الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ للهِ، نحمدهُ ونستعينهُ ونستغفرهُ ونتوبُ إليهِ، ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسِنا وسيئاتِ أعمالِنا، من يهدِ اللهُ فلا مضلَّ لهُ، ومن يضلِلْ فلا هاديَ لهُ، وأشهدُ أنَّ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولهُ صلى الله عليه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعدُ، فقدْ كنتُ كتبتُ كتابًا في تفسيرِ القرآنِ مبسوطًا مطولًا، يمنعُ القُرَّاءَ من الاستمرارِ بقراءتهِ، ويفترُ العزمُ عن نشرهِ، فأشارَ عليَّ بعضُ العارفينَ الناصحينَ أنْ أكتبَ كتابًا غيرَ مطولٍ، يحتوِي على خلاصةِ ذلكَ التفسيرِ، ونقتصرُ فيه على الكلامِ على بعضِ الآياتِ التي نختارُها وننتقِيها من جميعِ مواضيعِ علومِ القرآنِ ومقاصدهِ، فاستعنتُ اللهَ على العملِ على هذا الرأيِ الميمونِ؛ لأمورٍ كثيرةٍ:
* منها: أنهُ بذلكَ يكونُ متيسرًا على المشتغلينَ، معينًا للقارئينَ.
* ومنها: أنَّ القرآنَ العظيمَ ليسَ كغيرهِ من الكتبِ في الترتيبِ والتبويبِ؛ لأنهُ بلغَ في البلاغةِ نهايتَها، وفي الحسنِ غايتَهُ، وفي الأسلوبِ البديعِ والتأثيرِ العجيبِ ما هوَ [من]
(1)
أكبرِ الأدلةِ على أنهُ كلامُ اللهِ، وتنزيلٌ من حكيمٍ حميدٍ؛ فتجدهُ في آيةٍ واحدةٍ يجمعُ بينَ الوسائلِ والمقاصدِ، وبينَ الدليلِ والمدلولِ، وبينَ الترغيبِ والترهيبِ، وبينَ العلومِ الأصوليةِ والفروعيةِ، وبينَ
(1)
زيادة من (خ).
العلومِ الدينيةِ والدنيويةِ والأخرويةِ، وبينَ الأغراضِ المتعددةِ والمقاصدِ النافعةِ، ويعيدُ المعانيَ النافعةَ على العبادِ؛ ليتمَّ علمُهم، وتكملَ هدايتُهم، ويستقيمَ سيرُهم على الصراطِ المستقيمِ علمًا وعملًا.
* فالوقوفُ على تفسيرِ بعضِ القرآنِ يعينُ أعظمَ عونٍ على معرفةِ باقيهِ.
* واللهُ جعلَهُ مثانيَ تُثَنَّى فيه العلومُ النافعةُ، والمعاني الجليلةُ الكاملةُ، وهذا من تيسيرهِ تعالى لكتابهِ، قال تعالى:{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17)} [القمر: 17].
* ومما يدعو إلى هذا: ما تحتوي عليهِ هذهِ المقدمةُ المذكورةُ بقولِنا:
مقدمة في ذكر أوصاف القرآن العامة الجامعة
قدْ وصفَ اللهُ كتابَهُ بأوصافٍ جليلةٍ عظيمةٍ، تنطبقُ على جميعهِ، وتدلُّ أكبرَ دلالةٍ على أنهُ الأصلُ والأساسُ لجميعِ العلومِ النافعةِ والفنونِ المرشدةِ لخيرِ الدنيا والآخرةِ:
* وصفَهُ بالهدَى، والرشدِ، والفرقانِ، وأنهُ مبينٌ وتبيانٌ لكلِّ شيءٍ:
* فهوَ في نفسهِ هدًى، ويهدِي الخلقَ لجميعِ ما يحتاجونَهُ من أمورِ دينِهم ودنياهم.
* ويرشدُهُم إلى كلِّ طريقٍ نافعٍ.
* ويفرِّقُ لهم بينَ الحقِّ والباطلِ، والهدَى والضلالِ، وبينَ أهلِ السعادةِ والشقاوةِ؛ بذكرِ أوصافِ الفريقينِ.
* وفيهِ بيانُ الأصولِ والفروعِ؛ بذكرِ أدلتِها النقليةِ والعقليةِ.
فوصفَهُ بهذهِ الأوصافِ المطلقةِ العامةِ التي لا يشذُّ عنها شيءٌ في آياتٍ كثيرةٍ.
وقيَّدَ هدايتَهُ في بعضِ الآياتِ بعدةِ قيودٍ: قيَّدَ هدايتَهُ بأنهُ هدًى للمؤمنينَ المتقينَ، لقومٍ يعقلونَ، ويتفكرونَ، ولمن قصدُهُ الحقُّ. وهذا بيانٌ منهُ تعالى لشرط هدايتهِ: وهوَ أنَّ المحلَّ لابدَّ أنْ يكونَ قابلًا وعاملًا، فلابدَّ لهدايتهِ من عقلٍ وتفكيرٍ وتدبرٍ لآياتِهِ؛ فالمعرِضُ الذي لا يتفكرُ ولا يتدبرُ آياتِهِ لا ينتفعُ بهِ، ومَن ليسَ قصدُهُ الحقَّ ولا غرضَ لهُ في الرشادِ، بلْ قصدهُ فاسدٌ، وقدْ وطَّنَ نفسَهُ على مقاومتهِ ومعارضتهِ؛ ليسَ لهُ من هدايتهِ نصيبٌ. فالأولُ حُرِمَ هدايتَهُ لفقدِ الشرطِ، والثاني لوجودِ المانعِ.
فأمَّا مَنْ أقبلَ عليهِ، وتفكرَ في معانيهِ وتدبرَها بحسنِ فهمٍ، وحسنِ قصدٍ، وسلمَ من الهوَى؛ فإنهُ يهتدي بهِ إلى كلِّ مطلوبٍ، وينالُ بهِ كلَّ غايةٍ جليلةٍ ومرغوبٍ.
* ووصفَهُ بأنهُ رحمةٌ، وهيَ: الخيرُ الدينيُّ والدنيويُّ والأخرويُّ المترتبُ على الاهتداءِ بالقرآنِ، فكلُّ مَنْ كانَ أعظمَ اهتداءً بهِ فلهُ من الرحمةِ والخيرِ والسعادةِ والفلاحِ بحسبِ ذلكَ.
* ووصفَهُ بأنهُ نورٌ؛ وذلكَ لبيانهِ وتوضيحهِ العلومَ النافعةَ والمعانيَ الكاملةَ، وأنَّ بهِ يخرجُ العبدُ من جميعِ الظلماتِ: ظلماتِ الجهلِ والكفرِ والمعاصِي والشقاءِ، إلى نورِ العلمِ واليقينِ والإيمانِ والطاعةِ والرشادِ المتنوعِ.
* ووصفَهُ بأنهُ شفاءٌ لما في الصدورِ، وذلكَ يشملُ جميعَ أمراضِ القلوبِ، فهوَ يوضحُ أمراضَ القلوبِ ويشخصُها، ويرشدُ العبادَ إلى كلِّ وسيلةٍ يحصلُ بها زوالُها وشفاؤُها، فيذكرُ لهم أمراضَ الجهلِ والشكوكِ والحيرةِ، وأسبابَ ذلكَ، ويرشدُهم إلى قلعِها بالعلومِ النافعةِ، واليقينِ الصادقِ، وسلوكِ الطرقِ الصحيحةِ المزيلةِ لهذهِ العللِ، ويذكرُ لهم أمراضَ الشهواتِ والغيِّ، ويبينُ لهم أسبابَها وعلاماتِها وآثارَها الضارةَ، ويذكرُ لهم ما بهِ تُعالَجُ من المواعظِ [والتذكيرِ]
(1)
والترغيبِ والترهيبِ، والمقابلةِ بينَ الأمورِ، وترجيحِ ما ترجحَتْ مصلحتُهُ العاجلةُ والآجلةُ.
(1)
في (ط): والتذكر.
* ووصفَهُ بأنهُ كلَّهُ محكمٌ، وكلَّهُ متشابِهٌ في الحسنِ، وبعضَهُ متشابهٌ من وجهٍ، محكمٌ من وجهٍ آخرَ.
* فأمَّا وصفُهُ في عدةِ آياتٍ أنهُ كلَّهُ محكمٌ: فلبلاغتهِ وبيانهِ التامِّ، واشتمالهِ على غايةِ الحكمةِ في تنزيلِ الأمورِ منازلَها، ووضعِها مواضعَها، وأنهُ متفقٌ غيرُ مختلفٍ، ليسَ فيه اختلافٌ ولا تناقضٌ بوجهٍ من الوجوهِ.
* وأمَّا حُسْنُهُ فلِمَا فيه من البيانِ التامِّ لجميعِ الحقائقِ، ولأنهُ بيَّنَ أحسنَ المعاني النافعةِ في العقائدِ والأخلاقِ والآدابِ والأعمالِ، فهيَ في غايةِ الحسنِ لفظًا ومعنًى، وآثارُها أحسنُ الآثارِ. وكلُّ هذهِ المعاني المثناةِ في القرآنِ يشهدُ بعضُها لبعضٍ في الحسنِ والكمالِ، ويصدِّقُ بعضُها بعضًا.
* وأمَّا وصفُهُ بأنَّ: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: 7]: فالمتشابهاتُ: هيَ التي يقعُ الإشكالُ في دلالتِها لسببٍ من الأسبابِ اللفظيةِ والعباراتِ المركبةِ، فأَمَرَ اللهُ بردِّها إلى المحكماتِ الواضحةِ بينةِ المعاني، التي هيَ نصٌّ في المرادِ؛ فإذا رُدَّتِ المتشابهاتُ إلى المحكماتِ صارَتْ كلُّها محكماتٍ، وزالَ الشكُّ والإشكالُ، وحصلَ البيانُ للهدَى من الضلالِ.
* ووصَفَهُ بأنهُ كلَّهُ صلاحٌ، ويهدِي إلى الإصلاحِ، وإلى أقومِ الأمورِ وأرشدِها وأنفعِها في كلِّ شيءٍ من دونِ استثناءٍ. وهذا الوصفُ المحيطُ لا يخرجُ عنهُ شيءٌ: فهوَ إصلاحٌ للعقائدِ والقلوبِ، وللأخلاقِ والأعمالِ، ويهدي إلى كلِّ صلاحٍ دينيٍّ ودنيويٍّ، بحيثُ تقومُ بهِ الأمورُ، وتعتدلُ بهِ الأحوالُ، ويحصلُ بهِ الكمالُ المتنوعُ من كلِّ وجهٍ، بالإرشادِ إلى كلِّ وسيلةٍ نافعةٍ تؤدِّي إلى المقاصدِ والغاياتِ المطلوبةِ.
فلا سبيلَ إلى الهدايةِ والصلاحِ والإصلاحِ لجميعِ الأمورِ إلا بسلوكِ الطرقِ التي أرشدَ إليها القرآنُ، وحثَّ العبادَ عليها.
فمتى عرَفتَ أنَّ القرآنَ العظيمَ موصوفٌ كلُّهُ بهذهِ الأوصافِ التي هيَ أعلى الأوصافِ وأكملُها وأتمُّها وأنفعُها للعبادِ، وأنهُ أُعيدَتْ فيه هذهِ المعاني الجليلةُ، ومُزجَتْ فيه مزجًا عجيبًا غريبًا في كمالهِ وحسنهِ؛ فهمتَ أنَّ طالبَ العلمِ إذا وقفَ على تفسيرِ بعضِ الآياتِ تدرَّبَ بها وتوسَّلَ بها إلى معرفةِ بقيةِ الآياتِ.
لهذه الأسبابِ وغيرِها رأَيْنا أنَّ المصلحةَ تدعُو إلى الاقتصارِ على خلاصةِ ذلك التفسيرِ، راجينَ مِنْ الربِّ أنْ يتمَّ نعمتَهُ، وأنْ يحصلَ به المقصودُ.
ورأَيْنا أنَّ الأحسنَ أنْ نذكرَ كلَّ موضوعٍ على حدتهِ؛ لما فيه من التقريبِ والسهولةِ وجمعِ المعاني التي من فنٍّ واحدٍ في موضعٍ واحدٍ، معَ أنهُ -كما تقدَّمَ- لابدَّ أنْ يدخلَ في آياتِ الأصولِ كثيرٌ من الفروعِ، وفي آياتِ الفروعِ كثيرٌ من الأصولِ، ويدخلَ فيها من الترغيبِ والترهيبِ والقصصِ شيءٌ كثيرٌ؛ وهذا المزجُ العجيبُ من كمالِ القرآنِ وعظمِ تأثيرهِ؛ فإنهُ كتابُ تعليمٍ يزيلُ الجهالاتِ المتنوعةَ، وكتابُ تربيةٍ يقوِّمُ الأخلاقَ والأعمالَ، فهوَ يعلِّمُ ويقوِّمُ ويهذِّبُ ويؤدِّبُ بأعلى ما يكونُ من الطرقِ التي لا يمكنُ الحكماءُ والعقلاءُ أنْ يقترحُوا مثلَها، ولا ما يقاربُها.
علوم التوحيد والعقائد والأصول
1 -
* أي: أبتدِئُ بكلِّ اسمٍ للهِ تعالى؛ لأنَّ لفظَ (اسم) مفردٌ مضافٌ، فيعمُّ جميعَ أسماءِ اللهِ الحسنى، فيكونُ العبدُ مستعينًا بربهِ، وبكلِّ اسم من أسمائهِ على ما يناسبُهُ من المطالبِ، وأجلِّ
(1)
ما يستعانُ بهِ على عبادةِ اللهِ؛ وأجلُّ ذلكَ الاستعانةُ على قراءةِ كلامِ اللهِ، وتفهمِ معانيهِ، والاهتداءِ بهديهِ.
* {اللَّهِ} : هوَ المألوهُ المستحِقُّ لإفرادهِ بالمحبةِ والخوفِ والرجاءِ وأنواعِ العبادةِ كلِّها؛ لما اتصفَ بهِ من صفاتِ الكمالِ وهيَ التي تدعُو الخلقَ إلى عبادتِهِ
(2)
والتألُّهِ لهُ.
* {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} : اسمانِ دالانِ على أنهُ تعالى ذو الرحمةِ الواسعةِ العظيمةِ التي وسعَتْ كلَّ شيءٍ، وعمَّتْ كلَّ مخلوقٍ.
وكتبَ الرحمةَ الكاملةَ للمتقينَ المتبعينَ لأنبيائهِ ورسلهِ، فهؤلاءِ لهم الرحمةُ المطلقةُ المتصلةُ بالسعادةِ الأبديةِ، ومَن عداهم محرومٌ من هذهِ الرحمةِ الكاملةِ؛ لأنهُ الذي دفعَ هذهِ الرحمةَ وأباها بتكذيبهِ للخبرِ وتوليهِ عن الأمرِ؛ فلا يلومَنَّ إلا نفسَهُ.
(1)
أي: فيكون العبد مستعينًا بربه وبأجلِّ ما يستعان به على عبادة الله.
(2)
في (خ): عبوديته.
واعلَمْ أنَّ من القواعدِ المتفقِ عليها بينَ سلفِ الأمةِ وأئمتِها ما دلَّ عليهِ الكتابُ والسنةُ من الإيمانِ بأسماءِ اللهِ كلِّها، وصفاتهِ جميعِها، وبأحكامِ تلكَ الصفاتِ، فيؤمنونَ -مثلًا- بأنهُ رحمنٌ رحيمٌ: ذو الرحمةِ العظيمةِ التي اتصفَ بها، المتعلقةِ بالمرحومِ، فالنعمُ كلُّها من آثارِ رحمتهِ.
وهكذا يُقالُ في سائرِ الأسماءِ الحسنى، فيقالُ:
* عليمٌ: ذو علمٍ عظيمٍ، يعلَمُ بهِ كلَّ شيءٍ.
* قديرٌ: ذو قدرةٍ، يقدرُ على كلِّ شيءٍ.
فإنَ اللهَ قدْ أثبتَ لنفسهِ الأسماءَ الحسنى والصفاتِ العليا، وأحكامَ تلكَ الصفاتِ، فمَن أثبتَ شيئًا منها ونفى الآخرَ كانَ -معَ مخالفتهِ للنقلِ والعقلِ- متناقضًا مُبطلًا.
* {الْحَمْدُ لِلَّهِ} : الحمدُ: هوَ الثناءُ على اللهِ بصفاتِ الكمالِ، وبأفعالهِ الدائرةِ بينَ الفضلِ والعدلِ، المشتملةِ على الحكمةِ التامةِ. ولابدَّ في تمامِ حمدِ الحامدِ من اقترانِ محبةِ الحامدِ لربهِ وخضوعهِ لهُ؛ فالثناءُ المجردُ من محبةٍ وخضوعٍ ليسَ حمدًا كاملًا.
* {رَبِّ الْعَالَمِينَ} : الربُّ: هوَ المربِّي جميعَ العالمينَ بكلِّ أنواعِ التربيةِ:
* فهوَ الذي خلقَهم ورزقَهم وأنعمَ عليهم بالنعمِ الظاهرةِ والباطنةِ، وهذهِ التربيةُ العامةُ لجميعِ الخلقِ: بَرِّهم وفاجرِهم، بل المكلَّفونَ منهم وغيرُهم.
* وأمَّا التربيةُ الخاصةُ لأنبيائهِ وأوليائهِ فإنهُ -معَ ذلكَ- يربِّي إيمانَهم؛ فيكمِّلُهُ لهم، ويدفعُ عنهم الصوارفَ والعوائقَ التي تحولُ بينَهم وبينَ صلاحِهم وسعادتِهم الأبديةِ، وتيسيرهم لليسرَى، وحفظهم من جميعِ المكارهِ.
وكما دلَّ ذلكَ على انفرادِ الربِّ بالخلقِ والتدبيرِ والهدايةِ وكمالِ الغنى فإنهُ يدلُّ على تمامِ فقرِ العالمينَ إليهِ بكلِّ وجهٍ واعتبارٍ، فيسألُهُ مَنْ في السمواتِ والأرضِ بلسانِ المقالِ والحالِ جميعَ حاجاتِهم، ويفزعونَ إليهِ في مهماتِهم.
* {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} : (المالك): هوَ مَنْ اتصفَ بالصفاتِ العظيمةِ الكاملةِ التي يتحققُ بها المُلْكُ، التي مِنْ آثارِها أنهُ يأمرُ وينهَى، ويثيبُ ويعاقبُ، ويتصرفُ في العالمِ العلويِّ والسفليِّ التصرفَ التامَّ المطلقَ بالأحكامِ القدريةِ، والأحكامِ الشرعيةِ، وأحكامِ الجزاءِ؛ فلهذا أضافَ ملكَهُ ل (يوم الدين) معَ أنهُ المالكُ المطلقُ في الدنيا والآخرةِ؛ فإنهُ يوم القيامةِ الذي يدينُ اللهُ فيه العبادَ بأعمالِهم خيرِها وشرِّها، ويرتبُ عليها جزاءَها، وتشاهدُ الخليقةُ من آثارِ ملكهِ وعظمتهِ وسعتهِ، وخضوعِ الخلائقِ كلِّهم لعظمتهِ وكبريائهِ، واستواءِ الخلقِ في ذلكَ اليومِ على اختلافِ طبقاتِهم، في نفوذِ أحكامِهِ عليهم
(1)
؛ ما يعرفونَ بهِ كمالَ ملكهِ، وعظمةَ سلطانهِ.
* {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} : أي: نخصُّكُ -يا ربَّنا- وحدَكَ بالعبادةِ والاستعانةِ، فلا نعبدُ غيرَكَ، ولا نستعينُ بسواكَ:
* فالعبادةُ: اسمٌ جامعٌ لكلِّ ما يحبهُ اللهُ ويرضاهُ من الأعمالِ والأقوالِ، الظاهرةِ والباطنةِ، فهيَ القيامُ بعقائدِ الإيمانِ وأخلاقهِ وأعمالهِ؛ محبةً للهِ، وخضوعًا لهُ.
* والاستعانةُ: هيَ الاعتمادُ على اللهِ في جلبِ المنافعِ ودفعِ المضارِّ، معَ الثقةِ بهِ في حصولِ ذلكَ.
(1)
قوله: «في نفوذ أحكامه عليهم» : ليست في (خ).
وهذا التزامٌ من العبدِ بعبوديةِ ربهِ، وطلبٌ من ربهِ أنْ يعينَهُ على القيام بذلكَ، وبذلكَ يتوسلُ إلى السعادةِ الأبديةِ، والنجاةِ من جميعِ الشرورِ، فلا سبيلَ لذلكَ إلَّا بالقيامِ بعبادةِ اللهِ والاستعانةِ بهِ؛ وعُلِمَ بذلكَ شدةُ افتقارِ العبدِ لعبادةِ اللهِ والاستعانةِ بهِ.
* {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} : أي: دُلَّنا وأَرْشِدْنا ووفِّقْنا للعلمِ بالحقِّ والعملِ بهِ، الذي هوَ الصراطُ المستقيمُ المعتدلُ، الموصلُ إلى اللهِ وإلى جنتهِ وكرامتهِ، وهذا يشملُ:
* الهدايةَ إلى الصراطِ، وهيَ: التوفيقُ للزومِ دينِ الإسلامِ، وتركِ ما سواهُ من الأديانِ الباطلةِ.
* ويشملُ الهدايةَ في الصراطِ وقتَ سلوكهِ علمًا وعملًا.
فهذا الدعاءُ من أجمعِ الأدعيةِ وأنفعِها للعبدِ؛ ولهذا أوجبَهُ اللهُ ويسرَهُ.
* وهذا الصراطُ هو طريق و {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} بالنعمةِ التامةِ المتصلةِ بالسعادةِ الأبديةِ، وهم الأنبياءُ والصديقونَ والشهداءُ والصالحونَ.
* {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} : وهم الذينَ عرفُوا الحقَّ وتركُوهُ، كاليهودِ ونحوِهم.
* {وَلَا الضَّالِّينَ} : الذينَ ضلُّوا عن الحقِّ، كالنصارَى ونحوِهم.
* فهذهِ السورةُ على إيجازِها قدْ جمعَتْ علومًا جمَّةً:
* تضمنَتْ أنواعَ التوحيدِ الثلاثةَ:
• توحيد الربوبيةِ: يُؤخَذُ من قولهِ: {رَبِّ الْعَالَمِينَ} .
• وتوحيد الإلهيةِ: من قولهِ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ، فهوَ المألوهُ بعبادتهِ والاستعانةِ بهِ.
• وتوحيد الأسماءِ والصفاتِ: بأنْ يُثبَتَ للهِ صفاتُ الكمالِ كلُّها التي أثبتَها لنفسهِ، وأثبتَها لهُ رسولُهُ صلى الله عليه وسلم؛ وقدْ دلَّ على ذلكَ إثباتُ الحمدِ للهِ؛ فإنَ الأسماءَ الحسنى والصفاتِ العليا وأحكامَها كلَّها محامدُ ومدائحُ للهِ تعالى.
* وتضمنَتْ إثباتَ الرسالةِ في قولهِ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} ؛ لأنهُ الطريقُ الذي عليهِ النبيُّ صلى الله عليه وسلم، وذلكَ فرعٌ عن الإيمانِ بنبوتهِ ورسالتهِ.
* وتضمنَتْ إثباتَ الجزاءِ، وأنهُ بالعدلِ، وذلكَ مأخوذٌ من قولهِ:{مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} .
* وتضمنَتْ إثباتَ مذهبِ أهلِ السنةِ والجماعةِ في القَدَرِ، وأنَ جميعَ الأشياءِ بقضاءِ اللهِ وقدرهِ، وأنَ العبدَ فاعلٌ حقيقةً، ليسَ مجبورًا على أفعالهِ، وهذا يُفهَمُ من قولهِ:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ؛ فلولا أنَّ مشيئةَ العبدِ مضطرُّ فيها إلى إعانةِ ربهِ وتوفيقهِ لم يسألِ الاستعانةَ.
* وتضمنَتْ أصلَ الخيرِ ومادتَهُ، وهوَ الإخلاصُ الكاملُ للهِ في قولِ العبدِ:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} .
* ولما كانت هذهِ السورةُ بهذهِ العظمةِ والجلالةِ أوجبَها الشارعُ على المكلفينَ في كلِّ ركعةٍ من صلاتِهم فرضًا ونفلًا.
* وفيها تعليمٌ مِنْ اللهِ لعبادهِ كيفَ يحمدونَهُ ويثنونَ عليهِ، ويمجدونَهُ بمحامدِهِ، ثم يسألونَ ربَّهم جميعَ مطالبِهم.
* ففيها دليلٌ على افتقارِهم إلى ربِّهم في الأمرينِ:
* مفتقرينَ إليهِ في أنْ يملأَ قلوبَهم من محبتهِ ومعرفتهِ.
* ومفتقرينِ إليهِ في أنْ يقومَ بمصالِحهم ويوفقَهم لخدمتهِ.
والحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ.
2 -
* هذهِ الآيةُ الكريمةُ لها شأنٌ كبيرٌ؛ كانَ عليه الصلاة والسلام يقرؤها كثيرًا في الركعةِ الأولى من سنةِ الصبحِ.
* وقد اشتملَتْ على جميعِ ما يجبُ الإيمانُ بهِ؛ فإنَّ الإيمانَ الشرعيَّ: هوَ تصديقُ القلبِ التامُّ وإقرارُهُ بهذهِ الأصولِ، المتضمنُ لأعمالِ الجوارحِ ولأعمالِ القلوبِ. وهوَ بهذا الاعتبارِ يدخلُ فيه الإسلامُ، وتدخلُ فيه الأعمالُ الصالحةُ كلُّها؛ فهيَ إيمانٌ، وهيَ من آثارِ الإيمانِ.
* فإذا أُطلِقَ الإيمانُ دخلَ فيه ما ذُكِرَ.
* وكذلكَ إذا أُطلِقَ الإسلامُ فإنهُ يدخلُ فيه الإيمانُ.
* فإذا قُرِنَ بينَ الإسلامِ والإيمانِ فُسِّرَ الإيمانُ: بما في القلبِ من العقائدِ الصحيحةِ والإراداتِ الصالحةِ، وفُسِّرَ الإسلامُ: بالأعمالِ الظاهرةِ.
* وكذلكَ إذا جُمِعَ بينَ الإيمانِ والعملِ الصالحِ، الإيمانُ: لما في الباطنِ، والعملُ الصالحُ: هوَ الظاهرُ.
* ومعَ إطلاقِ الإيمانِ يدخلُ فيه العملُ الصالحُ، كما في كثيرٍ من الآياتِ.
* فقولُهُ تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ} إلخ: أي: قولُوا ذلكَ بألسنتِكم متواطئةً عليها قلوبكُم، وهذا هوَ القولُ التامُّ الذي يترتبُ عليهِ الثوابُ والجزاءُ؛ فكما أنَّ النطقَ باللسانِ بدونِ اعتقادِ القلبِ ليسَ بإيمانٍ، بلْ هوَ نفاقٌ، فكذلكَ القولُ الخالي من عملِ القلبِ عديمُ التأثيرِ، قليلُ الفائدةِ.
* وفي قولِهِ: {قُولُوا} : إشارةٌ إلى الإعلانِ بالعقيدةِ، والصدعِ بها، والدعوةِ لها؛ إذْ هيَ أصلُ الدينِ وأساسهُ.
* وفي مثلِ قولِهِ: {آمَنَّا} وما أشبهَها من الآياتِ التي يُضافُ الفعلُ فيها إلى ضميرِ الجمعِ: إشارةٌ إلى أنهُ يجبُ على الأمةِ الاعتصامُ بحبلِ اللهِ جميعًا، والحثُّ على الائتلافِ، والنهيُ عن الافتراقِ، وأنَّ المؤمنينَ كالجسدِ الواحدِ، عليهم السعيُ لمصالحِهم كلِّها جميعًا، والتناصحُ التامُّ.
وفيهِ: دلالةٌ على جوازِ إضافةِ الإنسانِ إلى نفسهِ الإيمانَ على وجهِ التقييدِ، بأنْ يقولَ:«أنا مؤمنٌ باللهِ» ، كما يقولُ:«آمنتُ باللهِ» ، بلْ هذا الأخيرُ مِنْ أوجبِ الواجباتِ، كما أمرَ اللهُ بهِ أمرًا حتمًا.
بخلافِ قولِ العبدِ: «أنا مؤمنٌ» ونحوه، فإنهُ لا يقالُ إلا مقرونًا بالمشيئةِ؛ لما فيه من تزكيةِ النفسِ؛ لأنَّ الإيمانَ المطلقَ يشملُ القيامَ بالواجباتِ وتركَ المحرماتِ، فهوَ كقولهِ:«أنا متقٍ، أو وَلِيٌّ، أو من أهلِ الجنةِ» ، وهذا التفريقُ هوَ مذهبُ محققِي أهلِ السنةِ والجماعةِ.
* فقولُهُ: {آمَنَّا بِاللَّهِ} أي: بأنهُ واجبُ الوجودِ، واحدٌ أحدٌ، فردٌ صمدٌ، متصفٌ بكلِّ صفةِ كمالٍ، مُنزَّهٌ عن كلِّ نقصٍ، مستحقٌ لإفرادهِ بالعبوديةِ كلِّها، وهوَ يتضمنُ الإخلاصَ التامَّ.
* {وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} : يدخلُ فيه: الإيمانُ بألفاظِ الكتابِ والسنةِ ومعانِيهما، كما قالَ تعالى:{وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [النساء: 113]، {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]؛ فيدخلُ في هذا:
* الإيمانُ بما تضمنَهُ كتابُ اللهِ وسنةُ رسولهِ: من أسماءِ اللهِ وصفاتهِ وأفعالهِ، وصفاتِ رسلهِ، واليومِ الآخرِ، والغيوبِ كلِّها.
* والإيمانُ بما تضمنَهُ الكتابُ والسنةُ أيضًا من الأحكامِ الشرعيةِ: الأمرِ، والنهيِ، وأحكامِ الجزاءِ، وغيرِ ذلكَ.
* {وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ} إلخ: فيه الإيمانُ بجميعِ الكتبِ المنزلةِ على جميعِ الأنبياءِ، والإيمانُ بالأنبياءِ عمومًا، وخصوصًا ما نصَّ عليهم منهم في الآيةِ الكريمةِ وغيرِها؛ لشرفِهم، ولكونِهم أَتَوا بالشرائعِ الكبارِ.
فمن براهينِ الإسلامِ ومحاسنهِ وأنهُ دينُ اللهِ الحقُّ: الأمرُ بالإيمانِ بكلِّ كتابٍ أنزلَهُ اللهُ، وكلِّ رسولٍ أرسلَهُ اللهُ مجملًا ومفصلًا؛ فكلُّ مَنْ ادَّعى أنهُ على دينٍ حقٍّ كاليهودِ والنصارى ونحوِهم، فإنهم يتناقضونَ فيؤمنونَ ببعضٍ ويكفرونَ ببعضٍ، فيُبْطِلُ كفرُهم وتكذيبُهم تصديقَهم؛ ولهذا أخبرَ عنهم أنهم:{الْكَافِرُونَ حَقًّا} [النساء: 151]، وأنهُ لا سبيلَ يُسْلَكُ إلى اللهِ إلا سبيلُ الإيمانِ بجميعِ الرسلِ، وبجميعِ الكتبِ المنزلةِ على الرسلِ.
* وفي قولِهِ: {وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة: 136]: برهانٌ على أنَّ الأنبياءَ وسائطُ بينَ اللهِ وبينَ خلقهِ في تبليغِ دينهِ، وأنهُ ليسَ لهم من الأمرِ شيءٌ.
* وفي الإخبارِ بأنه: {مِنْ رَبِّهِمْ} : بيانٌ أنَّ مِنْ كمالِ ربوبيتهِ لعبادهِ التربية التامة أنهُ أرسلَ إليهم رسلَهُ، وأنزلَ عليهم كتبَهُ؛ ليُعلمُوهم ويُزكُوهم ويُخرجُوهم من الظلماتِ إلى النورِ، وأنهُ لا يليقُ بربوبيتهِ وحكمتِهِ أنْ يتركَهم سُدًى لا يُؤمرَونَ ولا يُنهَونَ، ولا يُثابونَ ولا يُعاقَبونَ.
* ويُفهمُ من الآيةِ الكريمةِ: الفرقُ بينَ الأنبياءِ الصادقينَ، وبينَ مَنْ يدعِي النبوةَ مِنْ الكاذبينَ:
* فإنَّ الأنبياءَ يصدِّقُ بعضُهم بعضًا، ويشهدُ بعضُهم لبعضٍ، ويكونُ كلُّ ما جاؤوا بهِ متفقًا لا يتناقضُ؛ لأنهُ من عندِ اللهِ، محكمٌ منتظمٌ.
* وأمَّا الكَذَبَةُ فإنهم لابدَّ أنْ يتناقضُوا في أخبارِهم وأوامرِهم ونواهِيهم، ويُعلَمُ كذبُهم بمخالفتهِ لما يدعُو إليهِ الأنبياءُ الصادقونَ.
* فلمَّا بيَّنَ تعالى جميعَ ما يجبُ الإيمانُ بهِ عمومًا وخصوصًا، وكانَ القولُ
لا يُغنِي عن العملِ؛ قالَ: {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} أي: خاضعونَ لعظمتهِ، منقادونَ لعبادتهِ، بباطنِنا وظاهرِنا، مخلصونَ لهُ بذلكَ؛ فإنَ تقديمَ المعمولِ على العاملِ يدلُّ على الحصرِ.
* فهذهِ الأصولُ المذكورةُ في هذهِ الآيةِ:
* قدْ أمرَ اللهُ بها في كتابهِ في عدةِ آياتٍ من القرآنِ، إجمالًا وتفصيلًا.
* وأثنَى على القائمينَ بها.
* وأخبرَ بما يترتبُ عليها من الخيرِ والثوابِ.
* وأنها تُكملُ العبدَ وترقِّيهِ: في عقائدهِ، وأخلاقهِ، وآدابهِ.
* وتجعلهُ عدلًا معتبرًا في معاملاتهِ.
* وتُوجِبُ لهُ خيرَ الدنيا والآخرةِ.
* ويحيَا بها الحياةَ الطيبةَ في الدارينِ.
* وتجلبُ لهُ السعادتينِ.
* وتدفعُ عنهُ شرورَ الدنيا والآخرةِ.
* وقدْ أخبرَ في [آخرِ]
(1)
هذهِ السورةِ أنَّ الرسولَ والمؤمنينَ قاموا بهذهِ الأصولِ علمًا وتصديقًا وإقرارًا، وعملًا ودعوةً، وهدايةً وإرشادًا، فكُتُبُ أهلِ العلمِ المصنفةُ في العقائدِ كلُّها تفصيلٌ لما في هذهِ الآيةِ الكريمةِ.
(1)
زيادة من (خ).
3 -
* قدْ أخبرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أنَّ هذهِ الآيةَ أعظمُ آياتِ القرآنِ على الإطلاقِ، وأنها تحفظُ قارئَها من الشياطينِ والشرورِ كلِّها؛ لما احتوَتْ عليهِ مِنْ معانِي التوحيدِ والعظمةِ، وسعةِ صفاتِ الكمالِ للهِ تعالى.
* فأخبرَ أنهُ اللهُ الذي لهُ جميعُ معاني الألوهيةِ، وأنهُ لا يستحقُّ الألوهيةَ غيرُهُ، فألوهيةُ غيرِه وعبادةُ غيرهِ باطلةٌ ضارَّةٌ في الحالِ والمآلِ؛ وعبادتُهُ وحدَهُ
لا شريكَ لهُ هيَ الحقُّ، الموصلةُ إلى كلِّ كمالٍ، وأنهُ الحيُّ كاملُ الحياةِ، فمِن كمالِ حياتهِ أنهُ السميعُ البصيرُ القديرُ، المحيطُ علمُهُ بكلِّ شيءٍ، الكاملُ من كلِّ وجهٍ.
* ف {الْحَيُّ} : يتضمَّنُ جميعَ الصفاتِ الذاتيةِ، و {الْقَيُّومُ}: الذي قامَ بنفسهِ، واستغنَى عن جميعِ المخلوقاتِ، وقامَ بها فأوجدَها وأبقاها، وأمدَّها بكلِّ ما تحتاجُ إليهِ في بقائِها؛ ف {الْقَيُّومُ} يتضمَّنُ جميعَ صفاتِ الأفعالِ؛ ولهذا وردَ أنَّ اسمَ اللهِ الأعظمَ الذي إذا دُعِيَ بهِ أجابَ، وإذا سُئِلَ بهِ أعطَى:{اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} ؛ فإنَّ هذينِ الاسمينِ الكريمينِ يدخلُ فيهما جميعُ الكمالاتِ الذاتيةِ والفعليةِ.
* ومن كمالِ حياتهِ وقيوميتهِ: أنهُ {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ} أي: نعاسٌ، {وَلَا نَوْمٌ} ؛ لأنهما إنما يعرضانِ للمخلوقِ الذي يعتريهِ الضعفُ والعجزُ والانحلالُ، ويُنزَّهُ عنهما ذو العظمةِ والكبرياءِ والجلالِ.
* وأخبرَ أنهُ مالكٌ لجميعِ ما في السمواتِ وما في الأرضِ، فكلُّهم عبيدهُ ومماليكهُ، لا يخرجُ أحدٌ منهم عن هذا الوصفِ اللازمِ؛ فهوَ المالكُ لجميعِ الممالكِ، وهوَ الذي اتصفَ بصفاتِ الملكِ الكاملِ، والتصرفِ التامِّ النافذِ، والسلطانِ والكبرياءِ.
* ومن تمامِ ملكهِ: أنهُ لا يشفعُ عندَهُ أحدٌ إلا بإذنهِ؛ فكلُّ الوجهاءِ والشفعاءِ عبيدٌ لهُ مماليكُ، لا يقْدِمونَ على الشفاعةِ لأحدٍ حتى يَأذنَ لهم:{قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الزمر: 44].
ولا يشفعونَ إلا لمن ارتضاهُ اللهُ، ولا يرضَى إلا عمَّن قامَ بتوحيدهِ واتباعِ رسلهِ، فمَن لم يتصِفْ بهذا فليسَ لهُ في الشفاعةِ نصيبٌ.
وأسعدُ الناسِ بشفاعةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم مَنْ قالَ: «لا إلهَ إلا اللهُ، خالصًا مِنْ قلبهِ» .
* ثم أخبرَ عن علمهِ الواسعِ المحيطِ:
* وأنهُ يعلَمُ ما بينَ أيدِي الخلائقِ من الأمورِ المستقبلةِ التي لا نهايةَ لها.
* {وَمَا خَلْفَهُمْ} من الأمورِ الماضيةِ التي لا حدَّ لها.
* وأنهُ لا تخفَى عليهِ خافيةٌ، {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19)} [غافر: 19]، {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59)} [الأنعام: 59].
* وأنَّ الخلقَ لا يحيطُ أحدٌ منهم بشيءٍ من علمِ اللهِ ولا معلوماتهِ إلا بما شاءَ منهما، وهوَ ما أطلعَهم عليهِ من الأمورِ الشرعيةِ والقدريةِ، وهوَ جزءٌ يسيرٌ جدًّا بالنسبةِ إلى علمِ البارِي، تضمحِلُّ العلومُ كلُّها في علمِ البارِي ومعلوماتهِ، كما قالَ أعلمُ المخلوقاتِ -وهم الرسلُ والملائكةُ-:{سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} [البقرة: 32].
* ثم أخبرَ عن عظمتهِ وجلالهِ، وأنَّ كرسيَّهُ وَسِعَ السمواتِ والأرضَ، وأنهُ قدْ حفظَهما بما فيهما من العوالمِ، بالأسبابِ والنظاماتِ التي جعلَها اللهُ في مخلوقاتهِ، ومعَ ذلكَ فلا يؤودُهُ أي: يثقلُهُ {حِفْظُهُمَا} ؛ لكمالِ عظمتهِ، وقوةِ اقتدارهِ، وسعةِ حكمتهِ في أحكامهِ.
* {وَهُوَ الْعَلِيُّ} : بذاتهِ على جميعِ مخلوقاتهِ، فهوَ الرفيعُ الذي باينَ جميعَ مخلوقاتهِ، وهوَ العليُّ بعظمةِ صفاتهِ، الذي لهُ كلُّ صفةِ كمالٍ، ومِن تلكَ الصفاتِ أكملُها ومنتهاها.
{وَهُوَ الْعَلِيُّ} : الذي قهرَ جميعَ المخلوقاتِ، ودانَتْ لهُ كلُّ الموجوداتِ، وخضعَتْ لهُ الصعابُ، وذلَّتْ لهُ الرقابُ.
* {الْعَظِيمُ} : الجامعُ لجميعِ صفاتِ العظمةِ والكبرياءِ والمجدِ، الذي تحبهُ القلوبُ، وتعظِّمهُ الأرواحُ، ويعرفُ العارفونَ أنَّ عظمةَ كلِّ موجودٍ -وإنْ جلَّتْ عن الصفةِ- فإنها مضمحِلةٌ في جانبِ عظمةِ العليِّ العظيمِ، فتباركَ اللهُ ذو الجلالِ والإكرامِ.
* فآيةٌ احتوَتْ على هذهِ المعاني التي هيَ أجلُّ المعاني، وأفرضُها على العبادِ؛ يحقُّ أنْ تكونَ أعظمَ آياتِ القرآنِ، ويحقُّ لمن قرأَها متدبرًا متفهمًا أنْ يمتلئَ قلبهُ من اليقينِ والعرفانِ والإيمانِ، وأنْ يكونَ بذلكَ محفوظًا من شرورِ الشيطانِ.
وقدْ نَعَتَ البارِي نفسَهُ الكريمةَ بهذهِ الأوصافِ في عدةِ آياتٍ من كتابهِ
(1)
.
(1)
كما في قوله تعالى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2)} [آل عمران: 2]، {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا (111)} [طه: 111]، {هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (65)} [غافر: 65]، {لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (87)} [مريم: 87]، {يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا (109)} [طه: 109]، {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4)} [الشورى: 4].
4 -
* هذهِ أجلُّ الشهاداتِ على الإطلاقِ؛ فإنها صدرَتْ من الملكِ العظيمِ، ومن ملائكتهِ وأنبيائهِ وأهلِ العلمِ، على أجلِّ مشهودٍ عليهِ، وهوَ توحيدُ اللهِ وقيامهُ بالقسطِ، وذلكَ يتضمنُ الشهادةَ على جميعِ أحكامِ الشرعِ وأحكامِ الجزاءِ؛ فإنَّ الدينَ أصلهُ وقاعدتهُ توحيدُ اللهِ، وإفرادهُ بالعبادةِ، والاعترافُ بانفرادهِ بصفاتِ العظمةِ والكبرياءِ والمجدِ والعزِّ والجلالِ، وبنعوتِ الجودِ والبرِّ والرحمةِ والإحسانِ والجمالِ، وبكمالهِ المطلقِ الذي لا يحصِي أحدٌ من الخلقِ أنْ يحيطوا بشيءٍ منهُ، أو يَبْلغوهُ، أو يصلوا إلى الثناءِ عليهِ، بلْ هوَ كما أثنَى على نفسهِ، وفوقَ ما يُثني عليهِ عبادُهُ.
* وأمَّا (القِسْط): فهوَ العدلُ الكاملُ، واللهُ تعالى هوَ القائمُ بالعدلِ في شرعهِ وخلقهِ وجزائهِ؛ فإنَّ العباداتِ الشرعيةَ والمعاملاتِ وتوابعَها والأمرَ والنهيَ كلَّهُ عدلٌ وقسطٌ، لا ظلمَ فيه بوجهٍ من الوجوهِ، بلْ هوَ في غايةِ الإحكامِ والانتظامِ، وفي غايةِ الحكمةِ.
والجزاءُ على الأعمالِ كلُّهُ دائرٌ بينَ فضلِ اللهِ وإحسانهِ على الموحدينَ المؤمنينَ بهِ، وبينَ عدلِهِ في عقوبةِ الكافرينَ والعاصينَ، فإنهُ لم يهضِمْهم شيئًا من حسناتِهم، ولم يعذِّبْهم بغيرِ ما كسبوا، {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164].
* قال تعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ} [الأنعام: 19]، فتوحيدُ اللهِ ودينهُ قدْ ثبتَ ثبوتًا لا ريبَ فيه، وهوَ أعظمُ الحقائقِ وأوضحُها، وقدْ شهدَ اللهُ لهُ بذلكَ بما أقامَ من الآياتِ والبراهينِ والحججِ المتنوعةِ عليهِ.
* ومن شهادتهِ تعالى: أنهُ أقامَ أهلَ العلمِ العارفينَ بهذهِ الشهادةِ، فإنهم المرجعُ للعبادِ في تحقيقِ كلِّ حقٍّ، وإبطالِ كلِّ باطلٍ؛ لما خصَّهم اللهُ بهِ من العلمِ الصحيحِ، واليقينِ التامِّ، والمعرفةِ الراسخةِ.
وهذا من جملةِ فضائلِ العلمِ وأهلهِ:
* فإنَّ اللهَ جعلَهم وسائطَ بينَهُ وبينَ عبادهِ، يبلغُونَهم توحيدَهُ ودينَهُ وشرائعَهُ الظاهرةَ والباطنةَ.
* وأمرَ الناسَ بسؤالِهم والرجوعِ إلى قولِهم.
* وأنهم هم الأئمةُ المتبوعونَ، وغيرُهم تابعٌ لهم في الدنيا والآخرةِ؛ ولهذا لهم الكلمةُ الرفيعةُ حتى في الآخرةِ لما ذكرَ تعالى اختصامَ الخلقِ واختلافَهم ذَكَرَ القولَ الفصلَ في ذلكَ الصادرَ من أهلِ العلمِ:{وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (56)} [الروم: 56]، وفي هذا دليلٌ على كمالِ عدلِ أهلِ العلمِ؛ فإنَّ اللهَ استشهدَ بهم على عبادهِ، وذلكَ تعديلٌ منهُ لهم، وفي هذا من الشرفِ وعلوِّ المكانةِ ما لا يخفَى.
5 -
* العلمُ لابدَّ فيه من إقرارِ القلبِ، ومعرفتِهِ بمعنى ما طُلِبَ منهُ علمُهُ، ولا يتمُّ ذلكَ إلا بالعملِ بمقتضَى ذلكَ العلمِ في كلِّ مقامٍ بحسبهِ.
* وهذا العلمُ الذي أمرَ اللهُ بهِ فَرْضُ عينٍ على كلِّ إنسانٍ، لا يسقطُ عن أحدٍ كائنًا مَنْ كانَ.
والضرورةُ إلى هذا العلمِ والعمل بمقتضاهُ -من تمامِ التألُّهِ للهِ- فوقَ كلِّ ضرورةٍ.
* والعلمُ بالشيءِ يتوقفُ على معرفةِ الطريقِ المُفْضِي إلى معرفتهِ وسلوكِها، والطريقُ إلى العلمِ بأنهُ (لا إلهَ إلا هو) على وجهِ الإجمالِ والعمومِ أمورٌ:
* أحدُها -وهوَ أعظمُها وأوضحُها وأقواها-: تدبرُ أسماءِ اللهِ وصفاتهِ وأفعالهِ، الدالةِ على كمالهِ وعظمتهِ وجلالهِ؛ فإنَّ معرفتَها توجِبُ العلمَ بأنهُ
لا يستحقُّ الألوهيةَ سواهُ، وتوجِبُ بذلَ الجهدِ في التألُّهِ والتعبدِ للهِ الكاملِ، الذي لهُ كلُّ حمدٍ ومجدٍ وجلالٍ وجمالٍ.
* الثاني: العلمُ بأنهُ الربُّ المنفردُ بالخلقِ والرزقِ والتدبيرِ؛ فبذلكَ يُعلمُ أنهُ المنفردُ بالألوهيةِ.
* الثالثُ: العلمُ بأنهُ المنفردُ بالنعمِ الظاهرةِ والباطنةِ، الدينيةِ والدنيويةِ؛ فإنَّ ذلكَ يوجِبُ تعلقَ القلبِ بهِ محبةً وإنابةً، والتألهَ لهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ.
* الرابعُ: ما يراهُ العبادُ ويسمعونَهُ من الثوابِ لأوليائهِ القائمينَ بتوحيدهِ:
• من النصرِ لرسلهِ وأتباعِهم.
• ومن النعمِ العاجلةِ المشاهدةِ.
• ومن عقوبتهِ لأعدائهِ المشركينَ بهِ.
فإنَّ هذا برهانٌ على أنهُ وحدَهُ المستحقُّ للألوهيةِ.
* الخامسُ: معرفةُ أوصافِ الأوثانِ والأندادِ التي عُبدَتْ معَ اللهِ واتُخِذَتْ آلهةً، وأنها فقيرةٌ إلى اللهِ من كلِّ وجهٍ، ناقصةٌ من كلِّ وجهٍ، لا تملكُ لنفسِها، ولا لمنْ عبَدَها، نفعًا ولا ضرًّا، ولا موتًا ولا حياةً ولا نشورًا. فالعلمُ بذلكَ يُعْلَمُ بهِ بطلانُ إلهيتِها، وأنَّ ما يدعونَ من دونِ اللهِ هوَ الباطلُ، وأنَّ اللهَ هوَ الإلهُ الحقُّ المبينُ.
* السادسُ: اتفاقُ كُتُبِ اللهِ على ذلكَ، وتواطؤُها عليهِ.
* السابعُ: اتفاقُ الأنبياءِ والرسلِ والعلماءِ الربانيينَ على ذلكَ، وشهادتُهُم بهِ، وهم خواصُّ الخلقِ، وأكملُهم أخلاقًا وعقولًا وعلمًا ويقينًا.
* الثامنُ: ما أقامَهُ اللهُ من الأدلةِ والآياتِ الأُفُقِيَّةِ والنفسيةِ
(1)
، التي تدلُّ على التوحيدِ أعظمَ دلالةٍ وأوضحَها، وتنادِي عليهِ بلسانِ المقالِ ولسانِ الحالِ، بما أودَعَها من لطائفِ صنعتهِ، وبديعِ حكمتهِ، وغرائبِ خلقهِ.
* التاسعُ: ما أودعَهُ اللهُ في شرعهِ: من الآياتِ المحكمةِ، والأحكامِ الحسنةِ، والحقوقِ العادلةِ، والخيرِ الكثيرِ، وجلبِ المنافعِ كلِّها، ودفعِ المضارِّ، ومن الإحسانِ المتنوعِ؛ وذلكَ يدلُّ أكبرَ دلالةٍ أنهُ اللهُ الذي لا يستحقُّ العبادةَ سواهُ، وأنَّ شريعتَهُ التي نزلَتْ على ألسنةِ رسلهِ شاهدةٌ بذلكَ.
(1)
كما في قوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53)} [فصلت: 53].
فهذهِ الطرقُ التي لا تُحصَى أنواعُها وأفرادُها، قدْ أَبداها اللهُ في كتابهِ وأعادَها، ونبَّهَ بها العبادَ على هذا المطلوبِ الذي هوَ أعظمُ المطالبِ، وأجلُّ الغاياتِ؛ فمَن سلكَ طريقًا من هذهِ الطرقِ أفضَتْ بهِ إلى العلمِ واليقينِ بأنهُ لا إلهَ إلا هوَ.
وكلَّما ازدادَ العبدُ سلوكًا لهذهِ الطرقِ ورغبةً فيها ومعرفةً ازدادَ يقينُهُ ورسخَ إيمانُهُ، وكانَ الإيمانُ في قلبهِ أرسخَ من الجبالِ، وأحلى من كلِّ لذيذٍ، وأنفسَ من كلِّ نفيسٍ.
والطريقُ الأعظمُ الجامعُ لذلكَ كلِّهِ: تدبرُ القرآنِ العظيمِ والتأملُ في آياتهِ، فإنهُ البابُ الأعظمُ إلى العلمِ بالتوحيدِ، ويحصلُ بهِ من تفاصيلهِ وجُمَلِهِ ما لا يحصلُ مِنْ غيرهِ.
* وقولُهُ: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} أي: اطلُبْ مِنْ ربِّكَ المغفرةَ لذنبِكَ، بأنْ تفعلَ الأسبابَ التي تحصلُ بها المغفرةُ:
* من الدعاءِ بالمغفرةِ.
* والتوبةِ النصوحِ.
* وفعلِ الحسناتِ الماحيةِ.
* وتركِ الذنوبِ.
* والعفوِ عن الخلقِ، والإحسانِ إليهم.
* ومِن ذلكَ: الاستغفارُ لهم؛ فلهذا قالَ: {وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} ، فهذا من ثمراتِ الإيمانِ؛ بسببِ إيمانِهم كانَ لهم حقٌّ على كلِّ مسلمٍ أنْ يدعوَ لهم بالمغفرةِ.
* وإذا كانَ العبدُ مأمورًا بالاستغفارِ للمؤمنينَ والمؤمناتِ فمن لوازمِ ذلكَ:
* أنْ يكونَ ناصحًا لهم.
* يحبُّ لهم من الخيرِ ما يحبُّ لنفسهِ، ويكرهُ لهم من الشرِّ ما يكرهُ لنفسهِ.
* ويحثُّهم على الخيرِ، وينهاهم عن الشرِّ.
* ويعفو عن معائبِهِم ومساوِيهم.
* ويحرصُ على اجتماعِهم اجتماعًا تتألفُ بهِ قلوبُهم، ويزولُ ما بينَهم من الأحقادِ المفضيةِ للمعاداةِ والشقاقِ؛ فإنهُ بالائتلافِ تقلُّ الذنوبُ، وبالافتراقِ تكثرُ الشرورُ والمعاصِي.
* {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} أي: تصرفاتِكم وحركاتِكم، وذهابَكم ومجيئَكم، وما إليهِ تنتهونَ، وبهِ تستقرونَ؛ فهوَ المحيطُ بكم في كلِّ أحوالِكم، وهذا فيه التخويفُ والترغيبُ من الجزاءِ على الأعمالِ حسنِها وسيئِها.
6 -
* هذهِ الآياتُ الكريمةُ قدْ اشتملَتْ على كثيرٍ مِنْ أسماءِ اللهِ الحسنى التي عليها مدارُ التوحيدِ والاعتقادِ.
* فأخبرَ أنهُ المألوهُ الذي لا يستحقُّ العبادةَ سواهُ؛ وذلكَ لكمالهِ العظيمِ، وإحسانِهِ الشاملِ، وتدبيرهِ العامِّ، وحِكَمِهِ الشاملةِ؛ فهوَ الإلهُ الحقُّ، وما سواهُ فعبوديتهُ باطلةٌ؛ لأنهُ خالٍ من الكمالِ، ومن الأفعالِ التي فيها النفعُ والضرُّ.
* ووصَفَ نفسَهُ بالعلمِ المحيطِ بما حضرَ وغابَ، وما مضَى وما يستقبلُ وما هوَ حاضرٌ، وما في العالمِ العلويِّ وما في العالمِ السفليِّ، وما ظهرَ وما بطنَ، فلا تخفَى عليهِ خافيةٌ في مكانٍ من الأمكنةِ، ولا زمانٍ من الأزمنةِ.
ومن كمالِ علمهِ وقدرتهِ: أنهُ يعلمُ ما تنقصُ الأرضُ من الأمواتِ، وما تفرَّقَ من أجزائِهم، وما استحالَ من حالٍ إلى حالٍ، أحاطَ علمًا بذلكَ على وجهِ التفصيلِ، فلا يعجزُهُ إعادتُهم للبعثِ والجزاءِ.
* ووصَفَ نفسَهُ بأنه: {الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} الذي وسعَتْ رحمتهُ الخليقةَ بأسرِها، وملأَتِ الوجودَ كلَّهُ.
* ووصَفَ نفسَهُ بأنه: {الْمَلِكُ} : وهوَ الذي لهُ الملكُ التامُّ المطلقُ، لهُ صفاتُ الملكِ التي هيَ نعوتُ العظمةِ والكبرياءِ والعزِّ والسلطانِ، ولهُ التصرفُ المطلقُ في جميعِ
الممالكِ، الذي لا ينازِعهُ فيه منازعٌ، والموجوداتُ كلُّها عبيدهُ وملكهُ، ليسَ لهم من الأمرِ شيءٌ.
* وأخبَرَ أنه: {الْقُدُّوسُ السَّلَامُ} أي: المُقَدَّسُ المُعَظَّمُ، السالمُ من جميعِ العيوبِ والنقائصِ المنافيةِ لكمالهِ.
* {الْمُؤْمِنُ} : المُصَدِّقُ لرسلهِ وأنبيائهِ بما جاؤُوا بهِ من الآياتِ البيناتِ، والبراهينِ القاطعاتِ، والحججِ الواضحاتِ، الذي لهُ العلمُ كلُّهُ، ويَعلمُ مِنْ أوصافهِ المقدسةِ، ونعوتهِ العظيمةِ، ما لا يعلمهُ بشرٌ ولا مَلَكٌ، ويُحِبُّ نفسَهُ وما هوَ عليهِ من الجلالِ والجمالِ.
* {الْعَزِيزُ} الذي له العزةُ كلُّها:
* عزةُ القوةِ والقدرةِ، فهوَ القويُّ المتينُ.
* وعزةُ القهرِ والغلبةِ لكلِّ مخلوقٍ؛ فكلُّهم نواصِيهم بيدهِ، وليسَ لهم من الأمرِ شيءٌ.
* وعزةُ الامتناعِ، الذي تَمَنَّعَ بعزتهِ عن كلِّ مخلوقٍ، فلا يُعارَضُ ولا يُمانَعُ، وليسَ لهُ نديدٌ ولا ضديدٌ.
* {الْجَبَّارُ} الذي قهرَ جميعَ المخلوقاتِ، ودانَتْ لهُ الموجوداتُ، واعتلَى على الكائناتِ، وجبرَ بلطفهِ وإحسانهِ القلوبَ المنكسراتِ.
* {الْمُتَكَبِّرُ} عن النقائصِ والعيوبِ، وعن مشابهةِ أحدٍ مِنْ خلقهِ ومماثلتِهم؛ لعظمتهِ وكبريائهِ.
* {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} : وهذا تنزيهٌ عامٌّ عن كلِّ ما وصَفَهُ به مَنْ أَشركَ بهِ ولم يقدرْهُ حقَّ قدرهِ.
* {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ} لجميعِ المخلوقاتِ.
* {الْبَارِئُ} بحكمتهِ ولطفهِ لجميعِ البرياتِ.
* {الْمُصَوِّرُ} بحُسْنِ خَلْقِهِ لجميعِ الموجوداتِ، أعطَى كلَّ شيءٍ خلقَهُ، ثم هدَى كلَّ مخلوقٍ وكلَّ عضوٍ لما خُلِقَ لهُ وهُيِّئَ لهُ.
* فاللهُ تعالى قدْ تفرَّدُ بهذهِ الأوصافِ المتعلقةِ بخلقهِ، لم يشارِكْهُ في ذلكَ مشاركٌ، وهذا من براهينِ توحيدهِ، وأنَّ مَنْ تفرَّدَ بالخلقِ والبَرْءِ والتصويرِ فهوَ المستحقُّ للعبوديةِ ونهايةِ الحبِّ وغايةِ الخضوعِ.
* {لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} : وقدْ وردَ في الحديثِ الصحيحِ: «إنَّ للهِ تسعةً وتسعينَ اسمًا، مائةً إلا واحدًا، مَنْ أَحْصاها دَخَلَ الجنةَ»
(1)
يعني: أحصَى ألفاظَها، وحَفِظَها، وعَقَلَها، وتعبَّدَ للهِ بها.
فهوَ تعالى الذي لهُ كلُّ اسمٍ حسنٍ، وكلُّ صفةِ جلالٍ وكمالٍ؛ فيستحقُّ مِنْ عبادهِ كلَّ إجلالٍ وتعظيمٍ وحبٍّ وخضوعٍ.
* {يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} يعني: مِنْ المكلفينَ، والحيواناتِ، والأشجارِ، والجماداتِ، {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء: 44].
* {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} في خلقهِ وشرعهِ.
(1)
البخاري (2736)، ومسلم (2677).
7 -
بسم الله الرحمن الرحيم {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)} [الإخلاص: 1 - 4].
* أي: {قُلْ} قولًا جازمًا فيه، معتقدًا لهُ، عارفًا بمعناهُ، عاملًا بمقتضاهُ من الإيمانِ باللهِ، والتعظيمِ والخضوعِ.
* {هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} أي: الذي انحصرَتْ فيه الأَحَدِيَّةُ، وهيَ: التفرُّدُ بكلِّ صفةِ كمالٍ، الذي لا يشاركهُ في ذلكَ مشاركٌ، الذي لهُ الأسماءُ الحسنى والصفاتُ العُلَى، والأفعالُ المقدسةُ، والتصرفُ المطلقُ.
* {اللَّهُ الصَّمَدُ} أي: السيدُ الذي قدْ انتهَى سؤددُهُ، العليمُ الذي قدْ كملَ علمهُ، الحليمُ الذي قدْ كملَ في حلمهِ وفي قدرتهِ وفي جميعِ أوصافِ كمالهِ؛ ولأجلِ هذا صمدَتْ لهُ المخلوقاتُ كلُّها، وقصدَتْهُ في كلِّ حاجاتِها، وفزعَتْ إليهِ الخليقةُ في مهماتِها ومُلِمَّاتِها.
* فالصمدُ هوَ: الذي صمدَتْ لهُ المخلوقاتُ؛ لما اتصفَ بهِ من جميعِ الكمالاتِ، ومِن كمالهِ أنهُ:{لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} ؛ لأنهُ الغنيُّ المالكُ، فاتخاذُ الولدِ ينافِي ملكَهُ وغناهُ.
* {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} أي: ليسَ لهُ مكافئٌ ولا مثيلٌ في أسمائهِ وصفاتهِ وأفعالهِ، تبارك وتعالى.
* فهذهِ السورةُ أصلٌ عظيمٌ من أصولِ الإيمانِ، وقدْ تضمنَتْ توحيدَ الأسماءِ والصفاتِ، ومِن لوازمِ ذلكَ توحيدُ الإلهيةِ، وأنَّ المتفردَ بالوحدانيةِ من كلِّ وجهٍ، الذي ليسَ لهُ مثيلٌ بوجهٍ من الوجوهِ؛ هوَ الذي لا تنبغِي العبادةُ إلا لَهُ، لا إلهَ إلا هوَ.
8 -
{وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163)} [البقرة: 163].
* يخبرُ تعالى -وهو أصدقُ القائلينَ- أنه: {إِلَهٌ وَاحِدٌ} أي: متوحدٌ منفردٌ في ذاتهِ وأسمائهِ وصفاتهِ وأفعالهِ؛ فليسَ لهُ شريكٌ، ولا سَمِيَّ لهُ، ولا كفوَ ولا مثلَ ولا نظيرَ ولا خالقَ ولا مدبرَ غيرُهُ.
* فإذا تقررَ أنهُ كذلكَ فهوَ المستحقُّ لأنْ يُؤلهَ ويعبدَ بجميعِ أنواعِ العبادةِ، ولا يُشركَ بهِ أحدٌ من خلقهِ؛ لأنهُ {الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ}: المتصفُ بالرحمةِ العظيمةِ، التي لا يماثلُها رحمةُ أحدٍ؛ فقدْ وسعَتْ كلَّ شيءٍ، وعمَّتْ كلَّ حيٍّ:
* فبرحمتهِ وُجدَتِ المخلوقاتُ.
* وبرحمتهِ حصلَتْ لها أنواعُ الكمالاتِ.
* وبرحمتهِ اندفعَ عن العبادِ كلُّ نقمةٍ.
* وبرحمتهِ عَرَّفَ عبادَهُ نفسَهُ بصفاتهِ وآلائهِ.
* وبيَّنَ لهم كلَّ ما يحتاجونَهُ من أمورِ دينِهم، ومصالحِ دنياهم؛ بإرسالِ الرسلِ وإنزالِ الكتبِ.
* فإذا عُلِمَ أنَّ ما بالعبادِ من نعمةٍ دقَّتْ أو جلَّتْ فمن اللهِ، وأنَّ أحدًا من المخلوقينَ لا ينفعُ أحدًا؛ عُلِمَ أنهُ لا يستحقُّ العبادةَ إلا المتفردُ بالنعمِ، الدافعُ للمكارهِ، وتعيَّنَ على العبادِ أنْ يفردوهُ بالمحبةِ والخوفِ والرجاءِ والتعظيمِ والتوكلِ، وغيرِ ذلكَ من أنواعِ الطاعاتِ.
* وإنَّ مِنْ أظلمِ الظلمِ وأقبحِ القبيحِ وأعظمِ الضلالِ: أنْ يعدلَ عن عبادتهِ إلى عبادةِ العبيدِ، وأنْ يُشركَ المخلوقينَ من ترابٍ بالربِّ العظيمِ، وأنْ يُسوَّى المخلوقُ
العاجزُ القاصرُ الناقصُ من كلِّ وجهٍ، بالربِّ الخالقِ المدبرِ القويِّ، الذي قهرَ كلَّ شيءٍ، وخضعَتْ لهُ الرقابُ.
* ففي هذهِ الآيةِ: إثباتُ وحدانيةِ البارئِ وإلهيتهِ وتقريرُها بنفيها عن غيرهِ من المخلوقينَ، والاستدلالُ على ذلكَ بتفردهِ بالرحمةِ، التي من آثارِها جميعُ البرِّ والإحسانِ في الدنيا والآخرةِ، ثم ذكرَ اللهُ الأدلةَ التفصيليةَ بقولهِ:
9 -
* أخبرَ تعالى أنَّ في هذهِ المخلوقاتِ العظيمةِ آياتٍ -أي: أدلةً- على وحدانيةِ البارِي وإلهيتهِ، وعظيمِ سلطانهِ ورحمتهِ، وسائرِ صفاتهِ، وآيةً على البعثِ والجزاءِ.
* {لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} أي: لهم عقولٌ يُعملونَها فيما خُلقَتْ لهُ، فعلى حسبِ ما مَنَّ اللهُ على عبدِهِ من العقلِ، وصرفَهُ في التفكرِ في الآياتِ؛ ينتفعُ بها ويعرفُها ويعقلُها بعقلهِ وفكرهِ وتدبرهِ.
* ففي خلقِ السمواتِ: في ارتفاعِها واتساعِها وإحكامِها وإتقانِها، وما جعلَ اللهُ فيها من الشمسِ والقمرِ والنجومِ، وجريانِها بانتظامٍ عجيبٍ لمصالحِ العبادِ؛ وفي خلقِ الأرضِ وجعلِها مهادًا للخلقِ يمكنُهم القرارُ عليها، والانتفاعُ بما عليها والاعتبارُ - ما يدلُّ ذلكَ على انفرادِ اللهِ بالخلقِ والتدبيرِ، وبيانِ قدرتهِ العظيمةِ التي بها خلَقَها، وحكمتهِ التي بها أتقنَها وأحسنَها ونظمَها، وعلمهِ ورحمتهِ التي بها أودَعَ ما أودعَ فيها من منافعِ الخلقِ ومصالحِهم وضروراتِهم وحاجاتِهم؛ وفي ذلكَ أبلغُ دليلٍ وبرهانٍ على كمالهِ من كلِّ وجهٍ، وأنْ يُفرَدَ بالعبادةِ؛ لانفرادهِ بالخلقِ والتدبيرِ والقيامِ بشؤونِ عبادهِ.
* وفي اختلافِ الليلِ والنهارِ: وهوَ: تعاقبُهما على الدوامِ، إذا ذهبَ أحدُهما خلفَهُ الآخرُ، وفي اختلافِهما في الحرِّ والبردِ والتوسطِ، وفي الطولِ والقصرِ والتوسطِ، وما ينشأُ عن ذلكَ من الفصولِ، التي بها انتظامُ مصالحِ الآدميينَ وحيواناتِهم وأشجارِهم وزروعِهم والنوابتِ كلِّها، كلُّ ذلكَ بتدبيرٍ وتسخيرٍ تَحيرُ في حسنهِ العقولُ، ويَعجزُ
عن إدراكِ كنههِ الرجالُ الفحولُ، وذلكَ يدلُّ على قدرةِ مصرفِها، وسعةِ علمهِ، وشمولِ حكمتهِ، وعمومِ رحمتهِ ولطفهِ الشاملِ، وعظمتهِ وكبريائهِ وسلطانهِ العظيمِ، يضطرُّ
(1)
العباد إلى معرفةِ ربِّهم، وإخلاصِ العبادةِ لهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ.
* وفي الفلكِ التي تجرِي في البحرِ: وهيَ: السفنُ والمراكبُ ونحوُها مما ألهمَ اللهُ عبادَهُ صنعتَها، وأقدرَهم عليها بتيسيرِ أسبابِها، ثم سخَّرَ لها هذا البحرَ العظيمَ، والرياحَ التي تحملها بما فيها من الركابِ والأموالِ والبضائعِ التي هيَ من منافعِ الناسِ، وبها تنتظمُ معائشُهم.
فمَن الذي ألهمَهُم صنعتَها وأقدرَهم عليها، وخَلَقَ لهم من الآلاتِ المتنوعةِ ما بهِ يعملونَها؟! أمَّن الذي سخَرَ لها هذا البحرَ تجرِي فيه بإذنهِ وتسخيرهِ، والرياحَ؟! أمَّن الذي خلقَ للمراكبِ البريةِ والبحريةِ والهوائيةِ النارَ والمعادنَ المتنوعةَ المُعِيْنةَ على حملِها، وحملِ ما فيها من الأموالِ الثقيلةِ جدًّا؟!
فهلْ هذهِ الأمورُ حصلَتْ صدفةً واتفاقًا؟! أم استقلَّ بعَمَلِها وخلقِ أسبابِها هذا المخلوقُ الضعيفُ العاجزُ، الذي خرجَ من بطنِ أمِّهِ لا يعلمُ شيئًا، وليسَ لهُ قدرةٌ على شيءٍ، ثم أعطاهُ خالقهُ القدرةَ، وعلَّمَهُ ما لم يكنْ يعلمُ؟!
أم تقولُ -والحقَّ تقولُ-: بلْ المسخِّرُ لذلكَ الربُّ الواحدُ، العظيمُ العليمُ، الحكيمُ القديرُ، الذي لا يُعجزهُ شيءٌ، ولا يمتنعُ عليهِ شيءٌ، بلْ الأشياءُ كلُّها قدْ دانَتْ لربوبيتهِ، واستكانَتْ لعظمتهِ، وخضعَتْ لجبروتهِ.
(1)
كذا في (خ) و (ط). ولعل الصواب: «مما يضطرُّ» . كما صرح به المؤلف في تفسيره «تيسير الكريم الرحمن» (ص 78) حيث قال: «
…
وعظمة سلطانه مما يوجب أن يؤله ويعبد».
وغايةُ العبدِ الضعيفِ أنْ جعلَهُ اللهُ جزءًا من أجزاءِ الأسبابِ التي بها وُجدَتْ هذهِ الأمورُ العظامُ.
فهذا يدلُّ على رحمةِ اللهِ وعنايتهِ بعبادهِ، ويدعُو العبادَ إلى أنْ يعبدوهُ وحدَهُ
لا شريكَ لهُ، وينيبُوا إليهِ في كلِّ حالٍ.
* {وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ} : وهو المطرُ النازلُ من السحابِ.
* {فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} : فأظهرَتْ أنواعَ الأقواتِ، وأصنافَ الأشجارِ والنباتاتِ، التي لا يمكنُ للعبادِ أنْ يعيشُوا بدونِها.
أليسَ ذلكَ برهانًا على قدرةِ مَنْ أنزلَهُ، وأخرجَ بهِ ما أخرجَ، وعلى رحمتهِ ولطفهِ بعبادهِ، وشدةِ افتقارِ الخليقةِ إليهِ في كلِّ أحوالِهم، وهوَ يحدوُهم إلى إخلاصِ الدِّينِ لهُ، والإنابةِ إليهِ، والقيامِ بعبوديتهِ ظاهرًا وباطنًا؟!
وكذلكَ هوَ دليلٌ على إحياءِ اللهِ للموتَى، كما قالَ تعالى:{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)} [فصلت: 39].
وقدْ ذكرَ اللهُ هذا البرهانَ على البعثِ في عدةِ آياتٍ، كما ذكرَ ابتداءَ الخلقِ برهانًا على إعادتهِ، وكما ذكرَ كمالَ علمهِ وقدرتهِ، وخَلْقَ السمواتِ والأرضِ، وأنهُ جعلَ للعبادِ من الشجرِ الأخضرِ نارًا - برهانًا بيِّنًا على البعثِ.
* وقولهُ: {وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ} أي: نشَرَ في أقطارِ الأرضِ من الدوابِّ المتنوعةِ، وسخرَها للآدميينَ ينتفعونَ بها من وجوهٍ كثيرةٍ، ومعَ هذا فهوَ قائمٌ بأرزاقِها، متكفلٌ بأقواتِها، فما {مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا} [هود: 6].
* وفي تصريفِ الرياحِ: آياتٌ عظيمةٌ على وحدانيةِ اللهِ، وتفردهِ بالكمالِ المطلقِ؛ فتارةً تكون باردةً وحارةً وبينَ ذلكَ، وجنوبًا وشمالًا، وشرقًا ودَبُورًا
(1)
وبينَ ذلكَ، وتارةً تثيرُ السحابَ، وتارةً تؤلِّفُ بينَهُ، وتارةً تلقِّحهُ وتدرُّهُ، وتارةً تمزِّقُهُ وتزيلُ ضررَهُ، وتارةً تُرسَلُ بالرحمةِ، وتارةً تُرسَلُ بالعذابِ؛ فمَن الذي صرَّفَها هذا التصريفَ، ورتبَ عليها من المنافعِ للعبادِ شيئًا كثيرًا إلا العزيزُ الحكيمُ، الرحيمُ اللطيفُ بعبادهِ، المستحقُّ للمحبةِ والثناءِ والشكرِ والحمدِ من الخليقةِ.
* وفي تسخيرِ السحابِ بينَ السماءِ والأرضِ: على خفتهِ ولطافتهِ، يحملُ الماءَ الكثيرَ، فيسوقهُ اللهُ إلى حيثُ يشاءُ، ويجعلُهُ حياةً للبلادِ والعبادِ، ويروِي بهِ التلولَ والوِهادَ، وينزلُهُ على الخلقِ وقتَ حاجتِهم إليهِ، ويصرفُ عنهم ضررَهُ، فينزلُهُ رحمةً ولطفًا، ويصرِّفهُ عنايةً وعطفًا، فما أعظمَ سلطانَهُ، وأغزرَ إحسانَهُ، وألطفَ امتنانَهُ!
أليسَ من أقبحِ القبيحِ وأظلمِ الظلمِ: أنْ يتمتعَ العبادُ برزقهِ، ويعيشوا ببرِّهِ، وهم يستعينونَ بذلكَ على مساخطِهِ ومعاصيهِ؟! ومعَ ذلكَ -من كمالِ حلمهِ وعفوهِ وصفحهِ- يوالِي عليهم الإحسانَ، خيرُهُ إليهم على الدوامِ نازلٌ، وشرُّهم إليهِ في كلِّ وقتٍ صاعدٌ.
* والحاصلُ: أنهُ كلَّما تدبَّرَ العاقلُ في هذهِ المخلوقاتِ، وتغلغلَ فكرهُ في بدائعِ الكائناتِ؛ عَلِمَ أنها خُلقَتْ للحقِّ وبالحقِّ، وأنها صحائفُ آياتٍ، وكتبُ براهينَ، ودلالاتٌ على جميعِ ما أخبرَ بهِ عن نفسهِ ووحدانيتهِ، وما أخبرَتْ بهِ الرسلُ مِنْ اليومِ الآخرِ، وأنها مدبَّراتٌ مسخراتٌ، ليسَ لها تدبيرٌ ولا استعصاءٌ على مدبِّرِها ومصرِّفِها؛ فتعرفُ أنَّ العالمَ العلويَّ والسفليَّ كلَّهم إليهِ مفتقرونَ، وإليهِ صامدونَ، وأنهُ الغنيُّ بالذاتِ عن جميعِ المخلوقاتِ، فلا إلهَ إلا هوَ، ولا ربَّ سواهُ.
(1)
الريح الدَّبُور: ريح تهب من نحو المغرب، وهي تقابل ريح الصبا والقبول. (لسان العرب: 4/ 271).
* ولنقتصِرْ على هذا الأنموذجِ من الآياتِ المتعلقةِ بالتوحيدِ، معَ ما دخلَ في ضمنِها من الإيمانِ بالجزاءِ والبعثِ، وبالرسلِ والكتبِ، وقدْ قرَنَ اللهُ ذلكَ بأدلتهِ وبراهينهِ الموصلةِ إلى العلمِ التامِّ، واليقينِ الراسخِ.
وبذلكَ يُعلمُ: أنَّ هذهِ الأصولَ الثلاثةَ متلازمةٌ: التوحيدَ، والرسالةَ، والمعادَ؛ كما أنَّ في ضمنِ الآياتِ المتعلقةِ بالجزاءِ [شيئًا كثيرًا]
(1)
من متعلقاتِ التوحيدِ والرسالةِ، فسبحانَ مَنْ جعلَ في كلامهِ الهدَى والرشادَ وإصلاحَ العبادِ!
(1)
في (ط) و (خ): شيء كثير. والمثبت موافق لقواعد اللغة.
فصل
10 -
[آل عمران: 164].
* هذهِ المنةُ التي امتنَّ اللهُ بها على عبادهِ المؤمنينَ أكبرُ المننِ، بلْ هيَ أصلُها، وهيَ الامتنانُ عليهم بهذا الرسولِ الكريمِ الذي جمعَ اللهُ بهِ جميعَ المحاسنِ الموجودةِ في الرسلِ.
ومن كمالهِ العظيمِ: هذهِ الآثارُ التي جعلَها اللهُ نتيجةَ رسالتهِ، التي بها كمالُ المؤمنينَ علمًا وعملًا، وأخلاقًا وآدابًا، وبها زالَ عنهم كلُّ شرٍّ وضررٍ، فبعثهُ اللهُ من أنفُسِهم وأنفَسِهم وقبيلتِهم، يعرفونَ نسبَهُ أشرفَ الأنسابِ، وصدقَهُ وأمانتَهُ وكمالَهُ الذي فاقَ بهِ الأولينَ والآخرينَ، ناصحًا لهم مشفقًا، حريصًا على هدايتِهم.
* {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ} فيعلمُهم ألفاظَها، ويشرحُ لهم معانيَها.
* {وَيُزَكِّيهِمْ} أي: يطهرُهم من الشركِ والمعاصِي والرذائلِ وسائرِ الخصالِ الذميمةِ، {وَيُزَكِّيهِمْ} أيضًا أي: ينمِّيهم، فيحثُّهم على الأخلاقِ الجميلةِ؛ فإنَّ التزكيةَ تتضمنُ هذينِ الأمرينِ: التطهيرَ من المساوئِ، والتنميةَ بالمحاسنِ.
* {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ} وهو القرآنُ، {وَالْحِكْمَةَ} وهي السنةُ.
فالكتابُ والسنةُ بهما أكملَ اللهُ للرسولِ وأمتهِ الدينَ، وبهما حصلَ العلمُ بأصولِ الدينِ وفروعهِ، وبهما حصلَتْ جميعُ العلومِ النافعةِ، وما يترتبُ عليها مِنْ الخيراتِ وزوالِ الشرورِ، وبهما حصلَ العلمُ اليقينيُّ بجميعِ الحقائقِ النافعةِ، وبهما الهدايةُ والصلاحُ للبشرِ.
فمحمدٌ صلى الله عليه وسلم هوَ الإمامُ الأعظمُ المعلِّمُ لهذينِ الأمرينِ، اللذينِ ينابيعُ العلومِ كلها تتفجرُ من مَعِينِهما.
فعَلَّمَ صلى الله عليه وسلم أمتَهُ الكتابَ والحكمةَ، وأوقفَهم على حِكَمِ الأحكامِ وأسرارِها؛ فكانت حياتُهُ كلُّها -أقوالهُ وأفعالهُ وتقريراتهُ، وهديهُ، وأخلاقهُ الظاهرةُ والباطنةُ، وسيرتهُ الكاملةُ المتنوعةُ في كلِّ فنٍّ من الفنونِ- تعليمًا منهُ للمؤمنينَ، وشرحًا للكتابِ والحكمةِ.
فجمعَ لهم بينَ تعليمِ الأحكامِ الأصوليةِ والفروعيةِ، وما بهِ تُدركُ وتُنالُ، والطرقِ التي تُفضِي إليها عقلًا ونقلًا وتفكيرًا وتدبرًا، واستخراجًا للعلومِ الكونيةِ من مظانِها وينابيعِها.
وبيَّنَ لهم فوائدَ ذلكَ كلِّه وثمراتِه، وشَرَحَ لهم الصراطَ المستقيمَ -اعتقاداتِهِ وأخلاقَهُ وأعمالَهُ- وما لسالكهِ عندَ اللهِ من الخيرِ العاجلِ والآجلِ، وما على المنحرفِ عنهُ من العقابِ والضررِ العاجلِ والآجلِ.
فكانَ خيارُ المؤمنينَ بهذا التعليمِ الصادرِ من النبيِّ الكريمِ مباشرةً وتبليغًا: من العلماءِ الربانيينَ الراسخينَ في العلمِ، ومن الهداةِ المهديينَ، ومن أكابرِ الصديقينَ. وحصلَ لسائرِ المؤمنينَ من هذا التعليمِ نصيبٌ وافرٌ من الخيرِ العظيمِ على حسبِ طبقاتِهم ومنازلِهم، وذلكَ فضلُ اللهِ يؤتيهِ من يشاءُ، واللهُ ذو الفضلِ العظيمِ.
فخرجُوا بهذا التعليمِ من جميعِ الضلالاتِ، [وانجابَتْ]
(1)
عنهم الشرورُ المتنوعةُ والجهالاتُ، وتمَّ لهم النورُ الكاملُ، وانقشعَتْ عنهم الظلماتُ، فيا لها من نعمةٍ لا يُقادَرُ قَدْرُها، ولا يحصِي المؤمنونَ كُنْهَ شكرِها.
(1)
في (ط): وانجالت. والمثبت من (خ)، ولعله الصواب؛ لموافقته أسلوب المؤلف في قوله:«لاستقامت أحوالهم وصلحت أمورهم وانجابت عنهم شرور كثيرة» (القواعد الحسان لتفسير القرآن: ص 140).
11 -
* ذكرَ اللهُ تعالى في هذا: قَدْحَ المكذبينَ لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم، وإدلاءَهم بهذهِ الشُّبهِ التي يعلمونَ ويعلمُ الناسُ بطلانَها: فزعمُوا أنهُ افترَى هذا القرآنَ
(1)
، وأنهُ ساعدَهُ على ذلكَ قومٌ آخرونَ؛ فردَّ اللهُ عليهم هذهِ المقالةَ المنتهيةَ في القبحِ بأنَّ هذا ظلمٌ عظيمٌ، وجراءةٌ يعجبُ السامعُ كيفَ سولَّتْ لهم أنفسُهم هذا القولَ الهراءَ، وأنهُ من الزورِ والظلمِ؛ فإنهُ قدْ كانوا يعرفونَ بلا شكٍّ صدقَهُ وأمانتَهُ التي لا يلحقُهُ فيها أحدٌ، وأنهُ لم يجتمِعْ بأحدٍ من أهلِ العلمِ، ولا رحلَ في طلبهِ، وقدْ نشأَ بينَ أمةٍ أميَّةٍ في غايةِ الجهلِ والضلالِ، وقدْ جاءَهم بهذا الكتابِ العظيمِ الذي لم يَطْرُقِ العالمَ أعظمُ منهُ، ولا أعلى معاني وأغزرُ علمًا، ولا أبلغُ من ألفاظهِ ومعانيهِ، وأتمُّ من حُكْمِهِ وحِكَمِهِ ومبانيهِ.
* وقدْ تحدَّى أقصاهم وأدناهم، وأفرادَهم وجماعتَهم، وأولَهم وآخرَهم أنْ يأتيَ بمثلهِ، أو بعشرِ سورٍ من مثلهِ، أو بسورةٍ واحدةٍ من مثلهِ؛ وصرَّحَ لهم أنهم إنْ أَتَوا بشيءٍ من مثلهِ فهمَ صادقونَ، وهم أهلُ الفصاحةِ والبلاغةِ في الكلامِ؛ فعجزوا غايةَ العجزِ عن معارضتهِ والإتيانِ بمثلهِ، واتضحَ لهم ولغيرِهم عِيُّهم وعجزُهم، وتبيَّنَ بطلانُ دعواهم.
وكلُّ مَنْ حاولَ أنْ يأتيَ بكلامٍ يُعارِضُ بهِ ما جاءَ بهِ الرسولُ صارَ كلامهُ ضحكةً للصبيانِ، فضلًا عن أهلِ النظرِ والعقولِ.
(1)
بعدها في (خ): على الله.
وكلُّ شبهةٍ يدلونَ بها في معارضةِ الرسولِ من حينِ يوجَّهُ لها النظرُ الصحيحُ تضمحلُّ وتزهقُ، {إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء: 81].
* ومن جراءتِهم أنهم قالوا: إنَّ هذا القرآنَ الذي جاءَ بهِ محمدٌ {أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا} [الفرقان: 5] من كتبِ الأولينَ المسطورةِ، {فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5)} ، فيا ويحَهم! مَنْ الذي عندَهم في بطنِ مكةَ يُملِيها؟! وهلْ يوجدُ في ذلكَ الوقتِ في مكةَ أو ما حولَها كتبٌ تُملَى؟! ولو فُرِضَ وقُدِّرَ أنهُ يوجدُ أحدٌ، لِمَ يختصُّ محمدٌ وحدَهُ بالأخذِ عنهُ؟!
* ولما كانتْ هذهِ مقالةَ زورٍ وافتراءٍ لا يخفى كذبُها على أحدٍ تشبَّثوا وقالوا: كانَ محمدٌ يجلسُ إلى قَيْنٍ حدَّادٍ في مكةَ فارسيٍّ فيتعلَّمُ منهُ؛ فلهذا قالَ اللهُ عنهم: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103)} [النحل: 103]: بالغٌ في البيانِ والبلاغةِ نهايتَها وغايتَها، فلا يمكنُ الجمعُ بينَ النقيضينِ:
* أنْ يتعلمَهُ مِنْ هذا الأبكمِ أعجميِّ اللسانِ، الذي لم يُعرَفْ عنهُ علمٌ يُرجَعُ إليهِ، ولا معرفةٌ يَتميزُ بها.
* وهذا القرآن الذي جاءَ بهِ معَ كمالِ بلاغتهِ حوَى علومَ الأولينَ والآخرينَ.
* ولما كانَ هذا القولُ الذي قالوهُ والمكابرةُ التي تجرؤُوا عليها قدْ عَلِمَ الموافقُ والمخالفُ كذبَها وافتراءَها، وكانَ جميعُ أعداءِ الرسولِ لهم ورثةٌ يقومونَ بالعداوةِ للرسولِ والدينِ، ويعطونَها حقَّها ولوْ جلبَتْ عليهم ما جلبَتْ مِنْ الدخولِ في الكذبِ والافتراءِ والمكابرةِ، وقدْ عَرَفَ هؤلاءِ الأعداءُ المتأخرونَ مكابرةَ إخوانِهم الذينَ باشروا تكذيبَ الرسولِ، ورأَوا أنَّ مقالتَهم قدْ بطلَتْ واضمحلَّتْ، وبانَ زورُها لكلِّ أحدٍ؛
صاغَها هؤلاءِ المكذبونَ بعبارةٍ موَّهوها، وظنُّوا أنها بهذا التمويهِ تروجُ؛ فزعموا -وما أسمجَهُ وأكذبَهُ من زعمٍ! - أنَّ محمدًا كانَ يتعلَّمُ من نفسِهِ، وأنهُ كانَ يخلُو بالطبيعةِ: السماءِ والأرضِ والشمسِ والقمرِ والنجومِ، فيعطِيها لبَّهُ، ويناجِيها بقلبهِ، فيُخيَّلُ إليهِ أصنافُ التخاييلِ، فيأتِي بها إلى الناسِ زاعمًا أنها من وحيِ اللهِ على يدِ جبريلَ، وأنَ هذهِ التخيلاتِ من الأمورِ العاليةِ التي يعتادُ الإتيانُ بها أهلُ الرأيِ والحِجَا.
ولما رأَوا آثارَها
(1)
الجليلةَ في الإسلامِ وأهلهِ، وتعاليمَهُ وتقويمَهُ للأممِ، وبهرَهم هذا النورُ العظيمُ لجاؤُوا إلى هذا التحذلقِ، الذي منتهاهُ وغايتهُ أنهم صوَّرُوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم ورقَّوهُ إلى رجلٍ من الطبيعيينَ، كما قالَ هذا القولَ الباطلَ أحدُ ملاحدةٍ الإفرنسيين، وتلقاها عنهُ بعضُ الملاحدةِ العصريينَ، وهوَ مبنيٌّ على إنكارِ وجودِ ربِّ العالمينَ، وأنهُ ما ثَمَّ إلا عملُ الطبيعةِ!
وقدْ عَلِمَ الناسُ أنَّ هذا القولَ المزورَ أعظمُ مكابرةً ومباهتةً من قولِ الأولينَ، وأنَّ هذا الافتراءَ الذي ولَّدوهُ بعدَ مئاتِ السنينَ أوضحُ ضلالًا وظلمًا وجراءةً ووقاحةً من زُورِ الأولينَ، وأنَّ هؤلاءِ الأراذلَ الذينَ أُعجبُوا بآرائِهم وتاهُوا بعقولِهم قدْ بيَّنَ اللهُ كذبَهم فيما قالوهُ، وأنَّ عقولًا ولَّدتْ هذهِ الأقوالَ المؤتفكةَ، والخيالاتِ الفاسدةَ، والمقالاتِ الفاسدةَ - لعقولٌ سافلةٌ، وآراءٌ ساقطةٌ، يُعرَفُ فسادُها بنتائجِها، ومكابرتِها وإنكارِها أجلَى الحقائقِ؛ ولهذا قالَ تعالى:{قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الفرقان: 6]، فالربُّ القادرُ العظيمُ، الذي أحاطَ علمُهُ بجميعِ الأسرارِ، وعلمَ أحوالَ العبادِ حاضِرَها ومستقبلَها، فأنزلَهُ لهدايتِهم، وجعلَهُ منارًا وعلمًا يهتدِي بهِ المهتدونَ في كلِّ وقتٍ وحينٍ.
(1)
أي: آثار رسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
* فجميعُ الحقائقِ التي دعَا إليها هذا الرسولُ وهذا القرآنُ حقائقُ ثابتةٌ، نافعةٌ للعبادِ، لا يأتي من الحقائقِ ما يُغيِّرُها، ومحالٌ أنْ يأتيَ شيءٌ أصلحُ منها أو مثلُها أو يقاربُها:{وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50].
* ومن كمالِ علمهِ وقدرتهِ: أنهُ لوْ تقوَّلَ عليهِ أحدٌ بمثلِ هذهِ المقالةِ لعاجَلَهُ بالعقوبةِ، فلما أيَّدَ مَنْ جاءَ بها بنصرهِ وحججهِ، وأرَى العبادَ آياتهِ في الآفاقِ وفي أنفسِهم، التي يتبينُ بها أنهُ الحقُّ، وما سواهُ ضلالٌ - عُلِمَ بذلكَ أنَّ هذا الرسولَ أصدقُ الخلقِ وأنصحُهم وأبرُّهم وأعلمُهم وأخشاهم وأتقاهم لربِّهِ، وأنَّ أعداءَهُ المكذبينَ لهُ أكذبُ الخلقِ وأغشُّهم، وأعظمُهم جهلًا وضلالًا وغيًّا وفسادًا في كلِّ زمانٍ ومكانٍ.
* ومن مكابرةِ أعداءِ الرسولِ: أنهم جعلُوا يتناقضونَ في مقالاتِهم، ويتفنَّنونَ في إفكِهم المكشوفِ كذبُهُ، فمنهم مَنْ قالَ: إنهُ مجنونٌ، ومنهم مَنْ قالَ: ساحرٌ وكاهنٌ، ومنهم مَنْ قالَ: مسحورٌ، ومنهم من قالَ: لوْ كانَ صادقًا لجاءَتِ الملائكةُ تؤيدهُ، ولوْ كانَ صادقًا لأغناهُ اللهُ عن المشيِ في الأسواقِ، وجعلَ لهُ جناتٍ وأنهارًا وأموالًا كثيرةً!
وكلٌّ يعلمُ أنَّ هذهِ الأقوالَ -معَ تناقضِها- ليستْ من الشُّبهِ، فضلًا عن كونِها من الحججِ؛ ولهذا قالَ تعالى معجِّبًا:{انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (9)} [الفرقان: 9].
ومثلُ هذهِ الأقوالِ التي يذكرها اللهُ عن المكذبينَ للرسولِ هيَ بنفسِها تدلُّ على كذبِهم ومكابرتِهم قبلَ أنْ يُعرَفَ بطلانُها من الأدلةِ الأخرى، وإذا وَزنتَ هذهِ الأقوالَ الجاريةَ من الأولينَ رأيتَ نظيرَها وأقبحَ منها جاريةً من الملاحدةِ المتأخرينَ، {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)} [التوبة: 32 - 33].
فما جاءَ بهِ الرسولُ من الهدَى في جميعِ أبوابِ العلومِ النافعةِ، والدينِ الحقِّ الذي هوَ الصلاحُ المطلقُ؛ أكبرُ الأدلةِ على أنهُ رسولُ اللهِ حقًّا، وأكبرُ الأدلةِ على إبطالِ كلِّ ما ناقضَهُ من أقوالِ المؤتفكينَ. والحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ.
12 -
بسم الله الرحمن الرحيم {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7)} [القلم: 1 - 7].
* يُقسِمُ تعالى ب (القلم)، وهوَ اسمُ جنسٍ شاملٌ للأقلامِ التي تُكتبُ بها أنواعُ العلومِ، ويُسطرُ بها المنثورُ والمنظومُ؛ وذلكَ أنَّ (القلمَ) وما يسطرُ بهِ من أنواعِ الكلامِ من آياتهِ العظيمةِ التي تستحقُّ أنْ يقسمَ بها على براءةِ نبيهِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم مما نسبَهُ إليهِ أعداؤهُ من الجنونِ، فنفى عنهُ ذلكَ، بنعمةِ ربهِ عليهِ وإحسانهِ؛ إذْ مَنَّ عليهِ بالعقلِ الكاملِ، والرأيِ السديدِ، والكلامِ الفصلِ الذي هوَ من أحسنِ ما جرَتْ بهِ الأقلامُ وسطرَهُ الأنامُ، وهذا هوَ السعادةُ في الدنيا.
* ثم ذكَرَ سعادتَهُ في الآخرةِ فقال: {وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ} أي: لأجرًا عظيمًا -كما يفيدهُ التنكيرُ- غيرَ مقطوعٍ، بلْ هوَ دائمٌ متتابعٌ مستمرٌّ؛ وذلكَ لِما أسلفَهُ صلى الله عليه وسلم من المقاماتِ العاليةِ في الدينِ والأخلاقِ الرفيعةِ؛ ولهذا قالَ:{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} فعَلَا صلى الله عليه وسلم بخلُقهِ العظيمِ على جميعِ الخَلْقِ، وفاقَ الأولينَ والآخرينَ.
* وكانَ خلُقُهُ العظيمُ -كما فسرَتْهُ بهِ عائشةُ رضي الله عنها هذا القرآنَ الكريمَ، وذلكَ نحوُ قولهِ تعالى:{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)} [الأعراف: 199]، {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} [آل عمران: 159]
(1)
، {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)} [التوبة: 128]، وما أشبهَهَا من الآياتِ الدالاتِ على اتصافهِ صلى الله عليه وسلم
(1)
بعدها في (خ): الآية.
بمكارمِ الأخلاقِ، والآياتِ التي فيها الحثُّ على كلِّ خلُقٍ جميل، فكانَ أولَ الخلْقِ امتثالًا لها، وسبقًا إليها، وإلى تكميلِها، فكانَ لهُ منها أكملُها وأجلُّها وأعلاها، وهوَ في كلِّ خصلةٍ منها في الذروةِ العليا:
* فكانَ سهلًا لينًا قريبًا من الناسِ.
* مجيبًا لدعوةِ مَنْ دعاهُ.
* قاضيًا لحاجةِ مَنْ استقضاهُ.
* جابرًا لقلبِ مَنْ سألَهُ، لا يحرمهُ ولا يردهُ خائبًا.
* وإذا أرادَ أصحابهُ أمرًا وافقَهم عليهِ، وتابعَهم فيه إذا لم يكنْ في ذلكَ محذورٌ.
* وإنْ عزَمَ على أمرٍ لم يستبِدَّ بهِ دونَهم، بلْ يشاورُهم ويؤامرُهم.
* وكانَ يقبلُ من محسنِهم، ويعفُو عن مسيئِهم.
* ولم يكنْ يعاشرُ جليسًا إلا أتمَّ عشرةً وأحسنَها، فكانَ لا يعبسُ في وجههِ، ولا يغلظُ لهُ في كلامهِ، ولا يطوِي عنهُ بشرَهُ، ولا يمسكُ عليهِ فلتاتِ لسانهِ، ولا يؤاخذهُ بما يصدرُ منهُ مِنْ جفوةٍ، بلْ يحسنُ إليهِ غايةَ الإحسانِ، ويحتملهُ غايةَ الاحتمالِ، صلى الله عليه وسلم.
* فلما أنزلَهُ اللهُ بأعلى المنازلِ، وكانَ أعداؤهُ يقولونَ: إنهُ مجنونٌ مفتونٌ، قالَ:{فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6)} ، وقدْ تبينَ أنهُ كانَ أهدَى الناسِ وأكملَهم وأنفعَهم لنفسهِ ولغيرهِ، وأنَّ أعداءَهُ أضلُّ الناسِ للناسِ، وأنهم هم الذينَ فتنُوا عبادَ اللهِ، وأضلُّوهم عن سبيلهِ، وكفى بعلمِ اللهِ بذلكَ، فإنه المحاسبُ المجازِي، و {هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القلم: 7]، وفيهِ تهديدٌ للضالينَ، ووعدٌ للمهتدينَ، وبيانٌ لحكمةِ اللهِ في هدايتهِ مَنْ يصلحُ للهدايةِ دونَ غيرهِ.
فصل
13 -
{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68)} [الزمر: 68] إلى آخرِ السورةِ الكريمةِ.
* مِنْ أهمِّ أصولِ الإيمانِ: الإيمانُ باليومِ الآخرِ، وهوَ الإيمانُ بكلِّ ما أخبرَ اللهُ بهِ ورسولُهُ بعدَ الموتِ:
* من فتنةِ القبرِ ونعيمهِ وعذابهِ.
* وأحوالِ يومِ القيامةِ
(1)
وما يكونُ فيه.
* ومن صفاتِ الجنةِ والنارِ، وصفاتِ أهلِهما.
فالإيمانُ باليومِ الآخرِ هوَ الإيمانُ بذلكَ كلِّهِ جملةً وتفصيلًا.
* أمَّا أحوالُ القبرِ وفتنتُهُ وعذابُهُ ونعيمُهُ وتفاصيلُ ذلكَ فقدْ تواترَتْ بهِ الأحاديثُ الصحيحةُ والحسنةُ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم كما هوَ معروفٌ، والقرآنُ أشارَ إليهِ في عدةِ آياتٍ.
* وأمَّا ما يكونُ بعدَ ذلكَ فإذا أرادَ الملِكُ القادرُ بَعْثَ العبادِ وحَشْرَهم وجزاءَهم {نُفِخَ فِي الصُّورِ} وهوَ: قرنٌ عظيمٌ لا يعلمُ عظمَهُ إلا الذي خلقَهُ، كما وردَ في حديثِ الصورِ المشهورِ، أو
(2)
نُفِخَ في الصورِ على وجهٍ لا يعلمُ كنهَهُ إلا اللهُ، نفخةَ الصعقِ والفزعِ؛ انزعجَ لهذا أهلُ السمواتِ والأرضِ وصَعِقُوا إلا مَنْ شاءَ اللهُ مِنْ خلقهِ.
(1)
بعدها في (خ): وصفاته.
(2)
كذا في (خ) و (ط). ولعل صوابها: «فإذا» ، كما يدل عليه تفسير المؤلف للآية نفسها في كتابه «تيسير الكريم الرحمن» (ص 729).
* {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى} نفخةُ البعثِ.
* {فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ} من أجداثِهم، كاملي الخلقةِ، ينظرونَ ما يستقبلُهم من هذهِ الحياةِ الأخرويةِ التي يجازَى فيها العبادُ بأعمالِهم حسنِها وسيئِها:
* أمَّا المؤمنونَ الطائعونَ: فيقومونَ مطمئنينَ طامعينَ في فضلِ ربِّهم ورحمتهِ، مستبشرينَ بثوابهِ وعفوهِ ومغفرتهِ، يُحشرونَ إلى موقفِ القيامةِ وفدًا مُكرمينَ.
* وأمَّا المجرمونَ: فيقومونَ فزعينَ خائفينَ متحسرينَ، يدعونَ بالويلِ والثبورِ، يقولونَ:{يَاوَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} [يس: 52]؟ فيُساقونَ إلى جهنمَ وردًا.
* فحينئذٍ تكثرُ القلاقلُ والأهوالُ، ويشيبُ الولدانُ من هولِ ذلكَ اليومِ وفظاعتهِ:{يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)} [الحج: 2]، {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)} [عبس: 34 - 42]، {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا (25) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا (26)} [الفرقان: 25 - 26]، وتُكوَّرُ الشمسُ والقمرُ، وتَنْتَثِرُ النجومُ، فتذهبُ هذهِ الأنوارُ المشاهدَةُ، وتُشرِقُ الأرضُ بنورِ ربِّها، وينزلُ اللهُ لفصلِ القضاءِ بينَ عبادهِ، ومحاسبتِهم على أعمالِهم:
* أمَّا المؤمنونَ: فيحاسبُهم حسابًا يسيرًا: يقررُهم بذنوبِهم، ثم يغفرُها ويسترُها عن الخلائقِ، ويضاعِفُ لهم الحسناتِ، ويعطِيهم من فضلهِ وإحسانهِ ما لا تبلغُهُ أعمالُهم، ويُعطونَ كتبَهم بأَيْمانِهم إكرامًا واحترامًا، كما تبيضُّ وجوهُهم، وتثقلُ موازينُهم.
• ويغتبطونَ بذلكَ، ويستبشرونَ بهِ، فيقولونَ لإخوانِهم ومعارفِهم ومحبِّيهم:{هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ} أي: أيقنتُ، {أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21)} [الحاقة: 19 - 21] الآيات.
• ويُساقونَ إلى الجنةِ زمرًا، كلُّ طائفةٍ منهم معَ نظرائِهم في الخيرِ بحسبِ طبقاتِهم وسبقِهم، كما يَرِدُونَ في عرصاتِ القيامةِ حوضَ نبيِّهم، فيشربونَ منهُ شربةً هنيئةً لا يظمؤونَ بعدَها، ويمرُّونَ على الصراطِ على قدرِ أعمالِهم: كلمحِ البصرِ، وكالبرقِ الخاطفِ، وكأجاويدِ الخيلِ والإبلِ، وكسعيِ الرجالِ، وكمشيِهم، ودونَ ذلكَ.
• فإذا عَبروا على الصراطِ وقفوا على قنطرةٍ بينَ الجنةِ والنارِ، فيَقتصُّ بعضُهم من بعضٍ مظالمَ وتبعاتٍ كانتْ بينَهم في الدنيا، حتى إذا هُذِّبوا ونُقُّوا أُذِنَ لهم في دخولِ الجنةِ، حتى إذا جاؤوها وفُتحتْ أبوابُها بشفاعةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، فتلقاهم خزنةُ الجنةِ، يسلِّمونَ عليهم، ويهنونَهم بالنجاةِ من العذابِ وحصولِ الخيرِ والثوابِ والخلودِ الأبديِّ بسببِ طيبِهم؛ ولهذا قالوا:{سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ} [الزمر: 73] أي: طابتْ قلوبُكم بالعقائدِ الصحيحةِ الصادقةِ، والأخلاقِ الجميلةِ، وألسنتُكم بذكرِ اللهِ والثناءِ عليهِ، وجوارحُكم بخدمتهِ والقيامِ بطاعتهِ؛ {فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر: 73].
• فإذا دخلُوها ورَأَوا ما فيها من النعيمِ المقيمِ، «مما لا عينٌ رأَتْ، ولا أذنٌ سمعَتْ، ولا خطرَ على قلبِ بشرٍ»
(1)
؛ حمدوا اللهَ على منَّتهِ عليهم بالسوابقِ والإيمانِ والأعمالِ الصالحةِ، وبإنجازِ ما وعدَهم بهِ على ألسنةِ رسلهِ، وعلى أنَّ اللهَ أورثَهم الجنةَ يتبوَّءونَ من خيراتِها حيثُ يشاؤونَ وأنَّى يشاؤونَ، مما تشتهيهِ الأنفسُ وتلذُّ الأعينُ من نعيمِ القلوبِ والأرواحِ، ومن نعيمِ الأبدانِ والأجسامِ، {عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا
(1)
كما في حديث النبي صلى الله عليه وسلم عند البخاري (3244)، ومسلم (2824).
مُتَقَابِلِينَ (16) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18)} [الواقعة: 15 - 18]، {وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23)} [الواقعة: 20 - 23] خيِّراتِ الأخلاقِ، حسانِ الوجوهِ، قدْ جمعَ اللهُ لهنَّ حسنَ البواطنِ والظواهرِ، فهنَّ سرورُ النفسِ، وقرَّةُ النواظرِ.
• وتمامُ ذلكَ أنَّ اللهَ يحلُّ عليهم رضوانَهُ فلا يسخطُ عليهم أبدًا، وأنهُ يقالُ لهم:«إنَّ لكم أنْ تَشِبُّوا فلا تَهْرَمُوا أبدًا، وإنَّ لكم أنْ تَصِحُّوا فلا تَمْرَضُوا أبدًا، وإنَّ لكم أنْ تَنْعَمُوا فلا تَبْأَسُوا أبدًا، وإنَّ لكم أنْ تَحْيَوا فلا تَمُوتُوا أبدًا»
(1)
، فلهم كلُّ ما يشاؤونَ فيها وتتعلقُ بهِ أمانِيهم، ولهم فوقَ ذلكَ مما لم تبلغْهُ أمانِيهم، ولهم نعيمٌ أعلى من ذلكَ كلِّهِ، وهوَ التمتعُ بالنظرِ إلى وجههِ الكريمِ، وسماعِ خطابهِ، والابتهاجُ برضاهُ وقربهِ، والسرورُ بمحبتهِ، وذكره وحمده، والثناء عليهِ وشكره؛ مما يشاهدونَ من كثرةِ الخيراتِ، وسوابغِ النعمِ والهباتِ، وزيادةِ النعيمِ وتواصلهِ، ومما يزدادونَ من معرفتهِ والأنسِ بهِ، فتباركَ اللهُ ذو الجلالِ والإكرامِ.
* وأمَّا الكافرونَ المجرمونَ: فيحاسبُهم اللهُ على ما أسلفوهُ من الجرائمِ، ويُقَرِّعُهم ويُخزِيهم بينَ الخلائقِ، ويُعطَونَ كتبَهم من وراءِ ظهورِهم بشمائلِهم، وتسودُّ منهم الوجوهُ، وتخفُّ موازينُهم، ويساقونَ إلى جهنمَ جياعًا عطاشًا منزعجينَ مرعوبينَ زمرًا، كلُّ طائفةٍ تُحشرُ معَ نظيرِها من أهلِ الشرِّ.
• {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر: 71] في وجوهِهم، ففاجأَهم حرُّها المُفْظِعُ، وحلَّ بهم الفزعُ الأكبرُ الذي لا يشبههُ فزعٌ، وتلقَّتْهم خزنةُ الجحيمِ، يوبِّخونَهم على ما قدَّموهُ، وقالوا لهم: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ
(1)
مسلم (2837) بنحوه.
لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى} [الزمر: 71] قدْ جاءَتْنا الرسلُ، وبلغَتْنا النذرُ، فما كانَ منَّا إليهم إلا الاستهزاءُ بهم والتكذيبُ، فلو كانَ لنا أسماعٌ واعيةٌ، وعقولٌ نافعةٌ ما وصَلْنا إلى هذهِ الدارِ، بلْ خالَفْنا المنقولَ والمعقولَ.
• {فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11)} [الملك: 11] ما أشدَّ شقاءَهم وعناءَهم! يُنَوَّعُ عليهم العذابُ أنواعًا: فتارةً يُعذَّبونَ بالسعيرِ المحرقِ لظواهرِهم وبواطنِهم، كلَّما نضجَتْ جلودُهم بُدِّلوا جلودًا غيرَها، وتارةً بالزمهريرِ الذي قدْ بلغَ بردُهُ أنْ يهريَ اللحومَ ويكسرَ العظامَ، وتارةً بالجوعِ المفرطِ والعطشِ المفظعِ.
• وإذا استغاثُوا لذلكَ أُغيثُوا بعذابٍ آخرَ، ولونٍ من الشقاءِ يُنسِي ما سبقَهُ، فيُغاثونَ بطعامٍ ذي غُصَّةٍ، بشجرةِ الزقومِ التي {تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ} [الصافات: 64]، وثمرُها في غايةِ المرارةِ والنتنِ والحرارةِ، إذا وصلَتْ بطونَهم غلَتْ فيها {كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46)} [الدخان: 46] الذي يُوقدُ عليهِ في النارِ، {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا} للشرابِ {يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ} [الكهف: 29] إذا قُرِّبَ إليها، فلا يدعُهم العطشُ معَ ذلكَ أنْ يتناولُوها، فإذا وصلَتْ إلى بطونِهم قطَّعتْ أمعاءَهم، ولا يزالونَ في عذابٍ متنوعٍ شديدٍ، لا يفترُ عنهم العذابُ ساعةً، ولا يرجونَ رحمةً ولا فرجًا، يتمنونَ المماتَ ليستريحُوا.
• فينادُونَ مالكًا -رئيس خزنة النار-: {يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف: 77]، فيقولُ لهم:{إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف: 77]، فلا تلومُوا إلا أنفسَكم؛ لما أسلفتموهُ من الجرائمِ، {لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [الزخرف: 78].
• وينادُونَ أهلَ الجنةِ مستغيثينَ بهم: {أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} [الأعراف: 50]، فيقولُ لهم أهلُ الجنةِ:{إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} [الأعراف: 50].
• وينادُونَ ربَّهم فيقولونَ: يا ربَّنَا {غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107)} [المؤمنون: 106 - 107]، فيجيُبهم اللهُ:{اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108)} [المؤمنون: 108]، فحينئذٍ ييأسونَ مِنْ كلِّ خيرٍ، ومِن كلِّ فرجٍ وراحةٍ، ويتيقنونَ أنهُ الخلودُ الدائمُ والعذابُ الأبديُّ والشقاءُ المستمرُّ. فنسألُ اللهَ الجنةَ، وما قرَّبَ إليها من قولٍ وعملٍ، ونعوذُ بهِ من النارِ، وما قرَّبَ إليها من قولٍ وعملٍ.
فصل
14 -
{وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20)} [الأنبياء: 19 - 20].
* الإيمانُ بالملائكةِ أحدُ أصولِ الإيمانِ، ولا يتمُّ الإيمانُ باللهِ وكتبهِ ورسلهِ إلا بالإيمانِ بالملائكةِ، وقدْ وصفَهم اللهُ بأكملِ الصفاتِ، وأنهم في غايةِ القوةِ على عبادةِ اللهِ، والرغبةِ العظيمةِ فيها، وأنهم {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20)} ، وأنهم {لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ} ، بلْ يرونَها من أعظمِ نعمهِ عليهم، وأنهم {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6].
* ففي هذا: بيانُ كمالِ محبتِهم لربِّهم، وقوةُ إنابتِهم إليهِ، ونشاطُهم التامُّ في طاعتهِ، وأنهم لا يعصونَهُ طرفةَ عينٍ، وهم الوسائطُ بينَهُ وبينَ رسلهِ، وخصوصًا جبريلَ أفضلَهم وأعظمَهم وأقواهم وأرفعَهم عندَ اللهِ منزلةً؛ فإنهُ ذو قوةٍ {عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21)} [التكوير: 20 - 21]، {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24)} [التكوير: 24]، {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194)} [الشعراء: 192 - 194].
* وكما أنهم الوسائطُ بينَهُ وبينَ عبادهِ في تبليغِ الوحيِ والشرائعِ إلى الأنبياءِ، فهم الوسائطُ في التدبيراتِ القدريةِ؛ فإنَّ اللهَ وصفَهم بأنهم:{المُدَبِّرَاتِ أَمْرًا} [النازعات: 5]، فكلُّ طائفةٍ منهم قدْ وَكَّلَهُ على عملٍ هوَ قائمٌ بهِ بإذنِ اللهِ:
* فمنهم الموكَّلونَ بالغيثِ والنباتِ.
* والموكَّلونَ بحفظِ العبادِ مما يضرُّهم، وبحفظِ أعمالِهم وكتابتِها.
* والموكَّلونَ بقبضِ الأرواحِ.
* وبتصويرِ الأجنةِ في الأرحامِ.
* وكتابةِ ما يجرِي عليها في الحالِ والمآلِ.
* والموكَّلونَ على الجنةِ والنارِ.
* ومنهم حملةُ العرشِ، ومَن حولَهُ مِنْ الملائكةِ المقربينَ.
إلى غيرِ ذلكَ مما وُصفُوا بهِ في الكتابِ والسنةِ.
* فيجبُ الإيمانُ بهم إجمالًا وتفصيلًا، وكثيرٌ من سورِ القرآنِ فيها ذكرُ الملائكةِ والخبرُ عنهم، فعلينا أنْ نؤمنَ بذلكَ كلِّهِ.
* ولا تكادُ تجدُ أحدًا ينكرُ وجودَ الملائكةِ إلا الزنادقةَ المنكرينَ لوجودِ ربِّهم، ومَن تستَّرَ بالإسلامِ منهم، فإنهُ ينكرُ الملائكةَ حقيقةً، وينكرُ خبرَ اللهِ ورسولهِ عنهم، ويفسرُ الملائكةَ تفسيرًا وتحريفًا خبيثًا، فيزعمُ أنَّ الملائكةَ هيَ القوَى الخيريةُ والصفاتُ الحسنةُ الموجودةُ في الإنسانِ، وأنَّ الشياطينَ هيَ القوَى الشريرةُ فيه، وغرضُهم من هذا التحريفِ دفعُ الشُّنعةِ عنهم، وقدْ ازدادُوا بهذا التحريفِ شرًّا إلى شرِّهم.
وراجَ هذا التحريفُ الخبيثُ على بعضِ الذينَ يحسنونَ الظنَّ بهؤلاءِ الزنادقةِ، وليسَ عندهم بصيرةٌ في أديانِ الرسلِ وإنْ أظهرُوا تعظيمَهم، فإنَّ زنادقةَ الفلاسفةِ أعظمُ في قلوبِهم من الرسلِ، وكفَى بالعبدِ ضلالًا وغيًّا أنْ يصلَ إلى هذهِ الحالِ! ونعوذُ باللهِ من مضلَّاتِ الفتنِ.
ولم تزَلْ بهم هذهِ الجرأةُ والخضوعُ لأقوالِ جهلةِ الزنادقةِ حتى فسَّروا الملائكةَ بذلكَ التحريفِ، وحتى زعمَ بعضُهم أنَّ سجودَ الملائكةِ لآدمَ ليسَ حقيقةً، وإنما ذلكَ
تسخيرُ اللهِ للآدميينَ جميعَ ما في الأرضِ من القوَى والمعادنِ وغيرِها، فأنكرَ ما هوَ معلومٌ بالضرورةِ بخبرِ اللهِ الصريحِ في كتابهِ وخبرِ رسولهِ، وقالَ هذهِ المقالةَ التي فيها -معَ تكذيبِ اللهِ ورسولهِ- تسويةُ كفارِ الآدميينَ وفجرتِهم وأولِهم وآخرِهم بآدمَ، ومضمونُ ذلكَ بلْ صريحُ قولِهم: إنَّ الملائكةَ سجدَتْ لجميعِ الآدميينَ برِّهم وفاجرِهم؛ فأينَ قولُ الناسِ في موقفِ القيامةِ: يا آدمُ، أنتَ الذي خلقَكَ اللهُ بيدهِ، ونفخَ فيكَ من روحهِ، وأسجدَ لكَ ملائكتَهُ؟!
ولولا أنَّ مثلَ هذهِ التحريفاتِ والتكذيبِ للهِ ورسولهِ موجودٌ في كتبِ مَنْ يُشارُ إليهم بالعلمِ؛ لم يكنْ بنا حاجةٌ إلى دفعِ هذا القولِ الجريءِ، الذي يَعلَمُ كلُّ مسلمٍ لم تغيِّرْهُ العقائدُ الباطلةُ بطلانَهُ.
* ولنقتصِرْ على هذا المقدارِ من الإشارةِ إلى العقائدِ المتعلقةِ بالتوحيدِ والرسالةِ واليومِ الآخرِ والجزاءِ، وإنْ كانَ القرآنُ معظمُهُ في تقريرِ هذهِ الأصولِ العظيمةِ؛ لشدةِ الحاجةِ والضرورةِ إليها في كلِّ وقتٍ وحالٍ، ولكنْ حصلَ - وللهِ الحمدُ- التنبيهُ الذي يحصلُ بهِ المقصودُ، ويعينُ على غيرهِ، واللهُ أعلمُ.
فصل في ذكر الفوائد والثمرات المترتبة على التحقق بهذه العقائد الجليلة
اعلَمْ أنَّ خيرَ الدنيا والآخرةِ من ثمراتِ الإيمانِ الصحيحِ، وبهِ يحيا العبدُ حياةً طيبةً في الدارينِ، وبهِ ينجو من المكارهِ والشرورِ، وبهِ تخفُّ الشدائدُ، وتُدركُ جميعُ المطالبِ. ولنُشِرْ إلى هذهِ الثمراتِ على وجهِ التفصيلِ؛ فإنَّ معرفةَ فوائدِ الإيمانِ وثمراتهِ من أكبرِ الدواعِي إلى التزودِ منه:
* فمن ثمراتِ الإيمانِ: أنهُ سببُ رضا اللهِ الذي هوَ أكبرُ شيءٍ، فما نالَ أحدٌ رضا اللهِ في الدنيا والآخرةِ إلا بالإيمانِ وثمراتهِ، بلْ صرَّحَ اللهُ بهِ في كتابهِ في مواضعَ كثيرةٍ
(1)
، وإذا رضيَ اللهُ عن العبدِ قَبِلَ اليسيرَ من عملهِ ونماهُ، وغفَرَ الكثيرَ من زللِهِ ومحاهُ.
* ومنها: أنَّ ثوابَ الآخرةِ، ودخولَ الجنةِ والتنعمَ بنعيمِها، والنجاةَ من النارِ وعقابِها؛ إنما يكون بالإيمانِ، فأهلُ الإيمانِ هم أهلُ الثوابِ المطلقِ، وهم الناجونَ من جميعِ الشرورِ.
* ومنها: أنَّ اللهَ يدفعُ ويدافعُ عن الذينَ آمنوا شرورَ الدنيا والآخرةِ، فيدفعُ عنهم كيدَ شياطينِ الإنسِ والجنِّ؛ ولهذا قالَ تعالى:{إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99)} [النحل: 99]، ولما ذكَرَ إنجاءَهُ ذا النونِ قال:{وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء: 88] أي: من الشدائدِ والمكارهِ إذا وقعُوا فيها.
(1)
كما في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)} [البينة: 7 - 8].
والإيمانُ -بنفسهِ وطبيعتهِ- يدفعُ الإقدامَ على المعاصِي، وإذا وقعَتْ من العبدِ دفعَ عقوباتِها بالمبادرةِ إلى التوبةِ، كما قالَ صلى الله عليه وسلم: «لا يَزْنِي الزَّانِي حِيْنَ يَزْنِي وهوَ مُؤْمِنٌ
…
» إلى آخرِ الحديثِ
(1)
، فبيَّنَ أنَّ الإيمانَ يدفعُ وقوعَ الفواحشِ، وقالَ تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201)} [الأعراف: 201].
* ومنها: أنَّ اللهَ وعدَ المؤمنينَ القائمينَ بالإيمانِ حقيقةً بالنصرِ، وأحقَّهُ على نفسهِ، فمَن قامَ بالإيمانِ ولوازمهِ ومتمماتهِ فلهُ النصرُ في الدنيا والآخرةِ، وإنما ينتصرُ أعداءُ المؤمنينَ عليهم إذا ضيَّعُوا الإيمانَ، وضيَّعُوا حقوقَهُ وواجباتهِ المتنوعةَ.
* ومنها: أنَّ الهدايةَ من اللهِ للعلمِ والعملِ ولمعرفةِ الحقِّ وسلوكهِ هيَ بحسبِ الإيمانِ والقيامِ بحقوقهِ، قالَ تعالى:{يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ} [المائدة: 16]، ومعلومٌ أنَّ اتباعَ رضوانِ اللهِ -الذي هوَ حقيقةُ الإخلاصِ- هوَ روحُ الإيمانِ وساقُهُ الذي يقومُ عليهِ.
وقالَ تعالى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن: 11]، فهذه هدايةٌ عمليةٌ، هدايةُ توفيقٍ وإعانةٍ على القيامِ بوظيفةِ الصبرِ عندَ حلولِ المصائبِ إذا عَلِمَ أنها مِنْ عندِ اللهِ؛ فرَضِيَ وسلَّمَ وانقادَ.
* ومنها: أنَّ الإيمانَ يدعُو إلى الزيادةِ من علومهِ وأعمالهِ الظاهرةِ والباطنةِ، فالمؤمنُ بحسبِ إيمانهِ لا يزالُ يطلبُ الزيادةَ من العلومِ النافعةِ، ومنِ الأعمالِ النافعةِ ظاهرًا وباطنًا، وبحسبِ قوةِ إيمانهِ يزيدُ إيمانهُ ورغبتهُ وعملهُ، كما قالَ تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ
(1)
البخاري (2475)، ومسلم (57).
الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} [الحجرات: 15] الآية، {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2)} [الأنفال: 2]، {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [التوبة: 124].
* ومنها: أنَّ المؤمنينَ باللهِ وبكمالهِ وعظمتهِ وكبريائهِ ومجدهِ أعظمُ الناسِ يقينًا وطمأنينةً، وتوكلًا على اللهِ، وثقةً بوعدهِ الصادقِ، ورجاءً لرحمتهِ، وخوفًا من عقابهِ، وأعظمُهم إجلالًا للهِ ومراقبةً، وأعظمُهم إخلاصًا وصدقًا، وهذا هوَ صلاحُ القلوبِ، لا سبيلَ إليهِ إلا بالإيمانِ.
* ومنها: أنهُ لا يمكنُ العبد أنْ يقومَ بالإخلاصِ للهِ ولعبادِ اللهِ ونصيحتِهم على وجهِ الكمالِ إلا بالإيمانِ؛ فإنَّ المؤمنَ تحملهُ عبوديةُ اللهِ، وطلبُ التقربِ إلى اللهِ، ورجاءُ ثوابهِ، والخشيةُ من عقابهِ؛ على القيامِ بالواجباتِ التي للهِ، والتي لعبادِ اللهِ.
* ومنها: أنَّ المعاملاتِ بينَ الخلقِ لا تتمُّ وتقومُ إلا على الصدقِ والنصحِ وعدمِ الغشِّ بوجهٍ من الوجوهِ، وهلْ يقومُ بها على الحقيقةِ إلا المؤمنونَ!
* ومنها: أنَّ الإيمانَ أكبرُ عونٍ على تحملِ المشقاتِ، والقيامِ بأعباءِ الطاعاتِ، وتركِ الفواحشِ التي في النفوسِ داعٍ قويٌّ إلى فعلِها، فلا تتمُّ هذهِ الأمورُ إلا بقوةِ الإيمانِ.
* ومنها: أنَّ العبدَ لابدَّ أنْ يُصابَ بشيءٍ من الخوفِ، والجوعِ، ونقصٍ من الأموالِ والأنفسِ والثمراتِ، وهوَ بينَ أمرينِ:
* إما أنْ يجزعَ ويضعفَ صبرُهُ؛ فيفوتُهُ الخيرُ والثوابُ، ويستحقُّ على ذلكَ العقابَ، ومصيبتُهُ لم تُقْلِعْ ولم تَخِفَّ، بلْ الجزعُ يزيدُها.
* وإمَّا أنْ يصبرَ؛ فيحظى بثوابِها، والصبرُ لا يقومُ إلا على الإيمانِ، وأمَّا الصبرُ الذي لا يقومُ على الإيمانِ -كالتجلدِ ونحوهِ- فما أقلَّ فائدتَهُ، وما أسرعَ ما يعقبُهُ الجزعُ! فالمؤمنونَ أعظمُ الناسِ صبرًا ويقينًا وثباتًا في مواضعِ الشدةِ.
* ومنها: أنَّ الإيمانَ يوجِبُ للعبدِ قوةَ التوكلِ على اللهِ؛ لعلمِهِ وإيمانهِ أنَّ الأمورَ كلَّها راجعةٌ إلى اللهِ، ومندرجةٌ في قضائهِ وقدرهِ، وأنَّ مَنْ اعتمدَ عليهِ كفاهُ، ومَن توكَّلَ على اللهِ فقدْ توكَّلَ على القويِّ العزيزِ القهارِ.
ومعَ أنهُ يوجِبُ قوةَ التوكلِ فإنهُ يوجِبُ السعيَ والجدَّ في كلِّ سببٍ نافعٍ؛ لأنَّ الأسبابَ النافعةَ نوعانِ: دينيةٌ، ودنيويةٌ:
* فالأسبابُ الدينيةُ: هيَ إيمانٌ، وهيَ من لوازمِ الإيمانِ.
* والأسبابُ الدنيويةُ قسمانِ:
• سببٌ معينٌ على الدينِ، ويحتاجَ إليهِ الدينُ، فهوَ أيضًا من الدينِ، كالسعيِ في القوةِ المعنويةِ والماديةِ التي فيها قوةُ المؤمنينَ.
• وسببٌ لم يوضَعْ في الأصلِ مُعينًا على الدينِ، ولكنَّ المؤمنَ -لقوةِ إيمانهِ ورغبتهِ فيما عندَ اللهِ من الخيرِ- يسلكُ إلى ربِّهِ وينفذُ إليهِ معَ كلِّ سببٍ وطريقٍ؛ فيستخرجُ من المباحاتِ بنيتهِ وصدقِ معرفتهِ ولطفِ علمهِ بابًا يكونُ بهِ مُعينًا على الخيرِ، مجمًّا للنفسِ، مساعدًا لها على القيامِ بحقوقِ اللهِ وحقوقِ عبادهِ الواجبةِ والمستحبةِ.
فيكونُ هذا المباحُ حسنًا في حقِّهِ، عبادةً للهِ؛ لما صحبهُ من النيةِ الصادقةِ، حتى إنَّ بعضَ المؤمنينَ الصادقينَ في إيمانِهم ومعرفتِهم ربما نوَى في نومهِ وراحاتهِ ولذاتهِ التقوِّيَ على الخيرِ، وتربيةَ البدنِ لفعلِ العباداتِ، وتقويتَهُ على الخيرِ، وكذلكَ في أدويتهِ وعلاجاتهِ التي يحتاجُها، وربما نوَى في اشتغالهِ في المباحاتِ أو بعضِها الاشتغالَ عن
[الشرِّ، وربما]
(1)
نوَى بذلكَ جذبَ مَنْ خالطَهُ وعاشرَهُ بمثلِ الأمورِ
(2)
على فعلِ خيرٍ، أو انكفافٍ عن شرٍّ، وربما نوَى بمعاشرتهِ الحسنةِ إدخالَ السرورِ والانبساطِ على قلوبِ المؤمنينَ؛ ولا ريبَ أنَّ ذلكَ كلَّهُ من الإيمانِ ولوازمهِ.
ولما كانَ الإيمانُ بهذا الوصفِ قالَ تعالى في عدةِ آياتٍ من كتابهِ: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 23].
* ومنها: أنَّ الإيمانَ يشجعُ العبدَ، ويزيدُ الشجاعَ شجاعةً؛ فإنهُ لاعتمادهِ على اللهِ العزيزِ الحكيمِ، ولقوةِ رجائهِ وطمعهِ فيما عندهُ؛ تهونُ عليهِ المشقاتُ، ويقدمُ على المخاوفِ، واثقًا بربهِ، راجيًا لهُ، راهبًا من نزولهِ من عينهِ لخوفهِ من المخلوقينَ.
ومن الأسبابِ لقوةِ الشجاعةِ: أنَّ المؤمنَ يعرفُ ربَّهُ حقًا، ويعرفُ الخلقَ حقًّا، فيعرفُ أنَّ اللهَ هوَ النافعُ الضارُّ، المعطِي المانعُ، الذي لا يأتي بالحسناتِ إلا هوَ، ولا يدفعُ السيئاتِ إلا هوَ، وأنهُ الغنيُّ من جميعِ الوجوهِ، وأنهُ أرحمُ بعبادهِ من الوالدةِ بولدِها، وألطفُ بهِ من كلِّ أحدٍ، وأنَّ الخلقَ بخلافِ ذلكَ كلِّهِ؛ ولا ريبَ أنَّ هذا داعٍ قويٌ عظيمٌ يدعُو إلى قوةِ الشجاعةِ، وقصرِ خوفِ العبدِ ورجائهِ على ربهِ، وأنْ ينتزعَ من قلبهِ خوفَ الخلقِ ورجاءَهم وهيبتَهم.
* ومنها: أنَّ الإيمانَ هوَ السببُ الأعظمُ لتعلقِ القلبِ باللهِ في جميعِ مطالبهِ الدينيةِ والدنيويةِ، والإيمانُ القويُّ يدعُو إلى هذا المطلبِ الذي هوَ أعلى الأمورِ على الإطلاقِ، وهوَ غايةُ سعادةِ العبدِ، وفي مقابلةِ هذا يدعُو إلى التحررِ من رقِّ القلبِ للمخلوقينَ، ومن التعلقِ بهم.
(1)
كذا في (خ)، وبه يستقيم السياق. وفي (ط): الشرور بما.
(2)
كذا في (خ) و (ط). ولعل صوابها: هذه الأمور.
ومَن تعلقَ بالخالقِ دونَ المخلوقِ في كلِّ أحوالهِ حصلتْ لهُ الحياةُ الطيبةُ، والراحةُ الحاضرةُ، والتوحيدُ الكاملُ، كما أنَّ مَنْ عكسَ القضيةَ نقصَ إيمانهُ وتوحيدهُ، وانفتحَتْ عليهِ الهمومُ والغمومُ والحسراتُ.
ولا ريبَ أنَّ هذينِ الأمرينِ
(1)
تبعٌ لقوةِ الإيمانِ وضعفهِ، وصدقهِ وكذبهِ، وتحققهِ حقيقةً، أو دعواهُ والقلبُ خالٍ منهُ.
* ومنها: أنَّ الإيمانَ يدعُو إلى حسنِ الخلقِ معَ جميعِ طبقاتِ الناسِ، كما قالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم:«أكملُ المؤمنينَ إيمانًا أحسنُهم خُلقًا»
(2)
.
وجماعُ حسنِ الخُلقِ:
* أنْ يتحملَ العبدُ الأذَى منهم.
* ويبذلَ إليهم ما استطاعَ مِنْ المعروفِ القوليِّ والبدنيِّ والماليِّ.
* وأنْ يخالقَهم بحسبِ أحوالِهم بما يحبونَ إذا لم يكنْ في ذلكَ محذورٌ شرعيٌّ.
* وأنْ يدفعَ السيئةَ بالتي هيَ أحسنُ.
ولا يقومُ بهذا الأمرِ إلا المؤمنونَ الكُمَّلُ؛ قالَ تعالى: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35)} [فصلت: 35].
وإذا ضعفَ الإيمانُ أو نَقُصَ أو انحرفَ أثَّرَ ذلكَ في أخلاقِ العبدِ انحرافًا بحسبِ بُعْدهِ عن الإيمانِ.
(1)
أي: تعلق القلب بالله، والتحرر من رقِّ القلب للمخلوقين.
(2)
الترمذي (1162)، وأبو داود (4682).
* ومنها: أنَّ الإيمانَ الكاملَ يمنعُ من دخولِ النارِ بالكليةِ، كما منعَ صاحبَهُ في الدنيا من عملِ المعاصِي، ومن الإصرارِ على ما وقعَ منهُ منها.
والإيمانُ الناقصُ يمنعُ الخلودَ في النارِ وإنْ دخَلَها، كما تواترَتْ بذلكَ النصوصُ: بأنهُ يخرجُ مِنْ النارِ مَنْ كانَ معهُ مثقالُ حبةِ خردلٍ من إيمانٍ.
* ومنها: أنَّ الإيمانَ يوجِبُ لصاحبهِ أنْ يكونَ معتبَرًا عندَ الخلقِ أمينًا، ويوجِبَ للعبدِ العفةَ عن دماءِ الناسِ وأموالِهم وأعراضِهم، وفي الحديثِ «المؤمنُ من أمنَهُ الناسُ على دمائِهم وأموالِهم»
(1)
.
وأيُّ شرفٍ دنيويٍّ أبلغُ من هذا الشرفِ الذي يبلغُ بصاحبهِ أنْ يكونَ من الطبقةِ العاليةِ من الناسِ؛ لقوةِ إيمانهِ، وتمامِ أمانتهِ، ويكونَ محلَّ الثقةِ عندَهم، وإليهِ المرجعُ في أمورِهم! وهذا من ثمراتِ الإيمانِ الجليلةِ الحاضرةِ.
* ومنها: أنَّ قويَّ الإيمانِ يجدُ في قلبهِ من ذوقِ حلاوتهِ ولذةِ طعمهِ واستحلاءِ آثارهِ، والتلذذِ بخدمةِ ربهِ، وأداءِ حقوقهِ وحقوقِ عبادهِ التي هيَ موجبُ الإيمانِ
وأثرُهُ - ما يُزرِي بلذات الدنيا كلِّها بأسرِها:
* فإنهُ مسرورٌ وقتَ قيامهِ بواجباتِ الإيمانِ ومستحباتهِ.
* ومسرورٌ بما يرجوهُ ويأملهُ من ربهِ من ثوابهِ وجزائهِ العاجلِ والآجلِ.
* ومسرورٌ بأنهُ ربحَ وقتَهُ الذي هوَ زهرةُ عمرِهِ وأصلُ مكسبهِ.
(1)
الترمذي (2627)، والنسائي (4995)، وابن ماجه (3934).
* ومحشوٌّ قلبُهُ أيضًا من لذةِ معرفتهِ بربهِ، ومعرفتهِ بكمالهِ وكمالِ برِّهِ، وسعةِ جودهِ وإحسانهِ، ولذةِ محبتهِ والإنابةِ إليهِ الناشئةِ عن معرفتهِ بأوصافهِ، وعن مشاهدةِ إحسانهِ ومننهِ.
فالمؤمنُ يتقلبُ في لذاتِ الإيمانِ وحلاوتهِ المتنوعةِ؛ ولهذا كانَ الإيمانُ مسليًا عن المصيباتِ مهونًا للطاعاتِ، ومانعًا من وقوعِ المخالفاتِ، جاعلًا إرادةَ العبدِ وهواهُ تبعًا لما يحبهُ اللهُ ويرضاهُ، كما قالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم:«لا يؤمنُ أحدُكم حتى يكونَ هواهُ تبعًا لما جئتُ بهِ»
(1)
.
* ومنها: أنَّ الإيمانَ هوَ السببُ الوحيدُ للقيامِ بذروةِ سنامِ الدينِ، وهوَ الجهادُ البدنيُّ والماليُّ والقوليُّ، جهادُ الكفارِ بالسيفِ والسنانِ، وجهادُ الكفارِ والمنافقينَ والمنحرفينَ في أصولِ الدينِ وفروعهِ بالحكمةِ والحجةِ والبرهانِ.
فكلما قويَ إيمانُ العبدِ علمًا ومعرفةً وإرادةً وعزيمةً قويَ جهادُهُ، وقامَ بكلِّ ما يقدرُ عليهِ بحسبِ حالهِ ومرتبتهِ؛ فنالَ الدرجةَ العاليةَ والمنزلةَ الرفيعةَ.
وإذا ضعفَ الإيمانُ تركَ العبدُ مقدورَهُ من الجهادِ القوليِّ بالعلمِ والحجةِ والنصيحةِ والأمرِ بالمعروفِ والنهيِ عن المنكرِ، وضعفَ جهادُهُ البدنيُّ لعدمِ الحاملِ لهُ على ذلكَ؛ ولهذا قالَ تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15)} [الحجرات: 15]، فصادقُ الإيمانِ يحملهُ صدقهُ على القيامِ بهذهِ المرتبةِ التي هيَ مرتبةُ الطبقتينِ العاليتينِ بعدَ النبيِّينَ:
(1)
ابن أبي عاصم في «السنة» (1/ 12). وقال النووي: «حديث صحيح، ورويناه في "كتاب الحجة" بإسناد صحيح» (الأربعون النووية: ص 45).
* طبقةِ الصديقينَ المجاهدينَ بالعلمِ والحجةِ والتعليمِ والنصيحةِ.
* وطبقةِ الشهداءِ الذينَ قاتلوا في سبيلِ اللهِ ثم قتلوا أو ماتوا من دونِ قتلٍ.
وهذا كلُّهُ من ثمراتِ الإيمانِ ومن تمامهِ وكمالهِ.
وبالجملةِ: فخيرُ الدنيا والآخرةِ كلُّهُ فرعٌ عن الإيمانِ ومترتبٌ عليهِ، والهلاكُ والنقصُ إنما يكون بفقدِ الإيمانِ أو نقصهِ، واللهُ المستعانُ.
فصل في ذكر بعض الآيات الحاثة على القيام بحقوق الله وحقوق الخلق
1 -
قال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (36)} [النساء: 36]، والآياتُ التي في سورةِ الإسراءِ:{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23)} [الإسراء: 23] إلى قولهِ: {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا (39)} [الإسراء: 39].
* هذهِ الآياتُ الكريمةُ فيها: الأمرُ بعبادةِ اللهِ وحدَهُ لا شريكَ لهُ، والدخولُ تحتَ رقِّ عبوديتهِ التي هيَ غايةُ شرفِ العبدِ، والانقيادُ لأوامرهِ، واجتنابُ نواهيهِ، محبةً لهُ وذلًّا لهُ، وإخلاصًا للهِ وإنابةً لهُ في جميعِ الحالاتِ، وفي جميعِ العباداتِ الظاهرةِ والباطنةِ.
* وفيها: النهيُ عن الشركِ بهِ شيئًا:
* سواءٌ كان أكبرَ: بأنْ يصرفَ نوعًا من أنواعِ العبادةِ لغيرِ اللهِ.
* أو شركًا أصغرَ: مثلَ وسائلِ الشركِ، كالحلفِ بغير اللهِ والرياءِ، ونحوِ ذلكَ مما يتذرعُ بهِ إلى الشركِ.
بلْ الواجبُ المتعينُ إخلاصُ العبادةِ لمن لهُ الكمالُ المطلقُ من جميعِ الوجوهِ، والتدبيرُ الكاملُ الشاملُ الذي لا يشركهُ ولا يعينهُ عليهِ أحدٌ.
* ثم بعدَ ما أمرَ بالقيامِ بحقِّ اللهِ المقدمِ على كلِّ حقٍّ، أَمَرَ بالقيامِ بحقوقِ ذوي الحقوقِ من الخلقِ، الأهمِّ فالأهمِّ، فقالَ:{وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} أي: أحسنُوا إليهم بالقولِ الكريمِ، والخطابِ اللطيفِ، وبالفعلِ: بالقيامِ بطاعتِهما، واجتنابِ معصيتِهما، والحذرِ من عقوقِهما، والإنفاقِ عليهما، وإكرامِ مَنْ لهُ تعلقٌ بهما، وصلةِ الرحمِ التي لا رحمَ لكَ إلا من جهتِهما، {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24)} .
والأمرُ بالإحسانِ إلى الوالدينِ وإطلاقُهُ يدخلُ فيه كلُّ ما عدَّهُ الناسُ إحسانًا، وذلكَ يختلفُ باختلافِ الأوقاتِ والأحوالِ والأشخاصِ. وفيهِ: النهيُ عن ضدِّ الإحسانِ إليهما، وهوَ أمرانِ:
* الإساءةُ والعقوقُ الذي هوَ: إيصالُ الأذَى القوليِّ والفعليِّ إليهما، وتركُ القيامِ ببعضِ حقوقِهما الواجبةِ.
* والأمرُ الثاني: تركُ الإحسانِ وتركُ الإساءةِ، فإنَّ ذلكَ داخلٌ في العقوقِ، فلا يسعُ الولدُ أنْ يقولَ: إذا قمتُ بواجبِ والديَّ وتركتُ معصيتَهما فقد قمتُ بحقِهما، فيقال: بلْ عليكَ أنْ تبذلَ لهما من الإحسانِ الذي تقدرُ عليهِ ما يجعلُكَ في مرتبةِ الأبرارِ البارِّينَ بوالدَيْهم.
* وقولُهُ: {كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} بيانٌ لبعضِ الأسبابِ الموجبةِ للبرِّ، وأنَّ الوالدينِ اشتركَا في تربيةِ بدنِكَ وروحِكَ بالتغذيةِ والكسوةِ والحضانةِ والقيامِ بكلِّ المؤنِ، وبالتعليمِ والإرشادِ والإلزامِ بطاعةِ اللهِ والآدابِ والأخلاقِ الجميلةِ.
وفي هذا دليلٌ على أنَّ كلَّ مَنْ لهُ عليكَ حقُّ تربيةٍ -بقيامٍ بمؤنةِ نفقةٍ وكسوةٍ وغيِرها- أنَّ لهُ حقًّا عليكَ بالإحسانِ والبرِّ والدعاءِ.
وأعلى من ذلكَ: مَنْ لهُ حقٌّ عليكَ بتربيةِ عقلِكَ وروحِكَ تربيةً علميةً تهذيبيةً، أنَّ لهُ الحقَّ الأكبرَ عليكَ، وهذا من جملةِ فضائلِ أهلِ العلمِ المعلمينَ العاملينَ، ومن حقوقِهم على الناسِ، فإنهم ربما فاقُوا في هذهِ التربيةِ تربيةَ الوالدينِ بأضعافٍ مضاعفةٍ، وذلكَ فضلُ اللهِ يؤتيهِ من يشاءُ.
* وقولُهُ: {وَبِذِي الْقُرْبَى} أي: أحسنُوا إلى أقاربِكم القريبِ منهم والبعيدِ، بالقولِ والفعلِ، وأوصلُوا لهم من الهدايا والصدقاتِ والبرِّ والإحسانِ المتنوعِ ما يشرحُ صدورَهم، وتتيسرُ بهِ أمورُهم، وتكونوا بذلكَ واصلينَ، وللأجرِ من اللهِ حائزينَ.
* {وَالْيَتَامَى} وهم: الذينَ فُقِدَتْ آباؤُهم وهم صغارٌ، فمن رحمةِ أرحمِ الراحمينَ أمرَ الناسَ برحمتِهم، والحنوِّ عليهم، والإحسانِ إليهم، وكفالتِهم، وجبرِ خواطرِهم، وتأديبِهم، وأنْ يربُّوهم أحسنَ تربيةٍ كما يربُّونَ أولادَهم، سواءٌ كانَ اليتيمُ ذكرًا أو أنثى، قريبًا أو غيرَ قريبٍ.
* {وَالْمَسَاكِينِ} وهم: الذينَ أسكنَتْهم الحاجةُ والفقرُ؛ فلم يحصلُوا على كفايتِهم ولا كفايةِ مَنْ يمونونَ، فأمرَ تعالى بسدِّ خلَّتِهم، ودفعِ فاقتِهم، والحضِّ على ذلكَ، وقيامِ العبدِ بما أمكنَهُ من ذلكَ من غيرِ ضررٍ عليهِ.
* {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى} أي: الجارِ القريبِ الذي لهُ حقُّ الجوارِ وحقُّ القرابةِ. {وَالْجَارِ الْجُنُبِ} الذي ليس بقريبٍ.
فعلى العبدِ القيامُ بحقِّ جارهِ مطلقًا، مسلمًا كانَ أو كافرًا، قريبًا أو بعيدًا، بكفِّ أذاهُ عنهُ، وتحملِ أذاهُ، وبذلِ ما يهونُ عليهِ ويستطيعهُ من الإحسانِ، وتمكينهِ من الانتفاعِ
بجدارهِ، أو طريقِ ماءٍ، على وجهٍ لا يضرُّ الجارَ، وتقديمِ الإحسانِ إليهِ على الإحسانِ على مَنْ ليسَ بجارٍ، وكلَّما كانَ الجارُ أقربَ بابًا كانَ آكدَ لحقِّهِ.
فينبغي للجارِ أنْ يتعاهدَ جارَهُ: بالصدقةِ والهديةِ والدعوةِ، واللطافةِ بالأقوالِ والأفعالِ؛ تقربًا إلى اللهِ، وإحسانًا إلى أخيهِ صاحبِ الحقِّ.
* {وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ} قيلَ: هوَ الرفيقُ في السفرِ، وقيلَ: هوَ الزوجةُ، وقيلَ: هوَ الرفيقُ مطلقًا في الحضرِ والسفرِ، وهذا أشملُ؛ فإنهُ يشملُ القولينِ الأولينِ.
فعلى الصاحبِ لصاحبهِ حقٌّ زائدٌ على مجردِ إسلامهِ: من مساعدتهِ على أمورِ دينهِ ودنياهُ، والنصحِ لهُ، والوفاءِ معهُ في [اليسرِ والعسرِ]
(1)
والمنشطِ والمكرهِ، وأنْ يحبَّ لهُ ما يحبُّ لنفسهِ، ويكرَهَ لهُ ما يكرَهُ لنفسهِ، وكلَّما زادتِ الصحبةُ تأكَّدَ الحقُّ وزادَ.
* {وَابْنِ السَّبِيلِ} وهوَ: الغريبُ في غيرِ بلدهِ، سواءٌ كانَ محتاجًا أو غيرَ محتاجٍ؛ فحَثُّ اللهُ على الإحسانِ إلى الغرباءِ؛ لكونِهم في مظنةِ الوحشةِ والحاجةِ، وتَعَذُّرِ ما يتمكنونَ عليهِ في أوطانِهم، فيُتَصَدَّقُ على محتاجِهم، ويُجْبَرُ خاطرُ غيرِ المحتاجِ بالإكرامِ والهديةِ والدعوةِ والمعاونةِ على سفرهِ.
* {وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} أي: من الرقيقِ والبهائمِ؛ بالقيامِ بكفايتِهم، وألَّا يُحمَّلُوا ما لا يطيقونَ، وأنْ يعاونُوا
(2)
على مهماتِهم، وأنْ يقامَ بتقويمِهم وتأديبِهم النافعِ.
فمَن قامَ بهذهِ المأموراتِ فهوَ الخاضعُ لربهِ، المتواضعُ لعبادِ اللهِ، المنقادُ لأمرِ اللهِ وشرعهِ، الذي يستحقُّ الثوابَ الجزيلَ والثناءَ الجميلَ؛ ومَن لم يقُمْ بذلكَ فإنهُ عبدٌ
(1)
في (ط): العسر واليسر. والمثبت من (خ)، ولعله هو الصواب؛ لموافقته نص المؤلف في «تيسير الكريم الرحمن» (ص: 177).
(2)
في (خ): يعانوا. وفي «تيسير الكريم الرحمن» : «إعانتهم على ما يتحملون» (ص: 177).
معرضٌ عن ربهِ، عاتٍ على اللهِ، متكبرٌ على عبادِ اللهِ، معجبٌ بنفسهِ، فخورٌ بأقوالهِ على وجهِ الكبرِ والعجبِ واحتقارِ الخلقِ، وهوَ في الحقيقةِ السافلُ المحتقَرُ؛ ولهذا قال:{إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا} [النساء: 36]، فهؤلاءِ ما بهم مِنْ الأوصافِ القبيحةِ تحملُهم على البخلِ بالحقوقِ الواجبةِ، ويأمرونَ الناسَ بأقوالِهم وأفعالِهم بالبخلِ.
* {وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 37] أي: من العلمِ الذي يَهتدِي بهِ الضالونَ، ويسترشدُ بهِ الجاهلونَ، فيكتمونَهُ عنهم، ويظهرونَ لهم من الباطلِ ما يحولُ بينَهم وبينَ الحقِّ؛ فهؤلاءِ جمعُوا بينَ البخلِ بالمالِ والبخلِ بالعلمِ، وبينَ السعيِ في خسارةِ أنفسِهم والسعيِ في خسارةِ غيرِهم، وهذهِ هيَ صفاتُ الكافرينَ؛ ولهذا قال:{وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} [النساء: 37] أي: كما استهانُوا بالحقِّ، وتكبرُوا على الخلقِ، واستهانوا بالقيامِ بالحقوقِ؛ أهانَهم اللهُ بالعذابِ الأليمِ والخزيِ الدائمِ.
* وقال تعالى: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} [الإسراء: 29] أي: احذرْ هذينِ الخلُقينِ الرذيلينِ:
* البخلَ بالواجباتِ، وفي بذلِ المالِ فيما ينبغِي بذلُهُ فيه.
* والتبذيرَ: النفقةُ فيما لا ينبغِي، أو زيادةً على ما ينبغِي.
* {فَتَقْعُدَ} إنْ فعلتَ ذلك {مَلُومًا} أي: تُلامُ على ما فعلتَ من الإسرافِ؛ لأنَّ كلَّ عاقلٍ يعرفُ أنَّ الإسرافَ منافٍ للعقلِ الصحيحِ، كما أنهُ منافٍ للشرعِ؛ فإنَّ اللهَ جعلَ الأموالَ قيامًا لمصالحِ الخلقِ؛ فكما أنَّ منعَها وإمساكَها عن وضعِها فيما جُعلَتْ لهُ مذمومٌ، فكذلكَ بذلُها في الأمورِ الضارةِ، أو الزيادةُ غيرُ اللائقةِ في الأمورِ العاديةِ وغيرِها مذمومٌ؛ لأنهُ إتلافٌ للمالِ بغيرِ مصلحةٍ، وانحرافٌ في حسنِ التصرفِ والتدبيرِ، وضعفُ التدبيرِ وعدمُ انتظامهِ مذمومٌ في كلِّ شيءٍ، كما أنَّ حسنَ التدبيرِ محمودٌ ونافعٌ لفاعلهِ ولغيرهِ.
* {مَحْسُورًا} أي: فارغَ اليدِ، فلا بقيَ ما في يدِكَ من المالِ، ولا خَلَفَهُ مدحٌ وثناءٌ.
* وهذا الأمرُ بإيتاءِ ذي القربى وغيرِهم معَ القدرةِ، فأمَّا معَ العدمِ أو تعذرِ النفقةِ الحاضرةِ فأمَرَ تعالى أنْ يُرَدُّوا ردًّا جميلًا، فقالَ:{وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا} [الإسراء: 28] أي: تعرضَنَّ عن إعطائِهم حاضرًا، ولكنكَ ترجُو فيما بعدَ ذلكَ تيسيرَ الأمرِ من اللهِ، {فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا} [الإسراء: 28] أي: لطيفًا برفقٍ ووعدٍ بالجميلِ عندَ الوجودِ، واعتذارٍ بعدمِ الإمكانِ في الوقتِ الحاضرِ؛ لينقلبُوا عنكَ مطمئنةً قلوبُهم، عاذرينَ راجينَ، كما قالَ تعالى:{قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى} [البقرة: 263].
وهذا من لطفِ اللهِ بالعبادِ: أمرَهم بانتظارِ الرحمةِ والرزقِ منهُ؛ لأنَّ انتظارَ ذلكَ عبادةٌ، وسببٌ لحصولهِ؛ فإنَّ اللهَ عندَ ظنِّ عبدهِ بهِ.
وكذلكَ وَعْدُهم أنْ يعطُوهم إذا وجدوا عبادةٌ حاضرةٌ لمن وَعَدُوا؛ لأنَّ الهمَّ بفعلِ الخيرِ والحسنةِ خيرٌ؛ ولهذا ينبغِي للعبدِ أنْ يفعلَ ما يقدرُ عليهِ من الخيرِ، وينوِيَ فعلَ ما لم يقدِرْ عليهِ إذا قدرَ؛ ليثابَ على ذلكَ، ولعلَّ اللهَ ييسرهُ لهُ.
* وفي قولهِ: {ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا} [الإسراء: 28] فيه: الحثُّ على تعليقِ القلبِ والرجاءِ والطمعِ باللهِ، وصرف التعلقِ بالمخلوقينَ.
فالموفقُ في حالِ الوجودِ والغنَى: قلبهُ متعلقٌ بحمدِ اللهِ وشكرهِ والثناءِ عليهِ، لا ينسى ولا يبطرُ النعمةَ، وفي حالِ الفقدِ والفقرِ: صابرٌ راضٍ، راجٍ من اللهِ فضلَهُ وخيرَهُ ورحمتَهُ، وهذا من أجلِّ عباداتِ القلوبِ المقرِّبةِ إلى علامِ الغيوبِ.
* {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ} الآية [الإسراء: 31] وذلكَ أنَّ اللهَ أرحمُ بعبادهِ من الوالدةِ بولدِها، فنَهَى الوالدينِ عن هذا الخلُقِ الذي هوَ مِنْ أرذلِ الأخلاقِ وأسقطِها: قتلِ أولادِهم خشيةً من الفقرِ والإملاقِ؛ ففيهِ عدةُ جناياتٍ:
* قتلُ النفسِ الذي هوَ من أعظمِ الفسادِ.
* وأشنعُ من ذلكَ قتلُ الأولادِ الذينَ هم فلذُ الأكبادِ.
* وسوءُ الظنِّ بربِّ العالمينَ.
* وجهلُهم وضلالُهم البليغُ؛ إذْ ظنُّوا أنَّ وجودَهم يضيقُ عليهم الأرزاقَ، فتكفَّلَ لهم بقيامهِ برزقِ الجميعِ.
فأينَ هذا الخلقُ الشنيعُ مِنْ أخلاقِ خواصِّ المؤمنينَ الذينَ كلَّما كثرتْ أولادُهم وعوائلُهم قويَ ظنُّهم باللهِ، ورجَوا زيادةَ فضلهِ، وقامُوا بمؤنتِهم مطمئنةً نفوسُهم، حامدينَ ربَّهم أنْ جعلَ رزقَهم على أيدِيهم، ومُثنينَ على ربِّهم إذْ أقدرَهم على ذلكَ، وراجينَ ثوابَ ذلكَ عندَهُ، ومشاهدينَ لمنةِ اللهِ عليهم بذلكَ؟! قالَ صلى الله عليه وسلم: «هلْ تُنصرونَ وتُرزقونَ إلا بضعفائِكم
(1)
: بدعائِهم ورغبتِهم إلى اللهِ»
(2)
.
* والنهيُ عن قربانِ الزِّنَى يشملُ: النهيَ عنهُ، وعن جميعِ دواعيهِ ومقدماتهِ: كالنظرِ المحرمِ، والخلوةِ بالأجنبيةِ، وخطابِ مَنْ يُخشَى الفتنةُ بخطابهِ، ونحوِ ذلكَ.
ووصَفَ الزِّنَى بأقبحِ الأوصافِ: بأنهُ {فَاحِشَةً} [الإسراء: 32] أي: جريمةً عظيمةً تُستفحشُ شرعًا وعقلًا؛ لأنَّ فيه انتهاكَ حرمةِ الشرعِ والتهاونَ بهِ، وفيهِ إفسادُ
(1)
البخاري (2896).
(2)
النسائي (3178) بنحوه.
المرأةِ، وإفسادُ الأنسابِ، واختلاطُ المياهِ، وفيهِ إضرارٌ بأهلِها وبزوجِها وبكلِّ مَنْ يتصلُ بها، وفيهِ من المفاسدِ شيءٌ كثيرٌ.
* وأمَرَ تعالى بإيفاءِ المكاييلِ والموازينِ والمعاملاتِ كلِّها بالقسطِ، من غيرِ بخسٍ ولا نقصٍ ولا غشٍّ ولا كتمانٍ، وفي ضمنِ ذلكَ: الأمرُ بالصدقِ والنصحِ في جميعِ المعاملاتِ؛ فإنهُ بذلكَ يصلحُ الدينُ والدنيا؛ ولذلكَ قالَ: {ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [الإسراء: 35] أي: هوَ خيرٌ في الحاضرِ، وأحسنُ عاقبةً في الآجلِ، يسلمُ بهِ العبدُ من التبعاتِ، وتحلُّ البركةُ في هذهِ المعاملةِ.
* وقولُهُ: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} الآية [الإسراء: 36] أي: ولا تتبعُ ما ليسَ لكَ بهِ علمٌ، بلْ تثبَّتْ في كلِّ ما تقولهُ وتفعلهُ؛ فإنَّ التثبتَ في الأمورِ كلِّها دليلٌ على حسنِ الرأيِ وقوةِ العقلِ، وبهِ تتوضحُ الأمورُ، ويُعرَفُ بعدَ ذلكَ هلْ الإقدامُ خيرٌ أم الإحجامُ؛ لأنَّ المتثبتَ لابدَّ أنْ يعملَ فكرَهُ ويشاورَ في الأمورِ التي عليهِ أنْ يتثبَّتَ فيها.
والفكرُ والمشاورةُ أكبرُ الأسبابِ لإصابةِ الصوابِ والسلامةِ من التبعةِ، ومن الندمِ الصادرِ من العجلةِ، ومن عدمِ استدراكِ الفارطِ
(1)
؛ ولهذا قالَ: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36] أي: لابدَّ أنْ تُسألَ عن حركةِ هذهِ الجوارحِ، وهلْ هيَ حركاتٌ نافعةٌ بأنْ وُضعَتْ فيما يقرِّبُ إلى اللهِ، أم ضارةٌ بأنْ وُجِّهَتْ لمعصية اللهِ؟
(1)
الفارط: المتقدم السابق. (لسان العرب: 7/ 366).
[فليتعاهدْها]
(1)
العبدُ بحفظِها عن الأمورِ الضارةِ؛ ليعدَّ لهذا السؤالِ جوابًا، فمَن استعملَها بطاعةِ اللهِ فقدْ زكَّاها ونمَّاها، وأثمرَتْ لهُ النعيمَ المقيمَ، ومَن استعملَها في ضدِّ ذلكَ فقدْ دسَّاها وأسقطَها، وأوصلَتْهُ إلى العذابِ الأليمِ.
* وقولُهُ: {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا} [الإسراء: 37] أي: لا تتكبَّرْ على الحقِّ، ولا على الخَلقِ؛ فإنَّ التكبرَ من أرذلِ الأخلاقِ، والمتكبرُ المُعجَبُ بنفسهِ لنْ يبلغَ ما يظنهُ وتطمحُ لهُ نفسهُ من الخيالاتِ الفاسدةِ، أنهُ في مقامٍ رفيعٍ على الخَلقِ، بلْ هوَ ممقوتٌ عندَ اللهِ وعندَ خلقهِ، مبغوضٌ محتقرٌ، قدْ نزلَ بخلُقهِ هذا إلى أسفلِ سافلينَ، ففاتهُ مطلوبُهُ؛ من كبرهِ وعُجْبهِ، وحصلَ على نقيضهِ.
ومن مضارِّ الكبرِ: أنهُ صحَّ الحديثُ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنهُ: «لا يدخلُ الجنةَ مَنْ كانَ في قلبهِ مثقالُ حبةِ خردلٍ من كبرٍ»
(2)
، والنارُ مثوى المتكبرينَ.
والكبرُ هوَ: «بطرُ الحقِّ وغمطُ الناسِ»
(3)
، أي: احتقارُهم وازدراؤُهم.
* وهذهِ الأوامرُ الحسنةُ والإرشاداتُ في هذهِ الآياتِ من الحكمةِ العاليةِ التي أوحاها اللهُ لرسولهِ صلى الله عليه وسلم، وهيَ من أعظمِ محاسنِ الدينِ، فالدينُ هوَ دينُ الحكمةِ التي هيَ معرفةُ الصوابِ والعملُ بالصوابِ، ومعرفةُ الحقِّ والعملُ بالحقِّ في كلِّ شيءٍ.
(1)
كذا في (خ). وفي (ط): فليتعاهد.
(2)
مسلم (91).
(3)
كما فسره النبي صلى الله عليه وسلم بذلك في الحديث السابق (مسلم: 91).
2 -
{وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63)} [الفرقان: 63] إلى آخر السورة.
* العبوديةُ للهِ نوعانِ:
* عبوديةٌ لربوبيةِ اللهِ ومُلكهِ: فهذهِ يشتركُ فيها سائرُ الخَلقِ، مسلمُهم وكافرُهم، فكلُّهم عبيدٌ للهِ مربوبونَ مدبَّرونَ.
* وعبوديةٌ لألوهيتهِ ورحمتهِ: وهيَ عبوديةُ أنبيائهِ وأوليائهِ، وهيَ المرادُ هنا؛ ولهذا أضافها إلى اسمهِ:{الرَّحْمَنِ} ؛ تنبيهًا على أنهم إنما وصلُوا إلى هذهِ الحالِ برحمتهِ بهم ولطفهِ وإحسانهِ. فذكَرَ صفاتِهم أكملَ الصفاتِ، وبالاتصافِ بها يكونُ العبدُ متحققًا بعبوديتهِ الخاصةِ النافعةِ، المثمرةِ للسعادةِ الأبديةِ.
* فوصَفَهم بأنهم: {يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} أي: ساكنينَ متواضعينَ للهِ وللخَلقِ، فهذا وصفٌ لهم بالوقارِ والسكينةِ، والتواضعِ للهِ ولعبادهِ.
* {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ} أي: خطابَ جهلٍ، فإنهُ أضافَ الخطابَ لهذا الوصفِ.
* {قَالُوا سَلَامًا} أي: خاطبوهم خطابًا يَسلمونَ فيه من الإثمِ، ولا يقابلونَ الجاهلَ بجهلهِ، وهذا ثناءٌ عليهم بالرزانةِ والحلمِ العظيمِ، والعفوِ عن الجاهلِ، ومقابلةِ المسيءِ بالإحسانِ.
* {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} [الفرقان: 64] أي: يُكْثِرونَ من صلاةِ الليلِ، مخلصينَ فيها لربِّهم، متذللينَ لهُ، كما قالَ تعالى:{تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} الآية [السجدة: 16].
* {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ} [الفرقان: 65] أي: ادفعْهُ عنَّا؛ بالعصمةِ من أسبابهِ، ومغفرةِ ما وقعَ منَّا مما هوَ مقتضٍ للعذابِ، {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} [الفرقان: 65] أي: ملازمًا لأهلِها ملازمةَ الغريمِ لغريمهِ، {إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} [الفرقان: 66].
وهذا
(1)
منهم على وجهِ التضرعِ لربِّهم، وبيانِ شدةِ حاجتِهم إليهِ، وأنهُ ليسَ في طاقتِهم احتمالُ هذا العذابِ، وليتذكَّرُوا منَّةَ اللهِ عليهم؛ فإنَّ صرفَ الشدةِ يَعْظمُ وقعهُ بحسبِ شدتِها وفظاعتِها.
* {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا} [الفرقان: 67] أي: النفقاتِ الواجبةَ والمستحبةَ، {لَمْ يُسْرِفُوا} أي: يزيدُوا على الحدِّ؛ فيدخلُوا في قسمِ التبذيرِ وإهمالِ الحقوقِ الواجبةِ، {وَلَمْ يَقْتُرُوا} فيدخلُوا في بابِ الشحِّ والبخلِ، وكان إنفاقُهم بين الإسرافِ والتقتيرِ، {قَوَامًا} تقومُ بهِ الأحوالُ، فإنهم يبذلونَ في الواجباتِ من الزكواتِ والكفاراتِ والنفقاتِ الواجبةِ، وفيما ينبغِي من الأمورِ النافعةِ على المحتاجينَ، وفي المشاريعِ الخيريةِ، وفي الأمورِ الضروريةِ والكماليةِ الدينيةِ والدنيويةِ، مِنْ غيرِ ضررٍ ولا إضرارٍ؛ وهذا من اقتصادِهم وعقلِهم وحسنِ تدبيرِهم.
* {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} [الفرقان: 68] لا دعاءَ عبادةٍ، ولا دعاءَ مسألةٍ، بلْ يعبدونَهُ وحدَهُ مخلصينَ لهُ الدينَ حنفاءَ، مقبلينَ عليهِ، معرضينَ عما سواهُ.
(1)
أي: قولهم السابق.
* {وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ} [الفرقان: 68] وهيَ نفسُ المسلمِ والكافرِ المعاهدِ، {إِلَّا بِالْحَقِّ} كقتلِ النفسِ بالنفسِ، والزَّانِي المحصنِ، والتاركِ لدينهِ المفارقِ للجماعةِ، {وَلَا يَزْنُونَ} ، {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ} [الفرقان: 68] المذكورَ، مِنْ الشركِ باللهِ وقتلِ النفسِ التي حرَّمَ اللهُ والزِّنى، {يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ} أي: العذابِ، {مُهَانًا} .
فالوعيدُ بالخلودِ لمنْ فعلَها كلَّها ثابتٌ في الكتابِ والسنةِ وإجماعِ الأمةِ، وكذلك لمن أشركَ باللهِ، وكذلكَ الوعيدُ بالعذابِ الشديدِ على كلِّ واحدٍ من هذهِ الثلاثةِ؛ لكونِها كلِّها من أكبرِ الكبائرِ.
وأما خلودُ القاتلِ بغيرِ حقٍّ والزَّانِي في العذابِ فقدْ دلَّتْ النصوصُ القرآنيةُ وتواترَتِ الأحاديثُ النبويةُ أنَّ جميعَ المؤمنينَ وإنْ دخلُوا النارَ فسيخرجونَ منها، ولا يخلدُ فيها مؤمنٌ؛ فإنَّ الإيمانَ الكاملَ يمنعُ مِنْ دخولِها، ومطلقُ الإيمانِ ولو مثقالَ ذرةٍ يمنعُ من الخلودِ فيها كما تقدَّمَ.
ونصَّ اللهُ على ثلاثةِ هذهِ الأشياءِ لأنها أكبرُ الكبائرِ، وفسادُها كبيرٌ:
* فالشركُ فيه فسادُ الأديانِ بالكليةِ.
* والقتلُ فيه فسادُ الأبدانِ.
* والزِّنَى فيه فسادُ الأعراضِ.
* {إِلَّا مَنْ تَابَ} [الفرقان: 70] عن هذهِ المعاصي وغيرِها، بأنْ أقلعَ عنها في الحالِ، وندمَ على فعلِها، وعزمَ عزمًا جازمًا ألَّا يعودَ، {وَآمَنَ} باللهِ إيمانًا صحيحًا يقتضِي فعلَ الواجباتِ، وتركَ المحرماتِ، {وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا} فيدخلُ فيه جميعُ الصالحاتِ من واجبٍ ومستحبٍّ.
* {فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} بأنْ يوفقَهم للخيرِ، [فتتبدَّلُ]
(1)
أقوالُهم وأفعالُهم التي كانتْ مستعدةً لفعلِ السيئاتِ، تتبدَّلُ حسناتٍ: فيتبدَّلُ شركُهم إيمانًا، ومعصيتُهم طاعةً، وتتبدَّلُ نفسُ السيئاتِ التي عملُوها، ثم أحدثُوا عن كلِّ ذنبٍ منها توبةً وندمًا وإنابةً وطاعةً، تبدَّلُ حسناتٍ كما هوَ ظاهرُ الآيةِ، ووردَ فيه حديثُ الرجلِ الذي حاسبهُ اللهُ ببعضِ ذنوبهِ، فعدَّدَها عليهِ، ثم أبدَلَ مكانَ كلِّ سيئةٍ حسنةً
…
إلى آخرِ الحديثِ
(2)
.
* {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا} لمن تابَ، يغفرُ ذنوبَهُ كلَّها، {رَحِيمًا} بعبادهِ؛ إذْ دعاهم إلى التوبةِ بعدَ مبارزتهِ بالعظائمِ، ثم وفقَهم لها، ثم قَبِلَها منهم.
* {وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71)} [الفرقان: 71] أي: فليعلَمْ أنَّ توبتَهُ في غايةِ الكمالِ؛ لأنها رجوعٌ إلى الطريقِ الموصلِ إلى اللهِ، الذي هوَ عينُ سعادةِ العبدِ وفلاحهِ، فليُخلِصْ فيها، وليُخلِّصْها من شوائبِ الأغراضِ الفاسدةِ.
والمقصودُ من هذا: الحثُّ على تكميلِ التوبةِ، وأنْ تكونَ على أكملِ الوجوهِ وأجلِّها؛ لتحصلَ له ثمراتُها الجليلةُ.
* {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} [الفرقان: 72] أي: لا يحضرونَ الزورَ، أي: القولَ المحرمَ والفعلَ المحرمَ، فيجتنبونَ جميعَ المجالسِ المشتملةِ على كلِّ قولٍ وفعلٍ محرمٍ: كالخوضِ في آياتِ اللهِ بالباطلِ، والجدلِ الباطلِ، والغيبةِ والنميمةِ، والسبِّ والقذفِ، والاستهزاءِ وشربِ الخمرِ، والغناءِ المحرمِ، وفُرُشِ الحريرِ والصورِ، ونحوِ ذلكَ.
(1)
كذا في (خ). وفي (ط): فتبدل.
(2)
مسلم (190).
وإذا كانوا لا يشهدونَ الزورَ، فإنهم من بابِ أولى لا يفعلونَهُ ولا يقولونَهُ. وشهادةُ الزورِ داخلةٌ في قولِ الزورِ.
* {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ} [الفرقان: 72] وهوَ: الكلامُ الذي لا فائدةَ فيه، دينيةً ولا دنيويةً، ككلامِ السفهاءِ ونحوِهم، {مَرُّوا كِرَامًا} أي: نزَّهُوا أنفسَهم وأكرمُوها عن الخوضِ فيه، ورأَوهُ سفهًا منافيًا لمكارمِ الأخلاقِ.
وفي قولهِ: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ} : إشارةٌ إلى أنهم لا يقصدونَ حضورَهُ، ولا سماعَهُ، ولكنْ يحصلُ ذلكَ بغيرِ قصدٍ، فيكرِمونَ أنفسَهم عنهُ.
* {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ} [الفرقان: 73] التي أُمرُوا بالاستماعِ لها، والاهتداءِ بها، {لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا} أي: لم يقابلُوها بالإعراضِ عنها، والصممِ عن سماعِها، وصرفِ القلبِ عنها، كما يفعلهُ مَنْ لم يؤمِنْ بها ويصدِّقْ، وإنما حالُ هؤلاءِ الأخيارِ عندَ سماعِها كما قالَ تعالى:{إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} [السجدة: 15] يقابلونَها بالقبولِ والافتقارِ إليها، والانقيادِ والتسليمِ لها؛ وتجدُ عندَهم آذانًا سامعةً، وقلوبًا واعيةً؛ فيزدادُ بها إيمانُهم، ويتمُّ بها يقينُهم، وتحدِثُ لهم فرحًا ونشاطًا واغتباطًا؛ لما يعلمونَ أنها أفضلُ المننِ الواصلةِ إليهم مِنْ ربِّهم.
* {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا} [الفرقان: 74] أي: قُرَنائِنا: من أصحابٍ، وأخلاءَ، وأقرانٍ، وزوجاتٍ، {وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} أي: تقرُّ بهم أعينُنا.
وإذا استقرَأنا حالَهم وصفاتِهم عرَفْنا من علوِّ هممِهم ومراتبِهم أنَّ مقصودَهم بهذا الدعاءِ لذرياتِهم أنْ يطلبوا منهُ صلاحَهم؛ فإنَّ صلاحَ الذريةِ عائدٌ إليهم وإلى والدَيْهم؛ لأنَّ النفعَ يعودُ على الجميعِ، بلْ صلاحُهم يعودُ إلى نفعِ المسلمينَ عمومًا؛ لأنَّ بصلاحِ المذكورينَ صلاحًا لكلِّ مَنْ لهُ تعلُّقٌ بهم، ثم يتسلسلُ الصلاحُ والخيرُ.
* {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} أي: أوصِلْنا -يا ربَّنا- إلى هذهِ الدرجةِ العاليةِ، درجةِ الصديقينَ والكُمَّلِ من عبادِ اللهِ الصالحينَ، وهيَ درجةُ الإمامةِ في الدينِ، وأنْ يكونوا قدوةً للمتقينَ في أقوالِهم وأفعالِهم، يُقتدَى بأقوالِهم وأفعالِهم ويُطمأنُّ إليها؛ لثقةِ المتقينَ بعلمِهم ودينِهم، ويهتدِي المهتدونَ بهم.
ومِن المعلومِ أنَّ الدعاءَ بحصولِ شيءٍ دعاءٌ بهِ وبما لا يتمُّ إلا بهِ، وهذهِ الدرجةُ درجةُ الإمامةِ في الدينِ لا تتمُّ إلا بالصبرِ واليقينِ، كما قالَ تعالى:{وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24)} [السجدة: 24]، فهذا الدعاءُ يستلزمُ من حصولِ الأعمالِ الصالحةِ، والصبرِ على طاعةِ اللهِ، وعن معصيتهِ، وعلى أقدارهِ المؤلمةِ، ومن العلمِ النافعِ التامِّ الراسخِ الذي يوصلُ صاحبَهُ إلى درجةِ اليقينِ - خيرًا كثيرًا وعطاءً جزيلًا.
* ولما كانتْ هممُهم وأعمالُهم عاليةً كان الجزاءُ من جنسِ العملِ، فجازاهم من جنسِ عملِهم فقالَ:{أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ} [الفرقان: 75] أي: المنازلَ العاليةَ الرفيعةَ، الجامعةَ لكلِّ نعيمٍ روحيٍّ وبدنيٍّ؛ بسببِ صبرِهم على القيامِ بهذهِ الأعمالِ الجليلةِ، {وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا} من ربِّهم، ومن الملائكةِ الكرامِ، ومن بعضِهم على بعضٍ، ويَسلَمُونَ من جميعِ المنغضاتِ والمكدراتِ.
* والحاصلُ:
* أنَّ اللهَ وصفَهم بالوقارِ والسكينةِ، والتواضعِ لهُ ولعبادهِ، وحسنِ الأدبِ، والحلمِ وسعةِ الخلقِ، والعفوِ عن الجاهلينَ والإعراضِ عنهم، ومقابلةِ إساءتِهم بالإحسانِ.
* وقيامِ الليلِ والإخلاصِ فيه، والخوفِ من النارِ، والتضرعِ لربِّهم أنْ ينجيَهم منها.
* وأنهم يخرجونَ الواجباتِ والمستحباتِ في النفقاتِ على وجهِ الاقتصادِ، وإذا كانوا مقتصدينَ في النفقاتِ التي جرَتْ عادةُ أكثرِ الخلقِ بالتفريطِ فيها أو الإفراطِ؛ فاقتصادُهم وتوسطُهم في غيرِها من بابِ أولى.
* ووصَفَهم بالسلامةِ من كبائرِ الذنوبِ وفواحشِها، وبالتوبةِ مما يصدرُ منهم
(1)
.
* ومنها
(2)
: الإخلاصُ للهِ في عبادتهِ.
* وأنهم لا يحضرونَ مجالسَ المنكرِ والفسوقِ، القوليةِ والفعليةِ، ولا يفعلونَها، وأنهم يتنزهونَ عن اللغوِ والأقوالِ الرديئةِ التي لا خيرَ فيها ولا نفعَ، وذلكَ يستلزمُ كمالَ إنسانيتِهم ومروءتِهم، وكمالَهم، ورفعةَ نفوسِهم عن كلِّ أمرٍ رذيلٍ.
* وأنهم يقابلونَ آياتِ اللهِ بالقبولِ لها، والتفهمِ لمعانيها، والعملِ بها، والاجتهادِ في تنفيذِ أحكامِها.
* وأنهم يدعونَ ربَّهم بأكملِ دعاءٍ ينتفعونَ بهِ، وينتفعُ بهِ مَنْ يتعلَّقُ بهم، وينتفعُ بهِ المسلمونَ، من صلاحِ أزواجِهم وذريتِهم، ومن لوازمِ ذلكَ سعيُهم في تعليمِهم، ووعظِهم ونصحِهم؛ لأنَّ مَنْ حَرَصَ على شيءٍ ودعا اللهَ في حصولهِ لابدَّ أنْ يكونَ مجتهدًا في تحصيلهِ بكلِّ طريقٍ؛ مستعينًا بربهِ في تسهيلِ ذلكَ.
(1)
بعدها في (ط): منها. وليست في (خ)، ولعلها تكرار ل «منها» التالية.
(2)
أي: ومن صفاتهم.
* وأنهم دَعَوا اللهَ في حصولِ أعلى الدرجاتِ الممكنةِ لهم، وهيَ درجةُ الإمامةِ والصديقيةِ.
فللهِ ما أعلى هذهِ الصفاتِ، وأرفعَ هذهِ الهممَ، وأجلَّ هذهِ المطالبَ، وأزكَى تلكَ النفوسَ!
وللهِ فضلُ اللهِ عليهم، ولطفهُ بهم، الذي أوصلَهم إلى هذهِ المقاماتِ والمنازلِ، وللهِ الحمدُ من جميعِ عبادهِ؛ إذْ بيَّنَ لهم أوصافَهم وحثَّهم عليها، وأعانَ السالكينَ ويسَّرَ الطريقَ لمن سلكَ رضوانَهُ، واللهُ الموفقُ المعينُ.
3 -
{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)} [الأعراف: 199].
* هذهِ الآيةُ الكريمةُ جامعةٌ لمعانِي حسنِ الخُلقِ معَ الناسِ، وما ينبغي للعبدِ سلوكهُ في معاملتِهم ومعاشرتِهم.
* فأمرَ تعالى بأخذِ {الْعَفْوَ} وهوَ: ما سمحَتْ بهِ أنفسُهم، وسهلَتْ بهِ أخلاقُهم، من الأعمالِ والأخلاقِ؛ بلْ يقبلُ
(1)
ما سهلَ، ولا يكلفُهم ما لا تسمحُ بهِ طبائعُهم، ولا ما لا يطيقونَهُ، بلْ عليهِ أنْ يشكرَ من كلِّ أحدٍ ما قابلَهُ بهِ من قولٍ وعملٍ وخلقٍ جميلٍ، وما هوَ دونَ ذلكَ، ويتجاوزَ عن تقصيرِهم، ويغضَّ طرفَهُ عن نقصِهم، وعما أتَوا بهِ وعاملُوه بهِ من النقصِ، ولا يتكبرُ على صغيرٍ لصغرهِ، ولا ناقصِ العقلِ لنقصهِ، ولا الفقيرِ لفقرهِ، بلْ يعاملُ الجميعَ باللطفِ، وما تقتضيهِ الحالُ الحاضرةُ، وبما تنشرحُ لهُ صدورُهم، ويوقرُ الكبيرَ، ويحنو على الصغيرِ، ويجاملُ النظيرَ.
* {وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} وهوَ: كلُّ قولٍ حسنٍ، وفعلٍ جميلٍ، وخلقٍ كاملٍ، للقريبِ والبعيدِ.
فاجعَلْ ما يأتي إلى الناسِ منكَ: إمَّا تعليم علمٍ دينيٍّ أو دنيويٍّ، أو نصيحةٌ، أو حثٌّ لهم على خيرٍ: من عبادةِ اللهِ، وصلةِ رحمٍ، وبرِّ الوالدينِ، وإصلاحٍ بينَ الناسِ؛ أو رأيٌ مصيبٌ، أو معاونةٌ على برٍّ وتقوى، أو زجرٌ عن قبيحٍ، أو إرشادٌ إلى مصلحةٍ دينيةٍ أو دنيويةٍ، أو تحذيرٌ من ضدِّ ذلكَ.
(1)
أي: العبد.
* ولما كان لابدَّ للعبدِ من أذيةِ الجاهلينَ لهُ بالقولِ أو بالفعلِ أمرَ اللهُ بالإعراضِ عنهم، وعدمِ مقابلةِ الجاهلينَ بجهلِهم، فمَن آذاكَ بقولهِ أو فعلهِ فلا تؤذهِ، ومَن حرمَكَ فلا تحرِمْهُ، ومَن قطعَكَ فصِلْهُ، ومَن ظلمَكَ فاعدِلْ فيه؛ فبذلكَ يحصلُ لكَ من الثوابِ من اللهِ، ومن راحةِ القلبِ وسكونهِ، ومن السلامةِ من الجاهلينَ، ومن انقلابِ العدوِّ صديقًا، ومن التبوءِ من مكارمِ الأخلاقِ أعلاها- أكبرُ حظٍّ وأوفرُ نصيبٍ، قالَ تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا
(1)
إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35)} [فصلت: 34 - 35].
ولنقتصِرْ في هذا الموضوعِ على هذهِ الآياتِ؛ ففيها الهدَى والشفاءُ والخيرُ كلُّهُ.
(1)
بعدها في (خ): أي: يوفق لها. وكذا فسرها العلامة السعدي في «تيسير الكريم الرحمن «(ص: 160).
فصل في أحكام الشرع الفروعية المتنوعة في الصلاة والزكاة مع ما ينضم إليهما من المعاني الأخرى
1 -
قال تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79)} [الإسراء: 78 - 79].
* هذا الأمرُ من اللهِ لعبادهِ بالصلاةِ التي أمرَ بها في آياتٍ متعددةٍ، ويأتِي الأمرُ بها في القرآنِ بلفظِ الإقامةِ كهذهِ الآيةِ، ومثل:{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [البقرة: 43] ونحوها، وهوَ أبلغُ من قولهِ:(افعلوها)؛ فإنَّ هذا أمرٌ بفعلِها وبتكميلِ أركانِها وشروطِها ومكملاتِها، ظاهرًا وباطنًا، وبجعلِها شريعةً ظاهرةً قائمةً من أعظمِ شعائرِ الدينِ.
* وفي هذهِ الآيةِ: زيادةٌ عن بقيةِ الآياتِ، وهيَ الأمرُ بها لأوقاتِها الخمسةِ أو الثلاثةِ، وهذهِ هيَ الفرائضُ، وإضافتُها إلى أوقاتِها من بابِ إضافةِ الشيءِ إلى سببهِ الموجبِ لهُ:
* ف (دلوك الشمس) أي: زوالها واندفاعها من المشرقِ نحوَ المغربِ، فيدخلُ في هذا: صلاةُ الظهرِ وهوَ أولُ الدلوكِ، وصلاةُ العصرِ وهوَ آخرُ الدلوكِ.
* {إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} أي: ظلمتهِ؛ فدخَلَ في ذلكَ: صلاةُ المغربِ وهوَ ابتداءُ الغسقِ، وصلاةُ العشاءِ الآخرةِ وبها يتمُّ الغسقُ والظلمةُ.
* {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} أي: صلاةَ الفجرِ، وسمَّاها قرآنًا لمشروعيةِ إطالةِ القراءةِ فيها، ولفضلِ قراءتِها؛ لكونها مشهودةً، يشهدُها اللهُ، وتشهدُها ملائكةُ الليلِ وملائكةُ النهارِ.
* ففي هذهِ الآيةِ الكريمةِ فوائدُ:
* منها: ذكرُ الأوقاتِ الخمسةِ صريحًا؛ ولم يُصرَحْ بها في القرآنِ في غيرِ هذهِ الآيةِ، وأتتْ ظاهرةً في قولهِ:{فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17)} [الروم: 17] الآية.
* وفيها: أنَّ هذهِ المأموراتِ كلَّها فرائضُ؛ لأنَّ الأمرَ بها مقيَّدٌ في أوقاتِها، وهذهِ هيَ الصلواتُ الخمسُ، وقدْ تستتبعُ ما يتبعُها من الرواتبِ ونحوِها.
* ومنها: أنَّ الوقتَ شرطٌ لصحةِ الصلاةِ، وسببٌ لوجوبِها؛ ويُرجَعُ في مقاديرِ الأوقاتِ إلى تقديرِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، كما يُرجَعُ إليهِ في تقديرِ ركعاتِ الصلاةِ وسجداتِها وهيئاتِها.
* وفيها: أنَّ العصرَ والظهرَ يُجمعانِ للعذرِ، وكذلكَ المغربُ والعشاءُ؛ لأنَّ اللهَ جمعَ وقتَهما فهو وقتٌ واحدٌ للمعذورِ، ووقتانِ لغيرِ المعذورِ.
* وفيها: فضيلةُ صلاةِ الفجرِ، وفضيلةُ إطالةِ القرآنِ فيها، وأنَّ القراءةَ فيها ركنٌ؛ لأنَّ العبادةَ إذا سُميتْ ببعضِ أجزائِها دلَّ ذلكَ على فضيلتهِ وركنيتهِ، وقدْ عبَّرَ اللهُ عن الصلاةِ بالقراءةِ وبالركوعِ وبالسجودِ وبالقيامِ، وهذهِ كلُّها أركانُها المهمةُ.
* قولهُ: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ} [الإسراء: 79] أي: صلِّ به في أوقاتهِ، {نَافِلَةً لَكَ} أي: لتكونَ صلاةُ الليلِ زيادةً لكَ في علوِّ المقاماتِ، ورفعِ الدرجاتِ، بخلافِ غيرِكَ فإنها تكونُ كفارةً لسيئاتهِ.
ويُحتملُ أنْ يكونَ المعنى: أنَّ الصلواتِ الخمسَ فرضٌ عليكَ وعلى المؤمنينَ، وأمَّا صلاةُ الليلِ فإنها فرضٌ عليكَ وحدَكَ دونَ المؤمنينَ؛ لكرامتِكَ على اللهِ؛ إذْ جعلَ وظيفتَكَ أكثرَ من غيرِكَ، ومَنَّ عليكَ بالقيامِ بها؛ ليكثرَ ثوابُكَ، ويرتفعَ مقامُكَ، وتنالَ
بذلكَ المقامَ المحمودَ، وهوَ المقامُ الذي يحمدهُ فيه الأولونَ والآخرونَ؛ مقامُ الشفاعةِ العظمى حينَ يستشفعُ الخلائقُ بأكابرِ الأنبياءِ: آدمَ ونوحٍ وإبراهيمَ وموسى وعيسى عليهم السلام، وكلُّهم يعتذرُ ويتأخرُ عنها، حتى يستشفعوا بسيدِ ولدِ آدمَ؛ ليرحمَهم اللهُ من همِّ الموقفِ وكربهِ، ويفصلَ بينَهم، فيشفِّعُهُ اللهُ، ويقيمُهُ مقامًا يغبطهُ بهِ الأولونَ والآخرونَ، وتكونُ لهُ اليدُ البيضاءُ على جميعِ الخلقِ، صلى الله عليه وسلم تسليمًا كثيرًا، وأدخَلَنا في شفاعتهِ، ومَنَّ علينا بالسعيِ في أسبابِ شفاعتهِ التي أهمُّها: إخلاصُ الأعمالِ للهِ، وتحقيقُ متابعتهِ في هديهِ وقولهِ وعملهِ.
2 -
* لما أمرَ اللهُ تعالى رسولَهُ خصوصًا، والمؤمنينَ عمومًا، باستقبالِ بيتهِ الحرامِ؛ أخبرَ أنَّ كلَّ أهلِ دينٍ لهم وجهةٌ يتوجهونَ إليها في عباداتِهم، وليسَ الشأنُ في القِبَلِ والوجهاتِ المعينةِ، فإنها من الشرائعِ التي تختلفُ باختلافِ الأزمنةِ، ويدخلها النسخُ والنقلُ من جهةٍ إلى أخرى، ولكنَّ الشأنَّ كلَّ الشأنِ في امتثالِ طاعةِ اللهِ على الإطلاقِ، والتقربِ إليهِ، وطلبِ الزلفى عندَهُ، فهذا هوَ عنوانُ السعادةِ ومنشورُ الولايةِ، وهوَ الذي إذا لم تتصفْ بهِ النفوسُ حصلتْ لها الخسارةُ في الدنيا والآخرةِ، كما أنها إذا اتصفتْ بهِ فهيَ الرابحةُ على الحقيقةِ، وهذا أمرٌ متفقٌ عليهِ في جميعِ الشرائعِ، وهوَ الذي خلقَ اللهُ لهُ الخلقَ وأمَرَهم بهِ.
* والأمرُ بالاستباقِ إلى الخيراتِ قدرٌ زائدٌ على الأمرِ بفعلِها؛ فإنَّ الاستباقَ إليها يتضمَّنُ: الأمرَ بفعلِها، وتكميلِها، وإيقاعِها على أكملِ الأحوالِ، والمبادرةِ إليها. ومَن سبَقَ في الدنيا إلى الخيراتِ فهوَ السابقُ في الآخرةِ إلى الجناتِ، فالسابقونَ أعلى الخَلقِ درجةً.
* والخيراتُ تشملُ جميعَ الفرائضِ والنوافلِ: من صلاةٍ، وصيامٍ، وزكاةٍ، وصدقةٍ، وحجٍّ، وعمرةٍ، وجهادٍ، ونفعٍ متعدٍّ وقاصرٍ.
فهذهِ الآيةُ تحثُّ على الإتيانِ بكلِّ ما يكملُ هذهِ العباداتِ: من ركنٍ، وواجبٍ، وشرطٍ، ومستحبٍّ، ومكملٍ ومتممٍ، ظاهرًا وباطنًا؛ كالمبادرةِ في أولِ الوقتِ، وفعلِ السننِ المكملاتِ، والمبادرةِ إلى إبراءِ الذممِ من الواجباتِ، وفعلِ جميعِ الآدابِ المتعلقةِ بالعباداتِ.
فللهِ ما أجمعَها من آيةٍ وأنفعَها!
* ولما كان أقوى ما يحثُّ النفوسَ إلى المسارعةِ إلى الخيراتِ ما رتبَ اللهُ عليها من الثوابِ، وما يُخشى بتفويتِها من الحرمانِ والعقابِ؛ قالَ:{أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 148]؛ فيجمعُ اللهُ العبادَ يومَ القيامةِ بقدرتهِ، ويجازِيهم بما أسلفوهُ من الأعمالِ خيرِها وشرِّها.
3 -
{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة: 238 - 239] إلى آخرِ الآيةِ.
* يأمرُ تعالى بالمحافظةِ على الصلواتِ عمومًا، وعلى الصلاةِ الوسطَى -وهيَ صلاةُ العصرِ- خصوصًا؛ لفضلِها وشرفِها، وحضورِ ملائكةِ الليلِ والنهارِ فيها، ولكونِها ختامَ النهارِ.
* والمحافظةُ على الصلواتِ: عنايةُ العبدِ بها من جميعِ الوجوهِ التي أمرَ الشارعُ بها وحثَّ عليها: من مراعاةِ الوقتِ، وصلاةِ الجماعةِ، والقيامِ بكلِّ ما بهِ تكملُ وتتمُّ، وأنْ تكونَ صلاةً كاملةً تنهَى صاحبَها عن الفحشاءِ والمنكرِ، ويزدادُ بها إيمانهُ، وذلكَ إذا حصلَ فيها حضورُ القلبِ وخشوعُهُ الذي هوَ لبُّها وروحُها؛ ولهذا قالَ:{وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] أي: مخلصينَ خاشعينَ للهِ، فإنَّ القنوتَ هوَ دوامُ الطاعةِ معَ الخشوعِ؛ ومنْ تمامِ ذلكَ سكونُ الأعضاءِ [والسكوتُ]
(1)
عن كلِّ كلامٍ لا تعلُّقَ لهُ بالصلاةِ.
* وفيها: أنَّ القيامَ في صلاةِ الفريضةِ ركنٌ إنْ كان المرادُ بالقيامِ هنا الوقوفَ، فإنْ أُريدَ بهِ القيامُ بأفعالِ الصلاةِ عمومًا دلَّ على الأمرِ بإقامتِها كلِّها، وأنْ تكونَ قائمةً تامةً غيرَ ناقصةٍ.
* {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة: 239] أي: فصلُّوا الصلاةَ رِجالًا، أي: ماشينَ على أرجلِكم أو ساعينَ عليها، أو ركبانًا على الإبلِ وغيرِها من المركوباتِ.
(1)
زيادة من (خ).
وحذَفَ المتعلقَ ليعمَّ الخوفُ من العدوِ والسبعِ، ومن فواتِ ما يتضررُ بفواتهِ أو تفويتهِ.
وفي هذهِ الحالِ لا يلزمهُ استقبالُ القبلةِ، بلْ قبلتهُ حيثُما كان وجههُ، ومثلُ ذلكَ إذا اشتبهَتِ القبلةُ في السفرِ، ومثلُ ذلكَ صلاةُ النافلةِ في السفرِ على الراحلةِ، وكلُّ هذا داخلٌ في قولهِ:{وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115)} [البقرة: 115].
فهذهِ صلاةُ المعذورِ بالخوفِ، فإذا حصلَ الأمنُ صلَّى صلاةً كاملةً.
* ويدخلُ في قولهِ: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ} [البقرة: 239] تكميلُ الصلواتِ، ويدخلُ فيه أيضًا الإكثارُ من ذكرِ اللهِ؛ شكرًا لهُ على نعمةِ الأمنِ، وعلى نعمةِ التعليمِ.
* وفي الآيةِ الكريمةِ: فضيلةُ العلمِ، وأنَّ على مَنْ علَّمَهُ اللهُ ما لم يكنْ يعلمُ الإكثارَ من ذكرِ اللهِ.
وفيهِ: تنبيهٌ على أنَّ الإكثارَ من ذكرِ اللهِ سببٌ لنيلِ علومِ أُخَرَ لم يكُنِ العبدُ ليعرفَها؛ فإنَّ الشكرَ مقرونٌ بالمزيدِ.
* وقدْ ذكرَ اللهُ صلاةَ الخوفِ في سورةِ النساءِ في قولهِ: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ} [النساء: 102]
(1)
، فأمرَ بها على تلكَ الصفةِ تحصيلًا للجماعةِ لها، وقيامًا للألفةِ، وجمعًا بينَ القيامِ بالصلاةِ والجهادِ حسبَ الإمكانِ، وبالقيامِ بالواجباتِ معَ التحرزِ من شرورِ الأعداءِ؛ فسبحان مَنْ جعَلَ في كتابهِ الهدَى والنورَ والرشادَ، وإصلاحَ الأمورِ كلِّها.
(1)
بعدها في (خ): الآيات.
فصل
4 -
قال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43]، وقال:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103)} [التوبة: 103]، وقال:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267)} [البقرة: 267]، وقال:{وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141]
(1)
.
* قدْ جمعَ اللهُ في كتابهِ في آياتٍ كثيرةٍ بينَ الأمرِ بإقامِ الصلاةِ وإيتاءِ الزكاةِ؛ لأنهما مشتركتانِ في أنهما مِنْ أهمِّ فروضِ الدينِ، ومبانِي الإسلامِ العظيمةِ، والإيمانُ لا يتمُّ إلا بهما، ومَن قامَ بالصلاةِ وبالزكاةِ كان مقيمًا لدينهِ، ومَن ضيعَهما كان لما سواهما مِنْ دينهِ أضيعَ.
فالصلاةُ فيها الإخلاصُ التامُّ للمعبودِ، وهيَ ميزانُ الإيمانِ، والزكاةُ فيها الإحسانُ إلى المخلوقينَ، وهيَ برهانُ الإيمانِ؛ ولهذا اتفقَ الصحابةُ على قتالِ مانعِي الزكاةِ، وقالَ أبو بكر رضي الله عنه:«لأقاتلنَّ مَنْ فرَّقَ بينَ الصلاةِ والزكاةِ»
(2)
.
* فقولهُ تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103] هذا الأمرُ موجَّهٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، ومنْ قامَ مقامَهُ، أنْ يأخذَ من أموالِ المسلمينَ صدقةً، وهيَ الزكاةُ، وهذا شاملٌ لجميعِ الأموالِ المتمولةِ: من أنعامٍ، وحروثٍ، ونقودٍ، وعُرُوضٍ؛ كما صرحَ بهِ في الآيةِ الأخرى:{مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} [البقرة: 267] من النقودِ والعروضِ والماشيةِ المنماةِ، {وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} من الحبوبِ والثمارِ.
(1)
بعدها في (خ): الآية.
(2)
البخاري (1399)، ومسلم (20).
وقدْ وضحَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم النُّصُبَ في هذهِ الأنواعِ كلِّها، وبيَّنَ مقدارَ الواجبِ منها، وأنها عُشرُ الخارجِ من الأرضِ مما يُسقى بلا مؤنةٍ، ونصفُ عُشرهِ فيما سُقِيَ بمؤنةٍ، وربعُ العُشرِ من أموالِ التجارةِ، وذلكَ إذا حالَ الحولُ في أموالِ التجارةِ، وحصلَ الحصادُ والجذاذُ وقتَ حصولِ الثمارِ، كما هوَ صريحُ الآيةِ المذكورةِ.
وأمرَ تعالى بإخراجِ الوسطِ، فلا يُظلمُ ربُّ المالِ فيؤخذُ العالي من مالهِ، إلا أنْ يختارَ هوَ ذلكَ، ولا يحلُّ لهُ أنْ يتيممَ الخبيثَ -وهوَ الرديءُ من مالهِ- فيخرجُهُ، ولا تبرأُ بذلكَ ذمتهُ إنْ كانتْ فرضًا، ولا يتمُّ لهُ الأجرُ والثوابُ إنْ كانتْ نفلًا.
وبيَّنَ تعالى الحكمةَ في ذلكَ، وأنها حكمةٌ معقولةٌ: فكما أنكم لا ترضونَ ممن عليهِ حقٌّ لكم أنْ يعطيَكم الرديءَ من مالهِ الذي هوَ دونَ حقِّكم، إلا أنْ تقبلوهُ على وجهِ الكراهةِ والإغماضِ؛ فكيفَ ترضونَ لربِّكم ولإخوانِكم ما لا ترضونَهُ لأنفسِكم؟! فليسَ هذا من الإنصافِ والعدلِ.
* وبيَّنَ تعالى الحكمةَ في الزكاةِ، وبيانِ مصالِحها العظيمةِ، فقالَ:{تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103] فهذهِ كلمةٌ جامعةٌ، يدخلُ فيها من المنافعِ للمُعطِي والمعطَى والمالِ والأمورِ العموميةِ والخصوصيةِ شيءٌ كثيرٌ:
* فقولُهُ: {تُطَهِّرُهُمْ} أي: من الذنوبِ، ومن الأخلاقِ الرذيلةِ؛ فإنَّ مِنْ أعظمِ الذنوبِ وأكبرِها منعَ الزكاةِ، وأيضًا إعطاؤُها سببٌ لمغفرةِ ذنوبٍ أخرَى، فإنها من أكبرِ الحسناتِ، والحسناتُ يذهبنَ السيئاتِ. ومن أشنعِ الأخلاقِ الرذيلةِ البخلُ، والزكاةُ تطهرهُ من هذا الخلقِ الرذيلِ، ويتصفُ صاحبُها بالرحمةِ والإحسانِ، والشفقةِ على الخلقِ.
* وتطهرُ المالَ من الأوساخِ والآفاتِ؛ فإنَّ للأموالِ آفاتٍ مثلَ آفاتِ الأبدانِ، وأعظمُ آفاتِها أنْ تخالطَها الأموالُ المحرمةُ؛ فهيَ للأموالِ مثلُ الجربِ تَسْحَتُهُ، وتُحلُّ بهِ النكباتِ والنوائبَ المزعجةَ، فإخراجُ الزكاةِ تطهيرٌ لهُ من هذهِ الآفةِ المانعةِ لهُ من البركةِ والنماءِ، فيستعدُّ بذلكَ للنماءِ والبركةِ، وتوجيههِ للأمورِ النافعةِ.
* وأمَّا قولهُ: {وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103] فالزكاةُ هيَ النماءُ والزيادةُ:
• فهيَ تنمِّي المؤتِيَ للزكاةِ: تنمِّي أخلاقَهُ، وتحلُّ البركةُ في أعمالهِ، ويزدادُ بالزكاةِ ترقيًا في مكارم الأخلاقِ ومحاسنِ الشيمِ، وتنمِّي المالَ بزوالِ ما بهِ ضررهُ، وحصولِ
ما فيه خيرهُ، وتحلُّ فيه البركةُ من اللهِ؛ ولهذا قالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم:«ما نقصَتْ صدقةٌ من مالٍ»
(1)
، بلْ تزيدهُ.
• وتنمِّي أيضًا المخرجَ إليهِ؛ فتسدُّ حاجتَهُ
(2)
.
* وتقومُ المصلحةُ الدينيةُ التي تُصرفُ فيها الزكاةُ: كالجهادِ، والعلمِ، والإصلاحِ بينَ الناسِ، والتأليفِ، ونحوِها.
* وأيضًا تَدفعُ عاديةَ الفقرِ والفقراءِ؛ فإنَّ أربابَ الأموالِ إذا احتكرُوها واحتجزُوها ولم يؤدُّوا منها شيئًا للفقراءِ اضطرَّ الفقراءُ وهم جمهورُ الخَلقِ، وثارُوا بالشرِّ والفسادِ على أربابِ الأموالِ؛ وبهذا ونحوهِ تسلطَتِ البلاشفةُ
(3)
على الخَلقِ.
(1)
مسلم (2588).
(2)
في (خ): حاجة الفقر.
(3)
البلاشفة: حزب شيوعي يساري، أسسه «فلاديمير لينين» عام (1903 م)، واستطاعوا إسقاط الحكم القيصري عام (1917 م)، وعُرفوا فيما بعد باسم «الحزب الشيوعي للاتحاد السوفيتي». انظر: تاريخ الثورة الروسية، ليون تروتسكي، ترجمة أكرم ديري والهيثم الأيوبي.
فالقيامُ بالدينِ الإسلاميِّ على وجههِ -بعقائدهِ وحقائقهِ وأخلاقهِ وأداءِ حقوقهِ- هوَ السدُّ المانعُ شرعًا وقدرًا لهذهِ الطائفةِ، التي بها فسادُ الأديانِ والدنيا والآخرةِ.
* وأمرَ تعالى الآخِذَ منهم الزكاةَ أنْ يصليَ عليهم؛ فيدعُوَ لهم بالبركةِ؛ فإنَّ في ذلكَ تطمينًا لخواطرِهم، وتسكينًا لقلوبِهم، وتنشيطًا لهم، وتشجيعًا على هذا العملِ الفاضلِ.
وكما أنَّ الإمامَ والساعيَ مأمورٌ بالدعاءِ للمزكِّي عندَ أخذِها، فالفقيرُ المحتاجُ إذا أُعطيَها من بابِ أولى أنْ يُشرعَ لهُ الدعاءُ للمعطِي؛ تسكينًا لقلبهِ، وفي هذا إعانةٌ على الخيرِ.
* ودلَّ تعليلُ الآيةِ الكريمةِ أنَّ كلَّ ما أعانَ على فعلِ الخيرِ، ونشطَ عليهِ، وسكنَ قلبَ صاحبهِ؛ أنهُ مطلوبٌ ومحبوبٌ للهِ، وأنهُ ينبغِي للعبدِ مراعاتهُ وملاحظتهُ في كلِّ شأنٍ من شؤونهِ، فإنَّ مَنْ تفطنَ لهُ فتحَ لهُ أبوابًا نافعةً لهُ ولغيرهِ بلا تعبٍ ولا مشقةٍ، وأنهُ ينبغِي إدخالُ السرورِ على المؤمنينَ.
* ولما أمرَ في آيةِ (البقرةِ) بالنفقاتِ قالَ: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [البقرة: 267] غنيٌّ بذاتهِ عن جميعِ المخلوقينَ، وهوَ الغنيُّ عن نفقاتِ المنفقينَ وطاعاتِ الطائعينَ، وإنما أمرَهم بها وحثَّهم عليها لمحضِ مصلحتِهم ونفعِهم، وبمحضِ فضلهِ وكرمهِ عليهم؛ إذْ تفضَّلَ عليهم بالأمرِ بهذهِ الأعمالِ، والتوفيقِ لفعلِها التي توصلُ أصحابَها إلى أعلى المقاماتِ، وأفضلِ الكراماتِ.
ومعَ كمالِ غناهُ وسعةِ عطاياهُ فهوَ الحميدُ فيما يشرعهُ لعبادهِ من الأحكامِ الموصلةِ لهم إلى دارِ السلامِ، وحميدٌ في أفعالهِ التي لا تخرجُ عن الفضلِ والعدلِ والحكمةِ، وحميدُ الأوصافِ؛ لأنَّ أوصافَهُ كلَّها محاسنُ وكمالاتٌ، لا يدركُ العبادُ كنهَها، ولا يَقْدُرُونها حقَّ قدرِها.
* فلما حثَّهم على الإنفاقِ النافعِ نهاهم عن الإمساكِ الضارِّ، وبيَّنَ لهم أنهم بينَ داعيينِ:
* داعِي الرحمنِ: يدعُوهم إلى الخيرِ، ويعدُهم عليهِ الفضلَ والثوابَ العاجلَ والآجلَ، وخلفَ ما أنفقوا.
* وداعي الشيطانِ: الذي يحثُّهم على الإمساكِ، ويخوِّفُهم إنْ أنفقُوا افتقرُوا.
فمَن كان مجيبًا لداعِي الرحمنِ وأنفقَ مما رزقَهُ اللهُ فليَبْشَرْ بمغفرةِ الذنوبِ، وحصولِ كلِّ مطلوبٍ.
ومَن كان مجيبًا لداعِي الشيطانِ فإنهُ إنما يدعُو حزبَهُ ليكونُوا مِنْ أصحابِ السعيرِ.
فليختَرْ العبدُ أيَّ الأمرينِ أليقَ بهِ.
* وختمَ الآيةَ بالإخبارِ بأنهُ: {وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 268] أي: واسعُ الصفاتِ، كثيرُ الهباتِ، عليمٌ بمن يستحقُّ المضاعفةَ من العاملينَ المخلصينَ الصادقينَ، وعليمٌ بمن هوَ أهلٌ لذلكَ؛ فيوفقهُ لفعلِ الخيراتِ، وتركِ المنكراتِ.
5 -
* المرادُ بالصدقاتِ هنا: الزكاةُ، فهؤلاءِ الثمانيةُ هم أهلُها، إذا دُفعَتْ إلى جهةٍ من هذهِ الجهاتِ أجزأَتْ ووقعَتْ موقعَها، وإنْ دُفعَتْ في غيرِ هذهِ الجهاتِ لم تَجُزْ.
* وهؤلاءِ المذكورونَ فيها قسمانِ:
* قسمٌ يأخذُ لحاجتهِ: كالفقراءِ، والمساكينِ، والرقابِ، وابنِ السبيلِ، والغارمِ لنفسهِ.
* وقسمٌ يأخذُ لنفعهِ العموميِّ والحاجةِ إليهِ، وهم البقيةُ.
* فأمَّا الفقراءُ والمساكينُ فهم خلافُ الأغنياءِ، والفقيرُ أشدُّ حاجةً من المسكينِ؛ لأنَّ اللهَ بدأَ بهِ، والأهمُّ مقدمٌ في الذكرِ غالبًا، ولكنَّ الحاجةَ تجمعُ الصنفينِ.
* {وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} وهم: السعاةُ الذينَ يَجْبُونها ويكتبونَها ويحفظونَها، ويقسمونَها على أهلِها، فهم يُعطَونَ ولو كانوا أغنياءَ؛ لأنها بمنزلةِ الأجرةِ في حقِّهم.
* {وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ} وهم: ساداتُ العشائرِ والرؤساءُ، الذينَ إذا أُعطوا حصلَ في إعطائِهم مصلحةٌ للإسلامِ والمسلمينَ: إمَّا دفعُ شرِّهم عن المسلمينَ، وإمَّا رجاءُ إسلامِهم وإسلامِ نظرائِهم، أو جبايتِها ممن لا يُعطِيها، أو يُرجَى قوةُ إيمانهم.
* {وَفِي الرِّقَابِ} أي: في فكِّها من الرقِّ: كإعانةِ المكاتبينَ، وكبذِلها في شراءِ الرقابِ لعتقِها، وفي فكِّ الأسارى من المسلمينَ عندَ الأعداءِ.
* {وَالْغَارِمِينَ} للإصلاحِ بينَ الناسِ، إذا كان الصلحُ يتوقفُ على بذلِ مالٍ، فيُعانونَ على القيامِ بهذهِ المهمةِ والمصلحةِ العظيمةِ، وهيَ الإصلاحُ بينَ الناسِ، ولو أغنياءَ.
ومِن الغارمينَ: مَنْ ركبَتْهم ديونٌ للناسِ، وعجزوا عن وفائِها، فيُعانونَ من الزكاةِ لوفائِها.
* {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} أي: بذِلها في إعانةِ المجاهدينَ بالزادِ والمزادِ والمركوبِ والسلاحِ، ونحوِها مما فيه إعانةُ المجاهدينَ.
ومن الجهادِ: التخلِّي لطلبِ العلمِ الشرعيِّ، والتجردُ للاشتغالِ بهِ.
* {وَابْنِ السَّبِيلِ} وهوَ: الغريبُ المنقطعُ بهِ في غيرِ بلدهِ، فيُعانُ على سفرهِ من الزكاةِ.
* فاللهُ تعالى فرضَها لهؤلاءِ الأصنافِ بحسبِ حكمتهِ وعلمهِ، ووضعهِ الأشياءَ مواضعَها، فإنَّ سدَّ الكفاياتِ وقيامَ المصالحِ العموميةِ النافعةِ من الفروضِ على المسلمينَ، وهيَ على أهلِ الأموالِ شكرٌ منهم للهِ تعالى على نعمتهِ بالمالِ، وتطهيرٌ لهم ولها، ونماءٌ وبركةٌ، واتصافٌ بصفاتِ الأخيارِ، وسلامةٌ من نعوتِ الأشرارِ.
فصل في الطهارة بالماء والتيمم
1 -
قال اللهُ تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} إلى قولهِ: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6)} [المائدة: 6].
* هذهِ الآياتُ جمعَ اللهُ فيها أحكامَ طهارةِ الماءِ وطهارةِ التيممِ، والتنبيهَ على شروطِهما، وبيانَ كيفياتِهما، وذكْرَ فوائدِ ذلكَ، وثمراتهِ الطيبةِ؛ فبيَّنَ فيها الأحكامَ وحِكَمَها وأسرارَها، وهيَ أحكامٌ كثيرةٌ تُستفادُ من هذا الموضعِ.
* منها: أنَّ الطهارةَ من الحدثينِ شرطٌ لصحةِ الصلاةِ؛ لقولهِ: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا} إلخ.
* ومنها: أنَّ ذلكَ عامٌّ للفرائضِ من الصلواتِ والنوافلِ، فكلُّ ما يُسمَّى صلاةً فلابدَّ فيه من هذهِ الطهارةِ.
* ومنها: اشتراطُ النيةِ للطهارةِ؛ لقولهِ: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} أي: لأجلِ الصلاةِ، فإنَّ المتطهرَ إما أنْ ينويَ رفعَ ما عليهِ من الأحداثِ، أو ينويَ الصلاةَ ونحوَها مما يَحتاجُ إلى الطهارةِ، أو ينويَهما.
* ومنها: أنَّ غسلَ هذهِ الأعضاءِ لابدَّ منهُ في الحدثِ الأصغرِ:
* فحدُّ الوجهِ ما يدخلُ في مسماهُ، وما تحصلُ بهِ المواجهةُ، وذلكَ من الأذنِ إلى الأذنِ عرضًا، ومن منابتِ شعرِ الرأسِ إلى ما انحدرَ من اللحيينِ والذقنِ طولًا معَ مسترسلِ اللحيةِ؛ لأنَّ هذا هوَ الذي تحصلُ بهِ المواجهةُ.
* وأمَّا اليدانِ فقدْ حدَّهما اللهُ إلى المرفقينِ، فقالَ العلماءُ: إنَّ {إِلَى} بمعنى: معَ المرفقينِ، وأيَّدوا هذا بأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أدارَ الماءَ على مرفقيهِ، وكذلكَ يُقالُ في الرجلينِ:{إِلَى الْكَعْبَيْنِ} .
* وأمَّا الرأسُ فإنهُ يتعينُ استيعابُ مسحهِ؛ فإنَّ اللهَ أمَرَ بمسحهِ، والباءُ للإلصاقِ الذي يقتضِي إلصاقَ المسحِ بهذا الممسوحِ، وليستِ للتبعيضِ.
* ومنها: أنَّ الترتيبَ بينَ هذهِ الأعضاءِ الأربعةِ شرطٌ؛ لأنَّ اللهَ رتبَها، وأدخلَ عضوًا ممسوحًا بينَ الأعضاءِ المغسولةِ، ولا يُعلمُ لهذا فائدةٌ سوى الترتيبِ، وعمومِ قولهِ صلى الله عليه وسلم:«أبدأُ بما بدأَ اللهُ بهِ»
(1)
، فهوَ وإنْ كان واردًا في الحجِّ فإنهُ يعمُّ كلَّ شيءٍ، معَ أنَّ جميعَ الواصفينَ لوضوئهِ صلى الله عليه وسلم ذكروهُ مرتبًا.
* ومنها: أنَّ الموالاةَ شرطٌ أيضًا، ووجْهُ ذلكَ أنَّ اللهَ تعالى ذكَرَ الوضوءَ مقترنًا بعض الأعضاءِ ببعضٍ بالواوِ الدالةِ على اجتماعِ هذهِ العبادةِ بوقتٍ واحدٍ، فإذا فرَّقها في وقتينِ لم تكن عبادةً واحدةً، كما لو فرَّق الصلاةَ؛ وبفعلِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم الدائمِ الذي كأنكَ تشاهدهُ أنهُ كان يوالِي بينَ أعضاءِ وضوئهِ، وهذا أولى من استدلالِ كثيرٍ من أهلِ العلمِ بقصةِ صاحبِ اللُمْعةِ الذي أمرَهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أنْ يعيدَ الوضوءَ كلَّهُ، فهوَ وإنْ كان فيه بعضُ الدلالةِ على هذهِ المسألةِ، لكنْ يحتملُ أنَّ أَمْرَهُ بالإعادةِ كأمرِ المسيءِ في صلاتهِ أنْ يعيدَ؛ لأنهُ رآهُ مخلًّا بوضوئهِ غيرَ متممٍ لهُ.
(1)
مسلم (1218).
* ومنها: بيانُ الطهارةِ الكبرى، كيفيتِها وذكرِ سببِها. فكيفيتُها: أنْ يطهرَ العبدُ جميعَ ظاهرِ بدنهِ بالماءِ؛ لقولهِ: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} ، فلم يخصَّهُ بعضوٍ أو بأعضاءٍ معينةٍ، بلْ جعلَ اللهُ التطهيرَ لجميعِ البدنِ، فعلى المتطهرِ أنْ يعمِّمَ التطهيرَ لجميعِ ظاهرِ بدنهِ وما تحتَ الشعورِ، خفيفةً أو كثيفةً، وأنْ يكونَ ذلكَ غسلًا لا مسحًا.
* ومنها: أنَّ طهارةَ الحدثِ الأكبرِ لا ترتيبَ فيها، ولا موالاةَ.
* ومنها: أنَّ من أسبابِها الجنابةَ، والجنابةُ قدْ عرَفَها المسلمونَ عن نبيِّهم صلى الله عليه وسلم أنها: إنزالُ المنيِّ يقظةً أو منامًا وإنْ لم يكنْ جماعٌ، أو الجماعُ وإنْ لم يحصُلْ إنزالٌ، أو وجودُ الأمرينِ كليهما.
وقدْ بيَّنَ اللهُ أيضًا في (سورةِ البقرةِ) سببًا آخرَ للاغتسالِ، وهوَ الحيضُ، في قولهِ:{وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 222]، فأضافَ التطهيرَ فيها إلى البدنِ كلهِ كالجنابةِ، ويشملُ ذلكَ النفاسَ.
وأمَّا التطهيرُ من إسلامِ الكافرِ وتطهيرِ الميتِ فإنهُ يُؤخذُ من السنةِ.
* ومنها: ما استدلَّ بهِ كثيرٌ من أهلِ العلمِ في قراءةِ الجرِّ
(1)
في قولهِ: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ} أنها تدلُّ على مسحِ الخفينِ الذي بينَتْهُ السنةُ وصرحَتْ بهِ، وأمَّا قراءةُ النصبِ
(2)
في {أَرْجُلَكُمْ} فإنها معطوفةٌ على المغسولاتِ.
(1)
وهي قراءة ابن كثير وحمزة وأبي عمرو وعاصم في رواية أبي بكر. انظر: (السبعة في القراءات: ص 242)، (النشر في القراءات العشر: 2/ 254).
(2)
وهي قراءة نافع وابن عامر والكسائي وعاصم في رواية حفص. انظر المرجعين السابقين.
* ومنها: مشروعيةُ التيممِ، وأنَّ سببَهُ أحدُ أمرينِ:
* إمَّا عدمُ الماءِ؛ لقولهِ: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} .
* أو التضررُ باستعمالهِ؛ لقولهِ: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى} ، فكلُ ضررٍ يعترِي العبدَ إذا استعملَ الماءَ فإنهُ يسوِّغُ لهُ العدولَ إلى التيممِ، وأنواعُ الضررِ كثيرةٌ.
وأمَّا ذكرُ السفرِ فلأنهُ مظنةُ الحاجةِ إلى التيممِ لفقدِ الماءِ، كتقييدِ الرهنِ في السفرِ، لا لأنَّ السفرَ وحدَهُ مسوغٌ للتيممِ كما ظنهُ بعضُ الناسِ، وهوَ منافٍ لقولهِ:{فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} .
* ومنها: أنَّ التيممَ بكلِّ ما تصاعدَ على وجهِ الأرضِ، سواءٌ كان لهُ غبارٌ أم لا، إذا كان طيبًا غيرَ خبيثٍ، والخبيثُ هوَ: النجسُ، في هذا الموضعِ.
* ومنها: أنَّ التيممَ خاصٌ بعضوينِ: بالوجهِ، واليدينِ.
* وأنَّ اليدينِ عندَ الإطلاقِ وعدمِ التقييدِ هما الكفَّانِ، كما في آيةِ السرقةِ، وإذا قُيدَتْ -كما في آيةِ الوضوءِ إلى المرفقينِ- تَقيدَتْ بذلكَ.
* ومنها: التنبيهُ على ما يوجِبُ الطهارةَ الصغرى وهوَ:
* الإتيانُ من الغائطِ، يعني: خروج الخارجِ مِنْ أحدِ السبيلينِ.
* وملامسةُ النساءِ لشهوةٍ.
* والسنةُ بينَتِ الوضوءَ من النومِ الكثيرِ، ولمسِ الفرجِ، وأكلِ لحومِ الإبلِ على اختلافٍ من أهلِ العلمِ في ذلكَ.
* ومنها: أنَّ التيممَ كما أنهُ مشروعٌ في الحدثِ الأصغرِ، فكذلكَ في الحدثِ الأكبرِ؛ لأنَّ اللهَ تعالى ذكرَهُ بعدَ سببِ الطهارتينِ.
* ومنها: أنهُ في طهارةِ التيممِ تستوِي فيه الطهارةُ الصغرى بالكبرى في مسحِ العضوينِ فقط.
* ومنها: أنَّ الآيةَ الكريمةَ تدلُّ على أنَّ طهارةَ التيممِ تنوبُ وتقومُ مقامَ طهارةِ الماءِ عندَ عدمهِ، أو التضررِ باستعمالهِ؛ لأنَّ اللهَ أنابَهُ منابَهُ، وسمَّاهُ طهارةً، وكذلكَ الأحاديثُ الكثيرةُ تدلُّ على هذا.
وبهذا يُعرفُ أنَّ الصحيحَ أنَّ طهارةَ التيممِ لا تبطلُ بخروجِ وقتٍ ولا دخولهِ، ولا غيرِ ذلكَ مما قالهُ كثيرٌ من أهلِ العلمِ، بلْ إنها تبطلُ بأحدِ أمرينِ:
* إمَّا حصولُ ناقضٍ من نواقضِ الطهارةِ.
* وإمَّا وجودُ الماءِ، أو زوالُ الضررِ المانعِ من استعمالِ الماءِ.
* ومنها: أنَّ الماءَ المتغيرَ بالطاهراتِ - ولو تغيرًا كثيرًا - أنهُ يجبُ تقديمهُ على طهارةِ التيممِ؛ لأنَّ قولَهُ: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} نكرةٌ في سياقِ النفيِ، فيعمُّ أيَّ ماءٍ سوى الماءِ النجسِ.
* ومنها: ما استدلَّ بهِ كثيرٌ من أهلِ العلمِ أنَّ مَنْ كان في موضعٍ ليسَ فيه ماءٌ، وهوَ يشكُّ في وجودهِ فيما يقاربهُ؛ أنَّ عليهِ أنْ يطلبَهُ، ويفتشَ فيما حولَهُ قبلَ أنْ يعدلَ إلى التيممِ؛ لأنَّ قولَهُ:{فَلَمْ تَجِدُوا} لا يقالُ إلا بعدَ طلبِ ما يمكنُ طلبُهُ فيه من دونِ مشقةٍ، وهو استدلالٌ لطيفٌ.
* ومنها: أنهُ لابدَّ في الطهارةِ من النيةِ؛ لقولهِ في طهارةِ الماءِ: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا} إلى آخرهِ، وفي طهارةِ التيممِ:{فَتَيَمَّمُوا} أي: اقصدوا، {صَعِيدًا طَيِّبًا} ، ومِن لازمِ ذلكَ النيةُ.
* ومنها: أنَّ هذهِ الأحكامَ التي شرعَها اللهُ لعبادهِ إنما ذلكَ رحمةٌ منهُ بعبادهِ؛ ليقومُوا بالعباداتِ التي تتوقفُ سعادتُهم وفلاحُهم عليها، وأنهُ يريدُ إتمامَ نعمتهِ عليهم بالأوامرِ الشرعيةِ التي لا مشقةَ فيها ولا حرجَ؛ لينالوا الفضلَ العظيمَ من ربِّهم، فمنهُ التفضلُ على عبادهِ بالسببِ والمسببِ.
* ومنها: أنَّ طهارةَ التيممِ وإنْ لم يُشاهَدْ فيها نظافةٌ حسيةٌ فإنَّ فيها طهارةً معنويةً، ناشئةً عن امتثالِ العبدِ لأمرِ اللهِ ورسولهِ.
* ومنها: القاعدةُ الكليةُ في قولهِ: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} ، وأنَّ الحرجَ منفيٌّ شرعًا في جميعِ ما شرعَهُ اللهُ لعبادهِ، فأصلُ العباداتِ في غايةِ السهولةِ على المكلفينَ، ثم إذا عرضَتْ فيها عوارضُ عجزٍ أو مرضٍ أو تعذرٍ لبعضِ شروطِها؛ فإنَّ الشارعَ يخففُها تخفيفًا يناسبُ ذلكَ العارِضَ.
* ومنها: أنَّ هذهِ الأحكامَ وغيرَها من محاسنِ الدينِ الإسلاميِّ؛ لما فيها من المنافعِ للعبادِ في قلوبِهم وأبدانِهم وأخلاقِهم، والتقربِ بها إلى اللهِ، والتوسلِ بها إلى ثوابهِ العاجلِ والآجلِ.
فجميعُ الأحكامِ من أكبرِ الأدلةِ على حسنِ دينِ الإسلامِ، وأنهُ الدينُ الحقُّ الذي فيه الصلاحُ والإصلاحُ، وأنَّ سعادةَ الدنيا والآخرةِ منوطةٌ بهِ، مترتبةٌ عليهِ؛ فتأمَّلْ أحكامَ اللهِ وما فيها من الحكمِ والأسرارِ والمنافعِ ودفعِ المضارِّ تجِدْ هذا مشاهدًا فيها.
فصل في صلاة الجمعة والسفر والأذان
1 -
* يأمرُ تعالى عبادَهُ المؤمنينَ بالحضورِ لصلاةِ الجمعةِ، والمبادرةِ إليها من حينِ يُنادَى لها.
والمرادُ بالسعيِ هنا: الاهتمامُ بها، وعدمُ الاشتغالِ بغيرها، لا المرادُ بهِ: العَدْوُ الذي نهى عنهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم عندَ المضيِّ إلى الصلاةِ، فالمشيُ إلى الصلاةِ بسكينةٍ ووقارٍ هوَ المرادُ بالسعيِ هنا.
* {وَذَرُوا الْبَيْعَ} أي: اتركوهُ في هذهِ الحالةِ التي أُمرتُم بالمضيِّ فيها إلى الصلاةِ، وإذا أمرَ بتركِ البيعِ الذي ترغبُ فيه النفوسُ وتحرصُ عليهِ فتركُ غيرهِ من الشواغلِ من بابِ أولى، كالصناعاتِ وغيرِها.
* {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} حقائقَ الأمورِ وثمراتِها.
وذلكَ الخيرُ هوَ: امتثالُ أمرِ اللهِ ورسولهِ، والاشتغالُ بهذهِ الفريضةِ، التي هيَ من أهمِّ الفرائضِ، واكتسابُ خيرِها وثوابِها، وما رتَّبَ الشارعُ على السعيِ لها، والمبادرةُ والتقدمُ والوسائلُ، والمتمماتُ لها من الخيرِ والثوابِ، ولما في ذلكَ من اكتسابِ الفضائلِ، واجتنابِ الرذائلِ؛ فإنَّ مِنْ أرذلِ الخصالِ الحرصَ والجشعَ الذي يحملُ العبدَ على تقديمِ الكسبِ الدنيءِ على الخيرِ الضروريِّ.
ومنْ الخيرِ: أنَّ مَنْ قدَّمَ أمرَ اللهِ، وآثرَ طاعتَهُ على هوى نفسهِ؛ كان ذلكَ برهانَ إيمانهِ، ودليلَ رغبتهِ وإنابتهِ إلى ربهِ، ومَن تركَ شيئًا للهِ عوضَهُ اللهُ خيرًا منهُ
(1)
، ومَن قدَّمَ هواهُ على طاعةِ مولاهُ فقدْ خسرَ دينَهُ، وتبعَ ذلكَ خسارةُ دنياهُ.
* وهذا الأمرُ بتركِ البيعِ مؤقتٌ إلى انقضاءِ الصلاةِ: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} لطلبِ المكاسبِ المباحةِ، {وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} أي: ينبغِي للمؤمنِ الموفقِ وقتَ اشتغالهِ في مكاسبِ الدنيا أنْ يقصدَ بذلكَ الاستعانةَ على قيامهِ بالواجباتِ، وأنْ يكونَ مستعينًا باللهِ في ذلكَ، طالبًا لفضلهِ، جاعلًا الرجاءَ والطمعَ في فضلِ اللهِ نصبَ عينيهِ؛ فإنَّ التعلقَ باللهِ والطمعَ في فضلهِ مِنْ الإيمانِ ومِن العباداتِ.
* ولما كان الاشتغالُ بالتجارةِ مظنةَ الغفلةِ عن ذكرِ اللهِ وطاعتهِ أمرَ اللهُ بالإكثارِ من ذكرهِ، فقالَ:{وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} أي: في حالِ قيامِكم وقعودِكم، وفي تصرفاتِكم وأحوالِكم كلِّها؛ فإنَّ ذكرَ اللهِ طريقُ الفلاحِ الذي هوَ الفوزُ بالمطلوبِ، والنجاةُ من المرهوبِ.
ومِن المناسبِ في هذا أنْ يجعلَ المعاملةَ الحسنةَ والإحسانَ إلى الخلقِ نصبَ عينيهِ؛ فإنَّ هذا من ذكرِ اللهِ، فكلُّ ما قربَ إلى اللهِ فإنهُ من ذكرهِ، وكلُّ أمرٍ يحتسبُهُ العبدُ فإنهُ من ذكرهِ: فإذا نصحَ في معاملتهِ وتركَ الغشَّ تقرَّبَ في هذهِ المعاملةِ إلى اللهِ؛ لأنَّ اللهَ يحبُّها، ولأنها تمنعُ العبدَ من المعاملةِ الضارةِ، وكلَّما سامحَ أحدًا، أو حاباهُ في ثمنٍ أو مثمنٍ، أو تيسيرٍ أو إنظارٍ، أو نحوهِ؛ فإنهُ من الإحسانِ والفضلِ، وهوَ من ذكرِ اللهِ، قالَ تعالى:{وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة: 237].
(1)
كما جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «إنك لن تدع شيئًا لله إلا بدلك الله به ما هو خير لك منه» (أحمد: 38/ 170 رقم 23074).
* {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} أي: خرجُوا من المسجدِ حرصًا على تلكَ التجارةِ واللهوِ، وتركوا ذلكَ الخيرَ الحاضرَ، حتى إنهم تركُوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم قائمًا يخطبُ؛ وذلكَ لحاجتِهم لتلكَ العيرِ التي قدمَتِ المدينةَ، وقبلَ أنْ يعلمُوا حقَّ العلمِ ما في ذلكَ من الذمِّ وسوءِ الأدبِ، فاجتماعُ الأمرينِ حملاهم على ما ذكرَ، وإلا فهم رضي الله عنهم كانوا أرغبَ الناسِ في الخيرِ، وأعظمَهم حرصًا على الأخذِ عن الرسولِ، وعلى توقيرهِ وتبجيلهِ، وحالُهم المعلومةُ في ذلكَ أكبرُ شاهدٍ، ولكنْ لكلِّ جوادٍ كبوةٌ، ثم إنَّ الكبوةَ التي عُوتبَ عليها العبدُ، وتابَ منها وأنابَ، وغفَرَها اللهُ، وأبدلَ مكانَها حسنةً؛ لا يحلُّ لأحدٍ اللومُ عليها.
* {قُلْ} لمن قدَّم اللهوَ والتجارةَ على الطاعةِ: {مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ} التي وإنْ حصلَ منها بعضُ المقاصدِ فإنَّ ذلكَ قليلٌ منغصٌ مفوتٌ لخيرِ الآخرةِ.
* وليسَ الصبرُ على طاعةِ اللهِ مفوتًا للرزقِ؛ فإنَّ اللهَ خيرُ الرازقينَ، فمن اتقى اللهَ رزقَهُ من حيثُ لا يحتسبُ، ومَن قدَّمَ الاشتغالَ بالتجارةِ على طاعةِ اللهِ لم يباركْ لهُ في ذلكَ، وكان هذا دليلًا على خلوِّ قلبهِ من ابتغاءِ الفضلِ من اللهِ، وانقطاعِ قلبهِ عن ربهِ، وتعلقهِ بالأسبابِ، وهذا ضررٌ محضٌ يُعقِبُ الخسرانَ.
* وفي هذهِ الآياتِ فوائدُ عديدةٌ:
* منها: أنَّ الجمعةَ فريضةٌ على المؤمنينَ، يجبُ عليهم السعيُ لها، والاهتمامُ بشأنِها، وأنَّ الخيراتِ المترتبةَ عليها لا يقابلها شيءٌ.
* ومنها: مشروعيةُ الخطبتينِ
(1)
، وأنهما فريضتانِ
(2)
، وأنَّ المشروعَ أنْ يكونَ الخطيبُ قائمًا؛ لأنَّ قولَهُ:{فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] يشملُ السعيَ إلى الصلاةِ وإلى الخطبتينِ، وأيضًا فإنَّ اللهَ ذمَّ مَنْ ترَكَ استماعَ الخطبةِ.
* ومنها: مشروعيةُ النداءِ يومَ الجمعةِ وغيرها؛ لأنَّ التقييدَ بيومِ الجمعةِ دليلٌ على أنَّ هناكَ نداءً لبقيةِ الصلواتِ الخمسِ، كما قالَ تعالى:{وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا} [المائدة: 58].
* ومنها: النهيُ عن البيعِ والشراءِ بعدَ نداءِ الجمعةِ، وذلكَ يدلُّ على التحريمِ وعدمِ النفوذِ.
* ومنها: أنَّ الوسائلَ لها أحكامُ المقاصدِ، فإنَّ البيعَ في الأصلِ مباحٌ، ولكن لما كان وسيلةً لتركِ الواجبِ نهَى اللهُ عنهُ.
* ومنها: تحريمُ الكلامِ والإمامُ يخطبُ؛ لأنهُ إذا كان الاشتغالُ بالبيع ونحوهِ -ولو كان المشتغلُ بعيدًا عن سماعِ الخطبةِ- محرمًا فمَن كان حاضرًا تعيَّنَ عليهِ ألَّا يشتغلَ بغيرِ الاستماعِ، كما أيَّدَ هذا الاستنباطَ الأحاديثُ الكثيرةُ
(3)
.
* ومنها: أنَّ المشتغلَ بعبادةِ اللهِ وطاعتهِ، إذا رأى من نفسهِ الطموحَ إلى ما يلهِيها عن هذا الخيرِ من اللذاتِ الدنيويةِ والحظوظِ النفسيةِ؛ شُرِعَ أنْ يُذكِّرَها ما عندَ اللهِ من الخيراتِ، وما لمُؤْثِرِ الدينِ على الهوَى، وما يترتبُ من الضررِ والخسرانِ على ضدهِ.
(1)
في (خ): الخطبة.
(2)
في (خ): فريضة.
(3)
من ذلك: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة أنصت والإمام يخطب فقد لغوت» . البخاري (934)، ومسلم (851).
2 -
* أي: إذا سافرْتُم في الأرضِ لتجارةٍ أو عبادةٍ أو غيرِهما؛ فقد خففَ اللهُ عنكم، ورفعَ عنكم الجناحَ، وأباحَ لكم بل أحبَّ لكم أنْ تقصرُوا الصلاةَ الرباعيةَ إلى ركعتينِ، فإن حصلَ معَ ذلكَ خوفٌ فلا حرجَ في قصرِ كيفيةِ الصلواتِ كلِّها.
وهذا -والله أعلمُ- الحكمةُ في تقييدِ القصرِ بالخوفِ؛ لأنهُ من المعلومِ المتواترِ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم جوازُ القصرِ في السفرِ، ولوْ كان ليسَ فيه خوفٌ، ولكن إذا اجتمعَ السفرُ والخوفُ كان رخصةً في قصرِ العددِ للرباعيةِ والهيئةِ لغيرِها، فإنْ وُجِدَ الخوفُ وحدَهُ ترتبَ عليهِ قصرُ الهيئاتِ على الصفةِ التي ثبتَتْ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وإنْ وجدَ السفرُ وحدَهُ لم يكنْ فيه إلا قصرُ العددِ؛ ولهذا لما سُئِلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن هذا القيدِ قالَ:«صدقةٌ تصدقُ اللهُ عليكم بها؛ فاقبلُوا صدقتَهُ»
(1)
.
أو يقالُ: هذا القصرُ المذكورُ في الآيةِ الكريمةِ مطلقٌ، والسنةُ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم تقيِّدُهُ وتبينُ المرادَ بهِ.
(1)
مسلم (686).
3 -
{وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84)} [التوبة: 84] أي: ولا تصلِّ على أحدٍ ماتَ من المنافقينَ، ولا تقُمْ على قبرهِ بعدَ الدفنِ لتدعوَ لهُ؛ فإنَّ الصلاةَ عليهم والوقوفَ على قبورِهم للدعاءِ لهم شفاعةٌ لهم، وهم لا تنفعُ فيهم الشفاعةُ.
* {إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} : خارجونَ عن دينِ اللهِ بالكليةِ؛ ومَن كان كافرًا وماتَ على ذلكَ فما تنفعهُ شفاعةُ الشافعينَ، وفي ذلكَ عبرةٌ لغيرِهم، وزجرٌ ونكالٌ لهم، وهكذا كلُّ مَنْ عُلِمَ منهُ الكفرُ والنفاقُ، فإنهُ لا يُصلَّى عليهِ، ولا يُدعَى لهُ بالمغفرةِ.
* وفي هذهِ الآيةِ: مشروعيةُ الصلاةِ على المؤمنينَ، والوقوفِ على قبورِهم، خصوصًا وقتَ دفنِهم للدعاءِ لهم، وأنَّ هذا كان عادتَهُ صلى الله عليه وسلم معَ المؤمنينَ، وقد بيَّنَتِ السنةُ وجوبَ تجهيزِ الميتِ المسلمِ: بالتغسيلِ، والتكفينِ، والصلاةِ عليهِ، وحملهِ، ودفنهِ، كما هوَ معلومٌ.
فصل في الصيام وتوابعه
1 -
قال اللهُ تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183] إلى قولهِ: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 185].
* يخبرُ تعالى بمنتهِ على عبادهِ المؤمنينَ بفرضهِ عليهم الصيامَ كما فرضَهُ على الأمم السابقةِ؛ لأنهُ من الشرائعِ الكبارِ التي هيَ مصلحةٌ للخَلقِ في كلِّ زمانٍ، وفي هذا حثٌّ للأمةِ أنْ ينافسُوا الأممَ في المسارعةِ إليهِ وتكميلهِ، وبيانُ عمومِ مصلحتهِ وثمراتهِ التي لا تستغنِي عنها جميعُ الأممِ.
* ثم ذكرَ حكمتَهُ بقولهِ: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} فإنَّ الصيامَ من أكبرِ أسبابِ التقوى؛ لأنَّ فيه امتثالَ أمرِ اللهِ، واجتنابَ نهيهِ؛ فالصيامُ هوَ الطريقُ الأعظمُ للوصولِ إلى هذهِ الغايةِ التي فيها سعادةُ العبدِ في دينهِ ودنياهُ وآخرتهِ.
فالصائمُ يتقربُ إلى اللهِ بتركِ المشتهياتِ؛ تقديمًا لمحبةِ ربهِ على محبةِ نفسهِ؛ ولهذا اختصهُ اللهُ من بينِ الأعمالِ، حيثُ أضافَهُ إلى نفسهِ في الحديثِ الصحيحِ
(1)
، وهوَ من أعظمِ أصولِ التقوى.
(1)
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يقول الله عز وجل: الصوم لي وأنا أجزي به، يدع شهوته وأكله وشربه من أجلي
…
الحديث». البخاري (7492)، ومسلم (1151).
* فإنَّ الإسلامَ والإيمانَ لا يتمُّ بدونهِ.
* وفيهِ من حصولِ زيادةِ الإيمانِ، والتمرنِ على الصبرِ والمشقاتِ المقربةِ إلى ربِّ العالمينَ، وأنهُ سببٌ لكثرةِ الطاعاتِ: من صلاةٍ وقراءةٍ وذكرٍ وصدقةٍ وغيرِها - ما يحققُ التقوى.
* وفيهِ من ردعِ النفسِ عن الأمورِ المحرمةِ: من أقوالٍ، وأفعالٍ؛ ما هوَ من أصولِ التقوى.
* ومنها: أنَّ في الصيامِ من مراقبةِ اللهِ بتركِ ما تهوَى نفسهُ معَ قدرتهِ عليهِ -لعلمهِ باطلاعِ ربهِ عليهِ- ما ليسَ في غيرهِ، ولا ريبَ أنَّ هذا من أعظم عونٍ على التقوى.
* ومنها: أنَّ الصيامَ يضيقُ مجاريَ الشيطانِ، فإنهُ «يجرِي مِنْ ابنِ آدمَ مجرَى الدمِ»
(1)
، فبالصيامِ يضعفُ نفوذهُ، وتقلُّ معاصِي العبدِ.
* ومنها: أنَّ الغنيَّ إذا ذاقَ ألمَ الجوعِ أوجبَ لهُ ذلكَ وحملَهُ على مواساةِ الفقراءِ المعدمينَ.
وهذا كلُّهُ من خصالِ التقوى.
* ولما ذكَرَ أنهُ فرَضَ عليهم الصيامَ أخبرَ أنها: {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} أي: قليلةً سهلةً، ومن سهولتِها أنها في شهرٍ معينٍ يشتركُ فيه جميعُ المسلمينَ، ولا ريبَ أنَّ الاشتراكَ هذا من المهوناتِ المسهلاتِ، ومن ألطافِ المولَى ومعونتهِ للصائمينَ.
(1)
كما جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم عند البخاري (2039)، ومسلم (1779).
* ثم سهلَ تسهيلًا آخرَ فقال: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} وذلكَ للمشقةِ غالبًا، رخَّصَ اللهُ لهما في الفطرِ، ولما كان لابدَّ من تحصيلِ العبدِ لمصلحةِ الصيامِ أمرَهما أنْ يقضياهُ في أيامٍ أخرَ، إذا زالَ المرضُ، وانقضَى السفرُ، وحصلَتِ الراحةُ.
وفي قولهِ: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} : دليلٌ على أنهُ يقضِي عددَ أيامِ رمضانَ كاملًا كان أو ناقصًا، وعلى أنهُ يجوزُ أنْ يقضِيَ أيامًا قصيرةً باردةً عن أيامٍ طويلةٍ حارةٍ، كالعكسِ.
وبهذا أجَبْنا عن سؤالٍ وردَ علينا: أنهُ يوجدُ مسلمونَ في بعضِ البلادِ التي يكونُ في بعضِ الأوقاتِ ليلُها نحوَ أربعِ ساعاتٍ أو تنقصُ، فيوافقُ ذلكَ رمضان، فهلْ لهم رخصةٌ في الإطعامِ إذا كانوا يعجزونَ عن تتميمِها؟
فأجَبْنا: أنَّ العاجزَ منهم في هذا الوقتِ يؤخرهُ إلى وقتٍ آخرَ يقصرُ فيه النهارُ، ويتمكنُ فيه من الصيامِ، كما أمرَ اللهُ بذلكَ المريضَ، بل هذا أولى، وأنَّ الذي يقدرُ على الصيامِ في هذهِ الأيامِ الطوالِ يلزمهُ، ولا يحلُّ لهُ تأخيرُهُ إذا كان صحيحًا مقيمًا، هذا حاصلُ الجوابِ.
* وقولهُ: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} :
* قيلَ: هذا في أولِ الأمرِ، وفي ابتداءِ فرضِ الصيامِ، لما كانوا غيرَ معتادينَ للصيامِ، وكان ابتداءُ فرضهِ حتمًا فيه مشقةٌ عليهم؛ درجَهم الربُّ الحكيمُ بأسهلِ ما يكونُ، وخيَّرَ المطيقَ للصومِ بينَ: أنْ يصومَ وهوَ الأفضلُ الأكملُ، أو يطعمَ ويجزيهِ، ثملما تمرنُوا على الصيامِ وكان ضروريًّا على المطيقينَ فرضَهُ عليهم حتمًا.
* وقيلَ: إنَّ قولَهُ: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} أي: يتكلفونَ الصيامَ ويشقُّ عليهم مشقةً لا تُحتملُ، كالكبيرِ والمريضِ الميئوسِ من بُرئهِ، {فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} عن كلِّ يومٍ يفطرهُ.
* وقولهُ: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة: 185] أي: الصومُ المفروضُ عليكم هوَ شهرُ رمضانَ، الشهرُ العظيمُ الذي قدْ حصلَ لكم من اللهِ فيه الفضلُ العظيمُ، وهوَ إنزالُ القرآنِ الذي فيه هدايتُكم لجميعِ مصالحِكم الدينيةِ والدنيويةِ، وفيهِ بيانُ الحقِّ وتوضيحهُ، والفرقانُ بينَ الحقِّ والباطلِ، والهدَى والضلالِ، وأهلِ السعادةِ من أهلِ الشقاوةِ.
فحقيقٌ بشهرٍ هذا فضلُهُ، وهذا إحسانُ اللهِ العظيمِ فيه عليكم؛ أنْ يكونَ معظمًا محترمًا، موسمًا للعبادِ، مفروضًا فيه الصيامُ.
* فلما قررَ فرضيتَهُ، وبيَّنَ حكمتَهُ في ذلكَ، وفي تخصيصهِ؛ قالَ:{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} أي: مَنْ حضرَ الشهرَ وهوَ قادرٌ تحتَّمَ عليهِ صيامهُ.
* {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} أعادَ ذلكَ تأكيدًا لهُ، ولئلَّا يُظنَّ أنهُ أيضًا منسوخٌ معَ ما نُسِخَ من التخييرِ للقادرِ.
* {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} أي: يريدُ اللهُ أنْ ييسرَ ويسهلَ عليكم الطرقَ الموصلةَ إلى رضوانهِ أعظمَ تيسيرٍ؛ ليسهلَ سلوكُها، ويعينَ عليها بكلِّ وسيلةٍ؛ ليرغبَ فيها العبادُ.
وهذا أصلٌ عظيمٌ من أصولِ الشريعةِ، بلْ الشريعةُ كلُّها تدورُ على هذا الأصلِ: فإنَّ جميعَ الأوامرِ لا تشقُّ على المكلفينَ، وإذا حصلَ بعضُ المشاقِّ والعجزِ خففَ
الشارعُ من الواجباتِ بحسبِ ما يناسبُ ذلكَ، فيدخلُ في هذا: جميعُ التخفيفاتِ في جوازِ الفطرِ، وتخفيفاتُ السفرِ، والأعذارُ لتركِ الجمعةِ والجماعةِ.
* وقولهُ: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ} [البقرة: 185] وذلكَ لئلَّا يتوهمَ متوهمٌ أنَّ صيامَ رمضانَ يحصلُ المقصودُ ببعضهِ؛ دَفَعَ هذا الوهمَ بقولهِ: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ} .
* وأمَرَ بشكرهِ على إتمامهِ؛ لأنَّ من أكبرِ مننِ اللهِ على عبدهِ توفيقَهُ لإتمامهِ وتكميلهِ، وتبيينَ أحكامهِ للعبيدِ.
* {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} هدايةَ التعليمِ، وهدايةَ التوفيقِ والإرشادِ.
2 -
* هذا سؤالٌ وجوابٌ، أي: إذا سألكَ العبادُ عن ربِّهم، وبأيِّ طريقٍ يدركونَ منهُ مطالبَهم؛ فأجِبْهم بهذا الجوابِ الذي يأخذُ بمجامعِ القلوبِ، ويُوجبُ أنْ يعلقَ العبدُ بربهِ [كلَّ]
(1)
مطلوبٍ دينيٍّ ودنيويٍّ، فأخبِرْهم أنَّ اللهَ قريبٌ من الداعينَ، ليسَ على بابهِ حجابٌ ولا بوابٌ، ولا دونَهُ مانعٌ في أيِّ وقتٍ وأيِّ حالٍ.
فإذا أتى العبدُ بالسببِ والوسيلةِ، وهوَ الدعاءُ للهِ المقرونُ بالاستجابةِ لهُ بالإيمانِ بهِ والانقيادِ لطاعتهِ؛ فليبشَرْ بالإجابةِ في دعاءِ الطلبِ والمسألةِ، وبالثوابِ والأجرِ والرشدِ إذا دعا دعاءَ العبادةِ.
وكلُّ القرباتِ الظاهرةِ والباطنةِ تدخلُ في دعاءِ العبادةِ؛ لأنَّ المتعبدَ للهِ طالبٌ بلسانِ مقالهِ ولسانِ حالهِ من ربهِ قبولَ تلكَ العبادةِ والإثابةَ عليها.
* وفي هذهِ الآيةِ: تنبيهٌ على الأسبابِ الموجبةِ لإجابةِ الدعاءِ التي مدارُها على الإيمانِ باللهِ، وتحقيقهِ بالانقيادِ للهِ؛ امتثالًا لأمرهِ، واجتنابًا لنهيهِ.
* وتنبيهٌ أيضًا على أنَّ موانعَ الإجابةِ تركُ تحقيقِ الإيمانِ، وتركُ الانقيادِ، فأكلُ الحرامِ وعملُ المعاصِي من موانعِ الإجابةِ، وهيَ تنافِي الاستجابةَ للهِ.
* وفيهِ: تنبيهٌ على أنَّ الإيمانَ باللهِ والاستجابةَ لهُ سببٌ إلى حصولِ العلمِ؛ لأنَّ الرشدَ هوَ الهدى التامُّ علمًا وعملًا. ونظيرُ هذا قولُهُ تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال: 29] أي: علمًا تفرقونَ بهِ بينَ الحقِّ والباطلِ، وبينَ كلِّ ما يُحتاجُ إلى تفصيلهِ.
(1)
كذا في (خ)، وبه يستقيم السياق. وفي (ط): بكل.
3 -
{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187] إلى قولهِ: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [البقرة: 187].
* كان أولُ ما فُرِضَ الصيامُ مُنِعَ المسلمونَ من الأكلِ والشربِ في الليلِ إذا نامُوا، فحصلَتِ المشقةُ لكثيرٍ منهم، فخففَ اللهُ ذلكَ، وأباحَ في ليالي الصيامِ كلِّها الأكلَ والشربَ والجماعَ، سواءٌ نامَ أو لم ينَمْ؛ لكونِهم يختانونَ أنفسَهم بتركِ بعضِ ما أُمرُوا بهِ لوْ بَقِيَ الأمرُ على ما كان أولًا؛ فتابَ اللهُ عليكم: بأنْ وسَّعَ لكم أمرًا لولا توسعتُهُ لكان داعيًا إلى الإثمِ والإقدامِ على المعاصِي، وعفَا عنكم ما سلفَ مِنْ التخوُّنِ.
* {فَالْآنَ} بعدَ هذه الرخصةِ والسعةِ من اللهِ، {بَاشِرُوهُنَّ} وطئًا وقبلةً ولمسًا، {وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} أي: اقصدُوا في مباشرتِكم لزوجاتِكم التقربَ إلى اللهِ بذلكَ، واقصدُوا أيضًا حصولَ الذريةِ، وإعفافَ الفرجِ، وحصولَ جميعِ مقاصدِ النكاحِ.
وابتغُوا أيضًا ليلةَ القدرِ، فإياكم أنْ تشتغلُوا بهذهِ اللذةِ وتوابعِها وتضيعُوا ليلةَ القدرِ، وهيَ مما كتبَهُ اللهُ لهذهِ الأمةِ، وفيها من الخيرِ العظيمِ ما يعدُّ تفويتُهُ من أعظمِ الخسرانِ؛ فاللذةُ مُدرَكةٌ، وليلةُ القدرِ إذا فاتتْ لم تدرَكْ، ولم يعوضْ عنها شيءٌ.
* {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} هذا غايةُ جوازِ الأكلِ والشربِ والجماعِ في ليالي الصيامِ.
* وفيهِ: أنَّ هذهِ الثلاثةَ إذا وقعَتْ وصاحبُها شاكٌّ في طلوعِ الفجرِ فلا حرجَ عليهِ.
* ودليلٌ على استحبابِ السحورِ، وأنهُ يستحبُّ تأخيرُهُ؛ أخذًا من معنى رخصةِ اللهِ وتسهيلهِ على العبادِ.
* ودليلٌ على أنهُ يجوزُ أنْ يدركَهُ الفجرُ وهوَ جنبٌ من الجماعِ قبلَ أنْ يغتسلَ؛ لأنَّ من لازمِ إباحةِ الجماعِ إلى طلوعِ الفجرِ أنْ يدركَهُ الفجرُ وهوَ جنبٌ، ولازمُ الحقِّ حقٌّ.
* {ثُمَّ} إذا طلعَ الفجرُ، {أَتِمُّوا الصِّيَامَ} أي: أمسكُوا عن المفطراتِ، {إِلَى اللَّيْلِ} وهوَ غروبُ الشمسِ.
* ولما كانتْ إباحةُ الوطءِ في ليالي الصيامِ ليستْ إباحةً عامةً لكلِّ أحدٍ، استثنَى تعالى المعتكفَ بقولهِ:{وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} أي: وأنتم متصفونَ بذلكَ.
* ودلَّتِ الآيةُ على مشروعيةِ الاعتكافِ، وهوَ لزومُ المساجدِ لطاعةِ اللهِ.
* وأنَّ الاعتكافَ لا يصحُّ إلا بمسجدٍ.
* ويُستفادُ من تعريفِ المساجدِ بالألفِ واللامِ أنها المساجدُ التي يعرفُها المسلمونَ، وأنها التي تقامُ فيها الصلواتُ الخمسُ.
* وفيهِ: أنَّ الوطءَ من مفسداتِ الاعتكافِ.
* {تِلْكَ} المذكوراتُ، وهيَ: تحريمُ الأكلِ والشربِ والجماعِ ونحوِها من مفطراتِ الصيامِ، وتحريمُ الوطءِ على المعتكفِ، ونحوِ ذلكَ من المحرماتِ التي حدَّها لعبادهِ، ونهاهُم عنها؛ {فَلَا تَقْرَبُوهَا} أي: لا تفعلُوها، ولا تحومُوا حولَها وتفعلُوا وسائلَها، والعبدُ مأمورٌ بتركِ المحرماتِ، والبعدِ عنها؛ بتركِ كلِّ وسيلةٍ تدعُو إليها.
وأمَّا الأوامرُ فيقولُ اللهُ فيها: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا} [البقرة: 229]، فينهَى عن مجاوزتِها.
* {كَذَلِكَ} : البيانِ السابقِ والتوضيحِ التامِّ من اللهِ لعبادهِ، {يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} فإنَّ العلمَ الصحيحَ سببٌ للتقوى؛ لأنهم إذا بانَ لهم الحقُّ اتبعوهُ، وإذا بانَ لهم الباطلُ اجتنبوهُ، ومَن عَلِمَ الحقَّ فتركَهُ والباطلَ فاتبعَهُ كان أعظمَ لجرمهِ وأشدَّ لإثمهِ.
فصل في الحج وتوابعه
1 -
قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97]، وقال:{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] إلى آخرِ الآياتِ المتعلقةِ بالحجِّ.
* لما قال الله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 96 - 97]، وكان في ذلكَ تنبيهٌ على الحكمِ والأسرارِ والمصالحِ والبركاتِ المتنوعةِ المحتوِي هذا البيتُ العظيمُ عليها، وكان ذلكَ داعيًا إلى تعظيمهِ بغايةِ ما يمكنُ من التعظيمِ - أوجَبَ اللهُ على العبادِ حَجَّهُ وقصدَهُ لأداءِ المناسكِ التي فعلَها رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وعلَّمَها أمتَهُ، وأمرَهم أنْ يأخذُوا عنهُ مناسكَهم
(1)
.
* فأوجبَهُ على {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} بأنْ قدِرَ على الوصولِ إليهِ بأيِّ مركوبٍ متيسرٍ، وبزادٍ يتزوَّدُهُ ويَتِمُّ بهِ السبيلُ، وهذا هوَ الشرطُ الأعظمُ لوجوبِ الحجِّ.
* وهذهِ الآيةُ صريحةٌ في فرضيةِ الحجِّ، وأنهُ لا يتمُّ للعبدِ إسلامٌ ولا إيمانٌ وهوَ مستطيعٌ إلا بحجِّهِ، وأنَّ اللهَ إنما أمرَ بهِ العبادَ رحمةً منهُ بهم، وإيصالًا لهم إلى أجلِّ
(1)
كما جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «لتأخذوا مناسككم؛ فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه» . مسلم (1297).
مصالحِهم وأعلى مطالبِهم، وإلا فاللهُ غنيٌّ عن العالمينَ وطاعاتِهم، فمن كَفَرَ فلم يلتزِمْ لشرعِ اللهِ فهوَ كافرٌ، ولن يضرَّ إلا نفسَهُ.
* وأمَّا آيةُ البقرةِ فإنَّ اللهَ أمرَ فيها بإتمامِ الحجِّ والعمرةِ بأركانِهما وشروطِهما وجميعِ متمماتِهما؛ ولا فرقَ في ذلكَ بينَ الفرضِ والنفلِ، وبهذا تميَّزَ الحجُّ والعمرةُ عن غيرِهما من العباداتِ؛ وأنَّ مَنْ شَرَعَ فيهما وَجَبَ عليهِ إتمامُهما للهِ مخلصًا، ويدخلُ في الأمرِ بإتمامِهما:
* أنهُ ينبغِي للعبدِ أنْ يجتهدَ غايةَ الاجتهادِ في فعلِ كلِّ قولٍ وفعلٍ ووصفٍ وحالةٍ بها تمامُ الحجِّ والعمرةِ، وذلكَ شيءٌ كثيرٌ مفصلٌ في كتبِ أهلِ العلمِ.
* وأنَّ مَنْ دخلَ فيهما فلا يخرجُ منهما إلا بإتمامِهما والتحللِ منهما، إلا بما استثناهُ اللهُ وهوَ الحصرُ؛ ولهذا قالَ:{فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} [البقرة: 196] أي: مُنعتُم من الوصولِ إلى البيتِ، ومن تتميمِ المناسكِ؛ بمرضٍ، أو عدوٍّ، أو ذهابِ نفقةٍ، أو ضلَلْتُم الطريقَ، أو غير ذلكَ من أنواعِ الحصرِ الداخلةِ في عمومِ قولهِ:{أُحْصِرْتُمْ} - فاذبحُوا ما تيسرَ من الهدْيِ، وهوَ شاةٌ أو سبعُ بدنةٍ أو سبعُ بقرةٍ، يذبحُها المحصرُ ويحلقُ رأسَهُ، ويحلُّ من إحرامهِ بسببِ الحصرِ، كما فعلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم وأصحابهُ لما صدَّهم المشركونَ عن البيتِ وهم محرِمُونَ عامَ الحديبيةِ.
فإنْ لم يتيسَّرِ الهديُ على المحصرِ، فهلْ يكفيهِ الحلقُ وحدَهُ ويحلُّ، كما فعلَهُ الصحابةُ الذينَ لم يكنْ معهم هديٌ -وهوَ الصحيحُ-؟ أو ينوبُ عن الهديِ صيامُ عشرةِ أيامٍ قياسًا على هديِ التمتعِ -كما قالَهُ آخرونَ- ثم يحلُّ؟
* ثم قال تعالى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] وفي هذا أنَّ المحرمَ يَحرمُ عليهِ إزالةُ شيءٍ مِنْ شعرِ بدنهِ؛ تعظيمًا لهذا النسكِ، وقاسَ عليهِ أهلُ العلمِ
إزالةَ الأظفارِ بجامعِ الترفهِ. ويستمرُّ المنعُ مِنْ ذلكَ حتى يبلغَ الهديُ محلَّهُ، وهوَ وقتُ ذبحهِ يومَ النحرِ.
والأفضلُ أنْ يكونَ الحلقُ بعدَ النحرِ، ويجوزَ أنْ يقدَّمَ الحلقُ على النحرِ كما رخَّصَ في ذلكَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم حينَ سُئِلَ عمَّنْ قدَّمَ الحلقَ أو الرميَ أو الذبحَ أو الطوافَ بعضَها على بعضٍ، فقالَ:«افعَلْ ولا حرجَ»
(1)
.
* ويستدلُّ بالآيةِ الكريمةِ على أنَّ المتمتعَ كالقارنِ والمفردِ، لا يحلُّ من عمرتهِ إذا كان سائقًا للهديِ حتى يبلغَ الهديُ محلَهُ.
* فقيلَ: إنهُ إذا حلَّ من عمرتهِ بأنْ فرغَ من الطوافِ والسعيِ؛ بادرَ بالدخولِ بالحجِّ بالنيةِ.
* وقيلَ: إنهُ بسوقهِ للهديِ صارَ قارنًا، وأنَّ الهديَ الذي استصحبَهُ -حيثُ إنهُ كان للنسكَينِ كليهما- مزَجَ بينَ النسكَينِ وصارَ صاحبُهُ قارنًا. وهذا هوَ القولُ الصوابُ.
وإنما منَعَ تعالى من الحلِّ لمنْ ساقَ الهديَ قبلَ محلِّهِ لما في سوقِ الهديِ وما يتبعُهُ من كشفِ الرأسِ، وتركِ أخذِ الشعورِ ونحوِها؛ من الذلِّ والخضوعِ للهِ، والانكسارِ لهُ والتواضعِ، الذي هوَ رُوحُ هذا النسكِ، وعينُ صلاحِ العبدِ وكمالهِ، وليسَ عليهِ في ذلكَ ضررٌ.
* فإذا حصلَ الضررُ بأنْ كان بهِ أذًى من رأسهِ: من مرضٍ ينتفعُ بحلقِ رأسهِ، أو قروحٍ، أو قملٍ، أو نحوِ ذلكَ؛ فإنهُ يحلُّ لهُ أنْ يحلقَ رأسَهُ، ولكنْ يكونُ عليهِ فديةُ تخييرٍ، يُخيرُ بينَ:
(1)
البخاري (83)، ومسلم (1306).
* صيامِ ثلاثةِ أيامٍ.
* أو إطعامِ ستةِ مساكينَ.
* أو ذبحِ شاةٍ.
وهذهِ تُسمَّى فديةُ الأذى، وأُلحقَ بذلكَ: إذا قلَّمَ أظفارَهُ، أو لبسَ الذكرُ المخيطَ، أو غطَّى رأسَهُ، أو تطيبَ المحرمُ من ذكرٍ وأنثى؛ فكلُّ هذا فديتُهُ فديةُ تخييرٍ بينَ الصيامِ أو الإطعامِ أو النسكِ.
* وأمَّا فديةُ قتلِ الصيدِ فقدْ ذكرَ اللهُ التخييرَ فيها بينَ:
* ذبحِ المثلِ من النَّعَمِ.
* أو تقويمهِ بطعامٍ، فيُطعِمُ كلَّ مسكينٍ مُدَّ برٍّ، أو نصفَ صاعٍ من غيرهِ.
* أو يصومُ عن إطعامِ كلِّ مسكينٍ يومًا.
فهذهِ الأنواعُ فديتُها تخييرٌ.
* وأمَّا المتمتعُ والقارنُ فإنَّ هديَهما هديُ نسكٍ، غيرُ هدي جبرانٍ، وهوَ على الترتيبِ:
* إنْ تيسرَ الهديُ وجبَ الهديُ.
* فإنْ لم يتيسرْ فعليهِ صيامُ عشرةِ أيامٍ: ثلاثةٍ في الحجِّ، ولا يؤخرُها عن أيامِ التشريقِ، وسبعةٍ إذا رجعَ أي: فرغَ من جميعِ شؤونِ النسكِ.
ودلَّ إطلاقُ إيجابِ الصيامِ على أنهُ يجوزُ فيها التتابعُ والتفريقُ.
* {ذَلِكَ} [البقرة: 196] أي: وجوبُ الهديِ على المتمتعِ والقارنِ، أو بدلهِ -لمنْ لم يجِدْ- من الصيامِ، {لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} وهم الأَفَقِيَّةُ
(1)
؛ لأنَّ من الحكمةِ في إيجابِ الهديِ على الأَفَقِيِّ: أنهُ لما حصَّلَ نُسكَينِ في سفرةٍ واحدةٍ كان هذا من أعظمِ نعمِ اللهِ؛ فكان عليهِ أنْ يشكرَ اللهَ على هذهِ النعمةِ الجليلةِ، ومن جملةِ الشكرِ إيجابُ الهديِ عليهِ.
وأمَّا المقيمونَ في مكةَ أو كانوا في قربِها -بحيثُ لا يقالُ لهم: مسافرونَ- فليسَ عليهم هديٌ، ولا بدلهُ؛ لما ذكرنا من الحكمةِ.
* {وَاتَّقُوا اللَّهَ} : في جميعِ أمورِكم؛ بامتثالِ أوامرهِ، واجتنابِ نواهيهِ، ومن ذلكَ: امتثالُكم لهذهِ المأموراتِ في هذهِ العبادةِ الجليلةِ، واجتنابُكم لمحظوراتِها.
* {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} أي: لمنْ عصاهُ، وذلكَ موجبٌ للتقوى؛ فإنَّ مَنْ خافَ عقابَ اللهِ انكفَّ عن السيئاتِ، كما أنَّ مَنْ رجا ثوابَ اللهِ عمِلَ لما يوصلُهُ إلى الثوابِ، وأمَّا مَنْ لم يخفِ اللهَ فإنهُ لابدَّ أنْ يتجرأَ على المحارمِ، ويتهاونَ بالفرائضِ.
* ثم أخبرَ تعالى أنَّ الحجَّ واقعٌ في أشهرٍ معلوماتٍ عندَ المخاطبينَ، بحيثُ لا تحتاجُ إلى تعيينٍ كما احتاجَ الصيامُ لتعيينِ شهرهِ، وكما بيَّنَ تعالى أوقاتَ الصلواتِ الخمسِ، وأما الحجُّ فقدْ كان من ملةِ إبراهيمَ التي لم تزَلْ مستمرةً في ذريتهِ، معروفةً بينَهم.
والمرادُ ب (الأشهرِ المعلومات) عندَ الجمهورِ: شوالٌ، وذو القعدةِ، وعشرٌ أو ثلاثةَ عشرَ من ذي الحجةِ؛ فهيَ التي يقعُ فيها الإحرامُ بالحجِّ غالبًا، وهيَ التي تقعُ فيها أفعالُ الحجِّ: أركانُهُ وواجباتُهُ ومكملاتُهُ.
(1)
«رجل أَفَقِي: إذا كان من آفاقِ الأرضِ أي: نواحيها» . (لسان العرب: 10/ 5).
* {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} [البقرة: 197] أي: عقدَهُ وأحرمَ بهِ؛ لأنَّ الشروعَ فيه يُصيِّرُهُ فرضًا ولوْ كان قبلَ ذلكَ نفلًا.
واستدلَّ بهذهِ الآيةِ الشافعيُّ ومَن قالَ بقولهِ، أنهُ لا يجوزُ الإحرامُ بالحجِّ قبلَ أشهرهِ. ولوْ قيلَ: إنَّ الآيةَ فيها دلالةٌ -لقولِ الجمهورِ بصحةِ الإحرامِ بالحجِّ قبلَ أشهرهِ- لكان قريبًا؛ لأنَّ قولَهُ: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} دليلٌ على أنهُ يقعُ الفرضُ فيهنَّ وفي غيرهنَّ، وإلَّا لما كان في القيدِ فائدةٌ.
* {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} أي: يجبُ عليكم أنْ تعظمُوا حرمةَ الإحرامِ بالحجِّ، وخصوصًا الواقعَ في أشهرهِ، وتَصُونوهُ عن كلِّ ما يفسدُهُ أو ينقصُهُ من الرفثِ وهوَ: الجماعُ ومقدماتهُ الفعليةُ والقوليةُ، خصوصًا التكلمَ في أمورِ النكاحِ بحضرةِ النساءِ.
* {وَلَا فُسُوقَ} وهوَ: جميعُ المعاصي، ومنها محظوراتُ الإحرامِ.
* {وَلَا جِدَالَ} والجدالُ هوَ: المماراةُ والمنازعةُ والمخاصمةُ؛ لكونِها تثيرُ الشرَّ وتوقِعُ العداوةَ، والمقصودُ من الحجِّ الذلُّ والانكسارُ للهِ، والتقربُ إليهِ بما أمكنَ من القرباتِ، والتنزهُ عن مقارفةِ السيئاتِ، فإنهُ يكونُ بذلكَ مبرورًا، «والحجُّ المبرورُ ليسَ لهُ جزاءٌ إلا الجنةُ»
(1)
. وهذهِ الأشياءُ وإن كانت ممنوعةً في كلِّ زمانٍ ومكانٍ، فإنهُ يتأكدُ المنعُ منها في الحجِّ.
* واعلَمْ أنهُ لا يتمُّ التقربُ إلى اللهِ بتركِ المعاصِي حتى يفعلَ الأوامرَ؛ فلهذا أتبعَهُ بقولهِ: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} ، أتَى ب {مِنْ} المفيدةِ لتنصيصِ العمومِ؛ فكلُّ عبادةٍ وقربةٍ فإنها تدخلُ في هذا.
(1)
كما جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم عند البخاري (1773)، ومسلم (2888).
والإخبارُ بعلمهِ يتضمَّنُ الحثَّ على أفعالِ الخيرِ، خصوصًا في تلكَ البقاعِ الشريفةِ والحرماتِ المنيفةِ، فإنهُ ينبغِي اغتنامُ الخيراتِ والمنافسةُ فيها: من صلاةٍ، وصيامٍ، وصدقةٍ، وقراءةٍ، وطوافٍ، وإحسانٍ قوليٍّ وفعليٍّ.
* {وَتَزَوَّدُوا} لهذا السَّفرِ المباركِ؛ فإنَّ التزودَ فيه الاستغناءُ عن الخَلقِ، وعدمُ التشوفِ لما عندَهم، وإعانةُ المسافرينَ، والتوسعةُ على الرفقةِ، والانبساطُ والسرورُ في هذا السفرِ، وزيادةُ التقربِ إلى اللهِ تعالى.
وهذا الزادُ المرادُ بهِ إقامةُ البنيةِ بُلْغَةٌ ومَتاعٌ، وأمَّا الزادُ الحقيقيُّ المستمرُّ نفعهُ لصاحبهِ في دنياهُ وأخراهُ فهوَ زادُ التقوى الذي هوَ زادٌ إلى دارِ القرارِ، وهوَ الموصلُ لأكملِ لذةٍ وأجلِّ نعيمٍ دائمًا أبدًا؛ ومَن ترَكَ هذا الزادَ فهوَ المنقطعُ بهِ، الذي هوَ عرضةٌ لكلِّ شرٍّ، وممنوعٌ من الوصولِ إلى دارِ المتقينَ.
وقدْ يتمكنُ الموَفَّقُ من جعلِ الزادِ الحسيِّ يجمعُ الزادَينِ؛ بأنْ يقصدَ بهِ وجهَ اللهِ، والقيامَ بواجبِ النفسِ والرفقةِ ومَن يتصلُ بهِ، والقيامَ بالإحسانِ المستحبِّ، وقصدَ امتثالِ أمرِ اللهِ؛ فالنيةُ هيَ الأساسُ لكلِّ خيرٍ، التي تجعلُ الناقصَ كاملًا والعادةَ عبادةً.
* ثم قالَ: {وَاتَّقُونِ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ} أي: يا أهلَ العقولِ الرزينةِ، اتقُوا ربَّكم الذي تقواهُ أعظمُ ما تأمرُ بهِ العقولُ، وتركُها دليلٌ على فسادِ العقلِ والرأيِ.
* ولما أمرَ بتقواهُ أخبرَ أنَّ ابتغاءَ فضلهِ بالاشتغالِ بالتكسبِ في التجارةِ في مواسمِ الحجِّ وغيرِها؛ ليسَ فيه حرجٌ إذا لم يشغلْ عما يجبُ، إذا كان المقصودُ هوَ الحجُّ، وكان الكسبُ حلالًا منسوبًا إلى فضلِ اللهِ، معترفًا فيه بنعمةِ اللهِ، لا منسوبًا إلى حذقِ العبدِ والوقوفِ معَ السببِ ونسيانِ المسببِ، فإنَّ هذا هوَ الحرجُ بعينهِ في كلِّ وقتٍ، فكيفَ إذا قارنَ النسكَ الفاضلَ!
* وفي قولهِ: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 198] دلالةٌ على أمورٍ:
* أحدها: أنَّ الوقوفَ بعرفةَ من المشاعرِ الجليلةِ، ومن أركانِ الحجِّ، فإنَّ الإفاضةَ من عرفاتٍ لا تكونُ إلا بعدَ الوقوفِ الذي هوَ ركنُ الحجِّ الأعظمُ بعدَ الطوافِ.
* الثاني: الأمرُ بذكرِ اللهِ عندَ المشعرِ الحرامِ وهوَ المزدلفةُ، وذلكَ أيضًا معروفٌ، يكون الحاجُّ ليلةَ النحرِ بائتًا بها، وبعدَ صلاةِ الفجرِ يقفُ في المزدلفةِ داعيًا حتى يسفرَ جدًّا.
ويدخلُ في ذكرِ اللهِ عندَ المشعرِ الحرامِ: ما يقعُ في المشعرِ من الصلواتِ فرضِها ونفلِها.
* الثالث: أنَّ الوقوفَ بمزدلفةَ متأخرٌ عن الوقوفِ بعرفةَ، كما تدلُّ عليهِ (الفاءُ) المفيدةُ للترتيبِ.
* الرابع والخامس: أنَّ عرفاتٍ ومزدلفةَ كليهما من مشاعرِ الحجِّ المقصودِ فعلُها وإظهارُها.
* السادس: أنَّ مزدلفةَ في الحرمِ، كما قيدَهُ بالمشعرِ الحرامِ.
* السابع: أنَّ عرفة بالحِلِّ، كما هوَ مفهومُ التقييدِ بمزدلفةَ.
* {وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ} أي: اذكرُوا اللهَ كما مَنَّ عليكم بالهدايةِ بعدَ الضلالةِ، وكما علمَكم ما لم تكونُوا تعلمونَ، فهذهِ من أكبرِ النعمِ التي يجبُ شكرُها ومقابلتُها بالإكثارِ من ذكرِ المُنعِمِ بالقلبِ واللسانِ.
* {ثُمَّ أَفِيضُوا} [البقرة: 199] أي: مِنْ مزدلفةَ، {مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} من لَدُنْ إبراهيمَ إلى هذا الوقتِ، والمقصودُ من هذهِ الإفاضةِ كان معروفًا عندَهم وهوَ: رميُ الجمارِ، وذبحُ الهدايا، والطوافُ، والسعيُ، والمبيتُ بمنًى لياليَ أيامِ التشريقِ، وتكميلُ بقيةِ المناسكِ.
* ولما كانتْ هذهِ الإفاضةُ يُقصدُ بها ما ذُكِرَ -والمذكوراتُ آخر المناسكِ- أمَرَ تعالى بعدَ الفراغِ منها باستغفارهِ؛ خشيةَ الخللِ الواقعِ من العبدِ في أداءِ العبادةِ وتقصيرهِ فيها، وبالإكثارِ من ذكرهِ؛ شكرًا لهُ على نعمةِ التوفيقِ لهذهِ العبادةِ العظيمةِ وتكميلِها.
وهكذا ينبغِي للعبدِ كلَّما فرغَ من عبادةٍ، أنْ يستغفرَ اللهَ عن التقصيرِ، ويشكرَهُ على التوفيقِ، فهذا حقيقٌ بأنَّ اللهَ يجبرُ لهُ ما نقصَ منها ويتقبلُها، ويزيدهُ نعمًا أخرى، لا مَنْ جَهلَ حقَّ ربهِ فرأى نفسَهُ أنهُ قدْ كمَّلَ حقوقَ العبادةِ؛ فأعجبَ بنفسهِ، ومَنَّ بعبادتهِ على ربِّهِ، وتراءَى لهُ أنهُ قدْ جعلَتْ لهُ محلًّا ومنزلةً رفيعةً، فهذا حقيقٌ بالمقتِ، ويُخشَى عليهِ من ردِّ العملِ.
* ثم أخبرَ تعالى عن أحوالِ الخَلقِ، وأنَّ الجميعَ يسألونَهُ مطالبَهم، ويستدفعونَهُ ما يضرُّهم؛ ولكنَّ هممَهم ومقاصدَهم متباينةٌ:
* فمنهم مَنْ يقولُ: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا} [البقرة: 200] أي: يسألُ ربَّهُ من مطالبِ دنياهُ وشهواتهِ فقطْ، {وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} لا رغبةَ لهُ فيها، ولا حظَّ لهُ منها.
* ومنهم عالي الهمةِ، مَنْ يدعُو اللهَ لمصلحةِ الدارَينِ، ويفتقرُ إلى ربهِ في مهماتِ دينهِ ودنياهُ.
وكلٌّ مِنْ هؤلاءِ وهؤلاءِ لهُ نصيبٌ من كسبِهم وعملِهم، وسيجازِيهم اللهُ على حسبِ أعمالِهم
(1)
ونياتِهم، جزاءً دائرًا بينَ الفضلِ والإحسانِ والكرمِ للمقبولينَ، وبينَ العدلِ والحكمةِ لغيرِهم.
وفي هذهِ الآيةِ دليلٌ على أنَّ اللهَ تعالى يقبلُ دعوةَ كلِّ داعٍ، مسلمًا كان أو كافرًا، برًّا أو فاجرًا، ولكنْ ليستْ إجابتُهُ دعاءَ مَنْ دعاهُ دليلًا على محبتهِ وقربهِ منهُ، إلَّا في مطالبِ الآخرةِ ومهماتِ الدينِ، فمنْ أُجيبتْ دعوتهُ في هذهِ الأمورِ الدائمِ نفعُها كان من البشرَى، وكان أكبرَ دليلٍ على برِّهِ وقربهِ من ربهِ.
والحسنةُ المطلوبةُ في الدنيا يدخلُ فيها كلُّ ما يَحسنُ وقعُهُ عندَ العبدِ، وما بهِ تكملُ حياتهُ: من رزقٍ هنيءٍ واسعٍ حلالٍ، وزوجةٍ صالحةٍ، وولدٍ تقرُّ بهِ العينُ، ومن راحةٍ، وعلمٍ نافعٍ، وعملٍ صالحٍ، وما يتبعُ ذلكَ من المطالبِ النافعةِ المحبوبةِ والمباحةِ.
وأمَّا حسنةُ الآخرةِ فهيَ السلامةُ من العقوباتِ التي يستقبلُها العبادُ من عذابِ القبرِ والموقفِ وعذابِ النارِ، وحصولُ رضا اللهِ، والفوزُ بالنعيمِ المقيمِ، والقربُ من الربِّ الرحيمِ.
فهذا الدعاءُ أجمعُ الأدعيةِ وأكملُها وأولاها بالإيثارِ؛ ولهذا كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يكثرُ من الدعاءِ بهِ، ويحثُّ عليهِ.
* ولما أكملَ اللهُ تعالى أحكامَ النسكِ أمَرَ بالإكثارِ من ذكرهِ في الأيامِ المعدوداتِ، وهيَ أيامُ التشريقِ في قولِ جمهورِ المفسرينَ؛ وذلكَ لمزيتِها وشرفِها، وكونِ بقيةِ المناسكِ تفعلُ بها، ولكونِ الناسِ فيها أضيافًا للهِ؛ ولهذا حُرِّمَ صيامُها، فللذكرِ فيها مزيةٌ ليستْ
(1)
بعدها (خ): وهِمَّاتهم. وهو يوافق نص المؤلف في «تيسير الكريم الرحمن» (ص: 92).
لغيرِها؛ ولهذا قالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «أيامُ التشريقِ أيامُ أكلٍ وشربٍ وذكرٍ للهِ»
(1)
.
ويدخلُ في ذكرِ اللهِ: رميُ الجمارِ، والتكبيرُ عندَ رميِها، والدعاءُ بينَ الجمرتينِ، والذبحُ والتسميةُ فيه، والصلواتُ التي تُفعلُ فيها من فرائضَ ونوافلَ، والذكرُ المقيدُ بعدَ الفرائضِ فيها، وعند كثيرٍ من أهلِ العلمِ أنهُ يستحبُّ فيها التكبيرُ المطلقُ كالعشرِ؛ فجميعُ ما يقربُ إلى اللهِ داخلٌ بذكرِهِ.
* {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ} [البقرة: 203] أي: خرَجَ من مِنًى، ونفَرَ منها قبلَ غروبِ الشمسِ {فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} ، {وَمَنْ تَأَخَّرَ} بأنْ باتَ بها ليلةَ الثالثِ من أيامِ التشريقِ؛ ليرميَ من غَدهِ {فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} ، وهذا تخفيفٌ من اللهِ على عبادهِ حينَ أباحَ الأمرينِ، معَ أنَّ التأخرَ أرجحُ؛ لموافقتهِ فعلَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وزيادةِ العباداتِ.
* وقولهُ: {لِمَنِ اتَّقَى} هذا من الاحترازِ العالي؛ لأنَّ نفيَ الحرجِ يوهِمُ العمومَ، [فقيَّدَ]
(2)
ذلكَ بهذا الشرطِ، الذي هوَ شرطٌ لنفيِ الحرجِ في كلِّ شيءٍ.
* {وَاتَّقُوا اللَّهَ} بامتثالِ أوامرهِ، واجتنابِ نواهيهِ، {وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} فمُجازِيكم بأعمالِكم، فمَن اتقاهُ وجَدَ عندَهُ جزاءَ المتقينَ، ومَن لم يتقهِ عاقبَهُ عقوبةَ تاركِ التقوى؛ فإنَّ التقوى هيَ ميزانُ الثوابِ والعقابِ في القائمِ بها والمضيعِ لها؛ فالعلمُ بالجزاءِ والإيمانُ بهِ هوَ أعظمُ الدواعِي للقيامِ بالتقوى.
(1)
مسلم (1141).
(2)
كذا في (خ). وفي (ط): فقيل.
2 -
* يذكرُ اللهُ تعالى عظمةَ البيتِ الحرامِ وجلالتَهُ، وعظمةَ بانيهِ وهوَ خليلُ الرحمنِ، فقالَ:{وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} أي: هيأناهُ لهُ وأنزلناهُ إياهُ، بحيثُ جعَلَ قسمًا من ذريتهِ هم سكانهُ.
وأمرَهُ اللهُ ببنيانهِ، فبناهُ وأسسَهُ على تقوى اللهِ ورضوانهِ هوَ وابنُهُ إسماعيلُ، بنيةٍ صادقةٍ، وخضوعٍ للهِ وإخلاصٍ، ودعاءٍ منهما أنْ يتقبلَ منهما هذا العملَ الجليلَ، فتقبَّلهُ اللهُ؛ فهذهِ آثارُ القبولِ لهذا البيتِ في كلِّ وقتٍ وجيلٍ متواصلة.
* ووصاهُ بألَّا يشركَ بهِ شيئًا: بأنْ ينفيَ الشركَ عنهُ، وعنِ ذريتهِ، وعمَّن وصلَتْ إليهِ دعوتهُ.
* {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ} أي: من الشركِ والمعاصِي، ومن الأنجاسِ والأدناسِ، وأضافَهُ إلى نفسهِ ليكتسبَ شرفًا إلى شرفهِ، ولتعظمَ محبتُهُ في القلوبِ، لكونهِ بيتَ محبوبِها الأعظمِ، وتنصبَّ وتهوِيَ إليهِ الأفئدةُ من كلِّ جانبٍ، وليكونَ أعظمَ لتطهيرهِ وتعظيمهِ للطائفينَ بهِ والقائمينَ عندَهُ للعباداتِ المتنوعةِ.
* {وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} أي: المصلينَ، أي: طهِّرْهُ لهؤلاءِ الفضلاءِ الذينَ ليسَ لهم همٌّ إلا طاعةُ مولاهم وما يقربُهم إليهِ، فهؤلاءِ لهم الحقُّ، ومن إكرامِهم تطهيرُ هذا البيتِ لهم، وتهيئتهُ لما يريدونَهُ عندَهُ.
ويدخلُ في تطهيرهِ: تطهيُرهُ من الأصواتِ اللاغيةِ المرتفعةِ التي تشوشُ على المتعبدينَ بالصلاةِ والطوافِ والقراءةِ وغيرِها.
وقدَّمَ الطوافَ لاختصاصهِ بهذا البيتِ، ثم الاعتكافَ لاختصاصهِ بجنسِ المساجدِ.
* {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الحج: 27] أي: أعلِمْهم بهِ وادعُهم إليهِ، وبلِّغْ دانيَهم وقاصيَهم فرضَهُ وفضيلتَهُ؛ فإنكَ إذا دعوتَهم عن أمرِ اللهِ أتَوكَ حجاجًا وعمارًا، {رِجَالًا} أي: مشاةً على أرجلِهم من الشوقِ، {وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} أي: ناقةٍ ضامرٍ تقطعُ المهامِهَ
(1)
والمفاوزَ، وتواصلُ السيرَ، حتى تأتيَ إلى أشرفِ الأماكنِ، {مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} أي: مكانٍ وبلدٍ بعيدٍ.
وقدْ فعلَ الخليلُ صلى الله عليه وسلم ذلكَ، ثم مِنْ بعدهِ ابنهُ محمدٌ صلى الله عليه وسلم، فدعيَا الناسَ إلى حجِّ هذا البيتِ، وأبديَا وأعادَا فيه؛ فحصَلَ ما وعدَ اللهُ بهِ: أتاهُ الناسُ رجالًا وركبانًا من مشارقِ الأرضِ ومغاربِها.
* ثم ذكرَ فوائدَ زيارةِ بيتِ الله الحرامِ مرغبًا فيه، فقال:{لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} [الحج: 28] أي: لينالُوا بوصولِهم لبيتِ اللهِ في الأنساكِ منافعَ متنوعةً دينيةً، ومنافعَ دنيويةً كالتكسبِ وحصول الأرباحِ، وهذا أمرٌ مشاهدٌ يعرفهُ كلُّ أحدٍ.
* فجميعُ العلومِ والعباداتِ الدينيةِ التي تُفعلُ في تلكَ البقاعِ الفاضلةِ، وما جعلَ اللهُ لها من التضعيفِ؛ داخلٌ في هذهِ المنافعِ.
* وجميعُ المنافعِ الدنيويةِ التي لا تعدُّ ولا تُحصَى داخلةٌ في ذلكَ.
فصدَقَ اللهُ وعدَهُ، وأنجزَ ما قالَهُ، وكان ذلكَ آيةً وبرهانًا على توحيدهِ وصدقِ رسلهِ.
(1)
المَهَامِهُ: جمع المَهْمَه، وهي المفازة البعيدة. (لسان العرب: 13/ 542).
* وقولهُ: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} [الحج: 28] وهذهِ تجمعُ الأمرينِ: الدينيةَ والدنيويةَ؛ أي: ليذكرُوا اسمَ اللهِ عندَ ذبحِ الهدايا؛ شكرًا للهِ على ما رزقهم منها ويسَّرَها لهم.
* فإذا ذبحتمُوها {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} أي: شديدَ الفقرِ. والآيةُ الأخرى: {الْقَانِعَ} [الحج: 36] وهوَ الفقيرُ الذي لا يَسألُ الناسَ، {وَالْمُعْتَرَّ} [الحج: 36] الفقيرَ السائلَ.
وفي هذا: الأمرُ بالأكلِ والإهداءِ والصدقةِ؛ فإنَّ الأمرَ يشملُ أكلَ أهلِها منها، وإهداءَهم للأغنياءِ.
* {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} [الحج: 29] أي: يستكملُوا بقيةَ أنساكِهم، ويزيلُوا عنهم محظوراتِ الإحرامِ، وما ترتبَ عليها من الشَّعَثِ ونحوهِ.
* {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} التي أوجبوها على أنفسِهم من الحجِّ والعمرةِ والهدايا؛ فنفسُ عقدِ العبدِ للإحرامِ إيجابٌ منهُ على نفسهِ.
* {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} أي: القديمِ، أقدمِ المساجدِ على الإطلاقِ، المُعْتَقِ من تسلطِ الجبابرةِ عليهِ.
وتخصيصُ الطوافِ بهِ دونَ غيرهِ من المناسكِ لفضلهِ وشرفهِ، ولكونهِ المقصودَ، وما قبلَهُ وما بعدَهُ وسائلُ وتوابعُ، ولأنهُ يُتعبَّدُ بهِ للهِ معَ الأنساكِ ووحدَهُ، وأمَّا بقيةُ الأنساكِ فلا تكونُ عبادةً إلا إذا كانتْ تابعةً لنسكٍ.
فصل في آيات تتعلق بالجهاد وتوابعه
1 -
قالَ اللهُ تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج: 39] الآيات.
* كان المسلمونَ في أولِ الأمرِ مأمورينَ بكفِّ الأيدي عن قتالِ الكفارِ، وإنما جهادُهم بالدعوةِ؛ لحكمةٍ ظاهرةٍ، فلما اضطُهِدُوا واضطرَّهم الأعداءُ إلى تركِ بلادِهم وأوطانِهم، وقَتَلُوا مَنْ قَتَلُوا، وحَبسُوا مَنْ حَبسُوا، وجَدُّوا في العداوةِ البليغةِ بكلِّ طريقٍ، وهاجرَ المسلمونَ بسببِ ذلكَ إلى المدينةِ، وقوَّاهم اللهُ على قتالِ الأعداءِ، وقدْ رماهم الأعداءُ عن قوسٍ واحدةٍ - فحينئذٍ أَذِنَ اللهُ لهم في القتالِ؛ ولهذا قالَ:{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} لمنعِهم
(1)
من دينِهم، وإخراجِهم من ديارِهم، ومطاردتِهم لهم في كلِّ مكانٍ.
{وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} وهذا -معَ أمرهِ لهم بفعلِ الأسبابِ، ومقاومةِ الأعداءِ بكلِّ مستطاعٍ- أمرٌ لهم بالتوكلِ عليهِ، واستنصارِهِ، والطلبِ منهُ.
* ثم ذكرَ صفةَ عدوانِهم فقالَ: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ} [الحج: 40] بالأذيةِ والفتنةِ {بِغَيْرِ حَقٍّ} ، إلا أنَّ ذنبَهم إيمانُهم باللهِ، واعترافُهم بأنَّهُ ربُّهم وإلهُهم، وأنهم أخلصُوا لهُ الدينَ، وتبرَّؤُوا من عبادةِ المخلوقينَ، وهذا كما قالَ تعالى: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا
(1)
في (خ): بمنعهم. وهو موافق لقول المؤلف في «تيسير الكريم الرحمن» (ص: 539).
أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج: 8]، وهذا ظاهرٌ في حكمةِ الجهادِ، وعظمِ مصلحتهِ، وأنهُ من الضرورياتِ في الدينِ؛ فإنَّ المقصودَ بهِ إقامةُ دينِ اللهِ، والدعوةُ إلى عبادتهِ التي خلقَ اللهُ المكلفينَ لها، وأوجبَها عليهم، ودفْعُ كلِّ مَنْ قاومَ [هذا]
(1)
الأمرَ الضروريَّ، ومقاومةُ الظالمينَ المعتدينَ على دينِ اللهِ وعلى المؤمنينَ من عبادهِ، كما قالَ تعالى:{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال: 39].
* ولهذا قال: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} [الحج: 40] فلولا مدافعةُ اللهِ الناسَ بعضَهم ببعضٍ بأسبابٍ متعددةٍ، وطرقٍ متنوعةٍ قدريةٍ وشرعيةٍ، وأعظمُها وأجلُّها وأزكاها الجهادُ في سبيلهِ - لاستولَى الكفارُ الظالمونَ، ومحقُوا أديانَ الرسلِ، فقَتَلُوا المؤمنينَ بهم، وهدمُوا معابدَهم، ولكنَّ ألطافَ اللهِ عظيمةٌ، وأياديَهُ جسيمةٌ.
وبهذا وشبههِ يُعرفُ حكمةُ الجهادِ الدينيِّ، وأنهُ من الضرورياتِ، لا كقتالِ الظلمةِ المبنيِّ على العداواتِ والجشعِ والظلمِ والاستعبادِ للخلقِ، بلْ الجهادُ الإسلاميُّ مرماهُ وغرضهُ الوحيدُ إقامةُ العدلِ، وحصولُ الرحمةِ، واستعبادُ الخلقِ لخالقِهم، وأداءُ الحقوقِ كلِّها، ونصرُ المظلومينَ، وقمعُ الظالمينَ، ونشرُ الصلاحِ والإصلاحِ المطلقِ بكلِّ وجهٍ واعتبارٍ، وهوَ من أعظمِ محاسنِ دينِ الإسلامِ.
(1)
زيادة من (خ).
2 -
* هذهِ الآياتُ تضمنتِ الأمرَ بجهادِ الأعداءِ، والإرشادَ إلى الأسبابِ التي ينبغِي للجيوشِ والمجاهدينَ الأخذُ بها، فمِن أعظمِها وأهمِّها أمرانِ:
* الصبرُ، وهوَ: الثباتُ التامُّ وإبداءُ كلِّ مجهودٍ في تحصيلِ ذلكَ.
* والثاني: التوكلُ على اللهِ، والتضرعُ إليهِ، والإكثارُ من ذكرهِ.
فمتى اجتمعَ الأمرانِ على وجهِ الكمالِ والتكميلِ فقدْ أتَى المجاهدونَ بالأسبابِ الوحيدةِ للنصرِ والفلاحِ؛ فليبشرُوا بنصرِ اللهِ وليثقُوا بوعدهِ.
* فيدخلُ [في الأمرِ]
(1)
بالصبرِ والثباتِ:
* تمرينُ النفوسِ على ذلكَ، فإنهُ مَنْ يتصبَّرْ يصبِّرْهُ اللهُ.
* وتعلمُ الرميِ والركوبِ والفنونِ العسكريةِ المناسبةِ للزمانِ، فإنَّ التعليمَ وتعلمَ أمورِ الجهادِ من أكبرِ العونِ على الثباتِ والصبرِ.
* ومن ذلكَ: الحثُّ على الشجاعةِ، والسعيُ في أسبابِها، والترغيبُ في فضائلِ الجهادِ، وما فيه من الثمراتِ العاجلةِ والآجلةِ، وما في تضييعهِ من ضياعِ الدينِ والدنيا، واستيلاءِ الأعداءِ، والذلِّ والدمارِّ، فإنَّ النفوسَ الأبيَّةَ والهممَ العليَّةَ لا ترضى لأنفسِها
(1)
كذا في (خ). وفي (ط): بالأمر.
بغيرِ هذا الخُلقِ الفاضلِ الذي هوَ أعلى
(1)
الأخلاقِ وأنفعُها، قالَ تعالى:{إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ} [النساء: 104] فحثَّهم على الصبرِ [بتأميلِهم]
(2)
وطمعهم في الأجرِ والثوابِ، وإدراكِ المقاماتِ العاليةِ.
وقالَ أيضًا في ذمِّ الناكلينَ، وترغيبِ التائبينَ الصابرينَ:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (121)} [التوبة: 120 - 121].
وقالَ عن المنافقينَ ونكولِهم عن مشقةِ الجهادِ: {وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} [التوبة: 81] أي: لو كان عندَهم فقهٌ نافعٌ في تنزيلِ الأشياءِ منازلَها، وتقديمِ ما ينبغِي تقديمُهُ؛ لآثَرُوا مشقةَ الجهادِ على راحةِ القعودِ الضارِّ عاجلًا وآجلًا. وفي هذا: أنهُ بحسبِ فقهِ العبدِ وعلمهِ ويقينهِ يكونُ قيامُهُ بالجهادِ، وصبرُهُ عليهِ وثباتُهُ.
* ومن دواعي الصبرِ -وهوَ من الفقهِ أيضًا-: أنهُ إذا عَلِمَ المجاهدُ أنهُ على الحقِّ ويجاهدُ
(3)
أهلَ الباطلِ، أنَّ هذا أعلى الغاياتِ وأشرفُها وأحقُّها، وأنَّ الحقَّ منصورٌ وعاقبتَهُ حميدةٌ.
* ومن دواعي الصبرِ: الثقةُ باللهِ وبوعدهِ؛ فإنَّ اللهَ وعدَ الصابرينَ العونَ والنصرَ، وأنهُ معهم في كلِّ أحوالِهم، ومَن كان اللهُ معهُ فلو اجتمعَ عليهِ مَنْ بأقطارِها لم يَخَفْ إلا اللهَ.
(1)
في (خ): من أعلى.
(2)
كذا في (خ). وفي (ط): بتأملهم.
(3)
بعدها في (خ): عن الحق.
* ومما يعينُ على الصبرِ والثباتِ: الأمرُ الثاني، وهوَ التوكلُ على اللهِ، وقوةُ الاعتمادِ عليهِ، والتضرعُ إليهِ في طلبِ النصرِ، والإكثارُ من ذكرهِ، كما قالَ تعالى هنا حيثُ رتَّبَ على هذا الفلاحَ:{وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال: 45].
وقال تعالى: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249]، وقال تعالى:{وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ} [آل عمران: 146 - 148].
وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ} [محمد: 7] أي: تقوموا بدينهِ وبالحقِّ الذي جاءَ بهِ رسولهُ، مخلصينَ للهِ، قاصدينَ أنْ تكونَ كلمةُ اللهِ هيَ العليا؛ {يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} .
وقالَ تعالى: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران: 160]، فإخبارهُ بأنهُ المتفردُ بنصرِهم، وأنَّ غيرَهُ لا يملكُ من النصرِ شيئًا، وأمرُهم بالتوكلِ عليهِ؛ أمرٌ لهم بأقوى الأسبابِ النافعةِ في هذا المقامِ العظيمِ.
وقالَ تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3]، {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر: 36] أي: الذي قامَ بعبوديتهِ، فبحسبِ توكلِهم عليهِ وقيامِهم بعبوديتهِ يحصلُ لهم النصرُ والكفايةُ التامةُ.
* ومن أسبابِ النصرِ والصبرِ والثباتِ: اتفاقُ القلوبِ، وعدمُ التفرقِ والتنازعِ، فإنَّ ذلكَ محلِّلٌ للقوةِ، موجبٌ للفشلِ، وأمَّا اجتماعُ الكلمةِ، وقيامُ الألفةِ بينَ المؤمنينَ،
واتفاقُهم على إقامةِ دينِهم وعلى نصرهِ؛ فهذا أقوى القوَى المعنويةِ التي هيَ الأصلُ، والقوةُ الماديةُ تبعٌ لها. والكمالُ: الجمعُ بينَ الأمرينِ كما أمرَ اللهُ بذلكَ في هذهِ الآيةِ، وفي قولهِ:{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ} [الأنفال: 60].
* ومن أسبابِ الثباتِ والنصرِ: حسنُ النيةِ، وكمالُ الإخلاصِ في إعلاءِ كلمةِ الحقِّ؛ فلهذا حذَّرَ تعالى من مشابهةِ الذين خرجُوا من ديارِهم بطرًا ورئاءَ الناسِ، ويصدُّونَ عن سبيلِ اللهِ، فهؤلاءِ لما لم يعتمدُوا على ربِّهم، وأُعجبُوا بأنفسِهم، وخرجوا أشرِينَ بطرِينَ، وكان قتالُهم لنصرِ الباطلِ؛ باؤوا بالخيبةِ والفشلِ والخذلانِ؛ ولهذا أدَّبَ [اللهُ]
(1)
خيارَ الخلقِ لما حصلَ من بعضِهم الإعجابُ بالكثرةِ في غزوةِ حُنينٍ حيثُ قالَ القائلُ: لنْ نغلبَ اليومَ عن قلةٍ، فقالَ:{وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [التوبة: 25]، فلما زال هذا الأمرُ عنهم وعرفُوا ضعفَهم وعاقبةَ الإعجابِ {أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} [التوبة: 26] الآية.
* ومن الأسبابِ التي أرشدَ اللهُ إليها [في القتالِ والثباتِ والصبرِ: حسنُ التدبيرِ]
(2)
، والنظامُ الكاملُ في جميعِ الحركاتِ العسكريةِ، قالَ تعالى:{وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121)} [آل عمران: 121].
وكان صلى الله عليه وسلم يرتبُ الجيشَ، وينزلُهم منازلَهم، ويجعلُ في كلِّ جنبةٍ كُفْأَها، ويسدُّ الثغراتِ التي يُخشَى أنْ يتسربَ منها العدوُّ، ويحفظُ المكامنَ، ويبعثُ
العيونَ لتعرفَ أحوالَ العدوِّ، ويستعينُ بمشاورةِ أصحابهِ كما أمرَ اللهُ بذلكَ، خصوصًا في هذا الأمرِ المهمِّ.
* و [من المهمِّ]
(1)
: تعرُّفُ أسرارِ العدوِ، وبثُّ العيونِ، ووضعُ الجواسيسِ السريينَ الذينَ لا يكادُ يُشعَرُ بهم، كما أنَّ من المهمِّ: التحرزَ من جواسيسِ العدوِّ، وعملَ الأسبابِ لأخذِ الحذرِ من ذلكَ بحسبِ ما يليقُ ويناسبُ الزمانَ والمكانَ.
* ومن المهمِّ أيضًا: أنْ تُفعلَ جميعُ الأسبابِ الممكنةِ في إخلاصِ الجيوشِ [للهِ]
(2)
، وقتالِها عن الحقِّ، وأنْ تكونَ غايتُها كلُّها واحدةً، لا يزعزعُها عن هذا الغرضِ الساميِّ فقدُ رئيسٍ، أو انحرافُ كبيرٍ، أو تزعزعُ مركزِ قائدٍ، أو توقفٌ في صمودِها في طريقِها النافعِ على أمورِ خارجيةٍ؛ فإنهُ متى كانت هذهِ الغايةُ العاليةُ هيَ التي يسعَى لها أهلُ الحلِّ والعقدِ، ويعملونَ لها التعليماتِ القوليةَ والفعليةَ؛ كانتِ الجيوشُ التي على هذا الوصفِ مضربَ المثلِ في الكمالِ وسدادِ الأحوالِ، وحصولِ المقاصدِ الجليلةِ؛ ولهذا أرشدَ اللهُ المؤمنينَ يومَ أُحدٍ إلى هذا النظامِ العجيبِ فقالَ تعالى:{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144)} [آل عمران: 144]، فنبهَهُم على أنهُ وإنْ كان محمدٌ هوَ الإمامُ الأعظمُ والرسولُ المعظمُ؛ فإنهُ لا ينبغِي لكم أنْ يفتَّ فقدُهُ في عزيمتِكم، وانحلالِ قوتِكم، بلْ أنتم تقاتلونَ للهِ، وعلى الحقِّ الذي بعثَ بهِ رسولهُ، ولدفعِ الباطلِ والشرورِ، فاجعلوا هذهِ الغايةَ نصبَ أعينِكم، وأساسَ عملِكم، وامضُوا قُدمًا في سبيلِ اللهِ، غيرِ هائبينَ ولا متأثرينَ إذا أتتِ الأمورُ على خلافِ مرادِكم؛ فإنَّ الأمورَ هكذا
(1)
زيادة من (خ).
(2)
لفظ الجلالة زيادة من (خ).
تكونُ: تارةً لكَ، وتارةً عليكَ؛ والكمالُ كلُّ الكمالِ أنْ يكونَ العبدُ عبدًا للهِ في الحالينِ: في السراءِ والضراءِ، في حالِ إتيانِ الأمورِ على ما يحبُّ، أو ضدِّ ذلكَ؛ وهذا الوصفُ هوَ كمالُ الفردِ، وكمالُ الجماعاتِ، واللهُ الموفقُ.
* ومن الأمورِ المهمةِ جدًّا: أنْ يكونَ الرئيسُ رحيمًا برعيتهِ، ناصحًا محبًّا للخيرِ، ساعيًا فيه جهدَهُ، كثيرَ المراودةِ والمشاورةِ لهم، خصوصًا لأهلِ الرأيِ والحِجَا منهم؛ وأنْ تكونَ الرعيةُ مطيعةً منقادةً، ليسَ عندهم منازعاتٌ ولا مشاغباتٌ، قالَ تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] أي: إذا حصلَ النزاعُ في أيِّ أمرٍ من الأمورِ -خصوصًا في الأمورِ المتعلقةِ في سياسةِ الحربِ- رُدَّتْ إلى هذا الأصلِ الذي يطمئنُ إليهِ المؤمنونَ، ويلجأُ إليهِ كبارُهم وصغارُهم؛ لعلمِهم أنهُ فرضٌ على جميعِهم، ولعلمِهم أنَّ حكمَ اللهِ ورسولهِ هوَ الخيرُ والصلاحُ، وأنَّ اللهَ يعلمُ من مصالحِهم ما لا يعلمونَ، ويرشدُهم إلى كلِّ ما بهِ ينتفعونَ.
* ومن الأمورِ المهمةِ جدًّا: سلوكُ طريقِ الحقِّ، والعدلُ في قسمةِ الغنائمِ، وألَّا تكونَ ظالمةً مستبدًا بها الأقوياءُ، محرومًا منها الضعفاءُ، أو تكون فوضَى؛ فإنَّ هذينِ الأمرينِ معَ ضررِهما في الدينِ، وأنَّ هذا لا يحلُّ ولا يجوزُ، وهوَ من أعظمِ المحرماتِ؛ فإنهما يضرَّانِ غايةَ الضررِ في الجيوشِ: في وقوعِ العداواتِ، وحصولِ الجشعِ والطمعِ، وكونِ وجهتِها تكونُ متباينةً؛ فبذلكَ ينحلُّ النظامُ، ويقعُ الفشلُ، ويكون هذا الأمرُ أعظمَ سلاحٍ للأعداءِ على المسلمينَ.
* ومن الأمورِ المهمةِ جدًّا أيضًا -وهيَ عونٌ كبيرٌ في الحروبِ-: السعيُ بقدرِ الاستطاعةِ في إيقاعِ الانشقاقِ في صفوفِ الأعداءِ، وفعلُ كلِّ سببٍ يحصلُ بهِ تفريقُ شملِهم وتفريقُ وحدتِهم، ومهادنةُ مَنْ يمكنُ مهادنتُهُ منهم، وبذلُ الأموالِ للرؤساءِ إذا
غلبَ على الظنِّ أنْ ينكفَّ شرُّهم عن المسلمينَ، فكم حصلَ بهذا الطريقِ من نكايةِ العدوِّ ما لا يحصلُ بالجيوشِ الكثيرةِ؛ ولهذا قالَ:{إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ} [النساء: 90]، فذكرَ اللهُ هذهِ المصلحةَ العظيمةَ في الكفِّ عن أمثالِ هؤلاءِ الموصوفينَ.
وللموفقينَ من الرؤساءِ وقوادِ الجيوشِ في هذهِ الأمورِ مقاماتٌ معروفةٌ صارَ لهم فيها اليدُ البيضاءُ على المسلمينَ.
فانظرْ إلى هذهِ التعاليمِ الإلهيةِ التي هيَ النظامُ الكاملُ الوحيدُ في جميعِ الأزمنةِ والأمكنةِ، واستدلَّ بذلكَ على أنَّ الإسلامَ الحقيقيَّ هوَ الدينُ الحقُّ الذي إليهِ ملجأُ الخليقةِ، وبهِ سعادتُها وسلامتُها من الشرورِ
(1)
، وأنَّ النقصَ والهبوطَ بتضييعِ تعاليمِ هذا الدينِ الذي أكملَهُ اللهُ، وأتمَّ بهِ النعمةَ على المؤمنينَ.
(1)
بعدها في (خ): كلها.
فصل في البيوع وأنواع المعاملات
1 -
قالَ اللهُ تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] الآيات، {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران: 130] الآية، وقالَ:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] الآية، {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282] إلى قولهِ: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 282].
* اشتملَتْ هذهِ الآياتُ الكريماتُ على أحكامٍ جمةٍ وفوائدَ مهمةٍ، منها: أنَّ الأصلَ في البيوعِ والمعاملاتِ والتجاراتِ كلِّها الحِلُّ والإطلاقُ، كما هوَ صريحُ هذهِ الآياتِ.
* لا فرقَ بينَ تجارةِ الإدارةِ التي يديرُها التجارُ بينَهم: هذا يأخذُ العوضَ، وهذا يُعطي المعوضَ.
* ولا بينَ التجارةِ في الديونِ الحالِّ ثمنُها، المؤجَّلِ مثمنُها، كالسَّلَمِ
(1)
، وبيعِ السلعِ بأثمانٍ مؤجلةٍ؛ لعمومِ قولهِ:{إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ} [البقرة: 282].
* ولا بينَ تجارةِ التربصِ والانتظارِ: بأنْ يشتريَ السلعَ في أوقاتِ رخصِها، وينتظرَ بها الفرصَ مِنْ مواسمَ وغيرِها.
(1)
السَّلَم: عقد على موصوف في الذمة مؤجل بثمن مقبوض في المجلس. (الإقناع في فقه الإمام أحمد بن حنبل: 2/ 133).
* ولا بينَ التجارةِ بالتصديرِ والتوريدِ من محلٍّ إلى آخرَ.
* ولا بينَ التجارةِ والتكسبِ أفرادًا ومشتركينَ.
فكلُّ هذهِ الأنواعِ وما يتبعُها قدْ أباحَها الشارعُ وأطلقَها لعبادهِ؛ رحمةً بهم، وقيامًا لمصالِحهم، ودفعًا للأضرارِ عنهم.
وكلُّها جائزةٌ بما يقترنُ بها ويتبعُها من شروطٍ ووثائقَ ونحوِها، إذا سلمَتْ من المحاذيرِ الشرعيةِ التي نبَّهَ اللهُ عليها ورسولُهُ، ويدخلُ في هذا العمومِ جميعُ أجناسِ المبيعاتِ وأنواعِها وأفرادِها: من عقاراتٍ، وحيواناتٍ، وأمتعةٍ، وأطعمةٍ، وأوانٍ، وأشربةٍ، وأكسيةٍ، وفرشٍ، وغيرِها.
وكلُّها لابدَّ أنْ تقترنَ بهذا الشرطِ الذي ذكرَهُ اللهُ وهوَ: التراضِي بينَ المتعاوضَينِ، الرضا الصادرُ عن معرفةٍ، وأمَّا السفيهُ والمجنونُ ومَن لا يُعتبرُ كلامُهُ فوليُّهُ يقومُ مقامَهُ في معاملاتهِ.
* وأعظمُ المحاذيرِ المانعةِ من صحةِ المعاملاتِ: الرِّبا والغَرَرُ والظلمُ:
* فالرِّبا الذي حرَّمَهُ اللهُ ورسولهُ يدخلُ فيه:
• رِبا الفَضْلِ: وهوَ بيعُ المكيلِ بالمكيلِ من جنسهِ متفاضِلًا، وبيعُ الموزونِ بالموزونِ من جنسهِ متفاضلًا.
ويُشترطُ في هذا النوعِ في حِلِّهِ ما شَرَطَ
(1)
الشارعُ، وهوَ:
- التماثلُ بينَ المبيعَينِ بمعيارهِ الشرعيِّ، مكيلًا كان أو موزونًا.
(1)
في (خ): شرطه.
- والقبضُ للعِوضَينِ قبلَ التفرقِ.
• ورِبا النَّسِيئَةِ: وهوَ بيعُ المكيلِ بالمكيلِ إلى أجلٍ، أو غيرِ مقبوضٍ، ولوْ من غيرِ جنسهِ، وبيعُ الموزونِ بالموزونِ إلى أجلٍ، أو بلا قبضٍ، ويُستثنَى من هذا السَّلَمُ.
وأشدُّ أنواعِ هذا النوعِ: قلبُ الديونِ في الذممِ، وهوَ الذي ذكرَهُ بقولهِ:{لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران: 130]، وذلكَ إذا حلَّ ما في ذمةِ المدينِ، قالَ لهُ الغريمُ:«إما أنْ تقضينَي دَيني، وإما أنْ تزيدَ ما في ذمتِكَ» ، فيتضاعفُ ما في ذمةِ المعسرِ أضعافًا مضاعفةً بلا نفعٍ ولا انتفاعٍ، وذلكَ أنَّ المعسرَ قدْ أوجبَ اللهُ على غريمهِ إنظارَهُ كما قالَ تعالى:{وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280].
وسواءٌ كان قلبُ الدَّينِ المذكورِ صريحًا، أو يتحيَّلُ عليهِ بحيلةٍ ليستْ مقصودةً، وإنما يُرادُ بها التوصلُ إلى مضاعفةِ ما في ذمةِ الغريمِ.
فهذا الذي قدْ توعدَهُ اللهُ بهذا الوعيدِ الشديدِ، وأنَّ: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا
(1)
لَا يَقُومُونَ} من قبورِهم إلى بعثِهم ونشورِهم {إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} أي: من الجنونِ، فيقومونَ مرعوبينَ منزعجينَ، قدْ اختلَتْ حركاتُهم؛ لما يعلمونَ ما أمامَهم من القلاقلِ والأهوالِ المزعجةِ والعقوباتِ لأكلةِ الرِّبا، وقدْ آذَنَهم اللهُ بمحاربتهِ ومحاربةِ رسولهِ إذا لم يتوبُوا، ومَن كان محاربًا للهِ ورسولهِ فإنهُ مخذولٌ، وإنَّ عواقبَهُ وخيمةٌ، وإنْ استُدرِجَ في وقتٍ فآخرُ أمرهِ المَحْقُ والبَوارُ، قالَ تعالى:{يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة: 276]، {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ} [الروم: 39].
(1)
بعدها في (خ): في الدنيا.
فالمرابِي يأخذهُ الأمنُ والغرورُ الحاضرُ، ولا يدرِي ما خبِّئَ لهُ في مستقبلِ أمرهِ، وأنَّ اللهَ سيجمعُ لهُ بينَ عقوباتِ الدنيا والآخرةِ، إلا إنْ تابَ وأنابَ، فإذا تابَ فلهُ ما سلفَ.
وأما العقودُ الحاضرةُ فالزيادةُ لا تحلُّ
(1)
، وعليهِ أنْ ينزلَ على رأسِ مالهِ، كما قالَ تعالى:{وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ} [البقرة: 279]: بأخذِ الزيادةِ، {وَلَا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 279] بأخذِ بعضِ رؤوسِ أموالِكم.
• ومن أنواعِ الرِّبا: القرضُ الذي يجرُّ نفعًا؛ فإنَّ القرضَ من الإحسانِ والمرافقِ بينَ العبادِ، فإذا دخلَتْهُ المعاوضةُ، وشَرَطَ المقرضُ على المقترضِ ردَّ خيرٍ منهُ بالصفةِ أو المقدارِ، أو شَرَطَ نفعًا أو محاباةً في معاوضةٍ أخرى؛ فهوَ من الرِّبا؛ لأنهُ في الحقيقةِ دراهمُ بدراهمَ مؤخرةٍ، والربحُ ذلكَ النفعُ المشروطُ.
فاللهُ تعالى وَعَظَ المؤمنينَ عن تعاطِي الرِّبا كلِّهِ، والمعاملةِ بهِ، وأنْ يكتفُوا بالمكاسبِ الطيبةِ التي فيها البركةُ وصلاحُ الدينِ والدنيا، وفيها تزكُو الأخلاقُ، ويحصلُ الاعتبارُ، وحسنُ المعاملةِ، والصدقُ، والعدلُ، وأداءُ الحقوقِ، والسلامةُ من جميعِ التبعاتِ.
* ومن المحاذيرِ في المعاملاتِ: محذورُ الميسرِ والغَرَرِ؛ فإنَّ اللهَ حَرَّمَ في كتابهِ الميسرَ، وقرنَهُ بالخمرِ، وذكرَ مضارَّ ذلكَ ومفاسدَهُ، والميسرُ يدخلُ في المعاملاتِ كما يدخلُ في المغالباتِ، فكما أنَّ المراهناتِ والمقامراتِ وتوابعَها مِنْ الميسرِ، فالبيوعُ التي فيها غررٌ ومخاطراتٌ وجهالاتٌ داخلةٌ في الميسرِ؛ ولهذا قالَ صلى الله عليه وسلم كلمةً جامعةً:«نَهَى عن بيعِ الغَرَرِ»
(2)
، فيدخلُ في ذلكَ:
(1)
بعدها في (خ): له.
(2)
مسلم (1513). وبيع الغرر: «ما كان له ظاهر يغر وباطن مجهول» . (غريب الحديث لابن الجوزي: 2/ 150).
• بيعُ الحملِ في البطنِ.
• وبيعُ الآبقِ والشاردِ.
• والشيءُ الذي لم يُرَ ولم يوصَفْ.
• ودخَلَ فيه بيعُ الملامسةِ والمنابذةِ.
• وجميعُ العقودِ التي فيها جهالةٌ بينةٌ؛ وذلكَ لأنَّ أحدَ المتعاملينِ إما أنْ يغنمَ، وإما أنْ يغرمَ، وهذا مخالفٌ لمقاصدِ المعاوضاتِ التي يقصدُ أنْ يكونَ العِوضُ في مقابلةِ المعوضِ على وجهٍ يستوِي فيه علمُ المتعاوضَينِ، فإذا جُهِلَ الثمنُ أو المثمنُ، أو كان الأجلُ في الديونِ غيرَ مسمًّى ولا معلومٍ؛ دخَلَ هذا في بيعِ الغررِ والميسرِ الذي زجرَ اللهُ عنهُ.
* ومن المحاذيرِ المنهيِّ عنها في المعاملاتِ:
• الظلمُ.
• والغشُ.
• والتدليسُ.
• وبخسُ المكاييلِ والموازينِ، وبخسُ الحقوقِ أخذًا وإعطاءً، بأنْ يأخذَ أكثرَ مما لهُ، أو يُعطيَ أقلَّ مما عليهِ، فهذا من أعظمِ المحرماتِ، وقدْ توعَّدَ اللهُ عليهِ بالعقوباتِ في الدنيا والآخرةِ، وأهلكَ أمةً عظيمةً بسببِ هذهِ المعاملةِ الخبيثةِ.
وهذهِ المعاملاتُ المحرمةُ تدخُلُ في قولهِ: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [النساء: 29]، كما يدخلُ فيه الغَصْبُ والسرقةُ ونحوُهما.
* وفي آيةِ الدَّينِ من الفوائدِ سوى ما تقدَّمَ:
* الأمرُ بكتابةِ المعاملاتِ، والإشهادِ عليها، وأنْ يكونَ الكاتبُ عدلًا عارفًا بالكتابةِ، وبما ينبغِي أنْ يكتبَ.
وهذا الأمرُ للندبِ والاستحبابِ عندَ جمهورِ العلماءِ، إلا إذا وجبَ حفظُ المالِ، وكان على دَينٍ مؤجلٍ أو غيرِ مقبوضٍ، فإنهُ لا يتمُّ حفظهُ إلا بذلكَ، وما لا يتمُّ الواجبُ إلا بهِ فهوَ واجبٌ.
* وفيها: أنَّ الكاتبَ لا يكتبُ إلا ما أملاهُ مَنْ عليهِ الحقُّ إنْ كان رشيدًا، ووليُّهُ إنْ كان عاجزًا ضعيفًا، كالمجنونِ والصغيرِ والسفيهِ، وأنَّ على صاحبِ الحقِّ أنْ يقرَّ بالحقِّ كلِّهِ من غيرِ بخسٍ، أي: نقصٍ لعددهِ أو صفتهِ.
وتدلُّ الآيةُ أنَّ الإقرارَ من أعظمِ الطرقِ التي تثبتُ بها الحقوقُ في الذممِ، كما يثبتُ فيها براءةُ الذممِ المشتغلةِ بالحقوقِ إذا أقرَّ مَنْ لهُ الحقُّ بالإقباضِ أو الإبراءِ المعتبرِ، وأنهُ لا يُعذرُ مَنْ أقرَّ لوْ ادَّعَى الغلطَ أو الكذبَ ونحوَه.
* وفيها: الإرشادُ إلى حفظِ الحقوقِ بالإشهادِ والكتابةِ والرهنِ، إذا احتيجَ إليهِ في سفرٍ أو غيرهِ، وأنَّ نصابَ الشهادةِ في المعاملاتِ كلِّها: من عقودٍ، وفسوخ، وثبوتٍ، وشروطٍ، وإبراءٍ ونحوِها؛ رجلانِ مرضيانِ إنْ أمكنَ، وإلَّا فرجلٌ واحدٌ وامرأتانِ، وثبتَ في السنةِ قبولُ شهادةِ الواحدِ معَ يمينِ صاحبِ الحقِّ.
* وفيها: أنَّ شهادةَ الفساقِ والمجهولينَ غيرُ مقبولةٍ، وأنَّ الاعتبارَ بمَن يرضاهُ الناسُ ويعتبرونَهُ.
* وفيها: أنَّ شهادةَ المرأتينِ تقومُ مقامَ شهادةِ الرجلِ؛ لكمالِ حفظِ الرجلِ وقوةِ ذاكرتهِ، كما نبَّهَ عليهِ بقولهِ:{أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} [البقرة: 282].
* وفيها: دلالةٌ أنَّ مَنْ نسيَ شهادةً فتذكَّرَها، أو ذُكِّرَها فذَكَرَها؛ أنَّ شهادتَهُ صحيحةٌ.
* وفيها: أنهُ لا يحلُّ أنْ يشهدَ إلا بما علمَهُ وتيقنَهُ، فإنْ شَكَّ فيه لم يحلَّ لهُ أنْ يشهدَ.
* وفيها: بيانُ الحكمةِ العظيمةِ في هذهِ الإرشاداتِ من الربِّ في حفظِ المعاملاتِ، وأنَّ ذلكَ صلاحٌ للعبادِ في معاملاتِهم، وأنْ تكونَ جاريةً على القسطِ، وأنها تقطعُ الخصوماتِ والمنازعاتِ، وتُبرئُ الذممَ، وتمنعُ الظالمَ من ظلمهِ؛ فلهذا قالَ:{ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا} [البقرة: 282].
فكم حصلَ بهذهِ الوثائقِ التي أرشدَ اللهُ إليها مِنْ مصالحَ عظيمةٍ! وكمَ اندفعَ بها من مفاسدَ وشرورٍ كثيرةٍ! فسبحان مَنْ جعَلَ شرعَهُ صلاحًا لدينِ العبادِ ودنياهم!
* وفيها: أنَّ التجارةَ الحاضرةَ لا بأسَ بتركِ كتابتِها؛ لكونِ التقابضِ يغنِي غالبًا عن ذلكَ، ولمشقةِ كثرةِ ذلكَ، وأما الشهادةُ فلا ينبغِي تركُها خصوصًا في الأمورِ المهمةِ.
* وقولهُ: {وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ} [البقرة: 282] يحتملُ أنهُ مبنيٌ للفاعلِ أو للمفعولِ، والمعنى يشملُ الأمرينِ:
• فالكاتبُ والشهيدُ يجبُ عليهِ أنْ يعدلَ في كتابتهِ وشهادتهِ، ولا يحلُّ لهُ أنْ يميلَ معَ أحدِهما لغرضٍ من أغراضهِ، ولا يُضارُّهما بأخذِ أجرةٍ لا تحلُّ لهُ على شهادتهِ، أو يماطِلُ في شهادتهِ وكتابتهِ مماطلةً تضرُّهما أو أحدَهما.
• وكذلكَ المعاملانِ لا يحلُّ أنْ يُضارَّا الكاتبَ والشهيدَ؛ بأنْ يكلفاهُ ما لا يطيقهُ، أو يتضررُ بهِ؛ لأنَّ الشاهدَ والكاتبَ محسنانِ، حقُّهما أنْ يُشكرا على ذلكَ، فمضارُّتهما تنافِي ذلكَ.
* وفيها: أنَّ تعلمَ الكتابةِ من الأمورِ المحبوبةِ للهِ، وأنهُ نعمةٌ مِنْ اللهِ على مَنْ علَّمَهُ اللهُ الكتابةَ، فمِن شُكْرِ هذهِ النعمةِ ألَّا يأبَى كاتبٌ أنْ يكتبَ كما علَّمَهُ اللهُ.
* ويُستفادُ من المعنى المقصودِ أنَّ اللهَ شرعَ هذهِ الأمورَ حفظًا للحقوقِ: أنه ينبغِي تعلمُ كتابةِ الوثائقِ والاصطلاحاتِ الجاريةِ بينَ الناسِ في المعاملاتِ؛ حتى يكونَ الكاتبُ بهذهِ الصفةِ التي يحررُ فيها المعاملاتِ، فينتفعُ الناسُ بحفظِ حقوقِهم، فلا يكفِي مجردُ الكتابةِ من غيرِ معرفةٍ بهذهِ الأمورِ، كما أنهُ لابدَّ أنْ يكونَ الكاتبُ معتبرًا ثقةً؛ ليحصلَ الاعتمادُ على كتابتهِ والطمأنينةُ إليها.
* ويُستفادُ من هذا: أنَّ الخطَّ المعروفَ صاحبُهُ وثِقتُهُ أنهُ معتبرٌ معمولٌ بهِ؛ ليتمَّ المقصودُ من الكتابةِ في حياةِ الكاتبِ وبعدَ موتهِ.
* وفيها: وجوبُ أداءِ الشهادةِ، وتعينُها على مَنْ تحمَّلَها، وأنَّ كتمانَ الشهادةِ من كبائرِ الذنوبِ، وكما أنَّ شهادةَ الزورِ بأنْ يشهدَ بثبوتِ ما ليسَ بثابتٍ، أو بالبراءةِ من الحقِّ الثابتِ وهوَ كاذبٌ؛ من أكبرِ الكبائرِ، فكذلكَ السكوتُ عن أداءِ الشهادةِ، وكلا الأمرينِ ظلمٌ لصاحبِ الحقِّ بتفويتِ حقهِ، وظلمٌ أيضًا للنفسِ بوقوعِ الإثمِ، وظلمٌ للظالمِ لإعانتهِ على الإثمِ والعدوانِ.
* وفيها: مشروعيةُ الوثائقِ بالحقوقِ، وهيَ أربعةٌ:
• الشهادةُ والرهنُ، كما هوَ مذكورٌ في هذا الموضعِ.
• والضمانُ والكفالةُ، يُؤخذُ من الاعتبارِ على هذا المعنى، ومِن قولهِ:{وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72] أي: كفيلٌ وضامنٌ.
* وشرعُ مَنْ قبلَنا شرعٌ لنا، ما لم يرِدْ شرعُنا بخلافهِ.
* وتقييدُ الرهنِ بالسفرِ لا يدلُّ على أنهُ لا يكونُ رهنٌ في الحضرِ، بلْ قُيِّدَ لأجلِ الحاجةِ إليهِ لعدمِ الكاتبِ غالبًا.
* وفيها: ثبوتُ الولايةِ على القاصرينَ؛ لجنونٍ أو صغرٍ أو سفهٍ، لقولهِ:{فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} [البقرة: 282] فأقامَهُ في التصرفاتِ في مالهِ مقامَ المالكِ الرشيدِ، وعليهِ أنْ يفعلَ في أموالِهم ما هوَ الأصلحُ، قالَ تعالى:{وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام: 152]، ولا يدفعُ إليهم [مالَهم]
(1)
حتى يرشدُوا، ويعرفُ ذلكَ بالاختبارِ والتجربةِ كما قالَ تعالى:{وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6].
* وفيها -في قولهِ: {وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ} [البقرة: 282]- من الفوائدِ:
• التنبيهُ على أنَّ كلَّ مَنْ فعَلَ إحسانًا ومعروفًا، أنَّ عليهِ أنْ يتمِّمَهُ ويكملَهُ بالتسهيلِ والتيسيرِ وعدمِ المضارةِ.
• وأنَّ للمحسنينَ على الناسِ أنْ يَشكروا لهم معروفَهم، وألَّا يكلفُوهم الضررَ والمشقةَ؛ جزاءً لهم على إحسانِهم، وترغيبًا في الإحسانِ.
* واستُدِلَّ بقولهِ تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 282] أنَّ تقوى اللهِ وسيلةٌ إلى حصولِ العلمِ، كما أنَّ العلمَ سببٌ للتقوى، وأوضحُ مِنْ هذا قولُهُ تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال: 29] أي: علمًا تفرقونَ بهِ بينَ الحقِّ والباطلِ، وبينَ الحقائقِ المحتاجِ إليها.
(1)
زيادة من (خ).
* وفيها: أنهُ كما أنهُ من العلومِ النافعةِ: تعليمُ الأمورِ الدينيةِ المتعلقةِ بالعباداتِ والمعاملاتِ، فمنهُ أيضًا: تعليمُ الأمورِ الدنيويةِ المتعلقةِ بالمعاملاتِ؛ فإنَّ اللهَ حَفِظَ على العبادِ أمورَ دينِهم ودنياهم، وكتابُهُ العظيمُ فيه تبيانُ كلِّ شيءٍ.
* وفيها: أنهُ يجوزُ التعاملُ بغيرِ وثيقةٍ، بلْ بمجردِ الاستئمانِ؛ لقولهِ:{فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} [البقرة: 283]، ولكنْ في هذهِ الحالِ تتوقفُ الثقةُ على التقوى والخوفِ من اللهِ، وإلَّا فصاحبُ الحقِّ مخاطِرٌ؛ فلهذا وَعَظُ اللهُ مَنْ عليهِ الحقُّ أنْ يؤديَ أمانتَهُ.
ويُؤخذُ مِنْ هذا: أنَّ مَنْ عامَلَكَ ورضِيَ بأمانتِكَ ووثِقَ فيكَ، أنهُ قدْ فعَلَ معكَ معروفًا
(1)
، ورآكَ موضعَ الثقةِ والأمانةِ؛ فيتأكدُ عليكَ أداءُ الأمانةِ من الجهتينِ:
• أداء لحقِّ اللهِ.
• ووفاء بحقِّ مَنْ وَثِقَ فيكَ، ومكافأة لهُ.
(1)
بعدها في (خ): كبيرًا.
فصل
2 -
قالَ اللهُ تعالى: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [القصص: 26]، وقالُ يوسفُ:{اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 55].
* يُؤخذُ من هاتينِ الآيتينِ: أنهُ ينبغِي أنْ يُتخيَّرَ في الإجاراتِ والجعالاتِ والأماناتِ والولاياتِ كلِّها -كبيرةً كانتْ أو صغيرةً- مَنْ جَمَعَ الوصفينِ:
* القوةَ على ذلكَ العملِ؛ [بالعلمِ]
(1)
والكفاءةِ والحفظِ، وتوابعِ ذلكَ من جميعِ ما تقومُ بهِ الأعمالُ.
* والأمرُ الثاني: الأمانةُ.
فبالأمانةِ تتمُّ بهِ الثقةُ، ويُعلمُ نصحهُ وبذلهُ الواجبَ؛ وبالكفاءةِ والقوةِ يحصلُ العملُ ويتمُّ ويتقنُ.
فإن وُجِدَ الجامعُ للوصفينِ على وجهِ الكمالِ فليُسْتَمْسَكْ بغَرْزِهِ، وإلَّا اكتُفِيَ بالأمثلِ فالأمثلِ.
ونقصُ الأعمالِ كلِّها مِنْ الإخلالِ بالوصفينِ أو أحدِهما
(2)
.
(1)
زيادة من (خ).
(2)
أي: نقص الأعمال كلها يكون من الإخلال بالوصفين أو أحدهما.
فصل في آيات المواريث
قالَ اللهُ تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11] إلى قولهِ: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ} [النساء: 13] الآية، والتي في آخرِ السورةِ:{يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} [النساء: 176] إلى آخرِها.
* تضمنَتْ هذهِ الآياتُ الكريماتُ أحكامَ المواريثِ في غايةِ البيانِ والتفصيلِ والإيضاحِ، وفي غايةِ الحكمةِ، فتوصيتهُ للعبادِ بأولادِهم من كمالِ رحمتهِ وعنايتهِ، وأنهُ أرحمُ بهم مِنْ والدَيْهم؛ ولذلكَ وصَّى الوالدينِ بالأولادِ، فالأولادُ عندَ والدَيْهم وصايا من اللهِ وأماناتٌ عندَهم؛ على الوالدينِ أنْ يربُّوهم تربيةً نافعةً لدينِهم ودنياهم، فإنْ فعلُوا فقدْ قامُوا بهذهِ الأمانةِ، وإلا فقدْ ضيَّعُوها، وباؤُوا بإثمِها وخسرانِها.
* فذَكَرَ اللهُ ميراثَ الأولادِ، وأنَّ لهم ثلاثَ حالاتٍ:
* إما أنْ يجتمعَ الذكورُ والإناثُ، فحينئذٍ يتقاسمونَ المالَ، أو ما أبقَتِ الفروضُ، على عددِ رؤوسِهم، {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11]، سواءٌ كانوا أولادَ صلبٍ أو أولادَ ابنٍ، ويُؤخَذُ مِنْ هذا:
* الحالةُ الثانيةُ: أنْ يكونَ الأولادُ ذكورًا فقطْ، فإنهم يتقاسمونَهُ متساوينَ، ومَنْ ارتفعَتْ درجتهُ حجبَ مَنْ دونَهُ مِنْ الأولادِ، إذا كان الرفيعُ من الذكورِ.
* الحالةُ الثالثةُ: إذا كُنَّ إناثًا، فإن كانتْ واحدةً فلها النصفُ، سواءٌ كانتْ بنتَ صلبٍ أو بنتَ ابنٍ، وإنْ كانتا اثنتينِ فأكثرَ فلهما الثلثانِ.
ومِن الحكمةِ في الإتيانِ بقولهِ: {فَوْقَ اثْنَتَيْنِ} [النساء: 11]: التنبيهُ على أنهُ لا يزيدُ الفرضُ -وهوَ الثلثانِ- بزيادتهنَّ على الثنتينِ، كما زادَ فرضُ النصفِ لما صِرْنَ أكثرَ من واحدةٍ.
وقدْ نصَّ اللهُ على أنَّ الأختينِ فرضُهما الثلثانِ، فالبنتانِ من بابِ أولى وأحرَى.
فإنْ كان البنتانِ بناتِ صلبٍ لم يبقَ لبناتِ الابنِ شيءٌ، وصارَ البقيةُ بعدَ فرضِ البناتِ للعاصبِ، وإن كانتِ العاليةُ واحدةً أخذتِ النصفَ، وباقي الثلثينِ -وهوَ السدسُ- لبنتٍ أو بناتِ الابنِ.
هذا ميراثُ الأولادِ قدْ استوعبَتْهُ الآيةُ استيعابًا، وقدْ عَلِمْنا من ذلكَ أنَّ لفظَ الولدِ يشملُ: الذكرَ والأنثى من أولادِ الصلبِ، وأولادَ الابنِ وإنْ نزلَ؛ وأمَّا أولادُ البناتِ فلا يدخلونَ في إطلاقِ اسمِ الأولادِ في المواريثِ.
* ثم ذكَرَ اللهُ ميراثَ الأبوينِ: الأمِّ والأبِ، فجعَلَ اللهُ للأمِّ سدسًا وثلثًا:
* جعَلَ لها السدسَ معَ وجودِ أحدٍ من الأولادِ مطلقًا، منفردينَ أو متعددينَ، أولادَ صلبٍ أو أولادَ ابنٍ.
* وكذلكَ جعَلَ لها السدسَ بوجودِ جمعٍ من الإخوةِ والأخواتِ اثنينِ فأكثرَ.
* وجعَلَ لها الثلثَ إذا فُقِدَ الشرطانِ المذكورانِ.
* وأمَّا ثلثُ الباقي في زوجٍ أو زوجةٍ وأبوينِ:
* فقيلَ: إنهُ يُؤخذُ من قولهِ: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} [النساء: 11]، فإذا كان معهما أحدُ الزوجينِ خرجَتْ عن هذا؛ فلم يكنْ لها ثلثٌ كاملٌ.
* أو يقالُ: إنَّ اللهَ أضافَ الميراثَ للأبوينِ -وهوَ الأبُ والأمُّ- فيكونُ لها ثلثُ ما ورثَهُ الأبوانِ، ويكونُ ما يأخذهُ الزوجُ أو الزوجةُ بمنزلةِ ما يأخذهُ الغريمُ، فاللهُ أعلمُ.
* وأمَّا الأبُ فقدَ فرضَ اللهُ لهُ السدسَ معَ وجودِ أحدٍ من الأولادِ، فإنْ كان الأولادُ ذكورًا لم يزدِ الأبُ على السدسِ، وصارَ الأبناءُ أحقَّ بالتقديمِ من الأبِ بالتعصيبِ بالإجماعِ.
وإنْ كان الأولادُ إناثًا واحدةً أو متعدداتٍ فُرِضَ لهُ السدسُ، ولهنَّ أو لها الفرضُ، فإنْ بقيَ شيءٌ فهوَ لأولى رجلٍ، وهوَ الأبُ هنا؛ لأنهُ أقربُ من الإخوةِ وبنِيهم، ومن الأعمامِ وبنِيهم، فجُمِعَ لهُ في هذهِ الحالِ بينَ الفرضِ والتعصيبِ.
وإنْ استغرقَتِ الفروضُ التركةَ لم يبقَ للأبِ زيادةٌ عن السدسِ، كما لوْ خلَّفَ أبوينِ وابنتينِ؛ فلكلِّ واحدٍ من الأبوينِ السدسُ، وللبنتينِ الثلثانِ.
ومفهومُ الآيةِ الكريمةِ أنهُ إذا لم يكنْ أولادٌ ذكورٌ ولا إناثٌ، أنَّ الأبَ يرثُ بغيرِ تقديرٍ، بلْ بالعَصبِ، بأنْ يأخذَ المالَ كلَّهُ إذا انفردَ، أو ما أبقَتِ الفروضُ إنْ كان معهُ أصحابُ فروضٍ، وهوَ إجماعٌ.
وحكمُ الجَدِّ حكمُ الأبِ في هذهِ الأحكامِ، إلَّا في العُمَرِيَّتَينِ
(1)
؛ فإن الأمَّ ترثُ ثلثًا كاملًا معَ الجَدِّ.
وأما ميراثُ الجَدَّةِ السدسُ عندَ عدمِ الأمِّ فهوَ في السنةِ.
(1)
المسألتان العمريتان: زوج وأبوان، وزوجة وأبوان. وتسميان كذلك نسبة إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حيث قضى فيهما بهذا القضاء.) المغني لابن قدامة: 9/ 23).
* ثم ذكَرَ اللهُ ميراثَ الزوجينِ:
* وأنَّ الزوجَ لهُ نصفُ ما تركَتْ زوجتُهُ إنْ لم يكنْ لها ولدٌ، فإنْ كان لها ولدٌ فلهُ الربعُ.
* وأنَّ الزوجةَ واحدةً أو متعدداتٍ لها الربعُ مما تركَ الزوجُ إنْ لم يكنْ لهُ ولدٌ، فإن كان للزوجِ ولدٌ منها أو من غيرِها، ذكرٌ أو أنثَى، ولدُ صلبٍ أو ولدُ ابنٍ؛ فلها أو لهنَّ الثمنُ.
* ثم ذكَرَ اللهُ ميراثَ الإخوةِ من الأمِّ، وأنهم لا يرثونَ إلا إذا كانت الورثةُ كَلالةً: ليسَ فيهم أحدٌ من الفروعِ ولا الأبُ والجَدُّ؛ فللواحدِ من الإخوةِ من الأمِّ أو الأخواتِ السدسُ، وللاثنَين فأكثرَ الثلثُ، يستوِي فيه ذكرُهم وأنثاهم.
* وهذهِ الفروضُ كلُّها ذكَرَ اللهُ أنها من بعدِ الوصيةِ إذا حصلَ الإيصاءُ بها، ومن بعدِ الدَّينِ، وقدْ قضَى النبيُّ صلى الله عليه وسلم أنَّ الدَّينَ قبلَ الوصيةِ، وقدْ اتفقَ العلماءُ على ذلكَ، وشرَطَ اللهُ في الوصيةِ ألَّا تكونَ على وجهِ المضارةِ بالورثةِ، فإنْ كانتْ كذلكَ فإنها وصيةُ إثمٍ وجَنَفٍ، يجبُ تعديلُها، وردُّ الظلمِ الواقعِ فيها.
* وأخبَرَ تعالى أنَّ هذهِ التقديراتِ والفرائضَ حدودُ اللهِ قدَّرَها وحدَّدَها، فلا يحلُّ مجاوزتُها، ولا الزيادةُ فيها والنقصانُ: بأنْ يُعطَى وارثٌ فوقَ حقهِ، أو يُحرَمَ وارثٌ أو ينقصَ عن حقهِ.
* ثم ذكَرَ في آخرِ السورةِ ميراثَ الإخوةِ لغير أمٍّ وأخواتِهم:
* بأنَّ الأنثى الواحدةَ لها النصفُ.
* وللثنتينِ فأكثرَ الثلثانِ.
* وإن اجتمَعَ رجالٌ ونساءٌ فللذكرِ مثلُ حظِّ الأنثيينِ.
ويُقالُ فيهم كما يُقالُ في الأولادِ: إذا كانوا ذكورًا تساوَوا، إذا كانوا أشقاءَ أو لأبٍ، فإن وُجِدَ هؤلاءِ وهؤلاءِ حجَبَ الأشقاءُ الإخوةَ للأبِ، وإنْ كنَّ نساءً شقيقاتٍ وأخواتٍ لأبٍ، واستغرقَ الشقيقاتُ الثلثينِ؛ لم يبقَ للأخواتِ للأبِ شيءٌ؛ فإنْ كانتِ الشقيقةُ واحدةً أخذَتْ نصفَها، وأُعطِيتِ الأختُ للأبِ أو الأخواتُ السدسَ تكملةَ الثلثينِ.
* وما سوَى هذهِ الفروضِ فإنَّ الورثةَ من إخوةٍ لغيرِ أمٍّ وبنِيهم، وأعمامٍ وبنِيهم، وولاءٍ؛ يدخلونَ في قولهِ صلى الله عليه وسلم في حديثِ ابنِ عباسٍ الصحيحِ:«ألحِقُوا الفرائضَ بأهلِها، فما بقِيَ فهوَ لأَوْلَى رجلٍ ذكرٍ» رواهُ مسلمٌ
(1)
، فيقدَّمُ الإخوةُ، ثم بنُوهم، ثم الأعمامُ ثم بنُوهم، ثم الولاءُ؛ ويقدَّمُ منهم الأقربُ منزلةً، فإنْ استوَتْ منزلتُهم قُدِّمَ الأقوَى وهوَ الشقيقُ على الذي لأبٍ. واللهُ أعلمُ.
(1)
مسلم (1615)، ورواه كذلك البخاري (6732).
فصول تتعلق بالنكاح وتوابعه من الأحكام
1 -
لما مَنَّ البارِي على عبادهِ بالنكاحِ قدرًا، وأباحَهُ شرعًا، بلْ أحبَّهُ ورضيَهُ وحثَّ عليهِ؛ لما يترتبُ عليهِ من المصالحِ الكثيرةِ - رتَّبَ عليهِ أحكامًا كثيرةً وحقوقًا متنوعةً، تدورُ كلُّها على الصلاحِ وإصلاحِ أحوالِ الزوجينِ، ودفعِ الضررِ والفسادِ؛ وهيَ من محاسنِ الشريعةِ، والشريعةُ كلُّها محاسنُ، وجلبٌ للمصالحِ، ودرءٌ للمفاسدِ.
* يقولُ تعالى هنا: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا} [النساء: 3] أي: تقومُوا بحقِّ النساءِ اليتامَى اللَّاتي تحتَ حجورِكم وولايتِكم؛ لعدمِ محبتِكم إياهنَّ؛ فاعدلوا إلى غيرهنَّ {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} أي: ينبغِي أنْ تختارُوا منهنَّ الطيباتِ في أنفسهنَّ اللَّاتي تطيبُ لكم الحياةُ بالاتصالِ بهنَّ، الجامعاتِ للدِّينِ، والحسبِ، والعقلِ، والآدابِ الحسنةِ، وغيرِ ذلكَ من الأوصافِ الداعيةِ لنكاحهنَّ.
* وفي هذهِ الآيةِ: الحثُّ على الاختيارِ قبلَ الخطبةِ، وأنهُ ينبغِي ألَّا يتزوجَ إلا الجامعةَ للصفاتِ المقصودةِ بالنكاحِ، فإنَّ النكاحَ يُقصدُ لأمورٍ كثيرةٍ:
* مِنْ أهمِّها: كفاءةُ البيتِ والعائلةِ، وحسنُ التدبيرِ، وحسنُ التربيةِ؛ وأهمُّ صفةِ هذا النوعِ: الدينُ والعقلُ.
* ويُقصدُ بهِ: إحصانُ الفرجِ، والسرورُ في الحياةِ، وعمدةُ هذا: حسنُ الأخلاقِ الظاهرةِ، وحسنُ الخلائقِ الباطنةِ.
* ويُقصدُ بهِ: نجابةُ الأولادِ وشرفُهم؛ وأساسُهُ: الحسبُ والنسبُ الرفيعُ؛ ولهذا أباحَ الشارعُ بلْ أمَرَ بالنظرِ لمن يخطِبُها؛ ليكونَ على بصيرةٍ من أمرهِ.
* {مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3] أي: مَنْ أحبَّ أنْ يتزوجَ اثنتينِ فليفعَلْ، أو ثلاثًا أو أربعًا فليفعَلْ، ولا يزيدُ على الأربع؛ لأنَّ الآيةَ سيقَتْ للامتنانِ، فلا يجوزُ الزيادةُ على غيرِ ما سمَّى اللهُ إجماعًا؛ وذلكَ أنَّ الرجلَ قدْ لا تندفعُ شهوتهُ بالواحدةِ، أو لا يحصلُ مقصودهُ أو مقاصدهُ بها، كما تقدَّمَ أنَّ النكاحَ لهُ عدةُ مقاصدَ؛ فلهذا أباحَ اللهُ لهُ هذا العددَ؛ لأنَّ في الأربعِ غنيةً لكلِّ أحدٍ، إلا ما ندرَ، ومعَ هذا فإذا خافَ من نفسهِ الجورَ والظلمَ بالزيادةِ على الواحدةِ؛ فليقتصِرْ على الواحدةِ، أو على ملكِ يمينهِ التي لا يجبُ عليهِ لها قسمٌ كالزوجاتِ.
* {ذَلِكَ} أي: الاقتصارُ على واحدةٍ من الزوجاتِ، أو ما ملكَتِ اليمينُ، {أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} أي: تظلمُوا وتجورُوا.
ويُستفادُ من هذا المعنى: أنَّ تعرُّضَ العبدِ للأمرِ الذي يخافُ منهُ الجور والظلم، وعدم القيامِ بالواجبِ ولوْ كان مباحًا؛ لا ينبغِي لهُ أنْ يتعرَّضَ لهُ، بلْ يلزمُ السعةَ والعافيةَ؛ فإنَّ العافيةَ خيرُ ما أُعطِيَ العبدُ.
* ولما كان كثيرٌ من الناسِ يظلمونَ النساءَ، ويهضمونهنَّ حقوقهنَّ، وخصوصًا الصَّدَاقَ الذي يكونُ شيئًا كثيرًا دفعةً واحدةً يشقُّ عليهم - حَثَّهم على إيتاءِ النساءِ {صَدُقَاتِهِنَّ} أي: مهورهنَّ، {نِحْلَةً} أي: عن حالِ طمأنينةٍ وطيبِ نفسٍ، من غيرِ مَطلٍ ولا بخسٍ منهُ شيئًا. وفيهِ:
* أنَّ المهرَ للمرأةِ.
* وأنهُ يُدفَعُ إليها أو إلى وكيلِها إنْ كانتْ رشيدةً، أو إلى وليِّها إنْ لم تكنْ رشيدةً.
* وأنها تملكُهُ بالعقدِ؛ لأنهُ أضافَهُ إليها وأمَرَ بإعطائهِ لها، وذلكَ يقتضي الملكَ.
* {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ} [النساء: 4] أي: من الصَّداقِ، {نَفْسًا} بإسقاطِ شيءٍ منه، أو تأخيرهِ، أو المحاباةِ في التعوُّضِ عنه، {فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} لا تبعةَ عليكم فيه ولا حرجَ؛ وهذا دليلٌ على أنَّ للمرأةِ الرشيدةِ التصرفَ في مالِها، ولوْ بالتبرعِ، وأنهُ ليسَ لوليِّها من الصَّدَاقِ شيءٌ، إلا ما طابَتْ نفسُها بهِ إذا كانتْ رشيدةً.
* ويؤخَذُ من الأمرِ بنكاحِ ما طابَ من النساءِ: تحريمُ نكاحِ الخبيثةِ التي لا يحلُّ للمسلمِ نكاحُها، وهيَ الكافرةُ غيرُ الكتابيةِ، وكذلكَ الزانيةُ حتى تتوبَ كما نصَّ اللهُ على الثنتينِ.
* وفي هذهِ الآيةِ: دليلٌ على أنهُ لابدَّ في النكاحِ من صَداقٍ، وأنهُ يجوزُ في الكثيرِ واليسيرِ؛ للعمومِ، وأنهُ لا يباحُ لأحدٍ أنْ يتزوجَ بدونِ صَداقٍ، وإنْ لم يُسمَّ فمهرُ المثلِ، إلا النبيَّ صلى الله عليه وسلم فإنَّ لهُ ذلكَ خاصةً، كما قالَ تعالى:{وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 50].
* وفي قولهِ: {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} [البقرة: 232]: دليلٌ على اعتبارِ الوليِّ في النكاحِ، وهوَ العاصبُ، ويقدَّمُ منهم الأقربُ فالأقربُ، فإنْ تعذَّرَ الوليُّ القريبُ والبعيدُ؛ لعدمٍ، أو جهلٍ، أو غيبةٍ طويلةٍ؛ قامَ الحاكمُ مقامَ الوليِّ، فالسلطانُ والحاكمُ وليُّ مَنْ لا وليَّ لها مِنْ النساءِ.
2 -
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19] إلى قولهِ: {مِيثَاقًا غَلِيظًا} [النساء: 21].
* كان أهلُ الجاهليةِ إذا ماتَ أحدُهم وُرِثَتْ زوجتهُ عنهُ كما يُورَثُ مالهُ، فرأى قريبهُ -كأخيهِ وابنِ عمهِ- أنهُ أحقُّ بها من نفسِها، ويحجرُها عن غيرهِ، فإنْ رضِيَ بها تزوَّجَها على غيرِ صَداقٍ، أو على صَداقٍ يحبهُ هوَ دونَها، وإنْ لم يرضَ بزواجِها عضَلَها ومنعَها من الأزواجِ إلا بعِوضٍ من الزوجِ أو منها.
وكان منهم أيضًا مَنْ يعضلُ زوجتَهُ التي هيَ في حبالهِ، فيمنعُها من حقوقِها، ومن التوسعةِ لها؛ لتفتديَ منهُ.
فنهَى اللهُ المؤمنينَ عن هذهِ الأحوالِ القبيحةِ الجائرةِ، {إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [النساء: 19] كالزِّنَى والكلامِ الفاحشِ وأذيتِها لزوجِها ومَن يتصلُ بهِ؛ فيجوزُ في هذهِ الحالِ أنْ يعضلَها مقابلةً لها على فعلِها؛ لتفتديَ منهُ؛ فإنَّ هذا الافتداءَ بحقٍّ لا بظلمٍ.
* ثم قالَ: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} وهذا يشملُ المعاشرةَ القوليةَ والفعليةَ، فعلى الزوجِ أنْ يعاشرَ زوجتَهُ ببذلِ النفقةِ والكسوةِ والمسكنِ اللائقِ بحالهِ، ويصاحبُها صحبةً جميلةً؛ بكفِّ الأذَى، وبذلِ الإحسانِ، وحسنِ المعاملةِ والخلقِ، وألَّا يمطُلَها بحقِّها، وهيَ كذلكَ عليها ما عليهِ من العشرةِ.
وكلُّ ذلكَ يتبعُ العرفَ في كلِّ زمانٍ ومكانٍ وحالٍ ما يليقُ بهِ، قالَ تعالى:{لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق: 7].
* وقولهُ: {فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} أي: ينبغِي لكم -يا معشرَ الأزواجِ- أنْ تمسكُوا زوجاتِكم ولوْ كرهتموهنَّ؛ فإنَّ في ذلكَ خيرًا كثيرًا:
* منها: امتثالُ أمرِ اللهِ ورسولهِ الذي فيه سعادةُ الدنيا والآخرةِ.
* ومنها: أنَّ إجبارَهُ نفسَهُ، ومجاهدتَهُ إياها، معَ عدمِ محبةِ زوجتهِ؛ تمرينٌ على التخلقِ بالأخلاقِ الجميلةِ.
* وربما زالتِ الكراهةُ، وخلفَتْها المحبةُ.
* وربما زالتِ الأسبابُ التي كرهَها لأجلِها.
* وربما رُزِقَ منها ولدًا صالحًا نفعَ اللهِ بهِ والدَيْهِ في الدنيا والآخرةِ.
ولابدَّ لهذهِ الكراهةِ من أسبابٍ من الزوجةِ.
فينبغِي إذا كرِهَ منها خُلقًا لَحِظَ بقيةَ أخلاقِها، وما فيها من المقاصدِ الأخرِ، ويجعلُ هذا في مقابلةِ هذا، وهذا عنوانُ الإنصافِ والرأيِ الأصيلِ؛ فإنَّ النَّزِقَ الطائشَ الذي ليسَ عندهُ إنصافٌ يلاحظُ بعضَ أغراضهِ النفسيةِ، فإذا لم يأتِ على ما يريدُ أهدرَ المحاسنَ والمناقبَ الأخرَ، وهذا لا يكادُ يصفُو لهُ خِلٌّ في حياتهِ؛ لا زوجةٌ، ولا صاحبٌ، ولا حبيبٌ؛ بلْ هوَ سريعُ التقلبِ.
أمَّا الرجلُ الحازمُ الوفيُّ الذكيُّ فإنهُ يوازِنُ بينَ الأمورِ، ويقدِّمُ الحقَّ السابقَ، ويفِي بالسوابقِ، ويكون نظرُهُ للمحاسنِ أرجحَ من نظرهِ للمساوئِ.
فإنْ وصَلَ إلى الدرجةِ العاليةِ التي لا يصلُ إليها إلا أفرادٌ من كُمَّلِ الرجالِ؛ جعَلَ المحاسنَ نصبَ عينيهِ، وأغضَى عن المساوئِ بالكليةِ، وعفا عنها للهِ ولحقِّ صاحبِ
الحقِّ، فهذا قدْ كسبَ الأجرَ والراحةَ والخلقَ الذي لا يُلحَقُ، وذلكَ فضلُ اللهِ يؤتيهِ من يشاءُ.
* وهذا الصبرُ المأمورُ بهِ إنما هوَ معَ الإمكانِ، فإنْ كان لابدَّ من الفراقِ، ولم يبقَ للصبرِ والإمساكِ موضعٌ؛ فاللهُ قدْ أباحَ الفراقَ؛ فلهذا قالَ:{وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ} [النساء: 20] أي: فلا حرجَ عليكم، ولكن إذا آتيتُم {إِحْدَاهُنَّ} أي: الزوجةَ السابقةَ أو اللاحقةَ، {قِنْطَارًا} وهو المالُ الكثيرُ، {فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} بلْ وفِّروهُ لهنَّ، ولا تمطلوهنَّ.
وهذا يدلُّ على جوازِ إعطاءِ النساءِ من المهورِ وغيرِها المالَ الكثيرَ، وأنها بذلكَ تملكُهُ، ولكنَّ الأكملَ والأفضلَ التساهلُ في المهورِ؛ اقتداءً بالنبيِ صلى الله عليه وسلم، وتسهيلًا للنكاحِ ولطرقهِ، وبراءةً للذممِ.
* ثم ذكَرَ الحكمةَ في تحريمِ أخذِ الزوجِ ما أعطاه لزوجتهِ، فقال:{أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (21)} [النساء: 20 - 21].
وبيان ذلكَ: أنَّ الأنثَى قبلَ عقدِ النكاحِ محرمةٌ على الزوجِ، وهيَ لم ترضَ بهذا الحلِّ إلا بالعقدِ والميثاقِ الغليظِ الذي عُقِدَ على ذلكَ العِوضِ المشروطِ، فإذا دخَلَ عليها وباشرَها، وأفضَى إليها وأفضَتْ إليهِ، وباشرَها المباشرةَ التي كانتْ قبلَ هذهِ الأمورِ حرامًا؛ فقدْ استوفَى المعوَّضَ؛ فثبتَ عليهِ العِوضُ تامًّا، فكيفَ يستوفِي المعوَّضَ ثم يرجعُ على العِوضِ؟! لا ريبَ أنَّ هذا من المنكراتِ القبيحةِ شرعًا وعقلًا وفطرةً.
3 -
{وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 22]، ثم عدَّدَ المحرماتِ إلى أنْ قالَ:{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24].
* قدْ استوفَى البارِي المحرماتِ في النكاحِ في هذهِ الآياتِ في النسبِ والرضاعِ والمصاهرةِ:
* أمَّا المحرماتُ بالمصاهرةِ: فإذا تزوجَ الرجلُ امرأةً ترتبَ على هذا الزواجِ أربعةُ أحكامٍ:
• تحريمُ هذهِ الزوجةِ على أولادهِ وإنْ نزلوا نسبًا ورضاعًا.
• وتحريمُها على آبائهِ وإنْ علَوا نسبًا ورضاعًا.
• وحرمَتْ عليهِ أمُّها في الحالِ.
• وأمَّا بنتُها فإن كان قدْ دخَلَ بزوجتهِ حرمَتْ أيضًا، وصارَتْ ربيبةً، لا فرقَ بينَ بنتِها من زوجٍ سابقٍ لهُ، أو من زوجٍ خلفَهُ عليها.
* وأمَّا المحرماتُ بالنسبِ:
• فتحرمُ الأمهاتُ، وهنَّ كلُّ أنثَى لها عليكَ ولادةٌ، وهيَ التي تخاطبُها بالأمِّ والجدةِ وإنْ علَتْ من كلِّ جهةٍ.
• وتحرمُ البناتُ، وهنَّ كلُّ أنثى تخاطبُكَ بالأبوةِ أو بالجدودةِ من بناتِ الابنِ وبناتِ البناتِ وإنْ نزلْنَ.
• وتحرمُ الأخواتُ شقيقاتٍ كنَّ أو لأبٍ أو لأمٍّ.
• وبناتُ الإخوةِ وبناتُ الأخواتِ مطلقًا.
• وتحرمُ العمَّاتُ والخالاتُ، وهنَّ كلُّ أختٍ لأحدِ آبائِكَ وإنْ علا، أو أحدِ أمهاتِكَ وإنْ علوْنَ.
وما سوى ذلكَ من الأقاربِ حلالٌ: كبناتِ الأعمامِ، وبناتِ العماتِ، وبناتِ الأخوالِ، وبناتِ الخالاتِ.
ولهذا ذكرَ اللهُ هذا الحلَّ والتحريمَ المهمَّ في موضعينِ:
- في هذا الموضعِ صرَّحَ بالمحرماتِ السبعِ وقالَ: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24].
- وفي سورةِ (الأحزاب) أتَى بها بأسلوبٍ آخرَ، فقالَ في الحلِّ:{وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ} [الأحزاب: 50] أي: فهنَّ حلالٌ، ومَن عداهنَّ من الأقاربِ حرامٌ.
* وأمَّا المحرماتُ بالرضاعِ: فإنهنَّ نظيرُ المحرماتِ بالنسبِ من جهةِ المرضعةِ وصاحبِ اللبنِ:
• فالمرضعةُ أمٌّ للرضيعِ، وأمهاتُها جداتُهُ، وإخوتُها وأخواتُها أخوالهُ وخالاتهُ، وأولادُها إخوتهُ وأخواتهُ، وهوَ عمٌّ لأولادِهم أو خالٌ؛ وكذلكَ صاحبُ اللبنِ.
• وأمَّا الانتشارُ من جهةِ الطفلِ الراضعِ فلا ينتشرُ التحريمُ لأحدٍ من أقاربهِ، إلا لذريتهِ فقطْ.
* وتقييدُ الآيةِ في الربيبةِ بقولهِ: {اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ} [النساء: 23]: بيانٌ لأغلبِ أحوالِها، ولبيانِ أعلى حكمةِ تناسبُ حكمةَ التحريمِ، وأنها إذا كانتْ في حجرِكَ بمنزلةِ بناتِكَ لا يليقُ إلا أنْ تكونَ من محارمِكَ.
* وتقييدُها الآخرُ بقولهِ: {وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ} [النساء: 23]: يخرِجُ ابنَ التبني، لا يخرِجُ ابنَ الرضاعِ في قولِ جمهورِ العلماءِ.
* {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 24] أي: ذوات الأزواجِ، فكلُّ أنثى في عصمةِ زوجٍ أو في بقيةِ عدتهِ لا تحلُّ لغيرهِ؛ لأنَّ الأبضاعَ ليستْ محلَّ اشتراكٍ، بلْ قُصِدَ تمييزُها التامُّ؛ ولهذا شرعَتِ العدةُ والاستبراءُ، ونحوُ ذلكَ.
* وقولهُ: {إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24] المرادُ بهذا الملْكِ: ملكُ السَّبْيِ، إذا سُبيتِ المرأةُ ذاتُ الزوجِ من الكفارِ في القتالِ الشرعيِّ حلَّتْ للمسلمينَ، ولكنْ بعدَ الاستبراءِ أو العدةِ، فزوجُها الحربيُّ الذي في دارِ الحربِ لم يبقَ لهُ فيها حقٌّ، ولا لهُ حرمةٌ، فلهذا حلَّتْ للمسلمينَ كما حلَّ لهم مالهُ ودمهُ؛ لأنهُ ليسَ لهُ عهدٌ ولا مهادنةٌ.
* وقولهُ: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] أي: ما سِوَى ما نصَّ اللهُ على تحريمهِ: سبعٌ بالنسبِ، وسبعٌ بالرضاعِ، وأربعٌ بالصهرِ؛ فما عداهنَّ فإنهُ حلالٌ، إلا أنهُ حرَّمَ تعالى الجمعَ بينَ الأختينِ، وحرَّمَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم الجمعَ بينَ المرأةِ وعمَّتِها، وحرَّمَ على الأحرارِ نكاحَ المملوكاتِ؛ لما فيه من إرقاقِ الولدِ، ولما فيه من الدناءةِ والضررِ العائدِ للأولادِ؛ لتنازعِ الملاكِ، وتنقلاتِ الأرقاءِ، لكنْ إذا رجحَتْ مصلحةُ الإباحةِ فقدْ أباحَهُ اللهُ بشرطِ:
* المشقةِ لحاجةِ متعةٍ أو خدمةٍ.
* وألَّا يقدرَ على الطَّولِ للحرةِ.
* وأنْ تكونَ الأمةُ مؤمنةً بإذنِ أهلِها.
فعندَ اجتماعِ هذهِ الشروطِ كلِّها يحلُّ للحرِّ نكاحُ الإماءِ.
4 -
* هذا خبرٌ وأمرٌ، أي: الرجالُ قوَّامونَ على النساءِ في أمورِ الدينِ والدنيا، يلزمونهنَّ بحقوقِ اللهِ، والمحافظةِ على فرائضهِ، ويكفونهنَّ عن جميعِ المعاصِي والمفاسدِ، وبتقويمهنَّ بالأخلاقِ الجميلةِ والآدابِ الطيبةِ، وقوَّامونَ أيضًا عليهنَّ بواجباتهنَّ: من النفقةِ، والكسوةِ، والمسكنِ، وتوابعِ ذلكَ.
* {بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} أي: ذلكَ بسببِ فضلِ الرجالِ عليهنَّ وإفضالِهم عليهنَّ، فتفضيلُ الرجالِ على النساءِ من وجوهٍ متعددةٍ:
* من كونِ الولاياتِ كلِّها مختصةً بالرجالِ، والنبوةِ والرسالةِ
(1)
.
* وباختصاصِهم بالجهادِ البدنيِّ.
* ووجوبِ الجماعةِ والجمعةِ، ونحوِ ذلكَ.
* وبما تميزوا بهِ عن النساءِ: من العقلِ، والرزانةِ، والحفظِ، والصبرِ، والجلدِ، والقوةِ التي ليست للنساءِ.
* وكذلكَ يدهُ هيَ العليا عليها بالنفقاتِ المتنوعةِ، بلْ وكثيرٌ من النفقاتِ الأخرِ والمشاريعِ الخيريةِ، فإنَّ الرجالَ يفضلونَ النساءَ بذلكَ كما هوَ مشاهدٌ.
(1)
أي: وكذلك النبوة والرسالة مختصة بالرجال.
ولهذا حُذِفَ المتعلقُ في قولهِ: {وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} ليدلَّ على هذا التعميمِ.
فعُلِمَ من ذلكَ أنَّ الرجلَ كالوالي والسيدِ على امرأتهِ، وهيَ عندَهُ أسيرةٌ عانيةٌ تحتَ أمرهِ وطاعتهِ؛ فليتقِ اللهَ في أمرِها، وليقوِّمْها تقويمًا ينفعهُ في دينهِ ودنياهُ، وفي بيتهِ وعائلتهِ؛ يجِد ثمراتِ ذلكَ عاجلًا وآجلًا، وإلَّا يفعل فلا يلومنَّ إلا نفسَهُ.
* وهنَّ قسمانِ:
* قسمٌ هنَّ أعلى طبقاتِ النساءِ، وخيرُ ما حازَهُ الرجالُ، وهنَّ المذكوراتُ في قولهِ:{فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} [النساء: 34] أي: مطيعاتٌ للهِ ولأزواجهنَّ، قدْ أدَّتِ الحقَّينِ، وفازَتْ بكفلَينِ من الثوابِ، حافظاتٌ أنفسهنَّ من جميعِ الريبِ، وحافظاتٌ لأمانتهنَّ ورعايةِ بيوتهنَّ، وحافظاتٌ للعائلةِ بالتربيةِ الحسنةِ، والأدبِ النافعِ في الدينِ والدنيا.
وعليهنَّ بذلُ الجهدِ والاستعانةُ باللهِ على ذلكَ؛ فلهذا قالَ: {بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} أي: إذا وفقْنَ لهذا الأمرِ الجليلِ فليحمدْنَ اللهَ على ذلكَ، ويعلمْنَ أنَّ هذا من حفظهِ وتوفيقهِ وتيسيرهِ لها؛ فإنَّ مَنْ وُكِّلَ إلى نفسهِ فالنفسُ أمارةٌ بالسوءِ، ومَن شاهَدَ منةَ اللهِ، وتوكَّلَ على اللهِ، وبذلَ مقدورَهُ في الأعمالِ النافعةِ؛ كفاهُ اللهُ ما أهمَّهُ، وأصلحَ لهُ أمورَهُ، ويسَّرَ لهُ الخيرَ، وأجراهُ على عوائدهِ الجميلةِ.
* والقسمُ الثاني: هنَّ الطبقةُ النازلةُ من النساءِ، وهنَّ بضدِّ السابقاتِ في كلِّ خصلةٍ، اللَّاتي من سوءِ أخلاقهنَّ وقبحِ تربيتهنَّ تترفَّعُ على زوجِها، وتعصيهِ في الأمورِ الواجبةِ والمستحبةِ، فأَمَرَ اللهُ بتقويمهنَّ بالأسهلِ فالأسهلِ، فقالَ:{وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ} [النساء: 34] أي: بيِّنُوا لهنَّ حكمَ اللهِ ورسولهِ في وجوبِ طاعةِ الأزواجِ، ورغبوهنَّ في ذلكَ بما يترتبُ عليهِ من الثوابِ، وخوفوهنَّ معصيةَ الأزواجِ،
وذكروهنَّ ما في ذلكَ من العقابِ، وما يترتبُ عليهِ من قطعِ حقوقِها، وإباحةِ هجرِها وضربِها.
فإنْ تقومْنَ بالوعظِ والتذكيرِ فذلكَ المطلوبُ، وحصلَ الاتفاقُ الذي لا يشوبهُ مكدِّرٌ، فإنْ لم يفدِ التذكيرُ فاهجروهنَّ في المضاجعِ، بألَّا ينامَ عندَها، ولا يباشرَها بجماعٍ ولا غيرهِ؛ لعلَّ الهجرَ ينجعُ فيها، وذلكَ بمقدارِ ما يحصلُ بهِ المقصودُ فقطْ، فإنَّ القصدَ بالهجرِ نفعُ المهجورِ وأدبُهُ، ليسَ الغرضُ منهُ شفاءَ النفسِ كما يفعلهُ مَنْ لا رأيَ لهُ إذا خالفتْهُ زوجتُهُ أو غيرُها، ولم يحصِّلْ مقصودَهُ، هَجَرَ هجرًا مستمرًا، أي: بقِيَ متأثرًا بذلكَ، عاتبًا على مَنْ لم يواتِهِ على ما يحبُّ، ووصلَتْ بهِ الحالُ إلى الحقدِ الذي هوَ من الخصالِ الذميمةِ؛ فهذا ليسَ من الهجرِ الجميلِ النافعِ، وإنما هوَ من الحقدِ الضارِّ بصاحبهِ، الذي لا يحصلُ بهِ تقويمٌ ولا مصلحةٌ.
فإنْ نفَعَ الهجرُ للزوجةِ، وإلَّا انتقَلَ إلى ضربِها ضربًا خفيفًا غيرَ مبرحٍ، فإنْ حصلَ المقصودُ، ورجعَتْ إلى الطاعةِ، وتركَتِ المعصيةَ؛ عادَ الزوجُ إلى عشرتِها الجميلةِ، ولا سبيلَ لهُ إلى غيرِ ذلكَ من أذيتِها؛ لأنها رجعَتْ إلى الحقِّ. وهذا الدواءُ لكلِّ عاصٍ ومجرمٍ: أنَّ الشارعَ رغبَهُ إذا ترَكَ إجرامَهُ عادَ حقُّهُ الخاصُّ والعامُّ، كما في حقِّ التائبِ من الظلمِ وقطعِ الطريقِ وغيرِها، فكيفَ الزوجُ معَ زوجتهِ؟!
* وفي هذهِ الآيةِ ونحوِها فائدةٌ نافعةٌ: وهيَ أنهُ ينبغي لمنْ عادَ إلى الحقِّ ألَّا يذكرَ الأمورَ السالفةَ؛ فإنَّ ذلكَ أحرَى للثباتِ على المطلوبِ، فإنَّ تذكيرَ الأمورِ الماضيةِ ربما أثارَ الشرَّ؛ فانتكسَ المرضُ، وعادتِ الحالُ إلى أشدَّ من الأولى.
5 -
* هذهِ حالةٌ أخرى غيرُ الحالةِ السابقةِ التي يمكنُ الزوجُ معالجتَها، وهذهِ إذا استطارَ الشرُّ بينَ الزوجينِ، وبلغَتِ الحالُ إلى الخصامِ وعدمِ الالتئامِ، ولم ينفَعْ في ذلكَ وعظٌ ولا كلامٌ.
* {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} :
* عدلَينِ عاقلَينِ، يعرفانِ الجمعَ والتفريقَ، ويفهمانِ الأمورَ كما ينبغِي؛ فإنَّ الحَكَمَ لابدَّ أنْ يتصفَ بهذهِ الأوصافِ.
* فيبحثانِ في الأسبابِ التي أدَّتْ بهما إلى هذهِ الحالِ، ويسألانِ كلًّا منهما ما ينقمُ على صاحبهِ.
* ويزيلانِ ما يقدرانِ عليهِ من المعتبةِ؛ بترغيبِ الناقمِ على الآخرِ بالإغضاءِ عن الهفواتِ واحتمالِ الزلَّاتِ، وإرشادِ الآخرِ إلى الوعدِ بالرجوعِ، وإرشادِ كلٍّ منهما إلى الرضَا والنزولِ عن بعضِ حقهِ؛ فكم حصَلَ بهذا الطريقِ من المصالحِ شيءٌ كثيرٌ!
* وإنْ أمكنَهما إلزامُ المتعصبِ على الباطلِ منهما بالحقِّ فعلَا.
* ومهما وجدَا طريقًا إلى الإصلاحِ والاتفاقِ والملاءمةِ بينَهما لم يعدِلا عنها: إمَّا بتنازلٍ عن بعضِ الحقوقِ، أو ببذلِ مالٍ، أو غيرِ ذلكَ.
* فإنْ تعذرَتِ الطرقُ كلُّها، ورأيَا أنَّ التفريقَ بينَهما أصلحُ لتعذرِ الملاءمةِ؛ فرَّقَا بينَهما بما تقتضِيهِ الحالُ بعِوضٍ أو بغيرِ عِوضٍ، ولا يشترطُ في هذا رضا الزوجِ؛ لأنَّ اللهَ سمَّاهما حكمَينِ لا وكيلَينِ، ومَن قالَ إنهما وكيلانِ اشترطَ في التفريقِ رضا الزوجِ، ولكنَّ هذا القولَ ضعيفٌ.
* ولمحبة البارِي للاتفاقِ بينَهما وترجيحهِ على الآخرِ قالَ: {إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} أي: بسببِ الرأيِ الميمونِ، والكلامِ اللطيفِ، والوعدِ الجميلِ الذي يجذبُ القلوبَ، ويؤثرُ فيها.
* {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا} بالسرائرِ والظواهرِ مطلعًا على الخفايا، فمن كمالِ علمهِ وحكمتهِ شرَعَ لكم هذهِ الأحكامَ الجليلةَ التي هيَ الطريقُ الوحيدُ إلى القيامِ بالحقوقِ، {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50].
6 -
* هذهِ حالةٌ من أحوالِ الزوجينِ غيرُ الأحوالِ السابقةِ؛ لأنَّ الحالتينِ السابقتينِ: حالةُ نشوزِ الزوجةِ، وحالةُ وقوعِ الخصامِ واستطارةِ الشرِّ بينَهما؛ وهذهِ إذا كان الزوجُ هوَ الراغبُ عن زوجتهِ، إما عدمَ محبةٍ وإما طمعًا، فأرشدَ اللهُ في هذهِ الحالِ إلى الطريقِ الذي تستقيمُ بهِ الأمورُ، وهوَ طريقُ الصلحِ من المرأةِ أو وليِّها ليعودَ الزوجُ إلى الاستقامةِ، بأنْ تسمحَ المرأةُ عن بعضِ حقِّها اللازمِ لزوجِها على شرطِ البقاءِ معهُ، وأنْ يعودَ إلى مقاصدِ النكاحِ أو بعضِها، كأن ترضَى ببعضِ النفقةِ أو الكسوةِ أو المسكنِ، أو تُسقطُ حقَّها من القسمِ، أو تهبُ يومَها وليلتَها لزوجِها أو لضرتِها بإذنهِ.
فمتى اتفقَا على شيءٍ من ذلكَ فلا حرجَ ولا بأسَ، وهوَ أحسنُ من [المقاضاةِ]
(1)
في الحقوقِ المؤديةِ إلى الجفاءِ أو إلى الفراقِ؛ ولهذا قالَ: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} ، وهذا أصلٌ عظيمٌ في جميعِ الأشياءِ، وخصوصًا في الحقوقِ المتنازعِ فيها، أنَّ المصالحةَ فيها خيرٌ من استقصاءِ كلٍّ منهما على حقهِ كلِّهِ؛ لما في الصلحِ من بقاءِ الألفةِ، والاتصافِ بصفةِ السماحِ، وهوَ جائزٌ بينَ المسلمينَ في كلِّ الأبوابِ، إلَّا صلحًا أحلَّ حرامًا أو حرَّمَ حلالًا.
* واعلَمْ أنَّ كلَّ حكمٍ من الأحكامِ لا يتمُّ ولا يكملُ إلا بوجودِ مقتضيهِ وانتفاءِ موانعهِ، فمِن ذلكَ هذا الحكمُ الكبيرُ الذي هوَ الصلحُ:
(1)
في (خ) و (ط): المقاصاة. ولعل المثبت هو الصواب.
* فذَكَر تعالى المقتضِي لذلك، فقال:{وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} ، والخيرُ كلُّ عاقلٍ يطلبهُ ويرغبُ فيه، فإنْ كان معَ ذلكَ قدْ أمرَ اللهُ بهِ وحثَّ عليهِ ازدادَ المؤمنُ طلبًا لهُ ورغبةً فيه.
* وذكَرَ المانعَ بقولهِ: {وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ} أي: جبلَتِ النفوسُ على الشحِّ، وهوَ: الاستئثارُ والتفردُ في الحقوقِ، وعدمُ الرغبةِ في بذلِ ما على الإنسانِ، والحرصُ على الحقِّ الذي لهُ. فالنفوسُ مجبولةٌ على ذلكَ طبعًا، أي: فينبغِي لكم أنْ تحرصُوا على قلعِ هذا الخلقِ الدنيءِ من نفوسِكم، وتقليلهِ وتلطيفهِ، وتستبدلُوا بهِ ضدَّهُ، وهوَ السماحةُ ببذلِ جميعِ الحقوقِ التي عليكَ، والاقتناعُ ببعضِ الحقِّ الذي لكَ، والإغضاءُ عن التقصيرِ.
فمتى وُفِقَ العبدُ لهذا الخلقِ الطيبِ سَهُلَ عليهِ الصلحُ بينَهُ وبينَ كلِّ مَنْ بينَهُ وبينَهُ منازعةٌ ومعاملةٌ، وتسهلَتِ الطريقُ الموصلةُ إلى المطلوبِ، ومَن لم يكنْ بهذا الوصفِ تعسَّرَ الصلحُ أو تعذرَ؛ لأنهُ لا يرضيهِ إلا جميعُ ما لهُ كاملًا مكملًا، ولا يهونُ عليهِ أنْ يؤديَ ما عليهِ، فإنْ كان خصمُهُ مثلَهُ اشتدَ الأمرُ.
* ثم قال: {وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا} أي: تحسنُوا في عبادةِ الخالقِ، والإحسانُ أنْ تعبدَ اللهَ كأنكَ تراهُ، فإنْ لم تكنْ تراهُ فإنهُ يراك؛ وتحسنوا إلى المخلوقينَ بكلِّ إحسانٍ قوليٍّ أو فعليٍّ، وتتقوا اللهَ بفعلِ جميعِ المأموراتِ، وتركِ جميعِ المحظوراتِ، أو تحسنُوا بفعلِ المأمورِ، وتتقوا بتركِ المحظورِ.
* {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} فيجازِيكم على قيامِكم بالإحسانِ والتقوَى، أو على عدمِ ذلكَ بالجزاءِ بالفضلِ والعدلِ.
7 -
* يخبرُ تعالى أنهُ ليسَ في قدرةِ الأزواجِ العدلُ التامُّ بينَ زوجاتِهم؛ فإنَّ العدلَ التامَّ يقتضي أنْ يكونَ الداعِي والحبُّ على السواءِ، والميلُ القلبيُّ على السواءِ، ويقتضي معَ ذلكَ الإيمانَ الصادقَ، والرغبةَ في مكارمِ الأخلاقِ؛ للعملِ بمقتضى ذلكَ، وهذا متعذرٌ غيرُ ممكنٍ؛ فلذلكَ عذرَ اللهُ الأزواجَ وعفا عنهم عما لا يقدرونَ عليهِ، ولكنهُ أمرَهُم بالعدلِ الممكنِ فقالَ:{فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} أي: لا تميلُوا إلى إحداهنَّ عن الأخرى ميلًا كثيرًا، بحيثُ لا تؤدونَ حقوقهنَّ الواجبةَ، بل افعلُوا مستطاعَكم من العدلِ، فالنفقةُ والكسوةُ والقسمُ في المبيتِ والفراشِ ونحوُ ذلكَ مقدورٌ، فعليكم العدل فيها بينهنَّ، بخلافِ الحبِّ والوطءِ وتوابعِ ذلكَ؛ فالعبدُ لا يملكُ نفسَهُ؛ فعذرَهُ اللهُ.
* وقولهُ: {فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} يعني: أنَّ الزوجَ إذا مالَ عن زوجتهِ وزهدَ فيها ولم يقُمْ بحقوقِها الواجبةِ، وهيَ في حبالهِ أسيرةٌ عندَهُ؛ صارَتْ كالمعلقةِ التي لا زوجَ لها فتستريحُ، ولا ذاتَ زوجٍ يقومُ بحقوقِها.
* {وَإِنْ تُصْلِحُوا} : فيما بينَكم وبينَ زوجاتِكم بوجهٍ من وجوهِ الصلحِ كما تقدَّمَ، وبمجاهدةِ أنفسِكم على فعلِ ما لا تهواهُ النفسُ؛ احتسابًا وقيامًا بحقِّ الزوجةِ، وتصلحُوا أيضًا فيما بينَكم وبينَ الناسِ فيما تنازعتُم بهِ من الحقوقِ، وتتقُوا اللهَ بامتثالِ أمرهِ واجتنابِ نهيهِ؛ {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 129].
* {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا} [النساء: 130] يعني: إذا تعذَّرَ الاتفاقُ والالتئامُ فلا بأسَ بالفراقِ، فقالَ:{وَإِنْ يَتَفَرَّقَا} أي: بفسخٍ أو
طلاقٍ أو خلعٍ أو غيرِ ذلكَ، {يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا} من الزوجَينِ، {مِنْ سَعَتِهِ} أي: من فضلهِ وإحسانهِ العامِّ الشاملِ:
* فيُغنِي الزوجَ بزوجةٍ خيرٍ لهُ منها.
* ويُغنِيها من فضلهِ برزقٍ من غيرِ طريقهِ، فإنها وإنْ توهمَتْ أنهُ إذا فارقَها زوجُها المنفِقُ عليها القائمُ بمؤنتِها ينقطعُ عنها الرزقُ، فسوفَ يغنيها اللهُ من فضلهِ؛ فإنَّ رزقَها ليسَ على الزوجِ ولا على غيرهِ، بلْ على المتكفلِ القائمِ بأرزاقِ الخليقةِ كلِّها، وخصوصًا مَنْ تعلَّقَ قلبهُ بهِ ورجاهُ رجاءً قلبيًّا طامعًا في فضلهِ كلَّ وقتٍ؛ فإن اللهَ عندَ ظنِّ عبدهِ بهِ، ولعلَّ اللهَ يرزقُها زوجًا خيرًا لها منهُ وأنفعَ.
* {وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا} أي: واسعَ الرحمةِ كثيرَ الإحسانِ، {حَكِيمًا} في وضعهِ الأمورَ مواضعَها.
* وفي الآيةِ: تنبيهٌ على أنهُ ينبغِي للعبدِ أنْ يعلِّقَ رجاءَهُ باللهِ وحدَهُ، وأنَّ اللهَ إذا قدَّرَ لهُ سببًا من أسبابِ الرزقِ والراحةِ أنْ يحمدَهُ على ذلكَ، ويسألَهُ أنْ يباركَ فيه لهُ، فإنْ انقطعَ أو تعذَّرَ ذلكَ السببُ فلا يتشوشُ قلبُهُ، فإنَّ هذا السببَ من جملةِ أسبابٍ
لا تُحصَى، لا يتوقفُ رزقُ العبدِ على ذلكَ السببِ المعينِ، بلْ يفتحُ لهُ سببًا غيرَهُ أحسنَ منهُ وأنفعَ، وربما فتَحَ لهُ عدةَ أسبابٍ، فعليه في أحوالهِ كلِّها أنْ يجعلَ فضلَ ربهِ، والطمعَ في برهِ نصبَ عينيهِ وقبلةَ قلبهِ، ويُكثرَ من الدعاءِ المقرونِ بالرجاءِ؛ فإن اللهَ يقولُ على لسانِ نبيهِ:«أنا عندَ ظنِّ عبدِي بي، فإنْ ظنَّ بي خيرًا فلهُ، وإنْ ظنَّ بي شرًّا فلهُ»
(1)
، وقالَ:«إنَّكَ ما دعوتَنِي ورجوتَنِي غفرتُ لكَ على ما كان منكَ ولا أبالي»
(2)
.
(1)
مسند أحمد (15/ 36 رقم 9076). وأصله عند البخاري (7405)، ومسلم (2675).
(2)
الترمذي (3540).
فصل
1 -
قالَ اللهُ تعالى في أحكامِ الطلاقِ والعِدَدِ: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] إلى قولهِ: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 231]، وقالَ:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] الآيات.
* ذكَرَ اللهُ أحكامَ الفراقِ كما ذكرَ أحكامَ النكاحِ والدخولِ فيه: تقدَّمُ أنهُ تعالى حثَّ الزوجَ على الصبرِ على زوجتهِ ما دامَ متمكنًا من الصبرِ، وفي هذا ذكَرَ اللهُ أنهُ إذا كان لابدَّ لهُ من الطلاقِ فعليهِ أنْ يطلقَ زوجتَهُ لعدتِها، أي: لتستقبِلَ عدَّتَها، وذلكَ أنْ يطلقَها مرةً واحدةً في طهرٍ لم يجامِعْها فيه، أو يطلقَها وهيَ حاملٌ قدْ تبيَّنَ حملُها، أو وهيَ آيسةٌ أو صغيرةٌ؛ لأنها في هذهِ الأحوالِ كلِّها تبتدئُ بالعدةِ البينةِ الواضحةِ.
فمَن طلَّقَها أكثرَ من واحدةٍ، أو وهيَ حائضٌ أو نفساءُ، أو في طهرٍ قدْ وَطِئَ فيه، ولم يتبيَّنْ حملُها؛ فإنهُ آثمٌ متعدٍّ لحدودِ اللهِ.
* وإذا طلَّقَها هذا الطلاقَ المشروعَ فلهُ أنْ يراجعَها ما دامَتْ في العدةِ، كما قالَ تعالى:{وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا} [البقرة: 228]، وسواءٌ رضيَتْ أو كرهَتْ.
* وهذا الطلاقُ الذي يتمكنُ فيه العبدُ من الرجعةِ هوَ الطلاقُ بواحدةٍ إلى ثنتينِ بلا عِوضٍ.
فإنْ طلَّقَها الطلقةَ الثالثةَ فلا تحلُّ لهُ حتى تنقضيَ عدتُها، وتنكحَ زوجًا غيرَهُ نكاحَ رغبةٍ، لا نكاحَ تحليلٍ، ويطأَها ويطلقَها رغبةً في طلاقِها، وتنقضيَ عدتُها منهُ؛ فلهُ أنْ ينكحَها برضاها، وببقيةِ شروطِ النكاحِ مِنْ الوليِّ ومن الصداقِ وغيرهِ.
فإنْ طلقَها بعِوضٍ بلفظِ الطلاقِ أو الخلعِ أو الفداءِ، أو غيرِها من الألفاظِ، فقدْ أباحَ اللهُ هذا الفداءَ عندَ الحاجةِ، وهيَ التي نصَّ عليها بقولهِ:{فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229]، وسواءٌ كان العِوضُ بقليلٍ أو كثيرٍ؛ لعمومِ الآيةِ، فإذا فارقَها على هذا الوجهِ حصلَ لها الفكاكُ منهُ، ولم يكنْ لهُ عليها رجعةٌ، إلا إذا شاءَتْ بنكاحٍ جديدٍ.
* وعندَ التراجعِ بينَ الزوجينِ إذا رغبَ كلٌّ منهما في الآخرِ، فليسَ لوليِّ الأنثَى أنَّ يعضلَها ويمنعَها أنْ تراجِعَ بعلَها الأولَ أو الذي فارقَها؛ بغضًا لهُ أو نكايةً لهُ وغضبًا عليهِ، أو طمعًا في بذلِها أو بذلهِ لهُ شيئًا من المالِ؛ فكلُّ هذا لا يحلُّ للوليِّ أنْ يفعلَهُ، بلْ عليهِ أنْ يسعَى في التأليفِ بينَها وبينَ زوجِها، وأقلُّ ما عليهِ ألَّا يعارضَ في ذلكَ، وإذا كان منهيًا عن ذلكَ بعدَ الطلاقِ أو الفداءِ ونحوِهما فكيفَ في ابتداءِ الأمرِ؟! ولكنْ بشرطِ أنْ يكونَ الزوجُ كفئًا وترضَى المرأةُ فيه.
وأمَّا إذا منعَها مِنْ تزوجِ مَنْ ليسَ كفئًا لها في دينهِ أو غيرهِ من الصفاتِ المعتبرةِ شرعًا؛ فهوَ محسنٌ؛ لأنَّ منعَها عما فيه ضررُها إحسانٌ عليها، وهذا أحدُ الأسبابِ في اعتبارِ الوليِّ للمرأةِ في النكاحِ.
* وفي قولهِ في الرجعةِ: {إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا} [النساء: 35]، وفي التراجعِ:{إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة: 230] اعتبارُ هذا الشرطِ في الرجعةِ والتراجعِ، وإلَّا فلا يراجِعْ، ولا يتراجعَا؛ للضرارِ وللبقاءِ على غيرِ ما يحبهُ اللهُ.
وفي هذا: أنَّ الأفعالَ مبنيةٌ على مقاصدِها، وأنَّ الأمرَ الذي يُقصدُ فيه الخيرُ والصلاحُ لابدَّ أنْ يجعلَ اللهُ فيه بركةً، كما أنَّ الذي يُقصدُ بهِ غيرُ ذلكَ -ولوْ مُكِّنَ منهُ العبدُ- فإنهُ ضررٌ حاضرٌ، ويُخشى أنْ تكونَ عواقبهُ ذميمةً.
ويُستفادُ من هذا معنًى كليٌّ نافعٌ: وهوَ أنهُ ينبغِي للعبدِ إذا أرادَ أنْ يدخلَ في أمرٍ من الأمورِ، مثلَ الأمورِ التي يترتبُ عليها حقوقٌ كثيرةٌ، ومثلَ الولاياتِ الكبارِ والصغارِ والأمورِ المهمةِ - أنْ يتأنَّى وينظرَ في نفسهِ وعاقبةِ أمرهِ، فإنْ رأى من نفسهِ قوةً على ذلكَ، ووثقَ بقيامهِ بما فيها من الحقوقِ؛ تقدَّمَ إليها، متوكلًا على اللهِ، وإلَّا أحجمَ، واغتنمَ السلامةَ عن الدخولِ في الأمورِ الخطرةِ.
* وأمَرَ تعالى الأزواجَ أنْ يمسكُوا زوجاتِهم بمعروفٍ أو يسرحوهنَّ بمعروفٍ، فإن أمسكَها أمسكَها بعشرةٍ حسنةٍ، وإنْ فارقَها فليكنْ على وجهِ الشرعِ بطمأنينةٍ من غيرِ مغاضبةٍ ولا مشاتمةٍ ولا عداواتٍ تقعُ بينَهُ وبينَها، أو بينَهُ وبينَ أهلِها.
ومِن التسريحِ بالمعروفِ: أنْ يعطيَها شيئًا من المالِ تتمتعُ بهِ، وينجبرُ بهِ خاطرُها، وتذهبُ عن زوجِها شاكرةً، ولا يكونُ لهذا الفراقِ على هذا الوجهِ إلَّا العواقبُ الطيبةُ للطرفَينِ.
* ولما بيَّنَ البارِي هذهِ الأحكامَ الجليلةَ غايةَ التبيينِ، وكان القصدُ بها أنْ يَعْلَمَها العبادُ ويَعملُوا بها، ويقفُوا عندَها ولا يتجاوزُوها؛ فإنهُ لم ينزِلْها عبثًا، بلْ أنزلَها بالعلمِ والصدقِ والحقِّ النافعِ والجدِّ - نَهَى عن اتخاذِها {هُزُوًا} [البقرة: 231] أي: لعبًا بها، وهوَ التَّجَرِّي عليها، وعدمُ الامتثالِ لواجبِها، مثلَ المضارةِ في الإمساكِ والإرسالِ، أو كثرةِ الطلاقِ وجمعِ الثلاثِ.
* وقال: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} [البقرة: 231] عمومًا باللسانِ حمدًا وثناءً، وبالقلبِ اعترافًا وإقرارًا، وبالأركانِ بأنْ يُستعانَ بنعمهِ على طاعتهِ، وخصوصًا ما أنزَلَ عليكم من الكتابِ والحكمةِ، فإنَّ في الكتابِ والسنةِ من بيانِ الحقِّ والهدَى من الضلالِ، والحلالِ من الحرامِ، وجميعِ ما يحتاجهُ العبادُ في أمورِ دينِهم ودنياهم - ما يوجِبُ للعبادِ أنْ يشكروهُ شكرًا كثيرًا، ويقوموا بحقِّهِ، ويخضعُوا لأحكامهِ.
* وخَتْمُ الآياتِ بعمومِ عِلْمهِ تنبيهٌ على أنَّ أحكامَهُ قدْ شرعَها العليمُ الحكيمُ صالحةً للعبادِ في كلِّ زمانٍ ومكانٍ.
* وقدْ ذكَرَ عِدَّةَ المفارقةِ بحسبِ أحوالِها في كتابهِ:
* فذكَرَ أنَّ المفارِقةَ بطلاقٍ إنْ كانتْ تحيضُ: باستكمالِ ثلاثةِ قرُوءٍ
(1)
مِنْ بعدِ وقوعِ الطلاقِ عليها.
* وأنَّ الآيسةَ والتي لم تحِضْ لصغرٍ ونحوهِ: عدَّتُها ثلاثةُ أشهرٍ.
* وأنَّ المفارِقةَ بموتِ زوجِها: تربُّصُ {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234].
* وأنَّ الحاملَ من المفارِقاتِ في الحياةِ وبعدَ المماتِ: عدُّتها بوضعِ الحملِ.
وفي هذهِ العِدَدِ وتقديرِها من الأسرارِ والحكمِ والمنافعِ للزوجينِ وغيرِهما ما هوَ من آياتِ اللهِ للمتأملينَ المستبصرينَ.
(1)
أي: فعدتها باستكمال ثلاثة قروء.
2 -
وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} [الأحزاب: 49].
* ففي هذهِ الآيةِ: أنَّ المفارِقةَ في الحياةِ بطلاقٍ ونحوهِ ليسَ لزوجِها عليها عِدَّةٌ إذا لم يدخُلْ أو يَخْلُ بها، بلْ بمجردِ ما يطلقُها لها التزوجُ في الحالِ.
وفي هذا: أنَّ العدةَ تثبتُ بالدخولِ، وكذلكَ الخلوةُ، كما ثبتَ عن الخلفاءِ الراشدينَ رضي الله عنهم.
ومفهومُ الآيةِ: أنَّ الفراقَ بالموتِ تعتدُّ لهُ الزوجةُ المعقودُ عليها ولوْ قبلَ الدخولِ، وكما يؤخذُ من مفهومِ هذهِ فإنهُ يؤخذُ من عمومِ قولهِ:{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ} [البقرة: 234] الآية.
* وفيها: أنَّ العدةَ من حقوقِ الزوجِ؛ لتمكنهِ من الرجعةِ، ولحفظِ فراشهِ ومائهِ من الاختلاطِ، وحقٌّ لها أيضا؛ فإنَّ المعتدةَ نوعانِ:
* نوعٌ حاملٌ، لها النفقةُ بكلِّ حالٍ، قالَ تعالى:{وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6].
* ونوعٌ غيرُ حاملٍ، وهيَ أيضًا نوعانِ:
• مفارِقةٌ بائنةٌ؛ بموتٍ أو فسخٍ أو خلعٍ أو ثلاثٍ أو عِوضٍ، فهؤلاءِ كلهنَّ لا نفقةَ لهنَّ ولا كسوةَ ولا مسكنَ، إلا على وجهِ المعروفِ والإحسانِ.
• ومفارِقةٌ رجعيةٌ، فما دامتْ في العدةِ فلها النفقةُ والكسوةُ والمسكنُ وتوابعُها على الزوجِ، وحكمُها حكمُ الزوجةِ التي في حبالهِ في كلِّ حالٍ، إلا في القسمِ فلا قسمَ لهُ؛ لأنَّ اللهَ سماهُ بعلًا لها في قولهِ:{وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة: 228]، ولأنَّ لهُ أنْ يرجعَها إلى الزوجيةِ التامةِ رضيَتْ أو كرهَتُ ما دامَتْ في العدةِ.
* وفي قولهِ: {وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} [البقرة: 228] دليلٌ على أمانتِها على نفسِها، وقبولِ قولِها في وجودِ الحيضِ وانقطاعهِ؛ لأنهُ توعدَها بكتمانِ ذلكَ، وهذا دليلٌ على أنَّ قولَها معتبرٌ.
* وفي قولهِ: {إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} [الأحزاب: 49] دليلٌ على أنهُ لا يقعُ الطلاقُ إلَّا بعدَ النكاحِ، وأنَّ مَنْ علَّقَ طلاقًا بنكاحِ امرأةٍ لم ينعقِدْ هذا التعليقُ، ولم يقَعْ عليها شيءٌ إذا نكحَها؛ لأنَّ النكاحَ لا يُرادُ بهِ خلافُ مقصودهِ، وهذا بخلافِ تعليقِ عتقِ المملوكِ للغيرِ بملكهِ إياهُ، فإنهُ صحيحٌ ويُعتَقُ إذا ملكَهُ؛ لأنَّ تملكَ الرقيقِ يُقصَدُ بهِ العتقُ، وهوَ مقصودٌ شرعيٌ صحيحٌ.
* وقولهُ: {فَمَتِّعُوهُنَّ} [الأحزاب: 49] فيه الأمرُ بتمتيعِ المفارقةِ بالطلاقِ قبلَ المسيسِ مطلقًا، وفي آيةِ (البقرةِ) الأمرُ بالتمتيعِ إذا لم يسمِّ لها مهرًا، فإن سمَّى لها مهرًا فإنهُ يتنصفُ إذا طلقَها قبلَ الدخولِ، ويكون نصفُ الصداقِ هوَ المتعةُ كما قالَ تعالى:{لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236) وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة: 236 - 237].
فحثَّ على العفوِ في هذا الموضعِ الخاصِّ؛ لنفعهِ وعظمِ موقعهِ، وقال:{وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة: 237]، وهذا إرشادٌ عظيمٌ نافعٌ في جميعِ المعاملاتِ: أنهُ ينبغِي للعبدِ فيها ألَّا يستقصيَ في كلِّ شيءٍ، بلْ يجعلُ للفضلِ محلًّا من عفوٍ ومحاباةٍ وإعطاءٍ أزيدَ مما في الذمةِ قدرًا أو وصفًا، وقبولِ أدنى من الحقِّ كميةً وكيفيةً، فكم حصلَ بهذا الفضلِ -وإنْ كان طفيفًا- خيرٌ كثيرٌ، وأجرٌ كبيرٌ، ومعروفٌ، وبركةٌ، وراحةُ فكرٍ، وطمأنينةُ قلبٍ!
* وفي قولهِ: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 241] وهذا العمومُ يقتضِي أنَّ كلَّ مطلقةٍ لها على زوجِها متعةٌ، لكنْ إنْ كانتْ غيرَ مدخولٍ بها ولم يُسَمَّ لها مهرٌ، فالمتعةُ واجبةٌ -كما تقدَّمَ- بحسبِ يسارِ الزوجِ وإعسارهِ، وإنْ كان قدْ سُمِّيَ لها مهرٌ تنصفَ المهرُ، وكان النصفُ الحاصلُ لها هوَ المتعةُ، فإنْ لم يكنْ الأمرُ كذلكَ كانتِ المتعةُ حقًّا معروفًا وإحساناً جميلًا:
* لما فيها مِنْ جبرِ خاطرِها، وقضاءِ نوائبِها التي هيَ مظنةُ الحاجةِ إليها في تلكَ الحالِ.
* وكونِ ذلكَ عنوانًا على التسريحِ بالمعروفِ.
* ودفعًا للمشاغباتِ والعداواتِ التي تحدثُ لكثيرٍ من الناسِ عندَ الطلاقِ.
* واحتياطًا لبراءةِ ذمتهِ مما لعلَّهُ لحقَهُ لها من الحقوقِ.
* وتسهيلًا للرجعةِ أو للمراجعةِ إذا تغيرتِ الحالُ وأحدثَ اللهُ بعدَ ذلكَ أمرًا.
ولها من الفوائدِ شيءٌ كثيرٌ.
* ومدَحَ اللهُ هذهِ الأحكامَ الجليلةَ بقولهِ: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [البقرة: 242]، فسمَّى هذهِ الأحكامَ آياتٍ؛ لأنها تدلُّ أكبرَ دلالةٍ على عنايتهِ ولطفهِ بعبادهِ، وأنهُ شرَعَ لهم من الأحكامِ الأحكامَ الصالحةَ لكلِّ زمانٍ ومكانٍ، ولا يُصلِحُ العبادَ غيرُها.
فصل في آيات في الإيلاء والظهار واللعان
1 -
قالَ تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)} [البقرة: 226 - 227]، وقالَ:{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة: 1] الآيات، وقالَ في اللعانِ:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6] الآيات.
* من جملةِ الأحكامِ المنتشرةِ المتعلقةِ بالزوجةِ: أنهُ قدْ يُؤلِي منها أو يظاهِرُ منها. والفرقُ بينَ الإيلاءِ والظهارِ:
* أنَّ الإيلاءَ هوَ الحلفُ باللهِ على تركِ وطءِ زوجتهِ أبدًا، أو مدةً طويلةً تزيدُ على أربعةِ أشهرٍ، إذا كان قادرًا على الوطءِ.
فإذا فعلَ ذلكَ وحلفَ هذا الحلفَ فلا يخلُو: إما أنْ تطالبَهُ الزوجةُ بحقِّها من الوطءِ أو لا تطالبهُ:
• فإنْ لم تطالبْهُ تُرِكَ وشأنَهُ، فإنْ وَطِئَ في هذهِ المدةِ فقدْ حنثَ، وعليهِ كفارةُ يمينٍ، وإلا فلا كفارةَ عليهِ.
• وإنْ طالبَتْهُ بالوطءِ أُمِرَ بذلكَ وجُعِلَ لهُ أربعةُ أشهرٍ، فإنْ فاءَ ورجعَ إلى الوطءِ فذلكَ هوَ المطلوبُ منهُ، وهوَ أحبُّ الأمرينِ إلى اللهِ، وإنْ أبَى وامتنعَ، ومضَتِ الأربعةُ الأشهر وهوَ مصرٌّ على عدمِ وطئِها، وهيَ مقيمةٌ على طلبِ حقِّها؛ أُجبِرَ على أحدِ أمرينِ:
- إما أنْ يفيءَ ويكفِّرَ كفارةَ يمينٍ.
- وإما أنْ يطلقَ.
فإنِ امتنعَ من كلٍّ منهما طلَّقَ الحاكمُ عليهِ.
* وأمَّا الظِّهارُ: فأنْ يحرِّمَ زوجتَهُ ويقولَ لها: أنتَ عليَّ كظهرِ أمِّي، أو نحوه من ألفاظِ التحريمِ الصريحةِ؛ فهذا قدْ أتَى منكرًا من القولِ وزورًا، وكذَبَ أعظمَ كذبٍ؛ إذْ شبَّهَ مَنْ هيَ حلالٌ بمَن هيَ أعظمُ المحرماتِ وهيَ الأمُّ؛ ولهذا قالَ:{الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} [المجادلة: 2].
ثم عرَضَ التوبةَ فقال: {وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} [المجادلة: 2]، ثم ذكَرَ طريقَها بالكفارةِ، فأمَرَ المُظاهِرَ أنْ يعتقَ رقبةً مِنْ قبلِ أنْ يمسَّها، فإنْ لم يجدْ صامَ شهرَينِ متتابعَينِ من قبلِ المسيسِ أيضًا، فإنْ لم يستطِعْ أطعمَ ستينَ مسكينًا، فبعدَ هذهِ الكفارةِ تحلُّ لهُ الزوجةُ وتنحلُّ يمينهُ.
* وأمَّا اللعانُ: فإنَّ الزوجَ إذا رمَى زوجتَهُ بالزِّنى، ولم يكنْ لهُ على ذلكَ أربعةُ شهودٍ، ولم تعترِفْ بلْ أقامَتْ على الإنكارِ؛ فعليه ما على مَنْ قذَفَ المحصناتِ مِنْ جلد ثمانينَ جلدةً، إلا أنْ يلاعنَها، وذلكَ بأنْ يشهدَ أربعَ مراتٍ إنهُ لمن الصادقينَ فيما رماها بهِ من الزِّنى، ويقولَ في الخامسةِ داعيًا على نفسهِ: وأنَّ لعنةَ اللهِ عليهِ إنْ كان من الكاذبينَ؛ فحينئذٍ يترتبُ عليها الحدُّ أو الحبسُ حتى تقرَّ، إلا أنْ تقابلَهُ بلعانٍ يدرأُ عنها العذابَ، بأنْ تقولَ أربعًا: أشهدُ باللهِ إنهُ لمن الكاذبينَ فيما رماني بهِ من الزِّنى، وتزيدَ في الخامسةِ: وأنَّ غضبَ اللهِ عليها إنْ كان مِنْ الصادقينَ؛ فعندَ ذلكَ يحصلُ الفراقُ الأبديُّ بينَهُ وبينَها.
والحكمةُ في تخصيصِ الزوجِ بسقوطِ حدِّ القذفِ عنهُ إذا لاعَنَ: أنَّ الزوجَ محتاجٌ -وربما كان مضطرًّا- إلى رميِها؛ لنفيِ ما يلحقهُ من أولادِ غيرهِ، ولحقِّهِ، وإفسادِ فراشهِ. وأمَّا القاذفُ إذا كان غيرَ زوجٍ، إذا قذفَ غيرَهُ بالزِّنى فإنَّ اللهَ قالَ في حدِّهِ:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} الآية [النور: 4 - 5].
فصل في آيات الحدود
1 -
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ} [البقرة: 178] إلى آخرِها.
* يمتنَّ اللهُ على عبادهِ بأنهُ فرَضَ عليهم {الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178]، أي: المساواةُ فيه، وأنْ يُقتلَ القاتلُ عمدًا على الصفةِ التي قتلَ عليها المقتول؛ إقامةً للعدلِ بينَ العبادِ.
* وتوجيهُ الخطابِ لعمومِ المؤمنينَ فيه دليلٌ على أنهُ يجبُ عليهم كلِّهم -حتى أولياءِ القاتلِ، حتى القاتلِ بنفسهِ- إعانةُ وليِّ المقتولِ إذا طلبَ القصاصَ، وتمكينهُ من القاتلِ، وأنهُ لا يحلُّ لهم أنْ يحولُوا بينَهُ وبينَ القاتلِ إذا تمَّتِ الشروطُ، كما يفعلهُ أهلُ الجاهليةِ ومَن أشبهَهُم من إيواءِ المحدِثينَ.
* ثم فصَّلَ ذلك بقولهِ: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ} [البقرة: 178]، يدخلُ في منطوقِها وفي منطوقِ قولهِ:{أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45]: أنَّ الذَّكرَ يُقتلُ بالأنثى، كما تُقتلُ الأنثى بالذكرِ، فيكونُ هذا المنطوقُ مقدمًّا على مفهومِ قولهِ:{الْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} [البقرة: 178]، معَ دلالةِ صريحِ السنةِ الصحيحةِ في قتلِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم اليهوديَّ بالجاريةِ.
* وخرَجَ من هذا العمومِ: الأبوانِ وإنْ علَوا، فلا يُقتلانِ بالولدِ؛ لورودِ السنةِ بذلكَ، معَ أنَّ في لفظِ القصاصِ ما يدلُّ على أنهُ ليسَ من العدلِ أنْ يُقتلَ الوالدُ بولدهِ، ولأنَّ ما في قلبِ الوالدينِ من الرحمةِ المانعةِ من صدورِ هذهِ الجريمةِ منهما على ولدِهما؛
ما يحدِثُ الشبهةَ: إمَّا أنهُ لابدَّ أنَّ في عقلِهما اختلالًا أو أذيةً شديدةً أحرجَتْهُ إلى قتلِ ولدهِ، أو لم يُحرَّرْ أنَّ القتلَ عمدُ محضٍ.
وخرَجَ من هذا العمومِ: أنَّ المسلمَ لا يُقتلُ بالكافرِ؛ لثبوتِ السنةِ بذلكَ، معَ أنَّ الآيةَ في خطابِ المؤمنينَ خاصةً، وليسَ أيضًا من العدلِ أنْ يُقتلَ وليُّ اللهِ بعدوهِ.
* {وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} ذكرًا كان أو أنثى، تساوَتْ قيمتُهما أو اختلفَتْ، ودلَّ مفهومُها على أنَّ الحرَّ لا يُقتلُ بالعبدِ؛ لكونهِ غيرَ مساوٍ لهُ.
* وفي هذهِ الآيةِ: دليل على أنَّ الأصلَ وجوبُ القوَدِ في العمدِ العدوانِ، وأنَّ الدِّيةَ بدلٌ عنهُ؛ فلهذا قالَ:{فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} أي: عفا وليُّ المقتولِ عن القاتلِ إلى الدِّيةِ، أو عفا بعضُ الأولياءِ؛ فإنهُ يسقطُ القصاصُ وتجبُ الدِّيةُ.
* وتكونُ الخِيرَةُ في القوَدِ واختيارِ الدِّيةِ إلى الوليِّ، فإذا عفا عنهُ وجبَ على وليِّ المقتولِ أنْ يتبعَ القاتلَ بالمعروفِ من غيرِ أنْ يشقَّ عليهِ، ولا يحملَهُ ما لا يطيقُ، بلْ يحسنُ الاقتضاءَ والطلبَ ولا يحرجهُ.
وعلى القاتلِ أداءٌ إليهِ بإحسانٍ، من غيرِ مطلٍ ولا نقصٍ، ولا إساءةٍ فعليةٍ أو قوليةٍ، فهلْ جزاءُ الإحسانِ إليهِ بالعفوِ إلا الإحسانُ بحسنِ القضاءِ؟!
وهذا مأمورٌ بهِ في كلِّ ما ثبتَ في ذممِ الناسِ للإنسانِ:
* مأمورٌ مَنْ لهُ الحقُّ بالاتباعِ بالمعروفِ.
* ومَن عليهِ الحقُّ بالأداءِ بإحسانٍ.
كما قالَ صلى الله عليه وسلم: «رحمَ اللهُ عبدًا سمحًا إذا قضى، سمحًا إذا اقتضى»
(1)
.
* وفي قولهِ: {عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ} : ترقيقٌ وحثٌّ على العفوِ إلى الدِّيةِ؛ وأكملُ مِنْ ذلكَ العفوُ مجانًا.
* وفي قولهِ: {أَخِيهِ} : دليلٌ على أنَّ القاتلَ عمدًا لا يَكفرُ؛ لأنَّ المرادَ بالأخوةِ هنا أخوةُ الإسلامِ، فلم يخرُجْ بالقتلِ عنها؛ ومن بابِ أولى سائرُ المعاصِي التي هيَ دونَ القتلِ، فإنَّ صاحبَها لا يَكفرُ، ولكنهُ يستحقُّ العقابَ، وينقصُ بذلكَ إيمانهُ إنْ لم يتُبْ.
* وإذا عفا أولياءُ المقتولِ أو بعضُهم احتقنَ دمُ القاتلِ، وصارَ معصومًا منهم ومِن غيرِهم؛ فلهذا قالَ:{فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ} أي: بعدَ العفوِ، {فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي: في الآخرةِ.
وأما قتلهُ وعدمهُ فيُؤخذُ مما تقدَّمَ؛ لأنهُ قَتَلَ مكافئًا لهُ فيجبُ قتلهُ بذلكَ.
* ثم بيَّنَ تعالى حكمتَهُ العظيمةَ في مشروعيةِ القصاصِ، فقالَ:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] أي: تنحقنُ بذلكَ الدماءُ، وتنقمعُ بهِ الأشقياءُ؛ لأنَّ مَنْ عرَفَ أنهُ إذا قَتَلَ قُتِلَ لا يكادُ يصدرُ منهُ قتلٌ، وإذا رُئِيَ القاتلُ مقتولًا انزجرَ غيرهُ بذلكَ؛ فلو كان عقوبةُ القاتلِ غيرَ القتلِ لم يحصُلْ مِنْ انكفافِ الشرِّ ما يحصلُ بالقتلِ.
وهكذا سائرُ الحدودِ الشرعيةِ: فيها من النكايةِ والانزجارِ ما يدلُّ على حكمةِ الحكيمِ الغفارِ.
ونكَّرَ (الحياةَ) لإفادةِ التعظيمِ.
(1)
صحيح ابن حبان: (1/ 452 رقم 647).
* ولما كان هذا الحكمُ لا يعرفهُ حقيقةَ المعرفةِ إلا أهلُ العقولِ الكاملةِ قالَ: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 179]، وهذا يدلُّ على أنهُ يحبُّ من عبادهِ أنْ يُعمِلوا أفكارَهم وعقولَهم في تدبرِ ما في أحكامهِ من الحكمِ والمصالحِ الدالةِ على كمالهِ، وكمالِ حكمتهِ، وحمدهِ، وعدلهِ، ورحمتهِ الواسعةِ، وأنَّ مَنْ كان بهذا الوصفِ فقدْ استحقَّ الثناءَ والمدحَ بأنهُ مِنْ ذوي الألبابِ، الذينَ وُجِّهَ إليهم الخطابُ، وكفَى بذلكَ فضلًا وشرفًا!
* وقولهُ: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 179] وذلكَ أنَّ مَنْ عرَفَ ربَّهُ، وعرَفَ ما في دينهِ وشرعهِ من الأسرارِ العظيمةِ، والحكمِ البديعةِ، والآياتِ الرفيعةِ؛ أوجَبَ لهُ أنْ ينقادَ لأمرِ اللهِ، ويخضعَ لشرعهِ؛ طاعةً للهِ ولرسولهِ.
2 -
* هذا حدُّ الزاني غيرِ المحصنِ من ذكرٍ أو أنثى، يُجلَدُ مائةَ جلدةٍ، جلداتٍ تؤلِمهُ وتزجرهُ ولا تهلكهُ، ويتعيَّنُ أنْ يكونَ ذلكَ علنًا لا سرًّا، بحيثُ يشهدهُ طائفةٌ من المؤمنينَ؛ لأنَّ إقامةَ الحدودِ من الضرورياتِ لقمعِ أهلِ الجرائمِ، واشتهارُها هوَ الذي يحصلُ بهِ الردعُ والانزجارُ وإظهارُ شعائرِ الدينِ؛ والاستتارُ بهِ أو على أحدٍ دونَ أحدٍ فيه مفاسدُ كثيرةٌ.
ووردَتِ السنةُ بتغريبِ عامٍ كاملٍ عن وطنهِ معَ الجلدِ، كما تواترَتِ السنةُ وأجمعَ المسلمونَ على رجمِ الزاني المحصنِ، يرجمُ بالحجارةِ حتى يموتَ.
3 -
{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة: 38].
* السارقُ: هوَ مَنْ أخَذَ مالَ غيرهِ المحترمَ بغيرِ رضاهُ. وهوَ من كبائرِ الذنوبِ الموجبةِ لترتبِ هذهِ العقوبةِ، وهوَ أنهُ يجبُ قطعُ يدهِ اليمنَى كما هيَ قراءةُ بعضِ الصحابةِ، واليدُ إذا أطلقَتْ فهيَ الكفُّ إلى الكوعِ فقطْ، فإذا قطعَتْ حسمَتْ وجوبًا في زيتٍ أو وَدَكٍ
(1)
مغليٍّ لتنسدَّ العروقُ؛ فيقفُ الدمُ.
* ولكنَّ السنةَ قيدَتْ عمومَ الآيةِ الكريمةِ بأمورٍ كلِّها ترجعُ إلى تحقيقِ السرقةِ للأموالِ:
* فمنها: لابدَّ أنْ يكونَ المسروقُ نصابًا، وهوَ ربعُ دينارٍ، أو ثلاثةُ دراهمَ، أو ما يساوِي ذلكَ.
* ومنها: لابدَّ أنْ يكونَ المأخوذُ منهُ حِرزًا، وحِرْزُ كلِّ مالٍ ما يُحفظُ بهِ عادةً، فلو سرقَ مِنْ مالٍ غيرِ محرزٍ فلا قطعَ عليهِ، ويُؤخذُ هذا من لفظِ السارقِ؛ فإنهُ الذي يأخذُ المالَ على وجهٍ لا يمكنُ التحرزُ منهُ.
* فإنْ عادَ السارقُ قطعَتْ رجلهُ اليسرَى، فإن عادَ فقيلَ: تقطعُ يدهُ اليسرَى، ثم إنْ عادَ قطعَتْ رجلهُ اليمنَى، وقيلَ: يُحبسُ حتى يموتَ، ووردَ في ذلكَ آثارٌ عن السلفِ مختلفة.
* وقولهُ: {جَزَاءً بِمَا كَسَبَا} من التجرِّي على أموالِ الناسِ، {نَكَالًا مِنَ اللَّهِ} أي: ترهيبًا منهُ للسراقِ؛ ليرتدِعُوا إذا علموا أنهم يقطعونَ، وهذا نظيرُ قولهِ في القتلِ:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179].
(1)
الوَدَك: «دسم اللحم ودهنه الذي يستخرج منه» . (لسان العرب: 10/ 509).
* {وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} أي: عزَّ وحَكَمَ، فقطَعَ بحكمتهِ يدَ السارقِ؛ تنكيلًا للمجرمينَ، وحفظًا للأموالِ.
* وقدْ ذكرَ اللهُ قبلَ هذا حدَّ قطاعِ الطريقِ المحاربِينَ في قولهِ: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ} الآية [المائدة: 33]:
* فقيلَ: إنَّ الإمامَ مخيرٌ فيهم بينَ هذهِ الأمورِ، وعليهِ أنْ يفعلَ ما تقتضيهِ المصلحةُ، ويحصلُ بهِ النكايةُ
(1)
.
* وقيلَ
(2)
: إنَّ هذهِ العقوبةَ مرتبةٌ بحسبِ الجريمةِ:
• فإنْ جَمعُوا بينَ القتلِ وأخذِ المالِ جُمِعَ لهم بينَ القتلِ والصَّلبِ.
• وإنْ قَتلُوا ولم يأخذُوا مالًا قُتِلُوا ولم يُصْلبوا.
• وإنْ أخذوا مالًا ولم يَقتُلوا قُطعَتْ أيدِيهم وأرجلُهم من خلافٍ.
• وإنْ أخافوا الناسَ ولم يَقتلوا ولا أخذوا مالًا نُفُوا من الأرضِ، فلا يتركونَ يأوونَ إلى بلدٍ، أو يحبسونَ، كما قالهُ بعضُهم.
(1)
بعدها في (خ): بحسب اجتهاده.
(2)
بعدها في (خ): وهو الصحيح.
فصل في الأيمان ونحوها
1 -
* يقولُ البارِي: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} اعملُوا بمقتضَى أيمانِكم في تحليلِ ما أحلَّ اللهُ، وتحريمِ ما حرَّمَ اللهُ، فلا تحرِّمُوا ما أحلَّ اللهُ لكم من المطاعمِ والمشاربِ وغيرِها؛ فإنها نعمٌ تفضَّلَ اللهُ بها عليكم، فاقبلُوها واشكرُوا اللهَ عليها؛ إذْ أحلَّها شرعًا ويسَّرَها قدرًا، ولا تردُّوا نعمةَ اللهِ بكفرِها، أو عدمِ قبولِها، أو اعتقادِ تحريمِها، أو الحلفِ على عدمِ تناولِها؛ فإن ذلكَ كلَّهُ من الاعتداءِ؛ ولهذا قالَ:{وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} بلْ يبغضُهم ويمقتُهم على ذلكَ.
* {وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا} [المائدة: 88] أي: كلُوا مِنْ رزقهِ الذي ساقَهُ إليكم، ويسَّرَهُ لكم بأسبابهِ المتنوعةِ، إذا كان حلالًا، لا سرقةً ولا غصبًا، ولا حصلَ في معاملةٍ خبيثةٍ، وكان أيضًا طيبًا نافعًا لا خبثَ فيه.
* {وَاتَّقُوا اللَّهَ} في امتثالِ أوامرهِ، واجتنابِ نواهيهِ، {الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} فإنَّ الإيمانَ لا يتمُّ إلا بذلكَ، وهوَ يدعو إلى ذلكَ.
* ودلَّتِ الآيةُ الكريمةُ أنَّ العبدَ إذا حرَّمَ حلالًا عليهِ من طعامٍ وشرابٍ وكسوةٍ واستعمالٍ وسريةٍ ونحوِ ذلكَ؛ فإن هذا التحريمَ منهُ لا يحرِّمُ ذلكَ الحلالَ، لكنْ إذا فعلَهُ فعليهِ كفارةُ يمينٍ؛ لأنَّ التحريمَ يمينٌ كما قالَ تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 1 - 2].
وهذا عامٌّ في تحريمِ كلِّ طيبٍ، إلا أنَّ تحريمَ الزوجةِ يكونُ ظهارًا فيه كفارةُ الظهارِ السابقةِ.
وكما أنهُ ليسَ لهُ أنْ يحلفَ على تركِ الطيباتِ، فليسَ لهُ أنْ يمتنعَ من أكلِها، ولوْ بلا حلفٍ تنسكًا وغلوًّا في الدينِ، بلْ يتناولُها مستعينًا بها على طاعةِ ربهِ.
* {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [المائدة: 89] ويشملُ هذا: الأيمانَ التي حلفَ بها من غيرِ نيةٍ ولا قصدٍ، أو عقدَها يظنُّ صدقَ نفسهِ فبَانَ بخلافِ ذلكَ.
* {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} أي: بما عقدَتْ عليهِ قلوبُكم، كما قالَ في الآيةِ الأخرى:{وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: 225].
* فإذا عقدَ العبدُ اليمينَ وحنَثَ، بأنْ فعَلَ ما حلفَ على تركهِ، أو ترَكَ ما حلفَ على فعلهِ؛ خُيِّرَ في الكفارةِ بينَ:
* {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89] وذلكَ يختلفُ باختلافِ الناسِ والأوقاتِ والأمكنةِ.
* {أَوْ كِسْوَتُهُمْ} بما يعدُّ كسوةً، وقُيِّدَ ذلكَ بكسوةٍ تُجزئُ في الصلاةِ.
* {أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} صغيرٍ أو كبيرٍ، ذكرٍ أو أنثَى، بشرطِ أنْ تكونَ الرقبةُ مؤمنةً، كما في الآيةِ المقيدةِ بالإيمانِ
(1)
، وأنْ تكونَ تلكَ الرقبةُ سليمةً من العيوبِ الضارةِ بالعملِ.
فمتى كفَّرَ بواحدٍ من هذهِ الثلاثةِ انحلَّتْ يمينهُ؛ وهذا من نعمةِ اللهِ على هذهِ الأمَّةِ أنهُ فرَضَ لهم تَحِلَّةَ أيمانِهم، ورفَعَ عنهم الإلزامَ والجناحَ.
* {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ} واحدًا من هذهِ الثلاثةِ فعليهِ {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ} أي: متتابعةً معَ الإمكانِ، كما قُيدَتْ في قراءةِ بعضِ الصحابةِ.
* {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} عن أنْ تحلفوا باللهِ وأنتم كاذبونَ، وعن كثرةِ الأيمانِ، لاسيما عندَ البيعِ والشراءِ، واحفظُوها إذا حلَفْتم عن الحنثِ فيها، إلا إذا كان الحنثُ خيرًا من المضيِّ فيها، كما قالَ تعالى:{وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ} [البقرة: 224] أي: لا تقولُوا: إنَّنا قدْ حلَفْنا على تركِ البرِّ، وتركِ التقوى، وتركِ الإصلاحِ بينَ الناسِ؛ فتجعلُوا أيمانَكم مانعةً لكم من هذهِ الأمورِ التي يحبُّها اللهُ ورسولهُ، بلْ احنَثُوا وكفِّرُوا وافعلُوا ما هوَ خيرٌ وبرٌّ وتقوى.
واحفظُوا أيضًا أيمانَكم إذا حلَفْتم وحنَثْتم بالكفارةِ؛ فإنَّ الكفارةَ بها حفظُ اليمينِ الذي معناهُ تعظيمُ المحلوفِ بهِ، فمَن كان يحلفُ ويحنثُ ولا يكفِّرُ فما حفظَ يمينَهُ، ولا قامَ بتعظيمِ ربهِ.
* {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ} المبيِّنةِ للحلالِ من الحرامِ، الموضحةِ للأحكامِ.
* {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} فعلى العبادِ أنْ يشكرُوا ربَّهم على بيانهِ وتعليمهِ لهم ما لم يكونُوا يعلمونَ؛ فإنَّ العلمَ أصلُ النعمِ وبهِ تتمُّ.
(1)
قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} الآية [النساء: 92].
فصل في آيات في الأطعمة ونحوها والصيود وتوابعها
1 -
قالَ اللهُ تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29]، {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 119]، {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157]، {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3] الآية، وبعدها:{يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} [المائدة: 4]، {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121]، {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145)} [الأنعام: 145].
* دلَّتْ هذهِ الآياتُ الكريماتُ على أنَّ الأصلَ في الأشياءِ الحلُّ، من طعامٍ وشرابٍ وغيرِها؛ لأنَّ اللهَ تعالى خلَقَ لنا ما في الأرضِ جميعًا، ننتفعُ بهِ بكلِّ وجوهِ الانتفاعاتِ، من أكلٍ وشربٍ واستعمالٍ، وفصَّلَ لنا ما حرَّمَ علينا، فما لم يُذكَرْ في الكتابِ والسنةِ تحريمهُ فهوَ حلالٌ، وأباحَ لنا كلَّ طيبٍ، وحرَّمَ علينا كلَّ خبيثٍ.
* فمِن الخبائثِ المحرمةِ:
* الميتةُ، سوى ميتةِ الجرادِ والسمكِ، وهيَ: ما ماتَ حتفَ أنفهِ، أو ذُكِّيَ ذكاةً غيرَ شرعيةٍ.
* والدمُ المسفوحُ، كما قيدَتْهُ الآيةُ الأخرى، وأمَّا الدمُ الذي يبقَى في اللحمِ والعروقِ بعدَ الذبحِ فإنهُ طيبٌ حلالٌ.
* {وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [المائدة: 3] بأنْ ذُبِحَ لغيرِ اللهِ: من أصنامٍ أو ملائكةٍ، أو إنسٍ، أو جنٍّ، أو غيرِها من المخلوقاتِ.
* ومِن الخبائثِ: كلُّ ذي نابٍ من السباعِ، وكلُّ ذي مخلبٍ من الطيرِ، كما صحَّ بذلكَ الحديثُ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم
(1)
.
* ومن الميتةِ: {المُنْخَنِقَةُ} أي: التي تُخنقُ بالحبالِ أو غيرِها، أو تختنقُ فتموتُ.
* {وَالْمَوْقُوذَةُ} وهيَ التي تُضربُ بالحصى أو بالعصا حتى تموتَ، ومِن هذا إذا رمَى صيدًا فأصابَ الصيدَ بعرضِهِ فقتلَهُ.
* {وَالْمُتَرَدِّيَةُ} وهيَ التي تسقطُ من موضعٍ عالٍ كسطحٍ وجبلٍ؛ فتموتُ.
* {وَالنَّطِيحَةُ} التي تنطحُها غيرُها فتموتُ بذلكَ.
* وما أكلَهُ ذئبٌ أو غيرُهُ من السباعِ.
(1)
مسلم (1934).
وكلُّ هذهِ المذكوراتِ إذا لم تدرَكْ ذكاتُها
(1)
، فإنْ أدرَكَها حيةً فذكَّاها حلَّتْ؛ لقولهِ:{إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3]، وسواءٌ غلَبَ على الظنِّ بقاؤهُ أو تلفهُ إذا لم يُذكَّ أم لا.
* ومن المحرماتِ: الحشراتُ، وخَشاشُ الأرضِ من فأرةٍ وحيةٍ ووزَغٍ، ونحوها من المستخبثةِ شرعًا وطبًّا.
* ومن المحرماتِ: ما ذُكِّيَ ذكاةً غيرَ شرعيةٍ:
• إما أنَّ الذابحَ غيرُ مسلمٍ ولا كتابيٍّ.
• وإما أنْ يذبحَها في غيرِ محلِّ الذبحِ وهيَ مقدورٌ عليها.
• وإما ألَّا يقطعَ حلقومَها ومَرِيَّها.
• وإما أنْ يذبحَها بغيرِ ما ينهرُ الدمَ، أو بعظمٍ أو ظُفُرٍ.
* وما أمَرَ الشارعُ بقتلهِ أو نهَى عن قتلهِ دلَّ على تحريمهِ وخبثهِ.
* وكلُّ هذهِ الأشياءِ تحريمُها في حالِ السعةِ، وأما إذا اضطرَّ إليها غيرَ باغٍ لأكلِها قبلَ أنْ يضطرَّ، ولا متعدٍّ إلى الحرامِ، وهوَ يقدرُ على الحلالِ؛ فإنهُ إذا اضطرَّ إليها {غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: 115]، مِنْ رحمتهِ أباحَ المحرماتِ في حالِ الضرورةِ.
* ومن رحمتهِ وسَّعَ لعبادهِ طرقَ الحلالِ:
* فأباحَ الصيدَ إذا جُرِحَ في أيِّ موضعٍ من بدنهِ.
* وأباحَ صيدَ السهامِ إذا سمَّى الرامِي عندَ رميِها.
(1)
أي: إذا لم تدرك ذكاتها حرمت.
* وأباحَ أيضًا صيدَ الكلابِ المعلَّمةِ والطيورِ المعلَّمةِ؛ والتعليمُ يختلفُ باختلافِ الحيواناتِ، قالَ العلماءُ: تعليمُ الكلبِ:
• أنْ يَسترسِلَ إذا أُرسِلَ.
• ويَنزجِرَ إذا زُجِرَ.
• وإذا أمسكَ لم يأكلْ من صيدهِ؛ لقولهِ: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} [المائدة: 4] أي: عندَ إرسالِها لقصدِ الصيدِ.
فصل في جوامع الحكم والقضايا
(1)
في الأصول والفروع
1 -
قالَ اللهُ تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49]، {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء: 105]، {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} [المائدة: 42]، {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59]، {يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26]، {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50]، {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} [الأنعام: 115].
* الحكمُ بينَ الناسِ بالحقِّ والقسطِ هوَ الحكمُ بما أنزلَ اللهُ، وهوَ الردُّ إلى اللهِ ورسولهِ
(2)
؛ فإنَّ هذهِ الآياتِ يصدِّقُ بعضُها بعضًا، وتدلُّ على:
* أنَّ الحقَّ والعدلَ لا يخرجُ عما جاءَ بهِ الرسولُ.
* وأنَّ حكمَ اللهِ ورسولهِ أحسنُ الأحكامِ على الإطلاقِ، أي: أعدلُها وأقومُها وأصلحُها وأحسمُها للشرورِ، وأعظمُ أحكامٍ تُوسِّلَ بها إلى تحصيلِ المصالحِ، ودرءِ المفاسدِ.
* وأنَّ ردَّ مسائلِ النزاعِ والاختلافاتِ الدينيةِ والدنيويةِ إلى اللهِ والرسولِ خيرٌ في الحالِ، وأحسنُ عاقبةً.
(1)
في (خ): والقضاء.
(2)
قوله: «وهو الرد إلى الله ورسوله» كذا في (ط). وفي (خ): «وبما أرى الله رسوله» .
* وأنَّ كلماتِ اللهِ تمَّتْ وكملَتْ من كلِّ وجهٍ، صدقًا في أخبارِها، عدلًا في أحكامِها وأوامرِها ونواهِيها؛ فكلُّ مسألةٍ خارجةٍ عن العدلِ إلى الظلمِ، وعن الصلاحِ إلى الفسادِ؛ فليسَتْ من الشرعِ. وقدْ جاءَ شرعُ اللهِ محكمَ الأصولِ والفروعِ، موافقًا للمعقولِ الصحيحِ والاعتبارِ والميزانِ العادلِ.
* وقدْ حكمَ اللهُ ورسولهُ بأحكامٍ متنوعةٍ متفرعةٍ عن هذا الأصلِ العظيمِ، وتفصيلٍ لمجملهِ:
* فحَكَمَ اللهُ بأنَّ إقرارَ مَنْ عليهِ الحقُّ معتبرٌ في القليلِ والكثيرِ، كما تقدَّمَ التنبيهُ عليهِ في آيةِ الدَّينِ.
* وحكَمَ بأنَّ البينةَ على المدَّعي لإثباتِ حقٍّ، أو المدِّعِي براءةَ الذمةِ من الحقوقِ الثابتةِ، وأنَّ اليمينَ على مَنْ أنكرَ.
وهاتانِ القاعدتانِ عليهما مدارُ جمهورِ القضايا:
• اعتبارُ إقرارِ مَنْ عليهِ الحقُّ إذا كان جائزَ التصرفِ.
• وتكليفُ المدعينَ كلِّهم بالبيناتِ.
والبينةُ شرعًا: اسمٌ جامعٌ لكلِّ ما بيَّنَ الحقَّ. والبيانُ مراتبُ، بعضُها يصلُ إلى درجةِ اليقينِ، وبعضُها كالقرائنِ وشواهدِ الأحوالِ توصلُ إلى غلبةِ الظنِّ.
والترجيحاتُ كثيرةٌ جدًّا، وعندَ تساوي الترجيحاتِ ومقاديرِ الأشياءِ وكمياتِها بالتوسطِ بينَها؛ إما بقسمتِها متساويةً، وجعلِ الزيادةِ والنقصِ بحسبِ ذلكَ، وإلَّا بالقرعةِ إذا تعذرَتِ القسمةُ.
* ومن أحكامِ الشارعِ العادلةِ: إلغاؤهُ المعاملاتِ الظالمةَ الجائرةَ: كأنواعِ الغَرَرِ والظلمِ والميلِ على أحدِ المتعاملَينِ بغيرِ حقٍّ.
* ومن أحكامهِ الكليةِ: اعتبارهُ التراضيَ بينَ المتعاملين في عقودِ المعاوضاتِ، وفي عقودِ التبرعاتِ، وأنهُ لا يحلُّ مالُ امرئٍ مسلمٍ أو معاهدٍ إلا بطيبِ نفسهِ.
* ومن أحكامهِ الكليةِ: منعُ الضررِ والإضرارِ بغيرِ حقٍّ في كلِّ معاملةٍ وخلطةٍ وجوارٍ واتصالٍ.
* ومن أحكامهِ الكليةِ: أنَّ على العمَّالِ تكميلَ أعمالِهم بغيرِ نقصٍ، وعلى مَنْ عُمِلَ لهم تكميلَ أجورِهم.
* ومن أحكامهِ الكليةِ: إيجابهُ الوفاءَ بالعقودِ والشروطِ التي يشترطها أحدُ المتعاقدينِ على الآخرِ في أبوابِ العقودِ كلِّها، مما لكلٍ منهما أو لأحدِهما فيه مصلحةٌ، إلا شرطًا أحلَّ حرامًا أو حرَّمَ حلالًا، فهذا قدْ أهدرَهُ الشارعُ وألغاهُ وقالَ:«مَنْ عَمِلَ عملًا ليسَ عليهِ أمرُنا فهوَ ردٌّ»
(1)
.
* ومن أحكامهِ الكليةِ: اعتبارُ المقاصدِ والنياتِ في أبوابِ المعاملاتِ والأعمالِ، كما تُعتبرُ في بابِ العباداتِ، وبهذا الأصلِ أُبطِلَ جميعُ الحيلِ التي يُتوسَّلُ بها إلى فعلِ محرمٍ، أو إسقاطِ حقِّ مسلمٍ ونحوِها.
* ومن أحكامهِ الكليةِ: أنَّ جميعَ العقودِ اللازمةِ والجائزةِ: عقودِ المعاوضةِ، وعقودِ التبرعِ، وكذلكَ الفسوخُ؛ تنعقدُ بما دلَّ عليها مِنْ الألفاظِ التي يتعارفُها المتعاقدانِ، ومِن الأفعالِ الدالةِ على ذلكَ.
(1)
مسلم (1718).
* ومن أحكامهِ الكليةِ: أنَّ تلفَ الشيءِ بيدِ الظالمِ -كالغاصبِ ونحوهِ- فيه الضمانُ، فرَّطَ أو لم يفرِّطْ؛ فإنَّ ثبوتَ يدهِ على وجهِ الظلمِ والعدوانِ، وأنَّ تلفَ الشيءِ تحتَ يدِ الأمينِ لا ضمانَ فيه إنْ لم يفرِّطْ أو يتعدَّ.
* ومن أحكامهِ الكليةِ: أنَّ الشيءَ المشكوكَ فيه يُرجَعُ فيه إلى اليقينِ في العباداتِ والمعاملاتِ، فمَن ادَّعى الأصلَ فقولهُ مقبولٌ، ومَن ادَّعى خلافَ الأصلِ لم يُقبَلْ إلا ببينةٍ.
وأنَّ الأصلَ بقاءُ ما كان على ما كان، والأصل براءةُ الذمةِ حتى يتيقنَ اشتغالُها، كما أنَّ الأصلَ بقاءُ ما كان ثابتًا في الذمةِ حتى يُتيقَّنَ البراءةُ بوفاءٍ أو إسقاطٍ أو سقوطٍ. وأنَّ الأصلَ في عقودِ المسلمينَ الصحةُ والسلامةُ حتى نعرفَ أنهُ جرَى ما يفسدُها.
* ومن أحكامهِ الكليةِ: أنَّ جميعَ الأحكامِ -من أصولٍ وفروعٍ- لا تتمُّ وتكملُ ويحصلُ مقتضاها إلا باجتماعِ شروطِها وأركانِها ومقوماتِها، وانتفاءِ موانعِها ومفسداتِها.
* ومن أحكامهِ الكليةِ: وجوبُ المماثلةِ في المتلفاتِ والمضموناتِ بمثلِها إنْ أمكنَ المثلُ، وبالقيمةِ إنْ تعذَّرَ المثلُ.
وكذلكَ الأعمالُ، فمَن عَمِلَ لغيرهِ عملًا بعِوضٍ لم يسمَّ، أو سُمِّيَ تسميةً فاسدةً، أو جهلَتِ التسميةُ، أو عاوضَهُ معاوضةً تعذَّرَ معرفةُ الِعوضِ فيها؛ فإنهُ يُرجَعُ في ذلكَ إلى أجرةِ المثلِ، وعِوضِ المثلِ.
* ومن أحكامهِ الكليةِ: وجوبُ العدلِ بينَ الأولادِ والزوجاتِ، ووجوبُ العدلِ بينَ ذوِي الحقوقِ الذينَ لا مزيةَ لواحدٍ منهم على الآخرِ:
• كالعولِ الداخلِ على أهلِ الفروضِ بالسويةِ.
• وكقسمةِ المالِ بينَ الغرماءِ إذا لم يفِ بحقوقِهم، يُعطونَ على قدرِ حقوقِهم إذا لم يكنْ لأحدِهم مزيةُ رهنٍ ونحوهِ.
• وكاشتراكِ الملَّاكِ في الزيادةِ المترتبةِ عليها على قدرِ أملاكِهم، والنقصِ على قدرِ أملاكِهم إذا اعتراها نقصٌ، وسواءٌ كان النقصُ بحقٍّ تعلَّقَ بها، أو بتلفٍ، أو خسارةٍ، أو وقعَ ظلمًا؛ فإنهم يشتركونَ في الزيادةِ والنقصِ على قدرِ أملاكِهم.
* ومن أحكامهِ الكليةِ: إثباتُ الخيارِ في كلِّ عقدٍ ظهَرَ في العِوضِ المعينِ أو المعوَّضِ عيبٌ ينقصهُ؛ وأنهُ إذا لم يمكن الردُّ تعيَّنَ الأَرْشُ
(1)
وإسقاطُ النقصِ. وعلى الصحيحِ لا فرقَ بينَ البيوعِ وغيرِها؛ فإنَّ هذا من قاعدةِ العدلِ.
* ومن أحكامهِ الكليةِ: جَعْلُ المجهولِ كالمعدومِ. ويندرجُ تحتَ هذا الأصلِ:
• الأموالُ التي جهلَ ملاكُها أنهُ يتصدَّقُ بها عنهم، أو تُبذلُ في المصالحِ نيابةً عنهم.
• وتملكُ اللقطةِ.
• ومن ماتَ لا وارثَ لهُ بفرضٍ ولا تعصيبٍ ولا رحمٍ؛ تَرِكَتُهُ
(2)
في بيتِ المالِ للمصالحِ العامةِ؛ جعلًا للمجهولِ في ذلكَ كالمعدومِ.
* ومن أحكامهِ الكليةِ: الرجوعُ إلى العرفِ إذا تعذرَ التعيينُ شرعًا ولفظًا، كالرجوعِ للعرفِ في نفقةِ الزوجاتِ والأقاربِ والأُجَراءِ، وكالشروطِ العرفيةِ في المعاملاتِ إذا اطردَتْ بينَ الناسِ، وكالقبضِ والحرزِ ونحوِها مما لا يعدُّ ولا يُحصَى.
(1)
الأرش: «الذي يأخذه المشتري من البائع إذا اطلع على عيب في المبيع» (لسان العرب: 6/ 263).
(2)
قبلها في (خ): تُجعل.
* ومن أحكامهِ الكليةِ: أنَّ الأصلَ في العباداتِ الحظرُ؛ فلا يشرعُ منها إلا ما شرعَهُ اللهُ ورسولهُ. والأصلَ في المعاملاتِ والاستعمالاتِ كلِّها الإباحةُ؛ فلا يحرمُ منها إلا ما حرمَهُ اللهُ ورسولهُ.
وعلى هذا جميعُ أحكامِ العباداتِ والمعاملاتِ وغيرِها مما لا يمكنُ إحصاؤهُ؛ ولهذا مَنْ شرَعَ في
(1)
عبادةٍ لم تنقَلْ عن الشارعِ فهوَ مبتدعٌ، ومَن حرَّمَ من العاداتِ شيئًا لم يرِدْ عن الشارعِ فهوَ مبتدعٌ.
* ومن أحكامهِ الكليةِ: حثُّهُ على الصلحِ والإصلاحِ بينَ مَنْ بينَهم حقوقٌ، وخصوصًا عندَ اشتباهِها، أو عندَ تناكرِهما، وإذا تعذَّرَ استيفاءُ الحقِّ كلِّهِ أو تعسَّرَ؛ فقدْ شُرِعَ في ذلكَ كلِّهُ الصلحُ بالعدلِ، وسلوكُ الحالةِ المناسبةِ لتلكَ القضيةِ بما تقتضيهِ الحالُ، وفيهِ من الفوائدِ والثمراتِ الطيبةِ ما لا يعدُّ ولا يُحصَى.
* ومن أحكامهِ الكليةِ: اعتبارُ العدالةِ في الشهودِ، وأنْ يكونُوا ممنْ يُرضَى مِنْ الشهداءِ، وذلكَ يختلفُ باختلافِ الأحوالِ والأشخاصِ، فالشارعُ اعتبرَ شهادةَ العَدْلِ المَرْضيِّ من الشهداءِ، وأسقطَ شهادةَ الكاذبِ والقاذفِ قبلَ التوبةِ، وأمَرَ بالتثبتِ في خبرِ الفاسقِ، وكذلكَ المجهولُ؛ لأنهُ اعتبرَ المَرْضيَّ العَدْلَ عندَ الناسِ، فلابدَّ من تحقيقِ هذا الوصفِ.
وأما عددُ الشهودِ ونصابُها فذلكَ يختلفُ باختلافِ المشهودِ بهِ، كما فصَّلَهُ أهلُ العلمِ.
(1)
ليست في (خ).
* ومن أحكامهِ الكليةِ: أنَّ مَنْ سبَقَ إلى مباحٍ فهوَ أحقُّ بهِ؛ فيدخلُ في هذا:
• السبقُ إلى الجلوسِ في المساجدِ والأسواقِ والأفنيةِ.
• ويدخلُ فيه: السبقُ إلى النزولِ في المساكنِ والأوقافِ التي لا تتوقفُ على نظرِ ناظرٍ.
• ويدخلُ في ذلكَ: السبقُ إلى المباحاتِ من الصيودِ البريةِ والبحريةِ، وإلى ما يستخرجُ من البحارِ والمعادنِ، وإلى الاحتشاشِ والاحتطابِ وغيرِ ذلكَ، وإلى إحياءِ المواتِ وغيرِها من المسائلِ المتنوعةِ الداخلةِ في هذا الأصلِ.
* ومن أحكامهِ الكليةِ: قبولُ قولِ الأمناءِ على ما في أيدِيهم مما هم عليهِ أولياءُ مِنْ قِبلِ الشارعِ، أو قِبلِ المالكِ بالوكالةِ أو الوصايةِ أو النظارةِ للأوقافِ، فكلُّ هؤلاءِ مقبولٌ قولُهم فيما يدَّعونَهُ من داخلٍ وخارجٍ ومصرفٍ ونحوهِ، إذا كان ذلكَ ممكنًا، وهذا معنى تأمينِهم وتولِّيهم وولايتِهم.
واعلَمْ أنَّ قبولَ قولِ هؤلاءِ في هذهِ الأمورِ لا يمنعُ محاسبتَهم، وطلبَ الوقوفِ على كيفيةِ تلكَ المصارفِ الداخليةِ والخارجيةِ، وتبيينَ وجهِ النقصِ والتلفِ ونحوِ ذلكَ؛ ليستظهِرَ بذلكَ على صدقِهم وكذبِهم.
وأما تمكينُهم من إطلاقِ سراحِهم بحجةِ أنهم أمناءُ مقبولٌ قولُهم؛ فهذا غلطٌ على الشريعةِ، وعلى الحقيقةِ؛ فالشارعُ حاسَبَ عمَّالَهُ واستدرَكَ عليهم، والحقيقةُ والوقوفُ عليها مطلوبٌ باتفاقِ أهلِ الاعتبارِ؛ فكم من أمينٍ ظهرَتْ خيانتهُ يقينًا حينَ استدرِكَ عليهِ!
* ومن أحكامهِ الكليةِ: أنَّ الواجبَ يُسقطُ بالعجزِ عنهُ بالكليةِ، وأنهُ إذا قدرَ على بعضِ الواجبِ وجبَ عليهِ ما يقدرُ عليهِ منهُ، وسقطَ عنهُ ما يعجزُ عنهُ، وهذا مطردٌ في العباداتِ والحقوقِ الواجبةِ وغيرِها، كما أنَّ الضرورةَ تبيحُ المحظورَ وتُقدرُ بقدرِها.
* ومن أحكامهِ الكليةِ: أنهُ أقامَ البدلَ مقامَ مُبْدَلهِ في أحكامِ العباداتِ والمعاملاتِ والحقوقِ وغيرِها، فمتى كان للشيءِ بدلٌ وتعذَّرَ الأصلُ قامَ هذا مقامَهُ، وحُكِمَ لهُ بأحكامهِ، وأنَّ النماءَ
(1)
تابعٌ للأصلِ.
* ومن أحكامهِ الكليةِ: أنَّ مَنْ وجبَ عليهِ أمرٌ من الأمورِ فإنهُ يُجْبَرُ عليهِ بحقٍّ، وأنَّ مَنْ أتلفَ شيئًا لدفعِ أذاهُ لهُ دفعًا عن نفسهِ فلا ضمانَ عليهِ، فإن أتلفَهُ للانتفاعِ بهِ ضمنَهُ، وأنَّ ما ترتَّبَ على المأذونِ فيه من تلفٍ فغيرُ مضمونٍ، وما ترتَّبَ على غيرِ المأذونِ فإنهُ مضمونٌ.
* ومن أحكامهِ الكليةِ: أنَّ الاستثناءاتِ والقيودَ والأوصافَ الملحقةَ بالألفاظِ تُعتبرُ، وتُقيِّدُ الكلامَ، ويرتبطُ بها، بشرطِ الاتصالِ لفظًا أو حكمًا. ويدخلُ في هذا: ألفاظُ العقودِ، والفسوخِ، والوقفِ، والوصايا، والعتقِ، والطلاقِ، والأيمانِ، والإقراراتِ، وغيرِها.
* ومن أحكامهِ الكليةِ: أنَّ الشركاءَ في الأملاكِ والمنافعِ يُلزمونَ بكلِّ ما يعودُ إلى حصولِ المنافعِ الضروريةِ ودفعِ المضارِ، ويُجبرُ الممتنعُ منهما مِنْ ذلكَ مِنْ المصارفِ والنفقاتِ والضرائبِ التي تلحقُ الأملاكَ، هم فيها شركاءُ على كلٍّ منهم بقدرِ ملكهِ.
* ومن أحكامهِ الكليةِ: أنَّ المباشرَ لإتلافِ الأموالِ أو المتسببَ لذلكَ ضامنٌ لها، متعمدًا كان أو ناسيًا أو جاهلًا، وأنهُ إذا اجتمعَ المباشرُ والمتسببُ كان الضمانُ على المباشرِ، إلا إنْ تعذَّرَ تضمينهُ لفقدٍ أو امتناعٍ أو عسرٍ أو نحوِه؛ فيُحالُ الضمانُ على المتسببِ بغيرِ حقٍّ.
(1)
في (خ): نماء الأعيان.
* ومنها: أنَّ مَنْ أدَّى عن غيرهِ دينًا واجبًا بنيةِ الرجوعِ، فإنهُ يرجعُ ولوْ لم يأذنْ لهُ في ذلكَ.
* ومنها: أنَّ الوصفَ في الشيءِ الذي بيدِ الغيرِ، وذلكَ الغيرُ لا يدعيهِ لنفسهِ: بينةٌ.
* ومنها: أنَّ مَنْ تعجلَ شيئًا قبلَ أوانهِ على وجهٍ محرمٍ؛ عُوقِبَ بحرمانهِ.
* ومن أحكامهِ الكليةِ: أنهُ إذا تزاحمَتِ المصالحُ قُدِّمَ الأعلى منها، وإنْ تزاحمتِ المفاسدُ، وكان لابدَّ مِنْ فعلِ إحداها؛ ارتكِبَ الأخفُّ منها لدفعِ الأشدِّ مفسدةً. وعلى هذا من مسائلِ الفقهِ ما لا يُعدُّ ولا يُحصَى؛ لأنَّ الشارعَ شرَعَ الشريعةَ لتحصيلِ المصالحِ أو تكميلِها، ولتقليلِ المفاسدِ وتعطيلِها بحسبِ الإمكانِ.
* ومنها: أنَّ إطلاقَ التشريكِ في الوصايا والهباتِ والإقراراتِ، وإيقاعَ العقودِ والفسوخِ على الأعيانِ وغيرِ ذلكَ، كل ذلكَ يقتضِي المساواةَ بينَ مَنْ شُرِّكَ بينَهم في شيءٍ مِنْ ذلكَ، إلا إنْ دلَّ دليلٌ على المفاضلةِ بينَهم، وكذلكَ في الأشياءِ المشتبهةِ التي يُعلمُ أنها لهؤلاءِ الأشخاصِ، ولا يُعلمُ مقدارُ ما لكلٍّ، فإنهم يتساوونَ فيها.
وأدلةُ هذهِ الأصولِ من الكتابِ والسنةِ ظاهرةٌ، وهيَ أصولٌ جامعةٌ عظيمةُ النفعِ، ينتفعُ بها الحاكمُ والمفتي وطالبُ العلمِ، وهيَ من محاسنِ الشريعةِ، ومن أكبرِ البراهينِ على أنَّ ما جاءَ بهِ الرسولُ حقٌّ من عندِ اللهِ، محكمُ الأصولِ، متناسبُ الفروعِ، عدلٌ في معانيهِ، تابعٌ للحكمِ والصلاحِ في مبانيهِ.
فلنقتصِرْ على هذهِ القواعدِ؛ إذْ غيرُها تبعٌ لها، وهيَ تُغنِي عن غيرِها، ولا يُغنِي عنها سواها. واللهُ أعلمُ.
فصول في ذكر ما قص الله علينا في كتابه من أخبار الأنبياء مع أقوامهم
قدْ قصَّ اللهُ علينا في كتابهِ قصصًا طيبةً من أخبارِ أنبيائهِ، ووصفَها بأنها أحسنُ القصصِ؛ وهذا الوصفُ من اللهِ العظيمِ يدلُّ على أنها أصدقُها وأبلغُها وأنفعُها للعبادِ.
* فمِن أهمِّ منافعِ هذهِ القصصِ:
* أنَّ بها يتمُّ ويكملُ الإيمانُ بالأنبياءِ صلى اللهُ عليهم وسلمَ، فإننا وإنْ كنا مؤمنينَ بجميعِ الأنبياءِ على وجهِ العمومِ والإجمالِ، فالإيمانُ التفصيليُّ المستفادُ من قصصِهم، وما وصفَهم اللهُ بهِ من الصدقِ الكاملِ والأوصافِ الكاملةِ التي هيَ أعلى الأوصافِ، وما لهم من الفضلِ والفواضلِ والإحسانِ على جميعِ نوعِ الإنسانِ، بلْ وصلَ إحسانُهم إلى جميعِ الحيواناتِ بما
(1)
أبدوهُ للمكلفينَ في الاعتناءِ بها والقيامِ بحقِّها؛ فهذا الإيمانُ التفصيليُّ بالأنبياءِ يصلُ بهِ العبدُ إلى الإيمانِ الكاملِ، وهوَ من موادِّ زيادةِ الإيمانِ.
* فمن ذلكَ: أنَّ في قصصِهم تقريرَ الإيمانِ باللهِ وتوحيدهِ، وإخلاصَ العملِ لهُ، والإيمانَ باليومِ الآخرِ، وبيانَ حسنِ التوحيدِ ووجوبهِ، وقبحِ الشركِ، وأنهُ سببُ الهلاكِ في الدنيا والآخرةِ.
* وفي قصصِهم أيضًا: عبرةٌ للمؤمنينَ يقتدونَ بهم في جميعِ مقاماتِ الدينِ:
• في مقامِ التوحيدِ والقيامِ بالعبوديةِ.
(1)
في (خ): وبما.
• وفي مقاماتِ الدعوةِ والصبرِ والثباتِ عندَ جميعِ النوائبِ المقلقةِ، ومقابلةِ ذلكَ بالطمأنينةِ والسكونِ والثباتِ التامِّ.
• وفي مقامِ الصدقِ والإخلاصِ للهِ في جميعِ الحركاتِ والسكناتِ، واحتسابِ الأجرِ والثوابِ من اللهِ تعالى، لا يطلبونَ من الخلقِ أجرًا ولا جزاءً ولا شكورًا، إلا الأمورَ النافعةَ للخلقِ.
* وفيها أيضًا: عبرةٌ لاتفاقِهم على دينٍ واحدٍ، وأصولٍ واحدةٍ، ودعوةٍ إلى كلِّ خلقٍ جميلٍ، وعملٍ صالحٍ وإصلاحٍ، وزجرِهم عن كلِّ ما يضادُّ ذلكَ.
* وفيها أيضًا من الفوائدِ الفقهيةِ والأحكامِ الشرعيةِ والأسرارِ الحكميةِ شيءٌ عظيمٌ لا غنَى لكلِّ طالبِ علمٍ عنها.
* وفيها أيضًا من الوعظِ والتذكيرِ، والترغيبِ والترهيبِ، والفرجِ بعدَ الشدةِ، وتيسيرِ الأمورِ بعدَ تعسرِها، وحسنِ العواقبِ المشاهدةِ في هذهِ الدارِ، وحسنِ الثناءِ والمحبةِ في قلوبِ الخلقِ - ما فيه زادٌ للمتقينَ، وسرورٌ للعابدينَ، وسلوةٌ للمحزونينَ، ومواعظُ للمؤمنينَ؛ فليسَ المقصودُ من قصصِهم أنْ تكونَ فقطْ سمرًا، وإنما الغرضُ الأعظمُ منها أنْ تكونَ تذكيرًا وعِبرًا.
* واعلَمْ قبلَ الشروعِ فيها أنَّ كثيرًا من قصصِهم -صلواتُ اللهِ وسلامهُ عليهم- أعادَها اللهُ في كتابهِ مراتٍ عديدةً، بأساليبَ مناسبةٍ لمقاماتِها، وربما يكونُ في موضعٍ منها ما ليسَ في المواضعِ الأخرِ من الزياداتِ والفوائدِ، أو يأتي بها بألفاظٍ غيرِ ألفاظِ القصةِ الأخرى، والمعاني متفقةٌ أو متقاربةٌ.
فعلى حسب أنَّ هذا التعليقَ مختصرٌ سوفَ آتي بهذهِ القصصِ، وأجمعُ القصةَ في موضعٍ واحدٍ، وأحرِصُ على ما دلَّتْ عليهِ ألفاظُ الكتابِ من سياقِها من أولِها إلى
آخرِها، وأُتبِعُ كلَّ قصةٍ بما يفتحُ اللهُ بهِ من الفوائدِ الأصوليةِ والفروعيةِ والأخلاقِ والآدابِ والمواضيعِ المتنوعةِ؛ راجيًا من اللهِ أنْ يوفقَني بذلكَ للصوابِ اللفظيِّ، والإخلاصِ الباطنيِّ، وموافقةِ رضاهُ، وأنْ يجعلَ بذلكَ النفعَ العامَّ؛ إنهُ جوادٌ كريمٌ.
فصل في قصة آدم أبي البشر عليه الصلاة والسلام
لم يزلِ اللهُ أولًا ليسَ قبلَهُ شيءٌ، ولم يزلْ فعَّالًا لما يريدُ، ولا خلا وقتٌ من الأوقاتِ من أفعالٍ وأقوالٍ تصدرُ عن مشيئتهِ وإرادتهِ، بحسبِ ما تقتضيهِ حكمةُ اللهِ الذي هوَ حكيمٌ في كلِّ ما قدرهُ وقضاهُ، كما هوَ حكيمٌ في كلِّ ما شرعَهُ لعبادهِ.
فلما اقتضَتِ الحكمةُ الشاملةُ والعلمُ المحيطُ من اللهِ والرحمةُ السابغة خلقَ آدمَ أبي البشرِ الذينَ فضَّلَهم اللهُ على كثيرٍ ممن خلقَ تفضيلًا - أعلَمَ الملائكةَ وقالَ: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30] يخلفُ مَنْ كان قبلَهم من المخلوقاتِ التي لا يعلمُها إلا هو.
{قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} [البقرة: 30]، وهذا منهم تعظيمٌ لربِّهم وإجلالٌ لهُ عن أنهُ ربما يخلقُ مخلوقًا يُشبهُ أخلاقَ المخلوقاتِ الأولِ، أو أنَّ اللهَ تعالى أخبرَهم بخلقِ آدمَ، وبما يكونُ مِنْ مجرمِي ذريتهِ.
قالَ اللهُ للملائكةِ: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30]، فإنهُ محيطٌ علمُهُ بكلِّ شيءٍ، وبما يترتبُ على هذا المخلوقِ من المصالحِ والمنافعِ التي لا تعدُّ ولا تُحصَى؛ فعرَّفهم تعالى بنفسهِ بكمالِ علمهِ، وأنهُ يجبُ الاعترافُ للهِ بسعةِ العلمِ، والحكمةِ التي من جملتها أنهُ لا يخلقُ شيئًا عبثًا، ولا لغيرِ حكمةٍ.
ثم بيَّنَ لهم [ذلك]
(1)
على وجهِ التفصيلِ، فخَلَقَهُ بيدهِ تشريفًا لهُ على جميعِ المخلوقاتِ، قبَضَ قبضةً من جميعِ الأرضِ: سهلِها وحزنِها، وطيبِها وخبيثِها؛ ليكونَ النسلُ على هذهِ الطبائعِ، فكان ترابًا أولًا، ثم ألقَى عليهِ الماءَ فصارَ طينًا، ثم لما طالَتْ مدةُ بقاءِ الماءِ على الطينِ تغيَّرَ ذلكَ الطينُ فصارَ حمأً مسنونًا: طينًا أسودَ، ثم أيبسَهُ بعدما صوَّرَهُ فصارَ كالفخارِ الذي لهُ صلصلةٌ.
وفي هذهِ الأطوارِ هوَ جسدٌ بلا رُوحٍ، فلما تكاملَ خلقُ جسدهِ نفخَ فيه الرُّوحَ؛ فانقلبَ ذلكَ الجسدُ الذي كان جمادًا، حيوانًا لهُ عظامٌ ولحمٌ وأعصابٌ وعروقٌ وروحٌ هيَ حقيقةُ الإنسانِ؛ وأعدَّهُ اللهُ لكلِّ علمٍ وخيرٍ.
ثم أتمَّ عليهِ النعمةَ فعلَّمَهُ أسماءَ الأشياءِ كلِّها، والعلمُ التامُّ يستدعِي الكمالَ التامَّ، وكمالَ الأخلاقِ، فأرادَ اللهُ أنْ يُرِيَ الملائكةَ كمالَ هذا المخلوقِ، فعرضَ هذهِ المسمياتِ على الملائكةِ، وقالَ لهمْ:{أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 31] في مضمونِ كلامكِم الأولِ الذي مقتضاهُ أنَّ تركَ خَلْقِهِ أولى، هذا بحسبِ ما بدا لهم في تلكَ الحالِ.
فعجزَتِ الملائكةُ عليهم السلام عن معرفةِ أسماءِ هذهِ المسمياتِ، وقالوا:{سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [البقرة: 32]، قال اللهُ:{يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ} [البقرة: 33] شاهَدَ الملائكةُ من كمالِ هذا المخلوقِ وعلمهِ ما لم يكنْ لهم في حسابٍ، وعرفوا بذلكَ على وجهِ التفصيلِ والمشاهدةِ كمالَ حكمةِ اللهِ، وعظَّمُوا آدمَ غايةَ التعظيمِ؛ فأرادَ اللهُ أنْ يُظهرَ هذا التعظيمَ والاحترامَ لآدمَ من الملائكةِ ظاهرًا وباطنًا، فقالَ للملائكةِ:{اسْجُدُوا لِآدَمَ} [البقرة: 34] احترامًا لهُ وتوقيرًا وتبجيلًا، وعبادةً منكم لربِّكم، وطاعةً ومحبةً وذلًّا؛ فبادرُوا كلُّهم أجمعونَ فسجدُوا.
(1)
زيادة من (خ).
وكان إبليسُ بينَهم، وقدْ وُجِّهَ إليهِ الأمرُ بالسجودِ معَهم، وكان من غيرِ عنصرِ الملائكةِ، كان من الجنِّ المخلوقينَ من نارِ السمومِ، وكان مُبْطِنًا للكفرِ باللهِ، والحسدِ لهذا الإنسانِ الذي فضَّلَهُ اللهُ هذا التفضيلَ؛ فحملَهُ كبرهُ وكفرهُ على الامتناعِ عن السجودِ لآدمَ؛ كفرًا باللهِ واستكبارًا.
ولم يكفهِ الامتناعُ حتى باحَ بالاعتراضِ على ربِّهِ، والقدحِ في حكمتهِ، فقالَ:{أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف: 12]، فقالَ اللهُ لهُ:{يَاإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ} [ص: 75]، فكان هذا الكفرُ والاستكبارُ والإباءُ منهُ وشدةُ النفارِ هوَ السببُ الوحيدُ أنْ يكونَ مطرودًا ملعونًا، فقالَ اللهُ لهُ:{فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ} [الأعراف: 13].
فلم يخضَعِ الخبيثُ لربهِ، ولم يتُبْ إليهِ، بلْ بارزَهُ بالعداوةِ، وصمَّمَ التصميمَ التامَّ على عداوةِ آدمَ وذريتهِ، ووطَّنَ نفسَهُ -لما عَلِمَ أنهُ حُتِمَ عليهِ الشقاءُ الأبديُّ- أنْ يدعوَ الذريةَ بقولهِ وفعلهِ وجنودهِ إلى أنْ يكونُوا من حزبهِ الذينَ كُتبَتْ لهم دارُ البوارِ، فقالَ:{رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36)} [الحجر: 36]؛ فيتفرغُ لإعطاءِ العداواتِ حقَّها في آدمَ وذريتهِ.
ولما كانتْ حكمةُ اللهِ اقتضَتْ أنْ يكونَ الآدميُّ مركبًا من طبائعَ متباينةٍ، وأخلاقٍ طيبةٍ أو خبيثةٍ، وكان لابدَّ من تمييزِ هذهِ الأخلاقِ، وتصفيتِها بتقديرِ أسبابِها من الابتلاءِ والامتحانِ الذي مِنْ أعظمهِ تمكينُ هذا العدوِّ من دعوتِهم إلى كلِّ شرٍّ - أجابَهُ فقالَ:{إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38)} [الحجر: 37 - 38].
فقالَ لربهِ معلنًا معصيتَهُ، وعداوتَهُ آدمَ وذريتَهُ:{فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17)} [الأعراف: 16 - 17]، قالَ إبليسُ هذهِ المقالةَ ظنًّا منهُ؛ لأنهُ عرَفَ ما جُبِلَ عليهِ الآدميُّ، {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [سبأ: 20].
فمكَّنَهُ اللهُ من الأمرِ الذي يريدهُ إبليسُ في آدمَ وذريتهِ، فقالَ اللهُ لهُ:{اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ} [الإسراء: 63 - 64] أي: إنْ قدرتَ فاجعَلْهم منحرفينَ في تربيةِ أولادِهم إلى التربيةِ الضارةِ، وفي صرفِ أموالِهم المصارفَ الضارةَ، وفي الكسبِ الضارِّ، وأيضًا شارِكْ منهم مَنْ إذْ تناولَ طعامًا أو شرابًا أو نكاحًا ولم يذكُرِ اسمَ اللهِ على ذلكَ في الأموالِ والأولادِ.
{وَعِدْهُمْ} أي: مُرْهُمْ أنْ يكذِّبوا بالبعثِ والجزاءِ، وألَّا يُقدِموا على خيرٍ، وخوِّفْهم من أوليائِكَ، وخوِّفْهم عندَ الإنفاقِ النافعِ بالفحشاءِ والبخلِ. وهذا من اللهِ لحكمٍ عظيمةٍ وأسرارٍ!
وإنكَ -أيها العدوُّ المبينُ- لا تُبقِي من مقدورِكَ في إغوائِهم شيئًا؛ فالخبيثُ منهم يظهرُ خبثهُ، ويتضحُ شرُّهُ، واللهُ لا يعبأُ بهِ، ولا يبالي بهِ.
وأما خواصُّ الذريةِ من الأنبياءِ، وأتباعِهم من الصديقينَ، والأصفياءِ، وطبقاتِ الأولياءِ، والمؤمنينَ؛ فإنَّ اللهَ تعالى لم يجعَلْ لهذا العدوِّ عليهم تسلطًا، بلْ أقامَ عليهم سورًا منيعًا، وهوَ حمايتهُ وكفايتهُ، وزوَّدَهم بسلاحٍ لا يمكنُ عدوهم مقاومتهم، بكمالِ الإيمانِ باللهِ، وقوةِ توكلِهم عليهِ:{إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [النحل: 99].
ومعَ ذلكَ فأعانَهم على مقاومةِ هذا العدوِّ المبينِ بأمورٍ كثيرةٍ:
* أنزَلَ عليهم كتبَهُ المحتويةَ على العلومِ النافعةِ، والمواعظِ المؤثرةِ، والترغيبِ إلى فعلِ الخيراتِ، والترهيبِ مِنْ فعلِ الشرورِ.
* وأرسلَ إليهم الرسلَ، مبشرينَ مَنْ آمنَ باللهِ وأطاعَهُ بالثوابِ العاجلِ [والآجلِ]
(1)
، ومنذرينَ مَنْ كفَرَ وكذَّبَ وتولَّى بالعقوباتِ المتنوعةِ.
* وضَمِنَ لمن اتبعَ هداهُ الذي أنزلَ بهِ كتبَهُ وأرسلَ بهِ رسلَهُ، ألَّا يضلَّ في الدنيا، ولا يشقَى في الآخرةِ، وأنهُ لا خوفَ عليهِ، ولا حزنَ يعتريهِ.
* وأرشدَهم في كتبهِ، وعلى ألسنةِ رسلهِ؛ إلى الأمورِ التي بها يحتمونَ مِنْ هذا العدوِّ المبينِ.
* وبيَّنَ لهم ما يدعُو إليهِ هذا الشيطانُ، وطرقَهُ التي يَصطادُ بها الخليقةَ.
* وكما بيَّنها لهم ووضحَها، فقد أرشدَهم إلى الطرقِ التي ينجونَ بها من شرهِ وفتنتهِ، وأعانَهم على ذلكَ إعانةً قدريةً خارجةً عن قدرتِهم؛ لأنهم لما بذلُوا المجهودَ واستعانوا بالمعبودِ سهَّلَ لهم كلَّ طريقٍ يوصلُ إلى المقصودِ.
ثم إنَّ اللهَ تعالى أتمَّ نعمتَهُ على آدمَ، فخلَقَ منهُ زوجتَهُ حواءَ من جنسهِ وعلى شكلهِ؛ ليسكنَ إليها، وتتمَّ المقاصدُ المتعددةُ من الزواجِ والالتئامِ، وتنبثَّ الذريةُ بذلكَ.
وقالَ لهُ ولزوجتهِ: إنَّ الشيطانَ عدوٌ لكما، فاحذراهُ غايةَ الحذرِ؛ فلا يخرجنَّكما من الجنةِ التي أسكنَكُما اللهُ إياها، وأباحَكُما أنْ تأكلَا من جميعِ ثمارِها، وأنْ تتمتَعا بجميعِ
(1)
زيادة من (خ).
لذاتِها، إلا شجرةً معينةً في هذهِ الجنةِ، فحرَّمها عليهما، فقالَ: ولا تأكلَا من هذه الشجرةِ فتكونَا من الظالمين
(1)
، وقال اللهُ لآدمَ في تمتيعهِ بهذه الجنةِ:{إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119)} [طه: 118 - 119].
فمكثَا في الجنةِ ما شاءَ اللهُ على هذا الوصفِ الذي ذكرَهُ اللهُ، وعدوُّهما يراقبُهما ويراصدُهما، وينظرُ الفرصةَ فيهما، فلما رأى سرورَ آدمَ بهذهِ الجنةِ، ورغبتَهُ العظيمةَ في دوامِها، جاءَهُ بطريقٍ لطيفٍ في صورةِ الصديقِ الناصحِ، فقالَ: يا آدمُ، هلْ أدلُّكَ على شجرةٍ إذا أكلتَ منها خلدْتَ في هذهِ الجنةِ، ودامَ لكَ الملكُ الذي لا يبلَى؟
فلمَ يزَلْ يوسوسُ ويزينُ ويسولُ ويعِدُ ويمنِّي، ويُلقِي عليهما من النصائحِ الظاهرةِ، وهيَ أكبرُ الغشِّ؛ حتى غرَّهما؛ فأكلَا من الشجرةِ التي نهاهما اللهُ عنها وحرَّمَها عليهما.
فلما أكلَا منها بدَتْ لهما سوآتُهما بعدما كانا مستورينِ، {وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ} [الأعراف: 22] على أنفسِهما من أوراقِ تلكَ الجنةِ، أي: يُلْزِقانِ على أبدانِهما العاريةِ؛ ليكونَ بدلَ اللباسِ. وسُقِطَ في أيدِيهما، وظهرَتْ في الحالِ عقوبةُ معصيتِهما، وناداهُما ربُّهما:{أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ} [الأعراف: 22].
فأوقَعَ اللهُ في قلوبِهما التوبةَ التامةَ، والإنابةَ الصادقةَ، وتلقَّى آدمُ من ربهِ كلماتٍ، وقالا:{رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23]، فتابَ اللهُ عليهما، ومحا الذنبَ الذي أصابَا، ولكنَّ الأمرَ الذي حذرَهما اللهُ منهُ -وهوَ الخروجُ من هذهِ الجنةِ إنْ تناولَا منها- تحتَّمَ ومضَى، فخرجَا منها إلى الأرضِ التي حُشِيَ خيرُها بشرِّها، وسرورُها بكدرِها.
(1)
كما في قوله تعالى: {فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأعراف: 19].
وأخبرَهما اللهُ أنهُ لابدَّ أنْ يبتليَهما وذريتَهما، وأنَّ مَنْ آمنَ وعملَ صالحًا كانتْ عاقبتهُ خيرًا من حالتهِ الأولى، ومَن كذَّبَ وتولَى فآخرُ أمرهِ الشقاءُ الأبديُّ والعذابُ السرمديُّ.
وحذَّرَ اللهُ الذريةَ منهُ فقالَ: {يَابَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف: 27]، وأبدلَهم اللهُ بذلكَ اللباسِ الذي نزعَهُ الشيطانُ من الأبوينِ، بلباسٍ يوارِي السَّوآتِ، ويحصلُ بهِ الجمالُ الظاهرُ في الحياةِ، ولباسٍ أعلى من ذلكَ، وهوَ لباسُ التقوَى، الذي هوَ لباسُ القلبِ والرُّوحِ بالإيمانِ والإخلاصِ والإنابةِ، والتحلِّي بكلِّ خلقٍ جميلٍ، والتخلِّي عن كلِّ خلقٍ رذيلٍ.
ثم بثَّ اللهُ من آدمَ وزوجَهُ رجالًا كثيرًا ونساءً، ونشرَهم في الأرضِ، واستخلفَهم فيها؛ لينظرَ كيفَ يعملونَ.
* فوائدُ مستنبطةٌ من هذهِ القصةِ، أصوليةٌ وفروعيةٌ وأخلاقٌ وآدابٌ:
* فمنها: أنَّ هذهِ القصةَ العظيمةَ ذكرَها اللهُ في كتابهِ في مواضعَ كثيرةٍ صريحةٍ
لا ريبَ فيها ولا شكَّ، وهيَ من أعظمِ القصصِ التي اتفقَتْ عليها الرسلُ، ونزلَتْ بها الكتبُ السماويةُ، واعتقَدَها جميعُ أتباعِ الأنبياءِ من الأولينَ والآخرينَ، حتى نبغَتْ في هذهِ الأزمانِ المتأخرةِ فرقةٌ خبيثةٌ زنادقةٌ أنكروا جميعَ ما جاءَتْ بهِ الرسلُ، وأنكروا وجودَ البارِي، ولم يثبتوا من العلومِ إلا العلومَ الطبيعيةَ التي وصلَتْ إليها معارفُهم القاصرةُ.
فبناءً على هذا المذهبِ -الذي هوَ أبعدُ المذاهبِ عن الحقيقةِ شرعًا وعقلًا- أنكروا آدمَ وحواءَ، وما ذكرَهُ اللهُ ورسولهُ عنهما، وزعموا أنَّ هذا الإنسانَ كان حيوانًا قردًا، أو شبيهًا بالقردِ، حتى ارتقَى إلى هذهِ الحالِ الموجودةِ!
وهؤلاءِ اغترُّوا بنظرياتِهم الخاطئةِ المبنيةِ على ظنونِ عقولٍ مِنْ أصلِها فاسدة، وتركوا لأجلِها جميعَ العلومِ الصحيحةِ، خصوصًا ما جاءَتْهم بهِ الرسلُ، وصَدَقَ عليهم قولهُ تعالى:{فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (83)} [غافر: 83].
وهؤلاءِ أمرُهم ظاهرٌ لجميعِ المسلمينَ، ولجميعِ المثبتينَ وجودَ البارِي، يعلمونَ أنهم أضلُّ الطوائفِ، ولكن تسربَ على بعضِ المسلمينَ مِنْ هذا المذهبِ الدهريِّ بعضُ الآثارِ والفروعِ المبنيةِ على هذا القولِ: إذْ فسَّرَ طائفةٌ من العصريينَ سجودَ الملائكةِ لآدمَ أنَّ معناهُ تسخيرُ هذا العالمِ للآدميينَ، وأنَّ الموادَّ الأرضيةَ والمعدنيةَ ونحوَها قدْ سخَّرَها اللهُ للآدميِّ، وأنَّ هذا هوَ معنى سجودِ الملائكةِ!
ولا يستريبُ مؤمنٌ باللهِ واليومِ الآخرِ أنَّ هذا مستمدٌّ من ذلكَ الرأيِ الأفنِ، وأنهُ تحريفٌ لكتابِ اللهِ، لا فرقَ بينَهُ وبينَ تحريفِ الباطنيةِ والقرامطةِ، وأنهُ إذا أُوِّلَتْ هذهِ القصةُ إلى هذا التأويلِ توجَّهَ نظيرُ هذا التحريفِ لغيرِها من قصصِ القرآنِ، وانقلبَ القرآنُ -بعدما كان تبيانًا لكلِّ شيءٍ وهدًى ورحمةً- رموزًا يمكنُ كلُّ عدوٍّ للإسلامِ أنْ يفعلَ بها هذا الفعلَ، فيبطلُ بذلكَ القرآنُ، وتعودُ هدايتهُ إضلالًا، ورحمتهُ نقمةً، سبحانَكَ هذا بهتانٌ عظيمٌ!
والمؤمنُ في هذا الموضعِ يكفيهِ لإبطالِ هذا القولِ الخبيثِ أنْ يتلوَ ما قصَّهُ اللهُ علينا من قصةِ آدمَ وسجودِ الملائكةِ؛ فيعلمُ أنَّ هذا منافٍ لما قصَدَ
(1)
اللهُ ورسولهُ غايةَ المنافاةِ، وإنْ زخرفَهُ أصحابهُ، ولوَّوا لهُ العباراتِ، ونسبُوهُ إلى بعضِ مَنْ يُحسنُ بهم الظنُّ، فالمؤمنُ لا يتركُ إيمانَهُ ولا كتابَ ربِّهِ لمثلِ هذه الترويجاتِ المغررةِ، أو المغرورِ أصحابُها.
(1)
في (خ): قصه.
* ومنها: فضيلةُ العلمِ، وأنَّ الملائكةَ لما تبيَّنَ لهم فضلُ آدمَ بعلمهِ عرفُوا بذلك كمالَهُ، وأنه يستحقُّ الإجلالَ والتوقيرَ.
* ومنها: أنَّ مَنْ منَّ اللهُ عليهِ بالعلمِ عليهِ أنْ يعترفَ بنعمةِ اللهِ عليهِ، وأنْ يقولَ كما قالتِ الملائكةُ والرسلُ:{سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} [البقرة: 32]، وأنْ يتوقَّى التكلمَ بما لا يعلمُ؛ فإنَّ العلمَ أعظمُ المننِ، وشكرُ هذهِ النعمةِ: بالاعترافِ للهِ بها، والثناءِ عليهِ بتعليمِها، وتعليمِ الجهالِ، والوقوفِ على ما عَلِمَهُ العبدُ، والسكوتِ عما لم يعلَمْهُ.
* ومنها: أنَّ اللهَ جعلَ هذهِ القصةَ لنا معتبرًا، وأنَّ الحسدَ والكبرَ والحرصَ من أخطرِ الأخلاقِ على العبدِ، فكِبْرُ إبليسَ وحسدُهُ لآدمَ صيَّرَهُ إلى ما ترَى، وحرصُ آدمَ وزوجهِ حملَهما على تناولِ الشجرةِ، ولولا تداركُ رحمةِ اللهِ لهما لأودَتْ بهما إلى الهلاكِ، ولكنَّ رحمةَ اللهِ تكملُ الناقصَ، وتجبرُ الكسيرَ، وتُنجِي الهالكَ، وترفعُ الساقطَ.
* ومنها: أنهُ ينبغِي للعبدِ إذا وقعَ في ذنبٍ أنْ يبادِرَ إلى التوبةِ والاعترافِ، ويقولَ ما قالَهُ الأبوانِ من قلبٍ خالصٍ، وإنابةٍ صادقةٍ؛ فما قصَّ اللهُ علينا صفةَ توبتِهما إلا لنقتديَ بهما، فنفوز بالسعادةِ، وننجو من الهلكةِ.
وكذلكَ ما أخبَرَنا بما قالَهُ الشيطانُ مِنْ توعدِنا وعزمهِ الأكيدِ على إغوائِنا بكلِّ طريقٍ؛ إلا لنستعدَّ لهذا العدوِّ الذي تظاهرَ بهذهِ العداوةِ البليغةِ المتأصلةِ، واللهُ يحبُّ منا أنْ نقاومَهُ بكلِّ ما نقدرُ عليهِ:
• مِنْ تجنبِ طرقهِ وخطواتهِ وفعلِ الأسبابِ التي يُخشى منها الوقوعُ في شباكهِ.
• ومِن عملِ الحصونِ: مِنْ الأورادِ الصحيحةِ، والأذكارِ القلبيةِ، والتعوذاتِ المتنوعةِ.
• ومِن السلاحِ المهلكِ لهُ: مِنْ صدقِ الإيمانِ، وقوةِ التوكلِ على اللهِ.
• ومراغمتهِ في أعمالِ الخيرِ.
• ومقاومةِ وساوسهِ والأفكارِ الرديئةِ التي يدفعُ بها إلى القلبِ كلَّ وقتٍ؛ بما يضادُّها ويبطلُها: من العلومِ النافعةِ، والحقائقِ الصادقةِ.
* ومنها: أنَّ فيها دلالةً لمذهبِ أهلِ السنةِ والجماعةِ المثبتينَ للهِ ما أثبتَهُ لنفسهِ من الأسماءِ الحسنَى والصفاتِ كلِّها، لا فرقَ بينَ صفاتِ الذاتِ، ولا بينَ صفاتِ الأفعالِ. ومنها: إثباتُ اليدينِ للهِ كما هوَ في قصةِ آدمَ صريحًا: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75]، فلهُ يدانِ حقيقةً، كما أنَّ ذاتَهُ لا تشبهُها الذواتُ، فصفاتهُ تعالى لا تشبهُها الصفاتُ.
قصة نوح صلى الله عليه وسلم
مكَثَ البشرُ بعدَ آدمَ قرونًا طويلةً وهم أمةٌ واحدةٌ على الهدَى، ثم اختلفُوا وأدخلَتْ عليهم الشياطينُ الشرورَ المتنوعةَ بطرقٍ كثيرةٍ.
فكان قومُ نوحٍ قدْ ماتَ منهم أناسٌ صالحونَ؛ فحزِنوا عليهم، فجاءَهم الشيطانُ فأمرَهم أنْ يصوِّروا تماثيلَهم؛ ليتسلَّوا بها وليتذكَّروا بها أحوالَهم، فكان هذا مبتدأَ الشرِّ.
فلما هلكَ الذينَ صوَّرُوهم لهذا المعنى جاءَ مَنْ بعدَهم وقدْ اضمحلَّ العلمُ، فقالَ لهم الشيطانُ: إنَّ هؤلاءِ -وَدًّا وسُواعًا ويَغُوثَ ويَعُوقَ ونَسرًا- قدْ كان أولُوكم يدعونَهم ويستشفعونَ بهم، وبهم يُسقَونَ الغيثَ وتَزولُ الأمراضُ، فلم يزَلْ بهم حتى انهمكُوا في عبادتِهم على رغمِ نصحِ الناصحينَ.
ثم بعثَ اللهُ فيهم نوحًا صلى الله عليه وسلم يعرفونَهُ ويعرفونَ صدقَهُ وأمانتَهُ وكمالَ أخلاقهِ، فقالَ:{يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59]، ورغبَهم في خيرِ الدنيا والآخرةِ فقالَ:{يَاقَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [نوح: 2 - 4].
فلما بادأهم بالأمرِ بالإخلاصِ للهِ، وتسفيهِ آرائِهم، وتخويفِهم بعقوباتِ الدنيا والآخرةِ؛ قالوا: ما نراكَ إلَّا في ضلالٍ مبينٍ
(1)
، {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} [هود: 27].
(1)
كما في قوله تعالى: {قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (60)} [الأعراف: 60].
وطلبوا منهُ أنْ يطردَ مَنْ كان معهُ من المؤمنينَ؛ استكبارًا منهم، واستنكافًا على الحقِّ وعلى الخلقِ، فبيَّنَ لهم أنهُ ليسَ بهِ ضلالٌ، وإنما بهِ تزولُ الضلالةُ عن الخلقِ، وأنهُ رسولٌ أمينٌ، على بينةٍ من ربهِ وبراهينَ واضحةٍ، وأنَّ المؤمنينَ لا يحلُّ طردُهم، بلْ حقُّهم الإكرامُ والاحترامُ، وأنهُ لا يدَّعي لهم طورًا يزاحمُ فيه الربَّ، فقالَ:{وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا} [هود: 31].
فلم يزَلْ يدعُوهم ليلًا ونهارًا، وسرًّا وجهارًا، فلم يزِدْهم دعاؤهُ إلا فرارًا ونفورًا وإعراضًا، وتواصيًا منهم على الإقامةِ على ما هم عليهِ من عبادةِ غيرِ اللهِ والتمسكِ بها؛ فقالَ نوحٌ:{رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا (21) وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22) وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23)} [نوح: 21 - 23].
فلما رأى أنَّ التذكيرَ لا ينفعُ فيهم بوجهٍ من الوجوهِ، وأنهُ كلَّما جاءَ قرنٌ كان أخبثَ مما قبلَهُ، قالَ:{رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27)} [نوح: 26 - 27].
فأجابَ اللهُ دعوتَهُ، وأمرَهُ أنْ يصنعَ الفلكَ برعايةٍ منهُ، وحسنِ نظرٍ، وتعليمٍ من اللهِ لهُ هذهِ الصنعةَ التي امتنَّ اللهُ بها على العبادِ، وصارَ نوحٌ لهُ الفضلُ والابتداءُ بهذهِ الصناعةِ التي حصلَ بها من المنافعِ الدينيةِ والدنيويةِ في جميعِ الأوقاتِ ما لا يعدُّ ولا يُحصَى. وأخبرَهُ اللهُ بتحتمِ إغراقِهم، [وألَّا]
(1)
يُخاطِبَ ربَّهُ فيهم؛ فإنهم ظالمونَ.
وجعل {يَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ} [هود: 38]، فقالَ لهم:{إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا} اليومَ، {فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ} إذا وقعَ الهلاكُ بكم.
(1)
كذا في (خ). وفي (ط): وأنه لا.
وأوحَى اللهُ إليهِ أنهُ إذا جاءَ ذلكَ الوقتُ {وَفَارَ التَّنُّورُ} أي: جُعِلَتِ الأرضُ كلُّها تتفجرُ عيونًا من كلِّ جانبٍ حتى المواضعِ البعيدةِ عن النارِ عادةً.
وأمرَهُ أنْ يحملَ من البهائمِ من كلِّ زوجينِ اثنينِ -ذكرٍ وأنثَى- ليبقَى نسلُها؛ لأنهُ يتعذرُ حملُها كلُّها، والحكمةُ تقتضِي إبقاءَ هذهِ الحيواناتِ التي خلَقَها اللهُ مسخرةً لمصالحِ البشرِ، ويحملَ معهُ جميعَ مَنْ آمنَ مِنْ رجالٍ ونساءٍ، والحالُ أنهُ:{مَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود: 40].
وأمرهُ أنْ يحملَ أهلَهُ، {إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ} [هود: 40] بالهلاكِ.
فلما أركبَ جميعَ مَنْ أُمِرَ بهم قالَ لهم: سمُّوا اللهَ كلَّما جرَتْ وكلَّما رسَتْ؛ لأنَّ الأسبابَ مهما عَظُمَتْ فهيَ من لطفِ اللهِ، ولا تمامَ لها إلا باللهِ.
فحينئذٍ فجَّرَ اللهُ الأرضَ عيونًا، وأمَرَ السماءَ أنْ تصبَّ الماءَ المنهمرَ الكثيرَ، فالتقَتْ مياهُ السماءِ بمياهِ الأرضِ، وساحَتْ على الأماكنِ المنخفضةِ، ثم ارتفعَتْ شيئًا فشيئًا على كلِّ المرتفعاتِ؛ حتى خفيَتْ قممُ الجبالِ الشاهقةِ، والسفينةُ {تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ} [هود: 42] تضربُ يمينًا وشمالًا.
وفي تلكَ الحالِ المزعجةِ، رأى نوحٌ ابنَهُ الكافرَ الذي كان على دينِ قومهِ، وقدْ اعتزلَ أباهُ حتى في هذهِ الحالِ، فرآهُ مثلَ سائرِ قومهِ قدْ فرَّ هاربًا من المياهِ الجارفةِ، فناداهُ نوحٌ مترقِّقًا، فقالَ:{يَابُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ} [هود: 42]، فتمادى بهِ الغرورُ في تلكَ الحالِ التي تنقشعُ فيها الغياهبُ إلا عن القلوبِ المحجوبةِ؛ فقالَ:{سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ} [هود: 43]، لم يخطِرْ ببالِهم أنَّ المياهَ سترتفعُ فوقَ
رؤوسِ الجبالِ، فقالَ لهُ نوحٌ:{لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ} [هود: 43] فلا يعصمُ جبلٌ ولا حصنٌ ولا غيرُ ذلكَ، إلا مَنْ رحِمَ اللهُ، ورحمتُهُ في تلكَ الحالِ متعينةٌ في ركوبِ السفينةِ معَ نوحٍ، {وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ} [هود: 43] فكان ذلكَ الابنُ من المغرقينَ.
فأغرقَ اللهُ جميعَ الكافرينَ، ونجَّى نوحًا ومَن معهُ أجمعينَ، وكان في ذلكَ آيةٌ على أنَّ ما جاءَ بهِ نوحٌ -من التوحيدِ والرسالةِ والبعثِ والدينِ- حقٌّ، وأنَّ مَنْ خالفَهُ فإنهُ مبطلٌ، ودليلٌ على الجزاءِ في الدنيا لأهلِ الإيمانِ بالنجاةِ والكرامةِ، ولأهلِ الكفرِ بالهلاكِ والإهانةِ.
فلما حصَلَ هذا المقصودُ العظيمُ أمَرَ اللهُ السماءَ أنْ تقلعَ عن الماءِ، والأرضَ أنْ تبلعَ ما فيها، {وَغِيضَ الْمَاءُ} [هود: 44] أي: نقُصَ شيئًا فشيئًا، {وَاسْتَوَتْ} السفينةُ بعدَ غيضِ الماءِ {عَلَى الْجُودِيِّ} وهوَ جبلٌ شامخٌ معروفٌ في نواحي «الموصل» ، وهذا دليلٌ على أنَّ جميعَ الجبالِ قدْ غمرَتْها المياهُ وجاوزَها الطوفانُ.
وحزِنَ نوحٌ على ابنهِ؛ فقالَ مناديًا ربَّهُ مترققًا متضرِّعًا: يا {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ} [هود: 45] أنْ أحملَ معي أهلي وأنتَ أرحم الراحمينَ، فقالَ لهُ ربهُ:{إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} [هود: 46] أي: الموعودِ بنجاتِهم؛ لأنَّ اللهَ قيَّدَ ذلكَ بقولهِ: {إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ} [هود: 40]، {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود: 46] أي: هذا الدعاءُ لابنِكَ الذي على دينِ قومهِ بالنجاةِ، {فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [هود: 46] وهذا عتابٌ منهُ لنوحٍ وتعليمٌ لهُ وموعظةٌ عن مثلِ هذا الدعاءِ، الذي إنما حملَهُ عليهِ الشفقةُ الأبويةُ، وإنما الواجبُ في الدعاءِ أنْ يكونَ الحاملُ لهُ العلمَ والإخلاصَ في طلبِ رضا اللهِ تعالى.
فهبَطَ، وبارَكَ اللهُ في ذريتهِ، وجعَلَ {ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} [الصافات: 77]، فكان أولادُهُ: يافِث ملأَ المشرقَ من الذريةِ، وحام ملأَ المغربَ من النسلِ، وسام ملأَ ما بينَ ذلكَ.
ومكَثَ في قومهِ {أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا} [العنكبوت: 14]، ومكثَ بعدَ هلاكِهم ما شاءَ اللهُ.
وكان مِنْ أولي العزمِ من المرسلينَ، ومِن الخمسةِ الذينَ تدورُ عليهم الشفاعةُ يومَ القيامةِ، وهوَ أولُ الرسلِ إلى الناسِ، وهوَ الأبُ الثاني للبشرِ صلى الله عليه وسلم تسليمًا.
* يُستفادُ مِنْ هذهِ القصةِ أمورٌ:
* منها: أنَّ جميعَ الرسلِ من نوحٍ إلى محمدٍ -صلى اللهُ عليهم وسلمَ- متفقونَ على الدعوةِ إلى التوحيدِ الخالصِ، والنهيِ عن الشركِ، فنوحٌ وغيرُه أولُ ما يقولونَ لقومِهم:{اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59]، [ويقرِّرونَ]
(1)
هذا الأصلَ بطرقٍ كثيرةٍ.
* ومنها: آدابُ الدعوةِ وتمامُها:
• فإنَّ نوحًا دعَا قومَهُ ليلًا ونهارًا، وسرًّا وجهارًا، بكلِّ وقتٍ، وبكلِّ حالةٍ يَظنُّ فيها نجاحَ الدعوةِ.
(1)
كذا في (خ). وفي (ط): ويكررون.
• وأنهُ رغبَهم بالثوابِ العاجلِ بالسلامةِ من العقابِ، وبالتمتيعِ بالأموالِ والبنينَ، وإدرارِ الأرزاقِ إذا آمنوا، وبالثوابِ الآجلِ.
• وحذَّرَهم من ضدِّ ذلكَ.
• وصبَرَ على هذا صبرًا عظيمًا كغيرهِ من الرسلِ.
• وخاطبَهم بالكلامِ الرقيقِ والشفقةِ، وبكلِّ لفظٍ جاذبٍ للقلوبِ محصلٍ للمطلوبِ.
• وأقامَ الآياتِ، وبيَّنَ البراهينَ.
* ومنها: أنَّ الشُّبَهَ التي قدَحَ فيها أعداءُ الرسلِ برسالتِهم من الأدلةِ على إبطالِ قولِ المكذبينَ، فإنَّ الأقوالَ التي قالوها -ولم يكنْ عندَهم غيرُها- ليسَ لها حظٌّ من العلمِ والحقيقةِ عندَ كلِّ عاقلٍ:
• فقولُ قومِ نوحٍ: {مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} [هود: 27] تأمَّلْ جُمَلَها تجِدْها تمويهاتٍ دالةً على أنهم مبطلونَ مكابرونَ للحقيقةِ؛ فقولُهم: {مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا} [هود: 27] فهلْ في كونِ الحقِّ جاءَ على يدِ بشرٍ شيءٌ من الشبهةِ تدلُّ على أنهُ ليسَ بحقٍّ؟!
ومضمونُ هذا الكلامِ: أنَّ كلَّ قولٍ قالَهُ البشرُ من أيِّ مصدرٍ يكونُ باطلًا، وهذا قدحٌ منهم في جميعِ العلومِ البشريةِ المستفادةِ من البشرِ، ومعلومٌ أنَّ هذا يُبطِلُ العلومَ كلَّها، فهلْ عندَ البشرِ علومٌ إلا مستفيدُها بعضُهم من بعضٍ، وهيَ متفاوتةٌ، فأعظمُها وأصدقُها وأنفعُها ما تلقاهُ الناسُ عن الرسلِ الذينَ علومُهم عن وحيٍ إلهيٍّ.
• وكذلكَ قولُهم: {مَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ} [هود: 27] أي: نحنُ وأنتم بشرٌ.
وقدْ أجابَتِ الرسلُ كلُّهم عن هذهِ المقالةِ فقالوا: {إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [إبراهيم: 11]، فمَنَّ اللهُ على الرسلِ، وخصَّهم بالوحيِ والرسالةِ، معَ أنَّ إنكارَهم عليهم مِنْ هذهِ الجهةِ مِنْ أكبرِ الجهلِ وأعظمِ القدحِ في نعمةِ اللهِ؛ فإنَّ رحمَةَ اللهِ وحكمتَهُ اقتضَتْ أنْ يكونَ الرسلُ من البشرِ؛ ليتمكنَ العبادُ من الأخذِ عنهم، وتتيسرَ عليهم هذهِ النعمةُ، ويسهلَ اللهُ لهم طرقَها، فهؤلاءِ المكذبونَ كفروا بأصلِ النعمةِ، وبالطريقِ المستقيمِ النافعِ الذي جاءَتْهم بهِ.
• وكذلكَ قولُهم: {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا} [هود: 27]، من المعلومِ لكلِّ أحدٍ عاقلٍ أنَّ الحقَّ يُعرَفُ أنهُ حقٌّ بنفسهِ، لا بمَن تَبِعَهُ، وأنَّ هذا القولَ الذي قالوهُ صدرَ عن كِبْرٍ وتيهٍ، والكبرُ أكبرُ مانعٍ للعبدِ من معرفةِ الحقِّ ومن اتباعهِ.
• وأيضًا قولُهم: {أَرَاذِلُنَا} [هود: 27] إنْ أرادوا الفقرَ فالفقرُ ليسَ من العيوبِ، وإنْ أرادوا {أَرَاذِلُنَا} في الأخلاقِ فهذا كذبٌ معلومٌ بالبديهةِ، وإنما الأراذلُ الذينَ قالوا هذهِ المقالةَ.
فهلْ الإيمانُ باللهِ ورسلهِ، وطاعةُ اللهِ ورسلهِ، والانقيادُ للحقِّ، والسلامةُ من كلِّ خصلةٍ ذميمةٍ، هلْ هذا الوصفُ رذيلةٌ، وأهلُهُ أراذلُ؟! أمُ الرذيلةُ بضدِّهِ: مَنْ ترَكَ أفرضَ الفروضِ توحيدَ اللهِ وشكرَهُ وحدَه، [وامتلَأَ قلبُهُ]
(1)
من التكبرِ على الحقِّ وعلى الخلقِ؟! هذا -واللهِ- أرذلُ الرذائلِ، ولكنَّ القومَ مباهتونَ، فما نقمُوا من هؤلاءِ الأخيارِ {إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج: 8].
(1)
كذا في (خ). وفي (ط): وامتلاء القلب.
• وقولُهم: {بَادِيَ الرَّأْيِ} [هود: 27] أي: مبادرةً منهم إلى الإيمانِ بكَ يا نوحُ، لم يُشاورِوا ولمَ يتأنَّوا ويتروَّوا. لوْ فُرِضَ أنَّ هذا حقيقةٌ فهذا من أدلةِ الحقِّ، فإنَّ الحقَّ عليهِ من البراهينِ والنورِ والجلالةِ والبهاءِ والصدقِ والطمأنينةِ، ما لا يحتاجُ إلى مشاورةِ أحدٍ باتباعهِ، وإنما التي تحتاجُ إلى مشاورةٍ هيَ الأمورُ الخفيةُ، التي لا تُعلمُ حقيقتُها ولا منفعتُها، أما الإيمانُ الذي هوَ أجلَى من الشمسِ في نورِها، وأحلَى من كلِّ [شيءٍ]
(1)
، فما يتأخرُ عنهُ إلا كلُّ متكبرٍ جبارٍ أمثال هؤلاءِ الطغاةِ البغاةِ.
• وقولُهم: {وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ} [هود: 27] هلْ في هذا الكلامِ شيءٌ من الإنصافِ بوجهٍ؛ لأنهم يخبرونَ عن أنفسِهم، وكلامُهم يَحتملُ أنهُ الذي في قلوبِهم، ويحتملُ أنهم يقولونَ ما لا يعتقدونَ، وعلى كلا الأمرينِ فالحقُّ يجبُ قبولهُ، سواءٌ أقالَهُ الفاضلُ أو المفضولُ؛ الحقُّ أعلى من كلِّ شيءٍ.
• وكذلكَ قولُهم: {بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} [هود: 27] معلومٌ أنَّ الظنَّ أكذبُ الحديثِ، ثم لوْ قالوا: بلْ نَعلَمُكم كاذبينَ، فهذهِ كلُّ مبطلٍ يقدرُ أنْ يقولَها، ولكنْ بأيِّ شيءٍ استدلَلْتُم أنهم كاذبونَ؟ فهذهِ أدلتُهم وبراهينُهم أَبطلَتْ نفسَها بنفسِها كما ترَى، فكيفَ وقدْ قابلَها الرسلُ بالأدلةِ والبراهينِ المتنوعةِ التي لا تُبقي ريبًا لأحدٍ في بطلانِها.
* ومنها: أنَّ من فضائلِ الأنبياءِ وأدلةِ رسالتِهم إخلاصَهم التامَّ للهِ تعالى في عبوديتِهم للهِ القاصرةِ، وفي عبوديتِهم المتعديةِ لنفعِ الخلقِ كالدعوةِ والتعليمِ وتوابعِ ذلكَ؛ ولذلكَ يُبدونَ ذلكَ ويعيدونَهُ على أسماعِ قومِهم، كلٌّ منهم يقولُ:{يَاقَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ} [هود: 29].
(1)
كذا في (خ). وفي (ط): أحد.
ولهذا كان من أجلِّ الفضائلِ لأتباعِ الرسلِ: أنْ يكونوا مقتدينَ بالرسلِ في هذهِ الفضيلةِ، واللهُ تعالى يجعلُ لهم من فضلهِ من رفعةِ الدنيا والآخرةِ أعظمَ مما يتنافسُ فيه طلابُ الدنيا.
* ومنها: أنَّ القدحَ في نياتِ المؤمنينَ، وفيما مَنَّ اللهُ عليهم بهِ من الفضائلِ، والتألِّي على اللهِ أنهُ لا يؤتِيهم من فضلهِ؛ من مواريثِ أعداءِ الرسلِ؛ فلهذا قالَ نوحٌ لقومهِ حينَ تألَّوا على اللهِ، وتوسَّلوا في ذمِّ المؤمنينَ بهِ بذلكَ، فقالَ:{وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ} [هود: 31].
* ومنها: أنهُ ينبغِي الاستعانةُ باللهِ، وأنْ يذكرَ اسمُهُ عندَ الركوبِ والنزولِ، وفي جميعِ التقلباتِ والحركاتِ؛ وحمدُ اللهِ، والإكثارُ من ذكرهِ عندَ النعمِ، لاسيما النجاة من الكرباتِ والمشقاتِ، كما قالَ تعالى:{وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} [هود: 41]، وقال:{فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [المؤمنون: 28].
وأنهُ ينبغِي أيضًا الدعاءُ بالبركةِ في نزولِ المنازلِ العارضةِ، كالمنازلِ في إقاماتِ السفرِ وغيرهِ، والمنازلِ المستقرةِ كالمساكنِ والدورِ؛ لقولهِ:{وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ} [المؤمنون: 29].
وفي ذلكَ كلِّهِ: من استصحابِ ذكرِ اللهِ، ومن القوةِ على الحركاتِ والسكناتِ، ومن قوةِ الثقةِ باللهِ، ومن نزولِ بركةِ اللهِ التي خيرُ ما صحبَتِ العبدَ في أحوالهِ كلِّها - ما لا غنًى للعبدِ عنهُ طرفةَ عينٍ.
* ومنها: أنَّ تقوى اللهِ والقيامَ بواجباتِ الإيمانِ من جملةِ الأسبابِ التي تُنالُ بها الدنيا، وكثرةُ الأولادِ والرزقِ، وقوةُ الأبدانِ، وإنْ كان لذلكَ أيضًا أسبابٌ أخرُ. وهيَ
(1)
السببُ الوحيدُ الذي ليسَ هناكَ سببٌ سواهُ في نيلِ خيرِ الآخرةِ، والسلامةِ من عقابِها.
* ومنها: أنَّ النجاةَ من العقوباتِ العامةِ الدنيويةِ هيَ للمؤمنينَ، وهم الرسلُ وأتباعُهم، وأما العقوباتُ الدنيويةُ العامةُ فإنها تختصُّ بالمجرمينَ، ويتبعُهم توابعُهم من ذريةٍ وحيوانٍ، وإنْ لم يكنْ لها ذنوبٌ؛ لأنَّ الوقائعَ التي أوقعَ اللهُ بأصنافِ المكذبينَ شملَتِ الأطفالَ والبهائمَ.
وأمَّا ما يُذكرُ في بعضِ الإسرائيلياتِ: أنَّ قومَ نوحٍ أو غيرَهم لما أرادَ اللهُ إهلاكَهم أعقمَ الأرحامَ حتى لا يتبعهم في العقوبةِ أطفالُهم؛ فهذا ليسَ لهُ أصلٌ، وهوَ منافٍ للأمرِ المعلومِ، وذلكَ مصداقٌ لقولهِ تعالى:{وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال: 25].
(1)
أي: التقوى.
قصة هود عليه الصلاة والسلام
بعثَ اللهُ هودًا عليه الصلاة والسلام إلى قومهِ {عَادًا الْأُولَى} [النجم: 50]، المقيمينَ بالأحقافِ من رمالِ حضرموتَ؛ لما كثُرَ شرُّهم، وتجبرُوا على عبادِ اللهِ وقالوا:{مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} [فصلت: 15]، معَ شركِهم باللهِ وتكذيبِهم لرسلِ اللهِ، فأرسلَهُ اللهُ إليهم يدعُوهم إلى عبادةِ اللهِ وحدَهُ، وينهاهم عن الشركِ والتجبرِ على العبادِ، ويدعُوهم بكلِّ وسيلةٍ، ويذكِّرُهم ما أنعمَ اللهُ عليهم بهِ من خيرِ الدنيا والبسطةِ في الرزقِ والقوةِ.
فردُّوا دعوتَهُ، وتكبَّرُوا عن إجابتهِ، وقالوا:{مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الشعراء: 154]، وهم كاذبونَ في هذا الزعمِ؛ فإنهُ ما من نبيٍّ إلا أعطاهُ اللهُ من الآياتِ ما على مثلهِ يؤمِنُ البشرُ، ولوْ لم يكنْ من آياتِ الرسلِ إلا أنَّ نفسَ الدِّينِ الذي جاؤوا بهِ أكبرُ دليلٍ أنهُ من عندِ اللهِ؛ لإحكامهِ، وانتظامهِ للمصالحِ في كلِّ زمانٍ بحسبهِ، وصدقِ أخبارهِ، وأمرهِ بكلِّ خيرٍ، ونهيهِ عن كلِّ شرٍّ، وأنَّ كلَّ رسولٍ يصدِّقُ مَنْ قبلَهُ ويشهَدُ لهُ، ويصدِّقُهُ مَنْ بعدَهُ ويشهَدُ لهُ.
ومنِ آياتِ هودٍ الخاصةِ: أنهُ متفرِّدٌ وحدَهُ في دعوتهِ وتسفيهِ أحلامِهم وتضليلِهم والقدحِ في آلهتِهم، وهم أهلُ البطشِ والقوةِ والجبروتِ، وقدْ خوَّفوهُ بإلهتِهم إنْ لم ينتهِ أنْ تمسَّهُ بجنونٍ أو سوءٍ؛ فتحداهم علنًا، وقالَ لهم جهارًا:{إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)} [هود: 54 - 56]، فلم يصلُوا إليهِ بسوءٍ.
فأيُّ آيةٍ أعظمُ من هذا التحدِّي لهؤلاءِ الأعداءِ الحريصينَ على إبطالِ دعوتهِ بكلِّ طريقٍ!
فلما انتهَى طغيانُهم تولَّى عنهم وحذَّرَهم نزولَ العذابِ، فجاءَهم العذابُ معترِضًا في الأفقِ، وكان الوقتُ وقتَ شدةٍ عظيمةٍ وحاجةٍ شديدةٍ إلى المطرِ، فلما استبشرُوا وقالوا:{هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} [الأحقاف: 24]، قالَ اللهُ:{بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ} ، بقولِكم:{فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الأحقاف: 22]، {رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ} [الأحقاف: 24 - 25] تمرُّ عليه: ف {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} [الحاقة: 7]، {فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} [الأحقاف: 25]
فبعدَما كانتِ الدنيا لهم ضاحكةً، والعزُّ بليغٌ، ومطالبُ الحياةِ متوفرةٌ، وقدْ خضَعَ لهم مَنْ حولَهم مِنْ الأقطارِ والقبائلِ؛ إذْ أرسلَ اللهُ إليهم {رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ} [فصلت: 16]، {وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ} [هود: 60]، ونجَّى اللهُ هودًا ومَن معَهُ من المؤمنينَ.
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً} [الشعراء: 139] على كمالِ قدرةِ اللهِ، وإكرامهِ الرسلَ وأتباعَهم، ونصرِهم في الحياةِ الدنيا ويومَ يقومُ الأشهادُ، وآيةً على إبطالِ الشركِ، وأنَّ عواقبَهُ شرُّ العواقبِ وأشنعُها، وآيةً على البعثِ والنشورِ.
* فوائدُ من هذهِ القصةِ:
* فيها ما تقدَّمَ في قصةِ نوحٍ من الفوائدِ المشتركةِ بينَ الرسلِ.
* ومنها: أنَّ اللهَ بحكمتهِ يقصُّ علينا نبأَ الأممِ المجاورينَ لنا في جزيرةِ العربِ وما حولَها؛ لأنَّ القرآنَ يذكرُ أعلى الطرقِ في التذكيرِ، واللهُ تعالى صرَّفَ فيه التذكيراتِ تصريفًا نافعًا، ولا ريبَ أنَّ الأقطارَ النائيةَ عنَّا في مشارقِ الأرضِ ومغاربِها قدْ بعَثَ اللهُ إليهم رسلًا، ولهم معهم نظيرُ ما للمذكورينَ من إجابةٍ وردٍّ وإكرامٍ وعقوبةٍ.
وما من أمةٍ إلا بعثَ اللهُ فيهم رسولًا، ولكن نفعَنا بتذكيرِنا بما حولَنا، وما نتناقلُهُ جيلًا بعدَ جيلٍ، بل ما نشاهدُ آثارَهم، ونمرُّ بديارِهم كلَّ وقتٍ، ونفهمُ لغاتِهم، وطبائعُهم أقربُ إلى طبائعِنا، لا ريبَ أنَّ نفعَ هذا عظيمٌ، وأنهُ أولى من تذكيرِنا بأممٍ لم نسمَعْ لهم بذكرٍ ولا خبرٍ، ولا نعرفُ لغاتِهم، ولا تتصلُ إلينا أخبارُهم بما يطابقُ ما يخبرُنا اللهُ بهِ.
فيُؤخذُ من هذا: أنَّ تذكيرَ الناسِ بما هوَ أقربُ إلى عقولِهم، وأنسبُ لأحوالِهم، وأدخلُ في مداركِهم، وأنفعُ لهم من غيرهِ؛ أولى من التذكيراتِ بطرقٍ أخرى وإنْ كانتْ حقًّا، لكنَّ الحقَّ يتفاوتُ.
والمذكِّرُ والمعلِّمُ إذا سلَكَ هذا الطريقَ واجتهدَ في إيصالِ العلمِ والخيرِ إلى الناسِ بالوسائلِ التي يفهمونَها، ولا ينفرونَ منها، أو تكونُ أقربَ لإقامةِ الحجةِ عليهم- نفَعَ وانتفعَ.
وأشارَ البارِي إلى هذا في آخرِ قصةِ عادٍ، فقالَ:{وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ} [الأحقاف: 27] أي: نوَّعْناها بكلِّ فنٍّ ونوعٍ؛ {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأحقاف: 27] أي: ليكونَ أقربَ لحصولِ الفائدةِ.
* ومنها: أنَّ اتخاذَ المبانِي الفخمةِ للفخرِ والخيلاءِ والزينةِ، وقهرِ العبادِ بالجبروتِ؛ من الأمورِ المذمومةِ الموروثةِ عن الأممِ الطاغيةِ، كما قالَ اللهُ في قصةِ عادٍ
وإنكارِ هودٍ عليهم، قالَ:{أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129)} [الشعراء: 128 - 129].
وبالجملةِ: فالبناياتُ للقصورِ والحصونِ والدورِ وغيرها من الأبنيةِ:
• إما أنْ تُتخذَ مساكنَ للحاجةِ إليها، والحاجاتُ تتنوعُ وتختلفُ، فهذا النوعُ من الأمورِ المباحةِ، وقدْ يُتوسلُ بهِ بالنيةِ الصالحةِ إلى الخيرِ.
• وإما أنْ تكونَ البناياتُ حصونًا واقيةً لشرورِ الأعداءِ، وثغورًا تُحفظُ بها البلادُ ونحوُها مما ينفعُ المسلمينَ، ويقِيهم الشرَّ؛ فهذا النوعُ يدخلُ في الجهادِ في سبيلِ اللهِ، وهوَ داخلٌ في الأمرِ باتخاذِ الحذرِ من الأعداءِ.
• وإما أنْ يكونَ للفخرِ والخيلاءِ، والبطشِ بعبادِ اللهِ، وتبذيرِ الأموالِ التي يتعينُ صرفُها في طرقٍ نافعةٍ؛ فهذا النوعُ هوَ المذمومُ الذي أنكرَهُ اللهُ على عادٍ وغيرِهم.
* ومنها: أنَّ العقولَ والأذهانَ والذكاءَ، وما يتبعُ ذلكَ من القوةِ الماديةِ، وما ترتبَ عليها من النتائجِ والآثارِ وإن عظمَتْ وبلغَتْ مبلغًا هائلًا؛ فإنها لا تنفعُ صاحبَها إلا إذا قارنَها الإيمانُ باللهِ ورسلهِ.
وأما الجاحدُ لآياتِ اللهِ المكذبُ لرسلِ اللهِ فإنهُ وإنْ استدرِجَ في الحياةِ وأُمهلَ فإن عاقبتَهُ وخيمةٌ، وسمعهُ وبصرهُ وعقلهُ لا يُغني عنهُ شيئًا إذا جاءَ أمرُ اللهِ، كما قالَ اللهُ عن عادٍ:{وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (26)} [الأحقاف: 26]، وفي الآيةِ الأخرى:{فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ} [هود: 101].
قصة صالح عليه الصلاة والسلام
كانتْ ثمودُ -وهيَ عادٌ الثانية- يسكنونَ في «الحِجْرِ» وما حولَها، وكانوا أهلَ مواشٍ كثيرةٍ، وأهلَ حروثٍ وزروعٍ، وتواصلَتْ عليهم النعمُ، فكانوا يتخذونَ من السهولِ قصورًا مزخرفةً، ومن الجبالِ بيوتًا منحوتةً متقنةً، فبطرُوا النعمَ وكفروها، وعبدُوا غيرَ اللهِ، فأرسلَ اللهُ إليهم أخاهم صالحًا من قبيلتِهم، يعرفونَ نسبَهُ وحسبَهُ، وفضلَهُ وكمالَهُ، وصدقَهُ وأمانتَهُ، فدعاهم إلى اللهِ وإلى إخلاصِ الدينِ لهُ، وتركِ ما كانوا يعبدونَ من دونهِ، وذكَّرَهم بنعمِ اللهِ، وبأيامهِ بالأممِ المجاورةِ لهم، فلم يتبعْهُ إلا القليلُ.
وحينَ ذكَّرَهم وأقامَ الأدلةَ والبراهينَ على وجوبِ توحيدِ اللهِ اشمأزُّوا ونفرُوا واستكبرُوا، وقالوا:{يَاصَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا} [هود: 62] أي: قدْ كنَّا قدْ تخايَلْنا فيكَ أنْ تفضلَنا جميعًا؛ لكمالِكَ وكمالِ أخلاقِكَ، وآدابِكَ الطيبةِ. وهذا اعترافٌ منهم لهُ بهذهِ الأمورِ قبلَ أنْ يقولَ ما قالَ، فما نزَّلَهُ عن هذهِ المرتبةِ عندَهم إلا أنهُ دعاهم إلى عبادةِ الخالقِ من عبادةِ العبيدِ، وإلى السعادةِ الأبديةِ! وما ذنبُهُ إلا أنهُ خالفَ آباءَهم الضالينَ، وهم كانوا أضلَّ منهم!
ثم أقامَ لهم بينةً عظيمةً، وآيةً وبرهانًا ونعمةً على جميعِ القبيلةِ بأسرِها، وقالَ:{هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ} [هود: 64] التي لا يشبهُها شيءٌ من النوقِ في ذاتِها وشرفِها ومنافعِها، {لَكُمْ آيَةً} على صدقِي وعلى سعةِ رحمةِ ربِّكم، {فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ} على اللهِ رزقُها، ولكمَ نفعُها، تَرِدُ الماءَ يومًا؛ فتَرِدُ القبيلةُ بأسرِها على ضرعِها، كلٌّ يصدرُ عن ضرعِها قدْ ملأَ آنيتَهُ، ثم تَرِدُونَ أنتم في اليومِ الثاني، فمكثَتْ على هذا ما شاءَ اللهُ.
وكان في مدينتِهم {تِسْعَةُ رَهْطٍ} [النمل: 48] من شياطينِهم قدْ قاوَمُوا ما جاءَ بهِ صالحٌ أشدَّ المقاومةِ، يصدونَ عن سبيلِ اللهِ، و {يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ} [النمل: 48]، وكان صالحٌ قدْ حذَّرَهم من عقرِ الناقةِ لما رأى من كبرِهم وردِّهم الحقَّ، فأولُ ما فعلَ أولئكَ الملأُ الأشرارُ أنْ عقدُوا مجلسًا عامًّا ليتفقُوا على عقرِ الناقةِ، فاتفقُوا، فانتُدِبَ لذلكَ أشقى القبيلةِ؛ ولهذا قالَ اللهُ تعالى:{إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا} [الشمس: 12] أي: بعدَ اتفاقِهم وندبِهم إياهُ بعثوهُ لذلكَ، فانبعَثَ واستعدَّ وتكفَّلَ لهم بعقرِها، وهم جميعُهم راضونَ بلْ آمرونَ، فعقَرَها فكان هذا العقرُ مؤذنًا بهلاكِ القبيلةِ بأسرِها.
فلما شعرَ صالحٌ بالأمرِ، ورأى منظرًا فظيعًا؛ عَلِمَ أنَّ العذابَ قدْ تحتمَ لا محالةَ؛ لأنَّ الجريمةَ قدْ تفاقمَتْ، ولم يبقَ حالةٌ يُرجَى فيها لهم تقويمٌ، فقالَ لهم صالحٌ:{تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} [هود: 65]، ونبَّهَ بهذا الكلامِ دانِيَهم وقاصِيَهم.
ففي أثناءِ هذهِ المدةِ اتفقَ هؤلاءِ الرهطُ التسعةُ على أمرٍ أغلظَ من عقرِ الناقةِ: على قتلِ نبيِّهم صالحٍ، وتعاهدُوا وتعاقدُوا وحلفُوا الأيمانَ المغلظةَ، وكتمُوا أمرَهم خشيةً من منعِ أهلِ بيتهِ، لأنهُ في بيتِ عزٍّ وشرفٍ، وقالوا:{لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ} [النمل: 49]، ثم إذا ظُنَّ بنا أننا قتلناهُ حلَفْنا لأوليائهِ إننا {مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} .
فدبَّروا هذا المكرَ العظيمَ، ولكنهم يمكرونَ ويمكرُ اللهُ لنبيهِ صالحٍ، فحينَ كمنُوا في أصلِ جبلٍ لينظروا الفرصةَ في صالحٍ؛ بدأَ اللهُ بعقوبتِهم، فكانوا سلفًا مقدمًا لقومِهم إلى نارِ جهنمَ، فأرسلَ اللهُ صخرةً من أعلى الجبلِ فشدخَتْهم، وقُتلُوا أشنعَ قتلةٍ.
ثم لما تمَّتْ ثلاثةُ هذهِ الأيامِ جاءَتْهم صيحةٌ مِنْ فوقِهم، ورجفةٌ مِنْ أسفلَ منهم، فأصبحوا خامدِينَ، ونجَّى اللهُ صالحًا ومن معَهُ من المؤمنينَ، وتولَّى عنهم وقالَ:{يَاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف: 79].
* فوائدُ تتعلقُ بهذهِ القصةِ:
منها: أنَّ جميعَ الأنبياءِ دعوتهم واحدةٌ، وأنَّ مَنْ كذَّبَ واحدًا منهم فقدْ كذَّبَ الجميعَ؛ لأنهُ يكذِّبُ الحقَّ الذي جاءَ بهِ كلُّ واحدٍ منهم؛ ولهذا يقولُ في كلِّ قصةٍ:{كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105)} [الشعراء: 105]، {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ (123)} [الشعراء: 123]، {كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141)} [الشعراء: 141].
* ومنها: أنَّ عقوباتِ اللهِ للأممِ الطاغيةِ عندَ تناهِي طغيانِها وتفاقمِ جرائمِها، فكفرُهم وتكذيبُهم موجبٌ للهلاكِ، ولكنَّ تحتمَ الإهلاكِ عندَ تناهي الشرورِ؛ ولهذا أرجَى ما يكونُ لوقوعِ العقوبةِ بالظالمينَ المجرمينَ عندَ تناهي إجرامِهم؛ لأنَّ اللهَ تعالى بالمرصادِ، فيمهِلُ ثم يمهِلُ، حتى إذا أخذَهم أخذَهم أخذَ عزيزٍ مقتدرٍ.
* ومنها: أنَّ العقائدَ الباطلةَ الراسخةَ المأخوذةَ عمن يُحسَنُ بهم الظنُّ من آباءٍ أو غيرِهم؛ من أكبرِ الموانعِ لقبولِ الحقِّ، والحالُ أنها ليستْ في العيرِ ولا في النفيرِ، ولا لها مقامٌ في الحججِ الصحيحةِ الدالةِ على الحقائقِ؛ فلهذا أكبرُ ما رَدَّ بهِ قومُ صالحٍ لدعوتهِ أنْ قالوا:{أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} [هود: 62]، وقالتْ جميعُ الأممِ المكذبةِ رادِّينَ لدعوةِ الرسلِ:{إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف: 23].
وهذا سبيلٌ لا يزالُ معمورًا بالسالكينَ من أهلِ الباطلِ، نهجَتْهُ الشياطينُ؛ ليصدُّوا بهِ العبادَ عن سبيلِ اللهِ، ومن المعلومِ أنَّ طريقَ الرسلِ هيَ طريقُ الهدَى والحقِّ، {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ} [يونس: 32]!
قصة إبراهيم خليل الرحمن صلى الله عليه وسلم
قدْ ذكَرَ اللهُ في كتابهِ سيرةً وأخبارًا كثيرةً من سيرةِ إبراهيمَ، فيها لنا الأسوةُ بالأنبياءِ عمومًا، وبهِ على وجهِ الخصوصِ؛ فإنَّ اللهَ أمَرَ نبيَّنا وأمرَنا باتباعِ ملتهِ، وهيَ ما كان عليهِ من عقائدَ وأخلاقٍ وأعمالٍ قاصرةٍ ومتعديةٍ، فقدْ آتاهُ اللهُ رشدَهُ وعلَّمَهُ الحكمةَ منذُ كان صغيرًا، وأراهُ ملكوتَ السمواتِ والأرضِ؛ ولهذا كان أعظمَ الناسِ يقينًا وعلمًا وقوةً في دينِ اللهِ، ورحمةً بالعبادِ.
وكان قدْ بعثَهُ اللهُ إلى قومٍ مشركينَ يعبدونَ الشمسَ والقمرَ والنجومَ، وهم فلاسفةُ الصابئةِ الذينَ هم من أخبثِ الطوائفِ وأعظمِهم ضررًا على الخلقِ، فدعاهم بطرقٍ شتَّى، فأولُ ذلكَ دعاهم بطريقةٍ لا يمكنُ صاحبُ عقلٍ أنْ ينفرَ منها، ولما كانوا يعبدونَ السبعَ السياراتِ التي منها الشمسُ والقمرُ، وقدْ بنَوا لها البيوتَ وسمَّوها الهياكلَ؛ قالَ لهم ناظرًا ومناظرًا: هلمَّ -يا قوم- ننظرُ هلْ يستحقُّ منها شيءٌ الإلهيةَ والربوبيةَ؟ {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي} [الأنعام: 76]، والمناظرةُ تخالفُ غيرَها في أمورٍ كثيرةٍ، منها: أنَّ المناظرَ يقولُ الشيءَ الذي لا يعتقدُهُ؛ ليبنيَ عليهِ حجتَهُ، وليقيمَ الحجةَ على خصمهِ، كما قالَ في تكسيرهِ الأصنامَ لما قالوا لهُ:{أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَاإِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء: 62]، فأشارَ إلى الصنمِ الذي لم يكسِرْهُ فقالَ:{بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء: 63]، ومعلومٌ أنَّ غرضَهُ إلزامُهم بالحجةِ، وقدْ حصلَتْ.
فهنا يسهلُ علينا فَهْمُ معنى قولهِ: {هَذَا رَبِّي} [الأنعام: 76] أي: إنْ كان يستحقُّ الإلهيةَ بعدَ النظرِ في حالتهِ ووصفهِ فهوَ ربِّي، معَ أنهُ يعلمُ العلمَ اليقينيَّ أنهُ لا يستحقُّ من الربوبيةِ والإلهيةِ مثقالَ ذرةٍ، ولكنْ أرادَ أنْ يلزمَهم بالحجةِ.
{فَلَمَّا أَفَلَ} [الأنعام: 76] أي: غابَ، {قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} فإنَّ مَنْ كان لهُ حالُ وجودٍ وعدمٍ، أو حالُ حضورٍ وغيبةٍ؛ قدْ عَلِمَ كلُّ عاقلٍ أنهُ ليسَ بكاملٍ؛ فلا يكونُ إلهًا.
ثم انتقلَ إلى القمرِ، فلما رآهُ بازغًا:{قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ} [الأنعام: 77]، يُرِيهم -صلواتُ اللهِ وسلامهُ عليهِ- وقدْ صوَّرَ نفسَهُ بصورةِ الموافقِ لهم، لكن لا على وجهِ التقليدِ، بلْ يقصدُ إقامةَ البرهانِ على إلهيةِ النجومِ والقمرِ، فالآنَ وقدْ أفلَتْ، وتبيَّنَ بالبرهانِ العقليِّ معَ السمعيِّ بطلانُ إلهيتِها، فأنا إلى الآن لم يستقِرْ لي قرارٌ على ربٍّ وإلهٍ عظيمٍ.
{فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً} قالَ: {هَذَا أَكْبَرُ} من النجومِ ومن القمرِ، فإنْ جرَى عليها ما جرَى عليهما كانتْ مثلَهما، {فَلَمَّا أَفَلَتْ} وقدْ تقررَ عندَ الجميعِ فيما سبَقَ أنَّ عبادةَ مَنْ يأفلُ مِنْ أبطلِ الباطلِ، فحينئذٍ ألزمَهم بهذا الإلزامِ ووجَّهَ عليهم الحجةَ فقالَ:{يَاقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ} أي: ظاهرِي وباطنِي، {لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} .
فهذا برهانٌ عقليٌ واضحٌ أنَّ الخالقَ للعالمِ العلويِّ والسفليِّ هوَ الذي يتعينُ أنْ يُقصدَ بالتوحيدِ والإخلاصِ، وأنَّ هذهِ الأفلاكَ والكواكبَ وغيرَها مخلوقاتٌ مدبَّراتٌ، ليسَ لها من الأوصافِ ما تستحقُّ العبادةُ لأجلِها.
فجعلُوا يخوِّفونَهُ آلهتَهم أنْ تمسَّهُ بسوءٍ، وهذا دليلٌ على أنَّ المشركينَ عندَهم من الخيالاتِ الفاسدةِ والآراءِ الرديئةِ ما يعتقدونَ أنَّ آلهتَهم تنفعُ مَنْ عبَدَها وتضرُّ مَنْ تركَها أو قَدَحَ فيها.
فقالَ لهم مبينًا لهم أنهُ ليسَ عليهِ شيءٌ من الخوفِ، وإنما الخوفُ الحقيقيُّ عليكم، فقالَ:{وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81)} [الأنعام: 81]؟!
أجابَ اللهُ هذا الاستفهامَ جوابًا يعمُّ هذهِ القصةَ
(1)
وغيرَها في كلِّ وقتٍ
(2)
، فقالَ:{الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82] أي: بشركٍ، {أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} فرفعَ اللهُ خليلَهُ إبراهيمَ بالعلمِ وإقامةِ الحجةِ، وعجزُوا عن نصرِ باطلِهم، ولكنهم صمَّمُوا على الإقامةِ على ما هم عليهِ، ولم ينفَعْ فيهم الوعظُ والتذكيرُ وإقامةُ الحججِ.
فلم يزَلْ يدعُوهم إلى اللهِ، وينهاهم عما كانوا يعبدونَ نهيًا عامًّا وخاصًا، وأخصُّ مَنْ دعاهُ أبوهُ آزرُ؛ فإنهُ دعاهُ بعدةِ طرقٍ نافعةٍ، ولكنْ:{إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (97)} [يونس: 96 - 97].
فمن جملةِ مقالاتهِ لأبيهِ: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَاأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يَاأَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ} [مريم: 42 - 43]، انظُرْ إلى حسنِ هذا الخطابِ الجاذبِ للقلوبِ، لم يقلْ لأبيهِ: إنكَ جاهلٌ؛ لئلا ينفرَ من الكلامِ الخشنِ، بلْ قالَ لهُ هذا القولَ:{فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَاأَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَاأَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45)} ، فانتقلَ بدعوتهِ من أسلوبٍ لآخرَ؛ لعلَّهُ ينجعُ فيه أو يفيدُ، ولكنهُ معَ ذلكَ قالَ لهُ أبوهُ:{أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَاإِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} [مريم: 46].
(1)
في (خ): القضية.
(2)
بعدها في (خ): وزمان.
هذا وإبراهيمُ لم يغضَبْ ولم يقابِلْ أباهُ ببعضِ ما قالَ، بلْ قابَلَ هذهِ الإساءةَ الكبرى بالإحسانِ فقالَ:{سَلَامٌ عَلَيْكَ} [مريم: 47] أي: لا أتكلمُ معكَ إلا بكلامٍ طيبٍ
(1)
لا غلظةَ فيه ولا خشونةَ، ومعَ ذلكَ فلستُ بآيسٍ مِنْ هدايتِكَ:{سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [مريم: 47] أي: برًّا رحيمًا، قدْ عوَّدَني لطفَهُ، وأجْرَاني على عوائدهِ الجميلةِ، ولم يزَلْ لدعائِي مجيبًا.
فلم يزَلْ إبراهيمُ معَ قومهِ في دعوةٍ وجدالٍ، وقدْ أفحمَهم وكسرَ جميعَ حججِهم وشبهِهم، فأرادَ صلى الله عليه وسلم أنْ يقاومَهم بأعظمِ الحججِ، وأنْ يصمدَ لبطشِهم وجبروتِهم وقدرتِهم وقوتِهم، غيرَ هائبٍ ولا وجلٍ، فلما خرجوا ذاتُ يومٍ لعيدٍ من أعيادِهم وخرجَ معهم، {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89)} لأنهُ خشيَ إنْ تخلَّفَ لغيرِ هذهِ الوسيلةِ لم يدرِكْ مطلوبَهُ؛ لأنهُ تظاهرَ بعداوتِها والنهيِ الأكيدِ عنها وجهادِ أهلِها، فلما برزوا جميعًا إلى الصحراءِ كرَّ راجعًا إلى بيتِ أصنامِهم، فجَعَلها جُذاذًا كلَّها، إلا صنمًا كبيرًا أبقَى عليهِ؛ ليُلزِمَهم بالحجةِ.
فلما رجعُوا مِنْ عيدِهم بادرُوا إلى أصنامِهم صبابةً
(2)
ومحبةً، فرأَوا فيها أفظعَ منظرٍ رآهُ أهلُها، فقالوا:{مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ} [الأنبياء: 59 - 60] أي: يعيبُها ويذكرُها بأوصافِ النقصِ والسوءِ، {يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} ، فلما تحققوا أنهُ الذي كسرَها، {قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61)} أي: بحضرةِ الخلقِ العظيمِ، ووبَّخُوهُ أشدَّ التوبيخِ ثم نكَّلُوا بهِ، وهذا الذي أرادَ إبراهيمُ؛ ليظهرَ الحقُّ بمرأى الخلقِ ومسمعِهم، فلما جُمِعَ الناسُ وحضَرُوا، وحضَّرُوا إبراهيمَ قالوا: {أَأَنْتَ
(1)
بعدها في (خ): لين.
(2)
بعدها في (خ): بها.
فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَاإِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا (63)} [الأنبياء: 62 - 63] مشيرًا إلى الصنمِ الذي سَلِمَ من تكسيرهِ، وهم في هذهِ بينَ أمرينِ:
• إما أنْ يعترفُوا بالحقِّ، وأنَّ هذا لا يدخلُ عقلَ أحدٍ: أنَّ جمادًا معروفًا أنهُ مصنوعٌ من موادَّ معروفةٍ لا يمكنُ أنْ يفعلَ هذا الفعلَ.
• وإما أنْ يقولُوا: نعم هوَ الذي فعلَها، وأنتَ سالمٌ ناجٍ مِنْ تبعتِها.
وقدْ عَلِمَ أنهم لا يقولونَ الاحتمالَ الأخيرَ، قالَ:{فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} وهذا تعليقٌ بالأمرِ الذي يعترفونَ أنهُ محالٌ، فحينئذٍ ظهَرَ الحقُّ وبانَ، واعترفوا هم بالحقِّ {فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ} أي: ما كان اعترافُهم ببطلانِ إلهيتِها إلا وقتًا قصيرًا [أظهرَتْهُ]
(1)
الحجةُ مباشرةً التي لا يمكنُ مكابرتُها، ولكنْ ما أسرعَ ما عادَتْ عليهم عقائدُهم الباطلةُ التي رسخَتْ في قلوبِهم، وصارَتْ صفاتٍ ملازمةً، إنْ وُجِدَ ما ينافِيها فإنهُ عارضٌ يعرضُ ثم يزولُ، {ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ} [الأنبياء: 65].
فحينئذٍ وبَّخَهم بعد إقامةِ الحجةِ التي اعترَفَ بها الخصومُ على رؤوسِ الأشهادِ، فقالَ لهمْ:{أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67)} [الأنبياء: 66 - 67] فلو كان لكم عقولٌ صحيحةٌ لم تقيمُوا على عبادةِ ما لا ينفعُ ولا يضرُّ ولا يدفعُ عن نفسهِ مَنْ يريدهُ بسوءٍ.
فلما أعيَتْهم المقاومةُ بالبراهينِ والحججِ عدلُوا إلى استعمالِ قوتِهم وبطشِهم وجبروتِهم في عقوبةِ إبراهيمَ فقالوا: {حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68)}
(1)
كذا في (خ). وفي (ط): ظهرت.
فأوقدُوا نارًا عظيمةً جدًّا فألقوهُ بها، فقالَ وهوَ في تلكَ الحالِ:«حسبي اللهُ ونعمَ الوكيلُ» ، فقالَ اللهُ للنارِ:{يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: 69] فلم تضرَّهُ بشيءٍ
(1)
.
{وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا} لينصرُوا آلهتَهم، ويقيمُوا لها في قلوبِهم وقلوبِ أتباعِهم الخضوعَ والتعظيمَ، فكان مكرُهم وبالًا عليهم، وكان انتصارُهم لآلهتِهم نصرًا عظيمًا
(2)
عندَ الحاضرينَ والغائبينَ والموجودينَ والحادثينَ عليهم.
وانتصرَ الخليلُ على الخواصِّ والعوامِّ، والرؤساءِ والمرؤوسينَ، حتى إنَّ مَلِكَهم حاجَّ إبراهيمَ في ربهِ بغيًا وطغيانًا، {أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ} [البقرة: 258]، فقال إبراهيم:{رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة: 258]، فألزَمَهُ الخليلُ بطردِ دليلِه بالتصرفِ المطلقِ، فقال:{فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 258].
(1)
البخاري (4564).
(2)
أي: نصرًا عظيمًا للخليل إبراهيم عليه السلام.
فصل
ثم خرَجَ من بينِ أظهرِهم مهاجرًا وزوجتُهُ وابنُ أخيهِ لوطٌ إلى الديارِ الشاميةِ.
وفي أثناءِ مدةِ إقامتهِ بالشامِ ذهبَ إلى مصرَ بزوجتهِ سارةَ، وكانتْ أحسنَ امرأةٍ على الإطلاقِ، فلما رآها ملكُ مصرَ -وكان جبارًا عنيدًا- لم يملِكْ نفسَهُ حتى أرادَها على نفسِها، فدعَتِ اللهَ عليهِ، فكادَ أنْ يموتَ، ثم أُطلِقَ، ثم عادَ ثانيةً [وثالثةً]
(1)
، وكلما أرادَها دعَتْ عليهِ فصُرِعَ، ثم دعَتْ لهُ فأُطلِقَ، فكفاهما اللهُ شرَّهُ، ووهَبَ لها هاجرَ جاريةً قبطيةً.
وكانتْ سارةُ عاقرًا منذُ كانتْ شابةً، فوهبَتْ هذهِ الجاريةَ لإبراهيمَ ليتسرَّرَها؛ لعلَ اللهَ يرزقُهُ منها ولدًا، فأتتْ هاجرُ بإسماعيلَ على كبرِ إبراهيمَ، ففرِحَ بهِ فرحًا شديدًا، ولكنَّ سارةَ رضي الله عنها أدركَتْها الغيرةُ؛ فحلفَتْ ألَّا يساكنَها بها، وذلكَ لما يريدهُ اللهُ، وهذا من جملةِ الأسبابِ لذهابهِ بها إلى موضعِ البيتِ الحرامِ، وإلا فهوَ متقررٌ عندَهُ ذلكَ عليه السلام.
فذهَبَ بها وبابنِها إسماعيلَ إلى مكةَ، وهيَ في ذلكَ الوقتِ ليسَ فيها ساكنٌ ولا مسكنٌ ولا ماءٌ ولا زرعٌ ولا غيرهُ، وزوَّدَهما بسقاءٍ فيه ماءٌ وجِرابٍ فيه تمرٌ، ووضعَهما عندَ دوحةٍ قريبةٍ مِنْ محلِّ بئرِ زمزمَ، ثم قفَّى عنهما.
فلما كان في الثنيةِ بحيثُ يشرفُ عليهما دعا اللهَ تعالى فقالَ: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37)} [إبراهيم: 37] إلى آخرِ الدعاءِ.
(1)
زيادة من (خ). وهو موافق لما جاء عند البخاري في صحيحه (2217) أنه أُطلق وعاد ثلاث مرات.
ثم استسلمَتْ لأمرِ اللهِ، وجعلَتْ تأكلُ من ذلكَ التمرِ، وتشربُ من ذلكَ الماءِ حتى نفدَا، فعطشَتْ ثم عطَشَ ولدُها، فجعلَ يتلوَّى من العطشِ، ثم ذهبَتْ في تلكَ الحالِ لعلَّها ترى أحدًا أو تجدُ مغيثًا، فصعدَتْ أدنى جبلٍ منها وهوَ الصفا، وتطلعَتْ فلم ترَ أحدًا، ثم ذهبَتْ إلى المروةِ فصعدَتْ عليهِ فتطلعَتْ، فلم ترَ أحدًا.
ثم جعلَتْ تترددُ في ذلكَ الموضعِ وهيَ مكروبةٌ مضطرةٌ مستغيثةٌ باللهِ لها ولابنِها، وهيَ تمشي وتلتفتُ إليهِ خشيةَ السباعِ عليهِ، فإذا هبطَتِ الواديَ سعَتْ حتى تصعدَ من جانبهِ الآخرِ؛ لئلا يخفَى على بصرِها ابنُها.
والفرجُ معَ الكربِ، والعسرُ يتبعُهُ اليسرُ، فلما تمَّتْ سبعَ مراتٍ تسمَّعَتْ حسَّ الملَكِ، فبحثَ في الموضعِ الذي فيه زمزمَ فنبعَ الماءُ، فاشتدَّ فرحُ أمِّ إسماعيلَ بهِ، فشربَتْ منهُ وأرضعَتْ ولدَها، وحمدَتِ اللهَ على هذهِ النعمةِ الكبرى، وحوَّطَتْ على الماءِ لئلَّا يسيحَ، قالَ النبيُ صلى الله عليه وسلم:«رَحِمَ اللهُ أمَّ إسماعيلَ: لوْ تركَتْ ماءَ زمزمَ - أي: لم تحوِّطْهُ- لكانَتْ زمزمُ عينًا معينًا»
(1)
.
ثم عثَرَ بها قبيلةٌ من قبائلِ العربِ يُقالُ لهم: «جُرْهُم» ، فنزلُوا عندَها وتمَّتْ عليها النعمةُ.
وشبَّ إسماعيلُ شبابًا حسنًا، وأعجبَ القبيلةَ بأخلاقهِ وعلوِ همتهِ وكمالهِ، فلما بلغَ تزوَّجَ منهم امرأةً.
ففي أثناءِ هذهِ المدةِ ماتتْ أمُّهُ رضي الله عنها، وجاءَ إبراهيمُ بغيبةِ إسماعيلَ يتصيَّدُ، فدخَلَ على امرأتهِ فسألَها عن زوجِها وعنْ عيشِهم، فأخبرَتْهُ أنَّ زوجَها قدْ
(1)
البخاري (3251) بنحوه.
ذهبَ يتصيَّدُ، وأنَّ عيشَهم عيشُ الشدةِ
(1)
، فقالَ لها: إذا جاءَ زوَجُكِ فأَقْرِئيهِ منِّي السلامَ، وقولي لهُ يغيرُ عتبةَ بابهِ، ورجعَ من فورهِ لحكمةٍ أرادَها اللهُ.
فلما جاءَ إسماعيلُ كأنهُ آنسَ شيئًا، فسألَ امرأتَهُ، فأخبرَتْهُ أنهُ جاءَهم شيخٌ بهذا الوصفِ، وأنهُ سألَ عنكَ فأخبرتُهُ، وسألَنا عن عيشِنا فأخبرتُهُ أننا في شدةٍ، وأنهُ يقرأُ عليكَ السلامَ، ويقولُ لكَ: غيِّرْ عتبةَ بابِكَ، فقالَ: ذاكَ أبي، وأنتَ العتبةُ، الْحَقِي بأهلِكَ.
ثم تزوَّجَ إسماعيلُ غيرَها، ثم جاءَ إبراهيمُ مرةً أخرى، وإسماعيلُ أيضًا في الصيدِ، فدخَلَ على امرأتهِ فسألَها عن إسماعيلَ فأخبرَتْهُ، وسألَها عن عيشِهم فأخبرَتْهُ أنهم في نعمةٍ وخيرٍ، وكانتْ امرأةً طيبةً شاكرةً للهِ وشاكرةً لزوجِها، ثم قالَ لها: إذا جاءَ زوجُكِ فاقْرَئِي عليهِ السلامَ، وقولي لهُ يُثبتُ عتبةَ بابهِ، ثم رجعَ أيضًا من فورهِ قبلَ مواجهةِ إسماعيلَ؛ لحكمةٍ أرادَها اللهُ تعالى.
فلما رجَعَ إسماعيلُ من صيدهِ قالَ: هلْ جاءَكم من أحدٍ؟ فقالَتْ: جاءنا شيخٌ بهذا الوصفِ، فقالَ: هلْ قالَ لكم من شيءٍ؟ فقالتْ: سألَنا عنكَ فأخبرتُهُ، وسألنا عن عيشِنا فأخبرتُهُ أنَّا في نعمةٍ، وأثنيتُ على اللهِ، فقالَ: فما قالَ؟ قالتْ: هوَ يقرأُ عليكَ السلامَ، ويأمرُكَ أنْ تُثبتَ عتبةَ بابِكَ، فقالَ: ذاكَ أبي، وأنتَ العتبةُ، أمرَني أنْ أمسكَكِ.
ثم عادَ إبراهيمُ المرةَ الثالثةَ فوجَدَ إسماعيلُ يبرِي نبلًا عندَ زمزمَ، فلما رآهُ قامَ إليهِ فصنعَا كما يصنعُ الوالدُ الشفيقُ والولدُ الشفيقُ، فقالَ: يا إسماعيلُ، إنَّ اللهَ أمرَني أنْ أبنيَ ههنا بيتًا يكونُ معبدًا للخلقِ إلى يومِ القيامةِ، قالَ: سأعينُكَ على ذلكَ، فجعلَا يرفعانِ
(1)
بعدها في (خ): والشقاء.
القواعدَ من البيتِ، إبراهيمُ يبنِي، وإسماعيلُ يناولهُ الحجارةَ، وهما يقولانِ:{رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)} [البقرة: 127 - 129].
فلما تمَّ بنيانُهُ، وتمَّ للخليلِ هذا الأثرُ الجليلُ، أمرَهُ اللهُ أنْ يدعوَ الناسَ ويؤذِّنَ فيهم بحجِّ هذا البيتِ، فجعلَ يدعُو الناسَ وهم يفدُونَ إلى هذا البيتِ من كلِّ فجٍّ عميقٍ؛ ليشهدوا منافعَ دنياهم وأخراهم، ويَسعدُوا ويزولَ عنهم شقاؤُهم.
وفي هذا
(1)
الأثناءِ، حينَ تمكَّنَ حبُّ إسماعيلَ من قلبهِ، وأرادَ اللهُ أنْ يمتحنَ إبراهيمَ لتقديمِ محبةِ ربهِ وخلَّتهِ التي لا تقبلُ المشاركةَ والمزاحمةَ؛ فأمرَهُ في المنامِ أنْ يذبحَ إسماعيلَ، ورؤيا الأنبياءِ وحيٌ من اللهِ، فقالَ لإسماعيلَ:{إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا} [الصافات: 102 - 103] أي: خضعَا لأمرِ اللهِ، وانقادَا لأمرهِ، ووطَّنَا أنفسَهما على هذا الأمرِ المزعجِ الذي لا تكادُ النفوسُ تصبرُ على عُشرِ معشارهِ، {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ}؛ نزَلَ الفرجُ من الرحمنِ الرحيمِ:{وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} .
فحصَلَ توطينُ النفسِ على هذهِ المحنةِ والبلوَى الشاقةِ المزعجةِ
(2)
، وحصلَتِ المقدماتُ والجزمُ المصممُ، وتمَّ لهما الأجرُ والثوابُ، وحصَلَ لهما الشرفُ والقربُ والزلفَى من اللهِ، وما ذلكَ من ألطافِ الربِّ بعزيزٍ، قالَ تعالى:{إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107)} ، وأيُّ ذبحٍ أعظمُ من كونهِ
(1)
كذا في (خ) و (ط). ولعل الصواب: هذه.
(2)
قوله: «المحنة والبلوى الشاقة المزعجة» كذا في (ط). وفي (خ): «الطاعة التي هي أجل الطاعات» .
حصلَ بهِ مقصودُ هذهِ العبادةِ التي لا يشبهُها عبادةٌ، وصارَ سنةً في عقبهِ إلى يومِ القيامةِ، يُتقرَّبُ بهِ إلى اللهِ، ويُدرَكُ بهِ ثوابهُ ورضاهُ {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109)} [الصافات: 108 - 109].
فصل
ثم إنَّ اللهَ أتمَّ النعمةَ على إبراهيمَ، ورَحِمَ زوجتَهُ سارةَ على الكبرِ والعقمِ واليأسِ، بالبشارةِ بالابنِ الجليلِ وهوَ إسحاقُ، ومن وراءِ إسحاقَ يعقوبُ.
فحينَ أرسلَ اللهُ لوطًا إلى قومهِ، وتمرَّدُوا عليهِ وحتَّمَ اللهُ عقوبتَهم، وكان لوطٌ عليه السلام تلميذًا لإبراهيمَ، ولإبراهيمَ عليهِ حقوقٌ كثيرةٌ، فمرَّتِ الملائكةُ الذينَ أُرسلُوا لإهلاكِ قومِ لوطٍ بإبراهيمَ بصورةِ آدميينَ، فلما دخلُوا عليهِ وسلُّموا ردَّ عليهم السلامَ، بادَرَهم بالضيافةِ، وكان اللهُ قدْ أعطاهُ الرزقَ الواسعَ والكرمَ العظيمَ، وكان بيتهُ مأوًى للأضيافِ، فبالحالِ راغَ إلى أهلهِ بسرعةٍ وخفيةٍ منهم، فجاءَ بعجلٍ سمينٍ محنوذٍ: مشويٍّ على الرَّضْفِ، فقرَّبهُ إليهم، فقالَ:{أَلَا تَأْكُلُونَ} [الذاريات: 27]، {فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} [هود: 70] إذْ ظنَّ أنهم لصوصٌ، فقالوا:{لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ} [هود: 70].
وكانتْ سارةُ قائمةً في خدمتِهم، {وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ} [الذاريات: 28]، فصرخَتْ سارةُ وصكَّتْ وجهَها متعجبةً ومستبشرةً ومترددةً ومتحيرةً، وقالتْ:{أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ} [هود: 72]، وقبلَ ذلكَ كنتُ عقيمًا، {وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73)} [هود: 73] فبشَّرَاهما بإسحاقَ، وأنهُ يعيشُ، ويُولَدُ لهُ يعقوبُ ويُدركانهِ؛ ولهذا حمَدَ اللهَ إبراهيمُ على تمامِ نعمتهِ وقالَ:{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ} [إبراهيم: 39].
فصل فيما في قصة الخليل من الفوائد
* ليُعْلَم أنَّ جميعَ ما قصَّهُ اللهُ علينا من سيرةِ إبراهيمَ الخليلِ صلى الله عليه وسلم فإننا مأمورونَ بهِ أمرًا خاصًّا؛ قالَ تعالى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج: 78] أي: الزمُوها، {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النحل: 123]، {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ} [الممتحنة: 4] الآية.
فما هوَ عليهِ في التوحيدِ والأصولِ والعقائدِ والأخلاقِ وجميعِ ما قُصَّ علينا من نبئهِ، فإنَّ اتباعَنا إياهُ مِنْ دينِنا؛ ولهذا لما كان هذا أمرًا عامًّا لأحوالهِ كلِّها استثنَى اللهُ حالةً من أحوالهِ فقالَ:{إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} [الممتحنة: 4] أي: فلا تقتدُوا بهِ في هذهِ الحالِ بالاستغفارِ للمشركينَ؛ فإنَّ استغفارَ إبراهيمَ لأبيهِ إنما كان {عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ} [التوبة: 114].
* ومنها: أنَّ اللهَ اتخذَهُ خليلًا، والخلةُ أعلى درجاتِ المحبةِ، وهذهِ المرتبةُ لم تحصلْ لأحدٍ من الخلقِ إلا للخليلَينِ إبراهيمَ ومحمدٍ صلى اللهُ عليهما وسلمَ.
* ومنها: ما أكرمَهُ اللهُ بهِ من الكراماتِ المتنوعةِ:
• جعَلَ في ذريتهِ النبوةَ والكتابَ.
• وأخرجَ من صلبهِ أمتَينِ هما أفضلُ الأممِ: العربُ، وبنو إسرائيلَ.
• واختارَهُ اللهُ لبناءِ بيتهِ الذي هوَ أشرفُ بيتٍ، وأولُ بيتٍ وُضِعَ للناسِ.
• ووهبَ لهُ الأولادَ بعدَ الكبرِ واليأسِ.
• وملأَ بذكرهِ ما بينَ الخافقينِ، وامتلأَتْ قلوبُ الخلقِ من محبتهِ، وألسنتُهم من الثناءِ عليهِ.
* ومنها: أنَّ اللهَ رفعَهُ بالعلمِ واليقينِ وقوةِ الحججِ، قالَ جلَّ ذكرهُ:{وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} [الأنعام: 75]، {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام: 83].
ومن شوقهِ إلى الوصولِ إلى غايةِ العلمِ ونهايتهِ: أنْ سألَ ربَّهُ: {أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)} [البقرة: 260].
* ومنها: أنَّ من عَزَمَ على فعلِ الطاعاتِ، وبذَلَ مقدورَهُ في أسبابِها، ثم حصَلَ مانعٌ يمنعُ من إكمالِها؛ أنَّ أجرَهُ قدْ وجَبَ على اللهِ، كما قالَ اللهُ ذلكَ في المهاجرِ الذي يموتُ قبلَ أنْ يصلَ إلى مهاجرهِ، وكما ذكرَهُ اللهُ في قصةِ الذبحِ، وأنَّ اللهَ أتمَّ الأجرَ لإبراهيمَ وإسماعيلَ حين أسلمَا للهِ وأذعَنا لأمرهِ، ثم رفعَ عنهما المشقةَ، وأوجبَ لهما الأجرَ الدنيويَّ والأخرويَّ.
* ومنها: ما في قصصهِ من آدابِ المناظرةِ وطرقِها ومسالِكها النافعةِ، وكيفيةِ إلزامِ الخصمِ بالطرقِ الواضحةِ التي يَعترفُ بها أهلُ العقولِ، وإلجائهِ الخصمَ الألدَّ إلى الاعترافِ ببطلانِ مذهبهِ، وإقامةِ الحجةِ على المعاندينَ، وإرشادِ المسترشدينَ.
* ومنها: أنَّ مِنْ نعمةِ اللهِ على العبدِ هبةَ الأولادِ الصالحينَ، وأنَّ عليهِ في ذلكَ أنْ يحمدَ اللهَ، ويدعوَ اللهَ لذريتهِ كما فعلَ الخليلُ صلى الله عليه وسلم في قولهِ:{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} [إبراهيم: 39] إلى آخرِ الدعاءِ.
وقالَ -جلَّ ذكرُهُ- في الثناءِ عمومًا على مَنْ يدعو اللهَ بصلاحِ ذريتهِ: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الأحقاف: 15]، فإنَّ العبدَ إذا ماتَ «انقطَعَ عملُهُ إلا من ثلاثٍ: صدقةٍ جاريةٍ، أو علمٍ ينتفعُ بهِ، أو ولدٍ صالحٍ يدعُو لهُ»
(1)
.
* ومنها: أنَّ المشاعرَ ومواضعَ الأنساكِ من جملةِ الحِكَمِ فيها: أنَّ فيها تذكيراتٍ بمقاماتِ الخليلِ وأهلِ بيتهِ في عباداتِ ربِّهم، [وإيمانًا]
(2)
باللهِ ورسلهِ، [وحثًّا]
(3)
على الاقتداءِ بهم في كلِّ أحوالِهم الدينيةِ، وكلُّ أحوالِ الرسلِ دينيةٌ؛ لقولهِ تعالى:{وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125].
* ومنها: الأمرُ بتطهيرِ المسجدِ الحرامِ من الأنجاسِ، ومن جميعِ المعاصِي القوليةِ والفعليةِ؛ تعظيمًا للهِ وإعانةً وتنشيطًا للمتعبِّدِينَ فيه، ومثلُهُ بقيةُ المساجدِ؛ لقولهِ عز وجل:{وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج: 26]، وقالَ:{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور: 36].
* ومنها: أنَّ أفضلَ الوصايا على الإطلاقِ ما وصَّى بهِ إبراهيمُ بنيهِ ويعقوبُ، وهوَ الوصيةُ بملازمةِ القيامِ بالدِّينِ، وتقوَى اللهِ، والاجتماعِ على ذلكَ، وهيَ وصيتهُ تعالى للأولينَ والآخرينَ؛ إذْ بها السعادةُ الأبديةُ والسلامةُ من شرورِ الدنيا والآخرةِ.
(1)
مسلم (1631).
(2)
في (خ) و (ط): إيمان. والمثبت موافق لقواعد اللغة.
(3)
في (خ) و (ط): وحث. والمثبت موافق لقواعد اللغة.
* ومنها: أنَّ العاملَ كما عليهِ أنْ يتقنَ عملَهُ ويجتهدَ في إيقاعهِ على أكملِ الوجوهِ، فعليهِ معَ ذلكَ أنْ يكونَ بينَ الخوفِ والرجاءِ، وأنْ يتضرَّعَ إلى ربِّهِ في قبولهِ وتكميلِ نقصهِ، والعفوِ عما وقعَ فيه من خللٍ أو نقصٍ، كما كان إبراهيمُ وإسماعيلُ يرفعانِ القواعدَ من البيتِ، وهما بهذا الوصفِ الكاملِ.
* ومنها: أنَّ الجمعَ بينَ الدعاءِ للهِ بمصالحِ الدنيا والدينِ من سبيلِ أنبياءِ اللهِ، وكذلكَ السعيُ في تحصيلِهما.
الدينُ هوَ الأصلُ والمقصودُ الذي خُلِقَ لهُ الخلقُ، والدنيا وسيلةٌ ومعونةٌ عليهِ؛ لدعاءِ الخليلِ لأهلِ البيتِ الحرامِ بالأمرَينِ، وتعليلهِ الدعاءَ بالأمورِ الدنيويةِ أنهُ وسيلةٌ إلى الشكرِ فقالَ:{وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم: 37].
* ومنها: ما اشتملَتْ عليهِ قصةُ إبراهيمَ من مشروعيةِ الضيافةِ وآدابِها:
• فإنَّ اللهَ أخبَرَ عن ضيفهِ أنهم مكرمونَ، يعني: أنهم كرماءُ على اللهِ.
• وأيضًا إبراهيمُ أكرمَهم بضيافتهِ قولًا وفعلًا؛ فإكرامُ الضيفِ من الإيمانِ.
• وأنهُ خدمَهم بنفسهِ.
• وبادَرَ بضيافتِهم قبلَ كلِّ شيءٍ.
• وأتى بأطيبِ مالهِ: عجلٍ حنيذٍ سمينٍ، وقرَّبَهُ إليهم، ولمِ يحوِجْهم إلى الذهابِ إلى محلٍّ آخرَ.
• وعرَضَ عليهم الأكلَ بلفظٍ رقيقٍ فقالَ: {أَلَا تَأْكُلُونَ} [الذاريات: 27].
* ومنها: مشروعيةُ السلامِ، وأنَّ المبتدئَ فيه هوَ الداخلُ وهوَ الماشي، وأنهُ يجبُ ردُّهُ، ومشروعيةُ الوقوفِ على اسمِ مَنْ يتصلُ بكَ من صاحبٍ ومُعاملٍ وضيفٍ؛ لقولهِ:
{قَوْمٌ مُنْكَرُونَ} [الذاريات: 25] أي: لا أعرفُكم؛ فأُحِبُّ أنْ تعرفوني بأنفسِكم؛ وهذا ألطفُ من قولهِ: (أنكرتُكم) ونحوه.
* ومنها: الترغيبُ في أنْ يكونَ أهلُ الإنسانِ ومَن يتولَّى شؤونَ بيتهِ حازمِينَ مستعدِّينَ لكلِّ ما يُرادُ منهم من الشؤونِ والقيامِ بمهماتِ البيتِ؛ فإنَّ إبراهيمَ في الحالِ بادَرَ إلى أهلهِ فوجَدَ طعامَ ضيوفهِ حاضرًا لا يُحوجُ إلا إلى تقديمهِ.
* ومنها: أنَّ إتيانَ الولدِ والبشارةَ بهِ من سارةَ، وهيَ عجوزٌ عقيمٌ، يعدُّ معجزةً لإبراهيمَ وكرامةً لسارةَ، ففيهِ معجزةُ نبيٍّ وكرامةُ وليٍّ، ونظيرهُ بشارةُ الملائكةِ لمريمَ بعيسَى، وبشارتُهم بيحيى لزكريا وزوجتهِ، وكونُ زكريا جَعَلَ اللهُ آيةَ وجودِ المبشرِ بهِ ألَّا يكلمَ الناسَ ثلاثةَ أيامٍ، وهوَ سويٌّ لا آفةَ فيه، إلا بالرمزِ والإشارةِ.
وكلُّ هذا وما أشبهَهُ من آياتِ اللهِ، وأعجَبَ من هذا: إيجادُهُ آدمَ من ترابٍ، فسبحانَ مَنْ هوَ على كلِّ شيءٍ قديرٌ!
* ومنها: ثناءُ اللهِ على إبراهيمَ أنهُ أتى ربَّهُ بقلبٍ سليمٍ، وقدْ قالَ:{يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)} [الشعراء: 88 - 89]، والجامعُ لمعناهُ أنهُ:
• سليمٌ من الشرورِ كلِّها ومن أسبابِها، ملآنُ من الخيرِ والبرِّ والكرمِ.
• سليمٌ من الشبهاتِ القادحةِ في العلمِ واليقينِ، ومن الشهواتِ الحائلةِ بينَ العبدِ وبينَ كمالهِ.
• سليمٌ من الكبرِ ومن الرياءِ والشقاقِ والنفاقِ وسوءِ الأخلاقِ.
• وسليمٌ من الغلِّ والحقدِ، ملآنُ بالتوحيدِ والإيمانِ والتواضعِ للحقِّ وللخلقِ، والنصيحةِ للمسلمينَ، والرغبةِ في عبوديةِ اللهِ، وفي نفعِ عبادِ اللهِ.
* ومنها: ما ذكرَهُ في قصةِ نوحٍ وإبراهيمَ وموسى وهارونَ وإلياسَ: {سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ} [الصافات: 79]، {سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الصافات: 109]، يتبعُها بقولهِ:{إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الصافات: 80، 105، 109، 121، 131]، فوعدَ البارِي أنَّ كلَّ محسنٍ في عبادتهِ، محسنٍ إلى عبادهِ؛ أنَّ اللهَ يجزيهِ الثناءَ الحسنَ والدعاءَ من العالمينَ بحسبِ إحسانهِ، وهذا ثوابٌ عاجلٌ وآجلٌ، وهوَ من البشرَى في الحياةِ الدنيا، ومن علاماتِ السعادةِ.
قصة لوط عليه السلام
وقصةُ لوطٍ عليه السلام تبعٌ لقصةِ إبراهيمَ؛ لأنهُ تلميذهُ وقدْ تعلَّمَ من إبراهيمَ، وكان لهُ بمنزلةِ الابنِ، فنبَّأهُ اللهُ بحياةِ الخليلِ، وأرسلَهُ إلى قرَى «سَدُوم» من غَوْرِ فلسطينَ، وكانوا معَ شركِهم باللهِ يلوطُونَ بالذكورِ، ولم يسبِقْهم أحدٌ إلى هذهِ الفاحشةِ الشنعاءِ، فدعاهم إلى عبادةِ اللهِ وحدَهُ، وحذَّرَهم من هذهِ الفاحشةِ، فلم يزدادُوا إلا عتوًّا وتماديًا فيما هم فيه.
ولما أرادَ اللهُ هلاكَهم أرسلَ الملائكةَ لذلكَ، فمرُّوا بطريقِهم على إبراهيمَ وأخبروهُ بذلكَ، فجعَلَ إبراهيمُ يجادلُ في إهلاكِهم -وكان رحيمًا حليمًا - وقالَ: إنَّ فيها لوطًا، قالوا: نحن أعلمُ بمن فيها، لننجينَّهُ وأهلَهُ أجمعينَ
(1)
، فقيلَ:{يَاإِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ} [هود: 76].
ولما ذهَبَ الملائكةُ إلى لوطٍ بصورةِ أضيافٍ آدميينَ شبابٍ ساءَ لوطًا ذلكَ، وضاقَ بهم ذرعًا، {وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ} [هود: 77]؛ لعلمهِ بما عليهِ قومهُ من هذهِ الجراءةِ الشنيعةِ، ووقَعَ ما خافَ منهُ، فجاءَهُ قومهُ يهرعونَ إليهِ يريدونَ فعلَ الفاحشةِ بأضيافِ لوطٍ، فقالَ:{يَاقَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} [هود: 78]؛ لعِلْمهِ أنهُ لا حقَّ لهم فيهنَّ، كما عرَضَ سليمانُ للمرأتينِ حينَ اختصمتَا في الولدِ فقالَ: ائتوني بالسكينِ أشقُّهُ بينَكما،
(1)
كما في قوله تعالى: {قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ} [العنكبوت: 32]، {إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59)} [الحجر: 59].
ومن المعلومِ أنهُ لا يقعُ ذلكَ، وهذا مثلُهُ؛ ولهذا قالَ قومهُ:{لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ} [هود: 79]، وأيضًا يريدُ بعضَ العذرِ من أضيافهِ.
وعلى هذا التأويلِ لا حاجةَ إلى العدولِ إلى قولِ بعضِ المفسرينَ: {هَؤُلَاءِ بَنَاتِي} [هود: 78] يعني: زوجاتُهم، يعني: لأنَّ النبيَّ أبٌ لأمتهِ؛ فإنَّ هذا يمنعهُ أمرانِ:
• أحدُهما: قولهُ: {هَؤُلَاءِ بَنَاتِي} [هود: 78] يشيرُ إليهنَّ إشارةَ الحاضرِ.
• ثانيًا: هذا الإطلاقُ على زوجاتِهم لا نظيرَ لهُ، وأيضًا النبيُّ إنما هوَ بمنزلةِ الأبِ للمؤمنينَ بهِ، لا للكفارِ، والمحذورُ الذي توهموهُ يزولُ بما ذكَرْنا، وأنهُ يَعْلَمُ أنهُ لا حقَّ لهم فيهنَّ، وإنما يريدُ مدافعتَهم بكلِّ طريقٍ.
فاشتدَّ الأمرُ بلوطٍ وقالَ: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود: 80] أي: لدافعتُكم، فلما رآهم جازمِينَ على مرادِهم الخبيثِ قال لقومهِ: يا قومِ، اتقُوا اللهَ، {وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78)} [هود: 78]، فاستلجُّوا في طغيانِهم وسكرِهم، فحينئذٍ أخبرَتْهُ ملائكةُ الرحمنِ بأمرِهم، وأنهم أُرسِلُوا لإهلاكِهم، فصدَمَ جبريلُ أو غيرهُ من الملائكةِ الذينَ يعالجونَ البابَ ليدخلُوا على لوطٍ؛ فطمَسَ بهذهِ الصدمةِ أعينَهم، فكان هذا عذابًا معجَّلًا وأنموذجًا لمن باشرُوا مراودةَ لوطٍ على أضيافهِ.
وأمرُوا لوطًا أنْ يسريَ بأولِ الليلِ بأهلهِ ويلحَّ في السيرِ حتى يخلفَ ديارَهم، وينجوَ من معرَّةِ العذابِ، فخرجَ بهم، فما أصبحَ الصباحُ حتى خلفُوا ديارَهم، وقلبَ اللهُ عليهم ديارَهم، فجعَلَ أعلاها أسفلَها، وأمطَرَ عليها {حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ} [هود: 82 - 83] الذينَ يعملونَ عملَهم {بِبَعِيدٍ (83)} .
* وفي هذهِ القصةِ أكبرُ دليلٍ على أنَّ فاحشةَ اللِّواطِ من أشنعِ القبائحِ، وأنها توجبُ العقابَ الشديدَ، وأنَّ مَنْ ابتليَ بهذهِ الفاحشةِ فمعَ ذهابِ دينهِ قدْ انقلبَ عليهِ الحسنُ بالقبيحِ، فاستحسنَ ما كان قبيحًا، ونفَرَ من الطيبِ، وذلكَ دليلٌ على انحرافِ الأخلاقِ.
* وفيها وفي قصةِ إبراهيمَ: جوازُ التعريضِ:
• أما قصةُ إبراهيمَ ففي قولهِ: {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89)} [الصافات: 88 - 89].
• وأما لوطٌ ففي قولهِ: {هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} [هود: 78].
والتعريضُ يكونُ في الأقوالِ، ويكون في الأفعالِ، وهوَ: أنْ يقصدَ المتكلمُ أو العاملُ لعملٍ -[لأمرٍ]
(1)
من الأمورِ التي لا بأسَ بها- ويوهمَ السامعَ والرائيَ أمرًا آخرَ؛ ليستجلبَ منفعةً، أو يدفعَ مضرَّةً.
* ومنها: أنَّ من علامةِ الرجلِ الرشيدِ أنهُ هوَ المسددُ في أقوالهِ وأفعالهِ، ومن ذلكَ أنهُ ينصرُ المظلومينَ، ويفرجُ الكربَ عن المكروبينَ، ويأمرُ بالخيرِ، وينهَى عن الشرِّ، هذا هوَ الرشيدُ حقيقةً؛ فلهذا قالَ لوطٌ:{أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ} [هود: 78] أي: فيأمرُ بمعروفٍ، وينهَى عن منكرٍ، ويدفعُ أهلَ الشرِّ والبغيِ.
* ومنها: الحثُّ على السعيِ في الأعوانِ على أمورِ الخيرِ ودفعِ الشرِّ، ولوْ كان المعاونُ على ذلكَ من أهلِ الشرِّ، فإنَّ اللهَ يؤيِّدُ الدينَ بالرجلِ الفاجرِ وبأقوامٍ لا خلاقَ لهم عندَ اللهِ؛ ولهذا قالَ لوطٌ:{لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود: 80]، وأكثرُ
(1)
كذا في (خ). وفي (ط): أمر.
الأنبياءِ -صلوات الله عليهم- يبعثُهم اللهُ في أشرافِ قومِهم، ويحصلُ بذلكَ من تأييدِ الحقِّ وقمعِ الباطلِ، والتمكنِ من الدعوةِ؛ ما لا يحصلُ لوْ لم يكنْ كذلكَ.
واعتبِرْ هذا بحالِ شعيبٍ وقولِ قومهِ له: {وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} [هود: 91]، وكذلكَ نبيُّنا محمدٌ صلى الله عليه وسلم بُعِثَ في أشرفِ بيتٍ في قريشٍ وأعزِّهِ، وقدْ رماهُ قومهُ بالعداوةِ البليغةِ، وعقدوا المجالسَ المتعددةَ في إبطالِ قولهِ ودينهِ، بلْ وفي كيفيةِ الفتكِ بهِ، ومن الأسبابِ التي أوقفَتْهم عندَ حدِّهم خوفُهم من قبيلتهِ.
وانظرْ إلى حالتهِ في تضييقِهم عليهِ بالشِّعْبِ، وانحيازِ قبيلتهِ [معه]
(1)
، مسلمِهم وكافرِهم، ولم يخطُرْ ببالِهم أنهم يصلونَ إلى الفتكِ بشخصهِ الكريمِ حتى مكروا ذلكَ المكرَ العظيمَ؛ إذْ اتفَقَ رأيُهم على أنْ يُنتدَبَ لقتلهِ من كلِّ قبيلةٍ رجلٌ؛ ليتفرَّقَ دمهُ في القبائلِ، فيعجزُ قومهُ عن الأخذِ بثأرهِ، ولكنهم يمكرونَ ويمكرُ اللهُ، واللهُ خيرُ الماكرينَ
(2)
.
(1)
في (خ) و (ط): معهم. ولعل المثبت هو الصواب.
(2)
قال تعالى: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30].
قصة شعيب عليه السلام
نبَّأهُ اللهُ وأرسلَهُ إلى أهلِ مدينَ، وكانوا معَ شركِهم يبخسونَ المكاييلَ والموازينَ، ويغشونَ في المعاملاتِ، وينقصونَ الناسَ أشياءَهم، فدعاهم إلى توحيدِ اللهِ، ونهاهم عن الشركِ بهِ، وأمرَهم بالعدلِ في المعاملاتِ، وزجرَهم عن البخسِ في المعاملاتِ، وذكَّرَهم الخيرَ الذي أدرَّهُ اللهُ عليهم، والأرزاقَ المتنوعةَ، وأنهم ليسوا بحاجةٍ إلى ظلمِ الناسِ في أموالِهم، وخوَّفَهم العذابَ المحيطَ في الدنيا قبلَ الآخرةِ.
فأجابوهُ ساخرينَ وردُّوا عليهِ متهكمِينَ، فقالوا:{يَاشُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87)} [هود: 87] أي: فنحنُ جازمونَ على عبادةِ ما كان آباؤُنا يعبدونَ، وجازمونَ على أننا نفعلُ في أموالِنا ما نريدُ من أيِّ معاملةٍ تكونُ، فلا ندخلُ تحتَ أوامرِ اللهِ وأوامرِ رسلهِ.
فقالَ لهم: {يَاقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا} [هود: 88] أي: أغناني اللهُ، {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} أي: ما نهيتُكم عن المعاملاتِ الخبيثةِ وظلمِ الناسِ فيها إلَّا وأنا أولُ تاركٍ لها، معَ أنَّ اللهَ أعطاني ووسَّعَ عليَّ وأنا محتاجٌ إلى المعاملةِ، ولكني متقيدٌ بطاعةِ ربي، {إِنْ أُرِيدُ} في فعلي وأمرِي لكم {إِلَّا الْإِصْلَاحَ} أي: أنْ تَصلحَ أحوالُكم الدينيةُ والدنيويةُ، {مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88].
ثم خوَّفَهم آخذاتِ الأممِ التي حولَهم في الزمانِ والمكانِ فقالَ: {لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ} [هود: 89].
ثم عرَضَ عليهم التوبةَ، ورغَّبَهم فيها، فقال:{وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ} [هود: 90]؛ فلم يُفِدْ فيهم.
فقالوا: {مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ} [هود: 91] وهذا لعنادِهم وبغضِهم البليغِ للحقِّ، {وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (91) قَالَ يَاقَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92)} [هود: 91 - 92].
ثم لما رأى عتوَّهم قال: {وَيَاقَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93) وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا} [هود: 93 - 94]، {وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} [هود: 58].
فأرسلَ اللهُ عليهم حرًّا أخذَ بأنفاسِهم حتى كادُوا يختنقونَ من شدتهِ، ثم في أثناءِ ذلكَ أرسلَ سحابةً باردةً فأظلَّتْهم، فتنادَوا إلى ظلِّها غيرِ الظليلِ، فلما اجتمعُوا فيها التهبَتْ عليهم نارًا، فأحرقَتْهم، وأصبحوا خامدِينَ معذَّبِينَ مذمومِينَ ملعونِينَ في جميعِ الأوقاتِ.
* وفي قصةِ شعيبٍ فوائدُ متعددةٌ:
* منها: أنَّ بخسَ المكاييلِ والموازينِ خصوصًا، وبخسَ الناسِ أشياءَهم عمومًا؛ من أعظمِ الجرائمِ الموجبةِ لعقوباتِ الدنيا والآخرةِ.
* ومنها: أنَّ المعصيةَ الواقعةَ لمن عُدِمَ منهُ الداعي والحاجةُ إليها أعظمُ؛ ولهذا كان الزِّنَى من الشيخِ أقبحَ من [الشابِّ]
(1)
، والكِبْرُ من الفقيرِ أقبحَ من الغنيِّ، والسرقةُ ممنْ ليسَ بمحتاجٍ أعظمَ من وقوعِها من المحتاجِ؛ لهذا قالَ شعيبٌ لقومهِ:{إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ} [هود: 84] أي: بنعمٍ كثيرةٍ، فأيُّ أمرٍ أحوجَكم إلى الهلعِ إلى ما بأيدِي الناسِ بطرقٍ محرمةٍ.
* ومنها: قولهُ: {بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ} [هود: 86] فيه الحثُّ على الرضا بما أعطى اللهُ، والاكتفاءُ بحلالهِ عن حرامهِ، وقصرُ النظرِ على الموجودِ عندَكَ من غيرِ تطلعٍ إلى ما عندَ الناسِ.
* ومنها: فيه دلالةٌ على أنَّ الصلاةَ سببٌ لفعلِ الخيراتِ، وتركِ المنكراتِ، وللنصيحةِ لعبادِ اللهِ، وقدْ عَلِمَ ذلكَ الكفارُ بما قالوا لشعيبٍ:{أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هود: 87]، وقالَ تعالى:{إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45]
ومن هنا تعرفُ حكمةَ اللهِ ورحمتَهُ في أنهُ فرَضَ علينا الصلواتِ تتكررُ في اليومِ والليلةِ؛ لعظمِ وقعِها، وشدةِ نفعها، وجميلِ آثارِها، فللهِ على ذلكَ أتمُّ الحمدِ.
* ومنها: أنَّ العبدَ في حركاتِ بدنهِ وتصرفاتهِ، وفي معاملاتهِ الماليةِ؛ داخلٌ تحتَ حجرِ الشريعةِ، فما أُبيحَ لهُ منها فعلَهُ، وما منعَهُ الشرعُ تعيَّنَ عليهِ تركهُ، ومَن يزعمُ أنهُ في مالهِ حرٌّ، لهُ أنْ يفعلَ ما يشاءُ من معاملاتٍ طيبةٍ وخبيثةٍ؛ فهوَ بمنزلةِ مَنْ يرى أنَّ عملَ بدنهِ كذلكَ، وأنهُ لا فرقَ عندَهُ بينَ الكفرِ والإيمانِ، والصدقِ والكذبِ، وفعلِ الخيرِ والشرِّ، الكلُّ مباحٌ!
(1)
كذا في (خ). وفي (ط): الشباب.
ومن المعلومِ أنَّ هذا هوَ مذهبُ الإباحيينَ الذينَ هم شرُّ الخليقةِ، ومذهبُ قومِ شعيبٍ يشبِهُ هذا؛ لأنهم أنكرُوا على شعيبٍ لما نهاهم عن المعاملاتِ الظالمةِ، وأباحَ لهم سواها، فردُّوا عليهِ أنهم أحرارٌ في أموالِهم، لهم أنْ يفعلُوا فيها ما يريدونَ.
ونظيرُ هذا قولُ مَنْ قالَ: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} [البقرة: 275]، فمَن سوَّى بينَ ما أباحَهُ وبينَ ما حرَّمَهُ اللهُ فقدْ انحرَفَ في فطرتهِ وعقلهِ بعدما انحرفَ في دينهِ.
* ومنها: أنَّ الناصحَ للخلقِ الذي يأمرُهم وينهاهم، مِنْ تمامِ قبولِ الناسِ لقولهِ: أنهُ إذا أمرَهم بشيءٍ أنْ يكونَ أولَ الفاعلينَ لهُ، وإذا نهاهم عن شيءٍ كان أولَ التاركينَ؛ لقولِ شعيبٍ:{وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود: 88].
* ومنها: أنَّ الأنبياءَ جميعَهم بُعثُوا بالإصلاحِ والصلاحِ، ونهَوا عن الشرورِ والفسادِ، فكلُّ صلاحٍ وإصلاحٍ دينيٍّ ودنيويٍّ فهو من دينِ الأنبياءِ، وخصوصًا إمامَهم وخاتمَهم [محمدًا]
(1)
صلى الله عليه وسلم، فإنه أبدَى وأعادَ في هذا الأصلِ، ووضَعَ للخلقِ الأصولَ النافعةَ التي يَجْرُون عليها في الأمورِ العاديةِ والدنيويةِ، كما وضَعَ لهم الأصولَ في الأمورِ الدينيةِ، وأنه كما أنَّ على العبدِ السعيَ والاجتهادَ في فعلِ الصلاحِ والإصلاحِ، فعليه أنْ يستمدَّ العونَ من ربِّه على ذلك، وأنْ يعلمَ أنه لا يقدرُ على ذلك ولا على تكميلِه إلا باللهِ؛ لقولِ شعيبٍ:{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88].
* ومنها: أنَّ الداعيَ إلى اللهِ يحتاجُ إلى الحلمِ وحسنِ الخلقِ ومقابلةِ المسيئينَ بأقوالِهم وأفعالِهم بضدِّ ذلكَ، وألَّا يحفظَهُ أذَى الخلقِ، ولا يصدَّهُ عن شيءٍ من دعوتهِ.
(1)
في (خ) و (ط): محمد. والمثبت موافق لقواعد اللغة.
وهذا الخلقُ كمالُهُ للرسلِ صلواتُ اللهِ وسلامهُ عليهم، فانظُرْ إلى شعيبٍ عليه السلام وحسنِ خلقهِ معَ قومهِ، ودعوتهِ لهم بكلِّ طريقٍ وهم يُسمِعونَهُ الأقوالَ السيئةَ، ويقابلونَهُ المقابلةَ [الفظيعةَ]
(1)
، وهوَ صلى الله عليه وسلم يحلمُ عليهم ويصفحُ، ويتكلمُ معهم كلامَ مَنْ لم يصدُرْ منهم لهُ وفي حقِّهِ إلا الإحسانُ.
ويهوِّنُ هذا الأمرَ:
• أنَّ هذا خلقٌ مَنْ ظفَرَ بهِ وحازَهُ فقدْ فازَ بالحظِّ العظيمِ.
• وأنَّ لصاحبهِ عندَ اللهِ المقاماتِ العاليةَ، والنعيمَ المقيمَ.
• ويهوِّنَهُ أنهُ يعالجُ أممًا قدْ طُبعُوا على أخلاقٍ إزالتُها وقلعُها أصعبُ من قلعِ الجبالِ الرواسِي، ومُرنُوا على عقائدَ ومذاهبَ بذلُوا فيها الأموالَ والأرواحَ، وقدَّموها على جميعِ المهماتِ عندَهم.
أفتظنُّ معَ هذا أنَّ أمثالَ هؤلاءِ يقتنعونَ بمجردِ القولِ بأنَّ هذهِ مذاهبُ باطلةٌ وأقوالٌ فاسدةٌ، أمُ تحسبُهم يغتفرونَ لمن نالَها بسوءٍ؟! كلا واللهِ، إنَّ هؤلاءِ يحتاجونَ إلى معالجاتٍ متنوعةٍ بالطرقِ التي دعَتْ إليها الرسلُ:
- يذكَّرونَ بنعمِ اللهِ، وأنَّ الذي تفرَّدَ بالنعمِ يتعينُ أنْ يُفردَ بالعبادةِ.
- ويُذكرُ لهم من تفاصيلِ النعمِ ما لا يعدُّ ولا يُحصَى.
- ويذكَّرونَ بما في مذاهبِهم من الزيغِ والفسادِ والاضطرابِ والتناقضِ المزلزلِ للعقائدِ، الداعِي إلى تركِها.
(1)
كذا في (خ). وفي (ط): الفعلية.
- ويذكَّرونَ بما بينَ أيدِيهم وما خلفَهم من أيامِ اللهِ ووقائعهِ بالأممِ المكذبةِ للرسلِ، المنكرةِ للتوحيدِ.
- ويذكَّرونَ بما في الإيمانِ باللهِ وتوحيدهِ ودينهِ من المحاسنِ والمصالحِ، والمنافعِ الدينيةِ والدنيويةِ، الجاذبةِ للقلوبِ، المسهلةِ لكلِّ مطلوبٍ.
- ومعَ هذا كلِّهِ فيحتاجُ الخَلقُ إلى الإحسانِ إليهم، وبذلِ المعروفِ، وأقلُّ ذلكَ الصبرُ على أذاهم، وتحملُ ما يصدرُ منهم، ولينُ الكلامِ معهم، وسلوكُ كلِّ سبيلِ حكمةٍ معهم، والتنقلُ معهم في الأمورِ بالاكتفاءِ ببعضِ ما تسمحُ بهِ أنفسُهم؛ ليستدرجَ بهم إلى تكميلهِ، والبداءةُ بالأهمِّ فالأهمِّ.
وأعظمُهم قيامًا بهذهِ الأمورِ وغيرِها سيدُهم وخاتمُهم وإمامُ الخلقِ على الإطلاقِ: محمدٌ صلى الله عليه وسلم.
قصة موسى وهارون عليهما السلام
قدْ ذكرَ اللهُ لموسى بنِ عمرانَ ومعَهُ أخوهُ هارونُ عليهما السلام سيرةً طويلةً، وساقَ قصصَهُ في مواضعَ من كتابهِ بأساليبَ متنوعةٍ واختصارٍ أو بسطٍ يليقُ بذلكَ المقامِ، وليسَ في قصصِ القرآنِ أعظمُ من قصةِ موسى؛ لأنهُ عالجَ فرعونَ وجنودَهُ، وعالجَ بني إسرائيلَ أشدَّ المعالجةِ.
وهوَ أعظمُ أنبياءِ بني إسرائيلَ، وشريعتهُ وكتابهُ التوراةُ هوَ مرجعُ أنبياءِ بني إسرائيلَ وعلمائِهم، وأتباعُه أكثرُ أتباعِ الأنبياءِ غير أمةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، ولهُ من القوةِ العظيمةِ في إقامةِ دينِ اللهِ، والدعوةِ إليهِ، والغيرةِ العظيمةِ ما ليسَ لغيرهِ.
وقدْ وُلِدَ في وقتٍ قدْ اشتدَّ فيه فرعونُ على بني إسرائيلَ، فكان يذبحُ كلَّ مولودٍ ذكرٍ يُولدُ من بني إسرائيلَ، ويستحيي النساءَ للخدمةِ والامتهانِ، فلما ولدتهُ أمهُ خافَتْ عليهِ خوفًا شديدًا؛ فإنَّ فرعونَ جعَلَ على بني إسرائيلَ مَنْ يرقبُ نساءَهم ومواليدَهم، وكان بيتُها على ضفةِ نهرِ النيلِ، فألهمَها اللهُ أنْ وضعَتْ لهُ تابوتًا إذا خافَتْ أحدًا ألقَتْهُ في اليمِّ، وربطَتْهُ بحبلٍ لئلَّا تجريَ بهِ جريةُ الماءِ، ومن لطفِ اللهِ بها أنهُ أوحَى لها أنْ {لَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص: 9].
فلما ألقَتْهُ ذاتَ يومٍ انفلَتَ رباطُ التابوتِ، فذهبَ الماءُ بالتابوتِ الذي في وسطهِ موسى، ومِن قدرِ اللهِ أنْ وقعَ في يدِ آلِ فرعونَ، وجيءَ بهِ إلى امرأةِ فرعونَ أسيةَ، فلما رأتْهُ أحبَّتْهُ حبًّا شديدًا، وكان اللهُ قدْ ألقَى عليهِ المحبةَ في القلوبِ.
وشاعَ الخبرُ ووصلَ إلى فرعونَ، فطلبَهُ ليقتلَهُ، فقالَتْ امرأتهُ: لا تقتلُوهُ، قرَّةُ عينٍ لي ولكَ، عسى أنْ ينفعَنا أو نتخذَهُ ولدًا
(1)
؛ فنجا بهذا السببِ من قتلِهم، وكان هذا الأثرُ الطيبُ والمقدمةُ الصالحةُ من السعيِ المشكورِ عندَ اللهِ، فكان هذا من أسبابِ هدايتِها وإيمانِها بموسى بعدَ ذلكَ.
أما أمُّ موسى فإنها فزعَتْ، وأصبحَ فؤادُها فارغًا، وكادَ الصبرُ أنْ يُغلبَ فيها، {إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10)} [القصص: 10]، وقالتْ لأختهِ: قُصِّيهِ وتحسَّسي عنهُ، وكانتْ امرأةُ فرعونَ قدْ عرضَتْ عليهِ المراضعَ فلم يقبَلْ ثديَ امرأةٍ، وعطَشَ وجعَلَ يتلوَّى من الجوعِ، وأخرجوهُ إلى الطريقِ؛ لعلَ اللهَ أنْ ييسرَ لهُ أحدًا.
فحانَتْ من أختهِ نظرةٌ إليهِ، وبصُرَتْ بهِ عن جنبٍ وهم لا يشعرونَ بشأنِها، فلما أقبلَتْ عليهِ وفهمَتْ منهم أنهم يطلبونَ لهُ مرضعًا قالتْ لهم:{هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (12) فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ} .
ثم ذكَرَ اللهُ في هذهِ السورةِ [قصتَهُ]
(2)
مفصلةً واضحةً، وكيفَ تنقَّلَتْ بهِ الأحوالُ، قراءتُها كافيةٌ عن شرحِ معناها؛ لوضوحِها وتفصيلاتِها، واللهُ تعالى ما فصَّلَ لنا إلا ما ننتفعُ بهِ ونعتبرُ، ولكنْ في قصتهِ من العبرِ والفوائدِ شيءٌ كثيرٌ ننبِّهُ على بعضِها.
(1)
كما في قوله تعالى: {وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} [القصص: 9].
(2)
كذا في (خ). وفي (ط): قصة.
* ذكرُ الفوائدِ المستنبطةِ، نصًّا أو ظاهرًا أو تعميمًا أو تعليلًا، من قصةِ موسى صلى الله عليه وسلم:
* منها: لطفُ اللهِ بأمِّ موسى بذلكَ الإلهامِ الذي بهِ سَلِمَ ابنُها، ثم تلكَ البشارةِ من اللهِ لها بردِّهِ إليها، التي لولاها لقضَى عليها الحزنُ على ولدِها، ثم ردِّهِ إليها بإلجائهِ إليها قدرًا بتحريمِ المراضعِ عليهِ؛ وبذلكَ وغيرهِ يُعلَمُ أنَّ ألطافَ اللهِ على أوليائهِ
لا تتصورُها العقولُ، ولا تعبرُ عنها العباراتُ.
وتأمَّلْ [حسنَ]
(1)
موقعِ هذهِ البشارةِ، وأنهُ أتاها ابنُها ترضعهُ جهرًا، وتأخذُ عليهِ أجرًا، وتسمَّى أمهُ شرعًا وقدرًا، وبذلكَ اطمأنَّ قلبُها، وازدادَ إيمانُها، وفي هذا مصداقٌ لقولهِ تعالى:{وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 216]، فلا أكرهَ لأمِّ موسى من وقوعِ ابنِها بيدِ آلِ فرعونَ، ومعَ ذلكَ ظهرَتْ عواقبهُ الحميدةُ، وآثارهُ الطيبةُ.
* ومنها: أنَّ آياتِ اللهِ وعبرَهُ في الأممِ السابقةِ إنما يَستفيدُ منها ويَستنيرُ بها المؤمنونَ، واللهُ يسوقُ القصصَ لأجلِهم، كما قالَ تعالى في هذهِ القصةِ:{نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3)} [القصص: 3].
* ومنها: أنَّ اللهَ إذا أرادَ شيئًا هيَّأَ أسبابَهُ، وأتى بهِ شيئًا فشيئًا بالتدريجِ، لا دفعةً واحدةً.
* ومنها: أنَّ الأمةَ المستضعفةَ -ولوْ بلغَتْ في الضعفِ ما بلغَتْ- لا ينبغِي أنْ يستوليَ عليها الكسلُ عن السعيِ في حقوقِها، ولا اليأسُ من الارتقاءِ إلى أعلى الأمورِ، خصوصًا إذا كانوا مظلومينَ، كما استنقَذَ اللهُ بني إسرائيلَ على ضعفِها واستعبادِها لفرعونَ وملئهِ منهم، ومكَّنَهم في الأرضِ، وملَّكَهم بلادَهم.
(1)
زيادة من (خ).
* ومنها: أنَّ الأمةَ ما دامَتْ ذليلةً مقهورةً لا تطالِبُ بحقِّها لا يقومُ لها أمرُ دينِها، كما لا يقومُ لها أمرُ دنياها.
* ومنها: أنَّ الخوفَ الطبيعيَّ من الخلقِ لا يُنافي الإيمانَ ولا يزيلهُ، كما جرَى لأمِّ موسى ولموسى من تلكَ المخاوفِ.
* ومنها: أنَّ الإيمانَ يزيدُ وينقصُ؛ لقولهِ: {لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [القصص: 10]، والمرادُ بالإيمانِ هنا: زيادتهُ وزيادةُ طمأنينتهِ.
* ومنها: أنَّ من أعظمِ نعمِ اللهِ على العبدِ: تثبيتَ اللهِ لهُ عندَ المقلقاتِ والمخاوفِ، فإنهُ كما يزدادُ بهِ إيمانهُ وثوابهُ فإنهُ يتمكنُ من القولِ الصوابِ والفعلِ الصوابِ، ويبقَى رأيهُ وأفكارهُ ثابتةً؛ وأما مَنْ لم يحصُلْ لهُ هذا الثباتُ، فإنهُ لقلقهِ وروعهِ يضيعُ فكرهُ، ويذهلُ عقلهُ، ولا ينتفعُ بنفسهِ في تلكَ الحالِ.
* ومنها: أنَّ العبدَ وإنْ عرَفَ أنَّ القضاءَ والقدرَ حقٌّ، وأنَّ وعدَ اللهِ نافذٌ لابدَّ منهُ؛ فإنهُ لا يهملُ فعلَ الأسبابِ التي تنفعُ؛ فإنَّ الأسبابَ والسعيَ فيها من قدرِ اللهِ، فإنَّ اللهَ قدْ وعدَ أمَّ موسى أنْ يردَّهُ عليها، ومعَ ذلكَ لما التقطَهُ آلُ فرعونَ سعَتْ بالأسبابِ، وأرسلَتْ أختَهُ لتقصَّهُ، وتعملَ الأسبابَ المناسبةَ لتلكَ الحالِ.
* ومنها: جوازُ خروجِ المرأةِ في حوائجِها، وتكليمِها للرجالِ، إذا انتفَى المحذورُ، كما صنعَتْ أختُ موسى، وابنتا صاحبِ مَدْينَ.
* ومنها: جوازُ أخذِ الأجرةِ على الكفالةِ والرضاعِ، كما فعلَتْ أمُّ موسى، فإنَّ شرْعَ مَنْ قبلَنا شرعٌ لنا ما لم يرِدْ مِنْ شرعِنا ما ينسخهُ.
* ومنها: أنَّ قتلَ الكافرِ الذي لهُ عهدٌ بعقدٍ أو عرفٍ لا يجوزُ، فإنَّ موسى نَدِمَ على قتلهِ القبطيَّ، واستغفرَ اللهَ منهُ وتابَ إليهِ.
* ومنها: أنَّ الذي يقتلُ النفوسَ بغيرِ حقٍّ يُعدُّ من الجبارينَ المفسدينَ في الأرضِ، ولوْ كان غرضهُ من ذلكَ الإرهابَ، ولوْ زعمَ أنهُ مصلحٌ، حتى يَرِدَ الشرعُ بما يبيحُ قتلَ النفسِ.
* ومنها: أنَّ إخبارَ الغيرِ بما قيلَ فيه وعنهُ، على وجهِ التحذيرِ لهُ، من شرٍّ يقعُ بهِ؛
لا يكونُ نميمةً، بلْ قدْ يكونُ واجبًا، كما ساقَ اللهُ خبرَ ذلكَ الرجلِ الذي جاءَ من أقصى المدينةِ يسعَى محذِّرًا لموسى، على وجهِ الثناءِ عليهِ.
* ومنها: إذا خافَ التلفَ بالقتلِ بغيرِ حقٍّ في إقامتهِ في موضعٍ، فلا يُلقِي بيدهِ إلى التهلكةِ ويستسلمُ للهلاكِ، بلْ يفرُّ من ذلكَ الموضعِ معَ القدرةِ، كما فعَلَ موسى.
* ومنها: إذا كان لابدَّ من ارتكابِ إحدى مفسدتَينِ تعيَّنَ ارتكابُ الأخفِّ منهما الأسلمِ؛ دفعًا لما هوَ أعظمُ وأخطرُ، فإنَّ موسى لما دارَ الأمرُ بينَ بقائهِ في مصرَ ولكنهُ يُقتَلُ، أو ذهابهِ إلى بعضِ البلدانِ البعيدةِ التي لا يعرفُ الطريقَ إليها، وليسَ معهُ دليلٌ يدلُّهُ غيرَ هدايةِ ربِّهِ، ومعلومٌ أنها أرجَى للسلامةِ؛ لا جرمَ آثرَها موسى.
* ومنها: فيه تنبيهٌ لطيفٌ على أنَّ الناظرَ في العلمِ عندَ الحاجةِ إلى العملِ أو التكلمِ بهِ، إذا لم يترجَّحْ عندَهُ أحدُ القولينِ فإنهُ يستهدِي ربَّهُ، ويسألُهُ أنْ يهديَهُ إلى الصوابِ من القولَينِ بعدَ أنْ يقصدَ الحقَّ بقلبهِ ويبحثَ عنهُ؛ فإنَّ اللهَ لا يُخيِّبُ مَنْ هذهِ حالُهُ، كما جرى لموسى لما قصَدَ تلقاءَ مدينَ ولا يدرِي الطريقَ المعينَ إليها، قالَ:{عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} [القصص: 22]، وقدْ هداهُ اللهُ وأعطاهُ ما رجاهُ وتمناهُ.
* ومنها: أنَّ الرحمةَ والإحسانَ على الخلقِ، مَنْ عرفَهُ العبدُ ومَن لا يعرفُهُ؛ من أخلاقِ الأنبياءِ، وأنَّ من جملةِ الإحسانِ الإعانةَ على سقيِ الماشيةِ، وخصوصًا إعانةَ العاجزِ، كما فعلَ موسى معَ ابنتَي صاحبِ مدينَ حينَ سقَى لهما لما رآهما عاجزتَينِ عن سقيِ ماشيتِهما قبلَ صدورِ الرعاةِ.
* ومنها: أنَّ اللهَ كما يحبُّ من الداعي أنْ يتوسَّلَ إليهِ بأسمائهِ وصفاتهِ، ونعمهِ العامةِ والخاصةِ؛ فإنهُ يحبُّ منهُ أنْ يتوسَّلَ إليهِ بضعفهِ وعجزهِ وفقرهِ، وعدمِ قدرتهِ على تحصيلِ مصالحهِ، ودفعِ الأضرارِ عن نفسهِ، كما قالَ موسى:{رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص: 24]؛ لما في ذلكَ من إظهارِ التضرعِ والمسكنةِ، والافتقارِ للهِ الذي هوَ حقيقةُ كلِّ عبدٍ.
* ومنها: أنَّ الحياءَ والمكافأةَ على الإحسانِ لم يزَلْ دأبَ الأممِ الصالحينَ.
* ومنها: أنَّ العبدَ إذا عَمِلَ العملَ للهِ خالصًا، ثم حصَلَ بهِ مكافأةٌ عليهِ بغيرِ قصدهِ فإنهُ لا يُلامُ على ذلكَ، ولا يخلُّ بإخلاصهِ وأجرهِ، كما قَبِلَ موسى مكافأةَ صاحبِ مدينَ عن معروفهِ الذي لم يطلبْهُ، ولم يستشرِفْ لهُ على معاوضةٍ.
* ومنها: جوازُ الإجارةِ على كلِّ عملٍ معلومٍ، في نفع معلومٍ، أو زمنٍ مسمًّى، وأنَّ مردَّ ذلكَ إلى العرفِ، وأنهُ تجوزُ الإجارةُ وتكونُ المنفعةُ البُضْعَ، كما قالَ صاحبُ مدينَ:{إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ} [القصص: 27] الآية، وأنهُ يجوزُ للإنسانِ أنْ يخطبَ الرجلَ لابنتهِ ونحوِها ممن هوَ وليٌّ عليها، ولا نقصَ في ذلكَ، بلْ قدْ يكونُ نفعًا وكمالًا، كما فعَلَ صاحبُ مدينَ معَ موسى.
* ومنها: قولهُ: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [القصص: 26] هذانِ الوصفانِ بهما تمامُ الأعمالِ كلِّها، فكلُّ عملٍ من الولاياتِ أو من الخدماتِ أو من
الصناعاتِ، أو من الأعمالِ التي القصدُ منها الحفظُ والمراقبةُ على العمالِ والأعمالِ، إذا جمَعَ الإنسانُ الوصفَينِ: أنْ يكونَ قويًّا على ذلكَ العملِ بحسبِ أحوالِ الأعمالِ، وأنْ يكونَ مؤتمنًا عليهِ؛ تمَّ ذلكَ العملُ، وحصلَ مقصودهُ وثمرتهُ، والخللُ والنقصُ سببهُ الإخلالُ بهما أو بأحدِهما.
* ومنها: من أعظمِ مكارمِ الأخلاقِ: تحسينُ الخلقِ معَ كلِّ مَنْ يتصلُ بكَ مِنْ خادمٍ وأجيرٍ وزوجةٍ وولدٍ ومعاملٍ وغيرِهم، ومن ذلكَ تخفيفُ العملِ عن العاملِ؛ لقولهِ:{وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} [القصص: 27]، وفيهِ: أنهُ لا بأسَ أنْ يرغِّبَ المعاملُ في معاملتهِ بالمعاوضاتِ والإجاراتِ، بأنْ يصفَ نفسَهُ بحسنِ المعاملةِ، بشرطِ أنْ يكونَ صادقًا في ذلكَ.
ومنها: جوازُ عقدِ المعاملاتِ من إجارةِ وغيرِها بغيرِ إشهادٍ؛ لقولهِ: {وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} [القصص: 28]، وتقدَّمَ أنَّ الإشهادَ تنحفظُ بهِ الحقوقُ، وتقلُّ المنازعاتُ، والناسُ في هذا الموضعِ درجاتٌ متفاوتةٌ، وكذلكَ الحقوقُ.
* ومنها: الآياتُ البيناتُ التي أيَّدَ اللهُ بها موسى:
• من انقلابِ عصاهُ التي كان يعرفُها حية تسعَى، ثم عَوْدِها
(1)
سيرتَها الأولى.
• وأنَّ يدَهُ إذا أدخلَها في جيبهِ ثم أخرجَها صارَتْ بيضاءَ من غيرِ سوءٍ للناظرينَ.
• ومن عصمةِ
(2)
اللهِ وحمايتهِ لموسى وهارونَ من فرعونَ وملئهِ.
(1)
بعدها في (خ): إلى.
(2)
في (ط): رحمة. والمثبت من (خ)، ولعله الصواب؛ لموافقته نص المؤلف في كتابه «تيسير الكريم الرحمن» (ص: 618).
• ومن انفلاقِ البحرِ لما ضربَهُ موسى بعصاهُ، فصارَ اثنَيْ عشرَ طريقًا، وسلكَهُ هؤلاءِ فنَجَوا، وقومُ فرعونَ فهلكُوا.
وغيرُ ذلكَ من الآياتِ المتتابعاتِ، التي هيَ براهينُ وآياتٌ لمن رآها وشاهدَها، وبراهينُ لمن سمعَها، فإنها نقلَتْها [أعظمُ]
(1)
مصادرِ اليقينِ الكتبُ السماويةُ، ونقلَتْها القرونُ كلُّها، ولم ينكِرْ مثلَ هذهِ الآياتِ إلا جاهلٌ مكابرٌ زنديقٌ، وجميعُ آياتِ الأنبياءِ بهذهِ المثابةِ.
* ومنها: أنَّ آياتِ الأنبياءِ، وكراماتِ الأولياءِ، وما يخرقهُ اللهُ من الآياتِ، ومن تغييرِ الأسبابِ، أو منعِ سببيتِها، أو احتياجِها إلى أسبابٍ أخرَ، أو وجودِ موانعَ
تعوقُها - هيَ من البراهينِ العظيمةِ على وحدانيةِ اللهِ، وأنهُ على كلِّ شيءٍ قديرٌ، وأنَّ أقدارَ اللهِ لا يخرجُ عنها حادثٌ جليلٌ ولا حقيرٌ، وأنَّ هذهِ المعجزاتِ والكراماتِ والتغييراتِ لا تُنافِي ما جعَلَ اللهُ في هذهِ المخلوقاتِ من الأسبابِ المحسوسةِ، والنظاماتِ المعهودةِ، وإنكَ لا تجدُ لسنةِ اللهِ تبديلًا ولا تحويلًا؛ فإن سننَ اللهِ في جميعِ الحوادثِ السابقةِ واللاحقةِ قسمانِ:
• أحدُهما: وهوَ جمهورُ الحوادثِ والكائناتِ والأحكامِ الشرعيةِ والقدريةِ وأحكامِ الجزاءِ: لا تتغيرُ ولا تتبدلُ عما يعهدهُ الناسُ ويعرفونَ أسبابَهُ، وهذا القسمُ أيضا مندرجٌ في قدرةِ اللهِ وقضائهِ.
ويُستفادُ من هذا: العلمُ بكمالِ حكمةِ اللهِ في خلقهِ وشرعهِ، وأنَّ الأسبابَ والمسبباتِ من سلَكَ طرقَها على وجهٍ كاملٍ أفضَتْ بهِ إلى نتائجِها وثمراتِها، ومن لم
(1)
كذا في (خ). وفي (ط): معظم.
يسلُكْها أو سلَكَها على وجهٍ ناقصٍ لم يحصُلْ لهُ الثمراتُ التي رُتبَتْ على الأعمالِ شرعًا ولا قدرًا، وهذهِ توجبُ للعبدِ أنْ يجدَّ ويجتهدَ في الأسبابِ الدينيةِ والدنيويةِ النافعةِ معَ استعانتهِ باللهِ، والثناءِ على ربهِ في تيسيرِها وتيسيرِ أسبابِها وآلاتِها، وكلِّ ما تتوقفُ عليهِ.
• والقسمُ الثاني: حوادثُ معجزاتِ الأنبياءِ التي تواترَتْ تواترًا لا يتواترُ مثلهُ في جميعِ الأخبارِ، وتناقلَتْها القرونُ كلُّها، وكذلكَ ما يكرمُ اللهُ بهِ عبادَهُ من إجابةِ الدعواتِ، وتفريجِ الكرباتِ، وحصولِ المطالبِ المتنوعةِ، ودفعِ المكارهِ التي لا قدرةَ للعبدِ على دفعِها، والفتوحاتِ الربانيةِ، والإلهاماتِ الإلهيةِ، والأنوارِ التي يقذفُها اللهُ في قلوبِ خواصِّ خلقهِ، فيحصلُ لهم بذلكَ من اليقينِ والطمأنينةِ والعلومِ المتنوعةِ ما لا يُدركُ بمجردِ الطلبِ وفعلِ السببِ، ومن نصرهِ للرسلِ وأتباعِهم، وخذلانهِ لأعدائِهم وهوَ مشاهدٌ في كثيرٍ من الأوقاتِ.
فهذا القسمُ ليسَ عندَ الخلقِ اهتداءٌ إلى أسبابِ هذهِ الحوادثِ، ولا جُعِلَ لهم في الأصلِ وصولٌ إلى حقيقتِها وكنهِها، وإنما هيَ حوادثُ قدَّرَها الربُّ العظيمُ الذي هوَ على كلِّ شيءٍ قديرٌ، بأسبابٍ وحكمٍ وسننٍ لا يعقلُها الخلقُ، ولا لحواسِّهم وتجاربِهم وصولٌ إليها بوجهٍ من الوجوهِ، وبها آمنَ الرسلُ من أولِهم إلى آخرِهم، وأتباعُهم الأولونَ منهم والآخرونَ، وبها يُعرفُ عظمةُ البارِي، وأنَّ نواصيَ العبادِ بيدهِ، وأنهُ ما شاءَ اللهُ كان، وما لم يشَأْ لم يكنْ، ويُعرفُ بذلكَ صحةُ ما جاءتْ بهِ الرسلُ، كما يُعرفُ أيضًا بالقسمِ الأولِ.
وكما أنهُ لا سبيلَ إلى العبادِ في هذهِ الدار إلى إدراكِ كنهِ صفاتِ اليومِ الآخرِ، وكنهِ ما في الجنةِ والنارِ، وإنما يعلمونَ منها ما علَّمَتْهم بهِ الرسلُ، ونزلَتْ بهِ الكتبُ، ولا سبيلَ إلى أهلِ هذا الكونِ الأرضيِّ للوصولِ إلى العالمِ السماويِّ، ولا سبيلَ لهم إلى إحياءِ الموتى وإيجادِ الأرواحِ في الجماداتِ - فكذلكَ هذا النوعُ العظيمُ من حوادثِ الكونِ.
وإنما أطَلْنا الكلامَ على هذهِ المسألةِ -وإنْ كانتْ تستحقُّ من البسطِ أكثرَ من هذا- لأمرينِ:
• أحدهما: أنَّ الزنادقةَ المتأخرينَ الذينَ أنكروا وجودَ البارِي، وأنكروا جميعَ ما أخبرَتْ بهِ الرسلُ والكتبُ السماويةُ من أمورِ الغيبِ، ولم يثبتُوا من العلومِ إلا ما وصلَتْ إليهِ حواسُّهم وتجاربُهم القاصرةُ على بعضِ علومِ الكونِ، وأنكروا ما سوى ذلكَ، وزعموا أنَّ هذا العالمَ وهذا النظامَ الموجودَ فيه لا يمكنُ أنْ يغيَّرَهُ مغيرٌ، أو يغيَّرَ شيئًا من أسبابهِ، وأنهُ وُجِدَ صدفةً من غيرِ إيجادِ موجدٍ، وأنهُ آلةٌ تمشي بنفسِها وطبيعتِها، ليسَ لها مدبرٌ ولا ربٌّ ولا خالقٌ!
وهؤلاءِ جميعُ أهلِ الأديانِ يعرفونَ مكابرتَهم ومباهتتَهم؛ لأنهم كما عُدِمُوا الدينَ بالكليةِ فقدْ اختلَّتْ عقولُهم الحقيقة؛ إذْ أنكروا أجلَى الحقائقِ وأوضحَها وأعظمَها براهينَ وآياتٍ، وتاهوا بعقولِهم القاصرةِ وآرائِهم الفاسدةِ، هؤلاءِ أمرُهم معلومٌ.
• ولكنَّ الأمرَ الثاني: أنَّ بعضَ أهلِ العلمِ العصريينَ، الذينَ يتظاهرونَ بنصرِ الإسلامِ والدخولِ معَ هؤلاءِ الزنادقةِ في الجدالِ عنهُ؛ يريدونَ باجتهادِهم أو اغترارِهم أنْ يطبقُوا السننَ الإلهيةَ وأمورَ الآخرةِ على ما يعرفهُ العبادُ بحواسِّهم، ويدركونَهُ بتجاربِهم؛ فحرَّفوا لذلكَ المعجزاتِ، وأنكروا الآياتِ البيناتِ، ولم يستفيدُوا إلا الضررَ على أنفسِهم، وعلى مَنْ قرأَ كتاباتِهم في هذهِ المباحثِ؛ إذْ ضَعُفَ إيمانُهم باللهِ بتحريفِهم لمعجزاتِ الأنبياءِ تحريفًا يؤولُ إلى إنكارِها، وإنكارِهم هذا النوعَ العظيمَ من قضاءِ اللهِ وقدرهِ، وضَعُفَ إيمانُ مَنْ وقَفَ على كلامِهم ممن ليسَتْ لهُ بصيرةٌ، ولا عندَهُ من العلومِ الدينيةِ ما يُبطلُ هذا النوعَ.
ولم يحصُلْ ما زعموهُ من جلبِ الماديينَ إلى الهدَى والدينِ، بلْ زادُوهم إغراءً في مذاهبِهم؛ لما رأَوا أمثالَ هؤلاءِ يحاولونَ إرجاعَ النصوصِ الدينيةِ، ومعجزاتِ الأنبياءِ، وأمورِ الغيبِ؛ إلى علومِ هؤلاءِ القاصرةِ على التجاربِ والمدركاتِ بالحواسِّ، فيا عِظَمَ المصيبةِ، ويا شِدَّةَ الجُرْمِ المزوَّقِ! ولكنَّ ضعفَ البصيرةِ والإعجابَ بزنادقةِ الدهريينَ أوجبَ الخضوعَ لأقوالِهم، فلا حولَ ولا قوةَ إلا باللهِ.
* ومنها: أنَّ مِنْ أعظمِ العقوباتِ على العبدِ أنْ يكونَ إمامًا في الشرِّ، وداعيًا إليهِ، كما أنَّ مِنْ أعظمِ نعمِ اللهِ على العبدِ أنْ يجعلَهُ إمامًا في الخيرِ هاديًا مهديًّا، قالَ تعالى في فرعونَ وملئهِ:{وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} [القصص: 41]، وقال:{وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} [الأنبياء: 73].
* ومنها: ما في هذهِ القصةِ من الدلالةِ على رسالةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، إذْ أخبَرَ بهذهِ القصةِ وغيرِها خبرًا مفصلًا مطابقًا وتأصيلًا موافقًا، قصَّهُ قصًّا، صدَّقَ بهِ المرسلينَ، وأيَّدَ بهِ الحقَّ المبينَ، وهوَ لم يحضُرْ في شيءٍ من تلكَ المواضعِ، ولا درَسَ شيئًا عرَفَ بهِ أحوالَ هذهِ التفصيلاتِ، ولا جالسَ وأخذَ عن أحدٍ من أهلِ العلمِ، إنْ هوَ إلا رسالةُ الرحمنِ الرحيمِ، ووحيٌ أنزلَهُ عليهِ الكريمُ المنانُ؛ لينذرَ بهِ العبادَ أجمعينَ؛ ولهذا يقولُ في آخرِ هذهِ القصةِ:{وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ} [القصص: 46]، {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ} [القصص: 44]، {وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ} [القصص: 45] الآية، وهذا نوعٌ من أنواعِ براهينِ رسالتهِ.
* ومنها: ذكَرَ كثيرٌ من أهلِ العلمِ أنهُ يُستفادُ من قولهِ تعالى عن جوابِ موسى لربهِ لما سألهُ عن العصا فقالَ: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَامُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي} [طه: 17 - 18] الآية: استحبابُ استصحابِ العصا؛ لما فيه من
هذهِ المنافعِ المعينةِ، والمجملةِ في قولهِ:{مَآرِبُ أُخْرَى} ، وأنهُ يستفادُ منها أيضًا: الرحمةُ بالبهائمِ، والإحسانُ إليها، والسعيُ في إزالةِ ضررِها.
* ومنها: أنَّ قولَهُ جلَّ ذكرُهُ: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14] أي: أنَّ ذكرَ العبدِ لربهِ هوَ الذي خُلِقَ لهُ العبدُ، وبهِ صلاحهُ وفلاحهُ، وأنَّ المقصودَ من إقامةِ الصلاةِ إقامةُ هذا المقصودِ الأعظمِ، ولولا الصلاةُ التي تتكررُ على المؤمنينَ في اليومِ والليلةِ لتذكرَهم باللهِ، ويتعاهدونَ فيها قراءةَ القرآنِ، والثناءَ على اللهِ، ودعاءَه والخضوعَ لهُ الذي هوَ روحُ الذكرِ؛ لولا هذهِ النعمةُ لكانوا من الغافلينَ.
وكما أنَّ الذكرَ هوَ الذي خُلِقَ الخلقُ لأجلهِ، والعباداتُ كلُّها ذكرٌ للهِ؛ فكذلكَ الذكرُ يُعينُ العبدَ على القيامِ بالطاعاتِ وإنْ شقَّتْ، ويهوِّنُ عليهِ الوقوفَ بينَ يدي الجبابرةِ، ويخففُ عليهِ الدعوةَ إلى اللهِ، قالَ تعالى في هذهِ القصةِ:{كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34)} [طه: 33 - 34]، وقالَ:{اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي} [طه: 42].
* ومنها: إحسانُ موسى صلى الله عليه وسلم على أخيهِ هارونَ؛ إذْ طلَبَ من ربهِ أنْ يكونَ نبيًّا معهُ، وطلَبَ المعاونةَ على الخيرِ والمساعدةَ عليهِ، إذْ قالَ:{وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32)} [طه: 29 - 32] الآيات.
* ومنها: أنَّ الفصاحةَ والبيانَ مما يُعينُ على التعليمِ، وعلى إقامةِ الدعوةِ؛ لهذا طلَبَ موسى من ربهِ أنْ يحلَّ عقدةً من لسانهِ ليفقهوا قولَهُ، وأنَّ اللثغةَ لا عيبَ فيها إذا حصلَ الفهمُ للكلامِ، ومن كمالِ أدبِ موسى معَ ربهِ أنهُ لم يسأَلْ زوالَ اللثغةِ كلِّها، بلْ سألَ إزالةَ ما يحصلُ بهِ المقصودُ.
* ومنها: أنَّ الذي ينبغِي في مخاطبةِ الملوكِ والرؤساءِ ودعوتِهم وموعظتِهم: الرفقُ والكلامُ اللينُ الذي يحصلُ بهِ الإفهامُ، بلا تشويشٍ ولا غلظةٍ، وهذا يُحتاجُ إليهِ في كلِّ مقامٍ، لكنَّ هذا أهمُّ المواضعِ؛ وذلكَ لأنهُ الذي يحصلُ بهِ الغرضُ المقصودُ، وهوَ قولهُ:{لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44].
* ومنها: أنَّ مَنْ كان في طاعةِ اللهِ، مستعينًا باللهِ، واثقًا بوعدِ اللهِ، راجيًا ثوابَ اللهِ؛ فإنَّ اللهَ معَهُ، ومَن كان اللهُ معَهُ فلا خوفَ عليهِ؛ لقولهِ تعالى:{لَا تَخَافَا} [طه: 46]، ثم علَّلَهُ بقولهِ:{إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} ، وقالَ تعالى:{إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40].
* ومنها: أنَّ أسبابَ العذابِ منحصرةٌ في هذينِ الوصفينِ: {إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [طه: 48] أي: كذَّبَ خبرَ اللهِ وخبرَ رسلهِ، وتولَّى عن طاعةِ اللهِ وطاعةِ رسلهِ، ونظيرُها قولهُ تعالى:{لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16)} [الليل: 15 - 16].
* ومنها: أنَّ قولَهُ تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [طه: 82] استوعبَ اللهُ بها الأسبابَ التي تُدرَكُ بها مغفرةُ اللهِ:
• أحدُها: التوبةُ، وهوَ الرجوعُ عما يكرههُ اللهُ ظاهرًا وباطنًا، إلى ما يحبُّهُ اللهُ ظاهرًا وباطنًا، وهيَ تَجُبُّ ما قبلَها من الذنوبِ صغارِها وكبارِها.
• الثاني: الإيمانُ، وهوَ الإقرارُ والتصديقُ الجازمُ العامُّ بكلِّ ما أخبرَ اللهُ بهِ ورسولهُ، الموجبُ لأعمالِ القلوبِ، ثم تتبعُها أعمالُ الجوارحِ.
ولا ريبَ أنَّ ما في القلبِ من الإيمانِ باللهِ، وكتبهِ، ورسلهِ، واليومِ الآخرِ الذي
لا ريبَ فيه؛ أصلُ الطاعاتِ وأكبرُها وأساسُها، ولا ريبَ أنهُ بحسبِ قوتهِ يدفعُ
السيئاتِ: يدفعُ ما لم يقَعْ فيمنعُ صاحبَهُ من وقوعهِ، ويدفعُ ما وقَعَ بالإتيانِ بما ينافيهِ، وعدمِ إصرارِ القلبِ عليهِ؛ فإنَّ المؤمنَ ما في قلبهِ من الإيمانِ ونورهِ لا يُجامِعُ المعاصيَ.
• والثالثُ: العملُ الصالحُ، وهذا شاملٌ لأعمالِ القلوبِ، وأعمالِ الجوارحِ، وأقوالِ اللسانِ؛ والحسناتُ يُذهبنَ السيئاتِ.
• الرابعُ: الاستمرارُ على الإيمانِ والهدايةِ والازديادِ منها.
فمَن كمَّلَ هذهِ الأسبابَ الأربعةَ فليَبْشَرْ بمغفرةِ اللهِ العامةِ الشاملةِ؛ ولهذا أتى فيه بوصفِ المبالغةِ فقالَ: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ} [طه: 82].
ولنكتفِ من قصةِ موسى بهذهِ الفوائدِ، معَ أنَّ فيها فوائدَ كثيرةً للمتأملينَ.
قصة يونس صلى الله عليه وسلم
وهوَ من أنبياءِ بني إسرائيلَ العظامِ، بعَثَهُ اللهُ إلى أهلِ نِيْنَوَى من أرضِ الموصلِ، فدعاهم إلى اللهِ تعالى فأبَوا عليهِ، ثم كرَّرَ عليهم الدعوةَ فأبَوا، فوعدَهم العذابَ وخرجَ من بينِ أظهرِهم، ولم يصبِرْ الصبرَ الذي ينبغِي، ولكنهُ أَبَقَ مغاضبًا لهم، وهم لمَّا ذهَبَ نبيُّهم أُلقِيَ في قلوبِهم التوبةُ إلى اللهِ والإنابةُ بعدما شاهدُوا مقدماتِ العذابِ، فكشفَ اللهُ عنهم العذابَ.
والظاهرُ أنَّ يونسَ عَلِمَ انكشافَ العذابِ عنهم، واستمرَّ في ذهابهِ عنهم؛ ولهذا قالَ تعالى:{إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا} [الأنبياء: 87]، وقالَ تعالى:{إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} [الصافات: 140].
فركِبَ في سفينةٍ مُوْقِرَةٍ
(1)
من الركابِ والأحمالِ، فلما توسَّطوا البحرَ شارفَتْ على الغرقِ، ودارَ الأمرُ بينَ أنْ يبقَوا جميعًا فيها فيهلَكوا، وبينَ أنْ يُلقوا بعضَهم بمقدارِ ما تخفُّ السفينةُ فيسلمُ الباقونَ، فاختاروا الأخيرَ لعدلِهم وتوفيقِهم، فاقترَعُوا فأصابَتِ القرعةُ أناسًا منهم، ومنهم يونسُ صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا قالَ:{فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} [الصافات: 141] أي: المغلوبينَ في القرعةِ، فأُلْقُوا فابتلعَهُ حوتٌ في البحرِ ابتلاعًا، لم يكسِرْ لهُ عظمًا، ولم يَمضَغْ لهُ لحمًا.
(1)
موقرة: ذات وِقْر، أي: حمل ثقيل. (المحكم والمحيط الأعظم: 6/ 549).
فلما صارَ في جوفِ الحوتِ في تلكَ الظلماتِ نادَى: {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87]، فأمرُ اللهُ الحوتَ أنْ تلقيَهُ بالعراءِ، فخرجَ من بطنِها كالفرخِ المَمْعُوطِ من البيضةِ في غايةِ الضعفِ والوهنِ، فلَطَفَ اللهُ بهِ، وأنبَتَ عليهِ شجرةً من يقطينٍ
(1)
، فأظلَّتْهُ بظلِّها الظليلِ حتى قَوِيَ واشتدَّ.
وأمرَهُ اللهُ أنْ يرجعَ إلى قومهِ فيعلمُهم ويدعُوهم، فاستجابَ لهُ أهلُ بلدهِ مائةُ ألفٍ أو يزيدونَ، {فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (148)} [الصافات: 148].
* وفي هذهِ القصةِ: عتابُ اللهِ ليونسَ صلى الله عليه وسلم اللطيفُ، وحبسهُ في بطنِ الحوتِ ليكونَ كفارةً وآيةً عظيمةً وكرامةً ليونسَ.
ومن نعمةِ اللهِ عليهِ أنهُ استجابَ لهُ هذا العددُ الكثيرُ من قومهِ، فكثرةُ أتباعِ الأنبياءِ من جملةِ فضائلِهم.
* وفيها: استعمالُ القرعةِ عندَ الاشتباهِ في مسائلِ الاستحقاقِ والحرمانِ إذا لم يكنْ مرجحٌ سواها.
* وفي عملِ أهلِ السفينةِ هذا العملَ دليلٌ على القاعدةِ المشهورةِ أنهُ يُرتكبُ أخفُّ الضررينِ؛ لدفعِ الضررِ الذي هوَ أكبرُ منهُ، ولا ريبَ أنَّ إلقاءَ بعضِهم وإنْ كان فيه ضررٌ، فعطبُ الجميعِ إذا لم يُلقَ أحدٌ أعظمُ.
* وفيها: أنَّ العبدَ إذا كانتْ لهُ مقدمةٌ صالحةٌ معَ ربهِ، وقدْ تعرَّفَ إلى ربهِ في حالِ الرخاءِ؛ أنَّ اللهَ يشكرُ لهُ ذلكَ، ويعرِفُهُ في حالِ الشدةِ بكشفِها بالكليةِ أو تخفيفِها؛ ولهذا قالَ في قصةِ يونسَ:{فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144)} [الصافات: 143 - 144].
(1)
اليقطين: القرع. وقيل: كل ورقة اتسعت وسترت. (لسان العرب: 1/ 565).
* وفيها: ما قالهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «دعوةُ أخي ذي النونِ، ما دعا بها مكروبٌ إلا فرَّجَ اللهُ عنهُ: {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87]»
(1)
.
* وفيها: أنَّ الإيمانَ ينجِّي من الأهوالِ والشدائدِ؛ لقولهِ تعالى: {وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء: 88] أي: إذا وَقعوا فيها؛ لإيمانِهم.
(1)
الترمذي (3505).
قصة داود وسليمان عليهما الصلاة والسلام
وكانا من أعظمِ أنبياءِ بني إسرائيلَ، وجمَعَ اللهُ لهما بينَ النبوةِ والحكمةِ والملكِ العظيمِ القويِّ.
أمَّا داودُ صلى الله عليه وسلم فكان من جملةِ العسكرِ الذينَ معَ طالوتَ الذي اختارَهُ أحدُ أنبياءِ بني إسرائيلَ ملكًا على بني إسرائيلَ؛ لشجاعتهِ وقوتهِ، وعلمهِ في السياسةِ ونظامِ الجيوشِ، كما قالَ تعالى:{وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} [البقرة: 247].
ولما برزُوا لجالوتَ وجنودهِ، وصبرَ عسكرُ طالوتَ، واستعانوا باللهِ؛ تفوَّقَ داودُ صلى الله عليه وسلم على الجميعِ بالشجاعةِ العظيمةِ، فباشَرَ بنفسهِ قَتْلَ ملكِهم جالوتَ، وحصلَتِ الهزيمةُ على بقيتِهم، ونصَرَ اللهُ بني إسرائيلَ ذلكَ النصرَ.
ونبَّأَ اللهُ داودَ وأعطاهُ الحكمةَ والملكَ القويَّ، كما قالَ تعالى:{وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} [ص: 20]، وكان قدْ أعطاهُ اللهُ قوةً في العبادةِ وبصيرةً، ووصفَهُ اللهُ بهذينِ الوصفينِ اللذَينِ بهما كمالُ العبدِ فقالَ:{اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 17] فوصفَهُ بالقوةِ العظيمةِ على ما أمَرَ اللهُ، وبأنهُ أوَّابٌ؛ لكمالِ معرفتهِ باللهِ.
وكان اللهُ تعالى قد سخَّرَ له الطيرَ والجبالَ تسبِّحُ اللهَ معَهُ، وكان قد أُعطيَ من حسنِ الصوتِ ورخامتهِ ما لم يُؤتَ أحدٌ من العالمينَ، وكان ينامُ نصفَ الليلِ ويقومُ ثلثَهُ
وينامُ سدسَهُ، ويصومُ يومًا ويفطرُ يومًا، وكان إذا لاقَى العدوَّ رأى الخلقُ من شجاعتهِ ما يُعجِبُ الناظرينَ.
وقدْ ألانَ اللهُ لهُ الحديدَ، وعلَّمَهُ صنعةَ الدروعِ الواقيةِ في الحروبِ، وهوَ أولُ مَنْ صنَعَ الدروعَ السرديةَ ذواتِ الحِلقِ التي يحصلُ فيها الوقايةُ، وهيَ خفيفةُ المحملِ.
وقدْ عاتبَهُ اللهُ بسببِ ذنبٍ أذنبَهُ، بأنْ أرسلَ إليهِ ملكَينِ بصورةِ خصمَينِ، فدخلُوا عليهِ وهوَ في محرابهِ ففَزِعَ منهم؛ لأنهم دخلُوا عليهِ في وقتٍ لا يدخلُ عليهِ فيه أحدٌ، وتسوَّروا المحرابَ، وقالوا:{لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ} [ص: 22]، ثم قصَّ عليهِ أحدُهما القصةَ فقالَ:{إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً} والمرادُ بها: المرأةُ، {وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23)} أي: صارَ خطابهُ أقوَى منِّي فغلَبَنِي، فقالَ داودُ عليه السلام:{لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} .
وعَلِمَ داودُ أنهُ هوَ المرادُ بهذهِ القضيةِ؛ فانتبهَ لذلكَ، {وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24) فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (25)} [ص: 24 - 25]، فمحا اللهُ عنهُ الذنبَ، وعادَ بعدَ التوبةِ أحسنَ مما كان قبلَ ذلكَ: حصَلَ لهُ القربُ العظيمُ من ربهِ وحسنُ العاقبةِ، وقالَ اللهُ لهُ:{يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26] الآية.
وأما سليمانُ بنُ داودَ صلى الله عليه وسلم فإنَّ اللهَ أعطاهُ النبوةَ ووَرِثَ أباهُ: علمَهُ ونبوتَهُ وملكَهُ، وزادهُ اللهُ ملكًا عظيمًا لم يحصُلْ لأحدٍ قبلَهُ ولا بعدَهُ:
• سخَّرَ اللهُ لهُ الريحَ، تجرِي بأمرهِ وتدبيرهِ رُخاءً، أي: بسهولةٍ حيثُ أرادَ، {غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} [سبأ: 12].
• وسخَّرَ اللهُ لهُ الجنَّ والشياطينَ والعفاريتَ يعملونَ لهُ الأعمالَ الفخمةَ بحسبِ إرادتهِ، {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} [سبأ: 13]، وتذهبُ وتجيءُ بأمرهِ إلى حيثُ أرادَ.
• وسخَّرَ لهُ من الجنودِ من الإنسِ والجنِّ والطيرِ، {فَهُمْ يُوزَعُونَ} [النمل: 17] بتدبيرٍ عجيبٍ ونظامٍ غريبٍ.
• وعلَّمَهُ اللهُ منطقَ الطيرِ وسائرِ الحيواناتِ، فكانتْ تخاطبهُ ويفهمُ ما [تتكلَّمُ]
(1)
بهِ؛ ولهذا خاطبَ الهدهدَ وراجعَهُ تلكَ المراجعةَ، وسمعَ النملةَ إذْ نادتْ في قومِها:{يَاأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [النمل: 18] فحذرَتْ وأمرَتْ بما يَقِيَ من الخطرِ، واعتذرَتْ عن سليمانَ وجنودهِ؛ فلهذا ابتسمَ سليمانُ ضاحكًا من قولِها وقالَ:{رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [النمل: 19].
ومن حسنِ نظامهِ وحزمهِ: أنهُ يتفقدُ الجنودَ بنفسهِ، معَ أنهُ قدْ جعَلَ لهم مدبِّرِينَ، فإنَّ قولَهُ:{فَهُمْ يُوزَعُونَ (17)} [النمل: 17] دليلٌ على ذلكَ، حتى أنهُ تفقدَ الطيورَ؛ لينظرَ هلْ هيَ لازمةٌ لمراكزِها، فقالَ:{مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ} [النمل: 20]، وليسَ الأمرُ كما يقولُ كثيرٌ من المفسرينَ أنهُ طلبَهُ لينظرَ لهُ الأرضَ وبُعْدَ مائِها؛ فإنَّ هذا خلافُ اللفظِ القرآنيِّ، فإنَّ اللهَ لم يقلْ:(وطلَبَ الهدهدَ)، بلْ قالَ:{وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ} [النمل: 20].
(1)
كذا في (خ). وفي (ط): تكلم.
ثم توعدَهُ لمخالفتهِ لأمرهِ، ولما كان ملكهُ مبنيًا على كمالِ العدلِ استثنَى فقالَ:{لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24) أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26)} [النمل: 21 - 26].
ففي هذهِ المدةِ القصيرةِ جاءَ الهدهدُ بهذهِ المعلوماتِ العظيمةِ، أخبرَ سليمانَ عن ملكِ الديارِ اليمانيةِ، وأنَّ ملكتَهم امرأةٌ، وأنها قدْ أعطيَتْ من كلِّ شيءٍ يحتاجُ الملكُ إليهِ، وأنَّ لها عرشًا عظيمًا، ومعَ فهمهِ لملكِهم وقوتِهم فَهِمَ أيضًا دينَهم، وأنهم مشركونَ يعبدونَ الشمسَ، وأنكرَ الهدهدُ عليهم غايةَ الإنكارِ، هذا من الأدلةِ على أنَّ الحيواناتِ تعرفُ ربَّها وتوحدُهُ وتسبحُهُ، وتحبُّ المؤمنينَ، وتدينُ ربَّها بذلكَ، وتبغضُ الكفارَ المكذبينَ، وتدينُ اللهَ بذلكَ.
فقالَ لهُ سليمانُ: {سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (27) اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28)} [النمل: 27 - 28]، فذهبَ بالكتابِ فألقاهُ في حجرِ المرأةِ ملكةِ سبأٍ.
فلما قرأتْهُ عظمَتْهُ جدًّا، وأُرعبَتْ منهُ فزعًا، وجمعَتْ رؤساءَ قومِها فقالتْ:{يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31)} ، كتابٌ مختصرٌ جامعٌ، فيه المقصودُ كلُّهُ.
قالتْ: {يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي} أي: أشيرُوا عليَّ، وهذا من حزمِها وحسنِ تدبيرِها استعملَتِ المشورةَ معَ رؤساءِ قومِها، {مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33)} [النمل: 32 - 33] أي: مستعدُّونَ لما تقولِينَ حربًا وسلمًا، وأرجَعْنا الأمرَ إلى ما تختارِينَ.
فمن عزمِها وحزمِها وبُعدِ نظرِها عدلَتْ عن الحربِ، واختارَتِ السلمَ، لكنْ بصورةٍ حازمةٍ، فقالتْ: سأهدِي لهُ هديةً [عظيمةً فاخرةً]
(1)
{فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} [النمل: 35]:
• إنْ كان من الملوكِ الذي ليسَ لهم همٌّ إلا الدنيا، فربما أنَّ الهديةَ كسرَتْ سورتَهُ، وفلَّتْ عزيمتَهُ، وسالَمَنا وسالَمْناهُ من بعيدٍ.
• وإنْ كان غيرَ ذلكَ بانَ لنا الأمرُ.
فأرسلَتْ أناسًا ذَوِي عقلٍ وحزمٍ وخبرةٍ ومعرفةٍ، فلما جاؤوا لسليمانَ بالهديةِ، قالَ:{أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ} [النمل: 36]، فبيَّنَ لهم أنهُ لا غرَضَ لهُ في الدنيا، وإنما غرضهُ إقامةُ الدينِ، ودخولُ عبادِ اللهِ في الإسلامِ، ثم وصَّى الرسلَ، واستغنى بذلكَ عن الكتابِ، وقالَ للرسولِ:{ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ} [النمل: 37].
وعَلِمَ سليمانُ أنهم سينقادُونَ ويسلمُونَ، فقالَ لأهلِ مجلسهِ:{أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39)} [النمل: 32 - 39]، وسليمانُ بالديارِ الشاميةِ، وبينَهُ وبينَها مسافةُ شهرينِ ذهابًا وشهرينِ إيابًا.
(1)
كذا في (خ). وفي (ط): حاضرة.
ثم قالَ الذي عندَهُ علمٌ من الكتابِ: {أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} [النمل: 40]:
• يحتملُ أنهُ كما قالَ أكثرُ المفسرينَ: إنهُ رجلٌ صالحٌ قدْ أُعطيَ الاسمَ الأعظمَ الذي إذا دُعِيَ اللهُ بهِ أجابَ، وأنهُ دعا اللهَ فأتَى بهِ قبلَ أنْ يرتدَّ إليهِ طرفهُ.
• ويحتملُ أنَّ الذي عندهُ علمٌ من الكتابِ عندَهُ من الأسبابِ التي سخَّرَها اللهُ لسليمانَ أسبابٌ يحصلُ بها تقريبُ المواصلاتِ وجلبُ الأشياءِ البعيدةِ.
وعلى كلٍّ فهذا مَلِكٌ عظيمٌ، بلحظةٍ يُحضَرُ لهُ هذا العرشُ العظيمُ؛ ولهذا لما رآهُ مستقرًّا عندَهُ حَمِدَ اللهَ على ذلكَ، قالَ:{هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} .
فقالَ لمن حولَهُ: {نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا} أي: غيِّرُوا فيه، وزيدُوا وأنقصوا، {نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ} ، وكان قد مُدِحَ له رأيُها وعقلُها، فأحبَّ أنْ يقفَ على الحقيقةِ، فلما جاءَتْ قِيلَ:{أَهَكَذَا عَرْشُكِ} وعُرِضَ عليها، فلما رأتْهُ عرفتْهُ ورأَتْ ما فيه من التنكيرِ فأنكرتْهُ، فقالَتْ مرددةً للاحتمالينِ:{كَأَنَّهُ هُوَ} لم تقلْ: هوَ؛ لما فيه من التغييرِ، ولم تنفِ أنهُ هوَ؛ لما كانتْ تعرفهُ، فأتتْ بلفظٍ صالحٍ للأمرينِ، فعرفَ سليمانُ رجاحةَ عقلِها.
{وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ} :
• إنْ كان هذا من كلامِ سليمانَ فمعناهُ: إننا أُخبرنا عن عقلِها، وعلِمْنا بذلكَ قبلَ هذهِ الحالةِ، فتحقَّقْناها لما سَبَرْناها.
• وإن كان الكلامُ كلامَ ملكةِ سبأٍ، فإنها تقولُ:{وَأُوتِينَا الْعِلْمَ} عن ملكِ سليمانَ، وأنهُ ملكُ نبوةٍ ورسالةٍ وقوةٍ هائلةٍ من قبلِ هذهِ الحالةِ، {وَكُنَّا مُسْلِمِينَ} مذعنِينَ لما قالهُ سليمانُ بعدَما تحقَّقْنا أمرَهُ.
فكأنهُ قيلَ: معَ عقلِها هذا ورأيِها السديدِ، فكيفَ كانتْ تعبدُ غيرَ اللهِ؟! وكيفَ اجتمَعَ العقلُ وعبادةُ مَنْ لا ينفعُ ولا يضرُّ، وإنما يضرُّ مَنْ عبدَهُ؟!
حاصلُ الجوابِ قولهُ: {وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ} [النمل: 43] أي: العقائدُ التي نشأَتْ عليها والمذاهبُ الفاسدةُ تسيطرُ على عقلِ العاقلِ، وتُذهبُ لبَّ اللبيبِ؛ حتى يُقيِّضَ [اللهُ]
(1)
لهُ من الأسبابِ المباركةِ ما يبيِّنُ لهُ الحقَّ، ويُمَنُّ عليهِ باتباعهِ.
وكان لهُ صرحٌ من قواريرَ أُجريَ تحتَهُ الأنهارُ، فكان مَنْ ينظرُ إليهِ يظنهُ ماءً يجري؛ لأنَّ الزجاجَ شفافٌ، فلما قيلَ لها:{ادْخُلِي الصَّرْحَ} ، فرأَتْهُ لجةً وكشفَتْ عن ساقَيها، قالَ:{إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ} ، قالتْ:{رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل: 44]، فأسلمَتْ للهِ، واتَّبعَها قومُها، فيقالُ: إنَّ سليمانَ تزوَّجَها، فاللهُ أعلمُ.
ولما كانتِ الشياطينُ زمنَ سليمانَ قدْ سخَّرَهم اللهُ لهُ، وبلَغَهُ أنهم باجتماعِهم بالإنسِ يعلمونَهم السحرَ، فجمَعَهم وتوعدَهم، وأخذَ كتبَهم ودفنَها، فلما تُوفِّيَ سليمانُ جاءتِ الشياطينُ للناسِ وقالوا: إنَّ ملكَ سليمانَ مشيدٌ على السحرِ، واستخرجوا الكتبَ التي دفنَها، وأشاعوا من إغوائِهم للناسِ أنها مأخوذةٌ من سليمانَ، وأنَّ سليمانَ
(1)
لفظ الجلالة زيادة من (خ).
ساحرٌ، وروَّجَ ذلكَ طائفةٌ من اليهودِ، فبرَّأَ اللهُ سليمانَ من هذا الأمرِ، وبيَّنَ أنَّ السحرَ من العلومِ الضارَّةِ فقالَ تعالى:{وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} [البقرة: 102] أي: بتعليمِ السحرِ [أو إقرارهِ أو الرضا بهِ]
(1)
، {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} [البقرة: 102] الآية.
وهذا من عظمةِ القرآنِ أنهُ يأمرُ الخَلقَ بالإيمانِ بجميعِ الرسلِ، ويذكرُهم بأوصافِهم الجميلةِ، وينزهُهم عما قالهُ الناسُ فيهم مما ينافِي رسالتَهم.
وكان اللهُ قدْ ابتلى سليمانَ، وألقَى على كرسيهِ جسدًا، أي: شيطانًا؛ عتابًا لهُ على بعضِ الهفواتِ، وإرجاعًا لهُ إلى كمالِ الخضوعِ لربهِ؛ ولهذا قالَ تعالى:{ثُمَّ أَنَابَ} [ص: 34] إلى اللهِ بقلبهِ ولسانهِ وبدنهِ، بظاهرهِ وباطنهِ، فقالَ:{رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [ص: 35]، فاستجابَ اللهُ لهُ دعاءَهُ وأعطاهُ ما طلبَهُ من مغفرةِ الذنبِ، وأعطاهُ جميعَ ما طلَبَ كما تقدَّمَ.
وقدْ أثنَى اللهُ على داودَ وسليمانَ بالعلمِ والحكمِ، وخصَّ سليمانَ بزيادةِ الفهمِ فقالَ:{وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ} [الأنبياء: 78] أي: دخلَتِ الغنمُ بستانَهم ليلًا فرعَتْ زرعَهُ وأشجارَهُ، فحكمَ داودُ بحسبِ اجتهادهِ وتقديرهِ: أنَّ الغنمَ تكونُ لصاحبِ الحرثِ؛ لظنهِ أنَّ الذي تَلِفَ من الحرثِ يقابلُ قيمتَها.
ثم رُفعَتِ القضيةُ إلى سليمانَ، فحكمَ على صاحبِ الغنمِ أنْ يقومَ على حرثِ صاحبِ البستانِ بالسقي والتعميرِ والملاحظةِ حتى يعودَ كما كان قبلَ نَفَشِها، ويدفعَ لهُ
(1)
كذا في (خ). وفي (ط): والرضاء به.
صاحبُ الغنمِ الغنمَ ينتفعُ بدرِّها ولبنِها ودهنِها وصوفِها ومَغَلِّها؛ مقابلةَ ما كانَ بصددِ أنْ ينتفعَ بحرثهِ في هذهِ المدةِ، فكان هذا الحكمُ من سليمانَ أقربَ إلى الصوابِ، وأنفعَ لصاحبِ الغنمِ والحرثِ؛ فلهذا قالَ تعالى:{فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 79].
ونظيرُ هذهِ القضيةِ: حكمُ داودَ وسليمانَ بينَ المرأتينِ اللتينِ خرجتَا ومعَ كلِّ واحدةٍ ابنُها، فعدا الذئبُ على ابنِ الكبرى، فادَّعتِ الكبرى على الصغرى أنَّ الذئبَ أكلَ ابنَ الصغرى، وأنَّ الذي سلمَ من الذئبِ ابنُها، والمرأةُ الصغرى أنكرَتْ وقالتْ: بلْ الذئبُ أكلَ ابنَ الكبرى.
فتحاكمَا إلى داودَ، [فلما لم]
(1)
يرَ لكلٍّ منهما بينةً إلا قولَها، رأى أنْ يحكمَ بهِ للكبرى؛ اجتهادًا ورحمةً بها لكبرِها، وأنَّ الصغرى في مستقبلِ عمرِها سيرزقُها اللهُ ولدًا بدلَهُ.
ثم رُفعتِ القضيةُ إلى سليمانَ، فقالَ لهما: ائتُوني بالسكينِ أشقُّهُ بينَكما، فرضِيتِ الكبرى، وقالتِ الصغرى -لما دارَ الأمرُ بينَ تلفهِ أو بقائهِ بيدِ غيرِها وهوَ أهونُ الأمرينِ عليها-: هوَ ابنُها يا نبيَّ اللهِ، فعَلِمَ سليمانُ بهذا الأمرِ الطبيعيِّ الذي هوَ من أقوى البيناتِ أنهُ ليسَ ابنًا للكبرى؛ لكونِها رضيَتْ بشقهِ وإتلافهِ، وأنَّ دعواها على الأخرى إنما حملَها عليهِ الحسدُ، وأنهُ ابنُ الصغرى حين فزعَتْ من شقِّهِ إلى التنازلِ عن دعواها، فقضَى بهِ سليمانُ للصغرى.
ولا ريبَ أنَّ استخراجَ الصوابِ في القضايا بالبيناتِ والقرائنِ وشواهدِ الأحوالِ؛ من الفهمِ الذي يخصُّ اللهُ بهِ مَنْ يشاءُ.
(1)
كذا في (خ). وفي (ط): فلم.
فصل في بعض الفوائد المستنبطة من قصة داود وسليمان عليهما السلام
* فمنها: أنَّ اللهَ يقصُّ على نبيهِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم أخبارَ مَنْ قبلَهُ لتثبيتِ فؤادهِ وتطمينِ نفسهِ، ويذكرُ لهُ من عباداتِهم، وشدةِ صبرِهم، وإنابتِهم؛ ما يشوِّقُ إلى منافستِهم، والتقربِ إلى اللهِ الذي تنافسُوا في قربهِ، والصبرِ على أذى قومهِ؛ ولهذا ذكرَ تعالى في أولِ سورةِ (ص) ما قالَهُ المكذبونَ لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم وما آذَوهُ بهِ، قالَ بعدَها:{اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 17] الآيات.
* ومنها: أنَّ قولَهُ: {ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 17] مدحٌ عظيمٌ من اللهِ لهذينِ الوصفينِ: قوةِ القلبِ والبدنِ على طاعةِ اللهِ، والإنابةِ باطنًا وظاهرًا إلى اللهِ، المستلزمةِ لمحبتهِ وكمالِ معرفتهِ، وأنَّ هذينِ الوصفينِ للأنبياءِ على وجهِ الكمالِ، ولمَن بعدَهم مِنْ أتباعِهم على حسبِ اتِّباعِهم.
والثناءُ من اللهِ عليهما يقتضِي الحثَّ على جميعِ الأسبابِ التي تعينُ على القوةِ والإنابةِ، وأنْ يكونَ العبدُ رجَّاعًا إلى اللهِ في حالِ السراءِ والضراءِ، وفي جميعِ الأحوالِ.
* ومنها: ما أكرَمَ اللهُ بهِ نبيَّهُ داودَ صلى الله عليه وسلم: من حسنِ الصوتِ ورخامتهِ، وأنَّ الجبالَ والطيورَ تسبحُ اللهَ معهُ وتجاوبهُ، وذلكَ من زيادةِ درجاتهِ ومقاماتهِ العاليةِ.
* ومنها: أنَّ من أكبرِ نعمِ اللهِ على عبدهِ أنْ يرزقَهُ العلمَ النافعَ، ويعرفَ الحُكْمَ بينَ الناسِ في المقالاتِ والمذاهبِ، وفي الخصوماتِ والمشاحناتِ، كما قالَ تعالى:{وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} [ص: 20].
* ومنها: كمالُ اعتناءِ المولى بأنبيائهِ وأصفيائهِ عندما يقعُ منهم بعضُ الهفواتِ؛ [بفتنتهِ]
(1)
إياهم، وابتلائِهم بما [به]
(2)
يزولُ عنهم المحذورُ حتى يعودُوا أكملَ من أحوالِهم الأولى، كما جرى لداودَ وسليمانَ.
* ومنها: أنَّ الأنبياءَ معصومونَ
(3)
فيما يبلِّغونَ عن اللهِ، فإنَّ اللهَ أمَرَ بطاعتِهم مطلقًا، ومقصودُ الرسالةِ لا يحصلُ إلا بذلكَ، وقدْ يجرِي منهم أحيانًا بعضُ مقتضياتِ الطبيعةِ من المخالفاتِ، ولكنَّ اللهَ تعالى يبادرُهم بلطفهِ، ويتداركُهم بالتوبةِ والإنابةِ.
* ومنها: أنَّ داودَ في أغلبِ أوقاتهِ [ملازمٌ]
(4)
محرابَهُ لخدمةِ ربهِ، ولهُ وقتٌ يجلسُ فيه لحوائجِ الخلقِ، فقدْ أتمَّ القيامَ بحقِّ اللهِ وحقِّ عبادهِ.
* ومنها: أنهُ ينبغِي استعمالُ الأدبِ في الدخولِ على الناسِ، خصوصًا الحكامَ والرؤساءَ؛ فإنَّ الخصمَينِ لما دخلا على داودَ في حالةٍ غيرِ معتادةٍ، ومن غيرِ البابِ؛ فزِعَ منهم، واشتدَّ عليهِ ذلكَ، ورآهُ غيرَ لائقٍ بالحالِ.
* ومنها: أنهُ لا يَمنعُ الحاكمَ من الحكمِ بالحقِّ سوءُ أدبِ الخصمِ، وفعلُهُ ما لا ينبغِي.
* ومنها: كمالُ حلمِ داودَ؛ فإنهُ ما غضِبَ منهما حينَ جاءاهُ بغيرِ استئذانٍ، ولا انتهرَهما ولا وبَّخَهما.
* ومنها: جوازُ قولِ المظلومِ لمنْ ظلمَهَ: أنتَ ظلمتَنِي، أو: يا ظالمُ، ونحوهُ، أو: يا باغِي؛ لقولهِ: {بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ} [ص: 22].
(1)
كذا في (خ). وفي (ط): بفتنة.
(2)
زيادة من (خ).
(3)
بعدها في (خ): عن الخطأ.
(4)
في (خ) و (ط): ملازمًا. والمثبت موافق لقواعد اللغة.
* ومنها: أنَّ المنصوحَ -ولوْ كان كبيرَ القدرِ كثيرَ العلمِ- عليهِ ألَّا يغضبَ ولا يشمئزَّ، بلْ يبادرُ بقبولِ النصيحةِ والشكرِ لمنْ نصحَهُ، ويحمدُ اللهَ إذْ قيَّضَ لهُ النصيحةَ على يدِ الناصحِ، فإنَّ داودَ لم يشمئِزَّ من قولِ الخصمينِ:{فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ} [ص: 22]، بل حكَمَ بالحقِّ الصرفِ.
* ومنها: أنَّ المخالطةَ بينَ الأقاربِ والأصحابِ والمعامِلينَ، وكثرةَ التعلقاتِ الدنيويةِ الماليةِ؛ موجبةٌ للتعادِي، وبغيِ بعضِهم على بعضٍ، وأنهُ لا يَرُدُّ عن هذا الداءِ العضالِ إلا التقوَى والصبرُ بالإيمانِ والعملِ الصالحِ، وأنَّ هذا من أقلِّ شيءٍ في الناسِ.
* ومنها: إكرامُ اللهِ لداودَ وسليمانَ بالزلفَى عندَهُ وحسنِ المآبِ، فلا يتوهَّمُ أحدٌ أنَّ ما جرَى منهما منقصٌ لدرجتِهما عندَ اللهِ، وهذا من تمامِ لطفهِ بعبادهِ المخلصينَ، أنهُ إذا غفَرَ لهم وأزالَ عنهم أثرَ الذنوبِ أزالَ الآثارَ المترتبةَ عليها حتى ما يقعُ في قلوبِ الخلقِ، وما ذلكَ على فضلِ الكريمِ بعزيزٍ.
* ومنها: أنَّ مرتبةَ الحكمِ بينَ الناسِ مرتبةٌ دينيةٌ تولاها رسلُ اللهِ وخواصُّ خلقهِ، وأنَّ على القائمِ بها الحكمَ بالحقِّ، وألَّا يتبعَ الهوى؛ فالحكمُ بالحقِّ يقتضِي العلمَ بالأمورِ الشرعيةِ، والعلمَ بصورةِ القضيةِ المحكومِ بها، وكيفيةِ إدخالِها في الأحكامِ الشرعيةِ الكليةِ؛ فالجاهلُ بواحدٍ من هذهِ الأمورِ لا يحلُّ لهُ الإقدامُ على الحكمِ بينَ الناسِ.
* ومنها: أنَّ سليمانَ يُعدُّ من فضائلِ داودَ، ومن مننِ اللهِ عليهِ، قالَ تعالى:{وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 30] وهذا أعظمُ تزكيةٍ، وأكبرُ فخرٍ لسليمانَ.
* ومنها: كثرةُ خيرِ اللهِ وفضلهِ على عبيدهِ الأخيارِ، يمنُّ عليهم بالأخلاقِ الجميلةِ، والأعمالِ الصالحةِ، ثم يُثنِي عليهم بها، ويرتِّبُ عليها من الثوابِ أنواعًا منوعةً، وهوَ المتفضلُ بالأسبابِ ومسبباتِها.
* ومنها: أنَّ سليمانَ قدَّمَ محبةَ اللهِ على محبةِ كلِّ شيءٍ، وأتلفَ الخيلَ التي ألهتْهُ عن ذكرِ ربهِ حتى توارتِ الشمسُ بالحجابِ.
* ومنها: أنَّ كلَّ ما أشغَلَ العبدَ عن طاعةِ مولاهُ فهوَ مشؤومٌ؛ فليفارِقْهُ، وليقبِلْ على ما هوَ أنفعُ لهُ.
* ومنها: أنهُ يُؤخذُ من أنَّ سليمانَ لما أتلفَ الخيلَ الجيادَ التي ألهتْهُ عن طاعةِ اللهِ سخَّرَ اللهُ لهُ الريحَ والشياطينَ: أنَّ مَنْ ترَكَ شيئًا للهِ عوضَهُ اللهُ خيرًا منهُ
(1)
.
* ومنها: أنَّ تسخيرَ الشياطينِ، وتسخيرَ الريحِ على الوجهِ الذي سُخرَتْ لسليمانَ؛ لا تكونُ لأحدٍ بعدَ سليمانَ؛ ولهذا لما رأى النبيُّ صلى الله عليه وسلم أنْ يأخذَ الشيطانَ الذي تفلَّتَ عليهِ ليلةً فيربطُهُ في ساريةٍ المسجدِ، قالَ:«ذكرتُ دعوةَ أخي سليمانَ فتركتُهُ»
(2)
.
* ومنها: أنَّ سليمانَ كان ملكًا نبيًّا، مباحٌ لهُ أنْ يفعلَ ما يريدُ، ولكنهُ لكمالهِ لا يريدُ إلا الخيرَ والعدلَ، وهذا بخلافِ النبيِّ العبدِ، فإنهُ لا يكونُ لهُ إرادةٌ مستقلةٌ، بلْ إرادتُهُ تابعةٌ لمرادِ اللهِ منهُ، فلا يفعلُ ولا يتركُ إلا تبعًا للأمرِ، كحالِ نبيِّنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم.
* ومنها: أنَّ اللهَ أعطى سليمانَ ملكًا عظيمًا، فيه أمورٌ لا يمكنُ أنْ تدركَ بالأسبابِ، وإنما هيَ من تقديرِ الملكِ الوهابِ:
(1)
كما جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «إنك لن تدع شيئًا اتقاء الله إلا أعطاك الله خيرًا منه» (مسند أحمد: 34/ 342 رقم 20738).
(2)
البخاري (3423)، ومسلم (541)، بنحوه.
• مثلَ تسخيرِ الريحِ تبعًا لأمرهِ.
• وتسخيرِ الشياطينِ.
• وكونِ جنودهِ من الإنسِ والجنِّ والطيرِ.
• وأنَّ الطيورَ كانتْ تخدمهُ الخدمةَ العظيمةَ، يرسلُها للجهاتِ توصلُ منهُ الأخبارَ، وتأتيهِ بأخبارِ تلكَ الجهاتِ، وقدْ أعطاها اللهُ من الفهمِ ومعرفةِ أحوالِ الآدميينَ ما قصَّ اللهُ علينا نبأهُ في هذهِ القصةِ.
• وكذلكَ الذي عندَهُ علمٌ من الكتابِ، حينَ استعدَّ أنْ يأتيَهُ بعرشِ ملكةِ سبأٍ قبلَ أنْ يرتدَّ إليهِ طرفهُ.
وهذهِ آياتُ أنبياءَ؛ فلهذا مهما بلغَ الخلقُ في الترقِّي في علومِ الطبيعةِ، والمهارةِ بالمخترعاتِ؛ فلنْ يصلُوا إلى ما أُعطيَهُ سليمانُ.
* ومنها: أنهُ ينبغِي للملوكِ والرؤساءِ أنْ يسألُوا عن أحوالِ الأمراءِ والرؤساءِ والرجالِ المتميزينَ، ولا يكتفُوا بمجردِ السؤالِ، بلْ يختبرونَهم ويختبرونَ معرفتَهم للأمورِ وعقولَهم، كما فعلَ سليمانُ معَ ملكةِ سبأٍ: امتحنَها ليستدلَّ على كمالِ عقلِها ورجاحتهِ، ولم يكتفِ بالسؤالِ، وهذا فيه للملوكِ فوائدُ عظيمةٌ، وهم محتاجونَ لهذا أشدَّ الحاجةِ، وتمامُ الملكِ أنْ يديرَ دفتَهُ الرجالُ الكاملونَ.
قصة أيوب عليه الصلاة السلام
كان أيوبُ من أنبياءِ بني إسرائيلَ، ومن الأصفياءِ الكرامِ، وقدْ ذكرَهُ اللهُ في كتابهِ، وأثنى عليهِ بالخصالِ الحميدةِ عمومًا، وبالصبرِ على البلاءِ خصوصًا؛ فإن اللهَ تعالى ابتلاهُ بولدهِ وأهلهِ ومالهِ، ثم بجسدهِ، فأصابَهُ من البلاءِ ما لم يُصِبْ أحدًا من الخلقِ، فصبرَ لأمرِ اللهِ، ولم يزَلْ منيبًا للهِ.
ولما تطاولَ بهِ المرضُ العظيمُ ونسيَهُ الصاحبُ والحميمُ؛ نادَى ربَّهُ: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء: 83]، فقيل له:{ارْكُضْ بِرِجْلِكَ} [ص: 42]، فركضَ، فنبعَتْ بركضتهِ عينُ ماءٍ باردٍ، فقيلَ لهُ: اشرَبْ منها واغتسِلْ، ففعلَ ذلكَ، فأذهبَ اللهُ ما في باطنهِ وظاهرهِ من البلاءِ، ثم أعادَ اللهُ لهُ أهلَهُ ومالَهُ، وأعطاهُ من النعمِ والخيراتِ شيئًا كثيرًا، وصارَ بهذا الصبرِ قدوةً للصابرينَ، وسلوةً للمبتلينَ، وعبرةً للمعتبرينَ.
وكان في مرضهِ قدْ وجدَ على زوجتهِ المرأةِ البارَّةِ الرحيمةِ، في بعضِ شيءٍ، فحلَفَ أنْ يجلدَها مائةَ جلدةٍ، فخففَ اللهُ عنهُ وعنها، وقيلَ له:{خُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا} حزمةَ حشيشٍ أو علفٍ أو شماريخَ
(1)
أو نحوِها، فيها مائةُ عودِ، {فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} أي: ينحلُّ بذلكَ يمينُكَ.
(1)
الشِّمْراخ: ما يكون فيه الرُّطَب. (المصباح المنير: 1/ 322).
وفي هذا دليلٌ على أنَّ كفارةَ اليمينِ لم تشرَعْ لأحدٍ قبلَ شريعتِنا، وأنَّ اليمينَ عندَهم بمنزلةِ النذرِ الذي لابدَّ من وفائهِ.
وفي هذا دليلٌ على أنَّ من لا يحتملُ إقامةَ الحدِّ عليهِ؛ لضعفهِ ونحوهِ، أنهُ يقامُ عليهِ مسمَّى ذلكَ؛ لأنَّ الغرضَ التنكيلُ ليسَ الإتلافَ والإهلاكَ.
قصة الخضر مع موسى
ومحلُّها في أثناءِ قصصِ موسى.
وذلكَ أنَّ موسى صلى الله عليه وسلم قامَ ذاتَ يومٍ في بني إسرائيلَ مقامًا عظيمًا، علَّمَهم فيه علومًا جمةً، وأُعجبَ الناسُ بكمالِ علمهِ، فقالَ لهُ قائلٌ: يا نبيَّ اللهِ، هلْ يوجدُ أو هلْ تعلمُ في الأرضِ أحدًا أعلمَ منكَ؟ فقالَ: لا. بناءً على ما يعرفهُ، وترغيبًا لهم في الأخذِ عنهُ.
فأخبرَهُ اللهُ أنَّ لهُ عبدًا في مجمعِ البحرينِ، عندَهُ علومٌ ليستْ عندَ موسى، وإلهاماتٌ خارجةٌ عن الطورِ المعهودِ، فاشتاقَ موسى إلى لقيهِ؛ رغبةً في الازديادِ من العلمِ، فطلبَ من اللهِ أنْ يأذنَ لهُ في ذلكَ، وأخبرَهُ بموضعهِ، وتزودَا حوتًا، وقيلَ لهُ: إذا فقدتَ الحوتَ فهوَ في ذلكَ المكانِ، فذهبَ فوجدَهُ، وكان ما قصَّ اللهُ من نبئِهما في سورةِ (الكهفِ):{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60)} إلى قولهِ: {ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (82)} [الكهف: 60 - 82].
* وفي هذهِ القصةِ من الفوائدِ والأحكامِ والقواعدِ شيءٌ كثيرٌ، ننبهُ على بعضهِ بعونِ اللهِ، ونذكرُ المهمَّ منهُ.
* فمنها: ما اشتملَتْ عليهِ القصةُ من فضيلةِ العلمِ وشرفهِ، ومشروعيةِ الرحلةِ في طلبهِ، وأنهُ أهمُّ الأمورِ؛ فإنَّ موسى رحلَ في طلبهِ مسافةً طويلةً، ولقيَ في ذلكَ النَّصَبَ، وتركَ الإقامةَ عندَ بني إسرائيلَ لتعليمِهم وإرشادِهم، واختارَ السفرَ لزيادةِ العلمِ على ذلكَ.
* ومنها: البداءةُ في العلمِ بالأهمِّ فالأهمِّ، فإنَّ زيادةَ علمِ الإنسانِ بنفسهِ أهمُّ من تركِ ذلكَ اشتغالًا بالتعليمِ فقطْ، بلْ يتعلَّمُ ليعلِّمَ.
* ومنها: جوازُ أخذِ الخادمِ في السفرِ والحضرِ؛ لكفايةِ المؤنِ وطلبِ الراحةِ، كما فعلَ موسى صلى الله عليه وسلم.
* ومنها: أنَّ المسافرَ بطلبِ العلمِ أو الجهادِ، أو غيرِهما من أسفارِ الطاعةِ، بلْ وكذلكَ غيرُهما، إذا اقتضتِ المصلحةُ الإخبارَ بمطلبهِ وأينَ مرادهُ فإنهُ أكملُ من كتمهِ، فإنَّ في إظهارهِ [فوائدَ: مِنْ]
(1)
الاستعدادِ لهُ عُدَّتَهُ، وإتيانِ الأمرِ على بصيرةٍ، والإعلانِ بالترغيبِ لهذهِ العبادةِ الفاضلةِ؛ لقولِ موسى:{لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا} [الكهف: 60].
ولما غزا صلى الله عليه وسلم تبوكَ أخبرَ الناسَ بمقصدهِ، معَ أنهُ كان في الغالبِ إذا أرادَ غزوةً ورَّى بغيرِها؛ تبعًا للمصلحةِ في الحالتينِ.
* ومنها: إضافةُ الشرِّ وأسبابهِ إلى الشيطانِ، وكذلكَ النقصُ؛ لقولِ فتى موسى:{وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} [الكهف: 63].
* ومنها: جوازُ إخبارِ الإنسانِ عما يجدهُ مما هوَ مقتضى الطبيعةِ البشريةِ، من نَصَبٍ أو جوعٍ أو عطشٍ، إذا لم يكنْ على وجهِ التسخطِ، وكان صدقًا؛ لقولهِ:{لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا} [الكهف: 62].
* ومنها: أنهُ ينبغِي أنْ يتخذَ الإنسانُ خادمًا ذكيًّا فطنًا كيسًا؛ ليتمَّ لهُ أمرهُ الذي يريدُ.
(1)
في (خ) و (ط): من فوائد. والمثبت من تفسير السعدي (ص: 482)، وبه يستقيم السياق.
* ومنها: استحبابُ إطعامِ الإنسانِ خادمَه من مأكلهِ، وأكلِهما جميعًا؛ لأنَّ ظاهرَ قولهِ:{آتِنَا غَدَاءَنَا} [الكهف: 62] أنهُ للجميعِ.
* ومنها: أنَّ المعونةَ تنزلُ على العبدِ بحسبِ قيامهِ بالأمرِ الشرعيِّ، وأنَّ ما وافقَ رضا اللهِ يُعانُ عليهِ ما لا يعانُ على غيرهِ؛ لقولهِ:{لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا} [الكهف: 62]، والإشارةُ: إلى السفرِ المجاوزِ لمجمعِ البحرينِ، وأما الأولُ فلم يشتكِ منهُ معَ طولهِ.
* ومنها: أنَّ ذلكَ العبدَ الذي لقياهُ ليسَ نبيًّا، بلْ هوَ عبدٌ صالحٌ عالمٌ ملهمٌ؛ لأنَّ اللهَ ذكرَهُ بالعلمِ والعبوديةِ الخاصةِ والأوصافِ الجميلةِ، ولم يذكُرْ معها أنهُ نبيٌّ أو رسولٌ، وأما قولهُ في آخرِ القصةِ:{وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف: 82] فإنهُ لا يدلُّ على أنهُ نبيٌّ، وإنما يدلُّ على الإلهامِ والتحديثِ، وذلكَ يكونُ لغيرِ الأنبياءِ، قالَ تعالى:{وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} [النحل: 68]، {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى} [القصص: 7] الآية.
* ومنها: أنَّ العلمَ الذي يعلِّمُهُ اللهُ للعبدِ نوعانِ:
• علمٌ مكتسبٌ، يدركهُ العبدُ بطلبهِ وجدِّهِ.
• وعلمٌ إلهيٌّ لدنيٌّ، يهبهُ اللهُ لمنْ يمنُّ عليهِ من عبادهِ؛ لقولهِ:{وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} [الكهف: 65]، فالخضرُ أُعطِيَ من هذا النوعِ الحظَّ الأوفرَ.
* ومنها: التأدبُ معَ المُعلمِ، والتلطفُ في خطابهِ؛ لقولِ موسى:{هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} [الكهف: 66]، فأخرَجَ الكلامَ بصورةِ الملاطفةِ والمشاورةِ، وأنكَ هلْ تأذنُ لي أم لا؟ وإظهارِ حاجتهِ إلى المعلمِ، وأنهُ يتعلَّمُ منهُ، ومشتاقٌ إلى ما عندَهُ، بخلافِ حالِ أهلِ الكِبْرِ والجفاءِ الذينَ لا يظهرونَ حاجتَهم إلى عِلْمِ المعلِّمِ، فلا أنفعَ للمتعلمِ من إظهارِ الحاجةِ إلى عِلْمِ المعلِّمِ، وشكرهِ على تعليمهِ.
* ومنها: تواضعُ الفاضلِ للتعلمِ ممن هوَ دونَهُ؛ فإنَّ موسى -بلا ريبٍ- أفضلُ من الخضرِ.
* ومنها: تعلمُ العالمِ الفاضلِ للعلمِ الذي لم يتمهَّرْ فيه ممن مَهَرَ فيه، وإنْ كان دونَهُ في العلمِ درجاتٍ؛ فإنَّ موسى من أكابرِ أولي العزمِ من الرسلِ، الذينَ منحَهم اللهُ وأعطاهم من العلومِ ما لم يُعطِ سواهم، ولكنْ في هذا العلمِ الخاصِّ كان عندَ الخضرِ ما ليسَ عندَهُ؛ فلهذا اشتدَّ حرصهُ على التعلمِ منهُ.
* ومنها: أنهُ يتعيَّنُ إضافةُ العلمِ وغيرهِ من الفضائلِ إلى فضلِ اللهِ ورحمتهِ، والاعترافُ بذلكَ، وشكرُ اللهِ عليهِ؛ لقولهِ:{تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} [الكهف: 66].
* ومنها: أنَّ العلمَ النافعَ هوَ العلمُ المرشِدُ إلى الخيرِ، وكلُّ علمٍ فيه رشدٌ وهدايةٌ لطريقِ الخيرِ، وتحذيرٌ عن طريقِ الشرِّ، أو وسيلةٌ إلى ذلكَ؛ فإنهُ من العلمِ النافعِ، وما سوى ذلكَ فإمَّا أنْ يكونَ ضارًّا، أو ليسَ فيه فائدةٌ؛ لقولهِ:{أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} [الكهف: 66].
* ومنها: أنَّ مَنْ ليسَ لهُ صبرٌ على صحبةِ العالمِ، ولا قوةٌ على الثباتِ على طريقةِ التعلمِ؛ فإنهُ قاصرٌ، ليسَ بأهلٍ لتلقِّي العلمِ؛ فمن لا صبرَ لهُ لا يدرِكُ العلمَ، ومن استعملَ الصبرَ ولازمَهُ أدرَكَ بهِ كلَّ أمرٍ سعَى إليهِ، فإنَّ الخضرَ اعتذرَ عن موسى أنهُ
لا يصبرُ على علمهِ الخاصِّ.
* ومنها: أنَّ مما يُعينُ على الصبرِ على الأشياءِ إحاطةَ العبدِ بها علمًا، وبمنافعِها وثمراتِها ونتائجِها، فمَن لا يدرِي هذهِ الأمورَ يصعبُ عليهِ الصبرُ؛ لقولهِ:{وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا} [الكهف: 68].
* ومنها: الأمرُ بالتأني والتثبتِ، وعدمِ المبادرةِ على الحكمِ على الأشياءِ حتى يعرفَ ما يُرادُ منهُ، وما هوَ المقصودُ.
* ومنها: مشروعيةُ تعليقِ إيجادِ الأمورِ المستقبلةِ على مشيئةِ اللهِ؛ لقوله: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا} [الكهف: 69]، وأنَّ العزمَ على الشيءِ ليسَ بمنزلةِ فعلهِ، فموسى عزَمَ على الصبرِ، ولكنْ لم يفعَلْ.
* ومنها: أنَّ المُعلمَ إذا رأى من المصلحةِ أنْ يخبرَ المتعلمَ أنْ يتركَ الابتداءَ في السؤالِ عن بعضِ الأشياءِ حتى يكونَ المعلمُ هوَ الذي يوقفهُ عليها؛ فإنَّ المصلحةَ تُتَّبعُ، كما إذا كان فهمهُ قاصرًا، أو نهاهُ عن التدقيقِ الشديدِ أو الأسئلةِ التي لا تتعلقُ بالموضوعِ.
* ومنها: جوازُ ركوبِ البحرِ إذا لم يكنْ في ذلكَ خطرٌ.
* ومنها: أنَّ الناسيَ غيرُ مؤاخَذٍ، لا في حقِّ اللهِ، ولا في حقِّ العبادِ، إلا إنْ ترتَّبَ على ذلكَ إتلافُ مالٍ، ففيهِ الضمانُ حتى على الناسي؛ لقولهِ:{لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ} [الكهف: 73].
* ومنها: أنهُ ينبغِي للعبدِ أنْ يأخذَ من أخلاقِ الناسِ ومعاملاتِهم العفوَ منها، وما سمحَتْ بهِ أنفسُهم، ولا ينبغِي لهُ أنْ يكلفَهم ما لا يطيقونَ، أو يشقَّ عليهم، أو يرهقَهم؛ فإنَّ هذا داعٍ إلى النفورِ، بلْ يأخذُ المتيسرَ ليتيسرَ لهُ الأمرُ.
* ومنها: أنَّ الأمورَ تجرِي على ظاهرِها، وتُعلَّقُ بها الأحكامُ الدنيويةُ في كلِّ شيءٍ، فإنَّ موسى عليه السلام أنكَرَ على الخضرِ خرقَ السفينةِ، وقتلَ الغلامِ بحسبِ أحكامِها العامةِ، ولم يلتفِتْ إلى الأصلِ الذي أصَّلاهُ هوَ والخضرُ، أنهُ لا يسألُهُ ولا يعترضُ عليهِ حتى يكونَ الخضرُ هوَ المبتدئُ.
* ومنها: فيه تنبيهٌ على القاعدةِ المشهورةِ الكبيرةِ: وهوَ أنهُ يُدفعُ الشرُّ الكبيرُ بارتكابِ الشرِّ الخفيفِ، ويراعَى أكبرُ المصلحتينِ بتفويتِ أدناهما؛ فإنَّ قتلَ الغلامِ الصغيرِ شرٌّ، ولكنَّ بقاءَهُ حتى يبلغَ ويفتنَ أبويهِ عن دينِهما أعظمُ شرًّا. وبقاءُ الغلامِ من دونِ قتلٍ وإنْ كان في ظاهرِ الحالِ أنهُ خيرٌ، فالخيرُ ببقاءِ أبويهِ على دينِهما خيرٌ من ذلكَ؛ فلذلكَ قتلَهُ الخضرُ بعدما ألهمَهُ اللهُ الحقيقةَ، فكان إلهامهُ الباطنيُّ
(1)
بمنزلةِ البيناتِ الظاهرةِ في حقِّ غيرهِ.
* ومنها: القاعدةُ الكبيرةُ الأخرى، وهيَ: أنَّ عملَ الإنسانِ في مالِ غيرهِ، إذا كان على وجهِ المصلحةِ ودفعِ المضرةِ يجوزُ بلا إذنٍ، حتى ولوْ ترتَّبَ عليهِ إتلافُ بعضِ المالِ، كما خرَقَ الخضرُ السفينةَ لتعيبَ؛ فتسلمُ من غصبِ الملكِ الظالمِ.
وتحتَ هاتينِ القاعدتينِ من الفوائدِ ما لا حصرَ لهُ.
* ومنها: أنَّ العملَ يجوزُ في البحرِ كما يجوزُ في البرِّ؛ لقولهِ: {يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} [الكهف: 79].
* ومنها: أنَّ القتلَ من أكبرِ الذنوبِ.
* ومنها: أنَّ العبدَ الصالحَ يحفظهُ اللهُ في نفسهِ، وفي ذريتهِ، وما يتعلقُ بهِ؛ لقولهِ:{وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} [الكهف: 82]، وأن خدمةَ الصالحينَ وعَمَلَ مصالحِهم أفضلُ من غيرِهم؛ لأنه علَّلَ أفعالَهُ بالجدارِ بقولهِ:{وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} [الكهف: 82].
(1)
بعدها في (خ): له.
* ومنها: استعمالُ الأدبِ معَ اللهِ حتى في الألفاظِ؛ فإنَّ الخضرَ أضافَ عيبَ السفينةِ إلى نفسهِ بقولهِ: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف: 79]، وأما الخيرُ فأضافَهُ إلى اللهِ؛ لقولهِ:{فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [الكهف: 82]، وقالَ إبراهيمُ:{وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: 80]، وقالتِ الجنُّ:{وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} [الجن: 10]، معَ أنَّ الكلَّ بقضاءِ اللهِ وقدرهِ.
* ومنها: أنهُ ينبغِي للعبدِ ألَّا يفارقَ صاحبَهُ في حالةٍ من الأحوالِ ويتركَ صحبتَهُ، بلْ يَفِي لهُ بذلكَ حتى لا يجدَ للصبرِ محلًّا، وأنَّ موافقةَ الصاحبِ لصاحبهِ في غيرِ الأمورِ المحذورةِ مدعاةٌ وسببٌ لبقاءِ الصحبةِ وتأكدِها، كما أنَّ عدمَ الموافقةِ سببٌ لقطعِ المرافقةِ.
قصة ذي القرنين
وكان ذو القرنينِ ملكًا صالحًا، وقدْ أعطاهُ اللهُ من القوةِ أسبابَ
(1)
الملكِ والفتوحِ ما لم يكنْ لغيرهِ.
فذكَرَ اللهُ من حسنِ سيرتهِ ورحمتهِ، وقوةِ ملكهِ، وتوسعهِ في المشارقِ والمغاربِ؛ ما يحصلُ بهِ المقصودُ التامُّ من سيرتهِ ومعرفةِ أحوالهِ؛ ولهذا قالَ:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83)} [الكهف: 83] أي: من بعضِ أخبارهِ.
ومن المعلوم أنَّ ما قصَّهُ اللهُ في كتابهِ هوَ أحسنُ وأنفعُ ما يُقَصُّ على العبادِ، فأخبرَ أنهُ أعطاهُ من كلِّ شيءٍ سببًا يحصلُ بهِ قوةُ الملكِ، وعلمُ السياسةِ، وحسنُ التدبيرِ، والسلاحُ المخضعُ للأممِ، وكثرةُ الجنودِ، وتسهيلُ المواصلاتِ، وجميعُ ما يحتاجهُ؛ ومعَ ذلكَ فقدْ عَمِلَ بالأسبابِ التي أُعطيَها، فما كلُّ أحدٍ يُعطَى الأسبابَ النافعةَ، ولا كلُّ مَنْ أُعطيَها يتَّبعُها ويعملُ بها.
أمَّا ذو القرنينِ فإنهُ تمَّ لهُ الأمرانِ: أُعطِيَ سببًا، فأتْبَعَ سببًا، فغزا بجيوشهِ الجرارةِ أدنى أفريقيةَ وأقصاها، حتى بلغَ البحرَ المحيطَ الغربيَّ، فوصلَ إلى محلٍّ إذا غربتِ الشمسُ:{وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} [الكهف: 86] أي: رآها في رؤيةِ العينِ كأنها تغربُ في البحرِ، والبحرُ لونهُ أسودُ كالحَمِئَةِ
(2)
، والقصدُ: أنهُ وصلَ إلى حيثُ منتهى الخفِّ والحافرِ من بلادِ أفريقيةَ.
(1)
في (خ): وأسباب.
(2)
الحَمِئَة: الطين الأسود المنتن. (لسان العرب: 1/ 61).
ووجَدَ في ذلكَ المحلِّ وتلكَ الأقطارِ قومًا منهم المسلمُ والكافرُ، والبرُّ والفاجرُ؛ بدليلِ قولهِ:{قُلْنَا يَاذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا} [الكهف: 86]:
• إما أنَّ القائلَ لهُ نبيٌّ من أنبياءِ اللهِ أو أحدُ العلماءِ.
• أو أنَّ المعنى: أنهُ بسببِ قدرتهِ كان مخيَّرًا قدرًا.
وإلَّا فمنْ المعلومِ أنَّ الشرعَ لا يسوِّي بينَ الأمرينِ المتفاوتينِ في الإحسانِ والإساءةِ.
فقال: {أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88)} [الكهف: 87 - 88] وهذا يدلُّ على عدلهِ، وأنهُ ملكٌ صالحٌ، وعلى حسنِ تدبيرهِ.
{ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89)} [الكهف: 89] أي: ثم عَمِلَ بالأسبابِ التي أُوتيَها، بعدَما أخضعَ أهلَ المغاربِ رجعَ يفتحُ الأرضَ قطرًا قطرًا، حتى وصلَ إلى مطلعِ الشمسِ من بلادِ الصينِ وشواطئِ البحرِ المحيطِ الهادِي، وهذا منتهى ما وصلَ إليهِ الفاتحونَ.
{وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا} [الكهف: 90] أي: لا سترَ لهم عن الشمسِ، لا ثيابَ ينسجونَها ويلبسونَها، ولا بيوتَ يبنونَها ويأوونَ إليها، أي: وجدَ هؤلاءِ القومَ الذينَ في أقصى المشرقِ بهذهِ الصفةِ والوحشيةِ، بمنزلةِ الوحوشِ التي تأوِي إلى الغياضِ والغِيرانِ والأسرابِ
(1)
منقطعينَ عن الناسِ، وكانوا في ذلكَ الوقتِ على هذهِ الحالةِ التي وصفَ اللهُ، والمقصودُ من هذا: أنهُ وصَلَ إلى ما لم يصِلْ إليهِ أحدٌ.
(1)
الأسراب: جمع سرب، وهو حفير أو بيت تحت الأرض. (لسان العرب: 1/ 466).
ثم كرَّ راجعًا وأَتْبَعَ سببًا يمكِّنهُ من [سلوكِ]
(1)
مناهِجِ
(2)
البلادِ وتخضيعِ العبادِ، قاصدًا نحوَ الشمالِ:{حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ} [الكهف: 93] أي: بلَغَ محلًّا متوسطًا بينَ السدَّينِ الموجودينِ منذُ خلقَ اللهُ الأرضَ، وهما سلاسلُ جبالٍ عظيمةٍ شاهقةٍ متواصلةٍ من تلكَ الفجوةِ، وهيَ الريعُ إلى البحارِ الشرقيةِ والغربيةِ، وهيَ في بلادِ التركِ، على هذا اتفقَ المفسرونَ والمؤرخونَ.
وإنما اختلفُوا: هلْ هيَ سلاسلُ جبالِ القَفْقَاسِ، أم دون ذلكَ في أذربيجانَ، أم سلاسلُ جبالِ أَلْتاي، أم الجبالُ المتصلةُ بالسورِ الصينيِّ في بلادِ منغوليا وهوَ الظاهرُ.
وعلى الأقوالِ كلِّها فوجَدَ عندَ تلكَ الفجوةِ التي بينَ سلاسلِ هذهِ الجبالِ {قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا} [الكهف: 93]؛ مِنْ بُعْدِ لغتِهم، وثِقَلِ فهمِهم لِلُغاتِ الأممِ، فقالُوا:{يَاذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ} [الكهف: 94] وهم أممٌ عظيمةٌ من نسلِ يافِثَ بنِ نوحٍ من العناصرِ التركيةِ وغيرِهم، كما هوَ مذكورٌ مفصلٌ من أحوالِهم ومشروحٌ من صفاتِهم.
{فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي} من القوةِ والأسبابِ والاقتدارِ، {خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ} أي: أنَّ هذا بناءٌ عظيمٌ يحتاجُ في الإعانةِ عليهِ إلى مساعدةٍ قويةٍ في الأبدانِ، {أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا} ولم يقُلْ:(سدًّا)؛ لأنَّ الذي بُنِيَ فقطْ هوَ تلكَ الثنيةُ والرِّيْعُ الواقعُ بينَ السدَّينِ الطبيعيَينِ، أي: بينَ سلاسلِ تلكَ الجبالِ.
(1)
زيادة من (خ).
(2)
مناهج: جمع منهج، وهو الطريق الواضح. انظر: جمهرة اللغة (1/ 498)، ولسان العرب (2/ 383).
فدبَّرَهم على كيفيةِ آلاتهِ وبنيانهِ فقالَ: {آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ} أي: اجمعُوا لي جميعَ قطعِ الحديدِ الموجودةِ، من صغارٍ وكبارٍ، ولا تدعُوا من الموجودِ شيئًا، واركمُوهُ بينَ السدَّينِ، ففعلوا ذلكَ حتى كان الحديدُ تلولًا عظيمةً موازنةً للجبالِ؛ ولهذا قالَ:{حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ} أي: الجبلَينِ المكتنفَينِ لذلك الردمِ.
{قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا} أي: أَمَرَ بالنحاسِ، فأذيبَ بالنيرانِ، وجعلَ يسيلُ بينَ قطعِ الحديدِ، فالتحمَ بعضُها ببعضٍ، وصارَتْ جبلًا هائلًا متصلًا بالسدَّينِ؛ فحصلَ بذلكَ المقصودُ مِنْ عَيْثِ يأجوجَ ومأجوجَ؛ ولهذا قال:{فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ} أي: يصعدُوا ذلك الردمَ، {وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97) قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي} أي: ربي الذي وفَّقني لهذا العملِ الجليلِ، والأثرِ الجميلِ، فرَحِمَكم إذْ منعَكم من ضررِ يأجوجَ ومأجوجَ بهذا السببِ الذي لا قدرةَ لكم عليهِ.
{فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ} أي: هذا العملُ والحيلولةُ بينَكم وبينَ يأجوجَ ومأجوجَ مؤقتٌ إلى أجلٍ، فإذا جاءَ ذلكَ الأجلُ قدَّرَ اللهُ للخلقِ من أسبابِ القوةِ والقدرةِ والصناعاتِ والاختراعاتِ الهائلةِ ما يمكِّنُ يأجوجَ ومأجوجَ من وطءِ بلادِكم أيها المُجاوِرونَ، بلْ ومِن وطءِ مشارقِ الأرضِ ومغاربِها وأقطارِها، كما قالَ تعالى:{حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ} [الأنبياء: 96] أي: مِنْ كلِّ مكانٍ مرتفعٍ سواء مثل هذه السدودِ والبحارِ وجوِّ السماءِ.
{يَنْسِلُونَ} [الأنبياء: 96] أي: يسرعونَ فيها، غيرَ مكترثينَ، ولا حاجزَ يحجزُهم، فلفظةُ {مِنْ كُلِّ حَدَبٍ} يشملُ جميعَ المواضعِ والأقطارِ: سهلَها وصعبَها، منخفضَها ومرتفعَها، وإنما نصَّ اللهُ على المرتفعاتِ لأنَّ السهولَ والأماكنَ المنخفضةَ من بابِ أولى وأحرى.
وقدْ ورَدَ في صفاتِهم أحاديثُ في الصحيحينِ تؤيدُ ما في هذهِ الآياتِ من صفاتِهم، وأورَدَ أصحابُ السيرِ والتواريخِ الأُوَلُ من صفاتِهم وهيئاتِهم آثارًا لا خطامَ لها ولا زمامَ، شوَّشَتْ أفكارَ أكثرِ الناسِ، ومنعَتْهم من الاستدلالِ بالآياتِ القرآنيةِ، والأحاديثِ الصحيحةِ النبويةِ، وتطبيقِها على الواقعِ، فعليكَ بلزومِ ما دلَّ عليهِ الكتابُ والسنةُ
(1)
، ودَعْ ما سِوَى ذلكَ؛ فإنَّ فيه الهدَى والرشدَ والنورَ.
(1)
بعدها في (خ): الصحيحة.
قصة عيسى وأمه،
وزكريا ويحيى عليهم السلام
كانتْ زوجةُ عمرانَ -وهوَ من أكابرِ بني إسرائيلَ ورؤسائِهم
(1)
وذوي المقاماتِ العاليةِ عندَهم- نذرَتْ حينَ ظهرَ حملُها أنْ تحرِّرَ ما في بطنِها لبيتِ المقدسِ، يكونُ خادمًا لبيتِ اللهِ، مُعَدًّا لعبادةِ اللهِ، ظنًّا أنَّ الذي في بطنها ذكرٌ، فلما وضعَتْها قالتْ معتذرةً إلى اللهِ شاكيةً إليهِ الحالَ:{رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى} [آل عمران: 36] أي: أنَّ الذكرَ
(2)
الذي لهُ القوةُ والقدرةُ على ما يُرادُ منهُ من القيامِ بخدمةِ بيتِ المقدسِ.
{وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} فحصَّنَتْها باللهِ من عدوِّها هيَ وذريتِها، وكان هذا أولَ حفظٍ وحمايةٍ من اللهِ لها؛ ولهذا استجابَ اللهُ لها في هذهِ الدنيا:{فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ} أي: أنَّ اللهَ جبرَ أمَّها وصارَ لها عندَ ربِّها من القبولِ أعظمُ مما للذكورِ، {وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} فجمَعَ اللهُ لها بينَ التربيةِ الجسديةِ والتربيةِ الروحيةِ؛ حيثُ قُدِّرَ أنْ يكونَ كافلُها أعظمَ أنبياءِ بني إسرائيلَ في ذلكَ الوقتِ؛ فإن أمَّها لما جاءَتْ بها لأهلِ بيتِ المقدسِ تنازَعُوا أيُّهم يكفلُها؛ لأنها ابنةُ رئيسِهم، فاقترَعُوا وألقَوا أقلامَهم، فأصابَتِ القرعةُ زكريا؛ رحمةً بهِ وبمريمَ، فكفلَها أحسنَ كفالةٍ، وأعانَهُ [اللهُ]
(3)
على كفالتِها بكرامةٍ عظيمةٍ منهُ.
(1)
بعدها في (خ): وعلمائهم.
(2)
بعدها في (خ): هو.
(3)
لفظ الجلالة زيادة من (خ).
فكانتْ قدْ نشأتْ نشأةَ الصالحاتِ الصديقاتِ، وعكفَتْ على عبادةِ ربِّها، ولزمَتْ محرابَها، فكان زكريا كلَّما دخلَ عليها المحرابَ وجدَ عندها رزقًا، قالَ:{أَنَّى لَكِ هَذَا} ؛ فإنهُ ليسَ لها كافلٌ غيرَ زكريا، {قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} أي: رزقُهُ تعالى يأتي بطرقٍ معهودةٍ، وبطرقٍ أخرى، واللهُ على كلِّ شيءٍ قديرٌ.
فحينَ رأى هذهِ الحالةَ ذكَّرَهُ ذلكَ لطفَ ربهِ، ورَجَّاهُ إلى رحمتهِ، فدعا اللهَ أنْ يهبَ لهُ ولدًا يرثُهُ علمَهُ ونبوتَهُ، ويقومُ بعدَهُ في بني إسرائيلَ في تعليمِهم وهدايتِهم.
{فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ} أي: بعيسى عليه السلام، {وَسَيِّدًا} أي: عظيمًا عندَ اللهِ، وعندَ الخلقِ؛ لما جبلَهُ اللهُ عليهِ من الأخلاقِ الحميدةِ، والعلومِ العظيمةِ، والأعمالِ الصالحةِ، {وَحَصُورًا} أي: ممنوعًا بعصمةِ اللهِ وحفظهِ، ووقايتهِ من مواقعةِ المعاصِي؛ فوصفَهُ اللهُ بالتوفيقِ لجميعِ الخيراتِ، والحمايةِ من السيئاتِ والزلاتِ؛ وهذا غايةُ كمالِ العبدِ.
فتعجَّبَ زكريا من ذلكَ، وقالَ:{أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9)} [مريم: 8 - 9] وهذا أعجبُ من حملِها وهيَ عاقرٌ على كبرِكَ.
فمن فرحهِ ورغبتهِ العظيمةِ في طمأنينةِ قلبهِ قالَ: {رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً} تدلُّني على وجودِ الولدِ، {قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا} [مريم: 10]، {وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} [آل عمران: 41]، وهذهِ آيةٌ كبرى: يُمنعُ من الكلامِ الذي هوَ أسهلُ ما يقدرُ عليهِ الإنسانُ، وهوَ سويٌّ، فلا يقدرُ أنْ يكلمَ أحدًا إلا بالإشارةِ، ومعَ ذلكَ لسانهُ منطلقٌ بذكرِ اللهِ وتسبيحهِ وتحميدهِ، فحينئذٍ تمَّتْ لهُ البشارةُ من اللهِ، وعرَفَ أنهُ لابدَّ أنْ يكونَ.
فولدَتْ زوجتهُ يحيى، وأنشأَهُ اللهُ نشأةً عجيبةً، فتعلَّمَ وهوَ صغيرٌ، ومهرَ في العلمِ وهوَ صغيرٌ؛ ولهذا قالَ:{وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} [مريم: 12] حتى قيلَ: إنَّ اللهَ أيضًا نبَّأَهُ وهو صغيرٌ، وكما أعطاهُ اللهُ العلمَ العظيمَ فقد مَنَّ عليه بأكملِ الصفاتِ فقالَ:{وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (14) وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15)} [مريم: 13 - 15]، ومضمونُ هذا:
• وصفُهُ بالقيامِ بحقوقِ اللهِ.
• وحقوقِ والدَيْهِ، وحقوقِ الخلقِ.
• وأنَّ اللهَ سيحسنُ لهُ العواقبَ في أحوالهِ كلِّها.
وأما مريمُ فإنها {انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا} [مريم: 16]، متجردةً لعبادةِ ربِّها، {فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا} [مريم: 17]؛ لئلَّا يشغلَها أحدٌ عما هيَ بصددهِ؛ فأرسلَ اللهُ لها الرُّوحَ الأمينَ جبريلَ، في صورةِ بشرٍ سويٍّ من أكملِ الرجال وأجملِهم، فظنَّتْ أنهُ يريدُها بسوءٍ، فقالتْ:{إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا} [مريم: 18] فتوسَّلَتْ باللهِ في حفظِها وحمايتِها، وذكَّرَتْهُ وجوبَ التقوى على كلِّ مسلمٍ يخشى اللهَ، فكان هذا الورعُ العظيمُ منها في هذهِ الحالةِ التي يخشَى منها الوقوعُ في الفتنةِ، ورفَعَ اللهُ بذلكَ مقامَها، ونعتَها بالعفةِ الكاملةِ، وأنها أحصنَتْ فرجَها.
فقالَ لها جبريلُ: {إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا} [مريم: 19 - 21] بهِ وبكِ وبالناسِ، {وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21)} فلا تعجبِي مما قدَّرَهُ [اللهُ]
(1)
وقضاهُ.
(1)
لفظ الجلالة زيادة من (خ).
{فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ} أي: ابتعَدَتْ {بِهِ} عن الناسِ، {مَكَانًا قَصِيًّا} خشيةَ الاتهامِ والأذيةِ منهم، {فَأَجَاءَهَا} أي: أَلْجَأها، {الْمَخَاضُ} أي: الطَلْقُ، {إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَالَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23)} [مريم: 22 - 23]؛ لما تعرفهُ مما هيَ متعرضةٌ لهُ من الناسِ، وأنهم لا يصدقونَها، ولم تدرِ ما اللهُ صانعٌ لها.
{فَنَادَاهَا} الملَكُ {مِنْ تَحْتِهَا} وكانتْ في مكانٍ مرتفعٍ، {وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (50)} [المؤمنون: 50]، {أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24)} أي: نهرًا جاريًا، {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} من دونِ أنْ تحوجَكِ إلى صعودٍ، {تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25)} أي: طريًّا ناضجًا، {فَكُلِي} من الرطبِ، {وَاشْرَبِي} من السريِّ، {وَقَرِّي عَيْنًا} بولادةِ عيسى، وليذهَبْ روعُكِ وخوفُكِ.
{فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} أي: سكوتًا، وكان معهودًا عندَهم أنهم يتعبدونَ بالصمتِ في جميعِ النهارِ؛ ولهذا فسَّرَهُ بقولهِ:{فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا} [مريم: 26]، فاطمأنَّ قلبُها، وزالَ عنها ما كانتْ تجدُ.
ثم لما تعالَتْ من نفاسِها، وأصلحَتْ شأنَها، وقويَتْ بعدَ الولادةِ:{أَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ} [مريم: 27] علنًا غيرَ هائبةٍ ولا مباليةٍ، فلما رآهُ قومُها، وقدْ علمُوا أنهُ لا زوجَ لها؛ جزمُوا أنهُ من وجهٍ آخرَ؛ فقالُوا:{يَامَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَاأُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ} كما أُمِرَتْ بذلكَ، فقالوا منكرينَ عليها مقالتَها لهم:{كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا} ، فقال وهو في تلك الحالِ له أيامٌ يسيرةٌ بعدَ ولادتهِ:{إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33)} [مريم: 30 - 33].
فكان هذا الكلامُ منهُ في هذهِ الحالِ من آياتِ اللهِ، وأدلةِ رسالتهِ، وأنهُ عبدُ اللهِ،
لا كما يزعمهُ النصارى، وحصلَ لأمهِ البراءةُ العظيمةُ مما يُظنُّ بها من السوءِ، لأنها لوْ أتَتْ بألفِ شاهدٍ على البراءةِ وهيَ على هذهِ الحالِ؛ ما صدقها الناسُ، ولكنَّ هذا الكلامَ من عيسى وهوَ في المهدِ جلَّى كلَّ ريبٍ يقعُ في القلوبِ.
فانقسمَ الناسُ فيه بعدَ هذا ثلاثةَ أقسامٍ:
• قسم آمنُوا بهِ وصدَّقُوهُ في كلامهِ هذا، وفي الانقيادِ لهُ بعدَ النبوةِ، وهم المؤمنونَ حقيقةً.
• وقسم غلَوا فيه وهم النصارى، فقالوا فيه المقالاتِ المعروفةَ، ونزَّلُوهُ منزلةَ الربِّ، تعالَى اللهُ عن قولِهم علوًّا كبيرًا!
• وقسم كفرُوا بهِ وجفَوهُ، وهم اليهودُ، ورمَوا أمَّهُ بما برَّأَها اللهُ منهُ.
ولهذا قالَ تعالى: {فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37)} [مريم: 37].
ولما أرسلَهُ اللهُ إلى بني إسرائيلَ آمنَ بهِ مَنْ آمنَ، وكفَرَ بهِ مَنْ كفَرَ، وجعَلَ يُرِيهم الآياتِ والعجائبَ، فكان يُصوِّرُ الطينَ فينفخُ فيه فيكونُ طيرًا بإذنِ اللهِ، ويبرئُ الأكمهَ والأبرصَ، ويحيي الموتى بإذنِ اللهِ، وينبِّئُهم عن كثيرٍ مما يأكلونَ، ويدخرونَ في بيوتِهم.
ومعَ ذلكَ فتكالبَتْ عليهِ أعداؤُهُ، وأرادُوا قتلَهُ، فألقى اللهُ شبهَهُ على واحدٍ من الحواريينَ أصحابهِ أو من غيرِهم، ورفعَهُ اللهُ إليهِ، وطهَّرَهُ من قتلِهم، فأخذُوا شبيهَهُ فقتلُوهُ وصلَبُوهُ، وباؤُوا بالإثمِ العظيمِ والجرمِ الجسيمِ، وصدَّقَهم النصارى أنهم قتلُوهُ وصلَبُوهُ، ونزَّهَهُ اللهُ من هذهِ الحالةِ فقالَ:{وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء: 157].
وقد قامَ عيسى في بني إسرائيلَ فبشَّرَ وأعلَنَ برسالةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، فلما جاءَهم محمدٌ الذي يعرفونَه كما يعرفونَ أبناءَهم قالُوا:{هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} [الصف: 6]، كما قالُوا في عيسى:{فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} [المائدة: 110].
* وفي هذهِ القصةِ من الفوائدِ أمورٌ:
* منها: أنَّ النذرَ ما زالَ مشروعًا في الأممِ السابقةِ، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم قالَ فيه كلمةً جامعةً للصحيحِ النافذِ منهُ وللباطلِ فقالَ:«مَنْ نَذَرَ أنْ يطيعَ اللهَ فليطِعْهُ، ومَن نَذَرَ أنْ يعصيَ اللهَ فلا يعصِهْ»
(1)
.
* ومنها: أنَّ مِنْ نعمةِ اللهِ على العبدِ أنْ يكونَ في كفالةِ الصالحينَ الأخيارِ؛ فإنَّ المربِّيَ والكافلَ لهُ الأثرُ الأعظمُ في حياةِ المكفولِ وأخلاقهِ وآدابهِ؛ ولهذا أمَرَ اللهُ المربِّينَ بالتربيةِ الطيبةِ المشتملةِ على الحثِّ على الأخلاقِ الجميلةِ، والترهيبِ من مساوئِ الأخلاقِ.
* ومنها: إثباتُ كراماتِ الأولياءِ؛ فإن اللهَ كرَّمَ
(2)
مريمَ بأمورٍ:
• يسَّرَ لها أنْ تكونَ في كفالةِ زكريا بعدَما حصلَ الخصامُ في شأنِها.
• وأكرمَها بأنْ كان رزقُها يأتِيها من اللهِ بلا سببٍ.
• وأكرمَها بوجودِ عيسى، وولادتِها إياهُ.
• وبخطابِ الملَكِ لها بما يطمِّنُ قلبَها.
(1)
البخاري (6696).
(2)
في (خ): أكرم.
• ثم بكلامهِ في المهدِ، فهذهِ الأخيرةُ جمعَتْ كرامةَ وليٍّ ومعجزةَ نبيٍّ.
* ومنها: الآياتُ العظيمةُ التي أجراها اللهُ على يدِ عيسى بنِ مريمَ: من إحياءِ الموتى، وإبراءِ الأكمهِ والأبرصِ ونحوِهما.
* ومنها: ما أكرَمَ اللهُ بهِ عيسى بأنْ جعَلَ لهُ حواريينَ وأنصارًا في حياتهِ وبعدَ مماتهِ، في بثِّ دعوتهِ والنصرِ لدينهِ؛ ولذلكَ كثُرَ تابعوهُ، ولكنْ منهم المستقيمُ، وهوَ الذي آمنَ بهِ حقيقةً، وآمنَ بجميعِ الرسلِ، ومنهم المنحرفُ، وهم الذينَ غلَوا فيه، وهم جمهورُ مَنْ يدَّعِي أنهُ من أتباعهِ، وهم أبعدُ الناسِ عنهُ.
* ومنها: أنَّ اللهَ أثنَى على مريمَ بالكمالِ بالصديقيةِ، وأنها {صَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12)} [التحريم: 12]، وهذا وصفٌ لها بالعلمِ الراسخِ، والعبادةِ الدائمةِ، والخشوعِ للهِ، وأنهُ اصطفاها وفضَّلَها على نساءِ العالمينَ.
* ومنها: أنَّ إخبارَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم بهذهِ القصةِ وغيرِها مفصلةً مطابقةً للحقيقةِ؛ من أدلةِ رسالتهِ وآياتِ نبوتهِ؛ لقولهِ: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ} [آل عمران: 44] الآية.
قصة يوسف ويعقوب عليهما الصلاة والسلام
هذهِ القصةُ من أعجبِ القصصِ، وذكرَها اللهُ جميعًا، وأفردَها بسورةٍ مطولةٍ مفصلةٍ تفصيلًا واضحًا، قراءتُها تُغني عن التفسيرِ، فإنَّ اللهَ ساقَ فيها حالةَ يوسفَ من ابتداءِ أمرهِ إلى آخرهِ، وما بينَ ذلكَ من التنقلاتِ واختلافِ الأحوالِ، وقالَ فيها:{لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ (7)} [يوسف: 7]، فلنذكُرْ ما يُستنبطُ من هذهِ القصةِ العظيمةِ من الفوائدِ، فنقولُ مستعينينَ باللهِ:
* ذكرُ ما فيها مِنْ الفوائدِ:
* منها: أنَّ هذهِ القصةَ من أحسنِ القصصِ وأوضحِها؛ لما فيها من أنواعِ التنقلاتِ من حالٍ إلى حالٍ:
• من محنةٍ إلى محنةٍ.
• ومن محنةٍ إلى منحةٍ ومنَّةٍ.
• ومن ذلٍّ إلى عزٍّ.
• ومن أمنٍ إلى خوفٍ، وبالعكسِ.
• ومن مُلكٍ إلى رِقٍّ، وبالعكسِ.
• ومن فرقةٍ وشتاتٍ إلى انضمامٍ وائتلافٍ، وبالعكسِ.
• ومن سرورٍ إلى حزنٍ، وبالعكسِ.
• ومن رخاءٍ إلى جَدْبٍ، وبالعكسِ.
• ومن ضيقٍ إلى سعةٍ، وبالعكسِ.
• ومن وصولٍ إلى عواقبَ حميدةٍ.
فتبارَكَ مَنْ قصَّها وجعلَها عبرةً لأولي الألبابِ!
* ومنها: ما فيها من أصولِ تعبيرِ الرؤيا المناسبةِ، وأنَّ علمَ التعبيرِ علمٌ مهمٌّ يعطِيهُ اللهُ مَنْ يشاءُ من عبادهِ، وأنَّ أغلبَ ما تُبنَى عليهِ: المناسباتُ، وضربُ الأمثالِ، والمشابهةُ في الصفاتِ.
• فوجهُ مناسبةِ رؤيا يوسفَ أنهُ رأى الشمسَ والقمرَ والكواكبَ الأحدَ عشرَ ساجدينَ لهُ، أنَّ هذهِ زينةٌ للسماءِ، وفيها منافعُها، فكذلكَ الأنبياءُ والعلماءُ والأصفياءُ زينةُ الأرضِ، وبهم يُهتدَى في الظلماتِ كما يُهتدَى بالأنوارِ السماويةِ، ولأنَّ أباهُ وأمَّهُ أصلٌ، وإخوتهُ فرعٌ عنهما، فمن المناسبِ أنْ يكونَ الأصلُ أعظمَ نورًا وجُرمًا من الفرعِ؛ فلذلكَ كانتِ الشمسَ أمُّهُ أو أبوهُ، والقمرَ الآخرُ منهما، والكواكبَ إخوتُهُ، ومن المناسبِ أنَّ الساجدَ محترِمٌ لمن سجَدَ لهُ، والمسجود لهُ معظَّمٌ محترَمٌ، فدلَّ ذلكَ على أنَّ يوسفَ يصيرُ معظمًا محترمًا [عندَ أبويهِ]
(1)
وإخوتهِ، ولا يتمُّ هذا إلا بمقدماتٍ تقتضِي الوصولَ إلى هذا: من علومٍ وأعمالٍ واجتباءٍ من اللهِ؛ فلهذا قالَ: {وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ} [يوسف: 6] الآية.
• ومنها: المناسبةُ في رؤيا الفتيَينِ، حيثُ عبَّرَ رؤيا مَنْ رأى أنهُ يعصرُ خمرًا، أنَّ الذي يعملُ هذا العملَ يكونُ في العادةِ خادمًا لغيرهِ، وأيضًا العصرُ مقصودٌ لغيرهِ، والخادمُ تابعٌ لغيرهِ، ويؤولُ أيضًا إلى السقيِ الذي هوَ خدمتُهُ؛ فلذلكَ أوَّلَهُ بما يؤولُ إليهِ.
(1)
في (خ) و (ط): لأبويه. والمثبت من تفسير السعدي (ص: 407)، وبه يستقيم السياق.
• وأما تعبيرهُ لرؤيا مَنْ رأى أنهُ يحملُ فوقَ رأسهِ خبزًا تأكلُ الطيرُ منهُ: بأنهُ يُقتَلُ ويُصلَبُ مدةً حتى تأكلَ الطيرُ من مخِّ رأسهِ الذي هوَ يَحمِلُ.
• وعبَّرَ رؤيا المَلكِ بالبقراتِ والسنبلاتِ: بأنها السنينُ المُخْصِبةُ والمُجْدِبةُ، ووجهُ المناسبةِ أنَّ المَلكَ بهِ ترتبطُ أمورُ الرعيةِ ومصالحُها، وبصلاحهِ تصلحُ، وبفسادهِ تفسدُ، فهذهِ نسبتهُ إذْ رأى هوَ الرؤيا، وكذلكَ السنونَ بخصبِها وجدبِها تنتظمُ أمورُ المعاشِ أو تختلُّ، والبقرُ هيَ آلةُ حرثِ الأرضِ واستخراجِ مَغَلِّها، والمَغَلُّ هوَ الزرعُ، فرأى السببَ والمسبَّبَ.
فرؤيتهُ السبعَ السمانَ من البقرِ، ثم السبعَ العجافَ، والسبعَ السنبلاتِ الخضرَ، ثم السبعَ اليابساتِ، أي: لابدَّ أنْ تتقدمَ السبعُ السنينُ المخصباتُ، ثم تتلُوها المجدباتُ، وتأكلُ ما حصَلَ فيها من غلالٍ، ولا تبقِي إلا شيئًا يحصنونَهُ عنها، وإلا فهيَ بصددِ أكلِها كلِّها.
فإنْ قيلَ: من أينَ أخذَ قولَهُ: {ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)} [يوسف: 49]؟ فإنَّ بعضَ المفسرينَ قالَ: هذهِ زيادةٌ من يوسفَ في التعبيرِ بوحيٍ أُوحيَ إليهِ.
فالجوابُ: ليسَ الأمرُ كذلكَ، وإنما أخذَها من رؤيا المَلكِ، فإنَّ السنينَ المجدبةَ سبعٌ فقطْ، فدلَّ على أنهُ سيأتي بعدَها عامٌ عظيمُ الخصبِ، كثيرُ البركاتِ، يزيلُ الجدبَ العظيمَ الحاصلَ من السنينَ [السبعِ]
(1)
المجدبةِ الذي لا يزيلُها عامٌ خصبٌ عاديٌّ، بلْ لابدَّ فيه من خصبٍ خلافِ العادةِ، وهذا واضحٌ وهوَ من مفهومِ العددِ.
(1)
زيادة من (خ).
* ومنها: ما فيها من الأدلةِ والبراهينِ على نبوةِ نبيِّنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، حيثُ قصَّ عليهِ هذهِ القصةَ المفصلةَ المبسوطةَ، الموافقةَ للواقعِ، التي أتَتْ بالمقصودِ كلِّهِ، وهوَ لم يقرَأْ كتبَ الأولينَ، ولا دارسَ أحدًا كما هوَ معلومٌ لقومهِ، وهوَ بنفسهِ أميٌّ
لا يقرأُ ولا يكتبُ؛ ولهذا قالَ: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102)} [يوسف: 102].
* ومنها: أنهُ ينبغِي للعبدِ البعدُ عن أسبابِ الشرِّ، وكتمانُ ما تُخشَى مضرتُهُ؛ لقولِ يعقوبَ ليوسفَ:{لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا} [يوسف: 5].
* ومنها: ذِكْرُ الإنسانِ بما يكرَهُ على وجهِ الصدقِ والنصيحةِ لهُ أو لغيرهِ؛ لقولهِ: {فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا} [يوسف: 5].
* ومنها: أنَّ نعمةَ اللهِ على العبدِ نعمةٌ على مَنْ يتعلَّقُ بهِ ويتصلُ: من أهلِ بيتهِ، وأقاربهِ، وأصحابهِ؛ فإنهُ لابدَّ أنْ يصلَهم ويشملَهم منها جانبٌ؛ لقولهِ:{وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ} [يوسف: 6] أي: بما يحصلُ لكَ؛ ولهذا لما تمَّتِ النعمةُ على يوسفَ حصَلَ لآلِ يعقوبَ من العزِّ والتمكينِ والسرورِ، وزوالِ المكروهِ، وحصولِ المحبوبِ؛ ما ذَكَرَ اللهُ في آخرِ القصةِ.
* ومنها: أنَّ النعمَ الكبيرةَ الدينيةَ والدنيويةَ لابدَّ أنْ يتقدمَها أسبابٌ ووسائلُ إليها؛ لأنَّ اللهَ حكيمٌ، ولهُ سننٌ لا تتغيرُ، قضَى بأنَّ المطالبَ العاليةَ لا تُنالُ إلا بالأسبابِ النافعةِ، خصوصًا العلومَ النافعةَ، وما يتفرَّعُ عنها من الأخلاقِ والأعمالِ؛ فلهذا عرَفَ يعقوبُ أنَّ وصولَ يوسفَ إلى تلكَ الحالةِ التي يخضعُ لهُ فيها أبوهُ وأمُّهُ وإخوتهُ؛ مقامٌ عظيمٌ، ومرتبةٌ عاليةٌ، وأنهُ لابدَّ أنْ ييسرَ اللهُ ليوسفَ من الوسائلِ ما يوصلهُ إليها؛ ولهذا قالَ:{وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} [يوسف: 6] الآية.
* ومنها: أنَّ العدلَ مطلوبٌ في جميعِ الأمورِ: الصغارِ والكبارِ، في معاملةِ السلطانِ لرعيتهِ، ومعاملةِ الوالدَينِ للأولادِ، والقيامِ بحقوقِ الزوجاتِ وغيرِ ذلكَ، في المحبةِ والإيثارِ ونحوِها؛ وأنَّ القيامَ بالعدلِ في ذلكَ تستقيمُ الأمورُ صغارُها وكبارُها بهِ، ويحصلُ للعبدِ ما أحبَّ، وفي الإخلالِ بذلكَ تفسدُ الأحوالُ، ويحصلُ للعبدِ المكروهُ من حيثُ لا يشعرُ؛ لهذا لما قدَّمَ يعقوبُ عليه السلام يوسفَ في المحبةِ، وجعَلَ وجهَهُ لهُ؛ جرَى منهم على أبِيهم وأخِيهم من المكروهِ ما جرَى.
* ومنها: الحذرُ من شؤمِ الذنوبِ، فكم مِنْ ذنبٍ واحدٍ استتبعَ ذنوبًا كثيرةً، وتسلسلَ الشرُّ المؤسسُ على الذنبِ الأولِ!
وانظُرْ إلى جرمِ إخوةِ يوسفَ، فإنهم لما أرادُوا التفريقَ بينهُ وبينَ أبيهِ الذي هوَ من أعظمِ الجرائمِ، احتالُوا على ذلكَ بعدةِ حيلٍ، وكذبوا عدةَ مراتٍ، وزورُوا على أبيهم في القميصِ والدمِ الذي فيه، وفي صفةِ حالِهم حينَ أتَوا عشاءً يبكونَ.
ولابدَّ أنَّ الكلامَ في هذهِ القضيةِ تسلسلَ وتشعَّبَ، بلْ ربما أنهُ اتصلَ إلى الاجتماعِ بيوسفَ، وكلَّما بُحثَ في هذا الموضوعِ فهوَ بحثُ كذبٍ وزورٍ، معَ استمرارِ أثرِ المصيبةِ على يعقوبَ، بلْ وعلى يوسفَ؛ فليحذَرِ العبدُ من الذنوبِ، خصوصًا الذنوبَ المتسلسلةَ!
وضدُّ ذلكَ: بعضُ الطاعاتِ تكونُ طاعةً واحدةً، ولكنْ يتسلسلُ نفعُها وبركتُها حتى تستتبعَ طاعاتٍ من الفاعلِ وغيرهِ، وهذا من أعظمِ آثارِ بركةِ اللهِ للعبدِ في علمهِ وعملهِ.
* ومنها: أنَّ العبرةَ للعبدِ في حالِ كمالِ النهايةِ، لا بنقصِ البدايةِ؛ فإنَّ أولادَ يعقوبَ عليهم السلام جرَى منهم ما جرَى في أولِ الأمرِ من الجرائمِ المتنوعةِ،
ثم انتهَى أمرُهم إلى التوبةِ النصوحِ، والاعترافِ التامِّ
(1)
، والعفوِ التامِّ عنهم مِنْ يوسفَ ومِن أبِيهم، والدعاءِ لهم بالمغفرةِ والرحمةِ.
وإذا سمحَ العبدُ [بحقِّهِ]
(2)
فاللهُ أولى بذلكَ وهوَ خيرُ الراحمينَ الغافرينَ؛ ولهذا في أصحِّ الأقوالِ أنَّ اللهَ جعلَهم أنبياءَ؛ لمحوِ ما سبقَ منهم، وكأنهُ ما كان، ولقولهِ:{وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ} [البقرة: 136] وهم أولادُ يعقوبَ الاثنا عشرَ وذريتُهم، ومما يؤيِّدُ هذا: أنَّ في رؤيا يوسفَ أنهم هم الكواكبُ التي فيها النورُ والهدايةُ، وهيَ من صفاتِ الأنبياءِ، فإنْ لم يكونوا أنبياءَ فإنهم علماءُ عبَّادٌ.
* ومنها: ما منَّ اللهُ بهِ على يوسفَ من العلمِ والحلمِ، والأخلاقِ الكاملةِ، والدعوةِ إلى اللهِ وإلى دينهِ، وعفوهِ عن إخوتهِ الخاطئينَ عفوًا بادرَهم بهِ، وتمَّمَ ذلكَ بأنْ أخبرَهم أنهُ لا [تثريبَ]
(3)
عليهم بعدَ هذا العفوِ، ثم برُّهُ العظيمُ بأبيهِ وأمهِ، وإحسانهُ على إخوتهِ، وإحسانهُ على عمومِ الخلقِ، كما هوَ بينٌ في سيرتهِ وقصتهِ.
* ومنها: أنَّ بعضَ الشرِّ أهونُ من بعضٍ، وارتكابَ أخفِّ الضررينِ أولى من ارتكابِ أعظمِهما؛ فإنَّ إخوةَ يوسفَ لما قالُوا:{اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا} [يوسف: 9] الآية، وقال قائلٌ منهم:{لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} [يوسف: 10]، كان قولهُ أحسنَ منهم وأخفَّ، وبسببهِ خفَّ عن إخوتهِ الإثمُ الأكبرُ، وهوَ من جملةِ الأسبابِ التي قدَّرَ اللهُ ليوسفَ في وصولهِ إلى الغايةِ التي يريدُ.
(1)
بعدها في (خ): بجرمهم.
(2)
كذا في (خ). وفي (ط): بحق.
(3)
كذا في (خ). وفي (ط): يثرب.
* ومنها: أنَّ الشيءَ إذا تداولَتْهُ الأيدِي، وصارَ من جملةِ الأموالِ، ولم يَعلمْ المعاملونَ أنهُ على غيرِ وجهِ الشرعِ؛ فلا إثمَ على مَنْ باشرَهُ ببيعٍ أو شراءٍ أو خدمةٍ أو انتفاعٍ أو استعمالٍ، فإنَّ يوسفَ باعَهُ إخوتهُ بيعًا محرَّمًا عليهم، واشترَتْهُ السيارةُ بناءً على أنهُ عبدٌ لإخوةِ يوسفَ البائعينَ، ثم ذهبُوا بهِ إلى مصرَ فباعُوهُ بها، وبقيَ عندَ سيدهِ غلامًا رقيقًا، وسماهُ اللهُ سيدًا، وكان عندَهم بمنزلةِ الرقيقِ المُكرمِ، وسمَّى اللهُ شراءَ السيارةِ وشراءَهُ في مصرَ معاملةً؛ لما ذكرنا.
* ومنها: الحذرُ من الخلوةِ بالنساءِ الأجنبياتِ، وخصوصًا اللاتي يُخشَى منهنَّ الفتنةُ، والحذرُ أيضًا من المحبةِ التي يُخشَى ضررُها؛ فإنَّ امرأةَ العزيزِ جرَى منها ما جرَى بسببِ توحدِها بيوسفَ، وحبِّها الشديدِ لهُ الذي ما ترَكها حتى راودَتْهُ تلكَ المراودةَ، ثم كذبَتْ عليهِ؛ فسُجِنَ ذلكَ السجنَ الطويلَ.
* ومنها: أنَّ الهمَّ الذي همَّ بهِ يوسفُ ثم تركَهُ للهِ، ولبرهانِ الإيمانِ الذي وضعَهُ اللهُ في قلبهِ؛ مما يرقِّيهُ إلى اللهِ زلفَى؛ لأنَّ الهمَّ داعٍ من دواعِي النفسِ الأمارةِ بالسوءِ، وهوَ طبيعةٌ طُبِعَ عليها الآدميُّ، فإذا حصلَ الهمُّ بالمعصيةِ، ولم يكنْ عندَ العبدِ ما يقاوِمُ ذلكَ من الإيمانِ والخوفِ من اللهِ؛ وقعَ الذنبُ.
وإنْ كان العبدُ مؤمنًا كاملَ الإيمانِ فإنَّ الهمَّ الطبيعيَّ إذا قابلهُ ذلكَ الإيمانُ الصحيحُ القويُّ منعَهُ من ترتبِ أثرهِ، ولوْ كان الداعِي قويًّا؛ ولهذا كان يوسفُ من أعلى هذا النوعِ، قالَ تعالى:{لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} ، بدليلِ قولهِ:{كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف: 24]، لاستخلاصِ اللهِ إياهُ وقوةِ إيمانهِ وإخلاصهِ خلَّصَهُ اللهُ من الوقوعِ في الذنبِ، فكان ممن خافَ مقامَ ربهِ، ونهَى النفسَ عن الهوى، ومن أعلى السبعةِ الذينَ يظلُّهم اللهُ في ظلِّهِ يومَ لا ظلَّ إلا ظلُّهُ، فذكَرَ
صلى الله عليه وسلم منهم: «رجلًا دعَتْهُ امرأةٌ ذاتُ منصبٍ وجمالٍ فقالَ: إني أخافَ اللهُ»
(1)
.
فهمُّها لمَّا كان لا معارضَ لهُ استمرَّتْ في مراودتهِ، وهمُّهُ عَارِضٌ عَرَضَ، ثم زالَ في الحالِ ببرهانِ ربهِ.
* ومنها: أنَّ مَنْ دخَلَ الإيمانُ قلبَهُ، ثم استنارَ بمعرفةِ ربهِ، ونورِ الإيمانِ بهِ، وكان مخلصًا للهِ في كلِّ أحوالهِ؛ فإنَّ اللهَ يدفعُ عنهُ ببرهانِ إيمانهِ وإخلاصهِ من أنواعِ السوءِ والفحشاءِ وأسبابِ المعاصي ما هوَ جزاءٌ لإيمانهِ وإخلاصهِ؛ لأنَّ اللهَ علَّلَ صرفَ هذهِ الأمورِ عن يوسفَ بقولهِ:{إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المُخْلِصِينَ} [يوسف: 24] على قراءةِ مَنْ قرَأَها بكسرِ اللامِ
(2)
، ومَن قرَأَها بالفتحِ
(3)
فإنَّ مَنْ أخلصَهُ اللهُ واجتباهُ فلابدَّ أنْ يكونَ مخلِصًا، فالمعنيانِ متلازمانِ.
* ومنها: أنهُ ينبغِي للعبدِ إذا ابتُلِيَ بالوقوعِ في محلٍّ فيه فتنةٌ وأسبابُ معصيةٍ أنْ يفرَّ ويهربَ غايةَ ما يمكنهُ؛ ليتمكنَ من التخلصِ من ذلكَ الشرِّ، كما فرَّ يوسفُ هاربًا للبابِ، وهيَ تمسِكُ بثوبهِ وهوَ مُدبِرٌ عنها.
* ومنها: أنَّ القرائنَ يُعملُ بها عندَ الاشتباهِ في الدعاوَى؛ وذلكَ أنَّ الشاهدَ الذي شَهِدَ -أي: حكَمَ على يوسفَ وعلى المرأةِ- اعتبَرَ القرينةَ فقالَ: {إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ} [يوسف: 26] إلى آخرِ القضيةِ، وصارَ حكمهُ هذا موافقًا للصوابِ. ومنِ القرائنِ: وجودُ الصواعِ في رحلِ الأخِ، وقدْ اعتُبِرَ هذا وهذا.
(1)
البخاري (1423)، ومسلم (715).
(2)
وهي قراءة ابن كثير وأبي عمرو وابن عامر ويعقوب. انظر: السبعة في القراءات لابن مجاهد (ص: 348)، المبسوط في القراءات العشر (ص: 246).
(3)
وهي قراءة أبي جعفر ونافع وعاصم وحمزة والكسائي وخلف. انظر: المرجعين السابقين.
* ومنها: ما عليهِ يوسفُ من الجمالِ الباهرِ ظاهرًا وباطنًا:
• فإنَّ جمالَهُ الظاهرَ أوجبَ لامرأةِ العزيزِ ما أوجبَ من الحبِّ المفرطِ والمراودةِ المستمرةِ، ولما لامَها النساءُ دعتهنَّ {وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} [يوسف: 31].
• وأما جمالهُ الباطنُ فهوَ العفةُ العظيمةُ منهُ معَ وجودِ الدواعِي الكثيرةِ لوقوعِ السوءِ منهُ، ولكنَّ الإيمانَ ونورَهُ والإخلاصَ وقوتَهُ لا يشذُّ عنهما فضيلةٌ، ولا تجامعُهما رذيلةٌ.
وقدْ بيَّنَتِ امرأةُ العزيزِ للنساءِ من يوسفَ الأمرَينِ؛ فإنها لما أرتهنَّ جمالَهُ الظاهرَ الذي اعترفْنَ أنَّ هذا الجمالَ لا يوجدُ في الآدميينَ؛ قالتْ: {وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ} [يوسف: 32]، وقالَتْ بعدَ ذلكَ:{الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} [يوسف: 51].
* ومنها: أنَّ يوسفَ صلى الله عليه وسلم اختارَ السجنَ على المعصيةِ، فهكذا إذا ابتُلِيَ العبدُ بأحدِ أمرَينِ: إما أنْ يلجأَ إلى فعلِ المعصيةِ، وإما أنْ يُعاقبَ عقوبةً دنيويةً؛ فعليهِ أنْ يختارَ العقوبةَ الدنيويةَ التي فيها الثوابُ من هذا الوجهِ بعدةِ أمورٍ:
• ثواب من جهةِ اختيارهِ الإيمانَ على السلامةِ من العقوبةِ الدنيويةِ.
• وثواب من جهةِ أنَّ هذا من بابِ التخليصِ للمؤمنِ والتصفيةِ، وهوَ يدخلُ في الجهادِ في سبيلِ اللهِ.
• وثواب من جهةِ المصيبةِ التي نالتْهُ، والألمُ الذي أصابَهُ.
فسبحانَ مَنْ ينعمُ ببلائهِ، ويلطفُ بأصفيائهِ، وهذا أيضًا عنوانُ الإيمانِ، وعلامةُ السعادةِ.
* ومنها: أنهُ ينبغِي للعبدِ أنْ يلتجئَ إلى ربهِ، ويحتميَ بحماهُ عندَ وجودِ أسبابِ المعصيةِ، ويتبرأَ مِنْ حولهِ وقوتهِ؛ لقولِ يوسفَ:{وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [يوسف: 33]، فالعبدُ الموفقُ يستعينُ ربَّهُ على دفعِ المعاصي وأسبابِها، كما يستعينُ بهِ عندَ فعلِ الطاعاتِ والخيراتِ، واللهُ كافي المتوكلينَ.
* ومنها: أنَّ العلمَ والعقلَ الصحيحَ يدعوانِ صاحبَهما إلى الخيرِ، وينهيانهِ عن الشرِّ، وأنَّ الجهلَ يدعُو صاحبَهُ إلى ضدِّ ذلكَ؛ لقولهِ:{أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [يوسف: 33] أي: الجاهلينَ بالأمورِ الدينيةِ، والجاهلينَ بالحقائقِ النافعةِ والحقائقِ الضارةِ.
* ومنها: أنهُ كما على العبدِ عبوديةٌ لربهِ في حالِ رخائهِ، فعليهِ عبوديةٌ في حالِ الشدةِ، فيوسفُ صلى الله عليه وسلم لم يزَلْ يدعُو إلى اللهِ، فلما دخلَ السجنَ استمرَّ على ذلكَ، ودعَا مَنْ يتصلُ بهِ من أهلِ السجنِ، ودعا الفتيَينِ إلى التوحيدِ، ونهاهما عن الشركِ.
ومن كمالِ رأيهِ وحكمتهِ أنهُ لما رأى فيهما قابليةً لدعوتهِ حينَ احتاجَا إليهِ في تعبيرِ رؤياهما وقالا لهُ: {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 36]؛ رأى ذلكَ فرصةً، فدعاهما إلى اللهِ قبلَ أنْ يعبرَ رؤياهما؛ ليكونَ أقربَ إلى حصولِ المطلوبِ، وبيَّنَ لهما أنَّ الذي أوصلَهُ إلى هذهِ الحالِ التي رأياهُ فيها من الكمالِ والعلمِ إيمانُهُ وتوحيدُهُ وتركهُ لملةِ المشركينَ، وهذا دعاءٌ لهما بالحالِ، ثم دعاهما بالمقالِ، وبرهَنَ لهما على حسنِ التوحيدِ ووجوبهِ، وعلى قبحِ الشركِ وتحريمهِ.
* ومنها: أنهُ يُبدأُ بالأهمِّ فالأهمِّ، وأنهُ إذا سُئِلَ المفتي وكان السائلُ حاجتهُ في غيرِ سؤالهِ أشدَّ، أنهُ ينبغِي لهُ أنْ يعلمَهُ ما يحتاجُ إليهِ قبلَ أنْ يجيبَ سؤالَهُ؛ فإنَّ هذا علامةٌ على نصحِ المعلمِ وفطنتهِ وحسنِ إرشادهِ وتعليمهِ؛ فإنَّ يوسفَ لما سألَهُ الفتيانِ عن رؤياهما، وكانتْ حاجتُهما إلى التوحيدِ والإيمانِ أعظمَ من كلِّ شيءٍ؛ قدَّمَها.
* ومنها: أنَّ مَنْ وقعَ في مكروهٍ وشدةٍ لا بأسَ أنْ يستعينَ بمن لهُ قدرةٌ على تخليصهِ بفعلهِ، أو الإخبارِ بحالهِ، وأنَّ هذا لا يكونُ نقصًا ولا شكوًى إلى المخلوقِ ممنوعةً، فإنَّ هذا من الأمورِ العاديةِ التي جرَى العرفُ باستعانةِ الناسِ بعضِهم ببعضٍ فيها؛ ولهذا قالَ يوسفُ للذي ظنَّ أنهُ ناجٍ منهما:{اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} [يوسف: 42].
* ومنها: أنهُ يتعيَّنُ على المعلمِ والداعي إلى اللهِ استعمالُ الإخلاصِ التامِّ في تعليمهِ ودعوتهِ، وألَّا يجعلَ ذلكَ وسيلةً إلى معاوضةٍ في مالٍ أو جاهٍ أو نفعٍ، وألَّا يمتنعَ من التعليمِ إذا لم يفعَلْ السائلُ ما كلفَهُ بهِ المعلمُ؛ فإنَّ يوسفَ قدْ وصَّى أحدَ الفتيَينِ أنْ يذكرَهُ عندَ ربهِ، فلم يذكرْهُ ونسيَ، فلما بدَتْ حاجتُهم إلى سؤالِ يوسفَ أرسلوا ذلكَ الفتى، وجاءهُ سائلًا مستفتيًا عن تلكَ الرؤيا، فلم يعنفْهُ يوسفُ ولا وبَّخهُ، بلْ ولا قالَ لهُ: لِمَ لَمْ تذكُرْني عندَ ربِّكَ، وأجابَهُ جوابًا تامًّا من جميعِ الوجوهِ.
* ومنها: أنهُ ينبغِي للمسؤولِ إذا أجابَ السؤالَ أنْ يدلَّ السائلَ على الأمرِ الذي ينفعهُ مما يتعلقُ بسؤالهِ، ويرشدهُ إلى الطريقِ التي ينتفعُ بها في دينهِ ودنياهُ؛ فإنَّ هذا من كمالِ نصحهِ، وجزالةِ رأيهِ، وحسنِ إرشادهِ؛ فإنَّ يوسفَ لم يقتصِرْ على تعبيرِ رؤيا المَلكِ، بلْ دلَّهم معَ ذلكَ وأشارَ عليهم بما يصنعونَهُ في تلكَ السنين المخصباتِ من الإكثارِ من الزراعةِ، وحسنِ الحفظِ والجبايةِ.
* ومنها: أنهُ لا يلامُ العبدُ على دفعِ التهمةِ عن نفسهِ، بلْ ذلكَ مطلوبٌ، كما امتنعَ يوسفُ من الخروجِ من السجنِ حتى تتبيَّنَ لهم براءتهُ معَ النسوةِ اللاتي قطَّعْنَ أيديهنَّ.
* ومنها: فضيلةُ العلمِ: علمِ الشرعِ والأحكامِ، وعلمِ تعبيرِ الرؤيا، وعلمِ التدبيرِ والتربيةِ، وعلمِ السياسةِ؛ فإنَّ يوسف صلى الله عليه وسلم إنما حصلَتْ لهُ الرفعةُ في الدنيا والآخرةِ بسببِ علمهِ المتنوعِ.
وفيهِ: أنَّ علمَ التعبيرِ داخلٌ في الفتوى، فلا يحلُّ لأحدٍ أنْ يجزمَ بالتعبيرِ قبلَ أنْ يعرفَ ذلكَ، كما ليسَ لهُ أنْ يفتيَ في الأحكامِ بغيرِ علمٍ؛ لأنَّ اللهَ سمَّاها فتوى في هذهِ السورةِ.
* ومنها: أنهُ لا بأسَ أنْ يخبرَ الإنسانُ عما في نفسهِ من الصفاتِ الكاملةِ، من العلمِ وغيرهِ، إذا كان في ذلكَ مصلحةٌ، وسَلِمَ من الكذبِ، ولم يقصِدْ بهِ الرياءَ؛ لقولِ يوسفَ:{اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 55].
وكذلكَ لا تذمُّ الولايةُ إذا كان المتولِّي لها يقومُ بما يقدرُ عليهِ من إقامةِ الشرعِ، وإيصالِ الحقوقِ إلى أهلِها، وأنهُ لا بأسَ بطلِبها إذا كان أهلًا، وأعظمَ كفاءةً من غيرهِ، وإنما المذمومُ إذا لم يكنْ فيه كفاءةٌ، أو كان موجودًا مَنْ هوَ أمثلُ منهُ أو مثلُه، أو لم يُرِدْ بها إقامةَ أمرِ اللهِ، بلْ أرادَ الترؤُّسَ والمأكلةَ الماليةَ.
* ومنها: أنَّ اللهَ واسعُ الجودِ والكرمِ، يجودُ على عبدهِ بخيرِ الدنيا والآخرةِ، وأنَّ خيرَ الآخرةِ لهُ سببانِ، لا ثالثَ لهما:
• الإيمانُ بكلِّ ما أوجبَ اللهُ الإيمانَ بهِ.
• والتقوَى التي هيَ امتثالُ الأوامرِ الشرعيةِ واجتنابُ النواهِي.
وأنَّ خيرَ الآخرةِ خيرٌ من ثوابِ الدنيا وملكِها، وأنهُ ينبغِي للعبدِ أنْ يدعوَ نفسَهُ ويشوِّقَها لثوابِ اللهِ، ولا يدعُها تحزنُ إذا رأتْ لذاتِ الدنيا ورياساتِها وهيَ عاجزةٌ عنها، بلْ يسلِّيها بالثوابِ الأخرويِّ؛ ليخفَّ عليها عدمُ حصولِ الدنيا، لقولِ يوسفَ:{وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يوسف: 57].
* ومنها: أنَّ جبايةَ الأرزاقِ إذا أُريدَ بها التوسعةُ على الناسِ من غيرِ ضررٍ يلحقُهم لا بأسَ بهِ، بلْ ذلكَ مطلوبٌ؛ لأنَّ يوسفَ أمرَهم بجبايةِ الأرزاقِ والأطعمةِ في السنينَ المخصباتِ؛ للاستعدادِ بهِ للسنينَ المجدباتِ، وقدْ حصَلَ بهِ الخيرُ الكثيرُ.
* ومنها: حسنُ تدبيرِ يوسفَ لما تولَّى خزائنَ الديارِ المصريةِ من أقصاها إلى أقصاها، فنهضَ بالزراعةِ حتى كثرَتِ الغلالُ جدًّا، فصارَ أهلُ الأقطارِ يقصدونَ مصرَ لطلبِ الميرةِ منها عندما فقدُوا ما عندَهم؛ لعلمِهم بوفورِها في مصرَ، ومن عدلهِ وتدبيرهِ وخوفهِ أنْ يتلاعبَ بها التجارُ أنهُ لا يكيلُ لأحدٍ إلا مقدارَ الحاجةِ الخاصةِ أو أقلَّ،
لا يزيدُ كل قادمٍ على كيلِ بعيرٍ وحملهِ، وظاهرُ حالهِ هذا أنهُ لا يُعطِي أهلَ البلدِ إلا أقلَّ من ذلكَ بكثيرٍ لحضورِهم عندَهُ.
* ومنها: مشروعيةُ الضيافةِ، وأنها من سننِ المرسلينَ، وإكرام الضيفِ؛ لقولِ يوسفَ:{أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ} [يوسف: 59].
* ومنها: أنَّ سوءَ الظنِّ معَ وجودِ القرائنِ الدالةِ عليهِ غيرُ ممنوعٍ ولا محرَّمٍ؛ فإنَّ يعقوبَ قالَ لأولادهِ: {هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ} [يوسف: 64]، وقالَ:{بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا} [يوسف: 83]، فهم في الأخيرةِ وإنْ لم يكونوا مفرِّطينَ؛ فقدْ جرى منهم ما أوجبَ لأبيهم أنْ يقولَ ما قالَ من غيرِ لومٍ عليهِ.
* ومنها: أنَّ استعمالَ الأسبابِ الدافعةِ للعينِ وغيرِها من المكارهِ، أو الرافعةِ لها بعدَ نزولِها؛ غيرُ ممنوعٍ، وإنْ كان لا يقعُ شيءٌ إلا بقضاءِ اللهِ وقدرهِ، فإنَّ الأسبابَ أيضًا من القضاءِ والقدرِ؛ لقولِ يعقوبَ:{يَابَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ} [يوسف: 67] الآية.
* ومنها: جوازُ استعمالِ الحيلِ والمكائدِ التي يُتوصلُ بها إلى الحقوقِ، وأنَّ العلمَ بالطرقِ الخفيةِ الموصلةِ إلى مقاصدِها مما يُحمدُ عليهِ العبدُ، وأما الحيلُ التي يُرادُ بها إسقاطُ واجبٍ أو فعلُ محرَّمٍ فإنها محرمةٌ غيرُ نافذةٍ.
* ومنها: أنهُ ينبغِي لمن أرادَ أنْ يوهمَ غيرَهُ بأمرٍ لا يحبُّ بيانَهُ لهُ؛ أنْ يستعملَ المعاريضَ القوليةَ والفعليةَ المانعةَ لهُ من الكذبِ، كما فعلَ يوسفُ حينَ ألقَى الصواعَ في رحلِ أخيهِ، ثم استخرجَها منهُ موهمًا أنهُ سارقٌ، وليسَ في ذلكَ تصريحٌ بسرقتهِ، وإنما استعملَ المعاريضَ، ومثلُ هذا قولهُ:{مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ} [يوسف: 79]، ولم يقُلْ: مَنْ سرَقَ متاعَنا.
* ومنها: أنهُ لا يجوزُ أنْ يشهدَ إلا بما عَلِمَهُ وتحقَّقَهُ برؤيةٍ أو سماعٍ؛ لقولِهم: {وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا} [يوسف: 81]، وقولهِ:{إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86].
* ومنها: هذهِ المحنةُ العظيمةُ التي امتحنَ اللهُ بها نبيَّهُ وصفيَّهَ يعقوبَ عليه السلام، إذْ قضَى بالتفريقِ بينَهُ وبينَ ابنهِ يوسفَ الذي لا يقدِرُ على فراقهِ ساعةً واحدةً، ويحزنهُ أشدَّ الحزنِ.
فتمَّ لهذهِ الفرقةِ مدةٌ طويلةٌ ويعقوبُ لم يفارِقِ الحزنُ قلبَهُ، {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} [يوسف: 84]، ثم ازدادَ بهِ الأمرُ حينَ اتصلَ فراقُ الابنِ الثاني بالأولِ، وهوَ في ذلكَ صابرٌ لأمرِ اللهِ، محتسبٌ الأجرَ من اللهِ.
وقدْ وعَدَ من نفسهِ الصبرَ الجميلَ، ولا ريبَ أنهُ وفَّى بما وعَدَ بهِ، ولا يُنافِي ذلكَ قولُهُ:{إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف: 86]؛ فإنَّ الشكوَى إلى اللهِ لا تُنافِي الصبرَ، وإنما الذي ينافيهِ الشكوَى إلى المخلوقينَ.
ولا ريبَ أنَّ اللهَ رفعَهُ بهذهِ المحنةِ درجاتٍ عاليةً ومقاماتٍ ساميةً، لا تُنالُ إلا بمثلِ هذهِ الأمورِ.
* ومنها: أنَّ الفرَجَ معَ اشتدادِ الكربِ، فإنهُ لما تراكمَتِ الشدائدُ المتنوعةُ، وضاقَ العبدُ ذرعًا بحملِها، فرَّجَها فارجُ الهمِّ، كاشفُ الغمِّ، مجيبُ دعوةِ المضطرينَ، وهذهِ عوائدهُ الجميلةُ، خصوصًا لأوليائهِ وأصفيائهِ؛ ليكونَ لذلكَ الوقعُ الأكبرُ، والمحلُّ الأعظمُ، وليجعَلَ
(1)
مِنْ المعرفةِ باللهِ والمحبةِ لهُ ما يُوازِنُ ويرجُحُ بما جرَى على العبدِ بلا نسبةٍ.
* ومنها: جوازُ إخبارِ العبدِ بما يجدُ، وما هوَ فيه من مرضٍ أو فقرٍ أو غيرِهما، على غيرِ وجهِ التسخطِ؛ لقولِ يعقوبَ:{يَاأَسَفَا عَلَى يُوسُفَ} [يوسف: 84]، وقولِ إخوةِ يوسفَ:{مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ} [يوسف: 88]، وأقرَّهم يوسفُ.
* ومنها: فضيلةُ التقوى والصبرِ، وأنَّ كلَّ خيرٍ في الدنيا والآخرةِ فمن آثارِ التقوَى والصبرِ، وأنَّ عاقبةَ أهلِهما أحسنُ العواقبِ؛ لقولهِ:{قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 90].
(1)
في (خ): ويحصل.
* ومنها: أنهُ ينبغِي للعبدِ إذا أُنعِمَ عليهِ بنعمةٍ بعدَ ضدِّها أنْ يتذكَّرَ الحالةَ السابقةَ؛ ليعظمَ وقعُ هذهِ النعمةِ الحاضرةِ، ويكثرَ شكرهُ للهِ تعالى؛ ولهذا قالَ يوسفُ:
* ومنها: ما في هذهِ القصةِ من الألطافِ المتنوعةِ المسهلةِ للبلاءِ، منها:
• رؤيا يوسفَ السابقةُ؛ فإنَّ فيها رَوحًا ولطفًا بيوسفَ وبيعقوبَ، وبشارةً بالوصولِ إلى تأويلِها.
• ولطفُ اللهِ بيوسفَ إذْ أوحَى إليهِ وهوَ في الجُبِّ: {لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (15)} [يوسف: 15].
• وتنقلاتهُ من حالٍ إلى حالٍ، فإنَّ فيها ألطافًا ظاهرةً وخفيةً؛ ولهذا قالَ في آخرِ الأمرِ:{إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ} [يوسف: 100] يلطفُ بهِ في أحوالهِ الداخليةِ، ويلطفُ لهُ في الأمورِ الخارجيةِ، ويُوصلهُ إلى أعلى المطالبِ من حيثُ لا يشعرُ.
* ومنها: أنهُ ينبغِي للعبدِ أنْ يلحَّ دائمًا على ربهِ في تثبيتِ إيمانهِ، وأنْ يُحْسِنَ لهُ الخاتمةَ، وأنْ يجعلَ خيرَ أيامهِ آخرَها، وخيرَ أعمالهِ خواتمَها؛ فإنَّ اللهَ كريمٌ جوادٌ رحيمٌ.
قصة أصحاب الكهف
وهم فتيةٌ وفَّقَهم اللهُ، وألهمَهم الإيمانَ، وعَرَفوا ربَّهم، وأنكرُوا ما عليهِ قومَهم من عبادةِ الأوثانِ، وقامُوا بينَ أظهرِهم معلنيِنَ فيما بينَهم عقيدتَهم، خائفينَ من سطوةِ قومِهم، فقالوا:{رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا} [الكهف: 14] أي: إنْ دعَوْنا غيرَهُ، {شَطَطًا} أي: زورًا وبهتانًا وظلمًا، {هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [الكهف: 15].
فلما اتفقُوا على هذا الأمرِ، وعَرَفوا أنهم لا يمكنُهم إظهارُ ذلكَ لقومِهم؛ سألُوا اللهَ أنْ يسهِّلَ أمرَهم فقالوا:{رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا} [الكهف: 10].
فآوَوْا إلى غارٍ يسَّرَهُ اللهُ غايةَ التيسيرِ، واسعِ الفجوةِ، بابهُ نحوَ الشمالِ، لا تدخلُهُ الشمسُ، لا في طلوعِها ولا في غروبِها، فنامُوا في كهفِهم بحفظِ اللهِ ورعايتهِ {ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25)} .
وقدْ ضرَبَ اللهُ عليهم نطاقًا من الرعبِ، على قربِهم من مدينةِ قومِهم، ثم إنهُ في الغارِ تولَّى حفظَهم بقولهِ:{وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ} [الكهف: 18]؛ وذلك لئلَّا تُبليَ الأرضُ أجسادَهم.
ثم أيقظَهم بعدَ هذه المدةِ الطويلةِ {لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ} [الكهف: 19]، وليقِفُوا في آخرِ الأمرِ على الحقيقةِ، فقالَ قائلٌ منهم:{كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ} [الكهف: 19] إلى آخرِ القصةِ.
* ففيها آياتٌ بيناتٌ وفوائدُ متعددةٌ:
* منها: أنَّ قصةَ أصحابِ الكهفِ وإنْ كانتْ عجيبةً فليستْ من أعجبِ آياتِ اللهِ؛ فإن للهِ آياتٍ عجيبةً وقصصًا فيها عبرةٌ للمعتبرِينَ.
* ومنها: أنَّ مَنْ آوَى إلى اللهِ أواهُ اللهُ، ولطفَ بهِ، وجعلَهُ سببًا لهدايةِ الضالِّينَ؛ فإنَّ اللهَ لطَفَ بهم في هذهِ النومةِ الطويلةِ؛ إبقاءً على إيمانِهم وأبدانِهم من فتنةِ قومِهم وقتلِهم، وجعَلَ هذهِ القومةَ
(1)
من آياتهِ التي يُستدلُّ بها على كمالِ قدرةِ اللهِ، وتنوعِ إحسانهِ، وليعلمَ العبادُ أنَّ وعدَ اللهِ حقٌّ.
* ومنها: الحثُّ على تحصيلِ العلومِ النافعةِ والمباحثةِ فيها؛ لأنَّ اللهَ بعثَهم لأجل ذلكَ، وببحثِهم ثُم بعلمِ الناسِ بحالِهم حصلَ البرهانُ والعلمُ بأنَّ وعدَ اللهِ حقٌّ، وأنَّ الساعةَ آتيةٌ لا ريبَ فيها.
* ومنها: الأدبُ فيمن اشتبهَ عليهِ العلمُ أنْ يردَّهُ إلى عالِمهِ، وأنْ يقفَ عندَ ما يعرفُ.
* ومنها: صحةُ الوكالةِ في البيعِ والشراءِ، وصحةُ الشركةِ في ذلكَ؛ لقولِهم:{فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ} [الكهف: 19] الآية.
(1)
في (خ): النومة.
* ومنها: جوازُ أكلِ الطيباتِ، والتخيرِ من الأطعمةِ ما يلائمُ الإنسانَ ويوافقهُ، إذا لم تخرَجْ إلى حدِّ الإسرافِ المنهيِّ عنهُ؛ لقولهِ:{فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ} [الكهف: 19].
* ومنها: الحثُّ والتحرزُ والاستخفاءُ والبعدُ عن مواقعِ الفتنِ في الدينِ، واستعمالُ الكتمانِ الذي يدرأُ عن الإنسانِ الشرَّ.
* ومنها: بيانُ رغبةِ هؤلاءِ الفتيةِ في الدينِ، وفرارِهم من كلِّ فتنةٍ في دينِهم، وتركِهم لأوطانِهم وعوائدِهم في اللهِ.
* ومنها: ذِكْرُ ما اشتملَ عليهِ الشرُّ من المضارِّ والمفاسدِ الداعيةِ لبغضهِ وتركهِ، وأنَّ هذهِ الطريقةَ طريقةُ المؤمنينَ.
* ومنها: أنَّ قولَهُ: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} [الكهف: 21] فيه دليلٌ على أنَّ هؤلاءِ القومَ الذينَ بُعِثُوا في زمانِهم أناسٌ أهلُ تدينٍ؛ لأنهم عظَّموهم هذا التعظيمَ حتى عزمُوا على اتخاذِ مسجدٍ على كهفِهم، وهذا إنْ كان ممنوعًا وخصوصًا في شريعتِنا فالمقصودُ: بيانُ أنَّ ذلكَ الخوفَ العظيمَ من أهلِ الكهفِ وقتَ إيمانِهم ودخولِهم في الغارِ؛ أبدلَهم اللهُ بهِ بعدَ ذلكَ أمنًا وتعظيمًا من الخلقِ، وهذهِ عوائدُ اللهِ فيمن تحمَّلَ المشاقَّ من أجلهِ أنْ يجعلَ لهُ العاقبةَ الحميدةَ.
* ومنها: أنَّ كثرةَ البحثِ وطولَهُ في المسائلِ التي لا أهميةَ لها لا ينبغِي الانهماكُ بهِ؛ لقولهِ: {فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا} [الكهف: 22].
* ومنها: أنَّ سؤالَ مَنْ لا علمَ لهُ في القضيةِ المسئولِ فيها، أو لا يُوثقُ بهِ؛ منهيٌّ عنهُ؛ لقولهِ:{وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا} [الكهف: 22].
قصة خاتم النبيين وإمام المرسلين
ومن أنزل عليه القرآن هدى ورحمة للمؤمنين
اعلَمْ أنَّ سيرةَ نبيِّنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم أعظمُ عونٍ على معرفةِ تفسيرِ كتابِ اللهِ، والقرآنُ إنما كان ينزلُ تبعًا لمناسباتِ سيرتهِ، وما يقولهُ للخلقِ، وجواب ما يقالُ لهُ، وما يحصلُ بهِ تحقيقُ الحقِّ الذي جاءَ بهِ، وإبطالُ المذاهبِ التي جاءَ لإبطالها، وهذا من حكمةِ إنزالهِ مفرَّقًا، كما ذكرَ اللهُ هذا المعنى بقولهِ:{كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32) وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33)} [الفرقان: 32 - 33]، وقالَ:{وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ} [هود: 120].
فلنشِرْ من سيرتهِ صلى الله عليه وسلم على الأحوالِ المناسبةِ لنزولِ الآياتِ المعيناتِ، أو لجنسِ النوعِ من علومِ القرآنِ؛ ليكونَ عونًا في هذا المقامِ.
* فأولُ مقاماتهِ في إنزالِ القرآنِ عليهِ: أنهُ كان قبلَ البعثةِ قدْ بُغِّضَتْ إليهِ عبادةُ الأوثانِ، وبُغِّضَ إليهِ كلُّ قولٍ قبيحٍ وفعلٍ قبيحٍ، وفُطِرَ صلى الله عليه وسلم فطرةً مستعدةً متهيئةً لقبولِ الحقِّ علمًا وعملًا، واللهُ تعالى هوَ الذي طهَّرَ قلبَهُ وزكَّاهُ وكمَّلَهُ.
فكان من رغبتهِ العظيمةِ فيما يقرِّبُ إلى اللهِ أنهُ كان يذهبُ إلى غارِ حراءٍ الأيامَ ذواتِ العددِ، ويأخذُ معهُ طعامًا يُطعِمُ منهُ المساكينَ، ويتعبَّدُ ويتحنثُ فيه، فقلبُهُ في غايةِ التعلقِ بربهِ، ويفعلُ من العباداتِ ما وصَلَ إليهِ علمهُ في ذلكَ الوقتِ الجاهليِّ الخالِي من العلمِ، ومعَ ذلكَ فهوَ في غايةِ الإحسانِ إلى الخلقِ.
فلما تمَّ عمرهُ أربعينَ سنةً، وتمَّتْ قوتهُ العقليةُ، وصَلُحَ لتلقِّي أعظمَ رسالةٍ أرسَلَ اللهُ بها أحدًا من خلقهِ؛ تبدَّى لهُ جبريلُ صلى الله عليه وسلم، فرأى منظرًا هالَهُ وأزعجَهُ، إذْ لم يتقدَّمْ لهُ شيءٌ من ذلكَ، وإنما قدَّمَ اللهُ لهُ الرؤيا التي كان لا يرَى رؤيا إلا جاءَتْ مثلَ فلقِ الصبحِ.
فأولُ ما أنزلَ اللهُ عليهِ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1]، فجاءَهُ بها جبريلُ وقالَ لهُ:{اقْرَأْ} ، فأخبرهُ أنهُ ليسَ بقارئٍ، أي: لا يعرفُ أنْ يقرأَ، كما قالَ تعالى:{وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} [الضحى: 7]، وتفسيرُها الآيةُ الأخرى:{مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى: 52].
فغطَّهُ جبريلُ مرتينِ أو ثلاثًا؛ ليهيئَهُ لتلقِّي القرآنِ العظيمِ، ويتجردَ قلبهُ وهمتهُ وظاهرهُ وباطنهُ لذلكَ.
فنزلَتْ هذهِ السورةُ التي فيها نبوتهُ، وأَمْرُهُ بالقراءةِ باسمِ ربهِ، وفيها أصنافُ نعمهِ على الإنسانِ بتعليمهِ البيانَ العلميَّ، والبيانَ اللفظيَّ، والبيانَ الرسميَّ.
فجاءَ بها إلى خديجةَ تُرْعَدُ فرائصهُ من الفَرَقِ، وأخبرَها بما رآهُ وما جرَى عليهِ، فقالتْ خديجةُ رضي الله عنها:«أبشِرْ، فواللهِ لا يُخزِيكَ اللهُ أبدًا؛ إنكَ لتصلُ الرحمَ، وتَقْرِي الضيفَ، وتحملُ الكلَّ، وتُكسبُ المعدومَ، وتُعينُ على نوائبِ الحقِّ»
(1)
، أي: ومَن كانتْ هذهِ صفتهُ فإنها تستدعِي نعمًا من اللهِ أكبرَ منها وأعظمَ، وكان هذا من توفيقِ اللهِ لها ولنبيهِ، ومن تهوينِ القلقِ الذي أصابَهُ.
(1)
البخاري (3)، ومسلم (160).
وبهذهِ السورةِ ابتدأَتْ نبوتُهُ، ثم فتَرَ عنهُ الوحيُ مدةً؛ ليشتاقَ إليهِ، وليكونَ أعظمَ لموقعهِ عندَهُ.
وكان قدْ رأى المَلَكُ على صورتهِ فانزعَجَ، فجاءَ إلى خديجةَ أيضًا تُرْعَدُ فرائصهُ فقالَ:«دثِّرُوني دثِّرُوني»
(1)
؛ فأنزلَ اللهُ عليهِ: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5)} [المدثر: 1 - 5] الآيات.
فكان في هذا: الأمرُ لهُ بدعوةِ الخلقِ وإنذارِهم، فشمَّرَ صلى الله عليه وسلم عن عزمهِ، وصمَّمَ على الدعوةِ إلى ربهِ معَ علمهِ أنهُ سيُقاوِمُ بهذا الأمرِ البعيدَ والقريبَ، وسيَلقَى كلُّ معارضةٍ من قومهِ ومن غيرِهم، وشدةٍ، ولكنَّ اللهَ أيدَهُ وقوَّى عزمَهُ، وأيدَهُ برُوحٍ منهُ، وبالدِّينِ الذي جاءَ بهِ.
وجاءتْهُ سورةُ الضحى في فَتْرَةِ الوحيِ لما قالَ المكذبونَ: إنَّ ربَّ محمدٍ قلَاهُ، قالَ:{وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3)} [الضحى: 1 - 3] إلى آخرِها، وهذا اعتناءٌ عظيمٌ من اللهِ برسولهِ، ونفْيٌ لكلِّ نقصٍ، وبشارةٌ بأنَّ كلَّ حالةٍ لهُ أحسنُ مما قبلَها، وخيرٌ منها، وأنَّ اللهَ سيعطيهِ من النصرِ والأتباعِ والعزِّ العظيمِ وانتشارِ الدِّينِ ما يرضيهِ.
* فكان أعظمُ مقاماتِ دعوتهِ: دعوتهُ إلى التوحيدِ الخالصِ، والنهي عن ضدِّهِ، دعا الناسَ لهذا، وقرَّرَهُ اللهُ في كتابهِ، وصرَّفَهُ بطرقٍ كثيرةٍ واضحةٍ تبينُ وجوبَ التوحيدِ وحسنَهُ، وتعيِّنُهُ طريقًا إلى اللهِ وإلى دارِ كرامتهِ، وقرَّرَ إبطالَ الشركِ والمذاهبِ الضارةِ بطرقٍ كثيرةٍ احتوَى عليها القرآنُ، وهيَ أغلبُ السورِ المكيةِ.
(1)
البخاري (4925)، ومسلم (161)، بنحوه.
فاستجابَ لهُ في هذا الواحدُ بعدَ الواحدِ، على شدةٍ عظيمةٍ من قومهِ، وقاومَهُ قومهُ وغيرُهم، وبَغَوا لهُ الغوائلَ، وحرَصُوا على إطفاءِ دعوتهِ بجدِّهم وقولِهم وفعلِهم، وهوَ يجادلُهم ويتحدَّاهم أنْ يأتُوا بمثلِ هذا القرآنِ، وهم يعلمونَ أنهُ الصادقُ الأمينُ، ولكنَّهم يكابِرُون ويجحَدُونَ آياتِ اللهِ، كما قالَ تعالى:{فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33].
ولهذا لما كان استماعُهم للقرآنِ على وجهِ الكفرِ والجحدِ والتكذيبِ، وتوطينِ نفوسِهم على معاداتهِ؛ أخبرَ اللهُ تعالى أنهُ جعَلَ على قلوبِهم أكنةً أنْ يفقهوهُ، وفي آذانِهم وقرًا، وأنهم لا يهتدونَ
(1)
؛ بسببِ ما أسسوا من هذا الأصلِ الخبيثِ، المانعِ لصاحبهِ من كلِّ خيرٍ وهدًى.
وهذا مما يُعلمُ بهِ حكمةُ البارِي في إضلالِ الضالينَ، وأنهم لما اختارُوا لأنفسهِم الضلالَ ورغبُوا فيه؛ ولَّاهم اللهُ ما تولَّوا لأنفسِهم، وتركَهم في طغيانِهم يعمهونَ، وأنهم لما ردُّوا نعمةَ اللهِ عليهم حينَ جاءَتْهم؛ قلَّبَ اللهُ أفئدتَهم، وأصمَّ أسماعَهم، وأعمَى أبصارَهم وأفئدتَهم، وهذا الوصفُ الذي أشَرْنا إليهِ قدْ ذكرَهُ اللهُ في كتابهِ عنهم
(2)
، وهوَ يُعينكَ على فهمِ آياتٍ كثيرةٍ يخبرُ اللهُ فيها بضلالِهم وانسدادِ طرقِ الهدايةِ عليهم، وعدمِ قبولِ محالِّهم وقلوبِهم للهدَى، والذنبُ ذنبُهم وهم السببُ في ذلكَ؛ قالَ تعالى:{فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الأعراف: 30].
(1)
كما في قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (57)} [الكهف: 57].
(2)
[الأنعام: 110].
وبضدِّهِ تُعرفُ الحكمةُ في هدايتهِ للمؤمنينَ، وأنهم لما كانوا منصفينَ ليسَ غرضُهم إلا الحقَّ، ولا لهم قصدٌ إلا طلبَ رضا ربِّهم؛ هداهم اللهُ بالقرآنِ، وازدادَتْ بهِ علومُهم ومعارفُهم وإيمانُهم وهدايتُهم المتنوعةُ، قالَ تعالى:{يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)} [المائدة: 16].
وهذا الوصفُ الجليلُ للمؤمنينَ هوَ الأساسُ لهدايتِهم، وزيادةِ إيمانِهم، وانقيادِهم، وبهِ ينفتحُ لكَ البابُ في فهمِ الآياتِ في أوصافِ المؤمنينَ، وسرعةِ انقيادِهم للحقِّ: أصولهِ وفروعهِ.
* ومن مقاماتِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم معَ المكذبينَ لهُ: أنهُ يدعُوهم بالحكمةِ والموعظةِ الحسنةِ، ويجادلُهم بالتي هيَ أحسنُ، ويدعُوهم أفرادًا ومتفرقينَ، ويذكِّرُهم بالقرآنِ، ويتلوهُ في الصلاةِ وخارجِها.
وكانوا إذا سمعُوهُ صمُّوا آذانَهم، وقدْ يسبونَهُ ويسبونَ مَنْ أنزلَهُ، فأنزلَ اللهُ على رسولهِ آياتٍ كثيرةً في هذا المعنى، يبيِّنُ حالَهم معَ سماعِ القرآنِ، وشدةَ نفورِهم كأنهم حمرٌ مستنفرةٌ فرَّتْ من قسورةٍ، وأنَّ شياطينَهم ورؤساءَهم في الشرِّ فكَّرُوا وقدَّرُوا ونظرُوا فيما يقولونَ عن القرآنِ ويصفونَهُ بهِ؛ لينفِّرُوا عنهُ الناسَ، حتى قَرَّ قرارُ رئيسِهم الوليدِ بنِ المغيرةِ الذي سماهُ اللهُ وحيدًا، فقالَ:{فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25)} [المدثر: 24 - 25]، ولكنْ أبَى اللهُ إلا أنْ يعلوَ هذا الكلامُ كلَّ كلامٍ، ويزهقَ هذا الحقُّ كلَّ باطلٍ.
وكانوا من إفكِهم يقولونَ في القرآنِ الأقوالَ المتناقضةَ، يقولونَ: إنهُ سحرٌ، إنهُ كهانةٌ، إنهُ شعرٌ، إنهُ كذبٌ، إنهُ أساطيرُ؛ فجعلُوا القرآنَ عضينَ
(1)
. كلُّ هذا أَثَرُ البغضِ الذي أحرقَ قلوبَهم، حتى قالوا فيه مقالةَ المجانينِ.
وكلَّما قالُوا قولًا من هذهِ الأقوالِ أنزلَ اللهُ آياتٍ يُبطلُ بها ما قالُوا، ويبينُ زورَهم وافتراءَهم وتناقضَهم.
وكان من الأدلةِ والبراهينِ على رسالةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وأنَّ القرآنَ من عندِ اللهِ: مقابلةُ المكذبينَ لهُ، فإنَّ مَنْ نظَرَ إليها عَلِمَ أنها سلاحٌ عليهم، وأكبرُ دليل على أنهم مقاومونَ للحقِّ، ساعونَ في إبطالهِ، وأنهم على الباطلِ الذي ليسَ لهُ حظٌّ من العقلِ، كما ليسَ لهُ حظٌّ من الدينِ.
وكانوا أيضًا يقولونَ في النبيِّ صلى الله عليه وسلم الأقوالَ التي ليسَ فيها دلالةٌ على ما كانوا يعتقدونَ، وليسَ فيها نقصٌ بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم، يقولونَ: لوْ أنَّ محمدًا صادقٌ لأنزلَ اللهُ ملائكةً يشهدونَ لهُ بذلكَ، ولأغناهُ اللهُ عن المشيِ في الأسواقِ، وطلبِ الرزقِ كما يطلبهُ غيرهُ، ولجعَلَ لهُ كذا وكذا مما توحِي إليهِ عقولُهم الفاسدةُ، ويذكرُها اللهُ في القرآنِ في مواضعَ متعددةٍ:
• تارةً يصورُها للعبادِ فقطْ؛ لأنَّ مَنْ تصورَها عرَفَ بطلانَها، وأنها ليستْ من الشبهِ القادحةِ، فضلًا عن الحججِ المعتبرةِ.
• وتارةً يصورُها ويذكرُ ما يبطلُها من الأمورِ الواضحةِ، وهذا كثيرٌ في القرآنِ.
(1)
عِضِين: «من عَضَّيْتُ الشيءَ، إذا فرقته، المعنى: فرقوا أقاويلهم في القرآن فجعلوه كذبا وسحرا وشعرا وكهانة» . (لسان العرب: 13/ 516).
* ومنْ مقاماتهم معَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: أنهم يسعونَ أشدَّ السعيِ أنْ يكفَّ عن عيبِ آلهتِهم، والطعنِ في دينِهم، ويحبونَ أنْ يتارِكَهم ويتارِكُوهُ؛ لعلمِهم أنهُ إذا ذكَرَ آلهتَهم، ووصفَها بالصفاتِ التي هيَ عليهِ من النقصِ، وأنهُ ليسَ فيها شيءٌ من الصفاتِ يُوجِبُ أنْ تستحقَّ شيئًا من العبادةِ؛ يعرفونَ أنَّ الناسَ يعرفونَ ذلكَ، ويعترفونَ بهِ، فلا أحبَّ إليهم من التزويرِ، وإبقاءِ الأمورِ على علاتِها من غيرِ بحثٍ عن الحقائقِ؛ لأنهم يعرفونَ حقَّ المعرفةِ أنَّ الحقائقَ إذا بانَتْ ظهَرَ للخلقِ بطلانُ ما هم عليهِ، وهذا الذي منهُ يفرونَ.
وهذا المقامُ أيضًا ذكرَهُ اللهُ في آياتٍ متعددةٍ، مثلَ قولهِ:{وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم: 9] ونحوِها من الآياتِ.
وأمَّا قولهُ تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108] فهذا إذا ترتَّبَ على السبِّ المذكورِ سبُّهم للهِ فإنهُ يُترَكُ؛ لما يترتبُ عليهِ من الشرِّ.
* ومن مقاماتِهم المتنوعةِ معَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: أنهم كانوا يقترحونَ الآياتِ بحسبِ أهوائِهم، ويقولونَ: إنْ كنتَ صادقًا فأتنا بعذابِ اللهِ، أو بما تعدُنا، أو أزِلْ عنا جبالَ مكةَ، واجعلْ لنا فيها أنهارًا وعيونًا، وحتى يحصلَ لكَ كذا وكذا مما ذكرَهُ اللهُ عنهم.
فيجيبُهم اللهُ عن هذهِ الأقوالِ بأنَّ رسولَهُ صلى الله عليه وسلم قدْ أيدَهُ اللهُ بالآياتِ، واللهُ أعلمُ بما ينزلُ من آياتهِ، وأعلمُ بما هوَ أنفعُ لهم، وأنهُ قدْ حصلَ المقصودُ من بيانِ صدقهِ، وقامَتِ الأدلةُ والبراهينُ على ذلكَ. فقولُ الجاهلِ الأحمقِ: لوْ كان كذا وكذا، جهلٌ منهُ، وكبرٌ، ومشاغبةٌ محضةٌ.
وتارةً يخبرُهم أنهُ لا يمنعهُ من الإتيانِ بها إلا الإبقاءُ عليهم، وأنها لوْ جاءَتْ لا يؤمنونَ، فعندَ ذلكَ يعاجلُهم اللهُ بالعقابِ.
وتارةً يبينُ لهم أنَّ الرسولَ إنما هوَ نذيرٌ مبينٌ، ليسَ لهُ من الأمرِ شيءٌ، ولا من الآياتِ شيءٌ، وأنَّ هذا من عندِ اللهِ، فطلبُهم من الرسولِ محضُ الظلمِ والعدوانِ، وهذهِ المعاني في القرآنِ كثيرةٌ بأساليبَ متعددةٍ.
وأحيانًا يقدحونَ في الرسولِ قدحًا يعترضونَ فيه على اللهِ، وأنهُ {لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف: 31]، ومحمدٌ ليسَ كذلكَ، وأنكَ -يا محمدُ- لستَ بأَوْلى بفضلِ اللهِ منَّا، فلأيِّ شيءٍ تفضُلُ علينا بالوحيِ، ونحوه من الأقوالِ الناشئةِ عن الحسدِ.
فيجيبُهم اللهُ بذكرِ فضلهِ، وأنَّ فضلَهُ يؤتيهِ مَنْ يشاءُ، وأنهُ أعلمُ حيثُ يجعلُ رسالتَهُ والمحلَّ اللائقَ بها، ويشرحُ لهم من صفاتِ رسولهِ التي يشاهدونَها رأيَ عينٍ ما يعلمونَ هم وغيرُهم أنهُ أعظمُ رجلٍ في العالمِ، وأنهُ ما وُجِدَ ولنْ يوجدَ أحدٌ يقارِبهُ في الكمالِ، مؤيدًا ذلكَ بالأمورِ المحسوسةِ والبراهينِ المسلمةِ، وقدْ أبدَى اللهُ هذهِ المعانيَ وأعادَها معهم في مواضعَ كثيرةٍ.
* ومن مقاماتهِ صلى الله عليه وسلم معَ المؤمنينَ: الرأفةُ العظيمةُ، والرحمةُ لهم، والمحبةُ التامةُ، والقيامُ معهم في كلِّ أمورِهم، وأنهُ لهم
(1)
أرحمُ وأَرْأَفُ من آبائِهم وأمهاتِهم، وأحنى عليهم من كلِّ أحدٍ، كما قالَ تعالى:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)} [التوبة: 128]، {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ
(1)
في (خ): بهم.
وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164)}
[آل عمران: 164]، {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159].
فلم يزَلْ يدعُو إلى التوحيدِ وعقائدِ الدينِ وأصولهِ، ويقررُ ذلكَ بالبراهينِ والآياتِ المتنوعةِ، ويحذرُ من الشركِ والشرورِ كلِّها، منذُ بُعِثَ إلى أنْ استكملَ بعدَ بعثتهِ نحوَ عشرِ سنينَ، وهوَ يدعُو إلى اللهِ على بصيرةٍ.
* ثم أُسرِيَ بهِ من المسجدِ الحرامِ إلى المسجدِ الأقصى؛ ليريَهُ من آياتهِ، وعرجَ بهِ إلى فوقِ السمواتِ السبعِ.
وفرَضَ اللهُ عليهِ الصلواتِ الخمسَ بأوقاتِها وهيئاتِها، وجاءهُ جبريلُ على أثرِها، فعلَّمَهُ أوقاتَها وكيفياتِها، وصلَّى بهِ يومينِ: اليومَ الأولَ صلَّى الصلواتِ الخمسَ في أولِ وقتِها، واليومَ الثاني في آخرِ الوقتِ، وقالَ:«الصلاةُ ما بينَ هذينِ الوقتينِ»
(1)
.
ففُرضَتِ الصلواتُ الخمسُ قبلَ الهجرةِ بنحوِ ثلاثِ سنينَ، ولم يُفرَضِ الأذانُ في ذلكَ الوقتِ، ولا بقيةُ أركانِ الإسلامِ.
وانتشَرَ الإسلامُ في المدينةِ وما حولَها، ومن جملةِ الأسبابِ: أنَّ الأوسَ والخزرجَ كانَ اليهودُ في المدينةِ جيرانًا لهم، وقدْ أخبرُوهم أنهم ينتظرونَ نبيًّا قدْ أظلَّ زمانهُ، وذكرُوا من أوصافهِ ما دلَّهم عليهِ؛ فبادَرَ الأوسُ والخزرجُ لما اجتمعُوا بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم في مكةَ وتيقنُوا أنهُ رسولُ اللهِ، وأما اليهودُ فاستولَى عليهم الشقاءُ والحسدُ، {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} [البقرة: 89].
(1)
الترمذي (149)، وأبو داود (393)، بنحوه.
وكان المسلمونَ في مكةَ في أذًى شديدٍ من قريشٍ، فأَذِنَ لهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم في الهجرةِ أولًا إلى الحبشةِ، ثم لما أسلَمَ كثيرٌ من أهلِ المدينةِ صارَتِ الهجرةُ إلى المدينةِ.
* وحينَ خافَ أهلُ مكةَ من هذهِ الحالِ اجتمعَ ملؤُهم ورؤساؤُهم في دارِ الندوةِ يريدونَ القضاءَ التامَّ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ فاتفقَ رأيُهم أنْ ينتخبُوا من قبائلَ قريشٍ من كلِّ قبيلةٍ رجلًا شجاعًا، فيجتمعونَ ويضربونَهُ بسيوفِهم ضربةً واحدةً، قالُوا: لأجلِ أنْ يتفرَّقَ دمهُ في القبائلِ، فتعجزُ بنو هاشمٍ عن مقاومةِ سائرِ قريشٍ، فيرضونَ بالديةِ، فهم يمكرونَ ويمكرُ اللهُ واللهُ خيرُ الماكرينَ.
فجاءَ الوحيُ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وعزَمَ على الهجرةِ، وأخبَرَ أبا بكرٍ بذلكَ وطلبَ منهُ الصحبةَ، فأجابَهُ إلى ذلكَ، وخرجَ في تلكَ الليلةِ التي اجتمعُوا على الإيقاعِ بهِ، وأمَرَ عليًّا أنْ ينامَ على فراشهِ، وخرجَ هوَ وأبو بكرٍ إلى الغارِ، فلم يزالوا يرصدونَهُ حتى برقَ الفجرُ، فخرجَ إليهم عليٌّ فقالوا: أينَ صاحبُكَ؟ قالَ: لا أدرِي.
ثم ذهبُوا يطلبونَهُ في كلِّ وجهةٍ، وجعلُوا الجِعالاتِ الكثيرةَ لمنْ يأتي بهِ، وكانَ الجبلُ الذي فيه الغارُ قدْ امتلأَ من الخلقِ يطلبونَ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقالَ أبو بكرٍ: يا رسولَ اللهِ، لوْ نظَرَ أحدُهم إلى قدميهِ لأبصَرَنا. فقالَ:«يا أبا بكرٍ، ما ظنُّكَ باثنينِ اللهُ ثالثُهما»
(1)
(1)
البخاري (3653)، ومسلم (2381).
فهاجَرَ إلى المدينةِ واستقرَّ بها، وأُذِنَ لهُ في القتالِ بعدَما كانَ قبلَ الهجرةِ ممنوعًا؛ لحكمةٍ مشاهدةٍ، فقالَ:{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39)} [الحج: 39]، وجعَلَ يُرسلُ السرايا.
* ولما كانتِ السنةُ الثانيةُ فرَضَ اللهُ على العبادِ الزكاةَ والصيامَ، فآياتُ الصيامِ والزكاةِ إنما نزلَتْ في هذا العامِ وقتَ فرضِها، وأما قولهُ تعالى:{وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [فصلت: 6 - 7] فإنَّ المرادَ زكاةُ القلبِ وطهارتهُ بالتوحيدِ وتركِ الشركِ.
* وفي السنةِ الثانيةِ أيضًا كانتْ وقعةُ بدرٍ، وسببُها أنَّ عيرًا لقريشٍ تحملُ تجارةً عظيمةً من الشامِ، خرجَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بمن خفَّ مِنْ أصحابهِ لطلبِها، فخرجَتْ قريشٌ لحمايتِها، وتوافَوا في بدرٍ على غيرِ ميعادٍ، فالعيرُ نجَتْ والنفيرُ التقَوا معَ الرسولِ وأصحابهِ، وكانوا ألفًا كاملي العددِ والخيلِ، والمسلمونَ ثلاثُمائةٍ وبضعةَ عشرَ، على سبعينَ بعيرًا يَعتَقِبُونَها.
فهزَمَ اللهُ المشركينَ هزيمةً عظيمةً: قُتلَتْ سَرَواتُهم وصناديدُهم، وأُسِرَ مَنْ أُسِرَ منهم، وأصابَ المشركينَ مصيبةٌ ما أُصيبوا بمثلِها. وهذهِ الغزوةُ أنزلَ اللهُ فيها وفي تفاصيلِها سورةَ (الأنفال).
وبعدَما رجَعَ إلى المدينةِ منها مظفرًا منصورًا ذلَّ مَنْ بقيَ ممنْ لم يُسلِمْ من الأوسِ والخزرجِ، ودخلَ بعضُهم في الإسلامِ نفاقًا؛ ولذلكَ جميعُ الآياتِ التي نزلَتْ في المنافقينَ إنما كانتْ بعدَ غزوةِ بدرٍ.
* ثم في السنةِ الثالثةِ كانتْ غزوةُ أُحدٍ: غزا المشركونَ وجيَّشُوا الجيوشَ على المسلمينَ، حتى وصلُوا إلى أطرافِ المدينةِ، وخرَجَ إليهم رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بأصحابهِ، وعبَّأَهم ورتَّبَهم، والتقَوا في أُحدٍ عندَ الجبلِ المعروفِ شمالي المدينةِ.
وكانتِ الدائرةُ في أولِ الأمرِ على المشركينَ، ثم لما ترَكَ الرماةُ مركزَهم الذي رتَّبَهم فيه رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وقالَ لهم:«لا تبرَحُوا عنهُ، ظهَرْنا أو غُلبْنا»
(1)
، وجاءتِ الخيلُ معَ تلكَ الثغرةِ وكان ما كان، حصَلَ على المسلمينَ في أُحدٍ مقتلةٌ أكرمَهم اللهُ بالشهادةِ في سبيلهِ.
وذكَرَ اللهُ تفصيلَ هذهِ الغزاةِ في سورةِ (آل عمران)، وبسَطَ متعلقاتِها، فالوقوفُ على هذهِ الغزوةِ من كتبِ السيرِ يعينُ على فهمِ الآياتِ الكثيرةِ التي نزلَتْ فيها كبقيةِ الغزواتِ.
* ثم في السنةِ الرابعةِ تواعَدَ المسلمونَ والمشركونَ فيها في بدرٍ، فجاءَ المسلمونَ لذلكَ الموعدِ، وتخلَّفَ المشركونَ معتذرينَ أنَّ السنةَ مُجدِبةٌ، فكتبَها اللهُ غزوةً للمسلمينَ، {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174)}
[آل عمران: 174].
* ثم في سنةِ خمسٍ كانتْ غزوةُ الخندقِ: اتفقَ أهلُ الحجازِ وأهلُ نجدٍ، وظاهرَهم بنو قريظةَ من اليهودِ على غزوِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وجمعُوا ما يقدرونَ عليهِ من الجنودِ، فاجتمَعَ نحوُ عشرةِ آلافِ مقاتلٍ وقصدوا المدينةَ.
ولما سَمِعَ بهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم خندَقَ على المدينةِ، وخرَجَ المسلمونَ نحوَ الخندقِ.
وجاءَ المشركونَ كما وصفَهم اللهُ بقولهِ: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} [الأحزاب: 10]، ومكثُوا محاصرينَ المدينةَ عدةَ
(1)
البخاري (4043) بنحوه.
أيامٍ، وحالَ الخندقُ بينَهم وبينَ اصطدامِ الجيوشِ، وحصلَ مناوشاتٌ يسيرةٌ بينَ أفرادٍ من الخيلِ، وسبَّبَ اللهُ عدةَ أسبابٍ لانخذالِ المشركينَ، ثم انشمَرُوا إلى ديارِهم.
فلما رجعُوا خائبينَ لم ينالوا ما كانوا جازمينَ على حصولهِ تفرَّغَ النبيُّ- صلى الله عليه وسلم لبني قريظةَ الذينَ ظاهَرُوا المشركينَ بقولِهم وتشجيعِهم على قصدِ المدينةِ، ومظاهرتِهم الفعليةِ، ونقضِهم ما كانَ بينَهم وبينَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ فحاصَرَهم، فنزلُوا على حكمِ سعدِ بنِ معاذٍ، فحكَمَ أنْ تُقتلَ مقاتلتُهم، وتُسبَى ذرارِيهم.
وفي هذهِ الغزوةِ أنزلَ اللهُ صدرَ سورةِ (الأحزاب) من قولهِ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} [الأحزاب: 9]، إلى قولهِ:{وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (27)} [الأحزاب: 27].
* ثم في سنةِ ستٍ من الهجرةِ اعتمَرَ صلى الله عليه وسلم وأصحابُهُ عمرةَ الحديبيةِ، وكانَ البيتُ لا يُصدُّ عنهُ أحدٌ، فعزمَ المشركونَ على صدِّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم عنهُ، ولما بلَغَ الحديبيةَ ورأى المشركينَ قدْ أخذَتْهم الحميةُ الجاهليةُ جازمينَ على القتالِ دخَلَ معهم في صلحٍ؛ لحقنِ الدماءِ في بيتِ اللهِ الحرامِ، ولما في ذلكَ من المصالحِ.
وصارَ الصلحُ على أنْ يرجعَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم عامَهُ هذا، ولا يدخلَ البيتَ، ويكونَ القضاءُ من العامِ القابلِ، وتضعَ الحربُ أوزارَها بينَهم عشرَ سنينَ؛ فكرِهُ جمهورُ المسلمينَ هذا الصلحَ حينَ توهمُوا أنَّ فيه غضاضةً على المسلمينَ، ولم يطَّلعُوا على ما فيه من المصالحِ الكثيرةِ.
فرجَعَ صلى الله عليه وسلم عامَهُ ذلكَ، وقضَى هذهِ العمرةَ في عامِ سبعٍ من الهجرةِ، فأنزَلَ اللهُ في هذهِ القضيةِ سورةَ (الفتح) بأكملِها {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح: 1].
فكانَ هذا الفتحُ لما فيه من الصلحِ الذي تمكَّنَ فيه المسلمونَ من الدعوةِ إلى الإسلامِ، ودخولِ الناسِ في دينِ اللهِ حينَ شاهدُوا ما فيه من الخيرِ والصلاحِ والنورِ.
وقدْ تقدَّمَ أنَّ قصةَ بني قريظةَ دخلَتْ في ضمنِ قصةِ الخندقِ، أما قبيلةُ بني النضيرِ من اليهودِ فإنها قبلَ ذلكَ، حينَ همُّوا بالفتكِ بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم، وكانوا على جانبِ المدينةِ؛ غزاهم صلى الله عليه وسلم، واحتمَوا بحصونِهم، ووعدَهم المنافقونَ حلفاؤُهم بنصرتِهم، فألقى اللهُ الرعبَ في قلوبِهم، وأنزلَهم رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم على أنْ يُجْلَوا عن ديارِهم، ولهم ما حملَتْ إبلُهم، ويدعُوا الأرضَ والعقارَ وما لم تحملْهُ الإبلُ للمسلمينَ؛ فأنزلَ اللهُ في هذهِ القضيةِ أولَ سورةِ (الحشر):{هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ} [الحشر: 2] إلى آخرِ القصةِ.
* وفي سنةِ ثمانٍ من الهجرةِ، وقدْ نقضَ قريشٌ العهدَ الذي بينَهم وبينَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ غزا مكةَ في جندٍ كثيفٍ من المسلمينَ يقارِبُ عشرةَ آلافٍ، فدخلَها فاتحًا لها، ثم تمَّمَها بغزوِ حنينٍ على هَوازِنَ وثَقِيفٍ، فتمَّ بذلكَ نصرُ اللهِ لرسولهِ وللمسلمينَ، وأنزلَ اللهُ في ذلكَ أولَ سورةِ (التوبة).
* وفي سنةِ تسعٍ من الهجرةِ غزا تبوكَ، وأوعَبَ المسلمونَ معهُ، ولم يتخلَّفْ إلا أهلُ الأعذارِ، وأناسٌ من المنافقينَ، وثلاثةٌ من صُلَحاءِ المؤمنينَ: كعبُ بنُ مالكٍ وصاحباهُ.
وكان الوقتُ شديدًا، والحرُّ شديدًا، والعدوُّ كثيرًا، والعسرةُ مشتدةً، فوصَلَ إلى تبوكَ ومكَثَ عشرينَ يومًا ولم يحصُلْ قتالٌ، فرجعَ إلى المدينةِ؛ فأنزلَ اللهُ في هذهِ الغزوةِ
آياتٍ كثيرةً من سورةِ (التوبة)، يذكرُ تعالى تفاصيلَها وشدتَها، ويُثنِي على المؤمنينَ، ويذمُّ المنافقينَ وتخلَّفَهم، ويذكرُ توبتَهُ على النبيِّ والمهاجرينَ والأنصارِ الذينَ اتبعوهُ في ساعةِ العسرةِ، ويَدخلُ معهم الثلاثةُ الذينَ خُلِّفُوا بعدَ توبتِهم وإنابتِهم.
وفي مطاوي هذهِ الغزواتِ يذكُرُ اللهُ آياتِ الجهادِ وفرضَهُ وفضلَهُ وثوابَ أهلهِ، وما للناكلينَ عنهُ من الذلِّ العاجلِ والعقابِ الآجلِ، كما أنهُ في أثناءِ هذهِ المدةِ يُنزلُ اللهُ الأحكامَ الشرعيةَ شيئًا فشيئًا بحسبِ ما تقتضيهِ حكمتهُ.
* وفي سنةِ تسعٍ من الهجرةِ أو سنةِ عشرٍ فرَضَ اللهُ الحجَّ على المسلمينَ، وكانَ
أبو بكرٍ حجَّ بالناسِ سنةَ تسعٍ، ونبذَ إلى المشركينَ عهودَهم، وأتمَّ عهودَ الذينَ لم ينقضُوا.
ثم حجَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بالمسلمينَ سنةَ عشرٍ، واستوعَبَ المسلمينَ معهُ، وأَعلمَهم بمناسكِ الحجِّ والعمرةِ بقولهِ وفعلهِ، وأنزلَ اللهُ الآياتِ التي في الحجِّ وأحكامهِ، وأنزلَ اللهُ يومَ عرفةَ:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3].
فلم يبقَ من العلومِ النافعةِ علمٌ إلا بيَّنَهُ لهم؛ فإنَّ القرآنَ تبيانٌ لكلِّ شيءٍ: فعلومُ الأصولِ، وعلومُ الفروعِ والأحكامِ، وعلومُ الأخلاقِ والآدابِ، وعلومُ الكونِ، وكلُّ ما يحتاجهُ الخلقُ من ذلكَ اليومِ إلى أنْ تقومَ الساعةُ؛ ففي القرآنِ بيانهُ والإرشادُ إليهِ، وهوَ الذي إليهِ المرجعُ في جميعِ الحقائقِ الشرعيةِ والعقليةِ، ومحالٌ وممتنعٌ أنْ يأتيَ علمٌ صحيحٌ -لا محسوس ولا معقول- ينقضُ شيئًا مما جاءَ بهِ القرآنُ؛ فإنهُ {تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42]، {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت: 42]، {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82]، {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9]، {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ}
[الأحزاب: 4]، فهذهِ الآيةُ جمعَتْ بينَ نوعَي العلومِ: فإنَّ العلومَ وسائلُ
(1)
، ومقاصدُ وهوَ الحقُّ الذي يقولهُ اللهُ في كتابهِ وعلى لسانِ رسولهِ؛ ونوعٌ وسائلُ، وهوَ الهدايةُ إلى السبيلِ إلى كلِّ علمٍ وعملٍ.
كما أنَّ قولَهُ تعالى: {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} [الفرقان: 33] جمعَتِ الكمالَ في ألفاظهِ ومعانيهِ:
- فألفاظُهُ أوضحُ الألفاظِ وأبلغُها وأحسنُها تفسيرًا لكلِّ ما تفسِّرهُ من الحقائقِ، بوضوحِها وأحكامِها وقوامِها.
- ومعانيهِ كلُّها حقٌّ.
وذلكَ أنهُ: {تَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} [الأنعام: 115]، {صِدْقًا} في أخبارِها، {وَعَدْلًا} في أحكامِها: أوامرِها ونواهِيها، {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50] فأحكامُهُ على الإطلاقِ أحسنُ الأحكامِ، وأنفعُها للعبادِ، فهذا في شرعهِ ودينهِ، ونظيرهُ في خَلْقهِ:{الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7)} [السجدة: 7].
* وقدْ جمعَ اللهُ في كتابهِ بينَ المتقابلاتِ العامةِ؛ وذلكَ لكمالِ هذا الكتابِ وأحكامهِ كالأمثلةِ السابقةِ، وكما في قولهِ تعالى:
* {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] فإنَّ البرَّ: اسمٌ جامعٌ لكلِّ ما يحبهُ اللهُ ويرضاهُ من العقائدِ والأخلاقِ والأعمالِ. والتقوى: اسمٌ جامعٌ لما يجبُ اتقاؤهُ من جميعِ المآثمِ والمضارِّ؛ ولهذا قالَ: {وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] فالإثمُ: المعاصِي
(1)
في (خ): مسائل.
المتعلقةُ بحقوقِ اللهِ، والعدوانُ: البغيُ على الخلقِ في الدماءِ والأموالِ والأعراضِ والحقوقِ.
* وكذلك قولهُ تعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة: 197] فجمَعَ بينَ زادِ سفرِ الدنيا، وزادِ سفرِ الآخرةِ بالتقوى.
* وكذلكَ قولهُ تعالى: {يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا} [الأعراف: 26] فهذا اللباسُ الحسيُّ الضروريُّ والكماليُّ، ثم قال:{وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف: 26] فهذا اللباسُ المعنويُّ، وإنْ شئتَ قلتَ عن الأولِ: إنهُ لباسُ البدنِ، وعن لباسِ التقوى: إنها لباسُ القلبِ والروحِ.
* وكذلك قولهُ تعالى: {وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا} [الإنسان: 11] جمَعَ لهم بينَ نعيمِ الظاهرِ بالنضرةِ والحسنِ والبهاءِ، ونعيمِ الباطنِ بكمالِ الفرحِ والسرورِ.
* وكذلك قولهُ في صفةِ نساءِ الجنةِ: {فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ} [الرحمن: 70] فوصفهنَّ بجمالِ الباطنِ بحسنِ الخلقِ الكاملِ، وجمالِ الظاهرِ بأنهنَّ حسانُ الوجوهِ وجميعُ الظاهرِ.
* ولما ذكرَ السيرَ الحسيَّ ذكرَ السيرَ المعنويَّ، فقالَ:{وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ} [النحل: 9].
* وكذلك قولهُ: {فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ} [النساء: 71] أي: أفرادًا؛ بدليلِ قولهِ: {أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا} .
* وكذلك قولهُ: {لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16)} [الليل: 15 - 16] كذَّبَ الخبرَ، وتولَّى عن الطاعةِ، التكذيبُ: انحرافُ الباطنِ، والتولي: انحرافُ الظاهرِ. ونظيرهُ قولهُ: {إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48)} [طه: 48].
وضدُّ ذلكَ ما رتبَ اللهُ على الإيمانِ والعملِ الصالحِ من خيرِ الدنيا والآخرةِ؛ فإنَّ الإيمانَ ضدُّ التكذيبِ، والتوليَ ضدُّ الاستقامةِ والعملِ الصالحِ.
* وكذلك قولهُ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]، {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود: 123]، تجمعُ جميعَ ما يُرادُ من العبدِ، فالعبادةُ حقُّ اللهِ على العبدِ، والإعانةُ من ربهِ إسعافهُ بما استعانَ عليهِ من عبوديةِ ربهِ وغيرِها من منافعهِ، فالعبدُ في عبادةٍ للهِ واستعانةٍ بهِ.
* وكذلك قولهُ تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97] فجمَعَ للمؤمنِ العاملِ للصالحاتِ بينَ طيبِ الحياةِ في الدنيا والآخرةِ.
ونظيرُه: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ} [النحل: 30]، {وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ} [النحل: 41]، {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً} [البقرة: 201].
* وكذلك قولهُ: {لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} في مواضعَ، نفَى جميعَ المكروهِ الماضي بنفيِ الحزنِ، والمستقبلِ بنفيِ الخوفِ.
* وكذلك قولهُ تعالى: {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ} [الواقعة: 89] فالروحُ: اسمٌ جامعٌ لنعيمِ القلبِ، والريحانُ: اسمٌ جامعٌ لنعيمِ الأبدانِ؛ وجنةُ نعيمٍ: تجمعُ الأمرينِ.
* وكذلك قولهُ: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي} [طه: 124] أي: القرآنِ الذي أنزلَهُ، {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} جمَعَ له بينَ عذابِ الدنيا، وعذابِ البرزخِ وعذابِ دارِ القرارِ.
* وكذلك قولهُ: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35)} [غافر: 35] أي: متكبرٍ على الحقِّ، جبارٍ على الخلقِ.
ومثلُه: {مُعْتَدٍ أَثِيمٍ} [القلم: 12] أي: معتدٍ في البغيِّ على عبادِ اللهِ، {أَثِيمٍ} أي: متجرئٍ على محارمِ اللهِ.
* وكذلك قولهُ في مواضعَ: {مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} فالوليُّ: الذي يَجلِبُ لمولِّيهِ المنافعَ، والنصيرُ: الذي يدفعُ عنهُ المضارَّ.
فوائد منثورة منوعة غير مرتبة
*
الأمَّةُ:
جاءَ في القرآنِ لعدةِ معاني:
• جاءَ بمعنى: الإمامِ الجامعِ لخصالِ الخيرِ، مثلَ قولهِ:{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} [النحل: 120].
• وبمعنى: الطائفةِ: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر: 24]، وهذا المعنى كثيرٌ.
• وبمعنى: الملةِ والدينِ: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [المؤمنون: 52].
• وبمعنى: المدةِ الطويلةِ: {وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} [يوسف: 45].
*
السلطانُ:
• أكثرُ استعمالهِ في القرآنِ بمعنى: الحجةِ، مثلَ قولهِ:{إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ} [يونس: 68]، {فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [إبراهيم: 10].
• ويأتي بمعنى: المُلْكِ، مثلَ قولهِ:{هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة: 29].
• ويأتي بمعنى: التسلطِ والسيطرةِ، مثلَ قولهِ:{إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100)} [النحل: 99 - 100].
*
اللسان:
ورَدَ في القرآنِ لعدةِ معانٍ:
• ورَدَ بمعنى: الجارحةِ: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ} [القيامة: 16]، و {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ} [الفتح: 11]، وهو كثير.
• وبمعنى: اللغةِ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [إبراهيم: 4]، {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 195].
• وبمعنى: الثناءِ الحسنِ: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} [الشعراء: 84].
*
استوى:
وردَتْ في القرآنِ على ثلاثةِ أوجهٍ:
• تارةً تعدَّى ب (على)، فتدلُّ على العلوِّ والارتفاعِ، مثلَ:{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54]، {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ} [الزخرف: 13].
• وتعدَّى ب (إلى)، فتدلُّ على القصدِ، مثلَ:{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} [البقرة: 29].
• وتأتي بلا تعديةٍ بحرفٍ، فتدلُّ على الكمالِ، ومنهُ قولهُ:{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى} [القصص: 14] أي: كَمُلَ في عقلهِ وأحوالهِ كلِّها.
*
التأويلُ:
• أكثرُ ورودهِ في القرآنِ بمعنى: عاقبةِ الشيءِ وما يؤولُ إليهِ ووقتِ وقوعهِ، مثلَ قولهِ:{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ} [الأعراف: 53] أي: وقوعُ المخبرِ به من العذابِ، {هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ} [يوسف: 100] أي: هذا ما آلَتْ إليه وهذا وقوعُها.
• وقدْ يأتي بمعنى: التفسيرِ، وهوَ قليلٌ، ومنهُ على أحدِ التفسيرينِ:{وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 7] أي: تفسيرَهُ، وعلى القولِ الآخرِ يكونُ من المعنى الأولِ، أي: وما يعلمُ حقيقةَ المخبرِ عنهُ إلا اللهُ وحدَهُ، فعلى هذا المعنى يتعينُ الوقوفُ على {اللَّهُ} ، وعلى المعنى الأولِ الذي بمعنى التفسيرِ يعطفُ عليهِ:{وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} أي:
ما يعلمُ تفسيرَ المتشابهِ الذي يتشابهُ فهمهُ على أذهانِ أكثرِ الناسِ إلا اللهُ وإلا أهلُ العلمِ، فإنهم يعلمونَ تأويلَهُ بهذا المعنى.
*
الغافلُ:
• ورَدَ في القرآنِ بمعنى: الجاهلِ، مثلَ قولهِ:{لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ} [يس: 6].
• وبمعنى: النسيانِ لذكرِ اللهِ ونسيانِ طاعتهِ، كقولهِ:{وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} [الأعراف: 205]، {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا} [الكهف: 28].
* فائدةٌ:
إخبارُ اللهِ أنهُ معَ عبادهِ
يرِدُ في القرآنِ على أحدِ معنيينِ:
• أحدُهما: المعيةُ العامةُ، كقولهِ:{مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ} [المجادلة: 7] أي: هو معهم بعلمهِ وإحاطتهِ.
• الثاني: المعيةُ الخاصةُ، وهيَ أكثرُ ورودًا في القرآنِ، وعلامتُها أنْ يقرنَها اللهُ بالاتصافِ بالأوصافِ التي يحبها، والأعمالِ التي يرتضيها، مثلَ قولهِ:{أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} ، {مَعَ الْمُحْسِنِينَ} ، {مَعَ الصَّابِرِينَ} ، {لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40]، {لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46]. وهذهِ المعيةُ تقتضِي العنايةَ من اللهِ والنصرَ والتأييدَ والتسديدَ، بحسبِ قيامِ العبدِ بذلكَ الوصفِ الذي رُتِّبتْ عليهِ المعيةُ.
* ونظيرُ هذا التقسيمِ:
وصفُ العبادِ بأنهم عبيدٌ للهِ،
يَرِدُ في القرآنِ على نوعينِ:
• نوعٌ عامٌّ، مثلَ قولهِ:{إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93)} [مريم: 93] أي: مُعبَّدًا مملوكًا للهِ.
• والنوعُ الثاني: العبوديةُ الخاصةُ، وهيَ تقتضِي أنَّ العبدَ بمعنى: العابدِ المتعبدِ لربهِ، القائمِ بعبوديتهِ، وذلكَ مثلُ قولهِ:{وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ} [الفرقان: 63]، {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} [الفرقان: 1]، {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر: 36]، فبحسبِ قيامِ العبدِ بعبوديةِ ربهِ تحصلُ له كفايةُ اللهِ.
* ونظيرُ هذا:
القنوتُ،
يردُ في القرآنِ على قسمينِ:
• قنوتٌ عامٌّ، مثلَ قولهِ:{وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (26)} [الروم: 26] أي: الكلُّ عبيدٌ خاضعونَ لربوبيتهِ وتدبيرهِ.
• النوعُ الثاني -وهوَ الأكثرُ في القرآنِ-: القنوتُ الخاصُّ، وهوَ دوامُ الطاعةِ للهِ على وجهِ الخشوعِ، مثلَ قولهِ:{أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا} [الزمر: 9]، {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238]، {يَامَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي} [آل عمران: 43]، {وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ} [الأحزاب: 35]، ونحوها.
* فائدةٌ:
طغيانُ الرئاسةِ وطغيانُ المالِ
يحملانِ صاحبَهما على الكبرِ والبطرِ والبغيِ على الحقِّ وعلى الخلقِ، برهانُ ذلكَ قولهُ تعالى:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ} [البقرة: 258]، وقوله:{إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7)} [العلق: 6 - 7]، فعلَّلَ هذا التجرؤَ والطغيانَ بحصولِ المُلكِ ورؤيتهِ لنفسهِ الاستغناءَ.
أما الموفَّقونَ الأصفياءُ فإنهم في هذهِ الأحوالِ يخضعونَ للهِ، ويعترفونَ لهُ بالنعمةِ، ويزدادُ تواضعُهم؛ ولهذا لما رأى سليمانُ عليه السلام من مُلكهِ مُلكًا كبيرًا، ورأى عرشَ ملكةِ سبأٍ مستقرًّا عندَهُ لم يطغَ ويقُل:(هذا مِنْ حولِي وقوتِي)، ونحوهُ، بلْ قالَ:{قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} [النمل: 40]، وقالَ قبلَ ذلكَ:{رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [النمل: 19].
* فائدةٌ: من الحكمةِ استعمالُ اللِّينِ في معاشرةِ المؤمنينَ، وفي مقامِ الدعوةِ للكافرينَ، كما قالَ تعالى:{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159]، وقالَ:{فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44]، فأمرَ باللِّينِ في هذهِ المواضعِ، وذكَرَ ما يترتبُ عليهِ من المصالحِ.
كما أنَّ من الحكمةِ استعمالَ الغلظةِ في موضعِها، قالَ تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 73]؛ لأنَّ المقامَ هنا مقامٌ لا تفيدُ فيه الدعوةُ، بلْ قدْ تعيَّنَ فيه القتالُ، فالغلظةُ فيه من تمامِ القتالِ.
وقدْ جمعَ اللهُ بينَ الأمرينِ في قولهِ في وصفِ خواصِّ الأمةِ: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29].
* والفرقُ بينَ قولهِ: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56] وبينَ قولهِ: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52] أنَّ هدايةَ الإرشادِ والتعليمِ والبيانِ هيَ التي أثبتَها لرسولهِ، بلْ ولكلِّ مَنْ لهُ تعليمٌ وإرشادٌ للخلقِ، كما قالَ:{وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} [الأنبياء: 73]، وقال:{وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} [الرعد: 7].
وأمَّا هدايةُ التوفيقِ ووضعُ الإيمانِ في القلوبِ فإنها مختصَّةٌ باللهِ، فكما لا يخلقُ ولا يرزقُ ولا يحيي ويميتُ إلا اللهُ، فلا يهدِي إلا اللهُ.
* والفرقُ بينَ التبصرةِ والتذكرةِ في مثلِ قولهِ: {تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} [ق: 8] أنَّ التبصرةَ: هيَ العلمُ بالشيءِ والتبصرُ فيه، والتذكرةَ: هيَ العملُ بالعلمِ اعتقادًا وعملًا.
وتوضيحُ هذا: أنَّ العلمَ التامَّ النافعَ يفتقرُ إلى ثلاثةِ أمورٍ:
• التفكر أولًا في آياتِ اللهِ المتلوةِ والمشهودةِ.
• فإذا تفكَّرَ أدرَكَ ما تفكَّرَ فيه بحسبِ فهمهِ وذكائهِ، فعرَفَ ما تفكَّرَ فيه وفهمَهُ، وهذا هوَ التبصرُ.
• فإذا علمَهُ عَمِلَ بهِ، فإنْ كانَ اعتقادًا وإيمانًا صدَّقَهُ بقلبهِ وأقرَّ بهِ واعترفَ، وإنْ اقتضى عملًا قلبيًّا أو قوليًّا أو بدنيًّا عَمِلَ بهِ، وهذا هوَ التذكرُ، وهوَ التذكرةُ، وحاصلُ ذلكَ هوَ معرفةُ الحقِّ واتباعهُ، ومعرفةُ الباطلِ واجتنابهُ.
* و
الفرقُ بينَ المواضعِ التي وردَ في القرآنِ أنَّ الناسَ لا يتساءلونَ، ولا يتكلمونَ، والمواضعِ التي ذُكِرَ فيها احتجاجُهم وتكلمُهم، وخطابُ بعضِهم لبعضٍ
؛ من وجهينِ:
• أوجههُما: تقييدُ هذهِ المواضعِ بقولهِ: {لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا} [النبأ: 38]، فإثباتُ الكلامِ المتعددِ من الخلقِ يومَ القيامةِ تبعٌ لإذنِ اللهِ لهم في ذلكَ. ونفيُ التساؤلِ والكلامِ في الحالةِ التي لم يؤذَنْ لهم.
• الوجهُ الثاني: ما قالَهُ كثيرٌ من المفسرينَ: إنَّ القيامةَ لها أحوالٌ ومقاماتٌ، ففي بعضِ الأحوالِ والمقاماتِ يتكلمونَ، وفي بعضِها لا يتكلمونَ، وهذا الوجهُ لا ينافي الأولَ، فيُقالُ: هذهِ الأحوالُ والمقاماتُ تبعٌ لإذنِ اللهِ لهم أو عدمهِ.
* و
الفرقُ بينَ إثباتِ اللهِ في القرآنِ الأنسابَ بينَ الناسِ في مواضعَ كثيرةٍ، ونفيِها في مواضعَ:
• أنَّ المواضعَ المنفيةَ المرادُ بها أنَّ الأنسابَ لا تنفعُ، كما أنَّ جميعَ الأسبابِ لا تنفعُ يومَ القيامةِ إلا سببٌ واحدٌ، وهوَ الإيمانُ والعملُ الصالحُ، كما ذكرَهُ في كتابهِ في مواضعَ.
• وأما المواضعُ المثبتةُ فهوَ المطابِقُ للحقيقةِ.
ويُذكَرُ في كلِّ مقامٍ بحسبهِ:
- ففي مقاماتِ الفضلِ والثوابِ: يذكرُ اللهُ فضلَهُ على الجميعِ بإلحاقِ الناقصِ من المؤمنينَ بالكاملِ من غيرِ نقصٍ لدرجةِ الكاملِ، مثلَ قولهِ:{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الطور: 21] أي: ما نقصناهم، ومثلَ:{جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ} [الرعد: 23] ونحوها.
- وفي مقاماتِ العدلِ والعقوبةِ: يذكرُ الأنسابَ وأنها لا تنفعُ، وأنَّ الأمرَ أعظمُ من أنْ يلتفتَ الإنسانُ إلى أقربِ الناسِ إليهِ، مثلَ قولهُ:{يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13)} [المعارج: 11 - 13]، ومثلَ: {يَوْمَ
يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37)} [عبس: 34 - 37].
* ونظيرُ هذا: الإخبارُ عن المجرمينَ:
- أنهم يُسألونَ عن أعمالِهم، وذلكَ على وجهِ إظهارِ العدلِ والتوبيخِ والتقريعِ لهم والفضيحةِ.
- وفي بعضِ المواضعِ
(1)
مثل: {فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ} [الرحمن: 39] أي: لا يحتاجُ في عِلمِ ذلكَ وجزائهِ عليهِ إلى سؤالهِ سؤالَ استعلامٍ؛ لأنها مسطرةٌ عليهم، قدْ حُفظتْ بالشهودِ من الملائكةِ والجوارحِ والأرضِ وغيرِها.
* فائدةٌ:
النفيُ المحضُ لا يكونُ كمالًا
؛ ولهذا في مقاماتِ المدحِ كلُّ نفيٍ في القرآنِ فإنهُ يفيدُ فائدتينِ:
- نفيَ ذلكَ النقصِ المصرَّحِ بهِ.
- وإثباتَ ضدهِ ونقيضهِ.
فيدخلُ في هذا: أشياءُ كثيرةٌ، أعظمُها أنهُ أثنَى على نفسهِ بنفيِ أمورٍ كثيرةٍ تُنافِي كمالَهُ:
• نَفَى الشريكَ في مواضعَ متعددةٍ، فيقتضِي توحدَهُ بالكمالِ المطلقِ، وأنهُ لا شريكَ لهُ في ربوبيتهِ وإلهيتهِ وأسمائهِ وصفاتهِ.
• وسبَّحَ نفسَهُ في مواضعَ، وأخبرَ في مواضعَ عن تسبيحِ المخلوقاتِ، والتسبيحُ: تنزيهُ اللهِ عن كلِّ نقصٍ، وعن أنْ يماثلَهُ أحدٌ، وذلكَ يدلُّ على كمالهِ.
• ونَفَى عن نفسهِ الصاحبةَ والولدَ، ومكافأةَ أحدٍ ومماثلتَهُ، وذلكَ يدلُّ على كمالهِ المطلقِ، وتفردهِ بالوحدانيةِ، والغِنى المطلقِ، والمُلكِ المطلقِ.
• ونَفَى عن نفسهِ السِّنَةَ والنومَ والموتَ؛ لكمالِ حياتهِ وقيوميتهِ.
• ونَفَى كذلكَ الظلمَ في مواضعَ كثيرةٍ، وذلكَ يدلُّ على كمالِ عدلهِ وسعةِ فضلهِ.
(1)
بعدها في (خ): ينفي السؤال.
• ونَفَى أنْ يخفَى عليهِ شيءٌ في الأرضِ ولا في السماءِ، أو يعجزَهُ شيءٌ؛ وذلكَ لإحاطةِ علمهِ وكمالِ قدرتهِ.
• ونَفَى العبثَ في مخلوقاتهِ وفي شرعهِ؛ وذلكَ لكمالِ حكمتهِ، وهذهِ فائدةٌ عظيمةٌ فاحفَظْها في خزانةِ قلبكَ، فإنها خيرُ الكنوزِ وأنفعُها.
• وكذلكَ نَفَى عن كتابهِ القرآنِ الريبَ والعوجَ والشكَّ ونحوَها، وذلكَ يدلُّ على أنهُ الحقُّ في أخبارهِ وأحكامهِ، فأخبارهُ أصدقُ الأخبارِ وأحكمُها وأنفعُها للعبادِ، وأحكامهُ كلُّها محكمةٌ في كمالِ العدلِ والحسنِ والاستقامةِ على الصراطِ المستقيمِ.
• وقالَ عن نبيهِ صلى الله عليه وسلم: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم: 2]، فنَفَى عنهُ: الضلالَ من جميعِ الوجوهِ، وهوَ عدمُ العلمِ، أو قِلَّتهُ، أو نقصهُ، أو عدمُ جودتهِ؛ والغيَّ وهوَ سوءُ القصدِ، فيدلُّ ذلكَ أنهُ أعلمُ الخلقِ على الإطلاقِ، وأهداهم وأعظمُهم علمًا ويقينًا وإيمانًا، وأنهُ أنصحُ الخلقُ للخلقِ، وأعظمُهم إخلاصًا للهِ وطلبًا لما عندهُ، وأبعدُهم عن الأغراضِ الرديئةِ.
• وكذلكَ نَفَى عنهُ كلَّ نقصٍ قالَهُ أعداؤهُ فيه، وأنهُ في الذروةِ العليا من الكمالِ المضادِّ لذلكَ النقصِ.
• وكذلكَ نَفَى اللهُ عن أهلِ الجنةِ الحزنَ والكدرَ والنصبَ واللغوبَ والموتَ وغيرَها من الآفاتِ، فيدلُّ ذلكَ على كمالِ سرورِهم وفرحِهم، واتصالِ نعيمِهم وكمالهِ، وكمالِ حياتِهم، وقوةِ شبابِهم، وكمالِ صحتهم، وتمامِ نعيمِهم الروحيِّ والقلبيِّ والبدنيِّ من كلِّ وجهٍ، وأنهُ لا أعلى منهُ حتى يُطلبَ عنهُ حولًا.
• وعكسُ هذا: ما نَفَى القرآنُ عنهُ صفاتِ الكمالِ، فإنهُ يُثْبَتُ لهُ ضدُّ ذلكَ من النقصِ، كما نَفَى عن آلهةِ المشركينَ جميعَ الكمالاتِ القوليةِ والفعليةِ والذاتيةِ، وذلكَ يدلُّ على نقصِها من كلِّ وجهٍ، وأنها لا تستحقُّ من العبادةِ مثقالَ ذرةٍ.
* فائدةٌ: قولهُ تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} [البقرة: 247] أي: القوةِ والشجاعةِ في هذهِ الآيةِ، على أنَّ المَلِكَ إذا اجتمعَتْ فيه هاتانِ الخصلتانِ: العلمُ بالولايةِ والسياسةِ وحسنِ التدبيرِ، والشجاعةُ والقوةُ؛ فهوَ الذي يَصلحُ للولايةِ والمُلْكِ، وإنْ لم يكنْ من بيتِ المُلكِ ولا ذا مالٍ؛ فإن العبرةَ بجميعِ الولاياتِ إمكانُ إقامتِها والنهوضِ بها على أكملِ الحالاتِ، وولايةُ المُلكِ لا تتمُّ إلا بالعلمِ، والشجاعةِ القلبيةِ والبدنيةِ.
* فائدةٌ: قولهُ تعالى: {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} [البقرة: 189]، يُؤخذُ من عمومِها اللفظيِّ والمعنويِّ: أنَّ كلَّ مطلوبٍ من المطالبِ المهمةِ ينبغِي أنْ يؤتَى من بابهِ، وهوَ أقربُ طريقٍ ووسيلةٍ يتوصَّلُ بها إليهِ، وذلكَ يقتضي معرفةَ الأسبابِ والوسائلِ معرفةً تامةً؛ ليسلكَ الأحسنَ منها والأقربَ والأسهلَ، والأقربَ نجاحًا، لا فرقَ بينَ الأمورِ العلميةِ والعمليةِ، ولا بينَ الأمورِ الدينيةِ والدنيويةِ، ولا بينَ الأمورِ المتعديةِ والقاصرةِ، وهذا من الحكمةِ.
* فائدةٌ: لما ذكرَ اللهُ الأنبياءَ وأثنَى عليهم قالَ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90]، تدلُّ على اتباعِ جميعِ الأنبياءِ في جميعِ هُداهم، واللهُ هَداهم في عقائدِهم وأخلاقِهم وأعمالِهم وأقوالِهم وأفعالِهم، فكلُّ أمرٍ أثنَى اللهُ فيه على أحدٍ من أنبيائهِ من عَقْدٍ أو خلقٍ أو عملٍ فإننا مأمورونَ بالاقتداءِ بهم، وذلكَ من هُداهم وهوَ أيضًا من شريعتِنا، فإنَّ اللهَ أمرَنا بذلكَ، كما أمرَنا بالأوصافِ العامةِ التي تدخلُ فيها مفرداتٌ كثيرةٌ.
* فائدةٌ:
إذا أمرَنا اللهُ في كتابهِ بأمرٍ كانَ أمرًا بذلكَ وبكلِّ أمرٍ لا يتمُّ إلا بهِ،
فالأمرُ مثلًا بالصلاةِ أمرٌ بالطهارةِ وسترِ العورةِ، واجتنابِ النجاسةِ، واستقبالِ القبلةِ، وبجميعِ
شروطِها وأركانِها، وكذلكَ هوَ أمرٌ بمعرفتِها، ومعرفةِ ما لا تتمُّ إلا بهِ، وهذا من أعظمِ الأدلةِ على وجوبِ طلبِ العلمِ؛ فإنَّ المأموراتِ يتوقفُ تكميلُها على معرفتِها.
وكذلكَ إذا نهانا اللهُ عن شيءٍ كان نهيًا عن كلِّ وسيلةٍ تُوصِلُ إليهِ.
والأمرُ بالجهادِ أمرٌ بهِ، وبكلِّ ما يتوقفُ عليهِ في كلِّ زمانٍ ومكانٍ، والأمرُ بتبليغِ الشريعةِ أمرٌ بكلِّ ما يحصلُ بهِ التبليغُ ويتمُّ ويكملُ ويشملُ، ويدخلُ في هذا إيصالُ الأحكامِ الشرعيةِ وتبليغُها للناسِ بجميعِ المقرِّباتِ الحادثةِ.
* فائدةٌ: قدْ أخبرَ اللهُ في عدةِ آياتٍ بهدايتهِ الكفارَ على اختلافِ مللِهم ونحلِهم، وتوبتهِ على كلِّ مجرمٍ، وأخبرَ في آياتٍ أخرَ أنهُ:{لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 258]، {لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [المائدة: 108]، فما الجمعُ بينَها؟
فيُقالُ: قولهُ تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (97)} [يونس: 96 - 97] هيَ الفاصلةُ بينَ مَنْ هداهم اللهُ ومَن لم يهدِهم، فمن حقَّتْ عليهِ كلمةُ العذابِ؛ لعنادِهم، ولعلمِ اللهِ أنهم لا يصلحونَ للهدايةِ، بحيثُ صارَ الظلمُ والفسقُ وصفًا لهم ملازمًا غيرَ قابلٍ للزوالِ، ويُعلَمُ ذلكَ بظاهرِ أحوالِهم وعنادِهم ومكابرتِهم للحقائقِ؛ فهؤلاءِ يطبعُ اللهُ على قلوبِهم، فلا يدخلُها خيرٌ أبدًا، والجرمُ جرمُهم؛ فإنهم رأَوا سبيلَ الرشدِ فزهدُوا فيه، ورأَوا سبيلَ الغيِّ فرغبُوا فيه، واتخذُوا الشياطينَ أولياءَ من دونِ اللهِ.
* فائدةٌ:
وردَ في كثيرٍ من الآياتِ إضافةُ الأمورِ إلى قدرةِ اللهِ ومشيئتهِ وعمومِ خلقهِ، وفي آياتٍ كثيرةٍ إضافتُها إلى عاملِيها وفاعلِيها.
وهذهِ الآياتُ المتنوعةُ تُنزَّلُ على الأصلِ العظيمِ المتفقِ عليهِ بينَ سلفِ الأمةِ، والذي دلَّ عليهِ العقلُ والنقلُ، وهوَ أنَّ جميعَ الأمورِ واقعةٌ بقضاءِ اللهِ وقدرهِ: أعيانِها
وأوصافِها وأفعالِها، وجميعَ ما حدثَ ويحدثُ لا يخرجُ شيءٌ منهُ عن قضائهِ وقدرهِ، ومعَ ذلكَ فقدْ جعلَ اللهُ الحوادثَ تبعًا لأسبابِها، ولإرادةِ الفاعلينَ لها وقدرتِهم عليها.
فالآياتُ المتعددةُ المضافةُ إلى عمومِ قدرهِ تدلُّ على الأصلِ الأولِ، والآياتُ المتعددةُ المضافةُ إلى فاعلِيها تدلُّ على الأصلِ الثاني، ولا منافاةَ بينَهما؛ فإن أعمالَ العبادِ -مثلًا- تقعُ بفعلِهم وإرادتِهم وقدرتِهم، واللهُ خالقُهم وخالقُ قدرتِهم وإرادتِهم، وخالقُ السببِ التامِّ خالقٌ للمسبَّبِ، ومعَ ذلكَ فقدْ جعلَهم في أفعالِهم وتروكِهم مختارينَ غيرَ مجبورينَ.
* فائدةٌ:
يختمُ اللهُ كثيرًا من الآياتِ عندَما يبيِّنُ للعبادِ الأصولَ والأحكامَ النافعةَ؛ بقولهِ: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} ،
وهذا يدلُّ على أمورٍ:
• منها: أنَّ اللهَ يحبُّ منا أنْ نعقلَ أحكامَهُ وإرشاداتهِ وتعليماتهِ، فنحفظُها ونفهمُها ونعقلُها بقلوبِنا، ونؤيدُ هذا العقلَ ونثبتهُ بالعملِ بها.
• ومنها: أنهُ كما يحبُّ منا أنْ نعقلَ هذا الحكمَ الذي بيَّنَهُ بيانًا خاصًّا؛ فإنهُ يحبُّ أنْ نعقلَ بقيةَ ما أنزلَ علينا من الكتابِ والحكمةِ، وأنْ نعقلَ آياتهِ المسموعةَ وآياتهِ المشهودةَ.
• ومنها: أنَّ في هذا أكبرَ دليلٍ على أنَّ معرفةَ ما أنزلَ اللهُ إلينا من أعظمِ ما يربِّي عقولَنا، ويجعلُها عقولًا تفهمُ الحقائقَ النافعةَ والضارةَ، وترجِّحُ هذهِ على هذهِ، ولا تميلُ بها الأهواءُ والأغراضُ والخيالاتُ والخرافاتُ الضارةُ المفسدةُ للعقولِ.
وإذا أردتَ معرفةَ مقاديرِ عقولِ الخلقِ على الحقيقةِ؛ فانظُرْ إلى عقولِ المهتدينَ بهدايةِ القرآنِ والسنةِ، وإلى عقولِ المنحرفينَ عن ذلكَ؛ تجِدِ الفرقَ العظيمَ.
ولا تحسبنَّ العقلَ هوَ الذكاءُ وقوةُ الفطنةِ، والفصاحةُ اللفظيةُ، وكثرةُ القيلِ والقالِ، وإنما العقلُ الصحيحُ أنْ يعقلَ العبدُ في قلبهِ الحقائقَ النافعةَ عقلًا يحيطُ بمعرفتِها، ويميزُ بينَها وبينَ ضدِّها، ويعرفُ الراجحَ من الأمورِ فيؤثِرهُ، والمرجوحَ أو الضارَّ فيتركهُ.
وبعبارةٍ أخرى مختصرةٍ نقولُ: العقلُ هوَ الذي يُعقلُ بهِ العلومُ النافعةُ، ويَعْقِلُ صاحبَهُ ويمنعُهُ من الأمورِ الضارةِ.
* فائدةٌ:
ورَدَ في القرآنِ آياتٌ عامةٌ عُطِفَ عليهِ بعضُ أفرادِها الداخلةِ فيها،
وذلكَ يدلُّ على فضيلةِ المخصوصِ وآكديَّتهِ، وأنَّ لهُ من المزايا ما أوجبَ النصَّ عليهِ، مثلَ قولهِ:{مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: 98]، {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا} [القدر: 4] وهو جبريلُ، {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238]، {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ} [الأعراف: 170] دَخَلَ فيه الدينُ كلُّه، ثم قالَ:{وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ} [الأعراف: 170]، ومثلهُ:{اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ} [العنكبوت: 45] أي: اتَّبِعْهُ، ويدخلُ في ذلك جميعُ الشرائعِ، ثم قال:{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ} [العنكبوت: 45]، وذكَرَ السببَ في ذلكَ.
إلى غيرِ ذلكَ من الآياتِ التي إذا تأملتَ المخصوصَ من العامِّ؛ علمتَ أنَّ ذلكَ لشرفهِ وآكديَّتهِ، وما يترتبُ عليهِ من الثمراتِ الطيبةِ.
* فائدةٌ لطيفةٌ: في عدةِ آياتٍ من القرآنِ إذا ذكَرَ اللهُ الحكمَ لم ينصَّ على نفسِ الحكمِ عليهِ، بلْ يذكرُ من أسمائهِ الحسنى ما إذا عُلِمَ ذلكَ الاسمُ وعُلمَتْ آثارهُ؛ عُلِمَ أنَّ ذلكَ الحكمَ من آثارِ ذلكَ الاسمِ، وهذا إنهاضٌ من اللهِ لعبادهِ أنْ يعرفُوا أسماءَهُ حقَّ المعرفةِ، وأنْ يعلمُوا أنها الأصلُ في الخلقِ والأمرِ، وأنَّ الخلقَ والأمرَ من آثارِ أسمائهِ
الحسنى، وذلكَ مثلُ قولهِ:{فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)} [البقرة: 226 - 227]، فيستفادُ أنَّ الفيئةَ يحبُّها اللهُ، وأنهُ يغفرُ لمن فاءَ ويرحمهُ، وأنَّ الطلاقَ كريهٌ إلى اللهِ، وأما المُؤْلِي إذا طلَّقَ فإنَّ اللهَ تعالى سيجازيهِ على ما فعلَ من السببِ وهوَ الإيلاءُ، والمسبَّبِ وهوَ ما ترتبَ عليهِ.
ومثلُ هذا: قولهُ تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 34] أي: فإنكم إذا عَلِمْتم ذلكَ رفَعْتم عنهُ العقوبةَ المتعلقةَ بحقِّ اللهِ، وهذا كثيرٌ.
وقدْ يصرِّحُ اللهُ بالحكمِ ويعلِّلُهُ بذكرِ الأسماءِ الحسنى المناسبةِ لهُ.
* فائدةٌ: قولهُ تعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31] جمعَ اللهُ فيها أمورًا كثيرةً نافعةً في الدينِ والبدنِ والحالِ والمآلِ:
• فالأمرُ بالأكلِ والشربِ يدلُّ على الوجوبِ، وأنَّ العبدَ لا يحلُّ لهُ تركُ ذلكَ شرعًا، كما لا يتمكنُ من ذلكَ قدرًا ما دامَ عقلهُ معَهُ.
• وأنَّ الأكلَ والشربَ معَ نيةِ امتثالِ أمرِ اللهِ يكونُ عبادةً.
• وأنَّ الأصلَ في جميعِ المأكولاتِ والمشروباتِ الإباحةُ، إلا ما نصَّ الشارعُ على تحريمهِ لضررهِ؛ لإطلاقِ ذلكَ.
• وعلى أنَّ كلَّ أحدٍ يأكلُ ما ينفعهُ ويناسبهُ ويليقُ بهِ، ويوافقُ لغناهُ وفقرهِ، ويوافقُ لصحتهِ ومرضهِ ولعادتهِ وعدمِها، لأنهُ حذَفَ المأكولَ، والآيةُ ساقَها اللهُ لإرشادِ العبادِ إلى منافعِهم، وهيَ تدلُّ على ذلكَ كلِّهِ.
• وعلى أنَّ أصلَ صحةِ البدنِ تدبيرُ الغذاءِ بأنْ يأكلَ ويشربَ ما ينفعهُ، ويُقيمُ صحتَهُ وقوتَهُ.
• وعلى الأمرِ بالاقتصادِ في الغذاءِ، والتدبيرِ الحسنِ؛ لأنهُ لما أمَرَ بالأكلِ والشربِ نهَى عن السَّرَفِ.
• وعلى أنَّ السَّرَفَ منهيٌ عنهُ، وخصوصًا في الأطعمةِ والأشربةِ؛ فإنَّ السَّرَفَ يضرُّ الدينَ والعقلَ والبدنَ والمالَ:
- أما ضررهُ الدينيُّ: فكلُّ مَنْ ارتكَبَ ما نهَى اللهُ ورسولهُ عنهُ فقدْ انجرحَ دينهُ، وعليهِ أنْ يداويَ هذا الجرحَ بالتوبةِ والرجوعِ.
- وأما ضررهُ العقليُّ: فإنَّ العقلَ يحملُ صاحبَهُ أنْ يفعلَ ما ينبغِي على الوجهِ الذي ينبغِي، ويُوجِبُ لهُ أنْ يدبرَ حياتَهُ ومعاشَهُ؛ ولهذا كانَ حسنُ التدبيرِ في المعاشِ مَنْ أبلغِ ما يدلُّ على عقلِ صاحبهِ، فمن تعدَّى الطَّوْرَ النافعَ إلى طَوْرِ الإسرافِ الضارِّ فلا ريبَ أنَّ ذلكَ لنقصِ عقلهِ؛ فإنهُ يستدلُّ على نقصِ العقلِ بسوءِ التدبيرِ.
- وأما ضررهُ البدنيُّ: فإنَّ مَنْ أسرَفَ بكثرةِ المأكولاتِ والمشروباتِ انضرَّ بدنهُ واعتراهُ أمراضٌ خطرةٌ، وكثيرٌ من الأمراضِ إنما تحدثُ بسببِ الإسرافِ في الغذاءِ.
ثم إنهُ ينضرُّ أيضًا من وجهٍ آخرَ، فإنَّ مَنْ عوَّدَ بدنَهُ شيئًا اعتادَهُ، فإذا عوَّدَهُ كثرةَ الأكلِ أو أكلَ الأطعمةِ المتنوعةِ، فربما تعذرَتْ في بعضِ الأحوالِ لفقرٍ أو غيرهِ، وحينئذٍ يفقدُ البدنُ ما كان معتادًا لهُ؛ فتنحرفُ صحتهُ.
- وأما ضررهُ الماليُّ: فظاهرٌ؛ فإنَّ الإسرافَ يستدعِي كثرةَ النفقاتِ؛ ولهذا قالَ تعالى: {وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} [الإسراء: 29] أي: تُلامُ على ما فعلتَ؛ لأنهُ في غيرِ طريقهِ، {مَحْسُورًا}: فارغَ اليدِ.
وإخبارهُ أنهُ: {لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأنعام: 141] دليلٌ على أنهُ يحبُّ المقتصدينَ؛ ففي هذهِ الآيةِ إثباتُ صفةِ المحبةِ للهِ، وأنها تتعلقُ بما يحبهُ اللهُ من الأشخاصِ والأعمالِ والأحوالِ كلِّها.
فسبحانَ مَنْ جعَلَ كتابَهُ كنوزًا للعلومِ النافعةِ المتنوعةِ!
* فائدةٌ:
ذكَرَ اللهُ في كتابهِ عدةَ آياتٍ فيها وصفُ القلوبِ بالمرضِ وبالعمَى وبالقسوةِ، وبجعلِ الموانعِ عليها من الرَّانِ والأكِنَّةِ والحجابِ، وبموتِها، وبحيرتِها.
فاعلَمْ أنَّ القلبَ يكونُ صحيحًا ويكونُ مريضًا، ويجتمعُ فيه المرضُ والموانعُ من وصولِ الصحةِ، وقدْ يكونُ ليِّنًا وقدْ يكونُ قاسيًا.
• فأما القلبُ الصحيحُ: فهوَ السليمُ من جميع هذهِ الآفاتِ، وهوَ القلبُ الذي صحَّتْ وقويَتْ قوتهُ العلميةُ، وقوتهُ العمليةُ الإراديةُ، وهوَ الذي عرفَ الحقَّ فاتبعَهُ بلا ترددٍ، وعرَفَ الباطلَ فاجتنبَهُ بلا توقفٍ، فهذا هوَ القلبُ الصحيحُ الحيُّ السليمُ، وصاحبهُ من أولي النُّهَى وأولي الحِجا وأولي الألبابِ وأولي الأبصارِ، والمخبت للهِ، والمنيب إليهِ.
• وأما القلبُ المريضُ: فهوَ الذي انحرفَتْ أحدُ قوتَيهِ
(1)
العلميةِ أو العمليةِ، أو كليهما:
- فمرضُ الشبهاتِ والشكوكِ الذي هوَ مرضُ المنافقينَ: لما اختلَّ علمُهم وبقيَتْ قلوبُهم في شكوكٍ واضطرابٍ، ولم تتوجَّهْ إلى الخيرِ؛ كان مرضُها مهلكًا.
(1)
في (خ): قوتي قلبه.
- ومرضُ الشهواتِ الذي هوَ ميلُ القلبِ إلى المعاصِي: مخلٌّ بقوةِ القلبِ العمليةِ؛ فإنَّ القلبَ الصحيحَ لا يريدُ ولا يميلُ إلا إلى الخيرِ، أو إلى ما أباحَهُ اللهُ لهُ، فمتى رأيتَ القلبَ ميالًا إلى المعاصِي سريعَ الانقيادِ لها فهوَ مريضٌ، هوَ سريعُ الافتتانِ عندَ وجودِ أسبابِ الفتنةِ، كما قالَ تعالى:{فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب: 32].
• وأما القلبُ القاسِي: فهوَ الذي لا يلينُ لمعرفةِ الحقِّ، وإنْ عرَفَهُ لا يلينُ للانقيادِ لهُ، فتأتيهِ المواعظُ التي تليِّنُ الحديدَ وقلبهُ لا يتأثرُ بذلكَ؛ إما لقسوتهِ الأصليةِ، أو لعقائدَ منحرفةٍ اعتقدَها ورسخَ قلبهُ عليها، وصعُبَ عليهِ الانقيادُ للحقِّ إذا خالفَها، وقدْ يجتمعُ الأمرانِ.
- وأما الرَّانُ والأكنَّةُ والأغطيةُ التي تكونُ على القلوبِ: فإنها من آثارِ كسبِ العبدِ وجرائمهِ، فإذا أعرَضَ عن الحقِّ وعارضَ الحقَّ، وجاءهُ الحقُّ فردَّهُ، وفتَحَ اللهُ لهُ أبوابَ الرشدِ فأغلقَها عن نفسهِ؛ عاقبَهُ اللهُ بهذا العملِ بأنْ سدَّ عنهُ طرقَ الهدايةِ التي كانتْ مفتوحةً لهُ ومتيسرةً فتكبَّرَ عنها وردَّها، فطُبِعَ على قلبهِ وخُتِمَ عليهِ، وأحاطَتْ بهِ الجرائمُ، ورانَتْ عليهِ الذنوبُ وغطَّتْ قلبَهُ، وجَعلَتْ بينَهُ وبينَ الحقِّ حجابًا، وأقفلَتِ القلبَ.
فهذهِ المعاني التي أكثرَ اللهُ من ذكرِها في كتابهِ.
إذا عرفتَ هذهِ الضوابطَ المذكورةَ في هذهِ الفائدةِ؛ اتضحَتْ لكَ معانيها، وعرفتَ بذلكَ حكمةَ اللهِ وعدلَهُ في عقوبةِ هذهِ القلوبِ، وأنَّ اللهَ ولَّاهم ما تولَّوهُ لأنفسِهم ورضوهُ لها.
* فائدةٌ: قولهُ تعالى: {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفتح: 9] جمَعَ اللهُ فيها الحقوقَ الثلاثةَ:
• الحقَّ المختصَّ باللهِ الذي لا يصلحُ لغيرهِ، وهو العبادةُ في قولهِ:{وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} .
• والحقَّ المختصَّ بالرسولِ، وهوَ التوقيرُ والتعزيرُ.
• والحقَّ المشتركَ، وهوَ الإيمانُ باللهِ ورسولهِ.
* فائدةٌ:
ذكَرَ اللهُ اليقينَ في مواضعَ كثيرةٍ من القرآنِ في المحلِّ العالي من الثناءِ:
• أخبرَ أنَّ اليقينَ هوَ غايةُ الرسلِ بقولهِ: {وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} [الأنعام: 75].
• وأنهُ بالصبرِ واليقينِ تُنالُ الإمامةُ في الدينِ.
• وأنَّ الآياتِ إنما ينتفعُ بها الانتفاعَ الكاملَ الموقنونَ.
فحقيقةُ اليقينِ: هوَ العلمُ الثابتُ الراسخُ التامُّ، المثمرُ للعملِ القلبيِّ والعملِ البدنيِّ.
أما آثارُ اليقينِ العلميةُ فثلاثُ مراتبَ:
• علمُ اليقينِ: وهيَ العلومُ الناتجةُ عن الأدلةِ والبراهينِ الصادقةِ الخبريةِ، كجميعِ علومِ أهلِ اليقينِ الحاصلةِ عن خبرِ اللهِ وخبرِ رسولهِ وأخبارِ الصادقينَ.
• وعينُ اليقينِ: وهيَ مشاهدةُ المعلوماتِ بالعينِ حقيقةً، كما طلَبَ الخليلُ إبراهيمُ من ربهِ أنْ يريَهُ كيفَ يحيي الموتى، فأراهُ اللهُ ذلكَ بعينهِ، وغرضهُ عليه السلام الانتقالُ من مرتبةِ علمِ اليقينِ إلى عينِ اليقينِ.
• وحقُّ اليقينِ: وهيَ المعلوماتُ التي تحقَّقُ بالذوقِ، كذوقِ القلبِ لطعمِ الإيمانِ، والذوقِ باللسانِ للأشياءِ المحسَّةِ.
وأما آثارهُ القلبيةُ: فسكونُ القلبِ وطمأنينتهُ، كما قالَ إبراهيمُ:{وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260]، وقالَ صلى الله عليه وسلم:«البرُّ ما اطمأنَّ إليهِ القلبُ»
(1)
، وفي لفظٍ:«الصدقُ ما اطمأنَّ إليهِ القلبُ»
(2)
؛ فإنَّ العبدَ إذا وصلَ إلى درجةِ اليقينِ في علومهِ اطمأنَّ قلبهُ لعقائدِ الإيمانِ كلِّها، واطمأنَّ قلبهُ لحقائقِ الإيمانِ وأحوالهِ التي تدورُ على محبةِ اللهِ وذكرهِ، وهما متلازمانِ، قالَ تعالى:{أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28]، فتسكنُ القلوبُ عندَ الأخبارِ، فلا يبقى في القلبِ شكٌّ ولا ريبٌ في كلِّ خبرٍ أخبرَ اللهُ بهِ في كتابهِ وعلى لسانِ رسولهِ، بلْ يفرحُ بذلكَ مطمئنًا عالمًا أنَّ هذا أعظمُ فائدةٍ حصلَتْها القلوبُ.
ويطمئنُّ عندَ الأوامرِ والنواهي، مكملًا للمأموراتِ، تاركًا للمنهياتِ، راجيًا لثوابِ اللهِ، واثقًا بوعدهِ.
ويطمئنُّ أيضًا عندَ المصائبِ والمكارهِ؛ فيتلقَّاها بانشراحِ صدرٍ واحتسابٍ، ويعلمُ أنها من عندِ اللهِ، فيرضَى ويسلِّمُ، فيخفُّ عليهِ حملُها، ويهونُ عليهِ ثقلُها.
وقدْ عُلِمَ بذلكَ آثارُها البدنيةُ، فإن الأعمالَ البدنيةَ مبنيةٌ على أعمالِ القلوبِ، فأهلُ اليقينِ هم أكملُ الخلقُ في جميعِ صفاتِ الكمالِ، فإن اليقينَ روحُ الأعمالِ والأخلاقِ وحاملُها، واللهُ هوَ الموفقُ الواهبُ لهُ ولأسبابهِ.
(1)
مسند أحمد (29/ 527 رقم 18001).
(2)
لم أقف عليه.
* فائدةٌ:
الظنُّ
ورَدَ في القرآنِ على وجهَينِ: وجهٍ محمودٍ، ووجهٍ مذمومٍ:
• أما المحمودُ: ففي كلِّ مقامِ مدحٍ وجزاءٍ بالخيرِ والثوابِ فإنهُ بمعنى: العلمِ واليقينِ، مثلَ قولهِ تعالى:{الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ} [البقرة: 46] أي: يتيقنونَ ذلك، ومثلَ قولهِ:{إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة: 20].
• وأما المذمومُ: ففي أغلبِ الآياتِ الواردةِ في الظنِّ، مثلَ:{إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} [الأنعام: 116]، و {إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [يونس: 36]، {وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [البقرة: 78]، وهوَ كثيرٌ، فهذا وما أشبهَهُ فيمن قدَّمَ الظنونَ الكاذبةَ على الأخبارِ الصادقةِ؛ لأنَّ الظنَّ في الأصلِ يحتملُ الصدقَ والكذبَ، ولكنهُ إذا ناقضَ الصدقَ قطعْنَا بكذبهِ.
* فائدةٌ: قولهُ تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة: 276]، وقولهُ:{وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} [الروم: 39]، تدلُّ الآيتانِ على أنَّ
الزيادةَ من المحرماتِ، وخصوصًا المكاسبَ المحرمةَ، نقصٌ في البركةِ،
وقدْ ينسحتُ المالُ بذاتهِ عاجلًا أو آجلًا؛ وعلى أنَّ مَنْ أخرجَ شيئًا للهِ أو فعَلَ شيئًا للهِ فإنَّ اللهَ يزيدهُ وينزلُ لهُ البركةَ؛ فإن المالَ وإنْ نقَصَ حسًّا بما يخرجُ منهُ للهِ؛ فإنهُ يزدادُ معنًى ووصفًا، وقدْ يُفتَحُ للعبدِ بسببِ ذلكَ أبوابٌ من الرزقِ، أو يُدفَعُ عن العبدِ من أسبابِ النقصِ ما كانَ بصددِ أنْ يصيبَهُ.
* فائدةٌ: الفرحُ وردَ في القرآنِ محمودًا مأمورًا بهِ في مثلِ قولهِ: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58]، فهذا فرحٌ بالعلمِ والعملِ بالقرآنِ والإسلامِ، وكذلك قولهُ:{فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [آل عمران: 170] فهذا فرحٌ بثوابِ اللهِ.
وورَدَ منهيًّا عنهُ مذمومًا، مثلَ الفرحِ بالباطلِ، وبالرياساتِ، والدنيا المشغلةِ عن الدينِ، في مثلِ قولهِ تعالى:{إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ} [هود: 10]، وقولهِ عن قارونَ:{قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} [القصص: 76]، وما أشبهَ ذلكَ.
فصارَ الفرحُ تبعًا لما تعلَّقَ بهِ:
• إنْ تعلَّقَ بالخيرِ وثمراتهِ فهوَ محمودٌ.
• وإلَّا فهوَ مذمومٌ.
* فائدةٌ: وردَ
السعيُ
في القرآنِ في آياتٍ كثيرةٍ، والمرادُ بهِ: الاهتمامُ والجدُّ في العملِ، مثلَ قولهِ:{وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء: 19]، وقولهِ:{إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9]، وقولهِ:{إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} [الليل: 4]، وآياتٌ كثيرةٌ كلُّها بمعنى: الاهتمامِ للعملِ، إلَّا في مثلِ قولهِ تعالى:{وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى} [القصص: 20]، {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى} [يس: 20] فالمرادُ بذلكَ: العَدْوُ، وهوَ يتضمنُ الأولَ وزيادةً.
* فائدةٌ: أمَرَ اللهُ ب
الصدقِ،
وأثنَى على الصادقينَ، وذكَرَ جزاءَ الصادقينَ في آياتٍ كثيرةٍ، والمرادُ بالصدقِ: أنْ يكونَ العبدُ صادقًا في عقيدتهِ، صادقًا في خلقهِ، صادقًا في قولهِ وعملهِ، فهوَ الذي يجيءُ بالصدقِ في ظاهرهِ وباطنهِ، ويصدِّقُ بالصدقِ لمن جاءَ بهِ، كما قالَ تعالى:{وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [الزمر: 33].
ولما كان مَنْ هذا وصفهُ هوَ أعلى الخَلقِ في كلِّ حالةٍ ذكَرَ جزاءَهُ أعلى الجزاءِ وأفضلَهُ، فقالَ:{لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (35)} [الزمر: 34 - 35].
وخواصُّ أهلِ هذا الوصفِ هم الصديقونَ الذينَ ليسَ بعدَ درجةِ النبوةِ أعلى منهم، قالَ تعالى:{وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ} [الحديد: 19]، والمرادُ: الإيمانُ الكاملُ، كما قالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم لما ذكَرَ لأصحابهِ الغرفَ العاليةَ التي يتراءاها أهلُ الجنةِ من علوِها وارتفاعِها ونورِها كالكوكبِ الدريِّ في الأفقِ الشرقيِّ أو الغربيِّ، فقالوا: يا رسولَ اللهِ، تلكَ منازلُ الأنبياءِ، لا يبلغُها غيُرهم؟ فقالَ:«بلى، والذي نفسي بيدهِ، رجالٌ آمنوا باللهِ وصدَّقُوا المرسلينَ»
(1)
. وهؤلاءِ هم الهداةُ المهديُّونَ كما قالَ تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24].
فالصديقيَّةُ شجرةٌ:
• أصلُها: العلومُ الصحيحةُ والعقائدُ السلفيةُ المأخوذةُ من كتابِ اللهِ وسنةِ رسولهِ.
• وقوامُها وروحُها: الإخلاصُ الكاملُ للهِ، والإنابةُ إليهِ والرجوعُ إليهِ في جميعِ الأحوالِ؛ رغبةً ورهبةً ومحبةً وتعظيمًا وخضوعًا وذلًّا للهِ.
• وثمراتُها: الأخلاقُ الحميدةُ، والأقوالُ السديدةُ، والأعمالُ الصالحةُ، والإحسانُ في عبادةِ الخالقِ، والإحسانُ إلى المخلوقينَ بجميعِ وجوهِ الإحسانِ، وجهادُ جميعِ أصنافِ المنحرفينَ.
فهيَ في الحقيقةِ القيامُ بالدينِ ظاهرًا وباطنًا وحالًا ودعوةً إلى اللهِ، واللهُ هوَ الموفقُ وهوَ المعينُ لكلِّ مَنْ استعانَ بهِ صدقًا.
(1)
البخاري: (3256)، ومسلم:(2831).
* فائدةٌ: قولهُ تعالى في المصطفينَ الذين أورثَهم اللهُ الكتابَ: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} [فاطر: 32]، اشتركَ هؤلاءِ الثلاثةُ في:
- أصلِ الإيمانِ.
- وفي اختيارِ اللهِ لهم من بينِ الخليقةِ.
- وفي أنهُ مَنَّ عليهم بالكتابِ، وفي دخولِ الجنةِ.
وافترقُوا في:
- تكميلِ مراتبِ الإيمانِ.
- وفي مقدارِ الاصطفاءِ من اللهِ، وميراثِ الكتابِ.
- وفي منازلِ الجنةِ ودرجاتِها بحسبِ أوصافِهم.
• أما الظالمُ لنفسهِ: فهوَ المؤمنُ الذي خلَطَ عملًا صالحًا وآخرَ سيئًا، وترَكَ مِنْ واجباتِ الإيمانِ ما لا يزولُ معهُ الإيمانُ بالكليةِ، وهذا القسمُ ينقسمُ إلى قسمينِ:
أحدُهما: مَنْ يَرِدُ القيامةَ وقدْ كُفِّرَ عنهُ السيئاتُ كلُّها، إما بدعاءٍ أو شفاعةٍ أو آثارٍ خيريةٍ ينتفعُ بها في الدنيا، أو عُذِّبَ في البرزخِ بقدرِ ذنوبهِ، ثم رفِعَ عنهُ العقابُ وعَمِلَ الثوابُ عملَهُ، فهذا من أعلى هذا القسمِ، وهوَ الظالمُ لنفسهِ.
القسمُ الثاني: مَنْ ورَدَ القيامةَ وعليهِ سيئاتٌ، فهذا تُوزنُ حسناتهُ وسيئاتهُ، ثم همَ بعدَ هذا ثلاثةُ أنواعٍ:
أحدُها: مَنْ تَرجُحُ حسناتهُ على سيئاتهِ، فهذا لا يدخلُ النارَ، بلْ يدخلُ الجنةَ برحمةِ اللهِ وبحسناتهِ، وهيَ من رحمةِ اللهِ.
ثانِيها: مَنْ تساوَتْ حسناتُهم وسيئاتُهم، فهؤلاءِ هم أصحابُ الأعرافِ، وهيَ موضعٌ مرتفعٌ بينَ الجنةِ والنارِ يكونونَ عليهِ، وفيهِ ما شاءَ اللهُ، ثم بعدَ ذلكَ يدخلونَ الجنةَ، كما وُصِفَ ذلكَ في القرآنِ.
ثالثُها: مَنْ رجحَتْ سيئاتهُ على حسناتهِ، فهذا قدْ استحقَّ دخولَ النارِ، إلا أنْ يمنعَ مِنْ ذلكَ مانعٌ: مِنْ شفاعةِ الرسولِ لهُ، أو شفاعةِ أحدٍ مِنْ أقاربهِ أو معارفهِ ممن يَجعلُ اللهُ لهم في القيامةِ شفاعةً؛ لعلوِّ مقاماتِهم على اللهِ وكرامتِهم عليهِ
(1)
، أو تدركهُ رحمةُ اللهِ المحضةُ بلا واسطةٍ، وإلا فلابدَّ لهُ من دخولِ النارِ يُعذَّبُ فيها بقدرِ ذنوبهِ، ثم مآلهُ إلى الجنةِ.
ولا يبقى في النارِ أحدٌ في قلبهِ أدنى أدنى أدنى مثقالِ حبةِ خردلٍ من إيمانٍ، كما تواترَتْ بذلكَ الأحاديثُ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وأجمعَ عليهِ سلفُ الأمةِ وأئمتُها.
• وأما المقتصدُ: فهوَ الذي أدَّى الواجباتِ وتركَ المحرماتِ، ولم يكثِرْ من نوافلِ العباداتِ، وإذا صدرَ منهُ بعضُ الهفواتِ بادَرَ إلى التوبةِ فعادَ إلى مرتبتهِ، فهؤلاءِ أهلُ اليمينِ، وأما مَنْ كان مِنْ أصحابِ اليمينِ {فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} [الواقعة: 91]، فهؤلاءِ سَلِمُوا من عذابِ البرزخِ وعذابِ النارِ، وسلَّمَ اللهُ لهم إيمانَهم وأعمالَهم، فأدخلَهم بها الجنةَ، كلٌّ على حسبِ مرتبتهِ.
• وأما السابقُ إلى الخيراتِ: فهوَ الذي كمَّلَ مراتبَ الإسلامِ، وقامَ بمرتبةِ الإحسانِ، فعبَدَ اللهَ كأنهُ يراهُ، فإنْ لم يكنْ يراهُ فإنهُ يراهُ، وبذَلَ ما استطاعَ من النفعِ
(1)
بعدها في (خ): أو شفاعة أفراطه.
لعبادِ اللهِ، فكان قلبهُ ملآنَ من محبةِ اللهِ والنصحِ لعبادِ اللهِ، فأدَّى الواجباتِ والمستحباتِ، وتركَ المحرماتِ والمكروهاتِ، وفضولَ المباحاتِ المنقصةِ لدرجتهِ، فهؤلاءِ هم صفوةُ الصفوةِ، وهم المقربونَ في جناتِ النعيمِ إلى اللهِ، وهم أهلُ الفردوسِ الأعلى؛ فإنَّ اللهَ كما أنهُ رحيمٌ واسعُ الرحمةِ، فإنهُ حكيمٌ ينزلُ الأمورَ منازلَها، ويُعطِي كلَّ أحدٍ بحسبِ حالةِ ومقامهِ، فكما كانوا هم السابقينَ في الدنيا إلى كلِّ خيرٍ كانوا في الآخرةِ في أعلى المنازلِ، وكما تخيروا من الأعمالِ أحسنَها جعَلَ اللهُ لهم من الثوابِ أحسنَهُ؛ ولهذا كانتْ عينُ التسنيمِ أعلى أشربةِ أهلِ الجنةِ، يشربُ منها هؤلاءِ المقربونَ صرفًا، وتُمزجُ لأصحابِ اليمينِ مزجًا في بقيةِ أشربةِ الجنةِ، التي لا نقصَ فيها بوجهٍ من الوجوهِ، كما قالَ تعالى:{وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28)} [المطففين: 27 - 28].
وهكذا بقيةُ ألوانِ وأصنافِ نعيمِ الجنةِ، لهؤلاءِ السابقينَ منهُ أعلاهُ وأكملهُ وأنفسهُ، وإنْ كان ليسَ في نعيمِ الجنةِ دنيٌّ ولا نقصٌ ولا كدرٌ بوجهٍ من الوجوهِ، بلْ كلُّ مَنْ تنعَّمَ بأيِّ نعيمٍ من نعيمِها لم يكنْ في قلبهِ شيءٌ أعلى منهُ؛ فإنَّ اللهَ أعطاهم وأرضاهم.
وخيارُ هؤلاءِ الأنبياءُ على مراتبِهم، ثم الصديقونَ على مراتبِهم، ولكلٍّ درجاتٌ مما عملُوا، فسبحانَ مَنْ فاوَتَ بينَ عبادهِ هذا التفاوتَ العظيمَ، واللهُ يختصُّ برحمتهِ مَنْ يشاءُ، واللهُ ذو الفضلِ العظيمِ.
* فائدةٌ: وردَ في القرآنِ
(الظلمُ)
بمعنى:
• الكفرِ والشركِ الأكبرِ، كما قالَ تعالى:{وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 254]، وقال:{إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]، ونحوهما.
• وورَدَ كثيرًا بمعنى: الجرائمِ التي دونِ الشركِ، كما سبقَ في الظالمِ لنفسهِ، ومثلَ:{وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 110]
• وورَدَ أيضًا عدةُ آياتٍ يدخلُ فيها هذا وهذا.
ومثلُ هذا: الفسقُ والمعصيةُ والذنبُ والسيئةُ والجرمُ والخطيئةُ ونحوها، فإنها وردَتْ في القرآنِ لكلِّ واحدٍ من هذهِ الثلاثةِ، فتفسَّرُ في كلِّ مقامٍ بما يناسبُ ذلكَ المقامَ.
* فائدةٌ: قولهُ تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7)} [الليل: 5 - 7] جمعَتِ السعادةَ، وجميعَ الأسبابِ التي تُنالُ بها السعادةُ، وهيَ ثلاثةُ أشياءَ:
• فعلُ المأمورِ.
• واجتنابُ المحظورِ.
• وتصديقُ خبرِ اللهِ ورسولهِ.
فهذهِ الثلاثةُ يدخلُ فيها الدينُ كلُّهُ؛ وذلكَ أنَّ قولَهُ: {أَعْطَى} أي: جميعَ ما أُمِرَ بهِ من قولٍ وعملٍ ونيةٍ، {وَاتَّقَى} جميعَ ما نُهِيَ عنهُ من كفرٍ وفسوقٍ وعصيانٍ، {وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} بما أخبرَ اللهُ بهِ ورسولهُ من الجزاءِ، فصدَّقَ بالتوحيدِ وحقوقهِ وجزاءِ أهلهِ. فمَن جمَعَ ثلاثةَ الأمورِ يسرَهُ اللهُ لليسرَى، أي: لكلِّ حالةٍ فيها تيسيرُ أمورهِ وأحوالهِ كلِّها.
ومقابلُ هذا: قولهُ: {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ} [الليل: 8] أي: تركَ ما أُمِرَ بهِ، ليسَ خاصًّا بالنفقةِ، بلْ معنى البخلِ: المنعُ، فإذا منعَ الواجباتِ المتوجهةَ إليهِ، القوليةَ أو الفعليةَ أو الماليةَ؛ فقدْ بَخِلَ، {وَاسْتَغْنَى} أي: رأَى نفسَهُ غيرَ مفتقرٍ إلى ربهِ، وذلكَ عنوانُ الكبرِ والتجرؤِ على محارمِ اللهِ، {وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى} [الليل: 9] أي: ب (لا إلهَ إلا اللهُ) وحقوقِها،
وجزاءِ المقيمينَ لها، والتاركينَ لها، {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل: 10] أي: لكلِّ حالةٍ عسرةٍ في معاشهِ ومعادهِ.
* فائدةٌ:
خطاباتُ القرآنِ للناسِ خبًرا وأمرًا ونهيًا قسمانِ:
• أحدُهما -وهوَ الأكثرُ جدًّا-: خطابُ عامٌّ يُخاطَبُ بهِ جميعُ الناسِ، ويتعلَّقُ الخبرُ أو الحكمُ فيهم في حالةٍ واحدةٍ، مثلَ الخبرِ عن اللهِ وملائكتهِ وكتبهِ ورسلهِ واليومِ الآخرِ، ومثلَ الأمرِ بالصلاةِ والزكاةِ والصومِ والحجِّ والجهادِ والبرِ والصلةِ والعدلِ، والنهيِ عن ضدِّ ذلكَ؛ وهذا لأنَّ القرآنَ هدايةٌ وبيانٌ للناسِ، وهمُ مستوونَ في تعلقِ تلكَ الأحكامِ فيهم، ما لم يمنَعْ مانعُ عجزٍ عن بعضِ الواجباتِ؛ فيُرتَّبُ عليهِ حكمهُ.
• القسمُ الثاني: الخطابُ العامُّ من جهةٍ، الخاصُّ من جهةٍ أخرى، وذلكَ كالخطابِ المتعلقِ بالعباداتِ المعلقةِ على أوقاتِها، كالأمرِ بالصلواتِ الخمسِ لأوقاتِها، كقولهِ:{أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} [الإسراء: 78]، وبالإمساكِ عن المفطراتِ، مثلَ قولهِ:{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187]، فمن جهةِ أنهُ موجَّهٌ إلى جميعِ المكلفينَ فإنهُ خطابٌ عامٌّ، جميعُ أهلِ المشارقِ والمغاربِ مخاطبونَ بذلكَ، ومن جهةِ أنَّ لكلِّ موضعٍ حكمًا بنفسهِ، فإنهُ معلومٌ أنَّ الوقتَ الذي تطلعُ فيه الشمسُ على هؤلاءِ أو تغربُ، أو يطلعُ الفجرُ أو تزولُ الشمسُ؛ غيرُ الوقتِ الذي تُوجدُ فيه هذهِ الأمورُ عندَ الآخرينَ،
فكلٌّ يُخاطَبُ بحسبِ حالهِ، وحسبِ الموضعِ الذي فيه بلا ريبٍ.
ونظيرُ هذا: الأمرُ باستقبالِ القبلةِ للصلاةِ موجهٌ إلى جميعِ أهلِ الأرضِ، ومعَ ذلكَ فكلُّ قطرٍ ومحلٍّ فلهم جهةٌ يتوصلونَ بها إلى الكعبةِ؛ ولهذا صرَّحَ اللهُ بهذا المعنى بقولهِ:{وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144]، فالمقصودُ واحدٌ، والطرقُ والوسائلُ إلى هذا المقصودِ متباينةٌ، وكلُّ أحدٍ مأمورٌ بطريقهِ الخاصِّ.
ونظيرُ ذلكَ: الإخباراتُ بطلوعِ الشمسِ والقمرِ والكواكبِ وغروبِها، لوْ تحذلقَ جاهلٌ فقالَ: إنَّ مثَل قولهِ: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} [الكهف: 86] أي: في البحرِ برؤيةِ العينِ، وقولهِ:{وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا} [الكهف: 90]: يُنافِي المعلومَ أنَّ الشمسَ والقمرَ والكواكبَ لا تغربُ عن الدنيا بالكليةِ!
فيُقالُ: هذا من الجهلِ والعُجمةِ بمكانٍ سحيقٍ عن الحقائقِ؛ وذلكَ أنَّ اللهَ لم يقلْ: وجدَها تغربُ عن جميعِ الأرضِ أو تطلعُ على جميعِ الأرضِ؛ حتى يكونَ لهذا الجاهلِ اعتراضٌ، بلْ أخبرَ عن غروبِها وطلوعِها عن ذلكَ الموضعِ وذلكَ القطرِ، كما يفهمُ الناسُ كلُّهم سابقًا ولاحقًا، ولا فرقَ بينَ الإخباراتِ والأحكامِ بوجهٍ، ومن المعلومِ أنَّ لكلِّ أهلِ قطرٍ مطلعًا ومغربًا.
فهذهِ الخطاباتُ في الأحكامِ والإخباراتِ في غايةِ الإحكامِ التي لا يتطرقُ إليها اعتراضاتُ المعترضِ، ومَن اعترضَ على شيءٍ من ذلكَ عرفَ الناسُ أنَّ ذلكَ من آثارِ جهلهِ وحمقهِ، وهذا واضحٌ لا يحتاجُ إلى كلِّ هذا، يفهمهُ الذكيُّ والبليدُ، وهذا
(1)
مقتضى كونِ القرآنِ عربيًّا، أنزلهُ اللهُ بما يعقلهُ العبادُ.
* فائدةٌ: ورَدَ في القرآنِ عدةُ آياتٍ فيها
ذكرُ الخلودِ في النارِ على ذنوبٍ وكبائرَ ليستْ بكفرٍ،
مثلَ قولهِ تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93)} [النساء: 93]، {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14)} [النساء: 14]، {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81)} [البقرة: 81].
(1)
بعدها في (خ): من.
فما الجمعُ بينَها وبينَ النصوصِ المتواترةِ من الكتابِ والسنةِ: أنهُ لا يخلدُ في النارِ إلا الكفارُ، وأنَّ جميعَ المؤمنينَ مهما عملُوا من المعاصِي التي دونَ الكفرِ فإنهم لابدَّ أنْ يخرجوا منها؟
فهذهِ الآياتُ قدْ اتفقَ السلفُ على تأويلِها وردِّها إلى هذا الأصلِ المجمعِ عليهِ بينَ سلفِ الأمةِ، وأحسنُ ما يقالُ فيها: إنَّ ذكرَ الخلودِ على بعضِ الذنوبِ التي دونَ الشركِ والكفرِ، أنها من بابِ ذكرِ السببِ، وأنها سببٌ للخلودِ في النارِ لشناعتِها، وأنها بذاتها تُوجِبُ الخلودَ إذا لم يمنَعْ من الخلودِ مانعٌ، ومعلومٌ بالضرورةِ من دينِ الإسلامِ أنَّ الإيمانَ مانعٌ من الخلودِ، فتُنزَّلُ هذهِ النصوصُ على الأصلِ المشهورِ، وهوَ أنهُ لا تتمُّ الأحكامُ إلا بوجودِ شروطِها وأسبابِها، وانتفاءِ موانعها، وهذا واضحٌ وللهِ الحمدُ، معَ أنَّ بعضَ الآياتِ المذكورةِ فيها ما يدلُّ على أنَّ الخطيئةَ المرادُ بها: الكفرُ؛ لأنَّ قولَهُ: {وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} [البقرة: 81] دليلٌ على ذلكَ؛ لأنَّ المعاصيَ التي دونَ الكفرِ
لا تحيطُ بصاحبِها، بلْ لابدَّ أنْ يكونَ معَهُ إيمانٌ يمنعُ من إحاطتِها.
وكذلكَ قولهُ: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا (14)} [النساء: 14] فالمعصيةُ تُطلَقُ على الكفرِ وعلى الكبائرِ وعلى الصغائرِ، ومن المعلومِ أنهُ إذا دخَلَ فيها الكفرُ زالَ الإشكالُ.
* فائدةٌ: ورَدَ في القرآنِ آياتٌ كثيرةٌ فيها مضاعفةُ الحسنةِ بعشرِ أمثالِها، وورَدَ أيضًا آياتٌ أخرُ فيها مضاعفةٌ أكثرُ من ذلكَ، فما وجهُ ذلكَ؟
فيُقالُ: أما مضاعفةُ الحسنةِ بعشرِ أمثالِها فلابدَّ منها في كلِّ عملٍ صالحٍ، كما قالَ تعالى:{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160] في عدةِ آياتٍ.
وأما مضاعفةُ العملِ أكثرُ من ذلكَ فلهُ أسبابٌ: إما متعلقةٌ بنفسِ العاملِ، أو بالعملِ ومزيتهِ، أو نتائجهِ وثمراتهِ، أو بزمانهِ أو مكانهِ:
• فمنْ أعظمِ أسبابِ مضاعفةِ العملِ: إذا حقَّقَ العبدُ في عملهِ الإخلاصَ للمعبودِ، والمتابعةَ للرسولِ، فمضاعفةُ الأعمالِ تبعٌ لما يقومُ بقلبِ العاملِ من قوةِ الإخلاصِ وقوةِ الإيمانِ.
• وكذلكَ من الأسبابِ: إذا كانَ العملُ ناشئًا عن عقيدةٍ صحيحةٍ سلفيةٍ خالصةٍ، متلقاةٍ من الكتابِ والسنةِ، فهذا العبدُ يكونُ اليسيرُ من عملهِ أبرَكَ من الكثيرِ مِنْ عملِ مَنْ ليسَ كذلكَ.
• ومن ذلكَ: تركُ ما تهواهُ النفوسُ من الفواحشِ، معَ قوةِ الداعِي إليها؛ لبرهانِ الإيمانِ والتوكلِ والإخلاصِ.
• ومن أسبابِ المضاعفةِ: أنْ يكونَ العملُ فيه نفعٌ للمسلمينَ وغناءٌ، وذلكَ كالجهادِ في سبيلِ اللهِ: الجهادِ بالحجةِ والبرهانِ، وبالسيفِ والسنانِ، كما قالَ تعالى في نفقاتِ أهلِ هذا الصنفِ:{مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261)} [البقرة: 261].
ويدخلُ في هذا: سلوكُ طريقِ التعليمِ والتعلمِ للعلومِ الشرعيةِ وما يعينُ عليها، وفي الحديثِ:«مَنْ سلَكَ طريقًا يلتمسُ فيه علمًا سهلَ اللهُ لهُ طريقًا إلى الجنةِ»
(1)
.
• ومن ذلكَ: العملُ والسعيُ في المشاريعِ الخيريةِ التي ينتفعُ بها المسلمونَ في دينِهم ودنياهم، ويتسلسلُ نفعُها.
(1)
مسلم (2699).
• ومن ذلكَ: العملُ الذي إذا عملَهُ العبدُ كثرَ مشاركوهُ والمقتدونَ بهِ فيه.
• ومن ذلكَ: إذا كان العملُ لهُ وقعٌ عظيمٌ ونفعٌ كبيرٌ، كإنجاءِ المضطرينَ، وكشفِ كرباتِ المكروبينَ، فكم مِنْ عملٍ من هذا النوعِ هدمَ اللهُ بهِ ذنوبَ العبدِ كلَّها، وأوصلَهُ بهِ إلى رضوانهِ، وقصةُ البَغِيِّ التي سقَتِ الكلبَ الذي كادَ يموتُ من العطشِ شاهدةٌ بذلكَ.
• ومن ذلكَ: علوُّ مقامِ العاملِ عندَ اللهِ، ورفعةُ درجتهِ، كما قالَ تعالى:{يَانِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ} [الأحزاب: 32]، وقولهُ قبلَها:{وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} [الأحزاب: 31].
• ومن ذلكَ: الصدقةُ من كسبٍ طيبٍ، وقوةِ إخلاصٍ.
• ومن ذلكَ: العملُ الواقعُ في زمانٍ فاضلٍ، أو مكانٍ فاضلٍ.
• ومنِ أهمَّ وأعظمِ ما يضاعفُ بهِ العملُ: تحقيقُ مقامِ الإحسانِ في القيامِ بعبوديةِ اللهِ، وفي الحديثِ:«ليسَ لكَ مِنْ صلاتِكَ إلا ما عقلتَ منها»
(1)
، فالصلاةُ والقراءةُ والذكرُ وغيرُها من العباداتِ، إذا كانتْ بقوةِ حضورِ قلبٍ وإيمانٍ كاملٍ فلا ريبَ أنَّ بينَها وبينَ عبادةِ الغافلِ درجاتٍ تنقطعُ دونَها أعناقُ المطيِّ.
وأسبابَ مضاعفةِ الثوابِ كثيرةٌ، ولكنْ نبهْنَا على أصولِها.
ومما هوَ كالمتفقِ عليهِ بينَ العلماءِ الربانيينَ: أنَّ الاتصافَ في جميعِ الأوقاتِ بقوةِ الإخلاصِ للهِ، والنصحِ لعبادِ اللهِ، ومحبةِ الخيرِ للمسلمينَ، معَ اللَّهَج بذكرِ اللهِ - لا يلحقُها شيءٌ من الأعمالِ، وأهلُها سابقونَ لكلِّ فضيلةٍ وأجرٍ وثوابٍ، وبقيةُ الأعمالِ تبعٌ لها، فأهلُ
(1)
لم أقف عليه مرفوعًا للنبي صلى الله عليه وسلم. وعند أبي داود في سننه (796) مرفوعًا: «إن الرجل لينصرف وما كتب له إلا عشر صلاته تسعها ثمنها سبعها سدسها خمسها ربعها ثلثها نصفها» .
الإخلاصِ والإحسانِ والذكرِ هم: {السَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12)} [الواقعة: 10 - 12].
* فائدةٌ: قدْ
أمرَ اللهُ في كتابهِ بالتفكرِ والتدبرِ والنظرِ والتبصرِ،
وغيرِها من الطرقِ التي تُنالُ بها العلومُ، وأثنى على أهلِها، وأخبرَ أنَّ كتابَهُ أُنْزِلَ لهذهِ الحكمِ، وأثنى على العلمِ واليقينِ ومدحَ أهلَهما، ونهَجَ جميعَ طريقٍ يوصلُ إليها.
فاعلَمْ أنَّ الذي يجمعُ أشتاتَ هذهِ الطرقِ وأنواعَها وأجناسَها ثلاثةُ طرقٍ كليةٍ:
• أحدُها: طريقُ الإخباراتِ الصادقةِ.
• والثاني: طريقُ الحسِّ.
• والثالثُ: طريقُ العقلِ.
ووجهُ الحصرِ: أنَّ المعلوماتِ إما أنْ تدركَ بحاسةِ السمعِ أو البصرِ أو اللمسِ أو الذوقِ، وإما أنْ تدركَ بالعقلِ، وإما أنْ تنالَ بالإخبارِ، وكلُّ واحدٍ من هذهِ الثلاثةِ قدْ يقارنُ الآخرَ، وخصوصًا العقلَ والأخبارَ الصادقةَ؛ فإنهما لا يتفارقانِ، وقدْ يكونُ العلمُ ضروريًّا بديهيًّا يضطرُ الإنسانَ إلى علمهِ، والتصديقِ بهِ من غيرِ حاجةٍ إلى زيادةِ نظرٍ وتفكرٍ، وقدْ يكونُ نظريًّا يحتاجُ إلى ذلكَ.
ثم العلمُ بهذهِ الأمورِ مراتبُ متفاوتةٌ، وأعلى درجاتِ العلمِ واليقينِ وأوضحُها وأنفعُها للعبادِ: خبرُ اللهِ، وخبرُ رسلهِ، فإنهُ لا أصدقُ من اللهِ قيلًا، ولا أصدقُ منهُ حديثًا، {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} [الأحزاب: 4]، فكلُّ ما قالَهُ اللهُ وقالَهُ رسولُهُ فهوَ الحقُّ والصدقُ، وماذا بعدَ الحقِّ إلا الضلالُ، وهوَ يهدي إلى كلِّ دليلٍ عقليٍّ ونقليٍّ.
وفي خبرِ اللهِ وخبرِ رسلهِ من البيانِ العظيمِ، والتفصيلاتِ لجميعِ أجناسِ العلومِ النافعةِ؛ ما لا تصلُ إليهِ علومُ الخلائقِ كلِّهم، أولِهم وآخرِهم.
وإذا أردتَ أنْ تعرفَ أنَّ الحقَّ الصحيحَ هوَ ما قالَهُ اللهُ وقالَهُ رسولُهُ، وأنَّ ما ناقضَهُ ونافاهُ فهوَ باطلٌ بلا ريبٍ، مبنيٌّ على جهالاتٍ وموادَّ فاسدةٍ:
• فانظرْ إلى أصولِ الدينِ وقواعدهِ وأسسهِ، كيفَ اتفقَتْ عليها الأدلةُ النقليةُ والعقليةُ والحسيةُ.
• انظرْ إلى توحيدِ اللهِ ووجوبِ تفردهِ وإفرادهِ بالوحدانيةِ، وتوحدهِ بصفاتِ الكمالِ، كيفَ كانتِ الكتبُ السماويةُ مشحونةً منها، بلْ هيَ المقصودُ الأعظمُ منها، وخصوصًا القرآنَ الذي هوَ مِنْ أولهِ إلى آخرهِ يقررُ هذا الأصلَ الذي هوَ أكبرُ الأصولِ وأعظمُها.
• وانظرْ كيفَ اتفقَتْ جميعُ الرسلِ من أولِهم إلى آخرِهم، وخصوصًا إمامَهم وخاتمَهم [محمدًا]
(1)
صلى الله عليه وسلم على تقريرِ توحيدِ اللهِ وتفردهِ بالوحدانيةِ، وسعةِ الصفاتِ وعظمتها: من سعةِ العلمِ والحكمةِ، وعمومِ القدرةِ والإرادةِ، وشمولِ الحمدِ والملكِ والمجدِ والجلالِ والجمالِ والحسنِ، والإحسانِ في أسمائهِ وصفاتهِ وأفعالهِ.
• ثم انظرْ إلى هذا الأصلِ العظيمِ في قلوبِ ساداتِ الخلقِ أولي الألبابِ الكاملةِ والعقولِ التامةِ، كيفَ تجدهُ أعظمَ من كلِّ شيءٍ، وأقوى وأكبرَ من كلِّ شيءٍ، وأوضحَ من كلِّ شيءٍ، وأنهُ مقدمٌ عندَهم على الحقائقِ كلِّها، وأنهم يعلمونَهُ علمًا ضروريًّا بديهيًّا قبلَ الأدلةِ النظريةِ، ويعلمونَ أنَّ كلَّ ما عارضَهُ فهوَ أبطلُ الباطلِ.
(1)
في (خ) و (ط): محمد. والمثبت موافق لقواعد اللغة.
• ثم انظرْ إلى كثرةِ البراهينِ المنقولةِ والمعقولةِ والمحسوسةِ، الشاهدةِ للهِ بالوحدانيةِ.
ففي كلِّ شيءٍ لهُ آيةٌ ** تدلُّ على أنهُ واحدُ
فوجودُ جميعِ الأشياءِ في العالمِ العلويِّ والسفليِّ، وبقاؤُها، وما هيَ عليهِ من الأوصافِ المتنوعةِ؛ كلُّ ذلكَ من الأدلةِ والبراهينِ على وجودِ مبدعِها ومعدِّها وممدِّها بكلِّ ما تحتاجُ إليهِ، ومَن أنكرَ هذا فقدْ باهتَ وكابرَ وأنكرَ أجلَى الأمورِ وأعظمَ الحقائقِ!
ومن هاهنا تعلمُ: أنَّ الماديينَ الملحدينَ أضلُّ الخلقِ وأجهلُهم، وأعظمُهم غرورًا واغترارًا؛ حيثُ اغترُّوا حينَ وقفُوا على بعضِ علومِ الكونِ الأرضيِّ الماديِّ الطبيعيِّ، وقفَتْ عقولُهم القاصرةُ عندَها، واستولَتْ عليهم الحيرةُ، وتكبرُوا بمعارفِهم الضئيلةِ، وقالوا: نثبتُ ما وصلَتْ إليهِ معارفُنا، وننفِي ما سواهُ!
فتعرفُ بهذا: أنَّ نفيَهم هذا جهلٌ وباطلٌ باتفاقِ العقلاءِ؛ فإنَّ مَنْ نفَى ما لا يعرفهُ فقدْ برهَنَ على كذبهِ وافترائهِ، فكما أنَّ مَنْ أثبتَ شيئًا بلا علمٍ فهوَ ضالٌّ غاوٍ، فكذلكَ من نفَى شيئًا بلا علمٍ.
وتعرفُ أيضًا: أنَّ إثباتَهم لعلومِ الطبيعةِ التي عرفُوها وانتهَتْ إليها معارفُهم، أنَّ هذا الإثباتَ منهم قاصرٌ لم يصلُوا إلى غايتهِ وحقيقتهِ، فلم يصلوا بذلكَ إلى خالقِ الطبيعةِ ومبدعِها، ولم يعرفوا المقصودَ من نظامِها وسببيتِها؛ بلْ عرفوا ظاهرًا منها، وهم عن النافعِ غافلونَ، فأثبتُوا بعضَ السببِ وعمُوا عن المقصودِ، وهم في علمِهم هذا حائرونَ، لا تثبتُ لهم قدمٌ على أمرٍ من الأمورِ، ولا تثبتُ لهم نظريةٌ صحيحةٌ مستقيمةٌ، فهمُ دائمًا في خلطٍ وخبطٍ وتناقضٍ، وكلما جاءَهم من البراهينِ الحقِّ ما يبطلُ قولَهم قالوا: هذا من فلتاتِ الطبيعةِ، وكلما برزَ مبرزٌ من فحولِهم وأذكيائِهم ابتكرَ لهُ طريقةً
غيرَ طريقةِ إخوانهِ؛ فصدَقَ عليهم قولهُ تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} [ق: 5]، وقولهُ:{فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (83)} [غافر: 83].
والمقصودُ: أنَّ هذا الأصلَ العظيمَ قدْ دلَّتْ عليهِ جميعُ الأدلةِ بأجناسِها وأنواعِها، ودلَّ عليهِ الشرعُ المحكمُ والقدرُ العامُّ المنظمُ، ولم يقدَحْ فيه إلا هؤلاءِ الضُّلَّالُ الذينَ كان قدحُهم فيه أسقطَ اعتبارَهم، وبرهَنَ على فسادِ عقولِهم.
وانظرْ إلى الأصلِ الثاني وهوَ إثباتُ الرسالةِ، وأنَّ اللهَ قدْ أقامَ على صدقِ رسلهِ من الآياتِ ما على مثلهِ يؤمنُ البشرُ، وخصوصًا [محمدًا]
(1)
صلى الله عليه وسلم، فإنَّ آياتِ نبوتهِ وأدلةَ رسالتهِ وصدقهِ متنوعةٌ:
• سيرتَهُ وأخلاقَهُ.
• وما جاءَ بهِ من الدينِ القويمِ.
• وحثَّهُ على كلِّ خلقٍ كريمٍ، وعملٍ صالحٍ، ونفعٍ وإحسانٍ وعدلٍ.
• ونهيَهُ عن ضدِّ ذلكَ.
• وما جاءَ بهِ من الوحيِ -الكتابِ والسنةِ- كلُّهُ جملةً وتفصيلًا براهينُ على نبوتهِ وصدقهِ.
• معَ ما أكرمَهُ اللهُ بهِ من النصرِ العظيمِ، وإظهارِ دينهِ على الأديانِ كلِّها.
(1)
في (خ) و (ط): محمد. والمثبت موافق لقواعد اللغة.
• ومن إجابةِ الدعواتِ، وحلولِ أنواعِ البركاتِ التي لا تعدُّ أنواعُها، فضلًا عن أفرادهِا.
• وهذا بقطعِ النظرِ عن شهادةِ الكتبِ السابقةِ، وعن عجزِ المعارضينَ لهُ في مقاماتِ التحدِّي كلِّها، وعجزِهم عن نصرِ باطلِهم.
ولا يزالُ الباطلُ بينَ يدي ما جاءَ بهِ الرسولُ مخذولًا زاهقًا، بحيثُ إنَّ القائمينَ بما جاءَ بهِ الرسولُ، القائمينَ بمعرفةِ دينهِ، يتحدونَ جميعَ أهلِ الأرضِ أنْ يأتوا بصلاحٍ أو فلاحٍ أو رقيٍّ حقيقيٍّ أو سعادةٍ حقيقيةٍ بجميعِ وجوهِها، وأنهُ محالٌ أنْ يتوصلَ إلى شيءٍ من ذلكَ بغيرِ ما جاءَ بهِ الرسولُ، وأرشدَ إليهِ ودلَّ الخلقَ عليهِ.
ولولا الجهلُ بما جاءَ بهِ الرسولُ، والتعصباتُ الشديدةُ من الأعداءِ، والمقاوماتُ العنيفةُ، وإقامةُ الحواجزِ المتعددةِ العنيفةِ لمنعِ الجماهيرِ والدهماءِ من رؤيةِ الحقِّ الصريحِ والدينِ الصحيحِ - لم يبقَ على وجهِ الأرضِ دينٌ سوى دينِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم؛ لدعوتهِ وإرشادهِ وحثِّهِ على كلِّ صلاحٍ وإصلاحٍ وخيرٍ ورشدٍ، ولكنَّ مقاوماتِ الأعداءِ، ونصرَ القوةِ للباطلِ بالتمويهاتِ والتزويراتِ، وتقاعدَ أهلِ الدينِ عن القيامِ بهِ ونصرتهِ؛ هيَ التي منعَتْ أكثرَ الخلقِ من الوقوفِ على حقيقتهِ.
ثم انظرْ إلى الأصلِ الثالثِ وهوَ إثباتُ المعادِ والجزاءِ، كيفَ اتفقَتِ الكتبُ السماويةُ، والرسلُ العظامُ، وأتباعُهم على اختلافِ طبقاتِهم وتباينِ أقطارِهم وأزمانِهم وأحوالِهم - على الإيمانِ بهِ والاعترافِ التامِّ بهِ.
وكمَ أقامَ اللهُ عليهِ من الأدلةِ النقليةِ والعقليةِ، وكذلكَ الحسيةُ المشاهدةُ، ما يدلُّ أكبرَ دلالةٍ عليهِ، وكم أشهدَ عبادَهُ في هذهِ الدارِ أنموذجًا من الثوابِ والعقابِ، وأراهم حلولَ المَثُلاتِ بالمكذبينَ، وأنواعِ العقوباتِ الدنيويةِ بالمجرمينَ، كما أراهم نجاةَ
الرسلِ ومَن تبعَهم من المؤمنينَ، وإكرامَهم في الدنيا قبلَ الآخرةِ، وكم أبطلَ اللهُ كلَّ شبهةٍ يقدحُ بها المكذبونَ بالمعادِ، كما أقامَ الأدلةَ على إبطالِ الشبهِ الموجهةِ من المكذبينَ إلى توحيدهِ وصدقِ رسلهِ، وبيَّنَ سفهَهم وفسادَ عقولِهم، وأنهُ ليسَ لهم من المستنداتِ على إنكارِ ذلكَ إلا استبعاداتٌ مجردةٌ، وقياسُ قدرةِ ربِّ العالمينَ على قَدْرِ المخلوقينَ!
والمقصودُ: أنَّ هذهِ الأصولَ العظيمةَ قدْ قامَتِ البراهينُ القواطعُ عليها من كلِّ وجهٍ وبكلِّ اعتبارٍ، وجميعُ الحقائقِ الصحيحةِ غيرِها لمَ يقُمْ على ثبوتِها وعلمِها عُشرُ معشارِ ما قامَ على هذهِ الأصولِ من البراهينِ المتنوعةِ؛ ففي هذا دليلٌ على أنَّ كلَّ مَنْ أثبتَ معلومًا أو حقيقةً من الحقائقِ بطريقٍ عقليٍّ أو خبريٍّ أو حسيٍّ، ثم نفى معَ ذلكَ واحدًا من هذهِ الأصولِ الثلاثةِ التي هيَ أساسُ الدينِ - فقدْ كابرَ عقلَهُ وحسَّهُ وعلمَهُ، ونادَى على نفسهِ بالتناقضِ العظيمِ؛ لأنَّ الطرقَ التي دلَّتْهُ على إثباتِ معلوماتهِ هيَ وأضعافُها، وأضعافُ أضعافِها، وما هوَ أقوى منها وأوضحُ؛ قدْ دلَّتْ على التوحيدِ والرسالةِ والمعادِ.
واعلَمْ أنَّ المعلوماتِ بخبرِ اللهِ وخبرِ رسلهِ عامة يدخلُ فيها الإخبارُ عن اللهِ وعن ملائكتهِ وعن الغيوبِ كلِّها، وأمورُ الشرعِ والقدرِ، وهيَ الأخبارُ المعصومةُ الصادقةُ التي يُعلمُ كذبُ ما خالفَها وبطلانهُ، ولنكتفِ بهذا الأنموذجِ من الأمثلةِ، واللهُ أعلمُ.
وبعد هذا: إخبارُ الصادقينَ عن المواضعِ والحوادثِ والوقائعِ التي شاهدُوها، وهذا النوعُ بحسبِ صدقِ المخبرينَ وتواترِ خبرِهم يُفيدُ العلمَ القطعيَّ، وكذلكَ إخبارُ الصادقينَ عن العلومِ التي سمعُوها، والألفاظِ التي نقلوها، وأصدقُ الناقلينَ هنا حملةُ الشريعةِ المحمديةِ؛ لشدةِ عنايتِهم، وكمالِ صدقِهم، وقوةِ دينِهم، وأنهم بالخصوصِ حُفظوا عن الخطأِ العموميِّ، والاتفاقِ على غيرِ الصوابِ.
ومنْ الأمورِ التي تُعلمُ بالعقلِ: أنَّ العقولَ الصحيحةَ التي لم تُغيَّرْ فطرتُها، ولم تُفسَدْ بالعقائدِ الفاسدةِ؛ تَعلمُ علمًا يقينًا حسنَ التوحيدِ والإخلاصِ للهِ، كما تَعلمُ قبحَ الشركِ، وتَعلمُ حسنَ الصدقِ والعدلِ والإحسانِ إلى المخلوقينَ، كما تَعلمُ قبحَ ضدِّهِ، وتَعلمُ وجوبَ شكرِ المنعم، ووجوبَ برِّ الوالدينِ، وصلةِ الأقاربِ، والقيامِ بحقِّ مَنْ لهُ حقٌّ عليكَ، وتستحسنُ كلَّ صلاحٍ وإصلاحٍ، وتستقبحُ كلَّ فسادٍ وضررٍ.
ومن أشرفِ ما يُعلمُ بالعقلِ أنهُ مركوزٌ في العقولِ: أنَّ الكمالَ المطلقَ للهِ وحدَهُ، وأنَّ لهُ الحكمةَ التامةَ في خلقهِ وشرعهِ، وأنهُ لا يليقُ بهِ أنْ يتركَ خلقَهُ سدًى لا يُؤمَرونَ ولا يُنهَونَ، ولا يُثابونَ ولا يُعاقَبونَ.
ومن المعلومِ بالحسِّ: ما يُدرَكُ بالحواسِّ:
- كسمعِ الأصواتِ وإبصارِ الأعيانِ، وهوَ من أتمِّ المعارفِ، فإنهُ ليسَ الخبرُ كالمعاينةِ.
- ومما يُدرَكُ بالحسِّ ما يُدرَكُ بالشمِّ، كشمِّ الروائحِ الطيبةِ والخبيثةِ.
- وما يُدرَكُ باللمسِ، كالحرارةِ والبرودةِ.
- وما يُدرَكُ بتحليلِ الأشياءِ والوقوفِ على موادِّها وجواهرِها وصفاتِها.
كلُّ هذا من مدركاتِ الحسِّ.
وبالجملةِ: فطرقُ العلمِ إلى المعلوماتِ كثيرةٌ جدًّا، وكلما كانَ الشيءُ أعظمَ ومعرفتَهُ أهمَّ كانتِ الطرقُ الموصلةُ إليهِ أكثرَ وأوضحَ وأصحَّ وأقوى، كما تقدمَتِ الإشارةُ إلى التوحيدِ والرسالةِ والمعادِ، واللهُ أعلمُ.
* فائدةٌ: لما ذكرَ البارِي نعمتَهُ على العبادِ بتيسيرِ الركوبِ للأنعامِ والفلكِ قالَ: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ (14)} [الزخرف: 13 - 14]، ذكرَ فيها
أركانَ الشكرِ الثلاثةَ:
• وهيَ الاعترافُ والتذكرُ لنعمةِ اللهِ، والتحدثُ بها.
• والثناءُ على اللهِ بها.
• والخضوعُ للهِ والاستعانةُ بها على عبادتهِ؛ لأنَّ المقصودَ من قولهِ: {وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ} [الزخرف: 14] الاعترافُ بالجزاءِ، والاستعدادُ لهُ، وأنَّ المقصودَ من هذهِ النعمِ أنْ تكونَ عونًا للعبدِ على ما خُلِقَ لهُ من طاعةِ اللهِ.
وفي قولهِ: {ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ} [الزخرف: 13] تقييدُها في هذهِ الحالةِ وقتَ تبوُّءِ النعمةِ؛ لأنَّ كثيرًا من الخلقِ تسكِرُهم النعمُ، وتُغفلُهم عن اللهِ، وتُوجبُ لهم الأشرَ والبطرَ، فهذهِ الحالةُ التي أمرَ اللهُ بها هيَ دواءُ هذا الداءِ المهلكِ، فإنهُ متى ذكرَ العبدُ أنهُ مغمورٌ بنعمِ اللهِ، وأنَّ أصولَها، وتيسيرَها وتيسيرَ أسبابِها، وبقاءَها، ودفعَ ما يضادُّها أو ينقصُها؛ كلُّهُ من فضلِ اللهِ وإحسانهِ، ليسَ من العبدِ
شيءٌ - خضعَ للهِ وذلَّ، وشكرَهُ وأثنَى عليهِ، وبهذا تدومُ النعمةُ ويباركُ اللهُ فيها، وتكون نعمةً حقيقيةً.
فأمَّا إذا قابلَها بالأشرِ والبطرِ، ونَسِيَ المنعمَ، وربما تكبرَ بها على عبادِ اللهِ، فهذهِ نقمةٌ في صورةِ نعمةٍ، وهيَ استدراجٌ من اللهِ للعبدِ، سريعةُ الزوالِ، وشيكةٌ بالعقابِ عليها والنكالِ، نسألُ اللهُ أنْ يوزعَنا شكرَ نعمهِ.
* فائدةٌ -بلْ فوائدُ عظيمةٌ- في ذكرِ شيءٍ من
الأسبابِ التي ذكرَها اللهُ في كتابهِ، موصلة إلى المطالبِ العاليةِ:
لا ريبَ أنَّ من حكمةِ اللهِ ورحمتهِ أنهُ جعلَ العبادَ مفتقرينَ إلى جلبِ المنافعِ الدينيةِ والدنيويةِ، وإلى دفعِ المضارِّ الدينيةِ والدنيويةِ، فاقتضَتْ حكمتهُ وسنتهُ التي لا تتبدلُ أنَّ هذهِ المنافعَ المتنوعةَ -وخصوصًا الأمورَ العظامَ- لا تحصلُ إلا بالسعيِ بأسبابِها الموصلةِ إليها، وكذلكَ المضارُّ لا تندفعُ إلا بالسعيِ بالأسبابِ التي تدفعُها، وقدْ بيَّنَ في كتابهِ غايةَ التبيينِ هذهِ الأسبابَ، وأرشدَ العبادَ إليها، فمن سلكَها فازَ بالمطلوبِ، ونجا من كلِّ مرهوبٍ.
• فأصلُ الأسبابِ كلِّها: الإيمانُ والعملُ الصالحُ، جعلَ اللهُ خيراتِ الدنيا والآخرةِ وحصولَها بحسبِ قيامِ العبدِ بهذينِ الأمرينِ، وقدْ ذكرَ اللهُ في القرآنِ من هذا شيئًا كثيرًا جدًّا، وقدْ تقدَّمَ في هذا الكتابِ شيءٌ من ذلكَ عندَ ذكرِ فوائدِ الإيمانِ
(1)
.
• وجعلَ اللهُ القيامَ بالعبوديةِ والتوكلِ سببًا لكفايةِ اللهِ للعبدِ جميعَ مطالبهِ، شاهدهُ قولهُ تعالى:{وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3]، {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر: 36] أي: بمن يقومُ بعبوديتهِ ظاهرًا وباطنًا.
• وجعلَ اللهُ التقوى والسعيَ والحركةَ سببًا للرزقِ، شاهدهُ قولهُ تعالى:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2 - 3]، وقولهُ:{فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [الملك: 15].
• وجعلَ اللهُ التقوى والإيمانَ وتكرارَ دعوةِ ذي النونِ سببًا للخروجِ من كلِّ كربٍ وضيقٍ وشدةٍ، شاهدهُ الآيةُ السابقةُ، وكذلكَ قولهُ:{وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)} [الأنبياء: 87 - 88].
(1)
انظر: (ص: 55) من هذا الكتاب.
• وجعلَ اللهُ الدعاءَ والطمعَ في فضلهِ سببًا لحصولِ جميعِ المطالبِ، دليلهُ قولهُ تعالى:{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60]، وقولهُ:{وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 56].
• وجعلَ اللهُ الإحسانَ في عبادةِ الخالقِ، والإحسانَ إلى الخلقِ سببًا يُدرَكُ بهِ فضلهُ وإحسانهُ العاجلُ والآجلُ، شاهدهُ الآيةُ السابقةُ:{إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 56] وقولهُ: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} [الرحمن: 60]، {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195]، ومَن أحبَّهُ اللهُ نالَ جميعَ ما يَطلبُ.
• وجعلَ اللهُ التوبةَ والاستغفارَ والإيمانَ والحسناتِ والمصائبَ معَ الصبرِ عليها أسبابًا لمحوِ الذنوبِ والخطايا، شاهدهُ قولهُ تعالى:{وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (82)} [طه: 82]، {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114]، {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 90].
• وجعلَ اللهُ الصبرَ سببًا وآلةً تُدرَكُ بها الخيراتُ، ويستدفعُ بها الكريهاتُ، شاهدهُ الآيةُ السابقةُ، وقولهُ:{وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} [البقرة: 45] أي: على جميعِ أمورِكم.
ولما ذكرَ اللهُ ما وصلَ إليهِ أهلُ الجنةِ من كمالِ النعيمِ، وزوالِ كلِّ محذورٍ؛ ذكرَ أنَّ هذا أثرُ صبرِهم، فقالَ:{سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ} [الرعد: 24]، {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا} [الفرقان: 75].
ومنه: أنهُ جعَلَ الصبرَ واليقينَ تُنالُ بهما أعلى المقاماتِ، وهيَ الإمامةُ في الدينِ، دليلهُ قولهُ تعالى:{وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24)} [السجدة: 24].
• وجعلَ اللهُ مفتاحَ العلمِ حسنَ السؤالِ، وحسنَ الإنصاتِ، والتعلمَ، والتقوى، وحسنَ القصدِ، شاهدهُ قولهُ تعالى:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]، {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ} [المائدة: 101]، وقولهُ:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال: 29] أي: نورًا وعلمًا تفرقونَ بهِ بينَ الحقائقِ كلِّها، وقولهُ:{يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ} [المائدة: 16]، وقولهُ:{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69] الآية.
• وجعلَ اللهُ الاستعدادَ للأعداءِ بكلِّ مستطاعٍ من القوةِ، وأخذَ الحذرِ منهم؛ سببًا لحصولِ النصرِ والسلامةِ من شرورِهم، شاهدهُ قولهُ تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء: 71]، وقولهُ:{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60].
• وجعلَ اللهُ اليسرَ يَتبعُ العسرَ، والفرجَ عندَ اشتدادِ الكربِ، شاهدهُ قولهُ تعالى:{إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: 6]، {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} [الطلاق: 7]، {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النمل: 62].
• وجعلَ اللهُ الشكرَ سببًا للمزيدِ منها ومن غيرِها، وكفرانَ النعمِ سببًا لزوالِها، شاهدهُ قولهُ تعالى:{لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7].
• وجعلَ اللهُ الصبرَ والتقوى سببًا للعواقبِ الحميدةِ، والمنازلِ الرفيعةِ، شاهدهُ قولهُ تعالى:{وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف: 128]، {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 90].
• وجعلَ اللهُ الجهادَ سببًا للنصرِ، وحصولِ الأغراضِ المطلوبةِ من الأعداءِ، والوقايةِ من شرورِهم، شاهدهُ قولهُ تعالى:{قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 14]، {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 84].
• وجعلَ اللهُ لمحبتهِ التي هيَ أعلى ما نالَهُ العبادُ أسبابًا، أهمُّها وأعظمُها متابعةُ رسولهِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم في الأقوالِ والأفعالِ وسائرِ الأحوالِ، قالَ تعالى:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31].
ومن أسبابِها: ما ذكرَهُ بقولهِ: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 146]، {يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195]، {يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 76]، {يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف: 4].
• وجعلَ اللهُ النظرَ إلى النعمِ والفضلِ الذي أُعطِيَهُ العبدُ، وغضَّ النظرِ مما لم يُعطَهُ؛ سببًا للقناعةِ، شاهدهُ قولهُ تعالى:{يَامُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144)} [الأعراف: 144].
• وجعلَ اللهُ القيامَ بالعدلِ في الأمورِ كلِّها سببًا لصلاحِ الأحوالِ، وضدَّهُ سببًا لفسادِها واختلافِها، شاهدهُ قولهُ تعالى:{وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9)} [الرحمن: 7 - 9].
• وجعلَ اللهُ كمالَ إخلاصِ العبدِ لربهِ سببًا يَدفعُ بهِ عنهُ المعاصِيَ وأسبابَها وأنواعَ الفتنِ، شاهدهُ قولهُ تعالى:{كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف: 24].
• وجعلَ اللهُ قوةَ التوكلِ عليهِ معَ الإيمانِ حصنًا حصينًا يَمنعُ العبدَ من تسلطِ الشيطانِ، خصوصًا إذا انضمَّ إلى ذلكَ الإكثارُ من ذكرِ اللهِ، والاستعاذةُ باللهِ من الشيطانِ، شاهدهُ قولهُ تعالى:{إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [النحل: 99]، وقال:{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1)} [الفلق: 1]، و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1)} [الناس: 1] إلى آخرِهما.
• وجعلَ اللهُ مفتاحَ الإيمانِ واليقينِ التفكرَ في آياتِ اللهِ المتلوةِ، وآياتهِ المشهودةِ، والمقابلةَ بينَ الحقِّ والباطلِ بحسنِ فهمٍ وقوةِ بصيرةٍ، شاهدهُ قولهُ تعالى:{كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29)} [ص: 29]، والأمرُ بالتفكرِ بالمخلوقاتِ في عدةِ آياتٍ، وقولهُ:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77)} [الحجر: 77] فهيَ سببٌ للإيمانِ، والإيمانُ موجِبٌ للانتفاعِ بها.
• وجعلَ اللهُ القيامَ بأمورِ الدينِ سببًا لتيسيرِ الأمورِ، وعدمَ القيامِ بها سببًا للتعسيرِ، شاهدهُ قولهُ تعالى:{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10)} [الليل: 5 - 10].
• وجعلَ اللهُ العلمَ النافعَ سببًا للرفعةِ في الدنيا والآخرةِ، شاهدهُ قولهُ تعالى:{يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11].
• وجعلَ اللهُ كونَ العبدِ طيبًا في عقيدتهِ وخلقهِ وعملهِ سببًا لدخولِ الجنةِ، وللبشارةِ عندَ الموتِ، شاهدهُ قولهُ تعالى:{طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر: 73]، وقولهُ:{الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ} [النحل: 32].
• وجعلَ اللهُ مقابلةَ المسيءِ بالإحسانِ وحسن الخلقِ سببًا يكونُ بهِ العدوُّ صديقًا، وتتمكنُ فيه صداقةُ الصديقِ، دليلهُ قولهُ تعالى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي
هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34)} [فصلت: 34]، {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159]، وبذلكَ تحصلُ الراحةُ للعبدِ، وتتيسرُ لهُ كثيرٌ من أحوالهِ.
• وجعلَ اللهُ الإنفاقَ في محلِّهِ سببًا للخلفِ العاجلِ والثوابِ الآجلِ، شاهدهُ قولهُ تعالى:{وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ: 39].
• وجعلَ اللهُ لرزقهِ أبوابًا وأسبابًا متنوعةً، فمتى انغلقَ عن العبدِ بابٌ منها
فلا يحزنُ؛ فإنَّ اللهَ يفتحُ لهُ غيرَهُ، وقدْ يكونُ أقوى منهُ وأحسنَ، وقدْ يكونُ مثلَهُ ودونَهُ، شاهدهُ قولهُ تعالى:{وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ} [النساء: 130]، وقولهُ:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [التوبة: 28] الآية.
• وجعلَ اللهُ التحرزَ والبعدَ عن الموبقاتِ المهلكةِ، والحذرَ من وسائلِها؛ طريقًا سهلًا هينًا لتركِها، شاهدهُ قولهُ تعالى:{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} [البقرة: 187] أي: محارمُهُ،
{فَلَا تَقْرَبُوهَا} [البقرة: 187] أي: لا تفعلُوها ولا تحومُوا حولَها؛ فمَن رعَى حولَ الحِمَى يوشك أنْ يقعَ فيه.
وإذا قيلَ مثل هذهِ الآيةِ: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا} [البقرة: 187] كان المرادُ بالحدودِ: المحارمَ، وأما إذا قيلَ:{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا} [البقرة: 229] فهذهِ الحدودُ التي حدَّدَها اللهُ للمباحاتِ، فعلى العبدِ ألَّا يتجاوزَها؛ لأنهُ إذا تجاوزَ المباحَ وقعَ في المحرمِ، فافهمِ الفرقَ بينَ الأمرينِ.
• وجعلَ اللهُ السببَ الوحيدَ القويَّ المثمرَ للثمراتِ الجليلةِ للدعوةِ إلى سبيلهِ؛ هوَ ما تضمنَتْهُ هذهِ الآيةُ: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]:
- فالحكمةُ: وضعُ الدعوةِ في موضعِها، ودعايةُ كلِّ أحدٍ بحسبِ ما يليقُ بحالهِ ويناسبهُ، ويكونُ أقربَ لحصولِ المقصودِ منهُ.
- والموعظةُ الحسنةُ: البالغةُ في الحسنِ مبلغًا يصيرُ لها من التأثيرِ وسرعةِ الانقيادِ ما يناسبُ مقتضى الحالِ.
فالموعظةُ: بيانُ الأحكامِ معَ ذكرِ ما يقترنُ بها من الترغيبِ في ذكرِ مصالِحها ومنافعِها وخيراتِها الحاملةِ عليها، وذكرِ ما يقترنُ بها من الترهيبِ على فاعلِ المحرماتِ، أو تاركِ الواجباتِ، من العقوباتِ والخسرانِ والحسراتِ، وحرمانِ الخيرِ العاجلِ والآجلِ.
- والمجادلةُ بالتي هيَ أحسنُ: بالعباراتِ الواضحةِ والبراهينِ البينةِ التي تحققُ الحقَّ وتبطلُ الباطلَ، معَ الرفقِ واللينِ وعدمِ المغاضبةِ والمشاتمةِ.
وقدْ علمَ اللهُ معَ ذلكَ أنَّ الناسَ ثلاثةُ أقسامٍ، كلٌّ يُدعَى بالطريقِ التي تناسبهُ:
- القسمُ الأولُ: المنقادونَ الملتزمونَ الراغبونَ في الخيرِ، الراهبونَ من الشرِّ، فهؤلاءِ لِما عندَهم من الاستعدادِ لفعلِ المأموراتِ، وتركِ المنهياتِ، والاشتياقِ إلى الاعتقادِ الصحيحِ؛ فقطْ يُكتفَى ببيانِ الأمورِ الدينيةِ لهم، والتعليمِ المحضِ.
- والقسمُ الثاني: الذينَ عندَهم غفلةٌ وإعراضٌ، واشتغالٌ بأمورٍ صادَّةٍ عن الحقِّ؛ فهؤلاءِ معَ هذا التعليمِ يُدعونَ بالموعظةِ الحسنةِ بالترغيبِ والترهيبِ؛ لأنَّ النفوسَ
لا تلتفتُ إلى منافعِها، ولا تتركُ أغراضَها الصادَّةَ لها عن الحقِّ علمًا وعملًا؛ إلا معَ البيانِ لها أنْ ترغَّبَ وترهَّبَ بذكرِ ما يترتبُ على الحقِّ من المنافعِ، وعلى الباطلِ من المضارِّ، والموازنةِ بينَ الأمورِ النافعةِ والضارةِ.
- والقسمُ الثالثُ: المعارضونَ أو المعاندونَ المكابرونَ، المتصدونَ لمقاومةِ الحقِّ ونصرةِ الباطلِ، فهؤلاءِ لابدَ أنْ يسلكَ معهم طريقُ المجادلةِ بالتي هيَ أحسنُ، بحسبِ ما يليقُ بالمجادِلِ والمجادَلِ، وبتلكَ المقالةِ وما يقترنُ بها.
وإذا أردتَ تطبيقَ هذهِ الأمورِ الثلاثةِ تمامًا فانظرْ إلى دعواتِ الرسلِ -صلواتُ اللهِ وسلامهُ عليهم- التي حكاها اللهُ في كتابهِ معَ أممِهم المستجيبينَ، والمعرضينَ والمعارضينَ؛ تجِدْها محتويةً على غايةِ الحسنِ في كلِّ أحوالِها.
ثم انظرْ إلى دعوةِ سيدِهم وإمامِهم محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وما سلكَ من الطرقِ المتنوعةِ في دعايةِ الخلقِ عمومًا وخصوصًا، على اختلافِ طبقاتِهم ومنازلِهم، وبحسبِ أحوالِهم، وبحسبِ الأقوالِ والأحكامِ التي يدعُو إليها - تجِدْهُ قدْ فاقَ في ذلكَ الأولينَ والآخرينَ، والآثارُ أكبرُ دليلٍ على قوةِ المؤثرِ.
• وجعلَ اللهُ السببَ لفصلِ الخصامِ المرضيِّ للمتشاجرينَ المنصفينَ في جميعِ المقالاتِ، الذي هوَ خيرٌ في الحالِ، وأحسنُ في المآلِ؛ ردَّها إلى كتابِ اللهِ وسنةِ رسولهِ، شاهدهُ قولهُ تعالى:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59].
• وجعلَ اللهُ صلةَ ما أمرَ بهِ أنْ يوصلَ من البرِّ، وصلةَ الأرحامِ، والقيامَ بحقِّ مَنْ لهُ حقٌّ عليكَ؛ سببًا تُنالُ بهِ مكارمُ الأخلاقِ، ويُتبوَّأُ بهِ المنازلُ العاليةُ في جناتِ النعيمِ، شاهدهُ قولهُ تعالى:{وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ} [الرعد: 21] إلى: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا} [الرعد: 23].
• وجعلَ اللهُ السوابقَ الحميدةَ للعبدِ، وتعرُّفَهُ لربهِ في حالِ الرخاءِ؛ سببًا للنجاةِ من الشدائدِ، وحصولِ أعظمِ الفوائدِ، شاهدهُ قولهُ تعالى: {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ
(143)
لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144)} [الصافات: 143 - 144]، وقولُ أهلِ الجنةِ فيها:{إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28)} [الطور: 26 - 28].
• وجعلَ اللهُ لشرحِ الصدرِ ونعيمهِ وطمأنينتهِ أسبابًا متعددةً: اليقينَ، والإيمانَ، والإكثارَ من ذكرِ اللهِ، وقوةَ الإنابةِ إليهِ، والقناعةَ بما أُعطيَ من الرزقِ، وحصولَ العلمِ النافعِ، وتركَ الذنوبِ، والمبادرةَ بالتوبةِ مما وقعَ منها، وشواهدُ هذا كثيرةٌ، منها: قولهُ تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28]، {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} [الزمر: 22]، {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13)} [الانفطار: 13] وشمولُ هذا النعيمِ لنعيمِ القلوبِ في الدنيا ظاهرٌ، {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97]، {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15)} [المطففين: 14 - 15].
• وجعلَ اللهُ ضربَ الأمثالِ في كتابهِ طريقًا عظيمًا من طرقِ التعليمِ الذي تتبينُ وتتوضحُ بهِ المطالبُ العاليةُ، والعقائدُ الصحيحةُ والفاسدةُ:
- كما مثَّلَ كلمةَ التوحيدِ والعقيدةَ الحقَّةَ الصحيحةَ: {كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ} في قلبِ المؤمنِ، {وَفَرْعُهَا} من الأعمالِ والأخلاقِ {فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا} أي: منافعَها، {كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} [إبراهيم: 24 - 25].
- ومثَّلَ ضدَّ ذلكَ بالشجرةِ الخبيثةِ التي لا لها أصلٌ ثابتٌ ولا فرعٌ نافعٌ.
- ومثَّلَ المشركَ بربهِ كالعبدِ الذي يتنازعهُ شركاءُ متشاكسونَ، والموحِّدَ المخلصَ للهِ السالمَ من تعلقهِ بغيرهِ.
- وكذلكَ مثَّلَ الشركَ والمشركَ، واتخاذَهُ وليًّا من دونِ اللهِ يتعززُ بهِ وينتصرُ:
{كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ} [العنكبوت: 41].
- ومثَّلَ وحيَهُ بمنزلةِ الغيثِ النافعِ، وقلوبَ الخلقِ بمنزلةِ الأراضي الطيبةِ القابلةِ والخبيثةِ، وبيَّنَ ذلكَ.
وهيَ أمثلةٌ محسوسةٌ يوضحُ اللهُ بها المطالبَ النافعةَ.
وهوَ يُقْسِمُ تعالى على أصولِ الدينِ التي يجبُ على الخلقِ الإيمانُ بها: كالتوحيدِ والرسالةِ والمعادِ، وما يتفرعُ عنها.
وضربُ الأمثالِ من تصريفِ اللهِ الآياتِ لعبادهِ بأعلى أساليبِ الكلامِ المؤثرةِ الموضحةِ للحقائقِ، فتأمَّلْ إقساماتِ القرآنِ تجِدْها كذلكَ، ولذلكَ حثَّ اللهُ عليها، ومدحَ مَنْ يتفكرُ فيها ويعقلُها فقالَ:{وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر: 21]، وفي الآيةِ الأخرى:{وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43].
فصل في ذكر حدود ألفاظ كثر مرورها في القرآن: أمرًا بها، أو نهيًا عنها، أو مدحًا لها، أو ذمًا لها
فاللهُ تعالى أثنى على مَنْ عرفَ حدودَ ما أنزلَ على رسولهِ، وذمَّ مَنْ جهلَها، وهذهِ ألفاظٌ جليلةٌ يتعينُ على طالبِ العلمِ معرفةُ حدودِها؛ ليعرفَ ما يدخلُ فيها وما يخرجُ منها، وتتفقُ الألفاظُ المأمورُ بها في كثيرٍ من الأمورِ، وقدْ يكونُ بينَها فروقٌ، وكذلكَ المنهياتُ، وهذا من إحكامِ القرآنِ، وأنهُ يصدِّقُ بعضهُ بعضًا، {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82].
*
الإسلامُ والإيمانُ:
• أما الإسلامُ فهوَ: استسلامُ القلبِ للهِ وإنابتهُ، والقيامُ بالشرائعِ الظاهرةِ والباطنةِ.
• وأما الإيمانُ فهوَ: التصديقُ التامُّ والاعترافُ بأصولهِ التي أمرَ اللهُ بالإيمانِ بها، ولا يتمُّ ذلكَ إلا بالقيامِ بأعمالِ القلوبِ وأعمالِ الجوارحِ؛ ولهذا سمَّى اللهُ كثيرًا من الشرائعِ الظاهرةِ والباطنةِ إيمانًا، وبعضُ الآياتِ يذكرُ أنها من لوازمِ الإيمانِ.
فعلى هذا: الإيمانُ عندَ الإطلاقِ يدخلُ فيه الإسلامُ، وكذلكَ بالعكسِ، وإذا جمعَ بينَ الإيمانِ والإسلامِ فُسِّرَ الإيمانُ: بما في القلبِ من التصديقِ والاعترافِ وما يتبعُ ذلكَ، وفُسِّرَ الإسلامُ: بالقيامِ بعبوديةِ اللهِ كلِّها الظاهرةِ والباطنةِ.
* الإحسانُ قسمانِ:
• إحسانٌ في عبادةِ الخالقِ، وهوَ بذلُ الجهدِ في إكمالِها وإتقانِها، والقيامِ بحقوقِها الظاهرةِ والباطنةِ.
• وإحسانٌ إلى المخلوقينَ بإيصالِ جميعِ ما يستطيعهُ العبدُ من نفعٍ علميٍّ وبدنيٍّ وماليٍّ للخلقِ، ونصيحةٍ دينيةٍ أو دنيويةٍ، ومساعدةٍ وحضٍّ على الخيرِ.
ولهذا كان المحسنونَ يتفاوتونَ تفاوتًا عظيمًا بحسبِ قيامِهم بالإحسانِ المتنوعِ إلى الخلقِ، برِّهم وفاجرِهم، حتى الحيوانِ البهيمِ، كما قالَ صلى الله عليه وسلم:«إنَّ اللهَ كتبَ الإحسانَ على كلِّ شيءٍ» الحديث
(1)
.
*
الهُدَى والهدايةُ:
نوعانِ:
• هدايةُ العلمِ والإرشادِ والتعليمِ.
• وهدايةُ التوفيقِ وجعلِ الهدى في القلبِ.
وهذانِ يُطلبانِ من اللهِ تعالى:
- إما على وجهِ الإطلاقِ، كقولِ العبدِ: اللهمَّ اهدني، أو: اللهمَّ إني أسألُكَ الهدى.
- وإما على وجهِ التقييدِ بطريقِها النافعِ، كقولِ المصلِّي:{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)} [الفاتحة: 6].
ومَن حصلَتْ لهُ الهدايةُ سُمِّيَ مهتديًا، وأعظمُ ما تحصلُ بهِ الهدايةُ القرآنُ؛ ولهذا سماهُ اللهُ هدًى مطلقًا، وقالَ:{هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2]، وقال:{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9]، ويشملُ جميعَ الأمورِ الدينيةِ والدنيويةِ النافعةِ.
*
العلمُ واليقينُ:
• فالعلمُ هوَ: تصورُ المعلوماتِ على ما هيَ عليهِ؛ ولهذا يُقالُ: العلمُ ما قامَ عليهِ الدليلُ، والعلمُ النافعُ: ما كان مأخوذًا عن الرسولِ.
(1)
مسلم (1215).
• واليقينُ: أخصُّ من العلمِ بأمرينِ:
- أحدُهما: أنهُ العلمُ الراسخُ القويُّ الذي ليسَ عرضةً للريبِ والشكِّ والموانعِ، ويكونُ:
* علمَ يقينٍ: إذا ثبتَ بالخبرِ.
* وعينَ يقينٍ: إذا شاهدَتْهُ العينُ والبصرُ؛ ولهذا يقالُ: ليسَ الخبرُ كالمعاينةِ.
* وحقَّ يقينٍ: إذا ذاقهُ العبدُ وتحققَ بهِ.
- الأمرُ الثاني: أنَّ اليقينَ هوَ العلمُ الذي يحملُ صاحبَهُ على الطمأنينةِ بخبرِ اللهِ، والطمأنينةِ بذكرِ اللهِ، و
الصبرِ
على المكارهِ، والقوةِ في أمرِ اللهِ، والشجاعةِ القوليةِ والفعليةِ، والاستحلاءِ للطاعاتِ، وأنْ يهونَ على العبدِ في ذاتِ اللهِ المشقاتُ، وتحمُّلُ الكريهاتِ. فهذهِ الآثارُ الجميلةُ -التي هيَ أعلى وأحلى من كلِّ شيءٍ- من آثارِ اليقينِ.
* الصبرُ: حبسُ النفسِ على المشقاتِ؛ طلبًا لرضا اللهِ، وينقسمُ إلى ثلاثةِ أقسامٍ:
• صبرٍ على طاعةِ اللهِ، وخصوصًا الطاعاتِ الشاقةَ حتى يؤديَها على وجهِ الكمالِ.
• وصبرٍ عن معصيةِ اللهِ، خصوصًا المعصيةَ التي تدعو النفسُ إليها دعاءً قويًّا، حتى يجاهدَ نفسَهُ فيتركُها للهِ.
• وصبرٍ على أقدارِ اللهِ المؤلمةِ، خصوصًا إذا عظمَتِ المصيبةُ حتى لا يتسخطَها، وربما وصلَتْ بهِ الحالُ إلى الرضا عن اللهِ.
*
الشكرُ للهِ:
هوَ:
• الاعترافُ بنعمِ اللهِ، الظاهرةِ والباطنةِ، العامةِ والخاصةِ.
• والتحدثُ بها.
• والاستعانةُ بها على طاعةِ المنعمِ دونَ معصيتهِ.
• ولابدَّ أنْ يقترنَ هذا بالخضوعِ للمنعمِ.
• ومحبتهِ.
فبهذهِ الأركانِ الخمسةِ يكونُ الشكرُ تامًّا.
*
البرُّ والتقوى
للهِ:
• إذا أُطلِقَ أحدُهما دخلَ فيه الآخرُ، فإنهُ اسمٌ جامعٌ للقيامِ بكلِّ ما يحبهُ اللهُ ورسولهُ ظاهرًا وباطنًا، وتركِ ما يكرههُ اللهُ ورسولهُ ظاهرًا وباطنًا.
• وإذا جُمعَ بينَهما نحو: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2]:
- فُسِّرَ البرُّ: بالقيامِ بعقائدِ الإيمانِ وأخلاقهِ وأعمالِ البرِّ كلِّها القاصرةِ والمتعديةِ.
- وفُسِّرَتِ التقوى: باتقاءِ ما يُسخطُ اللهَ من الكفرِ والفسوقِ والعصيانِ.
*
الصدقُ والكذبُ:
• الصدقُ هوَ: استواءُ الظاهرِ والباطنِ على الاستقامةِ على الصراطِ المستقيمِ:
- فالصدقُ في العقائدِ: أنْ تكونَ عقيدةُ العبدِ صادقةً، سلفيةً، متلقاةً عن كتابِ اللهِ وسنةِ رسولهِ وما كان عليهِ الصحابةُ رضي الله عنهم.
- والصدقُ في الأخلاقِ: أنْ يكونَ القلبُ [ملآنَ]
(1)
من الإيمانِ والإخلاصِ والرغبةِ، والنصيحةِ لعبادِ اللهِ، ومحبةِ الخيرِ لهم.
(1)
في (خ) و (ط). ملآنا. والمثبت موافق لقواعد اللغة.
- والصدقُ في الأقوالِ: أنْ يكونَ قائلًا للصدقِ مصدِّقًا بهِ.
- والصدقُ في الأعمالِ: الاجتهادُ في تكميلِها وإتقانِها.
• والكذبُ: ما ناقضَ ذلكَ كلَّهُ.
ولذلكَ كان الصدقُ والكذبُ مراتبَ، «ولا يزالُ العبدُ يصدقُ ويتحرَّى الصدقَ حتى يكتبَ عندَ اللهِ صديقًا، ولا يزالُ العبدُ يكذبُ ويتحرَّى الكذبَ حتى يكتبَ عندَ اللهِ كذابًا»
(1)
.
*
العدلُ والظلمُ:
• العدلُ هوَ: سلوكُ الطريقِ المستقيمِ المعتدلِ في العقائدِ والأخلاقِ والأقوالِ والأفعالِ، كما يقالُ في الصدقِ.
• والظلمُ: ما ناقضَ ذلكَ.
ولهذا انقسمَ الظلمُ إلى ثلاثةِ أقسامٍ كلُّها منافيةٌ للعدلِ:
- الظلمُ في التوحيدِ بالإشراكِ باللهِ، قالَ تعالى:{إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13].
- وظلمُ الخلقِ في دمائِهم وأموالِهم وأعراضِهم وحقوقِهم.
- وظلمُ العبدِ نفسَهُ فيما دونَ الشركِ.
ولا يتمُّ للعبدِ العدلُ الكاملُ حتى يدعَ جميعَ هذهِ الأقسامِ، ويتوبَ إلى ربهِ مما وقعَ منهُ، ويخرجَ من حقِّ العبادِ إليهم؛ ولهذا كان القيامُ بالدينِ كلِّهِ من العدلِ والقسطِ.
*
العبادةُ والعبوديةُ
للهِ: اسمٌ جامعٌ لكلِّ ما يحبهُ اللهُ ويرضاهُ من العقائدِ وأعمالِ القلوبِ وأعمالِ الجوارحِ، فكلُّ ما يقربُ إلى اللهِ من الأفعالِ والتروكِ فهوَ عبادةٌ؛ ولهذا كان تاركُ المعصيةِ للهِ متعبدًا متقربًا إلى ربهِ بذلكَ. ولا تتمُ العبادةُ إلا بالإخلاصِ.
(1)
البخاري (6094)، ومسلم (2607)، بنحوه.
*
الإخلاصُ
للهِ وحدَهُ: بأنَّ يقصدَ العبدُ وجهَ اللهِ ورضاهُ وثوابَهُ في أعمالهِ الظاهرةِ والباطنةِ. وضدُّهُ: العملُ للرياءِ والسمعةِ، ولأجلِ عرضِ الدنيا، وميزانُ هذا قولهُ تعالى عن خيارِ الخلقِ:{يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا} [المائدة: 2]، وقولهُ صلى الله عليه وسلم:«إنما الأعمالُ بالنياتِ، وإنما لكلِّ امرئٍ ما نوَى، فمَن كانتْ هجرتهُ إلى اللهِ ورسولهِ فهجرتهُ إلى اللهِ ورسولهِ، ومَن كانتْ هجرتهُ إلى دنيا يصيبُها أو امرأةٍ ينكحُها فهجرتهُ إلى ما هاجَرَ إليهِ»
(1)
، وجميعُ الأعمالِ على هذا النمطِ.
وقدْ يُرادُ بالهجرةِ هنا: الهجرةُ العامةُ التي قالَ فيها النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «والمهاجرُ مَنْ هجَرَ ما نهَى اللهُ ورسولهُ عنهُ»
(2)
.
*
الخوفُ والخشيةُ والخضوعُ والإخباتُ والوجلُ:
معانيها متقاربةٌ:
• فالخوفُ يمنعُ العبدَ عن محارمِ اللهِ.
• وتشاركهُ الخشيةُ في ذلكَ، وتزيدُ أنَّ خوفَهُ مقرونٌ بمعرفةِ اللهِ.
• وأما الخضوعُ والإخباتُ والوجلُ فإنها تنشأُ عن الخوفِ والخشيةِ للهِ، فيخضعُ العبدُ للهِ ويخبتُ إلى ربهِ منيبًا إليهِ بقلبهِ ويحدثُ لهُ الوجلُ.
• وأما الخشوعُ فهوَ حضورُ القلبِ وقتَ تلبسهِ بطاعةِ اللهِ، وسكونُ ظاهرهِ وباطنهِ، فهذا خشوعٌ خاصٌّ، وأما الخشوعُ الدائمُ الذي هوَ وصفُ خواصِّ المؤمنينَ فينشأُ من كمالِ معرفةِ العبدِ بربهِ ومراقبتهِ، فيستولي ذلكَ على القلبِ كما تستولي المحبةُ.
(1)
البخاري (1)، ومسلم (1907).
(2)
البخاري (10).
*
القنوتُ:
وردَ في القرآنِ على أحدِ معنيينِ:
• معنًى خاصٍّ بمعنى: الخشوعِ.
• ومعنًى عامٍّ وهوَ: قنوتُ المخلوقاتِ كلِّها لخلقِ اللهِ وتدبيرهِ وتصريفهِ.
*
الذكرُ للهِ:
الذي وردَ في القرآنِ الأمرُ بهِ والثناءُ على أهلهِ، وما رتبَ عليهِ من الجزاءِ؛ يُطلَقُ على جميعِ الطاعاتِ، الظاهرةِ والباطنةِ، القوليةِ والفعليةِ، فكلُّ ما تصورهُ القلبُ، أو أرادَهُ أو فعلَهُ العبدُ، أو تكلَّمَ بهِ، مما يقربُ إلى اللهِ؛ فهوَ ذكرٌ للهِ، واللهُ تعالى شرعَ العباداتِ كلَّها لإقامةِ ذكرهِ، فهيَ ذكرٌ للهِ.
ويطلقُ على: ذكرِ اللهِ باللسانِ، بذكرِ أوصافهِ وأفعالهِ، والثناءِ عليهِ بنعمهِ، وتسبيحهِ وتكبيرهِ وتحميدهِ والتهليلِ، والصلاةِ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم.
ومنْ ذكرهِ: ذكرُ أحكامهِ، تعلمُها وتعليمُها؛ ولهذا مجالسُ التعلمِ والتعليمِ يُقالُ لها: مجالسُ الذكرِ.
وأفضلُ أنواعِ الذكرِ: ما تواطأَ عليهِ القلبُ واللسانُ.
*
حدودُ اللهِ:
• يُرادُ بها: ما حرَّمَهُ ومنعَهُ عبادَهُ، فيقالُ فيها:{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا} [البقرة: 187].
• ويُرادُ بها: ما أباحَهُ وأحلَّهُ لعبادهِ وقدرَهُ وفرضَهُ، فيقالُ فيها:{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا} [البقرة: 229] أي: لا تجاوِزُوا ما أحلَّ اللهُ إلى ما حرَّمَ اللهُ، ولا تتجاوَزُوا ما قدرَهُ اللهُ للعبادِ إلى ما يخالفُ تقديرَهُ.
*
الأمانةُ:
هيَ الأمورُ التي يؤتمنُ عليها العبدُ، فيشملُ الأمانةَ التي بينَهُ وبينَ اللهِ، فإنهُ ائتمنَ عبدَهُ على إقامةِ الواجباتِ وتركِ المحرماتِ، فالقيامُ بذلكَ أداءٌ للأمانةِ ومراعاةٌ لها، وتركُ بعضِ الواجباتِ وخصوصًا السريةَ التي لا يطلعُ عليها إلا اللهُ، أو التجرؤُ على بعضِ المحرماتِ؛ تركٌ للأمانةِ، واتصافٌ بالخيانةِ.
ويشملُ أيضًا الأماناتِ التي بينَكَ وبينَ الخلقِ في الدماءِ والأموالِ والحقوقِ، فمن قامَ بها فقدْ أدَّى الأمانةَ وحفظَها، ومن تعدَّى فيها أو فرَّطَ أو خانَ فقدْ تجرأَ على الخيانةِ.
*
العهدُ والعقدُ:
يشملُ:
• العهودَ والعقودَ التي بينَ العبدِ وبينَ ربهِ، فإنَّ اللهَ عقدَ بينَهُ وبينَ المكلفينَ عقدًا، وعاهَدَهم عهدًا بإقامةِ ما خُلِقُوا لهُ من عبادتهِ، والقيامِ بحقوقهِ، فإقامةُ ذلكَ وفاءٌ لهذا العقدِ والعهدِ، وإهمالهُ نقضٌ للعهدِ والعقدِ والثقةِ.
• وكذلكَ العهودُ والعقودُ التي بينَهُ وبينَ الخلقِ، يتعينُ الوفاءُ بها.
• ويشملُ ذلكَ عقودَ المعاملاتِ كلَّها من دونِ استثناءٍ.
*
الشجاعةُ والجبنُ والتهورُ:
أثنَى اللهُ في كتابهِ على الشجاعةِ، ومدحَ أهلَها، وأمرَ بها، وذمَّ الجبنَ والتهورَ:
• فالشجاعةُ: قوةُ القلبِ وثباتهُ، وإقدامهُ على الأقوالِ والأفعالِ في موضعِ الإقدامِ بحكمةٍ وحنكةٍ.
• فإنْ أقدمَ عليها في حالٍ لا يحلُّ لهُ الإقدامُ قيلَ لذلكَ: تهورٌ وجراءةٌ وحمقٌ، وإلقاءٌ بالنفسِ إلى التهلكةِ.
• وأما الجبنُ فهوَ ضدُّ الشجاعةِ: ضعفُ القلبِ وخورهُ، ويتبعُ ذلكَ خورُ الأعمالِ، والخوفُ مما لا يخافُ، وهيبةُ مَنْ لا يُهابُ.
فالشجاعةُ خلقٌ فاضلٌ جليلٌ بينِ خُلقينِ ذميمينِ رذيلينِ:
- بينَ التهورِ الذي هوَ غلوٌّ وزيادةٌ عن الحدِّ.
- وبينَ الجبنِ الذي هوَ تفريطٌ وتقصيرٌ وضعفٌ وخورٌ.
* ونظيرُ ذلكَ:
القَوامُ والبخلُ والتبذيرُ في تصريفِ الأموالِ:
• بذلُها فيما ينبغِي من واجبٍ ومستحبٍّ ونافعٍ على الوجهِ الذي ينبغي، يقال لذلكَ: قوامٌ واعتدالٌ وتوسطٌ واقتصادٌ.
• فإنْ منعَ الواجباتِ فهوَ البخلُ، وصاحبهُ بخيلٌ.
• وإنْ أسرفَ وزادَ في النفقةِ عما ينبغي قيلَ لذلكَ: إسرافٌ وتبذيرٌ.
قالَ تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67].
*
الاستقامةُ:
هيَ لزومُ الصراطِ المستقيمِ بأنْ يستقيمَ العبدُ على الإيمانِ باللهِ، وأداءِ فرائضهِ، وتركِ محارمهِ، مداومًا لذلكَ، تائبًا مما أخلَّ بهِ من حقوقِها؛ ولهذا قالَ:{فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ} [فصلت: 6] أي: مما وقعَ منكم من الخللِ في الاستقامةِ.
*
التوبةُ والاستغفارُ:
• أما التوبةُ فهيَ: الرجوعُ إلى اللهِ مما يكرههُ اللهُ ظاهرًا وباطنًا، إلى ما يحبهُ اللهُ ظاهرًا وباطنًا؛ ندمًا على ما مضى، وتركًا في الحالِ، وعزمًا على ألَّا يعودَ.
• والاستغفارُ: طلبُ المغفرةِ من اللهِ، فإنْ اقترنَ بهِ توبةٌ فهوَ الاستغفارُ الكاملُ الذي رُتبتْ عليهِ المغفرةُ، وإنْ لم تقترنْ بهِ التوبةُ فهوَ دعاءٌ من العبدِ لربهِ أنْ يغفرَ لهُ، فقدْ يجابُ دعاؤهُ وقدْ لا يجابُ، وهوَ بنفسهِ عبادةٌ من العباداتِ، فهوَ دعاءُ عبادةٍ ودعاءُ مسألةٍ.
*
التوكلُ على اللهِ والاستعانةُ بهِ:
بمعنى واحدٍ هوَ: اعتمادُ القلبِ على اللهِ في جلبِ المنافعِ، ودفعِ المضارِّ الدينيةِ والدنيويةِ، الخاصةِ والعامةِ، معَ الثقةِ باللهِ في ذلكَ المطلوبِ.
*
المحبةُ للهِ والإنابةُ إلى اللهِ:
هيَ قوةُ الودِّ للهِ لكمالهِ ونعمهِ الظاهرةِ والباطنةِ، وانجذابُ القلبِ إلى اللهِ تألهًا ورغبةً ورهبةً في كلِّ المطالبِ، وطمأنينةُ القلبِ بذكرهِ واللَّهَج بدعائهِ، والرجوعُ إليهِ في الأمورِ الدينيةِ والدنيويةِ الجليلةِ والحقيرةِ.
فمن كان قلبهُ منيبًا إلى اللهِ فهوَ محبٌّ للهِ، والمنيبُ هوَ: الأوَّاهُ الرجَّاعُ إلى اللهِ الأوَّابُ إليهِ.
*
المعروفُ والمنكرُ:
متقابلانِ، فالمعروفُ: اسمٌ جامعٌ لكلِّ ما عُرِفَ حسنهُ شرعًا وعقلًا، والمنكرُ: ضدُّهُ.
*
الخبيثُ والطيبُ:
متقابلانِ، فالطيبُ: ما كان طيبَ الصفاتِ كثيرَ المنافعِ، والخبيثُ: بالعكسِ.
*
حسنُ الخلقِ وسوءُ الخلقِ:
يكونُ معَ اللهِ ومعَ خلقهِ:
• فحسنُ الخلقِ معَ اللهِ: القيامُ بعبوديتهِ ظاهرًا وباطنًا، معَ قوةِ محبتهِ والطمأنينةِ إليهِ، واللَّهَجِ بذكرهِ، وقوةِ الثقةِ بهِ.
• ومعَ الخلقِ: بذلُ الإحسانِ لهم، ومنعُ الأذَى لهم، واحتمالُ الأذى منهم.
• وسوءُ الخلقِ: بعكسِ ذلكَ كلِّهِ.
*
الشركُ والكفرُ:
• الكفرُ أعمُّ من الشركِ، فمنْ جحدَ ما جاءَ بهِ الرسولُ أو جحدَ بعضَهُ بلا تأويلٍ فهوَ الكافرُ من أيِ دينٍ يكونُ، سواءٌ كان صاحبهُ معاندًا أو جاهلًا ضالًّا.
• والشركُ نوعانِ:
- شركٌ في ربوبيتهِ، كشركِ الثنويةِ الذينَ يثبتونَ خالقًا معَ اللهِ.
- وشركٌ في ألوهيتهِ، كشركِ سائرِ المشركينَ الذينَ يعبدونَ اللهَ ويعبدونَ غيرَهُ، ويشركونَ بينَهُ وبينَ المخلوقينَ، ويسوُّونَهم في اللهِ في شيءٍ من خصائصِ إلهيتهِ.
* وقدْ يكونُ هذا الشركُ أكبرَ جليًّا، كأنْ يصرفَ العبدُ نوعًا من أنواعِ العبادةِ لغيرِ اللهِ.
* وقدْ يكونُ أصغرَ، كوسائلِ الشركِ من الرياءِ والحلفِ بغيرِ اللهِ، ونحوِ ذلكَ.
*
النفاقُ:
هوَ أنْ يُظهِرَ الخيرَ ويبطنَ الشرَّ، وهوَ نوعانِ:
• نفاقٌ أكبرُ، كأنْ يظهرَ الإيمانَ باللهِ ورسولهِ، وقلبهُ منطوٍ على الكفرِ.
• ونفاقٌ أصغرُ، كالكذبِ وإخلافِ المواعيدِ والفجورِ في الخصومةِ.
*
الكِبْرُ والتواضعُ:
فسَّرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم الكبرَ بأنهُ «بطرُ الحقِّ وغمطُ الناسِ»
(1)
، يعني: وضدُّهُ التواضعُ للحقِّ: قبولُهُ حيثُ كان ومعَ مَنْ كان، ولينُ الجانبِ، والتواضعُ للخلقِ.
(1)
مسلم (91).
فهذهِ الحدودُ ينبغي أنْ تعتبرَها في كلِّ ما يمرُّ عليكَ من نصوصِ الكتابِ والسنةِ؛ لتهتديَ إلى معرفةِ ما يدخلُ في الأمورِ التي حكمَ اللهُ عليها بالأحكامِ المتنوعةِ،
وما لا يدخلُ؛ فيحصلُ لكَ الفرقانُ والرشادُ والبيانُ.
فنسألُ اللهَ أنْ يهديَنا إلى الصراطِ المستقيمِ، وهوَ العلمُ بالحقِّ والعملُ بهِ، ويجنبَنا الطرقَ المخالفةَ لذلكَ.
وقدْ يسَّرَ اللهُ تتميمَ هذا التعليقِ المباركِ في ثالث شوال من شهورِ سنةِ ثمانٍ وستينَ بعدَ الثلاثمائةِ والألف من الهجرةِ النبويةِ.
فكان على اختصارهِ وإيجازهِ ووضوحهِ فيه معونةٌ عظيمةٌ على فهمِ كلامِ ربِّ العالمينَ، وأنَّ كلامَ اللهِ كفيلٌ ببيانِ كلِّ شيءٍ ينتفعُ بهِ العبادُ في معاشِهم ومعادِهم، وإرشادهم إلى كلِّ ما فيه مصالحُهم المتنوعةُ ومنافعُهم المتعددةُ، وأنهُ يَتعذرُ الصلاحُ والإصلاحُ للأحوالِ كلِّها إلا بسلوكِ الطرقِ التي أرشدَ إليها هذا القرآنُ في أصولِ الدينِ وفروعهِ، وفي الأخلاقِ والآدابِ، وفي الأمورِ الداخليةِ والخارجيةِ.
والحمدُ للهِ الذي جعلَ كتابَهُ هدًى وشفاءً ورحمةً ونورًا، والحمدُ للهِ الذي بنعمتهِ تتمُّ الصالحاتُ، وصلى اللهُ على محمدٍ، وعلى آلهِ وصحبهِ، ومَن تبعَهم بإحسانٍ إلى يومِ الدينِ.
بخطِّ الفقيرِ إلى اللهِ من كافةِ الوجوهِ: عبدِ الرحمنِ بنِ ناصرِ بنِ عبدِ اللهِ السعديِّ، غفرَ اللهُ لهُ ولوالدَيْهِ ولجميعِ المسلمينَ، آمينَ
(1)
!
(1)
بعدها في (ط): ووقع الفراغ من نقله من خط المؤلف في سابع من الشهر المذكور والسنة المذكورة، بقلم الفقير إلى ربه: محمد السليمان العبد العزيز البسام، غفر الله له ولوالديه والمسلمين، آمين!