الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد
فقد أذنت للشيخ عبد الرحمن بن صالح بن عبد الله السديس بإخراج ونشر ما أعده من شرحي العقيدة الواسطية لشيخ الإسلام ابن تيمية، والذي ألقيته في الدورة العلمية المقامة في مسجد شيخ الإسلام ابن تيمية في الرياض عام 1414 هـ.
نفع الله بجهود الشيخ عبد الرحمن السديس، وبارك فيه على ما قام به من عناية بالعقيدة الواسطية وشرحها.
قال ذلك وأملاه
عبد الرحمن بن ناصر البراك
[ختم]
مقدمة الطبعة الرابعة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمةً للعالمين.
أما بعد:
فهذه الطبعة الرابعة لهذا الكتاب قد صُحِّحَ ما وُجِدَ فيه من أغلاط وأُضيف للكتاب بعض الإضافات والتعديلات اليسيرة.
وقد أُعيد صفُّه من جديد، بإشراف مؤسسة وقف الشيخ عبد الرحمن بن ناصر البراك؛ فأصبح بحلَّة أجمل مما كان.
ويسرني أن أشكر كل من أرسل لي بملحوظة أو نبَّهني على غلط.
كما يسرني أن أشكر من ساهم في خفض قيمة الكتاب في طبعته الأولى والثانية، وأسأل الله أن يبارك في أموالهم وأن يخلفهم خيرًا.
كتبه
عبد الرحمن بن صالح السديس
19/ 11/ 1442 ه
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي خلق السموات والأرض، وجعل الظلمات والنور، ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، والصلاة والسلام على محمدٍ عبدِ الله ورسوله أرسله بين يدي الساعة بشيرًا ونذيرًا أما بعد:
فإن من نعم الله على هذه الأمة المرحومة أن هيَّأ لها بعد نبيها صلى الله عليه وسلم أئمة ربانيين، قاموا بأمر الله خير قيام، فنصر الله بهم السنة، وقمع بهم البدعة، وجعلهم أئمة يُهتدى بهديهم، ويقتدى برأيهم؛ ومن هؤلاء الأئمة شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني، الذي أمضى عمره في الدعوة إلى الله، وتقرير العقيدة السلفية، ومحاربة البدع والضلالات، وكتب في ذلك كتبًا كثيرة، كان من أصغرها حجمًا، وأكثرها نفعًا في تقرير عقيدة أهل السنة والجماعة «العقيدة الواسطية» ، التي وقعت عند العلماء موقعًا حسنًا، فعنوا بها حفظًا، ودرسًا، وكتبت عليها شروح كثيرة؛ كشرح الشيخ عبد الرحمن السعدي، والشيخ فيصل آل مبارك، والشيخ محمد خليل هراس، والشيخ عبد العزيز الرشيد، والشيخ زيد الفياض، والشيخ عبد العزيز السلمان، والشيخ محمد العثيمين، والشيخ عبد الله الجبرين، والشيخ صالح الفوزان
(1)
وغيرِهم رحمهم الله.
(1)
هذه الشروح كلها مطبوعة.
وكان ممن شرحها للطلاب في مجالس علمية فضيلة الشيخ عبد الرحمن بن ناصر البراك - حفظه الله - وكان من ذلك شرحه لها في جامع شيخ الإسلام ابن تيمية بحي سلطانة في مدينة الرياض في صيف عام 1414 هـ ضمن الدورة العلمية المكثفة، وهذا الشرح مسجل متداول، وقد قام الإخوة الكرام القائمون على الجامع بتفريغ هذا الشرح، وكتابته، وإدخاله في موقع الجامع على الشبكة العنكبوتية، وعنه انتشر في كثير من المواقع. وهذه النسخة المتداولة في الشبكة لم تُقرَأ على الشيخ، ووقع فيها سقط، وغلط كثير، وخلت من أي عناية.
فعرضت على الشيخ - حفظه الله - فكرة العناية بهذا الشرح، وتهيئته للطباعة؛ فوافق على ذلك مشكورًا.
فاستعنت بالله على إخراجه، وسار العمل في إخراج هذا الشرح على ما يلي:
1 -
كتابة الشرح المسموع، ثم مقابلة المسموع بالمكتوب للتأكد من عدم وجود غلط، أو سقط.
2 -
تهيئته، وتنسيقه ليتناسب مع الطباعة.
3 -
قراءة الشرح كاملًا على الشيخ - حفظه الله - لإضافة، أو حذف، أو تعديل، أو استدراك ما يراه مناسبًا.
4 -
اعتمدت في إثبات متن «العقيدة الواسطية» على نسختين خطيتين، والمطبوع ضمن مجموع الفتاوى بعناية الشيخ ابن قاسم رحمه الله.
5 -
عزوت الآيات إلى مواضعها من كتاب الله، وأثبتها على رواية حفص عن عاصم.
6 -
خرَّجت جميع الأحاديث، والآثار الواردة في المتن، أو الشرح.
والطريقة في ذلك ما يلي:
أ - إذا كان الحديث في الصحيحين، أو أحدهما اقتصرت في العزو عليه إلا لفائدة؛ كأن يكون اللفظ المذكور لغيرهما.
ب - إذا كان الحديث في غير الصحيحين خرَّجته من أهمِّ المصادر، ونقلت ما تيسر من كلام أهل العلم عليه تصحيحًا، أو تضعيفًا باختصار لئلَّا يطول الكلام، وفي بعض المواضع أحلت إلى بعض المراجع لمن أراد التوسع، والزيادة.
ج - إذا كان الحديث في المصدر في عدة مواضع، فإني اقتصر على أحدها غالبًا.
7 -
وثَّقت جميع النقول الواردة، وأحلت في بعض المسائل إلى كتب الأئمة للتوثيق، وزيادة الفائدة.
8 -
ترجمت للأعلام غير المشهورين، وعرَّفت بالبلدان والمواضع.
9 -
وضعت عناوين في بداية المقاطع المشروحة من المتن وسط إطار للتوضيح.
10 -
وضعت فهرسًا للأحاديث، وقائمة بالمراجع التي عزوت لها في الحاشية، وفهرسًا شاملًا لمسائل الكتاب، وفهرسًا إجماليًّا لموضوعات الكتاب.
معلومات النسخة الخطية
اجتمع عندي مجموعة من النسخ الخطية لكن أكثرها متأخِّرة فرأيت الاكتفاء في إثبات المتن على نسختين منها، والمطبوع ضمن مجموع فتاوى شيخ الإسلام بعناية الشيخ ابن قاسم؛ لأن المتن الذي قُرِئَ على الشيخ وشَرَحَه مقارب له جدًّا.
وهذا بيان لمعلومات المخطوطتين:
المخطوطة الأولى: نسخة المكتبة الظاهرية بدمشق ضمن مجاميع المدرسة العمرية، برقم (91) الرسالة الرابعة، وهي في مكتبة الأسد برقم (3827)، تبدأ صفحاتها بعد العنوان من (24 - 35) فعدد الأوراق (12) ورقة، في كل ورقة صفحتان إلا خمس ورقات ليس بها إلا صفحة.
وعدد الأسطر في كل صفحة ما بين (22 - 23) إلا الأخيرة، ففيها (13) سطرًا، وكاتبها هو: محمد بن محمد بن محمد بن علي بن عبد الرحمن، وكتبها عام (736) هـ.
وهي نسخة نفيسة، من أقدم النسخ، وقد جعلتها أصلًا، ورمزت لها برمز (ظ).
المخطوطة الثانية: محفوظة في مكتبة برلين بألمانيا برقم (1994)، وصورتها في مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية
بالرياض ضمن مجموع برقم (1095 - ف) في (11) ورقة، في كل ورقة صفحتان، وعدد الأسطر (23) سطرًا عدا الأولى والأخيرة، ولم أجد اسم الناسخ، ولا تاريخ النسخ، ورمزت لها برمز (ب).
طريقة العمل في إثبات النص:
جعلت نسخة المكتبة الظاهرية أصلًا، ووضعت أرقام صفحات المخطوط في المتن بين معكوفين [] لتسهيل الرجوع إليه، لكن إن جاء وسط آية جعلته قبلها أو بعدها، وذكرت فروق نسخة برلين إذا كان ثمَّ فائدة، أو اختلاف في المعنى، وربما أثبت بعض الألفاظ منها لأنها أحسن في السياق مع التنبيه على ذلك، وأعرضت عن ذكر الفروق غير المؤثِّرة، والأغلاط في الآيات؛ لئلَّا تشوِّش على القارئ، وتأخذ من وقته بلا فائدة.
أضفت من النسخة المطبوعة المواضع التي شرحها الشيخ، وليست في المخطوط، والمواضع التي فيها زيادة فائدة، وجعلت ذلك بين معكوفين [] ونبَّهت على ذلك في الحاشية.
والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم تسليمًا كثيرًا.
كتبه
صالح بن عبد الرحمن بن عبد الله السديس
الرياض [email protected]
الورقة الأولى من نسخة (ظ)
الورقة الأخيرة من نسخة (ظ)
الورقة الأولى من نسخة (ب)
الورقة الأخيرة من نسخة (ب)
ترجمة الشارح
الشيخ عبد الرحمن البراك
اسمه ونسبه:
عبد الرحمن بن ناصر بن براك بن إبراهيم البراك، ينحدر نسبه من بطن العرينات من قبيلة سبيع.
ميلاده ونشأته:
ولد الشيخ في بلدة «البكيرية» من منطقة «القصيم» في شهر ذي القعدة سنة 1352 هـ.
وتوفي والده وعمره سنة، فنشأ في طفولته في بيت أخواله مع أمه، فتربى خير تربية.
ولما بلغ الخامسة من عمره سافر مع أمه إلى «مكة» ، وكان في كفالة زوج أمه محمد بن حمود البراك.
وفي «مكة» التحق الشيخ بالمدرسة «الرحمانية» ، وهو في السنة الثانية الابتدائية قدَّر الله أن يصاب بمرض في عينيه تسبب في ذهاب بصره، وهو في العاشرة من عمره.
طلبه للعلم ومشايخه:
عاد من «مكة» إلى «البكيرية» مع أسرته، فشرع في حفظ القرآن على عمه عبد الله بن منصور البراك، ثم على الشيخ عبد الرحمن بن سالم الكريديس رحمهم الله، فحفظ القرآن وعمره عشر سنين تقريبًا.
وفي حدود عام 1364 - 1365 هـ بدأ في حضور الدروس والقراءة على العلماء، فقرأ على الشيخ عبد العزيز بن عبد الله السبيل رحمه الله جملة من كتاب «التوحيد» ، و «الآجرومية» ، وقرأ على الشيخ محمد بن مقبل رحمه الله «الأصول الثلاثة» .
ثم سافر إلى «مكة» مرة أخرى في عام 1366 هـ تقريبًا، ومكث بها ثلاث سنين، فقرأ في «مكة» على إمام المسجد الحرام الشيخ عبد الله بن محمد الخليفي رحمه الله في «الآجرومية» .
وهناك التقى بعالم فاضل من كبار تلاميذ العلامة محمد بن إبراهيم رحمه الله، وهو الشيخ صالح بن حسين العلي العراقي رحمه الله، وكان من أصدقاء العلامة عبد العزيز ابن باز رحمه الله، فجالسه واستفاد منه، ولما عُيِّن الشيخ صالح مديرًا للمدرسة «العزيزية» في بلدة «الدلم» أحب الشيخ صالح أن يرافقه الشيخ عبد الرحمن حفاوة به، فصحبه لطلب العلم على الشيخ ابن باز حين كان قاضيًا في بلدة «الدلم» ، فرحل معه في ربيع الأول من عام 1369 هـ، والتحق بالمدرسة «العزيزية» بالصف الرابع، وكان من أهم ما استفاده في تلك السنة الإلمام بقواعد «التجويد» الأساسية.
وفي نفس السنة سافر مع جمع من الطلاب مع الشيخ ابن باز إلى الحج، وبعد عودته ترك الدراسة في المدرسة «العزيزية» ، وآثر حفظ المتون مع طلاب الشيخ ابن باز، ولازم دروسه المتنوعة، فقد كان يُقرأ عليه رحمه الله في «الأصول الثلاثة» ، و «كتاب التوحيد» ، و «عمدة الأحكام» ،
و «بلوغ المرام» ، و «مسند أحمد» ، و «تفسير ابن كثير» ، و «الرحبية» ، و «الآجرومية» .
ومكث في «الدلم» في رعاية الشيخ صالح العراقي، فقد كان مقيمًا معه في بيته، ودَرَس عليه علم «العَروض» .
وحفظ في «الدلم» : «الأصول الثلاثة» ، و «كتاب التوحيد» ، و «الآجرومية» ، و «قطر الندى» ، و «الرحبية» ، وقدرًا من «ألفية ابن مالك» في النحو، و «ألفية العراقي» في علوم الحديث.
وبقي في «الدلم» إلى أواخر عام 1370 هـ، وكانت إقامته هناك لها أثر كبير في حياته العلمية.
ولما فتح «المعهد العلمي» في الرياض في محرم 1371 هـ التحق الشيخ به في القسم الثانوي، وكانت مدة الدراسة الثانوية أربع سنوات، فتخرج فيه عام 1374 هـ، ثم التحق ب «كلية الشريعة» بالرياض، وتخرج فيها سنة 1378 هـ.
ودرس في المعهد، والكلية على مشايخ كثيرين من أبرزهم:
العلامة عبد العزيز ابن باز، والعلامة محمد الأمين الشنقيطي، ودرسهم في «المعهد» «التفسير» ، و «أصول الفقه» ، والعلامة عبد الرزاق عفيفي، ودرسهم «التوحيد» ، و «النحو» ، و «أصول الفقه» ، والشيخ محمد عبد الرزاق حمزة، وعبد العزيز بن ناصر الرشيد، والشيخ عبد الرحمن الأفريقي، والشيخ عبد اللطيف سرحان في النحو، وغيرهم، رحمهم الله جميعًا.
وكان في تلك المدة يحضر بعض دروس العلامة محمد بن إبراهيم آل الشيخ في المسجد.
وأكبر مشايخه عنده، وأعظمهم أثرًا في نفسه العلامة عبد العزيز ابن باز رحمه الله فقد أفاد منه أكثر من خمسين عامًا بدءًا من عام 1369 هـ إلى وفاته في عام 1420 هـ، ثم الشيخ صالح العراقي الذي استفاد منه حب الدليل، ونبذ التقليد، والتدقيق في علوم «اللغة» من «نحو» ، و «صرف» ، و «عَروض» .
الأعمال التي تولاها:
عُيِّن الشيخ مدرسًا في «المعهد العلمي» في مدينة الرياض سنة 1379 هـ وبقي فيه ثلاثة أعوام، ثم نُقل إلى «كلية الشريعة» بالرياض، وتولى تدريس العلوم الشرعية، ولما افتتحت «كلية أصول الدين» عام 1396 هـ نقل إليها في قسم «العقيدة والمذاهب المعاصرة» ، وتولى تدريس العقيدة في الكُليتين إلى أن تقاعد عام 1420 هـ، وأشرف خلالها على عدد كبير من الرسائل العلمية.
وبعد التقاعد رغبت «الكلية» التعاقد معه؛ فعمل مدة ثم تركه، كما طلب منه الشيخ ابن باز رحمه الله أن يتولى العمل في الإفتاء مرارًا؛ فتمنَّع، ورضي منه شيخه أن ينيبه في «رئاسة الإفتاء» في الرياض في فصل الصيف حين ينتقل المفتون إلى مدينة «الطائف» ، فأجاب الشيخ حياءً؛ إذ تولى العمل مرتين، ثم تركه.
وبعد وفاة العلامة ابن باز رحمه الله طلب منه المفتي العام الشيخ عبد العزيز آل الشيخ أن يكون عضو إفتاء، وألح عليه في ذلك؛ فامتنع، وآثر التفرغ للدعوة والتعليم.
جهوده في نشر العلم:
جلس الشيخ للتعليم في «مسجد الخليفي» بحي الفاروق مع توليه لإمامته، ومعظم دروسه فيه، وقرئ عليه عشرات الكتب في شتى الفنون؛ كالفقه، وأصوله، والتفسير وأصوله، والحديث والمصطلح، والنحو، والعقيدة، وغيرها، كما أن له دروسًا في بيته مع بعض خاصة طلابه، وله دروس في مساجد أخرى في «مدينة الرياض» .
وله كذلك مشاركات متعددة في الدورات العلمية المكثفة التي تقام في الصيف، كما ألقى عدة دروس عبر الهاتف لطلاب العلم في «اليمن» ، و «بريطانيا» ، و «أوكرانيا» ، وغيرها، إضافة لإلقائه كثيرًا من المحاضرات في موضوعات متنوعة، وكذا الكلمات الدعوية في مختلف المناسبات، كما تُعرَض على الشيخ بعض الأسئلة من عدد من المواقع الإسلامية في الشبكة العالمية، ويجيب عليها.
طلابه:
بدأ الشيخ في تعليم العلم قبل نصف قرن تقريبًا، ودرس عليه أمم من طلاب العلم يتعذر على العاد حصرهم، ومنهم أكثر أساتذة جامعاتنا الشرعية، وقضاة المحاكم، والدعاة المعروفين، وبعد أن يسَّر الله جملة من الوسائل الحديثة؛ ك «الشبكة العالمية» ، تمكن كثير من طلاب العلم
في خارج بلادنا من متابعة دروس الشيخ مباشرة عن طريق الشبكة العنكبوتية.
احتسابه:
وللشيخ جهود كبيرة في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ومناصحة المسؤولين والكتابة لهم، والإصلاح بين الناس، وتحذير الناس من البدع وسائر الانحرافات والمخالفات، وله في ذلك فتاوى ومقالات كثيرة، وله مشاركة مع بعض المشايخ في عدد من البيانات والنصائح الموجهة لعموم المسلمين.
اهتمامه بأمور المسلمين:
للشيخ - حفظه الله - اهتمام بالغ بأمور المسلمين في جميع أنحاء العالم، فيتابع أخبارهم ويحزن ويتألم لما يحدث لهم من نكبات، وفي أوقات الأزمات يبادر بالدعاء لهم، والدعاء على أعدائهم، ويبذل النصح والتوجيه لهم، وللمسلمين فيما يجب نحوهم.
إنتاجه العلمي:
انصرف الشيخ عن التأليف مع توفر آلته، وبذل معظم وقته في تعليم العلم، والإجابة عن الأسئلة، وقد قرئت عليه عشرات الكتب في مختلف الفنون، وقد سُجل بعضها وما لم يسجل أكثر، ودروسه قائمة اليوم كما كانت سابقًا.
وقد صدر للشيخ من المطبوعات: «شرح الرسالة التدمرية» ، و «جواب في الإيمان ونواقضه» ، و «موقف المسلم من الخلاف» ،
و «التعليقات على المخالفات العقدية في فتح الباري لابن حجر» ، و «توضيح مقاصد العقيدة الواسطية» وهو كتابنا هذا، و «شرح العقيدة الطحاوية» ، و «توضيح المقصود بنظم ابن أبي داود» ، و «الفوائد المستنبطة من الأربعين النووية» ، «والتعليق على القواعد المثلى» ، و «شرح القصيدة الدالية» ، و «شرح القواعد الأربع، والأصول الثلاثة، ونواقض الإسلام، وكشف الشبهات» ، و «إرشاد العباد إلى معاني لمعة الاعتقاد» ، و «التوضيحات الجلية في شرح الفتوى الحموية لشيخ الإسلام ابن تيمية» ، و «التعليقات على المسائل العقدية في كتاب التسهيل لعلوم التنزيل لابن جزي» ، و «التعليق والإيضاح على تفسير الجلالين: الفاتحة والبقرة»، و «العدة في فوائد أحاديث العمدة» ، و «الجامع لفوائد بلوغ المرام» ، و «توضيح مقدمة التفسير لشيخ الإسلام ابن تيمية» ، و «شرح كلمة الإخلاص» ، و «أحكام وفوائد جزء الذريات» ، و «أحكام وفوائد جزء عم» ، و «أحكام وفوائد جزء تبارك» ، و «أحكام وفوائد جزء قد سمع» ، وهناك كتب أخرى في طريقها إلى الطبع إن شاء الله.
وفي حياة الشيخ جوانب كثيرة مشرقة أعلم أنه يكره لي ذكرها، أسأل الله أن يبارك في عمره، ويمد فيه على طاعته، وينفع بعلمه المسلمين، إنه سميع مجيب.
* * * *
مجمل اعتقاد أهل السنة والجماعة
[24/ 1] بسم الله الرحمن الرحيم
(1)
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحقِّ ليظهرَه على الدِّين كُلِّه، وكفى باللَّه شهيدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقرارًا به وتوحيدًا، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه
(2)
وسلم تسليمًا مزيدًا.
اعتقاد
(3)
الفرقة الناجية المنصورة إلى قيام الساعة - أهل السنة والجماعة -: الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، والبعث بعد الموت، والإيمان بالقدر خيره وشره.
(1)
في (ظ): صلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم تسليمًا.
(2)
في (ب) و (م): وعلى آله، وفي (م): وأصحابه.
(3)
في (م): فهذا اعتقاد.
«الحمد لله» : هذه افتتاحية «العقيدة الواسطية» من تأليف الإمام الكبير الشهير بعلمه وجهاده وإحيائه للسنن ومحاربته للبدع: الإمام المعروف أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية الحراني رحمه الله
(1)
.
وهذا الكتاب الموسوم ب «العقيدة الواسطية» نسبةً إلى من طلب من الشيخ كتابتها، وهو رجل من أهل العلم
(2)
في نواحي «واسط» بلد معروف في «العراق»
(3)
، فعُرِفت ب «العقيدة الواسطية» .
ولا مشاحَّة في التسمية؛ فالمقصود التمييز، كما أن لشيخ الإسلام مؤلَّفات كثيرة في مسائل الاعتقاد، بل لعلنا لا نبالغ إذا قلنا: إن معظم مؤلفات شيخ الإسلام في مسائل الاعتقاد.
فقد ألَّف في مسائل الاعتقاد مؤلَّفات مطوَّلة ومختصرة، ومعظمها ألَّفها إجابة للسائلين، فهو لا يكاد يبتدئ التأليف ابتداءً، بل جُلُّ مؤلَّفاته إجابة لمسائل، وردود على المخالفين، ومن أمتع وأفضل ما ألَّف في
(1)
أفرد جمعٌ من العلماء كتبًا في ترجمة شيخ الإسلام، منهم: ابن عبد الهادي، والبزاز، ومرعي الكرمي وغيرهم.
أما ترجمته ضمن كتب التراجم، فقد ترجم له أمم من العلماء، وقد جمعها الشيخان محمد عزيز شمس وعلي العمران في كتاب:«الجامع في سيرة شيخ الإسلام ابن تيمية» .
(2)
القاضي رضي الدين الواسطي الشافعي، قال عنه شيخ الإسلام:«كان من أهل الخير والدين» . مجموع الفتاوى 3/ 164.
(3)
معجم البلدان 5/ 347.
الاعتقاد هذه العقيدة: «العقيدة الواسطية» التي ذكر أنه كتبها، وهو قاعد بعد العصر في مجلس واحد
(1)
.
وقد نُوظِر في شأنها وجُودِل؛ لأنه قرَّر فيها اعتقاد أهل السنة والجماعة من السلف الصالح، من الصحابة، والتابعين وأئمَّة الدِّين، ومن سلك سبيلهم.
وهذا يخالف ما عليه جمهور الناس فقد دخلت عليهم المذاهب المبتدعة؛ فلذلك ينكرون ويستنكرون ما يخالف ما هم عليه.
وقد أبان رحمه الله في المناظرة التي كتبها
(2)
أنه إنما يقرِّر في هذا الاعتقاد ما دلَّ عليه الكتاب والسنة، وما درج عليه أهل القرون المفضَّلة من الصحابة والتابعين، وأنه في هذه العقيدة يتحرَّى الألفاظ الشرعية.
وهذه العقيدة متميِّزة على سائر ما ألَّفه رحمه الله فكثير من مؤلَّفاته في مسائل الاعتقاد مشتمل على ذكر شبهات المفترين، ومناقشتها مناقشةً عقليةً وشرعيةً، كما هو ظاهر في «الرسالة التدمرية» .
أما «العقيدة الواسطية» فإنها خالصة، فيها تقرير لمعتقَد أهل السنة والجماعة وبيان أصولهم، مع التدليل على ذلك من القرآن والسنة، من غير تعرُّض لشبهات المخالفين؛ فلذلك كانت هذه العقيدة جديرة بالحفظ.
وقد عرض فيها رحمه الله لأكثر المسائل التي وقع فيها الافتراق، والتي خالف فيها أهل السنة سائر فرق الأمة.
(1)
مجموع الفتاوى 3/ 164.
(2)
مجموع الفتاوى 3/ 160.
يقول رحمه الله في خطبة هذه العقيدة:
«الحمد لله الَّذِي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدِّين كله وكفى بالله شهيدًا» : هذا الثناء مقتبس من القرآن كما في سورة الفتح: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (28)} [الفتح].
والهدى هو: العلم النافع، ودين الحق هو: العمل الصالح، وهذا جماع رسالة محمد صلى الله عليه وسلم.
{وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (28)} : كفى به مطَّلعًا على عباده، وأحوالهم الظاهرة والباطنة.
وفي هذا إشارة إلى دليل من أدلَّة صدق الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فإن الإيمان باطِّلاعه تعالى على أحوال الخلق يستلزم الإيمان بصدق محمد صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيد (53)} [فصلت].
فكفى دليلًا على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم، وصدق ما جاء به من القرآن والحكمة، أنه تعالى على كل شيء شهيد:{وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (28)} [الفتح].
«وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقرارًا به وتوحيدًا» :
هذه كلمة التوحيد المركَّبة من نفي وإثبات، من نفي إلهيَّة ما سوى الله، وإثبات الإلهيَّة له تعالى وحده.
«وأشهد أن لا إله إلا الله وحده» : ف «وحده» هذه حال مؤكِّدة لمدلول الإثبات «إلا الله» .
«لا شريك له» : هذه أيضًا جملة مؤكِّدة لمدلول النفي «لا إله» .
«إقرارًا به وتوحيدًا» : وهذا تأكيد بعد توكيد: إقرارًا به وتوحيدًا له سبحانه وتعالى في إلهيته، وربوبيته، وأسمائه وصفاته.
«وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله» : وهكذا يجب أن يشهد الإنسان للنبي صلى الله عليه وسلم بأنه عبد الله ورسوله، يجب أن يجمع في الشهادة للرسول صلى الله عليه وسلم بأنه عبد عابد لله مربوب مدبَّر، ليس بإله، وليس له شيء من خصائص الإلهيَّة، بل رسول من عند الله:{قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158].
وهذا هو الصراط المستقيم فيما يجب اعتقاده في الرسول صلى الله عليه وسلم فإن الناس فيه صلى الله عليه وسلم طرفان ووسط، فمن الناس من فرَّط في حقه؛ فكذَّبه، أو قصَّر في اتِّباعه.
ومنهم من غلا فيه، ورفعه فوق منزلته التي أنزله الله فيها، وهذا ما حذَّر منه صلى الله عليه وسلم في قوله:«لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبدٌ، فقولوا: عبد الله ورسوله»
(1)
.
يعني: لا تبالغوا في مدحي ولا تغلوا فيَّ.
(1)
رواه البخاري (3445)، من حديث عمر رضي الله عنه.
«وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم» : كما في التشهد
(1)
، «صلى الله عليه»: وهذه صفة صلاتنا عليه: أن نسأل الله أن يصلي عليه، كما قال صلى الله عليه وسلم لما قال له الصحابة:«كيف نصلي عليك؟ قال: «قولوا: اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد» الحديثَ
(2)
.
فصلاتنا على الرسول صلى الله عليه وسلم هي: دعاؤنا، وسؤالنا الله بأن يصلي عليه {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56)} [الأحزاب].
وأحسن ما قيل في هذا المقام: إن الصلاة من الله ثناؤه على عبده عند الملائكة
(3)
.
ولنبينا صلى الله عليه وسلم من ثناء الله أكمل ثناء أثنى الله به على عبد من عباده؛ لأنه صلى الله عليه وسلم هو سيد ولد آدم، فحظه من صلاة الله، ومن ثنائه أوفر حظ ونصيب.
«وعلى آله وصحبه» : الآل هنا هم أتباعه صلى الله عليه وسلم، وعَطفُ الصحابة على الآل في هذا المقام من عطف الخاص على العام، وقد درج أهل السنة على ذكر الصحابة في الصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم خارج الصلاة، أما في الصلاة فيتقيد بنص ما ورد.
(1)
رواه البخاري (831)، ومسلم (402)، عن ابن مسعود رضي الله عنه.
(2)
رواه البخاري (4797)، ومسلم (406)، عن كعب بن عُجْرة رضي الله عنه.
(3)
أخرجه البخاري عن أبي العالية تعليقًا مجزومًا به في كتاب التفسير باب قوله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56)} [الأحزاب]، ووصله إسماعيل بن إسحاق المالكي في «فضل الصلاة على النبي» ص 80 رقم (95). وانظر: جلاء الأفهام لابن القيم ص 162.
وهذا كله دعاء له صلى الله عليه وسلم بأن يصلي الله عليه، وأن يسلم عليه {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56)} [الأحزاب]، وصلاتنا، وسلامنا عليه بأن نسأل الله أن يصلِّي، ويسلِّم عليه، ومن صفة السلام ما جاء في التشهُّد:«السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته»
(1)
.
هذه الخطبة اشتملت على حمد الله، فله الحمد كلُّه، وله المدح، والثناء كلُّه؛ لأنه الموصوف بجميع المحامد، الموصوف بكلِّ كمال، فلا يستحق الحمد كله، والثناء كله إلا المستحق لكل كمال، الموصوف بجميع نعوت الجلال، وليس ذلك إلا الله وحده، فهو الذي له الحمد كله، وله الملك كله، وبيده الخير كله سبحانه وتعالى.
يقول الشيخ رحمه الله: «صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم» : يعني: وسلَّم الله عليه.
«تسليمًا» : هذا مصدر مؤكِّد. «مزيدًا» : موصولًا بالزيادة مستمرًا دائمًا.
«أما بعد» : هذه جملة يُؤتَى بها للانتقال من المقدمة إلى المقصود، كان من هديه صلى الله عليه وسلم أنه يقول في خطبه: أما بعد
(2)
، ومعناها عند أهل اللغة
(3)
: مهما يذكر من شيء بعد فهو: كذا وكذا.
(1)
تقدم تخريجه [ص 28]، حاشية رقم 1.
(2)
انظر: صحيح البخاري، باب: مَنْ قال في الخطبة بعد الثناء: أما بعد، الأحاديث (922 - 927).
(3)
لسان العرب 14/ 48، والجنى الداني ص 522، وأوضح المسالك 4/ 211.
«فهذا اعتقاد» : إشارة إلى ما هو حاضر ممَّا سيذكره الشيخ في هذه العقيدة، وبهذا يتبيَّن أن الشيخ قصد في هذا التأليف إلى بيان اعتقاد الفرقة الناجية في ربهم، واعتقادهم فيما أمر الله بالإيمان به.
«الفرقة الناجية المنصورة» : وصفها بالصفتين: الناجية والمنصورة أخذًا من الحديث المشهور المرويِّ في المسانيد، والسنن عن النبي صلى الله عليه وسلم:«إن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، قيل: من هي يا رسول الله؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه اليوم، وأصحابي»
(1)
وفي لفظ: «وهي الجماعة»
(2)
هذه هي الفرقة الناجية.
فالفرقة المستقيمة على ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم تُوصَف بأنها الناجية أخذًا من هذا الحديث؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «كلها في النار إلا واحدة» .
وهي المنصورة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى»
(3)
. فهي موصوفة بالنجاة، وبالنصر.
(1)
رواه الترمذي (2641) - وقال: هذا حديث مفسر غريب لا نعرفه مثل هذا إلا من هذا الوجه -، والحاكم 1/ 128 من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه، ورواه الطبراني في «الأوسط» 8/ 22 من حديث أنس رضي الله عنه، وقال: لم يرو هذا الحديث عن يحيى بن سعيد إلا عبد الله بن سفيان المدني، وياسين الزيات.
(2)
رواه أحمد 4/ 102، وأبو داود (4597)، من حديث معاوية رضي الله عنه. وأحمد 3/ 145، وابن ماجه (3993)، من حديث أنس رضي الله عنه. وابن ماجه (3992) من حديث عوف بن مالك رضي الله عنه. وصححه شيخ الإسلام كما في «مجموع الفتاوى» 3/ 345 - 359، وعلق عليه بتعليق طويل، وذكره الكتاني في كتابه:«نظم المتناثر من الحديث المتواتر» ص 57 رقم (18).
(3)
رواه البخاري (3641)، ومسلم في كتاب الإمارة (1037)، من حديث معاوية رضي الله عنه، وقد رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم جمع من الصحابة. انظر: قطف الأزهار المتناثرة في الأخبار المتواترة رقم (81) ص 216، ونظم المتناثر رقم (145) ص 151.
والفرقة الناجية المنصورة هم أهل السنة والجماعة الذين التزموا طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم، وما عليه جماعة المسلمين، واعتصَموا بحبل الله جميعًا، وجانبوا الفُرقة وأسبابها.
والفرقة، والطائفة معناهما متقارب.
ثم بيَّن الشيخ هذا الاعتقاد إجمالًا بقوله:
«وهو الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، والبعث بعد الموت، والإيمان بالقدر خيره وشره» :
هذه هي أصول الإيمان التي فسَّر بها النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان، في حديث جبريل حين سأل النبي صلى الله عليه وسلم «فقال: أخبرني عن الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره»
(1)
.
هذه أصول الإيمان الستة، فجميع مسائل الاعتقاد راجعة إلى هذه الأصول.
إذًا؛ هذا هو اعتقاد الفرقة الناجية بهذه الأصول على سبيل الإجمال، والإيمان بها فرض عين على كل مكلف.
الأصل الأول:
الإيمان بالله: ويشمل ثلاثة أمور:
الإيمان به ربًّا - يعني -: مالكًا مدبِّرًا منعمًا متفضِّلًا خالقًا رازقًا.
والإيمان به إلهًا معبودًا لا يستحق العبادة غيره.
والإيمان به مستحقًّا لجميع صفات الكمال، ونعوت الجلال.
(1)
رواه مسلم (8)، من حديث عمر رضي الله عنه.
فالإيمان بالله يشمل الإيمان بربوبيته، وإلهيته، وأسمائه وصفاته على سبيل الإجمال.
الأصل الثاني:
الإيمان بالملائكة:
كما أخبر الله عنهم في كتابه، أنهم مخلوقون موجودون، عباد مكرَّمون، خيار اختارهم الله، واصطفاهم، وفضَّلهم، وجعلهم عبادًا طائعين خاضعين:{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28)} [الأنبياء]، وفي هذا رد على من زعم أن الملائكة بنات الله، فجعلوهم ولدًا لله، وقال تعالى:{فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38} [فصلت]، وفي الآية الأخرى {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُون * (206)} [الأعراف].
والآيات في ذكر الملائكة، وصفاتهم وعبادتهم لربهم، ودوام خضوعهم وتسليمهم كثيرة، فهم عباد، ليسوا آلهة {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِين (29)} [الأنبياء]، وحاشا أن يقول أحد منهم ذلك فهم معصومون.
والأصل الثالث: الإيمان بالكتب، ويتضمَّن الإيمان بكل ما أنزله الله من كتبه على من شاء من رسله، ما علمنا منها، وما لم نعلم، فيجب أن نؤمن بأن الله أنزل كتبًا على من شاء من رسله، منها: التوراة، والإنجيل، والزبور، والقرآن، وهو أعظم كتب الله.
والأصل الرابع:
الإيمان بالرسل،
فيجب الإيمان برسل الله إجمالًا، وأن الله أرسل إلى عباده رسلًا يدعون إلى عبادة الله وحده لا شريك له، ويحذِّرون من عبادة ما سواه، يدعون إلى كلِّ خير، ويحذِّرون من كل شر.
وقد سمَّى الله من شاء منهم في كتابه، وذكر أنه قصَّ منهم ما قصَّ، وطوى علم آخرين:{وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164)} [النساء].
والأصل الخامس: الإيمان باليوم الآخر، ويعبَّر عنه بالبعث؛ لأن البعث بعد الموت، هو الذي يكون به الانتقال من دار البرزخ إلى الدار الآخرة، فهذا أصل من أصول الإيمان يجب الإيمان به.
وهذه الأصول ذكرها الله تعالى في كتابه مفرَّقة، ومجتمعة قال سبحانه وتعالى:{لَّيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} [البقرة: 177].
وذكر أربعة في قوله سبحانه وتعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُّسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِير (285)} [البقرة].
والإيمان بالقدر يندرج في الإيمان بالله، وله أدلَّة مفصَّلة في القرآن، ومنها قوله تعالى:{إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَر (49)} [القمر].
ومنها قوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاء وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِير (70)} [الحج].
ومنها قوله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِير (22)} [الحديد].
ويأتي الكلام على بعض هذه الأصول مفصَّلًا فيما ذكره الشيخ في هذه الرسالة.
* * * *
مجمل اعتقاد أهل السنة والجماعة
في باب الأسماء والصفات
ومن الإيمان بالله: الإيمان بما وصف به نفسه في كتابه، وبما وصفه به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، بل يؤمنون بأن الله تعالى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِير (11)} [الشورى] فلا ينفون عنه ما وصف به نفسه، ولا يحرِّفون الكلِم عن مواضعه، ولا يلحدون في أسماء الله وآياته، ولا يمثِّلون صفاته بصفات خلقه؛ لأنه سبحانه لا سميَّ له، ولا كفو له، ولا نِدَّ له، ولا يُقاس بخلقه سبحانه وتعالى؛ فإنه سبحانه أعلم بنفسه وبغيره، وأصدق قيلًا، وأحسن حديثًا من خلقه.
بعدما ذكر اعتقاد أهل السنة والجماعة إجمالًا، شرع في ذكر اعتقادهم تفصيلًا، فقال:«ومن الإيمان بالله» ؛ أي: مما يدخل في الإيمان بالله: الإيمان بما وصف الله به نفسه في كتابه، وبما وصفه به الرسول صلى الله عليه وسلم فيما صحَّ من سنَّته، والإيمان بذلك يكون بإثبات ما أثبته الله لنفسه وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، وبنفي ما نفاه الله عن نفسه ونفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم.
فالإيمان بهذا يكون بإثبات ونفي.
يقول الشيخ: «من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل» :
يؤمنون بما وصف الله به نفسه، أو وصفه به رسوله، من غير تحريف، يعني: من غير تحريف للنصوص عن وجهها، ومن غير تحريف للكلم عن مواضعه، وهو ما ذمَّ الله به أعداءه اليهود {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَّوَاضِعِهِ} [النساء: 46].
والتحريف معناه العام: التغيير، وهو يشمل التغيير اللفظي، والتغيير المعنوي، فالتحريف اللفظي يكون بالزيادة على النص، أو النقص منه، أو تغيير الشكل.
فلا يجوز تحريف النصوص، ولا سيما آيات القرآن، فإنه يجب الالتزام بلفظها، فلا يُغيَّر لفظها زيادةً ولا نقصًا، ولا شكلًا.
وكذلك سنَّة الرسول صلى الله عليه وسلم لا يجوز تغيير لفظها بما يستلزم تغيير معناها، فإن ذلك من تحريف الكلم عن مواضعه، بل يجب إجراء النصوص على ظاهرها.
«ولا تعطيل» : التعطيل مأخوذ من العطل بمعنى: الخلو، فمعناه إخلاء الرب عمَّا وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم.
وتعطيل أسماء الرب وصفاته، وتعطيل الرب عن صفات كماله؛ إنما يكون بجحدها ونفيها.
فالمعطِّلة: ينفون ما وصف الله به نفسه، وما أثبته الله لنفسه، أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، فيعطِّلون الرب عن كماله المقدَّس، فينفون استواءه على عرشه، وينفون حقيقة اليدين، كما سيأتي مفصلًا
(1)
.
(1)
[ص 93 و 122].
«ومن غير تكييف» : من غير بحث عن كيفيَّة صفات الرب، ولا تعرُّض لتحديد كُنْهِ صفاته، فأهل السُّنَّة والجماعة يصفون الله بما وصف به نفسه، وما وصفه به رسوله، من غير تحريف لنصوص الكتاب والسُّنَّة، ولا تعطيل للنصوص عما دلَّت عليه، ولا تعطيل للرب عمَّا يجب إثباته له، ولا تكييف لصفاته، ولا تمثيل لصفاته بصفات خلقه.
إذًا؛ اعتقاد أهل السُّنَّة والجماعة في باب الأسماء والصفات قائم على الإثبات والنفي، إثباتًا بلا تشبيه، وتنزيهًا - له تعالى عن كل نقص وعيب - بلا تعطيل، خلافًا لأهل الضلال، الذين غلوا في الإثبات حتى شبَّهوا صفاته بصفات خلقه، فيقول قائلهم: له سمع كسمعي، وبصر كبصري، ويد كيَدي، وخلافًا لمن غلا في التنزيه، حتى سلب الله صفات كماله، زعمًا منه أن إثبات الصفات يستلزم التشبيه.
فلهذا كان مذهب أهل السنة والجماعة بريئًا من التشبيه، وبريئًا من التعطيل، فلا ينفون ما وصف الله به نفسه، ولا يحرفون الكلم عن مواضعه، ولا يلحدون في أسماء الله وآياته.
فإن الله ذمَّ الملحدين في أسمائه كما قال تعالى: {وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُون (180)} [الأعراف]، وقال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا} [فصلت: 40].
والإلحاد في أسماء الله يكون بنفيها، أو بنفي معانيها، أو بتسمية الله بغير ما سمَّى به نفسه، أو بتسمية بعض المخلوقين بما هو من خصائصه سبحانه وتعالى.
يقول الشيخ رحمه الله: «ولا يحرفون الكلم عن مواضعه، ولا يلحدون في أسماء الله وآياته، ولا يمثِّلون صفاته بصفات خلقه» :
كل هذا تأكيد لما سبق، وأن مذهب أهل السنة والجماعة بريء من هذه الأباطيل: بريء من التعطيل، ومن الإلحاد، ومن التكييف، ومن التحريف، ومن التمثيل.
ولا يمثِّلون صفاته بصفات خلقه؛ فإنه سبحانه وتعالى لا سَميَّ له، ولا نِدَّ له، ولا كفو له، وهذا كله منفي في كتابه {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)} [مريم]، {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَد (4)} ، {فَلَا تَجْعَلُوا لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُون (22)} [البقرة]، والسميُّ، والكفو، والندُّ؛ ألفاظ متقاربة، كلها تُفسَّر: بالمثيل والنظير، فهو سبحانه وتعالى لا مثيل، ولا نظير له من خلقه، ولا سميَّ، ولا كفو، ولا ندَّ، ولا يُقاس بخلقه سبحانه وتعالى.
وهو: «أعلم بنفسه وبغيره، وأصدق قيلًا، وأحسن حديثًا من خلقه» :
هو أعلم بنفسه كما قال المسيح عليه السلام: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوب (116)} [المائدة]، فهو أعلم بنفسه.
فالعباد لا سبيل لهم إلى معرفة أسمائه وصفاته إلا ببيانه وتعريفه وتعليمه سبحانه، فهو أعلم بنفسه وبغيره؛ لأن علمه محيط بكل شيء، وهو تعالى أصدق قيلًا، وأحسن حديثًا من خلقه {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ حَدِيثًا (87)} [النساء]، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلا (122)} [النساء].
فإذا كان تعالى هو أعلم بنفسه، وهو أصدق الصادقين؛ فكيف يُكَذَّب ما أخبر به في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم؟ كيف لا يُثْبَت ما أثبته لنفسه، وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم؟
فالمعطِّلة قد كذَّبوا بما أخبر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم من أسمائه تعالى وصفاته، وكأنهم ادَّعوا لأنفسهم أنهم أعلم بالله من الله، وأعلم بالله من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا من أبطل الباطل، وأسفه السفه، وأعظم الجهل، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ حَدِيثًا (87)} [النساء]، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلا (122)} [النساء].
* * * *
بعث الله رسله في صفاته بالنفي والإثبات
ثم رسله صادقون مُصَدَّقون
(1)
، بخلاف الذين يقولون عليه ما لا يعلمون، ولهذا قال سبحانه وتعالى:{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِين (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين (182)} [الصافات]، فسبَّح نفسه عمَّا وصفه به المخالفون للرسل، وسلَّم على المرسلين لسلامة ما قالوه من النقص والعيب، وهو سبحانه قد جمع فيما وصف وسمَّى به نفسه بين النفي والإثبات، فلا عدول لأهل السنة والجماعة عمَّا جاءت به المرسلون؛ فإنَّه الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيِّين والصدِّيقين والشهداء والصالحين، وقد دخل في هذه الجملة ما وصف به نفسه في سورة الإخلاص [24/ 2] التي تعدل ثلث القرآن حيث يقول:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد (1) اللَّهُ الصَّمَد (2)} {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَد (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَد (4)} .
وما وصف به نفسه في أعظم آية من كتابه حيث يقول: {اللّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَا يَؤُودُهُ
(1)
في (ب): مَصْدُوقُون.
حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيم (255)} [البقرة]، ولهذا كان من قرأ هذه الآية في ليلة لم يزل عليه من الله حافظ، ولا يقربه شيطان حتى يصبح.
بعدما ذكر الشيخ رحمه الله ما يجب في صفاته تعالى، وأن الواجب أن يُوصَف الله بما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله، وأن هذا من الإيمان بالله، وأن هذه هي عقيدة أهل السُّنَّة والجماعة في باب الأسماء والصفات يعتمدون في ذلك على كتاب الله إيمانًا بالله، وكتابه ورسوله صلى الله عليه وسلم.
ولهذا قال الأئمة في بعض الصفات: «الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب»
(1)
.
فالإيمان به هو حقيقة تصديق الله، وتصديق رسوله صلى الله عليه وسلم وهو مقتضى الإيمان بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم وكتابه.
يقول الشيخ بعدما ذكر هذا: «ثم رسله صادقون مُصَدَّقون» : في بعض النسخ: «مَصْدُوقون» .
(1)
روي هذا الأثر عن أم سلمة رضي الله عنها ولا يصح عنها. وثبت عن الإمام ربيعة بن أبي عبد الرحمن، والإمام مالك رحمهم الله. انظر: شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 3/ 440 - 442، وعقيدة السلف أصحاب الحديث للإمام الصابوني ص 37، وذم التأويل للإمام ابن قدامة ص 25، وشرح حديث النزول ص 132، والأثر المشهور عن الإمام مالك رحمه الله في صفة الاستواء للشيخ عبد الرزاق العباد ص 84 و 123.
الرسل كلهم من أولهم إلى آخرهم جاؤوا في باب الأسماء والصفات - وغيره - بالحق المبين، فقولهم هو الحق، وما جاؤوا به هو الحق الذي يجب الإيمان به، والالتزام به.
والرسل عليهم الصلاة والسلام هم أصدق الناس، وقد عصمهم الله من الكذب؛ لأنه اصطفاهم لتبليغ رسالاته، ولا يصطفي سبحانه وتعالى لتبليغ رسالاته وتبليغ شرائعه إلا الصادقين.
وهم مَصْدُوقون، فالله تعالى يصدقهم، ويقيم الأدلَّة، والخوارق الدالَّة على صدقهم، وشهد بصدقهم في كلامه:{يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيم (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِين (3)} [يس]، {إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِين (79)} [النمل].
وهم مُصَدّقُون عند الموفقين؛ بل إن أعداء الله الكفرة هم مُصَدِّقون للرسل في الباطن كما قال سبحانه وتعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُون (33)} [الأنعام]، وكما قال عن فرعون وقومه:{وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِين (14)} [النمل]، ف
لا يكذب الرسل ظاهرًا، وباطنًا إلا من لا عقل له.
أما العقلاء فإنهم - وإن جحدوا ظاهرًا عنادًا، وحسدًا، وكبرًا، وما إلى ذلك - مُصدِّقون لهم في الباطن، وإن كان هذا التصديق لا ينفعهم، فمن صدَّق الرسل في الباطن، وأظهر تكذيبهم؛ فهو الكفور، ولا ينفعه تصديقه في الباطن.
أما معنى «مَصْدُوقُون» : المصدوق هو: المخبَر بالصدق، والصادق: هو المخبِر بالصدق.
فالرسل صادقون لأنهم قد أَخبروا بالصدق، وهم مَصْدُوقُون لأنهم مخبَرون بالحق، فهم يتلقَّون علومهم، وما يبلِّغونه عن الله بواسطة وحيه، ورسوله من الملائكة {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيم (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِين (20)} [التكوير].
إذًا؛ فما قالته الرسل في الله هو الحق نفيًا وإثباتًا، ولصدق الرسل، وأن ما قالوه في رب العالمين هو الحق، قال سبحانه وتعالى:{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِين (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين (182)} [الصافات].
فسبَّح نفسه سبحانه وتعالى عمَّا يصفه به الجاهلون، والمفترون والمشركون، الذين يقولون على الله ما لا يعلمون.
«سبحان» هذه الكلمة تدلُّ على التنزيه، وعلى نفي المعائب، والنقائص قال تعالى:{سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء: 171]، {سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُون (31)} [التوبة].
«وسلَّم على المرسلين» : سلام من الله على رسله {وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِين (181)} [الصافات]. وإنما سلَّم عليهم؛ لأنهم أولياؤه الصادقون فيما أخبروا به عنه، المحقُّون فيما يصفون به ربهم، ولهذا يقول الشيخ:«وسلَّم على المرسلين لسلامة ما قالوه من النقص والعيب» ، ومن الشرك والإفك.
{وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين (182)} [الصافات]. ثناءٌ من الله على نفسه بإثبات الحمد كله له؛ لما له سبحانه وتعالى من الأسماء الحسنى، والصفات العلا، وبديع المخلوقات.
فهذه الآيات فيها تنزيه، وتحميد، وتمجيد، وثناء على المرسلين صلوات الله وسلامه عليهم، فالرسل هم الأئمة، وهم القدوة، ولنا فيهم أسوة، وسبيلنا سبيلهم، ولا سيما نبينا خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم.
يقول الشيخ: «وقد جمع سبحانه وتعالى فيما وصف وسمَّى به نفسه بين النفي والإثبات» :
وهذه قاعدة في باب الأسماءِ والصفات «الجَمْع بين النفي والإثبات» معناها أنه موصوف بإثبات الفضائل، والكمالات، وموصوف بنفي النقائص والآفات، والمدح لا يكون بالإثبات فقط، ولا بالنفي فقط، وإنما يكون بالنفي، والإثبات.
وممَّا ينبغي التنبيه عليه في هذا المقام أن النفي والإثبات الذي جاء في النصوص القاعدةُ فيه هي:
«الإجمال في النفي، والتفصيل في الإثبات» ؛ فالإثبات يأتي مفصَّلًا في: تعداد الأسماء، وتعداد الصفات، وتعيينها.
أمَّا النفي؛ فيكون عامًّا مطلقًا، وهو ما يعبَّر عنه بالإجمال، هذا هو الغالب على طريقة الرسل صلوات الله وسلامه عليهم.
فالرسل جاؤوا في صفات الله بإثبات مفصَّل، وبنفي مُجمَل، ولكن قد يأتي الإثبات مجملًا، كما قد يأتي النفي مفصَّلًا، لكن القاعدة الغالبة هي: التفصيل في الإثبات، والإجمال في النفي. وسيأتي لهذا المعنى مزيد إيضاح عندما نصل إلى شواهد النفي
(1)
، فيحصل تطبيق هذه القاعدة، وإيضاحها.
وهذا النفي الذي يُوصَف الله به هو: النفي المتضمن لإثبات كمال، فكلُّ نفي ورد في صفاته سبحانه؛ فإنه متضمن لإثبات كمال ضدِّه.
أما النفي المحض الذي لا يتضمَّن ثبوت كمال؛ فهذا لم يصف الله به نفسه؛ لأن النفي الذي لا يتضمَّن ثبوت كمال لا يكون مدحًا، ولا كمالًا.
وإذا كان هذا ما جاءت به الرسل فلا عدول لأهل السُّنة والجماعة عمَّا جاء به المرسلون صلوات الله وسلامه عليهم، بل هم مقتفون لآثار الرسل لا سيما خاتمهم الذي له على أمته من واجب الإيمان، والمحبة، والاتِّباع ما ليس لغيره صلى الله عليه وسلم.
يقول الشيخ: «فلا عدول لأهل السُّنة عما جاءت به المرسلون» :
أهل السُّنة الفرقة الناجية المنصورة، لا محيد لهم، ولا عدول لهم عن طريق المرسلين.
قال سبحانه وتعالى لنبيه بعدما ذكر الأنبياء والمرسلين إجمالًا وتفصيلًا قال: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90]، فالصحابة
(1)
[ص 112].
والتابعون ماضون على سبيل الرسول صلى الله عليه وسلم: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} [يوسف: 108]، وسبيل الرسول صلى الله عليه وسلم هو سبيل المؤمنين {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا (115)} [النساء].
وما جاء به المرسلون في صفاته تعالى، وغيرها هو الصِّراط المستقيم.
قال الشيخ: «فإنه الصراط المستقيم» : ما جاء به المرسَلون هو الصراط المستقيم، و
الصراط هو الطريق الذي يجمع معانٍ، فليس كل طريق صراطًا.
والصِّراط هو:
الطَّريق المستقيم، الموصِل إلى المقصود، القريب، الوسع، المسلوك.
هذا معنى ما ذكره ابن القيم في بيان خصائص الصِّراط في كلامه على سورة الفاتحة في «مدارج السالكين»
(1)
، وصراط الله مسلوك؛ سالكوه هم المُنعَم عليهم من النَّبيِّين والصِّدِّيقين والشهداء والصالحين.
وأهل السُّنة داخلون في طريق المُنعَم عليهم على حسب مراتبهم في العلم والدين والفضل.
والصراط المستقيم هو: دين الله الذي بَعَث به رسوله صلى الله عليه وسلم في كل باب من أبواب العلم: في مسائل الاعتقاد؛ كالأسماء والصفات، واليوم الآخر، وسائر أصول الإيمان، والشرائع، والأوامر، والنواهي.
(1)
/ 33، وبدائع الفوائد 2/ 416.
بعد هذا يقول الشيخ: «وقد دخل في هذه الجملة» :
المشار إليه - القاعدة - قد دخل في هذه الجملة ما وَصَف الله به نفسه في سورة الإخلاص التي تَعْدِل ثُلُث القرآن، وهي قوله سبحانه:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد (1) اللَّهُ الصَّمَد (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَد (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَد (4)} .
هذه سورة الإخلاص؛ لأنها متضمِّنة للتوحيد العلمي الخبري المستلزم لتوحيد العبادة، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«والذي نفسي بيده إنها تعدل ثلث القرآن»
(1)
. تعدل ثلث القرآن من حيث الثواب، فتلاوتها مرةً واحدةً تعدل ثلث القرآن.
ولكن هذا لا يعني الاكتفاء بها عن تلاوة القرآن، فلا بدَّ من تلاوة سائره، وتدبُّر سائر النصوص، لكن هذا دليل على فضْل هذه السورة،
وفضْل تلاوتها، وذَكَر بعض أهل العلم
(2)
أن هذه السورة تعدل ثلث القرآن؛ لأن القرآن ثلاثة أثلاث:
الأول: خبرٌ عن الله - يعني - خبرٌ عن أسمائه، وصفاته، وأفعاله.
والثاني: خبرٌ، وقصصٌ وهو: خبرٌ عن الخلق: عن الرسل، وأممهم، وبَدْء الخلق، واليوم الآخر.
والثالث: الأوامر، والنواهي.
(1)
رواه البخاري (5013)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وبمعناه عند مسلم (811 و 812)، من حديث أبي الدرداء وأبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
المعلم للمازري 1/ 308، وجواب أهل العلم والإيمان ضمن «مجموع الفتاوى» 17/ 122 و 134، وفتح الباري 9/ 61.
فالقرآن توحيدٌ، وقصصٌ، وشرائعُ: أوامرٌ، ونواهٍ.
وسورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد (1)} هذه خالصة للتوحيد ليس فيها إلا صفة الرب تعالى، ولهذا كان أحد الصحابة أميرًا على سريَّة، وكان يقرأ لأصحابه في صلاته فيختم ب {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد (1)} فلمَّا رجعوا ذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال:«سلوه لأيِّ شيءٍ يصنع ذلك» فسألوه؛ فقال: لأنها صفة الرحمن وأنا أحبُّ أن أقرأ بها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أخبروه أن الله يحبه»
(1)
، ونحوه في خبر ثانٍ:«إن حبها أدخلك الجنة»
(2)
.
وهذه السورة فيها نفي وإثبات؛ فهي جارية على القاعدة.
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد (1) اللَّهُ الصَّمَد (2)} إثبات، {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَد (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَد (4)} هذه ثلاث جُمَل كلُّها دالَّةٌ على نفي.
ودلَّت هذه السورة على اسمين من أسمائه الحسنى: «الأحد، والصمد» ، وهذان الاسمان لم يُذكَرا في غير هذه السورة، فأما اسمه «الأحد» فيدلُّ على وحدانيَّته، وهو يتضمَّن نفي الشريك، والشبيه فلا شريك له، ولا شبيه، واسمه «الصمد» فُسِّر بأنه الذي لا يأكل ولا يشرب، وهو تعالى لا يأكل ولا يشرب؛ لأن هذا هو موجب غناه فهو
(1)
رواه البخاري (7375)، ومسلم (813)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
(2)
رواه البخاري في صحيحه معلقًا بصيغة الجزم (774 م)، ومن طريقه موصولاً الترمذي (2901) - وقال: حديث حسن غريب من هذا الوجه من حديث عبيد الله بن عمر عن ثابت البناني، ثم ساقه من طريق مبارك عن ثابت - وابن خزيمة 1/ 269، وابن حبان (792 و 794)، والحاكم 1/ 240 وصححه على شرط مسلم، كلهم من حديث أنس رضي الله عنه. وانظر: فتح الباري 2/ 257.
الغني سبحانه وتعالى بذاته عن كل ما سواه، والآكل والشارب مفتقِر إلى ما يأكل وما يشرب وهو سبحانه الذي {يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ} [الأنعام: 14]، وهو الذي يرزق {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِين (58)} [الذاريات].
وقيل: معنى الصمد: الذي تصمد إليه الخلائق في حوائجها، وهذا من لوازم غناه وفَقْر العباد {يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيد (15)} [فاطر].
وجاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: «السيد الذي قد كَمُل في سؤدده، والشريف الذي قد كمل في شرفه، والعظيم الذي قد عظم في عظمته، والحليم الذي قد كمل في حلمه، والغني الذي قد كمل في غناه، والجبَّار الذي قد كمل في جبروته، والعالم الذي قد كمل في علمه، والحكيم الذي قد كمل في حكمته، وهو الذي قد كمل في أنواع الشرف والسؤدد، وهو الله سبحانه هذه صفته لا تنبغي إلَّا له»
(1)
.
يعني: الصمد هو الكامل في جميع صفات الكمال، فهذان اسمان من أسمائه الحسنى ذُكرا على وجه التعيين، وبالتفصيل والتنصيص عليهما، فهذا من الإثبات المفصَّل.
وقوله تعالى: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَد (3)} ، لم يلد ردٌّ، وإبطال لما نسبه إليه المفترون من اليهود، والنصارى، والمشركين، والفلاسفة، وغيرهم ممَّن نسب إليه الولد - تعالى الله عمَّا يقولون -.
(1)
تفسير الطبري 15/ 346، وفتاوى ابن تيمية 8/ 149 - 150.
{وَلَمْ يُولَد} ، لا أعلم أن أحدًا من الطوائف الْمُقِرَّة بوجوده سبحانه قال: إنه وُلِد
(1)
، لكن لمَّا نفى الله الولد عنه؛ اقتضى ذلك - والله أعلم - نفي الولادة عن الله - أي: أن يكون له والد -، فإنه سبحانه وتعالى {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَد (3)} ، فهو: الأول الذي ليس قبله شيء، فلا بداية لوجوده، والمولود مُحْدَث، وهو: جزء من والده والله سبحانه وتعالى صمد لا تجزُّؤَ في ذاته، ولم يكن له كفوًا أحد، ليس له نظير، وهذا النفي يتضمَّن نفي الولد، والوالد.
ونفي الكفو يتضمَّن كمال أحديَّته وصمديَّته.
ولما أثبت لنفسه أنه الأحد الصمد أكَّد ذلك بنفي الولد، والوالد، والكفو وهذا نفي متضمِّن لإثبات كماله تعالى.
يقول الشيخ: ودخل فيها «ما وصف الله به نفسه في أعظم آية في كتابه حيث يقول: {{اللّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} الآية، وهذه الآية هي أعظم آيةٍ في كتاب الله» :
كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأُبي بن كعب رضي الله عنه: «أيُّ آيةٍ في كتاب الله أعظم؟» فقال: آية الكرسي: {اللّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} ، فقال:«ليهنك العلم أبا المنذر»
(2)
.
وأشار الشيخ رحمه الله إلى ما ورد في فضلها، وأن مِنْ فضلها: أنه ما قرأها عبدٌ في ليلةٍ إلَّا لم يزل عليه من الله حافظ، ولا يقربه شيطان حتى
(1)
انظر فائدة هذا النفي في: مجموع الفتاوى 2/ 448.
(2)
رواه مسلم (810).
يُصبح كما جاء هذا في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: وكَّلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان، فأتاني آتٍ فجعل يحثو من الطعام، فأخذته، وقلت: والله لأرفعنَّك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: إني محتاج، وعليَّ عيالٌ، ولي حاجةٌ شديدةٌ. قال: فخلَّيت عنه، فأصبحت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة؟» قلت: يا رسول الله شكا حاجةً شديدةً، وعيالًا، فرحمته، فخلَّيت سبيله. قال:«أما إنه قد كذبك، وسيعود» - إلى أن جاء في الثالثة - قال: دعني أعلِّمك كلمات ينفعك الله بها. قلت: ما هو؟ قال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي: {اللّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} حتى تختم الآية، فإنك لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربنك شيطان حتى تصبح. فخلَّيت سبيله، فأصبحت، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ما فعل أسيرك البارحة؟» قلت: يا رسول الله زعم أنه يعلِّمني كلمات ينفعني الله بها، فخلَّيت سبيله. قال:«ما هي؟» قلت: قال لي: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي، وقال لي: لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح. فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«أما إنه قد صدقك، وهو كذوبٌ تعلم من تخاطب منذ ثلاث ليالٍ يا أبا هريرة؟» قال: لا. قال: «ذاك شيطان»
(1)
.
وبقول الرسول صلى الله عليه وسلم صدقك ثبت هذا الفضل، فهذا القول لم يستفده أبو هريرة رضي الله عنه، ولم نستفده من خبر الشيطان، إنما من تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم.
(1)
رواه البخاري (2311) معلقًا مجزومًا به، ووصله النسائي في «عمل اليوم والليلة» (959)، وابن خزيمة في «صحيحه» 4/ 91، وانظر تخريجًا موسعًا للحديث في: كتاب: «الذكر والدعاء .. » للشيخ ياسر فتحي 1/ 296.
والشيطان قد يعلم شيئًا من الفضائل، والعلوم الشرعية التي يمكن أن يخدع بها بعض الناس، فهنا تعلَّل بهذه المعرفة، واتَّخذ منها وسيلةً للتخلص من قبضة أبي هريرة رضي الله عنه.
وقد ورد في فضلها أحاديث كثيرة
(1)
، وهذا من أصح ما ورد في فضلها، فإذا أوى الإنسان إلى فراشه، فإنه يُشرَع له أن يقرأها، فإنه لا يزال عليه من الله حافظ، ولا يقربه شيطان حتى يصبح، وورد في سورة البقرة عمومًا قول النبي صلى الله عليه وسلم:«إن الشيطان ينفر من البيت الذي تُقرَأ فيه سورة البقرة»
(2)
.
ومن أسباب ذلك أنها مشتملة على هذه الآية العظيمة.
وهذه الآية اشتملت أيضًا على العديد من أسماء الرب، وصفاته، ولهذا قال الشيخ:«وما وصف الله» ؛ - أي وقد دخل في هذه الجملة - ما وصف الله به نفسه في أعظم آية في كتابه {اللّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} فاشتملت على إثبات وحدانيَّته {اللّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} هذه كلمة التوحيد؛ ففي هذا إثبات إلهيَّته، ونفي الإلهيَّة عمَّا سواه، وهذا تحقيق التوحيد. {لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} اسمان من أسمائه الحسنى؛ فهو الحي الذي لا يموت. قال تعالى:{وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ} [الفرقان: 58]{الْحَيُّ} الحياة الكاملة التي لا يعتريها نقصٌ، وكمال حياته يستلزم ثبوت جميع صفاته الذاتية له سبحانه، ومن أسمائه {الْقَيُّومُ} ، وهو: القائم بنفسه
(1)
انظر: لمحات الأنوار 2/ 620 - 665، وتفسير ابن كثير 1/ 676 - 682.
(2)
رواه مسلم (780)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
الغني عما سواه، والقائم بغيره، فلا قيام لشيء من الموجودات إلا به، فهو {الْحَيُّ الْقَيُّومُ} .
وخُتِمت هذه الآية باسمين آخرين وهما: {الْعَلِيُّ الْعَظِيم} ففيها خمسة أسماء هذه الأربعة، و: الله، وهو الاسم الجامع لمعاني سائر الأسماء، وسائر الصفات.
وقوله تعالى: {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} هذا نفي، وقوله تعالى:{الْحَيُّ الْقَيُّومُ} إثبات فهذه الآية فيها إثبات مفصَّل، ونفي مفصَّل.
{لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ} : لا تعرض له السِّنة، وهي: النعاس، والوسن، ولا النوم، كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم:«إن الله عز وجل لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يُرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل حجابه النور، أو النار لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه»
(1)
.
وفي قوله تعالى: {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} نفي يتضمَّن تأكيدًا لكمال حياته؛ لأن النوم أخو الموت، والسِنة هي بدايات النوم.
فالله تعالى: الحي الذي لا يموت، ولا ينام، ولا ينبغي له أن ينام.
وقوله تعالى: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} ، في هذا إثبات لكمال ملكه على كل شيءٍ.
(1)
رواه مسلم (179)، من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
وقوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ} هذا نفي؛ أي: لا أحد يشفع عنده إلا بإذنه، وهذا يتضمَّن كمال ملكه، فَلِكَمَالِ ملكه لا أحد يشفع عنده إلَّا بإذنه، بخلاف المخلوقين، كالملوك، والكبراء الذين يشفع عندهم مقرَّبوهم بغير إذنهم، وينزلون على رغبتهم، وإن كانوا كارهين.
المقصود: أن هذه الآية اشتملت على العديد من أسماء الرب - كما تقدَّم - والعديد من صفاته، وقد اشتملت على نفي:{لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} ، {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ} ، {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ} ، وهذا لكمال عظمته لا يحيط العباد به علمًا؛ كما قال تعالى:{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110)} [طه]. ومن النفي الذي اشتملت عليه هذه الآية {وَلَا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا} .
وقوله تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} ، جمهور أهل السُّنة على أن الكرسي: موضع قدمي الرب
(1)
.
وهو: مخلوق عظيم لا يقدر قدره إلا الله، والعرش أعظم منه، والكرسي قد وسع السموات، والأرض، فهو أعظم من السموات والأرض.
{وَلَا يَؤُودُهُ} : لا يشقُّ على الله تعالى، ولا يعجزه، ولا يكرثه، ولا يثقله حفظ هذه العوالم العلوية، والسفلية {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41)} [فاطر].
(1)
انظر: أصول السنة لابن أبي زمنين ص 96، والفتوى الحموية ص 351، وشرح الطحاوية لابن ابن أبي العز 2/ 369 - 371، و [ص 142] من هذا الكتاب.
وهو {الْعَلِيُّ الْعَظِيم} : العلي بكل معاني العلو: ذاتًا وقَدْرًا وقهرًا، وهو العظيم الذي لا أعظم منه، والعوالم كلها في غاية الصغر والضآلة في جانب عظمته، ومما يدل على كمال عظمته ما جاء في قوله تعالى:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُون (67)} [الزمر].
ثم مضى الشيخ بذكر الشواهد من القرآن على ما وصف الله به نفسه من النفي، والإثبات، وسنمضي معه مستعرضين لهذه الشواهد، ونقف معها حسب ما يقتضيه المقام، والله المستعان.
* * * *
جملة من آيات الصفات
إثبات العلم لله تعالى
وقوله سبحانه: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ} [الفرقان: 58] وقوله سبحانه: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم (3)} [الحديد]، وقوله سبحانه:{وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِير (18)} [الأنعام]
(1)
، {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} [الحديد: 4]، {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِين (59)} [الأنعام]، {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلَا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ} [فاطر: 11]، وقوله:{لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)} [الطلاق].
(1)
من (م)، وهي التي شرحها الشيخ، وفي (ظ) و (ب):{وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيم (2)} [التحريم].
ومن النصوص القرآنية المشتملة على أسماء الرب، وصفاته التي فيها النفي والإثبات - ممَّا يدخل في الجملة المتقدِّمة «ما وصف الله به نفسه» - هذه الآيات التي منها:
قوله تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ} [الفرقان: 58].
{وَتَوَكَّلْ} : اعتمد، وفوِّض أمرك إلى الحي الذي لا يموت، فمن توكَّل عليه فهو حسبه {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3]، {وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِين (23)} [المائدة].
والشاهد: الحي، فالحي: اسم من أسمائه، والحياة صفة من صفاته.
وقوله: {لَا يَمُوتُ} نفي مؤكِّد لكمال حياته، فحياته سبحانه حياة لا يطرأ عليها الموت.
وقوله تعالى: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم (3)} [الحديد] هذه الآية فيها إثبات أربعة أسماء من أسمائه الحسنى. الأول، والآخر، والظاهر، والباطن.
وأحسن ما قيل في تفسير هذه الأسماء ما جاء في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يقوله إذا أوى إلى فراشه: «اللهم رب السموات، ورب الأرض، ورب العرش العظيم، ربنا ورب كل شيء، فالق الحب والنوى، ومنزل التوراة، والإنجيل، والفرقان، أعوذ بك من شر كل شيء أنت آخذ بناصيته، اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك
شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقضِ عنا الدَّين، وأغنِنا من الفقر»
(1)
. فهذا أحسن ما قيل في تفسير هذه الأسماء، الأول: هذا اسم من أسمائه، والأول: المتقدم على كل شيء، فكل ما سوى الله فإنه محدَث بعد أن لم يكن.
والله تعالى هو: الأول الذي ليس قبله شيء؛ لأنه لا بداية لوجوده سبحانه وتعالى؛ فهو قديم، ولفظ القديم لم يرد في النصوص فلا يعد من أسمائه تعالى، فلا يقال: من أسماء الله القديم، لكن معناه صحيح،
فيصحُّ الإخبار عن الله، فيقال: الله قديم متقدِّم في وجوده على كل شيء لا بداية لوجوده، فهذا المعنى حقٌّ ثابتٌ للرب سبحانه، لكن يغني عنه اسمه الأول، فالأول من أسماء الله الحسنى.
واسمه سبحانه «الآخر» يتضمَّن دوامه سبحانه وتعالى، وبقاءه الذي لا نهاية له، فكل مخلوق يفنى، والله تعالى لا يفنى كما قال الإمام الطحاوي- رحمه الله في عقيدته:«قديم بلا ابتداء دائم بلا انتهاء لا يفنى، ولا يبيد ولا يكون إلَّا ما يريد»
(2)
سبحانه وتعالى.
وما كتب الله له البقاء مثل الجنة والنار، فدوامهما، وبقاؤهما ليس ذاتيًا لهما، بل بقاؤهما بإبقاء الله لهما، أما بقاء الرب، فهو ذاتي لا يجوز عليه الفناء ألبتة.
(1)
رواه مسلم (2713)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
العقيدة الطحاوية ص 19.
فهذان اسمان دالان على أزليته، وأبديته - يعني - على دوام وجوده في الماضي، والمستقبل.
واسمه سبحانه «الظاهر» يعني: العالي، والظهور من معانيه العلو، فهو الظاهر الذي ليس فوقه شيء، بل هو فوق كل شيء {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِير (18)} [الأنعام].
وهو «الباطن» الذي ليس دونه شيء، فبصره نافذ لجميع المخلوقات، وسمعه واسع لجميع الأصوات، وعلمه محيط بكل شيء لا يحجب سمعه شيء، ولا يحجب بصره حجاب، بصره نافذ يرى عباده، وعلمه محيط بكل شيء.
وليس معنى الباطن أنه تعالى داخل في المخلوقات، بل هو بائن من خلقه ليس في ذاته شيء من مخلوقاته، ولا في مخلوقاته شيء من ذاته.
وقوله: {وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِير (18)} [الأنعام]، اسمان من أسمائه الحسنى دالَّان على كمال حكمته، وخبرته، فهو خبير بدقائق الأشياء، وهو أخصُّ في المعنى من اسمه العليم.
وقوله: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُور (2)} [سبأ]، كأن هذه الجمل تفصيل لمضمون اسمه الخبير.
و {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ} ما: صيغة عموم؛ - يعني -: يعلم كلَّ ما يلج في الأرض: من الأحياء؛ كالحيوانات التي لها مساكن تأوي إليها
في الأرض، ومن النباتات، ومن الناس، وما يدخل فيها من الجمادات، كالمياه التي تغور في الأرض.
{وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا} من هذه الأمور.
{وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} من الملائكة، ومن الأمر الذي ينزل من عنده سبحانه وتعالى.
يعلم هذا كله، وهكذا قوله تعالى:{وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ} عنده خزائن الغيب التي استأثر بعلمها، ومنها الخمس التي لا يعلمها إلا الله:{إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِير (34)} [لقمان]، فهذه خمس تفرَّد الله بعلمها لا يعلمها ملك مقرَّب، ولا نبي مرسَل
(1)
.
{وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ} ، ما: صيغة عموم؛ أي: كل ما في البر يعلمه الله.
{وَالْبَحْرِ} ، أي: ويعلم ما في البحر، عام يشمل ما فيه من الحيوانات، والنباتات، والجمادات التي لا يحصيها إلا خالقها.
{وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِين (59)} يشمل كل رطبٍ ويابسٍ؛ لأن هذه كلها نكرات في سياق النفي، والنكرة في سياق النفي تعمُّ.
كل هذه الدقائق وكل هذه المخلوقات معلومة للرب سبحانه وتعالى، والله محيط بها، وهي مثبتة في الكتاب المبين - كتاب المقادير -.
(1)
قد جاء هذا في حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي رواه البخاري (50)، ومسلم (9).
وقوله تعالى: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى} أنثى من بني آدم، أو غيرهم من الأحياء، أيُّ أنثى. {وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ} كل ذلك قد أحاط به علمه، وكتابه.
فكل هذه الآيات دالَّة على إثبات علمه سبحانه وتعالى، وأنه الموصوف بالعلم المحيط بكل شيء فهو تعالى: العليم، والعلم صفته، وعلمه لا يعزب عنه شيء.
قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ} [سبأ: 3]، وفيها دليلٌ على إحاطة علمه بكل صغيرٍ، وكبيرٍ؛ بالجزئيات، ودقائق المخلوقات خلافًا للملاحدة الذين يقولون: إنه لا يعلم الأشياء إلا بعد وجودها، أو لا يعلم الجزئيَّات، وإنما يعلم المعاني الكلية.
وفي هذه الآيات ردٌّ عليهم.
بل يعلم سبحانه وتعالى ما كان، وما يكون، وما لا يكون لو كان كيف يكون، كما قال تعالى:{وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام: 82] والمعطِّلة؛ كالجهميَّة، والمعتزلة، والفلاسفة ينفون صفة العلم عن الله، وهذا إلحاد في أسماء الله تعالى، وصفاته، وتنقُّص لرب العالمين، فإذا كان المخلوق يُوصَف بالعلم؛ فكيف لا يُوصَف الخالق وهو أحقُّ بكل كمال؟
فعلمه تعالى ثابت بالعقل، وبالسمع أي: النصوص الشرعية.
وقد نبَّه سبحانه وتعالى على الدليل العقلي في مواضعَ منها قوله تعالى: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} [الملك: 41]. إذًا: وجود هذه المخلوقات في غاية الإحكام دليل على علمه سبحانه، وأهل السنة والجماعة يؤمنون بكل ما وصف الله به نفسه، فيؤمنون بما في هذه الآيات من الأسماء الحسنى، والصفات العليا، فيثبتون علمه بالأشياء قبل وجودها، ويثبتون علمه بالجزئيَّات، ويؤمنون بأنه تعالى عليم، وأن هذا الاسم دالٌّ على معنى، فهو عليم بعلم، والعلم صفته سبحانه وتعالى، فسبحان من أحاط بكل شيء علمًا قال تعالى:{لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)} [الطلاق].
* * * *
إثبات القوة والسمع والبصر والإرادة
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِين (58)} [الذاريات].
وقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِير (11)} [الشورى]، {إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58)} [النساء].
وقوله: {وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاء اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ} [الكهف: 39].
وقوله: {وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِم مِنْ بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيد (253)} [البقرة]، {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيد (1)} [المائدة] {فَمَنْ يُرِدِ اللّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ [25/ 1] يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء} [الأنعام: 125].
هذه أيضًا جملة من الآيات المشتملة على بعض أسماء الرب وصفاته، وهي داخلةٌ في الجملة التي أشار إليها الشيخ، وهو الآن بصدد تقريرها بشواهدها، وهي أن الله تعالى: جمع فيما وصف وسمَّى به نفسه بين النفي والإثبات.
فوصف نفسه بإثبات الأسماء الحسنى، والصفات العلا، وبنفي الآفات، والعيوب، والنقائص، فمِن هذه النصوص القرآنية المشتملة على بعض أسماء الرب وصفاته قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِين (58)} [الذاريات] ففي هذه الآية إثبات اسم من أسماء الله الحسنى، وهو الرزاق. والرزاق: صيغة تدلُّ على كمال الرَّزق، وكثرته.
فكل ما يحصل للعباد من رِزق مادي، أو معنوي من: علم، أو مال، أو أي منفعة فمنه سبحانه.
والنصوص المفسِّرة لهذا الاسم، والمفصِّلة له كثيرة فهو تعالى: خير الرازقين {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ} [النحل: 53] فكل ما يتقلَّب فيه العباد من النعم، فهي منه سبحانه هو الذي أعانهم عليها، وأمدَّهم بها.
والله تعالى هو: الرزَّاق، و
ما يحصل على أيدي الناس من رزق فهم فيه أسباب فقط.
فالإنسان يَرزُق أولادَه، يكدُّ، ويكدح، وينفق عليهم، قال تعالى:{وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ} [النساء: 5] أمر برزقهم يعني: بالإنفاق عليهم.
لكن الرزَّاق حقيقة، والمطعِم حقيقة هو: الله.
وقد دلَّت هذه الآية أيضًا على صفة من صفاته، وهي القوة {ذُو الْقُوَّةِ} [الذاريات: 58] القوَّة التي لا تشبه قوى المخلوق، فالمخلوق يُوصَف بالقوة، قال تعالى:{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً} [الروم: 54] ولكن ليست قوة المخلوق كقوة الخالق تعالى؛ فهو القوي، ومن أسمائه القوي، ومن صفاته القوة، فهو ذو القوة المتين - يعني -: الشديد القوة. {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} [فصلت: 15] فيجب الإيمان بذلك، والإيمان بهذه الأسماء له آثاره السلوكية إذا علم الإنسان أن كلَّ الخير بيده، وأنه لا مانع لما أعطى، ولا مُعطي لما مَنَع توجَّه بقلبه لربه في كل حوائجه، فهو الذي لا يأتي بالحسنات إلا هو، ولا يدفع السيئات إلا هو يوجب له ذلك الرغبة إلى الله، ورجاءه، وتوكُّله عليه في حصول الخير، ومنافع الدنيا، والآخرة.
وإذا علم العبد أنه تعالى: القوي، وأنه ذو القوة أيضًا ازداد تعظيمًا لربه، ورجاءً له، وخوفًا منه، فقوته لا يقاومها قوة، ولا يعتريها ضعف.
ومن هذه الآيات قوله تعالى: {إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58)} [النساء]، وقوله:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِير (11)} [الشورى] نفي وإثبات {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} هذا نفي مجمَل، نفي للمثيل
عن الله فلا شيء مثله، ليس شيء في الوجود مثله لا في علمه، ولا في سمعه، ولا في بصره، ولا في قدرته، ولا في رزقه، ولا في قوته، ولا في عزته {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِير} فيه إثبات اسمين من أسماء الله الحسنى، فهو السميع وهو البصير.
وفي هذا إثبات لصفتين من صفات الله: السمع والبصر، فهو: السميع، وهو ذو سمع؛ خلافًا للمعطِّلة الذين ينفون أسماءه، أو يعطِّلون صفاته، كالمعتزلة الذين يقولون: سميع بلا سمع، بصير بلا بصر، وهذا جهل وضلال، وإلحاد في أسماء الله، بل هو سميع بسمع، وسمعه واسع لجميع الأصوات {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُون (80)} [الزخرف] {مَا يَكُونُ مِنْ نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ} [المجادلة: 7] مهما أسرَّ الإنسان في حديثه، ومحادثته، ومهما تناجى المتناجون، فالله يسمع نجواهم، ويعلم ما جرى بينهم.
وسَمعُ اللهِ ليس كسمع المخلوق، سمع المخلوق محدود، وموهوب له من الله.
أما سمع الخالق؛ فليس بمخلوق سمعه تعالى صفة ذاتية له لم يزل، ولا يزال سميعًا، ولم يزل، ولا يزال بصيرًا، ما زال بصفاته سبحانه وتعالى قبل خَلْقه «لم يزدد بكونهم شيئًا لم يكن قبلهم من صفته» ، هكذا يقول الإمام الطحاوي في عقيدته
(1)
فصفاته تعالى أزلية.
(1)
ص 3.
والإيمان بذلك له أثر، إذا وقر في القلب الشعور بأنه تعالى: سميع بصير؛ أحدث له المراقبة، لكن تضعف هذه المراقبة عند ضعف الشعور والاستحضار لسمع الرب وبصره، أما من استحضر أن الله يسمع كلامه سوف يَحْسُب حِسابًا لما يتكلَّم به؛ لأنه يستحضر أن الله يسمعه، لكن يُؤتَى الإنسان من غفلته عن اطِّلاع الله عليه، وسمعه.
وتفصيل صفتي السمع والبصر كثير في القرآن.
والله تعالى يسمع كلام المؤمنين، وكلام الكافرين، وكلام الناس العادي، {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة: 1] هذا من الكلام العادي تحاور في قضيتها، ويسمع المتنقِّصين لربهم {لَّقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء} [آل عمران: 181] ويسمع كلام الرسل في دعوتهم، وما يرد عليهم قومهم، كما قال سبحانه لموسى وهارون:{إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46)} [طه]، {إِنَّا مَعَكُمْ مُّسْتَمِعُون (15)} [الشعراء]، {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُون (80)} [الزخرف] بصير سبحانه وتعالى ببصر، وبصره نافذ بجميع المخلوقات، فهو السميع البصير، ولما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية
(1)
«وضع إبهامه على أذنه، والسبابة على عينه»
(2)
.
(1)
أي: قوله تعالى: {إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58)} [النساء].
(2)
رواه أبو داود (4728)، وابن خزيمة في «التوحيد» ص 42، وابن أبي حاتم في «تفسيره» 3/ 987، وابن حبان (265)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. قال الحافظ ابن حجر في «الفتح» 13/ 373: أخرجه أبو داود بسند قوي على شرط مسلم.
قال أهل العلم: لبيان أن المراد بالسمع والبصر حقيقتهما أنه ذو سمع حقيقة، وذو بصر حقيقة.
ثم ذكر المؤلف الآيات الدالة على إثبات المشيئة والإرادة {وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاء اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ} [الكهف: 39] هكذا يقول الرجل الصالح المؤمن لصاحبه الكافر المغرور بجنَّته حين سمعه يقول: {مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا (36) قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (37) لَّكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38) وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاء اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ} [الكهف].
يقول: لو أنك عندما دخلت جنَّتك تذكَّرت أنَّها إنما حصلت بمشيئة الله، وتذكَّرت أنه لا قوة لك ولا لغيرك إلا بالله، وكان الواجب عليك أن تقول: ما شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إلا باللَّه، أما أن تقول: مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً، فهذا كفر، وإنكار للبعث، وإنكار لفضل الله سبحانه وتعالى، وإنكار لربوبيته سبحانه؛ لأنه هو المنعم المتفضِّل هو الذي يعطي ما يشاء لمن يشاء.
وقوله: {مَا شَاء اللَّهُ} يعني: هذا ما شاء الله - أي - هذا كائن بمشيئة الله، وما شاء الله كان، ما شاء الله لا بد منه، وما لم يشأ لم يكن، فكل ما يحصل في الوجود من: الذوات، والصفات، والحركات؛ فبمشيئته سبحانه لا يخرج عنها شيء أبدًا.
وقوله تعالى: {وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيد (253)} [البقرة] أخبر الله سبحانه عن نفسه بأنه مريد، وهو فعَّال لما يريد {يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]، و {يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [النساء: 26]، {فَمَنْ يُرِدِ اللّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلَامِ} [الأنعام: 125]، فمن صفاته سبحانه الإرادة، فهو يريد، قال أهل العلم
(1)
: الإرادة المضافة لله تعالى نوعان:
إرادة كونية، وإرادة شرعية؛ أما الإرادة الكونية، فهي بمعنى: المشيئة، ومن شواهدها قوله تعالى:{فَعَّالٌ لِمَا يُرِيد (16)} [البروج] هذه إرادة كونية، كل ما شاء سبحانه أن يفعله فعله؛ لأنه لا معارض له، ولا يستعصي عليه شيء.
ومن شواهد الإرادة الكونية قوله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ} [الأنعام: 125] يعني من يشأ الله أن يهديه بشرح صدره للإسلام يوسع صدره، ويقذف النور فيه، ويجعل فيه القبول للحق، فيقبل الحق بانشراح، وسرور، وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ - نعوذ بالله - يجعل صدره ضيقًا حرجًا، ينفر من الحق ويشمئزُّ منه، {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُون (45)} [الزمر]، والله تعالى يَمُنُّ على من يشاء يهدي من يشاء بفضله،
(1)
مجموع الفتاوى 8/ 188، والفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان 11/ 266، وشفاء العليل ص 280.
ورحمته، ويضلُّ من يشاء بحكمته وعدله، يعطي ويمنع، يهدي ويضل، ويعزُّ ويذلُّ.
وأما الإرادة الشرعيَّة؛ فمتعلِّقة بما أمر الله به عباده مما يحبه ويرضاه. ومن شواهدها: قوله تعالى: {يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]، و {يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [النساء: 26]، {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33)} [الأحزاب].
فهاتان إرادتان، قال أهل العلم
(1)
: إن الفرق بين الإرادتين من وجهين:
أما الإرادة الكونية فإنها عامة لكل الموجودات فهي شاملة لما يحبُّ سبحانه وما لا يحبُّ، فكل ما في الوجود فهو حاصل بإرادته تعالى الكونية؛ سواء في ذلك ما يحبه الله، أو يبغضه، فكل ما في الوجود فهو حاصل بإرادته تعالى الكونية التي هي بمعنى المشيئة، فإنه لا يخرج عن مشيئته، أو إرادته الكونية شيء ألبتة.
أما الإرادة الشرعية فهي تختص بما يحبه سبحانه، فالطاعات مرادة لله شرعًا، أما المعاصي فليست مرادة شرعًا، وما يقع من الطاعات، كالصلاة مثلًا نقول: هذه الصلاة تتعلَّق بها الإرادتان: الإرادة الكونية، والإرادة الشرعية.
(1)
انظر الحاشية السابقة.
وهكذا سائر الطاعات واقعة بالإرادة الكونية، ومتعلِّقة كذلك بالإرادة الشرعية، فهي مرادة لله كونًا وشرعًا.
أما ما يقع من المعاصي فهي مرادة لله كونًا؛ لأنه لا يقع في الوجود شيء البتة إلا بإرادته، ومشيئته سبحانه.
لكن هل المعاصي محبوبة لله؟ لا بل هي مُبْغَضَة، وإن كانت واقعة بإرادته.
فالفرق بين الإرادتين من وجهين:
الأول: أن الإرادة الكونية عامة فكل ما في الوجود فهو مراد لله كونًا.
أما الإرادة الشرعية فإنها إنَّما تتعلق بما يحب سبحانه وتعالى.
قال أهل العلم: فتجتمع الإرادتان في إيمان المؤمن، وطاعة المطيع.
وتنفرد الإرادة الشرعية في إيمان الكافر، فالكافر مطلوب منه الإيمان لكنه لم يحصل، فهو مراد لله شرعًا، لكنه غير مراد كونًا، إذ لو شاء الله لاهتدى {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} [يونس: 99]، وكذلك الطاعة التي أُمِرَ بها العبد، ولم يفعلها مرادة لله شرعًا، لكنها لم تتعلق بها الإرادة الكونية؛ إذ لو تعلَّقت بها الإرادة الكونية لحصلت.
وتنفرد الإرادة الكونية في كفر الكافر ومعصية العاصي.
الثاني: أن الإرادة الكونية لا يتخلف مرادها أبدًا، أما الإرادة الشرعية فقد يقع مرادها، وقد لا يقع، فالله أراد الإيمان من الناس كلهم أراده
شرعًا - يعني - أمرهم به، وأحبَّ ذلك منهم، ولكن منهم من آمن، ومنهم من كفر.
هذا ما يتعلَّق بالآيات التي ذكر المؤلِّف، وكلها فيها إثبات الإرادة: إما الإرادة الكونية، أو الإرادة الشرعية.
وهل للمخلوق إرادة ومشيئة؟ نعم، قال سبحانه وتعالى:{تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ} [الأنفال: 67]، وقال تعالى:{وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاء اللَّهُ} [الإنسان: 30].
لكن إرادة المخلوق ومشيئة المخلوق مخلوقة، ومقيَّدة، وتابعة لمشيئة الله تعالى.
ومشيئة المخلوق قد يحصل مقتضاها، وقد لا يحصل، فقد يشاء الإنسان ما لا يكون، وقد يكون ما لا يشاء، وهذا شأن المخلوق، أمَّا الخالق فما شاءه فلا بد أن يكون، وما لا يشاؤه فلا يكون ألبتة؛ لأنه سبحانه وتعالى لا يعجزه شيء، ولا يستعصي عليه شيء فما شاء أن يفعله فعله {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا (44)} [فاطر].
* * * *
إثبات صفة المحبة لله سبحانه وتعالى
وقوله: {وَأَحْسِنُوَا إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين (195)} [البقرة]، {وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِين (9)} [الحجرات]، {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِين (7)} [التوبة]، {إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِين (222)} [البقرة]، {فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54]، {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَّرْصُوص (4)} [الصف]، {قُلْ إِنْ كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران: 31]
(1)
، [وقوله:{وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُود (14)} [البروج]]
(2)
.
وهذه جملة من الآيات الدالَّة على صفة المحبة للرب سبحانه وتعالى، فهو سبحانه يحبُّ، والمحبة صفة من صفاته، كما قلنا في القوة، والسمع، والبصر، والإرادة كلها صفات أخبر الله بها عن نفسه، كذلك أخبر بأنه يحبُّ بعض عباده: يحبُّ المحسنين لإحسانهم إلى عباد الله، يحبُّ المقسطين الذين يعدلون في حكمهم، وأهليهم، وما وَلُوا، ويحب
(1)
في (ب): {رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [المائدة: 119]، وستأتي [ص 83].
(2)
زيادة من (م).
التوَّابين الرجَّاعين إليه عن الذنوب والتقصير، يحب المتطهِّرين كما أُمِروا، يحبُّ المتَّقين، يحبُّ المجاهدين في سبيله، كله إخبارٌ عن الله سبحانه وتعالى، فوجب الإيمان بأن من صفاته سبحانه المحبة، وفي هذا غاية الترغيب في هذه الأعمال.
ومحبَّة الله للعبد هي فوق ما ينال من الثواب، فالمؤمنون المخلصون أولياء الله يتطلَّعون للفوز بهذه المحبة:{قُلْ إِنْ كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ} .
والمخلوق يُوصَف بالمحبَّة، ولكن مع الفرق، فللمخلوق محبَّةٌ تليق به، وتناسبه يمكن أن يُعَبَّر عنها: بميل الإنسان إلى ما يناسبه، أو ما أشبه ذلك، والله يُوصَف بالمحبَّة، وليست محبَّة الخالق كمحبة المخلوق، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} لكن محبة الخالق محبة حقيقية لا كما يقول المعطِّلة من الجهمية والمعتزلة والأشاعرة الذين ينفون وينكرون حقيقة المحبة
(1)
، ويقولون: الله لا يُحِبُّ، ولا تليق به صفة المحبة، ويحرِّفون ما جاء في النصوص، ويفسِّرونها: إما بالإرادة، وإما بالثواب، أو إرادة الثواب، ويقولون: يحبُّ المقسطين، يحبُّ المتقين - يعني -: يريد أن ينعم عليهم، أو يقولون: يحبُّ المقسطين - يعني -: يثيبهم، فينفون عن الله حقيقة المحبة، وهذا مبنيٌّ على أصولهم الفاسدة أن إثبات هذه الصفات يستلزم التشبيه، فيقعون في التناقض، ويفرُّون من شيء؛ فيقعون في نظيره، أو في شرٍّ منه.
(1)
مجموع الفتاوى 8/ 356 و 10/ 66.
وأهل السُّنة والجماعة يثبتون لله كل ما أثبته لنفسه، وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، فيدخل في ذلك إثبات المحبة لله، وأهل السُّنة يثبتون لله المحبة، من الجانبين فيقولون: إنه تعالى يُحِبُّ، ويُحَبُّ، يحبُّ المؤمنين، والمجاهدين، والمقسطين - كما في الآيات -، ويحبُّه أولياؤه المؤمنون كما قال سبحانه:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54]، والله سبحانه يختصُّ بمحبته من يشاء - كما ذكر في هذه الآيات -، بل إنه يفضِّل بعض عباده في هذه المحبة، ولهذا اتَّخذ من عباده من اتَّخذه خليلًا؛ كإبراهيم، ومحمد
(1)
صلوات الله وسلامه عليهما، وسائر النبيين.
ومن الأدلَّة على إثبات صفة المحبة لله سبحانه قوله تعالى: {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُود (14)} [البروج] ودود من المودة قيل: ودود: كثير المودة لأوليائه، كغفور - يعني - كثير المغفرة، وقيل: ودود بمعنى مودود، أو محبوب، والأول هو الراجح في تفسير هذا الاسم.
ورجَّحه العلَّامة ابن القيم
(2)
إجراءً لهذا الاسم مجرى غفور، وشكور، وما أشبه ذلك من الأسماء الحسنى.
* * * *
(1)
قال تعالى: {وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلا (125)} [النساء]، وروى مسلم (532) عن جندب رضي الله عنه سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:«إن الله تعالى قد اتخذني خليلاً، كما اتخذ إبراهيم خليلاً» . ونحوه في مسلم (2383)، من حديث ابن مسعودرضي الله عنه.
(2)
روضة المحبين ص 46، وهو اختيار شيخ الإسلام، وذكر أن الكتاب والسنة وأقوال السلف والأئمة تدل عليه. النبوات 1/ 352.
إثبات صفة الرحمةِ لله سبحانه وتعالى
وقوله: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم (30)} [النمل]، {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا} [غافر: 7]، {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43)} [الأحزاب]، [وقوله:{وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف: 156]]
(1)
، {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: 54]، {وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم (107)} [يونس]، {فَاللّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِين (64)} [يوسف].
هذه الآيات دالَّة على بعض أسماء الله تعالى وصفاته، وهي مشتملة على إثبات هذه الأسماء: الرحمن الرحيم الغفور أرحم الراحمين، وهذه الأسماء تدلُّ على إثبات صفة الرحمة على ما هو مقرَّر في القاعدة المشهورة وهي: أن كل اسم متضمن لصفة، فالله الرحمن الرحيم كما في هذه الآية {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم} هذه بعض آية في سورة النمل بإجماع أهل العلم، قال تعالى:{إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم (30)} [النمل]، وأما البسملة التي تُفتتَح بها السور ففيها خلاف، قيل: إنها آية من كل سورة، وقيل: إنها آية أنزلت للفصل بين السور، والدلالة
(1)
زيادة من (م).
على ابتدائها، وهذا أظهر، أَي: أنها آية من القرآن أنزلت للدلالة على أوائل السور، والفصل بينها
(1)
.
وهذان الاسمان: الرحمن الرحيم قد جاءا في مواضع كثيرة من القرآن مقترنين كما في البسملة، وفي الآية الثانية من الفاتحة، وفي قوله تعالى:{وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيم (163)} [البقرة].
وجاءا مُتفرِّقَيْن فذُكِر الرحمن في مواضع وحده، والرحيم ذكر وحده، أو مع اسم آخر، فالرحيم قُرِن باسم آخر كالغفور، والرؤوف، {إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيم (143)} [البقرة]، {وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيم (218)} [البقرة]، وهذان الاسمان من أسماء الله الحسنى فهو الرحمن، وهو الرحيم.
والمشهور في الفرق بينهما: أن الرحمن يدلُّ على الرحمة العامة، والرحيم يدلُّ على الرحمة الخاصة بالمؤمنين. وقال بعضهم: الرحمن - يعني -: في الدنيا، والآخرة، والرحيم - يعني -: في الآخرة. وهذا قريب من الذي قبله، والحق أنه سبحانه وتعالى الرحمن الرحيم في الدنيا، والآخرة
(2)
.
وجاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: «الرحمن الرحيم اسمان رقيقان»
(3)
يعني: يدلان على الرحمة، وهي معنى فيه رِقَّة، وتقتضي الإحسان، والإنعام، والإكرام، ولا يقال: إن هذا تفسير للرحمة؛ لأنها صفة معقولة المعنى، وضد الرحمة القسوة، وضد الرحمة العذاب:
(1)
المغني 2/ 151، والجامع لأحكام القرآن 1/ 66، وتفسير ابن كثير 1/ 116.
(2)
تفسير الطبري 1/ 55.
(3)
رواه البيهقي في «الأسماء والصفات» ص 56، وضعفه ابن حجر في «الفتح» 13/ 359.
{رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلا (54)} [الإسراء]، {يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاء وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاء وَإِلَيْهِ تُقْلَبُون (21)} [العنكبوت].
وفرَّق ابن القيم
(1)
بين هذين الاسمين: بأن الرحمن دالٌّ على الصفة القائمة به سبحانه، والرحيم دالٌّ على تعلُّقها بالمرحوم، فكان الأول: للوصف، والثاني: للفعل، فالأول: دالٌّ على أن الرحمة صفته، والثاني: دالٌّ على أنه يرحم خلقه برحمته. اه.
والرحمة من صفاته الذاتية سبحانه وتعالى فإنه لم يزل ولا يزال متصفًا بالرحمة، وهو موصوف بالرحمة الفعلية التي تتعلق بها مشيئته، وهي صفة فعلية يرحم مَنْ يشاء، فلا يزال يرحم مَنْ يشاء كيف يشاء.
وقد أنكر المشركون اسمه الرحمن، فأنكر الله عليهم ذلك، وكفَّرهم قال تعالى:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا (60)} [الفرقان] وقال تعالى: {كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِّتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِيَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَاب (30)} [الرعد].
إذا الرحمن الرحيم اسمان من أسمائه الحسنى دالَّان على صفة الرحمة، وفي بعض الآيات التصريح بصفة الرحمة قال الله:{وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف: 156]، {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا} [غافر: 7] {فَاللّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِين (64)} [يوسف].
(1)
بدائع الفوائد 1/ 42.
والعباد يوصفون بالرحمة، قال تعالى:{مُّحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29]، وقال صلى الله عليه وسلم:«الراحمون يرحمهم الرحمن»
(1)
. فالعباد يُوصَفون بالرحمة، وليس هذا من التشبيه في شيء، فللمخلوق الرحمة التي تناسبه، وللرب الرحمة التي تناسبه وتليق به، وليست الرحمة كالرحمة، ولا الرحيم كالرحيم، فالله تعالى رحيم {وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيم (9)} [الحديد]، وكذلك المخلوق يسمَّى رحيمًا كما قال الله عن النبي صلى الله عليه وسلم:{لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيم (128)} [التوبة]، وليس الرؤوف كالرؤوف، ولا الرحيم كالرحيم.
فللمخلوق من هذه الأسماء، وهذه الصفات ما يناسبه وله تعالى ما يناسبه، ويليق بعظمته، وجلاله، وكبريائه.
وأهل السُّنة والجماعة منهجهم في هذه الصفات، وهذه الأسماء منهج واحد: إثبات ما أثبته الله لنفسه من الأسماء والصفات مع نفي التمثيل، ونفي العلم بالكيفية، وهذا معنى قول السلف: - في نصوص الصفات - «أمِرُّوها كما جاءت بلا كيف» .
(1)
رواه أحمد 2/ 160، وأبو داود (4941)، والترمذي (1924)، وقال: حسن صحيح، والحاكم 4/ 159 وصححه، وقواه ابن تيمية في «الاستقامة» ص 312، وصححه الذهبي في «معجم الشيوخ» 1/ 23، والعراقي في «الأربعين العشارية» ص 125، وحسنه الحافظ ابن حجر في «الإمتاع بالأربعين المتباينة بشرط السماع» ص 63، وهو الحديث المسلسل بالأولية. انظر: المناهل السلسلة في الأحاديث المسلسلة ص 6، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.
يعني: أمِرُّوها كما جاءت مثبتين لما تدلُّ عليه مؤمنين بها غير محرِّفين لها، ولا مكيِّفين لما تدلُّ عليه.
فأهل السُّنة والجماعة يثبتون لله سبحانه وتعالى صفة الرحمة على حقيقتها، وأما أهلُ الكلام أهلُ البدع، والضلال من الجهمية والمعتزلة والأشاعرة؛ فينفون حقيقية الرحمة
(1)
؛ لأنهم يقولون: إن الرحمة رِقَّة تعتري من قامتْ به الرحمةُ، وهذا لا يليق به سبحانه، فالرقة فيها ضَعْف.
وهذا خطأ؛ لأنه تفسير لرحمة المخلوق، فهي التي يمكن أن يعبَّر عنها بأنها رقَّة، وانفعال تعتري مَنْ قامت به، ولما توهَّموا من إثبات صفة الرحمة أنها مثل رحمة المخلوق نفوا حقيقة الرحمة، وفسَّروها أما بالإرادة؛ فقالوا: الرحمة من الله إرادة الإنعام، والإحسان على عباده، أو إن المراد بها: ما يخلقه سبحانه من النعم التي ينعم الله بها على عباده.
نعم هناك رحمة مخلوقة، لكنها غير صفة الرحمة التي هي صفة الرب تعالى، فالرحمة تضاف إلى الله صفة له، كما في هذه الآيات:{وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف: 156]{رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا} [غافر: 7]، {فَاللّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِين (64)} [يوسف]، فهذه الرحمة هي صفة الرب قائمة به، كعلمه، وسمعه.
أما الرحمة المخلوقة فإضافتها إليه كإضافة المخلوق إلى خالقه كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن لله مائة رحمة أنزل منها رحمة واحدة بين الجن، والإنس، والبهائم، والهوام، فبها يتعاطفون، وبها
(1)
انظر: مختصر الصواعق 3/ 860 - 888.
يتراحمون، وبها تعطف الوحش على ولدها، وأخر الله تسعًا وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة»
(1)
.
ومن الرحمة المخلوقة لله سبحانه وتعالى الجنة: {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُون (107)} [آل عمران].
وإذا قلتَ: أدخلني برحمتك فهذا توسل إلى الله؛ فهذه صفة {وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِين (19)} [النمل].
وقوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ} [الجاثية: 30]، هذه الرحمة المخلوقة.
فالرحمة المضافة لله نوعان:
صفة له سبحانه، ورحمة مخلوقة.
فالأولى: إضافتها إلى الله من إضافة الصفة إلى الموصوف.
والثاني: من إضافة المخلوق إلى خالقه.
قال تعالى - بعد ما ذكر إنزال الغيث بعد يأس مِنْ العباد -: {فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الروم: 50]، فالمطر رحمة، ونِعَم الله هي رحمةٌ منه بعباده.
فالمقصود أن هذه الآيات دالَّة على إثبات ما اشتملت عليه من أسماء الله الحسنى، وصفاته العلى، فيجب إثبات ذلك له سبحانه وتعالى على ما يليق به، ويختصُّ به بلا تحريفٍ، وصرفٍ للنصوص عن ظاهرها كما
(1)
رواه البخاري (6000)، ومسلم (2752) - واللفظ له -، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
يفعل أهل التعطيل، والضلال، ولا تكييف، ولا تمثيل، فالمنهج واحد في كل النصوص هذا منهج أهل السُّنة والجماعة.
وأما المعطِّلة فينفون حقيقة الصفات، ثم يؤولون النصوص، هذا هو الغالب عليهم، ومنهم المفوِّض الذي يقول: هذه النصوص لا نقول فيها شيئًا، بل نمرُّها ألفاظًا دون تفسيرٍ لها، ودون فهم لمعناها، فهي نصوص لا تدلُّ على شيء، ولا يُفهَم منها شيء، وكلا القولين - قول: أهل التفويض وأهل التأويل - باطلٌ، بل هذه النصوص دالَّة على معانٍ معقولة، ويفهمها من وفَّقه الله فهي تدلُّ على إثبات هذه الأسماء، وهذه الصفات لربنا تعالى، وبهذا عرفنا أنه تعالى رحمن، وأنه رحيم، وأن رحمته واسعة، وأنه سبحانه وتعالى وسع كل شيء رحمة وعلمًا، وأنه لم يزل رؤوفًا رحيمًا سبحانه وتعالى.
وهذا العلم والإيمان يوجب التوجُّه إلى الله بطلب رحمته، ويبعثُ الرجاء في قلوب المؤمنين، إذا تدبَّر المسلم هذه الآيات تعلَّق قلبه بربه، وقوي أمله ورجاؤه فيه، فصار يرجو رحمته، كما قال الله في صفة المؤمنين:{أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57)} [الإسراء]، وبناءً على هذا العلم يضرع المؤمن إلى ربه: اللهم ارحمني، وارحم عبادك المؤمنين، فيدعو لنفسه بالرحمة، ويدعو لإخوانه المؤمنين، وإذا رحمه ربه أنعم عليه بأنواع النعم، وأعظمُ رحمة يرحم الله بها عبده أنه يوفِّقه للإيمان، والعمل الصالح، والاستقامة على ذلك.
إثبات الرضا والغضب لله تعالى
[وقوله: {رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [المائدة: 119]]
(1)
، وقوله:{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ} [النساء: 93]، وقوله:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ} [محمد: 28]، وقوله:{فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ} [الزخرف: 55]، وقوله:{وَلَكِن كَرِهَ اللّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ} [التوبة: 46]، وقوله:{كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُون (3)} [الصف].
هذه الآيات اشتملت على إثبات بعض صفات الله سبحانه وتعالى، وهي: الرضا، والغضب، والكراهية، والمقت؛ فالله تعالى موصوف بهذه الصفات، فقد وَصف تعالى نفسه بالرضا عن بعض عباده:{رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} ، وبالغضب والسخط على أعدائه كما قال تعالى في اليهود:{فَبَاؤُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ} [البقرة: 90]، وقال تعالى في سورة الفاتحة:{غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ} وهم اليهود، وقال تعالى في
(1)
زيادة من (م)، وقد تقدم [ص 73] بيان موضعها في (ب).
المنافقين: {وَلَكِن كَرِهَ اللّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ} فهو تعالى يكره، وفي الحديث:«إن الله كره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال»
(1)
.
وقال سبحانه وتعالى: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38)} [الإسراء]، وكذلك وصف نفسه بالمقت للكافرين {لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ} [غافر: 10]، والمقت هو: أشد البغض، فكما أنه تعالى يحبُّ أولياءه المؤمنين، ويحبُّ المقسطين، والتوَّابين، والمتطهِّرين، ويحبُّ المتوكلين عليه، كذلك يمقتُ الكافرين، ويبغضهم، ويكرههم.
وأهل السُّنة والجماعة يثبتون هذه الصفات، ويمرُّونها كما جاءت، يؤمنون بأن الله تعالى يرضى، ويغضب ويكره، ويمقت حقيقةً، على ما يليق به سبحانه وتعالى، والمخلوق يُوصَف بهذه الصفات، فيُوصَف بالرضا {رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة: 100] في آية واحدة، وليس الرضا كالرضا، ويُوصَف المخلوق بالغضب {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا} [الأعراف: 150] {وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ} [الأعراف: 154]، وليس غضب المخلوق كغضب الخالق سبحانه، وكذلك المقت في آية واحدة {لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ} [غافر: 10]، والمخلوق يُوصَف بأنه يكره {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات: 12].
وليست صفة الخالق كصفة المخلوق، ولا صفة المخلوق كصفة الخالق، فيجب إثبات ما أثبته الله لنفسه مع نفي التمثيل، ونفي العلم
(1)
رواه البخاري (2408) ومسلم، كتاب الأقضية (593)، من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.
بالكيفية، ومذهب أهل السُّنة والجماعة في نصوص الصفات قائم على هذه الأصول الثلاثة:
1 -
إثبات ما أثبته الله لنفسه، أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم.
2 -
نفي التمثيل - أي - نفي مماثلته تعالى لخلقه، وأن صفاته لا تماثل صفات المخلوق.
3 -
نفي العلم بالكيفيَّة، فصفاته سبحانه وتعالى لا يعلم أحد من الخلق كيفيتها.
وهل لصفة الرب تعالى كيفية؟
نعم لها كيفية لكن يجب علينا ألا نبحث عن كيفية صفات الرب؛ لأن ذلك قد استأثر الله بعلمه، فلا علم لنا بكيفية ذاته وصفاته.
ولهذا نقول: نفي العلم بالكيفية، ولا نقول: نفي الكيفية.
وقول السلف: تمرُّ كما جاءت بلا كيف - يعني - بلا تكييف لصفاته، وبلا بحث عن كيفية صفاته سبحانه.
وأمَّا المعطِّلة من الجهميةِ، والمعتزلة، والأشاعرة في هذه الصفات فإنهم ينفون حقيقةَ الرِّضا، ويفسِّرونه بإرادة الإنعام نحو تفسير المحبة، والرحمة.
وينفون حقيقة الغضب، والكراهة، والْمَقت، ويفسِّرون ذلك إما: بإرادة الانتقام، وإما ببعض المفعولات، وهي: ما يخلقه تعالى من العقوبات، يعني: نفس المقت، فالعقوبة التي يخلقها الله هي الكراهة،
وهي الغضب، وهي كذا، وكذا، ويدَّعون أن الغضب - مثلًا - هو: غليان دم القلب طلبًا للانتقام، وهذا المعنى لا يليق بالله
(1)
. فيقال لهم: هذا تفسير لغضب المخلوق، وهذه حقيقة غضب المخلوق، فهو الذي يمكن أن يفسَّر بأنه غليان دم القلب، أما غضب الرب سبحانه فلا يفسَّر هذا التفسير، غضب الرب معنى معقول ضده الرحمة من آثاره: الانتقام، وإنزال العقاب بمن غضب الله عليه - نعوذ بالله من غضب الله -، فيجب الإيمان بما أخبر الله به عن نفسه من هذه الصفات.
والإيمانُ بأنه تعالى يرضى، ويغضب، ويكره، ويمقت يوجب للعبد خوفًا، ورجاءً، ويوجب له أن يطلب رضا الله، وأن ترغب نفسه في ذلك ورضوان الله أكبر ما يمنُّ الله به على أوليائه ففي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم:«إن الله تبارك وتعالى يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة، فيقولون لبيك ربنا وسعديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى، وقد أعطيتنا ما لم تعطِ أحدًا من خلقك، فيقول أنا أعطيكم أفضل من ذلك، قالوا: يا رب وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول أحلُّ عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدًا»
(2)
.
فهذا أفضل ما يعطي الله أولياءه قال الله تعالى: {وَعَدَ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللّهِ أَكْبَرُ} [التوبة: 72]، رضوان من الله يُحلُّه على
(1)
التدمرية 146، وشرح حديث النزول ص 112.
(2)
البخاري (6549)، ومسلم (2829)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
أوليائه، هو أكبر من نعيم الجنَّة - أي - أكبر ممَّا في الجنَّة من أنواع النعيم من المطاعم، والمشارب، والملابس، ونحوها.
والإيمان بأنه تعالى يغضب يوجب للعبد أن يخاف من غضب الله، ويستعيذ منه، وفي الحديث الصحيح:«أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك»
(1)
.
فللعلم والإيمان بأسماء الرب وصفاته آثارٌ على القلب، وآثارٌ على سلوك العبد تورث الموفَّقين من عباد الله محبته سبحانه، وخوفه، ورجاءه، والتوكُّل عليه كل هذا من آثار الإيمان بأسمائه وصفاته.
* * * *
(1)
رواه مسلم (486)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
إثبات الإتيان والمجيء لله تعالى
وقوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ} [البقرة: 210]، وقوله تعالى:{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} [الأنعام: 158] وقوله تعالى: {كَلاَّ إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22)} [الفجر]، وقوله:{وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاء بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنزِيلاً (25)} [الفرقان].
هذه أربع آيات من نصوص الصفات تدلُّ على إثباتِ صفةٍ فعليَّةٍ هي: المجيء والإتيان، والمجيءُ، والإتيانُ معناهما متقارب {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} أي: هل ينتظر هؤلاء الكفار إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام وذلك يوم القيامة، وهذا اليوم الذي يأتيهم الله فيه يوم عصيب عليهم، ماذا تكون حالهم إذا لقوا الله، وقد كفروا به، وبرسله، وأشركوا به، وأعرضوا عن هداه؟ إنه لموقف ذلٍّ، وهوانٍ، وحسرةٍ إذا جاء سبحانه وتعالى وهذه حالهم، والملائكة يأتون، قال تعالى:{وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22)} [الفجر]، وقوله سبحانه وتعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيهُمُ الْمَلائِكَةُ
أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ}، وكل هذا حاصل سيأتي. {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَّحْجُورًا (22)} - إلى أن قال تعالى -:{وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاء بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنزِيلاً (25)} [الفرقان].
والقرآن متشابه يُصَدِّق بعضه بعضًا، ففي الآية الأولى قال:{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} ، هناك ظلل من الغمام وهي: السحاب الذي الله أعلم بمقداره، وبصفته، أمور غيبيَّة لا تحيط بها عقول العباد، تنزل الأملاك بأمر الله، وتفعل ما تُؤمَر به ممَّا يشاء سبحانه وتعالى، فالملائكة في الدنيا وفي الآخرة هم رسل الله يُوكلون بما يشاء سبحانه، ملائكة موكَّلون بالوحي، بالقَطْر، بقبض الأرواح، بالجبال
…
بما شاء سبحانه وتعالى، ويوم القيامة يأتون ويفعلون ما يُؤمَرون {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُون (6)} [التحريم].
قال تعالى: {وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنزِيلاً} ، وقال تعالى:{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ} متى؟ يوم القيامة.
أو يأتي بعض آيات ربِّك، قد جاء تفسير هذا البعض بطلوع الشمس مِنْ مغربها، كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم:«لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها فإذا طلعت من مغربها آمن الناس كلهم أجمعون فيومئذ لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا»
(1)
.
(1)
رواه البخاري (4635)، ومسلم (157)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
فيجب إثبات ما دلَّت عليه هذه الآيات بأنه يجيء سبحانه وتعالى كيف شاء، لا يصلح أن يتخيَّل العباد كيفية مجيء الرب ونزوله سبحانه وتعالى، ولا نفكر في هذا أبدًا؛ لأنه لا سبيل لعقول العباد إلى أن يتصوَّروا كيفية نزوله، وكيفية مجيئه سبحانه وتعالى؛ بل ينزل كيف شاء، ويجيء كيف شاء سبحانه وتعالى؛ فالعقول قاصرة عن تكييف ذاته، وصفاته، بل هي قاصرة عن تكييف بعض المخلوقات، وهي عن تكييف الرب تعالى وصفاته أعجز، وأهل السُّنة والجماعة يثبتون ذلك، ويؤمنون به، ويعلمون أنه تعالى سيأتي يوم القيامة للفصل بين عباده، والحكم بينهم ليجزي العاملين بأعمالهم إن خيرًا فخيرٌ، وإن شرًّا فشرٌّ، في ذلك اليوم الذي هو يوم الدين.
وأما المعطِّلة للصفات من الجهمية، والمعتزلة، ومن تبعهم من نفاة الأفعال الاختيارية، فلا يثبتون ما جاء في هذه الآيات
(1)
، فإن المجيء، والإتيان من الأفعال الاختيارية التي تكون بمشيئته سبحانه، وعند هؤلاء النفاة إثبات ذلك يستلزم حلول الحوادث في ذات الرب سبحانه، وهو ممتنع عندهم. وحلول الحوادث من الألفاظ المحدثة التي لم يأتِ بها كتاب، ولا سنَّة، وهو لفظ مجمل يحتمل حقًّا، وباطلًا، فإن أريد بنفيه أنه تعالى لا يحلُّ في ذاته شيء من مخلوقاته؛ فهو حقٌّ، وإن أريد نفي قيام الأفعال الاختيارية بذاته؛ فهو باطلٌ؛ لأنه تعالى أخبر أنه {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيد (16)} [البروج]، وأنه {يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18)} [الحج]، وأخبر عن بعض
(1)
مختصر الصواعق 3/ 847 - 848 و 856 - 860.
أفعاله كاستوائه على عرشه، ونزوله، ومجيئه، فوجب الإيمان بما أخبر به تعالى عن نفسه، فإنه أعلم بنفسه.
ومن يفعل أكمل ممَّن لا يفعل، فلذلك أجرى أهل السُّنة هذه النصوص على ظاهرها، وأثبتوا ما دلَّت عليه بلا كيف.
وأما النفاة فمنهم: من يفوِّض معانيها فلا يفهمها، ولا يفسِّرها.
ومنهم: من يفسِّرها بخلاف ظاهرها كقولهم: {وَجَاء رَبُّكَ} [الفجر: 22] معناه: وجاء أمر ربك، فيجمعون بين التعطيل، والتحريف، فظاهر النصوص عند هؤلاء كفر وباطل؛ فيجب فيها: إما التفويض، وإما التأويل. وكفى بهذا ضلالًا عن سواء السبيل.
والإيمان باليوم الآخر، وما يكون فيه من مجيء الله والأملاك؛ يوجب الإعداد لذلك اليوم، فإن من الناس من يلقى ربه وهو عنه راضٍ؛ فيلقاه مسرورًا، ويتلقَّاه ربه بأنواع الكرامات، ومن الناس من يلقى ربه، وهو عليه غضبان، نعوذ بالله من ذلك، اللهم إنا نعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك، وبك منك، ونسأله تعالى أن يجعلنا ممَّن يسعد بلقائه، ويكون فائزًا مسرورًا بذلك إنه تعالى سميع الدعاء.
* * * *
إثبات الوجه واليدين والعينين لله تعالى
وقوله: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالإِكْرَام (27)} [الرحمن]، {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} [القصص: 88]، وقوله:{مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75]، {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاء} [المائدة: 64]، وقوله:{وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور: 48]، {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُر (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاء لِمَنْ كَانَ كُفِر (14)} [القمر][26/ 2]، {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39)} [طه].
هذه الآيات ساقها المؤلِّف شواهد وأدلَّة على إثبات بعض صفات الرَّب سبحانه وتعالى فهي من نصوص الصفات، فدلَّت الآيتان الأُوْلَيان على إثبات الوجه له سبحانه وتعالى، والآيتان الأُخريان على إثبات اليدين، والثلاث الأخيرة على إثبات العينين له سبحانه وتعالى، وأهل السُّنة والجماعة يثبتون هذا كلَّه لله على ما يليق به سبحانه مع نفي التمثيل، ونفي العلم بالكيفية، يثبتون الوجه واليدين والعينين لله، وأن وجهه تعالى ليس كوجوه العباد، {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَة (22)} [القيامة]، العباد لهم وجوه، وليس
وجه الخالق كوجه أحد من الخلق، ولا يعلم العباد كيفية وجهه كما لا يعلمون كيفية ذاته، وهكذا يثبت أهل السُّنة اليدين له تعالى تصديقًا لخبره يدين يفعل بهما، ويخلق ما يشاء، وليست كأيدي العباد، ولا يعلم العباد كيفيتهما.
وهكذا أهل السُّنة يؤمنون بأن لله عينين يرى بهما كما في الآيات {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} ، {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} ، {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} .
وأهل الضلال الذين أصَّلوا أصولهم الباطلة، ومنها: أنه تعالى لا تقوم به أيُّ صفة بل هو ذات مجرَّدة، فهؤلاء ينفون حقيقة الوجه، واليدين، والعينين، ويزعمون أن إثباتها لله تشبيه فينفون عن الله الوجه فليس لله وجه عندهم، ولا يدان يفعل بهما، ويخلق بهما، ولا عينان؛ ينفون هذا كله، وهذا ردٌّ لما أخبر الله به، ورسوله صلى الله عليه وسلم ويسلكون في هذه النصوص كما تقدَّم
(1)
إما طريقة التفويض يقولون: هذه النصوص تُقرَأ، ولا يُتدبَّر معناها، ولا يُفهَم منها شيء، ولا تدلُّ على إثبات هذه الصفات له سبحانه وتعالى تقرأ ألفاظًا فقط، ولا يُوقَف عندها.
وآخرون: يتأوَّلون هذه النصوص ففي صفة الوجه
(2)
مثلاً يقولون: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} ، الوجه هذه كلمة زائدة صلة ليس لها معنى، المعنى: ويبقى ربك. فيصبح حذفها أولى بالكلام تعالى الله عن ذلك، أو المراد بالوجه نفس الذات فيبقى وجه ربك يعني ذات ربك، أو الثواب ويبقى ثواب ربك، وهذه من تأويلاتهم الباطلة السمجة، ولا موجب لهذا إلا
(1)
[ص 80 و 91].
(2)
انظر: مختصر الصواعق 3/ 992.
أصلهم الباطل: وهو نفي صفات الرب سبحانه وتعالى، فلما أصَّلوا الأصل الباطل لا بد أن يقفوا من هذه النصوص موقفًا يدفعون معارضتها لمذهبهم الباطل فيحرِّفونها.
وهكذا صفة اليدين يؤوِّلونها بالقدرة أو النعمة
(1)
، وهذه تأويلات تخالف سياق الكلام، وليس لهذه التأويلات أصل من لغة، ولا شرع، ويكون قوله تعالى:{مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} ، يعني: بقُدْرَتَيَّ على زعمهم، وهذا يردُّه أن الله تعالى له قدرة، ولا يقال: لله قدرتان. بل قدرة تامَّة لا يعجزها، ولا يستعصي عليها شيءٌ.
ونِعَمُهُ تعالى ليستْ نعمتين، بل نِعمٌ كثيرة لا تُحصَى.
ولو كان معنى قوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} ، يعني: بقدرَتِيْ لما كان لآدم خصوصية، فآدم كغيره، الكل مخلوق بقدرته سبحانه وتعالى.
وهكذا يتأوَّلون العينين بنفس البصر، أو الرؤية عند من يثبتها كالأشاعرة يثبتون البصر، والرؤية؛ لأنها بمعناهما، أو قريبة من معناهما، ولكنهم لا يثبتون العينين له سبحانه، وأمَّا أهل السُّنة فمجمِعون على إثبات هذه الصفات، وقد دلَّ على إثبات هذه الصفات الكتاب، والسُّنة، والإجماع.
قال سبحانه وتعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَان (26)} [الرحمن].
يخبر سبحانه وتعالى أن كل ما على هذه الأرض سيفنى، ويذهب: من نبات، وحيوان، ثم يبعث الله الموتى من قبورهم بعدما يفنيهم
(1)
انظر: مختصر الصواعق 3/ 946.
جميعًا {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} ، وهكذا قوله:{كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ} ، كل شيء هالك، وذاهب، وميت: الإنس، والجن، والملائكة؛ الكل {إِلاَّ وَجْهَهُ} سبحانه وتعالى، وتَدُلُّ هاتان الآيتان على إثبات الوجه له تعالى، وتدلُّ على بقائه، فهو سبحانه وتعالى الباقي الذي لا يفنى كما يفنى غيره، له البقاء والدوام، فهو الأول الذي ليس قبله شيء، والآخر الذي ليس بعده شيء، فلا يجوز عليه الفناء، ولا يجوز عليه الموت هو الحي الذي لا يموت، والقوي الذي لا يَضعُف والقدير الذي لا يعجز سبحانه وتعالى.
وليس لقائل أن يقول في قوله: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} إن الآية إنما تدلُّ على بقاء الوجه، فتحتاج إلى تأويل كما توهَّم هذا بعضهم، فلا يتوهَّم هذا إلا جاهل بدلالات الكلام، فكل عاقل يعرف أساليب الكلام، ولا سيما اللغة العربية يُدرك أن قوله:{وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} يدلُّ على بقائه تعالى، وعلى أنَّ له وجهًا، ولا تدلُّ الآية بظاهرها أبدًا على أن البقاء لوجهه فقط، هذا فهم ساذج، وسمج، وساقط.
والتأويل هو: صرف الكلام عن ظاهره إلى معنىً آخر، - أو -: عن احتمال راجح إلى احتمال مرجوح.
فنسأل: هل هاتان الآيتان تحتاجان إلى تأويل؟
بحيث نقول: إن ظاهرهما أن البقاء لوجهه فقط! أعوذ بالله هل هذا ظاهرهما؟
لا ليس ظاهر الآيتين هذا، بل ظاهرهما أنه سبحانه وتعالى الباقي {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} ، كل عاقل يعرف دلالات الكلام يفهم من هاتين الآيتين أنه سبحانه وتعالى الباقي الذي لا يفنى وأن له وجهًا.
فأفاد التركيب إثبات البقاء له تعالى، وإثبات الوجه له سبحانه وتعالى، ولا يفيد أن البقاء مخصوص، أو خاصٌّ بالوجه دون ذاته، تعالى الله عن فهم الخاطئين الغالطين.
فدلَّت الآيتان على أن له وجهًا، وقد وصف سبحانه وتعالى وجهه بالجلال والإكرام {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالإِكْرَام (27)} ، فوجهه موصوف بالجلال والعظمة، والكبرياء، وبالإكرام، فهو تعالى الذي يكرم عباده، وهو المستحقُّ من عباده أن يكرموه بطاعته، وبتقواه، وبتعظيمه، وإجلاله ثناءً عليه، وتمجيدًا له، وتعظيمًا له، وتنزيهًا له عن كل نقصٍ، وعيبٍ.
وهو تعالى يُوصَف بالجلال والإكرام كما قال تعالى: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالإِكْرَام (78)} [الرحمن].
كما تدلُّ الآيتان على أن كل عمل لغير الله فهو باطل {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ} ، فإذا كان كل شيء ذاهبًا، وأن البقاء له وحده، فهو الذي يبقى، ولا يفنى، {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} ، فإن ذلك يتضمَّن أنه الإله الحق الذي لا يستحقُّ العبادة سواه، وأن كل عمل لغيره فهو فانٍ هالك ذاهب، {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23)} ، ولا يبقى إلا ما كان خالصًا لوجهه، {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46)} .
قوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ} توبيخ من الله لإبليس عندما امتنع عن السجود لآدم، {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} ، أظهر الله تعالى فَضْل آدم حيث فضَّله بفضائل: خلقه بيده من بين سائر المخلوقات، ونفخ فيه من روحه، وعلمه أسماء كل شيء، وأسجد له الملائكة.
وكل الموجودات هي خلقه سبحانه خلقها بقدرته، ومشيئته، وأمره {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40)} ، وآدم خلقه الله بمشيئته، وبأمره، ولكن خصَّه بأن خلقه بيديه تعالى كيف شاء، والله يفعل بيديه ما شاء ويأخذ بيده ما شاء كما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«يطوي الله عز وجل السموات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول أنا الملك، أين الجبَّارون؟ أين المتكبِّرون؟ ثم يطوي الأرضين بشماله، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبَّارون؟ أين المتكبِّرون؟»
(1)
.
وهذا الحديث يفسِّر قوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} ، نؤمن بأن لله يدين حقيقةً يفعل ويخلق ويأخذ بهما ما شاء كيف شاء سبحانه وتعالى، ولا نكيِّفها، ولا نتخيَّلها أبدًا، ولا نقول: له يدان، وليستا جارحتين، فإن هذه العبارة يطلقها بعضهم، وهي عبارة مبتدعة موهمة، وقد تتضمَّن نفي حقيقة اليدين، فلفظة «جارحة» تحتاج إلى تفسير.
له تعالى يدان حقيقةً، وإذا قلنا: له يدان حقيقةً فلا يُفهَم أنهما كأيدي المخلوقين.
(1)
البخاري (7412)، ومسلم (2788) - واللفظ له -، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
وقوله تعالى: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} الآيات .. هذا إخبارٌ من الله عن سفينة نوح عندما أمره الله بصنعها {أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} ، فصنعها نوح عليه السلام على عين الله، ومرأى من الله، وجرت به، وبمن معه من المؤمنين أيضًا بمرأى من الله، وإذا قال المفسِّرون من أهل السُّنة {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} الآيات .. أي: بمرأى مِنّا، فليس هذا من التأويل في شيء، هذا تعبير عن دلالة الكلام، ومعنى: تجري بمرأى منَّا: تجري والله يرعاها، ويراها بعينه التي لا تنام، فمن قال:{تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} ، أي: بمرأى مِنّا فقد عبَّر عن المعنى تعبيرًا صحيحًا، وليس هذا تأويلًا للعين، ولا نفيًا للعين؛ بل هذا يتضمَّن إثبات العين؛ لأن العين بها تكون الرؤية {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} ، {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} فيه تصبير للرسول صلى الله عليه وسلم، وتثبيت لقلبه على أذى أعدائه.
ومن كان الله يراه، ويرعاه، ويحفظه، ويحرسه فإنه لا خوف عليه، كما قال تعالى:{وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيم (217) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُوم (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِين (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيم (220)} [الشعراء]، و
يقول أهل السُّنة
(1)
: إن لله عينين،
وإن كان لفظ العينين لم يرد في القرآن، ولم يصحَّ به حديث فيما أعلم، وإنْ ذُكِر فيه حديث لكن في ثبوته نظر
(2)
، لكن أهل السُّنة فهموا من كلام الله، وسنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم أن لله عينين كما يدلُّ عليه مفهوم
(1)
مقالات الإسلاميين ص 211 و 290، وبيان تلبيس الجهمية 1/ 397 و 2/ 27، ومجموع الفتاوى 4/ 174، والصواعق المرسلة 1/ 254 - 262.
(2)
رواه ابن أبي الدنيا في كتاب «التهجد وقيام الليل» رقم (508)، والعقيلي في «الضعفاء» 1/ 70، من طريق إبراهيم الخوزي عن عطاء بن أبي رباح: سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن العبد إذا قام في الصلاة فإنه =
ما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله تبارك وتعالى ليس بأعور، ألا إن المسيح الدجال أعور عين اليمنى كأن عينه عنبة طافية»
(1)
. ولا يجوز الخروج عن سبيل المؤمنين فسبيل المؤمنين هو هذا.
وقوله تعالى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} في موسى عليه السلام يُرَبّى في بيت فرعون على عين الله، والله تعالى يرعاه، ويحفظه، ويحرسه سبحانه وتعالى من كيد الكائدين، وهذه الآية تدل على إثبات العين لله، لكن لا يصح أن يقال: إنها تدل على أنه ليس لله إلا عين، هذا فهم خاطئ لا يصدر إلا من جاهل بدلالات الكلام، فكما أن قوله تعالى:{بِيَدِهِ الْمُلْكُ} لا يدل على أنه ليس لله إلا يد واحدة، لا كما يقوله المغالطون الغالطون المتحذلقون: ليس لله إلا يد واحدة.
مَنْ كان له يدان يقال: أخذ هذا بيده، ولا يدل إفراد اليد على أنه ليس لله إلا يد؛ إذا قوله:{وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} لا يدل على أنه ليس لله إلا عين، ولا يَفهم مَنْ كانت فطرته نقية سليمة من الشبهات، ووساوس الشيطان من هذا الكلام أنه ليس لله إلا عين واحدة. وهكذا قوله تعالى:{تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} هذا الأسلوب لا يدل على أن لله أعينًا، كما أن قوله تعالى:{مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} لا يدل على أن لله أيدي كثيرة، والحقيقة أنه
=بين عيني الرحمن، فإذا التفت، قال له الرب: يا ابن آدم! إلى من تلتفت؟ إلى خير لك مني! أقبل على صلاتك فأنا خير لك ممن تلتفت إليه».
إبراهيم الخوزي هو ابن يزيد الخوزي شديد الضعف، ضعفه عامة المحدثين. انظر: تهذيب الكمال 2/ 242، وميزان الاعتدال 1/ 75. وهذا من منكراته. وانظر: الضعيفة للمحدث الألباني (1024).
(1)
البخاري (3439)، ومسلم (169)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
لولا وجود بعض الأفكار، والوساوس، والتساؤلات لما كان هناك داعٍ لهذا التوقُّف، لكن هناك إلقاءات شيطانية تكلم بها مَنْ تكلم من أهل البدع، وتكلم بها من تكلم من جهَّال الناس.
إذًا: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} لا يدل على أن لله أعينًا؛ لأن من قواعد اللسان العربي أن المثنى إذا أضيف إلى الجمع أو صيغة الجمع أو صيغة المثنى؛ فإنه يذكر بلفظ الجمع، كقوله تعالى:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38].
والسارق والسارقة هل تُقطَع لهما أربع أيدٍ؟ يدان من السارق، ويدان من السارقة؟
الجواب: لا بل من السارق يد، ومن السارقة يد.
وهكذا قوله تعالى: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] للمرأتين قلوب؟ أم قلبان؟
وهذه قصة عائشة، وحفصة
(1)
{إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} ؛ إذًا: الجمع لا يدل على عدد كبير من القلوب.
ولا يجوز التوقُّف في هذا البتَّة، لا يتوقَّف بهذا إلا جاهل بما عليه السلف الصالح، فيجب الإيمان بكل هذه الصفات على ما يليق به سبحانه، فلا تشبه صفة من صفاته صفات المخلوقين {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، ولا يعلم العباد كيفيَّة شيء من هذه الصفات.
(1)
رواه البخاري (5267)، ومسلم (1474)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
فلا يجوز أن نتخيَّل كيفيَّة وجهه، أو كيفيَّة العينين له تعالى، لا تُفكِّر فيما لا سبيل إليه، فهذا من العبث والهوس، نؤمن بأنه تعالى ذو سمع، وذو بصر، فهو سميع، وسمعه واسع لجميع الأصوات، وذو بصر واسع نافذ لجميع المخلوقات، وأن لله تعالى عينين تليقان به حقيقة يرى بهما كيف يشاء، كما أن له يدين حقيقة، كما أن له علمًا، وقدرةً، وحياةً حقيقةً كل ذلك للرب تعالى على ما يليق به، ويختصُّ به لا يماثله شيء من صفات خلقه.
* * * *
إثبات السمع والرؤية والقدرة والعزة
وقوله: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} [المجادلة: 1]، {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا} [آل عمران: 181]، {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُون (80)} [الزخرف]، {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46)} [طه]، وقوله:{أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14)} [العلق]، {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِين (219)} [الشعراء]، {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة: 105]، وقوله:{شَدِيدُ الْمِحَال (13)} [الرعد]، وقوله:{وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللّهُ [وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِين (54)} [آل عمران]
(1)
، وقوله:{وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُون (50)} [النمل]، وقوله:{إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16)} [الطارق]، وقوله:{إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوَءٍ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149)} [النساء]، {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيم (22)} [النور]، وقوله:{وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ} [المنافقون: 8]، [وقوله عن إبليس:]
(2)
(1)
تتمة الآية من (ب).
(2)
زيادة من (م).
هذه الآيات كنظائرها التي تقدَّمت اشتملت على إثبات العديد من أسماء الله، وصفاته سبحانه وتعالى، فيجب إثبات ما أثبته الله لنفسه، من أسمائه وصفاته مع الإيمان بأنه تعالى لا مثيل له في شيء من ذلك، وأنه لا يَعلم كيفية شيء من صفاته أحد من خلقه، فلا يعلم كيف هو إلا هو، ولا يعلم أحد من العباد كُنْهَ هذه الصفات، بل ذلك مما استأثرَ الله به، وهذه الصفات التي اشتملت عليها الآيات، منها من الأسماء: السميع، والبصير، والعفو، والغفور، والقدير؛ كلها أسماء ثابتة لله، وكل اسم من هذه الأسماء متضمِّن لصفة من صفاته سبحانه وتعالى، وليست كما تقول المعتزلة: إنها مجرَّد أعلام محضة، لا تدلُّ على معانٍ. لا بل هي أسماء تدلُّ على صفات، فهو تعالى: السميع، وهو يسمع أقوال العباد حسنها، وقبيحها. {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة: 1] المرأة التي ظاهر منها زوجها، جاءت تجادل النبي صلى الله عليه وسلم، وتشتكي حالها، وعيالها إلى الله، وقد كان الظهار في الجاهلية طلاقًا تحرم به المرأة، وليس لهذا حَلٌّ، ولكن الله سبحانه وتعالى أنزل هذه الآيات في شأنها، فأبان تعالى أن الظهار ليس طلاقًا، ولا تحرم به المرأة، ولكن تجب فيه الكفارة، وأن الظهار منكر من القول وزور، وجاء في قصة هذه المرأة عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: إني في جانب البيت، وإنه ليخفى عليّ بعض كلامها، وتقول رضي الله عنها:«الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات»
(1)
.
(1)
رواه أحمد 6/ 46، والنسائي 6/ 168، وابن ماجه (188)، وصححه الحاكم 2/ 481، وشيخ الإسلام ابن تيمية في «بيان تلبيس الجهمية» 1/ 310.
المرأة تجادل الرسول صلى الله عليه وسلم، وعائشة قريبة منهم يخفى عليها بعض كلامها، والله العلي الأعلى يسمع كلامها.
{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ} (قد): تفيد التحقيق، سمع كلامها حين مجادلتها الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم علَّل سبحانه ذلك بقوله:{إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} .
وكذلك يسمع كلام المفترين المجترئين على الله من الكفار، لكنه يحلم عليهم ويمهلهم {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ} ، هذه مقالة لبعض اليهودِ، واليهودُ أهل جرأة على الله وتنقُّص {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} ، سمع الله قول هذا الكافر العنيد المجترئ على الله، لما أنزل الله {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} {البقرة 245} [البقرة: 245]، قال هذا الخبيث: الله فقير يستقرضنا أموالنا
(1)
. والله يخبرنا بأنه سمع، وليس المراد الإخبار فقط، بل في ضمن هذا الإخبار التهديد.
{لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ} لقد: اللام هي الموطئة للقسم، والمعنى: والله {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181)} فيه تهديد، كما أن من هذا القبيل ما جاء في قوله تعالى مهدِّدًا للمكذبين بالرسل:{أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80)} ، الله يسمع سرهم، ونجواهم، وسيجزيهم على ما يدور في هذا السر والنجوى، فالله يسمع
(1)
المختارة 10/ 112 من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. وانظر: العجاب في معرفة الأسباب 2/ 804، ولباب النقول ص 50.
كلام المتآمرين على رسل الله، والمتناجين بالإثم والعدوان، والرسل الملائكة الموكَّلون بكتابة الأعمال تكتب.
إذًا: هذه الأقوال الخفية التي يستسر بها أهلها، هي مسموعة للرب، ومكتوبة بأيدي الحفظة الكرام الكاتبين، وكذلك من هذه الآيات قوله تعالى:{إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46)} ، هذا خطاب من الله لموسى وهارون لما أرسلهما الله إلى فرعونَ - وفرعونُ طاغيةٌ -، وهما بشر فخافا، قال الله تعالى:{اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45) قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46)} [طه]، فلما خافا ثبتهما بوعدهما بمعيَّته لهما، وبأنه يسمع ويرى ما يدور بينهما، وبين فرعون وقومه، وفي هذا وعد ووعيد، ولكن جانب الوعد أظهر؛ لأنه جاء خطابًا لموسى وهارون {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46)} ، ومن صفاته تعالى الرؤية، فهو سميع بصير.
واسمه البصير ليس اسمًا مجرَّدًا عن المعنى، بل اسم يدلُّ على أنه تعالى ذو بصر نافذ لجميع المخلوقات، والله تعالى ينوع الأدلة على إثبات صفة الرؤية {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46)} ، {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218)} ، والله تعالى يرى ما يجري بين الرسل، وأعدائهم المكذبين، يرى سبحانه وتعالى العباد في مساجدهم، ومحاريبهم، يراك أيها العبد، فاحذر أن يراك ربك حيث نهاك.
وفي ذكر السمع والرؤية في هذه المواطن تثبيت لقلوب الرسل، وأتباعهم، وتقوية لعزمات العابدين، فإذا استحضر العبد وهو يعبد ربه
أن الله يراه، فهذا مقام من مقامات الإحسان:«أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك»
(1)
.
ومن الآيات الدالة على الرؤية قوله سبحانه وتعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة: 105]، وفي هذا تهديد للمنافقين بأن ما تعملون سيراه الله، ويراه الرسول، ويراه المؤمنون، وفي آية قبلها {يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لاَّ تَعْتَذِرُوا لَنْ نُّؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُون (94)} [التوبة]، هذه صريحة في المنافقين، فالله يرى أعمال المؤمنين من: صلاتهم، وصدقاتهم وحجهم، وجهادهم، ويرى أعمال الكافرين من: شركهم، وظلمهم، وعدوانهم، وجرائمهم، يرى هؤلاء وهؤلاء.
ومن الصفات التي اشتملت عليها هذه الآيات المتقدمة: صفة المكرِ، والكيدِ، والمكرُ والكيدُ معناهما متقارب، وكذلك المحال {وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} ، يعني: شديد المكر بأعدائه من: الكافرين، والمنافقين، فَمَنْ مَكَرَ اللهُ به فهو المغلوب؛ ولهذا قال سبحانه وتعالى في الكافرين:{وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30)} ، وفي قوم صالح:{وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50)} ، وقال سبحانه:{إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16)} ، فالله يكيد الكافرين والمنافقين، ويمكر بهم، وهو
(1)
رواه البخاري (50)، ومسلم (9)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ومسلم (8)، من حديث عمر رضي الله عنه.
خير الماكرين، والعباد يمكرون ويكيدون، وليس المكرُ كالمكرِ، ولا الكيدُ كالكيدِ، ولكنه تعالى يمكر بأعدائه حقيقة، ويكيدهم حقيقة.
والمكرُ والكيدُ: تدبير خفي يتضمَّن إيصال الضرر من حيث يظن النفع. فالذي يريد أن يمكر يظهر المحبة، ويظهر الإحسان، وهو يتَّخذ ذلك وسيلة للإيقاع بخصمه وعدوه.
والمكر من الناس منه: المحمود والمذموم، فإذا كان على وجه العدل؛ فهو محمود، وإذا كان على وجه الظلم، والعدوان؛ فهو مذموم، فمن المحمود: المكر مجازاة، أو المكر بالكفار بالتدابير الخفية للإيقاع بهم، هذا كله من أنواع الجهاد في سبيل الله؛ ف «الحربُ خَدْعَة»
(1)
. لكن المكرَ بالمؤمنين بغيرِ حقٍ؛ ظلمٌ وعدوانٌ.
أما مكر الله، فهو كله محمود، وعدل، وحكمة، هو تعالى يمكر بالكافرين مكرًا حقيقيًّا، ويدبر تدبيرًا خفيًّا، يوصل به العقاب من حيث يُظن الإنعام، وشاهد هذا قوله تعالى:{وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُون (182)} [الأعراف]، الاستدراج هذا هو المكر، وقال تعالى:{وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِين (178)} [آل عمران]، إملاء الله للكافرين هو من مكره بهم، {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} مما يشتهونه، ويفرحون به {حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً} أليس هذا مكرًا؟
(1)
رواه البخاري (3030)، ومسلم (1739)، من حديث جابر رضي الله عنه.
يفتح الله عليهم أبواب المسرَّات، والنعم، والخيرات، ويصبُّ عليهم ما يشتهون حتى إذا فرحوا بما أوتوا أحلَّ بهم النقمة {أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُون (44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِين (45)} [الأنعام]، إي والله مكر، والآن ما تتمتع به أمم الكفر من الحضارة القائمة، والرقي والتقدم المادي، والسلطان والقوة على سائر أمم الأرض، هذا والله من مكر الله بهذه الأمم الطاغية، فهم يعيشون في مكر من الله، فهذه الفتوح المادية أدَّت بهم إلى الاغترار، والزهو، والغطرسة، والكبرياء، والتسلط، والظلم .. هل انتفعوا بهذه الحضارة؟
لا والله، بل ازدادوا بها إثمًا، «إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته»
(1)
.
فالواجب على المسلمين ألا يغتروا بما يعيشه الكفار من مظاهر عز، وتقدم، ورقي، وعلوم، ومعارف، وعلى المسلمين أن يسعوا فيما ينفعهم، لكن من غير أن يعجبوا بالكفار، أو يعظموهم، أو يسيروا في ركابهم، أو يقلدوهم في التوافه، وفيما يضر، ولا ينفع.
المقصود أن هذا من مكر الله، ومن مكر الله بالمنافقين أن شرع قبول علانيتهم، فمن أظهر الإيمان، وأبطن الكفر، فقد أمر الله أن نقبل علانيته، ونترك سريرته، فيظن المنافق أن نفاقه قد راج على الله، وأنه بهذا قد خدع الله {يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُون (9)} [البقرة].
(1)
رواه البخاري (4686)، ومسلم (2583)، من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
ومن الصفات التي اشتملت عليها هذه الآيات المتقدمة صفة: العَفْوَ، والقدرة، ومن أسمائه تعالى العَفُوّ، والقدير، قال تعالى:{لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148) إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149)} ، في هذه الآية إثبات اسمين من أسماء الله تعالى العَفُوّ، والقدير، وكل اسم متضمِّن لصفة، فمن صفاته: العفو والتجاوز عن السيئات، وإزالة آثارها، ومن صفاته القدرة.
والعفو إنما يكون كمالًا إذا كان مع قدرة؛ ولهذا قرن الله بين هذين الاسمين العفو والقدير، فعفوه تعالى لا عن عجز، بل مع كمال القدرة.
وهكذا قوله تعالى: {أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22)} ، فيه إثبات اسمين من أسمائه، وهما: الغفور الرحيم.
والغفور صيغة تدل على كثرة مغفرته للذنوب، فهو سبحانه: الغفور، والغفار، وهو غافر الذنب.
وهو الرحيم ذو الرحمة الواسعة، الذي لم يزل موصوفًا بالرحمة، وفي هاتين الآيتين ترغيب في العفو، والرحمة، فإن الجزاء من جنس العمل، فمن عفا عفا الله عنه، ومن غفر غفر الله له {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} ، {إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149)} ، ومن سنة الله في الجزاء أن يجازيَ كُلًّا بجنس عمله، {هَلْ جَزَاء الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَان (60)} [الرحمن]، وفي الدعاء الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم لأم المؤمنين عائشة حين سألته: أرأيت إن وافقت ليلة
القدر ما أقول؟ قال قولي: «اللهم إنك عفو تحب العفو فاعفُ عني»
(1)
. فالله يحبُّ لعباده أن يعفو بعضهم عن بعض، وأن يغفر بعضهم لبعض {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22)} ، وهذه الآية نزلت في أبي بكر رضي الله عنه عندما حلف ألا ينفق على مسطح ابن بنت خالته، فلما أنزل الله هذه الآية قال:«بلى والله إني أحب أن يغفر الله لي» ، فَرَدَّ على مسطح نفقته
(2)
.
ومن الصفات التي ورد بعض الأدلة والشواهد عليها العزة، فمن صفاته تعالى العزة، والعزة تفسر: بالقوة، والغلبة، ومن أسمائه العزيز، فله العزة جميعا بكل معانيها، وهو الذي منه العزة، فيعز من يشاء، ويذل من يشاء، وقد جعل العزة الحقة للرسول صلى الله عليه وسلم، وللمؤمنين، {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8].
وكلما كان حظُّ الإنسان من الإيمان أكبر كان حظه من العزة، والنَصْر، والنجاة أوفر، فاسمه العزيز يدل على صفة العزة، فليس اسمًا محضًا مجردًا خاليًا عن المعنى.
(1)
رواه أحمد 6/ 171، والترمذي (3513) وصححه، وابن ماجه (3850)، والنسائي في «عمل اليوم والليلة» (872 - 878)، والحاكم 1/ 530، من حديث عبد الله بن بريدة عن عائشة رضي الله عنها، وقال الدارقطني والبيهقي: لم يسمع من عائشة. سنن الدارقطني 4/ 336، والسنن الكبرى 7/ 118. وصححه النووي في «الأذكار» ص 277، وابن القيم في «إعلام الموقعين» 4/ 298. وانظر: العلل للدارقطني 15/ 88.
(2)
رواه البخاري (4141)، ومسلم (2770)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
وقال عن إبليس: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِين (82)} [ص]، فأقسم إبليس بعزة الله، وهدد آدم وذريته بالإغواء، نعوذ بالله من إبليس، وجنوده من شياطين الإنس والجن.
فلله تعالى الغلبة على كل شيء {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّين (20) كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيز (21)} [المجادلة]، وهو سبحانه العزيز - أي -: الذي لا مثيل له، فله تعالى العزة بكل معانيها على أكمل وجه، وإن كان المخلوق قد يسمى عزيزًا، كما قال تعالى:{قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ} [يوسف: 51]، فله عزة تناسبه، وليس العزيز كالعزيز، ولا العزة كالعزة، فسبحان الله العظيم الذي له الأسماء الحسنى والصفات العلا، وله المثل الأعلى.
* * * *
نفي النقائص عن الله كالكفء والند والولد والشريك
وقوله: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالإِكْرَام (78)} [الرحمن]، وقوله:{فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)} [مريم]، {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَد (4)} ، {فَلَا تَجْعَلُوا لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُون (22)} [البقرة]، {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ} [البقرة: 165]، {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَم يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلَّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111)} [الإسراء]، {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير (1)} [التغابن]، وقوله:{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2)} [الفرقان]، {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُون (91) عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُون (92)} [المؤمنون][27/ 1]، {فَلَا تَضْرِبُوا لِلّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُون (74)} [النحل]، {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللّهِ مَا لَا تَعْلَمُون (33)} [الأعراف].
هذه الآيات التي ساقها المؤلف رحمه الله تختلف عن الآيات السابقة، فإن هذه الآيات:{تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} ، {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2)} ، {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} ، {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)} ، {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)} ، {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ} .
هذه الآيات تتضمَّن وصف الله بنفي تلك النقائص عنه سبحانه، فالله موصوفٌ بالإثبات وبالنفي، ومن صفات النفي التي يُوصَف الله بها تعالى أنه منزَّه عن: الولد، والوالد، والكفء، والنِّدِّ، والشريك، والولي من الذل.
قوله تعالى: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا} فيه نفي الولد، ونفيُ الولد نَجده في القرآن كثيرًا كما في هذه الآيات التي فيها التنديد بالذين ينسبون إليه الولد، وذلك لأن كثيرًا من الأمم نسبوا إليه ذلك تعالى الله عمّا يقولون، فاليهود قالت: عزيز ابن الله، والنصارى قالوا: المسيح ابن الله، ومشركو العرب قالوا: الملائكة بنات الله؛ ولهذا كثر التنديد بمقالتهم {فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُون (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُون (150) أَلَا إِنَّهُمْ مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُون (151)} {وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُون (152) أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِين (153) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُون (154) أَفَلَا تَذَكَّرُون (155) أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُّبِين (156)} [الصافات]، {أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ
وَلَهُ الأُنثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22)} [النجم]. توبيخٌ لهم وتقريعٌ وإفحامٌ، وأنه لا حجَّة لهم من عقلٍ ولا شرعٍ ولا حسٍّ، ما هو إلا الكذب والافتراء الذي زينه الشيطان لهم.
وكل من أشرك مع الله غيره فقد جعل له مثلًا، وجعل له ندًّا؛ ولهذا أنكر الله عليهم ذلك {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} لا تجعلوا له أشباهًا، ونظراء؛ فإنه لا نظير له، لا تجعلوا له أندادًا في العبادة، فإنه الإله الحق الذي لا يستحقُّ العبادة سواه، فلا مثيل له في ذاته، ولا في صفاته، ليس كمثله شيء.
وهذه الآيات الغالب فيها النفي، وإن كان فيها إثبات، لكن الشيخ رحمه الله ساقها للاستشهاد بها على الصفات السلبية، فالله تعالى موصوفٌ بنفي النقائص، والعيوب، كنفي الشريك، ففي القرآن:{لَا شَرِيكَ لَهُ} [الأنعام: 163]، {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُون (43)} [الطور] ونفي الولد، والصاحبة {مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3)} [الجن]، {أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ} [الأنعام: 101]، ونفي المِثْل {فَلَا تَضْرِبُوا لِلّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُون (74)} [النحل]، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ} [البقرة: 165].
فذمَّ سبحانه وتعالى الذين اتخذوا من دون الله أندادًا في المحبة يحبونهم كحبهم لله.
والسمي، والندّ، والكفء أو الكفو، والمثل؛ كلها ألفاظ متقاربة تفسر بالمثل، والشبه، والشبيه، والنظير، فإنه سبحانه وتعالى لا سمي له، ولا كفو له، ولا ندّ له، ولا يقاس بخلقه، ونفي هذه النقائص يستلزم إثبات
الكمال، وتفرُّده به، فهو سبحانه وتعالى المتفرد بربوبيته، وإلهيته، وأسمائه، وصفاته، {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ} [المؤمنون: 91]، نفى الولد، ونفى الإله، لو كان مع الله إله آخر لكان للإله خلق، ولانفرد، وذهب كل إله بما خلق، ولعلا بعضهم على بعض، ولكنه ما ثَمَّ إلا إله واحد، هو الإله الحق، وكل ما يعبد من دون الله فهو معبود بالباطل.
فليس في الوجود إله حق إلا الإله الواحد {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيم (163)} [البقرة]، {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُون (25)} [الأنبياء]، لا إله إلا الله: أصل دين الرسل كلهم من أولهم إلى آخرهم، لا إله إلا الله: نفي لإلهية ما سوى الله، وإثبات الإلهية له تعالى، ولا يتحقق التوحيد إلا بذلك بإثبات الإلهية له، ونفي الإلهية عما سواه، ثم تخصيصه بالعبادة، وعبادته تعالى وحده، وترك عبادة ما سواه {وَاعْبُدُوا اللّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء: 36].
قوله تعالى: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ} .
تبارك: هذه الكلمة تدل على التنزيه، والتقديس، تنزيه الله تعالى، وتقديسه عن كل النقائص، والعيوب من: الشركاء، والأنداد، والأولاد.
وفيها: الدلالة على أنه تعالى ذو الخيرِ، والبركةِ، والبركةُ: هي الخير الكثير، وهو سبحانه وتعالى الذي بيده الخير، وهو الذي له الأسماء الحسنى، والصفات العلا.
وتبارك: تدلُّ على أن بركته تعالى ذاتيَّة ليست مكتسبة، أما المخلوق فما يكون فيه من بركة، فهي بركة موهوبة.
قال الله عن عيسى عليه السلام: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا} [مريم: 31]، فالعبد يكون مباركًا، ولا يقال في العبد: إنه تبارك، لا تقل: فلان تبارك، كما يجري على ألسنة بعض الناس يقولون: تباركت علينا يا فلان، أو تبارك هذا الشيء، تباركت هذه السلعة، أو هذه الدار .. هذا غلط، والصواب أن تقول: هذه سلعة مباركة، وهذه دابة مباركة، وسيارة مباركة، وهذا شيء مبارك، وما إلى ذلك ..
(1)
فالله يجعل البركة فيما شاء من خلقه، أما الله تعالى فبركته ذاتية له، فهو الذي يوصف بأنه تبارك، يقال: تبارك الله أحسن الخالقين، تبارك الله رب العالمين، تبارك الذي نزل الفرقان على عبده.
ف (تبارك) لا تضاف إلا إلى الله، أو إلى اسم من أسمائه، {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالإِكْرَام (78)} [الرحمن].
وتقدَّم
(2)
: أن القاعدة فيما يُوصَف الله به من النفي: أن يكون مجملاً لا مفصلًا، وهذا هو الغالب، وقد يأتي النفي مفصلًا؛ فنفي الكفء، والندّ، والسمي، والمثل؛ كل هذا من قبيل النفي المجمل؛ لأنه نفي مطلق عام، فلا سمي له، ولا كفء له، ولا ند له، لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، فهذا نفي مجمل.
(1)
المحرر الوجيز 6/ 416، وبدائع الفوائد 2/ 680، والإتقان في علوم القرآن 2/ 188، وفتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم 1/ 207، وأضواء البيان 6/ 219، والفتاوى والدروس في المسجد الحرام ص 129.
(2)
[ص 44].
أما نفي الولد، ونفي النوم والسِّنة، ونفي الصاحبة؛ فهذا من النفي المفصَّل.
وكلُّ ما يُوصَف الله به من النفي؛ فإنه متضمِّن لإثبات كمال، فنفي السِّنة والنوم؛ يتضمَّن إثبات كمال حياته، وقيوميَّته.
ونفي الضلال والنسيان {لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (52)} [طه] يتضمن إثبات كمال علمه.
ونفي الغفلة عنه تعالى {وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِين (17)} [المؤمنون]، {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُون (123)} [هود] يتضمَّن كمال علمه، فلِكمال علمه سبحانه لا يغفُل.
ونفي الشريك يتضمن كمال تفرده سبحانه وتعالى في ربوبيته، وإلهيته؛ فهو الواحد، وهو الأحد، وهو الإله الذي لا شريك له {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا} نَفَى الولد {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} لا شريك له في ملكه، ولا شريك له في شيء من: أسمائه وصفاته سبحانه.
ونفي الولي من الذل يتضمَّن كمال عزَّته، وكمال قوَّته، وقدرته. ووَلايتُهُ لأوليائه لم تكن لحاجة وذلٍّ يلحقه تعالى وتقدَّس؛ بل هو القوي العزيز، وهو القدير المقْتدِر؛ ولهذا قال سبحانه:{وَقُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَم يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلَّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111)} [الإسراء]، عَظِّم ربك تعظيمًا بالقول، وبالفعل؛ فهو الكبير المتعال، وهو أكبر من كل شيء، الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرة وأصيلًا.
ومن الآيات التي ساقَها المؤلِّف قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} .
الفواحش: الفَعْلات المنكرة البالغة في القبح غايته، وتستفحشها، وتستقبحها الفطر السليمة، والعقول المستقيمة.
والبغي: ظلم الخلق.
{وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ} ولعل هذا هو الشاهد، فتحريم الشرك بالله يتضمَّن نفي الشريك كما أن قوله تعالى:{فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} نهيٌ عن جعل الأنداد لله؛ لأنه لا ندَّ له، فلما كان تعالى لا ندَّ له حَرَّم على عباده أن يتَّخذوا له أندادًا؛ لأن ما يتَّخذونه أندادًا، وشركاء هي ليست أندادًا، ولا شركاء إلا في زعم المشركين وظنهم، وإلا فهي مخلوقات مربوبة ناقصة عاجزة.
المقصود أن هذه الآيات ساقها المؤلف استشهادًا على أنه تعالى: موصوف بالإثبات، والنفي، وأن الله جمع فيما وصف، وسمَّى به نفسه بين النفي والإثبات، فنجد بعض الآيات فيها إثبات، وبعضها فيها نفي فقط، وبعضها يجمع الله فيها بين النفي والإثبات، وكل إثبات فإنه يتضمَّن نفي ضده.
فإثبات العلم يستلزم نفي الجهل، والنسيان، والضلال، والغفلة، ونفي هذه الأشياء يتضمن كمال العلم، وهكذا نجد أن أساليب القرآن في وصفه تعالى متنوعة كثيرًا، مجملةً، ومفصلةً، ونصوص الصفات هي أكثر ما في القرآن.
إثبات استواء الله تعالى على عرشه
وقوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} ، {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} في ستة مواضع: في سورة الأعراف قوله: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54]، وقال في سورة يونس:{إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [يونس: 3]، وقال في سورة الرعد:{اللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الرعد: 2]، وقال في سورة طه:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} [طه]، وقال في سورة الفرقان:{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ} [الفرقان: 59]، وقال في سورة ألم السجدة:{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُون (4)} [السجدة]، وقال في سورة الحديد:{هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الحديد: 4]
(1)
.
(1)
سرد آيات الاستواء من (م)، ولم ترد في (ظ)، (ب).
يتابع الشيخ رحمه الله سوق الشواهد القرآنية على إثبات صفاته سبحانه وتعالى، فيذكر النصوص الدالة على صفة استواء الله على عرشه سبحانه وتعالى، وبيَّن أن ذِكرَ استواء الله على عرشه جاء في هذه المواضع السبعة في كتاب الله.
وقال أهل العلم: العرش: معناه في اللغة: سرير المُلْك، أو سرير المَلِك
(1)
، والمعنى واحد.
والمراد بالعرش في هذه الآيات عرش الرحمن، وهو سرير مخلوق، وهو أعلى المخلوقات، وأعظمها، ولا يقدُر قدره إلا الله، ولا يحيط العباد بعظمة هذا العرش، وقد وصف الله العرش بأنه: عظيم {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيم (26)} [النمل]، وكريم {لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيم (116)} [المؤمنون]، ومجيد {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدِ 15} [البروج] على قراءة الجر
(2)
.
وفي هذه الآيات التي ساقها المؤلف أخبر الله فيها عن استوائه على العرش، ومعناه كما جاء ذلك عن السلف
(3)
: علا، وارتفع، واستقرَّ على العرش.
(1)
لسان العرب 6/ 313.
(2)
هي قراءة حمزة والكسائي وخلف العاشر. التيسير ص 221، والنشر 2/ 339.
(3)
قال ابن القيم في «الكافية الشافية» ص 120:
فَلَهُم عِبَارَاتٌ عَلَيهَا أربَعٌ
قَدْ حُصِّلَت للفَارِسِ الطَّعَّانِ
وَهيَ استَقَرَّ وَقَدْ عَلَا وَكَذَلِكَ ار
تَفَعَ الَّذِي مَا فِيهِ مِنْ نُكرَانِ
وَكَذَاكَ قَدْ صَعِدَ الَّذِي هُوَ رَابعٌ
وانظر: شرح حديث النزول ص 389.
استوى سبحانه على العرش استواء يليق به، ويخصُّه، لا يشبه استواء المخلوقِ.
هل المخلوقُ يُوصَف بالاستواء على غيره؟ نعم {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ} [الزخرف: 13]، {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِين (28)} [المؤمنون]، واستوت سفينة نوح {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} [هود: 44]، وليس الاستواء كالاستواء؛ فاستواء الله على عرشه ليس كاستواء المخلوق بل استواء يخصُّه، ويليق به، ويناسبه، ولا يعلم العباد كنهه، فيجب أن يثبت ذلك لله مع نفي مماثلته لصفة المخلوق، ونفي العلم بالكيفية، لكن الاستواء معناه معلوم كما قال الأئمة، قال الإمام مالك لما قال له رجل: كيف استوى؟ قال: «الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة»
(1)
.
أي: معناه معلوم في اللغة العربية؛ لأن الله أنزل هذا القرآن بلسان عربي مبين، وأمر عباده بتدبر القرآن، وذمَّ المعرضين عن ذلك.
فمعنى استوى: علا، وارتفع، واستقرَّ، كيف شاء سبحانه وتعالى نعلم معنى ذلك، لكننا لا نعلم كيفية ذلك.
(1)
تقدم تخريجه [ص 41].
لأن أصل الإيمان هو الإيمان بكل ما أخبر الله به في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، فالإيمان بالقرآن والإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم يقتضي التصديق بكل ما في الكتاب والسُّنة من الأخبار.
«والسؤال عنه بدعة» ؛ لأنه تكلُّف، وسؤال عمَّا لا سبيل إلى العلم به.
ونلاحظ أن آية طه {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} فيها الإخبار بأنه استوى على العرش، لكن متى؟ الله أعلم لم تدلَّ الآية على ترتيب هذا الاستواء، أو وقت هذا الاستواء، لكنّ سائر الآيات فيها ذكر خلق السموات والأرض، وعطف الاستواء على ذلك بحرف (ثم)، فهي تدلُّ على أن استواءه على العرش بعدما خلق السموات والأرض، وهذا في كل الآيات الست {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} استواء الله مخصوص بالعرش، فلا يقال: إنه تعالى استوى على السماء، فضلًا أن يقال: استوى على الأرض؛ بل استوى على العرش الذي هو سقف المخلوقات، فهو أعلى المخلوقات وأعظمها، والله تعالى فوق جميع المخلوقات، ويلزم من استوائه على العرش علوه فوق جميع المخلوقات.
وأهل السُّنة مجمِعون على إثبات هذه الصفة، وأهل البدع من: الجهمية، والمعتزلة، والأشاعرة هذه الطوائف الرئيسة، ومن دخل مدخلهم كالرافضة؛ لأن الرافضة اتبعوهم فصاروا معتزلة، وكذلك الزيدية الذين دخلت عليهم أصول المعتزلة، الكل ينفون صفة الاستواء، ومنهم من ينفي حقيقة العرش أيضًا، ويقول: المراد بالعرش المُلك، استوى على العرش يعني: استولى على الملك، فيفسرون الاستواء بالاستيلاء، والعرش بالمُلك، وقد يكتفي
بعضهم بتأويل الاستواء إلى الاستيلاء بصرف لفظ الاستواء إلى الاستيلاء، وهذا تحريف للكلم عن مواضعه.
أما العرش فقد دلَّت النصوص على أنه مخلوق متميِّز عن سائر المخلوقات وصف في القرآن بأنه: عظيم، وكريم، ومجيد.
وجاء في السُّنة أنه: ذو قوائم
(1)
، وجاء في القرآن أنه محمول {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} [غافر: 7] هل يصح أن تكون الذين يحملون الملك؟!
هم من جملة ملك الله؛ فلا يستقيم هذا التفسير الذي هو في الحقيقة تحريف.
وتفسير الاستواء بالاستيلاء أيضًا فاسد من جهة اللغة، ومن جهة الشرع، فإنه لا يُعرَف في اللغة، استوى: بمعنى استولى، ولا دليل لهم عليه إلا بيت قاله الأخطل النصراني
(2)
:
قد استوى بشر على العراق
من غير سيف ودم مهراق
(3)
(1)
روى البخاري (2412)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«لا تخيروا بين الأنبياء فإن الناس يصعقون يوم القيامة، فأكون أول من تنشق عنه الأرض فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش» الحديث.
(2)
غياث بن غوث بن الصلت التغلبي النصراني، أبو مالك، كان هو وجرير والفرزدق أشعر أهل زمانهم. تاريخ دمشق 48/ 104.
(3)
هذا البيت ينسب للأخطل، وليس في ديوانه، فقيل: إنه محرف، وإنما هو: بشر قد استولى على العراق. وقيل: إنه مصنوع. انظر: فتاوى ابن تيمية 5/ 146، ومختصر الصواعق المرسلة 3/ 912.
قالوا: إن هذا معناه استولى على العراق. وليس هذا صريحًا، استوى بشر على العراق، يعني: علا على عرشه، صار سلطانًا عليه، وهذه عمدتهم.
وأيضًا من جهة المعنى، لا يصح، فإن الاستيلاء يشعر بأنه كان قبل ذلك غير مستولٍ عليه، وأنه صار مستوليًا عليه بعد أن لم يكن، أو يشعر أيضًا بالمغالبة
(1)
.
المهم: أن المعطلة ومن سلك سبيلهم ينفون حقيقة الاستواء، ويفسرونه بالاستيلاء، وأهل التأويل منهم.
أما أهل التفويض؛ فيقولون: هذه نصوص يجب أن نمرُّها ألفاظًا دون أن يفهم منها معنى، ودون أن تفسر.
أي: تقرأ ألفاظًا جوفاء، لا تتدبر، ولا يعقل لها معنى، وكلا القولين باطل قول أهل التفويض، وأهل التأويل -.
فالاستواء يجب إثباته لله، ويجب أن نؤمن بأنه تعالى مستوٍ على العرش، وأنه استوى عليه بعد خلق السموات والأرض، والعرش مخلوق قبل ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم:«كان الله ولم يكن شيء قبله، وكان عرشه على الماء، ثم خلق السموات والأرض، وكتب في الذكر كل شيء»
(2)
.
(1)
أبطل العلامة ابن القيم زعمهم من اثنين وأربعين وجهًا. مختصر الصواعق 3/ 888.
(2)
رواه البخاري (7418)، من حديث عمران بن حصين رضي الله عنهما. وانظر شرحًا موسعًا لهذا الحديث في: مجموع الفتاوى 18/ 210 - 244.
وفي الحديث الآخر عنه صلى الله عليه وسلم: «كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات، والأرض بخمسين ألف سنة، وعرشه على الماء»
(1)
.
ونصوص الاستواء نوع من أنواع أدلة علوه تعالى على خلقه التي سيذكر الشيخ منها نماذج في الشواهد التالية.
* * * *
(1)
رواه مسلم (2653)، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.
علو الله تعالى ومعيته لعباده
{يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران: 55]، وقوله:{بَلْ رَفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ} [النساء: 158]، {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10]، [وقوله عن فرعون]:
(1)
{يَاهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَاب (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِبًا} [غافر]، {أَأَمِنتُم مَنْ فِي السَّمَاء أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُور (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاء أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِير (17)} [الملك]، وقوله:{هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير (4)} [الحديد]، {مَا يَكُونُ مِنْ نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم (7)} [المجادلة]، {لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40]، {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46)} [طه]، {إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَّالَّذِينَ هُمْ مُّحْسِنُون (128)} [النحل]، {وَاصْبِرُوا
(1)
زيادة من (م).
إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِين (46)} [الأنفال]، {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِين (249)} [البقرة].
جملة من هذه الآيات تدلُّ على علوه تعالى، وأدلَّة علو الله تعالى على خلقه أنواع كثيرة جدًّا في القرآن، والسُّنة، أوصلها العلَّامة ابن القيم إلى أكثر من عشرين نوعًا
(1)
، كل نوع تحته أفراد من الأدلة، فمثلًا:
من
أنواع أدلَّة العلو:
1 -
التصريح باستواء الله على عرشه: هذا نوع، وتحته سبعة أدلة في القرآن، كلها فيها تصريح باستواء الله على عرشه.
2 -
التصريح برفع بعض المخلوقات إليه: قال تعالى: {بَلْ رَفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158)} [النساء]، وقال تعالى:{إِذْ قَالَ اللّهُ يَاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران: 55].
3 -
التصريح بصعود بعض المخلوقات إليه: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر: 10]، وعروج بعض المخلوقات إليه {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج: 4]، وقال تعالى:{يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاء إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} [السجدة: 5].
(1)
الكافية الشافية ص 103، وإعلام الموقعين 2/ 281. وذكر في «الصواعق المرسلة» 4/ 1280 - 1340 ثلاثين طريقًا عقليًّا تدل على علوه تعالى على خلقه.
4 -
التصريح بفوقيته تعالى على عباده: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِير (18)} [الأنعام].
5 -
التصريح بالفوقية مقرونة بمِنْ: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُون (50)} [النحل].
6 -
التصريح بأنه في السماء: وهذا في القرآن في موضعين، قال تعالى:{أَأَمِنتُم مَنْ فِي السَّمَاء أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُور (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاء أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِير (17)} [الملك].
7 -
إخباره تعالى عن فرعون بأنه قال لهامان: {ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَاب (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} [غافر]. ووجه دلالة هذه الآية على العلو: أن فرعون تظاهر بأنه يطلب إله موسى في السماء، مما يدل على أن موسى قد أخبره بأن إلهه في السماء، فذهب الطاغية يقول لوزيره هامان:{ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَاب (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} ، يعني: الذي يزعم أنه في السماء، فهذا هو وجه الاستدلال بهذه الآية على أن الله في السماء.
8 -
التصريح بوصف العلو {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيم (4)} [الشورى] العلي: اسم من أسمائه؛ فله العلو بكل معانيه، وله الفوقية بكل معانيها: ذاتًا، وقدرًا، وقهرًا.
وغيرها من أنواع الأدلة
(1)
. وأنكر المعطِّلة علو الذات
(2)
. وعلو القدر وإنْ أثبتوه لفظًا فما أثبتوه في الحقيقة؛ لأن من نفى صفات الرب تعالى، ونفى أسماءه فما أثبت لله علو القدر {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} .
فالعلو الذي فيه نزاع بين أهل السنة، وطوائف المبتدعة، هو علو الذات، فأهل السُّنة يؤمنون بما دلَّت عليه هذه النصوص من أنه في العلو، فوق جميع المخلوقات، فهو سبحانه عال بذاته فوق جميع المخلوقات، فهو العلي الأعلى {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى (1)} .
وأما أهل البدع - نعوذ بالله من الضلال، وزيغ القلوب - فيقولون: إنه ليس في السماء، ليس في العلو، بل هو في كل مكان، حال في المخلوقات، وهؤلاء هم الحُلوليَّة الذين ردَّ عليهم الإمام أحمد، وقال:«إن قولكم يستلزم أن يكون الله في أجسامكم، وأجوافكم، وأجواف الخنازير، والحشوشِ»
(3)
.
وكفى بهذا تنقُّصًا لرب العالمين، فالله أعلى وأجلُّ من أن تحيط به مخلوقاته، وأن يحويه شيء من مخلوقاته، بل هو العلي العظيم، العلي فوق كل شيء، العظيم الذي لا أعظم منه، فلو كان حالًّا في كل مكان لما كان هو العلي، ولما كان هو العظيم مطلقًا.
(1)
انظرها مع كلام الأئمة في: «كتاب العلو» للذهبي، و «اجتماع الجيوش الإسلامية» 95 - آخر الكتاب، وانظر الحاشية السابقة.
(2)
انظر: مختصر الصواعق 3/ 1060.
(3)
الرد على الجهمية والزنادقة ص 144.
وهؤلاء الضلَّال عمدوا لهذه النصوص الكثيرة، فحرَّفوها كما حرَّفوا نصوص الاستواء، أو فوَّضوا، فقد يقولون:
{بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} : رفع الله عيسى إلى محل عظمته، وسلطانه؛ هذا من نوع تحريفاتهم.
و {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} إلى محلِّ عظمته وسلطانِه؛ وسلطانُ الله في كل مكان.
وقوله تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} يقولون: أأمنتم من في السماء أمره، وأمرُ الله سبحانه وسلطانه نافذ في كل شيء.
فيؤولون النصوص بنحو هذه التأويلات السمجة.
والنصوص دالَّة على أن من العباد، ومن المخلوقات ما هو عنده {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206)} هؤلاء الملائكة المقرَّبون.
فعندهم: أن الله في كل مكان، والملائكة لا تعرج إليه، ونسبة كل المخلوقات إلى الله نسبة واحدة ليس بعضها أقرب إلى الله من بعض.
وكفى بهذا تنقُّصًا لرب العالمين، وتلاعبًا بكلامه سبحانه وتعالى حيث يصرف عن وجهه، ويحرف عن مواضعه، ويدعى أن كل هذه النصوص ليست على حقيقتها بل هي مجاز.
إذًا؛ يجب الإيمان بأنه تعالى له العلو بكل معانيه، والفوقية بكل معانيها، وأنه تعالى فوق جميع المخلوقات، ولا يخفى عليه شيء من
أعمالهم، فتقول: إنه تعالى فوق جميع المخلوقات، وإنه العالي على جميع المخلوقات، ولكن لا تقل: إنه استوى على جميع المخلوقات، فالاستواء مختَصٌّ بالعرش، وأما العلو فإنه على جميع المخلوقات.
و
الفرق بين العلو والاستواء:
1 -
أن العلو: طريق العلم به: الكتاب، والسُّنة، والإجماع، والعقل، والفطرة.
والاستواء: طريق العلم به: الكتاب، والسُّنة، والإجماع.
والاستواء دليلٌ على العلو.
2 -
الاستواء متعلِّق بالعرش فلا يقال: مستوٍ على السماء الدنيا مثلًا، وأما العلو فالله تعالى عالٍ على كل شيء تقول: الله فوق العرش، وفوق السماء، وفوق عباده، وفوق كل شيء.
3 -
الاستواء صفة فعلية تتعلَّق بالمشيئة، فالله استوى على العرش حين شاء، وقد أخبر أنه استوى على العرش بعد خلق السموات، والأرض، وهو مستوٍ بذاته تعالى.
وأما العلو فهو صفة ذاتية؛ فالعلو لا ينفك عن ذاته سبحانه وتعالى فله العلو المطلق دائمًا وأبدًا
(1)
.
ثم ذكر الشيخ رحمه الله بعد أن ساق جملة من النصوص الدالة على علوه تعالى على خلقه - النصوص الدالة على المعية، وفي هذا تناسب،
(1)
نحوه في «شرح حديث النزول» ص 395.
ففي مقابل أدلة العلو يذكر أدلة المعيَّة، ومن هذه النصوص آية الحديد:{وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} ، وفي سورة المجادلة:{هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} وهذه هي المعيَّة العامة المتضمِّنة للعلم.
والمعيَّة في اللغة العربية: تدلُّ على مطلق المقارنة، والمصاحبة، ولا تستلزم اختلاطًا، ولا ممازجةً، فوصفه تعالى بأنه مع عباده لا يدلُّ على أنه حالٌّ في المخلوقات، كما زعم المبطلون الغالطون: أن هذه الآيات تدلُّ على أنه في كل مكان مع عباده، معهم في بيوتهم، ومعهم في سائر ما يكونون فيه.
هذا فهمٌ خاطئٌ، هو سبحانه في السماء، في العلو، مستوٍ على عرشه، وفي نفس الوقت هو مع عباده يسمع كلامهم، ويرى مكانهم، وحركاتهم وسكناتهم، ويعلم سرَّهم، ونجواهم، لا يخفى عليه شيء من أمرهم.
ولا يعني ذلك أنه مع النجوى الثلاثة، والأربعة .. في المكان الذي هم فيه، وأنه متَّصِل بهم، ومن فهم أنّ الله تعالى حالٌّ بين أولئك النجوى داخل السقف الذي هم تحته؛ فهو جافُّ الطبع، جامد العقل، فاسد الفهم.
تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرا، وعمَّا يظنه الجاهلون، فذلك من ظن السوء بالله.
وهذه المعية يسميها أهل العلم: المعية العامة؛ لأن الله مع الناس كلهم {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} ، {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ} .
ومن قال من السلف إنه تعالى معهم بعلمه؛ فهو حق، إنما قال ذلك؛ لبيان أن مقتضاها: العلم، والسمع، والبصر، وقال الإمام أحمد: إن الله تعالى بدأ آية المعية بالعلم وختمها بالعلم
(1)
.
فمعنى أنه معهم أين ما كانوا يعني: معهم بعلمه، وهو فوق السموات.
وأما المعية الخاصة ففي الآيات الأخرى، كقوله تعالى:{إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46)} ، {لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} ، {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46)} ، {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)} هذه معيَّة خاصَّة؛ لأنها جاءت مقيَّدة، ف (الصابرون)، و (المتقون) هم بعض العباد لا كلهم. وقوله:{لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} هذا قاله الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله عنه عندما قال له: لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا، فقال صلى الله عليه وسلم:«يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما»
(2)
. وأخبر الله سبحانه عن هذه المقالة {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} هذه معية خاصة، والمعية
(1)
الرد على الجهمية والزنادقة ص 154.
(2)
رواه البخاري (3653)، ومسلم (2381)، من حديث أنس عن أبي بكر رضي الله عنهما.
الخاصة تتضمَّن ما تتضمَّنه المعية العامة من: العلم، والسمع، والبصر، وتزيد: بالنصر، والتأييد، والرعاية، وتتضمن حفظهم، وكلاءتهم.
والخلاصة أن المعية المضافة إلى الله نوعان
(1)
: معية عامة، ومقتضاها العلم، والسمع، والبصر.
ومعية خاصة، ومقتضاها الخاص: الحفظ، والنصر، والتأييد، والعناية، والرعاية منه سبحانه وتعالى لأوليائه.
فالمعية العامة، عامة للبر والفاجر، وأما الخاصة، فهي خاصة بالمرسلين، والمؤمنين، والمتقين، والمحسنين، والصابرين، وهكذا.
وأهل السُّنة والجماعة يثبتون المعيَّة له تعالى على ما يليق به، ويؤمنون بأنه لا منافاة بين علوه، ومعيته، فهو عالٍ في دنوه، قريب في علوه، ولا تعارض بين النصوص الدالَّة على علوه، والنصوص الدالَّة على قربه، ومعيَّته سبحانه وتعالى.
وأهل الضلال يعارضون بينها، ولاحظ كيف حرفوا نصوص العلو، وحملوا نصوص المعية على ظاهرها عندهم، وليس ما فهموه هو ظاهرها، كلا، لكنهم فهموا نصوص المعية، وحملوها على ظاهرها عند ذي الفهم السقيم، والذهن الجاف الجامد.
(1)
منهاج السنة 8/ 372، والفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان 11/ 249، ومجموع الفتاوى 5/ 122، ومدارج السالكين 2/ 254.
والله سبحانه مع عباده أين ما كانوا، لا يخفى عليه من أحوالهم خافية، عِلمُ الله في كل مكان محيط بكل شيء، والله تعالى فوق مخلوقاته {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)}
(1)
.
* * * *
(1)
وانظر: [ص 184]، فهناك فصل خاص لتقرير هذا المعنى.
إثبات صفة الكلام لله تعالى
وقوله: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ حَدِيثًا (87)} [النساء]، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلا (122)} [النساء]، {وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ} [المائدة: 116]، {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً} [الأنعام: 115]
(1)
، {وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164)} [النساء]، {مِّنْهُم مَنْ كَلَّمَ اللّهُ} [البقرة: 253]، {وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف: 143]، {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52)} [مريم]، {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِين (10)} [الشعراء][27/ 2]، {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ} [الأعراف: 22]، {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُون (62)} [القصص]، {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِين (65)} [القصص]، {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللّهِ} [التوبة: 6]، {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ} [البقرة: 75]، {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا} [الفتح: 15]، {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} [الكهف: 27].
(1)
في (ظ) و (ب): «كلمات» بالجمع، وهي قراءة نافع، وابن كثير، وأبي عمرو، وابن عامر. التيسير ص 106، والنشر 2/ 262.
هذه الآيات ساقها الإمام ابن تيمية رحمه الله للاستدلال بها على إثبات كلام الله، وأن الله يتكلم، ويُكلم، وقال ويقول، والنصوص القرآنية الدالة على إثبات صفة الكلام لله كثيرة جدًّا.
وأهل السُّنة يؤمنون بما دلَّت عليه هذه النصوص بأنه تعالى لم يزل متكلمًا إذا شاء بما شاء، وكيف شاء، لم يحدث له الكلام بعد أن كان غير متكلِّم، فيوصف تعالى بالقول فهو يقول، وبأنه يتكلم سبحانه وتعالى، ويوصف بالمناداة، فهو ينادي، ويناجي سبحانه وتعالى، ويتكلم كلامًا يسمعه من شاء من عباده، وكلامه بحرف وصوت، يعني: بكلمات وحروف، فكلامه تعالى حروف وكلمات، وسور وآيات، فيجب إثبات صفة الكلام له سبحانه وتعالى مع نفي مماثلته تعالى للمخلوقات، فكلامه، وتكلمه ليس ككلام أحد من الخلق {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} .
وكلامه تصعق منه الملائكة، «إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خَضَعانًا لقوله»
(1)
أي: تعظيمًا له سبحانه، ولعظم ما يسمعون من وقع كلامه سبحانه وتعالى، ولكنه إذا شاء كلم عباده، وجعل لهم الطاقة والقدرة على سماع كلامه، أو يكلمهم كيف شاء كلامًا تحتمله قواهم، كما كلَّم موسى، ونادى الأبوين {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ} فكلامه سبحانه وتعالى كلام مسموع يُسْمِعه من شاء من عباده،
(1)
رواه البخاري (4701)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وأهل البدع المعطلة، ومن تبعهم ينفون الكلام عن الله
(1)
، ويقولون: إنه لا يتكلم، ولا يكلم، وأن هذا يستلزم التشبيه، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا، فنفوا حقيقة الكلام عن الله بمثل هذا التلبيس الذي هو من وحي إبليس البعيد العدو المبين.
وماذا يقول هؤلاء الضلَّال عن القرآن؟
يقولون: إنه كلام مخلوق خلقه الله في الهواء لا في محل، وعبَّر عنه جبريل، أو خلق كلامًا في الهواء، وتلقَّاه جبريل، وبلَّغه.
المهم أنهم يقولون: القرآن مخلوق، كذلك ما يكلم الله به من شاء من عباده مخلوق، فيقولون: إذا أراد سبحانه وتعالى أن يكلم أحدًا خلق كلامًا، ومن ذلك خطاب الله لموسى وكلامه له، زعم الجهمية والمعتزلة: أن الله خلق كلاما في الشجرة هو ما قصَّه الله علينا في القرآن {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52)} ، {هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15) إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16)} [النازعات]، ومما قَصَّه الله من ذلك قال له:{وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9) إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي يَامُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14)} [طه] إلى آخر ما قصَّه الله علينا من خطابه وكلامه لكليمه موسى عليه الصلاة والسلام، فعندهم أن هذا الكلام الذي
(1)
انظر مذاهب الناس في كلام الله في: مجموع الفتاوى 12/ 162، والكافية الشافية ص 69، ومختصر الصواعق 4/ 1302، و [ص 191] من هذا الكتاب.
سمعه موسى كلام مخلوق، خلقه الله في الشجرة، لا أنه كلام قائم به سبحانه وتعالى، ولا أن موسى سمع كلامَ الله من الله، وهذا مع أنه تحريف للكلم عن مواضعه، فإنه غاية في التنقُّص لرب العالمين، فإن الكلام كمال، فالذي يتكلَّم أكمل من الذي لا يتكلَّم، والله سبحانه وتعالى عندما وبَّخ بني إسرائيل على عبادتهم العجل، ذكر أن العجل لا يتكلَّم، فكيف يعبدونه {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِين (148)} [الأعراف]، وفي الآية الأخرى {فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِي (88) أَفَلَا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا (89)} [طه]، فجعل من الدليل على بطلان إلهيَّة العجل أنه لا يرجع إليهم قولًا، ولا يرد عليهم جوابًا، ولا يتكلَّم.
وقد دلَّ على إثبات صفة الكلام هذه الآيات، وغيرها.
والتوراة أنزلت على موسى صلى الله عليه وسلم، والإنجيل على عيسى صلى الله عليه وسلم، والزبور على داود صلى الله عليه وسلم، والقرآن الكتاب المصدق لما بين يديه من الكتب على محمد صلى الله عليه وسلم؛ كلها كلام الله، منزَّلة من عند الله.
قال الله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} ، وقال تعالى:{أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ} فهو كلام الله، وإضافة القرآن إلى الله من إضافة الصفة إلى الموصوف؛ كعلمه، وسمعه، وبصره، وحياته، ووجهه، ويديه.
والمعطِّلة نفاة الكلام يقولون: هذا القرآن مخلوق، وهذا ما أنكره عليهم أئمَّة الإسلام، وكَفَّروا من قال: القرآن مخلوق. وصبر الذين امتحنوا في أمر القرآن؛ ليقولوا بأن القرآن مخلوق، وعلى رأس هؤلاء الإمام أحمد إمام أهل السُّنة الذي امتحن بالضرب، والسجن؛ ليقول القرآن مخلوق، فأبى على الجهمية، وصبر على أذاهم
(1)
، فلا غرو أن حاز ذلك اللقب «إمام أهل السُّنة» ، فرحمه الله وسائر أئمة الهدى.
وهذه الآيات التي ساقها المؤلِّف؛ للاستدلال بها على إثبات صفة الكلام لله، أولها قول الله:{وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (87)} ، أي: لا أحد أصدق من الله حديثًا، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (122)} ، القيل والقول معناهما واحد، أو متقارب، وقال الله:{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} فكلامه تعالى يسمى حديثًا، وقال تعالى:{وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} فأخباره تعالى غاية في الصدق، فهو أصدق الصادقين، ولا أحد أصدق من الله، وهذا معنى من أصدق من الله حديثًا.
وشرائعُه، وأوامره، ونواهيه، كلها عدل، {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115)} .
وكلمات الله نوعان
(2)
: كلمات كونية، وهي: ما يُكَوِّن به الكائنات، كما قال:{إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُون (40)} [النحل]، كما قال
(1)
انظر: ذكر محنة الإمام أحمد لحنبل بن إسحاق، ومناقب الإمام أحمد لابن الجوزي ص 432، وسير أعلام النبلاء 11/ 232.
(2)
مجموع الفتاوى 11/ 270 و 322، وشفاء العليل ص 282.
لليهود العتاة المتمردين، {فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِين (166)} [الأعراف].
وكلمات شرعية، وهي: كلامه الذي أنزل على رسله، وهي: كتبه، وأعظمها، وأشرفها القرآن، فالقرآن كلامه، وكله من كلماتِه الشرعية.
وكلماتُه الكونية، والشرعية كلها كلامه، ليس شيء منها مخلوقًا؛ ولهذا جاء التعوذ بكلمات الله في غير ما حديث
(1)
كحديث «أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق»
(2)
فاستدل العلماء بمثل هذا على أن كلام الله غير مخلوق.
ومن هذه الآيات {إِذْ قَالَ اللّهُ يَاعِيسى} في غير موضع: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} [آل عمران: 55]، {إِذْ قَالَ اللّهُ يَاعِيسى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ} [المائدة: 110]، {وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ} [المائدة: 116]، {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ
(1)
كحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعوذ الحسن والحسين ويقول: «إن أباكما كان يعوذ بها إسماعيل وإسحاق: أعوذ بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة» . رواه البخاري (3371). وحديث: عبد الله بن عَمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعلمهم من الفزع كلمات: «أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه، وشر عباده، ومن همزات الشياطين، وأن يحضرون» . رواه أبو داود (3893) - واللفظ له -، والترمذي (3528)، وقال: حسن غريب، والنسائي في «عمل اليوم والليلة» (765) و (766)، وصححه الحاكم 1/ 548، وحسنه الحافظ ابن حجر في «نتائج الأفكار» 3/ 118.
(2)
رواه مسلم (2708 و 2709)، من حديث خولة بنت حكيم، وأبي هريرة رضي الله عنهما.
قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30) وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آدَمُ}، إلى آخر القصة.
كلها فيها إضافة القول إلى الله، ومنها قوله تعالى:{وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} كلمه: خاطبه بكلام؛ بأخبار، وأوامر {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10)} ، {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52)} .
الله تعالى نادى موسى وناجاه.
والنداء هو: الخطاب بصوت رفيع.
والمناجاة: الخطاب بصوت خفي.
فموسى هو كليم الله، وهو نجي الله، فالله تعالى موصوف بالمناداة والمناجاة، والعباد يوصفون بالكلام، والتكليم، وبالمناداة وبالمناجاة، وليست المناداة كالمناداة، ولا المناجاة كالمناجاة، ولا التكليم كالتكليم، وهذا كله في القرآن {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاء الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُون (4)} [الحجرات]، {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} [المجادلة: 12]، {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المجادلة: 9].
المقصود أن كل ما يُوصَف الله به من ذلك، ليس مثل ما يُوصَف به المخلوق.
{وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} ، كلم اللهُ: بالرفع فاعل، وموسى: مفعول هو المكلَم، وتكليمًا: مصدر مؤكِّد يرفع ويدفع احتمال المجاز.
والمعطِّلة يحرِّفون هذه الآية لكن هيهات، يقولون: وكلَّم اللهَ، ويكون على تحريفهم التكليم من موسى لله، يعني: موسى كلَّم الله
(1)
.
ولو كان الأمر كذلك فهل يكون لموسى خصوصية؟
لا، كل أحد يمكن أن يكلم الله، أنت تكلِّم الله، وتناجيه «إذا كان أحدكم في الصلاة فإنه يناجي ربه»
(2)
الداعي يكلم ربه يقول: يا رب، يا رب، لكن خصوصية موسى في أن الله كلمه، ولا يستطيع مبطل معطِّل أن يبطل هذه الأدلة يقول: وكلَّم اللهَ،؛ لأن كلام الله محفوظ في الصدور، وفي المصاحف:{لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيد (42)} [فصلت].
وهذا التكليم بيَّن اللهُ أنه كان مناداة، ومناجاة، كما في آية سورة مريم {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52)} ، فالله تعالى نادى موسى، ونادى الأبوين آدم وحواء من قبل لما عصيا، وخالفا أمر الله، وارتكبا ما نُهيا عنه {فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِين (22) قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِين (23)} [الأعراف]، وكذلك سبحانه وتعالى ينادي المشركين يوم القيامة توبيخًا لهم {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُون (62)} [القصص]، ويخاطب الرسل {يَوْمَ يَجْمَعُ اللّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ
(1)
انظر: بيان تلبيس الجهمية 2/ 12، والصواعق المرسلة 3/ 1037.
(2)
رواه البخاري (1214)، ومسلم (551)، من حديث أنس رضي الله عنه.
قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوب (109)} [المائدة]، وفي الحديث «ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان»
(1)
.
فالله تعالى لم يزل، ولا يزال متكلِّمًا، إذا شاء بما شاء، وكيف شاء، ويكلم من شاء من عباده من: ملائكته، ورسله، وعباده، وسائر الخلق، ومن كلامه الكتب، ومنها القرآن، فالقرآن كلام الله، {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} ، هو كلام الله كيفما تصرَّف غير مخلوق، محفوظ في الصدور، ومسموع بالآذان ومقروء بالألسنة، ومكتوب في المصاحف؛ كله كلام الله.
لكنْ كلام الله يُسمع ممن؟
يُسمع من القارئ، فقوله تعالى:{حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} ، يسمعه إما من: الرسول صلى الله عليه وسلم، أو من بعض المؤمنين.
أما الذي سمع القرآن كلام الله من الله؛ فهو جبريل عليه السلام؛ لأنه هو الموكَّل بالوحي {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِين (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِين (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِين (194)} [الشعراء]، فجبريل الروح الأمين سمع كلام الله من الله، ومحمد صلى الله عليه وسلم سمع القرآن من جبريل، والصحابة سمعوا القرآن من الرسول صلى الله عليه وسلم، ويسمعه بعضهم من بعض، وهكذا.
والآيات الكثيرة المتقدمة التي جاءت بأساليب، وبألفاظ مختلفة كلها تدل على إثبات كلام الله سبحانه وتعالى.
(1)
رواه البخاري (7443)، ومسلم (1016)، من حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه.
ثبوت نزول القرآن من الله سبحانه وتعالى
{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} [النمل: 76]، {وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} [الأنعام: 92]، {لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [الحشر: 21]، {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103)} [النحل].
هذه الآيات فيها إخبار عن القرآن بأنه منزل من عند الله، والآيات التي فيها الإخبار عن نزول وتنزيل وإنزال القرآن كثيرة جدًا {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76)} [النمل]، والقرآن يوصف بأنه يقصُّ، وأنه يبشِّر، وينذر، ويهدي، كلها قد جاءت في القرآن {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9) وأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (10)} [الإسراء]، {وَهَذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى
لِلْمُحْسِنِين (12)} [الأحقاف]، فالقرآن يوصف بأنه يقصُّ؛ لاشتماله على القصص كأخبار الأنبياء مع أممهم، وعلى ما فيه من الأوامر، والنواهي، كل هذا يقصه على العباد {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76)} ، هنا جاء التقييد ببني إسرائيل، كما قص عليهم ما قصَّ من أمر المسيح عليه السلام، ومن أمر ما حرم عليهم {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} الآية [الأنعام: 146].
وهذه الآيات التي فيها الإخبار عن نزول القرآن، تؤكِّد ما مضى من أن القرآن كلام الله؛ لأنه منزل من الله {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ} [النحل: 102]، {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِين (193)} [الشعراء]، {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيم (1)} [الزمر]، {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيم (2)} [غافر]، {تَنزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم (2)} [فصلت].
فهذه الآيات التي فيها الإخبار عن نزول القرآن من الله يستدل بها على أن القرآن كلام الله منزل منه سبحانه، ويستدل بها على علوه تعالى؛ لأن النزول إنما يكون من العلو، فهي تؤكِّد الأمرين جميعًا.
* * * *
إثبات رؤية المؤمنين لربهم في الآخرة
وقوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَة (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَة (23)} [القيامة]، {عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُون (23)} [المطففين]، {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26]، {لَهُمْ مَا يَشَاؤُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيد (35)} [ق]. وهذا البابُ في كتابِ اللهِ تعالى كثيرٌ، مَنْ تدبَّرَ القرآن طالبًا للهدى منه؛ تَبينَ له طريق الحق.
وهذه الآيات ختم بها المؤلف رحمه الله ما أورده من النصوص القرآنية الدالة على إثبات صفات الرب سبحانه وتعالى، وهي النصوص الدالة على إثبات رؤية العباد لله تعالى، وهذه مسألة كبيرة ضلَّ فيها كثير من الطوائف، ووفَّق الله للحق فيها وغيرها أهل السُّنة والجماعة، ومسألة الرؤية داخلة في مسائل الصفات.
والمعطلة: يقولون إنه تعالى لا يرى
(1)
.
وأهل السُّنة والجماعة يؤمنون بما دلَّ عليه الكتاب والسُّنة: من أنه تعالى يرى بالإبصار، يراه من شاء من عباده، وقد دلَّت النصوص على
(1)
مجموع الفتاوى 8/ 356 و 10/ 695، ومنهاج السنة 2/ 315، وحادي الأرواح 2/ 605.
أن المؤمنين يرونه يوم القيامة في الجنة، وفي عَرَصات القيامة، ومن هذه الأدلة قوله تعالى:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَة (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَة (23)} ناضرة: بهية حسنة مشرقة، وهي: وجوه أولياء الله المؤمنين يوم القيامة.
{إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَة (23)} مِنْ النظر بالبصر؛ يعني: تنظر إلى ربها بأبصارها.
ونظر: يأتي متعديًا (بنفسه)، ومتعديًا ب (فِي)، ومتعديًا ب (إلى)
(1)
؛ فالمتعدي بنفسه بمعنى الانتظار قال تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الامُور (210)} [البقرة]، {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ} [الأعراف: 53] بمعنى: هل ينتظر هؤلاء الكفَّار إلا تأويل ما وعدوا به.
والمتعدي ب (في)، بمعنى التفكر {أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [الأعراف: 185]، يعني: أولم يتفكروا، كما قال تعالى:{أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ} [الروم: 8].
أما المتعدي ب (إلى)، فهو بمعنى نظر العين، تقول: نظرت إلى كذا، يعني: بعيني، كما قال تعالى:{أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوج (6)} [ق].
فهذه الآية {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَة (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَة (23)} هي أدلُّ دليل على إثبات رؤية المؤمنين لله تعالى.
ومن الأدلَّة ما توعَّد الله به الكفار المكذبين بقوله: {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُون (14) كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُون (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيم
(1)
تهذيب اللغة 14/ 371، وحادي الأرواح 2/ 623.
(16)
ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُون (17)} [المطففين]، فتهديد الكافرين بحجبهم عن ربهم؛ يدلُّ على أن المؤمنين بخلاف ذلك، وأنهم يرون الله سبحانه، فلو كان المؤمنون لا يرونه لما كان بينهم وبين المكذبين فرق، ولو كان تعالى لا يرى البتة كما تزعم المعطلة؛ لما كان في هذا الوعيد فائدة؛ لأن الرؤية على قولهم مستحيلة؛ فالكل محجوب.
ومن الأدلة القرآنية على إثبات الرؤية قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} وقوله تعالى: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35)} ، وقد جاء تفسير: الزيادة
(1)
والمزيد
(2)
بأنه: النظر إلى وجهه الكريم سبحانه وتعالى، {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ}: الجنة، وزيادة عظيمة هي نظرهم إلى وجهه الكريم سبحانه وتعالى، وفي الدعاء المأثور:«وأسألك لذة النظر إلى وجهك»
(3)
. نسأله تعالى أن يرزقنا لذة النظر إلى وجهه الكريم.
(1)
روى مسلم (181) عن صهيب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا دخل أهلُ الجنةِ الجنةَ: يقول الله تبارك وتعالى: تريدون شيئا أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة وتنجِّنا من النار؟ قال: فيكشف الحجاب فما أعطوا شيئًا أحب إليهم من النظر إلى ربهم عز وجل، ثم تلا هذه الآية {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ}» . وانظر: تفسير ابن كثير 7/ 407.
(2)
قال ابن القيم في «حادي الأرواح» 2/ 617: قال الطبري: قال علي بن أبي طالب وأنس بن مالك: هو النظر إلى وجه الله عز وجل، وقاله من التابعين: زيد بن وهب وغيره. وانظر: شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 3/ 519.
(3)
رواه أحمد 4/ 264، والنسائي 3/ 54، وصححه ابن خزيمة في «التوحيد» ص 12، وابن حبان (1971)، والحاكم 1/ 524، من حديث عمار رضي الله عنه. ورواه أحمد 5/ 191، وصححه ابن خزيمة في «التوحيد» ص 14، والحاكم 1/ 516، من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه.
هذه أظهر الآيات التي يستدل بها على إثبات رؤية العباد لربهم سبحانه وتعالى، وهناك أدلة منها قوله تعالى:{لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام: 103] والمعطلة يتمسكون بهذه الآية، ويقولون: لا تدركه الأبصار: لا تراه الأبصار، ثم يحرفون الآيات الأخرى، وهذه الآية التي يحتجون بها على نفي الرؤية، هي حجة عليهم؛ لأن الإدراك هو الإحاطة بالشيء، وهو قدر زائد على الرؤية، فمعنى قوله تعالى:{لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} أي: لا تحيط به الأبصار؛ لكمال عظمته سبحانه وتعالى، ونفي الإحاطة يستلزم إثبات الرؤية من غير إحاطة؛ إذ لو كان لا يرى مطلقًا لما كان لنفي الإحاطة وهو المعنى الخاص فائدة، فنفي الإحاطة يستلزم إثبات الرؤية من غير إحاطة.
فكانت الآية التي يستدل بها المعطلة على نفي الرؤية دليلًا عليهم لا لهم
(1)
.
ولعل الإمام ابن تيمية تعمَّد هذا الترتيب وتحرَّاه، وهو أنه ختم هذه النصوص التي أوردها من القرآن على إثبات صفات الرب، مما يحقق للعباد معرفتهم بربهم، فنحن عرفنا ربنا بأسمائه وصفاته، وذلك بما أنزله في كتابه، وبلَّغه رسوله صلى الله عليه وسلم، فيحصل للعباد في هذه الحياة العلم بربهم، لكنه علم من غير إحاطة {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110)} [طه]، ففي الدنيا العباد لا يرونه، ويوم القيامة يرونه، فيجتمع لهم العلم الذي في قلوبهم، والرؤية له تعالى بأبصارهم، فكأن الإمام ابن تيمية في إيراد هذه الآيات في هذا الموضع ينبه إلى أن رؤية العباد لربهم غاية لهم،
(1)
منهاج السنة 2/ 317، وبيان تلبيس الجهمية 2/ 404، وحادي الأرواح 2/ 618.
فتتوق نفوسهم إلى النظر إلى وجهه الكريم، بعد أن عرفوه في الدنيا بأسمائه، وصفاته، كما علَّمهم، فإنه تعالى يتمم هذا لأوليائه يوم القيامة، ويكشف الحجاب لهم؛ فينظرون إليه، وذلك غاية نعيمهم، فلا يلتفتون إلى شيء مع نظرهم إليه سبحانه وتعالى
(1)
.
وفي النهاية يقول المؤلف: وهذا باب واسع، يعني: النصوص الدالَّة على أسماء الرب، وصفاته، وأفعاله، مما يورث العلم بالله، باب واسع، مَنْ تدبر هذه النصوص؛ تبين له طريق الحق، فتَدَبُر القرآن هو سبيل العلم النافع، وهو الطريق لمعرفته سبحانه وتعالى المعرفة الصحيحة؛ فإن العقول لا تستقل بمعرفته، غاية ما تحصله العقول المعرفة الإجمالية، أما معرفة أسماء الله، وصفاته على التفصيل، فلا سبيل للعقول إلى ذلك، وإنما طريق العلم في ذلك هو ما جاءت به الرسل.
فرحم الله الإمام ابن تيمية على هذه العناية العظيمة، فقد يقول بعض الناس: إنه أسهب وأكثر، لكن المقام جدير بالعناية، فنصوص الصفات في القرآن ليست محدودة قليلة في موضع، أو اثنين، أو ثلاثة، بل هي كثيرة جدًّا، فهذه الآيات التي ساقها هي قليل من كثير.
فاقرأ أيَّ سورة تجد فيها من إثبات أسمائه، وصفاته، وأفعاله.
وانظر السورة الجامعة لمضمون القرآن كله سورة الفاتحة، وكيف أنها صدرت ب {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ
(1)
سيأتي الكلام على الرؤية أيضًا في [ص 171].
الدِّينِ (4)}، هذه الآيات الثلاث، فيها جماع أسماء الرب، وصفاته، لكن على سبيل الإجمال.
وفي قول الشيخ: «من تدبر القرآن طالبًا للهدى منه» : تنبيه إلى أن الانتفاع بالقرآن، وحصول المعرفة، وظهور الحق لا يحصل بمجرد التدبُّر بل لا بد من صحة النية، وسلامة القصد، وذلك بأن يكون القصد من التدبر طلب الهدى والفرقان بين الحق والباطل.
* * * *
ذكر بعض أحاديث الصفات
إثبات النزول والفرح والضحك والعَجَب والقَدَم
ثم سنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فالسُّنة تفسِّر القرآن وتبيِّنه، وتدلُّ عليه، وتعبِّر عنه، وما وصف الرسول به ربه من الأحاديث الصحاح التي تلقَّاها أهل المعرفة بالقبول؛ وجب الإيمان بها كذلك.
مثل قوله صلى الله عليه وسلم: «ينزل ربنا إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟» متفق عليه
(1)
. وقوله صلى الله عليه وسلم: «لله أشد فرحًا بتوبة عبده من أحدكم براحلته .. » . الحديث متفق عليه
(2)
وقوله صلى الله عليه وسلم: «يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر كلاهما يدخلان الجنة» متفق عليه
(3)
.
(1)
البخاري (1145)، ومسلم (758)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
البخاري (6308 و 6309)، ومسلم (2744 و 2747)، من حديث ابن مسعود، وأنس رضي الله عنهما.
(3)
البخاري (2826)، ومسلم (1890)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وقوله: «عجب ربنا من قنوط عباده [28/ 1] وقرب غِيَرِهِ
(1)
، ينظر إليكم أزلين
(2)
قنطين فيظل يضحك يعلم أن فرجكم قريب». حديث حسن
(3)
.
وقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تزال جهنم يُلقى فيها وتقول: هل من مزيد، حتى يضع رب العزة فيها [رجله]
(4)
- وفي رواية: عليها قدمه -، فينزوي بعضها إلى بعض فتقول: قط قط». متفق عليه
(5)
.
وقوله: يقول الله: «يا آدم، فيقول: لبيك وسعديك، فينادي بصوت: إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثًا إلى النار» . متفق عليه
(6)
.
[وقوله: «ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان»]
(7)
.
(1)
في (ب): خيره.
(2)
في (ب): أذلين.
(3)
رواه أحمد 4/ 11، وابن ماجه (181)، من حديث أبي رزين رضي الله عنه بلفظ: «ضحك
…
»، ورواه ابن خزيمة في «التوحيد» ص 235 بنحوه من حديث عائشة رضي الله عنها. وانظر: السلسلة الصحيحة رقم (2810).
(4)
زيادة من (م).
(5)
البخاري (4850)، ومسلم (2846)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. ورواية:«قدمه» عند البخاري (4848)، ومسلم (2848)، من حديث أنس رضي الله عنه.
(6)
البخاري (7483) - واللفظ له -، ومسلم (222)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(7)
زيادة من (م). والحديث تقدم تخريجه في [ص 144].
وقوله في رقية المريض: «ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك، أمرك في السماء والأرض، كما رحمتك في السماء اجعل رحمتك في الأرض اغفر لنا حوبنا وخطايانا؛ أنت رب الطيبين، أنزل رحمة من رحمتك وشفاء من شفائك على هذا الوجع» . رواه أبو داود.
(1)
وقوله: «ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء» . رواه البخاري وغيره
(2)
. وقوله: «والعرش فوق الماء، والله فوق العرش
(3)
، وهو يعلم ما أنتم عليه». رواه أبو داود والترمذي وغيرهما
(4)
. وقوله للجارية: «أين الله؟ قالت: في السماء. قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله. قال: أعتقها فإنها مؤمنة» . رواه مسلم
(5)
. وقوله صلى الله عليه وسلم: «أفضل الإيمان
(1)
أبو داود (3892)، والنسائي في «عمل اليوم والليلة» (1037)، والحاكم 1/ 344، من حديث أبي الدرداء، وقال الحاكم: قد احتج الشيخان بجميع رواة هذا الحديث غير زيادة بن محمد، وهو شيخ من أهل مصر قليل الحديث، وتعقبه الذهبي: قلت: قال البخاري وغيره: منكر الحديث. وضعفه ابن عدي في «الكامل» 4/ 145، وابن حبان في «المجروحين» 1/ 308، وقال الذهبي في «الميزان» 2/ 98 - بعد ذكر من ضعف زيادة -: وقد انفرد بحديث الرقية: «ربنا الذي في السماء .. » بالإسناد.
(2)
رواه البخاري (4351)، ومسلم (1064)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(3)
في (م): «والعرش فوق الماء والله فوق العرش .. » . حديث حسن رواه أبو داود وغيره.
(4)
رواه أحمد 1/ 206، وأبو داود (4723)، والترمذي (3320)، وقال: حسن غريب، وابن ماجه (193)، وابن خزيمة في «التوحيد» ص 101، والحاكم 2/ 412 و 500 وصححه، وتعقبه الذهبي من حديث العباس رضي الله عنه، وصححه الجوزجاني في «الأباطيل» 1/ 79، وقواه ابن تيمية في «مناظرة الواسطية» 3/ 192، وابن القيم في «تهذيب السنن» 7/ 92. وشيخ الإسلام ذكر الحديث بالمعنى.
(5)
مسلم (537)، من حديث معاوية بن الحكم رضي الله عنه.
أن تعلم أن الله معك حيث ما كنت». حديث حسن.
(1)
وقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا قام أحدكم إلى الصلاة فإن الله قِبَلَ وجهه، فلا يبصقنَّ قبل وجهه ولا عن يمينه، ولكن عن يساره أو تحت قدمه» . متفق عليه
(2)
.
وقوله صلى الله عليه وسلم: «اللهم رب السموات السبع، ورب العرش العظيم ربنا ورب كل شيء فالق الحب والنوى منزل التوراة والإنجيل والقرآن؛ أعوذ بك من شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس [28/ 2] فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء اقض عني الدين وأغنني من الفقر» . رواه مسلم
(3)
. وقوله لما رفع أصحابه أصواتهم بالذكر: «أيها الناس ارْبَعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصمَّ ولا
(1)
رواه الطبراني في «مسند الشاميين» 1/ 305، و «المعجم الأوسط» 8/ 336، وقال: لم يرو هذا الحديث عن عروة بن رويم إلا محمد بن مهاجر، تفرد به عثمان بن كثير، والبيهقي في «الأسماء والصفات» ص 398، وأبو نعيم في «الحلية» 6/ 124، وقال: غريب من حديث عروة، لم نكتبه إلا من حديث محمد بن مهاجر من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه. وقال: ابن كثير في «تفسيره» 8/ 9: غريب.
(2)
رواه جمع من الصحابة بألفاظ مختلفة في «الصحيحين» وغيرها، ولم أجده بهذا اللفظ، وأقرب لفظ له حديث جابر رضي الله عنه في «صحيح مسلم» (3008)، وأما الشاهد منه فرواه البخاري (406)، ومسلم (547)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، والبخاري (405) من حديث أنس رضي الله عنه.
(3)
تقدم تخريجه في [ص 58].
غائبًا إنما تدعون سميعًا قريبًا إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته». متفق عليه
(1)
.
تقدَّم بيان مذهب أهل السُّنة والجماعة في صفات الرب سبحانه وتعالى، وأسمائه أنهم يصفون الله بما وصف به نفسه، وما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم إثباتًا، ونفيًا.
فيثبتون له ما أثبته لنفسه، وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف، ولا تعطيل، ولا تكييف، ولا تمثيل.
وينفون عنه ما نفاه عن نفسه، أو نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم إثباتًا بلا تشبيه، وتنزيهًا بلا تعطيل.
ومضمون هذا أنه يجب الإيمان بما جاء في القرآن من أسماء الرب وصفاته، وما جاء في سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولهذا لما أورد الإمام ابن تيمية كثيرًا من النصوص القرآنية المتضمنة لكثير من أسماء الله وصفاته مما يدخل في القاعدة المتقدمة
(2)
، وهي:«أنه سبحانه وتعالى موصوف بالإثبات والنفي» أتبع ذلك بذكر بعض النصوص النبوية المشتملة على بعض أسماء الرب وصفاته.
(1)
رواه أحمد 4/ 402 - واللفظ له -، والبخاري (2992)، ومسلم (2704)، من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
(2)
[ص 44].
فإن السُّنة هي الأصل الثاني في الاستدلال؛ فإن الله أنزل على نبيه الكتاب والحكمة، الكتاب هو القرآن، والحكمة هي سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، فكلاهما وحي، كما قال سبحانه وتعالى:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى (4)} [النجم].
فكل ما يُبَلِّغه النبي صلى الله عليه وسلم عن الله - سواء كان قرآنًا، أو سنة - فإنه وحي أوحاه الله إليه، وكل منهما منزل كما في قوله تعالى:{وَأَنْزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113)} [النساء].
فيجب الإيمان بكل ما أخبر الله به في كتابه، أو أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم في سنته، كما يجب العمل بما أمر الله به في القرآن، والانتهاء عما نهى عنه سبحانه، وكذلك ما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم، أو نهى عنه، فإنه يجب العمل بأوامره صلى الله عليه وسلم، ونواهيه، وطاعته في أمره ونهيه.
وإنكار السنة مطلقًا، ودعوى أننا لسنا مكلفين إلا بالقرآن كفر، وضلال، ومخالفة للقرآن؛ فإن الله تعالى أمر باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، وطاعته.
قال الشيخ رحمه الله: «فالسنة تفسر القرآن وتبينه وتدل عليه وتعبر عنه» : المراد بالسنة في هذا السياق سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وهي: أقواله، وأفعاله، وتقريراته، هذا هو المراد بالسنة إذا قيل: الكتاب والسنة.
فسنة الرسول القولية، والفعلية، والتقريرية؛ تبين وتفسر القرآن، وتدل عليه وتعبر عنه، والأغلب على سنة الرسول صلى الله عليه وسلم أنها بيان.
ومن السنة ما يتضمن أخبارًا، وتشريعات ليست في القرآن، قال الله تعالى:{وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُون (44)} [النحل]، الذكر: القرآن.
فالرسول صلى الله عليه وسلم قد فسَّر القرآن وبيَّنه، ففسَّر ما أشكل من ألفاظه، وكثيرٌ من ألفاظه يعرفها المخاطبون باللسان العربي، كما روي عن ابن عباس: التفسير على أربعة أوجه: وجه تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يُعذر أحد بجهله، وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله
(1)
.
فالرسول صلى الله عليه وسلم بيَّن القرآن، ف
السنة فيها تفصيل ما أُجمل في القرآن، وتقييد المطلق، وتخصيص العام
؛ فأحكام الصلاة التفصيلية: صفتها، أفعالها، أقوالها، مواقيتها، أكثرها إنما تجده في السنة، وأحكام الزكاة: أنصبة الزكاة، الأموال التي تجب فيها الزكاة، والحج كثير من أحكامه إنما عرفت تفصيلًا بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا الموضوع وتفصيله يطول الحديث عنه.
والمقصود أن ما وصف الرسول صلى الله عليه وسلم به ربه من الأحاديث الصحيحة التي تلقَّاها أهل العلم والمعرفة - أهل الشأن وهم أهل الحديث - بالقبول، وجب الإيمان بها كذلك.
(1)
رواه ابن جرير الطبري في «تفسيره» 1/ 34، والطبراني في «مسند الشاميين» 2/ 302 بنحوه.
يعني كما يجب الإيمان بما وصف الله به نفسه في كتابه، يجب الإيمان بما وصف الرسول صلى الله عليه وسلم به ربه من الأحاديث الصحيحة، التي تلقَّاها أهل العلم بهذا الشأن بالقبول.
يجب الإيمان بها، سواء كانت من قبيل المتواتر، أو الآحاد، فأهل السُّنة والجماعة يقبلون كلَّ ما صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم.
أما أهل البدع
(1)
فإنهم بناء على أصولهم الفاسدة في نفي صفات الرب سبحانه يردُّون نصوص الصفات، إما بحجة أنها آحاد، والآحاد يزعمون أنه لا يحتج بها في العقائد.
وإن كانت متواترة قالوا: إنها ظنية الدلالة لا تفيد اليقين، فهم يدفعون هذه النصوص، ويردونها زاعمين؛ إما أنها لم تثبت، أو أنها ظنية الدلالة.
هذا وهم ليسوا من أهل هذا الشأن فلا يميِّزون بين صحيح ولا ضعيف، ولا بين متواتر وآحاد.
أما أهل السُّنة والجماعة فإنهم يصفون الله بكل بما وصفه به الرسول صلى الله عليه وسلم مما صحَّ عنه صلى الله عليه وسلم في الأحاديث التي تلقَّاها أهل العلم بالحديث بالقبول، ويؤمنون بذلك، وهذا هو الواجب، كما يجب الإيمان بما في القرآن.
(1)
مجموع الفتاوى 19/ 73 و 156.
وقد أورد الإمام ابن تيمية في هذا الفصل أمثلة لهذه الأحاديث، فمنها ما دلَّ على صفات قد دلَّ عليها القرآن كالتكليم في قوله صلى الله عليه وسلم:«ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان»
(1)
.
أو العلو كما في قوله صلى الله عليه وسلم: «ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء»
(2)
. هذا مثل قوله سبحانه: {أَأَمِنتُم مَنْ فِي السَّمَاء} [الملك: 16]، وكقوله صلى الله عليه وسلم للجارية:«أين الله؟» قالت: في السماء
(3)
. أو إثبات بعض الأسماء مع تفسيرها، كالأول والآخر والظاهر والباطن، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الدعاء الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو به يقول:«اللهم رب السموات والأرض ورب العرش العظيم، ربنا ورب كل شيء» - إلى قوله -: «اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء»
(4)
.
أقول: إن كل هذه الأحاديث إنما دلَّت على مثل ما دلَّ عليه القرآن، فتكون هذه الصفات قد تطابقت عليها دلالة القرآن، ودلالة السنة، فتكون ثابتة بالكتاب والسنة وإجماع أهل السنة والجماعة.
وهذه النصوص - أعني تلك النصوص التي قد دلَّت على مثل ما دلَّ عليه القرآن - سنكتفي فيها بهذه الإشارة.
(1)
تقدم تخريجه في [ص 144].
(2)
تقدم تخريجه في [ص 155].
(3)
تقدم تخريجه في [ص 155].
(4)
تقدم تخريجه في [ص 58].
ونتأمل ما أورده الشيخ من النصوص الدالة على صفات لم يأتِ ذكرها في القرآن، وألاحظ أن الإمام ابن تيمية رحمه الله قد قدم هذه الأمثلة وساقها تباعًا، وهي هذه الأدلة:
حديث: النزول، الفرح، الضحك، حديث القَدَم، فهذه الصفات إنما ثبتت بالسنة، فليس في القرآن ذكر لهذه الصفات فيما أعلم.
فأول ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «ينزل ربنا إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له»
(1)
. وهذا الحديث رواه جمع غفير من الصحابة، وعده أهل العلم من المتواتر، فقد تواترت السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم بإثبات نزول الرب تعالى في آخر الليل
(2)
.
لذلك أهل السنة والجماعة يثبتون النزول الإلهي ويؤمنون به، مع نفي مماثلته لنزول الخلق، ونفي العلم بالكيفية، فيقولون: إنه تعالى ينزل حقيقة، ونزوله سبحانه يتضمن دنوًا وقربًا، وإذا قلنا: ينزل حقيقة، فلا يعني أنه ينزل مثل نزول العباد، لا بل ينزل كيف شاء، والنزول معلوم، والكيف مجهول، لا كما يقول المعطلة: تنزل رحمته، أو أمره، أو ينزل ملَك
(3)
. فهذا من التحريف الذي ينكره أهل السنة والجماعة، ويرفضونه، والله قد ذم اليهود لتحريف الكلم عن مواضعه، وهذا منه.
(1)
تقدم تخريجه في [ص 153].
(2)
انظر: الأحاديث الواردة في ذلك في كتاب «النزول» للإمام الدارقطني، و «نظم المتناثر في الحديث المتواتر» للكتاني ص 191 رقم (206).
(3)
شرح حديث النزول ص 138، ومختصر الصواعق 3/ 1100.
فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «ينزل ربنا» ، والأصل أن يحمل الكلام على الحقيقة، ويؤكد الحقيقة قوله: فيقول: «من يدعوني فأستجيب له؟ .. » وهذا يمنع من احتمال المجاز.
هل يجوز أن يقول الملك، أو تقول الرحمة: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟
فأهل السنة مجمعون على أن النزول من فعل الرب تعالى، وأنه هو الذي ينزل حقيقة، لا كنزولنا، ولا يقاس به، ونزول الله تعالى صفة فعلية تكون بمشيئته.
والمعطلة يلبِّسون على الجهَّال، ويقولون: هذا يتضمَّن أن الله يزول عن مكانه.
فهذه من الشبهات التي يشبهون بها على الأغرار، ولهذا قال بعض الأئمة: إذا قال لك الجهمي: أنا أكفر برب يزول عن مكانه.
فقل: أنا أؤمن برب يفعل ما يشاء
(1)
.
ما أحسن هذا الرد المفحم: أنا أؤمن برب يفعل ما يشاء.
ينزل كيف شاء، واستوى على العرش كيف شاء، ويجيء يوم القيامة للفصل بين عباده كيف شاء، فعَّال لما يريد.
(1)
القائل هو الإمام الفضيل بن عياض رحمه الله. انظر: خلق أفعال العباد ص 17، والإبانة لابن بطة (الرد على الجهمية) 3/ 205، وشرح أصول اعتقاد أهل السنة 2/ 502.
أما إذا قيل: إنه لا ينزل، لا يجيء، لا يتكلم .. فهذا تعجيز وتنَقُّص للرب سبحانه، فالذي يفعل أكمل ممن لا يفعل.
وكذلك القول في الفرح، والضحك، فيجب الإيمان بالفرح والضحك، أن الله يفرح، وفرحه تعالى يتضمن محبته بما يفرح به، ورضاه به وعنه.
يفرح كما في الحديث الصحيح المتفق على صحته عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لله أشد فرحًا
…
»
(1)
. يفرح حقيقة، لكن لا كفرح العباد، إذا فسَّرنا فرح العباد بأنه: لذة وسرور بالمحبوب أو نحوه، فهذه صفة المخلوق، فاللذة لا نضيفها لله، لكنه فرح يتضمن المحبة.
فقوله صلى الله عليه وسلم: «لله أشد فرحًا بتوبة عبده» . هذا يتضمن أن الله يحب توبة التائبين، بل يفرح بتوبة التائبين، فالفرح إذًا صفة يجب إثباتها له تعالى، وأنها لا تماثل فرح المخلوق، ولا نعلم كنهها، وكيفيتها.
وهكذا الضحك، وقد جاء في أحاديث عدة، ومنها هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر، كلاهما يدخلان الجنة» ، فقالوا كيف يا رسول الله؟ قال:«يقاتل هذا في سبيل الله عز وجل فيستشهد ثم يتوب الله على القاتل، فيسلم فيقاتل في سبيل الله عز وجل فيستشهد»
(2)
. فالله يضحك إليهما؛ لأن أمرهما عجب، يجتمعان في الجنة، القاتل والمقتول، وضحكه إليهما يتضمن رضاه عنهما، ولا أقول: إن هذا تفسير للضحك، لا، بل هو تعالى يضحك كيف شاء، وهو
(1)
تقدم تخريجه في [ص 153].
(2)
تقدم تخريجه في [ص 153].
معنى يختلف عن معنى الفرح، فيجب إثبات ذلك كله، مع نفي التمثيل، ونفي العلم بالكيفية.
وإذا كان العلم بالكيفية مستحيلًا، فلا يجوز التفكر فيه، كالتفكر في كيفية نزول الرب، أو فرحه، أو ضحكه؛ لأنه لا سبيل إلى أن نتعلمها، فلا تفكر ولا تتخيل، بل آمِنْ وأثبت ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم عن ربه مع نفي التمثيل، ونفي العلم بالكيفية.
وأما الحديث الرابع: فهو حديث قال عنه الشيخ: إنه حديث حسن، رواه الإمام أحمد وغيره، وهو حديث طويل، والشيخ اقتصر على الشاهد، كما اقتصر على الشاهد في الحديث الثاني.
فقوله صلى الله عليه وسلم: «عجب ربنا من قنوط عباده وقرب غِيَرِهِ، ينظر إليكم أزلين قنطين، فيظل يضحك يعلم أن فرجكم قريب»
(1)
.
الشاهد منه في هذا المقام: «فيظل يضحك» وفيه دلالة على إثبات صفة العَجَب والضحك والنظر، لكن صفة العَجَب والنظر ثابتتان في القرآن وقد تقدم الكلام على النظر
(2)
، والعَجَب لم يمر في الشواهد التي ساقها المؤلف لكنه ثابت.
ومن الأدلة القرآنية على إثبات العَجَب قوله تعالى: {بَلْ عَجِبْتُ وَيَسْخَرُونَ 12} [الصافات] في قراءة صحيحة سبعية
(3)
، فالضمير في
(1)
تقدم تخريجه في [ص 154].
(2)
[ص 105].
(3)
هي قراءة حمزة، والكسائي، وخلف العاشر. التيسير ص 186، وسراج القارئ ص 334، والنشر 2/ 356.
{عَجِبْتُ} يعود لمن؟ إلى الله تعالى، كما دلَّ على صفة العَجَب قوله تعالى:{وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [الرعد: 5].
وهذا الحديث - كذلك - من الأدلة على إثبات صفة العَجَب، فهو تعالى يُوصَف بالعَجَب على المنهج المقرر: إثبات مع نفي التمثيل، ونفي العلم بالكيفية.
وليس عجبه تعالى لجهله بالأسباب، فهذا شأن المخلوق الذي يعجب - أحيانًا - لجهله بالسبب، كما يقال: إذا ظهر السبب بطل العجب، هذا في عجب المخلوق، أو في بعض عجب المخلوق.
«من قنوط عباده» القنوط: شدة اليأس.
«ينظر إليكم أزلين» والأَزْل: الشدة، والأزِل: هو الذي قد بلغت به الشدة حدًّا بعيدًا، واستولى عليه اليأس، فالأزِل والقَنِط معناهما متقارب.
«ينظر إليكم أزلين قنطين، فيظل يضحك يعلم أن فرجكم قريب» مع قرب الفرج، وقرب تغيير الله للأحوال من الشدة إلى الرخاء، من القحط إلى الخصب، في هذا الظرف الله تعالى يعجب لهذه الحال، فيظل يضحك كيف شاء سبحانه وتعالى، فإن العباد إذا طالت عليهم الشدة استولى عليهم اليأس، واشتد، وآل بهم الأمر إلى القنوط، كما قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاء كَيْفَ يَشَاء وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُون (48) وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِم مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِين (49) فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ
اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير (50)} [الروم].
الحديث الخامس: قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تزال جهنم يُلقى فيها وهي تقول: هل من مزيد، حتى يضع رب العزة فيها رجله - وفي رواية: عليها قدمه -، فينزوي بعضها إلى بعض فتقول: قط قط» . متفق عليه
(1)
.
وفي هذا الحديث إثبات الرِّجل، والقدم له سبحانه وتعالى، وأهل السنة يثبتون لله ما جاء في هذا الحديث على حقيقته، كما يثبتون سائر الصفات، كاليدين والعينين له سبحانه وتعالى، ويقولون: إن له تعالى قدمين، كما جاء في الأثر المشهور عن ابن عباس رضي الله عنه في تفسير الكرسي: أنه موضع القدمين
(2)
، أي: قدمي الرب سبحانه وتعالى.
والقول في القدمين واليدين واحد، لا مجال للتفريق، وأهل السنة لا يفرقون، وأهل البدع لا يفرقون! كيف ذلك؟
(1)
تقدم تخريجه في [ص 154].
(2)
السنة لعبد الله بن أحمد 1/ 301، وصححه ابن خزيمة في «التوحيد» ص 107، والحاكم 2/ 282، والضياء في «المختارة» 10/ 311، وقال العلامة الأزهري في «تهذيب اللغة» 10/ 54: الصحيح عن ابن عباس في الكرسي ما رواه الثوري وغيره عن عمار الدهني عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال: «الكرسي موضع القدمين، وأما العرش فلا يُقدر قدره» . وهذه الرواية اتفق أهل العلم على صحتها، والذي روي عن ابن عباس في الكرسي أنه العلم؛ فليس مما يثبته أهل المعرفة بالأخبار. وانظر: فتح الباري 8/ 199، وانظر:[ص 54] من هذا الكتاب.
أهل البدع ينفون كل هذه المعاني، كما ينفون حقيقة نزوله، واستوائه، وينفون حقيقة الفرح، والضحك، والعجب، وينفون اليدين، والعينين، والوجه، والقدم، ينفون ذلك كله؛ لأن مبدأهم أن إثبات الصفات لله يستلزم التجسيم، والتشبيه، وما أشبه ذلك.
ثم إن كانت نصوصًا قرآنيةً لا يمكن أن يدفعوها بعدم الثبوت، يقفون منها - كما تقدم
(1)
- أحد موقفين:
إما التفويض بأن يجروها ألفاظًا من غير تدبُّر ولا فهم لمعناها، زاعمين أنها لا يفهم منها شيء.
أو التأويل بحملها على معانٍ بعيدة.
أما الأحاديث
(2)
فالأمر عندهم فيها أوسع، فإنها إن كانت آحادًا قالوا: هذه آحاد، وقد يدفعونها من أول الأمر دون أن ينظروا فيها، أو يحكموا على متنها بتفويض أو تأويل.
وإن كانت متواترة وقفوا منها موقفهم مما جاء في القرآن، كالجهمية، والمعتزلة، والأشاعرة، هذه الطوائف تتفق على نفي هذه الصفات التي دلَّت عليها السُّنة الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم، كما نفوا ما جاء في القرآن.
فبالنسبة للفرح، والضحك يمكن أن يفسِّروه بالرِّضا، ثم الرضا له تفسير معروف عند نفاة الصفات وهو: إرادة الإحسان، أو نفس الإحسان بما يخلقه الله من النعم.
(1)
[ص 82 و 124].
(2)
انظر: [ص 160].
ويفسِّرون الغضب: بإرادة الانتقام، أو هو نفس الانتقام بما يخلقه الله من العقوبة.
أما الرِّجْل فالذين يؤولون يقولون: المراد بالرِّجْل الجماعة من قول العرب: رجل من جراد، فالمراد جماعة من أهل النار. لا تزال جهنم يُلقى فيها حتى يلقي الله تعالى عليها جماعة من أهل النار، وفوجًا كثيرًا حتى يغطيها ويملأها بها.
وهذا خلاف ما فهمه السلف الصالح من الصحابة، والتابعين، وخلاف ما يدل عليه السياق، ثم إن رواية «عليها قدمه» توضح، وتدفع هذا التحريف.
ومضمون هذا الحديث قد جاء أصله في القرآن: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَّزِيد (30)} [ق]، فهذه الآية شاهدة لما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم، وكلام الله، وكلام رسوله يصدق بعضه بعضًا، لا تزال جهنم يلقى فيها يعني أهلها، {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِير (8)} [الملك]، أهل جهنم يُلقَون فيها إلقاء، ويطرحون طرحًا، {أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [فصلت: 40].
قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تزال جهنم» هذا الفعل يدلُّ على الاستمرار يعني أنها تبقى، وتستمر تطلب المزيد «حتى يضع رب العزة فيها رِجْله» في بمعنى: على، كما في الرواية الأخرى «عليها قدمه» فينزوي بعضها إلى بعض أي: تتضايق فتمتلئ، وتقول: قط قط، يعني: يكفي يكفي، نعوذ بالله من النار.
وفي هذا تحقيق لوعده سبحانه وتعالى؛ فإنه قد وعد الجنة والنار بملئهما؛ إذ قال تبارك وتعالى للجنة: «أنتِ رحمتي أرحم بك من أشاء، وقال للنار: أنت عذابي أعذب بك من أشاء، ولكل واحدة منكما ملؤها»
(1)
.
فالنار يضيقها الرب حتى تمتلئ، وأما الجنة فإذا دخل أهل الجنة يبقى فيها فضل، فهي واسعة مع كثرة من يدخلها من عباد الله، ومع ذلك يبقى فيها فضل، فينشئ الله لها أقوامًا، فيسكنهم الجنة برحمته سبحانه وتعالى
(2)
.
أما النار فإنه لا يعذب بها إلا المستحقين لعذابه، نعوذ بالله من عذاب الله.
فالمقصود أن هذه الصفات التي تضمنتها هذه الأحاديث كلها إنما ثبتت بالسنة، وليس في القرآن - فيما أعلم - ما يدل عليها.
أما ما بعد هذه الأحاديث إلى آخر ما أورده الشيخ، فكلها قد دلت على صفات دل عليها القرآن: كالتكليم، والعلو، والمعية، والسمع، والرؤية، وإثبات بعض الأسماء: كالأول، والآخر، والظاهر والباطن، والسميع وغيرها، والله أعلم.
* * * *
(1)
رواه البخاري (4850)، ومسلم (2846)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
هذا جزء من الحديث الذي تقدم تخريجه في [154]: «لا تزال جهنم يلقى فيها .. » .
رؤية المؤمنين لربهم سبحانه، ووسطية أهل السنة والجماعة بين الفرق
وقوله: «إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها [فافعلوا]
(1)
». متفق عليه
(2)
.
إلى أمثال هذه الأحاديث التي يخبر فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه بما يخبر به.
فإن الفرقة الناجية - أهل السنة والجماعة - يؤمنون بذلك، كما يؤمنون بما أخبر الله به في كتابه، من غير تحريف، ولا تعطيل، ومن غير تكييف، ولا تمثيل.
بل هم الوسط في فِرَق الأمة، كما أن الأمة هي الوسط في الأمم.
فهم وسط في باب صفات الله سبحانه وتعالى، بين أهل التعطيل الجهمية، وبين أهل التمثيل المشبهة.
وهم وسط في باب أفعال الله بين القدرية، والجبرية.
وفي باب وعيد الله بين المرجئة وبين الوعيدية: من القدرية وغيرهم.
(1)
سقطت من (ب).
(2)
رواه البخاري (4851)، ومسلم (633)، من حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه.
وفي باب الإيمان والدين بين الحرورية والمعتزلة، وبين المرجئة والجهمية.
وفي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الروافض وبين الخوارج.
لاحظ أن المؤلف ختم أحاديث الصفات بحديث الرؤية، كما ختم ما أورده وذكره من آيات الأسماء والصفات بالآيات الدالة على رؤية الرب تعالى تدرك أن الشيخ تعمد هذا الترتيب، وكأنه إشارة إلى أن الرؤية هي التي ينتظرها المؤمنون، وهي محققة للمؤمنين الذين آمنوا بالله، وبما أخبر به في كتابه، وأخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم مما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم.
وأحاديث الرؤية من الأحاديث المتواترة
(1)
، فرؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة ثابتة بالكتاب، وبالسنة المتواترة، وإجماع الصحابة، ومن تبعهم بإحسان، وهم الفرقة الناجية
(2)
.
يقول الشيخ: «إلى أمثال هذه الأحاديث» يعني: هذه نماذج، وإلا فأحاديث الصفات التي بيَّن فيها الرسول صلى الله عليه وسلم أسماء ربه، وصفاته، وأفعاله كثيرة جدًّا لا حصر لها.
(1)
انظر: رؤية الله للدارقطني، وحادي الأرواح 2/ 625، ونظم المتناثر من الحديث المتواتر ص 250 رقم (307).
(2)
تقدم الكلام على الرؤية في [147].
فإن الفرقة الناجية المنصورة - أهل السنة والجماعة - يؤمنون بذلك، كما يؤمنون بما أخبر الله به في كتابه، لا يفرقون بين ما جاء في القرآن، وما جاء في السنة؛ بل يؤمنون بهذا كله، من غير تحريف ولا تعطيل، ولا تكييف، ولا تمثيل، كما تقدم ذكره
(1)
.
يقول الشيخ عن الفرقة الناجية أنهم: «وسط في فرق الأمة» الفرقة الناجية هي الوسط في فرق الأمة، والوسط: العدل الخيار، كما أن هذه الأمة وسط في الأمم، قال الله تعالى:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143].
أي: عدولًا خيارًا، فلا إفراط ولا تفريط، ولا غلو، ولا جفاء، ولا تقصير، ولا تجاوز، اعتدال، واستقامة، والوسطية تحقق الاستقامة، والاستقامة هي: لزوم الصراط المستقيم، فلا انحراف هنا، ولا هناك.
كما أن الأمة المحمدية التي تحقق لها الإيمان بالله ورسوله، ولم تأتِ بما تخرج به عن الإسلام وسط في الأمم، وإن كان لبعضهم ذنوب وأخطاء، وعند بعضهم بدع.
لكن ما دام أنه قد تحقق لهم الإيمان ظاهرًا وباطنًا، ولم يأتِ أحد منهم بما يخرج به عن الإسلام، فإنه من الأمة المحمدية التي يثبت لها هذا الوصف بحسبها، فكل من كان أتم استقامة كان حظه من الوسطية بحسب ذلك.
(1)
[ص 35].
المقصود أن الشيخ يقول: إن الفرقة الناجية - أهل السنة والجماعة - وسط في فِرق الأمة، كما أن الأمة وسط في الأمم، ثم يفصل ذلك في مسائل يقول:
فهم وسط في باب صفات الله بين أهل التعطيل الجهمية، وأهل التمثيل المشبهة، أهل التعطيل ينفون صفات الرب، ويعطلون الرب عن صفات كماله، ويعطلون النصوص عما دلت عليه من الحق، وشرهم الجهمية إذ ينفون الأسماء والصفات، ويدخل فيهم المعتزلة، فإن
لفظ الجهمية إذا أطلق يتناول المعتزلة.
ويقابلهم أهل التمثيل، الذين يمثلون صفات الرب بصفات الخلق، يقول أحدهم: له يد كيدي - تعالى الله -، وسمع كسمعي، وبصر كبصري، وهكذا، فهؤلاء أهل التمثيل.
وكل من المذهبين ضلال وكفر، كما قال الإمام نعيم بن حماد
(1)
رحمه الله: من شبَّه الله بخلقه فقد كفر، ومن أنكر ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيه
(2)
.
(1)
نعيم بن حماد الخزاعي، الإمام العلامة صاحب التصانيف، كان صلبًا في السنة، شديدًا على الجهمية، روى عن ابن المبارك والفضيل وابن عيينة، وغيرهم، وروى عنه يحيى بن معين، والبخاري وأبو داود وغيرهم. قال الخطيب: إن أول من جمع المسند وصنفه نعيم. توفي عام 229 هـ. سير أعلام النبلاء 10/ 595.
(2)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة 3/ 587، وتاريخ دمشق لابن عساكر 62/ 163.
فأهل السنة يثبتون لله ما أثبته لنفسه بلا تعطيل؛ خلافًا للمعطلة، فإن المعطلة غلوا في التنزيه، وزعموا أنهم ينفون الصفات عن الله حذرًا من التشبيه، فغلوا في التنزيه، فأفضى بهم ذلك إلى التعطيل، وفروا من تشبيه، فوقعوا في تشبيه أقبح.
وقولنا: «بلا تشبيه» معناه تنزيه الله عن النقائص والعيوب خلافًا للمشبهة، أعني: أهل التمثيل الذين غلوا في الإثبات حتى شبهوا الله بخلقه، ولهذا قال بعض أهل العلم
(1)
: «إن المعطل يعبد عدمًا والمشبه يعبد صنمًا» لأن نفي جميع الصفات يستلزم نفي الذات.
والمشبه الذي يقول: لله سمع كسمعي، وبصر كبصري، ليس هذا هو الله الإله الحق الذي لا يستحق العبادة سواه.
فأهل السنة وسط يثبتون لله الأسماء والصفات، وينزهونه عن كل ما لا يليق به، إثباتًا بلا تشبيه، وتنزيهًا بلا تعطيل، فهذه وسطيتهم، فكانوا بريئين من الإفراط والتفريط، وسائر الانحرافات والضلالات التي وقع فيها من خالفهم.
ثانيًا: و
أهل السنة وسط في باب أفعال الله بين الجبرية والقدرية.
الجبرية يقولون: لا فعل للعبد؛ بل كل الأفعال أفعال الله، فالعبد لا فعل له، والله هو الفعال لكل شيء.
(1)
مجموع الفتاوى 5/ 261.
وعلى مذهبهم الباطل الخبيث يكون الله هو الفاعل لأفعال العبد، بمعنى أنه هو الموصوف بها، فهو المصلي، والصائم، والآكل، والشارب .. ونحوها.
فلا فعل للعبد عندهم، ولا إرادة ولا مشيئة، وحركاته لا اختيار له فيها؛ بل مَثَله مَثَل الريشة في مهب الريح، وحركته كحركة الأشجار، وحركة المرتعش، والعروق النابضة.
ويقابلهم القدرية، ومنهم المعتزلة، ينفون القدر، والجبرية يثبتونه، لكنهم يغلون في الإثبات.
وأما القدرية فيراد بهم في الغالب النفاة الذين يقولون: إن الله تعالى لا يقدر على أفعال العبد، بمعنى أن العبد يخلق فعله، فيتصرف دون مشيئة الله، ودون قدرته، فالله لا يقدر أن يجعل هذا مؤمنًا وهذا كافرًا، ويجعل المطيع عاصيًا أو العاصي مطيعًا، أو الكافر مؤمنًا أبدًا.
فالعبد يفعل بإرادته المحضة المطلقة المنقطعة عن مشيئة الله، وعن قدرة الله، فينفون عموم المشيئة، وعموم الخلق.
وأهل السنة والجماعة بين ذلك، وسط في أفعال الله، فيقولون: إنه تعالى خالق كل شيء، فجميع ما في الوجود خلقه، فهو تعالى خالق السموات والأرض ومن فيهن، وهو خالق العباد، وخالق قدرتهم وإرادتهم، وخالق أفعالهم {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيل (62)} [الزمر]، {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُون (96)} [الصافات].
ولكن للعبد فعل، فأفعال العباد ليست أفعالًا لله، فالعبد هو المصلي والقائم، والراكع والساجد، والآكل والشارب، والصادق والكاذب، والظالم والسارق، وهكذا.
العبد هو الذي يُوصَف بهذه الأفعال، هي أفعال للعبد، لكنها واقعة بمشيئته تعالى وبقدرته، وهي مفعولة له ليست فعلًا له، فالمفعول غير الفاعل، المفعول: هو الشيء المصنوع المنفصل عن الفاعل.
وأما الفعل فمن شأنه أن يقوم بالفاعل.
وقد تقدم
(1)
أن الذين ينفون صفة المحبة والرضا، والغضب والسخط عن الله، يفسرها بعضهم بأشياء منفصلة، - مفعولات -: بالنعم، والعقوبات المخلوقة.
إذًا؛ أهل السنة والجماعة وسط في أفعال الله، بين الجبرية الذين يقولون: إن العبد مجبور وليس له إرادة ولا اختيار ولا فعل، وإضافة الأفعال إليه إضافة مجازية، وإلا فهي في الحقيقة أفعال لله، لكن الفعل عندهم هو المفعول فليس هناك إلا الفاعل والمفعول ليس هناك فعل يقوم به؛ لأن من الممتنع عندهم قيام الأفعال الاختيارية به سبحانه وتعالى.
والقدرية النفاة الذين يقولون: إن العبد يخلق فعله، وإنه لا تعلق لمشيئة الله، ولا لقدرته بأفعال العبد.
(1)
[ص 74 و 80 و 85].
فأهل السنة يثبتون القدر، ويؤمنون بكل مراتبه، ويؤمنون بالشرع، ويثبتون فعل العبد، فخالفوا بذلك الجبرية والقدرية، وكانوا وسطًا بين الطائفتين الضالتين المنحرفتين.
ثالثًا: أهل السنة وسط في باب وعيد الله بين المرجئة، والجهمية، وبين الوعيدية من الخوارج والمعتزلة.
فالخوارج والمعتزلة وعيدية، والجهمية مرجئة.
فأهل السنة في باب الوعيد - والمراد بالوعيد: الوعد بالعذاب والعقاب لأهل كبائر الذنوب من الموحدين، كما توعَّد الله القاتل، وآكل مال اليتيم، وآكل الربا، ومَن فر من الزحف، وقاذف المحصنات الغافلات المؤمنات، وما أشبه ذلك من نصوص الوعيد - وسط بين المرجئة الجهمية، والوعيدية من الخوارج والمعتزلة.
فالمرجئة نظرتهم إلى الوعيد ضعيفة؛ لأن الإيمان عندهم هو التصديق فقط، أو المعرفة فقط، ويقولون قولتهم المشهورة:«إنه لا يضر مع الإيمان ذنب كما لا ينفع مع الكفر طاعة» ، إذًا؛ انتفى الوعيد، ليفعل المسلم ما يشاء، ولا يخاف! هذه نظرة المرجئة إلى وعيد الله نظرة تهوين وتهاون وغفلة وإعراض ولا يقيمون له وزنًا.
أما الوعيدية وهم الخوارج والمعتزلة فيقولون: إن الوعيد الذي توعد الله به العصاة حتمي، فمن مات مصرًّا على كبيرة، فلا بد له من دخول النار، وإذا دخل النار فلا بد له من الخلود فيها.
وهم يتفقون على تخليد مرتكب الكبيرة في النار.
وأهل السنة والجماعة وسط في هذا المقام، يؤمنون بما جاء في الكتاب والسنة من الوعيد، مما توعد الله من عصاه وخالف أمره.
ويقولون: إن هذا الوعيد معلق على المشيئة، فالعاصي إذا مات فهو تحت مشيئة الله؛ لقوله تعالى:{إِنَّ اللّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاء} [النساء: 48]، فهو تحت مشيئة الله، إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له، وإن عذبه بالنار؛ فمآله إلى الخروج منها؛ للأحاديث المتواترة في خروج الموحدين من النار
(1)
.
فيقولون: إن مرتكب الكبيرة مستحق للوعيد، ومتعرض للوعيد، ولا بد أن يعذب الله مَنْ شاء من مرتكبي الكبيرة، خلافًا للمرجئة الجهمية.
ويقول أهل السنة: إنه تحت مشيئة الله، إن شاء غفر له، وإن شاء عذبه، ثم يخرجه من النار خلافا للخوارج والمعتزلة.
ويقولون: نصوصُ الوعيد تُمَرُّ كما جاءت، ولا تحرف، وإن كانت كل نصوص الوعيد على الذنوب مقيدة بقيد متفق عليه، وهو نصوص التوبة، فكل من تاب من الذنب تاب الله عليه.
ومقيدة بقوله تعالى: {إِنَّ اللّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاء} [النساء: 48].
ومقيدة بنصوص خروج الموحدين من النار.
(1)
انظر: قطف الأزهار المتناثرة ص 303 رقم (112)، ونظم المتناثر ص 252 رقم (308)، و [ص 222] من هذا الكتاب.
ورابعًا: أهل السنة والجماعة وسط في أسماء الإيمان والدين بين الحرورية والمعتزلة، وبين المرجئة والجهمية، هذا التقابل قريب، ومرتبط بالذي قبله، فالتقابل بين الطائفتين المتطرفتين المنحرفتين واحد.
وأهل السنة والجماعة وسط في أسماء الإيمان والدين، وهي: الأسماء الشرعية التي ترجع إلى حال الإنسان في دينه: مؤمن، مسلم، تقي، صالح. وكذلك: كافر، منافق، فاسق، عاص، هذه هي أسماء الإيمان والدين، فأهل السنة وسط في هذه الأسماء التي تتضمن، وتستتبع أحكامًا دنيوية وأخروية.
وسط في باب أسماء الإيمان والدين، أو في باب الأسماء والأحكام، بين الحرورية - وهو: اسم للخوارج نسبة إلى الموضع الذي خرجوا فيه: حَرَوْراء
(1)
-، والمعتزلة، وبين المرجئة والجهمية، هذا الانقسام يتعلق أيضًا بمرتكب الكبيرة.
لكن القضية الأولى: تتعلَّق بحكم الوعيد في الآخرة، وقد علمنا حكم مرتكب الكبيرة في الآخرة عند أهل السنة، وعند الخوارج، والمعتزلة، وعند المرجئة، والجهمية.
والثانية: حكمه في الدنيا؛ فالحرورية يقولون: إن مرتكب الكبيرة كافر، يخرج عن الإيمان، ويدخل في الكفر، ويكون مرتدًّا كافرًا حلال الدم، والمال.
(1)
قيل: قرية بظاهر الكوفة، وقيل: موضع على ميلين منها. معجم البلدان 2/ 245.
والمعتزلة يقولون: هو في منزلة بين المنزلتين، لا هو مؤمن، ولا كافر، وهذا أصل من أصولهم، كما أن من أصولهم إنفاذ الوعيد يعني حتمية وقوع ما توعد الله به من عصاه.
وأما المرجئة فيقولون: العاصي مؤمن كامل الإيمان؛ لأن الإيمان عندهم هو التصديق، فكل من كان مصدقًا بربوبيته تعالى، ومصدقًا برسالة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فهو مؤمن كامل الإيمان.
انظر إلى التقابل والتناقض؛ الخوارج يقولون: كافر، والمعتزلة قالوا: هو في منزلة يخرج عن دائرة الإيمان، وليس بمؤمن، والمرجئة يقولون: بل هو مؤمن كامل الإيمان.
وأهل السنة بين ذلك، يقولون: من أظهر الإيمان وأبطن الكفر؛ فهو منافق، ومن ارتكب كبيرة من كبائر الذنوب وأصر عليها؛ فهو فاسق، وهو مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته، مؤمن ناقص الإيمان، فلا يسلبون عنه مطلق الاسم، ولا يعطونه الاسم المطلق يقولون مؤمن ناقص الإيمان
(1)
.
إذا صاروا وسطًا: في مرتكب الكبيرة وهو الموحد الذي لم يأتِ بناقض يقولون عنه: عاصٍ فاسق ناقص الإيمان، لا يقولون: مؤمن كامل الإيمان، ولا يقولون: كافر، ولا يقولون: إنه في منزلة بين المنزلتين.
وبهذا تظهر وسطيتهم، ويظهر تطرف من خالفهم، فالحرورية والمعتزلة في طرف، والمرجئة في طرف، هؤلاء هم المتطرفون حقًّا،
(1)
انظر: [ص 239].
أما أهل السنة فهم عدول خيار وسط، لا إفراط ولا تفريط، أهل عدل في أحكامهم، وأقوالهم، وأفعالهم.
خامسًا: أهل السنة وسط في ما يجب لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد اختلفت فيهم الفرق، ففريق غَلَوا، وفريق جَفَوا، وفريق توسطوا.
فأهل السنة والجماعة وسط في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الرافضة والخوارج.
فإن الرافضة يغلون في آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم يغلون في علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وفاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم ورضي عنها وذريته منها، ويتجاوزون فيهما الحد.
وأما الخوارج فإنهم يكفِّرون كثيرًا من الصحابة، ومنهم علي رضي الله عنه، فكانوا مع الرافضة على طرفي نقيض.
فالخوارج هم شر النواصب؛ لأن الطائفة الناصبة نصبوا العداء لأهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، وخيرهم مطلقًا علي رضي الله عنه. والرافضة مع غلوهم في عليّ رضي الله عنه وذريته نصبوا العداوة لخير هذه الأمة بعد نبيها، لأبي بكر، وعمر، وعثمان، وجمهور الصحابة رضي الله عنهم، ولا يستثنون إلا نفرًا قليلًا.
فهم شر من الخوارج؛ لأنهم شاركوا الخوارج في نظير ما ضلوا وانحرفوا فيه من أمر الصحابة، وزادوا عليه، فالرافضة شر، والخوارج خير منهم بكثير
(1)
، فالذي يبغض مثلًا عليًا، أو يكفره أهون ممن يبغض أبا بكر، ويكفره، وإن كان الكل ضالًّا منحرفًا زائغًا عن سبيل الحق.
(1)
انظر تقرير هذا المعنى في: مجموع الفتاوى 3/ 356 و 28/ 477 - 499 و 527.
فأهل السنة وسط، يحبون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وينزلونهم منازلهم، ولا يبغضون أحدًا منهم، ولا يتبرؤون من أحد منهم، ولا يذكرونهم إلا بالجميل، ويبغضون من يبغضهم، وبغير الخير يذكرهم.
وينزلونهم منازلهم، ولا يغلون في أحد منهم، كما صنعت الروافض، ولا جفاء كما صنعت الخوارج، والله المستعان.
* * * *
من الإيمان بالله وكتبه: الإيمان بعلوه ومعيته
وقد دخل فيما ذكرناه من الإيمان بالله: الإيمان بما أخبر الله في كتابه، وتواتر عن رسوله صلى الله عليه وسلم، وأجمع عليه سلف الأمة: من أنه سبحانه فوق سمواته على عرشه، عليٌّ على خلقه، وهو سبحانه معهم أينما كانوا، يعلم ما هم عاملون، كما جمع بين ذلك في قوله:{هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير (4)} [الحديد][29/ 1]. وليس معنى قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ} أنه مختلط بالخلق، فإن هذا لا توجبه اللغة، وهو خلاف ما أجمع عليه سلف الأمة، وخلاف ما فطر الله عليه الخلق، بل القمر آية من آيات الله من أصغر مخلوقاته، وهو موضوع في السماء، وهو مع المسافر أينما كان، وهو سبحانه فوق العرش رقيب على خلقه مهيمن عليهم، مطلع إليهم، إلى غير ذلك من معاني ربوبيته. وكل هذا الكلام الذي ذكره الله من أنه فوق العرش وأنه معنا حق على حقيقته لا يحتاج إلى تحريف، ولكن يصان عن الظنون الكاذبة [مثل أن يُظن أن ظاهر قوله:{فِي السَّمَاء} أن السماء تقله، أو تظله، وهذا باطل بإجماع أهل العلم والإيمان، فإن الله قد وسع كرسيه
السموات والأرض، وهو الذي يمسك السموات والأرضَ أن تزولا وَيمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه، ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره]
(1)
.
هذا فصل خصَّصه الشيخ رحمه الله لتقرير صفتين من صفات الله، تقدم ذكرهما وذِكر أدلتهما من الكتاب والسنة
(2)
، وهما: علوه تعالى على خلقه واستواؤه على عرشه، ومعيته لعباده، ولكنه خصص لهاتين الصفتين فصلًا خاصًّا؛ لوجود الاضطراب في هذا المقام، وكثرة الاشتباه في هذا الأمر.
ذكر الشيخ: أن من الإيمان بالله: الإيمان بما أخبر به في كتابه، وتواتر عن رسوله صلى الله عليه وسلم، وأجمع عليه سلف الأمة: من أنه سبحانه فوق سمواته على عرشه، عليٌّ على خلقه، وهو سبحانه معهم أينما كانوا كما في آية الحديد، فإن الله تعالى قد جمع فيها بين الأمرين: بين ذكر العلو والمعية {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير (4)} [الحديد].
(1)
زيادة من (م).
(2)
العلو والمعية ص 126، والاستواء ص 119.
فمن الإيمان بالله الإيمان بعلوه تعالى، وفوقيته على خلقه، واستوائه على عرشه، وأنه تعالى مع ذلك هو مع عباده، لا يخفى عليه شيء من أمرهم، فهذا مما أخبر الله به في كتابه، وأخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم، وأجمع عليه سلف الأمة.
إذًا: هاتان الصفتان ثابتتان بالكتاب والسنة والإجماع، ولا منافاة بين هاتين الصفتين؛ فإنه تعالى مع علوه على خلقه واستوائه على عرشه هو مع عباده، مطلع، ورقيب، ومهيمن عليهم، لا يخفى عليه شيء من حالهم وأمرهم.
والمعية التي وصف الله بها نفسه ويجب إثباتها له لا تقتضي أن يكون الله مختلطًا بالخلق، وحالًّا فيهم، تعالى الله عن ذلك.
يقول الشيخ: «فإن هذا المعنى الباطل لا توجبه اللغة» : المعية لا تقتضي اختلاطًا، ولا حلولًا، فاللغة لا توجبه، وهو خلاف ما أجمع عليه سلف الأمة، وخلاف ما فطر الله عليه الخلق، فالذين لم يفهموا من معيته تعالى لعباده إلا أنه مختلط بهم حالٌّ فيهم حتى قالوا: إنه في كل مكان! هؤلاء خارجون عن موجب اللغة، مخالفون لما أجمع عليه سلف الأمة، ومخالفون لما تقتضيه الفطرة السوية.
ومعية المخلوق للمخلوق لا تقتضي اختلاطًا وحلولًا، ومثاله: هذا القمر، فوق حيث شاء سبحانه وتعالى وبعيد عن الأرض، ويقال: إنه معنا مع المسافر وغير المسافر، وهو في مكانه، فإذا كانت معية المخلوق للمخلوق لا تقتضي اختلاطًا، فكيف بمعية الخالق للمخلوق؟!
يجب أن يعلم أن ما وصف الله به نفسه من علوه ومعيته، وفوقيته ومعيته أن كل ذلك حق على حقيقته.
الله تعالى مستوٍ على عرشه حقيقة، عالٍ على خلقه حقيقة، وهو معنا حقيقةً، وليس في قولنا: إنه معنا حقيقة ما يتضمن الحلول، هو معنا حقيقة على ما يليق به، ويناسبه ويختص به، فهو حق على حقيقته.
يقول الشيخ: «لا يحتاج إلى تحريف وصرف له عن ظاهره» : الله تعالى نفسه معنا، وهو فوق سمواته مستوٍ على عرشه، وهو سبحانه معنا يرانا، ويسمعنا، وعلمه محيط بنا {مَا يَكُونُ مِنْ نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة: 7].
يقول المؤلف: «ولكن يصان عن الظنون الكاذبة» : ما يُثبت لله من الفوقية من كونه في السماء يجب أن يصان عن الظنون الكاذبة، مثل: أن يظن أن مَعْنى أنه الله في السماء: في داخل السماء تقله، وتحمله، والسماء الأخرى تظله تعالى الله، فهذا ظن كاذب، وسوء ظن بالله، وهو خلاف ما أجمع عليه سلف الأمة، فإن أهل السنة والجماعة مجمعون على أن معنى في السماء يعني في العلو فوق جميع المخلوقات، فهو الظاهر الذي ليس فوقه شيء.
وكذلك المعية يجب أن تصان عن الظن الكاذب؛ كظن الحلولية الذين يقولون: معنى أنه معنا: أنه في كل مكان حالٌّ في الأشياء في داخل الغرف، في داخل الأمكنة المستخبثة، حال في كل شيء يعني
أشبه ما يكون بالهواء الذي يملأ الفراغ تعالى الله عما يقول الظالمون، والجاهلون، والمفترون علوًا كبيرًا، سبحان الله عما يصفون.
ويشير الشيخ إلى الدليل الدال على امتناع أن يحيط به شيء من مخلوقاته، فإنه سبحانه العلي وهو العظيم الذي لا أعظم منه، فالمخلوقات كلها في قبضته {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67]، وهو العظيم الذي {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} [البقرة: 255]، وهو الذي {يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولَا} [فاطر: 41]، {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاء وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ} [الروم: 25]، فهذه العوالم كلها في قبضته تعالى يدبرها كيف شاء.
و
هذا الفصل ينبغي حفظه
؛ لأن فيه عبارات جيدة تتضمن بيان ما يجب انتهاجه والثبات عليه من إثبات هاتين الصفتين: العلو والمعية، والإيمان بذلك من الإيمان بالله وبكتابه ورسوله صلى الله عليه وسلم.
* * * *
لا منافاة بين علوه وفوقيته، وقربه ومعيته
ودخل في ذلك: الإيمان بأنه قريب من خلقه [مجيب]
(1)
كما قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُون (186)} [البقرة]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:«إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته»
(2)
. وما ذكر في الكتاب والسنة من قربه، ومعيته، لا ينافي ما ذكر من علوه، وفوقيته، فإنه سبحانه ليس كمثله شيء في جميع نعوته، وهو عليٌّ في دنوه، قريبٌ في علوه.
هذا الفصل متمم للذي قبله؛ ولهذا يقول: فقد دخل في ذلك يعني فيما تقدم من الإيمان بعلوه ومعيته الإيمان بأنه قريب مجيب قال الله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} ، فالله تعالى موصوف بالعلو والفوقية، كما أنه موصوف بالقرب وبالمعية، وكل من هذه المعاني ثابت بالنصوص من الكتاب والسنة، ولا منافاة بين
(1)
زيادة من (م).
(2)
تقدم تخريجه في [ص 157].
علوه وفوقيته، وقربه ومعيته، هو سبحانه وتعالى فوق جميع المخلوقات مستوٍ على عرشه، وفي نفس الوقت هو مع عباده، وهو قريب من الداعين والعابدين، وهذا الفصل مكمل أضاف إليه مسألة القربِ، والكلامُ فيها مع العلو يشبه الكلام في المعية مع العلو، والله المستعان.
* * * *
اعتقاد أهل السنة في القرآن
ومن الإيمان به وكتبه الإيمان بأن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق، منه بدأ، وإليه يعود، وأن الله تكلم [به]
(1)
حقيقة، وأن هذا القرآن الذي أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم هو كلام الله حقيقة لا كلام غيره، ولا يجوز إطلاق القول بأنه حكاية عن كلام الله، أو عبارة، بل إذا قرأه الناس، أو كتبوه في المصاحف لم يخرج بذلك عن أن يكون كلام الله حقيقة، فإن الكلام إنما [29/ 2] يضاف حقيقة إلى من قاله مبتدئًا لا إلى من قاله مبلغًا مؤديًا، [وهو كلام الله؛ حروفه ومعانيه؛ ليس كلام الله الحروف دون المعاني، ولا المعاني دون الحروف]
(2)
.
هذا الفصل من أعظم فصول هذه العقيدة أهمية؛ لأنه يتعلق بقضية كبرى ألا وهي مسألة كلام الله التي اضطرب فيها الناس، واختلف فيها أهل الضلال، وهدى اللهُ إلى الحق فيها أهلَ السنة والجماعة، وهذه المسألة هي التي نشأت عنها الفتنة الكبرى فتنة القول بخلق القرآن،
(1)
لا توجد في (ب).
(2)
زيادة من (م).
والمحنة بذلك في خلافة المأمون حتى حُمل الناس على هذه البدعة بالقوة، وامتحن العلماء، وعلى رأسهم إمام أهل السنة الإمام أحمد رحمه الله.
يقول الشيخ رحمه الله: «ومن الإيمان به وبكتبه الإيمان بأن القرآن كلام الله» : القرآن الكتاب المبين الحكيم العظيم، هذا القرآن هو كلام الله حقيقة تكلم به سبحانه وسمعه منه جبريل، وبلغه إلى محمد صلى الله عليه وسلم:{وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194)} [الشعراء] وهذا هو المعقول؛ فكل عاقل إذا سمع إضافة الكلام إلى متكلم عَقَلَ أنه كلامه، وقال: هذا كلام فلان.
فالقرآن العظيم هو المكتوب في المصاحف المبدوء بسورة الفاتحة المختوم بسورة الناس، وهو محفوظ في الصدور {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت: 49].
يقول الشيخ: «القرآن كلام الله منزل» قال تعالى: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ} [الزمر: 1]، {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ} [النحل: 102]، هذه هي عقيدة أهل السنة في القرآن أنه منزل غير مخلوق، بل هو صفة من صفات الله.
فالكلام صفة الله، والقرآن من كلام الله، تكلم به سبحانه، منزل غير مخلوق خلافًا للجهمية والمعتزلة ومن شابههم من القائلين بأن هذا القرآن مخلوق، وأن الله لا يتكلم فالقرآن ليس كلامه حقيقة، وإن أضيف إليه فهو من إضافة المخلوق إلى خالقه، ويقولون: القرآن كلام الله؛ لكنه ليس على معنى أنه تكلم به؛ بل على معنى أنه خلقه، وقد صرح
الله سبحانه وتعالى بإضافة القرآن إليه وأنه كلامه {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللّهِ} [التوبة: 6].
والمعطلة من الجهمية والمعتزلة يقولون: هذا القرآن مخلوق خلقه الله إما في الهواء أو في نفس جبريل أو كيفما كان
(1)
، وأهل السنة يؤمنون بأنه كلام الله حقيقة منزل غير مخلوق منه بدا - أي -: ظهر القرآن من الله، وسُمع من الله كلامًا تكلم به سبحانه كيف شاء.
فالله يتكلم بالوحي كيف شاء، ويتلقاه عنه من شاء من ملائكته، وجبريل هو الموكل بالوحي كما في آيات كثيرة منها:{نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِين (193)} [الشعراء]، وجبريل هو الروح الأمين، بل قال سبحانه:{إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيم (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِين (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِين (21)} [التكوير].
وقول الشيخ: «وإليه يعود» : يشير إلى رفعه في آخر الزمان حين يرفع القرآن من المصاحف والصدور كما جاء ذلك في كثير من الآثار
(2)
؛
(1)
انظر: [ص 138].
(2)
انظر جملة منها في: مصنف عبد الرزاق 3/ 362، ومصنف ابن أبي شيبة 15/ 528، وسنن الدارمي 2/ 895، والدر المنثور 5/ 334 - 336. وذكر شيخ الإسلام في «مناظرة الواسطية» 3/ 174: أن الحافظ أبا الفضل بن ناصر، والحافظ أبا عبد الله المقدسي جمعا ما في ذلك من الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم، والصحابة، والتابعين.
لأنه قرب قيام الساعة يُقبض المؤمنون، فلا يبقى في الأرض أحد يقول: الله الله
(1)
.
وهذا معنى قول أهل السنة: وإليه يعود. إذًا: القرآن هو كلام الله حقيقة لا مجازًا، والذين ينفون الكلام عن الله مطلقًا يقولون: إنه ليس كلام الله حقيقة بل إضافته إليه من قبيل إضافة المخلوق إلى خالقه.
يقول الشيخ: «ولا يجوز إطلاق القول بأنه حكاية عن كلام الله أو عبارة» : هذه إشارة إلى مذهب الأشاعرة، فالأشاعرة يقولون: إن كلام الله معنى واحد نفسي قديم قائم بالرب ليس بحرف ولا صوت، وأما ما يسمعه الملائكة، أو يسمعه الأنبياء، أو هذا القرآن، أو غيره من الكتب، هذه الألفاظ عبارة أو حكاية قد يعبرون بهذا أو هذا، وقولهم: عبارة أي: تعبير عن كلام الله ليس القرآن كلام الله حقيقة، بل هو مجاز، تعالى الله عما يقول الجاهلون والغالطون علوًا كبيرًا، إنهم بذلك يشبهون الله بالأخرس الذي تكون في نفسه المعاني، ويعبر عنها من يفهم إشارته عن المعنى الذي فهمه منه.
ولهذا أشار الشيخ إلى بطلان قول هؤلاء بقوله: «ولا يجوز إطلاق القول بأنه حكاية عن كلام الله أو عبارة» : لا بل هو كلام الله حقيقة، والكلام إنما يُضاف إلى من قاله مبتدئًا لا إلى من قاله مبلغًا مؤديًا، فلا يقال: إن القرآن كلام محمد، هذا قول الكفار {إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَر (25)} [المدثر]، لا يقال: إنه كلام محمد صلى الله عليه وسلم، أو كلام بشر، أو إنه كلام جبريل؛
(1)
روى مسلم (148) عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض: الله الله» . وفي رواية: «لا تقوم الساعة على أحد يقول: الله الله» .
لأن الكلام وإن كان جبريل قد بلَّغه ومحمد صلى الله عليه وسلم قد بلغه، وقد أضيف إليهما القرآن بلفظ القول {لَقَوْلُ رَسُولٍ} كلمة رسول تنبئ أن إضافة القول للرسول إضافة تبليغ {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ} ، وقد أضيف إلى جبريل كما في آية التكوير {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيم (19)} {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيم (19)} [التكوير]، وأضيف إلى محمد صلى الله عليه وسلم وهو الرسول البشري في سورة الحاقة {فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُون (38) وَمَا لَا تُبْصِرُون (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيم (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُون (41)} [الحاقة].
وهذا يمنع أن يقال: إنه قول جبريل ابتداء؛ ابتدأه جبريل، أو أنه ابتدأه محمد؛ لأنه قد أضيف إليهما، فلا يجوز أن يكون كل منهما ابتدأه، كلا بل كلٌ منهما بلغه، فإضافة القرآن إلى جبريل الرسول من الملائكة، أو إلى محمد وهو الرسول من البشر إضافة تبليغ كما ينبئ عن ذلك لفظ رسول، إذًا: الكلام ليس كلامه، بل كلام مرسِلِه.
ولهذا جاء التنصيص على أنه كلام الله، وقد أجمع أهل السنة على أن القرآن كلام الله؛ لأن من ينفي أن يكون القرآن كلام الله حقيقة، وأنه مخلوق إنما يقول ذلك بناء على أصله الفاسد، وهو أن الله لا يتكلم تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا، وتقدم
(1)
أن نفي الكلام عن الله تنقص لرب العالمين، وأن الله بيَّن لبني إسرائيل بطلان إلهية العجل بأنه لا يتكلم، {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِين (148)} [الأعراف].
(1)
[ص 139].
وختم الشيخ هذا الفصل بقوله: «فالقرآن هو كلام الله حروفه ومعانيه ليس كلام الله الحروف دون المعاني، ولا المعاني دون الحروف» :
والجهمية والمعتزلة نفاة الكلام مطلقًا يقولون: القرآن ليس كلام الله حروفه ومعانيه، بل الكل مخلوق، وأما الأشاعرة فيقولون: المعنى كلام الله، أما الحروف فهي مُعبَّرٌ بها عن تلك المعاني، والحق أن القرآن كلام الله حروفه ومعانيه، {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)} هذه الآية تكلم الله بها كيف شاء، وتلقاها عنه الرسول الكريم جبريل عليه السلام، وبلغها للرسول الكريم من البشر محمد صلى الله عليه وسلم.
وهكذا، فالقرآن كله من الله حقيقة حروفه ومعانيه، وهكذا سائر الكتب المنزلة هي كلامه سبحانه وتعالى يعني -: قبل التحريف، فقد أنزل الله على موسى التوراة، وأنزل الإنجيل على عيسى، وقَرَن الله في كتابه بين الكتب الثلاثة بقوله تعالى:{نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيل (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ} [آل عمران]، أي: هذا الكتاب.
هذا ما يتعلق بهذا الفصل، وهو فصل ضمَّنه الشيخ رحمه الله تقريرًا وافيًا للمذهب الحق - مذهب أهل السنة والجماعة - في القرآن، وهو منافٍ للمذاهب الباطلة.
* * * *
من الإيمان بالله ورسله: الإيمان برؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة
وقد دخل أيضًا فيما ذكرنا من الإيمان به وبكتبه وبرسله الإيمان بأن المؤمنين يرونه يوم القيامة عَيانًا بأبصارهم كما يرون الشمس صحوًا ليس دونها سحاب، وكما يرون القمر ليلة البدر ولا يضامون في رؤيته، يرونه سبحانه وهو
(1)
في عَرصات القيامة، ثم يرونه بعد دخول الجنة كما يشاء الله سبحانه وتعالى.
وهذا فصل عقده الشيخ لمسألة الرؤية لمزيد العناية بها؛ لأن مسألة الرؤية مما اتسع فيها الكلام، وعظم فيها الاشتباه والاضطراب.
فبيَّن الشيخ أنه قد دخل فيما ذكرناه من الإيمان بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر - دخل في هذه الأصول الإيمان - بأن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة عيانًا بأبصارهم، ليست رؤية قلبية كما يقول المحرفون، لا بل عيانًا بأبصارهم، والدليل على هذا نصوص الكتاب، والسنة المتواترة
(2)
، وإجماع سلف الأمة، فهي قضية تضافرت عليها الأدلة.
(1)
في (م): وهم.
(2)
انظر: [ص 172].
يقول الشيخ: «يرونه وهم في عَرَصات القيامة» يعني: يرونه سبحانه وتعالى في ساحات القيامة ومواقفها، ويرونه كذلك بعد دخولهم الجنة كما يشاء: كيفية، وزمانًا، ومكانًا، لا نحدد إلا في حدود ما صرحت به النصوص الثابتة من الكتاب أو من السنة الصحيحة.
فالمقصود أن الشيخ عقد لبعض هذه المسائل - التي سبق ذكر أدلتها
(1)
- فصولاً؛ لأنها مسائل كثر الكلام والخلاف فيها بين فرق الأمة، وبين أهل السُّنة ومخالفيهم.
* * * *
(1)
[ص 147 و 171].
الإيمان باليوم الآخر وما يدخل فيه
أحوال الناس بعد الموت، وبعد البعث
ومن الإيمان باليوم الآخر: الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم مما يكون بعد الموت؛ فيؤمنون بفتنة القبر، وبعذاب القبر، وبنعيمه. فأما الفتنة: فإن الناس يفتنون في قبورهم، فيقال للرجل: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ ف {يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} [إبراهيم: 27]، فيقول: المؤمن الله ربي، والإسلام ديني، ومحمد نبيي. وأما المرتاب فيقول: آه آه
(1)
لا أدري سمعت الناس يقولون شيئًا فقلته، فيضرب بمرزَبَة من حديد فيصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الإنسان، ولو سمعها الإنسان لصعق
(2)
، ثم بعد هذه الفتنة إما نعيم، وإما عذاب
(1)
هكذا هنا، وفي المسند وأبي داود:«هاه هاه» ، وعند البقية:«لا أدري» كما في التخريج.
(2)
رواه أحمد 4/ 287، وأبو داود (4753)، وصححه ابن خزيمة في «التوحيد» ص 119، وابن جرير في «تهذيب الآثار» - مسند عمررضي الله عنه 2/ 491 - ، والحاكم 1/ 37، والبيهقي في «إثبات عذاب القبر» ص 39، من حديث البراء رضي الله عنه مطولًا، وصححه أيضًا ابن القيم في «الروح» ص 88، =
إلى يوم القيامة الكبرى، فتُعاد الأرواح إلى الأجساد، وتقوم القيامة التي أخبر الله تعالى بها في كتابه [و]
(1)
على لسان رسوله وأجمع عليها المسلمون، فيقوم الناس من قبورهم لرب العالمين حفاة عراة غرلًا، وتدنو منهم الشمس، ويلجمهم العرق، وتنصب الموازين فيوزن فيها أعمال العباد {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُون (103)} [المؤمنون]، وتنشر الدواوين وهي صحائف الأعمال فآخذٌ كتابه بيمينه، وآخذ كتابه بشماله، أو من وراء ظهره كما قال سبحانه:{وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14)} [الإسراء][30/ 1].
الإيمان باليوم الآخر هو أحد أصول الإيمان الستة التي فسَّر بها النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان، وهو الأصل الخامس: الإيمان باليوم الآخر، أو بتعبير آخر: الإيمان بالبعث بعد الموت.
ويدخل في الإيمان باليوم الآخر أشياء كثيرة مما جاءت به النصوص، فكل ما أخبر الله به في كتابه، أو أخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم مما يكون بعد الموت فهو داخل في الإيمان باليوم الآخر.
=
و «إعلام الموقعين» 1/ 178، و «تهذيب السنن» 7/ 193، وقواه ابن تيمية ونقل عن جماعة تصحيحه. شرح حديث النزول ص 262 - 280.
(1)
زيادة من (م).
فالدور ثلاث: دار الدنيا - وهي دار العمل - ودار البرزخ، والدار الآخرة - وهُما دارا جزاء -.
فيجب الإيمان بما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة من: فتنة القبر، وعذابه، ونعيمه، وما يكون بعد ذلك من القيامة الكبرى؛ فإن القيامة قيامتان:
قيامة صغرى: وهي الموت الذي يكون به الانتقال من دار الدنيا إلى دار البرزخ.
وقيامة كبرى: وهي التي أخبر الله تعالى بها في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وأجمع عليها المسلمون.
فإنه تعالى يبعث الأموات من قبورهم {{وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُور (7)} [الحج]، وفتنة القبر وعذابه ونعيمه: أحوال من أحوال دار البرزخ. ومعنى البرزخ: الحاجز بين الدنيا، والدار الآخرة {وَمِنْ وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُون (100)} [المؤمنون]، وهو: ما بين الموت إلى البعث.
وقد دلَّ القرآن، والسنة المتواترة
(1)
على فتنة القبر وعذابه. والفتنة: الابتلاء، والمراد بفتنة القبر: سؤال الملكين: منكر ونكير للميت «فإن الميت إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه أتاه ملكان فيقعدانه ويسألانه يقولان له: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟» .
(1)
انظر: إثبات عذاب القبر، والروح ص 97، وأهوال القبور ص 43، وقطف الأزهار ص 294 رقم (109).
فأما المؤمن فيقول: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد، وأما الكافر فيتلجلج ويحار، فيقول: هاه هاه لا أدري ف {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ} ، كما ذكر ذلك سبحانه وتعالى في كتابه، فهذه الآية فسرت التثبيت في القبر {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} بالاستقامة على الإسلام حتى الموت {وَفِي الْآخِرَةِ} بالتثبيت عند فتنة القبر.
وقد صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنه أُوحي إلى أنكم تفتنون في قبوركم مثل أو قريبًا من فتنة المسيح الدجال: فيؤتى أحدكم فيقال: ما علمك بهذا الرجل؟ فأما المؤمن فيقول: هو محمد رسول الله جاءنا بالبينات والهدى فأجبنا واتبعنا هو محمد ثلاثًا، فيقال نم صالحًا قد علمنا إن كنت لموقنًا به، وأما المنافق فيقول: لا أدري سمعت الناس يقولون شيئًا؛ فقلته»
(1)
. تفتنون: يعني تمتحنون بالسؤال.
وبعد هذه الفتنة إما نعيم وإما عذاب، ومن عذاب الشقي أنه إذا تحيَّر في الجواب، وقال: سمعت الناس يقولون شيئًا فقلتُ، يُوكل به من يضربه بمرزبة من حديد فيصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الإنسان، ولو سمعها الإنسان لصعق.
وهذه الأمور تجري في القبور، والناس قريبون جدًّا منها ولا يدرون شيئًا عنها، فهي من علم الغيبِ، والإيمانُ بها من الإيمان بالغيب.
(1)
رواه البخاري (86)، ومسلم (905)، من حديث أسماء رضي الله عنها.
وقد جاء في الصحيحين
(1)
حديث صاحبي القبرين، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر بأنهما يعذبان، والصحابة معه لا يدرون عن تعذيبهما، ولا عن سبب تعذيبهما، ومن حكمة الله أنه ستر أحوال القبور، وأهوالها، وعذاب المعذبين فيها، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«لولا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يُسمعكم من عذاب القبر ما أسمع»
(2)
.
ولو سمع الناس ما في القبور لما استطاعوا المُقام، ولما طاب لهم عيش، ولما تدافنوا، ولفرَّ الناس وهاموا على وجوههم.
فالقبور فيها أمور وخطوب؛ ولهذا جاءت الاستعاذة بالله من عذاب القبر، ومن فتنة القبر في كثير من النصوص، وانظروا كيف أوصانا النبي صلى الله عليه وسلم أن نستعيذ بالله من هذه الأخطار العظيمة في كل صلاة بعد التشهد.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من أربع يقول: اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات ومن شر فتنة المسيح الدجال»
(3)
.
ولو كُشف للناس أحوال القبور لما كان لهم ثواب على الإيمان بذلك؛ لأن الثواب إنما هو على الإيمان بالغيب، فهذا هو الذي فيه الفضل، ويتبين فيه المؤمن المصدق من الكافر الجاحد قال تعالى:{ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِين (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} الآية [البقرة].
(1)
رواه البخاري (216)، ومسلم (292)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(2)
رواه مسلم (2868)، من حديث أنس رضي الله عنه.
(3)
رواه البخاري (1377)، ومسلم (588) - واللفظ له -، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
ولهذا إذا عاين الإنسان مصيره انغلق عليه باب التوبة، فالله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر، ويقبل توبة التائبين ما لم ييئسوا من الحياة، ويعاينوا العذاب كما أخبر الله عن الهالكين من المكذبين {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِين (84) فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُون (85)} [غافر].
إذًا؛ فمن أصول أهل السنة الإيمان بفتنة القبر، وعذاب القبر، ونعيم القبر، وقد أنكر ذلك بعض المبتدعة، وأنكره الملاحدة الزنادقة
(1)
، ويلبسون فيقولون: هذه القبور لا نرى فيها شيئًا، فلا يؤمنون إلا بما تدركه حواسهم. وهذا ضلال بيِّن، فكم من الأمور الموجودة القريبة منا ولا ندركها؟
أليس الإنسان قد وكل الله به ملائكة من حوله يكتبون أعماله ويحفظوه ولا يحس بهم؟
بل إن ملائكة الموت ملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب حين نزع الروح أقرب إلى الإنسان من أهله، وهم لا يدرون.
{فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُوم (83) وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُون (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لاَّ تُبْصِرُون (85)} [الواقعة]، فأحوال القبور الإيمان بها من الإيمان بالغيب، ولا يصح أن يكون عند المسلم أدنى شك لكونه لا يرى شيئًا ولا يحس به.
(1)
الروح ص 105، ورد عليهم في ص 111.
و
قد يكشف الله لبعض الناس شيئًا من أحوال القبور
كما تواترت الأخبار، فيُكشف أحيانًا لبعض الناس أشياء: إما أمور مسموعة، أو أمور مرئية
(1)
.
وبعد ذلك يبقى الناس في قبورهم، وفي أحوالهم إلى القيامة الكبرى التي أخبر الله بها في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وأجمع عليها المسلمون، فالقيامة البعث بعد الموت، فالإيمان بها من أصول الإيمان، ومن أنكر البعث فهو كافر {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ} [التغابن: 7]، والحديث عن البعث في القرآن طويل، ومستفيض، ومتنوع، وكثير، وواسع.
قال المؤلف: «يقوم الناس من قبورهم» هذه القيامة الكبرى، تُعاد الأرواح إلى الأجساد، ويُجمع شتات الأبدان، يجمع ما تمزق وتفرق ويُعاد خلقًا جديدًا {بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءهُمْ مُنذِرٌ مِّنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيب (2) أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيد (3) قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظ (4)} [ق]، فالأجزاء المتفرقة والأوصال المتمزقة والعظام النخرة يجمعها ربك، وينشئها نشأة أخرى، ويعيد الأرواح نفسها إلى تلك الأبدان التي ينشئها الله نشئًا جديدًا، فتتشقق عن الناس قبورهم، {يَوْمَ تَشَقَّقُ الأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا} [ق: 44]، تتشقق الأرض كما تتشقق عن النبات، يدفن البذر في الأرض فتنمو هذه البذور فتنشق عنها الأرض، فتخضر وتخرج الأشجار والثمار، والله شبه إحياء الأموات وإخراجهم من
(1)
انظر: مجموع الفتاوى 4/ 296، و 24/ 376، وشرح حديث النزول ص 399، والروح ص 119، وأهوال القبور ص 61.
قبورهم بإحياء الأرض بعد موتها {وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيج (5) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير (6)} [الحج]، وفي الآية الأخرى {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير (39)} [فصلت]، وهذا المعنى في القرآن كثير.
ويكونون «حفاة عراة غرلًا» : أي غير منتعلين، ولا مكتسين، ولا مختونين {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ} [الأنبياء: 104]، ولما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك، سألته أم المؤمنين عائشة: الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض؟! قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «يا عائشة إن الأمر أشد من أن يهمهم ذلك»
(1)
.
وذكر الشيخ جملة مما يكون يوم القيامة فمن ذلك: دنو الشمس من رؤوس الخلائق، كما جاء بذلك الحديث الصحيح:«فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق؛ فمنهم من يكون إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاما»
(2)
. ولو كانت خِلقتهم وطبيعتهم كطبيعتهم في هذه الحياة لأحرقتهم الشمس، لكن حياة الآخرة خلقت للبقاء، وإذا ردت الأرواح إلى الأبدان فإنها ترد ردًّا لا انفصال، ولا فراق بعده.
(1)
رواه البخاري (6527)، ومسلم (2859).
(2)
رواه مسلم (2864)، من حديث المقداد بن الأسود رضي الله عنه.
ومما يكون يوم القيامة: نصب الموازين، ووزن الأعمال {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِين (47)} [الأنبياء].
والآيات في هذا المعنى كثيرة، وكذا نصوص السنة الدالة على وزن الأعمال
(1)
.
وكذلك نشر الدواوين، وهي: صحائف الأعمال، والآيات في هذا كثيرة ذكر الشيخ منها قوله تعالى:{وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كَتَابَكَ} [الإسراء]، أي: ألزمناه عملَه، ونصيبُه في عنقه ملازم له.
{وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا} كتابًا حقيقيًّا الله أعلم بكيفيته.
{يَلْقَاهُ مَنْشُورًا} أي: مفتوحًا {وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَت (10)} [التكوير].
{اقْرَأْ كَتَابَكَ} كتاب قد أُحصي على الإنسان فيه كل صغير وكبير.
{وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا} [الكهف: 49]، {وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَر (53)} [القمر].
فكل هذا مما يجب الإيمان به، وهو داخل في الإيمان باليوم الآخر، الإيمان بكل ما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم به من فتنة القبر، وعذاب القبر، ونعيم القبر، والبعث بعد الموت، وقيام الناس من قبورهم حفاة،
(1)
انظر: التذكرة 2/ 715، وفتح الباري 13/ 538.
ودنو الشمس، ونصب الموازين، ووزن الأعمال، ونشر الدواوين، كل هذا مما يجب الإيمان به، وأهل السنة والجماعة يؤمنون بهذا كله؛ لأن منهجهم ومذهبهم قائم على الإيمان بكل ما أخبر الله به في كتابه، وما أخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم لا يعارضون شيئًا من ذلك بعقولهم، أو بعقل فلان، أو بآراء فلسفية، أو جدل كلامي، بل مذهبهم قائم على التسليم لخبر الله سبحانه، وخبر رسوله صلى الله عليه وسلم يؤمنون بذلك كله كما جاء عن الإمام الشافعي رحمه الله أنه قال: آمنت بالله، وبما جاء عن الله على مراد الله، وآمنت برسول الله، وما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1)
.
وأهل البدع وإن أقروا بالبعث فإنهم يقولون أقوالًا تخالف موجب النصوص، وينكرون بعض ما ورد في السنن مثل من ينكر الميزان
(2)
.
فأهل السنة والجماعة يؤمنون بكل ما أخبر الله به في كتابه وأخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم، والإيمان بهذه الأمور كله داخل في الإيمان باليوم الآخر.
* * * *
(1)
لمعة الاعتقاد ص 8، ومجموع الفتاوى 4/ 2 و 6/ 354.
(2)
كالمعتزلة، انظر: مقالات الإسلاميين ص 472، ودرء تعارض العقل والنقل 5/ 348 - وذكر أنه قول البغداديين من المعتزلة دون البصريين -، وفتح الباري 13/ 538.
محاسبة الله للخلائق
ويحاسب الله الخلق، ويخلو بعبده المؤمن، فيقرره بذنوبه، كما وصف ذلك في الكتاب والسنة، وأما الكفار؛ فلا يحاسبون محاسبة من توزن حسناته وسيئاته، فإنهم لا حسنات لهم، ولكن تعد أعمالهم وتحصى، فيوقفون عليها، ويقررون بها، ويجزون بها.
ومما يكون يوم القيامةِ من الأمورِ العظيمةِ الحسابُ، فيوم القيامة له أسماء كثيرة منها: يوم الفصل، ويوم النشور، ويوم التلاق، ويوم التناد، ويوم الحسابِ، والحسابُ من أعظم ما يكون يوم القيامة.
يحاسب الله الخلائق، وهو سريع الحساب، وهو أسرع الحاسبين سبحانه وتعالى {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا (12) إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا (15)} [الانشقاق]، فمن الناس من يحاسب حسابًا يسيرًا، ومنهم مَنْ يناقَش الحساب.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: «من نُوقِشَ الحساب عُذِّب، فقالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: أليس الله يقول: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا؟ قال: ذلك العرض»
(1)
.
حساب المؤمن الذي غفر الله له ذنوبه إنما هو عرض أعماله عليه؛ ويسترشد إلى هذا بقول الشيخ: «يحاسب الله الخلق، ويخلو بعبده المؤمن فيقرره بذنوبه» إلى آخره.
وقول الشيخ: «كما وصف ذلك في الكتاب والسنة» :
هذه الكلمة عامة وهي: إشارة إلى دليل قوله: «ويحاسب الله الخلق ويخلو بعبده المؤمن» : فمن أمور الحساب ما دلَّ عليه القرآن، كما في الآيات التي ذكرتُها، ومنها ما دلَّت عليه السنة، والفقرة الثانية إنما جاءت بها السنة، فالرسول صلى الله عليه وسلم أخبر «أن الله يدني عبده المؤمن حتى يضع عليه كنفه فيقرره بذنوبه، ثم يقول له: إني سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم»
(2)
.
يقول الشيخ: «وأما الكفار فلا يحاسبون محاسبة من توزن حسناته وسيئاته؛ لأنه لا حسنات لهم» : ولكونهم لا حسنات لهم؛ لا يحاسبون محاسبة من توزن حسناته وسيئاته؛ لأن من له حسنات وسيئات توزن أعماله؛ فقد ترجح الحسنات فينجو، وقد ترجح السيئات، فيستوجب العذاب.
(1)
رواه البخاري (6536)، ومسلم (2876).
(2)
رواه البخاري (6070)، ومسلم (2768)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
وقول الشيخ: «وأما الكفار فلا يحاسبون محاسبة من توزن حسناته
…
ولكن تعد أعمالهم وتحصى فيوقفون عليها، ويقررون بها ويجزون بها»: كأن هذه العبارة تُشْعِر بأن أعمالهم لا توزن
(1)
، والقرآن ظاهره - والله أعلم - أن الكفار توزن أعمالهم؛ فتخف موازينهم قال الله تبارك وتعالى:{فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104)} [المؤمنون] الآيات، ونظائر هذا في القرآن متعددة، فالذين تخف موازينهم؛ يبوؤون بالشقوة، وهم الذين يقولون:{رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107)} [المؤمنون]، فيقول الله تعالى لهم:{اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108)} [المؤمنون] نعوذ بالله من جهد البلاء، ودرك الشقاء وسوء القضاء، نعوذ بالله من مصير أهل الشقاء.
* * * *
(1)
انظر: التذكرة 2/ 720، وفتح الباري 13/ 538.
وجوب الإيمان بالحوض والصراط
وفي [عَرصة]
(1)
القيامة الحوض المورود لمحمد صلى الله عليه وسلم ماؤه أشد بياضًا من اللبن، وأحلى من العسل، آنيته عدد نجوم السماء، طوله شهر، وعرضه شهر، من يشرب منه شربة لن يظمأ بعدها أبدًا.
والصراط منصوب على متن جهنم - وهو الجسر الذي بين الجنة والنار - يمر الناس عليه على قدر أعمالهم، فمنهم من يمر كلمح البصر، ومنهم من يمر كالبرق، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كالفرس الجواد، ومنهم من يمر كركاب الإبل، ومنهم من يَعْدو عدْوًا، ومنهم من يمشي مشيًا، ومنهم من يزحف زحفًا، ومنهم من يخطف فيلقى في جهنم، فإن الجسر عليه كلاليب تخطف الناس بأعمالهم، فمن مر على الصراط دخل الجنة، فإذا عبروا عليه، وقفوا على قنطرة بين الجنة والنار، فيقتص لبعضهم من بعض، فإذا هُذِّبوا ونُقوا أذن لهم في دخول الجنة.
(1)
في (م): عرصات.
ومما يدخل في الإيمان باليوم الآخر ويجب الإيمان به: الحوض لنبينا صلى الله عليه وسلم فقد تواترت به السنة
(1)
وأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم، بوصفه، ووصف مائه، ومساحته، ومن ذلك ما ذكره الشيخ في أحد الروايات:«طوله شهر، وعرضه شهر»
(2)
، وفي رواية أخرى تقدير مساحته «كما بين أيلة، وصنعاء»
(3)
(4)
. وروايات كثيرة في مقداره
(5)
.
المقصود أنه حوض عظيم، ومورد كريم ترد عليه هذه الأمة، ويشرب منه المؤمنون الذين ثبتوا في هذه الحياة على هدى الله، واستقاموا على سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا الحوض قد ورد:«أن ماءه أشد بياضًا من اللبن، وأحلى من العسل، وأطيب من ريح المسك، وآنيته وكيزانه كنجوم السماء»
(6)
.
كل هذا يجب الإيمان به، وأهل السنة يؤمنون بهذا كله تصديقًا لخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، وهذا من فضائل نبينا فإن الله تعالى يظهر فضله
(1)
قطف الأزهار المتناثرة ص 297 رقم (110)، ونظم المتناثر ص 248 رقم (305).
(2)
رواه البخاري (6579)، ومسلم (2292)، من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
(3)
رواه البخاري (6580)، ومسلم (2303)، من حديث أنس رضي الله عنه.
(4)
رواه البخاري (6591)، ومسلم (2298)، من حديث حارثة بن وهب رضي الله عنه.
(5)
انظر أحاديث الحوض في: البداية والنهاية 19/ 423 - 466.
(6)
نحو هذا اللفظ في البخاري (6579)، ومسلم (2292)، من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، ومسلم (247)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، و (2300)، من حديث أبي ذر رضي الله عنه، و (2301)، من حديث ثوبان رضي الله عنه.
وكرامته على سائر الأنبياء بذلك الحوض، وبكثرة الواردين عليه، وإنه ليرد عليه أقوام يعرفهم صلى الله عليه وسلم فيختلجون دونه ويحال بينهم وبين الورود، فيقول:«أصحابي أصحابي» ، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك فيقول صلى الله عليه وسلم: «سحقًا سحقًا لمن غيَّر بعدي»
(1)
.
نعوذ بالله من التغيير والتبديل والردة عن الإسلام.
يقول الشيخ: «في عرصات القيامة الحوض لنبينا» : عرصات القيامة: مواقفها، وساحاتها.
وذكره للحوض في هذا الموضع يشعر بأنه يختار أن الحوض قبل الصراط، فإن أهل العلم اختلفوا في الحوض هل هو قبل الميزان، أو بعده؟ وهل هو قبل الصراط أو بعده؟
(2)
والمقصود أن من عقيدة أهل السنة والجماعة الإيمان بحوض النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أنكر الحوض بعض طوائف المبتدعة
(3)
، ولا حجة لهم في هذا الإنكار إلا الاستبعاد الذي لا سند له إلا قولهم:
كيف يكون الحوض بهذه المساحة؟ وكيف يكون في عرصات القيامة؟
فنقول: الله تعالى على كل شيء قدير.
(1)
رواه البخاري (6583 و 6584)، ومسلم (2290 و 2291)، من حديث سهل بن سعد وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهم.
(2)
التذكرة 2/ 702، وزاد المعاد 3/ 682، وشرح الطحاوية 1/ 282.
(3)
في «الإبانة» للأشعري ص 86: وأنكرت المعتزلة الحوض، وفي «الفتح» 11/ 467: أنكره الخوارج، وبعض المعتزلة.
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال - في الحوض -: «يشخب فيه ميزابان من الجنة»
(1)
. وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أتدرون ما الكوثر؟ فقلنا: الله ورسوله أعلم، قال: فإنه نهر وعدنيه ربي عز وجل عليه خير كثير هو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة آنيته عدد النجوم»
(2)
.
أي: أن شراب هذا الحوض يُمد من نهر الكوثر الذي امتن الله به على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في الجنة.
ومما يجب الإيمان به ويدخل في الإيمان باليوم الآخر: الصراط، وهو: جسر منصوب على متن جهنم بين الجنة والنار يعبر منه الناس بحسب سيرهم وثباتهم على الصراط الذي نصبه الله للعباد في هذه الحياة الدنيا؛ ففي الدنيا صراط، وهو: دين الله الذي بعث به رسله، ودينه هو: الصراط المستقيم، وهو في حق هذه الأمة شريعة محمد صلى الله عليه وسلم فمن كان على دين الله وصراطه المستقيم أثبت، وفي سيره أسرع كان على ذلك كذلك {جَزَاءً وِفَاقًا (26)} [النبأ]، ف (الجزاء من جنس العمل)، ولهذا الناس يمرون عليه منهم: من يمر كالبرق سرعة - وهكذا حال الناس في الدنيا -، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم كالفرس الجواد، ومنهم كركاب الإبل، ومنهم من يعدو عدوًا، ومنهم من يمشي مشيًا، ومنهم من يزحف زحفًا، ومنهم من لا يسير، وعلى الصراط كلاليب
(1)
رواه مسلم، (2300) عن أبي ذر رضي الله عنه، و (2301) عن ثوبان رضي الله عنه.
(2)
رواه مسلم (400).
تخطف الناس بأعمالهم، وفي الحديث:«فناج مُسلَّم، ومكدوس في النار»
(1)
.
ويمر الناس على هذا الصراط، فمن عبر تجاوز الخطر - اللهم نجنا من عذابك يوم لقائك - ولهذا بيَّن الشيخ أن من عبر الصراط دخل الجنة من أول وهلة دون أن يمسه عذاب، فأما الذين يعذبون فإنهم لا يعبرون، بل يسقطون في النار، وينالهم العذاب. والله أعلم.
والذي يشعر به سياق النصوص التي وردت في الصراط أن هذا العبور إنما يكون لأهل الإيمان، وللمنتسبين لأهل الإيمان، أما الأمم الكافرة كاليهود والنصارى وعباد الأوثان فهؤلاء ليسوا ممن يمر على الصراط - والعياذ بالله - كما جاء في الحديث أن الناس يحشرون يوم القيامة فيقال: لتتبع كل أمة ما كانت تعبد، فيتبعون ما كانوا يعبدون فيلقون في النار دون أن يعبروا على الصراط
(2)
.
(1)
روى البخاري (7439)، ومسلم (183)، من حديث أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«ثم يضرب الجسر على جهنم، وتحل الشفاعة، ويقولون: اللهم سلم سلم» ، قيل يا رسول الله: وما الجسر؟ قال: «دحض مزلة فيه خطاطيف، وكلاليب، وحسك تكون بنجد فيها شويكة يقال لها: السعدان، فيمر المؤمنون، كطرف العين، وكالبرق، وكالريح، وكالطير، وكأجاويد الخيل والركاب، فناج مسلم، ومخدوش مرسل، ومكدوس في نار جهنم .. » . لفظ مسلم.
(2)
في حديث أبي سعيد السابق - والسياق لمسلم -: «إذا كان يوم القيامة أذن مؤذن ليتَّبع كل أمة ما كانت تعبد فلا يبقى أحد كان يعبد غير الله سبحانه من الأصنام والأنصاب إلا يتساقطون في النار حتى إذا لم يبقَ إلا من كان يعبد الله من بر وفاجر وغُبَّرِ أهل الكتاب، فيدعى اليهود فيقال لهم: ما كنتم تعبدون؟ قالوا: كنا نعبد عزير ابن الله. فيقال: كذبتم ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولد فماذا تبغون؟ قالوا: عطشنا يا ربنا فاسقنا فيشار إليهم ألا تردون؟ فيحشرون إلى النار كأنها=
المقصود أنه يجب الإيمان بالصراط، وبما جاء من عبور الناس، وتفاوتهم في المرور.
وإنه لمثال لحال الناس وسيرهم على صراط هذه الحياة فمنهم: من هو مستقيم، ويسير سيرًا حثيثًا مواصلًا ليله ونهاره إلى الله ما يَضيع من وقته شيء، وآخر دونه، فتأمل واقعك.
والسير في هذه الحياة يكون بسير القلوب، وبسير الأبدان تبعًا فيما يتطلب ذلك، وبعد المرور على الصراط - والحديث الآن عن المؤمنين الذين عبروا، وتجاوزوا الخطر - يوقف الناس على قنطرة بين الجنة والنار قبل الدخول
(1)
، الإخوةُ المؤمنون الأحبابُ يقتص لبعضهم من بعض الحقوق التي تكون بينهم فيذهب الغل {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِّنْ غِلٍّ} [الحجر: 47]، حتى لا يكون لأحد على أحد شيء، وهذا غير المقاصة التي جاءت في حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«أتدرون ما المفلس؟» قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. فقال: «إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا؛ فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يُقْضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار»
(2)
.
قال الشيخ: «فإذا هذبوا ونقوا» وكمل طيبهم أذن لهم بدخول الجنة، فيدخلونها طيبين قد طابوا في الدنيا، وكمل طيبهم وتأهلوا لدخول دار الطيبين {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74)} [الزمر]، فأهل السنة والجماعة يؤمنون بالصراط على ما جاء في الأخبار، ويسلمون، فمنهجهم ومذهبهم
(1)
رواه البخاري (2440)، من حديث أبي سعيد رضي الله عنه.
(2)
رواه مسلم (2581).
قائم على التسليم لله ورسوله صلى الله عليه وسلم لا يعارضون شيئًا بآرائهم وأهوائهم ومعقول فلان ورأيه، وأما أهل الأهواء فإنهم يحكمون عقولهم في أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم هذا معقول، وهذا غير معقول، وهذا كذا، وهذا كذا.
* * * *
إثبات
شفاعات النبي صلى الله عليه وسلم
-
وأول من يستفتح باب الجنة محمد صلى الله عليه وسلم، وأول من يدخل الجنة من الأمم أمته، وله في القيامة ثلاث شفاعات: أما الشفاعة الأولى: فيشفع في أهل الموقف حتى يقضى بينهم، بعد أن يتراجع الأنبياء - آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم - الشفاعة حتى تنتهي إليه.
وأما الشفاعة الثانية: فيشفع في أهل الجنة أن يدخلوا الجنة، وهاتان الشفاعتان خاصتان له.
وأما الشفاعة الثالثة: فيشفع [31/ 2] فيمن استحق النار، وهذه الشفاعة له ولسائر النبيين، والصديقين، وغيرهم، يشفع فيمن استحق النار أن لا يدخلها، ويشفع فيمن دخلها أن يخرج منها. ويُخرج الله تعالى من النار أقوامًا بغير شفاعة بل بفضل رحمته، ويبقى في الجنة فضل عمّن دخلها من أهل الدنيا، فينشئ الله لها أقوامًا فيدخلهم الجنة.
ذكر الشيخ جملة من الأمور التي تكون يوم القيامة، والإيمان بها يدخل في الإيمان باليوم الآخر منها:
أن أول من يستفتح باب الجنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يستفتح فيفتح له، فيدخل فيكون أول من يدخل الجنة مطلقًا
(1)
، وأول من يدخل الجنة من الأمم أمته
(2)
، فهو أفضل النبيين والمرسلين
(3)
، وأمته خير الأمم
(4)
، كل هذا مما صحت به الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه أيضًا من خصائصه صلى الله عليه وسلم، وفضائله التي يظهر الله بها فضله على رؤوس الأشهاد {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4)} [الشرح]، ويَدخل بعده وأمته مَنْ شاء سبحانه وتعالى.
ثم يقول الشيخ: إن للرسول صلى الله عليه وسلم ثلاث شفاعات:
الشفاعة الأولى: وهي الشفاعة في أهل الموقف، أن يُقضى بينهم، وتسمى: الشفاعة الكبرى، وهي: المقام المحمود الذي امتن الله به عليه في قوله: {{وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79)} [الإسراء]، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم:«من قال حين يسمع النداء اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدًا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقامًا محمودًا الذي وعدته حلت له شفاعتي يوم القيامة»
(5)
.
وهذه الشفاعة خاصة به، وهي الشفاعة التي يتدافعها الأنبياء أولو العزم، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة الطويل المتواتر،
(1)
رواه مسلم (197)، من حديث أنس رضي الله عنه.
(2)
رواه مسلم (855)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3)
البخاري (4712)، ومسلم (194)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(4)
انظر: تفسير ابن كثير عند قوله تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110].
(5)
رواه البخاري (614)، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
حين يأتي الناس لآدم، ويطلبون منه أن يشفع لهم عند الله، ثم نوح ثم إبراهيم ثم موسى ثم عيسى عليهم السلام إلى أن ينتهي الناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول:«أنا لها، فأستأذن على ربي فيؤذن لي، ويلهمني محامد أحمده بها لا تحضرني الآن، فأحمده بتلك المحامد، وأخر له ساجدًا، فيقول: يا محمد ارفع رأسك وقل يسمع لك، وسل تعط، واشفع تشفع .. »
(1)
.
هذه الشفاعة الكبرى التي يتراجع عنها الأنبياء، ويتقدم لها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لعظيم منزلته عند ربه.
والشفاعة الثانية: شفاعته في أهل الجنة أن يدخلوا الجنة، ويجري نحو ما جرى من تدافع وتراجع الأنبياء عن الشفاعة في ذلك، فيشفع - أيضًا - لأهل الجنة أن يدخلوا الجنة
(2)
، وفي كل ذلك إظهار لشرفه صلى الله عليه وسلم، وإعلاء لقدره، وإظهار لكرمه على ربه.
وهاتان الشفاعتان - شفاعته في أهل الموقف أن يقضى بينهم، وشفاعته في أهل الجنة أن يدخلوا الجنة - خاصتان به لا يشركه فيهما أحد من الأنبياء، ولا غيرهم.
والثالثة: الشفاعة في أهل الكبائر فيشفع فيمن استحق النار أن لا يدخلها، ويشفع فيمن دخلها أن يخرج منها، وهذه الشفاعة له، ولغيره من الأنبياء، والصديقين، والشهداء، والصالحين، والملائكة.
(1)
رواه البخاري (7510) ومسلم (193)، من حديث أنس رضي الله عنه. وانظر: قطف الأزهار المتناثرة ص 303 رقم (112).
(2)
رواه مسلم (195)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وهذه الشفاعة هي التي ينكرها أهل البدع كالخوارج والمعتزلة؛ لأن ذلك يناقض أصلهم، وتقدم
(1)
أن من أصولهم أن أهل الكبائر لا بد لهم من دخول النار، والخلود فيها فتمتنع الشفاعة كما تمتنع في المشركين {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ (18)} [غافر]، {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48)} [المدثر]. فجعلوا مرتكب الكبيرة كذلك لا تنفعه شفاعة الشافعين.
وأهل السنة والجماعة يؤمنون بهذا كله، ويثبتون هذه الشفاعة للنبي صلى الله عليه وسلم وغيرها، لكن هذه أهمها وأبرزها، ولهذا اقتصر الشيخ عليها فاثنتان خاصتان به، والثالثة مشتركة، ولكن له منها الحظ الأوفر، فإنه ثبت أنه صلى الله عليه وسلم يشفع أربع مرات، يقول:«فأشفع فيحد لي حدًّا فأخرجهم من النار وأدخلهم الجنة، ثم أعود فأشفع فيحد لي حدًّا فأخرجهم من النار وأدخلهم الجنة إلى أربع مرات»
(2)
.
ويُخْرِج الله من النار أقوامًا بغير شفاعة
(3)
بل بمحض فضله ورحمته سبحانه وتعالى، والكل من فضله، والكل من رحمته حتى مَنْ يخرج بشفاعة الشافعين، هل خرجوا إلا برحمة الله وبفضله؟
مَنْ الذي أذن للشافع أن يشفع؟ ومن الذي قبل منه الشفاعة؟
(1)
[ص 178].
(2)
تقدم تخريجه في [ص 222] حاشية 1.
(3)
روى البخاري (7439) - واللفظ له -، ومسلم (183)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:« .. يشفع النبيون، والملائكة، والمؤمنون، فيقول الجبار: بقيت شفاعتي فيقبض قبضة من النار فيخرج أقوامًا قد امتحشوا فيلقون في نهر بأفواه الجنة يقال له: ماء الحياة فينبتون في حافتيه كما تنبت الحِبَّة في حميل السيل .. » الحديث.
فهو سبحانه وتعالى تارةً يسدي فضله بسبب يهيئه، ويجريه على يد بعض العباد، وتارةً يمنح ويؤتي فضله دون توسط سبب، والسبب إذا توسط فهو أيضًا عائد إلى إرادته تعالى ورحمته وفضله، فالأمر له أولًا وآخرًا، يكرم الشافع فيأذن له بالشفاعة، ويرحم المشفوع له فينجيه من العذاب بشفاعة من أذن له بالشفاعة والقبول.
قال الشيخ: «ويبقى في الجنة فضل عمن دخلها من أهل الدنيا فينشئ الله لها أقوامًا فيدخلهم الجنة» :
ثبت هذا في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تزال جهنم يلقى فيها، وتقول: هل من مزيد، حتى يضع رب العزة فيها قدمه، فينزوي بعضها إلى بعض، وتقول: قط قط بعزتك وكرمك، ولا يزال في الجنة فضل حتى ينشئ الله لها خلقًا، فيسكنهم فضل الجنة»
(1)
.
* * * *
(1)
تقدم تخريجه في [ص 154].
كلمة مجملة عن اليوم الآخر
وأصناف ما تضمنته الدار الآخرة من الحساب والعقاب، والثواب والجنة والنار، وتفاصيل ذلك مذكورة في الكتب المُنَزَّلَة من السماء، [والأثارة]
(1)
من العلم المأثورة عن الأنبياء، وفي العلم الموروث عن محمد صلى الله عليه وسلم من ذلك ما يشفي ويكفي، فمن ابتغاه وجده.
هنا أَجْمَلَ الشيخ الكلام عن اليوم الآخر بعد ما ذكر أشياء مما يكون يوم القيامة، مما يجب الإيمان به، ثم ختم بهذه الجملة.
أي أنواع، وتفاصيل ما تضمَّنته الدار الآخرة من الحساب والعقاب، والثواب والجنة والنار، وتفاصيل ذلك موجود في الكتب المنزلة من السماء: كالتوراة، والإنجيل، والقرآن، وغيرها من كتب الله المنزلة، كلها تضمنت من هذا ما تضمنته، وكذلك في المأثور عن الأنبياء آثار كثيرة تتضمن أخبارًا عن اليوم الآخر، لكن لا يُثبت من ذلك إلا ما وصلنا بخبر المعصوم صلى الله عليه وسلم.
(1)
في (ب): والآثار.
أما الآثار المروية عن الأنبياء التي لم تثبت بطريق يجب اعتماده، فالأمر فيها معلق على الدليل، كأخبار بني إسرائيل؛ إما أن يقوم الدليل على كذبه فيرد، أو على صدقه فيجب الإيمان به، أو يبقى لا يصدق ولا يكذب، ولا شك أن الأنبياء أخبروا عن اليوم الآخر، لكن إذا جاءت عنهم جزيئات تفصيلية، فلا بد من ثبوت ذلك.
وفي العلم الموروث عن محمد صلى الله عليه وسلم، وهو ما جاء في الكتاب والسنة، من ذلك ما يشفي ويكفي، لا نحتاج أبدًا إلى أن نرجع إلى التوراة والإنجيل، أو أخبار بني إسرائيل ففي الكتاب والسنة الغنى، اقرأ القرآن ماذا تجد فيه من الحديث عن اليوم الآخر؟
تجد الكثير، بل إنه لم يأتِ من تفاصيل اليوم الآخر في الكتب المنزلة مثل ما جاء في القرآن، وكذلك سنة النبي صلى الله عليه وسلم فيها من الأخبار، والآثار المتعلقة باليوم الآخر شيء كثير.
وهذا العلم موجود، وميسر، لمن ابتغاه وطلبه، {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17)} [القمر].
* * * *
مذهب الفرقة الناجية في الشرع والقدر وأفعال العباد
وتؤمن الفرقة الناجية
(1)
- أهل السنة والجماعة - بالقدر خيره وشره، و
الإيمان بالقدر على درجتين، كل درجة تتضمَّن شيئين:
فالدرجة الأولى: الإيمان بأنّ الله تعالى علم ما الخلق عاملون بعلمه القديم الذي هو موصوف به أزلًا وأبدًا، وعلم جميع أحوالهم من الطاعات، والمعاصي، والأرزاق، والآجال، ثم كتب الله تعالى في اللوح المحفوظ مقادير الخلائق، فأول ما خلق الله القلم، قال له: اكتب، قال: ما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة
(2)
، فما أصاب الإنسان لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه
(3)
(1)
في (ب) زيادة: من.
(2)
رواه أحمد 5/ 317، وأبو داود (4700)، والترمذي (2155) - وقال: حسن صحيح غريب من هذا الوجه -، وابن جرير في «تاريخه» 1/ 28، وصححه، والضياء في «المختارة» في مواضع منها: 8/ 351 - 353، من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه.
(3)
رواه أحمد 5/ 182، وأبو داود (4699)، وابن ماجه (77)، وابن حبان (727)، من حديث ابن الديلمي عن أبي بن كعب وابن مسعود وحذيفة موقوفًا، ورفعه زيد بن ثابت رضي الله عنهم، وقال الذهبي في «المهذب في اختصار السنن الكبير» 8/ 4213: إسناده صالح. وصححه ابن القيم في «شفاء العليل» ص 113. وانظر: السلسلة الصحيحة (2439).
جفت الأقلام وطويت الصحف
(1)
كما قال سبحانه: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70)} [الحج]، وقال:{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22)} [الحديد]، وهذا التقدير التابع لعلمه سبحانه يكون في مواضع جملة وتفصيلًا، فقد كتب في اللوح المحفوظ ما شاء، فإذا خلق جسد الجنين قبل نفخ الروح فيه بعث إليه ملكًا فيؤمر بأربع [32/ 1] كلمات فيقال:«اكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد»
(2)
، ونحو ذلك، فهذا القدر قد كان ينكره غلاة القدرية قديمًا، ومنكروه اليوم قليل.
وأما الدرجة الثانية: فهي مشيئة الله تعالى النافذة، وقدرته الشاملة، وهو [الإيمان]
(3)
بأن ما شاء الله كان، و [ما لم يشأ]
(4)
لم يكن، وأنه ما في السموات، وما في الأرض من حركة، ولا سكون إلا بمشيئة الله سبحانه، لا يكون في ملكه إلا ما يريد، وأنه سبحانه وتعالى على كل شيء قدير، من الموجودات والمعدومات، فما من مخلوق في الأرض، ولا في السماء إلا الله خالقه سبحانه لا خالق غيره، ولا رب سواه، وقد أمر العباد بطاعته، وطاعة رسله، ونهاهم عن معصيته، وهو سبحانه يحب
(1)
رواه أحمد 1/ 293، والترمذي (2516)، وقال: حسن صحيح، والضياء في «المختارة» 10/ 22 - 25، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وحسنه الحافظ ابن رجب في «جامع العلوم والحكم» ص 345.
(2)
رواه البخاري (3208)، ومسلم (2643)، من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
(3)
زيادة من (ب) و (م).
(4)
في (ظ): شاء.
المتقين، والمحسنين، والمقسطين، ويرضى عن الذين آمنوا، وعملوا الصالحات، ولا يحب الكافرين، ولا يرضى عن القوم الفاسقين، ولا يأمر بالفحشاء، ولا يرضى لعباده الكفر، ولا يحب الفساد. والعباد فاعلون حقيقة، والله خالق أفعالهم. والعبد هو المؤمن، والكافر، والبر، والفاجر، والمصلي، والصائم.
وللعباد قدرة على أعمالهم، وإرادة، والله خالقهم، وخالق قدرتهم، وإرادتهم، كما قال:{لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)} [التكوير].
وهذه الدرجة من القدر يكذب بها عامة القدرية الذين سماهم النبي صلى الله عليه وسلم مجوس هذه الأمة
(1)
، ويغلو فيها قوم من أهل الإثبات
(1)
رواه أحمد 2/ 86 و 125، أبو داود (4691 و 4692)، والحاكم 1/ 159، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين إن صح سماع أبي حازم من ابن عمر ولم يخرجاه، واللالكائي في «شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة» 4/ 707. وقال المنذري في «تهذيب السنن» 7/ 58: هذا منقطع، سلمة بن دينار لم يسمع من ابن عمر، وقد روي هذا الحديث من طرق عن ابن عمر ليس فيها شيء يثبت. وقال ابن القيم في «تهذيب السنن» 7/ 60 - 61: هذا المعنى قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عمر وحذيفة وابن عباس وجابر بن عبد الله وأبي هريرة وعبد الله بن عمرو بن العاص ورافع بن خديج؛ فأما حديث ابن عمر وحذيفة فلهما طرق؛ وقد ضعفت. وقال ابن أبي العز في «شرح الطحاوية» 2/ 358: كل أحاديث القدرية المرفوعة ضعيفة، وإنما يصح الموقوف منها، وقال في 2/ 797: - بعد ذكر هذا الحديث - وروي في ذم القدرية أحاديث أخر كثيرة تكلم أهل الحديث في صحة رفعها، والصحيح أنها موقوفة. وانظر: الموضوعات لابن الجوزي 1/ 451، وأجوبة الحافظ ابن حجر عن أحاديث المصابيح 3/ 1779، وتعليق العلامة المعلمي على «الفوائد المجموعة» ص 503.
حتى يسلبوا العبد قدرته، واختياره، ويخرجون عن أفعاله، وأحكامه حِكَمها، ومصالحها.
قال الشيخ: «وتؤمن الفرقة الناجية بالقدر خيره وشره» : وكان الأنسب لو قال: فصل؛ لأنه انتقل إلى موضوع جديد، ويلاحظ أن الشيخ ميز هذا المقام بتعبير؛ لأن مسالة القدر هي من المسائل الكبار التي تباينت فيها مذاهب الأمة.
وتؤمن الفرقة الناجية المنصورة - أهل السنة والجماعة - بالقدر خيره وشره، ولاحظ أن هذا هو الأصل السادس، وأن الشيخ أشار إلى بعض ما يتعلق بالإيمان بالله، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، ثم انتهى إلى الكلام عن الأصل السادس وهو الإيمان بالقدر، فالفرقة الناجية المنصورة تؤمن بالقدر خيره وشره، كما في قوله صلى الله عليه وسلم:«الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره»
(1)
.
تؤمن بالقدر يعني: بتقدير الله للأشياء قبل كونها، والأشياء المقدرة فيها خير وشر، فالقدر يطلق ويراد به:
التقدير السابق: تقدير الله للأشياء في علمه وكتابه.
ويطلق القدر على: الشيء المقدر، تقول عن الحادث: هذا قدر - يعني -: أمر مقدر، فكل الأشياء قدر: قيامك وقعودك ومشيك وأكلك
(1)
تقدم تخريجه [ص 31].
وشربك، والصحة والمرض كلها قدر، ولهذا لما سُئِل النبي صلى الله عليه وسلم عن الأدوية والرقى فقالوا: هل ترد من قدر الله؟ قال: «هي من قدر الله»
(1)
. ولما رأى عمر رضي الله عنه الرجوع بالناس عن الشام لما بلغهم أنه قد نزل بها الطاعون بعدما استشار الصحابة، فقال أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين أفرارًا من قدر الله؟ قال: نعم نَفِرُّ من قدر الله إلى قدر الله، فجاء عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وكان متغيبًا في بعض حاجته - فقال: إن عندي في هذا علمًا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا سمعتم به بأرض فلا تَقْدَموا عليه وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارًا منه»
(2)
.
قال الشيخ: «الإيمان بالقدر على درجتين، وكل درجة تتضمن شيئين .. » :
الدرجة الأولى: الإيمان بأن الله علم ما يكون قبل أن يكون بعلمه القديم الأزلي، وعلم ما العباد فاعلون من الطاعات والمعاصي كل ذلك معلوم للرب بعلمه القديم، هذه المرتبة الأولى من الإيمان بالقدر، فلا بد في الإيمان بالقدر من الإيمان بعلم الله السابق هذا شيء.
(1)
رواه أحمد 3/ 421، والترمذي وحسنه (2065)، وابن ماجه (3437)، والحاكم 4/ 199 وصححه، عن أبي خزامة عن أبيه رضي الله عنه. وأخرجه ابن حبان (6100)، عن كعب بن مالك رضي الله عنه. وأخرجه الطبراني في «الكبير» (3090)، والحاكم 4/ 199، من حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه. وانظر: العلل لابن أبي حاتم 2/ 338، والعلل للدارقطني 2/ 251.
(2)
رواه البخاري (5729)، ومسلم (2219)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
الشيء الثاني: الإيمان بأن الله كتب مقادير الأشياء عنده في كتاب، وهو: اللوح المحفوظ، وهو أم الكتاب، وهو الكتاب المبين، أو الإمام المبين، وهو الذكر قال تعالى:{وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105)} [الأنبياء]، كتب ذلك بقلم المقادير كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم:«كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة»
(1)
.
وفي الحديث الآخر عنه صلى الله عليه وسلم: «كان الله ولم يكن شيء قبله، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء»
(2)
. فكل ما هو كائن إلى يوم القيامة قد كُتِب {وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53)} [القمر].
ومن أدلة المرتبتين: العلم والكتابة قوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70)} [الحج].
فجمع سبحانه بين علمه تعالى بكل شيء، واشتمال كتابه على كل شيء، فكل ما في السماء والأرض، وكل ما جرى ويجري في هذا الوجود مكتوب في اللوح المحفوظ، قال تعالى:{وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59)} [الأنعام].
(1)
تقدم تخريجه في [ص 125].
(2)
تقدم تخريجه في [ص 124].
فعلى سبيل المثال: كل ما يجري للإنسان من أحوال: صحة ومرض، وهم وحزن، أو سعة رزق أو ضيقه، أو سعادة أو شقاوة، كل ذلك مكتوب.
هذا التقدير العام الأول.
وهناك تقديرات أخرى:
تقدير ثانٍ: يتعلق بآدم وذريته، قبل أن يخلق الله آدم بأربعين عامًا كما في الحديث الصحيح في محاجة آدم وموسى قال آدم لموسى عليهما السلام:
…
هل وجدت في التوراة:} {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121)} ؟ قال: نعم. قال: أفتلومني على أن عملتُ عملًا كتبه الله عليَّ أن أعمله قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فحج آدم موسى»
(1)
.
وتقدير ثالث: وهو تقدير يتعلق بكل إنسان، فكل إنسان له تقدير خاص، كما في الحديث المتفق على صحته عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال - في الجنين عندما يبلغ أربعة أشهر -: «فيأتيه الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد»
(2)
.
وتقدير رابع، وهو التقدير الحولي: وهو ما يكون في ليلة القدر: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4)} [الدخان].
(1)
رواه البخاري (6614)، ومسلم (2652) - واللفظ له -، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وانظر تعليقًا لشيخ الإسلام على هذا الحديث في: الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان 11/ 258.
(2)
تقدم تخريجه في [ص 228].
وسميت ليلة القدر؛ لأن الله يقدر فيها ما يكون في السنة من ليلة القدر إلى مثلها - أي - من السنة إلى السنة، وهذه التقديرات لا تناقض التقدير والكتاب الأول، والله تعالى حكيم عليم.
الدرجة الثانية من الإيمان بالقدر: الإيمان بأن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وأن هذا الوجود لا يكون فيه من حركة، ولا سكون، ولا تقديم، ولا تأخير، ولا وجود صغير، ولا كبير إلا بمشيئة الله سبحانه، وهذه المرتبة مضمونها الإيمان بعموم مشيئة الله؛ لأن مشيئة الله عامة، لا يخرج عنها شيء لا أفعال العباد، ولا الحيوان ولا غيرها. وهذه المرتبة الثالثة من مراتب القدر.
والمرتبة الرابعة: - وهي: الشيء الثاني من الدرجة الثانية -: الإيمان بأن الله تعالى خالق كل شيء، وأنه على كل شيء قدير، فهو خالق السموات والأرض ومن فيهن، وما بينهما من الذوات والصفات والأفعال، خالق العرش وما دون العرش {اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد: 16].
الخلاصة: أن الإيمان بالقدر لا يتم إلا بهذه الأمور الأربعة، وتسمى مراتب الإيمان بالقدر، وأهل السنة والجماعة يؤمنون بالقدر على هذا الوجه بمراتبه الأربعة.
وأما المنكرون للقدر فهم طائفتان:
غلاة أنكروا العلم والكتاب، ويقولون: إن الله لا يعلم الأشياء إلا بعد وجودها، ومعنى هذا: أنه لم يقدر الأشياء، ولم يكتب ما سيكون،
كما ينكرون عموم المشيئة، وعموم الخلق، ويُخْرِجون أفعال العباد عن مشيئة الله وخلقه.
وهذا مذهب قدماء القدرية وغلاتهم.
أما المتوسطون منهم فينكرون المرتبة الثالثة والرابعة، وهي: عموم المشيئة، والخلق، ومنهم: المعتزلة، فينكرون عموم المشيئة، وعموم الخلق، فيُخْرِجون أفعال العباد عن مشيئة الله، فعندهم أن أفعال العباد ليست بمشيئة الله، والعبد يتصرف بغير مشيئة الله، والله لا يقدر أن يغيِّر من حال الإنسان شيئًا، فيتضمن ذلك تعجيز الرب تعالى الله عن قولهم علوًا كبيرًا.
ويُخْرِجون أفعال العباد عن ملكه، فمضمون قولهم: أنه تعالى ليس له الملك كله! وأهل السنة والجماعة يؤمنون بأنه الله تعالى له الملك كله، وله الأمر كله سبحانه وتعالى.
ومع الإيمان بالقدر بما يشتمل عليه من الأمور الأربعة التي نقول: إنها مراتب الإيمان بالقدر؛ فإنه يجب الإيمان بالشرع وقد اختلف الناس في هذا المقام
(1)
فمنهم:
من آمن بالشرع، وأنكر القدر، وهم: القدرية؛ كالمعتزلة، وغيرهم.
ومنهم: من آمن بالقدر، وكفر بالشرع، أو أعرض عن الشرع، ولم ينظر إليه؛ كالجبرية الذين يقولون: الإنسان مجبور على أفعاله، وشرهم
(1)
العقيدة التدمرية ص 557.
الذين يعارضون الشرع بالقدر، ومنهم المشركون الذين قالوا:{لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا} [الأنعام: 148]، فعارضوا دعوة الرسل محتجين بالقدر.
وطائفة قالوا: إن الشرع والقدر فيهما تناقض، فطعنوا في حكمة الرب سبحانه، وتُعَارِض بين الشرع والقدر، وإن أثبتتهما وتسمى: الإبليسية؛ فزعيمهم في هذا إبليس، فهو الذي اعترض على الرب، وطعن في حكمته، مع إقراره بالشرع والقدر، فكان هو إمام هذه الطائفة المخذولة.
وأهل السنة والجماعة: يؤمنون بالقدر بما يشتمل عليه من الأمور الأربعة، ويؤمنون بالشرع، وأن الله أمر عباده بالإيمان والطاعات، ونهاهم عن الكفر والفسوق والعصيان، وأنه تعالى يحب المتقين والمقسطين والتوابين والمتطهرين، ولا يرضى لعباده الكفر، ولا يحب الفساد والمفسدين، ولا يرضى عن القوم الفاسقين.
والإيمان بالشرع يتضمن الفرق بين ما يحبه الله سبحانه وتعالى ويبغضه، ويتضمن إثبات الأسباب، وكونها مؤثرة بإذن الله، ويدخل في ذلك الإيمان بأن العباد فاعلون حقيقة، وأن لهم مشيئة واختيارًا، خلافًا للجبرية، وأن الله خالق قدرتهم وأفعالهم، كما تقدمت الإشارة إلى هذا عند ذكر وسطية أهل السنة والجماعة بين الجبرية والقدرية
(1)
.
ولا يستقيم أمر العباد، وإيمانهم، بل لا تستقيم الحياة إلا بهذا وهذا، فمن أنكر واحدًا منهما، أو غفل عنه ضل عن الصراط المستقيم،
(1)
[ص 175].
وانحرف في سلوكه وتصرفاته، وفسد من أمور المجتمع بحسب ما وقع من الخلل في ذلك، فلا بد من النظر إلى الأمرين جميعًا ووضع كل من الأمرين في موضعه، ف
عند المصائب عليك أن تنظر إلى القدر،
وتؤمن بقدر الله، ولا تتسخط من قضائه وقدره.
وعند المعائب والمعاصي عليك أن تنظر إلى الشرع؛ فتلوم نفسك، وتستغفر وتتوب إلى ربك، وتراجع نفسك وتندم. ومن نظر إلى القدر عند المعاصي هانت عليه، وأصبح لا يبالي بمعصية الله فيقدم عليها، ويستخف بها.
وقول الشيخ: «وقد أمر العباد بطاعته، وطاعة رسله، ونهاهم عن معصيته، وهو سبحانه يحب المتقين والمحسنين» إلخ:
هذا تفصيل لقوله: «والعباد فاعلون حقيقة» ، فما داموا هم الفاعلون حقيقة، إذًا فالعبد هو: المؤمن والكافر، والبر والفاجر، والمطيع والعاصي .. إلخ.
وقول الشيخ: «ويغلو فيها قوم من أهل الإثبات حتى سلبوا العبد قدرته واختياره» :
منهم الجبرية؛ فالجبرية يغلون في إثبات القدر، فهم يقرون بعموم مشيئة الله، وبعموم قدرته وخلقه، ولكنهم غلوا حتى سلبوا العبد قدرته واختياره.
وقول الشيخ: «ويخرجون عن أفعاله، وأحكامه حِكَمها ومصالحها» :
وهو ما يتضمنه مذهب القدرية الجبرية من نفي الحكمة، فعندهم أن كل ما هو ممكن يجوز على الرب سبحانه وتعالى، وهو تعالى يتصرف بزعمهم بمحض المشيئة لا لحكمة، فهو يجعل هذا طائعًا، وهذا عاصيًا، أو يعذب هذا وينعم هذا، أو يأمر بكذا وينهى عن كذا؛ كل ذلك بمحض المشيئة، فلا فرق عندهم بين أمره بالتوحيد، ونهيه عن الشرك، ولذا يجوز عندهم العكس، وهو: أن يأمر بالشرك، وينهى عن التوحيد!
وأن تنعيمه للمؤمنين والصالحين في الجنة، وتعذيبه للكافرين؛ كل هذا بمحض المشيئة ليس في شيء من ذلك حكمة، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا.
* * * *
مذهب أهل السنة في الإيمان، ومرتكب الكبيرة
ومن أصول [الفرقة الناجية]
(1)
: أن الدين والإيمان قول وعمل: قول القلب واللسان، وعمل القلب واللسان والجوارح، وأن الإيمان يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية [32/ 2]. وهم مع ذلك لا يكفرون أهل القبلة بمطلق المعاصي، والكبائر، كما تفعله الخوارج؛ بل الأخوة الإيمانية ثابتة مع المعاصي، كما قال سبحانه في آية القصاص:{فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} [البقرة: 175]، وقال:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات]، ولا يسلبون الفاسق المِلِّي اسم الإيمان بالكلية، ولا يخلدونه في النار، كما تقوله المعتزلة، بل الفاسق يدخل في اسم الإيمان في مثل قوله:{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ} [النساء: 92]، وقد لا يدخل في اسم الإيمان المطلق كما في قوله:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال: 2]، وقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، [ولا يسرق السارق حين يسرق وهو
(1)
في (م): أهل السنة والجماعة.
مؤمن]
(1)
ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن»
(2)
. ويقولون: هو مؤمن ناقص الإيمان، أو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته؛ فلا يعطى الاسم المطلق، ولا يسلب مطلق الاسم.
عقد الشيخ رحمه الله هذا الفصل؛ لبيان مذهب أهل السنة في ثلاث مسائل سبقت الإشارة إلى بعضها، عند الكلام على وسطية أهل السنة والجماعة بين فِرَق الأمة
(3)
.
المسألة الأولى:
ما يتناوله اسم الإيمان - أي - مسمى الإيمان ما هو؟
يقول الشيخ رحمه الله: «من أصول أهل السنة والجماعة أن الدين، والإيمان قول وعمل» :
قول وعمل خلافًا للمرجئة الذين يقولون: إن الإيمان تصديق القلب فقط، وأما الأعمال فليست من الإيمان، أو كقول الجهمية: هو المعرفة، والمعنى متقارب.
(1)
زيادة من (م).
(2)
رواه البخاري (2475)، ومسلم (57)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3)
[ص 178] وما بعدها.
وخلافًا للكرامية الذين يقولون: الإيمان هو التصديق باللسان، فمن صدَّق بلسانه؛ فهو مؤمن يعني: في الدنيا، وإن كان مخلدًا في النار يوم القيامة.
لكنه في الحقيقة ليس بمؤمن، من صدَّق بلسانه، وأظهر الإيمان بلسانه فقط؛ فليس بمؤمن في الحقيقة، بل هو منافق هذا هو اسمه الشرعي قال تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8)} [البقرة].
وخلافًا لمرجئة الفقهاء كالإمام أبي حنيفة، ومن تبعه الذين يقولون: الإيمان تصديق القلب، وإقرار اللسان.
وأئمة أهل السنة ينكرون كل هذه الأقوال ويقولون: إن الإيمان قول وعمل؛ للأدلة الكثيرة التي دلت على هذا، فالرسول صلى الله عليه وسلم فسَّر الإيمان في حديث جبريل:«أن تؤمن بالله ملائكته وكتبه» الحديثَ
(1)
. بأصوله الستة، وهي اعتقادية.
وفسَّر النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان في حديث وفد عبد القيس بأمور عملية قال لهم: «أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ شهادة أن لا الله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وأن تعطوا من المغنم الخمس»
(2)
. ففسَّره بأمور عملية بنحو تفسيره للإسلام، وأبلغ من هذا قوله صلى الله عليه وسلم: «الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة فأفضلها
(1)
تقدم تخريجه في [ص 31].
(2)
رواه البخاري (53) - واللفظ له -، ومسلم (17)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان»
(1)
.
يقول الشيخ: «من أصول السنة والجماعة أن الدين والإيمان قول وعمل» ، ثم يفصل ذلك بقوله:«قول القلب واللسان وعمل القلب واللسان والجوارح» .
يعني: أن الإيمان يشمل هذه الأمور الخمسة:
قول القلب: اعتقاد القلب، وهو: تصديقه.
وقول اللسان: هو الإقرار، كما يقر الكافر عند إسلامه، بقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله.
وعمل القلب: كمحبة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وأوليائه، ومحبة ما يحب، والخوف من الله ورجائه، والتوكل عليه.
وعمل اللسان: كالذكر بأنواعه، وتلاوة القرآن، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وعمل الجوارح: كالصلاة وما فيها من عمل الجوارح؛ كالقيام، والركوع والسجود، والحج وما فيه من عمل الجوارح؛ كالطواف، والسعي، وسائر المناسك؛ فالإيمان يشمل ذلك كله.
فالإيمان بضع وستون شعبة فالصلاة من الإيمان، والزكاة من الإيمان، والصيام من الإيمان، والحج من الإيمان.
(1)
رواه البخاري (9)، ومسلم (35) - واللفظ له -، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
قوله: «قول القلب واللسان» :
هذا تفصيل لقول أهل السنة: قول القلب واللسان يعني: اعتقاد القلب، وإقرار اللسان، وعمل القلب واللسان والجوارح.
وهذا أتم من قول من يقول: إن الإيمان اعتقاد بالجنان، وإقرار باللسان، وعمل بالأركان. صحيح أن هذا يرد مذهب المرجئة، لكن ما ذكره الشيخ من هذه الأمور الخمسة أتم؛ لأنه يستوعب كل جوانب الإيمان.
وهذا هو الحق الذي لا ريب فيه أن الإيمان قول، وعمل، خلافًا لكل من أخرج الأعمال عن مسمى الإيمان؛ فالأعمال من الإيمان، وأدلة ذلك ظاهرة بينة لمن تدبر نصوص الكتاب والسنة.
المسألة الثانية:
أن الإيمان يزيد وينقص، وكثير من المرجئة يقول: إن الإيمان لا يزيد ولا ينقص؛ لأنه التصديق، وهو شيء واحد لا يزيد ولا ينقص، وقد دلت نصوص الكتاب والسنة على أن الإيمان يزيد وينقص، وما دخلته الزيادة دخله النقص، إذا خلا عن الزيادة قال تعالى:{لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح: 4]، {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2)} [الأنفال]، {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173)} [آل عمران].
فالإيمان يزيد بالطاعة، فكل من كان لله أطوع كان إيمانه أكمل، والتصديق بالقلب يقوى ويضعف.
وينقص الإيمان بالمعصية، وهذا هو المعقول، أفيكون إيمان التقي المستقيم على أمر الله ظاهرًا وباطنًا كإيمان المنتهك لحرمات الله؟!
أفيكون إيمان آحاد المؤمنين كإيمان الكُمَّل من المؤمنين كأبي بكر وعمر رضي الله عنهما فضلًا عمن فوقهم؟!
وكل من أُوتي علمًا وبصيرة، وتفقدًا لحاله؛ فإنه يحس بزيادة الإيمان ونقصه: بقوة الخوف من الله، وقوة التوكل، فالخوف يقوى ويضعف، والتوكل يقوى ويضعف، والرجاء يقوى ويضعف.
هذا في أحوال القلوب فضلًا عن الأعمال الظاهرة.
وكما تقول المرجئة: إن الإيمان واحد، وأهله فيه سواء، كذلك الخوارج والمعتزلة عندهم أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص - بمعنى - أنه كل لا يتجزأ، فإذا فات منه جزء أو فقد منه جزء زال الكل، كمرتكب الكبيرة يزول إيمانه كله بزوال بعضه بفعل تلك الكبيرة.
وعند أهل السنة لا يزول كل الإيمان بزوال بعضه.
والإيمان شعب كما في الحديث
(1)
لكن منها شعب قد يزول الإيمان بزوالها، وشعب لا يزول الإيمان بزوالها، وإلا لوقع الناس في حرج عظيم.
(1)
تقدم تخريجه في [ص 242].
المسألة الثالثة:
حكم مرتكب الكبيرة:
أهل السنة والجماعة لا يكفرون أهل القبلة بمطلق المعاصي، وأهل القبلة هم: كل من أظهر الإسلام، ولم يأتِ ناقضًا من نواقضه. كما في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم «من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم .. »
(1)
.
فكل الطوائف التي لا يحكم بكفرها، فهي من أهل القبلة، والمنافقون من أهل القبلة في الظاهر، وإلا فهم ليسوا من المؤمنين، بل هم مع الكافرين قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140)} [النساء]، وقال تعالى:{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145)} [النساء].
فأهل السنة لا يكفِّرون أهل القبلة بمطلق المعاصي: أي لا يقولون: يكفر بفعل أي معصية.
فالمعاصي أنواع: معاصٍ توجب الكفر، وتنقض الإسلام؛ كالاستهزاء بآيات الله وبرسول الله {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65)} [التوبة].
ومثل: سبِّ الإسلام، أو سبِّ الرسول صلى الله عليه وسلم هذه ذنوب يخرج بها الإنسان عن الإسلام؛ ولهذا قال الشيخ: إن أهل السنة لا يكفرون
(1)
رواه البخاري (391)، من حديث أنس رضي الله عنه.
أهل القبلة بمطلق المعاصي، خلافًا للخوارج؛ فإن الخوارج يكفرون بالذنوب، والمعروف أنهم يكفرون مرتكب الكبيرة
(1)
.
فمن ارتكب كبيرة من كبائر الذنوب خرج عن الإسلام عندهم، وصار مرتدًّا حلال الدم والمال؛ كالسارق والزاني وشارب الخمر.
أما أهل السنة، فإنهم لا يكفرون بهذه الذنوب، بل أخوة الإيمان باقية مع المعصية؛ فالقاتل أخ للمقتول، قال الله تعالى في آية القصاص:{فَمَنْ عُفِيَ لَهُ} يعني: القاتل الذي عفي له {مِنْ أَخِيهِ} يعني: من دم أخيه المقتول، فالقاتل والمقتول أَخَوان في الإسلام، وإن كان القاتل عاصيًا ظالمًا، والمقتول مظلومًا.
لكن هذا الذنب لا تزول معه أخوة الإيمان، ومثل هذه آية الحجرات {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} ، إلى أن قال تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} ، فأهل السنة لا يسلبون العاصي أو الفاسق المِلِّي - الملي: نسبة لملة الإسلام - الإيمان كما تفعل الخوارج والمعتزلة.
والخوارج لا يقتصرون على سلبه الإيمان، بل يسلبونه الإيمان ويكفرونه، أما المعتزلة فإنهم يسلبونه الإيمان، وأهل السنة لا يكفرونه، ولا يسلبونه الإيمان، ولا يخلدونه في النار يوم القيامة، بل هو يوم القيامة تحت مشيئة الله إن شاء غفر له، وإن شاء عذبه بقدر ذنبه، ثم
(1)
مقالات الإسلاميين ص 86، والملل والنحل 1/ 85. وقال شيخ الإسلام: الخوارج يكفرون بالذنب الكبير أو الصغير عند بعضهم. مجموع الفتاوى 19/ 151، وانظر أيضًا: 12/ 470.
يخرجه من النار برحمته سبحانه وتعالى، وبشفاعة الشافعين من أهل طاعته، وكل ذلك من فضله وكرمه وإحسانه.
وذكر الشيخ: أن الفاسق يدخل في اسم الإيمان في بعض الآيات، وقد لا يدخل في بعض الآيات، ففي قوله تعالى:{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} هذه يدخل فيها الفاسق، فليس من شرط الرقبة التي أمر الله بتحريرها كمال الإيمان، بل يجزئ تحرير رقبة إنسان ذكر أو أنثى معه أصل الدين، ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم للجارية - التي أراد سيدها أن يعتقها -:«أين الله؟ قالت: في السماء، قال: من أنا؟ قالت: رسول الله. قال: أعتقها فإنها مؤمنة»
(1)
.
ولا يدخل الفاسق الملي في الإيمان المطلق في مثل قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2)} - إلى قوله: - {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} فالفاسق الملي لا يدخل في مَنْ هذه صفاتهم؛ لأنه ليس مؤمنًا حقًّا، هو مؤمن في الجملة، كما لا يدخل في اسم الإيمان في قوله صلى الله عليه وسلم:«لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن»
(2)
. أي: الإيمان الكامل الذي يمنع من مقارفة هذه الفواحش، فالمؤمنون الكُمَّل يمنعهم إيمانهم عن اقتراف المعاصي الكبيرة كالزنا، أو السرقة، أو الانتهاب.
(1)
تقدم تخريجه في [ص 155].
(2)
تقدم تخريجه في [ص 240].
المسلم الزاني وهو يزني عنده أصل الإيمان لا يزول عنه؛ لأنه لو زال عنه صار مرتدًّا، لكن يزول عنه الإيمان الكامل الذي يمنع من الإقدام على الفاحشة.
ومتى يعود له إيمانه؟ إذا تاب عاد إليه ما كان معه من إيمان.
وذكر الشيخ في ختام هذا الفصل حكم الفاسق - وهو مرتكب الكبيرة العاصي من المسلمين - أن أهل السنة يقولون فيه: «إنه مؤمن ناقص الإيمان، أو مؤمن بإيمانه» أي: هو مؤمن بما معه من إيمان.
«فاسق بكبيرته» : أي فاسق باعتبار الكبيرة.
يقول الشيخ: «فلا يعطى الاسم المطلق» : فيقال: هو مؤمن، أو هذا مؤمن.
«ولا يسلب مطلق الاسم» : فيقال: إنه ليس بمؤمن؛ لأن هذه فيها سلب لمطلق الإسلام، فلا يُعطَى الاسم المطلق؛ بحيث يوصف بالإيمان الكامل، فيقال: هذا مؤمن.
ولهذا لما قسم الرسول صلى الله عليه وسلم قسمًا، فقال له سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: يا رسول الله أعطِ فلانًا فإنه مؤمن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«أو مسلم» ، أقولها ثلاثًا، ويرددها علي ثلاثًا، «أو مسلم»
(1)
. ففرَّق بين الإيمان والإسلامِ، الإسلامُ يقع على سائر المسلمين، فكل من شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، ولم يأت بناقض من نواقض الإسلام، فهو
(1)
رواه البخاري (27)، ومسلم (150).
مسلم، فاسم الإسلام أعم وأوسع دائرة، ولا يكون الإنسان مسلمًا على الحقيقة، إلا ومعه أصل الإيمان: إيمان القلب.
فكل مؤمن مسلم، وكل محسن مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمنًا الإيمان الكامل.
فهذا تقرير مذهب أهل السنة والجماعة في هذه المسائل الثلاث:
في مسمى الإيمان وما يتناوله هذا الاسم، وفي زيادة الإيمان ونقصانه، وفي حكم مرتكب الكبيرة، أو الفاسق الملي، يعني: بأي التعبيرين.
وقد أشار إلى مذهب أهل السنة والجماعة في ذلك، ومذهب الخوارج، ومذهب المعتزلة، فأهل السنة والجماعة يخالفون هذه الطوائف فيما ابتدعوه من الأسماء والأحكام، فمرتكب الكبيرة حكمه في الدنيا مثلًا: أنه مؤمن ناقص الإيمان ليس بكافر، ولم يخرج عن الإيمان مطلقًا، وفي الآخرة تحت مشيئة الله.
وهذا هو موجب عدل الرب سبحانه وتعالى فلا يُسَوِّي بين مَنْ آمن به وبرسله مع ارتكاب بعض الذنوب، وبين من كفر به وبرسله، كما لا يسوي بين العاصي الفاسق المجترئ على حرمات الله، وبين المتقين {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28)} [ص].
* * * *
مذهب أهل السنة في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقرابته، وأزواجه
ومن أصول أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم، وألسنتهم لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، كما وصفهم الله به في قوله:{وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)} [الحشر]، وطاعة النبي صلى الله عليه وسلم في قوله:«لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبًا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه»
(1)
.
ويقبلون ما جاء به الكتاب، أو السنة، أو الإجماع من فضائلهم، ومراتبهم، فيفضلون من أنفق من قبل [33/ 1] الفتح - وهو صلح الحديبية - وقاتل على من أنفق بعده وقاتل. ويقدمون المهاجرين على الأنصار، ويؤمنون بأن الله تعالى قال لأهل بدر - وكانوا ثلاثمائة وبضعة عشر -:«اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم»
(2)
، وبأنه لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة، كما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم
(3)
، بل قد رضي الله عنهم،
(1)
رواه البخاري (3673) - واللفظ له -، ومسلم (2541)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(2)
رواه البخاري (3007)، ومسلم (2494)، من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
(3)
رواه مسلم (2496)، من حديث جابر عن أم مبشر رضي الله عنهما.
ورضوا عنه، وكانوا أكثر من ألف وأربعمائة
(1)
، ويشهدون بالجنة لمن شهد له النبي صلى الله عليه وسلم كالعشرة
(2)
، وكثابت بن قيس بن شماس
(3)
، [وغيرهم من الصحابة]
(4)
.
ويقرُّون بما تواتر به النقل عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وغيره، من أن خير هذه الأمة بعد نبيها: أبو بكر، ثم عمر
(5)
. ويثلِّثون بعثمان، ويربِّعون بعلي رضي الله عنهم، كما دلت عليه الآثار، وكما أجمعت الصحابة على تقديم عثمان في البيعة، مع أن بعض أهل السنة كانوا قد اختلفوا في عثمان، وعلي، بعد اتفاقهم على أبي بكر، وعمر [أيهما أفضل، فقدَّم قومٌ]
(6)
عثمانَ، وسكتوا، أو ربَّعُوا بعلي، وقدَّم قومٌ عليًا، وقوم توقفوا. لكن استقر أمر أهل السنة على تقديم عثمان، وإن كانت هذه المسألة - مسألة عثمان وعلي - ليست من الأصول التي
(1)
رواه البخاري (4840)، ومسلم (1856)، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
(2)
رواه أبو داود (4649)، والترمذي (3757) - وقال: حسن صحيح -، وابن ماجه (133)، وصححه ابن حبان (6993)، والضياء في «المختارة» 3/ 282 - 290، من حديث سعيد بن زيد رضي الله عنه.
(3)
رواه البخاري (4846)، ومسلم (119)، عن أنس رضي الله عنه.
(4)
لا توجد في (ب).
(5)
رواه أحمد 1/ 106 و 127، والبخاري (3671)، وابن أبي عاصم في «السنة» 2/ 555 - 558، والطبراني في «الكبير» 1/ 107، وأبو نعيم في «حلية الأولياء» 7/ 199 - 201، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية أيضًا: وقد ثبت عن علي في «صحيح البخاري» وغيره من نحو ثمانين وجهًا أنه قال: «خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر» . مجموع الفتاوى 28/ 473، ونحوه في 4/ 422.
(6)
سقط من (ب).
يُضَلَّل المخالِف فيها عند
(1)
، جمهور أهل السنة، لكن المسألة التي يُضَلَّل المخالف فيها مسألة الخلافة.
وذلك أنهم يؤمنون بأن الخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، ومن طعن في خلافة أحد من هؤلاء الأئمة؛ فهو أضلُّ من حمار أهله.
ويحبون أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ويَتَوَلوْنَهم ويحفظون فيهم وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال يوم غدير خُم
(2)
: «أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي»
(3)
.
وقال - أيضًا - للعباس عمه - وقد شكى إليه أن بعض قريش [33/ 2] يجفو بني هاشم - فقال: «والذي نفسي بيده لا يؤمنون حتى يحبوكم لله ولقرابتي»
(4)
(5)
.
(1)
في (ب): الجمهور وجمهور.
(2)
وادٍ بين مكة والمدينة قرب الجحفة. معجم البلدان 2/ 389.
(3)
رواه مسلم (2408)، من حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه.
(4)
رواه بمعناه: أحمد 1/ 207، والطبراني في «الكبير» 11/ 433، والحاكم 3/ 333، من حديث العباس رضي الله عنه. وأحمد 4/ 165، والترمذي (3758) - وقال: حسن صحيح -، والبزار 6/ 131، والحاكم 3/ 333، من حديث عبد المطلب بن ربيعة رضي الله عنه.
(5)
رواه مسلم (2276)، من حديث واثلة بن الأسقع رضي الله عنه.
ويتولون أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين، ويقرون
(1)
، بأنهن أزواجه في الآخرة، خصوصًا خديجة، أم أكثر أولاده، وأول من آمن به، وعاضده على أمره، وكان لها منه المنزلة العلية، والصديقة بنت الصديق التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم:«فضل عائشة على النساء، كفضل الثريد على سائر الطعام»
(2)
. ويتبرؤون من طريقة الروافض الذين يبغضون الصحابة، ويسبونهم، وطريقة النواصب الذين يؤذون أهل البيت بقول أو عمل.
وهذا فصل ضمَّنه الشيخ رحمه الله منهج أهل السنة والجماعة في أصحاب وقرابة وزوجات الرسول صلى الله عليه وسلم، وأمرُ الصحابة صار قضية عقدية، وقد افترق فيهم الناس كما تقدمت الإشارة إلى هذا في الكلام عن وسطية أهل السنة
(3)
.
وأهل السنة وسط في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الرافضة والخوارج، ومنهج أهل السنة والجماعة يتضمن هذه الأمور التي ذكرها الشيخ، فمن أصول أهل السنة في هذا الباب:
سلامة قلوبهم من بغض الصحابة، ومن الغل والحقد عليهم، وكذلك ألسنتهم سليمة فلا يسبون، ولا يتبرؤون من أحد منهم، بل
(1)
في (ب): ويؤمنون.
(2)
رواه البخاري (3411)، ومسلم (2431)، من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
(3)
[ص 182].
يحبون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بقلوبهم، ويثنون عليهم بألسنتهم، ويدعون الله لهم، كما وصف الله التابعين لأصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار فقال الله سبحانه:{وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)} [الحشر].
فسألوا ربهم أن يطهر قلوبهم من الغلِّ، وهذا مشروع من المؤمنين لإخوانهم عمومًا، لكن أحق الناس بذلك هم الصدر الأول: أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم.
وكذلك أهل السنة والجماعة يطيعون الرسول صلى الله عليه وسلم أكمل طاعة في قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه»
(1)
.
قال هذا صلى الله عليه وسلم لبعض الصحابة الذين تأخر إسلامهم من بعد الفتح، وهو خالد بن الوليد لما كان بينه وبين عبد الرحمن بن عوف بعض الاختلاف فقال صلى الله عليه وسلم لخالد بن الوليد: لا تسبوا أصحابي
(2)
.
فالصحبة مراتب فبعض الصحابة أكمل صحبة من بعض، فالسابقون الأولون ليسوا كالذين تأخر إسلامهم، وهذا أيضًا ينسحب على من جاء بعد الصحابة فقوله:«لا تسبوا أصحابي» وإن ورد على هذا السبب، فإنه يتضمن نهي من يأتي بعدُ عن سب أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم.
(1)
تقدم تخريجه في [ص 250].
(2)
تقدم تخريجه في [ص 250].
وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر»
(1)
.
فإذا كان أيّ مسلم سبابه فسوق، فكيف بسبِّ أحد من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم؟ فكيف بسب أفاضل الصحابة وأكابرهم؟
وقد باء بهذا الإثم الطائفة المخذولة الشقية طائفة الرافضة، فهم شر طوائف الأمة وأشدها بغضًا وسبًا وظلمًا لأصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم.
ولهذا قال الشيخ في آخر الكلام: «ويتبرؤون - أهل السنة والجماعة - من طريقة الروافض الذين يبغضون الصحابة ويسبونهم، وطريقة النواصب الذين يؤذون أهل البيت بقول أو عمل» .
ومن تفصيل مذهب أهل السنة والجماعة في أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم: أنهم يفضلون من أنفق من قبل الفتح وقاتل على من أنفق من بعد الفتح وقاتل، وليس المراد بالفتح فتح مكة كما يتبادر لأذهان كثير من الناس لا، فالفتح هنا هو صلح الحديبية، وهو الذي أنزل الله فيه {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1)} [الفتح]، وكان صلح الحديبية سببًا لفتح مكة، وبين الفتحين قريب من سنتين.
وهذه المفاضلة نَبَّهَ الله تعالى إليها بقوله: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد: 10]، لكن مع الفارق، فالذين أنفقوا، وقاتلوا في أيام الشدة، وقلة النصير لا يساويهم ولا يدانيهم من أنفق بعد ما قويت
(1)
رواه البخاري (48)، ومسلم (64)، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
شوكة الإسلام، وظهر دين الله، والكل قد وعدهم الله الحسنى، لكن مع التفاوت والتفاضل الذي لا يقدر قدره إلا الله سبحانه.
ومن تفصيل هذا الأصل: أن
أهل السنة يقدمون المهاجرين على الأنصار
؛ لأن الله قدَّمهم في الذكر، فكل آية يذكر الله فيها المهاجرين والأنصار، فإنه تعالى يقدم المهاجرين {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ} [التوبة: 100].
كما أنهم يؤمنون بكل ما جاء في الكتاب والسنة من فضائل الصحابة عمومًا وخصوصًا، فيؤمنون ويصدقون بقوله صلى الله عليه وسلم:«لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم»
(1)
.
فيعرفون لأهل بدر هذه الفضيلة العظيمة، كما أنهم يؤمنون بما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم من قوله:«لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة»
(2)
.
وهم أهل بيعة الرضوان، وكانوا أكثر من ألف وأربعمائة، الذين قال الله فيهم:{رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} من الصدق في الإيمان، ونصرة الرسول صلى الله عليه وسلم، والصدق في مبايعته، {فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18)} [الفتح] بايعوا الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك الموقف على الموت
(3)
، أو بايعوه على ألا يفروا
(4)
؛ ففازوا بهذا الوعد، وفازوا بهذا الثناء، إنها فضيلة لا يدركها أحد بعدهم.
(1)
تقدم تخريجه في [ص 250].
(2)
تقدم تخريجه في [ص 250].
(3)
رواه البخاري (2960)، ومسلم (1860)، من حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه.
(4)
رواه مسلم (1856) و (1858)، من حديث جابر بن عبد الله، ومعقل بن يسار رضي الله عنهم.
وأهل السنة يؤمنون بكل ما جاء في الكتاب والسنة من فضائلهم ومناقبهم، ومما يدخل في هذا أنهم يشهدون بالجنة لمن شهد له رسول صلى الله عليه وسلم كالعشرة المبشرين بالجنة، وهم: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وسعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد، وعبد الرحمن بن عوف، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وأبو عبيدة بن الجراح، هؤلاء هم العشرة
(1)
.
والمبشرون بالجنة كثير، ومنهم: ثابت بن قيس بن شماس خطيب النبي صلى الله عليه وسلم
(2)
، ومنهم الحسن والحسين رضي الله عنهم
(3)
.
وهذه بشارات على وجه التعيين فلان وفلان وفلان، وتقدم أنه ممن يُشهد لهم بالجنة كل من بايع تحت الشجرة - أهل بيعة الرضوان - الذين قال فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم:«لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة» .
فهذا يقتضي أن أهل السنة والجماعة يقفون مع النصوص، ويؤمنون بكل ما أخبر الله به في كتابه، أو أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق، فكل ما أخبر به فهو حق من عند الله.
(1)
نظمهم الحافظ ابن حجر بقوله:
لقد بشر الهادي من الصحب زمرةً
بجنات عدن كلُّهم فضلهُ اشتهرْ
سعيدٌ زبيرٌ سعدُ طلحةُ عامرٌ
أبو بكر عثمانُ ابنُ عوفٍ علي عمرْ
فتح المغيث 4/ 64، وتخريج الحديث في [251].
(2)
تقدم تخريجه في [ص 251].
(3)
رواه أحمد 3/ 3، والترمذي (3768)، وابن حبان (6959)، والحاكم 3/ 167 - وصححوه -، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
ومن المسائل الكبيرة التي تدخل في هذا الأصل: أن أهل السنة يؤمنون، ويقبلون ما تواتر عن علي رضي الله عنه وعن غيره:«أن أفضل هذه الأمة: أبو بكر، ثم عمر»
(1)
، ويثلثون بعثمان، ويربعون بعلي.
فأهل السنة والجماعة قائلون بأن أفضل الصحابة الخلفاء الراشدون، وأن ترتيبهم في الفضل على ترتيبهم في الخلافة، فأفضل هذه الأمة على الإطلاق أبو بكر ثم عمر، وهذا بإجماع المسلمين الأولين والآخرين بإخراج طائفة الروافض.
وذكر الشيخ: أن أهل السنة قد وقع بينهم خلاف في القديم في المفاضلة بين عثمان وعلي. فقوم: قدموا عثمان وسكتوا، أو ربعوا بعلي. وقوم: قدموا عليًا. وقوم: توقفوا، لكن استقر أمر أهل السنة على تفضيل عثمان على علي، وأن ترتيب الخلفاء الراشدين في الفضل على ترتيبهم في الخلافة.
وهذا يعني أن الخلاف قد ارتفع، وأجمع أهل السنة أخيرًا على تقديم عثمان على علي.
لكن يجب أن يُفَرَّق بين مسألة المفاضلة بين عثمان وعلي، وبين الطعن في خلافة عثمان، فلا يلزم من تفضيل علي على عثمان الطعن في خلافة عثمان؛ فمسألة تفضيل علي على عثمان يقول الشيخ: ليست من المسائل التي يضلل المخالف فيها.
(1)
تقدم تخريجه في [ص 251].
أما مسألة الخلافة فمن طعن في خلافة واحد من الخلفاء الراشدين فهو ضال أضل من حمار أهله، فمن طعن في خلافة عثمان، وقال: إنه تقديم للمفضول، وإنه كان عن محاباة من بعض الصحابة، وإن عثمان قد هَضم حق علي، فهو ضال مضل.
وقد قال بعض السلف:
من قدم عليًا على عثمان فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار
(1)
؛ لأن المهاجرين والأنصار قد اتفقوا على تقديم عثمان في الخلافة، وهذا حجة لما عليه جمهور أهل السنة، واستقر عليه أمرهم من تقديم عثمان على علي في الفضل
(2)
.
فهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة، ومنهجهم في أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم: سلامة قلوبهم وألسنتهم، ومحبتهم، وإنزال كلٍ منزلته، وهذا هو العدل.
وكذلك من منهج أهل السنة والجماعة أنهم يعرفون لقرابة الرسول صلى الله عليه وسلم فضلهم، ويحفظون وصية النبيصلى الله عليه وسلم في أهل بيته حين قال يوم غدير خم:«أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي»
(3)
وأهل بيته صلى الله عليه وسلم قرابته القربى الأدنون، وهم بنو هاشم، ثم قريش على مراتبهم لهم حظهم وشرفهم من قرابة النبي صلى الله عليه وسلم بقرابتهم للنبي صلى الله عليه وسلم، ولكن هذه
(1)
روي هذا عن أيوب السختياني وأحمد بن حنبل والدارقطني رحمهم الله. السنة للخلال 2/ 392، ومجموع الفتاوى 4/ 426 و 435.
(2)
انظر مسألة عثمان وعلي رضي الله عنهما في: منهاج السنة 2/ 73، ومجموع الفتاوى 4/ 425، وفتح الباري 7/ 16، وفتح المغيث 4/ 57.
(3)
تقدم تخريجه في [ص 252].
الفضيلة لا تتحقق إلا مع الإيمان، فإذا لم يتحقق الإيمان فلا تنفع الأنساب؛ فأبو لهب وأبو طالب لم تنفعهم قرابتهم من النبي صلى الله عليه وسلم حين لم يؤمنوا به.
وقال صلى الله عليه وسلم حين شكا إليه العباس أن قريشًا تجفو بني هاشم قال صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لا يؤمنون حتى يحبوكم لله - يعني: لإيمانكم - ولقرابتي»
(1)
فمن كان مؤمنًا من قرابة النبي صلى الله عليه وسلم وصَحِبَه؛ فإنه اجتمع له فضل الصحبة، وفضل القرابة، كعلي رضي الله عنه له فضل الصحبة فهو من سادات الصحابة، ومن السابقين الأولين، وفضل القرابة فهو أفضل قرابة النبي صلى الله عليه وسلم.
وكذلك من منهج أهل السنة والجماعة أنهم يوالون ويحبون أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين، ويؤمنون أنهن زوجاته في الآخرة، ويعرفون لهن فضيلتهن، فلهن فضل الصحبة، وفضل صلتهن بالنبي صلى الله عليه وسلم {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6]، وهذه الأمومة أمومة حرمة، وكرامة، وليست أمومة القرابة التي ينبني عليها ما ينبني من أحكام الميراث وغيره
(2)
، قال تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ
(1)
تقدم تخريجه في [ص 252].
(2)
منهاج السنة 4/ 369.
وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33)} [الأحزاب]، وهذه الآية تدل - على الصحيح - على أن زوجات النبي صلى الله عليه وسلم من أهل بيته، بل هن أولى من يدخل في هذا الاسم
(1)
.
يقول شيخ الإسلام: وخصوصًا خديجة وعائشة. فخديجة أم أكثر أولاده؛ لأنها أولى زوجاته، وهي من أسبق السابقين إلى الإسلام، وعائشة التي قال فيها الرسول صلى الله عليه وسلم:«فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام»
(2)
. والثريد هو: الخبز باللحم، وهو من أفضل الطعام.
وأهل السنة مختلفون في المفاضلة بينهما، فقوم فضلوا عائشة، وقوم فضلوا خديجة، ومنهم من قال: إن هذه أفضل من وجه، وهذه أفضل من وجه
(3)
، وعندي - والله أعلم - أن القول بتفضيل خديجة: قول قوي؛ لأدلة كثيرة دالة على فضلها
(4)
، وكلهن فُضْليات رضي الله عنهن.
* * * *
(1)
التمهيد 17/ 302، ومنهاج السنة 4/ 24 و 7/ 73، وجلاء الأفهام ص 236 - 247، وتفسير ابن كثير 6/ 410.
(2)
تقدم تخريجه في [ص 253].
(3)
هذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم. مجموع الفتاوى 4/ 393، وبدائع الفوائد 3/ 1104، وجلاء الأفهام ص 263.
(4)
وهذا اختيار الحافظ ابن حجر في «فتح الباري» 7/ 134.
موقف أهل السنة والجماعة مما شجر بين الصحابة رضي الله عنهم
ويمسكون عما شجر بين الصحابة، ويقولون: إن هذه الآثار المروية في مساوئهم منها ما هو كذب، ومنها ما قد زيد فيه ونقص وغُيِّرَ عن وجهه، والصحيح منه: هم فيه معذورن؛ إما مجتهدون مصيبون، وإما مجتهدون مخطئون. وهم مع ذلك لا يعتقدون أن كل واحد من الصحابة معصوم عن كبائر الإثم، وصغائره؛ بل تجوز عليهم الذنوب في الجملة، ولهم من السوابق والفضائل ما يوجب مغفرة ما يصدر منهم إن صدر، حتى إنه يغفر لهم من السيئات ما لا يغفر لمن بعدهم؛ لأن لهم من الحسنات التي تمحو السيئات ما ليس لمن بعدهم.
وقد ثبت بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنهم خير القرون»
(1)
، «وأن المد من أحدهم إذا تصدق به كان أفضل من جبل أحد ذهبًا ممن بعدهم»
(2)
. ثم إذا كان قد صدر عن أحدهم ذنب، فيكون قد تاب منه، [و]
(3)
أتى بحسنات تمحوه، أو غفر له بفضل سابقته، أو بشفاعة
(1)
رواه البخاري (2652)، ومسلم (2533)، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
(2)
تقدم تخريجه في [ص 250].
(3)
في (ب) و (م): أو.
محمد صلى الله عليه وسلم الذين هم أحق الناس بشفاعته، أو ابتلي ببلاء في الدنيا كفر به عنه؛ فإذا [34/ 1] كان هذا في الذنوب المحققة، فكيف بالأمور التي كانوا فيها مجتهدين، فإن أصابوا فلهم أجران، وإن أخطئوا، فلهم أجر واحد، والخطأ مغفور لهم.
ثم القَدْر الذي يُنْكَر من فعل بعضهم قليل نزر مغمور في جنب فضائل القوم ومحاسنهم: من الإيمان بالله، ورسوله، والجهاد في سبيله، والهجرة، والنصرة، والعلم النافع، والعمل الصالح.
ومن نظر في سيرة القوم بعلم وبصيرة، وما مَنَّ الله عليهم من الفضائل؛ عَلِم يقينًا أنهم خير الخلق بعد الأنبياء، لا كان، ولا يكون مثلهم، وأنهم هم الصفوة من قرون هذه الأمة، التي هي خير الأمم، وأكرمها على الله تعالى.
تقدم ذكر جمل من المسائل التي يتضمنها منهج أهل السنة والجماعة في أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن منهجهم وطريقتهم القويمة السليمة أنهم يمسكون عمّا شجر بين الصحابة، فلا يخوضون فيما وقع بينهم من الخلاف والنزاع والحروب، ولا يجعلون ما جرى بين الصحابة حديثًا يتسلون به؛ فضلًا عن أن يتذرعوا به إلى الطعن في أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم بل يُعرضون عنه، ويغفلون عنه؛ لأن مع ما في الخوض فيه من المفاسد؛ فإنه أيضًا يؤلم قلوب المؤمنين؛ فلا يحبون
التكلم فيه والتشاغل به؛ بل إذا تذكروا ذلك، أو ذُكِرَ لهم وقفوا وزجروا من يخوض في ذلك، ويبادرون بالترضي عن أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، والدعاء لهم بالمغفرة، كما جاء في قوله تعالى:{وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)} [الحشر].
فلا يخوضون فيما شجر بين الصحابة لا كلامًا، ولا كتابة وتأليفًا، فتسطير ما جرى بين الصحابة لا خير فيه، اللهم إلا من يكتب للرد على المبطلين وإزاحة الشبه
(1)
، فيكون هذا الكلام، وهذا التأليف ليس مقصودًا لذاته، فلا يقصد به مجرد الأحاديث التأريخية، والخوض الذي تزجى به الأوقات، ويؤدي إلى تسويد القلوب.
ومن أحسن ما أُثِر في هذا قول عمر بن العزيز رحمه الله: لما قيل له: ما تقول في أهل صفين؟ فقال: تلك دماء طهر الله يدي منها، فلا أحب أن أخضب لساني بها
(2)
.
وهذا معنى عظيم، وأصل يجب التفطن له والتمسك به؛ بل إن هذا المعنى هو الواجب نحو ما يكون بين المسلمين، فكيف بأصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم الأخيار، خير هذه الأمة.
ثم من هذا الأصل يقولون: إن ما نقل من المساوئ من تلك الحروب، أو غيرها منها: ما هو كذب، فالأخبار التأريخية كثير منها
(1)
منهاج السنة 6/ 254.
(2)
حلية الأولياء 9/ 114.
كذب، وقد يكون أصل الخبر واقعًا، لكن التفصيلات منها ما هو كذب، ومنها ما زيد فيه ونقص وغُيِّرَ عن وجهه، هذا قسم.
والصحيح مما أُثِرَ من مساوئ الصحابة هم فيه معذورون مأجورون؛ إما مجتهدون مصيبون، وإما مجتهدون مخطئون، فهم مأجورون بأجر أو أجرين، فيجب الكف عن الخوض في مساوئهم، والتماس العذر فيما ثبت، وما لم يثبت لا ينظر فيه، ويرد من أول وهلة.
لكن ما ثبت يُخَرَّج على هذا الوجه: أن ما وقع هو اجتهاد، وهذا لا يقتضي أن الصحابة معصومون، بل أهل السنة لا يقولون: إن أحدًا من الصحابة معصوم، فالعصمة إنما هي للرسول صلى الله عليه وسلم
(1)
.
أما الصحابة فهم بشر تجوز عليهم الذنوب في الجملة، وتعرض لهم العوارض النفسية، وتحصل من أحدهم الزلة، والله تعالى يقول:{إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201)} [الأعراف]، اتقوا: فالمتقون قد يذنبون، ويقول تعالى في صفة المتقين الذين يعدُّ الصحابة في أول وأعلى درجاتهم من هذه الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم:{وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135)} [آل عمران].
(1)
انظر: مجموع الفتاوى 10/ 289، وأصول الفقه 1/ 322، وشرح الكوكب المنير 2/ 169.
وإذا علم هذا فما يُقَدّر أن يقع منهم من ذنوب فإن لهم من أسباب المغفرة ما ليس عند غيرهم، فإنه يغفر لهم إما بالتوبة، وهم أحرى بها، وإما بالحسنات الماحية، أو المصائب المكفرة.
هذه مكفرات الذنوب لهم ولغيرهم، ولكنهم هم أولى بها، ونصيبهم منها أعظم وأكبر، أو يغفر لهم بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم الذين هم أحق بشفاعته.
مع أن ما يقدر أن يصدر عنهم إن صدر نزر قليل في جانب فضائلهم، وحسناتهم، فإن لهم سوابق، وفضائل لا يلحقهم فيها غيرهم، وقد قال صلى الله عليه وسلم:«لا تسبوا أصحابي فو الذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبًا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه»
(1)
.
كيف وهم الذين قال فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم: «خير الناس قرني ثم الذي يلونهم»
(2)
. وقرنه هم الصحابة رضي الله عنهم.
فالمقصود أن الواجب هو الكف عن مساوئ الصحابة، والتماس العذر لهم، وتذكر ما لهم من الفضائل والسوابق، وما لديهم من أسباب المغفرة، وما يكون منهم من ذنوب فإن ذلك مغمور في جانب حسناتهم وفضائلهم
(3)
.
وختامًا يقول الشيخ: «إن من نظر في سيرة القوم بعلم وبصيرة
…
عَلِم يقينًا أنهم خير الخلق بعد الأنبياء، لا كان ولا يكون مثلهم».
(1)
تقدم تخريجه في [ص 250].
(2)
تقدم تخريجه في [ص 262].
(3)
ينظر كتيب: «المنهج في التعامل مع روايات ما شجر بين الصحابة» د. محمد أبا الخيل.
وهذا يستفاد من قوله تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110]، فإذا كانت هذه الأمة خير الأمم، والصحابة خير هذه الأمة؛ تبين أن الصحابة خير الناس بعد الأنبياء، لا كان في الماضي مثلهم، ولا يكون في آخر الزمان مثلهم.
وأما ما ورد في صفة وأجر الغرباء، وأن للعامل في أيام الصبر أجر خمسين من الصحابة
(1)
، فهو محمول عند أهل العلم على الفضل المقيد: لهم أجر خمسين في صبرهم على البلاء، وتسلط الأعداء، مع قلة المعين، لا أن لهم أجر خمسين من الصحابة في كل عمل؛ فيكونون بهذا أفضل من الصحابة لا؛ بل هم أفضل من الصحابة في خصلة من خصال الدين، وفضيلة من الفضائل، فلا يكونون بهذا أفضل من الصحابة مطلقًا، فالتفضيل المقيد لا يوجب الفضل المطلق
(2)
.
* * * *
(1)
رواه أبو داود (4341)، والترمذي (3058) وقال: حسن غريب، وصححه ابن حبان (385)، والحاكم 4/ 322، من حديث أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه، وحسنه ابن القيم في «الكافية الشافية» ص 343 - 344. وانظر: السلسلة الصحيحة (494)، والضعيفة (1025).
(2)
الكافية الشافية ص 345 - 347، وفتح الباري 7/ 6 - 7، ونيل الأوطار 8/ 352.
الإيمان بكرامات الأولياء
و
من أصول أهل السنة: التصديق بكرامات الأولياء،
وما يُجري الله على أيديهم من خوارق العادات في أنواع العلوم، والمكاشفات، وأنواع القدرة والتأثيرات، كالمأثور عن سالف الأمم في سورة الكهف، وغيرها، وعن صدر هذه الأمة من الصحابة، والتابعين، وسائر قرون الأمة، وهي موجودة فيها إلى يوم القيامة.
التصديق بكرامات الأولياء - أي: الإيمان بأنها حق - وهي: ما يُجْرِي الله على أيدي أوليائه من خوارق العادات في العلوم والمكاشفات والقدرة والتأثيرات؛ كالذي حكاه الله عن بعض أوليائه في سورة الكهف، وما جرى لهم من خوارق العادات حيث مكثوا في كهفهم {ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25)} [الكهف]، بقوا أحياء، ولم يموتوا مع ما مضى عليهم من السنين، ومع ذلك لما استيقظوا صاروا يتكلمون في شأنهم {وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} [الكهف: 19]، وهذا خارق للعادة، لو نام إنسان مدة طويلة هلك ومات؛ لأن جسمه يحتاج إلى الغذاء؛ ينفد وقوده، وتنفد
طاقته، لكن هؤلاء مكثوا هذه السنين، ومع ذلك بقوا أحياء {وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ} [الكهف: 18].
وكذلك ما أجرى الله على يد الخضر على القول بأنه ولي لا نبي
(1)
.
من الوقائع الثلاث التي استعظمها موسى: خرق السفينة، وقتل الصبي، وتقويم الجدار كل ذلك من خوارق العادات العلمية الكشفية التي أجراها الله على يدي عبده الخضر، فأهل السنة يؤمنون بكرامات الأولياء إجمالًا، لكن من أصولهم الإيمان والتصديق بما ثبت وصح من كرامات الأولياء، وهم بهذا يخالفون أهل البدع كالمعتزلة الذين ينكرون كرامات الأولياء
(2)
.
والأخبار مستفيضة في هذا الشأن، وقد ذكر المؤرخون أمورًا كثيرة، ومنها ما يشاهد بين حين وآخر، وكرامات الأولياء التي يجريها الله على أيديهم لا تزال جارية من صدر هذه الأمة إلى أن تقوم الساعة، والله تعالى يجري كرامات الأولياء؛ تقوية لإيمان بعضهم، وسدًا لحاجة بعضهم، فقد يقع العبد الصالح في ضرورة؛ فيُحدث الله له أمرًا خارقًا للعادة يكشف به ضرورته؛ فما صحَّ من ذلك وثبت وجب الإيمان به وتصديقه، أما ما لم يثبت فإنه يتوقف فيه، ونقول: إنه ممكن؛ فلا نثبته ولا ننفيه
(3)
.
(1)
وهو قول أكثر العلماء. انظر: مجموع الفتاوى 4/ 397، وتفسير ابن كثير 4/ 187.
(2)
انظر: النبوات 1/ 129 و 484.
(3)
انظر: قاعدة في المعجزات والكرامات لشيخ الإسلام ابن تيمية في «مجموع الفتاوى» 11/ 311 - 362. وللوقوف على شيء من كرامات الأولياء اقرأ كتاب: «كرامات الأولياء» للإمام اللالكائي، في الجزء الخامس من «شرح أصول اعتقاد أهل السنة»، و «الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان» لشيخ الإسلام ابن تيمية.
اتباع أهل السنة لآثار الرسول صلى الله عليه وسلم-والصحابة رضي الله عنهم وإجماع الأمة
ثم من طريقة أهل السنة والجماعة اتباع آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم باطنًا وظاهرًا، واتباع سبيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، واتباع وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال:«عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة»
(1)
(2)
.
ويعلمون أن أصدق الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد، فيؤثرون كلام الله على غيره من كلام أصناف الناس، ويقدمون هدي محمد صلى الله عليه وسلم على هدي كل أحد؛ وبهذا سُموا أهل الكتاب والسنة، وسُموا أهل الجماعة؛ لأن الجماعة هي الاجتماع وضدها الفُرْقَة، وإن كان [34/ 2] لفظ الجماعة قد صار اسمًا لنفس القوم المجتمعين.
و [الإجماع]
(3)
هو الأصل الثالث الذي يعتمد في العلم والدين، وهم يَزِنُونَ بهذه الأصول الثلاثة جميعَ ما عليه الناس من أقوال [وأعمال]
(4)
(1)
في (ب) و (م): «فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة» .
(2)
رواه أحمد 4/ 126، وأبو داود (4607)، وصححه الترمذي (2676)، وابن حبان (5)، والحاكم 1/ 95 - 97، من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه.
(3)
من (م)، وفي (ظ) و (ب): الاجتماع.
(4)
لا توجد في (ب).
باطنة، وظاهرة مما له تعلق بالدين، و
[الإجماع]
(1)
الذي ينضبطُ هو ما كان عليه السلف الصالح
؛ إذ بعدهم كثر الاختلاف، وانتشرت الأمة.
ومن أصول أهل السنة اتباع آثار النبي صلى الله عليه وسلم، وما جاء به ظاهرًا، وباطنًا واتباع آثار السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، وهذا مما أمر الله به عباده، فقد أمرهم باتباع الرسول {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)} [الأعراف]، وقال تعالى:{قُلْ إِنْ كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ} [آل عمران: 31]، وقال تعالى:{وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ} [التوبة: 100]، فطريقتهم اتباع سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وتعظيمها والتمسك بها، واتباع آثار السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، وسنة الخلفاء الراشدين، فما سَنَّهُ أبو بكر أو عمر أو عثمان أو علي رضي الله عنهم مما لم يختلفوا فيه، ولم يخالف دليلًا من الكتاب والسنة، فهو سنة ماضية نحن مأمورون باتباعِهم، واتباعُهم في هذا هو من تحقيق اتباع النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأننا بذلك نعمل بوصيته صلى الله عليه وسلم حين قال:«عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين .. »
(2)
.
يقول الشيخ عن أهل السنة والجماعة: إنهم يؤثرون كلام الله على كلام غيره من كلام أصناف الناس ويقدمونه، ويؤمنون بأنه أصدق الكلام، وأن هدي الرسول صلى الله عليه وسلم خير الهدي، فيقدمون كلام الله على كلام
(1)
من (م)، وفي (ظ) و (ب): الاجتماع.
(2)
تقدم تخريجه في [ص 270].
غيره، وهدي الرسول صلى الله عليه وسلم على هدي غيره؛ لذلك سُموا أهل الكتاب والسنة؛ لتقديمهم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لإيمانهم بأن القرآن هو أصدق الكلام، وأن هدي الرسول صلى الله عليه وسلم هو خير الهدي.
كما جاء في خطبته صلى الله عليه وسلم: «إن أحسن الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها»
(1)
.
لذلك سموا أهل الكتاب والسنة؛ لأنهم المستمسكون بهما المُحكِّمُون لهما، الذين لا يقدمون عليهما معقولًا، ولا ذوقًا، ولا استحسانًا، لا يقدمون عليهما شيئًا.
ويسمى أهل السنة أيضًا: بأهل الجماعة، فهم أهل السنة والجماعة؛ لأن الجماعة هي الاجتماع، وهم يجتمعون على الحق ويأمرون بالاجتماع عملًا بقوله تعالى:{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103].
ويعملون بالإجماع: إجماع الصحابة
(2)
رضي الله عنهم يقول الشيخ: والإجماع هو الدليل الثالث.
فأصول الأدلة ثلاثة: الكتاب، والسنة، والإجماع. والإجماع في الحقيقة دليل تابع للكتاب والسنة، وأهل السنة والجماعة يَزِنُونَ بهذه الأصول الثلاثة - الكتاب، والسنة، والإجماع - أقوال الناس وأفعالهم وأحوالهم مما له تعلق بالدين.
(1)
رواه مسلم (867)، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
(2)
قال شيخ الإسلام: «الإجماع .. المعلوم منه هو ما كان عليه الصحابة، وأما ما بعد ذلك فتعذر العلم به غالبًا، ولهذا
اختلف أهل العلم فيما يذكر من الإجماعات الحادثة بعد الصحابة».
مجموع الفتاوى 11/ 341.
هذه هي الأصول الثلاثة التي يجب أن توزن بها الأعمال والأقوال والأحوال والأخلاق، وهذا هو الصراط المستقيم الذي أمر الله باتباعه: الاعتصام بحبل الله وهو: دينه الذي بعث به رسوله صلى الله عليه وسلم، والاتباع للسلف الصالح من الصحابة الذين أثنى الله عليهم، وعلى المتبعين لهم بإحسان.
* * * *
منهج أهل السنة والجماعة في تعاملهم مع الناس
ثم هم مع هذه الأصول يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر على ما توجبه الشريعة، ويرون إقامة الحج، والجهاد، والجمع، والأعياد مع الأمراء أبرارًا كانوا، أو فجارًا، ويحافظون على الجماعات، ويدينون بالنصيحة للأمة، ويعتقدون معنى قوله صلى الله عليه وسلم:«المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا، وشبك بين أصابعه صلى الله عليه وسلم»
(1)
. وقوله صلى الله عليه وسلم: «مثل المؤمنين في توادهم، وتراحمهم، وتعاطفهم، كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر»
(2)
.
عقد الشيخ رحمه الله هذا الفصل الذي ختم به هذه العقيدة؛ لبيان منهج أهل السنة في معاملة الناس، وفي سلوكهم في أنفسهم، وهم مع هذه الأصول المتقدمة كلها من:
إيمانهم بالله وصفاته مما جاء في الكتاب والسنة على التفصيل المتقدم، وإيمانهم باليوم الآخر بكل ما أخبر الله به في كتابه، وأخبر به
(1)
رواه البخاري (481)، ومسلم (2585)، عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
(2)
رواه البخاري (6011)، ومسلم (2586)، من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما.
رسوله صلى الله عليه وسلم، وإيمانهم بالقدر، وقولهم في الإيمان، وقولهم في أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم على التفصيل المتقدم، واعتمادهم في الاستدلال على الكتاب والسنة والإجماع، واقتفاء آثار السلف الصالح من الصحابة رضي الله عنهم هم مع هذه الأصول يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، فهم مصلحون؛ ومنهجهم ليس علميًا وعقديًا فقط.
يقول الشيخ: «على ما توجبه الشريعة» : لا على ما يوجبه الهوى والرأي المجرد، فالمعتزلة من أصولهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكنهم يدخلون فيه الخروج على الأئمة، ومن الناس من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، دون أن يتقيد بحدود الشريعة؛ فيفسد أكثر مما يصلح.
و
الأمرُ بالمعروف والنهي عن المنكر أصل من أصول الدين،
والأدلة عليه كثيرة من نصوص الكتاب والسنة، فهو واجب عظيم به قِوام الدين، وقِوام أمر المسلمين، وما حل بهم من فساد في دينهم ودنياهم إلا بتفريطهم فيما أوجب الله عليهم، وتفريطهم في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.
كما أن من طريقة أهل السنة والجماعة أنهم يقيمون شرائع الإسلام الحج، والجهاد، والجُمع، والأعياد مع الأمراء أبرارًا كانوا أو فجارًا، فإذا كان القائد، أو أمير الحج فاجرًا لا يعطلون شعائر الإسلام من أجل فجوره، فهم يتعاونون مع كل من أمرهم بالخير، فكل من قادهم بكتاب
الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم اتبعوه، خلافًا لأهل البدع كالروافض الذين يرون أنه لا جهاد إلا مع إمامٍ معصوم
(1)
، والإمامُ المعصوم الذين يدعونه معدوم.
كما أن أهل السنة يحافظون على الجماعات: صلاة الجماعة التي استخف بها كثير من المسلمين، والنصوص من الكتاب والسنة الدالة على وجوبها، وعظيم فضلها كثيرة مشهورة مذكورة
(2)
.
ويعتقدون معنى قوله صلى الله عليه وسلم: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا»
(3)
أي: يؤمنون بالرابطة الإسلامية، هذه الرابطة التي قد وهنت في نفوس كثير من المسلمين.
وهذه الرابطة تعني: الشعور بآلام وآمال المسلمين «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر» .
وجماع هذا قوله سبحانه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10] فهذه الأخوة لها حق، وتقتضي المحبة والمواساة، والمشاركة في الآلام والآمال، وإن اختلفت وتباعدت أوطانهم، واختلفت أنسابهم، فلا يجوز الولاء والبراء على أساس الأرض، هذا سعودي، وهذا مصري، وهذا يمني ..
(1)
وسائل الشيعة 11/ 32، ومنهاج السنة 6/ 118 و 8/ 518.
(2)
انظر مثلًا: السنن والأحكام 1/ 422، ونيل الأوطار 3/ 139، وغيرها من كتب الحديث.
(3)
تقدم تخريجه في [ص 274].
والمحزن أن تعامل أكثر الناس الآن على أساس الروابط الجاهلية: التراب والوطن، والوطنية، وهي التي يُشاد بها وتُذكر ويُنَوَّهُ عنها.
والواجب أن تكون العلاقة التي يبنى عليها الولاء والبراء، والحب والبغض هي علاقة الدين؛ فتحب المؤمنين ممن كانوا، وأين كانوا، وتبغض الكافرين ممن كانوا وأين كانوا، قال تعالى:{لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} الآية [المجادلة: 22].
* * * *
دعوة أهل السنة والجماعة إلى الأخلاق والآداب الكريمة
ويأمرون بالصبر على البلاء، والشكر عند الرخاء، والرضا بمرِّ القضاء، ويدعون إلى مكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال، ويعتقدون معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم:«أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم أخلاقًا»
(1)
.
ويندبون إلى أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك. ويأمرون ببر الوالدين، وصلة الأرحام، وحسن الجوار، والإحسان إلى اليتامى والمساكين، وابن السبيل، والرفق بالمملوك، وينهون عن الفخر، والخيلاء، والبغي، والاستطالة على الخلق بحق، أو بغير حق، ويأمرون بمعالي الأخلاق، وينهون عن سفسافها.
وهذه الجملة هي نوع تفصيل لما تقدم أن من طريقتهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالمعروف اسم جامع لكل ما أمر الله به من الواجبات أو المستحبات، فيأمرون بالواجبات على وجه الإلزام، ويأمرون بالمستحبات على وجه الندب والترغيب.
(1)
رواه أحمد 2/ 250، وأبو داود (4682)، وصححه الترمذي (1162)، وابن حبان (479)، والحاكم 1/ 3، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
فمن ذلك: أنهم «يأمرون بالصبر عند البلاء» يأمرون بالصبر على المصائب والأقدار المؤلمة؛ لأن هذا الذي أمر الله به عباده {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِين (46)} [الأنفال]، وقال تعالى:{وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146)} [آل عمران]، وقال تعالى:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُور (5)} [إبراهيم].
فأثنى الله في كتابه على الصابرين والشاكرين، وهذا شأن المؤمن قال الرسول صلى الله عليه وسلم:«عجبًا لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرًا له»
(1)
.
«ويعتقدون معنى قول صلى الله عليه وسلم: «أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم أخلاقًا» »: فهم يتخلَّقون بالأخلاق الفاضلة، ويأمرون بها غيرهم، ومكارم الأخلاق: الأخلاق الكريمة، والأعمال الحسنة الجميلة.
«ويأمرون ببر الوالدين، وصلة الأرحام، والإحسان إلى اليتامى، والمساكين .. » : كما أمرهم الله بذلك {وَاعْبُدُوا اللّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا (36)} [النساء].
فمن منهجهم، وأخلاقهم الإحسان إلى اليتامى والمساكينِ وابن السبيل، والرفقِ بالمماليك، والرفقِ بالخدم والعمالِ، والخدمُ والعمَّالُ
(1)
رواه مسلم (2999)، من حديث صهيب رضي الله عنه.
من جنس المماليك من حيث إنهم مُستخدَمون، فيجب الرفق بهم والإحسان إليهم، وعدم تكليفهم ما لا يطيقون، وأداء حقوقهم، وقد كثر الخدم عند الناس اليوم، وكثيرًا ما يتعرَّضون للظلم ممن هم تحت ولايته وكفالته، فيجب التآمر بالرفق بهم، والإحسان إليهم.
«وينهون عن الفخر والخيلاء والبغي والاستطالة على الخلق بحق أو بغير حق» : ينهون عن التفاخر والتعاظم قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله أوحى إليَّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغي أحد على أحد»
(1)
.
فأهل السنة ينهون عن الفخر والخيلاء والبغي على الخلق، والبغيُ عليهم يعني: بظلمهم في أنفسهم، أو أموالهم، والاعتداء عليهم في ذلك.
والاستطالة: التطاول، والتعاظم على الخلق بحق أو بغير حق، حتى وإن كان لك حق على أحد فلا تتطاول عليه، ولا تتسلط عليه، فالتطاول فيه تعاظم وتسلط بسبب أنك تزري عليه.
«ويأمرون بمعالي الأخلاق» : هذا قريب من الذي تقدم يعني: بالأخلاق العالية، فالأخلاق الكريمة عالية فاضلة فيأمرون بالصدقة، وبذل المعروف، وطلاقة الوجه، والسلام، وعيادة المريض وغيرها.
«وينهون عن سفسافها» : رديء الأخلاق، وحقيرها كالبخل، والجبن.
* * * *
(1)
رواه مسلم (2865)، من حديث عياض بن حمار رضي الله عنه.
المنهج العام لأهل السنة، وحقيقته
وكل ما يقولونه، ويفعلونه من هذا، أو غيره؛ فإنما هم فيه مُتَّبِعُونَ للكتاب والسنة، وطريقتهم هي دين الإسلام [الذي]
(1)
بعث الله به محمدًا صلى الله عليه وسلم، [35/ 1] لكن لما أخبر صلى الله عليه وسلم:«أن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة»
(2)
. وفي حديث عنه أنه قال: «هم من كان على مثل ما أنا عليه، وأصحابي»
(3)
.
صار المتمسكون بالإسلام المحض الخالص عن الشوب أهل السنة والجماعة، وفيهم الصديقون، والشهداء، والصالحون، ومنهم أعلام الهدى، ومصابيح الدجى، أولو المناقب المأثورة، والفضائل المذكورة، وفيهم الأبدال
(4)
: الأئمة الذين أجمع المسلمون على هدايتهم، ودرايتهم، وهم الطائفة المنصورة، [الذين]
(5)
قال فيهم
(1)
من (م) و (ب)، وفي (ظ): التي.
(2)
تقدم تخريجه في [ص 30].
(3)
تقدم تخريجه في [ص 30].
(4)
في (ب) زيادة: وفيهم.
(5)
في (ظ): التي.
النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم، ولا من خذلهم حتى تقوم الساعة»
(1)
.
فنسأل الله العظيم أن يجعلنا منهم، وألا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، ويهب لنا من لدنه رحمة إنه هو الوهاب. والحمد لله رب العالمين وصلواته وسلامه على سيدنا محمد وآله، وسائر المرسلين والنبيين، وآلِ كلٍ وسائر الصالحين
(2)
.
يقول الشيخ: إن أهل السنة في «كل ما يقولونه ويفعلونه .. فإنما هم فيه متبِعُون للكتاب والسنة» ، يأمرون بما أمر الله به، وبما أمر به رسوله صلى الله عليه وسلم، وينهون عما نهى اللهُ عنه ورسولُه صلى الله عليه وسلم، فهم في كل ذلك متبعون، لا مبتدعون، ولا متبعون لأهوائهم.
يقول الشيخ: «وطريقتهم هي دين الإسلام الذي بعث الله به محمدًا صلى الله عليه وسلم» : هذا إجمال تام لما سبق، فطريقة أهل السنة والجماعة هي دين الإسلام الجامع لكل العقائد الصحيحة، والعلوم النافعة والأعمال الصالحة كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ
(1)
تقدم تخريجه في [ص 30].
(2)
في (ظ): تمت - والحمد لله - في عشي يوم الجمعة في أوائل العشر الوسط لرمضان المعظم سنة ست وثلاثين وسبعمائة بالمدرسة الظاهرية داخل دمشق المحروسة على يدي معلقها محمد بن محمد بن محمد بن علي بن عبد الرحمن
…
لطف الله به وعفا عنه، وجعله من أهل السنة والجماعة لا رب غيره ولا مولى سواه.
لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُون (33)} [التوبة]، طريقتهم هي دين الإسلام، والمنتسبون للإسلام كثير، وقد أخبر صلى الله عليه وسلم «أن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار» كما صح بذلك الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة» وفي لفظ: قيل: من هي يا رسول الله؟ قال: «هي من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي»
(1)
.
فكل هذه الفرق تنتسب للإسلام، فما الفرقة الناجية؟
هي المستمسكة بالإسلام المحض الخالص، وفي هذا عَلَمٌ من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم فقد أخبر عن افتراقها، ووقع كما أخبر.
يقول الشيخ: «صار المتمسكون بالإسلام المحض» : الإسلام الخالص الذي لم يخلط بالبدع الاعتقادية أو العملية، فالمتمسكون بالإسلام المحض خالصًا عن الشوب، وعمّا وقعت فيه الفرق المنحرفة هم أهل الكتاب والسنة، هم الفرقة الناجية المنصورة، وهذه الفرقة أهلها درجات ليسوا على مرتبة واحدة، بل هم على مراتب كثيرة.
وطبقات الأولياء إجمالًا طبقتان
(2)
: مقربون، وأصحاب يمين، أو سابقون، ومقتصدون.
فالمقربون السابقون: هم الذين فعلوا الواجبات والمستحبات، وتركوا المحرمات والمكروهات، وفضول المباحات.
(1)
تقدم تخريجه في [ص 30].
(2)
الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان 11/ 176.
والمقتصدون: هم الذين أدَّوا الواجبات، واجتنبوا المحرمات.
فأهل السنة والجماعة مراتب فيهم: الصديقون، والشهداء، والصالحون، والصديقون هم أعلى طبقات الأولياء بعد الأنبياء، كما قال سبحانه:{وَمَنْ يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69)} [النساء].
والصديق هو: المبالغ في الصدق، أو هو: كثير الصدق والتصديق، والصديق المطلق في هذه الأمة هو أبو بكر رضي الله عنه، وصار هذا الوصف ملازمًا له، وعلمًا عليه، وإلا فالصديقية ليست مقصورة عليه.
«ومنهم أعلام الهدى» : يعني: فيهم الأئمة الذين يهتدى بهم، يشبهون بالأعلام، أي: الجبال، وعلامات الطريق التي يهتدى بها.
«ومصابيح الدجى» : التي يستضاء بها في حنادس الظلام.
ففي أهل السنة أئمة هداة يُهتدى بهم في علمهم وعملهم، على مراتب ففيهم: أئمة متبوعون، وعباد صالحون تابعون،
فالصحابة سبق الحديث عنهم، وأنهم مفضَّلون تفضيلًا مطلقًا على من بعدهم، والتابعون لهم بعد ذلك هم أهل السنة والجماعة، الذين لزموا الأصول المتقدمة، واقتفوا واتبعوا آثار السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، فهؤلاء على مراتب: التابعون، وتابعوهم، وتابعوهم إلى يوم القيامة.
يقول الشيخ: «وفيهم الأبدال» : وهذا اللفظ ورد في بعض الأحاديث
(1)
، ولكن ذكر شيخ الإسلام
(2)
وغيره: أنه لم يصح حديث الأبدال.
لكن
معنى الأبدال
(3)
صحيح واقع،
والمراد بالأبدال: العلماء العاملون والعُبَّاد الصالحون الذين يخلف بعضهم بعضًا، كلما مات عالم قام بدله، وكلما مات عابد خلفه من بعده، هؤلاء أبدال، وجاء في الحديث:«لا يزال الله سبحانه وتعالى يغرس في هذا الدين غرسًا يستعملهم في طاعته»
(4)
.
فالصالحون والأئمة لا يزالون، وإن كان في آخر الزمان يقل العلم ويثبت الجهل، و «الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من صدور الرجال وإنما يقبض العلم بقبض العلماء»
(5)
. ولكن هذا لا يعني أنه ينقطع وينصرم، وإن قل، فحجة الله قائمة على عباده إلى أن يأتي أمر الله تبارك وتعالى.
ولهذا نبَّه الشيخ إلى هذا المعنى بقوله: إن هذه الطائفة لا تزال كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم.
(1)
رواه أحمد 1/ 112 و 5/ 322، من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وانظر: المنار المنيف ص 136، وكشف الخفاء 1/ 24.
(2)
مجموع الفتاوى 11/ 167 و 433 و 441.
(3)
انظر: جامع المسائل 2/ 67.
(4)
رواه أحمد 4/ 200، وابن ماجه (8)، وابن حبان (326)، من حديث أبي عنبة الخولاني رضي الله عنه. وانظر: السلسلة الصحيحة (2442).
(5)
رواه البخاري (100)، ومسلم (2673)، من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
وعندي أن
مفهوم أهل السنة والجماعة أوسع من مفهوم الفرقة الناجية،
فالفرقة الناجية المنصورة، هم أهل السُّنة والجماعة، لكن في أهل السُّنة السابقون، والمقتصدون، وفيهم الظالم لنفسه، كما قال تعالى:{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِير (32)} [فاطر] لكن المتمسِّكون بالإسلام المحض علمًا وعملًا ظاهرًا وباطنًا، هم الفرقة الناجية المنصورة، التي أخبر بها الرسول صلى الله عليه وسلم، وأخبر أنها لا تزال في قوله:«لا تزال طائفة من أمتي على الحق»
(1)
لا تزال هذا يدل على الاستمرار، والمقصود جنس هذه الطائفة، وإلا فهي أجيال تنقرض، ويخلفهم آخرون.
«لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى تقوم الساعة» ، وفي لفظ:«حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى» .
والساعة هنا فُسِّرت بقبض أرواح المؤمنين في آخر الزمان عند قرب قيام القيامة الكبرى، فإنه تعالى يرسل ريحًا فتقبض أرواح المؤمنين، فتخلو الأرض من الخير، ولا يبقى في الأرض إلا شرار الخلق، وعليهم تقوم الساعة
(2)
.
فهذه الطائفة مستمرة إلى أن يأتي أمر الله تبارك وتعالى، ويأتي الأجل الذي قدَّره الله لبقاء هذا الدين، وبقاء حملته، فنسأله سبحانه وتعالى أن يجعلنا بمَنِّه وكرمه من هذه الطائفة، وأن يثبِّتنا على دينه، وأن يرزقنا الاستقامة
(1)
تقدم تخريجه في [ص 30].
(2)
رواه مسلم (1924)، من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
على الحق، وأن يجعلنا هداة مهتدين، غير ضالِّين ولا مضلِّين، ونسأله تعالى أن يعصمنا من مضلَّات الفتن، ما ظهر منها وما بطن، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين أولًا وآخرًا.
* * * *
مراجع التحقيق
(1)
• الأباطيل والمناكير: للجوزجاني، ت: عبد الرحمن الفريوائي، دار الصميعي.
• الإبانة عن أصول الديانة: للأشعري، ت: عبد الله محمود محمد عمر، دار الكتب العلمية.
• الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية: لابن بطة (الرد على الجهمية)، ت: يوسف الوابل، دار الراية.
• إثبات عذاب القبر: للبيهقي، ت: شرف محمود، دار الفرقان.
• الأثر المشهور عن الإمام مالك في صفة الاستواء: عبد الرزاق العباد، ضمن الجامع للبحوث والرسائل، دار كنوز، أشبيليا.
• اجتماع الجيوش الإسلامية: ابن القيم، ت: عواد المعتق، مكتبة الرشد.
• أجوبة الحفظ ابن حجر عن أحاديث المصابيح: ابن حجر، ضمن مشكاة المصابيح، ت: الألباني، المكتب الإسلامي.
• الأحاديث المختارة: للضياء المقدسي، عبد الملك بن دهيش، مكتبة النهضة.
• الأذكار: للنووي، ت: عبد القادر الأرناؤوط، دار الهدى.
(1)
هذه المصادر التي تمت الإحالة إليها فقط.
• الأربعون العشارية: للعراقي، ت: بدر البدر، دار ابن حزم.
• الاستقامة: لابن تيمية، ت: محمد رشاد سالم، دار الفضيلة.
• الأسماء والصفات: للبيهقي، ت: محمد زاهد الكوثري، المكتبة الأزهرية للتراث.
• أصول السنّة: لابن أبي زمنين، ت: عبد الله البخاري، مكتبة الغرباء الأثرية.
• أصول الفقه: لابن مفلح، ت: فهد السدحان، مكتبة العبيكان.
• أضواء البيان: محمد الأمين الشنقيطي، دار عالم الفوائد.
• الأعلام العلية في مناقب ابن تيمية: البزار، ت: زهير الشاويش، المكتب الإسلامي.
• إعلام الموقعين: لابن القيم، ت: محمد محيي الدين عبد الحميد، دار الفكر.
• الإمتاع بالأربعين المتباينة بشرط السماع: لابن حجر، ت: صلاح الدين مقبول أحمد، الدار السلفية.
• أهوال القبور: لابن رجب، دار الهجرة.
• أوضح المسالك: لابن هشام، ت: محمد محيي الدين عبد الحميد، المكتبة العصرية.
• البحر الزخار: للبزار، ت: محفوظ الرحمن زين الله، مكتبة العلوم والحكم.
• بدائع الفوائد: لابن القيم، ت: علي العمران، دار عالم الفوائد.
• البداية والنهاية: لابن كثير، ت: عبد الله التركي، دار هجر.
• بيان تلبيس الجهمية: لابن تيمية، ت: ابن قاسم، مؤسسة قرطبة.
• تاريخ الأمم والملوك: لابن جرير، دار الكتب العلمية.
• تاريخ دمشق: لابن عساكر، ت: عمر بن غرامة العمري، دار الفكر.
• التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة: القرطبي، ت: الصادق بن محمد، مكتبة دار المنهاج.
• تفسير القرآن العظيم: لابن كثير، ت: سامي السلامة، دار طيبة.
• تفسير القرآن العظيم: لابن أبي حاتم، ت: أسعد محمد الطيب، مكتبة نزار الباز.
• التمهيد: لابن عبد البر، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالمغرب
• التهجد وقيام الليل: لابن أبي الدنيا، ت: مصلح الحارثي، مكتبة الرشد.
• تهذيب الآثار: لابن جرير، ت: محمود شاكر، مكتبة الخانجي.
• تهذيب سنن أبي داود: لابن القيم، ت: محمد الفقي، دار المعرفة.
• تهذيب الكمال: للمزي، ت: بشار عواد، مؤسسة الرسالة.
• تهذيب اللغة: الأزهري، ت: عبد السلام هارون وآخرين، الدار المصرية للتأليف والترجمة.
• التوحيد: لابن خزيمة، ت: محمد خليل هراس، دار الكتب العلمية.
• التيسير في القراءات السبع: لأبي عمرو الداني، ت: أوتو يرتزل، دار الكتاب العربي.
• جامع البيان: للطبري، دار الفكر.
• جامع العلوم والحكم: لابن رجب، ت: طارق بن عوض الله، دار ابن الجوزي.
• الجامع الكبير: للترمذي، ت: بشار عواد، دار الغرب الإسلامي.
• الجامع لأحكام القرآن: للقرطبي، دار الكتب العلمية.
• الجامع لسيرة شيخ الإسلام ابن تيمية خلال سبعة قرون: جمع محمد عزير شمس، وعلي العمران، دار عالم الفوائد.
• جامع المسائل: لابن تيمية، ت: محمد عزير شمس، دار عالم الفوائد.
• جلاء الأفهام: لابن القيم، ت: زائد النشيري، دار عالم الفوائد.
• الجنى الداني في حروف المعاني: للمرادي، ت: فخر الدين قباوة ومحمد نديم، دار الكتب العلمية.
• جواب أهل العلم والإيمان: لابن تيمية، ضمن مجموع الفتاوى المجلد 17، ت: ابن قاسم، دار عالم الكتب.
• حادي الأرواح: لابن القيم، ت: زائد النشيري، دار عالم الفوائد.
• حلية الأولياء: لأبي نعيم الأصفهاني، مطبعة السعادة.
• خلق أفعال العباد: للبخاري، ت: محمد السعيد بسيوني، مكتبة التراث الإسلامي.
• درء تعارض العقل والنقل: لابن تيمية، ت: محمد رشاد سالم، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
• الدر المنثور: للسيوطي، دار الفكر.
• ديوان الأخطل: ت: عبد الرحمن المصطاوي، دار المعرفة.
• ذكر محنة الإمام أحمد: حنبل بن إسحاق، ت: د. محمد نغش، مطبعة سعدى وشندى.
• الذكر والدعاء والعلاج بالرقى من الكتاب والسنّة: د. سعيد القحطاني، خرّج أحاديثه ياسر بن فتحي، مؤسسة الجريسي.
• ذم التأويل: لابن قدامة، ت: بدر البدر، الدار السلفية.
• رؤية الله: للدارقطني، ت: مبروك إسماعيل، مكتبة القرآن.
• الرد على الجهمية والزنادقة: للإمام أحمد، صبري بن سلامة شاهين، دار الثبات.
• الروح: لابن القيم، ت: السيد الجميلي، دار الكتاب العربي.
• روضة المحبين: لابن القيم، ت: عبد الرزاق المهدي، دار الصميعي.
• زاد المعاد: لابن القيم، ت: شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة.
• سراج القارئ المبتدئ وتذكار القارئ المنتهي: لأبي القاسم ابن القاصح العذري، مطبعة مصطفى البابي الحلبي.
• السلسلة الصحيحة: للألباني، مكتبة المعارف.
• السلسلة الضعيفة: للألباني، مكتبة المعارف.
• السنّة: لابن أبي عاصم، ت: الألباني، المكتب الإسلامي.
• السنّة: لأبي بكر الخلال، ت: عطية الزهراني، دار الراية.
• السنّة: لعبد الله بن أحمد، ت: محمد القحطاني، رمادي للنشر.
• سنن ابن ماجه: ت: بشار عواد معروف، دار الجيل.
• سنن أبي داود: دار ابن حزم.
• سنن الدارقطني: ت: شعيب الأرنؤوط وجماعة، مؤسسة الرسالة.
• سنن الدارمي: ت: مصطفى البغا، دار القلم.
• السنن الكبرى: للبيهقي، دائرة المعارف العثمانية، تصوير دار المعرفة.
• سنن النسائي: ت: مكتبة تحقيق التراث الإسلامي، دار المعرفة.
• السنن والأحكام عن المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام: الضياء المقدسي، ت: حسين عكاشة، دار ماجد عسيري.
• سير أعلام النبلاء: للذهبي، ت: شعيب الأرنؤوط وجماعة، مؤسسة الرسالة.
• شرح أصول اعتقاد أهل السنّة والجماعة: للالكائي، ت: أحمد سعد حمدان، دار طيبة.
• شرح حديث النزول: لابن تيمية، ت: محمد الخميس، دار العاصمة.
• شرح الرسالة التدمرية: عبد الرحمن البراك، ت: سليمان الغصن، كنوز أشبيليا.
• شرح العقيدة الطحاوية: لابن أبي العز، ت: عبد الله التركي وشعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة.
• شرح الكوكب المنير: لابن النجار، ت: محمد الزحيلي ونزيه حماد، جامعة أم القرى.
• شفاء العليل: لابن القيم، ت: السيد محمد النعساني، دار الفكر.
• صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان: ت: شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة.
• صحيح ابن خزيمة: ت: محمد الأعظمي، المكتب الإسلامي.
• صحيح البخاري: عناية: محمد زهير الناصر، دار طوق النجاة.
• صحيح مسلم: ت: محمد فؤاد عبد الباقي، دار الصميعي.
• الصواعق المرسلة: لابن القيم، ت: علي الدخيل الله، دار العاصمة.
• الضعفاء الكبير: للعقيلي، ت: عبد المعطي قلعجي، دار الكتب العلمية.
• العجاب في معرفة الأسباب: لابن حجر، ت: عبد الحكيم الأنيس، دار ابن الجوزي.
• العقود الدرية في مناقب شيخ الإسلام أحمد ابن تيمية: ابن عبد الهادي، مكتبة المؤيد.
• عقيدة السلف أصحاب الحديث: للصابوني، ت: بدر البدر، مكتبة البدر الأثرية.
• العقيدة الطحاوية: دار الصميعي.
• العلل: لابن أبي حاتم، ت: فريق من الباحثين بإشراف وعناية سعد الحميد، وخالد الجريسي.
• العلل الواردة في الحديث النبوي: للدارقطني، ت: محفوظ الرحمن زين الله، دار طيبة.
• العلو للعلي الغفار: للذهبي، ت: عبد الله البراك، دار الوطن.
• عمل اليوم والليلة: للنسائي، ت: فاروق حمادة، مؤسسة الرسالة.
• الفتاوى والدروس في المسجد الحرام: عبد الله بن حميد، ت: إبراهيم الحمدان، دار المنهاج، ط: الأولى.
• فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم: جمع: محمد بن قاسم، مطبعة الحكومة.
• فتح الباري: لابن حجر، ت: ابن باز، المطبعة السلفية، ط. الأولى.
• فتح المغيث: للسخاوي، ت: عبد الكريم الخضير ومحمد الفهيد، مكتبة المنهاج.
• الفتوى الحموية الكبرى: لابن تيمية، ت: حمد التويجري، دار الصميعي.
• الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان: لابن تيمية، ضمن مجموع الفتاوى المجلد 11، ت: ابن قاسم، دار عالم الكتب.
• فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم: لإسماعيل القاضي، ت: الألباني، المكتب الإسلامي.
• الفوائد المجموعة: الشوكاني، ت: المعلمي، مطبعة السنّة المحمدية.
• قطف الأزهار المتناثرة في الأخبار المتواترة: للسيوطي، ت: خليل الميس، المكتب الإسلامي.
• الكافية الشافية: لابن القيم، ت: عبد الله العمير، دار ابن خزيمة.
• الكامل في ضعفاء الرجال: لابن عدي، ت: عادل عبد الموجود، وعلي معوض، دار الكتب العلمية.
• كشف الخفاء ومزيل الإلباس: العجلوني، ت: أحمد القلاش، مؤسسة الرسالة.
• الكواكب الدرية في مناقب المجتهد ابن تيمية: مرعي الكرمي، ت: نجم عبد الرحمن خلف، دار الغرب الإسلامي.
• لباب النقول في أسباب النزول: للسيوطي، ت: أحمد عبد الشافي، دار الكتب العلمية.
• لسان العرب: لابن منظور، دار صادر.
• لمحات الأنوار ونفحات الأزهار: للغافقي، ت: رفعت فوزي عبد المطلب، دار البشائر الإسلامية.
• لمعة الاعتقاد: لابن قدامة، ت: قسم البحوث والنشر، دار نداء الإسلام.
• المجروحين: لابن حبان، ت: محمود زايد، دار المعرفة.
• مجموع الفتاوى: لشيخ الإسلام ابن تيمية، ت: عبد الرحمن بن قاسم وابنه محمد، دار عالم الكتب.
• المحرر الوجيز: ابن عطية، ت: الرحالة الفاروق وجماعة، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، في دولة قطر، ط: الثانية.
• مختصر الصواعق المرسلة: لابن الموصلي، ت: الحسن العلوي، دار أضواء السلف.
• مدارج السالكين: لابن القيم، ت: محمد المعتصم بالله البغدادي، دار الكتاب العربي.
• المستدرك على الصحيحين: للحاكم، ت: جماعة من العلماء، دار المعارف النظامية في حيدرآباد، الدكن.
• مسند الإمام أحمد: ت: شعيب الأرنؤوط وجماعة، مؤسسة الرسالة.
• مسند الشاميين: للطبراني، ت: حمدي السلفي، مؤسسة الرسالة.
• المصنف: ابن أبي شيبة، ت: محمد عوامة، شركة دار القبلة.
• المصنف: عبد الرزاق الصنعاني، ت: حبيب الرحمن الأعظمي، المكتب الإسلامي.
• المعجم الأوسط: للطبراني، ت: طارق بن عوض الله وعبد المحسن الحسيني، دار الحرمين.
• معجم البلدان: ياقوت الحموي، دار صادر.
• معجم الشيوخ: الذهبي، ت: محمد الهيلة، مكتبة الصديق.
• المعجم الكبير: للطبراني، ت: حمدي السلفي، دار إحياء التراث الإسلامي.
• المعلم بفوائد مسلم: للمازري، ت: محمد الشاذلي النيفر، دار الغرب.
• المغني: لابن قدامة، ت: عبد الله التركي وعبد الفتاح الحلو، دار هجر.
• مقالات الإسلاميين: ت: هلموت ريتر، دار النشر فرانز شتاينر.
• الملل والنحل: الشهرستاني، ت: أبو عبد الله السعيد المندوه، مؤسسة الكتب الثقافية.
• المنار المنيف: لابن القيم، ت: عبد الفتاح أبو غدة، مكتب المطبوعات العربية بحلب.
• مناظرة الواسطية: لابن تيمية، ضمن مجموع الفتاوى المجلد 3، ت: ابن قاسم، دار عالم الكتب.
• مناقب الإمام أحمد: لابن الجوزي، ت: عبد الله التركي، دار هجر.
• المناهل السلسلة في الأحاديث المسلسلة: محمد عبد الباقي الأيوبي، دار الكتب العلمية.
• منهاج السنّة النبوية: لابن تيمية، ت: محمد رشاد سالم، دار الكتاب الإسلامي.
• المنهج في التعامل مع روايات ما شجر بين الصحابة: محمد أبا الخيل.
• المهذب في اختصار السنن الكبير: للذهبي، بإشراف أبي تميم ياسر بن إبراهيم، دار الوطن.
• الموضوعات: ابن الجوزي، ت: نور الدين بن شكري، أضواء السلف.
• ميزان الاعتدال في نقد الرجال: للذهبي، ت: على البجاوي، دار المعرفة.
• نتائج الأفكار في تخريج الأذكار: لابن حجر، ت: حمدي السلفي، دار ابن كثير.
• النبوات: ابن تيمية، ت: عبد العزيز الطويان، أضواء السلف.
• النزول: للدارقطني، ت: علي بن محمد الفقيهي.
• النشر في القراءات العشر: لابن الجزري، ت: علي محمد الضباع، المكتبة التجارية الكبرى.
• نظم المتناثر من الحديث المتواتر: لمحمد بن جعفر الكتاني، دار الكتب العلمية.
• نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار: للشوكاني، مطبعة مصطفى البابي الحلبي.
• وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة: الحر العاملي، ت: عبد الرحمن الشيرازي، دار إحياء التراث العربي.
* * * *