: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ}

(4)

إشارة إلى أن اللعين أدمج في معصية واحدة غير واحدة وقد وبخ على كل من ذلك لكن اقتصر عند الحكاية في كل موطن على ما ذكر فيه اكتفاء بما ذكر في موطن آخر وإشعاراً بأن كل واحدة من هاتيك المعاصي كافية في التوبيخ و (إظهار) بطلان ما ارتكبه، وقد تركت حكاية التوبيخ رأساً في سورة البقرة وسورة بني إسرائيل وسورة الكهف وسورة طه والله تعالى أعلم بحكمة كل»

(5)

.

(1)

يُنظر الموضع الأول (سورة البقرة): روح المعاني، (1/ 268 - 269)، الموضع الثاني (سورة الأعراف) روح المعاني، (5/ 83 - 84).

(2)

سورة الأعراف، الآية:(12).

(3)

سورة الحجر، الآية:(32).

(4)

سورة ص، الآية:(75).

(5)

روح المعاني، (4/ 329).

ص: 136

‌القسم الثاني: ملامح الاشتغال التطبيقي عند الألوسي في توجيه المتشابه اللفظي:

*‌

‌أولًا: ما اعتمد عليه الإمام الألوسي في التوجيه:

اعتمد على المعنى والتوجيه النحوي، وعلم القراءات، والسياق، وظهرت بلاغة المتشابه اللفظي من تقديم وتأخير، وذكر وحذف، وتعريف وتنكير، وغيرهم واضحة في توجيهه للمتشابه اللفظي وحمل توجيه المتشابه على التفنن في التعبير في بعض المسائل، وكذلك مراعاة الفواصل.

‌أ. اللغة والمعاني:

من الأمثلة على اعتماد الإمام الألوسي على المعاني في توجيه المتشابه اللفظي في القرآن الكريم قوله في تفسير قوله تعالى: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}

(1)

: «من الكفر والمعاصي فلم يخطروا ببالهم أن ما اعتراهم من البأساء والضراء ما اعتراهم إلا لأجله. والتزيين له معان، أحدهما إيجاد الشيء حسنا مزينا في نفس الأمر كقوله تعالى:{زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا}

(2)

، والثاني جعله مزينا من غير إيجاد كتزيين الماشطة العروس، والثالث جعله محبوبا للنفس مشتهى للطبع وإن لم يكن في نفسه كذلك وهذا إما بمعنى خلق الميل في النفس والطبع وإما بمعنى تزويقه وترويجه بالقول وما يشبهه كالوسوسة والإغراء، وعلى هذا يبنى أمر إسناده فإنه جاء في النظم الكريم تارة مسندا إلى الشيطان كما في هذه الآية وتارة إليه سبحانه كما في قوله سبحانه:{كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ}

(3)

، وتارة إلى البشر كقوله عز وجل:{زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ}

(4)

فإن كان بالمعنى الأول فإسناده إلى الله تعالى حقيقة، وكذلك إذا كان بالمعنى الثالث بناء على المراد منه أولًا، وإن كان بالمعنى الثاني أو الثالث بناء على المراد منه ثانيًا فإسناده إلى الشيطان أو البشر حقيقة، ولا يمكن إسناد ما يكون بالإغواء والوسوسة إليه سبحانه كذلك. وجاء أيضا غير مذكور الفاعل كقوله سبحانه:{زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ}

(5)

وحينئذ يقدرفي كل مكان ما يليق به»

(6)

.

(1)

سورة الأنعام، الآية:(43).

(2)

سورة الصافات، الآية:(6).

(3)

سورة الأنعام، الآية:(108).

(4)

سورة الأنعام، الآية:(137).

(5)

سورة يونس، الآية:(12).

(6)

روح المعاني، (4/ 143).

ص: 137

‌ب. علم النحو:

من الأمثلة على استشهاده بعلم النحو في التوجيه قال في تفسير قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}

(1)

: «وقوله سبحانه في الظلمات أي في ظلمات الكفر وأنواعه أو في ظلمة الجهل وظلمة العناد وظلمة التقليد في الباطل إما خبر بعد خبر للموصول على أنه واقع موقع عمى كما في قوله تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ}

(2)

ووجه ترك العطف فيه دون ما تقدمه الإيماء إلى أنه وحده كاف في الذم والإعراض عن الحق، واختير العطف فيما تقدم للتلازم، وقد يترك رعاية لنكتة أخرى وإما متعلق بمحذوف وقع حالا من المستكن في الخبر كأنه قيل: ضالون خابطين أو كائنين في الظلمات. ورجحت الحالية بأنها أبلغ إذ يفهم حينئذ أن صممهم وبكمهم مقيد بحال كونهم في ظلمات الكفر أو الجهل وأخويه حتى لو أخرجوا منها لسمعوا ونطقوا، وعليها لا يحتاج إلى بيان وجه ترك العطف. وجوز أبو البقاء أن يكون خبر مبتدإ محذوف أي هم في الظلمات وأن يكون صفة لـ (بكم) أو ظرفا له أو لـ (صم) أو لما ينوب عنهما من الفعل»

(3)

.

‌ج. علم القراءات:

قال في تفسير قوله تعالى: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}

(4)

: «{عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} ، أي: ما يظنونه ويتربصونه بالمؤمنين فهو حائق بهم ودائر عليهم، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو {دَائِرَةُ السُّوء} بالضم

(5)

، والفرق بينه وبين {السوء} بالفتح على ما في الصحاح أن المفتوح مصدر والمضموم اسم مصدر بمعنى المساءة.

(1)

سورة الأنعام، الآية:(39).

(2)

سورة البقرة، الآية:(18).

(3)

روح المعاني، (4/ 140).

(4)

سورة الفتح، الآية:(6).

(5)

يُنظر: النشر في القراءات العشر، محمد بن محمد الدمشقي الشهير بابن الجزري، أشرف على تصحيحه: محمد على الضباع، الجزء الثاني، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، (2/ 280).

ص: 138

وقال غير واحد: هما لغتان بمعنى كالكره والكره عند الكسائي وكلاهما في الأصل مصدر غير أن المفتوح غلب في أن يضاف إليه ما يراد ذمه والمضموم جري مجري الشر، ولما كانت الدائرة هنا محمودة وأضيفت إلى المفتوح في قراءة الأكثر تعين على هذا أن يقال: إن ذاك على تأويل انها مذمومة بالنسبة إلى من دارت عليه من المنافقين والمشركين واستعمالها في المكروه أكثر وهي مصدر بزنة اسم الفاعل أو اسم فاعل، وإضافتها على ما قال الطيبي من إضافة الموصوف إلى الصفة للبيان على المبالغة، وفي الكشف الإضافة بمعنى من على نحو دائرة ذهب فتدبر»

(1)

.

‌د. السياق:

ومن الأمثلة على اعتماده على السياق: قال في الفرق بين التقديم والتأخير في قوله تعالى: {وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ}

(2)

، وقوله تعالى:{وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِر}

(3)

.

قال الإمام الألوسي: «وجاء في سورة النحل: {وَتَرَى الفلك مَوَاخِرَ فِيهِ} بتقديم {مَوَاخِرَ} وتأخير {فِيهِ} وعكس ههنا فقيل في وجه؛ لأنه علق {فِيهِ} هنا بترى وثمت بمواخر، ولا يحسم مادة السؤال. والذي يظهر لي في ذلك أن آية النحل سيقت لتعداد النعم كما يؤذن بذاك سوابقها ولواحقها وتعقيب الآيات بقوله سبحانه:{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ الله لَا تُحْصُوهَا}

(4)

فكان الأهم هناك تقديم ما هو نعمة وهو مخر الفلك للماء بخلاف ما هنا فإنه إنما سيق استطراداً أو تتمة للتمثيل كما علمت آنفاً فقدم فيه {فِيهِ} إيذاناً بأنه ليس المقصود بالذات ذلك

(5)

.

‌هـ. بلاغة المتشابه اللفظي في تفسير الألوسي:

ظهرت بلاغة المتشابه اللفظي من تقديم وتأخير، وذكر وحذف، وتعريف وتنكير، وغيرهم واضحة في توجيهه للمتشابه اللفظي، وسأذكر العديد من الأمثلة على ذلك عند الحديث عن أنواع المتشابه اللفظي في تفسير الألوسي.

(1)

روح المعاني، (13/ 249).

(2)

سورة النحل، الآية:(14).

(3)

سورة فاطر، الآية:(12).

(4)

سورة إبراهيم، الآية:(34).

(5)

روح المعاني، (11/ 353).

ص: 139

*‌

‌و. أيضا الإمام الألوسي حمل بعض توجيهاته للمتشابه اللفظي في القرآن الكريم على (التفنن في التعبير).

‌تعريف التفنن في التعبير:

يقول د/ ياسر بابطين: «والتفنن في اللغة أصله: فنن، جاء في العين: الرجل يُفَنِّنُ الكلام أي: يشتقُّ في فَنٍ بعد فَنٍ

(1)

، وفي «الصحاح»: والأفانين: الأساليب، وهي أجناس الكلام وطرقه، ورجل متفنن أي: ذو فنونٍ، وافْتَنَّ الرجل في حديثه وفي خطبته إذا جاء بالأفانين

(2)

.

فالتفنن في اللغة: التنويع بين ضروب الشئ، وكلُّ ضرب منها فنُّ.

أمَّا في الاصطلاح فلعل من أوائل الإشارات إلى مفهوم التفنن قول الشهاب الخفاجي

(3)

: «والتفنن والافتنان: الإتيان بفنونٍ وأنواعٍ من الكلام، وهو أعم من الالتفات لشموله اختلاف وجوه الإعراب في النعوت المقطوعة، وعبارة الشهاب ليست جامعة مانعة، فقد ساقها شرحًا لعبارة البيضاوي، خلافًا لابن عاشور الذي اتجهت عنايته إلى تعريف (التفنن) حيث يقول عن القرآن: "ومن أساليبه ما أسميه بـ (التفنن) وهو: بداعة تنقلاته من فن إلى فن بطرائق الاعتراض والتنظير والتذليل، والإتيان بالمترادفات عند التكرير تجنبًا لثقل تكرير الكلم، وكذلك الإكثار من أسلوب الالتفات المعدود من أعظم أساليب التفنن عند بلغاء العربية، فهو في القرآن كثير، من هنا يمكن القول إن التفنن هو: تنويع الألفاظ أو الأساليب في المعنى الواحد عدولًا عن التكرار،

(1)

معجم العين، للخليل بن أحمد الفراهيدي، المحقق: د مهدي المخزومي، د إبراهيم السامرائي، الناشر: دار ومكتبة الهلال (8/ 372).

(2)

الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية، أبو نصر إسماعيل بن حماد الجوهري، تحقيق: أحمد عبد الغفور عطار، الناشر: دار العلم للملايين - بيروت، الطبعة: الرابعة 1407 هـ - 1987 م (6/ 2177).

(3)

هو شهاب الدين أحمد بن محمد بن عمر الخفاجي المصري الحنفي أحد شعراء العصر العثماني وصاحب التصانيف في الأدب واللغة، وقاضي مصر في عهد السلطان مراد العثماني. ولد عام 1569 م في أحد قرى القاهرة. يُنظر ترجمته في: كشف الظون في أسامي الكتب والفنون (1/ 699)، خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر (1/ 331 - 332).

ص: 140

وتنويع الألفاظ يندرج فيه: تغاير المفردات أو صيغها، وتنويع الأساليب يندرج فيه: تغاير التراكيب والصور»

(1)

.

ويقول أيضًا د/ صالح الشثري: «وهنا إشارة لابد من ذكرها قبل ذكر بعض توجيهات الخطيب الإسكافي وهي أن كثيرًا من المفسرين، وبعض علماء المتشابه يردون مسألة المطابقة اللفظية، أو المناسبة اللفظية إن صح التعبير إلى مسألة التفنن في الكلام، والحق أن البلاغة كما يقال: لكل كلمة مع صاحبها مقام، فالنظر في سياق النص، سواء المتقدم أو المتأخر، له أثره في بلاغة الكلام، وأنها تبحث في مطابقة الكلمة للمقام»

(2)

.

بعض العلماء وجه المتشابه اللفظي في القرآن الكريم وحمله على التفنن:

يقول د/ ياسر بابطين: {{{قال الغرناطي في المغايرة بين الذكر والحذف في قوله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَّبْرَأَهَا}

(3)

، وقوله تعالى {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ}

(4)

: " وجرى ذلك على مسلك العرب وتفتننها في كلامها وتصرفها إذا أطالت لداعٍ موجب وفصّلت، أو أوجزت لمقتضى من المعنى وأجملت "، وقد نص البيضاوي على التفنن في مواضع، وعبارته وإن لم تحمل جديدًا في ذاتها، إلا أنها مظنة نقاشات مهمة في حواشيه»

(5)

.

وحمل أبو حيان على التفنن سياقات وقع فيها التغاير في اختلاف اللفظ المعبر به نحو: (يعملون) و (يصنعون)، وكذلك في الذكر والحذف، والتقديم والتأخير، والاسمية والفعلية

وغالبًا ما يقرنه بالتوسع في اللغة، ويربطه بنكهات أخرى معنوية

(6)

.

(1)

حمل المتشابه على التفنن: تفسير الألوسي أنموذجا، د/ ياسر بن محمد بابطين، مجلة معهد الإمام الشاطبي للدراسات القرآنية، العدد الثامن عشر، (ص: 256 - 258) باختصار.

(2)

المتشابه اللفظي في القرآن الكريم وأسراره البلاغية (ص: 32).

(3)

سورة الحديد، الآية:(22).

(4)

سورة التغابن، الآية:(11).

(5)

يُنظر: ملاك التأويل (2/ 1072)، أنوار التنزيل وأسرار التأويل، ناصر الدين عبد الله البيضاوي، مكتبة مصطفى البابي الحلبي، القاهرة، ط 2 (1/ 9 - 2/ 45)

(6)

يُنظر: البحر المحيط في التفسير (5/ 280).

ص: 141

ورغم أن البقاعي ذو عناية بالدقائق والسياقات، إلا أن ذلك لم يمنعه من الحمل على التفنن، حيث قال: ولما أُعيدت القصة في سورة يونس عليه السلام، كان الأليق بكلام البلغاء والأشبه بطرائق الفصحاء التفنن في العبارة

(1)

.

وكذلك أبو السعود، وقد نقل عن أبي علي أنه إذا ذكرت صفات للمدح وخولف في بعض الإعراب فقد خولف للافتنان، أي: للتفنن الموجب لإيقاظ السامع وتحريكه إلى الجِدّ في الإصغاء، فإن تغير الكلام المسوق لمعنى من المعاني وصَرْفَه من سننه المسلوك ينبئ عن إهتمامٍ جديدٍ بشأنه من المتكلم، ويستجلبُ مزيدَ رغبةٍ فيه من المخاطب

(2)

.

وممن اعتنى بالتفنن وتوسع في مفهومه، واستكثر من الحمل عليه: ابن عاشور، وقد تقدم تعريفه له، أما تتبع مواضعه عنده مما لا يتسع له المقام، إلا أننا نقف على لمحات تجلى لنا شيئًا من ملامح مذهبه فيه، فمن ذلك أنه ضعّف به القول بأن البسملة آيةُ من كل سورة، لأنه ينشأ من هذا القول أن تكون فواتح سور القرآن متماثلة، وذلك مما لا يحمد في كلام البلغاء، إذ الشأن أن يقع التفنن في الفواتح، بل قد عدَّ علماء البلاغة أهم مواضع التأنق فاتحة الكلام وخاتمته، وكذلك توالي تشبيهي المنافقين في سورة البقرة (الآيات 17 - 19) مما جاء على طريقة بلغاء العرب في التفنن في التشبيه قال:«وهذه تفننات جميلة في الكلام البليغ، فما ظنك بها إذا وقعت في التشبيه التمثيلي، فإنه لعزته مفردًا تعز استطاعة تكريره» }}}

(3)

، من خلال هذا العرض الموجز نجد أن جمهور المفسرين البلاغيين يقول بالتفنن، ولا يقرون بتلازم القول بالتفنن وإسقاط النكتة المعنوية.

(1)

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، إبراهيم بن عمر بن حسن الرباط بن علي بن أبي بكر البقاعي (المتوفى: 885 هـ)، الناشر: دار الكتاب الإسلامي، القاهرة (7/ 432).

(2)

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم المعروف بتفسير أبي السعود، أبو السعود العمادي محمد بن محمد بن مصطفى (المتوفى: 982 هـ)، الناشر: دار إحياء التراث العربي - بيروت (1/ 29).

(3)

التحرير والتنوير، محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي (المتوفى: 1393 هـ)، الناشر: الدار التونسية للنشر - تونس، سنة النشر: 1984 هـ (1/ 316)، ويُنظر: حمل المتشابه على التفنن: تفسير الألوسي أنموذجا، (ص: 262 - 268). باختصار

ص: 142

لذا لا ينبغي الاعتماد على التفنن في التعبير وحده في توجيه المتشابه اللفظي في القرآن الكريم.

يقول د/ محمد الصامل عند توجيهه للتقديم والتأخير بين آيتي المتشابه اللفظي في سورة البقرة (تقديم العدل على الشفاعة والعكس): «وقد عزا بعضهم هذا الاختلاف إلى التنويع في الأسلوب، أو ما يُسمى: التفنن في الكلام، وهذا سبب أراه لا يستقل بنفسه، لأن التنويع في الأسلوب أو التفنن فيه، إنما يُلجأ إليه لإذهاب السأم والملل عن القارئ، وحاشا أن يصف أحد القرآن بذلك، فلابد من سبب يكون أصلًا، ويمكن أن يأتي التنويع سببًا آخر متفرعًا»

(1)

.

ويقول د/ محمد نصيف: «فالمعتني بالمتشابه اللفظي الموجه لآياته لا ينكر التنوع والتفنن في الخطاب لكنه مع ذلك يلتمس وجوهًا أخرى لسر التغاير بين الآيات، ولعل الذي دفع الإمام الألوسي لتبني هذا الرأي - وهو القول بالتفنن - وكأنه في مقابل توجيه الآيات التي سار عليه الرازي أنه خشي من التكلف الذي يقع أحيانًا عند محاولة التعليل، ولعل القول الوسط في المسألة أن يقال: تنوعت وتغايرت الآيات القرآنية المتحدثة عن أمر واحد تفننًا في التعبير، مع وجود أسرار أخرى للتغاير قد تظهر لنا فنقول بها، وقد تخفي علينا فلا تكلف في القول فيها بغير علم»

(2)

.

وقد ذكر الإمام الألوسي التفنن في التعبير في توجيه حوالي خمسة وعشرين مسألة من مسائل المتشابه اللفظي التي تناولها، ذكر التفنن في أخر التوجيه بعد ذكر أسباب أخرى أحيانًا، وجعل التفنن في التعبير عمدة في التوجيه في بعضها.

مثال ذلك: بعد تناول الإمام الألوسي للفروق بين آيتي الأمر بدخول القرية في سورتي البقرة والأعراف، وتعقب آراء الإمام الرازي، وترجيح آراء الزمخشري، قال في آخر التوجيه: «وبالجملة التفنن في التعبير لم يزل دأب البلغاء، وفيه من الدلالة على رفعة شأن المتكلم ما لا يخفى، والقرآن الكريم مملوء من ذلك، ومن رام بيان سر لكل ما وقع فيه منه فقد رام ما لا سبيل إليه إلا

(1)

من بلاغة المتشابه اللفظي في القرآن الكريم (ص: 186) من خلال الآيتان: (48، 123) في سورة البقرة.

(2)

تعقبات الألوسي على توجيهات الرازي للمتشابه اللفظي في آيات الأمر بدخول القرية، د/ محمد نصيف، مجلة معهد الإمام الشاطبي للدراسات القرآنية، العدد الخامس عشر، (ص: 218).

ص: 143

بالكشف الصحيح والعلم اللدني، والله يؤتي فضله من يشاء، وسبحان من لا يحيط بأسرار كتابه إلا هو»

(1)

.

ففي هذا المثال يتضح أن الإمام الألوسي ذكر التفنن في التعبير في أخر التوجيه بعد ذكر توجيهات أخرى ولم يجعله عمدة في التوجيه إلا أنه جعل التفنن في التعبير عمدة في التوجيه في بعض المواضع ومثال ذلك: عند تفسيره لقول الله عز وجل: {وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آَيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}

(2)

.

فقال: «والمغايرة بين ما هنا وما في سورة البقرة أعني {إِنَّ فِي خَلْقِ السموات والارض واختلاف الليل والنهار والفلك التى تَجْرِى فِى البحر بِمَا يَنْفَعُ الناس}

(3)

الآية للتفنن والكلام المعجز مملوء منه، وذكر الإمام في ذلك ما لا يهش له السامع فتأمل»

(4)

.

وقد قام د/ ياسر محمد بابطين بتتبع الأساليب التي حملها الإمام الألوسي على التفنن فميكنك الرجوع إليها للمزيد

(5)

.

ي. حمل الإمام الألوسي أيضًا توجيه المتشابه على مراعاة الفواصل في ثلاث مسائل من مسائل المتشابه اللفظي التي وجهها.

‌تعريف الفاصلة القرآنية:

والفاصلة القرآنية قد تكون كلمة من بنية آية قصيرة، وقد تكون كلمة من بنية جملة نأتي في نهاية الآية معقبة أو مقررة أو مؤكدة

إلخ، وهي في كل الحالات تنتهي بصوت قد يتكرر محدثًا إيقاعًا في صورة السجع وقد لا يتكرر، ولكنها دائما تحتفظ بإحدى صور التوافق الصوتي

(1)

روح المعاني، (1/ 269).

(2)

سورة الجاثية، الآية:(5).

(3)

سورة البقرة، الآية:(164).

(4)

روح المعاني، (13/ 139).

(5)

حمل المتشابه على التفنن: تفسير الألوسي أنموذجا، (ص: 278 - 294).

ص: 144

مع الفواصل السابقة واللاحقة لإحداث الإيقاع، كأن تكون الكلمتين على زنة واحدة أو من فصيلة صرفية واحدة أو غير ذلك مما سنفصله

(1)

.

يقول العلامة ابن عثيمين

(2)

: ومراعاة الفواصل أمر ورد به القران - حتى إنه من أجل المراعاة يقدم المفضول على الفاضل - كما في قوله تعالى في سوره طه: {قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى}

(3)

؛ لأن سورة طه كلها على فاصله ألف إلا بعض الآيات القليلة؛ فمراعاة الفواصل إذًا من بلاغة القران

(4)

.

*لكن الفاصلة لا يُؤتى بها على حساب المعني:

يقول د/ فاضل السامرائي: «لقد تبين مما مر أن القرآن الكريم لا يعني بالفاصلة على حساب المعنى ولا على حساب مقتضى الحال والسياق، بل هو يحسب لكل ذلك حسابه، فهو يختار الفاصلة مراعىً فيها المعنى والسياق والجرس، ومراعىً فيها خواتم الآي وجو السورة ومراعىً فيها كل الأمور التعبيرية والفنية الأخرى، بل مراعىً فيها إلى جانب ذلك كله عموم التعبير القرآني وفواصله، بحيث تدرك أنه اختار هذه الفاصلة في هذه السورة لسبب ما، واختار غيرها أو شبيهًا بها في سورة أخرى لسبب دعا إليه، و جمع بين كل ذلك ونسَّقه بطريقة فنية في غاية الروعة والجمال حتى كأنك تحس أنها جاءت بصورة طبيعية غير مقصودة، مع أنها في أعلى درجات الفن والصياغة والجمال، فما أجله من كلام و ما أعظمه من تعبير»

(5)

.

(1)

يُنظر: فواصل الآيات القرآنية دراسة بلاغية دلالية، د/ السيد خضر، مكتبة الآداب القاهرة الطبعة الثانية، (ص: 5).

(2)

هو الشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين، شهد له القاصي والداني بعلمه ومكانته ولد ليلة 27 رمضان (1347 هـ) بإحدى مدن القصيم، يُنظر ترجمته: لمحات من حياة سماحة الشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين، متعب بن عبدالرحمن القبيسي، رئاسة الحرس الوطني، مدرسة عمار بن ياسر الابتدائية، الاحساء، 1422 هـ/ 2001 م، (ص: 6 - 7)، الدر الثمين في ترجمة فقيد الأمة العلامة ابن عثيمين، جمع وإعداد عصام بن عبدالمنعم المري، دار البصيرة، الإسكندرية، (ص: 386 - 394).

(3)

سورة طه، الآية:(70).

(4)

تفسير القرآن الكريم، سورة البقرة، للشيخ: محمد بن صالح العثيمين، دار ابن الجوزي، الطبعة الثانية، (2/ 39).

(5)

التعبير القرآني د/ فاضل السامرائي، دار عمار، الأردن، الطبعة الثامنة، (ص: 241).

ص: 145

تقول بنت الشاطئ: «وأما تعليل الحذف برعاية الفاصلة فليس من المقبول عندنا أن يقوم البيان القرآني على اعتبار لفظي محض، وإنما الحذف لمقتضى معنوي بلاغي، يقويه الأداء اللفظي، دون أن يكون الملحظ الشكلي هو الأصل.

ولو كان البيان القرآني يتعلق بمثل هذا لما عدل عن رعاية الفاصلة في آخر سوره الضحى: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ}

(1)

وليس في السورة كلها ثاء فاصلة، بل ليس فيها حرف الثاء على الإطلاق، ولم يقل تعالى: فخبر، لتتفق الفواصل على مذهب أصحاب الصنعة ومن يتعلقون به»

(2)

.

أما بالنسبة للثلاثة مسائل اللاتي حملهن الإمام الألوسي على مراعاة الفواصل فهن:

المسألة الأولى: عند تفسيره لقول الله عز وجل: {قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ، رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ}

(3)

قال: «ولذا قدم هارون في محل آخر لأنه أدخل في دفع التوهم أو لأجل الفاصلة أو لأنه أكبر سناً منه، وقدم موسى هنا لشرفه أو للفاصلة، وأما كون الفواصل في كلام الله تعالى لا في كلامهم فقد قيل: إنه لا يضر»

(4)

.

المسألة الثانية: عند تفسيره لقول الله عز وجل: {لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآَخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ}

(5)

، قال: «ووقع في آية أخرى {الْأَخْسَرُونَ}

(6)

وذلك لاقتضاء المقام على ما لا يخفى على الناظر فيه أو لأنه وقع في الفواصل هنا اعتماد الألف كالكافرين والغافلين فعبر به لرعاية ذلك وهو أمر سهل»

(7)

.

(1)

سورة الضحى، الآيات:(9 - 11).

(2)

التفسير البياني للقرآن الكريم، د/ عائشة عبد الرحمن بنت الشاطئ، دار المعارف، الطبعة السابعة، (1/ 35).

(3)

سورة الأعراف، الآيتان:(121، 122).

(4)

روح المعاني، (5/ 27)، نوع المتشابه في هذه المسألة: متشابه بالتقديم والتأخير.

(5)

سورة النحل، الآية:(109).

(6)

سورة هود، الآية:(22).

(7)

روح المعاني، (7/ 474)، نوع المتشابه في هذه المسألة: متشابه باختلاف الصيغة الصرفية (الخاسرون) اسم فاعل، (الأخسرون) صيغة مبالغة.

ص: 146

المسألة الثالثة: عند تفسيره لقول الله عز وجل: {فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا}

(1)

قال: «وقدم مفعول {تَقْتُلُونَ} لأن القتل وقع على الرجال وكانوا مشهورين وكان الاعتناء بحالهم أهم ولم يكن في المأسورين هذا الاعتناء بل الاعتناء هناك بالأسر أشد، ولو قيل: وفريقاً تأسرون لربما ظن قبل سماع تأسرون أنه يقال بعد تهزمون: أو نحو ذلك، وقيل: قدم المفعول في الجملة الأولى لأن مساق الكلام لتفصيله وأخر في الثانية لمراعاة الفواصل، وقيل التقديم لذلك وأما التأخير فلئلا يفصل بين القتل وأخيه وهو الأسر فاصل، وقيل: غوير بين الجملتين في النظم لتغاير حال الفريقين في الواقع فقد قدم أحدهما فقتل وأخر الآخر فأسر»

(2)

.

في هذه المسألة نقل الإمام الألوسي عدة آراء في تقديم مفعول وتأخير مفعول (تأسرون)، وذكر منها مراعاة الفواصل. (تقتلون).

‌ثانيا: الإمام الألوسي أحيانا يحاول الجمع بين موضعي المتشابه اللفظي.

مثال ذلك: عند تفسير قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آَمَنَ وَمَا آَمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ}

(3)

قال: «ولا تنافي بين هذا وقوله سبحانه: {وَفَجَّرْنَا الارض عُيُوناً}

(4)

إذ يمكن أن يكون التفجير غير الفوران فحصل الفوران للتنور والتفجير للأرض، أو يراد بالأرض أماكن التنانير، ووزنه تفعول من النور، وأصله تنوور فقلبت الواو الأولى همزة لانضمامها، ثم حذفت تخفيفاً، ثم شددت النون عوضاً عما حذف، ونقل هذا عن ثعلب»

(5)

.

فقد قال الإمام الألوسي: (لا تنافي)، وحاول الجمع بين موضعي المتشابه.

(1)

سورة الأحزاب، الآية:(26).

(2)

روح المعاني، (11/ 172)، نوع المتشابه في هذه المسألة: متشابه بالتقديم والتأخير.

(3)

سورة هود، الآية:(40).

(4)

سورة القمر، الآية:(12).

(5)

روح المعاني، (6/ 251).

ص: 147

مثال آخر: عند تفسير قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ}

(1)

، قال:«{الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} أي: فزعت استعظاماً لشأنه الجليل وتهيباً منه جل وعلا والاطمئنان المذكور في قوله سبحانه وتعالى: {أَلَا بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ القلوب} [الرعد: 28] لا ينافي الوجل والخوف لأنه عبارة عن ثلج الفؤاد وشرح الصدر بنور المعرفة والتوحيد وهو يجامع الخوف، وإلى هذا ذهب ابن الخازن، ووفق بعضهم بين الآيتين بأن الذكر في إحداهما ذكر رحمة وفي الأخرى ذكر عقوبة فلا منافاة بينهما»

(2)

.

‌المطلب الثاني

مصادر الإمام الألوسي في توجيه المتشابه اللفظي في القرآن الكريم

‌أولًا: العلماء الذين نقل عنهم الإمام الإلوسي وذكرهم في تفسيره:

*الإمام الألوسي نقل رأي الإمام الرازي في العديد من المسائل (ذكره باسمه في بعض المسائل "مولانا الرازي"، وأحيانا بـ"الإمام" وأحيانًا بـ"القطب"، وأحيانا ينقل رأيه دون أن يشير، وأحيانًا لا ينقل منه، ولكنه يتفق معه في التوجيه، وسيأتي الحديث عن هذه المسائل بالتفصيل في بحث المقارنة

(3)

.

*أيضًا نقل رأي الزمخشري

(4)

، الجبائي

(5)

، أبو مسلم الأصفهاني

(6)

، الراغب

(7)

، الطيبي

(8)

، البيضاوي

(9)

، الكرخي

(10)

، الجلال السيوطي

(11)

، النيسابوري

(12)

، أبو حيان

(13)

في بعض المسائل.

(1)

سورة الأنفال، الآية:(2).

(2)

روح المعاني، (5/ 155).

(3)

يُنظر نص المسائل: روح المعاني، (1/ 268 - 269)، (3/ 118)، (5/ 83، 84)، (13/ 248)، (9/ 275، (14/ 139).

(4)

يُنظر نص المسائل: روح المعاني، (1/ 110، 269، (7/ 251).

(5)

يُنظر نص المسألة: روح المعاني، (1/ 239).

(6)

يُنظر نص المسألة: روح المعاني، (1/ 465).

(7)

يُنظر نص المسألة: روح المعاني، (3/ 119، 120)، (7/ 134).

(8)

يُنظر نص المسألة: روح المعاني، (7/ 251).

(9)

يُنظر نص المسألة: روح المعاني، (4/ 77).

(10)

يُنظر نص المسألة: روح المعاني، (4/ 118).

(11)

يُنظر نص المسألة: روح المعاني، (5/ 30).

(12)

يُنظر نص المسألة: روح المعاني، (5/ 127).

(13)

يُنظر نص المسألة: روح المعاني، (7/ 216).

ص: 148

*كما أكثر من نقل الكثير من الآراء بصيغة التمريض (قيل - قالوا) دون أن يشير إلى القائل

(1)

.

*أيضا نقل بعض الآراء بصيغة (قال: الإمام

(2)

، المولى شيخ الإسلام

(3)

، القطب

(4)

، بعض المحققين

(5)

، بعض الفضلاء

(6)

دون أن يشير، وقد وجدت في بعض المسائل التي اشترك في توجيهها مع الإمام الرازي أنه يقصد بـ (الإمام): الإمام الرازي لأنه نقل رأي الإمام الرازي بنصه، وكذلك القطب (وسأبين بالتفصيل عند عرض هذه المسائل في فصل المقارنة بين الإمامين).

بروز شخصية الإمام الألوسي في النقل:

أ. فهو أحيانًا يأتي برأى غيره وينتقده:

مثال ذلك: عند تفسير قوله الله عز وجل: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}

(7)

قال: «{فَلَا تَقْرَبُوهَا} كيلا يدانى الباطل والنهي عن القرب من تلك الحدود التي هي الأحكام كناية عن النهي عن قرب الباطل لكون الأول لازماً للثاني وهو أبلغ من (لا تعتدوها) لأنه نهي عن قرب الباطل بطريق الكناية التي هي أبلغ من الصريح، وذلك نهي عن الوقوع في الباطل بطريق الصريح، وعلى هذا لا يشكل لا تقربوها في تلك الأحكام مع اشتمالها على ما سمعت، ولا وقوع {فَلَا تَعْتَدُوهَا} [البقرة: 229] وفي آية أخرى إذ قد حصل الجمع وصح لا تقربوها في الكل، وقيل: يجوز أن يراد بحدود الله تعالى محارمه ومناهيه إما لأن الأوامر السابقة تستلزم النواهي لكونها مغياة بالغاية، وإما لأن المشار إليه قوله سبحانه:{وَلَا تباشروهن} وأمثاله، وقال أبو مسلم: معنى {لا تَقْرَبُوهَا} لا تتعرضوا لها

(1)

يُنظر نص بعض المسائل: روح المعاني، (1/ 417، 371)، (2/ 75، 207)، (3/ 94، 120)، (4/ 297)، (5/ 27، 83، 155).

(2)

يُنظر: روح المعاني، (4/ 299)، (9/ 275)، (13/ 326)، (14/ 139)، في أغلب التوجيهات يقصد بالإمام: الرازي.

(3)

يُنظر: روح المعاني، (8/ 65).

(4)

يُنظر: روح المعاني، (4/ 299).

(5)

يُنظر: روح المعاني، (3/ 94).

(6)

يُنظر: روح المعاني، (12/ 167).

(7)

سورة البقرة، الآية:(187).

ص: 149

بالتغيير كقوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم} [الأنعام: 152] فيشمل جميع الأحكام ولا يخفى ما في الوجهين من التكليف والقول بأن تلك إشارة إلى الأحكام والحد إما بمعنى المنع أو بمعنى الحاجز بين الشيئين، فعلى الأول: يكون المعنى تلك الأحكام ممنوعات الله تعالى عن الغير ليس لغيره أن يحكم بشيء {فَلَا تَقْرَبُوهَا} أي لا تحكموا على أنفسكم أو على عباده من عند أنفسكم بشيء فإن الحكم لله تعالى عز شأنه وعلى الثاني: يريد أن تلك الأحكام حدود حاجزة بين الألوهية والعبودية، فالإله يحكم والعباد تنقاد، فلا تقربوا الأحكام لئلا تكونوا مشركين بالله تعالى لا يكاد يعرض على ذي لب فيرتضيه، وهو بعيد بمراحل عن المقصود كما لا يخفى»

(1)

.

فقد نقل رأي أبي مسلم واعترض عليه أن فيه تكلف.

ب. وأحيانًا يستدل برأي غيره فقط دون أن ينتقده ودون أن يذكر أي رأي أخر.

مثال ذلك: عند تفسير قوله الله عز وجل: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ}

(2)

قال: «ويشير إلى ذلك كلام العلامة البيضاوي في تفسيره الآية لمن أمعن النظر إلا أن ما ذكره عليه الرحمة في أول سبأ من الفرق بين {الحمد للَّهِ الذى لَهُ مَا فِى السموات وَمَا فِي الارض}

(3)

وبين {وَلَهُ الحمد فِى الاخرة}

(4)

مما محصله أن جملة {لَهُ الحمد} جيء بها بتقديم الصلة ليفيد القصر لكون الإنعام بنعم الآخرة مختصاً به تعالى بخلاف جملة {الحمد للَّهِ الذى لَهُ} الخ فإنها لم يجاء بها بتقديم الصلة حتى لا يفيد القصد لعدم كون الإنعام مختصاً به تعالى مطلقاً بحيث لا مدخل فيه للغير إذ يكون بتوسط الغير فيستحق ذلك لغير الحمد بنوع استحقاق بسبب وساطته آب عنه، إذ حاصل ما ذكره في تلك السورة هو أنه لا قصر في جملة {الحمد للَّهِ الذى لَهُ} الخ بخلاف جملة {لَهُ الحمد} ، وحاصل ما أشار إليه في هذه وكذا في الفاتحة هو أن جملة {الحمد للَّهِ} إذا رتب على الأوصاف المختصة كالخلق والجعل المذكورين مفيد للقصر أيضاً غاية ما في البال أن طريق

(1)

روح المعاني، (1/ 465).

(2)

سورة الأنعام، الآية:(1).

(3)

سورة سبأ، الآية:(1).

(4)

سورة سبأ، الآية:(1).

ص: 150

إفادة القصر في البابين متغاير، ففي إحداهن تقديم الصلة وفي الآخرى مفهوم العلة فتدبر ذاك والله تعالى يتولى هداك»

(1)

.

فقد ذكر رأي الإمام البيضاوي في التقديم والتأخير بين {الحمد للَّهِ الذى لَهُ} و {وَلَهُ الحمد فِى الاخرة} ، واستدل به دون أن يضيف رأي أخر.

ج. وأحيانا يأتي برأي عالم وينتقده ثم يرجح رأي عالم آخر.

ومثال على ذلك: عند تفسير الإمام الألوسي لآيتي دخول القرية في سورتي البقرة والأعراف في الموضع الأول (سورة البقرة) تعقب آراء الإمام الرازي، ورجح آراء الزمخشري

(2)

.

د. وأحيانا يأتي برأيه ثم يذكر رأي غيره دون أن ينتقده (كما فعل عند توضيح الفرق بين الإتيان والمجئ)، فقد ذكر رأيه ثم ذكر رأي الجلال السيوطي

(3)

.

هـ. وأحيانًا يأتي بقولين من أقوال العلماء، ولا يتفق معهما ويرد عليهما

(كما فعل عند ذكر الفرق بين ذكر (رغدا) في سورة البقرة وحذفها في سورة الأعراف فقد ذكر عند تفسيره لسورة الأعراف قولين: الأول (نسبه لصاحب اللباب والآخر ذكره بصيغة التمريض (قيل) ورد عليهما)

(4)

.

و. وأحيانًا ينقل قولين ولا يرجح بينهما

كما فعل عند ذكر الفرق بين قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ}

(5)

، وقوله تعالى:{أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}

(6)

.

ي. وأحيانًا يأتي برأيه ثم يذكر رأي عالم أخر يقوي به رأيه:

(1)

روح المعاني، (4/ 77).

(2)

يُنظر نص المسألة: روح المعاني، (1/ 268 - 269).

(3)

يُنظر نص المسألة: روح المعاني، (5/ 30).

(4)

يُنظر نص المسألة: روح المعاني، (5/ 83).

(5)

سورة الأنفال، الآية:(2).

(6)

سورة الرعد، الآية:(28). ويُنظر نص المسألة: روح المعاني، (5/ 155)، وسبق ذكرها في البحث.

ص: 151

(كما فعل عند ذكر الفرق في تقديم وتأخير النفع والضر فقد ذكر رأيه ثم ذكر رأي العلامة النيسابوري وقال في نهاية التوجيه (وبه تقوي نكتة التقديم التي اعتبرها هذا الفاضل فيما نحن فيه كما لا يخفى)

(1)

.

*‌

‌ثانيًا: موقف الإمام الألوسي من علماء المتشابه اللفظي:

الإمام الألوسي متأخر عن جميع علماء المتشابه اللفظي، ولم يشر في تفسيره إلى اسم أي عالم منهم، وأشار إلى كتاب درة التنزيل للإمام الإسكافي ثلاثٍ مراتٍ في تفسيره، واتفق مع علماء المتشابه في توجيه بعض المسائل.

إشارة الإمام الألوسي إلى كتاب درة التنزيل في تفسيره:

أشار الإمام الألوسي إلى كتاب درة التنزيل ثلاث مرات في تفسيره:

الأولى: عند تفسير قول الله تعالى: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}

(2)

قال: «واللهو واللعب على ما في «درة التنزيل» يشتركان في أنهما الاشتغال بما لا يعني العاقل ويهمه من هوى وطرب سواء كان حراماً أو لا؛ وفرق بينهما بأن اللعب ما قصد به تعجيل المسرة والاسترواح به واللهو كل ما شغل من هوى وطرب وإن لم يقصد به ذلك، وإذا أطلق اللهو فهو على ما قيل اجتلاب المسرة بالنساء كما في قوله: ألا زعمت بسياسة اليوم أنني كبرت وأن لا يحسن اللهو أمثالي.

وقال قتادة: اللهو في لغة اليمن المرأة، وقيل: اللعب طلب المسرة والفرح بما لا يحسن أن يطلب به واللهو صرف الهم بما لا يصلح أن يصرف به، وقيل: إن كل شغل أقبل عليه لزم الإعراض عن كل ما سواه لأن من لا يشغله شأن عن شأن هو الله تعالى فإذا أقبل على الباطل لزم الإعراض عن الحق فالإقبال على الباطل لعب والإعراض عن الحق لهو، وقيل: العاقل المشتغل بشاء لا بد له من ترجيحه وتقديمه على غيره فإن قدمه من غير ترك للآخر فلعب وإن تركه ونسيه به فهو لهو، وقد بين صاحب «الدرة» بعد أن سرد هذه الأقوال سر تقديم اللعب على اللهو حيث جمعا كما هنا وتأخيره عنه كما في العنكبوت بأنه لما كان هذا الكلام مسوقاً للرد

(1)

يُنظر نص المسألة: روح المعاني، (5/ 127).

(2)

سورة الأنعام، الآية:(32).

ص: 152

على الكفرة فيما يزعمونه من إنكار الآخرة والحصر السابق وليس في اعتقادهم لجهلهم إلا ما عجل من المسرة بزخرف الدنيا الفانية قدم اللعب الدال على ذلك وتمم باللهو أو لما طلبوا الفرح بها وكان مطمح نظرهم وصرف الهم لازم وتابع له قدم ما قدم أو لما أقبلوا على الباطل في أكثر أقوالهم وأفعالهم قدم ما يدل على ذلك أو لما كان التقديم مقدماً على الترك والنسيان قدم اللعب على اللهو رعاية للترتيب الخارجي، وأما في العنكبوت فالمقام لذكر قصر مدة الحياة الدنيا بالقياس إلى الآخرة وتحقيرها بالنسبة إليها»

(1)

.

فقد صرح الإمام الألوسي بكتاب «درة التنزيل» وقام باختصار رأي الإمام الإسكافي

(2)

.

الثانية: عند تفسير قول الله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ}

(3)

.

قال: «قيل في الأول أفلا تسمعون أي سماع فهم وفي الثاني أفلا تبصرون أي ما أنتم عليه من الخطأ ليطابق كل من التذييلين الكلام السابق من التشديد والتوبيخ، وذكر في حاصل المعنى ما ذكرناه أولاً ثم قال: وفيه أن دلالة النص أولى وأقدم من العقل، وصاحب الكشف قرر العبارة بما سمعت وذكر أن ذلك لا ينافي ما في المعالم بل يؤكده ويبين فائدة التوبيخين، ونقل الطيبي عن الراغب في غرة التنزيل أنه قال: إن نسخ الليل بالنير الأعظم أبلغ في المنافع وأضمن للمصالح من نسخ النهار بالليل، ألا ترى أن الجنة نهارها دائم لا ليل معه لاستغناء أهلها عن الاستراحة فتقديم ذكر الليل لانكشافه عن النهار الذي هو أجدى من تفاريق العصا ومنافع ضوء شمسه أكثر من أن تحصى أحق وأولى»

(4)

.

فقد أشار الإمام الألوسي إلى كتاب درة التنزيل وغرة التأويل بقوله: (ونقل الطيبي عن الراغب في غرة التنزيل)، وقد نسب غرة التنزيل إلى الراغب، وقد وقع خلاف في نسبة كتاب درة التنزيل وغرة التأويل للعلامة الإسكافي، فقيل إن كتاب درة التنزيل وغرة التأويل منسوب للعلامة الإسكافي، وقيل إنه منسوب للراغب الأصفهاني، وقيل إنه منسوب إلى الإمام فخر الدين الرازي،

(1)

روح المعاني، (4/ 126).

(2)

يُنظر توجيه الإمام الإسكافي للمسألة: درة التنزيل وغرة التأويل، (2 من/ 516 - 522).

(3)

سورة القصص، الآية:(72).

(4)

روح المعاني، (10/ 314).

ص: 153

وقد تناول د/ مصطفى آيدين محقق درة التنزيل هذه المسألة بالتفصيل ونقل جميع الآراء وأثبت بالأدلة نسبة كتاب درة التنزيل للعلامة الإسكافي

(1)

.

وما قاله الإمام الألوسي (عن الطيبي عن الراغب في غرة التنزيل) هو نص ما ذكره العلامة الإسكافي في درة التنزيل.

قال الإمام الإسكافي: «والجواب عن ذلك أن يقال: إن نسخ الليل بالنير الأعظم أبلغ في المنافع وأضمن للمصالح من نسخ النهار بالليل ألا ترى أن الجنة نهارها دائم لا ليل معه»

(2)

.

الثالثة: عند تفسير قول الله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ}

(3)

.

قال: «ونقل عن الراغب ما يدل على أن المقام في هذه الآية مقام الضمير حيث ذكر عنه أنه قال في «درة التنزيل» : إنه تعالى قال ههنا {ذُوقُوا عَذَابَ النار الذي كُنتُمْ بِهِ تُكَذّبُونَ} وقال سبحانه في آية أخرى: {عَذَابَ النار التى كُنْتُمْ بِهَا تُكَذّبُونَ}

(4)

فذكر جل وعلا ههنا وأنث سبحانه هناك والسر في ذلك أن النار ههنا وقعت موقع الضمير والضمير لا يوصف فأجرى الوصف على العذاب المضاف إليها وهو مذكر وفي تلك الآية لم يجر ذكر النار في سياقها فلم تقع النار موقع الضمير فأجرى الوصف عليها وهي مؤنثة دون العذاب فتأمل»

(5)

.

فقد صرح الإمام الألوسي بكتاب «درة التنزيل» ، وقام باختصار رأي الإمام الإسكافي

(6)

.

وقد اتفق الإمام الألوسي مع باقي علماء المتشابه اللفظي في توجيه بعض مسائل المتشابه اللفظي في القرآن الكريم.

(1)

يُنظر: درة التنزيل وغرة التأويل، (2/ 93 - 133).

(2)

يُنظر نص المسألة بالكامل: درة التنزيل وغرة التأويل، (3/ 993، 994).

(3)

سورة السجدة، الآية:(20).

(4)

سورة سبأ، الآية:(42).

(5)

روح المعاني، (11/ 132).

(6)

يُنظر توجيه الإمام الإسكافي للمسألة: درة التنزيل وغرة التأويل، (3/ 1066 - 1067).

ص: 154

فمثلًا اتفق مع الأئمة (الكرماني، ابن جماعة، الأنصاري) في توجيه الفرق بين إبدال حرف ثم في قوله تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُنظروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ}

(1)

بحرف الفاء في قوله تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيُنظروا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ}

(2)

.

حيث قال الإمام الألوسي تفسير قوله تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُنظروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ}

(3)

: «وذكر أن التحقيق أنه سبحانه قال هنا: {ثُمَّ يُنظروا} وفي غير ما موضع {فيُنظروا} [آل عمران: 137، النمل: 36، العنكبوت: 20، الروم: 42] لأن المقام هنا يقتضي ثم دونه في هاتيك المواضع وذلك لتقدم قوله تعالى فيما نحن فيه {أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِم مّن قَرْنٍ مكناهم فِى الارض}

(4)

مع قوله سبحانه وتعالى: {وأنشأنا من بعدهم قرناً آخرين} [الأنعام: 6] والأول يدل على أن الهالكين طوائف كثيرة. والثاني يدل على أن المنشأ بعدهم أيضاً كثيرون فيكون أمرهم بالسير دعاء لهم إلى العلم بذلك فيكون المراد به استقراء البلاد ومنازل أهل الفساد على كثرتها ليروا الآثار في ديار بعد ديار وهذا مما يحتاج إلى زمان ومدة طويلة تمنع من التعقيب الذي تقتضيه الفاء ولا كذلك في المواضع الاخر اه، ولا يخلو عن دغدغة. واختار غير واحد أن السير متحد هناك وهنا ولكنه أمر ممتد يعطف النظر عليه بالفاء تارةُ نظرًا إلى آخره وتارةً أخرى نظراً إلى أوله وكذا شأن كل ممتد»

(5)

.

قال الإمام الكرماني: «قوله: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُنظروا} في هذه السورة فحسب، وفي غيرها:{فَسِيرُوا فِى الْأَرْضِ فَانْظُرُوا}

(6)

؛ لأن ثم للتراخي، والفاء للتعقيب، وفي هذه السورة تقدم ذكر القرون في قوله:{كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِم مِنْ قَرْنٍ}

(7)

، ثم قال: {وَأَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا

(1)

سورة الأنعام، الآية:(11).

(2)

سورة العنكبوت، الآية:(20).

(3)

سورة الأنعام، الآية:(11).

(4)

سورة الأنعام، الآية:(6).

(5)

روح المعاني، (4/ 98).

(6)

سورة آل عمران، الآية:(137)، سورة الأنعام، الآية:(36)، سورة النمل، الآية:(69)، سورة الروم، الآية:(42).

(7)

سورة الأنعام، الآية:(6).

ص: 155

آخَرِينَ}

(1)

فأمروا باستقراء الديار، وتأمل الآثار، وفيها كثرة، فيقع ذلك سيرًا بعد سير، وزمانًا بعد زمان، فخصت ب (ثم) الدالة على التراخي بين الفعلين؛ ليعلم أن السير مأمور به على حدة، ولم يتقدم في سائر السور مثله؛ فخصت بالفاء الدالة على التعقيب»

(2)

.

وقال الإمام ابن جماعة: «قوله تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُنظروا}، وفى موضع آخر: بالفاء وقال هنا: {عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} وفى النمل {عَاقِبَةُ الْمُجرمين} جوابه: أن آية الأنعام ظاهرة في الأمر بالسير في بلاد المهلكين فناسب ثم المرتبة على السير المأمور به. وفى المواضع الأخر: الأمر بالنظر بعد السير المتقدم كقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ}، فناسب أن يأتي بالفاء كأنه قيل: قد ساروا فلينظروا، أو قد ساروا فنظروا عند سيرهم. ولما تقدم هنا قوله تعالى {: فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ} ناسب قوله: {عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} ولم يتقدم مثله في النمل»

(3)

.

وقال الإمام الأنصاري: «قوله تعالى: {قُلْ سيرُوا فِي الأرْضِ ثُمَّ يُنظروا} .. الآية. قاله هنا بـ"ثمَّ "الدَّالة على التراخي، وفي غير هذه السورة بالفاء، الدَّالة على التعقيب، مع اشتراكهما في الأمر بالسير، لأن ما في هذه السورة، وقع بعد ذكر القرون، في قوله: {كَمْ أهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ}، وقوله: {وَأنْشَاْنَا مِنْ بَعْدِهمْ قَرْناً آخَرِينَ}، فتعدَّدت القرونُ في أزمنةٍ متطاولة، فخُصَّت الآيةُ هنا بـ"ثُمَّ "، بخلاف ما في غير هذه السورة، إذْ لم يتقدَّمه شيءٌ من ذلك، فخُصَّت بالفاء»

(4)

.

بعرض آراء الأئمة (الكرماني، ابن جماعة، الأنصاري) يتضح اتفاق الإمام الألوسي معهم في التوجيه.

(1)

سورة الأنعام، الآية:(6).

(2)

البرهان في توجيه متشابه القرآن، (ص: 47 - 48).

(3)

كشف المعاني في المتشابه من المثاني (ص: 156).

(4)

فتح الرحمن بكشف ما يلتبس من القرآن (ص: 160).

ص: 156

أيضًا اتفق مع الإمام ابن الزبير في توجيه الفرق بين التقديم والتأخير في قوله تعالى: {قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى}

(1)

، {قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ، رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ}

(2)

.

فقد قال الإمام الألوسي: عند تفسيره لقول الله عز وجل: {قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ، رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ}

(3)

قال: «ولذا قدم هارون في محل آخر لأنه أدخل في دفع التوهم أو لأجل الفاصلة أو لأنه أكبر سناً منه، وقدم موسى هنا لشرفه أو للفاصلة، وأما كون الفواصل في كلام الله تعالى لا في كلامهم فقد قيل: إنه لا يضر»

(4)

.

وقال الإمام ابن الزبير: «والجواب عن السؤال الثانى: أن كل واحدة من الآيتين جرت على وفق فواصل تلك السورة ورؤس آياتها فالعكس لا يناسب بوجه فوجب اختصاص كل سورة بما ورد فيها. الآية الموفية عشرين قوله تعالى: «قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ، رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ» وكذا فى الشعراء، وورد فى طه:«قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى» هنا كالمتقدمتين الجواب كالجواب من غير فرق

(5)

.

يقصد الإمام ابن الزبير بقوله (المتقدمتين) قوله تعالى: {قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ}

(6)

، وقوله تعالى:{قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ}

(7)

، وقد حمل المسألتين على مراعاة الجميع.

فقد اتفق الإمامان (الألوسي، ابن الزبير) في هذه المسألة على حمل المتشابه اللفظي على مراعاة الفواصل.

أيضًا عند تفسير الإمام الألوسي لقوله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ}

(8)

، قال: وبعض صحح أن القرآن في نفسه هدى في كل شيء حتى معرفة الله تعالى لمن تأمل في

(1)

سورة طه، الآية:(70).

(2)

سورة الأعراف، الآية:(122).

(3)

سورة الأعراف الآيتان: (121، 122).

(4)

روح المعاني، (5/ 27)، نوع المتشابه في هذه المسألة: متشابه بالتقديم والتأخير.

(5)

ملاك التأويل (1/ 569).

(6)

سورة الأعراف، الآية:(115).

(7)

سورة طه، الآية:(65).

(8)

سورة البقرة، الآية:(2).

ص: 157

أدلته العقلية وحججه اليقينية كما يشعر به ظاهر قوله تعالى: {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدي للناس}

(1)

، ويكون الاقتصار على المتقين هنا بناء على تفسيرنا الهداية مدحاً لهم ليبين سبحانه أنهم الذين اهتدوا وانتفعوا به كما قال تعالى:{إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يخشاها}

(2)

، مع عموم إنذاره صلى الله عليه وسلم وأما غيرهم فلا {وَإِذَا قَرَأْتَ القرءان جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الذين لَا يُؤْمِنُونَ بالاخرة حِجَابًا مَّسْتُورًا}

(3)

، و {لا يَزِيدُ الظالمين إَلاَّ خَسَارًا}

(4)

، وأما القول بأن التقدير هدى للمتقين والكافرين فحذف لدلالة المتقين على حد {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر}

(5)

، فمما لا يلتفت إليه هذا»

(6)

.

فقول الإمام الألوسي في التوجيه: «وأما القول بأن التقدير هدى للمتقين والكافرين فحذف لدلالة المتقين على حد {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر}

(7)

فمما لا يلتفت إليه هذا» هو أحد الرأيين اللذين ذكرهما الإمام الأنصاري.

فقد قال الإمام الأنصاري: «فإِن قلتَ: كيف قال: (هُدَىً لِلمُتَّقِينَ (وفيه تحصيلُ الحاصل، لأن المتقين مهتدون؟ قلتُ: إنما صاروا متَّقينَ باستفادتهم الهُدَى من الكتاب، أو المراد بالهدى الثباتُ والدوام عليه. أو أراد الفريقين واقتصر على المتقين، لأنهم الفائزون بمنافع الكتاب، وللِإيجاز كما في قوله تعالى:{سرابيلَ تقيكم الحرَّ .. }

(8)

»

(9)

.

(1)

سورة البقرة، الآية:(185).

(2)

سورة النازعات، الآية:(45).

(3)

سورة الإسراء، الآية:(45).

(4)

سورة الإسراء، الآية:(82).

(5)

سورة النحل، الآية:(81).

(6)

روح المعاني، (1/ 112، 113).

(7)

سورة النحل، الآية:(81).

(8)

سورة النحل، الآية:(81).

(9)

كشف المعاني في المتشابه من المثاني (ص: 14).

ص: 158

أيضًا ذكر الإمام الألوسي رأي الإمام الأنصاري في الفرق بين (فكلوا - وكلوا) بين سورتي البقرة والأعراف

(1)

، وتقديم (نوح) وتأخيره بين آيتي سورتي الأحزاب والشورى

(2)

.

اتفق مع الإمام ابن جماعة في توجيه الفرق بين (أنزلنا - أرسلنا)، (يظلمون - يفسقون) بين سورتي البقرة والأعراف

(3)

.

اتفق مع الأئمة (الكرماني، ابن الزبير، الأنصاري) في توجيه الفرق بين (أمنتم به - أمنتم له) بين سورتي الأعراف والشعراء

(4)

.

‌ثالثًا: أثره في المعاصرين:

تأثر بعض المعاصرين بالإمام الألوسي في توجيه بعض مسائل المتشابه اللفظي في القرآن الكريم كالسامرائي.

مثال: يقول د/ فاضل السامرائي في قوله تعالى (ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (16))

(5)

: (جاء في "روح المعاني": " ولما تضمنت الجملة السابقة المبالغة في أنه تعالى شأنه أحكم خلق الإنسان وأتقنه، بالغ سبحانه عز وجل في تأكيد الجملة الدالة على موته، مع أنه غير منكر لما أن ذلك سبب لاستبعاد العقل إياه، أشد استبعاد حتى يوشك أن ينكر وقوعه من لم يشاهده، وسمع أن الله جل جلاله أحكم خلق الإنسان وأتقنه غاية الإتقان، وهذا وجه دقيق لزيادة التأكيد في الجملة الدالة على الموت، وعدم زيادته في الجملة الدالة على البعث.

وقيل إنما بولغ في القرينة الأولى لتمادي المخاطبين في الغفلة، فكأنهم نزلوا منزلة المنكرين لذلك وأخليت الثانية لوضوح أدلتها وسطوع براهينها. وربما يقال: إن شدة كراهة الموت طبعا التي لا يكاد

(1)

يُنظر نص المسألة: روح المعاني، (5/ 84)، فتح الرحمن بكشف ما يلتبس من القرآن (ص: 26).

(2)

قوله تعالى: {مِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ} في سورة الأحزاب، الآية:(7)، وقوله تعالى:{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} سورة الشورى، الآية:(13)، يُنظر نص المسألة: روح المعاني، (11/ 152)، فتح الرحمن بكشف ما يلتبس من القرآن (ص: 458).

(3)

يُنظر نص المسألتين: روح المعاني، (5/ 83)، كشف المعاني في المتشابه من المثاني (ص: 98).

(4)

يُنظر نص المسألة: روح المعاني، (5/ 27)، البرهان في توجيه متشابه القرآن (ص: 69)، ملاك التأويل (1/ 570)، فتح الرحمن بكشف ما يلتبس من القرآن (ص: 205).

(5)

سورة المؤمنون الآيتان: 15 - 16

ص: 159

يسلم منها أحد، نزلت منزلة شدة الإنكار، فبولغ في تأكيد الجملة الدالة عليه. وأما البعث فمن حيث إنه حياة بعد الموت لا تكرهه النفوس، ومن حيث إنه مظنة للشدائد تكرهه، فلما لم يكن حاله كحال الموت، ولا كحال الحياة، بل بين بين، أكدت الجملة الدالة عليه تأكيدًا واحدًا).

(1)

‌المطلب الثالث

ما انفرد به الإمام الألوسي عن جميع علماء المتشابه اللفظي

انفرد الإمام الألوسي عن جميع علماء المتشابه اللفظي بتوجيه الكثير من مسائل المتشابه اللفظي، ما يزيد عن أربعين مسألة.

فعلى سبيل المثال: الإمام الألوسي انفرد عند تفسيره لسورة البقرة بتوجيه عشر مسائل من مسائل المتشابه اللفظي (هذه المسائل ذكرها الإمام الألوسي في الموضع الأول للمتشابه سورة البقرة وهناك مواضع أخرى للمتشابه بين سورة البقرة والسور الأخرى ذكرها في الموضع الثاني السور الأخرى)

(2)

.

مسائل المتشابه اللفظي التي انفرد الإمام الألوسي بتوجيهها عن علماء المتشابه اللفظي عند تفسيره لسورة البقرة:

المسألة الأولى: التقديم والتأخير بين قوله: {لَا رَيْبَ فِيهِ}

(3)

، {لَا فِيهَا غَوْلٌ}

(4)

، متشابه بتقديم حرف الجر (في) في سورة الصافات، وتأخيره في سورة البقرة

(5)

.

(1)

لمسات بيانية في نصوص من التنزيل د/ فاضل السامرائي، دار عمار، عمان، الطبعة الثامنة 2012 م ص 110 - 111، أحال د/ السامرائي إلى (روح المعاني 18/ 17)

(2)

فعلى سبيل المثال فقد ذكر الإمام الألوسي الفرق بين قوله تعالى في سورة البقرة: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} ، الآية:(164)، وقوله تعالى في سورة الجاثية:{وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِّزْقٍ} ، الآية:(5) عند تفسيره لسورة الجاثية (الموضع الثاني).

(3)

سورة البقرة، الآية:(2).

(4)

سورة الصافات، الآية:(47).

(5)

يُنظر نص المسألة: روح المعاني، (1/ 110).

ص: 160

المسألة الثانية: التقديم والتأخير بين قوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ}

(1)

، وقوله تعالى:{وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ}

(2)

، تقديم (القلوب) في سورة البقرة وتأخيرها في سورة الجاثية

(3)

.

المسألة الثالثة: إعادة حرف الجر (على) في قوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ}

(4)

.

المسألة الرابعة: إفراد (السمع) في قوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ} ، وجمع (القلوب)، متشابه بالجمع والإفراد

(5)

.

المسألة الخامسة: إبدال الفعل (خلق) بالفعل (جعل) في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ}

(6)

، فقد ذكر في الآية الأولى (خلقكم) والآية الثانية (جعل لكم)

(7)

.

المسألة السادسة: الفرق بين قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ}

(8)

، وقوله تعالى:{وَإِذْ قُلْنَا}

(9)

، متشابه بإبدال جملة بجملة

(10)

.

المسألة السابعة: الفرق بين قوله تعالى: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ}

(11)

، {وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ}

(12)

، متشابه بإبدال جملة بجملة

(13)

.

(1)

سورة البقرة، الآية:(7).

(2)

سورة الجاثية، الآية:(23).

(3)

يُنظر نص المسألة: روح المعاني، (1/ 138).

(4)

سورة البقرة، الآية:(7)، يُنظر نص المسألة: روح المعاني، (1/ 138).

(5)

يُنظر نص المسألة: روح المعاني، (1/ 138).

(6)

سورة البقرة، الآيتان:(21، 22).

(7)

يُنظر نص المسألة: روح المعاني، (1/ 190).

(8)

سورة البقرة، الآية:(30).

(9)

سورة البقرة، الآية:(34).

(10)

يُنظر نص المسألة: روح المعاني، (1/ 230).

(11)

سورة البقرة، الآية:(40).

(12)

سورة البقرة، الآية:(41).

(13)

يُنظر نص المسألة: روح المعاني، (1/ 247).

ص: 161

المسألة الثامنة: الفرق بين قوله تعالى: {فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا}

(1)

، وقوله تعالى:{اضْرِبُوهُ}

(2)

، متشابه بتذكير الضمير وتأنيثه

(3)

.

المسألة التاسعة: الفرق بين قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ}

(4)

، وقوله تعالى:{لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}

(5)

، متشابه بإبدال جملة بجملة

(6)

.

المسألة العاشرة: تكرار قوله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ}

(7)

، بعد قوله تعالى:{مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ}

(8)

»

(9)

.

(1)

سورة البقرة، الآية:(72).

(2)

سورة البقرة، الآية:(73).

(3)

يُنظر نص المسألة: روح المعاني، (1/ 293).

(4)

سورة البقرة، الآية:(219).

(5)

سورة البقرة، الآية:(221).

(6)

يُنظر نص المسألة: روح المعاني، (1/ 514).

(7)

سورة البقرة، الآية:(241).

(8)

سورة البقرة، الآية:(236).

(9)

يُنظر نص المسألة: روح المعاني، (1/ 552).

ص: 162

‌المطلب الرابع

مآخذ على منهج الإمام الألوسي في توجيه المتشابه اللفظي في القرآن الكريم

أولًا: يؤخذ على الإمام الألوسي أنه ترك الكثير من مسائل المتشابه اللفظي دون توجيه، ولم يستوعب عددًا كبيرًا من مسائل المتشابه اللفظي في القرآن الكريم حوالي مائة وخمسين مسألة، ولعلنا نجد له عذرًا أن تفسيره لا يُعتبر كتابًا خاصًا بالمتشابه اللفظي، ولم يأت حتى الآن من استوعب توجيه جميع مسائل المتشابه اللفظي في كتاب واحد.

ثانيًا: أيضًا يؤخذ عليه أنه أورد بعض المسائل دون توجيه فجعل القارئ في حاجة إلى معرفة سبب اختلاف الألفاظ ثم لم يذكر أي توجيه، وقد ذكرت أمثلة على ذلك، كما أنه قام باختصار بعض المواضع التي كانت بحاجة إلى بسط.

ثالثًا: أكثر من توجيه بعض المسائل بصيغة التمريض (قيل)، كما قال في توجيه بعض المسائل قال الإمام، شيخ الإسلام، مولانا، بعض المحققين، القطب، دون الإشارة إلى القائل.

ص: 163

‌المبحث الرابع

أنواع المتشابه اللفظي في تفسير الإمام الألوسي مع ذكر نماذج

الإمام الألوسي في تفسيره تعرض لأنواع المتشابه اللفظي المختلفة وتناولها بالتوجيه وبيان الفرق بين المواضع، بشكل يؤكد ويبرز بلاغة المتشابه اللفظي في تفسيره.

أمثلة من تفسير الإمام الألوسي على أنواع المتشابه اللفظي:

‌النوع الأول: المتشابه بالتقديم والتأخير: أكثر الإمام الألوسي من توجيه المتشابه من نوع التقديم والتأخير.

مثال ذلك: عند تفسير قوله تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ}

(1)

قال: «وقدم التزكية على التعليم في هذه الآية وأخرها عنه في دعوة إبراهيم لاختلاف المراد بها في الموضعين، ولكل مقام مقال، وقيل: التزكية عبارة عن تكميل النفس بحسب القوة العملية وتهذيبها المتفرع على تكميلها بحسب القوة النظرية الحاصل بالتعليم المترتب على التلاوة إلا أنها وسطت بين التلاوة والتعليم المترتب عليها للإيذان بأن كلاً من الأمور المترتبة نعمة جليلة على حيالها مستوجبة للشكر ولو روعي ترتيب الوجود كما في دعوة إبراهيم عليه الصلاة والسلام لتبادر إلى الفهم كون الكل نعمة واحدة، وقيل: قدمت التزكية تارة وأخرت أخرى لأنها علة غائية لتعليم الكتاب والحكمة، وهي مقدمة في القصد والتصور مؤخرة في الوجود والعمل فقدمت وأخرت رعاية لكل منهما، واعترض بأن غاية التعليم صيرورتهم أزكياء عن الجهل لا تزكية الرسول عليه الصلاة والسلام إياها المفسرة بالحمل على ما يصيرون به أزكياء لأن ذلك إما بتعليمه إياهم أو بأمرهم بالعمل به فهي إما نفس التعليم أو أمر لا تعلق له به، وغاية ما يمكن أن يقال: إن التعليم باعتبار أنه يترتب عليه زوال الشك وسائر الرذائل تزكيته إياهم فهو باعتبار غاية وباعتبار مغيا كالرمي. والقتل في قولهم: رماه فقتله فافهم»

(2)

.

(1)

سورة البقرة، الآية:(151).

(2)

روح المعاني، (1/ 417).

ص: 164

مثال آخر: عند تفسيره لقول الله عز وجل: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}

(1)

.

قال: «وقد ذكر الخير على ذكر السوء لمناسبة ما قبل حيث قدم فيه ذكر النفع على ذكر الضر وسلك في ذكرهما هناك كذلك مسلك الترقي على ما قيل: فإن دفع المضار أهم من جلب المنافع، وذكر النيسابوري أن أكثر ما جاء في القرآن إذ يؤتى بالضر والنفع معًا تقديم لفظ الضرعلى النفع وهو الأصل؛ لأن العابد إنما يعبد معبوده خوفًا من عقابه أولًا ثم يعبده طمعا في ثوابه ثانيا كما يشير إلى ذلك قوله تعالى:{يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} وحيث تقدم النفع على الضر كان ذلك لسبق لفظ تضمن معنى نفع كما في هذه السورة حيث تقدم آنفاً لفظ الهداية على الضلال في قوله تعالى: {مَنْ يَهْدِ الله فَهُوَ المهتدى وَمَنْ يُضْلِلْ}

(2)

الخ وفي الرعد تقدم ذكر الطوع في قوله سبحانه: {طَوْعًا وَكَرْهًا}

(3)

وهو نفع، وفي الفرقان تقدم العذب في قوله جل وعلا:{هذا عَذَابٌ فُرَاتٌ}

(4)

وهو نفع، وفي سبأ تقدم البسط في قوله تبارك اسمه:{رَبّى يَبْسُطُ الرزق لِمَنْ يَشَاء وَيَقْدِرُ}

(5)

، وليقس على هذا غيره، وابن جريح يفسر النفع هنا بالهدى والضر بالضلال، وبه تقوى نكتة التقديم التي اعتبرها هذا الفاضل فيما نحن فيه كما لا يخفى»

(6)

.

‌النوع الثاني: المتشابه بالإبدال:

ومن ذلك قوله عند تفسيره قوله تعالى: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}

(7)

: «إلا أنه استشكل ذلك بأنه حينئذٍ يلزم التعارض بين ما هنا وقوله تعالى في سورة يس: {اليوم نَخْتِمُ على أفواههم}

(8)

الآية لأن الختم على الأفواه ينافي شهادة الألسن.

(1)

سورة الأعراف، الآية:(188).

(2)

سورة الأعراف، الآية:(178).

(3)

سورة الرعد، الآية:(15).

(4)

سورة الفرقان، الآية:(53).

(5)

سورة سبأ، الآية:(36).

(6)

روح المعاني، (5/ 127).

(7)

شورة النور، الآية:(24).

(8)

سورة يس، الآية:(65).

ص: 165

وأجيب بأن المراد من الختم على الأفواه منعهم عن التكلم بالألسنة التي فيها وذلك لا ينافي نطق الألسنة نفسها الذي هو المراد من الشهادة كما أشرنا إليه فإن الألسنة في الأول آلة للفعل وفي الثاني فاعلة له فيجتمع سبحانه الذراع المسموم ناطقاً متكلماً حتى أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه مسموم. وللمعتزلة في ذلك كلام، وقيل في التوفيق يجوز أن يكون كل من الختم والشهادة في موطن وحال، وأن يكون الشهادة في حق الرامين والختم في حق الكفرة، وكأنه لما كانت هذه الآية في حق القاذف بلسانه وهو مطالب معه بأربعة شهداء ذكر فيها خمسة أيضاً وصرح باللسان الذي به عمله ليفضحه جزاءً له من جنس عمله قاله الخفاجي وقال: إنها نكتة سرية والله تعالى أعلم بأسرار كتابه فتدبر»

(1)

.

متشابه بإبدال جملة {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ} بجملة {اليوم نَخْتِمُ على أفواههم} .

‌النوع الثالث: المتشابه بالإثبات والحذف:

ومن ذلك قول الإمام الألوسي عند تفسيره قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ}

(2)

.

وفي «أنوار التنزيل» أن المراد بالعذاب ههنا غير المراد به في سورة البقرة والأعراف لأنه مفسر بالتذبيح والتقتيل ثم ومعطوف عليه التذبيح المفاد بقوله تعالى: {وَيُذَبّحُونَ أَبْنَاءكُمْ} ههنا، وفيه إشارة إلى وجه العطف وتركه مع أن القصة واحدة، وحاصل ذلك أنه حيث طرح الواو قصد تفسير العذاب وبيانه فلم يعطف لما بينهما من كمال الاتصال وحيث عطف لم يقصد ذلك، والعذاب إن كان المراد به الجنس فالتذبيح لكونه أشد أنواعه عطف عليه عطف جبريل على الملائكة عليهم السلام تنبيهاً على أنه لشدته كأنه ليس من ذلك الجنس، وإن كان المراد به غيره كالاستعباد فهما متغايران والمحل محل العطف، وقد جوز أهل المعاني أن يكونا بمعنى في

(1)

روح المعاني، (9/ 325).

(2)

سورة إبراهيم، الآية:(6).

ص: 166

الجميع وذكر الثاني للتفسير، وترك العطف في السورتين ظاهر والعطف هنا لعد التفسير لكونه أوفى بالمراد وأظهر منزلة المغاير وهو وجه حسن أيضًا

(1)

.

‌النوع الرابع: المتشابه بالجمع والإفراد:

ومن ذلك قول الإمام الألوسي عند تفسيره قوله تعالى: {دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}

(2)

.

وأما ما قيل من إفراد الدرجة أولا لأن المراد هناك تفضيل كل مجاهد، والجمع ثانياً لأن المراد فيه تفضيل الجمع ففي الدرجات مقابلة الجمع بالجمع، فلكل مجاهد درجة ومآل العبارتين واحد والاختلاف تفنن، فمن الكلام الملفوظ لا من اللوح المحفوظ، وإما للاختلاف بالذات بين التفضيلين وبين الدرجة والدرجات، وفي هذا رغب الراغب، واستطيبه الطيبي على أن المراد بالتفضيل الأول ما خولهم الله تعالى عاجلاً في الدنيا من الغنيمة والظفر والذكر الجميل الحقيقي بكونه درجة واحدة، وبالتفضيل الثاني ما ادخره سبحانه لهم من الدرجات العالية والمنازل الرفيعة المتعالية عن الحصر كما ينباء عنه تقديم الأول وتأخير الثاني وتوسيط الوعد بالجنة بينهما، كأنه قيل: فضلهم عليهم في الدنيا درجة واحدة، وفي الأخرى درجات لا تحصى، وقد وسط بينهما في الذكر ما هو متوسط بينهما في الوجود أعني الوعد بالجنة توضيحاً لحالهما ومسارعة إلى تسلية المفضول كذا قرره الفاضل مولانا شيخ الإسلام، وقيل: المراد من التفضيل الأول رضوان الله تعالى ونعيمه الروحاني، ومن التفضيل الثاني نعيم الجنة المحسوس، وفيه أن عطف المغفرة والرحمة يبعد هذا التخصيص، وقيل: المراد من المجاهدين الأولين من جاهد الكفار، ومن المجاهدين الآخرين من جاهد نفسه، وزيد لهم في الأجر لمزيد فضلهم كما يدل عليه قوله عليه الصلاة والسلام:«رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر»

(3)

وفيه أن السياق وسبب النزول يأبيان ذلك، والحديث الذي ذكره لا أصل له كما قال المحدثون

(4)

.

(1)

روح المعاني، (7/ 180).

(2)

سورة النساء، الآية:(96).

(3)

حديث منكر وسبق تخريجه (ص: 46).

(4)

روح المعاني، (3/ 119، 120).

ص: 167

‌النوع الخامس: المتشابه بالتذكير والتأنيث:

ومن ذلك قول الإمام الألوسي عند تفسيره قوله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ}

(1)

:

ونقل عن الراغب ما يدل على أن المقام في هذه الآية مقام الضمير حيث ذكر عنه أنه قال في «درة التنزيل» : إنه تعالى قال ههنا {ذُوقُوا عَذَابَ النار الذي كُنتُمْ بِهِ تُكَذّبُونَ} ، وقال سبحانه في آية أخرى:{عَذَابَ النار التى كُنْتُمْ بِهَا تُكَذّبُونَ}

(2)

، فذكر جل وعلا ههنا وأنث سبحانه هناك، والسر في ذلك أن النار ههنا وقعت موقع الضمير والضمير لا يوصف، فأجرى الوصف على العذاب المضاف إليها وهو مذكر وفي تلك الآية لم يجر ذكر النار في سياقها، فلم تقع النار موقع الضمير فأجرى الوصف عليها وهي مؤنثة دون العذاب فتأمل

(3)

.

‌النوع السادس: المتشابه بالتعريف والتنكير:

ومن ذلك قوله عند تفسير قوله تعالى: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ}

(4)

: «ولما كان في التعريف نوع من الفخامة وفي التنكير نوع آخر وكان الغرض الجمع عرف الكتاب ونكر القرآن ههنا وعكس في النمل

(5)

وقدم المعرف في الموضعين لزيادة التنويه»

(6)

.

‌النوع السابع: المتشابه بالإظهار والإضمار:

ومن ذلك قوله عند تفسير قوله تعالى: {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى}

(7)

: «قال {فَمَنْ رَبُّكُمَا ياموسى موسى} لم يضف الرب إلى نفسه ولو بطريق حكاية ما في قوله تعالى: {إِنَّا رَسُولَا رَبّكَ} [طه: 47] وقوله سبحانه: {قَدْ جئناك بِئَايَةٍ مّن رَّبّكَ} [طه: 47] لغاية عتوه ونهاية طغيانه بل أضافه إليهما لما أن المرسل لا بد أن يكون رباً للرسول، وقيل: لأنهما قد صرحا

(1)

سورة السجدة، الآية:(20).

(2)

سورة سبأ، الآية:(42).

(3)

روح المعاني، (11/ 132).

(4)

سورة الحجر، الآية:(1).

(5)

يقصد قوله تعالى: {طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ} سورة النمل، الآية:(1).

(6)

روح المعاني، (7/ 251).

(7)

سورة طه، الآية:(49).

ص: 168

بربوبيته تعالى للكل بأن قالا: {إنا رسول رب العالمين}

(1)

كما وقع في سورة الشعراء والاقتصار ههنا على ذكر ربوبيته تعالى لفرعون لكفايته فيما هو مقصود»

(2)

.

وأيضًا قوله عند تفسير قوله تعالى: {وَمِنْهُم مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْك}

(3)

: «وأفرد ضمير {مِنْ} في {يَسْتَمِعِ} وجمعه في قوله سبحانه {وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً}؛ نظراً إلى لفظه ومعناه وعن الكرخي إنما قيل: هنا {يَسْتَمِعِ} وفي يونس {يَسْتَمِعُونَ} لأن ما هنا في قوم قليلين فنزلوا منزلة الواحد وما هناك في جميع الكفار فناسب الجمع، وإنما لم يجمع ثم في قوله سبحانه: {وَمِنهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ} [يونس: 43] لأن المراد النظر المستتبع لمعاينة أدلة الصدق وأعلام النبوة والناظرون كذلك أقل من المستمعين للقرآن»

(4)

.

‌النوع الثامن: المتشابه باختلاف الصيغة الصرفية:

ومن ذلك قوله عند تفسير قول الله عز وجل: {لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآَخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ}

(5)

: «ووقع في آية أخرى {الاخسرون}

(6)

وذلك لاقتضاء المقام على ما لا يخفى على الناظر فيه أو لأنه وقع في الفواصل هنا اعتماد الألف كالكافرين والغافلين فعبر به لرعاية ذلك وهو أمر سهل»

(7)

.

‌النوع التاسع: المتشابه بالإجمال والتفصيل:

ومن ذلك قوله عند تفسير قول الله عز وجل: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ}

(8)

.

(1)

سورة الشعراء، الآية:(16).

(2)

روح المعاني، (8/ 513).

(3)

سورة الأنعام، الآية:(25).

(4)

روح المعاني، (4/ 118).

(5)

سورة النحل، الآية:(109).

(6)

سورة هود، الآية:(22).

(7)

روح المعاني، (7/ 474)، نوع المتشابه في هذه المسألة: متشابه باختلاف الصيغة الصرفية (الخاسرون) اسم فاعل، (الأخسرون) صيغة مبالغة.

(8)

سورة ص، الآية:(85).

ص: 169

«واعلم أن هذه القصة قد ذكرت في عدة سور وقد ترك في بعضها بعض ما ذكر في البعض الآخر للإيجاز ثقة ما ذكر في ذلك وقد يكون فيها في موضعين مثلاً لفظان متحدان مآلا مختلفان لفظاً رعاية للتفنن، وقد يحمل الاختلاف على تعدد الصدور فيقال مثلاً: إن اللعين أقسم مرة بالعزة فحكى ذلك في سورة {ص} بقوله تعالى: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ} وأخرى بإغواء الله تعالى الذي هو أثر من آثار قدرته وعزته عز وجل وحكم من أحكام سلطانه فحكى ذلك في سورة الأعراف: بقوله تعالى: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِى}

(1)

، وقد يحمل الاختلاف على اختلاف المقامات كترك الفاء من قوله:{يُنظرنِى إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}

(2)

، ومن قوله تعالى:{إِنَّكَ مِنَ المنظرين}

(3)

، في الأعراف مع ذكرها فيهما في {ص} والذي يجب اعتباره في نقل الكلام إنما هو أصل معناه ونفس مدلوله الذي يفيده وأما كيفية إفادته له فليس مما يجب مراعاته عند النقل البتة بل قد تراعي وقد لا تراعي حسب اقتضاء المقام، ولا يقدح في أصل الكلام تجريده عنها بل قد تراعي عند نقله كيفيات وخصوصيات لم يراعها المتكلم أصلاً حيث أن مقام الحكاية اقتضتها وهي ملاك الأمر ولا يخل ذلك بكون المنقول أصل المعنى كما قد حققه صدر المفتين أبو السعود وأطال الكلام فيه فليراجع»

(4)

.

‌النوع العاشر: المتشابه بالإضافة وعدمها:

ومن ذلك قوله عند تفسير قول الله عز وجل: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ}

(5)

: «وإنما قال سبحانه هنا {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} وفيما يأتي {وَلَوْ شَاء الله مَا فَعَلُوهُ}

(6)

فغاير بين الاسمين في المحلين لما ذكر بعضهم وهو أن ما قبل هذه الآية من عداوتهم له عليه الصلاة والسلام كسائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام التي لو شاء منعهم عنها فلا يصلون إلى المضرة أصلاً يقتضي ذكره جل شأنه بهذا العنوان إشارة إلى أنه مربيه صلى الله

(1)

سورة الأعراف، الآية:(16).

(2)

سورة الأعراف، الآية:(14).

(3)

سورة الأعراف، الآية:(15).

(4)

روح المعاني، (12/ 219 - 220).

(5)

سورة الأنعام، الآية:(112).

(6)

سورة الأنعام، الآية:(137).

ص: 170

عليه وسلم في كنف حمايته وإنما لم يفعل سبحانه ذلك لأمر اقتضته حكمته، وأما الآية الأخرى فذكر قبلها إشراكهم فناسب ذكره عز اسمه بعنوان الألوهية التي تقتضي عدم الاشتراك فكأنه قيل ههنا: إذا كان ما فعلوه من أحكام عداوتك من فنون المفاسد بمشيئة ربك جل شأنه الذي لم تزل في كنف حمايته وظل تربيته فاتركهم وافتراءهم أو وما يفترونه من أنواع المكايد ولا تبال به فإن لهم في ذلك عقوبات شديدة ولك عواقب حميدة لابتناء مشيئته سبحانه على الحكم البالغة ألبتة»

(1)

.

بالإضافة إلى ذلك فقد أكثر الإمام الألوسي من توجيه المكرر وأبطل مزاعم التكرار، وأثبت بلاغة التعبير القرآني.

ومن الأمثلة على ذلك:

قال عند تفسيره قول الله عز وجل: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}

(2)

: «{قُلْنَا اهبطوا مِنْهَا جَمِيعًا} كرر للتأكيد، فالفصل لكمال الاتصال والفاء في {فَتَلَقَّى} للاعتراض، إذ لا يجوز تقدم المعطوف على التأكيد، وفائدته الإشارة إلى مزيد الاهتمام بشأن التوبة وأنه يجب المبادرة إليها، ولا يمهل فإنه ذنب آخر مع ما في ذلك من إظهار الرغبة بصلاح حاله عليه السلام وفراغ باله، وإزالة ما عسى يتشبث به الملائكة عليهم السلام، وقد فضل عليهم وأمروا بالسجود له، أو كرر ليتعلق عليه معنى آخر غير الأول، إذ ذكر إهباطهم أولاً: للتعادي وعدم الخلود، والأمر فيه تكويني. وثانياً: ليهتدي من يهتدي، ويضل من يضل، والأمر فيه تكليفي، ويسمى هذا الأسلوب في البديع الترديد فالفصل حينئذ للانقطاع لتباين الغرضين، وقيل: إن إنزال القصص للاعتبار بأحوال السابقين، ففي تكرير الأمر تنبيه على أن الخوف الحاصل من تصور إهباط آدم عليه السلام المقترن بأحد هذين الأمرين من التعادي والتكليف كاف لمن له حزم، وخلا عن عذر أن تعوقه عن مخالفة حكمه تعالى، فكيف المخالفة الحاصلة من تصور الإهباط المقترن بهما؟ فلو لم يعد الأمر لعطف {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم} على الأول: فلا يفهم إلا إهباط مترتب عليه جميع هذه الأمور، ويحتمل على بعد

(1)

روح المعاني، (4/ 252).

(2)

سورة البقرة، الآية:(38).

ص: 171

أن تكون فائدة التكرار التنبيه على أنه تعالى هو الذي أراد ذلك، ولولا إرادته لما كان ما كان؛ ولذلك أسند الإهباط إلى نفسه مجرداً عن التعليق بالسبب بعد إسناد إخراجهما إلى الشيطان، فهو قريب من قوله عز شأنه:{وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكن الله رمى}

(1)

وقال الجبائي: إن الأول: من الجنة إلى السماء. والثاني: منها إلى الأرض، ويضعفه ذكر {وَلَكُمْ فِى الارض مُسْتَقَرٌّ}

(2)

عقيب الأول و {جَمِيعاً} حال من فاعل {اهبطوا} أي مجتمعين، سواء كان في زمان واحد أو لا، وقد يفهم الاتحاد في الزمان من سياق الكلام، كما قيل به في {فَسَجَدَ الملائكة كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ}

(3)

وأبعد ابن عطية فجعله تأكيداً لمصدر محذوف أي هبوطاً جميعاً»

(4)

.

(1)

سورة الأنفال، الآية:(17).

(2)

سورة البقرة، الآية:(36).

(3)

سورة الحجر، الآية:(30).

(4)

روح المعاني، (1/ 239).

ص: 172

‌الفصل الرابع

المقارنة بين الإمامين الرازي والألوسي

ويشتمل على أربعة مباحث:

المبحث الأول: مقارنة عامة بين منهج الإمامين في توجيه المتشابه اللفظي في القرآن الكريم.

المبحث الثاني: أوجه التشابه بين الإمامين الرازي والألوسي في توجيه المتشابه اللفظي في القرآن الكريم.

المطلب الأول: مسائل المتشابه اللفظي التي اتفق الإمامان في توجيهها في الحروف.

المطلب الثاني: مسائل المتشابه اللفظي التي اتفق الإمامان في توجيهها في اللفظ والتركيب.

المبحث الثالث: أوجه الاختلاف بين الإمامين الرازي والألوسي في توجيه المتشابه اللفظي في القرآن الكريم.

المطلب الأول: مسائل المتشابه اللفظي التي اختلف الإمامان في توجيهها في الحروف.

المطلب الثاني: مسائل المتشابه اللفظي التي اختلف الإمامان في توجيهها في اللفظ والتركيب.

المبحث الرابع: ما انفرد به كل إمام عن الآخر.

المطلب الأول: ما انفرد به الإمام الرازي عن الإمام الألوسي.

المطلب الثاني: ما انفرد به الإمام الألوسي عن الإمام الرازي.

ص: 173

‌المبحث الأول

مقارنة عامة بين منهج الإمامين في توجيه المتشابه اللفظي في القرآن الكريم.

‌أولا: من حيث عدد المسائل التي تناولها كل إمام:

الإمام الرازي تناول مسائل أكثر من الإمام الألوسي؛ فقد قام بتوجيه حوالي ثلاثمائة مسألة من مسائل المتشابه في القرآن الكريم، أما الإمام الألوسي فقد تناول حوالي مائة وخمسين مسألة من مسائل المتشابه اللفظي في القرآن الكريم.

‌ثانيًا: من حيث طريقة كل إمام في عرض المتشابه:

اختلف الإمامان في طريقة عرض المتشابه فقد اتبع الإمام الرازي طريقة الإمام الإسكافي ومن سار على دربه من استخدام أسلوب المناقشة في عرض المتشابه على شكل سؤال وجواب، أما الإمام الألوسي فقد ترك أسلوب المناقشة وعمد مباشرةً إلى ذكر المتشابه اللفظي مباشرةً كالإمام الكرماني

(1)

.

‌ثالثًا: من حيث الأسلوب:

اتفق الإمامان في أسلوب توجيه المتشابه فقد امتاز عند الإمامين بالسهولة والوضوح، والإيجاز في التوجيه في أغلب المسائل، والبسط وإطالة التوجيه في بعض المسائل، وطول النفس في عرض جميع المتشابهات بين الآيتين في بعض المسائل، وذكر التوجيه في الموضع الأول غالبًا، أو الموضع الثاني أحيانًا.

‌رابعًا: من حيث ما اعتمد عليه الإمامان في التوجيه:

اتفق الإمامان في الاعتماد على علم القراءات في توجيه بعض المسائل، وعلم النحو، والسياق، وظهرت بلاغة المتشابه اللفظي بوضوح في تفسيرهما.

(1)

ذكرت أمثلة كثيرة لكل إمام عند الحديث عند منهجيهما.

ص: 174

الإمام الرازي اعتمد أيضًا على علم الفقه والحديث (حتى أنه قام أحيانًا بالمقارنة بين آية وحديث)

(1)

.

أما الإمام الألوسي فقد حمل المتشابه على التفنن في التعبير في بعض المسائل، فيما لم يقل به الإمام الرازي في أي مسألة.

يقول د/ ياسر بابطين: «يتيح لنا تتبع مواضع الحمل على التفنن عند الآلوسي، وتصنيفها، ومناقشة كلامه فيها، تأطيرًا منهجيًا لمذهبه في التفنن، وقد توسط الآلوسي بين من تجنب الحمل على التفنن كالرازي، ومن توسع فيه جدًا كابن عاشور»

(2)

.

أيضًا الإمام الألوسي قال بمراعاة الفواصل في بعض المسائل، فيما لم يقل الإمام الرازي بها في أي مسألة.

‌خامسًا: بالنسبة لعلماء المتشابه اللفظي الذين تأثر بهما الإمامان وتأثروا بهم:

الإمام الرازي نقل من الإمام الإسكافي دون أن يشير، واتفق مع الإمام الكرماني في عدد من المسائل، وتأثر به كلا من الإئمة ابن الزبير، ابن جماعة، والأنصاري في عدد من المسائل.

أما الإمام الألوسي فهو متأخر عن جميع علماء المتشابه اللفظي ولم يشر في تفسيره إلى اسم أي عالم منهم، وأشار إلى كتاب درة التنزيل ثلاثٍ مرات في تفسيره، واتفق مع علماء المتشابه في توجيه بعض المسائل.

والإمام الرازي انفرد عن جميع علماء المتشابه اللفظي بتوجيه الكثير من مسائل المتشابه اللفظي، ما يزيد عن مائة مسألة، بينما انفرد الإمام الألوسي عنهم بما يزيد عن أربعين مسألة.

(1)

وضحت ذلك بالتفصيل عند الحديث عن منهج الإمام الرازي.

(2)

حمل المتشابه على التفنن: تفسير الألوسي نموذجًا (ص: 278).

ص: 175

‌المبحث الثاني

أوجه التشابه بين الإمامين الرازي والألوسي

في توجيه المتشابه اللفظي في القرآن الكريم

‌المطلب الأول

مسائل المتشابه اللفظي التي اتفق الإمامان على توجيهها في الحروف

اتفق الإمامان معًا في توجيه بعض مسائل المتشابه اللفظي في القرآن الكريم، خاصة أن الإمام الألوسي قد نقل توجيه بعض مسائل المتشابه اللفظي في القرآن الكريم من الإمام الرازي.

1 -

في توجيه الفرق بين تقديم الحرف (في) في قوله تعالى: {لَا فِيهَا غَوْلٌ}

(1)

في سورة الصافات وتأخيره في سورة البقرة: {لَا رَيْبَ فِيه}

(2)

.

حيث قال الإمام الرازي: «لم قال هاهنا: {لَا رَيْبَ فِيهِ} وفي موضع آخر {لَا فِيهَا غَوْلٌ}

(3)

؟

الجواب: لأنهم يقدمون الأهم فالأهم، وهاهنا الأهم نفي الريب بالكلية عن الكتاب، ولو قلت: لا فيه ريب لأوهم أن هناك كتاباً آخر حصل الريب فيه لا هاهنا، كما قصد في قوله:{لَا فِيهَا غَوْلٌ} تفضيل خمر الجنة على خمور الدنيا، فإنها لا تغتال العقول كما تغتالها خمرة الدنيا»

(4)

.

وقال الإمام الألوسي: «وإنما لم يقل سبحانه لا فيه ريب على حد {لَا فِيهَا غَوْلٌ}؛ لأن التقديم يشعر بما يبعد عن المراد وهو أن كتاباً غيره فيه الريب كما قصد فيه الآية تفضيل خمر الجنة على خمور الدنيا بأنها لا تغتال العقول كما تغتالها فليس فيها ما في غيرها من العيب قاله الزمخشري»

(5)

.

(1)

سورة الصافات، الآية:(47).

(2)

سورة البقرة، الآية:(2).

(3)

سورة الصافات، الآية:(47).

(4)

التفسير الكبير، (2/ 21).

(5)

روح المعاني، (1/ 110).

ص: 176

فالإمامان اتفقا معًا في توجيه المتشابه، وقد نسب الإمام الألوسي التوجيه للزمخشري، بينما لم يشر الإمام الرازي إلى ذلك.

2 -

اتفق الإمامان في توجيه تكرار حرف الجر (على) في قوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ}

(1)

، حيث قال الإمام الرازي:«الفائدة في تكرير الجار في قوله: وعلى سمعهم أنها لما أعيدت للأسماع كان أدل على شدة الختم في الموضعين»

(2)

.

وقال الإمام الألوسي: «وأعاد جل شأنه الجار لتكون أدلة على شدة الختم في الموضعين فإن ما يوضع في خزانة إذا ختمت خزانته وختمت داره كان أقوى المنع عنه وأظهر في الاستقلال لأن إعادة الجار تقتضي ملاحظة معنى الفعل المعدى به حتى كأنه ذكر مرتين، ولذا قالوا في مررت بزيد وعمرو: مرور واحد، وفي مررت بزيد وبعمرو: مروان، والعطف وإن كان في قوة الإعادة لكنه ليس ظاهراً مثلها في الإفادة لما فيه من الاحتمال»

(3)

.

بعرض رأي الإمامين يتضح أنهما اتفقا معًا في توجيه المتشابه، وأن تكرار حرف الجر (على) أدل على شدة الختم.

3 -

عند تفسير الإمامين لآية الأمر بدخول القرية في سورة الأعراف: {وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ}

(4)

.

اتقفا معًا في توجيه إبدال حرف الواو في (وكلوا) بحرف الفاء (فكلوا) في سورة البقرة.

حيث قال الإمام الرازي: «وأما الثاني: فهو أنه تعالى قال في البقرة: ادخلوا هذه القرية فكلوا بالفاء. وقال هاهنا: اسكنوا هذه القرية وكلوا بالواو والفرق أن الدخول حالة مخصوصة، كما يوجد بعضها ينعدم، فإنه إنما يكون داخلا في أول دخوله، وأما ما بعد ذلك فيكون سكونا لا دخولا، إذا ثبت هذا فنقول: الدخول حالة منقضية زائلة وليس لها استمرار فلا جرم يحسن ذكر فاء التعقيب

(1)

سورة البقرة، الآية:(7).

(2)

التفسير الكبير، (2/ 59).

(3)

روح المعاني، (1/ 138).

(4)

سورة الأعراف، الآية:(161).

ص: 177

بعده، فلهذا قال ادخلوا هذه القرية وأما السكون فحالة مستمرة باقية، فيكون الأكل حاصلًا معه لا عقيبه فظهر الفرق»

(1)

.

وقال الإمام الألوسي: «وجيء بالواو هنا وبالفاء في البقرة لأنه قيل هناك ادخلوا ذكر التعقيب معه وهنا اسكنوا والسكنى أمر ممتد والأكل معه لا بعده، وقيل: إن إذا تفرع المسبب عن السبب اجتمعا في الوجود فيصح الاتيان بالواو والفاء، وفيه أن هذا إنما يدل على صحة العبارتين وليس السؤال عن ذلك»

(2)

.

بعرض رأي الإمامين يتضح أن الإمام الألوسي ذكر رأيين، الرأي الأول بصيغة (قيل) وهو متفق مع رأي الإمام الرازي.

تنبيه: توجيه هذه المسألة في الموضع الثاني للمتشابه (سورة الأعراف)، أما الموضع الأول (سورة البقرة) فقد اختلف الإمام الألوسي مع الإمام الرازي في التوجيه حيث أن كل إمام ذكر توجيهين مختلفين للمتشابه، التوجيه الأول في الموضع الأول للمتشابه (سورة البقرة) مختلف عن التوجيه الثاني في الموضع الثاني للمتشابه (سورة الأعراف)، وقد قام الإمام الألوسي بتعقب آراء الإمام الرازي في الموضع الأول للمتشابه (سورة البقرة)، ولم يتفق معه ورجح آراء الزمخشري، لكن في الموضع الثاني للمتشابه (سورة الأعراف) اتفق معه في خمس مسائل من مسائل المتشابه اللفظي بين الآيتين، بل ونقل رأيه في بعضها.

4 -

اتفق الإمامان في توجيه الفرق بين ذكر حرف الواو في قوله تعالى: {وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ}

(3)

، وحذفه في قوله تعالى:{يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ}

(4)

.

حيث قال الإمام الرازي: «ذُكر في سورة البقرة: {يُذَبِّحُونَ}

(5)

، وفي سورة الأعراف:{يُقَتِّلُونَ}

(6)

، وهاهنا {وَيُذَبِّحُونَ} مع الواو فما الفرق؟

(1)

التفسير الكبير، (15/ 37).

(2)

روح المعاني، (5/ 83).

(3)

سورة إبراهيم، الآية:(6).

(4)

سورة إبراهيم، الآية:(49).

(5)

سورة البقرة، الآية:(49).

(6)

سورة الأعراف، الآية:(41).

ص: 178

والجواب: قال تعالى في سورة البقرة: يذبحون بغير واو لأنه تفسير لقوله: سوء العذاب وفي التفسير لا يحسن ذكر الواو تقول: أتاني القوم زيد وعمرو. لأنك أردت أن تفسر القوم بهما ومثله قوله تعالى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ}

(1)

، فالآثام لما صار مفسرا بمضاعفة العذاب لا جرم حذف عنه الواو، أما في هذه السورة فقد أدخل الواو فيه، لأن المعنى أنهم يعذبونهم بغير التذبيح وبالتذبيح أيضا فقوله: ويذبحون نوع آخر من العذاب لا أنه تفسير لما قبله»

(2)

.

وقال الإمام الألوسي: «وفي «أنوار التنزيل» أن المراد بالعذاب ههنا غير المراد به في سورة البقرة والأعراف لأنه مفسر بالتذبيح والتقتيل ثم ومعطوف عليه التذبيح المفاد بقوله تعالى: {وَيُذَبّحُونَ أَبْنَاءكُمْ} ههنا، وفيه إشارة إلى وجه العطف وتركه مع أن القصة واحدة، وحاصل ذلك أنه حيث طرح الواو قصد تفسير العذاب وبيانه فلم يعطف لما بينهما من كمال الاتصال وحيث عطف لم يقصد ذلك، والعذاب إن كان المراد به الجنس فالتذبيح لكونه أشد أنواعه عطف عليه عطف جبريل على الملائكة عليهم السلام تنبيهاً على أنه لشدته كأنه ليس من ذلك الجنس، وإن كان المراد به غيره كالاستعباد فهما متغايران والمحل محل العطف، وقد جوز أهل المعاني أن يكونا بمعنى في الجميع وذكر الثاني للتفسير، وترك العطف في السورتين ظاهر والعطف هنا لعد التفسير لكونه أوفى بالمراد وأظهر منزلة المغاير وهو وجه حسن أيضًا»

(3)

.

بعرض رأي الإمامين يتضح أنهما اتفقا معًا في توجيه المتشابه.

5 -

اتفق الإمامان على إبدال حرف الفاء في قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَنظُرُوا}

(4)

، بحرف الواو في قوله تعالى:{أَوَلَمْ يَنظُرُوا}

(5)

.

(1)

سورة الفرقان، الآية:(68).

(2)

التفسير الكبير، (19/ 86).

(3)

روح المعاني، (7/ 180).

(4)

سورة ق، الآية:(6).

(5)

سورة الأعراف، الآية:(185).

ص: 179

حيث قال الإمام الرازي: «فإن قيل قال في موضع {أَوَلَمْ يَنظُرُوا}

(1)

، وقال هاهنا {أَفَلَمْ يَنظُرُوا}

(2)

، بالفاء فما الفرق؟ نقول: هاهنا سَبَقَ مِنْهُمْ إِنْكَارُ الرَّجْعِ فَقَالَ بِحَرْفِ التَّعْقِيبِ بِمُخَالِفِه»

(3)

.

وقال الإمام الألوسي: «وقيل ههنا {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا} بالفاء وفي موضع آخر {أَوَ لَمْ يَنْظُرُوا} بالواو لسبق إنكار الرجع فناسب التعقيب بما يشعر بالاستدلال عليه»

(4)

.

بعرض رأي الإمامين يتضح أن الإمام الألوسي قد نقل رأي الإمام الرازي.

(1)

سورة الأعراف، الآية:(185).

(2)

سورة ق، الآية:(6).

(3)

التفسير الكبير، (28/ 155).

(4)

روح المعاني، (13/ 326).

ص: 180

‌المطلب الثاني

مسائل المتشابه اللفظي التي اتفق الإمامان في توجيهها في اللفظ والتركيب

1 -

اتفق الإمامان على توجيه الفرق بين إبدال قوله تعالى: {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ}

(1)

، بقوله تعالى:{هُدًى لِلنَّاسِ}

(2)

.

حيث قال الإمام الرازي: «ولو لم يكن للمتقي فضيلة إلا ما في قوله تعالى: {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ}

(3)

، كفاه؛ لأنه تعالى بين أن القرآن هدى للناس في قوله: شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن {هُدًى لِلنَّاسِ}

(4)

، ثم قال هاهنا في القرآن: إنه هدى للمتقين، فهذا يدل على أن المتقين هم كل الناس، فمن لا يكون متقيا كأنه ليس بإنسان»

(5)

.

وقال الإمام الألوسي: «وبعض صحح أن القرآن في نفسه هدى في كل شيء حتى معرفة الله تعالى لمن تأمل في أدلته العقلية وحججه اليقينية كما يشعر به ظاهر قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ}

(6)

، ويكون الاقتصار على المتقين هنا بناء على تفسيرنا الهداية مدحاً لهم ليبين سبحانه أنهم الذين اهتدوا وانتفعوا به كما قال تعالى:{إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يخشاها}

(7)

، مع عموم إنذاره صلى الله عليه وسلم وأما غيرهم فلا {وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً}

(8)

، و {لا يَزِيدُ الظالمين إَلاَّ خَسَارًا}

(9)

، وأما القول بأن التقدير هدى للمتقين والكافرين فحذف لدلالة المتقين على حد {سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ}

(10)

، فمما لا يلتفت إليه»

(11)

.

(1)

سورة البقرة، الآية:(2).

(2)

سورة البقرة، الآية:(185).

(3)

سورة البقرة، الآية:(2).

(4)

سورة البقرة، الآية:(185).

(5)

التفسير الكبير، (2/ 268).

(6)

سورة البقرة، الآية:(185).

(7)

سورة النازعات، الآية:(45).

(8)

سورة الإسراء، الآية:(45).

(9)

سورة الإسراء، الآية:(82).

(10)

سورة النحل، الآية:(81).

(11)

روح المعاني، (1/ 112).

ص: 181

بعرض رأي الإمامين يتضح أنهما اتفقا معًا في التوجيه، وأن المنتفع بالهدى حقًا هم المتقون.

2 -

اتفق الإمامان في توجيه الفرق بين قوله: {أَيَّامًا مَّعْدُودَة}

(1)

بالإفراد، و {أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ}

(2)

بالجمع.

حيث قال الإمام الرازي: «ذكر هاهنا: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَّعْدُودَة}

(3)

وفي آل عمران: {إِلَّا أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ}

(4)

ولقائل أن يقول: لم كانت الأولى معدودة والثانية معدودات والموصوف في المكانين موصوف واحد وهو (أيامًا)؟

والجواب: أن الاسم إن كان مذكرا فالأصل في صفة جمعه التاء. يقال: كوز وكيزان مكسورة وثياب مقطوعة وإن كان مؤنثا كان الأصل في صفة جمعه الألف والتاء، يقال: جرة وجرار مكسورات وخابية وخوابي مكسورات. إلا أنه قد يوجد الجمع بالألف والتاء فيما واحده مذكر في بعض الصور نادرا نحو حمام وحمامات وجمل سبطر وسبطرات وعلى هذا ورد قوله تعالى: في أيام معدودات وفي أيام معلومات فالله تعالى تكلم في سورة البقرة بما هو الأصل وهو قوله: أياما معدودة وفي آل عمران بما هو الفرع»

(5)

.

وقال الإمام الألوسي: «وجاء هنا {مَّعْدُودَاتٍ} بصيغة الجمع دون ما في البقرة (80) فإنه {مَّعْدُودَةً} بصيغة المفرد تفننًا في التعبير، وذلك لأن جمع التكسير لغير العاقل يجوز أن يعامل معاملة الواحدة المؤنثة تارة ومعاملة جمع الإناث أخرى فيقال: هذه جبال راسية، وإن شئت قلت راسيات، وجمال ماشية وإن شئت ماشيات، وخص الجمع هنا لما فيه من الدلالة على القلة كموصوفه وذلك أليق بمقام التعجيب والتشنيع»

(6)

.

(1)

سورة البقرة، الآية:(80).

(2)

سورة آل عمران، الآية:(24).

(3)

سورة البقرة، الآية:(80).

(4)

سورة آل عمران، الآية:(24).

(5)

التفسير الكبير، (3/ 567).

(6)

روح المعاني، (2/ 107 - 108).

ص: 182

بعرض رأي الإمامين يتضح أنهما اتفقا معًا في التوجيه، وأن جمع التكسير لغير العاقل يعامل أحيانًا معاملة الواحدة المؤنثة وأحيانًا معاملة جمع الإناث.

3 -

اتفق الإمامان في توجيه الفرق بين تقديم الأموال على الأنفس في قوله تعالى: {فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ}

(1)

، وتأخيرها في قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ}

(2)

.

حيث قال الإمام الرازي: «لقائل أن يقول: إنه تعالى قال: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ} فقدم ذكر النفس على المال، وفي الآية التي نحن فيها وهي قوله: {الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ} قدم ذكر المال على النفس، فما السبب فيه؟ وجوابه: أن النفس أشرف من المال، فالمشتري قدم ذكر النفس تنبيها على أن الرغبة فيها أشد والبائع أخر ذكرها تنبيها على أن المضايقة فيها أشد، فلا يرضى ببذلها إلا في آخر المراتب»

(3)

.

وقال الإمام الألوسي: «وإنما قدم سبحانه وتعالى هنا ذكر الأموال على الأنفس وعكس في قوله عز شأنه: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ}؛ لأن النفس أشرف من المال فقدم المشتري النفس تنبيهاً على أن الرغبة فيها أشد وأخر البائع تنبيهاً على أن المماكسة فيها أشد فلا يرضى ببذلها إلا في فائدة»

(4)

.

بعرض رأي الإمامين يتضح أن الإمام الألوسي قد نقل رأي الإمام الرازي دون أن يشير.

4 -

اتفق الإمامان في توجيه الفرق بين إبدال قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}

(5)

، بقوله تعالى {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}

(6)

، {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}

(7)

في سورة الأنعام.

(1)

سورة النساء، الآية:(95).

(2)

سورة التوبة، الآية:(111).

(3)

التفسير الكبير، (11/ 8).

(4)

روح المعاني، (3/ 118).

(5)

سورة الأنعام، الآية:(151).

(6)

سورة الأنعام، الآية:(152).

(7)

سورة الأنعام، الآية:(153).

ص: 183

قال الإمام الرازي: «فإن قيل: فما السبب في أن جعل خاتمة الآية الأولى بقوله: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} وخاتمة هذه الآية بقوله: لعلكم تذكرون قلنا: لأن التكاليف الخمسة المذكورة في الأولى أمور ظاهرة جلية فوجب تعقلها وتفهمها وأما التكاليف الأربعة المذكورة في هذه الآية فأمور خفية غامضة لا بد فيها من الاجتهاد والفكر حتى يقف على موضع الاعتدال فلهذا السبب قال: {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}»

(1)

.

وقال الإمام الألوسي: «وختمت الآية الأولى بقوله سبحانه: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} وهذه بقوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}؛ لأن القوم كانوا مستمرين على الشرك وقتل الأولاد وقربان الزنا وقتل النفس المحرمة بغير حق غير مستنكفين ولا عاقلين قبحها فنهاهم سبحانه لعلهم يعقلون قبحها فيستنكفوا عنها ويتركوها. وأما حفظ أموال اليتامى عليهم وإيفاء الكيل والعدل في القول والوفاء بالعهد فكانوا يفعلونه ويفتخرون بالاتصاف به فأمرهم الله تعالى بذلك لعلهم يذكرون إن عرض لهم نسيان؛ قاله القطب الرازي، ثم قال فإن قلت إحسان الوالدين من قبيل الثاني أيضاً فكيف ذكر من الأول؟ قلت: أعظم النعم على الإنسان نعمة الله تعالى ويتلوها نعمة الوالدين لأنهما المؤثران في الظاهر ومنهما نعمة التربية والحفظ عن الهلاك في وقت الصغر فلما نهى عن الكفر بالله تعالى نهى بعده عن الكفران في نعمة الأبوين تنبيهاً على أن القوم لما لم يرتكبوا الكفران فبطريق الأولى أن لا يرتكبوا الكفر. وقال الإمام: السبب في ختم كل آية بما ختمت «أن التكاليف الخمسة المذكورة في الآية الأولى (أمور) ظاهرة جلية فوجب تعقلها وتفهمها والتكاليف الأربعة المذكورة في هذه الآية أمور خفية غامضة لا بد فيها من الاجتهاد والفكر الكثير حتى يقف على موضع الاعتدال وهو التذكر. انتهى»

(2)

.

بعرض رأي الإمامين يتضح أن الإمام الألوسي قد نقل رأي الإمام الرازي بقوله (قال الإمام)، ونقل رأيًا آخر نسبه (للقطب الرازي).

(1)

التفسير الكبير، (13/ 248).

(2)

روح المعاني، (4/ 299).

ص: 184

5 -

اتفق الإمامان على توجيه الفرق بين إبدال قوله تعالى: {ثُعْبَانٌ مُبِينٌ}

(1)

، بقوله تعالى {كَأَنَّهَا جَانٌّ}

(2)

.

حيث قال الإمام الرازي: «فإن قيل كيف قال هاهنا: {ثُعْبَانٌ مُبِينٌ} وفي آية أخرى: {فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى}

(3)

وفي آية ثالثة: {كَأَنَّهَا جَانٌّ} والجان مائل إلى الصغر والثعبان مائل إلى الكبر؟ جوابه: أما الحية فهي اسم الجنس ثم إنها لكبرها صارت ثعبانا، وشبهها بالجان لخفتها وسرعتها فصح الكلامان، ويحتمل أنه شبهها بالشيطان لقوله تعالى:{وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ}

(4)

، ويحتمل أنها كانت أولا صغيرة كالجان ثم عظمت فصارت ثعبانا»

(5)

.

وقال الإمام الألوسي: «لا تعارض بين ماهنا وقوله سبحانه: {كَأَنَّهَا جَانٌّ} بناء على أن الجان هي الحية الصغيرة لما قالوا: إن القصة غير واحدة، أو أن المقصود من ذلك تشبيهاً في خفة الحركة بالجان لا بيان جثتها، أو لما قيل: إنها انقلبت جاناً وصارت ثعباناً فحكيت الحالتان في آيتين»

(6)

.

بعرض رأي الإمامين يتضح اتفاقهما معًا في توجيه المتشابه.

6 -

اتفق الإمامان على توجيه الفرق بين إبدال قوله تعالى: {فَانْفَجَرَتْ}

(7)

بقوله تعالى: {فَانْبَجَسَتْ}

(8)

.

حيث قال الإمام الرازي:

في الموضع الأول للمتشابه (سورة البقرة): «السؤال الثاني: أنه تعالى ذكر هاهنا: {فَانْفَجَرَتْ} ، وفي الأعراف:{فَانْبَجَسَتْ} وبينهما تناقض لأن الانفجار خروج الماء بكثرة

(1)

سورة الأعراف، الآية:(107).

(2)

سورة النمل، الآية:(10).

(3)

سورة طه، الآية:(20).

(4)

سورة الحجر، الآية:(27).

(5)

التفسير الكبير، (24/ 131 - 132).

(6)

روح المعاني، (5/ 20).

(7)

سورة البقرة، الآية:(60).

(8)

سورة الأعراف، الآية:(160).

ص: 185

والانبجاس خروجه قليلا. الجواب من ثلاثة أوجه: أحدها: الفجر الشق في الأصل، والانفجار الانشقاق، ومنه الفاجر لأنه يشق عصا المسلمين بخروجه إلى الفسق، والانبجاس اسم للشق الضيق القليل، فهما مختلفان اختلاف العام والخاص، فلا يتناقضان، وثانيها: لعله انبجس أولا، ثم انفجر ثانيا، وكذا العيون: يظهر الماء منها قليلا ثم يكثر لدوام خروجه. وثالثها: لا يمتنع أن حاجتهم كانت تشتد إلى الماء فينفجر، أي يخرج الماء كثيرا ثم كانت تقل فكان الماء ينبجس أي يخرج قليلا»

(1)

.

وقال في الموضع الثاني للمتشابه (سورة الأعراف): «وقوله: فانبجست قال الواحدي: فانبجس الماء وانبجاسه انفجاره. يقال: بجس الماء يبجس وانبجس وتبجس إذا تفجر، هذا قول أهل اللغة، ثم قال: والانبجاس والانفجار سواء، وعلى هذا التقدير فلا تناقض بين الانبجاس المذكور هاهنا وبين الانفجار المذكور في سورة البقرة، وقال آخرون: الانبجاس خروج الماء بقلة، والانفجار خروجه بكثرة، وطريق الجمع: أن الماء ابتدأ بالخروج قليلا، ثم صار كثيرا، وهذا الفرق مروي عن أبي عمرو بن العلاء»

(2)

.

وقال الإمام الألوسي: «{فَانْبَجَسَتْ} أي: انفجرت كما قال ابن عباس وزعم الطبرسي أن الانبجاس خروج الماء بقلة والانفجار خروجه بكثرة، والتعبير بهذا تارة وبالأخرى أخرى باعتبار أول الخروج وما انتهى إليه»

(3)

.

بعرض رأي الإمامين يتضح اتفاقهما معًا في توجيه المتشابه.

*عند تفسير الإمامين لآية الأمر بدخول القرية في سورة الأعراف: {وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ}

(4)

.

اتقفا معًا في توجيه عدة مسائل:

(1)

التفسير الكبير، (3/ 103).

(2)

التفسير الكبير، (15/ 36).

(3)

روح المعاني، (5/ 83).

(4)

سورة الأعراف، الآية:(161).

ص: 186

7 -

اتفقا معًا في توجيه الفرق بين تقديم {وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً} على قوله تعالى: {وَقُولُوا حِطَّةٌ} في سورة البقرة وتأخيره في سورة الأعراف.

حيث قال الإمام الرازي: «وهو قوله في سورة البقرة: {وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ} وفي سورة الأعراف على العكس منه، فالمراد التنبيه على أنه يحسن تقديم كل واحد من هذين الذكرين على الآخر، إلا أنه لما كان المقصود منهما تعظيم الله تعالى، وإظهار الخضوع والخشوع لم يتفاوت الحال بحسب التقديم والتأخير»

(1)

.

وقال الإمام الألوسي: «{وَقُولُوا حِطَّةٌ وادخلوا الباب سُجَّدًا} مر الكلام فيه في البقرة غير أن ما فيها عكس ما هنا في التقديم والتأخير ولا ضير في ذلك لأن المأمور به هو الجمع بين الأمرين من غير اعتبار الترتيب بينهما، وقال القطب: فائدة الاختلاف التنبيه على حسن تقديم كل من المذكورين على الآخر لأنه لما كان المقصود منهما تعظيم الله تعالى وإظهار الخشوع والخشوع لم يتفاوت الحال في التقديم والتأخير»

(2)

.

بعرض رأي الإمامين يتضح أن الإمام الألوسي ذكر رأيين، الرأي الثاني منهما هو رأي الإمام الرازي وذكره (بالقطب).

تنبيه: الإمامان اختلفا معًا في توجيه المتشابه في الموضع الأول (سورة البقرة).

8 -

اتفقا معًا في توجيه الفرق بين إبدال جمع الكثرة {خَطاياكُمْ} بجمع القلة {خَطِيئاتِكُمْ}

حيث قال الإمام الرازي: «وأما الخامس: وهو أنه قال في سورة البقرة: {خَطاياكُمْ} وقال هاهنا: {خَطِيئاتِكُمْ} فهو إشارة إلى أن هذه الذنوب سواء كانت قليلة أو كثيرة، فهي مغفورة عند الإتيان بهذا الدعاء والتضرع»

(3)

.

وقال الإمام الألوسي: «وبين القطب فائدة الاختلاف بين ما هناك وبين ما هنا على القراءة المشهورة بأنها الإشارة إلى أن هذه الذنوب سواء كانت قليلة أو كثيرة فهي مغفور بعد الاتيان بالمأمور به»

(4)

.

(1)

التفسير الكبير، (15/ 38).

(2)

روح المعاني، (5/ 83).

(3)

التفسير الكبير، (15/ 38).

(4)

روح المعاني، (5/ 83).

ص: 187

بعرض رأي الإمامين يتضح أن الإمام الألوسي نقل رأي الإمام الرازي.

تنبيه: الإمامان اختلفا معًا في توجيه المتشابه في الموضع الأول (سورة البقرة).

9 -

اتفقا معًا في إبدال قوله تعالى: {أَنْزَلْنا} بقوله: {أَرْسَلْنا} .

حيث قال الإمام الرازي: "وهو الفرق بين قوله: أنزلنا وبين قوله: فأرسلنا فلأن الإنزال لا يشعر بالكثرة، والإرسال يشعر بها، فكأنه تعالى بدأ بإنزال العذاب القليل، ثم جعله كثيرا، وهو نظير ما ذكرناه في الفرق بين قوله: فانبجست وبين قوله: فانفجرت»

(1)

.

وقال الإمام الألوسي: «وقال القطب في وجه المغايرة: إن الإرسال مشعر بالكثرة بخلاف الإنزال فكأنه أنزل العذاب القليل ثم جعل كثيراً وإن الفائدة في ذكر الظلم والفسق في الموضعين الدلالة على حصولهما فيهم معاً»

(2)

.

بعرض رأي الإمامين يتضح أن الإمام الألوسي نقل رأي الإمام الرازي.

تنبيه: الإمامان اختلفا معًا في توجيه المتشابه في الموضع الأول (سورة البقرة).

10 -

اتفقا معًا في إبدال قوله تعالى: {يَظْلِمُونَ} بقوله: {يَفْسُقُونَ} .

حيث قال الإمام الرازي: «وهو الفرق بين قوله: يظلمون وبين قوله: يفسقون فذلك لأنهم موصوفون بكونهم ظالمين، لأجل أنهم ظلموا أنفسهم، وبكونهم فاسقين، لأجل أنهم خرجوا عن طاعة الله تعالى، فالفائدة في ذكر هذين الوصفين التنبيه على حصول هذين الأمرين»

(3)

.

وقال الإمام الألوسي: «{بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ} ، أي: بسبب ظلمهم المستمر السابق واللاحق، وهذا بمعنى ما في البقرة لأن ضمير عليهم للذين ظلموا والإرسال من فوق إنزال، والتصريح بهذا التعليل لما أن الحكم هنا مرتب على المضمر دون الموصول بالظلم كما في البقرة، وأما التعليل

(1)

التفسير الكبير، (15/ 38).

(2)

روح المعاني، (5/ 84).

(3)

التفسير الكبير، (15/ 38، 39).

ص: 188

بالفسق بعد الإشعار بعلية الظلم هناك فللإيذان بأن ذلك فسق وخروج عن الطاعة وغلو في الظلم وأن تعذيبهم بجميع ما ارتكبوا من القبائح كما قيل»

(1)

.

بعرض رأي الإمامين يتضح اتفاقهما معًا في توجيه المتشابه.

تنبيه: الإمامان اختلفا معًا في توجيه المتشابه في الموضع الأول (سورة البقرة).

11 -

اتفق الإمامان في توجيه الفرق بين إبدال قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ}

(2)

بقوله تعالى: {أَلَا بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ القلوب}

(3)

.

حيث قال الإمام الرازي في الموضع الأول للمتشابه (سورة الأنفال): «فإن قيل: إنه تعالى قال هاهنا: {وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ}

(4)

، وقال في آية أخرى:{الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ}

(5)

، [الرعد: 28] فكيف الجمع بينهما؟ وأيضا قال في آية أخرى: {ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}

(6)

، قلنا: الاطمئنان إنما يكون عن ثلج اليقين، وشرح الصدر بمعرفة التوحيد، والوجل إنما يكون من خوف العقوبة، ولا منافاة بين هاتين الحالتين، بل نقول: هذان الوصفان اجتمعا في آية واحدة، وهي قوله تعالى:{تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}

(7)

، والمعنى: تقشعر الجلود من خوف عذاب الله، ثم تلين جلودهم وقلوبهم عند رجاء ثواب الله»

(8)

.

وقال في الموضع الثاني للمتشابه (سورة الرعد): «فإن قيل: أليس أنه تعالى قال في سورة الأنفال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ}

(9)

والوجل ضد الاطمئنان، فكيف وصفهم هاهنا بالاطمئنان؟ والجواب من وجوه: الأول: أنهم إذا ذكروا العقوبات ولم يأمنوا من أن

(1)

روح المعاني، (5/ 84).

(2)

سورة الأنفال، الآية:(2).

(3)

سورة الرعد، الآية:(28).

(4)

سورة الأنفال، الآية:(2).

(5)

سورة الرعد، الآية:(28).

(6)

سورة الزمر، الآية:(23).

(7)

سورة الزمر، الآية:(23).

(8)

التفسير الكبير، (15/ 122).

(9)

سورة الأنفال، الآية:(2).

ص: 189

يقدموا على المعاصي فهناك وصفهم بالوجل، وإذا ذكروا وعده بالثواب والرحمة، سكنت قلوبهم إلى ذلك، وأحد الأمرين لا ينافي الآخر، لأن الوجل هو بذكر العقاب والطمأنينة بذكر الثواب، ويوجد الوجل في حال فكرهم في المعاصي، وتوجد الطمأنينة عند اشتغالهم بالطاعات. الثاني: أن المراد أن علمهم بكون القرآن معجزا يوجب حصول الطمأنينة لهم في كون محمد صلى الله عليه وسلم نبيا حقا من عند الله. أما شكهم في أنهم أتوا بالطاعات على سبيل التمام والكمال فيوجب حصول الوجل في قلوبهم. الثالث: أنه حصلت في قلوبهم الطمأنينة في أن الله تعالى صادق في وعده ووعيده، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم صادق في كل ما أخبر عنه، إلا أنه حصل الوجل والخوف في قلوبهم أنهم هل أتوا بالطاعة الموجبة للثواب أم لا، وهل احترزوا عن المعصية الموجبة للعقاب أم لا»

(1)

.

وقال الإمام الألوسي: «أي إنما المؤمنون الكاملون في الايمان المخلصون فيه {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ}

(2)

أي فزعت استعظاماً لشأنه الجليل وتهيباً منه جل وعلا والاطمئنان المذكور في قوله سبحانه وتعالى: {أَلَا بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ القلوب}

(3)

لا ينافي الوجل والخوف لأنه عبارة عن ثلج الفؤاد وشرح الصدر بنور المعرفة والتوحيد وهو يجامع الخوف، وإلى هذا ذهب ابن الخازن، ووفق بعضهم بين الآيتين بأن الذكر في إحداهما ذكر رحمة وفي الأخرى ذكر عقوبة فلا منافاة بينهما»

(4)

.

بعرض رأي الإمامين يتضح أنهما اتفقا معًا في توجيه المتشابه وأنه لا منافاة بين الآيتين، وقد نقل الإمام الألوسي نص كلام الإمام الرازي: «والاطمئنان المذكور في قوله سبحانه وتعالى: {أَلَا بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ القلوب}

(5)

لا ينافي الوجل والخوف لأنه عبارة عن ثلج الفؤاد وشرح الصدر بنور المعرفة والتوحيد»، ونسبه إلى (ابن الخازن).

(1)

التفسير الكبير، (19/ 50، 51).

(2)

سورة الأنفال، الآية:(2).

(3)

سورة الرعد، الآية:(28).

(4)

روح المعاني، (5/ 84).

(5)

سورة الرعد، الآية:(28).

ص: 190

12 -

اتفق الإمامان في توجيه الفرق بين التقديم والتأخير في قوله تعالى: {ومَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ}

(1)

، وقوله تعالى:{لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ}

(2)

.

13 -

تكرار (أنزلنا) في قوله تعالى: {سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}

(3)

، وقد نقل الإمام الألوسي رأي الإمام الرازي بقوله (قال الإمام)، وذكر رأيًا آخر أيضًا

(4)

.

14 -

اتفق الإمامان في توجيه الفرق بين التقديم والتأخير في قوله تعالى: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ}

(5)

، وقوله تعالى:{سبحوه بُكْرَةً وَأَصِيلاً}

(6)

، وقد نقل الإمام الألوسي رأي الإمام الرازي بقوله:(قال الإمام)

(7)

.

15 -

عند توجيه الإمام الألوسي للفرق بين التقديم والتأخير في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}

(8)

، وقوله تعالى:{أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا * وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا}

(9)

أطال التوجيه جدًا، وذكر العديد من الآراء من بينها رأي الإمام الرازي

(10)

.

(1)

سورة يونس، الآية:(61).

(2)

سورة سبأ، الآية:(3). ويُنظر نص المسألة: التفسير الكبير، (17/ 129)، روح المعاني، (6/ 137).

(3)

سورة النور، الآية:(1).

(4)

يُنظر نص المسألة: التفسير الكبير، (23/ 131)، روح المعاني، (9/ 275).

(5)

سورة الروم، الآية:(17).

(6)

سورة الأحزاب، الآية:(42).

(7)

يُنظر نص المسألة: التفسير الكبير، (25/ 108)، روح المعاني، (11/ 30).

(8)

سورة البقرة، الآية:(29).

(9)

سورة النازعات، الآيات:(27 - 30).

(10)

يُنظر نص المسألة: التفسير الكبير، (2/ 170)، روح المعاني، (12/ 357).

ص: 191

16 -

اتفق الإمامان في توجيه الفرق بين إبدال قوله تعالى: {فَلَمْ يَنظُرُوا}

(1)

بقوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُم مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ}

(2)

، إبدال النظر بالرؤية، وقد نقل الإمام الألوسي رأي الإمام الرازي بقوله:(قاله الإمام)

(3)

.

17 -

اتفق الإمامان في توجيه الفرق بين إبدال قوله تعالى: {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ}

(4)

، بقوله تعالى:{وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ}

(5)

، وقد نقل الإمام الألوسي رأي الإمام الرازي بقوله (قال الإمام)

(6)

.

18 -

اتفق الإمامان في توجيه الفرق بين إبدال قوله تعالى: {وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ}

(7)

، بقوله تعالى:{لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ}

(8)

.

19 -

اتفقا معًا في توجيه الفرق بين (درجة - ودرجات) بالجمع والإفراد في قوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا * دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}

(9)

، نقل الإمام الألوسي عدة آراء، اتفق في بعضها مع الإمام الرازي

(10)

.

20 -

اتفق الإمامان في توجيه الفرق بين التقديم والتأخير في قوله تعالى: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ}

(11)

، وقوله تعالى:{وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ}

(12)

، وقد نقل

(1)

سورة ق، الآية:(6).

(2)

سورة الأحقاف، الآية:(4).

(3)

يُنظر نص المسألة: التفسير الكبير، (28/ 155)، روح المعاني، (13/ 326).

(4)

سورة الواقعة، الآية:(8).

(5)

سورة الواقعة، الآية:(27).

(6)

يُنظر نص المسألة: التفسير الكبير، (29/ 163)، روح المعاني، (14/ 139).

(7)

سورة الحاقة، الآية:(36).

(8)

سورة الغاشية، الآية:(6). ويُنظر نص المسألة: التفسير الكبير، (31/ 154)، الموضع الأول للمتشابه: روح المعاني (15/ 57، 58)، الموضع الثاني للمتشابه: روح المعاني، (15/ 326).

(9)

سورة النساء، الآيتان:(95، 96).

(10)

نظر نص المسألة: التفسير الكبير، (11/ 9)، روح المعاني، (3/ 94).

(11)

سورة الأنعام، الآية:(32).

(12)

سورة العنكبوت، الآية:(64).

ص: 192

الإمام الألوسي عدة توجيهات للمتشابه من كتاب درة التنزيل للإمام الإسكافي، اتفق في أحدها مع توجيه الإمام الرازي

(1)

.

‌المبحث الثالث

أوجه الاختلاف بين الإمامين الرازي والألوسي في توجيه المتشابه اللفظي في القرآن الكريم

‌المطلب الأول

مسائل المتشابه اللفظي التي اختلف الإمامان في توجيهها في الحروف

1 -

اختلف الإمامان في توجيه الفرق بين إبدال حرف (لن) في قوله تعالى: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ}

(2)

بحرف (لا) في قوله تعالى: {وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ}

(3)

.

حيث قال الإمام الرازي: «فإن قيل: إنه تعالى قال هاهنا: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا} وقال في سورة الجمعة: {وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا} فلم ذكر هاهنا (لن) وفي سورة الجمعة «لا» قلنا: إنهم في هذه السورة، ادعوا أن الدار الآخرة خالصة لهم من دون الناس وادعوا في سورة الجمعة أنهم أولياء لله من دون الناس والله تعالى أبطل هذين الأمرين بأنه لو كان كذلك لوجب أن يتمنوا الموت والدعوى الأولى أعظم من الثانية إذ السعادة القصوى هي الحصول في دار الثواب، وأما مرتبة الولاية فهي وإن كانت شريفة إلا أنها إنما تراد ليتوسل بها إلى الجنة فلما كانت الدعوة الأولى أعظم لا جرم بين تعالى فساد قولهم بلفظ:«لن» لأنه أقوى الألفاظ النافية ولما كانت الدعوى الثانية ليست في غاية العظمة لا جرم اكتفى في إبطالها بلفظ «لا» لأنه ليس في نهاية القوة في إفادة معنى النفي والله أعلم»

(4)

.

وقال الإمام الألوسي: «وجاء نفي هذا التمني في آية أخرى بلن وهو من باب التفنن على القول المشهور في أن كلا من لا ولن لنفي المستقبل من غير تأكيد، ومن قال: بإفادة لن التأكيد

(1)

يُنظر نص المسألة: التفسير الكبير، (25/ 92)، روح المعاني، (4/ 126).

(2)

سورة البقرة، الآية:(95).

(3)

سورة الجمعة، الآية:(7).

(4)

التفسير الكبير، (3/ 207).

ص: 193

فوجه اختصاص التوكيد عنده بذلك الموضع أنهم ادعوا الاختصاص دون الناس في الموضعين، وزادوا هنالك أنه أمر مكشوف لا شبه فيه محققة عند الله فناسب أن يؤكد ما ينفيه»

(1)

.

بعرض رأي الإمامين يتضح أن الإمام الرازي قال أن (لن) أقوى الألفاظ النافية، وأن لفظ (لا) ليس في نهاية القوة في إفادة النفي، بينما ذهب الإمام الألوسي إلى أن التغاير بين (لن) و (لا) للتفنن وأن كلًا من (لا) و (لن) لنفي المستقبل من غير تأكيد، كما نقل الإمام الألوسي الرأي الآخر أن (لن) تفيد التأكيد وعلق عليه.

وقد ذهب كلًا من الأئمة (الإسكافي - وابن الزبير - والزمخشري - والقاسمي) إلى ما ذهب إليه الإمام الرزاي أن لفظ (لن)(أقوى في الدلالة على النفي)، واتفقوا معه في التوجيه

(2)

.

وللعلامة السبكي

(3)

توجيه قوي حيث قال: «قوله تعالى: {وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا} وفي البقرة {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ} ما نصه: تكلم فيه السهيلي بناء على أن كلمة {لا} أبلغ.

وصاحب درة التنزيل بناء على أن {لن} أبلغ.

وأنا أقول إن {لن} أبلغ في حقيقة النفي والمبالغة فيه أول زمان النفي، و {لا} أبلغ في الطرف الآخر وهو المستقبل مع اشتراكهما فيه.

وورد التأبيد فيهما، وإذا عرف ذلك في سورة البقرة قال:{قُلْ إنْ كَانَتْ لَكُمْ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ} وهذا الشرط وصلة واحدة وهي نهاية مراد المؤمن، وجزاؤها الأمر بتمني الموت لذلك، لأنه إذا كانت نهاية المراد قد حصلت فلا مانع من تمني الموت الموصل إلى الدار الآخرة الخالصة التي ثبت حصولها لهم على هذا التقدير، فحسن بعده {لن} لأنها

(1)

روح المعاني، (14/ 291).

(2)

يُنظر المسألة في كتبهم: درة التنزيل (1/ 266 - 269)، ملاك التأويل (1/ 227 - 228)، تفسير القاسمي المسمى محاسن التأويل لمحمد القاسمي، وقف على طبعه وعلق عليه: محمد فؤاد عبد الباقي، الطبعة الأولى، (ص: 195 - 196)، تفسير الكشاف للزمخشري، اعتنى به خليل فؤاد شيخا، دار المعرفة، بيروت، الطبعة الثالثة (ص: 1106).

(3)

هو الإمام العلامة الحافظ الفقيه، النظار، الورع الزاهد قاضي القضاة تقي الدين أبو حسن على بن عبد الكافي السبكي الكبير ولد بسُبك أحد قرى المنوفية بمصر سنة 683 هـ. يُنظر ترجمته في: البداية والنهاية (14/ 303، 319، 330)، طبقات الشافعية الكبرى للسبكي (9/ 142، 276).

ص: 194

قاطعة بالنفي الآن المضاد للشرط الذي قدر حصوله الآن، فالمقصود تحقيق النفي الآن وتأكيده، وإن امتد في المستقبل، ولذلك قرن بالتأبيد، فحصل تأكيدان أحدهما في الطرف الأول بلن والثاني في الطرف الآخر بالتأبيد.

وفي سورة الجمعة قال: {إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ} ، فجعل الشرط أمرا مستقبلا قد يقع الزعم منهم غدا أو بعد غد.

ورتب عليه الأمر بتمني الموت، لأنه يلزم من كونهم أولياء حصول الدار الآخرة لهم، وإن لم يدل عليها مطابقة كالآية الأولى فجاء الانتفاء للتمني المستقبل التي متى وقع الزعم علم انتفاء التمني، فكان التأكيد فيه في الطرف الآخر فقط، وكذلك صرح بالتأبيد، ولم يؤت بصيغة {لن} فإن قلت فمن أين لك هذا الفرق بين {لن} و {لا} ولم يذكره النحاة وغاية ما ذكره بعضهم الاختلاف في أن {لن} أوسع أو {لا} أوسع وفي أن {لا} تختص بالمستقبل أو تحتمل الحال والاستقبال، وهذا الذي قلته أنت من أن كلا منهما أبلغ من وجه لم يذكره أحد.

قلت: وإن لم يذكروه فإنهم لم ينفوه ويؤخذ من استقراء مواردها.

قال تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} ، {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} ، {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} ، {وَلَنْ تَرْضَى عَنْك الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} ، {إنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا} ، {لَنْ نُؤْمِنَ لَك حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا} ، {فَلَنْ يَهْتَدُوا إذًا أَبَدًا} ، {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إلَّا أَذًى} ، {لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا} ، {وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّك حَتَّى تُنَزِّلَ} ، {وَلَنْ تُفْلِحُوا إذًا أَبَدًا} ، {لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ} ، {فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي} ، وغير ذلك من الآيات.

فيُنظر موارد هذه الآيات وقوة تحقيق النفي في الحال فيها، وفي بعضها التأبيد لإرادة تقوية الطرفين وفي قوله:{إذا أبدا} المقصود تحقيق النفي من ذلك الوقت إلى الأبد إن تأخر عن وقت الخطاب فالتأبيد من ابتداء زمانه إلى الأبد ولذلك احترزت في أول كلامي فلم أقل من الآن وأما {لا} فقال تعالى: {إني أعلم ما لا تعلمون} ؛ لأن القصد نفي علمهم في المستقبل.

فلا يحسن هنا.

ص: 195

وكذلك {لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ} ليس المقصود المبالغة في تأكيد النفي لأنه معلوم وقول موسى عليه السلام {لا أبرح حتى أبلغ} أي لا أبرح مسافرا ولعله قال قبل السفر فليس كقول أخي يوسف {فلن أبرح الأرض} {وإذا لا يلبسون خلافك إلا قليلا} لما كان المستثنى الزمان الأول جاز {لا} والمستثنى في {لن يضروكم إلا أذى} الفعل فكان {لن} مع تحقيق النفي في أول الأزمنة ويُنظر كيف وقع التعادل بين {لن} و {لا} اشتركا في نفي المستقبل واختصت {لا} بنفي الحال والماضي واختصت لن بقوة النفي من ابتداء المستقبل وكذلك جاءت في قوله: {لن تراني} لأن المقصود قوة نفي رؤيته ذلك الوقت في الدنيا، ولم يجئ فيها التأبيد فلا صريح في دلالتهما على النفي في الآخرة ودلالة {لن} على النفي في أول أزمنة الاستقبال أقوى من دلالة {لا} ودلالة {لا} على استغراق الأزمنة المستقبلة أقوى من دلالة {لن} لما في {لا} من المد المناسب للمستقبل، فلذلك نقول:{لا} أوسع و {لن} أقوى وسعة لا في الظرف من المستقبل ويمده ما قبله إلى أول أزمنة الاستقبال، وقد تستعمل في الحال، وفي الماضي فصارت لجميع الأزمنة؛ و {لن} لا تصلح إلا للمستقبل وهي باقية في أوله، فظاهر لن باقية والمعادلة بين الحرفين من حكمة لسان العرب. والله أعلم. انتهى»

(1)

.

2 -

اختلف الإمامان في توجيه الفرق بين إبدال حرف إلى (إلى الحق) بحرف اللام (للحق) في قوله تعالى {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمْ مَنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}

(2)

.

حيث قال الإمام الرازي: «المسألة الثانية: قال الزجاج: يقال هديت إلى الحق، وهديت للحق بمعنى واحد، والله تعالى ذكر هاتين اللغتين في قوله: {قُلِ الله يَهْدِى لِلْحَقّ أَفَمَنْ يَهْدِى إِلَى الحق {»

(3)

.

وقال الإمام الألوسي: «وقد جمع هنا بين صلتيه إلى واللام تفننا وإشارة بإلى إلى معنى الانتهاء وباللام للدلالة على أن المنتهى غاية للهداية وأنها لم تتوجه إليه على سبيل الاتفاق بل

(1)

فتاوى السبكي في فروع الفقه الشافعي للإمام تقي الدين السبكي، اعتنى به: محمد عبد السلام شاهين، الجزء الأول، دار الكاب العلمية، بيروت (1/ 119 - 121).

(2)

سورة يونس، الآية:(35).

(3)

التفسير الكبير، (17/ 95).

ص: 196

على قصد من الفعل وجعله ثمرة له ولذلك عدى بها ما أسند إليه سبحانه كما ترى، وأما قوله تعالى:{أَفَمَنْ يَهْدِى إِلَى الحق} فالمقصود به التعميم وإن كان الفاعل في الواقع هو الله جل شأنه.

وقيل: اللام هنا للاختصاص والجمهور على الأول»

(1)

.

بعرض رأي الإمامين يتضح أن الرازي اكتفى بنقل رأي الإمام الزجاج أن هناك لغتان (هديت إلى الحق)، و (هديت للحق) بمعنى واحد، ولم يفرق بينهما، بينما ذكر الإمام الألوسي اللغتين وفرق بينهما.

وقد اتفق الشيخ الشعراوي مع الإمام الألوسي حيث قال: «وسبب وجود اللام في قوله: {يهدي إِلَى الحق} هو النظرة إلى الغاية، وسبب وجود: {إِلَى الحق} هو لفت الانتباه إلى أن الوصول إلى الغاية يقتضي طريقًا، فأراد الحق سبحانه في آية واحدة أن يجمع التعبيرين معًا»

(2)

.

3 -

اختلف الإمامان في توجيه الفرق بين ذكر حرف الواو في قوله تعالى: {وَقَالَ الْمَلَأُ}

(3)

وحذفه في قوله تعالى: {قَالَ الْمَلَأُ}

(4)

.

حيث قال الإمام الرازي: «فإن قيل ذكر الله مقالة قوم هود في جوابه في سورة الأعراف وسورة هود بغير واو {قَالَ الملا الذين كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ}

(5)

، قالوا:{مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مّثْلَنَا}

(6)

وهاهنا مع الواو فأي فرق بينهما؟ قلنا الذي بغير واو على تقدير سؤال سائل قال فما قال قومه؟ فقيل له كيت وكيت، وأما الذي مع الواو فعطف لما قالوه على ما قاله ومعناه أنه اجتمع في هذه الواقعة هذا الكلام الحق وهذا الكلام الباطل»

(7)

.

(1)

روح المعاني، (6/ 107).

(2)

تفسير الشعراوي، للشيخ الشعراوي، مطابع أخبار اليوم، قطاع الثقافة والكتب والمكتبات، (ص: 5925).

(3)

سورة المؤمنون، الآية:(33).

(4)

سورة الأعراف، الآية:(88)، وسورة هود، الآية:(27).

(5)

سورة الأعراف، الآية:(66).

(6)

سورة هود، الآية:(27).

(7)

التفسير الكبير، (23/ 98).

ص: 197

وقال الإمام الألوسي: «وجاء بالواو العاطفة في {الفاتحين وَقَالَ الملا} هنا ولم يجأ بها بل جاء بالجملة مستأنفة استئنافاً بيانياً في موضع آخر لأن ما نحن فيه حكاية لتفاوت ما بين المقالتين أعني مقالة المرسل ومقالة المرسل إليهم لا حكاية المقاولة لأن المرسل إليهم قالوا ما قالوا بعضهم لبعض وظاهر إباء ذلك الاستئناف وأما هنالك فيحق الاستئناف لأنه في حكاية المقاولة بين المرسل والمرسل إليهم واستدعاء مقام المخاطبة ذلك بين كذا في «الكشف» ، ولا يحسم مادة السؤال إذ يقال معه: لم حكى هنالك المقاولة وهنا التفاوت بين المقالتين ولم يعكس؟ ومثل هذا يرد على من علل الذكر هنا والترك هناك بالتفنن بأن يقال: إنه لو عكس بأن ترك هنا وذكر هناك لحصل التفنن أيضاً، وأنا لم يظهر لي السر في ذلك»

(1)

.

بعرض رأي الإمامين يتضح أن الإمام الرازي اختلف مع الإمام الألوسي في التوجيه، وقد ذكر الإمام الألوسي توجيهًا نسبه لصاحب (الكشف) وقال إنه لم يحسم مادة السؤال لذا حمل المتشابه على التفنن، وقال أنه لم يظهر له السر.

وقد قام العلامة ابن عاشور بذكر توجيه قوي لهذه المسألة، زعم فيه أنه قد أجاب جوابًا شافيًا على السؤال الذي أورده صاحب الكشاف ولم يكون في جوابه شافيًا وتحيّر شراحه فكانوا على خلاف، حيث قال: «{وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}

(2)

.

عُطفت حكاية قول قومه على حكاية قوله ولم يؤت بها مفصولة كما هو شأن حكاية المحاورات كما بيناه غير مرة في حكاية المحاورات بـ قال ونحوها دون عطف.

وقد خولف ذلك في الآية السابقة للوجه الذي بيناه، وخولف أيضًا في سورة الأعراف وفي سورة هود إذ حكي جواب هؤلاء القوم رسولَهم بدون عطف.

ووجه ذلك أن كلام الملأ المحكيَّ هنا غير كلامهم المحكي في السورتين؛ لأن ما هنا كلامهم الموجَّه إلى خطاب قومهم إذ قالوا: {مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ} إلى آخره خشيةً منهم أن تؤثر دعوة رسولهم في عامتهم، فرأوا الاعتناء بأن يحولوا دون تأثر نفوس

(1)

روح المعاني، (9/ 231).

(2)

سورة المؤمنون، الآية:(33).

ص: 198

قومهم بدعوة رسولهم أولى من أن يجاوبوا رسولهم كما تقدم بيانه آنفًا في قصة نوح.

وبهذا يظهر وَجه الإعجاز في المواضع المختلفة التي أورد فيها صاحب الكشاف سؤالًا ولم يكن في جوابه شافيًا وتحيّر شراحه فكانوا على خلاف»

(1)

.

4 -

عند تفسير الإمامين لآيتي الأمر بدخول القرية في سورتي البقرة والأعراف اختلفا في توجيه الفرق بين زيادة حرف الواو في قوله تعالى: {وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ}

(2)

، {سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ}

(3)

، وقد اختلف الإمامان في توجيه المتشابه في الموضعين

(4)

.

5 -

عند تفسير الإمامين لآيتي الأمر بدخول القرية في سورتي البقرة والأعراف في الموضع الأول (سورة البقرة) اختلفا في إبدال حرف الفاء في قوله تعالى: {فكلوا}

(5)

بحرف الواو في قوله تعالى: {وكلوا}

(6)

.

(1)

تفسير التحرير والتنوير، للطاهر ابن عاشور، (18/ 51).

(2)

سورة البقرة، الآية:(58).

(3)

سورة الأعراف، الآية:(161).

(4)

يُنظر نص المسألة: الموضع الأول (سورة الأعراف) التفسير الكبير، (3/ 100)، روح المعاني، (1/ 269)، والموضع الثاني للمتشابه التفسير الكبير، (15/ 38)، روح المعاني، (5/ 83 - 84).

(5)

سورة البقرة، الآية:(58).

(6)

سورة الأعراف، الآية:(161). ويُنظر نص المسألة: التفسير الكبير، (3/ 99)، روح المعاني، (1/ 268 - 269).

ص: 199

‌المطلب الثاني

مسائل المتشابه اللفظي التي اختلف الإمامان في توجيهها في اللفظ والتركيب

1 -

عند تفسير الإمام الألوسي لآية الأمر بدخول القرية في سورة البقرة تعقب آراء الإمام الرازي في العشر مسائل بين الآيتين (في سورتي البقرة والأعراف)، ولم يتفق معه، ورجح آراء الزمخشري

(1)

.

وقد قام د/ محمد نصيف بمناقشة آراء الإمامين في العشر مسائل بين الآيتين، وذكر آراء علماء آخرين، ورجح بينهما في بحث نفيس، فميكنك الرجوع إليه للمزيد

(2)

.

2 -

اختلف الإمامان في توجيه الفرق بين (أنزل- نزّل):

حيث قال الإمام الرازي: «قد ذكرنا في تفسير قوله تعالى: {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مّمَّا نَزَّلْنَا على عَبْدِنَا}

(3)

أن التنزيل مختص بالنزول على سبيل التدريج، والإنزال مختص بما يكون النزول فيه دفعة واحدة، ولهذا قال الله تعالى:{نَزَّلَ عَلَيْكَ الكتاب بالحق مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التوراة والإنجيل} إذا ثبت هذا فنقول: لما كان المراد هاهنا من قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الذي أُنْزِلَ فِيهِ القرآن} أنزل من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، لا جرم ذكره بلفظ الإنزال دون التنزيل، وهذا يدل على أن هذا القول راجح على سائر الأقوال»

(4)

.

وقال الإمام الألوسي عند تفسير قول الله تعالى: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ}

(5)

: «والتعبير بأنزل فيهما للإشارة إلى أنه لم يكن لهما إلا نزول واحد وهذا بخلاف القرآن فإن له نزولين، نزول من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة من سماء الدنيا جملة واحدة، ونزول من ذلك إليه صلى الله عليه وسلم منجماً في ثلاث وعشرين سنة على

(1)

يُنظر نص المسألة: روح المعاني، (1/ 268 - 269)، وسبق ذكر المسألة في البحث (ص 135 - 137).

(2)

تعقبات الألوسي على توجيهات الرازي للمتشابه اللفظي في آيات الأمر بدخول القرية، (ص: 185 - 218).

(3)

سورة البقرة، الآية:(23).

(4)

التفسير الكبير، (5/ 93، 94).

(5)

سورة آل عمران، الآية:(3).

ص: 200

المشهور، ولهذا يقال فيه: نزل وأنزل وهذا أولى مما قيل: إن نزل يقتضي التدريج وأنزل يقتضي الإنزال الدفعي إذ يشكل عليه {لَوْلَا نُزّلَ عَلَيْهِ القرءان جُمْلَةً واحدة}

(1)

[الفرقان: 32] حيث قرن نزل بكونه جملة، وقوله تعالى:{وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِى الكتاب}

(2)

وذكر بعض المحققين لهذا المقام أن التدريج ليس هو التكثير بل الفعل شيئاً فشيئاً كما في تسلسل، والألفاظ لا بد فيها من ذلك فصيغة نزل تدل عليه، والإنزال مطلق لكنه إذا قامت القرينة يراد بالتدريج التنجيم، وبالإنزال الذي قد قوبل به خلافه، أو المطلق بحسب ما يقتضيه المقام»

(3)

.

بعرض رأي الإمامين يتضح أن الإمام الألوسي قد ذكر رأي الإمام الرازي واعترض عليه، ورجح توجيهًا آخر.

وقد أطال د/ فاضل السامرائي في ذكر الفرق بين (أنزل - نزَّل) ونقل رأي الإمام ابن الزبير وخلاصة ما ذكره: «"نَزَّل" يمكن أن يُستعمل لأكثر من معنى، فإن هذا الفعل قد يكون للتدرج والتكثير كما ذكرت، وقد يكون للمبالغة والاهتمام، فما استعمل فيه " نزَّل " يكون أهم وآكد مما استعمل فيه (أنزل)»

(4)

ثم ذكر أمثلة كثيرة.

3 -

اختلف الإمامان في توجيه تكرار قوله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ}

(5)

.

حيث قال الإمام الرازي: «يروى أن هذه الآية إنما نزلت، لأن الله تعالى لما أنزل قوله تعالى:{وَمَتّعُوهُنَّ} إلى قوله: {حَقّاً عَلَى المحسنين}

(6)

قال رجل من المسلمين: إن أردت فعلت، وإن لم أرد لم أفعل، فقال تعالى:{وللمطلقات متاع بالمعروف حَقّاً عَلَى المتقين} يعني على كل من كان متقياً عن الكفر، واعلم أن المراد من المتاع هاهنا فيه قولان أحدهما: أنه هو المتعة، فظاهر

(1)

سورة الفرقان، الآية:(32).

(2)

سورة النساء، الآية:(140).

(3)

روح المعاني، (2/ 75).

(4)

بلاغة الكلمة في التعبير القرآني، د/ فاضل السامرائي، شركة العاتك لصناعة الكتاب للطباعة والنشر والتوزيع - القاهرة، الطبعة الثانية (ص: 59 - 65).

(5)

سورة البقرة، الآية:(241).

(6)

سورة البقرة، الآية:(236).

ص: 201

هذه الآية يقتضي وجوب هذه المتعة لكل المطلقات، فمن الناس من تمسك بظاهر هذه الآية وأوجب المتعة لجميع المطلقات، وهو قول سعيد بن جبير وأبي العالية والزهري قال الشافعي رحمه الله تعالى: لكل مطلقة إلا المطلقة التي فرض لها مهر ولم يوجد في حقها المسيس، وهذه المسألة قد ذكرناها في تفسير قوله تعالى:{وَمَتّعُوهُنَّ عَلَى الموسع قَدَرُهُ وَعَلَى المقتر قَدْرُهُ}

(1)

.

فإن قيل: لم أعيد هاهنا ذكر المتعة مع أن ذكرها قد تقدم في قوله: {وَمَتّعُوهُنَّ عَلَى الموسع قَدَرُهُ وَعَلَى المقتر قَدْرُهُ} . قلنا: هناك ذكر حكماً خاصاً، وهاهنا ذكر حكماً عاماً.

والقول الثاني: أن المراد بهذه المتعة النفقة، والنفقة قد تسمى متاعاً وإذا حملنا هذا المتاع على النفقة اندفع التكرار فكان ذلك أولى، وهاهنا آخر الآيات الدالة على الأحكام، والله أعلم»

(2)

.

وقال الإمام الألوسي: «{وللمطلقات} سواء كن مدخولاً بهن أولا {متاع} أي مطلق المتعة الشاملة للواجبة والمستحبة وأوجبها سعيد بن جبير وأبو العالية والزهري للكل، وقيل: المراد بالمتاع نفقة العدة، ويجوز أن يكون اللام للعهد أي المطلقات المذكورات في الآية السابقة وهن غير الممسوسات وغير المفروض لهن، والتكرير للتأكيد والتصريح بما هو أظهر في الوجوب وهذا هو الأوفق بمذهبنا، ويؤيده ما أخرجه ابن جرير عن ابن زيد قال: لما نزل قوله تعالى: {متاعا بالمعروف حَقّا عَلَى المحسنين}

(3)

قال رجل: إن أحسنت فعلت وإن لم أرد ذلك لم أفعل فأنزل الله تعالى هذه الآية فلا حاجة حينئذ إلى القول بأن تلك الآية مخصصة بمفهومها منطوق هذه الآية المعممة على مذهب من يرى ذلك ولا إلى القول بنسخ هذه كما ذهب إليه ابن المسيب وهو أحد قولي الإمامية»

(4)

.

بعرض رأي الإمامين يتضح أن الإمام الرازي عرض قولين الأول: وهو وجوب المتعة لجميع المطلقات، والثاني: أن المقصود بالمتعة النفقة، ورجح الثاني وقال إن تكرار الآية يندفع به، بينما حمل الإمام الألوسي تكرار الآية على القول الأول وهو وجوب المتعة، وقد انفرد الإمامان بتوجيه هذه المسألة عن علماء المتشابه اللفظي.

(1)

سورة البقرة، الآية:(236).

(2)

التفسير الكبير، (6/ 173).

(3)

سورة البقرة، الآية:(236).

(4)

روح المعاني، (1/ 552).

ص: 202

4 -

اختلف الإمامان في توجيه الفرق بين الكفل والنصيب في قوله تعالى: " {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا}

(1)

.

حيث قال الإمام الرازي: «فان قيل: لم قال في الشفاعة الحسنة: {يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مّنْهَا} وقال في الشفاعة السيئة: {يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مَّنْهَا} وهل لاختلاف هذين اللفظين فائدة؟

قلنا: الكفل اسم للنصيب الذي عليه يكون اعتماد الناس، وإنما يقال كفل البعير لأنك حميت ظهر البعير بذلك الكساء عن الآفة، وحمي الراكب بدنه بذلك الكساء عن ارتماس ظهر البعير فيتأذى به، ويقال للضامن: كفيل.

وقال عليه الصلاة والسلام: «أنا وكافل اليتيم كهاتين»

(2)

. فثبت أن الكفل هو النصيب الذي عليه يعتمد الإنسان في تحصيل المصالح لنفسه ودفع المفاسد عن نفسه، إذا ثبت هذا فنقول:{وَمَنْ يَشْفَعْ شفاعة سَيّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مَّنْهَا}

(3)

أي يحصل له منها نصيب يكون ذلك النصيب ذخيرة له في معاشه ومعاده، والمقصود حصول ضد ذلك {فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}

(4)

والغرض منه التنبيه على أن الشفاعة المؤدية إلى سقوط الحق وقوة الباطل تكون عظيمة العقاب عند الله تعالى»

(5)

.

وقال الإمام الألوسي: «فالتعبير بالنصيب في الشفاعة الحسنة، وبالكفل في الشفاعة السيئة للتفنن، وفرق بينهما بعض المحققين بأن النصيب يشمل الزيادة، والكفل هو المثل المساوي، فاختيار النصيب أولاً لأن جزاء الحسنة يضاعف؛ والكفل ثانياً لأن من جاء بالسيئة لا يجزى إلا مثلها، ففي الآية إشارة إلى لطف الله تعالى بعباده، وقال بعضهم: إن الكفل وإن كان بمعنى

(1)

سورة النساء، الآية:(85).

(2)

سبق تخريجه (ص: 57).

(3)

سورة النساء، الآية:(85).

(4)

سورة آل عمران، الآية:(21).

(5)

التفسير الكبير، (10/ 213).

ص: 203

النصيب إلا أنه غلب في الشر وندر في غيره كقوله تعالى: {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَّحْمَتِهِ}

(1)

فلذا خص بالسيئة تطرية وهرباً من التكرار»

(2)

.

بعرض رأي الإمامين يتضح أن الإمام الرازي ذكر أن الكفل هو اسم للنصيب الذي عليه يكون اعتماد الناس وبنى توجيهه على ذلك، بينما حمل الإمام الألوسي توجيه المتشابه على التفنن، وذكر آراء أخرى تعتمد على معنى الكفل غير المعنى الذي ذكره الإمام الرازي، وقد انفرد الإمامان بتوجيه هذه المسألة عن علماء المتشابه اللفظي.

قال الإمام البقاعي: «وعظم الشفاعة السيئة؛ لأن درء المفاسد أولى من جلب المصلح، فقال- معبرا بما يفهم النصيب ويفهم أكثر منه تغليظا في الزجر:{يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا}

(3)

وهذا بيان لأن الشفاعة فيهم سيئة إن تحقق إجرامهم، حسنة إن علمت توبتهم وإسلامهم.

ولما كان كل من تحريض المؤمنين على الجهاد والشفاعة الحسنة من وادي «من سن سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة»

(4)

حسن اقترانهما جدا، والنصيب قدر متميز من الشيء يخص من هو له، وكذا الكفل إلا أن الاستعمال يدل على أنه أعظم من النصيب، ويؤيده ما قالوا من أنه قد يراد به الضعف، فكأنه نصيب متكفل بما هو له من إسعاد وإبعاد؛ قال أهل اللغة: النصيب: الحظ، والكفر- بالكسر: الضعف والنصيب والحظ، ومادة «نصب» يدور على العلم المنصوب، ويلزمه الرفع والوضع والتمييز والأصل والمرجع والتعب، فيلزمه الوجع، ومن لوازمه أيضا الحد والغاية والجد الوقوف؛ ومادة «كفل» تدور على الكفل- بالتحريك وهو العجز أو ردفه، ويلزمه الصحابة واللين والرفق والتأخر؛ وقال الإمام: الكفل هو النصيب الذي عليه يعتمد الإنسان في تحصيل المصالح لنفسه ودفع المفاسد عن نفسه، والمقصود هنا حصول ضد ذلك كقوله:{فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}

(5)

والغرض منه التنبيه على أن

(1)

سورة الحديد، الآية:(28).

(2)

روح المعاني، (3/ 94).

(3)

سورة النساء، الآية:(85).

(4)

رواه مسلم في «صحيحه» ، كتاب العلم، باب من سن سنة حسنة أو سيئة ومن دعا إلى هدى أو ضلالة (4/ 2059)، حديث رقم:(1017) من حديث بصرة من ورق.

(5)

سورة آل عمران، الآية:(21)، وسورة التوبة، الآية:(34)، وسورة الانشقاق، الآية:(24).

ص: 204

الشفاعة المؤدية إلى سيقوط الحق وقوة الباطل تكون عظيمة العقاب عند الله سبحانه وتعالى انتهى.

وما غلظ هذا الزجر إلا للعلم بأن أكثر النفوس ميالة بأصحابها للشفاعة بالباطل. ولما كان الأليق بالرغبة أن لا يقطع في موجبها وإن عظم بالحقية، ليكون ذلك زاجرًا عن مقارفة شيء منها وإن صغر؛ عبر في الحسنة بالنصيب، وفي السيئة بالكفل؛ ويؤيد إرادة هذا أنه تعالى لما ذكر ما يوجب الجنة من الإيمان والتقوى، وكان في سياق الوعظ لأهل الكتاب الذين هم على شرع أصله حق بتشريع رسول من عند الله، فتركهم لذلك بعيد يحتاج إلى زيادة ترغيب؛ عبر بالكفل فقال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ}

(1)

إلى آخرها»

(2)

.

فالإمام البقاعي ذكر معاني آخرى للكفل، ونقل رأي الإمام الرازي.

يقول ابن القيم: «فلفظ الكفل يُشعر بالحمل الثقيل، ولفظ النصيب يُشعر بالحظ ينصب طالبه في تحصيله»

(3)

.

وقد قام الباحث/ عدنان عبد القادربذكر المعاني اللغوية المختلفة لمعنى الكفل والنصيب وتوجيه المتشابه على أساسها، فلترجع إليها للمزيد

(4)

.

5 -

اختلف الإمامان في توجيه الفرق في التقديم والتأخير في قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ}

(5)

، وقوله

(1)

سورة الحديد، الآية:(28).

(2)

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، أبو الحسن إبراهيم البقاعي، دار الكتاب الإسلامي، (5/ 348 - 350).

(3)

روضة المحبين ونزهة المشتاقين، لشمس الدين محمد بن أبي بكر ابن القيم الجوزية، دار الكتب العلمية، بيروت (ص: 345، 346).

(4)

الملاك لمعرفة عجائب وأسرار الآيات المتشابهة، عدنان عبد القادر، دار حامل المسك للنشر والتوزيع بالكويت، الطبعة الأولى، (ص: 33 - 35).

(5)

سورة البقرة، الآية:(48).

ص: 205

تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ}

(1)

.

حيث قال الإمام الرازي: «السؤال الثاني: أن الله تعالى قدم في هذه الآية قبول الشفاعة على أخذ الفدية وذكر هذه الآية في هذه السورة بعد العشرين والمائة وقدم قبول الفدية على ذكر الشفاعة فما الحكمة فيه؟

الجواب: أن من كان ميله إلى حب المال أشد من ميله إلى علو النفس فإنه يقدم التمسك بالشافعين على إعطاء الفدية ومن كان بالعكس يقدم الفدية على الشفاعة، ففائدة تغيير الترتيب، الإشارة إلى هذين الصنفين»

(2)

.

وقال الإمام الألوسي: «وقد تفنن في التعبير فجاءت الشفاعة أولاً: بلفظ القبول متقدمة على العدل وهنا: النفع متأخرة عنه، ولعله كما قيل إشارة إلى انتفاء أصل الشيء وانتفاء ما يترتب عليه، وأعطي المقدم وجوداً تقدمه ذكراً، والمتأخر وجوداً تأخره ذكراً، وقيل: إن ما سبق كان للأمر بالقيام بحقوق النعم السابقة، وما هنا لتذكير نعمة بها فضلهم على العالمين وهي نعمة الإيمان ببني زمانهم، وانقيادهم لأحكامه ليغتنموها ويؤمنوا ويكونوا من الفاضلين لا المفضولين وليتقوا بمتابعته عن أهوال القيامة وخوفها كما اتقوا بمتابعة موسى عليه السلام»

(3)

.

بعرض رأي الإمامين يتضح أنهما اختلفا في توجيه المتشابه، وقد اتفق العلامة الأنصاري مع الإمام الرازي وذكر باقي علماء المتشابه اللفظي توجيهات أخرى

(4)

.

يقول د/ فهد الشتوي بعد أن عرض رأي الإمام الرازي ورأي الإمام ابن جماعة: «والمُلاحظ أنه على كلا التوجيهين لم يتبين السر في اختصاص كل موضع بما اختص به، وعليه فإن

(1)

سورة البقرة، الآية:(123).

(2)

التفسير الكبير، (3/ 58).

(3)

روح المعاني، (1/ 371).

(4)

يُنظر نص المسألة في كتب المتشابه اللفظي: درة التنزيل (1/ 226 - 229)، ملاك التأويل (1/ 196 - 197)، البرهان في توجيه متشابه القرآن (ص: 19)، كشف المعاني في المتشابه من المثاني (ص: 94 - 95)، فتح الرحمن بكشف ما يلتبس من القرآن (ص: 24).

ص: 206

التوجيه بهذا الاعتبار يكون ناقصًا، كما أن النفس لا تطمئن إليه حتى يتبين سر الاختصاص في كل موضع، وذلك بكشف مناسبته للسياق.

والذي يظهر - والله أعلم - هو أن الآية الأولى في النفس الأولى، والثانية في النفس الثانية، لما سنبينه - بإذن الله - من دلالة السياق، وللوجهين التاليين من نفس نص الآيتين:

الوجه الأول: أنه قدم في الآية الأولى ذكر الشفاعة، وبلفظ القبول، وذلك أن " المتبادر في نفي قبول الشفاعة أنها (أي النفس الأولى الشافعة) لو شفعت لم تقبل شفاعتها "، وليس المتبادر أن النفس الثانية لو أتت بشفيع لم يقبل منها.

الوجه الثاني: الظاهر من نص الآية الأولى هو أنها تتحدث عن النفس الأولى، فهي المحدث عنها في أول الآية:{وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} ، وإنما قلنا إن الآية الثانية في النفس الثانية وإن كانت تشترك معها في مطلعها، ولما جاء في آخرها مما هو كالصريح في أنها للنفس الثانية، وهي قوله:{وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ} ، فالنفع للنفس المجزية لا للنفس الجازية.

وأما السياق فإنه كذلك يدل على أن الآية الأولى في النفس الأولى، والآية الثانية في النفس الثانية، كما أنه يفسر لنا سر التغاير بين الآيتين.

وذلك أن الآية الأولى جاءت في أول قصة بني إسرائيل، وقد افتتح الله خطابه لهؤلاء اليهود المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم قبل هذه الآية بثماني آيات، والذي يظهر أن الخطاب كان معنيًا به أحبار اليهود وعلماؤهم، وأما العامة فكانوا تبعًا لهم، وقد افتتح هذا الخطاب بتذكيرهم بنعمة الله عليهم استجلابًا لهم للإيمان، ثم أمرهم بالوفاء بعهد الله.

وبعد كل هذا تأتي الآية محل البحث، فتجتث آخر ما قد يبقى عند هؤلاء الأحبار من العوائق، فإنه بعد أن بين الله علمه بخبايا أمورهم، وحذرهم اتباع ذلك العائق الكبير حب الرياسة الذي أبعدهم عن الحق، فإنه لابد أن تكون نفوسهم قد علمت ذنبها وإن لم تقر به، ولكن يبقى بعد ذلك عائق لا يقل عن الذي قبله وهو ما كان يتعلقون به من انتسابهم للأنبياء ورجائهم شفاعتهم، وهذا يجعلهم لا يستعظمون ذنوبهم وعصيانهم للنبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا فلقد

ص: 207

بادرت الآيات من أول القصة إلى نزع هذا العائق فكان المناسب أن يكون الحديث عن النفس الشافعة، وبيان حالها لهؤلاء القوم حتى لا يبقى في نفوسهم أي تعلق بها، فقدم ذكر الشفاعة نافيًا قبولها من الشافع، ثم ثنى بذكر العدل ونفى فائدته بلفظ الأخذ، وهو لفظ أعم من نفي القبول حتى يشمل العدل الذي قد تقدمه النفس الشافعة من مالها أو من مال المشفوع له بين يدي شفاعتها فيما لو ردت شفاعتها.

وأما الآية الثانية فجاءت آخر آية في القصة، وقد سبقها آيات كثيرة تبين فضائح اليهود، وشدة عصيانهم، وقد يكون بين أول القصة وآخرها زمن طويل لم يستجب فيه اليهود فكان أن تغير الخطاب لهم، وذلك أننا نجد في آخر القصة أن الخطاب قد توجه للنبي صلى الله عليه وسلم بعدم الاكتراث بهم، وبأن هؤلاء اليهود لن يرضوا عن هذا النبي صلى الله عليه وسلم حتى يتبع ملتهم، وحذره من اتباعهم، وفي هذا إظهار العزة وعدم الاكتراث بهم ما فيه، ثم بين أن من أوتي التوراة حقًا هو من يتبعها، ومن اتبعها لابد أن يتبع النبي صلى الله عليه وسلم لما فيها من الأمر باتباعه، وهؤلاء هم المؤمنون بالتوراة، ومن لم يؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم لم يؤمن بالتوراة وأولئك هم الخاسرون، وبهذا فإن الآيات في آخر القصة تنزع من هؤلاء اليهود شرفهم الذي يحاولون الانتساب إليه وهو التوراة، مبينةً أن من لم يؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم فلا حظ له بهذا الكتاب، ولهذا أعقب ذلك سبحانه بإعادة تذكيرهم بما من الله به عليهم من النعم ومن التفضيل الذي لا تحصل حقيقته إلا بالإيمان الذي قد تبين لهم شأنه.

وبعد ذلك تأتي الآية محل البحث، وهي تأتي وقد انكشف للقوم حقيقة أنفسهم، ولهذا كان الحديث عنهم هم عن النفس الثانية المجرمة المجزي عنها، وبأنها لن يقبل منها يوم القيامة الفداء؛ لأنهم لم يبق لهم بعد تعلق بالآباء، بل كأن هذه النفس قد عرفت جرمها فهي تريد الفداء بمالها، ولو كان شاقًا على هذه النفس اليهودية الجشعة، وفي هذا من التيئيس لهم وإقامة الحجة ما فيه، فكان البدء بنفي العدل هو المناسب وبلفظ القبول؛ لأنها تقدمه عن نفسها من مالها، ثم عقب بنفي نفع الشفاعة ولم يعبر بالقبول، والسر في ذلك والله أعلم هو شدة التيئيس لهم أيضًا حتى يعلموا أن لا سبيل للخلاص إلا بهذا الدين، وذلك أن في نفي نفع الشفاعة ثبوت أصل

ص: 208

الشفاعة في ذلك اليوم والمعنى أن الشفاعة نافعة في ذلك اليوم لكن ليس لكم، لما أنتم عليه من الكفر.

وبهذا يتبين سر اختصاص كل موضع بما اختص به، وسر تغاير الألفاظ، والله أعلم بالصواب»

(1)

.

6 -

اختلف الإمامان في توجيه تكرار قوله تعالى: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا}

(2)

.

حيث قال الإمام الرازي: «ذكروا في فائدة تكرير الأمر بالهبوط وجهين (الأول) قال الجبائي: الهبوط الأول غير الثاني فالأول من الجنة إلى السماء الدنيا، والثاني من سماء الدنيا إلى الأرض، وهذا ضغيف من وجهين (أحدهما) أنه قال في الهبوط الأول {ولكم في الأرض مستقر} فلو كان الاستقرار في الأرض إنما حصل بالهبوط الثاني لكان ذكر قوله {اهبطوا منها} والضمير في (منها) عائد إلى الجنة، وذلك يقتضي كون الهبوط الثاني من الجنة، (الوجه الثاني) أن التكرير لأجل التأكيد، وعندي فيه وجه ثالث أقوى من هذين الوجهين وهو أن آدم وحواء لما أتيا بالزلة أمرا بالهبوط، فتابا بعد الأمر بالهبوط، ووقع في قلبهما أن الأمر بالهبوط لما كان بسبب الزلة فبعد التوبة وجب ألا يبقى الأمر بالهبوط، فأعاد الله تعالى الأمر بالهبوط مرة ثانية ليعلما أن الأمر بالهبوط ما كان جزاء على ارتكاب الزلة حتى يزول بزوالها، بل الأمر بالهبوط باق بعد التوبة؛ لأن الأمر به كان تحقيقًا للوعد المتقدم في قوله:{إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً}

(3)

فإن قيل ما جواب الشرط الأول؟ قلنا: الشرط الثاني مع جوابه، كقولك إن جئتني فإن قدرت أحسنت إليك»

(4)

.

وقال الإمام الألوسي: «{قُلْنَا اهبطوا مِنْهَا جَمِيعًا} كرر للتأكيد، فالفصل لكمال الاتصال والفاء في {فَتَلَقَّى} للاعتراض، إذ لا يجوز تقدم المعطوف على التأكيد، وفائدته الإشارة إلى مزيد الاهتمام بشأن التوبة وأنه يجب المبادرة إليها، ولا يمهل فإنه ذنب آخر مع ما في ذلك من

(1)

دلالة السياق وأثرها في توجيه المتشابه اللفظي في قصة سيدنا موسى، (ص: 182 - 185).

(2)

سورة البقرة، الآية:(38).

(3)

سورة البقرة، الآية:(30).

(4)

التفسير الكبير، (3/ 28).

ص: 209

إظهار الرغبة بصلاح حاله عليه السلام وفراغ باله، وإزالة ما عسى يتشبث به الملائكة عليهم السلام، وقد فضل عليهم وأمروا بالسجود له، أو كرر ليتعلق عليه معنى آخر غير الأول، إذ ذكر إهباطهم أولاً: للتعادي وعدم الخلود، والأمر فيه تكويني. وثانياً: ليهتدي من يهتدي، ويضل من يضل، والأمر فيه تكليفي، ويسمى هذا الأسلوب في البديع الترديد

(1)

فالفصل حينئذ للانقطاع لتباين الغرضين، وقيل: إن إنزال القصص للاعتبار بأحوال السابقين، ففي تكرير الأمر تنبيه على أن الخوف الحاصل من تصور إهباط آدم عليه السلام المقترن بأحد هذين الأمرين من التعادي والتكليف كاف لمن له حزم، وخلا عن عذر أن تعوقه عن مخالفة حكمه تعالى، فكيف المخالفة الحاصلة من تصور الإهباط المقترن بهما؟ فلو لم يعد الأمر لعطف {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم} على الأول: فلا يفهم إلا إهباط مترتب عليه جميع هذه الأمور، ويحتمل على بعد أن تكون فائدة التكرار التنبيه على أنه تعالى هو الذي أراد ذلك، ولولا إرادته لما كان ما كان؛ ولذلك أسند الإهباط إلى نفسه مجرداً عن التعليق بالسبب بعد إسناد إخراجهما إلى الشيطان، فهو قريب من قوله عز شأنه:{وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكن الله رمى}

(2)

وقال الجبائي: إن الأول: من الجنة إلى السماء. والثاني: منها إلى الأرض، ويضعفه ذكر {وَلَكُمْ فِى الارض مُسْتَقَرٌّ}

(3)

عقيب الأول و {جَمِيعاً} حال من فاعل {اهبطوا} أي مجتمعين، سواء كان في زمان واحد أو لا، وقد يفهم الاتحاد في الزمان من سياق الكلام، كما قيل به في {فَسَجَدَ الملائكة كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ}

(4)

وأبعد ابن عطية فجعله تأكيداً لمصدر محذوف أي هبوطاً جميعاً»

(5)

.

بعرض رأي الإمامين يتضح أنهما اختلفا في توجيه المتشابه، فقد نقل الإمام الرازي قولين: الأول: قول الإمام الجبائي ولم يتفق معه، والقول الثاني: للتأكيد ولكنه ضعفه وقال إنه عنده وجه ثالث أقوى من هذين الوجهين، أما الإمام الألوسي فقد حمل التكرار على التأكيد وتوجيهات آخرى، ونقل رأي الجبائي وضعفه.

(1)

التّرديد في البلاغة العربية هو "أن يأتيَ الشّاعر بلفظة متعلّقة بمعنى، ثمّ يُرَدّدُها بعينها متعلّقة بمعنى آخر في البيت نفسه، العمدة، ابن رشيق، (1/ 566).

(2)

سورة الأنفال، الآية:(17).

(3)

سورة البقرة، الآية:(36).

(4)

سورة الحجر، الآية:(30).

(5)

روح المعاني، (1/ 239).

ص: 210

وقد اتفق الإمام الكرماني مع الجبائي (أن الهبوط الأول من الجنة، والثاني من السماء)

(1)

، أما الإمام الأنصاري فقد ذكر عدة توجيهات من بينها رأي الإمام الألوسي أن التكرار للتأكيد، ومنها أيضًا رأي الجبائي

(2)

.

7 -

اختلف الإمامان في توجيه الفرق بين إبدال قوله تعالى: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ}

(3)

، بقوله تعالى:{وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ}

(4)

.

حيث قال الإمام الرازي: «وأما قوله: {وإياى فاتقون} فيقرب معناه مما تقدم من قوله: {وإياى فارهبون} والفرق أن الرهبة عبارة عن الخوف، وأما الاتقاء فإنما يحتاج إليه عند الجزم بحصول ما يتقى منه فكأنه تعالى أمرهم بالرهبة لأجل أن جواز العقاب قائم، ثم أمرهم بالتقوى لأن تعين العقاب قائم»

(5)

.

وقال الإمام الألوسي: «وإنما ذكر في الآية الأولى {فارهبون} وهنا {فاتقون} لأن الرهبة دون التقوى فحيثما خاطب الكافة عالمهم ومقلدهم وحثهم على ذكر النعمة التي يشتركون فيها أمرهم بالرهبة التي تورث التقوى ويقع فيها الاشتراك، ولذا قيل الخشية ملاك الأمر كله، وحيثما أراد بالخطاب فيما بعد العلماء منهم، وحثهم على الإيمان ومراعاة الآيات أمرهم بالتقوى التي أولها ترك المحظورات وآخرها التبري مما سوى غاية الغايات»

(6)

.

بعرض رأي الإمامين يتضح أنهما اختلفا في توجيه المتشابه، وقد انفردا بتوجيه هذه المسألة عن علماء المتشابه اللفظي.

8 -

اختلف الإمامان عند توجيه الفرق بين التعريف في قوله تعالى: {بِغَيْرِ الْحَقِّ}

(7)

، والتنكير في قوله تعالى:{بِغَيْرِ حَقٍّ}

(8)

.

(1)

يُنظر نص المسألة: البرهان في توجيه متشابه القرآن (ص: 19).

(2)

يُنظر نص المسألة: فتح الرحمن بكشف ما يلتبس من القرآن (ص: 22).

(3)

سورة البقرة، الآية:(40).

(4)

سورة البقرة، الآية:(41).

(5)

التفسير الكبير، (3/ 44 - 45).

(6)

روح المعاني، (1/ 247).

(7)

سورة البقرة، الآية:(61).

(8)

سورة آل عمران، الآية:(21، 112).

ص: 211

حيث قال الإمام الرازي: «فإن قيل: قال ههنا: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ}

(1)

ذكر الحق بالألف واللام معرفة، وقال في سورة آل عمران:{إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ}

(2)

نكرة وكذلك في هذه السورة: {وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ}

(3)

فما الفرق؟ الجواب: الحق معلوم فيما بين المسلمين الذي يوجب القتل، قال عليه السلام:«لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث، كفر بعد إيمان وزنا بعد إحصان وقتل نفس بغير حق»

(4)

، فالحق المذكور بحرف التعريف إشارة إلى هذا وأما الحق المنكر فالمراد به تأكيد العموم أي لم يكن هناك حق لا هذا الذي يعرفه المسلمون ولا غيره البتة»

(5)

.

وقال الإمام الألوسي: «وقيد القتل بغير الحق مع أن قتل الأنبياء لا يكون إلا كذلك للإيذان بأن ذلك بغير الحق عندهم إذ لم يكن أحد معتقداً حقية قتل أحد منهم عليهم السلام، وإنما حملهم عليه حب الدنيا، واتباع الهوى والغلو في العصيان، فاللام في الحق على هذا للعهد، وقيل: الأظهر أنها للجنس، والمراد بغير حق أصلاً إذ لام الجنس المبهم كالنكرة، ويؤيده ما في آل عمران:{بِغَيْرِ حَقّ} فيفيد أنه لم يكن حقاً باعتقادهم أيضاً، ويمكن أن يكون فائدة التقييد إظهار معايب صنيعهم فإنه قتل النبي ثم جماعة منهم ثم كونه بغير الحق، وهذا أوفق بما هو الظاهر من كون المنهي القتل بغير الحق في نفس الأمر سواء كان حقاً عند القاتل أو لا إلا أن الاقتصار على القتل بغير الحق عندهم أنسب للتعريض بما هم فيه على ما قيل، والقول: بأنه يمكن أن يقال لو لم يقيد بغير الحق لأفاد أن من خواص النبوة أنه لو قتل أحداً بغير حق لا يقتص، ففائدة التقييد أن يكون النظم مفيداً لما هو الحكم الشرعي بعيد كما لا يخفى، قال بعض

(1)

سورة البقرة، الآية:(61).

(2)

سورة آل عمران، الآية:(21).

(3)

سورة آل عمران، الآية:(112).

(4)

سبق تخريجه (ص: 42).

(5)

التفسير الكبير، (3/ 111).

ص: 212

المتأخرين: هذا كله إذا كان الغير بمعنى النفي أي بلا حق، أما إذا كان بمعناه أي بسبب أمر مغاير للحق أي الباطل فالتقييد مفيد لأن قتلهم النبيين بسبب الباطل وحمايته»

(1)

.

بعرض رأي الإمامين يتضح أن الإمام الألوسي ذكر عدة توجيهات القول الأول فيه أن اللام للعهد متفق مع الإمام الرازي، لكنه ذكر القول الآخر أنها للجنس فلا فرق بين التعريف والتنكير لأن لام الجنس المبهم كالنكرة واستدل بقوله تعالى في سورة آل عمران:{بِغَيْرِ حَقٍّ} ثم ذكر رأيًا ثالثُا قال: إنه هو أوفق بما هو الظاهر، وذكر رأيًا رابع ولكنه اعترض عليه بأنه بعيد.

وقد ذكر علماء المتشابه اللفظي عدة توجيهات لهذه المسألة منها أن اللام للعهد، وأن التنكير للعموم

(2)

.

9 -

اختلف الإمامان في توجيه الفرق بين إبدال قوله تعالى: {فَلَا تَقْرَبُوهَا}

(3)

بقوله تعالى: {فَلَا تَعْتَدُوهَا}

(4)

.

حيث قال الإمام الرازي: «أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلا تَقْرَبُوها}

(5)

ففيه إشكالان الأول: أن قوله تعالى: تلك حدود الله إشارة إلى كل ما تقدم، والأمور المتقدمة بعضها إباحة وبعضها حظر فكيف قال في الكل فلا تقربوها والثاني: أنه تعالى قال في آية أخرى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها}

(6)

وقال في آية المواريث: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ}

(7)

وقال هاهنا: فلا تقربوها فكيف الجمع بينهما؟ والجواب عن السؤالين من وجوه: الأول: وهو الأحسن والأقوى أن من كان في طاعة الله والعمل بشرائعه فهو متصرف في حيز الحق، فنهي أن يتعداه لأن من تعداه وقع في حيز الضلال، ثم بولغ في ذلك فنهي أن يقرب الحد الذي هو الحاجز بين حيز

(1)

روح المعاني (1/ 277).

(2)

يُنظر نص المسألة في كتب المتشابه اللفظي: درة التنزيل (1/ 246 - 249)، ملاك التأويل (1/ 214 - 217)، البرهان في توجيه متشابه القرآن (ص: 21)، كشف المعاني في المتشابه من المثاني (ص: 99 - 100، فتح الرحمن بكشف ما يلتبس من القرآن (ص: 29 - 30).

(3)

سورة البقرة، الآية:(187).

(4)

سورة البقرة، الآية:(229).

(5)

سورة البقرة، الآية:(187).

(6)

سورة الْبَقَرَةِ، الآية:(229).

(7)

سورة النساء، الآية:(14).

ص: 213

الحق والباطل، لئلا يداني الباطل وأن يكون بعيدا عن الطرف فضلا أن يتخطاه كما قال عليه الصلاة والسلام:«إن لكل ملك حمى وحمى الله محارمه فمن رتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه»

(1)

.

الثاني: ما ذكره أبو مسلم الأصفهاني: لا تقربوها أي لا تتعرضوا لها بالتغيير كقوله: {وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ}

(2)

.

الثالث: أن الأحكام المذكورة فيما قبل وإن كانت كثيرة إلا أن أقربها إلى هذه الآية إنما هو قوله: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ} وقبل هذه الآية قوله: ثم {أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ} وذلك يوجب حرمة الأكل والشرب في النهار، وقبل هذه الآية قوله:(وابتغوا ما كتب الله لكم) وهو يقتضي تحريم مواقعة غير الزوجة والمملوكة وتحريم مواقعتهما في غير المأتى وتحريم مواقعتهما في الحيض والنفاس والعدة والردة، وليس فيه إلا إباحة الشرب والأكل والوقاع في الليل، فلما كانت الأحكام المتقدمة أكثرها تحريمات، لا جرم غلب جانب التحريم فقال: تلك حدود الله فلا تقربوها أي تلك الأشياء التي منعتم عنها إنما منعتم عنها بمنع الله ونهيه عنها فلا تقربوها»

(3)

.

وقال الإمام الألوسي: «{فَلَا تَقْرَبُوهَا} كيلا يدانى الباطل والنهي عن القرب من تلك الحدود التي هي الأحكام كناية عن النهي عن قرب الباطل لكون الأول لازماً للثاني وهو أبلغ من (لا تعتدوها) لأنه نهي عن قرب الباطل بطريق الكناية التي هي أبلغ من الصريح، وذلك نهي عن الوقوع في الباطل بطريق الصريح، وعلى هذا لا يشكل لا تقربوها في تلك الأحكام مع اشتمالها على ما سمعت، ولا وقوع {فَلَا تَعْتَدُوهَا} وفي آية أخرى إذ قد حصل الجمع وصح لا تقربوها في الكل، وقيل: يجوز أن يراد بحدود الله تعالى محارمه ومناهيه إما لأن الأوامر السابقة تستلزم النواهي لكونها مغياة بالغاية، وإما لأن المشار إليه قوله سبحانه:{وَلَا تباشروهن} وأمثاله، وقال

(1)

متفق عليه: أخرجه البخاري في «صحيحه» ، كتاب الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه، (1/ 20)، حديث رقم:(52)، ومسلم في «صحيحه» ، كتاب المساقاة، باب أخذ الحلال وترك الشبهات، (3/ 1219)، حديث رقم:(1599) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه.

(2)

سورة الإسراء، الآية:(34).

(3)

التفسير الكبير، (5/ 124، 125).

ص: 214

أبو مسلم: معنى {لا تَقْرَبُوهَا} لا تتعرضوا لها بالتغيير كقوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم} فيشمل جميع الأحكام ولا يخفى ما في الوجهين من التكليف والقول بأن تلك إشارة إلى الأحكام والحد إما بمعنى المنع أو بمعنى الحاجز بين الشيئين، فعلى الأول: يكون المعنى تلك الأحكام ممنوعات الله تعالى عن الغير ليس لغيره أن يحكم بشيء {فَلَا تَقْرَبُوهَا} أي لا تحكموا على أنفسكم أو على عباده من عند أنفسكم بشيء فإن الحكم لله تعالى عز شأنه وعلى الثاني: يريد أن تلك الأحكام حدود حاجزة بين الألوهية والعبودية، فالإله يحكم والعباد تنقاد، فلا تقربوا الأحكام لئلا تكونوا مشركين بالله تعالى لا يكاد يعرض على ذي لب فيرتضيه، وهو بعيد بمراحل عن المقصود كما لا يخفى»

(1)

بعرض رأي الإمامين يتضح أن الإمام الرازي ذكر ثلاث توجيهات للمتشابه منها رأي الإمام أبو مسلم الأصفاني، وقد اتفق معه الإمام الألوسي في التوجيه الأول الذي قال عنه الإمام الرازي أنه الأحسن والأقوى، لكن الإمام الألوسي قال عن التوجيهين الآخريين (قول أبي مسلم الأصفهاني والقول الآخر) أن فيهما تكلف، وبعيد عن المقصود كما لا يخفى.

وقد اتفق علماء المتشابه اللفظي مع توجيهات الإمامين، باستثناء ما ذكره الإمام أبو مسلم الأصفهاني

(2)

.

10 -

اختلف الإمامان في توجيه الفرق بين إبدال قوله تعالى: {مِنْ إِمْلَاقٍ} ، بقوله تعالى:{خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ} ، حيث قال الإمام الرازي: وقوله: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ} أي من خوف الفقر أي من ذكر الخوف وقد صرح بذكر الخوف في قوله: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ}

(3)

والمراد منه النهي عن الوأد، إذ كانوا يدفنون البنات أحياء، بعضهم للغيرة، وبعضهم خوف الفقر، وهو السبب الغالب»

(4)

.

(1)

روح المعاني، (1/ 465).

(2)

يُنظر نص المسألة في كتب المتشابه اللفظي: درة التنزيل (1/ 328 - 330)، ملاك التأويل (1/ 258 - 260)، البرهان في توجيه متشابه القرآن (ص: 28)، كشف المعاني في المتشابه من المثاني (ص: 113)، فتح الرحمن بكشف ما يلتبس من القرآن (ص: 54).

(3)

سورة الإسراء، الآية:(31).

(4)

التفسير الكبير، (13/ 245).

ص: 215

وقال الإمام الألوسي: «فقال سبحانه: {وَلَا تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ} بالوأد {خشية إملاق} [الإسراء: 31] من أجل فقر أو من خشيته كما في قوله سبحانه: {خَشْيَةَ إملاق} وقيل: الخطاب في كل آية لصنف وليس خطاباً واحداً فالمخاطب بقوله سبحانه: {مّنْ إملاق} من ابتلي بالفقر وبقوله تعالى: {خَشْيَةَ إملاق} من لا فقر له ولكن يخشى وقوعه في المستقبل، ولهذا قدم رزقهم ههنا في قوله عز وجل {نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} وقدم رزق أولادهم في مقام الخشية فقيل: {نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم} وهو كلام حسن»

(1)

.

بعرض رأي الإمامين يتضح أن الإمام الألوسي ذكر رأي الإمام الرازي، ثم ذكر قول آخر بصيغة (قيل) وقال: وهو كلام حسن، وقد اتفق جميع علماء المتشابه اللفظي مع القول الذي استحسنه الإمام الألوسي

(2)

.

11 -

اختلف الإمامان في توجيه الفرق بين إبدال تذييل قوله تعالى: {وَآَتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ}

(3)

بقوله تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ الله لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الله لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}

(4)

.

حيث قال الإمام الرازي: «اعلم أنه تعالى قال في سورة إبراهيم: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ الله لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الإنسان لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} وقال هاهنا: {إن الله لغفور رحيم} والمعنى: أنه لما بين أن الإنسان لا يمكنه القيام بأداء الشكر على سبيل التفصيل: قال: {إن الله لغفور رحيم} أي غفور للتقصير الصادر عنكم في القيام بشكر نعمه، رحيم بكم حيث لم يقطع نعمه عليكم بسبب تقصيركم»

(5)

.

وقال الإمام الألوسي: «وفي النحل: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ الله لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الله لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} وفرق أبو حيان بين الختمين بأنه هنا لما تقدم قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين بَدَّلُوا نِعْمَتَ الله كُفْرًا}

(1)

روح المعاني، (4/ 297).

(2)

يُنظر نص المسألة في كتب المتشابه اللفظي: درة التنزيل، (2/ 561 - 563)، ملاك التأويل (1/ 478 - 480)، البرهان في توجيه متشابه القرآن (ص: 55)، كشف المعاني في المتشابه من المثاني (ص: 169)، فتح الرحمن بكشف ما يلتبس من القرآن (ص: 180 - 181).

(3)

سورة إبراهيم، الآية:(34).

(4)

سورة النحل، الآية:(18).

(5)

التفسير الكبير، (20/ 15).

ص: 216

وبعده {وَجَعَلُوا للَّهِ أَندَادًا} فكان ذلك نصاً على ما فعلوا من القبائح من الظلم والكفران ناسب أن يختم بذم من وقع ذلك منه فختمت الآية بقوله سبحانه: {إِنَّ الإنسان لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} وأما في النحل فلما ذكر عدة تفضلات وأطنب فيها وقال جل شأنه: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لاَّ يَخْلُقُ} أي من أوجد هذه النعم السابق ذكرها ليس كمن لا يقدر على الخلق ذكر من تفضلاته تعالى اتصافه بالغفران والرحمة تحريضاً على الرجوع إليه سبحانه وأن هاتين الصفتين هو جل وعلا متصف بهما كما هو متصف بالخلق، ففي ذلك أطماع لمن آمن به تعالى وانتقل من عبادة المخلوق إلى عبادة الخالق تبارك وتعالى أنه يغفر السابق ويرحمه، وأيضاً فإنه لما ذكر أنه تعالى هو المتفضل بالنعم على الإنسان ذكر ما حصل من المنعم ومن جنس المنعم عليه، فحصل من المنعم ما يناسب حالة عطائه وهو الغفران والرحمة إذ لولاهما لما أنعم عليه، وحصل من جنس المنعم عليه ما يناسب حالة الإنعام عليه ويقع معها في الجملة وهو الظلم والكفران فكأنه قيل: إن صدر من الإنسان ظلم فالله تعالى غفور أو كفران فالله تعالى رحيم لعلمه بعجز الإنسان وقصوره. وما نقل السخاوي عن عبد الرحمن بن أسلم من أن هذه الآية منسوخة بآية النحل مما لا يلتفت إليه انتهى كلامه.

وفيه بحث، وقيل: إنما ختم سبحانه آية النحل بما ختم للإطناب هناك في ذكر النعم مع تقدم الدعوة إلى الشكر صريحاً فكان ذلك مظنة التقصير فيه ويناسب الإطناب في سرد النعم أن يذكر منها ما يتعلق بذلك وهو الغفران والرحمة فتأمل والله تعالى أعلم بأسرار كتابه»

(1)

بعرض رأي الإمامين يتضح أن الإمام الرازي وجه الموضع الثاني للمتشابه (سورة النحل)، لكنه لم يوجه الموضع الأول للمتشابه (سورة إبراهيم)، بينما نقل الإمام الألوسي رأي الإمام أبي حيان وقد وجه الموضعين، ثم نقل رأي السخاوي عن عبد الرحمن بن أسلم واعترض عليه وقال: أنه لا يُلتفت إليه.

وقد اتفق الإمام ابن الزبير مع ما قاله الإمام أبي حيان ونقله الإمام الألوسي

(2)

.

(1)

روح المعاني، (7/ 216).

(2)

يُنظر نص المسألة: ملاك التأويل (1/ 718 - 720).

ص: 217

12 -

اختلف الإمامان في توجيه تكرار الإحسان في قوله تعالى: {إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لاِنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا}

(1)

.

حيث قال الإمام الرازي: «قال أهل الإشارات هذه الآية تدل على أن رحمة الله تعالى غالبة على غضبه بدليل أنه لما حكى عنهم الإحسان أعاده مرتين فقال: {إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ} ولما حكى عنهم الإساءة اقتصر على ذكرها مرة واحدة فقال: {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} ولولا أن جانب الرحمة غالب وإلا لما كان كذلك»

(2)

وقال الإمام الألوسي: «ولأن ذكر المحاسن أليق بالحكيم من غيره، ولذا قال سبحانه: {إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لاِنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 7] فقدم ذكر الإحسان وكرره دون الإساءة»

(3)

.

بعرض رأي الإمامين يتضح أن الإمام الرازي حمل التكرار على الرحمة، بينما حمله الإمام الألوسي على الحكمة، وقد انفرد الإمامان بتوجيه هذه المسألة عن علماء المتشابه اللفظي.

(1)

سورة الإسراء، الآية:(7).

(2)

التفسير الكبير، (20/ 159).

(3)

روح المعاني، (2/ 426).

ص: 218

‌المبحث الرابع

ما انفرد به كل إمام عن الآخر

‌المطلب الأول: ما انفرد به الإمام الرازي عن الإمام الألوسي:

أشرتُ من قبل أن الإمام الرازي وجه مسائل أكثر من الإمام الألوسي حوالي ضعف ما وجهه الإمام الألوسي، فمن الطبيعي أن ينفرد عنه بتوجيه الكثير من المسائل.

ومن المسائل التي انفرد الإمام الرازي بتوجيهها عن الإمام الألوسي:

1 -

بتوجيه الفرق بين التعريف والتنكير في قوله تعالى: {فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ}

(1)

، وقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}

(2)

.

قال الإمام الرازي في هذه المسألة: «فلم جاءت النار الموصوفة بهذه الجملة منكرة في سورة التحريم وهاهنا معرفة؟ الجواب: تلك الآية نزلت بمكة فعرفوا منها نارا موصوفة بهذه الصفة ثم نزلت هذه بالمدينة مستندة إلى ما عرفوه أولا»

(3)

.

2 -

توجيه التذكير والتأنيث بين قوله تعالى: {فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ}

(4)

، وقوله تعالى:{فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي}

(5)

.

قال الإمام الرازي في هذه المسألة: «والجواب: أن قوله كهيئة الطير أي هيئة مثل هيئة الطير فقوله فتنفخ فيها الضمير للكاف، لأنها صفة الهيئة التي كان يخلقها عيسى وينفخ فيها ولا يرجع إلى الهيئة المضاف إليها لأنها ليست من خلقه ولا نفخه في شيء. إذا عرفت هذا فنقول: الكاف تؤنث بحسب المعنى لدلالتها على الهيئة التي هي مثل هيئة الطير وتذكر بحسب

(1)

سورة البقرة، الآية:(24).

(2)

سورة التحريم، الآية:(6)، ونوع المتشابه في هذه المسألة: متشابه بالتعريف والتنكير، تعريف النار في سورة البقرة وتنكيرها في سورة التحريم.

(3)

التفسير الكبير، (2/ 133).

(4)

سورة آل عمران، الآية:(49).

(5)

سورة المائدة، الآية:(110)، ونوع المتشابه في هذه المسألة: متشابه بتذكير الضمير وتأنيثه.

ص: 219

الظاهر. وإذا كان كذلك جاز أن يقع الضمير عنها تارة على وجه التذكير وأخرى على وجه التأنيث».

(1)

3 -

توجيه الفرق بين إبدال قوله تعالى: {فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ}

(2)

، بقوله تعالى:{وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ}

(3)

.

قال الإمام الرازي: «لم جعل خاتمة الآية الأولى (فريضة من الله) وخاتمة هذه الآية (وصية من الله) الجواب: أن لفظ الفرض أقوى وآكد من لفظ الوصية، فختم شرح ميراث الأولاد بذكر الفريضة، وختم شرح ميراث الكلالة بالوصية ليدل على الكل، وإن كان واجب الرعاية إلا أن القسم الأول وهو رعاية حال الأولاد أولى، ثم قال (والله عليم حليم) أي عليم بمن جار أو عدل في وصيته، (حليم) على الجائر لا يعاجله بالعقوبة، وهذا وعيد والله أعلم»

(4)

.

4 -

انفرد الإمام الرازي بمقارنة آيتي البقرة وآل عمران قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}

(5)

.

وقوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَاب}

(6)

.

قال الإمام الرازي: «واعلم أنه تعالى ذكر هذه الآية في سورة البقرة، وذكرها هنا أيضا وهاهنا اكتفى بذكر هذه الأنواع الثلاثة: وهي السموات والأرض، والليل والنهار، فهذه أسئلة ثلاثة:

السؤال الأول: ما الفائدة في إعادة الآية الواحدة باللفظ الواحد في سورتين؟

(1)

التفسير الكبير، (12/ 134).

(2)

سورة النساء، الآية:(11).

(3)

سورة النساء، الآية:(12).

(4)

التفسير الكبير، (9/ 234).

(5)

سورة البقرة، الآية:(164).

(6)

سورة آل عمران، الآية:(190).

ص: 220

والسؤال الثاني: لم اكتفى هاهنا باعادة ثلاثة أنواع من الدلائل وحذف الخمسة الباقية؟

والسؤال الثالث: لم قال هناك: {لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} وقال هاهنا: {لأُوْلِى الألباب} .

فذكر في سورة البقرة ثمانية أنواع من الدلائل، ثم أعاد في هذه السورة ثلاثة أنواع منها، تنبيها على أن العارف بعد صيرورته عارفا لابد له من تقليل الالتفات الى الدلائل ليكمل له الاستغراق في معرفة المدلول، فكان الغرض من إعادة ثلاثة أنواع من الدلائل وحذف البقية، التنبيه على ما ذكرناه، ثم إنه تعالى استقصى في هذه الآية الدلائل السماوية وحذف الدلائل الخمسة الباقية، التي هي الدلائل الأرضية، وذلك لأن الدلائل السماوية أقهر وأبهر، والعجائب فيها أكثر، وانتقال القلب منها الى عظمة الله وكبريائه أشد، ثم ختم تلك الآية بقوله:{لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} وختم هذه الآية بقوله: {لأُوْلِى الألباب} لأن العقل له ظاهر وله لب، ففي أول الأمر يكون عقلا، وفي كمال الحال يكون لبا، وهذا أيضا يقوي ما ذكرناه، فهذا ما خطر بالبال، والله أعلم بأسرار كلامه العظيم الكريم الحكيم»

(1)

.

‌المطلب الثاني: ما انفرد به الإمام الرازي عن الألوسي:

كما انفرد الإمام الألوسي عن الإمام الرازي بتوجيه العديد من المسائل منها:

1 -

الفرق بين إبدال قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ}

(2)

، بقوله تعالى:{وَإِذْ قُلْنَا}

(3)

.

قال الإمام الألوسي: «وغير سبحانه الأسلوب حيث قال أولاً: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ}

(4)

وهنا {وَإِذَا قُلْنَا} بضمير العظمة لأن في الأول خلق آدم واستخلافه، فناسب ذكر الربوبية مضافاً إلى أحب خلفائه إليه وهنا المقام مقام إيراد أمر يناسب العظمة وأيضاً في السجود تعظيم، فلما أمر بفعله لغيره أشار إلى كبريائه الغنية عن التعظيم»

(5)

.

(1)

التفسير الكبير، (9/ 138 - 139).

(2)

سورة البقرة، الآية:(30).

(3)

سورة البقرة، الآية:(34).

(4)

سورة البقرة، الآية:(30).

(5)

روح المعاني، (1/ 230).

ص: 221

2 -

الفرق بين إبدال قوله تعالى الفرق بين قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ}

(1)

، بقوله تعالى {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}

(2)

.

قال الإمام الألوسي: «وفصلت الآية السابقة بـ {يَتَفَكَّرُونَ} لأنها كانت لبيان الأحكام والمصالح والمنافع والرغبة فيها التي هي محل تصرف العقل والتبيين للمؤمنين فناسب التفكر، وهذه الآية بـ {يَتَذَكَّرُونَ} لأنها تذييل للإخبار بالدعوة إلى الجنة والنار التي لا سبيل إلى معرفتها إلا النقل والتبيين لجميع الناس فناسب التذكر»

(3)

.

3 -

الفرق بين إبدال قوله تعالى الفرق بين قوله تعالى: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}

(4)

بقوله تعالى: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ}

(5)

، وقوله تعالى:{حتى إِذَا مَا جَاءوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وأبصارهم وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}

(6)

.

قال الإمام الألوسي: «وكأنه سبحانه لما صدر آية النور وهي قوله تعالى: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ} بالشهادة وذكر جل وعلا الأعضاء من الأعالي إلى الأسافل أسندها إلى الجميع ولم يخص سبحانه الأيدي بالتكليم لوقوعها بين الشهود مع أن ما يصدر منها شهادة أيضاً في الحقيقة فإن كونها عاملة ليس على الحقيقة بل هي آلة والعامل هو الإنسان حقيقة وكان اعتبار الشهادة من المصدر هناك أوفق بالمقام لسبق قصة الإفك وما يتعلق بها ولذا نص فيها على الألسنة ولم ينص ههنا عليها بل الآية ساكتة عن الإفصاح بأمرها من الشهادة وعدمها، والختم على الأفواه ليس بعدم شهادتها إذ المراد منه منع المحدث عنهم عن التكلم

(1)

سورة البقرة، الآية:(219).

(2)

سورة البقرة، الآية:(221).

(3)

روح المعاني، (1/ 514).

(4)

سورة يس، الآية:(65).

(5)

سورة النور، الآية:(24).

(6)

سورة فصلت، الآية:(20).

ص: 222

بألسنتهم وهو أمر وراء تكلم الألسنة أنفسها وشهادتها بأن يجعل فيها علم وإرادة وقدرة على التكلم فتتكلم هي وتشهد بما تشهد وأصحابها مختوم على أفواههم لا يتكلمون.

ومنه يعلم أن آية النور ليس فيها ما هو نص في عدم الختم على الأفواه، نعم الظاهر هناك أن لا ختم وهنا أن لا شهادة من الألسنة، وعلى هذا الظاهر يجوز أن يكون المحدث عنه في الآيتين واحداً بأن يختم على أفواههم وتنطق أيديهم وأرجلهم أولاً ثم يرفع الختم وتشهد ألسنتهم إما مع تجدد ما يكون من الأيدي والأرجل أو مع عدمه والاكتفاء بما كان قبل منهما وذلك إما في مقام واحد من مقامات يوم القيامة أو في مقامين، وليس في كل من الآيتين ما يدل على الحصر ونفي شهادة غير ما ذكر من الأعضاء فلا منافاة بينهما وبين قوله تعالى:{حتى إِذَا مَا جَاءوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وأبصارهم وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}

(1)

فيجوز أن يكون هناك شهادة السمع والإبصار والألسنة والأيدي والأرجل وسائر الأعضاء كما يشعر بهذا ظاهر قوله تعالى والجلود في آية السجدة لكن لم يذكر بعض من ذلك في بعض من الآيات اكتفاء بذكره في البعض الآخر منها أو دلالته عليه بوجه، ويجوز أن يكون المحدث عنه في كل طائفة من الناس، وقد جعل بعضهم المحدث عنه في آية السجدة قوم ثمود، وحمل أعداء الله عليهم بقوله تعالى بعد {وَحَقَّ عَلَيْهِمُ القول فِى أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مّنَ الجن والإنس}

(2)

ولا يبعد أن يكون المحدث عنه في آية النور أصحاب الإفك من المنافقين والذين يرمون المحصنات ثم إن آية السجدة ظاهرة في أن الشهادة عند المجاء إلى النار وآية النور ليس فيها ما يدل على ذلك، وأما هذه الآية فيشعر كلام البعض بأن الختم والشهادة فيها بعد خطاب المحدث عنهم بقوله تعالى:{هذه جَهَنَّمُ التى كُنتُمْ تُوعَدُونَ اصلوها اليوم بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ}

(3)

فيكون ذلك عند المجاء إلى النار أيضاً، قال في إرشاد العقل السليم: إن قوله تعالى: {اليوم نَخْتِمُ} الخ التفات إلى الغيبة للإيذان بأن ذكر أحوالهم القبيحة استدعى أن يعرض عنهم وتحكي أحوالهم الفظيعة لغيرهم مع ما فيه من الإيماء إلى أن ذلك من مقتضيات الختم لأن الخطاب لتلقي الجواب وقد انقطع بالكلية، لكن قال في

(1)

سورة فصلت، الآية:(20).

(2)

سورة فصلت، الآية:(25).

(3)

سورة يس، الآيتان:(63، 64).

ص: 223

موضع آخر: إن الشهادة تتحقق في موقف الحساب لا بعد تمام السؤال والجواب وسوقهم إلى النار، والأخبار ظاهرة في ذلك»

(1)

.

4 -

الفرق بين التقديم والتأخير في قوله تعالى: {وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ}

(2)

، وقوله تعالى:{وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ}

(3)

.

قال الإمام الألوسي: «وجاء في سورة النحل {وَتَرَى الفلك مَوَاخِرَ فِيهِ} بتقديم {مَوَاخِرَ} وتأخير {فِيهِ} وعكس ههنا فقيل في وجه لأنه علق {فِيهِ} هنا بترى وثمت بمواخر، ولا يحسم مادة السؤال.

والذي يظهر لي في ذلك أن آية النحل سيقت لتعداد النعم كما يؤذن بذاك سوابقها ولواحقها وتعقيب الآيات بقوله سبحانه: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ الله لَا تُحْصُوهَا}

(4)

فكان الأهم هناك تقديم ما هو نعمة وهو مخر الفلك للماء بخلاف ما هنا فإنه إنما سيق استطراداً أو تتمة للتمثيل كما علمت آنفاً فقدم فيه {فِيهِ} إيذاناً بأنه ليس المقصود بالذات ذلك»

(5)

.

(1)

روح المعاني، (12/ 41 - 42).

(2)

سورة النحل، الآية:(14).

(3)

سورة فاطر، الآية:(12).

(4)

سورة إبراهيم، الآية:(34).

(5)

روح المعاني، (11/ 353).

ص: 224

‌الخاتمة

وختاماً يتبين لنا أن للمفسرين جهودًا واضحةً في إثراء علم المتشابه اللفظي وتوجيهه، وهناك العديد من المسائل انفردوا بها عن جميع علماء المتشابه اللفظي.

أهم النتائج التي توصلت إليها الباحثة:

1) الوقوف على معرفة مفهوم المتشابه اللفظي لغةً واصطلاحًا.

2) فوائد المتشابه اللفظي وأهميته في التدبر، والحفظ، والتلاوة.

3) دور المفسرين في إثراء علم المتشابه اللفظي، والبحث عن توجيهات لآيات المتشابه اللفظي في كتبهم؛ لأن هناك العديد من المسائل انفردوا بها عن علماء المتشابه اللفظي.

4) أهمية البحث في تفاسير أخرى كالتحرير والتنوير، ونظم الدرر لاستخراج توجيهات للمتشابه اللفظي منها، وعمل أبحاث عليها.

5) توجيه آيات المتشابه اللفظي يعتمد على علم النحو، واللغة، والسياق، والقراءات.

6) لا يمكن لأحدٍ مهما بلغ علمه أن يدعي أنه قد قال القول الفصل في توجيه آيات المتشابه اللفظي لذا فالأمر يحتاج منا لمزيد من الاجتهاد.

أهم التوصيات التي توصي بها الباحثة:

- إعطاء علم المتشابه اللفظي المزيد من البحث والدراسة.

- الوقوف على جهود السابقين وإكمالها.

- أوصي تشكيل لجنة علمية من عدة أساتذة لتتبع جميع مسائل ومواضع المتشابه اللفظي وتوجيهها؛ لأنها متفرقة بين كتب المتشابه والتفاسير المختلفة، ولم يحتو أي كتاب حتى الآن

ص: 225

على توجيهات لجميع مسائل المتشابه اللفظي في القرآن الكريم، والعمل الجماعي في هذا أفضل من العمل الفردي لتجنب النسيان أو السهو، ولاستيعاب جميع المسائل.

- هناك العديد من مسائل المتشابه اللفظي لم تُوجه بعد، فأوصي بتشكيل لجنة علمية أخرى من عدة أساتذة لتوجيه آيات المتشابه اللفظي التي لم توجه من قبل.

وأسأل الله عز وجل أن يكون بحثي هذا قد وضع لبنة في خدمة علم المتشابه اللفظي

وأن يتقبله مني، ويجعله خالصًا لوجهه الكريم.

ص: 226

فهرس‌

‌‌

‌ المصادر

و‌

‌المراجع

1 -

التفسير الكبير، أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي الملقب بفخر الدين الرازي خطيب الري (المتوفى: 606 هـ)، دار الفكر، بيروت - لبنان، الطبعة الأولى 1401 هـ.

2 -

روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، الطبعة الأولى، دار الكتب العلمية، بيروت لبنان، الطبعة الأولى، 1415 هـ- 1994 م.

فهرس المراجع

1 -

الإتقان في علوم القرآن: عبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي (المتوفى: 911 هـ)، تحقيق: مركز الدراسات القرآنية، مجمع الملك فهد.

2 -

إتمام الأعلام (ذيل لكتاب الأعلام للزركلي)، نزار أباظة/ محمد رياض المالح، دار صادر- بيروت، تاريخ النشر: 1999 م.

3 -

الاعتماد في الحروف المشكلة في القرآن الكريم، للشريف أبي إسماعيل موسى بن الحسين المعروف بالمَعدَّل، تحقيق: عبد الله عبد القادر، دار: الكتب العلمية، بيروت

4 -

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم المعروف بتفسير أبي السعود، أبو السعود العمادي محمد بن محمد بن مصطفى (المتوفى: 982 هـ)، الناشر: دار إحياء التراث العربي - بيروت.

5 -

أساس البلاغة، أبو القاسم محمود بن عمرو بن أحمد، الزمخشري جار الله (المتوفى: 538 هـ)، تحقيق: محمد باسل عيون السود، الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، الطبعة: الأولى، 1419 هـ -1998 م.

6 -

أسرار التكرار في القرآن المسمى البرهان في توجيه متشابه القرآن لما فيه من الحجة والبيان، محمود بن حمزة بن نصر، أبو القاسم برهان الدين الكرماني، ويعرف بتاج القراء (المتوفى: نحو 505 هـ)، تحقيق: السيد الجميلي، مركز الكتاب للنشر، القاهرة.

ص: 227

7 -

الأعلام، خير الدين بن محمود بن محمد بن علي بن فارس، الزركلي الدمشقي (ت: 1396 هـ)، دار العلم للملايين، ط: الخامسة عشر - أيار/ مايو 2002 م.

8 -

الإمام فخر الدين الرازي حياته وآثاره، علي محمد حسن العماري، الناشر: دار الإمام الرازي للنشر والتوزيع- الأردن، الطبعة: الأولى، سنة النشر: 2018 م.

9 -

أنوار التنزيل وأسرار التأويل، ناصر الدين عبد الله البيضاوي، مكتبة مصطفى البابي الحلبي، القاهرة ط 2، 1388 هـ

10 -

إنباه الرواة على أنباه النحاة، جمال الدين أبو الحسن علي بن يوسف القفطي (المتوفى: 646 هـ)، المحقق: محمد أبو الفضل إبراهيم، الناشر: دار الفكر العربي - القاهرة، ومؤسسة الكتب الثقافية - بيروت، الطبعة: الأولى، 1406 هـ - 1982 م.

11 -

البحر المحيط، لأبي حيان، دراسة وتحقيق: الشيخ عادل أحمد، والشيخ على محمد معوض وآخرون، دار الكتب العلمية، بيروت ط 1.

12 -

البداية والنهاية، أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي البصري ثم الدمشقي (المتوفى: 774 هـ)، تحقيق: عبد الله بن عبد المحسن التركي، الناشر: دار هجر للطباعة والنشر والتوزيع والإعلان، الطبعة: الأولى، 1418 هـ -1997 م.

13 -

البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع، محمد بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني اليمني (ت: 1250 هـ)، دار المعرفة -بيروت.

14 -

البرهان في توجيه متشابه القرآن، للكرماني، تحقيق: عبد القادر أحمد عطا، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى.

15 -

البرهان في علوم القرآن، أبو عبد الله بدر الدين محمد بن عبد الله بن بهادر الزركشي (المتوفى: 794 هـ)، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، الطبعة الثالثة، دار التراث القاهرة.

16 -

بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة، عبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي (ت: 911 هـ)، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، المكتبة العصرية - لبنان/ صيدا.

ص: 228

17 -

بلاغة الكلمة في التعبير القرآني، د/ فاضل السامرائي، شركة العاتك لصناعة الكتاب للطباعة والنشر والتوزيع - القاهرة، الطبعة الثانية.

18 -

تاج العروس من جواهر القاموس، تحقيق: علي هلالي، ط 2، الكويت، إصدار وزارة الإعلام، سلسلة التراث العربي، 1407 هـ.

19 -

تاريخ الإسلام وَوَفيات المشاهير وَالأعلام، شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قَايْماز الذهبي (المتوفى: 748 هـ)، المحقق: الدكتور بشار عوّاد معروف، الناشر: دار الغرب الإسلامي، الطبعة: الأولى، 2003 م.

20 -

تاريخ بغداد، لأبي بكر أحمد بن علي بن ثابت بن أحمد بن مهدي الخطيب البغدادي (المتوفى: 463 هـ)، المحقق: الدكتور بشار عواد معروف، الناشر: دار الغرب الإسلامي - بيروت، الطبعة: الأولى، 1422 هـ - 2002 م.

21 -

تأويل مشكل القرآن، أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري (المتوفى: 276 هـ)، تحقيق: إبراهيم شمس الدين، دار الكتب العلمية.

22 -

التحرير والتنوير، محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي (المتوفى: 1393 هـ)، الناشر: الدار التونسية للنشر - تونس، سنة النشر: 1984 هـ.

23 -

تعريف الدارسين بمناهج المفسرين، د. صلاح عبد الفتاح الخالدي، ص 491 - 92 الطبعة الأولى دمشق- دار القلم، 2002 م.

24 -

تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي (المتوفى: 1418 هـ)، مطابع أخبار اليوم، قطاع الثقافة والكتب والمكتبات.

25 -

تفسير الطبري= جامع البيان في تأويل القرآن، محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الآملي، أبو جعفر الطبري (المتوفى: 310 هـ)، المحقق: أحمد محمد شاكر، الناشر: مؤسسة الرسالة، الطبعة: الأولى، 1420 هـ - 2000 م.

26 -

تفسير الفخر الرازي للكفر في القرآن الكريم، لمحمد محمود، رسالة دكتوراه، مقدمة لقسم التفسير، كلية أصول الدين، جامعة الأزهر.

27 -

تفسير القاسمي المسمى محاسن التأويل لمحمد القاسمي، وقف على طبعه وعلق عليه: محمد فؤاد عبد الباقي، الطبعة الأولى.

ص: 229

28 -

تفسير القرآن الحكيم المشهور بتفسير المنار، لمحمد رشيد رضا، الطبعة الأولى، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1990 م.

29 -

تفسير القرآن العظيم، أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي البصري ثم الدمشقي (المتوفى: 774 هـ)، المحقق: سامي بن محمد سلامة، الناشر: دار طيبة للنشر والتوزيع، الطبعة: الثانية 1420 هـ - 1999 م.

30 -

تفسير الكشاف للعلامة الزمخشري، اعتنى به خليل فؤاد شيخا، دار المعرفة، بيروت، الطبعة الثالثة.

31 -

التفسير والمفسرون، الدكتور/ محمد السيد حسين الذهبي (المتوفى: 1398 هـ)، الناشر: دار الحديث، القاهرة.

32 -

التناسب في تفسير الإمام الرازي (دراسة في أسرار الاقتران)، الدكتورة: منال مبطي حامد المسعودي، رسالة دكتوراه جامعة أم القرى- مكة، الناشر: مطتبة وهبة للطباعة والنشر- مصر، ط: 1، سنة النشر: 2010 م.

33 -

التوقيف على مهمات التعاريف المؤلف: زين الدين محمد المدعو بعبد الرؤوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري (المتوفى: 1031 هـ)، تحقيق: عبد الحميد صالح حمدان، الطبعة الأولى، عالم الكتب، سنة النشر: 1410 - 1990.

34 -

التوقيف في مهمات التعاريف، لمحمد المناوي، تحقيق الدكتور عبد الحميد صالح حمدان، الطبعة الأولى، عالم الكتب.

35 -

تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله السعدي (المتوفى: 1376 هـ)، دار العقيدة، الطبعة الثانية.

36 -

جلاء العينين بمحاكمة الأحمدين، خير الدين نعمان بن محمود الآلوسي، ط 1، بيروت: المكتبة العصرية، 2006 م.

37 -

جمال القراء وكمال الإقراء، علي بن محمد بن عبد الصمد الهمداني المصري الشافعي، أبو الحسن، علم الدين السخاوي (المتوفى: 643 هـ)، تحقيق: د. مروان العطيَّة - د. محسن

ص: 230

خرابة، الناشر: دار المأمون للتراث - دمشق - بيروت، الطبعة: الأولى 1418 هـ - 1997 م.

38 -

حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة، عبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي (المتوفى: 911 هـ)، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، الناشر: دار إحياء الكتب العربية -عيسى البابي الحلبي وشركاه - مصر، الطبعة: الأولى 1387 هـ -1967 م.

39 -

حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر عبد الرزاق البيطار، تحقيق محمد بهجة البيطار، ط 2، بيروت: دار صادر، 1413 هـ.

40 -

خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر، محمد أمين بن فضل الله بن محب الدين بن محمد المحبي الحموي الأصل، الدمشقي (المتوفى: 1111 هـ)، الناشر: دار صادر - بيروت.

41 -

الدر الثمين في ترجمة فقيد الأمة العلامة ابن عثيمين، جمع وإعداد عصام بن عبدالمنعم المري، دار البصيرة، الإسكندرية.

42 -

الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة، أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى: 852 هـ)، المحقق: مراقبة/ محمد عبد المعيد ضان، الناشر: مجلس دائرة المعارف العثمانية - صيدر اباد/ الهند، الطبعة: الثانية، 1392 هـ/ 1972 م.

43 -

الرازي مفسرًا، د/ محسن عبد المجيد، الطبعة الأولى، بغداد- دار الحرية للطباعة 1974 م.

44 -

روضة المحبين ونزهة المشتاقين، لشمس الدين محمد بن أبي بكر ابن القيم الجوزية، دار الكتب العلمية، بيروت.

45 -

روضة الناظرين عن مآثر علماء نجد وحوداث السنين، محمد بن عثمان بن صالح بن عثمان القاضي، الناشر: مطبعة الحلبي، سنة الطبع: 1980 م.

46 -

سنن النسائي= المجتبى من السنن، أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب بن علي الخراساني، النسائي (المتوفى: 303 هـ)، تحقيق: عبد الفتاح أبو غدة، الناشر: مكتب المطبوعات الإسلامية - حلب، الطبعة: الثانية، 1406 هـ - 1986 م.

ص: 231

47 -

سير أعلام النبلاء، شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قَايْماز الذهبي (ت: 748 هـ)، تحقيق: مجموعة من المحققين بإشراف الشيخ شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، ط: 3، 1405 هـ/ 1985 م.

48 -

شذرات الذهب في أخبار من ذهب، عبد الحي بن أحمد بن محمد ابن العماد العَكري الحنبلي، أبو الفلاح (ت: 1089 هـ)، حققه: محمود الأرناؤوط، خرج أحاديثه: عبد القادر الأرناؤوط، دار ابن كثير، دمشق - بيروت، ط: 1، 1406 هـ - 1986 م.

49 -

الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية، أبو نصر إسماعيل بن حماد الجوهري، تحقيق: أحمد عبد الغفور عطار، الناشر: دار العلم للملايين - بيروت، الطبعة: الرابعة 1407 هـ - 1987 م.

50 -

صحيح البخاري= الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه، محمد بن إسماعيل أبو عبد الله البخاري الجعفي، المحقق: محمد زهير بن ناصر الناصر، الناشر: دار طوق النجاة (مصورة عن السلطانية بإضافة ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي)، الطبعة: الأولى، 1422 هـ.

51 -

صحيح مسلم= المسند الصحيح المختصر بنقل العدل عن العدل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، مسلم بن الحجاج أبو الحسن القشيري النيسابوري (المتوفى: 261 هـ)، المحقق: محمد فؤاد عبد الباقي، الناشر: دار إحياء التراث العربي - بيروت.

52 -

طبقات الحنابلة، أبو الحسين ابن أبي يعلى، محمد بن محمد (المتوفى: 526 هـ)، المحقق: محمد حامد الفقي، الناشر: دار المعرفة - بيروت.

53 -

طبقات الشافعية الكبرى، تاج الدين عبد الوهاب بن تقي الدين السبكي (ت: 771 هـ)، حققه: محمود محمد الطناحي/ عبد الفتاح محمد الحلو، هجر للطباعة والنشر والتوزيع، ط: 2، 1413 هـ.

54 -

طبقات الشافعية لابن كثير، تحقيق: عبد الحفيظ منصور، دار المدار الإسلامي، ط 1.

55 -

طبقات الشافعية، أبو بكر بن أحمد بن محمد بن عمر الأسدي الشهبي الدمشقي، تقي الدين ابن قاضي شهبة (المتوفى: 851 هـ)، تحقيق: الحافظ عبد العليم خان، دار النشر: عالم الكتب - بيروت، الطبعة: الأولى، 1407 هـ.

ص: 232

56 -

طبقات المفسرين، أحمد بن محمد الأدنه وي من علماء القرن الحادي عشر (المتوفى: ق 11 هـ)، المحقق: سليمان بن صالح الخزي، الناشر: مكتبة العلوم والحكم - السعودية، الطبعة: الأولى، 1417 هـ- 1997 م.

57 -

طبقات المفسرين، محمد بن علي بن أحمد، شمس الدين الداوودي المالكي (المتوفى: 945 هـ)، الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت، راجع النسخة وضبط أعلامها: لجنة من العلماء بإشراف الناشر.

58 -

علماء نجد خلال ثمان قرون، عبد الله بن عبد الرحمن بن صالح آل بسام، الناشر: دار العاصمة، سنة النشر: 1419 هـ.

59 -

العمدة في محاسن الشعر وآدابه، أبو على الحسن بن رشيق القيرواني الأزدي (المتوفى: 463 هـ)، المحقق: محمد محيي الدين عبد الحميد، الناشر: دار الجيل، الطبعة: الخامسة، 1401 هـ - 1981 م.

60 -

عيون الأنباء، موفق الدين أبي العباس أحمد بن القاسم بن خليفة السعدي الخزرجي شرح وتحقيق د/ نزار رضا، دار مكتبة الحياة، بيروت.

61 -

غاية النهاية في طبقات القراء، شمس الدين أبو الخير ابن الجزري، محمد بن محمد بن يوسف (المتوفى: 833 هـ)، الناشر: مكتبة ابن تيمية، الطبعة: عني بنشره لأول مرة عام 1351 هـ ج. برجستراسر.

62 -

فتاوى السبكي في فروع الفقه الشافعي للإمام تقي الدين السبكي، اعتنى به: محمد عبد السلام شاهين، الجزء الأول، دار الكاب العلمية، بيروت.

63 -

فتح الرحمن بكشف ما يلتبس من القرآن، لأبي يحيى الأنصاري، تحقيق: محمد على الصابوني، دار القرآن الكريم، بيروت، الطبعة الأولى.

64 -

فخر الدين الرازي وآراءه الكلامية والفلسفية، محمد صالح الزركان، دار النشر: دار الفكر، بيروت، الطبعة: الأولى، سنة النشر: 1963 م.

65 -

فلاسفة الإسلام، لفتح الله خليف، دار الجامعات المصرية، الإسكندرية (د. ت).

ص: 233

66 -

فنون الأفنان في علوم القرآن، أبو الفرج بن الجوزي، تحقيق: حسن ضياء الدين عتر، دار البشائر، ط 1.

67 -

الفهرست، أبو الفرج محمد بن إسحاق بن محمد الوراق البغدادي المعتزلي الشيعي المعروف بابن النديم (المتوفى: 438 هـ)، المحقق: إبراهيم رمضان، الناشر: دار المعرفة بيروت - لبنان، الطبعة: الثانية 1417 هـ - 1997 م.

68 -

فواصل الآيات القرآنية دراسة بلاغية دلالية، د/ السيد خضر، مكتبة الآداب القاهرة الطبعة الثانية.

69 -

القاموس المحيط، مجد الدين أبو طاهر محمد بن يعقوب الفيروزآبادى (المتوفى: 817 هـ)، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، بيروت- لبنان.

70 -

كشف المعاني في المتشابه على المثاني، لبدر الدين بن جماعة، تحقيق: د/ عبد الجواد خلف، دار الوفاء للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة: الأولى.

71 -

الكواكب السائرة بأعيان المئة العاشرة، نجم الدين محمد بن محمد الغزي (المتوفى: 1061 هـ)، المحقق: خليل المنصور، الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، الطبعة: الأولى، 1418 هـ - 1997 م.

72 -

لسان العرب، محمد بن مكرم بن على، أبو الفضل، جمال الدين ابن منظور الأنصاري الرويفعى الإفريقى (المتوفى: 711 هـ)، الناشر: دار صادر - بيروت، الطبعة: الثالثة - 1414 هـ.

73 -

لمحات من حياة سماحة الشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين، متعب بن عبدالرحمن القبيسي، رئاسة الحرس الوطني، مدرسة عمار بن ياسر الابتدائية، الاحساء، 1422 هـ/ 2001 م.

74 -

لمسات بيانية في نصوص من التنزيل د/ فاضل السامرائي، دار عمار، عمان، الطبعة الثامنة 2012 م

75 -

متشابه القرآن الكريم، أبو الحسين أحمد بن جعفر بن محمد بن عبيد الله بن أبي داود المنادى - رواية أبي العباس أحمد بن عثمان البصري، تحقيق: عبد الله بن محمد الغنيمان، الناشر: مكتبة ليبنة بدمنهور، الطبعة: الأولى 1993 م.

ص: 234

76 -

متشابه القرآن، علي بن حمزة بن عبد الله الأسدي بالولاء، الكوفي، أبو الحسن الكسائي (المتوفى: 189 هـ)، الناشر: دار المنار للنشر والتوزيع، حققه وقدم له وعلق عليه: د. محمد محمد داود، الطبعة: الأولى، 1418 هـ - 1998 م.

77 -

المتشابه اللفظي في القرآن الكريم رؤية في التفسير من خلال اللغة والسياق، د/ محمد القاضي، دار الصحوة، الطبعة الأولى.

78 -

متشابه النظم في القرآن الكريم كشف المعاني في متشابه المثاني لابن جماعة (أنموذجا)، د/ سالم السكري، جامعة الأزهر.

79 -

مجموع الفتاوى، لشيخ الإسلام: أحمد بن تيمية، وزارة الشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد السعودية - مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، 1425 هـ.

80 -

مرآة الجنان وعبرة اليقظان في معرفة ما يعتبر من حوادث الزمان، أبو محمد عفيف الدين عبد الله بن أسعد بن علي بن سليمان اليافعي (المتوفى: 768 هـ)، وضع حواشيه: خليل المنصور، الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، الطبعة: الأولى، 1417 هـ - 1997 م.

81 -

المسك الأذفر في نشر مزايا القرنين الثاني عشر والثالث عشر - الآلوسي، السيد محمود شكري، طبعة الدار العربية للموسوعات.

82 -

مشاهير علماء نجد وغيرهم، عبد الرحمن بن عبد اللطيف آل شيخ، دار اليمامة الطبعة الأولى.

83 -

معترك الأقران في إعجاز القرآن، عبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي (المتوفى: 911 هـ)، دار النشر: دار الكتب العلمية - بيروت - لبنان، الطبعة: الأولى 1408 هـ - 1988 م.

84 -

معجم الأدباء = إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب، شهاب الدين أبو عبد الله ياقوت بن عبد الله الرومي الحموي (المتوفى: 626 هـ)، المحقق: إحسان عباس، الناشر: دار الغرب الإسلامي، بيروت، الطبعة: الأولى، 1414 هـ - 1993 م.

85 -

معجم البلدان، للشيخ أبي عبد الله ياقوت بن عبد الله الحموي الرومي البغدادي، دار صادر، بيروت.

ص: 235

86 -

معجم العين، للخليل بن أحمد الفراهيدي، المحقق: د مهدي المخزومي، د إبراهيم السامرائي، الناشر: دار ومكتبة الهلال.

87 -

معجم المؤلفين، عمر بن رضا بن محمد راغب بن عبد الغني كحالة الدمشق (ت: 1408 هـ)، مكتبة المثنى -بيروت، دار إحياء التراث العربي بيروت.

88 -

المعجم الوجيز، مجمع اللغة العربية، مطابع الأهرام، مكتبة دبي للتوزيع، سنة النشر: 1989 م.

89 -

المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية، مجمع اللغة العربية بالقاهرة، (إبراهيم مصطفى/ أحمد الزيات/ حامد عبد القادر/ محمد النجار)، مصر، مكتبة الشروق الدولية.

90 -

معجم مقاييس اللغة، أحمد بن فارس بن زكرياء القزويني الرازي، أبو الحسين (المتوفى: 395 هـ)، المحقق: عبد السلام محمد هارون، الناشر: دار الفكر، عام النشر: 1399 هـ - 1979 م.

91 -

المفردات في غريب القرآن، أبو القاسم الحسين بن محمد المعروف بالراغب الأصفهانى (المتوفى: 502 هـ)، تحقيق: صفوان داووي دار العلم، ط 1.

92 -

المفسرون بين التأويل والإثبات في آيات الصفات، محمد المغراوي، ط 1، بيروت مؤسسة الرسالة.

93 -

ملاك التأويل القاطع بذوي الإلحاد والتعطيل في توجيه المتشابه اللفظ من آي التنزيل، أحمد بن إبراهيم بن الزبير الثقفي الغرناطي، أبو جعفر (المتوفى: 708 هـ)، تحقيق: سعيد الفلاح، الناشر: دار الغرب الإسلامي، سنة النشر: 1403 هـ- 1983 م.

94 -

الملاك لمعرفة عجائب وأسرار الآيات المتشابهة، عدنان عبد القادر، دار حامل المسك للنشر والتوزيع بالكويت، الطبعة الأولى.

95 -

من بلاغة المتشابه اللفظي في القرآن الكريم، محمد بن علي بن محمد الصامل، الناشر: الرياض، السعودية: دار إشبيليا للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 2001 م.

96 -

مناهج المفسرين، الدكتور منيع عبد الحليم محمود، القاهرة- مكتبة الإيمان، ط 2، 2003 م.

ص: 236

97 -

المنطلقات الفكرية عند الإمام الفخر الرازي، د/ محمد العريبي، الناشر: دار الفكر اللبناني للطباعة والنشر- بيروت، ط: 1، سنة النشر: 1992 م

98 -

ميزان الاعتدال في نقد الرجال، شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قَايْماز الذهبي (المتوفى: 748 هـ)، تحقيق: علي محمد البجاوي، الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت - لبنان، الطبعة: الأولى، 1382 هـ - 1963 م.

99 -

النشر في القراءات العشر، محمد بن محمد الدمشقي الشهير بابن الجزري، أشرف على تصحيحه: محمد على الضباع، الجزء الثاني، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان.

100 -

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، إبراهيم بن عمر بن حسن الرباط بن علي بن أبي بكر البقاعي (المتوفى: 885 هـ)، الناشر: دار الكتاب الإسلامي، القاهرة.

101 -

وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، أبو العباس شمس الدين أحمد بن محمد بن إبراهيم بن أبي بكر ابن خلكان البرمكي الإربلي (ت: 681 هـ)، تحقيق: إحسان عباس، دار صادر - بيروت.

ص: 237

‌الرسائل الجامعية

1 -

أثر دلالة السياق القرآني في توجيه معنى المتشابه اللفظي في القصص القرآني دراسة نظرية تطبيقية على آيات قصص نوح وهود وصالح وشعيب عليهم السلام: تهاني بنت سالم باحويرث، رسالة ماجستير، جامعة أم القرى.

2 -

توجيه المتشابه اللفظي في القرآن الكريم بين القدامى والمحدثين، محمد رجائي أحمد الجبالي رسالة دكتوراه، قسم القرآن والحديث، جامعة ملايا، كوالالمبور، 2012 م.

3 -

توجيه المتشابه في القرآن الكريم، دراسة في ملاك التأويل لابن الزبير الأندلسي، د/ ياسر الصعيدي، دار النابغة للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 1436 هـ

4 -

جهود الإمام الآلوسي رحمه الله في رد شبهات الشيعة من خلال تفسيره روح المعاني، الباحث: عبد الله نعمان، رسالة ماجستير، جامعة المدينة العالمية، ماليزيا.

5 -

الحديث النبوي في تفسير الفخر الرازي تحقيق ودراسة، إسماعيل فهمي عبد اللاه، رسالة دكتوراه جامعة جنوب الوادي.

6 -

دراسة المتشابه اللفظي في آي التنزيل»، د/ محمد فاضل السامرائي، دار ابن كثير، الطبعة الأولى.

7 -

درة التنزيل وغرة التأويل، أبو عبد الله محمد بن عبد الله الأصبهاني المعروف بالخطيب الإسكافي (المتوفى: 420 هـ)، دراسة وتحقيق وتعليق: د/ محمد مصطفى آيدين، الناشر: جامعة أم القرى، وزارة التعليم العالي سلسلة الرسائل العلمية الموصى بها معهد البحوث العلمية مكة المكرمة، الطبعة: الأولى، 1422 هـ - 2001 م.

8 -

دلالة السياق وأثرها في توجيه المتشابه اللفظي في قصة سيدنا موسى»، فهد بن شتوي بن عبد المعين الشتوي - رسالة ماجستير - جامعة أم القرى.

9 -

المتشابه اللفظي في القرآن الكريم وأسراره البلاغية، صالح بن عبد الله الشثري، مجمع الملك فهد، المدينة المنورة، سنة النشر: 1425 هـ.

10 -

المتشابه اللفظي في القرآن الكريم وتوجيهه- دراسة موضوعية، محمد بن راشد بن محمد البركة، رسالة ماجستير، جامعة الإمام محمد بن سعود، 1431 هـ.

ص: 238

10 -

موقف الرازي من آيات الصفات في تفسيره الكبير مفاتيح الغيب " دراسة نقدية تطبيقية في ضوء عقيدة أهل السنة " للباحثة: سامية بنت ياسين البدري، رسالة ماجستير، جامعة أم القرى

11 -

موقف الرازي من القضاء والقدر في التفسير الكبير، دراسة نقدية في ضوء عقيدة أهل السنة والجماعة، الباحثة: أنفال بنت يحيى إمام، رسالة ماجستير، جامعة أم القرى.

‌الدوريات

1 -

تعقبات الألوسي على توجيهات الرازي للمتشابه اللفظي في آيات الأمر بدخول القرية، د/ محمد نصيف، مجلة معهد الإمام الشاطبي للدراسات القرآنية، العدد الخامس عشر.

2 -

حمل المتشابه على التفنن: تفسير الألوسي أنموذجا، د/ ياسر بن محمد بابطين، مجلة معهد الإمام الشاطبي للدراسات القرآنية، العدد الثامن عشر.

ص: 239