المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

بسم الله الرحمن الرحيم ‌ ‌مُقَدِّمة الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام - تيسير مسائل الفقه شرح الروض المربع - جـ ١

[عبد الكريم النملة]

فهرس الكتاب

بسم الله الرحمن الرحيم

‌مُقَدِّمة

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين: نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد: فإنه من المعلوم قطعًا: أن الاشتغال بالعلم من أفضل الطاعات والقُرُبات إلى الله تعالى -بعد الجهاد في سبيل الله- وهو أفضل ما تُنفق فيه نفائس الأوقات، شرَّف الله من اختار العلم بملابس التقوى والوقار، وخصَّهم من المزية أن قرن ذكرهم بذكره، وأكرمهم بالشهادة على وحدانيته، وأورد وصفهم ثالثًا؛ حيث قال:{شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ} ، وفضَّلهم على كثير من خلقه، وأرشد بهم عباده إلى سُبُل الحق، وأراد بهم خيرًا، ففقههم في الدِّين؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم:"من يُرد الله به خيرًا يفقهه في الدِّين" وأمر الخلائق باتباعهم؛ حيث قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]، والمسؤول مُتَّبع، وأكرمهم بأن جعلهم ورثة أنبيائه، وجعل كُلَّ مخلوق يستغفر لهم؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم:"العلماء ورثة الأنبياء، يحبهم أهل السماء وتستغفر لهم الحيتان في البحر إذا ماتوا إلى يوم القيامة"، وفضَّل الله العلم على النوافل من العبادات؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم:"العلم أفضل من العبادة، وملاك الدين الورع"، وذلك لأن العلم ينفع صاحبه، وينفع غيره إلى يوم القيامة، بخلاف العبادة -غير العلم- فلا تنفع إلا صاحبها، فإذا عُلِم ذلك: فإن الخسران المبين أن يمرَّ يوم بلا نفع بهذا العلم؛ إما تعلُّم أو تعليم، وخيره: ما كثُر نفعه الجميع طبقات المتعلِّمين؛ وكتاب: "الروض المربع شرح زاد المستقنع" لمنصور بن يونس البهوتي (المولود عام 1000 هـ - والمتوفى عام 1051 هـ) تميَّز بكثرة المسائل والتفريعات التي تهم المسلمين في اليوم والليلة، فاشتغلتُ به مُهتمًا بتيسير عباراته،

ص: 5

واصلًا كلَّ حكم بقاعدته الأصولية، ومبيِّنًا المقصد الشرعي من كل حكم من جلب مصلحة، أو دفع مفسدة، ذاكرًا أسباب وأسرار كل ما أذكره من الأحكام على حسب القدرة، وأسميته:"تيسير مسائل الفقه شرح الروض المربع، وتنزيل الأحكام على قواعدها الأصولية، وبيان مقاصدها ومصالحها وأسرارها وأسباب الاختلاف فيها".

‌وقمت بتأليف هذا الكتاب للأسباب التالية:

أولًا: إن كثيرًا من طلاب الجامعات، والدراسات العليا والحلقات العلمية يُكررون سؤالًا مفاده: لم لا يُكثر أساتذة أصول الفقه من الأمثلة على القاعدة الأصولية التي يشرحونها؟ ولِمَ لا تُربط الأحكام الفقهية بقواعدها الأصولية من قبل أساتذة الفقه؟ فأردتُ بهذا المصنَّف أن أفعل ذلك. ثانيًا: أن كثيرًا من الناس يسأل عن مصلحة هذا الحكم أو ذاك؟ وما الفرق بينه وبين غيره؟ وما سبب الخلاف في هذه المسألة أو تلك؟ فأردت بهذا المصنَّف أن أبيِّن ذلك. ثالثا: أن أكثر الأحكام الموجودة في "الروض المربع" لم تُربط بقواعدها الأصولية، ولم يُستدلّ عليها بشيء، وإن استُدلَّ فهو استدلال مجملٌ ونادر.

‌ونهجتُ في تأليفي له ما يلي:

أولًا: أكتب نصَّ "الروض المربع" في أعلى الصفحة، ثم أضع خطًا، ثم أشرح وأبين تحت ذلك الخط. ثانيًا: أضع عنوانًا للباب تحت ذلك الخط، وفي وسط السطر، ثم أقول:"وفيه مسائل" وأذكر عددها، ثم أضع رقمًا في نهاية عبارة وجملة من نص "الروض المربع"، ثم أضع نفس هذا الرقم في أول السطر -في الشرح- ثم أقول بعد ذلك "مسألة" هكذا: [(1) مسألة:

] ثالثًا: أذكر في أول المسألة القول الراجح فيها، مُصوِّرًا إياها بأسلوب عصري مفهوم، ثم أذكر القواعد الأصولية المستدل بها لها، ثم أبيِّن المقصد الشرعي من الحكم المذكور في المسألة موضحًا المصلحة أو دفع المفسدة التي تضمِّنها ذلك الحكم بصيغة السؤال والجواب هكذا: [فإن قلت: لِمَ، وجب، أو استُحب أو حُرِّمَ أو كُره، أو أبيح، أو شُرع؟ قلتُ:

ص: 6

للمصلحة وهي كذا وكذا

]، ثم بعد ذلك أذكر القول المرجوح وما اعتُمد فيه من قواعد -إن وُجد ذلك- سواء كان هذا القول من المصنِّف أو من غيره، ثم أُجيب عنه، ثم أفرق بين مسألتين متشابهتين إن لزم الأمر، ثم أذكر سبب الخلاف الخاص بهذه المسألة -وهذا كله بصيغة السؤال والجواب- كما سبق، ثم أذكر تنبيهات أُنبِّه فيها على ما وقع من كلام المصنف من سهو أو خطأ- إن وُجد شيء من ذلك في تلك المسألة- ثم أذكر فوائد في بيان لفظة، أو اشتقاق كلمة أو نحو ذلك إن لزم الأمر، كل ذلك في مسألة واحدة، ولكن باختصار شديد، ثم أبدأ بالمسألة التي تليها فأفعل فيها كذلك. رابعًا: زدتُ بعض المسائل والفروع التي يحتاجها الناس اليوم وأدخلتها بما يُناسبها من المسائل، أو بعدها مباشرة. خامسًا: حاولتُ: أن يكون الكلام مركَّزًا على المفيد فقط، وتركتُ الواضح من كلام المصنف؛ اختصارًا، وإقلالًا للألفاظ مع تكثير المعاني والمقاصد؛ لتيسير الاستفادة منه. وقديمًا قيل "خير الكلام ما قلّ ودلّ، ولم يُطل فيُملُّ". سادسًا: وضعتُ فهرسًا للمسائل والموضوعات في آخر كل مجلد، ثم وضعتُ فهارس عامة في آخر المجلد الأخير، ومنها فهرس للقواعد الأصولية المستدل بها؛ ليسهل أخذ أمثلة كل قاعدة من الفروع.

هذا ما عملته في هذا الكتاب فأرجو من الله العلي القدير أن يجعله إلى يوم القيامة باقيًا، وللذنوب ماحيًا، وأن ينفع به مؤلِّفه، وقارئه، وكل من ساعد على نشره، وما أردتُ بهذا وبغيره إلا تعليم الناس الخير، والنّصح لهم؛ ليعبدوا الله على بصيرة، ويقوموا بتوجيه الآخرين بذلك، لعلِّي بذلك أنال الأجر والثواب من الواسع الوهاب، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلتُ وإليه المآب، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وحسبي الله ونعم الوكيل، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

كتبه

فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور: عبد الكريم بن علي بن محمد النملة

الأستاذ بكلية الشريعة بالرياض - جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية

ص: 7

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي شرح صدر من أراد هدايته للإسلام، وفقَّه في الدِّين من أراد به خيرًا، وفهمه فيما أحكمه من الأحكام، أحمده أن جَعَلنا من خير أمة أخرجت للناس، وخلع علينا خُلعة الإسلام خير لباس، وشرع لنا من الدِّين، ما وصَّى به نوحًا وإبراهيم وموسى وعيسى، وأوحاه إلى محمد عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام، وأشكره -وشكر المنعم واجب على الأنام- واشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو الجلال والإكرام، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله وحبيبه وخليله المبعوث لبيان الحلال والحرام، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وتابعيهم الكرام، أمَّا بعد: فهذا شرح لطيف على "مختصر المقنع" للشيخ الإمام العلامة والعمدة القدوة الفَّهامة هو شرف الدِّين أبو النجا موسى بن أحمد بن موسى بن سالم ابن عيسى المقدسي الحجَّاوي ثم الصالحي الدمشقي، تغمَّده الله برحمته، وأباحه بحبوحة جنته، يُبَيِّن حقائقه، ويوضح معانيه ودقائقه مع ضم قيود يتعين التنبيه عليها، وفوائد يُحتاج إليها، مع العجز وعدم الأهلية لسلوك تلك المسالك، لكن ضرورة كونه لم يُشرح: اقتضت ذلك، والله المسؤول بفضله أن ينفع به كما نفع بأصله.

وأن يجعله خالصًا لوجهه الكريم، وزُلفى لديه في جنات النعيم المقيم (بسم الله الرحمن الرحيم) أي بكل اسم للذات الأقدس، المسمَّى بهذا الاسم الأنفس، الموصوف بكمال الإنعام وما دونه، أو بإرادة ذلك: أؤلّف مستعينًا أو ملابسًا على وجه التَّبرُّك

(1)

، وفي إيثار هذين الوصفين المفيدين للمبالغة في الرحمة: إشارة

‌الافتتاحية والديباجة

وفيها ثنتان وعشرون مسألة:

(1)

مسألة: يُستحب أن يبدأ المصنفون كتبهم بـ "بسم الله" وكذلك غيرهم؛ للقياس؛ بيانه: كما أن كتاب الله قد بُديء بالبسملة فكذلك الكتب الأخرى مثله والجامع أن كلًا منهما كتبٌ فيها منافع، فإن قلتَ: لم شُرِع هذا؟ قلتُ: =

ص: 9

لسبقها، وغَلَبَتِها من حيث ملاصقتها لاسم الذات، وغلبتها من حيث تكرارها على أضدادها وعدم انقطاعها

(2)

، وقُدِّم "الرحمن" لأنه علم في قول، أو كالعَلم: من حيث إنه لا يُوصف به غيره تعالى؛ لأن معناه: المنعم الحقيقي البالغ في الرحمة غايتها، وذلك لا يصدق على غيره، وابتدأ بها؛ تأسِّيًا بالكتاب العزيز، وعملًا بحدبث "كلُّ أمرٍ ذي بالٍ لا يُبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أبتر" أي: ناقص البركة، وفي رواية:"بالحمد الله" فلذلك جمع بينهما

(3)

فقال: (الحمد الله) أي: جنس

= للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه الحصول على بركة البداءة بهذا الاسم الأعظم الذي لم يُتَسمَّ به أحد، هذا إن كانت "الباء" للملابسة، وإن كانت للاستعانة: فهو يستعين بهذا الاسم على إنجاز أي عمل يُبدأ به، و "الباء" هنا لهما معًا، والتقدير:"بسم الله حال كوني مستعينًا بذكره متبركًا باسمه"، وقد تكلمت عن هذا بالتفصيل في مقدمة كتاب:"الإتحاف".

(2)

مسألة: ذكَرَ "الرحمن" و "الرحيم" المشتقَّين من "رحمة واحدة" بعد ذكر اسم الجلالة "الله" للقياس، بيانه: كما أن اسم الذات -وهو: الله- لا ينفكُّ عنه سبحانه فكذلك "الرحمن" و "الرحيم" لا ينفكان عنه سبحانه، والجامع أن كلًا منهما يحتاجه العبد؛ إذ "الله" مشتق من "الوَله" لكون العباد يأهلون إليه في قضاء حوائجهم، ورحمته، تتكرر ولا تنقطع عن أيِّ عبد، حيث إن الله أرحم بالعبد من نفسه، فتكون رحمته غالبة، فالصقت باسم الذات -وهو: الله- فإن قلتَ: لم شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة وهي: بيان أن رحمة الله وسعت كل شيء وأن العبد لا يمكنه العيش في الدنيا والآخرة بلا رحمة الله، فيجب أن يسألها منه سبحانه.

(3)

مسألة: قدَّم "الرحمن" على "الرحيم"؛ للتلازم؛ حيث إن معنى "الرحمن" هو ذو الرحمة الذي لا نظير له فيها، ولا يوصف بها غيرُه، ولا يصدق على غيره، فهو صاحب الرحمة الحقيقية، فيلزم من وصول رحمته إلى غاية لا يمكن أن يصل إليها غيرُه: تقديم لفظ "الرحمن" على "الرحيم" لاختصاصها به سبحانه، =

ص: 10

الوصف بالجميل، أو كل فرد منه مملوك أو مستحق للمعبود بالحق المتَّصف بكل كمال على الكمال، و "الحمد": الثناء بالصفات الجميلة، والأفعال الحسنة: سواء كان في مقابلة نعمة أم لا، وفي الاصطلاح: فعل يُنبيء عن تعظيم المنعم بسبب كونه منعمًا على الحامد أو غيره، و "الشكر" لغة: هو الحمد اصطلاحًا، واصطلاحًا: صرف العبد جميع ما أنعم الله به عليه لما خُلِق لأجله، قال الله تعالى {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}

(4)

، وآثر لفظة الجلالة دون باقي الأسماء كالرحمن والخالق؛

= ولذلك تجد لفظ "الرحمن" لا يُثنَّى ولا يُجمع، بخلاف "الرحيم". تنبيه: استدلال المصنف بما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كلُّ أمر ذي بال لا يُبدأ فيه ببسم الله" وفي رواية: "بالحمد الله" لا يصح؛ لأن الحديث ضعيف، وقد أطال الألباني في بيان ضعفهما في الإرواء (1/ 19 و 21).

(4)

مسألة: يُستحب للمصنفين وغيرهم أن يحمدوا الله -بعد البسملة- في بداية أي عمل، لقاعدتين: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ} وهو أمر مطلق، فيقتضي الوجوب، وصُرف عنه إلى الاستحباب بالسنة الفعلية، حيث إنه صلى الله عليه وسلم كان لا يُداوم على الحَمْدَله في كل خطبه، الثانية: القياس، بيانه: كما أن القرآن قد ذكر فيه الحَمْدَله بعد البسملة، فكذلك غيره مثله، والجامع: أن كلًا منها كتب فيها منافع، فإن قلتَ: لِمَ استحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن في الحمد في بداية أيِّ عمل زيادة في نفع هذا العمل وبركة فيه، قال تعالى:{لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} . [فرع]: يجتمع "الحمدُ" و "الشكرُ" في أنَّ كلًا منهما ثناء في مقابلة نعمة، ويفترقان: بأن "الحمد" يكون ثناء على الله تعالى بسبب كل إنعام سواء كان على الحامد أو على غيره، فهو تصرُّف مشعرٌ بتعظيم المنعم؛ لكونه منعمًا مطلقًا، وهذا يكون بالقلب وهو: اعتقاد كونه موصوفًا بالكمال على الكمال الذي هو عليه، ويكون باللسان، وهو أن يذكر =

ص: 11

إشارة إلى أنه كما يُحمد لصفاته يُحمد لذاته، ولئلا يُتوهَّم اختصاص استحقاقه الحمد بذلك الوصف دون غيره (حمدًا) مفعول مطلق، مُبيِّن لنوع الحمد؛ لوصفه بقوله:(لا يَنْقَد) بالدال المهملة وفتح الفاء: ماضيه: نَفِدَ بكسرها أي: لا يفرغ (أفضل ما ينبغي) أي: يُطلب (أن يُحمد) أي: يُثنى عليه ويوصف، و "أفضل" منصوب على أنه بدل من "حمدًا" أو صفته، أو حال منه، و "ما" موصول اسمي، أو نكرة موصوفة، أي: أفضل الحَمْد الذي ينبغي، أو أفضل حَمْدٍ ينبغي حمده به

(5)

= ألفاظًا دالة على اتصافه بصفات الجلال، كقول المكلَّف:"أحمد الله الذي لا إله إلا هو"، ويكون بالجوارح، وهو: أن يأتي بأفعال دالة على ذلك كالتصدُّق، وعمل نوافل وطاعات، وهذا تعريف "الحمد" اصطلاحًا، ويمكن أن يُعرَّف "الشكر" به لغة، أمَّا "الشكر" فهو: ثناءٌ على الله بسبب إنعامه على الحامد فقط: من سَمْعٍ وبَصَر، وغِنى، وصحة ونحوها، لذلك قال تعالى:{وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} فيكون -بناء على ما سبق-: "الحمد" أعم من "الشكر" حيث يكون "الحمد" مع الإنعام عليك وعدمه، أمَّا "الشكر" فلا يكون إلا مع ما أنعم الله عليك فقط، وقد أطال ابن القيم في "مدارج السالكين"(2/ 246) والتفتازاني في "شرح التلخيص"(321) الكلام عن ذلك.

(5)

مسألة: قُرن "الحمد" بلفظ الجلالة -وهو: "الله"- حيث يُقال دائما "الحمد لله" ولا يُقرن بغير ذلك الاسم فلا يُقال: "الحمدُ للرحمن" أو "الحمدُ للخالق" ونحو ذلك؛ للتلازم؛ حيث إن "الله" أخصُّ أسماء الله تعالى، وهُو الاسم الأعظم من أسمائه؛ لعدم مشاركة غيره له فيه وأن الحمد لذاته سبحانه مستمر له لا ينقطع؛ لعدم انقطاع نعمه وأفضاله التي لا تنْفَد ولا تفرغ فلزم من ذلك إلصاق وقرن الحمد بأخص أسمائه وهو:"الله" فإن قلتَ: لِمَ ورد هذا؟ قلتُ: لأجل أن يعتقد المكلَّف: أن الله تعالى محمود قبل حمد الخلق له، وليس بحاجة إلى حمدهم، =

ص: 12

(وصلى الله) قال الأزهري: معنى "الصلاة" من الله تعالى: الرحمة، ومن الملائكة: الاستغفار، ومن الآدميين: التضرع والدعاء (وسلَّم) من السلام، بمعنى: التحية، أو السلامة من النقائص والرذائل، أو الأمان، والصلاة عليه صلى الله عليه وسلم مُستحبة تتأكد يوم الجمعة وليلتها، وكذا كلَّما ذُكر اسمه، وقيل بوجوبها إذًا، قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} وروي: "من صلى عليَّ في كتاب لم تزل الملائكة تستغفر له ما دام اسمي في ذلك الكتاب"

(6)

، وأتى بـ "الحَمْد" بالجملة

= ولكن مصلحتهم اقتضت حمده سبحانه، فإن قلتَ: إذا كان الأمر كذلك فلِمَ ذكر هذا هنا؟ قلتُ: للرَّد على من زعم أنه سبحانه لا يحمد إلا إذا اتصف بالرحمة أو الخلق أو نحوهما، لذا قرَّر أهل السنة والجماعة: وجوب حمد المسلم لربه في جميع الأحوال، فالحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه، وما يصيب المسلم من مصائب في الظاهر فقط، وهي مصالح، ولكن العبد عجز أن يُدرك تلك المصالح، فيجب أن يحمد المسلم الله على كل شيء، وسيجد الخير بين يديه وهذا التقرير يكون صحيحًا على اختلاف إعراب "حمدًا" و "أفضل" و "ما" كما ذكر المصنف.

(6)

مسألة: يُستحب للمصنفين وغيرهم ممن يبدأون أعمالًا: أن يُصلُّوا على النبي ويُسلموا عليه قائلين: "وصلى الله وسلم على نبينا محمد" -وذلك بعد البسملة والحمدله- وأن يفعلوا ذلك في كل وقت لكن تتأكد هذه الصلاة والسلام عليه في أوقات ثلاثة هي: "يوم الجمعة" و "ليلة الجمعة" و "كلما ذكر اسم النبي صلى الله عليه وسلم"، وتجب الصلاة عليه مرة واحدة في العمر؛ لقاعدتين: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} وهذا أمر بالصلاة على النبي، وهو مطلق، فيقتضي الوجوب، ولا يقتضي التكرار فتكفي المرة الواحدة. الثانية: السنة القولية: وهي من وجوه: أولها: قوله صلى الله عليه وسلم: "من =

ص: 13

الاسمية الدالة على الثبوت والدَّوام؛ لثبوت مالكية الحمد واستحقاقه له أزلًا وأبدًا

(7)

وبـ "الصلاة" بالفعلية الدالة على التجدد أي الحدوث؛ لحدوث المسؤول وهو: الصلاة أي: الرحمة من الله

(8)

(على أفضل المصطفين محمد) بلا شك؛ لقوله

= صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشرًا" وهذا عام في الأوقات والأمكنة؛ لأن "مِنْ" الشرطية من صيغ العموم، ثانيها: قوله صلى الله عليه وسلم: "أكثروا علي من الصلاة يوم الجمعة" والليلة تابعة لليوم، وصرفه إلى الاستحباب الحديث الذي قبله؛ حيث لا يلزم منه الوجوب. ثالثها: قوله صلى الله عليه وسلم: "فلا أذكر عند مسلم فيصلي علي إلا قال ملكان غفر الله له"، فإن قلتَ: لم استُحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة، حيث إن الصلاة على النبي سبب لحصول البركة في العمل، ولاستجابة الدعاء، ولإزالة الهموم والغموم، ولجلب الرزق، وتكثير الحسنات كما ورد. تنبيه: استدلال المصنف بما روي أنه قال: "من صلى علي في كتاب

" لا يصحُ، لأن الحديث ضعيف وقيل: إنه موضوع: فائدة: المراد بـ "السلام" هو: إلقاء التحية المعروفة أو الدعاء له بالسلامة من النقائص والرذائل، وطلب الأمان من الله له، وإبعاد الخوف كما ورد ذلك في "الصحاح" (5/ 1951) وتفسير القرطبي (14/ 237).

(7)

مسألة: ذكَر "الحمد" بالقرآن بالجملة الاسمية دون الفعلية في الفاتحة فقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} ؛ للتلازم حيث يلزم من كون الحمد حقٌ له سبحانه ثابت على الدوام مستحقه قديمًا وحديثًا، ومستقبلًا لاستمرار النعم على عبيده: فناسب أن يُعبَّر ذلك بالجملة الاسمية الدالة على الثبوت والدوام، حيث إنه محمود قبل حمد الحامدين.

(8)

مسألة: ذُكِرت "الصلاة على النبي" بالقرآن بالجملة الفعلية دون الاسمية، حيث قال تعالى:{صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} ؛ للتلازم؛ حيث يلزم من حدوث =

ص: 14

صلى الله عليه وسلم: "أنا سيد ولد آدم ولا فخر"، وخص ببعثه إلى الناس كافة، وبالشفاعة والأنبياء تحت لوائه، و "المصطفون" جمع مصطفى، وهو: المختار: من "الصفوة" و "طاؤه" منقلبة عن "تاء"

(9)

، و "محمَّد"، من أسمائه صلى الله عليه وسلم، سمي به؛ لكثرة خصاله الحميدة، سمِّي به قبله سبعة عشر شخصًا على ما قاله ابن الهائم عن بعض الحفاظ، بخلاف "أحمد" فإنه لم يُسمَّ به قبله

(10)

وعلى آله) أي: أتباعه على دينه،

= الشيء المدعو والمطلوب تجدُّده وهو: "الصلاة" التي هي: الرحمة من الله المقرونة بالتعظيم: أن يُعبِّر عنه بالجملة الفعلية؛ لكون الفعل يدلُّ على حدوث شيء لم يكن من قبل.

(9)

مسألة: النبي صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء والمرسلين المصطفين والمختارين من قبل الله تعالى؛ للتلازم؛ حيث إن إرساله إلى جميع الناس، واختصاصه بالشفاعة العُظمى، وهو: المقام المحمود الذي يحمده فيه الأولون والآخرون، وكون الأنبياء جميعًا تحت لوائه: يلزم منه: أن يكون أفضل الخلق، قال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} ، وقال صلى الله عليه وسلم:"وكان النبي يُبعث إلى قومه خاصَّة، وبُعثت إلى الناس كافَّة" وقال: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وبيدي لواء الحمد ولا فخر، وما من نبي يومئذٍ. آدم ومن سواه إلا تحت لوائي، وأنا أول من تنشق عنه الأرض ولا فخر"، فإن قلتَ: لم عَبَّر بالمصطفى؟ قلتُ: لأن هذا الاسم أدلّ لفظ على الاختيار، والخلاصة: مأخوذ من الصفوة، والاصطفاء: الاختيار -كما في "اللسان"(14/ 413) - فإن قلتَ: لم قُلِبت "التاء": طاء، حيث أن الأصل:"مصتفى"؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن "الصاد" من حروف الإطباق -وهو: إطباق اللسان على اللهاة- فلا يستطيع الناطق أن ينتقل بسرعة من "الصاد" إلى "التاء" فقُلِبت "طاء"؛ تسهيلًا للنطق.

(10)

مسألة: ألهم الله عز وجل عبد المطلب جدَّ النبي صلى الله عليه وسلم: بأن يُسمّيه "محمَّدًا"؛ للتلازم؛ حيث إنَّ وَصْفَه بكونه محمودًا حمدًا أكمل من غيره، وأن حمده لربه كان قبل =

ص: 15

نصَّ عليه "أحمد"، وعليه أكثر الأصحاب، ذكره في "شرح التحرير" وقدَّمهم؛ للأمر بالصلاة عليهم

(11)

وإضافته إلى الضمير جائزة عند الأكثر، وعمل أكثر المصنفين عليه، ومَنَعه جمعٌ: منهم: الكسائي، والنحاس، والزُّبيدي

(12)

= حمد الناس له وأنه مستغرق لجميع المحامد، يلزم منه أن يُسمَّى بهذا -كما في "الصحاح"(2/ 466)، وتفسير البغوي (1/ 358) - فائدة: ذكر ابن الهائم: أنه تسمَّى بهذا الاسم قبل النبي صلى الله عليه وسلم سبعة عشر شخصًا، وذكر منهم السَّخاوي في "القول البديع"(ص 109) أربعة عشر أما "أحمد" فلم يتسمَّ به أحدٌ قبله صلى الله عليه وسلم لكمال حمده الله تعالى.

(11)

مسألة: يُستحب لمن صلى على النبي: أن يُصلي على آله -وهم: أتباع النبي صلى الله عليه وسلم من أهل دينه إلى قيام الساعة؛ - للقياس، بيانه: كما أنه يُصلى عليهم في التشهد الأخير؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "قولوا: اللهم صلِّ على محمد و على آل محمد" -فكذلك يُستحبُّ هنا، والجامع: الدعاء لهم وإكرامهم؛ نظرًا لصبرهم على القيام بهذا الدِّين خير قيام؛ وهذا هو المقصد منه فإن قلتَ: لِمَ فُسِّر "الآل" بأنهم الأتباع هنا؟ قلتُ: للاستعمال اللغوي؛ حيث إن لفظ "الآل" يُستعمل عند العرب في الأتباع جميعًا - كما في "المصباح"(29)، و "الإعلام"(1/ 112).

(12)

مسألة: يجوز أن يُضاف "الآل" إلى الضمير، فيقال:"وآله" وهو مذهب أكثر أهل اللغة والشريعة؛ للقياس، بيانه: كما يجوز أن يُضاف إلى العَلَم فيُقال: "وآلُ محمد" فكذلك يجوز أن يُضاف إلى ضميره، والجامع: أن كلًا منهما لا يُخِلُّ بالمراد، فإن قلتَ: لا يجوز ذلك، وهو مذهب كثير من أهل اللغة فلا يقال:"وآله"؛ للتلازم؛ حيث إن "آل" متوغِّل في الإبهام، فيلزم منه: ألا يصح له الضمير، قلتُ: لا نسلم توغُّله في ذلك، بل هو واضح المرجع والمراد. فإن قلتَ =

ص: 16

(وأصحابه): جمع صاحب بمعنى الصحابي، وهو: من اجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم مؤمنًا، ومات على ذلك، وعطفهم على "الآل" من عطف الخاص على العام

(13)

، وفي الجمع بين "الصَّحب" و "الآل" مخالفة للمبتدعة؛ لأنهم يوالون "الآل" دون "الصحب" (ومن تعبَّد) أي: عبدَ الله تعالى، والعبادة: ما أُمر به شرعًا من غير اطراد عرفي، ولا اقتضاء عقلي

(14)

(أما بعد) أي: بعد ما ذكر: من حمد الله، والصلاة

= ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "الخلاف في الآل هل هو متوغِّل في الإبهام؟ " فعندنا: لا. وعندهم: نعم.

(13)

مسألة: يُستحب لمن صلى على النبي وآله أن يصلي على الصحابة وهم: كل من اجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم مؤمنًا به ومات على ذلك، هذا عند المحدثين؛ للمصلحة؛ حيث إن الصحابة أفضل هذه الأمة -بعد الأنبياء والرسل- وأبرُّها قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقلها تكلفًا، وأكثرها إقامة للدين، وأعلمها بمقاصد الشريعة، فمن جلب المصالح الدعاء لهم بهذا، وقد فرَّقتُ بين تعريف الأصوليين للصحابي، وتعريف المحدثين في كتاب "مخالفة الصحابي للحديث النبوي"، فإن قلتَ: لم يذكر "الصحابة" مع أنهم داخلين في عموم لفظ "الآل"؟ قلتُ: للاهتمام بهم، وتعظيم شأنهم، وهو من باب: عطف الخاص -وهم الصحابة- على العام -وهم الأتباع-، وهذا الأسلوب تستعمله العرب للاهتمام بما ذكر ثانيًا لذا ورد في القرآن في قوله:{مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ} مع أن جبريل عليه السلام داخل ضمن الملائكة، ولكنه خصصه بالذكر للاهتمام به كما قال المفسرون.

(14)

مسألة: أهل السنة والجماعة من المصنفين وغيرهم يجمعون بين ذكرهم "الآل" و "الصحب" فيقولون: "وآله وصحبه"؛ للسنة القولية حيث قال صلى الله عليه وسلم: "إن الله اختارني واختار لي أصحابًا وأصهارًا"، حيث إنه نكرةُ في سياق إثبات، فيكون مطلقًا، وهذا في جميع الصحابة، فيشمل قرابته كعلي وفاطمة وأولادهما وزوجاته، =

ص: 17

والسلام على رسوله، وهذه الكلمة يؤتى بها للانتقال من أسلوب إلى غيره، ويستحب الإتيان بها في الخطب والمكاتبات؛ اقتداء به صلى الله عليه وسلم؛ فإنه كان يأتي بها في خطبه وشبهها حتى رواه الحافظ عبد القاهر الرهاوي في "الأربعين" التي له عن أربعين صحابيًا، ذكره ابن قندس في "حواشي المحرَّر"، وقيل: إنها فصل الخطاب المشار إليه في الآية، والصحيح: أنه: الفصل بين الحق والباطل، والمعروف: بناء: "بعدُ" على الضم، وأجاز بعضهم تنوينها مرفوعة، ومنصوبة، والفتح بلا تنوين على تقدير المضاف إليه

(15)

(فهذا) إشارة إلى ما تصوُّره في الذهن، وأقامه مقام

= وغير هؤلاء من بقية الصحابة، أما غير أهل السنة والجماعة: فهم يذكرون "الآل" فقط قاصدين بهم: علي وفاطمة وأولادهما، دون غيرهم، فيوالونهم، ويتشيعون لهم، ولا يذكرون الصحابة. وهذا مخالف للصحيح كما قلنا، فإن قلتَ: لم شرع الجمع؟ قلتُ: لبيان أن الصحابة في رتبة واحدة في فضل الصحبة. [فرع]: لا يُصلَّى ولا يُسلَّم على غير الأنبياء إلا تَبَعًا، فيقال:"اللهم صل على محمد وعلى آله وصحبه" أما المنفرد -من غير الأنبياء- فلا يُصلى عليه" فلا يُقال: فلان عليه الصلاة والسلام؛ لقول الصحابي، حيث قال ابن عباس: "لا تنبغي الصلاة على أحد إلا على الأنبياء" فإن قلتَ: لم لا يُصلى على المنفرد؟ قلتُ: للمصلحة، حيث إن ذلك فيه سدُّ للذرائع، وفيه إغلاق باب المبالغة في المدح أو إعطاء أحد أكثر من حقه. فائدة: العابد: هو الذي يمتثل أوامر الله ويترك ما نهى عنه من الأفعال والأقوال الثابتة بالأدلة المعتبرة، ولا يكون مصدر ذلك: العرف والعادة عند الناس، ولا العقل وما يقتضيه.

(15)

مسألة: يُستحب لمن أراد أن يتكلم: أن يقول: "أمَّا بَعْدُ" -بعد البسملة والحمدله والصلاة على النبي وآله وصحبه- وبعدها يذكر ما يريده؛ للسنة الفعلية؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم يستعمل هذا الأسلوب في خطبه ومكاتباته؛ فإن قلتَ: لِمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة، حيث إن المتكلم يُعلِم السامع أنه سينتقل =

ص: 18

المكتوب المقروء الموجود بالعيان

(16)

، (مختصر) أي موجز، وهو: ما قلَّ لفظه وكثُر معناه، قال علي رضي الله عنه:"خير الكلام ما قلَّ ودلَّ، ولم يُطل فيُملَّ":

(17)

(في

= من مقَدِّمة كلامه والافتتاحية إلى قول مقصوده الأساسي من خطابه، فينتبه السامع لذلك ويستعد لفهم ما سيُقال بعدها، فإن قلتَ: إن "أَمَّا بَعْدُ" هي فصل الخطاب الذي أوتيه داود عليه السلام الوارد في قوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} حيث إن داود أول من قال: "أمَّا بعدُ" -كما في تفسير الطبري (23/ 79) - قلتُ: هذا بعيد؛ لأن فصل الخطاب المذكور في الآية هو: الفصل بين الحق والباطل كما قال كثير من العلماء المحققين؛ للتلازم؛ حيث إن ذلك لازم من لفظ "فصل الخطاب"، فإن قلتَ: لم تُضمُّ الدال من "بعدُ" دائمًا بدون تنوين مع أنه ورد تنوينها أو بالفتح بدون تنوين عن بعض أهل اللغة كما في "المحكم"(2/ 25) و "همع الهوامع"(3/ 193)؟ قلتُ: إن الدال تُضم في غالب ذكرها؛ لأن "بعدُ" من الظروف المبنية على الضم، وهي منقطعة عن الإضافة، والعامل فيها "أمَّا" لنيابتها عن الفعل، وأصله: مهما يكن من شيء بعد الحمد والثناء كما في "الصحاح"(2/ 148).

(16)

مسألة: يجوز أن يُشير المصنف في مقدمة كتابه قائلًا: "فهذا" مع أنه لم يكتبه، ولكنه عزم على فعله؛ للقياس؛ بيانه: كما أنَّ المصنِّف يُشير إلى كتابه الموجود -وهو ما فرغ منه- فكذلك يجوز أن يفعل ذلك في الكتاب الذي عزم على فعله ولم يكتبه، والجامع: الوجود في كل؛ حيث إن الوجود نوعان: وجود عيني، ووجود تصورُّي ذهني، من باب معاملة المعدوم معاملة الموجود، وعادة المصنفين إذا فرغوا من تصنيفهم: كتبوا المقدمة، فتكون الإشارة عينية.

(17)

مسألة: المختصر لغة: هو خلاصة الشيء، والموجز منه -كما في "الصحاح"(2/ 1173)،- وهو في الاصطلاح: إقلال الألفاظ تأدية المعنى مع مراعاة =

ص: 19

الفقه) وهو لغة: الفهم، واصطلاحًا: معرفة الأحكام الشرعية الفرعية بالاستدلال بالفعل، أو بالقوة القريبة

(18)

(من مُقنع) أي: من الكتاب المسمَّى بـ

= لفظ الأصل الذي اختصر، وما هذا وصفه فهو خير الكلام كما قال علي وغيره من أهل اللغة والشريعة؛ للمصلحة؛ حيث إن الكلام المختصر يسهل حفظه، وحمله، والرجوع إليه بيُسر، وعدم تركه إلى غيره، فإن قلتَ: إن هذا فيه معنى الإيجاز والتهذيب. قلتُ: يوجد فرق بينها: فالاختصار كما سبق بيانه و "الإيجاز": إيجاز المعنى من غير رعاية للفظ الأصل الذي اختُصر، بخلاف الاختصار فلا بدَّ من مراعاة ذلك، أما "التهذيب" فهو: أعم منهما؛ حيث إنه تنظيم المعلومات وترتيبها مطلقًا، أي: سواء صاحبه اختصار، أو لا، وسواء راعى لفظ الأصل أو لا، فيكون -على هذا- "الاختصار" أدقها وأصعبها؛ لاجتماع إيجاز اللفظ مع مراعاة لفظ الأصل ومعناه، ثم يليه "الإيجاز"؛ لعدم مراعاة اللفظ؛ ثم التهذيب؛ لعدم مراعاة اللفظ والمعنى. وقد تكلمتُ عن هذا في مقدمة كتابي:"المهذَّب في أصول الفقه المقارن".

(18)

مسألة: الفقه لغة: الفهم مطلقًا، أي: سواء كان الفاهم عالمًا أو لا، وسواء فهم المقصود من الفعل أو الكلام أولا: للاستقراء؛ حيث ثبت بعد تتبع النصوص: أن المراد بالفقه: إذا ورد في النصوص: الفهم كقوله تعالى: {فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} ، وقوله:{قَالُوا يَاشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ} وقوله صلى الله عليه وسلم: "فرُبَّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه" والمراد من ذلك: الفهم، والفقه في اصطلاح الأصوليين والمجتهدين هو:"معرفة الأحكام الشرعية الفرعية بالاستدلال بالفعل، أو بالقوة القريبة" والمراد بـ "المعرفة" العلم الذي هو مطلق الإدراك الشامل للقطع والظن، ولا يخصّ ذلك القطع؛ لكون أكثر الأحكام الفقهية ظنية لثبوتها بأدلة ظنية، و "الأحكام الشرعية": جمع حكم، والمراد: الحكم الشرعي الثابت بدليل شرعي معتبر، والمراد بـ =

ص: 20

"المقنع" تأليف (الإمام) المقتدى به شيخ المذهب (الموفق أبي محمد) عبد الله بن أحمد ابن محمد بن قدامة المقدسي، تغمده الله برحمته، وأعاد علينا من بركته (على قول واحد) وكذلك صنعتُ في شرحه، فلم أتعرض للخلاف؛ طلبًا للاختصار (وهو) أي: ذلك القول الواحد الذي يذكره ويحذف ما سواه من الأقوال -إن كانت- هو: القول (الراجح) أي: المعتمد (في مذهب) إمام الأئمة وناصر السنة أبي عبد الله: (أحمد) بن محمد بن حنبل الشيباني، نسبة لجده "شيبان" بن ذهل بن ثعلبة، والمذهب في الأصل: الذهاب أو زمانه أو مكانه، ثم أُطلق على ما قاله المجتهد بدليل ومات قائلًا به، وكذا: ما جرى مجرى قوله من فعل أو إيماء ونحوه

(19)

(وربما حذفتُ منه

= " الفرعية": العملية، وهي: أحكام الفقه، وهذا شامل للقواعد الأصولية؛ لأنها وسيلة إلى العمل؛ إذ لا يُراد منها العلم فقط، بل العلم والعمل بالقاعدة، وتكون هذه المعرفة أو هذا العلم ثابت لذلك الشخص بواسطة الاستدلال والنظر بالفعل والمباشرة منه حال سؤال السائل عن المسألة، أو يكون ذلك بالقوة القريبة: بأن يكون عنده التهيؤ والاستعداد الذهني والقدرة على استنباط حكم المسألة بنفسه؛ للتلازم؛ حيث يلزم من وجود تلك الشروط في تعريف الفقه: أن يكون من توفرت فيه فقيهًا يستطيع استنباط الأحكام للحوادث المتجددة، بخلاف من حفظ الأحكام، وقد فصَّلتُ القول في ذلك في كتابي:"المهذب" و "الإتحاف".

(19)

مسألة: لقد اهتم علماء الحنابلة بكتاب: "المقنع في الفقه" لابن قدامة، ومنهم أبو النجا الحجَّاوي؛ حيث اختصره بكتاب سمَّاه:"زاد المستقنع باختصار المقنع"، ثم شرح البهوتي "الزاد" شرحًا موجزًا جدًا بكتاب سمَّاه:"الروض المربع"، وهو هذا الكتاب الذي أقوم بشرحه وتنزيل فروعه على قواعد الأصول. فإن قلتَ: لم اهتم أكثر الحنابلة بالمقنع؟ قلتُ: لأنه أكثر الكتب جمعًا للفروع، والمسائل مع اختصار غير مخل -كما قال المرداوي في "الإنصاف"- وهو على رأي قد رجحه =

ص: 21

مسائل): جمع مسألة: من السؤال، وهي: ما يبرهن عنه في العلم (نادرة) أي: قليلة (الوقوع)؛ لعدم شدة الحاجة إليها (وزدتُ) على ما في "المقنع" من الفوائد (ما على مثله يُعتمد) أي: يُعوَّل؛ لموافقته الصحيح

(20)

؛ (إذ الهمم قد قصُرت) تعليل لاختصاره "المقنع" و "الهمم": جمع هِمَّة -بفتح الهاء وكسرها- يُقال: "هممتُ بالشيء": إذا أردته (والأسباب) جمع سبب، وهو: ما يُتوصل به إلى المقصود (المثبِّطة) أي: الشاغلة (عن نيل) أي: إدراك (المراد) أي: المقصود (قد كثُرت)؛ لسبق القضاء بأنه "لا يأتي عليكم زمان إلا وما بعده شرُّ منه حتى تلقوا ربَّكم"(و) هذا المختصر (مع صِغَر حجمه حوى) أي: جمع (ما يُغني عن التطويل)؛ لاشتماله على جُلّ المهمّات التي يكثر وقوعها ولو بمفهومه

(21)

(ولا

= الإمام أحمد بدليل ومات على ذلك: سواء كان نصًا منه أو إشارة، أو إيماء، أو تخريجًا، أو قياسًا على مذهبه، وهذا هو المذهب في عرف العلماء، حيث إنه مِنَ. الذهاب. تنبيه: قوله: "وأعاد علينا من بركته" أو قول غيره: "ببركة الشيخ": لا يصح؛ سدًا للذرائع؛ حيث إن إطلاق مثل هذه العبارات قد تؤدي إلى التبرك بالشيوخ والأولياء ونحوهم حتى بعد مماتهم، وهذا قد يُفضي إلى الشرك بالله تعالى. فائدة: المذهب يطلق على الزمان ومنه قولهم: "هذا اليوم مذهب فلان إلى السوق" أي: زمن ذهابه إليه، ويطلق على المكان ومنه قولهم:"هذا الطريق مذهب فلان" أي مكان ذهابه كما في "اللسان"(1/ 394).

(20)

مسألة: منهج الحجاوي في اختصار كتاب المقنع كالتالي: أولًا: أنه اقتصر على ذكر مذهب واحد فقط، وهو الراجح عند الإمام أحمد، ثانيًا: أنه زاد مسائل يحتاج إليها أكثر الناس. ثالثًا: أنه حذف من "المقنع" ما لا يحتاجه الناس من المسائل.

(21)

مسألة: سبب اختصار الحجاوي للمقنع يرجع إلى أمرين: أولهما: ضعف همم وعزائم الناس في وقته وانشغالهم عن طلب العلم والصبر عليه ثانيهما: =

ص: 22

حول ولا قوة إلا بالله) أي: لا تحوُّل من حال إلى حال ولا قوة على ذلك إلا بالله، وقيل:"لا حول عن معصية الله إلا بمعونة الله، ولا قوة على طاعة الله إلا بتوفيق الله"، والمعنى الأول أجمع وأشمل (وهو حسبنا) أي: كافينا (ونعم الوكيل) جل جلاله أي: المفوض إليه تدبير خلقه والقائم بمصالحهم، أو الحافظ، و "نعم الوكيل" إما معطوف على "وهو حسبنا" والمخصوص محذوف، أو على "حسبنا" والمخصوص هو الضمير المتقدم.

(22)

= أن كتاب الزاد مع اختصارهُ يغنيهم عن غيره من كثير من المطولات؛ لاشتماله على أكثر المسائل التي تهم المكلّفين سواء كان ذلك بمنطوق المسائل، أو بمفهومها.

(22)

مسألة: يُستحب لأيِّ متكلّم في كتاب أو غيره أن يقول: "لا حول ولا قوة إلا بالله" ويقول: "وهو حسبُنا ونعم الوكيل"؛ للسنة القولية وهي من وجهين: أولهما: أنه صلى الله عليه وسلم قد أخبر أن كلمة: "لا حول ولا قوة إلا بالله" كنز من كنوز الجنة من كرَّرها في شؤونه فاز وأُعين في أموره، ثانيهما: أنه صلى الله عليه وسلم قال: "حسبُنا الله ونعم الوكيل" حينما أخبر بأن الناس قد جمعوا له، فإن قلتَ: لِمَ استُحب ذلك؟ قلتُ للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه إعانة للمكلف إذا قالهما بإذن الله. هذه آخر مسائل الافتتاحية والديباجة ويلي ذلك كتاب الطهارة وأوله: "حقيقة الكتاب والطهارة والمياه المتطهر بها".

ص: 23

‌كتاب الطهارة

(كتاب): هو من المصادر السَّيَالة التي توجد شيئًا فشيئًا، يُقال:"كتبتُ كتابًا وكتبًا وكتابة" وسُمِّي المكتوب به مجازًا، ومعناه لغة: الجمع: من "تكتَّب بنو فلان": إذا اجتمعوا، ومنه قيل لجماعة الخيل "كَتْيبَة" و "الكتابة بالقلم"؛ لاجتماع الكلمات والحروف، والمراد به هنا "المكتوب" أي: هذا مكتوب جامع لمسائل (الطهارة) مما يوجبها، ويُتطهر به ونحو ذلك

(1)

، بدأ بها؛ لأنها مفتاح الصلاة التي هي آكد أركان

‌كتاب الطهارة

‌حقيقة الكتاب والطهارة والمياه المتطهَّر بها

وفي ذلك إحدى وخمسون مسألة:

(1)

مسألة: الكتاب لغة: الجمع والضم، ومنه قولهم:"تكتب بنو فلان" إذا اجتمعوا وانضم بعضهم إلى بعض، ومن ذلك مصطلح "كَتيْبَة" تطلق على جمع من الجنود في الجيش، ومصطلح "الكتابة" أو "الكتاب"؛ لكونه قد جُمع فيه الحروف والكلمات والفوائد، والكتاب إصطلاحًا هو: الجامع لمسائل بينها علاقة مشتركة، وهي مكتوبة فيه فـ "كتاب الطهارة" هو جامع لكل مسألة تخصُّ الطهارة؛ من شروطها، ونواقضها ونحو ذلك، ولفظ "الكتاب" يُعتبر من المصادر السَّيَّالة - والمراد بذلك: التي توجد شيئًا فشيئًا، أي: يوجد مصدر بعد مصدر فيُقال: "كتبتُ كتابًا وكتبًا وكتابة" مثل "الكلام" يُقال: "تكلمتُ كلامًا وكلمًا، وكلمات" ومنها "الصياغة" و "الخياطة" ونحو ذلك؛ للاستعمال اللغوي؛ حيث إن العرب تستعمل ذلك في لسانها -كما في "اللسان"(1/ 698) و "المصباح"(2/ 524) - فإن قلتَ: لِمَ سُمِّي بـ "الكتاب" مع أنه مكتوب؛ حيث إنه كتب باليد كالمقتول؟ قلتُ: إن الاستعمال الحقيقي لذلك: أن يُسمَّى "مكتوبًا"، وسُمِّيَ "كتابًا" عن طريق المجاز؛ =

ص: 24

الإسلام -بعد الشهادتين- ومعناها لغة: النظافة والنزاهة عن الأقذار، مصدر:"طهُر""يطهُر" -بضم الهاء فيهما- وأما "طهر" -بفتح الهاء: فمصدره: "طهرًا": كَحَكَم حكمًا، وفي الاصطلاح: ما ذكره بقوله: (وهي: ارتفاع الحدث) أي: زوال الوصف القائم بالبدن المانع من الصلاة ونحوها (وما في معناه) أي معنى ارتفاع الحدث: كالحاصل بغسل الميت، والوضوء والغسل المستحبَّين، وما زاد على المرة الأولى في الوضوء ونحوه وغسل يدي القائم من نوم الليل ونحو ذلك، أو بالتيمم عن وضوء أو غسل (وزوال الخبث) أي النجاسة أو حكمها بالاستجمار، أو بالتيمم في الجملة على ما يأتي في بابه، فالطهارة: ما ينشأ عن التطهير، وربما أطلقت على الفعل كالوضوء والغسل،

(2)

= حيث إنه مصدر، وهذا من باب تسمية المفعول بالمصدر، ونُسِيَت الحقيقة كالغائط -كما سيأتي في الاستنجاء.-

(2)

مسألة: الطهارة لغة: النظافة والنزاهة عن الأقذار والأدناس حسِّية كانت كالأنجاس، أو معنوية كالعيوب؛ يُقال:"الثوب طاهر" أي: نظيف، ويُقال:"فلان طاهر" أي: خالي عما يُدنسه من العيوب، ولفظ "الطهارة" مصدر "طهر" -بفتح الهاء وضمها- للاستعمال اللغوي؛ حيث إنه ورد عن العرب أنها تستعمل ذلك في لغتها ولسانها -كما في "اللسان" (4/ 504) و "المصباح" (1/ 379) - والطهارة في الاصطلاح هي:"ارتفاع الحدث، وما في معناه وزوال الخَبَث" والمراد منه: أن المسلم إذا أحدث -كأن أخرج غائطًا أو بولًا أو ريحًا أو منيًا، أو حاضت امرأة أو نَفَست، وهو الوصف المانع من صحة الصلاة والطواف، وأراد الصلاة أو الطواف أو مسَّ المصحف -مما لا يُفعل إلا بالطهارة- فيجب عليه أن يتطهَّر بشروط وأوصاف سيأتي ذكرها -لأجل أن يرفع ذلك الحدث، وذلك إما بالوضوء، أو بالغسل، أو بالبدل عنهما، وهو التيمم- عند عدم الماء أو العجز =

ص: 25

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

عن استعماله - وكذلك إذا أصابت نجاسة بدنه أو ثوبه أو المكان الذي يُريد أن يُصلي فيه: فإنه لا تصحُّ صلاته إلا إذا أزال تلك النجاسة والخبث، فهذه هي الطهارة الحقيقية، فإن قلتَ: لِمَ قال: "وما في معناه"؟ قلتُ: ليُبيِّن أن هناك صورًا تُطلق عليها الطهارة ولكن هذا الإطلاق مجازي، منها:"غسل الميت" فإنه يُغسل كغسل الجنابة، ولا يرفع حَدَثه، ومنها:"تجديد الوضوء" فإن المسلم يكون على طهارة ولكن أراد أن يُجدد هذا الوضوء، ومنها:"غُسل يوم الجمعة" أو "غُسل الإحرام" فإنه يفعل ذلك مع أنه على طهارة أحيانًا، ومنها:"الغَسْلة الثانية والثالثة للعضو الواحد من أعضاء الوضوء الأربعة فإنه يفعل مع أن طهارته قد تمَّت، ومنها "التيمُّم" فإنه يُفعل أنه لا يرفع الحدث، فما يفعله المسلم في هذه الصور تُسمى طهارة لكن هذه التسمية مجازية؛ لكون التطهر فيها جاء على صورة الطهارة فقط وإن لم ترفع حدثًا؛ للاستقراء؛ حيث ثبت بعد استقراء استعمال الطهارة: أنها قسمان: أولهما طهارة حدث، وهي تختص بالبدن، وتكون الطهارة منه بالغُسل، أو الوضوء، أو بالبدل عنهما عند تعذُّرهما وهو التيمم، ثانيهما: طهارة حَبَث -وهي النجاسة- وهي التي تكون في البدن، أو الإناء أو الثوب أو المكان، وتكون الطهارة منه: بالغسل، أو المسح، أو النضح، ولا ثالث لهذين القسمين للطهارة الحقيقية، أما غير ذلك فتسمَّى طهارة مجازية كما سبق. فإن قلتَ: لمَ عبَّر الفقهاء عن طهارة الحدث بـ "ارتفاع الحدث" وعن الخبث والنجاسة بـ "زوال الخبث"؟ قلتُ: لأنه يُحكم شرعًا على الحدث -بعد الطهارة- بأنه قد ارتفع وإن لم نر شيئًا؛ حيث إنا قد فعلنا ما أمر به الشارع، أمَّا "الخبث" و "النجس" فإنا نحكم بزواله حِسًّا؛ حيث إنه أمر محسوس؛ لكون الإزالة لا تكون إلا في الأجرام غالبًا -وهي النجاسات التي تكون في الثوب أو البدن أو المكان- فنراها ونرى زوالها، وهذا التفريق جاء من باب التلازم وهو واضح. فائدة: الطهارة في =

ص: 26

(المياه) باعتبار ما تتنوع إليه في الشرع (ثلاثة)

(3)

أحدها: (طهور) أي: مُطهِّر، قال

= الأصل تُطلق على أثر الوضوء والغُسل، وإذا أُطلقت على نفس فعل الوضوء والغُسل: فهو خلاف الأصل؛ للتلازم؛ حيث إن المسلم إذا توضأ أو اغتسل يلزم منه أن يُطلق عليه أنه متطهر؛ بخلاف من كان متلبسًا بالوضوء والغسل، فإن قلتَ: لِمَ يبدأ الفقهاء كتبهم بالطهارة؟ قلتُ: لقاعدتين: الأولى: قاعدة: "ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب" حيث إن الصلاة أكد وأعظم ركن -بعد الشهادتين- ولا تصح هذه الصلاة إلا بتقديم الطهارة فقُدمت أحكامها لذلك، وأن تعظيم الله تعالى واجب، ولا يتمُّ إلا بالطهارة من جميع الأقذار والأدناس الحسية والمعنوية، وأن جميع العبادات والمعاملات وغيرها لا يُمكن أن تتم على الوجه الأكمل إلا بالطهارة الظاهرة -وهي طهارة البدن والثوب والمكان- وبالطهارة الباطنة -وهي: طهارة القلوب من الحقد والحسد والكذب والخيانة والنفاق والبغض ونحو ذلك- الثانية: المصلحة؛ حيث إن غسل الأعضاء خمس مرات في اليوم والليلة، والغُسل من الجنابة والحيض والنفاس يتسبب في وقاية المسلم من الأمراض، ويُعطي الجسم نشاطًا، فيُقبل على عباداته وأعماله بكل قوة، ويُفضي ذلك إلى إيجاد مجتمع خال من الأمراض والأوبئة.

(3)

مسألة: المياه ثلاثة أنواع: "ماء طهور" و "ماء طاهر" و "ماء نجس"؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: في البحر لما سُئل عن التطهر به: "هو الطهور ماؤه" فالسائلون يعلمون أن ماء البحر طاهر؛ حيث إنهم يغسلون أبدانهم وثيابهم منه ولكنهم سألوا: هل يُطهِّر غيره؟ فأجابهم صلى الله عليه وسلم بأنه يُطهر غيره، فيلزم من ذلك وجود ماء طاهر، وماء طهور، الثانية: التلازم؛ حيث إن الماء قسمان: أولهما: ما يجوز التطهر به وهو: الماء الطهور، ثانيهما: ما لا يجوز التطهر به وهو نوعان: الأول: "الماء الطاهر" وهو الذي لا يُطهِّر ولا يُنجِّس -كما ذكر القرافي في "الذخيرة"(1/ 174)، وهو المستعمل في الشرب =

ص: 27

ثعلب: "طَهور -بفتح الطاء- الطاهر في ذاته المطهر لغيره" أ. هـ، قال تعالى:{وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} (لا يرفع الحدث) غيره، والحدث ليس بنجاسة، بل معنى يقوم بالبدن يمنع الصلاة ونحوها، والطاهر: ضدُّ المحدث

= وغسل الأواني والثياب ونحوها، الثاني:"الماء النَّجس" وهو لا يطهر ويُنجِّس غيره، وهو لا يستعمل لشيء، فيلزم من هذا التقسيم: أن هناك "ماء طاهر" و "ماء طهور"، فإن قلتَ: إن الماء قسمان: "طهور" و "نجس" ولا يوجد "طاهر"؛ وهو رأي كثير من علماء الحنابلة وغيرهم؛ للاستصحاب؛ حيث لا يوجد دليل يُثبت "الماء الطاهر" فيبقى على النفي الأصلي. قلتُ: لقد ثبت وجود ماء طاهر بالسنة والتلازم وقد سبقا. فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "اختلاف نظر العلماء إلى الماء" فمن قسَّم الماء إلى ثلاثة أقسام نظر إلى الماء من حيث التطهير والتنجيس والنفع العام، وتعدِّي ذلك وعدم ذلك؛ حيث إنهم سَمَّوا الماء الطاهر لغيره بـ "الطهور"، وسَمُّوا الماء الطاهر الذي لا يُنجِّس غيره من الثياب والأمكنة والأبدان بـ "الطاهر"، وسَمُّوا الماء الغير طاهر والذي يُنجس غيره من الثياب والأبدان والأمكنة بـ "النجس" ففرقوا بينها؛ لوجود هذا الفرق، حقيقة، أما من قسَّم الماء إلى قسمين: فإنه نظر إلى الماء الذي يُتطهر به وغيره فسمُّوا الماء الذي يُتطهر به بـ "الطهور" والماء الذي لا يُتطهر به بـ "النجس" وظاهر مثل هذا الخلاف: أنه لفظي، فإن قلتَ: لِمَ يبدأ الفقهاء الطهارة بالمياه؟ قلتُ: للتلازم؛ حيث إن كون الماء هو الأصل في التنظيف والتطهير وإزالة النجاسات؛ لما يتميز به من الرقة والدقة واللطافة وسرعة السيلان: يلزم منه أن يُبدأ بمباحثه، فإن عُدم فالتيمم؛ رخصة. فائدة:"المياه": جمع كثرة من "ماء"، وجمع القلة منه:"أمواه" وقد ذكرت التفريق بين جمع القلة والكثرة في كتابي: "أقل الجمع عند الأصوليين" وحاصله: أن جمع الكثرة: ما فوق العشرة، وجمع القلة هو: العشرة وما دونها، فائدة أخرى:"الماء" هو: جوهر سَيَّال بطبعه دقيق رقيق لطيف سريع الجريان والسيلان مُطهر مزيل لسائر النجاسات.

ص: 28

والنجس (ولا يُزيل النجس الطارئ) على محل طاهر فهو النجاسة الحكمية (غيره) أي: غير الماء الطهور، والتيمم مبيح لا رافع، وكذا: الاستجمار

(4)

(وهو)

(4)

مسألة: الماء الطهور -وهو: الطاهر في نفسه المطهر لغيره- هو الذي يرفع الحدث ويُزيل الخبث -وهي: النجاسة الطارئة- دون غيره من المائعات الأخرى -كالعصيرات والمشروبات الغازية والشاي والقهوة. القواعد الأولى: الكتاب وهو من وجهين: أولهما: قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} حيث دلّ منطوق ذلك على أنه يُتطهر بالماء، فإن لم يكن فالتيمم ولا ثالث لهما، ودلَّ مفهوم التقسيم على أن غيرهما لا يُستعمل للطهارة؛ لكون المائعات الأخرى لا يُطلق عليها ماء ولا ترابًا لغةً ولا شرعًا، ثانيهما: قوله تعالى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} حيث أثبت الطهورية للماء فقط؛ لخروج ذلك مخرج الامتنان، فلو شاركه غيره: لبطلت فائدة ذلك الامتنان، ودلَّ بمفهوم الصفة على أن غير الماء لا يُطهر، الثانية السنة القولية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قال:"إذا أصاب إحداكن الدم من الحيضة فلتقرصه ثم تنضحه بماءٍ ثم تصلِّ فيه" وأيضًا: أمر صلى الله عليه وسلم بصبِّ ذنوب من ماء على بول الأعرابي الذي بال في المسجد" حيث دل التقييد بالماء على أن الماء الطهور هو المزيل لأي نجاسة سواء كانت دمًا أو بولًا، أو غيرهما، من باب مفهوم الموافقة ودلَّ مفهوم التقييد بالماء هنا على أن غير الماء -من المائعات- لا يُزيل النجاسة الثالثة: الاستعمال العربي؛ حيث إن العرب يستعملون هذا اللفظ -وهو طهور- لشيء يزيد على الطاهر؛ لأن "فَعُول" هي صفة تزيد عن فاعل، وتكون الزيادة هي التعدي إلى تطهير غيره، فإن قلتَ: لمَ بُدي بالماء الطهور؟ قلتُ: لبيان أن الماء الطهور هو الأصل في طهارة وتنقية وتنظيف وإزالة كل القاذورات والأوساخ، وهو الذي يرفع الحدث حقيقة، دون غيره من المائعات، ولكن قد تسامح الشارع بالتيمم عند عدم الماء، والاكتفاء بالاستجمار بالأحجار المنقية؛ رخصة لدفع المشقة والحرج؛ لقلة المياه أو لمشقة استعماله، فهما -أي: التيمم والاستجمار- غير رافعين للحدث أو النجس حقيقة، وسيأتي الكلام عن ذلك، فإن قلتَ: لم قُيدت النجاسة بالطارئة؟ قلتُ: للاحتراز عن النجاسة =

ص: 29

أي: الطهور (الباقي على خِلْقَتهِ) أي: صفته التي خلق عليها: إما حقيقة: بأن يبقى على ما وُجد عليه: من برودةٍ أو حرارةٍ أو ملوحةٍ ونحوها، أو حكمًا كالمتغيِّر بمكث، أو طُحْلُب ونحوه مما يأتي ذكره

(5)

(فإن تغيَّر بغير ممازج) أي: مخالط (كقطع كافور) وعود قماري (أو دهن) طاهر على اختلاف أنواعه، قال في "الشرح" وفي معناه: ما تغير بالقطران، والزفت والشمع؛ لأن فيه دهنية يتغيَّر بها الماء

(6)

= الأصلية كنجاسة الكلب والخنزير؛ حيث لا يمكن تطهيرهما ولو غُسلا مائة مرة بالماء أو بغيره من المنظفات.

(5)

مسألة: يُشترط في الماء الطهور: أن يكون باقيًا على صفته التي خُلق عليها، دون تغيير: سواء كان هذا البقاء حقيقة وواقعًا، أو كنا قد حكمنا شرعًا بظهوريته ولو وقع فيه شيء طاهر لا يمكن الاحتراز منه، وتغيَّر به: كطول مكثه أو سقوط أوراق الأشجار فيه ونحو ذلك -أو وجود "طحلب"- وهو شيء أخضر يعلو الماء؛ لقاعدتين: الأولى: الكتاب، حيث قال تعالى:{وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} فقد وصف الماء بأنه طهور، والطهور -كما سبق- هو: الطاهر في نفسه المطهر لغيره؛ لكون "طهور" من الأسماء المتعدية. الثانية: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "الماء طهور لا يُنجسه شيء" وقال صلى الله عليه وسلم في البحر-: "هو الطهور ماؤه" ويُقال فيه كما قيل في الآية، وهذا لا يخلو من تغيرُّه بسبب طول بقاء أو نحو ذلك، فإن قلتَ: لم اشترط ذلك؟ قلتُ: لبيان أن الماء الباقي على أصل خِلْقَتهِ هو: الذي تتوفر فيه شروط التطهير والتنظيف، للكونه دقيقًا رقيقًا سريع السيلان مُزيلًا لجميع الأوساخ والأقذار، بخلاف غيره من المائعات -كماء الورد وماء الزعفران ونحوها- فإنه لا يُنظف، بل يزيد الأوساخ والأقذار؛ لما يتميز به من اللزوجة.

(6)

مسألة: يباح التطهر بماء وقع فيه شيء طاهر لا يختلط فيه، ولا يذوب فيه كقطعة من طيب لا تذوب -كالكافور أو عود قماري ونحوهما- أو أي شيء =

ص: 30

(أو بملحٍ مائي)

(7)

= فيه مادة دهنية تعلو على سطح الماء: سواء كان دهن حيوان أو أشجار - كالقطران- وهو عصارة الأرز بعد طبخه -والزفت- وهو: القار -والشمع- وهو: ما تنار به المصابيح -ونحو ذلك مما يتسبب في تغيير لون أو طعم أو ريح الماء؛ للقياس، بيانه: كما يباح التطهر بالماء المتغير بسبب وجود جيفة مجاورة له فكذلك يجوز التطهر بالماء المتغير بسبب وجود طيب أو دهن لا يذوب فيه، والجامع: التغيُّر بشيء لا يذوب ولا يختلط في كل، وعدم وجود نجاسة؛ فإن قلتَ: لمَ أبيح ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه توسعة على الناس؛ إذ يكثر ما يقع في الماء من هذه الأمور، فلو منع الناس من التطهر به، أو كُره لهم ذلك: لأدَّى إلى الحرج والضيق، فإن قلتَ: يُكره التطهر به، أي: لو تطهر بغيره لكان أولى -وهو ما ذكره المصنف هنا؛ للتلازم؛ حيث يلزم من عدم النجاسة فيه: جواز التطهر، ويلزم من تغيُّر الماء عن أصل خلقته: كراهة التطهر به، قلتُ: إن هذا التغير غير مؤثِّر في طهورية الماء فلا تلزم منه الكراهة، فإن قلتَ: ما سبب هذا الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه "هل تغير الماء بسبب وجود طاهر فيه مؤثِّر فيه أو لا؟ " فعندنا أنه غير مؤثِّر ما دام أنه طهور، وعندهم: مؤثِّر.

(7)

مسألة: يجوز التطهر بالماء إذا وضع فيه ملح مائي وغيَّره، للكتاب؛ حيث قال تعالى:{فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} فلم يُجز الشارع التيمم إلا إذا عدم الماء، وهنا الماء موجود، وهو عام للماء الحالي، وللذي كان ماء فتحوَّل إلى ملح؛ لأن "ماء" نكرة في سياق نفي وهي من صيغ العموم؛ والاستصحاب دل على ذلك أيضًا لكوننا نستصحب الحالة الأولى لهذا الملح، فإن قلتَ: لمَ جاز ذلك؟ قلتُ: للمصلحة، حيث إن ذلك فيه توسعة على الناس -كما سبق في مسألة (6) - فإن قلتَ: يُكره التطهر به وغيره أولى؛ للتلازم وقد سبق بيانه والجواب عنه وبيان سبب الخلاف في مسألة (6).

ص: 31

لا معدني فيسلبه الطهورية

(8)

(أو سُخِّن بنجس: كُره) مطلقًا إن لم

(8)

مسألة: لا يجوز التطهر بماء قد وُضع فيه ملح معدني -وهو الصناعي المستخرج من الأرض- وتغير؛ للكتاب؛ حيث قال تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} حيث دلَّ منطوقه على أن التطهر الجائز يكون بالماء فإن تعذر: فيكون بالتيمم، ولا ثالث لهما، ودل بمفهوم التقسيم على أن غيرهما لا يُستعمل للطهارة، وهذا الذي تغير طعمه بسبب وضع المعدني فيه لا يُتطهر به؛ لأن أصل هذا الملح ليس ماء، حيث إنه لا يُطلق عليه ماء، ولا ترابًا لا في الحال، ولا في ثاني الحال، فإن قلتَ: لم لا يتطهر به؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن استعماله يضر ببشرة المسلم؛ لشدة ملوحته، فضلًا عن أنه لا تحصل بسببه الطهارة والنظافة؛ لغلظته؛ فإن قلتَ: لمَ لا يُتطهر بالماء الذي تغير طعمه بسبب وضع الملح المعدني فيه مع أنه يُتطهر بالماء الذي تغير بسبب وضع الملح المائي؟! فهذا تفريق بين متماثلين؛ لذا يُتطهر بهما معًا، لقياس المعدني على المائي، وهو لبعض العلماء كابن تيمية؟ قلتُ: لا يُسلَّم أنهما متماثلان؛ لأن الملح المائي أصله من الماء لذلك نُسب إليه، فيكون حكمه حكم أصله، بخلاف الملح المعدني فليس أصله ماء، بل هو متكون من أشياء خارجية: فلا يكون حكمه حكم الماء؛ ثم إن الملح المعدني مضر بالمسلم كما تقدم بخلاف الملح المائي ومع الفرق: لا قياس. فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه "هل الملح المعدني أصله ماء أو لا؟ فعندنا: لا، وعندهم: نعم. [فرع]: ماء البحر يُتطهر به مطلقًا، أي: سواء كان عذبًا أو مالحًا؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم في ماء البحر-: "هو الطهور ماؤه" فيشمل جميع أنواع مياه البحور؛ لأن "ماؤه" اسم جنس منكَّر أضيف إلى معرفة -وهو الضمير- وهو من صيغ العموم، فإن قلتَ: لمَ يُتطهر به؟ قلتُ: للمصلحة، حيث إن ذلك فيه توسعة على المسلمين.

ص: 32

يحتج إليه: سواء ظُنَّ وصولها إليه، أو كان الحائل حصينًا أو لا، ولو بعد أن يبرد؛ لأنه لا يسلم غالبًا من وصول أجزاء لطيفة إليه

(9)

وكذا ما سُخِّن بمغصوب

(10)

وماء بئر بمقبرة، وبقلها

(9)

مسألة: تصح الطهارة بالماء الذي سُخِّن بشيء نجس -كروث حمار مثلًا-: سواء تغير ذلك الماء أو لا، وسواء كان الحائل بين الماء والنار حصينًا أو لا، وسواء برد الماء أو لا، بشرط: أن لا يغلب على ظننا وصول شيء من ذلك النجس إلى الماء؛ للتلازم، حيث إنه يلزم من عدم علمنا -بقطع أو ظن- بوصول بعض النجاسة إلى الماء: طهوريته، فإن قلتَ: لمَ صح ذلك؟ قلتُ: للمصلحة حيث إن تسخين الماء بمثل ذلك يقع كثيرًا بين المسلمين، فلو مُنعوا منه أو كُره لهم ذلك: لَلَحق بعضهم الحرج والمشقة، فدفعًا لذلك: جاز، فإن قلتَ: يُكره ذلك، للتلازم، حيث إنه لا يسلم من وصول نجاسة إلى الماء وإن كانت صغيرة فيلزم من ذلك كراهية التطهر به إن وُجد غيره، قلتُ: إن قطعنا بوصول شيء من جزء من النجاسة أو غلب على ظننا ذلك: فإنه لا يُتطهر به، وإن لم يغلب ذلك، أو شككنا فيه فيُتطهر به؛ لعدم جواز العمل بالمرجوح، أو المشكوك فيه. فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "هل الشك أو المرجوح تنبني عليهما أحكام أو لا؟ " فعندنا: لا، وعندهم: نعم.

(10)

مسألة: تصح الطهارة بالماء المسخَّن بشيء مغصوب أو مسروق إذا لم يجد غيره، أما إن وجد غيره فلا يصح؛ للقياس، بيانه: كما تصح الصلاة في الدار المغصوبة أو المسروقة إذا لم يكن واجدًا، غيرها، ولا تصح إذا كان واجدًا غيرها، فكذلك هنا مثلها، والجامع: أن كلًا من الصلاة والماء قد توفر فيهما شروطهما بدون موانع، فإن قلتَ: لِمَ جاز ذلك إذا لم يجد غيره؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه توسعة وتيسير على الخلق، فإن قلتَ: لِمَ لا يصح ذلك إذا كان واجدًا غيره؟؟ قلتُ: لحفظ حقوق الآخرين من السرقة والغصب والظلم، فإن قلتَ: إن ذلك مكروه، وهو ما ذكره المصنف - للتلازم؛ حيث يلزم من =

ص: 33

وشوكها،

(11)

واستعمال ماء زمزم في إزالة خَبَث

(12)

، لا وضوء ولا غُسل

(13)

(وإن تغيَّر بمكثه) أي: بطول إقامته في مَقرِّه -وهو الأجن-: لم يُكره؛ لأنه صلى الله عليه وسلم توضأ بماء آجن، وحكاه ابن المنذر إجماع من يُحفظ قوله من أهل العلم سوى ابن سيرين

(14)

(أو بما) أي: بطاهر (يشقُّ صون الماء عنه من نابت فيه، وورق

= الغصب والسرقة: كراهية ذلك، قلتُ: لم أجد دليلًا على ذلك إلا مراعاة الخلاف وهو ليس بدليل معتبر، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "الخلاف في مراعاة الخلاف" فعندنا ليس بدليل، وعندهم: دليل.

(11)

مسألة: تجوز الطهارة بماء أخذ من بئر في مقبرة، أو سخن بشيء نبت في المقبرة: من بقل أو عشب أو شوك، ولكن هذا مكروه؛ لقاعدتين: الأولى: التلازم؛ حيث يلزم من عدم القطع بنجاسة الماء، أو غلبة الظن: صحة التطهر به، الثانية: المصلحة؛ حيث إنه يُحتمل وصول دهونات الأموات إلى ذلك الماء فيتضرر المسلم المتطهر به، فلذا كُره؛ حماية له.

(12)

مسألة: تصح إزالة النجاسة بماء زمزم مع الكراهة؛ للقياس؛ بيانه: كما يكره الاستنجاء باليد اليُمنى فكذلك هنا والجامع: التكريم في كل؛ حيث إن ماء زمزم طعام طعم وشفاء سقم -كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم وهذا تكريم له؛ فيُكره استعماله لما تستقذره العقول السليمة، فإن قلتَ: لمَ جاز ذلك؟ قلتُ: للمصلحة، وهي: عدم تنفير الناس منه.

(13)

مسألة: تصح الطهارة بماء زمزم؛ للسنة الفعلية؛ حيث "إنه صلى الله عليه وسلم قد دعا بسجل ماء زمزم فشرب وتوضأ" والغسل مثله، فإن قلتَ: لِمَ صح ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه توسعة على المسلمين خاصة لمن هو داخل الحرم.

(14)

مسألة: تصح الطهارة بماء قد تغيَّر بسبب طول مكثه وإقامته في موضعه؛ للسنة الفعلية؛ حيث "إنه صلى الله عليه وسلم قد توضأ منه"، فإن قلتَ: لم صح ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن المياه لا تخلو من تغيُّره بسبب ذلك، فلو مُنع المسلم منه أو =

ص: 34

شجر) وسمك، وما تُلقيه الريح، أو السيول: من تبن ونحوه،

(15)

فإن وُضع قصدًا وتغير به الماء عن ممازجة: سَلَبَه الطهورية

(16)

(أو) تغيَّر (بمجاورة ميتة)

= كُرِه: للحق أكثر المسلمين الحرج، فإن قلتَ: يُكره التطهر به مع تغيُّره بذلك، وهو محكي عن محمد بن سيرين؟ قلتُ: لا يمكن كراهة التطهر بماء قد تغيَّر بما لا يمكن الاحتراز عنه للمشقة في ذلك، فإن قلتَ: لمَ حكى بعضهم الإجماع مع مخالفة ابن سيرين؟ قلتُ: لعله على مذهب من قال: إن قول الأكثر يُسمَّى إجماعًا، وهذا نسب إلى ابن جرير الطبري، ورواية عن الإمام أحمد، وهذا قد أبطلناه في "المهذب" و "الإتحاف" فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "هل التغيَّر بأي شيء مؤثِّر أو لا؟ " فعندنا: لا، وعند ابن سيرين: نعم.

(15)

مسألة: تصح الطهارة بالماء الذي وقع فيه شيء طاهر يشق منعه، وهو لا يذوب فيه: كزروع، وأوراق أشجار، وسمك ونحو ذلك: سواء تغير هذا الماء أو لا؛ للكتاب؛ حيث قال تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} فيشمل ويعم كل هذا كل ما يُطلق عليه ماء، وهذا الذي وقع فيه ذلك يطلق عليه ماء؛ لأن "ماء" نكرة في سياق نفي، وهو من صيغ العموم، فإن قلتَ: لم صح ذلك؟ قلتُ: للمصلحة حيث إن المسلمين لو مُنعوا من التطهر بذلك، أو كره لهم ذلك: للحِقَ كثيرًا منهم حرج ومشقة؛ إذ أكثر المياه يقع فيها ذلك.

(16)

مسألة: لا يصح التطهر بالماء الذي وضع فيه مكلَّف شيئًا طاهرًا -كزروع وأوراق-، وكان قاصدًا لهذا، واختلط هذا الشيء في الماء، وتغيَّر بسببه، إما إن وضعه غير مكلَّف، أو كان مُكلفًا ولكنه وضعه من غير قصد، أو لم يختلط بالماء؛ أو لم يُغيِّره: فيصح التطهر به، للكتاب؛ حيث قال تعالى:{فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} فالذي يطهر هو الماء المطلق، فإن عدم فالتيمم، فيدل مفهوم التقسيم هنا على: أن غيرهما لا يُستعمل للطهارة، وهذا الذي وضع في الماء قصدًا، وذاب فيه وغيَّره هو ليس من جنس الماء: قد غيَّر اسمه، فلا يسمى بعد ذلك ماء مطلقًا، فلا يُطهر، فإن قلتَ: لمَ لا يصح ذلك؟ قلت: للمصلحة؛ حيث إن هذه =

ص: 35

أي: بريح ميتة إلى جانبه: فلا يُكره، قال في "المبدع": بغير خلاف نعلمه

(17)

، (أو سُخِّن بالشمس أو بطاهر) مباح، ولم يشتد حرُّه (لم يُكره)؛ لأن الصحابة دخلوا الحمام، ورخَّصوا فيه، ذكره في "المبدع"، ومن كره الحمام: فعلَّة الكراهة: خوف مشاهدة العورة، أو قصد التنعُّم بدخوله، لا كون الماء مُسخَّنًا

(18)

فإن اشتدَّ حرَّه أو بَرْدُه: كُره؛ لمنعه كمال

= الأشياء قد تضرُّ بالمسلم إذا اختلطت بالماء الذي يُتطهر به، فحماية له، وحرصًا على تطهير المسلم: مُنع منه.

(17)

مسألة: يصح التطهر بالماء الذي تغيَّرت إحدى صفاته -اللون أو الريح أو الطعم- بسبب وجوده بجوار جيفة ميتة أو عَذَرَة أو أي شيء نتن؛ للكتاب؛ حيث قال تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} وهذا يشمله إطلاق الماء عليه؛ لأن "ماء" نكرة في سياق نفي، وهو من صيغ العموم، فإن قلتَ: لِمَ صح ذلك؟ قلت: للمصلحة؛ حيث إنه لو مُنع التطهر به أو كُره: للحق بالمسلمين من ذلك ضيق وحرج؛ لكثرة هذه المياه المتغيرة بسبب ذلك.

(18)

مسألة: يصح التطهر بالماء المسخن بالشمس عن قصد، والمسخن بحطب طاهر؛ لقواعد الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} هذا عام -كما سبق بيانه-، فيطلق على المسخن اسم "الماء" المطلق، بقصد أو لا، بشمس أو حطب أو غيرهما، الثانية: السنة التقريرية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم لم ينكر على ابن الأسلع بن شريك تسخينه للماء بحطب واغتساله به من الجنابة، فلو كان لا أو فيه كراهة لبينه صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة؛ الثالثة: فعل الصحابي، وهو من وجهين: أولهما: أنه كان لعمر قمقمة يُسخن له فيها الماء، وكان كثير من الصحابة يعلمون ذلك ولا ينكرونه- كما ذكره الماوردي في "الحاوي"(1/ 41) -، ثانيهما: أن بعض الصحابة قد دخلوا الحمامات العامة، وهذا يلزم منه: استعمال الماء المسخن فيها، فإن قلتَ: لِمَ =

ص: 36

الطهارة

(19)

(وإن استُعمل) قليل (في طهارة مستحبَّة كتجديد وضوءُ وغسل جمعة) أو عيد ونحوه (وغَسْلَة ثانية وثالثة) في وضوء أو غسل: (كُره)؛ للخلاف في سلبه الطهورية، فإن لم تكن الطهارة مشروعة كالتَّبرُّد: لم يُكره

(20)

(وإن

= صح ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن الماء قد يكون باردًا جدًا يضر بالمسلم استعماله، فدفعًا لذلك شُرع هذا، فإن قلتَ: إنه يُكره التطهر بالماء المسخن، وهو محكي عن مجاهد وبعض العلماء؛ لفعل الصحابي؛ حيث إن كثيرًا من الصحابة لم يدخلوا الحمامات، فيلزم من ذلك: كراهتهم لذلك؛ نظرًا لكون الماء فيها مُسخنًا، قلتُ: إن علَّة كراهة السلف -من صحابة وفقهاء- دخول الحمامات العامة هي: الحفاظ على ستر عوراتهم، أو لنبذ التنعم في الدنيا؛ حتى يتحصَّلوا عليه في الجنة -إن شاء الله- والتعلُّم على الخشونة في العيش، وليست العلة كون الماء مسخنًا؛ لأنها بعيدة ولا يصح التعليل بالبعيد؛ تنبيه: قوله: "مباح" قلتُ: فيه تفصيل قد بيناه في مسألة (10)، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "هل علة عدم دخول أكثر الصحابة الحمامات هي: تكون الماء مسخنًا أو لا؟ "، فعندنا: لا، وعندهم: نعم.

(19)

مسألة: تصح الطهارة بماء شديد الحرارة، أو شديد البرودة ولكن مع الكراهة؛ للتلازم؛ حيث يلزم من صحة إطلاق اسم الماء عليه: صحة التطهر به، ويلزم من صعوبة إكمال التطهر به: كراهة استعماله، فإن قلتَ: لِمَ تصح هنا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن في استعماله توسعة للناس، وفي كراهيته حماية المسلم من الأذى بحرارته أو برودته.

(20)

مسألة: تصح الطهارة بماء قليل قد استعمل للتنظيف والتَّبرُّد بلا كراهة إجماعًا، وكذلك: تصح الطهارة بماء -قليل قد استعمل بطهارة مشروعة مستحبة- كأن يُجدِّد به وضوءًا، أو يغتسل به لجمعة- وهذا بلا كراهة للقياس، =

ص: 37

بلغ) الماء (قُلَّتين) تثنية قُلة، وهي: اسم لكل ما ارتفع وعلا، والمراد هنا: الجرة الكبيرة من قلال "هجر"، وهي قرية كانت قرب المدينة (وهو الكثير) اصطلاحًا (وهما) أي: القلتان (خمسمائة رطل) -بكسر الراء وفتحها- (عراقي تقريبًا) فلا يضرُّ نقص يسير كرطل ورطلين، وأربعمائة وستة وأربعون رطلًا وثلاثة أسباع رطل مصري، ومائة وسبعة وسُبُع رطل دمشقي، وتسعة وثمانون وسُبُعًا رطل حلبي، وثمانون رطلًا وسُبُعان ونصف سبع رطل قدسي؛ فالرطل العراقي: تسعون مثقالًا: سُبُع القدسي وثمن سُبُعه، وسُبُع الحلبي ورُبُع

= بيانه: كما أن الماء المستعمل للتبرد والتنظيف يتطهر به بلا كراهة إجماعًا، فكذلك الماء المستعمل لطهارة مشروعة مستحبة، والجامع: أن كلًا من الاستعمالين لم يُزل به حدثًا -وهو: المانع من الصلاة- فإن قلتَ: لِمَ صحت الطهارة؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه توسعة على الناس؛ إذ لو مُنع من التطهر بهذا الماء أو كُره: للحق كثيرًا منهم الحرج والضيق، فدفعًا لذلك: شُرع هذا؛ فإن قلتَ: إن الماء المستعمل لطهارة مشروعة مُستحبة: يُتطهر به ولكن مع الكراهة -وهو ما ذكره المصنف هنا-؛ لمراعاة الخلاف؛ حيث إن جمهور العلماء قالوا: يُتطهر به مطلقًا وبعض العلماء قال: لا يُتطهر به مطلقًا ولكلٍ دليل، فروعي هذا كله واختير مذهبًا وسطًا وهو صحة التطهر به مع الكراهة، قلتُ: إن هذا الدليل -وهو مراعاة الخلاف- ضعيف عند جمهور العلماء -ومنهم الحنابلة- قال الشاطبي في "الاعتصام"(1/ 32) -"إن مراعاة الخلاف هو مراعاة دليل المخالف في بعض الأحوال، وهو أصل عند مالك وقد ضعَّفه أكثر العلماء"، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "هل مراعاة الخلاف دليل أو لا؟ " فعندنا: ليس بدليل وعندهم: دليل تنبيه: المقصود بالماء القليل: ما هو أقل من قلتين، وهو خمس قرب تقريبًا وسيأتي بيانه.

ص: 38

سُبُعه، وسُبُع الدمشقي ونصف سُبُعه، ونصف المصري ورُبُعه وسُبُعه

(21)

(فخالطته نجاسة) قليلة أو كثيرة (غير بول آدمي أو عذرته المائعة) أو الجامدة إذا ذابت فيه (فلم تُغيِّره): فطهور؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا بلغ الماء قلتين لم يُنجسه شيء" وفي رواية: "لم يحمل الخبث" رواه أحمد وغيره، قال الحاكم:"على شرط الشيخين" وصححه الطحاوي، وحديث:"إن الماء طهور لا ينجسه شيء" وحديث: "الماء لا ينجسه شيء إلا ما غلب على ريحه أو طعمه أو لونه":

(21)

مسألة: يُحدَّد الماء الكثير اصطلاحًا: بما بلغ قُلَّتين من قلال هَجَر، وكل قلة: تسعُ قربتين ونصفًا، وكان مجموع القلتين: خمس قِرب، وكل قربة تسعُ:"مائة رطل عراقي"، فيكون المجموع خمسمائة رطل، ومساحته من الواقع في الأرض:"ذراع وربع طولًا، وذراع وربع عرضًا" وذلك بذراع يد الرجل المتوسط، ويُحدَّد الماء القليل بما دون القلتين؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم:"إذا بلغ الماء قلتين: لم يحمل الخبث"، فدل بمنطوقه على أن الماء الكثير لا يحمل الخبث والنجس إذا وضع فيه، وحُدِّد بما يبلغ قلتين، ودل بمفهوم العدد على أن الماء القليل هو الذي يحمل النجس وهو الذي لم يبلغ قلتين، فإن قلتَ: لم حُدِّد ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث يعرف الناس الماء الذي يتطهر به عند وقوع نجاسة فيه -وهو الكثير- والماء الذي لا يتطهر به عند وقوع تلك النجاسة فيه، فإن قلتَ: لِمَ سميت بالقلة؟ قلتُ: لأن الرجل القوي يحملها ويقلُّها ويرفعها عن الأرض، فإن قلتَ: لِمَ سميت بهذا الاسم مع أن المراد بها الجرَّة؟ قلتُ: لأن العرب لا يعرفون الجرار، ويعرفون القلال وهو: إناؤهم -كما في "الصحاح"(5/ 1804) - تنبيه: ذكر المصنف الأوزان والأرطال المستعملة في عصره في نواحي البلدان الإسلامية.

ص: 39

يُحملان على المقيد السابق

(22)

، وإنما خُصَّت "القلتان" بقلال هجر؛ لوروده

(22)

مسألة: تصح الطهارة بالماء الكثير إذا وقعت فيه نجاسة وخالطته ولم تُغيِّر إحدى صفاته -اللون أو الرح أو الطعم- كروث حمار ونحوه -غير بول آدمي وعذرته-؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث" فأيُّ نجاسة وقعت في ماء كثير -وهو ما بلغ قلتين-: فإنها لا تنجسه سواء كانت كثيرة أو قليلة؛ لأن "إذا" الشرطية من صيغ العموم، ودل مفهوم العدد منه على أن النجاسة إذا وقعت في ماء قليل: فلا يُتطهر منه: سواء كانت تلك النجاسة قليلة أو كثيرة، وسواء غيرت صفة من صفات الماء أو لا، وهذا ثبت بعموم مفهوم العدد الثانية: التلازم؛ حيث إن الماء الكثير إذا وقعت فيه نجاسة فإنه يغلب على ظننا عدم وصول النجاسة إلى كثير من أجزاء الماء؛ نظرًا لكثرته فيلزم من ذلك صحة التطهر به، أما الماء القليل إذا وقعت فيه نجاسة: فإنه يغلب على ظننا وصول النجاسة إلى أكثر أجزاء الماء؛ نظرًا لقلته وكونه محصورًا فيلزم من ذلك: عدم صحة التطهر به؛ لأن العقول السليمة تستقذر ذلك، ومعروف: أن المحظور إذا اختلط بالكثير: صار حكم الإباحة أغلب كمن اختلطت أخته بنساء بلد كبير: فإنه يحل الزواج بأي واحدة منهن، أما إذا اختلط المحظور بالقليل: فإنه يصير حكم الحظر أغلب كمن اختلطت أخته بعشرة نسوة: فإنه لا يحل الزواج بتلك العشر، فإن قلتَ: لِمَ صح التطهر بالكثير دون القليل هنا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن المياه الكثيرة توجد عادة على الطرقات فلا تخلو من نجاسات، فلو مُنع الناس من التطهر بها: لَلَحِقَ كثيرًا من الناس حرج وضيق، فدفعًا لذلك شرع هذا، فإن قلتَ: تصح الطهارة بالماء الكثير والقليل ولو وقعت فيهما نجاسة لم تُغيِّر أحد أوصافه، وهو قول أكثر المالكية وبعض الشافعية وبعض الحنابلة كابن تيمية وابن عثيمين؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "إن الماء طهور لا يُنجسه شيء" وقوله: "الماء لا =

ص: 40

في بعض الفاظ الحديث؛ ولأنها كانت مشهورة الصفة معلومة المقدار،

(23)

= ينجسه شيء إلا ما غلب على ريحه أو طعمه أو لونه ولفظ "الماء" اسم جنس محلى بأل وهو من صيغ العموم، فيشمل الماء القليل والكثير، قلتُ: نسلِّم لكم أن الحديثين عامَّان للكثير والقليل، ولكي خُصِّصا بمنطوق، ومفهوم العدد من حديث:"إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث" وهو: تخصيص السنة بالسنة وهو جائز، ويزيد الحديث الأول بأنه مخصَّص بالواقع؛ حيث إنه ورد بسبب سؤال صلى الله عليه وسلم عن بئر بضاعة هل يُتوضأ منها مع أنه يلقى فيها الحيض ولحوم الكلاب والنتن؟ -كما ورد في حديث أبي سعيد- والواقع: أن بئر بضاعة كان كثير الماء، فخصَّصنا الحديث به، فإن قلتَ: كيف يستدل بحديث القلتين ويُخصص به أنه ضعيف -كما قال كثير من المحدثين إنه مضطرب السَّند-؟ قلتُ: إن نجوم أهل الحديث قد صحَّحوه، وقالوا به، واعتمدوه في تحديد الماء، وهم القدوة وعليهم المعوَّل في هذا الباب- نقله النووي في "المجموع"(1/ 112) ـ عن الخطابي، وإسناده على شرط مسلم- كما قال ابن حجر في "التلخيص"(1/ 27) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده، وصححه الطحاوي وابن خزيمة في صحيحه (1/ 46)، فإن قلتَ: إن لفظ "الماء" الوارد في حديث القلتين مخصص بالماء الجاري، ولا يعم الراكد؟ قلتُ: إن تحديده بالقلتين يلزم منه بطلان هذا القول؛ لأن الجاري لا يمكن تحديده، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "هل حديث القلتين صحيح أو لا؟ " فعندنا نعم، لذا خصصنا به الحديثين السابقين، وعندهم: لا. فيبقى الحديثان على عمومهما للقليل والكثير عندهم.

(23)

مسألة: يحدد الماء الكثير والقليل بقلال هجر؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية: حيث قال صلى الله عليه وسلم: "إذا كان الماء قلتين بقلال هجر لم يحمل خبثًا" كما أورده الخطابي في "المعالم"(9) رواية في حديث القلتين، وهذه الزيادة بالتحديد مقبولة؛ لأنها زيادة ثقة، الثانية: التلازم؛ حيث إن قلال هجر مشهورة، =

ص: 41

قال ابن جُريج: "رأيتُ قِلال هجر فرأيتُ القلة تسع قربتين وشيئًا"، والقربة: مائة رطل بالعراقي، والاحتياط: أن يُجعل الشيء نصفًا، فكانت القُلَّتان: خمسمائة بالعراقي

(24)

(أو خالطه البول أو العَذْرَة) من آدمي (ويشقَّ نزحُه كمصانع طريق مكة: فطهور) ما لم يتغير، قال في الشرح:"لا نعلم فيه خلافًا"

(25)

ومفهوم كلامه: أن ما لا يشقُّ نزحه ينجس ببول الآدمي أو عذرته المائعة

= معلومة الصفة والمقدار من قِبل كثير من الناس الساكنين في المدينة وما حولها؛ لأن المقصود بـ "هجر" قرية تقع بقرب المدينة -كما في "معجم البلدان"(4/ 952) -وليست "هجر" البحرين؛ لأن بلد البحرين بعيد فلا يمكن أن يحدد لأهل المدينة ومن حولها بشيء لا يعرفونه، فلزم من ذلك كله: أن تحديد قليل الماء وكثيره يكون بقلال هجر.

(24)

مسألة: تحديد القلتين بخمسمائة رطل -أو خمس قرب- هو: تحديد تقريبي، وبناء عليه: لا يضر نقصٌ يسيرٌ لا يتجاوز الرطل أو الرطلين؛ للتلازم؛ حيث إن التردد الوارد في نقل ابن جُريج حيث قال: "رأيتُ قلال هجر، فرأيتُ القلة تسع قربتين، أو قربتين وشيئًا" يلزم منه أن هذا التحديد تقريبي، فإن قلتَ: لِمَ جُعل "الشيء" نصفًا؛ حتى قلتم: إن القلة تسع قربتين ونصفًا؟ قلتُ: إن الشيء خفي التقدير، وهو أقل من النصف ولكن يُجعل نصفًا؛ احتياطًا؛ نظرًا لخفائه، ثم إن القربة الثالثة متبعِّضة: فبعضها من جملة القلة، وبعضها الآخر ليس منها، وليس أحدهما بأولى من الآخر: فوجبت التسوية بين البعضين، فإن قلتَ: لِمَ كان التحديد تقريبيًا؟ قلت: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه توسعة وتيسير على الناس فلو حُدد ذلك بتحديد دقيق لَلَحِق بعض المسلمين الحرج والضيق من هذه الدِّقة الشديدة، فدفعًا لذلك: كان التحديد تقريبيًا.

(25)

مسألة: يصح التطهر بالماء الكثير الذي وقع فيه بول آدمي أو عذرته، واختلط به بشرطين: أولهما: أن يشقُّ نزح هذه النجاسة، ثانيهما: أن لا تُغيِّر =

ص: 42

أو الجامدة إذا ذابت فيه ولو بلغ قلتين وهو قول أكثر المتقدمين والمتوسطين، قال في "المبدع":"ينجس على المذهب وإن لم يتغير"؛ لحديث أبي هريرة يرفعه: "لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل منه" متفق عليه، وروى الخلَّال بإسناده:"أن عليًا رضي الله عنه سُئل عن صبي بال في بئر فأمرهم بنزحها"، وعنه: أن البول والعذرة كسائر النجاسات: فلا ينجس بهما ما بلغ قلتين إلا بالتَّغيُّر، قال في "التنقيح":"اختاره أكثر المتأخرين، وهو أظهر" أ. هـ، ولأن نجاسة بول الآدمي لا تزيد عن نجاسة بول الكلب

(26)

(ولا يرفع حدث رجل) وخنثى (طهور يسير) دون القلتين (خَلَت

= تلك النجاسة واحدًا من أوصاف هذا الماء -كما يقع في المياه التي تُجمع في طرق الحُجاج والمعتمرين-؛ للتلازم؛ حيث إن حاجة الناس لهذه المياه، ومشقة نزح وإزالة النجاسة عنه، وعدم تغيير صفة من صفاته، ووجود غلبة الظن على أن النجاسة لم تصل إلى أكثر جزئيات الماء؛ لكثرته: يلزم منه: صحة التطهر به؛ لعدم المانع، فإن قلتَ: لِمَ صح ذلك؟ قلت: للمصلحة؛ حيث إن مثل هذه المياه تقع فيها تلك النجاسات غالبًا؛ لكثرة ما ينزل الناس حولها، فلو مُنع الناس من التطهر به: للحقهم حرج ومشقة.

(26)

مسألة: لا تصح الطهارة بالماء إذا وقعت فيه نجاسة اختلطت فيه، ولم يشق نزحها وإخراجها منه: سواء كان الماء قليلًا أو كثيرًا، وسواء تغيَّر بهذه النجاسة أو لا؛ لقواعد الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري، ثم يغتسل فيه" حيث نهى الشارع عن البول في هذا الماء، ويلزم من هذا النهي: أن الماء يفسد بالبول؛ لكونه مستقذرًا، ويُراد من الاغتسال التطهر، فيتناقضان، والنهي يقتضي الفساد؛ لأنه مطلق؛ إذ لو لم يكن البول مفسدًا للماء: لما نهي عن الاغتسال فيه، وهذا عام للقليل والكثير، المتغير وغيره؛ لأن "الماء" اسم جنس معرف بأل، وهو من صيغ العموم =

ص: 43

به) كخلوة نكاح (امرأة) مكلَّفة ولو كافرة (لطهارة كاملة عن حَدَث)؛ "لنهي النبي

= الثانية: القياس الأولى، بيانه: كما أن هذا الحكم ورد في البول والاغتسال فكذلك يكون في العَذْرَة؛ لأنها نجاسة مغلَّظة، ويكون في الوضوء من باب أولى، والجامع: النجاسة في كل، الثالثة: قول الصحابي؛ حيث "إن عليًا قد سُئل عن صبي بال في بئر فأمرهم بنزحها" ولم يسأل هل تغيَّر الماء أو لا؟، وهل الماء قليل أو كثير؟ مما يدل على أن النجاسة تبطل التطهر بالماء مطلقًا، فإن قلتَ: لِمَ لا تصح الطهارة بهذا الماء؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن الماء إذا وقع فيه بول أو عذرة الآدمي تستقذره النفوس السليمة، وقد يُصيب المسلم بعض الأمراض المعدية بسبب استعمالهِ، فإكرامًا لأنفس المسلمين، وحماية لهم من الأمراض: شرع هذا الحكم، وأبدل بالتيمم، فإن قلتَ: يصح التطهر بالماء الكثير -وهو ما بلغ قلتين- إذا وقع فيه بول أو عذرة ولم تتغير إحدى صفاته -اللون أو الطعم أو الرائحة-، وهذا رواية عن أحمد، وقول أكثر متأخري الحنابلة؛ للقياس، بيانه: كما أن سائر النجاسات -كروث حمار أو بول كلب- إذا وقعت في ماء كثير وتغيَّرت إحدى صفاته بسببه: فلا تصح الطهارة به، وإذا لم تتغير إحدى صفاته: فيُتطهر به -كما سبق- فكذلك بول الآدمي وعذرته مثلها، والجامع: النجاسة في كل، قلتُ: إن هذا قياس فاسد؛ لأمرين: أولهما: أنه قياس مع النص -وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يبولنَّ أحدكم

" وقد بيناه، ثانيهما: أنه قياس مع الفارق؛ حيث إن بول وعذرة الآدمي نجاسة مغلظة تستقذره النفوس والطباع السليمة عادة، ولا تتحمل وقوعه على بدن أو ثوب أو مكان، بخلاف غيرها مما يخرج من أيِّ حيوان فلا يوجد فيه هذا الاستقذار الشديد، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض القياس مع النص"، فعندنا: يعمل بالنص، وعندهم: يعمل بالقياس، وكذا: "هل النجاسات متماثلة في الحكم أو لا؟ " فعندنا: لا، لأن بعضها أغلظ وأقذر من بعضها الآخر، وعندهم: لا فرق بينها.

ص: 44

صلى الله عليه وسلم: أن يتوضأ الرجل بفضل طهور المرأة" رواه أبو داود وغيره، وحسنه الترمذي، وصححه ابن حبان، قال أحمد -في رواية أبي طالب- كثر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون ذلك"، وهو تعبُّدي، وعُلِم مما تقدم: أنه يزيل النجس مطلقًا، وأنه يرفع حَدَث المرأة والصبي، وأنه لا أثر لخلوتها بالتراب، ولا بالماء الكثير، ولا بالقليل إذا كان عندها من يُشاهدها، أو كانت صغيرة، أو لم تستعمله في طهارة كاملة، ولا لما خَلَت به لطهارة خَبَث، فإن لم يجد الرجل غير ما خَلَت به لطهارة الحدث: استعمله، ثم تيمم وجوبًا

(27)

، النوع الثاني -من المياه-: الطاهر غير المطهر، وقد أشار إليه بقوله: (وإن

(27)

مسألة: تصح طهارة الرجل بالماء الذي خلت به امرأة أو خنثى وتطهرت به عن حَدَث إذا لم تتغير صفة من صفاته ولو كان قليلًا؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "الماء ليس عليه جنابة" -لما أراد أن يغتسل من جفنة قد اغتسلت ميمونة بما فيها من ماء- وهذا يلزم منه أن الماء إذا لم يتغيَّر: فإنه يبقى على طهوريته وإن اغتسلت به امرأة، الثانية: السنة الفعلية؛ حيث "كان صلى الله عليه وسلم يغتسل بفضل ميمونة" ولفظ "كان" تدل على الدوام؛ لأنها من صيغ العموم في الأزمان، فإن قلتَ: لِمَ صح ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إنه لا يخلو بيت من وجود امرأة فيه، ولا يخلو أيُّ ماء من أن تخلو امرأة لترفع حدثها به، ومعروف شُحِّ المياه المستعملة في أكثر بلدان الإسلام، فلو مُنع التطهر بالماء الذي خلت به امرأة: لَلَحِق أكثر المسلمين ضيق وحرج ومشقة: فدفعًا لذلك: شرع هذا، فإن قلتَ: إنه يُحتمل أن ميمونة لم تخلُ بالماء، فلذا استعمله النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا تطرق الاحتمال إلى الدليل بطل به الاستدلال، فلا يصح الاستدلال بحديث ميمونة، -كما نقل في "المغني" (1/ 284) - قلتُ: هذا الاحتمال بعيد جدًا- للعرف والعادة؛ حيث إن العادة أن الإنسان إذا أراد غسل بدنه أنه يقصد الخلوة، فإذا كان الاغتسال عن جنابة والمغتسلة امرأة، وهي من أمهات =

ص: 45

تغيَّر لونه أو طعمه أو ريحه) أو كثير من صفة من تلك الصفات، لا يسير منها (بطبخ) طاهر فيه

(28)

(أو) بطاهر من غير جنس الماء لا يشق صونه عنه (ساقط

= المؤمنين، وزوجها النبي صلى الله عليه وسلم: فهو آكد أن تخلو بنفسها، فإذا كان الاحتمال بعيدًا فلا يجوز تأويل فعله صلى الله عليه وسلم؛ لأن المعنى المأوَّل إليه إذا كان بعيدًا فالحمل عليه مكابرة ومعاندة، فإن قلتَ: لا تصح طهارة الرجل بماء قليل قد خلت به امرأة وتطهرت به تطهرًا كاملًا عن حدث، وهذا مطلق -وهو الذي ذهب إليه أكثر الحنابلة- وهو ما ذكره المصنف هنا؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث: "نهى صلى الله عليه وسلم أن يتوضأ الرجل بفضل طهور المرأة"- كما روى ذلك الحكم بن عمرو القفاري -والنهي هنا، مطلق فيقتضي الفساد، الثانية: قول الصحابي؛ حيث نقل عن ابن عمر وعبد الله بن سرجس أنهما كانا ينهيان عن ذلك، ونقله الإمام أحمد عن أكثر الصحابة، قلتُ: أما حديث الحكم بن عمرو فضعيف -كما ذكر ذلك الخطابي في "المعالم"(1/ 46) - وعلى فرض صحته: فإن حديث ميمونة يُرجّح عليه؛ لأنه اجتمع فيه القول والفعل، بخلاف حديث الحكم فهو قول فقط، أما قول الصحابي: فلا يُعمل به؛ لمعارضته السنة القولية والفعلية، تنبيه: قوله: "وعُلم مما تقدم" إلى قوله: "

لطهارة خبث" قلتُ: هذا تفريع على مذهب أكثر الحنابلة المرجوح هنا، تنبيه آخر: قوله: "فإن لم يجد الرجل" إلى قوله: "وجوبًا" يُقصد أن يجمع الرجل بين وضوئه أو غسله وبين التيمم، قلت: هذا فيه جمع بين مطهرين، وهذا لا يجوز؛ لمخالفته للقاعدة وهي: "عدم جواز الجمع بين مطهرين" فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "هل حديث الحكم صحيح أو لا؟ " فعندنا: لا، وعندهم: صحيح.

(28)

مسألة: لا تصح الطهارة بالماء الطاهر -وهو: الطاهر في نفسه غير المطهر لغيره- وهو: الذي امتزج فيه شيء مطبوخ فيه غيَّر إحدى صفاته: -اللون أو =

ص: 46

فيه) كزعفران، لا تراب ولو قصدًا، ولا ما لا يُمازجه مما تقدَّم: فطاهر؛ لأنه ليس بماء مطلق

(29)

(أو رفع بقليله حَدَث) مكلَّف، أو صغير: فطاهر؛ لحديث

= الطعم أو الرائحة -كأن يُطبخ فيه لحمًا أو حمُصًا، أو قهوة أو شايًا، فصار مرقًا، أو صبغًا؛ للكتاب، حيث قال تعالى:{فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} فالذي يُستعمل في الطهارة الماء، فإن تعذَّر فالتيمم، ولا ثالث لهما، وهذا الذي طَبخ فيه شيء طاهر فغيَّر اسمه من "ماء" إلى مَرَق، أو خلِّ، أو قهوة أو شاي: لا يُسمى "ماء" فلا يُتطهر به؛ نظرًا لمفهوم التقسيم حيث إن ذلك ليس ماءً ولا ترابًا، فإن قلتَ: لِمَ لا يُطهِّر؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن هذا الماء قد فقد صفات الماء المطهر وهي: الدقة والرقة والجريان السريع -أو أكثر تلك الصفات- حيث إنه بعد طبخ هذه الأمور فيه: صار لزجًا غليظًا، فلا يحصل الغرض الذي من أجله شُرعت الطهارة له، بل قد يؤدي إلى بعض الأمراض؛ حيث إنه قد يكون سببًا في تجمع كثير من الأتربة والأوساخ فيه.

(29)

مسألة: تصح الطهارة بماء قد سقط فيه شيء طاهر كتمر أو حبوب أو زعفران، أو تراب ولم تطبخ هذه الأشياء فيه سواء تغيَّرت بعض صفاته أو لا؛ وسواء شق صون الماء منها أو لا؛ وسواء كان من جنس الماء أو لا؛: للكتاب؛ حيث قال تعالى {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} حيث دل هذا على صحة التطهر بكل شيء يُطلق عليه ماء؛ لأن "ماء" نكرة في سياق النفي، وهي من صيغ العموم، وهذا الذي سقط فيه من تلك الأمور الطاهرة ولم تطبخ فيه: يُطلق عليه اسم "الماء"؛ إذ لم يسلبه ذلك رقته ولا دقته ولا سرعة سيلانه فيُتطهر منه، فإن قلتَ: لِمَ صح ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إنه لو مُنع المسلمون من التطهر بهذا الماء: لَلَحِق أكثر المسلمين ضيق وحرج ومشقة لكثرة ما يقع في الماء من هذه الأشياء، فإن قلتَ: لا تصح الطهارة في هذا الماء -كما قال أكثر =

ص: 47

أبي هريرة: "لا يغتسلن أحدكم في الماء الدائم وهو جُنُب" رواه مسلم، وعلم منه: أن المستعمل في الوضوء والغسل المستحبَّين طهور -كما تقدم-، وأن المستعمل في رفع الحدث إذا كان كثيرًا: طهور، لكن يكره الغُسل في الماء الراكد

(30)

= الحنابلة ومنهم المصنف؛ حيث إنه طاهر غير مطهر؛ للتلازم؛ حيث إن الماء الذي يُتطهر به هو: الماء المطلق، وعدم كون هذا الماء مطلقًا؛ حيث يقال مثلًا:"هذا ماء زعفران" يلزم منه: عدم صحة التطهر منه إذا كان الساقط من غير جنس الماء، أو لا يشق صون الماء منه، أو مازجه، أو قصد وضعه، قلتُ: هذا لا يلزم، بل يُطلق عليه اسم "الماء" نظرًا لكونه لم يُطبخ فيه فلم يمازجه. فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "هل هذا الماء مطلق أو لا؟ ". فعندنا مطلق، وعندهم لا.

(30)

مسألة: لا تصح الطهارة بماء قليل استعمله رجل في رفع حدثه؛ لكونه طاهرًا غير مطهر لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جُنُب" حيث دلّ منطوقه على تحريم الاغتسال عن الجنابة بالماء الراكد، وأنه لو اغتسل به لأفسده على غيره؛ لأن النهي مطلق، وهو يقتضي التحريم والفساد؛ حيث إنه لو لم يُفد منعه سلب الطهورية عن ذلك الماء: لما نهى عنه؛ إذ لا فائدة منه إلا ذلك، وهو من باب مفهوم الصفة، أو التلازم، الثانية: إجماع الصحابة؛ حيث إن الصحابة كانوا إذا أزالوا حدثهم بماء: أراقوه، أو استعملوه لغير الطهارة، فلو صح التطهر به -بعد استعماله- لما فعلوا ذلك، ولحرصوا على استعماله مرة أخرى لا سيما في الأسفار؛ إذ المياه تقل فيها، فإن قلتَ: لِمَ لا تصح الطهارة به؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن هذا الرجل قد أزال حدثه به، وانتقلت نجاسته إليه، وغلب على الظن وصولها إلى أجزاء الماء؛ لأنه قليل يحويه إناء، والنفوس تستقذر الماء الذي صفته كذلك، وما تستقذره النفوس لا يمكن أن يُتعبد الله به؛ ويكون أثره منعكس على نفسية ذلك المتطهر بالسوء والكراهية، وقد يتأدَّى بذلك؛ حيث سينتقل ما في الأول من الأوساخِ والأقذار والأمراض إلى المستعمل الثاني، فدفعًا لذلك شرع هذا، فإن قلتَ: لِمَ قُيِّد الماء بالقليل؟ قلتُ: لكونه =

ص: 48

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= يغلب على الظن نجاسته، ووصول تلك النجاسة إلى جميع أجزاء الماء، بخلاف الماء الكثير فإنه يكون طهورًا وإن تطهر به رجل؛ لكونه يغلب على الظن عدم وصول النجاسة أو الوسخ إلى جميع أجزاء الماء، وللاحتراز عن الأضرار: كُره استعماله -وإن كان كثيرًا- بعد ما استعمله رجل في رفع حدثه، فإن قلتَ: لِمَ قُيِّد ذلك برفع الحدث؟ قلتُ: لإخراج الماء القليل الذي استعمله الرجل في طهارة مستحبة لتجديد وضوء أو غسل الجمعة -كما سبق ذكره- أو الماء القليل الذي غسل به الرجل عضوًا واحدًا ولم يُرفع به حدثًا فهذا يصح التطهر به، فإن قلتَ: لِمَ قُيِّد ذلك باستعمال الرجل دون المرأة؟ قلتُ: لأن الرجل يصح أن يتطهر بماء قليل قد رفعت امرأة حدثها به - وهو حكم مستثنى- للسنة القولية والفعلية الوارد في حديث ميمونة -كما سبق بيانه في مسألة (27) - فإن قلت: لِمَ جعلتم هذا الماء طاهرًا ولم يكن نجسًا؟ قلتُ: لقاعدتين: الأولى: السنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد توضأ بماء، ثم صبَّه على جابر -وهو مغمى عليه- فلو كان الماء المستعمل في طهارة رجل نجسًا: لما جاز ذلك، الثانية: إجماع الصحابة؛ حيث إنهم كانوا يتوضأون ويتقاطر من الماء الذي يتوضأون به بعض القطرات على ثيابهم وأبدانهم ولم يكونوا يغسلون ذلك: فلو كان نجسًا: لغسلوا ما سقط عليه، فإن قلتَ: تصح الطهارة من هذا الماء وإن رُفع به حدث رجل؛، وهو قول قد حُكي عن بعض الحنفية ورواية عن أحمد، للقياس، بيانه: كما أن الماء المستعمل في طهارة مستحبة تصح الطهارة منه فكذلك الحال هنا، والجامع: الاستعمال في كل، قلتُ: هذا قياس مع الفارق؛ لأن الماء المستعمل في رفع حدث قد أزيل به مانع من الصلاة، أما الماء المستعمل لطهارة مستحبة: فلم يرفع به حدث، فتصح الصلاة بدونه، ولا قياس مع الفارق، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض القياس مع السنة والإجماع" فعندنا: يُقدَّمان على القياس، وعندهم: يقدم القياس عليهما هنا، وكذا:"هل رفع الحدث بالماء مؤثر فيه أو لا؟ " فعندنا نعم، وعندهم: لا.

ص: 49

ولا يضرُّ اغتراف المتوضيء؛ لمشقة تكرره

(31)

، بخلاف من عليه حَدَث أكبر، فإن نوى وانغمس هو، أو بعضه في قليل: لم يرتفع حَدَثه، وصار الماء مستعملًا

(32)

، ويصير الماء مستعملًا في الطهارتين بانفصاله، لا قبله ما دام مُترددًا على الأعضاء

(33)

(أو غُمس فيه) أي: في الماء القليل كل (يد) مسلم مكلَّف (قائم من

(31)

مسألة: يباح للمتوضيء أن يغترف بيده من ماء قليل في إناء، ويستحب: أن يغسل كفه الذي يريد أن يغترف فيه بإمالة الإناء عليه، ثم يبدأ يغترف به ليغسل جميع الأعضاء؛ للمصلحة؛ حيث إن إمالة الإناء ليصب الماء على اليد في كل مرة يغسل بها عضو يشقُّ، نظرًا لكثرة تكراره في اليوم والليلة، فدفعًا لذلك شُرع هذا الحكم.

(32)

مسألة: لا يجوز للمتطهر من حدث أكبر كجنابة: أن يعترف بيده من ماء قليل، فإن اغترف بها: فإن هذا يضرُّ الماء، ويكون مستعملًا، وحدثه لا يرتفع باستعماله؛ للقياس، بيانه: كما لو استعمل هذا الماء شخص آخر: فإنه يكون مستعملًا، فكذلك لو أدخل يده فقط في هذا الماء فإنه يكون مستعملًا، والجامع: أن كلًا منهما نوى إزالة حَدَثه بهذا الماء وأدخل عضوًا نجسًا فيه، فالمستعمل له نوى باستعماله رفع حدثه، والمغترف نوى بإدخال يده إزالة حدثه، فإن قلتَ: لِمَ شرع هذا في الماء القليل؟ قلتُ: لأنه يغلب على ظننا وصول النجاسة إلى جميع أجزاء الماء القليل؛ بخلاف الكثير -وهو البالغ قلتين- فإنه يرتفع حدثه ولو انغمس كله فيه؛ لأنه لا يحمل الخبث، أي: يغلب على ظننا عدم وصول النجاسة إلى جميع أجزائه.

(33)

مسألة: يكون الماء مستعملًا -لا يصلح للتطهر به- إذا انفصل عن بدنه في طهارة الحدث الأصغر والأكبر، أما قبل انفصاله عن أيِّ عضو، أو كان مترددًا بين الأعضاء: فإنه لا يكون مستعملًا فيجوز التطهر بذلك، للتلازم؛ حيث إن =

ص: 50

نوم ليل ناقض لوضوء) قبل غسلها ثلاثًا: فطاهر: نوى الغسل بذلك الغمس أولا، وكذا: إذا حصل الماء في كلها، ولو باتت مكتوفة أو في جراب ونحوه؛ لحديث:"إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يديه قبل أن يُدخلهما في الإناء ثلاثًا؛ فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده؟ " رواه مسلم، ولا أثر لغمس يد كافر وصغير ومجنون، وقائم من نوم نهار، أو ليل إذا كان نومه يسيرًا لا ينقض الوضوء، والمراد بـ "اليد" هنا: إلى الكوع، ويستعمل هذا الماء إن لم يجد غيره، ثم يتيمم،

(34)

= الفراغ من استعمال الماء وانحطاطه في إناء -مثلًا- يصدق عليه اسم المنفصل عن البدن، فيلزم إطلاق اسم الماء المستعمل عليه، ويلزم من عدم الفراغ منه، وعدم انعزاله عن الأعضاء: أنه لازال في الاستعمال، فلا يصدق عليه اسم الماء المستعمل، فإن قلتَ: لِمَ حُدِّد الماء المستعمل بهذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه توسعة على الناس؛ حيث إن الشخص لو فرغ من الغسل من الجنابة، ورأى بُقعة لم يُصبها الماء، فإنه يجوز له أن يعصر عليها بعض شعر رأسه أو لحيته، ويغسل تلك البقعة؛ لكونه غير منفصل، وهذا بلا شك أيسر له من العودة للاغتسال مرة أخرى.

(34)

مسألة: تصح الطهارة بماء قد غُمست فيه يد شخص: سواء كان مُكلَّفًا أو لا، مسلمًا أو لا، وسواء كان قائمًا من نوم ليل أو نهار، وسواء كان هذا النوم ينقض الوضوء أو لا، وسواء كان هذا الماء قليلًا أو كثيرًا، وسواء كانت اليدان مطلقتين أو لا، وهو قول الجمهور لقواعد: الأولى: للكتاب؛ حيث قال تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} ، الثانية: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم للأعرابي: "توضأ كما أمرك الله: أغسل وجهك وذراعيك .. " حيث أمر الشارع من أراد الوضوء في هذين النصين" أن يبدأ وجوبًا بغسل الوجه فلم يقدم عليه وجوب غسل الكف، وهذا عام فيمن قام من نوم أو غيره؛ لأن "واو الجمع" من صيغ العموم، ولأن الخطاب لواحد من الأمة هو خطاب لجميع الأمة إذا لم يرد ما =

ص: 51

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= يخصصه ولأن هذا مطلق في الزمان، الثالثة: القياس؛ بيانه: كما أنه لا يجب غسل الكف قبل إدخاله في الإناء عند وضوء غير القائم من النوم، فكذلك لا يجب غسل الكف عند وضوء القائم من النوم والجامع: أن النجاسة لم يغلب على الظن وجودها في الحالين، فإن قلتَ: لِمَ صحت الطهارة بهذا الماء الذي غمس فيه يد قائم من نوم ليل ناقض للوضوء؟ قلتُ: لأن نجاسة اليد مشكوك فيها، والشك لا تُبنى عليه أحكام، فإن قلتَ: لا تصح الطهارة بماء قليل قد غُمست فيه يد قائم من نوم ليل ناقض للوضوء، وهو مسلم مكلف؛ لكونه طاهرًا غير مطهر، وإذا لم يجد غيره: فإنه يستعمله، ثم يتيمم -وهو ما ذكره المصنف هنا- للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم:"إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يديه قبل أن يُدخلهما في الإناء ثلاثًا فإنه لا يدري أين باتت يده"؛ حيث أوجب غسل اليدين هنا؛ لأن الأمر مطلق، وهو يقتضي الوجوب، ولا فائدة لهذا الأمر إلا لأن إدخالهما بدون غسلهما يسلب طهورية الماء، قلتُ: إن هذا الأمر للاستحباب وليس للوجوب؛ لأنه أمر بغسل اليد للشك في النجاسة ودلَّ على هذا قوله: "فإنه لا يدري أين باتت يده؟ " قال الماوردي في "الحاوي"(1/ 102): "لأن القوم كانوا يستعملون الأحجار وينامون فيعرقون، وربما وقعت أيديهم على موضع النجاسة فنجست، وهذا متوهَّم، فتكون نجاستها مشكوكًا فيها، وما وقع الشك في تنجيسه: لم يجب غسله، وإنما يُستحب؛ لأن الشك لا يثبت أحكامًا" فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "هل الأمر في الحديث الأخير للوجوب فيخصص الآية والحديث الأول أو لا؟ "، فعندنا: لا، وعندهم: نعم. فإن قلتَ: لِمَ قال هنا: "فإن لم يجد غيره يستعمله ثم يتيمم"؟ قلتُ: لأن الماء الذي غمس فيه يد قائم من نوم ليل صار طاهرًا غير مطهر عند أكثر الحنابلة، فلا ينجس استعماله، ويُتيمم احتياطًا، ولكن أقول: لا فائدة من استعماله إذا لم يكن مُطهرًا، ولا يُجمع بين طهورين - كما سبق بيانه- تنبيه" قوله "وكذا إذا حصل الماء" إلى قوله:"إلى الكوع" هذا تفريع على المذهب المرجوح، وهو مذهب بعض الحنابلة ومنهم المصنف هنا.

ص: 52

وكذا: ما غُسل به الذكر والأنثيان؛ لخروج مذي، دونه؛ لأنه في معناه

(35)

، وأما ما غُسل به المذي: فعلى ما يأتي

(36)

(أو كان آخر غسلة زالت النجاسة بها) وانفصل غيرُ متغيِّر: (فطاهر)؛ لأن المنفصل بعض المتصل، والمتصل طاهر

(37)

، النوع الثالث:"النَّجس" وهو: ما أشار إليه بقوله: (والنّجس: ما تغيَّر بنجاسة) قليلًا كان أو كثيرًا، وحكى

(35)

مسألة: تصح الطهارة بماء قليل غُسل فيه الذكر والخصيتان بعد أن أخرج مذيًا -وهو: ما خرج لزجًا عند الشهوة-، للقياس، بيانه: كما أن الماء القليل إذا غُمست فيه يد قائم من النوم تصح الطهارة به -كما سبق في مسألة (34) - فكذلك هنا، والجامع: أن النجاسة مشكوك فيها، ولا تُبنى على الشك أحكام، فإن قلتَ: لِمَ صحت الطهارة منه؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه توسعة على الناس، تنبيه: عند المصنف: "لا تصح الطهارة بذلك، فإن لم يجد غيره: استعمله مع التيمم، وهذا مرجوح كما سبق في مسألة (34) ".

(36)

مسألة: لا تصح الطهارة بماء قليل غُسل فيه مذي لاصق على البشرة أو الثوب؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كون المذي نجسًا، فإن الماء الذي غُسل فيه يكون نجسًا مثله، كما يُغسل البول، وسيأتي بيانه في باب "إزالة النجاسة".

(37)

مسألة: إذا وقعت نجاسة كبول على ثوب أو بدن، فغُسلت عدة مرات، وفي آخر مرة -وهي التي زالت بها النجاسة- استعمل ماء قليل، ثم انفصل هذا الماء المغسول به تلك النجاسة: فإن الماء يكون طاهرًا غير مطهر وإن لم تتغير بعض صفاته؛ للتلازم؛ حيث إن هذا الماء المنفصل هو بعض من الماء المتصل بالبقعة التي وقعت فيها النجاسة، والمتصل طاهر؛ نظرًا للصوقه بمحل النجاسة فيلزم أن يكون المنفصل مثله، ويمكن أن يثبت ذلك بالقياس، وهو: قياس المنفصل على المتصل، فإن قلتَ: لِمَ لا يتطهر بهذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن الغسلة الأخيرة للنجاسة متأثرة بتلك النجاسة، ولا يبعد أن يلصق شيء منها في ذلك الماء، فيتأثر مستعمله، فدفعًا لذلك: منع من التطهر به.

ص: 53

ابن المنذر الإجماع عليه

(38)

(أو لاقاها) أي لاقى النجاسة (وهو يسير) أي: دون القلتين فينجس بمجرد الملاقاة ولو جاريًا؛ لمفهوم حديث: "إذا بلغ الماء قلتين لم يُنجسه شيء"

(39)

(أو انفصل عن محل نجاسة) متغيرًا، أو (قبل زوالها) فنجس: فما انفصل قبل السابعة: نجس، وكذا: ما انفصل قبل زوال عين النجاسة ولو بعدها، أو

(38)

مسألة: الماء النجس هو: الذي تقع فيه نجاسة وغيَّرت إحدى صفاته -اللون أو الطعم أو الرائحة- كأن يقع فيه روث حمار، فإذا توفر هذان الشرطان:"وجود النجاسة فيه" و "تغيُّر إحدى صفاته": فإنه يكون نجسًا لا يستعمل لشيء، سواء كان هذا الماء قليلًا أو كثيرًا؛ للإجماع، حيث أجمع العلماء على ذلك، فإن قلتَ: لِمَ كان نجسًا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إنه إذا اجتمع هذان الشرطان: فإن النفوس تستقذر ذلك الماء، ولا يُتعبد الله بشيء تستقذره النفوس، ثم إن هذا الماء لا يُحصِّل الغرض الذي من أجله شرعت الطهارة، وهي: التنظيف والتطهير، بل بالعكس، فقد يؤثر على جسم المستعمل له بأنواع الأمراض، فدفعًا لذلك شرع هذا.

(39)

مسألة: إذا وقعت نجاسة -كروث حمار- في ماء قليل، أو لاقى ذلك الماء تلك النجاسة -بأن صُبَّ عليها-: فإنه يكون نجسًا، سواء كان هذا الماء راكدًا أو جاريًا، وسواء تغيَّر أو لا؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم:"إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث" وفي رواية: "لم يُنجِّسه شيء" حيث إن مفهوم العدد منه قد دلّ على أنه إذا لم يبلغ قلتين فإنه ينجس -إذ هذا حد القليل منه- وهذا المفهوم عام، أي: يشمل المتغير وغير المتغير، ويشمل الراكد والجاري، ويشمل الملاقي للنجاسة وغيره، فإن قلتَ: لِمَ كان ذلك نجسًا في الماء القليل دون الكثير؟ قلتُ: لأنه يغلب على الظن وصول النجاسة إلى جميع أجزاء الماء، بخلاف الماء الكثير فلا يغلب على الظن ذلك كما سبق.

ص: 54

متغيرًا

(40)

(فإن أضيف إلى الماء النجس) قليلًا كان أو كثيرًا (طهور كثير) بصب أو إجراء ساقية إليه ونحو ذلك: طَهُر؛ لأن هذا القدر المضاف يدفع النجاسة عن نفسه وعما اتصل به (غير تراب ونحوه) فلا يُطهَّر به نجس (أو زال تغيُّر) الماء (النجس الكثير بنفسه) من غير إضافة، ولا نزح (أو نزح منه) أي: من النجس الكثير (فبقى بعده) أي: بعد المنزوح (كثير غير متغيِّر: طهر)؛ لزوال علَّة تنجسه، وهي:"التغير"، والمنزوح الذي زال مع نزحه التغير: طهور إن لم تكن عين النجاسة فيه، وإن كان النجس قليلًا أو كثيرًا مجتمعًا من متنجس يسير: فتطهيره بإضافة كثير مع زوال تغيُّره إن كان

(41)

، ولا يجب غسل جوانب بئر نُزحت؛ للمشقة، تنبيه: محلُّ ما

(40)

مسألة: إذا وقعت نجاسة -كبول أو غائط- على ثوب، ثم غسل محل النجاسة، فانفصل ماء متغيِّر الصفة -قبل الغسلة الأخيرة، أو قبل زوال النجاسة، أو بعدها، وقبل الغسلة السابعة- من غسل الإناء من ولوغ الكلب-: فإن هذا الماء في تلك الأحوال نجس؛ للتلازم؛ حيث يلزم من حصول عين النجاسة فيه، ومخالطة الماء لهذه العين أن يكون ما انفصل من ماء نجساً؛ لكونه متأثرًا تأثرًا حقيقيًا، فإن قلتَ: لِمَ كان نجسًا؟ قلتُ: لما ذكرناه في المسألة السابقة.

(41)

مسألة: طرق تطهير الماء النجس بسائر النجاسات، هي: أولًا: أن يُضاف إلى الماء النجس -قليلًا أو كثيرًا- ماء طهور كثير -وهو البالغ قلتين- وتسمى بـ "المكاثرة"، ويكون ذلك عن طريق ماء نبع فيه، أو ماء يُصبُّ عليه، أو يجري عليه من ساقية نحوه ويفعل حتى يزول التغير؛ فلا يطهر إذا أضيف إليه شيء غير الماء كالتراب والصابون ونحوهما؛ وإن زال التغير؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم:"إذا بلغ الماء قلتين: لم يحمل الخبث" حيث دل لفظ "لم يحمل" أن القلتين وما فوقهما من الماء تدفعان عن نفسيهما النجاسة، وعما اتصل بهما، =

ص: 55

ذُكر: إن لم تكن النجاسة بول آدمي أو عذرته: فتطهير ما تنجس بهما من الماء: إضافة ما يشقُّ نزحه إليه، أو نزح يبقى بعده ما يشق نزحه، أو زوال تغيّرُ ما يشقُّ نزحه بنفسه على قول أكثر المتقدمين ومن تابعهم على ما تقدم

(42)

= ودل مفهوم الشرط منه: على أن التراب وغيره لا يطهر الماء النجس إذا أضيف إليه؛ لكونه لا يرفع النجاسة عن نفسه، فمن باب أولى: أن لا يدفع النجاسة عن غيره، ثانيًا: أن يُترك الماء النجس حتى يزول تغيُّره بنفسه بسبب طول مكثه، من غير إضافة ولا نزح؛ للقياس، بيانه: كما أن الخمرة لو انقلبت بنفسها خلَّا: لجاز شربها، فكذلك الماء النجس لو زالت النجاسة بنفسها لصحت الطهارة به، والجامع: زوال علة المنع من الأمرين؛ ثالثًا: أن يُنزح من الماء الكثير المتغيِّر بالنجاسة حتى يزول التغير بشرط: أن يبقى -بعد النزح- ماء كثير -وهو البالغ قلتين-؛ للتلازم؛ حيث يلزم من زوال عِلَّة التنجيس وهي: التغيُّر: زوال نجاسته، فإن قلتَ: الماء المنزوح هل يكون طهورًا أو نجسًا؟ قلتُ: إن كانت عين النجاسة موجودة في هذا الماء المنزوح: فهو نجس، وإن كانت غير موجودة ولم يوجد تغيُّر فيه: فهو طهور؛ للتلازم؛ حيث إن التغيُّر علة التنجيس: فإن وجدت العين أو أثرها وهو التغيُّر، فيلزم أن يكون الماء نجسًا، وإن عدمت وأثرها: فيلزم أن يكون الماء طهورًا، فإن قلتَ: لِمَ شرعت هذه الطرق؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن كثيرًا من المياه تتنجس بأي سبب، فلو تركه لَلَحِق أكثر الناس الضرر؛ لقلة المياه، فشُرعت هذه الطرق؛ دفعًا لهذا الضرر.

(42)

مسألة: لا يجب غسل جوانب بئر -أو حوض كبير- نُزح منه الماء، أو كُوثِر بماء؛ لأجل تطهيره، ويجب غسل الآلة التي نزح بها الماء النجس كالدلو ونحوه؛ للمصلحة؛ حيث إنه يشق غسل جوانب البئر ونحوه، فلم يجب؛ لأن المشقة =

ص: 56

(وإن شك في نجاسة ماء أو غيره) من الطاهرات (أو) شك في (طهارته) أي: طهارة شيء علمت نجاسته قبل الشك: (بنى على اليقين) الذي عَلِمه قبل الشك، ولو مع سقوط عظم أو روث شك في نجاسته؛ لأن الأصل: بقاؤه على ما كان عليه

(43)

،

= تجلب التيسير، أما الآلة فوجب غسلها، لعدم المشقة في ذلك، فالأصل هو: الغسل في الأمرين، ولكن سقط غسل جوانب البئر للمشقة كما سقط الصيام في السفر، تنبيه: طرق تطهير الماء النجس ببول آدمي أو عذرته هي نفس طرق تطهير الماء النجس بسائر النجاسات عند أكثر العلماء المحققِّين -وقد بينا ذلك في مسألة (41) - ولا علة لذكر ذلك منفردًا إلا ذكر الخاص بعد العام؛ للاهتمام به.

(43)

مسألة: إذا تيقن من طهارة ماء، ثم طرأ عليه شك فيه فقال في نفسه: يُحتمل أنه تنجس بعد ذلك، ويُحتمل أنه لم يتنجس، ولم يُرجح أحد الاحتمالين: فإنه يبني على ما تيقن منه قبل شكَّه هذا، وهو أنه طهور، فيتطهر به، ولو سقط فيه عظم أو روث شك فيهما وغيَّر بعض صفاته، وكذا: إن تيقن من نجاسة ماء، ثم طرأ عليه شك في طهارته، فقال في نفسه: يُحتمل أنه تطهر بإحدى طرق التطهير السابقة الذكر في مسألة (41)، ويُحتمل أنه لم يتطهر به فإنه يبني على ما تيقن منه قبل شكه، وهو أنه نجس، فلا يتطهر به؛ للاستصحاب؛ حيث إن الأصل بقاء ما تُيقِّن منه، ونفي ما شُك فيه، فنستصحب هذا الأصل، ونعمل به، ولا نعمل بالشك؛ لأن الشك لا تُبنى عليه أحكام، فإن قلتَ: لِمَ لا يُعمل بالشك مع تغيُّر الماء أحيانًا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إنه لو عمل كل مسلم بكل ما يشكُّ به: لَلَحِقه ضيق وضرر وأذى؛ لكثرة ما يقع من الشكوك في حياته، فأما تغيُّره: فقد يكون بسبب آخر غير النجاسة كطول مكثه، أو وقوع شيء طاهر فيه يصعب التحرز منه، ومع الاحتمال: لا يمكن الجزم فيكون مشكوكًا فيه، ونبقى على العمل بما تيقنا منه.

ص: 57

وإن أخبره عدل بنجاسته وعيَّن السَّبب: لزمه قبول خبره

(44)

(وإن اشتبه طهور بنجس: حُرِّم استعمالهما) إن لم يمكن تطهير النجس بالطهور، فإن أمكن: بأن كان الطهور قلتين فأكثر، وكان عنده إناء يسعهما: وجب خلطهما واستعمالهما (ولم يتحرَّ) أي: لم ينظر أيهما يغلب على ظنه أنه الطهور فيستعمله، ولو زاد عدد الطهور، ويعدل إلى التيمم إن لم يجد غيرهما (ولا يُشترط للتيمم إراقتهما ولا خلطهما)؛ لأنه غير قادر على استعمال الطهور؛ أشبه ما لو كان الماء في بئر لا يمكنه الوصول إليه

(45)

، وكذا: لو اشتبه مباح بمحرم

(44)

مسألة: إذا أخبر زيد المكلَّف العدل عمرًا بأن هذا الماء طهور، أو أنه نجس: فيجب على عمرو قبول خبره بشرط: أن يُعيِّن زيد سبب كون الماء طهورًا، أو كونه نجسًا بأن يقول:"إنه طهور؛ لإنه لم يرد عليه ما يُنجِّسه" أو يقول: "إنه نجس؛ لأنه وقع فيه روث حمار أو بول أو وقع فيه كلب" أما إذا أخبره صبي أو مجنون، أو فاسق، أو مكلف عدل ولم يُبيِّن سبب طهوريته أو نجاسته: فلا يجب على عمرو قبول خبره؛ للقياس، بيانه: كما أنه يُقبل خبر المخبر بالحديث، أو بالشهادة، إذا كان مكلَّفًا عدلًا، فكذلك هنا، والجامع: أن كلًا منهما خبر بشيء سيُعمل به، فإن قلتَ: لِمَ اشتُرط ذلك الشرط؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن بعض الناس متشدِّد فيظنُّ كل شيء يُنجِّس الماء، وبعضهم متساهل فيظن كل شيء لا يُنجِّس، فاشترط ذلك ليحتاط المخبَرُ لنفسه.

(45)

مسألة: إذا اشتبه عليه إناء فيه ماء طهور، وإناء آخر فيه ماء نجس، ولا يعلم أيهما الطهور أو النجس؟: ففيه تفصيل هو كما يلي: أولًا: إن أمكن تطهير النجس: بأن كان عنده ماء طهور كثير -وهو ما بلغ قلتين- وكان عنده إناء يسع الطهور والنجس: فإنه يطهر النجس بأن يُضيف الماء الكثير هذا إلى "مجموع =

ص: 58

فيتيمم إن لم يجد غيرهما

(46)

، ويلزم مَن عَلِم النَّجس: إعلام مَنْ أراد أن

= النجس مع الطهور الذي شك فيهما" -كما قلنا في طرق تطهير الماء- ثم يتطهر به، ولا يتيمم، ثانيًا: إن لم يمكن التطهير: فإنه يتحرى ويجتهد: فإن غلب على ظنه أن أحدهما هو الطهور: تطهر به، وإن لم يغلب على ظنه شيء: تركهما معًا وتيمم سواء كثُر عدد الطهور أو لا، وسواء خلطهما أو أراقهما أو لا؛ لقاعدتين: الأولى التلازم؛ حيث يلزم من التطهير بطرقه -كما سبق في مسألة (41) -صحة التطهر بالماء المطهَّر، ويلزم من عدم رجحان الإناء الطهور: عدم صحة التطهر بهما معًا؛ لوجود الشك؛ لأنه ليس أحدهما بأولى من الآخر فيعمل بالبدل وهو التيمم، الثانية: القياس، وهو من وجهين: أولهما: كما أنه إذا اشتبهت عليه القبلة، أو اشتبهت عليه ثياب طاهرة بنجسة، فإنه يجتهد ويتحرى فكذلك هنا يتحرَّى ويجتهد، والجامع: أن كلًا منها محتمل لأن يصلح شرعًا أو لا، والاجتهاد هو الذي يُبيِّن ذلك، وكلًا منها يخص شرطًا من شروط الصلاة، ثانيهما: كما أنه يجوز التيمم مع وجود بئر فيه ماء لا يقدر على الوصول إليه، فكذلك يجوز التيمم مع وجود الإناءين -الطهور والنجس- بدون خلطهما أو إراقتهما، والجامع: عدم القدرة على استعمال الماء الطهور، فإن قلت: لِمَ وجب التحري والاجتهاد؟ قلتُ: للاحتياط في أمر الدين؛ فإن قلتَ: لِمَ جاز التيمم بدون إراقتهما؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن بعض الناس ينتفع بالماء المشتبه به غير التطهر به، فإن قلتَ: لِمَ ذكر المصنف عدم اشتراط إراقتها؟ قلتُ: للتنبيه على قول بعض العلماء: "إنه يُشترط إراقتهما أو خلطهما؛ حتى يتحقق شرط التيمم"، وهو: عدم وجود الماء الطهور، فذكر المصنف ذلك ردًا عليه. تنبيه: قوله: "ولم يتحرَّ" قلتُ: كونه لا يتحرى ولا يجتهد في أيهما الطهور من النجس هذا فيه بُعد، وقد بينا بالقياس: أنه يجب عليه أن يتحرى.

(46)

مسألة: إذا اشتبه عليه إناء فيه ماء مباح، وإناء فيه ماء محرم -بأن كان مغصوبًا أو مسروقًا-: فإنه يتحرى ويجتهد، فإن غلب على ظنه أن أحدهما هو =

ص: 59

يستعمله

(47)

(وإن اشتبه) طهور (بطاهر) أمكن جعله طهورًا به أم لا (توضأ منهما وضوءًا واحدًا) ولو مع طهور بيقين (من هذا غرفة، ومن هذا غرفة) ويعمَّ بكل واحدة من الغرفتين المحلَّ (وصلَّى صلاة واحدة)، قال في "المغني" و "الشرح":"بغير خلاف نعلمه"

(48)

، فإن احتاج أحدهما للشرب تحرى، وتوضأ بالطهور وتيمم؛

= الماء المباح: تطهر به، وإن لم يغلب على ظنه شيء: تركهما وتيمم، ولا يُشترط إراقتهما ولا خلطهما؛ لقاعدتين: الأولى: التلازم، حيث يلزم من غلبة الظن بأن هذا مباح: صحة التطهر به، ويلزم من العدم: العدم، الثانية: القياس، وهو من وجهين قد سبق ذكرهما في المسألة السابقة (45).

(47)

مسألة: إذا علم شخص أن الماء الذي في هذا الإناء هو النجس، أو هو المحرم، أو غلب على ظنه ذلك: فيجب عليه أن يُخبر كل من استعمله بذلك؛ لقاعدتين: الأولى: الكتاب، حيث قال تعالى:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} وهذا عام، فيشمل ما نحن فيه؛ لأن الإخبار بذلك من البر" و "البر" اسم جنس معرف بأل، وهو من صيغ العموم، والأمر هنا مطلق وهو يقتضي الوجوب، الثانية: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "من غشنا فليس منَّا" وهو عام، فيشمل ما نحن فيه؛ لأن عدم إخبار الآخرين بذلك من الغش، وورد فيه اسم الشرط، وهو من صيغ العموم، ونفي كون الغاش ليس من الأمة الإسلامية عقاب، ولا يُعاقب إلا على ترك واجب، فإن قلتَ: لِمَ وجب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه دفع مفسدة التطهر بذلك النجس أو المحرم.

(48)

مسألة: إذا اشتبه عليه إناء فيه ماء طهور، وإناء فيه ماء طاهر: فإنه يتوضأ منهما وضوءًا واحدًا: يأخذ من الأول غرفة بيده فيغسل بها وجهه، ويأخذ من الثاني =

ص: 60

ليحصل له اليقين

(49)

(وإن اشتبهت ثياب طاهرة بـ) ثياب (نجسة) يُعلم عددها (أو) اشتبهت ثياب مباحة بثياب (محرمة) يعلم عددها: (صلى في كل ثوب صلاة بعدد النجس) من الثياب (أو المحرم) منها ينوي بها الفرض احتياطًا، كمن نسي صلاة من يوم (وزاد) على العدد (صلاة) ليؤدي فرضه بيقين

(50)

، فإن لم يعلم عدد النجسة أو

= غرفة فيغسل بها وجهه مرة ثانية، وهكذا في كل عضو من أعضاء الوضوء، فيُغمِّم بكل غرفة المحلَّ المغسول، ويفعل ذلك ولو كان عنده طهور، فإذا فرغ من ذلك: يصلي صلاة واحدة؛ للتلازم؛ حيث يلزم من هذا الفعل: أن يكون قد توضأ بالماء الطهور وضوءًا كاملًا بيقين، فصحت صلاته، فإن قلتَ: لِمَ يُفعل ذلك في الماء الطهور إذا اشتبه بطاهر، ولا يُفعل ذلك في الماء الطهور إذا اشتبه بنجس كما سبق في مسألة (45)؟ قلتُ: لأن الماء الطاهر إذا لاقى أيَّ عضو لا يُنجسه، بخلاف النجس: فإنه إذا لاقاه يُنجسه؛ حيث قد يكون النجس بعد الطهور، أما الطاهر فلو كان بعد الطهور فلا يؤثر، ولما افترقت المسألتان: افترق الحكم.

(49)

مسألة: إذا اشتبه إناء فيه ماء طهور، وإناء فيه ماء طاهر، واحتاج إلى أحدهما ليشربه: فإنه يتحرى ويجتهد؛ فإن غلب على ظنه أن هذا الإناء هو الطهور: تطهَّر به، وشرب الآخر؛ للمصلحة، حيث إن مصلحة الدِّين مقدمة على مصلحة النفس عند التعارض؛ لعدم وجود مفسدة من شرب الماء الطاهر بخلاف الماء النجس فلا يشربه بأي حال، تنبيه: قوله: "وتيمم" قلتُ: هذا فيه نظر؛ لأنه غلب على ظننا طهورية أحدهما، فلا داعي للتيمم، ولا يصح الجمع بين البدل والمبدل كما سبق بيانه

(50)

مسألة: إذا كان عنده خمسة ثياب طاهرة، وخمسة ثياب نجسة، أو عنده خمسة ثياب مباحة، وخمسة ثياب محرمة -كأن تكون مغصوبة أو مسروقة- ولا يعلم =

ص: 61

المحرمة: لزمه أن يصلي في كل ثوب صلاة؛ حتى يتيقن أنه صلى في ثوب طاهر ولو كثُرت، ولا تصح في ثياب مشتبهة مع وجود طاهر يقينًا، وكذا حكم أمكنة ضيقةً، ويصلي في واسعة حيث شاء بلا تحر

(51)

.

= النجس من الطاهر، ولا المباح من المحرم، وأراد صلاة الظهر -مثلًا-: فيجب عليه أن يصلي الظهر بعدد الثياب النجسة، أو بعدد الثياب المحرمة، ثم يزيد صلاة، ناويًا بكل صلاة، الفرض، فيصلي ست مرات؛ للقياس؛ بيانه: كما أن من نسي صلاة من يوم ولا يدري أي الصلوات: فإنه يصليها جميعًا، فكذلك هنا، والجامع: التحقق من أنه فعل المأمور به، فإن قلتَ: لِمَ وجب ذلك؟ قلتُ: لأن هذا الفعل لا يتم الواجب إلا به فوجب؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.

(51)

مسألة: إذا كان عنده ثياب طاهرة، ونجسة، ولا يعلم عددها، أو عنده ثياب مباحة ومحرمة، ولا يعلم عددها، أو شك في أمكنة هل هي نجسة أو طاهرة، أو مباحة أو محرمة؟، وقد اشتبهت عليه فلا يعلم النجس من الطاهر، ولا المباح من المحرم، وأراد صلاة الظهر مثلًا: ففيه تفصيل هو كما يلي: أولا: إن كانت تلك الثياب قليلة أو المكان ضيق -كأقل من عشرة ثياب والمكان أقل من عشرة أمتار، وهو جمع القلة- فيجب أن يصلي في كل ثوب صلاة، ويصلي في كل متر صلاة؛ للتلازم؛ حيث يلزم من فعله هذا -وهو غير شاق عليه-: أنه صلى بثوب ومكان طاهر بيقين فتصح صلاته، لتوفر شرطها. ثانيًا: إن كانت تلك الثياب كثيرة، والمكان واسعًا -كعشرة فأكثر-: فإنه يتحرى ويجتهد، فإن غلب على ظنه طهارة ثوب، أو طهارة مكان: صلى فيه وإن لم يغلب على ظنه شيء: فإنه يصلي بأي ثوب وبأي مكان وتبرأ ذمته إن شاء الله؛ للمصلحة؛ =

ص: 62

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= حيث إنه يشق عليه أن يصلي بكل ثوب من تلك الثياب الكثيرة، وأن يصلي بكل موضع من ذلك المكان الواسع، فدفعًا لذلك: شرع هذا؛ لأن "المشقة تجلب التيسير" و "إذا ضاق الأمر اتسع" تنبيه: قوله: "ولو كثرت" قلتُ: يقصد: أنه يصلي بكل ثوب ولو كثرت، وهذا مخالف للقواعد الكلية الواردة في تيسير الشريعة وسماحتها؛ حيث إن الله لم يكلِّف عباده بتلك العبادات ليُعذَّبهم بها، تنبيه آخر: قوله: "ولا تصح في ثياب مشتبهة مع وجود طاهر يقينًا" قلتُ: يريد أنه إذا وجد ثوبًا قد تيقن من طهارته فيجب أن يصلي فيه ولا يصلي بالمشكوك فيه من الثياب والأمكنة، وهل هي طاهرة أم نجسة، وهل هي مباحة أم محرَّمة.؟ وهذا واضح من دليل الاستصحاب، حيث إن الأصل: أن يصلي بالمتيقن منه، دون المشكوك فيه.

"هذه آخر مسائل "حقيقة الكتاب والطهارة والمياه المتطهر بها ويليه باب الآنية"

ص: 63

‌باب الآنية

هي الأوعية جمع "إناء"، لما ذكر الماء: ذكر ظرفه

(1)

(كل إناء طاهر) كالخشب والجلود، والصفر، والحديد (ولو) كان (ثمينًا) كجوهر، وزمرُّد (يُباح اتخاذه واستعماله) بلا كراهة

(2)

، غير جلد آدمي وعظمه فيُحرَّم

(3)

‌باب الآنية التي تُحفظ فيها المياه

وفيه ثنتان وعشرون مسألة:

(1)

مسألة: الآنية: جمع "إناء" وهو: جمع قِلَّة -وهو ما دون العشرة-، وجمع الكثرة:"أواني" وهي: الأوعية التي تحفظ فيها المياه، ومعنى الإناء لغة: هو منتهى الشيء، ومنه قوله تعالى {عَيْنٍ آنِيَةٍ} أي منتهى حدِّها، وقال:{حَمِيمٍ آن} أي: منتهى الحرارة، فإن قلتَ: لِمَ ذكر باب "الإناء" بعد المياه؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذكر ذلك هنا مناسب؛ لكون الماء سريع الجريان فيلزم أن يُحفظ بالإناء، ثم إنه يُعلم بواسطة الإناء الماء الكثير والقليل، ثم إن الإناء ينزح به الماء النجس، ويكاثر بواسطته، وفيه ما هو طاهر، وما هو نجس، وبعضها يمكن تطهيره، وبعضها لا يمكن تطهيره، فتبين أن ذكره هنا أنسب من ذكره في باب "الأطعمة والأشربة"، كما فعل بعض الفقهاء.

(2)

مسألة: جميع الأواني الطاهرة -غير آنية الذهب والفضة- يُباح اتخاذها واستعمالها بلا كراهة، وهذا مطلق، أي: تستعمل للأكل والشرب، والبيع والشراء، والزينة: سواء كانت ثمينة كالأواني المصنوعة من الجواهر والزمُّرد، أو غير ثمينة كالأواني المصنوعة من الخشب والجلود، ونحوه؛ للاستصحاب، حيث إن الأصل في الأواني الإباحة إلا ما ورد دليل على المنع منه -ولم يرد المنع إلا عن أشياء سيأتي ذكرها- فيبقى ما عداها على الأصل، فإن قلتَ: لِمَ أبيح ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه توسعة وتيسير على الناس.

(3)

مسألة: يحرم جعل جلد وعظم وشعر الآدمي آنية؛ للكتاب؛ حيث قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} حيث دلَّ مفهوم الصفة منه على تحريم فعل أي شيء =

ص: 64

(إلا آنية ذهب وفضة، ومضبَّبًا بهما) أو بأحدهما -غير ما يأتي-، وكذا: المموَّه، والمطلي، والمطعَّم، والمكفَّت بأحدهما (فإنه يحرم اتخاذها)؛ لما فيه من السرف والخيلاء، وكسر قلوب الفقراء (واستعمالها) في أكل وشرب وغيرهما (ولو على أنثى)؛ لعموم الأخبار، وعدم المخصص، وإنما أبيح التحلي للنساء؛ لحاجتهن إلى التزين للزوج، وكذا: الآلات كلها كالدواة، والقلم، والمسعط، والقنديل، والمجمرة، والمدخنة حتى الميل ونحوه

(4)

(وتصح الطهارة منها) أي: من الآنية المحرَّمة، وكذا: الطهارة

= في بني آدم يُهينه، واتخاذ آنية من جزء منه تحصل به تلك الإهانة، فإن قلتَ: لِمَ حُرم ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن الإنسان قد أُعدَّ للعمل بالشرائع؛ نظرًا لما تميز به من عقل، فلا يهان بذلك.

(4)

مسألة: يحرم على الرجال والنساء استعمال واتخاذ الأواني المصنوعة من الذهب والفضة، أو المضيب بهما، -بأن يُسدُّ بهما شق في إناء- وكذا المطلي بهما في أي آلة من الآلات المستعملة كالأقلام والمصابيح، أو مقابض الأبواب، أو الرفوف، أو الطشوت، أو المجامر، أو المداخن ونحو ذلك؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "لا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا من صحافها؛ فإنها لهم في الدنيا، ولكم في الآخرة" فحرم ذلك؛ لأن النهي هنا مطلق، وهو يقتضي التحريم، وهو عام للرجال والنساء؛ لأن "واو الجمع" من صيغ العموم، والنساء يدخلن في خطابات الذكور إذا لم يوجد دليل يخرجهن، الثانية: القياس؛ وهو من وجوه: أولها: أن ما ضبِّب، ومُوِّه، وطُعِّم بالذهب والفضة، يُقاس على خالص الذهب والفضة، والجامع: الإسراف، وكسر قلوب الفقراء، ثانيها: أن جميع أنواع الاستعمالات تُقاس على الأكل والشرب، والجامع: الاستعمال الدال على الخيلاء، ثالثها: أن ما حرم استعماله حرم اتخاذه؛ قياسًا على آلة اللهو كالطنبور، والجامع: أن كلًا منهما منهي عنه، والقاعدة هي "أن ما حرم استعماله حرم اتخاذه"، فإن قلتَ: لِمَ حرم ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث =

ص: 65

بها، وفيها وإليها، وكذا آنية مغصوبة

(5)

(إلا ضبَّة يسيرة) عرفًا، لا كبيرة (من

= إن استعمال واتخاذ ذلك فيه مفسدة كسر قلوب الفقراء، والإسراف المنهي عنه، فدفعًا لذلك حُرِّم، فإن قلتَ: لِمَ حرم ذلك، وأبيحت الأواني غالية الأثمان المصنوعة من الجواهر؟ قلتُ: لوجود الفرق؛ حيث إن استعمال واتخاذ الأواني غالية الأثمان كالجواهر لا يحصل فيها الخيلاء وكسر قلوب الفقراء؛ لعدم معرفتهم بها، أما الذهب والفضة: فهما معروفان عند الفقراء، فلو استعملها الغني أو اتخذها: لكسر قلوب الفقراء، -ذكره الباجي كما نقله عنه القرافي في "الذخيرة"(1/ 167) -، فإن قلتَ: لِمَ حُرِّم ذلك مع جواز التحلي بهما للمرأة؟ قلتُ: الأصل تحريم ذلك على الذكور والإناث، ولكن أبيح التحلي للنساء؛ للمصلحة، حيث إن ذلك فيه تزين المرأة أمام زوجها، لتجذبه إليها، وفي ذلك إحصان لها، وله، ويُسبب ذلك كثرة الاستيلاد، وكثرة المسلمين.

(5)

مسألة: تصح الطهارة بماء موجود في إناء ذهب أو فضة، أو مضبَّبب بهما: سواء اغترف الماء منه، أو انغمس فيه، أو صب منه الماء، أو صبَّ عليه أو نحو ذلك، وكذلك تصح الطهارة بماء في إناء مغصوب أو مسروق إن لم يجد غيره؛ للتلازم؛ حيث إن حقيقة الطهارة هي: جريان الماء على البدن أو الأعضاء، وهذا قد كمل، فيلزم صحتها وليس في ذلك معصية، إن لم يجد غيره، أما إن وجد غيره: فلا تصح الطهارة بها كما سيأتي فإن قلتَ: لِمَ شرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه توسعة وتيسير على الناس؛ إذ قد لا يوجد إلا هذه الأواني المحرمة المحفوظ فيها الماء، ولم يتوفر فيه شرط التيمم. [فرع]: إن وُجد عند الشخص غير تلك الأواني المغصوبة والمسروقة: فلا تصح الطهارة بتلك المغصوبة والمسروقة؛ للقياس؛ بيانه: كما أنه لا تصح الصلاة في الدار المغصوبة إن وجد عنده غيرها، فكذلك لا تصح الطهارة في الأواني المغصوبة والمسروقة، والجامع حماية حقوق المسلمين من أخذها ظلمًا في كل، وهذا هو المقصد منه.

ص: 66

فضة) لا ذهب (لحاجة) وهي: أن يتعلق بها غرض غير الزينة، فلا بأس بها؛ لما روى البخاري عن أنس رضي الله عنه:"أن قدح النبي صلى الله عليه وسلم انكسر فاتخذ مكان الشعب سلسلة من فضة"، وعلم منه: أن المضبَّب بذهب حرام مطلقًا، وكذا: المضبَّب بفضة لغير حاجة، أو بضبَّة كبيرة عرفًا ولو لحاجة؛ لحديث ابن عمر:"من شرب في إناء ذهب أو فضة أو إناء فيه شيء من ذلك: فإنما يُجرجر في بطنه نار جهنم" رواه الدارقطني

(6)

(وتكره مباشرتها) أي: الضبَّة المباحة (لغير حاجة)؛ لأن فيه

(6)

مسألة: يُحرَّم استعمال الإناء المضبَّبب بالذهب: سواء كان هذا التضبيب قليلًا أو كثيرًا، وسواء كان الحاجة أو لغير حاجة، ويحرم أيضًا استعمال الإناء المضبَّبب بالفضة إذا كان هذا كثيرًا لحاجة أو لغير حاجة، وكذا إن كان يسيرًا لغير حاجة، أما إن كان التضبيب بالفضة يسيرًا لحاجة -كأن لا يوجد إلا هذه القطعة من الفضة لسد هذا الصدع في الإناء دون نيته التزين بذلك-: فإن هذا يُباح؛ لقاعدتين: الأولى: السنة الفعلية؛ حيث "إنه صلى الله عليه وسلم قد انكسر قدح له فاتخذ مكان الشعب سلسلة من الفضة" -كما روى ذلك أنس- وظاهره: أن ذلك كان يسيرًا، وكان الحاجة؛ لأنه يلزم من لفظ "الشعب" كونه قليلًا أو يسيرًا؛ لأن المراد: الخيط الصغير، ويلزم من فعله ذلك: أنه كان لحاجة؛ لأن الفضة هي التي تقوى على جبر الكسر بدقة، بخلاف الحديد، ودل مفهوم الحال من هذا: على عدم جواز غير ذلك من التضبيب بالذهب مطلقًا، أو بالفضة الكثيرة، أو اليسيرة بغير حاجة، الثانية: القياس، بيانه: كما أنه يُحرم استعمال الإناء خالص الذهب والفضة فكذلك يُحرم الإناء المضبَّبب بهما، والجامع: الإسراف، وكسر قلوب الفقراء، فإن قلتَ: لِمَ أُبيح التضبيب القليل من الفضة لحاجة؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن التضبيب بقليل الفضة أكثر جودة، وأمنع من الكسر مرة ثانية من الحديد تنبيه القليل والكثير من التضبيب =

ص: 67

استعمالًا للفضة، فإن احتاج إلى مباشرتها كتدفق الماء ونحو ذلك: لم يُكره

(7)

(وتباح آنية الكفار) إن لم تُعلم نجاستها (ولو لم تحل ذبائحهم) كالمجوس؛ "لأنه صلى الله عليه وسلم توضأ من مزادة مشركة" متفق عليه (و) تُباح (ثيابهم) أي: ثياب الكفار، ولو وَلِيت عوراتهم كالسراويل:(إن جُهل حالها) ولم نعلم نجاستها؛ لأن الأصل: الطهارة، فلا تزول بالشك، وكذا ما صبغوه أو نسجوه، وآنية من لابس النجاسة كثيرًا كمدمن الخمر، وثيابهم، وبدن الكافر طاهر، وكذا طعامه وماؤه

(8)

، لكن تكره الصلاة في ثياب المرضع،

= يُحدَّدان بعرف المتوسطين من عقلاء الناس، لا المتشدِّدين، ولا المتساهلين، تنبيه آخر: استدلاله بحديث ابن عمر: لا يصح: لأن فيه زيادة: "أو إناء فيه شيء من ذلك" وهذه الزيادة لم ترد في رواية ابن عمر عند البخاري وغيره من أئمة الحديث؛ وإنما وردت عند الدارقطني وقد ضعَّفها أئمة الحديث؛ لأن في إسناده يحيى بن محمد الجاري وهو مضعَّف.

(7)

مسألة: إذا وضع ضُبة يسيرة من فضة لحاجة: فإنه يُكره أن يأكل أو يشرب من جهتها إلا لحاجة -بأن تكون جميع الجهات حارة إلا جهة الضبُة، أو أن يكون تدفق الماء من جهتها- فإن هذا لا يكره؛ للتلازم؛ حيث يلزم من مباشرة الضبة اليسيرة بلا حاجة: أن يكون قد باشر استعمال الفضة الخالصة، وهذا فيه نوع من ارتكاب منهي عنه -حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد نهى عن الأكل والشرب من آنية الفضة- وإنما حمل على الكراهة؛ لأن الإناء ليس كله فضة، فإن قلتَ: لِمَ شرع هذا التفصيل؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إنه أبيح لحاجة؛ مراعاة لأحوال الناس، وكره لغير حاجة احتياطًا للدِّين.

(8)

مسألة: يُباح استعمال أواني الكفار للطهارة ولغيرها، واستعمال ثيابهم الخارجية والداخلية، التي نسجوها أو صبغوها أو لبسوها للصلاة وغيرها، =

ص: 68

والحائض والصبي ونحوهم

(9)

(ولا يطهر جلد ميتة بدباغ) روي

= وكذا أبدانهم وبشرتهم طاهرة، وطعامهم، وشرابهم، وسؤرهم، وكذا: أواني المسلم الذي من عادته ملامسة النجاسات كالجزَّارين، والدبَّاغين ونحوهم، وثيابهم؛ ولكن هذا بشرط: عدم العلم بنجاستها؛ للاستصحاب؛ حيث إن الأصل في الثياب، والأواني، والأبدان الطهارة، فنستصحب ذلك ونعمل به، حتى يرد دليل يمنع من ذلك ولم يوجد، فإن قلتَ: لِمَ أُبيح ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إنه لو مُنع المسلمون من استعمال أو ملامسة الكفار أو غيرهم ومن استعمال أوانيهم: لَلَحِقهم الضيق والحرج؛ لكثرة معايشة المسلمين مع الكفار، ومجاورتهم لهم واختلاطهم بهم، تنبيه: الحديث الذي ذكره "أنه عليه السلام توضأ من مزادة كافرة" لم يرد بهذا اللفظ، بل ورد بلفظ:"أنه استعمل مزادة مشركة" وهو المخرَّج عند البخاري ومسلم، والاستعمال قد يكون في الطهارة، وفي غيرها، وإنما الذي توضأ من جرة نصرانية هو عمر كما أورده الشافعي في "الأم"(1/ 7) وهو مؤيد للاستصحاب.

(9)

مسألة: تصح الصلاة في ثياب المرضع والحائض والنفساء والصبي ونحوهم مع الكراهة؛ للتلازم؛ حيث إن كثرة ملامستهن للنجاسات التي تُسببها الرضاعة للأطفال، والحيض، والنفاس، وعدم تطهر الصبي من نجاساته عادة، يلزم منه احتمال وجود نجاسات فيها، ونظرًا لهذا الاحتمال: كُره، لكن لو علمنا وجود نجاسة أو غلب على ظننا ذلك فلا تصح الصلاة فيها، فإن قلتَ: إنه صلى الله عليه وسلم كان يثب عليه الحسن والحسين وأمامة بنت أبي العاص وهو يصلي، وهذا يلزم منه: عدم كراهة ذلك؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لا يفعل المكروه، قلتُ: يحتمل أنه كان يغلب على ظنه عدم نجاسة ثيابهم، وهو لم يلبس ثيابهم، ويحتمل إنه قد أعاد صلاته الفرض فيما بعد، وإذا تطرق الاحتمال إلى الدليل: بطل به الاستدلال، فإن =

ص: 69

عن عمر وابنه وعائشة وعمران بن حصين رضي الله عنهم

(10)

، وكذا: لا يطهر

= قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "الخلاف في تطرق الاحتمال إلى فعله صلى الله عليه وسلم": فعندنا يتطرق، وعندهم: لا يتطرق.

(10)

مسألة: الإناء المصنوع من جلد حيوان مأكول مات: يجوز استعماله في الطهارة وغيرها بشرط: أن يُدبغ -والدبغ: تنظيف ونزع الفضلات العالقة بالجلد من النجاسات -كما قال القرافي في "الذخيرة"(1/ 166)،- للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم:"أيما إهاب دبغ فقد طهر" والإهاب: هو الجلد، وهذا عام؛ حيث إن "أي" الشرطية من صيغ العموم، ويكون المراد: أيُّ جلد نجس بالموت فإن الدباغة تطهره، وهذا هو لازمه؛ إذ لا يُقال ذلك إلا فيما لحقه التنجيس، فإن قلتَ: لِمَ جاز ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه توسعة على الناس، لأن بعض الحيوانات تموت فجأة، فلو مُنع من الانتفاع بجلودها بعد دبغها: للحق بعضهم الضيق والمشقة، فإن قلتَ: إن جلد الميتة من الحيوان لا يطهر سواء دُبغ أو لا، وهو ما ذكره المصنف هنا؛ لقواعد: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} حيث إنه حرم الانتفاع بأي جزء من أجزاء الميتة؛ لأن لفظ "الميتة" مفرد محلى بأل وهو من صيغ العموم والجلد جزء منها، الثانية: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب" -كما رواه عبد الله بن عكيم، وهو واضح الدلالة، الثالثة:"قول الصحابي؛ حيث ثبت عن عمر وابنه وعائشة: أنهم كانوا يقولون بعدم طهارته، قلتُ: أما الآية فهي عامة، وقد خُصِّصت بالسنة القولية التي ذكرنا -وهي: "أيما إهاب .. "-، أما حديث عبد الله بن عكيم: فهو ضعيف كما قال كثير من أئمة الحديث، وعلى فرض صحته: فإنه يحمل على الجلد قبل الدبغ؛ لأن "إهاب" يشمل الجلد قبل وبعد الدباغة، أما قول الصحابي: فلا يُحتج به؛ لأنه عارض السنة القولية -وهي: "أيما إهاب دبغ فقد طهر"- تنبيه: جلد الحيوان المأكول المذكى يجوز استعماله؛ للإجماع، =

ص: 70

جلد غير مأكول بذكاة كلحمه

(11)

(ويباح استعماله) أي: استعمال الجلد (بعد الدبغ) بطاهر منشِّف للخبث قال في الرعاية "ولا بد فيه من زوال الرائحة الخبيثة"،

(12)

وجَعْلُ المصران والكرش

= فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "هل الآية وحديث بن عكيم مخصصان بحديث "أيما إهاب دبغ .. " أو لا؟ "، فعندنا مخصَّصان به، وعندهم: لا. و "هل حديث ابن عكيم ضعيف أو لا؟ " فعندنا: نعم، وعندهم: صحيح.

(11)

مسألة: لا يطهر جلد أي حيوان غير مأكول اللحم -كالكلب والخنزير والذئب والأسد والنمر والفهد وجميع السباع -سواء ذُكيَّ أو لا، دبغ أو لا، ولا يجوز بيعه، للقياس؛ بيانه كما أن لحوم هذه الحيوانات نجسة نجاسة ذاتية فلا تطهر ولا تباع، فكذلك جلودها، والجامع: النجاسة الذاتية في كل، فإن قلتَ: لِمَ لا يطهر ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ما كانت نجاسته نجاسة ذاتية مضر استعماله بالإنسان ضررًا بالغًا، فإن قلتَ: لِمَ كان جلد الميت من مأكول اللحم يطهر بالدبغ مع نجاسته بالموت وهذا لا يطهر بالدَّبغ؟ قلتُ لأن جلد مأكول اللحم طرأت عليه النجاسة بالموت والشيء الطارئ يُذهبه الدبغ، بخلاف غير مأكول اللحم فنجاسة جلده نجاسة ذاتية، فلا يطهر ولو غسل ودبغ آلاف المرات.

(12)

مسألة: يُشترط في الذي يُدبغ به الجلد: أن يكون طاهرًا، منقيًا، منشِّفًا للنجس، مزيلًا للرائحة الكريهة، والذي يفعل ذلك عادة الشَّبُّ، والصابون والقرض ونحوها من المنظفات؛ للقياس، بيانه: كما أنه يُشترط في الأحجار المستجمر بها ذلك، فكذلك يشترط في الذي يُدبغ به، والجامع التطهير في كلٍ وإزالة القاذورات، فإن قلتَ: لِمَ اشترط ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك يقي المستعمل لهذا الجلد شرَّ الأمراض.

ص: 71

وترًا دباغ

(13)

، ولا يحصل بتشميس ولا تتريب

(14)

، ولا يفتقر إلى فعل آدمي، فلو وقع في مدبغة فاندبغ: جاز استعماله

(15)

(في يابس) لا مائع ولو وسع قلتين من الماء، إذا كان الجلد (من حيوان طاهر في الحياة) مأكولًا كان كالشاة، أو لا كالهِّر، أما جلود السباع كالذئب ونحوه مما خلقته أكبر من الهِّر، ولا يؤكل: فلا يباح دبغه، ولا استعماله قبل الدبغ ولا بعده، ولا

(13)

مسألة: إذا جُعِلت مصران الحيوان أو كرشه أوتارًا للقوس الذي يُرمى به: فهذا بمثابة دباغ له، يجوز لمسه بدون حائل؛ للتلازم؛ حيث إن تقطيعه إلى أوتار، وحبال يلزم منه إزالة ما فيه من النجاسات.

(14)

مسألة: لا يحصل الدباغ بجعل الجلد في الشمس، أو دلكه بالتراب، بل لا بد من التأكد من فعل الأمور فعل الأمور الأربعة -المذكورة في مسألة (12) -؛ للتلازم؛ حيث إن اشتراط الطهارة والتنقية، والتنشيف والإزالة في الدبغ يلزم منه عدم حصول الدبغ بدونها، والتشميس والتتريب لا يُحصِّلان ذلك، فيلزم عدم حصول الدبغ الشرعي، فإن قلتَ: لِمَ شرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية المسلم من أن يستعمل شيئًا لم يتنق من النجاسات فتتأثر صحته بسببه.

(15)

مسألة: لا يُشترط في الدبغ: الفعل، فلو وقع الجلد في مدبغة تُنقِّي، وتُنشِّف وتُزيل النجاسات: فإن ذلك الجلد يطهر، ولو لم يفعل به الشخص شيئًا؛ للقياس؛ بيانه: كما أن الأرض النجسة ببول أو غيره تطهر بمجرد صبِّ الماء عليها بدون فعل، فكذلك الجلد إذا وضع في مدبغة معدَّة لذلك يطهر، والجامع: حصول التطهير في كل، فإن قلتَ: لِمَ لا يُشترط ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تيسير وتوسعة على المسلمين.

ص: 72

يصح بيعه،

(16)

ويباح استعمال منخل من شعر نجس في يابس

(17)

(ولبنُها) أي:

(16)

مسألة: لا يشترط في إباحة استعمال جلد الميتة بعد الدبغ: أن يستعمل في الأشياء اليابسة، بل يُستعمل في جميع الأشياء سواء كانت يابسة أو رطبة إذا كان جلد حيوان طاهر مأكول اللحم، أو كانت خِلْقَته كالهر فأقل مما لا يؤكل لحمه؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم:"أيما إهاب دبغ فقد طهر" وهذا عام للاستعمال في الأشياء اليابسة والرطبة، حيث لم يُخصص فيم يُستعمل له؟ وهو عام لجلد الميتة المدبوغ والمذكاة؛ لأن "أي" من صيغ العموم، فإن قلتَ: يُشترط أن يُستعمل هذا الجلد للميتة المدبوغ في الأشياء اليابسة فقط، وبناء عليه: لا يوضع فيه ماء أو أي شيء مائع ولو كان كثيرًا، وهو ما ذكره المصنف هنا؛ للقياس، بيانه: كما أن روث الحمار إذا لاقى ماء: فإنه ينجسه، فكذلك جلد الميتة المدبوغ إذا لاقى ماء يُنجِّسه، والجامع: أن كلًا منهما نجس لاقى طاهرًا: فنجَّسه، قلتُ: هذا قياس فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ حيث إن جلد الميتة قد طهر بالدبغ -كما لزم من الحديث السابق- فيكون طاهرًا قد لا فى ماء طاهرًا فمن أين تأتيه النجاسة؟! بخلاف روث الحمار؛ حيث إنه نجس نجاسة ذاتية، لا يمكن تطهيره، فلو كان لاقي ماء طهورًا: لنجسه، لكونه نجسًا قد لاقى طاهرًا، ومع الفرق: لا قياس، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض القياس مع السنة" فعندنا: يعمل بعموم السنة، ولا يقوى القياس على تخصيصه، وعندهم: القياس قد قوي على تخصيص العام باليابس فقط، تنبيه: قوله: "أما جلود السباع" إلى قوله: "ولا يصح بيعه" قد سبق بيانه في مسألة (11).

(17)

مسألة: يباح استعمال منخل -وهو ما تُنخل به الحبوب وتُصفَّى به- قد وضع فيه شعر نجس، كشعر ميتة، أو كلب، بشرط: أن يكون هذا الحب المنخول يابسًا؛ للقياس؛ بيانه: كما يجوز ركوب الحمار نجاسته، فكذلك يجوز نخل الحب اليابس بمنخل فيه شعر نجس، والجامع: عدم تعدِّي النجاسة في =

ص: 73

لبن الميتة (وكل أجزائها) كقرنها، وظفرها، وعصبها، وعظمها، وحافرها، وأنفحتها، وجلدتها (نجسة) فلا يصح بيعها (غير شعر ونحوه) كصوف، ووبر، وريش من طاهر في الحياة، فلا ينجس بموت، فيجوز استعماله

(18)

ولا ينجس باطن بيضة مأكول صَلُّبَ قشرها بموت

= كل، فإن قلتَ: لِمَ جاز ذلك؟ قلتُ: للمصلحة وهي: التيسير على الناس وعدم وجود محذور.

(18)

مسألة: إذا مات حيوان مأكول طاهر في الحياة: فينتفع بجلده بعد دبغه -كما سبق- وبشعره وصوفه في كل شيء، أما غير الجلد والشعر: فلا يجوز الانتفاع به، ولا بيعه ولا غير ذلك -كلبن الميتة وعظامها، وأظفارها، وحوافرها، ورأسها، ويدها، ورجلها، وأنفحتها -وهو: شيء أصفر يخرج بعد الولادة يشبه اللبن-؛ لقاعدتين: الأولى: الكتاب وهو من وجهين: أولهما: قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} وهذا التحريم عام لجميع أجزاء الميتة؛ لأن "الميتة" مفرد محلَّى بال وهو من صيغ العموم، ثانيهما: قوله: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} حيث إن هذه الآية خصَّصت الآية الأولى فاستثنت الشعر من أجزاء الميتة، فأحلَّته، وهي عامة في كون الشعر مباحًا من غير فرق بين شعر المذكى والميت؛ لأن لفظ "وأشعارها

" جمع منكر مضاف إلى معرفة، وهو الضمير وهذا من صيغ العموم، الثانية: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "أيما إهاب دبغ فقد طهر" حيث إن هذا قد خصَّص الآية الأولى، فأخرج الجلد من التحريم -وقد سبق- الثالثة: القياس؛ بيانه: كما أن اللبن لو وضع في وعاء نجس لتنجس بذلك فكذلك لبن الميتة يكون نجسًا، والجامع وجود مائع في وعاء نجس، فإن قلتَ: لِمَ يُنتفع بالجلد والشعر فقط من الميتة دون بقية أجزائها؟ قلتُ: =

ص: 74

الطائر

(19)

(وما أُبين من) حيوان (حي فهو كميتته) طهارة ونجاسة: فما قُطع من السمك طاهر، وما قطع من بهيمة الأنعام ونحوها مع بقاء حياتها: نجس،

(20)

غير مسك وفأرته

(21)

= للمصلحة؛ حيث إن الناس ينتفعون بهما على المدى البعيد، فالجلود يصنعون منها أوعية للمياه، والأوبار، والأشعار يصنعون منهما بيوتهم وأفرشتهم كما أشارت إلى ذلك الآية.

(19)

مسألة: إذا مات مأكول وهو طائر أو لا، وفي بطنه بيضة: فإنها لا تنجس فيجوز أكلها بشرط: صلابة قشرها؛ للقياس، بيانه: كما أن ولد الميتة إذا خرج حيًا يكون طاهرًا، فكذلك البيضة هنا، والجامع: الانفصال في كل، فإن قلتَ: لِمَ جاز ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إنه لا ضرر على أكلها؛ لصلابة قشرها؛ ولعموم منفعتها.

(20)

مسألة: إذا قُطع من حيوان شيء وبقي هذا الحيوان حيًا فهو كميتته: فإن كانت ميتة هذا الحيوان نجسة كالميت من بهيمة الأنعام: فإن هذا المقطوع نجس لا يجوز أكله، ولا بيعه، أما إن كانت ميتة هذا الحيوان طاهرة تؤكل بدون ذكاة كالسمك والجراد: فإن هذا المقطوع طاهر يجوز أكله وبيعه؛ للسنة القولية، وهي من وجهين: أولهما: قوله صلى الله عليه وسلم: "ما قُطع من البهيمة وهي حية فهو كميتته" حيث بيَّن أن الجزء يتبع الكل في الحكم، ثانيهما: قوله: "أُحل لنا ميتتان ودمان: أما الميتتان: فالجراد والسمك

" فإن قلتَ: لِمَ كان ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية للحيوانات من قطع بعض أجزائها وهي حية؛ رحمة بها.

(21)

مسألة: إذا ظهر في الغزال كيس عند سرته فهو فأرته التي تحوي على المسك، فإذا أخذه المسلم فهو طاهر حلال سواء كان ذلك الغزال حيًا أو لا؛ =

ص: 75

والطريدة، وتأتي في الصيد

(22)

.

= للقياس، بيانه كما أن الولد إذا انفصل عن الوالدة يكون طاهرًا حلالًا، فكذلك هذا الكيس، والجامع: الانفصال بالطبع، فإن قلتَ: لِمَ كان ذلك طاهرًا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه نفع المسلمين، بدون إلحاق ضرر على المأخوذ منه.

(22)

مسألة: إذا طارد قوم صيدًا في صحراء -مثلًا- فرمى كل واحد منهم ذلك الصيد، فقطع كل واحد منهم جزءًا من ذلك الصيد غير الذي قطعه الآخر، حتى مات، فإن تلك القطع حلال طاهرة؛ للعرف، بدون أن يُنكره أحد من العلماء، قال الحسن البصري:"لا بأس بالطريدة؛ كان الناس يفعلون ذلك في مفازتهم" واستحسن ذلك أحمد.

هذه آخر مسائل باب "الآنية"، ويليه باب "الاستنجاء والاستجمار، ودخول الحمام وآداب قضاء الحاجة"

ص: 76

‌باب الاستنجاء

"من نجوت الشجرة" أي قطعتها، فكأنه قطع الأذى، و "الاستنجاء": إزالة الخارج من سبيل بماء، أو إزالة حكمه بحجر ونحوه، ويُسمَّى الثاني استجمارًا؛ من الجمار، وهي: الحجارة الصغيرة

(1)

(يُستحب عند دخول الخلاء) ونحوه- وهو:

‌باب الاستنجاء والاستجمار ودخول الحمام، وآداب قضاء الحاجة

وفيه ثلاث وأربعون مسألة:

(1)

مسألة: الاستنجاء لغة: استفعال من النجو، وهو: قطع وإزالة الأذى عنه، واصطلاحًا إزالة الأذى من المخرجين بعد خروج الفضلة المستقذرة -من بول أو غائط- بماء، أو بحجر أو نحوه مما يقوم مقامه -كالتراب والمنديل- حتى يكون في حكم الشرع طاهرًا، وسُمِّي بـ"الاستنجاء"؛ لأنه أزال الشيء عن موضعه من النجو وهو المباعدة،، وهو أرجح الأقوال فيه -كما في "اللسان" (15/ 304) -وسُمِّي بـ "الاستجمار": لكونه استعمل الحجارة الصغيرة لإزالة أثر الغائط، ومنه "رمي الجمار"، وسُمِّي بـ "الاستطابة"؛ لأن المستنجي يُطيب نفسه بذلك كما يفعل البخور -كما في "الحاوي"(1/ 150) - وسُمِّي بـ "الاستنقاء" لأنه ينقي نفسه بالأحجار أو بالماء، وسُمِّي بـ "الاستبراء" لأنه يبريء نفسه من الحدث الخارج بالماء أو بالأحجار، وسُمِّي الخارج من الإنسان بـ "الغائط" لأن الناس كانوا يذهبون إلى المكان المنخفض لقضاء حاجتهم؛ لئلا يراهم أحد، وهو اسم مجازي، قد تعارف الناس عليه، ونسوا الحقيقة، فكانت حقيقة عرفية، وسُمِّي بـ "النجو" لأن النجو هو: المكان المرتفع، فيذهب الناس إليه ليستتروا به عند قضاء حاجتهم، وسُمِّي بـ "البراز" لأن البراز هو المتسع من الأرض، فيذهب الناس إليه؛ لئلا يراهم أحد عند قضاء حاجتهم، وسُمِّي بـ "الخلاء" لأن الناس يذهبون لقضاء حاجتهم بالمكان الخالي وسُمِّي المكان =

ص: 77

بالمد-: الموضع المعد لقضاء الحاجة، (قول: بسم الله)؛ لحديث علي: "ستر ما بين الجن وعورات بني آدم إذا دخل الكنيف أن يقول: بسم الله" رواه ابن ماجه والترمذي وقال: "ليس إسناده بالقوي"

(2)

(أعوذ بالله من الخُبْث) بإسكان الباء، قال القاضي عياض: هو أكثر روايات الشيوخ، وفسَّره بـ "الشَّر" (والخبائث): الشياطين، فكأنه استعاذ من الشَّرِّ وأهله، وقال الخطَّابي: -هو بضم الباء- وهو:

= الذي تُقضى به الحاجة بـ "الكنيف"؛ لأن الكنيف هو الساتر، وسُمِّي بـ "المرحاض" لأن الرحاضة هي: المغسلة، وسُمِّي بـ "المحش" لأن المحش هو الحشيش المجتمع، لذا يقضي بعضهم حاجته بالبساتين، وسُمِّي بـ "الحمام" لأن الحمام هو: المغتسل بماء حار -كما في "اللسان"(6/ 86) و (7/ 152) و (9/ 309) و (12/ 150) -، فإن قلتَ: لِمَ سُمِّي الباب بهذا الاسم مع وجود هذه الأسماء له؟ قلتُ: لأن لفظ الاستنجاء هو الغالب في اللسان، فإن قلتَ: لِمَ جُعل هذا الباب بعد الآنية؟ قلتُ: لمناسبته؛ حيث إنه بعد ذكره للمياه، وما تحفظ فيه: ناسب أن يُذكر هذا الباب هنا؛ نظرًا لاستعمال الماء في الاستنجاء والحمامات، فإن قلتَ: لِمَ شرع الاستجمار؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن حمل الماء في كل مكان يشق، فأباح الشارع -رخصة- الاستجمار بالأحجار كمشروعية التيمم.

(2)

مسألة: يُستحب عند دخول "الحمام" أو المكان المعد لقضاء الحاجة أن يقول: "بسم الله"؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "ستر ما بين الجن وعورات بني آدم إذا دخل الكنيف أن يقول: بسم الله" وله طرق قد قوته -كما في "الإرواء"(1/ 90) - فإن قلت: لِمَ اسْتُحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن البسملة تفيد قائلها البركة والإعانة على كل عمل، وتتسبَّب في منع نظرات الجن إلى عورة المسلم ومنع أذاهم عنه.

ص: 78

جمع "خبيث"، و "الخبائث": جمع خبيثة: فكأنه استعاذ من ذكرانهم وإناثهم، واقتصر المصنف على ذلك؛ تبعًا لـ "المحور" و "الفروع" وغيرهما؛ لحديث أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل الخلاء قال: "اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث" متفق عليه، وزاد في "الإقناع" و "المنتهى" تبعًا لـ "المقنع" وغيره:"الرِّجس النجس الشيطان الرجيم" لحديث أبي أمامة: "لا يعجز أحدكم إذا دخل مرفقه أن يقول: اللهم إني أعوذ بك من الرجس النجس الشيطان الرجيم"

(3)

(و) يُستحب أن يقول (عند الخروج منه) أي: من الخلاء ونحوه: (غُفرانك) أي: أسألك غفرانك:

(3)

مسألة: يُستحب أن يقول -بعد البسملة-: "اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث" وإن زاد فقال: "وأعوذ بك من الرجس النجس الشيطان الرجيم": فهو حسن، لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد أرشد إلى هذا في حديث أبي أمامة، الثانية: السنة الفعلية؛ حيث إنه عليه السلام كان يقول ذلك في هذا الموضع -كما في حديث أنس-، ولفظ "كان" تدل على العموم في الأزمان؛ لأنه من صيغ العموم، فإن قلتَ: لِمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن في هذا القول حماية للمسلم من ذكور الشياطين وإناثهم؛ لأن "الخُبُث" هم الذكور، و "الخبائث" هي الإناث، أو حمايته من الشر وأهله؛ لأن "الخبث" هو: الشر، و"الخبائث" أهل الشر، وكل طائفة من العلماء اختارت تفسيرًا، ولا مانع من أن يكون المقصود الجميع، فإن قلتَ: لِمَ استُحب ذلك عند دخول الخلاء، ولا يُشرع عند دخول غيره؟ قلتُ: لمناسبته لهذا الموضع؛ لأن المسلم يكشف عورته فيه، وهو مكان للنفوس الشريرة عادة فشُرِّع هذا الدعاء فيه دون غيره.

ص: 79

من "الغفر" وهو: الستر؛ لحديث أنس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج من الخلاء قال: "غفرانك" رواه الترمذي وحسَّنه، وسُنَّ له أيضًا أن يقول:(الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني)؛ لما رواه ابن ماجه عن أنس: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج من الخلاء قال: "الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني"

(4)

(و) يُستحب له (تقديم رجله اليسرى دخولًا) أي: عند دخول الخلاء ونحوه من مواضع الأذى (و) يُستحب له تقديم (يُمنى) رجليه (خروجًا، عكس مسجد) ومنزل (و) لبس (نعل)

(4)

مسألة: يُستحب أن يقول - عند فراغه من الخلاء وأراد الخروج -: "غُفرانك" وبعد ذلك يقول: "الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني"؛ لقاعدتين: الأولى: السنة الفعلية؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم يقول بعد خروجه: "غفرانك"، الثانية: المصلحة؛ حيث إن ذلك فيه شكر لله، وثناء عليه؛ لكونه أطعمه وسقاه، ثم سهل خروجه، فلو امتنع هذا الأذى عن الخروج: للحق المسلم أذى، بل هلاك، فهو في هذه الكلمة يستغفر الله على تقصيره في شكره، ذكر عبد الرزاق في "مصنفه": أن نوحًا عليه السلام كان يقول: "الحمد لله الذي أذاقني لذته، وأبقى لي منفعته، وأذهب عني أذاه" فإن قلتَ: إنه لما دخل ثقيلًا وخرج خفيفًا: تذكَّر ثقل الذنوب يوم القيامة فسأل المغفرة هنا، وهو قول ابن القيم في "الإغاثة"(1/ 58)، قلتُ: إن مناسبة ما ذكرناه للمقام أوجه من هذا، فإن قلتَ: إنه لما ترك الذكر وقت قضاء الحاجة سأل الله المغفرة، قلتُ: إن الذكر لا يشرع أثناء قضاء الحاجة، فلا حاجة للاستغفار بدون ذنب، كما أن الحائض والنفساء تتركان الصلاة: فلا يشرع لهما الاستغفار، فما ذكرناه أنسب. تنبيه: استدلاله بحديث: أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول: "الحمد لله الذي أذهب عني الأذى

" لا يصح، لأنه حديث ضعيف - كما في "الإرواء" (1/ 92) -.

ص: 80

وخف: فاليُسرى تقدم للأذى، واليمنى لما سواه، وروى الطبراني في "المعجم الصغير" عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: "إذا انتعل أحدكم فليبدأ باليمنى، وإذا خلع: فليبدأ باليسرى" وعلى قياسه: القميص ونحوه

(5)

(و) يُستحب له (اعتماده على رجله اليسرى) حال جلوسه لقضاء الحاجة؛ لما روى الطبراني في "المعجم" والبيهقي عن سراقة بن مالك: "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتكيء على اليسرى وأن ننصب اليمني"

(6)

(5)

مسألة: يُستحب لمن أراد دخول ما فيه نجاسة وأوساخ وأذى كالخلاء، والمجزرة، والمزبلة ونحو ذلك: أن يُقدم رجله اليسرى، وإذا أراد الخروج منها: أن يقدم اليمنى، أما إن أراد دخول المستحبات - كدخول المساجد، أو لبس نعل، أو خف أو منزل، أو قميص -: فإنه يقدم رجله اليمنى، وإذا أراد الخروج يقدم اليسرى؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم:"إذا انتعل أحدكم فليبدأ باليمنى، وإذا خلع فليبدأ باليسرى" وقال أنس: "من السنة إذا دخلت المسجد: أن تبدأ برجلك اليمنى وإذا خرجت: أن تبدأ برجلك اليسرى" وقول الصحابي: "من السنة" له حكم المرفوع؛ حيث دلّ ذلك بالمنطوق على أن اليمنى تقدم للأمور المحببة والطاهرة، ودلّ بالمفهوم على أن اليسرى تقدم للأمور المستقبحة وهذا من باب:"مفهوم الموافقة"، فإن قلتَ: لِمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: لتكريم اليمين؛ حيث ورد الحث عليه.

(6)

مسألة: يُستحب له في حال قضاء الحاجة: أن يعتمد على رجله اليسرى، ويتكيء عليها، وأن ينصب اليمنى، ويُخفف الاتكاء عليها؛ للسنة القولية؛ حيث أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك كما في حديث سراقة والأمر هنا للاستحباب؛ لأنه أمر إرشاد لمصلحة دنيوية وهذا هو الصارف له، فإن قلتَ: لِمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك يساعد على خروج الغائط بيسر، ولتكريم اليمنى.

ص: 81

(و) يُستحب (بُعْدُه) إذا كان (في فضاء)؛ حتى لا يراه أحد؛ لفعله صلى الله عليه وسلم، رواه أبو داود من حديث جابر

(7)

(و) يستحب (استتاره)؛ لحديث أبي هريرة، قال:"من أتى الغائط فليستتر" رواه أبو داود

(8)

(وارتياده لبوله مكانًا رخوًا) بتثليث الراء، لينًا هشًا؛ لحديث:"إذا بال أحدكم فليرتد لبوله" رواه أحمد وغيره، وفي "التبصرة": ويقصد مكانًا علوًا لينحدر عنه البول، فإن لم يجد مكانًا رخوًا: ألصق ذكَرَه؛ ليأمن بذلك من رشاش البول

(9)

(و) يستحب (مسحه) أي: أن يمسح (بيده اليسرى إذا فرغ من بوله

(7)

مسألة: يُستحب لمن أراد قضاء الحاجة في الصحراء: أن يبتعد عن البنيان قدر ما يستطيع؛ للسنة الفعلية؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك، فإن قلتَ: لِمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن هذا فيه ستر لعورته، وفيه إكرام للآخرين فلا يروا نجاسته.

(8)

مسألة: يجب على من أراد قضاء الحاجة: أن يستتر قدر ما يستطيع عن أنظار الناس بأي شيء يستره؛ للسنة القولية؛ حيث أمر صلى الله عليه وسلم بالاستتار، والأمر مطلق، وهو يقتضي الوجوب، فإن قلتَ: لِمَ وجب ذلك؟ قلتُ: لأن كشف العورة للآخرين حرام، وما يترك به الحرام: واجب، ولأن فيه هتك لحرمة المسلم، فإن قلتَ: إن هذا مستحب، وهو ما ذكره المصنف هنا؛ للتلازم؛ حيث إن هذا من آداب قضاء الحاجة، فيلزم استحبابه، قلتُ: لا توجد قرينة صرفت أمر النبي صلى الله عليه وسلم من الوجوب إلى الاستحباب، وما ذكرتموه لا يقوى على صرفه، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "هل الأمر على إطلاقه، وهو اقتضاؤه للوجوب، أم صرف عن ذلك؟ " فعندنا: على إطلاقه، وعندهم: ليس على إطلاقه.

(9)

مسألة: يستحب: أن يبول في مكان رخو ليِّن، هش، فإن لم يجد: يلصق ذكره على الأرض، وإن وجد مكانًا عاليًا جلس عليه؛ لينحدر البول عنه - إذا أمن من وجود أحد ينحدر عليه -؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "إذا أراد أحدكم =

ص: 82

من أصل ذكره) أي: من حلقة دُبُره: فيضع إصبعه الوسطى تحت الذكر والإبهام فوقه ويمر بهما (إلى رأسه) أي: رأس الذكر (ثلاثًا)؛ لئلا يبقى من البول فيه شيء (و) يستحب (نتره) بالمثناة (ثلاثًا) أي نتر ذكره ثلاثًا؛ ليستخرج بقية البول منه؛ لحديث: "إذا بال أحدكم فلينتر ذكره ثلاثًا" رواه أحمد وغيره

(10)

،

أن يبول فليرتد لبوله" والمراد: أن يبول في مكان رخو لين، والذي خصَّصه بذلك: سبب ورود الحديث؛ قال أبو موسى الأشعري: "كنت مع النبي فأراد أن يبول فأتى دَمْثًا في أصل جدار فبال" فقال: ما قال، وهذا يلزم منه ما ذكرناه فإن قلتَ: لِمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية للمسلم من أي يُصيب بدنه أو ثيابه قطرات من بوله.

(10)

مسألة: يجب أن يتأكد من خروج كل بوله، ويستبريء منه بأي طريقة يراها مناسبة له كمسح ذكره، أو قيام أو قعود، أو أي حركة شاء؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم:"أما أحدهما فكان لا يستبريء من "بوله" - في حديث الرجلين اللذين يعذَّبان في قبرهما - حيث إن منطوقه دل على أن الذي يستحق العذاب هو الذي لا يستبريء من بوله، ودل بمفهوم الصفة على أن الذي يستبريء من بوله: لا يستحق العذاب، ولا يُعاقب المسلم إلا بترك واجب، فكان الاستبراء والتأكد من خروج البول واجبًا، وهذا الاستبراء عام، فيشمل كل طريق يؤدي إليه؛ عملًا بعموم هذا المفهوم، فإذا غلب على ظن المكلف: عدم وجود شيء من البول يمكن خروجه بعد قيامه: تمَّ الاستبراء، وأشار إلى ذلك النووي في "المجموع" (2/ 90) وابن الملقن في "الإعلام" (1/ 546)، فإن قلتَ: لِمَ وجب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك يقي المسلم من أن يصيبه بعض البول الخارج بعد قيامه: فيشق عليه التطهر بعد ذلك، تنبيه: "النتر" هو: جذب بقية البول بمسح ذكره باليسرى من يديه، تنبيه آخر: استدلاله بحديث: إذا بال أحدكم فلينتر ذكره ثلاثًا" لا يصح؛ لأن الحديث ضعيف كما =

ص: 83

(و) يستحب (تحوُّله من موضعه؛ ليستنجي) في غيره (إن خاف تلوثًا) باستنجائه في مكانه؛ لئلا يتنجَّس

(11)

، ويبدأ ذكر، وبكر بقُبُل؛ لئلا تتلوث يده إذا بدأ بالدُّبُر، وتُخير ثيِّب

(12)

(ويكره دخوله) أي دخول الخلاء ونحوه (بشيء فيه ذكر الله تعالى) غير مصحف فيحرم (إلا لحاجة)

(13)

لا دراهم ونحوها وحرز؛

قال النووي في "المجموع"(2/ 91)، ومنكر كما قال ابن تيمية في "مجموع فتاويه"(21/ 10)، وسبب ضعفه: أن من رواته: عيسى بن يزداد وهو رجل قد ضعفه أكثر أئمة الحديث، لذلك تبطل الطريقة التي ذكرها المصنف؛ لعدم اعتمادها على مستند قوي.

(11)

مسألة: يُستحب: أن يتحول من الموضع الذي قضى حاجته فيه إلى موضع آخر ليستنجي فيه بشرط: أن يخاف من أن يتلوث بسبب استنجائه بالموضع الذي قضى حاجته فيه؛ للمصلحة حيث إن ذلك يقيه من احتمال تنجسه بما خرج منه، ويقيه من الوسواس.

(12)

مسألة: يستحب في الاستنجاء والاستجمار: أن يبدأ بالقُبُل إذا كان ذكرًا، أو كانت الأنثى بكرًا، أما الثيب: فتبدأ من الدُّبر، أو القبل كما تشاء؛ للمصلحة؛ حيث إن الذكر والبكر لو بدءا بالدُّبر: للزم تلوث أصابعه بالنجاسة التي فيه فينتقل هذا إلى القبُل - والقبل كما هو معلوم أقل نجاسة - فتقع المفسدة، فدفعًا لذلك: شرعت البداءة بالقُبُل، أما الثيب فقبلها ودبرها واحد في قدر النجاسة، فلا يؤثر أحدهما على الآخر: فلذا تبدأ بأي واحد منهما؛ لأنه ليس أحدهما بأولى من الآخر.

(13)

مسألة: يُكره أن يدخل الخلاء وهو حامل لشيء فيه ذكر الله كالمصاحف، وأوراق العلم، ونحو ذلك لغير حاجة، أما إذا احتاج إلى حملها معه كأن يخاف عليها من السرقة أو الضياع، فإنه يحملها معه؛ للمصلحة؛ حيث إنه كره؛ لكونها =

ص: 84

للمشقة

(14)

، ويحمل فصَّ خاتم احتاج للدخول به بباطن كفِّ يُمنى

(15)

(و) يكره استكمال (رفع ثوبه قبل دنوه) أي: قربه (من الأرض) بلا حاجة: فيرفع شيئًا فشيئًا، ولعله يجب إن كان ثمَّ مَنْ ينظره، قاله في "المبدع"

(16)

مكرمة، ولم يكره للحاجة، نظرًا لتلك الحاجة، وتوسيعًا على العباد، وحفاظًا على حقوقهم، تنبيه: قوله: "غير مصحف فيحرم" قلتُ: لم أجد دليلًا على تحريم ذلك.

(14)

مسألة: يجوز أن يدخل الخلاء بالدراهم وجميع النقود والأثمان، للمصلحة؛ حيث إن إخراج الدراهم، فيه مشقة، وعرضة للضياع، فدفعًا لذلك: جاز الدخول بها، تنبيه: يحرم تعليق التمائم والأحراز وهي التعاويذ التي فيها آيات قرآنية وأسماء الله تُجعل على العنق، للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم:"من علَّق تميمة فقد أشرك" وهو عام لكل ما يُعلق؛ لأن اسم الشرط من صيغ العموم، ويستغنى عن ذلك بتكرار قراءة الفاتحة، وآية الكرسي، والإخلاص، والمعوذتين، والأوراد الشرعية في الصباح والمساء.

(15)

مسألة: يُستحب أن يجعل فصَّ خاتمه بباطن كف يده اليمنى أثناء قضاء الحاجة؛ للمصلحة؛ حيث إن هذا الفعل فيه منع لملاقاة النجاسة لذكر الله المكتوب على فص الخاتم، وهذا فيه تكريم وتعظيم لشعائر الله.

(16)

مسألة: يُحرَّم استكمال رفع ثوبه قبل دنوه وقربه من الأرض - لمن أراد قضاء حاجته - إذا قطع أو غلب على ظنه أن حوله أناس بلا حاجة، أما إن غلب على ظنه عدم وجود أحد حوله: فيكره أن يستكمل رفع ثوبه قبل قربه من الأرض بلا حاجة؛ لقاعدتين: الأولى: السنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد قضاء الحاجة لا يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض، الثانية: المصلحة؛ حيث إن رفع الثوب مع وجود الناس حوله: يلزم منه كشف عورته أمامهم عمدًا، =

ص: 85

(و) يُكره (كلامه فيه) ولو بردِّ السلام

(17)

، وإن عطس: حَمِدَ بقلبه

(18)

ويجب عليه تحذير ضرير وغافل عن هَلَكة

(19)

وجزم صاحب "النَّظم" بتحريم القراءة في المحش وسطحه، وهو متوجِّه على حاجته

(20)

وهذا منهي عنه، والنهي مطلق، فيقتضي التحريم، وإن لم يغلب على ظنه ذلك، فيكره؛ لاحتمال وجود أحد لم يعلم به، وكل ذلك لأجل المحافظة على عورة المسلم من أن يُنظر إليها، أما إن وجدت حاجة فتقدر بقدرها.

(17)

مسألة: يكره أن يتكلم في حال قضاء حاجته، سواء كان كلامًا مباحًا، أو كلامًا مستحبًا كردِّ السلام؛ للمصلحة؛ حيث إن الكلام يكون عادة مع آخر، وعادة يكون هذا الآخر قريبًا؛ يُسمع كلامه، وهذا يلزم منه رؤية كل واحد منهما عورة الآخر، ويُحتمل التعرض لذكر الله فسدًا لذلك كره الكلام، وهو من باب "سد الذرائع".

(18)

مسألة: إذا عطس أثناء قضاء حاجته: فإنه يحمد الله بقلبه، لا بلسانه، وكذا يجيب المؤذن بقلبه؛ للمصلحة؛ حيث يلزم من ذكر الله بلسانه: ذكره وهو في حال قضاء حاجته، وهذا مكروه، فيلزم أن يذكره بقلبه؛ ليحصل على الأجر، ولا يرتكب المكروه.

(19)

مسألة: يجب على المسلم أن يُنبِّه الآخرين من أي ضرر ولو كان في حال قضاء حاجته، كأن يرى أعمى قريب من بئر أو حفرة، أو بقرب غافل دابة أو عقرب أو حية أو سبع أو سيارة؛ للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه دفع مضرة ومفسدة وهو مقدم على جلب مصلحة كراهة الكلام في حال قضاء الحاجة.

(20)

مسألة: تحرم قراءة القرآن وهو في حال قضاء حاجته؛ للتلازم؛ حيث إن ذلك فيه إهانة لكلام الله تعالى وما كان كذلك يلزم تحريمه. تنبيه: قول ابن عبد القوي في "نظم الفقه": يحرم ذلك على سطح المحش لم أجد دليلًا عليه.

ص: 86

(و) يُكره (بوله في شَقِّ) - بفتح الشين - (ونحوه) كَسَرَب، وهو: ما يتخذه الوحش والدَّبيب بيتًا في الأرض

(21)

، ويُكره - أيضًا - بوله في إناء بلا حاجة

(22)

، ومستحم غير مُقيَّر أو مُبلَّط

(23)

(ومسُّ فرجه) أو فرج زوجته ونحوها (بيمينه و) يُكره (استنجاؤه واستجماره بها) أي: بيمينه؛ لحديث أبي قتادة: "لا يمسكن أحدكم ذكره بيمينه وهو يبول، ولا يتمسَّح من الخلاء بيمينه" متفق عليه

(24)

(21)

مسألة: يُكره أن يبول في جحر أو شق أو ثُقب، أو بئر ونحو ذلك؛ للمصلحة؛ حيث إن هذه الجحور والشقوق في الأرض أو الجدران هي: مساكن الجن والدواب، فالبول فيها يؤذيها، وربما تخرج عليه فجأة فيتأثر ويتضرر، وربما أُصيب بالجن، وقد أشار إلى ذلك ابن القيم، تنبيه:"السَّرب" هو: الشق المستطيل في الأرض.

(22)

مسألة: يُكره أن يبول في إناء بلا حاجة، أما إن وجدت حاجة كأن يكون في ليل وخاف من الخروج، أو يكون مريضًا ونحو ذلك: فلا يُكره؛ لقاعدتين: الأولى: السنة الفعلية؛ حيث "كان للنبي صلى الله عليه وسلم قدح من عيدان تحت سريره يبول فيه" وهذا يلزم منه: أنه استعمله للحاجة؛ حيث تكثر هوام الليل، الثانية: المصلحة؛ حيث إن بوله في الإناء بلا حاجة مفسد للإناء من أن يستعمله أحد للطعام، ونظرًا لذلك: كُره.

(23)

مسألة: يُكره أن يبول في مستحم أو مكان لم يوضع على أرضه القار - وهو: الإزفلت - أو البلاط أو الأسمنت، أما إن وضع عليه ذلك: فلا يُكره؛ للمصلحة؛ حيث إن تبوله على الأرض مباشرة فيه احتمال تطاير بعض البول على بدنه أو ثوبه فيتنجس، فدفعًا لذلك كره. بخلاف ما وضع عليه القار أو البلاط أو الأسمنت: فإنه يذهب مباشرة عنه: فلا يوجد ذلك الاحتمال.

(24)

مسألة: يُكره أن يمسَّ فرجه أو فرج زوجته أو أمته باليد اليُمنى، ويُكره أن يستنجي ويستجمر بها إلا إذا لم يقدر على ذلك باليسرى؛ للسنة القولية؛ حيث =

ص: 87

(واستقبال النَّيرين) أي الشمس والقمر؛ لما فيهما من نور الله تعالى

(25)

(ويحرم استقبال القبلة واستدبارها) حال قضاء الحاجة (في غير بنيان)؛ لخبر أبي أيوب مرفوعًا: "إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها، ولكن شرِّقوا أو غرِّبوا" متفق عليه، ويكفي انحرافه عن جهة القبلة

(26)

، وحائل ولو كمؤخرة الرَّحل،

قال صلى الله عليه وسلم: "لا يُمسكن أحدكم ذكره بيمينه، ولا يتمسَّح من الخلاء بيمينه" والنهي مطلق، وصُرف من التحريم إلى الكراهة بسبب: أن فعله هذا بيمينه غير مُخلٍّ بطهارته، وإنما المراد: تكريم اليمين؛ حيث إنها محل المصافحة للآخرين، والأكل والشرب، والأخذ والعطاء، وهو المقصد من ذلك النهي، فإن قلتَ: يُحرم الاستنجاء باليمني؛ قياسًا على تحريم الاستنجاء بالرَّوثة، قلتُ: إن هذا قياس فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ حيث إن "الرَّوثة" آلة الاستنجاء المباشرة للمحل، فلم يجز ذلك؛ نظرًا لمباشرتها للنجاسة، أما اليد فليست هي مباشرة للمحل، وإنما تُمسك الحجر الملاقي للمحل، فصار النهي عن استعمالها للكراهة، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "هل اليد اليمنى في مقام الروثة في النهي عن الاستجمار بها؟ " فعندنا: لا، وعندهم: نعم مثلها.

(25)

مسألة: يباح استقبال الشمس والقمر أثناء قضاء الحاجة واستدبارهما؛ للاستصحاب؛ حيث إن الأصل: إباحة استقبال كل شيء وهو في هذه الحالة، إلا إذا ثبت دليل يُغير الحالة، ولم يثبت دليل مُعتبر في ذلك، فنستصحب الأصل، وهو: الإباحة، فإن قلتَ: يُكره استقبالهما؛ لأن فيهما نور الله وهو الذي ذكره المصنف هنا، قلتُ: لم يثبت ذلك بدليل مُعتبر، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "هل وجد دليل غيَّر الأصل وهو الإباحة أو لا؟ " فعندنا: لا، وعندهم نعم.

(26)

مسألة: يحرم استقبال القبلة واستدبارها حال قضاء الحاجة في الصحراء، فينحرف ولو قليلًا عنها؛ للسنة القولية؛ حيث نهى عن ذلك النبي صلى الله عليه وسلم في =

ص: 88

ولا يُعتبر القرب من الحائل

(27)

ويُكره استقبالها حال الاستنجاء

(28)

(و) يحرم (لبثه فوق حاجته)؛ لما فيه من كشف العورة بلا حاجة، وهو مضرُّ عند الأطباء

(29)

حديث أبي أيوب والنهي مطلق، وهو يقتضي التحريم، فإن قلتَ: لِمَ حرم ذلك؟ قلتُ: للمصلحة، حيث إن ذلك فيه تكريم المصلين إلى القبلة؛ لأن الذي يصلي وهو في الشمال يكون مستقبلًا لمن يقضي حاجته من أهل الجنوب، وكذا العكس، وكذا: الشرق والغرب، ثم إن في فعل ذلك بدون حائل كشف لعورته، فدفعًا لذلك شرع.

(27)

مسألة: يباح استقبال القبلة واستدبارها أثناء قضاء الحاجة في البنيان كالحمامات المبنية والصهاريج؛ أو كان في الصحراء ووضع بينه وبين القبلة حائلًا، كجدار أو دابة، أو مؤخرة الرَّحل - وهو: الخشب الذي يستند إليه الراكب للدابة - وهذا مطلق أي: سواء كان هذا الحائل قريبًا أو بعيدًا بشرط: أن يستره؛ للسنة الفعلية؛ حيث قال ابن عمر: "رأيت رسول الله في بيت حفصة، وهو مستدبر القبلة مستقبل بيت المقدس" والاستقبال والاستدبار والحائل والبنيان واحد؛ إذ لا فرق من باب مفهوم الموافقة، ولم يحدد في ذلك القرب، وهذه السنة قد خصصت حديث أبي أيوب فيكون المقصود بحديث أبي أيوب:"مَنْ قضى حاجته بالصحراء"، فإن قلتَ: لِمَ أبيح ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه توسعة على المسلمين، وفيه ستر لعوراتهم.

(28)

مسألة: يُكره استقبال القبلة واستدبارها حال الاستنجاء والاستجمار؛ للمصلحة؛ حيث إن ذلك يستلزم كشف العورة أمام القبلة، فكره ذلك؛ تكريمًا للمصلين المتجهين للقبلة من الجهة المقابلة.

(29)

مسألة: يحرم أن يُطيل الجلوس فوق حاجته بلا حاجة؛ للتلازم حيث إن ذلك يستلزم إطالة كشف العورة بلا حاجة، وهو حرام، فإن قلتَ: لِمَ حرم =

ص: 89

(و) يحرم (بوله) وتغوُّطه (في طريق) مسلوك (وظل نافع) ومثله: متشمَّس بزمن الشتاء، ومتحدَّث الناس (وتحت شجرة عليها ثمرة)؛ لأنه يُقذِّرها، وكذا: في موارد الماء، وتغوُّطه بماء مطلقًا

(30)

ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن كشف العورة بلا حاجة فيه مفسدة الفتنة وجلوسه يُسبب مرض الباسور، ومرض الكبد كما ثبت ذلك عن الحكماء منهم لقمان الحكيم كما ذكر الشيرازي في "المهذب"(1/ 90)، وفيه تعريضه للشياطين والنفوس الشريرة التي تتخذ من المراحيض مساكن لها، فدفعًا لذلك: حرِّم.

(30)

مسألة: يحرم قضاء الحاجة في كل موضع ينتفع به عامة المسلمين: كالطريق الذي يمشون فيه عادة، والظل النافع لهم في وقت الصيف، وموضع تشمسهم في وقت الشتاء، والمواضع التي يتحدثون فيها عادة، والأسواق، وموارد المياه والمساجد، ومواضع التدريس، وفي المياه القليلة والكثيرة، وما هو تحت شجرة مثمرة أو صالحة لها، ونحو ذلك؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "اتقوا الملاعن الثلاث: البراز في الموارد، وقارعة الطريق، والظل" حيث إن مراده: ابتعدوا عن هذه الأفعال التي تستحقون اللَّعن من الناس إذا فعلتموها، واللَّعن عقاب، ولا يُعاقب إلا على فعل حرام، الثانية: القياس، بيانه: كما أنه يحرم قضاء الحاجة في تلك المواضع الثلاثة فكذلك يحرم قضاء الحاجة في كل ما يُنتفع به، والجامع: منع الأذى عن الناس، فإن قلتَ: يحرم قضاء الحاجة في المواضع الثلاث فقط؟ للسنة القولية وهو الحديث السابق، حيث دل مفهوم العدد على أن غيرها لا يحرم قضاء الحاجة فيه، قلتُ: إن القياس هنا أقوى من المفهوم؛ لأن المقصود هو: دفع الأذى والضرر عن عامة المسلمين، كما قلنا في حديث: "خمس يُقتلن في الحل والحرم: الحدأة والحية

" حيث يُقاس عليها كل ما يؤذي فيُقتل، ولا حجة في مفهوم العدد هنا فالقياس أقوى من اللفظ ومفهومه؛ =

ص: 90

(ويستجمر) بحجر أو نحوه (ثم يستنجي بالماء)؛ "لفعله صلى الله عليه وسلم" رواه أحمد وغيره من حديث عائشة، وصححه الترمذي، فإن عكس: كره

(31)

(ويُجزئه الاستجمار) حتى مع وجود الماء، لكن الماء أفضل (إن لم يَعْدُ) أي: يتجاوز (الخارج موضع العادة) مثل: أن ينتشر الخارج على شيء من الصفحة، أو يمتدُّ إلى الحشفة امتدادًا غير معتاد فلا يُجزئ فيه إلا الماء، كقُبُلي الخنثى المشكل، ومخرج غير فرج، وتنجُّس مخرج بغير خارج

(32)

،

ذلك لدفع الأذى عن المسلمين، وهو المقصد الشرعي هنا، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "هل يجوز القياس على المحصور بعدد أو لا؟ " فعندنا: يجوز، وعندهم: لا يجوز، وكذلك:"تعارض المفهوم مع المقصد" فعندنا: يقدم المقصد، وعندهم: المفهوم.

(31)

مسألة: يُستحب عند تطهير محل خروج الغائط: أن يستجمر بأحجار ثلاثة، أو بما يقوم مقامها كخشب أو مناديل، أو خرقة أو تراب ونحو ذلك، ثم بعد ذلك يستنجي بالماء، فإن عكس: بأن استنجى بالماء، ثم استعمل الحجارة: فإنه يكره له ذلك، للسنة الفعلية، حيث "كان صلى الله عليه وسلم يستجمر بالحجارة، ثم يستنجي بالماء"، و"ثم" تدل على الترتيب والتراخي، ومخالفة ذلك: مكروه، فإن قلتَ: لِمَ شرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن الحجارة تزيل عين النجاسة، فإذا أتبع ذلك الماء: أزال ما بقي، فتكون رائحته طيبة، بخلاف العكس، فلا داعي لاستعمال الحجارة بعد إزالة النجاسة بالماء؛ لذا كُره.

(32)

مسألة: يُجزئ الاستجمار من البول أو الغائط بالأحجار، وإن لم يستعمل الماء، ولو كان موجودًا بشرط: ألا تتعدى النجاسة محل خروجه، أما إن تعدته إلى الفخذين، أو إلى غيرهما من البدن كما يحصل في الخنثى، أو خرجت النجاسة من غير مخرجهما المعتاد، أو تنجس القُبُل أو الدبر بنجاسة لم تخرج =

ص: 91

ولا يجب غسل نجاسة وجنابة بداخل فرج ثيب، ولا داخل حشفة أقلف غير مفتوق

(33)

(ويُشترط للاستجمار بأحجار ونحوها) كخشبٍ وخِرَق (أن يكون) ما يُستجمر به (طاهرًا) مباحًا (منقِّيًا

(34)

منهما، أو جَفَّ الغائط أو البول قبل أن يستجمر: فإنه في هذه الحالات لا يكتفي بالأحجار، بل يجب غسل ذلك بالماء؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "إذا أتى أحدكم البراز فليستطب بثلاثة أحجار" حيث دلَّ منطوقه على أنه يُكتفى بالاستجمار بالأحجار إذا خرجت النجاسة من مخرجها المعتاد - وهو رأس الذكر وحلقة الدُّبُر - ودل مفهوم الصفة منه على أنَّ النجاسة في غير ذلك تُغسل بالماء، وهذا عام؛ لما ذكرناه من الحالات لعموم هذا المفهوم، الثانية: التلازم؛ حيث يلزم من وجود النجاسة في غير محل خروجها: أن تُغسل بالماء؛ لأن الاستجمار لم يرد إلا لما خرج من مخرجه المعتاد، فإن قلتَ: لِمَ شرع ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن خروج النجاسة من مخرجه يتكرر، فلو وجب غسله: للحق كثيرًا من الناس الضيق والمشقة لقلة المياه خاصة في الأسفار، لأن المشقة تجلب التيسير بخلاف وجود النجاسة في غير محل خروجه فيندر: فلا يشق غسله.

(33)

مسألة: إذا دخلت نجاسة في فرج امرأة، أو في حشفة رجل لم يُختن - وهو: الأقلف -، أو أصابتهما جنابة: فلا يجب غسل داخل الفرج أو الحشفة، أما إذا كان في الشخص فَتْقٌ - وهو: الشق - ودخلته نجاسة أو أصابته جنابة: فيجب غسله؛ لتطهيره - إن كان لا يضره ذلك -؛ للمصلحة؛ حيث إن غسل داخل الفرج أو الحشفة يشق: نظرًا لتكرار ذلك وكثرته، فدفعًا لذلك سقط غسله؛ لكون "المشقة تجلب التيسير" بخلاف من كان في بدنه فتق أو شقٌ: فيجب غسله - إن كان لا يتضرر - لعدم المشقة في ذلك؛ لندرته.

(34)

مسألة: يُشترط فيما يُستجمر به من أحجار، أو تراب، أو خِرق، أو خشب، أو ورق أو نحوها: أن يكون طاهرًا منقيًا للمحل من النجاسة؛ للسنة الفعلية =

ص: 92

غير عظم وروث) ولو طاهرين

(35)

(وطعام) ولو

والقولية؛ حيث قال ابن مسعود لما أتى النبي صلى الله عليه وسلم بحجرين وروثة "أخذ الحجرين وألقى الروثة" وعلل ذلك بقوله: "إنها ركس" أي: نجس، فدل ذلك على اشتراط الطهارة فيما يُستجمر به، ويلزم من استعماله للحجرين، وردِّه للروثة اشتراط التنقية؛ لأن هذا لازم الحجرين، فإن قلتَ: لِمَ اشترط ذلك؟ قلتُ: للمصلحة: حيث إن المراد من الاستجمار هو: إزالة عين النجاسة، ولا يحصل ذلك إلا باشتراط هذين الشرطين. [فرع]: لا يُشترط في كون الشيء المستجمر به مباحًا، فلو استجمر بالمغصوب أو بالمسروق لأجزأ، ولكنه يأثم؛ للتلازم؛ حيث يلزم من توفر شرطي ما يُستجمر به - وهما: الطهارة والتنقية -: صحة الاستجمار، ويلزم من غصب ذلك أو سرقته: الإثم، فإن قلتَ: لِمَ أثم؟ قلتُ: للمصلحة، وهو منع غصب الناس حقوقهم، فإن قلتَ: يشترط أن يكون ذلك مباحًا؟ وهو ما ذكره المصنف هنا، للتلازم؛ حيث يلزم من كونه محرمًا: تأثيره في الإجزاء، فيشترط، قلتُ: هذا لا يؤثر، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "هل الغصب مؤثر في الإجزاء أو لا؟ " فعندنا: لا، وعندهم: نعم.

(35)

مسألة: يحرم الاستجمار بالعظم والروث مطلقًا، أي: سواء كانا طاهرين أو نجسين؛ للسنة القولية؛ حيث نهى صلى الله عليه وسلم عن الاستجمار بذلك - كما روى ذلك سلمان، وابن مسعود - فحرَّم الشارع ذلك؛ لأن النهي هنا مطلق فيقتضي التحريم، فإن قلتَ: لِمَ حُرِّم ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن الضرر يحصل بالاستجمار بهما؛ لأن "الروث" نجس، ومتفتت، فلو استجمر به لزاد من النجاسة، و"العظم" لا يخلو عادة من أطراف حادة فلو استجمر به: لجرح البشرة، ثم إنهما طعام الجن، فلو استجمر بهما لأفسد على إخواننا الجن طعامهم؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم:"لا تستنجوا بالروث ولا العظام: فإنه زاد إخوانكم الجن" - كما روى ابن مسعود -، فإن قلتَ: يجوز الاستجمار بهما؛ للقياس، بيانه: كما يجوز الاستجمار بالحجر فكذلك يجوز الاستجمار =

ص: 93

لبهيمة

(36)

(ومحترم) ككتب علم

(37)

(ومتصل بحيوان) كَذَنب البهيمة، وصوفها المتصل بها، ويحرم الاستجمار بهذه الأشياء، وبجلد سمك أو حيوان مذكّى مطلقًا، أو حشيش رطب

(38)

بالروث والعظم، والجامع: الإنقاء في كل، قلتُ: هذا قياس فاسد؛ لأنه قياس مع النص، وهو: ما رواه سلمان، وابن مسعود، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض القياس مع النص؟ " فعندنا: يُعمل بالنص، وعندهم: يُعمل بالقياس.

(36)

مسألة: يحرم الاستجمار بأي طعام سواء كان طعامًا لبني آدم، أو للبهائم وسواء كان رطبًا أو لا، للقياس، بيانه: كما يحرم الاستجمار بطعام الجن - وهما الروث والعظام - فكذلك: يحرم الاستجمار بطعام الإنس وطعام دوابهم بجامع: منع الأذى والضرر في كل، بل إن التحريم هنا من باب أولى؛ لكون الإنس أفضل من الجن، فإن قلتَ: لِمَ حرم ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه محافظة على صحة الإنسان من أن يأكل شيئًا فيه نجاسة أو تأكله البهيمة التي يشرب منها اللبن أو يأكل لحمها.

(37)

مسألة: يحرم الاستجمار بأي شيء محترم مثل كتب العلم جميعًا، سواء كانت بألفاظ عربية أو لا، للكتاب؛ حيث قال تعالى:{وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} وكتب العلم من شعائر الله، فمن لم يمتهنها بالاستجمار بها: فقد اتصف بالتقوى الواجبة، وترك الواجب حرام، فيكون الاستجمار بها حرام، فإن قلتَ: لِمَ حُرم ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية المسلم من أن يستخف بحرمات وشعائر الله.

(38)

مسألة: يحرم الاستجمار بأي شيء متصل بحيوان كشعره، وصوفه، وذيله، ويده، ورجله ونحو ذلك، سواء كان مما يؤكل كجلد سمك وجراد، أو لا يؤكل =

ص: 94

(ويشترط) للاكتفاء بالاستجمار (ثلاث مَسَحات مُنقية فأكثر) إن لم يحصل بثلاث، ولا يُجزيء أقل منها، ويُعتبر أن تعمَّ كل مسحة المحلَّ (ولو) كانت الثلاث (بحجر ذي شُعَب): أجزأت إن أنقت، وكيفما حصل الإنقاء في الاستجمار: أجزأ، وهو: أن يبقى أثر لا يُزيله إلا الماء، وبالماء عود خشونة المحلِّ كما كان مع السبع الغسلات، ويكفي ظن الإنقاء

(39)

كجلد بهيمة الأنعام قد ذُكِّيت، وسواء كان مدبوغًا أو لا؛ للمصلحة؛ حيث إن فعل ذلك بما يتصل بالحيوان يؤذيه، لكونه يتأذى كما يتأذى بنو آدم، ويؤذي من يركب عليه أو يجلس بجانبه، فدفعًا لذلك: حُرم، تنبيه: قوله: "أو حشيش رطب" هذا قد سبق الكلام عنه في مسألة (36).

(39)

مسألة: إذا أراد أن يكتفي بالاستجمار فله شرطان: أولهما: أن يُكمل العدد، وهو ثلاثة أحجار، يمسح بكل حجر جميع محل خروج النجاسة، ثانيهما: أن يكون المسح منقيًا للمحل بحيث إنه إذا مسح بالثلاثة لا يبقى إلا شيء عجز عن إزالته بالحجر، ويحتاج إلى الماء، وإن كان الاستنجاء بالماء: يفعل ذلك حتى يعود المحل خَشِنًا كما كان قبل قضاء حاجته، ولا يُشترط في ذلك القطع، بل يكفي غلبة ظنه أنه أزاله، أو أنه أعاده إلى خشونته فقط، فإن فعل ذلك بحجر له ثلاثة أطراف: أجزأ، وإن لم تُنق هذه الأحجار زادها؛ حتى ينقي المحل؛ لقواعد: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال سلمان: "نهانا النبي صلى الله عليه وسلم أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار" حيث حَرَّم الاستنجاء بأقل من ثلاثة؛ لأن النهي مطلق، وهو يقتضي التحريم، الثانية: العرف؛ حيث إن أغلب الناس تُنقيه ثلاثة أحجار، الثالثة: القياس، وهو من وجهين: أولهما: كما أن الأحجار الثلاثة يُستجمر بها، فكذلك يستجمر بحجر له ثلاثة أطراف بارزة، والجامع: حصول العدد؛ ثانيهما: كما أن الإناء يغسل سبع غسلات من ولوغ =

ص: 95

(ويُسنُّ قطعه) أي: قطع ما زاد على الثلاث (على وتر) فإن أنقى برابعة: زاد خامسة، وهكذا

(40)

(ويجب الاستنجاء) بماء أو حجر ونحوه (لكل خارج) من سبيل إذا أراد الصلاة ونحوها (إلا الريح) والطاهر، وغير الملوث

(41)

الكلب حتى تعود خشونته قبل الولوغ، فكذلك المحل هنا يُظهر بالماء كذلك، والجامع: الإنقاء في كل، فإن قلتَ: لِمَ اشترط هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية المسلم من ضرر بقاء بعض النجاسات في القُبُل أو الدُّبُر، فإن قلتَ: لِمَ اكتُفي بغلبة ظن زوال عين النجاسة؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن القطع في ذلك يشق.

(40)

مسألة: إذا زاد على ثلاثة أحجار: فإنه يُستحب أن يقف على وتر، فلو أنقى المحل بأربعة: فيُستحب أن يزيد خامسًا، وهكذا، وإن وقف على شفع: فلا حَرَج؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "من استجمر فليوتر، من فعل ذلك فقد أحسن، ومن لا: فلا حرج" فالأمر هنا للاستحباب، لأن قوله:"ومن لا: فلا حرج" هو الذي صرفه من الوجوب إلى الاستحباب، فإن قلتَ: لِمَ اسْتُحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن الله وتْرٌ يحب الوتر، فيكون ذلك أكثر أجرًا.

(41)

مسألة: يجب الاستجمار أو الاستنجاء بما سبق ذكره لكل خارج من السبيلين، فيه عين نجاسة على كل من أراد فعل شيء تُشترط له الطهارة كالصلاة، والطواف، ومس المصحف، أما الخارج وهو ليس فيه عين نجاسة: فلا يجب الاستنجاء أو الاستجمار منه مثل: الريح، أو المني الطاهر، أو الولد الخارج من غير دم، أو الخارج غير الملوث كالحصى، والشَّعر، والبعر، والدود إذا كانت يابسة؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "وليستنج بثلاثة أحجار" حيث أوجب الاستنجاء هنا؛ لأن الأمر هنا مطلق، وهو يقتضي الوجوب، الثانية: المصلحة؛ حيث إن الخارج من السبيلين - وهو عين - إن لم يُزل، وقد أراد شيئًا لا يصح إلا بالطهارة، فإن النجاسة ستنتشر في سائر بدنه =

ص: 96

(ولا يصح قَبْلَه) أي: قبل الاستنجاء بماء أو حجر ونحوه (وضوء ولا تيمم)؛ لحديث المقداد المتفق عليه: "يغسل ذكره ثم يتوضأ"

(42)

، ولو كانت النجاسة على غير السبيلين، أو عليهما غير خارجة منهما: صح الوضوء والتيمُّم قبل زوالها

(43)

.

وثيابه وسيؤذي غيره برائحته، فدفعًا لذلك: وجب الاستنجاء، بخلاف ما لا عين له: فلا يحصل ذلك منه، تنبيه: حكى بعضهم أن الاستنجاء والاستجمار غير واجب عن بعض العلماء، وهذا غريب جدًا مع صراحة السنة القولية بوجوبه.

(42)

مسألة: لا يصح وضوء ولا تيمم قبل الاستنجاء أو الاستجمار وزوال عين النجاسة، أي: إذا أراد الصلاة أو الطواف أو مس المصحف: فإنه يستنجي ويستجمر - إن خرج منه شيء - ثم يتوضأ أو يتيمم؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "يغسل ذكره ثم يتوضأ" فهنا قدم الاستنجاء على الوضوء، والاستجمار مثل الاستنجاء، والتيمم مثل الوضوء؛ إذ لا فرق، من باب:"مفهوم الموافقة"، فيلزم من ذلك: عدم صحة الطهارة قبل الاستنجاء والاستجمار، لأن "ثم" للتراخي والترتيب؛ كما قدم البدء من الصفا عند السعي على المروة؛ نظرًا لتقديم النص له، وهذا مثله، فإن قلتَ: لِمَ شرع ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إنه إذا تطهر قبل الاستنجاء أو الاستجمار: فإن النجاسة ستنتشر في بدنه أو ثوبه أثناء تطهره، وستفسد عليه تلك الطهارة.

(43)

مسألة: إذا كانت النجاسة موجودة في بقعة من البدن غير السبيلين، وهي يابسة، أو كانت هذه النجاسة على السبيلين ولكنها لم تخرج منهما: فإنه يصح الوضوء أو التيمم قبل زوالها إذا أمن انتشارها؛ للتلازم؛ حيث إن هذه النجاسة غير موجبة للطهارة فلم يلزم زوالها؛ إذ تصح الطهارة بدون زوالها، بخلاف المسألة السابقة.

هذه آخر مسائل: باب "الاستنجاء والاستجمار"، ويليه: باب "السواك وسنن الوضوء وسنن الفطرة"

ص: 97

‌باب السّواك وسنن الوضوء، وما ألحق بذلك: من الإدِّهان، والاكتحال، والاختتان، والاستحداد ونحوها

السواك والمسواك: اسم للعود الذي يُستاك به، ويُطلق "السواك" على الفعل، أي: دلك الفم بالعود؛ لإزالة نحو تغيُّر كالتَّسوُّك

(1)

(التَّسوك بعود لَّيِّن) سواء كان رطبًا أو يابسًا مُندَّى من "آراك" أو "زيتون" أو "عرجون" أو غيرها (مُنقِّ) للفم (غير مُضرٍّ) احترازًا من الرُّمان والآس، وكل ماله رائحة طيبة (لا يتفتَت) ولا يجرح، ويكره

‌باب السِّواك وسُنن الوضوء، وسنن الفطرة

وفيه خمس وأربعون مسألة:

(1)

مسألة: السواك لغة: مأخوذ من التساوك، وهو: التَّمايل، ومنه قولهم:"جاءت الإبل تساوك" أي: تتمايل - كما في "اللسان"(10/ 446) - وسُمِّي به العود الذي يُستعمل في الفم؛ لأنه يتمايل ويتردَّد في الفم يمينًا وشمالًا، وهو في الاصطلاح: استعمال عود "آراك" أو نحوه لدلك الأسنان واللثة؛ لإزالة بقايا طعام، وتغيُّر رائحة، فيكون المراد به: الفعل، سواء سمَّيناهُ "السواك" أو "التَّسوك" وقد أشار إلى ذلك النووي في المجموع (1/ 271)، فإن قلتَ: لِمَ جُمعت مباحث السِّواك، وسنن الوضوء، وسنن الفطرة كتقليم الأظافر، وقصِّ الشارب، ونتف الإبط، وإزالة شعر العانة، والإدهان، والاكتحال، والاختتان في باب واحد؟ قلتُ: للمصلحة، حيث إنه يجمع تلك المباحث جامع واحد، وهو: حثُ المسلم على التطهر والتنظف، والتنزُّه، وإظهاره بمظهر الجمال، وحسن الهيئة والرائحة؛ ليكون مقبولًا عند خالقه، والمختلطين به من الآدميين.

ص: 98

بعود يجرح، أو يضر، أو يتفتَّت

(2)

و (لا) يُصيب السنة من استاك (بإصبعه وخرقة) ونحوهما؛ لأن الشرع لم يرد به، ولا يحصل به الإنقاء كالعود

(3)

(مسنون كل وقت)

(2)

مسألة: يُستحب أن يكون ما يُتسوَّك به متَّصفًا بما يلي: أولًا: أن يكون عودًا، وهو مطلق، أي: سواء كان عود "آراك" - وهو عود يُقطع من شجر الحمض له حمل كعناقيد العنب - وهو أجودها، أو كان عودًا من شجر الزيتون، أو كان عودًا من العراجين - وهي شماريخ العذق، أو من جريد النخل - أو نحوها. ثانيًا: أن يكون لينًا سواء بطبعه، أو كان يابسًا ثم نُدِّي بالماء. ثالثًا: أن يكون مُنقِّيًا للفم منظفًا له مُغيرًا لرائحته. رابعًا: أن لا يضر الفم، أو اللثة، أو الصحة العامة عند استعماله. خامسًا: أن يكون صلبًا لا يتكسَّر ولا يتفتت، فإن كان يضر برائحته، أو بجرحه، أو كان يتفتت في الفم: فإنه يكره التسوك به، لقاعدتين: الأولى: السنة الفعلية، حيث كان صلى الله عليه وسلم يتسوك بعود "آراك" وهذا يلزم منه: أن الذي يُتسوك به يُستحب أن تتوفر فيه صفات عود "الآراك"، وهي تلك الصفات الخمس، الثانية: المصلحة، حيث إن تلك الصفات تُحصِّل المصلحة التي من أجلها استُحب السواك، وما يُخالفها لا يُحصِّلها: فشُرعت.

(3)

مسألة: يُشرع التسوك بأي شيء يقوم مقام العود كإصبع، وخرقة، وفرشاة الأسنان الحديثة، ونحو ذلك مما يُزيل القاذورات، والرائحة الكريهة ويثبت له أجر الاستحباب؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية، حيث قال صلى الله عليه وسلم:"لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة" ولفظ "السواك" عام يشمل العود والإصبع والخرقة وكل ما يقوم مقام العود مما يُتسوَّك به؛ لأن "السواك" مفرد محلَّى بأل، وهو من صيغ العموم. الثانية: القياس، بيانه: كما أن العود يُشرع التسوك به فكذلك الإصبع والخرقة ونحوهما، والجامع: حصول الإنقاء =

ص: 99

خبر قوله: "التسوُّك" أي يُسنُّ كل وقت؛ لحديث: "السواك مطهرة للفم مرضاة للرَّب" رواه الشافعي وأحمد وغيرهما

(4)

(لغير صائم بعد الزوال) فيُكره فرضًا كان

في كل، فإن قلتَ: إن هذا قياس فاسد؛ لأنه مع الفارق؛ حيث إن غير العود ليس كالعود في التنقية؛ حيث إن الإصبع والخرقة يُلوِّثان الفم بخلاف العود. قلتُ: القياس صحيح إذا كان الإصبع والخرقة كالعود في التنظيف، فإن قلتَ: لِمَ شُرِع التسوك بما يقوم مقام العود؟ قلتُ: للمصلحة، حيث إن ذلك فيه توسعة على الناس، فإن قلتَ: لا يُشرع التَّسوُّك بالإصبع والخرقة ونحوها - غير العود - وهو ما ذكره المصنف هنا؛ للاستصحاب؛ حيث إن الوارد في النقل هو: التسوك بالعود، أما غيره كالإصبع والخرقة فلم يرد في الشرع دليل على مشروعيته، فنبقى على النفي الأصلي، قلتُ: لا يُسلَّم ذلك، بل ورد دليلان يُغيِّران ذلك وهما:"السنة" و"القياس" وقد سبقا، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "الخلاف في مشروعية التسوك هل المقصود التسوك بنفس العود أو المقصود هو إزالة رائحة الفم الكريهة؟ " فعندنا: المقصود هو الإزالة، وهذا يكون في كل آلة تُزيل الرائحة، وعندهم: المقصود هو الإزالة بالعود فقط.

(4)

مسألة: السواك مستحب في كل وقت؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية وهي من وجهين: أولهما: قوله صلى الله عليه وسلم: "لولا أن أشقَّ على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة" حيث منع الأمر المؤدِّي إلى المشقة - وهو: الوجوب - وأوجد النافلة التي لا مشقة فيها؛ لأن "لولا" حرف امتناع لوجود، والتقدير: لولا وجود مشقة الوجوب: لكان السواك واجبًا، ثانيهما: قوله صلى الله عليه وسلم: "السواك مطهرة للفم، مرضاة للرب" حيث إنه يلزم من وصف السواك بهذين الوصفين: كونه مندوبًا، وهو مطلق في الأوقات. الثانية: السنة الفعلية، حيث قالت عائشة: =

ص: 100

الصوم أو نفلًا، وقبل الزوال يُستحب له بيابس، ويُباح برطب؛ لحديث:"إذا صُمتم: فاستاكوا بالغداة، ولا تستاكوا بالعشي" أخرجه البيهقي عن علي رضي الله عنه

(5)

(متأكد) خبر ثان للتسوك (عند صلاة) فرضًا كانت أو نفلًا، (و) عند (انتباه) من نوم ليل أو نهار (و) عند (تغيُّر) رائحة (فم) بمأكول أو غيره، وعند وضوء وقراءة، زاد الزركشي والمصنف في "الإقناع": ودخول مسجد، ومنزل، وإطالة سكوت، وخلو المعدة من الطعام، واصفرار الأسنان

(6)

"كان صلى الله عليه وسلم إذا دخل بيته بدأ بالسواك" وكان "يستاك إذا استيقظ من النوم"، وهذا عام، لأن "إذا" و"كان" من صيغ العموم، فإن قلتَ: لِمَ اسْتُحب السواك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن الفم محل الذكر؛ ومدخل الطعام فتنظيفه مطهرة له، ومرضاة لله سبحانه، وهو مقوي للأسنان واللثة، ومزيل للرائحة عنه.

(5)

مسألة: يُستحب للصائم: أن يستاك في الصباح إلى قبيل الزوال - وهو قبل أذان الظهر - بسواك يابس، ويُكره أن يتسوك بعد الزوال سواء كان صوم فرض أو نفل، لقاعدتين: الأولى: قول الصحابي؛ حيث قال ابن عمر: "يستاك ما بينه وبين الظهر، ولا يستاك بعد ذلك" الثانية: المصلحة؛ حيث إنه كلما كثرت رائحة فم الصائم كلما كثير أجره والتسوك بعد الظهر، أو التسوك بعود لين يُذهب الرائحة المحبوبة عند الله، حيث قال صلى الله عليه وسلم:"إن رائحة فم الصائم عند الله كريح المسك" وهذا يستوي فيه الفرض والنفل، وقول الصحابي والمصلحة قد خصَّصا عموم حديث:"لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة" وغيره، تنبيه: حديث علي الذي ذكره المصنف لا يصح الاستدلال به؛ لأنه ضعيف كما قال بعض المحدثين.

(6)

مسألة: الأوقات التي يتأكد فيها استحباب السواك هي: أولًا: قبل بدء أي صلاة، ثانيًا: بعد الانتباه من النوم، ثالثًا: عند تغيُّر رائحة فمه سواء كان =

ص: 101

(ويستاك عرضًا) استحبابًا بالنسبة إلى الأسنان بيده اليسرى على أسنانه ولثَّته ولسانه، ويغسل السواك

(7)

، ولا بأس أن يستاك به اثنان فأكثر

(8)

،

بسبب طعام، أو طول سكوت، أو كثرة كلام، أو خلو المعدة من الطعام، رابعًا: عند ما تصفرُّ الأسنان، خامسًا: عند البدء بالوضوء، سادسًا: عند قراءة القرآن، سابعًا: عند دخول مسجد ومنزل؛ لقواعد: الأولى: السنة القولية، الثانية: السنة الفعلية، وقد سبق ذكر ذلك في مسألة (4) ولا داعي لتكرارها، الثالثة: المصلحة؛ حيث إن المقصد من مشروعية السواك: تطهير الفم، وإزالة الأوساخ والرائحة الكريهة منه؛ لئلا يؤذي نفسه أو غيره بسببها.

(7)

مسألة: طريقة التسوك هي: أن يغسل السواك بالماء، ثم يبدأ استياكه عرضًا بالنسبة إلى الأسنان: من ثناياه إلى أضراسه، وطولًا بالنسبة إلى الفم، ويُمسك السواك بيده اليسرى، وأن يدير السواك على أسنانه ولثَّته ولسانه؛ للمصلحة؛ حيث إن هذه الطريقة تؤدي الغرض الذي من أجله شرع السواك: من التنظيف، وعدم الإضرار بفمه، وأن غسله يُزيل ما علُق عليه من أتربة، وأن مسكه باليسرى فيه إكرام لليمين التي هي خاصة بالمصافحة مع الآخرين، وتناول الأكل والشرب.

(8)

مسألة: يُكره أن يستاك اثنان فأكثر بسواك واحد؛ للمصلحة؛ حيث إن ذلك قد يكون سببًا في نقل الأمراض، فإن قلتَ: يُباح ذلك - كما قال المصنف هنا -؛ للسنة التقريرية؛ حيث كانت عائشة تستعمل سواك النبي صلى الله عليه وسلم، ثم تدفعه إليه، قلتُ: يُحتمل أنها تستعمله ولا يستعمله النبي بعدها، وعلى التسليم: فإن النبي صلى الله عليه وسلم ليس فمه كفم الآخرين؛ حيث إن الله قد طهره، وإذا تطرق الاحتمال إلى الدليل بطل به الاستدلال فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض المصلحة مع السنة التقريرية" فعندنا: يُعمل بالمصلحة هنا لأن السنة ضعيفة؛ لتطرق الاحتمال إليها، وعندهم: يعمل بالسنة التقريرية؛ لبعد هذا الاحتمال عندهم.

ص: 102

قال في "الرعاية": ويقول إذا استاك: "اللهم طهر قلبي، ومحِّص ذنوبي"

(9)

، قال بعض الشافعية:"وينوي به الإتيان بالسنة"

(10)

(مبتدءًا بجانب فمه الأيمن) فتسنُّ البدائة بالأيمن في سواك، وطهور، وفي شأنه كله، غير ما يُستقذر

(11)

(ويدَّهن) استحبابًا (غبًا) يومًا يدهن، ويومًا لا يدهن؛ لأنه صلى الله عليه وسلم:"نهى عن التَّرَجُل إلا غبًّا" رواه النسائي والترمذي وصححه، و"التَّرَجُّل": تسريح الشعر ودهنه

(12)

(ويكتحل) في كل عين (وترا) ثلاثًا بالإثمد المطيَّب كل ليلة قبل أن

(9)

مسألة: لا يقول شيئًا من دعاء أو غيره إذا استاك؛ للاستصحاب؛ حيث لم يثبت شرعًا فيه شيء، فنبقى على النفي الأصلي، فإن قلتَ: يُستحب أن يقول: "اللهم طهر قلبي، ومحِّص ذنوبي" - كما قال المصنف هنا - قلتُ: لم أجد دليلًا على ذلك.

(10)

مسألة: ينوي المسلم في تسوُّكه: أنه يفعل السنة بهذا؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات" والتسوك: عمل فيشمله عموم لفظ الأعمال، حيث إنه جمع معرف بأل وهو من صيغ العموم، فلا عمل يُرجى ثوابه إلا بنية.

(11)

مسألة: يُستحب أن يبدأ المتسوك بجهة اليمين من فمه، ويبدأ باليمين في كل طيِّب كالتطهر، ودخول المسجد، ولبس نعل أو ثوب، ونحو ذلك، بخلاف المستقذر كدخول الخلاء ونحوه؛ للسنة الفعلية؛ حيث قالت عائشة:"إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يُعجبه التيامن في تنعُّله، وترجُّله، وطهوره وفي شأنه كله" والسواك شأن من شؤونه فيدخل تحت عموم "كل" فإن قلتَ: لِمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ وهي: الحصول على بركة البدء باليمين.

(12)

مسألة: يُستحب أن يدهن المسلم شعر رأسه يومًا، ويتركه يومًا آخر وتنظيفه؛ للسنة القولية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم "نهى عن الترجُّل إلا غبًّا" والنهي هنا: للكراهة =

ص: 103

ينام؛ "لفعله عليه السلام" رواه أحمد وغيره عن ابن عباس

(13)

ويُسنُّ: نظر في مرآة

(14)

، وتطيُّب

(15)

(وتجب التسمية في الوضوء مع الذكر) أي: أن يقول:

وهو نفي لفعل الترجُّل كل يوم - وهو: تسريح الشعر وتنظيفه وتحسينه بدهن أو غيره - كما في "اللسان"(11/ 270) -، ثم أثبت الترجُّل الذي يكون غبًّا - وهو فعل يوم وترك يوم - فيكون مستحبًا؛ لأن الاستثناء من النفي إثبات، فإن قلتَ: لِمَ استُحب ذلك، وكره أن يكون ذلك يوميًا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إنه إذا وقع ذلك في يوم، ويُترك يومًا آخر: يحصل منه التنظيف وظهور رائحة طيبة في حين أنه لا مشقة على الفاعل، أما إذا فعله كل يوم: ففيه مشقة، وضياع وقت الفاعل بشيء يُقصد منه التنعُّم فلذا: كُره.

(13)

مسألة: يُستحب أن يضع المسلم الكحل في عينيه: كل عين يكحلها ثلاث مرات كل ليلة قبل نومه؛ للسنة الفعلية؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك، فإن قلتَ: لِمَ اسْتُحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك يُفيد في تقوية البصر، وإنبات الشعر، كما ورد في قوله صلى الله عليه وسلم:"إن خير أكحالكم الإثمد: يجلو البصر، ويُنبت الشعر"، ويكون أفيد ما يكون إذا كان قبل النوم؛ حتى تشرب العين هذا الكحل ويرطبها، و"الإثمد" أجود أنواع الكحل؛ نظرًا لشدة تفتُّته، وهذا الحديث: يفيد أن الكحل في أي وقت مفيد وموافق للسنة، ويتحصَّل فاعله على الأجر إذا نواه؛ لأنه مطلق في كل الأوقات.

(14)

مسألة: يُستحب أن ينظر المسلم في المرآة، سواء أراد الخروج من بيته أو لا؛ لإزالة ما يمكن أن يكون قد عَلُق به مما يُشوِّه منظره؛ للقياس، بيانه: كما يُستحب أن يدهن شعره فكذلك يُستحب أن ينظر في المرآة، والجامع: تحسين المظهر في كل، وهو المقصد منه.

(15)

مسألة: يُستحب للمسلم أن يضع على نفسه شيئًا من الطيب: سواء أراد الخروج أو لا؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "حُبِّب لي من دنياكم النساء =

ص: 104

"بسم الله" لا يقوم غيرها مقامها؛ لخبر أبي هريرة مرفوعًا: "لا صلاة لمن لا وضوء له، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه" رواه أحمد وغيره، وتسقط مع السهو، وكذا: غُسل وتيمم

(16)

والطيب، وجُعلت قرة عيني في الصلاة" فلو لم يُستحب: لما حُبِّب إليه صلى الله عليه وسلم؛ لكونه لا يفعل إلا المشروع، فإن قلتَ: لِمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك يُحسِّن رائحته، فيكون مقبولًا عند الآخرين.

(16)

مسألة: تُستحب التسمية قبل أن يبدأ بالوضوء، والغُسل، والتيمم قائلًا:"بسم الله" هذا عند الجمهور؛ لقواعد: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} ، الثانية: السنة القولية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قال للأعرابي: "توضأ كما أمرك الله: اغسل وجهك وذراعيك

" حيث إن هذين النَّصَّين قد أمرا بما هو واجب، فبدأ بغسل الوجه، فلو كانت التسمية واجبة لبيَّن ذلك القرآن، والنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، الثالثة: القياس، بيانه: كما أن تطهير النجس لا تجب فيه التسمية فكذلك الطهارة من الحَدَث لا تجب فيها التسمية، والجامع: أن كلًا منها عبادة يُتقرب بها إلى الله تعالى، فإن قلتَ: لِمَ استُحبت التسمية؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك سبب للإعانة والبركة والحفظ من شياطين الجن، والوساوس، وكذا: فيه توسعة على المسلمين؛ إذ لو كانت واجبة: لوقع حرج وضيق على بعض الناس، فإن قلتَ: إن التسمية واجبة عند كل طهارة - وضوء أو غسل، أو تيمم - فيأثم المسلم إذا تركها عمدًا، وتسقط عند السهو والنسيان - وهو ما ذكره المصنف هنا -؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه" والمراد: لا وضوء صحيح؛ فلفظ "صحيح" اقتضاء النص فيكون ثابتًا بدلالة الاقتضاء، قلتُ: هذا الحديث ضعيف كما قال كثير من أئمة الحديث، =

ص: 105

(ويجب الختان) عند البلوغ (ما لم يخف على نفسه) ذكرًا كان أو خنثى أو أنثى: فالذكر: بأخذ جلدة الحشفة، والأنثى: بأخذ جلدة فوق محل الإيلاج تشبه عرف الدِّيك، ويُستحب: أن لا تؤخذ كلها، والخنثى: بأخذهما، وفعله في زمن الصغر أفضل، وكُره في سابع يوم ومن الولادة إليه

(17)

وعلى فرض قوته: فإن النص يقتضي - لصدق الكلام - تقدير لفظ "كامل" فيكون: "لا وضوء كامل

" فالنفي يكون للكمال، لا للصحة، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "هل الحديث الأخير ضعيف أو لا؟ " فعندنا: ضعيف، وعندهم صحيح، وأيضًا: "هل دلالة الاقتضاء تدل على تقدير "صحيح" أو لا؟ " فعندنا تقدير الكلام: "كامل" وعندهم: "صحيح".

(17)

مسألة: يُستحب أن يُختن أيُّ مولود استحبابًا مؤكدًا على مذهب الجمهور - وهو: أن تقطع الجلدة التي فوق الحشفة أو أكثرها إن كان ذكرًا، وإن كانت أنثى: فتقطع لحمة زائدة كعرف الديك تكون فوق محل الوطء، وإن قطع القليل منها: كفى، وإن كان خنثى: فتقطع الجلدة، واللحمة الزائدة معًا؛ لأن له آلتان -، وهذا مستحب في أي وقت، لكن الأفضل: أن يكون في زمن الصغر إلى التمييز - وهو: سن السابعة - وأفضل ذلك: أن يكون في الأسبوع الأول أو الثاني من ولادته؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "خمس من الفطرة: الختان، والاستحداد، وقص الشارب، وتقليم الأظافر، ونتف الإبط" فدلَّ "القرآن" هنا على استحباب الختان؛ لقرنه مع مستحبات، ولم يوجد مخصص له يخرجه عنها، فإن قلتَ: لِمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إنه سبب في تنقية القُبُل من أن يترسب فيه بعض الأوساخ التي تؤدي إلى الأمراض، وفي نقص في الطهارة أو احتمال ذلك، والختان في الأسابيع الأولى من الولادة أسرع بُرءًا وشفاءًا، ونفيًا =

ص: 106

(ويُكره القزع) وهو: حلق بعض الرأس وترك بعض، وكذا: حلق القفا لغير حجامة ونحوها

(18)

، ويُسن إبقاء شعر الرأس، قال أحمد: "هو سنة لو نقوى عليه

للأضرار، فإن قلتَ: إن الختان واجب لمن لا يتضرَّر به - وهو ما ذكره المصنف هنا -؛ للتلازم؛ حيث يلزم من اشتراط الطهارة لصحة الصلاة: وجوب الختان؛ لأنه وسيلة إلى حصول تلك الطهارة؛ لأن تلك الجلدة أو اللحمة الزائدة تجتمع تحتها بقايا بول، أو قاذورات، فقطعها يُحقق كمال الطهارة، قلتُ: إنه يمكن إزالة النجاسات والقاذورات بدون قطع تلك الحشفة أو اللحمة الزائدة عند أكثر الناس، فلا يلزم وجوب الختان من اشتراط الطهارة، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض التلازم مع السنة القولية" فعندنا: تبقى السنة على عمومها، وعندهم: يقوى التلازم على تخصيص الختان بالوجوب، تنبيه: قوله: "وكره في سابع يوم، ومن الولادة إليه" قلتُ: لم أجد دليلًا على ذلك؛ إذ استحباب الختان ورد مطلقًا بدون تحديد وقت، وما كان ذلك شأنه: جاز الاجتهاد فيه، والمصلحة اقتضت ما قلناه.

(18)

مسألة: يُكره حلق بعض الرأس وترك البعض الآخر: سواء كان من جانبيه، أو من مُقدمته، أو من قفاه، أو من وسطه - وهذا هو المسمى بـ "القَزَع" -، هذا إذا لم يكن هناك حاجة، أما إن وُجدت حاجة: كحلق بعضه للاستشفاء من حكة، أو جروح، أو لأجل احتجام: فلا يُكره؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية، حيث "نهى عليه السلام عن القزع" والنهي هنا للكراهة، والذي صرفه من التحريم إليه: المصلحة؛ حيث إن ذلك شُرع لمنع المسلم من تشويه نفسه بالقزع، الثانية: المصلحة؛ حيث إن تحسين المظهر مطلوب شرعًا، والقزع يُنافي ذلك فكُره، وإنما لم يُكره للمعذور؛ لدفع الأذى عن نفسه.

ص: 107

اتخذناه ولكن له كُلْفة ومؤنة"، ويُسرِّحه، ويُفرِّقه، ويكون إلى أذنيه، وينتهي إلى منكبيه كشعره صلى الله عليه وسلم، ولا بأس بزيادة، وجَعْله ذؤابة

(19)

، ويُعفي لحيته، ويحرم حلقها، ذكره الشيخ تقي الدِّين، ولا يُكره أخذ ما زاد على القبضة منها، وما تحت حَلْقه

(20)

(19)

مسألة: يُستحب للمسلم أن يُبقي شعر رأسه يطول، ويُستحب أن يعتني به: من حيث غسله، وتنظيفه، وتسريحه، وتفريقه فرقتين من وسطه، وإن جعله يزيد عن الكتفين فلا بأس، لكن يُستحب له في هذه الحالة أن يجعله ظفائر وجدايل وذؤابة؛ لقاعدتين: الأولى: السنة الفعلية؛ حيث "كان شعر النبي صلى الله عليه وسلم بين أذنيه وعاتقه"، ولفظ "كان" يدل على أنه دائم على ذلك؛ لأنه من صيغ العموم في الأزمان، الثانية: المصلحة؛ حيث إن طول الشعر فيه تحسين للمظهر، ودفع مضرة حرِّ الشمس، وبرد الشتاء، وفي الاعتناء به بالغسل ونحوه: إزالة للقاذورات، والروائح الكريهة عنه، وفي جَدْلِه ظفائر: جمع له من انتشاره.

(20)

مسألة: يجب إعفاء اللحية - وهي: الشعر النابت على الذقن والخدَّين كما في "اللسان"(15/ 243) - ولا يُكره أخذ ما زاد على قبضة راحة اليد، من الشعر، وأخذ الشعر النابت تحت الذقن وفي الحلق؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية: حيث قال صلى الله عليه وسلم: "احفوا الشوارب، واعفوا اللِّحى"، والأمر بالإعفاء مطلق فيقتضي الوجوب، وما تحت الذقن، وفي الحلق لا يدخل في مسمى اللحية، فلا يتناوله الأمر، فلا يكون تركه واجبًا ولا مستحبًا، ويلزم منه أن لا يكون أخذه محرمًا، ولا مكروهًا، الثانية: فعل الصحابي؛ حيث إن ابن عمر كان يأخذ من لحيته ما زاد على قبضة يده، فإن قلتَ: لِمَ وجب إعفاء اللحية؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن اللحية زينة للرجال - كما ورد عن عائشة - فإن قلتَ: لِمَ لا يُكره أخذ ما زاد عن قبضة اليد، وما تحت الذقن والحلق؟ قلتُ: للمصلحة؛ =

ص: 108

ويحفُّ شاربه، وهو أولى من قصِّه

(21)

، ويُقلِّم أظفاره مُخالفًا

(22)

،

حيث إن هذا الزائد من الشعر على قبضة يده، وما وُجد تحت ذقنه وحَلْقه يكون مجمعًا للأوساخ والقاذورات، فدفعًا لذلك: لم يُكره أخذه.

(21)

مسألة: يُستحب أن يحف شاربه - وهو: المبالغة في قَصِّه - يكون بين الحلق والقص كما في "المصباح"(143) -، وكذا يحف السِّبالين - وهما: طرفا الشارب النازلان على جانبي الفم وهما تابعان للشارب -؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "احفوا الشوارب"، والأمر هنا للندب، والذي صرفه من الوجوب إليه السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم:"خمس من الفطرة: وذكر منها: قصَّ الشارب" - كما سبق في مسألة (17) - والاحفاء نوع من القص لكنه أعمق منه، الثانية: فعل الصحابي؛ حيث كان بعض الصحابة يحف السِّبالين، فإن قلتَ: لِمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن قصه وحَفَّه فيه تحسين لمظهر المسلم، وفيه إزالة لما قد يتسبب في بعض الأمراض خاصة وأنه قريب جدًا من الفم مدخل الأكل والشرب، فإن قلتَ: لِمَ لا يستحب حلقه؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن حلقه فيه تشويه لوجه المسلم. [فرع]: يُستحب للمرأة حلق وجهها وحَفِّه، وإزالة كل ما فيه من شعر؛ للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه زينة لها وتجمُّل أمام زوجها، لتحسن المعاشرة وإنجاب الأولاد الصالحين؛ لتكثير الأمة الإسلامية بهم.

(22)

مسألة: يُستحب للمسلم أن يُقلم أظفار يديه ورجليه - وهو: قطع ما زاد منها على أي طريقة شاء؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "خمس من الفطرة" وذكر منها: "تقليم الأظافر" فدل "القِران" على استحباب ذلك؛ حيث قرن ذلك مع مستحبات، ولا يوجد مخصِّص لذلك، وورد هذا مطلقًا، فلم يُقيَّد بطريقة معينة، فإن قلتَ: لِمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تنظيف وإزالة وحماية البدن من أن تتعلق به بعض الأوساخ والقاذورات، =

ص: 109

وينتف إبطه

(23)

، ويحلق عانته، وله إزالتها بما شاء، و"التنوير" فَعَلَه أحمد في العورة وغيرها

(24)

، ويدفن ما يُزيله من شعر، وظفر ونحوه

(25)

ويفعله كل أسبوع

تنبيه: قوله: "مخالفًا" يقصد: أن يبدأ بالتقليم بخنصر اليُمنى، فإذا انتهى من اليمنى، بدأ بإبهام اليُسرى، وذلك من اليد والرِّجل، وهذا لم أجد دليلًا عليه، بل المستحب التقليم مطلقًا؛ حيث أطلقت النصوص ذلك.

(23)

مسألة: يُستحب أن ينتف إبطه - وهو نزع وقلع وحلق الشَّعر النابت في باطن المنكب كما في "اللسان"(9/ 323) -؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "خمس من الفطرة" وذكر منها: "نتف الإبط" حيث إن دلالة "القِران" دلَّت على استحباب ذلك؛ لكون ذلك قرن مع مستحبات، ولا يوجد مخصص لذلك، فإن قلتَ: لِمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه إزالة ما قد يتسبب في بعض الأمراض، وظهور رائحة كريهة منه.

(24)

مسألة: يُستحب أن يحلق عانته - وهو الشعر النابت فوق الفرج وما حوله كما في "اللسان"(13/ 300) - ويفعل ذلك بما شاء من المزيلات للشعر: من نتف أو آلة، أو نَوْره - وهو حجر الكلس، وما يُضاف إليه من زرنيخ وغيره، وهو المسمَّى الآن بـ "النِّير" - لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "خمس من الفطرة

" وذكر منها: "الاستحداد" حيث دل "القِران" على هذا الاستحباب - كما سبق ذكره - الثانية: المصلحة؛ حيث إن اختيار المسلم لما يُناسبه في إزالة شعره فيه دفع مضرَّة إلزامه بشيء معيَّن قد لا يُناسب جلده، فإن قلتَ: لِمَ عبَّر الشارع بالاستحداد والحلق بالنسبة للعانة، بخلاف غيرها؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن شعر العانة قوي جدًا لا ينقلع بسهولة، ولو انقلع لتسبَّب في ضرر المثانة وغيرها من المواضع الحساسة هناك، فدفعًا للضرر: عُبِّر بالاستحداد، بخلاف غيرها.

(25)

مسألة: إذا أزال شعرًا أو ظفرًا فيُستحب أن يدفن ما أزاله تحت الأرض؛ لفعل الصحابي؛ حيث إن ابن عمر كان يفعل ذلك، فإن قلتَ: لِمَ استُحب ذلك؟ =

ص: 110

يوم الجمعة قبل الزوال، ولا يتركه فوق أربعين يومًا، وأما الشارب: ففي كل جمعة

(26)

(ومن سُنن الوضوء) وهي: جمع سنة، وهي في اللغة: الطريقة، وفي الاصطلاح: ما يُثاب على فعله، ولا يُعاقب على تركه، وتطلق - أيضًا - على أقواله، وأفعاله، وتقريراته صلى الله عليه وسلم

(27)

،

قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه إكرام لبني آدم، وفيه حماية له من النفوس الشريرة من أن تستعمله.

(26)

مسألة: يُستحب أن يزيل شعر إبط، وعانة ويحف شاربًا، ويقلم ظفرًا قبل صلاة الجمعة من كل أسبوع، ويُكره ترك ذلك فوق أربعين يومًا؛ للمصلحة: حيث إنه يُستحب الاغتسال لصلاة الجمعة لتكون رائحته طيبة، ولا تكون كذلك إلا بعد أن يُزيل ما يتسبب في جلب الروائح الكريهة وهي: الشعر والأظفار، فيكون من باب التلازم، وكرِه تركه باقيًا أربعين يومًا؛ لأن هذه المدة كافية لظهور رائحة كريهة عند عدم إزالتها، وجعل ذلك قبل صلاة الجمعة؛ لأن الناس سيجتمعون لأجلها ويتزاحمون، فلو لم تزل هذه الأشياء؛ لتأذى المُصلون، تنبيه: قوله: "وأما الشارب: ففي كل جمعة"، قلتُ: الشارب يدخل ضمن الشعر الذي يستحب إزالته كل أسبوع، ولا داعي لذكره إلا إذا أراد ذكر الخاص بعد العام؛ لأهميته؛ حيث إنه قريب من الفم، فيُخاف من ضرر اجتماع الأوساخ عليه فيدخل ذلك في الفم أثناء الأكل والشرب، فذكره منفردًا حسن.

(27)

مسألة: السنة لغة: الطريقة، سواء كانت حسنة أو قبيحة - كما في "الصحاح" (5/ 2138) -؛ ومن ذلك: قوله صلى الله عليه وسلم: "من سَنَّ في الإسلام سُنَّة حسنة: فله أجرها، وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سَنَّ سنة سيئة: فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة" وهي في الاصطلاح: "كل ما =

ص: 111

وسمي غَسْلُ الأعضاء على الوجه المخصوص وضوءًا؛ لتنظيفه المتوضيء وتحسينه

(28)

(السواك) وتقدَّم أنه يتأكد فيه، ومحلّه عند

يُثاب على فعله، ولا يعاقب على تركه"، أو تقول: "كل ما طُلب فعله شرعًا من غير ذم على تركه مطلقًا" - هذا من حيث كونه حكمًا تكليفيًا -، وهي من حيث كونها دليلًا معتبرًا بعد الكتاب: "ما صدر عن الرسول صلى الله عليه وسلم غير القرآن - من أقوال وأفعال وتقريرات مما يخص الأحكام التشريعية" - كل ما سبق على اصطلاح الفقهاء والأصوليين - وهي في اصطلاح المحدِّثين: "ما أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير أو صفة خُلُقية أو خَلْقية أو سيرة" وهي في اصطلاح أهل الكلام: "ما يُقابل البدعة"، وتطلق السنة على عمل الصحابة، وكل ذلك مفصَّل في كتابي: "المهذب" (1/ 234) و (2/ 633)، و"الإتحاف" (1/ 480)، والمقصود بالسنة هنا: هو "ما يثاب على فعله ولا يُعاقب على تركه"، كما سبق.

(28)

مسألة: الوضوء لغة: مأخوذ من الوضاءة والنظافة - كما في "اللسان"(1/ 194)، وفي الاصطلاح: غسل أربعة أعضاء هي: الوجه واليدين، ومسح الرأس وغسل الرجلين بماء طهور على صفة مخصوصة سيأتي بيانها؛ لقاعدتين: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} ، الثانية: السنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم طول حياته بعد نزول الوحي بإيجاب الصلاة - كان يتوضأ هكذا، وقال:"هذا وضوء لا يقبل الله صلاة إلا به"، فإن قلتَ: لِمَ سمِّي غسل تلك الأعضاء وضوءًا؟ قلتُ: لأن المتوضيء بهذه الطريقة ينظف تلك الأعضاء، حتى تكون وضيئة حسنة بعيدة عن القاذورات، فإن قلتَ: لِمَ كان الوضوء خاصًا بغسل تلك الأعضاء فقط؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إنها هي الظاهرة من الإنسان غالبًا، فتتعرض =

ص: 112

المضمضة

(29)

(وغسل الكفين ثلاثًا) في أول الوضوء ولو تحقق طهارتهما (ويجب) غسلهما ثلاثًا بنية وتسمية

(30)

(من نوم ليل ناقض لوضوء)؛ لما تقدم في أقسام المياه، ويسقط غسلهما والتسمية سهوًا، وغسلهما لمعنى فيهما:

بسبب ذلك للأتربة والأوساخ، فتحتاج إلى غسلها؛ لئلا تدخل تلك الأوساخ إلى داخل بدنه فتتسبب له في بعض الأمراض، فإن قلتَ: لِمَ يمسح الرأس دون البقية؟ قلتُ: الأصل غسله مثلها، ولكن الغسل سقط؛ للمشقة؛ حيث يتأذى به المسلم، وسيأتي توضيح ذلك. تنبيه: سُنن الوضوء التي يؤجر عليها إن فعلها، ولا يأثم إن تركها هي: ثنتا عشرة سنة سيأتي ذكرها فيما يلي من المسائل.

(29)

مسألة: في الأول من سنن الوضوء - وهو: أن يستاك قبل المضمضة، وهذا مما يتأكد فيه السواك كما سبق في مسألة (6) -؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم:"لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة"، وفي رواية:"عند كل وضوء" وهي زيادة ثقة مقبولة، وقد سبق بيان ذلك في مسألة (4)، فإن قلتَ: لِمَ كان ذلك من السنن؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن التسوك يُثير بعض أوساخ الفم فيأتي المتوضئ بالماء فيُخرجها، فتكون رائحة فمه طيبة لا يؤذي الملائكة، ولا المصلِّين حوله، لذلك ذكر القرطبي في "المفهم" (1/ 99): أنه لِمَ يرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه استاك في مسجد قط، ولا في جماعة؛ لأن أرباب الهيئات والمروءات يمتنعون عن فعل ذلك؛ إكرامًا للآخرين، فيكون السواك قبل الوضوء، والوضوء عادة لا يكون في المساجد.

(30)

مسألة: في الثاني - من سنن الوضوء - وهو: التسمية: بأن يقول: "بسم الله" وقد سبق بيانه والمقصد منه في مسألة (16).

ص: 113

فلو استعمل الماء، ولم يُدخل يده في الإناء: لم يصح وضوؤه وفسد الماء

(31)

(و) من سنن الوضوء (البدائة) قبل غسل الوجه (بمضمضة ثم استنشاق ثلاثًا ثلاثًا بيمينه، واستنثاره بيساره

(32)

(و) من سننه (المبالغة فيهما) أي: في المضمضة والاستنشاق (لغير صائم) فتُكره، والمبالغة في المضمضة: إدارة الماء بجميع فمه،

(31)

مسألة: في الثالث - من سنن الوضوء -: وهو: أن يغسل الكفين ثلاث مرات قبل أن يُدخلهما الإناء وقبل غسل الوجه سواء كان بعد نوم، أو لا، وسواء غلب على ظنه طهارتهما أو لا، للسنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك في وضوئه، فإن قلتَ: لِمَ كان ذلك من السنن؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه إزالة لما فيهما من الأوساخ؛ حتى لا تنتشر في أعضائه أثناء وضوئه، تنبيه: قوله: "يجب غسلهما" إلى قوله: "وفسد الماء"، قلتُ: قد سبق بيان أن ذلك مستحب وأنه لا يفسد الماء في مسألة (34) من "مسائل حقيقة الكتاب والطهارة والمياه المتطهر بها

" وفي مسألة (16) من هذا الباب.

(32)

مسألة: في الرابع - من سنن الوضوء -: وهو أن يبدأ بالمضمضة ثلاثًا ثم يستنشق ثلاثًا قبل غسل الوجه، وأن يكون إدخال الماء إلى الفم والأنف باليد اليُمنى، وإخراجه منهما باليسرى - وهو الاستنثار؛ للسنة الفعلية؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك، فإن قلتَ: لِمَ كان ذلك من السنن؟ قلت: للمصلحة؛ حيث إنه لو خرج من الفم أو الأنف شيء من الأوساخ وعلُق بعضه على الوجه: فإن غسل الوجه بعد ذلك سيُزيله، بخلاف ما لو بُدئ بغسل الوجه قبل المضمضة والاستنشاق، فإنه قد يخرج منهما شيء يُقذِّر الوجه، وفي استعمال اليُمنى لإدخال الماء للتبرك باليمين، وكونه يُخرجه باليسرى؛ لأن اليسرى وضعت للقاذورات.

ص: 114

وفي الاستنشاق: جذْبه بنفسه إلى أقصى الأنف

(33)

، وفي بقية الأعضاء: دلك ما ينبو عنه الماء للصائم وغيره

(34)

(و) من سننه (تخليل اللحية الكثيفة) - بالثاء المثلَّثة - وهي: التي تستر البشرة: فيأخذ كفًا من ماء يضعه من تحتها بأصابعه

(33)

مسألة: في الخامس - من سنن الوضوء - وهو: أن يبالغ في المضمضة، والاستنشاق لغير صائم، فإن كان صائمًا: فإنه يتمضمض ويستنشق بدون مبالغة، فإن فعل: كُره؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائمًا" والمضمضة كالاستنشاق؛ لعدم الفارق من باب "مفهوم الموافقة"، وهذا للاستحباب، وصرفه من الوجوب إليه: مفهوم العدد من آية الوضوء - وهي قوله {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ

} حيث تدل على أنه لا يجب غير غسل الأعضاء الأربعة فقط، وكُرهت المبالغة للصائم؛ لأن النص نهى عنها؛ حيث أمر بالمبالغة ثم نهى عنها الصائم؛ لأن الاستثناء من الإثبات نفي، والنفي نهي عندنا، والنهي للكراهة؛ للاحتمال الضعيف في دخول الماء إلى جوفه أثناء صومه، فإن قلتَ: لِمَ كان ذلك من السنن؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه استقصاء في التنظيف، تنبيه: المراد بالمبالغة في المضمضة: أن يُدير الماء في جميع فمه بقوة ثم يمجُّه، والمراد بالمبالغة في الاستنشاق: أن يجذب الماء بنَفَسه وشهيقه إلى أقصى أنفه ثم يستنثره.

(34)

مسألة: في السادس - من سنن الوضوء - وهو: أن يدلك أعضاء الوضوء الأربعة خاصة في المواضع التي يشك بأن الماء لا يصله بسبب إصابته بدُهن أو صمغ، سواء كان صائمًا أو لا؛ للسنة القولية، حيث قال صلى الله عليه وسلم:"أسبغ الوضوء" وهذا الأمر للاستحباب، والذي صرفه من الوجوب إليه مفهوم العدد من آية الوضوء كما سبق في مسألة (32)، فإن قلتَ: لِمَ كان ذلك من السنن؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه احتياط للدِّين، ومبالغة في التنظيف والتطهير.

ص: 115

مشتبكة، أو من جانبيها، ويعركها، وكذا: عنفقة، وباقي شعور الوجه

(35)

(و) من سننه تخليل (الأصابع) أي: أصابع اليدين والرجلين، قال في "الشرح":"وفي الرجلين آكد" ويُخلل أصابع رجليه بخنصر يده اليسرى من باطن رجله اليمنى من خنصرها إلى إبهامها، وفي اليسرى بالعكس، وأصابع يديه إحداهما بالأخرى، فإن كانت أو بعضها ملتصقة: سقط

(36)

(35)

مسألة: في السابع - من سنن الوضوء - وهو: أن يُخلل شعر الوجه إذا طال: كلحية طويلة، وعنفقة - وهي التي تكون تحت الشفة السفلى وفوق الذقن - وشارب، وأهداب، وذلك مع غسل الوجه وطريقته: أن يأخذ بكفه ماء وهو مشتبك الأصابع فيضعه تحت اللحية، أو الشعر الطويل فيقوم بإسالة الماء حتى يتأكد أن الماء قد دخل فعلًا بين الشعر؛ للسنة الفعلية؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك - كما رواه عثمان -، فإن قلتَ: لِمَ كان ذلك من السنن؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن الأوساخ تتكاثر بداخل الشعر الكثيف، فاستُحب فعل ذلك لإزالته، وجُعل فعل ذلك مع غسل الوجه؛ لكون اللحية من الوجه.

(36)

مسألة: في الثامن - من سنن الوضوء - وهو: أن يُخلل أصابع يديه ورجليه: بأن يُدخل الماء بين تلك الأصابع بأي طريقة يراها، بادئًا بأصابع اليد اليمنى، ثم اليسرى، وكذلك يفعل بالرجلين، ويبدأ أيضًا بيمين اليمنى، واليسرى من اليدين والرجلين، ويحرص على تخليل أصابع الرجلين أكثر من اليدين؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "وخلّل بين الأصابع" وهو: أمر للاستحباب، والذي صرفه من الوجوب إليه مفهوم العدد من آية الوضوء - كما قلنا في مسألة (33) - الثانية: المصلحة؛ حيث إن العادة جرت على تراكم بعض الأوساخ بين الأصابع خاصة أصابع الرجلين؛ بسبب تعرضهما للأتربة؛ لكثرة المشي عليهما: فلذا خُصّص ذلك باستحباب الاهتمام بها في =

ص: 116

(و) من سننه: (التيامن) بلا خلاف

(37)

(وأخذ ماء جديد للأذنين) بعد مسح رأسه

(38)

، ومجاوزة محل الفرض

(39)

تخليلها، وفي البدء باليمين من أصابع اليدين والرجلين: الحصول على البركة، والتأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم حيث إنه يحب التيامن. تنبيه: إذا كانت الأصابع ملتصقة: فإنه يسقط هذا؛ لعدم وجود محلِّه.

(37)

مسألة: في التاسع - من سنن الوضوء - وهو: أن يبدأ باليمين من كل عضو من أعضاء الوضوء فيبدأ باليد اليُمنى ثم اليسرى وهكذا؛ للسنة الفعلية؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك، ويُحبُّ التيامن في شأنه كله - كما قالت عائشة - فإن قلتَ: لِمَ كان ذلك من السنن؟ قلتُ: لأن الوضوء من الطيبات المستحسنات، وللحصول على البركة، فإن قلت: لِمَ لا يبدأ باليمين في غسل الوجه والرأس، والأذنين؟ قلتُ: لأن هذه الأعضاء تُفعل بالكفين معًا فيعم بهما اليمين واليسار، إن كان مستطيعًا، أما إن لم يكن له إلا يد واحدة فيبدأ باليمين، ثم اليسار وهكذا، فإن قلتَ: لا يُستحب التيامن؛ للسنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد مسح على الخفين بيديه معًا - كما قال المغيرة - قلتُ: هذه قضية عين واحدة لا تؤثر بالقاعدة، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: "تعارض السنتين الفعليتين" فعندنا: يُعمل بالأولى؛ لأنها أعم؛ حيث إن الأصل في الشريعة العموم، وعندهم: يُعمل هنا بالثانية؛ لكونها مخصِّصة للأولى.

(38)

مسألة: في العاشر - من سنن الوضوء - وهو: أن يأخذ ماء جديدًا ليمسح به الأذنين - بعد مسحه للرأس -؛ لفعل الصحابي؛ حيث إن ابن عمر كان يفعل ذلك، فإن قلتَ: لِمَ كان ذلك من السنن؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك أكمل في تنظيفهما، بخلاف باقي ماء مسح الرأس.

(39)

مسألة: في الحادي عشر - من سنن الوضوء - وهو: أن يتجاوز محلَّ العضو المفروض غسله تجاوزًا يسيرًا: فيغسل جزءًا من الرأس إذا غسل الوجه، =

ص: 117

(و) من سننه (الغَسْلة الثانية والثالثة)

(40)

، وتكره الزيادة عليها

(41)

، ويعمل في عدد الغَسَلات بالأقل

(42)

، ويجوز الاقتصار على الغسلة الواحدة، والثنتان أفضل منها، والثلاث أفضل منهما، ولو غسل بعض أعضاء الوضوء أكثر من بعض: لم

ويغسل جزءًا من العضد إذا غسل اليد، ويغسل جزءًا من الساق إذا غسل الرجل؛ للسنة الفعلية؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك - كما قاله أبو هريرة - فإن قلتَ: لِمَ كان ذلك من السنن؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه احتياط في الدِّين، وفي كون هذا التجاوز يسيرًا: فيه أمن من الوسوسة، وإضاعة الماء.

(40)

مسألة: في الثاني عشر والأخير - من سنن الوضوء - وهو: أن يغسل العضو الواحد مرَّتين أو ثلاثًا، - لكون المرة الأولى فرضًا -؛ للسنة الفعلية؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك، فإن قلتَ: لِمَ كان ذلك من السنن؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك أكمل في تنظيفها.

(41)

مسألة: يُكره أن يغسل المتوضيء العضو الواحد أكثر من ثلاث مرات؛ للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه إسراف في الماء - وهو منهي عنه؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "لا تسرف في الماء ولو كنت على نهر جار" - وقد يتسبب ذلك في الإصابة بالوسوسة وهو مرض خطير.

(42)

مسألة: إذا غسل عضوًا مرتين لكنه شك في الثانية: جعلها مرة واحدة، وهي الأقل؛ للاستصحاب؛ حيث إنها متيقَّنة، والعمل بالمتيقن والغالب على الظن هو الأصل، ويترك المشكوك فيه؛ فإن قلتَ: لِمَ لا يُعمل بالمشكوك فيه؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن الشارع نهى عن العمل بالشك بقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا شك أحدكم في صلاته هل خرج منه شيء أو لا؟ فلا ينصرف حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا" هذا هو الأصل، فلو عمل المسلم بما يشك فيه لفسدت على المسلم حياته، ولما تمَّ له عمل.

ص: 118

يُكرَه

(43)

، ولا يسنُّ مسح العنق

(44)

، ولا الكلام على الوضوء

(45)

.

(43)

مسألة: إذا غسل المتوضيء العضو الواحدة مرة واحدة فإنه يجزئه، وإن غسله مرة ثانية فهو أفضل، وإن غسله ثالثة: فهو أفضل مما سبق وأكمل، ولا يُكره غسل بعض الأعضاء أكثر من بعضها الآخر، فله أن يغسل عضوًا ثلاث مرات والعضو الآخر مرتين، والعضو الثالث مرة ولا حرج في ذلك؛ للإجماع، ومستنده: السنة الفعلية؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم يفعل كل ذلك، فإن قلت: لِمَ جاز ذلك كله؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن زيادة غسل العضو إلى ثلاث فيه كمال في النظافة، وفي المخالفة في غسل الأعضاء تيسير وتسهيل على الناس.

(44)

مسألة: لا يُستحب أن يمسح المتوضيء عنقه في وضوئه؛ للاستصحاب؛ حيث لم يرد الشرع به، فيبقى على النفي الأصلي، أي: لا يُشرع في الدِّين إلا ما ورد عن الشارع، ولم يرد شيء في ذلك، فلا يعمل به.

(45)

مسألة: لا يُستحب الكلام أثناء الوضوء؛ للمصلحة؛ حيث إن الوضوء عبادة. يحسن السكوت فيها للدعاء والذكر والتأمل، والكلام يتسبب في ضياع هذه الفائدة.

هذه آخر مسائل باب "السواك وسنن الوضوء وسُنن الفطرة" ويليه باب "فروض الوضوء"

ص: 119

‌باب فروض الوضوء وصفته

الفرض يُقال لمعان: منها: الحز والقطع، وشرعًا: ما أثيب فاعله وعوقب تاركه، والوضوء: استعمال ماء طهور في الأعضاء الأربعة على صفة مخصوصة

(1)

، وكان فرضه مع فرض الصلاة - كما رواه ابن ماجه - ذكره في "المبدع"

(2)

‌باب فروض الوضوء وصفته وشروطه

وفيه خمسون مسألة:

(1)

مسألة: الفرض لغة هو: الحز والقطع، يُقال:"فرض سواكه" أي: حزَّه وقطعه بأسنانه - كما في "اللسان"(7/ 205) - وهو في الاصطلاح: "ما أُثيب فاعله وعُوقب تاركه" أو تقول: "ما دُمَّ تاركه شرعًا مطلقًا"، وهو بهذا يتفق مع تعريف "الواجب"؛ لكونهما يتفقان في هذا الحد؛ لذلك قال كثير من العلماء: إن "الفرض" و"الواجب" مترادفان: كل واحد بمعنى الآخر، ولكن: إذا نظرنا إلى الدليل المثبت لكل واحد منهما وجدناه يختلف: فالفرض هو: "ما طلب فعله طلبًا جازمًا بدليل قطعي" كالآية والحديث المتواتر الدالَّين على الحكم دلالة قطعية، والإجماع الصريح المنقول إلينا نقلًا متواترًا، هذا هو الفرض، ويُسمى بالركن، لا يسقط بالعمد ولا بالسهو، ولا يُجبر بدم في الحج، ولا بسجود سهو في الصلاة، أما الواجب فهو:"ما طُلب فعله طلبًا جازمًا بدليل ظني" كغير الأدلة الثلاثة السابقة الذكر، وهذا يسقط بالسهو، ويجبر بالدم وبسجود السهو، وقد فصلت القول في ذلك في كتابي:"المهذب"(1/ 47) و "الإتحاف"(1/ 365)، تنبيه: قوله: "والوضوء" إلى قوله: "مخصوصة" قد سبق بيانه في مسألة (28) من باب "السواك وسنن الوضوء وسنن الفطرة".

(2)

مسألة: فُرض الوضوء ليلة الإسراء مع فرض الصلاة قبل الهجرة بثلاث سنوات؛ للسنة القولية والفعلية؛ حيث إن فاطمة لما أخبرته صلى الله عليه وسلم وهو بمكة: أن قومًا من قريش قد عزموا على قتله قال: "إئتوني بوضوء فتوضأ" وهذا يلزم =

ص: 120

(فروضه: ستة) أحدها: (غَسْل الوجه)، لقوله تعالى {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} (والفم والأنف منه) أي: من الوجه؛ لدخولهما في حدِّه، فلا تسقط المضمضة، ولا الاستنشاق في وضوء، ولا غُسل، لا عمدًا ولا سهوًا

(3)

منه: أن الوضوء فُرض في ذلك الوقت، فإن قلتَ: إن الوضوء فُرض في المدينة؛ للتلازم؛ حيث إن آية الوضوء - وهي قوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا .. } - قد نزلت بالمدينة، وهذا يلزم منه أن الوضوء قد فُرض بالمدينة، قلتُ: إن هذه الآية مُقرِّرة للحكم السابق، وليست مؤسِّسة له؛ لأنها نزلت في قصة عائشة حين فقدت العقد في غزوة المريسيع، وكان الوضوء مستعملًا، وزادتهم التَّرخُّص بالتيمم عند فقد الماء، نقله القرطبي في تفسيره (6/ 80) عن ابن عطية فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "الخلاف في آية الوضوء هل هي مقررة لما سبق أو هي مؤسسة؟ " فعندنا: مقررة، وعندهم: مؤسسة، تنبيه: فروض الوضوء ستة لا تسقط عمدًا ولا سهوًا وهي كما يلي:

(3)

مسألة: في الأول - من فروض الوضوء - وهو: أن يغسل وجهه كله - وهو: من منابت شعر الرأس المعتاد إلى أسفل الذقن طولًا، ومن الأذن إلى الأذن عرضًا - ويدخل فيه الفم والأنف دخولًا أوليًا فتكون المضمضة والاستنشاق فرضًا، والغَسْل: إزالة الوسخ عن الوجه والفم والأنف بإجراء وإسالة الماء عليه مع ما فيه من شعر؛ لقاعدتين: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} وهو أمر مطلق فيقتضي الوجوب، ولا صارف له، وهو عام لغسل الوجه كله - وهو: ما يواجه به الآخرين - فيكون غسل داخل الفم - وهو المضمضة - وغسل داخل الأنف - وهو الاستنشاق - فرضًا؛ لأن لفظ: "وجوهكم" جمع مُنكَّر أضيف إلى معرفة - وهو: الضمير - وهذا من صيغ العموم، الثانية: السنة الفعلية؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم إذا غسل وجهه يتمضمض، =

ص: 121

(و) الثاني (غسل اليدين) مع المرفقين؛ لقوله تعالى: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ}

(4)

(و) الثالث (مسح الرأس) كله (ومنه الأذنان)؛ لقوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ}

ويستنشق - كما رواه كل من نقل وضوءه صلى الله عليه وسلم، فإن قلتَ: لِمَ كان ذلك فرضًا؟ قلتُ لأنه سيواجه به الله تعالى في صلاته، وسيواجه به الملائكة، وإخوانه المسلمين، فلا بد أن يكون مقبولًا ذا هيئة مستحسنة، ولأن الوجه أول ما يُلاقي الغبار والأتربة، ففُرض غسله لإزالة ذلك، لئلا يتسبب تركه في بعض الأمراض؛ لكون الفم والأنف مدخلًا لباطن الجسم، لذلك كانت المضمضة فرضًا في الوضوء والغسل.

(4)

مسألة: في الثاني - من فروض الوضوء - وهو: أن يغسل يديه مع المرفقين، والمرفق: المفصل الذي بين العضد والذراع، وهو يتكون من طرفي العظمين: طرف العضد، وطرف الذراع، ويشمل الأظفار؛ لقاعدتين: الأولى: للكتاب؛ حيث قال تعالى: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} والمعطوف - وهما اليدان هنا - يأخذان حكم المعطوف عليه - وهو الوجه - وحرف "إلى" بمعنى "مع" والمراد: "وأيديكم مع المرفقين" وهو عام لكل أجزاء اليد؛ لأن "أيديكم" جمع منكر مضاف إلى الضمير وهو معرفة وهو من صيغ العموم، الثانية: السنة الفعلية؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم يغسل يده حتى يشرع في العضد، وهو من باب دخول المغيَّا في الغاية، فإن قلتَ: لِمَ كان ذلك فرضًا؟ قلتُ: لأن اليدين هما آلة لمس الأوساخ والأقذار والأعمال، ففُرض غسلهما لإزالة ذلك لتكونا لائقتين بالتكبيرات، والدعاء بهما، ومس المصحف، ومصافحة المؤمنين، ولئلا يتسببان في لصوق تلك الأوساخ للبدن، فإن قلتَ: لِمَ جُعل غسلهما بعد غسل الوجه؟ قلتُ: لأنهما يليان الوجه في مواجهة الآخرين، لكنهما أقل منه في تلك المواجهة.

ص: 122

وقوله صلى الله عليه وسلم: "الأذنان من الرأس" رواه ابن ماجه

(5)

(و) الرابع (غَسْل الرِّجلين) مع الكعبين؛ لقوله تعالى {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ}

(6)

(و) الخامس (الترتيب) على ما

(5)

مسألة: في الثالث - من فروض الوضوء - وهو: أن يمسح رأسه بكفَّيه المبلَّلتين بالماء، ويمسح الأذنين؛ لقواعد: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} ، وهو أمر مطلق، فيقتضي الوجوب، فيُلصق كفيه برأسه، لأن "الباء" للإلصاق، ويمسح جميع الرأس؛ لأن "رؤوسكم" جمع منكر مضاف إلى معرفة وهو الضمير، وهو من صيغ العموم، وتدخل الأذنان في حدِّ الرأس، فيمسحان مثله؛ الثانية: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "الأذنان من الرأس" وهو صريح في ذلك؛ لأن "من" للتبعيض فيكونان بعضًا منه، الثالثة: السنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم -كان يمسح الأذنين مع الرأس، فإن قلتَ: لِمَ كان ذلك فرضًا؟ قلتُ: لأن الرأس يواجه كثيرًا من الغبار والأوساخ والأتربة بسبب العمل والتعرُّق، وكذا: الأذنان مثله، ففُرض مسحه؛ لإزالة ذلك لئلا يكون سببًا في توسيخ أعضاء الجسم، وبعض الأمراض، فإن قلتَ: لِمَ جُعل مسح الرأس بعد غسل اليدين؟ قلتُ: لأن فيه نوع مواجهة قريبة من الوجه واليدين، ولئلا يؤثر عدم نظافته على الوجه، فإن قلتَ: لِمَ شُرع مسحه، دون غسله؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن الأصل غسله كباقي أعضاء الوضوء، ولكن رخَّص الشارع في مسحه فقط؛ رفعًا للأذى في غسله؛ لكونه كثيف الشعر غالبًا، فلو غُسل خمس مرات في اليوم لتضرَّر المسلم؛ لصعوبة تنشيفه، وسرعة تقاطر الماء منه إلى الثياب وسائر البدن.

(6)

مسألة: في الرابع - من فروض الوضوء - وهو: أن يغسل رجليه مع الكعبين - وهما القدمان - والكعبان: العظمان البارزان اللذان يقعان بأسفل الساق من جانب القدم -؛ لقاعدتين: الأولى: الكتاب، حيث قال تعالى:{وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} على نصب "أرجلكم" حيث إن ذلك معطوف على "وجوهكم" فتدخل الرجلان في عموم الأمر المطلق بالغسل الذي هو للوجوب، وحرف =

ص: 123

ذكر الله تعالى؛ لأن الله أدخل الممسوح بين المغسولات، ولا نعلم لهذا فائدة غير الترتيب، والآية سيقت لبيان الواجب، والنبي صلى الله عليه وسلم رتَّب الوضوء وقال:"هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به" فلو بدأ بشيء من الأعضاء قبل غسل الوجه لم يُحسب له

(7)

، وإن توضأ مُنكَّسًا أربع مرات: صح وضوؤه إن قرب

" إلى" بمعنى "مع" فيكون التقدير: "وأرجلكم مع الكعبين" وهو من باب دخول المغيا في الغاية، الثانية: السنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم يغسل الكعبين مع الرجلين - كما رواه علي - فإن قلتَ: لِمَ كان ذلك فرضًا؟ قلتُ: لأن الرجلين هما آلة المشي على الأرض، وهذا يُعرضهما للأتربة، والغبار، والأوساخ، فلا بدَّ أن يتعلَّق فيهما شيء من ذلك وهذا من اللوازم؛ ففُرض غسلهما لإزالة ذلك، وليكون لائقًا بعبادة ربِّه، وبملاقاة المؤمنين، وليسلم - بإذن الله - من الأمراض كما قيل: إن نظافة الرِّجلين تمنع كثيرًا من الأمراض بإذن الله، فإن قلتَ: لِمَ جُعل غسلهما بعد مسح الرأس؟ قلتُ: لأنهما أقل مواجهة من الرأس كما هو معلوم.

(7)

مسألة: في الخامس - من فروض الوضوء - وهو أن يُرتِّب هذا الوضوء: بأن يبدأ بغسل الوجه، ثم اليدين، ثم مسح الرأس، ثم غسل الرجلين، فلو غسل اليدين قبل الوجه، أو بالرجلين قبل اليدين: فإن وضوءه لا يصح؛ لقاعدتين: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} حيث يلزم من وجود ممسوح - وهو الرأس - بين مغسولات - وهي: الوجه واليدين والرجلين -: وجوب الترتيب الذي ورد في الآية؛ إذ لو لم يقصد وجوب الترتيب: لأخَّر الممسوح وذكره بعد المغسولات، الثانية: السنة الفعلية؛ حيث إنه عليه السلام قد توضأ بهذا الترتيب طول حياته بعد فرضية الوضوء، وقال: "هذا وضوء لا يقبل الله =

ص: 124

الزمن

(8)

، ولو غسلها جميعًا دفعة واحدة: لم يُحسب له غير الوجه

(9)

، وإن انغمس ناويًا في ماء، وخرج مُرتبًا: أجزأه، وإلا فلا

(10)

(و) السادس (الموالاة)؛ لأنه "صلى الله عليه وسلم

الصلاة إلا به" فحصر صحة الوضوء شرعًا بهذا الترتيب، فإن قلتَ: لِمَ كان الترتيب فرضًا؟ قلتُ: لأن تلك الأعضاء تختلف في الأهمية من حيث المواجهة: ففي الوجه كمال المواجهة، وفي اليدين كثير من المواجهة، وفي الرأس بعض المواجهة، وفي الرجلين جزء يسير من المواجهة فرُتِّبت تلك الأعضاء على هذا الأساس، فقُدِّم الأهم ثم المهم، فلو لم يكن عنده إلا ماء لا يكفي لكل الأعضاء: فإنه يبدأ بما تكمل به المواجهة، وهو الوجه، فإن بقي شيء: غسل اليدين وهكذا، فإذا فرغ الماء تيمم للباقي، وهذا من آثار فرضية الترتيب.

(8)

مسألة: إذا نكَّس الوضوء بأن غسل الرجلين، ثم اليدين، ثم مسح الرأس، ثم غسل الوجه وفعل ذلك أربع مرات: صح وضوؤه بشرط: أن يفعل ذلك بزمن متقارب جدًا بحيث لا يفصل بين تلك المرات؛ للتلازم؛ حيث إنه غسل في كل مرة عضوًا، فلزم من هذه الأربع: حصول واحدة على الترتيب مع وضوئه، ويلزم من تفريق الزمن: عدم حصول الموالاة في غسل الأعضاء، وهذا يُبطل الوضوء.

(9)

مسألة: إذا غسل المتوضيء جميع أعضاء الوضوء دفعة واحدة، أي: غسل كل عضو في زمن غسل العضو الآخر: كان يُوضِئَه أربعة في حال واحدة، أو نكَّس الوضوء بأن غسل الرجلين، ثم اليدين، ثم مسح الرأس، ثم غسل الوجه مرة واحدة: لم يصح في الحالتين إلا غسل الوجه؛ للتلازم؛ حيث يلزم من عدم الترتيب المفروض: عدم صحة الوضوء، وإنما صحَّ غسل الوجه؛ لاعتبار غسله ابتداء؛ حيث لا يحسب ما غسله قبله غسلًا شرعيًا.

(10)

مسألة: إذا نوى الوضوء فغمس بدنه كله في ماء، ثم خرج منه مُرتبًا: بأن أخرج وجهه، ثم يديه، ثم رأسه، ثم رجليه: فإن هذا يُجزئه، أما إن خرج كله دفعة واحدة: فلا يُجزئه ذلك؛ للتلازم؛ حيث يلزم من خروجه مُرتبًا مع نية =

ص: 125

رأى رجلًا يصلي وفي ظهر قدمه لمعة قدر الدرهم لم يُصبها الماء فأمره أن يُعيد الوضوء" رواه أحمد وغيره (وهي) أي: الموالاة (أن لا يؤخر غسل عضو حتى ينشف الذي قبله) بزمن معتدل، أو قدره من غيره

(11)

، ولا يضرُّه إن جفَّ؛ لانشغاله بسنة كتخليل وإسباغ وإزالة وسوسة، أو وسخ، ويضرُّه الاشتغال بتحصيل ماء، أو إسراف، أو نجاسة، أو وسخ لغير طهارة

(12)

، وسبب وجوب الوضوء: الحدث،

الوضوء: الإجزاء، ويلزم من عدم الترتيب في خروجه: عدم الإجزاء؛ لانعدام فرض من فروض الوضوء - وهو الترتيب -.

(11)

مسألة: في السادس والأخير - من فروض الوضوء - وهو: أن يُوالي ويُتابع في غسل أعضاء الوضوء: بأن يغسل اليدين قبل أن يجفَّ الوجه، ويمسح الرأس قبل أن تجفَّ اليدان، وهكذا في زمن معتدل الحرارة والبرودة، فإن لم يكن هذا الزمن: فإنه يُقدِّر له كعادته في الزمن المعتدل؛ حيث إن الجفاف يختلف باختلاف الزمن؛ للسنة القولية؛ حيث إنه "صلى الله عليه وسلم رأى في ظهر قدم رجل بقعة لم يُصبها الماء فأمره بأن يعيد الوضوء والصلاة" والأمر مطلق فيقتضي الوجوب، وهذا يلزم منه وجوب الموالاة؛ إذ لو لم تجب: لأمره بغسل تلك البقعة فقط، ولكنه أمره بإعادة الوضوء كاملًا؛ لكون الأعضاء السابقة قد نشفت وجفَّت، فإن قلتَ: لِمَ كان ذلك فرضًا؟ قلتُ: لأن الوضوء عبادة واحدة مكوَّنة من أجزاء، فغسل كل عضو قبل جفاف العضو الذي قبله يحقق تلك الوحدة كالصلاة، أما غسل العضو بعد جفاف العضو الذي قبله: فهو تفريق في عبادة واحدة وهذا لم يرد في الشريعة.

(12)

مسألة: إذا جفَّ وجهه - مثلًا - بسبب انشغاله بشيء مُتمِّم لطهارة اليدين كأن يخلل بين الأصابع، أو يُسبغ غسلهما، أو يزيل نجاسة لاصقة أو وسخ فيهما، أو يُزيل وسوسة وتردَّد هل غسل اليد مرتين أو ثلاثًا؟ فلا يضرُّه ذلك، =

ص: 126

ويحلُّ جميع البدن كجنابة

(13)

(والنية) لغة: القصد

(14)

، ومحلُّها

فلا يُعدُّ تفريقًا، وإن كان هذا بسبب شيء لا يخصُّ الطهارة: كأن يغسل الوجه ثم يذهب ليُحصِّل الماء لغسل اليدين، أو أسرف في استعماله، أو انشغل بإزالة نجاسة ليست في أعضاء الوضوء، أو وسخ ليس فيها: فإن هذا يضره، ويعتبر ذلك تفريقًا، ويجب عليه أن يُعيد غسل وجهه؛ للقياس، بيانه: كما أنه لو طوَّل في أحد أركان الصلاة أو واجباتها كالقراءة مثلًا في ركن القيام أو الركوع: فإن ذلك لا يُبطلها؛ فكذلك إذا جفَّ الوجه بسبب انشغاله بطهارة مثل ذلك، والجامع: انشغاله بشيء يخص العبادة في كل، وكذا: لو انشغل في صلاته في شيء ليس منها فإنه يبطلها، فكذلك لو انشغل في وضوئه بشيء ليس منه فالوضوء يبطل، والجامع: انشغاله بشيء لا يخص العبادة التي هو فيها، فإن قلتَ: لِمَ شرع هذا بالتفصيل؟ قلتُ: لأن الوضوء عبادة واحدة لا تتجزأ، بدليل أن النية واحدة وطول الفصل يُعتبر من العبث.

(13)

مسألة: سبب وجوب الوضوء: الحَدَث كبول أو غائط أو ريح أو نوم، فإذا وقع هذا الحدث الأصغر: فإن جميع البدن يكون نجسًا: فلا يصح مس المصحف بأي جزء من أجزاء بدنه، - ولو غسله لوحده، ولم يتوضأ بغسل الأعضاء الأربعة مع النية -؛ للقياس، بيانه: كما أنه إذا أصابته جنابة فإن جميع بدنه ينجس، فكذلك الحدث الأصغر مثله والجامع: أن كلًا منهما حدث مستكره، لا يليق أن يتعبَّد الله وهو حادث فيه، وهو: المقصد الشرعي منه.

(14)

مسألة: النية لغة: القصد، يقال:"نويت الشيء": إذا قصدته، وهي في الاصطلاح: قصد الإنسان بقلبه ما يُريده بفعله - كما في "الذخيرة"(1/ 240) - أو تقول: هي: القصد بفعل العبادة التقرُّب إلى الله تعالى بها، فإن قلتَ: ما الفرق بين النية والعزم؟ قلتُ: النية أخص من العزم؛ لأن العزم هو: تصميم =

ص: 127

القلب

(15)

؛ فلا يضرُّ سبق لسانه بغير قصد

(16)

، ويُخلصها الله تعالى

(17)

(شرط) هو: لغة: العلامة، واصطلاحًا: ما يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته

(18)

، (لطهارة الأحداث كلها)؛ لحديث:"إنما الأعمال بالنيات"

على إيقاع الفعل، أما النية فهي: تمييز لهذا العزم وتخصيصه، فالنية تدخل في العزوم والإرادات، لكنها أخص وأدق منها.

(15)

مسألة: النية محلُّها: القلب؛ للتلازم؛ حيث إن القلب محل العقل والعلم والميل، والنفور والاعتقاد والإرادة فلزم من ذلك أن يكون محلها القلب، لا الدماغ، يؤيد ذلك قوله تعالى:{فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} و {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} وغيرها.

(16)

مسألة: إذا نطق بلسانه شيئًا محرمًا في الشرع ولكنه لم يقصده في قلبه ولم ينوه: فلا يضرُّه، فلا يأثم بذلك؛ للتلازم؛ حيث يلزم من عدم نيته له وقصده بقلبه: عدم ترتُّب آثار عليه؛ لأن الأمور بمقاصدها.

(17)

مسألة: يجب أن يُخلص المسلم النية في جميع العبادات لله تعالى؛ لقاعدتين: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} فدل هذا على وجوب الإخلاص لله في كل عمل شرعي؛ لأن الأمر مطلق، وهو يقتضي الوجوب، ودل مفهوم الصفة على أن العمل الذي لا يُخلص ولا يُنوى به لله وحده: أنه ليس بعمل، شرعي، الثانية: السنة القولية، حيث قال صلى الله عليه وسلم:"إنما الأعمال بالنيات" حيث حصر الأعمال المقبولة شرعًا بما وُجدت النية فيه لله تعالى، ودل مفهوم الحصر على أن العمل الذي لم يُنو به وجه الله: فإنه لا يُحسب شرعًا.

(18)

مسألة: الشَّرْط لغة هو: إلزام شيء والتزامه في بيع ونحوه، والشَّرط: لغة العلامة، ومنه قوله تعالى:{فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} أي: علامات الساعة، =

ص: 128

فلا يصح وضوء، وغسل، وتيمم ولو مستحبات إلا بها (فينوي رفع الحدث أو) يقصد (الطهارة لما لا يُباح إلا بها) أي: بالطهارة: كالصلاة، والطواف، ومس المصحف؛ لأن ذلك يستلزم رفع الحدث

(19)

، فإن نوى طهارة، أو وضوءًا، أو أطلق، أو غسل

والمقصود هنا هو: "الشَّرْط" وهو الأول، والشرط في الاصطلاح:"ما يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته" مثل: "الطهارة" حيث إنها شرط لصحة الصلاة: يلزم من عدم الشرط - وهو الطهارة - عدم الحكم - وهو: صحة الصلاة، ولا يلزم من وجود الشرط - وهو الطهارة - وجود الحكم ولا عدمه: فقد توجد الطهارة وتصح الصلاة؛ لأنه استكمل شروطها وأسبابها الأخرى، وقد توجد الطهارة ولا تصح الصلاة؛ لأنه نقص شرط من شروطها الأخرى، وقد أطلت الكلام عن بيان ذلك في كتابَي:"المهذب" و"الإتحاف".

(19)

مسألة: تشترط النية للوضوء السابق، وللطهارات عن الأحداث جميعًا، فلا صحة لوضوء أو غُسل، أو تيمم إلا إذا نوى أنه يفعل ذلك لرفع حدثه الأصغر أو الأكبر؛ لأجل الصلاة بطهارة، أو نوى بذلك الوضوء أو الغسل أو التيمم: استباحة شيء لا يُستباح إلا بالطهارة كالصلاة ومس المصحف، والطواف، سواء كانت فروضًا أو نوافل؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات" حيث دل على أنه لا عمل شرعي صحيح إلا بنية قصده لله تعالى؛ والطهارة عمل فيشمله عموم لفظ "الأعمال" لأنه جمع معرف بأل وهو من صيغ العموم، الثانية: التلازم؛ حيث يلزم من نيته رفع الحدث: صحة الوضوء، ويلزم من نيته بالطهارة: استباحة ما لا يُستباح إلا بالطهارة: رفع الحدث؛ ضرورة، فهما متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر، فإن قلتَ: لِمَ اشتُرطت النية في جميع العبادات؟ قلتُ: لتعيين العمل، وتمييز العبادة عن العادة؛ لأجل تمييز ما لله عما ليس له، وتمييز مراتب العبادات في أنفسها؛ لتقدير مدى تعظيم العبد لربه، ولتكون المكافئة على ضوء =

ص: 129

أعضاءه؛ ليزيل عنها النجاسة، أو ليُعلِّم غيره، أو للتّبَرُّد: لم يُجزئه

(20)

، وإن نوى صلاة معينة لا غيرها: ارتفع مطلقًا

(21)

، وينوي مَنْ حدثه دائم استباحة الصلاة ويرتفع حدثه، ولا يحتاج إلى تعيين النية للفرض، فلو نوى رفع الحدث: لم يرتفع في الأقيس، قاله في "المبدع"

(22)

، ويُستحب نطقه بالنية

ذلك - كما في "الذخيرة"(1/ 242) -؛ إذ النية: سرُّ العبودية وروحها، ولبُّها - كما في "زاد المعاد"(1/ 120) -.

(20)

مسألة: إذا غسل الأعضاء، أو غسل بدنه، ولم ينو بذلك شيئًا، أو نوى الطهارة أو الوضوء الذي يُقصد به النظافة، أو نوى طهارة مطلقة دون تعيين، أو فعل ذلك للتبرد، أو ليُعلم غيره طريقة التطهر، أو فعل ذلك ليُزيل عنه نجاسة في بدنه: فإن هذا كله لا يُسمى طهارة شرعية، فلا يُجزئه ذلك، وإن صلى به أو طاف بالكعبة لا يصح ذلك، ويُحرَّم مسُّ المصحف بذلك، للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم:"إنما الأعمال بالنيات" حيث دل مفهوم الحصر على أن أيَّ عمل - ومنه الطهارة - لم يُعيِّن العامل النية فيه أنه لأجل صحة العبادة لله، ونوعية هذه العبادة فإنه لا يُسمَّى عمل شرعي صحيح.

(21)

مسألة: إذا نوى بوضوئه أنه لصلاة الظهر - مثلًا -: فإنه يرتفع حدثه مطلقًا: فيصلي بهذا الوضوء الظهر وغيرها من المفروضات والمسنونات، للقياس؛ بيانه: كما أن صلاة الظهر تصح بهذا الوضوء فكذلك تصح به غيرها من الصلوات والجامع: ارتفاع الحدث في كل لوقوع النية.

(22)

مسألة: مَنْ حدثه مستمر ودائم، كمن به سلس بول، أو قروح سيَّالة، أو خروج ريح، ومستحاضة، لم يقدر على منعه: يجب عليه أن ينوي بذلك التطهر استباحة الصلاة بدون تعيينها للفرض، وبذلك يرتفع حدثه فيصلي بهذه النية ما شاء من الصلوات، ولا ينوي به رفع حدثه: فإن نوى به ذلك: لم يرتفع حدثه؛ =

ص: 130

سِرًا

(23)

، تتمة: ويُشترط لوضوء وغسل - أيضًا -: إسلام، وعقل وتمييز، وطهورية ماء، وإباحته، وإزالة ما يمنع وصوله إلى البشرة، وانقطاع موجب، ولوضوء: فراغ استنجاء أو استجمار، ودخول وقت على من حَدَثه دائم لفرضه

(24)

لقاعدتين: الأولى: القياس، بيانه: كما أن الصحيح - الذي لا يخرج منه حدث دائم - إذا نوى بتطهره استباحة ما لا يصح إلا بالطهارة فإنه يصح ذلك، فكذلك المريض الذي حدثه مستمر ودائم مثله، والجامع: أن كلًا منهما فعل ما يجب فعله، الثانية: التلازم؛ حيث يلزم من استمرار ودوام حدثه أنه لو نوى ارتفاعه: لا يرتفع حقيقة، فلا داعي لأن ينوي شيئًا لا يُمكن حصوله، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا هنا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إنه ضرورة، والضرورة تقدَّر بقدرها، وفيه تيسير ودفع مشقة وضيق عن مَنْ حَدَثهم مستمر، و"المشقة تجلب التيسير" و"إذا ضاق الأمر اتسع"، وفيه: تمكينهم من فعل الطاعات كغيرهم.

(23)

مسألة: يُستحب النطق بالنية سِرًا: وذلك بأن يتصوَّر في قلبه العبادة التي يريد أن يفعلها كالطهارة والصلاة ونحوهما، ويتصوَّر - أيضًا -: أنه يمتثل أوامر الله، أو ينتهي عما نهى عنه؛ للتلازم؛ حيث يلزم من اشتراط النية لكل عبادة: أن يتصوَّر تلك العبادة، ويتصوَّر الأمر بها، والثواب، أو العقاب المترتب على ذلك، [فرع]: النطق بالنية جهرًا بدعة كان يقول - جهرًا -: "نويتُ أن أتوضأ لصلاة الظهر" أو نحو ذلك؛ للاستقراء، حيث ثبت بعد الاستقراء والتتبع لطهارات النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أنهم كانوا لا ينطقون بالنية جهرًا، فإحداث ذلك يكون بدعة.

(24)

مسألة: يُشترط لصحة وضوء وغسل تسعة شروط هي كما يلي: أولا: أن ينوي ذلك وقد سبق في مسألة (19)، ثانيًا: أن يكون المتطهر مسلمًا، فلا صحة لطهارة الكافر مطلقًا، ثالثًا: أن يكون المتطهر عاقلًا ومميزًا بين الخير والشر، فلا صحة لطهارة صبي غير مميز، أو مجنون، رابعًا: أن يكون الماء الذي يُتطهر به =

ص: 131

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

طهورًا، فلا صحة لطهارة بماء نجس أو طاهر لا يُطهر، خامسًا: أن يُزيل المتطهر بالماء كل شيء لاصق على بدنه يمنع من وصول الماء إلى البشرة كدهن، أو صمغ، أو وسخ أو عجين ونحو ذلك، فإن تتطهر بالماء ولم يصل إلى بقعة في أعضاء الوضوء عند الوضوء - أو في البدن - في الاغتسال -: فإن هذا التطهر لا يصح، سادسًا: أن ينقطع موجب الطهارة تمامًا - وهو الحدث -: فلا يصح تطهره وبوله أو غائطه أو ريحه لم ينقطع، سابعًا: أن يفرغ المتوضيء أو المتيمم من الاستنجاء أو الاستجمار، فلا يصح وضوء أو تيمم شخص لم يفرغ منهما - كما سبق في مسألة (42) من "باب الاستنجاء والاستجمار"، ثامنًا: أن يدخل وقت الصلاة المفروضة للمتوضيء الذي حدثه دائم ومستمر كمن به سلس بول فلا يصح وضوء ولا تيمم هذا قبل دخول وقت المفروضة التي يريد أن يصليها؛ تاسعًا: أن يكون الماء أو التراب المتطهر بهما مباحين إذا كان واجدًا غيرهما، أما إن لم يجد غيرهما فيصح التطهر بهما ولو كانا مغصوبين وغير ذلك، للتلازم؛ حيث يلزم من اشتراط النية للطهارة: أن يكون المتطهر مسلمًا عاقلًا مميزًا؛ إذ لا صحة لنية كافر وصبي غير مميز ومجنون، ويلزم من كون الماء الطهور - وهو المطهر لغيره -: أن يكون هو الذي يرفع الحدث ويُزيل النجس - كما سبق في مسألة (4) من "مسائل: حقيقة الطهارة والمياه المتطهر بها" -، ويلزم من وجوب غسل الأعضاء - في الوضوء والبدن - في الاغتسال -: أن يصل الماء للبشرة المغسولة، ويلزم من لفظ "التطهر": أن يكون هذا التطهر بعد فراغ انقطاع الحدث تمامًا؛ لئلا يكون قبله، أو موافقًا له في الزمن، ويلزم من كون تطهر مَنْ به حَدَث مستمر يستبيح به الصلاة ولا يرفع حدثه - كما سبق في مسألة (22) - أن يتطهر بعد دخول وقت الصلاة؛ لكونه ضرورة، والضرورة تقدر بقدرها والشرط التاسع ثبت بالقياس على الصلاة في الدار المغصوبة كما سبق في مسألة (10) من مسائل "حقيقة الكتاب والطهارة والمياه"، فإن قلتَ: لِمَ اشترطت تلك الشروط؟ قلتُ: لإعلام المسلمين أن التشريع =

ص: 132

(فإن نوى ما تُسنُّ له الطهارة) كقراءة قرآن، وذكر، وأذان، ونوم، وغَضَب: ارتفع حَدَثُه؛ (أو) نوى (تجديدًا مسنونًا) بأن صلى بالوضوء الذي قبله (ناسيًا حَدَثه: ارتفع) حدثه؛ لأنه نوى طهارة شرعية (وإن نوى) مَنْ عليه جنابة (غُسلًا مسنونًا) كغسل جمعة، قال في "الوجيز": ناسيًا: (أجزأ عن واجب) كما مرَّ فيمن نوى التجديد (وكذا عكسه) أي: إن نوى واجبًا: أجزأ عن المسنون، وإن نواهما: حصلا، والأفضل: أن يغتسل للواجب ثم للمسنون كاملًا

(25)

(وإن اجتمعت أحداث) متنوعة ولو متفرقة (توجب وضوءًا أو غُسلًا فنوى بطهارته أحدها) لا على أن لا

الإسلامي ليس عملًا ظاهرًا فقط، بل يُضاف إلى ذلك اعتقادات وإرادات، ومقاصد، وأن لهذا العمل مواصفات وتقييدات.

(25)

مسألة: الأفضل: أن يجعل للواجب من الوضوء والغسل: وضوءًا، وغسلًا واجبًا، وينوي ذلك، وأن يجعل للمستحب منهما: وضوءًا وغسلًا مُستحبًا وينوي ذلك، ولكن: إن توضأ للمفروضة أو اغتسل للواجب لغسل الجنابة ونوى به أيضًا المستحب كالذكر، وغسل الجمعة: فإن ثوابهما يحصلان، وإن توضأ لمستحب كقراءة القرآن ونواه: فإن حَدَثه يرتفع، ويفعل بذلك جميع ما تشترط له الطهارة كصلوات، وطواف وغيرها: فروض ونوافل، وإذا تطهر، ثم أحدث، ثم تطهر ونوى به فعل مستحب كصلاة نافلة ونسي حَدَثه: فإن حَدَثه يرتفع أيضًا، وكذا إن جامع امرأته، ثم اغتسل ونوى بهذا الاغتسال المستحب كغسل الجمعة، ونسي جنابته: فإن حدثه يرتفع أيضًا؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كونه نوى طهارة شرعية: حصول ارتفاع الحدث، ومن ارتفع حدثه: صحت كل عبادة تشترط لها الطهارة، فإن قلتَ: لِمَ شرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة، حيث إن ذلك فيه تيسير على الناس ولاتحاد المقصد.

ص: 133

يرتفع غيره: (ارتفع سائرها) أي: باقيها؛ لأن الأحداث تتداخل: فإذا ارتفع البعض: ارتفع الكل

(26)

(ويجب الإتيان بها) أي بالنية (عند أول واجبات الطهارة، وهو: التسمية) فلو فعل شيئًا من الواجبات قبل النية: لم يُعتدَّ به، ويجوز تقديمها بزمن يسير كالصلاة، ولا يُبطلها عمل يسير

(27)

(وتسنُّ) النية (عند أول مسنوناتها) أي:

(26)

مسألة: إذا اجتمعت أحداث صغرى: كبول وغائط وريح فتوضأ ونوى بهذا الوضوء رفع حدث الريح مثلًا: فإن حدثه يرتفع، ويكون متطهرًا، سواء خطر بباله كونه قد بال أو تغوط أو لا، وسواء كانت حصلت في أزمنة مختلفة أو في زمن واحد، وكذا: إن اجتمعت أحداث كبرى: كجنابة وحيض بالنسبة للمرأة: فاغتسلت ونوت بهذا الغسل: رفع حدث الحيض مثلًا: فإن حدثها يرتفع، وتكون طاهرة، سواء تذكرت أنها على جنابة أو لا، وسواء كانت متفقة أو متفرقة؛ للتلازم؛ حيث يلزم من ارتفاع بعض الأحداث المجتمعة المتساوية: ارتفاع جميعها؛ لكون الأحداث تتداخل فالحدث: وصف واحد وإن تعدَّدت أسبابه، فإن قلتَ: لِمَ شرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تيسير على الناس، ومنع من ضياع المياه، ولأن المقصد واحد.

(27)

مسألة: موضع الإتيان بالنية للطهارة وجوبًا عند أول فروضها وهو: غسل الوجه للمتوضيء، أو عندما يُريد أن يغتسل، أو عندما يريد أن يضرب بيديه التراب للتيمم، وإن أتى بها قبل ذلك بزمن يسير فلا بأس، وعلى هذا: لو فعل أي شيء قبل النية: فإنه غير معتبر، وإن نوى، ثم عمل شيئًا يسيرًا: فلا يبطلها، وإن أتى بها قبل تطهره بزمن طويل: فلا تُعتبر؛ للتلازم؛ حيث يلزم من اشتراط النية للطهارة: أن تكون مقارنة لأول عمل من أعمالها، والفصل اليسير لا يؤثر، فإن قلتَ: لِمَ كان هذا هو موضعها؟ قلتُ: لئلا يُقدِّمها: فينساها، ولا يؤخرها: فيكون بعض العمل لم ينو شرعًا، تنبيه: قوله: "وهو: التسمية" هذا =

ص: 134

مسنونات الطهارة كغسل اليدين في أول الوضوء (إن وجد قبل واجب) أي: قبل التسمية (و) يُسنُّ (استصحاب ذكرها) أي: تذكُّر النية (في جميعها) أي: جميع الطهارة؛ لتكون أفعاله مقرونة بالنية

(28)

(ويجب استصحاب حكمها) أي: حكم النية بأن لا ينوي قطعها حتى تتم الطهارة، فإن عَزَبَت عن خاطره: لم يؤثر، وإن شك في النية في أثناء طهارته: استأنفها إلا أن يكون وهمًا كالوسواس فلا يلتفت إليه

(29)

ولا يضرُّ

بناء على أن التسمية واجبة، وهو مذهب المصنف، وقد بينا أنها مستحبة في مسألة (16) من باب "السواك وسنن الوضوء" وكذا يُقال في قوله:"إن وجد قبل واجب، أي قبل التسمية".

(28)

مسألة: موضع الإتيان بالنية للطهارة استحبابًا: عند أول مستحباتها وهو: التسمية عندنا وعند كل غسل عضو، أي: يستحضرها ويستصحبها عند غسل أي عضو بقلبه؛ للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه احتياط المرء لدينه، من أن يذهل عنها، ويشتغل بغيرها فلا يكمل عمله.

(29)

مسألة: يجب استصحاب وملازمة النية إلى أن يفرغ من الطهارة، فلا يجوز أن ينوي قطعها إلى أن تتم الطهارة، فإن تغيبت عن ذهنه فترة يسيرة ولكنه لم ينو قطعها، أو توهم أنه قطعها كتوهمات الموسوسين: فهذا لا يؤثر فيها، ويستمر في طهارته، أما إن نوى قطعها أثناء الطهارة، أو شك - غير موسوس - هل نوى أم لم ينو؟: فإن ما مضى من الطهارة يبطل، ويجب أن يستأنفها من جديد؛ للتلازم؛ حيث من اشتراط النية للطهارة وجوب شمول النية لجميع الطهارة، ويلزم من قطعها أو الشك فيها - لغير الموسوسين -: عدم صحة النية، ويلزم من عدم صحتها: عدم صحة الطهارة، فإن قلتَ: لِمَ وجب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حث على تعلق المسلم بالطهارة، وعدم التفكير في غيرها من أمور الدنيا.

ص: 135

إبطالها بعد فراغه، ولا شكِّه بعده

(30)

(وصفة الوضوء) الكامل، أي: كيفيته: (أن ينوي

(31)

، ثم يسمي) وتَقَدَّما

(32)

، (ويغسل كفيه ثلاثًا)؛ تنظيفًا لهما، فيُكرر غسلهما عند الاستيقاظ من النوم وفي أوله

(33)

(ثم يتمضمض ويستنشق) ثلاثًا ثلاثًا بيمينه ومن غرفة أفضل، ويستنثر بيساره

(34)

(ويغسل وجهه) ثلاثًا، وحدُّه: (من منابت

(30)

مسألة: إذا فرغ من طهارته، ثم أبطل نيتها، أو شك قائلًا:"لا أدري هل نويتها أو لا؟ " فإن طهارته صحيحة؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كمال الطهارة والفراغ منها وتمامها بفروضها وشروطها: صحتها؛ حيث لا يؤثر عليها ما حدث بعدها، فإن قلتَ: لِمَ صحت الطهارة هنا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إنه لو بطلت الأعمال بإبطال الناس لها أو شكهم في نيتها بعد الفراغ منها: للحق كثيرًا منهم الحرج والضيق والمشقة؛ لكثرة ما يقع بينهم من الشكوك.

(31)

مسألة: في الأول - من أعمال الوضوء الكامل - وهو: أن ينوي بهذا الوضوء رفع الحدث، أو استباحة شيء لا يُستباح إلا بالطهارة - وقد سبق بيانه في مسألة (19) -.

(32)

مسألة: في الثاني - من أعمال الوضوء الكامل - وهو: أن يُسمِّي قائلًا "بسم الله" وقد سبق بيانه في مسألة (16) من باب "السواك وسنن الوضوء".

(33)

مسألة: في الثالث - من أعمال الوضوء الكامل - وهو: أن يغسل كفيه ثلاثًا قبل إدخالهما الإناء وقد سبق بيانه في مسألة (31) من "باب السواك وسُنن الوضوء" تنبيه: قوله: "فيُكرر غسلهما

" قلتُ: هذا على مذهبه: أن غسلهما بعد الاستيقاظ من النوم واجب، وهذا مرجوح - كما بينت ذلك في مسألة (34) من "مسائل حقيقة الكتاب والطهارة والمياه".

(34)

مسألة: في الرابع - من أعمال الوضوء الكامل - وهو: أن يتمضمض ثلاثًا، ويستنشق ثلاثًا، وقد سبق بيانه في مسألة (32 و 33) من باب "السواك وسنن الوضوء" ومسألة (3) من هذا الباب، [فرع]: إذا غرف بكفه للمضمضة =

ص: 136

شعر الرأس) المعتاد غالبًا (إلى ما انحدر من اللِّحيين والذقن طولًا) مع ما استرسل من اللحية (ومن الأذن إلى الأذن عرضًا)؛ لأن ذلك تحصل به المواجهة، والأذنان ليسا من الوجه، بل البياض الذي بين العذار والأذن منه (و) يغسل (ما فيه) أي: في الوجه (من شعر خفيف) يصف البشرة: كعذار، وعارض، وأهداب عين، وشارب وعنفقة؛ لأنها من الوجه

(35)

، لا صدغ وتحذيف، وهو: الشعر بعد انتهاء العذار والنزعة، ولا النزعتان وهما: ما انحسر عنه الشعر من الرأس متصاعدًا من جانبيه فهما من الرأس

(36)

، ولا يغسل داخل عينيه، ولو من نجاسة، ولو أمن الضرر

(37)

، (و) يغسل الشعر (الظاهر) من (الكثيف مع ما استرسل منه) ويخلِّل

والاستنثار ثلاث غرفات فهو أفضل، وإن جمع الثلاث بغرفة واحدة ولا يفصل بينها فهو فاضل؛ للسنة الفعلية؛ حيث إنه عليه السلام قد فعل ذلك، فإن قلتَ: لِمَ كان ذلك أفضل؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك أكمل في التنظيف.

(35)

مسألة: في الخامس - من أعمال الوضوء الكامل - وهو: أن يغسل وجهه ثلاثًا، وقد سبق بيان ذلك بالتفصيل في مسألة (35) و (40) من باب "السواك وسنن الوضوء"، وفي مسألة (3) من هذا الباب.

(36)

مسألة: لا يغسل مع الوجه الصُّدغ - وهو الذي يحاذي رأس الأذن، وهو: شعر ينبت عند انتهاء العذار، ولا يغسل - أيضًا مع الوجه - التحذيف وهو: شعر نابت في جانبي الوجه في طرفي الجبين لاصق بالرأس، وهو شعر يحلقه بعض الناس فيحذفه؛ ليتسع الوجه فسمي لذلك، ولا يغسل - أيضًا مع الوجه - النزعتين، وهما: ما انحسر عنه الشعر من الرأس متصاعدًا إلى فوق، ويكثر في جانبي أول الرأس، ويسمى بالصُّلعة للتلازم؛ حيث إن هذه الأشياء تابعة للرأس، فيلزم أن لا يغسلها مع الوجه.

(37)

مسألة: لا يشرع غسل داخل العينين - في الوضوء - مطلقًا، أي: سواء كان في داخلهما نجاسة أو لا، وسواء أمن الضرر أو لا؛ للمصلحة؛ حيث إن غسل ذلك قد يلحق الضرر بهما، فدفعًا لهذا الضرر المحتمل: لم يشرع غسله.

ص: 137

باطنه وتقدم

(38)

، (ثم) يغسل (يديه مع المرفقين) وأظفاره ثلاثًا

(39)

، ولا يضر وسخ يسير تحت ظفر ونحوه

(40)

، ويغسل ما نبت بمحل الفرض: من إصبع أو يد زائدة

(41)

(ثم يمسح كل رأسه) بالماء (مع الأذنين مرة واحدة) فيمر يديه من مقدم رأسه إلى قفاه، ثم يردهما إلى الموضع الذي بدأ منه، ثم يدخل

(38)

مسألة: يغسل ظاهر شعر وجهه الكثيف، ويغسل ما استرسل منه ونزل، ويخلِّل باطن هذا الشعر، وقد سبق بيانه في مسألة (35) من باب:"السواك وسنن الوضوء".

(39)

مسألة: في السادس - من أعمال الوضوء الكامل - وهو: أن يغسل يديه مع المرفقين ثلاثًا، هذا شامل لكل يد إلى المرفق، وتدخل الأظفار في ذلك، وقد سبق بيانه في مسألة (4) من هذا الباب وفي مسألة (40) من باب:"السواك وسنن الوضوء".

(40)

مسألة: إذا لصق وسخ يسير تحت ظفر، أو في شق من شقوق الرجل أو اليد: فإنه يُعفى عنه، فلا يضر كمال الطهارة؛ للمصلحة؛ حيث إنه يشق تنظيفه، كما أنه يعفى عن أثر النجاسة بعد الاستجمار؛ لمشقة إزالتها كاملة.

(41)

مسألة: إذا وجد شيء زائد قد نبت بمحل الفرض الذي يجب غسله كإصبع زائد أو يد زائدة، أو رجل زائدة، أو نحو ذلك في الوجه والرأس: فإنه يجب تعميمه بالغسل، أو مسحه إذا كان في الرأس، وهو تابع لما نبت فيه؛ للتلازم؛ حيث إن الأمر بغسل أعضاء الوضوء الوارد في الآية يلزم منه وجوب غسل كل ما تعلق بها مما لا ينفصل عنها حيث يدخل في مسماها.

ص: 138

سبابتيه في صماخي أذنيه، ويمسح بإبهاميه ظاهرهما، ويجزيء كيف مسح

(42)

(ثم يغسل رجليه) ثلاثًا (مع الكعبين) أي: العظمين الناتئين في أسفل الساق من جانبي القدم

(43)

(ويغسل الأقطع بقية المفروض)؛ لحديث: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" متفق عليه

(44)

(فإن قطع من المفصل) أي: مفصل المرفق: (غسل رأس

(42)

مسألة: في السابع - من أعمال الوضوء الكامل - وهو: أن يمسح جميع رأسه مع أذنيه وقد سبق بيانه في مسألة (5)، وصفة مسحه: أن يبلِّل كفيه بالماء، ثم يلصقهما في مقدم رأسه ويسير بهما إلى آخر رأسه من القفا، ثم يرجع بكفيه من القفا إلى أن يصل إلى المحل الذي بدأ منه، وهو مقدم رأسه، يفعل ذلك مرة واحدة، وصفة المسح على الأذنين: أن يدخل إصبعه السبابة قليلًا في صماخ كل أذن، ويجعل إبهامه على ظاهر الأذن، ثم يديرهما ماسحًا ظاهرهما، ويجزئه أيُّ طريقة مسح بها الرأس والأذنين؛ للسنة الفعلية؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك - كما رواه من وصف وضوءه كعبد الله بن زيد وابن عباس -.

(43)

مسألة: في الثامن - من أعمال الوضوء الكامل - وهو: أن يغسل رجليه ثلاثًا مع الكعبين، وقد سبق بينه في مسألة (40) من باب:"السواك وسنن الوضوء" ومسألة (6) من هذا الباب.

(44)

مسألة: إذا قطع بعض اليد دون المرفق، أو قطع بعض الرجل دون الكعب: فيجب غسل ما بقي من محل الفرض: فيغسل ما بقي من اليد والرجل؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتكم بأمرٍ فأتوا منه ما استطعتم"، والمقطوع سقط الفرض عنه للعجز عنه، فيجب غسل المستطاع غسله وهو ما بقي؛ لأن الأمر مطلق، فيقتضي الوجوب، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن الواجب يسقط بالعجز عنه؛ تيسيرًا على الناس.

ص: 139

العضد منه)، وكذا: الأقطع من مفصل كعب يغسل طرف ساق

(45)

(ثم يرفع نظره إلى السماء) بعد فراغه (ويقول: ما ورد) ومنه: "أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله"

(46)

(وتباح معونته) أي: معونة المتوضيء

(47)

، وسُنَّ كونه عن يساره كإناء ضيق الرأس، وإلا: فعن

(45)

مسألة: إذا قطعت اليد من مفصل المرفق، أو قطعت الرجل من مفصل الكعب: فيجب غسل العظم الذي هو رأس وطرف العضد في اليد، وغسل طرف الساق؛ للتلازم؛ حيث إن وجوب غسل العظمين المتلاقيين من الذراع والعضد - في اليد - نظرا لدخولهما في الواجب غسله؛ لأن "إلى" في قوله:"إلى المرافق" بمعنى "مع" يلزم منه أنه إذا زال أحد العظمين وجب غسل الآخر، ويلزم من وجوب غسل طرف الساق؛ عملًا بقوله:"إلى الكعبين"؛ - لكون "إلى" بمعنى "مع" -: أن يغسل طرف الساق إذا قطعت الرجل؛ فإن قلتَ: لِمَ شرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه احتياط للدِّين، وتأكد من فعل المأمور به. [فرع]: إذا قطعت اليد من فوق مفصل المرفق، وقطعت الرجل من فوق مفصل الكعب: فإنه يسقط غسل اليد والرجل مطلقًا؛ للتلازم؛ حيث يلزم من عدم وجود محل الفرض المأمور بغسله: سقوط هذا الغسل.

(46)

مسألة: بعد فراغه من التطهر يستحب أن يرفع بصره إلى السماء ويقول: "أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله"؛ للسنة القولية؛ حيث ورد عنه عليه السلام أنه قال: "من فعل ذلك تفتح له أبواب الجنة"، فإن قلتَ: لِمَ استحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إنه بذلك تجتمع له الطهارتان: الطهارة الظاهرة - وهو ما فعله في الوضوء والغسل والتيمم - والطهارة الباطنة: وهو التوحيد وتجديده.

(47)

مسألة: تُباح إعانة المتطهر مطلقًا، وذلك بتقريب الماء وحمله وصبِّه ولو لغير حاجة؛ للسنة التقريرية؛ حيث أقر عليه السلام: لمغيرة، وصفوان لما أعاناه =

ص: 140

يمينه

(48)

(و) يباح له (تنشيف أعضائه) من ماء الوضوء، ومن وضأه غيره ونواه هو: صحَّ إن لم يكن الموضيء مكرهًا بغير حق، وكذا الغسل والتيمم

(49)

.

بصب الماء، ولم يتبين من ذلك الحاجة، ولم ينكره، فلو لم يبح لبين عدم شرعيته، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، فإن قلتَ: لِمَ أبيح ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه توسعة على الناس، فإن قلتَ: لا تُشرع الإعانة في ذلك إلا إذا احتاج المتطهر؛ لقول الصحابي؛ حيث إن ابن عمر لم يُحب ذلك؟ قلتُ: لا يعمل بقول الصحابي هذا؛ لأنه عارض السنة التقريرية. فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض السنة التقريرية مع قول الصحابي" فعندنا: يعمل بعموم السنة التقريرية، وعندهم إن قول الصحابي يُخصص السنة بالحاجة.

(48)

مسألة: يُستحب أن يجعل المتوضيء الماء الذي في إناء صغير ضيق الرأس عن يساره حتى يستطيع قبضه بيده اليسرى ويصب على اليمنى، أما إن كان الإناء كبيرًا أو واسع الرأس: فإنه يجعله عن يمينه؛ ليغرف منه بيده اليمنى؛ للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه يسر وحسن تدبير.

(49)

مسألة: يُباح للمتطهر أن يُنشف أعضاءه بعد فراغه من الطهارة بأي شيء؛ للقياس، بيانه: كما يجوز نفض اليدين بعد الوضوء - كما فعله النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ميمونة - فكذلك يجوز تنشيف الأعضاء، والجامع: إزالة الماء في كل، فإن قلتَ: لِمَ أبيح هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه إزالة الماء؛ لئلا يؤذي غيره، أو يؤذي نفسه بسبب تقاطر الماء، فإن قلتَ: يُكره التنشيف هنا؛ لقول الصحابي؛ حيث إن جابرًا قد نهى عنه، قلتُ: إن إباحة التنشيف ثبت بالقياس والمصلحة، وهما هنا أقوى من قول الصحابي؛ لعدم وضوح سبب قوله هنا. =

ص: 141

. . . . . . . . . . . . . . . .

(50)

.

فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض القياس مع قول الصحابي" فعندنا: القياس هنا أقوى، وعندهم: قول الصحابي أقوى.

(50)

مسألة: إذا استعان شخص بغيره في تطهره: فإن النية تكون للمتوضيء، دون الموضيء ويستعين في هذا بأي شخص: سواء كان مسلمًا أو كافرًا، وسواء كان مختارًا أو مكرهًا بحق كأن يكون عبده أو ولده أو لا؛ للقياس، بيانه: كما أن الإناء لا نية له، فكذلك الموضيء، الجامع: أن كلًا منهما آلة للوضوء، تنبيه: قوله: "وكذا الغسل والتيمم" قصده: أن المغتسل والمتيمم كالمتوضيء في إباحة الإعانة، والتنشيف، وقد بينته في مسألة (47) و (49).

هذه آخر مسائل باب "فروض الوضوء"، ويليه باب "مسح الخفين"

ص: 142

‌باب مسح الخفين وغيرهما من الحوائل

(1)

وهو رخصة

(2)

، وأفضل من

‌باب مسح الخفين وغيرهما من الحوائل

وفيه أربع وأربعون مسألة:

(1)

مسألة: المراد بالمسح على الخفين: والحوائل الأخرى: إمرار اليد المبلَّلة بالماء على ظاهر الخفين والحوائل الأخرى كالجوربين ونحوهما بطريقة مخصوصة - وفي زمن مخصوص - يأتي بيان ذلك، فإن قلتَ: لِمَ سمي الساتر للقدم بالخف؟ قلتُ: لأن الإنسان يستطيع المشي به بخفَّة، فإن قلتَ: لِمَ سمي الباب بالمسح على الخفين مع أنه عام لهما، وللجوربين، والجرموقين والعمامة والخمار، والجبيرة؟ قلتُ: للغالب؛ حيث إن الخفين يغلب لُبسهما عند الناس على غيرهما، فإن قلتَ: لِمَ ذكر الفقهاء هذا بعد باب فروض الوضوء؟ قلتُ: للمناسبة بينهما؛ حيث إنه لما بيَّن أن أعضاء الوضوء تُغسل: أراد أن يبين الأحكام فيما إذا لبس شيئًا على بعض أعضاء الوضوء.

(2)

مسألة: يُباح المسح على الخفين وغيرهما من الحوائل للرجال والنساء؛ رخصة؛ لقاعدتين: الأولى: السنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد مسح عليهما -كما رواه المغيرة - الثانية: الإجماع؛ حيث إن بعض الصحابة قد مسح، وبعضهم لم يمسح، ولم يُنكر غير الماسح على الماسح، فكان إجماعًا سكوتيًا، قال الحسن البصري:"أدركت سبعين صحابيًا يرون المسح" فإن قلتَ: لِمَ أبيح ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه توسعة، ورفع مشقة وحرج على الناس؛ إذ كانوا بحاجة إلى لبس ذلك؛ اتقاء البرد، أو تضرر الرجل من كثرة المشي ونحوه، فإن قلتَ: يُكره المسح؛ لقول الصحابي؛ حيث إنه قد روي كراهة ذلك عن علي، وابن عباس، وعائشة، قلتُ: لم يثبت ذلك عنهم كما في "المجموع"(1/ 480)، =

ص: 143

غَسْل

(3)

، ويرفع الحدث

(4)

، ولا يُسنُّ أن يلبس ليمسح

(5)

(يجوز يومًا وليلة) لمقيم،

وعلى فرض ثبوته: فلا يُعمل به؛ لمعارضته السنة والإجماع، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض السنة الفعلية والإجماع مع قول الصحابي" فعندنا: يقدمان على قول الصحابي، وعندهم: لا، فإن قلتَ: لم كان المسح رخصة؟ قلتُ: لتحقق تعريف الرخصة فيه؛ حيث إن إباحة المسح حكم ثابت على خلاف الدليل القائم - وهو: آية الوضوء الموجبة لغسل أعضاء الوضوء؛ - لعذر - وهو: المشقة غالبًا - وقد فصلت الكلام فيه في كتبي "الرخص الشرعية" و"الإتحاف" و"المهذب".

(3)

مسألة: المسح على الخفين ونحوهما أفضل من غسل الرجلين، للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم:"إن الله يحبُّ أن تؤتى رُخصه كما يحبُّ أن تؤتى عزائمه"، والمسح رخصة فيدخل تحت عموم الحديث؛ لأن "رخصة" منكر أضيف إلى معرفة، وهو من صيغ العموم، فيلزم أن يكون مفضَّلًا على الغَسْل لمن كان لابسهما فلا يخلع؛ لأجل الغَسْل، فإن قلتَ: لِمَ كان المسح أفضل؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن المسلم إذا علم أن المسح أفضل ازداد سرورًا مع كونه لم يشق على نفسه بخلع ما عليه، فهل هناك أيسر من هذا؟!.

(4)

مسألة: المسح على الخف ونحوه يرفع الحدث عن العضو المستور به - وهذا محدَّد بوقت معين سيأتي بيانه -؛ للقياس، بيانه: كما أن غسل العضو يرفع الحدث عنه، فكذلك مسح ما عليه يرفع الحدث عن العضو، والجامع: أن كلًّا منهما يُسمَّى طهارة بالماء، فإن قلتَ: لِمَ كان يرفع الحدث مع أن التيمم لا يرفعه؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك يجعل المسلم يُصلي بهذا المسح - بوقت المسح - أي: صلاة، ويمس المصحف، ويطوف بالكعبة، بخلاف التيمم: فإنه محدَّد بوقت معين وسيأتي.

(5)

مسألة: لا يُستحب أن يلبس الخفين ونحوهما من أجل المسح عليهما، بل يغسل قدميه إذا كانا مكشوفين، ويمسح إذا كانا مستورين بهما - في وقت المسح - أي: =

ص: 144

ومسافر لا يُباح له القصر (ولمسافر) سفرًا يُبيح القصر (ثلاثة) أيام (بلياليها)؛ لحديث علي يرفعه: "للمسافر ثلاثة أيام بلياليهن وللمقيم يوم وليلة" رواه مسلم، ويخلع عند انقضاء المدة، وإن خاف أو تضرَّر رفيقه بانتظاره: تيمم، فإن مسح وصلى: أعاد

(6)

،

يفعل ما كانت حالته عليها بدون تكلف؛ للسنة الفعلية؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك، فإن قلتَ: لِمَ لا يُستحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه إبعاد للتكلُّف الذي يُحرج المسلم عادة.

(6)

مسألة: مُدة مسح المقيم في البلد، أو الذي سافر سفرًا لا تُقصر له الصلاة - وهي: أقل من (82) كم - هي: يوم وليلة - أي: (24) ساعة -، ومدة مسح المسافر سفرًا تقصر له الصلاة - وهي:(82) كم فما فوق - هي: ثلاثة أيام بلياليها - وهي (82) ساعة -، فإذا انتهت هذه المدة - للمقيم أو المسافر - يجب عليه أن يخلع الخفين ونحوهما عند الوضوء؛ ليغسل الرجلين، أو يخلع العمامة، والخمار؛ ليمسح الرأس، فإن لم يخلع شيئًا - بعد انقضاء المدة - بسبب خوف من عدو، أو مرض، أو فوات رفيقه، أو تضرره: فإنه يتوضأ ويتيمم ويُصلي، فإن لم يتيمم في هذه الحالة: وصلى بدون تيمم: فإنه يتيمم ويُعيد الصلاة؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "للمسافر ثلاثة أيام بلياليهن، وللمقيم يوم وليلة" - كما رواه علي - حيث دل مفهوم العدد منه على: أن المقيم لا يجوز له المسح أكثر من يوم وليلة، وأنه يخلع ويغسل الرجلين بعد هذه المدة، وكذلك دلَّ على: عدم جواز المسح للمسافر أكثر من ثلاثة أيام، وأنه يخلع ويغسل الرجلين بعد هذه المدة، الثانية: القياس، بيانه: كما أنه يجوز التيمم مع وجود الماء؛ بسبب خوف من مرض أو عدو، فكذلك يجوز التيمم إن خاف من خلع الخفين بعد انقضاء المدة، والجامع: الخوف في كل وإزالة الضرر، وكذا: إن لم يتيمم ولم يتوضأ: بطلت صلاته، وكذلك إن لم يتيمم ولم يغسل رجليه: بطلت صلاته، والجامع: الخلو من أحد الطهارتين، فإن قلتَ: لِمَ =

ص: 145

وابتداء المدَّة: (من حَدَث بعد لُبس

(7)

على طاهر) العين، فلا يمسح على نجس

اختلفت مدة المسح هنا؟ قلتُ: لأن مشقة خلع الخفين في السفر وغسل الرجلين أكثر من مشقة خلعهما في الحضر والإقامة؛ لقلة المياه، وللخوف غالبًا في السفر، بخلاف الحضر، فإن قلتَ: لِمَ حُدِّد المسح للمقيم والمسافر في هذه المدة؟ قلتُ: لأن أغلب الأسفار لا تزيد عن ثلاثة أيام في العادة، ولأن هذه المدة مناسبة للمسح على الخف في الإقامة والسفر؛ فلو زاد المسح على هذه المدة في الإقامة والسفر: للحق الرِّجل الضرر بسبب عدم غسلها وعدم تعرضها للهواء الطلق، فإن قلتَ: لا يجوز المسح في الحضر؛ للمصلحة؛ حيث لا توجد مشقة فيه، وهذه رواية عن مالك، - كما جاء في "المعونة"(1/ 131)، - قلتُ: هذا اجتهاد بالمصلحة، ولا اجتهاد مع النص - وهو: حديث علي السابق - ثم المقيم يجد مشقة لكنها أخف من مشقة المسافر، فإن قلتَ: إن المسافر يمسح المدة التي يحتاجها دون تحديد؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "إذا توضأ أحدكم ولبس خفيه: فليصلِّ فيهما، وليمسح عليهما، ثم لا يخلعهما إن شاء إلا من جنابة" حيث إن هذا مطلق في مُدة المسح وحُمِل على المسافر؛ للمصلحة؛ حيث إن المقيم لا مشقة عنده كما سبق، وهو لبعض المالكية - كما جاء في "الإشراف" (1/ 132) - قلتُ: إن حديث علي السابق مُقيد بمدة وهي زيادة وذلك بمنطوقه ومفهومه، وهو يوم وليلة، للمقيم، وثلاثة للمسافر، وحديثكم مطلق، فيُحمل المطلق على المقيد، فنعمل بحديث علي؛ لكونه مقيدًا فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض السنتين" فعندنا: يُعمل بحديث علي؛ لكونه أتى بزيادة ثقة، فقيد بها الحديث المطلق، وعندهم: يُعمل بالمطلق، وكذا:"تعارض المصلحة مع السنة" فعندنا: يقدم الحديث دون المصلحة، وعندهم لا.

(7)

مسألة: تبدأ مدة المسح من حَدَث بعد لُبْس: فمثلًا: إذا توضأ المقيم لصلاة العصر من يوم السبت ثم لبس الخفين بعد ذلك مباشرة، ثم بقي على طهارته، ثم =

ص: 146

ولو في ضرورة

(8)

، ويتيمم معها لمستور

(9)

(مباح) فلا يجوز المسح على مغصوب، ولا على حرير لرجل؛ لأن لبسه معصية، فلا تُستباح به الرُّخصة

(10)

(ساتر

أحدث قبل صلاة المغرب ثم حضرت صلاة المغرب: فإنه يتوضأ ويمسح عليهما، فتبدأ مُدة المسح من قُبيل صلاة المغرب، ويستمر المسح إلى قبيل المغرب من يوم الأحد؛ للتلازم؛ حيث إن الخف قد جُعِل مانعًا من سراية الحَدَث إلى القدم، ومعنى المنع إنما يتحقق عند الحَدَث، فيلزم ذلك اعتبار ابتداء المدة من هذا الوقت؛ لأن هذه المدة ضُربت توسعة وتيسيرًا؛ نظرًا لتعذُّر خلع الخفين في وقت إرادة التطهر فيه، والحاجة إلى التوسعة عند الحدث لأن الحاجة إلى النزع تكون عنده، أي: إن الحدث سبب للوضوء فتُعتبر المدة من وقت السبب، وقد ذكر هذا السرخسي في "المبسوط"، وابن قدامة في "المغني" تنبيه: يُشترط فيما يُمسح عليه شروط أربعة سيأتي بيانها في المسائل الآتية:

(8)

مسألة: في الأول - من شروط ما يُمسح عليه - وهو: أن يكون طاهرًا، فلا يمسح على خف نجس سواء كانت النجاسة نجاسة عينية كخف مصنوع من جلد خنزير، أو كانت نجاسة طارئة كخف عليه بول أو غائط؛ للقياس، بيانه: كما أنه لا تصح الصلاة بثوب نجس فكذلك لا يصح المسح والصلاة بخف نجس، والجامع: أن كلًّا منهما ملبوس تُشترط طهارته في الصلاة، لوقوع التَّضاد بين النجاسة والطهارة، وهذا هو المقصد من هذا الشرط.

(9)

مسألة: إذا لبس خفًّا نجسًا؛ للضرورة: كأن يخشى على نفسه الهلاك من برد، أو عدو: فإنه يتوضأ، ولا يمسح عليه، ولا يخلعه، وإنما يتيمم عن غسل القدمين، وكذلك يفعل مع أي مستور بشيء نجس، وضعه ضرورة؛ للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية من الضرر، وفيه عدم المسح على نجس.

(10)

مسألة: في الثاني - من شروط ما يُمسح عليه - وهو: أن يكون مُباح اللبس: فلا يُمسح على خف محرم كأن يكون مسروقًا أو مغصوبًا، أو مصنوعًا من =

ص: 147

للمفروض) ولو بشدِّه، أو شرجه كالزربول الذي له ساق وعُرى يدخل بعضها في بعض، فلا يُمسح ما لا يستر محلَّ الفرض؛ لِقِصَره أو سعته

(11)

، أو صفائه

(12)

،

حرير أو ذهب أو فضة لرجل؛ للقياس، بيانه: كما أن المسافر سفر معصية لا يُباح له الترخُّص بالإفطار وقصر الصلاة فكذلك لا يُباح له المسح على خف محرم، والجامع: أن الرخصة لا تُستباح بالمعصية في كل، فلو أبيحت الرخصة بها: لكان ذلك إعانة له على تلك المعصية، وإقرارًا له على المنكر، وهذا لا يرد به الشرع، وهذا هو المقصد من هذا الشرط.

(11)

مسألة: في الثالث - من شروط ما يُمسح عليه - وهو: أن يكون ساترًا للمحلِّ المفروض غسله: بأن يكون قد غطى جميع الرِّجل ومعها الكعبان، ولو حصلت تلك التغطية بالشَّدِّ وربط بعض الخف ببعضه الآخر بخيوط - كما هو معروف الآن - فيجوز المسح عليه، لكن لا يجوز المسح على خف لا يستر كل الرِّجل بسبب قِصَره وصِغَره، أو بسبب سعته بحيث تخرج بعض الرِّجل عند المشي على الخف؛ للتلازم؛ حيث إن المقصد من مشروعية المسح هو: دفع مشقة النَّزع، والخف الذي توجد فيه هذه المشقة هو: الساتر لجميع المفروض غسله فيلزم اشتراطه، لكون القصير أو الواسع لا مشقة في نزعه.

(12)

مسألة: يُباح المسح على خف أو جورب رقيق شفاف ترى العين الرِّجل من خلاله بشرط: عدم وصول الماء إليها؛ للتلازم؛ حيث إن عدم وصول الماء إلى الرِّجل - وهذا هو المقصد من ستر المفروض غسله -: يلزم منه إباحة المسح على خف شفاف يصف البشرة؛ لحصول ذلك الشرط، وعدم تأذي الرجل بذلك الماء، وهذا المقصد من إباحة ذلك، فإن قلتَ: لا يباح المسح على ذلك، وهو ما ذكره المصنف هنا؛ للتلازم؛ حيث يلزم من عدم الشرط - وهو: ستر المفروض غسله - عدم إباحة المسح عليه، قلتُ: ليس المقصود بالستر للمفروض هنا هو: =

ص: 148

أو خرق فيه وإن صَغُر حتى موضع الخرز

(13)

، فإن انضم، ولم يبد منه

عدم رؤية الرِّجل بالعين، وإنما المقصود به: عدم وصول شيء من الماء الممسوح به إلى الرِّجل - كما سبق - فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "الاختلاف في تفسير "الستر" ما هو؟ " فعندنا: الساتر: ما يمنع وصول الماء، وعندهم: الساتر ما يمنع وصول الماء، ويمنع رؤية الرِّجل معًا.

(13)

مسألة: لا يجوز المسح على خف مخروق ترى الرِّجل من خلال هذا الخرق، سواء كان هذا الخرق كبيرًا، أو صغيرًا وسواء كان هذا الخرق من موضع الخرز والخياطة أو لا؛ للقياس، بيانه: كما أن الخف المخروق خرقًا كبيرًا لا يجوز المسح عليه اتفاقًا، فكذلك لا يجوز المسح على الخف المخروق خرقًا صغيرًا والجامع: أن كلًّا منهما لا يمنع الماء الممسوح به من الوصول إلى الرِّجل، واحتمال تضرر الرِّجل بهذا الماء؛ وفساد الخف، وظهور رائحة كريهة - وهذا هو المقصد من عدم الجواز هنا، فإن قلتَ: يُباح المسح على خف مخروق خرقًا صغيرًا وهو قول بعض الشافعية وتبعهم ابن تيمية وابن عثيمين؛ لقاعدتين: الأولى: السنة التقريرية؛ حيث إن الصحابة قد مسحوا على خفافهم، وكان يغلب عليها الخرق؛ نظرًا لفقرهم، ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، ولم يبين عدم جوازه، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، فدل ذلك على جوازه، الثانية: المصلحة؛ حيث إن المسح على خف مخروق فيه دفع مشقة وتيسير على الناس فجاز لذلك، قلتُ: أما السنة التقريرية فلا يصح الاستدلال بها هنا؛ لأن الفقر لا يدل على خرق خف الفقير؛ فقد يلبس الفقير أحسن الخفاف، ويلبس الغني ما دون ذلك، ثم لا نسلِّم أنه يغلب على خفافهم الخرق؟ بل العكس هو الصحيح؛ حيث يغلب على الظن سلامتها عند الصحابة؛ قياسًا على سلامة ثيابهم في الصلوات، والحكم للغالب، وعلى فرض أنه يوجد =

ص: 149

شيء: جاز المسح عليه

(14)

(يثبت بنفسه) فإن لم يثبت إلا بشدِّه: لم يجز المسح عليه، وإن ثبت بنعلين: مسح إلى خلعهما ما دامت مدته، ولا يجوز المسح على ما يسقط

(15)

(من خُفّ) بيان لطاهر، أي: يجوز المسح على خف يُمكن متابعة المشي

خرق في خفاف بعض الصحابة: فإنه يُحتمل أنه صلى الله عليه وسلم لم يعلم بذلك؛ لأنه لا يُنظر إلى الخفاف التي على الأرجل عادة، ويُحتمل أنه خرق قد انضم بعضه إلى بعض بحيث لا ترى الرِّجل، وإذا تطرق الاحتمال إلى الدليل بطل به الاستدلال، أما المصلحة: فلا نسلمها؛ لأن أصل المسح ثبت رخصة؛ وفقًا لمشقة النزع، والمسح بدل عن غسل الرِّجل، فلا بدَّ أن يكون البدل يسدُّ مسدَّ المبدل تمامًا، فيلزم على ذلك: أن يستر جميع ما يجب غسله، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض القياس مع السنة التقريرية" فعندنا: يقدم القياس؛ لعدم تطرق الاحتمال إليه، بخلاف السنة التقريرية حيث تطرق إليها الاحتمال وتطرق الاحتمال يُضعف الدليل، وعندهم: تقدَّم السنة التقريرية؛ لقوتها عندهم.

(14)

مسألة: إذا كان الخرق الذي في الخف يسيرًا، وانضم بعضه إلى بعض بحيث غلب على الظن عدم وصول الماء إلى داخل الخف أثناء المسح: فيجوز المسح عليه؛ للتلازم؛ حيث إن ستر المحل المفروض غسله قد وجد - وهو: شرط المسح كما سبق في مسألة (11) - فيلزم: جواز المسح نظرًا لتوفر شرطه.

(15)

مسألة: في الرابع والأخير - من شروط ما يُمسح عليه - وهو: أن يكون ثابتًا بنفسه عند متابعة المشي عليه بدون مشقة، سواء كان ثابتًا بشيء كنعل أو لا، فلا يُمسح على خف يسقط عند المشي أو الذي يحتاج إلى شدّ من حين إلى آخر؛ للمصلحة؛ حيث إن الذي لا يثبت بنفسه يشق المشي عليه، ويسهل خلعه وهذا لا تدعو الحاجة إلى لبسه، فلا تتعلق به رخصة، وهذا هو المقصد من هذا الشرط، تنبيه: الأشياء التي يُمسح عليها: ستة، سيأتي بيانها فيما يلي من المسائل:

ص: 150

فيه عرفًا، قال الإمام أحمد:"ليس في قلبي من المسح شيء، فيه أربعون حديثًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "

(16)

(وجورب صفيق) وهو: ما يُلبس في الرِّجل على هيئة الخف من غير الجلد؛ لأنه صلى الله عليه وسلم "مسح على الجوربين والنعلين" رواه أحمد وغيره، وصححه الترمذي

(17)

(ونحوهما) أي: نحو الخف والجورب كالجرموق، ويسمى "الموق"،

(16)

مسألة: في الأول - مما يُمسح عليه - وهو: الخف، وهو: كل ما يستر الرِّجل إلى ما فوق الكعبين من جلد - وهو الأغلب - أو خشب أو حديد أو زجاج أو نحو ذلك مما توفرت شروط أربعة - كما سبق في مسائل (8، 10، 11، و 15) -؛ لقاعدتين: الأولى: السنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد مسح على خف مصنوع من جلد، الثانية: القياس، بيانه: كما يجوز المسح على خف من جلد، فكذلك يُمسح على ما يُصنع من غيره، والجامع: مشقة النزع عند كل وضوء في الجميع، فإن قلتَ: لِمَ جاز المسح على ما صُنع من جلد، وما صنع من غيره؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه توسعة وتيسير على الناس؛ لأن بعض البلاد قد لا يصلح فيها الخف المصنوع من جلد، وبعض العباد قد لا يستطيع الحصول عليه.

(17)

مسألة: في الثاني - مما يُمسح عليه - وهو: الجورب، وهو: كل ما يستر الرِّجل إلى ما فوق الكعبين على صفة الخف من غير جلد كالصوف ونحوه - ويُسمى عندنا بـ "الشراب" - فهذا يُمسح عليه بشرط: كونه صفيقًا لاصقًا ببشرة الرِّجل؛ لقواعد: الأولى: السنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد مسح على الجوربين، والنعلين الملبوسين على الجوربين، الثانية: القياس؛ بيانه: كما يُمسح على الخف، فكذلك يُمسح على الجورب والجامع: مشقة النزع في كل، وهذا هو المقصد الشرعي، الثالثة: فعل الصحابي؛ حيث إن بعض الصحابة قد مسحوا على الجورب كعلي، وعمار، وابن مسعود، وأنس، وابن عمر، والبراء، وبلال، وابن أبي أوفى، وسهل بن سعد، فإن قلتَ: لِمَ اشتُرط كونه صفيقًا مع أن هذا بمعنى اشتراط "ثبوته بنفسه"؟ السابق ذكره في مسألة (15)؟ قلتُ: إنه كرَّر =

ص: 151

وهو: خف قصير، فيصح المسح عليه؛ "لفعله صلى الله عليه وسلم" رواه أحمد وغيره

(18)

(و) يصح المسح أيضًا (على عمامة) مباحة (لرجل) لا لامرأة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم "مسح على الخفين والعمامة" قال الترمذي: "حسن صحيح" هذا إذا كانت (محنَّكة) وهي: التي يدار منها تحت الحنك كَوْر - بفتح الكاف - فأكثر (أو ذات ذُؤابة) - بضم المعجمة وبعدها همزة مفتوحة - وهي: طرف العمامة المرخى، فلا يصح المسح على العمامة الصَّمَّاء، ويُشترط أيضًا: أن تكون ساترة لما لم تجر العادة بكشفه كمقدم الرأس والأذنين وجوانب الرأس فيُعفى عنه؛ لمشقة التحرُّز منه، بخلاف الخف، ويستحب مسحه معها

(19)

ذكر ذلك للتأكيد؛ والاهتمام به؛ لأن الغالب في الجورب: الخفة وعدم ثبوته بنفسه وظهور الرِّجل أثناء المشي فيه.

(18)

مسألة: في الثالث - مما يُمسح عليه - وهو: الجرموق، أو الموق، وهو: شيء يُشبه الخف ولكنه أوسع منه، يُلبس عادة فوق الخف - كما في "اللسان" (10/ 350) -؛ لقاعدتين: الأولى: السنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد مسح عليه - كما رواه ابن عمر - الثانية: القياس، بيانه: كما يُمسح على الخف فكذلك يُمسح على الجرموق والجامع: مشقة النزع في كل وهذا هو المقصد منه.

(19)

مسألة: في الرابع - مما يُمسح عليه - وهو: العمامة التي على رأس الرجل، فهذه يُمسح عليها بشرطين: أولهما: أن تكون محنَّكة - وهي التي يُدار منها شيء تحت الحنك والذقن - أو أن تكون ذات ذؤابة - وهي وجود طرف مُرْخَى منها في الخلف - فلا يصح - على هذا - المسح على عمامة خلت من أحد هذين وهي العمامة الصماء، ثانيهما: أن تكون هذه العمامة ساترة لجميع الرأس الذي جرت العادة بمسحه، أما ما جرت العادة بكشفه عند العرب كالأذنين، وجوانب الرأس، أو مقدمه: فلا يُشترط ستره بالعمامة، لكن، =

ص: 152

(و) على (خُمُر نساء مُدارة تحت حلوقهن)؛ لمشقة نزعها كالعمامة

(20)

، بخلاف

يستحب أن يمسح هذا المكشوف مع مسحه للعمامة؛ لقواعد: الأولى: السنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد مسح على عمامته وناصيته، الثانية: فعل الصحابي؛ حيث إن أبا بكر وعمر وأنس قد مسحوا على العمامة، الثالثة: القياس، بيانه: كما يجوز المسح على الخف فكذلك يجوز المسح على العمامة بالشرطين السابقين، والجامع: مشقة النزع في كل، وهذا هو المقصد من ذلك، فإن قلتَ: لِمَ خصص المسح على العمامة للرجل فقط؟ قلتُ: لتحريم لبس العمامة على المرأة؛ لأن في ذلك تشبُّه بالرجال فيدخل في عموم قوله صلى الله عليه وسلم: "لعن الله المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال" واللعن: عقاب، والعقاب لا يكون إلا على فعل محرم، فإن قلتَ: لِمَ اشتُرط في المسح عليها هذا الشرطان؟ قلتُ: لأنهما إذا توفرا فيها: أشبهت الخف في مشقة النزع، فتعلقت بها رخصة المسح، فإن قلتَ: لِمَ عُفي عن كشف الأذنين ومقدم الرأس وجوانبه؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن تغطية ذلك يشق ويصعب التحرر منه، نظرًا لكثرة العمل وتعرض ذلك للهواء، فدفعًا لذلك عُفي عن كشفه؛ بخلاف الخف فلا يعفى عن كشف شيء من الرِّجل؛ لعدم صعوبة ستره، فإن قلتَ: لِمَ استُحب مسح ما ظهر مع العمامة؟ قلتُ: للاحتياط للدِّين، ولإزالة ما علق عليه من غبار.

(20)

مسألة: في الخامس - مما يُمسح عليه - وهو: خمار المرأة، وهو: ما تغطي به المرأة رأسها وتستره به - كما في "المصباح"(181) - فهذا يمسح عليه بشرط: أن يكون قد أُدير على حلقها؛ لقاعدتين: الأولى: القياس، بيانه: كما جاز المسح على الخف والعمامة المحنكة، فكذلك يجوز المسح على الخمار المدارة على حلق المرأة، والجامع: مشقة النزع في كل، وهذا هو المقصد من مشروعية ذلك، =

ص: 153

وقاية الرأس

(21)

، وإنما يمسح جميع ما تقدم (في حدث أصغر) لا في حدث أكبر، بل يُغسل ما تحتها

(22)

(و) يمسح على (جبيرة) مشدودة على كسر أو جرح

الثانية: فعل الصحابي؛ حيث إن أمَّ سلمة قد مسحت على خمارها، تنبيه: كثير من العلماء قد خالف في المسح على العمامة والخمار، وسبب الخلاف هنا:"الاختلاف في صحة الأحاديث المثبتة للمسح على العمامة والخمار" فعندنا: صحيحة، وعندهم: لم تصح، وكذا:"وجود مشقة النزع كما وُجدت في الخف" فعندنا: موجودة، وعندهم: لا.

(21)

مسألة: لا يُمسح على كل شيء جُعل وقاية للرأس من حر أو برد كالطاقية، أو الغترة أو الشماغ أو نحو ذلك - مما لم نذكره فيما سبق -؛ للتلازم؛ حيث يلزم من عدم مشقة النزع لهذه الأشياء - كالطاقية وغيرها -: عدم جواز المسح عليها. [فرع]: يُشترط للمسح على الجورب، والجرموق، والعمامة، والخمار التوقيت بمدة، وهو: يوم وليلة للمقيم وثلاثة أيام بلياليها للمسافر؛ للقياس، بيانه: كما أن هذا التوقيت يُشترط للمسح على الخف - كما سبق في مسألة (6) - فكذلك يُشترط هذا في المسح على الجورب، والجرموق، والعمامة والخمار، والجامع: دفع الضرر عن الماسح؛ حيث إن عدم المسح قد يضر بكثير من الناس لمشقة النزع، والمسح بدون توقيت قد يضر بالمفروض غسله - وهو ما تحت الملبوس - لكن اختلفت مدة المسافر عن مدة المقيم؛ نظرًا لاختلاف المشقة، وهذا هو المقصد من هذا الشرط، وقد سبق ذلك في مسألة (6).

(22)

مسألة: المسح على خف وجورب وجرموق، وعمامة، وخمارٍ يجوز في الوضوء عن حَدَث أصغر كبول وغائط وريح، ولا يجوز المسح عليها في الاغتسال عن حَدَث أكبر: كجنابة وحيض ونفاس؛ للسنة القولية؛ حيث قال صفوان: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا إذا كنا مسافرين أن لا ننزع خفافنا ثلاثة =

ص: 154

ونحوهما (لم تتجاوز قدر الحاجة) وهو: موضع الجرح والكسر وما قرب منه، بحيث يحتاج إليه في شدِّها، فإن تعدَّى شدُّها محل الحاجة: نزعها، فإن خشي تلفًا أو ضررًا: تيمم لزائد

(23)

ودواء على البدن تضرر بقلعه كجبيرة في المسح

أيام ولياليهن إلا من جنابة، ولكن من غائط وبول ونوم" حيث دل هذا على نفي النزع للخف إذا أراد الشخص أن يتوضأ من حَدَث أصغر، بل يمسح عليه - إذا كان في المدة -، ودل على إثبات النزع ووجوبه إذا أراد الشخص أن يغتسل من حَدَث أكبر كجنابة فيغسل ما تحتها؛ لأن الاستثناء من النفي إثبات، والاغتسال من الحيض والنفاس مثل الجنابة؛ لعدم الفارق، ونزع الجورب والجرموق والعمامة والخمار كنزع الخف عند الاغتسال؛ لعدم الفارق والإقامة كالسفر في النزع وعدمه لحدث أكبر أو أصغر، لعدم الفارق، فيكون ما سبق من باب "مفهوم الموافقة"، فإن قلتَ: لِمَ لا يُنزع في الحدث الأصغر، بخلاف الحدث الأكبر؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن الحدث الأصغر يتكرر كثيرًا في اليوم والليلة، فلو خلع لكل وضوء: للحق الناس ضيق ومشقة فدفعاً لذلك: شرع عدم النزع، بخلاف الحدث الأكبر فإنه قليل الوقوع خاصة في الأسفار فلا يشق النزع.

(23)

مسألة: في السادس والأخير - مما يُمسح عليه - وهو: الجبيرة - وهي: العيدان أو الخرق أو القطن التي توضع على الكسر أو الجرح؛ ليلتئم، - فهذه يُمسح عليها بشرط: أن يكون الجبر على محل الجرح أو الكسر، بحيث لا يتجاوزه ولا يتعدَّاه، فإن احتاج إلى تجاوزه فإنه يفعل ذلك بقدر الحاجة ويمسح على الجميع، فإن زاد على ذلك وعلم هذا بعد أن فرغ من الجبر: فإنه يجب عليه نزع الزائد إن لم يخف ضررًا، فإن خافه فإنه يتركه ويتيمَّم له؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم - في صاحب الشجُّة -: "إنما يكفيه أن يتيمم ويعصب على جُرحه خِرقة ثم يمسح عليها" وهذا في الحدث الأكبر والأصغر مثله، الثانية: المصلحة؛ حيث إن نزع العيدان التي على الكسر أو الجرح عند كل =

ص: 155

عليه

(24)

(ولو في) حدثٍ (أكبر)؛ لحديث صاحب الشُّجة: "إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعضُد أو يعصب على جرحه خرقة ويمسح عليها، ويغسل سائر جسده" رواه أبو داود

(25)

والمسح عليها عزيمة

(26)

(إلى حلِّها) أي: يمسح على الجبيرة إلى حلِّها، أو

وضوء وغسل ما تحتها فيه مشقة عظيمة، بل قد يؤدي إلى الهلاك، وهو أشق بكثير من نزع الخف ونحوه، فدفعًا لذلك جاز المسح عليها، فإن قلتَ: لِمَ يتيمم؟ قلتُ: احتياطًا للبقعة التي لم تغسل.

(24)

مسألة: إذا كان في بدن الشخص شيء كدُمَّل، أو شقٍّ أو نحوه وخشي إن مسَّه الماء يتضرر بتأخر الشفاء أو بألم أو نحو ذلك: فإنه لا يغسله بالماء، بل يمسح عليه، ويغسل باقي البدن، ويتيمم؛ للقياس، بيانه: كما أنه يمسح على الجبيرة فكذلك هنا، والجامع: دفع الضرر من الغسل في كل، وهو المقصد من هذا الحكم.

(25)

مسألة: يُمسح على الجبيرة عند كل وضوء وكل غُسل؛ للسنة القولية؛ حيث إن صاحب الشجة الذي أصابته جنابة في سفر، سأل أصحابه، فقالوا: لا نجد لك رخصة في التيمم مع وجود الماء فاغتسل، فمات، فلما علم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، قال:"إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصب على جرحه خرقة ثم يمسح عليها ثم يغسل سائر جسده" حيث دل منطوقه على جواز المسح على الجبيرة في الحدث الأكبر، ودل مفهوم الموافقة الأولى على جواز المسح على الجبيرة في الحدث الأصغر، فإن قلتَ: لِمَ شرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه مفسدة وصول الماء إلى الجرح فيهلك كما هلك صاحب الشجة.

(26)

مسألة: المسح على الجبيرة رخصة واجبة لقاعدتين: الأولى: القياس، بيانه: كما أن أكل الميتة للمضطر رخصة واجبة؛ فكذلك المسح على الجبيرة مثله، والجامع: دفع الضرر الغالب على الظن في كل، الثانية: التلازم؛ حيث يلزم من =

ص: 156

برء ما تحتها وليس مؤقتًا كالمسح على الخفين ونحوهما؛ لأن مسحها للضرورة فيتقدَّر بقدرها

(27)

(إذا لبس ذلك) أي: ما تقدم من الخفين ونحوهما، والعمامة، والخمار، والجبيرة (بعد كمال الطهارة) بالماء ولو مسح فيها على حائل، أو تيمم لجرح، فلو غسل رِجْلًا ثم أدخلها الخف: خلع ثم لبس بعد غسل الأخرى، ولو نوي جُنب رفع حدثه، وغسل رجليه، وأدخلهما الخف، ثم تمم طهارته، أو مسح

كون المسح على الجبيرة حكم ثابت على خلاف الدليل؛ لعذر: أن يكون رخصة؛ لأن هذا هو حدُّ الرخصة، فإن قلتَ: كيف يكون رخصة مع أنه واجب؟ قلتُ: لأن حقيقة الرخصة قد وجدت في المسح على الجبيرة، والوجوب قدر زائد على الإباحة، ولا يدخل في مسمَّى الرخصة، ولكنه شيء يجوز أن يجامع الحل - كما قال ذلك ابن السبكي في "الأشباه والنظائر" (650) - وقد بينته في كتابي:"الرخص الشرعية وإثباتها بالقياس" فإن قلتَ: إن المسح على الجبيرة عزيمة وهو قول المصنف هنا؟ قلتُ: لم أجد دليلًا على ذلك. فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "هل الوجوب يجتمع مع الرخصة أو لا؟ " فعندنا: يجتمع، وعندهم: لا.

(27)

مسألة: لا وقت محدد للمسح على الجبيرة، بل يمسح عليها من وقت وضعها إلى أن يبرأ الكسر أو الجرح وإزالة تلك العيدان سواء طال الوقت، أو قصر؛ للقياس، بيانه: كما يجوز للمضطر الأكل من الميتة ويستمر في ذلك حتى يجد الأكل المعتاد بدون تحديد مدة فكذلك الماسح على الجبيرة يمسح حتى يبرأ جرحه، والجامع: أن كلًا منهما رخصة واجبة ثبتت ضرورة، والضرورة تقدَّر بقدرها سواء طال الزمن أو قصر، وهذا هو المقصود من عدم تحديد وقت للمسح عليها، بخلاف المسح على غيرها من خف وغيره حيث شرع لدفع مشقة النزع فقط.

ص: 157

رأسه ثم لبس العمامة ثم غسل رجليه، أو تيمم ولبس الخف أو غيره: لم يمسح

(28)

(28)

مسألة: يُشترط في المسح على الأشياء الخمسة - وهي: الخف، والجورب، والجرموق، والعمامة، والخمار -: أن تكون ملبوسة على طهارة كاملة: بأن يتوضأ أو يغتسل بالماء وضوءًا أو غسلًا كاملًا، فإذا فرغ: يلبس هذه الأشياء، فإذا أحدث بعد ذلك وأراد الوضوء يمسح، وبناء على ذلك: لو غسل رجلًا ثم أدخلها الخف، ثم غسل الرِّجل الأخرى فأدخلها الخف الآخر، أو أنه على جنابة، وأراد بالغُسل رفع الحدث الأكبر والأصغر، فبدأ برجليه فغسلهما وأدخلهما الخفين، ثم تمم طهارته بغسل سائر جسده، أو أنه لما غسل وجهه ويديه ومسح رأسه لبس العمامة، أو لبست المرأة الخمار، ثم غسلا رجليهما، أو أنه تيمم؛ لعدم وجود الماء، ثم لبس خفيه، ثم صلى، ثم وجد الماء: فإنه في هذه الحالات وغيرها مما شابهها لا يجوز له المسح إذا أحدث وتوضأ، بل لابد من خلع ما لبسه وغسل ما تحته؛ حيث إنه لبس الخف أو غيره في هذه الحالات قبل كمال الطهارة، أو لبس في حال عدم القدرة على الماء - في التيمم - فقدر بعد ذلك عليه؛ فيلزم عدم صحة المسح؛ لتخلُّف شرط المسح؛ للسنة القولية؛ حيث قال المغيرة: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم، فلما فرغ من مسح رأسه أهويتُ لأنزع خفيه، فقال:"دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين" فيلزم من هذا اللفظ: أنه أدخلهما في حال كون الرِّجلين طاهرتين معًا بالماء، وإدخال الخف في الرِّجل الأولى بعد غسلها وقبل غسل الأخرى، أو لبس العمامة قبل الرِّجلين: لا يُطلق عليه أنه لبس بعد كمال الطهارة، وغير الخف من الممسوحات كالخف في ذلك؛ لعدم الفارق، ومن تيمم ثم لبس، ثم وجد الماء بطل لبسه؛ لبطلان تيممه فلا يطلق عليه أنه لبس على طهارة، وهذا كله من باب "مفهوم الموافقة".

ص: 158

ولو جبيرة، فإن خاف نزعها تيمَّم

(29)

، ويمسح مَنْ به سلسُ بول أو نحوه إذا لبس بعد الطهارة؛ لأنها كاملة في حقِّه، فإن زال عذره: لزمه الخلع واستئناف الطهارة كالمتيمم يجد الماء

(30)

(وإن مسح في سفر ثم أقام): أتمَّ مسحُ مقيم إن بقي منه شيء،

(29)

مسألة: يجوز المسح على الجبيرة ولو لُبست بدون طهارة وبدون تيمم؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم في حديث صاحب الشجة -: "ويمسح عليها" وهذا مطلق؛ حيث لم يُبين أنه على طهارة أو لا، ولم يوجد مقيِّدٌ له، فيعمل به على إطلاقه، الثانية: المصلحة؛ حيث إن تأخير الجبر إلى أن يتطهر صاحب الكسر أو الجرح يؤدي إلى الإضرار به، فدفعًا لذلك: شرع عدم اشتراط الطهارة هنا، فإن قلتَ: تُشترط الطهارة في المسح على الجبيرة؛ فإن خاف نزعها: تيمم عنها - كما ذكر المصنف هنا -؛ للقياس، بيانه: كما تُشترط الطهارة في المسح على الخف وغيره من الممسوحات فكذلك تشترط في الجبيرة والجامع: أن كلًا منها حائل دون غسل البشرة، قلتُ: نعم إن الأصل أن هذا يُشترط في الكل، ولكن الجبيرة خُصِّصت بمخصِّصين هما: السنة القولية، والمصلحة كما سبق ذكرهما، ثم إن قياسكم فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ حيث إن الكسر أو الجرح يأتي فجأة، وإذا أصابه الماء يتضرر هذا الكسر أو الجرح - كما يقوله الأطباء - بخلاف الخف وغيره من الممسوحات فلا يكون فيه ذلك، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض مطلق السنة مع القياس" فعندنا: يُعمل بالمطلق ولا يقوى القياس على تقييده، وعندهم: القياس قد قيد مطلق السنة.

(30)

مسألة: إذا أصيب الإنسان بنجاسة مستمر خروجها كمن به سلس بول، أو قروح سيَّالة، أو دوام ريح، أو امرأة تُستحاض: فإنه إذا تطهر طهارة كاملة، ولبس خفًا أو غيره من الممسوحات: يمسح عليها عند الوضوء، أما إذا زال عذره وشُفي: فلا يمسح ولو كان في مدة المسح، للقياس، بيانه: كما أن =

ص: 159

وإلا خلع (أو عكس) أي: مسح مقيمًا ثم سافر: لم يزد على مسح مقيم؛ تغليبًا لجانب الحضر (أو شكَّ في ابتدائه) أي: ابتداء المسح هل كان حضرًا أو سفرًا؟ (فمسح مقيم) أي: فيمسح تتمة يوم وليلة فقط؛ لأنه المتيقن

(31)

(وإن أحدث) في

المتيمم، لفقد الماء يلبس الخف ويمسح عليه مدة المسح - السابقة الذكر - فإذا وجد الماء: بطل التيمم، ولا يمسح بعد ذلك ولو كان في مدة المسح فكذلك صاحب هذا العذر - وهو من به سلس بول مثلًا - يمسح المدة المحددة، فإذا زال عذره وشُفي: لا يمسح ولو كان في مدة المسح، والجامع: أن كلًا منهما لبس هذه الأشياء على طهارة كاملة في حقه، فصح المسح، فلما زال عذر كل واحد منهما: بطلت طهارتهما، فلا يمسح، وعليه نزع ما لبسه وغسل ما تحته.

(31)

مسألة: يمسح الشخص مسح مقيم - وهو يوم وليلة فقط في أربع حالات هي: الحالة الأولى: إذا كان موصوفًا بالإقامة بالحضر وهذا واضح، الحالة الثانية: إذا لبس مسافر خفه على طهارة، ثم أحدث، وقبل وصوله إلى بلده توضأ ومسح عليه، ثم وصل إليه: فإنه يُتم مسح مقيم - إن بقي من المدة وهي "يوم وليلة" - شيء، وإن لم يبق: خلع وغسل رجليه، الحالة الثالثة: إذا لبس مقيم خفه، ثم أحدث وتوضأ ثم مسح عليه، وصلى، ثم سافر: فإنه يتم مسح مقيم، الحالة الرابعة: إذا شك في ابتداء المسح: فلا يدري هل ابتدأ بالمسح على الخفين في حالة إقامته، أو في حال سفره؟: فإنه يتم مسح مقيم؛ للاستصحاب؛ حيث إن الأصل غسل القدمين، فإذا اشترك زمنان: زمن إقامة وزمن سفر في مسح: فإنا نقدم أقل المدة التي تُسرعُ بالعمل بالأصل - وهو: غسل القدمين -؛ تغليبًا لجانب الحظر على جانب الإباحة، فإن قلتَ: لِمَ يمسح مسح مقيم؟ قلتُ: للاحتياط في الدِّين، والأخذ باليقين، والابتعاد عما فيه شك واحتمال، فإن قلتَ: إنه في الحالة الثالثة يمسح مسح مسافر، وهو قول أكثر =

ص: 160

الحضر (ثم سافر قبل مسحه: فمسح مسافر)؛ لأنه ابتدأ المسح مسافرًا

(32)

(ولا يمسح قلانس): جمع قلنسوة، وهي المبطَّنات كدنيَّات القضاة، والنَّوميِّات، قال في "مجمع البحرين":"على هيئة ما تتخذه الصوفية الآن"(و) لا يمسح (لفافة) وهي: الخرقة تشدُّ على الرِّجل تحتها نعل أو لا، ولو مع مشقة؛ لعدم ثبوتها بنفسها (ولا) يمسح (ما يسقط من القدم أو) خفًا (يُرى منه بعضه) أي: بعض القدم، أو شيء من

الحنفية ورواية عن أحمد؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "للمسافر ثلاثة أيام بلياليهن" فإذا مسح ثم سافر: فإنه يصدق عليه وصف السفر، فتكون عليه أحكام المسافر، قلتُ: إن هذا يحتمل أن المراد بالنص: المسافر الذي يسافر قبل مسحه الخف، ويحتمل غير ذلك، وإذا تطرق الاحتمال إلى الدليل بطل به الاستدلال، والاستصحاب المذكور أحوط للدِّين فيُعمل به فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "الاختلاف في المراد بالمسافر الوارد في نص الحديث".

(32)

مسألة: يمسح الشخص مسح مسافر - ثلاثة أيام بلياليها - في حالتين: الحالة الأولى: إذا لبس خفه وهو مسافر وانتهت مدته وهو موصوف بالسفر وهذا واضح، الحالة الثانية: إذا لبس خفه وهو مُقيم، ثم أحدث، ثم سافر قبل أن يتوضأ وقبل المسح: فإنه يتم مسح مسافر؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "للمسافر ثلاثة أيام بلياليهن"، وهذا ابتدأ المسح الفعلي في حال السفر، فيكون موصوفًا بالسفر، فيلزم أن يكون له ما للمسافر من الرخص، ومنها المسح، فإن قلتَ: لم يمسح مسح مسافر أنه لبس وهو مقيم؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تيسير وتوسعة؛ حيث عومل معاملة من لبس في حال السفر، تنبيه: كل ما قيل في الخف فيما سبق من المسائل يقال في الجورب، والجرموق، والعمامة، والخمار، ولا فرق.

ص: 161

محل الفرض؛ لأن ما ظهر: فرضه الغَسْل، ولا يُجامع المسح

(33)

(فإن لبس خفًا على خف قبل الحَدَث) ولو مع خرق أحد الخفين: فالحكم للـ) خف الـ (فوقاني)؛

(33)

مسألة: الأشياء التي لا يجوز المسح عليها هي: أولًا: القلنسوة، وهي التي تسمى بالعمامة الصماء، وهي قريبة من "الطاقية" عندنا، وهي التي توضع على الرأس، يلبسها من يتولى القضاء، وهي حمراء اللون كثيرًا، وبعضهم يلبسها عند النوم لذلك تسمى بالنوميات، ثانيًا: اللُّفافة، وهي: أن يلف الإنسان على رجله خرقة ويشدُّها عليها: سواء كان تحت هذه اللفافة نعل أو لا، ثالثًا: الخف الذي يسقط من القدم عند المشي عليه، رابعًا: الخف الذي يُرى منه بعض القدم، وهو: الخف المخروق؛ للتلازم؛ حيث يلزم من اشتراط التحنيك للعمامة، أو كونها ذات ذؤابة - كما سبق في مسألة (19) -: عدم جواز المسح على القلنسوة، ويلزم من اشتراط كون الخف يثبت بنفسه - كما سبق في مسألة (15): عدم جواز المسح على اللفافة، وعلى الخف غير الثابت، ويلزم من اشتراط كون الخف ساترًا للمحل المفروض غسله - كما سبق في مسألة (11) -: عدم جواز المسح على خف يُرى منه بعض القدم، أو مخروق، وقد سبق بيانه في مسألة (13) - أيضًا -، فإن قلتَ: اللفافة يجوز المسح عليها، وهو قول بعض العلماء كابن تيمية وتبعه ابن عثيمين، للقياس، بيانه: كما يجوز المسح على الخف فكذلك يجوز المسح على اللفافة، والجامع: مشقة النزع في كل، بل إن نزع اللفافة أشق من نزع الخف، فيكون قياسًا أولى، قلتُ: هذا قياس فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ لأن اللفافة لا ضابط لها: فقد يتساهل بعضهم فيها ويضع خرقة بالية على القدم، وقد يتشدد فيها بعض الناس، بخلاف الخف: فإن له ضابط معروف بأوصاف معتادة عند كل الناس، ومع هذا الفارق: فلا قياس. فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "الخلاف في اللفافة هل تشبه الخف في الثبوت؟ " فعندنا: لا تشبهها، وعندهم: نعم.

ص: 162

لأنه ساتر، فأشبه المنفرد، وكذا: لو لبسه على لفافة،

(34)

وإن كانا مخرَّقين: لم يجز المسح ولو سترا،

(35)

وإن أدخل يده من تحت الفوقاني ومسح الذي تحته: جاز،

(36)

وإن أحدث، ثم لبس الفوقاني قبل مسح التحتاني أو بعده: لم يمسح الفوقاني، بل

(34)

مسألة: إذا تطهر، ثم لبس خفًا، ثم لبس عليه خفًا آخر، أو تطهر ثم لبس لفافة، ثم لبس عليها خفًا وهذا قبل الحدث، ثم أحدث وأراد الوضوء: فإنه يمسح على الخف الفوقاني في الصورتين؛ للقياس، بيانه: كما جاز المسح على الخف المنفرد، فكذلك يجوز المسح على الخف الملبوس على خف آخر، أو على لفافة، والجامع: ثبوته بنفسه، وستر المحل، مشقة النزع، وهذا هو المقصد منه.

(35)

مسألة: إذا تطهر، ثم لبس خفًا مخروقًا، ثم لبس عليه خفًا آخر مخروقًا أيضًا قبل أن يُحدث، ثم أحدث وأراد الوضوء: فلا يجوز المسح على الفوقاني ولا التحتاني: سواء سترا المحل المفروض غسله أو لا؛ للقياس، بيانه: كما لا يجوز المسح على الخف المخروق المنفرد - كما سبق في مسألة (13) - فكذلك لا يجوز المسح على خف مخروق ملبوس على خف مخروق آخر، والجامع: عدم صلاحية الخف للمسح عليه في كل؛ نظرًا لخرقه، فإن قلتَ: لِمَ لا يجوز المسح هنا؟ قلتُ: لاحتمال وصول بعض الماء إلى القدم؛ نظرًا لاحتمال تطابق الخرقين فيكون - بذلك - جامعًا بين المسح والغسل، وهذا لا يجوز، وقد يؤدي إلى الإضرار بالقدم والخف.

(36)

مسألة: إذا لبس خفًا على خف بعد كمال الطهارة، فلما أحدث وأراد الوضوء: لم يمسح على الفوقاني، بل أدخل يده فمسح على التحتاني: فإن هذا يجوز؛ للتلازم؛ حيث إن كل واحد منهما يصح المسح عليه فيلزم منه: صحة المسح على التحتاني فقط.

ص: 163

ما تحته

(37)

ولو نزع الفوقاني بعد مسحه: لزم نزع ما تحته

(38)

(ويمسح) وجوبًا (أكثر العمامة) ويختصُّ ذلك بدوائرها (و) يمسح أكثر (ظاهر قدم الخف) والجرموق، والجورب،

(39)

وسُنَّ أن يمسح بأصابع يده (من أصابعه) أي: أصابع

(37)

مسألة: إذا تطهر ثم لبس خفًا، ثم أحدث، ثم لبس خفًا آخر فوق الأول قبل أن يمسح على التحتاني في تطهر، أو أنه تطهر ثم لبس خفًا، ثم أحدث، ثم أراد الوضوء فمسح عليه، ثم صلى، ثم لبس خفًا آخر فوقه، ثم أحدث وأراد الوضوء: فإنه لا يجوز المسح على الفوقاني في الحالتين بل يخلعه ويمسح على التحتاني؛ للتلازم؛ حيث يلزم من لبسه للفوقاني على غير طهارة: عدم صحة المسح عليه؛ لفقدانه شرط المسح وهو أن يلبس على طهارة كما سبق في مسألة (28).

(38)

مسألة: إذا تطهر، ثم لبس خفًا، ثم لبس خفًا آخر فوقه، ثم أحدث، وأراد الوضوء فمسح على الفوقاني، ثم صلى، ثم بعد ذلك نزع الفوقاني: فلا يجوز المسح على التحتاني إذا أراد الوضوء، بل ينزعه، ويغسل القدم؛ للتلازم؛ حيث إنه قد ابتدأ بمسح الفوقاني، ثم أزاله بنزعه فيلزم منه: عدم جواز المسح على التحتاني؛ لكون محل المسح الأول قد زال، فلا يُكمَّل بالثاني؛ لئلا يقع تلفيق: يمسح على هذا مرة ويمسح على هذا مرة، وهذا هو المقصد منه.

(39)

مسألة: يجب أن يمسح الرَّجل أكثر العمامة خاصة دوائرها وأكوارها، وتمسح المرأة أكثر خمارها، ويجب عليهما: أن يمسحان أكثر ظاهر الخف والجورب والجرموق؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال المغيرة: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح ظاهر خفيه" فيلزم من ذلك: أنه مسح أكثر ما ظهر من الخف، الثانية: القياس، بيانه: كما أنه يجب مسح أكثر ما ظهر من الخف فكذلك يُمسح أكثر العمامة والخمار والجورب والجرموق، والجامع: أن كلًا منها ممسوح قد غطى به شيئًا مغسولًا فأجزأ مسح أكثر ظاهره؛ تيسيرًا وتسهيلًا على الناس، وهذا هو المقصد منه.

ص: 164

رجليه (إلى ساقه): يمسح رجله اليُمنى بيده اليُمنى، ورجله اليُسرى بيده اليُسرى، ويُفرِّج أصابعه إذا مسح، وكيف مسح: أجزأ،

(40)

ويكره غسله، وتكرار مسحه

(41)

(دون أسفله) أي: أسفل الخف (وعَقِبهِ) فلا يُسنُّ مسحهما، ولا يجزيء لو اقتصر عليه

(42)

(و) يمسح وجوبًا (على جميع الجبيرة)؛ لما تقدم من حديث

(40)

مسألة: طريقة المسح على الخف ونحوه المستحب: أن يُبلل ثلاثة من أصابع يده اليُمنى ويُلصقها بظاهر الخف الذي على الرِّجل اليمنى بادئًا مما يُحاذي أصابع هذه الرِّجل ومنتهيًا بأول ساقها، مُفرِّقًا تلك الأصابع، ويفعل بيده اليُسرى ويمسح بها الخف الذي على الرِّجل اليُسرى مثل ما سبق، وأي شيء يُسمَّى مسحًا: يجزيء - ولو لم يفعل ما سبق -؛ للسنة الفعلية، وهي من وجهين: أولهما: "أنه صلى الله عليه وسلم قد مسح ظاهر خفيه بيده" - كما قال المغيرة - ويلزم من لفظ "يده": أنه مسح بأصابعه؛ لأنها هي آلة المسح، ويلزم من كون أقل الجمع ثلاثة - كما قلتُ في كتابي: أقل الجمع عند الأصوليين -: أنه يكفي المسح بثلاثة أصابع، وهذا مطلق؛ حيث لم تتبيَّن الطريقة التي مسح بها صلى الله عليه وسلم فيلزم من ذلك: إجزاء كل طريقة في المسح، ثانيهما:"أنه صلى الله عليه وسلم يعجبه التيامن في شأنه كله" - كما قالت عائشة -، وهذا يشمل ما نحن فيه، فيُستحب التيامن هنا.

(41)

مسألة: يُكره أن يغسل ما عليه من خف ونحوه، ويُكره أن يُكرِّر مسحه عدة مرات، للمصلحة؛ حيث إن ذلك سيؤدي إلى وصول الماء إلى الرِّجل أو الرأس، وإلى تضرُّر الخف ونحوه من الممسوحات من كثرة الماء، فدفعًا لذلك: حكم بالكراهية هنا، وهو يُعتبر من إضاعة المال المنهي عنه.

(42)

مسألة: إذا مسح على أسفل الخف ونحوه - وهو ما يطأ به الأرض - أو مسح على عقبه - وهو: مؤخر العرقوب مع ظاهر الخف: فلا بأس بذلك، لكن المستحب الاقتصار على ظاهر الخف، ولو اقتصر على مسح أسفل الخف =

ص: 165

صاحب الشجة

(43)

(ومتى ظهر بعض محل الفرض) ممن مسح (بعد الحدث) بخرق

أو عقبه دون ظاهره: فلا يُجزيء هذا المسح ولا يصح؛ للسنة الفعلية؛ حيث قال المغيرة: "رأيتُ النبي صلى الله عليه وسلم يمسح ظاهر الخفين" حيث دل مفهوم الصفة على عدم جواز المسح على أسفلهما وعقبهما فقط، لكن إن مسحهما مع ظاهر الخف: أجزأ ولكنه خلاف السنة، فإن قلتَ: لِمَ لا يُستحب مسح أسفل الخف مع ظاهره؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إنه يحتمل أن يكون في أسفله بعض النجاسات؛ فإذا مسحه: تنجست يده، فدفعًا لذلك شرع عدم الاستحباب، فإن قلتَ: يُستحب مسح أسفل الخف مع ظاهره؛ لقاعدتين: الأولى: السنة الفعلية؛ حيث قال المغيرة "فمسح رسول الله صلى الله عليه وسلم على أعلى الخف وأسفله"، الثانية: فعل الصحابي؛ حيث إن ابن عمر "قد مسح على أسفل الخف وأعلاه" قلتُ: أما خبر المغيرة: فهو ضعيف، ضعفه أبو زرعة وأحمد، وأما فعل الصحابي: ابن عمر: فهو اجتهاد منه، ولا يحتج به؛ لأنه معارض للسنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد مسح على ظاهر الخف فقط، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلت: سببه: "تعارض السنتين الفعليتين" فعندنا: تقدم الأولى لقوتها، وضعف الأخرى، وعندهم: يُعمل بهما معًا؛ لأن الثانية أتت بزيادة من ثقة فتقبل، وكذا:"تعارض السنة الفعلية فعل الصحابي" فعندنا: يُعمل بالسنة، وعندهم: يُعمل بفعل الصحابي؛ لإتيانه بزيادة.

(43)

مسألة: يجب أن يُمسح على جميع الجبيرة - ظاهرها وأسفلها وجوانبها - بشرط: عدم التضرُّر بذلك، فإن غلب على ظنه الضرر بذلك: فإنه يمسح ما يستطيعه منها، ويتيمم للباقي؛ للسنة القولية، حيثُ قال صلى الله عليه وسلم في صاحب الشجة -:"ثم يمسح عليها" حيث يلزم من هذا اللفظ: أن يُعمِّم المسح على جميع أجزاء الجبيرة؛ لأن الضمير في قوله: "عليها" راجع إلى الجبيرة والتقدير: "ثم يمسح على الجبيرة -" و"الجبيرة" مفرد محلى بأل وهذا من صيغ العموم، =

ص: 166

الخف، أو خروج بعض القدم إلى ساق الخف، أو ظهر بعض الرأس وفحش، أو زالت جبيرة: استأنف الطهارة، فإن تطهر ولبس الخف ولم يُحدث: لم تبطل طهارته بخلعه، ولو كان توضأ تجديدًا ومسح (أو تمت مدته) أي: مدة المسح: (استأنف الطهارة) ولو في صلاة؛ لأن المسح أقيم مقام الغسل، فإذا زال، أو انقضت مدته: بطلت الطهارة في الممسوح فتبطل في جميعها؛ لكونها لا تتبعَّض

(44)

.

فيشمل جميع أجزائها، فإن قلتَ: لِمَ يُمسح عليها جميعًا، بخلاف الخف فيمسح على ظاهره؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إنه لا ضرر في المسح عليها جميعًا؛ لعدم دخول الماء تحتها وعدم نجاستها، وعدم المشقة، أما الخف فتوجد مشقة في مسحه كله ويوجد احتمال نجاسة في أسفله، فاختلفا، ونظرًا لذلك اختلف الحكم، فإن قلتَ: لِمَ سقط تعميم مسح الجبيرة عند وجود الضرر؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث لا ضرر ولا ضرار في الإسلام.

(44)

مسألة: يُبطل المسح على ما سبق ويُبطل الطهارة أمران: أولهما: تمام مدة المسح، أي: إذا تطهر ثم لبس الخف، ثم تمت مدة المسح للمقيم أو المسافر أو خلع بعد الحدث وقبل انتهاء المدة، فإن الطهارة تبطل وإن كان قد توضأ ومسح، وعليه أن يقطع صلاته - إن كان في صلاة - ويُعيد الطهارة مع غسل القدمين بالماء، ثانيهما: ظهور بعض المحل المفروض غسله بعد الحدث، أي: إذا تطهر ثم لبس الخف، ثم أحدث، ثم توضأ ومسح، ثم ظهر من الرِّجل بعض أصابعه: فإن طهارته تبطل، ويجب عليه أن يخلع، ويتوضأ ويغسل رجليه؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية، حيث قال صلى الله عليه وسلم:"ثلاثة أيام بلياليهن للمسافر وللمقيم يوم وليلة" حيث إن مفهوم العدد يدل على بطلان المسح حين انتهاء هذه المدَّة، وهذا يلزم منه بطلان الطهارة في الممسوح، فيرجع الأمر إلى الغسل؛ =

ص: 167

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

إذ لو لم تبطل الطهارة بانتهاء هذه المدة: لما كانت هناك فائدة في هذا التحديد بهذه المدة؛ ولا تبطل الطهارة في الرِّجلين فقط؛ لكون الطهارة لا تتبعَّض الثانية: القياس: بيانه: كما أنه لو أدخل قدمه في الخف فأحدث قبل استقرار هذه الخف: فإنه لا يجوز المسح عليه، فكذلك إذا ظهر بعض المحل المفروض غسله بعد الحدث لا يجوز المسح على الخف فيه، والجامع: عدم الاستقرار في كل، ومعروف: أن استقرار وثبوت الممسوح عليه شرط للمسح، فإن قلتَ: لِمَ بطلت الطهارة في الأمر الأول؟ قلتُ: نظرًا لسراية الحدث السابق إلى الرِّجلين فلما بطلت الطهارة في عضو: بطلت في سائر الأعضاء؛ لأن الطهارة لا تتبعض، ولاشتراط الموالاة في الوضوء؛ لكون الوضوء عبادة واحدة، فإن قلتَ: لِمَ بطلت الطهارة في الأمر الثاني؟ قلتُ: لأن حكم ما ظهر من الرِّجل: الغسْل، وحكم ما استتر بالخف: المسح، فإذا اجتمع ظهور بعض البشرة، وخفاء بعضها الآخر: غُلِّب حكم الغسل؛ لأنه هو الأصل، ولا يمكن الجمع بين البدل والمبدل، ولحصول مفسدة دخول بعض الماء إلى داخل الخف، فإن قلتَ: لِمَ قُيِّد الأمر الثاني بالمسح بعد الحدث؟ قلتُ: لأنه إذا تطهر، ثم لبس الخف، ثم خلع ذلك قبل الحدث، أو أنه لم يُحدث ولكنه توضأ مسنونًا - كتجديد الوضوء -: فلا تبطل طهارته؛ للاستصحاب، حيث إن الطهارة السابقة باقية على ما هي عليه؛ إذ لم يوجد حَدَث بعدها، فنستصحبها ونعمل بها، فإن قلتَ: إن هذين الأمرين لا يُبطلان الطهارة، وإنما يُبطلان المسح، فيُصلي بذلك حتى يُحدث، =

ص: 168

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وهو قول الحسن البصري وسليمان بن حرب، وابن تيمية وابن عثيمين؛ للاستصحاب؛ حيث إن المسلم قد تطهر ومسح قبل الخلع أو انقضاء المدة، أو ظهور بعض محل الفرض، والطهارة لا تبطل إلا بالحَدَث، وهذه الأمور - وهي: تمام مدة المسح، والخلع بعد الحدث وقبل تمام المدة، وظهور بعض المحل المفروض غسله - ليست بأحداث ولا من نواقض الطهارة، فتبقى الطهارة على ما هي عليه، فيُصلي بها حتى يُحدث، قلتُ: إن الاستصحاب غير صحيح؛ لوجود شيء يُغيِّر الحالة؛ حيث إن الحدث السابق على آخر مسح هو: المبطل للطهارة حقيقة: حيث إنه أحدث ثم مسح - لأجل التطهر - وعفى الشارع عن هذا؛ رخصة، نظرًا لمشقة النزع عند كل وضوء في خلال تلك المدة، لكن لما وقع النزع، أو ظهر بعض محل الفرض، أو انتهت المدة: فإن تلك الرخصة لا يُعمل بها؛ نظرًا لزوال العذر الذي وُجدت تلك الرخصة من أجله، فيجب حينئذٍ أن يغسل الرِّجل؛ نظرًا لعودة الحَدَث السابق إليه - كما سبق بيانه -، وهذا مبطل للطهارة في هذا الممسوح، وإذا بطلت الطهارة في عضو واحد: بطلت الطهارة في سائر الأعضاء - كما سبق بيانه - تنبيه: ما قيل في الخف هنا يُقال في غيره من الممسوحات، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "هل بطلان الطهارة في عضو واحد يُبطل الطهارة في جميع الأعضاء أم لا؟ " فعندنا: نعم، وعندهم: لا و"هل ورد ما يُغيِّر المستصحب أو لا؟ " فعندنا: نعم، وعندهم: لا.

هذه آخر مسائل باب "المسح على الخفين" ويليه باب: "نواقض الوضوء"

ص: 169

‌باب نواقض الوضوء

أي: مفسداته، وهي: ثمانية: أحدها: الخارج من سبيل، وأشار إليه بقوله:(ينقض) الوضوء (ما خرج من سبيل) أي: مخرج بول أو غائط، ولو نادرًا أو طاهرًا كولد بلا دم، أو مقطرًا في إحليله، أو محتشى وابتل، لا الدائم كالسلس والاستحاضة فلا ينقض؛ للضرورة

(1)

(و) الثاني: (الخارج من بقية البدن) سوى السبيل (إن كان

‌باب نواقض الوضوء

وفيه سبع وعشرون مسألة:

(1)

مسألة: في الأول - من نواقض الوضوء - وهو: الخارج من السبيلين المقدور على منعه: سواء كان عاديًا كالبول، والغائط، والريح، والمني، والوَدي، أو كان نادرًا، كخروج ريح من ذكر رجل، أو قُبُل أنثى، أو الدم، أو الحصى أو الشعر، يخرج من الدبر أو القبل وهو رطب، وسواء كان هذا الخارج نجسًا - كما سبق - أو طاهرًا: كأن تلد المرأة ولدًا دون خروج دم معه، أو يخرج منه دود أو شعر أو حصى ناشف، أو أدخل في إحليله - وهو: مجرى البول من ذكره - دهن ونحوه، ثم أخرجه، أو حشى دُبُره قطنًا وأدخله فيه، ثم أخرجه منه، سواء ابتل أو لا، كل ذلك ينقض الوضوء، أما إن لم يقدر على منع ما يخرج منه كمن به سلس بول، أو خروج ريح مستمر، أو استحاضة: فإن هذا ينقض الوضوء لكن عفي عنه؛ للضرورة؛ لقواعد: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} فأوجب الوضوء من خروج الغائط، حيث إن الأمر مطلق، وهو يقتضي الوجوب، فلو لم يكن هذا ناقضًا للوضوء: لما أوجب الوضوء منه، الثانية: السنة القولية؛ وهي من وجوه: أولها: قول صفوان: "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا كنا مسافرين أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام بلياليهن إلا من جنابة، لكن =

ص: 170

بولًا أو غائطًا قليلًا كان أو كثيرًا (أو) كان (كثيرًا نجسا غيرهما) أي: غير البول

من غائط أو بول أو نوم" فلو لم تكن هذه الأمور ناقضة للوضوء: لما أوجب الوضوء منها؛ لأن الأمر مطلق فيقتضي الوجوب - وقد سبق - ثانيها: قوله صلى الله عليه وسلم: "لا ينصرف حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا" فلو لم يكن الريح ينقض الوضوء: لما بطلت الصلاة بسببه، وهو مفهوم غاية، ودل عموم المفهوم هنا على: ما خرج من ذلك معتادًا أو غير معتاد، ثالثها: قوله صلى الله عليه وسلم للمستحاضة -: "توضيء لكل صلاة" فلو لم تكن الاستحاضة ناقضة للوضوء لما أوجب الوضوء منه؛ لأن الأمر هنا مطلق، فيقتضي الوجوب، وسلس البول والريح المستمران مثل الاستحاضة؛ لعدم الفارق من باب "مفهوم الموافقة"؛ الثالثة: قول الصحابي: حيث قال ابن عباس: "المني يوجب الغسل، والمذي والودي ففيهما إسباغ الوضوء"، الرابعة: القياس؛ بيانه: كما أن سائر الخارج من السبيلين ينقض الوضوء، فكذلك خروج الشيء من السبيلين وإن كان طاهرًا، أو مبتلًا، أو أدخل شيئًا فيهما وأخرجه منهما، والجامع: أن كلًا منها خارج من طريق يغلب على الظن من وجود نجاسة فيه، الخامسة: المصلحة؛ حيث إن من لا يقدر منع ما خرج منه كسلس بول، أو ريح مستمر أو استحاضة لو كُلِّف بإعادة الوضوء والصلاة كلما خرج منه شيء أثناء الصلاة: للحقه حرج ومشقة وضيق فدفعًا لذلك: عُفي عما خرج منه أثناء صلاته، أو بعد تطهره ضرورة من باب "المشقة تجلب التيسير"، وهذه المصلحة مُخصِّصة لعموم الكتاب والسنة السابق ذكرهما، فإن قلتَ: لِمَ كان ذلك من نواقض الوضوء؟ قلتُ: لمنافاة ما خرج من السبيلين للطهارة والنظافة؛ حيث إن هذا الخارج تستقذره النفوس السليمة، وما تستقذر تلك النفوس لا يمكن أن يتعبَّد الله وهي حالَّة فيه.

ص: 171

والغائط كقيء ولو بحاله؛ لما روى الترمذي: "أنه صلى الله عليه وسلم قاء فتوضأ"، والكثير ما فحش في نفس كل أحد بحسبه،

(2)

، وإذا انسدَّ المخرج وانفتح غيره: لم يثبت له أحكام

(2)

مسألة: في الثاني - من نواقض الوضوء - وهو: الخارج من بقية البدن - من غير السبيلين، وهذا له حالتان: الحالة الأولى: إن كان هذا الخارج بولًا أو غائطًا: فإنه ينتقض الوضوء سواء كان قليلًا أو كثيرًا، كأن توجد فتحة يخرج منها هذا، الحالة الثانية: إن كان هذا الخارج غير بول وغائط - كالدم، أو القيح، والصديد، أو الدود أو القيء - سواء تغيَّر أو خرج بصفة الطعام الذي أكله -: فإن هذا ينقض الوضوء بشرطين: أولهما: أن يكون كثيرًا - وهو ما فَحُش وعظم في نفس المتوسطين من الناس، دون المتشددين أو المتساهلين -، ثانيهما: أن يكون نجسًا، فلا ينقض البصاق، فإذا اجتمع هذان الشرطان في هذه الحالة: نقض الخارج الوضوء؛ لقواعد: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صفوان: "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كنا مسافرين: أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام بلياليهن إلا من جنابة، لكن من غائط أو بول أو نوم" حيث بيّن هنا أن الغائط والبول ينقضان الوضوء، ويمسح على الخف عند الوضوء، وهذا عام، فيشمل من خرج بوله وغائطه من مخرجه المعتاد أو من غير المعتاد؛ لأن لفظ "بول وغائط ونوم" نكرة وقعت في سياق نفي، وهي من صيغ العموم؛ لأن تقدير الحديث: "

لا ننزع خفافنا من غائط وبول، بل يُمسح عليها عند نقض الوضوء والتطهر، بخلاف الجنابة فيجب أن ننزعها" الثانية: السنة الفعلية؛ "حيث إنه صلى الله عليه وسلم قاء فتوضأ" فعلَّة وضوئه هو: القيء؛ لذكره الحكم وهو مقرون بالفاء بعد ذكر القيء، وهذا مطلق، فلم يبين أن ما قاءه خرج بحاله، أو كان متغيرًا، الثالثة: القياس، بيانه: كما أن الخارج من السبيلين ينقض الوضوء، فكذلك الخارج من بقية البدن ينقضه إذا كان على صفته من النجاسة والاستقذار، كالدم والقيء والصديد ونحوها والجامع: أن كلًا منها نجاسة =

ص: 172

المعتاد

(3)

(و) الثالث (زوال العقل) أي: تغطيته قال أبو الخطاب وغيره: ولو تلجَّم ولم يخرج منه شيء؛ إلحاقًا بالغالب (إلا يسير نوم من قاعد أو قائم) غير مُحتبٍ، أو متكيء، أو مُستند، وعُلِم من كلامه: أن الجنون، والإغماء، والسكر ينقض كثيرها

تستقذره النفوس السليمة ولا يُتعبد بشيء هذه صفته، وهذا هو المقصد من هذا هذا الحكم، فإن قلتَ: لِمَ اشتُرط الشرط الأول وهو كونه كثيرًا في الحالة الثانية؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن القليل مما ليس ببول أو غائط معفو عنه، كقليل الدم والصديد؛ لأنه لا يسلم منه أحد، فلو نقض هذا القليل الوضوء: للحق كثيرًا من الناس المشقة، فدفعًا لذلك عُفي عنه؛ لكونه نجاسة غير مغلَّظة، بخلاف البول والغائط فقليله ينقض الوضوء مثل كثيره؛ لأن نجاسته مغلَّظة، فإن قلتَ: لِمَ اشتُرط الشرط الثاني، وهو كونه نجسًا في الحالة الثانية؟ قلتُ: لأن الخارج من غير السبيلين قد يكون طاهرًا كالبُصاق والنخامة ونحوهما، تنبيه: عرَّف المصنف الكثير بأنه: "ما فحش في نفس كل أحد بحسبه" وهذا فيه نظر؛ لأن الناس يختلفون بالتشدُّد والتساهل، لذا يكون تعريفه الصحيح كما سبق في الحالة الثانية.

(3)

مسألة: إذا انسدَّ المخرج الطبيعي المعتاد للبول والغائط وهما: القُبُل والدُّبر - وانفتح مخرج آخر في موضع من البدن: فلا تثبت لهذا المخرج المنفتح أحكام المخرج الطبيعي، وبناء على هذه القاعدة: فإنه لو خرج شيء نجس قليل - غير بول وغائط - من هذا المخرج المنفتح أو مسّه أحد: فلا ينقض الوضوء، وكذا: لو خرج بول أو غائط منه: فلا بدَّ من غسله، ولا يُجزيء فيه الاستجمار بالأحجار، وكذا: لو أولج فيه ذكر فلا يجب عليه الغسل إلا إذا أنزل؛ للاستصحاب؛ حيث إن الأحكام الشرعية قد تعلَّقت وثبتت في المخرج المعتاد، وأما غيره: فلم تثبت فيه تلك الأحكام، فيبقى على النفي الأصلي.

ص: 173

ويسيرها، ذكره في "المبدع" إجماعًا، وينقض أيضًا: النوم من مضطجع وراكع وساجد مطلقًا كمحتبٍ ومُتكيء ومُستند، والكثير من قائم وقاعد؛ لحديث:"العين وكاء السَّه، فمن نام فليتوضأ" رواه أحمد وغيره، و "السَّه" حلقة الدبر

(4)

(و) الرابع

(4)

مسألة: في الثالث - من نواقض الوضوء - وهو: زوال العقل: بأن لم يُدرك الشخص ما يدور حوله من أحداث: سواء كان هذا بسبب نوم، أو سكر، أو جنون، أو إغماء، وسواء كان هذا النوم وقع في حالة قيام، أو قعود، أو اضطجاع، أو سجود، أو ركوع، أو كان متكئًا، أو مستندًا على شيء، أو محتب - وهو: الجلوس على الإليتين وضم ساقيه وركبتيه إلى صدره -، وسواء كان النوم والإغماء والسكر والجنون أخذ وقتًا طويلًا أو قصيرًا وسواء تلجَّم وسد المخرج أو لا؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ وهي من وجهين: أولهما: قول صفوان: "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كنا مسافرين أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام بلياليهن إلا من جنابة، لكن من غائط أو بول أو نوم"، حيث ذكر هنا أن "النوم" ناقض للوضوء، ويمسح على الخف عند الوضوء، وهذا عام، فيشمل النوم القليل والكثير والنوم الواقع في جميع الحالات؛ لأن لفظ "نوم" نكرة في سياق نفي، وهي من صيغ العموم، لأن تقدير الحديث:"لا ننزع خفافنا من نوم"، ثانيهما: قوله صلى الله عليه وسلم: "العين وكاء السه فمن نام فليتوضأ" فأوجب الوضوء على كل من نام من غير تفريق بين الحالات التي نام عليها، وبين القليل والكثير منه؛ لأن "من" الشرطية من صيغ الوجوب، ولأن الأمر هنا مطلق، ويقتضي الوجوب، و "السَّه" اسم من أسماء الدُّبُر، فإذا كانت العين مفتوحة؛ لعدم النوم؛ فإنها ستمنع الدبر من أن يخرج منه شيء، وإن كانت قد انغلقت بسبب النوم: فإن الغالب أنه سيخرج من الدبر شيء، الثانية: القياس، بيانه: كما أن النوم مطلقًا ينقض الوضوء فكذلك السكر والإغماء والجنون تنقضه، والجامع: أن كلًا منها يغطي العقل ويُزيله عن إدراك ما يحدث =

ص: 174

(مسُّ ذكر) آدمي، تعمده أو لا (متَّصل) ولو أشل أو أقلف، أو من ميِّت،

(5)

حوله، فإن قلتَ: لِمَ كان زوال العقل من نوم وغيره ناقضًا للوضوء؟ قلتُ: لأنه يغلب على الظن استرخاء البدن، وانفراج مخرج الحدث، وهذا يؤدي إلى خروج الحدث، فأقيم الذي زال عقله مقام الخارج منه الحدث فعلًا، وعومل معاملته؛ عملًا بالغالب على الناس، كما أقيم التقاء الختانين مقام المنزل للمني في وجوب الغسل؛ عملًا بالغالب فعومل معاملته في الحكم، فإن قلتَ: إن القائم أو القاعد إذا ناما نومًا قليلًا: فإن وضوءهما لا ينتقض، وهو قول كثير من العلماء وذكره المصنف هنا؛ للسنة التقريرية؛ حيث كان الصحابة ينتظرون صلاة العشاء حتى تخفق رؤوسهم، ثم يخرج عليهم النبي صلى الله عليه وسلم فيصلي بهم، ولا يتوضئون، ولم يُنكر النبي صلى الله عليه وسلم عليهم ذلك - كما رواه أنس - والنائم وهو قائم مثل النائم وهو قاعد؛ لعدم الفارق من باب "مفهوم الموافقة"، قلتُ: إنه يُحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم لم يعلم بذلك، ويُحتمل أنه علم ولكن كانوا يعلمون ما يدور حولهم، فخفقان رؤوسهم لا يدل على نومهم، بل على استرخائهم فقط، والدليل إذا تطرق إليه الاحتمال بطل به الاستدلال، ثم إن قلَّة النوم ليست دليلًا على عدم خروج شيء: فقد ينام شخص قليلًا ويستغرق فيه أكثر من استغراقه في نوم كثير؛ فإن قلتَ: إن القاعد والقائم يكون مخرج الحدث مجتمعًا عادة فيغلب على الظن عدم خروج شيء، قلتُ: إذا نام الشخص: فإنه يغلب على الظن خروج شيء من مخرج حدثه مطلقًا، دون تفريق؛ إذ النوم يُرخي جميع أعضاء البدن. فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "هل السنة التقريرية تقوى على تخصيص القولية؟ " فعندنا لا تقوى التقريرية على تخصيص القولية لورود الاحتمال، وعندهم تقوى على تخصيصها.

(5)

مسألة: في الرابع - من نواقض الوضوء - وهو: مسُّ ذكر آدمي متصل بكفِّه بشرط: أن يكون هذا المس بشهوة، فهذا ينقض الوضوء مطلقًا، أي: سواء =

ص: 175

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

تعمد ذلك، أو كان ناسيًا أو ساهيًا أو غافلًا، وسواء مسَّ ذكره أو ذكر غيره، وسواء كان الممسوس حيًا أو ميتًا، وسواء كان الذكر أشلًا لا نفع فيه، أو فيه نفع، وسواء كان أقلفًا - وهو الذي لم يُختتن - أو لا، وسواء كان الممسوس ذكره صبيًا أو كبيرًا؛ لقاعدتين الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "من مسَّ ذكره فليتوضأ" - كما روته بُسرة - حيث أوجب الوضوء من مس الذكر، لأن الأمر مطلق فيقتضي الوجوب، وهذا عام لجميع ما ذكر من الحالات، لأن "من" الشرطية من صيغ العموم، فيلزم من وجوب الوضوء من مسَّه: أنه ناقض للوضوء، الثانية: القياس، بيانه: أن مسَّ المرأة ينقض الوضوء بشرط: أن يكون بشهوة، وهذا ما دلت عليه السنة الفعلية، حيث قالت عائشة:"إذا سجد غمزني فقبضتُ رجلي" فلو كان المس بغير شهوة ناقضًا للوضوء: لبطلت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، لبطلان الوضوء بسبب المس، فإذا كان الأمر كذلك في مس المرأة، فكذلك تشترط الشهوة في مس الذكر لأجل أن يكون هذا المس ناقضًا للوضوء، والجامع: إثارة الشهوة التي يغلب على الظن خروج حَدَث بسببها، وهذا هو المقصد من هذا الحكم، فإن قلتَ: إن مس الذكر لا ينقض الوضوء مطلقًا؛ للسنة القولية؛ حيث سأل رجل النبي عن مسَّ الرجل لذكره بعد وضوئه، فقال صلى الله عليه وسلم:"وهل هو إلا بضعة منك" - كما رواه قيس بن طلق - وهذا من أقيسة النبي صلى الله عليه وسلم: فكما أنك إذا مسست يدك لا ينتقض وضوؤك فكذلك إذا مسست ذكرك، قلتُ: إن حديث قيس هذا ضعيف كما قال أبو زرعة وأبو حاتم، وعلى فرض صحته: فإنه منسوخ بحديث بسرة؛ لأن راوي حديث بسرة هو أبو هريرة، وهو متأخر الإسلام، وأما حديث قيس فقد رواه أبوه طلق وهو متقدم الإسلام، وهذا من طرق الناسخ والمنسوخ من النصوص، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "هل حديث قيس ضعيف ومنسوخ أو لا؟ " فعندنا: نعم، وعندهم: لا.

ص: 176

لا الأنثيين ولا بائن، أو محله

(6)

(أو) مس (قُبُل) من امرأة - وهو: فرجها الذي بين أسكتيها؛ - لقوله صلى الله عليه وسلم: "من مس ذكره: فليتوضأ" رواه مالك والشافعي وغيرهما، وصححه أحمد والترمذي، وفي لفظ "من مسَّ فرجه: فليتوضأ" صححه أحمد، ولا ينقض مسُّ شفريها، وهما حافتا فرجها

(7)

وينقض المس بيد بلا حائل، ولو كانت

(6)

مسألة: لا ينقض الوضوء مسُّ الخصيتين، ولا مس الذكر البائن - وهو: المقطوع - أو مسُّ محل الذكر المقطوع مطلقًا؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "من مسَّ ذكره فليتوضأ" حيث دل مفهوم الشرط على أن من مس غير الذكر: من خصيتين، أو ذكر مقطوع أو محله: فلا ينتقض وضوؤه، وإذا قطع ذكر شخص: فلا يُسمى أنه ذكر له، لكون الذكر هو المتصل بالشخص، فإن قلتَ: لِمَ لا ينقض الوضوء؟ قلتُ: لأنه لا يغلب على الظن خروج حَدَث بمس ذلك.

(7)

مسألة: إذا مسَّ رجل بكفه قُبُل امرأة - وهو محل الجماع - وما حوله من شفريها ونحو ذلك فإنه ينقض الوضوء إذا كان بشهوة؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "من مسَّ فرجه فليتوضأ" وهذا مطلق، وخصَّصه بالشهوة: القياس الذي ذكرناه في مسألة (5)، والفرج: عام لكل ما ذكرناه هنا، فإن قلتَ: لِمَ ينقض الوضوء هذا؟ قلتُ: لما ذكرنا في مسألة (5)، فإن قلتَ: إن مس الشفرين من المرأة لا ينقض الوضوء ولو كان بشهوة، - وهو ما ذكره المصنف هنا، قلتُ: لم أجد دليلًا على ذلك، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "هل الفرج المذكور في الحديث يشمل الفرج وما حوله، أو خاص فيما ينفرج؟ " فعندنا: يشمله، وعندهم: لا، هو خاص فيما ينفرج فقط.

ص: 177

زائدة سواء كان (بظهر كفه أو بطنه) أو حرفه، من رؤوس الأصابع إلى الكوع؛ لعموم حديث:"من أفضى بيده إلى ذكره ليس دونه ستر: فقد وجب عليه الوضوء" رواه أحمد، لكن لا ينقض مسُّه بالظفر

(8)

(و) ينقض (لمسهما) أي: لمس الذكر

(8)

مسألة: المسُّ الناقض للوضوء - فيما سبق - هو: لمس ببشرة كفه - من الكوع إلى أطراف الأصابع - بشهوة وهو شامل لظاهر الكف وباطنه، وحرفه، وجوانبه، والأصلي منه والزائد، أما لو مس من وراء حائل، أو مس بذراعه، أو بأظفاره: فلا ينقض الوضوء؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "من أفضى بيده إلى ذكره ليس دونه ستر فقد وجب عليه الوضوء" و "اليد" تطلق على جميع أجزاء الكف إلى أطراف الأصابع، دون الذراع، والأظفار، ودل بمفهوم الشرط على أن مس ذلك بالذراع، أو بالأصابع، أو من وراء حائل كثوب لا ينقض الوضوء، لأن المس بهذه الأمور لا يُسمى مسَّاً حقيقة وشرعًا؛ ولكون الظفر كالمنفصل من البدن، فإن قلتَ: لِمَ كان المس بالكف هو الذي ينقض الوضوء؟ قلتُ: لأنه يُثير الشهوة غالبًا بهذا المس الذي يكون سببًا لخروج حَدَث في الغالب، من مني وودي، ومذي، فإن قلتَ: إن المس بباطن الكف هو الذي ينقض الوضوء فقط، وهو قول مالك والشافعي والليث؛ للتلازم؛ حيث إن آلة المس واللمس هي: باطن الكف، فيلزم من ذلك أن المس بغير الباطن منه لا ينقض الوضوء، قلتُ: لا فرق بين المس بباطن الكف أو بظاهره أو بشيء منه إذا كان بشهوة؛ لكون ذلك يثير شهوة تتسبَّب في خروج حَدَث من مني أو مذي أو ودي غالبًا، فإن قلتَ: لِمَ كان المس من وراء حائل أو بالذراع، أو بالظفر لا ينقض الوضوء؟ قلتُ: لأن المس بهذه الأشياء لا يغلب على الظن خروج حَدَث بسببها، فلم تنقض؛ عملًا بالغالب. [فرع]: إذا مسَّت المرأة قبلها بيدها بشهوة، أو مست قبل امرأة أخرى بشهوة: فإنه ينتقض وضوؤها؛ للقياس، بيانه: كما أن الرجل إذا مس ذكره، أو ذكر غيره بشهوة ينتقض =

ص: 178

والقُبُل معًا (من خنثى مشكل) لشهوة أولا؛ إذ أحدهما أصلي قطعًا

(9)

(و) ينقض أيضًا (لمس ذكَرٍ ذَكَره) أي: ذكر الخنثى المشكل؛ لشهوة؛ لأنه إن كان ذكرًا: فقد مسَّ ذكره، وإن كان امرأة: فقد لمسها لشهوة، فإن لم يمسه لشهوة، أو مسَّ قُبُله لم ينتقض (أو أنثى قُبُلَه) أي: وينقض لمس أنثى قُبُل الخنثى المشكل (لشهوة فيهما) أي: في هذه والتي قبلها؛ لأنه إن كان أنثى فقد مسَّت فرجها، وإن كان ذكرًا: فقد لمسته لشهوة، فإن كان المس لغيرها، أو مسَّت ذكره: لم ينتقض وضوؤها

(10)

(و) الخامس

وضوؤه - كما سبق في مسألة (5) - فكذلك المرأة مثله، والجامع: خروج حَدَث بسببه غالبًا، من مني أو ودي أو مذي فعومل معاملة الخارج منه الحدث، وهذا هو المقصد من هذا الحكم.

(9)

مسألة: الخنثى المشكل - وهو: من له ذكر رجل، وقُبُل امرأة - إذا لمس ذكره وقُبُله معًا بشهوة: فإنه ينتقض وضوؤه، أما إذا لمس أحدهما فلا ينتقض؛ للتلازم؛ حيث يُقطع بأن أحدهما فرج أصلي، ويلزم من مس الفرج الأصلي: نقض الوضوء إذا كان بشهوة كما قلنا في مسألة (5 و 8)؛ لأنه يغلب على الظن خروج حدث بسببه، أما إذا لمس الخنثى ذكره فقط، أو فرجه فقط: فلا ينتقض وضوؤه؛ للتلازم؛ حيث يلزم من وجود الشك في كونه أصليًا أو زائدًا أن يبقى على طهوريته، لأن الشك لا يُعمل به، وهذا هو المقصد من الحكم، فإن قلتَ: إن مس الخنثى للذكر والقُبُل معًا ينقض الوضوء بشهوة أو بغير شهوة، وهو ما ذكره المصنف؛ قلتُ: لم أجد دليلًا قويًا على ذلك.

(10)

مسألة: إذا مسَّ رجل ذكرَ الخنثى، أو مسَّ قبله، أو مست امرأة ذكر الخنثى أو مست قُبُلَه فإن وضوء الرجل والمرأة ينتقض بشرط: أن يكون هذا المس منهما بشهوة، أما إن كان بغير شهوة: فلا ينتقض وضوؤهما؛ للقياس، بيانه: كما أن الرجل إذا لمس ذكر رجل آخر أو لمس قُبُل امرأة لشهوة: ينتقض وضوؤه، وكما أن المرأة إذا لمست ذكر رجل، أو لمست قُبُل امرأة أخرى: ينتقض =

ص: 179

(مسَّه) أي: الذكر (امرأة بشهوة)؛ لأنها التي تدعو إلى الحدث و "الباء" للمصاحبة، والمرأة شاملة للأجنبية، وذات المحرم، والميتة، والكبيرة، والصغيرة المميزة، وسواء كان المس باليد أو غيرها، ولو بزائد لزائد، أو أشل (أو تمسُّه بها) أي: ينقض مسها للرجل بشهوة كعكسه السابق (11)(و) ينقض (مسُّ حَلَقة دُبُر)؛ لأنه فرج سواء

وضوؤها فكذلك إذا لمس كل من هذا الرجل والمرأة ذكر وقبل الخنثى فإنه ينتقض وضوؤهما، لأن هذا الخنثى إن كان ذكرًا فقد مسَّ الرجل ذكر رجل آخر، وإن كان أنثى فقد لمسها بشهوة، وكذا يُقال في المرأة أي: إن كان الخنثى: أنثى: فقد مست المرأة فرج امرأة أخرى، وإن كان الخنثى رجلًا: فقد مسته لشهوة، والجامع في هذا كله: خروج حدث من مني أو مذي أو ودي في الغالب بسبب هذا المس المصاحب بالشهوة وهذا هو المقصد من هذا الحكم. (11) مسألة: في الخامس - من نواقض الوضوء - وهو: مسَّ الرجل للمرأة، ومس المرأة للرجل فهذا ناقض الوضوء الماس بشرط: أن يكون ذلك بشهوة، وهذا مطلق في الماس، أي سواء كان الماس كبيرًا أو صغيرًا، حرًا أو عبدًا ممن يطأ مثله، وسواء كانت الممسوسة كبيرة أو صغيرة، حرة أو أمة، أجنبية أو من محارمه، حية أو ميتة، عاقلة أو مجنونة ممن يوطأ مثلها، وسواء كان المس منهما وقع باليد أو بالرجل، بعضو أصلي، أو زائد أو أشل أو نحو ذلك؛ لقواعد: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} حيث أوجب الشارع التطهر من ملامسة النساء؛ لأن الأمر مطلق، وهو يقتضي الوجوب، وهو عام لكل لامس أو ملموس بأي آلة؛ لأن هذا يلزم من لفظ "لامستم"، ولأن "النساء" جمع معرف بأل وهو من صيغ العموم، الثانية: السنة الفعلية؛ حيث قالت عائشة: "فإذا سجد غمزني فقبضتُ رجلي" حيث يلزم من لفظ "غمزني" أنه لمسها بيده وهو يصلي؛ لأن آلة الغمز هي "اليد" وهذا يدل =

ص: 180

كان منه أو من غيره

(12)

(لا مسَّ شعر وسنَّ وظفر) منه، أو منها، ولا المس

بمفهوم الحال على أن المس بغير شهوة لا ينقض الوضوء؛ إذ لو كان ينقضه: لبطلت صلاته صلى الله عليه وسلم، نظرًا لبطلان وضوئه، وهذه السنة قد خصَّصت عموم الآية السابقة، الثالثة: القياس، بيانه: كما أن الرجل إذا مس المرأة بشهوة: فإنه ينتقض وضوؤه، فكذلك المرأة إذا مست الرجل بشهوة ينتقض وضوؤها، والجامع: أن كلًا منهما قد وُجد منه مس مُصاحبًا بشهوة مُسبِّب لخروج حدث في الغالب، فإن قلتَ: لِمَ كان المس بغير شهوة لا ينقض الوضوء؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن النساء المحارم والرجال المحارم يكثرون في المنازل، فلو كان مس أحدهما للآخر ناقضًا للوضوء ولو بغير شهوة: للحق أكثر الخلق حرج ومشقة، فدفعًا لذلك: شرع عدم النقض بمس بغير شهوة.

(12)

مسألة: إذا مس الشخص حلقة دُبُره وما حولها من الصفحتين أو الفخذين، أو مس حلقة دبر غيره وما حولها من ذكر أو أنثى: فإن وضوءه ينتقض بشرط: أن يكون هذا المس بشهوة؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "من مسَّ فرجه فليتوضأ" و "الفرج" يطلق على القُبُل والدُّبُر؛ نظرًا لانفراجهما، فأوجب الوضوء من مسِّه؛ لأن الأمر مطلق، فيقتضي الوجوب، فلو لم يكن مس الفرج ناقضًا للوضوء: لما أوجب الوضوء منه، وهذا من اللوازم، الثانية: القياس، بيانه: كما أن مس الذكر ينقض الوضوء إذا كان بشهوة - كما سبق في مسألة (5) - فكذلك مسُّ الدُّبر وما حوله ينقض الوضوء إذا كان بشهوة، والجامع: وجود الشهوة التي تتسبب في خروج حدث غالبًا، وهذا هو المقصد الشرعي منه، وهذا القياس قد خصَّص السنة القولية السابقة، فإن قلتَ: إنَّ مس حلقة الدبر ينقض الوضوء ولو لم يكن هناك شهوة وهذا ما ذكره المصنف هنا، قلتُ: لم أجد دليلًا قويًا على ذلك.

ص: 181

بها

(13)

(و) لا مسُّ رجل لـ (أمرد) ولو بشهوة

(14)

(ولا) المسُّ (مع حائل)؛ لأنه

(13)

مسألة: إذا مس رجل ببشرته شعر امرأة أو سِنَّها أو ظفرها، أو مسَّ بشعره، أو سنِّه، أو ظفره بشرة امرأة، أو مست امرأة ببشرتها شعر رجل، أو سِنِّه أو ظفره، أو مست امرأة بشعرها وسنها أو ظفرها بشرة رجل: فإنه لا ينتقض وضوء كل من الرجل والمرأة مطلقًا، أي: سواء كان بشهوة أو لا؛ للقياس، بيانه: كما أن مس المنفصل من البدن لا ينقض الوضوء فكذلك مسُّ هذه الأشياء مثله، والجامع: عدم خروج حدث بسبب هذا المس في الغالب، وهذا هو المقصد منه.

(14)

مسألة: إذا مس رجل أمردًا - وهو: الشاب الذي اخضَّر شاربه ولم تنبت لحيته كما في "المصباح"(2/ 568) -: فإنه ينتقض وضوء ذلك الرجل إذا كان المس بشهوة؛ للقياس، بيانه: كما أن مس الرجل للمرأة بشهوة ينقض الوضوء فكذلك مسُّه للأمرد مثلها والجامع: أن كلًا منهما مسٌّ صاحبته شهوة تسبَّب في خروج الحدث غالبًا، وهذا هو المقصد الشرعي منه، فإن قلتَ: إن مس الرجل للأمرد لا ينقض الوضوء ولو كان بشهوة وهو الذي ذكره المصنف هنا للكتاب؛ حيث قال تعالى {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} حيث دل مفهوم الصفة من ذلك على أن غير المرأة لا ينقض الوضوء: سواء كان شابًا أمردًا أو لا، وسواء كان هذا المس بشهوة أو لا، وهذا مستفاد من عموم هذا المفهوم، قلتُ: إن القياس الذي ذكرناه أقوى من هذا المفهوم؛ لأن القياس قطعي؛ لعدم الفارق بين الأمرد والمرأة في إثارة الشهوة، ويسميه بعضهم مفهوم موافقة مساوي، وهو مقدَّم على مفهوم المخالفة، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض القياس مع مفهوم الكتاب" فعندنا: يقدم القياس؛ لقوته، وعندهم: يقدم المفهوم.

ص: 182

لم يمس البشرة

(15)

(ولا) ينتقض وضوء (ملموس بدنه ولو وُجِد منه شهوة) ذكرًا كان أو أنثى، وكذا: لا ينتقض وضوء ملموس فرجه

(16)

(وينقض غسل الميت)

(15)

مسألة: إذا مس رجل امرأة من وراء حائل كثوب ونحوه: فإن وضوء الرجل ينتقض إذا كان المسُّ بشهوة؛ للقياس، بيانه: كما أن مس الرجل للمرأة بدون حائل بشهوة ينقض الوضوء فكذلك مسُّ الرجل للمرأة بشهوة من وراء حائل ينقضه والجامع: وجود الشهوة المسبِّبة لخروج حدث غالبًا في كل منهما، وهذا هو المقصد منه، فإن قلتَ: إن مس الرجل للمرأة من وراء حائل لا ينقض الوضوء: سواء كان بشهوة أو لا، وهو ما ذكره المصنف هنا؛ للقياس، بيانه: كما أن مس ثياب المرأة وهي منفصلة عنها لا ينقض الوضوء، فكذلك مسها وهي لابسة لها مثل ذلك، والجامع: عدم مس بشرة المرأة الذي هو محل الشهوة عادة، قلتُ: إن هذا قياس فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق، حيث إن مس ثياب المرأة وهي موجودة داخلها يختلف عن مسها وهي ليست موجودة داخلها اختلافًا واضحًا؛ حيث إن مسها وهي لابسة لها يُحرك الشهوة غالبًا، أما مسها وهي منفصلة ولم تكن المرأة داخلها فلا يحرك الشهوة غالبًا، ومع الفرق: لا قياس، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض القياسين" فألحقناه بمس المرأة مباشرة؛ لأنه أكثر شبهًا بها، وألحقوه بالثياب المنفصلة، لأنه أكثر شبهًا بها عندهم، وهذا يُسمَّى بقياس الشبه.

(16)

مسألة: إذا لمس رجل امرأة، أو لمست امرأة رجلًا: فإن الملموس بدنه أو فرجه ينتقض وضوؤه إذا أحسَّ بالشهوة؛ أما إذا لم يحس بها: فلا ينتقض؛ للقياس، بيانه: كما أن اللامس بشهوة ينتقض وضوؤه، فكذلك الملموس مثله، والجامع: وجود الشهوة المسببة لخروج حدث غالبًا في كل منهما، وهذا هو المقصد منه، فإن قلتَ: إن الملموس بدنه أو فرجه لا ينتقض وضوؤه؛ سواء أحسَّ بالشهوة أو لا وهذا ما ذكره المصنف هنا؛ للكتاب؛ حيث قال تعالى: {أَوْ =

ص: 183

مسلمًا كان أو كافرًا، ذكرًا كان أو أنثى، صغيرًا أو كبيرًا؛ لما روي عن ابن عمر وابن عباس:"أنهما كانا يأمران غاسل الميت بالوضوء"، و "الغاسل" هو: من يُقلِّبه ويُباشره، ولو مرَّة، لا من يصب عليه الماء، ولا من يُؤمِّمه، وهذا هو السادس

(17)

لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} حيث دل مفهوم الصفة على أن الملموس بدنه أو فرجه لا ينتقض وضوؤه مطلقًا؛ لعدم وصفه بأنه "لامس"، قلت: لا فرق بين اللامس والملموس إذا وُجدت الشهوة منهما؛ حيث إن خروج الحدث هي السبب فيه، سواء كان لامسًا، أو ملموسًا، وهذا يعرفه كل عاقل متدبر، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض القياس مع مفهوم الكتاب" فعندنا: يقدم القياس؛ لقوته، وعندهم: يقدم المفهوم.

(17)

مسألة: في السادس - من نواقض الوضوء - وهو: غسل الميت، فإذا غسله متطهر: فإنه ينتقض وضوؤه إذا مس بشرته، وصاحب ذلك شهوة؛ للقياس، بيانه كما أن من مسَّ حيًا بشهوة ينتقض وضوؤه، فكذلك من مس ميتًا بشهوة مثله، والجامع: خروج حدث في الغالب في كل، بخلاف عدم المس كأن يصب الماء، أو يؤممه، أو كان المس بدون شهوة، فلا يلزم منه خروج شيء في الغالب فيبقى على الأصل، وهو متيقن طهوريته، فيُعمل على ذلك، وهذا ثابت من الاستصحاب، وهذا هو المقصد الشرعي من ذلك، فإن قلتَ: غسل الميت ينقض الوضوء: سواء شعر بشهوة أو لا - وهو ما ذكره المصنف هنا -؛ لقول الصحابي؛ حيث إن ابن عمر وابن عباس "كانا يأمران غاسل الميت بالوضوء" ولم يرد تقييده بشهوة أو بغير شهوة، قلتُ: يُحتمل أن يكون هذا الأمر منهما أمر إيجاب، ويُحتمل أن يكون أمر استحباب، وإذا تطرق الاحتمال إلى الدليل بطل به الاستدلال، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض القياس مع قول الصحابي" فعندنا: يقدم القياس؛ لقوته، وعندهم: يقدم قول الصحابي.

ص: 184

(و) السابع (أكل اللحم خاصة من الجزور) أي: الإبل، فلا ينقض بقية أجزائها كالكبد، وشرب لبنها، ومرق لحمها، سواء كان نيئًا، أو مطبوخًا، قال أحمد:"فيه حديثان صحيحان: حديث البراء، وحديث جابر بن سمرة"

(18)

(و) الثامن المشار

(18)

مسألة: أكل اللحم لا ينقض الوضوء، سواء كان لحم إبل، أو لا، وسواء كان مطبوخًا أو نيئًا، وهو مذهب الجمهور؛ لقواعد: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال جابر بن عبد الله: "كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مسَّت النار" وفي رواية: "مما غيّرت النار" وهذا عام فيشمل جميع اللحوم - ومنها لحم الإبل -؛ لكونه مما يُطبخ؛ لأن "ما" موصولة وهي من صيغ العموم، الثانية: القياس، بيانه: كما أن أكل لحم الخنزير لا ينقض الوضوء وهو حرام أكله، فإن أكل لحم غيره - ومنها الإبل - لا ينقض الوضوء من باب أولى، فيكون قياسًا أولى، الثالثة: قول الصحابي؛ حيث إنه قد ثبت عن الخلفاء الأربعة - أبي بكر وعمر وعثمان وعلي - وابن مسعود وأبي بن كعب، وابن عباس وكثيرين من الصحابة: أنه لا ينقض الوضوء شيء من اللحم، فإن قلتَ: لِمَ لا ينقض الوضوء؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن مأكول أكثر المسلمين من اللحم وخاصة لحم الإبل، لذلك سُميت "لحم الجزور" لكثرة ما يجزر فلو كان أكله ينقض الوضوء: للحق كثيرًا منهم الحرج والمشقة خاصة قلة المياه، ثم إن أكل لحم الإبل ليس فيه استقذار - كما سبق في نواقض الوضوء - فهو لا ينافي الطهارة والنزاهة، فإن قلتَ: إن أكل لحم الإبل ينقض الوضوء - وهو ما ذكره المصنف هنا؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "توضأوا من لحوم الإبل"؟ - كما رواه جابر بن سمرة وروى نحوه البراء، قلتُ: هذا الحديث منسوخ بحديث جابر بن عبد الله السابق؛ حيث صرح بلفظ النسخ الصريح وهو قوله: "كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مسَّت النار" ولا يمكن أن يصرح الصحابي العدل العارف بدلالات الألفاظ بذلك إلا إذا كان متيقنًا =

ص: 185

إليه بقوله: (كل ما أوجب غُسلًا) كإسلام، وانتقال مني ونحوهما:(أوجب وضوءًا إلا الموت) فيوجب الغسل دون الوضوء

(19)

ولا نقض بغير ما مرَّ كالقذف،

من أن آخر ما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم: ترك الوضوء من أكل جميع اللحوم، وهذا وإن كان عامًا إلا أنه بسبب تصريحه بطريق من طرق النسخ صار ناسخًا للخاص، وهو قريب من معرفة تاريخ ورود النصين، لكونه أشار إلى الأمر الأول، وعلى فرض عدم نسخه: فإن المقصود بالوضوء المأمور به في حديث جابر بن سمرة هو: غسل اليد والمضمضة؛ لأن لحم الإبل فيه دسامة زائدة تلصق باليد والفم غالبًا، فلحماية المسلم من أن يبيت وفي يده أو فمه دسامة أمر بذلك لئلا تأتي بعض الحشرات كالعقارب بسبب هذا الدسم فتلدغه، هذا ما قاله جمهور العلماء، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض حديث جابر بن عبد الله مع حديث جابر بن سمرة والبراء" فعندنا: يقدم حديث جابر بن عبد الله لأنه ناسخ للآخر، وعندهم: يقدم حديث جابر بن سمرة والبراء؛ لأنه خاص والآخر عام، والخاص مقدم، تنبيه: جعل أكثر الحنابلة أكل لحم الإبل هو الناقض السابع للوضوء ولكن الراجح خلاف ذلك.

(19)

مسألة: في السابع - من نواقض الوضوء - وهو: كل شيء أوجب غسلًا: بأن جامع امرأته، أو التقى الختانان، أو حاضت أو نفست المرأة: فإن الوضوء ينتقض؛ للتلازم؛ حيث يلزم من وجوب الغسل عليه - نظرًا لوجود الحدث الأكبر -: انتقاض وضوؤه؛ لكون الحدث الأكبر: حدث أصغر وزيادة، وهذا هو المقصد الشرعي منه، تنبيه:"إسلام الكافر" الذي ذكره لا يصلح مثالًا لذلك لأن الكافر لا طهارة له أصلًا، فكيف ينتقض وضوؤه؟! تنبيه آخر:"انتقال المني دون خروجه" الذي ذكره المصنف لا يصلح مثالًا لذلك؛ لأن انتقال المني لا يوجب غسلًا - كما سيأتي تقريره في باب الغسل - تنبيه ثالث: إذا أوجب الشارع الغسل من شيء كجنابة ونحوها: فإنه لم يوجب الوضوء =

ص: 186

والكذب والغيبة ونحوها، والقهقهة ولو في الصلاة، وأكل كل ما مست النار - غير لحم الإبل -، ولا يُسن الوضوء منهما

(20)

(ومن تيقن الطهارة وشك) أي: تردَّد (في

معه؛ لأن نية رفع الحدث الأكبر تكفي عن نية رفع الحدث الأصغر إذا أحضرهما في قلبه، فتكون عبارة المصنف فيها نظر، والعبارة الأصح أن يقال:"ما أوجب غسلًا: نقض الوضوء"، تنبيه رابع:"الموت" يوجب على الحي غسله، ولا ينقض وضوء الميت؛ لتلازم الحال.

(20)

مسألة: لا ينقض الوضوء إلا تلك النواقض السبعة - كما سبق في مسائل (1 و 2 و 4 و 5 و 11 و 17 و 19) وهذا مطلق، أي سواء فعل معاصي لسانية كالقذف، والكذب، والغيبة، والنميمة، والسبُ والشتم ونحوها، أو فعل قهقهة - وهو: الضحك الذي يتكرر بصوت مرتفع - داخل الصلاة أو خارجها، أو أكل ما يُطبخ على النار، كل هذا لا ينقض الوضوء: فلا يجب الوضوء منها، لقاعدتين: الأولى: الاستصحاب؛ حيث إن الأصل: أن لا ينقض الوضوء شيء، لكن وردت أدلة تثبت أن تلك السبعة تنقض الوضوء فقط، وغيرها لم يثبت أنها تنقض الوضوء فتبقى على النفي الأصلي، فنستصحب هذا النفي ونعمل به فلا نتوضأ منها، الثانية: السنة القولية؛ حيث قال جابر: "كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار" وهو عام، وناسخ لما سبقه، وقد سبق بيانه في مسألة (18)، فإن قلتَ: إن القهقهة داخل الصلاة تنقض الوضوء، وهو قول كثير من الحنفية؛ للسنة القولية؛ حيث "إنه عليه السلام أمر من قهقه داخل الصلاة بإعادة الوضوء والصلاة" والأمر مطلق، فيقتضي الوجوب، فلو لم تكن القهقهة ناقضة للوضوء: لما أوجب الوضوء منها، قلتُ: إن هذا الحديث ضعيف، كما قال أئمة الحديث، ثم القهقهة لا تُبطل الوضوء خارج الصلاة، فلا يكون مبطلًا لها داخلها؛ قياسًا على ذلك، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض الاستصحاب مع حديث =

ص: 187

الحَدَث أو بالعكس): بأن تيقَّن الحدث، وشك في الطهارة:(بني على اليقين) سواء كان في الصلاة أو خارجها، تساوى عنده الأمران، أو غلب على ظنه أحدهما؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"لا ينصرف حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا" متفق عليه

(21)

(فإن

القهقهة"، فعندنا: يُعمل بالاستصحاب؛ لضعف حديث القهقهة، وعندهم يعمل بحديث القهقهة؛ لقوته عندهم، تنبيه: قوله: "غير لحم الإبل" ذكره؛ لأن أكل هذا اللحم عنده من نواقض الوضوء، وهذا مرجوح؛ كما بينت ذلك في مسألة (18). [فرع]: لا يُستحب الوضوء من القهقهة، ولا من أكل ما مسَّت النار، ولكن يُستحب الوضوء من المعاصي اللسانية كالقذف والكذب ونحوها؛ لقاعدتين: الأولى: الاستصحاب؛ حيث إنه لم يرد دليل يثبت استحباب الوضوء من القهقهة، أو من أكل ما مسَّت النار، وعدم الدليل دليل على عدم الحكم، الثانية: قول الصحابي؛ حيث إنه ثبت عن ابن مسعود وعائشة "أنهما كانا يأمران بالوضوء من الكلام المحرم" وهذا الأمر للاستحباب؛ إذ لا ينقض ذلك الطهارة الحسية، وإنما يُحمل على الطهارة المعنوية، وهي: الطهارة من الذنوب، وهذا هو المقصد الشرعي.

(21)

مسألة: إذا كان متيقنًا من طهارته ولكنه شك هل أحدث بعد ذلك أو لا؟ وتردَّد في ذلك: فإنه يبني على ما تيقن منه، وهو الطهارة، ولا يلتفت إلى شكه ويصلي بناء على ذلك، وكذا: لو كان مستيقنًا من حَدَثه، ولكنه شك: هل تطهر بعد ذلك أو لا؟ وتردَّد في ذلك فإنه يبني على ما تيقن منه، وهو: الحدث، ولا يلتفت إلى شكه، وبناء على ذلك: يتطهر ثم يصلي، وهذا مطلق، أي: سواء كان ذلك داخل الصلاة أو خارجها؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "لا ينصرف حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا" - قاله لمن يُخيل إليه أنه يجد شيئًا يخرج منه - حيث دل بمنطوقه ومفهوم الغاية منه على أنه لا يترك صلاته إلا إذا كان متيقنًا من خروج ريح منه إما بسماع =

ص: 188

تيقنهما) أي: تيقن الطهارة والحدث (وجهل السابق) منهما (فهو بضد حاله قبلهما) إن علمها: فإن كان قبلهما متطهر: فهو الآن محدث، وإن كان محدثًا: فهو الآن متطهر؛ لأنه قد تيقن زوال تلك الحالة إلى ضدها، وشك في بقاء ضدها، وهو الأصل، وإن لم يعلم حاله قبلهما: تطهر (22)، وإذا سمع اثنان

صوته عند الخروج، أو بشم ريحه، فهنا يحكم بنقض طهارته، أما إذا شك فلم يسمع ولم يشم شيئًا ولكنه متردِّدًا: فلا ينتقض وضوؤه، ولا يبطل ما تيقن منه من الطهارة بهذا الشك، فإن قلتَ: لِمَ لا يُلتفت إلى الشك؟ قلتُ: للمصلحة حيث إنه لو التفت كل شخص إلى ما يشك فيه وعمل به: للحق كثيرًا من الناس الضيق والمشقة؛ لكثرة ما يقع منهم من الشك في حياتهم. (22) مسألة: إذا أراد شخص أن يصلي الظهر - مثلًا - وهو متيقن أنه متطهر، ومتيقن أنه محدث - أيضًا -، ولكنه لا يعلم أيُّهما الأول؟، فإنا نسأله عن حاله قبل دخول وقت الظهر، وله ثلاثة أحوال: الحالة الأولى: إن قال: إني كنت - قبل دخول وقت الظهر - محدثًا: فإنا نقول له: أنت الآن متطهر فلك أن تصلي الظهر على تلك الطهارة؛ للاستصحاب؛ حيث إنه قد تيقن من انتقاله من الحدث إلى الطهارة، ولكنه شك في زوال تلك الطهارة؛ لكون الحدث المتيقن بعد دخول الوقت يحتمل أنه كان قبل الطهارة، ويُحتمل أنه كان بعدها، إذن: يكون وجوده بعدها مشكوكًا فيه، فيُستصحب المتيقن منه - وهي: الطهارة - ويُعمل، ولا يُلتفت إلى المشكوك فيه، الحالة الثانية: إن قال: "إني كنتُ قبل دخول وقت الظهر متطهرًا" فإنا نقول له: أنت الآن محدث، فيجب عليك أن تتطهر لصلاة الظهر؛ للاستصحاب؛ حيث إنه متيقن من انتقاله من الطهارة إلى الحدث، ولكنه شك في زوال الحدث؛ لأن الطهارة المتيقنة بعد دخول الوقت يُحتمل أنها كانت قبل الحدث، ويُحتمل أنها كانت بعده؛ إذن: يكون وجودها بعده مشكوكًا فيه، فيستصحب المتيقن منه - وهو: الحدث - ويعمل به، ولا =

ص: 189

صوتًا، أو شما ريحًا من أحدهما لا بعينه: فلا وضوء عليهما، ولا يأثم أحدهما بصاحبه، ولا يُصاففه في الصلاة وحده، وإن كان أحدهما إمامًا: أعادا صلاتهما (23)(ويحرم على المحدث مسُّ المصحف) وبعضه، حتى جلده، وحواشيه بيد أو غيرها بلا حائل، لا حمله بعلاقة، أو في كيس، أو كُمِّ من غير مس، ولا تصفحه بكُمِّه، أو عود ولا صغير لوحًا فيه قرآن من الخالي من الكتابة، ولا مس تفسير ونحوه، ويحرم أيضًا مسُّ مصحف بعضو متنجس

(24)

، وسفر به لدار حرب، وتوسُّده، وتوسد كتب

يُلتفت إلى المشكوك فيه، الحالة الثالثة: إن قال: "لا أدري عن حالي قبل دخول وقت الظهر: فلا أدري هل أنا متطهر أو محدث؟ " فإنا نقول له: يجب عليك التطهر ثم تصلي الظهر؛ للاستصحاب؛ حيث إن الحدث متيقن في إحدى الحالتين، فيستصحب ذلك ويعمل به؛ للاحتياط للدِّين، وهذا هو المقصد منه. (23) مسألة: إذا جلس اثنان وهما على طهارة ولا ثالث لهما فسمعا صوتًا، أو شمَّا ريحًا خرج من دُبُرهما، وكل واحد منهما يظن أن ذلك من صاحبه: فإن طهارتهما لا تنتقض بذلك، فإذا حضرت الصلاة: فإنهما يصليان على طهارتهما الأولى، ولكن لا يكون أحدهما إمامًا للآخر، ولا يصف أحدهما بجانب الآخر وحدهما خلف الصف؛ للتلازم؛ حيث إن كلًا منهما قد تيقن من طهارته وظن أن الحدث من صاحبه فيلزم: أن كلًا منهما يصلي على طهارته التي تيقنها، وأن لا يكون أحدهما إمامًا للآخر؛ لأنه يلزم من ظن أحدهما بأن الآخر هو المحدث: عدم صلاحية أحدهما للإمامة بالآخر وعدم صلاحية المصاففة به؛ لأن المحدث لا يكون إمامًا للمتطهر، ولا يصلح للمصاففة معه؛ لكونه يكون بذلك مفردًا خلف الصف؛ لأن وجود المحدث وعدمه واحد ويلزم من ذلك إعادة صلاتهما إن فعلا ذلك.

(24)

مسألة: يحرم على المحدث: أن يمس المصحف - وهو: الأوراق التي كتب عليها الآيات القرآنية التي بين الجلدتين - وكذا: يحرم مسُّه بعضو متنجس وإن =

ص: 190

فيها قرآن ما لم يخف سرقة، ويحرم - أيضًا - كتب القرآن بحيث يُهان، وكُره مدّ رجل إليه، واستدباره، وتخطيه، وتحليته بذهب أو فضة، وتحرم تحلية كتب علم

(25)

كان هو على طهارة: سواء كان هذا المس بيده، أو بأي عضو من بشرته، وسواء مسه كله أو مس بعضه، أو نواحيه أو حواشيه، بشرط: أن يكون هذا المس بلا حائل، أما إن مسه بحائل: كان يقلِّب صفحاته بعود، أو من وراء ثوبه، أو حمله بعلاقة، أو كيس، أو مس صبي لوحًا فيه قرآن من الجانب الخالي من الكتابة، أو مس حواشيه المفسرة له، أو كتب فقه أو تفسير فيها الآيات، أو مس ثوبًا مطرزًا بآيات، أو جدران، أو نقود فيها بعض الآيات: فهذا مباح بدون طهارة؛ لقاعدتين: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} ، الثانية: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "لا يمس القرآن إلا طاهر" حيث دل مفهوم الصفة من هذين النصين على أن غير الطاهر - وهو: المحدث - لا يمس القرآن وأنه يمس الأوراق والأشياء المكتوب عليها قرآن من فقه وتفسير وحائط ونحوها؛ لكونها لا تسمى قرآنًا، فإن قلتَ: لم حُرم ذلك؟ قلتُ: لصيانة وحماية كلام الله وإكرامه من الإهانة ونحو ذلك، وهو داخل تحت عموم قوله تعالى:{وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} .

(25)

مسألة: يحرم فعل أي شيء فيه إهانة للمصحف: كأن يسافر به إلى دار حرب، أو أن يضعه في أي مكان فيه إهانة له كالنوم، والجلوس، والاتكاء عليه، واستدباره، ومد رجله إليه، وكذا: يحرم أن يُحلَّى بذهب أو فضة، وكذا كتب العلم؛ للتلازم؛ حيث يلزم من وجوب إكرام القرآن والعمل بما فيه: أن تحرم إهانته، أو وضع شيء فيه يُنافي العبادة كتحليه بذهب أو فضة، ومثله كتب العلم لكون ذلك إسرافًا، لأن ترك الواجب حرام، فإن قلتَ: لِمَ حرم ذلك؟ قلتُ: لما ذكرناه في مسألة (24)، تنبيه: قوله: "وكره محمد رجل إليه

" قلتُ: لم أجد دليلًا على هذه الكراهية، والراجح: أنه يحرم مثل ذلك.

ص: 191

(و) يحرم على المحدث أيضًا (الصلاة) ولو نفلًا، حتى صلاة جنازة وسجود تلاوة، وشكر، ولا يكفر من صلى محدثًا

(26)

(و) يحرم على المحدث - أيضًا - (الطواف)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم "الطواف بالبيت صلاة إلا أن الله أباح فيه الكلام" رواه الشافعي في "مسنده".

(27)

.

(26)

مسألة: تحرم على المحدث الصلاة أي: إن صلى المحدث تهاونًا: فإنه يأثم بذلك ولا يكفر، وصلاته باطلة: سواء كانت صلاته فرضًا أو نفلًا وسواء كانت صلاة جنازة، أو سجود تلاوة، أو سجود شكر، أما إن صلى المحدث استهزاء: فإنه يكفر؛ لقواعد: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ

} حيث أوجب الشارع التطهر لمن أراد الصلاة، لأن الأمر مطلق، وهو يقتضي الوجوب، وترك الواجب حرام، الثانية: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "لا يقبل الله صلاة من أحدث حتى يتوضأ" حيث اشترط الوضوء للصلاة المقبولة، فدل مفهوم الغاية على أن الصلاة بلا وضوء غير مقبولة، الثالثة: التلازم وهو من وجهين: أولهما: أنه يلزم من استهزائه بأحكام الدين: كفره بها كما ورد في القرآن الكريم، ثانيهما: أن سجود التلاوة والشكر وصلاة الجنازة يُسمى صلاة؛ لوجود التكبير والتسليم، ونية العبادة والدعاء الله فيلزم من ذلك: أنه يُحرم فعله على المحدث، كالصلاة ذات الركوع والسجود، وكسجود السهو، تنبيه: المقصد الشرعي من الطهارة للصلاة قد سبق بيانه، تنبيه آخر: بعض الحنابلة كابن تيمية وابن عثيمين خالفوا في هذا قائلين: يجوز سجود التلاوة والشكر بدون طهارة؛ بناء على أن ذلك السجود ليس بصلاة وهو مرجوح كما سيأتي بيانه في باب "صلاة التطوع".

(27)

مسألة: يحرم على المحدث الطواف بالكعبة تهاونًا، سواء كان هذا الطواف واجبًا أو نفلًا، للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم لمن حاضت في الحج: "افعلي ما =

ص: 192

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تتطهري" والنهي هنا مطلق، وهو يقتضي التحريم والتقدير: يحرم عليك الطواف بالبيت وأنت محدثة بالحيض، فإذا تطهرت: فطوفي، وغير الحيض من الأحداث مثله؛ لعدم الفارق من باب "مفهوم الموافقة" فإن قلت: لِمَ حرم ذلك؟ قلتُ: لأن الطائف بالبيت يُناجي ربه بجميع أنواع الذكر والدعاء، فيُناسبه أن يكون متطهرًا ليتقبَّل الله تلك المناجاة، تنبيه: الحديث الذي ذكره المصنف عن الشافعي ضعيف كما قال أكثر أئمة الحديث.

هذه آخر مسائل باب "نواقض الوضوء" ويليه باب "الغسل"

ص: 193

‌باب الغُسْل

بضم الغين: الاغتسال، أي: استعمال الماء في جميع بدنه على وجه مخصوص، وبالفتح: الماء، أو الفعل، وبالكسر: ما يغسل به الرأس من خِطْمي وغيره (وموجبه): ستة أشياء

(1)

أحدها: (خروج المني) من مخرجه (دفقًا بلذة، لا) إن خرج (بدونهما من غير نائم) ونحوه، فلو خرج من يقظان لغير ذلك كبرد ونحوه من غير شهوة: لم يجب به غسل؛ لحديث علي يرفعه: "إذا فضحت الماء فاغتسل وإن لم تكن فاضخًا

‌باب الغُسْل

وفيه ست وأربعون مسألة:

(1)

مسألة: الغُسْل - بضم الغين - هو: الاغتسال، وهو المراد بهذا الباب، وهو: أن يستعمل الشخص - الذي يُريد إزالة الحدث الأكبر عنه من جنابة وغيرها - الماء في جميع بدنه على وجه مخصوص وطريقة مخصوصة - سيأتي بيان ذلك -، فإن قلتَ: لِمَ جُعل هذا الباب بعد باب نواقض الوضوء؟ قلتُ: لأن كل ما أوجب غَسْلًا نقض الوضوء - كما سبق في مسألة (19) من باب "نواقض الوضوء"، فأراد أن يبيِّن الأشياء التي توجب الغسل، وكذا: إنه لما بيَّن فروض وسنن الوضوء التي تزيل الحدث الأصغر: أراد أن يبين ما يزيل الحدث الأكبر، وصفته، فإن قلتَ: لِمَ ضُمَّت الغين هنا؟ قلتُ: لتفريق ذلك عن "الغَسْل" - بفتح الغين - الذي هو نفس الماء الذي يُغتسل به وعن "الغِسل" - بكسر الغين - وهو الغسول الخاص بالرأس من خطمي وطين وأشنان وصابون - والخِطمي بكسر الخاء - حبيبات تؤخذ من شجرة تنبت في الصحراء للتنظف بها - كما جاء في "الصحاح"(5/ 1781) و "اللسان"(11/ 494) و"المصباح"(174)، والموجبات ستة، تنبيه: الأشياء التي توجب الغُسْل ستة، سيأتي بيانها في المسائل الآتية:

ص: 194

وإن أفاق نائم ونحوه يمكن بلوغه فوجد بللًا: فإن تحقق أنه مني: اغتسل فقط ولو لم يذكر احتلامًا، وإن لم يتحققه منيًا: فإن سبق نومه ملاعبة أو نظر أو فكر ونحوه، أو كان به أبْرَده: لم يجب الغسل، وإلا: اغتسل وطهَّر ما أصابه؛ احتياطًا

(3)

(وإن انتقل)

(3)

مسألة: إذا أفاق النائم البالغ، ورأى بعد إفاقته سائلًا في ثوبه أو فراشه: فإن له حالات: الحالة الأولى: إن تأكد أن هذا السائل مني: فإنه يجب عليه الغسل: سواء تذكر احتلامًا أو لا، أو تذكر لذة أو لا، الحالة الثانية: إن غلب على ظنه أنه مني ولم يكن قبل نومه قد لاعب زوجته أو أمته، ولم يفكر ولم ينظر، وخالي من أي مرض: فإنه يجب عليه الغسل، ويغسل البقعة التي سقط عليها هذا السائل، الحالة الثالثة: إن شك هل هو مني أو مذي؟، وكان قد لاعب زوجته أو أمته، أو فكر أو نظر بشهوة، أو كان فيه مرض كأبْرَده - وهو شيء يصيب الإنسان بسبب شدة البرد والرطوبة -: فإنه لا يجب عليه الغسل، ويجب عليه غسل البقعة التي سقط عليها ذلك السائل؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث سألت أم سُلَيم النبي صلى الله عليه وسلم قائلة: المرأة ترى في منامها ما يرى الرجل، فقال صلى الله عليه وسلم:"إذا رأت ذلك المرأة فلتغتسل" فأوجب الغسل من خروج المني من النائم؛ لأن الأمر مطلق، فيقتضي الوجوب، وهذا عام، فيشمل ما تأكد الشخص أنه مني، وما غلب على ظنه أنه كذلك؛ لكونه لم يسبق نومه شيء مسبب لخروج المذي، وما كان كذلك فلا يُحمل غالبا إلا على خروج المني، الثانية: التلازم؛ حيث يلزم من الملاعبة والتفكير والنظر ووجود مرض خروج مذي غالبًا فبُني الحكم عليه ولم يوجب الغسل؛ لأن خروج المذي لا يوجبه، فإن قلتَ: لِمَ شرع هنا هذا التفصيل؟ قلتُ: نظرًا لما يغلب على الظن تعيين نوع هذا السائل بسبب الحالات التي تعتري هذا القائم من نومه، فإن قلتَ: لِمَ يغسل البقعة في الحالة الثانية والثالثة؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه احتياط للدِّين، إذ يحتمل في الحالة الثانية أن يكون السائل مذيًا احتمالًا =

ص: 195

فلا تغتسل" رواه أحمد، و"الفضخ": خروجه بالغلبة قاله إبراهيم الحربي، فعلى هذا: يكون نجسًا، وليس بمذي، قاله في "الرعاية"، وإن خرج المني من غير مخرجه: كما لو انكسر صلبه فخرج منه: لم يجب الغسل، وحكمه حكم النجاسة المعتادة،

(2)

(2)

مسألة: في الأول - من موجبات الغُسْل - وهو: خروج المني دفقًا بلذة وشهوة من مخرجه المعتاد، فإن خرج بدون تدفق وشهوة، أو خرج من غير مخرجه المعتاد - كظهره مثلًا -: فإنه لا غسل عليه؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم لعلي: "إذا فضخت الماء فاغتسل، وإن لم تكن فاضخًا: فلا تغتسل" حيث أوجب الشارع الغُسل على الشخص الذي أخرج منيه من مخرجه المعتاد دفقًا بشهوة؛ لأن الأمر في قوله: "فاغتسل" مطلق وهو يقتضي الوجوب، ولأن لفظ "الفضخ" يلزم منه: أن يكون ذلك الخروج دفقًا بلذة - وهو: الغلبة والشِّدَّة كما جاء في "اللسان"(3/ 46) - وخروجه من المعتاد لازم أيضًا من لفظ "الفضخ"؛ لكون الذي يُخرجه من غير مخرجه لا يُسمى فاضخًا، وقد سبق بيان أن خروج المني والمذي والودي من غير مخرجه تُعتبر نجاسة خرجت من البدن توجب الوضوء وذلك في مسألة (1) من باب "نواقض الوضوء" فإن قلتَ: لِمَ كان خروج المني بهذه الصفة يوجب الغُسل؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن الاغتسال بالماء يعيد للبدن نشاطه بعد الكسل والثقل والفتور الذي أصابه بسبب خروج ذلك المني بتلك الشدة والغلبة، ويزيل بالاغتسال أيضًا: النجاسات والقاذورات التي أصابته بسبب ذلك الجماع، بخلاف ما إذا خرج ذلك المني بدون تدفق وشهوة، أو خرج من غير مخرجه المعتاد: فإنه لا يحصل منه ذلك: فلم يجب الغسل عليه، فإن قلتَ: ما الفرق بين المني، والمذي؟ قلتُ:"المني": ماء أبيض ثخين له رائحة كرائحة لقاح النخيل وهو طاهر، و "المذي": ماء يخرج لزجًا عند ابتداء الشهوة، وهو أبيض رقيق جدًا، وسيأتي بيان ذلك في باب "إزالة النجاسة".

ص: 196

المني (ولم يخرج: اغتسل له)؛ لأن الماء قد باعد محلَّه، فصدق عليه اسم "الجنب" ويحصل به البلوغ ونحوه مما يترتب على خروجه (فإن خرج) المني (بعده) أي: بعد غسله؛ لانتقاله: (لم يُعِدْه)؛ لأنه مني واحد فلا يوجب غُسْلين

(4)

(و) الثاني (تغيُّب

مرجوحًا، ويُحتمل احتمالًا راجحًا في الحالة الثالثة: أن يكون السائل مذيًا، والمذي نجس، يجب غسل البقعة الساقط عليها - كما سبق -.

(4)

مسألة: إذا أحس بانتقال المني بشهوة، ولكنه لم يخرج بسبب مسكه لذكره أو غير ذلك: فإن هذا لا يوجب الغسل، وهو قول الجمهور؛ للسنة القولية وهي من وجهين: أولهما: قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا رأت ذلك المرأة فلتغتسل" - وهو حديث أم سليم - ثانيهما: قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا فضحت الماء فاغتسل" - وهو حديث علي - حيث دل مفهوم الشرط من هذين الحديثين على أن الاغتسال لا يجب إذا لم يُر الماء بالعين أو أحس بخروجه قطعًا أو غلبة الظن، - وهو: لم يُدخله في الفرج - فإن قلتَ: لِمَ لا يوجب ذلك الغسل؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تيسير على العباد؛ فلو وجب الغسل بذلك: لَلَحِق أكثر المسلمين ضيق وحرج ومشقة، لكثرة وقوع ذلك، فإن قلتَ: إن هذا يوجب الغسل إن كان بشهوة وإن لم يخرج مني، ويُحكم ببلوغ الصبي بذلك كما لو خرج فعلًا، وهذا ما ذكره المصنف هنا؛ لقاعدتين: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} والجنب هو: تباعد الشيء عن محله الأصلي، وإذا انتقل المني من محله الأصلي فقد صدق عليه اسم "الجنب" وعليه: فيجب الغسل والتطهر لذلك؛ لوصفه بأنه "جُنُب"؛ لأن الأمر مطلق، فيقتضي الوجوب، الثانية:

القياس، بيانه: كما أنه يجب الغسل إذا خرج المني بشهوة فكذلك يجب الغسل من انتقال المني بشهوة والجامع: وجود الشهوة في كل، قلتُ: لا نسلِّم أن المجانبة - المأخوذة من لفظ "الجنب" الوارد في الآية - تحصل من انتقال المني من جهة إلى جهة أخرى في الجسم، بل لا تحصل إلا بخروج المني من الجسم كله، وبهذا يجب عليه الاغتسال أما قبل خروجه فلا يجب، أما قياسهم: فهو فاسد؛ لأنه قياس =

ص: 197

حشفة أصلية) أو قدرها إن فقدت وإن لم يُنزل (في فرج أصلي: قُبُلًا كان أو دُبُرًا) وإن لم يجد حرارة، فإن أولج الخنثى المشكل حشفته في فرج أصلي، ولم يُنزل، أو أولج غير الخنثى ذكره في قُبُل الخنثى: فلا غسل على واحد منهما إن لم ينزل، ولا غسل إذا مس الختان الختان من غير إيلاج، ولا بإيلاج بعض الحشفة (ولو) كان الفرج (من بهيمة أو ميِّت) أو نائم أو مجنون أو صغير يجامع مثله، وكذا: لو استدخلت ذكر نائم أو صغير ونحوه

(5)

(و) الثالث (إسلام كافر) أصليًا كان، أو

مع الفارق؛ لأن المني الخارج بشهوة وجد فيه وصفان: "خروجه" و "الشهوة" أما المني المنتقل بشهوة فقد وجد فيه وصف واحد، وهو:"الشهوة" فقط، ومع هذا الفارق: فلا قياس، ثم إن مجرَّد وجود "الشهوة" أو تحريكها لا يوجب الغسل؛ إذ لو أوجبه: للزم منه وجوب الغسل بلمس المرأة بشهوة، ولوجب الوضوء من الإحساس بالحدث بالقرقرة الداخلية، وهذا لم يقل به أحد، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "الخلاف في المراد في الجنب الوارد في الآية" فعندنا: الانتقال من داخل الجسم إلى خارجه بشهوة، وعندهم: الانتقال إلى مكان آخر ولو كان في داخل الجسم مع الشهوة. [فرع]: إذا جامع، أو احتلم: ثم اغتسل بعد ذلك، ثم خرج منه مني بغير شهوة بعد اغتساله: فإنه لا يجب عليه الاغتسال مرة ثانية؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "إذا رأت ذلك فلتغتسل" وقوله: "إذا فضخت الماء فاغتسل" - كما سبقا - حيث إن هذا أمر مطلق، والأمر يقتضي الوجوب، ولا يقتضي التكرار، بل يُكتفى بإيقاع المأمور به مرة واحدة، فإن قلتَ: لِمَ لا يغتسل هنا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تيسير، إذ لو وجب الاغتسال مرة ثانية: لَلَحِق أكثر المسلمين ضيق وحرج ومشقة؛ لكثرة وقوعه.

(5)

مسألة: في الثاني - من موجبات الغُسْل - وهو: التقاء الختانين، والمراد به: إذا حصل تغييب حشفة أصلية من - الرَّجل - وهي: الكمرة تكون فوق الذكر - في فرج أصلي من المرأة، وتحاذى ختانهما: وجب الغسل عليهما: سواء أنزل أو لا، وسواء غيَّب تلك الحشفة في قُبُل أو دبر، وسواء غيبها في آدمي، أو بهيمة، =

ص: 198

مُرتدًا، ولو مميزًا، ولو لم يوجد في كفره ما يوجبه؛ لأن قيس بن عاصم أسلم "فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يغتسل بماء وسدر" رواه أحمد والترمذي، وحسنه

(6)

ويستحب

وسواء كان المغيب فيه هذا حيًا أو لا، نائمًا أو لا، مكرهًا أو لا، مسلمًا أو لا، عاقلًا أو لا، صغيرًا أو لا، حتى لو أدخلت امرأة ذكر نائم أو مجنون أو صغير في فرجها، وبناء على هذا: فإنه إذا مس الختان الختان من غير تغييب وإيلاج الحشفة، أو أدخل بعضها، أو أدخل الخنثى حشفته في فرج أصلي، أو أدخل غير الخنثى ذكره في قبُل الخنثى: فلا يجب الغسل في تلك الصور، إذا لم ينزل، أما إذا أنزل بشهوة: فيجب الغسل مطلقًا؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "إذا جلس بين شُعبها الأربع، ومس الختان الختان: فقد وجب الغسل" حيث أوجب الغسل إذا التقى الختانان، ويلزم من التقائهما: تغييب الحشفة في فرج أصلي، وهذا عام لجميع الحالات التي ذكرت؛ لأن "إذا" الشرطية من صيغ العموم، ودل الحديث بمفهوم الشرط على عدم وجوب الغسل إذا لم يلتق الختانان - على الصفة التي ذكرناها - لكونه لا يُسمى التقاء لغة ولا شرعًا، فإن قلتَ: لِمَ كان ذلك من موجبات الغسل؟ قلتُ: لأن إدخال الحشفة في فرج أصلي فيه احتمال إثارة شهوة ولذة، يغلب على الظن إنزال مني بسببها، فعومل معاملة من أنزل منيًا فعلًا، كما أوجبنا الوضوء من النوم؛ لأنه أُنزل منزلة الخارج منه حدث فكذلك هنا، فإن قلتَ: لِمَ وجب الغسل إذا أنزل مطلقًا؟ قلتُ: لوجود سبب الغسل، وهو: إنزال المني بشهوة - كما سبق في مسألة (2) -.

(6)

مسألة: في الثالث - من موجبات الغُسْل - وهو: إسلام الكافر، أي: إذا أسلم الكافر: فيجب عليه أن يغتسل: سواء كان كافرًا أصليًا، أو كان مرتدًا، وسواء كان عليه ما يوجب الغسل كجنابة أو لا، وسواء كان كبيرًا أو لا؛ للسنة القولية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم "قد أمر قيس بن عاصم، وثمامة بن أثال بالاغتسال =

ص: 199

له إلقاء شعره، قال أحمد: ويغسل ثيابه

(7)

(و) الرابع: (موت)،

(8)

غير

حينما أرادا الإسلام" حيث أوجب الغسل هنا؛ لأن الأمر مطلق، وهو يقتضي الوجوب، ولم يستفصل عن حالهما فيعم جميع أحوالهما؛ لأن ترك الاستفصال عن الحال يُنَّزل منزلة العموم في المقال، وهو: أيضًا عام لجميع من أسلم؛ لأن أمر الواحد من الصحابة هو أمر للجميع، فإن قلتَ: لِمَ وجب عليه الغسل؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن هذا الاغتسال مع نية صحيحة يطهره ويُنزهه من أي نجاسة حسية وهي القاذورات، أو نجاسة معنوية وهو الشرك والكفر والفسق.

(7)

مسألة: يُستحب للكافر إذا اسلم أن يُزيل أي شعر فيه: كشعر رأسه، وإبطه وعانته، ويستحب له: أن يغسل ثيابه التي كان قد لبسها في حال كفره؛ للمصلحة؛ حيث إنه في حال كفره لا يحرص على تنظيف شعره، ولا ثيابه، فاستُحب ذلك له إذا أسلم ليُفرق بين حياته في حال كفره القذرة، وبين حياته بعد إسلامه ودخوله في دين النظافة والنزاهة، تنبيه: لو فكر المسلم تفكيرًا دقيقًا في أحكام الإسلام لوجدها تحث على النظافة الداخلية وهي نظافة القلوب من الحقد والحسد والنفاق والغش والخيانة ونحوها، وتحث على النظافة الخارجية وهو المراد بباب الطهارة هنا.

(8)

مسألة: في الرابع - من موجبات الغسل - وهو: الموت، أي: إذا مات المسلم: وجب غسله وجوبًا كفائيًا - إذا قام به من يكفي سقط عن الباقين -؛ للسنة القولية؛ حيث أمر صلى الله عليه وسلم "بغسل من مات في عرفة" و "بغسل ابنته" فأوجب غسل الميت هنا؛ لأن الأمر مطلق، وهو يقتضي الوجوب، فإن قلتَ: لِمَ أوجب الشارع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تطهير وتنزيه هذا الميت لمقابلة ربه والملكين، ولإبعاد الرائحة الكريهة التي تنبعث من الميت عادة؛ لئلا يؤذي المصلين عليه والحاملين، والدافنين له.

ص: 200

شهيد معركة،

(9)

ومقتول ظلمًا - ويأتي -

(10)

(و) الخامس (حيض و) السادس (نفاس) ولا خلاف في وجوب الغسل بهما قاله في "المغني"، فيجب بالخروج،

(9)

مسألة: من قاتل في سبيل الله ومات في المعركة فهو شهيد: لا يُغسَّل ولا يصلى عليه؛ للسنة القولية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم "أمر بشهداء أحد أن يُدفنوا بدون غسل ولا صلاة" وهذا الأمر بعدم غسلهم ورد بعد النهي عن دفنهم بدون غسل فيقتضي الإباحة، فإن قلتَ: لِمَ شرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إنه لو وجب غسل شهيد المعركة: لَلَحِق أكثر المسلمين ضيق ومشقة؛ لأنهم إذا اشتغلوا بغسلهم انشغلوا عن عدوهم فباغتهم وأضرَّ بهم، وإن انشغلوا بقتال عدوهم: ظهرت روائح كريهة من هؤلاء الشهداء، فإكرامًا لهم ولغيرهم، وإبقاء لأثر هذه العبادة وهي الدماء عليهم: شرع عدم غسلهم.

(10)

مسألة: إذا قتل المسلم ظلمًا: فإنه يُغسل ويُصلَّى عليه كغيره، وهو مذهب الجمهور؛ للقياس، بيانه: كما أن من مات مبطونًا يُسمى شهيدًا ومع ذلك يغسل ويصلى عليه فكذلك من مات مقتولًا ظلمًا مثله، والجامع: أن كلًا منهما يسمى شرعًا شهيدًا؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "من مات دون أهله فهو شهيد .. " إلى قوله: "والمبطون شهيد" فإن قلتَ: إن هذا لا يُغسَّل وهو ما ذكره المصنف هنا؛ للقياس، بيانه: كما أن شهيد المعركة لا يُغسَّل فكذلك هذا لا يُغسَّل والجامع: أن كلًا منهما قتل دون وجه حق، ويُسمَّى شهيدًا قلتُ: هذا القياس فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ حيث إن شهيد المعركة، ذهب باختياره ويشق غسله على المسلمين - كما سبق - بخلاف المقتول ظلمًا: فإنه قد أكره على القتال والمدافعة، ولا يشق غسله؛ لكونه نادر الوقوع، ومع الافتراق: لا قياس، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض القياسين" فنحن ألحقناه بمن قُتل مبطونًا؛ لكونه أكثر شبهًا به، وهم ألحقوه بشهيد المعركة؛ لأنه أكثر شبهًا به عندهم وهذا هو قياس الشبه، أو "غلبة الأشباه".

ص: 201

والانقطاع؛ شرط (لا ولادة عارية عن دم) فلا غسل بها، والولد طاهر

(11)

(ومن لزمه الغسل) لشيء مما تقدم: (حرم عليه) الصلاة، والطواف ومسُّ المصحف و (قراءة القرآن) أي: قراءة آية فصاعدًا، وله قول ما وافق قرآنًا إن لم يقصده كالبسملة والحمدلة ونحوهما كالذكر، وله تهجِّيه، والتفكر فيه، وتحريك شفتيه به ما لم يُبين الحروف، وقراءة بعض آية ما لم تطل

(12)

(11)

مسألة: في الخامس والسادس - من موجبات الغُسْل - وهما: الحيض والنفاس، أي: إذا بدأ دم الحيض، أو دم النفاس بالخروج: فإنه يجب الغسل، ولكن يُشترط لصحة الغسل: أن ينقطع دم الحيض ودم النفاس، وعند خروج الولد المصاحب بالدم يكون الولد نجس بسبب تلطخه بذلك الدم، أما إن ولدت ولدًا ولم يُصاحب بدم: فإن الولد طاهر؛ لقاعدتين: الأولى: الإجماع؛ حيث أجمع العلماء على أن من انقطع عنها دم الحيض والنفاس يجب عليها الغسل، ومستند ذلك السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم:"ثم اغتسلي وصلي" والقياس؛ حيث يُقاس النفاس على الحيض؛ لعدم الفارق من باب "مفهوم الموافقة"، الثانية: التلازم؛ حيث يلزم من تلطُّخ الولد بالدم: تنجُّسه؛ لنجاسة الدم، ويلزم من عدم الدم: كونه طاهرًا، فإن قلتَ: لِمَ كان ذلك من موجبات الغسل؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن هذه الدِّماء الخارجة نجسة، فإذا خرجت: نجسَّت ما حولها، وأصابت المرأة بالكسل والوهن: فشُرع الغسل عليها؛ لإزالة تلك القاذورات ولإعادة النشاط والقوة لجسم المرأة؛ ليكون مناسبًا ولائقًا للقيام بعبادة الله تعالى.

(12)

مسألة: يحرم على من وجب عليه الغُسل - كالجنب وغيره مما تقدم -: أن يصلي، ويطوف بالكعبة، ويمس المصحف، وأن يقرأ آية فصاعداً، أما قراءة بعض آية - غير طويلة - أو تفكير بالقرآن، أو النظر فيه وتحريك شفتيه فيه =

ص: 202

ولا يُمنع من قراءته متنجسِّ الفم

(13)

ويُمنع الكافر من

بدون بيان بعض حروفه، أو قول ما وافق ألفاظ القرآن كالبسملة والحمدلة، والحوقلة ونحو ذلك: فهذا كله مباح إذا لم يقصد به القرآن لقواعد: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "لا تقرأ الحائض والجنب أيَّ شيء من القرآن" حيث إن النهي مطلق، وهو يقتضي التحريم، ودل مفهوم الصفة منه على أن أي شيء لا يُطلق عليه قرآن كبعض آية أو ذكر ونحوه: فإنه مباح قوله، الثانية: السنة الفعلية؛ حيث قالت عائشة: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله في كل أحيانه" وهذا عام في الأزمنة، فيشمل الزمن الذي يكون فيه على جنب؛ لأن لفظ "كان" و "كل" من صيغ العموم، الثالثة: القياس، وهو من وجهين: أولهما: كما أن المحدث حدثًا أصغر لا يصلي ولا يطوف، ولا يمس المصحف فكذلك المحدث حدثًا أكبر - كالجنب - مثله، والجامع النجاسة في كل، بل إن نجاسة الحدث الأكبر أغلظ من نجاسة الأصغر، فيكون قياسًا أولى، ثانيهما: كما أن قراءة القرآن تحرم على الحائض والجنب فكذلك تحرم على غيرهما ممن عليه حدث أكبر كالنفساء، ونحوها، والجامع: وجود الحدث الأكبر في كل، فإن قلتَ: لِمَ حرم ذلك؟ قلتُ: لتكريم وتعظيم الله عز وجل، وكلامه، أصله: قوله تعالى: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} فإن قلتَ: لِمَ أبيح ذكر الله هنا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إنه "بذكر الله تطمئن القلوب" فلو منع من وجب عليه الغسل من ذكر الله: لَلَحِق أكثر المسلمين حرج ومشقة، ومضره في فوات وقت لم يذكر فيه الله؛ لذلك نجد النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الله في كل أحيانه، وأمر بأن يكون لسان المؤمن رطبًا من ذكر الله.

(13)

مسألة: يجوز للمسلم المتنجس الفم: أن يقرأ القرآن: كأن يشرب دواء نجسًا، أو أكل المضطر الميتة أو نحو ذلك؛ للسنة القولية، حيث "إنه صلى الله عليه وسلم قد نهى الحائض والجنب من قراءة القرآن" - كما سبق - حيث إن مفهوم الصفة قد دلَّ =

ص: 203

قراءته

(14)

ولو رُجي إسلامه

(15)

(ويعبر المسجد) أي: يدخله؛ لقوله تعالى: {وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ} أي: طريق (لحاجة) وغيرها على الصحيح، كما مشى عليه في "الإقناع"، وكونه طريقًا قصيرًا حاجة، وكره أحمد اتخاذه طريقا، ومُصلّى العيد مسجد، لا مُصلى الجنائز

(16)

(ولا) يجوز أن (يلبث فيه) أي في المسجد من عليه

على جواز قراءة القرآن لغير الجنب والحائض ونحوهما ممن فيه حدث أكبر، فيشمل عموم هذا المفهوم: من فمه متنجِّس فيجوز له قراءة القرآن؛ لعدم عموم النجاسة في سائر البدن.

(14)

مسألة: الكافر يمنع من قراءة القرآن: سواء كان أصلياً أو مرتدًا؛ للكتاب؛ حيث قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} فيلزم من وصفهم بالنجاسة: منعهم من قراءة القرآن كما يُمنع من به حدث أكبر من قراءته، فإذا منع المسلم المحدث حدثًا أكبر من ذلك فمنع الكافر منه أولى، فيكون قياسًا أولى - أيضًا - فإن قلتَ: لِمَ يمنع الكافر هنا؟ قلتُ: لتكريم القرآن من الاستهانة به.

(15)

مسألة: إذا كان الكافر يرجى إسلامه: فلا يمنع من قراءة القرآن؛ للمصلحة؛ حيث إن رجاء الإسلام فيه جلب مصلحة له وللمسلمين، فتكون هذه المصلحة مخصّصة لعموم الآية السابقة في مسألة (14)، فإن قلتَ: يمنع من قراءته ولو رُجي إسلامه - وهو ما ذكره المصنف هنا -؛ للتلازم؛ حيث إن رجاء إسلامه لا يُظهره فيلزم منعه منه، قلتُ: إن هذا ضد مصلحته ومصلحة المسلمين كما قلنا، فلا يؤخذ بهذا اللازم، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "هل المصلحة تقوى على تخصيص عموم الآية السابقة أو لا؟ " فنحن نقول: تقوى على ذلك؛ لأنه نظر في المآل، ومن خالف قال: لا تقوى المصلحة على التخصيص هنا.

(16)

مسألة: يحرم على من وجب عليه الغسل: أن يعبر المسجد لغير حاجة، إلا مكان صلاة الجنائز فيجوز عبوره؛ لقواعد: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: =

ص: 204

غسل (بغير وضوء) فإن توضأ: جاز اللبث فيه

(17)

ويمنع منه مجنون وسكران، ومن

{وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} حيث إن النهي في قوله: "ولا جنبا" مطلق، وهو يقتضي التحريم، واستثنى من ذلك عابري السبيل وهو: الخاطر المجتاز؛ لحاجته لذلك - كما قال مالك والشافعي - وأثبت إباحة العبور لأن الاستثناء من النفي إثبات، وإباحة، الثانية: قول الصحابي؛ حيث إن ابن عباس وابن مسعود كانا يرخِّصان في العبور، والرخصة لا تكون إلا عند الحاجة، الثالثة: التلازم؛ حيث إن العادة قد جرت على أن المسلمين يجعلون مكانًا يصلون فيه على الجنائز، ولا يصلون فيه الصلاة العادية؛ لكونه لا يسلم من بعض النجاسات التي تخرج من الميت فيلزم من ذلك جواز عبور ذلك المكان واللبث فيه لمن عليه حدث أكبر؛ لعدم الفارق بين النجاسات، فإن قلت: لِمَ حُرم عبور المساجد على من عليه حدث أكبر لغير الحاجة، وأبيح للحاجة؟ قلتُ: لتكريم مساجد الله، ولتكريم من يصلون ويسجدون فيه من أن يلوث بشيء ممن يسقط ممن عليه حدث خاصة الحائض ونحوها، وأبيح للمصلحة؛ حيث إن بعض الناس قد يحتاج للعبور، فإن قلتَ: يباح للحاجة ولغير الحاجة - كما ذكر المصنف هنا - قلتُ: لم أجد دليلًا قويًا على هذا الإطلاق.

(17)

مسألة: لا يجوز لمن عليه غسل - كالجنب - أن يجلس ويلبث في المسجد مطلقًا بلا وضوء، فإن توضأ الجنب ونحوه: جاز له الجلوس فيه؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "لا أحل المسجد لحائض ولا جنب" حيث صرَّح هنا بعدم جواز جلوس الجنب والحائض في أيِّ مسجد، والكافر والنفساء كالحائض والجنب؛ لعدم الفارق من باب "مفهوم الموافقة"، الثانية: قول الصحابي؛ حيث قال زيد بن أسلم: "كان الرجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جنبًا فيتوضأ ثم يدخل المسجد فيتحدَّث" فيلزم من التحدُّث في المسجد: الجلوس فيه عادة، وفعل الصحابي هذا قد خصّص عموم الحديث السابق، فإن =

ص: 205

عليه نجاسة تتعدَّى،

(18)

ويباح به وضوء وغسل إن لم يؤذ بهما، وإذا كان الماء في المسجد: جاز دخوله بلا تيمم،

(19)

وإن أراد اللبث فيه للاغتسال: تيمم، وإن تعذر الماء واحتاج للبث: جاز بلا تيمم

(20)

(ومن غسل ميتًا) مسلمًا أو كافرًا: سن له

قلتَ: لِمَ لا يجوز اللبث في المسجد لهؤلاء؟ قلتُ: لتكريم المسجد، ولتكريم المصلين من نجاستهم؛ لأنه يغلب على الظن سقوط شيء نجس منهم، فإن قلتَ: لم جاز لمن توضأ منهم الجلوس فيه؟ قلتُ: لأن الوضوء يخفف من نجاسة هؤلاء، ويُعيد إليهم بعض نشاطهم، ويزيل بعض الروائح الكريهة عنهم.

(18)

مسألة: كل من يغلب على الظن نجاسته يمنع من دخول المسجد كالمجنون، والسكران، والصبيان غير المميزين، ومن كانت مهنتهم الاشتغال بالنجاسات؛ للمصلحة؛ حيث إن منعهم فيه تطهير للمسجد، واحترام وتكريم له، وحماية للمصلين فيه من النجاسة.

(19)

مسألة: يباح للمحدث حدثًا أصغر أن يدخل المسجد بلا تيمم، ويباح له أن يتوضأ ويغتسل داخله بشرط: أن لا يؤذي أحدًا بذلك؛ للاستصحاب حيث إن الأصل في الأشياء الإباحة، ولم يرد دليل يمنع من ذلك، فنبقى على هذا الأصل فنستصحبه، ونعمل به؛ فإن قلتَ: لِمَ أبيح ذلك؟ قلتُ: لعدم وجود ضرر على أحد، فإن وجد ضرر: فلا يباح؛ لأنه لا ضرر ولا ضرار في الإسلام.

(20)

مسألة: إذا كان المحدث حدثًا أكبر محتاجًا للجلوس في المسجد بسبب خوف ونحوه ولم يقدر على الاغتسال ولا الوضوء: فإنه يتيمم ويجلس في المسجد، وإن تعذَّر التيمم: جلس فيه بدون تيمم أيضا؛ لقول الصحابي؛ حيث قال علي وابن عباس في قوله تعالى: {وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ} : "يعني مسافرين لا يجدون ماء فيتيمَّمون" وقول الصحابي هذا قد خصَّص الآية، فإن قلتَ: لِمَ جاز ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه دفع ضرر وقضاء حاجة، والتيمم - =

ص: 206

الغسل؛ "لأمر أبي هريرة رضي الله عنه بذلك" رواه أحمد وغيره (أو أفاق من جنون أو إغماء بلا حلم) أي: إنزال: (سنَّ له الغسل)؛ "لأن النبي صلى الله عليه وسلم اغتسل من الإغماء" متفق عليه، والجنون في معناه، بل أولى، وتأتي بقية الأغسال المستحبة في أبواب ما تستحب له،

(21)

ويتيمم للكل، ولما يسن له الوضوء؛

إن فُعِل - يُخَفّف الحدث؛ لكونه أحد الطهورين تنبيه: الأصح أن يقول: "وإن تعذر التيمم

".

(21)

مسألة: الأغسال المستحبة للمسلم ثلاثة عشر: أولها: بعد غسل الميت؛ لقول الصحابي؛ حيث إن أبا هريرة "كان يأمر غاسل الميت بالاغتسال" وهذا الأمر للاستحباب؛ لاحتمال سقوط بعض النجاسات من الميت على بدن ذلك الغاسل، فيكون احتياطًا، وهذا المقصد منه، ثانيها: إذا أفاق المغمى عليه أو المجنون؛ للسنة الفعلية؛ حيث "إنه صلى الله عليه وسلم اغتسل لما أفاق من الإغماء" والجنون مثله؛ لعدم الفارق وهو من باب "مفهوم الموافقة"؛ لاحتمال خروج بعض النجاسات التي تلطّخ بها الجسم، فشرع هذا لإزالة تلك النجاسات، وهذا المقصد منه، ثالثها: غسل يوم الجمعة، رابعها: غسل صلاة العيدين، خامسها: غسل صلاة الاستسقاء، سادسها: غسل صلاة الكسوف، سابعها: غسل المستحاضة لكل صلاة، ثامنها: غسل الإحرام للحج والعمرة، تاسعها: غسل دخول مكة، عاشرها: غسل الوقوف بعرفة، حادي عشر: غسل المبيت بمزدلفة، ثاني عشر: غسل رمي الجمار، ثالث عشر: غسل الطواف بالكعبة، وسيأتي بيان كل غسل وقاعدته ومقصده الشرعي في كل باب قد تعلق الغسل به، فإن قلتَ: لِمَا اسْتُحبت هذه الأغسال؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن في تلك الأغسال إزالة للقاذورات التي يمكن أن تكون قد علقت بالبدن من حيث لا يدري المسلم، وإزالة للروائح الكريهة؛ لئلا يؤذي الآخرين بها عند الاجتماع بهم في تلك المناسبات.

ص: 207

لعذر،

(22)

(و) صفة الغسل (الكامل) أي: المشتمل على الواجبات والسنن: (أن ينوي) رفع الحدث، أو استباحة الصلاة أو نحوها،

(23)

(ثم يُسمِّي) وهي - هنا - كوضوء: تجب مع الذكر، وتسقط مع السهو

(24)

(ويغسل يديه ثلاثًا) كما في

(22)

مسألة: إذا تعذر استعمال الماء - لفقدانه أو للضرر - وهو يريد أن يتحصل على أجر فعل المستحبات - كالقراءة بمس المصحف، أو الأذان أو نحو ذلك -: فإنه يتيمم، وينوي به التطهر من حدث أكبر أو أصغر - على حسب الحالة التي هو فيها - ويفعل ما أراده؛ للسنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد تيمم لردِّ السلام، وغيره مثله لعدم الفارق، فإن قلتَ: لِمَ شرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه عدم ضياع وقت بلا عمل صالح، تنبيه: بيان صفة الغسل الكامل سيأتي في المسائل الآتية.

(23)

مسألة: في الأول - من أعمال الغُسْل الكامل - وهو: أن ينوي وجوبًا أنه يغتسل لإزالة الحدث الأكبر - من جنابة وغيرها - أو ينوي استباحة ما لا يستباح إلا بطهارة كالصلاة، أو ينوي الاغتسال المستحب، وقد سبق أن تلك النية شرط للوضوء والاغتسال ولجميع الطهارات في مسألة (19) من باب "فروض الوضوء وصفته".

(24)

مسألة: في الثاني - من أعمال الغُسْل الكامل - وهو: أن يسمي استحبابًا قائلًا: "بسم الله" وقد سبق بيان ذلك في مسألة (16) من باب: "السواك وسنن الوضوء"، تنبيه: قوله: "تجب مع الذكر .. " هذا على مذهب المصنف، وقد بينت أن التسمية في الطهارات كلها وغيرها: سنة ومستحبة في مسألة (16) من باب السواك وسنن الوضوء.

ص: 208

الوضوء، وهو هنا آكد لرفع الحدث عنهما بذلك،

(25)

(و) يغسل (ما لوثه) من أذى،

(26)

(ويتوضأ) كاملًا

(27)

(ويحثي) الماء (على رأسه ثلاثًا يُرَوِّيه) أي: يُروِّي في كل مرة أصول شعره؛ لحديث عائشة رضي الله عنها: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اغتسل من الجنابة غسل يديه ثلاثًا، وتوضأ وضوءه للصلاة، ثم يخلل شعره بيديه حتى إذا ظن أنه قد روَّى بشرته أفاض الماء عليه ثلاث مرات ثم غسل

(25)

مسألة: في الثالث - من أعمال الغُسْل الكامل - وهو: أن يغسل كفيه ثلاث مرات قبل إدخالهما الإناء استحبابًا، يفعل ذلك وإن غلب على ظنه طهارتهما؛ لقاعدتين: الأولى: السنة الفعلية؛ حيث قالت عائشة: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اغتسل من الجنابة غسل يديه ثلاثًا"، الثانية: القياس، بيانه: كما أنه يستحب ذلك في الوضوء، كما في مسألة (31) من باب "السواك وسنن الوضوء" فكذلك يستحب هنا، بل غسلهما هنا آكد لإزالة ما فيهما من تلوث فيكون قياسًا أولى، وهذا هو المقصد منه.

(26)

مسألة: في الرابع - من أعمال الغُسْل الكامل - وهو: أن يغسل الموضع الذي غلب على ظنه أنه ملوث بالنجاسات والقاذورات بعد جماع أو حيض أو نفاس ونحوها، وهذا مستحب، ثم بعد ذلك يغسل كفه الذي غسل به ذلك بشيء مزيل كالصابون أو التراب؛ للسنة الفعلية؛ حيث "كان صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك" كما قالت عائشة، فإن قلتَ: لِمَ استحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه منع من انتشار الأوساخ والقاذورات في سائر البدن.

(27)

مسألة: في الخامس - من أعمال الغُسْل الكامل - وهو: أن يتوضأ وضوءًا كاملًا على صفة وضوئه للصلاة، وهذا مستحب؛ للسنة الفعلية؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك - كما قالت عائشة - فإن قلتَ: لِمَ استحب ذلك؟ قلتُ: لأن أعضاء الوضوء أشرف أعضاء البدن، فلذا زيد في الاهتمام بها؛ نظرًا لظهورها، والتجمُّل بها، وإظهار المسلم بأحسن صورة وهيئة.

ص: 209

سائر جسده" متفق عليه

(28)

(ويعم بدنه غسلًا) فلا يجزيء المسح (ثلاثًا) حتى ما يظهر من فرج امرأة عند قعود الحاجة، وباطن شعر،

(29)

وتنقضه لحيض

(28)

مسألة: في السادس - من أعمال الغُسْل الكامل - وهو: أن يصب الماء على جميع رأسه ثلاث مرات، ويتأكد أنه قد روَّى أصول شعره بالماء، ووصل إليها في كل مرة؛ للسنة القولية؛ حيث "كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك" - كما قالت عائشة -، فإن قلتَ: لِمَ يفعل ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن الأوساخ والقاذورت تتراكم عادة في شعر الرأس، فتنظيفًا لذلك وإزالة لتلك الأوساخ شرع الشارع غسله وترويته بالماء ثلاث مرات؛ لئلا يؤذي نفسه أو غيره برائحته، ولقطع ما يسببه ذلك من الأمراض.

(29)

مسألة: في السابع - من أعمال الغُسْل الكامل - وهو: أن يعمم بدنه وجسمه كله بالماء ويغسله به غسلًا وجوبًا ويحرص على مواضع الشعر ومنابته في جميع البدن من ذكر أو أنثى، حتى أن المرأة تغسل ما ظهر من فرجها عند قعودها، ولا يجزيء مسح الجسم بالماء؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "تحت كل شعرة جنابة فاغسلوا الشعر وأنقوا البشرة" حيث أوجب الغسل والإنقاء بالماء؛ لأن الأمر مطلق، فيقتضي الوجوب، ويقتضي عدم تكرار غسل جميع البدن، فيكفي مرة واحدة، ويلزم من لفظ "وأنقوا" أن المسح لا يكفي ولا يُجزيء، الثانية: السنة الفعلية؛ حيث "إنه صلى الله عليه وسلم كان يغسل سائر بدنه" - كما قالت عائشة وميمونة -، فإن قلتَ: لِمَ يفعل ذلك؟ قلتُ: لتنظيفه وتطهيره وإزالة القاذورات العالقة به، وإعادة النشاط إليه، فإن قلتَ: يغسل البدن ثلاث مرات - كما ذكره المصنف هنا -؛ قياسًا على غسل شعر الرأس قلتُ: هذا القياس فاسد؛ لأنه قياس مع النص، وهو: السنة القولية والفعلية؛ حيث لا يُفهم منهما تكرار غسل البدن، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض القياس مع السنة" فنحن نعمل بما ظهر من السنة، وهم: عملوا بالقياس لكونه عندهم لا =

ص: 210

ونفاس

(30)

(ويدلكه) أي: يدلك بدنه بيديه؛ ليتيقّن وصول الماء إلى مغابنه، وجميع بدنه، ويتفقد أصول شعره، وعضاريف أذنيه، وتحت حلقه وإبطيه، وعمق سرته، وبين إليتيه، وطي ركبتيه

(31)

(ويتيامن)؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يعجبه التيامن في

يضاد النص، بل زاده حكمًا، تنبيه: إن أريد بغسل البدن ثلاثًا استحبابًا فهذا لا خلاف فيه؛ للمصلحة؛ حيث إن فيه زيادة تنظيف.

(30)

مسألة: يجب أن تنقض المرأة رأسها إذا أرادت أن تغتسل عن حيض ونفاس، بخلاف غسلها من الجنابة فلا يجب عليها ذلك؛ للسنة القولية وهي من وجهين: أولهما: قوله صلى الله عليه وسلم لعائشة إذا كانت حائضًا: "انقضي رأسك وامتشطي" حيث أوجب عليها نقض رأسها إذا كانت حائضًا؛ لأن الأمر مطلق، فيقتضي الوجوب، والنفساء كالحائض؛ لعدم الفارق من باب "مفهوم الموافقة"، ثانيهما: قوله صلى الله عليه وسلم لأم سلمة - حينما سألته عن نقض رأسها لغسل الجنابة -: "لا إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حَثَيات ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين" وهذا يلزم منه عدم وجوب نقض الرأس عند الغسل من الجنابة، وهذا عام للمرأة والرجل إذا كان له ظفائر؛ لأن الخطاب الموجَّه إلى صحابي عام لجميع الناس؛ إذا لم يوجد مخصِّص له، فإن قلتَ: لِمَ وجب نقضه عند غُسل الحيض والنفاس، ولا يجب عند غسل الجنابة؟ قلت: لأن الأصل هو نقضه في كل غسل؛ حتى يصل الماء إلى أصول الشعر، ولكن خُفِّف النقض عن الجنب؛ نظرًا لتكرره؛ حيث إنه يشق نقضه في كل جنابة؛ بخلاف الحائض والنفساء فنظرًا لعدم تكرره: وجب نقضه؛ لعدم المشقة في ذلك.

(31)

مسألة: في الثامن - من أعمال الغُسْل الكامل - وهو: أن يدلك ويفرك بدنه بيديه استحبابًا وذلك أثناء غسله خاصة ما يخفى عادة من البدن كالإبط ومطاوي البدن كالذي تحت حلقه وركبتيه وما بين إليتيه، وداخل سرته وأذنه ونحو ذلك؛ للمصلحة؛ =

ص: 211

طهوره

(32)

(ويغسل قدميه) ثانيًا (مكانًا آخر)

(33)

ويكفي الظن في الإسباغ،

(34)

قال بعضهم: ويحرك خاتمه؛ ليتيقن وصول الماء

(35)

(و) الغسل (المجزيء) أي: الكافي:

حيث إن ذلك يُغلِّب على ظنه وصول الماء إلى هذه المواضع؛ لتكمل طهارته، فإن قلتَ: لِمَ استحب ذلك؟ قلتُ: لكون الدلك زيادة على غسل البدن الواجب، وذلك للمبالغة في النظافة، والمنع من الأمراض.

(32)

مسألة: يُستحب أن يبدأ بالجانب الأيمن إذا أراد أن يغتسل، ثم الأيسر؛ للسنة الفعلية؛ حيث "كان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه التيامن في طهوره" - كما قالت عائشة - فإن قلتَ: لِمَ استحب ذلك؟ قلتُ: للحصول على بركة البدء باليمين.

(33)

مسألة: في التاسع - من أعمال الغُسْل الكامل - وهو: أن يغسل قدميه ثانيًا في موضع غير الموضع الذي اغتسل فيه أولًا، استحبابًا؛ للسنة الفعلية؛ حيث "كان صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك" - كما قالت عائشة -، فإن قلتَ: لِمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إنه يغلب على الظن أن أكثر القاذورات التي في أعلى البدن قد انحدرت إلى القدمين، فاستُحب ذلك لإزالة هذه القاذورات.

(34)

مسألة: يكفي في الغسل: أن يغلب على ظن المغتسل: أنه أسبغ وأروى بالماء كلَّ بقعة من بدنه، ولا يُشترط القطع بذلك؛ للسنة الفعلية؛ حيث قالت عائشة:"حتى إذا ظن أنه قد أروى بشرته"، فإن قلتَ: لِمَ يكفي الظن، ولا يشترط القطع؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن القطع في هذا يشق على المسلم.

(35)

مسألة: في العاشر والأخير - من أعمال الغُسْل الكامل - وهو: أن يحرك خاتمه وجوبًا إن غلب على ظنه عدم وصول الماء إلى ما تحته؛ للتلازم، حيث يلزم من وجوب غسل جميع البدن - كما سبق بيانه -: أن يغسل ما تحت الخاتم، تنبيه: ما سبق ذكره من الأعمال العشرة هي: أعمال الغسل الكامل المشتمل على الواجبات والمستحبات.

ص: 212

(أن ينوي) كما تقدم (ويُسمِّي) فيقول: "بسم الله"(ويعم بدنه بالغسل مرة) أي: يغسل ظاهر جميع بدنه وما في حكمه من غير ضرر كالفم والأنف والبشرة التي تحت الشعر ولو كثيفة، وباطن الشعر، وظاهره مع مسترسله، وما تحت حشفة أقلف إن أمكن شمرها

(36)

ويرتفع حدث قبل زوال حكم خبث،

(37)

ويُستحب سدر في غسل كافر أسلم وحائض،

(38)

وأخذها مِسْكًا تجعله في قطنة ونحوها تجعلها

(36)

مسألة: الغسل المجزيء أن ينوي ثم يُعمم بدنه بغسله بالماء مرة واحدة بشرط: أن يكون هذا شاملًا للظاهر من البدن، وللباطن المستطاع غسله، وقد سبق بيان ذلك في مسألتي (23 و 29)، فإن قلتَ: لِمَ كان هذا مجزئًا في الغسل؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه دفع مشقة وكلفة عن المسلمين؛ لقلة المياه، ولمشقة فعل الغسل الكامل، تنبيه: عند من يوجب التسمية: يوجبها بعد النية وقد سبق أنها سنة ..

(37)

مسألة: إذا وجد خبث ونجاسة على بشرة المسلم، وكان عليه غسل واجب لجنابة، ثم اغتسل له - كما وصفنا سابقًا - ولم تمنع تلك النجاسة من وصول الماء إلى البشرة: فإن حدثه يرتفع؛ للتلازم؛ حيث إنه اغتسل الغسل الشرعي: فيلزم ارتفاع حدثه وإن لم تزل تلك النجاسة؛ حيث إنها لا صلة لها بالحدث، وهذا هو المقصد منه.

(38)

مسألة: يُستحب للكافر والحائض والنفساء أن يستعملوا في غسلهم سدرًا - وهو: شجرة ثمرها النبق وأوراقها لها رائحة طيبة كما في "اللسان"(4/ 354) - ويكفي عنه الصابون ونحو ذلك من المنظفات؛ للسنة القولية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم "قد أمر قيس بن عاصم لما أسلم أن يغتسل بماء وسدر"، وأمر عائشة "أن تغتسل من الحيض بماء وسدر"، والنفساء كالحائض؛ لعدم الفارق من باب "مفهوم الموافقة"، فإن قلتَ: لِمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن مدة =

ص: 213

في فرجها، فإن لم تجد: فطيبًا، فإن لم تجد: فطينًا

(39)

(ويتوضأ بمدٍّ) استحبابًا، و "المدُّ" رطل وثلث رطل عراقي، ورطل وأوقيتان وسُبُعا أوقية مصري، وثلاث أواق وثلاثة أسباع أوقية دمشقية، وأوقيتان وأربعة أسباع أوقية قُدْسيًا (ويغتسل بصاع) وهو: أربعة أمداد، وإن زاد: جاز، لكن يُكره الإسراف ولو على نهر جار

(40)

ويحرم أن يغتسل عريانًا

الكفر، والحيض والنفاس تطول عادة، وتكثر خلال ذلك القاذورات والأوساخ، فاستحب السدر والصابون؛ لإزالة ذلك.

(39)

مسألة: يستحب للحائض والنفساء إذا فرغتا من غسلهما: أن تطيبًا محل خروج الدم بأي طيب كمسك ونحوه تجعله في قطنة أو خرقة ثم تلصقها في فرجها وما حوله، فإن لم يتيسَّر الطيب فإنها تجعل طينًا؛ للمصلحة؛ حيث إن ذلك يقطع الرائحة الكريهة التي تكون عادة في محل خروج الدم، وتُبدل ذلك برائحة طيبة مما يجعلها مقبولة عند زوجها، وسيدها، وجليساتها.

(40)

مسألة: يُستحب أن يغتسل بصاع من الماء، ويستحب أن يتوضأ بمد وهو: ربع الصاع، فإن زاد في الغسل أو الوضوء عن ذلك: فلا بأس، لكن يُكره الإسراف في تلك الزيادة؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد أنكر على سعد إسرافه في الوضوء فقال سعد: أفي الوضوء إسراف؟ قال صلى الله عليه وسلم: "نعم ولو كنت على نهر جار" وهذا شامل للوضوء والغسل؛ لعدم الفارق من باب "مفهوم الموافقة"، الثانية: السنة الفعلية؛ وهي من وجهين: أولهما: أنه صلى الله عليه وسلم "كان يتوضأ بمد، ويغتسل بصاع" - كما قال أنس - ثانيهما: قول عائشة: "كنتُ اغتسل أنا والنبي صلى الله عليه وسلم من إناء واحد يُقال له "الفرق""، و "الفرق" يسع ثلاثة أصواع عند أهل الحجاز - كما في "اللسان"(10/ 306) - فيلزم إباحة الزيادة القليلة، فإن قلتَ: لِمَ اسْتُحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه المحافظة على الماء؛ لاستعماله في أمور أخرى، وفيه المنع من مرض الوسوسة، =

ص: 214

بين الناس، وكُره خاليًا في الماء

(41)

(فإن أسبغ بأقل) مما ذكر في الوضوء أو الغسل: أجزأه، و"الإسباغ": تعميم العضو بالماء بحيث يجري عليه، ولا يكون مسحًا

(42)

(أو

لذا: كره الإسراف فيه، وفي إباحة الزيادة اليسيرة في استعمال الماء: دفع الحرج من وجود زيادة في ذلك، تنبيه: ما ذكره المصنف من مقاييس المد هي مقادير كانت في زمانه وهو عام (1051 هـ).

(41)

مسألة: يحرم أن يغتسل المسلم وهو عريان بين الناس، ويُكره أن يبالغ في التَّعرِّي وهو يغتسل وإن كان خاليًا وبعيدًا عن أنظار الناس؛ لقواعد: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "إذا اغتسل أحدكم فليستتر" حيث أوجب الشارع على المغتسل أن يستتر؛ لأن الأمر مطلق وهو يقتضي الوجوب، وترك الواجب حرام، الثانية: السنة الفعلية؛ حيث "إنه صلى الله عليه وسلم استتر بثوب واغتسل"، الثالثة: المصلحة؛ حيث إن المبالغة في التعري قد يؤدِّي إلى أن يؤذيه بعض الجن الساكنين في المياه، فنظرًا لهذا الاحتمال: كُرهت المبالغة في ذلك.

(42)

مسألة: إذا أسبغ المسلم الوضوء والغسل - بأن أجرى الماء على بدنه - بأقل من مد للمتوضئ، أو أقل من صاع للمغتسل: فإنه يجزئه؛ للكتاب؛ حيث قال تعالى: {وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} وقال تعالى في الوضوء: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ .. } حيث أوجب الاغتسال؛ لأن الأمر مطلق، فيقتضي الوجوب، و "الغسل" تعميم العضو، أو البدن بالماء بحيث يسيل ويجري عليه، وقد فعله، فيلزم: أن يجزئه أدنى ما يطلق عليه اسم الغسل، لفعله ما وجب عليه فعله، ولا يُسمى هذا مسحًا؛ لأن "الغسل" غير "المسح" لغة وشرعًا، فإن قلتَ: لِمَ أجزأ ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تيسير وتوسعة على المسلمين؛ فلم يُقيَّد المسلم بالمد والصاع بحيث لا يزيد ولا ينقص.

ص: 215

نوي بغسله الحَدَثين) أو الحدث، وأطلق، أو الصلاة ونحوها مما يحتاج لوضوء وغسل:(أجزأ) عن الحدثين، ولم يلزمه ترتيب ولا موالاة

(43)

(ويُسنُّ لجنب) ولو أنثى وحائض ونفساء انقطع دمهما (غسل فرجه)؛ لإزالة ما عليه من الأذى (والوضوء لأكل) وشرب؛ لقول عائشة رضي الله عنها: "رخَّص رسول الله صلى الله عليه وسلم للجنب إذا أراد أن يأكل ويشرب أن يتوضأ وضوءه للصلاة" رواه أحمد بإسناد صحيح (ونوم)؛ لقول عائشة: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن ينام وهو جنب غسل فرجه، وتوضأ وضوءه للصلاة" متفق عليه، ويكره تركه لنوم فقط (و) يُسنُّ أيضًا: غسل فرجه ووضوؤه لـ (معاودة وطء)؛ لحديث: "إذا أتى أحدكم أهله ثم أراد أن يُعاود فليتوضأ بينهما وضوءًا" رواه مسلم وغيره، وزاد الحاكم:"فإنه أنشط للعود"، والغسل أفضل،

(44)

وكره الإمام أحمد بناء الحمام وبيعه وإجارته، وقال: "من بنى

(43)

مسألة: إذا كان على المسلم حدث أصغر، وحدث أكبر، ونوى بغسله ارتفاع الحدثين معًا، أو نوى ارتفاع الحدث وأطلق فلم يقيده بالأكبر أو بالأصغر، أو نوى به إستباحة ما لا يُستباح إلا بالطهارة كالصلاة: فإن هذا يُجزيء، ويصح التطهر، ويصلي بعد ذلك، وهذه الحالة لا يشترط فيها ترتيب ولا موالاة - كما سبق في فروض الوضوء -؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم:"إنما الأعمال بالنيات" فإذا نوى بغُسله ارتفاع الحدثين صحت نيته، وكان العمل مقبولًا شرعًا، وقد سبق بيانه، فإن قلتَ: لِمَ سقط الترتيب والموالاة عن الوضوء هنا؟ قلتُ: نظرًا لدخول الوضوء ضمن الغُسل؛ إذ الغسل وضوء وزيادة.

(44)

مسألة: إذا كان على المسلم حدث أكبر - كجنابة ونحوها - وأراد أن يأكل أو يشرب، أو ينام أو يجامع امرأته مرة ثانية: فإن الأفضل أن يغتسل قبل فعل تلك الأمور الأربعة، فإن لم يفعل: فإنه يُستحب أن يغسل فرجه، ويتوضأ وضوءه للصلاة، ثم يفعل تلك الأمور الأربعة، وإن لم يفعل ذلك: فلا بأس أن =

ص: 216

حمامًا للنساء ليس بعدل"، (45) وللرجل دخوله بستره مع أمن الوقوع في محرم، ويُحرَّم على المرأة بلا عذر.

(46)

يفعلها بدون غسل أو وضوء؛ للسنة القولية، وهي من وجهين: أولهما: قول عائشة: "رخَّص رسول صلى الله عليه وسلم للجنب إذا أراد أن يأكل أو يشرب أو ينام أن يتوضأ وضوءه للصلاة" ثانيهما: قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا آتى أحدكم أهله، ثم أراد أن يُعاود فليتوضأ بينهما وضوءًا" ويلزم من "الوضوء": غسل الفرج، والأمر في قوله:"فليتوضأ" للاستحباب؛ حيث صرفه إليه الحديث السابق وهو واضح، فإن قلتَ: لِمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ لأن الغسل هو الأصل، وهو أنفع وأنشط للجسم، والوضوء، وغسل الفرج قبل فعل تلك الأمور الأربعة: يُخفف من الحدث الأكبر، ويُزيل ما علق به من روائح غير مقبولة ونجاسات، وأنشط للعود في الجماع مرة ثانية كما أخرج ذلك الحاكم عنه صلى الله عليه وسلم. (45) مسألة: يحرم بناء الحمام للنساء - وهو: مُغتسل عام يُعمل قديمًا داخل المدن يتنظَّف فيه الناس - ويكره بيعه، وشراؤه، وإجارته على الرجال؛ للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تساهل بعورات النساء، والشارع قد غلَّظ في ستر المرأة؛ حتى أن أفضل صلاتها تكون في أقصى بيتها، وما وقع الفساد والفتن إلا بسبب هذا التساهل، فحرم سدًا للذرائع، فإن قلتَ: يُكره ذلك ولا يحرم وهو ما ذكره المصنف هنا؛ للمصلحة؛ حيث إنه يحتمل وجود فساد للنساء فيه، وهذا الاحتمال هو الموجب للكراهة، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض المصلحتين" فعندنا: إنها ترقى إلى درجة التحريم، وعندهم: إنها تقتضي الكراهة فقط؛ لأنها محتملة.

(46)

مسألة: يُحرَّم على الرجل والمرأة دخول الحمام العام إذا لم يأمنا من الوقوع في محرم أو مكروه كأن يوجد أشخاص ينظرون إلى العورات، أو الداخل ينظر =

ص: 217

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

إلى عوراتهم، أما إذا أمنا ذلك: فيُباح للرجل مطلقًا، ويُباح للمرأة إذا وجد عذر عندها كمرض، أو كثرة أقذار، أو طول نفاس، ولا يزول ذلك إلا بماء الحمام؛ لما يتميز به من كثرة الماء وشدة حرارته؛ لقواعد: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "ما من امرأة تخلع ثيابها في غير بيت زوجها إلا هتكت ما بينها وبين الله من حجاب" ودخول الحمام يلزم منه خلع ثيابها في غير بيت زوجها، وهذا الوعيد دل على تحريم ذلك، لأنه عقاب ولا يعاقب إلا على فعل محرم، الثانية: فعل الصحابي؛ حيث إن ابن عباس دخل حمامًا بالجحفة، الثالثة: المصلحة؛ حيث إن عدم النظر إلى العورات يمنع الفتنة، وأن وجود العذر للمرأة من مرض ونحوه هو الذي تسبب في الترخص بدخول الحمام إذا أمنت الوقوع في محرم أو مكروه لدفع الضرر، وهذه المصلحة هي التي خصَّصت عموم السنة القولية السابقة الذكر.

هذه آخر مسائل باب "الغسل" ويليه باب "التيمم"

ص: 218

‌باب التيمُّم

في اللغة: القصد، وشرعًا: مسح الوجه واليدين بصعيد على وجه مخصوص، وهو من خصائص هذه الأمة، لم يجعله الله طهورًا لغيرها؛ توسعة عليها، وإحسانًا إليها فقال تعالى:{فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} الآية

(1)

(وهو) أي: التيمم (بدل طهارة

‌باب التيمُّم - وهو: بدل الوضوء والغُسْل

وفيه ثنتان وخمسون مسألة:

(1)

مسألة: التيمم لغة مأخوذ من "الأمِّ" وهو: القصد، يقال:"أمَّه" أي: قصده، ثم نقل في الشرع للفعل المخصوص الذي هو المراد به في الاصطلاح: وهو: مسح الوجه والكفين بشيء من الصعيد من تراب ونحوه، على وجه التَّعبد، بطرق وشرائط مخصوصة - سيأتي بيانها -، فإن قلتَ: لِمَ ذكر التيمم بعد باب "الغسل"؟ قلتُ: لأنه بدل عن الماء إذا فقد، أو عُجِز عن استعماله، ويذكر البدل بعد المبدل عادة، فإن قلتَ: لِمَ كان التيمم من خصائص هذه الأمة؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "أُعطيتُ خمسًا لم يُعطهن أحد قبلي .. " وذكر منها: "وجُعِلَت لي الأرض مسجدًا وطهورا"؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن التيمم فيه توسعة وتيسير لهذه الأمة وإحسان إليها؛ إذ أراد الله تعالى لهم تحصيل مصالح الصلاة في وقتها قبل زواله، فلولا ذلك لأمر عادم الماء بتأخير الصلاة حتى يجد الماء وهذا يفوت عليهم الصلاة في وقتها، وهذا يدل على أن الشارع قد اهتم بمصالح فعل الطاعة في وقتها المحدَّد شرعًا أعظم من اهتمامه بمصالح الطهارة والتنظيف، فإن قلتَ: لِمَ اهتم الشارع بإيقاع العبادة في وقتها دون تقديم أو تأخير؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إنه يُقطع بأن الشارع لا يأمر بشيء إلا وفيه جلب مصلحة للعباد، ولا ينهى عن شيء إلا وفيه مفسدة، فالمحافظة على إيقاع العبادة في وقتها المحدد فيه مصالح؛ لكون الله قد حصرها في هذا الوقت دون =

ص: 219

الماء) لكل ما يفعل بها عند العجز عنه شرعًا: كصلاة، وطواف، ومس مصحف، وقراءة قرآن، ووطء حائض طهرت،

(2)

ويُشترط له شرطان: أحدهما: دخول الوقت، وقد ذكره بقوله:(إذا دخل وقت فريضة) أو منذورة بوقت معيَّن، أو عيد،

غيره، قال ابن عباس:"إذا سمعت نداء الله فارفع رأسك فتجده إما يدعوك لخير، أو يصرفك عن شر".

(2)

مسألة: التيمم قد جعله الله تعالى بدلًا عن الطهارة بالماء - فيما لا يفعل إلا بالطهارة كالصلاة، والطواف، ومس المصحف، وقراءة القرآن ونحو ذلك -؛ لقاعدتين: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} حيث أوجب الشارع التيمم عند عدم الماء؛ لأن الأمر مطلق، فيقتضي الوجوب، ودل مفهوم التقسيم هنا على أنه لا يتطهر بغيرهما على الترتيب المذكور، الثانية: السنة التقريرية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد أقرَّ عمَّارًا على استعماله للتراب لما فقد الماء، ولكنه علَّمه طريقة ذلك قائلًا:"إنما يكفيك أن تقول بيديك هكذا، ثم ضرب ضربة واحدة ثم مسح الشمال على اليمين وظاهر كفيه ووجهه" وكذا: أقرَّ صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص لما تيمم؛ نظرًا لخوفه على نفسه من استعمال الماء، وصفة التيمم في الحديث الأكبر والأصغر واحدة، فإن قلتَ: لِمَ جعل التيمم بالتراب بدلًا عن الماء مع وجود الفرق بينهما؛ حيث إن الماء يُطهر وينظف، والتراب يشوِّه ويُقذِّر؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن الماء والتراب يشتركان في كثرة وجودهما، وتكوين المخلوقات من بشر وحيوان ونبات، فهذه لا يمكن أن تكوَّن بتراب بلا ماء، ولا بماء بلا تراب، فلذا: جمع بينهما، وهذا كله للتيسير على العباد، وقد فصَّلتُ القول في ذلك في الرَّد على النظام القائل: إن الشريعة قد جمعت بين مختلفات كجعل التراب بدلًا عن الماء، لذا لا يجوز فيها القياس وذلك في كتابي "المهذب"(4/ 1909).

ص: 220

أو وُجد كسوف، أو اجتمع الناس لاستسقاء، أو غسل الميت، أو يُمِّم؛ لعذر، أو ذكر فائتة وأراد فعلها (أو أبيحت نافلة): بأن لا يكون وقت نهي عن فعلها، الشرط الثاني: تعذُّر الماء، وهو ما أشار إليه بقوله:(وعُدم الماء) حضرًا كان أو سفرًا، قصيرًا كان أو طويلًا، مباحًا كان أو غيره: فمن خرج لحرثٍ، أو احتطابٍ ونحوهما، ولا يمكنه حمل الماء معه ولا الرجوع للوضوء إلا بتفويت حاجته: فله التيمُّم، ولا إعادة عليه

(3)

(أو زاد) الماء (على ثمنه) أي: ثمن مثله في مكانه: بأن لم

(3)

مسألة: يُشترط للتيمُّم شرطان: أولهما: أن يدخل وقت صلاة أراد فعلها - في وقت لا يحرم فعلها فيه كأوقات النهي -، وهذا شامل لجميع الصلوات الفرائض والنوافل، ثانيهما: أن لا يجد الماء بعد البحث عنه: سواء كان مسافرًا أو لا، أو كان مسافرًا سفرًا طويلًا أو لا، مباحًا أو لا، وهو يصعب عليه حمل الماء، أو الرجوع للوضوء بالماء بدون تفويت حاجته والضرر به، فإذا توفر هذان الشرطان: أبيح له التيمُّم، ويصلي ولا إعادة عليه ولو وجد الماء بعد فراغه من الصلاة، لقاعدتين: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} حيث إن ذلك تضمَّن الشرط الثاني؛ فالذي لا يجد الماء يتيمم، وهذا عام، فيشمل جميع الأحوال، والمواضع والصفات، والأزمان، لأن "ماء" نكرة في سياق نفي، وهو من صيغ العموم، الثانية: القياس، بيانه: كما أن طهارة المستحاضة لا تصح إلا بعد دخول الوقت وإرادتها للصلاة، فكذلك التيمُّم لا يصح إلا بعد دخول الوقت وإرادة الشخص الصلاة، والجامع: أن كلًا منهما طهارة ضرورة لاستباحة ما لا يُباح إلا بطهارة، وهذا القياس قد خصَّص عموم الآية السابقة من حيث الأزمان وهو الشرط الأول، فإن قلتَ: لِمَ اشتُرط هذان الشرطان؟ قلتُ: لأن الماء هو الأصل في الطهارة، فإذا لم يجده - بعد البحث عنه - فالتراب ينوب عنه؛ تيسيرًا على الناس - كما سبق - ولا =

ص: 221

يبذل إلا بزائد (كثيرًا) عادة (أو) بـ (ثمن يُعجزه) أو يحتاج له، أو لمن نفقته عليه (أو خاف باستعماله) أي: باستعمال الماء ضررًا (أو) خاف بـ (طلبه ضرر بدنه أو) ضرر (رفيقه أو) ضرر (حرمته) أي: زوجته، أو امرأة من أقاربه (أو) ضرر (ماله بعطش أو مرض أو هلاك ونحوه) كخوفه باستعماله تأخر البرء، أو بقاء أثر شين في جسده:(شرع التيمُّم) أي: وجب لما يجب الوضوء أو الغسل له، وسُنَّ لما يُسنُّ له ذلك، وهو: جواب "إذا" من قوله: "إذا دخل وقت فريضة"،

(4)

ويلزم شراء ماء وحبل

يصدق عليه أنه عادم للماء إلا بعد دخول الوقت؛ لاحتياجه إلى الصلاة، فلو تيمم قبل دخول الوقت لفعل شيئًا لم يحتج إليه؛ لاحتمال وجود الماء بعد دخول الوقت، فإن قلتَ: لا يشترط الأول، فيجوز التيمُّم قبل دخول الوقت وهو قول أبي حنيفة، وكثير من العلماء؛ للقياس: بيانه: كما يجوز التطهر بالماء قبل دخول الوقت فكذلك يجوز التيمُّم قبل دخول الوقت والجامع: أن كلًا منهما طهارة مشروطة للصلاة فيُباح تقديمها، قلتُ: هذا قياس فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ لأن التيمُّم شرع ضرورة عدم وجود الماء، أو عدم القدرة على استعماله يُؤيده: أنه عند وجود الماء يبطل التيمُّم، والضرورة تقدَّر بقدرها، فلا يُتيمَّم إلا بعد دخول الوقت، لاحتمال وجود ماء فيما لو تيمم قبل دخول الوقت، بخلاف التطهر بالماء، فليس بضرورة، وليس هو بدل عن شيء، حيث إنه هو الأصل، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض القياسين" فنحن ألحقناه بتطهر المستحاضة حيث إن المتيمم أكثر شبهًا بها لذلك، اشترطنا دخول الوقت، وهم ألحقوه بالمتطهر بالماء؛ لكونه أكثر شبهًا به عندهم وهذا يسمى:"قياس الشبه".

(4)

مسألة: يباح التيمُّم إذا خاف من استعماله على نفسه الهلاك، أو خاف على جسده الضرر، أو خاف على ماله من نقصان - فيما لو لم يجد الماء إلا بثمن =

ص: 222

ودلو، بثمن مثل، أو زائد يسيرًا فاضل عن حاجته، واستعارة الحبل والدلو، وقبول الماء قرضًا وهبة، وقبول ثمنه قرضًا إذا كان له وفاء،

(5)

ويجب بذله لعطشان ولو

زائد - أو خاف الضرر بسبب البحث عنه على نفسه أو نسائه أو أولاده أو ماله، أو رفقائه، أو جيرانه، لقاعدتين: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} حيث إن هذا مطلق في أي آلة يُقتل بها، فيحرم على المسلم استعمال ماء يغلب على ظنه الهلاك بسببه، أو هلاك غيره، وقد استدل بهذه الآية عمرو بن العاص لما تيمم عن الغسل، وترك الماء مع وجوده في ليلة باردة، الثانية: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا ضرار في الإسلام" وهذا عام، يشمل كل ما يضر المسلم أو غيره ممن يطلع عليه بأي ضرر؛ لأن "ضرر وضرار" نكرة في سياق نفي، وهو من صيغ العموم، فإن قلتَ: لِمَ أُبيح ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية للمسلم من أي ضرر يرجع إليه بسبب استعمال الماء: سواء كان هذا الضرر في بدنه، أو في بدن غيره، أو في ماله، أو مال غيره ممن حوله ويعلمهم، فشرع الله العبادات ليرحم بها عباده، لا ليعذبهم بها بأي ضرر، فإن قلتَ: لِمَ لم يجعل ذلك من شروط التيمُّم؟ قلتُ: لندرة وقوع ذلك.

(5)

مسألة: يجب على المسلم أن يوفر كل ما يجلب له الماء، ويتسبب في إيجاده كحفر بئر، وحبل ودلو وإناء أو استعارها أو وهبت له، أو شراء الماء لنفسه إذا كان ذلك بثمن المثل دون زيادة، أو اقترض ثمنه، أو وجدت زيادة قليلة لا تضر بماله، ويقدر على الوفاء بسهولة؛ للكتاب؛ حيث قال تعالى:{فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} حيث دل منطوق ذلك على أن العادم للماء، ينتقل إلى التيمُّم، والقادر - دون ضرر - على إيجاد ما يجلب له الماء بأي شيء مما ذكر: يسمى واجدًا للماء، فلا يحل له أن يتيمم، فإن قلتَ: لِمَ وجب ذلك؟ قلتُ: لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.

ص: 223

نجسًا

(6)

(ومن وجد ماء يكفي بعض طُهره) من حدث أكبر أو أصغر: (تيمم بعد استعماله) ولا يتيمم قبله

(7)

ولو كان على بدنه نجاسة، وهو محدث: غسل النجاسة،

(6)

مسألة: إذا كان معه ماء يكفي لتطهره، ووجد آدميًا عطشانًا - مسلمًا أو كافرًا - فإنه يجب إعطاؤه لهذا الشخص، ويتيمم؛ للقياس، بيانه: كما أنه يجب إنقاذ الغريق أو الحريق ولو خرج الوقت، فكذلك يجب ترك التطهر بالماء لإنقاذ ذلك العطشان والجامع: أن كلًا منهما فيه ترك شرط من شروط الصلاة من أجل إنقاذ هلكى، فإن قلتَ: لِمَ شرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه دفع مفسدة، ودفع المفسدة مقدَّم على جلب مصلحة التطهر بالماء، ولو كان المبذول له الماء نجسًا كالكافر؛ للقياس الأولى: بيانه: أن امرأة بغيَّاً قد جلبت ماء لكلب قد عطش فشكر الله لها فغفر الله لها، فإذا كان ذلك في الكلب وهو نجس فإنه يكون في الآدمي العطشان أولى.

(7)

مسألة: إذا كان معه ماء يكفي غسل بعض أعضاء الوضوء في الحدث الأصغر، أو يكفي غسل بعض بدنه في الحدث الأكبر: فيجب عليه أن يستعمله في هذا البعض، ثم يتيمم للباقي الذي لم يغسله ولا يتيمم قبل استعمال هذا الماء؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم:"إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" وهذا عام؛ لأن "ما" الموصولة من صيغ العموم فيشمل ما نحن فيه؛ حيث إن الواجد لبعض الماء يستطيع أن يستعمله، فيجب عليه هذا الاستعمال؛ لأن الأمر مطلق وهو للوجوب، فإذا انتهى الماء يتيمم للباقي، لكون ذلك غاية استطاعته، فإن قلتَ: لِمَ شرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه مراعاة امتثال أوامر الشارع، ومراعاة حال المسلم، فإن قلتَ: لِمَ لا يجوز التيمُّم قبل استعمال الماء هنا؟ قلتُ: لأن التيمُّم لا يصح إلا إذا تحقق شرط: عدم الماء - كما سبق في مسألة (3) - وباستعماله للماء أولًا يتحقق هذا الشرط.

ص: 224

وتيمم للحدث بعد غسلها، وكذلك: لو كانت النجاسة في ثوبه

(8)

(ومن جُرح) وتضرر بغسل الجرح أو مسحه بالماء: (تيمَّم له) ولما يتضرر بغسله مما قرب منه (وغسل الباقي) فإن لم يتضرر بمسحه: وجب وأجزأ، وإن كان جرحه ببعض أعضاء وضوئه: لزمه إذا توضأ مراعاة الترتيب فيتيمم له عند غسله لو كان صحيحًا، ومراعاة الموالاة فيُعيد غسل الصحيح عند كل تيمم بخلاف غسل الجنابة فلا ترتيب فيه، ولا موالاة

(9)

(ويجب) على من عدم الماء إذا دخل وقت الصلاة: (طلب الماء في

(8)

مسألة: إذا وُجدت نجاسة على بدنه أو ثوبه، وكان عليه حَدَث، ومعه ماء يكفي أحدهما فقط: فإنه يجب أن يغسل به النجاسة، ويتيمم لحدثه؛ للمصلحة؛ حيث إن النجاسة تنتشر في سائر البدن، بخلاف الحدث فهو حاصل دون انتشار، فتُغسل النجاسة دفعًا لمفسدة انتشارها ودفع المفسدة مقدم على جلب المصلحة.

(9)

مسألة: إذا وُجد جرح أو كسر بأيَّ عضو من أعضاء الوضوء، أو بأي بقعة من البدن، وغلب على ظنه أنه سيتضرر إذا غسل الجرح أو الكسر بالماء - في الحدث الأصغر أو الأكبر -: فإنه لا يغسله، بل يمسحه مسحًا خفيفًا بكفٍّ مبلل بالماء، ويغسل الباقي ولا يتيمم - كما قلنا في المسح على الجبيرة - فإن غلب على ظنه أنه سيتضرر بالمسح عليه: فإنه يتركه بلا غسل ولا مسح، ويتيمم له، ويغسل الباقي: سواء تيمم له قبل أو بعد استعمال الماء، وسواء رتب التيمُّم مع الغسل أو لا، وسواء راعى شرط الموالاة بين الأعضاء: بأن غسل الصحيح عند كل تيمم أو لا؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: - في حديث صاحب الشجة - "إنما يكفيه أن يتيمَّم ويعصب على جرحه خرقة، ثم يمسح عليه ثم يغسل سائر جسده" والحدث الأصغر كالحدث الأكبر؛ لعدم الفارق في هذا من باب "مفهوم الموافقة"، ولم يُشترط شيء في ذلك، بل أُطلق الأمر هنا، وهذا يشمل كل ما ذكرناه، وهذا فيه دفع الضرر عن العباد، وهذا مقصد من مقاصد =

ص: 225

رحله): بأن يُفتش في رَحْلِه ما يمكن أن يكون فيه (و) في (قربه) بأن ينظر خلفه، وأمامه، وعن يمينه، وعن شماله، فإن رأى ما يشك معه في الماء: قصده فاستبرأه، ويطلبه من رفيقه: فإن تيمم قبل طلبه: لم يصح ما لم يتحقق عدمه (و) يلزمه أيضا طلبه (بدلالة) ثقةً إذا كان قريبًا عرفًا، ولم يخف فوت وقت ولو المختار، أو رفقة، أو على نفسه أو ماله

(10)

ولا يتيمم لخوف فوت

الشريعة فإن قلتَ: يشترط الترتيب والموالاة بين التيمم وغسل الأعضاء في الوضوء، - وهو ما ذكره المصنف - قلتُ: لم أجد دليلًا قويًا على ذلك، بل الدليل على خلافه - وهو حديث صاحب الشجة، والمصلحة؛ حيث إن في هذا الشرط مشقة على العباد ولا يأمر الشارع بما فيه مشقة، قال ابن تيمية:"إن الفصل بين أعضاء الوضوء بالتيمم بدعة".

(10)

مسألة: يتحقق عدم وجود الماء؛ ليتيمم بطرق: أولها: أن يبحث عن الماء في الأواني التي يُحفظ فيها الماء عادةً في بيته أو رحله، ثانيها: أن يبحث عنه فيما يقرب منه: عن يمينه، وشماله، وأمامه وخلفه، ثالثها: أن يطلبه ممن تلزمه نفقته، أو رفيقه في الطريق، رابعها: أن يسأل ثقة يستطيع أن يدله عليه، فإذا لم يجد ماء بعد فعله لهذه الطرق: فإنه يتيمم، ولكن يشترط في ذلك: أن لا يخاف فوات وقت الصلاة الاختياري أو الاضطراري - في وقت العصر كما سيأتي بيانه - فإن خاف هذا، أو خاف فوات رفقته، أو خاف على نفسه، أو ماله، أو أهله بسبب فعله لهذه الطرق، أو بعضها: فإنه يتيمم ويصحُّ ذلك بدون فعل أي شيء من تلك الطرق؛ لقاعدتين: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} وإذا فعل تلك الطرق ولم يجده بعدها: فهو عادم للماء، فيصح تيممه، الثانية: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا =

ص: 226

جنازة،

(11)

ولا وقت فرض، إلا إذا وصل مسافر إلى الماء وقد ضاق الوقت، أو علم أن النوبة لا تصل إليه إلا بعده، أو علمه قريبًا وخاف فوت الوقت إن قصده،

(12)

ومن باع الماء أو وهبه بعد دخول الوقت، ولم يترك ما يتطهر به: حرم، ولم

منه ما استطعتم" وهذه الطرق الأربعة هي غاية ما يستطيعه، فإذا لم يجد الماء بعد فعلها: صدق عليه أنه عادم للماء، ومعلوم: أنه لا يستطيع طلب الماء مع أنه يتسبب في أي ضرر من الأضرار عليه؛ تحقيقًا لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا ضرار في الإسلام" - وقد سبق ذلك في مسألة (4) - فإن قلتَ: لِمَا اشترط: عدم خوفه من فوات الوقت، أو خوفه على شيء مما عنده؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه الحث على الصلاة في وقتها، ودفع الضرر عنه.

(11)

مسألة: يباح التيمم لصلاة الجنازة لمن خاف فواتها بالتشاغل بطلب الماء، أو الوضوء؛ لفعل الصحابي؛ حيث إن ابن عمر قد تيمم وصلى على الجنازة، فإن قلتَ: لِمَ أبيح ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تحصيل للثواب، ونفع الميت، فإن قلتَ: لا يباح التيمم هنا - وهو ما ذكره المصنف هنا - قلتُ: لم أجد دليلًا قويًا على ذلك، بل هو مخالف لفعل الصحابي والمصلحة.

(12)

مسألة: يُباح التيمُّم إذا خشي خروج وقت صلاة الفرض بسبب تشاغله بالتطهر بالماء الذي عنده، أو وصل إلى الماء بعد أن ضاق وقتها، وخشي إن تشاغل بالتطهر، أو بسحب الماء من البئر أن يخرج الوقت، أو علم أن حصته من الماء لن تصل إليه في الوقت، أو رأى الماء بعيدًا أو قريبًا وخشي إن طلبه يخرج الوقت؛ للكتاب؛ حيث قال تعالى:{فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} وهذا الشخص في تلك الصور لم يستطع التطهر بالماء في وقت الصلاة، فيصدق عليه: أنه غير واجد للماء في وقت الصلاة، فيلزم منه: وجود شرطي التيمُّم وهما: "دخول وقت الصلاة" و "عدم الماء، أو العجز عن استعماله" - كما =

ص: 227

يصح العقد، ثم إن تيمم وصلى: لم يُعد إن عجز عن رَدِّه

(13)

(فإن) كان قادرًا على

سبق في مسألة (3 و 4) - وإذا وُجد شرطا التيمم: أبيح، فإن قلتَ: لِمَ أبيح ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك يجعله يصلي في الوقت؛ لأن الشارع قد اهتم بإيقاع الصلاة بوقتها أكثر من اهتمامه بالتطهر، - كما سبق ذلك في مسألة (1) - فإن قلتَ: لا تسلم الصورة الأولى؛ حيث إنه إذا خاف فوات وقت فرض وعنده ماء، وخشي إن تشاغل بالتطهر به أن يخرج هذا الوقت: فإنه يجب عليه التطهر به وإن خرج وقت الفريضة، ولا يتيمم؛ حرصًا على الصلاة في الوقت - هذا ما ذكره بعض العلماء منهم المصنف هنا؛ للكتاب؛ حيث قال تعالى:{فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} وهذا واجد للماء فلا يجوز له التيمُّم؛ لفقدان شرطه، قلتُ: إن الواجد للماء مع عدم قدرته على استعماله والصلاة في وقتها هذا يُسمى واجدًا للماء لكنه عاجز عن استعماله قبل خروج وقت الصلاة فهو كالمريض العاجز عن استعمال الماء أنه يمكن أن يُشفى بعد خروج الوقت، وكالشخص الذي وصل إلى الماء لكن خشي إن اشتغل بسحبه أن يخرج الوقت، فلا فرق بين الصور، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "الواجد للماء مع عدم قدرته على استعماله والصلاة في وقتها هل يُسمى واجدًا للماء حقيقة أو لا؟ " فعندنا: لا يسمى واجدًا حقيقة، وعندهم: يسمى واجدًا حقيقة، وهو خلاف في المراد من الوجدان الوارد في الآية.

(13)

مسألة: إذا باع زيد ما عنده من الماء بعد دخول وقت الصلاة لبكر أو وهبه له - لا للشرب -: فإن ذلك حرام، والعقد غير صحيح، فلا يحل لبكر أن يتطهر به إذا علم الحال؛ لكونه مقبوضًا بعقد فاسد، وعلى زيد أن يردَّ ذلك الماء الذي باعه ويتطهر به، فإن عجز عن ذلك: فإنه يتيمم ويصلي ولا يُعيد وإن ردَّه بعد الصلاة؛ للتلازم؛ حيث يلزم من استطاعته لردِّ الماء الذي باعه: عدم صحة =

ص: 228

الماء لكن (نسي قدرته عليه) أو جهله بموضع يمكن استعماله (وتيمم) وصلى: (أعاد)؛ لأن النسيان لا يُخرجه عن كونه واجدًا، وأما من ضل عن رحله وبه الماء وقد طلبه، أو ضل عن موضع بئر كان يعرفها وتيمم وصلى: فلا إعادة عليه؛ لأنه حال تيممه لم يكن واجدًا للماء

(14)

(وإن نوى بتيممه أحداثًا) متنوعة توجب وضوءًا أو غُسْلًا: أجزأه عن الجميع، وكذا: لو نوى أحدها، أو نوى بتيممه

تيممه؛ لوجود الماء، ويلزم من عدم استطاعته لردِّه: صحة تيممه؛ لتوفر شرطيه وهما: "دخول الوقت" و "عدم الماء أو العجز عن استعماله".

(14)

مسألة: إذا كان عنده ماء، ولكنه ضلَّ عنه، أو نسي أنه يقدر على توفيره، أو نسي أو جهل موضعه وحضرت الصلاة: فإنه يتيمم ويصلي، فإن استطاع على توفير ذلك الماء بعد فراغه من الصلاة: فلا يعيدها ولو كان الوقت لم يخرج؛ للكتاب؛ حيث قال تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} وهو حال تيممه وصلاته: لم يكن واجدًا للماء، فيصح تيممه وصلاته بذلك التيمُّم؛ لتوفر شرطي التيمُّم، فإن قلتَ: لِمَ لا يعيد صلاته هنا؟ قلتُ: لكونه فعل ما شُرع له فعله، ولدفع المشقة، فإن قلتَ: إذا نسي قدرته على الماء، أو جهله ثم تيمم وصلى، ثم قدر عليه ووجده: فإنه يتوضأ ويعيد الصلاة - وهو قول بعض العلماء، وهو ما ذكره المصنف هنا -؛ للتلازم؛ حيث إن هذا يُعتبر واجدًا للماء فلم يتوفر شرط التيمُّم، فيلزم عدم صحة تيممه، وصلاته به، قلتُ: بل توفر شرط التيمُّم حال تيممه - وهو عدم وجود الماء لنسيانه له أو جهله بمكانه - فصح التيمم لذلك، فإن قلتَ: ما سبب هذا الخلاف؟ قلتُ: سببه: "النسيان والجهل بموضع الماء أو القدرة عليه هل يُخرجه عن كونه واجدًا أو لا؟ " فعندنا: يُخرجه حقيقة عن كونه واجدًا حال تيممه، وعندهم: لا يُخرجه حقيقة، وهذا أيضًا خلاف في المراد من الوجدان الوارد في الآية.

ص: 229

الحدثين،

(15)

ولا يكفي أحدهما عن الآخر

(16)

(أو) نوى بتيممه (نجاسة على بدنه تضرُّه إزالتها، أو عُدِم ما يُزيلها) به (أو خاف بردًا) ولو حضرًا مع عدم ما يُسخِّن به الماء بعد تخفيفها ما أمكن وجوبًا: أجزاء التيمُّم لها؛ لعموم: "جُعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا"

(17)

(أو حُبسَ في مصر) فلم يصل الماء، أو حُبسَ عنه الماء:

(15)

مسألة: إذا كان عليه عدة أحداث توجب وضوءًا - كبول وغائط -، أو عليه عدة أحداث توجب غسلًا - كجنابة وحيض - ولم يجد ماء: فإنه يتيمم عنها جميعًا تيممًا واحدًا، وتصح صلاته بذلك، ولا يعيد ذلك بشرط: أن ينوي به كل تلك الأحداث ويقصدها، وكذلك مثله: لو نوى بهذا التيمُّم إباحة الصلاة دون تعيين، أو نوى الحدثين - الأكبر والأصغر - معًا؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم:"إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امريء ما نوى" والنية هنا كالنية في الوضوء والغسل كما سبق في مسألة (19) من باب "فروض الوضوء" ومسألة (23) من باب "الغُسل".

(16)

مسألة: إذا كان عنده حدث أصغر، وحدث أكبر فنوى بتيممه: الحدث الأكبر فقط، أو نوى به الحدث الأصغر فقط: فإن نيته عن الأكبر لا تكفي عن الأصغر، ونيته عن الأصغر لا تكفي عن الأكبر، فلا بد من إحضارهما في الذهن معًا؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم:"إنما الأعمال بالنيات" فالعمل لا يصح إلا إذا نُوي وقُصد، وهنا نوى أحدهما دون الآخر، فإن قلتَ: لِمَ شرع هذا؟ قلتُ: لأن التيمُّم لا يرفع الحدث حقيقة، لكنه يُبيح الصلاة، ويُبيح ما لا يُباح إلا بطهارة كالطواف، ومس المصحف، فلا بد من قصده بالنية.

(17)

مسألة: يشرع التيمم للنجاسة، فلو سقطت نجاسة من بول أو غائط - على جُرح وخشي من إزالتها: الضَّرر، أو سقطت على بدنه ولم يجد ماء يزيلها به: فعليه تخفيف تلك النجاسة على حسب قدرته، ثم يتيمم لها، =

ص: 230

(فتيمم): أجزأه

(18)

(أو عدم الماء والتراب) كمن حبس بمحل لا ماء فيه

= ويصلي ولا يعيد، وينوي أن هذا التيمم عن تلك النجاسة؛ للسنة القولية؛ قال صلى الله عليه وسلم:"جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا"، وقوله:"الصعيد الطيب طهور المسلم" وغيرهما من النصوص الواردة في التيمم؛ حيث إنها عامة للتيمم عن الحدث وعن النجس ولم يوجد مخصص يخصها بالحدث، والأصل: إعمال العموم حتى يرد ما يخصصه؛ استصحابًا، فإن قلتَ: إنه لا يُتيمم للنجاسة - وهو قول كثير من العلماء -؛ للتلازم؛ حيث إن المقصود من غسلها: إزالة النجاسة فيلزم عدم صحة التيمم لها؛ لأن التيمم لا تحصل به إزالتها قلتُ: التيمم شُرع - في الأصل - لاستباحة الصلاة فقط، ولا يُزيل الحدث حقيقة بدليل: أنه لو وجد الماء بعد التيمم بطل التيمم، وهو كذلك لا يزيل النجس فاستوى الحدث والنجس في ذلك. [فرع]: لا يشرع التيمم عن النجاسة الساقطة على الثوب، أو على الأرض إذا أراد أن يصلي بذلك الثوب، أو على تلك الأرض، بل يصلي على حسب حاله، ولا يعيد؛ للإجماع على ذلك، فإن قلتَ: لِمَ لا يشرع هنا؟ قلتُ: لدفع المشقة عن الناس. [فرع ثاني]: إذا لم يستطع استعمال الماء لبرودته، أو حرارته، أو خاف الضرر من استعمالهما، ولم يكن عنده ما يسخن به البارد، ولا ما يبرد به الحار: فإنه يتركهما ويتيمم، ويصلي ولو كان مقيمًا، ولا يعيد صلاته ولو وجد الماء المناسب بعد ذلك؛ وهو داخل ضمن مسألة (4).

(18)

مسألة: إذا حبس في مكان فلم يستطع الوصول إلى الماء، أو منع عنه الماء: فإنه يتيمم ويصلي، ولا يعيد، ولو وجده بعد الفراغ منها؛ للكتاب؛ حيث قال تعالى:{فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} حيث إن شرط التيمم قد وجد، وهو هنا: عدم وجود الماء حال تيممه فيلزم صحة التيمم.

ص: 231

ولا تراب، وكذا: من به قروح لا يستطيع معها لمس البشرة بماء ولا تراب: (صلى) الفرض فقط على حسب حاله (ولم يُعِدْ)؛ لأنه أتى بما أمر به فخرج عن عهدته،

(19)

ولا يزيد على ما يجزيء في الصلاة: فلا يقرأ زائدًا على الفاتحة، ولا يسبح غير مرة، ولا يزيد في طمأنينة ركوع أو سجود، وجلوس بين السجدتين، ولا على ما يجزيء في التشهدين،

(20)

وتبطل صلاته بحدث ونحوه

(19)

مسألة: إذا لم يجد ماء ولا ما يتيمم به، أو وجدهما ولكن لا يستطيع استعمالهما بسبب قروح أو جروح: فإنه لا يستعمل أي واحد منهما، ويصلي على حسب حاله ولا يعيدها، ولو وجد أحدهما بعد فراغه منها؛ لقاعدتين: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} حيث دل مفهوم التقسيم من هذه الآية على أنه إذا فقد الماء والتراب لا يستعمل غيرهما في الطهارة، بل يصلي على حسب حاله، الثانية: القياس؛ بيانه: كما أن الفاقد لستر العورة يصلي عريانًا على حسب حاله، فكذلك الفاقد لأحد الطهورين يصلي على حسب حاله والجامع: أنه في كل منهما قد عجز عن توفير شرط الصلاة فيسقط بذلك، فإن قلتَ: لِمَ شرع هذا؟ قلتُ: لأن هذا منتهى ما يستطيع فعله مما أمر به فخرج عن العهدة، أصله قوله تعالى: ? {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} وقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم".

(20)

مسألة: صفة صلاة من صلى بلا تطهر بماء ولا تيمم: هي: أن يقتصر على أركان الصلاة وواجباتها فقط: بأن يعتدل قائمًا، ويكبر تكبيرة الإحرام، ثم يقرأ الفاتحة، ثم يكبر تكبيرة الركوع، ثم يقول:"سبحان ربي العظيم" مرة واحدة، ثم يرفع منه قائلًا:"سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد"، ثم يكبر تكبيرة السجود، ثم يسجد على الأعضاء السبعة، ويقول:"سبحان ربي الأعلى" مرة واحدة، ثم يرفع منه، ويجلس بين السجدتين قائلًا: "ربي اغفر =

ص: 232

فيها،

(21)

ولا يؤم متطهرًا بأحدهما

(22)

(ويجب التيمم بترابط): فلا يجوز التيمم برمل، وجصًّ، ونحيت الحجارة ونحوها

(23)

= لي" مرة واحدة، ثم يسجد السجدة الثانية، ثم يقوم من تلك السجدة ويعتدل قائمًا، ثم يفعل ذلك في كل صلاته، ويطمئن في الكل، ثم يجلس للتشهد الأول، ثم يجلس للتشهد الثاني والأخير وهو الذي قبل التسليم - ثم يُسلِّم؛ للقياس؛ بيانه: كما أن المصلي عريانًا يقتصر على أركان الصلاة وواجباتها فقط، فكذلك فاقد الطهورين يصلي مثله، والجامع: أن كلا منهما قد فقد شرطًا من شروط الصلاة فيقتصر على المجزيء منها. فإن قلتَ: لِمَ شرع هذا؟ قلتُ: لأن هذا هو المناسب لحاله؛ حيث لا يليق أن يطيل المناجاة وهو على غير طهارة.

(21)

مسألة: يُبطل صلاة من صلى بلا ماء ولا تيمم: كلُّ ما يبطل صلاة من صلى بأحدهما، من حَدَث، أو أكل، أو شرب، أو كلام؛ للقياس؛ بيانه: كما أن الصلاة بالطهارة بأحدهما تبطل بذلك فكذلك الصلاة بدونهما والجامع: أن كلا منهما يُسمَّى صلاة، فلا يناسبها مبطلاتها، وهذا هو المقصد من ذلك.

(22)

مسألة: إذا لم يجد ماء، ولا ما يتيمم به: فلا يصح أن يكون هذا إمامًا لمن وجد أحدهما واستعمله، ولو أمَّه غير الواجد: لما صحت الصلاة؛ للقياس؛ بيانه: كما لا تصح إمامة العريان لمن وجد سترة فكذلك لا تصح إمامة فاقد الطهورين لمن وجد أحدهما والجامع: أن كلًا من العريان والفاقد للطهورين أنقص من واجد السترة وأحد الطهورين، والناقص لا يكون إمامًا للأكمل منه، وهذا هو المقصد منه.

(23)

مسألة: يباح التيمم بكل ما كان من جنس الأرض سواء كان ترابًا وهو: تراب الحرث - أو رملًا، أو سباخًا، أو نحيت حجارة أو نحو ذلك؛ لقواعد: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} ؛ حيث إن هذا مطلق، فلم يقيد بتراب ولا غيره - كما قال الزجاج -؛ لأن لفظ "صعيد" نكرة في سياق =

ص: 233

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= الإثبات، وهو من صيغ المطلق، الثانية: السنة القولية؛ وهي من وجهين: أولهما: قوله: "جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا" وهو عام لكل ما فوق الأرض من تراب وغيره؛ لأن لفظ "الأرض" اسم جنس معرف بأل، وهذا من صيغ العموم، ثانيهما: قوله صلى الله عليه وسلم "الصعيد الطيب طهور المسلم"، وهذا عام، فيشمل كل ما صعد وعلا على الأرض من تراب وغيره، لأن لفظ "الصعيد" اسم جنس معرف بأل، وهو من صيغ العموم، الثالثة: الإجماع؛ حيث كان الصحابة إذا أدركتهم الصلاة ولم يجدوا ماء: فإنهم يتيممون بالأرض التي كانوا يصلون عليها سواء كانت ترابًا أو لا، ولم ينقل عن واحد منهم أنه نقل التراب معه مع ما يغلب على الظن كثرة الرمال ونحيت الأحجار في طرق سفرهم، فإن قلتَ: لِمَ أبيح ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه توسعة وتيسير على الناس؛ لأن تخصيص التراب فقط لإباحة التيمم به فقط فيه ضيق ومشقة على أكثر الناس، فإن قلتَ: إنه يشترط التيمم بالتراب فقط؛ فلا يجوز التيمم بغيره من رمل أو جص ونحوهما - وهذا قول بعض العلماء وهو ما ذكره المصنف هنا -؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "جعلت لي الأرض مسجدا وترابها طهورا" حيث إن مفهوم الصفة قد دل على أن غير التراب - مما يوجد فوق الأرض - لا يتيمم به، وهذا قد خصص عموم حديث:"جعلت لي الأرض مسجدا" حيث إن هذا من باب: "تخصيص العام بذكر بعض أفراده"؛ لكون التراب يعتبر بعضا من الأرض، قلتُ: لا يُسلم لكم جواز تخصيص العام بذكر بعض أفراده؛ لأن المخصِّص يجب أن يكون منافيًا للعام، وذكر بعضه بحكم العام غير منافٍ له فحكمهما واحد فامتنع التخصيص؛ لعدم وجود ما يقتضيه، وقد فصلت الكلام عن هذا في كتابي:"المهذب" وهذا مذهب الجمهور، فإن قلتَ: لِمَ خص "التراب" بالذكر في الحديث مع جواز التيمم بكل ما كان على الأرض؟ قلتُ: لبيان فضل التراب على غيره إذا أمكن الحصول عليه وعلى غيره، فذكره الشارع؛ للاهتمام به، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "هل يُخصَّص العام بذكر بعض أفراده؟ " فعندنا: لا، وعندهم: نعم.

ص: 234

(طهور): فلا يجوز بتراب تُيمم به؛ لزوال طهوريته باستعماله،

(24)

وإن تيمم جماعة من مكان واحد: جاز كما لو توضأوا من حوض واحد يغترفون منه

(25)

ويُعتبر أيضًا: أن يكون مباحًا، فلا يصح بتراب مغصوب،

(26)

وأن يكون (غير

(24)

مسألة: يُشترط فيما يُتيمم به: أن يكون طهورًا، وهو: الطاهر في نفسه المطهر لغيره - وعليه: فلا يجوز التيمُّم بشيء نجس كالشيء الذي وقع فيه بول أو غائط ونحو ذلك ولا بشيء قد تيمم به رجل ناويًا إباحة الصلاة بذلك؛ لارتفاع طهوريته بسبب استعماله؛ لقواعد: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} والمراد من الطيب هنا هو: الطهور، ودل مفهوم الصفة منه على: أن غير الطهور لا يتيمم به، الثانية: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "الصعيد الطيب طهور المسلم" ويقال فيه كما قيل في الآية، الثالثة: القياس، بيانه: كما أنه يُشترط في الماء الذي يُتطهر به: أن يكون طهورًا فكذلك ما يُتيمم به يُشترط فيه ذلك، والجامع: أن كلًا منهما يُسمى طهارة تُشترط للصلاة، فلا تصح إلا بما وُصف بطهوريته، فإن قلتَ: لِمَ اشتُرط ذلك؟ قلتُ: لأن "الطهور" من ماء أو تراب أو غيره هو المناسب للعبادة، لكونه أشرف ما على الأرض، أما غيره من نجس وغيره: فتستقذره النفوس السليمة، وما كان كذلك: لا يُتعبد به.

(25)

مسألة: يُباح أن يتيمم جماعة من موضع واحد كبير؛ للقياس، بيانه: كما يُباح وضوء جماعة من حوض كبير؛ فكذلك التيمُّم مثله، والجامع: الطهورية في كل، فإن قلتَ: لِمَ أُبيح ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه توسعة وتيسير.

(26)

مسألة: لا يصح التيمُّم بشيء غير مباح كمغصوب أو مسروق إذا كان واجدًا غيره، للقياس، بيانه: كما لا يصح التطهر بالماء المغصوب والمسروق إذا كان واجدًا غيره فكذلك التيمُّم مثله، والجامع: أنه في كل منهما قد عصي بفعله =

ص: 235

محترق) فلا يصح بما دُقَّ من خزفٍ ونحوه،

(27)

وأن يكون (له غبار)؛ لقوله تعالى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} فلو تيمم على لُبَد، أو ثوب، أو بساط، أو حصير، أو حائط، أو صخرة أو حيوان، أو برذعته، أو شجر، أو خشب، أو عدل شعير ونحوه مما عليه غبار: صح، وإن اختلط التراب بذي غبار غيره كالنَّورة فكماء خالطه طاهر

(28)

= والمعصية لا يتقرب بها إلى الله، فلا تكون طاعة فإن قلتَ: لِمَ لا يصح التيمم هنا؟ قلت: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه منع من الاعتداء على حقوق الآخرين وحمايتهم من الظلم، وقد بينت ذلك في مسألة "الصلاة في الدار المغصوبة وهي (49) " من باب "شروط صحة الصلاة" الآتي.

(27)

مسألة: يُباح التيمُّم بكل ما كان فوق الأرض، أو من جنسها، سواء كان قد احترق فَدُقَّ أو لا، لقواعد من الكتاب، والسنة والإجماع وقد سبق ذكرها في مسألة (23)، فإن قلتَ: يُشترط أن يكون المتيمَّم به غير محترق فَدُقَّ، فلا يصح التيمُّم بالخزف، أو النورة، أو الآجر، أو الطين، أو أي شيء طبخ ثم دقَّ - وهو ما ذكره المصنف هنا -؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم:"جُعلت لي الأرض مسجدًا وترابها طهورًا"، فخصَّص التيمم بالتراب فقط، وهذا قد خصَّص عموم قوله صلى الله عليه وسلم:"جُعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا" من باب تخصيص العام بذكر بعض أفراده، قلتُ: قد سبق بيان "أن العام لا يخصص بذكر بعض أفراده" في مسألة (23)، فلا داعي لتكراره.

(28)

مسألة: يُباح التيمُّم بكل ما كان فوق أو صعد على الأرض سواء كان له غبار أو لا، فلا يشترط أن يكون المتيمَّم به له غبار؛ لقواعد: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} حيث إن "منه" لابتداء الغاية والمراد: أن مبدأ ذلك المسح كائن من الصعيد الطَّيِّب، وهذه الآية عامة، لم تُقيِّد الممسوح به بأن يكون له غبار، ويكون اشتراط التيمُّم بما له غبار فيه حرج، وهذا مخالف للآية؛ لأن =

ص: 236

(وفروضه) أي: فروض التيمُّم: (مسح وجهه) سوى ما تحت شعره ولو خفيفًا وداخل

= الآية نفت عموم الحرج عن الأمة؛ لأن لفظ "حرج" نكرة في سياق نفي، وهذا من صيغ العموم القطعية؛ لأن النكرة مسبوقة بـ "مِنْ" الجارَّة؛ الثانية: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "جُعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل" فهنا قد أوجب الصلاة بالتيمم - إن لم يجد الماء -؛ لأن الأمر مطلق، فيقتضي الوجوب، وهو مطلق في الأمكنة والصفات؛ إذ لم يُقيد بما له غبار أو لا، الثالثة: السنة الفعلية؛ حيث "إنه صلى الله عليه وسلم لما ضرب بيديه الأرض نفخ فيهما" ويلزم من النفخ إزالة الغبار، وهذا يدل على عدم اشتراط الغبار هنا، فإن قلتَ: لِمَ أبيح ذلك مطلقًا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إنه لو اشترط وجود الغبار فيما يُتيمم به: للحق كثيرًا من الناس حرج وضيق ومشقة؛ لقلة ما له غبار، فإن قلتَ: يُشترط أن يكون المتيمَّم به له غبار يعلق بباطن الكفين - وهو ما ذكره المصنف هنا -؛ للكتاب؛ حيث قال تعالى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} فيلزم من لفظ "منه" أن يكون الممسوح به له غبار قد عَلُق باليد؛ لأن حرف مِنْ هنا للتبعيض، قلتُ: لا يُسلَّم أن "مِنْ" للتبعيض، بل هو لابتداء الغاية، وقد سبق بيانه، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: حرف "مِنْ" الواردة في الآية هل هي للتبعيض فيُقيد ذلك السنة القولية والفعلية، أو هو لابتداء الغاية فلا يُقيد شيئًا، فعندنا: حرف لابتداء الغاية، وعندهم: حرف تبعيض، تنبيه: قوله: "وإن اختلط التراب بذي غبار غيره" هذا قد بناه المصنف على مذهبه وهو: اشتراط كون المتيمَّم به ترابًا له غبار، فلو اختلط به غيره مما لا يُتيمم به في نظره: فلا يُتيمم به؛ قياسًا على ماء طهور اختلط به ماء طاهر، وهذا الشرط غير صحيح - كما سبق - وقياسه هذا فاسد؛ لأنه مع الفارق؛ حيث إن الماء الطاهر قد ثبتت أدلة بعدم جواز التطهر به، أما غير التراب: سواء له غبار أو لا فقد ثبتت أدلة بجواز التيمُّم به كما سبق في هذه المسألة، ومسألة (23).

ص: 237

فم وأنف فيُكره (و) مسح (يديه إلى كوعيه)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم لعمَّار: "إنما كان يكفيك أن تقول بيديك هكذا، ثم ضرب بيديه الأرض ضربة واحدة، ثم مسح الشمال على اليمين وظاهر كفيه ووجهه" متفق عليه (و) كذا (الترتيب) بين مسح الوجه واليدين (والموالاة) بينهما: بأن لا يؤخر مسح اليدين بحيث يجف الوجه لو كان مغسولًا، فهما فرضان (في) التيمُّم عن (حدث أصغر) لا عن حدث أكبر، أو نجاسة ببدن؛ لأن التيمُّم مبني على طهارة الماء

(29)

(وتشترط النية لما يُتيمم له) كصلاة، أو طواف أو غيرهما (من

(29)

مسألة: فروض التيمُّم عن الحدث الأكبر - كجنابة - وعن نجاسة لاصقة ببدن اثنان: أولهما: مسح الوجه مسحًا خفيفًا، دون أن يمسح ما تحت الشعر، أو داخل الأنف أو الفم، وإن مسح ذلك: جاز مع الكراهة، ثانيهما: مسح اليدين إلى الكوعين ظاهرهما وباطنهما، وهذا بدون "ترتيب" ولا "موالاة" وفروض التيمُّم عن الحدث الأصغر - من بول ونحوه - أربعة: أولها: مسح الوجه - كما سبق - ثانيها: مسح اليدين - كما سبق، ثالثها: الترتيب بأن يمسح الوجه ثم اليدين، رابعها: الموالاة: بأن يمسح اليدين بعد مسح الوجه مباشرة بدون تأخير بحيث لا يجف الوجه فيما لو غسل بالماء؛ لقواعد الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} حيث أوجب الشارع مسح الوجه واليدين؛ لأن الأمر مطلق، فيقتضي الوجوب، ولفظ "الواو" التي في قوله:"وأيديكم" عاطفة أفادت الترتيب، الثانية: السنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم: لما علَّم عمَّارًا التيمُّم: "ضرب بيديه الأرض مرة واحدة، ثم مسح الشمال على اليمين وظاهر كفيه ووجهه" فيلزم من ذلك وجوب مسح ظاهر الكفين وباطنهما، الثالثة: القياس، بيانه: كما كان الترتيب والموالاة فرضين من فروض الوضوء فكذلك يكونا كذلك في التيمُّم عن الحدث الأصغر، والجامع: أن كلا منهما طهارة عن الحدث الأصغر، فإن قلتَ: لِمَ كان مسح الوجه واليدين من فروض التيمُّم في الحدثين؟ قلتُ: لأن الوجه =

ص: 238

حدث أو غيره) كنجاسة على بدن، فينوي استباحة الصلاة من الجنابة والحدث إن كانا أو أحدهما، أو عن غسل بعض بدنه الجريح ونحوه؛ لأنها طهارة ضرورية فلم ترفع الحدث، فلا بد من التعيين؛ تقوية لضعفه، ولو نوى رفع الحدث: لم يصح (فإن نوى أحدها) أي: الحدث الأصغر أو الأكبر أو النجاسة على البدن: (لم يُجزئه عن الآخر)؛ لأنها أسباب مختلفة، ولحديث:"وإنما لكل امريء ما نوى"، وإن نوى جميعها: جاز؛ للخبر، وكل واحد يدخل في العموم فيكون منويًا

(30)

(وإن

= أشرف ما في الإنسان، فهو أقرب ما يكون إلى الله عند المناجاة، واليدان يليانه في الشرف؛ لتقدمهما، والتكبير بهما ونحو ذلك، فإن قلتَ: لِمَ كان الترتيب والموالاة فرضين للتيمم عن الحدث الأصغر دون الأكبر والنجاسة؟ قلتُ: قياسًا على التطهر بالوضوء عن الحدث الأصغر فيشترطان فيه، والتطهر بالغسل عن الحدث الأكبر، فلا يشترطان في الغسل وتطهير النجاسة؛ لذلك لا يشترطان في التيمُّم عنهما فإن قلتَ: لِمَ كره مسح ما تحت الشعر، وداخل الأنف والفم؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه دفع الأذى والضرر عن المسلم.

(30)

مسألة: تشترط النية في التيمُّم، بأن ينوي بهذا التيمُّم استباحة الصلاة، أو الطواف، أو مس المصحف، أو قراءة القرآن، وأن يعين الصلاة التي يريد أن يتيمم لها كالظهر مثلًا، أو نافلة، ولا ينوي رفع الحدث بهذا التيمُّم، وأن ينوي أنه تيمم عن حدث أصغر، أو أكبر، أو عن نجاسة في بدن، أو ينويها جميعًا، فلا بد من تلك النيات، فإن نوى بتيممه أنه عن حدث أصغر، فلا يجزيء عن أكبر، وإن نوى أنه عن حدث أكبر فلا يجزيء عن أصغر، وإن نوى انه عن نجاسة فلا يجزيء عن الحدثين وهكذا؛ للسنة القولية: وهي من وجهين: أولهما: قوله: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امريء ما نوى" فلا عمل صحيح شرعًا بلا نية، وهذا عام لجميع الطهارات: الوضوء، والغسل، والبدل عنهما وهو: التيمُّم، وجميع العبادات، فالنية: سرّ العبودية إما فرادى أو جميعا، ثانيهما: قوله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن =

ص: 239

نوى) بتيممه (نفلًا): لم يصل به فرضًا؛ لأنه ليس بمنوي، وخالف طهارة الماء؛ لأنها

= العاص لما صلى بأصحابه بالتيمم عن جنابة -: "أصليت بأصحابك وأنت جنب؟ " وهذا يدل على أن التيمُّم لا يرفع الحدث ولو نواه المتيمم، لأنه وصفه بأنه جنب، فلو كان التيمُّم رافعًا للحدث: لما وصفه بالجنب، لذلك لا بدّ من نية تقوي ذلك، فإن قلتَ: لِمَ اشترطت النية للتيمم؟ قلتُ: لأن التيمُّم لا يرفع الحدث، فالنية تقوي أن يكون مبيحًا لما لا يباح إلا بالتطهر كالصلاة ونحوها؛ لكون التراب لا صلة له برفع الحدث، وإنما شرع لتدرك الصلاة في وقتها، فلو كان التيمُّم رافعًا للحدث لاستوى الماء والتراب، وهذا لم يقله أحد كما ذكره ابن عبد البر وقد سبق بيان ذلك في مسألة:(15 و 16 و 17)، فإن قلتَ: ينوي رفع الحدث بذلك التيمُّم، وهو قول أبي حنيفة، وبعض الحنابلة، كابن تيمية وصحَّحه ابن عثيمين؛ للقياس، بيانه: كما ينوى في التطهر بالماء رفع الحدث فكذلك التيمُّم مثله، والجامع: تسمية كل منهما بالطهور؛ قلتُ: هذا قياس فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ حيث إن الطهارة بالتيمم طهارة ضرورة، كأكل الميتة للمضطر، وكطهارة المستحاضة، قد شرعه الله بدلًا من الماء، يؤيده: أن المتيمم لو وجد الماء: لبطل تيممه، أما الطهارة بالماء فهي طهارة حقيقية اجتمع فيها المعنى اللغوي والشرعي والواقعي للطهارة، ولو دقّق أيُّ عاقل فيما يتيمم به من تراب وغيره لوجده يُقذر ولا يُطهر، ولكن سمي مطهرًا مجازًا لا حقيقة، ولكن الشارع شرعه؛ تلطفًا منه، تيسيرًا للناس؛ لكثرته كالماء، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض السنة وهي حديث عمرو بن العاص مع القياس" فعندنا: أن الحديث يدل باللازم على أن التيمُّم لا يرفع الحدث، وعندهم: لا يدل على ذلك، لذلك ذهبوا إلى قياسه على الماء، فإن قلتَ: لِمَ لا يجزيء تيمم واحد عن جميع الأحداث والأنجاس إذا لم ينوها؟ قلتُ: لأنها أسباب مختلفة، فلكل سبب نيته؛ لعموم حديث:"إنما الأعمال بالنيات"، وإذا جمعها بنية واحدة: أجزأه؛ لأن كل واحد منها سيناله نصيبه من تلك النية.

ص: 240

ترفع الحدث

(31)

(أو) نوى استباحة الصلاة و (أطلق) فلم يعين فرضًا ولا نفلًا: (لم يصل به فرضًا) ولو على الكفاية، ولا نذرًا؛ لأنه لم ينوه، وكذا: الطواف

(32)

(وإن نواه) أي: استباحة فرض: (صلى كل وقته فروضا ونوافل): فمن نوى شيئًا: استباحه ومثله ودونه، فأعلاه: فرض عين، فنذر، ففرض كفاية، فصلاة نافلة، فطواف نفل، فمس مصحف، فقراءة قرآن فلُبْث بمسجد

(33)

(وببطل التيمُّم)

(31)

مسألة: إذا نوى بتيمم استباحة صلاة نفل: فلا يصلي به فرضًا، ولا أي شيء واجب كطواف الإفاضة، أو صلاة منذورة، ولو كان فرض كفاية، للتلازم؛ حيث إنه حال تيممه لم ينو الفرض والواجب، وليس هو تابع للنفل: فيلزم من ذلك: عدم صحة إيقاع الفرض والواجب منه، فإن قلتَ: بل يصلي بذلك التيمُّم الواجبات وإن كان ناويًا النفل فقط، وهو قول لبعض العلماء؛ للقياس؛ بيانه: كما أن المتطهر بالماء لصلاة نفل يصلي به الواجبات وغيرها فكذلك المتيمم مثله، والجامع: أن كلًا منهما يسمى طهارة،؟ قلتُ: هذا قياس فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ لأن الطهارة بالماء يرفع الحدث، والطهارة بالتيمم لا يرفع الحدث كما سبق تفصيله في مسألة (30).

(32)

مسألة: إذا أطلق نيته: فنوى بتيممه استباحة صلاة فقط، ولم يُعين هل هي صلاة فرض أو نفل؟: فإنه لا يصلي إلا صلاة نفل فقط، فلا يصلي به فرضًا ولا أي واجب كما سبق في مسألة (31) -؛ للتلازم؛ حيث إنه لم ينو فرضًا حال تيممه، وأقل ما يحمل عليه إطلاق اسم الصلاة هي: صلاة النفل فيلزم صحة النفل دون الفرض والواجب.

(33)

مسألة: إذا نوى بتيممه استباحة صلاة فرض: فإنه يفعل بهذا التيمُّم كل أنواع الطاعات التي لا تُفعل إلا بالطهارة: في وقت ذلك الفرض كالصلوات المفروضة، والنوافل، والطواف المفروض والنوافل، والنذور منهما، وفروض الكفايات، ومس =

ص: 241

مطلقا (بخروج الوقت) أو دخوله، ولو كان التيمُّم لغير صلاة

(34)

ما لم يكن في صلاة

= المصحف، وقراءة القرآن، واللبث في المساجد؛ للتلازم؛ حيث إنه قد نوى به الفرض فيلزم من ذلك دخول ما ماثله في الفرضية، وما دونه من النوافل؛ نظرًا لتساوي المتماثلات في الحكم، ولكون نية الأعلى تُعتبر نية للأدنى من جنسه.

(34)

مسألة: يُبطل التيمُّم عن الحدثين: خروج وقت الصلاة التي تيمم لها، فلو تيمم لصلاة العصر مثلًا: فإنه يصلي به العصر، وأي فرض فاتت في نفس الوقت، فإذا خرج وقت العصر - بغياب الشمس -: فإن تيممه يبطل وإن لم يحدث، ولابد من تيمم جديد لصلاة المغرب إن استمر العذر، وكذلك لو تيمم لقراءة القرآن، ثم دخل وقت صلاة الظهر - مثلًا -: فإنه يبطل تيممه، وإن لم يحدث، ولابد من تيمم جديد لصلاة الظهر - إن استمر العذر -؛ لقاعدتين: الأولى: القياس؛ بيانه: كما أن المستحاضة تتظهر لكل صلاة، ويبطل تطهرها بخروج الوقت، فكذلك المتيمم مثلها، والجامع: الطهارة الضرورية في كل، الثانية: قول الصحابي، حيث إنه قد ثبت التيمُّم لكل صلاة عن علي وابن عباس وابن عمر، وهذا يلزم منه: بطلان التيمُّم بخروج الوقت، وبدخوله، فإن قلتَ: لِمَ كان ذلك مبطلًا للتيمم؟ قلتُ: لأن التيمُّم شرع ضرورة عدم وجدان الماء أو العجز عن استعماله، والضرورة تقدر بقدرها، والمقصد منه: طلب الماء لكل صلاة، فإن قلتَ: لا يُبطل خروج الوقت التيمُّم، وهو قول أكثر الحنفية، وهو اختيار ابن عثيمين من الحنابلة؛ للقياس؛ بيانه: كما أن التطهر بالماء لا يبطل بخروج الوقت فكذلك التيمُّم مثله، والجامع: تسمية كل منهما بالطهور قلتُ: هذا قياس فاسد، لأنه قياس مع الفارق؛ حيث إن التيمُّم قد شُرع ضرورة كما سبق بخلاف مشروعية التطهر بالماء؛ لكونه يطهر لغة، وشرعًا، وحقيقة، فإن قلتَ: ما سبب هذا الخلاف؟ قلتُ: سببه: "تعارض القياسين" =

ص: 242

جمعة،

(35)

أو نوى الجمع في وقت ثانية من يباح له، فلا يبطل تيممه بخروج وقت الأولى؛ لأن الوقتين صارا كالوقت الواحد في حقه

(36)

(و) يبطل التيمُّم عن حدث أصغر (بمبطلات الوضوء)،

(37)

وعن حدث أكبر بموجباته؛ لأن البدل له حكم

= فعندنا: قد ألحقناه بالمستحاضة لأنه أكثر شبهًا بها، وعندهم الحقوه بالمتطهر بالماء وهذا قياس الشبه. [فرع]: إذا تيمم ثم دخل في الصلاة، ثم خرج وقت تلك الصلاة وهو فيها: فإن تيممه يبطل؛ للتلازم؛ حيث يلزم من خروج وقت الصلاة: بطلان التيمُّم، وإذا بطل التيمُّم: بطلت الصلاة التي صُليت به، وعليه: أن يتيمم من جديد، ثم يستأنف الصلاة.

(35)

مسألة: إذا تيمم لصلاة الجمعة فلا يبطل تيممه بخروج وقتها، للتلازم؛ حيث إنه إذا خرج وقت الجمعة: فإنها تقضى ظهرًا فيلزم من ذلك: أن يتيمم لصلاة الظهر، لا للجمعة، والظهر غير الجمعة.

(36)

مسألة: إذا نوى الشخص الجمع بين صلاتي الظهر والعصر - كالمسافر مثلا - ونوى جمع التأخير بأن يصلي الظهر والعصر في وقت العصر، وتيمم في وقت الأولى - وهي: الظهر - فإن تيممه هذا لا يبطل بخروج وقت الظهر، بل يبطل إذا سلَّم من صلاة العصر، للتلازم؛ حيث إن نيته جمع الصلاتين جمع تأخير: لزم منه كون الوقتين وقتا واحدا في حق هذا النَّاوي، وإذا كان الأمر كذلك: فإنه يبطل التيمُّم بعد فراغه من الثانية.

(37)

مسألة: يُبطل التيمُّم عن الحدث الأصغر: مُبطلات الوضوء - من بول وغائط وريح ونوم، ومذي ونحوها مما سبق -؛ للقياس، بيانه: كما أن الوضوء يبطل بتلك المبطلات والنواقض، فكذلك التيمُّم مثله، والجامع: تسمية كل منهما بالطهور عن حدث أصغر، فإن قلتَ: لِمَ شرع هذا؟ قلتُ: لأن البدل يأخذ حكم المبدل.

ص: 243

المبدل،

(38)

وإن كان لحيض أو نفاس: لم يبطل بحدث غيرهما

(39)

(و) يبطل التيمُّم أيضًا (بوجود الماء) المقدور على استعماله بلا ضرر إن كان تيمم لعدمه، وإلا: فيزوال مبيح من مرض ونحوه (ولو في الصلاة) فيتطهر ويستأنفها (لا) إن وجد ذلك (بعدها) فلا تجب إعادتها، وكذا: الطواف،

(40)

(38)

مسألة: يُبطل التيمُّم عن الحدث الأكبر: كل موجب للغسل - كالجنابة والحيض والنفاس - فلو كان عليه جنابة فتيمم لاستباحة الصلاة فلا يُبطله إلا حدث أكبر مثله كجنابة أخرى، أو حيض ونحوهما، لكن لو أحدث حدثًا أصغر - كبول - فإذا أراد الصلاة - ولم يجد ماء -: فإنه يتيمم وينوي به الحدث الأصغر، دون الأكبر؛ للتلازم؛ حيث إن كل بدل يأخذ حكم المبدل فيلزم أن الحدث الأصغر ينقض الأصغر، والأكبر ينقض الأكبر، والأصغر لا ينقض الأكبر وهكذا، والتفريق يكون بالنية.

(39)

مسألة: إذا طهرت المرأة من حيض أو نفاس، ولم تجد ماء للاغتسال به: فإنها تتيمم ولا يبطله إلا خروج دم حيض أو نفاس مرة ثانية؛ للقياس، بيانه: كما أن المرأة إذا اغتسلت بسبب انقطاع الدم: فإنه يُفسد هذا الاغتسال ظهور الدم مرة أخرى، فكذلك في التيمُّم، والجامع: أن كلًا منهما يُعتبر فعلًا لاستباحة الصلاة فالبدل يأخذ حكم المبدل.

(40)

مسألة: إذا وجد الماء فاقده أو شفي العاجز عن استعماله بعد تيممه وقبل الفراغ من الصلاة، أو الطواف: فإن ذلك التيمُّم يَبْطُل، ويجب عليه أن يتطهر بالماء، ويُعيد الصلاة، أما إن وجد الماء، أو شفي العاجز عن استعماله بعد الفراغ من الصلاة أو الطواف: فصلاته التي صلاها بالتيمُّم صحيحة سواء خرج وقتها أو لا؛ لقواعد: الأولى: الكتاب: حيث قال تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} حيث إنه حال تيممه لم يجد ماء، أو كان واجدًا له ولكنه لم يستطع =

ص: 244

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= استعماله؛ فيلزم من ذلك صحة تيممه؛ لتوفر شرطه، واستمر هذا حتى الفراغ من صلاته فلا يُعيدها وإن وجد الماء؛ لكونه فعل ما له فعله شرعًا، أما إن وجد ماء قبل الشروع في صلاة أو طواف، أو في أثنائهما: فلم يتوفر شرط التيمُّم لذا: بطل التيمُّم، وبطلت صلاته البطلانه؛ الثانية: السنة القولية؛ حيث إن رجلين قد سافرا فلما حضرت الصلاة: تيمما - لعدم وجود الماء - فصليا، ثم وجداه بعد فراغهما منها: فأعاد أحدهما الوضوء والصلاة، ولم يُعِد الآخر، فأتيا النبي صلى الله عليه وسلم فأخبراه فقال للذي لم يُعِد:"أصبت السنة وأجزأتك صلاتك" وقال للذي أعاد: "لك الأجر مرتين" فيلزم من ذلك أن المصلي بتيمم لا يعيد تلك الصلاة إذا وجد الماء أو شفي بعد فراغه منها؛ لأنه يلزم من لفظ "أجزأتك": أنها صحيحة، فإن قلتَ: لِمَ كان ذلك مبطلًا للتيمم قبل الصلاة وفي أثنائها فقط؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إنه لا مشقة في التطهر بالماء قبل الدخول في الصلاة أو في أثنائها، بخلاف ما إذا صلى بالتيمم ثم بعد فراغه منها وجد الماء، أو قدر على استعماله: فتوجد مشقة في التطهر بالماء وإعادة الصلاة، لكونه فعل ما له فعله، وانتهى من الفعل الذي تيمم له كمن قصر الصلاة، ثم تجدَّدت له نية الإقامة بعد فراغه منها: فإنه لا يُعيدها، وكالماسح على الجبيرة ثم صلى، ثم شفي ونزعها فلا يعيد تلك الصلاة وهكذا، [فرع]: مبطلات التيمُّم عن الحدث الأصغر ثلاثة: أولها: خروج الوقت - كما سبق في مسألة (34) - ثانيها: مبطلات الوضوء - كما سبق في مسألة (37) - ثالثها: وجود الماء أو القدرة على استعماله - كما سبق في مسألة (40) أما مبطلات التيمُّم عن الحدث الأكبر: فهي ثلاثة أيضًا: أولها: خروج الوقت كما سبق في مسألة (34) - ثانيها: موجبات الغسل - كما سبق في مسألة (38) - ثالثها: وجود الماء أو القدرة على استعماله كما سبق في مسألة (40).

ص: 245

ويُغسل ميت، ولو صُلي عليه وتُعاد

(41)

(و التيمُّم آخر الوقت) المختار (لراجي الماء) أو العالم وجوده، ولمن استوى عنده الأمران (أولى)، لقول علي رضي الله عنه في الجنب:"يَتلوَّم ما بينه وبين آخر الوقت، فإن وجد الماء وإلا تيمم"

(42)

(وصفته) أي: كيفية التيمُّم: (أن ينوي) كما تقدم

(43)

(ثم

(41)

مسألة: إذا يُمِّم ميت - لعدم الماء - أو أنه يتضرر بالغسل به وصُلِّي عليه ثم وجد ماء قبل دفنه: فإنه يُغسل به، وتعاد الصلاة عليه، أما إذا وُجد بعد دفنه: فإنه لا يجوز نبشه وتغسيله؛ للمصلحة؛ حيث إن غسله بالماء قبل دفنه لا يشقُّ عادة، أما بعد دفنه فيشق عادة.

(42)

مسألة: إذا غلب على ظنه أنه سيجد الماء أو سيقدر على استعماله أو شك في ذلك في آخر وقت الصلاة المختار - لصلاة العصر - أو آخر أيِّ صلاة: فإن المستحب أن يؤخر تلك الصلاة إلى آخر وقتها؛ ليتطهر بذلك الماء، وإن لم يجده: تيمم وصلى، وإن لم يغلب على ظنه شيء أو لم يشك بشيء: فإن المستحب أن يتيمم في أول الوقت ويصلي ولا يعيد صلاته ولو وجد الماء في وقتها؛ لقاعدتين: الأولى: المصلحة؛ حيث إن الصلاة بالتطهر بالماء ولو في آخر الوقت أفضل من الصلاة التي تصلى بالتيمم في أول الوقت؛ نظرًا لارتفاع الحدث حقيقة بالماء، دون التيمُّم، أما إن لم يغلب عليه شيء أو يشك: فإنه يتيمم في أول الوقت ويصلي؛ تحصيلًا لأجر الصلاة في أول وقتها، الثانية: قول الصحابي؛ حيث إنه ورد عن علي: أن عادم الماء يُستحب له أن ينتظر إلى آخر الوقت إذا غلب على ظنه أو شك بوجوده، تنبيه: صفة التيمُّم سيأتي بيانها في المسائل الآتية.

(43)

مسألة: أول ما يبدأ به في التيمُّم: أن ينوي أن هذا التيمُّم عن حدث أكبر، أو أصغر، أو نجاسة في بدن، أو عنها جميعًا، وينوي أنه لاستباحة صلاة فرض أو نافلة، أو أيِّ شيء لا يُستباح إلا بالطهارة - وقد سبق ذلك في مسألة (30).

ص: 246

يُسمِّي) فيقول: "بسم الله" وهي هنا كوضوء

(44)

(ويضرب التراب بيديه مفرجتي الأصابع)؛ ليصل التراب إلى ما بينها بعد نزع نحو خاتم ضربة واحدة،

(45)

ولو كان

(44)

مسألة: بعد فراغه من النية: يسمي قائلًا: "بسم الله"؛ للقياس، بيانه: كما تستحب البسملة عند التطهر بالماء فكذلك التيمُّم مثله والجامع: التبرك بها في كل؛ حيث إن ذلك فيه بركة وحماية عن شياطين الإنس والجن - كما سبق في سنن الوضوء -، وهو المقصد منه.

(45)

مسألة: بعد فراغه من البسملة: يضرب بباطن كفيه الأرض ضربة واحدة، بشرط: أن تكون أصابع الكفين متباعدة، وينزع خاتمه أو يحركه، للسنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم "ضرب بيديه الأرض ضربة واحدة، ثم مسح الشمال على اليمين، وظاهر كفيه ووجهه" وقال لعمَّار: "إنما يكفيك فعل ذلك"، فإن قلتَ: لِمَ اشترط افتراق الأصابع ونزع أو تحريك الخاتم؟ قلتُ: ليصل بعض التراب إلى ما بين تلك الأصابع، وإلى ما تحت الخاتم، فإن قلتَ: لا يشترط التفريق بين الأصابع وهو قول بعض العلماء، وتبعهم ابن عثيمين؛ للسنة الفعلية؛ حيث لم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه فرق بين أصابعه في الحديث السابق، قلتُ: بل إن عموم حديث عمَّار قد ثبت فيه ذلك؛ لأن لفظ الراوي "بيديه" مثنى منكر مضاف إلى معرفة - وهو الضمير - وهذا من صيغ العموم، فيشمل ذلك أجزاء اليدين، ويدخل في ذلك ما بين الأصابع، ولا يمكن أن يكون ذلك إلا إذا كانت اليد الواحدة منفرجتي الأصابع، وتحريك أو نزع الخاتم، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "هل لفظ (يديه) الوارد في حديث عمار يشمل ما بين الأصابع أو لا؟ " وهو حكاية الصحابي، فعندنا: يشمل ما بينها، وحكاية الصحابي بلفظه تعم، وعندهم: لا.

ص: 247

التراب ناعمًا فوضع يديه عليه وعلُق بهما: أجزاء

(46)

(ويمسح وجهه بباطنهما) أي: بباطن أصابعه

(47)

(ويمسح كفيه براحتيه) استحبابًا،

(48)

فلو مسح وجهه بيمينه، ويمينه بيساره أو عكس: صحَّ،

(49)

(46)

مسألة: إذا كان ما فوق الأرض ناعمًا يعلق بالكفين بدون ضرب: فيكفيه أن يضع كفيه عليه فقط ويُجزئه ذلك؛ للتلازم؛ حيث إن المقصود من الضرب هو: أن يعلق بعض ما على الأرض في الكفين، فيلزم من تعلُّق بعض التراب بدون ضرب؛ إجزاء التيمُّم بحصول مقصوده.

(47)

مسألة: بعد فراغه من ضرب الكفين على الأرض: يمسح وجهه بباطن أصابع كفيه في حال كونها منفرجة، وهذا المسح يكون إجمالًا؛ للسنة الفعلية والقولية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد فعل ذلك لما وصف صلى الله عليه وسلم التيمُّم لعمار كما سبق في مسألة (45) - فإن قلتَ: لِمَ يمسح وجهه بباطن الأصابع؟ قلتُ: لئلا يمسح وجهه براحتيه؛ لأنه سيمسح بالراحتين الكفين، فلو مسح بهما الوجه: لصار التراب مستعملًا، فلا يجوز أن يمسح بالراحتين الكفين بعد ذلك؛ لأنه صار مستعملًا؛ قياسًا على الماء المستعمل لإزالة حدث.

(48)

مسألة: بعد فراغه من مسح الوجه: يمسح ظاهر كفيه براحتيه بحيث يغلب على ظنه أن بعض الممسوح به قد وصل إلى ما بين الأصابع؛ للسنة الفعلية والقولية، وهو ما ورد في حديث عمَّار - وقد سبق بيانه في مسألة (45).

(49)

مسألة: إذا مسح وجهه بأصابع كفه الأيمن ومسح كفه الأيمن بيساره أو عكس الأمر: فإن ذلك يُجزئ؛ للتلازم؛ حيث إنه حصل المقصود من التيمُّم بذلك فيلزم: الإجزاء.

ص: 248

واستيعاب الوجه والكفين واجب سوى ما يشق وصول التراب إليه (ويُخلل أصابعه)؛ ليصل التراب إلى ما بينها،

(50)

ولو تيمَّم بخرقة أو غيرها: جاز،

(51)

ولو نوي وصمد للريح حتى عمَّت محل الفرض بالتراب، أو أمرَّه عليه ومسحه به: صح لا إن سفته الرِّيح بلا تصميد فمسحه به.

(52)

(50)

مسألة: يجب على المتيمم أن يستوعب وجهه إجمالًا بالمسح، وكذلك الكفين، ويجب أن يُخلل أصابعه أثناء مسح ظاهر كفيه؛ لقاعدتين: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} وهذا مطلق، فلم يرد ما يقيد ذلك بطريقة معينة، وذلك للتيسير على الخلق، الثانية: القياس، بيانه: كما وجب تخليل أصابع اليدين في التطهر بالماء ليصل الماء إلى ما بينها، فكذلك التيمُّم مثله والجامع: التطهر في كل.

(51)

مسألة: إذا تيمم بخرقة ونحوها بأن يحمل التراب ونحوه بها ويجعل بعضًا منه على وجهه وكفيه: أجزأ ذلك؛ للتلازم؛ حيث إنه بذلك يحصل مقصود التيمُّم فيلزم: إجزاؤه وصحته.

(52)

مسألة: إذا دخل وقت الصلاة، وهو غير واجد للماء، أو عاجز عن استعماله فهبَّت ريح حاملة لشيء من فوق الأرض، وصمد أمام تلك الريِّح ناويًا التيمُّم، وغلب على ظنه أن تلك الريح قد مرت على الوجه والكفين، أو مسحه هو بمحل الفرض: فإن هذا يصح، أما إن هبت الريح ولكنه لم يصمد لها وقد عمَّت محل الفرض بدون نية من قبل: فلا يصح هذا؛ للتلازم؛ حيث إن شروط التيمُّم وفروضه قد كملت في الأول: فيلزم: صحة ذلك، ويلزم من عدم صموده، وعدم نيته: عدم صحة التيمُّم؛ لاختلال شرط التيمُّم، فوجود النية قبل أن يصمد للريح هو الذي صحح ذلك، وعدم وجودها: هو الذي أبطله، فعلى النية مدار الصحة وعدمها.

هذه آخر مسائل باب "التيمُّم" ويليه باب "إزالة النجاسة"

ص: 249

‌باب إزالة النجاسة الحكمية

أي: تطهير مواردها

(1)

(يجزيء في غسل النجاسات كلها) ولو من كلب أو خنزير (إذا كانت على الأرض) وما اتصل بها من الحيطان والأحواض، والصخور (غسلة واحدة تذهب بعين النجاسة) ويذهب لونها وريحها، فإن لم يذهبا: لم تطهر ما لم يعجز، وكذا: إذا غمرت بماء المطر، والسيول؛ لعدم اعتبار النية لإزالتها، وإنما أكتفي بالمرة؛ دفعا للحرج والمشقة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"أريقوا على بوله سجلًا من ماء، أو ذنوبًا من ماء" متفق عليه

(2)

فإن كانت النجاسة ذات أجزاء متفرقة كالرمم، والدم

‌باب إزالة النجاسة الحكمية

وفيه إحدى وثلاثون مسألة:

(1)

مسألة: المراد بالنجاسة الحكمية: النجاسة المستقذرة التي طرأت على عين طاهرة في الأصل، وتمنع صحة الصلاة كبول أو غائط، فإن قلتَ: لِمَ سمَّيت بالنجاسة الحكميةُ؟ قلتُ: للاحتراز عن النجاسة العينية كعين الغائط، أو الكلب أو الخنزير، فإن هذه لا يمكن تطهيرها ولو غُسلت آلاف المرات، فإن قلتَ: لِمَ جعل هذا الباب في هذا الموضع؟ قلتُ: لمناسبته له؛ حيث إنه لما فرغ من الطهارة من الحدث بالتطهر بالماء، أو التراب: ناسب أن يذكر القسم الثاني - من الطهارة - وهو: الطهارة من الخبث والنجس، وقد سبق بيان ذلك في تعريف الطهارة، وبيان أن النجاسة لا تُزال إلا بالماء، وذلك في مسألتي (2 و 4) من مسائل:"حقيقة الكتاب والطهارة والمياه".

(2)

مسألة: تزول النجاسة - كبول أو غائط - الواقعة على الأرض أو ما تعلق بها من حيطان أو صخور بغسلة واحدة لموضعها بماء طهور بشرط: أن تُذْهِب هذه الغسلة بعين النجاسة، ولونها وريحها إن كان قادرا على ذلك، وإذا ذهبت عين =

ص: 250

الجاف والروث واختلطت بأجزاء الأرض: لم تطهر بالغسل، بل بإزالة المكان بحيث يتيقن زوال أجزاء النجاسة

(3)

(و) يجزيء في نجاسة (على غيرها) أي: غير أرض

= النجاسة بسبب مطر، أو نبع ماء فإن الموضع يطهر؛ للسنة القولية؛ وهي من وجهين: أولهما: "أنه صلى الله عليه وسلم قد أمر بأن يُصبَّ على الأرض التي بال الأعرابي فيها دلو من الماء" والأمر مطلق، فيقتضي الوجوب وعدم التكرار، وما يتعلق بالأرض مثلها، لعدم الفارق من باب "مفهوم الموافقة"، ثانيهما: قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" فيغسل المسلم ما يستطيعه من النجاسة وجوبًا؛ فإن عجز عن بعض النجاسة أو عن إزالة لونها أو ريحها: جاز تركه؛ لأن الواجب يسقط بالعجز عنه، فإن قلتَ: لِمَ يُجزيء في ذلك غسلة واحدة؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تيسير وتسهيل على الناس؛ لكثرة ما يقع من هذه النجاسات، ولقلَّة المياه فإن لم تزل إلا بأكثر من ذلك: فعل، فإن قلتَ: لِمَ اشترط ذلك الشرط في الإزالة؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن عين ولون ورائحة النجاسة تستقذره النفوس، وهذا لا يمكن أن يُتَعَبَّد به الله، ولمنع من أن يتأذى منه الخلق، فإن قلتَ: لِمَ يطهر محل النجاسة إذا مرَّ عليها ماء من مطر أو نحوه؟ قلتُ: لأن النية لا تُشترط لإزالة النجاسة؛ لكونها من باب التروك، وهذا لا يُشترط فيه نية العبد ولا قصده.

(3)

مسألة: إذا كانت النجاسة لها أجزاء يسهل دخولها في باطن الأرض، وتختلط بها، مثل:"الرِّمَّة" - وهو العظم البالي أو الدم الجاف فوق الأرض، أو روث الحمار، أو الغائط إن زادت دهنياتها ويبست: فإن الغسل لا يظهر ذلك، بل تجب إزالة أجزاء المكان الذي أصابته تلك النجاسة، بحيث يغلب على الظن زوال أجزاء النجاسة بكاملها؛ للتلازم؛ حيث إن تلك النجاسة لا تزول إلا بهذه الطريقة - فالماء لا يطهرها - فلزمت وجوبا من باب "ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب".

ص: 251

(سَبع) غسلات (إحداها) أي: إحدى الغسلات - والأولى أولى - (بتراب) طهور (في نجاسة كلب وخنزير) وما تولَّد منهما أو من أحدهما؛ لحديث: "إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعًا أولاهن بالتراب" رواه مسلم عن أبي هريرة مرفوعًا، ويعتبر ما يوصل التراب إلى المحل، ويستوعبه به إلا فيما يضر فيكفي مسماه (ويجزيء عن التراب أشنان ونحوه) كالصابون والنخالة،

(4)

ويحرم استعمال

(4)

مسألة: إذا ولغ كلب أو خنزير أو ما تولد منهما أو من أحدهما في إناء وشرب منه، أو سقط فيه هو، أو روثه، أو أي شيء منه: فإنه يجب أن يُزال ذلك الماء من ذلك الإناء، ثم يغسل سبع مرات بماء طهور، ويستحب أن تكون الغسلة الأولى منها بتراب طهور، وفي كل غسلة يمر على جميع أجزاء الإناء ويستوعبه، ويكفي في التراب كل ما يطلق عليه اسم التراب، ويجزيء عنه الأشنان - وهو الحرض - أو الصابون، أو النخالة - وهي: قشرة الحب - أو ملح أو نحو ذلك؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعًا أولاهن بالتراب" حيث أوجب غسل الإناء من ولوغ الكلب؛ لأن الأمر مطلق، وهو يقتضي الوجوب، ويدل بمفهوم الموافقة على أن غير التراب مثله في إزالة لعاب الكلب إذا كان في مرتبته في الإزالة كالصابون ونحوه ويكفي ما يطلق عليه اسم "التراب" لأنه يصدق عليه ذلك، الثانية: القياس، بيانه: كما أن الكلب وما تولد منه وأي شيء منه إذا ولغ، أو سقط منه شيء منه في إناء فإنه يُغسل سبع مرات أولاهن بالتراب، فكذلك يغسل الإناء من ولوغ الخنزير وما تولد منه؛ والجامع: النجاسة في كل بل إن الخنزير أشر من الكلب وأنجس وأخبث، فإن قلتَ: لِم يَفعل ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية للإنسان مما يخرج منهما أثناء شربهما في الإناء من مواد سامة وقاتلة أحيانًا، فإن قلتَ: لِمَ استحب أن تكون الغسلة الأولى بالتراب؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن الماء في الغسلات الست الباقية سيزيل أثر هذا التراب أو الصابون، فإن قلتَ: إنه لا =

ص: 252

مطعوم في إزالتها

(5)

(و) يجزيء (في نجاسة غيرهما) أي: غير الكلب والخنزير أو ما

= يُغسل الإناء إلا من ولوغ الكلب والخنزير، أما ما سقط فيه من روثهما أو نحو ذلك: فلا يغسل الإناء منه سبع مرات، بل مرة واحدة؛ للتلازم؛ حيث إن هذا مفهوم الشرط في الحديث وهو قوله:"إذا ولغ"، لما يخرج بسببه أشياء وتستقر في الإناء فلا يشمل الروث، قلتُ: إن هذا الشرط لا مفهوم له؛ لأن الولوغ هو الغالب عند الكلاب وما خرج مخرج الغالب لا مفهوم له، فإن قلتَ: لا يغسل الإناء من ولوغ الخنزير، بل يُغسل منه مرة واحدة كغيره من النجاسات وهو قول النووي وابن عثيمين وغيرهما؛ لأن الحديث قد اقتصر على ذكر الكلب مع وجود الخنزير في عهده صلى الله عليه وسلم، ومذكور في القرآن، فيلزم من عدم ذكره: عدم إلحاقه بالكلب في هذا الحكم قلتُ: إن غسل الإناء من ولوغ الخنزير أولى من غسله من ولوغ الكلب فيه - كما بينا فيما سبق - ولا يلزم من عدم ذكر الخنزير الكلب: عدم إلحاقه به وإلا بذلك يبطل كثير من مسائل القياس، يؤيده أنه صلى الله عليه وسلم ذكر ما يجوز قتله في الحل والحرم وهي:"الفأرة، والحية والعقرب، والحدأة، والغراب الأبقع" ومع ذلك الحق بها غيرها من المؤذيات ولم يذكرها النبي صلى الله عليه وسلم مع وجودها في عصره؛ اختصارًا، وتنبيهًا على أن الشريعة صالحة لكل زمان ومكان، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه أمران: أولهما: هل الشرط الذي خرج مخرج الغالب له مفهوم أولا؟ فعندنا: لا مفهوم له، وعندهم: له مفهوم، ثانيهما:"هل المحصور بعدد أو المخصوص بذكر يقاس عليه أو لا؟ " فعندنا: يقاس عليه إذا وجدت العلة، وقد يكون من مفهوم الموافقة، فيكون ما ورد في الكلب يشمل الخنزير من باب دلالة اللفظ وعندهم: لا.

(5)

مسألة: يحرم أن تغسل النجاسة بأي مطعوم، سواء كانت في إناء أو كانت على الأرض ونحوها، أو كانت على البدن أو الثوب؛ للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه إفساد للطعام الذي لا يخلو من أن يشتهيه أحد، فمفسدة ذلك ظاهرة.

ص: 253

تولد منهما، أو من أحدهما (سبع) غسلات بماء طهور، ولو غير مباح إن أنقت، وإلا: فحتى تنقي، مع حتِّ وقرص لحاجة، وعصر مع إمكان كل مرة خارج الماء، فإن لم يمكن عصره: فبدقه وتقليبه أو تثقيله كل غسلة حتى يذهب أكثر ما فيه من الماء، ولا يضر بقاء لون أو ريح، أولهما عجزًا (بلا تراب)؛ لقول ابن عمر:"أُمرنا بغسل الأنجاس سبعًا" فينصرف إلى أمره صلى الله عليه وسلم، قاله في "المبدع" وغيره،

(6)

وما تنَّجس

(6)

مسألة: تجزيء غسلة واحدة لأي نجاسة كبول ودم وغائط سقطت على ثوب، أو إناء أو فرش - غير نجاسة كلب وخنزير - مع العصر أو الدق أو التقليب، ليخرج الماء من الشيء النجس، فإن زالت النجاسة بتلك المرة، وإلا: يزيد في الغسل حتى تزول، ويزول ريحها ولونها، هذا كله على حسب الاستطاعة، فإن عجز عن العصر أو الدق أو التقليب، أو زوال الريح أو اللون: سقط عنه ذلك؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "إذا أصاب إحداكن الدم من الحيضة فلتقرصه بماء، ثم لتُصلِّ فيه" حيث أوجب الغسلة الواحدة هنا من نجاسة الدم الساقط على الثوب أو الفرش، والإناء؛ لأن الأمر مطلق، وهو يقتضي الوجوب، ولا يقتضي التكرار فتكفي المرة الواحدة وغير الدم من النجاسات كالدم في ذلك، فيكون من باب مفهوم الموافقة، الثانية: القياس؛ بيانه: كما أن النجاسة إذا وقعت على الأرض: فإنها تغسل مرة واحدة - كما سبق في مسألة (2) فكذلك إذا سقطت على إناء أو ثوب أو فرش ونحوها مثلها، والجامع: النجاسة في كل - غير نجاسة كلب أو خنزير -، فإن قلتَ: لِمَ يغسل مرة واحدة؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إنه لو كُلِّفنا بغسل ذلك سبع غسلات: للحق كثيرًا من المسلمين الضيق والحرج والمشقة؛ لكثرة ما يقع من تلك النجاسات من أنفسهم وأطفالهم وحيواناتهم، ولقلة المياه، فإن قلتَ: لِمَ يسقط العصر أو ذهاب الريح أو اللون عند العجز عنه؟ قلتُ: لأن الواجب يسقط عند العجز عنه، أصله قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتكم بأمر =

ص: 254

بغسلة: يُغسل بعدد ما بقي بعدها مع تراب في نحو نجاسة كلب إن لم يكن استُعمل

(7)

(ولا يطهر متنجس) ولو أرضًا (بشمس، ولا ريح، ولا دلك) ولو

= فأتوا منه ما استطعتم" فإن قلتَ: إنه يجب غسل ذلك سبع غسلات؛ وهو ما ذكره المصنف هنا -؛ لقاعدتين: الأولى السنة القولية؛ حيث قال ابن عمر: "أمرنا بغسل الأنجاس سبعًا" والصحابي إذا قال: "أمرنا" فله حكم المرفوع، والأمر هنا للوجوب؛ لأنه مطلق، فدل بمفهوم العدد على أنه لا يجزيء غسل النجاسة بأقل من سبع مرات، الثانية: القياس؛ على غسل الإناء من ولوغ الكلب، بجامع: النجاسة في كل، قلتُ: أما الحديث فضعيف كما قال كثير من أئمة الحديث - فلا يحتج به، أما القياس: ففاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ حيث إن الكلب فيه مادة ضارة تخرج من لعابه عند الشرب، ولا يزيلها إلا سبع غسلات من التراب، بخلاف النجاسات الأخرى فلم يثبت فيها ذلك، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه أمران: أولهما: "هل حديث ابن عمر يحتج به لقوته أو لا؟ " فعندنا: ضعيف لا يُحتج به، وعندهم: قوي، ثانيهما: "تعارض القياسين" فألحقناه بغسل الأرض؛ لأن غسل الثوب من النجاسة أكثر شبهًا به وألحقوه بغسل الإناء من ولوغ الكلب لأنه أكثر شبهًا به، وهذا يُسمى بقياس الشبه.

(7)

مسألة: إذا غسل الإناء من ولوغ كلب أو خنزير الغسلة الأولى، ثم أصاب ماء هذه الغسلة موضعًا آخر: فإن هذا الموضع الآخر يُغسل بما بقي من الغسلات، وهي: ست غسلات فقط، ويُستعمل فيه تراب لم يُستعمل في غسل نجاسة من قبل؛ للتلازم؛ حيث إن الغسلة الأولى - من السبع - قد استُعملت لتطهير النجاسة فيلزم أن تكون محسوبة من المطهرات، وأن تكون في محلها من الغسلات، وهذا فيه تيسير على المكلَّفين، وهو المقصد من هذا الحكم، تنبيه: المصنف قد عمَّم هذا الحكم لغسل الإناء من ولوغ كلب وخنزير، وغير ذلك =

ص: 255

أسفل خُفٍّ، أو حذاء، أو ذيل امرأة، ولا صقيل بمسح (ولا) يطهر متنجِّس بـ (استحالة)، فرماد النجاسة ودخانها وغبارها وبخارها، ودود جرح، وصراصير كنف، وكلب وقع في ملاحة فصار ملحًا ونحو ذلك: نجس

(8)

(غير الخمرة) إذا

= من النجاسات؛ بناء على مذهبه: أنه تُغسل النجاسات سبع غسلات، وقد سبق أن الراجح غير ذلك في مسألة (6).

(8)

مسألة: لا يطهر المتنجِّس إلا بغسله بالماء الطهور - كما سبق وبناء عليه: فلا يطهر المتنجس بوضعه في شمس، أو أمام ريح، أو دلك، أو مسح مرآة بدون ماء، وكذا: لا يطهر كلب أو خنزير بتحولهما إلى ملح، أو صار روث حمار رمادًا، أو غبارًا، أو صار جرح آدمي دودًا، أو خرجت صراصير من حمام؛ لقواعد: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} حيث دل مفهوم الصفة هنا على أن غير الماء لا يطهِّر، الثانية: السنة القولية؛ وهي من وجوه: أولها: قوله صلى الله عليه وسلم - في البحر "هو الطهور ماؤه" حيث دل مفهوم الصفة هنا على أن غير الماء لا يطهر، ثانيها: أنه صلى الله عليه وسلم: أمر بذنوب من ماء فأهريق على بول الأعرابي، وأمر بأن تغسل المرأة الدم من الحيضة بالماء، فلم يقيد الشارع غسل تلك النجاسات بالماء إلا لأنه خاص بالتطهير، فيدل مفهومه على غير الماء لا يُطهِّر، ثالثها: أنه صلى الله عليه وسلم: "قد نهى عن أكل الجلَّالة وشرب ألبانها وركوبها" والنهي مطلق، فيقتضي التحريم، فلو كانت النجاسة إذا تحوَّلت إلى شيء آخر تطهر: لما حرَّم الشارع أكل الجلَّالة وشرب ألبانها؛ لكون ما تأكله من النجاسات قد تحوَّلت إلى لحوم وألبان: فإن قلتَ: لِمَ لا يطهر المتنجس إلا بالماء الطهور؟ قلتُ: لأن الماء يتميز بالدقة والرقة واللطافة وسرعة السيلان فيقوى على إزالة النجاسة بخلاف غيره، وقد سبق بيان ذلك في مسألة (4) من مسائل "حقيقة الكتاب والطهارة والمياه".

ص: 256

انقلبت بنفسها خَلًّا، أو بنقل لا لقصد تخليل، ودنَّها مثلها؛ لأن نجاستها؛ لشدتها المسكرة، وقد زالت كالماء الكثير إذا زال تغيره بنفسه، والعَلَقَة إذا صارت حيوانا طاهرًا (فإن خُلِّلت) أو نُقلت لقصد التخليل: لم تطهر، والخل المباح: أن يصب على العنب أو العصير خلُّ قبل غليانه حتى لا يغلي، ويُمنع غير خلَّال من إمساك الخمرة لتخلَّل

(9)

(أو تنجَّس دهن مائع) أو عجين، أو باطن حَبٍّ، أو إناء تشرَّب

(9)

مسألة: إذا انقلبت الخمرة - وهو: كل مسكر - بنفسها إلى خل من غير معالجة من صاحبها، أو نُقلت من موضع إلى مكان مشمس، أو نقلت من دَنٍّ - وهو: الإناء - إلى آخر: فإن الخمرة تطهر هنا، أما إن عالجها صاحبها حتى انقلبت إلى خلٍّ: فلا تطهر؛ لقاعدتين: الأولى: القياس؛ بيانه: كما أن الماء النجس بسبب تغير لونه أو ريحه يطهر إذا زال هذا التغيُّر بنفسه، وكذلك العَلَقَة - وهو: الدم الغليظ الخارج من الأنثى - إذا تحوَّلت إلى آدمي أو حيوان طاهر: تطهر، بعد أن كانت نجسة، فكذلك الخمرة إذا تحوَّلت بنفسها إلى خلٍّ، والجامع: أن كلًّا منهما استحال بنفسه دون قصد، الثانية: قول الصحابي؛ حيث قال عمر: "لا تأكلوا خلَّ خمر إلا خمرًا بدأ الله بفسادها" حيث أثبت طهارة الخمرة التي قلبها الله إلى خل، وحرم الخل الذي قصد صاحبه أن يصنعه من الخمر؛ نظرًا لنجاسته؛ لأن الاستثناء من النفي إثبات، فإن قلتَ: لِمَ فرق بين الأمرين؟ قلتُ: لأنه إذا قصد الإنسان تخليلها: فإنه كان قاصدًا باقتنائها تحويلها إلى خل، فكان قد فعل محرمًا - باقتناء الخمرة - وهذا محرم؛ لأن الحرام لا يكون سببًا للحل؛ لأن الخمرة داء فتبقى نجسة، أما إذا لم يقصد: فقد قلبها الله تعالى خلًا؛ دون تدخل من الإنسان فكانت طاهرة، تنبيه: الفرق بين الخل والخمر: هو: أن الخلَّ: أن يصبَّ شخص حامضًا على عنب أو تمر قبل غليانه، وهذا طاهر، وهو مباح، وسمي كذلك لاختلال حلاوة العنب والتمر، أما إذا صبَّ الحامض على العنب أو =

ص: 257

النجاسة، أو سكين سقيتها:(لم يطهر)؛ لأنه لا يتحقق وصول الماء إلى جميع أجزائه، وإن كان الدهن جامدًا ووقعت فيه نجاسة: ألقيت وما حولها، والباقي طاهر، فإن اختلط ولم ينضبط حرم

(10)

(وإن خفي موضع نجاسة) في بدن أو ثوب أو بقعة

= التمر ثم جعله يغلي: فهذا هو الخمر، فيجب تركه، لنجاسته ومضرته للجسم، تنبيه آخر: يُمنع أي شخص سواء كان خلَّالا، أو غير ذلك من إمساك الخمرة حتى تتخلل، سدًا للذرائع، وهذا مخالف لقول المصنف: إنه يُمنع غير خلال فقط؛ لعدم الدليل على ما قاله.

(10)

مسألة: إذا سقطت نجاسة - كبول أو غائط أو فأرة - على دهن: ففيه التفصيل الآتي: أولًا: إن كان الدهن جامدًا، وحُدِّد موضع النجاسة منه، ولم تختلط به: فإن ذلك الموضع الذي سقطت فيه النجاسة يُلقى وما حوله، ولا يؤكل، ويكون الباقي طاهرًا، ثانيًا: إن كان الدهن جامدًا، ولم يُحدِّد موضع النجاسة منه: بأن اختلطت بالدهن، ولم يُضبط وجوده: فيحرم كل الدهن، ثالثًا: إن كان الدهن سائلًا ومائعًا: فإن الدهن يكون نجسًا، ولا يمكن تطهيره بأي شيء، وكذا: كل ما غلب على الظن تشرُّبه للنجاسة مثل ذلك: كأن تسقط النجاسة على عجين، أو على باطن حب، أو على إناء من خشب، أو على سكين طرية؛ للتلازم؛ حيث إن غسل أجزاء النجاسة أو إلقائها عن المحل واجب، ويلزم من إلقاء النجاسة الواضحة الموضع وما حولها من الدهن الجامد: تطهير الباقي؛ لانفراده عن النجاسة، ويلزم من كون الدهن جامدًا ولم يُعيَّن موضع النجاسة، أو كونه سائلًا أو كون الشيء متشربًا للنجاسة: أن لا يمكن تطهير أجزائه فيكون كله نجسًا يجب تركه من باب "ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب"، فإن قلتَ: إذا سقطت فيه نجاسة؛ يُلقى ما تنجَّس منه وما حوله: سواء كان الدهن جامدًا أو سائلًا، وهو قول ابن تيمية وتبعه ابن =

ص: 258

ضيقة وأراد الصلاة: (غسل) وجوبًا (حتى يجزم بزواله) أي: زوال النجس؛ لأنه متيقن، فلا يزول إلا بيقين الطهارة، فإن لم يعلم جهتها من الثوب: غسله كله، وإن علمها في أحد كميه ولا يعرفه: غسلهما،

(11)

ويُصلي في فضاء واسع حيث شاء بلا تحر

(12)

(ويطهر بول) وقيء (غلام لم يأكل الطعام) لشهوة (بنضحه) أي: غمره بالماء، ولا يحتاج لمرس وعصر، فإن أكل الطعام: غسل كغائطه، وكبول

= عثيمين؛ للاستصحاب؛ حيث إنه لم يرد ما يفرق بينهما، فنستصحب ذلك ونعمل به، قلتُ: بل ورد دليل يفرِّق بين السائل والجامد - على التفصيل السابق - وهو: التلازم، وأيضًا: المصلحة؛ حيث إن السائل تتسرَّب النجاسة إلى جميع أجزائه فكيف نلقيها وما حولها؟! ثم إنه يحرم استعماله؛ لنجاسته؛ تغليبًا لجانب الحظر على جانب الإباحة؛ حماية للإنسان من أضرار النجاسة المحتملة، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "هل الاستصحاب باق على ما هو عليه، أم وُجد دليل غيَّر الحالة؟ " فعندنا: قد وجد دليل غيَّر الحالة وهو التلازم، والمصلحة، وعندهم: لم يوجد فيبقى على ما هو عليه ويُعمل به.

(11)

مسألة: إذا سقطت نجاسة على بدنه أو فراش صغير، أو أرض صغيرة، أو أحد كميه أو نحو ذلك، ولا يعلم الموضع الذي فيه تلك النجاسة: فإنه يجب أن يغسل جميع البدن، أو الثوب، أو الفراش، أو الأرض أو كمي ثوبه؛ لقاعدة:"ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب" حيث إن تطهير الشيء من النجاسة لأجل الصلاة فيه أو عليه واجب، ولا يمكن أن يغلب على ظنه أو يتيقن بطهارة ذلك الشيء إلا بغسله كله فوجب، وهو من باب التلازم.

(12)

مسألة: إذا سقطت نجاسة في أرض واسعة أو فراش كبير جدًّا ولا يعلم موضعها من ذلك، فإنه يصلي في أي موضع أراد؛ للمصلحة؛ حيث إن غسل ذلك الموضع الواسع، أو الفراش الكبير يشق على كثير من الناس، فدفعًا لذلك: شرع عدم غسله.

ص: 259

الأنثى والخنثى فيغسل كسائر النجاسات، قال الشافعي:"لم يتبين لي فرق من السنة بينهما"، وذكر بعضهم:"أن الغلام أصله من الماء والتراب، والجارية أصلها من اللحم والدم" وقد أفاده ابن ماجه، وهو غريب قاله في "المبدع"،

(13)

ولعابهما

(13)

مسألة: إذا بال أو تقيأ غلام لم يبدأ بأكل الطعام على ثوب أو غيره: فإنه يطهر بنضحه بأن يرش عليه ماء فقط - وهو: الغمر بالماء - بدون عصر، أما إن بال الغلام بعد أكله للطعام، أو تغوَّط - قبل الأكل أو بعده -، أو بالت الجارية أو تغوطت - بعد أكلها للطعام أو قبله .. فإن ما وقع عليه البول أو الغائط لا يطهر إلا بغسله مرة واحدة كسائر النجاسات؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم:"يُنضح من بول الغلام ويغسل من بول الجارية" فإن قلتَ: لِمَ فرق الشارع بينهما؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن الغلمان قد اعتاد أباؤهم على حملهم، فلو وجب غسل الثوب من بول الغلام: للحق كثيرًا من الناس الضيق والمشقة؛ لكثرة ما يقع منهم ذلك، ولقلة المياه، أما الجواري: فهن مع أمهاتهن في البيوت فلا يشق غسل بولهن، وقيل: إن بول الغلام لا لزوجة فيه ولا رطوبة فيكفيه النضح، بخلاف بول الجارية فنظرًا لما فيه من اللزوجة والرطوبة لالتصاق المثانة بالرحم: فإنه يُغسل، وقيل غير ذلك، وقد فصَّلت القول في ذلك في كتابي:"المهذب" و "الإتحاف" أثناء الرد على زعم النظام "أن الشريعة تفرق بين متماثلات"، تنبيه: ذكر المصنف: أن الغلام إذا أكل الطعام لشهوة: فإن بوله يغسل، دون ما إذا أكله لغير شهوة فينضح، قلتُ: وهذا التفريق لم أجد دليلًا عليه؛ لأن السنة أتت مطلقة، تنبيه آخر: قول الشافعي: "لم يتبين لي فرق من السنة بينهما" إن كان يقصد: إنه لم يرد شيء من السنة يفرق بينهما: فهذا فيه نظر، حيث أن السنة فرقت بينهما كما سبق، وإن كان يقصد أنه لم تتبين الحكمة والعلة من التفريق بينهما: فهذا صحيح، لكن العلماء أوجدوا علِلًا لذلك =

ص: 260

طاهر

(14)

(ويُعفى في غير مانع و) في غير (مطعوم عن يسير دم نجس) ولو حيضًا، أو نفاسًا، أو استحاضة، وعن يسير قيح وصديد من حيوان طاهر، لا نجس، ولا إن كان من سبيل قُبُل أو دُبُر،

(15)

= ذكرت بعضها فيما سبق، تنبيه ثالث: قول بعضهم: "إن الغلام أصله من الماء والتراب والجارية أصلها من اللحم والدم" لم أجده، وهو غريب جدًّا كما قال المصنف، والأولى عدم ذكره؛ لعدم تقبل العقول السليمة له.

(14)

مسألة: لعاب وسؤر الغلام والجارية طاهر: إذا سقط على شيء لا ينجسه، وهذا مطلق، أي: سواء كانا قبل أكلهما للطعام، أو بعده، للقياس، بيانه: كما أن لعاب المكلَّف وسؤره طاهر، فكذلك الغلام والجارية مثله، والجامع: أن كلًا منهما آدمي، وهو طاهر، فإن قلتَ: لِمَ كان طاهرًا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تيسير على حاملي الغلام والجارية؛ إذ لو كان لعابهما نجسًا: للحق كثيرًا من الناس الضيق والمشقة؛ نظرًا لكثرة ما يقع منهم.

(15)

مسألة: الدم الكثير نجس لا يُعفى عنه، فيجب غسله: سواء كان خارجًا من آدمي أو حيوان طاهر - وهو: الدم المسفوح - وسواء وقع على ثوب أو بدن، وسواء وقع على طعام أو غيره، وسواء خرج من أحد السبيلين أو لا، وكذلك كثير القيح والصديد مثله، أما إن كان الدم قليلًا: فهو معفو عنه بشروط ثلاثة: أولها: أن لا يكون ذلك في شيء مائع وسائل، ثانيها: أن لا يكون في مطعوم، ثالثها: أن لا يكون قد خرج من أحد السبيلين: القبل والدبر، فإن وجد في مائع أو طعام، أو خرج من أحد السبيلين: فهو نجس لا يُعفى عنه، لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم لأسماء في دم الحيض يسقط على الثوب: "تحتُّه ثم تقرصه، ثم تغسله بالماء" حيث أوجب الشارع غسل الدم؛ لأن الأمر هنا مطلق، فيقتضي الوجوب، وهو عام فيشمل قليل الدم وكثيره؛ لأن لفظ الراوي "دم الحيض" اسم منكر أضيف إلى معرفة، وهذا من صيغ العموم، وقد وردت السنة التقريرية =

ص: 261

واليسير: ما لا يفحش في نفس كل أحد بحسبه، ويضم متفرق بثوب لا

= فخصَّصت هذا الحديث بالدم الكثير؛ حيث قالت عائشة: "قد يكون لإحدانا الدرع فيه تحيض، ثم ترى فيه قطرة من دم فتقعصه بريقها" وهذا لا يخفى عادة عن النبي صلى الله عليه وسلم، لكثرة ما يقع من زوجاته، فيكون قد أقرهن عليه، ولم يُنكره، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، فيكون القليل من الدم معفوًا عنه، الثانية: القياس، بيانه: كمان أن القليل من دم الآدمي معفو عنه، فكذلك القليل من دم الحيوان مثله، والجامع: الطهارة في كل، فإن قلتَ: لِمَ كان الدم الكثير نجسًا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن الدم أو الصديد يتسبب غالبًا في كثير من الأمراض، فدفعًا لذلك حُذِّر منه بالحكم عليه بأنه نجس، فإن قلتَ: لِمَ عفي عن قليله؟ قلتُ: للمصلحة حيث إن الدم أو الصديد القليل من أي مصدر لا يسلم منه أحد، فلو وجب غسله: لَلَحِق أكثر المسلمين ضيق وحرج ومشقة، فإن قلتَ: لِمَ كان الدم الساقط على مائع، أو طعام، أو الخارج من أحد السبيلين نجسًا مطلقًا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إنه سينتشر في المائع بسرعة، وسيُفسد الطعام فيحرم أكله، وإذا خرج من أحد السبيلين فلا يخلو من أن يصطحب معه بعض النجاسات المغلظة، فإن قلتَ: إن دم الآدمي طاهر قليله وكثيره إلا كثير دم الحيض فهو نجس، وهو قول بعض العلماء كابن عثيمين؛ للاستصحاب؛ حيث إنه ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه أمر بغسل دم الحيض فقط، فيكون هو النجس فقط، وإن الصحابة كانوا يصلون بجراحاتهم الناتجة عن الحروب قلتُ: أما الحديث: فلم يفرق بين دم الحيض وغيره من الدماء، لأن الأصل عندنا في الدماء النجاسة، وإنما عفي عن قليله؛ للسنة التقريرية، والمصلحة وقد سبقا، أما الصحابة فقد كانوا يتحرزون مما هو أقل من الدم، ثم إن الدماء الناتجة عن الحروب معفو عنها وإن كثرت؛ لمشقة غسلها، لقلة المياه، ولضيق الوقت فإن قلَت: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض الاستصحاب مع السنة التقريرية والمصلحة" فعندنا: إن الاستصحاب لم يبق على ما هو عليه، وعندهم: قد بقي على ما كان إلا ما ثبت عن طريق السنة القولية.

ص: 262

أكثر،

(16)

ودم السمك، وما لا نفس له سائلة كالبق والقمل،

(17)

ودم الشهيد

(16)

مسألة: يعرف القليل والكثير من الدم والقيح والصديد بقول العقلاء من المتوسطين من الناس وأعرافهم، ولا يُنظر إلى قول المتشددين، ولا المتساهلين في ذلك؛ للتلازم؛ حيث إن المتوسط في حكمه ينظر للأمور بنظرة العقل الرزين، والخبرة الطويلة، فيلزم قبول قوله بخلاف غيره، فإذا وقع دم في أماكن متفرقة من ثوب واحد: فإنه يضم بعضه إلى بعض فإن بلغ مبلغ الكثير عند هذا المتوسط: فهو كثير، فيكون نجسًا لا يُعفى عنه، وإن بلغ مبلغ القليل عند هذا المتوسط: فهو قليل يُعفى عنه. تنبيه: قول المصنف: "واليسير: ما لا يفحش في نفس كل أحد بحسبه" هذا غير منضبط، فقد يفحش دم عند زيد في حين أنه لا يفحش ويكثر عند عمرو.

(17)

مسألة: الدم الخارج من الحيوانات والحشرات الصغيرة كالبعوض والقمل، والعقرب، والذباب والبرغوث، والجراد، والسمك ونحوها مما لا نفس - وهو الدم - له سائلة: معفو عنه: كثيره وقليله، فلا يُغسل الشيء الذي سقط عليه ذلك الدم؛ للكتاب؛ حيث قال تعالى:{إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} حيث دل مفهوم الصفة على أن الدم غير المسفوح - وهو غير السائل - كدماء ما ذكر من الحشرات - لا يُحرم أكله، وما لا يُحرَّم أكله ليس بنجس، فإن قلتَ: لِمَ كان ذلك معفوًا عنه؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن تلك الحشرات تكثر بين الناس، فلا يسلم من دمائها أحد، فلو كانت نجسة لوجب غسل ما سقطت عليه، وهذا يشق عليهم، فدفعًا لذلك: شرع هذا.

ص: 263

عليه،

(18)

وما يبقى في اللحم وعروقه ولو ظهرت حمرته: طاهر

(19)

(و) يُعفى (عن

(18)

مسألة: الدم الخارج من شهيد المعركة إذا كانت عالقة بثيابه: معفو عنه؛ للسنة القولية؛ حيث: "إنه صلى الله عليه وسلم قد أمر بدفن شهداء أحد بدمائهم"، فلو لم تكن معفوًا عنها: لغسل ذلك، فإن قلتَ: لِمَ عفي عن ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه توسعة على المسلمين، إذ لو وجب غسلها: لشق عليهم ذلك؛ لقلَّة المياه في أماكن الحروب، ولضيق الوقت.

(19)

مسألة: الدم المختلط في لحم مأكول اللحم - كبهيمة الأنعام - بعد ذكاتها، - وهو الدم غير المسفوح - ودم جميع عروقها وقلبها وكبدها وطحالها: كله دم معفو عنه ولو ظهرت حمرته فلا يغسل ما سقط عليه؛ لقاعدتين، الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} حيث دل مفهوم الصفة منها على أن الدم غير المسفوح معفو عنه شرعًا، وهذا المفهوم قد خصَّص عموم قوله تعالى:{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ} الدم المسفوح - وهو الذي يسيل على الأرض - هو المحرم فقط، الثانية: السنة التقريرية؛ حيث قالت عائشة: "كنا نطبخ البرمة على عهده صلى الله عليه وسلم تعلوها الصفرة من الدم فنأكل ولا يُنكره" فلو كان غير معفو عنه لبين حرمته؛ لأنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، فإن قلتَ: لِمَ عفي عن ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إنه لا يُمكن الاحتراز من هذا الدم المختلط بالعظم. [فرع]: الدم الخارج من الحيوانات النجسة - كالكلب والخنزير وما تولَّد منهما، والحمار ونحوها - نجس مطلقًا، أي: سواء كان قليلًا أو كثيرًا، وسواء سقط على مائع أو طعام أو لا؛ للقياس، بيانه: كما أن لعاب تلك الحيوانات نجس فكذلك دمها، والجامع: خروج ذلك من داخل الحيوان النجس، فإن قلتَ: لِمَ كان دم تلك الحيوانات نجس؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية للإنسان من أضرار تلك الدماء.

ص: 264

أثر استجمار) بمحلِّه بعد الإنقاء واستيفاء العدد

(20)

(ولا ينجس الآدمي بالموت)؛ لحديث: "المؤمن لا ينجس" متفق عليه

(21)

(وما لا نفس) أي: دم (له سائلة) كالبق والعقرب، وهو (متولِّد من طاهر) لا ينجس بالموت: برِّيًّا كان أو بحريًا: فلا ينجس الماء اليسير بموتهما فيه

(22)

(وبول ما يؤكل لحمه، وروثه، ومنيه) طاهر، لأنه صلى الله عليه وسلم

(20)

مسألة: إذا استجمر بثلاثة أحجار، وبذل جهده في إنقاء المحلِّ - وهو: الدُّبُر -، وبقي بعض الأثر - بعد ذلك: فإنه يُعفى عنه؛ للمصلحة؛ حيث إن إزالة أثر الغائط يشق على الناس، فدفعًا لذلك: عفا عنه الشارع؛ نظرًا لضيق الوقت، وتكرار ذلك في اليوم والليلة، وهذا تيسير على الناس وقد سبق بيانه.

(21)

مسألة: المسلم لا ينجس بالموت، فيجوز لمسه بدون غسل اليد بعد ذلك، بخلاف الكافر؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم:"إن المؤمن لا ينجس" حيث نفى عن المؤمن النجاسة في حال حياته وبعد مماته؛ لأنه مطلق في الأزمان، فيدل بمفهوم الصفة على أن الكافر ينجس بالموت، فإن قلتَ: لِمَ شرع هذا؟ قلتُ: لأن المسلم طاهر في حال حياته، والموت ليس من الأحداث ولا من الأنجاس وفيه تيسير على الناس، فإن قلتَ: إن الكافر كذلك طاهر بعد موته - وهو قول بعض العلماء - وهو ما ذكره المصنف هنا؛ للقياس على المؤمن بجامع الآدمية، قلتُ: هذا قياس فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ لأن الكافر نجس في حياته وبعد مماته، ولكن الشارع تسامح عن حاله في حياته؛ لمصلحة المسلمين؛ حيث يكثر التعامل معهم، أما بعد مماته فقد بقي على أصل نجاسته، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "هل الأصل في الكافر النجاسة أو لا؟ " فعندنا: نعم، وعندهم: لا، فقاسوه على المسلم في الحالتين.

(22)

مسألة: ما لا دم له سائل، وهو متولِّد من طاهر: لا ينجس بالموت، فلو مات بماء: جاز التطهر به، أو مات على ثوب أو فرش: جازت الصلاة بذلك، وذلك مثل: البعوض، والنمل، والقمل، والذباب، والجراد، والسمك، =

ص: 265

"أمر العُرَنيين أن يلحقوا بإبل الصدقة فيشربوا من أبوالها وألبانها" والنجس لا يباح شربه، ولو أبيح للضرورة: لأمرهم بغسل أثره إذا أرادوا الصلاة

(23)

(ومني الآدمي)

= والخنافس، والجعلان وغيرها مما يعيش بالبر والبحر، أما إن كان له دم سائل عند الذبح كالضفدع، والحية والتمساح، أو كان متولدًا من نجس كدود الحمامات والصراصير التي تتكون من الحشوش، والبيَّارات، والمجاري ونحو ذلك: فهي نجسة حية كانت أو ميتة؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه، ثم لينزعه؛ فإن في أحد جناحيه داء، وفي الآخر شفاء" فلو كانت ميتته نجسة: لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بغمسه فيه مرة ثانية؛ لأنه سيُنجِّسه، فلزم أن ميت الذباب ليس بنجس، وغيره من البعوض والقمل ونحوهما مما ذكر معه؛ لعدم الفارق في "كونه لا دم له سائل، وكونه متولدًا من طاهر" وهذا من باب مفهوم الموافقة وكون الذباب كذلك يلزم منه: أن الذي له دم سائل، أو المتولد من نجس: نجس من باب مفهوم الصفة، فإن قلتَ: لِمَ كان ذلك طاهرًا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إنه يصعب الاحتراز عن تلك الحشرات، وكانت طاهرة؛ تيسيرًا على الناس، ولأن الذي له دم سائل يدخل ضمن عموم قوله تعالى:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} نظرًا لتحجُّر الدم فيها فتنجس كل ما سقطت فيه، ولأن ما تولَّد من نجس يدخل في عموم النجاسات كالبول والغائط - كما سبق ..

(23)

مسألة: بول وروث ومني كل ما يؤكل لحمه من الحيوانات - كبهيمة الأنعام والطيور ونحوها - طاهر، فلو سقطت على ماء: لجاز التطهر منه، ولو سقطت على ثوب أو فرش: لجازت الصلاة فيه؛ لقاعدتين الأولى: السنة القولية؛ حيث "إن العرنيين جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكون بطونهم فأمرهم أن يشربوا من أبوال إبل الصدقة وألبانها"، وهذا يدل على طهارة تلك الأبوال؛ لكون النجس لا يجوز شربه؛ لإضراره بالإنسان، ومني الإبل كبوله؛ لعدم الفارق؛ =

ص: 266

طاهر؛ لقول عائشة: "كنت أفرك المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يذهب فيصلي فيه" متفق عليه، فعلى هذا يستحب فرك يابسه وغسل رَطْبه

(24)

(ورطوبة فرج

= لكون كلًا منهما خارج من طاهر، وهو من فضلاتها، وبول ومني غير الإبل من الحيوانات المأكولة اللحم كبول ومنى الإبل؛ لعدم الفارق في ذلك من باب "مفهوم الموافقة"، الثانية: السنة الفعلية؛ حيث "إنه صلى الله عليه وسلم قد صلى في مرابض الغنم"، ومرابضها لا تخلو من روثها وبولها عادة، وهذا يدل على طهارتها، وروث الحيوانات مأكولة اللحم كروث الغنم؛ لعدم الفارق في كونها خارجه مما يؤكل لحمه من باب "مفهوم الموافقة"، فإن قلتَ: لِمَ كان ذلك طاهرًا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إنه يصعب الاحتراز من تلك الأمور؛ لكثرتها بين المسلمين، واشتغالهم بها، فدفعًا للمشقة: شرع هذا، فإن قلتَ: إن هذا كله نجس، وإنما أباح صلى الله عليه وسلم للعرنيين شرب أبوالها؛ ضرورة مرضهم، وهذا جائز؛ قياسًا على أكل الميتة للضرورة قلتُ: هذا غير مسلُّم؛ إذ لو كانت نجسة؛ لأمرهم بغسل أفواههم عندما يريدون الصلاة ولكنه لم يأمرهم بذلك، وهذا يدل على طهارتها؛ لأنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلت: سببه "تعارض القياس السنة القولية والفعلية" فعندنا: تقدَّم السنة وما لزم منها، وعندهم: القياس يقدم، لضعف السنة هنا؛ لكون الاحتمال يتطرق إليها.

(24)

مسألة: مني الآدمي طاهر: فلو سقط على ماء: جاز التطهر به، ولو سقط على ثوب، أو فراش جازت الصلاة عليه بدون غسل، ولكن يستحب فرك وحك اليابس من المني، وأن يغسل الرطب منه؛ للسنة التقريرية؛ حيث قالت عائشة:"كنت أفرك المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يذهب فيصلي فيه" ولم ينكر صلى الله عليه وسلم ذلك، وهذا يدل على طهارة مني الآدمي مطلقًا؛ إذ لو كان نجسًا: لوجب غسله كغيره من النجاسات ومني غيره من الذكور والإناث كمنيه صلى الله عليه وسلم، لعدم الفارق في كونه من فضلات الآدمي من باب "مفهوم الموافقة"؛ ويلزم من =

ص: 267

المرأة) وهو: مسلك الذكر: طاهر كالعرق، والريق، والمخاط، والبلغم، ولو أزرق، وما سال من الفم وقت النوم

(25)

(وسؤر الهرة وما دونها في الخلقة: طاهر) غير مكروه غير دجاجة مُخلاة، و "والسُّؤر": - بضم السين مهموز: بقية طعام الحيوان وشرابه،

= فعل عائشة ذلك: استحباب فرك المني إذا كان يابسًا؛ لقبوله الفرك والحك بالظفر، أما غير اليابس: فيستحب غسله؛ لعدم قبوله للفرك، فإن قلتَ: لِمَ كان مني الآدمي طاهرًا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إنه لو وجب غسله أو نجاسة الماء الذي وقع فيه: للحق كثيرًا من المسلمين ضيق وحرج ومشقة؛ نظرًا لكثرة وقوعه، وقلة المياه، فإن قلتَ: لِمَ كان المني طاهرًا، والمذي، والودي نجسان؟ قلتُ: الأصل أن الثلاثة كلها نجسة؛ نظرًا لخروجها من مخرج النجاسة - وهو ذكر الرجل أو فرج المرأة - ولكن خُفِّف في المني؛ لكثرة وقوعه، فيشق غسله، وبقي المذي والودي على الأصل؛ لقلَّة وقوعهما ..

(25)

مسألة: ما خرج من فرج المرأة - وهو مدخل ذكر الرجل عند الجماع - من رطوبات: طاهر، فيجوز لها أن تصلي بتلك السراويل أو الثياب التي وصلت إليها تلك الرطوبات، وكذا: عرق الآدمي - رجلًا كان أو امرأة - وريقه، وبلغمه، والسوائل التي تخرج منه عند النوم، وكذا: المخاط ولو كان لونه يميل إلى الزُّرقة؛ لقاعدتين: الأولى: السنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم: "قد تفل في ثوبه ثم مسح بعضه ببعض" وهذا يدل على طهارة ذلك، وغيره ممن ذكرناه مثله في كونه خارج من جسد طاهر من الفم أو الأنف ويشق التحرز منه: من باب "مفهوم الموافقة" الثانية: القياس؛ بيانه: كما أن العرق والريق ونحوهما طاهر فكذلك ما خرج من فرج المرأة طاهر، والجامع: أن كلًا منهما يشق التحرز منه، وهذا هو المقصد الشرعي من كون ذلك طاهرًا

ص: 268

و "الهرُّ": القط،

(26)

وإن أكل هو، أو طفل ونحوهما نجاسة ثم شرب - ولو قبل أن

(26)

مسألة: سؤر الهرة - وهي: ما تبقيه من شرابها أو طعامها، أو لعابها وريقها -: طاهر، وكذا: كل حيوان دون الهرة في الجسم كالفأرة، والوزغ، والضفدع، والضب، والجرذ، والقنفذ، والدجاجة ولو كانت مخلَّاة مثل الهرة في ذلك، فلو شربت تلك الحيوانات من ماء: لجاز التطهر منه، أو سقط لعابها على ثوب أو فراش: لجاز الصلاة فيه؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: - في الهرة -: "إنها ليست بنجس؛ إنها من الطوافين عليكم والطوافات"، فنفى النجاسة عن الهرة، وهذا عام لجسمها، ولما خرج منها؛ لأن "نجس" نكرة في سياق نفي، وهذا من صيغ العموم، وغيرها مما ذكرناه مثلها في عدم النجاسة، لعدم الفارق، بل هي أولى منها؛ لأن الهرة إذا كانت تكثر التطواف بالبيت ويصعب التحرز منها فغيرها مما هو أقل منها جسمًا أصعب منها في ذلك، وأكثر تطوافًا منها، فيكون من باب مفهوم الموافقة الأولى، أو القياس الأولى، فإن قلتَ: لِمَ كان ذلك طاهرًا مع احتمال أكلها للنجاسة بخلاف الكلب؟ قلتُ: الأصل: أن كل الحيوانات غير مأكولة اللحم نجسة كالهرة والكلب وغيرهما، ولكن الشارع قد رخَّص في سؤر الهرة وما دونها من الحيوانات وجعلها طاهرة؛ نظرًا لكثرة تطوافها، وصعوبة تحرز الناس منها، فلو كانت نجسة: لوجب غسل كل شيء سقط عليه لعابها، ولوجب ترك ماء شربت منه، وهذا فيه مشقة على المسلمين؛ لكثرتها في البيوت، ولقلة المياه والمشقة تجلب التيسير، بخلاف الكلب فقد أمر الشارع بغسل الإناء الذي يشرب منه كما سبق - لكونه لا يدخل في المنازل عادة، ويمكن التحرز منه وإذا شرب من إناء - وهو نادر - فلا يشق غسله، فإن قلتَ: إن سؤر الدجاجة المخلَّاة نجس - وهو ما ذكره المصنف هنا؛ للتلازم؛ حيث إنه يُحتمل أكلها النجاسات فيلزم من ذلك نجاستها قلتُ: إن هذا الاحتمال موجود في الهرة وغيرها مما هو دونها في الجسم فلم يمنع من طهارتها، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلت: سببه: "تعارض التلازم مع مفهوم السنة" فعندنا: يقدم المفهوم لعدم إطراد التلازم، وعندهم: يقدم التلازم؛ لقوة وقوعه.

ص: 269

يغيب - من مائع: لم يؤثر؛ لعموم البلوى،

(27)

لا عن نجاسة بيدها أو رجلها،

(28)

ولو وقع ما ينضمُّ دُبُره في مائع ثم خرج حيًا: لم يؤثر

(29)

(وسباع البهائم و) سباع (الطير) التي هي: أكبر من الهر خِلْقَه

(30)

(والحمار الأهلي والبغل منه) أي: من

(27)

مسألة: إذا أكل الهر، أو الطفل، أو غيرهما من حيوان - دون الهر - أو طير أي نجاسة كغائط أو بول، ثم شرب من ماء، فإن سؤر هذه الحيوانات طاهر، فلو شربت من ماء: فإنه يجوز أن نتطهر منه، سواء غاب هذا الحيوان عنا أو لا؛ للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تيسير على المسلمين، فلو كان ذلك ينجس الماء: للحق كثيرًا من الناس مشقة وضيق؛ نظرا لكثرة وقوعه، وعموم البلوى فيه، فدفعًا لذلك: شرع هذا.

(28)

مسألة: إذا شوهدت نجاسة في رجل أو يد الهرة أو الطفل أو نحوهما وانغمس في ماء أو مائع، أو وطأ فراشًا أو ثوبًا: فإن ذلك ينجس الماء والمائع والفراش، والثوب فلا تجوز الطهارة من الماء، ولا تجوز الصلاة في الثوب أو على تلك الأرض؛ للإجماع على ذلك ومستنده: ظهور النجاسة، وهو من باب التلازم.

(29)

مسألة: إذا وقع حيوان ينضم دبره عادة في ماء أو مائع كالفأرة، والجرذ، والوزغ، والضب، والضفدع ونحوها وخرج حيًا: فإن هذا الماء أو المائع لا ينجس، فيجوز أن يتطهر به؛ للتلازم؛ حيث يلزم من انضمام دبره مع الحياة: امتناع خروج نجاسة منه غالبًا في الماء، فيبقى على طهارته، فإن قلتَ: لِمَ يكون ذلك طاهرًا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه توسعة على الناس، فإن قلتَ: لِمَ لا ينجس إذا خرج حيًا؟ قلتُ: لأنه إذا مات في الماء: فإنه لا ينضم دبره لاسترخائه، فيحتمل خروج نجاسة غالبًا فينجس الماء.

(30)

مسألة: ما هو فوق الهرة في الجسم من سباع البهائم - وهي: المفترسة كالأسد والفهد والنمر والذئب والفيل ونحوها - وسباع الطير - وهي: ذوات الجوارح كالصقر والحدأة والنسر ونحوها -: كلها نجسة، وكذا: جميع =

ص: 270

الحمار الأهلي، لا الوحشي (نجسة) وكذا: جميع أجزائها، وفضلاتها؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الماء وما ينوبه من السباع والدَّواب فقال:"إذا كان الماء قلتين لم ينجسه شيء" فمفهومه: أنه ينجس إذا لم يبلغهما، وقال - في الحمر يوم خيبر:"إنها رجس" متفق عليه، و "الرِّجس": النجس.

(31)

= أجزائها وفضلاتها، وسؤرها وريقها وعرقها: نجسة: فلو شربت من ماء فلا يجوز أن يُتطهر به، ولو سقطت تلك الأمور على ثوب أو فراش أو أرض فلا تجوز الصلاة فيه؛ للقياس، بيانه: كما أن الكلب وما يخرج منه نجس، فكذلك تلك السباع مثله، والجامع: أن كلًا منها يحرم أكله ويُعتبر من أكلة النجاسات، ويمكن التحرُّر منها، فإن قلتَ: لِمَ كان ذلك نجسًا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية المسلمين من أضرارها.

(31)

مسألة: الحمار الأهلي - وهو: الذي يعيش داخل البلد - والبغل - وهو: المتولد من الحمار والفرس - طاهران وكل من ريقهما، وعرقهما وسؤرهما طاهر، لكن يُحرَّم أكلهما؛ للسنة التقريرية؛ حيث إنهما كانا يُركبان ويُستعملان في داخل البيوت وخارجها وذلك في عهده صلى الله عليه وسلم، فلا يُنكر ذلك مع أنه يلزم من ذلك إلصاق الثياب الرطبة واليابسة عليها عند الركوب، وشربها من الأواني ونحو ذلك، فلو كان ذلك نجسًا لبيَّنه صلى الله عليه وسلم وهذا يدل على طهارة ذلك؛ لأنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، فإن قلتَ: لِمَ كان ذلك طاهرًا؟ قلتُ: للمصلحة، حيث إن ذلك فيه جلب مصالح ومنافع الحمار والبغل، ودفع مفسدة ومشقة غسل كل ما سقط عليه لُعابهما، وسؤرهما، وعرقهما؛ حيث إن أكثر المسلمين يحتاجون إليهما، فإن قلتَ: لِمَ قُيِّد الحمار بأنه الأهلي وكذا: البغل؟ قلتُ: احترازًا عن الحمار والبغل الوحشيين؛ حيث إنهما طاهران، بالإجماع، ومستنده السنة القولية حيث إنه صلى الله عليه وسلم "نهى عن لحوم الحمر =

ص: 271

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= الأهلية" - كما رواه أنس - فيدل مفهوم الصفة منه: على: أن لحم الحمر والبغال الوحشية يؤكل، ويلزم من أكله: طهارة سؤره ولُعابه، فإن قلتَ: إن الحمار والبغل الأهليين نجسان، وكل أجزائهما، ولُعابهما وعرقهما نجسة، - وهو قول كثير من العلماء، وهو ما ذكره المصنَّف هنا؛ للسنة القولية وهي من وجهين: أولهما: أنه صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الماء وما ينوبه من السِّباع والدَّواب قال: "إذا كان الماء قلتين لم يُنجسه شيء" حيث دلَّ مفهوم العدد منه على أن الماء الذي هو أقل من قلتين: ينجس إذا شرب الحمار والبغل والسباع وأي دابة حُرِّم أكلها ثانيهما: إنه صلى الله عليه وسلم قد نهى عن لحوم الحمر الأهلية وعلَّل ذلك بقوله: إنها "رجس" والرجس: النجس، والنهي هنا مطلق، فيقتضي تحريم أكلها، ونجاستها، والبغل مثل "الحمار الأهلي"، لكونه متولدًا منه، فيكون نجسًا مثله، قلتُ: إن السنة التقريرية قد خصَّصت عموم مفهوم العدد من حديث: "إذا كان الماء

" فأخرجت الحمار الأهلي والبغل، من كونهما نجسين، أما قوله: "إنها رجس" فيُحتمل أنه أراد لحمها الذي كان في قدروهم - أثناء أمره لأبي طلحة يوم خيبر - حيث إنه نجس؛ لأنه لحم ما لا يحل أكله، ويُحتمل أنه أراد أنها محرمة مثل ما قال تعالى في الخمر والميسر والأنصاب والأزلام: {رِجْسٌ} والمراد به التحريم، وإذا تطرق الاحتمال إلى الدليل بطل الاستدلال به، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "هل السنة التقريرية خصصت عموم مفهوم العدد أو لا؟ فعندنا: نعم، وعندهم: لا. وأيضًا هل المراد من لفظ "رجس" النجس أو التحريم؟ فعندنا: التحريم فقط، وعندهم: النجس والتحريم معًا.

هذه آخر مسألة من باب "إزالة النجاسة" ويليه: باب "الحيض والاستحاضة والنفاس"

ص: 272

‌باب الحيض

أصله لغة: السَّيلان من قولهم: "حاض الوادي": إذا سال، وهو شرعًا: دم طبيعة وجِبلَّة - يخرج من قعر الرحم في أوقات معلومة، خلقه الله لحكمة غذاء الولد وتربيته

(1)

(لا حيض قبل تسع سنين) فإن رأت دمًا لدون ذلك: فليس بحيض؛ لأنه

‌باب الحيض والاستحاضة والنُّفاس

وفيه ثنتان وخمسون مسألة:

(1)

مسألة: الحيض لغة: السيلان والفيضان ومنه قولهم: "حاض الوادي وفاض" إذا سال بحيض وفيض كما في اللسان (7/ 142)، والمراد بالحيض شرعًا: دم طبيعة يجتمع في رحم المرأة عند بلوغها، ثم يُرخيه ويُخرجه - ذلك الرحم - في أوقات معتادة عند عدم الحمل والرضاع، ويطلق عليه "الدَّورة" أو "العادة الشهرية" كناية عنه، وهو إطلاق مجازي، فإن قلتَ: لِمَ سمي بهذا الاسم؟ قلتُ: لاجتماع الدم في مكان معين وهو: "الرحم"، لذلك يُسمّى الموضع الذي يجتمع فيه الماء حوضًا، فإن قلتَ: لِمَ جعله الله في المرأة؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن فيه غذاء للولد وهو داخل الرحم - ولذا: لا تحيض الحامل - وهو غذاء للولد بعد ولادته بعد أن يقلبه الله لبنًا له، لذلك: لا تحيض المرضع سنتين غالبًا، فإذا لم تكن المرأة حاملًا ولا مرضعًا: فإنه يخرج كل سبعة أيام أو ستة من كل شهر غالبًا - كما سيأتي - ولو بقي في الرحم: للحق المرأة ضرر - كما يقول الأطباء - فإن قلتَ: لِمَ سُمِّي بباب "الحيض مع أنه قد بحث فيه الاستحاضة والنفاس وسلس البول"؟ قلتُ: لأن أكثر ما يبحث في هذا الباب هي: أحكام الحيض؛ نظرًا لكثرة وقوعه بين نساء المسلمين بخلاف الاستحاضة والنفاس وسلس البول فهي نادرة، والنادر تابع للأكثر، فإن قلتَ: لِمَ يذكر باب الحيض في آخر كتاب الطهارة عند الفقهاء؟ قلتُ: للمصلحة؛ وهو تقديم العام على الخاص؛ =

ص: 273

لم يثبت في الوجود، وبعدها: إن صلح: فحيض، قال الشافعي:"رأيت جدة لها إحدى وعشرون سنة"(ولا) حيض (بعد خمسين) سنة؛ لقول عائشة: "إذا بلغت المرأة خمسين سنة: خرجت من حد الحيض" ذكره أحمد، ولا فرق بين نساء العرب وغيرهن

(2)

= حيث إن جميع الأبواب السابقة عامة للذكور والإناث، بخلاف الحيض والاستحاضة والنفاس فهي خاصة بالإناث فقط، ولا شك أن العام أهم من الخاص من حيث فائدته هنا.

(2)

مسألة: إذا خرج دم من أنثى قبل بلوغها التاسعة، أو بعد بلوغها الخمسين: فإن هذا الدم لا يكون حيضًا شرعًا: فلا تثبت من أجله أحكام الحيض كترك الصلاة والصوم ونحوهما - كما سيأتي - أما إن خرج بعد بلوغها التاسعة أو قبل بلوغها الخمسين وصلح لأن يكون حيضًا - كأن يكون منتنًا غليظًا لونه يميل إلى السواد، وخرج يوم وليلة، ولم يتعدَّ خروجه خمسة عشر يومًا - كما سيأتي -: فهو حيض شرعًا؛ لقاعدتين: الأولى: قول الصحابي؛ حيث قالت عائشة: "إذا بلغت المرأة تسع سنين فهي امرأة، وإذا بلغت خمسين سنة: خرجت من حدِّ الحيض" والمراد: أنها في التاسعة يكون حكمها حكم المرأة البالغة في الحيض وغيره، وأنه إذا بلغت الخمسين فإنه لا يأتيها الحيض، ودل مفهوم العدد من هذا على أنها إذا لم تبلغ التاسعة: فلا يُحكم عليها بأحكام المرأة البالغة ومنها الحيض وأحكامه: فلا تحيض، وإذا لم تبلغ الخمسين فما يأتيها من دماء فهو حيض، والظاهر: أن هذا ثبت لعائشة من خلال ما لاحظته من نساء عصرها، الثانية: العرف والعادة؛ حيث ثبت من استقراء عادات النساء في المجتمعات المختلفة: أن الأنثى لا تحيض غالبًا قبل سن التاسعة وأنهن لا يحضن بعد الخمسين غالبًا وإن وجدت من تحيض قبل التاسعة، أو بعد الخمسين فهي نادرة، والنادر يتبع الغالب، وكأن أكثر الفقهاء =

ص: 274

(ولا) حيض (مع حمل) قال أحمد: "إنما تعرف النساء الحمل بانقطاع الدم" فإن رأت دمًا: فهو دم فساد لا تترك له العبادة، ولا يُمنع زوجها من

= يأخذون تلك الأحكام من عادات النساء؛ لأن العادة محكَّمة، فإن قلتَ: لِمَ حدِّد الحيض بذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن الحيض إذا وجد في الرحم يدل على أنها مستعدة للحمل وتربية الأطفال، ومن كان عمرها لم يبلغ التاسعة، أو تعدَّى الخمسين لا تصلح لأن تحمل أو تربي أطفالًا؛ لمشقة ذلك عليها؛ لكون من لم تبلغ التاسعة لا تتحمَّل مسؤولية حمل وتربية أطفال لأنها طفلة، ومن بلغت الخمسين لا تتحمل مشاق الحمل والولادة، ومتاعب التربية؛ نظرًا لكبر سنها وضعفها، وقلَّة صبرها غالبًا، لذلك تجد الأطباء ينصحون دائمًا بأن لا تحمل المرأة بعد تمامها الأربعين سنة: لأنه ضرر عليها وعلى مولودها، فإن قلتَ: إذا خرج دم من الصغيرة صالح لأن يكون حيضًا: فإنه يكون حيضًا شرعًا وإن لم تبلغ التاسعة، وإذا خرج دم من الكبيرة صالح لأن يكون حيضًا: فهو حيض وإن تعدَّت الخمسين، وهو قول كثير من العلماء ومنهم بعض الحنفية، وتبعهم ابن تيمية؛ للكتاب؛ حيث قال تعالى:{وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} حيث إن ذلك عام فيشمل كل حائض: سواء تعدت الخمسين أو لا، وسواء بلغت التاسعة أو لا؛ لأن لفظ "اللائي" في الموضعين - اسم موصول، وهو من صيغ العموم، قلتُ: إن قول الصحابي، والعرف والعادة - السابق ذكرهما - قد خصَّصا عموم هذه الآية، فعُلم من ذلك: أن المطلَّقة التي لم تبلغ التاسعة، أو المطلَّقة التي تعدَّت الخمسين تعتدان ثلاثة أشهر؛ لعدم ثبوت الحيض لهما، فإن قلَت: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض عموم الآية مع قول الصحابي، والعرف والعادة" فعندنا: قد خصَّصا عموم الآية، وعندهم لم يقويا على تخصيص عمومها.

ص: 275

وطئها،

(3)

ويُستحب: أن تغتسل بعد انقطاعه، إلا أن تراه قبل ولادتها بيومين أو

(3)

مسألة: الحامل لا تحيض، وعليه: فكل ما تراه يخرج من دماء: فهو دم استحاضة وفساد ولا يؤثر في الأحكام: فلا تترك لأجله العبادة: من صلاة أو صوم، أو طواف، أو قراءة قرآن، ويحل لزوجها جماعها، ولا يحرم طلاقها فيه، لقواعد: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} ثم قال: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} فالآية الثانية قد خصَّصت الأولى، والمراد: أن كل مطلقة تعتدُّ ثلاث حيض إلا المطلقة إن كانت حاملًا: فعدتها تستمر حتى تضع حملها وتلد، فيلزم من ذلك: أن الحامل لا تحيض؛ إذ لو كانت تحيض لُحدِّدت عدتها بالحيض كغيرها، الثانية: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "لا توطأ حامل حتى تضع، ولا حائل حتى تستبرأ بحيضة" حيث لزم من ذلك: أن الحامل لا تحيض؛ لأنه حدَّد براءة رحمها: بوضع حملها، ولم يحدده بالحيض كغير الحامل، الثالثة: العرف والعادة؛ حيث إن أغلب النساء يعرفن أنهن حوامل بانقطاع دم الحيض، فيلزم منه: أن الحامل لا تحيض؛ حيث إن العادة محكَّمة - وهو ما أشار إليه أحمد -، فإن قلتَ: لِمَ لا تحيض الحامل؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن هذا الدم قد أوجده الله لتغذية الجنين، فلو خرج هذا: لتعرض هذا الجنين إما للهلاك، أو للضرر، فإن قلتَ: إن الحامل تحيض، وهو قول مالك والشافعي وبعض الحنابلة كابن تيمية؛ لقاعدتين: الأولى: القياس، بيانه: كما أن الحائل تحيض فكذلك الحامل مثلها، والجامع: خروج الدم في وقت الحيض في كل، الثانية: قول الصحابي؛ حيث قالت عائشة - في المرأة الحامل ترى الدم -: "إنها تدع الصلاة"، فيلزم من تركها للصلاة: أن يكون ما خرج منها دم حيض؛ لأنه سببه، قلتُ: أما القياس فهو فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ لأن هذا الدم تحتاجه الحامل لتغذية جنينها، وخروجه مضر به، أم الحائل فلا تحتاجه، فوجوده مضر بها، ثم إن هذا قياس في العادات، ولا =

ص: 276

ثلاثة مع أمارة: فنُفاس، ولا تنقص به مدته

(4)

(وأقلُّه) أي: أقل الحيض (يوم وليلة)؛

= يجوز القياس في العادات - كما فصَّلتُ ذلك في كتابي: "المهذَّب" - أما قول عائشة فيُحتمل أنها تقصد: أن المرأة الحامل التي ترى الدم عند قربها من الولادة فهذا تترك له الصلاة والصوم؛ لأنه دم نفاس، وإذا تطرق الاحتمال إلى الدليل بطل به الاستدلال، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "هل يجري القياس في العادات أو لا؟ " فعندنا: لا، وعندهم: نعم، وأيضًا "تعارض القياس وقول الصحابي مع الكتاب والسنة القولية" فعندنا: يقدم العمل بالكتاب والسنة دون قول الصحابي والقياس لضعفهما هنا، وعندهم: يقدم العمل بالقياس وقول الصحابي؛ لقوتهما عندهم ..

(4)

مسألة: إذا رأت الحامل دمًا يخرج منها فليس هو دم حيض -كما سبق-، ويُستحب لها إذا انقطع: أن تغتسل، وإذا رأته قبل ولادتها بيومين أو ثلاثة أيام فلا يُشرع لها الاغتسال بعد انقطاعه بشرط: ظهور علامة وأمارة على قرب الولادة، لكونه دم نفاس، وهذان اليومان أو الثلاثة غير محسوبة من مدَّة النفاس الأربعين - كما سيأتي -؛ للمصلحة؛ حيث إن الدم الخارج منها سينتشر في باقي البدن، فاستحب الاغتسال له لإزالة ذلك: من باب الاحتياط، فإن قلتَ: لِمَ اشترط ذلك الشرط؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إنه لا داعي لهذا الاغتسال أنه سيتبعه كثير من دماء النفاس، وهذا معلوم عند أغلب النساء، فإن قلتَ: لِمَ لا تحسب تلك الأيام من مدة النفاس؟ قلتُ: لأن مدة النفاس تحسب من وقت خروج الولد - كما سيأتي - فإن قلتَ: إذا تركت الصلاة في هذين اليومين أو الثلاثة التي ظنَّت قربها من الولادة، ثم بان خطأوها فما الحكم؟ قلتُ: تقضي تلك الصلوات؛ لأنه لا عبرة بالظن الذي بان خطأوه.

ص: 277

لقول علي رضي الله عنه (وأكثره) أي: أكثر الحيض: (خمسة عشر يومًا) بلياليها؛ لقول عطاء: "رأيتُ من تحيض خمسة عشر يومًا"

(5)

(وغالبه) أي: غالب الحيض (ست) ليالٍ بأيامها (أو سبع) ليالٍ بأيامها

(6)

(وأقل طهر بين حيضتين: ثلاثة عشر يومًا) احتجَّ

(5)

مسألة: أقل الحيض: يوم وليلة وأكثره: خمسة عشر يومًا، وعليه: فلو رأت دمًا خرج منها أقل من يوم وليلة: فليس بدم حيض، وكذا: لو رأت دمًا خرج منها أكثر من خمسة عشر يومًا فليس بدم حيض بل إن الدم الخارج في اليوم السادس عشر: يكون دم استحاضة؛ لقاعدتين: الأولى: قول الصحابي؛ حيث قال علي: "ما زاد عن خمسة عشر: استحاضة، وأقل الحيض يوم وليلة" حيث دل مفهوم العدد منه على: أن الدم الخارج مدة خمسة عشر يومًا فأقل: دم حيض، وعلى أن الدم الخارج أقل من يوم وليلة: ليس بدم حيض، الثانية: العرف والعادة؛ حيث ثبت بعد استقراء عادات غالب النساء: وجود حيض معتاد مدته يوم وليلة، ووجود من تحيض خمسة عشر يومًا وهو الذي أشار إليه عطاء، والعادة محكَّمة، فإن قلتَ: لِمَ حُدِّد أقله وأكثره بذلك؟ قلتُ: لأن مدة أقل من يوم وليلة لا يُمكن الحكم على الدم الخارج فيها بأنه حيض أو غيره؛ لعدم كفايتها، ولأنه يلزم من خروج الحيض أكثر من خمسة عشر: أن تكون مدة الحيض أكثر من مدة الطهر، وهذا لا يمكن إجماعًا؛ لمخالفته لقوله صلى الله عليه وسلم:"تمكث إحداكن شطر عمرها لا تُصلي"، فإذا كانت تحيض أكثر من خمسة عشر: فإنها تمكث أكثر من الشطر، وهو النصف، وسيأتي.

(6)

مسألة: يستمر خروج دم الحيض عند غالب النساء: ستة أيام أو سبعة بلياليها، فإن زاد على ذلك: فهو حيض حتى يبلغ خمسة عشر، وبعدها: يكون استحاضة - كما سبق -؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم لحمنة بنت جحش وكانت تُستحاض -: "تحيضين في علم الله ستة أو سبعة =

ص: 278

أحمد بما رُوي عن علي: أن امرأة جاءته - وقد طلقها زوجها - فزعمت أنها حاضت في شهر ثلاث حيض فقال علي لشُريح: "قل فيها" فقال شُريح: "إن جاءت ببينة من بطانة أهلها ممن يُرضى دينه وأمانته فشهدت بذلك وإلا: فهي كاذبة" فقال علي: "قالون" أي: جيد بالرومية (ولا حدَّ لأكثره) أي: أكثر الطهر بين الحيضتين؛ لأنه قد وُجد من لا تحيض أصلًا، لكن غالبه: بقية الشهر،

(7)

والطهر زمن حيض:

= أيام، ثم اغتسلي وصلي أربعة وعشرين أو ثلاثة وعشرين يومًا كما تحيض النساء، وكما يطهرن لميقات حيضهنَّ وطهرنَّ"؛ حيث أوجب أن تحسب مدة حيضها شهرًا ست أيام، وشهرًا سبعة أيام؛ لأن "أو" للتنويع، ولأن الأمر مطلق، فيقتضي الوجوب، وهذا يُعتبر من أقيسة النبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث قاس حمنة على غالب النساء، الثانية: العرف والعادة؛ حيث ثبت بعد استقراء غالب النساء أن الحيض يستمر خروجه هذه المدة، والعادة محكَّمة، فإن قلتَ: لِمَ جُعل غالب عادة النساء هذه المدة؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن هذه المدة هي المناسبة لطبيعتهن؛ حيث إن قصر عن هذه المدة لا يمكنه خروجه كله فيضرها وجود بعضه في رحمها، وإن زاد عن هذه المدة زادت مدة منعها عن عبادة الله تعالى.

(7)

مسألة: أقل الطهر بين الحيضتين: ثلاثة عشر يومًا، وغالب الطهر بينهما: أربعة وعشرون أو ثلاثة وعشرون يومًا، وأكثر الطهر بينهما: لا حدَّ له؛ لقواعد: الأولى: الإجماع؛ حيث أجمع العلماء على أنه لا حد لأكثر الطهر، ومستنده: استقراء حالات النساء: فقد وجدت من لا تحيض أصلًا، ووجدت من تحيض بالسنة يوم وليلة، وقالت لي امرأة: أنا لا أحيض إلا كل أربعة أشهر، الثانية: قول الصحابي؛ حيث إن امرأة جاءت إلى علي فقالت: إنها حاضت في شهر واحد ثلاث حيض، فوافقها علي بعد أن امتدح شُريحًا لما قضى في حقها -، وهذا لا يمكن إلا إذا كانت تحيض يوم وليلة فقط؛ حيث إنها حاضت في أول يوم من الشهر فيكون قد مضى لها أربعة عشر يومًا، ثم =

ص: 279

خلوص النقاء: بأن لا تتغير معه قطنة احتشَّت بها، ولا يُكره وطؤها زمنه إن اغتسلت

(8)

(وتقضي الحائض الصوم لا الصلاة)؛ إجماعًا (ولا يصحَّان) أي: الصوم والصلاة (منها) أي: من الحائض (بل يحرمان) عليها كالطواف وقراءة القرآن واللبث في المسجد،

(9)

لا المرور به إن أمنت

= يوم من الشهر فيكون قد مضى لها أربعة عشر يومًا، ثم حاضت يوم وليلة، فيكون قد مضى لها من الشهر خمسة عشر يومًا، ثم طهرت ثلاثة عشر يومًا فيكون قد مضى لها من الشهر ثمان وعشرون يومًا، ثم حاضت يوم وليلة ثم طهرت، فانتهت عدتها بتلك الحيض الثلاث، وهذا يلزم منه: أن أقل الطهر بين الحيضتين ثلاثة عشر يومًا، الثالثة: التلازم؛ حيث إن كون النساء يحضن ستة أو سبعة أيام غالبًا: يلزم منه: أن يكون غالب الطهر بين الحيضتين: أربعة وعشرون أو ثلاثة وعشرون يومًا، وهو غالب بقية الشهر.

(8)

مسألة: إذا كانت عادة المرأة سبعة أيام، لكن انقطع عنها الدم بعد أربعة أيام - مثلا - وتأكدت من هذا الانقطاع بأن أدخلت في فرجها قطنة فخرجت كما هي دون دم: فإنها تكون بذلك نقية طاهرة تفعل ما تفعله الطاهرات؛ من اغتسال وصلاة وصوم ووطء؛ للتلازم؛ حيث يلزم من انقطاع دم الحيض: طهارتها تمامًا، وإن كانت في مدة الحيض، ويلزم من طهارتها: أن تفعل ما تفعله الطاهرات: لزوال العذر المانع من عبادتها وجماعها.

(9)

مسألة: يحرم على المرأة الحائض الصوم والصلاة وفعل جميع ما تشترط له الطهارة كالطواف وقراءة القرآن والجلوس في المسجد، ولو صلَّت أو صامت أو فعلت ما سبق: فإنه لا يصح منها ذلك، بل تأثم بفعله، ولكن بعد طهورها من الحيض يجب أن تقضي الصوم فقط، دون الصلاة وغيرها؛ للسنة القولية؛ =

ص: 280

تلويثه

(10)

(ويحرم وطؤها في الفرج) إلا لمن به شَبَق بشرطه، قال الله تعالى:{فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} (فإن فعل): بأن أولج قبل انقطاعه - من يجامع مثله - حشفته، ولو بحائل أو مكرها أو ناسيا أو جاهلا:(فعليه دينار أو نصفه) على التخيير (كفارة)؛ لحديث ابن عباس: "يتصدق بدينار أو نصفه كفارة" رواه أحمد

= وهي من وجهين: أولهما: قول عائشة: "كنا نحيض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فنؤمر بقضاء الصوم، ولا نؤمر بقضاء الصلاة" حيث أوجب الشارع قضاء الصوم الذي وجب تركه أثناء الحيض؛ لأن قول الصحابي هذا له حكم المرفوع، والأمر مطلق، فيقتضي الوجوب، ثانيهما: اقول صلى الله عليه وسلم لبنت أبي حبيش: "إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة" حيث أوجب ترك الصلاة مدة الحيض، لأن الأمر مطلق، وهو يقتضي الوجوب، وترك الواجب حرام، فإن قلتَ: لِمَ لا تصح الصلاة والصوم من الحائض ويحرم فعلهما؟ قلتُ: لأن الصلاة والصوم ونحوهما: عبادات يناجي العبد بهما ربه فلا يليق أن تفعل ذلك المرأة وهي ملطخة بالدماء النتنة، فإن قلتَ: لِمَ يقضي الصوم دون الصلاة؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن الصلاة تتكرر في اليوم والليلة خمس مرات فلو وجب عليها أن تقضيها: لشق عليها ذلك، بخلاف الصوم فإنه لا يأتي إلا بالسنة مرة واحدة، فلا يشق قضاء الأيام التي تركتها، فإن قلتَ: لِمَ حرم عليها الطواف والجلوس في المسجد؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه منع لتلويث المسجد.

(10)

مسألة: يباح للحائض أن تمر بمسجد: بأن تدخل من باب وتخرج من الباب الآخر بشرط: أن يغلب على ظنها عدم خروج دم منها يلوث المسجد؛ للتلازم؛ حيث إن هذا لا يلوث المسجد فلزم إباحته، فإن قلتَ: لِمَ أبيح هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تيسير وتوسعة على المسلمين.

ص: 281

والترمذي، وأبو داود، وقال: هكذا الرواية الصحيحة، والمراد بالدينار: مثقال من الذهب مضروبًا كان أو غيره، أو قيمته من الفضة فقط، ويجزيء لواحد، وتسقط بعجزه، وامرأة مطاوعة كرجل

(11)

(و) يجوز أن (يستمتع منها) أي: من الحائض

(11)

مسألة: يحرم على الرجل وطء زوجته وهي حائض إلا إذا كان به شبق - وهو: شدة الشهوة - وخاف على نفسه الضرر أو الوقوع في الزنا: فلا يحرم عليه ذلك، أما إن لم يكن به هذا العذر: فإنه يأثم بالوطء، وعليه الاستغفار، والمرأة مثله في هذا الحكم إن كانت مطاوعة له؛ لقاعدتين: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} فأوجب الشارع ترك وطء النساء في حال الحيض والأمر هنا مطلق، فيقتضي الوجوب، وترك الواجب حرام، وهذا مطلق، فلم يقيد بكفارة تجب على من أوقع الوطء، ولم يُفصِّل في كون الواطيء عامدًا أو ساهيًا أو عالمًا أو جاهلًا، والمرأة كالرجل في ذلك؛ لعدم الفارق، الثانية: المصلحة؛ حيث إنه يباح الوطء لزوج به شبق لدفع الضرر عنه، فإن قلتَ: لِمَ حرم الوطء في حال الحيض؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن هذا فيه دفع الأذى الموجود في ذلك الدم من أمراض ورائحة منتنة وقد يؤدي إلى كره الرجل امرأته، أو العكس، فإن قلتَ: إنه إذا وطأ زوجته الحائض بدون عذر فعليه كفارة وهي: التصدق بدينار أو نصفه وهو قول بعض العلماء وهو ما ذكره المصنف هنا؛ للسنة القولية؛ حيث روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال في الذي يأتي امرأته وهي حائض: "يتصدق بدينار أو نصفه كفارة" كما رواه ابن عباس ويسقط ذلك عند العجز عنه - قلتُ: هذا الحديث ضعيف؛ حيث إن من رواته: "عبد الحميد" وقد ضعَّفه أكثر أئمة الحديث كما أورده القرطبي في تفسيره (3/ 88)، وهو مضطرب في متنه؛ حيث إنه ورد بإخراج دينار أو نصفه، وهذا خلاف قاعدة التخيير وهي:"أن يكون المخير بينها متساوية" وقد بينت ذلك في كتاب (المهذب" (1/ 174)، فإن قلتَ: ما هذا الخلاف سبب الخلاف =

ص: 282

(بما دونه) أي: دون الفرج: من القبلة، واللمس، والوطء دون الفرج؛ لأن "المحيض": اسم لمكان الحيض، قال ابن عباس:"فاعتزلوا نكاح فروجهن" ويُسَنُّ ستر فرجها عند مباشرة غيره،

(12)

وإذا أراد وطئها فادَّعت حيضًا ممكنًا: قبل

(13)

(وإذا انقطع الدم) أي: دم الحيض

= هنا؟ قلتُ: سببه: "هل حديث ابن عباس صحيح فيكون مقيدًا للآية أو لا؟ " فعندنا: لم يصح، وعندهم: يصح، تنبيه: الدينار يزن مثقال ذهب وهو يزن في كل عصر: إحدى وسبعون حبة من الشعير، فتجعل إحدى وسبعين حبة في كفة، وقطعة من الذهب في كفة أخرى فما يوازنها من الذهب هو قيمة الدينار وهكذا في كل شيء.

(12)

مسألة: يباح للرجل أن يستمتع بزوجته أو أمته الحائض، دون أن يدخل ذكره في فرجها، أي: أن له كل شيء يستمتع به إلا الفرج، ويستحب أن يستر فرجها عند مباشرة سائر جسدها؛ لقواعد: الأولى: الكتاب: حيث قال تعالى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} فيلزم من لفظ "المحيض" إباحة الاستمتاع بكل شيء من جسد الحائض إلا موضع خروج الدم - وهو: الفرج -، كما جاء في "أحكام القرآن" لابن العربي (1/ 163) - الثانية: السنة الفعلية؛ حيث قالت بعض زوجات النبي صلى الله عليه وسلم: "إنه كان إذا أراد منها شيئًا وهي حائض ألقى على فرجها ثوبًا" فإن قلتَ: لِمَ أبيح ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن فترة الحيض قد تطول عند بعض النساء، فيشق على بعض الأزواج ذلك، فأبيح له الاستمتاع؛ دفعًا لهذه المشقة وحرصًا على غض بصره، فإن قلتَ: لِمَ استُحب أن يلقي على فرجها ثوبًا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه منع من أن يلامس بعض الدم الموجود في فرجها أو ما حوله فيؤذيها أو يؤذي نفسه، أو يتسبَّب في الكراهية بينهما.

(13)

مسألة: إذا أراد الزوج وطء زوجته فادَّعت أنها حائض: فيجب عليه أن يقبل هذا، ويمتنع عن وطئها في الفرج إن كان الحيض ممكن حصوله كان تكون =

ص: 283

أو النفاس (ولم تغتسل: لم يبح غير الصيام والطلاق)،

(14)

فإن عدمت الماء تيمَّمت وحلَّ وطؤها

(15)

وتغسل المسلمة الممتنعة قهرًا،

= في أيامها المعتادة، وبعد التاسعة، وقبل الخمسين؛ للتلازم؛ حيث إنه يلزم من إمكان حصول الحيض عندها: وجوب قبول قولها؛ لأن حيضها وطهرها لا يعلمان إلا عن طريقها، فإن قلتَ: لِمَ وجب قبول قولها؟ قلتُ: لأنها مؤتمنة على ذلك.

(14)

مسألة: إذا انقطع دمها ولم تغتسل: فإنه يجوز أن تصوم، وأن تُطلَّق فقط، وكذا: النفساء مثلها، وتحرم الصلاة، والجماع، ومس المصحف، وقراءة القرآن؛ للقياس؛ بيانه: كما أن المرأة التي أصابتها جنابة يصح صومها وطلاقها - دون الصلاة ونحوها - فكذلك الحائض والنفساء مثلها إذا انقطع الدم، والجامع: انقطاع القذر وهو المني والدم، فإن قلتَ: لِمَ جاز لها ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إنه لو لم يصح صومها إلا بعد الاغتسال لاشتغلت من طهرت قبيل الفجر من يوم صوم بالاغتسال وفاتها السحور فيشق عليها، وقد حُرِّم الطلاق في الحيض؛ لكونه يُطيل عدَّة الطلاق ولكن هنا قد زال دم الحيض: فجاز طلاقها؛ منعًا لتلك الإطالة.

(15)

مسألة: إذا انقطع دم الحائض، ولم تجد ماء تغتسل به أو لم تقدر على الاغتسال فإنها تتيمم، ويباح بعد ذلك أن يطأها زوجها؛ للكتاب؛ حيث قال تعالى:{وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ} حيث حرم وطء الحائض؛ لأن النهي في قوله: "ولا تقربوا" مطلق، فيقتضي التحريم، وجعل غاية التحريم إلى أن تتطهر بانقطاع الدم، وبالاغتسال، وأباح وطئهن؛ لأن الأمر في قوله "فأتوهن" ورد بعد حظر ونهي فيقتضي الإباحة، فإن فقدت الماء، أو عجزت عن استعماله: فإنها تتيمم؛ لكونه بدلًا عن الماء - كما سبق في =

ص: 284

ولا نية هنا كالكافرة؛ للعذر، ولا تصلي به

(16)

وينوي عن مجنونة غُسِّلت كميت

(17)

= باب التيمُّم - وبعده يجوز وطئها، فإن قلتَ: لِمَ جاز الوطء بعد التيمُّم؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تيسير وتوسعة على المسلمين؛ لئلا تطول المدة عليه وعليها.

(16)

مسألة: إذا انقطع دم الحائض العاقلة المسلمة، وامتنعت عن الاغتسال: فإن زوجها يغسلها - أو غيره من النساء - ويجامعها، ولا تجب نية الطهارة عن الحدث الأكبر في هذه الحالة؛ لعذر الامتناع، وإذا أرادت صلاة أو طواف أو قراءة قرآن ونحو ذلك: فلا يجوز لها أن تفعل ذلك بذلك الاغتسال، بل لا بد أن تنوي وتغتسل مع النية؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات" وهي لما غسلها زوجها أو غيره من النساء لم تنو هي رفع الحدث الأكبر، فلم يوجد شرط الاغتسال، فلا تصلي فيه، إذ النية شرط لكل عبادة، الثانية: القياس؛ بيانه: كما أن اليهودية أو النصرانية إذا انقطع دمها: فإن زوجها المسلم يُجبرها على الاغتسال، أو يقوم هو أو غيره من النساء بغسلها بلا نية منها؛ لعدم النية الصحيحة من الكفار فكذلك المسلمة الممتنعة عن الاغتسال مثلها، والجامع: وجود الامتناع في كل، فإن قلتَ: لِمَ شرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه ترك الحرام، وهو: الوطء قبل الاغتسال، وهو يستطيع فعله فوجب إجبارها وإن لم توجد نية منها؛ لأن ذلك من حقِّه، ولا يُشترط في ذلك النية.

(17)

مسألة: إذا انقطع دم الحائض المجنونة: فإن زوجها يغسلها، - أو غيره من النساء - وينوي عنها: أن هذا الغسل لرفع الحدث الأكبر، ثم يطأها، وإذا أفاقت: فإنها لا تصلي بذلك الغسل، بل يجب عليها أن تنوي رفع الحدث الأكبر، ثم تغتسل؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ وهو حديث: "إنما =

ص: 285

(والمبتداة) أي: في زمن يمكن أن يكون حيضًا، وهي: التي رأت الدم ولم تكن حاضت (تجلس) أي: تدع الصلاة والصيام ونحوهما بمجرد رؤيته، ولو حمرة أو صفرة، أو كدرة (أقلَّه) أي: أقل الحيض يومًا وليلة (ثم تغتسل)؛ لأنه آخر حيضها حكمًا (وتصلي) وتصوم ولا توطأ (فإن انقطع) دمها (لأكثره) أي: أكثر الحيض: خمسة عشر يومًا (فما دون) بضم النون؛ لقطعه عن الإضافة: (اغتسلت عند انقطاعه) أيضًا وجوبًا؛ لصلاحية أن يكون حيضًا، وتفعل كذلك في الشهر الثاني والثالث (فإن تكرر) الدم (ثلاثًا) أي: في ثلاثة أشهر ولم يختلف (فـ) هو كله (حيض) وثبتت عادتها فتجلسه في الشهر الرابع، ولا تثبت بدون ثلاث (وتقضي ما وجب فيه) أي: ما صامت فيه من واجب، وكذا: ما طافته أو اعتكفته فيه، وإن ارتفع حيضها ولم يعد أو أيست قبل التكرار: لم تقض

(18)

= الأعمال بالنيات 43" وقد سبق بيانه في مسألة (16)، والثانية: القياس؛ بيانه: كما أن الميت إذا غسله المغسل ينوي عنه، فكذلك المجنونة مثله، والجامع: عدم الإدراك في كل، والمقصد من ذلك كما ذكرنا في مسألة (16).

(18)

مسألة: المبتدأة - وهي التي ترى دم الحيض لأول مرة وهي بالغة التاسعة - تجلس جميع الأيام التي ترى فيها ذلك الدم فلا تصلي ولا تصوم وإن طالت تلك الأيام حتى تصل إلى أكثر الحيض وهو: خمسة عشر يومًا، فإن خرج دم في اليوم السادس عشر: فهو دم استحاضة تغتسل وتصوم وتفعل ما تفعله الطاهرات وهذه طريقة الجمهور؛ للاستصحاب؛ حيث إن دم الحيض هو: الأصل؛ لكونه دم طبيعة وعادة يخرج من المرأة الصحيحة إلى آخر يوم الخامس عشر من بداية خروجه، فإذا خرج في اليوم السادس عشر: فإنه يكون دم عِلَّة ومرض - وهو: الاستحاضة -، أما قبل ذلك فهو دم حيض لذلك نستصحب ذلك ونعمل به، ونُرتِّب عليه أحكام الحيض: من ترك صلاة وصوم ونحوهما، =

ص: 286

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

فإن قلتَ: لِمَ حسب كل ما يخرج من المبتدأة دم حيض مع احتمال أنه ليس كذلك؟ قلتُ: نظرًا لخروجه في وقته، ووجود صفته، وهو خارج ممن تحيض مثلها فيغلب على الظن: أنه دم حيض، والعمل بالغالب واجب، وهذا تعرفه النساء الطبيعيات من عادتهن، والعادة محكَّمة، وهذه الطريقة أيسر لعوام المسلمين وهم الأغلب، فإن قلتَ: إن المبتدأة لها طريقة لمعرفة عادة حيضها غير ما ذكره الجمهور وهي: أنها لو أتاها دم حيض في شهر رمضان مثلًا: فإن عادتها تكون يومًا وليلة فقط - وهو أقل الحيض -؛ فإذا انتهى اليوم والليلة: تغتسل، وتصلي وتصوم، وتعتكف، وتقرأ القرآن وإن كان الدم لا يزال يخرج، ولكنها لا توطأ؛ لاحتمال أن يكون ما يخرج منها حيضًا، فيحصل الأذى، فإذا انقطع الدم عنها لأكثر الحيض - وهو: خمسة عشر يومًا فما دونها كثمانية أيام مثلًا: فإنها تغتسل وجوبًا مرة ثانية، أي: بعد انقضاء الأيام الثمانية -، وتستمر في فعلها كفعل الطاهرات، فإن تكرَّر ذلك في شهر شوال: فإنها تعمل كعملها في رمضان، أي: تغتسل مرتين: مرة بعد يوم وليلة، ومرة أخرى بعد انقطاع الدم بعد الثمانية، وتستمر في فعلها كفعل الطاهرات، فإن تكرر ذلك في شهر ذي القعدة: فإنه يُعرف أن عادة تلك المبتدأة ثمانية أيام؛ لكونه تكرر في ثلاثة أشهر، ولم يختلف، وتفعل ذلك في بقية الشهور، أما الأيام التي بين اليوم والليلة إلى اليوم الثامن؛ حيث كانت تصوم وتصلي وتفعل ما تفعله الطاهرات: فإنها لا تقضي الصلاة؛ للمشقة، ولكنها تقضي الصوم وغيره، أما إن اختلفت أيام الحيض عند المبتدأة: فإن عادتها تكون أقل الأيام؛ لكونه هو المتيقن، فمثلًا: لو انقطع دمها في رمضان لما مضى ستة أيام، وانقطع دمها في شوال لما مضى عليها أربعة، وانقطع دمها في ذي القعدة لما مضى عليها ثلاثة أيام: فإن عادتها: تكون ثلاثة أيام؛ لتيقنه، فتجلسها في شهر ذي الحجة وما بعده من الشهور، ولا تقضي ما فعلته بين اليوم والليلة، والثلاثة الأيام؛ لعدم تكرار ذلك، =

ص: 287

(فإن عَبَر) أي: جاوز الدم (أكثره) أي: أكثر الحيض: (فـ) هي (مستحاضة) والاستحاضة: سيلان الدم في غير وقته من العرق العاذل من أدنى الرحم دون قعر

(19)

(فإن كان) لها تمييز: بأن كان (بعض دمها أحمر، وبعضه أسود ولم يَعْبُر) أي: يجاوز الأسود (أكثره) أي: أكثر الحيض (ولم ينقص عن أقله: فهو) أي: الأسود

= وكذلك: لو انقطع دمها ولم يخرج مرة ثانية، وكذلك: الآيسة وهي: التي انقطع دمها لكبر أو مرض لا تقضي ذلك؛ لعدم التكرار، فلا يحكم بشيء عليها؛ لأن الأصل براءة ذمتها، هذا ما قاله أكثر الحنابلة وهو الذي ذكره المصنف هنا، قلتُ: هذه الطريقة فيها نوع مشقة، ولم أجد دليلًا قويًا عليها، فتكون طريقة الجمهور للمبتدأة أيسر مسلكًا، وأبين دليلًا، وأقل مشقة، وأكثر معرفة للناس على اختلاف طبقاتهم، وهو الموافق لقواعد الشريعة.

(19)

مسألة: إذا استمر خروج الدم أكثر من خمسة عشر يومًا: بأن خرج عشرين يومًا مثلًا -: فإن الخارج إلى آخر يوم الخامس عشر من بداية خروجه يُحسب على أنه حيض تترتب عليه أحكام الحيض، أما ما زاد عن خمسة عشر يومًا - وهي: خمسة أيام -: فيُحسب على أنه دم استحاضة، وعلى هذا: فإنها تغتسل في اليوم السادس عشر، وتصلي وتصوم وتفعل ما تفعله الطاهرات؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم - لامرأة تُستحاض -:"إذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة، وإذا ذهب قدرها فاغسلي عنك الدم وصلي" فأوجب هنا الاغتسال والصلاة بعد ذهاب قدر أكثر الحيض - وهو: خمسة عشر يومًا كما سبق - وإن كان الدم يخرج؛ لكونه دم استحاضة وليس بحيض، لأن الأمر مطلق، فيقتضي الوجوب، تنبيه: الاستحاضة هو: سيلان دم أحمر فاتح لا رائحة له في غير وقت الحيض وذلك من عرق يوجد في طرف الرحم يُقال له: "العاذل" أو "العاذر" حيث إن ذلك يُسبب عذر الزوج لزوجته في ذلك كما جاء في اللسان (7/ 142) -، وقد سبق بيان المقصد منه.

ص: 288

(حيضها) وكذا: إذا كان بعضه ثخينًا أو مُنتنًا وصلح حيضًا (تجلسه في الشهر الثاني) ولو لم يتكرر أو يتوالى (والأحمر) والرقيق وغير المنتن (استحاضة) تصوم فيه وتُصلِّي

(20)

(وإن لم يكن دمها متميزًا: جلست) عن الصلاة ونحوها أقل الحيض من كل شهر حتى يتكرر ثلاثًا فتجلس (غالب الحيض) ستًا أو سبعًا بتحر (من كل

(20)

مسألة: إذا كان الدم الخارج من المبتدأة متميزًا: بأن كان بعضه يميل إلى السواد، وكان غليظًا، وذا رائحة كريهة، وبعضه الآخر: أحمر فاتح رقيق ولا رائحة له، ولم يجاوز خروج الدم الأسود الغليظ أكثر الحيض - وهو: خمسة عشر يومًا - ولم ينقص خروجه عن أقل الحيض - وهو: يوم وليلة: فإن هذا الدم الأسود والغليظ والمنتن هو: حيضها، فتكون عادتها هي تلك الأيام التي خرج منها ذلك الدم فتجلسها فلا تصلي ولا تصوم فيها، وكذلك تجلس في الشهر الثاني مثل ما جلست في الشهر الأول إذا جاءها ذلك الدم الذي له تلك الصفات، وتفعل في الشهر الثالث كذلك، وإن لم يكن الدم أسود فيكون حيضًا لها عدد الأيام التي في الشهر الأول وإن لم يتكرر، بشرط أن لا يزيد ذلك عن خمسة عشر يومًا كما سبق -، أما الدم الأحمر الرقيق عديم الرائحة غالبًا: فإنه دم استحاضة تصوم وتصلي وتفعل في وقت خروجه كما تفعل الطاهرات؛ للسنة القولية؛ حيث جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم قائلة: إني أستحاض ولا أطهر أفادع الصلاة؟ فقال: "إنما ذلك عرق وليس بالحيضة، فإذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي" وفي رواية: "إذا كان دم الحيض: فإنه أسود فامسكي عن الصلاة، وإذا كان الآخر فتوضئي، فإنما هو عرق" فأوجب الشارع الصلاة عند خروج دم الاستحاضة؛ لأن الأمر مطلق، فيقتضي الوجوب، فإن قلتَ: لِمَ شرع هذا التفريق؟ قلتُ: لبيان أن لكل دم حكمه وهو من باب التيسير على المسلمين.

ص: 289

شهر) من أول وقت ابتدائها إن علمته، وإلا: فمن أول كل هلالي

(21)

(والمستحاضة المعتادة) أي: التي تعرف شهرها ووقت حيضها وطهرها منه (ولو) كانت (مميزة: تجلس عادتها) ثم تغتسل بعدها وتصلي

(22)

(وإن نسيتها) أي: نسيت

(21)

مسألة: إذا كان الدم الخارج من المبتدأة غير متميز: بأن كان على صفة واحدة: فلم تستطع التفريق بين الأسود والأحمر، وبين الغليظ والرقيق: فإنها تجلس: فلا تصلي ولا تصوم غالب الحيض عند النساء، وهي: ستة أيام أو سبعة من كل شهر وتجتهد في حال الدم وعادة قريباتها فيما يقرب على ظنها أنه أقرب إلى عادتها: فإن كانت تعلم ابتداء خروج الدم منها: جلست من أول خروجه إلى أن تبلغ ستة أو سبعة أيام دون النظر إلى الشهر الهلالي، وإن كانت لا تعلم ذلك: فإنها تجلس من أول كل شهر هلالي ستة أو سبعة أيام بعد تحريها واجتهادها في ذلك -؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم لحمنة بنت جحش - وكانت تُستحاض -: "تحيضي في علم الله ستة أيام أو سبعة، ثم اغتسلي وصلي أربعة وعشرين أو ثلاثة وعشرين يومًا كما تحيض النساء، وكما تطهر لميقات حيضهن وطهرن" فردَّها صلى الله عليه وسلم إلى غالب الحيض عند النساء بهذا الأمر المطلق المقتضي للوجوب، فوجب عليها أن تجلس ستة أو سبعة أيام، فإن قلتَ: لِمَ شرع لها هذا؟ قلتُ: لتعذر العلم عن عادتها ومدتها؛ لكثرة ما يخرج منها من الدم غير المتميز، فلا طريق إلى ذلك إلا العمل بغالب عادات قريباتها، أو نساء مجتمعها، والعمل بالغالب واجب، تنبيه: قوله: " .. ونحوها أقل الحيض من كل شهر حتى يتكرر ثلاثًا" هذا بناء على مذهب أكثر الحنابلة في طريق معرفة المبتدأة لعادتها وقد بينت أنه مرجوح في مسألة (18).

(22)

مسألة: إذا كانت المستحاضة - وهي: التي يخرج منها الدم أكثر الشهر أو كله - معتادة، أي: تعرف أن عادتها: أنها تحيض ستة أيام من ابتداء شهرها وتطهر =

ص: 290

عادتها: (عملت بالتمييز الصالح) بأن: لا ينقص الدم الأسود ونحوه عن يوم وليلة ولا يزيد على خمسة عشر يومًا، ولو تنقَّل، أو لم يتكرر

(23)

(فإن لم يكن لها تمييز)

= باقيه: فإن هذه تجلس ستة أيام من كل شهر من أول الشهر وتترك الصلاة والصيام إلى آخر اليوم السادس، ثم تغتسل قبل صلاة الفجر من اليوم السابع، وتصلي وتصوم وتفعل ما تفعله الطاهرات، هذا الواجب عليها وإن كانت تميز بين دم الحيض والاستحاضة، حيث لا يلتفت إلى تمييزها هذا؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم لأم حبيبة - وكانت تستحاض -:"امكثي ما كانت تحبسك حيضتك ثم اغتسلي وصلي" فأوجب عليها أن تجلس قدر الأيام التي تأتيها عادتها فيها؛ لأن الأمر هنا مطلق فيقتضي الوجوب، وهذا عام، فلم يسألها هل أنت تميزين بين دم الحيض والاستحاضة؟ فيشمل التي تميِّز وغيرها؛ لأن ترك الاستفصال عن الحال ينزل منزلة العموم في المقال فإن قلتَ: لِمَ شرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن النظر إلى العادة أضبط؛ لعدم دخل الاحتمال إليه، بخلاف تمييز دم الحيض عن دم الاستحاضة: فإنه لا ينضبط؛ لكونه يختلف باختلاف ضعف البصر وحاسة الشم وقوتهما.

(23)

مسألة: إذا نسيت المستحاضة عادتها: فلا تدري هل كانت عادتها تأتيها من أول الشهر أو وسطه أو آخره؟ وهل كانت ستة أيام أو خمسة؟ ولكنها تميز بين دم الحيض ودم الاستحاضة فإنها تعمل بهذا التمييز الصالح، وهو: صلاحية كون هذا الدم حيضًا بأن كان في وقته: بأن لا يزيد خروجه عن خمسة عشر يومًا - وهو أكثر الحيض - ولا ينقص خروجه عن يوم وليلة - وهو أقل الحيض وعلى ذلك تجعل زمن حيضها هو: زمن خروج الدم الأسود الغليظ المنتن، وتجعل زمن استحاضتها هو: زمن خروج الدم الأحمر الرقيق الذي لا رائحة له فتغتسل في هذا الزمن وتفعل ما تفعله الطاهرات، تفعل ذلك دائمًا سواء تنقَّل: بأن أتاها أحيانًا في أول الشهر، وأحيانًا في آخره، وسواء تكرر في ثلاثة أشهر أو لا؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: - لمن تُستحاض -: "إذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي" وقال: "إذا كان دم =

ص: 291

صالح، ونسيت عدده ووقته:(فغالب الحيض) تجلسه من أول كل مدَّة عُلِم الحيض فيها وضاع موضعه، وإلا: فمن أول كل هلالي (كالعالمة بموضعه) أي: موضع الحيض (الناسية لعدده) فتجلس غالب الحيض في موضعه

(24)

(وإن علمت) المستحاضة (عدده) أي: عدد أيام حيضها (ونسيت موضعه من الشهر ولو) كان موضعه من الشهر (في نصفه: جلستها) أي: جلست أيام عادتها (من أوله) أي: أول الوقت الذي كان الحيض يأتيها فيه (كمن) أي: كمبتدأة (لا عادة لها ولا تمييز) فتجلس من أول وقت ابتدائها على ما تقدَّم

(25)

(ومن زادت عادتها) مثل: أن

= الحيض: فإنه دم أسود يعرف فأمسكي عن الصلاة، وإن كان الآخر فتوضئي فإنما هو عرق" حيث أوجب ترك الصلاة عند خروج الدم الأسود، دون خروج غيره من الدماء؛ لأن الأمر مطلق، وهو يقتضي الوجوب، فإن قلتَ: لِمَ تعمل هنا بالتمييز الصالح؟ قلتُ: لكونها نسيت عادتها، فتعذَّر العمل بها، فلم يبقى إلا العمل بالتمييز من باب "السبر والتقسيم".

(24)

مسألة: إذا نسيت المستحاضة عادتها، ولا تميز بين دم الحيض ودم الاستحاضة، فإنها تجلس غالب الحيض عند النساء - وهو: ستة أو سبعة أيام - في موضع حيضها من أوله، للقياس، بيانه: كما أن المستحاضة العالمة بموضع حيضها وهي الأيام العشر الوسطى من الشهر - مثلًا - ولكنها نسيت عدد أيامها فلا تدري هل هي ستة أو خمسة؟: فتجلس غالب الحيض في الأيام الوسطى فكذلك المستحاضة التي نسيت عادتها ولا تمييز لها مثلها والجامع: نسيان عدد الأيام التي تحيض بها في كل، فإن قلتَ: لِمَ شرع لها ذلك؟ قلتُ: لأن هذا أقصى ما تستطيع فعله، أصله قوله صلى الله عليه وسلم:"إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم".

(25)

مسألة: إذا كانت المستحاضة عالمة بأيام حيضها وكانت خمسة من كل شهر - مثلًا - ولكنها نسيت موضعها فلا تدري هل كانت في أول الشهر أو وسطه أو آخره؟، أو كانت تعلم بأن تلك الخمسة واقعة في نصف الشهر، ولكنها نسيت =

ص: 292

يكون حيضها خمسة من كل شهر فيصير ستة (أو تقدَّمت) مثل: أن تكون عادتها من أول الشهر فتراه في آخره (أو تأخرت) عكس التي قبلها (فما تكرر) من ذلك (ثلاثًا): فهو (حيض)، ولا تلتفت إلى ما خرج عن العادة قبل تكرره كدم المبتدأة الزائد على أقل الحيض فتصوم فيه وتصلي قبل التكرار وتغتسل عند انقطاعه ثانيًا، فإذا تكرر ثلاثًا: صار عادة فتُعيد ما صامته ونحوه من فرض

(26)

(وما نقص عن

= ابتداءها: فلا تدري هل كانت من أول الخامس عشر من الشهر أو بعده؟: فإنها تجلس خمسة أيام من أول كل شهر، أو خمسة من اليوم الخامس عشر؛ للقياس، بيانه: كما أن المستحاضة المبتدأة - وهي التي لا عادة لها ولا تمييز - تجلس من أول كل شهر على أنها لا عادة لها ولا تمييز فكذلك الناسية مثلها، والجامع: جهل موضع أيام حيضها، فإن قلتَ: لِمَ شرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث أن دم الحيض دم صحة، ودم الاستحاضة دم فساد ومرض فغلَّبنا جانب الصحة، وجعلناها كالمبتدأة فيُحسب من أول الشهر؛ تيسيرًا على الناس.

(26)

مسألة: إذا كانت عادتها ستة أيام من كل شهر، فزادت في شهر فصارت سبعة، ثم تكررت هذه الزيادة في الشهرين اللذين بعده: فإن عادتها تكون سبعة، وإن لم تتكرر، بأن جاءها في شهر: ستة، وفي الشهر الذي يليه: سبعة، وفي الشهر الذي بعده: ستة: فإن عادتها الأولى لا تتغير: فتستمر على أنها ستة، وإن كانت عادتها في آخر الشهر، فأتاها الحيض في الشهر الذي يليه في أوله وتكرر ذلك في الشهرين اللذين بعده: فإن عادتها تكون في أول كل شهر، وإن كانت عادتها في أول الشهر، فأتاها الحيض الشهر الذي يليه في آخره وتكرر ذلك في الشهرين اللذين بعده: فإن عادتها تكون في آخره، وهكذا، أما قبل تكرار الزيادة، أو تكرار التقديم أو التأخير: فلا يُلتفت إلى ما خرج من الدم وتصوم وتصلي في تلك الأيام غير المتكررة؛ للتلازم؛ حيث إن تكرُّر تلك =

ص: 293

العادة: طهر) فإن كانت عادتها ستًا فانقطع لخمس: اغتسلت عند انقطاعه وصَّلت؛ لأنها طاهرة

(27)

(وما عاد فيها) أي: في أيام عادتها: كما لو كانت عشرًا فرأت الدم ستا، ثم انقطع يومين، ثم عاد في التاسع والعاشر:(جلسته) فيهما؛ لأنه صادف زمن العادة كما لو لم ينقطع

(28)

(والصفرة والكدرة في زمن العادة: حيض)

= الزيادة، وتكرُّر انتقال موضع العادة من أول الشهر إلى آخره أو بالعكس: يلزم منه تغيير مدة الحيض وتغيير موضعه؛ لأن هذا هو الغالب على الظن، ويلزم من عدم تكرار ذلك: عدم التغيير وتُستصحب عادتها الأولى وتعمل بها؛ لعدم التغيير وهذا أيسر، وهو: المقصد الشرعي، تنبيه: قوله: "كدم المبتدأة الزائد على أقل الحيض" إلى قوله: "ونحوه من فرض" مبني على مذهب كثير من الحنابلة ومنهم المصنف في طريقة معرفة عادة المبتدأة وقد بيَّنا ضعف ذلك، وأن طريقة الجمهور أرجح في مسألة (18).

(27)

مسألة: إذا كانت عادتها ستة أيام، ثم نقصت فصارت خمسًا؛ حيث انقطع دمها بعد اليوم الخامس: فإنها تكون طاهرة بعد انقطاعه: تغتسل قبل صلاة الفجر من اليوم السادس وتصلي وتفعل ما تفعله الطاهرات؛ للكتاب؛ حيث قال تعالى: {قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} حيث دل مفهوم الصفة على جواز وطء النساء إذا انقطع الحيض الذي وُصف بأنه أذى، ويلزم من جواز وطئها: أن تفعل ما تفعله الطاهرات، أي: أن المرأة إذا انقطع دمها عن الخروج: فإنها تطهر، وإذا طهرت فإنها تفعل ما تفعله الطاهرات وهذا مطلق، وهو المقصد من هذا الحكم.

(28)

مسألة: إذا كانت عادتها عشرة أيام من كُلِّ شهر، فرأت الدم ستة أيام فقط، ثم انقطع السابع والثامن - مثلًا - ثم عاد خروجه في التاسع والعاشر: فإنه يجب عليها أن تغتسل في السابع والثامن وتفعل ما تفعله الطاهرات، وتجلس في =

ص: 294

فتجلسهما، لا بعد العادة، ولو تكرّرتا؛ لقول أم عطية:"كنا لا نعد الصفرة والكدرة بعد الطهر شيئًا" رواه أبو داود

(29)

(ومن رأت يومًا) أو أقل أو أكثر (دمًا ويومًا) أو

= التاسع والعاشر: فلا تصلي ولا تصوم، وتفعل ذلك كل امرأة ينقطع عنها الدم في وقت عادتها سواء كانت عادتها قليلة أو كثيرة؛ للقياس، بيانه: كما أن المرأة التي لم ينقطع عنها خروج الدم تجلس كل أيامها ولا تصلي ولا تصوم، فكذلك هذه المرأة تجلس الأيام التي رأت فيها الدم في أيام عادتها وإن انقطع فترة ثم عاد، أما الأيام التي لم تر فيها دمًا: فهي طاهرة لانقطاع الدم، والجامع: أن كلًا منهما صادف خروج الدم منها زمن العادة، فإن قلتَ: لِمَ شرع هذا؟ قلتُ: لأن خروج الدم في أيام العادة بعد انقطاعه فيها يغلب على الظن: أنه دم حيض والعمل بالغالب واجب.

(29)

مسألة: إذا رأت المرأة الصفرة - وهي: ماء أصفر - أو رأت الكدرة - وهي: ماء وسخ كدر - في زمن حيضها وعادتها: في أولها أو في آخرها: فإنهما يُعتبران من الحيض تجلس زمن خروجهما، أما إذا رأت ذلك قبل أيام عادتها، أو بعدها: فلا يُعتبران من الحيض، بل من جملة السوائل التي تخرج من فرج المرأة عادة، وتفعل في زمن خروجهما هنا ما تفعله الطاهرات؛ للسنة التقريرية؛ حيث إن أم عطية قالت:"كنا لا نعد الصفرة والكدرة بعد الطهر شيئًا" حيث دل منطوقه على أن الصفرة والكدرة اللتين تأتيان في الطهر - وهو الذي بعد زمن الحيض - لا يُعتبران من الحيض، وكذلك: إذا خرجا قبل زمن الحيض لا يُعتبران من الحيض من باب مفهوم الموافقة، ودل بمفهوم الزمان: أنهما إذا خرجا في زمن الحيض فإنهما يُعتبران من الحيض، ولم يُنكر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم مع أنه لا يخفى على أحد؛ لكونه مما تعم به البلوى، ومع ذلك لم يبين خلاف ذلك، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، فإن قلتَ: لِمَ شرع هذا؟ قلتُ: لأنهما إذا خرجا في وقت الحيض يغلب على الظن: أنه حيض، بخلاف ما إذا خرجا بعد زمنه ووقته.

ص: 295

أقل أو أكثر (نقاء: فالدم: حيض)؛ حيث بلغ مجموعه أقل الحيض (والنقاء: طهر) تغتسل فيه وتصوم وتصلي، ويكره وطؤها فيه (ما لم يعبر) أي: يجاوز مجموعهما (أكثره) أي: أكثر الحيض، فيكون استحاضة

(30)

(والمستحاضة ونحوها) ممن به

(30)

مسألة: إذا بدأ زمن عادة المرأة، وتقطعت، بأن خرج الدم يومًا، ثم انقطع في اليوم الذي يليه، ثم عاد وخرج في اليوم الثالث، وهكذا فإنه يحسب هذا كله على أنه حيض؛ ولا يُلتفت إلى اليوم الذي انقطع فيه الدم ما دام أنه في زمن حيضها ولم يتجاوز خمسة عشر يومًا؛ لقول الصحابي؛ حيث إن بعض النساء كنَّ يبعثن إلى عائشة بالدرجة - وهي: القطنة - فيها الصفرة والكدرة بعد إخراجها من فرجها فتقول لهن: "لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء" فقد دل على أن المرأة ينقطع عنها الدم فترة، ولكنها لم تر القصة البيضاء - وهو: الماء الأبيض الذي يُشبه الجص في الصفاء والبياض يخرج في آخر الحيض - فتقول لهن عائشة: "هذا ليس بطهر، بل لا زلتن في مدة الحيض" فإن قلتَ: لِمَ شرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك أيسر للمسلمات، وأكثر إنضباطًا، وأقل تكلفة، فإن قلتَ: لِمَ اشترط عدم مجاوزته خمسة عشر يومًا؟ قلتُ: لأنه إذا خرج دم في اليوم السادس عشر: فإنه يكون دم استحاضة، وقد سبق، فإن قلتَ: إنها تجلس في اليوم الذي رأت فيه الدم على أنه حيض، وتطهر في اليوم الذي ينقطع فيه وتفعل فيه ما تفعله الطاهرات وهكذا، وهذا قول كثير من الحنابلة - وهو ما ذكره المصنف هنا؛ للتلازم؛ حيث يلزم من وجود الدم: وجوب كونه حيضًا، ويلزم من انقطاعه: وجوب كونه طهرًا - كما ورد في الآية؛ حيث قال تعالى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} قلتُ: هذا غير منضبط؛ فقد تتوَّهم المرأة أنها طهرت كما ورد عن عائشة، فما قلناه أضبط، وأقل مشقة، وكلفة؛ إذ يلزم على مذهبكم: أن تغتسل يومًا، وتترك يومًا وهذا فيه مشقة عظيمة غير =

ص: 296

سلس البول، أو مذي، أو ريح، أو جرح لا يرقأ دمه، أو رعاف دائم (تغسل جرح) لإزالة ما عليه من الخبث (وتعصبه) عصبًا يمنع الخارج حسب الإمكان، فإن لم يمكن عصبه كالباسور: صلى على حسب حاله، ولا يلزم إعادتهما لكل صلاة ما لم يُفرِّط (وتتوضأ لـ) دخول (وقت كل صلاة) إن خرج شيء (وتصلي) ما دام الوقت (فروضًا ونوافل): فإن لم يخرج شيء: لم يجب الوضوء،

(31)

وإن أعتيد

= خافية، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض التلازم مع قول الصحابي والمصلحة" فعندنا: يرجحان على التلازم؛ لمراعاة أحوال النساء، وعندهم: يُرجح التلازم عليهما، تنبيه: قوله: "ويكره وطؤها فيه" هذا مبني على مذهب أكثر الحنابلة، بل يحرم وطؤها؛ لأنه يحسب على أنه حيض؛ لكونها في زمنه.

(31)

مسألة: مَنْ حدثه مستمر - كالمستحاضة ومن به سلس بول، وقروح وجروح سيَّالة، أو ريح مستمر، أو رعاف دائم، أو باسور -: إذا أراد الصلاة: فإنه يغسل فرجه لإزالة النجاسة، ثم يعصب على فرجه بشيء، ثم يتوضأ إذا دخل وقت الصلاة إن خرج شيء من ذلك الخبث، ويصلي بهذا الوضوء ما شاء من الفروض والنوافل داخل وقت تلك الصلاة، وإن لم يستطع عصبه: صلى على حسب حاله - ولو خرج منه شيء -، ولا يعيد تلك الصلاة ولو امتنع هذا الخبث من الخروج بعد الصلاة بشرط: عدم التفريط في أمر الله تعالى؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم للمستحاضة: "إغسلي عنك الدم وصلي" وفي رواية: "وتوضئي لكل صلاة" وهو زيادة ثقة مقبولة، حيث دلَّ ذلك على أن المستحاضة تغسل مكان خروج الدم، وتتوضأ لكل صلاة، وتصلي كل فرض ونافلة في وقت الصلاة؛ لأن "كلَّ" من صيغ العموم، ولأن الأمر مطلق فيقتضي الوجوب، ومن به حدث =

ص: 297

انقطاعه زمنًا يتسع للوضوء والصلاة: تعيَّن؛ لأنه أمكن الإتيان بها كاملة،

(32)

ومن يلحقه السلس قائمًا: صلى قاعدًا أو راكعًا، أو ساجدًا يركع ويسجد

(33)

(ولا توطأ)

= دائم غير المستحاضة مثلها؛ لعدم الفارق بجامع: استمرار الحدث من باب مفهوم الموافقة، فإن قلتَ: لِمَ شرع هذا؟ قلتُ: لأن طهارة من به حدث مستمر طهارة ضرورية فلا بد أن تُقيَّد بذلك؛ كما في المتيمم للعجز عن استعمال الماء، والضرورة تُقدَّر بقدرها، أصله قوله تعالى:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} وقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم".

(32)

مسألة: إذا عرف مَنْ به حدث مستمر - كالمستحاضة وصاحب السلس -: أن هذا الحدث يقل أو ينقطع في وقت معين يتسع للوضوء والصلاة: فإن هذا الوقت يتعين عليه أن يصلي فيه وإن تأخر؛ للمصلحة؛ حيث يلزم من معرفته لذلك أن يأتي بالعبادة كاملة بدون عذر ولا ضرورة، وإذا أمكنه أن يأتي بها كاملة فتلزمه، فإن ترك ذلك: فإنه يأثم، أصله قوله تعالى:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} وهذا أنفع له من حيث الأجر والثواب.

(33)

مسألة: إذا علم مَنْ به حدث مستمر - كالمستحاضة أو صاحب السلس - حالة يقل فيها خروج حدثه أو ينقطع: فإنه يجب عليه أن يصلي على الحالة التي ينقطع فيها الحدث، أو يقل خروجه بشرط: أن تكون من الحالات التي شرع الله الصلاة فيها: وهي: القيام أو القعود أو الاضطجاع ويركع ويسجد على حسب ذلك، للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه كمال العبادة المطلوب إيقاعها؛ أصله: قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} .

ص: 298

المستحاضة (إلا من خوف العنَتَ) منه أو منها ولا كفارة فيه

(34)

(ويستحب غسلها)

(34)

مسألة: يباح وطء المستحاضة سواء خافت هي أو زوجها العنت والضرر أو لا؛ لقاعدتين: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} فدل على إباحة وطء الزوج لزوجته، وهذا عام، فيشمل من خاف العنت أو لا، والحامل والحائل والمستحاضة، والحائض والنفساء، فأخرجت الحائض - ومثلها النفساء - بالتخصيص ومُنِع من وطئها بقوله تعالى:{فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} فيعمل بالآية الأولى، فيما بقي بعد التخصيص وهو: الحامل والحائل والمستحاضة - من جواز وطئهن، الثانية: السنة التقريرية؛ حيث إن بعض الصحابيات كانت تُستحاض - كحمنة، وفاطمة، وأم حبيبة - فلم يرد عنه صلى الله عليه وسلم - على كثرة أسألتهن له: أنه بين عدم وطء الزوج لزوجته المستحاضة، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، فدَّل على إقراره بوطء الزوج لزوجته، فإن قلتَ: لِمَ أبيح ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إنه لو منع الزوج من أن يطأ المستحاضة: للحقه ضرر؛ نظرًا لطول مدة ذلك ولعدم انضباطه، فإن قلتَ: لا يجوز وطء المستحاضة إلا إذا خافت أو خاف زوجها العنت والضرر - وهو ما ذكره المصنف هنا، وإذا وطأ بدون عذر: فلا كفارة -؛ لقاعدتين: الأولى: القياس؛ بيانه: كما أن الحائض لا يجوز وطئها فكذلك المستحاضة مثلها، والجامع: خروج الدم في كل، الثانية: قول الصحابي؛ حيث قالت عائشة: "المستحاضة لا يغشاها زوجها" قلتُ: أما القياس ففاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ لأن دم الحيض قذر، وله رائحة كريهه، وغليظ، ويمنع المرأة من الصلاة والصوم، ومدته قصيرة، بخلاف دم الاستحاضة فليست فيه تلك الأمور الخمسة، ولا قياس مع هذا الفارق، أما قول الصحابي - وهو قول عائشة -: فليس بحجة؛ لأنه معارض بقول صحابي آخر وهو قول ابن عباس: "المستحاضة يأتيها زوجها إذا صلت"، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: =

ص: 299

أي: غسل المستحاضة (لكل صلاة)؛ لأن أم حبيبة استُحيضت فسألت النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك" فأمرها أن تغتسل، فكانت تغتسل عند كل صلاة" متفق عليه

(35)

(واكثر مدة النفاس) وهو: دم يرخيه الرحم للولادة وبعدها، وهو: بقية الدم الذي احتبس في مدة الحمل لأجله، وأصله لغة: من التنفُّس، وهو: الخروج من الجوف أو من "نفَّس الله كُربته" أي: فرجها (أربعون يومًا) وأول مدَّته: من الوضع، وما رأته قبل الولادة بيومين أو ثلاثة بأمارة: فنُفاس وتقدَّم،

(36)

= سببه: "معارضة القياس وقول الصحابي للكتاب والسنة" فعندنا: يقدم العمل بالكتاب والسنة لقوتهما، وعندهم: يقدم القياس وقول الصحابي، وأيضًا: "هل أقوال الصحابة تتساقط إذا تعارضت أو لا؟ فعندنا: نعم، وعندهم: لا.

(35)

مسألة: يُستحب أن تغتسل المستحاضة قبل كل صلاة؛ لفعل الصحابي؛ حيث إن أم حبيبة كانت تُستحاض وكانت تغتسل لكل صلاة، فإن قلتَ: إنه صلى الله عليه وسلم قد أمرها بالاغتسال، والأمر مطلق فيقتضي الوجوب، قلتُ: هذا الأمر هو أمر بأن تغتسل عند انتهاء أيام حيضها، وهو: واجب بالاتفاق؛ لهذا الأمر المطلق، أما اغتسال أم حبيبة لكل صلاة: فهو اجتهاد منها؛ احتياطًا، فإن قلتَ: لِمَ اسْتُحب ذلك الاغتسال عند كل صلاة؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه زيادة في نظافتها وطهارتها، وإبعاد الوسخ عنها، فإن قلتَ: لِمَ لم يجب اغتسالها هنا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك يشق عليها مشقة عظيمة، نظرًا لتكرار الصلوات، وقلة المياه.

(36)

مسألة: أكثر مدة النفاس - وهو: الدم الخارج من الرحم بعد الولادة -: أربعون يومًا، تبدأ من لحظة الولادة والوضع، وفي هذه المدة لا تصلي ولا تصوم، وبعد الانتهاء منها تغتسل وتصلي وتفعل ما تفعله الطاهرات، ولو استمر الدم بالخروج، ولا يُحسب من الأربعين ما خرج من الدم قبل الولادة بيومين أو ثلاثة - كما سبق - لكن يجوز لها ترك الصلاة والصيام؛ لشدة أوجاع الولادة في هذه الأيام الثلاثة، ويجب عليها أن تقضي ما تركته من الصلوات في =

ص: 300

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= تلك الثلاثة بعد الفراغ من الأربعين؛ لقاعدتين: الأولى: السنة التقريرية؛ حيث قالت أم سلمة: "كانت النفساء تجلس على عهد رسول صلى الله عليه وسلم أربعين يومًا وأربعين ليلة" ولم يُنكر صلى الله عليه وسلم ذلك مع أنه يغلب على الظن علمه بذلك، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، ولفظ:"النفساء" يلزم منه: أن الدم الذي يخرج قبل الولادة لا يُحسب من الأربعين - وهو: مدة النفاس -؛ لكون ذلك مشتقًا من كونها تنفَّست بعد خروج ولدها، والدم الذي خرج قبل الولادة قبل هذا التنفَّس فلا يُحسب من النفاس، ودل بمفهوم العدد على أن ما بعد الأربعين لا يُحسب نفاسًا؛ الثانية: قول الصحابي؛ حيث ثبت عن ابن عمر وابن عباس وأنس وأم سلمة أن أكثر مدة النفاس أربعون يومًا، فإن قلتَ: لِمَ كان أكثر مدة النفاس أربعين؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إنه لو زاد عن ذلك: لشق ذلك على الأزواج في امتناعهم عنهن ويشق عليهن في عدم فعلها للعبادات، فهو مناسب لهم ولهن، فإن قلتَ: لِمَ سُميت بالنفساء؟ قلتُ: لأنه بخروج ولدها نفَّس الله كربها، وفرَّج عنها، وهو مستعار من نفس الهواء الذي يردُّه التنفُّس إلى الجوف فيبرِّد من حرارته ويُعدِّلها - كما جاء في "اللسان" (6/ 236) - وقيل: غير ذلك؛ فإن قلتَ: أكثر مدة النفاس ستون يومًا، وهو رواية عن مالك، والشافعي واختيار ابن عثيمين؛ للوقوع؛ حيث وقع النساء من ترى دم النفاس في هذه المدَّة كما قال عطاء والأوزاعي، قلتُ: إن هذا اجتهاد مستنده وقوع ذلك من نوادر النساء: فلا يقوى على معارضة السنة التقريرية وقول الصحابي، وما مستنده غالب النساء وهو: استمرار النفاس أربعين يومًا، ثم إن ما زاد على الأربعين يُحتمل أنه دم نفاس، ويحتمل أنه دم حيض، ويُحتمل أنه دم استحاضة كما لو زاد عن الستين، والدليل إذا تطرق إليه الاحتمال بطل به الاستدلال، تنبيه: قوله: "وما رأته قبل الولادة بيومين أو ثلاثة بأمارة فنفاس"، قلتُ: هذا لا يُحسب مع الأربعين، بل إن الأربعين يومًا يبدأ حسابها من تاريخ الوضع كما سبق بيانه.

ص: 301

ويثبت حكمه بشيء فيه خلق الإنسان

(37)

ولا حدَّ لأقله؛ لأنه لم يرد تحديده

(38)

وإن جاوز الدم الأربعين وصادف عادة حيضها ولم يزد، أو زاد وتكرر: فحيض إن لم يجاوز أكثره، ولا يدخل حيض واستحاضة في مدة نفاس (ومتى طهرت قبله) أي:

(37)

مسألة: تجلس المرأة أربعين يومًا إذا ولدت ولدًا قد تبين فيه خلق الإنسان، وهو: المضغة، وهو: ما بلغ واحدًا وثمانين يومًا في الرحم فأكثر، وبناء على ذلك: إذا وضعت المرأة شيئًا له ثمانون يومًا فأقل: فلا تجلس، ولا تكون نفساء، وتفعل ما تفعله الطاهرات: تصوم تصلي؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم "إن أحدكم يُجمع خلقه في بطن أمه أربعون يومًا، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يُرسل الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات: يُكتب رزقه، وأجله وعمله وشقي أو سعيد"، وعلى هذا: تظهر صورة الجنين وتخطيطه بعد ثمانين يومًا في الغالب، وهذا هو الذي تجلس له المرأة إذا أخرجته وإن لم يكن حيًا؛ إذ يُصاحب ذلك دماء عادة.

(38)

مسألة: لا حدَّ لأقل النفاس، وبناء على ذلك: فلو ولدت امرأة ثم بعد ولادتها بيوم أو يومين، أو لحظة انقطع دمها: فإنها تطهر، فيجب عليها أن تغتسل، وتفعل ما تفعله الطاهرات من صلاة ووطء ونحوهما؛ للقياس، بيانه: كما أن الحائض إذا انقطع دمها قبل تمام عادتها: فإنه يجب عليها التطهر وعمل كل ما تعمله الطاهرات من صوم وصلاة ووطء، فكذلك النفاس مثلها والجامع: توقُّف الدم - المانع من العبادات وغيرها - في كل، فإن قلتَ: لِمَ شرع هذا؟ قلتُ: لكون أقل النفاس لم يرد من الشارع تحديده، فقيس على ما يُشابهه، وهذا من التيسير، وهو المقصد الشرعي.

ص: 302

قبل انقضاء أكثره: (تطهرت) أي: اغتسلت (وصلَّت) وصامت كسائر الطاهرات، كالحائض إذا انقطع دمها في عادتها

(39)

(ويُكره وطؤها قبل الأربعين بعد) انقطاع

(39)

مسألة: إذا استمر خروج دم النفساء أربعين يومًا، وفي هذه المدة ترى دمًا فيه صفة دم الحيض -وقد سبق- وأحيانًا ترى دمًا فيه صفة دم الاستحاضة - وقد سبق -: فإنها لا تنظر إلى ذلك، بل كله يُحسب على أنه دم نفاس ما دامت في مدة الأربعين: فلا حيض ولا استحاضة في مدة النفاس، أما إذا انتهت الأربعون واستمر خروج الدم: ففيه تفصيل هو: أولًا: إن صادف خروج هذا الدم أيام عادتها في الحيض وهي تعرفها: فإن هذا الدم يكون حيضًا بشرط: أن لا يزيد عن خمسة عشر يومًا، فإن زاد: فهو دم استحاضة - كما سبق - ثانيًا: إن لم يُصادف خروج الدم عادتها في الحيض: فإنه يكون دم حيض بشرطين: أولهما: أن يتكرَّر وقوع ذلك؛ حيث إن التكرار دليل على انتقال عادتها من موضع إلى موضع آخر في الشهر، ثانيهما: أن لا يزيد خروج هذا الدم عن الدم عن خمسة عشر يومًا، فإن زاد: فهو دم استحاضة كما سبق -؛ لقاعدتين: الأولى: الاستصحاب؛ حيث إن الأصل أن الدم الخارج في الأربعين: أنه دم نفاس، فيُستصحب هذا ويُعمل به، ولا يُلتفت إلى غيره وإن كانت أوصافه موجودة، الثانية: التلازم؛ حيث إنه إذا زاد خروج الدم عن الأربعين ووجدت فيه صفات دم الحيض في الوقت والوصف والتكرار فإنه يلزم: أن يكون هذا الدم دم حيض، أما إن لم يصلح هذا الدم أن يكون حيضًا بسبب الوقت والوصف وعدم التكرار: فيلزم عدم حسبانه دم حيض، بل استحاضة، تنبيه: قوله: "ومتى ظهرت قبله .. " إلى قوله: "إذا انقطع دمها في عادتها" قد سبق بيانه في مسألة (38).

ص: 303

الدم و (التطهير) أي: الاغتسال، قال أحمد:"ما يُعجبني أن يأتيها زوجها على حديث عثمان بن أبي العاص"

(40)

(فإن عاودها الدم) في الأربعين: (فمشكوك فيه) كما لو لم تره، ثم رأته فيها (ولا تصوم وتصلي) أي: تتعبَّد؛ لأنها واجبة في ذمتها بيقين وسقوطها بهذا الدم مشكوك فيه (وتقضي الواجب) من صوم ونحوه، احتياطًا ولوجوبه يقينًا، ولا تقضي الصلاة كما تقدم

(41)

(وهو) أي: النفاس

(40)

مسألة: يُباح وطء النفساء إذا انقطع عنها الدم واغتسلت ولو كانت لم تستكمل الأربعين بلا كراهة؛ للقياس، بيانه: كما يُباح وطء الحائض إذا انقطع عنها الدم واغتسلت ولو لم تستكمل أيام عادتها فكذلك النفساء مثلها، والجامع: انقطاع الدم في كل، فإن قلتَ: لِمَ أبيح ذلك بلا كراهة؟ قلتُ: لعدم وجود ما يمنع ذلك، ولو كُره ذلك لربما شق على بعض الأزواج أو عليها، فإن قلتَ: يُكره وطؤها إذا انقطع عنها الدم واغتسلت وهي لم تستكمل الأربعين، وهو قول بعض العلماء، وهو ما ذكره المصنف هنا، لقول الصحابي؛ حيث ثبت أن عثمان بن أبي العاص قال لزوجته:"إذا نفست لا تقربيني أربعين يومًا" قلتُ: هذا القول معارض للقياس الذي ذكرناه، وإذا تعارض القياس مع قول الصحابي: فإن القياس يُقدم؛ لأنه دليل متفق عليه، أما قول الصحابي فمختلف فيه، والمتفق عليه إجمالًا مقدم على المختلف فيه، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض قول الصحابي مع القياس" فعندنا: يقدم القياس، وعندهم قول الصحابي.

(41)

مسألة: إذا انقطع الدم عن النفساء قبل تمام الأربعين: فإنها تغتسل وتفعل ما تفعله الطاهرات، فإن عاودها خروج الدم قبل انقضاء الأربعين: فإن هذا الدم يكون دم نفاس تدع الصلاة والصيام لأجله، وتقضي فيما بعد: الصوم فقط؛ للقياس، بيانه: كما أن الحائض إذا انقطع عنها الدم في أيام عادتها: فإنها =

ص: 304

(كالحيض فيما يحل) كالاستمتاع بما دون الفرج (و) فيما (يحرم) به كالوطء في الفرج

(42)

والصوم والصلاة

(43)

والطلاق بغير سؤالها

= تغتسل وتفعل ما تفعله الطاهرات، فإن عاودها الدم في أيام عادتها: فإنه يكون دم حيض تترك من أجله الصلاة والصوم ونحوهما فكذلك النفساء مثلها، والجامع: أن كلًا منهما قد انقطع عنها الدم في وقت خروجه، ثم عاود الخروج في ذلك الوقت، فإن قلتَ: لِمَ شرع هذا؟ قلتُ: لأنه خروج في وقت خصَّص للنفاس، وهو قد انقطع لطارئ وقد زال هذا الطارئ فيكون كما هو في الأصل، فإن قلتَ: إن غلب على ظنها أنه دم نفاس: فهو كذلك، وإن شكَّت فيه: فإنه يكون دم فساد - وهو دم استحاضة - تصوم وتصلي وتفعل ما تفعله الطاهرات؛ فإذا انقطع هذا الدم: تقضي الصوم فقط وهو ما ذكره المصنف هنا؛ للاستصحاب؛ حيث إن سبب وجوب الصلاة والصيام متيقن وسقوطهما بهذا الدم مشكوك فيه: فيجب أن نستصحب ما تيقنا منه - وهو وجوب هذه العبادات - ونترك ما شككنا فيه، فلا يُعمل على أن هذا الدم دم نفاس، للشك فيه قلتُ: إن الاستصحاب يُعمل به حتى يرد دليل يُغير الحالة، وثبت لدينا دليل قد غيَّر حالته وهو: القياس على الحيض الذي ذكرناه، فإن قلت: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "هل القياس على الحائض دليل قد غيَّر الأصل المستصحب أو لا؟ " فعندنا: نعم، وعندهم: لا.

(42)

مسألة: يُباح للزوج أن يستمتع بزوجته أو أمته النفساء فيما دون الفرج؛ أما الوطء في الفرج فحرام؛ للقياس على الحائض، كما سبق في مسألة (12).

(43)

مسألة: يحرم على النفساء: الصوم والصلاة، وأي شيء تُشترط له الطهارة كالطواف وقراءة القرآن ومس المصحف، ولو فعلت ذلك: لم يصح ذلك منها؛ للقياس على الحائض، وقد سبق في مسألة (9).

ص: 305

على عوض

(44)

(و) فيما (يجب) به كالغسل

(45)

والكفارة بالوطء فيه

(46)

(44)

مسألة: يُباح للزوج أن يطلِّق زوجته النفساء؛ للاستصحاب؛ حيث إن الأصل إباحة الطلاق في أيِّ وقتٍ شاء الزوج، ولم يرد دليل يُغير ذلك عن النفساء، فيُستصحب ذلك ويعمل به، فإن قلتَ: يحرم طلاق النفساء، وهو قول كثير من العلماء، وهو ما ذكره المصنف هنا -؛ للقياس، بيانه: كما أنه يحرم طلاق الحائض: لقوله صلى الله عليه وسلم لابن عمر لما طلق امرأته وهي حائض: "مره فليُراجعها ثم ليطلقها طاهرًا أو حاملًا"، فحرم هنا: طلاق الحائض؛ لكونها غير طاهرة، فكذلك النفساء مثلها، والجامع: عدم الطهارة، قلتُ: هذا قياس فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ حيث إنه إذا طلقها وهي حائض: فإن المطلقة تتضرَّر؛ حيث إنه لابد أن تأتي بثلاث حيض غير الحيضة التي طلقها في أثنائها فتطول عليها مدة العدة بهذا فيقع الضرر عليها، فدفعًا لذلك حُرِّم الطلاق في الحيض؛ بخلاف النفاس فلو طلقها زوجها في نفاسها: فإنه لا يُحسب من العدة بل تعتد بثلاث حيض، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "هل القياس على الحائض دليل قد غيَّر الأصل المستصحب أو لا؟ " فعندنا لا يُغير؛ لضعف القياس، وعندهم نعم. تنبيه: قوله: "والطلاق بغير سؤالها على عوض" يشير به إلى أن الطلاق عنده حرام في النفاس إلا إذا طلبت هي الطلاق بعوض فإنه يجوز؛ لتحقيق طلبها، وهو "الخلع" وقد سبق بيان أن الراجح: جواز طلاقها مطلقًا.

(45)

مسألة: يجب على النفساء أن تغتسل إذا انقطع عنها الدم وأرادت الصلاة وإن لم تجد الماء أو لم تستطع استعماله: فإنها تتيمم، للقياس على الحائض كما سبق في مسألة (15).

(46)

مسألة: يحرم وطء النفساء أثناء خروج دم النفاس، وإن فعل الزوج فعليه الاستغفار فقط، دون الكفارة؛ للقياس على الحائض كما سبق في مسألة (11)، =

ص: 306

(و) فيما (يسقط) به كوجوب الصلاة، فلا تقضيها

(47)

(غير العدَّة)؛ فإن المفارقة في الحياة تعتدُّ بالحيض دون النفاس

(48)

(و) غير (البلوغ) فيثبت بالحيض دون النفاس؛ لحصول البلوغ بالإنزال السابق للحمل،

(49)

، ولا يُحتسب بمدة النفاس على المولي، بخلاف مدة الحيض

(50)

(وإن ولدت) امرأة (توأمين)

= تنبيه: قوله: "والكفارة بالوطء فيه" يُشير إلى وجوب إخراج دينار أو نصفه عندما يطأ الزوج النفساء؛ قياسًا على الحائض، وهذا مرجوح كما سبق في مسألة (11).

(47)

مسألة: تسقط الصلاة والصوم عن النفساء، فإذا تطهرت: تقضي الصوم، دون الصلاة؛ للقياس على الحائض، وقد سبق ذلك في مسألة (9).

(48)

مسألة: إذا طلق الزوج زوجته قبل الولادة ولو بساعة: فإن العدة تنتهي بمجرد الولادة، ولو طلقها بعد الولادة؛ فإنها تعتدُّ بثلاث حيض؛ لعدم الحمل، بخلاف طلاق الحائض وقد سبق ذلك في مسألة (44).

(49)

مسألة: النفاس ليس من علامات البلوغ، بل الحيض الذي قبله هو الذي من علاماته، فإذا حاضت المرأة: علم أنها بالغ فتُكلَّف بالتكاليف الشرعية؛ للتلازم؛ حيث يلزم من وجود النفاس: وجود الحمل قبله، ويلزم من وجود الحمل: وجود الإنزال - من المرأة والزوج - ويلزم من وجود الإنزال: وجود الحيض، فيكون الحيض هو الدال على البلوغ.

(50)

مسألة: إذا قال الزوج للنفساء: "والله لا أقربك أربعة أشهر" وهو الإيلاء المعروف: فلا تحتسب مدة النفاس من تلك الأشهر، بخلاف الحائض: فإنه إذا قال لها ذلك وهي حائض: فإن مدة الحيض تحتسب من مدة تلك الأشهر؛ للعرف والعادة؛ حيث اعتاد الناس على حسبان مدة الحيض من ذلك، دون مدَّة النفاس، من غير نكير من العلماء، فأشبه الإجماع.

ص: 307

أي: ولدين في بطن واحد: (فأول النفاس وآخره من أولهما) كالحمل الواحد، فلو كان بينهما أربعون فأكثر: فلا نفاس للثاني،

(51)

ومن صارت نفساء بتعديها

(51)

مسألة: إذا ولدت امرأة ولدين في حمل واحد - وهما التوأمان - وكانت ولادة الثاني بعد يومين أو ثلاثة أو أكثر من ولادة الأول: فإنه يُحسب أول مدة النفاس من ولادة الأول، وآخره يُحسب من نهاية الأربعين على ولادة الثاني، فمثلًا: لو ولدت المرأة الولد الأول: فإنه يبدأ نفاسها من ولادته؛ فإذا ولدت الثاني بيومين أو ثلاثة فإنها تستأنف وتبدأ نفاسها من لحظة ولادة الثاني حتى ينقطع الدم أو يتم أربعون يومًا من ولادة الثاني، وبناء على ذلك: فإن مدة النفاس لمن ولدت توأمين قد تزيد عن الأربعين، وهو قول أكثر العلماء، وهو رواية عن أحمد؛ للقياس، بيانه: كما أن الرَّجل إذا طلق زوجته، ثم بدأت بعدة الطلاق، ولما ذهبت حيضة عليها: راجعها ووطأها، ثم طلقها بعد ذلك: فإنه يجب عليها استئناف العدة من جديد فكذلك من ولدت توأمين مثلها، والجامع: أن كلًا من الوطء بعد الطلاق، والولد الثاني قد قطع المدة الأولى من الحساب، فإن قلتَ: لِمَ شرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن هذه المرأة لو لم تجلس للثاني جلوس نفاس كامل - وهو: أربعون يومًا: للحق ضرر ومشقة بسبب تكليفها بالتكاليف الشرعية من صلاة وصوم مع خروج دم صالح لأن يكون دم نفاس؛ لوجود سببه، فإن قلتَ: إن مدة النفاس - وهو: أربعون يومًا - يُحسب من خروج الولد الأول فقط، ولا يُنظر للثاني، فلو ولدت الثاني بعد الأول بيومين: فإنه يبقى من مدة النفاس للثاني ثمان وثلاثون يومًا، ولو ولدت الثاني بعد الأول بأربعين يومًا: فلا نفاس للثاني، فيكون ما خرج من الدم بعد ولادة الثاني: دم فساد - وهو استحاضة - وتفعل فيه ما تفعله الطاهرات؛ للقياس، بيانه: كما أن من ولدت ولدًا واحدًا يكون لها نفاس واحد - وهو: أربعون يومًا - تبدأ من ولادته، فكذلك من ولدت ولدين في =

ص: 308

بضرب بطنها، أو بشرب دواء: لم تقض

(52)

= بطن واحد يكون لها نفاس واحد يبدأ من الأول، والجامع: أن كلًا منهما قد حملت به حملًا واحدًا، فتكون مدته واحدة، ولا تُزاد على ذلك وإن تعدَّد المحمول، وما كان أوله منه: كان آخره منه، قلتُ: هذا القياس فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ لأن من حملت بولد واحد في بطنها ليست مثل من حملت بولدين في بطنها من حيث كثرة الدماء الخارجة، ومن حيث المدة، ومن حيث التعب والإرهاق، ونظرًا لهذه الفروق، فإنه يُفرق بينهما من حيث مدة النفاس؛ للمصلحة، وقد بيناها، فإن قلت: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض القياسين" وهذا يُسمى بقياس الشبه، فنحن قلنا: إن من ولدت بتوأمين أكثر شبهًا في حساب المدة بمن تطلق، ثم تراجع، وهم قالوا: أنها أكثر شبهًا بمن ولدت ولدًا واحدًا.

(52)

مسألة: إذا خرج ما في بطن المرأة من ولد كامل أو غير كامل وخرج دم بسبب تعديها على نفسها بضرب، أو شرب دواء أسقطه: فإنها تترك الصلاة لأجله، ولا تقضي الصلوات التي تركتها؛ للتلازم؛ حيث إن خروج الدم لم يكن من جهتها ولا تعدَّت به فلا يكون معصية، فلا يلزم من خروج هذا الدم: أن تقضي الصلاة، بل تتركها وقت خروجه، وكذا: الحيض مثل ذلك.

هذه آخر مسائل باب "الحيض والاستحاضة والنفاس" وهو آخر أبواب كتاب الطهارة ويليه كتاب "الصلاة".

ص: 309

‌كتاب الصلاة

في اللغة: الدعاء، قال تعالى:{وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} أي: ادع لهم، وفي الشرع: أقوال وأفعال مخصوصة مفتتحة بالتكبير، مختتمة بالتسليم، سُمِّيت "صلاة" لاشتمالها على الدعاء، مشتقة من "الصلوين" وهما: عرقان من جانبي الذنب، وقيل عضمان ينحنيان في الركوع والسجود،

(1)

وفرضت ليلة

‌كتاب الصلاة

‌حقيقة الصلاة وحكمها

وفيه إحدى وعشرون مسألة:

(1)

مسألة: الصلاة لغة هي: الدعاء والاستغفار، ومنه قوله تعالى:{وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} وقوله صلى الله عليه وسلم: "ومن كان صائمًا فليُصل" والمراد: ادع لهم، وادع لأهل الوليمة إذا دعوه ولم يأكل، والصلاة في الاصطلاح:"أقوال وأفعال مخصوصة يُتعبَّد بها مفتتحة بالتكبير ومختتمة بالتسليم"، وهذا الإطلاق في الشرع حقيقة فيها؛ لأن الصلاة لفظ منقول من معناه اللغوي إلى معناه في الشرع؛ لوجود علاقة بين المعنى اللغوي - وهو: الدعاء - والمعنى الشرعي، وهو: اشتمال تلك الصلاة على دعاء العبادة ودعاء المسألة، وقد فصَّلتُ ذلك في كتاب:"المهذب"(3/ 1150)، فإن قلتَ: لِمَ سُمِّيت هذه الأفعال والأقوال بالصلاة؟ قلتُ: لاشتمالها على دعاء العبادة والمسألة، لذا سُمِّيت صلاة الجنازة بالصلاة مع أنه لا ركوع فيها ولا سجود؛ لاشتمالها على الدعاء - كما في "المنتقى" (1/ 13) و "المقدمات" (3/ 7) و "الفوائد" (2/ 6) - وقيل: سُميت بذلك أخذًا من الصلوين، وهما عرقان في الردف، وأصلهما:"الصلا" وهو: عرق في =

ص: 310

الإسراء

(2)

(تجب) الخمس في كل يوم وليلة (على كل مسلم مكلَّف) أي: بالغ عاقل: ذكر أو أنثى أو خنثي: حر أو عبد، أو مبعَّض

(3)

= الظهر يفترق عند عجز الذنب - وقيل: هما عضمان ينحنيان عند الركوع - كما في "الذخيرة"(2/ 15) والأول: أنسب.

(2)

مسألة: فُرضت الصلاة في ليلة الإسراء والمعراج بمكة قبل الهجرة بعام واحد، وهي أول ما فُرِض من أركان الإسلام - بعد الشهادتين؛ للإجماع؛ حيث قال ابن عبد البر في "الاستذكار":"لم تختلف الآثار ولا العلماء في أن الصلاة فرضت بمكة ليلة الإسراء".

(3)

مسألة: تجب الصلوات الخمس في اليوم والليلة على كُلِّ مسلم مكلف، أي: بالغ عاقل، وهذا مطلق، أي: سواء كان ذكرًا أو أنثى أو خنثى، وسواء كان حرًا أو عبدًا، أو مبعَّضًا - أي: بعضه حر وبعضه الآخر عبد؛ لقواعد: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} حيث أوجب الصلاة؛ لأن الأمر مطلق فيقتضي الوجوب، الثانية: السنة القولية، وهي من وجهين: أولهما: قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ - حين بعثه إلى أهل اليمن -: "ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فإن هم أجابوك لذلك فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة" حيث بيَّن أن الإسلام - وهما الشهادتان - شرط لصحة الصلاة وهذا عام لجميع ما ذكر، ثانيهما: قوله: "رفع القلم عن ثلاثة: عن المجنون حتى يفيق، وعن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ" حيث دل مفهوم الغاية على أن العاقل البالغ تجب عليه الصلاة من جملة الواجبات، فإن قلتَ: لِمَ وجبت على المسلم المكلَّف؟ قلتُ: لأن الصلاة لا تجتمع مع الكفر، لما بينهما من التناقض، كما بينت ذلك في كتابي:"الإلمام في مسألة تكليف الكفار بفروع الإسلام"، ولأن البالغ العاقل =

ص: 311

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= يُدرك المقصود من الصلاة والمراد من التَّعبُّد بها وتصح النية منه، بخلاف الصبي والمجنون فلا يدركان ذلك، ولا تصح منهما نية، فإن قلت: لِمَ وجبت الصلاة؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن الصلاة تُعتبر أكمل العبادات؛ لاشتمالها على جميع أنواع التكبيرات والتحميدات، والتسابيح، والتذلل والخضوع والخشوع، ودعاء العبادة ودعاء المسألة، والقراءة، واشتمالها على جلب الأرزاق، وتقوية القلوب، وتفريج الهموم والغموم، وتنشيط الجوارح، وشرح الصدور، وإبعاد الشياطين، وهذا ثابت لمن طاب مأكله، وتأثيرها على احتقار الدنيا وزينتها ومراكزها، فإن قلت: لِمَ كانت الصلوات خمس فقط دون زيادة أو نقصان؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن تلك الأوقات الخمسة تحدث فيها آيات عظيمة تستوجب شكر الله عليها، فطلوع وظهور الإسفار ناسبه وجوب صلاة الفجر، وزوال الشمس زوالًا بطيئًا ناسبه وجوب صلاة الظهر، وزوال الشمس زوالًا سريعًا ناسبه وجوب صلاة العصر، وغروب الشمس وبداية الليل ناسبه وجوب صلاة المغرب، وحلول الليل والظلام ناسبه وجوب صلاة العشاء، وهذه الأوقات قد صلى فيها الأنبياء السابقين: فالفجر صلاة آدم، والظهر صلاة إبراهيم، والعصر صلاة يونس، والمغرب صلاة عيسى، والعشاء صلاة موسى عليهم السلام وذلك لنعم أنعم الله بها عليهم، فأرادوا شكر الله عليها، فأراد الله تعالى أن يجمع لنبيه وأمته هذه الصلوات فأوجبها عليهم؛ تكثيرًا لأجورهم، ثم إن ذلك يُناسب مصلحة المسلم، حيث جعل فاصلًا طويلًا بين الفجر والظهر لكسب رزقه بعد ما جعل فاصلًا طويلًا بين العشاء والفجر ليأخذ ما يحتاجه من النوم الكافي، فإن قلتَ: لِمَ كانت أكثر الصلوات في آخر النهار: كالظهر والعصر والمغرب والعشاء؛ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن هذا الوقت ليس بوقت عمل، ولا بوقت نوم فأراد الشارع إشغاله بالذكر، فإن قلتَ: لِمَ =

ص: 312

(لا حائضًا ونفساء) فلا تجب عليهما

(4)

(ويقضي من زال عقله بنومٍ أو إغماء، أو سكر) طوعًا أو كرهًا (أو نحوه) كشرب دواء؛ لحديث "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها" رواه مسلم، و "غشي على عمار ثلاثًا ثم أفاق وتوضأ وقضى تلك الثلاث" ويقضي من شرب محرَّمًا حتى زمن جنون طرأ متصلًا به؛ تغليظًا عليه

(5)

= اختلفت تلك الصلوات في الركعات؟ قلتُ: لأن آدم صلى الفجر ركعتين؛ لأن الله أنجاه من ظلمة الليل لما أُخرج من الجنة، وأنه سبحانه قد أرجع إليه النهار، والظهر صلاها إبراهيم أربعًا؛ لإزالة غم الولد، وإتيانه بالفداء، ولرضى ربه بذلك، وصبر ولده، والعصر صلاها يونس أربعًا؛ لأن الله أنجاه من ظلمة الذلة وظلمة البحر، وظلمة الحوت، وظلمة الليل، والمغرب صلاها عيسى شكرًا لله؛ لأنه استطاع نفى الألوهية عن نفسه، وعن أمه، وأثبتها لله، والعشاء صلاها موسى شكرًا لله على أن الله أنجاه من غم هارون، وغم غرق فرعون، وغم أولاده، وغم حيرته في البحر.

(4)

مسألة: تسقط الصلاة عن الحائض والنفساء، ولا يقضيان تلك الصلاة بعد انقضاء مدة الحيض والنفاس، وقد سبق بيانه في مسألة (9 و 47) من باب "الحيض والاستحاضة والنفساء".

(5)

مسألة: إذا نام شخص أو شرب أي شيء مزيل لعقله سواء كان حرامًا أو لا، مختارًا أو لا، جُنَّ بسببه أو لا: فإنه إذا أفاق يقضي ما فاته من الصلوات؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها" فأوجب على النائم قضاء الصلاة التي نام عنها؛ لأن الأمر هنا مطلق فيقتضي الوجوب، وهو عام في الأزمان، فيقضي الفرض في أي وقت شاء، سواء كان وقت نهي أو لا، خرج وقتها أو لا؛ لأن لفظ "مَنْ" الشرطية و "إذا" التي بمعنى "حين" من صيغ العموم، والسكران كالنائم؛ لعدم الفارق بجامع إزالة العقل من =

ص: 313

(ولا تصح) الصلاة (من مجنون) وغير مميِّز؛ لأنه لا يعقل

= باب مفهوم الموافقة المساوي، فإن قلت: لِمَ يقضي هنا؟ قلتُ: لسد الذرائع؛ حيث إنه لو لم يقض هؤلاء ما فاتهم عند إفاقتهم لأدَّى ذلك إلى تساهل هؤلاء فينامون أو يشربون شيئًا يزيل عقولهم لئلا يؤدُّوا الصلاة، فأوجب عليهم قضاء الصلوات التي تركوها؛ تغليظًا عليهم، منعًا من التساهل في أعظم ركن من أركان الإسلام. [فرع]: المغمى عليه لا يقضي ما فاته من الصلوات أثناء الإغماء؛ للقياس، بيانه: كما أن المجنون لا يقضي ما فاته من الصلوات إذا أفاق فكذلك المغمى عليه مثله، والجامع: أن كلًا منهما قد حدث رغم أنفه، ولا يمكن إفاقتهما، فإن قلت: لِمَ لا يقضي المغمى عليه؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إنه يحصل بسبب ليس منه، وقد يطول، فيشق قضاؤه، فإن قلت: إن المغمى عليه يقضي ما فاته من الصلوات إذا أفاق، وهو قول بعض العلماء، وهو ما ذكره المصنف هنا؛ لقاعدتين: الأولى: القياس، بيانه: كما أن النائم يقضي الصلوات فكذلك المغمى عليه مثله، والجامع: زوال العقل في كل، الثانية: فعل الصحابي؛ حيث إن عمَّارًا قد أغمي عليه فقضى ما فاته بعد إفاقته، قلتُ: أما القياس ففاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ حيث إن الإغماء نادر الوقوع، والمغمى عليه لا يمكن إفاقته، وأنه يحصل بسبب مرض أو نحوه، بخلاف النوم: فهو كثير الوقوع، ويمكن إفاقة النائم، وهو طبيعي يحصل بدون مرض، ومع هذه الفروق فلا قياس، أما فعل الصحابي: - وهو عمَّار -: فيُحتمل أنه فعل ذلك على سبيل الوجوب، ويُحتمل أنه قضى ذلك على سبيل الاستحباب، وإذا تطرق الاحتمال إلى الدليل بطل به الاستدلال، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض القياسين": فنحن قسناه على المجنون؛ لأنه أكثر شبهًا به وهم قاسوه على "النائم" لأنه أكثر شبهًا به عندهم، وهذا يُسمى بقياس الشبه، وأيضًا "تعارض فعل الصحابي مع القياس" فعندنا يقدم القياس على المجنون؛ لضعف فعل الصحابي؛ لاحتماله، وعندهم: يقدم فعل الصحابي.

ص: 314

النية

(6)

(ولا) تصح من (كافر)؛ لعدم صحة النية منه، ولا تجب عليه، بمعنى: أنه لا يجب عليه القضاء إذا أسلم، ويُعاقب عليها، وعلى سائر فروع الإسلام

(7)

(فإن

(6)

مسألة: لا تصح الصلاة من مجنون، وصبي غير مميز - وهو: الذي لا يُميز بين الخير والشر - ولا من الهرم، والمعتوه - وهما اللذان قد اختلطت عليهما حقائق الأمور -، ولو أفاق المجنون، أو ميز أو بلغ الصبي أو شفي الهرم والمعتوه: فإنهم لا يقضون ما فاتهم من الصلوات؛ للتلازم؛ حيث إنه يلزم من عدم إدراكهم للنية وشروطها: عدم صحة ما يعملونه؛ لأنه لا عمل صحيح إلا بنية كما قال صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات".

(7)

مسألة: الكافر - أصليًا أو مرتدًا - إذا صلى في أثناء كفره: فإن صلاته لا تصح منه، وإذا أسلم: فلا يجب قضاء الصلوات التي تركها أثناء كفره، ولكنه يُعاقب على تركه لجميع فروع الإسلام: من صلاة وحج وزكاة ونحوها من أول علمه بالإسلام وقدرته عليه إلى وفاته؛ لقواعد: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ، قَالُوا: لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} وقال: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} حيث إنه بيَّن أن سبب دخولهم النار أنهم تركوا الصلاة، وكذا أوجب عليهم الحج وهم في حالة كفرهم؛ لأن لفظ "الناس" اسم جنس وهو من صيغ العموم فيدخل الكافر، وهذا يدل على مخاطبتهم بفروع الإسلام، وأنهم معاقبون على تركها في الآخرة، الثانية: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات" فلا صحة لأي عمل إلا بنية، ولا نية صحيحة لكافر في حال كفره، فلا يُحسب أي عمل عمله أنه شرعي، الثالثة: السنة التقريرية؛ حيث إنه قد أسلم الجم الغفير من الصحابة على يد النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يرو أنه أمر أحدهم أن يقضي ما فاته من الصلوات - أو غيرها من الفروع التي تركها أثناء كفره - ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، وقد خصَّصت لهذه المسألة مصنَّفًا قد صدر منذ زمن هو:"الإلمام في مسألة تكليف الكفار بفروع الإسلام".

ص: 315

صلى) الكافر على اختلاف أنواعه في دار الإسلام أو الحرب جماعة أو منفردًا بمسجد أو غيره (فمسلم حكمًا) فلو مات عقب الصلاة: فتركته لأقاربه المسلمين، ويُغسَّل، ويُصلى عليه، ويُدفن في مقابرنا، وإن أراد البقاء على الكفر وقال:"إنما أردت التهزي": لم يُقبل، وكذا لو أذن، ولو في غير وقته

(8)

(ويؤمر بها صغير لسبع) أي: يُلزم وليه: أن يأمره بالصلاة لتمام سبع سنين، وتعليمه إياها، والطهارة ليعتادها: ذكرًا كان أو أنثى، وأن يكفّه عن المفاسد (و) أن (يُضرب عليها لعشر) سنين؛ لحديث عمرو بن شُعيب عن أبيه عن جده يرفعه:"مروا أبناءكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها لعشر، وفرّقوا بينهم في المضاجع" رواه أحمد وغيره

(9)

(فإن بلغ في أثنائها): بأن تمت مدة بلوغه وهو في الصلاة (أو بعدها

(8)

مسألة: إذا رأينا كافرًا يؤذن أو يقيم أو يصلي: فإنا نحكم بإسلامه: له ما للمسلمين، وعليه ما عليهم: بأن يرثه أقاربه المسلمون بعد وفاته، ويُغسَّل ويُكفن ويُدفن في مقابرهم؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم:"من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا فله ما لنا وعليه ما علينا" وهذا قد فعل ذلك، أو فعل مقدمات الصلاة، فيدخل في عموم ذلك؛ لأن "مَنْ" الشرطية من صيغ العموم، فيكون - على ذلك مسلمًا، فإن قلتَ: لِمَ حُكِم عليه بالإسلام؟ قلتُ: لأن الصلاة والأذان والإقامة عبادات خاصة بشرعنا لا يفعلها إلا مسلم؛ لاشتمالها على الشهادتين، وهذا ما ظهر، ويجب العمل بالظاهر، [فرع]: إذا قال الكافر: "إني أذنتُ وأقمتُ وصليتُ استهزاء": فإنه لا يقبل منه إلا الإسلام: فيُستتاب ثلاثة أيام فإن تاب ورجع إلى الإسلام وإلا: قُتل بالسيف؛ قياسًا على المرتد - كما سيأتي -.

(9)

مسألة: إذا بلغ الصبي سبع سنين - وهو سن التمييز غالبًا - يجب على وليه أن يأمره بالصلاة، وأن يُعلِّمه طريقة الطهارة لها، وأن يعظِّم شأن الصلاة في نفسه، وأن يُعلِّمه فعل كل خير، وترك كل شر، وإن لم يُصل - وهو ابن عشر =

ص: 316

في وقتها: أعاد) أي: لزمه إعادتها؛ لأنها نافلة في حقه، فلم تجزئه عن الفريضة،

= -: فإنه يضربه لأجل ذلك؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "مروا أبناءكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها لعشر" حيث أوجب الشارع على ولي الصبي أن يأمره بالصلاة، وإذا أبى، أن يضربه لأجلها - إذا بلغ العاشرة؛ لأن الأمر هنا مطلق، فيقتضي الوجوب، ولذا: لو ترك الولي ذلك لأثم، لكونه قد ترك واجبًا، ويدل مفهوم العدد: على أن الصبي لا يُؤمر بها إذا كان له أقل من سبع سنين، ولا يُضرب عليها إذا كان له أقل من عشر سنين، فإن قلت: لِمَ شرع هذا؟ قلتُ: لتأديبه وتهذيبه على أداء الصلاة؛ لئلا يستثقلها إذا بلغ، وخُصِّص هذا السن؛ لأنه يميز فيه بين حقائق الأمور، ويقوى على تحمُّل الضرب وهو في سنِّ العاشرة، فإن قلت: لِمَ لا تجب الصلاة على الصبي المميز؟ قلتُ: لأن الصبا مظنة الغباوة، وضعف العقل عن إدراك الغايات والنيات والمقاصد، وعدم قدرته على الاستقلالية، ولأنه عار عن البلية العُظمى وهي:"الشهوة"، فإن قلت: لِمَ وجب على الولي تعظيم الصلاة، وتعليمه الطهارة والآداب؟ قلتُ: لأن تلك الأمور تساعد الصبي على القيام بالصلاة بإخلاص إذا بلغ من باب "ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب"، فإن قلتَ: إن ضرب الصبي يدل على وجوب الصلاة عليه، وهو رواية عن الإمام أحمد؛ للتلازم؛ حيث يلزم من الضرب: المعاقبة، ولزم من معاقبة الصبي على تركه للصلاة أنها واجبة عليه؛ لأنه لا عقاب إلا على ترك واجب، قلتُ: إن الضرب هنا ضرب تأديب وتهذيب، لا ضرب عقاب؛ لأن الصبي لا يُكلَّف بشيء؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"رفع القلم عن ثلاثة: الصبي حتى يبلغ .. " وهذا التلازم لا يقوى على تخصيصه فإن قلت: ما سبب الخلاف هنا؟ قلت: سببه: "تعارض التلازم مع السنة القولية" فعندنا: يُعمل بعموم السنة، وعندهم: يُعمل بالتلازم ويقوى على تخصيص عموم السنة.

ص: 317

ويُعيد التيمم، لا الوضوء، والإسلام

(10)

(ويحرم) على من وجب عليه (تأخيرها

(10)

مسألة: إذا دخل صبي في صلاة الظهر - مثلًا، ثم بلغ في أثنائها - أو بعد الفراغ منها بأن علم بلوغه خمسة عشر، بأي علامة، فإنه لا يجب عليه إعادة تلك الصلاة سواء خرج وقت الصلاة أو لا؛ لقاعدتين: الأولى: التلازم؛ حيث إن الصبي فعل ما له فعله على الوجه الذي طُلب منه فيلزم من فعله: سقوط الطلب عنه، الثانية: القياس، بيانه: كما أن الصبي إذا بلغ في أثناء يوم صوم من أيام رمضان: فإنه لا يقضي هذا اليوم فكذلك الصلاة مثله، والجامع: البلوغ في أثناء فعل النافلة التي هو المطالب بها في كل، فإن قلت: لِمَ شرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تيسير على الخلق، فإن قلت: إنه إذا بلغ في أثناء أو بعد الصلاة: فإنه يُعيد الصلاة إذا لم يخرج وقتها، دون إعادة الوضوء بالماء، والشهادتين وهو الذي ذكره المصنف هنا؛ للقياس؛ بيانه: كما أن البالغ إذا صلى قبل دخول الوقت لا تجزئه صلاته، فتجب إعادتها، فكذلك الصبي إذا صلى قبل البلوغ: فإن صلاته لا تجزئه، فيجب إعادتها والجامع: أن كلًا منهما قد صلى قبل وجود سبب الوجوب، قلتُ: هذا القياس فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ حيث إن البالغ يعلم أن الصلاة واجبة عليه إذا دخل وقتها، فعلم أن صلاته قبله لا تجزئه، أما الصبي فلم يعلم وجوبها عليه إلا بعد دخوله بها، أو بعد الفراغ منها، وكان بلوغه فجأة عنده، فاختلفا، ولذلك: تبطل صلاة البالغ قبل دخول وقتها، لأنه لم يفعل ما وجب عليه، ولا يصلي الصبي الذي بلغ في أثناء الصلاة أو بعدها مرة ثانية؛ لأنه فعل ما عليه فعله، فلا يُطالب بها مرة ثانية، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض القياسين"؛ حيث إنا قسناه على الصبي الذي بلغ في أثناء صومه؛ لأنه أكثر شبهًا به، وهم قاسوه على البالغ الذي صلى قبل دخول الوقت؛ لأنه أكثر شبهًا به، وهذا يُسمَّى بـ "قياس الشبه". تنبيه: قوله: "ويُعيد التيمم" يقصد إن كان الصبي قد =

ص: 318

عن وقتها) المختار، أو تأخير بعضها

(11)

(إلا لناوِ الجمع) لعذر فيُباح له التأخير؛ لأن وقت الثانية يصير وقتًا لهما

(12)

(و) إلَّا (لمشتغل بشرطها الذي يُحصِّله قريبًا) كانقطاع ثوبه الذي ليس عنده غيره إذا لم يفرغ من خياطته حتى خرج الوقت، فإن

= صلى تلك الصلاة التي بلغ في أثنائها أو بعدها بالتيمم، فإنه يعيد ذلك التيمم والصلاة؛ لأن التيمم مشروع لكل صلاة؛ لأنه ليس برافع، وإنما هو مبيح للصلاة - كما سبق في مسألة (30) من باب "التيمم" - وهذا على حسب مذهبه: من أن الصلاة تُعاد، وقد بيَّنا أنها لا تُعاد.

(11)

مسألة: يحرم على المكلف تأخير الصلاة عن وقتها المحدد شرعًا لها بلا عذر، وكذا: يحرم تأخير صلاة العصر عن وقتها المختار إلى وقتها الضروري - وسيأتي بيان ذلك؛ للسنة الفعلية والقولية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد صلى بأصحابه الصلوات الخمس بأوقاتها وقال: "وقت صلاتكم بين ما رأيتم" فحصر هنا الصلاة بين وقتين معلومين - سيأتي بيانهما - فدل مفهوم الزمان على تحريم تأخير الصلاة عن وقتها المحدد شرعًا، فإن قلت: لِمَ حُرم ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن تحديد الصلاة بوقت معين له أسرارٌ وحِكم كثيرة: منها: شكر الله تعالى على نعم وآيات عظيمة تظهر في هذا الوقت - كما سبق في مسألة (3) - والامتحان والابتلاء: وهذا كله فيه أجر عظيم.

(12)

مسألة: يُباح لمن نوى الجمع بين صلاتي الظهر والعصر، أو الجمع بين المغرب والعشاء؛ لسفر أو مرض أو مطر: أن يؤخر صلاة الأولى إلى وقت الثانية جمع تأخير - كما سيأتي -؛ للسنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك - كما رواه أنس -، فإن قلتَ: لِمَ أُبيح ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تيسير وتوسعة على الناس فيكون وقت الثانية وقتًا للصلاتين معًا.

ص: 319

كان بعيدًا عُرفًا: صلى،

(13)

ولمن لزمته: التأخير في الوقت مع العزم عليه ما لم يظن مانعًا، وتسقط بموته، ولم يأثم

(14)

(ومن جحد وجوبها: كفر) إذا كان ممن لا يجهله

(13)

مسألة: يُباح تأخير الصلاة عن وقتها لمن اشتغل بإيجاد ماء أو تراب يتطهر به، أو إيجاد سترة يستر بها عورته بشرط: أن يغلب على ظنه أن ذلك سيستغرق وقتًا قصيرًا بعد الوقت كساعة ونحوها؛ للقياس، بيانه: كما أن الحركة اليسيرة في الصلاة لا تضر فكذلك خروج وقتها بقليل لا يضر بسبب اشتغاله بتوفير شرط من شروط الصلاة: كستر العورة والطهارة ونحوهما، فإن قلتَ: لِمَ أُبيح ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ وهو تحصيل أجر الستر أو التطهر، وأن الزيادة أو النقصان القليل في الشرع لا يضر إذا وجدت المصلحة لذلك، فإن قلتَ: لِمَ اشترط ذلك الشرط؟ قلتُ: لأن تحصيل ذلك إذا كان سيستغرق وقتًا طويلًا: فإنه يكون عاجزًا عنه، والواجب يسقط بالعجز عنه. [فرع]: يُباح تأخير الصلاة عن وقتها للخائف على نفسه، أو أهله، أو ماله إلى أن يزول الخوف، لقاعدتين: الأولى: السنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد شُغل عن صلاة العصر يوم الخندق إلى غروب الشمس، فصلى العصر، ثم المغرب، فظاهره: أنه أخرها بسبب الخوف من العدو، الثانية: فعل الصحابي؛ حيث إن أنسًا قال: "اشتدت الحرب غداة تستُّر فلم يصلوا إلا بعد طلوع الشمس" و "تستُّر" بلد في خراسان، فظاهره: أن بعض الصحابة لم يؤخرها إلا بسبب الخوف، فإن قلتَ: لِمَ أُبيح ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية للمسلمين، وترك الصلاة إذا وجد ما يُشغل القلب عنها.

(14)

مسألة: الصلاة واجبة وجوبًا موسَّعًا، فيُباح للمكلف أن يؤخر الصلاة عن أول وقتها إلى وسطه، أو إلى آخره إذا غلب على ظنه العيش إلى آخره، لكن إذا أراد أن يؤخرها إلى وسط أو آخر وقتها: فإنه يجب عليه أن يعزم وينوي أنه سيُصلِّيها في آخر وقتها، فلو مات قبل أن يصل إلى آخر وقتها فإنها تسقط عنه، =

ص: 320

وإن فعلها؛ لأنه مُكذِّب الله ورسوله وإجماع الأمة، وإن ادَّعى الجهل كحديث عهد بالإسلام: عُرِّف وجوبها، ولم يُحكم بكفره، لأنه معذور، فإن أصرَّ: كفر

(15)

(وكذا:

= ولا يعصي بذلك ولا يأثم؛ للسنة القولية؛ حيث إن جبريل عليه السلام قد صلى بالنبي صلى الله عليه وسلم كل صلاة في أول وقتها وفي آخرها في يومين ثم قال: "يا محمد هذا وقت الأنبياء من قبلك، والوقت فيما بين هذين" وهذا يلزم منه: تخيير المكلف بين أجزاء وقت الصلاة: فإن شاء صلى في أوله، أو في آخره، ويلزم منه: أنه إذا أخرها إلى آخر وقتها: فإنه فعل ما له فعله، فلا يعصي، ولا يأثم فيما لو مات قبل وصوله إلى آخر الوقت، فإن قلتَ: لِمَ كان وقت الصلاة واسعًا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن الصلاة تتكرر في اليوم والليلة خمس مرات، فقد لا تسمح ظروف المكلف أن يصليها في أول وقتها، أو وسطه، أو آخره، فخيره الشارع بينها، وهذا فيه توسعة وتيسير، وقد فصَّلتُ الكلام عن هذا في كتابي:"الواجب الموسَّع" فإن قلتَ: لِمَ اشتُرط العزم على فعلها في آخر الوقت؟ قلتُ: لأن هذا يخرجه عن عزمه على تركها مطلقًا فيكفر.

(15)

مسألة: إذا جحد شخص وجوب الصلاة: ففيه تفصيل: أولًا: إن كان ممن يجهل مثله كمن أسلم حديثًا، أو الناشئ في صحراء لا يرى فيها أحدًا: فإن هذا يُعلَّم أحكام الإسلام، ومنها: الصلاة: فإن أقرَّ وعمل بذلك: تُرك وشأنه، وإن أصرَّ على جحد وجوبها فإنه يُستتاب ثلاثة أيام، ثم يحكم بكفره ويُقتل بالسيف، ثانيًا: إن كان ممن لا يجهل مثله كالناشئ بين المسلمين: فإنه يُستتاب ثلاثة أيام: فإن أصرَّ: يحكم بكفره ويقتل بالسيف؛ للقياس، بيانه: كما أن المرتد عن الإسلام يُفعل به ذلك، فكذلك من جحد وجوب الصلاة، والجامع: أن كلًا منهما قد كتب الكتاب، والسنة وإجماع الأمة، فإن قلتَ: لِمَ يُعلَّم مَنْ يجهل مثله؟ قلتُ: لكونه معذورًا بالجهل؛ أصله قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} فإن قلتَ: لِمَ يُستتاب ثلاثًا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن هذا يُعطيه =

ص: 321

تاركها تهاونًا) أو كسلًا، لا جحودًا

(16)

(ودعاه إمام أو نائبه) لفعلها (فأصرَّ وضاق وقت الثانية عنها) أي: عن الثانية، لحديث:"أول ما تفقدون من دينكم الأمانة وآخر ما تفقدون منه الصلاة" قال أحمد: شيء ذهب آخره: لم يبق منه شيء، فإن لم يُدع لفعلها: لم يُحكم بكفره؛ لاحتمال: أنه تركها لعذر يعتقد سقوطها لمثله

(17)

= مهلة للتفكير، فإن قلتَ: لِمَ يُحكم بكفره ويقتل بالسيف؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إنه ما فعل ذلك إلا لكونه قد احتقر الإسلام وتعاليمه، فيخشى من أن ينشر ذلك: فيقتل منعًا لذلك.

(16)

مسألة: إذا أقرَّ شخص بوجوب الصلاة، ولكنه ترك فعلها تهاونًا وكسلًا: فإنه يُستتاب ثلاثة أيام: فإن أصرَّ على عدم فعلها: يحكم بكفره ويُقتل بالسيف؛ للكتاب؛ حيث قال تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} حيث دل مفهوم الشرط هنا على أن الذي لم يقم الصلاة: فإنه لا يُخلَّى سبيله، بل يُقتل لكفره، وهذا عام فيشمل من تركها تهاونًا وغيره، فإن قلتَ: لِمَ يُقتل هنا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه منع نشر فساده.

(17)

مسألة: لا يُحكم بكفر من ترك الصلاة تهاونًا وكسلًا: إلا بشرطين: أولهما: أن يقول له إمام أو نائبه: "صل وإلا قتلناك؛ لكفرك" ثانيهما: أن يضيق وقت الصلاة الثانية: كأن يترك صلاة الظهر، ثم يضيق وقت صلاة العصر، وتقرب الشمس من المغيب وهو لم يصل الظهر والعصر: فإنه إذا لم يصل: فإنه يحكم بكفره؛ لقواعد: الأولى: الكتاب؛ وهو قوله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا .. } كما سبق في مسألة (16)، الثانية: السنة القولية؛ وهي من وجهين: أولهما: قوله صلى الله عليه وسلم: "أول ما تفقدون من دينكم الأمانة وآخر ما تفقدون الصلاة" ويلزم منه أن الشخص إذا ترك الصلاة: فلا دين له وهو الكافر، ثانيهما: قوله صلى الله عليه وسلم: "الذي بيننا وبين الكفر: ترك الصلاة" وهو واضح الدلالة؛ الثالثة: المصلحة؛ حيث إن =

ص: 322

(ولا يُقتل حتى يُستتاب ثلاثًا فيهما) أي: فيما إذا جحد وجوبها، وفيما إذا تركها تهاونًا، فإن تابا، وإلا ضربت عنقهما والجمعة كغيرها

(18)

وكذا: ترك ركن أو

= الحكم على شخص بالكفر بدون دعوته، وإمهاله والصبر عليه إلى أن يضيق وقت الصلاة الثانية: فيه تجني عليه؛ لأن تركه للصلاة يُحتمل أنه تركها لعذر يظن أنه يسقطها، ويُحتمل أنه تركها لإرادته جمعها مع أخرى لعذر، ومع جواز هذين الاحتمالين: فلا حكم، وهذا دليل يردُّ على من زعم أنه لا دليل على اشتراط هذين - كابن عثيمين وغيره -.

(18)

مسألة: لا يجوز قتل من جحد وجوب الصلاة - جمعة أو غيرها من الفرائض - أو من ترك فعلها تهاونًا وكسلًا إلا بعد أن يُستتاب ثلاثة أيام بأن يُحبس في مكان، ويقال له في كل يوم:"صلِّ وإلا قتلناك" فإن لم يفعل ذلك: قتل في اليوم الرابع كفرًا بالسيف؛ لقواعد: الأولى: القياس، بيانه: كما أن المرتد عن الإسلام لا يُقتل حتى يُستتاب ثلاثًا فكذلك الجاحد لوجوب الصلاة أو التارك لفعلها تهاونًا مثله، والجامع: أن كلًا منهما قد ترك حقًّا ثابتًا يحتاج إلى البيان، الثانية: قول الصحابي: حيث إن عمر قال فيمن ترك الصلاة: "هلا حبستموه ثلاثًا لعلَّه يتوب" الثالثة: المصلحة؛ حيث إن إمهاله ثلاثة أيام يجعله يعيد النظر فيما يعتقده، وقد يكون قد غُرِّر به وخُدِع، فيُبيَّن له الحق في هذه الأيام، وعادة أن الشخص إذا ذكِّر بالآيات والأحاديث وأقوال السلف: تاب إلى الله تعالى، ففي الاستتابة مصلحة له وللمسلمين، فإن قلتَ: لِمَ كانت الأيام ثلاثة؟ قلتُ: لمناسبتها لهذه الحالة؛ حيث إنه في اليوم الأول يبيَّن له الحق، وفي الثاني يفكِّر في ذلك، وفي الثالث: يقول النتيجة، فإن قلتَ: لِمَ لا يُقتل كفرًا، ولا يُقتل حدًّا؟ قلتُ: لأن حكمه حكم المرتدين عن =

ص: 323

شرط،

(19)

وينبغي الإشاعة عن تاركها بتركها حتى يُصلي ولا ينبغي السلام عليه،

= الإسلام، وعليه: فلا يُغسَّل ولا يكفن ولا يصلى عليه، ولا يُدفن مع المسلمين، ولا يورث بخلاف المقتول حدًّا: فهو مسلم حكمًا كالزاني المحصن والقاتل؛ فهذا إذا قتل يُغسَّل ويكفن ويُصلى عليه ويدفن مع المسلمين، ويورث، فإن قلت: لِمَ يُقتل بالسيف؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن المقصود هو إنهاء حياته، لئلا يؤثر على الآخرين، وليس المقصود تعذيبه، فإن قلت: لم يُقتل بهذا وهو أهون القتلات مع أنه كافر، والزاني المحصن أو الزانية يقتلان بالرجم وهو: أشد القتلات؟ قلتُ: لأن مفسدة هذا الكافر قليلة، أما الزانية والزاني فمفسدتهما شاملة لهما ولعائلتهما ولأولادهما، وللأزواج، ويؤثر في الأنساب، ولأن الجسم قد اهتز كله بالحرام، فلا بد أن يعذب كله في الحياة، - وعذاب الآخرة أمرُّ -؛ جزاءً لهما وردعًا لمن تحدِّثه نفسه بأن يفعل ذلك، فإن قلتَ: إنه لا يُستتاب، بل يُقتل فورًا إلا إذا اقتضت المصلحة استتابته وهو قول كثير من العلماء وتبعهم ابن عثيمين؟ قلتُ: إن هذا غير منضبط فقد يستتيب الإمام أحدًا لمجرد التشهي والهوى فتكون استتابته مطلقًا هو الذي تقتضيه المصلحة العامة، والقياس كما سبق بيانه، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه "تعارض المصلحتين" فعندنا: المصلحة العامة تقتضي الاستتابة، وهي أقوى؛ لانضباطها.

(19)

مسألة: إذا ترك الشخص ركنًا من أركان الصلاة، أو شرطًا من شروطها، أو واجبًا من واجباتها عمدًا وهو يعتقده: فإنه يكفر، فيُستتاب ثلاثة أيام، فإن تاب، وإلا قتل، للتلازم؛ حيث يلزم ممن ترك ركنًا، أو شرطًا، أو واجبًا يعتقده؛ إبطال صلاته عمدًا، ومن فعل ذلك فيلزم كفره، والكافر يُقتل؛ لاستهتاره بشرائع الإسلام القطعية - كما سبق -.

ص: 324

ولا إجابة دعوته، قاله الشيخ تقي الدين، ويُصير مسلمًا بالصلاة،

(20)

ولا يكفر بترك غيرها: من زكاة وصوم، وحج، تهاونًا وبخلًا.

(21)

(20)

مسألة: إذا ترك شخص الصلاة؛ جُحدًا لوجوبها، أو تهاونًا بها، فلم يصل مطلقًا: فيجب على المسلمين الذين حوله: أن يهجروه: بأن لا يُسلموا عليه، ولا يُجالسوه ولا يشاركونه في شيء، وينشرون عنه أنه لا يصلي مطلقًا، فإن صلى: فإنه يُحكم بأنه مسلم؛ دون إعادة للشهادتين؛ للمصلحة؛ حيث إن هذه الطريقة قد تردعه فيعود إلى الصواب والحق. [فرع]: إذا تاب وصلَّى فإنه لا يقضي ما تركه عمدًا من الصلوات؛ للتلازم؛ حيث إنه قبل توبته كان كافرًا، ويلزم من ذلك: أن لا يقضي؛ لأن الكافر لا يقضي ما تركه أثناء كفره؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "الإسلام يجب ما قبله"، فإن قلت: لِمَ لا يقضي؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ما تركه قد يكون كثيرًا؛ فلو وجب عليه قضاؤه بعد توبته: لشق عليه ذلك، ولتسبب في تنفيره عن التوبة، فدفعًا لذلك، وتحبيبًا له في الإسلام، وتأليفًا لقلبه: سقط عنه القضاء، وقد فصَّلتُ ذلك في كتابي:"الإلمام".

(21)

مسألة: إذا ترك شخص ركنًا من أركان الإسلام: وهو: الزكاة، أو الصوم، أو الحج تهاونًا وكسلًا وبخلًا: فإنه يُستتاب ثلاثة أيام، فإن تاب وزكى وصام وحج: وإلا قتل في اليوم الرابع كفرًا بالسيف؛ لقواعد: الأولى: الكتاب، وهو من وجهين: أولهما قوله: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} حيث دل مفهوم الشرط على أن الذي يترك الزكاة يُقتل ولا يُخلَّى سبيله، ثانيهما: قوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} حيث أوجبهما معًا، وهذا يدل على عدم التفريق بينهما عند الترك، الثانية: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "بُني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان وحج البيت" حيث دل مفهوم العدد على أن من ترك واحدًا من هذه الأركان: فليس بمسلم؛ لأنه ليس أحدها بأولى من الآخر، الثالثة: إجماع الصحابة؛ حيث إن أبا بكر لما أصرَّ على قتال مانعي =

ص: 325

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= الزكاة، وافقه بقية الصحابة؛ نظرًا لكفر من منع الزكاة، قائلًا:"والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة" الرابعة: القياس على الصلاة، فكما يُفعل بمن ترك الصلاة ذلك - كما سبق في مسألة (16) - فكذلك يُفعل بمن ترك الزكاة والصوم والحج، والجامع: أن كلًا منها ركن من أركان الإسلام ولا تصح كلمة "لا إله إلا الله" إلا بفعلها، فإن قلت: لم يكفر من ترك أي ركن مما سبق تهاونًا وبُخلًا؟ قلتُ: لثبوتها بأدلة قطعية، ومن ترك شيئًا ثبت وجوب فعله بدليل قطعي فقد كفر، ولأن ترك فعلها يؤدي إلى أن لا يبقى في الإسلام إلا اسمه، فإن قلت: لا يكفر بسبب تركه للزكاة والصوم والحج تهاونًا وبُخلًا؛ - وهو قول كثير من العلماء وهو ما ذكره المصنف هنا -؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "بين الرَّجل وبين الكفر ترك الصلاة" حيث جعل الفارق بين المسلم والكافر هو: فعل الصلاة أو تركها، فالفاعل لها مسلم، والتارك لها كافر؛ نظرًا لتخصيص الصلاة بالذكر، ودل مفهوم الصفة هنا على أن ترك غيرها من صيام وزكاة وحج لا يؤدي إلى الكفر، قلتُ: يُرجح ما قلناه من أنه يكفر تارك الأركان؛ لكثرة الأدلة المثبتة لذلك من كتاب وسنة وإجماع وقياس، ومعلوم: أنه يرجح بكثرة الأدلة ولا يقوى مفهوم الصفة على معارضة تلك الأدلة، فإن قلتَ: لم اهتم الشارع بالصلاة وأن تركها يؤدي إلى الكفر؟ قلتُ: للتأكيد عليها؛ لكونها أول ما يُحاسب عليه المسلم يوم القيامة، ولكونها تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولأن المحافظة عليها فيه جلب مصالح، ودرء مفاسد؛ حيث إنها خمس في العمل، وخمسون في الثواب والأجر، فمن تركها أو تهاون فيها: فقد ترك الإسلام، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "هل يُرجح بكثرة الأدلة أو لا؟ " فعندنا: نعم، وعندهم: لا، وأيضًا:"معارضة مفهوم الصفة من السنة لما ثبت بالكتاب والسنة والإجماع والقياس" فعندنا: تقدم تلك الأدلة، وعندهم: يقدم مفهوم السنة.

هذه آخر مسائل: "حقيقة الصلاة وحكمها" ويليه باب "الأذان والإقامة".

ص: 326

‌باب الأذان

وهو في اللغة: الإعلام قال تعالى: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} أي: إعلام، وفي الشرع: إعلام بدخول وقت الصلاة، أو قربه لفجر بذكر مخصوص،

(1)

(والإقامة) في الأصل مصدر "أقام" وفي الشرع: إعلام بالقيام إلى الصلاة بذكر مخصوص،

(2)

وفي الحديث: "المؤذنون أطول الناس أعناقًا يوم

‌باب الأذان والإقامة

وفيه ثلاث وأربعون مسألة:

(1)

مسألة: الأذان لغة: هو الإعلام والإخبار بأي شيء، ومنه قوله تعالى:{وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ} أي: إعلام وإخبار من الله ورسوله إلى الناس - كما في "اللسان"(13/ 9) -، وهو في الاصطلاح:"إعلام الغائبين بذكر مخصوص بأن وقت الصلاة قد دخل، أو قرب دخوله لصلاة الفجر"، والمراد بـ "الذكر" هنا: كلمات الأذان - كما سيأتي بيانها -، وذكر عبارة:"أو قرب دخوله لصلاة الفجر" لأنه يجوز أن يؤذن للفجر قبل دخول وقته - كما سيأتي بيانه فإن قلت: لِمَ سُمي هذا الذكر بالأذان؟ قلتُ: لاشتقاقه من الأذان الحسِّية؛ لسماعه بها كما قاله الزَّجاج، فإن قلتَ: لِمَ ذكر باب الأذان هنا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إنه بعد تقرير حكم الصلاة ناسب أن يُذكر علامة بداية دخول وقتها لتُفعل فيه، وهذا أنسب من جعل الأذان بعد بيان أوقات الصلاة؛ كما فعل بعض الفقهاء؛ لأن علمنا بأول الوقت مقدَّم في المصلحة على علمنا بأوله وآخره.

(2)

مسألة: الإقامة لغة: مصدر قام الذي هو ضد القعود والاضطجاع والسير - كما في "اللسان"(12/ 497) - وهو في الاصطلاح: "إعلام الحاضرين بذكر مخصوص بأن تكبيرة الإحرام قد قرُبت" والمراد بـ "الذكر" كلمات الإقامة - كما سيأتي بينها - فإن قلتَ: لِمَ سُمي هذا الذكر بالإقامة؟ قلتُ: لاشتقاقه من القيام لأجل تكبيرة الإحرام مع الإمام، فيقوم الحاضرون لأداء الصلاة بسببها؛ =

ص: 327

القيامة" رواه مسلم

(3)

(هما فرضا كفاية)؛ لحديث: "إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم وليؤمكم أكبركم" متفق عليه (على الرجال) الأحرار (المقيمين) في القرى والأمصار، لا على الرجل الواحد، ولا على النساء، ولا على العبيد، ولا على المسافرين (للصلوات) الخمس (المكتوبة) دون المنذورة، المؤدَّات دون المقضيات،

= لذا يقول المقيم: "قد قامت الصلاة" والمراد: قد استقام إيقاعها وآن الدخول فيها - كما قال القرافي في "الذخيرة"(2/ 43).

(3)

مسألة: الأذان أفضل من الإمامة؛ للسنة القولية، وهي من وجهين: أولهما: قوله صلى الله عليه وسلم: "المؤذنون أطول الناس أعناقًا يوم القيامة" فيلزم من هذا الوصف للمؤذنين: أنهم أكثر عملًا وثوابًا من الأئمة؛ لأن "الناس" اسم جنس معرف بأل وهو من صيغ العموم، والأئمة من الناس، ثانيهما: قوله صلى الله عليه وسلم: "اللهم أرشد الأئمة، واغفر للمؤذنين" فيلزم من هذا: أن المؤذن أفضل من الإمام؛ لأن المغفرة عامة للإرشاد وغير، فإن قلتَ: لِمَ كان الأذان أفضل؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن الأذان فيه مشقة ترقُّب الوقت بدقة، وإعلان ذكر الله، وتنبيه الناس على دخول وقت صلاتهم: حيث إنه يترتب على ذلك صحة صلاتهم، وصحة إفطارهم في رمضان، والأجر على قدر المشقة، فإن قلتَ: لو كان الأذان أفضل لتولاه النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه من بعده؟ قلتُ: إن تركهم للأذان لا يدل على عدم أفضليته، ومنَعَهَم منه انشغالُهم بالإمامة التي هي وظيفة الإمام الأعظم، ولا يمكن الجمع بين الأذان والإمامة؛ نظرًا لمشقة ترقب الوقت، والانشغال بأمور المسلمين لذا: قال عمر: "لولا الخلافة لأذنت".

[فرع]: الأذان أفضل من الإقامة؛ للقياس الأولى، بيانه: كما أن الأذان أفضل من الإمامة فإنه يكون أفضل من الإقامة من باب أولى؛ لأن الأذان أشق من الإمامة، والإمامة أشقُّ من الإقامة، فتكون الإقامة أدناها مشقَّة، وعليه: فتكون الإمامة أفضل من الإقامة.

ص: 328

والجمعة من الخمس، ويُسنَّان لمنفرد، وسفرًا، ولمقضية (يُقاتل أهل بلد تركوهما) أي: الأذان والإقامة، فيُقاتلهم الإمام أو نائبه؛ لأنهما من شعائر الإسلام الظاهرة،

(4)

(4)

مسألة: الأذان والإقامة سُنَّة مؤكدة للجماعة من الرجال الأحرار المقيمين في البلد للصلوات المفروضة المؤدَّاة في أوقاتها، وإذا تركها هؤلاء: فإن الإمام يؤدِّبهم بما يراه مناسبًا دون أن يقاتلهم، ويُستحبَّان لرجل منفرد، ولمسافر، ولصلاة مقضية أو منذورة بشرط ألا يكون حولهم أحد يُشوش عليه، لقواعد: الأولى: السنة القولية؛ وهي من وجوه: أولها: قوله صلى الله عليه وسلم: "لو يعلم الناس ما في الأذان والصف الأول لاستهموا عليهما" ويلزم من ذلك: أن الأذان مستحب، وإذا كان الأذان كذلك: فمن باب أولى أن تكون الإقامة مثله، ثانيها: أنه صلى الله عليه وسلم لما بيَّن للأعرابي أن الواجب عليه خمس صلوات لم يأمره بالأذان والإقامة، وهذا يلزم منه: عدم وجوبهما؛ لأنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، ثالثها: قوله صلى الله عليه وسلم لمالك بن الحويرث ورجل معه -: "فليؤذن لكما أحدكما" ويلزم منه: أن الأذان يشرع للجماعة وصرف الأمر من الوجوب إلى الاستحباب الحديثان السابقان، والاثنان جماعة في الصلاة، لقوله صلى الله عليه وسلم:"الاثنان فما فوقهما جماعة"، الثانية: قول الصحابي؛ حيث إن عمر قال: "النساء لا أذان لهن ولا إقامة"، الثالثة: الاستقراء؛ حيث إنه ثبت من استقراء عصر النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة: أنه لا يؤذن ولا يُقام إلا للصلاة المفروضة المودَّاة في وقتها، الرابعة: التلازم؛ حيث يلزم من كون الأذان والإقامة مستحبَّين: عدم جواز مقاتلة من تركهما من أهل البلد، بل يؤدَّبون؛ لأن المستحب لا يُعاقب على تركه، فإن قلتَ: لِمَ كانا مستحبَّين؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن فيهما إعلام بدخول الوقت؛ وإعلام بقرب تكبيرة الإحرام، وهما يُعتبران من شعائر الإسلام الظاهرة، فإن قلت: لِمَ اسْتُحَّبا لمنفرد، ومسافر ولصلاة مقضية ومنذورة بشرط: عدم وجود أحد؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن هذا لو أذن لشخصه: لربما توهم =

ص: 329

وإذا قام بهما من يحصل به الإعلام غالبًا: أجزأ عن الكل وإن كان واحدًا، وإلا: زيْدَ بقدر الحاجة: كل واحد في جانب، أو دفعة واحدة بمكان واحد، ويُقيم

= آخرون بأن صلاتهم قد دخل، وهذا يخلط عليهم أوقاتهم، وإن لم يوجد حولهم أحد فيُستحب لهم؛ لأنهم قاموا بشعيرة من شعائر الإسلام، فإن قلتَ: لِمَ شرع الأذان والإقامة للرجال دون النساء؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن الأذان يُشرع فيه رفع الصوت - كما سيأتي - وصوت المرأة عورة، فإن قلتَ: لِمَ شرع الأذان والإقامة للأحرار، دون العبيد؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن العبيد مشغولون عادة بخدمة أسيادهم فلو قاموا بهذه الشعيرة لفقد هؤلاء الأسياد تلك الخدمة أو نقصت وشق عليهم ذلك، فإن قلتَ: لِمَ شرع الأذان للصلوات المكتوبة المؤدَّاة في وقتها دون النوافل، والجنازة، والمقضية والمنذورة؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن الصلوات المكتوبة هي التي لها وقت مُحدَّد شرعًا فيؤذن لها إعلامًا للناس بأن وقتها قد دخل، لمشروعية الجماعة لها، بخلاف غيرها فلا وقت لها عام، فإن قلتَ: الأذان والإقامة فرضا كفاية: إذا قام بهما من يكفي سقط عن الجميع، ويُقاتل الإمام أهل بلد تركوهما وهو ما ذكره المصنف هنا؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم لمالك بن الحويرث وآخر معه:"إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكما أحدكما" حيث أوجب الأذان؛ لأن الأمر مطلق، فيقتضي الوجوب، وقوله:"أحدكما" دليل على أن هذا واجب كفائي: فإذا قام بهما أحدهما: سقط عن الآخر، والإقامة مثل الأذان في هذا، قلتُ: إن حديث: "لو يعلم الناس

" وحديث الأعرابي - السابق ذكرهما - قد صرفا الأمر الوارد في حديث مالك من الوجوب إلى الاستحباب، كما سبق بيانه والإقامة مثل ذلك، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض حديث مالك مع حديث الأعرابي، وحديث: "لو يعلم الناس ما في الأذان

"" فعندنا: الحديثان قد صرفا الأمر الوارد في حديث مالك من الوجوب إلى الندب، وعندهم: لم يقويا على صرفه، بل بقي على إطلاقه المقتضي للوجوب.

ص: 330

أحدهم، وإن تشاحُوا: أقرع،

(5)

وتصح الصلاة بدونهما لكن يُكره

(6)

(وتحرم أجرتهما) أي: يحرم أخذ الأجرة على الأذان والإقامة؛ لأنهما قربة لفاعلهما (لا) أخذ (رزق من بيت المال) من مال الفيء؛ (لعدم متطوع) بالأذان والإقامة فلا يحرم كأرزاق القضاة والغزاة

(7)

(و) سُنِّ أن (يكون المؤذن صيِّتًا) أي: رفيع الصوت؛

(5)

مسألة: يكفي مؤذن واحد لبلد واحد في الغالب، يُعلمهم بدخول وقت الصلاة، وإن لم يحصل الإعلام بواحد: فإنه يزاد ثاني، ويكون كل واحد في جانب من البلد، ويُقيم واحد منهما، فإن تنازعا في الإقامة: فإنه يُقرع بينهما، فإذا خرجت القرعة على أحدهما: فهو الذي يُقيم؛ لقاعدتين: الأولى: السنة الفعلية؛ حيث "كان صلى الله عليه وسلم يُقرع بين نسائه أيهنَّ تخرج معه"، فيدل على مشروعية القرعة في الأحكام، الثانية: المصلحة؛ حيث إن المقصود هو: إعلام الآخرين بدخول وقت الصلاة وبقرب تكبيرة الإحرام فإذا تحققت هذه المصلحة بواحد أجزأ.

(6)

مسألة: تصح الصلاة بدون أذان ولا إقامة بدون كراهة؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كونهما مستحبين أن تصح بدونهما بدون كراهة؛ لأن المستحب لا كراهة في تركه، فإن قلتَ: إن الصلاة تصح مع الكراهة بدونهما وهو ما ذكره المصنف هنا؟ قلتُ: لم أجد دليلًا صحيحًا على ذلك.

(7)

مسألة: يحرم على الشخص: أن يأخذ أجرة معينة على الأذان والإقامة بأن يعقد عقدًا ملزمًا بأن لا يؤذن ولا يقيم إلا بالأجرة الفلانية، ولكن إذا لم يوجد متطوع يفعلهما: فيجوز لشخص أن يأخذ الرزق - وهو: العطاء والمكافأة - من بيت المال من سهم الفيء - وهو: السهم الذي الله ورسوله؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم لعثمان بن أبي العاص: "واتخذ مؤذنًا لا يأخذ على أذانه أجرًا" حيث حرم أخذ الأجرة على ذلك؛ لأن النفي هنا بمنزلة النهي، وهو مطلق، فيقتضي التحريم، الثانية: القياس، بيانه: كما أن الغزاة =

ص: 331

لأنه أبلغ في الإعلام، زاد في "المغني" وغيره: وأن يكون حسن الصوت، لأنه أرق لسامعه

(8)

(أمينًا) أي: عدلًا؛ لأنه مؤتمن يُرجع إليه في الصلاة وغيرها (عالمًا بالوقت)؛ ليتحراه فيؤذن في أوله

(9)

(فإن تشاح فيه اثنان) فأكثر: (قُدِّم أفضلهما فيه) أي: فيما ذكر من الخصال (ثم) إن استووا فيها: (قُدِّم أفضلهما في دينه وعقله)؛ لحديث: "ليؤذن لكم خياركم" رواه أبو داود وغيره (ثم) إن تساووا: قُدِّم (من يختاره) أكثر (الجيران)؛ لأن الأذان لإعلامهم (ثم) إن استووا في الكل

= والقضاة يأخذون الأرزاق والعطاءات، والمكافآت على هذه الأعمال من بيت المال فكذلك المؤذن والمقيم والجامع: القيام بمصالح المسلمين في كل، فإن قلتَ: لِمَ حُرم أخذ الأجرة هنا؟ قلتُ: لأنهما قربة لفاعلهما، والقرب عبادات، ولا يجوز أخذ الأجرة على العبادات، فإن قلتَ: لِمَ أُبيح له أخذ الرزق؟ قلتُ: لإغنائه عن كسب العيش، وعن سؤال الناس فينشغل عن ترقُّب الوقت.

(8)

مسألة: يُستحب للمؤذن أن يكون صوته رفيعًا حسنًا مؤثرًا؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن زيد: "ألقه على بلال؛ فإنه أندى منك صوتًا" أي: أرفع وأحسن صوتًا، الثانية: المصلحة؛ حيث إن المقصود هو: إعلام الغائبين بدخول وقت الصلاة، ولا يحصل ذلك بالكمال إلا بهذه الصفة.

(9)

مسألة: يُشترط في المؤذن: أن يكون عالمًا بأوقات الصلوات، وأن يكون أمينًا وعدلًا؛ لقاعدة:"ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب" فلا يمكن معرفة دخول وقت الصلاة - الواجب معرفته - إلا إذا كان المؤذن عالمًا بذلك الوقت أمينًا عدلًا يثق الناس به ويرجعون إليه: فوجب اشتراط ذلك فيه، فإن قلتَ: إن هذا مستحب، ولا يجب، وهو ما ذكره المصنف هنا، قلتُ: لا يُسلِّم ذلك؛ لأن المستحب يجوز تركه مطلقًا ومعرفة دخول الوقت، والأمانة لا يجوز تركهما؛ لكونهما يؤثران على أعمال الناس.

ص: 332

فـ (قرعة) فأيهم خرجت له القرعة: قُدِّم

(10)

(وهو) أي: الأذان المختار (خمس عشرة جملة)؛ لأنه أذان بلال رضي الله عنه،

(11)

من غير ترجيع الشهادتين، فإن

(10)

مسألة: إذا تنازع اثنان كل واحد منهما يريد أن يكون مؤذنًا: فإننا نُقدِّم الأفضل منهما في معرفة الأوقات، والأمانة، ورفعة الصوت وحسنه، فإن كانا سواء في ذلك: فإنا نُقدِّم الأفضل منهما في الدِّين والعقل، فإن تساويا في ذلك: فإنا نُقدِّم من يختاره أكثر جيران المسجد، فإن اختاروهما معًا: فإنا نختار أحدهما بواسطة القرعة - وهي: السهمة نصبها الشارع مُعينة للمستحق قاطعة للنزاع - فأيُّهما خرجت له القرعة: كان هو المؤذن؛ لقواعد: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "يؤذن لكم خياركم" ولا شك أن من اتصف بتلك الصفات يوصف بأنه خيار الناس، الثانية: السنة الفعلية؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يسافر أقرع بين نسائه فأيتهنَّ خرج سهمها خرجت معه، ويسقط الحق عن البواقي، فتكون مشروعة، الثالثة: المصلحة؛ حيث إن العقل السليم العارف بما يجلب المصالح، وما يدفع المفاسد يؤيد تلك المراتب، ويجعل الجيران يختارون مؤذنهم؛ لأن منصب الأذان منصب عمل في أهم العبادات، فلا بدَّ من أخذ الاحتياطات والاحترازات في عملية الاختيار، فإذا لم نجد شيئًا نتمسك به من الصفات لتقديم أحدهما: اضطررنا إلى استعمال القرعة المشروعة؛ لأنه ليس أحدهما بأولى من الآخر، فإن قلتَ: لم يقبل أكثر الجيران، دون اشتراط جميعهم؟ قلتُ: لأن العمل بالأكثر والأغلب واجب، ولاستحالة الإجماع.

(11)

مسألة: جمل الأذان المشروعة: خمس عشرة جملة وهي: "الله أكبر" أربع مرات و "أشهد أن لا إله إلا الله" مرتين، و "أشهد أن محمدًا رسول الله" مرتين، و "حي على الصلاة" مرتين، و "حي على الفلاح" مرتين، و "الله أكبر" مرتين، و "لا إله إلا الله" مرة؛ للسنة التقريرية؛ حيث إن بلالًا كان يؤذن للنبي صلى الله عليه وسلم هكذا حضرًا وسفرًا، ولم ينكره ولم يُبين خلافه، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، =

ص: 333

رجَّعهما: فلا بأس

(12)

(ويُرتِّلُها) أي: يُستحب أن يتمهل في ألفاظ الأذان، ويقف على كل جملة،

(13)

وأن يكون قائمًا (على علو) كالمنارة؛ لأنه

= واستمر على ذلك بلال حتى توفى صلى الله عليه وسلم كما قال أحمد، وكان عليه عمل أهل المدينة كما قال مالك، فإن قلتَ: لِمَ شرع الأذان بهذه الصورة؟ قلتُ: لتأكيد عقيدة المسلم والإيمان؛ حيث إنه تضمن الإقرار بالكمال لله، وإثبات وحدانيته، ورسالة نبيه صلى الله عليه وسلم ثم بين أن الفلاح في الدارين يكمن في الصلاة - كما ذكره القرطبي في "المفهم"(2/ 752).

(12)

مسألة: يُستحب ترجيع المؤذن الشهادتين بأن يقول: "أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله" خافضًا بهما صوته ويُسمع بهما القريب منه، ثم يُعيدهما رافعًا بهما صوته، ليُسمع من حول المسجد - وهكذا جميع جمل الأذان ويُستحب عدم الترجيع؛ للسنة التقريرية؛ حيث إن أبا محذورة كان يُرجِّع إذا أذن للنبي صلى الله عليه وسلم، وكان بلال لا يُرجِّع، ولم يرد عنه صلى الله عليه وسلم أنه أنكر على أحدهما ذلك، فيلزم استحبابهما معًا، فإن قلتَ: لِمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن هذا يُقدَّر على حسب حال المؤذن، فإن قلتَ: إن الترجيع مباح وليس بمستحب، وهو ما ذكره المصنف هنا؛ قلتُ: لم أجد دليلًا قد رجَّح الترجيع أو عدمه، وعدم الدليل دليل على عدم الحكم، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلت: سببه: "عدم إنكار النبي صلى الله عليه وسلم هل يدل على الاستحباب أو على الإباحة؟ " فعندنا: يدل على الاستحباب؛ إذ لا يُقر إلا على فعل طاعة، وعندهم: يدل على الإباحة، فإن قلتَ: لِمَ سمي ذلك بالترجيع؟ قلتُ: لأنه يُرجِّع من السِّرَّية بهما إلى العلن.

(13)

مسألة: يُستحب أن يُرتل المؤذن جمل الأذان، ويترسل ويتمهل بها، بحيث يُفهم غيره، من غير تمطيط، ولا مدَّ مفرط، فيقف بعد كل جملة وقفة يسيرة بقدر ما يأخذ نفسه؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم:"إذا أذنت فترسَّل" وصرف =

ص: 334

أبلغ في الإعلام،

(14)

وأن يكون (مُتطهرًا) من الحدث الأصغر والأكبر، ويُكره أذان جُنُب وإقامة مُحدث، وفي "الرعاية": يُسنُ أن يؤذن مُتطهرًا من نجاسة بدنه وثوبه

(15)

(مستقبل القبلة)؛ لأنها أشرف الجهات

(16)

(جاعلًا إصبعيه) السَّبَّابتين (في

= هذا الأمر إلى الاستحباب الإجماع: حيث أجمع العلماء على جواز قرن جملتين من جمل الأذان، فإن قلتَ: لِمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك أبلغ في إعلام الغائبين والبعيدين عن المسجد.

(14)

مسألة: يُستحب أن يكون - أثناء أذانه - قائمًا على موضع مرتفع؛ للسنة التقريرية؛ حيث كان بلال يفعل ذلك، ولم يُنكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فإن قلت: لِمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك أبلغ في الإعلام وإيصال الصوت إلى البعيدين عن المسجد.

(15)

مسألة: يُستحب أن يكون - أثناء أذانه وإقامته - متطهرًا من الحدث الأصغر والأكبر، ومن النجس، فيُكره أذان أو إقامة شخص عليه جُنُب ولو أذن على غير طهارة: لصح؛ للمصلحة حيث إنه إذا كان على غير طهارة فلربما فاتته تكبيرة الإحرام مع الإمام أثناء ذهابه للتطهر وهذا يحرمه من كثير من الأجر، فإن قلتَ: لِمَ صح أذان وإقامة من غير المتطهر؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه مراعاة أحوال المؤذن والمقيم: فقد يُفاجئه دخول الوقت، فإن تطهر: لزم تأخير إعلام الناس بدخول الوقت، فلم يبق إلا أنه يؤذن ولو كان على غير طهارة فجاز.

(16)

مسألة: يُستحب أن يكون - أثناء أذانه وإقامته - مستقبلًا للقبلة؛ للسنة التقريرية؛ حيث إن مؤذني النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يفعلون ذلك، وأقرهم عليه السلام، فإن قلتَ: لِمَ استحب ذلك؟ قلتُ: لأن المؤذن والمقيم يذكر أشرف الكلمات، فيُستحب أن يستقبل أشرف الجهات.

ص: 335

أذنيه)؛ لأنه أرفع للصوت

(17)

(غير مستدير) فلا يُزيل قدميه في منارة ولا غيرها

(18)

(مُلتفتًا في الحيعلة يمينًا وشمالًا) أي: يُسنُّ: أن يلتفت يمينًا لـ "حي على الصلاة"، وشمالًا لـ "حي على الفلاح"

(19)

ويرفع وجهه إلى السماء فيه كله؛ لأنه حقيقة التوحيد

(20)

(قائلًا بعدهما) أي: يُسنُّ أن يقول - بعد الحيعلتين - (في أذان الصبح)، ولو أذن قبل الفجر:(الصلاة خير من النوم مرتين)؛ لحديث أبي

(17)

مسألة: يُستحب أن يجعل - أثناء أذانه - طرفي إصبعيه السَّبَّابتين داخل أذنيه؛ للسنة التقريرية؛ حيث كان بلال يفعل ذلك، وأقره عليه صلى الله عليه وسلم، فإن قلتَ: لِمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك أرفع لصوته، وأقل إزعاجًا لنفسه، ولإعلام الآخرين الذين لا يسمعونه بأنه يقوم بالأذان؛ لأن هذه الحالة لا تكون عادة إلا للمؤذن.

(18)

مسألة: يُستحب أن لا يستدير أثناء أذانه: فلا يدور على نفسه، بأن يُحرك قدميه عن الأرض؛ للسنة التقريرية؛ حيث إن بلالًا كان لا يفعل ذلك، وأقره عليه النبي صلى الله عليه وسلم، فإن قلتَ: لِمَ اسْتُحب ذلك؟ قلتُ: لأنه يلزم من ذلك أن يستدبر القبلة أشرف الجهات.

(19)

مسألة: يُستحب أن يلتفت المؤذن عن يمينه قليلًا برأسه وعنقه فقط عند قوله: "حي على الصلاة"، وأن يلتفت عن يساره عند قوله:"حي على الفلاح" والمراد: هلموا وتعالوا إلى الصلاة التي هي خير مما أنتم فيه من دنيا؛ حيث إنها سبب الفلاح في الدارين؛ للسنة التقريرية؛ حيث إن بلالًا كان يفعل ذلك، واقره عليه السلام، فإن قلتَ: لِمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه إسماع لمن في الجهتين بهذا الخطاب الداعي لهم.

(20)

مسألة: يُستحب أن يرفع المؤذن والمقيم وجهه إلى السماء قليلًا أثناء ذلك؛ للمصلحة؛ حيث إن جمل الأذان والإقامة مشتملة على التوحيد والعقيدة، فناسب رفع الوجه إلى من تخصُّه تلك الكلمات؛ إقرارًا بعلوه سبحانه.

ص: 336

محذورة، رواه أحمد وغيره، ولأنه وقت ينام الناس فيه غالبًا، ويُكره في غير أذان الفجر، وبين الأذان والإقامة

(21)

(وهي) أي: الإقامة (إحدى عشرة) جملة بلا تثنية، وتُباح تثنيتها

(22)

(يَحدُرُها) أي: يُسرع فيها، ويقف عند كُلِّ جملة كالأذان

(23)

(ويُقيم من أذن) استحبابًا، فلو سبق المؤذن بالأذان فأراد المؤذن أن

(21)

مسألة: يُستحب التثويب في أذان الفجر، وهو: أن يقول - بعد الحيعلتين: "الصلاة خير من النوم" مرَّتين ويُكره في غير ذلك؛ للسنة القولية؛ حيث أمر صلى الله عليه وسلم أبا محذورة بأن يقول ذلك في أذان الفجر، والذي صرف هذا الأمر من الوجوب إلى الندب: وقوع ذلك على سبيل الإرشاد، وهو مصلحة ويلزم منه: كراهة التثويب في غيره، فإن قلتَ: لِمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن الناس في نوم عميق فيحتاجون من يُنبِّههم ببيان خيرية الصلاة، أما غيره: فلا يُشرع التثويب فيه؛ لأن ذلك في عبادة، والعبادات توقيفية.

(22)

مسألة: جمل الإقامة المشروعة إحدى عشرة جملة وهي: "الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، حي على الصلاة، حي على الفلاح، قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله" دون تثنية - غير ما تُني - وإن ثنَّى كل كلمة: فمباح؛ للسنة التقريرية؛ حيث إن أبا محذورة كان يُثني الإقامة، وكان بلال يفردها - وهي المشهورة - وأقرَّهما عليه السلام، فإن قلتَ: لِمَ شُرعت الإقامة مفردة الكلمات بخلاف الأذان؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن الإقامة للحاضرين في المسجد، فلا حاجة إلى تكرارها، بخلاف الأذان فالناس البعيدين بحاجة إلى تكرار كلماته.

(23)

مسألة: يُستحب أن يحدر في الإقامة وهو: الإسراع بها مع توقف بعد كل جملة وقفة سريعة - كما جاء في "الصحاح"(2/ 625) -؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "إذا أقمت فاحدر" وصرف هذا الأمر من الوجوب إلى الاستحباب: إجماع العلماء على جواز الترسل فيه، فإن قلتَ: لِمَ استُحب ذلك بخلاف =

ص: 337

يقيم: فقال أحمد: لو أعاد الأذان كما صنع أبو محذورة، فإن أقام من غير إعادة: فلا بأس، قاله في "المبدع"

(24)

(في مكانه) أي: يُسنُّ أن يُقيم في مكان أذانه (إن سهل)؛ لأنه أبلغ في الإعلام، فإن شقَّ كأن أذن في منارة، أو مكان بعيد عن المسجد: أقام في المسجد؛ لئلا يفوته بعض الصلاة،

(25)

لكن لا يُقيم

= الأذان؟ قلتُ: لأن الإقامة قد شُرعت لإعلام الحاضرين في المسجد بأن تكبيرة الإحرام قد قَرُبت فليسوا بحاجة إلى الترسُّل والتمهُّل، بخلاف الغائبين البعيدين فهم بحاجة إلى التمهل بالأذان ولذا شُرع.

(24)

مسألة: يُستحب أن يتولَّى الإقامة مَنْ تولَّى الأذان الأخير: فلو أذن زيد في مسجد لصلاة الظهر مثلًا، ثم أذن بكر: فإنه يقيم أحدهما، ولكن لو أراد زيد الإقامة: فالأفضل إعادة الأذان؛ حتى يكون الأخير؛ للقياس؛ بيانه: كما أنه يُستحب أن يتولى خطبتي الجمعة واحد فكذلك يُستحب أن يتولى الأذان والإقامة واحد، والجامع: أن كلًا منهما ذكر سابق للصلاة، فإن قلتَ: لِمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك أحوط في عدم اضطراب الناس؛ نظرًا لتغيُّر الصوت عليهم.

(25)

مسألة: يُستحب أن يقيم في المكان الذي أذن فيه إن تيسَّر ذلك بدون فوات شيء من الصلاة عليه، أما إن شق ذلك، أو خشي فوات بعض الصلاة: فإنه يُقيم داخل المسجد، للسنة التقريرية؛ حيث قال ابن عمر:"كنا إذا سمعنا الإقامة توضأنا ثم خرجنا إلى الصلاة" ويلزم من ذلك: أنهم سمعوا الإقامة وهم في بيوتهم، وهذا لا يكون إلا إذا كان المقيم في مكان الأذان المرتفع، والنبي صلى الله عليه وسلم قد أقر بذلك، فدل على استحبابه إذا لم توجد مشقة في ذلك، فإن قلتَ: لِمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك أبلغ في إعلام الحاضرين في المسجد ومن حوله، أما إن وُجدت مشقة على المقيم، أو خشي =

ص: 338

إلا بإذن الإمام

(26)

(ولا يصح) الأذان (إلا مُرتَّبًا) كأركان الصلاة (متواليًا) عرفًا؛ لأنه لا يُمكن المقصود منه إلا بذلك، فإن نكسه: لم يُعتدَّ به،

(27)

ولا تُعتبر الموالاة بين الإقامة والصلاة إذا أقام عند إرادة الدخول فيها، ويجوز الكلام بين الأذان

= فوات بعض الصلاة: فإنه لا يُستحب، بل المستحب إقامته في المسجد؛ لأن فيه دفع مفسدة عنه، ودفع المفاسد مقدَّم على جلب المصالح.

(26)

مسألة: يُستحب أن لا يقيم للصلاة إلا إذا أذن له الإمام في ذلك؛ للسنة التقريرية؛ حيث كان بلال لا يقيم إلا بعد إذن النبي صلى الله عليه وسلم، وخروجه إليه، ولم يُنكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك على بلال، فإن قلتَ: لِمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إنه لو أقام قبل إذن الإمام: للزم تأخير الصلاة عن الإقامة؛ لأنه قد يكون الإمام على غير طهارة، أو انشغل بشيء ضروري، فدفعًا لذلك: استحب ذلك.

(27)

مسألة: يُشترط في الأذان والإقامة أن تكون كلماتهما مرتبة متوالية، فلا يُعتبر بأذان وإقامة قد فصل بين كلماتها بشيء كسكوت أو كلام طويل عرفًا، أو قدَّم بعض الكلمات على بعض، أو نكَّسه؛ للسنة القولية والتقريرية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد علَّم بعض مؤذنيه كأبي محذورة وبلال، وابن أم مكتوم، والصدائي، وأقرَّ بعضهم على هذا الأذان والإقامة بالترتيب والتوالي المذكور فكان ذلك هو المشروع، فلا يُقبل غير المرتب، أو غير المتوالي؛ لأنه فَعل غير المشروع فعله، فيُردُّ، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم:"من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ"، فإن قلتَ: لِمَ اشتُرط ذلك؟ قلتُ: لأن كلمات الأذان، وكلمات الإقامة عبادة واحدة متكونة من عدة أجزاء، فلا يصح التفريق بين أجزائها، أو تقديم كلمة على كلمة كالوضوء، وأركان الصلاة، ولأنه لا يتم المقصود من الأذان والإقامة وهو الإعلام إلا إذا كانت كلماتهما مُرتبة متوالية.

ص: 339

وبعد الإقامة قبل الصلاة

(28)

ولا يصح الأذان إلا (من) واحد ذكر (عدل) ولو ظاهرًا، فلو أذن واحد بعضه وكمَّله آخر أو أذنت امرأة، أو خنثى، أو ظاهر الفسق: لم يُعتدَّ به،

(29)

ويصح الأذان (ولو) كان (مُلحَّنًا) أي: مطربًا به (أو) كان (ملحونًا) لحنًا لا يُحيل المعنى، ويُكرهان، ومن ذي لَثْغةٍ فاحشة، وبطل إن أحيل

(28)

مسألة: لا تُشترط الموالاة بين الأذان والإقامة، ولا بين الإقامة والدخول في الصلاة، فيجوز الكلام أو الشُّغل بين ما ذكر للمؤذن والمقيم، والإمام وغيرهم لعذر ولغير عذر؛ لقاعدتين: الأولى: السنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم تذكَّر مرة أنه جُنُب بعد الإقامة، فذهب واغتسل وجاء فكبَّر، ولم يُعِد الإقامة، الثانية: فعل الصحابي؛ حيث إن عمر كان يُكلِّم الرَّجل بعد ما تُقام الصلاة، وما بعد الأذان مثل ما بعد الإقامة؛ لعدم الفارق، فإن قلتَ: لِمَ لا يُشترط ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه مراعاة أحوال المسلمين.

(29)

مسألة: يُشترط أن يكون الأذان قد صدر كله من واحد ذكر عدل؛ فلو بدأ شخص بالأذان وأكمله آخر، أو أذنت امرأة، أو خنثى، أو مَنْ ظهر فسقه أو غير مميز أو مجنون: فإن هذا الأذان لا يُعتبر، - وكذلك الإقامة مثله -؛ للمصلحة؛ حيث إنه إذا صدر كله من واحد عدل ذكر: فإن الناس سيثقون بذلك، ويغلب على ظنهم أن وقت الصلاة قد دخل، وأن تكبيرة الإحرام قد قرُبت، بخلاف ما لو قام واحد بأوله، وآخر قام بآخره، أو أذنت امرأة أو خنثى، أو فاسق أو مجنون، أو غير المميز: فإنه لا تحصل عندهم الثقة بذلك، فيضطرب شأنهم؛ لاختلاف صوت المؤذنين عليهم وهو يكون كالعبث، والمرأة ليست من أهل الأذان والإقامة؛ لأن صوتها عورة - والخنثى مثلها - والفاسق وغير المميز والمجنون لا يُوثق بأقوالهم.

ص: 340

المعنى

(30)

(ويجزيء) أذان (من مميز)؛ لصحة صلاته كالبالغ

(31)

(ويُبطلهما) أي: الأذان والإقامة (فصل كثير) بسكوت أو كلام ولو مباحًا (و) كلام (يسير محرَّم) كقذف، وكُره اليسير غيره

(32)

(ولا يجزيء) الأذان (قبل الوقت)؛ لأنه شرع

(30)

مسألة: إذا لحَّن شخص في أذانه - أو إقامته - بأن أطرب غيره به، أو لَحَنَ فيه بأن نصب المرفوع، أو رفع المجرور، أو كان ذا لثغةٍ كالذي يُبدل القاف دالًا، أو الراء لامًا ونحو ذلك: فإنه يصح أذانه وإقامته مع الكراهة بشرط: أن لا يكون ذلك يُحيل كلمة من كلمات الأذان أو الإقامة إلى غير المراد منها، فإن أحال ذلك: كأن يبدل الكاف أو الباء من لفظ "أكبر" بالفاء: فلا يصح الأذان والإقامة؛ للقياس؛ بيانه: كما أنه إذا قرأ ولحن قراءته لحنًا لا يُحيل المعنى: تصح قراءته، وإن كان هذا اللحن يحيل المعنى: فلا تصح قراءته فكذلك الأذان والإقامة مثلها، والجامع: أن كلًا منهما ذكر يُتعبَّد به، فإن قلتَ: لِمَ صح تلك مع تلك الصفات الناقصة؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه توسعة على المسلمين؛ فإن قلتَ: لِمَ كُره ذلك؟ قلتُ: لأن التلحين، واللحن، واللثغة صفات نقص، ويُكره أن يتولَّى من به نقص الأذان والإقامة؛ لأنه قد لا يفهم بعض الناس كلامهم.

(31)

مسألة: يصح أذان وإقامة الصبي المميز - وهو: من بلغ سبع سنوات -؛ للقياس؛ بيانه: كما أنه يصح أذان وإقامة البالغ فكذلك المميز مثله، والجامع: صحة الصلاة منهما وصحة النية منهما، فإن قلتَ: لِمَ صحَّ ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه توسعة على المسلمين؛ إذ قد لا يوجد بالغ يقوم بذلك، ويحصل مقصود الأذان والإقامة وهو: الإعلام، فما المانع من صحته وإجزائه؟!.

(32)

مسألة: يبطل الأذان والإقامة إذا فصل المؤذن والمقيم بين كلماتهما بفاصل طويل عرفًا من سكوت أو كلام ولو كان مباحًا، أو بفاصل قصير وبكلام محرَّم، كأن يقول:"الله أكبر" ثم يسب أحدًا أو يقذفه، أو يغتابه، أما إن تكلَّم =

ص: 341

للإعلام بدخوله،

(33)

ويُسنُّ في أوله

(34)

(إلا الفجر) فيصح (بعد نصف الليل)؛ لحديث: "إن بلالًا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم" متفق عليه، ويُستحب لمن أذن قبل الفجر: أن يكون معه من يُؤذن في الوقت، وأن يُتَّخذ ذلك

= بكلام يسير مباح كأن يُرشد أحدًا بين الكلمات: فهذا لا يُبطله، ولكنه مكروه؛ للتلازم؛ حيث إن اشتراط التوالي في كلماتها: - كما سبق في مسألة (27) - يلزم منه: أن الفصل بين كلماتهما يُبطلهما، فإن قلتَ: لِمَ يبطل بالفصل بالكلام المحرم؟ قلتُ: لعدم اجتماع مأمور به - وهو الأذان والإقامة - مع كلام منهي عنه؛ لتضادهما، فإن قلتَ: لِمَ كُره الفصل اليسير بمباح وصح؟ قلتُ: لأن هذا يقرب من أن يكون عبثًا، وصح؛ لكون ذلك لا يؤثر كالحركة القليلة في الصلاة.

(33)

مسألة: لا يُجزيء الأذان قبل دخول وقت الصلاة؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم لمالك بن الحويرث ورجل معه: "إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكما أحدكما" فاشترط للأذان الصحيح حضور الوقت، وهو: دخوله، ودل مفهوم الشرط: على عدم إجزاء الأذان قبل دخوله، فإن قلتَ: لِمَ لا يُجزيء؟ قلتُ: لأن المقصود من الأذان: إعلام الناس بدخول الوقت، والأذان قبل دخوله مخالف لهذا، وقد يؤدي إلى أن يصلي بعض الناس قبل دخول الوقت، وهذا مبطل لها.

(34)

مسألة: يُستحب أن يُؤذن في أول وقت الصلاة، وإن أخَّره قليلًا فمُباح؛ للسنة التقريرية؛ حيث إن بلالًا كان يؤذن إذا زالت الشمس، وكان صلى الله عليه وسلم يُقرِّه على ذلك، ولا يقر إلا على فعل الخير، فهذا يلزم منه أنه يؤذن للظهر بعد زوال الشمس مباشرة، فإن قلتَ: لِمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن هذا سيُمكِّن الناس من الصلاة في أول وقتها، فإن قلتَ: لِمَ أبيح تأخيره؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه توسعة على المؤذنين؛ إذ لو اشتُرط أن يكون الأذان في أوله: للحقهم ضيق ومشقة.

ص: 342

عادة؛ لئلا يُغرُّ الناس،

(35)

ورفع الصوت بالأذان ركن ما لم يؤذن لحاضر فبقدر ما يسمعه

(36)

(ويُسنُّ جلوسه) أي: المؤذن (بعد أذان المغرب) وصلاة يسن تعجيلها

(35)

مسألة: يُستحب الأذان لصلاة الفجر قبل دخول وقتها، ويستحب - في هذه الحالة - أن يكون للفجر مؤذنان: أحدهما يؤذن قبل دخول وقته، والآخر يؤذن بعد دخول وقته، وأن يعرف الناس عين كل مؤذن؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم:"إن بلالًا يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم" فلزم من ذلك: أن بلالًا قد أذن قبل دخول وقت صلاة الفجر، لذا: جاز الأكل والشرب في رمضان بعد أذانه، ولزم منه أيضًا: إعلام الناس بعين كل مؤذن؛ حتى يعرف الناس الأذان الأول من الأذان الثاني بصوتهما، فإن قلتَ: لِمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إنهم في هذا الوقت في نوم عميق، فيحتاجون لمن ينبههم قبل الوقت؛ ليتمكنوا من التطهر، وصنع طعام لهم إن كانوا في رمضان، وقد أشار صلى الله عليه وسلم:"إن بلالًا يؤذن بليل ليتنبه نائمكم ويُرجِّع قائمكم" وهذه زيادة ثقة مقبولة.

(36)

مسألة: يجب على المؤذن أن يرفع صوته بالأذان إلا إذا أذن لنفسه، أو لجماعة حاضرة عنده، فيرفع صوته بقدر ما يسمعه هؤلاء؛ للتلازم؛ حيث إن المقصود من الأذان إعلام البعيدين عن المسجد بدخول وقت الصلاة، فيلزم لحصول ذلك: أن يرفع صوته، ويلزم من كونه يؤذن لنفسه أو لمن حضر عنده: أن يخفض صوته بقدر سماعه، لحصول المقصود من الأذان بذلك، تنبيه: المقصود من قوله: "ورفع الصوت ركن" أن الرفع به لابد منه، فإن لم يحصل هذا: فإنه يُبحث عن غيره رفيع الصوت، وليس المقصود بلفظ "ركن": أن أذانه يبطل، بل يصح وإن لم يرفع به صوته، وقد سبق أن رفع الصوت به مستحب في مسألة (8).

ص: 343

قبل الإقامة (يسيرًا)؛ لأن الأذان شُرع للإعلام فَسُنَّ تأخير الإقامة للإدراك

(37)

(ومن جمع) بين صلاتين لعذر: أذن للأولى، وأقام لكل منهما: سواء كان جمع تقديم أو تأخير (أو قضى) فرائض (فوائت أذن للأولى ثم أقام لكل فريضة) من الأولى وما بعدها، وإن كانت الفائتة واحدة: أذن لها، وأقام، ثم إن خاف من رفع صوته تلبيسًا: أسرَّ وإلا: جهر، فلو ترك الأذان لها: فلا بأس

(38)

(ويُسن لسامعه) أي:

(37)

مسألة: يُستحب للمؤذن أن يجلس بعد أذانه لصلاة المغرب جلسة خفيفة تقدر بالوقت الذي يتوضأ فيه الإنسان العادي، أو بوقت نافلة خفيفة، ثم يقيم الصلاة؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم:"صلوا قبل المغرب" ثلاثًا ثم قال: "لمن شاء" ويلزم من هذا: الجلوس للمؤذن بعد الأذان، والقرينة اللفظية وهي قوله:"لمن شاء" هي التي صرفت الأمر من الوجوب إلى الاستحباب، فإن قلتَ: لِمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن الأذان شُرع لإعلام البعيدين، فيستحب تأخير الإقامة والجلوس قليلًا بعد الأذان ليدرك البعيدون الصلاة، فإن قلتَ: لِمَ خصصت صلاة المغرب بذلك؟ قلتُ: مخالفة لبعض العلماء - من الحنفية والشافعية - حيث إنه حُكي عنهم أنه يقام لصلاة المغرب بعد الأذان مباشرة.

(38)

مسألة: إذا نوى شخص الجمع بين الظهر والعصر، أو بين المغرب والعشاء لعذر السفر أو المطر أو المرض، أو أراد قضاء فوائت: فإنه يؤذن للأولى منها، ويقيم للباقي إن أمن التشويش على الآخرين، فإن خشي التشويش والتلبيس عليهم: فإنه يؤذن ويقيم لها سرًا، ولو ترك الأذان والإقامة فبماح؛ للسنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم:"جمع بين الظهر والعصر في عرفة بأذان وإقامتين" ولما أشغله المشركون في غزوة الخندق عن الصلوات: "أمر بلالًا فأذن، ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ثم أقام فصلى المغرب، ثم أقام فصلى العشاء" فإن قلتَ: لم يكفي أذان واحد؟ قلتُ: لأن الأذان للصلاة الأولى حصل به إعلام البعيدين فاجتمعوا =

ص: 344

لسامع المؤذن أو المقيم - ولو أن السامع امرأة أو سمعه ثانيًا وثالثًا حيث سن - (متابعته سرًا) بمثل ما يقول، ولو في طواف، أو قراءة، ويقضيه المصلي والمتخلِّي (و) تسنُّ (حوقلته في الحيعلة) أي: أن يقول السامع: "لا حول ولا قوة إلا بالله" إذا قال المؤذن أو المقيم: "حي على الصلاة، حي على الفلاح" وإذا قال: "الصلاة خير من النوم" ويُسمَّى "التثويب" قال السامع: صدقت وبررت،

(39)

وإذا قال المقيم:

= لها، فلا داعي لأذان للصلوات التي بعدها؛ نظرًا لاجتماعهم، فإن قلتَ: لِمَ اشترط في الأذان: أن لا يكون مشوشًا على الآخرين؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه دفع مفسدة توهم أن وقت صلاة قد دخل لغير الجامعين أو القاضين؛ فإن قلتَ: لِمَ أبيح ترك الأذان والإقامة؟ قلتُ: لأن الأصل: أنهما مستحبان، فلو لم يفعلهما: لما أثم، فإن قلتَ: إنه لا يُشرع الأذان للصلوات المقضية - وهو قول مالك ونُقل عن الشافعي -؛ للسنة القولية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد أمر بلالًا بالإقامة للصلوات عند الفراغ من غزوة الخندق، ولم يأمره بالأذان، كما رواه أبو سعيد الخدري، قلتُ: إن أمر النبي صلى الله عليه وسلم لبلال بالأذان هنا قد ثبت برواية ابن مسعود، وهي زيادة ثقة مقبولة فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلت: سببه: "هل زيادة الثقة هنا مقبولة أو لا؟ " فعندنا: مقبولة، وعندهم: لا.

(39)

مسألة: يُستحب لسامع المؤذن: أن يقول مثل ما يقول سِرًا مطلقًا؛ أي: سواء كان ذكرًا أو أنثى أو خنثى أو حرًا أو عبدًا، وسواء سمعه أول مرة أو مرات، وسواء كان مشتغلًا بطواف أو قراءة أولًا، كان في حال صلاة، أو في حال قضاء حاجته: فإنه يقول مثلما قال المؤذن إذا فرغ من حالته تلك، أما إذا قال:"حي على الصلاة حي على الفلاح" فإن السامع يقول: "لا حول ولا قوة إلا بالله"؛ للسنة القولية؛ وهو من وجهين: أولهما: قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول" وصرفت السنة القولية الأمر هنا إلى الاستحباب؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "على الفطرة" لما سمع مؤذنًا يؤذن فلم يجبه، فلو كانت الإجابة واجبة لما تركها صلى الله عليه وسلم، ثانيهما: قوله: =

ص: 345

"قد قامت الصلاة" قال السامع: "أقامها الله وأدامها"،

(40)

وكذا: يُستحب للمؤذن والمقيم إجابة أنفسهما؛ للجمع بين ثواب الأذان والإجابة

(41)

(و) يسنُّ (قوله) أي:

= " إذا قال المؤذن: حي على الصلاة حي على الفلاح فقال أحدكم: لا حول ولا قوة إلا بالله .. من قلبه: دخل الجنة"، فإن قلتَ: لِمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن الأذان ذكر لله، وتأكيد للتوحيد، فقول السامع كما يقول المؤذن مشاركة له في ذلك، واستحبَّت الحوقلة عند قول المؤذن:"حي على الصلاة حي على الفلاح"؛ لأنهما نداء للغائبين، وهو قد سمع، فيقولها ليُقرَّ بالعجز عن التحول عما هو فيه إلى الصلاة إلا بتوفيق من الله تعالى، فهي كلمة استعانة وكنز من كنوز الجنة، تنبيه: لا يوجد دليل على قول السامع: "صدقت وبررت" عند قول المؤذن: "الصلاة خير من النوم" فلذاك يقولها السامع كما قالها المؤذن؛ لعموم الحديث السابق، فإن قلت: لِمَ سميت عبارة: "الصلاة خير من النوم" بالتثويب؟ قلتُ: لأنه مأخوذ من "ثاب""يثوب" أي: رجع وعاد - كما في اللسان (1/ 243)؛ حيث إن المؤذن رجع إلى الدعاء إلى الصلاة بقول: "الصلاة خير من النوم" بعد أن دعا لها بالحيعلة.

(40)

مسألة: لا يشرع للسامع للإقامة متابعته، ولا أن يقول شيئًا إذا فرغ منها؛ للاستصحاب؛ حيث إنه وردت متابعة المؤذن - كما سبق - ولم يرد شيء في الشرع عن متابعة المقيم، فيبقى على النفي الأصلي فإن قلتَ: لم لا تشرع المتابعة للمقيم، وشُرعت متابعة المؤذن؟ قلتُ: لأن الإقامة يشرع فيها الحدر والإسراع - كما سبق - فيشق على السامع متابعته، بخلاف الأذان فتستحب متابعته؛ لمشروعية التمهل والترسل فيه فيقدر على المتابعة بيسر تنبيه: قوله: يقول السامع للإقامة: "أقامها الله وأدامها" لم أجد دليلا قويا على ذلك.

(41)

مسألة: يُستحب للمؤذن أن يتابع نفسه؛ فإذا قال - مثلا -: "الله أكبر" جهرًا قال هو سرًا: "الله أكبر" وهكذا؛ أما المقيم فلا يتابع نفسه للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه جمع بين فعله للأذان وبين الإجابة، فيتحصل على الأجرين معًا لا =

ص: 346

قول المؤذن وسامعه (بعد فراغه: اللهم) أصله: يا الله - والميم بدل من ياء قاله الخليل وسيبويه (ربَّ هذه الدعوة) - بفتح الدال - أي: دعوة الأذان (التَّامَّة) أي: الكاملة السالمة من نقص يتطرق إليها (والصلاة القائمة) أي: التي ستقوم وتفعل بصفاتها (آتِ محمدًا الوسيلة) منزلة في الجنة (والفضيلة وابعثه المقام المحمود الذي وعدته) أي: الشفاعة العظمى في موقف القيامة؛ لأنه يحمده فيه الأولون والآخرون، ثم يدعو،

(42)

ويحرُم خروج من وجبت عليه الصلاة بعد الأذان في

= سيما وأنه يستحب الترسل فيه، أما متابعة المقيم لنفسه: ففيها مشقة مع استحباب الحدر والإسراع فيها؛ إذ لا يجتمعان.

(42)

مسألة: يُستحب أن يقول المؤذن والسامع عند الفراغ من الأذان: "اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آت محمدًا الوسيلة والفضيلة وابعثه المقام المحمود الذي وعدته" ثم يقول: "رضيت بالله ربًا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًا ورسولًا" ثم يدعو بما شاء بين الأذان والإقامة؛ للسنة القولية؛ وهي من وجوه: أولها: قوله صلى الله عليه وسلم: "من قال حين يسمع النداء: "اللهم رب هذه الدعوة

" حلَّت له شفاعتي"، ثانيها: قوله: "الدعاء لا يرد بين الآذان والإقامة" ثالثها: قوله: "من قال حين يسمع النداء: وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، رضيت بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولًا: غفر له ذنبه" فإن قلتَ: لِمَ اسْتُحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن القائل لها يتحصَّل بسبب ذلك على الأجر والثواب وإجابة الدعوة: فيسأل الله بهذه الصلاة التامة أن يأتي محمدًا الوسيلة والمنزلة العالية في الجنة فوق رتبة الصالحين من خلقه، وأن يبعثه المقام الذي وعده به بقوله:"ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودًا" وهي الشفاعة العظمى المختصة بنبينا صلى الله عليه وسلم حين يشفع بأهل الموقف بعد ما يستشفعون بآدم، ثم نوح، ثم موسى، ثم عيسى، ثم محمد صلى الله عليه وسلم فيقول نبينا صلى الله عليه وسلم:"أنا لها"، فإن قلتَ: لِمَ سمي بالمقام المحمود؟ قلتُ: لأنه يحمده الأولون =

ص: 347

الوقت من المسجد بلا عذر أو نية رجوع

(43)

= والآخرون وذلك بتسبُّبه بتعجيل الحساب والراحة من طول الموقف في المحشر، فائدة: لفظ "اللهم" أصله "يا الله" فحذفت الياء من قوله: "يا الله" وعُوِّض عنها بميم مشدودة في الآخر، كما جاء في المصباح (1/ 20).

(43)

مسألة: يُكره الخروج من المسجد بعد الأذان لغير عذر، فإن وجد عذر: فيباح الخروج للمصلحة؛ حيث إن خروجه من المسجد بلا عذر قد يُشغله عن الصلاة مع الجماعة، فدفعًا لذلك: كُره الخروج، فإن قلتَ: إن الخروج منه بعد الأذان حرام بلا عذر، أو نية الرجوع؛ لقول الصحابي: حيث إن أبا هريرة قال فيمن خرج من المسجد بعد الأذان: "قد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم " ووصفه بهذا يدل على تحريم الخروج منه بعد الأذان؛ لأن الوصف بالعصيان عقاب، ولا يُعاقب إلا على فعل محرم، قلتُ: إذا خرج وهو ينوي الدخول في مسجد آخر أو لعذر: فلا دليل على تحريم ذلك، وهذا إن ثبت عن أبي هريرة: هو اجتهاد منه، أصله: الاحتياط، والتغليظ بدون دليل، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلت: سببه: "تعارض المصلحة مع قول الصحابي" فعندنا: تقدم المصلحة، وعندهم: يقدم قول الصحابي. [فرع]: من الأخطاء الفاحشة عند المؤذنين ما يلي: أولًا: مدُّ الهمزة في قوله: "أشهد" فينقلب إلى استفهام، ثانيها: مدُّ الباء في قوله: "أكبر" فتصبح: إكبار"، ثالثهما: الوقف على قوله: "إله" والابتداء من قوله: "إلا الله"، رابعها: إدخال "الدال" مع "الراء" عند قوله: "محمدًا رسول الله"، خامسها: جعل "التاء" في قوله: "حي على الصلاة" "هاء" وهذا يكون دعاء إلى النار، سادسها: إبدال: "تاء" الصلاة: "حاء" عند قوله: "حي على الصلاة حي على الفلاح"، سابعها: إخفاء الشهادتين حتى أن بعض الناس لا يسمعها، وعلى أي مسؤول عن المؤذنين في أي دولة إسلامية: أن يُعلموا المؤذنين طريقة الأذان الصحيحة للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه دفع الوقوع في مثل هذه الأخطاء الشنيعة وغيرها.

هذه آخر مسائل باب "الأذان والإقامة" ويليه باب "شروط صحة الصلاة"

ص: 348

‌باب شروط الصلاة

الشرط: ما لا يوجد المشروط مع عدمه، ولا يلزم أن يوجد عند وجوده (شروطها) أي: ما يجب لها (قبلها) أي: تتقدم عليها، وتسبقها، إلا النية: فالأفضل: مقارنتها للتحريمة، ويجب: استمرارها، أي: الشروط فيها، وبهذا المعنى فارقت الأركان

(1)

(منها) أي: من شروط الصلاة: الإسلام، والعقل، والتمييز، وهذه

‌باب شروط صحة الصلاة

وفيه مائة وثنتان وستون مسألة:

(1)

مسألة: شروط صحة الصلاة الخاصة ستة: "دخول الوقت" و "الطهارة من الحدث" و "ستر العورة" و "اجتناب النجاسات" و "استقبال القبلة" و "النية" هذه الشروط يجب أن تتوفر قبل الدخول في الصلاة، ويجب أن تستمر إلى الفراغ منها، فلو: أحدث، أو انكشفت عورته، أو أصابته نجاسة، أو انحرف عن القبلة، أو نوى قطع الصلاة، أو علم أن الوقت لم يدخل قبل الانتهاء من الصلاة: فإن صلاته باطلة؛ للتلازم؛ حيث يلزم من اشتراط تلك الشروط: أن تبطل كل صلاة خلت منها أو من بعضها؛ لعدم الإتيان بالمشروع على ما أمر الله به؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رَدُّ"، فإن قلت: لِمَ كان الأفضل في النية: أن تكون مقارنة للتحريمة؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه جمع لفكره، وقصده وإرادته، وحضوره عند تكبيرة الإحرام؛ حيث إنه في ذلك يُحضر ذهنه لما كان سيعلمه، فإن قلتَ: ما الفرق بين الشرط والركن من حيث الموضع؟ قلتُ: الشرط كما سبق بيانه لغة واصطلاحًا في مسألة (18) من باب "فروض الوضوء وصفته" وهو يكون خارج وداخل الصلاة، أما الركن: فلا يكون قبل الصلاة، بل هو داخل فيها، وينتقل في الصلاة من ركن إلى ركن - كما سيأتي بيانه في أركان الصلاة في باب "صفة الصلاة" -.

ص: 349

شروط في كل عبادة - إلا التمييز في الحج ويأتي - ولذلك لم يذكرها كثير من الأصحاب هنا،

(2)

ومنها: (الوقت) قال عمر: "الصلاة لها وقت شرطه الله لها لا تصح إلا به" وهو حديث جبريل حين أمَّ النبي صلى الله عليه وسلم في الصلوات الخمس، ثم قال:"يا محمد هذا وقت الأنبياء من قبلك" فالوقت: سبب وجوب الصلاة؛ لأنها تضاف إليه، وتتكرر بتكرره،

(3)

(و) منها (الطهارة من الحدث): لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يقبل الله

(2)

مسألة: شروط صحة الصلاة العامة وصحة كل عبادة من: زكاة وصوم وحج وغيرها من النوافل ثلاثة، هي:"الإسلام" و "العقل" و "التمييز" إلا الحج فيصح من غير التمييز - وسيأتي بيان "أن وليه ينوي عنه" - فلا تصح صلاة ولا غيرها من كافر، ولا من مجنون، ولا من صبي غير مميز، للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم:"إنما الأعمال بالنيات" فلا صحة لعمل إلا بنية التعبد به لله، وهذا لا يصح من كافر، ولا مجنون، ولا من غير مميز، ولذلك فإن اشتراط "النية" للصلاة يكفي عن ذكر اشتراط "الإسلام" و "العقل" و "التمييز" لها؛ إذ لا نية لكافر أو مجنون أو غير مميز، لذلك: لم يذكر الفقهاء تلك الثلاثة هنا؛ للعلم بها.

(3)

مسألة: في الأول - من شروط صحة الصلاة - وهو: أن يدخل وقت الصلاة، فلا صحة لصلاة قبل دخول وقتها؛ للسنة القولية؛ حيث إن جبريل لما صلى بالنبي صلى الله عليه وسلم عند البيت الصلوات الخمس في يومين - في أول الوقت وآخره - قال:"يا محمد: الوقت ما بين هذين الوقتين" ثم صلاها صلى الله عليه وسلم بأصحابه على الصفة التي أخذها عن جبريل قائلًا: "صلوا كما رأيتموني أصلي" فلا تصح كل صلاة إلا بوقتها الذي حدده الشارع واستنادًا إلى هذا قال عمر: "الصلاة لها وقت شرطه الله لها لا تصح إلا به" وسيأتي بيان لتلك الأوقات، فإن قلتَ: لم كان دخول الوقت شرطًا من شروط صحة الصلاة؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث =

ص: 350

صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ" متفق عليه (و) الطهارة من (النجس) فلا تصح الصلاة مع نجاسة بدن المصلي، أو ثوبه، أو بقعته ويأتي،

(4)

والصلوات

= إن كل وقت فيه أسرار لا يعلمها إلا الله ومنها: الامتحان والابتلاء، ومنها: شكر الله في هذه الأوقات لوجود نعم تقتضي الشكر - كما سبق بيانه - وهي أوقات قد صلى فيها بعض الأنبياء السابقين لنعم حدثت لهم فيها، يؤيده: قول جبريل: "يا محمد هذا وقت الأنبياء من قبلك" فأراد الله تعالى أن يجمع لنا الخير الذي كان لهم، تلطفًا منه، فإن قلت: لِمَ سمَّى دخول الوقت شرطًا، وهو: سبب، والسبب تختلف حقيقته عن الشرط؛ حيث إن الشرط: ما يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم، فمثلًا: إذا لم توجد الطهارة: لا توجد صحة صلاة، وإذا وُجدت فقد تصح الصلاة؛ لوجود الشروط والأسباب الأخرى، وقد لا تصح لفقدان شرط آخر، أما السبب فهو: ما يلزم من وجود الوجود ويلزم من عدمه العدم فمثلًا: دخول الوقت يلزم منه: وجوب الصلاة، ويلزم من عدمه: عدم الوجوب، وكلما تكرَّر وجوده: تكرر الحكم؛ لأن الصلاة تضاف إليه، قلتُ: إن دخول الوقت قد اجتمع فيه السبب والشرط فهو: سبب لوجوب الصلاة، وشرط لصحتها منه؛ حيث إنه إذا دخل الوقت: وجبت الصلاة على هذا المكلف، فإذا صلى بعد ذلك: صحَّت صلاته، وقال بعضهم: إن دخول الوقت سبب والعلم بدخوله شرط، وهو قول القرافي في "الذخيرة"(2/ 80).

(4)

مسألة: في الثاني - من شروط صحة الصلاة - أن يتطهر من أي حدث أكبر أو أصغر؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ" حيث دل منطوقه على عدم قبول أي صلاة بدون طهارة، ودل مفهوم الغاية منه على: قبول الله أي صلاة بعد الطهارة إذا توفرت الشروط الآخر، وقد سبق بيان هذا في كتاب الطهارة، تنبيه: قوله: "والطهارة من النجس" إلى قوله: "ويأتي" الظاهر أنها سبقة قلم من المصنف؛ لأن الطهارة من النجس سيأتي =

ص: 351

المفروضات: خمس في اليوم والليلة، ولا يجب غيرها إلا لعارض كالنذر

(5)

(فوقت الظهر) وهي: الأولى (من الزوال) أي: ميل الشمس إلى المغرب ويستمر (إلى مساواة الشيء) الشاخص (فيئه بعد فيء الزوال) أي: بعد الظل الذي زالت عليه الشمس: إعلم أن الشمس إذا طلعت رفع لكل شاخص ظل طويل من جانب المغرب، ثم ما دامت الشمس ترتفع فالظل ينقص، فإذا انتهت الشمس إلى وسط السماء - وهي: مسألة الاستواء - انتهى نقصانه، فإذا زاد أدنى زيادة: فهو الزوال، ويقصر الظل في الصيف؛ لارتفاعها إلى الجو، ويطول في الشتاء، ويختلف بالشهر والبلد

(6)

(وتعجيلها

= ذكره بالتفصيل في الرابع "من شروط الصلاة" وهو: "اجتناب النجاسات" ذلك في مسألة (92) من هذا الباب.

(5)

مسألة: الصلوات المفروضة: خمس في اليوم والليلة فقط، فلا توجد صلاة واجبة غيرها إلا لسبب عارض وهو: أن يوجب المسلم على نفسه صلاة بالنذر كأن يقول: "لله علي أن أصلي هذا اليوم"؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: للأعرابي الذي سأله عن الفرائض -: "خمس صلوات في اليوم والليلة" فقال: هل علي غيرهن؟ قال: "لا إلا أن تطوع" وقال صلى الله عليه وسلم لمعاذ - لما بعثه إلى اليمن: "أعلمهم أن الله قد افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة" حيث دل منطوقه على وجوب خمس صلوات فقط؛ لأن لفظ: "الفرض" من صيغ الوجوب، ودل مفهوم العدد على عدم وجوب غيرها من الصلوات على المسلم، وقد سبق في "حقيقة الصلاة وحكمها" بيان المقصد من وجوب تلك الخمس وسبب ذلك، فإن قلتَ: لِمَ وجب الوفاء بالنذر؟ قلتُ: سدًا للذرائع؛ حيث إنه لو لم يجب الوفاء به لأفضى إلى الاستهتار بالعبادات، وحدود الله تعالى.

(6)

مسألة: وقت صلاة الظهر يبدأ من ميل الشمس إلى الغروب - وهو الزوال، ويستمر هذا الوقت إلى مساواة الشيء الشاخص المرتفع ظلُّه - وهو فيئه بعد =

ص: 352

أفضل) وتحصل فضيلة التعجيل بالتأهب أول الوقت (إلا في شدَّة حر) فيستحب

= الظل الذي زالت عليه الشمس - وبيان ذلك: أن الشمس إذا طلعت فإنه يكون لكل شيء مرتفع ظله إلى ناحية المغرب، وكلما ارتفعت الشمس إلى السماء: نقص هذا الظل حتى تكون الشمس في وسط وكبد السماء، وحينئذ لا يكون للشاخص ظل، فإذا بدأت تميل الشمس إلى الغروب: فهذا هو فيء الزوال - وهو بقدر شرك النَّعل، وهو أحد سيور النعل - وهو مقدر بخمس دقائق تقريبًا تحسب بعد ميلان الشمس إلى جهة المغرب - ومن بعد هذه الدقائق يبدأ وقت صلاة الظهر، ويستمر هذا الوقت إلى أن يكون ظل الشيء الشاخص مثله، أي: يكون ظلُّك طولك من جهة الشرق إذا وقفت، فيبدأ حينئذ دخول وقت العصر؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم:"أمني جبريل عند البيت مرَّتين فصلى بي الظهر في المرة الأولى حين زالت الشمس، والفيء مثل الشراك، ثم صلى بي في المرة الأخيرة حين صار ظل كل شيء مثله وقال: الوقت ما بين هذين" حيث دل منطوقه على أن وقت صلاة الظهر ما وصفنا، ودل مفهوم الزمان: على أنها لا تصلى قبله ولا بعده بدون عذر، فإن قلتَ: لم وجبت صلاة الظهر في هذا الوقت؟ قلتُ: لشكر الله تعالى على زوال الشمس وتحركها زوالًا وتحركًا بطيئًا، حيث إن ذلك آية عظيمة، ولأنه وقت صلاة إبراهيم صلى الله عليه وسلم كما سبق، فإن قلتَ: لِمَ سميت بصلاة الظهر؟ قلتُ: لكون وقتها أظهر الأوقات؛ لوقوعها في وسط النهار، فإن قلتَ: لم سميت بالصلاة الأولى؟ قلتُ: لأن جبريل بدأ بها حين أمَّ النبي عليهما السلام، وبدأ بها النبي صلى الله عليه وسلم حين أمَّ أصحابه لتعليمهم الصلوات والمواقيت، فإن قلتَ: لِمَ لا تصلى بعد ميلان الشمس مباشرة؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إنا بذلك نبتعد عن وقوف الشمس في كبد السماء وهو وقت تسعير النار، وهو من الأوقات المنهي عن الصلاة فيها كما سيأتي، تنبيه: يختلف الظل باختلاف الصيف والشتاء وجميع الأزمنة والأمكنة لذلك لم يُحدِّد العلماء طول الظل، ولا قصره؛ ومستند: ذلك التلازم.

ص: 353

تأخيرها إلى أن ينكسر، لحديث:"أبردوا بالظهر"(ولو صلى وحده) أو في بيته (أو مع غيم لمن يصلي جماعة) أي: ويُستحب تأخيرها مع غيم إلى قرب وقت العصر لمن يصلي جماعة؛ لأنه وقت يخاف فيه المطر والريح فطلب الأسهل بالخروج لهما معًا، وهذا في غير الجمعة فيُسنُّ تقديمها مطلقًا

(7)

(ويليه) أي: يلي وقت الظهر

(7)

مسألة: يُستحب تعجيل صلاة الظهر بأن تصلى في أول وقتها، إلا في حالتين يُستحب تأخير الظهر فيهما: أولهما: عند اشتداد الحر، ثانيهما: عند وجود سحب وغيم فيؤخرها - في هذه الحالة - إلى قرب وقت صلاة العصر مَنْ يصلي مع الجماعة إلا الجمعة فتُعجِّل مطلقًا؛ لقواعد: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة فإن شدة الحر من فيح جهنم" وفي رواية: "أبردوا بالظهر" والذي صرف الأمر إلى الاستحباب هو: المصلحة؛ حيث إن ذلك فيه دفع لمشقة الحرارة، والثانية: السنة الفعلية؛ حيث قالت عائشة: "ما رأيت أحدًا أشدَّ تعجيلًا للظهر من رسول الله صلى الله عليه وسلم"، الثالثة: القياس؛ بيانه: كما أنه يستحب تأخير صلاة الظهر لشدة الحر فكذلك يستحب تأخيرها لوجود غيم، والجامع: دفع الضرر الحاصل أو المتوقع والمظنون، فإن قلتَ: لِمَ استُحب تعجيل صلاة الظهر والجمعة؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه الحصول على أجر تعجيل الصلاة في أول وقتها، وليكون عنده وقت - قبل صلاة العصر - للقيلولة التي حثَّ عليها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:"قيِّلوا فإن في القيلولة بركة" وفي رواية: "فإن الشياطين لا تُقيِّل" حيث إن ذلك فيه: إعانة له للعمل في آخر النهار، وللقيام في الليل للتهجد، ولأن في تقديم صلاة الجمعة مطلقًا ما ذكرنا ويُمكّن المصلين فيها من العودة إلى بيوتهم ومزارعهم؛ حيث إنهم يسعون إليها من بعيد عادة، فإن قلتَ: لِمَ اسْتُحب تأخيرها في الحر والغيم؟ قلتُ للمصلحة؛ حيث إن شدة الحر ناتج عن توهج جهنم حينما تسجر، ولأن الانتظار إلى أن ينكسر الظل فيه تمكين المصلي من =

ص: 354

(وقت العصر) المختار من غير فصل بينهما، ويستمر (إلى مصير الفيء مثليه بعد فيء الزوال) أي: الظل الذي زالت عليه الشمس (و) وقت (الضرورة إلى غروبها) أي غروب الشمس، فالصلاة فيه أداءً، لكن يأثم التأخير إليه لغير عذر

(8)

= أن يمشي في هذا الظل ليقيه من حر الشمس، فيصل المسجد وهو مطمئن، فيعقل ما يقول ولأنه قد يحدث من هذا الغيم مطر، أو ريح يتضرر منهما المسلم، فاستحب تأخير الصلاة لمنع ذلك عنه، تنبيه: قوله: "ولو صلى وحده أوفي بيته" يردُّ به على بعض العلماء - كالشافعي وأبي يعلى - الذين اشترطوا لتأخير الظهر ثلاثة شروط هي: "شدة الحر" و "كونه في بلد حار" و "أن يصلي في مساجد الجماعات"، أما من صلى وحده، أو في بيته: أو بلده بارد: فلا يستحب له الإبراد قلتُ: هذا مخالف لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "أبردوا" وللمصلحة كما سبق، فالإبراد مشروع مطلقًا، فإن قلت: لِمَ استُحب التأخير لوجود غيم لمن يصلي في جماعة؟ قلتُ: نظرًا لتعرضه للمطر أو الريح إذا حدثا من هذا الغيم أثناء ذهابه إلى المسجد أو رجوعه منه، بخلاف من صلى في بيته، وبخلاف شدة الحر، لأنه يؤثر على المصلي ولو كان في بيته حيث إنه يُشغله عن الخشوع والتركيز.

(8)

مسألة: لصلاة العصر وقتان الأول: وقت اختياري وهو: الذي يبدأ من انتهاء وقت صلاة الظهر - وهو صيرورة ظل كل شيء مثله وزيادة قليلة كما سبق -، ويستمر هذا الوقت إلى أن يصير ظل كل شيء مثليه وزيادة قليلة، أي: إذا وقفت في الشمس وصار ظلك مثلك مرتين وزيادة قليلة: فإنه ينتهي وقتها الاختياري، الثاني: وقت اضطراري ويبدأ من انتهاء الوقت الاختياري، ويستمر إلى غروب الشمس تمامًا ولا يجوز تأخيرها إلى هذا الوقت؛ للسنة القولية وهي من وجوه: أولها: قوله صلى الله عليه وسلم: "صلى جبريل العصر حين صار ظل كل شيء مثله في اليوم الأول، وفي الثاني حين صار ظل كل شيء مثليه وقال: الوقت ما بين =

ص: 355

(ويُسنُّ تعجيلها) مطلقًا،

(9)

وهي الصلاة

= هذين" وقد سبق بيان دلالته في مسألة (6)، ثانيها: قوله: "من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر"؛ حيث دل مفهوم الشرط على أن من لم يُدرك ركعة قبل غروب الشمس: فإنه لم يدرك العصر أداءًا، وإنما تكون - إذا صلاها - قضاءً، ثالثها: قوله صلى الله عليه وسلم: "تلك صلاة المنافق يجلس أحدهم حتى إذا اصفرَّت الشمس فكانت بين قرني شيطان: قام فنقرها أربعًا لا يذكر الله إلا قليلًا" فذم الشارع هنا من صلى العصر حين تصفر الشمس، وتستعد للمغيب بلا عذر؛ لأن وصفه بالنفاق: ذمّ، فيلزم من هذا الذم: تحريم تركها إلى قبيل غروب الشمس، فلو أبيح تركها مطلقًا إلى الغروب: لما ذمَّه على هذا التأخير لأنه لا يذم إلا على فعل محرم، فيلزم: صحة صلاته، وتأثيمه على ذلك، فإن قلتَ: لم تصلَّى العصر في هذا الوقت؟ قلتُ: لشكر الله على نعمة زوال الشمس زوالًا سريعًا، ولأنه وقت صلاة يونس عليه السلام كما سبق بيانه، فإن قلت: لِمَ سمي الأول وقت اختيار؟ قلتُ: لأن المكلَّف مخير بين أن يصلي في أول الوقت أو في وسطه أو في آخره، فإن قلتَ: لِمَ سمي الثاني وقت اضطرار؟ قلتُ: لأنه لا يُباح تأخير العصر إلى هذا الوقت إلا للضرورة كنائم يستيقظ، أو مريض يبرأ، أو فاقد للماء لم يجده إلا فيه، أو كافر أسلم، أو حائض أو نفساء طهرتا فيه، أو صبي بلغ أو مجنون أفاق؛ حيث إن هؤلاء يصلون في هذا الوقت وتكون صلاته أداء، ولا يأثمون؛ لعذرهم، أما من صلاها في هذا الوقت بلا عذر: فتصح صلاته أداء ولكنه يأثم، فإن قلتَ: لِمَ سميت بالعصر؟ قلتُ: لكونها نهاية النهار، والعرب تسمي نهاية كل شيء: عصرًا.

(9)

مسألة: يُستحب تعجيل صلاة العصر مطلقًا، أي: سواء كان وقت شدة حر أو لا، أو كان في الجو غيم أو لا؛ للسنة الفعلية؛ حيث قال رافع: "كنا نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العصر فننحر جزورًا فيُقسَّم عشرة أجزاء، ثم نطبخ فنأكل لحمًا =

ص: 356

الوسطى

(10)

(ويليه وقت المغرب) وهي وتر النهار، ويمتدُّ (إلى مغيب الحمرة) أي:

= نضجًا قبل غروب الشمس" فيلزم من ذلك: أنه صلى الله عليه وسلم كان يُعجِّل العصر لكون تلك الأفعال تحتاج إلى وقت طويل، فإن قلتَ: لِمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه الحصول على ثواب وأجر تعجيل الصلاة أول وقتها، وفيه: تمكين بعض المسلمين من إنهاء عمله الذي بدأه في الصباح والعودة إلى منزله قبل غروب الشمس.

(10)

مسألة: صلاة العصر هي: الصلاة الوسطى التي حثَّ الله على المحافظة عليها قائلًا: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} ؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم في يوم الأحزاب: "شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارًا"، فإن قلتَ: لِمَ سُمّيت بذلك؟ قلتُ: لكونها خير الصلوات؛ لأن الوسط: الخيار، قال تعالى:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} أي: عدولًا وخيارًا، وأكد ذلك بقوله:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} لذلك حثَّ على المحافظة عليها ورغب فيها، لذلك تجد الشخص المتوسط في أموره وأحكامه هو خير الناس، وتجد المتشدد، أو المتساهل في الأمور لا خير فيه، فإن قلتَ: إن الصلاة الوسطى هي: صلاة الفجر؛ للكتاب؛ حيث قال تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} والقنوت يكون في الفجر، قلتُ: المراد بالقنت هنا: السكوت عن الكلام أثناء الصلاة؛ حيث نهى الشارع عن الكلام بعد أن كانوا يتكلمون فيها - كما ورد ذلك في سبب نزول الآية - كما أورده القرطبي في تفسيره (3/ 214) عن مسلم؛ والماوردي في تفسيره (1/ 258) فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "الاختلاف في المراد بـ "القنوت" هنا": فعندنا: السكوت، وعندهم: الدُّعاء. تنبيه: اختلف في المراد بالصلاة الوسطى على عشرة أقوال ذكرها القرطبي في تفسيره (3/ 209) وابن قدامة في "المغني"(2/ 18) والماوردي في تفسيره (1/ 257).

ص: 357

الشفق الأحمر

(11)

(ويُسنُّ تعجيلها إلا ليلة جمع) أي: مزدلفة، سُمِّيت جمعًا؛ لاجتماع الناس فيها فيُسنُّ (لمن) يُباح له الجمع و (قصدها مُحرمًا) تأخير المغرب ليجمعها مع العشاء تأخيرًا قبل حَطِّ رحْلِه

(12)

(ويليه وقت العشاء إلى) طلوع

(11)

مسألة: وقت صلاة المغرب يبدأ من مغيب قرص الشمس، وينتهي بمغيب الشفق الأحمر؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "وقت المغرب: ما لم يغب الشفق" الثانية: قول الصحابي؛ حيث ذكر ابن عباس وابن عمر: أن الشفق هنا هو: الحمرة وتفسير الصحابي حجة؛ فإن قلتَ: لم تصلى صلاة المغرب في هذا الوقت؟ قلتُ: لشكر الله تعالى على نعمة غياب الشمس، ولأنه وقت صلاة عيسى عليه السلام كما سبق - فإن قلتَ: لم سُمَّيت بهذا الاسم؟ قلتُ: لكونها تصلى بعد غروب الشمس مباشرة، وينتهي وقتها بعد غروب الشفق الأحمر، فإن قلتَ: لم سُمِّيت بوتر النهار؟ قلتُ: لأنه عليه السلام سمَّاها بهذا ولكونها وترًا من بين صلوات: الفجر والظهر والعصر حيث إن هذه شفع.

(12)

مسألة: يُستحب تعجيل صلاة المغرب إلا للمحرم بالحج فإنه يستحب أن يؤخرها ليجمعها مع صلاة العشاء في مزدلفة قبل أن يضع رحله على الأرض - إن سهل -؛ للسنة الفعلية؛ وهي من وجهين: أولهما: قول جابر: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي المغرب إذا وجبت" أي: إذا سقطت الشمس وغربت مباشرة، ثانيهما: أنه صلى الله عليه وسلم قد أخر صلاة المغرب من يوم عرفة حتى صلاها مع العشاء جمعًا في مزدلفة، فإن قلتَ: لم استحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تعجيل الصلاة في أول وقتها، وإيجاد وقت واسع بين المغرب والعشاء لقضاء بعض الحاجات الخاصة بالنوم، ولدفع المشقة الحاصلة من وقوف الناس في الطريق بين عرفة ومزدلفة لأجل صلاة المغرب، وسيأتي في كتاب الحج.

ص: 358

(الفجر الثاني) وهو: الصادق (وهو: البياض المعترض) بالمشرق ولا ظلمة بعده، والأول: مستطيل أزرق له شعاع ثم يظلم

(13)

(وتأخيرها) إلى أن يصليها في أول

(13)

مسألة: وقت صلاة العشاء يبدأ من مغيب الشفق الأحمر - وهو: آخر وقت المغرب - وينتهي بمنتصف الليل فمثلًا: إذا كانت الشمس تطلع في الساعة السادسة وتغيب في السادسة مساءً، فإن الليل يكون اثنتي عشرة ساعة، فإذا كان الأمر كذلك: فإن منتصف الليل يكون الساعة الثانية عشرة مساءً - ويختلف الوقت والحساب باختلاف الشهور - وهذا قول الجمهور؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم أن يؤخروا العشاء إلى ثلث الليل أو نصفه" ولم يتعدَّ النصف، فيلزم منه: أن ذلك آخر وقت صلاة العشاء، الثانية: السنة الفعلية؛ حيث إن جبريل قد صلى بالنبي صلى الله عليه وسلم العشاء في اليوم الأول حين غاب الشفق، وفي الثاني حين ذهب ثلث الليل ثم قال:"الصلاة فيما بين هذين" وقال أنس: "أخَّر النبي صلى الله عليه وسلم صلاة العشاء إلى نصف الليل ثم صلى" فهذان الفعلان لزم منهما: أن وقت العشاء ينتهى بنصف الليل، ودل مفهوم الزمان منهما على أن ما بعده ليس بوقت لصلاة العشاء، فإن قلتَ: لم تصلى العشاء بهذا الوقت؟ قلتُ: لشكر الله تعالى على نعمة حلول الظلام ليهدأ الخلق من الحركة، فيأخذ الجسم حقه من النوم، ولأن موسى عليه السلام قد صلى فيه - كما سبق ذكره -، فإن قلت: لم سميت بهذا الاسم؟ قلتُ: لأن "العِشاء" بكسر العين والمد - هو: أول ظلام الليل عند العرب - كما في "المصباح"(412)، فإن قلتَ: إن وقت صلاة العشاء ينتهي بطلوع الفجر الثاني - وهو: البياض المعترض بالمشرق الذي لا ظلمة بعده، ويُسمَّى بالصادق؛ لكونه صدق بالصبح بخلاف الكاذب وهو: طلوع الفجر الأول - وهو البياض المستطيل الأزرق يكون من المشرق إلى المغرب، يكون له شعاع ونور ثم يظلم ويختفي، وهو يخدع من لا يعرفه ويظنه نهارًا، ويكون =

ص: 359

الوقت المختار وهو (ثلث الليل أفضل إن سهل) فإن شقَّ ولو على بعض المأمومين: كُرِه،

(14)

ويكره النوم قبلها، والحديث بعدها إلا يسيرًا أو لشغل أو مع أهل ونحوه، ويحرم تأخيرها بعد ثلث الليل بلا عذر؛ لأنه وقت ضرورة

(15)

(ويليه وقت الفجر)

= الوقت الاختياري من مغيب الشفق إلى نصف الليل، والوقت الضروري من نصف الليل إلى طلوع الفجر الثاني وهذا ما ذكره المصنف هنا، قلتُ: هذا لم أجد دليلًا قويًا عليه، ثم يلزم منه أن يكون وقت صلاة العشاء الليل كله، وهذا لم يقع في الشريعة، ولا يقبل مع وجود دليل من السنة القولية والفعلية يدل على أن وقت العشاء ينتهي بمنتصف الليل.

(14)

مسألة: يستحب تأخير صلاة العشاء إلى ثلث الليل إن سهُل على المكلَّفين، ويكره التأخير إن شقَّ؛ للسنة الفعلية؛ حيث قال أنس:"أخر النبي صلى الله عليه وسلم صلاة العشاء إلى نصف الليل ثم صلى" فلو لم يكن مستحبًا لما أخرها فإن قلتَ: لم استُحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إنه كلما تأخرت الصلاة كلما كان أكثر أجرًا، إلا أن يكون ذلك يشقُّ على بعض المأمومين: فيكره التأخير دفعًا لهذه المشقة، تنبيه: قوله "في آخر الوقت المختار" يشير به على أن لصلاة العشاء وقتين: وقت اختياري، ووقت ضروري، وهذا مرجوح كما سبق بيانه في مسألة (13).

(15)

مسألة: يُكره النوم قبل صلاة العشاء، ويُكره الحديث والكلام بعدها إلا كلامًا يسيرًا لا يستغرق إلا دقائق، أو كلامًا كثيرًا في شغل لا يقبل التأخير، أو مع أهل أو ولد؛ لإصلاح شأنهم، أو مع ضيف مضطرًا للكلام معه أو كلام في طلب علم، أو مدارسة، أو محاضرة أو نحو ذلك؛ لقاعدتين: الأولى: السنة الفعلية؛ وهي من وجهين: أولهما: قول عمر: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمر عند أبي بكر في الأمر من أمور المسلمين وأنا معه" ثانيهما: "أنه صلى الله عليه وسلم تحدَّث مع أهله ساعة بعد العشاء ثم رقد" الثانية: المصلحة؛ حيث إن النوم قبل العشاء =

ص: 360

من طلوعه (إلى طلوع الشمس

(16)

وتعجيلها أفضل) مطلقًا،

(17)

ويجب التأخير

= يتسبب في ثقل الصلاة عليه، والكلام بعدها يتسبب في السهر المؤدي إلى تأخير صلاة الفجر أو فوات التهجد بالليل، أو فوات عمله بنشاط في الصباح فيقل رزقه بسبب ذلك، تنبيه: قوله: "ويحرم تأخيرها" إلى قوله: "ضرورة" يشير به إلى مذهبه وهو: أن للعشاء وقتين: اختياري وضروري، وقد بينا في مسألة (13) أن هذا مرجوح.

(16)

مسألة: وقت صلاة الفجر يبدأ من طلوع الفجر الثاني - وهو: البياض المعترض في المشرق الذي يُرى في الأفق، ويسمى بالفجر الصادق وينتهي بطلوع الشمس؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم:"وقت صلاة الفجر بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس"، فإن قلتَ: لم تصلى الفجر في هذا الوقت؟ قلتُ: لشكر الله تعالى على انسلاخ الليل، ومجيء النهار وطلوع الشمس؛ حيث إن هذه من النعم العظمى التي تستحق الشكر، ولأن آدم عليه السلام قد صلاها - كما سبق بيانه، فإن قلتَ: لم سميت بصلاة الفجر؟ قلتُ: لوقوعها في وقت انفجار النهار وبروزه وظهوره، والعرب تسمي ضوء الصبح - وهو حمرة الشمس المختلط بسواد الليل - فجرًا - كما في "اللسان" (5/ 44) تنبيه: قوله: "ويليه وقت الفجر" يشير به إلى أن وقت صلاة الفجر يلي الوقت الضروري لصلاة العشاء، وهذا بناء على مذهب بعض العلماء أن للعشاء وقتين، وهذا مرجوح كما سبق بيانه في مسألة (13).

(17)

مسألة: يستحب تعجيل صلاة الفجر في أول وقتها مطلقًا أي: سواء كانت مع جماعة أو لا، وسواء رجالًا أو نساءً، وسواء في صيف أو شتاء؛ للسنة الفعلية؛ حيث قالت عائشة:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُصلي الصبح فتنصرف النساء متلفِّعات بمروطهن ما يُعرفن من الغلس" ولفظ "كان" يدل على أنه مستمر في ذلك؛ لأنها من صيغ العموم في الزمان، ويلزم من لفظ "ما يعرفن =

ص: 361

لتعلُّم فاتحة أو ذكر واجب إن أمكنه تعلمه في الوقت، وكذا: لو أمره والده به ليُصلِّي به،

(18)

ويُسنُّ لحاقن ونحوه مع سعة الوقت

(19)

(وتُدرك الصلاة) أداءً (بـ) إدراك تكبيرة (الإحرام في وقتها) فإذا كبر للإحرام قبل طلوع الشمس أو غروبها: كانت كلها أداء حتى ولو كان التأخير لغير عذر لكنه آثم، وكذا: وقت

= من الغلس" أن هذه الصلاة تكون بليل؛ إذ لو كانت في الأسفار لعرفن بسبب ذلك، فإن قلتَ: لم استحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ وهي تحصيل أجر الصلاة في أول وقتها، ولأجل أن يقرب من وقت صلاة الليل؛ لعل دعوته تجاب فيسعد في الدنيا والآخرة وللتبكير في الوصول إلى عمله؛ ليبارك الله له فيه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "جُعلت بركة أمتي في بكورها".

(18)

مسألة: يجب أن يؤخر المسلم الصلاة عن أول وقتها إلى آخره إذا كان جاهلًا يريد أن يتعلَّم كيفية الصلاة: كقراءة الفاتحة ونحوها، أو أن يتعلم ما يقوله في ركوع، أو سجود، أو جلوس من واجبات، أو يأمره والده بأن يُصلِّي به في آخر الوقت؛ للمصلحة؛ حيث إن تلك الأمور واجبة، وفعل الصلاة مع العلم بها في آخر الوقت أكثر أجرًا من فعل الصلاة مع الجهل بها في أول الوقت؛ لأن تقديم الصلاة في أول وقتها مستحب، والواجب مقدم على المستحب.

(19)

مسألة: يستحب أن يؤخر المسلم الصلاة عن أول وقتها إلى آخره إذا وُجد شيء يشغل فكره عن الخشوع وفهم ما يقول كمن به حصر بول - وهو الحاقن -، أو من أشغله غائطه، أو من اشتهى طعامًا، أو من به غضب أو نحو ذلك؛ للمصلحة؛ حيث إن الصلاة مع الخشوع والتركيز فيما يقول أعظم أجرًا من الصلاة في أول الوقت مع انشغال الفكر بشيء طاريء عليه؛ لأن الخشوع والسكون في الصلاة أولى من الصلاة وهو منشغل الفكر.

ص: 362

الجمعة يدرك بتكبيرة الإحرام ويأتي

(20)

(ولا يُصلي) من جهل الوقت، ولم تمكنه مشاهدة الدلائل (قبل غلبة ظنه بدخول وقتها إما باجتهاد) ونظر في الأدلة، أوله صنعة وجرت عادته بعمل شيء مقدَّر إلى وقت الصلاة، أو جرت عادته بقراءة شيء مقدَّر، ويستحب له التأخير حتى يتيقن (أو بخبر) ثقة (متيقن) كأن يقول: رأيت الفجر طالعًا، أو الشفق غائبًا ونحوه، فإن أخبره عن ظن: لم يعمل بخبره،

(20)

مسألة: تُدرك الصلاة أداءً إذا كبَّر تكبيرة الإحرام قبل خروج وقتها، فمثلًا: لو كبَّر لصلاة الفجر قبل طلوع الشمس بدقيقة واحدة: فإن له أجر الصلاة أداء، ولو صلَّى أكثر الصلاة بعد طلوعها، وكذا: لو كبَّر تكبيرة الإحرام لصلاة العصر قبل غروب الشمس بدقيقة مثل ذلك، وهذا مطلق، أي: سواء أخَّر الصلاة إلى آخر وقتها بعذر أو بغير عذر، وسواء كانت جمعة أو غير جمعة؛ للتلازم؛ حيث يلزم من تحديد أوقات الصلوات السابقة في مسائل (6 و 8 و 11 و 13 و 16) -: أن يصلي كل صلاة في وقتها ويكون أداءً دون تفريق بين أوله ووسطه وآخره في هذا، وإن لم يكن هذا هو المقصود فلا حاجة لتحديد تلك الأوقات، فإن قلت: كيف تكون الصلاة أداءً مع أنه صلى أكثر صلاته بعد خروج وقتها؟ قلتُ: قياسًا على من أدرك سجدة: فإنه يدرك الصلاة حيث قال صلى الله عليه وسلم: "من أدرك سجدة من صلاة العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدركها" فكذلك من أدرك تكبيرة الإحرام بجامع: إدراك جزء من الصلاة قبل خروج الوقت؛ لاستواء القليل والكثير في ذلك، وهذا تلطف من الله تعالى في تحصيل أجر الأداء، تنبيه: يأثم إذا أخرج صلاة العصر إلى وقتها الاضطراري وهو قبيل غروب الشمس بغير عذر مع وقوع الصلاة أداء كما سبق في مسألة (8).

ص: 363

ويعمل بأذان ثقة عارف

(21)

(فإن أحرم باجتهاد) بأن غلب على ظنه دخول

(21)

مسألة: لا يجوز للمسلم أن يصلي إلا إذا غلب على ظنه دخول وقت الصلاة: إما باجتهاد من نفسه إذا كان من أهل النظر في أدلة وعلامات دخول الأوقات، أو كان له عادة في صنعته إذا انتهت دخل الوقت، أو له عادة في قراءة إذا انتهى في موضع معين دخل الوقت، أو كانت له ساعة، أو ديك يصيح في وقت معين أو أن يُخبره شخص ثقة عدل بأن وقت الصلاة قد دخل، أو أن الشمس قد غابت، أو أن الفجر قد طلع، أو أن الشفق الأحمر قد غاب عن غلبة ظن، أو أن يسمع مؤذنًا أمينا عارفًا بأوقات دخول الوقت، ويكفي في ذلك من اعتاد الناس متابعته وإن لم يعرفه ونحو ذلك من العلامات التي تغلِّب عند الشخص دخول الوقت؛ لقواعد: الأولى: التلازم؛ حيث يلزم من تحديد أوقات الصلوات - كما سبق -: أن لا تصح أي صلاة إلا إذا غلب على ظننا دخول وقتها؛ إذ لا فائدة من التحديد إلا هذا، الثانية: إجماع الصحابة، حيث اعتاد الصحابة على الاعتماد في أمور صلاتهم وفطرهم وإمساكهم على ما غلب على ظنهم من غروب الشمس، أو زوالها، أو طول ظل أو قصره، أو انفجار صبح، أو أذان ثقة عدل، ولم يرد عن أحدهم الاعتراض على ذلك، الثالثة: القياس؛ بيانه: كما أن المجتهد يُقبل كلامه ويُعمل به مع أنه لا يقطع به فكذلك يُقبل قول من أخبر بدخول الوقت مع أنه لا يقطع به والجامع: أن كلًا منهما قد غلب عليه صحة ما أخبر به تنبيه: قوله: "ويُستحب له التأخير حتى يتيقن" وقوله "فإن أخبره عن ظن: لم يُعمل به" يُشير به إلى أنه يشترط التيقن بدخول الوقت، ويُشترط أن يخبره المخبر عن يقين، قلت: هذا لا يشترط، بل يكفي أن يغلب على ظنه دخول الوقت فقط - كما بينا ذلك -؛ لأن القطع واليقين صعب حصوله، والظن يجب العمل به، فإن قلتَ: لِمَ يكفي غلبة الظن بدخول الوقت بتلك الطرق؟ قلتُ: للمصلحة؛ =

ص: 364

الوقت؛ لدليل مما تقدم (فبان) إحرامه: (قبله: فـ) صلاته (نفل)؛ لأنها لم تجب، ويُعيد فرضه (وإلا) يتبين له الحال أو ظهر أنه في الوقت (فـ) صلاته (فرض) ولا إعادة عليه؛ لأن الأصل براءة ذمَّته

(22)

ويُعيد الأعمى العاجز مطلقًا إن لم يجد من يقلده

(23)

(وإن أدرك مكلَّف من وقتها) أي: وقت فريضة (قدر التحريمة) أي:

= حيث إن تلك الطرق متيسرة على جميع الناس على اختلاف طبقاتهم، فيسهل العلم بدخول الوقت بأي طريق، لئلا يُحرج الناس بذلك؛ لأنه سبحانه لم يوجب العبادات على العباد ليُعذبهم بها، بل كانت لرحمتهم.

(22)

مسألة: إذا غلب على ظنه دخول وقت صلاة الظهر - مثلًا - بأي طريق، ثم صلاها، وبعد فراغه منها: بأن أنه صلاها قبل دخول وقتها: فإنها لا تكون فرضًا، بل هي نافلة، ويجب عليه إعادة الفريضة في وقتها، أما إن لم يتبن له شيء، أو تبين أنه صلى بعد دخول الوقت: فإن صلاته تكون فرضًا ولا إعادة عليه؛ للتلازم؛ حيث يلزم من صلاتها قبل دخول وقتها: عدم صحتها فرضًا؛ لعدم شرطها وهو دخول وقتها، وحملها على أدنى مراتب الصلاة وهي النافلة، ويلزم من عدم بيان أنه صلاها قبل الوقت، أو أنه صلاها في الوقت: صحتها؛ لأنه أتى بما خوطب به وفرض عليه من غلبة ظنه من دخول وقتها، ووجود شرطها وهو: دخول الوقت، فلا شيء يفسدها.

(23)

مسألة: الأعمى العاجز عن معرفة دخول الوقت: يجب عليه أن يقلد غيره ممن يثق به من المبصرين أو العميان القادرين على معرفة دخول الوقت بطرقه، فإن صلى وهو لم يقلد أحدًا في ذلك: فإنه يعيد صلاته - بعد معرفته لدخول الوقت من غيره - وهذا مطلق، أي: يعيد سواء صلى بعد دخول الوقت أو قبله؛ للتلازم؛ حيث إن فرض هذا الأعمى تقليد غيره بدخول الوقت، ولم يوجد هذا منه فيلزم عدم صحة صلاته؛ لكونه صلى وهو شاك بدخول الوقت ولا تصح صلاة مع شك بوجود شرط أو عدمه كالنية وغيرها.

ص: 365

تكبيرة الإحرام (ثم زال تكليفه) بنحو جنون (أو) أدركت طاهرة من الوقت قدر التحريمة ثم (حاضت) أو نفست (ثم كُلِّف) الذي زال تكليفه (وطهرت) الحائض أو النفساء: (قضوها) أي: قضوا تلك الفريضة التي أدركوا من وقتها قدر التحريمة قبل؛ لأنها وجبت بدخول وقتها واستقرت، فلا تسقط بوجود المانع

(24)

(ومن صار أهلًا لوجوبها) بأن بلغ صبي، أو أسلم كافر، أو أفاق مجنون، أو طهرت حائض أو نفساء (قبل خروج وقتها) أي: وقت الصلاة بأن وجد ذلك قبل الغروب مثلًا ولو بقدر تكبيرة: (لزمته) أي: العصر (وما يجمع إليها قبلها) وهي الظهر، وكذا: لو كان ذلك قبل الفجر: لزمته العشاء والمغرب؛ لأن وقت الثانية وقت الأولى حال العذر، فإذا أدركه المعذور فكأنه أدرك وقتها

(25)

(ويجب فورًا) ما لم يتضرر في بدنه،

(24)

مسألة: إذا غربت الشمس - مثلا - وبعد غروبها بمقدار تكبيرة الإحرام: زال تكليف مسلم بأن جُن، أو حاضت امرأة أو نفست، ثم بعد مدة: أفاق المجنون، وطهرت الحائض والنفساء، فإنه يجب على هؤلاء أن يقضوا صلاة المغرب فقط، دون بقية الصلوات؛ للتلازم؛ حيث يلزم من دخول وقت صلاة المغرب: وجوبها على هذا المكلف واستقرار هذا الوجوب في ذمته فلا تسقط تلك الصلاة بوجود ذلك المانع، لكونه أدركها وهو مكلف، وبناء عليه: فلا تبرأ ذمته إلا بفعلها.

(25)

مسألة: إذا صار شخص أهلًا لوجوب الصلاة بأي جزء من أجزاء وقتها: فإن تلك الصلاة تجب عليه فقط، دون ما قبلها، فمثلًا: لو أسلم الكافر، أو بلغ الصبي، أو أفاق المجنون، أو طهرت الحائض أو النفساء قبل غروب الشمس ولو بلحظة: فإن صلاة العصر تجب عليهم فقط، دون الظهر، وجميع الصلوات مثلها؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم:"من أدرك سجدة من صلاة العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدركها" فدل ذلك على أن الواجب على المدرك للوقت =

ص: 366

أو معيشة يحتاجها، أو يحضر لصلاة عيد (قضاء الفوائت مرتبًا) ولو كثرت،

(26)

= أن يصلي الصلاة التي يخصها ذلك الوقت فقط، وهذا عام لجميع الصلوات من باب مفهوم الموافقة؛ ولم يشر الحديث إلى وجوب فعل ما قبلها سواء كانت تجمع معها أو لا، فإن قلتَ: ثم شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تيسير على المسلمين ودفع مشقة عنهم خاصة ممن يتكرر منهم ذلك كالنساء، فإن قلتَ: تجب عليهم - هنا - صلاة العصر، والصلاة التي قبلها مما تجمع معها وهي صلاة الظهر - وهو ما ذكره المصنف هنا - لقاعدتين: الأولى: التلازم؛ حيث يلزم من كون وقت الثانية هو وقت الأولى عند العذر: أن إدراك جزء من وقت الثانية مثل إدراك جزء من الوقتين معًا، الثانية: قول الصحابي؛ حيث إن ابن عباس وعبد الرحمن بن عوف يقولان: "إذا طهرت المرأة قبل غروب الشمس: صلَّت الظهر والعصر معًا" قلتُ: أما التلازم فلا يُسلَّم؛ لأن لكل صلاة وقتًا محددًا غير متداخل مع غيره - كما سبق بيانه - والجمع رُخِّص فيه لعذر لا يوجد هنا، أما قول الصحابي: فضعيف - كما قال بعض أئمة الحديث - وعلى فرض قوته: فإنه يحمل على الاحتياط، يؤيد ذلك: أن الحائض غير متأكدة من وقت وقف خروج الدم، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلت: سببه: "تعارض السنة مع التلازم وقول الصحابي" فعندنا: يعمل بالسنة، وعندهم: يعمل بالتلازم وقول الصحابي تنبيه: قوله: "وكذا لو كان ذلك قبل الفجر لزمته العشاء" يشير به إلى أن وقت العشاء يستمر إلى طلوع الفجر الثاني، وقد بينا أن هذا مرجوح في مسألة (13).

(26)

مسألة: يجب على المسلم أن يقضي الصلوات المفروضة الفوائت فورًا، أي: يبادر بقضائها على صفتها مرتبة: بأن يقضي المتقدمة ثم المتأخرة على حسب مشروعيتها سواء كان بعذر أو لا بشرط: عدم تضرره، أو حضوره لصلاة عيد، لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "من نام عن صلاة أو نسيها =

ص: 367

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= فليصلها إذا ذكرها" فقد أوجب الشارع قضاء الصلاة الفائتة فورًا دون تراخي؛ لأن الأمر هنا مطلق فيقتضي الوجوب، والفورية، الثانية: السنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم لما أشغله المشركون في غزوة الخندق عن الظهر والعصر والمغرب والعشاء، قام فصلى الظهر ثم العصر ثم المغرب ثم العشاء فيلزم من ذلك وجوب الترتيب، فإن قلتَ: لم أوجب القضاء فورًا سواء بعذر أو لا؟ قلتُ: لأن الذمة قد انشغلت بهذا الوجوب، فلا يسقط الواجب إلا بالإبراء إن كان دينًا، أو الفعل إن كان غير ذلك، وخروج الوقت ليس بواحد منهما، وهذا شامل للمعذور وغيره، وعليه: فلا تبرأ ذمته إلا بفعل الصلاة وإن كان قد أخرها عن وقتها بدون عذر، فإن قلت: إن خرج وقت الصلاة بدون عذر: فلا يصلي تلك الصلاة وهو قول بعض العلماء ومنهم ابن عثيمين؛ للتلازم؛ حيث يلزم من اشتراط دخول الوقت لصحة الصلاة: أن لا تصح إلا به، فلو صلاها بعد خروجه بدون عذر لا تصح منه ولا تقبل، ولا يفهم من الشرط إلا هذا كما لا تصح الصلاة إلا بطهارة وسترة للقادر عليها، قلتُ: إن المقصود باشتراط دخول الوقت: أنه إذا دخل الوقت على هذا المكلف: فإن الصلاة قد وجبت في ذمته، فإن فعلها في الوقت المحدد لها: كانت أداءًا وبرأت ذمته، وإن خرج وقتها وهو لم يفعلها: فإن ذمته تكون مشغولة بذلك الواجب، ولا يسقط عنه إلا بفعله وإن خرج الوقت، لأن "الواجب لا يسقط بفوات وقته" لكنه إن خرج عليه الوقت بدون عذر: فإنه يفعلها ويأثم بذلك، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "الخلاف في الواجب هل يسقط بفوات وقته أو لا؟ " فعندنا: يسقط، وعندهم: لا فإن قلت: لم وجب قضاؤها فورًا بشرط: عدم تضرره، أو عدم حضوره صلاة عيد؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن هذا فيه دفع المضرة عنه، ولأنه لو قضاها وهو حاضر لصلاة العيد لتوهم أحد أنه يصلي العيد فيقتدي به.

ص: 368

ويسنُّ صلاتها جماعة

(27)

(ويسقط الترتيب بنسيانه)؛ للعذر فإن نسي الترتيب بين الفوائت، أو بين حاضرة وفائتة حتى فرغ من الحاضرة: صحَّت،

(28)

ولا يسقط بالجهل

(29)

(و) يسقط الترتيب أيضًا (بخشية خروج وقت الحاضرة) فإن خشي

(27)

مسألة: يستحب أن يصلي الفوات مع جماعة إن سهل؛ للسنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد صلى الفجر لما فاتته مع جماعة، وكذا صلى الفوائت في غزوة الخندق مع الجماعة، فإن قلتَ: لم استُحب ذلك: قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تحصيل فضل صلاة الجماعة وهو: سبع وعشرون درجة كما سيأتي.

(28)

مسألة: إذا كان عليه فوائت وهي الظهر والعصر - مثلًا - فنسي الظهر وصلى العصر، ثم تذكر أن عليه صلاة الظهر: فإنه يصليها ولا يعيد العصر، أو كان عليه صلاة الظهر والعصر من يومي السبت والأحد - وهو الآن في يوم الاثنين - ولكنه نسي هل عليه ظهر السبت أو ظهر الأحد، أو عصر السبت أو عصر الأحد: فإنه يقضي ظهرًا وعصرًا مطلقًا، أو كان عليه صلاة الظهر ولكنه نسيها، فلما فرغ من صلاة العصر الحاضرة: تذكر أنه لم يصل الظهر: فإنه يقضي الظهر، ولا يعيد العصر؛ للتلازم؛ حيث إن وجود العذر - وهو: النسيان في هذه الحالات - يلزم منه: سقوط وجوب الترتيب، لكون النسيان من الأعذار المعتبرة شرعًا؛ تيسيرًا على الناس وهذا هو المقصد الشرعي منه.

(29)

مسألة: إذا كان على المسلم فوائت وقضاها بدون ترتيب جهلًا منه بوجوب ذلك: فإنه يجب عليه إعادتها مرتبة إذا علم ذلك؛ للتلازم؛ حيث إنه قادر على تعلم ذلك بسؤال أهل العلم - إذا كان بينهم - فيلزم من ذلك: أن يعيد ما صلاه بالترتيب المشروع؛ لكونه قادرًا عليه، والمقصد منه: الحث على تعلم الأحكام الشرعية.

ص: 369

خروج الوقت: قدَّم الحاضرة؛ لأنها آكد،

(30)

ولا يجوز تأخيرها عن وقت الجواز،

(31)

ويجوز التأخير لغرض صحيح كانتظار رفقة، أو جماعة لها،

(32)

ومن

(30)

مسألة: إذا كان عليه فائتة وهي الظهر مثلًا وحضرت صلاة العصر، وخشي من خروج وقت العصر: فإنه يجب عليه أن يصلي العصر، ثم يقضي الظهر، ويسقط الترتيب هنا؛ للقياس؛ بيانه: كما لا يجوز تأخير الصيام عن وقته لأجل تقديم قضاء صيام فائت، فكذلك الصلاة مثله، والجامع: فعل العبادة في وقتها في كل، فإن قلتَ: لم شرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إنه إذا فعل ذلك: فإنه سيتحصَّل على أجر صلاة أداء، وصلاة قضاء وهذا بدلًا من أن تكون الصلاتان معًا قضاء، فيقل أجره.

(31)

مسألة: إذا كان عليه فائتة وهي الظهر مثلًا وحضرت صلاة العصر وخشي أن يفوت وقتها الاختياري: فإنه يصلي الحاضرة في أول وقتها، ولا يجوز تأخيرها عن وقتها الاختياري إلى وقتها الضروري من أجل أن يقضي الظهر؛ للتلازم؛ حيث يلزم من خشيته فوات وقتها الاختياري: سقوط وجوب الترتيب؛ لأن الحرص على الصلاة في الوقت مقدَّم على ترتيب الفوائت، لعدم معرفة آخر الوقت الاختياري عند أكثر الناس، وهذا هو المقصد من هذا الحكم.

(32)

مسألة: يجوز تأخير قضاء الصلاة الفائتة يسيرًا إذا كان هذا التأخير لغرض صحيح شرعًا كأن ينتظر فرقة، أو اختيار بقعة، أو انتظار جماعة ليصلي معهم؛ للسنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم لما فاتته صلاة الفجر هو وأصحابه بسبب النوم في السفر أمر بالارتحال عن مكان نومهم قليلًا، ثم قضوا تلك الصلاة، وهو مكان قريب جدًّا، وانتظار الرفقة، أو الجماعة مثل اختيار البقعة؛ لعدم الفارق في الحصول على الأجر الكامل، وعدم المشقة من باب "مفهوم الموافقة".

ص: 370

شكَّ فيما عليه من الصلوات وتيقن سبق الوجوب: أبرأ ذمته يقينًا،

(33)

وإن لم يعلم وقت الوجوب: فمما تيقن وجوبه

(34)

(ومنها) أي: من شروط الصلاة (ستر العورة) قال ابن عبد البر: "أجمعوا على فساد صلاة من ترك ثوبه وهو قادر على الاستتار به، وصلى عريانًا" و "الستر" بفتح السين: التغطية وبكسرها: ما يُستر به، و "العورة" لغة: النقصان والشيء المستقبح، ومنه كلمة "عوراء" أي: قبيحة، وفي الشرع: القبل والدُّبُّر، وكل ما يُستحى منه - على ما يأتي تفصيله -

(35)

(فيجب)

(33)

مسألة: إذا بلغ صبي - مثلًا - في أول شهر رجب: فإنه تجب عليه جميع التكاليف ومنها الصلاة، وهو متيقن بهذا البلوغ، ولكنه في آخر هذا الشهر شك فيما صلاه من الصلوات، حيث صلى بعض الشهر دون بعضه الآخر: فإنه يجتهد ويقضي ما تيقن منه براءة ذمته من الفوائت التي لم يُصلِّها من ذلك الشهر؛ للتلازم؛ حيث إن تلك الفوائت وجبت عليه بيقين فاشتغلت ذمته فيها فيلزم من ذلك: قضاؤها؛ لأن ذمته لا تبرأ إلا بهذا.

(34)

مسألة: إذا لم يعلم الشخص متى بلغ فلا يدري هل بلغ في أول شهر رجب أو في منتصفه؟ ولم يعلم هل صلى بعد بلوغه أو لا؟: فإنه يقضي بداية من الفرض الذي تيقن بلوغه قبله دون المشكوك فيه، فمثلًا: لو شك في بلوغه من أول رجب، ولكنه متيقن بأنه كان بالغًا في منتصفه: فإنه يقضي الصلوات التي تركها من منتصف رجب دون الصلوات التي قبله؛ للتلازم؛ حيث إن الصلوات التي كانت بعد منتصف رجب مخاطبًا بها فوجبت عليه فانشغلت ذمته بها، فلا تبرا تلك الذمة إلا بقضائها، أما التي قبل نصف الشهر فلم يكن مخاطبًا بها؛ لكونه قد شك بها، والشك لا تبنى عليه الأحكام.

(35)

مسألة: في الثالث - من شروط صحة الصلاة - وهو: أن يستر عورته، أي: يُغطِّي الرجل والأمة ما بين السُّرَّة والركبة، وأن تغطي الحرة كل جسمها ما =

ص: 371

سترها حتى عن نفسه، وخلوة، وفي ظلمة وخارج الصلاة (بما لا يصف بشرتها) أي لون بشرة العورة من بياض، وسواد، لأن الستر إنما يحصل بذلك

(36)

ولا يُعتبر

= عدا الوجه - وسيأتي -، وعليه: فلا تصح صلاة العريان وهو قادر على السترة؛ للإجماع؛ حيث أجمع العلماء على أن من صلى عريانًا وهو قادر على ستر عورته: فصلاته فاسدة، فيلزم من ذلك: اشتراط ستر العورة للصلاة ومستند هذا الإجماع السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم فيمن لا يجد إلا ثوبًا -: "إن كان واسعًا فالتحف به، وإن كان ضيقًا فاتزر به" حيث أوجب الاتزار في الصلاة؛ حيث إن الأمر مطلق، فيقتضي الوجوب، ويلزم من وجوب الاتزار: وجوب ستر العورة؛ لأن الإزار هو ما يستر العورة، وترك الواجب حرام، فإن قلت: لم اشترط ستر العورة هنا؟ قلتُ: لأن كشف العورة مستقبح في العقول السليمة وتستقذره الأنفس الطبيعية، فاستقباح ذلك وهو يناجي خالقه أعظم واشد، فلا يليق به أن يقرأ كلمات خالقه، وأن يذكره وأن يدعوه وهو متبذِّل بكشف عورته كما لا يكون كذلك وهو: بحضرة السلاطين ونحوهم، ولله المثل الأعلى - تنبيه: قوله: "وفي الشرع: القُبُل والدُّبُّر وكل ما يستحى منه" قلتُ: هذا فيه نظر؛ فإن كان يقصد العورة المغلظة فنعم، وإن كان يقصد العورة شرعًا: فلا؛ حيث حددنا عورة الرجل والأمة، وعورة الحرة، وقوله:"وكل ما يُستحى منه" هذا غير منضبط؛ إذ بعضهم يستحي من بروز ساقه ونحو ذلك، وبعضهم: لا يستحي ولو ظهر كل شيء منه.

(36)

مسألة: يجب أن يستر عورته في الصلاة، حتى عن نفسه، أو كان في خلوة عن الناس، أو كان في ظلمة لا يراه أحد وذلك بشيء لا يصف لون بشرة العورة ولا يُعلم عنها هل هي بيضاء، أو سوداء، أو حمراء، وكذا: يجب ستر عورته وإن لم يكن في صلاة؛ للتلازم؛ حيث يلزم من اشتراط ستر العورة للصلاة: أن =

ص: 372

أن لا يصف حجم العضو؛ لأنه لا يمكن التحرز عنه،

(37)

ويكفي الستر بغير منسوج كورق وجلد ونبات،

(38)

ولا يجب ببارية وحصير، وحفيرة، وطين، وماء كدر لعدم؛ لأنه ليس بسترة،

(39)

ويباح كشفها لتداو وتخلٍّ ونحوهما، ولزوج وسيد

= يفعل ذلك، لأنه هذا هو حقيقة الستر الواجب، فإن قلتَ: لم وجب سترها ولو لم يكن في صلاة؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه محافظة على المسلمين من الفتنة التي هي سبب كل بلاء حصل في الأمة الإسلامية، فإن قلتَ: لم وجب الستر وإن كان يصلي وحده أو في ظُلْمة أو خلوة؟ قلتُ: لأنه لا يليق أن يناجي ربه وهو منكشف العورة، وللاحتياط لنفسه.

(37)

مسألة: لا يشترط في ستر العورة: أن لا يلبس شيئًا يصف حجم العضو، ويُبين تقاطيع أعضاء الجسم - فيُباح لبسه لذلك والصلاة فيه - دون أن يصف لونها -؛ لقاعدتين: الأولى: التلازم؛ حيث يلزم من وجود حقيقة ستر العورة: صحة الصلاة نظرًا لوجود شرطها، الثانية: المصلحة؛ حيث إن لبس ما يصف تقاطيع الأعضاء يصعب التحرز منه، فأبيح؛ دفعًا لذلك.

(38)

مسألة: لا يشترط في ستر العورة: أن يكون الساتر منسوجًا، بل يكفي الستر ولو بغير منسوج كورق شجر، أو جلد حيوان طاهر، أو نبات الحشيش، أو شعر طاهر ونحوه لكن بشرط: أن يتمكن من الركوع والسجود بدون انكشاف عورته؛ للتلازم؛ حيث إنه قد تحقق فيه ستر العورة: فيلزم منه صحة الصلاة؛ لوجود شرطه، فإن قلتَ: لم لا يُشترط ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه توسعة على المسلمين، فقد لا يجد كل أحد منسوجًا.

(39)

مسألة: إذا لم يجد شيئًا يستر به عورته من منسوج أو غيره مما لا تنكشف عورته فيه: فإنه يصلي عريانًا، وعليه: فلا يجب عليه أن يتكلَّف في السترة كأن يستر عورته بفراش مصنوع من القصب - وهو: البارية أو الحصير - أو يحفر =

ص: 373

وزوجة وأمة

(40)

(وعورة رجل) ومن بلغ عشرًا (وأمة وأم ولد) ومكاتبة، ومدَّبَّرة

= لنفسه حفرة يجعل نفسه فيها حتى تغطيه إلى السرَّة ويصلي أو يجعل على عورته طينًا رطبًا، أو ماء كدرًا ليغطيها به ويصلي، بل يترك كل ذلك لقاعدتين: الأولى: المصلحة؛ حيث إن ذلك قد يتسبب في إلحاق الأذى إلى نفسه فدفعًا لذلك لا يجب فعله ولا يستحب أيضًا؛ لأن الضرر يزال، ولا يؤتى به، الثانية: التلازم؛ حيث إنه لم تتحقق حقيقة ستر العورة؛ إذ تنكشف بعض العورة - إذا فعل ذلك - حين الركوع، أو السجود، ولا يسمى هذا عند العقلاء سترًا للعورة فلزم: عدم وجوب فعله؛ لأنه لا يحقق شرط الصلاة.

(40)

مسألة: يُباح أن يكشف المسلم عورته لزوجته ولأمته، وهما يكشفان عورتهما للزوج والسيد، ويكشفها هؤلاء للضرورة: كطبيبٍ مداو، أو لمن يختن، أو من يزيل شعر العانة إذا لم يحسن ذلك هو، أو لمعرفة بكارة أو ثيوبة، أو بلوغ، أو ولادة، أو عند الخلاء، أو غُسل، أو استنجاء أو استجمار، ويجوز لمن كُشفت له أن ينظر إليها ويلمسها إن احتاج إلى ذلك؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "احفظ عورتك إلا من زوجك أو ما ملكت يمينك" فدل على إباحة نظر الزوج لعورة زوجته، وبالعكس، ونظر السيد لعورة أمته وبالعكس؛ لأن الاستثناء من الإثبات نفي؛ حيث حرم كشف العورة من قولة:"احفظ عورتك" ثم نفى هذا التحريم فيما بين الزوجين والسيد وأمته وما ذكر من الصور مثله من باب "مفهوم الموافقة"، الثانية: المصلحة؛ حيث إن كشف العورة لمن ذكرنا فيه دفع مفسدة الأمراض ونحو ذلك، فأبيح وقُدِّم على ستر العورة هنا؛ لأن دفع المفسدة مقدم على جلب المصلحة.

ص: 374

(ومعتق بعضها) وحرَّة مميزة، ومراهقة (من السُّرَّة إلى الركبة) وليسا من العورة، وابن سبع إلى عشر: الفرجان

(41)

(وكل الحرة) البالغة (عورة إلا وجهها) فليس

(41)

مسألة: عورة الرجل البالغ، أو الصبي البالغ سبع سنين والصبية المميزة الحرة البالغة سبع سنين، أو الأمة، أو أم الولد - وهي التي ولدت من سيدها - أو المكاتية - وهي: التي اشترت نفسها من سيدها على أقساط - أو المدَّبَّرة - وهي: التي علق عتقها بموت سيدها، أو المبعضة، - وهي: التي بعضها حر وبعضها الآخر عبد -: من تحت السرة، إلى ما فوق الركبة، والسرة والركبة نفسهما ليسا من العورة فلو صلى هؤلاء وأول الفخذ أو ما تحت السرة ظاهر: فلا صحة لصلاتهم؛ لقواعد: الأولى: السنة القولية؛ وهي من وجهين: أولهما: قوله صلى الله عليه وسلم: "إن ما تحت السرة إلى الركبة عورة" فلزم منه: أن ما تحت السرة عورة، وأن السرة ليست بعورة وأن ما فوق عورة، ثانيهما: قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا زوج أحدكم عبده أو أمته أو أجيره فلا ينظر إلى شيء من عورتها؛ فإن ما تحت السرة إلى الركبة عورة" والمراد من ذلك الأمة؛ لأن العبد والأجير لا تختلف حالتهما بالتزوج وعدمه، وأم الولد، والمكاتبة، والمدبرة، والمبعضة كالأمة، لعدم الفارق بجامع: عدم الحرية الكاملة في كل من باب "مفهوم الموافقة"، الثانية: السنة الفعلية؛ "حيث إنه صلى الله عليه وسلم كان قاعدًا فكشف ركبته" وهذا يدل على عدم كونها عورة، إذ لو كانت الركبة عورة لما كشفها صلى الله عليه وسلم، ويدل عدم كشفه لما فوق الركبة على أنه عورة، الثالثة: القياس؛ بيانه: كما أن البالغ والأمة عورتهما من السرة إلى الركبة فكذلك من بلغ السابعة من ذكر أو أنثى أو خنثى بجامع التمييز في كل، فإن قلتَ: لم كان ذلك هو العورة عند هؤلاء بخلاف غيره؟ قلتُ: لأن هذا الموضع هو الذي يثير الفتنة غالبًا ولأنه يُستحى من إظهاره عادة، ولعدم المشقة في ستره، بخلاف ما تحت الركبة، أو فوق السرة فلا يثير الفتنة غالبًا، ولأنه يحتاج إلى إظهاره عند العمل أو المشي أو نحو ذلك، فإن قلتَ: لم =

ص: 375

عورة في الصلاة

(42)

(وتستحب صلاته في ثوبين) كالقميص والرداء، والإزار أو

= كان حكم الصبي البالغ سبعًا كحكم البالغ مع أنه خالٍ من البلية العظمى وهي الشهوة؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن من بلغ هذا السن قد ينظر إليه من في قلبه مرض بشهوة، فحرم إظهار ذلك؛ منعًا للفتنة، فإن قلتَ: لم كانت الصبية المراهقة البالغة سبع سنين حكمها كحكم البالغ في هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إنها في هذا السن تثير الفتنة، فوجب تغطية ذلك؛ دفعًا لذلك تنبيه: قوله: "ومن بلغ عشرًا" وقوله: "وابن سبع إلى عشر الفرجان" يقصد: القُبل والدُّبُّر، قلتُ: هذا فيه نظر؛ حيث إن الراجح: أن عورة ابن سبع إلى أن يبلغ: من ذكر أو أنثى أو خنثى من السرة إلى الركبة كما سبق. [فرع]: عورة من دون السابعة من ذكر أو أنثى أو خنثى: الفرجان وهما: القُبُل والدبر فقط، فلا بأس بظهور الفخذين؛ للتلازم؛ حيث يلزم من عدم تمييز مَنْ دون السابعة: أن لا حكم لعورته في العبادات ولا غيرها، فإن قلتَ: لم شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن الفرجين من غير المميز يثيران الفتنة عند بعض الناس فحُكم عليهما بأنهما عورة، أما غيرهما من حولهما فلا يثير الفتنة عادة، ويصعب التحرز من خروجه من الأطفال.

(42)

مسألة: المرأة البالغة الحرة كل بدنها عورة إلا وجهها في الصلاة، فلو صلَّت ووجهها فقط ظاهر: فصلاتها صحيحة، أما إن صلَّت وشيء من بدنها ظاهر - وهي تستطع ستره - فصلاتها باطلة؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم:"المرأة عورة" فوصف المرأة بأنها عورة، وهذا عام الجميع بدنها؛ لأن لفظ "المرأة" مفرد محلى بأل وهو من صيغ العموم، وإنما خصِّص الوجه وأبيح إظهاره في الصلاة نظرًا للمصلحة؛ حيث إن في إظهاره حماية لنفسها وغيرها مما يضرها عن طريق النظر والشم، وخُصَّ في الحديث الحرة؛ لأن عورة الأمة - وغيرها مما شابهها - عورتها من السرة إلى الركبة كما ثبت في قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا زوج =

ص: 376

السراويل مع القميص

(43)

(ويكفي ستر عورته) أي: عورة الرجل (في النفل و) ستر عورته (مع) جميع (أحد عاتقيه في الفرض) ولو بما يصف البشرة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:

= أحدكم

" - كما سبق في مسألة (41) - فلم تبق إلا الحرة البالغة؛ عملًا بما بقي بعد التخصيص؛ لأنه حجة فإن قلتَ: لم كانت المرأة الحرة كلها عورة بخلاف الأمة؟ قلتُ: لأن الحرة يتزوجها الرجل للاعفاف والاستيلاد والاستمتاع، فتأبى الشرائع والطبائع أن يسمح أحد بأن ينظر الأجانب إلى محلّ استمتاعه، وأن تبتذل، حفاظًا على شعور الزوج، ومنعًا لوقوع الفتنة، فتقع المعصية الكبرى وهي الزنا فتختلط الأنساب، وتتغير النفوس، وتضطرب الحياة، فلا يحصل بعد ذلك أي استقرار، بخلاف الأمة فإن السيد قد اشتراها أصلًا للخدمة، ولا يمكن أن تقوم بعملها على أكمل وجه إلا بإظهار ساقيها، ورأسها، فإن قلتَ: يباح أن تظهر المرأة كفيها وقدميها في الصلاة وهو قول بعض العلماء منهم ابن تيمية وابن عثيمين؛ للاستصحاب؛ حيث لا يوجد دليل يدل على أن الكفين والقدمين من العورة في الصلاة، وعدم الدليل: دليل على عدم الحكم بالمنع، قلتُ: هذا ضعيف؛ لأن عموم قوله صلى الله عليه وسلم: "المرأة عورة" عام لجميع بدن المرأة ويشمل الكفين، والقدمين وإنما أبيح إظهار الوجه في الصلاة؛ للمصلحة - كما سبق بيانه - بخلاف القدمين والكفين فلا حاجة لإظهارهما. فإن قلت: ما سبب الخلاف هنا؟ قلت: سببه: "تعارض الاستصحاب مع السنة" فعندنا: قُدِّمت السنة؛ لعمومها وهذا مُغيِّر للاستصحاب، وعندهم: الإبقاء على الاستصحاب.

(43)

مسألة: يُستحب أن يصلي الرجل في ثوبين كالقميص - وهو الساتر لجميع البدن - وسراويل، أو قميص وإزار ورداء؛ لقاعدتين: الأولى: قول الصحابي؛ حيث قال عمر: "إذا وسع الله عليكم فأوسعوا" وهذا عام فيشمل ما نحن فيه وهو: أن يصلي المسلم في ثوبين أو أكثر، الثانية: المصلحة؛ حيث إن ذلك أكمل في ستر العورة، وأحوط لدين المسلم.

ص: 377

"لا يصلي الرجل في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء" رواه الشيخان عن أبي هريرة

(44)

(و) تُستحب (صلاتها) أي: صلاة المرأة (في درع) وهو: القميص

(44)

مسألة: إذا صلى الرجل نافلة فيكفي أن يستر عورته - وهي: ما بين السرة والركبة - وتصح صلاته، أما إن كانت فريضة: فيجب أن يستر عورته ويستر أحد كتفيه إن كان قادرًا على ذلك، ولو كان ذلك يصف البشرة؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم:"لا يصلي الرجل في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء" فلا تصح صلاة لم يستر الرجل أحد كتفيه بثوبه فيها - إن كان قادرًا -؛ لأن النهي مطلق، وهو يقتضي التحريم والفساد، فإن قلتَ: لم وجب ستر أحد كتفيه؟ قلتُ: لأمرين: أولهما: أنه يأمن من انكشاف عورته عند الركوع أو السجود؛ لأن الكتف يُثبت الثوب، وهذا من باب:"ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب"، ثانيهما: أن ستر الكتفين أو أحدهما أقرب إلى الأدب والاحتشام والحياء مع الله تعالى، وهو موافق لأخذ الزينة المأمور بها في قوله تعالى:{خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} ، فإن قلتَ: لم لم يجب ذلك في النفل؟ قلتُ: لأن النافلة لو فسدت: فلا شيء عليه، ومن هنا: تساهل الشارع بالنوافل، فإن قلتَ: لم حُمِل لفظ "لا يصلي" الوارد في الحديث على صلاة الفرض دون النافلة؟ قلتُ: لأن لفظ "الصلاة" إذا أطلق فلا ينقدح في الذهن إلا صلاة الفرض؛ لأنها حقيقة شرعية ولا يُحمل على النافلة إلا بقرينة، فإن قلت: تصح الصلاة بدون ستر العاتقين أو أحدهما، وإن كان قادرًا وهو قول الجمهور؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم:"وإن كان ضيقًا فأتزر به" حيث أوجب الإتزار، وهو ستر العورة فقط، ولم يوجب ستر أحد الكتفين، قلتُ: هذا الحديث الذي ذكرتموه خاص في الشيء الضيق الذي لا يستر إلا العورة دون أن يقدر على ستر أحد الكتفين به، وهذا صحيح؛ لأن الواجب يسقط بالعجز عنه، أما إن كان قادرًا على ستر أحد الكتفين فيجب أن يستره، ولا تصح =

ص: 378

(وخمار) وهو: ما تضعه على رأسها وتديره تحت حلقها (وملحفة) أي: ثوب تلتحف به

(45)

وتكره صلاتها في نقاب وبرقع

(46)

(ويُجزيء) المرأة (ستر عورتها)

= صلاته بدون ذلك؛ لكونه ترك واجبًا قادرًا عليه عمدًا، وهذا طريق الجمع بين ما ذكروه من الحديث، وحديثنا الموجب لستر أحد الكتفين، فإن قلت: لم أكتفي بما يصف البشرة في العاتقين؟ قلتُ: لأن ما فوق السرة ليس بعورة فلا يضر إن وصف لون البشرة؛ لعدم إثارته للفتنة فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلت: سببه: "تعارض السنتين" فعندنا: يصح الجميع بينهما، وعندهم: لا ..

(45)

مسألة: يُستحب للمرأة الحرَّة أن تصلي بثلاثة أشياء: "درع" و "خمار" و و "ملحفة أو عباءة أو جلباب" وإن لم تلبس سروالًا؛ لقول الصحابي؛ حيث إن عائشة قالت: "تلبس المرأة في الصلاة ثلاثة أثواب إذا وجدتها: الخمار، والجلباب، والدرع" وروي ذلك عن عمر وابنه، فإن قلت: لم استحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك أكد في سترها، وأحوط لها من أن يظهر منها شيء أثناء الركوع أو السجود، فائدة:"الدرع" هو: القميص الشامل للبدن كله، أما "الخمار" فهو: ما يستر جميع رأسها ويُلف طرف منه تحت حلقها وتوصله برأسها، أما "الملحفة" فهي: كل ما تلتحف به المرأة من شدة برد أو حر وهو كالعباءة، والجلباب.

(46)

مسألة: يكره أن تصلي المرأة بنقاب وبرقع؛ للقياس؛ بيانه: كما يكره أن يصلي الرجل وهو قد غطى فمه فكذلك المرأة يُكره لها أن تصلي بنقاب وبرقع؛ لأنه يلزم منهما تغطية الفم؛ لأن "النقاب" هو: تغطية نصف الوجه: الأنف وما تحته، "والبرقع" هو تغطية جميع الوجه إلا موضع العينين، فإن قلت: لم كره ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن كشف الوجه فيه مصلحة النظر والشم فتأخذ حذرها مما حولها، بخلاف التنقب والتبرقع.

ص: 379

في فرض ونفل

(47)

(ومن انكشف بعض عورته) في الصلاة: رجلًا كان أو امرأة (وفحش) عرفًا وطال الزمن: أعاد، وإن قصر الزمان، أو لم يفحش المكشوف ولو طال الزمن: لم يُعِد إن لم يتعمَّده

(48)

(أو صلى في ثوب محرم عليه) كمغصوب كله،

(47)

مسألة: إذا صلت المرأة وهي ساترة لعورتها - وهي جميع بدنها إلا وجهها - بثوب واحد: فصلاتها صحيحة: سواء كانت الصلاة فرضًا أو نفلًا؛ للتلازم؛ حيث يلزم من تحقق شرط الصلاة - وهو: ستر العورة -: صحتها - إذا توفرت الشروط الأخرى -، فإن قلتَ: لمَ شرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه توسعة على المسلمات، إذ ليس كل مسلمة تجد ثلاثة أثواب: درع، وخمار، وملحفة.

(48)

مسألة: إذا انكشف بعض العورة - للرجل أو المرأة - أثناء الصلاة بلا تعمد فإن تلك الصلاة تبطل إن كان المنكشف منها كثيرًا كنصف الفخذ مثلًا من الرجل، أو الساق من المرأة وطال زمن هذا الانكشاف بان استمر دقائق، أما إن كان الانكشاف قليلًا كظهور جزء مما فوق الركبة من الرجل، أو جزء من القدم، أو أسفل الساق من المرأة، أو بعض شعرها وإن طال زمنه، أو كان الانكشاف كثيرًا، وقصُر زمنه بأن كان ثانية أو قريبًا منها: فإن الصلاة صحيحة، أما إن تعمد إظهار بعض عورته: فالصلاة باطلة مطلقًا: أي سواء كثر أو لا، طال زمنه أو لا؟ لقاعدتين؛ الأولى: القياس؛ بيانه: كما أن النجاسة الخارجة من غير السبيلين كالدم والقيء من غير قصد تنقض الوضوء إن كانت كثيرة، ولا تنقضه إن كانت قليلة، أما إن كان ذلك عن عمد: فتنقضه مطلقًا، فكذلك ظهور بعض العورة مثل ذلك، والجامع: أن كلًّا منهما فيه إخلال بشرط من شروط الصلاة، الثانية: المصلحة؛ حيث إنه يصعب الاحتراز من ظهور قليل من العورة بسبب رياح ونحوها، أو ظهور كثير مع قصر زمنه فدفعًا لمشقة منع ذلك: تسامح الشارع فيه كما تسامح في أثر النجاسة بعد الاستجمار؛ لمشقة إزالته؛ لعموم البلوى فيه، تنبيه: قدر الكثير والقليل من الزمن، ومقدار الانكشاف يُعرف عن طريق المتوسطين من عقلاء الرجال، ولا يُعرف من المتشددين ولا من المتساهلين.

ص: 380

أو بعضه، وحرير ومنسوج بذهب أو فضة إن كان رجلًا واجدًا غيره وصلى فيه عالمًا ذاكرًا: أعاد، وكذا: إذا صلى في مكان غصب

(49)

(أو) صلى في ثوب (نجس: أعاد) ولو لعدم غيره

(50)

(لا من حُبس في محلٍّ) غصب أو (نجس)، ويركع ويسجد

(49)

مسألة: لا تصح الصلاة في ثوب محرم عليه كأن يكون مغصوبًا، أو مسروقًا، ولا على موضع مغصوب كدار مغصوبة، ولا في ثوب حرير أو منسوج بذهب أو فضة، أو كان بعض ذلك محرمًا، فإن فعل فيجب عليه إعادتها هذا إذا كان عالمًا بالتحريم ذاكرًا له، واجدًا ثوبًا وموضعًا آخر مباحًا، أما إن كان جاهلًا بالحكم، أو لا يجد إلا هذا الثوب أو الموضع المحرم: فتجزيء صلاته في الثوب والموضع، لقاعدتين: الأولى: التلازم؛ حيث إنه قد عصى بصلاته بالثوب والموضع المحرمين، آثم بفعلها فيهما؛ لكون حركاته من قيام وركوع وسجود اختيارية واقعة في شيء محرم عليه، ولا يتصوَّر أن يكون ذلك طاعة متقربًا بها إلى الله تعالى، لوقوعها في شيء وعلى شيء محرم، والمعصية لا يمكن أن تكون طاعة فلزم بطلانها، الثانية: المصلحة؛ حيث إن القول بصحة الصلاة بالدور المغصوبة أو الأثواب المغصوبة سيؤدي إلى كثرة الغصب والسرقة ما دام أن العبادات تصح فيها مما يفضِي إلى انتشار الظلم، فدفعًا لهذه المفسدة: قلنا: لا تصح الصلوات فيها إذا وجد غيرها أما إن لم يجد غيرها أو كان جاهلًا بالتحريم وإفساد صلاته فهو مضطر إليها كأكل الميتة، ومعذور بجهله، والمضطر والمعذور يسقط عنهما ذلك.

(50)

مسألة: لا تصح الصلاة في ثوب قد وقع عليه نجاسة لا يعفى عنها كبعض بول أو غائط وإذا صلى بذلك: فتجب إعادتها إن كان واجدًا لطاهر، أما إن لم يجد: فإنه يصلي بالنجس ولا يصلي عريانًا؛ للتلازم؛ حيث يلزم من اشتراط الطهارة للصلاة: أن لا تصح بثوب نجس إذا وجد طاهرًا؛ لفقدان شرطها، ويلزم من عدم وجدان غير هذا الثوب النجس: صحّة الصلاة به؛ لأن ستر =

ص: 381

إن كانت النجاسة يابسة، ويوميء برطبه غاية ما يمكنه ويجلس على قدميه، ويصلي عريانًا مع ثوب مغصوب لم يجد غيره وفي حرير ونحوه؛ لعدم غيره

(51)

، ولا يصح نفل آبق

(52)

(ومن وجد كفاية عورته: سترها) وجوبًا وترك غيرها؛ لأن سترها

العورة من حق الآدمي في الصلاة وغيرها؛ لوجوب الستر عمومًا، فيكون الستر آكد من إزالة النجاسة؛ لأن العام مقدم على الخاص، ولأن دفع المفسدة من فتنة كشف العورة مقدم على جلب المصلحة من الصلاة بثوب طاهر، تنبيه: قوله: "ولو لعدم غيره" هذا مرجوح؛ للمصلحة؛ كما قلنا.

(51)

مسألة: إذا حبس في موضع نَجِس أو مغصوب أو مسروق لا يقدر على الخروج منه إلا بضرر يلحقه: فإنه يصلي فيه وتصح صلاته بلا إثم، وطريقتها: أن يصلي الصلاة العادية إن كان المحبوس فيه نجاسته يابسة، أما إن كانت رطبة: فإنه يقف ويركع، ويجلس على قدميه، ويوميء للسجود على حسب قدرته، ولا يسجد على الأرض، ولا يجلس الجلسة العادية للصلاة؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم:"إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" وهذا آخر ما يستطيعه هذا المصلي فيجب عليه فعله، ويسقط الباقي؛ للعجز عنه، وهو عام لما نحن فيه ولغيره؛ لأن "ما" موصولة وهو من صيغ العموم، وهذا فيه دفع للمفسدة عنه، وهو المقصد الشرعي منه، تنبيه: قوله: "ويصلي عرينًا" إلي قوله: "لعدم غيره" قد سبق بيان أنه لا يصلي عريانًا، بل يصلي بالثوب وإن كان نجسًا أو حرامًا إذا لم يجد غيره وذلك في مسألتي (49 و 50).

(52)

مسألة: إذا هرب العبد من سيده: فإن صلاته الفرض أثناء هربه: تصح، أما صلاته النفل: فلا تصح؛ للتلازم؛ حيث إن زمن صلاة الفرض مشروط شرعًا حين شراء السيد لهذا العبد حيث إنه يصليها سواء رضي السيد أو لا فيلزم من ذلك صحة صلاة الفرض مطلقًا، أما النفل فلا بدَّ أن يأذن له السيد ويعطيه =

ص: 382

واجب في غير الصلاة: ففيها أولى (وإلا) يجد ما يسترها كلها بل بعضها: (فـ) ليستر (الفرجين)؛ لأنهما أفحش (فإن لم يكفهما) وكفى أحدهما: (فالدُّبُّر) أولى؛ لأنه ينفرج في الركوع والسجود إلا إذا كفت منكبه وعجزه فقط، فيسترهما ويصلي جالسًا

(53)

، ويلزم العريان تحصيل السترة بثمن أو أجرة مثلها أو زائد يسيرًا (وإن

وقتًا له، وهذا مشروط شرعًا وعرفًا عند شراء العبد، فيلزم عدم صحة صلاة العبد الهارب للنفل؛ لأنه صلى في زمن لم يأذن فيه سيده، فيكون قد صلى في زمن مغصوب، [فرع]: الموظفون في الدولة أو المؤسسات أو غيرها لا تصح صلاتهم النفل ولا صيامهم في وقت دوامهم؛ للمصلحة؛ حيث إن الوقت الذي صلوا فيه، أو صاموا فيه النفل وقت مغصوب ومسروق ممن يشتغلون عندهم فيلزم: عدم صحّة ذلك إلا إذا أُذن لهم، وهذا فيه دفع مفسدة ترك بعض من يظهر الطاعة لعملهم بسبب ادِّعائه بفعل النوافل - وما أكثرهم -.

(53)

مسألة: إذا لم يجد ما يستر كل العورة: فيجب أن يستر الفرجين: الدبر والقُبُل، فإن لم تكف السترة لهما: فيجب أن يستر بها الدبر فقط، وإن كفت السترة منكبيه وعجزته: سترهما وصلى جالسًا؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" وهذا عام كما سبق، فيشمل ما نحن فيه، وهذا منتهى ما يقدر عليه فوجب، ويسقط الباقي؛ للعجز عنه، فإن قلتَ: لمَ يفعل ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تقديم أخف المفسدتين على أثقلهما، ولذا: قُدِّم ستر الدبر؛ لأنه أفحش الفرجين؛ لكونه ينفتح عند الركوع والسجود، وقُدِّم القبل والدبر؛ لكونهما العورة المغلَّظة، بخلاف الفخذين، وقُدم ستر العورة على ستر أحد العاتقين؛ لكونها أفحش من الكتفين والعاتقين ولأن ستر العورة واجب بالاتفاق، وستر أحد العاتقين اختلف العلماء في وجوبه، واستحبَّت الصلاة جالسًا؛ لتقليل ما يظهر من العورة.

ص: 383

أعير سترة لزمه قبولها)؛ لأنه قادر على ستر عورته بلا ضرر فيه

(54)

بخلاف الهبة؛ للمنَّة، ولا يلزمه استعارتها

(55)

(ويصلي العاري) العاجز عن تحصيلها (قاعدًا) ولا يتربَّع، بل ينضام (بالإيماء استحبابًا فيهما) أي: في القعود والإيماء بالركوع والسجود، فلو صلى قائمًا وركع وسجد: جاز

(56)

(ويكون إمامهم) أي: إمام

(54)

مسألة: يجب على الشخص أن يُحصِّل سترة يستر بها عورته بشراء أو استئجار، أو أخذها من شخص أعارها إياه، وهذا مطلق، سواء كان ثمن شرائها مثل ثمن مثلها، أو أزيد قليلًا وكذلك الأجرة بشرط: أن يكون هذا الثمن فاضلًا عن حاجته، للتلازم؛ حيث يلزم من قدرته على تحقيق السترة: وجوب توفيرها وتحصيلها، فإن صلى عريانًا وهو قادر على تحصيلها بدون ضرر: فلا تصح صلاته؛ لكونه ترك واجبًا عمدًا وبدون ضرر.

(55)

مسألة: إذا وهب شخص عريانا ثوبًا يستر به عورته في الصلاة: فإنه لا يلزمه أن يقبله، ويصلي عريانًا، وكذا: لا يذهب إلى أحد ليستعير منه ثوبًا لذلك؛ للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه منَّة عليه عادة، والمنة مفسدة، فدفعًا لذلك: شرع هذا، فإن قلتَ: لمَ وجب عليه أخذ السترة إذا أعارها إياه أحد دون الهبة؟ قلتُ: لأن العارية: إعطاء للمنفعة دون العين، فلا ضرر في ذلك غالبًا، أما الهبة فهي: تمليك للعين ومنافعها فوجد ضرر من منَّةٍ وغيرها غالبًا، فافترقا.

(56)

مسألة: يصلي العريان العاجز عن السترة كالصلاة العادية: بقيام وركوع وجلوس وسجود إن غلب على ظنه عدم وجود أحد حوله، ولكن يُستحب أن يصلي قاعدًا، ويضم بعضه على بعض ولا يتربَّع في القعود، ويوميء للقيام والركوع والسجود، للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم:"صل قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا" وهذا يستطيع القيام فيجب أن يفعله إذا لم يوجد حوله أحد، لكن يستحب أن يصلي قاعدًا؛ لكونه أشد في ستر العورة؛ لحرص الشارع على ستر العورة عمومًا، وفي الصلاة خصوصًا.

ص: 384

العراة (وسطهم) أي: بينهم وجوبًا ما لم يكونوا عميًا أو في ظلمة

(57)

(ويصلِّي كل نوع) من رجال ونساء (وحده) لأنفسهم إن اتسع محلهم (فإن شقَّ) ذلك: (صلى الرجال واستدبرهم النساء ثُم عكسوا) فصلى النساء واستدبرهن الرجال

(58)

(فإن وجد) المصلي عريانًا (سترة قريبة) عرفًا (في أثناء الصلاة: ستر) بها عورته (وبنى) على ما مضى من صلاته (وإلا) يجدها قريبة، بل وجدها بعيدة:(ابتدأ) الصلاة بعد ستر عورته

(59)

، وكذا: من عتقت فيها واحتاجت

(57)

مسألة: إذا وجدت مجموعة من الرجال العراة وأردوا الصلاة جماعة وكانوا مبصرين أو بعضهم وليسوا في ظلمة: فيجب أن يكون إمامهم وسطهم، وأن يكونا صفًا واحدًا وأن يصلوا قعودًا ويومئون للركوع والسجود، أما إن كانوا عميانًا أو في ظلمة: فإنهم يصلون الصلاة العادية - إن غلب على ظنهم عدم وجود أحد ينظر إليهم -؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" وهذا عام، فيشمل ما نحن فيه، وهذا نهاية ما يستطيعون في ستر عوراتهم، فتجب، والباقي يسقط؛ للعجز عنه، وهذا فيه دفع مفسدة.

(58)

مسألة: إذا اجتمع رجال ونساء عراة: فإن الرجال يُصلُّون في جهة لا تراهم النساء، والنساء يصلِّين في جهة لا يراهن الرجال، هذا إن كان المكان واسعًا، أما إن كان المكان ضيقًا؛ فإن الرجال يصلون وحدهم نحو القبلة، وتكون ظهور النساء متجهة إلى القبلة، فإذا فرغ الرجال تصلي النساء نحو القبلة، وظهور الرجال متجهة نحو القبلة؛ للسنة القولية؛ وهو قوله صلى الله عليه وسلم:"إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" وهذا غاية ما يستطيعون من ستر عوراتهم فيجب.

(59)

مسألة: إذا صلى شخص عريانًا - لعدم وجود السترة عنده - وفي أثناء صلاته رأى ثوبًا فيجب أن يأخذه ويستر به عورته إن كان قريبًا لا يحتاج إلى فعل أو زمن طويلين، ويستمر في صلاته دون قطعها، أما إن كانت تلك السترة بعيدة =

ص: 385

إليها

(60)

(ويُكره في الصلاة السَّدل) وهو: طرح ثوب على كتفيه ولا يرد طرفه

تحتاج إلى فعل أو زمن طويلين: فإنه يقطع صلاته، ويأخذ تلك السترة، ويستر عورته بها، ثم يستأنف صلاته ويعيدها؛ للتلازم؛ حيث يلزم من وجود السترة أثناء صلاته: وجوب أخذها وستر عورته بها، لتوفر شرط الصلاة ويلزم من قربها وعدم الحركة الكثيرة أو الزمن الكثير في الصلاة: عدم قطع ذلك للصلاة؛ لوجود الموالاة فيها، ويلزم من بعدها مما يتسبَّب في حركة وزمن طويلين: بطلان الصلاة؛ لعدم وجود الموالاة، ويلزم من بطلانها: وجوب استئنافها.

(60)

مسألة: إذا شرعت الأمَة في الصلاة وهي مكشوفة الرأس والساقين -؛ لكون عورتها كعورة الرجل: من السرة إلى الركبة كما سبق في مسألة (41) - ثم قال لها سيدها أثناء صلاتها: "أنتِ حُرَّة" أو "أعتقتك": فإنها في هذه الحالة تكون عورتها كعورة المرأة الحرة - جميع بدنها إلا وجهها - ففي هذه الحالة: إن وجدت سترة قريبة يمكنها أخذها بدون حركة كثيرة ولا زمن طويل: فإنها تستر بها جميع بدنها وتستمر في صلاتها دون قطعها، وإن كانت السترة بعيدة تحتاج إلى حركة كثيرة وزمن طويل: فإنها تقطع صلاتها، وتستر بدنها ثم تستأنف الصلاة من جديد؛ للتلازم؛ وقد بيناه في مسألة (59)، فإن قلتَ: لمَ صحَّ ما مضى من صلاة العريان الواجد سترة قريبة كما في مسألة (59)، وصح ما مضى من صلاة الأمة قبل عتقها في هذه المسألة أنهما صليا وعورتهما مكشوفة؟ قلتُ: لأنهما فعلا ما لهما فعله من الصلاة؛ حيث إنه يُشرع للعريان الصلاة على حاله إذا لم يجد سترة فلما وجدها تغيَّر الحكم، وكذا الأمة يشرع لها الصلاة وهي مكشوفة، فلما عتقت تغيَّر الحكم. [فرع]: إذا فرغ العريان من صلاته: فوجد سترة: فإن صلاته صحيحة، ولا يعيدها بالسترة وكذا: الأمة التي عتقت بعد فراغها من صلاتها، لا تعيد صلاتها بسترة الحرة؛ حيث إنها =

ص: 386

الآخر

(61)

(و) ويُكره فيها (اشتمال الصَّماء) بأن يضطبع بثوب ليس عليه غيره، و "الاضطباع": أن يجعل وسط الرداء تحت عاتقه الأيمن، وطرفيه على عاتقه الأيسر، فإن كان تحته ثوب غيره: لم يُكره

(62)

(و) يُكره في الصلاة (تغطية وجهه واللثام على فمه وأنفه) بلا سبب؛ "لنهيه صلى الله عليه وسلم أن يغطي الرجل فاه" رواه أبو داود، وفي

صحيحة؛ للقياس؛ بيانه: كما أن فاقد الطهورين - وهو: فاقد الماء والتراب - يصلي على حسب حاله ولا يعيد تلك الصلاة وإن وجدهما أو أحدهما بعد فراغه منها، فكذلك فاقد السترة، لعورته، إذا وجدها، أو أعتقت الأمة بعد صلاتهما والجامع: أن كلًّا منهما قد فعل ما له فعله شرعًا لما فقد شرطًا من شروط الصلاة؛ حيث يسقط الواجب والشرط بالعجز عنه.

(61)

مسألة: يُكره السَّدل في الصلاة - وهو: جعل الرداء أو الثوب على الكتفين دون أن يرد أحد طرفيه على كتفه الآخر -؛ للسنة القولية؛ حيث "نهى صلى الله عليه وسلم عن السدل" وقول الصحابي صرف هذا النهي من التحريم إلى الكراهية؛ حيث ثبت عن جابر وابن عمر أنهما رخَّصا في السَّدل، فإن قلتَ: لمَ كره السَّدل؟ قلتُ: لأنه يقرب من لبسة العابث، ويؤدي إلى انكشاف بعض الكتفين وما حول السرة.

(62)

مسألة: يُكره في الصلاة اشتمال لبسة الصَّماء - وهو: أن يجعل وسط الرداء تحت كتفه الأيمن وهو الإبط، ويجعل طرفي الرداء فوق كتفه الأيسر - هذا إذا لم يوجد عليه إلا رداء واحد، فأما إن كان عليه غيره: فلا يكره؛ للسنة القولية؛ حيث "نهى صلى الله عليه وسلم عن اشتمال الصماء في الصلاة" وصرفت المصلحة هذا النهي من التحريم إلى الكراهية؛ حيث إن هذه اللبسة، يُحتمل أن تؤدي على انكشاف عورته، فنظرًا لهذا الاحتمال البعيد: كُرِه شرعًا هذا اللباس، ويؤيد ذلك: أنه إذا كان عليه لباس آخر داخلي فلا تكره هذه اللبسة؛ للقطع بالستر.

ص: 387

تغطية الفم: تشبُّه بفعل المجوس عند عبادتهم النيران

(63)

(و) ويكره فيها (كفُّ كمه) أي: أن يكفه عن السجود معه (ولفُّه) أي: لف كمه بلا سبب؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "ولا أكفُّ شعرًا ولا ثوبًا" متفق عليه

(64)

(و) يُكره فيها (شدُّ وسطه كزنَّار) أي: بما يُشبه شدَّ الزنَّار؛ لما فيه من التَّشبُّه بأهل الكتاب، وفي الحديث:"من تشبَّه بقوم فهو منهم" رواه أحمد وغيره بإسناد صحيح

(65)

، ويُكره للمرأة شد وسطها في الصلاة مطلقًا،

(63)

مسألة: يُكره أن يغطي المصلي وجهه، أو فمه، أو أنفه لغير حاجة كوجود زكام أو ريح فإن وجد أحدهما أو نحوهما: فلا يكره؛ للسنة القولية؛ وهو من وجهين: أولهما: "نهى صلى الله عليه وسلم أن يغطي الرجل فاه"، ثانيهما: أنه صلى الله عليه وسلم "نهى عن التشبه بالكفار" وتغطية الفم والأنف فيه تشبه بالمجوس عند عبادتهم للنار، فإن قلتَ: لمَ كان ذلك مكروهًا مع أن النهي مطلق؟ قلتُ: لأن ذلك لم يؤثِّر على شروط وأركان وواجبات الصلاة وكونه يُشبه العبث لزم منه أنه للكراهة، فإن قلتَ: لمَ لا يُكره ذلك عند وجود حاجة؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه مراعاة لظروف وأحوال الناس.

(64)

مسألة: يُكره أن يكف المصلي كمه وجعله بالقرب من عضده وكذا: يُكره كف شعره وثوبه ورفعه؛ لئلا يقع في الأرض عند السجود بلا سبب، لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أسجد على سبعة أعظم ولا أكف شعرًا ولا ثوبًا" وهذا النفي بمنزلة النهي وهو يفيد الكراهة؛ إذ لا يؤثر هذا الفعل على شروط وأركان وواجبات الصلاة وكونه يشبه العبث لزم منه أنه للكراهة، الثانية: المصلحة؛ حيث إن سجود المسلم بدون كف شيء أكثر خضوعًا وتذلُّلًا فيكون بذلك أكثر أجرًا، فكُره هذا الكف؛ لتسبُّبه في نقص الأجر.

(65)

مسألة: يُكره أن يشد المصلي وسطه بخيط يشبه الزنار، ويُرخي طرفًا منه على الأرض؛ للتلازم؛ حيث يلزم من فعله هذا التشبه بالكفار، وقد حذَّر صلى الله عليه وسلم من التشبه بهم بقوله:"من تشبه بقوم فهو منهم"، فإن قلتَ: لمَ كُره ذلك؟ قلتُ: =

ص: 388

ولا يُكره للرجل بما لا يشبه الزنَّار

(66)

(وتحرم الخيلاء في ثوب وغيره) في الصلاة وخارجها في غير الحرب؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "من جرَّ ثوبه خُيلاء: لم ينظر الله إليه" متفق عليه

(67)

، ويجوز الإسبال من غير الخيلاء،

للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه سدٌّ للذرائع؛ حيث إن هذا التشبه بهم قد يكون بسبب الإعجاب بهم، وقد يؤدي هذا إلى الإعجاب بدينهم فكُره من أجل ذلك الاحتمال.

(66)

مسألة: لا يكره أن يشد الرجل المصلي وسطه بشيء لا يشبه الزنار، أو لم يقصد التشبه بالكفار؛ لفعل الصحابي؛ حيث إن ابن عمر قد فعل ذلك، فإن قلتَ: لمَ لا يكره ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تقوية المسلم على الصلاة، والصبر على الجوع عند بعضهم. [فرع]: يكره للمرأة أن تشد وسطها أثناء الصلاة مطلقًا، أي سواء كانت قصدت التشبه بالكفار أو لا؛ للمصلحة؛ حيث إن هذا يؤدي إلى بيان تقاطيع جسمها، والمطلوب من المرأة المبالغة في الستر.

(67)

مسألة: يحرم على المسلم أن يلبس، أو يركب شيئا أو يسكن في شيء، أو يسعى لمنصب فيه خيلاء، وتباهي، وتعاظم، وتفاخر على الآخرين: كثوب أو عباءة، أو خاتم، أو سيارة، أو منزل أو منصب أو نحو ذلك؛ وذلك في الصلاة أو خارجها؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم:"من جرَّ ثوبه؛ خُيلاء: لم ينظر الله إليه" وقال صلى الله عليه وسلم: "من لبس لباس شهرة فلن يجد ريح الجنة" فحرَّم لبس الثوب وأي لباس؛ ليتفاخر فيه ويباهي به الآخرين والمركوب، والسكن، والسعي للمناصب، لأجل التباهي مثل اللباس في التحريم؛ لعدم الفارق بجامع: التفاخر والتباهي على المسلمين، وكسر قلوب المساكين من باب مفهوم الموافقة، فإن قلتَ: لمَ حُرم ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن هذا المتفاخر بهذه الأمور أعجب بنفسه إلى درجة أنه قد تخيَّل بسبب التخلف العقلي الذي يعاني =

ص: 389

للحاجة

(68)

(و) يحرم (التصوير) أي: على صورة حيوان؛ لحديث الترمذي

منه أنه أعلى من الخلق؛ لذلك تجده - والعياذ بالله - يستعمل شتى طرق النفاق من إقامته للولائم ودعوته للمسؤولين، وإهدائهم الهدايا الثمينة والتملق لهم بشتى أنواعه؛ لأجل تولي أي منصب؛ ليُري الناس أنه عظيم وأن المناصب ينبغي أن تكون له لا لغيره وهذا يؤدي إلى المهالك، والأمراض المستعصية والعذاب الأليم في الآخرة؛ نظرًا لاحتقاره لمن هم أحسن منه بآلاف المرات: دينًا وخلقًا وعلمًا وأمانةً وإخلاصًا، لذلك حُرِّم الخيلاء بأي شكل؛ والسعي لهذه الأمور. [فرع]: يباح للمسلم أن يلبس لباس الخيلاء، وأن يمشي مشيتها في حالة الحرب؛ للسنة القولية؛ حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم قال - لما رأى رجلًا يمشي بين الصفين في غزوة ويختال -:"إنها لمشية يبغضها الله إلا في هذا الموطن"، فنفى بغض تلك المشية في هذا الموقف، وهذا يدل على إباحتها؛ لأن الاستثناء من الإثبات: نفي، فإن قلتَ: لمَ أُبيح ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تخويف للعدو وإنزال الرعب في قلبه، وهذا من أسباب هزيمته ونصر المسلمين.

(68)

مسألة: يحرم الإسبال؛ للخيلاء والتباهي - وهو: أن يلبس ما زاد عن المعتاد في الطول والسعة - وذلك في الصلاة وخارجها، أما إذا لم يقصد الخيلاء والتباهي، بل فعل ذلك لحاجة كتغطيته قدمًا قبيحًا أو نحو ذلك: فيُباح الإسبال؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار" فحرَّم الإسبال هنا؛ لأن ما أسفل الكعبين من الثوب قد زاد عن المعتاد في اللباس فيحرَّم وهذا عام قد خصَّصته السنة القولية وهي قوله صلى الله عليه وسلم: "من جرَّ ثوبه خيلاء: لم ينظر الله إليه" فحصَّص التحريم بمن يجر ثوبه قاصدًا الخيلاء والتفاخر، يؤيده ما ورد أن أبا بكر قال للنبي صلى الله عليه وسلم:"إن أحد شقيِّ إزاري يسترخي إلا أن أتعاهد ذلك منه" فقال صلى الله عليه وسلم: "إنك لست ممن يفعل ذلك =

ص: 390

وصححه: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصورة في البيت وإن تُصنع"

(69)

، وإن أزيل من الصورة ما لا تبقى معه حياة: لم يُكره

(70)

(و) يُحرَّم (استعماله) أي: المصوَّر على الذكر والأنثى في لبس وتعليق، وستر جدر، لا افتراشه وجعله مخدًّا

(71)

خيلاء"، فإن قلتَ: لمَ أبيح الإسبال لمن لم يقصد الخيلاء؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه توسعة على الناس وهذا واضح.

(69)

مسألة: يُحرَّم تصوير ما فيه نفس كالإنسان والحيوان - وهو: أن ينحته ويُحوِّله إلى تمثال وشكل وصورة -؛ للسنة القولية؛ حيث "نهى صلى الله عليه وسلم عن الصورة في البيت وأن تصنع" والنهي مطلق، فيقتضي التحريم، فإن قلتَ: لمَ حُرِم ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن هذا التصوير قد يؤدي إلى تعظيم أصحابها فتُعبد؛ لأن غالب شرك الأمم السابقة كان سببه التصوير؛ فسدًا للذرائع: حُرِّم. [فرع]: يُباح تصوير ونحت ورسم ونقش ما لا نفس له ولا روح كالأشجار والجبال ونحو ذلك؛ لقول الصحابي؛ حيث قال ابن عباس: "فإن كنت فاعلًا فاجعل الشجر وما لا نفس له"، وهذا لكونه لا يؤدي إلى التعظيم.

(70)

مسألة: إذا أزيل من صورة ما فيه نفس شيء لا تبقى معه حياة - كما لو أزيل من الحي رأسه، أو قطع نصف جسمه من تحت -: فيُباح بلا كراهية؛ لقول الصحابي؛ حيث قال ابن عباس: "الصورة: الرأس؛ فإذا قطع الرأس فليس بصورة"، وقطع نصف الجسم كقطع الرأس؛ لعدم الفارق بجامع: عدم الحياة، فإن قلتَ: لمَ أبيح ذلك؟ قلتُ: لأن قطع ذلك يُفسد الصورة، فلا تُعظَّم عادة.

(71)

مسألة: يُحرَّم على المسلم أن يستعمل الصور في لباس أو تعليق على حائط، أو ستر جدران أو جعلها في سيارة إلا إذا قُطِّعت ومزِّقت وجُعلت فرشًا أو كُسيت بها المخدات والوسائد فهذا مباح استعماله فيه؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "لا تدخل الملائكة بيتًا فيه كلب أو صورة"، ويلزم من عدم دخول الملائكة البيت: عقوبة صاحب البيت، ولا يُعاقب إلا =

ص: 391

(ويحرم) على الذكر (استعمال منسوج) بذهب أو فضة (أو) استعمال (مموَّه بذهب أو فضة) - غير ما يأتي في الزكاة من أنواع الحلي - (قبل استحالته) فإن تغير لونه، ولم يحصل منه شيء بعرضه على النار: لم يحرم؛ لعدم السرف والخيلاء (و) تحرم (ثياب حرير و) يحرم (ما) أي: ثوب (هو) أي: الحرير (أكثره ظهورًا) مما نسج معه (على الذكور) والخناثي، دون النساء لبسًا بلا حاجة، وافتراشًا، واستنادًا، وتعليقًا وكتابة مهر، وستر جُدُر - غير الكعبة المشرفة -؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"لا تلبسوا الحرير؛ فإن من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة" متفق عليه

(72)

، وإذا فُرش فوقه حائلًا

على فعل محرم، فيكون استعمال الصورة في البيت أو في أي شيء حرامًا، الثانية: التلازم؛ حيث يلزم من تقطيع الصور: إهانتها وذهاب معالمها، فانتفى تعظيمها الذي حرم التصوير من أجله، تنبيه: قوله: "لا افتراشه ولا جعله مخدًا" قلتُ: هذا فيه تساهل؛ لأن افتراش ما فيه صور أو أن يجعل مخدَّات ووسائد يؤدي إلى المحذور، وهو تعظيمها، أو التذكر بأصحابها، وهذا مخالف لعموم قوله صلى الله عليه وسلم:"لا تدخل الملائكة بيتًا فيه كلب وصورة" حيث إن هذا شامل لجميع ما في البيت من فرش ومخدات. [فرع]: تُباح الصور الفوتوغرافية، وهي التي تكون بآلات تصوير حديثة إذا اقتضتها المصلحة؛ للمصلحة؛ حيث إن إثبات الشخصية لمهمات كثيرة في الدولة تقتضي ذلك، ولكونها توقيف ظل فقط بدون تصوير ونحت.

(72)

مسألة: يُحرِّم على الرجل أو الخنثى استعمال ثوب منسوج من ذهب أو فضة، أو مموه بهما أو بأحدهما، أو ثوب حرير، أو أكثره منه بلا حاجة، وهذا مطلق، أي: يحرم ذلك، وإن وجدت حاجة في لبس أو فرش، أو مساند، أو تعليق على جدران، أو كتابة مهر الزواج، أو نحو ذلك - إلا الكعبة فيباح أن تكسى بالحرير -؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "أُحل الذهب والحرير لإناث =

ص: 392

صفيقًا: جاز الجلوس عليه والصلاة

(73)

(لا إذا استويا) أي: الحرير وما نسج معه ظهورًا

(74)

، ولا الخزّ - وهو: ما سدي بإبريسم وألحم بصوف أو قطن

أمتي، وحُرِّم على ذكورها" وهذا عام يشمل جميع ما ذكرناه، وقال: "لا تلبسوا الحرير؛ فإن من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة" ويلزم من حرمان لبسه في الآخرة: عقاب من لبسه في الدنيا، والعقاب لا يكون إلا على فعل محرَّم ومن لبس الذي أكثره حرير فكأنه لبس جميعه؛ لأن الحكم للغالب، فإن قلتَ: لمَ حُرِّم ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن في استعماله الإسراف والخيلاء وكسر قلوب الفقراء، فإن قلتَ: لمَ حُرِّم على الخنثى؟ قلتُ: لاحتمال أن يكون ذكرًا، فغلَّبنا جانب الحظر؛ احتياطًا، فإن قلتَ: لمَ أبيح ذلك للنساء؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تزين لزوجها، وهذا فيه مصلحة إحصانه وغض بصره ودفع مفسدة النظر إلى غيرها، فإن قلتَ: لمَ استثنيت الكعبة هنا؟ قلتُ: لأن فيه تعظيم وتشريف لها، حيث قال صلى الله عليه وسلم: "اللهم زده تعظيمًا وتشريفًا". [فرع]: إن زال الذهب أو الفضة الذي في الثوب بسبب حرقه، واستحالته: فيجوز استعماله؛ للتلازم؛ حيث إنه يلزم من زوال المانع والمحرم: جواز استعماله وإباحته.

(73)

مسألة: إذا فرش ووضع المسلم على الحرير شيئا آخر من القطن لاصق به بحيث لا يُرى الحرير، ثم صلى أو جلس عليه فإن هذا مباح وصحت الصلاة بلا إثم؛ للتلازم؛ حيث يلزم من إخفائه: عدم الخيلاء وكسر قلوب الفقراء فيه: فأبيح ذلك وصحت الصلاة بلا إثم، وهذا هو المقصد منه.

(74)

مسألة: يحرم لبس الثوب الذي أكثره، أو نصفه، أو أقلُّه من الحرير إلا موضع ومقدار أربعة أصابع فيباح؛ للسنة القولية؛ حيث قال عمر:"إنه صلى الله عليه وسلم نهى عن لبس الحرير إلا موضع إصبعين أو ثلاثة أو أربعة" حيث أثبت إباحة لبس الثوب الذي فيه هذا المقدار من الحرير، وحرم لبس الثوب واستعماله إن =

ص: 393

ونحوه

(75)

(أو) لبس الحرير الخالص (لضرورة، أو حكَّة أو مرض)، أو قمل

(76)

زاد الحرير عن ذلك المقدار؛ لأن الاستثناء من النفي - وهو النهي هنا - إثبات، فإن قلتَ: إن كان الحرير قد أخذ مقدار النصف من الثوب: فيباح لبسه وهو الذي ذكره المصنف هنا: للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "لا تلبسوا الحرير" والمراد: الثوب الذي جميعه من الحرير؛ لأنه مفرد محلى بأل وهو من صيغ العموم، وعومل الأكثر مثل الكل، ودل مفهوم الصفة على جواز لبس ما نصفه حرير، قلتُ: إن حديث عمر خاص؛ لأن فيه زيادة ثقة مقبولة، وحديثكم هذا عام، والخاص مقدم في العمل على العام، ثم إن جواز النصف مأخوذ من مفهوم الصفة من حديثكم، وجواز موضع الأربعة أصابع مأخوذ من منطوق حديث عمر، والمنطوق يقدَّم في العمل على المفهوم، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض الحديثين" فعندنا: أن حديث عمر قد خصَّص حديث: "لا تلبسوا الحرير" وعندهم لم يقو على تخصيصه، وأيضًا:"تعارض المنطوق مع المفهوم" فعندنا: يقدم المنطوق؛ وعندهم: يقدم المفهوم هنا.

(75)

مسألة: يباح لبس الثوب المنسوج من وبر - حيوان الخز - إذا خلط معه الابريسم وهو المادة التي يصنع منها الحرير، ثم الصق بصوف أو قطن أو كتان؛ للتلازم؛ حيث إن هذا لا يسمى حريرًا حقيقة: فلزم إباحة لبسه، وهذا من باب التوسعة على المسلمين.

(76)

مسألة: يباح لبس الحرير الخالص؛ للضرورة والحاجة كأن يدفع به بردًا أو حرًا أو لتهدئة حكَّة، أو طرد قمل، أو علاج مرض؛ للسنة القولية؛ حيث "إنه صلى الله عليه وسلم قد رخَّص لعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام بلبس الحرير لما اشتكيا إليه كثرة القمل في بدنهما" وغير القمل مما ذكرناه مثله: لعدم الفارق والجامع: إزالة الضرر ورفعه عن المسلم من باب "مفهوم الموافقة" أصله، قوله صلى الله عليه وسلم:"لا ضرر ولا ضرار في الإسلام" وقاعدة: "الضرر يزال" وهذا هو المقصد من هذا الحكم.

ص: 394

(أو حرب) ولو بلا حاجة

(77)

(أو) كان الحرير (حشوًا) لجلباب، أو فرش، فلا يحرم؛ لعدم الفخر والخيلاء

(78)

، بخلاف البطانة

(79)

، ويحرم إلباس صبي ما يحرم على رجل

(80)

وتشبُّه رجل بأنثى في لباس وغيره وعكسه

(81)

(أو كان) الحرير

(77)

مسألة: يباح لبس الحرير الخالص في حالة الحرب بدون حاجة؛ للقياس؛ بيانه: كما أن مشية الخيلاء تباح في الحرب فكذلك يباح لبس الحرير في الحرب والجامع: إظهار الغنى والقوة في كل.

(78)

مسألة: يباح أن يحشى الثوب أو الفرش بالحرير ويستعمله؛ للتلازم؛ حيث يلزم من عدم ظهوره: إباحته، لعدم كسر قلوب الفقراء أو التفاخر فيه.

(79)

مسألة: يُحرَّم أن يبطَّن الرجل ثوبه كله أو جبته كلها بالحرير لغير حاجة؛ للتلازم؛ حيث إن هذا فيه إسراف في تبذير الأموال فيلزم تحريم ذلك.

(80)

مسألة: يحرم أن يُلبس الأب أو الولي صبيه شيئا مما يحرم لبسه على البالغ، أو أن يجعله يستعمله كإسبال ثوبه، وجعل في ثيابه تصاوير، أو نسجه بذهب أو فضة، أو حرير؛ لقواعد: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "أحل الذهب والحرير لإناث أمتي وحرم على ذكورها" وهذا عام للذكر سواء كان صغيرًا أو كبيرًا، الثانية: قول الصحابي؛ حيث قال جابر: "كنا ننزعه عن الغلمان" يقصد ما سبق ذكره، الثالثة: المصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تجنيب الصبي عن استعمال المحرمات؛ لينشأ على ذلك، وغالبًا ينشأ الفتى على ما كان عوده عليه أبوه، أو وليه.

(81)

مسألة: يحرم على الرجال أن يتشبهوا بالنساء، ويحرم على النساء أن يتشبهن بالرجال سواء كان التشبُّه باللباس، أو بالكلام، أو بالحركات؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم:"لعن الله المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال"، وهذا عام فيشمل كل تشبه مما قلناه؛ لأن لفظ "المتشبهين" =

ص: 395

(عَلَمًا) وهو طراز الثوب (أربع أصابع فما دون أو) كان (رقاعًا أو لبنة جيب) وهو الزيق (وسجف فراء) جمع فرو ونحوها مما يُسجف فكل ذلك يباح من الحرير إذا كان قدر أربع أصابع فأقل؛ لما روى مسلم عن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم "نهى عن لبس الحرير إلا موضع إصبعين أو ثلاثة أو أربعة"

(82)

، ويُباح أيضًا كيس مصحف

(83)

، وخياطة به وأزرار

(84)

(ويُكره المعصفر) في غير إحرام (و) يُكره (المزعفر للرجال)؛ لأنه صلى الله عليه وسلم "نهى الرجال عن التزعفر" متفق عليه

(85)

، ويُكره

و"المتشبهات" جمع معرف بأل وهو من صيغ العموم. فإن قلتَ: لمَ حُرِّم ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن كل جنس له ما يناسبه من لباس وغيره، فإذا تشبَّه أحد الجنسين بالآخر: أدَّى إلى زوال ميزة كل جنس خصَّه الله بها، فتقع المفاسد.

(82)

مسألة: يباح وضع خطوط من الحرير وتطريز الثوب به، وترقيمه، وترقيعه، ووضع شيء منه في الطوق الذي يخرج منه الرأس، ووضع بعض حرير في أطراف الفروة الأمامية، - وهو سجف الفراء - ووضع شيء منه في أطراف الطاقية أو الثوب وذلك بشرط: أن لا يزيد هذا الحرير عن أربعة أصابع، وما زاد فهو حرام؛ للسنة القولية؛ وقد بيناها في مسألة (74).

(83)

مسألة: يُباح وضع كيس من الحرير يجعله لمصحفه؛ للقياس؛ بيانه: كما يباح أن تكسى الكعبة بالحرير فكذلك المصحف مثلها، والجامع: التعظيم والتشريف في كل.

(84)

مسألة: يباح أن يخاط الثوب بخيوط من حرير، وأن تجعل أزرار الثوب أو الجبة أو الفروة منه بشرط: أن لا يزيد ذلك عن مقدار أربعة أصابع؛ للسنة القولية؛ وقد سبق بيانها في مسألة (74).

(85)

مسألة: يحرم أن يلبس الرجل المعصفر - وهو المصنوع من العصفر - وهو نبات معروف -، وكذا: لبس المزعفر؛ في الصلاة وغيرها؛ للسنة القولية؛ وهي =

ص: 396

الأحمر الخالص

(86)

، والمشي بنعل

من وجهين: أولهما: أنه صلى الله عليه وسلم قد نهى الرجال عن التزعفر، ثانيهما: أن عليًا قال: "نهاني النبي صلى الله عليه وسلم عن لبس المزعفر"، والنهي فيهما مطلق، فيقتضي التحريم، وهذا لا صارف له، فإن قلتَ: لمَ حُرِّم ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إنها لبسة فيها تشبُّه بلبسة النساء، وفيها خيلاء وشهرة، وكلها ألبسة محرمة كما سبق بيانه، يؤيده أنه صلى الله عليه وسلم قال لعمرو بن العاص - لما رآه لابسًا ثوبين معصفرين -:"إن هذا من ثياب الكفار فلا تلبسهما" وهذا النهي مطلق فيقتضي التحريم ولا صارف له، فإن قلتَ: إن لبسهما مكروه - وهو ما ذكره المصنف هنا -؛ للسنة القولية؛ السابقة، قلتُ: لم أجد صارفًا قوي على صرف النهي الوارد في الأحاديث السابقة من التحريم إلى الكراهة، مع تأييد المصلحة للتحريم؛ فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "هل يوجد صارف للنهي الوارد للحديث أو لا؟ " فعندنا: يحمل على التحريم؛ لأنه الأصل، وعندهم: يحمل على الكراهة لأن الأصل في النهي الكراهة عندهم.

(86)

مسألة: يباح لبس الأحمر الخالص في الصلاة وغيرها للسنة الفعلية؛ "حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد لبس حُلَّة حمراء" كما رواه البراء، وأبو جحيفة، فإن قلتَ: لمَ أبيح ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه توسعة على الناس لا سيما وأنه لا يقع في لبسه خيلاء، ولا كسر قلوب الفقراء، وليس من لبسة النساء، ولا الكفار، فلا مانع من لبسه، فإن قلتَ: يكره لبسه والصلاة فيه، وهو ما ذكره المصنف هنا -؛ للسنة الفعلية؛ حيث إن عبد الله بن عمرو قال:"دخل رجل على النبي صلى الله عليه وسلم وعليه بردان أحمران فسلَّم فلم يرد النبي صلى الله عليه وسلم عليه" فيلزم من عدم ردَّه للسلام، كراهته لهذا اللباس، قلتُ: إن هذا اللازم غير مُسلَّم؛ حيث يُحتمل أنه لم يرد عليه لما قلتموه، ويحتمل أنه من أجل أمر آخر، وإذا تطرق الاحتمال إلى الدليل بطل به الاستدلال، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: للمصلحة؛ =

ص: 397

واحدة

(87)

وكون ثيابه فوق نصف ساقه، أو تحت كعبه بلا حاجة

(88)

، وللمرأة زيادة إلى ذراع

(89)

ويكره لبس الثوب الذي يصف البشرة للرجل

سببه: "تعارض السنة الفعلية مع المصلحة" فعندنا: تقدم المصلحة؛ لضعف السنة هنا، وعندهم: تقدم السنة؛ لقوتها عندهم هنا.

(87)

مسألة: يُكره المشي في نعل واحدة، والقدم الآخر حافي؛ لغير حاجة؛ للمصلحة؛ حيث إن فعل ذلك فيه اختلال التوازن، مما يؤثِّر على القدمين والبدن، فدفعًا لذلك: كره، فإن قلتَ: لمَ كان ذلك مكروهًا والرسول صلى الله عليه وسلم كان يأمر الصحابة بالمشي حفاة أحيانًا؟ قلتُ: كونه يمشي حافي القدمين معًا فيه مصلحة التعلم على شدة الحر والبرد وخشونة الأرض؛ إبعادًا للتنعم الذي لا يحبه الله لعباده في الدنيا لذلك يقول عمر: "اخشوشنوا فإن النعم لا تدوم" بخلاف المشي على نعل واحدة.

(88)

مسألة: يُكره أن يجعل ثوبه فوق نصف ساقه بلا حاجة؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "ارفع إزارك إلى نصف الساق فإن أبيت فإلى الكعبين" حيث إن الشارع قد استحب رفع الثوب إلى نصف الساق؛ لأن لفظ "فإن أبيت" قرينة صرفته من الوجوب إلى الندب، وعليه: فيُكره رفعه فوق نصفه؛ لأن ترك المستحب مكروه، فإن قلتَ: لمَ كُرِه ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن رفعه إلى فوق الساق قد يؤدي إلى كشف عورته إذا جلس، ويؤدي إلى بعض الضرر من حرٍّ وبرد، وإلى اشتهار صاحبه، تنبيه: قوله: "أو تحت كعبه" يُفهم منه: أن جعل الثوب تحت الكعبين مكروه، وهذا لا يصح؛ لأن جعله كذلك خيلاء محرم - كما سبق في مسألة (68) -.

(89)

مسألة: يستحب للمرأة أن ترخي ثوبها وتجعله يجر في الأرض إذا خرجت من بيتها بمقدار ذراع، للسنة القولية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم أذن للمرأة بذلك وأقرها =

ص: 398

والمرأة

(90)

، وثوب الشهرة، وهو: ما يشتهر به عند الناس، ويُشار إليه بالأصابع

(91)

(ومنها) أي: من شروط الصلاة (اجتناب النجاسة) حيث لم يُعف عنها ببدن المصلي وثوبه، وبقعتهما، وعدم حملها؛ لحديث:"تنزهوا من البول، فإن عامة عذاب القبر منه" وقوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} (فمن حمل نجاسة لا يعفى عنها) ولو بقارورة: لم تصح صلاته

(92)

، فإن كان معفوًا عنها كمن حمل مستجمرًا

عليه - كما روته أم سلمة -، فإن قلتَ: لمَ استحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن هذا أكمل في الستر، تنبيه: عبارة المصنف يفهم منها: أن هذا مباح للمرأة فقط، والصواب: أنه مستحب، لما ذكرناه من المصلحة.

(90)

مسألة: يُكره للرجل أن يلبس ثوبًا يصف بشرة جلده من بياض وسواد، للمصلحة؛ حيث إن ذلك قد يؤدِّي إلى الفتنة وتأثر هذه البشرة بالبرد أو الحر، تنبيه: يُحرَّم أن يلبس ثوبًا يصف بشرة العورة من الركبة إلى السرة كما سبق في مسألة (41)، تنبيه آخر: قوله: "والمرأة" يُفهم منه: أنه يُكره للمرأة أن تلبس ثوبًا يصف البشرة، والصواب: أن هذا محرم؛ لأن جسم المرأة كله عورة كما سبق في مسألة (42).

(91)

مسألة: يُكره للمسلم أن يلبس لباسًا يشتهر به من ثوب أو عباءة أو جبَّة أو نحو ذلك، إذا لم يقصد التباهي والتفاخر، ولذا: ينبغي له أن يلبس ويركب ويسكن ما اعتاده الناس أما إذا قصد التباهي والتفاخر فيحرم؛ للمصلحة؛ حيث إن هذا قد يؤدِّي إلى التعالي والتباهي على خلق الله، وهذه مفسدة عظيمة للإنسان، فدفعًا لذلك: شرع هذا.

(92)

مسألة: في الرابع - من شروط صحة الصلاة - وهو: أن يتجنّب جميع النجاسات - التي لا يُعفى عنها - فيزيلها من بدنه وثوبه، والبقعة التي يُصلي عليها، وعليه: فمن صلى وفي بدنه أو ثوبه أو الموضع الذي يصلي عليه نجاسة، =

ص: 399

أو حيوانًا طاهرًا: صحت صلاته

(93)

(أو لاقاها) أي: لاقى نجاسة لا يعفى عنها

أو كان حاملًا لها بقارورة: فإن صلاته باطلة: سواء كان ذاكرًا أو ناسيًا أو جاهلًا وسواء علم بذلك قبل أو أثناء أو بعد الصلاة؛ لقاعدتين: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} فأوجب الشارع تطهير الثوب للصلاة، الثانية: السنة القولية؛ وهي من وجوه: أولها: قوله صلى الله عليه وسلم: "تنزهوا من البول؛ فإن عامة عذاب القبر منه" فأوجب التطهر من البول والغائط أولى بالتطهر منه من باب مفهوم الموافقة الأولى، ثانيها: قوله صلى الله عليه وسلم للحائض إذا رأت الدم في الثوب: "فلتقرصه ثم تغسله بالماء" فأوجب غسل الثوب المصلى به من الدم، ثالثها: أنه صلى الله عليه وسلم أمر بصب الماء على بول الأعرابي في الأرض التي سيُصلى عليها، وهذا أمر بتطهير البقعة، وهذا كله يدل على اشتراط الطهارة للصلاة، واجتناب جميع النجاسات؛ لأن الأمر في تلك النصوص الأربعة السابقة مطلق؛ فيقتضي الوجوب؛ وهذا عام للأمكنة وللأزمنة وللأقوال، فيشمل ما لصق بثوب، أو حمل بقارورة، أو ما علم به قبل أو أثناء أو بعد الصلاة أو الجاهل بحكمه أو نحو ذلك، فإن قلتَ: لمَ اشتُرط هذا لصحة الصلاة؟ قلتُ: لتعظيم الله وتشريفه وإكرامه وتبجيله؛ إذا لا يليق أن يتعبَّد الله الخالق لكل شيء وهو متلطِّخ بالنجاسات والقاذورات التي يستقذرها البشر فكيف بالخالق؟!، تنبيه: المقصود بالنجاسة التي لا يعفى عنها: ما يمكن التحرز منها بدون مشقة وكلفة.

(93)

مسألة: تصح صلاة من حمل نجاسة معفوًا عنها عادة كمن وقع على ثوبه رشاش بول حيوان طاهر، أو دم قليل، أو التصق بطفل لا يغلب على الظن نجاسته؛ للقياس، بيانه: كما أن أثر الاستجمار في محلِّه معفو عنه فكذلك هذا مثله والجامع: مشقة الاحتراز منه في كل، إذ تعم البلوى في ذلك؛ لكثرة ما يتعرض الناس لهذا في المنازل والطرقات وهذا هو المقصد الشرعي منه.

ص: 400

(بثوبه أو بدنه: لم تصح صلاته)؛ لعدم اجتنابه النجاسة

(94)

، وإن مسَّ ثوبه ثوبًا، أو حائطًا نجسًا لم يستند إليه، أو قابلها راكعًا، أو ساجدًا ولم يلاقها: صحَّت

(95)

(وإن طيَّن أرضًا نجسه أو فرشها طاهرًا) صفيقًا، أو بسطه على حيوان نجس، أو صلى على بساط باطنه فقط نجس:(كُرِه) له ذلك؛ لاعتماده على ما لا تصح الصلاة عليه (وصحَّت)؛ لأنه ليس حاملًا للنجاسة ولا مباشرًا لها

(96)

(وإن كانت) النجاسة (بطرف مُصلَّى

(94)

مسألة: إذا لاقى نجاسة رطبة أثناء صلاته: بأن استند المصلي على جدار كان عليه نجاسة رطبة، أو لمسها بيده أو بأي جزء من أجزاء بدنه: فصلاته باطلة، أما إن كانت النجاسة يابسة: فأزالها بنحو حكٍّ ولم يبق منها شيء: فصلاته صحيحة؛ للتلازم؛ حيث يلزم من لصوق النجاسة الرطبة بأي شيء منه: بطلان صلاته؛ لعدم اجتناب النجاسة الذي هو شرط صحتها، ويلزم من إزالة النجاسة اليابسة: صحّة صلاته؛ لوجود شرطها.

(95)

مسألة: إذا مسَّ ثوبه ثوبًا نجسًا، أو مسَّ ثوبه حائطًا نجسًا، أو قابل نجاسة أثناء ركوعه أو سجوده أو كانت بين رجليه ولم يلاق النجاسة؛ فلم يستند إليها: فصلاته صحيحة؛ للتلازم؛ حيث يلزم من عدم لصوقه بالنجاسة: صحة صلاته؛ لتحقق شرطها؛ لكونها بعيدة عنه، والمراد بالمس: المسُّ الذي لا يؤثِّر.

(96)

مسألة: تصح الصلاة على شيء طاهر توجد تحته نجاسة بلا كراهة كأن يُغطي أرضًا نجسة بطين أو أسمنت أو فرش، أو يغطي حيوانًا نجسًا ببساط؛ للتلازم؛ حيث يلزم من عدم حمله للنجاسة وعدم مباشرته لها: صحة صلاته لوجود شرطها، فإن قلتَ: تصح الصلاة هنا مع الكراهة؛ للتلازم؛ حيث يلزم من اعتماده على ما لا تصح الصلاة عليه: كراهتها وهو ما ذكره المصنف هنا قلتُ: لا نسلّم التلازم من ذلك؛ لأن قربه من النجاسة لا يؤثر، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض التلازمين" فعندنا: التلازم الأول أقوى، وعندهم: الثاني أقوى.

ص: 401

متصل به: صحَّت) الصلاة على الطاهر ولو تحرك النجس بحركته، وكذا: لو كان تحت قدمه حبل مشدود في نجاسة، وما يُصلي عليه منه طاهر (إن لم) يكن متعلقًا به بيده أو وسطه بحيث (ينجرّ) معه (بمشيه) فلا تصح؛ لأنه مستتبع لها فهو كحاملها، وإن كانت سفينة كبيرة أو حيوانًا كبيرًا لا يقدر على جرِّه إذا استعصى عليه: صحَّت؛ لأنه ليس بمستتبع لها

(97)

(ومن رأى عليه نجاسة بعد صلاته وجهل كونها) أي: النجاسة (فيها) أي: في الصلاة: (لم يُعد) ها؛ لاحتمال حدوثها بعدها، فلا تبطل بالشك

(98)

(وإن علم أنها) أي: النجاسة (كانت فيها) أي: في الصلاة، (لكن

(97)

مسألة: إذا صلى المسلم على فراش، وعلى طرفه نجاسة ولم يصل عليها، أو كان في يده أو بطنه أو تحت قدمه حبل مشدود بشيء نجس وهو لا ينجر معه إذا تحرك كأن يُربط بفيل أو سفينة نجسة: فإن صلاته في هاتين الحالتين صحيحة، أما إن انجرَّ معه إذا تحرك كأن يربط بكلب صغير: فإن صلاته باطلة؛ للتلازم؛ حيث إن صلاته على الطاهر من الفراش، وعدم قدرة الشيء النجس المربوط به على الانجرار عند حركة المصلي كالجدار النجس: يلزم منه صحة صلاته؛ لوجود شرطها وعدم استتباعه لها ويلزم من سهولة انجرار النجس عند حركة المصلي: بطلان صلاته؛ لاحتمال التصاقه به وهو يصلي، فيكون كحامل النجاسة والمستتبع لها.

(98)

مسألة: إذا فرغ من صلاته فرأى نجاسة على بدنه أو ثوبه وشك فيها هل كانت في أثناء صلاته أو بعدها؟: فصلاته صحيحة؛ للاستصحاب؛ حيث إن الأصل طهارته وهو متيقن من ذلك فيستصحب ذلك، ويعمل به، ولا يلتفت إلى الشك؛ لعدم بناء الأحكام عليه، فإن قلتَ: لمَ صحَّت صلاته؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن المسلم لو عمل فيما يشك فيه: للحقه ضيق وحرج؛ لكثرة ما يقع للإنسان من الشكوك.

ص: 402

جهلها أو نسيها: أعاد) كما لو صلى محدثًا ناسيًا

(99)

(ومن جُبر عظمه بـ) عظم (نجس) أو خيط جرحه بخيط نجس وصح: (لم يجب قلعه مع الضرر) بفوات نفس، أو عضو أو مرض، ولا يتيمم له إن غطَّاه اللحم، وإن لم يخف ضررًا: لزمه قلعه

(100)

(وما سقط منه) أي: من آدمي (من عضو أو سنٍّ فـ) هو (طاهر): أعاده،

(99)

مسألة: إذا كان يجهل أن هذه النجاسة تبطل الصلاة، أو كان يعلم أن تلك النجاسة التي على ثوبه أو بدنه تبطل الصلاة ولكنه نسيها ثم صلى، فلما فرغ منها: علم أن تلك النجاسة تبطل الصلاة، وتذكر ما نسيه من النجاسة: فإن صلاته باطلة في الحالتين؛ للقياس، بيانه: كما أنه لو صلى محدثًا ناسيًا له: فإن صلاته تبطل، فكذلك من صلى وعليه نجاسة مثله، والجامع: الصلاة بدون طهارة في كل، فلم يتحقق شرط الصلاة فلا تصح، فإن قلتَ: إن الصلاة تصح، ولا يُعيدها وهو قول ابن تيمية وتبعه ابن عثيمين؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم:"عُفي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" وهو عام لما نحن فيه، قلتُ: إن المعفو عنه هنا هو الإثم فقط، أما الفعل فيجب أن يعاد؛ حيث دلت دلالة الاقتضاء على التقدير:"عُفي عن أمتي إثم الخطأ والنسيان .. "، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلت: سببه: "تعارض القياس مع السنة القولية هنا" فعندنا: يقدم القياس؛ لقوته، وضعف السنة؛ لاحتياجها إلى التقدير، وعندهم: تقدم السنة، وأيضًا:"الخلاف في المعفو عنه في الحديث هل هو الإثم فقط، أو الإثم مع الفعل؟ " فعندنا: الأول، وعندهم: الإثم مع الفعل.

(100)

مسألة: إذا جبر عظم المسلم بعظم نجس، أو وضع فيه خيط من جلد نجس - عظم وجلد كلب أو خنزير - فإنه يصلي به وتصح صلاته إن خاف من قلعه أيَّ ضرر، أما إن لم يخف الضرر فيجب قلعه وإزالته في كل صلاة؛ للقياس؛ بيانه؛ كما أنه إذا خاف الضرر من استعمال الماء: فإنه يصلي بالتيمم وإن لم يخف فيجب =

ص: 403

أو لم يُعده؛ لأن ما أبين من حي فهو كميتته، وميتة الآدمي: طاهرة

(101)

، وإن جعل ضع سِنَّه سن شاه مذكاة: فصلاته معه صحيحة ثبتت أو لم تثبت

(102)

، ووصل

تطهره بالماء فكذلك الحال هنا والجامع: دفع الضرر في كل، وهذا هو المقصد منه. [فرع]: إذا غطَّى اللَّحم ذلك العظم النجس - في الجبيرة -: فإنه يغسله مع أعضاء الوضوء - إن كان فيها - بدون تيمُّم، وإن لم يُغطه اللَّحم: فإنه لا يُمسُّه الماء عند الوضوء؛ دفعًا للضرر، فإذا فرغ: تيمَّم له؛ للتلازم؛ حيث يلزم من غسله بدون ضرر: سقوط التيمم، لعدم وجود شيء لم يمسه الماء، ويلزم من عدم غسله؛ للضرر: وجوب التيمم عن هذا الذي لم يمسه الماء من أعضاء الوضوء.

(101)

مسألة: إذا سقط أو قطع من المسلم أي عضو كيد أو رجل أو سن: فهو طاهر؛ سواء أعاده إلى مكانه أو لا فتصح الصلاة به؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "المؤمن لا ينجس" فنفى النجاسة عن المؤمن وهو عام لجميع أعضائه، وعام في جميع أزمانه: قبل الموت وبعده؛ لأن لفظ "المؤمن" مفرد محلى بأل، وهو من صيغ العموم، فإن قلتَ: لمَ كان طاهرًا؟ قلتُ: لأن ميتة المسلم طاهرة، وما أُبين منه وهو حي: يكون طاهرًا، تنبيه: قوله: "أي: من آدمي" يُفهم منه: أن الكافر يدخل هنا؛ لأنه آدمي والصواب: أن ميتة الكافر نجسة، وإنما كان طاهرًا في حال حياته؛ الاقتضاء المصلحة لذلك؛ حيث يضطر المسلم للتعامل معه، وقد سبق بيانه.

(102)

مسألة: تصح صلاة من وضع عضوًا طاهرًا داخل جَسَدِه كسنٍّ يأخذه من شاه مذكاة: سواء كان ثابتًا أو لا؛ للتلازم؛ حيث يلزم من صلاته بشيء طاهر: صحة صلاته.

ص: 404

المرأة شعرها بشعر حرام، ولا بأس بوصله بقرامل وهي: الأعقصة، وتركها أفضل، ولا تصح الصلاة إن كان الشعر نجسًا

(103)

(ولا تصح الصلاة) بلا عذر فرضًا كانت أو نفلًا - غير صلاة جنازة - (في مقبرة) بتثليث الباء، ولا يضر قبران، ولا ما دفن بداره (و) لا في (حَشٍّ) بضم الحاء وفتحها وهو: المرحاض (و) لا في (حمام) داخله وخارجه، وجميع ما يتبعه في البيع (وأعطان إبل) واحدها عطن - بفتح الطاء، وهي: المعاطن، جمع معطن - بكسر الطاء - وهي ما تقيم فيها وتأوي إليها (و) لا في

(103)

مسألة: إذا وصلت المرأة شعرها بشعر نجس كشعر كلب أو خرقه نجسة: فإن صلاتها باطلة، وإن وصلته بشعر طاهر كشعر شاة: فصلاتها صحيحة، ولكنها تأثم في الحالتين؛ لكونها وصلت شعرها؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "لعن الله الواصلة والمستوصلة" فحرم الشارع وصل الشعر بشعر آخر أو بخرقة أو نحوها؛ لأن اللعن: عقاب ولا يعاقب إلا على فعل حرام، وهو عام كما قلنا؛ لأن لفظ "الواصلة" مفرد محلى بأل وهو من صيغ العموم، الثانية: التلازم؛ حيث يلزم من صلاتها بشيء طاهر: صحّة صلاتها، لوجود شرطها، ويلزم من صلاتها بشيء نجس: بطلان صلاتها؛ لفقدان شرطها، فإن قلتَ: لمَ كان الوصل حرامًا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه دفع مفسدة خداع وغش الآخرين بهذه المرأة، وهذا يستوي فيه كل من وصلت شعرها بأي شيء، فإن قلتَ: لمَ حرم الوصل على الفاعل له؟ قلتُ: لأنه من باب التعاون على الإثم والعدوان، وقد نهى الشارع عنه، فإن قلتَ: إن وصل الشعر بخرق من حرير أو صوف ثم تعقصه بحيث تدخل أطراف الشعر بأصوله - وهو: القرامل - هذا مباح؛ للتلازم؛ حيث إن هذا لا يخدع أحدًا فتلزم إباحته قلتُ: إن الحديث السابق عام للشعر ولغيره، ثم إنه يخدع الناظر من بعيد فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلت: سببه: "الخلاف في لفظ "الواصلة" هل هو عام لكل ما يوصل به الشعر، أو أنه خاص بالوصل بالشعر فقط؟ " فعندنا: عام، وعندهم خاص.

ص: 405

(مغصوب) ومجزرة ومزبلة وقارعة طريق (و) لا في (استطحتها) أي: أسطحة تلك المواضع وسطح نهر، والمنع في ذلك تعبُّدي؛ لما روى ابن ماجه والترمذي عن ابن عمر أن الرسول صلى الله عليه وسلم "نهى عن أن يصلى في سبع مواطن: المزبلة، والمجزرة، والمقبرة، وقارعة الطريق، وفي الحمام، وفي معاطن الإبل، وفوق ظهر بيت الله"

(104)

(104)

مسألة: لا تصح الصلاة في تسع مواضع: أولها: كل ما سُمِّي بمقبرة - وهو: ما يدفن فيها عادة الموتى - ما عدا صلاة الجنازة، أو الصلاة في موضع فيه قبران أو الصلاة في منزل دفن فيه أحد: فتصح، ثانيها: المحش وهو: المرحاض والكنيف، ثالثها: الحمام وهو: المكان المعد للاغتسال والتنظيف، وهو يعم داخله وخارجه وكل ما يتبعه عند بيعه، رابعها: أعطان الإبل وهو: الأماكن التي تقعد فيها الإبل وتأوي إليها عادة، خامسها: المواضع المغصوبة والمسروقة، سادسها: المجزرة، وهو: الموضع الذي تذبح فيه الإبل وغيرها، سابعها: المزبلة: وهو: المكان الذي يوضع فيه ما يستقذر، ثامنها: قارعة الطريق، وهو: الموضع الذي يمشي فيه الناس عادة ذهابًا وإيابًا، تاسعها: سطح الكعبة - كما سيأتي - لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث "نهى صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في سبع مواطن: المزبلة، والمجزرة، والمقبرة، وقارعة الطريق، وفي الحمام، وفي معاطن الإبل، وفوق ظهر بيت الله"، والنهي مطلق فيقتضي الفساد، الثانية: القياس، بيانه: كما لا تصح الصلاة في الحمام فكذلك لا تصح في المحش، بجامع: النجاسة في كل، فإن قلتَ: لمَ لا تصح الصلاة في تلك المواضع؟ قلتُ: لما فيها من النجاسات التي تضاد الطهارة المشترطة للصلاة، وما فيها من ذكر وقراءة ومناجاة، ولدفع مفسدة الصلاة في المقبرة وهي عبادة من في القبور أو التشبه بمن يعبدهم، ولأن المحاش، والحمامات ومعاطن الإبل مواضع للشياطين، ولأن الموضع المغصوب لا يتناسب مع فعل الطاعة فيه كما سبق ذكره في مسألة (49)، ولأن من صلى على سطح الكعبة لا يتوجه إلى قبلة وسيأتي بيانه، فإن قلتَ: لمَ صحَّت صلاة =

ص: 406

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الجنازة في المقبرة؟ قلتُ: للسنة الفعلية؛ حيث صلى صلى الله عليه وسلم على امرأة في المقبرة بعد دفنها، يؤيد ذلك: أنها لا ركوع لها ولا سجود فلا تشترط الطهارة في البقعة، والصلاة فيها على عين فلا محذور فيها، فإن قلتَ: لمَ صحّت الصلاة في موضع فيه قبران، أو في منزل دفن فيه واحد أو اثنان؟ قلتُ: لعدم إطلاق اسم المقبرة على ذلك فيلزم صحتها، بشرط: عدم القرب من المكان المقبور فيه أحد، وأن لا يؤدي ذلك على عبادة من في القبور أو التوسل به أو التشبه بذلك، وصح ذلك؛ للتوسعة على المسلمين. [فرع]: تصحُّ الصلاة في أسطح تلك المواضع: كسطح المحش، والحمام، ومعاطن الإبل، والمجزرة، والمزبلة، وقارعة الطريق، وكذا تصح على سطح النهر الجاري أو الراكد إلا سطح المقبرة فلا تصح؛ للاستصحاب؛ حيث إن الأصل طهارة أسطح تلك المواضع؛ لعدم وجود ما يُنجِّسها؛ لانفصالها عما تحتها، وللاستقرار في الصلاة، فنستصحب ذلك، ونعمل به، فإن قلتَ: لمَ صحَّ ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه توسعة على المسلمين، فإن قلتَ: لمَ لا تصح الصلاة في سطح المقبرة؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه سدٌّ للذرائع فيُخشى عبادة من في القبور، أو التوسُّل بهم أو التَّشبُّه بهم ولذا يمنع الصلاة فيها وعلى سطحها، فإن قلتَ: لا تصح الصلاة في أسطح تلك المواضع كلها وكذا سطح النهر وهو الذي ذكره المصنف هنا؛ للقياس، بيانه: كما أنه لا تصح الصلاة داخل تلك المواضع - كما في مسألة (104) - فكذلك لا تصح الصلاة في أسطحتها، وكما لا تصح الصلاة فوق الماء فكذا لا تصح الصلاة فوق سطحه، والجامع: أن كلًّا منهما مسمَّى بذلك الاسم؛ لكونه تابعًا للداخل بدون فرق؟ قلتُ: هذا القياس فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ لأن داخل تلك المواضع غلب على ظننا وجود نجاسة فيها، فلذا لا تصح الصلاة فيها وأن الواقف على الماء مباشرة لا يمكنه الاستقرار أثناء صلاته؛ بخلاف =

ص: 407

(وتصح) الصلاة (إليها) أي: إلى تلك الأماكن مع الكراهة إن لم يكن حائل

(105)

، وتصح صلاة الجنازة، والجمعة، والعيد ونحوها بطريق؛ لضرورة وغصب

(106)

،

المصلي فوق أسطحتها فإنه بعيد عن النجاسة، ويستقر في صلاته ومع الفارق فلا قياس، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض الاستصحاب مع القياس" فعندنا: لم يقو القياس على تغيير الأصل المستصحب، وعندهم: يقوى على ذلك، تنبيه: قوله: "والمنع في ذلك تعبُّدي" يقصد: أن النهي عن الصلاة في تلك المواضع تعبدي لا علَّة له، قلتُ: هذا فيه نظر، بل علَّة النهي هنا واضحة جلية لمن عرف موارد ومصادر الشريعة ومقاصدها، وقد ذكرنا طرفًا من تلك العلل في مسألة (104).

(105)

مسألة: تصح الصلاة إذا كان أمام المصلي واحد من تلك المواضع - المذكورة في مسألة (104) - وهذا بلا كراهة؛ للتلازم؛ حيث إن عدم الصلاة فيها، وإكمال الشروط الأخرى والأركان والواجبات يلزم منه صحتها، فإن قلتَ: لمَ صحَّت هنا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه توسعة على المسلمين، فإن قلتَ: تصح مع الكراهة - وهو ما ذكره المصنف هنا - بشرط: عدم وجود حائل بين المصلي وتلك المواضع؛ للتلازم؛ حيث إن عدم الحائل يلزم منه الاستقذار وهذا لا يناسب العبادة، قلتُ: هذا لا يلزم؛ لأن ما ذكر لا تعلُّق له بالصلاة وشروطها وأركانها وواجباتها، وهذا يؤدي إلى تضييق مواضع الصلاة، وهذا لم يرده الشارع، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "هل عدم الحائل هنا مؤثر أو لا؟ " فعندنا: لا، وعندهم: مؤثر، و"تعارض التلازمين".

(106)

مسألة: تصح صلاة الجنازة والجمعة والعيد وغيرها من الفروض في طريق، وموضع مغصوب إذا اضطر المسلم لذلك: بأن لم يجد غيره، أو كان خائفًا أو نحو ذلك؛ للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه دفع مفسدة عن المكلَّف، أصله: قوله صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا ضرار في الإسلام".

ص: 408

وتصح الصلاة على راحلة بطريق، وفي سفينة ويأتي

(107)

(ولا تصح الفريضة في الكعبة ولا فوقها) والحجْر منها

(108)

، وإن وقف على منتهاها بحيث لم يبق وراءه شيء منها، أو وقف خارجها وسجد فيها: صحَّت؛ لأنه غير مستدبر لشيء منها

(109)

(وتصح النافلة) والمنذورة فيها وعليها (باستقبال شاخص منها) أي: مع استقبال شاخص من الكعبة، فلو صلى إلى جهة الباب، أو على ظهرها ولا شاخص متصل بها: لم تصح، ذكره في "المغني" و"الشرح" عن الأصحاب؛ لأنه غير مستقبل لشيء منها، وقال في "التنقيح": اختاره الأكثر، وقال في "المغني" الأولى: أنه

(107)

مسألة: تصح الصلاة على أي راحلة بطريق، وعلى سفينة؛ للسنة الفعلية؛ حيث "إنه صلى الله عليه وسلم قد صلى على راحلته" والسفينة كالراحلة؛ لعدم الفارق بجامع: الحمل في كل، فإن قلتَ: لمَ صحَّت الصلاة هنا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه توسعة وتيسير على المسلمين ويأتي بيانه.

(108)

مسألة: لا تصح صلاة الفريضة داخل الكعبة، ولا داخل حجر إسماعيل؛ لأنه من الكعبة، ولا تصح فريضة فوق الكعبة؛ للإجماع؛ حيث أجمع العلماء على ذلك، ومستنده: الاستقراء والتتبُّع لأحوال الصحابة والتابعين؛ حيث ثبت بعد ذلك عدم الصلاة في ذلك، فإن قلتَ: لمَ لا تصحُّ هنا؟ قلتُ: لأن المقصود من التوجه إلى الكعبة هو: تعظيم البيت كله، ومن صلى داخلها أو فوق سطحها: فقد عظم بعضه وأهان الآخر؛ لاستدباره إياه.

(109)

مسألة: تصح صلاة الفرض والنفل إذا وقف في نهاية شيء من الكعبة، أو وقف خارج الكعبة وركوعه وسجوده داخلها بشرط: عدم استدباره لشيء منها؛ للتلازم؛ حيث يلزم من استقباله لها، وعدم استدبار شيء منها: صحة صلاته؛ لتحقق شرطها وهو: استقبالها لتعظيمها وتشريفها، وهذا هو المقصد من ذلك.

ص: 409

لا يشترط؛ لأن الواجب استقبال موضعها وهوائها دون حيطانها، ولهذا تصح على جبل أبي قُبيس وهو أعلى منها، وقدَّمه في "التنقيح"، وصححه في "تصحيح الفروع"، قال في "الإنصاف": وهو المذهب على ما اصطلحناه، ويستحب نفله في الكعبة بين الاسطوانتين وجاهه إذا دخل، لفعله صلى الله عليه وسلم

(110)

(ومنها) أي: من شروط

(110)

مسألة: تصح صلاة النافلة داخل الكعبة، وفوقها، وكذا: تصح الصلاة المنذورة داخلها وفوقها بشرط: أن يكون أمام المصلي شاخص منها، وهو الشيء القائم المتصل بالكعبة كخشبة وجدار ونحو ذلك، ويستحب أن يكون بين العمودين اللذين يكونان أمامه وهو داخل الكعبة مع بابها، ويسمَّيان بالساريتين والاسطوانتين؛ للسنة الفعلية؛ حيث صلى صلى الله عليه وسلم في البيت ركعتين واستقبل شاخصا منها، وفي رواية:"أنه صلى بين الساريتين وأنت داخل" - كما قال ابن عمر - هي زيادة ثقة مقبولة، فإن قلتَ: لمَ اشتُرط الشاخص؟ قلتُ: لأجل أن يجعله مستقبلًا لشيء منها، فإن قلتَ: لمَ صحت النافلة دون الفريضة؟ قلتُ: لأن الشارع يتساهل في النوافل دون الفرائض، فتقطع النافلة بدون عذر، وتصلى على الراحلة إلى غير القبلة في السفر، بخلاف الفريضة، فإن قلتَ: لا يشترط وجود الشاخص، فتصح بدونه - وهو قول بعض الحنابلة -؛ للقياس، بيانه: كما تصح صلاة المسلم وهو فوق جبل أبي قبيس وهو أعلى من الكعبة فكذلك تصح صلاة من صلى فوق أو داخل الكعبة بدون شاخص والجامع: أن كلًّا منهما قد صلى وهو متجه إلى هواء الكعبة دون حيطانها وهو: الواجب استقباله، قلتُ: هذا فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ لأن من صلى فوق جبل أبي قبيس بعيد عن الكعبة، وهذا فرضه أن يتوجه إلى جهتها، لا إلى عينها ويكون بذلك لم يستدبر شيئًا منها، أما من صلى عندها، أو داخلها أو فوقها ففرضه: أن يستقبل عينها، أو شيئًا متصلًا بها، ويكون مستدبرًا شيئًا منها، فاشترط الشاخص لتخفيف =

ص: 410

الصلاة (استقبال القبلة) أي: الكعبة، أو وجهتها لمن بَعُدَ، سمِّيت "قبلة"؛ لإقبال الناس عليها قال تعالى:{فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} (فلا تصح) الصلاة (بدونه) أي: بدون الاستقبال

(111)

(إلا لعاجز) كالمربوط لغير القبلة، والمصلوب،

الأمر، ومع الاختلاف لا قياس، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض السنة الفعلية مع القياس" فعندنا: تقدم السنة وما فوقها كداخلها، وعندهم: يقدم القياس، تنبيه: قوله: "قال في الإنصاف: وهو: المذهب على ما اصطلحناه" يقصد: أن المرداوي قد اصطلح في مقدمة "الإنصاف" على أنه إذا وقع اختلاف بين علماء الحنابلة - كابن قدامة، وابن تيمية، وابن رجب - فيما هو المذهب عند أحمد؟ فإنه سيُرجِّح ما اصطلح عليه في "الإنصاف".

(111)

مسألة: في الخامس - من شروط صحة الصلاة - وهو: أن يستقبل القبلة: بأن يستقبل عين الكعبة لمن استطاع مشاهدتها، أو يستقبل جهتها لمن بَعُدَ عنها، فلا تصح صلاة بدون هذا الاستقبال للقادر عليه؛ للكتاب؛ حيث قال تعالى:{فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} فأوجب الشارع استقبال الكعبة؛ وجهتها؛ لأن الأمر مطلق، فيقتضي الوجوب، ودل مفهوم الشرط منه على عدم صحة الصلاة بدون ذلك، واستنادًا إلى هذا أجمع العلماء على هذا الشرط، فإن قلتَ: لمَ اشترط ذلك؟ قلتُ: ليجتمع للمسلم اتجاهان: اتجاه قلبي، وهو مناجاة الله في الصلاة، واتجاه جسمي وهو توجه الوجه إلى بيت الله؛ ليقرب من خالقه، فإن قلتَ: لمَ سمِّيت قبلة؟ قلتُ: لأن كل مصلٍ يُقبل عليها بوجهه الذي هو أشرف عضو في الجسم، فإن قلتَ: لمَ سمي بيت الله بالكعبة؟ قلتُ: لأن العرب تسمِّي كل بيت مربع كعبة كما جاء في "اللسان"(1/ 718).

ص: 411

وعند اشتداد الحرب

(112)

(و) إلا لـ (متنفِّل راكب سائر) لا نازل (في سفر) مباح طويل أو قصير إذا كان يقصد جهة معيَّنة

(113)

وله أن يتطوع على راحلته حيثما توجَّهت به (ويلزمه افتتاح الصلاة) بالإحرام إن أمكنه (إليها) أي: إلى القبلة بالدابة أو بنفسه، ويركع ويسجد إن أمكنه بلا مشقة، وإلا: فإلى جهة سيره، ويوميء بهما،

(112)

مسألة: تصح صلاة الفرض بدون استقبال القبلة للعاجز عن استقبالها بسبب مرض، أو لربطه لغير القبلة، أو لخوفه عند اشتداد الحرب، أو من عدو، أو حريق أو هدم، أو غرق أو نحو ذلك؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم:"إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" حيث إن هذا عام؛ لأن "ما" الموصولة، من صيغ العموم، فيشمل ما نحن فيه، وهذا لا يستطيع استقبال القبلة، فوجب أن يفعل ما يستطيعه ويسقط الباقي بالعجز عنه؛ رخصة وتيسيرًا منه سبحانه؛ لدفع الضرر، وهذا هو المقصد منه.

(113)

مسألة: إذا كان الشخص مسافرًا راكبًا سائرًا لسفر مباح قاصدًا لجهة معيَّنة: فتصح صلاة النفل بدون استقبال القبلة، أما إن كان مقيمًا، أو كان مسافرًا نازلًا، أو كان غير سائر، بل واقف، أو كان سفره سفر معصية، أو كان هائمًا على وجهه لا يقصد بلدًا معينًا: فلا تصح صلاته النفل بدون استقبال القبلة؛ للسنة الفعلية؛ حيث قال أنس: "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سافر وأراد أن يتطوع استقبل بناقته القبلة فكبَّر، ثم صلى حيث كانت وجهة ركابه" فلزمت تلك الشروط الخمسة من هذا الفعل، فهو صلى الله عليه وسلم: مسافر راكب سائر لسفر مباح على جهة معينة، فإن قلتَ: لمَ صحَّ ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تحصيل ثواب النافلة مع مواصلة سفره، مع الاشتغال بالطاعة عن المعصية، فإن قلتَ: لمَ اشترطت تلك الشروط؟ قلتُ: لأن من توفرت تلك الشروط فيه هو الذي ينبغي أن يراعى ويُقصد بتلك المصلحة، دون غيره.

ص: 412

ويجعل سجوده أخفض

(114)

، وراكب المحفة الواسعة، والسفينة والراحلة الواقفة يلزمه الاستقبال في كل صلاته

(115)

(و) إلا لمسافر (ماشٍ)؛ قياسًا على الراكب (ويلزمه) أي: الماشي (الافتتاح) إليها (والركوع والسجود إليها) أي إلى القبلة؛ لتيسر ذلك عليه

(116)

، وإن داس النجاسة عمدًا:

(114)

مسألة: طريقة صلاة المتنفِّل بدون استقبال القبلة إذا كان مسافرًا راكبًا سائرًا قاصدًا جهة معينة سفرًا مباحًا هي: أن يكبر تكبيرة الإحرام، وهو متوجه إلى الكعبة سواء وجه الدَّابة إليها أو انحرف بنفسه إليها، ثم يعود إلى جهة سفره، ثم يقرأ الفاتحة، وما شاء من القرآن، ثم يركع ويسجد إلى جهة القبلة إن استطاع، فإن وجدت مشقة يركع ويسجد حيث وجهته، ويوميء بهما، ويجعل سجوده أخفض من ركوعه؛ للسنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد فعل ذلك - كما سبق في حديث أنس في مسألة (113)، وكما حكاه جابر أيضًا.

(115)

مسألة: إذا أراد شخص أن يتنفَّل وهو راكب هودجًا على جمل، أو سفينة، أو دابة واقفة: فلا تصح صلاته إلا إذا كان مستقبلًا القبلة في جميع صلاته؛ للتلازم؛ حيث يلزم من استطاعته لاستقبال القبلة: وجوبها عليه، ويلزم من عدم ذلك: عدم صحة صلاته وهو حقيقة الشرط.

(116)

مسألة: تصح صلاة النافلة من الماشي على قدميه بدون استقبال القبلة وطريقتها: أن يفتتحها وهو مستقبل القبلة ثم يعود لجهته، ثم يركع ويسجد وهو مستقبل القبلة، ثم يعود لجهة سفره وهكذا يفعل في كل صلاته؛ للقياس، بيانه: كما أن المسافر الراكب السائر لشيء مباح، القاصد جهة معينة تصح صلاته للنافلة وهو كذلك - كما سبق في مسألتي (113 و 114) - فكذلك المسافر الماشي مثله، والجامع: أن كلًا منهما مسافر سائر قاصد لجهة معينة وسفره مباح، فإن قلتَ: لمَ وجب عليه أن يركع ويسجد تجاه القبلة، بخلاف =

ص: 413

بطلت

(117)

، وإن داسها مركوبه: فلا

(118)

، وإن لم يعذر من عدلت به دابَّته أو عدل إلى غير القبلة عن جهة سيره مع علمه، أو عُذِر وطال عدوله عرفًا: بطلت

(119)

المسافر الراكب؟ قلتُ: لأن الماشي يسهل عليه أن يقف فيركع ويسجد، بخلاف الراكب فيشق عليه ذلك؛ لأن الدابة لا تقف بسهولة.

(117)

مسألة: إذا صلى نافلة وهو ماشي فوطأ بقدمه على نجاسة من بول أو غائط: بطلت صلاته سواء كان عمدًا أو سهوًا أو جهلًا أو نسيانًا؛ للتلازم؛ حيث إنه يلزم من وجود تلك النجاسة بقدمه: عدم صحة صلاته؛ لعدم تحقق شرط الطهارة، تنبيه: قوله "عمدًا" فيه نظر؛ حيث لا تصح الصلاة بها مطلقًا، قياسًا على الحدث كما سبق في مسألة (99).

(118)

مسألة: إذا صلى النافلة وهو راكب لدابته - كما سبق في مسألتي (113 و 114) - فداست تلك الدابة بأرجلها نجاسة: فصلاته صحيحة؛ للتلازم؛ حيث يلزم من عدم مباشرة المصلي للنجاسة: صحة صلاته؛ لتحقق شرط الطهارة؛ كما لو صلى على طين طاهر وتحته شيء نجس.

(119)

مسألة: تبطل صلاة المتنفل وهو مسافر راكب في حالات: أولها: إذا كان مسافرًا إلى الشرق فعدلت به دابته إلى الجنوب، وهو قادر على ردها إلى الشرق، ولكنه لم يفعل، ثانيها: إذا عدل بالدابة إلى غير جهة سفره وإلى غير جهة القبلة من غير عذر، ثالثها: إذا عدلت به الدابة عن غير طريق سفره، أو عدل هو عنه لعذر، إما لغفلة، أو جهل، أو عجز عن دابته، وطال عدوله هذا عرفًا؛ للتلازم؛ حيث إن صحّة النافلة قد شُرع رخصة لتحصيل مصلحتين:"تحصيل الثواب" و"مواصلته لسفره" فلما لم يردَّ دابته عن الجهة التي انحرفت إليها، أو عدل هو بها إلى غير جهة سفره، أو طال العدول والانحراف عن جهته أو جهة القبلة: لزم منه: بطلان تلك النافلة؛ لعدم حصول المقصود من =

ص: 414

(وفرض من قرب من القبلة) أي: الكعبة، وهو من أمكنه معاينتها، أو الخبر عن يقين:(إصابة عينها) ببدنه كله، بحيث لا يخرج شيء منه عن الكعبة، ولا يضرُّ علو ولا نزول

(120)

(و) فرض (من بَعُد) عن الكعبة: استقبال (جهتها) فلا يضرُّ التيامن ولا التياسر اليسيران عرفًا

(121)

إلا من كان بمسجده صلى الله عليه وسلم؛ لأن قبلته

مشروعية صحة النافلة وهو راكب، ويلزم من العدول الطويل: بطلانها أيضًا: لأنه كالحركة الكثيرة في الصلاة.

(120)

مسألة: يجب على من كان يشاهد الكعبة: أن يستقبل عينها، وكذا: من أخبره متيقن من أن هذه الجهة هي جهة الكعبة، فإن مال قليلًا عنها بأن كان بعضه على غير اتجاه الكعبة: فلا تصح صلاته: ولا يضر علو عن الكعبة أو نزول عنها؛ للاستصحاب؛ حيث إن ذلك هو الأصل في استقبال القبلة فيُستصحب ويُعمل به، ولا يجوز تركه إلا بدليل، فإن قلتَ: لمَ وجب ذلك؟ قلتُ: لقدرته على الاتجاه إلى عينها بدون مشقة، فلا يجوز العمل بالظن مع الاستطاعة على العمل بالقطع فإن قلتَ: لِمَ لا يضر علو، أو نزول، قلتُ: للمصلحة؛ حيث إنه لا يمكن الاحتراز من ذلك.

(121)

مسألة: يجب على من لا يشاهد الكعبة: أن يستقبل جهتها، فلا يضرُّ ميله عنها قليلًا؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة: "ما بين المشرق والمغرب قبلة"، وهذا يلزم منه: وجوب الاتجاه إلى جهة القبلة لا إلى عينها وسكان غير المدينة مثل سكان المدينة؛ لعدم الفارق في ذلك، من باب مفهوم الموافقة، الثانية: الإجماع؛ حيث أجمع العلماء على صحة صلاة المصلين في صف طويل على خط مستو، مع العلم أنه لن يصيب كل واحد منهم عين الكعبة، فيلزم منه: وجوب إصابة جهة الكعبة، لا عينها، فإن قلتَ: لمَ شُرِع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تيسير على العباد؛ لكثرة العباد وتفرقهم في البلاد.

ص: 415

متيقنة

(122)

(فإن أخبره) بالقبلة مكلَّف (ثقة) عدل ظاهرًا وباطنًا (بيقين): عمل به: حرًا كان أو عبدًا، رجلًا كان أو امرأة (أو وجد محاريب إسلامية: عمل بها)؛ لأن اتفاقهم عليها مع تكرار الأعصار إجماع عليها، فلا تجوز مخالفتها، حيث علمها للمسلمين ولا ينحرف

(123)

(ويستدلُّ عليها في السَّفر بالقطب) وهو: أثبت أدلتها؛ لأنه لا يزول عن مكانه إلا قليلًا، وهو: نجم خفي شمالي، وحوله أنجم دائرة كفراشة الرَّحى في أحد طرفيه "الجدي" والآخر "الفرقدان" يكون وراء ظهر المصلي

(122)

مسألة: يجب على من صلى بمسجد النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة: أن يصلي إلى قبلته ومحرابه، فلا يميل عن ذلك؛ للتلازم؛ حيث إن قبلة المسجد النبوي قد قطع باتجاهها إلى عين الكعبة؛ حيث رُفعت له الكعبة فرآها حين بنى مسجده، فيلزم الاتجاه إلى ذلك.

(123)

مسألة يعرف المقيم القبلة بطريقين: أولهما: أن يخبره مكلف عدل ثقة: سواء كان رجلًا أو امرأة، حرًا أو عبدًا عن غلبة ظن أن هذا الاتجاه هو القبلة، ثانيهما: أن يجد محرابًا في مسجد من المساجد الإسلامية، وهو موضع صلاة الإمام عادة - فلا يجوز الاجتهاد مع وجود ذلك؛ للقياس، بيانه: كما أن الراوي للحديث يُقبل خبره إن كان مكلَّفًا عدلًا ثقة فكذلك يُقبل خبره ويُعمل به إذا أخبر عن القبلة، وكذا وجود المحراب ومخبر عن القبلة، والجامع: أن كلًّا منهما قد أخبر بشيء يُعمل به، بل إن ما يلزم من وجود المحراب من وجوب الاتجاه إليه أولى لاتفاق المصلين على مرِّ الأعصار، فيكون قياسًا أولى، فإن قلتَ: لمَ كان ذلك تعرف به القبلة؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تيسير على العباد؛ إذ لو كُلِّف كل واحد بمعرفة القبلة بنفسه للحق أكثر المسلمين ضيق ومشقة، تنبيه: قوله: "بيقين" قلتُ: هذا لا يشترط، بل يكفي غلبة الظن؛ لوجوب العمل بما غلب على الظن، وهو مقدور عليه.

ص: 416

بالشام وعلى عاتقه الأيسر بمصر (و) يُستدل عليها بـ (الشمس والقمر ومنازلهما) أي: منازل الشمس والقمر: تطلع من المشرق وتغرب من المغرب

(124)

،

(124)

مسألة: يعرف المسافر القبلة بطريقين: أولهما: أن يرى القطب، وهو: نجم يوجد في جهة الشمال الشرقي قليلًا من السماء للمصلين في نجد والعراق من جهة كتفه الأيمن، وهو خلف المصلي إذا كان في الشام، وهو يكون على الكتف الأيسر للمصلي في مصر، وهو أمام المصلي في اليمن، ويوجد قريب منه نجمان يُستدل عليه بهما وهما:"الجدي" و"الفرقدان" حيث إن لهما نور واضح، وتوجد بين "الجدي" و"الفرقدان" نجوم صغيرة: ثلاثة من فوق، وثلاثة من تحت، وهي تدور حول نجم القطب كما تدور فراشة الرحى والطاحون الذي يدير الماء، وهذا يكون مرة في كل يوم وليلة، ويمكن الاستدلال على القبلة بالجدي؛ لعدم وضوح ذلك القطب؛ حيث إنهما متجاوران، ثانيهما: أن يرى الشمس والقمر ومنازلهما؛ حيث إنهما يطلعان من المشرق عن يسار المصلي في البلاد الشمالية، وعلى يمين المصلي في البلاد الجنوبية، ويغربان في المغرب على يمين المصلي في البلاد الشمالية، وعلى يسار المصلي في البلاد الجنوبية، وعلى ذلك يقاس كل بلد؛ لقاعدتين: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} فوصفهم بأنهم يهتدون بالنجوم، ولم ينكر عليهم، وهو عام فيشمل من يعرف بها القبلة، الثانية: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة ومن ساواهم -: "ما بين المشرق والمغرب قبلة" فجعل إشراق الشمس والقمر، ومغربهما دليلًا على القبلة، فإن قلتَ: لمَ جُعل هذا من طرق معرفة القبلة؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تيسير على العباد في كل البلاد؛ إذا النجم، والشمس والقمر لا تخلو منها بلد.

ص: 417

ويستحب تعلُّم أدلة القبلة والوقت

(125)

، فإن دخل الوقت، وخفيت عليه: لزمه، ويُقلِّد إن ضاق الوقت

(126)

(وإن اجتهد مجتهدان فاختلفا جهة: لم يتبع أحدهما الآخر) وإن كان أعلم منه، ولا يقتدي به؛ لأن كلًّا منهما يعتقد خطأ الآخر

(127)

(ويتبع المقلِّد) لجهل أو عمى (أوثقهما) أي: أعلمهما وأصدقهما

(125)

مسألة: يُستحب أن يتعلم المسلم طرق معرفة القبلة المذكورة في مسألتي (123 و 124) وكذا: يُستحب تعلم طرق معرفة دخول أوقات الصلوات كما سبق في مسائل (6 و 8 و 11 و 13 و 16)؛ للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تيسير وتسهيل معرفة ذلك وإغناء نفسه بذلك وتعليم غيره.

(126)

مسألة: إذا دخل وقت الصلاة وخفيت عليه جهة القبلة: فيجب عليه تعلُّم الطرق التي يعرف بها جهتها إن كان الوقت واسعًا، أما إن كان ضيقًا وخشي من خروج الوقت قبل تعلُّمه لذلك: فيجب عليه تقليد غيره، ويعمل بما يقول ذلك الغير إن كان ثقة بصيرًا؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم:"إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" وهذا عام؛ لأن "ما" الموصولة من صيغ العموم، فيشمل ما نحن فيه، حيث إن هذا قادر على تعلمها، والوقت متسع لذلك، وعنده الآلة فوجب أما إن ضاق الوقت: فيجب أن يقلد غيره في ذلك؛ لأنه هو المستطاع له فوجب؛ لأن الأمر في الحديث مطلق فيقتضي الوجوب ويسقط غيره، للعجز عنه.

(127)

مسألة: إذا اختلف مجتهدان في القبلة: كل واحد منهما يقول: إن القبلة غير الذي يقوله الآخر: فكل واحد منهما يصلي اتجاه القبلة التي يراها ولا يتبع أحدهما الآخر؛ للقياس، بيانه: كما أن المجتهدين المختلفين في حكم شرعي لا يجوز لأحدهما أن يقلد الآخر فكذلك الحال هنا والجامع: أن كل واحد منهما يعتقد خطأ الآخر، ولا يجوز أن يعمل الشخص بشيء يغلب على ظنه خطأوه.

ص: 418

وأشدهما تحريًا لدينه (عنده): لأن الصواب إليه أقرب، فإن تساويا خُيِّر

(128)

، وإن قلَّد اثنين: لم يرجع برجوع أحدهما

(129)

(ومن صلى بغير اجتهاد) إن كان يحسنه (ولا تقليد) إن لم يحسن الاجتهاد: (قضى) ولو أصاب (إن وجد من يقلِّده)

(130)

(128)

مسألة: إذا اختلف مجتهدان في القبلة: كل واحد يقول: إن القبلة هي كذا، فيجب على الثالث الجاهل، أو الأعمى أن يتبع أقواهما من حيث: العلم والصدق والدين والثقة؛ لقربه من الصواب، فإن تساويا في تلك الصفات: فإنه يتخيَّر - ويتبع أيهما شاء وتبرأ ذمته؛ للقياس، بيانه: كما أن العامي يتبع الأقوى من المجتهدين في مسألته - علمًا ودينًا، وصدقًا وعدالةً وثقةً - فإن تساويا في ذلك: تخيَّر فيتبع ما شاء منهما فكذلك الحال هنا والجامع: العمل بما غلب على ظنه في كل، وإبراء ذمته في كل.

(129)

مسألة: إذا صلى جاهل اتجاه القبلة التي اتفق عليها مجتهدان، ثم بعد صلاته رجع أحد المجتهدين قائلًا: إني أخطأت في القبلة: فإن صلاة ذلك الجاهل صحيحة، ولا يلتفت إلى رجوع من رجع من المجتهدين؛ للتلازم؛ حيث إنه قد صلى بناء على اتفاقهما على جهتها فيلزم صحتها منه، فلا يؤثر رجوع أحدهما في صلاة من اقتدى بهما.

(130)

مسألة: إذا صلى مجتهد في القبلة، بدون بذل اجتهاده، أو كان جاهلًا، وصلى بدون أن يقلِّد أحدًا: فإن صلاة هذين باطلة ولو أصابا القبلة، ويجب عليهما إعادتها بعد أن يجتهد المجتهد، أو يقلد العامي غيره؛ للتلازم؛ حيث يلزم من استطاعتهما لاستقبال القبلة باجتهاد أو تقليد: أن يستقبلاها بذلك لتصح صلاتهما؛ لأن هذا شرطها، ويلزم من عدم ذلك مع قدرتهما على إيجاده: بطلان صلاتهما، لتفريطهما في تحقيق شرط من شروط الصلاة، فإن قلتَ: لمَ بطلت الصلاة مع إصابتهما للقبلة بدون اجتهاد أو تقليد؟ قلتُ: لأن إصابتهما كانت مصادفة فقطن بدون غلبة ظن.

ص: 419

فإن لم يجد أعمى أو جاهل من يقلده فتحريا وصليا: فلا إعادة

(131)

، وإن صلى بصير حضرًا فأخطأ، أو صلى أعمى بلا دليل من لمس محراب أو نحوه، أو خبر ثقة: أعادا

(132)

(ويجتهد العارف بأدلة القبلة لكل صلاة)؛ لأنها واقعة متجدِّدة فتستدعي طلبًا جديدًا (ويصلي بـ) الاجتهاد (الثاني)؛ لأنه ترجَّح في ظنه، ولو كان في صلاته ويبني (ولا يقضي ما صلى بـ) الاجتهاد (الأول)؛ لأن الاجتهاد لا ينقض الاجتهاد

(133)

، ومن أخبر فيها بالخطأ يقينًا: لزمه

(131)

مسألة: إذا حضرت الصلاة ولم يجد الأعمى أو الجاهل المسافر من يقلِّدانه ويتبعانه في اتجاه القبلة وخشيا أن يخرج الوقت فتحريا واجتهدا، ثم صليا على حسب ما غلب على ظنهما أنها القبلة: فإن صلاتهما تصح، ولا إعادة عليهما سواء أصابا القبلة أو لا؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم:"إذا أمرتكم بأمر فأوتوا منه ما استطعتم" وهذان لم يستطيعا إلا فعل ذلك فكان هو الواجب عليهما؛ لأنهما فعلا ما لهما فعله ويسقط الباقي بالعجز عنه.

(132)

مسألة: إذا حضرت الصلاة في الحضر فصلى بصير جاهل، أو أعمى بلا دليل أو علامة على القبلة من لمس محراب، أو سؤال ثقة: فإن صلاتهما باطلة، ويجب عليهما إعادتها؛ للتلازم؛ حيث يلزم من تساهلهما وعدم تحرِّيهما مع قدرتهما على ذلك: بطلان صلاتهما وقد سبقت.

(133)

مسألة: لكل صلاة اجتهاد في القبلة، أي: إذا أراد أن يصلِّي الظهر يجتهد في القبلة، وإذا أراد أن يصلي العصر يستأنف الاجتهاد فيها، فإن كانت هي القبلة التي صلى إليها في الظهر تبعها، وإن كانت غيرها صلى على حسب اجتهاده الثاني، وإن كانت مخالفة للجهة التي صلى إليها الظهر، يفعل ذلك ولو كان داخل الصلاة فينحرف إلى الجهة التي غلب على ظنه أنها القبلة، ولا يقضي الصلاة التي صلاها وهو متوجه إلى جهة غلب على ظنه أنها خطأ فيما بعد؛ =

ص: 420

قبوله

(134)

، وإن لم يظهر لمجتهد جهة في السفر: صلى على حسب حاله

(135)

(ومنها) أي: من شروط الصلاة (النية) وبها تمَّت الشروط، وهي: لغة: القصد، وهو: عزم القلب على الشيء، وشرعًا: العزم على فعل العبادة؛ تقرُّبًا إلى الله تعالى، ومحلها القلب، والتلفظ بها ليس بشرط؛ إذ الغرض جعل العبادة لله تعالى، وإن

للقياس، بيانه: كما أن المجتهد في الأحكام يجتهد لكل حادثة وإن كانت الحوادث متشابهة، وإذا بان له خطأ الاجتهاد الأول: عمل بالثاني، ولا يفتي بالأول، ولا يعود إلى من أفتى لهم وينقض حكمهم؛ حيث لا يجب إخبارهم بالاجتهاد الثاني حيث لا ينقض الاجتهاد الاجتهاد، فكذلك المجتهد بالقبلة مثله، والجامع: أن كلًّا منهما مخبر عن شيء يجب العمل به، فإن قلتَ: لمَ شُرِع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تيسير على الخلق وتوسعة.

(134)

مسألة: إذا دخل شخص في صلاة وتوجه إلى جهة على أنها هي القبلة ثم أخبره مكلف عدل بأن الجهة التي صلى إليها ليست هي القبلة يقينًا: فيجب على الشخص المخبَر أن يقبل هذا ويتجه على القبلة التي أخبره بها: سواء كان قد دخل المخبَر في الصلاة أو لا؛ للقياس، بيانه: كما يجب قبول خبر المكلف العدل عن يقين القبلة قبل أن يجتهد أو يقلّد أحدًا فكذلك الحال بعد اجتهاد أو تقليد غيره، والجامع: تقديم اليقين على الظاهر؛ تحقيقًا للشرط بيقين، وهو المقصد منه.

(135)

مسألة: إذا لم يظهر عند المسافر جهة معينة على أنها هي القبلة وخشي من خروج الوقت: فيجب عليه أن يصلي على حسب حاله، وتصح صلاته، ولا يعيدها إذا خرج وقتها، ولو علم أنه صلاها إلى غير القبلة؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم:"إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" وهذا المسافر لم يستطع إلا ما فعله فوجب، وصحَّت صلاته، وعجز عن الباقي فسقط وجوبه عنه، وهذا تيسير من الله تعالى، وهو المقصد الشرعي.

ص: 421

سبق لسانه إلى غير ما نواه: لم يضر (فيجب أن ينوي عين صلاة معينة) فرضًا كانت كالظهر والعصر، أو نفلًا كالوتر والسنة الراتبة؛ لحديث:"إنما الأعمال بالنيات"

(136)

(ولا يُشترط في الفرض) أن ينويه فرضًا فتكفي نية الظهر ونحوه (و) لا في (الأداء و) لا في (القضاء) نيتهما؛ لأن التعيين يغني عن ذلك، ويصح قضاء بنية أداء وعكسه إذا بان خلاف ظنه (و) لا يشترط في (النفل والإعادة) أي: الصلاة المعادة (نيتهنَّ) فلا يُعتبر أن ينوي الصبي الظهر نفلًا، ولا أن ينوي الظهر من أعادها معادة كما لا تعتبر نية الفرض وأولى

(137)

، ولا تعتبر إضافة

(136)

مسألة: في السادس والأخير - من شروط صحة الصلاة - وهو: أن ينوي عين الصلاة التي أراد أن يصلِّيها وأن يحضرها في ذهنه: فإذا أراد أن يصلي الظهر مثلًا نواها وقصدها أنها ظهر، وإذا أراد أن يصلي نافلة كوتر أو سنة راتبة: فإنه ينويها ويقصدها وهكذا فلا تصح صلاة بلا نية؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امريء ما نوى" فلا شيء صحيح شرعًا إلا ما نُوي وقُصد تنبيه: قوله: "وهي لغة

إلى قوله: "لم يضرُه"" قد سبق بيانه في مسائل (14 إلى 19) من باب "فروض الوضوء وصفته وشروطه" من كتاب الطهارة، وكذا: بيان المقصد الشرعي من اشتراط النية.

(137)

مسألة: لا يشترط أنه ينوي أنه سيصلي فرضًا، بل ينوي أنه سيصلي ظهرًا أو عصرًا ونحو ذلك، ولا يشترط أن ينوي أن هذه الصلاة أداء، أو قضاء، وكذا: ينوي أنه سيصلي الوتر، أو السنة الراتبة، دون أن ينوي أنها نافلة ويصح قضاء بنية أداء، ويصح أداء بنية قضاء: فلو نوى أن هذه الصلاة - وهي العصر مثلًا - أنها قضاء لظنه بخروج وقتها، فبان أنه صلاها في وقتها: فإنها تكون أداء ولا عبرة بنيته، وكذلك لو صلاها ونوى أنها أداء لظنه بعدم خروج وقتها، فبان أنها صلاها بعد خروج وقتها: فإنها تكون قضاء، ولا عبرة بنيته، ولا يُعتبر أن =

ص: 422

الفعل إلى الله تعالى فيها ولا في باقي العبادات، ولا عدد الركعات

(138)

، ومن عليه ظهران: عيَّن السابقة؛ لأجل الترتيب

(139)

، ولا يمنع صحتها قصد تعليمها ونحوه

(140)

، (وينوي مع التحريمة)؛ لتكون النية مقارنة للعبادة (وله تقديمها) أي:

ينوي الصبي أن صلاته الظهر التي صلاها هي نفل في حقه؛ لكونها كذلك في الأصل؛ للسنة القولية؛ وهو حديث: "إنما الأعمال بالنيات" حيث إنه عام وشامل لنيتين هما: "نية العمل" و"نية تعيين عين الصلاة هل هي الظهر أو العصر أو غيرهما؟ " ولا زيادة على ذلك، ونية تعيين كونها ظهرًا تكفي عن نية كونها فرضًا، أو أداء أو قضاء، وهو على حسب الوقت الذي صليَّت فيه؛ حيث إنها إن كانت من الصلوات الخمس: فإنها تكون فرضًا، وإن كانت غيرها: فتكون نفلًا، وإن كان صلاها في وقتها فإنها تكون أداء، وإن صلاها بعد خروجه: فإنها تكون قضاء دون الحاجة إلى النية؛ لعدم وجود غير ما سبق من النيتين.

(138)

مسألة: لا يشترط أن ينوي أنه سيصلِّي تلك الصلاة لله تعالى ويضيفها إليه سبحانه، ولا ينوي أنه سيزكِّي أو يصوم أو يحج لله تعالى، وكذا: لا ينوي أنه سيصلي الظهر أربع ركعات - مثلًا -؛ للتلازم؛ حيث إن تلك العبادات لا تكون أصلًا إلا لله، والظهر لا تكون أصلًا إلا أربع ركعات، فيلزم عدم نية ذلك؛ لكونه معلومًا معروفًا ثابتًا.

(139)

مسألة: إذا فاتته صلاة الظهر من يوم السبت، والظهر من يوم الأحد، وأراد قضاءهما في يوم الاثنين: فيجب أن يعين صلاة الظهر السابقة بالنية - وهي ظهر السبت هنا - فيصليها، ثم يُعيِّن صلاة الظهر اللاحق - وهو ظهر الأحد هنا - فيصلِّيها؛ للتلازم؛ حيث يلزم من اشتراط ترتيب قضاء الفوائت: أن ينوي السابقة، ثم اللاحقة على حسب ترتيبها وقد سبق ذلك في مسألة (26).

(140)

مسألة: إذا نوى في صلاته أن تبرأ ذمته منها، وأن يعلِّمها لغيره، أو أطالها للتخلُّص من عدو: فإنها تصح؛ للتلازم؛ حيث يلزم من وجود نية إيقاعها على =

ص: 423

النية (عليها) أي: على تكبيرة الإحرام (بزمن يسير) عرفًا إن وجدت النية (في الوقت) أي: وقت المؤداة والراتبة ما لم يفسخها

(141)

(فإن قطعها في أثناء الصلاة أو تردَّد) في فسخها: (بطلت)؛ لأن استدامة النية شرط، ومع الفسخ أو التردد لا يبقى مستديمًا، وكذا: لو علَّقه على شرط

(142)

، لا إن عزم على فعل محظور قبل

حسب أمر الشارع بها وإبراء الذمة: صحتها؛ لتوفر شرطها، ولا يمنع قصده تعليمها ونحوه من صحتها؛ لعدم صلاحيته لذلك.

(141)

مسألة: يجب أن ينوي للصلاة مع أول تكبيرة الإحرام، أو قبيل ذلك بزمن يسير جدًا كثوانٍ مثلًا في وقت الصلاة، أو السنة الراتبة، ولا يشتغل بشيء يفسخها كالكلام، أو تعمُّد حَدَثٍ ونحو ذلك لقاعدتين: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} حيث دلَّ هذا على أن وقت النية - وهو الإخلاص - حال العبادة؛ لكون "مخلصين" حال من قوله: "ليعبدوا"، الثانية: القياس، بيانه: كما يجوز تقديم نية الصيام على الدخول فيه، فكذلك يجوز تقديم نية الصلاة على الدخول فيها والجامع: أن كلًّا منهما عبادة اشترطت لها النية، فإن قلتَ: لمَ كان ذلك وقتًا للنية؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه احتياط من الغفلة عن النية، أو البعد عن خاطره فتفسد عبادته.

(142)

مسألة: إذا نوى الصلاة، ثم دخل فيها، ثم قطع تلك النية في أثناء الصلاة، أو تردد هل يقطعها أو لا؟، أو علَّقها على شرط بأن ينوي: إن طرق أحد الباب وأنا في الصلاة هل أقطع الصلاة وأفتح الباب أو لا؟ فإن صلاته تبطل في هذه الحالات الثلاث؛ للتلازم؛ حيث إن من شروط صحة النية لأي عبادة: أن تبدأ من أوله وتستمر إلى آخره بدون انقطاع أو تشكيك أو تعليق، فيلزم من قطعها أو التردُّد والشك فيها أو التعليق: بطلانها، ويلزم من بطلان النية: بطلان المنوي وهي: الصلاة؛ حيث فقدت شرطها.

ص: 424

فعله

(143)

(وإذا شك فيها) أي: في النية أو التحريمة: (استأنفها) وإن ذكر قبل قطعها: فإن لم يكن أتى بشيء من أعمال الصلاة: بنى، وإن عمل مع الشك عملًا: استأنف

(144)

، وبعد الفراغ لا أثر للشك

(145)

(وإن

(143)

مسألة: إذا نوى الصلاة، ونوى مع ذلك أنه سيفعل محظورًا في الصلاة كأن ينوي أنه سيتكلَّم أو يُحدث في أثنائها، ولم يفعل شيئًا مما نواه من كلام أو حدث: فصلاته صحيحة؛ للتلازم؛ حيث إن نيته الصلاة نية صحيحة، وعدم ما يناقضها من قطع أو تردد أو كلام أو حدث يلزم منه: صحة النية، ويلزم من صحتها: صحة الصلاة؛ لأن المحظور قد يفعله وقد لا يفعله، وهذا لا يناقض النية المتقدمة.

(144)

مسألة: إذا دخل في الصلاة، وفي أثنائها شك:"هل نوى الصلاة أو لا؟ " أو شك: "هل كبَّر تكبيرة الإحرام أو لا؟ " أو شك: "هل عيَّن في النية أنها صلاة ظهر أو عصر أو نحوهما؟ ": ففي ذلك تفصيل هو: أولًا: إن شك في ذلك ولم يتذكر أنه نواها: فإن صلاته تبطل، ثانيًا: إن تذكَّر أنه نواها قبل أن يأتي بشيء من أعمال الصلاة: فإن صلاته صحيحة ويبني على ما سبق ولا يقطعها، ثالثًا: إن تذكَّر أنه نواها بعد أن أتى بشيء من أعمال الصلاة كركوع ونحوه: فإن صلاته تبطل ويجب عليه أن يستأنفها؛ للتلازم؛ حيث يلزم من شكِّه بالنية وعدم تذكره لشيء، أو تذكره أنه نواها بعد أن ركع أو سجد: بطلان الصلاة؛ لكونه قطع النية بالشك، ووقوع بعض الصلاة كركوع بدون نية، ويلزم من تذكره أنه نواها قبل أن يأتي بشيء من الصلاة: صحة الصلاة؛ لعدم انقطاع النية، فلم يوجد ما يبطل الصلاة، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا التفصيل؟ قلتُ: للتأكد من وجود النية التي هي سرُّ العبودية وشرط قبول العبادات كلها، وعدم قطعها بأي شيء.

(145)

مسألة: إذا فرغ المسلم من صلاته ثم شكَّ: "هل نوى الصلاة التي صلاها أو لا؟ أو شك هل كبر تكبيرة الإحرام أو لا، أو هل عيَّنها أو لا؟ " فصلاته =

ص: 425

قلب منفرد) أو مأموم (فرضه نفلًا في وقته المتَّسع: جاز)؛ لأنه إكمال في المعنى كنقض المسجد للإصلاح، لكن يكره لغير غرض صحيح مثل: أن يحرم منفردًا فيُريد الصلاة في جماعة، ونص أحمد - فيمن صلى ركعة من فريضة منفردًا، ثم حضر الإمام وأقيمت الصلاة -:"يقطع صلاته ويدخل معهم"

(146)

فيتخرَّج منه: قطع

صحيحة، ولا يلتفت إلى هذا الشك؛ للإجماع؛ حيث أجمع العلماء على أنه لا يُلتفت إلى الشك بعد الفراغ من أي عبادة سواء كانت صلاةً أو وضوءًا أو صيامًا، أو غيرها، ومستند هذا الإجماع: الاستصحاب؛ لأن الأصل: أن ينوي وأن يُكبِّر تكبيرة الإحرام، فيُستصحب ذلك ويعمل به ولا يؤثر عليه الشك، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تيسير على الناس، إذ لو عمل كلٌّ شخص بما يشكُّ فيه: لَلَحق كثيرًا من الناس الضِّيق والمشقَّة ولاضطربت حياته.

(146)

مسألة: إذا نوى صلاة الفرض ودخل فيها، ثم في أثنائها نوى قلب الفرض إلى نافلة: فإن هذا يصح، وتكون له نافلة إذا كان الوقتُ متسعًا بحيث يبقى وقت لصلاة الفرض مرة ثانية، لكن هذا الفعل يكره لغير غرض صحيح كأن يحرم بالفرض منفردًا، ثم يرى الإمام داخلًا، فينويها نافلة ويكملها خفيفة، ثم يُسلِّم، ويدخل مع الجماعة فهذا جائز بلا كراهة، أما قلب الفرض نافلة لغير مقصد صحيح فهو مباح مع الكراهة؛ لقاعدتين: الأولى: القياس، بيانه: كما يجوز هدم المسجد لأجل إصلاحه، فكذلك يجوز قلب الفرض نفلًا والجامع: أن كلًّا منهما فيه وصف العبادة الكاملة، الثانية: المصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تحصيل أجر الجماعة -؛ حيث إنها تفضل على صلاة المنفرد بسبع وعشرين درجة - كما ثبت في الحديث -، فإن قلتَ: لمَ صحَّ ذلك؟ قلتُ: لكون نية عمل الطاعة لم تبطل؛ حيث إن نية النفل تدخل في نية الفرض؛ لكون الفرض: نفل وزيادة، فإن قلتَ: لمَ كره ذلك إن لم يكن له غرض صحيح؟ قلتُ: لأنه يقرب =

ص: 426

النافلة بحضور الجماعة بطريق الأولى

(147)

(وإن انتقل بنية) من غير تحريمه (من فرض إلى فرض) آخر: (بطلا)؛ لأنه قطع نية الأول، ولم ينو الثاني من أوله

(148)

وإن نوى الثاني من أوله بتكبيرة إحرام: صح

(149)

، وينقلب:

من العبث، تنبيه: قوله: "فإنه يقطعها ويدخل معهم" قلتُ: هذا على غير المشهور عن أحمد، أما المشهور عنه: فهو يقلبها نافلة ثم يُكملها خفيفة أو يقطعها، ثم يدخل مع الجماعة لصلاة الفرض وهو الصحيح؛ للمصلحة كما سبق.

(147)

مسألة: إذا دخل مسلم في صلاة نافلة، ثم أقيمت جماعة لصلاة الفرض: فإنه يُتمها خفيفة إن أمكن وإن لم يمكن: قطعها ودخل مع الجماعة؛ للقياس، بيانه: كما يجوز للمنفرد أن يقلب فرضه نفلًا، ثم يُتم النفل سريعًا أو يقطعها، فمن باب أولى أنه إذا دخل نافلة أصلًا: أن يفعل ذلك والجامع: تحصيل ثواب صلاة الجماعة في كل، تنبيه: قوله: "فيتخرَّج عنه" يقصد: أن قول الإمام أحمد: "إن المنفرد الداخل في فريضة يقطعها لأجل الجماعة" يستنبط منه: أن قطع النافلة لأجل صلاة الفرض مع الجماعة أولى من قطع الفريضة، وهذا بناء على الرواية غير المشهورة - كما سبق -.

(148)

مسألة: إذا نوى بصلاته التي أحرم بها أنها صلاة العصر، ثم تذكّر في أثنائها أنه لم يُصلِّ الظهر، فنوى أن هذه الصلاة التي يصليها الآن أنها الظهر من غير تكبيرة الإحرام للظهر: فإن هذه الصلاة لا تصح عن أي واحدة منهما؛ للتلازم؛ حيث يلزم من قطع نية صلاة العصر: بطلانها، ويلزم من عدم نية صلاة الظهر من أول تكبيرة الإحرام: بطلانها، فتكون النية فاسدة في العصر، ومعدومة في الظهر، ولا صلاة بلا نية.

(149)

مسألة: إذا دخل في صلاة العصر - وهو: الفرض الأول - ثم نوى بتلك الصلاة أنها صلاة الظهر - وهو: الفرض الثاني - بتكبيرة الإحرام للظهر: فإن =

ص: 427

نفلًا ما بان عدمه كفائتة، فلم تكن، وفرض لم يدخل وقته

(150)

(ويجب) للجماعة (نية) الإمام (الإمامة و) نية المأموم (الائتمام)؛ لأن الجماعة يتعلق بها أحكام، وإنما يتميزان بالنية فكانت شرطًا: رجلًا كان المأموم أو امرأة، وإن اعتقد كل منهما أنه إمام الآخر أو مأمومه: فسدت صلاتهما كما لو نوى إمامة من لا يصح أن يؤمُّه، أو شك في كونه إمامًا أو مأمومًا

(151)

، ولا يشترط تعيين الإمام ولا

الصلاة تصح ظهرًا؛ للقياس، بيانه: كما أنه لو نوى صلاة الظهر ثم كبر لها تكبيرة الإحرام، دون أن يتقدم ذلك إحرام بغيرها فإنه يصح: فكذلك الحال هنا، والجامع: وجود النية في موضعها في كل.

(150)

مسألة: إذا نوى صلاة فرض وبعد الدخول فيها تبيَّن عدم دخول وقتها، أو ظن أن عليه فائتة من الفروض، فلما دخل فيها تذكر أنه قد صلَّاها فإنه يكمل تلك الصلاة وتكون منقلبة إلى نفل؛ للتلازم؛ حيث يلزم من عدم صلاحيتها لتكون فرضًا: انقلابها لتكون نفلًا، ونية الفرض تكفي عن نية النفل؛ لأن الفرض: نفل وزيادة.

(151)

مسألة: إذا أراد زيد وبكر أن يصليا جماعة، وكان بكر إمامًا، وزيد مأمومًا: فإنه يشترط أن ينوي بكر أنه إمام، وأن ينوي زيد أنه مأموم قبل الدخول في تلك الصلاة، فلو لم ينويا ذلك، أو نوى كل واحد منهما أنه إمام للآخر في نفس الصلاة: فإن صلاتهما باطلة؛ للتلازم؛ حيث إن كلًّا من الإمامة والائتمام يشترط له النية؛ لتمييز أحدهما عن الآخر، وليُعرف كل واحد منهما بأحكامه فيلزم من ذلك أن ينوي كل واحد من الإمام والمأموم حالته التي هو فيها، ويلزم من عدم ذلك: عدم صحة هذه الإمامة والائتمام مما يلزم منه: عدم صحة الجماعة؛ لفقدان شرطها كما أن الأمي لا يجوز أن ينوي أنه إمام لقاريء ولا يجوز للفاسق أن ينوي أن يكون إمامًا للعدل، فكذلك لا ينوي بكر أنه =

ص: 428

المأموم

(152)

ولا يضر جهل المأموم ما قرأ به إمامه

(153)

، وإن نوى زيد الاقتداء بعمرو، ولم ينو عمرو الإمامة صحَّت صلاة عمرو وحده

(154)

، وتصح نية الإمامة ظانًا حضور مأموم، لا

مأموم مع أنه إمام، ولا ينوي زيد أنه إمام مع أنه مأموم بجامع: عدم صحة الإمامة والائتمام، فإن قلتَ: لمَ اُشترط ذلك؟ قلتُ: لإعطاء كل حالة أحكامها التي تستحقها: فالمأموم يجب عليه الاتباع، ويسقط عنه السهو، وتفسد صلاته بسبب فساد صلاة إمامه بخلاف الإمام، فنظرًا لهذا الاختلاف وغيره: جُعل لكل واحد نيته الخاصة به والتي لا تصلح للآخر.

(152)

مسألة: لا يشترط في صحة الإمامة والائتمام تعيين إمام بعينه، ولا تعيين مأموم بعينه؛ للتلازم؛ حيث إن المأموم إذا صلى خلف من يصلي بالناس: صحَّت صلاته، والإمام إذا صلى وراءه الناس: صحَّت إمامته بدون تعيين مسبق، فيلزم من ذلك: عدم اشتراط تعيينهما.

(153)

مسألة: إذا جهل المأموم الآيات التي قرأ بها إمامه ولم يتذكرها - في الصلاة الجهرية -: فإن صلاته تصح؛ للتلازم؛ حيث إن معرفة المأموم لما قرأ إمامه لا يشترط في صحة صلاته: فيلزم من عدم اشتراط المعرفة: صحتها.

(154)

مسألة: إذا نوى عمرو الانفراد ودخل في الصلاة فجاء زيد واقتدى بعمرو ونوى أن يكون له مأمومًا: فإن صلاة عمرو صحيحة، وصلاة زيد باطلة؛ للتلازم؛ حيث إن عمرو لم ينو الإمامة من أول صلاته ففقد شرطًا من شروط الإمامة - كما قلنا في مسألة (151) - فلزم عدم صلاحيته إمامًا لزيد، ويلزم من هذا اللازم: أن صلاة زيد باطلة؛ لكونه جعل نفسه مأمومًا لإمام لم ينو الإمامة من أول صلاته، ويلزم من نية عمرو الصلاة منفردًا في أولها: صحة صلاته: لوجود نيته وعدم تغييرها.

ص: 429

شاكًا

(155)

(وإن نوى المنفرد الائتمام) في أثناء الصلاة: (لم يصح)؛ لأنه لم ينو الائتمام في ابتداء الصلاة سواء صلى وحده ركعة أو لا، فرضًا كانت الصلاة أو نفلًا (كـ) ما لا تصح (نية إمامته) في أثناء الصلاة إن كانت (فرضًا)؛ لأنه لم ينو الإمامة في ابتداء الصلاة، ومقتضاه: أنه يصح في النفل، وقدَّمه في "المقنع" و "المحرَّر"، وغيرهما؛ "لأنه صلى الله عليه وسلم قام يتهجَّد وحده فجاء ابن عباس فأحرم معه فصلَّى به النبي صلى الله عليه وسلم" متفق عليه، واختار الأكثر: لا يصح في فرض ولا نفل؛ لأنه لم ينو الإمامة في الابتداء وقدَّمه في "التنقيح" وقطع به في "المنتهى"

(156)

(وإن انفرد) أي:

(155)

مسألة: إذا نوى عمرو الإمامة وهو يغلب على ظنه حضور شخص معه، ثم حضر: فإن النية والصلاة تصح، وإن شك بحضوره - أي: تساوى الطرفان -: فإن النية لا تصح، وإن حضر أحد ودخل معه واتمَّ به؛ للتلازم؛ حيث إن الظن الغالب تُبنى عليه الأحكام ويُعمل به كما يُعمل بالمقطوع به فيلزم: الصحة، أما الشك فلا تُبنى عليه أحكام، ولا يُعمل به: فيلزم عدم الصحة.

(156)

مسألة: إذا نوى عمرو الانفراد، ودخل في الصلاة وفي أثنائها نوى أن يتبع زيدًا، فجعل عمرو نفسه مأمومًا لزيد أو نوى عمرو الانفراد في الصلاة فجاء زيد وانضم إليه فنوى عمرو في أثناء صلاته: أن يكون إمامًا لزيد: فإن صلاة عمرو في الحالتين لا تصح، سواء كانت صلاة فرض أو نفل؛ للتلازم؛ حيث إنه يشترط في الإمامة والائتمام أن تكون نيتهما الإمامة أو الائتمام في ابتداء الصلاة - كما سبق في مسألة (151) - وتستمر إلى آخرها، وعمرو هنا لم ينو الائتمام بزيد، ولم ينو أن يكون إمامًا له من ابتداء الصلاة: فلزم بطلان الصلاة في الحالتين ولعدم استمرار النية التي كانت من أول الصلاة واختلافها، وهذا يكون في النفل كما كان في الفرض؛ لعدم الفارق بينهما في النية وهذا موافق =

ص: 430

نوى الانفراد (مؤتمٌ بلا عذر) كمرض وغلبة نعاس، وتطويل إمام:(بطلت) صلاته؛ لتركه متابعة إمامه، ولعذر: صحَّت

(157)

فإن فارق في ثانية جمعة لعذر: أتمّها

للقواعد، فإن قلتَ: إن فعل عمرو في صلاة النافلة يصح، فتصح صلاته فيها وهذا قاله كثير من الحنابلة وغيرهم؛ للسنة الفعلية؛ حيث قال ابن عباس:"كان النبي صلى الله عليه وسلم يُصلِّي التَّهجد عند خالتي ميمونة فقمت إلى شقه الأيسر فأخذ بيدي وجعلني في الشق الأيمن" حيث انضم ابن عباس إلى النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة النافلة، فغيَّر نيته من كونه منفردًا إلى الإمامة فلو لم يكن جائزًا لما فعله النبي صلى الله عليه وسلم، قلتُ: يُحتمل أنه صلى الله عليه وسلم كان يغلب على ظنه أن ابن عباس سينضم إليه؛ لعلمه بمبيته عند خالته ميمونة، فكانت نيته صلى الله عليه وسلم الإمامة في ابتداء الصلاة، وهذا يصح - كما سبق في مسألة (155) -، وإذا تطرق الاحتمال إلى الدليل بطل به الاستدلال، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض ما يلزم من اشتراط نية الإمامة والائتمام مع السنة الفعلية في النفل" فعندنا: إن ذلك التلازم عام لكل صلاة، وعندهم: خاص في الفرض فقط وقويت السنة الفعلية على إخراج النفل منه.

(157)

مسألة: إذا صلى مسلم خلف إمام ونوى الائتمام، وفي أثناء صلاته نوى الانفراد فترك الجماعة وأكمل الصلاة لوحده: فإن كان ذلك بسبب عذر وغرض صحيح كأن يصاب بمرض أو نُعاس، أو تطويل إمام، أو غلبة قيء، أو بول أو غائط، أو خاف من فوات رفقة، أو خاف على مال أو ولد أو أهل، أو فوات أيِّ مصلحة: فإن صلاته صحيحة، أما إن فعل ذلك لغير عذر: فلا يصح، وتبطل صلاته، ويجب عليه أن يستأنفها؛ للسنة التقريرية؛ حيث إن رجلًا كان يُصلِّي خلف معاذ، فتركه، وأكمل صلاته منفردًا؛ نظرًا لتطويل معاذ الصلاة، فلما علم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك أنكر على معاذ تطويله للصلاة ولم يأمر ذلك الرجل بإعادة الصلاة، فلو لم يجز ذلك؛ للعذر لما أقره عليه صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا يجوز =

ص: 431

جمعة

(158)

(وتبطل صلاة مأموم ببطلان صلاة إمامه)؛ لعذر أو غيره (فلا استخلاف) أي فليس للإمام أن يستخلف من يُتمَّ بهم إن سبقه الحدث

(159)

ولا تبطل صلاة إمام ببطلان صلاة مأموم ويُتمُّها

تأخير البيان عن وقت الحاجة، والأعذار الأخرى كعذر التطويل؛ لعدم الفارق من باب مفهوم الموافقة، بجامع: دفع المفسدة في كلٍّ ويلزم من هذا: أنه لا يصح فعل ذلك لغير عذر؛ فإن قلتَ: لمَ صحَّ ذلك بالعذر؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك يُعتبر من الرُّخص لدفع الضيق والمشقة فقد يعتري المسلم إذا دخل في صلاته أشياء لا يمكنه الصبر معه فرخَّص الشارع ذلك لقضاء ذلك، فإن قلتَ: كيف يصح ذلك مع إن فيه تغيير نية، وهذا لا يجوز كما سبق في مسألتي (151 و 156)؟ قلتُ: الأصل عدم جواز تغيير النية، وعدم صحة الصلاة إذا غيَّرها، وإنما خولِف هذا الأصل؛ للعذر الذي ذكرناه، وهذا من باب الرُّخص كما رخَّص في أكل الميتة عند الاضطرار، وكما رخَّص في الأكل والشرب في نهار رمضان عند الضرورة والحاجة.

(158)

مسألة: إذا كان زيد مأمومًا في صلاة الجمعة، وصلى مع إمامه ركعة كاملة، وقام للركعة الثانية، وأراد زيد أن يفارق إمامه هنا ويُصلِّي منفردًا؛ لعذر طرأ عليه: فله ذلك، ويكملها جمعة فيُصلِّي زيد ركعة أخرى فقط؛ للقياس، بيانه: كما يجوز ذلك في جميع الصلوات - كما سبق في مسألة (157) - فكذا: يجوز في صلاة الجمعة والجامع: الفرضية في كل، فإن قلتَ: لمَ صحَّ ذلك؟ قلتُ: لأن صلاة الجمعة تدرك بصلاة ركعة واحدة، أما إن فارق إمامه لغير عذر، أو قبل أن يصلي ركعة كاملة: فإنه لا يكملها جمعة، بل يصليها ظهرًا، وسيأتي في باب "الجمعة".

(159)

مسألة: إذا أحدث الإمام بسبب خروج ريح ونحوه، أو طرأ له عذر: فإن صلاة المأمومين لا تبطل، بل يستخلف هذا الإمام من المأمومين من يُتم الصلاة =

ص: 432

منفردًا

(160)

(وإذا أحرم إمام الحي) أي: الراتب (بمن) أي: بمأمومين (أحرم بهم

عنه؛ لإجماع الصحابة السكوتي؛ حيث إن عمر لما طُعن في صلاة الفجر أمر عبد الرحمن بن عوف بأن يصلي بالناس ويكملها لهم، ولم ينقل أنه استأنفها، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة هذا الفعل، فإن قلتَ: لمَ لا تبطل صلاة المأمومين؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن الإمام قد بطلت صلاته لعذره، ولم يوجد هذا عند المأمومين ولم يكن بطلان صلاة الإمام بحدث من مبطلات الصلاة، ثم إن تغير نية الذي أمَّ الناس بعد أن كانت نيته أنه مأموم يصح؛ لوجود العذر، وهو وجود الحدث عند إمامه كما قلنا في انفراد المأموم عن الإمام في مسألة (157)، فإن قلتَ: تبطل صلاة المأمومين بذلك، وهو ما ذكره المصنف هنا، وعلى هذا: فلا استخلاف؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "إنما جعل الإمام ليؤتمَّ به" حيث إن هذا قد دلَّ على أن المأموم يتبع الإمام في كل شيء، ومن ذلك: أنه إذا بطلت صلاة الإمام فإن صلاة المأموم تبطل؛ نظرًا لهذه التبعية، قلتُ: إن المتابعة الواجبة هي: في الركوع والسجود والانصراف ونحو ذلك مما ورد فيه النص لصلة المأموم بها، أما بطلان صلاة الإمام بحدث فلا يتابعه المأموم على ذلك؛ لأنه لا صلة لذلك بالمأموم لا من قريب ولا من بعيد، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "الخلاف في المراد بالمتابعة هل هي في كل شيء، أم بشيء مخصوص؟ " فعندنا: بشيء مخصوص وهي الركوع والسجود والانصراف، وعندهم: في كل شيء.

(160)

مسألة: إذا بطلت صلاة مأموم بخروج بول أو ريح ونحوهما: فلا تبطل صلاة إمامه، ويكمل هذا الإمام صلاته منفردًا - إن لم يكن معه آخر - وهذا يصح ولو تغيَّرت نيته من كونه إمامًا إلى كونه منفردًا للقياس، بيانه: كما أن صلاة المأموم لا تبطل ببطلان صلاة إمامه لعذر - كما سبق في مسألة (159) - =

ص: 433

نائبه)؛ لغيبته، وبنى على صلاة نائبه (وعاد) الإمام (النائب مؤتمًا: صح)؛ "لأن أبا بكر صلى فجاء النبي صلى الله عليه وسلم والناس في الصلاة فتخلَّص حتى وقف في الصف، وتقدَّم فصلى بهم" متفق عليه

(161)

، وإن سبق اثنان فأكثر ببعض الصلاة فأتمَّ أحدهما

فكذلك لا تبطل صلاة الإمام ببطلان صلاة المأموم والجامع: أن كلًّا منهما لا صلة له بالآخر، وليس بطلان صلاة أحدهما مؤثر في بطلان صلاة الآخر؛ لأن هذا ليس من مبطلات الصلاة.

(161)

مسألة: إذا غاب إمام المسجد الراتب فتقدَّم نائب عنه ليصلي بالناس، وبعد دخول النائب في الصلاة حضر الإمام الراتب: فإن هذا الراتب يكون مع المأمومين ويكمل النائب عنه إمامته التي بدأها ولا يتقدَّم الراتب عليه؛ لقاعدتين: الأولى: التلازم؛ حيث إن الذي أمَّ الناس أولًا - وهو النائب - قد نوى الإمامة من أول الصلاة فيجب أن يستمر بها ولا يقطعها إلا لعذر بحدث ونحوه كما سبق في مسألة (159)، وحضور الإمام الراتب ليس بعذر، فيلزم من ترك النائب للإمامة بسبب حضور الإمام الراتب قطع نيتها بلا عذر، وهذا يلزم منه بطلان الصلاة، الثانية: المصلحة؛ حيث إن تقدم الإمام الراتب للإمامة أثناء الصلاة وتأخر نائبه الذي بدأ بالإمامة فيه مفاسد، ومنها: كسر قلب النائب عند عوام الناس، وإيجاد حركة من غير جنس الصلاة قد تؤدي إلى بطلان الصلاة، وإشغال المأمومين بتلك الحركة مما يؤثر على الخشوع فيها، في حين أنه لا توجد حاجة لهذا الأمر، ودفعًا لذلك شرع هذا الحكم، وهذا هو المقصد منه، فإن قلتَ: إن الإمام النائب هنا يتأخر عند حضور الإمام الراتب أثناء الصلاة، ويتقدم الإمام الراتب، ويُكمل الصلاة التي بدأها نائبه، وتصح صلاتهما وهذا الذي ذكره المصنف هنا؛ للسنة الفعلية؛ حيث "إنه صلى الله عليه وسلم قد تأخر مرة، فتقدم أبو بكر فصلى بالناس، وفي أثناء الصلاة حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتأخر أبو بكر وتقدم النبي صلى الله عليه وسلم وأكمل الصلاة التي بدأها أبو بكر" - كما روى =

ص: 434

بصاحبه في قضاء ما فاتهما، أو ائتمَّ مقيم بمثله إذا سلَّم إمام مسافر: صح

(162)

.

ذلك سهل بن سعد - وهذا يدل على جواز فعله لكل أحد؛ قياسًا عليه، قلتُ: هذا قياس فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم لا يساويه أحد من الصحابة في الفضل، فلا يجوز لأحد أن يتقدم عليه في الإمامة، بخلاف الأمة؛ لذلك تجد أبا بكر قال:"ما كان لابن أبي قحافة أن يتقدم بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم"، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "هل يقاس على النبي صلى الله عليه وسلم غيره في الإمامة أو لا؟ " فعندنا: لا، وعندهم: نعم.

(162)

مسألة: إذا سلم الإمام من الصلاة، وكان زيد وعمرو قد فاتتهما بعض ركعات منها أو كان الإمام مسافرًا فقصر الصلاة، وصلى بصلاته زيد وعمرو المقيمان، فقاما ليقضيان ما فاتهما، أو يتمان تلك الصلاة التي قصرها المسافر، فجعل زيد عمرًا إمامًا له في هذه الصلاة: فإن هذا لا يصح، بل تبطل صلاتهما؛ للتلازم؛ حيث إن زيدًا وعمرًا قد دخلا الصلاة في ابتدائها بنية كونهما مأمومين معًا، فيلزم من تغيير نيتهما بلا عذر إلى كون أحدهما إمامًا والآخر مأمومًا: بطلان تلك النية التي يشترط فيها الاستمرار فيما نوياه من ابتداء صلاتهما - كما سبق -، ويلزم من بطلان النية: بطلان الصلاة، فإن قلتَ: إنه يصح ذلك، وهو ما ذكره المصنف هنا؛ للقياس، بيانه: كما أنه يصح أن يستخلف الإمام من يُكمل عنه الصلاة من المأمومين إذا حدث له حدث - كما سبق في مسألة (159) - فكذلك يصح ذلك هنا، والجامع: أنه في كل منهما حصل انتقال من إمام لإمام آخر، قلتُ: هذا قياس فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ حيث إن مسألة الاستخلاف - وهي مسألة (159) - قد رُخِّص فيها تغيير النية لوجود العذر - وهو خروج حدث أو غلبته - وفائدته: استمرار المأمومين في صلاتهم دون انقطاع، بخلاف هذه المسألة فلا يوجد عذر، فكل منهما قد فاته شيء من الصلاة مثل صاحبه، ووجد ثواب تحصيل صلاة =

ص: 435

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الجماعة، فلا فائدة من جعل زيد لعمرو إمامًا له، فإن قلتَ: ما الخلاف سبب هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض التلازم مع القياس" فعندنا: يُعمل بالتلازم، وعندهم: يُعمل بالقياس وكأنه مخصِّص لعموم التلازم.

هذه آخر مسائل باب: "شروط صحة الصلاة" ويليه باب: "صفة الصلاة وبيان أركانها وواجباتها ومستحباتها"

ص: 436

‌باب صفة الصلاة

يُسنُّ الخروج إليها: بسكينة ووقار، ويُقارب خطاه

(1)

، وإذا دخل المسجد: قدَّم رجله اليُمنى، واليُسرى إذا خرج ويقول ما ورد

(2)

، ولا يُشبِّك

‌باب صفة الصلاة وبيان أركانها وواجباتها ومستحبَّاتها

وفيه مائة وسبع وأربعون مسألة:

(1)

مسألة: يُستحب أن يمشي إلى المسجد، وهو في حال السكينة والوقار: فيجتنب العبث ويخفض الصوت، ويغض الطرف، ويقارب الخطى، ويدعو - في هذه الحالة - بما ورد؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "إذا آتيتم الصلاة فعليكم بالسكينة"، فأوجب الشارع السكينة هنا؛ لأن "على" من صيغ الوجوب، وصرفه إلى الاستحباب إجماع الصحابة السكوتي؛ حيث إن بعض الصحابة كانوا يستعجلون إلى الصلاة بدون نكير من أحد، ولفظ "السكينة" مستلزم للوقار، الثانية: السنة الفعلية؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم إذا ذهب إلى المسجد يُقارب الخطى - كما رواه زيد بن ثابت - وقال صلى الله عليه وسلم: "من خرج من بيته إلى الصلاة فقال: إني أسألك بحق السائلين عليك، وأسألك بحق ممشاي هذا: فإني لم أخرج أشرًا ولا بطرًا ولا رياء، ولا سمعة، خرجت اتقاء سخطك، وابتغاء مرضاتك، فأسألك أن تنقذني من النار، وأن تغفر لي ذنوبي؛ إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت: أقبل الله إليه بوجهه واستغفر له سبعون ألف ملك" فإن قلتَ: لِمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن السكينة والوقار يُساعدان على خشوع القلب وخضوعه لله تعالى، ومقاربة الخطى فيه تكثير الحسنات وتكفير السيئات؛ حيث إنه لا يخطو خطوة إلا ورفع الله له بها درجة، وحط عنه بها خطيئة - كما ورد في الحديث - وأن الدعاء وهو في طريقه إلى مسجده فيه غفران ذنوبه - كما سبق -.

(2)

مسألة: يُستحب أن يُقدِّم رجله اليُمنى إذا أراد دخول المسجد ويقول: "بسم الله والصلاة على رسول الله، رب اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب رحمتك"، وإذا =

ص: 437

أصابعه

(3)

ولا يخوض في حديث الدنيا

(4)

، ويجلس مستقبل القبلة

(5)

و (يُسنُّ) للإمام فالمأموم: (القيام عند) قول المقيم (قد من إقامتها) أي: من: "قد قامت الصلاة"؛

أراد الخروج منه: قدَّم رجله اليُسرى ويقول: "بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله رب اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب فضلك"؛ للسنة الفعلية؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك - كما روى ذلك أنس وفاطمة -، فإن قلتَ: لِمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: لأنه شُرِع تقديم اليُمنى لما يُكرَّم، وتقديم اليُسرى لما يُستقذر كالحمام ونحوه - كما سبق -، ولأن دعاء الدخول شرع هكذا؛ لكون المسجد محل تنزيل الرحمة وشُرع دعاء الخروج هكذا؛ لكون الخارج محل طلب الرزق والفضل فخص كل دعاء بما يليق به.

(3)

مسألة: يُكره أن يُشبِّك بين أصابعه، وأن يُفرقعها، وهو في حال المشي إلى الصلاة، وحال جلوسه في المسجد؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم:"إذا توضأ أحدكم فأحسن وضوءه، ثم خرج عامدًا إلى المسجد فلا يُشبِّكن بين يديه؛ فإنه في صلاة" وهذا عام في الأحوال، فيشمل حال المشي إليها، وحال الجلوس لها؛ لعدم المخصِّص، وهذا يفيد تحريم تشبيك الأصابع - وهو: إدخال بعضها في بعض - وصرفته السنة الفعلية إلى الكراهة؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد ثبت عنه أنه قد شبَّك بين أصابعه وهو في هذه الحالة، فإن قلتَ: لِمَ كُره ذلك؟ قلتُ: لأن ذلك من العبث الذي يتنافى مع العبادة.

(4)

مسألة: يُكره الكلام في الدنيا وزينتها في حال المشي إلى المسجد، وحال الجلوس فيه؛ للمصلحة؛ حيث إن ذلك مما يُلهي عن الدعاء والذكر المشروع ويتنافى مع العبادة.

(5)

مسألة: يُستحب أن يجلس في المسجد وهو مستقبل القبلة؛ للمصلحة؛ حيث إن هذه الجهة خير الجهات وأشرفها - كما ورد في الحديث - وهي أقرب إلى الاستجابة للدعاء.

ص: 438

لأن النبي صلى الله عليه وسلم "كان يفعل ذلك" رواه ابن أبي أوفى، وهذا إن رأى المأموم الإمام، وإلا: قام عند رؤيته

(6)

، ولا يُحرِم الإمام حتى تفرغ الإقامة

(7)

(و) تُسنُّ (تسوية الصف) بالمناكب والأكعب فيلتفتُ عن يمينه فيقول: "استووا رحمكم الله" وعن يساره كذلك

(8)

، ويُكمل الأول فالأول،

(6)

مسألة: إذا أقيمت الصلاة: فإنه يُستحب أن يقوم الإمام والمأموم عند قول المقيم "قد" من عبارة: "قد قامت الصلاة" هذا إذا كان الإمام في المسجد، أما إذا لم يكن الإمام في المسجد ولا يُعلم قربه منه: فلا يقوم المأموم إلا عند رؤية الإمام؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني خرجت" حيث حرم الشارع القيام للصلاة حتى يُرى الإمام، وصرفته إلى الكراهية: المصلحة؛ حيث إن القيام عند قول المقيم: "قد" والإمام بعيد لا يُرى: يشقُّ على القائم؛ لإفضائه إلى طول القيام، فكُره لأجل ذلك، الثانية: السنة الفعلية؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم يقوم عند قول المقيم "قد"، فإن قلتَ: لِمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه مراعاة للمأموم بأن لا يقوم قبل فيشق عليه، وأن لا يقوم بعد فتفوته تكبيرة الإحرام.

(7)

مسألة: يُستحب أن لا يكبر الإمام تكبيرة الإحرام إلا إذا فرغ المقيم من الإقامة؛ للمصلحة؛ حيث إنه لو كبَّر تكبيرة الإحرام قبل فراغ المقيم لاضطرب المأمومون، ولفاتت على المقيم تكبيرة الإحرام، ولما كان للإقامة فائدة، فدفعًا لذلك: شُرع هذا.

(8)

مسألة: يُستحب للإمام أن يحث المأمومين بأن يسووا صفوفهم بأن يأمرهم بذلك عن يمينه وشماله، ويجب على المأمومين أن يسووا صفوفهم ويتراصوا: بأن يُلصق كل واحد من المأمومين كتفه وكعبه بكتف وكعب الآخر - على حسب الاستطاعة -؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "سووا صفوفكم وتراصُّوا" =

ص: 439

ويتراصُّون

(9)

، وميمنة

(10)

، والصف الأول للرجال أفضل، وله ثوابه وثواب من وراءه ما اتصلت الصفوف، وكلما قرب منه فهو أفضل

(11)

، والصف الأخير

حيث أوجب الشارع على المأمومين تسوية الصفوف؛ لأن الأمر مطلق، فيقتضي الوجوب، ولم يوجد صارف له ويُستحب للإمام أن يحثهم على ذلك؛ لكونه سنة فعلية، فإن قلتَ: لِمَ وجب على المأمومين أن يسووا صفوفهم؟ قلتُ: للمصلحة حيث إن التسوية في الصف تطرد الشياطين، وترضي الرحمن، كما ورد في الحديث، فإن قلتَ: لِمَ استُحب للإمام أن يحث المأمومين بذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حث على البر والتقوى وتعاون على ذلك أصله قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} وهو عام، فيشمل ما نحن فيه.

(9)

مسألة: يُستحب للمأمومين أن يُكملوا الصف الأول، ثم الثاني وهكذا؛ للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه طرد الشيطان، والقرب من الإمام، تنبيه: قوله: "ويتراصون" قد سبق بيانه في مسألة (8).

(10)

مسألة: يُستحب أن يقف المأموم عن يمين الإمام: للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "إن الله وملائكته يصلون على ميامين الصفوف"، فإن قلتَ: لِمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن من فعل ذلك سيتعرض للرحمة من الله، ولدعاء الملائكة.

(11)

مسألة: الصف الأول للرجال أفضل من الصف الثاني، والثاني أفضل من الثالث وهكذا، للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم:"خير صفوف الرجال أولها""والخيرية" و"الأفضلية" بمعنى واحد، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن من في الصف الأول يقتدي بالإمام مباشرة، ويسمع القراءة والتكبيرات منه، ويقتدي به أشد ممن في الصف الثاني، فيكون من في الصف الأول قد تحصَّل على ثوابه، وثواب من في الصف الثاني؛ لاقتدائه به إذا كانت الصفوف متصلة.

ص: 440

للنساء أفضل

(12)

(ويقول) قائمًا في فرض مع القدرة: (الله أكبر) فلا تنعقد إلا بها نطقًا؛ لحديث: "تحريمها التكبير" رواه أحمد وغيره، فلا تصح إن نكسه، أو قال:"الله الأكبر" أو "الجليل" ونحوه، أو مدَّ همزة:"ألله" أو "أكبر"، أو قال:"إكبار"، وإن مطَّطه: كُرِه مع بقاء المعنى

(13)

، فإن أتى بالتحريمة، أو ابتدأها، أو أتمَّها غير قائم:

(12)

مسألة: الصف الأخير للنساء أفضل من الذي قبله - إذا صلَّين مع الرجال -؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "خير صفوف النساء آخرها وشرها أولها"، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن المرأة عورة، والصفوف الأخيرة استر لها، وأحصن، والغرض من ذلك: منع الفتنة، وكلما بالغت المرأة في ستر نفسها: كلما كان أجرها أعظم، ومحبتها عند الزوج أعظم أيضًا.

(13)

مسألة: إذا أراد الدخول في الصلاة: فإنه يُكبِّر تكبيرة الإحرام قائلًا: "الله أكبر" لا يجزئه إلا هذا القول - وهو ركن - ويقول ذلك وهو قائم - للقادر عليه والقيام ركن أيضًا للمصلي فرضًا - وعلى ذلك: لا يجزيء إن عكسه بأن يقول: "أكبر الله"، أو قال:"الله الأكبر" أو قال: "الله الجليل" أو "الأعظم"، أو مدَّ همزة "الله" قائلًا:"آلله" أو مد همزة "أكبر" قائلًا: "آكبر" فيكون استفهامًا، أو قال:"إكبار" أو نحو ذلك، أو مطَّط ذلك بحيث يُحيل معناها إلى معنى آخر وهذا يبطل الصلاة، فإن مطط قوله:"الله أكبر" مطًا لا يحيل المعنى: فمكروه؛ لقواعد: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} والأمر بالقيام يقتضي الوجوب لأنه مطلق، الثانية: السنة القولية، وهي من وجوه: أولها: قوله: "وتحريمها التكبير" حيث حصر التحريم بالتكبير من باب مفهوم حصر المبتدأ بالخبر، ثانيها: قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يقبل الله صلاة امرئ حتى يضع الطهور مواضعه، ثم يستقبل القبلة، ويقول: الله أكبر"، فنفي قبول الصلاة هنا يلزم منه: أن من لم يقل: "الله أكبر" لا صلاة له، ودل مفهوم الغاية منه على أنه إذا =

ص: 441

صحَّت نفلًا إن اتسع الوقت

(14)

ويكون حال التحريمة (رافعًا يديه) ندبًا، فإن عجز عن رفع إحداهما: رفع الأخرى مع ابتداء التكبير، ويُنهيه معه (مضمومتي الأصابع ممدودة) الأصابع مستقبلًا ببطونها القبلة (حذو) أي: مقابل (منكبيه)؛ لقول ابن

قالها يقبل الله صلاته إذا استكمل الشروط الأخرى - ثالثها: قوله صلى الله عليه وسلم: "صل قائمًا" حيث أوجب القيام؛ لأن الأمر مطلق فيقتضي الوجوب، ويلزم من ذلك: أن من قال غير هذه اللفظة، أو قالها على غير المشروع: أن لا تصح صلاته؛ حيث إنه قد أتى بشيء لم يوافق به أمر الله، فيكون مردودًا، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا القول مع كونه قائمًا ولِمَ كانا ركنين؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن قوله: "الله أكبر" فيه تعظيم لله قولي، وأن الله أعظم من كل شيء يخطر ببال الإنسان، وقول ذلك في حال قيامه مبالغة في التعظيم؛ حيث لا يستحقه إلا هو سبحانه فيجتمع التعظيم القولي والفعلي في ذلك، فإن قلتَ: لِمَ كُره التمطيط الذي لا يحيل المعنى؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه مراعاة بعض من كانت لهجته تقتضي التمطيط، دون تغيير المعنى والمقصد من ذلك.

(14)

مسألة: إذا قال القادر: "الله أكبر" - وهي تكبيرة الإحرام - وهو قاعد في فرض، أو ابتدأها وهو قاعدًا: بأن قال: "الله" ثم قام وقال: "أكبر"، أو أتم قولها وهو لم يعتدل في القيام: ففيه تفصيل: أولًا: إن كان الوقت واسعًا يسع نفلًا وفرضًا: فإنه يُتم تلك الصلاة نفلًا، ثم يقوم ويُكبر للفرض، ثانيًا: إن كان الوقت لا يسع إلا لفرض: فإنه يقطع ذلك، ثم يقوم ويُكبر لصلاة الفرض؛ للتلازم؛ حيث إن تكبيرة الإحرام لا تصح في الفرض إلا إذا كان قائمًا - حيث إن التكبيرة والقيام ركنان - كما في مسألة (13) - فيلزم عدم صحتها إن كان في غير القيام - وهو مستطيع له -؛ لمخالفته للمشروع عمدًا، والمقصد من ذلك قد سبق ذكره في مسألة (13).

ص: 442

عمر: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة رفع يديه حتى يكونا حذو منكبيه ثم يُكبِّر" متفق عليه، فإن لم يقدر على الرفع المسنون: رفع حسب إمكانه، ويسقط بفراغ التكبير كله، وكشف يديه هنا وفي الدعاء أفضل، ورفعهما إشارة إلى رفع الحجاب بينه وبين ربه (كالسجود) يعني: أنه يُسنُّ في السجود وضع يديه بالأرض حذو منكبيه

(15)

(ويُسمع الإمام) استحبابًا بالتكبير كله (من خلفه) من المأمومين؛ ليُتابعوه، وكذا: يجهر بـ "سمع الله لمن حمده" و"التسليمة الأولى"، فإن لم يمكن إسماع جميعهم: جهر به بعض المأمومين؛ "لفعل أبي بكر معه صلى الله عليه وسلم" متفق عليه، (كقراءته) أي: كما يُسنُّ للإمام أن يسمع قراءته من خلفه (في أوَّلتي غير الظهرين) أي: الظهر

(15)

مسألة: في أثناء تكبيرة الإحرام يُستحب أن يرفع المصلي يديه إلى مساواة كتفيه، أو أذنيه من أسفل، وتكون مكشوفة، وأصابع كل يد ممدودة، مضمومة الأصابع بعضها إلى بعض، ويكون هذا الرفع لهما في حال قوله:"الله أكبر" من أول هذا القول إلى آخره، فلا يرفعهما قبل قوله هذا، ولا بعده، ويستقبل القبلة ببطون يديه، ويفعل ذلك بالدعاء، والسجود إلا أنه يجعل بطونهما على الأرض؛ للسنة الفعلية؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك - كما روى ذلك ابن عمر ومالك بن الحويرث، وأبو هريرة - فإن قلتَ: لِمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه مبالغة في تعظيم الله، وكلما زاد المسلم التعظيم لله كلما عظَّم الله له الأجر، فإن قلتَ: لِمَ لا يرفع يديه إذا فرغ من التكبير؟ قلتُ: لأن الرفع عبادة جُعل محلُّها حال التكبير، فإذا فات وقته ومحله فيلزم عدم مشروعيته، فإن قلتَ: لِمَ استُحب كشفهما؟ قلتُ: لكونه يستعطف الله ويستجديه الثواب والصلاح حيث إن هذا شأن من يريد من أحد شيئًا - ولله المثل الأعلى - تنبيه: قوله: "ورفعهما إشارة إلى رفع الحجاب

" قلتُ: هذا فيه نظر، حيث بينا المقصد من مشروعية رفع اليدين وكشفهما، وهو أنسب مما ذكره.

ص: 443

والعصر، فيجهر في أوَّلتي المغرب والعشاء، والصبح والجمعة، والعيدين، والكسوف، والاستسقاء، والتراويح، والوتر بقدر ما يُسمع المأمومين

(16)

(وغيره) أي: غير الإمام، وهو: المأموم والمنفرد يَسرُّ بذلك كله، لكن ينطق به بحيث يُسمع (نفسه) وجوبًا في كل واجب؛ لأنه لا يكون كلامًا بدون الصوت، وهو: ما يتأتَّى سماعه

(16)

مسألة: يُستحب للإمام أن يجهر بتكبيرات الصلاة، وقراءة الفاتحة وآية بعدها - في غير الظهر والعصر -، ويجهر أيضًا بعبارة "سمع الله لمن حمده" والتسليمتين ويفعل ذلك حتى يُسمع المأمومين، وإذا تعذَّر ذلك بسبب كثرة المأمومين، أو خفض صوت الإمام: فيُستحب أن يجهر بعض المأمومين ليُسمع الآخرين بذلك - بعد سماع الإمام - إلا القراءة؛ لقاعدتين: الأولى: السنة الفعلية؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك، الثانية: السنة التقريرية؛ حيث قال جابر: "صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر خلفه، فإذا كبَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم كبَّر أبو بكر ليُسمعنا" ولم ينكره النبي صلى الله عليه وسلم، وقول "سمع الله لمن حمده" و"التسليمتان" مثل التكبير، لعدم الفارق من باب: مفهوم الموافقة، فإن قلتَ: لِمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حصول متابعة الإمام متابعة دقيقة ولتحقيق الإئتمام الشرعي؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "إنما جعل الإمام ليؤتمَّ به فإذا كبَّر فكبِّروا

" ولا يحصل ذلك إلا بالجهر، فإن قلتَ: لِمَ استُحب أن يجهر بالقراءة؟ قلتُ: ليحصل كل مأموم على فائدة الاستماع، فإن قلتَ: كيف تصح صلاة المأموم مع أنه قصد إسماع المأمومين الآخرين له بالتكبير؟ قلتُ: إذا نوى الأمرين وهما: إسماع نفسه بذلك، وإسماع الآخرين: صحت صلاته؛ نظرًا لصحة النية؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات" وهما عملان قد نواهما معًا، فإن قلتَ: لمَ صحت صلاة ذلك المسمِّع؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث لو كُلِّف المسمِّع بإعادة صلاته مرة ثانية: للحقه الضرر والمشقة، ولما وجد متبرع في ذلك، فدفعًا لذلك: شرع.

ص: 444

حيث لا مانع، فإن كان: فبحيث يحصل السماع مع عدمه

(17)

(ثم) إذا فرغ من التكبيرة (يقبض كوع يسراه) بيمينه ويجعلهما (تحت سُرَّته) استحبابًا؛ لقول علي: "من السنة وضع اليمين على الشمال تحت السُّرَّة" رواه أحمد وأبو داود (وينظر) المصلي استحبابًا (مَسْجِده) أي: موضع سجوده؛ لأنه أخشع، إلا في صلاة خوف لحاجة

(18)

(ثم) يستفتح ندبًا فـ (يقول: سبحانك اللهم) أي: أنزهك اللهم عما لا

(17)

مسألة: إذا صلى المنفرد، أو المأموم: فإنه لا يجهر بشيء من التكبير والقراءة، والتسميع والتسليم، ولكن يجب عليه أن يُسمع نفسه إذا قال أيَّ ركن أو واجب بأن يُحرِّك لسانه بشرط: عدم إزعاج الآخرين، للتلازم؛ حيث إن التكبير والتسميع والقراءة والتسبيح والتسليم كلام يُرجى ثوابه، ولا يكون كلامًا إلا إذا كان مسموعًا فيلزم - لتحقيق ذلك -: أن يُسمع نفسه بصوته ونطقه؛ فإن قلتَ: لِمَ وجب ذلك؟ قلتُ: ليكون متأكدًا من أنه قال ذلك الركن أو الواجب، فإن قلتَ: لِمَ اشتُرط ذلك الشرط؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن إزعاجهم يُفسد عليهم صلاتهم فلا يعلمون ماذا يقولون، فيكون آثمًا بذلك، فدفعًا لذلك: اشتُرط هذا الشرط.

(18)

مسألة: بعد فراغ المصلي من تكبيرة الإحرام: يُستحب أن يقبض براحة يده اليُمنى كوع يده اليسرى - وهو: مفصل الكف من الذراع - ويجعلهما تحت سرَّته، وأن ينظر ببصره إلى موضع سجوده إلا إذا كان مُحتاجًا للنظر إلى غيره: كأن يخاف من شيء: كعدو، أو نار، أو دابة، أو خاف على ماله أو أهله من السرقة أو أي خطر: فإنه ينظر إلى ما خوَّفه، لقاعدتين: الأولى: السنة الفعلية، وهي من وجهين: أولهما: قول وائل بن حجر: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان قائمًا في الصلاة قبض بيمينه على شماله" ثانيهما: قول علي: "من السنة وضع اليمين على الشمال تحت السُّرَّة" وقوله هذا له حكم الحديث المرفوع؛ =

ص: 445

يليق بك (وبحمدك) سبَّحتك (وتبارك اسمك) أي: كثرت بركاته (وتعالى جدُّك) أي: ارتفع قدرك وعظم (ولا إله غيرك) أي: لا إله يستحق أن يُعبد غيرك؛ "كان عليه الصلاة والسلام يستفتح بذلك" رواه أحمد وغيره

(19)

(ثم يستعيذ) ندبًا فيقول: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم"

(20)

(ثم يُبسمل)

لأنه لا سنة يقصدها الصحابي إلا سنة النبي صلى الله عليه وسلم، الثانية: المصلحة؛ حيث إن هذه الصفة أبلغ في التذلُّل، والخضوع، والخشوع، وأجمع لعقله وذهنه، وأمنع من العبث والتشتت، فيكمل أجر صلاته، فإن قلتَ: لِمَ لا ينظر إلى موضع سجوده في حالة الخوف؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية له من أيِّ ضرر؛ إذ لا ضرر ولا ضرار في الإسلام

(19)

مسألة: بعد فراغ المصلي من التحريمة ووضع يده اليُمنى على اليسرى تحت السرة: يُستحب أن يدعو بدعاء الاستفتاح سرًا، وهو:"سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدُّك، ولا إله غيرك" ويقول أيضًا: "اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من خطاياي كما يُنقَّ الثوب الأبيض من الدَّنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالثلج والماء والبَرَد"؛ للسنة الفعلية؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم يستفتح بذلك، فإن قلتَ: لِمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تعظيم لله وتمجيد له، وثناء عليه، وإخبار عن صفات كماله ونعوت جلاله، فإذا قال ذلك فإنه أقرب أن يُستجاب لكل دعاء يدعو به بعد ذلك، فإن قلتَ: لِمَ سُمِّي ذلك بالاستفتاح؟ قلتُ: لأنه يستفتح به الصلاة كالمفتاح للباب.

(20)

مسألة: بعد فراغه من الاستفتاح: يُستحب أن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم سِرًا؛ للسنة الفعلية؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك، فإن قلتَ: لِمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية له من كل شيطان - وهو: كل مُتمردٍ عاتٍ من الجن والإنس - وذلك حتى ينتفع بقراءته بسبب بُعد الشيطان عنه.

ص: 446

ندبًا فيقول: "بسم الله الرحمن الرحيم"

(21)

، وهي: قرآن آية منه، نزلت فصلًا بين السور غير "بَرَاءة" فيُكره ابتداؤها بها، ويكون الاستفتاح، والتعوُّذ، والبسملة (سِرًّا)

(22)

، ويُخيَّر في غير صلاة في الجهر بالبسملة

(23)

(وليست) البسملة (من الفاتحة) وتُستحب عند فعل كل مهم

(24)

(ثم يقرأ الفاتحة) تامَّة بتشديداتها، وهي

(21)

مسألة: بعد فراغه من الاستعاذة من الشيطان الرجيم: يُستحب أن يبسمل قائلًا: "بسم الله الرحمن الرحيم" سرًا؛ للسنة الفعلية؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك، فإن قلتَ: لِمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة حيث إن ذلك فيه جلب البركة في كل ما يفعل ويقول في صلاته.

(22)

مسألة: البسملة تعتبر آية من القرآن، وهي بعض آية في سورة "النمل" ويُكره أن تستفتح سورة "براءة" بالبسملة؛ للإجماع؛ حيث أجمع الصحابة والعلماء على ذلك، فإن قلتَ: لِمَ كُرِّرت البسملة وجُعلت بين السور؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه فصل بين السور؛ لئلا يُخلط بين السور، فإن قلتَ: لِمَ كُرهت البسملة في أول "براءة"؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن سورة "براءة" أكملت القصة التي ابتدئ بها في سورة "الأنفال" فهما كالسورة الواحدة، فكرهت البسملة بينهما لئلا يُفرق بينهما، تنبيه: قوله: "ويكون الاستفتاح

سرًا" قد بينته في المسائل (19 و 20 و 21).

(23)

مسألة: يُباح الجهر بالبسملة في غير صلاة؛ للاستصحاب؛ حيث إن الأصل إباحة الجهر بها ومنعت من الجهر بها في الصلاة: السنة الفعلية، فيبقى الجهر بها في غير الصلاة على الإباحة.

(24)

مسألة: البسملة لا تحسب آية من الفاتحة؛ للسنة الفعلية؛ حيث كان النبي صلى الله عليه وسلم يفتتح الصلاة بـ "الحمد لله رب العالمين" - كما روى أنس - حيث إن هذا يلزم منه: أن البسملة وما قبلها ليست من الفاتحة، فلو كانت منها: لقرأها النبي صلى الله عليه وسلم =

ص: 447

ركن في كل ركعة، وهي أفضل سورة، وآية الكرسي أعظم آية، وسُمِّيت فاتحة؛ لأنه يُفتتح بقراءتها الصلاة، وبكتابتها في المصاحف، وفيها إحدى عشرة تشديدة

(25)

،

قبل: "الحمد لله رب العالمين"، فإن قلتَ: لِمَ كانت ليست من الفاتحة؟ قلتُ: لأنها لو كانت من الفاتحة لما تحقق التنصيف الذي ورد بقوله تعالى - في الحديث القدسي -: "قسمتُ الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فإذا قال العبد: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} قال تعالى: "حمدني عبدي"، وإذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، قال تعالى: "أثنى علي عبدي"، وإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}، قال تعالى: "مجَّدني عبدي"، وإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، قال تعالى: "هذا بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل"" فلزم من هذا: أن يكون نصف الفاتحة عند قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فتكون ثلاث آيات من الفاتحة قبلها، وثلاث بعدها، فلو جُعلت:{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} آية من الفاتحة: لما كانت: "إياك نعبد .. " في النصف، تنبيه: قوله: "وتُستحب عند فعل كل مهم" قلتُ: قد سبق بيان ذلك في مسألة (1) من مسائل "الافتتاحية والديباجة" قبل البدء بكتاب الطهارة.

(25)

مسألة: بعد فراغه من البسملة: يجب أن يقرأ الفاتحة، وهي ركن في كل ركعة: فلا تصح الصلاة إلا بها، وهي تعتبر أعظم سورة في القرآن، ويقرأها تامَّة بتشديداتها الإحدى عشرة وهي:"الله" و"رَبِّ" و"الرَّحمن" و"الرَّحيم" و"الدِّين" و"إِيَّاك نعبد" و"إيَّاك نستعين" و"الصِّراط" و"الَّذين" و"الضَّالِّين"؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ وهي من وجهين: أولهما: قوله صلى الله عليه وسلم: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب" حيث إن المراد بالنفي هنا هو: نفي الصحة؛ حيث إنه أول مراتب النفي؛ إذ نفي الكمال أقل رُتبة منه فلا يمكن أن نحمل النفي عليه مع إمكاننا أن نحمله على نفي أعلى وهو نفي الصحة، ودلَّ على هذا دلالة الاقتضاء فيكون التقدير: "لا صلاة صحيحة لمن لم يقرأ

" ثانيهما: قوله صلى الله عليه وسلم: "أعظم سورة في القرآن: الحمد لله رب العالمين وهي السبع المثاني =

ص: 448

ويقرأها مرتبة متوالية (فإن قطعها بذكر أو سكوت غير مشروعين وطال) عُرفًا: أعادها، فإن كان مشروعًا كسؤال الرحمة عند تلاوة آية رحمة، وكالسكوت؛ لاستماع قراءة إمامه، وكسجود للتلاوة مع إمامه: لم يُبطل ما مضى من قراءتها مطلقًا

(26)

الذي أوتيته"، الثانية: السنة الفعلية؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم يُحافظ على قراءة الفاتحة بتشديداتها في كل ركعة، ولم يرو عنه أنه تركها مرة واحدة، فإن قلتَ: لِمَ كانت الفاتحة ركنًا؟ قلتُ: لأنها أفضل وأعظم سورة في القرآن؛ لاشتمالها على الحمد والثناء عليه سبحانه، والرحمة العامة والخاصة، والدعاء بالصلاح والفلاح في الدنيا والآخرة، فإن قلتَ: لِمَ وجب الحرص على ذكر التشديدات؟ قلتُ: لأن أكثر الناس يتساهلون فيها مما يلزم منه تغيير المراد من الآية، فمن ترك تشديدة عمدًا فلا يُعتبر قارئًا لها، فإن قلتَ: لِمَ سُميت بالفاتحة؟ قلتُ: لأن الصلاة تفتتح بقراءتها، والمصحف افتتح بها خطًا، فإن قلتَ: ما الفرق بينها وبين آية الكرسي؟ قلتُ: إن الفاتحة أعظم سورة في القرآن، وآية الكرسي أعظم آية في القرآن كما قال صلى الله عليه وسلم: "آية الكرسي أعظم آية في كتاب الله"؛ لاشتمال هذه الآية على التوحيد بأنواعه، وبيان عظمة وقوة وعلو الله سبحانه.

(26)

مسألة: يجب أن يقرأ المصلي الفاتحة مرتبة متوالية على حسب كتابتها في المصحف، دون تقديم بعض آياتها على بعض، ومتوالية دون انقطاع مُخِلٍّ بمعناها، فإن قطعها بذكر طويل غير مشروع في هذا المقام كأن يقرأ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ثم يقول: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له

" أو قطعها بسكوت طويل: فإن هذا يُبطلها، ويجب إعادتها على إمام ومنفرد، بخلاف الذكر أو السكوت القصيرين المشروعين فلا يبطلها: كأن يسأل الله الرحمة، أو يسكت نظرًا لقراءة الإمام، أو لسجوده للتلاوة فيسجد معه، ثم يُتم هذا المأموم الفاتحة؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب" حيث يلزم من ذلك أن الذي يقرأ الفاتحة بدون ترتيب أو توالي وتتابع لا =

ص: 449

(أو ترك منها تشديدة أو حرفًا أو ترتيبًا: لزم غير مأموم إعادتها) أي: إعادة الفاتحة، فيستأنفها إن تعمَّد

(27)

، ويُستحب أن يقرأها مُرتلة مُعربة يقف عند كل آية كقراءته صلى الله عليه وسلم

(28)

ويُكره الإفراط في التشديد

يُسمى قارئًا للفاتحة، ويلزم من عدم قراءتها كما شُرعت: عدم صحة الصلاة، فإن قلتَ: لِمَ اشتُرط في قراءة الفاتحة الترتيب والتتابع؟ قلتُ: لأن قراءة الفاتحة عبادة واحدة لا يجوز أن تجزأ، والذكر المشروع القصير: لا يقطعها عرفًا؛ لكونه يحدث كثيرًا، فعُفي عنه؛ تسامحًا من الشارع؛ لمراعاة أحوال الناس.

(27)

مسألة: إذا ترك المصلي عمدًا تشديدة من التشديدات الإحدى عشرة السابقة الذكر في مسألة (25) أو ترك حرفًا من حروف الفاتحة، أو ترك ترتيبها: فإن الفاتحة تبطل، ويجب على إمام ومنفرد إعادتها؛ للسنة القولية والفعلية، وقد سبق ذكر ذلك في مسألتي (25 و 26)، تنبيه: قراءة الإمام تكفي عن قراءة المأموم؛ لما سيأتي.

(28)

مسألة: يُستحب أن يقرأ المصلي الفاتحة مرتلة وأن يتمهل في القراءة، ويُحسِّن صوته، ويُعطي كلَّ حرفٍ حقَّه من الإعراب، بدون لحن، وأن يحضر قلبه ويفكر في معاني الآيات ومقاصدها وأن يقف عند آخر كل آية؛ لقواعد: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} "والترتيل" هو: القراءة السهلة الطبيعية من غير تكلُّف، والذي صرف هذا الأمر من الوجوب إلى الاستحباب: فعل الصحابي؛ حيث قد ورد أن بعض الصحابة قرأ بسرعة وحَدْر ولم يُنكر عليه، الثانية: السنة القولية: حيث قال صلى الله عليه وسلم: "زيِّنوا القرآن بأصواتكم" وهو: تحسينه من غير تكلُّف، وهذا لا يكون إلا بالترتيل والإعراب، الثالثة: السنة الفعلية؛ حيث قالت أم سلمة: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُقطِّع قراءته: يقول: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ثم يقف، {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ثم =

ص: 450

والمدَّ

(29)

(ويجهر الكل) أي: المنفرد، والإمام والمأموم معًا (بآمين في) الصلاة (الجهرية) بعد سكتة لطيفة؛ ليُعلم أنها ليست من القرآن، وإنما هي طابع الدعاء، ومعناه:"اللهم استجب" ويُحرَّم تشديد ميمها، فإن تركه إمام أو أسرَّه: أتى به مأموم جهرًا

(30)

، ويلزم الجاهل تعلم الفاتحة والذكر الواجب، ومن صلى وتلقَّف القراءة

يقف وهكذا"، فإن قلتَ: لِمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تدبُّر للقرآن وفهم لمقاصد الآيات، ليُنتفع به قولًا وفعلًا، تنبيه: هذا الحكم في المسألة يُستحب في قراءة القرآن كله.

(29)

مسألة: يُكره لقارئ الفاتحة وغيرها من القرآن: أن يُسرف في التشديد: بأن يجعل المشدد من الحروف حرفين بدلًا من واحد، وكذا: يُكره أن يُسرف في المدِّ: بأن يُطيل فيه حتى يُضيف إليه بعض الحروف، هذا إذا كان لا يُغير شيئًا من معاني الفاتحة، أما إن كان هذا الإسراف يُغيِّر المعنى: فإنه يُحرَّم ويُبطل القراءة؛ للتلازم؛ حيث إنه يلزم من تغيير المعنى: التحريم وبطلان القراءة؛ لكون القارئ لم يقرأ الفاتحة القراءة المشروعة، ويلزم من عدم تغيير المعنى: صحة القراءة، ويلزم من الإسراف الذي لم يُغير المعنى: كراهة القراءة به.

(30)

مسألة: بعد فراغه من الفاتحة وقوله: {وَلَا الضَّالِّينَ} : يُستحب أن يقول المصلي - سواء كان إمامًا أو مأمومًا أو منفردًا "آمين" جهرًا فإن تركه إمام قاله مأموم، لقواعد: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "إذا قال الإمام ولا الضَّالِّين، فقولوا: آمين" والذي صرف هذا الأمر من الوجوب إلى الاستحباب: أن المقصد منها الدعاء؛ لأن معناها: "اللهم استجب" وهذا يستوي فيه الجهر والسر، وأن هذه الكلمة ليست من الفاتحة، الثانية: السنة الفعلية؛ حيث قال وائل بن حجر: "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قال: ولا الضَّالِّين: قال: آمين ورفع بها صوته"، الثالثة: السنة التقريرية؛ حيث كان الصحابة يجهرون بقولهم "آمين" =

ص: 451

من غيره: صحَّت

(31)

(ثم يقرأ بعدها) أي: بعد الفاتحة (سورة) ندبًا كاملة فيستفتحها بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} وتجوز آية إلا أن أحمد استحب كونها طويلة كآية الدِّين، والكرسي، ونصَّ على جواز تفريق السورة في ركعتين؛

خلف رسول الله حتى يرتجَّ المسجد بهم، ولم يُنكر عليهم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فإن قلتَ: لِمَ اسْتُحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن معناها: استجب لنا ما سألناك ودعوناك من الهداية، فإن قلتَ: لِمَ استُحب الجهر بذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن الجهر بالشيء يُساعد على حضور القلب وطرد النوم، فإن قلتَ: لِمَ وجب تخفيف ميم "آمين"؟ قلتُ: احترازًا من تشديد الميم؛ لكونه يقلب المعنى، فلو قيل:"آمِّين" لكان معناها: قاصدين، وهذا يقلب المعنى.

(31)

مسألة: يجب على كل شخص أن يتعلَّم قراءة الفاتحة، وكل ركن أو واجب في الصلاة، ولو صف جاهل في صلاة وتلقَّف الفاتحة، من جاره أو أي ذكر واجب: لصحَّت صلاته؛ للتلازم؛ حيث يلزم من وجوب قراءة الفاتحة، وغيرها من الواجبات: أن يتعلَّم فعلها وقولها؛ لأنه لا صحة لصلاة بدونها، ويلزم من أخذها عن غيره في حال صلاته: أن يصح ذلك؛ لكونه أتى بالمشروع على حسب استطاعته، وهذا من باب "ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب" وباب "سقوط الواجب بالعجز عنه" أصله قوله تعالى:"فاتقوا الله ما استطعتم". [فرع]: إذا لم يقدر على تعلُّم الفاتحة: فيجب عليه أن يقرأ سبع آيات من أي سورة، فإن لم يستطع فإنه يقرأ ما قدر عليه من آية أو بعض آية ويُكررها، فإن لم يستطع: فإنه يشتغل بالذكر فيُكرر قوله: "لا إله إلا الله، وسبحان الله، والحمد لله، والله أكبر" ونحوها؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" وهذا أتى بما يستطيعه فيكون مشروعًا؛ لأن الشرط والواجب يسقطان بالعجز عنهما، وفيه مراعاة للناس، وهذا المقصد منه.

ص: 452

لفعله عليه الصلاة والسلام

(32)

، ولا يُعتد بالسورة قبل الفاتحة

(33)

، ويُكره الاقتصار على الفاتحة في الصلاة

(34)

، والقراءة بكل القرآن في فرض؛ لعدم نقله وللإطالة

(35)

،

(32)

مسألة: بعد فراغه من قراءة الفاتحة: يُستحب أن يُبسْمل، ثم يقرأ سورة كاملة، وإن قرأ آية واحدة - طويلة أو قصيرة - أو قسَّم سورة بين ركعتين، أو كرَّر سورة واحدة في الركعتين، أو قرأ سورتين في ركعة: فلا بأس، ويستحق أجر الاستحباب، لقاعدتين: الأولى: السنة الفعلية؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك، الثانية: التلازم؛ حيث يلزم من مشروعية قراءة شيء من القرآن بعد الفاتحة - في الركعتين الأوليين -: أن تجزئ أيُّ قراءة منه، فإن قلتَ: لِمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: للحصول على أجر القراءة؛ لكونه متعبَّدًا بتلاوته، فإذا وقع ذلك في صلاة فالأجر مُضاعف.

(33)

مسألة: إذا قرأ المصلي سورة أو آية قبل الفاتحة: فلا يُعتدُّ بهذه القراءة؛ فلا يتحصَّل على أجر القراءة؛ للتلازم، حيث إن محلَّ القراءة بعد الفاتحة فيلزم من قراءة شيء قبلها: عدم الاعتداد بها؛ لوقوعها في غير محلِّها، فإن قلتَ: لِمَ لا يُعتد بذلك؟ قلتُ: لأن القراءة في الصلاة عبادة، والعبادات توقيفية، فتكون تلك القراءة وردت على غير المشروع، فيكون مردودًا.

(34)

مسألة: إذا قرأ المصلي الفاتحة فقط، ولم يقرأ أي شيء من القرآن بعدها: صحت صلاته مع الكراهة؛ للتلازم؛ حيث إن استكمال شروط وأركان وواجبات الصلاة: يلزم منه صحتها، ويلزم من حرمانه لنفسه من أجر القراءة: كراهة ذلك، وهذا المقصد منه.

(35)

مسألة: إذا قرأ المصلي الفاتحة، وأتبعها كل القرآن في صلاة فرض: فإن صلاته تصح مع الكراهة؛ للسنة الفعلية؛ حيث إنه لم يرد هذا عنه صلى الله عليه وسلم في فرض، فيكون هذا المصلي فعل ما تركه صلى الله عليه وسلم، وهذا مكروه، فإن قلتَ: لِمَ صحت صلاته؟ ولِمَ يُكره؟ قلتُ: صحت صلاته لاستكمال شروطها وأركانها =

ص: 453

(وتكون) السورة (في) صلاة (الصبح من طِوال المفصَّل) - بكسر الطاء -، وأوله "ق" ولا يُكره لعذر كمرض وسفر من قصاره، ولا يُكره بطواله (و) تكون السورة (في) صلاة (المغرب من قصاره) ولا يُكره بطواله (و) تكون السورة (في الباقي) من الصلوات كالظهرين والعشاء (من أوساطه)

(36)

ويحرم تنكيس الكلمات

وواجباتها، وكره؛ لأنه شق على نفسه بالإطالة في حين لا يجوز قطعها؛ لكونها فرضًا، بخلاف النفل فلو شعر بأي مشقة أو لم يشعر: فإنه يجوز قطعها.

(36)

مسألة: يُستحب أن يقرأ المصلي في الفجر من طوال المفصَّل - وهي من "ق" إلى "النبأ" -، ويقرأ في المغرب من قصاره - وهي من "الضحى" إلى آخر القرآن - ويقرأ في الظهر والعصر والعشاء من أوساطه - وهي من "النبأ" إلى "الضحى" - وإذا خالف في ذلك فلا يُكره سواء كان لعذر أو لا؛ لقاعدتين: الأولى: السنة الفعلية؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم يقرأ بذلك في صلواته - كما روى ذلك أبو هريرة وجابر بن سمرة، الثانية: الاستصحاب؛ حيث إن أصل القراءة بعد الفاتحة مُستحب دون تفصيل في الطول والقِصر، أو وجود عذر أو عدمه فيُعمل على هذا الأصل، فإن قلتَ: لِمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن الناس تُناسبهم القراءة الطويلة في الفجر؛ لأنها تكون بعد نوم وراحة، وبعدها عمل فينتفعوا، وتناسبهم القراءة القصيرة في المغرب؛ لأنها تكون بعد عمل ومشقة، وتناسبهم القراءة المتوسطة في بقية الصلوات؛ لكون حالتهم متوسطة، ففي ذلك مراعاة لهم، تنبيه: قوله: "ولا يُكره لعذر كمرض وسفر قصاره"، قلتُ: يقصد: أنه إذا قرأ في الفجر من قصار السور بغير عذر فهو مكروه، وهذا لم دليلًا عليه، تنبيه آخر: قوله: "ولا يُكره لعذر من مرض وسفر من قصاره ولا يُكره بطواله"، قلتُ: عبارة "ولا يُكره بطواله" هنا لا معنى لها، والظاهر أنها سبقة قلم من المصنف.

ص: 454

وتبطل به

(37)

ويُكره تنكيس السُّور

(38)

والآيات

(39)

ولا تُكره

(37)

مسألة: يحرم على المسلم أن يُنكِّس كلمات القرآن: كأن يعكس لفظ "أقيموا"، وإذا فعل ذلك: فإن صلاته تبطل؛ للإجماع؛ حيث أجمع العلماء على هذا، ومستنده: التلازم؛ حيث يلزم من القراءة المتنكِّسة الإخلال بنظم القرآن، والذهاب بإعجازه، وهذا يؤدي إلى أن يكون كلامًا أجنبيًا عن القرآن.

(38)

مسألة: تصح قراءة السور منكَّسة بدون كراهية، بأن يقرأ سورة:"الناس" قبل "الفلق"؛ للسنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد قرأ "النساء" قبل "آل عمران"، فإن قلتَ: لِمَ صح ذلك بدون كراهة؟ قلتُ: لأن ذلك لا يُخلُّ بنظم ولا إعجاز القرآن، ولأنه فعل ما له فعله من أنه قرأ السورة كاملة، ولأن ترتيب السور وقع اجتهادًا من الصحابة، فإن قلتَ: إن هذا مكروه - وهذا ما ذكره المصنف -؛ لقول الصحابي؛ حيث قال ابن مسعود - فيمن يقرأ القرآن مُنكَّسًا -: "ذلك منكوس القلب" قلتُ: لا يُحتج بقول الصحابي هذا؛ لأنه عارض السنة الفعلية، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلت: سببه: "تعارض قول الصحابي مع السنة الفعلية" فعندنا: يعمل بالسنة، وعندهم: يعمل بقول الصحابي.

(39)

مسألة: تحرم قراءة الآيات منكَّسة، كأن يقرأ "من شر ما خلق" قبل قوله:"قل أعوذ برب الفلق" وإذا صلى بذلك: فلا تصح صلاته؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رَدٌّ" وأمر الشارع ورد بترتيب الآيات؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم كان إذا نزلت عليه آية أو آيات قال: "ضعوها بعد آية كذا وكذا في سورة كذا" فيلزم من قراءة الآية قبل الآية التي قبلها العمل على غير المأمور به شرعًا فيكون مردودًا غير مقبول، ويُحرَّم ذلك، فإن قلتَ: لِمَ حُرِّم ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن قراءة الآيات منكوسة يُفوِّت المعنى المقصود من الآيات، ويكون ذلك قريبًا من العبث والتلاعب بكلام الله، فإن قلتَ: إن هذا يُكره - وهو ما ذكره المصنف - قلتُ: لم أجد دليلًا على ذلك.

ص: 455

ملازمة سورة مع اعتقاد جواز غيرها

(40)

(ولا تصح) الصلاة (بقراءة خارجة عن مصحف عثمان) بن عفان رضي الله عنه كقراءة ابن مسعود: "فصيام ثلاثة أيام متتابعات"

(41)

، وتصح بما وافق مصحف عثمان وصحَّ سنده وإن لم يكن من العشرة

(42)

، وتتعلق

(40)

مسألة: لا يُكره ملازمة المسلم قراءة سورة أو آية بعد الفاتحة في الصلاة أو غيرها إذا كان معتقدًا جواز قراءة غيرها من السور والآيات؛ للسنة التقريرية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم أقر رجلًا كان يُكرِّر قراءة سورة "الإخلاص" في صلاته، فإن قلتَ: لِمَ لا يُكره ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تيسير وتوسعة على كثير من الناس، إذ بعضهم لا يُحسن إلا قراءة سورة.

(41)

مسألة: لا تصح الصلاة إلا بقراءة القرآن المثبت بمصحف عثمان الذي جمعه من صدور الحفاظ، وكتبة الوحي، وبناء على ذلك: لا تصح صلاة من قرأ بقراءة شاذة أو أحادية كأن يقرأ بقراءة ابن مسعود: "فصيام ثلاثة أيام متتابعات" أو بقراءة أُبي: "فعدة من أيام أخر متتابعات" أو بقراءة عائشة: "حافظوا على الصلاة والصلاة الوسطى صلاة العصر"؛ للإجماع على ذلك، ومستنده التلازم؛ حيث إن مصحف عثمان ثبت متواترًا فتلزم القراءة به، ويلزم عدم صحة القراءة بالقراءة الشاذة، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: لسد الذرائع؛ حيث لو صحَّت القراءة بكل قراءة يرويها فرد لأدَّى ذلك إلى عدم اطمئنان الناس إلى هذا القرآن المتعبَّد بتلاوته.

(42)

مسألة: تصح الصلاة بقراءة موافقة لمصحف عثمان إذا صحَّ سندها بدون اضطراب أو ضعف: سواء كانت هذه القراءة من القراءات العشر - وهي: قراءة يزيد بن القعقاع، ونافع بن عبد الرحمن بن أبي نُعيم من المدينة، وعبد الله بن كثير، وعبد الله بن عامر من الشام، وأبو عمرو، ويعقوب بن إسحاق من البصرة، وعاصم بن أبي النجود، وحمزة بن حبيب، وعلي بن حمزة الكسائي، =

ص: 456

به الأحكام

(43)

، وإن كان في القراءة زيادة حرف: فهي أولى؛ لأجل العشر الحسنات

(44)

(ثم) بعد فراغه من قراءة السورة (يركع مُكبِّرًا)، لقول أبي هريرة:"كان النبي صلى الله عليه وسلم يُكبِّر إذا قام إلى الصلاة، ثم يُكبِّر حين يركع" متفق عليه

(45)

(رافعًا

وخلف بن هشام البزَّار من الكوفة - أو كانت القراءة من غيرهم؛ للإجماع؛ حيث كان كل صحابي يصلي بقراءته إذا صحَّ سندها دون ضعف دون نكير من أحد، فصار إجماعًا سكوتيًا، فإن قلتَ: لِمَ صحَّ ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه توسيع وتيسير على المسلمين.

(43)

مسألة: القراءة الأحادية أو الشاذة حجَّة في الأحكام؛ حيث يجب العمل بها، وبناء على ذلك يجب التتابع في صيام كفارة اليمين، والقضاء؛ بناء على قراءة ابن مسعود وأُبي - السابق ذكرهما في مسألة (41) -؛ للسبر والتقسيم؛ حيث إن ما ذكره هذا الصحابي إما أن يكون قرآنًا أو خبر آحاد، لم يصح كونه قرآنًا، فثبت أنه خبر آحاد، وخبر الآحاد يجب العمل به، وقد فصَّلتُ القول في ذلك مع الجواب عن أدلة المخالف في المهذب (2/ 482).

(44)

مسألة: إذا وجد في قراءة من القراءات المعتبرة زيادة حرف: فإنه يُستحب أن يقرأ بها؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "من قرأ القرآن فأعربه فله في كل حرف عشر حسنات" فتقتضي المصلحة أن يقرأ بالقراءة التي فيها زيادة؛ إكثارًا للأجر، وهذا هو المقصد منه.

(45)

مسألة: بعد فراغه من قراءة الفاتحة وشيء من القرآن: يجب أن يركع مُكبِّرًا مبتدئًا بالتكبير عند ابتداء الركوع، ومنتهيًا منه حين يستوي راكعًا - وهذا الركوع ركن لا تصح الصلاة إلا به، والتكبير فيه واجب في كل الصلاة - لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث أمر صلى الله عليه وسلم المسيء في صلاته بالركوع، وهو أمر مطلق، فيقتضي الوجوب، الثانية: السنة الفعلية؛ حيث إنه عليه السلام كان يفعل ذلك ويُداوم عليه - كما رواه أبو هريرة - فإن قلتَ: لِمَ شُرع =

ص: 457

يديه) مع ابتداء الركوع؛ لقول ابن عمر: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استفتح الصلاة رفع يديه حتى يُحاذي منكبيه، وإذا أراد أن يركع وبعد ما يرفع رأسه" متفق عليه

(46)

(ويضعهما) أي: يديه (على ركبتيه مفرجتي الأصابع) استحبابًا

(47)

، ويُكره التطبيق: بأن يجعل إحدى كفيه على الأخرى ثم يحطُّهما بين ركبتيه إذا ركع، وهذا كان في أول الإسلام ثم نُسخ

(48)

، ويكون المصلي (مستويًا ظهره) ويجعل رأسه حياله: فلا يرفعه، ولا يخفضه، روى ابن ماجه عن وابصة بن مَعْبَد قال: "رأيتُ النبي صلى الله عليه وسلم

هذا؟ قلتُ: للمبالغة في تعظيم الله تعالى؛ ليجتمع التعظيم الفعلي - وهو الركوع والانحناء - والتعظيم القولي - وهو قوله: "سبحان ربي العظيم" -.

(46)

مسألة: يُستحب أن يرفع يديه في بداية تكبيرة الركوع - كما فعل في تكبيرة الإحرام -؛ للسنة الفعلية؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك - كما رواه ابن عمر -، والمقصد من الرفع هذا كالمقصد من رفعهما في تكبيرة الإحرام وقد سبق في مسألة (15).

(47)

مسألة: يُستحب أن يضع كفيه - أثناء ركوعه - على ركبتيه وهما منفرجتي الأصابع، ويكون كأنه قابض على ركبتيه؛ للسنة الفعلية؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك - كما رواه وائل بن حجر، وأبو حُميد - فإن قلتَ: لِمَ اسْتُحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه دفع مشقة الركوع عنه، وضبط بدنه عن السقوط وتماسكه، ليعبد الله براحة تامة، ولأن التذلل والخضوع فيه تام.

(48)

مسألة: يُكره التطبيق في الركوع، وصفته: أن يُلصق باطن كف بباطن الكف الآخر، ثم يجعلهما بين ركبتيه وهو راكع؛ للسنة القولية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد أمر بوضع اليدين على الركب بعد ما كان يفعل التطبيق - كما ورد في حديث مصعب بن سعد - فيكون التطبيق منسوخًا كما قاله الترمذي، فإن قلتَ: لِمَ كُره ذلك؟ قلتُ: لأنه أقرب إلى العبث وفيه مشقة على الراكع.

ص: 458

يصلي وإذا ركع: سوَّى ظهره حتى لو صُبَّ عليه الماء لاستقر"

(49)

ويجافي مرفقيه عن جنبيه

(50)

، والمجزيء: الانحناء بحيث يمكنه مسَّ ركبتيه بيديه إن كان وسطًا في الخِلْقة، أو قدره من غيره، ومن قاعد: مقابلة وجهه ما وراء ركبتيه من الأرض أدنى مقابلة، وتتمتها الكمال

(51)

(ويقول) راكعًا: (سبحان ربي العظيم)؛ لأنه صلى الله عليه وسلم

(49)

مسألة: يُستحب أن يسوِّي ظهره في حال ركوعه بحيث يكون رأسه متساو مع ظهره لا يرفعه عنه ولا يخفضه؛ للسنة الفعلية؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك - كما روته عائشة، ووابصة بن معبد -، فإن قلتَ: لِمَ استحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن هذه الطريقة أكثر عونًا على الطاعة، وأقل مشقة.

(50)

مسألة: يُستحب أن يُبعد مرفقيه عن جنبيه أثناء الركوع، فلا يُلصقهما بجنبيه؛ للسنة الفعلية؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك، فإن قلتَ: لِمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك أكثر أجرًا؛ لما فيه من المشقة في سبيل العبادة؛ حيث إن الأجر على قدر المشقة.

(51)

مسألة: صفة ركوع القائم المجزئ هو: أن يمس براحتيه ركبتيه بعد الانحناء ممن خِلْقته متوسطة، أما من لم يكن كذلك كقصير اليدين فيُقدِّر ذلك بأن ينحني ويخفض ظهره قدر ما لو كان وسطًا ولو لم تمس راحتاه ركبتيه، وصفة ركوع القاعد المجزئ: أن يقابل بوجهه مقدمة ركبتيه أدنى مقابلة، وصفة ركوع القاعد الكامل: أن يرى الأرض التي قدَّام ركبته مباشرة مقابلًا لركبتيه أتم مقابلة؛ للتلازم؛ حيث يلزم من الانحناء: إجزاؤه؛ لكونه يُسمى ركوعًا لغة؛ اكتفاء بأدنى ما يُطلق عليه اسم الركوع، ويلزم من عجزه عن القيام: إجزاء ما يُسمى انحناء وهو قاعد؛ لأن الواجب يسقط بالعجز عنه أصله قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تيسير وتسهيل وحصول المقصود.

ص: 459

"كان يقولها في ركوعه" رواه مسلم وغيره، والاقتصار عليها أفضل، والواجب: مرة وأدنى الكمال: ثلاث، وأعلاه للإمام: عشر، قال أحمد: جاء عن الحسن التسبيح التام: سبع، والوسط خمس، وأدناه: ثلاث

(52)

(ثم

(52)

مسألة: يجب أن يقول - أثناء ركوعه -: "سبحان ربي العظيم" مرة واحدة، وإن زاد ثانية فهو أفضل، وإن زاد ثالثة فهو أدنى الكمال، أما الإمام فيقولها عشر مرات - استحبابًا - وإن زاد كلامًا آخر فهو حسن كأن يقول:"سبحان ربي العظيم وبحمده" أو يقول - بعد ذلك -: "سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي" أو يقول: "سبوح قدوس رب الملائكة والروح"؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ وهي من وجهين: أولهما: أنه لما نزل قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} قال صلى الله عليه وسلم: "اجعلوها في ركوعكم"، ثانيهما: قوله: "أما الركوع فعظِّموا فيه الرب" وهذا الأمر مطلق في النصَّين فيقتضي الوجوب، ولا يقتضي التكرار، بل المرَّة الواحدة، الثانية: السنة الفعلية؛ حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول ذلك في ركوعه، وكان يزيد على ذلك على حسب ما تقتضيه المناسبة، فإن قلتَ: لِمَ وجب قول ذلك في الركوع؟ قلتُ: للمبالغة في تعظيم الله تعالى؛ ليجتمع التعظيم القولي، والتعظيم الفعلي؛ حيث إنه بقوله:"سبحان ربي العظيم" يُقرُّ بتنزيه الخالق عن مشابهة المخلوقين: فلا يتطرق إليه النقص والضعف مثلهم، حيث إنه عظيم في ذاته وصفاته ويحصل بركوعه التعظيم الفعلي، فإن قلتَ: لِمَ اسْتُحب زيادة بعض الكلمات التعظيمية على قوله ذلك؟ قلتُ: للوصول في تعظيم الله تعالى إلى أقصى ما يستطيعه العبد، وكُلَّما زاد العبد في تعظيم الله كلما زاد أجره وقربه عند الله، فإن قلتَ: لِمَ استُحب للإمام أن يقولها عشر مرات؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك يجعل المأموم يقولها ثلاث مرات: فإن قلتَ: الأفضل ألا يزيد الراكع على قوله: "سبحان ربي العظيم" من كلام آخر مثل: "سبوح قدوس" - وهو ما ذكره المصنف هنا -؛ =

ص: 460

يرفع رأسه

(53)

ويديه)؛ لحديث ابن عمر السابق

(54)

(قائلًا إمام ومنفرد: "سمع الله لمن حَمِدَه" مُرتَّبًا وجوبًا؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يقول ذلك، قاله في "المبدع"، ومعنى "سَمِع": استجاب

(55)

(و) يقولان (بعد قيامهما) واعتدالهما (ربَّنا ولك الحمد ملء

للسنة القولية، حيث ورد الأمر بتعظيم الله في الركوع فقط، دون زيادة؟ قلتُ: هذا لا يمنع من الزيادة التي هي من جنس التعظيم، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يزيد كما سبق، تنبيه: قول أحمد: "جاء عن الحسن

" الخ، قلتُ: هذا قول لم أجد دليلًا عليه.

(53)

مسألة: بعد فراغه من قوله: "سبحان ربي العظيم": يجب أن يرفع من ركوعه - وهذا الرفع ركن - ثم يعتدل قائمًا وهو ركن أيضًا؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "ثم ارفع حتى تطمئن قائمًا" حيث أوجب هذا الرفع والاعتدال؛ لأن الأمر مطلق، وهو يقتضي الوجوب، فإن قلتَ: لِمَ كان الرفع ركنًا؟ قلتُ: ليعود إلى القيام الذي هو أفضل من الركوع؛ المشروعية القراءة فيه دون الركوع، وهذا كله للاستعداد للسجود، فإن قلتَ: لِمَ كان الاعتدال ركنًا؟ قلتُ: لأن المصلي لا يُمكنه مناجاة ربه بهدوء بغير ذلك.

(54)

مسألة: يُستحب أن يرفع يديه في أثناء رفعه من الركوع - كما فعل في التحريمة -؛ للسنة الفعلية؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك - كما روى ابن عمر -، فإن قلتَ: لِمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: لما ذكرناه في رفعهما في تكبيرة الإحرام في مسألة (15).

(55)

مسألة: يجب أن يقول إمام ومنفرد: "سَمِعَ الله لمن حَمِدَه" في أثناء رفعهما من الركوع؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "إذا رفعت رأسك من الركوع فقل: سمع الله لمن حمده" حيث أوجب الشارع قول ذلك؛ لأن الأمر مطلق، فيقتضي الوجوب، فإن قلتَ: لِمَ وَجَب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن هذه العبارة قد تضمَّنت الاستجابة لكل من حمده؛ لكونه لا يحمد إلا لأنه مستحق للحمد ورجاء للزيادة أصله: قوله تعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} .

ص: 461

السماء وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء بَعْد) أي: حمدًا لو كان أجسامًا لملأ ذلك، وله قول:"اللهم ربَّنا ولك الحمد" وبلا "واو" أفضل عكس: "ربنا لك الحمد"

(56)

(و) يقول (مأموم في رفعه: ربَّنا ولك الحمد فقط)؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: "إذا قال الإمام: سَمِع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد" متفق عليه من حديث أبي هريرة

(57)

، وإذا رفع المصلي من الركوع: فإن شاء وضع يمينه على

(56)

مسألة: يُستحب أن يقول إمام ومنفرد بعد اعتدالهما قائمين: "ربَّنا ولك الحمد ملء السماء وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد"؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "إذا رفعت رأسك من الركوع فقل: سمع الله لمن حمده، ربَّنا ولك الحمد ملء السماء وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد"، فإن قلت: لِمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: للمبالغة في حمد الله تعالى، على نعمه الظاهرة والباطنة، بحيث إن هذا الحمد لو فرض أن يكون أجسادًا لملأ السماوات والأرض، وهذا غاية في الحمد والشكر والتعظيم الذي لا يستحقه إلا الله سبحانه، تنبيه: عبارة "اللهم ربنا ولك الحمد" أو "ربنا لك الحمد" يستوي فيهما وجود الواو وحذفها؛ للسنة القولية؛ حيث إنه ورد ذلك في روايتين، ولعدم اختلاف المعنى في وجودها وعدمه؛ لأن ما قبل "الواو" جملة خاصة بالدعاء وما بعدها: جملة خاصة بالاعتراف، وليس كما زعمه المصنف من أن وجودها في الجملة الثانية أفضل، وحذفها من الأولى أفضل؛ لعدم وجود الدليل على هذا التفريق.

(57)

مسألة: يجب أن يقول المأموم: "ربنا ولك الحمد" في أثناء رفعه من الركوع، ويُستحب أن يزيد قائلًا:"ملء السماء وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد"؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "إذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده فقولوا: ربنا ولك الحمد حيث أوجب على المأمومين أن يقولوا ذلك؛ =

ص: 462

شماله أو أرسلهما

(58)

، (ثم) إذا فرغ من ذكر الاعتدال (يخرُّ مُكبِّرًا) ولا يرفع يديه

لأن الأمر مطلق فيقتضي الوجوب، الثانية: القياس، بيانه: كما يُستحب للإمام والمنفرد أن يقولا: "ملء السماء

" فكذلك يُستحب للمأموم والجامع: المبالغة في حمد الله للمصلي، دون ترتُّب ضرر على ذلك، فإن قلتَ: لِمَ وجب ذلك على المأموم؟ قلتُ: لأن قوله صلى الله عليه وسلم: "ربنا ولك الحمد" هو بدل عن قول الإمام: "سَمِعَ اللهُ لمن حمده" فكأن الإمام يقول: إن الله يسمع كلَّ من حَمِده، فيحمد المأموم الله؛ لكونه مؤتمًا بالإمام، فإن قلتَ: إن المأموم لا يزيد عن قوله: "ربنا ولك الحمد"؛ لورودها في الحديث السابق فقط - وهو ما ذكره المصنف هنا - فيُقتصر على ما ورد؟ قلتُ: إن الحديث ورد بذلك، ولكن لم يتعرض لنفي الزيادة، فيُستحب للمأموم أن يزيد: "ملء السماء

" كغيره من المصلين؛ للمصلحة، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلت: سببه "هل ما ورد في الحديث السابق يُفيد نفي الزيادة عليه من جنسه أو لا؟ " فعندنا لا يفيد ذلك، وعندهم يفيد نفي الزيادة.

(58)

مسألة: إذا اعتدل المصلي قائمًا بعد رفعه من الركوع: فإنه يُستحب أن يضع يُمناه على يُسراه تحت سرته - كما فعل بعد تكبيرة الإحرام -؛ للقياس، بيانه: كما يُستحب فعل ذلك في القيام بعد التحريمة فكذلك يفعل ذلك في القيام بعد رفعه من الركوع، والجامع: القيام في كل، فإن قلتَ: لِمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تعظيم وتبجيل وخضوع وخشوع، فإن قلتَ: يُباح وضع يُمناه على يُسراه، ويُباح إرسالهما؛ وهذا ما ذكره المصنف؛ للاستصحاب؛ حيث إن الأصل في ذلك الإباحة، فيعمل بذلك؛ لعدم وجود دليل يُغير ذلك قلتُ: لا تسلِّم عدم وجود دليل يُغير الحالة؛ حيث ورد دليلان هما: "القياس" و"المصلحة" وقد سبقا، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلت: سببه: "تعارض القياس مع الاستصحاب" فعندنا يُعمل بالقياس؛ لكونه قد قوي على تغيير الحالة وعندهم: لا.

ص: 463

(ساجدًا

(59)

على سبعة أعضاء: رجليه، ثم ركبتيه، ثم يديه، ثم جبهته مع أنفه)؛ لقول ابن عباس:"أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يسجد على سبعة أعظم ولا يكف شعرًا ولا ثوبًا: الجبهة واليدين، والركبتين، والرجلين" متفق عليه، وللدارقطني عن عكرمة عن ابن عباس مرفوعًا:"لا صلاة لمن لم يضع أنفه على الأرض"

(60)

، ولا تجب

(59)

مسألة: بعد فراغه من قوله: "ربنا ولك الحمد" وما بعده من الذكر: يجب عليه أن يسجد بأن يخرُّ وينكبُّ على الأرض قائلًا - في أثناء انكبابه وسقوطه على الأرض -: "الله أكبر" بحيث يفرغ من هذه الكلمة قبل أن يصل إلى الأرض، وهذا السجود ركن، ولا يرفع كفيه إذا خرَّ ساجدًا؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا" فأوجب السجود؛ لأن الأمر مطلق، فيقتضي الوجوب، الثانية: السنة الفعلية؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم لا يرفع يديه حين يسجد - كما روى ابن عمر وأبو حُميد -، فإن قلتَ: لِمَ كان السجود ركنًا؟ قلتُ: للمبالغة في التذلل والخضوع والعبودية لله؛ حيث يضع المسلم أشرف عضو منه وهو: الوجه على الأرض مكان النعال والأقدام، فإن قلتَ: لِمَ لا يُستحب رفع اليدين هنا؟ قلتُ: لأن وضع الوجه على الأرض يكفي عن رفع اليدين ووضعهما، فسقوط الجسم كله على الأرض أعظم من رفع اليدين ووضعهما، ولأن الساجد يستعد باليدين لوضعهما على الأرض.

(60)

مسألة: يجب أن يسجد على سبعة أعضاء ويضعها على الأرض وهي: أطراف أصابع رجليه، ثم ركبتيه، ثم كفيه، ثم جبهته وأنفه، والسجود على ذلك ركن؛ للسنة القولية؛ وهي من وجهين، أولهما: أنه عليه السلام قد أمر بأن يُسجد على هذه الأعضاء، وأشار بيده إلى أنفه - كما روى ابن عباس - فأوجب السجود عليها؛ لأن الأمر مطلق فيقتضي الوجوب، ثانيهما: قوله =

ص: 464

مباشرة المصلي بشيء منها: فتصحُّ (ولو) سجد (مع حائل) بين الأعضاء ومُصلاه، قال البخاري في "صحيحه": قال الحسن: "كان القوم يسجدون على العمامة والقلنسوة" إذا كان الحائل (ليس من أعضاء سجوده)

(61)

فإن جعل بعض أعضاء السجود فوق بعض: كما لو وضع يديه على فخذيه، أو جبهته على يديه: لم يجزئه

(62)

ويُكره ترك

- صلى الله عليه وسلم: "لا صلاة لمن لم يضع أنفه على الأرض" حيث نفى صحة الصلاة إذا لم يضع المصلي أنفه على الأرض، حيث إن دلالة الاقتضاء دلَّت على ذلك؛ لأنه أصح شيء يُحمل عليه هذا النفي؛ فلا يُحمل على نفي الكمال، ولا نفي الوقوع والصورة إذا أمكن حمله على نفي الصحة؛ لأوليته بالحمل، فإن قلتَ: لِمَ كان السجود على هذه الأعضاء ركنًا؟ قلتُ: للمبالغة في تعظيم الله، ولإخلاص العبودية له سبحانه، ولأن هذه الهيئة في السجود تجعل الساجد يعبد الله براحة وطمأنينة بدون مشقة.

(61)

مسألة: يُباح سجود المصلي على حائل يكون بينه وبين الأرض - إذا كان الحائل ليس من الأعضاء السبعة - كالسجاد والفرش، وطرف الثوب، والعمامة، والقلنسوة؛ لفعل الصحابي؛ حيث إن ابن عمر كان يسجد على كور عمامته، وحكاه الحسن البصري عن جمع من الصحابة، وأي حائل مثل العمامة؛ لعدم الفارق، فإن قلتَ: لِمَ أُبيح ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه توسعة على الناس.

(62)

مسألة: إذا وضع بعض أعضاء السجود على بعض كأن: يضع كفيه تحت ركبتيه أو فوقهما، أو أحدهما، أو وضع كفًا على كفٍّ، أو وضع رجلًا على رجل، أو وضع يديه فوق فخذيه، أو وضع جبهته على يده ونحو ذلك: فإن هذا السجود لا يجزئه، فتبطل صلاته بذلك؛ للسنة القولية؛ حيث "إنه عليه السلام قد أمر بالسجود على سبعة أعضاء" حيث دل مفهوم العدد على عدم =

ص: 465

مباشرتها بلا عذر

(63)

، ويُجزئ بعض كل عضو، وإن جعل ظهر كفيه أو قدميه على الأرض أو سجد على أطراف أصابع يديه: فظاهر الخبر: أنه يُجزئه - ذكره في "الشرح" -

(64)

، ومن عجز بالجبهة: لم يلزمه بغيرها، ويومئ ما

إجزاء السجود على أقلَّ من ذلك، ولو وضع عضوًا من أعضاء السجود على الآخر: لكان ساجدًا على أقل من السبعة، فلا يجزئه ذلك - وهو قادر على السجود عليها كلها -، فإن قلتَ: لِمَ تبطل صلاته هنا؟ قلتُ: لأنه فعل فعلًا ليس عليه أمر الشارع، فيكون مردودًا، فيشمله عموم قوله صلى الله عليه وسلم:"من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو ردُّ".

(63)

مسألة: يُكره السجود على حائل إن كان مستطيعًا للسجود على الأرض؛ للمصلحة؛ حيث إن ملامسة تلك الأعضاء السبعة للتراب ومباشرتها له أبلغ في العبودية والتذلل والتواضع والخضوع لله سبحانه المستحق لذلك؛ فيُكره السجود على الحائل لغير عذر.

(64)

مسألة: لا يجزئ في السجود إلا إذا وضع كل عضو بكامله - من الأعضاء السبعة - على الأرض بأن يسجد على أطراف أصابع القدمين بكاملها، وعلى كفيه بكاملهما، وعلى ركبتيه بكاملهما، وعلى جبهته وأنفه بكاملهما هذا إذا قدر على ذلك، أما العاجز عن ذلك أو عن بعضه: فإنه يسجد على حسب قدرته، وبناء على ذلك فإنه لو وضع بعض أصابع رجليه أو جزءًا من ركبتيه، أو جزءًا من جبهته أو أنفه، أو سجد على غير المعتاد: كأن يجعل ظهر كفِّه أو ظهر قدمه، أو أطراف أصابع اليدين على الأرض وهو متعمِّد قادر على السجود العادي: فإن هذا لا يجزئه، وتبطل الصلاة به، للسنة القولية، وهي من وجهين: أولهما: أنه صلى الله عليه وسلم أمر بأن يسجد على سبعة أعضاء: أصابع الرجلين، والركبتين، واليدين، والجبهة والأنف، وهذا عام، فيشمل جميع أجزاء العضو =

ص: 466

أمكنه

(65)

(ويُجافي) الساجد (عضُديه عن جنبيه وبطنه عن فخذيه) وهما عن ساقيه

الواحد، فيسجد على العضو كاملًا السجود المعتاد، فمن سجد على بعضه، أو سجد عليه سجودًا غير معتاد: فلا يسمى ساجدًا سجودًا شرعيًا فيكون مردودًا؛ لكونه أتى بغير ما أمر الشارع به؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو ردُّ"، ثانيهما: قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" فالواجب يسقط بالعجز عنه، فإن قلتَ: لِمَ وجب ذلك؟ قلتُ: لإتمام العبادة على الوجه الذي شرعه الله تعالى؛ إذ تركه عمدًا يكون من العبث واللعب، لانعدام أو قلة الخشوع والتذلل والخضوع، فإن قلتَ: إنه يجزئ وضع بعض العضو، أو السجود على غير المعتاد، كأن يضع ظهر كفه، أو ظهر قدمه، أو أطراف الأصابع من اليدين على الأرض سواء كان عمدًا أو سهوًا، وسواء كان قادرًا على السجود المعتاد أو لا؛ للسنة القولية؛ حيث إن ظاهر أمره صلى الله عليه وسلم:"بأن يسجد على سبعة أعظم .. " يدلُّ على ذلك، قلتُ: من سجد على بعض العضو من الأعضاء، أو سجد على غير المعتاد: لا يشمله عموم الحديث السابق؛ لكونه لا يسمى ساجدًا شرعًا ولغة، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلت: سببه: "هل يُسمَّى من وضع بعض عضوه، أو وضعه على غير المعتاد ساجدًا شرعًا أو لغة؟ " فعندنا: لا، وعندهم: نعم.

(65)

مسألة: إذا لم يستطع السجود على عضو من الأعضاء السبعة لمرض ونحوه، فإنه لا يجب عليه السجود على غير ذلك العضو تعويضًا عنه، بل الواجب عليه أن يومئ إلى ذلك: فإذا عجز عن السجود على الجبهة مثلا: فإنه يومئ إلى السجود عليها، ويهبط وينهزع على حسب قدرته؛ للسنة القولية، وهي من وجهين: أولهما: "أمره صلى الله عليه وسلم بالسجود على الأعضاء السبعة" فلا ينوب عن تلك الأعضاء غيرها؛ حيث أمر بالسجود عليها بعينها، ثانيهما: قوله صلى الله عليه وسلم: =

ص: 467

ما لم يؤذ جاره (ويُفرق ركبتيه) ورجليه، وأصابع رجليه ويُوجهها إلى القبلة، وله أن يعتمد بمرفقيه على فخذيه إن طال

(66)

(ويقول) في السجود: (سبحان ربي الأعلى) على ما تقدم في تسبيح الركوع

(67)

(ثم يرفع رأسه) إذا فرغ من السجدة (مُكبِّرًا،

" إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" حيث أوجب الشارع بأن يفعل ما يستطيعه من الأحكام الشرعية؛ لأن الأمر مطلق، فيقتضي الوجوب، فإن قلتَ: لِمَ شرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه توسعة وتيسير على الناس.

(66)

مسألة: يُستحب للرجل إذا سجد: أن يُبْعِد عَضُديه عن جنبيه، وبطنه عن فخذيه، وفخذيه عن ساقيه، ويُباعد بين ركبتيه ورجليه وأصابعهما، ويُوجِّه تلك الأصابع إلى القبلة إلا إن طال السجود فيُباح له إلصاق المرفقين على الفخذين، هذا كله بشرط عدم إيذاء المجاور له في الصف؛ للسنة الفعلية؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم يباعد بين ما ذكرناه في السجود - كما روى أبو حميد -، فإن قلتَ: لِمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن هذه الهيئة في السجود أقرب إلى النشاط واليقظة، وهما يُناسبان تلك العبادة، وفيها تذلل وخشوع، بخلاف اعتماد بعض ما ذكرنا على بعض؛ حيث إن ذلك يؤدي إلى الكسل والخمول وهذا مناف للعبادة، فإن قلتَ: لِمَ أُبيح إلصاق المرفقين على الفخذين إن طال السجود؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تخفيف المشقة على الساجد عندما يطيل الدعاء، فإن قلتَ: لِمَ اشترط ذلك الشرط؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن إيذاء الآخرين محرم - ولو كانت وسيلة الأذى طاعة -؛ لأنه لا ضرر ولا ضرار في الإسلام.

(67)

مسألة: يجب أن يقول المصلي في سجوده: "سبحان ربي الأعلى" مرة واحدة، وإن زاد ثانية فهو أفضل، وإن زاد ثالثة: فهو أدنى الكمال، أما الإمام: فإنه يُكثر من قول ذلك، كما سبق ذكره في مسألة (52)، ويُستحب أن يُكثر الدعاء =

ص: 468

ويجلس مفترشًا يُسراه) أي: يُسرى رجليه (ناصبًا يُمناه) ويُخرجها من تحته، ويُثني أصابعها نحو القبلة، ويبسط يديه على فخذيه مضمومتي الأصابع

(68)

، (ويقول) بين

بحوائجه الأخروية بعد ذلك؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث إنه لما نزل قوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} قال صلى الله عليه وسلم: "اجعلوها في سجودكم" حيث أوجب الشارع ذلك؛ لأن الأمر مطلق، فيقتضي الوجوب، الثانية: السنة الفعلية؛ حيث قال حذيفة: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا سجد: "سبحان ربي الأعلى"، فإن قلتَ: لِمَ وجب قول ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إنه يُنزِّه الله في ذلك؛ لأن السجود هبوط وانحطاط إلى الأرض، وهذا نقص، فيُبين العبد أنه يُنزه الله عن ذلك، ويصفه بأنه الأعلى دائمًا، فإن قلتَ: لِمَ استُحب كثرة الدعاء في السجود؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن العبد يكون أقرب إلى الله تعالى وهو ساجد؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد" فإن قلتَ: ما سبب ذلك؟ قلتُ: لأن المسلم في سجوده يكون في ذُل، فتكون رحمة الله قريبة منه.

(68)

مسألة: بعد فراغه من قوله: "سبحان ربي الأعلى" وهو ساجد: يجب عليه أن يرفع رأسه وهو يُكبِّر قائلًا: "الله أكبر" ويكون التكبير أثناء رفعه، وهذا الرفع ركن، ثم يجلس جلسة مطمئنة وهي ركن أيضًا، وصفتها المستحبة: أن يفرش رجله اليُسرى، ويكون ظهرها متوجهًا إلى القبلة، وينصب رجله اليُمنى بأن يجعلها قائمة، وتكون خارجة من جهة اليمين، ويُثني أصابعها إلى جهة القبلة، ويضع يديه على فخذيه مبسوطتين مضمومتي الأصابع - وتُسمَّى هذه:"الجلسة بين السجدتين" وهي ركن ويفعل ذلك أيضًا في "جلسة التشهد الأول" - كما سيأتي -؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "ثم اجلس حتى تطمئن جالسًا" - أي: بعد السجدة - وهو أمر مطلق، فيقتضي الوجوب، الثانية: السنة الفعلية، وهي من وجهين: أولهما: قول عائشة: "كان =

ص: 469

السجدتين (رب اغفر لي) الواجب: مرة، والكمال: ثلاث

(69)

(ويسجد) السجدة (الثانية كالأولى) فيما تقدَّم من التكبير والتسبيح وغيرهما

(70)

(ثم يرفع) من

- صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من السجدة لم يسجد حتى يستوي قاعدًا"، ثانيهما: قول عائشة: "كان صلى الله عليه وسلم يفرش رجله اليُسرى وينصب اليُمنى" ويلزم من ذلك فعله لوصف تلك الجلسة السابقة، فإن قلتَ: لِمَ يرفع مكبرًا، ولِمَ كان ذلك ركنًا؟ قلتُ: لأن الرفع من السجود فيه بعض العظمة التي قد يراها بعض الناس لنفسه، فيُكبِّر الله هنا؛ ليتذكر أن الله أكبر منه، ومن كل شيء فيتذلل له، فإن قلتَ: لِمَ استُحبت تلك الجلسة؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن هذه الجلسة هي المناسبة لجلسة يتعبد الله بها؛ حيث إنها تؤدي إلى الاطمئنان، بخلاف ما لو جلس على صفة الإقعاء: فإنها تشق عليه، وليست جلسة عبادة.

(69)

مسألة: يجب أن يقول في أثناء جلوسه: "رب اغفر لي" مرة واحدة، وإن زادها ثانية فهو أفضل، وإن زادها ثالثة: فهو أدنى الكمال، ويُكثر الإمام من قول ذلك كما سبق في مسألة (52)، وإن دعا بعد ذلك: فمستحب؛ للسنة الفعلية وهي من وجهين: أولهما: قول حذيفة: "كان صلى الله عليه وسلم يقول بين السجدتين: رب اغفر لي" وكان يواظب على ذلك، ثانيهما: قول ابن عباس: "كان صلى الله عليه وسلم يقول بين السجدتين: اللهم اغفر لي، وارحمني، واهدني، وعافني، وارزقني" فإن قلتَ: لِمَ يقول ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن المصلي لما ركع وسجد وتذلل له، وسبَّحه ناسب أن يدعوه بهذا، لتكون الاستجابة قريبة، فإن قلتَ: لِمَ استُحبت الزيادة والدعاء؟ قلتُ: لما ذكرناه في الركوع والسجود - في مسألتي: (52 و 67) -.

(70)

مسألة: بعد فراغه من قوله: "رب اغفر لي" - وهو جالس - يسجد السجدة الثانية، ويفعل ويقول فيها كما فعل وقال في السجدة الأولى من التكبير =

ص: 470

السجود (مُكَبِّرًا ناهضًا على صدور قدميه) ولا يجلس للاستراحة (معتمدًا على ركبتيه إن سهل) وإلا: اعتمد على الأرض

(71)

، وفي الغُنية": يُكره أن يُقدِّم إحدى

والتسبيح والصفة - كما سبق في مسائل (60 إلى 67)؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "ثم ارفع حتى تطمئن جالسًا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا" وقد سبق تقريره، الثانية: السنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم كان يسجد سجدتين في كل ركعة - كما ذكره من وصف صلاة النبي صلى الله عليه وسلم من الصحابة -، فإن قلتَ: لِمَ كرر السجود دون الركوع؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن السجود أبلغ في التذلل والخضوع لله تعالى، وأقرب ما يكون العبد إلى ربه، لذا شرع الشارع تكراره؛ جلبًا للمصالح لهذا العبد، بخلاف الركوع.

(71)

مسألة: بعد فراغه من السجدة الثانية: يجب عليه أن يرفع رأسه وينهض قائمًا، ويقول - أثناء قيامه -:"الله أكبر" - وهذا القيام ركن -، وصفة هذا القيام المستحب: أن يعتمد على مقدمتي قدميه وركبتيه إن تيسر ذلك، فإن صعب: فإنه يعتمد على الأرض بيديه على النهوض؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" حيث إن الواجب على كل عبد أن يفعل ما يستطيعه، الثانية: السنة الفعلية، وهي من وجهين: أولهما: "أنه صلى الله عليه وسلم كان يُكبِّر حين يقوم من السجدة الثانية"، ثانيهما:"أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه، وإذا نهض رفع يديه قبل ركبتيه"، فإن قلتَ: لِمَ يفعل ذلك؟ قلتُ: ليعود إلى ما كان عليه من القيام، وشرعت هذه الصفة في القيام؛ لأنها تناسب العبادة - كما سبق -، وإن عجز: فإنه يعتمد على الأرض؛ لما فيه من دفع المشقة، [فرع]: لا تُستحب جلسة الاستراحة وهي: جلسة خفيفة تكون بين الرفع من السجدة الثانية والقيام؛ لقول الصحابي؛ حيث إن عمر وابنه، وابن مسعود وابن عباس لم يستحبوها، فإن قلتَ: إنها مستحبة؛ للسنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد فعلها، قلتُ: إن هذا الفعل يُحتمل أنه =

ص: 471

رجليه

(72)

(ويُصلي) الركعة (الثانية كذلك) أي: كالأولى (ما عدا التحريمة) أي: تكبيرة الإحرام (والاستفتاح، والتعوذ، وتجديد النية) فلا تُشرع إلا في الأولى، لكن إن لم يتعوَّذ فيها: تعوَّذ في الثانية

(73)

(يجلس مفترشًا) كجلوسه بين السجدتين (ويداه على فخذيه) ولا يُلقمهما ركبتيه و (يقبض خنصر) يده (اليُمنى، وبنصرها،

لكبر سنه، وضعفه في آخر حياته، وإذا تطرق الاحتمال إلى الدليل بطل به الاستدلال، ويؤيد ذلك: أن الذي روى ذلك هو مالك بن الحويرث قد قدم إلى النبي صلى الله عليه وسلم في آخر حياته؛ ويؤيده أيضًا قوله صلى الله عليه وسلم: "إني بدنتُ فلا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود" فلم تثبت شرعًا، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلت: سببه: "تعارض السنة الفعلية مع قول الصحابي" فعندنا: يعمل بقول الصحابي؛ لكونه أقوى من السنة هنا؛ لأن الاحتمال أضعفها، وعندهم: يعمل بالسنة.

(72)

مسألة: يُكره أن يُقدِّم المصلي إحدى رجليه ليتقوى بذلك على القيام من السجود بدون عذر، قاله عبد القادر الجيلي في كتابه:"الغنية"؛ للمصلحة؛ حيث إن هذا الفعل فيه حركة قليلة قد تؤثر على كمال الأجر في الصلاة.

(73)

مسألة: إذا استوى قائمًا - بعد السجدة الثانية -: فإن تلك تسمَّى الركعة الثانية، ويفعل ويقول من القراءة والركعة، والسجدتين، والجلوس بين السجدتين، كما فعل وقال في الركعة الأولى، ولكن لا يُشرع في الركعة الثانية أن يُكبِّر تكبيرة الإحرام، ولا الاستفتاح، ولا يأتي بنية جديدة خلاف النية الأولى، ولا يتعوذ، لكن إن لم يتعوذ في الأولى: تعوذ في الثانية؛ لقاعدتين: الأول: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "ثم افعل ذلك في صلاتك كلها" والأمر مطلق فيقتضي الوجوب، الثانية: السنة الفعلية؛ حيث كان عليه السلام يفعل ذلك، فإن قلتَ: لِمَ لا يُشرع قول ذلك في الثانية؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن تكرار ذلك في كل ركعة فيه مشقة، مع أن المقصود منها قد حصل بمرَّة واحدة.

ص: 472

ويُحلِّق إبهامها مع الوسطى): بأن يجمع بين رأس الإبهام والوسطى، فتشبه الحلقة من حديد ونحوه (ويُشير بسبَّابتها) من غير تحريك (في تشهُّده) ودعائه في الصلاة وغيرها عند ذكر الله تعالى؛ تنبيهًا على التوحيد (ويبسط) أصابع (اليُسرى) مضمومة إلى القبلة

(74)

(ويقول) سِيرًّا: (التحيات لله) أي: الألفاظ التي تدل على

(74)

مسألة: بعد فراغه من الركعة الثانية - بقيامها وركوعها وسجودها الأول، ثم الجلسة بعدها، ثم السجدة الثانية -: يجلس جلسة التشهد الأول للصلاة الرباعية والثلاثية وهذا واجب، وللتشهد الأخير للصلاة الثنائية - وهي الفجر -، والصفة المستحبة لهذه الجلسة هي: أن يفترش رجله اليُسرى - كما سبق في صفة الجلسة بين السجدتين في مسألة (68) - واضعًا يده اليُمنى على فخذه الأيمن، باسطًا ذراعيه على طول فخذه، ويقبض خنصر يده اليُمنى والبنصر منها، ويُحلِّق الوسطى مع الإبهام ويجعلهما كحلقة، ويترك إصبعه السبابة متوجهًا إلى القبلة؛ ليُشير به عند التشهد بدون تحريك، ويُشير به - أيضًا - عند ذكر الله تعالى أثناء صلاته، أما يده اليُسرى فيضعها على فخذه الأيسر ممدودة مبسوطة، ويضم أصابعها؛ للإجماع؛ حيث أجمع العلماء على أنه يجلس للتشهد الأول، ومستنده: السنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك، وقال:"صلوا كما رأيتموني أصلي" فإن قلتَ: لِمَ شُرعت تلك الصفة في الجلسة؟ قلتُ: لأن هذه الصفة هي أعلى مراتب الرغبة والرهبة والتذلل والخشوع، وأكمل صفات الاعتذار لله تعالى؛ لكونه جاثيًا على ركبتيه أمام خالقه، فإن قلتَ: لِمَ خُصِّصت اليُمنى بتلك الأفعال؟ قلتُ: لكون اليمين تُقدَّم للأفعال الشريفة - كما سبق -، فإن قلتَ: لِمَ خُصَّ إصبع السبَّابة للإشارة عند التشهد، ولِمَ سُمي بهذا الاسم؟ قلتُ: لأن هذا الإصبع أقوى الأصابع في الإشارة؛ لكونه متصلًا بعروق القلب مباشرة - كما قيل -، فتكون الإشارة به سببًا لحضور القلب، فيكون في ذلك توحيد الله باطنًا وظاهرًا، وسُمي بالسبابة؛ لأنه يُشار به عند السَّبِّ والمخاصمة، فإن قلتَ: =

ص: 473

السلام والملك، والبقاء، والعظمة لله تعالى، مملوكة له ومختصَّة به (والصلوات) أي: الخمس أو الرحمة، أو المعبود بها، أو العبادات كلها، أو الأدعية (والطيبات) أي: الأعمال الصالحة، أو من الكلم (السلام) أي: اسم السلام، وهو: الله، أو سلام الله (عليك أيها النبي) بالهمز من النبأ؛ لأنه مخبر عن الله، وبلا همز: إما تسهيلًا، أو من النبوة، وهي: الرفعة، وهو: من ظهرت المعجزات على يده (ورحمة الله وبركاته) جمع بركة وهي: النماء والزيادة (السلام علينا) أي: على الحاضرين من الإمام والمأموم والملائكة (وعلى عباد الله الصالحين) جمع صالح، وهو: القائم بما عليه من حقوق الله، وحقوق عباده، وقيل: المكثر من العمل الصالح، ويدخل فيه النساء، ومن لم يُشاركه في الصلاة (أشهد أن لا إله إلا الله) أي: أخبر بأني قاطع بالوحدانية (وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله) المرسل إلى الناس كافة (هذا التشهد الأول) علَّمه النبي صلى الله عليه وسلم ابن مسعود، وهو في "الصحيحين"

(75)

(ثم يقول) في التشهد الذي يعقبه

لِمَ يُحلِّق الإبهام مع الوسطى ويقبض الخنصر والبنصر؟ قلتُ: للحزم والمبالغة في الاهتمام بما يقول في تشهده.

(75)

مسألة: إذا اطمئن واستوى جالسًا للتشهد الأول - وهو الذي لا يليه السلام -: فإنه يجب أن يقول سرًا - بحيث يُسمع نفسه دون إزعاج الآخرين -: "التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله" ثم يقوم في الرباعية والثلاثية، لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث علَّم رسول الله ابن مسعود هذا التشهد، الثانية: الإجماع؛ حيث أجمع العلماء على عدم الجهر بالتشهدين، فإن قلتَ: لِمَ يقول ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إنه يُقر بأن جميع التعظيمات والعبادات، والطيبات من أعمال وأقوال لله تعالى، ثم يدعو بالسلام والسلامة والحفظ والعناية من الله لنبيه، ولجميع المسلمين، ثم =

ص: 474

السلام: (اللهم صلّ على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد)؛ لأمره صلى الله عليه وسلم بذلك في المتفق عليه من حديث كعب بن عجرة

(76)

، ولا يجزئ لو أبدل "آل" بـ "أهل"، ولا تقديم الصلاة على التشهد

(77)

(ويستعيذ) ندبًا فيقول:

يختم ذلك بكلمة التوحيد؛ تجديدًا لها، فائدة: إن جُعل لفظ "النبي" بدون همزة في آخره فهو: من النبوة، وهي: الرفعة، وهو: من ظهرت المعجزات على يده، وإن جعل بهمزة "النبيء" فالمراد به: المخبر، وهي لغة رديئة - كما جاء في "اللسان"(1/ 162) -، تنبيه: باقي معاني ألفاظ "التشهد" واضح من كلام المصنف.

(76)

مسألة: بعد فراغه من التشهد الأول: فإنه يجب أن يقول التشهد الأخير - وهو وجلسته ركنان وهو الذي يليه التسليم سرًا - وهو: "اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صلَّيت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد" هذا إذا كانت الصلاة ثنائية، أما إن كانت ثلاثية أو رباعية: فإنه - بعد التشهد الأول - يقوم ليأتي بما بقي من صلاته، ثم يتشهد التشهد الأول، ثم الثاني هذا؛ للسنة القولية؛ حيث "إنه صلى الله عليه وسلم قد أمر بذلك" والأمر مطلق فيقتضي الوجوب، فإن قلتَ: لِمَ يقول ذلك في التشهد الأخير؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن هذا فيه دعاء بالرحمة للنبي صلى الله عليه وسلم، وبأن يمدحه الله في الملأ الأعلى، ويسأله بأن يرحم أتباع محمد على دينه - وهو المراد بالآل كما سبق ذكره في مسألة (11) من مسائل:"الافتتاحية والديباجة" - قبل البدء بكتاب الطهارة.

(77)

مسألة: لا يُجزئ إذا قال: "اللهم صل على محمد وعلى أهل محمد"، أو قدَّم "الصلاة على النبي" على "التشهد الأول"؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم:"من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ" وهذا عام فيشمل الذي يقول =

ص: 475

أعوذ بالله (من عذاب جهنم و) من (عذاب القبر و) من (فتنة المحيا والممات و) من (فتنة المسيح الدَّجال) و"المحيا والممات": الحياة والموت، و"المسيح" - بالحاء المهملة - على المعروف (و) يجوز أن (يدعو بما ورد) أي: في الكتاب والسنة، أو عن الصحابة، والسلف، أو بأمر الآخرة، ولو لم يشبه ما ورد، وليس له الدعاء بشيء مما يقصد به ملاذ الدنيا وشهواتها كقوله:"اللهم ارزقني جارية حسناء" أو "طعامًا طيبًا" وما أشبهه، وتبطل به

(78)

(ثم يُسلم) وهو جالس؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "وتحليلها

شيئًا في أحد التشهدين على غير ما أمر الشارع به، فمن فعل ذلك: فإنه يُردُّ كل عمله، فإن قلتَ: لِمَ يُجزئ ذلك؟ قلتُ: لسد الذرائع، لأنه لو فتح هذا لاجتهد الناس في أمور تعبُّدية، وهذا لا يجوز، ثم إن "أهل" المقصود به الزوجات والأولاد، والمقصود بـ "آل" أتباع محمد جميعًا إلى قيام الساعة، فيختلف المعنى باختلاف الألفاظ.

(78)

مسألة: بعد فراغه من التشهد الأخير يُستحب: أن يستعيذ بالله من أربعة أمور قائلًا: "أعوذ بالله من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدَّجَّال"، ثم بعد ذلك يدعو بما شاء من أمور الآخرة، والأفضل أن يدعو بما ورد في القرآن والسنة، ودعاء علماء الأمة المخلصين، ولا يدعو بشيء من أمور الدنيا وشهواتها، كأن يدعو بأن يرزقه بزوجة جميلة، أو بستان مثمر ونحو ذلك، فإن دعا بذلك: بطلت صلاته، ويجب أن يُعيدها؛ للسنة الفعلية والقولية؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم يدعو بتلك الكلمات الأربع بعد التشهد الأخير - كما رواه أبو هريرة - وقد أمر صلى الله عليه وسلم "بأن يتخير العبد - بعد ذلك - من الدعاء أعجبه إليه" - كما رواه ابن مسعود -، فإن قلتَ: لِمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن الدعاء قبل التسليم من المواضع التي تُستجاب الدعوة فيها، فقد سئل صلى الله عليه وسلم أيُّ الدعاء =

ص: 476

التسليم" وهو: منها فيقول: (عن يمينه: السلام عليكم ورحمة الله، وعن

أسمع؟ فقال: "جوف الليل وأدبار الصلوات المكتوبة" و"دُبُر الشيء": آخره، فيكون آخر الصلاة هو: دُبُرها، وهذا مناسب، حيث إنه يقع بعد قراءات وتكبيرات وتسبيحات وتعظيمات وتمجيدات، وصلوات على النبي، فإن قلتَ: لِمَ قُدِّم الدعاء بتلك الكلمات الأربع؟ قلتُ: للمصلحة؛ فمن أُستعيذ بها وأُبعد عنها: فقد جمع خيري الدنيا والآخرة؛ حيث إنه يستعيذ من عذاب القبر وجهنم، وفتنة المحيا - وهو: حب الأموال، والمناصب والشهرة - وفتنة الممات - وهو: سؤال الملكين وهو في قبره، ويستعيذ من فتنة المسيح الدجال فيما لو خرج، وهو حي، فإن قلتَ: لِمَ خُصِّص المسيح بالذكر هنا؟ قلتُ: لعظم فتنته على وجه الأرض، ويُعتبر خروجه من علامات الساعة، وهو يخرج من جهة المشرق، ويمكث أربعين يومًا يخدع الناس، فيتبعه كثير منهم، ثم يدعي النبوة، ثم يدعي الألوهية، ثم بعد الأربعين ينزل المسيح: عيسى عليه السلام فيقتل المسيح الدجال، فإن قلتَ: لِمَ سُمي بالمسيح؟ قلتُ: لأنه يمسح الأرض بسرعة سيره فيها - على أرجح الأقوال -، فإن قلتَ: لِمَ سُمي بالدجال؟ قلتُ: لأنه يُدَّجِّل على الناس ويكذب عليهم، ويخدعهم، فإن قلتَ: لِمَ لا يدعو في صلاته بشيء من أمور الدنيا؟ قلتُ: للتلازم؛ حيث إن الدعاء بشيء من أمور الدنيا كلام من غير جنس الصلاة فيلزم من ذلك: أنه مُحرَّم، وأنه يُبطل الصلاة؛ لأن الكلام الذي من غير جنس الصلاة يُبطلها. [فرع]: يُستحب أن ينظر المصلي أثناء صلاته كلها - سواء كان قائمًا أو راكعًا أو جالسًا - إلى موضع سجوده؛ للمصلحة؛ حيث إن هذا أجمع لنظره وفكره، وعقله من التشتت، فيكون أكمل في الخشوع والخضوع والتذلل.

ص: 477

يساره كذلك)

(79)

وسُنَّ التفاته عن يساره أكثر

(80)

، وأن لا يطول السلام، ولا يمدُّه في الصلاة ولا على الناس

(81)

، وأن يقف على آخر كل

(79)

مسألة: بعد فراغه من التشهد الأخير، وما شاء من الدعاء: يجب عليه أن يختتم الصلاة بالتسليم، وهو ركن يلتفت أولًا عن يمينه، ويقول:"السلام عليكم ورحمة الله" ويلتفت عن يساره ويقول مثل ذلك؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "وتحليلها التسليم" فحصر المبتدأ في الخبر، فدلَّ مفهوم الحصر هنا على أنه لا يتحلل من الصلاة إلا بالتسليم، الثانية: السنة الفعلية؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك، فإن قلت: لِمَ كان ذلك ركنًا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه سلام على الحاضرين، لكونه مشغولًا عنهم بالصلاة في حمى ربه، كغائب حضر، ويدعو لهم، وللملائكة بالسلامة والحفظ من الله إلى وقت الصلاة الأخرى، ولأنه دخل في الصلاة بالتحريمة، وهو ركن فلا يقوى على إخراجه منها إلا بركن، وهو: التسليم.

(80)

مسألة: يُستحب للإمام أن يلتفت في تسليمه عن يساره أكثر من التفاته عن يمينه؛ للسنة الفعلية؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك، فإن قلتَ: لِمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه بيان للمأمومين أن الصلاة قد انتهت لمن لم يتبيَّن له ذلك في التسليمة الأولى.

(81)

مسألة: يُستحب أن يحذف السلام حذفًا باختصار وإيجاز وسرعة: فلا يمدُّه ويُمططه ويُطيله؛ للسنة الفعلية؛ حيث قال أبو هريرة: "حَذْفُ السلام سنة" وإذا قال الصحابي ذلك فإنه يقصد إن ذلك سنة سنَّها صلى الله عليه وسلم، و"حذف الشيء": الإسراع به والتخلص منه، فإن قلتَ: لِمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن الصلاة قد انتهت، فليس من المناسب أن يُطيل بشيء لا فائدة من الإطالة فيه.

ص: 478

تسليمة

(82)

، وأن ينوي به الخروج من الصلاة

(83)

، ولا يُجزئ إن لم يقل:"ورحمة الله" في غير صلاة الجنازة

(84)

، والأولى: أن لا يزيد: "وبركاته"

(85)

(وإن كان)

(82)

مسألة: يُستحب أن يقف الإمام وغيره على لفظ الجلالة من قوله: "السلام عليكم ورحمة الله" في كل تسليمة فلا يصل التسليمتين؛ للمصلحة؛ حيث إن ذلك أبلغ في إعلام الآخرين بأن الصلاة قد انتهت.

(83)

مسألة: يجب على المصلي إذا أراد التسليم أن ينوي الخروج من الصلاة به؛ للقياس؛ بيانه: كما أنه لا يدخل في الصلاة إلا بنية الدخول وذلك بتكبيرة الإحرام، فكذلك لا يخرج منها إلا بنية الخروج بالتسليم، والجامع: أن العمل لا يصح شرعًا إلا بنية في كل، وهو المقصد منه.

(84)

مسألة: يُشترط في التسليم: أن يقول: "السلام عليكم ورحمة الله" في كل صلاة ذات ركوع وسجود؛ للسنة الفعلية؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم يداوم على ذلك، فيلزم من المداومة الوجوب، فإن قلتَ: لِمَ اشترط ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن من تمام السلام: طلب الرحمة من الله تعالى، فإن قلتَ: لِمَ قيد ذلك في الصلاة ذات الركوع والسجود؟ قلتُ: لأن الصلاة التي لا ركوع فيها ولا سجود وهي: صلاة الجنازة لا يشترط ذلك فيها فيجزئ وإن لم يقل: "ورحمة الله"؛ لكون صلاة الجنازة قد شُرعت للدعاء للميت بالرحمة، ونظرًا لسبق ذلك لا يشترط الدعاء بها مرة ثانية.

(85)

مسألة: المستحب: أن لا يزيد لفظ "وبركاته" في التسليم؛ للسنة الفعلية؛ حيث إنه عليه السلام لا يقول: "وبركاته" في كثير من سلامه، والكثرة في إيقاع الشيء تفيد الاستحباب، فإن قلتَ: لِمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن اختصار السلام مشروع - كما سبق في مسألة (81) - وحذف "وبركاته" يُساعد على هذا الاختصار.

ص: 479

المصلي (في ثلاثية) كمغرب (أو رباعية) كظهر (نهض مُكبِّرًا بعد التشهد الأول) ولا يرفع يديه (وصلى ما بقي كـ) الركعة (الثانية بالحمد) أي: الفاتحة (فقط) ويُسرُّ بالقراءة (ثم يجلس في تشهده الأخير متورِّكًا) يفرش رجله اليُسرى، وينصب اليُمنى، ويُخرجهما عن يمينه، ويجعل إليتيه على الأرض ثم يتشهد ويُسلِّم

(86)

(86)

مسألة: بعد فراغه من التشهد الأول في الظهر والعصر والمغرب والعشاء: يجب أن ينهض لإكمال صلاته وهو يُكبِّر، ويستحب أن يرفع يديه هنا، ثم يقرأ الفاتحة بادئًا بـ "الحمد لله" سرًا فقط دون أن يقرأ بعدها شيئًا، ثم يركع ويفعل كما فعل في الركعتين الأوليين، فإذا فرغ من ذلك: جلس للتشهد فيقول: التشهد الأول، ثم التشهد الأخير، ثم يدعو بما شاء، ثم يُسلِّم، ويُستحب أن يكون جلوسه على صفة التورُّك وهي: أن يعتمد على الورك الأيسر بأن يفرش قدمه الأيسر، وينصب الأيمن ويُخرجهما عن يمينه، ويجعل إليتيه ومقعدته على الأرض، للسنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه إذا قام من الركعتين، وكان لا يقرأ في الركعتين الأخيرتين شيئًا بعد الفاتحة، وكان يجلس جلسة التورُّك - كما روى أبو حميد -، فإن قلتَ: لِمَ لا يقرأ بعد الفاتحة؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن المسلم في آخر صلاته قد تشق عليه القراءة، فإن قلتَ: لِمَ استُحب رفع اليدين هنا؟ قلتُ: لكونه أبلغ في التعظيم، فإن قلتَ: لم استُحبت جلسة التورك هنا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن الإطالة في هذه الجلسة مشروعة للتشهدين والدعاء، فلا يصلح لهذا إلا هذه الجلسة؛ تيسيرًا على الناس، فإن قلتَ: لا يرفع يديه عند القيام من الركعتين - وهو ما ذكره المصنف هنا - للسنة الفعلية؛ حيث لم يكن صلى الله عليه وسلم يرفع يديه هنا؟ قلتُ: إن أبا حميد قد روى عنه صلى الله عليه وسلم: أنه رفع يديه في هذا الموضع، وهذه زيادة ثقة مقبولة عندنا، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلت: سببه "الخلاف في حجية زيادة الثقة" فعندنا: حجة، وعندهم: لا.

ص: 480

(والمرأة مثله) أي: مثل الرجل في جميع ما تقدم حتى رفع اليدين (لكن تضمُّ نفسها) في الركوع والسجود وغيرهما، فلا تتجافى، (وتسدل رجليها في جانب يمينها) إذا جلست، وهو أفضل، أو متربِّعة، وتسرُّ بالقراءة وجوبًا إن سمعها أجنبي، وخنثى كأنثى

(87)

ثم يُسنُّ أن يستغفر ثلاثًا، ويقول:"اللهم أنت السلام ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام" ويقول: "سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر معًا" ثلاثًا وثلاثين، ويدعو بعد كل مكتوبة مُخلصًا في دعائه

(88)

(87)

مسألة: صلاة المرأة والخنثى كصلاة الرجل في الأفعال والأقوال، لكن يُستحب للمرأة أن لا تُبعد عضو عن عضو في ركوع أو سجود، وأن تسدل رجليها وتجعلهما في الجانب الأيمن في جميع جلسات الصلاة، أو أن تتربع في جلستها والأنثى مثلها في ذلك؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "صلوا كما رأيتموني أصلي"، وهذا عام فيشمل الرجال والنساء والخناثى، لأن "الواو" من صيغ العموم، الثانية: قول وفعل الصحابي؛ حيث إن عليًا كان يقول: "إذا صلت المرأة فلتحتفز وتضم فخذيها"، وكان ابن عمر "يأمر النساء بأن يتربَّعن في الصلاة""وكانت عائشة تسدل رجليها في الجانب الأيمن منها إذا جلست في الصلاة"، وهذا كله مخصِّص للسنة القولية السابقة، فإن قلت: لِمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك أبلغ في سترها، والخنثى مثلها؛ لاحتمال أن يكون امرأة. [فرع]: يجب على المرأة أن تخفض صوتها في القراءة إذا كان حولها رجال أجانب عنها، فإن لم يوجد أجانب: فيُستحب أن تخفض صوتها؛ للتلازم؛ حيث إن جهرها بصوتها عند الأجانب يُثير الفتنة غالبًا فيلزم وجوب خفضه؛ دفعًا لذلك، ويلزم من جهرها بصوتها عند غير الأجانب: عدم إثارة الفتنة غالبًا، لذلك استحب خفض الصوت، لاحتمال وجود أجنبي ولو بعيدًا.

(88)

مسألة: يُستحب للمسلم إذا فرغ من صلاته أن يقول: "استغفر الله" ثلاث مرات، ويقول: "اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال =

ص: 481

فصل: (ويُكره في الصلاة التفاته)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد" رواه البخاري

(89)

، وإن كان لخوف ونحوه: لم

والإكرام، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه له النعمة وله الفضل، وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا مُعطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجدِّ منك الجدُّ" ثم يقول:"سبحان الله" ثلاثًا وثلاثين، و"الحمد لله" ثلاثًا وثلاثين و"الله أكبر" ثلاثًا وثلاثين فتكون تسعًا وتسعين، ثم يكمل المائة بقوله:"لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، اللهم أعني على ذكرك وعلى شكرك وعلى حسن عبادتك" ويُخلص في هذا الدعاء، ثم يقرأ آية الكرسي، وسورة الإخلاص، والفلق، والناس، للسنة القولية والفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم أرشد إلى بعض ذلك، وفعل البعض الآخر في أحاديث كثيرة رواها معاذ، والزبير، والحارث، وأبي أمامة، وعقبة وغيرهم، فإن قلتَ: لِمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ما بعد الصلاة مباشرة من المواضع التي يستجاب فيها الدعاء؛ حيث إنه وقع بعد القراءات والتعظيمات، والتكبيرات، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فناسب الدعاء والذكر هنا، وفيه تجديد للتوحيد.

(89)

مسألة: يُكره الالتفات القليل بلا حاجة في أثناء الصلاة، للسنة القولية؛ حيث سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الالتفات في الصلاة فقال:"هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد" فالشيطان يختطف البصر بسرعة من المصلي على غفلة منه، وهذا يُنقص من أجرها لذا: كُره، ولم يُبيِّن عليه السلام أن الصلاة تبطل، وهذا يلزم منه: صحتها؛ إذ لو كانت باطلة لبينه؛ لأنه لا يجوز تأخير =

ص: 482

يُكره

(90)

، وإن استدار بجملته، أو استدبر القبلة في غير شدَّة خوفٍ: بطلت صلاته

(91)

(و) يُكره (رفع بصره إلى السماء) إلا إذا تجشأ فيرفع وجهه؛ لئلا يؤذي من حوله؛ لحديث أنس: "ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم" فاشتدَّ قوله في ذلك حتى قال "لينتهينَّ، أو لتُخطفنَّ أبصارهم"

البيان عن وقت الحاجة، فإن قلتَ: لِمَ كُره ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن الالتفات عبث وإن كان قليلًا، والعبث يُنقص من أجر الصلاة، فإن قلتَ: لِمَ لم يحرم؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن الالتفات اليسير لا يسلم منه أحد، فروعيت المشقة، من باب "ما تعم به البلوى".

(90)

مسألة: يُباح للمصلي: أن يلتفت - وإن كان كثيرًا - بشرط: أن يكون ذلك لحاجة أو ضرورة: كأن يكون خائفًا من عدو، أو دابة، أو سيارة، أو حشرة، أو ضياع أهل أو مال أو نحو ذلك؛ للسنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم كان يلتفت إلى الشِّعب وهو يصلي؛ لوجود عدو هناك - كما رواه سهل بن الحنظلية -، فإن قلتَ: لِمَ أبيح ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه دفع ضررٍ عن الناس.

(91)

مسألة: إذا استدار المصلي بجميع بدنه - رأسه وصدره ورجليه - لغير القبلة، أو جعل القبلة قبالة ظهره: ففيه تفصيل هو كما يلي: أولًا: إن كان في شدة خوف: فصلاته صحيحة، للتلازم؛ حيث يلزم من هذه الشدة في الخوف: صحة الصلاة؛ لأن شرط "استقبال القبلة" - يسقط بالعجز عنه؛ بسبب الخوف، والضرورات تبيح المحظورات، ثانيًا: إن لم توجد شدة خوف: فإن صلاته تبطل للتلازم؛ حيث يلزم من عدم الشرط: عدم المشروط، فيلزم من عدم استقبال القبلة - لغير ضرورة وهي شدة الخوف -: عدم صحة الصلاة؛ فإن قلتَ: لِمَ شرع هذا التفصيل؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه دفع مفسدة عن الناس، ومراعاة أحوالهم.

ص: 483

رواه البخاري

(92)

(و) يُكره أيضًا (تغميض عينيه)؛ لأنه فعل اليهود

(93)

(و) يُكره أيضًا (إقعاؤه) في الجلوس، وهو: أن يفرش قدميه ويجلس على عقبيه - هكذا فسَّره الإمام وهو قول أهل الحديث - واقتصر عليه في "المغني" و"المقنع" و"الفروع" وغيرها، وعند العرب:"الإقعاء" جلوس الرجل على إليتيه ناصبًا قدميه مثل إقعاء الكلب، قال في "شرح المنتهى":"وكل من الجلستين مكروه"؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا رفعت رأسك من السجود فلا تقع كما يُقعي الكلب" رواه ابن

(92)

مسألة: يُكره رفع المصلي بصره إلى السماء لغير حاجة، فإن رفعه لحاجة كان يغلبه الجشأ فله رفع وجهه بلا كراهة؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد نهى عن ذلك - في حديث أنس - وصرف هذا النهي من التحريم إلى الكراهة؛ القياس، بيانه: كما أن الالتفات اليسير أثناء الصلاة بلا حاجة يكره، فكذلك رفع البصر إلى السماء أثنائها مكروه، والجامع: انحراف الوجه قليلًا عن القبلة، الثانية: المصلحة؛ حيث إن رائحة الجشأ تؤذي من حوله، فأبيح رفع الوجه إلى السماء، رفعًا لهذا الأذى، فإن قلتَ: لِمَ كُره ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن النظر إلى السماء بلا حاجة فيه عبث يُنقص أجر الصلاة.

(93)

مسألة: يُكره تغميض المصلي لعينيه بحيث لا يرى شيئًا بلا حاجة، أما إن وُجدت حاجة لذلك، كأن يكون أمامه ما يُحرَّم النظر إليه فيجب تغميضهما، أو يكون أمامه بعض الزخارف، أو بعض الناس أو السيارات مما يتسبب في إشغاله عن الركوع فيُستحب تغميضهما؛ للمصلحة؛ حيث إن تغميض العينين مظنة للنوم والكسل وفيه تشبه بالكفار عند عبادتهم فكره لذلك، ووجب التغميض؛ لكون النظر إلى العورة حرام، وما يُترك به الحرام واجب، واستُحب التغميض؛ لكونه متسبب في عدم الخشوع.

ص: 484

ماجه

(94)

، ويُكره أن يعتمد على يده أو غيرها وهو جالس؛ لقول ابن عمر:"نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يجلس الرَّجل في الصلاة، وهو معتمد على يده" رواه أحمد وغيره

(95)

، وأن يستند إلى جدار ونحوه؛ لأنه يُزيل مشقة القيام إلا من حاجة، فإن كان يسقط لو أُزيل: لم تصح

(96)

(و) يُكره (افتراشه ذراعيه ساجدًا) بأن يمدُّهما على الأرض

(94)

مسألة: يُكره الإقعاء في جلوس الصلاة، بأن يُلصق إليتيه ومقعدته بالأرض وينصب ساقيه وفخذيه، ويجعلها متجهة إلى أعلى ويضع يديه على الأرض كما يفعل الكلب؛ للسنة القولية؛ حيث نهى صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وقد صَرف هذا النهي إلى الكراهة: فعل الصحابي؛ حيث إنه قد ثبت عن ابن عباس وابن عمر والزبير أنهم يفعلون ذلك أحيانًا في صلاتهم، فإن قلت: لِمَ كره ذلك؟ قلتُ: جلسة الإقعاء فيها قرب من العبث وكثرة الحركة، وعدم مناسبتها للعبادة.

(95)

مسألة: يُكره اعتماد المصلي على يده وهو جالس؛ للسنة القولية؛ حيث "نهى صلى الله عليه وسلم عن جلوس المصلي وهو معتمد على يده" وصرف هذا إلى الكراهة التلازم حيث إن الصلاة تامة، فيلزم صحتها، ولكنه كره؛ لكونه أزال مشقة الجلوس مما يتسبب في نقصان أجره.

(96)

مسألة: إذا استند المصلي على جدارٍ أو عصى ونحوهما في حال الوقوف فهذا مكروه إن كان لا يسقط إذا أزيل ما استند إليه أما إن كان يسقط إذا أزيل: فلا تصح صلاته للتلازم؛ حيث يلزم من عدم سقوطه إذا أزيل: عدم اعتماده عليه، وأنه أتى بالقيام على المشروع فصحَّت صلاته، لكن كره؛ لكون اعتماده هذا يُعتبر نوعًا من العبث المنقص من أجر الصلاة، ويلزم من سقوطه إذا أزيل: اعتماده عليه بدون إتيانه بالقيام، فلم تصح صلاته؛ لفقدان القيام الذي هو ركن من أركان الصلاة. [فرع]: إذا وُجد عذر كمرض أو خوف ونحوهما عند المصلي واحتاج إلى الإقعاء، أو الاعتماد على يده أو الاستناد إلى =

ص: 485

ملصقًا لهما بها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "اعتدلوا في السجود، ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب" متفق عليه من حديث أنس

(97)

(و) يُكره (عبثه)؛ لأنه صلى الله عليه وسلم رأى رجلًا يعبث في صلاته فقال: "لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه"

(98)

(و) يُكره (تخصُّره) أي: وضع يده على خاصرته؛ "لنهيه صلى الله عليه وسلم أن يصلي الرجل

الجدار أو العصى: فإنه يفعل ذلك، وصلاته صحيحة بلا كراهة؛ للسنة الفعلية؛ حيث "إنه صلى الله عليه وسلم لما أسنَّ وكثر لحمه: اتخذ عمودًا في مصلَّاه يعتمد عليه" والخوف والمرض ونحوهما مثل الثقل وكثرة اللحم؛ لعدم الفارق بجامع: دفع المشقة وهذا من باب "مفهوم الموافقة"، وهذا هو المقصد الشرعي منه.

(97)

مسألة: يُكره أن يفترش المصلي ذراعيه في السجود بأن يُلصقهما بالأرض ولا يرفعهما عنها كالفراش كما يفعل الكلب؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "إذا سجد أحدكم فليعتدل، ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب" وصرف هذا النهي إلى الكراهة: الإجماع؛ حيث إن أهل العلم يختارون الاعتدال في السجود - كما قال الترمذي - وضد الاختيار والمستحب: المكروه، فإن قلتَ: لِمَ كُره ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن هذه الطريقة قد تؤدي إلى النوم والكسل وهذا مناف للعبادة، فكره فعلها؛ دفعًا لهذا.

(98)

مسألة: يُكره العبث في أي جزء من أجزاء الصلاة بأن يُحرك رجلًا أو يدًا، أو ساعة أو عمامة أو أيَّ شيء مما عليه؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم في رجل رآه يعبث في الصلاة -:"لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه" فالعبث في الجوارح يلزم منه عدم خشوع القلب المطلوب في الصلاة، فلزم كراهة العبث؛ لئلا يؤدي إلى ترك المطلوب فعله في الصلاة، وهو: الخشوع مما يتسبب في نقصان الأجر.

ص: 486

متخصِّرًا" متفق عليه من حديث أبي هريرة

(99)

(و) يُكره (تروُّحه) بمروحة ونحوها؛ لأنه من العبث إلا لحاجة كغم شديد

(100)

، ومراوحته بين رجليه مستحبَّة، وتُكره كثرته؛ لأنه فعل اليهود

(101)

(وفرقعة أصابعه وتشبيكها)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تقعقع أصابعك وأنت في الصلاة" رواه ابن ماجه عن علي، وأخرج هو والترمذي عن كعب بن عجرة:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلًا قد شبَّك أصابعه في الصلاة ففرَّج رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصابعه"

(102)

،

(99)

مسألة: يُكره التخصُّر في الصلاة بأن يضع المصلي يده في وسطه فوق الوركين؛ للسنة القولية؛ حيث "نهى صلى الله عليه وسلم عن ذلك" وصرف هذا النهي إلى الكراهة: التلازم؛ حيث يلزم من هذا ترك المستحب، وهو وضع اليد فوق أو تحت السرة، وترك المستحب مكروه، لكونه حرم نفسه من الخير، وهو المقصد منه.

(100)

مسألة: يُكره أن يراوح المصلي عن نفسه بمروحة يمسكها بيده بلا حاجة، فإن وجدت حاجة كوجود حر شديد ونحوه: فلا يكره التروح؛ للمصلحة؛ حيث إن تروحه بلا حاجة ينقص من أجر الصلاة؛ لكونه عبثًا، وعند وجود الحاجة لذلك لا يكره؛ لدفع الضرر عن نفسه.

(101)

مسألة: يُستحب أن يراوح المصلي بين قدميه وهو قائم بأن يعتمد على إحدى قدميه ويريح الأخرى إذا طال به القيام ولكن يُكره الإكثار من ذلك؛ للمصلحة؛ حيث إن هذا فيه اطمئنان وسكون وخشوع مما يزيد أجر صلاته، وكُره من الإكثار من ذلك؛ لئلا يتشبه بالكفار؛ حيث كان اليهود يتمايلون في عبادتهم، فسدًا لذلك كره.

(102)

مسألة: يُكره أن يفرقع المصلي أصابعه وأن يشبك بعضها ببعض؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم لعلي: "لا تقعقع أصابعك وأنت في الصلاة" وصرفت السنة الفعلية هذا النهي إلى الكراهة؛ حيث "إنه صلى الله عليه وسلم قد فرق بين =

ص: 487

ويُكره التمطِّي

(103)

وفتح فمه ووضعه فيه شيئًا

(104)

، لا في يديه

(105)

، وأن يصلي وبين يديه ما يلهيه أو صورة منصوبة ولو صغيرة، أو نجاسة، أو باب مفتوح، أو إلى نار من قنديل أو شمعة

(106)

والرمز بالعين والإشارة لغير حاجة، وإخراج لسانه،

أصابع رجل قد شبكها وهو في الصلاة" ولم يأمره بإعادة الصلاة، مما يدل على صحتها، ولكن هذا الفعل مكروه، ولا فرق بين التشبيك والفرقعة، بجامع: كون كل واحد منهما عبثًا ينقص من أجر الصلاة، ولا يليق بها وهذا هو المقصد منه.

(103)

مسألة: يُكره أن يتمطى المصلي بأن يتمدد ويتمغَّط؛ للمصلحة؛ حيث إن هذا يعتبر من العبث في الصلاة، يتسبب في إنقاص أجر الصلاة.

(104)

مسألة: يُكره أن يفتح المصلي فمه: سواء وضع فيه شيئًا بدون جرعه أو لا؛ للمصلحة؛ وقد بيناها في مسألة (103).

(105)

مسألة: يباح أن يضع المصلي في يده شيئًا: سواء كان في قبضته، أو كمه أو كيس في ثوبه ونحو ذلك؛ للمصلحة؛ حيث إن ذلك لا يخلو منه أحد؛ لعموم البلوى به، فأُبيح لمشقة تركه.

(106)

مسألة: يُكره أن يصلي المسلم وأمامه أيُّ شيء يلهيه عادة من صور وتماثيل، أو أمامه نجاسة من كنيف وقمامة، أو أمامه باب مفتوح، أو كتابات في جدران، أو أمامه قنديل أو شمعة فيها نار أو نحو ذلك؛ للمصلحة؛ حيث إن ذلك كله يشغله عن كمال خشوعه فينقص أجره، وكونه يصلي وأمامه نجاسة لا يليق بأي عبادة تشترط لها الطهارة.

ص: 488

وأن يصحب ما فيه صورة من فصِّ أو نحوه، وصلاته إلى متحدِّث، أو نائم، أو كافر، أو وجه آدمي، أو إلى امرأة تصلي بين يديه

(107)

، وإن غلبه تثاؤب: كضم ندبًا، فإن لم يقدر: وضع يده على فمه

(108)

(و) يُكره (أن يكون حاقنًا) حال دخوله في الصلاة، والحاقن هو: المحتبس بوله، وكذا: كل ما يمنع كمالها كاحتباس غائط، أو ريح وحر وبرد وجوع وعطش مفرط؛ لأنه يمنع الخشوع، وسواء خاف فوت الجماعة أو لا؛ لقوله عليه السلام:"لا صلاة بحضرة طعام ولا وهو يدافعه الأخبثان" رواه مسلم عن عائشة (أو بحضرة طعام يشتهيه) فتُكره صلاته إذًا؛ لما تقدم، ولو خاف فوت الجماعة، وإن ضاق الوقت عن فعل جميعها: وجبت في جميع الأحوال، وحرِّم اشتغاله بغيرها

(109)

، ويُكره أن يخصَّ جبهته بما يسجد عليه؛ لأنه

(107)

مسألة: يُكره أن يغمز المصلي بعينه أو يشير بها، أو يخرج لسانه، وأن يحمل أي صورة لغير حاجة، وأن يصلي وأمامه شخص يتكلم، أو نائم، أو ميت، أو كافر أو امرأة تصلي بين يديه؛ للمصلحة؛ حيث إن ذلك مشغل له عن الخشوع مما يتسبب في نقصان أجره، ومقابلة الكافر أثناء الصلاة لا يليق بالعبادة.

(108)

مسألة: يُستحب أن يمنع المصلي التثاؤب الذي غلبه، فإن لم يستطع: فيضع يده على فمه؛ للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه منع لإيذاء الآخرين به، وهذا فيه دفع مفسدة.

(109)

مسألة: يُكره أن يصلي وفكره منشغل عن الخشوع بشيء كأن يحصره البول، أو الغائط، أو الريح، أو ضايقه حر أو برد، أو إحساسه بجوع أو عطش، أو ألم أو غضب، أو اشتهى طعامًا بين يديه، أو رغب في جماع امرأته، وهذا مطلق، أي: سواء فاتته صلاة الجماعة أو لا، فعلى هذا: يجوز له تأخير الصلاة حتى يزول ما يشغله بشرط: أن لا يكون وقت الصلاة ضيقًا، بأن يخشى من خروج وقتها، فإن خشي خروجه: فإنه يصلي على أيَّة حال؛ لقواعد: الأولى: =

ص: 489

من شعار الرافضة

(110)

، ومسح أثر سجوده في الصلاة، ومسُّ لحيته

(111)

، وعقصُ

الأخبثان" - وهما: - البول والغائط - حيث نفى أن تكون الصلاة كاملة الأجر إذا صلَّاها وهو قد حصره البول أو الغائط، أو كان بحضرة طعام، وهذا ثبت بدلالة الاقتضاء؛ حيث إن التقدير: "لا صلاة كاملة بحضرة طعام

"، لأنه يمكن حمل النفي هنا على نفي الكمال، وما ذكر مما يُشغل الفكر مثل الطعام والبول والغائط؛ لعدم الفارق بجامع: إشغال الفكر عن الخشوع من باب "مفهوم الموافقة"، الثانية: قول وفعل الصحابي؛ حيث قال ابن عباس: "لا نقوم إلى الصلاة وفي أنفسنا شيء" و"كان ابن عمر يوضع له الطعام وتقام الصلاة فلا يأتيها حتى يفرغ، وإنه يسمع قراءة الإمام" الثالثة: التلازم؛ حيث إن الصلاة في وقتها شرط - كما سبق - والصلاة مع الخشوع مستحب، فيلزم من ذلك تقديم فعل الشرط وهو: الصلاة في الوقت المُضيَّق قبل خروج وقت الصلاة؛ لأن فقدانه يبطل الصلاة، أما فقدان المستحب، وهو: الخشوع فهو ينقص من الأجر فقط، فإن قلتَ: لِمَ كرهت الصلاة وهو منشغل الفكر بمثل تلك الأشياء؟ قلتُ: لأنها مشغلة عن الخشوع والتذلل في الصلاة، ولأن ذلك مضر بالصحة، فدفعًا لذلك، وإكمالًا للأجر: كُره أن يصلي مع وجود تلك الأشياء فيه.

(110)

مسألة: يُكره أن يخصِّص المصلي قطعة من الحجر أو الطين ليضع جبهته عليها عند السجود؛ للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه دفع مفسدة تقليد الرافضة الذين يفعلون ذلك وهذه من البدع العظيمة، فائدة: الرافضة طلبوا من زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب أن يتبرأ من أبي بكر وعمر، فأبى فرفضوه، وكانوا يأخذون قطعة من حجر أو طين من حول قبر الحسين بن علي ليسجدوا عليها.

(111)

مسألة: يُكره أن يزيل المصلي التراب الذي علق في جبهته، وكذا: مس لحيته؛ للمصلحة؛ حيث إن ذلك يُعتبر من العبث.

ص: 490

شعره، وكفُّ ثوبه ونحوه، ولو فعلهما لعمل قبل صلاته، ونهى الإمام رجلًا كان إذا سجد جمع ثوبه بيده اليسرى، ونقل ابن القاسم: يُكره أن يشمِّر ثيابه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "تَرِّب تَرِّب"

(112)

(و) يُكره (تكرار الفاتحة)؛ لأنه لم يُنقل

(113)

و (لا) يكره (جمع سور في) صلاة (فرض كنفل)، لما في الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في ركعة من قيامه بالبقرة وآل عمران والنساء

(114)

(و) يسنُّ (له) أي: للمصلي (ردُّ المار بين يديه)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا كان أحدكم يصلي فلا يدعنَّ أحدًا يمرُّ بين يديه، فإن أبى فليقاتله؛ فإن معه القرين" رواه مسلم عن ابن عمر، وسواء كان المارُّ آدميًا أو غيره، والصلاة فرضًا أو نفلًا، بين يديه سترة فمرَّ دونها أو لم تكن فمرَّ قريبًا منه، ومحلُّ

(112)

مسألة: يُكره أن يعقص المصلي شعر رأسه: بأن يدخل أطرافه في أصوله، ويشدُّه بشيء، وأن يكف ثوبه وكمه بأن يرفعهما أثناء ركوعه أو سجوده؛ للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تشبُّه بفعل المتكبرين، فكره؛ لئلا يؤدي إلى التكبر، تنبيه: استدلال المصنف بما روي أنه عليه السلام قال: "ترِّب ترِّب" لا يصح؛ لأن كثيرًا من أئمة الحديث ضعَّفوه.

(113)

مسألة: يُكره أن يكرر المصلي قراءة الفاتحة: بأن يقرأها مرتين أو أكثر؛ للمصلحة؛ حيث إن قراءتها مرة واحدة ركن في الصلاة - كما سبق - ولم ينقل تكراره صلى الله عليه وسلم لها، فيكون تكرارها تطويلًا بلا فائدة.

(114)

مسألة: يُباح أن يقرأ المصلي سورتين فأكثر بعد الفاتحة في قيام واحد في صلاة الفرض، ولا يُكره ذلك؛ للقياس، بيانه: كما يُباح ذلك في صلاة النفل؛ حيث قرأ صلى الله عليه وسلم البقرة وآل عمران والنساء فيها، فكذلك يُباح في الفرض، والجامع: أن كلًا منهما تشرع القراءة فيها بعد الفاتحة، فإن قلتَ: لِمَ أُبيح ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه زيادة التعبد بكثرة قراءة القرآن.

ص: 491

ذلك: ما لم يغلبه، أو يكن المار محتاجًا للمرور أو بمكة

(115)

، ويحرم المرور بين

(115)

مسألة: يجب أن يردَّ المصلي كلَّ مار بين يديه - وهو: ما بين رجليه وموضع سجوده - ويُرجعه من حيث أتى، ويجتهد في ذلك بأن يومئ ويُشير ويلمس برفق، وكل ذلك لا يُكره، ولو وجدت حركة ليست من جنس الصلاة، وهذا مطلق، أي سواء كانت الصلاة فرضًا أو نفلًا، وسواء كان المار آدميًا أو غيره، وسواء كان المصلي قد وضع سترة فمرَّ المارُّ دونها أو لا: فمر المصلي قريبًا من المصلي والصلاة تصح، وذلك بشرطين: أولهما: أن لا يغلب المار المصلي في المرور، فإن غلبه وأصرَّ على المرور فلا يُطيل المصلي في ردِّه ويتركه يمر، ثانيهما: أن لا يكون المار بحاجة إلى المرور، فإن كان بحاجة إليه فلا يمنعه المصلي كأن يكون المكان ضيقًا، أو كان المصلون كثيرين كما هو الحال في المسجد الحرام والمسجد النبوي؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "إذا كان أحدكم يُصلي فلا يَدَعنَّ أحدًا يمرُّ بين يديه، فإن أبى فليُقاتله؛ فإن معه قرين" فقد حر أن يترك المصلي أحدًا يمر بين يديه؛ لأن النهي مطلق فيقتضي التحريم، وترك الحرام واجب؛ فيجب عليه أن يرده قدر المستطاع إن كان المار غير مضطر، ووجوب الرد يستلزم أن الحركة بسبب ذلك لا تُكره، الثانية: المصلحة؛ حيث إن إصرار المار على المرور وإطالة المصلي في ردِّه: يُبطل الصلاة؛ لكثرة الحركة، وردُّ المار مع ضيق المكان وكثرة المصلين فيه إضرار بالمار، فدفعًا لذلك: اشترط هذان الشرطان، فإن قلتَ: لِمَ وجب رده؟ قلتُ: لأن المار وصف بأنه شيطان، وهذا مشغل للمصلي عن الخشوع، فإن قلتَ: لِمَ سُمِّي المار بأنه القرين أو الشيطان؟ قلتُ: لأن هذا المار قد فعل شيئًا لا يفعله إلا الشيطان وهو كونه خرق حرمة الصلاة، تنبيه: قوله: "يُسن للمصلي رد المار" هذا مرجوح؛ حيث لم أجد دليلًا على هذا الاستحباب، بل هو واجب كما سبق.

ص: 492

المصلي وسترته ولو بعيدة، وإن لم يكن سترة: ففي ثلاثة أذرع فأقل

(116)

، فإن أبى المار الرجوع: دفعه المصلي، فإن أصرَّ: فله قتاله ولو مشى، فإن خاف فسادها: لم يُكرر دفعه

(117)

، ويضمنه

(118)

، وللمصلي دفع العدو من سيل وسبع، أو سقوط

(116)

مسألة: يحرم أن يمرَّ الشخص بين يدي المصلي - وهو: ما بين قدميه وموضع سجوده - سواء وضع المصلي سترة أو لا؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "لو يعلم المارُّ بين يدي المصلي ماذا عليه من الإثم: لكان أن يقف أربعين خيرًا له من أن يمر بين يديه" فتوعد المار بالعقاب والإثم، ولا يُعاقب على فعله إلا الحرام، فإن قلتَ: لِمَ حُرِّم ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن هذا سيكون سببًا في إشغال المصلي مما يؤدِّي إلى إنقاص أجره، وهذا يضره فدفعًا لذلك: شرع هذا، تنبيه: تحديد المصنف بمسافة ثلاثة أذرع لم أجد عليه دليلًا عليه.

(117)

مسألة: إذا ردَّ المصلي المار، فلم يرجع: فإن للمصلي أن يدفعه بيده، فإن أصر المار ولم يرجع أيضًا: فله قتاله ولمسه، لكن إن خاف أن تفسد صلاته بذلك: فإنه يتركه يمر، ولا يُكرر دفعه؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "فإن أبى فليقاتله" وقد سبق، الثانية: التلازم؛ حيث يلزم من كثرة الحركة: بطلان الصلاة، فلذا لا يُكرر الدفع، فإن قلتَ: لِمَ يفعل ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه محافظة على حقه المؤدِّي إلى كمال صلاته، تنبيه: قوله: "ولو مشى" قلتُ: هذا غير صحيح؛ للتلازم؛ حيث يلزم من إباحة المشي بسبب الرد: أن يمشي الناس وهم يصلون ويتقاتلون بأيديهم في المساجد، وهذا لا يمكن أن يرد به الإسلام، الذي علَّمنا على السكينة والوقار، وذلك لأن المشي لا حدَّ له.

(118)

مسألة: إذا كرَّر المصلي دفع المار وقاتله لأجل أن يُبعده فمات المارُّ أو تضرر: فإن المصلي يضمنه، ويدفع ديته أو أرش الجناية؛ للتلازم؛ حيث إن تكرار المدافعة غير مشروع فيلزم ضمان ما حدث بسببه؛ لكونه قد تعدَّى.

ص: 493

جدار ونحوه، وإن كثُر: لم تبطل في الأشهر قاله في المبدع

(119)

(و) له (عدُّ الآي) والتسبيح وتكبيرات العيد بأصابعه؛ لما روى محمد بن خلف عن أنس: "رأيتُ النبي صلى الله عليه وسلم يعقد الآي بأصابعه"

(120)

(و) للمأموم (الفتح على إمامه) إذا ارتجَّ عليه أو غلط؛ لما روى أبو داود عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة فلُبِّس عليه، فلما انصرف، قال لأبي:"أصليت معنا؟ " قال: نعم قال: "فما منعك؟ " قال الخطابي: إسناده جيد

(121)

، ويجب في الفاتحة كنسيان سجدة ولا تبطل به ولو بعد أخذه في

(119)

مسألة: يُباح أن يدفع المصلي عن نفسه ضرر سيل أو سبع أو إزالة جدار أو عمود أو سقف، أو إبعاد صائل من حيوان أو إنسان، ونحو ذلك، ولا تُبطل حركته بسبب ذلك صلاته ولو كثُرت؛ للمصلحة؛ حيث إن هذا فيه دفع ضرر عن نفسه؛ فأبيح لأنه "لا ضرر ولا ضرار في الإسلام"، و"الضرر يُزال" وفيه استمراره في صلاته؛ لإبعاده عن مشقة إعادتها؛ لأنها حركات للضرورة، وهذا هو المقصد الشرعي منه.

(120)

مسألة: يُباح أن يعدَّ المصلي الآيات التي يقرأ بها، وتسبيحات الركوع والسجود، والتكبيرات في صلاتي العيد والاستسقاء، وهذا من غير تلفظ باللسان، ويكون بأصابعه، ولا تكره الحركة التي تكون بسبب هذا العد؛ للسنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد عدَّ الآيات بأصابعه - كما رواه أنس - والتسبيحات والتكبيرات مثل الآيات من باب مفهوم الموافقة، فإن قلتَ: لِمَ أُبيح ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه احتياط، فإن قلت: لِمَ لا يتلفظ بلسانه بالعدِّ؟ قلتُ: لأنه إذا تلفَّظ: بطلت صلاته؛ لكونه ليس من جنس الصلاة.

(121)

مسألة: يُباح أن يفتح المأموم على إمامه إذا غلط في قراءة آية من القرآن أو تركها، وهذا الفتح غير مكروه؛ للسنة القولية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم أنكر على أُبي بن كعب لعدم ردَّه عليه لما غلط بآية، وهذا يدل على إباحة الرَّدِّ، فإن قلتَ: لِمَ =

ص: 494

قراءة غيرها

(122)

، ولا يفتح على غير إمامه؛ لأن ذلك يُشغله عن صلاته، فإن فعل: لم تبطل، قاله في "الشرح"

(123)

(و) له (لبسُ الثوب و) لفُّ (العُمامة)؛ لأنه صلى الله عليه وسلم "التحف بإزاره وهو في الصلاة، وحمل أُمامة، وفتح الباب لعائشة" وإن سقط رداؤه فله رفعه

(124)

(و) له (قتل حية وعقرب وقمل) وبراغيث ونحوها، لأنه صلى الله عليه وسلم "أمر

أُبيح ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه إعانة على إكمال القراءة؛ ليكمل أجر قراءة الإمام لها.

(122)

مسألة: يجب على المأموم أن يفتح على إمامه إذا غلط في قراءة بعض آيات الفاتحة غلطًا يُحيل المعنى، كأن يقرأ الإمام:"صراط الذين أنعمتُ" أو يترك آية منها، ويرد عليه ولو أخذ بقراءة غيرها؛ للقياس، بيانه: كما يجب على المأموم تنبيه الإمام إذا نسي سجدة فكذلك يجب تنبيهه إذا غلط أو نسي شيئًا من الفاتحة، والجامع: أن كلًا منهما ركن لا تتم الصلاة إلا بتمامه.

(123)

مسألة: يُكره أن يفتح المأموم على غير إمامه إذا غلط في قراءته ممن يقرأ حوله في صلاة أو لا، وصلاة هذا المأموم صحيحة وإن قام بالفتح؛ للقياس، بيانه: كما تصح صلاة المأموم إذا فتح على إمامه، فكذلك تصح إذا فتح على غيره، والجامع: أن الفتح قراءة للقرآن وهو قول مشروع في الصلاة، وليس فيه خطاب للآدمي، فإن قلتَ: لِمَ كُره ذلك؟ قلتُ: لاحتمال انشغال المأموم بذلك. [فرع]: يُباح أن يقبل المصلي من غير المصلي فتحه عليه إذا غلط المصلي في قراءة القرآن؛ لفعل الصحابي؛ حيث إن عمر ردَّ على رجل يُصلي، وكان الرجل المصلي يقبل منه، فإن قلتَ: لِمَ أُبيح ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه إعانة على تكميل صلاة المصلي في حين أنه لا يُشغله.

(124)

مسألة: يُباح للمصلي أن يلبس ثوبًا، أو جبَّة، أو فروة، أو عباءة، وأن يصلح من عمامته، أو من أيَّ شيء عليه، وله فتح باب وإغلاقه، وله رفع ما =

ص: 495

بقتل الأسودين في الصلاة: الحية والعقرب" رواه أبو داود والترمذي وصحَّحه

(125)

(فإن أطال) أي: أكثر المصلي (الفعل عرفًا من غير ضرورة)، وكان متواليًا بـ (لا تفريق: بطلت) الصلاة (ولو) كان الفعل (سهوًا) إذا كان من غير جنس الصلاة؛ لأنه يقطع الموالاة، ويمنع متابعة الأركان، فإن كان لضرورة: لم يقطعها كالخائف، وكذا: إن تفرَّق ولو طال المجموع، واليسير ما يُشبه فعله صلى الله عليه وسلم من حمل أُمامة، وصعود المنبر، ونزوله عنه لما صلَّى عليه، وفتح الباب لعائشة، وتأخره في صلاة الكسوف، ثم عوده ونحو ذلك، وإشارة الأخرس ولو مفهومه كفعله

(126)

، ولا تبطل بعمل

سقط، وإسقاط ما كان عليه، وله الإشارة بيده أو بعينه، والحركة التي تكون بسبب ذلك غير مكروهة بشرط: أن يكون ذلك لحاجة ولو قليلة؛ للسنة الفعلية؛ حيث "إنه صلى الله عليه وسلم قد التحف بإزاره، وحمل أُمامة بنت زينب، وأنه فتح لعائشة وهو يصلي، وكان صلى الله عليه وسلم يُشير في الصلاة وهذا يلزم منه الحركة" وما ذكر من الأمثلة مثل ما فعله صلى الله عليه وسلم هنا؛ لعدم الفارق من باب مفهوم الموافقة، فإن قلتَ: لِمَ أُبيح ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه السعي إلى تكميل الصلاة بإيجاد الطمأنينة، والأمور بمقاصدها؛ حيث إنه يقصد من ذلك إزالة ما يشغل باله.

(125)

مسألة: يُباح أن يقتل المصلي الحية والعقرب والقمل والبرغوث وأيَّ حشرة خشيَ أن تؤذيه أو تؤذي أحدًا، والحركة الناتجة عن ذلك غير مكروهة؛ للسنة القولية؛ حيث "أمر صلى الله عليه وسلم بقتل الحية والعقرب في الصلاة" وهو: أمر بعد حظر فيقتضي الإباحة، ويلزم من ذلك أن الحركة الناتجة عن ذلك غير مكروهة؛ لأن قتلهما لا بدَّ له من حركة، وقتل أي حشرة كقتل الحية والعقرب؛ لعدم الفارق بجامع: دفع الضرر من باب: "مفهوم الموافقة"، وهذا هو المقصد الشرعي منه.

(126)

مسألة: تبطل الصلاة إن تحرك المصلي بحركات كثيرة متتالية من غير جنس الصلاة لغير ضرورة، سواء كانت عمدًا أو سهوًا، أما إن وقعت تلك الحركات =

ص: 496

قلب، وإطالة نظر في كتاب ونحوه

(127)

(وتباح) في الصلاة: فرضًا كانت أو نفلًا

للضرورة في محل واحد، أو كانت متفرقة في الصلاة ومجموعها جعلها كثيرة: أو كانت من جنس الصلاة كإطالة ركوع: فإن الصلاة لا تبطل في هذه الحالات الثلاث؛ للتلازم؛ حيث إن الكثيرة المتوالية في ركعة واحدة الواقعة بغير ضرورة يلزم منها قطع الموالاة بين أركان الصلاة، وهذا يلزم منه: بطلان الصلاة، ويلزم من وقوعها للضرورة كدفع الضرر عنه، أو كونها متفرقة، أو كانت من جنس الصلاة: صحتها: لكونه مضطرًا إلى ذلك، ولكونها لا تقطع الموالاة بين الأركان، فإن قلتَ: لِمَ شُرع ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تحديد للحركات التي تبطل بها الصلاة والتي لا تبطل؛ حتى يُعبدُ الله تعالى على بصيرة، فإن قلتَ: كيف نعرف القليل من الحركات والكثيرة؟ قلتُ: إن الحركة القليلة مثل حركته صلى الله عليه وسلم لما حمل أُمامة بنت زينب والحسن والحسين في كل سجود، وحركته أثناء صعوده ونزوله لما صلى على المنبر، وحركته لما فتح الباب لعائشة وهو يصلي، والكثيرة: ما زاد عن ذلك، وعلى ذلك فقس، [فرع]: الأخرس - وهو: العاجز عن النطق - كغيره من الناطقين في إشاراته وحركاته، وتكثير الفعل وتقليله على التفصيل السابق؛ قياسًا عليهم؛ لعدم الفارق بجامع: التكليف في كل، سواء كانت إشارته مفهومة أو لا من باب مفهوم الموافقة.

(127)

مسألة: لا تبطل الصلاة لحديث قلب المصلي بأن يُحَدِّث نفسه بتجارة أو علم أو نحو ذلك، وكذا: إطالة نظر في كتاب أو صحيفة، ولكن هذا مكروه؛ للتلازم؛ حيث يلزم من إكمال شروط وأركان وواجبات الصلاة: صحتها، ويلزم من نقصان الخشوع والحضور: كراهة هذا، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حثٌّ على الخشوع وإحضار فكر وقلب المصلي وفهم ما يقول فيها.

ص: 497

(قراءة أواخر السور، وأوساطها)؛ لما روى أحمد ومسلم عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الأولى من ركعتي الفجر قوله تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} الآية، وفي الثانية: الآية في آل عمران: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ} الآية

(128)

، (وإذا نابه) أي: عرض للمصلي (شيء) أي: أمر كاستئذان عليه، وسهو إمامه:(سبَّح رجل) ولا تبطل وإن كثر (وصفَّقت امرأة ببطن كفّها على ظهر الأخرى) وتبطل إن كثُر؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا نابكم شيء في صلاتكم فليُسبِّح الرجال، ولتُصفِّق النساء" متفق عليه من حديث سهل بن سعد، وكُره التنبيه بنحنحةٍ، وصفير، وتصفيقه وتسبيحها، لا بقراءة وتهليل وتكبير ونحوه

(129)

(ويبصق) ويقال

(128)

مسألة: يُباح أن يقرأ المصلي - بعد الفاتحة بالركعتين الأوليين - بأوائل وأواسط وأواخر السور؛ لقاعدتين: الأولى: السنة الفعلية؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك، الثانية: فعل الصحابي؛ حيث كان ابن مسعود يفعل ذلك، فإن قلتَ: لِمَ أُبيح ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه توسعة على الناس.

(129)

مسألة: إذا سهى إمام، أو استأذن عليه أحد وهو يصلي منفردًا، أو خاف على أحد الضرر: فيجب على الرجل أن يسبِّح قائلًا: "سُبحان الله"، وتُصَّفِق المرأة ببطن كفِّها على ظهر الأخرى، وتسبيح الرجل لا يُبطل الصلاة وإن كثر، وتصفيق المرأة يُبطلها إن كثُر، وإن نبَّه المصلي المستأذن عليه بقراءة كقوله تعالى:{فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} أو هلَّل، أو كبَّر: فإن هذا يجزئ، ولا يكره، لكن إذا سبَّحت امرأة، أو صفَّق رجل، أو حصل التنبيه بنحو نحنحة أو تصفير ونحو ذلك: فإن هذا يُكره وتصح الصلاة، لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "إذا نابكم شيء في صلاتكم فليُسبِّح الرجال ولتصفق النساء" فأوجب هذا؛ لأن الأمر مطلق، فيقتضي الوجوب، ويلزم من ذلك: عدم كراهة ذلك؛ لأن هذا القول والفعل يستلزم القول والحركة، الثانية: التلازم؛ حيث =

ص: 498

بالسين والزاي (في الصلاة عن يساره وفي المسجد في ثوبه) ويحك ببعض؛ إذهابًا لصورته، قال أحمد: البزاق في المسجد خطيئة، وكفارته دفنه؛ للخبر، ويُخلِّق موضعه استحبابًا، ويلزم حتى غير الباصق إزالته، وكذا: المخاط والنخامة، وإن كان في غير المسجد: جاز أن يبصق عن يساره أو تحت قدمه؛ لخبر أبي هريرة: "وليبصق عن يساره، أو تحت قدمه فيدفنها" رواه البخاري، وفي ثوبه أولى، ويُكره يمنة وأمامًا

(130)

،

إن تنبيه الرجل بالتسبيح، يلزم منه: أن تنبيه الرجل والمرأة بالقراءة والتكبير والتهليل جائز؛ لكونه من جنس ما يُقال في الصلاة، ويلزم من تنبيه الرجل والمرأة بغير ما شُرع لهما: كراهة ذلك؛ لأن كلًّا منهما نبَّه بشيء لم يُشرع له، فإن قلتَ: لِمَ وجب هذا التنبيه؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك من باب التعاون على البر؛ إذ فيه إصلاح ما فسد من الصلاة، وإكمال ما نقص منها، ومعروف أن هذا واجب كما قال عبد الوهاب المالكي في "الإشراف"، فإن قلتَ: لِمَ شُرع التسبيح للرجل، والتصفيق للمرأة؟ قلتُ: الأصل: مشروعية التسبيح لكل منهما؛ لكونه من جنس الصلاة، لكن خولف ذلك في المرأة؛ لأن صوتها عورة، فلا تظهره لذلك، فإن قلتَ: لِمَ كثرة التسبيح لا يبطل الصلاة، وكثرة التصفيق يُبطلها؟ قلتُ: لأن التسبيح من جنس الصلاة، أما التصفيق فليس من جنس الصلاة فيبطلها كثيره عمدًا وسهوًا، فإن قلتَ: لِمَ كُره التصفير، والتنحنح؟ قلتُ: للاحتياط؛ حيث إن ذلك قد يتسبَّب في إبطال الصلاة فكره لأجل ذلك.

(130)

مسألة: يُباح أن يبصق المصلي ويتفل أو يتنخَّم أو يخرج مخاطه: وحركته بسبب ذلك لا يُبطلها، ولا تكره، ولكن إن كان يصلي منفردًا: فإن المستحب أن يبصق عن يساره أو تحت قدمه، ويدفنه وهذا كفارته، وإن كان يصلي في المسجد: فإنه يبصق في ثوبه أو ردائه، ويحكه؛ لئلا تكن له صورة، ويُستحب أن =

ص: 499

وله ردُّ السلام إشارة

(131)

والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عند قراءة ذكره في نفل

(132)

يُطيب موضعه وهو المسمى بـ "الخلوق" ويُستحب للباصق أو غيره مما يرى البصاق ونحوه إزالته؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية والفعلية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "وليبصق عن يساره أو تحت قدمه فإن لم يجد فليقل هكذا فتفل في ثوبه، ثم مسح بعضه على بعض" فلزم أن الحركة بسبب ذلك لا تُبطل الصلاة، ولا يُكره له ذلك؛ لأن هذا الفعل يلزم منه تلك الحركة، ودل مفهوم المكان: على كراهة البُصاق في اليمين وفي الأمام، الثانية: المصلحة؛ حيث إن إذن الشارع بهذا، وجعله عن يساره، وتحت قدمه، أو في ثوبه عند الصلاة مع الجماعة، وتطييب موضعه، واستحباب إزالته بحكه أو دفنه فيه دفع الضرر عن نفسه، وعن الآخرين لإكرامهم، وإكرام الملائكة.

(131)

مسألة: يُباح للمصلي أن يردَّ السلام على من سلَّم عليه بإشارة اليد، أو هزِّ الرأس قليلًا، والحركة التي تحدث هنا غير مكروهة؛ للسنة الفعلية؛ حيث "كان صلى الله عليه وسلم يرد السلام وهو يصلي بالإشارة" ويلزم منه: عدم كراهة الحركة هنا؛ لأن هذا الفعل مستلزم للحركة، فإن قلتَ: لم أُبيح ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه مبالغة في تعميم الألفة والمحبة بين الناس.

(132)

مسألة: يُباح أن يُصلِّي على النبي صلى الله عليه وسلم عند ذكره في أثناء صلاته النفل كأن يقرأ قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} فيقول المصلي: "صلى الله عليه وسلم" ولا يؤثر على تلك الصلاة؛ للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه جمع بين فضل القراءة وفضل وأجر الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، فإن قلتَ: لِمَ خُصِّص ذلك بصلاة النفل دون الفرض؟ قلتُ: لأن الشارع يتساهل في صلاة النفل دون الفرض؛ ألا ترى: أن النفل تقطع بدون عذر، وأن القاعد يصليها وإن كان قادرًا على القيام، وأنها تصلى على الراحلة؛ بخلاف الفرض، فيُشدَّد فيها دون النفل.

ص: 500

(وتسنُّ صلاته إلى سترة) حضرًا كان أو سفرًا ولو لم يخش مارًّا؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا صلى أحدكم فليُصل إلى سترة وليدْنُ منها" رواه أبو داود وابن ماجه من حديث أبي سعيد (قائمة كمؤخرة الرَّحل)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا وضع أحدكم بين يديه مثل مؤخرة الرَّحل فليُصل ولا يُبال من يمرُّ وراء ذلك" رواه مسلم

(133)

، فإن كان في مسجد ونحوه: قرب من الجدار، وفي فضاء: فإلى شيء شاخص من شجر أو بعير، أو ظهر إنسان أو عصى، لأنه صلى الله عليه وسلم "صلى إلى حربة وإلى بعير" رواه البخاري، ويكفي وضع العصا بين يديه عرضًا، ويُستحب انحرافه عنها قليلًا (فإن لم يجد شاخصًا فإلى خط) كالهلال، قال في "الشرح": وكيفما خطَّ: أجزأه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "فإن لم يكن معه عصى فليخط خطًا" رواه أحمد وأبو داود، قال البيهقي:"لا بأس به في مثل هذا"

(134)

(وتبطل) الصلاة (بمرور كلب أسود بهيم) أي: لا لون فيه سوى

(133)

مسألة: يُستحب أن يضع المصلي أمامه سترة بينه وبين القبلة ويقترب منها مثل: مؤخرة الرَّحل وهي: خشبة يستند عليها راكب الدابة: سواء كان منفردًا أو إمامًا، مسافرًا أو مقيمًا، خشي أن يمر أمامه مارٌّ أو لا؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم:"إذا صلى أحدكم فليُصلِّ إلى سترة وليدنُ منها" وصرفت هذا الأمر إلى الاستحباب: السنة الفعلية؛ حيث "إنه صلى الله عليه وسلم قد صلى بدون سترة" فإن قلتَ: لِمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن وضع ذلك يُعين المصلي على الخشوع، وحضور القلب، وعدم الانشغال بمن يمر أمامه؛ ويدنو منها: ليحصل منع المار بينه وبين تلك السترة.

(134)

مسألة: السترة - التي يضعها المصلي أمامه - تحصل بكل شاخص: من جدار، أو عمود، أو شجر، أو بعير، أو ظهر مسلم، أو عصا ونحو ذلك، سواء في صحراء أو لا، ويقرب من الجدار قدر المستطاع، ويضع العصا عرضًا، ويُستحب أن يميل عن تلك السترة يمينًا أو شمالًا، فإن لم يجد شاخصًا، ولا =

ص: 501

السواد إذا مرَّ بين المصلي وسترته، أو بين يديه قريبًا - في ثلاثة أذرع فأقل من قدميه - إن لم تكن سترة، وخُصَّ الأسود بذلك؛ لأنه شيطان (فقط) أي: لا امرأة، وحمار، وشيطان وغيرها

(135)

وسترة الإمام سترة

عصا: فإنه يخط خطًا أمامه مستقيمًا، أو على شكل الهلال أو القوس؛ للسنة الفعلية؛ حيث "كان صلى الله عليه وسلم تركز له العنزة أو الحربة ويعرض البعير فيُصلي إلى ذلك، وكان يميل عنها فيمُر وراء السترة الحمار والكلب لا يُمنع" والخط وغير ذلك مما ذكر كالذي يضعه صلى الله عليه وسلم؛ لعدم الفارق بجامع: المحافظة على الخشوع بسبب ذلك من باب: "مفهوم الموافقة"، فإن قلتَ: لِمَ استُحب أن ينحرف عن السترة؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه دفع الانشغال بها، تنبيه: حديث: "فإن لم يكن معه عصا فيخط خطًا" لا يصلح للاستدلال به؛ لأن كثيرًا من أئمة الحديث قد ضعَّفه، والبيهقي ذكر في "السنن الكبرى": أنه لا بأس به، أي: يستدل به على فضائل الأعمال، قلتُ: الضعيف لا يُستدل به لشيء؛ لعدم حُجِّيته.

(135)

مسألة: إذا مرَّ كلب أسود لا لون فيه غير السواد بين المصلي وسترته، أو بين قدميه ومحل وضع جبهته عند السجود: فإن هذا يقطع صلاته، ويجب عليه أن يُعيدها، أما غيره مثل الكلب غير الأسود، أو المرأة، أو الحمار، أو السباع والوحوش ونحوها: فلا تقطع صلاة المصلي ولو مرَّت بين يديه؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "إذا قام أحدكم يُصلي

فإنه يقطع صلاته: المرأة والحمار والكلب الأسود" وهذا عام لهذه الثلاثة المذكورة وجاءت السنة التقريرية وخصَّصت الحديث هذا بالكلب الأسود فقط؛ حيث "كانت عائشة تكون أمام النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين القبلة وهي نائمة" و"صلى صلى الله عليه وسلم في صحراء وليس بين يديه سترة وحمار وكلب يعبثان بين يديه فما بالى بذلك" - كما رواه الفضل بن العباس - فلم يُنكر هذا، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، فبقي الكلب =

ص: 502

للمأموم

(136)

(وله) أي: للمصلي (التعوذ عند آية وعيد، والسؤال) أي: سؤال الرحمة (عند آية رحمة، ولو في فرض): لما روى مسلم عن حذيفة قال: "صلَّيتُ مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فافتتح البقرة فقلتُ: يركع عند المائة، ثم مضى إلى أن قال: إذا مرَّ بآية فيها تسبيح: سبَّح، وإذا مرَّ بسؤال: سأل، وإذا مرَّ بتعوُّذ: تعوَّذ" قال أحمد: إذا قرأ: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} في الصلاة وغيرها قال: سبحانك فبلى في فرض ونفل

(137)

. فصل (أركانها) أي أركان الصلاة: أربعة عشر، جمع

الأسود هو الذي يقطع الصلاة؛ لأن العام حجة فيما بقي بعد التخصيص، فإن قلتَ: لِمَ كان الكلب الأسود هو الذي يقطع الصلاة بخلاف غيره؟ قلتُ: للمصلحة؛ لأن الكلب الأسود شيطان كما وصفه بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، لذلك يُقتل في كل حال، ولا يحل صيده، وإن دُرِّب وعُلِّم وهو نادر، أما المرأة والحمار والكلاب غير السود وباقي الحيوانات لا يخلو منها بيت من بيوت المسلمين أو الصحراء، فلو كانت تقطع الصلاة: للحق المسلمين ضرر ومشقة فدفعًا لذلك: فُرِّق بينها، تنبيه: قوله: "في ثلاثة أذرع من قدميه" هذا التحديد لم أجد دليلًا عليه وقد سبق التنبيه عليه.

(136)

مسألة: سترة الإمام هي سترة للمأموم: سواء كان المأموم خلف الإمام أو عن يمينه، وبناء على ذلك: فلا يشرع للمأموم أن يتخذ سترة، ولا يُباح للمأموم أن يرد المار بينه وبين الإمام، ولا يحرم المرور بين الإمام والمأموم؛ للسنة الفعلية؛ حيث "كان صلى الله عليه وسلم يصلي إلى سترة دون أصحابه"، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تيسير وتوسعة على الناس.

(137)

مسألة: يُستحب للمصلي - فرضًا أو نفلًا - أن يُسبِّح إذا مرَّ بآية تقتضي التسبيح قائلًا: "سبحانك" كقوله تعالى: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} ، وإذا مرَّ بآية فيها ذكر للرحمة أو الجنة، أو الأنبياء والصالحين: فإنه =

ص: 503

ركن، وهو: جانب الشيء الأقوى، وهو: ما كان فيها ولا يسقط عمدًا ولا سهوًا، وسمَّاها بعضهم فروضًا، والخِلْف لفظي

(138)

(القيام) في فرض لقادر؛ لقوله تعالى:

يسأل الله الرحمة والجنة، كقوله:{إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} و {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} ، ونحوها، وإذا مرَّ بآية فيها ذكر وعيد أو النار، أو أحوال المجرمين، أو أنواع العذاب: فإنه يتعوَّذ من ذلك، كقوله تعالى:{لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ} ونحوها؛ للسنة الفعلية؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك في النفل - كما رواه حذيفة - وصلاة الفرض كصلاة النفل؛ لعدم الفارق، والجامع: أن كلًّا منهما قول من جنس ما يُقال في أي صلاة من باب: "مفهوم الموافقة"، فإن قلتَ: لِمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه جمع بين أجر الصلاة والقراءة والدعاء، والذكر حيث يكون هذا أقرب إلى الاستجابة.

(138)

مسألة: أركان الصلاة هي: التي لا يمكن أن تتم الصلاة إلا بها، فلو ترك واحدًا منها: بطلت الصلاة: سواء كان ذلك عمدًا أو سهوًا؛ وسمَّاها بعضهم "فروض الصلاة" والفرض والركن واحد؛ لأن الخلاف في التسمية فقط وهو - أي الفرض والركن -: ما طلب فعله طلبًا جازمًا بدليل قطعي، ونظرًا لهذه القطعية لا يسقط بعمد ولا سهو، فإن قلتَ: ما الفرق بين أركان الصلاة وشروطها وواجباتها وسننها؟ قلتُ: أركان الصلاة لا تصح الصلاة إلا بوجودها جميعًا، ولا تسقط عمدًا ولا سهوًا وتكون داخل الصلاة، أما الشروط فهي مثل الأركان إلا أنه يُشترط وجودها قبل الدخول فيها، واستمرارها حتى تنتهي، أما الواجبات: فتكون داخل الصلاة وهي ما طلب فعلها طلبًا جازمًا بدليل ظني ولا تسقط عمدًا، ولو ترك المصلي واحدًا منها سهوًا: سجد للسهو، أما المستحبَّات والسنن: فهي داخل الصلاة وتصح الصلاة بدونها سواء كان سقوطها عمدًا أو سهوًا، وهي: ما طلب فعلها طلبًا غير جازم سواء بدليل قطعي أو ظني، وقد بينتُ ذلك في كتبي:"المهذب، والإتحاف"، و"الجامع" في أصول الفقه.

ص: 504

{وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} وحدُّه: ما لم يكن راكعًا (والتحريمة) أي: تكبيرة الإحرام؛ لحديث: "تحريمها التكبير"(و) قراءة (الفاتحة)؛ لحديث: "لا صلاة لمن لم يقرأ في كل ركعة بفاتحة الكتاب"، ويتحمَّلها الإمام عن المأموم، ويأتي (والركوع) إجماعًا في كل ركعة، (والاعتدال عنه)؛ لأنه صلى الله عليه وسلم داوم على فعله، وقال:"صلُّوا كما رأيتموني أصلي" ولو طوّله: لم تبطل كالجلوس بين السجدتين، ويدخل في الاعتدال الرفع، والمراد: إلا ما بعد الركوع الأول، والاعتدال عنه في صلاة الكسوف (والسجود) إجماعًا (على الأعضاء السبعة)؛ لما تقدَّم (والاعتدال عنه) أي: الرفع منه، ويُغني عنه قوله (والجلوس بين السجدتين)؛ لقول عائشة:"كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من السجود: لم يسجد حتى يستوي قاعدًا" رواه مسلم (والطمأنينة في) الأفعال (الكل) المذكورة؛ لما سبق، وهي: السكون وإن قلَّ (والتشهد الأخير وجلسته)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا قعد أحدكم في صلاته: فليقل: التحيات لله" الخبر متفق عليه (والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فيه) أي: في التشهد الأخير؛ لحديث كعب السابق (والترتيب) بين الأركان؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يُصليها مرتبة، وعلَّمها المسيء في صلاته مُرتبة بـ "ثمَّ" (والتسليم)؛ لحديث:"وختامها التسليم"

(139)

(وواجباتها) أي: الصلاة ثمانية (التكبير غير

(139)

مسألة: أركان الصلاة أربعة عشر: أولها: القيام في الفرض على القادر، والقيام هو: أن لا يكون راكعًا حسًا وشرعًا، وقد سبق بيانه في مسألة (13)، ثانيها: التحريمة وهو: قول المصلي عند دخوله في الصلاة: "الله أكبر" وقد سبق بيانه في مسألة (13)، ثالثها: قراءة الفاتحة في كل ركعة من الصلاة، وقد سبق بيانه في مسألة (25)، تنبيه: قوله: "ويتحمَّلها الإمام عن المأموم" سيأتي بيانه في باب "صلاة الجماعة"، رابعها: الركوع بعد كل قيام في كل الصلاة، وسبق بيانه في مسألة (45)، خامسها: الاعتدال عن الركوع وهو متضمن للرفع عنه، وسبق بيانه في مسألة (53)، ويُباح التطويل في الركوع؛ قياسًا على إباحة التطويل في الجلسة بين السجدتين بجامع: وقوع كل منهما بين ركنين، تنبيه: =

ص: 505

التحريمة) فهي ركن؛ كما تقدم، وغير تكبيرة المسبوق إذا أدرك إمامه راكعًا فسنة

قوله: "إلا ما بعد الركوع الأول والاعتدال عنه في صلاة الكسوف" يُشير به إلى أن الكلام السابق في الصلاة العادية؛ بخلاف صلاة الكسوف؛ حيث يكون فيها ركوعان في ركعة واحدة - كما سيأتي بيانه - سادسها: السجود على الأعضاء السبعة وسبق بيانه في مسألتي (59 و 60)، سابعها: الاعتدال عن السجود، وهو متضمن للرفع عنه، وسبق بيانه في مسألة (68)، ثامنها: الجلوس بين السجدتين معتدلًا، وسبق بيانه في مسألة (68)، ويلزم من الاعتدال عن السجود: الجلوس بين السجدتين لذا: قال المصنف: "ويُغني عنه

"، تاسعها: الطمأنينة وهي: السكون والهدوء واستقرار جميع الأعضاء في كل فعل من أفعال الصلاة، وهذا بقدر قراءة الفاتحة في القيام وبقدر قوله "سبحان ربي العظيم"، و"سبحان ربي الأعلى" مرة واحدة في الركوع والسجود، للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم للمسيء في صلاته: "ثم اركع حتى تطمئن راكعًا

" فالركوع لا يصح إلا إذا اطمأن فيه، فيلزم من ذلك كونه ركنًا، وبقية أعمال الصلاة كالركوع والسجود؛ لعدم الفارق، عاشرها: التشهد الأخير، حادي عشر: جلسة التشهد الأخير، وهي: الجلسة التي قبل التسليم، ويقرأ فيها: التحيات لله .. ، وسبقا في مسألة (76)، ثاني عشر: الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير، وسبق بيانه في مسألة (76)، ثالث عشر: ترتيب أركان الصلاة السابقة كما سبق بيانه، فلا يُقدِّم ركنًا على ركن؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم للمسيء في صلاته: "إذا قمت إلى الصلاة فكبِّر، ثم اقرأ، ثم اركع" وحرف "ثم" للترتيب والتراخي، الثانية: السنة الفعلية؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم يُصليها دائمًا مرتبة، فإن قلتَ: لِمَ كان الترتيب ركنًا؟ قلتُ: لأن عدم الترتيب في أي عمل يجعله قريبًا من العبث واللهو وهذا شأن الله تعالى في كل عبادة، رابع عشر: التسليم، وسبق بيانه في مسألة (79) فإن قلتَ: لِمَ كانت تلك الأمور أركانًا دون غيرها؟ قلتُ: لأنها تتضمَّن تكبير وتعظيم وتبجيل وتنزيه الله تعالى عن جميع النقائص، وبعده نبيه صلى الله عليه وسلم، وتنظيم العبادة تنظيمًا لا يُشابهه غيره.

ص: 506

ويأتي (والتسميع) أي: قول الإمام والمنفرد في الرفع من الركوع: "سمع الله لمن حمده"(والتحميد) أي: قول: "ربنا ولك الحمد" لإمام ومأموم ومنفرد؛ لفعله صلى الله عليه وسلم: "صلوا كما رأيتموني أصلي"، ومحل ما يؤتى به من ذلك للانتقال بين ابتداء وانتهاء، فلو شرع فيه قبله أو كمَّله بعده: لم يجزئه (وتسبيحتا الركوع والسجود) أي: قول: "سبحان ربي العظيم" في الركوع، و"سبحان ربي الأعلى" في السجود (وسؤال المغفرة) أي: قول: "رب اغفر لي" بين السجدتين (مرة مرة، ويسن) قول ذلك (ثلاثًا و) من الواجبات (التشهد الأول وجلسته) للأمر به في حديث ابن عباس، ويسقط عمن قام إمامه سهوًا؛ لوجوب متابعته والمجزئ منه:"التحيات لله سلام عليك أيها النبي ورحمة الله سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله" أو "عبده ورسوله" وفي التشهد الأخير ذلك مع: "اللهم صل على محمد" بعده

(140)

(وما عدا الشرائط والأركان والواجبات المذكورة) مما تقدم في

(140)

مسألة: واجبات الصلاة ثمانية: أولها: تكبيرات الصلاة - غير تكبيرة التحريم -، وقد سبق بيانه في مسألة (45)، تنبيه: إذا أدرك إمامه راكعًا: فإنه يُكبِّر وينوي بها تكبيرة الإحرام، أو ينويهما معًا، وإن كبر ثانية للركوع فهو مستحب، وسيأتي بيانه في باب "صلاة الجماعة"، ثانيها: التسميع وهو قول الإمام أو المنفرد حين يرفع من الركوع: "سمع الله لمن حمده"، وقد سبق بيانه في مسألة (55) ثالثها: التحميد، وهو قول المأموم:"ربنا ولك الحمد" وقد سبق في مسألة (57): تنبيه: الإمام والمنفرد يُستحب أن يقولا ذلك - كما سبق في مسألة (56) ولا يجب كما قال المصنف هنا، تنبيه آخر: محل التكبير والتسميع، والتحميد حينما يبدأ بالانتقال من ركن إلى ركن آخر، فلا يُجزئ: أن يقوله قبل الانتقال والتحرك، ولا بعد استقراره بعد ذلك؛ للتلازم؛ حيث إن الشارع جعل لكل قول محلًا يقال فيه، فلو أتى بشيء في غير محلِّه: للزم منه =

ص: 507

صفة الصلاة (سنَّة، فمن ترك شرطًا لغير عذر) ولو سهوًا بطلت صلاته، وإن كان لعذر - كمن عدم الماء والتراب أو السترة أو حبس بنجسة -: صحت صلاته كما تقدم

(141)

(غير النية، فإنها لا تسقط بحال)؛ لأن محلها القلب، فلا عجز عنها

(142)

(أو تعمَّد) المصلي (ترك ركن أو واجب: بطلت صلاته)، ولو تركه لشك في

بطلان هذا القول؛ لأنه فعل وقع على غير ما شرعه الله، رابعها: تسبيحة الركوع، وهو قوله أثناء الركوع:"سبحان ربي العظيم" مرة واحدة، وقد سبق بيانه في مسألة (52)، خامسها: تسبيحة السجود، وهو قوله أثناء السجود:"سبحان ربي الأعلى" مرة واحدة، وقد سبق بيانه في مسألة (67)، سادسها: قوله: "رب اغفر لي" في الجلسة بين السجدتين، وقد سبق بيانه في مسألة (69) سابعها: التشهد الأول، ثامنها: جلسة التشهد الأول، وقد سبق بيانه في مسألة (74)، ويقول التشهد من عبارة:"التحيات" إلى قوله: "ورسوله" كما سبق في مسألة (75).

(141)

مسألة: إذا ترك شرطًا من شروط الصلاة - التي هي: "الطهارة من الحدث والخبث، ودخول الوقت، وستر العورة، واستقبال القبلة" - غير النية - لغير عذر: فصلاته باطلة، أما إن ترك ذلك لعذر كعدم ماء، ونحوه: فإنها تصح؛ للتلازم؛ حيث يلزم من تركه لعذر: صحة الصلاة؛ لأن الشرط يسقط بالعجز عنه؛ ويلزم من تركه لغير عذر: بطلان الصلاة؛ لكونه ترك مشروعًا لغير عذر.

(142)

مسألة: إن ترك النية بأن صلى بدون نية: فإن صلاته باطلة: سواء كان ذلك لعذر أو لا؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات" فلا يصح عمل شرعًا: إلا بنية؛ وهذا ثابت بدلالة مفهوم الحصر هنا، فلا يُعذر أحد فعل شيئًا بدون نية؛ لكون محل النية القلب، فيستطيعها كل أحد، فلا يُقبل قول أحد بأنه عجز عنها، وهي سرُّ العبودية كما سبق بيانه.

ص: 508

وجوبه، وإن ترك الركن سهوًا فيأتي، وإن ترك الواجب سهوًا أو جهلًا: سجد له وجوبًا

(143)

وإن اعتقد الفرض سنة، أو بالعكس: لم يضره، كما لو اعتقد أن بعض أفعالها فرض وبعضها نفل، وجهل الفرض من السنة، أو اعتقد الجميع فرضًا

(144)

، والخشوع فيها

(143)

مسألة: إذا تعمَّد ترك ركن، أو تركه نظرًا لشكه هل هو ركن أو لا؟، أو تركه سهوًا، أو ترك واجبًا عمدًا: فصلاته باطلة؛ للتلازم؛ حيث إن الركن والواجب لا تصح الصلاة إلا بهما: فيلزم تركها عمدًا، أو وجود شك في ركن، أو ترك الركن سهوًا: أن تبطل الصلاة؛ لعدم إتيانها على المشروع، والشك لا يُسقط الحق فيلزم بطلان صلاته لتركه شيئًا لم يتيقن أنه أتى به على المشروع. [فرع]: إذا ترك واجبًا سهوًا أو جهلًا بوجوبه: فصلاته صحيحة بشرط: أن يسجد سجدتين للسهو، وسيأتي بيانه في باب "سجود السهو"، فإن قلتَ: لِمَ يُجبر ترك الواجب سهوًا بسجود السهو، بخلاف ترك الركن سهوًا فلا يُجبر؟ قلتُ: لأن الركن - وهو الفرض - لا يُعذر أحد بجهله أو السهو عنه؛ نظرًا لثبوته بدليل قطعي لا يخفى على أحد، وهذا لأهميته عند الشارع لكونه أساسيًا في بناء الحكم فلا يقوى سجود السهو على جبره، بخلاف الواجب فقد ثبت بدليل ظني، ويُعذر كثير من الناس بجهله، لكونه أقل أهمية عند الشارع، فيقوى سجود السهو على جبره.

(144)

مسألة: إذا لم يُفرق المصلي بين الأركان والفروض والواجبات والسنن كأن يظن أن الفرض نفل، أو العكس ونحو ذلك: فصلاته صحيحة؛ للتلازم؛ حيث إن هذا قد صلى الصلاة المشروعة - بأركانها وواجباتها وسننها - فيلزم صحتها، فإن قلتَ: لِمَ صحَّت؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن أكثر المسلمين لا يفرقون بين تلك الأمور، ولو كُلِّف كل شخص بأن يعرف ذلك: للحقهم ضيق ومشقة، ولتعطلت مصالحهم، فدفعًا لذلك: شرع هذا.

ص: 509

سنة

(145)

ومن علم بطلان صلاته ومضى فيها: أُدِّب

(146)

(بخلاف الباقي) بعد الشروط، والأركان، والواجبات، فلا تبطل صلاة من ترك سنة ولو عمدًا (وما عدا ذلك) أي: أركان الصلاة وواجباتها (سنن أقوال) كالاستفتاح، والتعوذ، والبسملة، وآمين، والسورة، و"ملء السماء" إلى آخره بعد التحميد وما زاد على المرة في تسبيح الركوع، والسجود، وسؤال المغفرة، والتعوذ في التشهد الأخير، وقنوت الوتر (و) سنن (أفعال) كرفع اليدين في مواضعه، ووضع اليمين على الشمال تحت سرته، والنظر إلى موضع سجوده، ووضع اليدين على الركبتين في الركوع، والتجافي فيه، وفي السجود، ومدَّ الظهر معتدلًا، وغير ذلك مما مر مفصلًا، ومنه: الجهر، والإخفات، والترتيل، والإطالة والتقصير في مواضعها (ولا يُشرع) أي: لا يجب ولا يُسن (السجود لتركه)؛ لعدم إمكان التحرز من تركه (وإن سجد) لتركه سهوًا: (فلا بأس) أي: فهو مباح

(147)

.

(145)

مسألة: الخشوع في الصلاة مستحب من مستحباتها؛ للتلازم؛ حيث إنه ليس من الأركان ولا الشروط، ولا الواجبات السابقة فيلزم أنه مستحب.

(146)

مسألة: إذا بطلت صلاة شخص بترك ركن أو فقدان شرط ونحو ذلك ومع ذلك مضى فيها: فيجب على الإمام أو نائبه أن يؤدِّبه ويُعزِّره؛ للمصلحة؛ حيث ذلك فيه منع له ولغيره من التلاعب في العبادات، أو جعلها محلًا للعبث والاستهزاء.

(147)

مسألة: سنن ومستحبات الصلاة ثمان وخمسون سنة ومستحبًا، وقد ورد ذكرها كلها مفصلة في مسائل (من 1 إلى 138) من هذا الباب، وهو:"صفة الصلاة وبيان أركانها وواجباتها ومستحباتها" وهي: تنقسم إلى قولية، وفعلية: وهي: ما يُثاب على فعلها ولا يُعاقب على تركها، وإذا تركها المصلي أو ترك واحدًا منها عمدًا أو سهوًا: صحَّت الصلاة، ولا يُشرع لذلك سجود السهو، =

ص: 510

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وإن سجد لذلك: فهو مُباح لا يُفسد الصلاة؛ للمصلحة؛ حيث إن تلك السنن كثيرة، ولا يخلو أحد من ترك بعضها، فلو شرع السجود لذلك: للحق الناس ضيق ومشقة فدفعًا لذلك: سقط سجود السهو له.

هذه آخر مسائل باب: "صفة الصلاة وبيان أركانها وواجباتها وسننها" ويليه باب: "سجود السهو"

ص: 511

‌باب سجود السهو

قال صاحب المشارق: السهو في الصلاة: النسيان فيها (يُشرع) أي: يجب تارة ويُسن أخرى - على ما يأتي تفصيله -

(1)

(لزيادة) سهوًا (ونقص) سهوًا (وشك) في الجملة، (لا في عمد): لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا سها أحدكم فليسجد" فعلَّق السجود على السهو (في) صلاة (الفرض والنافلة) متعلِّق بـ "يُشرع" سوى صلاة جنازة، وسجود تلاوة، وشكر، وسهو

(2)

(فمتى زاد فعلًا من جنس الصلاة قيامًا) في محل

‌باب سجود السهو

وفيه خمس وخمسون مسألة:

(1)

مسألة: سجود السهو: عبارة عن سجدتين يسجدهما المصلي قبل السلام أو بعده إذا سهى عن واجب بزيادة أو نقصان أو شك، وهو يكون واجبًا ومستحبًا - كما سيأتي بيانه - فإن قلتَ: لمَ شرع سجود السهو؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن هذا يُعتبر من تمام النعمة على الأمة؛ حيث إن المصلي يُكمل ما نقص من صلاته بهذا السجود: ليكمل له الأجر، وهو من خصائص هذه الأمة.

(2)

مسألة: يُشرع سجود السهو في صلاة فرض أو نفل ذات ركوع وسجود إذا وجد واحد من ثلاثة: أولها: أن يزيد شيئًا في صلاته سهوًا كأن يصلي المغرب أربعًا؛ ثانيها: أن ينقص من صلاته واجبًا سهوًا، فيأتي به ثم يسجد للسهو، ثالثها: أن يشك هل صلاته زائدة أو ناقصة؟ فيَكمل النقصان ثم يسجد له، وعلى ذلك: فلا يسجد للسهو لترك شيء عمدًا؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "إذا سها أحدكم فزاد أو نقص فليسجد سجدتين" فعلَّق السجود على السهو، ودلَّ مفهوم الشرط على أنه إذا تعمَّد: فلا يسجد للسهو، بل تبطل الصلاة كما سبق، وهذا عام للفرض والنفل؛ لأن اسم الشرط من صيغ =

ص: 512

قعود (أو قعودًا) في محل قيام ولو قلَّ كجلسة الاستراحة (أو ركوعًا أو سجودًا عمدًا: بطلت) صلاته إجماعًا، قاله في الشرح (و) إن فعله (سهوًا: يسجد له): لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن مسعود: "فإذا زاد الرجل أو نقص في صلاته فليسجد سجدتين" رواه مسلم

(3)

، ولو نوى القصر فأتمَّ سهوًا: ففرضه

العموم، ولا ينقدح في الذهن من ذلك إلا الصلاة ذات الركوع والسجود لكونها هي المتبادرة إلى الذهن عند الإطلاق، فإن قلتَ: لمَ لا يسجد للسهو إذا فعل شيئًا عمدًا؟ قلتُ: لأنه تعمَّد مخالفة الشارع، فلا يقوى شيء على جبره، فإن قلتَ: لمَ يُشرع هذا في الصلاة ذات الركوع والسجود فقط؟ قلتُ: للاحتراز عن الصلوات التي لا ركوع فيها ولا سجود فيها؛ لذلك لا يسجد للسهو في صلاة الجنازة؛ لأن السجود لم يشرع في أصلها، ولا يسجد للسهو في سجود التلاوة: لأن الأصل سجدة واحدة فقط، فلو شرح سجود السهو: لكان زائدًا على الأصل، ولا يسجد للسهو إذا سها في سجود السهو لأنه لو سجد هنا لوقع تسلسل، وفي ذلك مشقة، فإن قلتَ: لمَ لا يسجد للسهو إذا حدَّث نفسه في صلاته؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن حديث النفس يكثر عند الناس، فلو شرع لذلك سجود: لشق على كثير منهم. [فرع]: لا يُشرع سجود السهو في صلاة الخوف؛ للمصلحة؛ حيث إن صلاة الخوف شُرعت مختصرة؛ نظرًا لظروف الحروب، فلو شرع سجود السهو له؛ لشق على الناس؛ لكثرة ما يقع السهو فيها غالبًا بسبب حالة الخوف.

(3)

مسألة: إذا زاد فعلًا من جنس الصلاة كقيام في محل جلوس، أو جلوس في محل قيام كجلسة استراحة، أو زاد ركوعًا أو جلوسًا أو سجودًا - غير مطلوب شرعًا -: فإنه يسجد سجدتي السهو إن كان ما زاده وقع على سبيل السهو، أما إن زاد ذلك عمدًا فصلاته باطلة، ويُعيدها أما إن كان ما زاده ليس من جنس =

ص: 513

الركعتان ويسجد للسهو استحبابًا

(4)

، وإن قام فيها أو سجد، إكرامًا لإنسان: بطلت

(5)

(وإن زاد ركعة) كخامسة في رباعية، أو رابعة في مغرب، أو ثالثة في فجر (فلم يعلم حتى فرغ منها: سجد)؛ لما روي عن ابن مسعود: "أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى خمسًا، فلما انفتل قالوا: إنك صلَّيت خمسًا فانفتل ثم سجد سجدتين ثم سلَّم" متفق عليه (وإن علم) بالزيادة (فيها) أي: في الركعة: (جلس في الحال) بغير تكبير؛

الصلاة كضحك أو حركة كثيرة: فصلاته باطلة: سواء كانت سهوًا أو عمدًا، لقاعدتين: الأولى: السنة القولية حيث قال صلى الله عليه وسلم: "إذا زاد الرجل أو نقص في صلاته فليسجد سجدتين" وهذا عام فيشمل العمد والسهو، والزيادة التي هي من جنس الصلاة، والتي ليست من جنسها، فخصَّصت السنة القولية الحديث في الزيادة الواقعة سهوًا؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم:"إذا نسي أحدكم فليسجد سجدتين" فأخرج هنا الزيادة المتعمَّدة، فلا يُسجد لها، بل تبطل الصلاة بها، وخصّصت السنة الفعلية الزيادة التي هي من جنس الصلاة؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم لا يسجد إلا للأفعال التي زادها من جنس الصلاة.

(4)

مسألة: إذا نوى المسافر قصر صلاة الظهر - مثلًا - فإنه يُصليها ركعتين، فإن سها وأتمها أربعًا: فإنه يُستحب أن يسجد للسهو؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كونها في الأصل أربعًا: أن لا يجب سجود السهو، بل يُستحب؛ لأنه لا يُبطلها إتمامها وإن تعمَّد.

(5)

مسألة: إذا كان المسلم يصلي، فدخل إنسان عزيز عليه: فقام، أو سجد لأجل إكرامه فصلاته باطلة: سواء فعل ذلك عمدًا أو سهوًا؛ للتلازم؛ حيث إن نية الصلاة واستمرارها إلى نهايتها شرط لصحة الصلاة، فيلزم من قطع نية الصلاة لله تعالى، وصرف بعضها لإكرام ذلك الشخص: بطلان تلك الصلاة؛ نظرًا لقطعه نيتها.

ص: 514

لأنه لو لم يجلس: لزاد في الصلاة عمدًا وذلك يبطلها (فيتشهد إن لم يكن تشهد)؛ لأنه ركن لم يأت به (وسجد) للسهو (وسلَّم) لتكمل صلاته وإن كان قد تشهد: سجد للسهو وسلم، وإن كان تشهد ولم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم: صلى عليه، ثم سجد للسهو ثم سلَّم

(6)

وإن قام إلى ثالثة نهارًا وقد نوى ركعتين نفلًا: رجع إن شاء وسجد للسهو، وله أن يتمها أربعًا ولا يسجد وهو أفضل، وإن كان ليلًا فكما لو قام إلى ثالثة في الفجر نصَّ عليه؛ لأنها صلاة شُرعت ركعتين أشبهت الفجر

(7)

(6)

مسألة: إذا زاد ركعة ثالثة في الفجر، أو خامسة في الظهر أو رابعة في المغرب - مثلًا -: ففيه تفصيل هو كما يلي: أولًا: إن لم يعلم بهذه الزيادة إلا بعد أن فرغ من الصلاة وسلَّم: فيجب عليه أن يسجد للسهو بعد السلام. ثانيًا: إن علم بهذه الزيادة في أثناء هذه الركعة المزادة: فيجب عليه أن يجلس في الحال دون تكميل تلك الركعة المزادة، ودون تكبير، فيتشهَّد إن لم يكن قد تشهَّد، ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يسجد للسهو، ثم يُسلِّم، وإن كان قد تشهَّد وصلى على النبي: فيترك الركعة ويسجد للسهو ثم يُسلِّم؛ لقاعدتين: الأولى: السنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد سجد سجدتين بعد السلام لما علم أنه زاد ركعة خامسة بعد فراغه من الصلاة. الثانية: التلازم؛ حيث يلزم من عدم جلوسه حال علمه بأن تلك الركعة زائدة: بطلان صلاته؛ لكونه بذلك قد تعمَّد زيادتها، والزيادة عمدًا في الصلاة يُبطلها، فإن قلتَ: لمَ يجلس بدون تكبير؟ قلتُ: لأنها ركعة زائدة، فلا يُشرع لها تكبير.

(7)

مسألة: إذا زاد ثالثة سهوًا في صلاة النفل: فإنه يُتمُّها أربعًا ويسجد للسهو ويُسلِّم، سواء كان ذلك ليلًا أو نهارًا؛ للسنة الفعلية؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم يتطوَّع بأربع ليلًا أو نهارًا، دون تفريق، فإذا زاد على ما نواه أولًا، فيُكملها، ثم يسجد للسهو: نظرًا لمخالفته لما نواه، فإن قلتَ: إن كان هذا النفل في النهار =

ص: 515

(وإن سبَّح به ثقتان) أي: نبَّهاه بتسبيح أو غيره، - ويلزمهم تنبيهه -: لزمه الرجوع إليهما: سواء سبَّحا به إلى زيادة أو نقصان، وسواء غلب على ظنه صوابهما، أو خطؤهما، والمرأة كالرجل

(8)

(فـ) إن (أصرَّ) على عدم الرجوع (ولم يجزم بصواب

فالأفضل أن يُتمها أربعًا، ولا يسجد للسهو، وإن شاء جلس في أثنائها ويتشهَّد ثم يسجد للسهو ثم يُسلِّم؛ وإن كان النفل في الليل: فإنه يرجع في أثناء تلك الركعة الزائدة، ويجلس ويتشهَّد، ثم يسجد للسهو، ثم يُسلِّم، وهو ما ذكره المصنف هنا لقاعدتين: الأولى: السنة القولية والفعلية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "صلاة الليل مثنى مثنى" وكان يتطوع بأربع في النهار، الثانية: القياس، بيانه: كما أنه لو زاد في صلاة الفجر ثالثة فإنه يجب عليه أن يرجع - إذا تذكَّر في أثنائها - ويجلس ويسجد للسهو ثم يُسلِّم، فكذلك النافلة في الليل، والجامع: أن كلًّا منهما قد شُرعت مثنى ليلًا: قلتُ: أما الحديث: فالمراد به: أن الأفضل في صلاة الليل أن يُصلِّي ركعتين ثم يُسلِّم، ثم يُصلِّي اثنتين ثم يُسلِّم كما سيأتي في باب "صلاة التطوع" - وهذا لا يمنع من صلاتها أربعًا، أما القياس: ففاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ لأن الفجر فرض، فلا يجوز أن يزاد فيها على المشروع؛ لعدم تساهل الشارع فيها، بخلاف النافلة فتجوز الزيادة فيها، ويجوز نقصانها وقطعها. فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "هل كون صلاة الليل الأفضل أن تكون مثنى يمنع من الزيادة عليها أو لا؟ " فعندنا: لا يمنع، وعندهم: يمنع، و"هل النافلة كالفرض هنا أو لا؟ " فعندنا: لا وعندهم: نعم، وأيضًا "تعارض النصوص مع القياس".

(8)

مسألة: إذا نبَّه عدلان ثقتان إمامهما بأنه زاد أو نقص في صلاته: بأن سبَّحا قائلين: "سبحان الله": فيجب عليه أن يقبل كلامهما إذا غلب على ظنه =

ص: 516

نفسه: بطلت صلاته)؛ لأنه ترك الواجب عمدًا، وإن جزم بصواب نفسه: لم يلزمه الرجوع إليهما؛ لأن قولهما إنما يُفيد الظن، واليقين مقدَّم عليه

(9)

، وإن اختلف عليه

صوابهما، ويرجع، ويُكمل الناقص أو يترك الزائد - إن كان في أثنائه - أو يُخبراه بعد الفراغ من صلاته: فيسجد للسهو: سواء كان المنبِّهان حرين، أو عبدين، أو رجلين، أو امرأتين، لقاعدتين: الأولى: السنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم رجع إلى قول أبي بكر وعمر حين ذكرا له أنه زاد خامسة في صلاته - في حديث ذي اليدين - وسجد للسهو، الثانية: القياس: بيانه: كما يقبل خبرهما في الحديث والشهادة فكذلك يقبل هنا، والجامع غلبة الصدق والصواب في كل. تنبيه: قوله: "أو خطؤهما" يشير به بأنه لو غلب على ظنه خطؤهما يرجع إلى كلامهما قلتُ: هذا فيه نظر؛ حيث إذا غلب خطؤهما فإنه يلزم منه: أن يعمل بالخطأ، وهذا لا يمكن في الشريعة. [فرع]: يجب على المأمومين أن يُنبِّهوا إمامهم على أي نقص أو زيادة في الصلاة بتسبيح الرجال أو تصفيق النساء - كما سبق -؛ لقاعدتين: الأولى: الكتاب: حيث قال تعالى {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} وهذا عام، فيشمل ما نحن فيه؛ لكونه من باب: التعاون على استكمال صلاتهم، الثانية: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "إذا نابكم شيء في صلاتكم فليُسبِّح الرجال ولتصفق النساء" وهذا عام في جميع ما يُصلح الصلاة، فإن قلتَ: لمَ وجب ذلك؟ قلتُ: لارتباط صلاتهم بصلاة إمامهم.

(9)

مسألة: إذا لم يقبل الإمام قول المنبِّهين له ولم يرجع: ففيه تفصيل: أولًا: إن كان جازمًا ومتيقنًا، أو قد غلب على ظنه صواب نفسه، وخطأ غيره: فلا يلزمه الرجوع إلى قولهما ثانيًا: إن كان لم يجزم بصواب نفسه ولم يغلب على ظنه شيء ومع ذلك أصرَّ على عدم الرجوع إلى قولهما: فصلاته تبطل، ولا بدَّ من إعادتها؛ للتلازم؛ حيث يلزم من جزمه وتيقنه أو غلبة ظنه بصوابه وخطأ =

ص: 517

من يُنبِّهه: سقط قولهم، ويرجع منفرد إلى ثقتين

(10)

(و) بطلت (صلاة من تبعه) أي: اتبع إمامًا أبى أن يرجع حيث يلزمه الرجوع (عالمًا لا) من تبعه (جاهلًا أو ناسيًا)؛ للعذر

(11)

(ولا من فارقه)؛ لجواز المفارقة؛ للعذر،

المنبِّهين له: أن لا يرجع إلى قولهما، وصحة صلاته؛ عملًا بالمتيقن والغالب على الظن، ويلزم من عدم تيقّنه، وعدم غلبة الظن عنده بصوابه وعدم العمل بقول المخبرين: بطلان صلاته؛ حيث إنه ترك الواجب عمدًا، وهذا يُبطل الصلاة، ولا يجبره سجود سهو، تنبيه: قوله: "وإن جزم" قلتُ: الجزم واليقين نادر وقوعه، ولذلك يُكتفى في ذلك بغلبة ظن الإمام وهو يعمل به كاليقين.

(10)

مسألة: إذا اختلف المأمومون فطائفة منهم قد نبَّهت الإمام على أنه سها في صلاته فزاد أو نقص، وطائفة منهم قد نبَّهته على أنه لم يسه: وعلم الإمام ذلك: فإنه لا يقبل قول الطائفتين؛ للقياس، بيانه: كما أنه إذا تعارض دليلان تمام التعارض: فإنهما يتساقطان ويرجع المجتهد إلى أصله - الإباحة أو الحظر - فكذلك الأمر هنا، فيعمل بما يراه صوابًا، فإن قلتَ: لمَ شرع هذا؟ قلتُ: لأنه ليست إحداهما بأولى من الأخرى، تنبيه: قوله: "ويرجع منفرد إلى ثقتين" قلتُ: هذا إذا لم يجزم بصواب نفسه، أو يغلب على ظنه خطؤهما كما سبق في مسألة (9).

(11)

مسألة: إذا لم يقبل الإمام تنبيه العدلين، وهما متأكدان من صوابهما؛ فإنهما إذا تبعاه: تبطل صلاتهما إذا علما الحكم، وكانا ذاكرين لذلك، أما إذا جهلا، أو نسيا: فلا تبطل صلاتهما؛ لقاعدتين: الأولى: السنة التقريرية؛ حيث إن الصحابة قد تابعوا النبي صلى الله عليه وسلم لما زاد ركعة خامسة، لكونهم لم يعلموا الحكم، ولم يأمرهم صلى الله عليه وسلم بإعادة الصلاة فلزم صحتها؛ لوجود عذر الجهل، والنسيان مثله، لعدم الفارق من باب:"مفهوم الموافقة"، الثانية: التلازم: حيث يلزم من متابعتهما لإمام قد قطعا بأنه زاد أو نقص في صلاته: بطلان صلاتهما؛ لأنهما =

ص: 518

ويُسلِّم لنفسه

(12)

، ولا يعتدُّ مسبوق بالركعة الزائدة إذا تابعه فيها جاهلًا

(13)

(وعمل) في الصلاة متوالٍ (مستكثر عادة من غير جنس الصلاة) كالمشي واللُّبس، ولفِّ العمامة:(يُبطلها عمده وسهوه) وجهله إن لم تكن ضرورة وتقدم

(14)

(ولا

تعمَّدا الزيادة فيها، أو النقصان منها، والزيادة المتعمَّدة تبطل الصلاة، وكذا: النقصان المتعمَّد مثلها.

(12)

مسألة: إذا تيقَّن مأموم أن إمامه قد زاد ركعة أو نقص، فنبَّه إمامه على ذلك، ولم يقبل الإمام ذلك منه: فيجب على ذلك المأموم أن يُفارق ذلك الإمام ويُكمل الصلاة لوحده، ويُسلِّم وتصح صلاته؛ للقياس، بيانه: كما أن من فارق إمامه إذا غلبه حدث أو أشغله شيء وأكملها منفردًا تصح صلاته فكذلك الحال هنا، والجامع: أن كلًا منهما قد وجد عذر قد جوز ترك الائتمام [فرع]: إذا نبَّه مسلمان مجهولا العدالة الإمام بأنه زاد أو نقص، وهو لم يجزم بصواب نفسه ولم يغلب على ظنه شيء: فيجب عليه أن يعمل بقولهما؛ للاستصحاب: حيث إن الأصل في المسلمين العدالة فيُستصحب ذلك، ويعمل به، حتى يثبت خلافه، وكذا: الحكم فيما لو نبَّهه مسلم واحد.

(13)

مسألة: إذا جاء مسبوق ودخل مع الإمام أثناء ركعة زائدة، وتبعه فيها وهو يجهل أنها زائدة، ثم علم بعد ذلك أنها زائدة: فلا يعتدّ ولا يحسب ذلك المسبوق تلك الركعة الزائدة من صلاته، بل يحذفها، ويأتي بركعة عنها عند قضاء ما فاته؛ للتلازم؛ حيث يلزم من احتسابها مع العلم بأنها زائدة: تعمُّد زيادة ركعة لم تكن معتبرة في الصلاة عند الإمام، وهذا يُبطل الصلاة.

(14)

مسألة: إذا عمل المصلي أعمالًا كثيرة من غير جنس الصلاة كلبس ثوب ولف عمامة وتحريك ساعة ونحو ذلك وهي متوالية في ركعة واحدة عمدًا أو سهوًا، فإن هذا يُبطل الصلاة إن كان لغير ضرورة، أما إن كان لضرورة كقتل حية أو عقرب، أو نحو ذلك: فلا يبطل عمده ولا سهوه الصلاة، وقد تقدم =

ص: 519

يشرع ليسيره) أي: يسير عمل من غير جنسها (سجود) ولو سهوًا ويُكره العمل اليسير من غير جنسها فيها، ولا تبطل بعمل قلب، وإطالة نظر إلى شيء وتقدَّم

(15)

(ولا تبطل) الصلاة (بيسير أكل وشرب سهوًا أو جهلًا)؛ لعموم: "عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان"

(16)

وعُلم منه: أن الصلاة تبطل بالكثير عرفًا منهما كغيرهما

(17)

بيان ذلك في مسألتي (125 و 126) من باب "صفة الصلاة .. " ولا يُشرع لذلك سجود سهو؛ للتلازم؛ حيث لم يوجد سببه من زيادة أو نقصان أو شك: فيلزم عدم وجوب السجود.

(15)

مسألة: يُكره العمل اليسير في الصلاة إذا كان من غير جنسها، ولا يبطلها، وكذلك عمل القلب من وساوس ونحوها لا يُبطلها، وكذلك النظر الطويل إلى صور أو جدار، وكل هذا قد سبق في مسألتي (106 و 127) من باب "صفة الصلاة

" ولا يُشرع لذلك كله سجود سهو؛ للمصلحة؛ حيث إن الأعمال اليسيرة، أو حديث النفس، أو النظر إلى شيء أمامه لو وجب سجود السهو بسببها: للحق المسلمين ضيق وحرج ومشقة؛ نظرًا لتكرار وقوعها عادة بين المسلمين ولا يسلم أحد من انشغال القلب.

(16)

مسألة: إذا أكل أو شرب يسيرًا عادة كتمرة أو جرعة ماء ونحوهما في صلاته الفرض أو النفل سهوًا، أو جهلًا بتحريم ذلك: فصلاته صحيحة، ولا يسجد للسهو؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم:"عُفي لأمتي عن الخطأ والنسيان" وهذا عام؛ لأن لفظ: "الخطأ والنسيان" اسم جنس معرف بأل، وهو من صيغ العموم، وخصَّصه بالقليل: القياس على الحركة اليسيرة، والمعفو عنه هنا هو: الإثم، كما هو ثابت من دلالة الاقتضاء، فإن قلتَ: لمَ صحَّت صلاته هنا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تيسير وتوسعة على المسلمين، ولا يسلم منه أحد.

(17)

مسألة: إذا أكل أو شرب كثيرًا عادة - أي: أكثر من تمرة وجرعة - في صلاته الفرض أو النفل سهوًا أو جهلًا: فصلاته باطلة؛ للقياس، بيانه: كما أن العمل =

ص: 520

(ولا) يبطل (نفل بيسير شرب عمدًا)؛ لما روي أن ابن الزبير شرب في التطوع، ولأن مدَّ النفل وإطالته مستحبَّة، فيُحتاج معه إلى جرعة ماء لدفع العطش فسومح فيه كالجلوس، وظاهره: أنه يبطل بيسير الأكل عمدًا، وأن الفرض يبطل بيسير الأكل والشرب عمدًا، وبلع ذوب سُكَّر ونحوه بفم كأكل

(18)

، ولا تبطل ببلع ما بين

الكثير من غير جنس الصلاة يُبطلها عمده وسهوه فكذلك الأكل والشرب الكثير يبطلها، والجامع: أن كلًا منهما عمل من غير جنس الصلاة، وقاطع لأركانها، ومخالف لاشتراط الموالاة فيها.

(18)

مسألة: إذا شرب أو أكل أو بلع ما ذاب من سكر في فمه عمدًا أثناء صلاته: فإنها تبطل، سواء كانت فرضًا أو نفلًا، وسواء كان هذا كثيرًا أو يسيرًا؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم:"عُفي لأمتي عن الخطأ والنسيان" حيث دلَّ مفهوم الصفة على أن غير الخطأ والنسيان - وهو العمد - غير معفو عنه، وهذا المفهوم عام فيشمل: الفرض والنفل، والكثير والقليل؛ حيث إنه قد أتى بالفعل على خلاف ما أمر الشارع به من أنه يحرم عليه كل ما كان حلالًا قبل التحريمة، فيكون مردودًا؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم:"من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ" وهذا هو المقصد منه، فإن قلتَ: إن شرب المتنفل عمدًا ماء يسيرًا: فلا يبطل تنفُّله ولا يسجد للسهو، وهو ما ذكره المصنف هنا؛ لقاعدتين: الأولى: القياس، بيانه؛ كما تجوز الإطالة في الجلوس في النفل لإطالة النفل، فكذلك: يجوز شرب القليل من الماء لذلك والجامع: أن كلًا منهما وقع في نفل يتسامح عادة الشارع فيه؛ للإعانة على تطويله، الثانية: فعل الصحابي؛ حيث إن عبد الله بن الزبير قد شرب حين كان يصلي النفل قلتُ: أما القياس: فهو فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ حيث إن الإطالة في الجلوس من جنس الصلاة، بخلاف الشرب فليس من جنسها، أما فعل الصحابي: فلا حجة فيه؛ لمخالفته للسنة القولية التي =

ص: 521

أسنانه بلا مضغ قال في "الإقناع": "إن جرى به ريق" وفي "التنقيح" و"المنتهى": "ولو لم يجر به ريق"

(19)

(وإن أتى بقول مشروع في غير موضعه كقراءة في سجود) وركوع (وقعود وتشهُّد في قيام وقراءة سورة في) الركعتين (الأخيرتين) من رباعية أو في الثالثة من مغرب: (لم تبطل) بتعمُّده؛ لأنه مشروع في الصلاة في الجملة (ولم يجب له) أي: السهو (سجود بل يُشرع) أي: يُسنُّ كسائر ما لا يبطل عمده الصلاة

(20)

(وإن سلَّم قبل إتمامها) أي: إتمام الصلاة (عمدًا: بطلت): لأنه تكلَّم

ذكرناها، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلت: سببه: "تعارض القياس وفعل الصحابي مع عموم مفهوم السنة القولية" فعندنا: يعمل بعموم المفهوم هنا ولا يقوى القياس وفعل الصحابي على تخصيص ذلك؛ لضعفهما، وعندهم: يقويان على تخصيص ذلك العموم بجعله خاصًا بالفرض.

(19)

مسألة: إذا كان بين أسنانه طعام فبلعه وهو يصلي: فإن صلاته صحيحة بشرط: أن لا يوجد مضغ وعلك كثير لهذا الطعام، ولا يسجد للسهو: وهذا مطلق، أي: سواء وجد ريق أو لم يوجد، وسواء كان هذا البلع سهوًا أو عمدًا أو جهلًا، أما إن وجد مضغ وعلك كثير: فإن الصلاة تبطل؛ للتلازم؛ حيث يلزم من عدم تسمية ذلك أكلًا عادة: صحة صلاته، ويلزم من عدم الزيادة أو النقصان أو الشك في الصلاة: عدم وجوب سجود السهو، ويلزم من وجود المضغ والعلك الكثير: بطلان الصلاة؛ قياسًا على العمل الكثير الذي ليس من جنس الصلاة؛ حيث إنه يُبطلها كما سبق، فإن قلتَ: إن جرى به ريق: فلا تبطل الصلاة، وإن لم يجربه ريق: فتبطل قلتُ: لم أجد دليلًا على ذلك التفصيل.

(20)

مسألة: إذا أتى المصلي بقول مشروع في غير محلِّه: كان يقرأ الفاتحة في الركوع، أو السجود، أو يتشهَّد في القيام أو يقرأ سورة في الركعتين الأخيرتين من الرباعية، أو الثالثة من المغرب: فصلاته صحيحة، ولا يجب لذلك سجود =

ص: 522

فيها قبل إتمامها (وإن كان) السلام (سهوًا، ثم ذكر قريبًا: أتمها) وإن انحرف عن القبلة، أو خرج من المسجد (وسجد) للسهو؛ لقصة ذي اليدين

(21)

، لكن إن لم يذكر حتى قام: فعليه أن يجلس لينهض إلى الإتيان بما بقي عليه عن جلوس؛ لأن هذا القيام واجب للصلاة فلزم الإتيان به مع النية

(22)

، وإن كان أحدث:

سهو، لكن سجود السهو له مستحب: سواء كان ذلك في فرض أو نفل، أو عمد أو سهو؛ للقياس، بيانه: كما أن الصلاة تصح إذا ذكر قولًا مشروعًا في محله، فكذلك تصح إذا ذكره في غير محله، والجامع: المشروعية في الجملة، فإن قلتَ: لمَ استُحب سجود السهو هنا؟ قلتُ: قياسًا على فعل متعمَّد من جنس الصلاة الذي لا يُبطلها: حيث إن هذا يُستحب له سجود السهو كتطويل في سجود أكثر من المعتاد، وتطويل في جلسة بين السجدتين ونحو ذلك، والمقصد منه: الحرص على إكمال الصلاة، والحصول على أجرها كاملًا.

(21)

مسألة: إذا سلَّم المصلي قبل تمام صلاته كأن ترك ركنًا أو واجبًا متعمِّدًا: فإن صلاته تبطل، ويجب إعادتها، إما إن سلَّم سهوًا وتذكَّر بعد صلاته بوقت قصير أشغله بكلام في مصلحة الصلاة ولم يُحدث: فإنه يرجع ويُتم صلاته، ويسجد للسهو: سواء انحرف عن القبلة، أو خرج من المسجد أو لا؛ لقاعدتين: الأولى: السنة الفعلية؛ حيث "إنه صلى الله عليه وسلم قد نقص في صلاته وسلَّم، فأخبره أبو بكر وعمر بذلك - في حديث ذي اليدين - فصلى ما تركه ثم سجد للسهو ثم سلَّم" حيث إنه فعل ذلك: لأنه كان ساهيًا، وقد تذكر بوقت قصير، وانشغل بكلام فيها مصلحة للصلاة، الثانية: التلازم؛ حيث يلزم من تعمُّده للسلام قبل تمام الصلاة: بطلانها؛ لكونه سلَّم عمدًا بشيء يُبطلها من غير عذر.

(22)

مسألة: طريقة العود إلى إتمام الصلاة لمن سلَّم قبل تمامها هي: وجوب الجلوس، ثم ينوي القيام، ثم يقوم للإتيان بما تركه من الركعات؛ للتلازم؛ حيث =

ص: 523

استأنفها

(23)

، (فإن طال الفصل) عرفًا: بطلت؛ لتعذر البناء إذًا

(24)

(أو تكلَّم) في هذه الحالة (لغير مصلحتها) كقوله: "يا غلام اسقني": (بطلت) صلاته؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الآدميين" رواه مسلم وقال أبو داود: مكان "لا يصلح": "لا يحل"(ككلامه في صلبها) أي: في صلب الصلاة، فتبطل به؛

إن هذا القيام للإتيان بالركعة المتروكة ركن لا تتم الصلاة إلا به، وهذا القيام يحتاج إلى نية، والنية تكون قبل الدخول في المنوي والذي قبله هو: الجلوس: فلزم وجوب جلوسه حتى ينوي القيام منه.

(23)

مسألة: إذا سلَّم المصلي قبل تمام صلاته سهوًا ثم أحدث بأن: انتقض وضوؤه: فإن صلاته تبطل ويجب أن يعيدها؛ للتلازم؛ حيث إن من شرط الطهارة للصلاة استمرارها حتى نهاية الصلاة، ويلزم من وجود الحدث منه - بعد سلامه قبل تمامها - بطلان صلاته؛ لعدم تحقق شرطها.

(24)

مسألة: إذا سلَّم المصلي قبل تمام صلاته سهوًا، وبعد طول فصلٍ - بأن زاد عن ثلاث دقائق مثلًا - تذكَّر ذلك: فإن صلاته تبطل مطلقًا، ولو كان على طهارة؛ للتلازم؛ حيث إن الفصل الطويل يقطع الموالاة بين أركان الصلاة، فلا يُبنى اللاحق على السابق فيلزم من ذلك بطلان الصلاة؛ نظرًا لتعذُر بناء بعض الصلاة على بعض، وللتفريق بين أجزاء عبادة واحدة، فإن قلتَ: لمَ قُدِّر طول الفصل بثلاث دقائق تقريبًا؟ قلتُ: لأن كلامه صلى الله عليه وسلم في حديث ذي اليدين لو قدر بالزمن: فإنه لا يزيد عن ثلاث دقائق لمناسبته لما نحن فيه؛ حيث إن الثلاثة أقل الجمع في المدة كما قلتُ في كتابي: "أقل الجمع" ولأن الشارع يُعلِّق الأمور كثيرًا على ثلاث كأيام التشريق، وصيام الكفارة عن اليمين، وصيام المتمتع في الحج بمكة، وأيام الاستتابة لمن ترك أو تكاسل عن الصلاة، وأيام هجران الأخ لأخيه وغيرها مما لا يُحصى، وهذا مثله بما يناسبه من الوقت.

ص: 524

للحديث المذكور، سواء كان إمامًا أو غيره، وسواء كان الكلام عمدًا، أو سهوًا أو جهلًا، طائعًا أو مكرهًا، أو واجب كتحذير ضرير ونحوه، وسواء كان لمصلحتها أو لا، والصلاة فرضًا أو نفلًا

(25)

(و) إن تكلَّم من سلَّم ناسيًا (لمصلحتها) فإن كثُر: بطلت و (إن كان يسيرًا: لم تبطل) قال الموفق: "هذا أولى"، وصححه في "الشرح"، لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وذا اليدين تكلموا وبنوا على صلاتهم، وقدَّم في "التنقيح" وتبعه في "المنتهى":"تبطل مطلقًا"

(26)

، ولا بأس بالسلام على المصلي،

(25)

مسألة: إذا سلَّم المصلي قبل تمام صلاته، ثم بعد ذلك تكلَّم في غير مصلحة الصلاة كأن يقول:"يا غلام اسقني ماء" أو "جهِّز الراحلة": ثم تذكَّر أنه لم يُتم صلاته: فإنها تبطل وعليه إعادتها؛ سواء كان الكلام قليلًا أو كثيرًا، أو كان قد خرج من المسجد أو لا، أو كان طائعًا أو لا، أو كان الكلام واجبًا كأن يُنبِّه ضريرًا عن مهلكة أو لا، أو كانت فرضًا أو نفلًا، وسواء كان إمامًا أو لا، وسواء وقع هذا عمدًا أو سهوًا؛ للقياس، بيانه: كما أنه لو تكلَّم أثناء صلاته تبطل صلاته؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس" فكذلك تبطل في هذه الحالة والجامع: عدم مشروعية الكلام الذي تُكلِّم فيه، والمصلي الذي سلَّم قبل تمامها هو في صلاة، والمقصد منه: المنع من العبث واللهو في الصلاة، والحرص على إيقاعها كما شُرعت.

(26)

مسألة: إذا سلَّم المصلي سهوًا قبل تمام صلاته، ثم تكلَّم بكلام يخص مصلحة الصلاة، وكان الكلام هذا كثيرًا، واستغرق أكثر من ثلاث دقائق مثلًا: فصلاته باطلة، وعليه إعادتها، أما إن كان قليلًا فلم تزد مدته عن ثلاث دقائق مثلًا: فإن صلاته لا تبطل، فيعود فيُتمها، ويسجد للسهو ويُسلِّم؛ لقاعدتين: الأولى: السنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد تكلم في مصلحة الصلاة - لما سلَّم قبل تمامها - وذلك مع أبي بكر وعمر وذي اليدين، ثم بنوا على صلاتهم الأولى، وأتموها - في حديث ذي اليدين -، ولو حسب ذلك الكلام لغلب على الظن عدم =

ص: 525

ويردُّه بالإشارة، فإن ردَّه بالكلام: بطلت، ويردُّه بعدها استحبابًا؛ لردِّه صلى الله عليه وسلم على ابن مسعود بعد السلام، ولو صافح إنسانًا يُريد السلام عليه: لم تبطل

(27)

(وقهقهة) وهي

استغراقه لثلاث دقائق في عادة المتكلمين المتوسطين، الثانية: التلازم: حيث يلزم من الكلام كثيرًا الفصل الكثير، والفصل الكثير يبطل الصلاة كما سبق في مسألة (24)، فإن قلتَ: إن تكلم سهوًا بعد سلامه قبل تمام صلاته تبطل صلاته سواء كان الكلام كثيرًا أو قليلًا وهو قول بعض الحنابلة؛ للقياس، بيانه: كما كان ذلك يُبطلها فيما لو تكلم في صلبها فكذلك يبطلها بعد سلامه منها قبل تمامها والجامع: وقوع كلام غير مشروع من غير جنس الصلاة قبل تمامها، قلتُ: هذا القياس ليس بحجة؛ لمخالفته لمفهوم وما يلزم من حديث ذي اليدين، فإن قلتَ: إن حديث ذي اليدين لا يُحتج به؛ لكونه منسوخًا؛ حيث وقع في أول الإسلام، قلتُ: لا يُسلَّم أنه منسوخ؛ لأن راويه أبو هريرة حيث قد شهد تلك القصة، وهو متأخر الإسلام؛ حيث كان إسلامه في السنة السابعة للهجرة، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلت: سببه: "تعارض القياس مع مفهوم ولازم حديث ذي اليدين" فعندنا: يُقدَّم الحديث؛ لثبوته وقوته، وعندهم: يُقدَّم القياس؛ لكون حديث ذي اليدين منسوخًا عندهم.

(27)

مسألة: يُباح إلقاء السلام على مَنْ يُصلِّي، ويُباح لمن يُصلِّي أن يردَّ بالإشارة دون الكلام، ويُباح أيضًا أن يمدَّ المصلي يده إلى آخر ليُصافحه ولا يسجد لذلك سجود سهو، ويُستحب أن يرد المصلي السلام بالكلام بعد فراغه من الصلاة لقاعدتين: الأولى: السنة الفعلية والقولية حيث إنه صلى الله عليه وسلم كان يرد السلام بالإشارة في أثناء صلاته، ولما سلّم عليه ابن مسعود لم يرد عليه وهو يصلي، فلما فرغ منها: ردَّ عليه قائلًا: "إن في الصلاة لشغلًا" وقال: "إن الله قد أحدث من أمره أن لا تتكلموا في الصلاة" وهذا يلزم منه: عدم تحريم ردِّ السلام بالكلام في أثناء الصلاة، وإن ردَّه فسدت؛ حيث إن هذا نهي مطلق وهو يقتضي =

ص: 526

ضحكة معروفة (ككلام)، فإن قال:"قه قه": فالأظهر أنها تبطل به وإن لم يبن حرفان، ذكر في "المغني" وقدَّمه الأكثر قاله في "المبدع"، ولا تفسد بالتبسُّم

(28)

، (وإن نفخ) فبان حرفان: بطلت (أو انتحب) بأن رفع صوته بالبكاء (من غير خشية الله تعالى) فبان حرفان: بطلت؛ لأنه من جنس كلام الآدميين، لكن إن غلب صاحبه:

التحريم والفساد، ويلزم: استحباب ردِّه بالكلام بعد السلام، الثانية: التلازم؛ حيث إن الحركة بمدِّ اليد للمصافحة في الصلاة يسيرة فيلزم صحة الصلاة؛ لأن الحركة اليسيرة لا تبطل الصلاة - كما سبق -، فإن قلتَ: لمَ شرع هذا؟ قلتُ: لزيادة الألفة والمحبة بين المسلمين، فإن قلتَ: لمَ تبطل برد السلام بالكلام؟ قلتُ: لأنه كلام ليس من جنس الصلاة فيبطلها. فإن قلتَ: لمَ لا يسجد للسهو عند إشارته، أو مصافحته؟ قلتُ: لعدم وجود سببه من زيادة أو نقصان أو شك.

(28)

مسألة: إذا تبسَّم في صلاته: فصلاته صحيحة، ولا يسجد للسهو لأجله، ولكن إذا ضحك ضحكة ظهر لها صوت - وهو المسمى بالقهقهة -: فصلاته باطلة؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "إن الله أحدث من أمره أن لا تتكلموا في الصلاة" حيث نهى عن الكلام، وهذا النهي مطلق فيقتضي التحريم والفساد، والكلام يطلق على ما اجتمع فيه ظهور صوت وحروف ولو قلَّت، وهذا شامل للقهقهة، فتكون مبطلة للصلاة، ودلَّ مفهوم الصفة منه على أن التبسُّم لا يبطل الصلاة؛ لأنه لا يوصف بأنه كلام، فإن قلتَ: لمَ التبسُّم لا يُبطلها، والقهقهة تبطلها؟ قلتُ: لأن التبسُّم لا يخلو منه أحد فلو بطلت صلاة كل متبسِّم: للحق أكثر الناس الضيقُ والحرج لكثرة ما يقع؛ بخلاف القهقهة فهو نادر، ولا يصدر إلا من شخص قد استخفَّ بالعبادات، فإن قلتَ: لمَ لا يسجد للسهو للتبسُّم؟ قلتُ: لعدم وجود سببه من زيادة أو نقصان أو شك، ولكثرة وقوعه.

ص: 527

لم يضرُّه؛ لكونه غير داخل في وسعه، وكذا: إن كان من خشية الله تعالى (أو تنحنح من غير حاجة فبان حرفان: بطلت) فإن كان لحاجة: لم تبطل: لما روى أحمد وابن ماجه عن علي قال: "كان لي مدخلان من رسول الله صلى الله عليه وسلم بالليل والنهار فإذا دخلتُ عليه وهو يصلي يتنحنح لي" وللنسائي معناه

(29)

، وإن غلبه سُعال أو عُطاس، أو تثاؤب ونحوه: لم يضرُّ، ولو بان حرفان

(30)

فصل: في الكلام على

(29)

مسألة: إذا نفخ المصلي، أو بكى أو تنحنح لغير حاجة فبان حرفان: بطلت صلاته، أما إن نفخ لحاجة كان يطرد به حشرة، أو بكى لخشية الله، أو تذكَّر عزيزًا لديه، أو تنحنح ليُعلم غيره قد استأذن عليه أنه يصلي أو نحو ذلك: فصلاته صحيحة، ولا يُشرع لذلك سجود سهو؛ لقواعد: الأولى: السنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم كان يُعلم عليًا أنه يصلي بالتنحنح، وأنه كان يبكي أحيانًا عند قراءته للقرآن وهو يصلي، الثانية: القياس، بيانه: كما أن الكلام يُبطل الصلاة فكذلك ما بان حرفان من النفخ والبكاء، أو التنحنح يُبطلها، والجامع: تسمية كل منهما بالكلام، وأن ذلك عبث لا يليق بالصلاة، الثالثة: فعل الصحابي: حيث إن أبا بكر يغلبه البكاء عند قراءته للقرآن، وأن عمر قد بكى حين قرأ قوله تعالى:{إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} ولم تبطل بذلك صلاتهما، ولم يسجد السهو، الرابعة: المصلحة: حيث إن بعض الناس لا يستطيع إزالة حشرجة في حلقه إلا بالتنحنح، ولا يُزيل حشرة من وجهه إلا بنفخها، فجاز ذلك، ولا يُبطل الصلاة؛ مراعاة لأحوالهم، فإن قلتَ: لمَ لا يُشرع لذلك سجود السهو؟ قلتُ: لعدم وجود نقصان في الصلاة ولا زيادة ولا شك، ولكثرة وقوعها بين المسلمين.

(30)

مسألة: إذا سَعَل المصلي، أو عطس، أو تثاوب: فصلاته صحيحة إذا غلبه ذلك ولو بان حرفان ونحوهما، ولا يُشرع لذلك سجود سهو؛ للمصلحة: حيث =

ص: 528

السجود للنقص (ومن ترك ركنًا) فإن كان التحريمة: لم تنعقد صلاته

(31)

، وإن كان غيرها (فذكره بعد شروعه في قراءة ركعة أخرى: بطلت) الركعة التي تركه منها، وقامت الركعة التي تليها مقامها ويُجزئه الاستفتاح الأول: فإن رجع إلى الأولى عالمًا عمدًا: بطلت صلاته (و) إن ذكر ما تركه (قبله) أي: قبل الشروع في قراءة الأخرى: (يعود وجوبًا فيأتي به) أي بالمتروك (وبما بعده)؛ لأن الركن لا يسقط بالسهو، وما بعده قد أتى به في غير محلِّه، فإن لم يعد عمدًا: بطلت صلاته، وسهوًا: بطلت الركعة والتي تليها عوضها (وإن علم) المتروك (بعد السلام فكترك ركعة كاملة) فيأتي بركعة ويسجد للسهو ما لم يطل الفصل

(32)

، ما لم يكن المتروك تشهُّدًا

إن هذه الأمور تغلب عادةً الإنسان، ويشقُّ منعها، فإن قلتَ: لمَ لا يُشرع لذلك سجود سهو؟ قلتُ: لعدم وجود سببه ولكثرة وقوعها بين الخلق.

(31)

مسألة: إذا ترك المصلي تكبيرة الإحرام عمدًا أو سهوًا بأن قام ثم قرأ الفاتحة مثلًا مباشرة: فإن صلاته باطلة؛ للتلازم؛ حيث يلزم من تركه لما لا تنعقد الصلاة إلا به - وهي التحريمة - بطلان صلاته؛ لكونها لم تنعقد أصلًا.

(32)

مسألة: إذا ترك المصلي ركنًا - غير تكبيرة الإحرام - سهوًا من الركعة الأولى - مثلًا - بأن ترك منها قراءة الفاتحة مثلًا: ففيه تفصيل هو كما يلي: أولًا: إن ترك هذا بعد أن بدأ بالفاتحة من الركعة الثانية: فإن الركعة الأولى كلها باطلة، وينوي جعل الثانية هي الأولى، ولا يُعيد الاستفتاح الذي قاله في الأولى، فإن رجع إلى الأولى عمدًا وهو عالم بهذا الحكم: فإن صلاته تبطل، أما إن رجع وهو جاهل، أو ساهي: فتصح صلاته؛ ثانيًا: إن تذكَّر ما تركه قبل أن يبدأ بقراءة الفاتحة من الركعة الثانية: فيجب عليه أن يعود إلى الأولى فيأتي بما تركه - وهو قراءة الفاتحة للأولى وينويها لها - ثم يأتي بما بعده من الأعمال والأركان، فإن لم يعد عمدًا وهو عالم بوجوب العود: بطلت صلاته، أما إن لم يعد وهو جاهل أو ساهي: =

ص: 529

أخيرًا أو سلامًا فيأتي به ويسجد ويُسلِّم،

(33)

ومن ذكر ترك ركن وجهله أو

فإن الركعة التي ترك منها ذلك الركن تبطل، وتكون التي بعدها هي الأولى؛ عوضًا عنها، ثالثًا: إن تذكرَّ ما تركه بعد فراغه من الصلاة، فإنه يأتي بركعة كاملة، ثم يتشهَّد ويسجد للسهو ويُسلَّم إذا لم يطل الفصل بين صلاته وبين تذكره ولم يتكلَّم إلا في مصلحة الصلاة؛ للتلازم؛ حيث يلزم من تركه لركن من أركان الأولى وتلبُّسه بركن من أركان الثانية: بطلان الأولى، وجعله الثانية هي الأولى؛ لتصحُّ الصلاة، ويلزم من مخالفته لذلك عمدًا مع علمه بالحكم: بطلان صلاته؛ لإتيانه بها على غير المشروع، ويلزم من عدم تلبُّسه بركن من أركان الثانية: أن يعود إلى الأولى فيأتي بما تركه، ويلزم من مخالفته لذلك عمدًا: بطلان صلاته، ويلزم من تذكُّره لما تركه بعد فراغه: أن يأتي بركعة كاملة؛ لكونها قد فسدت بترك ركن من أركانها كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ذي اليدين، ويلزم صحة الصلاة بذلك عند عدم إطالة الفصل، وعدم الكلام إلا بمصلحتها؛ لكونه يلزم من إطالة الفصل والكلام بغير مصلحتها: بطلان الصلاة؛ لفقدان شرط الموالاة بين أركانها. وقد سبق بيانه؛ ويلزم من مخالفة ذلك كله جهلًا ونسيانًا: صحة ما فعله؛ لأنَّه معذور بهما، فإن قلتَ: إذا عاد إلى الأولى ونواها لِمَ يأتي بما بعده وإن كان فعله؟ قلتُ: لأنَّه أتى به في المرة الأولى وهو في غير محله، فلا يجزئ، ومعروف أن الركن لا يسقط بالسهو.

(33)

مسألة: إذا ترك التشهد الأخير أو السَّلام سهوًا ثم تذكر بعد فراغه ذلك: فإنه يعود ويأتي بما تركه، ثم يسجد للسهو، ثم يُسلَّم؛ للتلازم؛ حيث يلزم من فعله لذلك الركن في محلَّه: صحة الصلاة، ويسجد لسهوه هذا، وليس هذا كمن ترك قراءة الفاتحة أو ركوعًا أو سجودًا؛ لأن هذه الأمور يقع بعدها أركان أخرى، والتشهد أو السلام ليس بعدهما شيء فحصل الفرق.

ص: 530

محلَّه: عمل بالأحوط

(34)

(وإن نسي التشهد الأول) وحده أو مع الجلوس له (ونهض) للقيام: (لزمه الرجوع) إليه (ما لم ينتصب قائمًا، فإن استتمَّ قائمًا: كره رجوعه)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا قام أحدكم من الركعتين فلم يستتم قائمًا فليجلس، فإن استتم قائمًا فلا يجلس وليسجد سجدتين" رواه أبو داود وابن ماجه من حديث المغيرة بن شعبة (وإن شرع في القراءة: حرم) عليه (الرجوع)؛ لأن القراءة ركن مقصود في نفسه بخلاف القيام، فإن رجع عالمًا عمدًا: بطلت صلاته، لا ناسيًا أو جاهلًا، ويلزم المأموم متابعته، وكذا: كل واجب فيرجع إلى تسبيح ركوع وسجود قبل اعتدال لا بعده (وعليه سجود) أي: سجود السهو (للكل) أي: كل ما تقدم

(35)

(ومن شك في عدد الركعات) بأن تردَّد: أصلى اثنتين أم ثلاثًا؟ مثلًا؟:

(34)

مسألة: إذا فرغ من صلاته، فتذكَّر أنه ترك ركنًا من ركعة من ركعات الصلاة، ولكنه لا يعلم أيَّ ركن، أو لا يعلم في أي ركعة: فيجب عليه أن يفرض: أنه ترك قراءة الفاتحة من الركعة الأولى؛ للتلازم؛ حيث يلزم من جعله المتروك قراءة الفاتحة أن يأتي بها وبما بعدها من الأركان من ركوع وسجود، ويلزم من جعل المتروك في الركعة الأولى: أن يُلغيها ويجعل الثانية هي الأولى ويأتي بركعة أخرى، فإن قلتَ: لمَ شرع هذا؟ قلتُ: للاحتياط؛ حيث إن ذلك يجعله متيقنًا من صحة صلاته.

(35)

مسألة: إذا نسي التشهد الأول، أو جلسته، وقام: ففيه تفصيل هو كما يلي: أولًا: إن تذكَّر ذلك قبل اعتداله قائمًا: فيجب عليه الرجوع فيجلس ويتشهَّد، ثم يقوم فُيكمل صلاته، ثم يسجد للسهو قبل سلامه، ثانيًا: إن تذكَّر ذلك بعد اعتداله قائمًا، وقبل قراءة الفاتحة، فُيكره رجوعه، وأن رجع فصلاته صحيحة، ويسجد للسهو قبل السلام: سواء رجع أو لا، ثالثًا: إن تذكَّر ذلك بعد اعتداله قائمًا وبعد ابتدائه بقراءة الفاتحة: فيحرَّم عليه الرجوع، بل يستمر=

ص: 531

(أخذ بالأقل): لأنَّه المتيقن، ولا فرق بين الإمام والمنفرد،

(36)

ولا يرجع مأموم

في قراءته وصلاته، ويسجد للسهو قبل سلامه، فإن رجع وهو عالم بتحريم ذلك عمدًا: فإن صلاته تبطل، أما إن رجع جهلًا أو نسيانًا: فصلاته صحيحة، ويجب على المأموم متابعة الإمام في كل ما يفعل، وكذا يفعل المصلي إذا نسي أيَّ واجب من واجبات الصلاة كنسيانه تسبيحة الركوع أو السجود: فلو نسي المصلي تسبيحة السجود مثلًا ورفع، فإن تذكر قبل اعتداله من السجود: رجع إلى آخر ما ذكر من التفصيل؛ للسنة القولية وهي من وجوه: أولها: قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا قام أحدكم من الركعتين فلم يستتم قائمًا فليجلس، فإن استتم قائمًا: فلا يجلس وليسجد سجدتين"، فأوجب الجلوس عند عدم اعتداله؛ لأن الأمر هنا مطلق، فيقتضي الوجوب، وحرم الجلوس إذا استتم قائمًا، وبدأ القراءة؛ لأن النهي في قوله:"فلا يجلس" مطلق، فيقتضي التحريم، ولأنه شرع في المقصود الأساسي من القيام وهو قراءة الفاتحة، فلا يقطع ذلك الركن لأجل العود لإتمام واجب؛ لهذين الأمرين حُرِّم الرجوع، ولكن إن لم يبدأ بالقراءة: فيُكره رجوعه فقط؛ لعدم دخوله في ركن القراءة، وأوجب الشارع سجود السهو؛ لأن الأمر في قوله:"وليسجد" مطلق فيقتضي الوجوب، ثانيها: قوله صلى الله عليه وسلم: "عُفي لأمتي عن الخطأ والنسيان" فكل من فعل شيئًا نسيانًا فلا إثم عليه، وعمله صحيح، ومثله الجهل، ثالثها: قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه" حيث أوجب الشارع أن يتبع المأموم إمامه في كل ما يفعله؛ لأن النهي مطلق فيقتضي التحريم، وترك الحرام واجب.

(36)

مسألة: إذا شك المصلي فلم يدرِ هل صلى ركعتين أم ثلاثًا: فإنه يجب أن يحمل ذلك على أقلهما وهو: أنه صلى اثنتين ويُكمل صلاته، ثم يسجد للسهو قبل سلامه سواء كان إمامًا أو منفردًا للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "إذا شك=

ص: 532

واحد إلى فعل إمامه، فإذا سلَّم إمامه: أتى بما شك فيه وسجد وسلَّم،

(37)

وإن شكَّ هل دخل معه في الأولى أو الثانية؟: جعله في الثانية؛ لأنَّه المتيقن، وإن شك من أدرك الإمام راكعًا أرفع الإمام رأسه قبل إدراكه راكعًا أم لا؟: لم يعتدَّ بتلك الركعة؛ لأنَّه شاك في إدراكها ويسجد للسهو

(38)

(وإن شكَّ) المصلي (في ترك ركن فكتركه)

أحدكم في صلاته، فلم يدرِ كم صلى؟ فليطرح الشك وليبن على ما استيقن ثم ليسجد سجدتين قبل السلام" حيث أوجب الشارع البناء على الأقل؛ لأنَّه المتيقن؛ لأن الأمر في قوله:"فليطرح" و "ليبن" مطلق فيقتضي الوجوب، وهو عام للإمام والمنفرد؛ لأن "من" الشرطية من صيغ العموم. فإن قلتَ: لمَ وجب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه احتياط للدِّين، ولأنه تردَّد في النية واضطرب فيها فيجبر ذلك بسجود السهو.

(37)

مسألة: إذا كان زيد إمامًا لعمرو في صلاة الظهر مثلًا، وشكَّ عمرو: أن زيدًا صلى ثلاث ركعات: فإنه يجب على عمرو أن يأتي بركعة بعد سلام إمامه، ثم يسجد سجدتين ثم يُسلِّم؛ للقياس، بيانه: كما أن المنفرد إذا شك في عدد ركعات صلاته: فإنه يبنِ على الأقل، ويأتي بما بقي - كما قلنا في مسألة (36) - فكذلك المأموم مثله، والجامع: الشك في عدد الركعات في كل فإن قلتَ: لمَ شرع هذا؟ قلتُ: لما ذكر في مسألة (36).

(38)

مسألة: إذا شكَّ مسبوق: هل دخل مع الإمام في الركعة الأولى أو الثانية: فيجب أن يجعل نفسه داخلًا معه في الثانية، أو شكَّ من أدرك الإمام راكعًا: هل دخل معه قبل أن يرفع من ركوعه، أو بعد رفعه: فيجب على ذلك المسبوق أن لا يحسب تلك الركعة، وبعد ذلك يُكمل الركعة الأولى، والركعة التي لم يحسبها، ثم يسجد للسهو قبل سلامه؛ للاستصحاب؛ حيث إن هذا المسبوق متيقن أنه أدرك الثانية، وشاك في الأولى، وهل دخل معه قبل أن يرفع=

ص: 533

أي: فكما لو تركه: يأتي به وبما بعده إن لم يكن شرع في قراءة التي بعدها، فإن شرع في قراءتها: صارت بدلًا عنها

(39)

(ولا يسجد) للسهو (لشكِّه في ترك واجب) كتسبيح ركوع ونحوه (أو) لشكِّه في (زيادة)

(40)

إلا إذا شكَّ في الزيادة وقت فعلها؛ لأنَّه شكَّ في سبب وجوب السجود، والأصل عدمه، فإن شك في أثناء الركعة الأخيرة أهي رابعة أم خامسة؟: سجد؛ لأنَّه أدَّى جزءًا من صلاته مُتردِّدًا في كونه

من ركوعه أو بعده، فيجب أن يستصحب ما تيقَّن منه، ويعمل به، دون المشكوك فيه؛ لعدم العمل بالمشكوك فيه، فإن قلتَ: لمَ شرع هذا؟ قلتُ: لما ذكر في مسألة (36).

(39)

مسألة: إذا شك المصلي - أثناء صلاته - بأنه ترك ركنًا كأن يشك هل سجد أو لا؟ فيجب عليه أن يجعل نفسه كأنه قد ترك ذلك فعلًا فيأتي به وبما بعده من أعمال الصلاة إن لم يشرع بقراءة الفاتحة من الركعة التي بعدها، أما إن شرع بقراءتها: فلا يعود إليها، وتكون تلك التي شرع بقراءتها بدلًا عن الركعة التي ترك منها ذلك الركن؛ للقياس، بيانه: كما أنه لو جزم بترك ركن يفعل ذلك - كما سبق في مسألة (32) - فكذلك يفعل إذا شك في ذلك والجامع: أنه في كل منهما لم يتيقن أو يغلب على ظنه أنه أتى بالركن، وهذا كله للاحتياط في الدِّين كما سبق بيانه.

(40)

مسألة: إذا شك المصلي في ترك واجب بعد فعله: كأن يشكُّ هل قال: "سبحان ربي العظيم" بعد الرفع من الركوع؟ أو شكَّ هل زاد ركوعًا أو سجودًا في صلاته؟: فلا يجب عليه سجود سهو في الحالتين؛ للاستصحاب: حيث إن الأصل: عدم ترك الواجب، وعدم زيادة شيء، فنستصحب هذا، ونعمل به؛ لكونه هو المتيقن أو الغالب على الظن، ولا يُعمل بالشك؛ لوقوعه بعد الفراغ من الفعل.

ص: 534

منها، وذلك يُضعف النية،

(41)

ومن شك في عدد الركعات، وبنى على اليقين، ثم زال شكُّه، وعلم أنه مصيب فيما فعله: لم يسجد

(42)

(ولا سجود على مأموم) دخل مع الإمام من أول الصلاة (إلا تبعًا لإمامه) إن سهي على الإمام فيُتابعه وإن لم يتم ما عليه من تشهُّد ثم يُتمه،

(43)

فإن قام بعد سلام إمامه: رجع فسجد معه ما لم

(41)

مسألة: إذا شكَّ المصلي في زيادة شيء أثناء فعله: كأن يشكُّ في نفس ركوعه هل هذا زائدًا أم لا؟ أو شك في الركعة الأخيرة هل هي رابعة أم خامسة؟ فيجب عليه أن يسجد للسهو؛ للتلازم؛ حيث إنه تردَّد في نية الركوع، أو الركعة، والتردُّد فيها: يضعفها، ويلزم من ذلك الضَّعف في النية: سجود السهو لجبر ذلك الضَّعف وتقويته وهذا هو المقصد منه.

(42)

مسألة: إذا شكَّ في عدد الركعات: فلا يدري هل صلَّى - في الظهر مثلًا - أربعًا أم ثلاثًا؟ فإنه يبني على اليقين ويجعلها ثلاثًا، ويأتي برابعة ثم يسجد للسهو ولو زال شكه؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم:"إذا شك أحكم في صلاته .. " وقد سبق بيانه في مسألة (36) فإن قلتَ: إن جعلها ثلاثًا وزال شكُّه وتيقَّن أنه مصيب: فلا يسجد للسهو، وهو ما ذكره المصنِّف هنا -؛ للتلازم؛ حيث يلزم من زوال شكِّه وتيقُّن إصابته: عدم وجود سبب للسجود قلتُ: بل وجد سبب لسجود السهو، وهو: اضطرابه في أول الأمر وتردُّده، وهذا يؤثر في نيته في أثناء الفعل، فلا بدَّ من جبر ذلك بالسجود، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "هل زوال الشك الأول باليقين يُسقط وجوب سجود السهو أو لا؟ " فعندنا: لا يُسقطه؛ للتردُّد في النية، وعندهم: يُسقطه.

(43)

مسألة: يجب على المأموم أن يسجد مع إمامه ويُتابعه في ذلك: سواء وافقه على هذا السهو أو لا، وسواء أتمَّ المأموم التشهد أو لا؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "ليس على من خلف الإمام سهو، فإن سها إمامه فعليه وعلى من =

ص: 535

يستتم قائمًا فيُكره له الرجوع؛ أو يشرع في القراءة: فيحرم

(44)

ويسجد مسبوق سلَّم معه سهوًا، ولسهوه مع إمامه، أو فيما انفرد به،

(45)

وإن لم يسجد الإمام للسهو: سجد مسبوق إذا فرغ وغيره بعد إياسه من سجوده

(46)

(وسجود السهو لما) أي

خلفه" ولفظ "عليه" من صيغ الوجوب، فإن قلتَ: لمَ وجب هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه: تحقيق المتابعة، ونبذ الاختلاف المنهي عنه في قوله صلى الله عليه وسلم: "فلا تختلفوا عليه".

(44)

مسألة: إذا قام مأموم مسبوق ليقضي ما فاته، وسجد إمامه للسهو بعد السلام، وبعد أن قام المسبوق ففيه تفصيل هو كما يلي: أولًا: إن لم يستتم المسبوق قائمًا: فيجب عليه أن يرجع ويسجد للسهو مع إمامه، ثانيًا: إن استتم قائمًا ولم يبدأ بقراءة الفاتحة: فيُكره له الرجوع، وإن رجع فلا شيء عليه، ثالثًا: إن استتم قائمًا وبدأ بقراءة الفاتحة: فيحرم عليه الرجوع؛ للقياس بيانه: كما أن المنفرد التارك لواجب كالتشهد يفعل ذلك - كما سبق في مسألة (35) - فكذلك المسبوق يفعل ذلك والجامع: ترك واجب في كل.

(45)

مسألة: إذا دخل مسبوق مع الإمام، ثم لما سلَّم الإمام سلَّم ذلك المسبوق معه قبل أن يقضي ما عليه، ثم قام ليقضي ما فاته: أو سهى هذا المأموم وهو تابع للإمام أو زاد أو نقص شيئًا أو شكَّ في شيء وهو يقضي ما فاته: فإنه يسجد لذلك سجود السهو في تلك الحالات؛ للتلازم؛ حيث إن هذا المأموم والمسبوق قد وُجد عنده سبب من أسباب سجود السهو: فيلزم وجود الحكم، وهو: وجوبه فيسجد له.

(46)

مسألة: إذا فعل الإمام شيئًا لم يسجد له سجود السهو؛ لكونه لا يرى السجود له، وكان المأموم يرى سجود السهو له: فيجب على هذا المأموم أن يسجد له: سواء كان مسبوقًا أو لا؛ للتلازم؛ حيث إن المأموم قد ثبت عنده=

ص: 536

لفعل شيء أو تركه (يبطل) الصلاة (عمده) أي: تعمَّده، ومنه: اللَّحن المحيل للمعنى سهوًا أو جهلًا (واجب)؛ لفعله صلى الله عليه وسلم وأمره به في غير حديث، والأمر للوجوب،

(47)

وما لا يُبطل عمده كترك السنن، وزيادة قول مشروع غير السلام في غير موضعه لا يجب له السجود، بل يُسنُّ في الثاني

(48)

(وتبطل) الصلاة (بـ) تعمُّد

سبب من أسباب سجود السهو فيلزم ثبوت حكمه: وهو سجود السهو، ويلزم من عدم سجوده لذلك: بطلان صلاته؛ لأنَّه ترك واجباً عمدًا.

(47)

مسألة: كل شيء في الصلاة إذا تركه المصلي أو زاده عمدًا يُبطل الصلاة: فإنه إذا تركه سهوًا يجب عليه سجود السهو كأن يترك تسبيح، أو يزيد ركعة أو سجود، أو نحو ذلك، أو قرأ قراءة تنقل المعنى إلى غير المراد سهوًا أو جهلًا؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم أمر بذلك بقوله: "فليسجد سجدتين" والأمر مطلق فيقتضي الوجوب، الثانية: السنة الفعلية؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك، فإن قلتَ: لمَ وجب ذلك؟ قلتُ: لوجود سبب من أسباب سجود السهو وهو: الزيادة أو النقصان أو اضطراب النية.

(48)

مسألة: كل شيء في الصلاة إذا تركه المصلي أو زاده عمدًا لا يُبطل الصلاة: كالسنن والمستحبات: فإنه إذا تركه سهوًا لا يسجد له سجود السهو؛ للتلازم؛ حيث يلزم من عدم بطلانه للصلاة فيما لو تركه عمدًا: أن لا يسجد له للسهو؛ لعدم حاجته إلى جبر، لعدم وجوبه أصلًا. [فرع]: إذا قال المصلي شيئًا مشروعًا في غير محلِّه كان يقرأ في ركوع أو في سجود أو تشهَّد في قيام: فلا يُبطل الصلاة ولا يجب لذلك سجود سهو، بل يُستحب السجود ولو تركه: صحت صلاته؛ للتلازم؛ حيث يلزم من عدم وجود سبب سجود السهو من زيادة أو نقصان أو شكُّ في ركن أو واجب: عدم وجود الحكم وهو: وجوب السجود. [فرع آخر]: إذا سلَّم المصلي في غير موضع السلام؛ فإنه يعود=

ص: 537

(ترك سجود) سهو واجب (أفضليته قبل السلام فقط) فلا تبطل بتعمُّد ترك سجود مسنون،

(49)

ولا واجب محل أفضليته بعد السلام، وهو: ما إذا سلَّم قبل إتمامها؛ لأنَّه خارج عنها فلم يؤثِّر في إبطالها،

(50)

وعُلِم من قوله: "أفضليته": أن كونه قبل السلام أو بعده: ندب؛ لورود الأحاديث بكل من الأمرين،

(51)

(وإن نسيه) أي: نسي سجود السَّهو الذي محلَّه قبل السلام وسلَّم، ثم ذكر:(سجد) وجوبًا (إن

ويُكمل صلاته ثم يسجد للسهو بعد التشهد الأخير، ثم يُسلِّم؛ للتلازم؛ حيث يلزم من وجود سبب السجود وهي زيادة: - السلام في غير موضعه - وجوب سجود السهو.

(49)

مسألة: إذا وجب عليه سجود سهو محلُّه قبل السلام وترك ذلك السجود عمدًا: فتبطل صلاته؛ للقياس، بيانه: كما أنه لو ترك التشهد الأول عمدًا فإن صلاته تبطل فكذلك إذا ترك سجودًا للسهو محلُّه قبل السلام يُبطلها والجامع: تركه لواجب محلُّه قبل السلام في كل، تنبيه: قوله: "فلا تبطل بتعمُّد ترك سجود مسنون" قد سبق بيانه في مسألة (48).

(50)

مسألة: إذا زاد المصلي شيئًا في صلاته: كأن يُسلِّم بعد ركعة من صلاته ثم يعود ليُكملها، وهذا الأفضل أن يكون محل سجود السهو له بعد السلام، فإذا ترك المصلي هذا السجود عمدًا: لا تبطل صلاته؛ للتلازم؛ حيث إن ذلك السجود يُشرع أن يكون خارج الصلاة فيلزم من ذلك: أن تركه عمدًا لا يُبطلها؛ لكونه غير مؤثِّر فيها.

(51)

مسألة: الأفضل في موضع سجود السهو أن يكون قبل السلام إذا نقَّص شيئًا من الصلاة وتركه، أما إذا زاد شيئًا في صلاته: فالأفضل: أن يكون موضعه بعد السلام، ويستوي ذلك في الشك؛ للسنة القولية والفعلية: حيث إن ذلك قد ورد عنه صلى الله عليه وسلم وكله صحيح كما قال البيهقي. فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تيسير على الناس وهو معلوم.

ص: 538

قرب زمنه) وإن شرع في صلاة أخرى فإذا سلَّم، وإن طال الفصل عرفًا، أو أحدث، أو خرج من المسجد: لم يسجد، وصحَّت صلاته

(52)

(ومن سها) في صلاة (مرارًا: كفاه) الجميع سهوه (سجدتان) ولو اختلف محل السجود، ويُغلِّب ما قبل

(52)

مسألة: إذا وجب عليه سجود سهو، ولكنه نسيه، فسلَّم ولم يسجد، ثم تذكَّر بعد زمن قصير كثلاث دقائق مثلًا كما سبق: فيجب عليه سجود السهو: سواء انحرف عن القبلة أو لا، وسواء تكلَّم في مصلحة الصلاة أو لا، وكذا يجب عليه هذا السجود ولو دخل في صلاة ثانية فإذا سلَّم منها: سجد للسهو الواجب عليه في صلاته الأولى، أما إن طال الفصل بأن كان أكثر من ثلاث دقائق، أو أحدث بأن انتقض وضوؤه، أو خرج من المسجد: فإن سجود السهو هذا يسقط عنه، وتصح صلاته بدون ذلك؛ للسنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد سجد للسهو - في حديث ذي اليدين السابق - بعد الكلام القصير الذي لا يستغرق عادةً ثلاث دقائق تقريبًا؛ لكونه قد تكلَّم مع أبي بكر وعمر وذي اليدين بكلام يستغرق ذلك الزمن تقريبًا، وهو لم يُحدث، ولم يخرج من المسجد، ولزم من ذلك الفعل: أنه إذا طال الفصل أكثر من مدة الكلام الذي استغرقه كلام النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه وهو ثلاث دقائق، أو أحدث، أو خرج من المسجد: أنه لا يسجد للسهو، ويسقط عنه، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: لأنَّه إذا لم يطل الفصل، ولم يُحدث، ولم يخرج من المسجد فإنه يُشبه المتصل بالصلاة، ببقائه في مكانه، ولتعلُّق ذلك بذمَّته، بخلاف ما إذا طال الفصل، أو أحدث أو خرج من المسجد: فإنه يُشبه المنفصل عن الصلاة، فسقط عنه؛ لوجود المشقة في عوده إلى سجود السهَّو، وهذا يُعتبر من باب الرُّخص.

ص: 539

السلام؛ لسَبْقه،

(53)

وسجود السهو وما يُقال فيه وفي الرفع منه كسجود صلب الصلاة،

(54)

فإن سجد قبل السلام: أتى به بعد فراغه من التشهُّد وسلَّم عَقِبَه، وإن أتي به بعد السلام: جلس بعده مفترشًا في ثنائية، ومتورِّكًا في غيرها، وتشهَّد وجوبًا التشهد الأخير، ثم سلَّم؛ لأنَّه في حكم المستقلِّ في نفسه.

(55)

(53)

مسألة: إذا اجتمع مسبِّيان فأكثر لسجود السهو من زيادة أو نقصان: فإنه يكفيه أن يسجد سجدتين فقط ويُستحب أن يكون هذا السجود قبل السلام؛ لقاعدتين: الأولى: السنة الفعلية: حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد سها وتكلَّم - في حديث ذي اليدين - ومع ذلك سجد سجدتين فقط، الثانية: المصلحة؛ حيث إن سجود السهو الذي قبل السلام سابق على السجود الذي بعده، فيُستحب أن يُغلَّب ويُعمل به؛ لكونه أسرع في إبراء الذمة، وألصق بالصلاة، ولأن سجودًا واحدًا أخف مشقة من تكرار السجود.

(54)

مسألة: سجدتا السهو قبل السلام أو بعده يُقال ويُعمل فيهما كما يُقال ويُعمل في سجود صلب الصلاة، فيُكبِّر، ثم يسجد على الأعضاء السبعة ويقول:"سبحان ربي الأعلى" ثم يرفع من السجدة الأولى مكبِّرًا، ويجلس بين السجدتين ويقول:"ربي اغفر لي" ثم يُكبِّر ويسجد السجدة الثانية كما قال وفعل في الأولى، ثم يرفع رأسه مُكبِّرًا فيجلس قليلًا ثم يُسلِّم؛ للسنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد فعل ذلك، ولو كان يقال ويُفعل في سجود السهو غير ما يُقال ويُفعل في سجود صلب الصلاة لبيَّنه صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، فإن قلتُ: لمَ شرع هذا؟ قلتُ: لكونهما تُكمِّلان الصلاة، فتكونان من جنسها.

(55)

مسألة: طريقة سجود السهو الذي قبل السلام هي: أنه إذا جلس جلسة التشهد الأخير الذي بعده السلام، وبعدما يفرغ من هذا التشهُّد - والدعاء الذي بعده إن شاء -: فإنه يسجد للسهو فإذا فرغ منه جلس قليلًا جدًا ثم=

ص: 540

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

يُسلِّم، ولا يتشهد بعد سجوده للسهو هنا، أما طريقة سجود السهو الذي بعد السلام فهي: أنه إذا سلَّم من صلاته يجلس فيسجد للسهو، ثم بعد ذلك يجلس مُفترشًا في الصلاة الثنائية كفجر وجمعة، ومتورِّكًا في الصلاة الثلاثية والرباعية - كما سبق وصف ذلك - يتشهَّد إلى أن يفرغ منه ثم يُسلِّم؛ لقواعد: الأولى: الإجماع؛ حيث أجمع العلماء على طريقة سجود السهو الذي قبل السلام، الثانية: السنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم "سها فسجد سجدتين ثم تشهَّد، ثم سلَّم" - كما رواه عمران بن حصين - وحُمل هذا على سجود السهو الذي بعد السلام؛ لئلا يجتمع تشهُّدان في جلسة واحدة، الثالثة: القياس، بيانه: كما أن السجود الذي قبل السلام فيه تشهُّد وسلام، فكذلك السجود الذي بعد السلام لا بد أن يكون فيه تشهد وسلام والجامع: استقلال كل سجود بتشهد وسلام.

هذه آخر مسائل باب "سجود السهو" ويليه باب "صلاة التطوع والأوقات المنهي عن صلاتها فيها"

ص: 541

‌باب صلاة التطوع وأوقات النهي

والتطوع لغة: فعل الطاعة، وشرعًا: طاعة غير واجبة،

(1)

وأفضل ما يُتطوَّع به: الجهاد، ثم النفقة فيه، ثم تعلُّم العلم وتعليمه: من حديث وفقه وتفسير، ثم الصلاة

(2)

‌باب صلاة التطوع، والأوقات المنهي عن صلاتها فيها

وفيه ثنتان وسبعون مسألة:

(1)

مسألة: التطوع لغة: الانقياد واللِّين، مأخوذ من:"طاع يطوع": إذا انقاد ولان، وهو في الاصطلاح: الانقياد والطاعة الله تعالى في فعل أو قول غير ما أوجبه الله، وحكمه: يُثاب على فعله، ولا يُعاقب على تركه، وهو المسمَّى بـ "النافلة" و "السُّنَّة" و "المستحب" و "الفضيلة" و "المندوب" و "المستحسن" و "المرغَّب فيه" وقد سبق بيان ذلك في سنن الوضوء وسنن الصلاة؛ فإن قلتَ: لمَ سُمِّي بالتطوع؟ قلتُ: لأن فاعله يقوم به تطوعًا وتبرُّعًا من عنده من غير إلزام من الشارع، مؤمِّلًا وطامعًا أن تزيد حسناته، وتُكفَّر سيئاته، وهذا هو المقصد من مشروعية صلاة التطوع وغيرها من أعمال التطوع.

(2)

مسألة: مراتب التطوع في الأفضلية هي: المرتبة الأولى: الجهاد في سبيل الله، وهو: أن يُقاتل المسلم الكفَّار؛ لتكون كلمة الله هي العليا، المرتبة الثانية: النفقة في الجهاد بأن يقوم المسلم ببذل ما عنده من مال لمساعدة المجاهدين في شراء أكلهم وشربهم، وما يركبون عليه، وسلاحهم، والقيام على أولادهم، المرتبة الثالثة: تعلُّم العلم الشرعي، وتعليمه التلاميذ، والتصنيف فيه، والحرص على نشره بين الناس بنية رفع الجهل عن الناس؛ ليُعبد الله على بصيرة، المرتبة الرابعة: صلاة التطوع، وهي النوافل - كما سيأتي بيانها -؛ =

ص: 542

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

لقواعد: الأولى: الكتاب وهو من وجوه: أولها: قوله تعالى: {وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} حيث وصف الأجر الذي يناله المجاهد بهذا الوصف، ولم يصف غيره من النوافل بمثل هذا الوصف فيلزم: أنه أعظم النوافل، ثانيها: قوله: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ} .. هذا يدل على عظم أجر النفقة في سبيل الله، ثالثها: قوله: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} وقوله: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} وهذا مدح عظيم للعلم وطلابه لا يعادله شيء، الثانية: السنة القولية؛ وهي من وجهين: أولهما: أنه صلى الله عليه وسلم قد وصف الجهاد بأنه "ذروة سنام الإسلام" يقصد أعلاه وأرفعه، فلا يساويه شيء من النوافل الأخرى؛ ثانيهما: قوله: {من يُرد الله به خيراً يفقهه في الدين} حيث يدل على أن غير المتفقِّه لا خير فيه للأمة الإسلامية، الثالثة: السنة الفعلية: حيث كان صلى الله عليه وسلم يصلي النوافل النهار والليل حتى تتفطَّر قدماه، فإن قلتَ: لمَ كان هذا الترتيب في الأفضلية؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إنه قدِّم الأعم نفعًا للإسلام والمسلمين والأشد في المشقة: فالجهاد فيه بذل النفس - وهي أعلى ما عند المسلم - لأجل نصرة الإسلام وإعلاء كلمته، وكسر شوكة الكفار، قال أحمد:"لا أعلم شيئًا من الفرائض أفضل من الجهاد" ويليه في تعميم النفع: النفقة في سبيل الله وهو بذل المال للمجاهدين، وهو خير عون لهم؛ إذ لا جهاد بلا سلاح وطعام وشراب ونحوها، ولا تكون هذه إلا بالنفقة، ويليه في تعميم النفع: تعلُّم العلم الشرعي وتعليمه؛ حيث إنه شرح وبيان وتوضيح الحلال من الحرام في الشريعة؛ لأجل أن يعبد الإنسان ربه على بصيرة، وهذا يستفيد منه الموجودون في حياة هذا العالم، والذين سيوجدون بعد آلاف السنين إلى قيام الساعة؛ ألا ترى: كتب أبي حنيفة، ومالك والشافعي وأحمد، وغيرهم من=

ص: 543

(وآكدها: كسوف، ثم استسقاء)؛ لأنَّه صلى الله عليه وسلم لم يُنقل عنه أنه ترك صلاة الكسوف عند وجود سببها، بخلاف الاستسقاء، فإنه كان يستسقي تارة ويترك أخرى (ثم تراويح)؛ لأنها تسنُّ لها الجماعة (ثم وتر)؛ لأنَّه تسن له الجماعة بعد التراويح، وهو سنة مؤكدة، روي عن الإمام:"من ترك الوتر عمدًا فهو رجل سوء لا ينبغي أن تُقبل له شهادة" وليس بواجب

(3)

فقهاء المسلمين نستفيد منها وهي لها أكثر من ألف سنة ولم يكن لأي واحد منهم جاه ولا سلطان ولا مراكز ولا أموال، بل إن بعضهم لم يحج من فقره؛ لكونهم اشتغلوا بميراث الأنبياء وهو: العلم وتعليمه، لذلك قال أكثر السلف: إن الاشتغال بالعلم بإخلاص - طلبًا، وتعلُّمًا، وتعليمًا وتصنيفًا - أفضل من الاشتغال بسائر التطوع - سوى الجهاد ونفقته - ثم تأتي المرتبة الرابعة والأخيرة وهي صلاة التطوع؛ لأن الصلاة جامعة الجميع أنواع العبادة: من ذكر ودعاء وقراءة، وخضوع، وخشوع، وتذلُّل لله سبحانه، ولكن نفع ذلك قاصر على المصلي فقط لذلك جعلت في آخر المراتب. تنبيه: الآيات والأحاديث وآثار الصحابة وأقول السلف في الجهاد ونفقته، وتعلُّم العلم وتعليمه كثيرة جدًا، وقد أُلِّف فيها المؤلفات الكثيرة التي لا تخفى على أحد.

(3)

مسألة: مراتب صلوات التطوع في الأفضلية هي: المرتبة الأولى: صلاة الكسوف وهي: صلاة تُشرع عند ذهاب ضوء الشمس أو القمر - وسيأتي بيانها -، المرتبة الثانية: صلاة الاستسقاء - وهي: صلاة شُرِعت لطلب السقي والمطر عند الجدب والقحط - وسيأتي بيانها -، المرتبة الثالثة: صلاة التراويح - وهي: قيام الليل في رمضان - وسيأتي بيانها -، المرتبة الرابعة: صلاة الوتر - وهي: صلاة ركعة واحدة بعد صلاة العشاء مباشرة، أو بعد عدد من صلوات النوافل بعدها - وسيأتي بيانها - لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث إن=

ص: 544

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

إعرابيًا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن فروض الصلاة فقال: "خمس صلوات في اليوم والليلة" فقال: هل عليَّ غيرهن؟ قال: "لا: إلا أن تطوع" والجمعة عن صلاة الظهر، فنفى الشارع وجوب شيء من الصلوات - غير الخمس والجمعة - وأثبت: أن غير الصلوات الخمس تطوع ونوافل؛ لأن الاستثناء من النفي إثبات، وكذا دلَّ مفهوم العدد على أن غير الخمس ليست بواجبة، فتكون صلاة الكسوف، والاستسقاء والتراويح، والوتر، والعيدين تطوعًا ونوافل، الثانية: السنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد صلى تلك الصلوات وواظب عليها - أقصد الكسوف والاستسقاء والتراويح والوتر - ولم يأمر أحدًا أمر إيجاب بها، فإن قلتَ: لمَ كان هذا الترتيب في أفضلية صلوات التطوع؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث قُدّمت صلاة الكسوف؛ لكونه صلى الله عليه وسلم لم يتركها عند حدوث سببها - وهو: غياب ضوء الشمس أو القمر - ولمشروعية الجماعة لها، بخلاف صلاة الاستسقاء فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتركها أحيانًا؛ وقُدِّمت صلاة الاستسقاء على التراويح؛ لأن الاستسقاء تشرع لها الجماعة في عهده صلى الله عليه وسلم وبعده، أما التراويح فلم تُشرع الجماعة لها إلا بعد عهده صلى الله عليه وسلم، وما شُرِعت لها الجماعة في عهده أكد مما شُرِعت لها الجماعة بعد عهده، وقُدِّمت صلاة التراويح على الوتر؛ لكون الوتر شُرِع في دُبُر صلاة التراويح: سواء بجماعة أو انفراد. [فرع]: صلاة الوتر سنة مؤكدة وليست بواجبة؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية، وهو حديث الأعرابي السابق الذكر في مسألة (3)، الثانية: السنة الفعلية؛ حيث قال علي صلى الله عليه وسلم: "الوتر ليس بحتم كهيئة المكتوبة، ولكنه سنة سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم "، فإن قلتَ: لمَ كان سنة مؤكدة؟ قلتُ: المواظبة النبي صلى الله عليه وسلم على فعله حضرًا وسفرًا، فإن قلتَ: لمَ استُحب الوتر؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث "إن الله وتر يُحبُّ الوتر" - كما ورد في الحديث - فلذا يختم المسلم يومه وليلته بهذا الذي يُحبُّه الله تعالى:=

ص: 545

(يُفعل بين) صلاة (العشاء و) طلوع (الفجر) فوقته: من صلاة العشاء ولو مجموعة مع المغرب تقديمًا إلى طلوع الفجر

(4)

وآخر الليل لمن يثق بنفسه أفضل

(5)

(وأقلُّه

لتحصيل الثواب العظيم بأدنى مشقة، فإن قلتَ: إن الوتر واجب وهو قول كثير من الحنفية، وبعض المالكية كسحنون؛ للسنة القولية؛ حيث روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إن الله زادكم صلاة إلى صلواتكم الخمس ألا وهي: الوتر" وهو واضح الدلالة قلتُ: لم يثبت هذا عنه صلى الله عليه وسلم كما قال أكثر أئمة الحديث، نقل هذا عنهم النووي في "المجموع" والقرافي في "الذخيرة" فإن قلتَ: ما الخلاف سبب هنا؟ قلتُ: سببه: "الخلاف في ثبوت الحديث السابق" فعندنا: لم يثبت، وعندهم: ثابت، تنبيه: قول أحمد: "من ترك الوتر عمدًا فهو رجل سوء لا ينبغي أن تقبل له شهادة" وقال ابن تيمية: نحوه قلتُ: إن أرادا "أن من أنكر كون الوتر سنة": فكلامهما صحيح؛ حيث أجمع العلماء على مشروعيته، وإن أرادا بقولهما:"أن الذي لا يُوتر - مع قوله بسُنِّيته -: فإنه رجل سوء أو لا تقبل شهادته": فهذا فيه نظر؛ لأن الوتر سنة ونافلة لا يُذمُّ من تركه، ووصفه بالسوء ذم له، إلا إن أرادا: أن الوتر واجب: فيصح، ولكن خلاف ما نُقل من مذهبهما.

(4)

مسألة: وقت صلاة الوتر يبدأ من صلاة العشاء، - ولو صُلِّيت العشاء مجموعة مع المغرب جمع تقديم، وينتهي بطلوع الفجر الصادق، للسنة الفعلية: حيث قالت عائشة رضي الله عنها: "قد أوتر النبي صلى الله عليه وسلم من أول الليل وأوسطه، وآخره" فإن قلتَ: لمَ كان هذا وقت الوتر؟ قلتُ: للمصلحة، حيث إنه مناسب لتلك الصلاة؛ حيث يدعو العبد ربه، ويناجيه؛ لخلوه من الاشغال الجسدي والفكري.

(5)

مسألة: أفضل أوقات صلاة الوتر من الليل هو: آخره، وهو: الثلث الأخير منه لمن يثق بأنه سيقوم في ذلك الوقت؛ للسنة الفعلية؛ حيث إن أكثر وتر النبي صلى الله عليه وسلم في آخر الليل، فإن قلتَ: لمَ كان ذلك هو الأفضل؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إنه=

ص: 546

ركعة)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "الوتر ركعة من آخر الليل" رواه مسلم، ولا يُكره الوتر بها؛ لثبوته عن عشرة من الصحابة: منهم أبو بكر وعمر وعثمان وعائشة رضي الله عنهم

(6)

(وأكثره) أي: أكثر الوتر (إحدى عشرة) ركعة

(7)

يُصلِّيها (مثنى مثنى) أي: يُسلِّم

يأتي بعد أخذه لقسط من النوم الكافي، فيكون أنشط للدعاء والقراءة والذكر، وهو أقرب الأوقات لاستجابة الدُّعاء؛ نظرًا لنزول الله تعالى في آخر كل ليلة فيقول: هل من داعٍ فأُجيبه؟.

(6)

مسألة: أقل الوتر: ركعة واحدة، يصليها بعد صلاة العشاء، ولو بدون نوافل أخرى قبلها بلا كراهة؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "الوتر ركعة من آخر الليل" فيلزم من ذلك: أن أقله: ركعة واحدة؛ الثانية: قول وفعل الصحابي؛ حيث قال ابن عمر رضي الله عنهم: "الوتر ركعة" وكان أبو بكر وعمر وعثمان وزيد وعائشة رضي الله عنهم يوترون بواحدة، فإن قلتَ: لمَ كان أقلُّه ركعة؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تحصيل أجر الوتر، دون مشقة في تكثيره، وهذا لطف من الله بعباده، تنبيه: قوله: "ولا يُكره الوتر بها" يُشير إلى قول بعض العلماء: إنه يُكره الوتر بركعة واحدة، ولم أجد دليلًا قويًا عليه.

(7)

مسألة: أكثر الوتر: إحدى عشرة ركعة؛ للسنة الفعلية: حيث كان النبي صلى الله عليه وسلم يصليها هكذا كما قالت عائشة رضي الله عنها، فإن قلتَ: إن أكثره: ثلاث عشرة ركعة؛ للسنة الفعلية، حيث إنه صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك قلتُ: إن رواية عائشة أقرب إلى الصحة؛ لكونها ترى تهجُّده صلى الله عليه وسلم في الليل، ثم إنه يُمكن الجمع بين ذلك: بأن من قال: إنها ثلاث عشرة ركعة قد حسب الركعتين الخفيفتين اللَّتين كان صلى الله عليه وسلم يفتتح بهما تهجُّده، أو كان قد حسب ركعتي الفجر الراتبة معها، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف؟ قلتُ: سببه: "تعارض السنة الفعلية مع السنة القولية" فعندنا: يُرجِّح ما روته عائشة؛ لكونها أعلم بأحواله في الليل، وهذه قرينة للترجيح، وعندهم يُرجِّح ما رواه غيرها ولا يُعمل بتلك القرينة.

ص: 547

من كل ثنتين (ويوتر بواحدة)؛ لقول عائشة: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالليل إحدى عشرة ركعة يوتر منها بواحدة" وفي لفظ: "يُسلِّم بين كل ركعتين ويوتر بواحدة" هذا هو الأفضل،

(8)

وله أن يسرد عشرًا، ثم يجلس فيتشهَّد، ولا يُسلِّم، ثم يأتي بالركعة الأخيرة، ويتشهَّد، ويُسلِّم (وإن أوتر بخمس أو سبع) سردها و (لم يجلس إلا في آخرها)؛ لقول أم سلمة:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوتر بسبع وبخمس لا يفصل بينهن بسلام ولا كلام" رواه أحمد ومسلم (و) إن أوتر (بتسع) يسرد ثمانيًا ثم (يجلس عقب) الركعة (الثامنة ويتشهَّد) التشهد الأول (ولا يُسلِّم ثم يصلي التاسعة ويتشهَّد ويسلم)؛ لقول عائشة: "ويصلي تسع ركعات لا يجلس فيها إلا في الثامنة، فيذكر الله ويحمده ويدعوه وينهض ولا يسلِّم، ثم يقوم فيصلي التاسعة، ثم يقعد فيذكر الله ويحمده ويدعوه، ثم يُسلِّم تسليمًا يُسمعناه"

(9)

(وأدنى الكمال) في

(8)

مسألة: الأفضل - إذا أراد أن يوتر بإحدى عشرة ركعة بدون سرد -: أن يصلي ركعتين، ثم يُسلِّم، ثم يصلي ركعتين ثم يُسلِّم، وهكذا، حتى يُصلي عشر ركعات بخمس تسليمات، ثم يوتر ويصلي واحدة ثم يُسلِّم؛ للسنة الفعلية؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك، فإن قلتَ: لمَ كان ذلك هو الأفضل؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه كثرة عمل، وقِلَّة مشقة.

(9)

مسألة: إذا أراد أن يوتر بإحدى عشرة ركعة سردًا: فإنه يصلي عشر ركعات بدون جلوس، فإذا كان في آخر الركعة العاشرة: جلس للتشهد الأول، ثم يقوم ويأتي بالركعة الحادية عشرة، ثم يتشهَّد ويُسلِّم، وإذا أراد أن يوتر بخمس ركعات سردًا: فإنه يصلي الخمس ولا يجلس إلا في آخرها، فيتشهَّد ويُسلِّم، وإن أراد أن يوتر بسبع ركعات سردًا: فعليه أن يصلي السبع ولا يجلس إلا في آخرها فيتشهَّد ويُسلِّم، وإن أراد أن يوتر بتسع ركعات سردًا: فإنه يصلي ثمان ركعات سردًا بدون جلوس، ثم يجلس في آخر الركعة الثامنة ويتشهَّد التشهد الأول ثم يقوم ليصلي التاسعة، ثم يجلس ويتشهَّد ويُسلِّم؛ للسنة الفعلية؛ حيث=

ص: 548

الوتر (ثلاث ركعات بسلامين) فُيصلِّي ركعتين ويُسلِّم، ثم الثالثة؛ لأنَّه أكثر عملًا، ويجوز أن يسردها بسلام واحد

(10)

(يقرأ) من أوتر بثلاث (في) الركعة (الأولى بـ) سورة (سبّح وفي) الركعة (الثانية بـ) سورة: قل يا أيها (الكافرون وفي) الركعة (الثالثة بـ) سورة (الإخلاص) بعد الفاتحة

(11)

(ويقنت فيها) أي: في الثالثة (بعد

كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك في التسع، والسبع والخمس - كما روت ذلك عائشة وأم سلمة رضي الله عنهم ويفعل من أوتر بإحدى عشرة كما يفعل من أوتر بتسع؛ قياسًا عليه، فإن قلتَ: لمَ يُباح للمكلف أن يفعل ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن هذا فيه مراعاة أحوال الناس وقدراتهم.

(10)

مسألة: أدنى الكمال في صلاة الوتر: ثلاث ركعات تكون في سلامين: فيصلي ركعتين ثم يتشهد ويُسلِّم، ثم يصلي ركعة واحدة فيتشهَّد ويُسلِّم، وإن جعل الثلاث بسلام واحد: فلا بأس، للسنة الفعلية وهي من وجوه: أولها: قول عائشة: "كان صلى الله عليه وسلم يوتر بثلاث لا يقعد إلا في آخرهن"، ثانيهما: قول ابن عمر رضي الله عنه: "كان صلى الله عليه وسلم يفصل بين شفعه ووتره بتسليمة" فإن قلتَ: لمَ كان أدنى الكمال: ثلاث بسلامين؟ قلتُ: للمصلحة: حيث إن ذلك فيه كثرة عمل، يؤدِّي إلى كثرة الأجر، وفيه تقوية على الركعة الأخيرة لوجود الدعاء فيها غالبًا. فإن قلتَ: لمَ لا يتشهَّد بتشهدين من أراد أن يصلي الثلاث بسلام واحد؟ قلتُ: لئلا تشبه صلاته هذه صلاة المغرب، وقد نهى صلى الله عليه وسلم أن تُشبَّه صلاة الوتر بصلاة المغرب.

(11)

مسألة: يُستحب لمن أوتر بثلاث: أن يقرأ في الأولى بسورة: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} وفي الثانية بسورة: {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} وفي الثالثة بسورة الإخلاص وهي: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ويقرأ تلك السور في الركعات بعد قراءته للفاتحة؛ للسنة الفعلية؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك كثيرًا، فإن قلتَ: لمَ استحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن تلك السور قد تضمَّنت تجديد التوحيد الله تعالى، وتجديد الإيمان بذلك وإثبات صفات الكمال لله تعالى، وأنَّه متفرِّد بخلق=

ص: 549

الركوع) ندبًا؛ لأنَّه صحَّ عنه صلى الله عليه وسلم من رواية أبي هريرة وأنس وابن عباس، وإن قنت قبل الركوع بعد القراءة: جاز؛ لما روى أبو داود عن أُبي بن كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقنت في الوتر قبل الركوع،

(12)

فيرفع يديه إلى صدره ويبسطهما وبطونهما نحو السماء، ولو كان مأمومًا

(13)

(فيقول) جهرًا: (اللهم اهدني فيمن هديت) أصل

السموات والأرض، وعلى تأييد النبي صلى الله عليه وسلم وتثبيته على تلقِّي الوحي، وأن الله قد أعطاه شريعة سمحة، وعلى أن دين الإسلام لا يمكن أن يخالطه شيء من دين الكفار، وإذا قرأ المسلم سورة "الكافرون" فكأنه قرأ ربع القرآن؛ وإذا قرأ سورة الإخلاص فكأنه قرأ ثلث القرآن - كما ورد - وقد أطال ابن القيم الكلام في ذلك في "زاد المعاد"(1/ 316).

(12)

مسألة: يُستحب أن يقنت بعد رفعه من ركوع الركعة الثالثة، وإن قنت قبل الركوع: فلا بأس؛ للسنة الفعلية؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم لا يقنت بعد الركوع، وقد روي عنه أنه قنت قبله - كما ورد عن ابن مسعود وأُبي - فإن قلتَ: لمَ كان المستحب أن يكون القنوت بعد الركوع؟ قلتُ: لكونه قد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم كثيرًا، ولأن قنوته صلى الله عليه وسلم قبل الركوع قد ضعَّفه كثير من العلماء كالنووي في "المجموع" (4/ 454) وقال ابن قدامة في "المغني (2/ 582) ": إنه قد تُكلِّم فيه، ثم إن القنوت قبل الركوع يُشارك القراءة في القيام، والقيام مخصَّص للقراءة، فيكون القنوت في غير موضعه فيكون القنوت بعد الركوع أقوى ثبوتًا، وأوفق محلًا وموضعًا فاستُحب.

(13)

مسألة: يُستحب أن يرفع يديه إلى صدره - إذا أراد القنوت - ويضم إحداهما إلى الأخرى، ويجعل راحتي كفيه مبسوطتين وموجَّهتين إلى السماء: سواء كان مأمومًا أو إمامًا أو منفردًا؛ للسنة الفعلية؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك عند قنوته، فإن قلتَ: لمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة: حيث إن هذه الهيئة في اليدين أقرب إلى الاستجابة؛ حيث إنه بذلك يستجدي الله تعالى بيديه؛ حيث إنهما آلة أخذ الخيرات.

ص: 550

الهداية: الدِّلالة، وهي من الله التوفيق والإرشاد (وعافني فيمن عافيت) أي: من الأسقام والبلايا، والمعافاة: أن يعافيك الله من الناس، ويُعافيهم منك (وتولَّني فيمن توليت) الولي: ضد العدو: من تولَّيت الشيء: إذا اعتنيت به، أو من وليته: إذا لم يكن بينك وبينه واسطة (وبارك لي فيما أعطيت) أي: أنعمت (وقني شرَّ ما قضيت إنك تقضي ولا يقضى عليك، إنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت) رواه أحمد والترمذي وحسَّنه من حديث الحسن بن علي قال: "علَّمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهن في قنوت الوتر" وليس فيه: "ولا يعز من عاديت" ورواه البيهقي وأثبتها فيه، ورواه النَّسَائِي مختصرًا وفي آخره:"وصلى الله على محمد"(اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وبعفوك من عقوبتك وبك منك) إظهارًا للعجز والانقطاع (لا نحصي) أي: لا نطيق ولا نبلغ ولا ننهي (ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك) اعترافًا بالعجز عن الثناء وردًا إلى المحيط علمه بكل شيء جملةً وتفصيلًا، رواه الخمسة عن علي "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول ذلك في آخر وتره" ورواته ثقات (اللهم صلِّ على محمد)؛ لحديث الحسن السابق، ولما روى الترمذي عن عمر:"الدعاء موقوف بين السماء والأرض لا يصعد منه شيء حتى تصلي على نبيك" وزاد في "التبصرة"(وعلى آل محمد) واقتصر الأكثرون على الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم

(14)

(ويمسح وجهه بيديه) إذا فرغ من دعائه هنا، وخارج الصلاة؛

(14)

مسألة: يُستحب أن يقنت ويدعو قائلًا: "اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولِّني فيمن تولِّيت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شرَّ ما قضيت، إنك تقضي ولا يُقضى عليك، إنه لا يذل من واليت، ولا يعزُّ من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت، اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبعفوك من عقوبتك، وبك منك لا نحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وصلى الله على نبينا محمد"؛ فإن شاء أن يدعو بعده بما أراد فلا بأس بشرط:=

ص: 551

لقول عمر: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع يديه في الدعاء لم يحطُّهما حتى يمسح بهما وجهه" رواه الترمذي،

(15)

ويقول الإمام: "اللهم اهدنا .. " إلى آخره، ويؤمِّن مأموم

عدم الإطالة فيه إلا برضى المأمومين، فإن لم يرضوا: فلا يجوز؛ لقواعد: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال الحسن بن علي: "علَّمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهنَّ في الوتر: اللهم اهدني فيمن هديت .... " الخ كما أخرجه الترمذي، وزاد النَّسَائِي:"وصلى الله على نبينا محمد" وهي زيادة ثقة مقبولة، الثانية: السنة الفعلية؛ حيث قال علي رضي الله عنه: "إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في آخر وتره: "اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك" الخ؛ الثالثة: قول الصحابي وهو من وجهين: أولهما: قول عمر رضي الله عنه: "الدعاء موقوف بين السماء والأرض لا يصعد منه شيء حتى تصلي على نبيك" ثانيهما: أن عمر رضي الله عنه كان يزيد في الدعاء قائلًا: "اللهم اغفر لنا وللمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات، وألّف بين قلوبهم، وأصلح ذات بينهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم، اللهم العن الكفار الذين يصدون عن سبيلك، ويكذبون رسلك، ويُقاتلون أوليائك، اللهم خالف بين كلمتهم، وزلزل أقدامهم وأنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين" الخ فإن قلتَ: لمَ يُستحب هذا الدعاء والقنوت في الوتر؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن هذا الدعاء جامع الخيري الدنيا والآخرة، ولمنافع الفرد والمجتمع الإسلامي، وفيه تجديد للتوحيد والإيمان، والإقرار بحكم الله المطلق، وأن العزيز الحقيقي هو من أعزَّه الله في طلب العلم والعمل به وتعليمه، وأدخله الجنة، وأن الذليل الحقيقي هو: من أذلَّه الله تعالى في النار يوم القيامة "فمن أُدخل الجنة فقد فاز".

(15)

مسألة: لا يُشرع مسح الوجه باليدين بعد الفراغ من دعاء الوتر ولا غيره؛ للاستصحاب؛ حيث إن الأصل: عدم مسح الوجه هنا ولا في غيره، فنستصحب ذلك، ويبقى على النفي الأصلي، فإن قلتَ: لمَ لا يُشرع ذلك؟ قلتُ: لأن المسح يُعتبر من الحركات الزائدة التي ليست من جنس الصلاة فإن قلتَ: يُستحب أن=

ص: 552

إن سمعه

(16)

(ويُكره قنوته في غير الوتر) روي عن ابن مسعود، وابن عباس، وابن عمر، وأبي الدرداء رضي الله عنهم، وروى الدارقطني عن سعيد بن جبير قال:"أشهد أني سمعتُ ابن عباس يقول: "إن القنوت في صلاة الفجر بدعة" (إلا أن ينزل بالمسلمين نازلة) من شدائد الدهر (غير الطاعون فيقنت الإمام) الأعظم استحبابًا (في الفرائض) غير الجمعة، ويجهر به في الجهرية، ومن ائتم بقانت في فجر تابع الإمام وأمَّن، ويقول - بعد وتره -: "سبحان الملك القدوس" ثلاثًا، ويمدُّ بها صوته في الثالثة

(17)

(والتراويح) سنة مؤكَّدة، سُمِّيت بذلك؛ لأنهم يصلون أربع ركعات،

يمسح وجهه هنا، وهو ما ذكره المصنف هنا؛ للسنة الفعلية، حيث كان صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك - كما قال عمر، قلتُ: هذا ضعَّفه كثير من العلماء كالبيهقي في "سننه"(2/ 412)، والنووي في "المجموع"(3/ 501) وابن تيمية في مجموع فتاويه، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "هل حديث عمر ضعيف أو لا؟ " فعندنا: نعم، وعندهم: لا.

(16)

مسألة: إذا كان من يدعو ويقنت منفردًا: فإنه يُفرد الضمير قائلًا: "اللهم اهدني

" أما إن كان إمامًا: فإنه يجمع الضمير قائلًا: "اللهم اهدنا

" والمأموم يقول - في آخر كل جملة -: "آمين" ويقول عند قوله: "إنك تقضي ولا يقضى عليك

": "سبحانك"؛ لقاعدتين: الأولى: السنة التقريرية؛ حيث قال ابن عباس رضي الله عنه: "قنت رسول الله وأمَّن من خلفه" ولم يُنكر عليهم، الثانية: المصلحة؛ حيث إن الإمام يجمع الضمير؛ لإدخال المأمومين معه في الدُّعاء؛ لإشراكهم في تحصيل الثواب.

(17)

مسألة: يكره القنوت والدعاء بالصفة السابقة في غير صلاة الوتر لغير حاجة، أما إن وُجدت حاجة مثل النوازل التي تنزل بالمسلمين وتخيفهم كعدو، وقحط، وجراد، وأمراض مستعصية كطاعون، وسرطان، ونحو ذلك: فإنه يُستحب أن يدعو إمام المسلمين أو نائبه بزوال ذلك ورفعه عن المسلمين، وهذا الاستحباب=

ص: 553

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

يكون في كل صلاة: في فجر وجمعة وغيرهما يجهر في الجهرية، ويُسرُّ في السِّرِّية، ويؤمِّن المأموم إذا سمع إمامه يقنت في فجر وغيره؛ لقواعد: الأولى: السنة الفعلية؛ حيث إنه عليه السلام قنت شهرًا كاملًا في الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر على "رُعَل" و "ذكوان" و "عُصَيَّة" ويؤمِّن من خلفه، فلما تابوا: توقف؛ وهذا يُحمل على الحاجة؛ لأنَّه صلى الله عليه وسلم توقف بعد توبتهم، ويُدخل صلاة الجمعة فيها؛ لأنها تنزَّل منزلة صلاة الظهر، وهو الذي تولى القنوت، ولم يُنب عنه أحدًا، الثانية: القياس، بيانه: كما أنه يُدعى برفع ضرر العدو والخوف والقحط والجراد فكذلك يُدعى برفع الطاعون وغيره من الأمراض التي عمَّت والجامع: دفع الضرر عن المسلمين في كل، الثالثة: قول الصحابي؛ حيث ثبت عدم مشروعية القنوت في غير الوتر عن ابن عباس، وابن مسعود، وابن عمر وكثير من الصحابة رضي الله عنهم إذا لم توجد حاجة، فإن قلتَ: لمَ كره القنوت في غير الوتر لغير حاجة؟ قلتُ: لورود تخصيصه في عبادة خاصة وهي: الوتر، فوجوده في عبادة أخرى يكون مكروهًا؛ لعدم موافقته لموضعه، فإن قلتَ: إنه لا يُقنت لرفع مرض الطاعون - وهو ما ذكره المصنف هنا -؛ للتلازم؛ حيث إن المطعون شهيد، فيلزم من الدعاء برفعه: حرمان هذا المطعون من الحصول على أجر الشهادة، وهذا فيه ضرر قلتُ: إن النص - وهو: "أن المطعون شهيد" - لا يلزم منه: أنه لا يُدعى برفع هذا المرض عنه، وإنما يُخبر أن من مات فيه: فله أجر الشهداء فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "الخلاف في المراد بعبارة: "المطعون شهيد" الواردة في الحديث" فعندنا: مراده الإخبار بأن من مات شهيد فقط، وعندهم: لا، فإن قلتَ: لا يُقنت في صلاة الجمعة - هو ما ذكره المصنف هنا -؛ لمفهوم العدد من السنة الفعلية السابقة التي في "رعل" ومن معه؛ حيث لم يذكر راويها صلاة الجمعة قلتُ: إن صلاة الجمعة مُنزَّلة بمنزلة صلاة الظهر في غالب أحكامها ومنها القنوت، ولم تذكر، لندرتها بالنسبة للصلوات الخمس فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "الخلاف في الجمعة هل=

ص: 554

ويتروَّحون ساعة، أي: يستريحون

(18)

(عشرون ركعة)؛ لما روى أبو بكر: عبد العزيز في "الشافي" عن ابن عباس: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي في شهر رمضان عشرين ركعة"

(19)

(تُفعل) ركعتين ركعتين (في جماعة مع الوتر) بالمسجد أول الليل (بعد

تحسب من الصلوات الخمس أو لا؟ " فعندنا: نعم، وعندهم لا، فإن قلتَ: لمَ كان الذي يتولى القنوت في الفرائض هو الإمام فقط أو نائبه؟ قلتُ: لأن هذا القنوت الذي يكون في الفرائض لأمر نزل بالمسلمين عامة، والذي له الولاية العامة هو الإمام الأعظم أو من يُنيبه، وهو الذي يُقدِّر هذا الأمر هل هو يضر بالمسلمين عامة أو لا؟ تنبيه: قوله: "ويقول بعد وتره" إلى آخره قلتُ: هذا مخالف للوارد: بأن يختم قنوته بالصلاة على النبي، ولا يُجهر في شيء في سجوده، وإذا فرغ من صلاة الوتر؛ لا يُقال شيء للفراغ منه فلا محلَّ؛ لقوله: "سبحان الملك القدوس" جهرًا.

(18)

مسألة: صلاة التراويح سنة مؤكدة؛ للإجماع؛ حيث أجمع الصحابة على أنها سنة مؤكدة ومستند هذا الإجماع هو: السنة الفعلية والقولية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم فعلها في ليلتين أو ثلاث بأصحابه ثم صلاها في بيته وقال: "خشيتُ أن تُفرض عليكم فتعجزوا عنها" وقال: "من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا: غفر له ما تقدَّم من ذنبه" فإن قلتَ: لمَ سُمّيت بذلك؟ قلتُ: لأن المصلين لها يستريحون إذا سلَّموا من ركعتين أو أربع، والمقصد من مشروعيتها واضح.

(19)

مسألة: عدد ركعات صلاة التراويح: عشرون ركعة - غير الوتر -؛ لقاعدتين: الأولى: إجماع الصحابة السكوتي؛ حيث كان الناس في عهد عمر يقومون في شهر رمضان بعشرين ركعة - كما رواه السائب بن يزيد رضي الله عنه الثانية: فعل الصحابي؛ حيث إن عليًا رضي الله عنه كان يقوم الليل بعشرين ركعة، فإن قلتُ: لم شرع هذا العدد؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إنه كلما زادت الركعات في هذا الوقت من الليل في زمن رمضان زاد الأجر والثواب، تنبيه: حديث ابن=

ص: 555

العشاء) والأفضل: وسنتها (في رمضان)؛ لما في "الصحيحين" من حديث عائشة: "أنه صلَّاها ليالي فصلَّوها معه، ثم تأخر وصلى في بيته باقي الشهر" وقال: "إني خشيتُ أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها" وفي البخاري: "أن عمر رضي الله عنه جمع الناس على أبي بن كعب فصلى بهم التراويح"

(20)

وروي أحمد والترمذي وصحَّحه: "من

عباس رضي الله عنه الذي ذكره المصنف هنا في سنده إبراهيم بن عثمان قد اتفق أئمة الحديث على ضعفه، تنبيه آخر: لقد اختلفت الروايات في عدد ركعات صلاة التراويح في عهد عمر رضي الله عنه: فروى السائب: "عشرين ركعة" وروى يزيد بن رومان: "ثلاثًا وعشرين" وروى نافع مولى ابن عمر رضي الله عنهم: "تسعًا وثلاثين" وروى أُبي: "إحدى عشرة ركعة" يوترون منها بثلاث، وكل طائفة من العلماء اختارت ما صحَّ عندها - كما قال الباجي في "المنتقى"(1/ 208)، ويمكن الجمع بين تلك الروايات بأن يُقال: إن الظاهر أن عمر رضي الله عنه: أمر أولًا أبي بالصلاة إحدى عشرة لما كان الناس يقوون على الوقوف وقراءة آيات طويلة في كل ركعة، وكُلَّما ضعف الناس: أمر بتقصير القراءة وتكثير الركعات، وهكذا حتى وصلت إلى ست وثلاثين - غير الشفع والوتر - هذا ما جمع به العلماء المحققون بين تلك الروايات كالباجي وابن تيمية فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض الآثار" فرجَّحنا: أنها عشرين؛ لكونه صح عندنا، وعندهم: رجحوا ما صح عندهم من الآثار.

(20)

مسألة: يُستحب أن تُصلَّى التراويح مثنى مثنى في جماعة في المسجد بعد السنة الراتبة التي بعد صلاة العشاء، ويستمر وقتها إلى طلوع الفجر الصادق؛ لإجماع الصحابة السكوتي، حيث كان الصحابة يُصلُّونها هكذا في عهد عمر رضي الله عنه، دون أن يُنكر أحد ذلك - كما سبق في مسألة:(19) - فإن قلتَ: لمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تنشيط المسلمين على العبادة وإظهار للإسلام، فإن قلتَ: لمَ كان الأفضل أن يصلي راتبة العشاء قبل التراويح؟ قلتُ:=

ص: 556

قام مع الإمام حتى ينصرف كُتب له قيام ليلة"

(21)

(ويوتر المتهجِّد) أي: الذي له صلاة بعد أن ينام (بعده) أي: بعد تهجُّده؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترًا" متفق عليه (فإن تبع إمامه) فأوتر معه، أو أوتر منفردًا، ثم أراد التهجُّد: لم ينقض وتره، وصلى ولم يوتر، وإن (شفعه بركعة) أي: ضمَّ لوتره - الذي تبع إمامه فيه - ركعة: جاز، وتحصل فضيلة متابعة إمامه، وجعل وتره آخر صلاته

(22)

لأن السنة الراتبة متأكدة مؤقتة بعد العشاء، ولأن التراويح تختتم بالوتر، ولا صلاة بعده. [فرع]: صلاة المنفرد التراويح في بيته أفضل إذا كان أصلح لعبادته، وأسلم له من الرياء والسمعة، وإذا كان لا يؤدّي تخلُّفه عن المسجد إلى تعطيل الجماعة؛ للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه الحصول على أفضل الأعمال وخيرها مع مراعاة أحواله.

(21)

مسألة: يُستحب للمأموم في صلاة التراويح: أن يوتر مع إمامه؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "من قام مع الإمام حتى ينصرف كُتب له قيام ليلة" ومعلوم: أن الإمام في التراويح لا ينصرف حتى يُوتر، فإن قلتَ: لمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن الدعاء مع الجماعة أقرب إلى الاستجابة.

(22)

مسألة: إذا كان المأموم معتادًا على أن يتهجَّد ويصلي في آخر الليل: فإن شاء ينصرف بعد فراغ الإمام من التراويح والشفع، ولا يوتر معه، ثم يقوم آخر الليل فُيصلِّي ما شاء ثم يختم ذلك بالوتر، وإن شاء أوتر مع إمامه، وإذا قام آخر الليل يُصلِّي ولا يُوتر، وإن شاء أوتر مع إمامه، فإذا سلَّم إمامه من الوتر: قام هو وأتى بركعة تشفع ذلك الوتر، ثم يُسلِّم - وهذا يُسمَّى نقض الوتر -، فإذا قام يصلي آخر الليل: ختم صلاته بوتر؛ لقواعد: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا" وهو قد حقَّق ذلك بالطريقة الأولى والثالثة هنا الثانية: السنة الفعلية؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم يُصلِّي بعد الوتر بركعتين ليلًا ولم يوتر=

ص: 557

(ويُكره التنفل بينها) أي: بين التراويح، روى الأثرم عن أبي الدرداء: أنه أبصر قومًا يُصلُّون بين التراويح فقال: "ما هذه الصلاة أتصلِّي وإمامك بين يديك؟، ليس منا من رغب عنَّا"

(23)

و (لا) يُكره (التعقيب) وهو: الصلاة (بعدها) أي: بعد

بعدهما، وهذا مثبت للطريقة الثانية هنا، الثالثة: المصلحة؛ حيث إنه إذا أوتر مع إمامه: - سواء شفعه أو لا -: فإنه يتحصَّل على أجر الوتر، وأجر متابعة الإمام، والانصراف معه، وأجر التهجُّد آخر الليل، وهذا فضل عظيم، فإن قلتَ: إن قيام المأموم المتهجِّد ليأتي بركعة تشفع له الوتر الذي صلَّاه مع إمامه يُعتبر مخالفًا فيه إمامه، وهذا حرام؛ حيث نهى الشارع عن ذلك قائلًا:"فلا تختلفوا عليه" والنهي مطلق، فيقتضي التحريم، وخالف أيضًا ما نواه أولًا من أنه سيصلي وترًا فصلى شفعًا قلتُ: هذه ليست بمخالفة للإمام؛ لأن هذا لما دخل مع إمامه لصلاة الوتر نوى قبل الدخول فيها أنه سيُصلِّيها شفعًا، لا وترًا، ففعل ما نواه؛ قياسًا على المقيم إذا صلى وراء مسافر فإنه ينوي هذا المقيم أنه سيتم الصلاة، فإذا سلم المسافر من ركعتين: قام المقيم ليتم صلاته؛ وقد أمر عليه السلام بذلك لما كان في مكة ثمان عشرة ليلة - بعد الفتح - يصلي ركعتين، ويقول لأهل مكة:"صلوا أربعًا فإنا سُفُر" فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "هل قيام المأموم ليشفع وتره تُعتبر مخالفة للإمام المنهي عنها أو لا؟ " فعندنا: لا، وعندهم: نعم.

(23)

مسألة: يُكره أن يُصلِّي المأموم في التراويح نافلة بعد كل تسليمة من ركعتين أو أربع؛ لقول الصحابي؛ حيث أنكر أبو الدرداء ذلك، فإن قلتَ: لمَ كُرِه ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه نوع مفارقة للإمام والرغبة عنه - وقد أشار أبو الدرداء إلى ذلك - وفيه مشقة على من فعل ذلك، مما قد يؤدِّي إلى انقطاعه عن مواصلة صلاة التراويح مع الإمام، فدفعًا لذلك: كره.

ص: 558

التراويح والوتر (في جماعة)؛ لقول أنس رضي الله عنه: "لا ترجعون إلا لخير ترجونه"، وكذا: لا يُكره الطواف بين التراويح،

(24)

ولا يُستحب للإمام الزيادة على ختمة في التراويح إلا أن يؤثروا زيادة على ذلك، ولا يُستحب لهم أن ينقصوا عن ختمة؛ ليحوزوا فضلها

(25)

(ثم) يلي الوتر في الفضيلة (السنن الراتبة) التي تفعل مع

(24)

مسألة: إذا فرغ المصلي من صلاة التراويح مع الوتر: فلا يُكره أن يفعل بعد ذلك خيرات من صلاة تطوع، سواء كان ذلك منفردًا أو مع جماعة، أو طواف على الكعبة؛ لقول الصحابي؛ حيث قال أنس رضي الله عنه:"لا ترجعون إلا الخير ترجونه" فأثبت استحباب فعل الخيرات؛ لأن الاستثناء من النفي إثبات، وهذا شامل للصلاة والطواف وغيرهما، مع الأفراد، أو مع الجماعة، وخيرية هذا غير خاف على أحد، وهذا هو المقصد الشرعي.

(25)

مسألة: يُستحب للإمام أو غيره: أن يختم القرآن في التراويح، بأن يرفع يديه - بعد آخر سورة "الناس" وقبل الركوع - ويدعو لنفسه ولوالديه ومشايخه، وكل من له حق عليه، وللسلطان بأن يعمل بالكتاب والسنة، ولجميع المؤمنين، ويجمع أهله وغيرهم عند دعاء ختم القرآن، وإن كان إمامًا فيُسمع المأمومين جميع القرآن في شهر رمضان، ولا يزيد عن ختمة واحدة إلا أن يُريد أغلب المصلِّين، ولا يُستحب أن يُنقص عن ختمة واحدة؛ لقاعدتين: الأولى: فِعل الصحابي؛ حيث إن أنسًا رضي الله عنه كان إذا ختم القرآن جمع أهله وولده، الثانية: المصلحة؛ حيث إن القرآن قد أنزل في شهر رمضان، وكان جبريل عليه السلام يُراجع القرآن مع النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان، فكان من المناسب قراءته كله في هذا الشهر، وأيضًا من المصلحة أن يُدعى بدعاء ختم القرآن لينال القارئ والمستمع الفضل والأجر في ذلك، لعلَّ الله أن يستجيب لهم الدعاء فينالوا خيري الدنيا والآخرة.

ص: 559

الفرائض وهي: عشر ركعات: (ركعتان قبل الظهر، وركعتان بعدها، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، وركعتان قبل الفجر)؛ لقول ابن عمر رضي الله عنه: "حفظتُ من رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر ركعات: ركعتين قبل المظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب في بيته، وركعتين بعد العشاء في بيته، وركعتين قبل الصبح، كانت ساعة لا يدخل على النبي صلى الله عليه وسلم فيها أحد، حدَّثتني حفصة: أنه كان إذا أذن المؤذن وطلع الفجر: صلى ركعتين" متفق عليه

(26)

(وهما) أي: ركعتا الفجر (آكدها) أي: أفضل

(26)

مسألة: السنن الرواتب أفضل السنن - بعد صلاة الوتر - وهي: عشر ركعات: ركعتان قبل الظهر، وركعتان بعدها، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، وركعتان قبل الفجر؛ ويُستحب أن تكون هذه السنن في البيت وكذا: السنن المطلقة؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "عليكم بالصلاة في بيوتكم، فإن خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة" فإنه أثبت أن المستحب في النوافل أن تكون في البيوت، ونفى ذلك في الفرائض؛ لأن الاستثناء من الإثبات نفي، وإذا استثنينا المكتوبة: لم يبق إلا السنن والنوافل، وهي عامة للسنن الرواتب المقيدة، والسنن المطلقة، الثانية: السنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد صلَّى السنن الرواتب العشر في بيته - كما رواه ابن عمر رضي الله عنه فإن قلتَ: لمَ استُحبَّت تلك الركعات؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إنه يحصل فيها سدُّ الخلل والنقص الذي يمكن حصوله في الفرائض، فيكمل أجر العبد، وفيها زيادة شكر الله تعالى على نعم حصلت في أوقات الصلوات - كما سبق بيانه - فإن قلتَ: لمَ لم يكن لصلاة العصر راتبة؟ قلتُ: للنهي عن الصلاة بعد العصر، وللاكتفاء براتبة الظهر البعدية، فإن قلتَ: لمَ يُستحب أن تكون تلك السنن في البيت؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه كمال خشوع وإخلاص وفيه أيضًا إنزال الرحمة على أهل البيت، وابتعاد عن الرياء والعجب، وإبعاد للبيت عن المقبرة حيث قال صلى الله عليه وسلم:"لا تجعلوا بيوتكم مقابر" أي صلُّوا بها، ولا تجعلوها كالمقابر لا يُصلَّى بها، وفيه أيضًا التسبُّب في خروج الشيطان من البيت، =

ص: 560

الرواتب؛ لقول عائشة رضي الله عنها: "لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم على شيء من النوافل أشدَّ تعاهدًا منه على ركعتي الفجر" متفق عليه، فيُخيَّر فيما عداهما وعدا الوتر سفرًا، ويُسنّ تخفيفهما، واضطجاع بعدهما على الأيمن،

(27)

ويقرأ في الأولى - بعد الفاتحة -: {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} وفي الثانية: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} أو يقرأ في الأولى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ} ، وفي الثانية:{قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ} الآية،

(28)

ويلي ركعتي الفجر: ركعتا المغرب، ويُسنُّ أن يقرأ فيهما بـ "الكافرون"

والتسبُّب في اقتداء من في البيت بتلك الصلاة، بخلاف الفريضة: ففيها مشاركة الناس فيها، وهي مظهر من مظاهر الإسلام.

(27)

مسألة: آكد السنن الرواتب: ركعتا الفجر، وهما يُفعلان في الحضر والسفر، وكذا: الوتر مثلهما، أما السنن الرواتب الأخرى فتُستحب في الحضر فقط، ويخيَّر في فعلها في السفر، ويُستحب تخفيف ركعتي سنة الفجر، والاضطجاع بعد الفراغ منهما على الشقِّ الأيمن؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها" وهذا يُبيِّن تأكيدها على غيرها على الإطلاق، الثانية: السنة الفعلية؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم لا يترك سنة الفجر والوتر في حضر ولا سفر، وكان يحرص على ركعتي سنة الفجر، وكان: يخففهما ويضطجع بعدهما - كما روت عائشة ذلك - فإن قلتَ: لمَ شرع هذا؟ قلتُ: لأن وقت ركعتي الفجر أفضل الأوقات؛ حيث إنه وقت مشهود، ويُخفِّف فيهما؛ ويضطجع بعدهما: للتهيئة وأخذ بعض الراحة قبل البدء بصلاة الفجر التي يُشرع فيها القراءة من طوال المفصَّل وكونه يضطجع على الأيمن؛ لكونه أكثر راحة في التَّنفس من الشق الأيسر؛ لوجود القلب في جهته.

(28)

مسألة: يُستحب أن يقرأ في الركعة الأولى من ركعتي سنة الفجر بسورة "الكافرون" ويقرأ في الثانية منها بسورة: "الإخلاص" بعد الفاتحة، وإن شاء يقرأ في الأولى بقوله تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ

} [البقرة: 126]، ويقرأ في=

ص: 561

و "الإخلاص"

(29)

(ومن فاته شيء منها) أي: من الرواتب: (سُنَّ له قضاؤه) كالوتر؛ لأنَّه صلى الله عليه وسلم قضى ركعتي الفجر مع الفجر حين نام عنهما، وقضى الركعتين اللتين قبل الظهر بعد العصر، وقيس الباقي، وقال:"من نام عن الوتر أو نسيه فليصله إذا أصبح أو ذكر" رواه الترمذي، لكن ما فات مع فرضه وكثُر: فالأولى تركه إلا سنة فجر،

(30)

ووقت كل سنة قبل الصلاة من دخول وقتها إلى فعلها،

الثانية بقوله: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ}

[آل عمران:64]؛ للسنة الفعلية؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم يقرأ بذلك، فإن قلتَ: لمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تجديد للتوحيد والعقيدة، ونبذ الكفر والكفار.

(29)

مسألة: أفضل السنن الرواتب - بعد ركعتي سنة الفجر: ركعتا سنة المغرب، ويقرأ في الأولى منهما بسورة "الكافرون" ويقرأ في الثانية: بسورة "الإخلاص" بعد الفاتحة؛ لقاعدتين: الأولى: السنة الفعلية؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم يقرأ فيهما بهاتين السورتين، الثانية: القياس؛ بيانه: كما أن سنة الفجر تفضل على السنن الرواتب فكذلك سنة المغرب فيها فضل والجامع: أن كلًّا منهما تقع في آخر فترة من الزمن، فسنة الفجر في آخر الليل، وسنة المغرب في آخر النهار، وما كان آخر شيء فهو فضيلة وهو المقصد منه.

(30)

مسألة: إذا فات شيء من السنن الرواتب - بأن خرج وقت الظهر مثلًا وهو لم يصل سنتها القبلية أو البعدية -: فإنه يُستحب أن يقضيها، إلا إذا كثرت هذه الفوائت من الرواتب: فيُستحب أن لا يقضيها إلا سنة الفجر فيُستحب قضاؤها؛ لقواعد: الأولى: السنة الفعلية؛ حيث قضى صلى الله عليه وسلم راتبة الفجر، وراتبة الظهر لما فاتتا، الثانية: القياس، بيانه: كما يُقضى الوتر حيث أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقضائه، وراتبة الفجر والظهر، فكذلك السنن الرواتب تقضى والجامع: التطوع في كل، الثالثة: المصلحة؛ حيث إنها إذا كثُرت: فإنه يشق قضاؤها، لذلك سقط القضاء، فإن قلتَ: لمَ استحب القضاء هنا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث=

ص: 562

وكل سنة بعد الصلاة: من فعلها إلى خروج وقتها: فسنة فجر وظهر الأوَّلة بعدهما قضاء،

(31)

والسنن غير الرواتب: عشرون: أربع قبل الظهر، وأربع بعدها، وأربع قبل العصر، وأربع بعد المغرب، وأربع بعد العشاء، غير السنن الرواتب، قال جمع: يُحافظ عليها،

(32)

إن ذلك فيه إدراك فعل الخيرات، فإن قلتَ: لمَ تقضى سنة الفجر؟ قلتُ: لتأكُّد سُنِّيتها - كما سبق -.

(31)

مسألة: وقت السنة الراتبة التي قبل صلاة الفجر والظهر: يبدأ من دخول وقتهما، وينتهي بالفراغ من الصلاتين، فلو فُعِلت تلك السنة بعد صلاة الفجر أو بعد صلاة الظهر: لكانت قضاء، ويبدأ وقت السنة الراتبة التي بعد صلاة الظهر، والتي بعد المغرب، والتي بعد العشاء: من حين الفراغ من صلاة الفرض، وينتهي بخروج وقت تلك الصلاة؛ للتلازم؛ حيث يلزم من ربط تلك السنن الرواتب بالفرائض: تعلُّقها بوقتها دخولًا وخروجًا.

(32)

مسألة: السنن غير الرواتب: عشرون ركعة وهي: أربع قبل الظهر، وأربع بعدها، وأربع قبل العصر، وأربع بعد المغرب، وأربع بعد العشاء؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية، وهي من وجوه: أولها: قوله صلى الله عليه وسلم: "من حافظ على أربع قبل الظهر وأربع بعدها: حرَّمه الله على النار" ثانيها: قوله صلى الله عليه وسلم: "رحم الله امرءًا صلى أربعًا قبل العصر" ثالثها: قوله صلى الله عليه وسلم: "من صلى بعد المغرب ست ركعات لم يتكلَّم فيما بينهن بسوء: عُدِلْنَ له بعبادة ثنتي عشرة سنة" الثانية: السنة الفعلية؛ حيث قالت عائشة: كان رسول الله يصلي بأربع، أو بست ركعات بعد العشاء؛ فإن قلتَ: ما الفرق بين هذه السنن والسنن الرواتب؟ قلتُ: السنن الرواتب يُحافظ عليها مع الفرائض؛ ليُكمل بها ما نقص منها، بخلاف غير الرواتب فيُستحب المحافظة عليها، لكن بصورة أخف من المحافظة على السنن الرواتب، وكل فيه خيرا الدنيا والآخرة.

ص: 563

وتُباح ركعتان بعد أذان المغرب

(33)

فصل: (وصلاة الليل أفضل من صلاة النهار)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "أفضل الصلاة بعد المكتوبة صلاة الليل" رواه مسلم عن أبي هريرة، فالتطوع المطلق أفضله: صلاة الليل؛ لأنَّه أبلغ في الإسرار، وأقرب إلى الإخلاص

(34)

(وأفضلها) أي: الصلاة (ثلث الليل بعد نصفه مطلقًا)؛ لما في "الصحيح" مرفوعًا: "أفضل الصلاة صلاة داود: كان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه، وينام سدسه"،

(35)

ويُسنُّ قيام

(33)

مسألة: يُباح أن يُصلَّى بعد أذان المغرب وقبل إقامتها ركعتين نفلًا، ويتحصَّل على الأجر؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم:"صلوا ركعتين قبل المغرب" وكرَّرها، ثم قال في الثالثة:"لمن شاء"، فإن قلتَ: لمَ قال: "لمن شاء" أن مع المصلي يتحصَّل على أجر ذلك؟ قلتُ: خشية أن يتخذها الناس سنة راتبة، وهي ليست كذلك كما قال ذلك ابن القيم، فإن قلتَ: لمَ قال المصنف: "ويباح ركعتان" مع أنه يتحصَّل على أجرهما؟ قلتُ ردًا على من قال: إن السنة بعد أذان المغرب مكروهة.

(34)

مسألة: أفضل وقت لصلاة التطوع المطلق هو الليل؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "أفضل الصلاة بعد المكتوبة: صلاة الليل" فإن قلتَ: لمَ كان ذلك هو الأفضل؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك أكمل في الخشوع والتذلل والخضوع والتفكُّر، وهو أكمل في إسرارها والإخلاص بها الله، وأبعد عن الرياء والسمعة، وهذا لا شكَّ أنه يزيد في الأجر.

(35)

مسألة: أفضل وقت من الليل لصلاة التطوع هو: الثلث الأوسط من النصف الثاني من اللَّيل، أي: يُقسِّم الليل إلى نصفين: فينام في النصف الأول منه، ثم يُقسِّم النصف الثاني إلى ثلاثة أقسام: فينام في الثلث الأول منه، ويقوم في الثلث الثاني، وهو الأوسط، وينام في الثلث الأخير إلى صلاة الفجر فمثلًا لو=

ص: 564

الليل،

(36)

وافتتاحه بركعتين خفيفتين،

(37)

ووقته من الغروب إلى طلوع الفجر،

كان يؤذن للمغرب الساعة السادسة، وتطلع الشمس في الساعة السادسة: فإن الليل يكون اثنتي عشرة ساعة، فينام ست ساعات نصفها، ثم يقسِّم الست الباقية إلى ثلاثة أجزاء، كل جزء تكون مدته ساعتين، فينام ساعتين، ويصلي ساعتين، ثم ينام ساعتين إلى أذان الفجر، وهذا الأخير يُعتبر سدس الليل؛ للسنة القولية؛ حيث بيَّن صلى الله عليه وسلم أن ذلك أفضل الصلاة، وهي صلاة داود عليه السلام، فإن قلتَ: لمَ كان ذلك الأفضل؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك يأتي بعد أخذ قسط كبير من الراحة، وفي وقت من أوقات الاستجابة كما قال صلى الله عليه وسلم:"ينزل ربنا إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجيب له، ومن يسألني فأعطيه، ومن يستغفرني فأغفر له"، ونومه في السدس الأخير من الليل يُكسبه قوة لصلاة الفجر، ولعمله فيما بعدها.

(36)

مسألة: قيام الليل سنة مؤكَّدة؛ للسنة الفعلية؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم يداوم على قيامه، وقد حثَّ الشارع على قيامه بنصوص كثيرة، فإن قلتَ: لمَ شرع ذلك؟ قلتُ: للمصلحة، وقد سبقت.

(37)

مسألة: يُستحب أن يبدأ قيام الليل بركعتين خفيفتين، وأن يتسوَّك قبلهما، وأن يُكبِّر الله، ويحمده، ويُسبِّحه، ويُهلِّل، ويستغفره، وأن يدعو بالهداية والرزق والعافية ويتعوذ من شياطين الإنس والجن، ومن ضيق يوم القيامة، وأن يقرأ القرآن بجهر، أو سر على حسب الحال؛ للسنة الفعلية؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم يبدأ صلاة الليل بركعتين خفيفتين، ويتسوَّك قبلهما، ويُكبر الله ويدعو، ويقرأ القرآن "ورُبَّما أسر ورُبَّما جهر" - كما روت عائشة - فإن قلتَ: لمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تعرُّض لنفحات الله تعالى، وفيه تهيئة وإعداد لصلاة التهجُّد.

ص: 565

ولا يقومه كله إلا ليلة عيد، ويتوجَّه وليلة النصف من شعبان

(38)

(وصلاة ليل ونهار مثنى مثنى)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "صلاة الليل والنهار مثنى مثنى" رواه الخمسة، وصحَّحه الترمذي، و"مثنى مثنى" معدول عن اثنين اثنين، ومعناه: معنى المكرَّر،

(38)

مسألة: وقت صلاة الليل يبدأ من غروب الشمس إلى طلوع الفجر الصادق، فلو صلى بعد المغرب ناويًا أنها صلاة ليل: صحَّ منه ذلك، لكن الأفضل: هو الثلث الأوسط من النصف الثاني من الليل - كما سبق في مسألة (35) -، ويُكره قيام الليل كله؛ لقاعدتين: الأولى: السنة الفعلية؛ حيث قالت عائشة: "ما رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم قام ليلة حتى الصباح" الثانية: التلازم؛ حيث يلزم من تسمية ذلك صلاة ليل: أن يصلي في أي وقت من دخول الليل وهو: من غروب الشمس حتى طلوع الفجر؛ لصدق اسم الليل عليه، فإن قلتَ: لمَ كان وقت الليل كله يصح أن تصلى فيه صلاة الليل؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه توسعة على الناس، ومراعاة أحوالهم، فإن قلتَ: لمَ كره قيامه كله؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن نوم الليل لا يُعوض عنه أيُّ نوم آخر، فلو سهر الليل كله لتضررت صحته، وتعطَّلت مصالحه، وأصبح عالة على المجتمع، فإن قلتَ: لا يكره قيام ليلة العيد كلها، وليلة النصف من شعبان - وهو ما ذكره المصنف هنا -؛ لفعل الصحابي؛ حيث كان ابن عمر رضي الله عنهم يُحيي ليلة العيد، وتقاس ليلة النصف من شعبان عليها قلتُ: لا حجة في فعل ابن عمر؛ لأنَّه معارض للسنة الفعلية التي ذكرتها عائشة، وإذا بطل: بطل ما قيس عليه، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه "تعارض فعل الصحابي مع السنة الفعلية" فعندنا: يعمل بالسنة الفعلية، وهي هنا: من باب التروك، وعندهم: يُعمل بفعل الصحابي؛ لكون الترك ليس بفعل عندهم.

ص: 566

وتكريره لتوكيد اللفظ لا للمعنى،

(39)

وكثرة ركوع وسجود أفضل من طول قيام فيما لم يرد تطويله

(40)

(وإن تطوع في النهار بأربع) بتشهدين (كالظهر: فلا بأس) لما روى أبو داود وابن ماجه عن أبي أيوب: "أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي قبل الظهر أربعًا لا يفصل بينهن بتسليم" وإن لم يجلس إلا في آخرهن: فقد ترك الأولى، ويقرأ في كل ركعة مع الفاتحة سورة، وإن زاد على اثنتين ليلًا، أو أربع نهارًا، ولو جاوز ثمانيًا نهارًا بسلام واحد: صحَّ، وكُرِه في غير الوتر، ويصح التطوع بركعة ونحوها

(41)

(39)

مسألة: يُستحب عند صلاة التطوع في ليل أو نهار: أن يصليها مثنى مثنى بأن يصلي ركعتين، ثم يُسلِّم، ثم يُصلِّي ركعتين ثم يُسلِّم، وهكذا للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم:"صلاة الليل مثنى مثنى" وصلاة النهار مثل صلاة الليل؛ لعدم الفارق، بجامع: أنه في كل منهما صلاة تطوع، ويراد منها التخفيف من باب:"مفهوم الموافقة"، فإن قلتَ: لمَ قال "مثنى مثنى" ولم يقل: اثنتين اثنتين؟ قلتُ: للتخفيف وتيسير النطق بذلك، فإن قلتَ: لمَ كرَّر ذكر "مثنى"؟ قلتُ: لتأكيد اللفظ والمعنى معروف، تنبيه: الحديث ذكره المصنف بزيادة لفظ "والنهار" وهذه الزيادة لم ترد عند أئمة الحديث.

(40)

مسألة: كثرة الركوع والسجود في صلاة التطوع أفضل من طول القيام أو الركوع أو السجود - إذا لم يرد من الشارع مشروعية تطويله -؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "ما من عبدٍ يسجد سجدة إلا كتب الله له بها حسنة، ومحا عنه بها سيئة، ورفع له بها درجة"، فإن قلتَ: لمَ كان ذلك أفضل؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تكثير الحسنات، وتقليل السيئات، ورفع الدرجات كما ورد.

(41)

مسألة: يُباح التطوع بركعة واحدة فقط، ويُباح التطوع بأربع ركعات: سواء بتشهدين كالظهر أو بتشهد واحد، ويُباح الزيادة على ذلك في ليل أو نهار، بسلام واحد أو بسلامين، ويقرأ في كل ركعة بالفاتحة وما تيسَّر من القرآن بعدها؛ لقواعد: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "صلاة الليل مثنى مثنى" وهذا لا يدل على كراهية الزيادة، وإنما هو يُبين الأفضل، وصلاة النهار=

ص: 567

(وأجر صلاة قاعد) بلا عذر (على نصف صلاة قائم)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "من صلى قائمًا فهو أفضل ومن صلى قاعدًا فله نصف أجر صلاة القائم" متفق عليه،

(42)

ويُسنُّ تربُّعه بمحل قيام، وثني رجليه بركوعُ وسجود

(43)

(وتُسنُّ صلاة الضحى)؛ لقول

كصلاة الليل؛ لعدم الفارق في هذا من باب مفهوم الموافقة، الثانية: السنة الفعلية؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم يصلي قبل الظهر أربعًا بسلام واحد، وكان يصلي خمسًا وسبعًا وتسعًا بسلام واحد، الثالثة: فعل الصحابي؛ حيث إن ابن عمر رضي الله عنه قد صلى ركعة وقال: "هو تطوع" فإن قلتَ: لمَ أبيح ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن هذا فيه توسعة على الناس، ومراعاة أحوالهم، تنبيه: قوله: "وكُره في غير الوتر" قلتُ: لم أجد دليلًا على هذه الكراهية.

(42)

مسألة: يصح أن يصلي المسلم صلاة التطوع وهو قاعد مع قدرته على القيام ويكون أجره على النصف من أجر القائم؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "من صلى قائمًا فهو أفضل، ومن صلى قاعدًا فله نصف أجر صلاة القائم" ويلزم من لفظ "أفضل" أن تحمل الصلاة في الحديث على صلاة التطوع؛ لأن "القيام" ركن في صلاة الفرض للقادر عليه لا تصح صلاته إلا به - كما سبق - فإن قلتَ: لمَ صحَّ ذلك قدرته على القيام؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه الحث على فعل الخيرات بأدنى مشقة، وهذا فيه إرشاد المسلم بأن يُشغل نفسه بفعل الطاعات لئلا تشغله بفعل المعاصي. [فرع]: إذا كانت عادته أن يصلي قائمًا، فعرض عليه عارض جعله يصلي قاعدًا: فإن له أجر المصلي قائمًا؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "من مرض أو سافر كتب له ما كان يعمل صحيحًا مقيمًا" فإن قلتَ: لمَ شرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن هذا فيه حثٌّ على المداومة على فعل الطاعات.

(43)

مسألة: طريقة المصلي قاعدًا المستحبَّة هي: أن يكون في حال القيام مُتربِّعًا - بأن يجعل باطن قدمه الأيمن تحت فخذه الأيسر، وباطن قدمه الأيسر تحت =

ص: 568

أبي هريرة رضي الله عنه: "أوصاني خليلي رسول الله صلى الله عليه وسلم: بثلاث: صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أنام" رواه أحمد ومسلم، وتُصلَّى في بعض الأيام دون بعض؛ لأنَّه صلى الله عليه وسلم لم يكن يداوم عليها

(44)

(وأقلَّها ركعتان): لحديث أبي هريرة رضي الله عنه (وأكثرها: ثمان) لما روت أمُّ هانئ: "أن النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح صلى ثمان ركعات، سبحة الضحى" رواه الجماعة

(45)

(ووقتها: من خروج وقت النهي) أي:

فخذه الأيمن ويسترخي - ويجعل كفَّيه على ركبتيه، وأن يُفرِّق بين أصابع كل يد كهيئته وهو راكع، ويُثني رجليه في حال الركوع والسجود، وهو ردّ الركب إلى القبلة؛ لفعل الصحابي؛ حيث إن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم قد فعلا ذلك، فإن قلتَ: لمَ شُرِعت هذه الطريقة؟ قلتُ: ليكون أقرب إلى هيئة القيام والركوع والسجود. [فرع]: يصح أن يصلي المسلم صلاة التطوع وهو مضطجع، وإن كان قادرًا على القيام والقعود، ويكون أجره على النصف من أجر المصلي وهو قاعد؛ للقياس، بيانه: كما تصح صلاة التطوع من القاعد وهو قادر على القيام، وله نصف أجره فكذلك تصح صلاة التطوع من المضطجع وهو قادر على القعود، والجامع: الحث على فعل الطاعات، والإكثار من العبادات في كل، وهو المقصد الشرعي منه.

(44)

مسألة: يُستحب أن يُصلي صلاة الضحى في بعض الأيام دون بعض؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد أوصى بها أبا هريرة رضي الله عنه، والثانية: السنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم كان لا يُداوم عليها، فإن قلتَ: لمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة: حيث إنها سبب في غفران الذنوب، قال صلى الله عليه وسلم:"من حافظ على شفعة الضحى: غفرت له ذنوبه" وقد أطال القرطبي في ذكر ما ورد في ذلك في "تفسيره"(10/ 347) و (12/ 192)، وشرع عدم المداومة عليها: لئلا تشبه الفرائض.

(45)

مسألة: أقل صلاة الضحى: ركعتان، وأكثرها: ثمان ركعات؛ لقاعدتين: الأولى السنة القولية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد أوصى أبا هريرة بأن يصلي ركعتين في:=

ص: 569

من ارتفاع الشمس قدر رمح (إلى قبيل الزوال) أي: إلى دخول وقت النهي بقيام الشمس،

(46)

وأفضله: إذا اشتد الحر

(47)

(وسجود التلاوة) والشكر: (صلاة)؛ لأنَّه

الضحى، الثانية: السنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد صلى ثمان ركعات عام الفتح في مكة - كما روته أم هانئ - فإن قلتَ: لمَ شرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن من صلى ركعتين في الضحى جعله الله من الأوابين - وهم التائبون المغفور لهم - مع ما فيهما من قلة المشقة، وكذلك يكفيان عن الصدقة عن جميع عظام البدن - وهي ثلاثمائة وستون مفصلًا - وشرع أكثره ثمان: ليكمل الأجر والغفران، وقد بسط النووي الكلام في هذا في "المجموع"(4/ 35)، فإن قلتَ: لمَ سُمِّيت بسبحة الضحى؟ قلتُ: لكثرة تسبيحه فيها من باب تسمية الكل بالجزء.

(46)

مسألة: وقت صلاة الضحى يبدأ من بعد خروج الشمس بربع ساعة تقريبًا - وهو: وقت ارتفاع الشمس مقدار رمح - وينتهي قبل دخول وقت صلاة الظهر بربع ساعة تقريبًا - أي: قبل زوال الشمس -؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم لعمرو بن عَبَسَة: "صلِّ صلاة الصبح ثم اقصر عن الصلاة؛ حتى تطلع الشمس، حتى ترتفع؛ فإنها تطلع بين قرني شيطان، وحينئذٍ يسجد لها الكفار، ثم صلِّ؛ فإن الصلاة محضورة مشهودة، حتى يستقل الظل بالرمح، ثم اقصر عن الصلاة؛ فإنه حينئذٍ تُسجر جهنَّم، فإذا أقبل الفيء: فصلِّ" حيث حدَّد هنا بداية ونهاية صلاة الضحى من قوله: "حتى ترتفع" إلى قوله: "ثم صلِّ؛ فإن الصلاة محضورة مشهودة" فإن قلتَ: لمَ كان هذا وقت الضحى؟ قلتُ: لمناسبته لهذه الصلاة؛ لوقوعه بين وقتين منهي عن الصلاة فيهما وهما: "وقت طلوع الشمس" و "وقت زوالها".

(47)

مسألة: أفضل وقت لصلاة الضحى هو: وقت اشتداد حر الشمس في الصيف؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "صلاة الأوابين: حين ترمض الفِصَال" أي: حين لا تقوى الفصال على المشي على خفافها من شدة حرارة الأرض - =

ص: 570

سجود يُقصد به التقرب إلى الله تعالى: له تحريم وتحليل فكان كسجود الصلاة، فيُشترط له ما يُشترط لصلاة النافلة: من ستر العورة واستقبال القبلة والنية وغير ذلك

(48)

(ويُسنُّ) سجود التلاوة (للقارئ والمستمع): لقول ابن عمر رضي الله عنهم "كان النبي يقرأ علينا السورة فيها السجدة، فيسجد ونسجد معه،

والفصال: هي: صغار الإبل - فإن قلتَ: لمَ كان ذلك الأفضل؟ قلتُ: لكثرة المشقة، وكلَّما زادت المشقة والعبادة كُلَّما زاد الأجر.

(48)

مسألة: سجود التلاوة، وسجود الشكر: يعتبران صلاة تطوع، وبناء عليه: يُشترط لهما ما يُشترط لكل صلاة: من طهارة، وستر عورة، واستقبال القبلة والنية؛ للقياس، وهو من وجهين: أولهما: كما أن السجود في الصلاة يُعتبر صلاة، فكذلك سجود التلاوة والشكر مثله، والجامع: وجود التكبير والتسبيح والذكر والدعاء، والتحريم والتسليم، والقصد به وجه الله في كل، ثانيهما: كما أن سجود السهو الذي بعد السلام يُعتبر صلاة يُشترط له ما يُشترط للصلاة، فكذلك سجود التلاوة والشكر مثله، والجامع: أن كلًّا منهما سجود منفرد يقصد منه التقرُّب إلى الله وله تحريم وتحليل وتكبير، فإن قلتَ: إن سجود التلاوة والشكر لا يُعتبر صلاة؛ وهو قول بعض العلماء كابن تيمية وتبعه ابن عثيمين؛ للتلازم؛ حيث يلزم من عدم وجود التكبير والتسليم فيهما: عدم اعتبارهما صلاة؛ لأن التكبير والتسليم من علامات الصلاة، قلتُ: بل يوجد في سجود التلاوة والشكر تكبير وتسليم، وقد سبق بيان الدليل على ذلك من القياس. وأصله: السنة الفعلية؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يسجد سجدة تلاوة كبَّر وسجد - كما رواه ابن عمر رضي الله عنه فبطل التلازم الذي ذكرتموه، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "الخلاف في سجود التلاوة والشكر هل لهما تكبير وتسليم أو لا؟ " فعندنا: لهما ذلك وبناء عليه: كانا صلاة، وعندهم: لا يُشرع لهما ذلك وبناء عليه: لا يعتبران صلاة.

ص: 571

حتى ما يجد أحدنا موضعًا لجبهته" متفق عليه، وقال عمر رضي الله عنه: "إن الله لم يفرض علينا السجود إلا أن نشاء" رواه البخاري،

(49)

ويسجد في طواف مع قصر فصلٍ،

(50)

ويتيمَّم محدث بشرطه، ويسجد مع

(49)

مسألة: سجود التلاوة مستحب لقارئ آية السجدة، ولمستمعها: لقاعدتين: الأولى: السنة التقريرية؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم إذا قرأ آية السجدة: سجد، وسجد من استمع لها، ولم يُنكر على من سجد تبعًا لسجوده، وهذا يدل على استحبابه؛ لأنَّه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، الثانية: إجماع الصحابة السكوتي؛ حيث إن عمر رضي الله عنه قرأ في خطبة الجمعة سورة النحل حتى وصل إلى آية السجدة وقال: "أيها الناس إنما نمُّر بالسجود: فمن سجد: فقد أصاب؛ ومن لم يسجد: فلا إثم عليه" ولم يُنكر عليه أحد من الصحابة المستمعين لذلك فكان إجماعًا منهم على ذلك، فإن قلتَ: لمَ استُحب ذلك للقارئ والمستمع؟ قلتُ: للمصلحة حيث إن هذا السجود فيه كمال العبودية لله تعالى، وهذا يشترك فيه القارئ والمستمع؛ حيث إن فيه تذلَّل وخضوع لعظمته سبحانه وقد أطال ابن القيم في ذلك في "أعلام الموقعين"(2/ 444)، فإن قلتَ: إن سجود التلاوة واجب على القارئ والمستمع، وهو قول أكثر الحنفية كما ذكر الكاساني في "البدائع" (1/ 180)؛ للكتاب؛ حيث قال تعالى:{وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ} وهو ذمٌ لهم، ولا يُذم إلا على ترك واجب قلتُ: إنما دَّمهم لترك السجود؛ لكونهم غير معتقدين مشروعيته كما قال النووي في "المجموع"(2/ 62) فلا يصح ما قالوه فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "الخلاف في سبب الذم في الآية": فعندهم الذم لتركهم سجود التلاوة، وعندنا: الذم لتركهم العقيدة.

(50)

مسألة: إذا كان يقرأ آية سجدة وهو يطوف بالكعبة فيُستحب أن يسجد للتلاوة بشرط: عدم إطالة فصل زمني بين القراءة والسجود، أما إذا أطال الفصل: فلا=

ص: 572

قصره،

(51)

وإذا نسي سجدة: لم يُعِد الآية؛ لأجله، ولا يسجد لهذا السهو،

(52)

ويُكرّر السجود بتكرار التلاوة كركعتي الطواف، قال في "الفروع": وكذا: "يتوجَّه في تحية المسجد إن تكرر دخوله" أ. هـ، ومراده: غير قيِّم المسجد

(53)

(دون السامع)

يُشرع السجود؛ للتلازم؛ حيث إن محلَّ سجود التلاوة بعد تلاوة آية السجدة مباشرة: فيُستحب السجود لها ولو كان مشتغلًا بشيء لا يمنع السجود كالطواف، ويلزم من طول الفصل: عدم السجود؛ لفوات محلِّه فإن قلتَ: لمَ استُحبَّ ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه جمع بين أجر الطواف وأجر السجدة.

(51)

مسألة: إذا قرأ آية سجدة وهو محدث حدثًا أصغر ولم يستطع التطهر بالماء - لعدم أو بُعد، أو ضرر -: فإنه يُستحب أن يتيمَّم ويسجد للتلاوة بشرط عدم إطالته فصل زمني بين القراءة والسجود؛ للتلازم، وقد سبق بيانه في مسألة (50).

(52)

مسألة: إذا نسي سجود التلاوة - لما مرَّ بآية سجدة -: فلا يُشرع إعادة قراءتها لأجل أن يسجد للتلاوة، وإذا تذكَّر فيما بعد: فلا يسجد للسهو لأجل ذلك؛ للتلازم؛ حيث إن محلَّ سجود التلاوة يكون بعد قراءتها مباشرة فيلزم من نسيانه لها: أن لا يُعيد قراءتها لأجل السجود؛ لفوات محلَّها، ويلزم من سقوطها هنا: عدم سجود السهو لأجلها؛ لأن الفرع - وهو سجود السهو - يسقط بسقوط الأصل وهو سجود التلاوة، فإن قلتَ: لمَ شرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن هذا فيه توسعة على المسلمين.

(53)

مسألة: إذا كرَّر قراءة آية فيها سجدة بدون حاجة، أو كرَّر دخول مسجد بدون حاجة: فإنه يُستحب أن يُكرر سجود التلاوة، ويُكرر تحية المسجد، أما إن كرَّر قراءة آية سجدة الحاجة كأن يُريد تدبُّرها، أو حفظها، أو تعليمها لغيره فلا يُشرع سجود التلاوة، أو كرَّر دخول المسجد الحاجة كالقائم بكنسه وتنظيفه، وإنارة المصابيح: فأنه لا يشرع إعادة تحية المسجد؛ لقاعدتين: الأولى: القياس، بيانه: كما أن سنة الطواف يُكررها إذا كرَّر الطواف، فكذلك الحال في تكرار=

ص: 573

الذي لم يقصد الاستماع؛ لما روي أن عثمان رضي الله عنه مرَّ بقارئ يقرأ سجدة ليسجد معه عثمان فلم يسجد وقال: "إنما السجدة على من استمع" ولأنه لا يُشارك القارئ في الأجر فلم يُشاركه في السجود

(54)

(وإن لم يسجد القارئ) أو كان لا يصلح إمامًا للمستمع: (لم يسجد)؛ لأنَّه صلى الله عليه وسلم أتى إلى نفر من أصحابه فقرأ رجل منهم سجدة، ثم نظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"إنك كنتَ إمامنا لو سجدتَ: سجدنا" رواه الشافعي في "مسنده" مرسلًا،

(55)

ولا يسجد

قراءة آية السجدة، وتكرار دخول المسجد لغير حاجة، والجامع: أن كلًّا منها أسباب المسببات، فإذا وجد السبب وُجِد المسبَّب، الثانية: المصلحة؛ حيث إن تكرار السجود عند تكرار قراءة الآية، أو تكرار تحية المسجد عند تكرار دخول المسجد للحاجة فيه مضرة على المكرِّر لحاجته، فدفعًا لذلك: شرع هذا.

(54)

مسألة: إذا سمع شخص آية سجدة من شخص آخر صدفة ولم يقصد سماعها: فلا يُستحب لهذا السامع أن يسجد؛ لقول الصحابي؛ حيث قال عثمان: "إنما السجدة على من استمع"، وثبت هذا عن ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنه فإن قلتَ: لمَ تُستحب السجدة للمستمع، دون السامع؟ قلتُ: لأن المستمع قصد الاستماع للقراءة وأنصت لها إنصات المهتم المستفيد، التارك لكل شيء لأجل الاستماع، أما السامع: فلم يقصد الاستماع، بل سمع ذلك صدفة، فلذلك لا يُشارك القارئ في الأجر والفضل، لذلك منع من مشاركته في السجود؛ لعدم حصول المقصود منها.

(55)

مسألة: إذا مرَّ القارئ بآية سجدة، ولم يسجد لها، أو كان القارئ لا يصلح أن يكون إمامًا للمستمع -كأن تكون القارئة أنثى أو خنثى-: فإن المستمع لا يسجد؛ للسنة التقريرية؛ حيث قال زيد بن ثابت: "قرأت على النبي صلى الله عليه وسلم سورة النجم فلم يسجد منا أحد" ولم يُنكر النبي صلى الله عليه وسلم، الثانية: إجماع الصحابة السكوتي؛ حيث إن عمر لما لم يسجد للتلاوة: لم يسجد بقية الصحابة، ولم يُنكر=

ص: 574

المستمع قدَّام القارئ ولا عن يساره مع خلو يمينه

(56)

، ولا رجل لتلاوة امرأة،

(57)

ويسجد لتلاوة أُمّي وصبي

(58)

(وهو) أي: سجود التلاوة (أربع عشرة سجدة) في الأعراف، والرعد، والنحل، والإسراء، ومريم، و (في الحج منها: اثنتان) والفرقان، والنمل، وألم تنزيل، وحمِّ السجدة، والنجم، والانشقاق، واقرأ باسم ربك، وسجدة "ص" سجدة شكر،

(59)

ولا يُجزئ ركوع ولا سجود الصلاة

أحد منهم ذلك، فإن قلتَ: لمَ شرع هذا؟ قلتُ: لأن المستمع تابع للقارئ، فلا يسجد المستمع بدون سجود القارئ كما لو كانا في صلاة - ذكره ابن قدامة في "المغني"(2/ 368)، تنبيه: استدلال المصنف بما رواه عن الشافعي مرسلًا: لا يصح؛ لأن هذا لم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم كما قال أكثر أئمة الحديث.

(56)

مسألة: يسجد المستمع لتلاوة آية سجدة خلف القارئ، أو عن يمينه، ولا يُشرع ولا يُستحب له أن يسجد أمامه أو عن يساره إذا كان الخلف أو اليمين خاليين؛ للقياس، بيانه: كما أن المأموم يقف خلف الإمام أو عن يمينه، ولا يقف أمامه ولا عن يساره فكذلك الحال هنا، والجامع، أن كلًّا منهما صلاة.

(57)

مسألة: لا يسجد الرَّجل المستمع لتلاوة المرأة أو الخنثى لآية سجدة؛ للقياس بيانه: كما لا يجوز أن يصلي الرجل خلف امرأة أو خنثى فكذلك الحال هنا والجامع: أن كلًّا منهما صلاة، وقد سبقت الإشارة إلى ذلك في مسألة (55).

(58)

مسألة: يسجد الرجل المستمع لتلاوة أُمِّي وصبي لآية سجدة؛ للقياس، بيانه: كما تجوز صلاته خلف الأمي والصبي، فكذلك الحال هنا والجامع: أن كلًّا منهما صلاة.

(59)

مسألة: عدد سجدات التلاوة في القرآن: أربع عشرة سجدة وهي: الآية الأخيرة من الأعراف، والآية "15" من الرعد، والآية "50" من النحل، والآية "109" من الإسراء، والآية "58" من مريم، والآية "18" من الحج، وكذا الآية "77" منها، والآية "60" من الفرقان، والآية "26" من النمل، والآية=

ص: 575

عن سجدة التلاوة

(60)

(و) إذا أراد السجود: فإنه (يكبِّر) تكبيرتين: تكبيرة (إذا سجد و) تكبيرة (إذا رفع) سواء كان في الصلاة أو خارجها (ويجلس) إن لم يكن في الصلاة (ويُسلِّم) وجوبًا، وتجزئ واحدة (ولا يتشهَّد) كصلاة الجنازة، ويرفع يديه إذا سجد ندبًا ولو في صلاة،

(61)

"15" من السجدة، والآية "38" من فُصِّلت، والآية الأخيرة من النجم، والآية "21" من الانشقاق، والآية الأخيرة من العَلقَ؛ للسنة القولية والفعلية الثابتة في حديث عمرو بن العاص، وعقبة بن عامر رضي الله عنهم وهما مشهوران، فإن قلتَ: إن الآية "38" من "ص" من السجدات؛ للسنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد سجد فيها، وهو قول كثير من الصحابة والعلماء قلتُ: إن هذه سجدة شكر؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم في سجدة "ص": "سجدها داود توبة ونحن نسجدها شكرًا"، الثانية: قول الصحابي؛ حيث قال ابن عباس رضي الله عنه: ليست "ص" من عزائم السجود، فإن قلتَ: لمَ كانت أربع عشرة؟ قلتُ: لوجود ما يُسبِّب ذلك في تلك الآيات الأربعة عشرة من تخويف، ورعب، وشكر الله ونحو ذلك، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض السنة القولية وقول الصحابي مع الفعلية" فعندنا: يُعمل بالقولية مؤيدة بقول الصحابي، وعندهم: يعمل بالفعلية؛ لأنها أتت بشيء زائد، ولا تخالف ما سبق.

(60)

مسألة: لا يُجزئ عن سجود التلاوة ركوع، ولا سجود الصلاة؛ للسنة الفعلية؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم يسجد سجودًا منفردًا عن غيره، فإن قلتَ: لمَ شرع هذا؟ قلتُ: لأن كل شيء شرعه الله له سببه الخاص به، فلا يُجزيء شيء عن شيء آخر في العبادات.

(61)

مسألة: طريقة سجود التلاوة هي: أنه إذا أكمل آية السجدة: فإنه يُكبِّر فيسجد كسجوده للصلاة في القول والفعل، وإذا رفع من سجوده: كبَّر، ثم يجلس قليلًا، ثم يسلِّم عن يمينه تسليمة واحدة إن كان خارج الصلاة، أما إن كان داخلها: فإنه - بعد إكمال سجود التلاوة - يُكمّل قراءته وصلاته؛=

ص: 576

وسجود عن قيام أفضل

(62)

(ويُكره للإمام قراءة) آية (سجدة في صلاة سرِّ و) كره (سجوده) أي: سجود الإمام للتلاوة (فيها) أي: في صلاة سرية كالظهر؛ لأنَّه إذا قرأها إما أن يسجد لها أو لا، فإن لم يسجد لها: كان تاركًا للسنة، وإن سجد لها: أوجب الإبهام والتخليط على المأموم

(63)

(ويلزم المأموم متابعته في غيرها) أي: غير

للسنة الفعلية؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك، تنبيه: قوله: "كصلاة الجنازة" يقصد: أن سجود التلاوة كصلاة الجنازة في عدم التشهد، وإجزاء تسليمة واحدة. [فرع]: لا يرفع الساجد للتلاوة يديه عند سجوده ولا عند رفعه؛ للقياس بيانه: كما أن الساجد للسهو لا يرفع يديه فكذلك هذا مثله والجامع: أن كلًّا منهما سجود منفرد والسجود لا ترفع له الأيدي، فإن قلتَ: يُستحب أن يرفع يديه هنا - وهو ما ذكره المصنف هنا - قلتُ: لم أجد دليلًا على ذلك.

(62)

مسألة: إذا قرأ آية سجدة: فالأفضل أن يقوم ثم يسجد للتلاوة، وكذا: سجود شكر؛ للقياس، بيانه: كما أن صلاة النافلة من القائم أفضل من صلاته قاعدًا، فكذلك سجود القائم أفضل من سجود القاعد والجامع: كثرة العمل والتذلُّل والشكر من القائم في كل.

(63)

مسألة: يُكره للإمام أن يقرأ آيات فيها سجدة في الصلاة السرية - وهي: الظهر والعصر -، وإن قرأ بها في هاتين الصلاتين: فإنه يُكره أن يسجد؛ للمصلحة؛ حيث إنه إن قرأها ولم يسجد لها: فإنه حرم نفسه من ثواب السجود لها، وإن سجد لها فإنه يلتبس على المأموم الأمر، فلا يعلم المأموم سبب سجوده: فقد يعتقد أنه سجد لكونه نسي سجود أو ركوع، أو أنه سجد للتلاوة، وكل هذا مشغل له مما يتسبَّب في اضطراب نيته وصلاته، فكره هذا لمنع ذلك الضرَّر.

ص: 577

الصلاة السِّرِّية، ولو مع ما يمنع السماع كبُعد وطرش، ويُخيَّر في السرية

(64)

(ويُستحب) في غير الصلاة (سجود الشكر عند تجدُّد النعم واندفاع النقم) مطلقًا؛ لما روى أبو بكر رضي الله عنه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أتاه أمرٌ يُسرُّ به: خرَّ ساجدًا" رواه أبو داود وغيره وصحَّحه الحاكم

(65)

وتبطل به) أي:

(64)

مسألة: يجب على المأموم أن يُتابع إمامه في سجوده للتلاوة فيسجد معه إذا سجد: سواء كانت الصلاة جهرية أو سرية، وسواء كان يسمع القراءة أو لا؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "

فإذا سجد فاسجدوا" فأوجب على المأمومين السجود عند سجود الإمام؛ لأن الأمر مطلق فيقتضي الوجوب، وهذا عام فيشمل سجود الفرض وسجود السهو، والتلاوة، ويشمل الصلاة الجهرية والسرية، ويشمل من سمع القراءة ومن لم يسمعها، فإن قلتَ: لمَ وجب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تحقيق متابعة الإمام، وعدم الاختلاف عليه المنهي عنه بقوله صلى الله عليه وسلم: "فلا تختلفوا عليه" وفي هذا توحيد المسلمين، تنبيه: قوله: "ويُخيَّر في السرية" هذا غير صحيح؛ لمخالفته لظاهر الحديث السابق والمصلحة.

(65)

مسألة: يُستحب أن يُسجد لله سجود شكر له - في غير صلاة - عند حدوث نعمة، أو اندفاع نقمة؛ للسنة الفعلية؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم غير ساجدًا؛ شكرًا لله تعالى عندما يسمع بشيء يفرح له، فإن قلتَ: لمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك يزيد النعم حيث قال تعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} ، وهذا السجود وما فيه من تذلُّل يقمع النفس من فرحها الذي قد يؤدِّي إلى البطر والتكبُّر على الآخرين، فإن قلتَ: إن سجود الشكر مكروه، وهو رواية عن الإمام مالك كما نقله القرافي في الذخيرة (2/ 416)؛ للاستقراء؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد فُتحت له الفتوح، وأتي بالأولاد ولم يكن يسجد للشكر؟ قلتُ: إن عدم=

ص: 578

بسجود الشكر (صلاة غير جاهل وناس)؛ لأنَّه لا تعلُّق له بالصلاة، بخلاف سجود التلاوة،

(66)

وصفة سجود الشكر وأحكامه كسجود التلاوة

(67)

سجوده في بعض الأحيان لا يدل على عدم استحباب سجود الشكر، فقد سجد لأجل ذلك كثيرًا قاله ابن القيم في أعلام الموقعين (2/ 248) وعدة الصابرين (172) فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "هل عدم سجوده صلى الله عليه وسلم في بعض الأحيان للشكر يفيد كراهة السجود؟ " فعندنا: لا، وعندهم: نعم.

(66)

مسألة: إذا سمع بشيء يُفرحه وهو يصلي فرضًا أو نفلًا، وسجد للشكر في أثنائها: فإن تلك الصلاة تبطل إن كان عالمًا بتحريم ذلك، ذاكرًا لذلك، أما إن كان جاهلًا بالحكم، أو عالمًا به ولكنه نسي ذلك: فصلاته صحيحة؛ للقياس، بيانه: كما أنه لو زاد في صلاته سجودًا مُتعمِّدًا ذاكرًا عالمًا: فصلاته باطلة، وإذا زاد ذلك ناسيًا أو جاهلًا فصلاته صحيحة، فكذلك الذي يسجد للشكر في أثناء صلاته مثله، والجامع: أنه في كل منها زاد سجودًا لم يكن من الصلاة المأمور بها، فالمتعمد والعالم غير معذور فبطلت صلاته، والناسي أو الجاهل معذور، فلم تبطل صلاته؛ لعذره، فإن قلتَ: لمَ بطلت صلاته بتعمُّده وذكره إذا سجد للشكر، بخلاف سجود التلاوة فلا تبطل مطلقًا؟ قلتُ: لأن سبب سجود الشكر ليس منها فبطلت، أما سجود التلاوة فسببه منها؛ حيث إنه متعلِّق بها.

(67)

مسألة: طريقة وصفة سجود الشكر كطريقة وصفة سجود التلاوة من الأفعال والأقوال، وجميع الأحكام: من تكبير، وتسليم، وعدم تشهُّد، وعدم رفع يدين - كما سبق في مسائل (60 و 61 و 62)، ولكن يُكثر في سجود الشكر من شكر الله وحمده، والتذلُّل والخضوع، وتعفير الوجه في التراب؛ للمصلحة؛ حيث إن ذلك يقمع نفسه من التكبُّر على الآخرين لما تجدَّد له نِعم، ودُفِعت عنه نقم وقد سبق في مسألة:(65). [فرع]: تستحب صلاة الاستخارة، وصلاة التوبة، وصلاة الحاجة، وصلاة بعد كل تطهر: فأولها: صلاة الاستخارة وهي: أنه=

ص: 579

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

إذا أراد أن يقوم بأمر من الأمور: فإنه يصلي ركعتين، وقبل سلامه أو بعده يدعو بدعاء الاستخارة وهو: قوله: "اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم؛ فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر - ويُسمِّي حاجته - خير لي في ديني ودنياي، ومعاشي وعاقبة أمري: فيسِّره لي، ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شرٌّ لي في ديني أو دنياي ومعاشي وعاقبة أمري: فاصرفه عني، واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان، ثم رضِّني به" فإن لم يجد نفسه متوجهة إليه، يُعيد هذا الفعل في وقت آخر، فإن لم يجد نفسه متوجهة: فليتركه؛ للسنة القولية؛ حيث قال جابر: كان صلى الله عليه وسلم يُعلِّمنا الاستخارة في الأمور كما يُعلِّمنا السورة من القرآن، فإن قلتَ: لمَ استحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه الحثُّ على استشارة الله تعالى في الأمور كلها، وفيه الحثُّ على التريِّث والتأني في اتخاذ القرارات، وثانيها: صلاة التوبة، وهي مشروعية عندما يعصي المرء ربَّه؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم:"ما من رجلُ يذنب ذنبًا، فيتوضأ ويُحسن وضوءه، فيُصلي ركعتين، فيستغفر الله إلا غفر الله له"، وثالثها: صلاة، الحاجة، وهي صلاة يفعلها المسلم عندما يستعصي عليه قضاء حاجة؛ للسنة القولية، حيث قال صلى الله عليه وسلم:"من كانت له حاجة إلى الله، أو إلى أحد من بني آدم فليتوضأ وليُحسن الوضوء، ثم ليصل ركعتين؛ ثم يُثني على الله، وليُصلِّ على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ليقل: لا إله إلا الله الحليم الكريم، لا إله إلا الله العلي العظيم، سبحان الله رب العرش العظيم، الحمد لله رب العالمين، أسألك موجبات رحمتك، وعزائم مغفرتك، والغنيمة من كل بر، والسلامة من كل إثم، لا تدع لي ذنبًا إلا غفرته، ولا همًا إلا فرَّجته، ولا حاجة هي لك رضى إلا قضيتها يا أرحم الراحمين"، ورابعها: الصلاة بعد كل تطهر، للسنة التقريرية؛ حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا بلال حدَّثني بأرجى عمل عملته في=

ص: 580

وأوقات النهي خمسة: الأول (من طلوع الفجر الثاني إلى طلوع الشمس)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا طلع الفجر فلا صلاة إلا ركعتي الفجر" احتج به أحمد (و) الثاني (من طلوعها حتى ترتفع قِيد) بكسر القاف أي: قدر (رمح) في رأي العين (و) الثالث (عند قيامها حتى تزول)؛ لقول عقبة بن عامر: "ثلاث ساعات نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصلِّي فيهن، وأن نقبر فيهن موتانا: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تزول، وحين تتضيَّف الشمس للغروب حتى تغرب" رواه مسلم و"تتضيَّف" بفتح المثنَّاة فوق أي: تميل (و) الرابع (من صلاة العصر إلى غروبها)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا صلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس، ولا صلاة بعد العصر حتى تغيب الشمس" متفق عليه عن أبي سعيد، والاعتبار بالفراغ منها، لا

الإسلام؛ فإني سمعت دُفَّ نعليك بين يدي في الجنة" فقال له: "ما عملتُ عملًا أرجى عندي إلا أني لم أتطهر طهورًا في ساعة من ليل أو نهار إلا صلَّيت بذلك الطهور ما كتب الله لي أن أصلِّيه" فلم يُنكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك. [فرع آخر]: لا تُشرع صلاة الرغائب - وهي الصلاة في ليلة أول جمعة من رجب -، ولا صلاة الألفية، ولا صلاة ليلة السابع والعشرين من رجب، ولا صلاة ليلة النصف من شعبان، ولا صلاة التسبيح، وهي بدع منكرة؛ للاستصحاب؛ حيث إن الأصل في العبادات ثبوتها من الشارع ثبوتًا قطعيًا أو يغلب على الظن، ولم تثبت تلك الصلوات السابقة لذكر من الشارع؛ فتبقى على النفي الأصلي، فلا يُتعبَّد الله بها حيث إنها إحداث في الدين فيكون مردودًا؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" فإن قلتَ: إنها قد ثبتت بأحاديث نبوية؟ قلتُ: إن كل ما جاء فيها من الأحاديث: إما أن تكون موضوعة، أو ضعيفة كما ذكر ذلك كثير من محققي العلماء كالنووي، وابن تيمية، وابن الجوزي، وابن رجب، وابن القيم.

ص: 581

بالشروع فيها، ولو فُعِلَت في وقت الظهر جمعًا، لكن تفعل سنة ظهر بعدها (و) الخامس (إذا شرعت) الشمس (فيه) أي في الغروب (حتى يتم)؛ لما تقدم

(68)

(68)

مسألة: الأوقات المنهي عن صلاة التطوع فيها ثلاثة: أولها: من بعد صلاة الفجر إلى بعد طلوع الشمس بربع ساعة تقريبًا، ثانيها: من وقوف الشمس في وسط السماء إلى ميلانها إلى الغروب - وهو زوالها -، أي: قبل أذان الظهر بربع ساعة تقريبًا إلى أذان الظهر، ثالثها: من صلاة العصر إلى أن تغرب الشمس تمامًا ويؤذن لصلاة المغرب؛ للسنة القولية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد بيَّن تحريم صلاة التطوع فيها بأحاديث كثيرة ثابتة رواها عمرو بن عَبَسَة، وابن عمر، وعقبة بن عامر، فإن قلتَ: لمَ نهي عن صلاة التطوع في تلك الأوقات؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن الملائكة لا تشهد النوافل التي تُقام بتلك الأوقات؛ لأنها إما أن تكون أوقات عبادة الكفار للشمس كطرفي النهار، أو أوقات تُسعَّر النار فيها - كوقت كون الشمس في وسط السماء -؛ فمن صلى فيها نافلة وهو يعلم تحريم ذلك: فهو آثم وصلاته فاسدة؛ لأن النهي عن الصلاة فيها مطلق، وهو يقتضي التحريم والفساد. تنبيه: الأوقات الخمسة التي ذكرها المصنف ترجع إلى تلك الأوقات الثلاثة التي ذكرناها؛ جمعًا بين الأحاديث ولتيسير تصورها. [فرع]: الأوقات المنهي عن صلاة التطوع فيها التي بعد صلاة الفجر، وبعد صلاة العصر تُعتبر بحسب فراغ كل فرد منها، ولا يُلتفت إلى فعل غيره فمثلًا: مَنْ لم يصل فرض العصر يُباح له التنفل قبل أن يصليها - وإن كان غيره قد صلاها -، وكذلك يُباح لمن لم يصل الفجر حتى طلعت الشمس أن يتنفل قبلها، وكذلك لو جمع الظهر والعصر في وقت الظهر، فإنه لا يصلي نافلة بعد ذلك إلا إذا نوى بهذه النافلة أنها راتبة الظهر البعدية فيُباح ذلك؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "لا صلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس، ولا صلاة بعد العصر حتى تغيب=

ص: 582

(ويجوز قضاء الفرائض فيها) أي: في أوقات النهي كلها؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "من نام عن صلاة أو نسيها فليُصلِّها إذا ذكرها" متفق عليه، ويجوز أيضًا: فعل المنذورة فيها؛ لأنها صلاة واجبة (و) يجوز حتى (في الأوقات الثلاثة) القصيرة (فعل ركعتي الطواف)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تمنعوا أحدًا طاف بهذا البيت وصلى أية ساعة من ليل أو نهار" رواه الترمذي وصحَّحه (و) تجوز فيها (إعادة جماعة) أُقيمت وهو بالمسجد؛ لما روى يزيد بن الأسود قال: "صليتُ مع النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر، فلما قضى صلاته إذا هو برجلين لم يُصلَّيا معه فقال: "ما منعكما أن تصليا معنا؟ " فقالا: يا رسول الله قد صلينا في رحالنا قال: "لا تفعلا إذا صلَّيتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم، فإنها لكما نافلة" رواه الترمذي، وصحَّحه، فإن وجدهم يُصلُّون: لِمَ يُستحب الدخول، وتجوز الصلاة على الجنازة بعد الفجر والعصر، دون بقية الأوقات ما لم يُخف عليها،

(69)

الشمس" وهذا يخص كل فرد بحسبه، الثانية: السنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم صلى ركعتين بعد العصر، وذكر لأم سلمة أنهما راتبة الظهر، فإن قلتَ: لمَ اعتبر فراغ كل شخص من صلاته بنفسه؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه مراعاة لأحوال الناس، واختلاف الأوقات من بلد إلى بلد.

(69)

مسألة: الصلوات التي تجوز أن تصلي في الأوقات المنهي عن صلاة التطوع فيها خمس صلوات: أولها: الصلاة المقضية: فيجوز للمسلم أن يقضي صلاة فرض فائتة عليه في تلك الأوقات؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها" حيث إن هذا خاص بصلاة الفرض؛ لأنَّه أمر بقضائها، وهو مطلق، فيقتضي الوجوب، ولا يجب إلا قضاء الفرض، وهو عام من جهة الزمن؛ حيث إنه أمر بقضاء الفرض في جميع الأوقات، فيشمل وقت النهي وغيره؛ لأن "إذا" زمانية وهي من صيغ العموم، ثانيها: الصلاة=

ص: 583

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

المنذورة، فلو نذر أن يصلي ركعتين بعد العصر: فإنه يجب عليه أن يفعل ذلك وإن كان الوقتُ وقت نهي؛ للقياس على قضاء الفرض في ذلك الوقت، والجامع: وجوب إبراء الذمة من ذلك الواجب في كل، ثالثها: سنة الطواف، فلو طاف على الكعبة - فرضًا أو نفلًا - فيجوز أن يصلي ركعتي الطواف في وقت النهي؛ للسنة القولية؛ حيث نهى صلى الله عليه وسلم أن يُمنع شخص أراد الطواف وسنَّته في ليل أو نهار، وهذا يشمل أوقات النهي حتى في الأوقات الثلاثة - وهي حين تطلع الشمس، وعند قيامها، وعند غروبها - الواردة في حديث عقبة ابن عامر خلافًا لبعض العلماء -، رابعها: الصلاة المعادة، فلو صلى شخص في بيته، ثم دخل مسجدًا فوجد جماعة يصلون: فإنه يصلي معهم، وتكون الأخيرة نافلة، ويفعل ذلك وإن كان الوقت وقت نهي؛ للسنة القولية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قال:"إذا صليتما في رحالكما، ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم، فإنها لكما نافلة" وهذا عام في الأزمان؛ لأن "إذا" من صيغ العموم، فيشمل هذا وقت النهي تنبيه: قوله: "فإن وجدهم يصلون .. " قلتُ: هذا مرجوح، والراجح أنه يدخل معهم؛ لعموم الحديث السابق، خامسها: صلاة الجنازة، فتجوز في أي وقت، ولو كان وقت نهي إذا خيف انفجارها، أو ظهور رائحة كريهة منها، أما إذا لم يُخف منها ذلك: فإنه يُصلَّى عليها بعد صلاة الفجر، وبعد صلاة العصر فقط، أما في وقت وقوف الشمس في كبد السماء فلا يجوز؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم نهى أن يُدفن الموتى في تلك الأوقات المنهي عنها - كما رواه عقبة بن عامر - والمراد بالدفن هو: الصلاة على الجنازة؛ لكونها لا تدفن قبل الصلاة عليها؛ الثانية: المصلحة؛ حيث إن ما بعد الفجر وما بعد العصر: وقت طويل يغلب على الظن ظهور رائحة كريهة من الميت: فأبيحت الصلاة عليه فيهما، وكذا إذا خيف عليه من الانفجار وظهور رائحة منه: فإنه=

ص: 584

(ويحرم تطوع بغيرها) أي: غير المتقدِّمات: من إعادة جماعة، وركعتي طواف، وركعتي فجر قبلها (في شيء من الأوقات الخمسة حتى ماله سبب) كتحية المسجد، وسنة وضوء، وسجدة تلاوة، وصلاة على قبر، أو غائب، وصلاة كسوف، وقضاء راتبة سوى سنة ظهر بعد العصر المجموعة إليها،

(70)

ولا ينعقد النفل إن ابتدأه في هذه الأوقات، ولو

يدفن في أي وقت؛ دفعًا للمفسدة؛ لأن دفع المفسدة مقدم على جلب المصلحة، فإن قلتَ: لمَ أُبيحت تلك الصلوات في الأوقات المنهي عنها؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن تلك الصلوات إما أن تكون واجبة اشتغلت الذمة بها، فلا تبرأ إلا بفعلها، فيتضرَّر إن لم يفعلها كقضاء الفوائت، أو المنذورة، أو أن الصلاة فيها أكثر دفعًا للمفاسد من تركها كالباقي، وإذا تعارضت مفسدتان: قُدِّمت أخفهما وعمل بها.

(70)

مسألة: تحرم صلاة التطوع في الأوقات المنهي عنها - كما سبق بيانها في مسألة (68) - غير ما ذكر من صلوات في مسألة (69) -: وهذا التحريم عام شامل للصلوات التي لها سبب كتحية المسجد، أو سنة الوضوء، أو سجدة تلاوة، أو سجدة شكر، أو صلاة كسوف، أو صلاة استسقاء، أو سنة راتبة، أو الصلوات التي لا سبب لها كصلوات التطوع المطلقة، وكذا تحرم الصلاة على الجنازة بعد دفنها؛ للسنة القولية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد نهى عن صلاة التطوع في تلك الأوقات - كما رواه ابن عمر، وعقبة بن عامر، وعمرو بن عَبَسَة - والنهي مطلق، وهو يقتضي التحريم والفساد، فإن قلتَ: إن الصلاة التي لها سبب كتحية المسجد يجوز فعلها ولو كان الوقت وقت نهي؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يركع ركعتين" فأمر الشارع هنا بتحية المسجد، وهو عام في الأزمان؛ لأن "إذا" الشرطية من صيغ العموم، فيشمل وقت النهي وغيره قلتُ: إن أحاديث النهي عن الصلاة في تلك=

ص: 585

جاهلًا إلا تحية مسجد إذا دخل حال الخطبة فتجوز مطلقًا،

(71)

ومكة

الأوقات مقدمة على حديث تحية المسجد؛ لأمور: أولها: أن أحاديث النهي عن الصلاة في تلك الأوقات خاصة، وحديث تحية المسجد عام، والخاص يُقدم على العام في العمل، ثانيها: أن الأمر بتحية المسجد للندب، والنهي عن الصلاة في تلك الأوقات للتحريم، وترك الحرام واجب، والعمل بالواجب مقدم على العمل بالمندوب، ثالثها: على فرض أن تحية المسجد واجبة؛ للأمر الوارد في الحديث السابق، فإن أحاديث النهي عن صلاتها في الأوقات المنهي عنها تقدم ويعمل بها؛ لأن دفع المفاسد مقدم على جلب المصالح، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض الخاص من حديث النهي عن الصلاة في تلك الأوقات، مع العام من حديث تحية المسجد" فعندنا: يعمل بالخاص، وعندهم: يعمل بالعام تنبيه: قوله: "سوى سنة ظهر بعد العصر" يُشير به إلى أنه إذا جمع العصر مع الظهر جمع تقديم: فإنه يجوز أن تصلى راتبة الظهر بعد صلاة العصر إذا نواها، وقد سبق بيانه في الفرع التابع لمسألة (68).

(71)

مسألة: إذا صلى تطوعًا في تلك الأوقات المنهي عنها - غير الصلوات الخمس المتقدم ذكرها في مسألة (69) - فصلاته لا تنعقد، أي: أنها فاسدة: سواء كان عالمًا، أو جاهلًا، ذاكرًا أو ناسيًا، وعلى ذلك: فإنه يقطعها إن علم بالتحريم في أثنائها؛ للسنة القولية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد نهى عن صلاة التطوع في تلك الأوقات كما ورد في حديث عمرو بن عَبَسَة، وابن عمر، وعقبة بن عامر - والنهي مطلق، فيقتضي الفساد، وهي شاملة وعامة لكل من ذكرنا من العالم والجاهل وغيرهما، فإن قلتَ: لمَ يقطعها إذا دخل فيها ثم علم أنه في وقت نهي؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث تعارضت مصلحة صلاته النافلة، ومفسدة وقوعها في الوقت المنهي عنه؛ فُيقدَّم دفع المفسدة على جلب المصلحة هنا. تنبيه: قوله:=

ص: 586

وغيرها في ذلك سواء.

(72)

" إلا تحية مسجد" إلى آخره يُشير به إلى أنه إذا دخل المسجد والإمام يخطب في يوم الجمعة: فإنه يصلي تحية المسجد، ولو كان الوقت وقت نهي قلتُ: هذا فيه نظر؛ لأن أحاديث النهي عن صلاة التطوع في تلك الأوقات عامة ليوم الجمعة وغيره، وسيأتي بيانه في باب "صلاة الجمعة".

(72)

مسألة: النهي عن صلاة التطوع في تلك الأوقات عام وشامل لجميع الأمكنة: مكة والمدينة، والقدس، وغيرها من البلدان؛ للسنة القولية، وهي أحاديث النهي عن الصلاة فيها - كما رواها عمرو بن عَبَسَة، وابن عمر، وعقبة بن عامر - وهذا عام لجميع الأمكنة، فإن قلتَ: لمَ خصَّ الفقهاء ذكر مكة هنا؟ قلتُ: لأنَّه نُقل عن الشافعي، وهو رواية عن أحمد: أنهما قالا: لا نهي في مكة، فأورد كثير من الفقهاء ذلك للرَّد عليهم؛ لأن الحديث عام في الأماكن.

هذه آخر مسائل باب "صلاة التطوع والأوقات المنهي عن صلاتها فيها" ويليه باب "صلاة الجماعة وأحكام الإمام والائتمام والاقتداء والأعذار"

ص: 587

‌باب صلاة الجماعة

شُرِعت لأجل التواصل والتوادد، وعدم التقاطع (تلزم الرجال) الأحرار القادرين، ولو سفرًا في شدة خوف (للصلوات الخمس) المؤدَّاة، وجوب عين؛ لقوله تعالى:{وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} الآية، فأمر بالجماعة حال الخوف، ففي غيره أولى، ولحديث أبي هريرة رضي الله عنه المتفق عليه:"أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء والفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوًا، ولقد هممتُ أن آمر بالصلاة فتُقام، ثم آمر رجلًا فيصلي بالناس، ثم أنطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار"

(1)

(لا شرط) أي: ليست الجماعة شرطًا لصحة الصلاة، فتصح

‌باب صلاة الجماعة وأحكام الإمام والمأموم، والاقتداء والأعذار

وفيه مائة وسبع وثلاثون مسألة:

(1)

مسألة: صلاة الجماعة واجبة في الصلوات الخمس المؤدَّاة في أوقاتها على الرجال الأحرار القادرين؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "ما من ثلاثة في قوم، أو بدو لا تقام فيهم الصلاة إلى قد استحوذ عليهم الشيطان، عليك بالجماعة، فإنما يأخذ الذئب القاصية من الغنم" فأوجب صلاة الجماعة؛ لأن ذلك هو اللازم من استحواذ الشيطان؛ حيث إنه عقاب، ولا عقاب إلا على ترك واجب، فإن قلتَ: لِمَ وجبت؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن الصلاة مع الجماعة فيه مصالح منها: التواصل والتعارف بين الناس والتوادد بينهم، والاجتماع على الحق، وقضاء الحاجات، وعيادة المرضى، وتشييع الجنائز، وفي ذلك تعليم الجاهل أحكام الشريعة، وتنشيط الكسلان على العبادة، فإن قلتَ: لِمَ وجبت على الرجال الأحرار القادرين؟ قلتُ: للمصلحة حيث إن خروج النساء فيه تعرض للفتنة، وكذا الخنثى؛ لاحتمال أن يكون أنثى،=

ص: 588

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

والصبي والمجنون لا تجب عليهما الصلاة أصلًا، والعبيد قد اشتراهم السيد لخدمته فلو وجبت عليهم الجماعة: لتضرَّر السيَّد، وغير القادرين قد سقطت عنهم؛ لعجزهم؛ لأن الواجب يسقط بالعجز عنه، تنبيه: استلال المصنف بالآية لا يصح؛ لأن الآية سيقت لتعليم صلاة الخوف عند ملاقاة العدو؛ لأن ذلك أبلغ في حراستهم؛ لأنَّه لو صلى كل واحد منفردًا لانشغل كل واحد بنفسه، ولو صلوا جماعة: فكذلك وفي الحالين: يغلبهم العدو، فأمر الشارع أن ينقسموا إلى فريقين فلم يكن في الآية دليل على وجوب الجماعة كما قال الماوردي في الحاوي (2/ 301)، أو سيقت لبيان أن الصلاة نفسها لا تسقط بالسفر أو الخوف كما قال القرطبي في تفسيره (3/ 223) و (5/ 314)، تنبيه آخر: استدلال المصنف بحديث أبي هريرة رضي الله عنه وهو: "الهمُّ بالتحريق"، أو حديث ابن مسعود رضي الله عنه:"رأيتنا وما يتخلَّف عنها إلا منافق" لا يصح من وجهين: أولهما: أنهُ يقصد في الحديثين: الذين يتخلَّفون عنها ولا يُصلُّونها مع الجماعة ولا فرادى وهذا قول الشافعي، يؤيده وصفهم بالنفاق، والمنافق هو من حبط عمله، والمصلي في بيته تصح صلاته - كما سيأتي - ويؤيده أيضًا: سياق هذا الحديث، ثانيهما: أنه همَّ بالإحراق ولم يفعل، ولو كان تاركو الجماعة منافقين فعلًا: لفعل وأحرقهم، فإن قلتَ: لو لم يجز تحريقهم لما همَّ به؟ قلتُ: يُحتمل أنه قد ذكره ذلك بيانًا لفضل صلاة الجماعة، ويُحتمل: أنه اجتهد بهذا وهمَّ بالتحريق، ولكن الله منعه منه، أو أنه تغيَّر هذا الاجتهاد منه، وهذا بناء على جواز الاجتهاد للنبي صلى الله عليه وسلم، ذكره النووي في "المجموع"(4/ 192)، وإذا تطرق الاحتمال إلى الدليل بطل به الاستدلال، تنبيه ثالث: قوله: "ولو سفرًا في شدة خوف" قلتُ: هذا لا يُسلِّم؛ لأن السفر والخوف من الأعذار المسقطة لصلاة الجماعة والجمعة كما سيأتي.

ص: 589

صلاة المنفرد بلا عذر، وفي صلاته فضل، وصلاة الجماعة أفضل بسبع وعشرين درجة؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنه المتفق عليه،

(2)

وتنعقد

(2)

مسألة: صلاة الجماعة ليست شرطًا لصحة الصلاة، فتصح صلاة المنفرد بلا عذر، والمراد: إن صلاته مع الجماعة تفضل عن صلاته منفردًا بسبع وعشرين درجة، أو بخمس وعشرين درجة؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "صلاة الجماعة تفضل على صلاة أحدكم وحده بسبع وعشرين درجة" وفي رواية: "بخمس وعشرين"، ويلزم من لفظ "تفضل" أن كلًا من صلاة الشخص وحده وصلاته مع الجماعة صحيحتان فاضلتان إلا أن صلاته مع الجماعة أفضل بذلك المقدار من الدرجات، وقال:"صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده" والمراد: أفضل، الثانية: السنة التقريرية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد رأى رجلين لم يصليا معه، فقال لهما: لِمَ لم تصليا معنا؟ فقالا: صلَّينا في رحالنا - أي منازلنا - فقال: "إن أحدكم إذا صلى في رحله ثم أتى جماعة فليصل معهم فإنها له نافلة"، فلم يُنكر عليهما صلاة كل واحد منهما في رحله ومنزله، فلو كانت صلاة كل واحد منهما في منزله غير صحيحة أو فيها إثم لأنكر عليهما، ولبيَّن ذلك؛ لأنَّه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، ونظرًا لهذين الحديثين ذهب الجمهور - وهم الحنفية والمالكية وكثير من الشافعية - إلى أن صلاة الجماعة سنة مؤكدة وليست واجبة، فإن قلتَ: إن الجماعة شرط في صحة الصلاة، فلا تصح صلاة المنفرد بدون عذر وهو قول أكثر الظاهرية؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم "لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد" فنفى صحة الصلاة إلا الجماعة، والتقدير:"لا صلاة صحيحة .. " قلتُ: إن هذا ضعيف فيه محمد بن سكين، وحديثه منكر، وهو مجهول كما نقله النووي في المجموع (4/ 192) عن ابن أبي حاتم، وقد أخرجه البيهقي موقوفًا على علي رضي الله عنه، وعلى فرض قوته: فإن المراد به: نفي الكمال، لا نفي الصحة، ومما يؤيد هذا التأويل: السنة القولية والتقريرية التي ذكرناهما، وكذا: الإجماع؛ حيث=

ص: 590

باثنين ولو بأنثى وعبد

(3)

في غير جمعة وعيد،

(4)

لا بصبي في فرض

(5)

(وله فعلها) أي: الجماعة (في بيته)؛ لعموم حديث: "جُعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا"

(6)

وفعلها في المسجد هو:

قال بعض العلماء: لا أعلم أحدًا قال بوجوب الإعادة على من صلى وحده، فيلزم منه: صحتها، فلو لم تصح صلاة المنفرد: لوجبت إعادتها.

(3)

مسألة: صلاة الجماعة تنعقد باثنين: سواء كانا رجلين، أو رجلًا وامرأة، أو حرًا وعبدًا، أو كانت فرضًا أو نفلًا، ويحصلان على أجر الجماعة - وهو سبع وعشرون أو خمس وعشرون درجة -؛ للسنة القولية؛ وهي من وجهين: أولهما: قوله صلى الله عليه وسلم: "الاثنان فما فوقهما جماعة" أي: في تحصيل ثواب الجماعة، وهو عام لما ذكرنا؛ لأن "الاثنان" مثنى معرّف بأل وهو من صيغ العموم، ثانيهما: قوله صلى الله عليه وسلم: "هذان جماعة" لما رأى رجلين يصليان معًا، ويقصد: أنهما يُحصِّلان أجر الجماعة؛ فإن قلتَ: لمَ شرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن هذا فيه التمكين من الحصول على فضل الجماعة مع التيسير، وعدم المشقة على المسلمين.

(4)

مسألة: لا تنعقد صلاة الجمعة والعيد باجتماع حر وعبد، أو باجتماع حر وزوجته؛ للتلازم؛ حيث إنه يُشترط في صلاة الجمعة والعيد حضور أربعين رجلًا، فيلزم من اشتراط ذلك: عدم انعقاد هاتين الصلاتين بما ذكر هنا.

(5)

مسألة: لا تنعقد صلاة الجماعة في فرض باجتماع بالغ وصبي أو مجنون؛ للتلازم؛ حيث إن الصبي والمجنون ليسا أهلاً لوجوب الصلاة أصلًا ولا يصلحان إمامين فيها، فيلزم عدم انعقاد الصلاة بهما، فوجودهما كعدمهما فيكون البالغ منفردًا.

(6)

مسألة: إذا صلى بالغ مع بالغ آخر من أهله في بيته: فإنه يتحصَّل على فضل صلاة الجماعة؛ للسنة القولية، وهي من وجهين: أولهما: قوله صلى الله عليه وسلم: "الاثنان فما فوقهما جماعة" وهذا مطلق في الأمكنة، فيلزم منه: أن من صلى في أيِّ =

ص: 591

السنة

(7)

وتُسنُّ لنساء منفردات عن رجال،

(8)

ويُكره الحسناء حضورها مع رجال، ويُباح لغيرها، ومجالس الوعظ كذلك وأولى

(9)

(وتستحب صلاة أهل الثغر) أي:

مكان مع آخر: فإنه يتحَّصل على ثواب صلاة الجماعة، ثانيهما: قوله صلى الله عليه وسلم: "جُعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا"، وهذا عام لأرض المسجد وأرض البيت؛ لأن "الأرض" اسم جنس محلى بأل، وهو من صيغ العموم، فإن قلتَ: لمَ أبيح ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تيسير مع الحصول على أجر الجماعة.

(7)

مسألة: صلاة المسلم مع جماعة في المسجد، أفضل من صلاته مع جماعة في بيته؛ للمصلحة؛ حيث إن الصلاة في المسجد مظهر من مظاهر الإسلام، ويحصل فيه اجتماع المسلمين، وتآلفهم.

(8)

مسألة: يُستحب أن تصلي النساء جماعة؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة" وهذا عام، فيشمل النساء والرجال؛ لأن لفظ "الجماعة" من صيغ العموم، الثانية: فعل الصحابي: حيث إن عائشة وأم سلمة رضي الله عنهم كانتا تؤمان بعض النسوة، فإن قلتَ: لمَ استحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة، وقد ذكرناها في مسألة (1).

(9)

مسألة: يُباح للمرأة حضور صلاة الجماعة، ومجالس الوعظ والإرشاد مع الرجال بشروط: أولها: أن لا تكون حسناء وجميلة، ثانيها: أن لا تكون شابة، ثالثها: أن لا تتزين بشيء من لباس أو طيب، رابعها: أن تكون في آخر الصفوف، فإذا حضرت فلها أجر كما للرجال؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم:"لا تمنعوا إماء الله مساجد الله وليخرجن وهنَّ تَفِلَات" حيث إن الأصل أن يُمنعن من الخروج، فجاء هذا الأمر بعده فيفيد الإباحة، وخصص إباحته بالخروج إلى المساجد، فكأنه شرع: عدم الخروج إلا إذا أردن الخروج للصلاة في المساجد=

ص: 592

موضع المخافة (في مسجد واحد): لأنَّه أعلى للكلمة، وأوقع للهيبة (والأفضل لغيرهم) أي: غير أهل الثغر الصلاة (في المسجد الذي لا تقام فيه الجماعة إلا بحضوره)؛ لأنَّه يحصل بذلك ثواب عمارة المسجد، وتحصيل الجماعة لمن يصلي فيه (ثم ما كان أكثر جماعة) ذكره في "الكافي" و "المقنع" وغيرهما، وفي "الشرح": أنه الأولى؛ لحديث أُبَي بن كعب رضي الله عنه: "وما كان أكثر جماعة فهو أحب إلى الله تعالى" رواه أحمد، وأبو داود، وصححه ابن حيان (ثم المسجد العتيق)؛ لأن الطاعة فيه أسبق، قال في "المبدع": والمذهب: "أنه مقدَّم على الأكثر جماعة" قال في "الإنصاف": "الصحيح من المذهب: أن المسجد العتيق أفضل من الأكثر جماعة" وجزم به في "الإقناع"، و "المنتهى" (وأبعد) المسجدين (أولى من أقرب) هما إذا كانا حديثين أو قديمين: اختلفا في كثرة الجمع أو قلَّته، أو استويا؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"أعظم الناس أجرًا في الصلاة: أبعدهم فأبعدهم ممشى" رواه الشيخان

(10)

فيُباح لهن ذلك استثناء من القاعدة، ولفظ "تفلات" استلزم جميع الشروط الأربعة السابقة؛ حيث إن المراد به: ترك كل زينة من ثياب وطيب، وأيِّ مُلفت للنظر والمقصود منه: منع الفتنة، وحضور مجالس الوعظ كحضور صلاة الجماعة؛ لعدم الفارق، بل إن حضورها للوعظ أولى، لما فيه من حصولها على العلم بأحكام الشريعة، بحيث ترفع الجهل عن نفسها والجهل عن غيرها، وهو من باب "مفهوم الموافقة الأولى".

(10)

مسألة: مراتب المساجد التي يُصلي فيها على حسب الأفضلية كما يلي: المرتبة الأولى: أن يجتمع رجال الثغور - وهم الذين على الحدود بين المسلمين والكفار - في مسجد واحد - إذا أمنوا مكر العدو -: سواء كان هذا المسجد قديمًا أو لا، بعيدًا أو لا؛ للمصلحة؛ حيث إن اجتماعهم فيه إظهار للإسلام، وإعلاء لكلمة الله، وأوقع هيبة للإسلام في نفوس الكفار، وفيه نشر الأخبار=

ص: 593

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

العدو، المرتبة الثانية: أن يصلي زيد في مسجد تُقام فيه الجماعة إذا حضر، وإذا لم يحضر لا تُصلى فيه جماعة: أي: أن هذا المسجد هو الأفضل لزيد أن يصلي فيه الجماعة ويُقدِّمه على غيره؛ للمصلحة؛ حيث إن حضور زيد يتسبَّب في إقامة الجماعة في ذلك المسجد وعمارته بالصلاة فيه: سواء كان هذا المسجد قديمًا أو لا، وسواء كان بعيدًا أو لا، وسواء كان يصلي فيه كثيرون أو لا، المرتبة الثالثة: أن يصلي في المسجد الأكثر جماعة ويقدمه على غيره: سواء كان قديمًا أو لا، بعيدًا أو لا؛ للسنة القولية، حيث قال صلى الله عليه وسلم:"وما كان أكثر جماعة فهو أحب إلى الله تعالى" وهو مطلق، فيستوي فيه القديم والجديد، والبعيد والقريب، المرتبة الرابعة: أن يصلي في المسجد القديم - إذا تساوى مسجدان في عدد الجماعة -: سواء كان بعيدًا أو قريبًا؛ للتلازم؛ حيث إن الطاعة فيه أسبق، والعبادة فيه أكثر، وبناءه من مال حلال أغلب على الظن؛ لكون الذين بنوه خيرًا ممن جاء بعدهم غالبًا، فيلزم تقديمه؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم:"خير القرون قرني ثم الذين يلونهم"، فإن قلتَ: إن الأقدم مقدَّم على الأكثر جماعة؛ للتلازم؛ وقد ذكرناه، وهو قول أكثر الحنابلة قلتُ: بل الأكثر جماعة مقدَّم على الأقدم - كما سبق -، لثبوت ذلك بالنص، ولأنه موافق للمقصد الشرعي من مشروعية صلاة الجماعة وهو: إظهار الإسلام بكثرة المجتمعين، بخلاف الصلاة في المسجد القديم فقد ثبت بالاجتهاد، وما ثبت بالنص مقدم على ما ثبت بالاجتهاد، ولا يحصل المقصود كثيرًا من مشروعية صلاة الجماعة في المسجد القديم، المرتبة الخامسة: أن يصلي في المسجد الأبعد عن سكنه - إذا تساوى المسجدان في القدم أو الحداثة أو الكثرة -؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "أعظم الناس أجرًا في الصلاة أبعدهم فأبعدهم ممشى وذلك بأن أحدكم إذا توضأ فأحسن الوضوء فأتى المسجد لا يريد إلا الصلاة لم يخطُ خطوة إلا رُفع له بها درجة، وحُطَّ عنه بها خطيئة حتى يدخل المسجد" وهو واضح الدلالة والمقصد.

ص: 594

وتُقدم الجماعة مطلقًا على أول الوقت

(11)

(ويحرم أن يؤم في مسجد قبل إمامه الراتب إلا بإذنه أو عذره)؛ لأن الراتب كصاحب البيت، وهو أحق بها: لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمَّن الرجل في بيته إلا بإذنه" ولأنه يؤدِّي إلى التنفير عنه، ومع الإذن هو نائب عنه، قال في "التنقيح":"وظاهر كلامهم لا تصح" وجزم به في "المنتهى"، وقدم في "الرعاية": تصح، وجزم به ابن عبد القوي في "الجنائز"، وأما مع عذره: فإن تأخر وضاق الوقت: صلوا؛ لفعل الصديق وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم حين غاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "أحسنتم"،

(12)

ويُراسَل إن غاب عن وقته المعتاد مع

(11)

مسألة: إذا دخل وقت الصلاة وغلب على ظن الشخص أنه سيجد جماعة قبل خروج وقتها: فالأفضل أن ينتظر الجماعة حتى يصلي معهم، ولا يصلي في أول الوقت، أما إن لم يغلب على ظنه ذلك: فإنه يصلي أول الوقت منفردًا؛ للمصلحة؛ حيث إن أجر الصلاة مع الجماعة في الوقت، أكثر من أجر الصلاة منفردًا في أول الوقت، ولأن صلاة الجماعة مظهر من مظاهر الإسلام فيحرص على المشاركة في ذلك.

(12)

مسألة: إذا كان إمام مسجد قد عُيِّن من قبل السلطان، أو من قبل جماعة المسجد - وهو الإمام الراتب -: فيحرم على غيره أن يؤم جماعته في مسجده إلا إذا أذن الإمام في ذلك، أو كان معذورًا بالتأخر بسبب سفر، أو مرض، أو شغل، وضاق الوقت: فيجوز أن يؤمهم غيره، أما إن أمَّهم بدون ذلك فإنه يأثم، وتصح الصلاة؛ لقاعدتين: الأولى: السنة التقريرية؛ حيث إن أبا بكر رضي الله عنه قد صلى بالناس لما تأخر النبي صلى الله عليه وسلم بسبب ذهابه إلى بني بكر بن عوف للإصلاح بينهم، وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قد صلي بالناس لما تأخر النبي صلى الله عليه وسلم بسبب غزوة تبوك، فوافقهما على ذلك، ولم يُنكر عليهما، الثانية: القياس، بيانه: كما أنه لا يجوز أن يؤم الرجلُ الرجل في بيته إلا بإذنه أو عذره - كما ورد عنه=

ص: 595

قُرب محلِّه وعدم مشقة، وإن بَعُد محلُّه، أو لم يُظن حضوره، أو ظُنَّ، ولا يكره ذلك: صَلُّوا

(13)

(ومن صلى) ولو في جماعة (ثم أقيم) أي: أقام المؤذَّن لـ (فرض: سُنَّ) له (أن يُعيدها) إذا كان في المسجد، أو جاء غير وقت نهي، ولم يقصد الإعادة، ولا فرق بين إعادتها مع إمام الحي أو غيره؛ لحديث أبي ذر:"صلِّ الصلاة لوقتها، فإن أُقيمت وأنت في المسجد: فصل، ولا تقل: إني صليت فلا أصلي" رواه أحمد ومسلم (إلا المغرب) فلا تسنُّ إعادتها، ولو كان صلَّاها وحده؛ لأن المعادة تطوع، والتطوع لا يكون بوتر،

(14)

ولا تكره إعادة الجماعة في مسجد له إمام راتب

- صلى الله عليه وسلم فكذلك هذا الإمام الراتب: مثله والجامع: أن كلًا منهما له الحق في الإمامة بسبب تسلُّطه وكون ذلك تحت تصرفه، فإن قلتَ: لمَ حرم ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه إضرار بالإمام الراتب: كتنفير الجماعة وتفريقهم وإعراضهم عنه، فدفعًا لذلك: حرم هذا، فإن قلتَ: لمَ صحَّت الصلاة إذا فعل غير الإمام الراتب ذلك؟ قلتُ: لأنها كاملة الأركان والشروط والواجبات فلزم صحتها؛ ولم أجد دليلًا يدل على عدم صحتها كما قال بعض الحنابلة.

(13)

مسألة: إذا تأخر الإمام الراتب عن وقت حضوره المعتاد للصلاة بالناس: فإنه يرُسَل إليه رسول ليستعجله إذا كان محلَّه قريبًا، ويُمكن الوصول إليه بلا مشقة، ويغلب على الظن حضوره إذا وصله الرسول، وهو يكره أن يؤم الناس غيره، أما إن كان محله بعيدًا، أو قريبًا ولكن يشق الوصول إليه، أو يغلب على الظن عدم حضوره، أو معروفًا عنه أنه لا يكره أن يؤم الناس غيره: فلا يرسل إليه، بل يتقدم أحد المأمومين فيصلي بالناس؛ للمصلحة؛ حيث إن الإرسال إليه فيه دفع مضرة عنه، أما إن شقَّ ذلك، فلا يُشرع الإرسال إليه؛ حيث إن تأخره والمشقة يسقطان عنه حقه في الإمامة.

(14)

مسألة: إذا صلى الفرض مع جماعة أو منفردًا، ثم دخل مسجدًا في غير وقت منهي عن الصلاة فيه - كما سبق - ووجد جماعة يُصلُّون: فيُستحب أن يعيدها=

ص: 596

كغيره،

(15)

وكره قصد مسجد للإعادة (ولا تكره إعادة جماعة في غير مسجدي مكة والمدينة) ولا فيهما؛ لعذر، وتكره فيهما لغير عذر؛ لئلا يتوانى الناس في حضور

معهم ويصليها وينويها نافلة؛ للسنة القولية؛ وهي من وجهين: أولهما: أنه صلى الله عليه وسلم قد أمر أبا ذر بذلك، ثانيهما: أنه قال لرجلين: "إذا صلى أحدكما في رحله ثم وجد جماعة فليُصلِّ معهم فإنها له نافلة" وهذا هو الذي صرف الأمر الوارد في حديث أبي ذر من الوجوب إلى الندب، فإن قلتَ: لمَ استحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تكثير للجماعة، وإظهار للإسلام، فإن قلتَ: إن صلاة المغرب لا يُستحب إعادتها؛ وهو ما ذكره المصنف هنا؛ للتلازم؛ حيث إن المعادة تكون نافلة، ولا توجد نافلة عدد ركعاتها ثلاث، فيلزم عدم استحباب إعادتها قلتُ: إنه يُستحب إعادتها كغيرها؛ لعموم السنة القولية السابقة الذكر، وينوي أنها نافلة ويزيدها ركعة، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "هل التلازم هنا خصص عموم السنة القولية التي ذكرناها أو لا؟ " فعندنا: لا، وعندهم نعم ..

(15)

مسألة: لا تكره إعادة صلاة الجماعة في مسجد له إمام راتب قد صلى بهم: سواء كان في المسجد الحرام بمكة أو بالمدينة أو غيرهما؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: لما رأى رجلًا واقفًا يُريد الصلاة قال: "من يتصدَّق على هذا؟ " فقام رجل فصفَّ معه فقال صلى الله عليه وسلم: "هذان جماعة" وهذا يلزم منه: إباحة إنشاء جماعة ثانية في مسجد غير الأولى التي صلى بهم الإمام الراتب، فإن قلتَ: إن ذلك مكروه؛ للمصلحة؛ حيث إنه يؤدِّي إلى اختلاف القلوب، والتهاون بالصلاة مع الإمام الراتب وهو قول بعض العلماء قلتُ: إن مصلحة إنشاء جماعة مقدمة على المصلحة التي ذكرتموها؛ لأن إنشاء جماعة فيه الأجر وهذا مؤكد، أما اختلاف القلوب والتهاون فهو غير مؤكد، والمؤكد مقدم، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه "تعارض المصلحتين".

ص: 597

الجماعة مع الإمام الراتب،

(16)

(وإذا أقيمت الصلاة: فلا صلاة إلا المكتوبة) رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا، وكان عمر رضي الله عنه يضرب على الصلاة بعد الإقامة، فلا تنعقد النافلة بعد إقامة الفريضة التي يريد أن يفعلها مع ذلك الإمام الذي أقيمت له،

(17)

ويصح قضاء الفائتة، بل يجب مع سعة الوقت، ولا يسقط الترتيب بخشية فوات الجماعة

(18)

(فإن) أقيمت و (كان) يُصلي (في نافلة: أتمها)

(16)

مسألة: يُكره أن يذهب ويقصد مسجدًا معينًا لإعادة الصلاة - التي ينويها نافلة - فيه، للمصلحة؛ حيث إن ذلك قد يؤدِّي به إلى الاعتقاد بأن هذا المسجد فيه كثير أجر وقد يُقلِّده غيره في هذا، فيؤدي إلى تقديس هذا المسجد، تنبيه: قوله: "ولا تكره إعادة جماعة في غير مسجدي مكة والمدينة .... " قلتُ: قد سبق بيانه: في مسألة (15).

(17)

مسألة: إذا كان شخص في المسجد وأقيمت صلاة الفريضة التي يُريد أن يُصليها مع ذلك الإمام الذي أقيمت له: فإنه يحرم على هذا الشخص أن يشرع في صلاة نافلة، ولا تنعقد لو شرع بها، بل يجب عليه أن ينضمَّ إلى الإمام ليصلي مع الجماعة صلاة الفرض؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم:"إذا أقيمت الصلاة، فلا صلاة إلا المكتوبة"، حيث حرم الشارع البدء في نافلة بعد إقامة الصلاة المفروضة ولو دخل بها: فإنها فاسدة، فلا تنعقد؛ لأن النفي في قوله:"فلا صلاة": نهي، وهو مطلق، فيقتضي التحريم والفساد، فإن قلتَ: لمَ حرِّم ذلك قلتُ: للمصلحة؛ حيث إنه إذا بدأ بنافلة بعد إقامة الفريضة، فإنه سيفوِّت على نفسه تكبيرة الإحرام مع الإمام وهو يستطيع إدراكها، ويؤدِّي إلى الاختلاف على الإمام، وإلى التفرقة، وهو منهي عنه.

(18)

مسألة: يجب قضاء الصلاة المفروضة الفائتة، ولو فأتت عليه الجماعة في صلاة حاضرة ولو كان الوقت واسعًا، فلو كان على شخص صلاة الظهر=

ص: 598

خفيفة (إلا أن يخشى فوات الجماعة فيقطعها): لأن الفرض أهم

(19)

(ومن كبرَّ) مأمومًا (قبل سلام إمامه) الأولى: (لحق الجماعة): لأنَّه أدرك جزءًا من صلاة الإمام، فأشبه ما لو أدرك ركعة،

(20)

(وإن لحقه) المسبوق (راكعًا: دخل معه في

مثلًا، ودخل المسجد والناس يصلون العصر: يجب عليه أن يصلي الظهر، وإن فاتته العصر مع الجماعة؛ للمصلحة؛ حيث إن ترتيب الصلوات المفروضة واجب بالاتفاق، وصلاة الجماعة واجبة عند بعض العلماء، وسنة عند الجمهور - الحنفية والمالكية، وكثير من الشافعية - فيلزم تقديم ما هو متفق عليه - وهو الترتيب - على المختلف فيه - وهو: صلاة الجماعة -؛ وذلك لتقديم الأهم على المهم، والأكثر أجرًا على غيره.

(19)

مسألة: إذا أقيمت صلاة الفرض الذي يريد أن يُصلِّيها مع الإمام، وهو داخل في نافلة: فيجب أن يقطعها إن خشي فوات الجماعة، أما إن لم يخش ذلك: فيُستحب إتمامها خفيفة؛ للمصلحة؛ حيث إن صلاة الجماعة اختلف في كونها واجبة أو مستحبة، أما النافلة فاتفق على استحبابها، فيلزم من ذلك تقديم الجماعة؛ لأنها - بذلك - أهم من النافلة وأكثر أجرًا، تقديمًا للأهم على المهم.

(20)

مسألة: يُدرك الشخص الجماعة وفضلها: إذا كبَّر تكبيرة الإحرام قبل أن يُسلِّم الإمام التسليمة الأولى؛ للقياس، بيانه: كما أنه إذا أدرك ركعة مع الإمام: فإنه يدرك الصلاة مع الجماعة؛ لقوله عليه السلام: "من أدرك ركعة فقد أدرك الصلاة" فكذلك من أدرك تكبيرة الإحرام قبل تسليم الإمام يُدركها والجامع: أن كلًا منهما قد أدرك جزءًا من صلاة الإمام، فإن قلتَ: لمَ يُدرك فضل الجماعة بهذا؟ قلتُ: لأن هذا نوى كونه مأمومًا، فأحرم مع إمامه، ونوى الصفة التي هو فيها، فيلزم أن يكون مدركًا لأجر الجماعة، فإن قلتَ: لا يدرك=

ص: 599

الركعة)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "من أدرك الركوع: فقد أدرك الركعة" رواه أبو داود، فيدرك الركعة إذا اجتمع مع الإمام في الركوع بحيث ينتهي إلى قدر الإجزاء قبل أن يزول الإمام عنه، ويأتي بالتكبيرة كلها قائمًا كما تقدَّم، ولو لم يطمئن، ثم يطمئن، ويُتابع (وأجزأته التحريمة) عن تكبيرة الركوع، والأفضل أن يأتي بتكبيرتين، فإن نواهما بتكبيرة، أو نوى به الركوع: لم يجزئه؛ لأن تكبيرة الإحرام ركن ولم يأتِ بها،

(21)

فضل الجماعة إلا إذا أدرك ركعة كاملة، وهو قول أكثر المالكية وبعض الحنابلة كابن تيمية؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم:"من أدرك ركعة، فقد أدرك الصلاة" حيث دلَّ مفهوم الشرط والعدد على أن من أدرك أقل من ركعة: لا يُدرك الجماعة قلتُ: إذا أدرك ركعة كاملة فهو مدرك لأمرين: "إدراك الركعة فلا يقضيها"، و"إدراك الجماعة" ونحن قسنا إدراك الشخص الإمام قبل التسليمة الأولى على إدراك الركعة في تحصيل فضل الجماعة فقط، ولم نقل: إنه يدرك الركعة، بل يقضيها، فيكون قياسنا على الأمر الثاني وهو:"إدراك الجماعة"؛ لكونه انضم إلى الإمام ناويًا الائتمام به، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض لفظ السنة مع مقصودها" فعندنا: يقدم مقصودها، وهو إدارك جزء منها، فصح القياس، وعندهم: العمل على لفظ الحديث ومفهومه.

(21)

مسألة: إذا دخل شخص المسجد والإمام راكع: فإنه يُكبِر تكبيرة الإحرام وهو قائم، ثم يكبِّر تكبيرة الركوع، ثم يركع مع الإمام إن استطاع ذلك، فإن لم يستطع ذلك: فإنه يُكبِّر تكبيرة الإحرام فقط وينوي دخول تكبيرة الركوع معها، ويركع، ويكون مدركًا للركعة إذا أمكنه أن يقول:"سبحان ربي العظيم" مرة واحدة وهو مجتمع مع الإمام في الركوع قبل أن يرفع الإمام رأسه، ولو بدون اطمئنان، ثم يطمئن بعد ذلك ويُتابع الإمام؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم:"من أدرك ركعة فقد أدرك الصلاة" وقد سبق تقريره في مسألة: (20)، فإن =

ص: 600

ويُستحب دخوله معه حيث أدركه، وينحط معه في غير ركوع بلا تكبير، ويقوم مسبوق به،

(22)

وإن قام قبل سلام إمامه الثانية ولم يرجع:

قلتُ: لمَ تكفِ تكبيرة الإحرام عن تكبيرة الركوع؟ قلتُ: لأن تكبيرة الإحرام ركن لا تصح الصلاة إلا بها؛ بخلاف تكبيرة الركوع فهي واجب فلزم تقديم الركن، ويدخل الواجب ضمنه عند عدم القدرة بالإتيان بهما معًا، ولهذا لا ينوي بذلك التكبير تكبيرة الركوع، فإن قلتَ: إذا نواهما معًا لا يُجزئه ذلك، وهو ما ذكره المصنف هنا؛ للتلازم؛ حيث إنه شرَّك بين الواجب والركن في النية فيلزم عدم الإجزاء قلتُ: بل يُجزئ ذلك كما قلنا؛ للتلازم؛ حيث إن نية الركوع ونية التحريمة غير متنافيتين؛ لأنهما عبادة إجماعًا، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "هل نية تكبيرة الإحرام تختلف عن نية تكبيرة الركوع أو لا؟ " فعندنا: لا وعندهم: تختلف.

(22)

مسألة: يُستحب أن يدخل الشخص مع الجماعة الذين يُصلُّون وراء إمام في أية حالة كانوا عليها، فإن كان الإمام جالسًا أو ساجدًا: فإنه يُكبِّر تكبيرة الإحرام وهو قائم ثم يجلس أو يسجد معه، وكذا: إذا سلَّم الإمام: فإن المسبوق يقوم ليأتي بما فاته مُكبِّرًا؛ للقياس وهو من وجهين: أولهما: كما أن من أدرك الإمام راكعًا يُكبِّر تكبيرة الإحرام ويركع، فكذلك من أدركه جالسًا أو ساجدًا يُكبِّر الإحرام ويجلس أو يسجد والجامع: أن كلًا منهما يُريد الدخول في الصلاة، ولا دخول إلا بتكبيرة الإحرام، ثانيهما: كما أن القائم من التشهد الأول يُكبِّر حين قيامه، فكذلك من قام يُريد أن يأتي بما فاته بعد سلام إمامه يُكبِّر لأجل هذا القيام، والجامع: أن كلًا منهما انتقال من حال إلى حال، فلا بدَّ من التكبير له، تنبيه: قوله: "وينحطّ معه في غير ركوع بلا تكبير" قلتُ: هذا لم أجد دليلًا قويًا عليه، فإن قلتَ: لمَ استحب له أن يدخل مع الإمام؟ قلتُ: للسنة القولية: حيث قال: "إذا جئتم الصلاة ونحن سجود=

ص: 601

انقلبت نفلًا

(23)

(ولا قراءة على مأموم) أي: يتحمَّل الإمام عنه قراءة الفاتحة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم "من كان له إمام فقراءته له قراءة" رواه أحمد (ويُستحب) للمأموم أن يقرأ (في إسرار إمامه) أي: فيما لا يجهر فيه الإمام (و) في (سكوته) أي: سكتات الإمام، وهي: قبل الفاتحة، وبعدها بقدرها بعد فراغه من القراءة، وكذا: لو سكت لتنفس (و) فيما إذا (لم يسمعه لبُعد) عنه (لا) إذا لم يسمعه (الطرش) فلا يقرأ إن أشغل غيره عن الاستماع، وإن لم يشغل أحدًا قرأ

(24)

(ويستفتح) المأموم (ويستعيذ فيما

فاسجدوا ولا تعدوها شيئًا"، وصرف هذا الأمر من الوجوب إلى الندب قرينة اللفظ، وهو قوله "ولا تعدُّوها شيئًا".

(23)

مسألة: يجب على المسبوق أن يقوم ليأتي بما فاته بعد سلام الإمام التسليمة الثانية، فإن قام قبل تمام التسليمة الثانية، وهو عالم بتحريم ذلك وأنَّه مفسد لصلاته ومتذكَّر له: فإن صلاة الفرض تبطل، وتكون نفلًا، ويجب أن يُعيد الفرض، أما إن قام ثم رجع، ثم لما فرغ الإمام من سلامه: قام وأتى بما عليه: فإن صلاته صحيحة يُتمها، ويسجد للسهو قبل سلامه، أما إن لم يرجع وهو جاهل بالحكم أو ناسي: فصلاته صحيحة، ولا يسجد للسهو؛ للتلازم؛ حيث يلزم من نية الائتمام: وجوب الاستمرار مع إمامه إلى فراغ الصلاة بالتسليمة الثانية ويلزم من رجوعه: صحتها، ويلزم من قيامه قبل ذلك وهو عالم ذاكر: بطلانها، وانقلابها إلى نافلة؛ لأن التسليمة الثانية ليست فرضًا، ويلزم من عدم رجوعه جهلًا أو نسيانًا: صحتها: لوجود العذر، وقد بان المقصد منه.

(24)

مسألة: قراءة الفاتحة في جميع ركعات الصلاة ركن لا تصح الصلاة إلا بها - كما سبق في صفة الصلاة -، سواء كان المصلي مأمومًا، أو إمامًا، أو منفردًا، بعيدًا أو قريبًا أطرشًا أو لا، وسواء كانت الصلاة سرية أو جهرية، ويقرأها المأموم في الجهرية عند سكتات الإمام بعد الفاتحة أو سكوته للتنفس؛ للسنة=

ص: 602

يجهر فيه إمامه) كالسرية، قال في "الشرح" وغيره: ما لم يسمع قراءة إمامه،

(25)

وما أدرك المسبوق مع الإمام فهو آخر صلاته، وما يقضيه أولها يستفتح له، ويتعوَّذ،

القولية حيث قال صلى الله عليه وسلم لما انصرف من صلاة الفجر -: "لعلكم تقرأون خلف إمامكم، لا تفعلوا إلا بأمَّ القرآن، فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها" وهي الفاتحة، وهذا عام لجميع المصلين ولجميع الصلوات لأن "من" الموصولة في قوله:"لمن" وكذا: النكرة في سياق النفي وهي: "لا صلاة" من صيغ العموم ونفى صحة الصلاة مطلقًا إذا لم يقرأ المصلي بالفاتحة، ويدل على أن المراد: نفي الصحة: إثبات قراءتها بعد نفيه للقراءة كلها؛ لأن الاستثناء من النفي إثبات، فإن قلتَ: لا تجب على المأموم قراءة الفاتحة؛ وهو ما ذكره المصنف هنا؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "من كان له إمام، فقراءته له قراءة" فخصَّص هذا الحديث الذي ذكرناه عندهم، قلتُ: إن هذا الحديث ضعيف، وروي موقوفًا على راويه - كما قال الدارقطني في سننه (1/ 314) وابن كثير في تفسيره (2/ 380)، وعلى فرض صحته: فإن حديثنا يُقدَّم عليه؛ لقوته، ويؤيد ما قلناه: أن قراءة المأموم للفاتحة - في سكتات الإمام - فيه استحضار لما يقرأ والتفكير فيه أكثر مما يسمعه، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض هذين الحديثين" فعندنا: أن حديثهم لا يصح، وعندهم: يصح، لذا خصَّص عندهم حديثنا، وجعلوه خاصًا بالإمام والمنفرد [فرع]: يُشترط لصحة قراءة المأموم للفاتحة: أن لا يُشغل غيره ممن بجانبه؛ للمصلحة: حيث إنَّ ذلك فيه إلحاق الضرر على جيرانه من المأمومين من حيث منعهم من التفكَّر فيما يقرأون، والضرر يُزال فلذلك اشترط هذا الشرط دفعًا لهذا الضرر.

(25)

مسألة: يُستحب للمأموم أن يستفتح، ويستعيذ في الصلاة الجهرية؛ قياسًا على الصلاة السرية بجامع: الحصول على خير ذلك وثوابه.

ص: 603

ويقرأ سورة،

(26)

لكن لو أدرك ركعة من رباعية أو مغرب: تشهَّد عقب أخرى، ويتورَّك معه

(27)

(ومن ركع أو سجد) أو رفع منهما (قبل إمامه: فعليه أن يرفع)

(26)

مسألة: ما أدرك المسبوق من الصلاة مع الإمام هو أولها، وما يقضيه ويأتي به بعد سلام إمامه هو: آخرها: وبناء عليه: فإن المسبوق إذا قام ليقضي ما فاته فلا يستفتح ولا يتعوذ، ولا يقرأ سورة بعد الفاتحة؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "ما فاتكم فأتموا" فأوجب إتمام الصلاة، ويلزم من هذا: أن ما بقي من الصلاة يوصف بأنه متمِّم لأولها الذي فعله هذا المسبوق مع إمامه، الثانية: قول الصحابي؛ حيث قال عليه رضي الله عنه: "ما أدركت فهو أول صلاتك" فإن قلتَ: إن ما أدرك المسبوق من الصلاة مع الإمام هو: آخر صلاته، وما يقضيه ويأتي به بعد سلام الإمام هو أولها، ولذا: إذا قام المسبوق إلى إكمال صلاته، فإنه يستفتح ويتعوذ ويقرأ سورة بعد الفاتحة، وهو ما ذكره المصنف هنا؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم:"وما فاتكم فاقضوا" والقضاء يكون لشيء قد فات محلُّه، ويُجعل في القضاء كما يجعل في الأداء، فكما أنه في أول الصلاة يستفتح ويتعوذ فكذلك في قضائه، قلتُ: المراد بالقضاء هنا: هو الفعل، يؤيده قوله تعالى:{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ} وقوله: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ} أي فعلت الصلاة، وفعلتم مناسك الحج، وعلى هذا فلا تنافي بين "فأتموا" و "اقضوا" فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: الخلاف في المراد بالقضاء الوارد في الحديث، فعندنا: الفعل، ولا تنافي بينها وبين الإتمام، وعندهم: يوجد تنافي.

(27)

مسألة: إذا أدرك المسبوق ركعة من الرباعية، أو المغرب: فإنه إذا أتى بركعة - بعد سلام إمامه -: يجلس للتشهد الأول، ويتورَّك، ولا يُحسب له التشهد الأخير الذي أدركه مع إمامه لا من أول صلاته، ولا من آخرها؛ للإجماع؛ حيث أجمع العلماء على ذلك، فإن قلتَ: لمَ شرع هذا؟ قلتُ: للمحافظة على هيئة الصلاة، فتجب.

ص: 604

أي: يرجع (ليأتي به) أي: بما سبق به الإمام (بعده) لتحصل المتابعة الواجبة،

(28)

ويحرم سبق الإمام عمدًا؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "أما يخشى أحدكم إذا رفع رأسه قبل الإمام أن يُحوِّل رأسه رأس حمار، أو يجعل صورته صورة حمار" متفق عليه، والأولى: أن يشرع في أفعال الصلاة بعد الإمام،

(29)

وإن كبَّر معه لإحرام لم تنعقد،

(30)

وإن

(28)

مسألة: إذا ركع المأموم أو سجد قبل ركوع وسجود الإمام عمدًا: فهذا حرام ولا يُعتبر هذا الركوع أو السجود وعليه: أن يرجع ليأتي بالركوع أو السجود بعدما يفعلهما إمامه؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "لا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود ولا بالانصراف" والنهي هنا مطلق فيقتضي التحريم والفساد، فإن قلتَ: لَم شرع هذا؟ قلتُ: لتحقيق المتابعة للإمام التي أمر بها الشارع؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "فلا تختلفوا عليه"، وللبعد عن تشبيهه بالحمار الذي لا يعقل شيئًا.

(29)

مسألة: يُستحب أن يشرع المأموم في أفعال الصلاة بعدما يشرع به الإمام، ويُكره اتفاقه معه في نفس الشروع، فمثلًا: إذا ركع الإمام: يركع المأموم بعده، ولا يركع معه، فإن ركع معه: صحَّت الصلاة وكره؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "فلا تركعوا حتى يركع" أي: اركعوا بعد ركوع الإمام لا معه، وهو الذي أفاده مفهوم الغاية هنا، فإن قلتَ: لَم صحَّت إذا استويا في شروعهما بالركوع؟ قلتُ: لكون المأموم لم يسبق الإمام في ذلك فلم يرتكب منهيًا عنه، فإن قلتَ: لَم استحب أن يشرع المأموم بعد شروع الإمام؟ قلتُ: لتحقيق المتابعة للإمام المأمور بها أو تأكيدها، تنبيه: قوله: "ويحرم سبق الإمام عمدًا" قلتُ: قد سبق بيانه في مسألة (28).

(30)

مسألة: إذا كبَّر المأموم تكبيرة الإحرام في نفس الوقت الذي كبَّر فيه الإمام تكبيرة الإحرام: فإن صلاة المأموم لا تنعقد، وتفوته فضيلة صلاة الجماعة: سواء كانت عمدًا أو سهوًا؛ للتلازم؛ حيث إن شرط اقتداء المأموم بالإمام هو: =

ص: 605

سلَّم معه: كُره وصح،

(31)

وقبله عمدًا بلا عذر: بطلت، وسهوًا: يُعيده بعده، وإلَّا: بطلت

(32)

(فإن لم يفعل) أي: لم يُعد (عمدًا) حتى لحقه الإمام فيه: (بطلت) صلاته؛ لأنه ترك الواجب عمدًا، وإن كان سهوًا أو جهلًا: فصلاته صحيحة، ويعتدُّ به

(33)

(وإن ركع ورفع قبل ركوع إمامه عالمًا عمدًا: بطلت) صلاته؛ لأنه سبقه

أن يُكبر المأموم التحريمة بعد الإمام، لا قبله ولا معه: فلزم من مخالفة المأموم لهذا الشرط - وهو أنه كبر معه -: عدم انعقاد صلاة المأموم مع إمامه؛ لأنه بتكبيرة الإحرام بعد إمامه تبدأ متابعته له، بخلاف التكبيرات الأخرى فهي داخل الصلاة فلا يضر أن يُكبِّر تكبيرة الركوع مع تكبير الإمام.

(31)

مسألة: إذا سلَّم المأموم في نفس الوقت الذي سلَّم فيه إمامه: فإن صلاته تصح، ويُكره فعله ذلك؛ للتلازم؛ حيث يلزم من تسليمه مع الإمام: صحة صلاته؛ لأنه لم يُسلِّم قبله، ويلزم موافقته بالتسليم لإمامه: كراهة ذلك؛ لأنه لم يُسلِّم بعده، لتحقيق المتابعة.

(32)

مسألة: إذا سلَّم المأموم عمدًا قبل سلام إمامه: فصلاته باطلة، وإن سلَّم سهوًا أو جهلًا قبل سلام إمامه: فإنه يُعيد السلام بعد سلام إمامه، وإن لم يُعد عمدًا: بطلت صلاته؛ للتلازم؛ حيث إن السلام ركن - كما سبق في صفة الصلاة - ويكون للمأموم بعد سلام إمامه فيلزم من سلامه قبل سلام إمامه عمدًا: بطلان صلاته لتركه المتابعة؛ ويلزم وقوع ذلك سهوًا أو جهلًا: إعادته بعد سلام إمامه فتصح صلاته؛ لوجود العذر، ويلزم من عدم إعادته عمدًا: بطلان صلاته؛ لأنه ترك ركنًا، وهذا يُبطل العمل، وهذا المقصد منه.

(33)

مسألة: إذا ركع المأموم أو سجد قبل ركوع الإمام أو سجوده، ولم يرجع عمدًا ليركع ويسجد بعد إمامه، ثم لحقه الإمام فيما سبقه فيه: فإن صلاته باطلة، أما إن لم يرجع سهوًا أو جهلًا: فيعتدُّ بتلك الركعة التي وقع فيها السبق، =

ص: 606

بمعظم الركعة (وإن كان جاهلًا أو ناسيًا) وجوب المتابعة (بطلت الركعة) التي وقع السبق فيها (فقط) فيُعيدها، وتصح صلاته؛ للعذر (وإن) سبقه مأموم بركنين بأن (ركع ورفع قبل ركوعه، ثم سجد قبل رفعه) أي: رفع إمامه من الركوع: (بطلت) صلاته؛ لأنه لم يقتد بإمامه في أكثر الركعة (إلا الجاهل والناسي) فتصح صلاتهما؛ للعذر (ويُصلِّي) الجاهل والناسي (تلك الركعة قضاء)؛ لبطلانها؛ لأنه لم يقتد بإمامه فيها، ومحلُّه: إذا لم يأت بذلك مع إمامه،

(34)

ولا تبطل بسبق بركن واحد غير ركوع،

(35)

والتخلُّف عنه كسبقه على ما

وتصح صلاته؛ للتلازم؛ حيث إنه يلزم من تركه الواجب عمدًا - وهو متابعة إمامه - بطلان المتابعة والجماعة فتبطل صلاته؛ لكونه لا يُسمَى مصليًا وحده، ولا مصليًا مع الجماعة، فلم يؤدِّي الصلاة، ويلزم من وقوع ذلك جهلًا أو سهوًا: صحَّة صلاته؛ للعذر.

(34)

مسألة: إذا ركع المأموم، ثم رفع من ركوعه قبل ركوع إمامه، أو ركع المأموم ورفع قبل ركوع إمامه، ثم سجد قبل رفع إمامه من ركوعه، وفعل المأموم ذلك عمدًا: بطلت صلاته في الحالتين، وإن فعل ذلك جهلًا أو نسيانًا: فإن تلك الركعة التي وقع فيها السبق هي التي تبطل، وتصح صلاته، ويقضي تلك الركعة فقط بعد سلامه؛ للتلازم؛ حيث إنه ترك المتابعة الواجبة عمدًا فيلزم: بطلان صلاته هذا الإمام، ويلزم من ترك المتابعة جهلًا أو نسيانًا: صحَّة صلاته؛ لوجود عذره، ويقضي تلك الركعة، التي وقع فيها السبق؛ لفسادها؛ لعدم متابعة إمامه فيها، ولفواتها عن محلِّها.

(35)

مسألة: إذا سبق مأموم إمامه بركن واحد - غير التحريمة والركوع -: فإن صلاته - أي: المأموم - تصح، وتصح متابعته؛ للتلازم؛ حيث إن هذا سبق يسير لا يؤثر فتلزم صحتها.

ص: 607

تقدَّم

(36)

(ويُسنُّ للإمام التخفيف مع الإتمام)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا صلى أحدكم بالناس فليخفِّف" قال في "المبدع": ومعناه: أن يقتصر على أدنى الكمال من التسبيح وسائر أجزاء الصلاة إلا أن يؤثر المأموم التطويل، وعددهم ينحصر، وهو عام في كل الصلوات، مع أنه سبق أنه يُستحب أن يقرأ في الفجر بطوال المفصَّل، وتكره سرعة تمنع المأموم فعل ما يُسنُّ،

(37)

(و) يُسنُّ (تطويل الركعة الأولى أكثر من الثانية)؛

(36)

مسألة: إذا تخلَّف مأموم عن إمامه بركن أو ركنين من ركعة واحدة: كأن يركع الإمام، ثم يرفع من الركوع والمأموم لم يركع، فلا تبطل صلاة ذلك المأموم إذا كان ذلك التخلُّف وقع بسبب نعاس أو غفلة، أو زحام، أو عجلة إمام، والواجب عليه: أن يفعل ما سبقه إليه إمامه ويلحق بالإمام إن قدر على ذلك، وإن لم يقدر: فإنه يترك تلك الركعة التي تخلَّف عن ركن أو ركنين منها، ويُتابع إمامه فيما هو عليه، فإذا سلَّم إمامه يقضي المأموم تلك الركعة التي ترك منها ركنًا أو ركنين، أما إن كان ذلك وقع عمدًا: فتبطل صلاته؛ للقياس، بيانه: كما أن المأموم إذا سبق إمامه بركن أو ركنين يفعل ذلك كما سبق في مسألة (34) - فكذلك إذا تخلَّف عن إمامه يفعل ذلك والجامع: عدم متابعة الإمام، وقد سبق تفصيله.

(37)

مسألة: يُستحب أن يُخفِّف الإمام الصلاة تخفيفًا غير مُخلِّ بأركان وواجبات الصلاة بأن يقتصر على أدنى الكمال في الأقوال والأفعال فيها، وتكره سرعته إلى حد لا يستطيع معها المأموم أن يفعل ويقول بعض المسنونات في الصلاة، أما إن كان المأمومون محصورين وهم موافقون على التطويل: فُيستحب التطويل فيها، لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "إذا صلى أحدكم بالناس فليُخفِّف؛ فإن فيهم السقيم والضعيف وذا الحاجة" وصرفت السنة الفعلية هذا الأمر في قوله: "فليخفف" من الوجوب إلى الاستحباب؛ =

ص: 608

لقول أبي قتادة رضي الله عنه: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يطوِّل في الركعة الأولى" متفق عليه إلا في صلاة خوف في الوجه الثاني، وبيسير كـ "سبَّح" و "الغاشية"

(38)

(ويُستحب) للإمام

حيث كان صلى الله عليه وسلم يطيل الصلاة بالصحابة، الثانية: المصلحة؛ حيث إن تخفيف الصلاة فيه مراعاة أحوال وظروف المأمومين؛ لكونهم غير متساويين في القوة والنشاط والفراغ، وفي تمكين المأموم من فعل بعض المسنونات في الصلاة فيه تمكينه من الحصول على الأجر، فيكره حرمانه منه، وفي التطويل على مأمومين قد وافقوا ذلك فيه الحصول على أجر استماع الذكر، فاستُحب لأجل ذلك.

(38)

مسألة: يُستحب أن يُطوِّل الإمام الركعة الأولى ويجعلها أطول من الثانية بيسير: كأن يقرأ في الأولى بـ "سبِّح" والثانية بـ "الغاشية" إلا في صلاة الخوف: فإنه يُستحب أن يجعل الثانية أطول من الأولى إذا كان العدو في غير جهة القبلة؛ للسنة الفعلية؛ وهي من وجهين: أولهما: أنه صلى الله عليه وسلم كان يطول في الأولى كما رواه أبوقتادة فيقرأ فيها بـ "سبِّح"، ويقرأ في الثانية بـ "الغاشية"، والفرق بينهما يسير، ثانيهما: أنه صلى الله عليه وسلم قد طوَّل في الثانية دون الأولى في صلاة الخوف، فإن قلتَ: لمَ استحبَّ ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن تطويل الأولى فيه تمكين المتأخر من المأمومين من إدراكها، وهذا فيه فضل عظيم، وفيه مراعاة نشاط المصلي، حيث إنه أنشط في الأولى، وتطوَّل الثانية في صلاة الخوف لأجل أن يُتم من صلى معه الركعة الأولى صلاته، ويُسلِّمون ثم يذهبون ثم يأتي من لم يصل معه الأولى، فيصلي معه الركعة الثانية وهذه صفة صلاة الخوف كما سيأتي بيانها، وهذا فيه تمكين جميع الصحابة من الصلاة معه؛ لأنهم كانوا يريدون ذلك، فإن قلتَ: إن الركعتين الأوليين يُستحب أن تتساويا - في غير صلاة الخوف - وهو قول الشافعي؛ للسنة الفعلية؛ حيث إن أبا سعيد الخدري رضي الله عنه قال: "حزرنا قيام النبي صلى الله عليه وسلم في الركعتين الأوليين من الظهر قدر ثلاثين آية" وهذا يلزم تساويهما قلتُ: إن حديث أبي قتادة قد تضمَّن زيادة على ما جاء في =

ص: 609

(انتظار داخل إن لم يشق على مأموم)؛ لأن حرمة الذي معه أعظم من حرمة الذي لم يدخل معه

(39)

(وإذا استأذنت المرأة) الحرة أو الأمة (إلى المسجد: كره منعها)، لقوله صلى الله عليه وسلم:"لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، وبيوتهن خير لهن، وليخرجن تفلات" رواه أحمد وأبو داود، وتخرج غير متطيبة، ولا لابسة ثياب زينة (وبيتها خير لها)؛ لما تقدَّم، ولأب ثم أخ ونحوه منع موليته من الخروج إن خشي فتنة أو ضررًا، ومن

حديث أبي سعيد، وهي: التفريق بين الركعتين، وهي زيادة ثقة فتُقبل، ويُرجَّح بهذا حديثُ أبي قتادة، ويؤيد ذلك: المصلحة التي ذكرناها، فإن قلتَ: ماسبب الخلاف هنا؟ قلت: سببه: "الخلاف في زيادة الثقة هل هي حجة هنا؟ " فعندنا: حجة، ويعمل بها، وعندهم: ليست بحجة هنا.

(39)

مسألة: يُستحب أن ينتظر الإمام الداخل إلى المسجد، ويُمكنِّه من إدراك الركعة الأولى، والجماعة بشرط: أن لا يشق على مأموم معه؛ لقاعدتين: الأولى: السنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم كان يطيل الركعة الأولى حتى لا يسمع وقع قدم، الثانية: المصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تمكين المتأخر من إدراك فضل الركعة الأولى مع الإمام، وإدراك الجماعة، وفي اشتراط: عدم وجود مشقة على مأموم معه: تقديم مراعاة حال المأموم الذي معه على مراعاة شخص قد يأتي، وقد لا يأتي، فإن قلتَ: لا يُستحب ذلك؛ وهو قول بعض العلماء؛ للتلازم؛ حيث إن الصلاة لها هيئة معلومة وصفة مشروعة فيلزم: عدم تغيُّر ذلك بسبب انتظار أحد قلتُ: إن الشريعة مبنية على مراعاة جلب المصالح، ودفع المفاسد عن الخلق، وقد سبق كثير من ذلك، وهذا منه، يؤيده: مراعاته صلى الله عليه وسلم أم الصبي الباكي؛ حيث يُعجِّل الصلاة رحمة بالصبي وأمه، ومراعاته الكبير والضعيف، والمريض، وذا الحاجة - كما سبق - فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "هل تراعى المصلحة في الصلاة أو لا؟ " فعندنا: نعم؛ وعندهم: لا.

ص: 610

الانفراد

(40)

فصل: في أحكام (الأولى بالإمامة: الأقرأ) جودة (العالم فقه

(40)

مسألة: صلاة المرأة في بيتها خير لها من صلاتها في المسجد، ويُكره منع المرأة من الخروج إلى المسجد إذا كانت غيرُ متزينة بثياب أو طيب، وإذا كانت مع مجموعة من النساء ولم يُخش من الفتنة، أما إن كانت متزينة، أو خرجت منفردة، أو خشي الأب أو الأخ أو الزوج أو الابن أن خروجها فيه فتنة أو شُكَّ فيها أو نحو ذلك: فيُحرَّم عليها الخروج، ويجب على وليها - ممن سبق - أن يمنعها ولو بالقوة ولو كانت مُظهرة للديانة؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ وهي من وجهين: أولهما: قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، وبيوتهن خير لهن، وليخرجن وهن تفلات" وصرف النهي في قوله: "لا تمنعوا" من التحريم إلى الكراهة قوله: "بيوتهن خير لهن" ليتمكن من إدراك تلك الخيرية، والأفضلية التي في الحديث الآتي، ويلزم من لفظ "خير لهن" أن صلاتها في بيتها الفرض والنافلة خير لها مطلقًا، ويلزم من لفظ "تفلات": أن لا يخرجن وهن متزينات بأي شيء ثانيهما: قوله: "صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها، وصلاتها في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها" وهو واضح، الثانية: المصلحة: حيث إن الولي إذا غلب على ظنه وقوع فتنة على موليته أو شك في ذلك: فإنه يمنع موليته من الخروج ولو بالقوة، ولو كان ظاهرها الديانة؛ لمنع المفاسد المتوقعة بسبب هذا الخروج خاصة وأن صلاتها في بيتها خير لها كما صرَّح به النبي صلى الله عليه وسلم، فإن قلتَ: لِمَ لا يُكره منعها بالشروط السابقة؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تمكين لها من الحصول على فضل صلاة الجماعة، فإن قلتَ: يحرم منع المرأة غير الملفتة للنظر من الخروج إلى المسجد، وهو قول بعض العلماء ومنهم ابن عثيمين؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "لا تمنعوا

" والنهي مطلق فيقتضي التحريم، قلتُ: إن هذا النهي قد صرف من التحريم إلى الكراهة بالسنة القولية التي سبق ذكرها من وجهين، ثم إن منعها لمصلحتها التي يدركها الولي وقد لا =

ص: 611

صلاته)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "يؤم القوم أقرأهم لكتاب الله فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سنًا" رواه مسلم (ثم) إن استووا في القراءة (الأفقه)؛ لما تقدم، فإن اجتمع فقيهان قارئان، وأحدهما أفقه أو أقرأ: قُدِّم، فإن كانا قارئين: قُدِّم أجودهما قراءة، ثم أكثرهما قرآنًا، ويقدم قارئ لا يعرف أحكام صلاته على فقيه أمِّي، وإن اجتمع فقيهان أحدهما أعلم بأحكام الصلاة: قُدِّم؛ لأن علمه يؤثِّر في تكميل الصلاة (ثم) إن استووا في القراءة والفقه: (الأسن): لقوله صلى الله عليه وسلم: "وليؤمكم أكبركم" متفق عليه (ثم) مع الاستواء في السن (الأشرف) وهو: القرشي، وتُقدَّم بنو هاشم على سائر قريش، إلحاقًا للإمامة الصغرى بالكبرى؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"قدِّموا قريشًا ولا تقدموها"، (ثم الأقدم هجرة) أو إسلامًا (ثم) مع الاستواء فيما تقدَّم (الأتقى)؛ لقوله تعالى:{إن أكرمكم عند الله أتقاكم} (ثم) إن استووا في الكل: يقدم (من قرع) إن تشاحُّوا؛ لأنهم تساووا في الاستحقاق، وتعذَّر الجمع فأقرع بينهم كسائر الحقوق

(41)

تدركها هي، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "هل النهي في الحديث السابق على إطلاقه، أو هو مصروف إلى الكراهة؟ " فعندنا: مصروف بما ذكرناه، وعندهم على إطلاقه فيقتضي التحريم.

(41)

مسألة: إذا اجتمع اثنان يريدان إمامة الصلاة في مسجد: فإنه يُقدم الأفضل منهما وهو كما يلي: أولًا: إذا كانا قارئين للقرآن عالمين بفقه الصلاة: فإنه يقدم الأجود قراءةً والأعلم بفقهها، ثانيًا: إذا كانا سواء في القراءة، ولكن أحدهما أفقه بأحكام الصلاة فإنه يُقدَّم الأفقه، ثالثًا: إذا كانا قارئين فقيهين، ولكن أحدهما أقرأ، والآخر أفقه بأحكام الصلاة: فإنه يُقدَّم الأقرأ، رابعًا: إذا كانا قارئين، ولكن أحدهما أجود قراءة وأقل لحنًا وأقل حفظًا لكتاب الله، والثاني =

ص: 612

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

أكثر حفظًا، وأكثر لحنًا: فإنهُ يقدم الأول، خامسًا: إذا كانا متساويين في جودة القراءة، لكن أحدهما أكثر قرآنًا: فإنه يُقدَّم، سادسًا: إذا كان أحدهما قارئ للقرآن ومحسن للفاتحة، ولكنه لا يعرف فقه أحكام الصلاة، والثاني يعرف فقه أحكام الصلاة، ولكنه أُمي لا يُحسن الفاتحة: فإنه يُقدَّم الأول، سابعًا: إذا كانا متساويين في القراءة والفقه، ولكن الأول منهما أفقه في أحكام الصلاة والثاني أفقه في أحكام الزكاة والصيام وغيرهما: فإنه يُقدم الأول، ثامنًا: إذا كانا قارئين فقيهين، ولكن الأول هاجر من دار الكفر إلى دار الإسلام قبل الثاني: فإنه يُقدَّم الأول، تاسعًا: إذا كانا متساويين في القراءة والفقه وسنة الهجرة ولكن الأول أسلم قبل الثاني: فإنه يقدم الأول، عاشرًا: إذا كانا متساويين في القراءة والفقه وسنة الهجرة والإسلام، ولكن الأول أكبر سنًا من الثاني: قدم الأول، حادي عشر: إذا كانا متساويين في القراءة والفقه وسنة الهجرة والإسلام والسن، ولكن الأول أتقى وأورع من الثاني: قُدِّم الأول - وهو: الذي يترك ما لا بأس به حذرًا مما به بأس -، ثاني عشر: إذا كانا متساويين فبالقراءة والفقه والهجرة والإسلام والتقوى: فإنه يُقرع بينهما، فأيهما أصابته القرعة يكون هو الإمام؛ لقواعد الأولى: السنة القولية؛ وهي من وجهين: أولهما: قوله صلى الله عليه وسلم: "يؤم القوم أقرأهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سلمًا" فلزم تقديم الأقرأ لكتاب الله مطلقًا، والمراد بالسنة: التفقه بدين الله خاصة أحكام الصلاة، وهذا الحديث يلزم منه استنباط تسعة مراتب، ثانيهما: أنه صلى الله عليه وسلم قال لمالك بن الحويرث ولرجل معه: "وليؤمّكما أكبركما" وهذا يلزم منه العاشر، الثانية: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} فيلزم من تكريمه: تقديمه، وهذا لزم منه الحادي عشر، الثالثة: القياس، بيانه، =

ص: 613

(وساكن البيت وإمام المسجد أحق) إذا كان أهلًا للإمامة ممن حضرهم، ولو كان في الحاضرين من هو أقرأ أو أفقه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"لا يؤمَّنَّ الرجلُ الرجلَ في بيته ولا في سلطانه" رواه أبو داود عن ابن مسعود (42)(إلا من ذي سلطان) فيقدَّم عليهما؛

كما أنه صلى الله عليه وسلم يُقرع بين نسائه فأيتها خرجت القرعة لها تخرج معه إذا أراد السفر، فكذلك تُستعمل القرعة هنا والجامع: أن كلًا منهما حق من الحقوق ليس أحدهما بأولى من الآخر، وهذا يلزم منه: الثاني عشر، فإن قلتَ: لمَ شرع هذا الترتيب؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن قراءة الفاتحة ركن من أركان الصلاة فيُقدَّم من يُتقنها، ويُقدم من يُتقن قراءة القرآن كله على غيره، ثم يُقدَّم من يعلم فقه الصلاة، ليعرف كيف يتصرَّف إن طرأ له طارئ، ثم يُقدَّم الأسبق في الهجرة؛ وفي الإسلام، والأكبر؛ لكثرة معرفته بأحكام الصلاة عادة، ولسبقه للطاعة، ولتمكن الإيمان فيه أكثر من غيره، فإن قلتَ: إذا كانا سواء في القراءة والفقه، والهجرة، والإسلام والسن، ولكن الأول أشرف من الثاني نَسَبًا كأن يكون الأول من قريش، دون الثاني: فإنه يُقدَّم الأشرف نسبًا - وهو ما ذكره المصنف هنا - للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "قدِّموا قريشًا ولا تقدَّموها" وهذا عام في الإمامة الكبرى والصغرى قلتُ: هذا الحديث ليس بالقوي كما قال البيهقي في سننه (3/ 121)، فلا يُعمل به مع مخالفته للحديث الذي ذكرناه: "يؤم القوم أقرأهم

"، ويبطل ما بُني عليه، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: الاختلاف في قوة حديث: "قدِّموا قريشًا .. "، فعندنا: ضعيف، وعندهم: قوي. (42) مسألة: إذا كان زيد هو الساكن للبيت وهو صالح للإمامة أو هو الإمام الراتب للمسجد: فإن زيدًا هو الأحق بالإمامة وإن كان معه من هو أقرأ منه أو أفقه أو أكبر، أو أقدم هجرة أو إسلامًا، ويحرم أن يتقدَّم غيره للإمامة بغير إذنه؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمَّن الرجلُ الرجلَ في بيته ولا في سلطانه" =

ص: 614

لعموم ولايته، ولما تقدَّم من الحديث،

(43)

والسَّيد أولى بالإمامة في بيت عبده؛ لأنه صاحب البيت

(44)

(وحر) بالرفع على الابتداء

(45)

(وحاضر) أي: حضري وهو: الناشئ

حيث حرم أن يتَقَدَّم غير صاحب البيت وغير إمام المسجد للإمامة؛ لأن النهي مطلق، فيقتضي التحريم، فإن قلتَ: لمَ حُرِّم ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن تقديم غير صاحب البيت وغير الإمام الراتب للإمامة يتسبَّب في إساءة الظن فيهما، مما يؤدِّي إلى التنفير عنهما، وكذا فيه كسر قلبيهما، فدفعًا لذلك: حرم، فائدة: المراد من لفظ "ولا في سلطانه": المسلط عليه من قبل الإمام الأعظم أو نائبه كالمسجد فقد سلَّط السلطان إمامه الراتب عليه.

(43)

مسألة: إذا حضر السلطان الأعظم أو نائبه - كأمير البلد أو القاضي - في بيت زيد، أو كان حضر في مسجد له إمام راتب: فإنه يقدم السلطان، أو من يُنيبه في البيت والمسجد؛ للسنة الفعلية؛ حيث "أمَّ النبي صلى الله عليه وسلم عتبان بن مالك وأخاه أنسًا في بيتهما" والمسجد مثله؛ لعدم الفارق من باب:"مفهوم الموافقة"، فإن قلتَ: لمَ شرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه إظهار هيبة السلطان أمام الآخرين، ويتضمَّن إظهار هيبة الإسلام ولكون ولايته عامَّة لصاحب المنزل، وللإمام الراتب.

(44)

مسألة: إذا اجتمع سيد مع عبده في بيت العبد: فالأحق بالإمامة السيد، وإن كان أقل من العبد في القراءة والفقه؛ للقياس، بيانه: كما أن السلطان أحق بالإمامة إذا حضر مع صاحب منزل أو إمام راتب فكذلك السيد هنا، والجامع: الولاية في كل، فإن قلتَ: لمَ شرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ وقد بيناها في مسألة (43).

(45)

مسألة: إذا اجتمع حر وعبد، أو حر ومبعَّض: فيقدَّم الحر للإمامة؛ للمصلحة؛ حيث يلزم من كمال دين الحر: تقديمه على العبد؛ حيث إن العبد يسقط عنه الحج والجمعة والجهاد، والكامل في الشيء يكون عادة أحرص على الدِّين والتقوى من الناقص

ص: 615

في المدن والقرى

(46)

(ومقيم،

(47)

وبصير،

(48)

ومختون) أي مقطوع القُلْفة

(49)

(ومن له ثياب) أي: ثوبان

(50)

وما يستر به

(46)

مسألة: إذا اجتمع الحضري مع البدوي فيُقدَّم الحضري للإمامة؛ للمصلحة حيث إن الحضري يكون عادةً أكمل دينًا ومعرفةً بسبب سماعه للعلماء الذين يتواجدون بالمدن والقرى عادة فيكون أفضل من حيث الأحكام الشرعية، بخلاف البدوي الذي يعيش في البوادي فهو مشتغل عادة بحلّه وترحاله وبعيد عن العلماء عادة.

(47)

مسألة: إذا اجتمع مقيم ومسافر: فيُقدَّم المقيم للإمامة؛ للمصلحة؛ حيث إن المقيم لا يقصر الصلاة، فلا يُفوِّت شيئًا من الصلاة على المأمومين، وهو أقل شغلًا من المسافر عادةً بسبب انشغال المسافر في حلِّه وترحاله وحرصه على متاعه. وانشغاله بمصير أهله وأولاده، مما يؤدِّي إلى كثرة غلطه في الصلاة وسهوه، فيُفضي ذلك إلى اضطراب المأمومين.

(48)

مسألة: إذا اجتمع بصير وأعمى: فيُقدَّم البصير للإمامة؛ للمصلحة، حيث إن البصير يتحقق من إزالة النجاسة وإسباغ الوضوء، واستقبال القبلة بنفسه، بخلاف الأعمى: فلا تحصل تلك الأمور إلا بالاستعانة بغيره، ومن تحقق من الشيء بنفسه أولى ممن اعتمد على غيره.

(49)

مسألة: إذا اجتمع مختون - وهو: مقطوع القُلفة - وغير مختون: فيُقدَّم المختون للإمامة؛ للمصلحة؛ حيث إن المختون أكمل طهارة، وأكثر تنزيهًا للبول من غير المختون - كما سبق بيانه -، والأكمل يقدم على من هو أقل منه.

(50)

مسألة: إذا اجتمع الأكثر ثيابًا مع الأقل ثيابًا: فُدِّم في الإمامة الأكثر ثيابًا؛ للمصلحة؛ حيث إنه أكمل في ستر عورته، وأبعد عن كشفها أو بعضها أثناء الصلاة وخارجها، بخلاف الأقل منه، والأكمل يقدم على من هو أقل منه.

ص: 616

رأسه

(51)

(أولى من ضدهم) خبر عن "حر" وما عُطف عليه: فالحر أولى من العبد، والمبعَّض، والحضري أولى من البدوي الناشئ في البادية، والمقيم أولى من المسافر؛ لأنه ربما يقصر فيُفوِّت المأمومين بعض الصلاة في جماعة، وبصير أولى من أعمى، ومختون أولى من أقلف، ومن له من الثياب ما ذكر أولى من مستور العورة مع أحد العاتقين فقط،

(52)

وكذا: المبعَّض أولى من العبد،

(53)

والمتوضئ أولى من المتيمِّم،

(54)

والمستأجر في البيت أولى من المؤجِّر،

(55)

والمعير أولى من المستعير،

(51)

مسألة: إذا اجتمع من ستر رأسه مع من لا يستره: فيُقدَّم من يستره؛ للمصلحة؛ حيث إنه أكمل في تعظيم الله تعالى، وإكرامه، بخلاف الثاني، فيقدم الأكمل.

(52)

مسألة: صلاة العبد أو المبعَّض بالحر، وصلاة العبد بسيده، وصلاة المسافر بالمقيم، وصلاة البدوي بالحضري، وصلاة الأعمى بالبصير، وصلاة غير المختون بالمختون، وصلاة الأقل ثيابًا بالأكثر منها، وصلاة من لم يستر رأسه بمن ستر رأسه: صحيحة إذا كان كل واحد منهما صالحًا للإمامة؛ للتلازم؛ حيث إن شروط وأركان وواجبات الصلاة قد وجدت فيلزم صحتها، ولكن الأفضل والأولى في التقديم ما ذكرناه في مسائل (45 - 51)؛ للمصلحة، وقد بيناها.

(53)

مسألة: إذا اجتمع مبعَّض - وهو من أُعتق بعضه - مع عبد كله: فيُقدَّم في الإمامة المبعَّض؛ للمصلحة؛ حيث إن المبعَّض اكمل من الذي هو رقيق كله؛ لقرب المبعَّض من الحر، فيكون أكمل بذلك، والأكمل يقدم على من هو أقل منه.

(54)

مسألة: إذا اجتمع متوضئ بماء مع متيمم لأي سبب: فيُقدَّم المتوضئ للإمامة؛ للمصلحة؛ حيث إن الوضوء رافع للحدث، والتيمم مبيح للصلاة فقط: فلو رأى المتيمم ماء في أثناء صلاته: لبطلت صلاته، فلذا يقدم المتوضيء، وقد سبق.

(55)

مسألة: إذا اجتمع مستأجر لبيت مع مالك هذا البيت: فيُقدَّم المستأجر في الإمامة؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمَّن الرجلُ الرجلَ في بيته" =

ص: 617

وتكره إمامة غير الأولى بلا إذنه؛ لحديث: "إذا أمَّ الرجلُ القوم وفيهم من هو خير منه: لم يزالوا في سفال" ذكره أحمد في "رسالته"، إلا إمام المسجد، وصاحب البيت فتحرم

(56)

(ولا تصح) الصلاة (خلف فاسق) سواء كان فسقه من جهة الأفعال أو الاعتقاد إلا في جمعة وعيد تعذَّرا خلف غيره؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تؤمَّن امرأة رجلًا، ولا أعرابي مهاجرًا، ولا فاجر مؤمنًا إلا أن يقهره بسلطان يخاف سوطه" رواه ابن ماجة عن جابر (ككافر) أي: كما لا تصح خلف كافر سواء علم بكفره في الصلاة، أو بعد الفراغ منها،

(57)

ومن استأجر بيتًا فقد ملك منفعته، وهو قادر على منع المؤجِّر من دخول هذا البيت ما دام يدفع الأجرة، فإن قلتَ: لمَ شرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ وقد بيناها في مسألة (42).

(56)

مسألة: إذا أعار زيدا عمرًا دارًا لاستعمالها: وحضرت صلاة فإنه يُقدَّم للإمامة زيد وهو المعير؛ قياسًا على صاحب البيت -كما سبق في مسألة (42) - بجامع: الملكية في كل، والقدرة على المنع، وهذا هو المقصد منه، تنبيه: قوله: "وتكره إمامة غير الأولى

" قلتُ: لم أجد دليلًا يدل على ذلك، والصواب: أن الصلاة صحيحة من غير كراهة، ولكن الأفضل: تقديم الأولى بالإمامة - وقد سبق بيانه في مسألة (52) وأما حديث: "إذا أمَّ الرجل القوم

" فلا يدل على الكراهة، تنبيه آخر: قوله: "إلا إمام المسجد وصاحب البيت فتحرم" يشير به إلى أنه يحرم أن يتقدَّم شخص ويكون إمامًا لشخص آخر في بيته أو مسجده الذي هو إمام راتب فيه، وقد سبق بيان ذلك في مسألة (42).

(57)

مسألة: لا تصح الصلاة خلف الفاسق، فلو صلى شخص وراء فاسق: فإن صلاته لا تصح: سواء كان فاسقًا في الأفعال كشرب خمر وزنا وغيبة ونميمة، أو فاسقًا في الاعتقاد - هو من فسَّقه العلماء في قول له في الأسماء أو الصفات - =

ص: 618

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وسواء عُلم فسقه قبل الصلاة أو بعدها؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمَّن فاجر مؤمنًا" والنهي هنا مطلق فيقتضي التحريم والفساد وعليه: فتفسد صلاة المؤمن خلف الفاجر، الثانية: القياس، بيانه: كما أن الكافر لا تصح الصلاة خلفه، فكذلك الفاسق مثله والجامع: أن كلًا منهما قد نُزِعت الثقة منه: فلا يؤمن أن يزيد أو ينقص من شروط أو أركان أو واجبات الصلاة، فإن قلتَ: لمَ شرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن منزلة الفاسق الإذلال والإهانة والاحتقار؛ ردعًا وزجرًا له، فلو صحَّت الصلاة خلفه: لكان في ذلك تكريم وتشريف له، وهذا مخالف لمرتبته الرذيلة، فإن قلتَ: إن الصلاة خلف الفاسق تصح، وهو قول بعض الشافعية وتبعهم ابن عثيمين؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية: حيث قال صلى الله عليه وسلم: "صلوا خلف من قال: لا إله إلا الله" وهذا عام؛ لأن "من" الموصولة من صيغ العموم، فيشمل الفاسق؛ لأنه يقول ذلك، الثانية: فعل الصحابي: حيث صلى عمر رضي الله عنه خلف الحجاج، وصلى الحسن والحسين رضي الله عنهم خلف مروان بن الحكم، وصلى بعض الصحابة خلف الوليد بن عقبة وهو يشرب الخمر قلتُ: أما الحديث: فمقصوده: أن "لا إله إلا الله" لا تصح إلا من شخص قد عمل بما تقتضيه من العمل بالأوامر والترك لما نُهي عنه، فلا يشمل الفاسق؛ لكونه لم يعمل ببعض ذلك، ثم على فرض دخول الفاسق هنا: فإنه مخصَّص بالصلاة خلف الولاة الفسَّاق صلوات الجمع والأعياد؛ حيث تصح الصلاة خلفهم إذا تعذَّرت هاتان الصلاتان خلف غيرهم؛ لجمع كلمة المسلمين أمام أعدائهم، أما فعل الصحابي: فلا يُسلَّم أن الحجاج ومروان من الفسقة، وإنما وصفهم الحقدة والحسدة ومرضى القلوب؛ لينشروا عنهم ذلك؛ ليُقلِّلوا من قيمتهم وكرامتهم كما يحدث في زماننا الآن؛ حيث إن بعض المنافقين إذا رأوا شخصًا مخلصًا لا يُنافق أحدًا: بدأوا في تقليل =

ص: 619

وتصح خلف المخالف في الفروع،

(58)

وإذا ترك الإمام ما يعتقده واجبًا وحده عمدًا: بطلت صلاتهما،

(59)

وإن كان عند مأموم وحده: لم يُعد،

(60)

ومن ترك ركنًا أو شرطًا أو

قيمته بأي طريقة؛ حتى يُنفِّروا الخلق عنه، ليظهروا هم بالساحة ثم إنه على فرض أنهم فُساق: فإن هؤلاء الصحابة قد صلوا وراءهم؛ جمعًا لكلمة المسلمين، وحرصًا على عدم التفريق بينهم، ودفع المفسدة مقدَّم على جلب المصلحة، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "الخلاف في المقصود من الحديث" فعندنا: مقصوده ما ذكرناه و"الخلاف فيمن قيل عنه بأنه فاسق هل يُقبل أو لا بدون أدلة؟ " فعندنا: لا يُقبل شيء إلا بدليل قوي؛ لأن الأصل في المسلم: العدالة والصلاح فيستصحب حتى يرد دليل قوي يغير الحالة.

(58)

مسألة: تصح صلاة شخص خلف من يخالفه في بعض الفروع الفقهية: فتصح صلاة من يقول برفع اليدين في الصلاة خلف من لا يقول بذلك؛ للإجماع، ومستنده المصلحة؛ حيث إن ذلك فيه اجتماع لكلمة المسلمين؛ ونبذ التنازع، وترك التعصُّب المذهبي، ولا يوجد في ذلك ترك شيء من أركان أو واجبات الصلاة.

(59)

مسألة: إذا ترك الإمام واجبًا عنده فقط عمدًا: فإن صلاة هذا الإمام والمأموم باطلة، ويجب أن تُعاد؛ للتلازم؛ حيث إن الإمام قد ترك واجبًا عمدًا فبطلت صلاته، ويلزم من بطلان صلاة الإمام: بطلان صلاة المأموم؛ لكونه تابعًا له فإن قلتَ: لمَ شرع هذا؟ قلتُ: لقرب هذه الصلاة من العبث واللَّعب.

(60)

مسألة: إذا ترك الإمام واجبًا عند مأموم، ولكنه ليس بواجب عند هذا الإمام: فصلاة الإمام والمأموم صحيحة، ولا تُعاد؛ للإجماع؛ حيث أجمع العلماء على صحة صلاة الحنفي خلف الشافعي أو العكس، فيلزم منه صحة صلاتهما؛ وهذا كله لنبذ الاختلاف والتفرق بين المسلمين.

ص: 620

واجبًا مختلفًا فيه بلا تأويل ولا تقليد: أعاد

(61)

(ولا) تصح صلاة رجل وخنثى خلف (امرأة) لحديث جابر السابق (و) لا خلف (خنثى للرجال) والخناثى؛ لاحتمال أن يكون امرأة،

(62)

(ولا) إمامة (صبي لبالغ) في فرض؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا

(61)

مسألة: إذا ترك المصلي شيئًا مختلفًا فيه هل هو ركن أو لا، شرط أو لا، واجب أو لا؟ ولم يكن من أهل الاجتهاد، ولم يُقلِّد أحدًا مُعتبرًا في هذا الترك: فصلاته باطلة، ويجب عليه أن يعيدها؛ قياسًا على من ترك ركنًا أو شرط أو واجب عمدًا والجامع: ترك ركن أو واجب أو شرط بلا عذر ولا تقليد ولا اجتهاد، فإن قلتَ: لمَ شرع هذا؟ قلتُ: لأن الأصل: كون هذا ركنًا أو شرطًا أو واجبًا، فلا يُترك إلا بيقين [فرع]: تصح الصلاة خلف مجهول الحال - وهو الذي لم تظهر عليه علامات الفسق -؛ للاستصحاب حيث إن الأصل هو العدالة والصلاح في المسلمين، فيُستصحب ذلك ويُعمل به، حتى يرد ما يُغيِّر ذلك، فإن قلتَ: لمَ شرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تيسير وتوسعة على المسلمين.

(62)

مسألة: لا تصح صلاة رجل خلف امرأة، ولا خلف خنثى، ولا صلاة خنثى خلف خنثى؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "لا تؤمَّن امرأة رجلًا" والنهي مطلق فيقتضي التحريم والفساد، الثانية: القياس، بيانه: كما لا تصح صلاة رجل خلف امرأة فكذلك لا تصح صلاة خنثى خلف امرأة، وصلاة رجل خلف خنثى، وصلاة خنثى خلف خنثى، والجامع: إبعاد احتمال إثارة الفتنة؛ لأن الخنثى يُحتمل أن يكون رجلًا وأن يكون أنثى احتمالًا متساويًا، وهذا من باب الاحتياط وهو المقصد الشرعي. فإن قلتَ: تصح إمامة المرأة للرجل، وهو قول بعض العلماء؛ للسنة القولية؛ حيث "أذن صلى الله عليه وسلم لأم ورقة بنت الحارث أن تؤمَّ أهل دارها" وهذا عام للرجال والنساء؛ لأن "أهل دارها" جمع منكر مضاف إلى معرفة وهو من صيغ العموم قلتُ: إن الدارقطني =

ص: 621

تقدِّموا صبيانكم" قاله في "المبدع"،

(63)

وتصح في نفل، وإمامة

ذكر الحديث بلفظ: "تؤم نساء أهل دارها" فلفظ "نساء" زيادة ثقة وهي مقبولة؛ فلا يدخل الرجال، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه "هل الزيادة هنا يؤخذ بها وثابتة أو لا" فعندنا: يؤخذ بها، وعندهم لا.

(63)

مسألة: لا تصح صلاة البالغ خلف الصبي في صلاة الفرض؛ لقاعدتين: الأولى: القياس، بيانه: كما لا تصح صلاة الرجل خلف المرأة، فكذلك لا تصح صلاة البالغ خلف الصبي، والجامع أن كلًا من المرأة والصبي ناقص العقل والدين، الثانية: قول الصحابي: حيث ثبت ذلك عن ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهم، فإن قلتَ: لمَ شرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن الصبي لا يُؤمَّن أن يُخلُّ بشيء من شرائط أو أركان أو واجبات الصلاة، وكذا: ليس من أهل الضمان ولا من أهل التحمُّل، ويجوز له قطع صلاته بلا عذر، فإن قلتَ: تصح صلاة البالغ خلف الصبي وهو قول كثير من العلماء ومنهم ابن عثيمين؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "يؤم القوم أقرأوهم لكتاب الله" وهو عام للصبي وغيره: لأن لفظ "أقرأوهم" نكرة مضاف إلى معرفة وهو من صيغ العموم، قلتُ: قد خصَّصته المصلحة؛ حيث إن المقصود به هو: البالغ المدرك لمعاني ومقاصد وإرادات ما يقرأ، والضامنين المتحمِّلين عن المأمومين ما نقص من الصلاة، لتكمل صلاتهم، والصبي عقله ضعيف لا يُدرك تلك الأمور، وليس أهلًا للتحمل؛ لذا حُجر عليه، فأخرج من هذا العموم، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا قلتُ: سببه هل حديث: "أقرأوهم" يعم الصبي أو لا؟ فعندنا: لا؛ حيث خصَّص بالمصلحة وعندهم: يعمه ولا تقوى المصلحة على تخصيصه، تنبيه: استدلال المصنف بحديث: "لا تقدِّموا صبيانكم" لا يصح؛ لأنه ضعيف؛ حيث إنه لا يعرف له إسناد صحيح كما قاله بعض العلماء.

ص: 622

صبي بمثله

(64)

(و) لا إمامة (أخرس) ولو بمثله؛ لأنه أخلَّ بفرض الصلاة لغير بدل

(65)

(ولا) إمامة (عاجز عن ركوع أو سجود أو

(64)

مسألة: تصح صلاة البالغ خلف الصبي في صلاة النافلة كصلاة التراويح، والاستسقاء والكسوف ونحوها، وتصح صلاة صبي خلف آخر فرضًا ونفلًا؛ للإجماع؛ حيث أجمع العلماء على صحة ذلك، ومستنده التلازم؛ حيث إن صلاة الصبي تكون نفلًا، والبالغ يصلي نفلًا فيلزم من تساويهما في ذلك: صحة صلاته خلف الصبي، لكون متنفِّلًا قد أم متنفِّلًا، فلا يتضرر البالغ فيما لو قطع الصبي صلاته وكذا: الصبي الذي صلى خلفه، فإن قلتَ: لمَ شرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه توسعة على المسلمين.

(65)

مسألة: لا تصح صلاة الناطق خلف الأخرس - وهو: العاجز عن النطق - ولا تصح صلاة الأخرس خلف أخرس مثله؛ للتلازم؛ حيث إن النطق بالتحريمة وقراءة الفاتحة لا تصح الصلاة إلا بهما - لكونهما ركنين - فيلزم من عدمهما - بدون بدل من إشارة أو إيماء عنهما -: بطلان إمامته واقتداء غيره به؛ لأن ذلك يؤدي إلى اضطراب المأموم وهو المقصد منه؛ فإن قلتَ: تصح الصلاة هنا، وهو قول بعض العلماء ومنهم ابن عثيمين؛ للقياس، بيانه: كما تصح صلاة الأخرس منفردًا ومأمومًا، فكذلك تصح صلاته إمامًا، قلتُ: هذا فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ حيث إن صلاة المنفرد والمأموم إنما صحَّت؛ لعذره، ولا يعتمد عليه فيها غيره، بخلاف صلاته إمامًا مع وجود الناطق: ففيه اعتماد الناطق عليه، وهذا الأخرس غير متمكِّن من إبلاغه ما يريد قوله من تكبير وقراءة ونحو ذلك، ومع الافتراق: لا قياس، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلت: سببه: "هل يمكن لمن خلف الأخرس متابعته أو لا؟ " فعندنا: لا، وعندهم: نعم.

ص: 623

قعود)

(66)

إلَّا بمثله

(67)

(أو قيام) أي: لا تصح إمامة العاجز عن القيام لقادر عليه (إلا إمام الحي) أي: الراتب بمسجد (المرجو زوال علَّته)؛ لئلا يفضي إلى ترك القيام على الدوام

(68)

(ويُصلُّون وراءه جلوسًا ندبًا) ولو كانوا قادرين على القيام؛ لقول

(66)

مسألة: لا تصح صلاة القادر على الركوع أو السجود أو القعود خلف العاجز عنها؛ للقياس، بيانه: كما لا تصح صلاة القارئ خلف الأمي، فكذلك لا تصح صلاة القادر على تلك الأمور خلف العاجز عنها، والجامع: أن كلًا منهما عاجز عن إيجاد ركن في الصلاة، فلم يصح الائتمام به، فإن قلتَ: لمَ شرع هذا؟ قلتُ: لأن القدرة كمال، فلا يُقدَّم الناقص على الكامل في الدين.

(67)

مسألة: تصح إمامة العاجز عن الركوع أو القعود أو السجود لشخص مثله في هذا العجز؛ للقياس، بيانه: كما أن الأمي يصح أن يكون إمامًا لأمي مثله فكذلك هذا مثله، والجامع: العجز في كل، فإن قلتَ: لمَ صح ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه توسعة على المسلمين ولاستوائهما في الرتبة، فليس أحدهما أولى من الآخر في ذلك.

(68)

مسألة: يصح أن يكون العاجز عن القيام إمامًا للقادر عليه إن كان إمامًا راتبًا لمسجد الحي، وكان عجزه بسبب مرض طارئ يُرجى برؤه عن قريب، فإن لم يكن هو الإمام الراتب، أو كان مرضه لا يرجى برؤه: فلا تصح صلاة القائم خلفه، للسنة الفعلية والقولية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد صلي بالناس وهو شاكٍ وهو جالس وقال:"وإذا صلى جالسًا فصلُّوا جلوسًا أجمعون" وكان النبي هو الإمام، وكان مرضه يُرجى برؤه: فلزم الشرطان السابقان، فإن قلتَ: لمَ شرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه مراعاة حال الإمام الراتب تكريمًا له، واشترط: كون المرض يُرجى برؤه؛ سدًا للذرائع؛ حيث إنه لو كان لا يُرجى برؤه لأدَّى إلى ترك المأمومين للقيام على الدوام، وهذا فيه ترك ركن للصلاة عن عمد وهو مبطل لها.

ص: 624

عائشة: "صلى النبي صلى الله عليه وسلم في بيته وهو شاكٍ فصلى جالسًا، وصلى ورائه قوم قيامًا فأشار إليهم أن اجلسوا، فلما انصرف قال: "إنما جعل الإمام ليؤتم به" إلى قوله: "وإذا صلى جالسًا فصلوا جلوسًا أجمعون" قال ابن عبد البر: "روي هذا مرفوعًا من طرق متواترة"

(69)

(فإن ابتدأ بهم) الإمام الصلاة (قائمًا ثم اعتلَّ) أي: حصلت له علَّة عجز معها عن القيام (أتموا خلفه قيامًا وجوبًا): لأنه "صلى الله عليه وسلم صلى في مرض موته قاعدًا، وصلى أبو بكر رضي الله عنه والناس خلفه قيامًا" متفق عليه عن عائشة، وكان أبو بكر رضي الله عنه قد ابتدأ بهم قائمًا كما أجاب به الإمام

(70)

(وتصح خلف من به سلس

(69)

مسألة: يُستحب للمأمومين القادرين على القيام أن يصلوا جلوسًا وراء إمامهم الذي يصلي جالسًا - بسبب مرض يُرجى برؤه -؛ للسنة الفعلية والقولية، وهي السابقة الذكر في مسألة (68) حيث أمرهم صلى الله عليه وسلم بالجلوس، وصرفت السنة التقريرية هذا الأمر من الوجوب إلى الاستحباب؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم لم يأمر الذين صلوا خلفه قيامًا في أول الصلاة بإعادة صلاتهم، وهذا يلزم منه: صحة صلاتهم خلفه وهم قيام، ولكن المستحب أن يجلسوا معه؛ ليوافقوه في هيئته التي هو عليها؛ لتحقيق الاتفاق، ونبذ الاختلاف، مما يتسبَّب في إظهار الإسلام، وهذا هو المقصد المقصد من ذلك.

(70)

مسألة: إذا شرع الإمام في الصلاة قائمًا، ثم جلس لمرض أصابه، واستمر في الجلوس حتى فرغ من صلاته فيجب على من خلفه أن يتموا صلاتهم قيامًا؛ للسنة التقريرية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد أمر أبا بكر رضي الله عنه أن يصلي بالناس حينما مرض صلى الله عليه وسلم، وبدأ أبو بكر رضي الله عنه بالصلاة وهو قائم، ثم جلس النبي صلى الله عليه وسلم عن يسار أبي بكر رضي الله عنه، فأتم النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة جالسًا، وأتموا قيامًا، ولم يأمرهم بالجلوس، بل أقرَّهم على ما هم عليه، وهذا يلزم منه: وجوب استمرارهم بالصلاة قيامًا كما بدأوها =

ص: 625

البول بمثله) كالأمي بمثله

(71)

(ولا تصح خلف محدث) حدثًا أصغر أو أكبر (ولا)

كذلك، ولم يُبيِّين صلى الله عليه وسلم غير ذلك، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، فإن قلتَ: لمَ شرع هذا؟ قلتُ: لأن الأصل في الصلاة القيام، فمن بدأ به في الصلاة لزمه في جميعها إذا كان قادرًا عليه، فإن قلتَ: لا يجب ذلك، بل إذا صلَّى جالسًا فإنه يُستحب للمأمومين أن يصلون جلوسًا مثله؛ للسنة القولية، حيث قال صلى الله عليه وسلم:"إذا صلى جالسًا فصلوا جلوسًا" وهذا عام؛ لأن "إذا" الشرطية من صيغ العموم، فيشمل من بدأ صلاته قائمًا أو من بدأها جالسًا قلتُ: إن السنة التقريرية التي ذكرناها هنا قد خصَّصت السنة القولية، فيكون حكم من ابتدأ صلاته قائمًا ثم جلس، يختلف عن حكم من ابتدأ صلاته جالسًا، فالأول: واجب، والثاني مستحب، وهذا ما يُفهم من جواب الإمام أحمد على من زعم نسخ أحدهما بالآخر، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلت: سببه: "التعارض بين السنة القولية والتقريرية" فعندنا: التقريرية قد خصَّصت القولية، وعندهم: لا.

(71)

مسألة: تصح صلاة من به حدث دائم: كمن به سلس بول، أو خروج ريح دائم، أو رعاف، أو قروح سيَّالة أو نحو ذلك خلف من هو مثله في هذا؛ للقياس، بيانه: كما تصح صلاة الأمي خلف الأمي فكذلك الحال هنا والجامع: التساوي بين الإمام والمأموم في نفس النقص، وهذا من باب التيسير على الخلق، ولكون أحدهما ليس بأولى من الآخر. [فرع]: لا تصح صلاة شخص ليس به حدث دائم خلف من به حدث دائم كسلس بول ونحوه؛ للقياس، بيانه: كما لا تصح صلاة المتطهر خلف المحدث، فكذلك الحال هنا؛ والجامع: أن كلًا منهما فيه خلل غير مجبور ببدل؛ حيث إن كلًا منهما يصلي إمامًا مع علمه بحدثه المنافي للطهارة، فإن قلتَ: لمَ شرع هذا؟ قلتُ: لأن =

ص: 626

خلف (متنجِّس) نجاسة غير معفو عنها إذا كان (يعلم ذلك)؛ لأنه لا صلاة له في نفسه

(72)

(فإن جهل هو) أي: الإمام (و) جهل (المأموم حتى انقضت صحَّت) الصلاة (لمأموم وحده)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا صلى الجنب بالقوم أعاد صلاته، وتمَّت

الصحيح أكمل حالًا من حيث الطهارة ممن به حدث دائم، والأكمل هو المقدَّم في الإمامة فلا تصح الصلاة هنا مع وجوده، فإن قلتَ: إن الصلاة تصح هنا، وهو قول بعض العلماء، ومنهم ابن عثيمين: للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "يؤم القوم أقرأوهم لكتاب الله" وهذا عام؛ لأن لفظ "أقرأوهم" نكرة مضاف إلى معرفة، وهو من صيغ العموم، فيشمل من به حدث دائم وغيره، فيلزم أن إمامته صحيحة قلتُ: المراد من هذا الحديث: أنه يؤمُّهم بعد كمال الطهارة، ومن به حدث دائم لم تكتمل طهارته، لا يدخل تحت عموم هذا اللفظ، والذي خصصه: القياس الذي ذكرناه، والمصلحة؛ حيث إنه ليس من المناسب شرعًا أن يتقدَّم غير كامل الطهارة على من هو قد كمل، فإن قلتَ: ما الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه هل عموم قوله: يؤم القوم "أقرأوهم" باقي على عمومه أو مخصَّص؟: فعندنا مخصَّص بالقياس، وعندهم: قد بقي على عمومه، فلم يقو القياس على تخصيصه.

(72)

مسألة: لا تصح صلاة الإمام والمأموم إذا كان الإمام فيه حدث، أو كان متنجس الثياب أو المكان أو البدن إذا علما ذلك قبل الشروع فيها أو في أثنائها، وعليه: فيجب أن يعيداها؛ للتلازم؛ حيث يلزم من عدم طهارة الإمام: بطلان صلاته، ويلزم من بطلانها: بطلان صلاة المأموم العالم لذلك: لبطلان الاقتداء. [فرع]: تصح صلاة الإمام والمأموم إذا وُجدت نجاسة معفو عنها كالذي يبقى بمحل الدُّبُر بعد الاستنجاء والاستجمار من الغائط، ونحو ذلك: سواء علما ذلك أو لم يعلما؛ للتلازم؛ حيث يلزم من مشقة إزالتها: أن يكون معفو عنها، فتلزم صحة صلاة الإمام والمأموم مع وجوده.

ص: 627

للقوم صلاتهم" رواه محمد بن الحسين الحرَّاني عن البراء بن عازب، وإن علم هو أو المأموم فيها استأنفوا،

(73)

وإن علم معه واحد: أعاد الكل،

(74)

وإن علم أنه ترك واجبًا عليه فيها سهوًا، أو شكَّ في إخلال إمامه بركن أو شرط: صحَّت صلاته

(73)

مسألة: لا تصح صلاة الإمام إذا صلى وهو محدث ولم يعلم به إلا بعد الفراغ من صلاته، وتصح صلاة المأموم، فيجب على الإمام إعادتها لوحده؛ لفعل الصحابي؛ حيث إن عمر رضي الله عنه قد صلى بالناس الفجر فلما فرغ علم أنه لم يتطهر من جنب أصابه، فأعاد الصلاة هو، ولم يأمر الناس بإعادتها، فإن قلتَ: لمَ شرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن الإمام قد صلى بلا طهارة، ولا مشقة عليه في إعادتها، والمأموم معذور بجهله بحدث إمامه في أول وأثناء الصلاة، فوجوب إعادتها عليه فيه مشقة مع أنه فعل ماله فعله، تنبيه: ما ذكره المصنف من حديث: "إذا صلى الجنب بالقوم

" لم أجده، تنبيه آخر: قوله: "وإن علم هو أو المأموم فيها استأنفوا" قد سبق بيانه في مسألة (72).

(74)

مسألة: إذا علم واحد من المأمومين أن إمامه محدث أو متنجِّس قبل أو أثناء الصلاة: فإن صلاة هذا المأموم تبطل، دون غيره من المأمومين الذين لم يعلموا ذلك وهو قول كثير من العلماء كأبي يعلى وغيره؛ للتلازم؛ حيث إن إمامه قد فقد الطهارة في اعتقاده فبطلت صلاة إمامه ويلزم من بطلان صلاة إمامه: بطلان صلاته، ويلزم من جهل غيره من المأمومين: صحة صلاتهم؛ لوجود العذر وهو: الجهل، حيث إنهم يعتقدون طهارته فصح الاقتداء، فإن قلتَ: إن صلاة المأمومين الآخرين أيضًا تبطل مثله - وهو ما ذكره المصنف هنا - قلتُ: لم أجد دليلًا قويًا على ذلك.

ص: 628

معه، بخلاف ما لو ترك السترة أو الاستقبال؛ لأنه لا يخفى غالبًا،

(75)

وإن كان أربعون فقط في جمعة، وفيهم واحد محدث أو نجس: أعاد الكل سواء كان إمامًا أو مأمومًا

(76)

(ولا) تصح (إمامة أمي) منسوب إلى الأم كأنه على الحالة التي ولدته عليها (وهو) أي: الأمي (من لا يحسن) أي: يحفظ (الفاتحة)

(77)

أو يُدغم مالا يُدغم: بأن يُدغم حرفًا فيما لا يُماثله أو يقاربه وهو "الأرت"(أو يُبدل حرفًا)

(75)

مسألة: إذا علم المأموم أن إمامه قد ترك واجبًا سهوًا، أو شك بأنه أخلَّ بركن أو شرط مما يخفى غالبًا كطهارة: فإن صلاة هذا المأموم صحيحة، أما إذا علم أنه ترك شيئًا منها لا يخفى غالبًا كاستقبال القبلة أو سترة العورة: فصلاة هذا المأموم باطلة؛ للتلازم؛ حيث يلزم من وجود السهو من الإمام أو الشك من المأموم: صحة الصلاة؛ لأن السهو يُعذر به، والشك لا تبنى عليه أحكام، ويلزم من ترك شرط أو ركن ظاهر: بطلان الصلاة؛ لأنه اقتدى بمن لا تصح صلاته، ولا يُعذر المأموم بذلك؛ لظهوره.

(76)

مسألة: إذا اجتمع أربعون رجلًا لصلاة الجمعة - وهو: العدد المشترط لها كما سيأتي - ثم أحدث واحد منهم، أو تنجَّس قبل أو أثناء تلك الصلاة فلا تكون جمعة، بل يُعيدوها ظهرًا؛ للتلازم؛ حيث يلزم من عدم توفر شرط الجمعة - وهو كمال العدد -: عدم صحتها، لفقدان شرطها؛ لأن وجود هذا المحدث أو المتنجِّس كعدمه.

(77)

مسألة: لا تصح صلاة المحسن لقراءة الفاتحة خلف من لا يُحسنها ولا يحفظها - وهو الأمي -؛ للتلازم؛ حيث يلزم من ترك ركن من أركان الصلاة - وهي الفاتحة - بطلان صلاة من خلفه ممن ليس بأمي؛ نظرًا لترك إمامه هذا الركن مع قدرته على إيجاده.

ص: 629

بغيره وهو الألثغ كمن يُبدل الراء غينًا،

(78)

إلا ضاد: "المغضوب عليهم" و"الضالّين" بظاء

(79)

(أو يلحن فيها لحنًا يُحيل المعنى) ككسر كاف: "إياكَ" وضم تاء، "أنعمتَ" وفتح همزة "اهدنا"، فإن لم يحل المعنى كفتح دال "نعبد" ونون "نستعين": لم يكن أميًا

(80)

(إلا بمثله) فتصح؛ لمساواته له،

(81)

ولا يصح اقتداء عاجز عن نصف الفاتحة الأول بعاجز عن نصفها الأخير،

(78)

مسألة: لا تصح صلاة المحسن لقراءة الفاتحة خلف الأرت، أو الألثغ وهما: اللذان يُدخلان بعض الحروف في بعض دون تفريق؛ للتلازم؛ حيث يلزم من إسقاط أحرف من حروف الفاتحة: بطلانها، ويلزم من بطلان الفاتحة: بطلان صلاة من يُحسن ذلك خلفه: لقدرته على الإتيان بما تركه ذلك الإمام.

(79)

مسألة: الإمام الذي يُبدل الضاد بالظاء في قوله: "المغضوب" و "الضالين"، أو يُبدل الصاد بالسين في قوله:"الصراط" تصح الصلاة خلفه؛ للمصلحة؛ حيث إن هذا يشق التحرز منه؛ نظرًا لقرب مخرجهما، وأيضًا: إبدال الصاد بالسين من القراءات السبع التي تجوز القراءة بها.

(80)

مسألة: الإمام الذي يلحن بقراءة الفاتحة لحنًا يحيل المعنى من المراد إلى غير المراد - كما مثَّل المصنف -؛ لا تصح الصلاة خلفه، أما إن كان ذلك لا يحيل المعنى: فتصح الصلاة خلفه؛ للتلازم؛ حيث يلزم من إحالة المعنى من المراد إلى غيره: أنه عاجز عن قراءة الفاتحة فيلزم عدم صحة إمامته للقادر على ذلك، ويلزم من عدم الإحالة: صحة الصلاة؛ للقدرة على قراءتها وإفهام المعنى المراد.

(81)

مسألة: تصح صلاة الأمي خلف الأمي؛ للتلازم؛ حيث يلزم من مساواتهما في ذلك: صحة ذلك؛ لأنه ليس أحدهما بأولى من الآخر.

ص: 630

ولا عكسه، ولا اقتداء قادر على الأقوال الواجبة بعاجز عنها

(82)

(وإن قدر) الأمي (على إصلاحه: لم تصح صلاته) ولا صلاة من ائتمَّ به؛ لأنه ترك ركنًا مع القدرة عليه

(83)

(وتكره إمامة اللّحان) أي: كثير اللحن الذي لا يُحيل المعنى،

(84)

فإن أحاله في غير الفاتحة: لم يمنع صحة إمامته، إلا: أن يتعمَّده، ذكره في "الشرح"، وإن أحاله في غيرها سهوًا، أو جهلًا، أو لآفة: صحَّت صلاته

(85)

(و) تكره إمامة

(82)

مسألة: إذا اختلف العجز في قراءة الفاتحة، أو في الأقوال الواجبة بين اثنين: فلا يصح أن يكون أحدهما إمامًا للآخر فمن قدر على أولها دون آخرها: لا يكون إمامًا لمن قدر على آخرها دون أولها، وهكذا؛ للتلازم؛ حيث يلزم من عدم مساواتهما في العجز: عدم صحة اقتداء أحدهما بالآخر؛ لكون أحدهما يُحسن مالا يُحسنه الآخر؛ إذ لا يصح أن يُكمِّل أحدهما الآخر في ذلك.

(83)

مسألة: إذا قدر الأمي على تعلَّم قراءة الفاتحة بدون لحن ونحوه: ولم يفعل ذلك عمدًا: فلا تصح صلاته، ولا صلاة من صلى خلفه؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم:"من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد" حيث إن صلاة الإمام المتعمد عدم تعلم الفاتحة قد فعل شيئًا ليس مشروعًا فيكون فاسدًا مردودًا على صاحبه لكونه ترك ركنًا عمدًا، ويلزم من بطلان صلاة الإمام: بطلان صلاة المأموم؛ لفساد الاقتداء؛ لأنه يُشبه من ائتم بالمتلاعب.

(84)

مسألة: تكره إمامة كثير اللَّحن في قراءة الفاتحة الذي لا يُحيل المعنى، ولا يصرفه عن مراده؛ للمصلحة؛ حيث إن الذي لا يلحن أو لا يُكثر اللَّحن أفضل ممن يُكثر اللحن، فكره ذلك؛ لأن فيه تقديم المفضول على الفاضل، وهذا فيه كسر لقلب الفاضل.

(85)

مسألة: تصح إمامة من يُكثر اللّحن في غير قراءة الفاتحة إذا كان بسبب سهو أو جهل أو مرض بلسانه؛ أما إن كان هذا اللَّحن وقع عمدًا: فلا تصح =

ص: 631

(الفأفاء والتمتام) ونحوهما، و "الفأفاء" الذي يُكرر الفاء، و "التمتام" الذي يكرر التاء (و) تكره إمامة (من لا يفصح ببعض الحروف) كالقاف والضاد، وتصح إمامته: أعجميًا كان أو عربيًا، وكذا: أعمى، وأصم، وأقلف، وأقطع يدين أو رجلين أو إحداهما إذا قدر على القيام، ومن يُصرع، فتصح إمامتهم مع الكراهة؛ لما فيه من النقص

(86)

(و) يُكره (أن يؤمَّ) امرأة (أجنبية فأكثر، لا رجل معهنَّ)؛ لنهيه صلى الله عليه وسلم أن يخلو الرجل بالأجنبية

(87)

فإن أمَّ محارمه، أو أجنبيات معهن رجل: فلا

صلاته؛ للتلازم؛ حيث يلزم من وقوع اللحن في غير ركن ولا واجب سهوًا أو جهلًا أو مرضًا: صحة صلاته؛ لأنه معذور بذلك، ويلزم من وقوع ذلك عمدًا: عدم صحة صلاته؛ لكونه قد تعمَّد مخالفة الشارع، أصله؛ قوله صلى الله عليه وسلم:"عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان" والجهل والمرض مثل ذلك؛ لعدم الفارق، فمنطوقه دل على أنه معذور بذلك، ومفهومه الشرط منه دل على أن المتعمِّد لا يعذر.

(86)

مسألة: تصح إمامة كل شخص فيه نقص غير مُخل بشيء من شروط أو أركان أو واجبات الصلاة: كأن يُكرر الفاء، أو الواو، أو التاء، أو نحوها، أو بعض الحروف الأخرى أو لا يُفصح عن بعض الحروف كالصاد والقاف، أو لا يراعي قواعد التجويد، أو كان أعمى، أو أصمًا أو أقطع اليدين أو الرجلين إذا قدر على القيام، أو كان مصابًا بالصرع، أو غرابة الشكل ونحو ذلك، ولكن تكره إمامته بمن هو أحسن حالًا منه؛ للمصلحة؛ حيث إن صحة إمامة هؤلاء فيه توسعة على المسلمين، وتقديمهم على من هم أحسن حالًا منهم فيه كسر لقلب الأحسن، فلذا: كُره.

(87)

مسألة: يحرم أن تصلِّي امرأة أجنبية بمفردها خلف رجل أجنبي عنها، وصلاتها صحيحة؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "لا يخلون أحدكم بامرأة إلا =

ص: 632

كراهة؛ لأن النساء كنَّ يشهدن مع النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة

(88)

(أو) أن يؤم (قومًا أكثرهم

مع ذي محرم"، وهذا النهي مطلق، فيقتضي التحريم، وهو عام؛ لأن لفظ "أحدكم" منكَّر أضيف إلى معرفة، وهو من صيغ العموم؛ فيشمل حالة الصلاة وغيرها؛ لكون صلاته بها منفردة تعتبر خلوة وإن كان يظهر الصلاح، فإن قلتَ: لمَ حرم؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه دفع مفسدة الفتنة، وهذا يفضي إلى الوقوع بأعظم جرم وهو: الزنا غالبًا؛ لأن الشيطان يُحسِّنها في نظره، ويُحسِّنه في نظرها فتقع الكارثة؛ مصداقًا لقوله صلى الله عليه وسلم: "ما خلى رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان"، والنساء ناقصات عقل ودين - كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم يؤثِّر عليهن أيُّ كلام معسول يقوله مرضى القلوب - وما أكثرهم - فمن ترك نسائه أو بناته أو أخواته بدون مراقبة شديدة فقد أهمل أعظم مهمة له في الدين، فإن قلتَ: إنه يكره ذلك ولا يُحرَّم - وهو الذي ذكره المصنف هنا - قلتُ: لا توجد قرينة قويت على صرف النهي في الحديث من التحريم إلى الكراهة، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "الخلاف هل النهي على إطلاقه أو لا؟ " فعندنا: على إطلاقه، وعندهم: ليس على إطلاقه بل هو مصروف إلى الكراهة. [فرع]: تكره صلاة مجموعة من النساء خلف رجل واحد أجنبي عنهن؛ للمصلحة؛ حيث إنه يُحتمل احتمالًا بعيدًا وجود فتنة، فدفعًا لذلك كُره، فإن قلتَ: لمَ لم يحرم ذلك؟ قلتُ: لأن المرأة لا تفسد غالبًا بحضور نسوة معها.

(88)

مسألة: إذا أمَّ رجلٌ نساءً محرمات عليه - بنسب أو مصاهرة -: سواء معهن أجنبيات عنه أو لا، أو أمَّ أجنبيات عنه ومعهن رجل: فيصح ذلك بلا كراهة؛ للسنة التقريرية؛ حيث كانت النساء يشهدن الصلاة مع النبي صلى الله عليه وسلم مع رجل أو رجال، فلم يُنكر ذلك، فإن قلتَ: لمَ لا يُكره ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تحصيل الأجر الجماعة، وبُعْدُهُ عن مفسدة الفتنة.

ص: 633

يكرهه بحق) كخلل في دينه، أو فضله؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"ثلاثة لا تجاوز صلاتهم آذانهم: العبد الآبق حتى يرجع، وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط، وإمام قوم وهم له كارهون" رواه الترمذي، وقال في "المبدع":"حسن غريب وفيه لين"، فإن كان ذا دين وسُنَّة وكرهوه لذلك: فلا كراهة في حقه

(89)

(وتصح إمامة ولد الزنا والجندي إذا سلم دينهما) وكذا: اللقيط، والأعرابي، حيث صلحوا لها؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم:"يؤم القوم أقرأوهم"

(90)

(و) تصح إمامة (من يؤدِّي الصلاة بمن يقضيها

(89)

مسألة: يُكره أن يؤم شخص لأناس أكثرهم يكرهونه لخلل في دينه أو فضله: كأن يكون خائنًا، أو كذابًا، أو حريصًا على جمع الأموال المشبوهة، أو حريصًا على تولي المناصب: فيدعو السلطان أو من حوله أو منافقيهم للاجتماع لتناول طعام ونحوه، أما إن كرهوه بغير وجه حق كأن يكرهوا شكله أو قبيلته، أو نحو ذلك: فلا كراهة في هذا؛ للمصلحة؛ حيث إن المكروه لدينه يتسبَّب في تنفير الناس عن الصلاة في المسجد الذي هو إمام له، وهذا يشق عليهم، فدفعًا لذلك كُره وحسُن استبعاده عن الإمامة، تنبيه: استدلال المصنف بحديث: "ثلاثة لا تجاوز صلاتهم .. " لا يصح: لأنه ضعيف عند أكثر أئمة الحديث.

(90)

مسألة: تصح إمامة ولد الزنا، واللقيط، والجندي، والأعرابي وغيرهم ممن توفَّرت فيهم صفات الإمامة: من القراءة، والفقه والتقوى والديانة بلا كراهة؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم:"يؤم القوم أقرأوهم لكتاب الله" حيث إن هذا عام؛ لأن "أقرأوهم" مُنكَّر أضيف إلى معرفة، وهو من صيغ العموم، فيشمل ما ذكرناهم، فإن قلتَ: لمَ صحَّت إمامة هؤلاء؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه توسعة على المسلمين فإن قلتَ: تكره إمامة ولد الزنا واللَّقيط وهو قول الشافعي ومالك؛ للقياس، بيانه: كما تكره إمامة العبد للحر، فكذلك تكره إمامة ولد الزنا واللقيط لغيرهما والجامع: وجود النقص فيهم، قلتُ: إن هذا =

ص: 634

وعكسه) من يقضي الصلاة بمن يؤدِّيها؛ لأن الصلاة واحدة، وإنما اختلف الوقت، وكذا: لو قضى ظهر يوم خلف ظهر يوم آخر،

(91)

(لا) ائتمام (مفترض بمتنفِّل)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما جُعل الإمام ليؤتمَّ به، فلا تختلفوا عليه"

(92)

ويصح النفل خلف

قياس فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ حيث إن العبد فيه نقيصة الرق، وسقوط الجمعة والحج والزكاة عنه بخلاف ولد الزنا واللقيط فلا نقيصة فيهما، فإن قلتَ: تكره إمامة الجندي؛ وهو قول بعض العلماء؛ للمصلحة؛ حيث إنه يغلب على الجندي الجفاء، وهذا يُنفِّر الناس عن المسجد، قلتُ: لا يُسلَّم ذلك على إطلاقه، بل هم كغيرهم من غير الجنود، يوجد فيهم من يتصف بذلك، وفيهم من لا يتصف به، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلت: سببه: "معارضة القياس والمصلحة للسنة القولية" فعندنا: السنة مقدمة بعمومها، وعندهم: إن السنة مخصَّصة بالقياس والمصلحة.

(91)

مسألة: إذا كان زيد يصلي ظهر الخميس أداء فاقتدي به بكر وصلى خلفه ظهر الأربعاء قضاء، أو كان زيد يصلي ظهر الأربعاء قضاء، فاقتدى به بكر وصلى خلفه ظهر الخميس أداء: فإن صلاة زيد وبكر هنا صحيحة في الحالتين؛ للتلازم؛ حيث إن الصلاة واحدة، والنية واحدة فيلزم صحتها، والاختلاف في الوقت لا يضر، وهذا من التيسير على العباد، وهو المقصد منه.

(92)

مسألة: لا يصح صلاة المفترض خلف المتنفل كأن يصلي صلاة العشاء خلف من يصلي التراويح؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "إنما جعل الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه" حيث حرم الشارع الاختلاف بين الإمام والمأموم في الأفعال والنيات؛ لأن النهي هنا مطلق، وهو يقتضي التحريم والفساد، وعليه: فتفسد صلاة من نوى الفرض خلف من نوى النَّفل، فإن قلتَ: لمَ شرُع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن الشارع يتسامح عادةً عن النوافل، دون الفرائض، فيجوز =

ص: 635

الفرض

(93)

(ولا) يصح ائتمام (من يصلي الظهر بمن يصلي العصر أو غيرهما)

(94)

قطع النافلة والصلاة قاعدًا بلا عذر، فلو قطع الإمام النافلة التي يصليها فهل يقطع الذي يصلي الفرض خلفه صلاته، أم ينوي الانفراد بعدما نوى الائمتام أم ماذا يصنع؟ فالأصلح والأحوط دينًا: هو الذي قلناه؛ ليسلم من هذا الحرج، فإن قلتَ: تصح صلاة المفترض خلف المتنفل وهو قول كثير من العلماء منهم ابن تيمية وابن عثيمين؛ للاستصحاب؛ حيث إن الأصل صحة ذلك، ولا يوجد دليل يُغيِّر ذلك، أما حديث:"فلا تختلفوا عليه" فهو خاص بالأفعال فقط، ولا يشمل النيات، قلتُ: إن الحديث السابق عام فيشمل الأفعال والنيات، وهو الدليل الذي غيَّر الأصل؛ فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: هل الحديث السابق عام للأفعال والنيات أو لا؟ فعندنا: نعم، وعندهم: لا.

(93)

مسألة: تصح صلاة المتنفِّل خلف المفترض كأن يصلي شخص نافلة خلف من يصلي الظهر مثلًا؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم لرجلين: "إذا صليتما في رحالكما ووجدتما جماعة يصلون فصليا معهم، فإنها لكما نافلة" فإن قلتَ: لمَ صحَّت مع اختلاف النيتين بين الإمام والمأموم؟ قلتُ: إن صلاة المتنفِّل خلف المفترض مخصَّصة من عموم حديث: "فلا تختلفوا عليه" والمخصص: السنة القولية السابقة وهي: "فإنها لكما نافلة"، ثم إن نية الإمام الفرض شاملة لنية المأموم وزيادة - وهو التقرب والطاعة - وزيادة اللُّزوم والوجوب؛ إذ لا يمكن للإمام أن يقطع صلاته؛ لكونه يُصلِّي فرضًا.

(94)

مسألة: لا تصح صلاة المأموم الذي يصلي الظهر خلف من يصلي العصر - مثلًا -؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "فلا تختلفوا عليه" حيث إن النهي هنا مطلق فيقتضي الفساد، وبناء عليه: إذا اختلفت الصلاة بين المأموم والإمام: لزم اختلاف نيتهما، ويبطل الائتمام عند الاختلاف في النية.

ص: 636

ولو جمعة في غير المسبوق إذا أدرك دون ركعة،

(95)

قال في "المبدع": "فإن كانت إحداهما تخالف الأخرى كصلاة كسوف، واستسقاء وجنازة وعيد: منع فرضًا، وقيل: ونفلًا؛ لأنه يؤدِّي إلى المخالفة في الأفعال" انتهى، ويؤخذ منه: صحة نفل خلف نقل آخر لا يُخالفه في أفعاله كشفع وتر خلف تراويح حتى على القول الثاني

(96)

فصل: في موقف الإمام والمأمومين: السنة أن (يقف المأمومون) رجالًا

(95)

مسألة: لا تصح صلاة الظهر خلف من يصلي الجمعة إلا في حالة واحدة وهي: أن يدخل رجلٌ الجامعَ ولم يُدرك الركعة الثانية مع الإمام في صلاة الجمعة بل أدرك ما هو أقل منها: فإنه ينوي الظهر، ويدخل معه؛ فإذا سلَّم الإمام فإنه يصلي أربع ركعات ظهرًا؛ للتلازم؛ حيث يلزم من اختلاف نية المصلي ظهرًا ونية المصلي جمعة: عدم صحة الصلاة، ويلزم من نيته الدخول مع الإمام لتحصيل ثواب الجماعة، ونيته الظهر: صحة الصلاة؛ لكونه معذورًا في عدم إدراك الجمعة.

(96)

مسألة: إذا صلى زيد فرضًا كصلاة الفجر، أو صلاة نفل، وصلى خلفه بكر صلاة استسقاء أو كسوف أو عيد أو جنازة، أو نحوها مما يُخالف صلاة الفجر في الأفعال، أو بالعكس بأن صلى زيد صلاة استسقاء أو كسوف أو عيد أو جنازة، وصلى خلفه بكر صلاة الفجر مثلًا، أو صلاة نفل يُخالف صلاة زيد: فإن صلاة بكر - المأموم - باطلة في الحالتين، أما إن لم توجد مخالفة كأن يصلي زيد نافلة معينة كركعتين من التراويح، وصلى خلفه بكر نافلة أخرى تماثل صلاة زيد في الأفعال كأن ينوي بكر بأنه يصلي خلف زيد شفع وتره: فإن صلاة بكر - المأموم - تصح؛ للسنة القولية؛ حيث قال: "فلا تختلفوا عليه" حيث إن النهي هنا مطلق، فيقتضي الفساد، فيلزم من وجود الاختلاف بين صلاة الاستسقاء والكسوف والعيد والجنازة وبين صلاة =

ص: 637

كانوا أو نساء إن كانوا اثنين فأكثر (خلف الإمام)؛ لفعله صلى الله عليه وسلم: "كان إذا قام إلى الصلاة قام أصحابه خلفه"

(97)

ويستثنى منه إمام العراة يقف وسطهم وجوبًا، والمرأة إذا أمَّت النساء تقف وسطهن استحبابًا ويأتي

(98)

(ويصح) وقوفهم (معه) أي: مع الإمام (عن يمينه أو عن جانبيه)؛ لأن ابن مسعود رضي الله عنه صلى بين علقمة والأسود، وقال:"هكذا رأيت رسوله صلى الله عليه وسلم فعل" رواه أحمد وقال ابن عبد البر: لا يصح رفعه، والصحيح: أنه من قول ابن مسعود

(99)

(لا قدَّامه) أي: لا قدَّام الإمام، فلا تصح للمأموم ولو بإحرام؛ لأنه ليس موقفًا بحال،

(100)

والاعتبار بمؤخر

الفرض والنفل في الصورة والهيئة: وجود الاختلاف في الأفعال: فيبطل الائتمام؛ ودل مفهوم الصفة من الحديث على صحة الصلاة إذا لم يوجد اختلاف في الأفعال والهيئات.

(97)

مسألة: يُستحب أن يقف المأمومون خلف الإمام، سواء كانوا رجالًا أو نساء، في الفرض والنفل؛ للسنة التقريرية؛ حيث إن الصحابة كانوا يقفون خلف النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يُنكر عليهم ذلك؛ فإن قلتَ: لمَ استحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تحقيق متابعة الإمام في الركوع والسجود بدقة.

(98)

مسألة: يجب أن يقف إمام العراة وسطهم؛ للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه منع للمأمومين من أن يروا عورته، لأن كشف العورة حرام، وما يُترك به الحرام واجب، تنبيه: قوله: "والمرأة إذا أمَّت .. " سيأتي بيانه في مسألة (112).

(99)

مسألة: يصح أن يقف المأمومون عن يمين الإمام أو عن يساره؛ لفعل الصحابي؛ حيث إن ابن مسعود رضي الله عنه قد فعل ذلك، فإن قلتَ: لمَ صحَّ ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تيسير وتوسعة على المسلمين.

(100)

مسألة: لا تصح صلاة مأموم وقف قُدَّام إمامه ولو بتكبيرة الإحرام؛ للتلازم، حيث إن المأموم يتبع الإمام في أفعاله ويأتمَّ به؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما جعل =

ص: 638

القدم وإلا: لم يضر، وإن صلى قاعدًا فالاعتبار بالإلية، حتى لو مدَّ رجليه، وقدَّمهما على الإمام: لم يضر، وإن كان مضطجعًا: فبالجنب

(101)

وتصح داخل

الإمام ليؤتمَّ به" فموقفه خلف أو بجانب الإمام، لتتحقق المتابعة ويلزم منه: أن لا يكون قدامه؛ لكونه لا يمكنه متابعته إذا كان قدامه إلا بالالتفات، وهذا يُبطل الصلاة، فإن قلتَ: لمَ تبطل صلاة المأموم هنا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تنظيم الصلاة، وعدم الجرأة على التقدم على إمام الصلاة، ولتحقق المتابعة والاقتداء، وهذا يجمع شمل المسلمين، فإن قلتَ: تصح صلاة المأموم إذا وقف قدام الإمام؛ إذا أمكنه متابعته؛ قياسًا على من وقف خلف الإمام بجامع: إمكان المتابعة، وهو قول للإمام مالك قلتُ: هذا قياس فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ حيث إن الواقف خلف أو بجانب الإمام يمكنه بيسر متابعة الإمام، بخلاف من وقف قدامه فلا يُمكنه ذلك إلا بالالتفات، ومع هذا الفرق: لا قياس، فإن قلتَ: تصح صلاة المأموم قدام الإمام عند الضرورة كوجود زحام ونحوه، وهو قول بعض العلماء كابن تيمية وتبعه ابن عثيمين؛ للمصلحة الضرورية قلتُ: لا نُسلِّم وجود ضرورة هنا مع صحة صلاة المأموم خلف الإمام وإن بَعُد مكانه، وصحة صلاته منفردًا؛ لأن الجماعة ليست شرطًا لصحة الصلاة - كما سبق في مسألة (2)، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلت: سببه: "الخلاف في الشيء الذي يحقق المتابعة للإمام" فعندنا: لا يحققها إلا الوقوف خلفه أو عن جانبه، وعندهم: تتحقق بدون ذلك.

(101)

مسألة: إذا صلى المأموم عن يمين أو يسار إمامه وهما واقفان: فإنهما يتساويان بمؤخر القدم، وهو العقب، وإن كانا قاعدين: فيتساويان بالإلية، وإن كانا مضطجعين: فيتساويان بالجنب، وإن كان المأموم قائمًا أو قاعدًا أو مضطجعًا بخلاف الإمام فيتساويان بما ذكرنا بالتقدير، ولا يضر تقدُّم قليلًا عن إمامه برجليه أو رأسه عند السجود؛ للتلازم؛ حيث إن المأموم بهذه الطريقة =

ص: 639

الكعبة إذا جعل وجهه إلى وجه إمامه، أو ظهره إلى ظهره، لا إن جعل ظهره إلى وجه إمامه؛ لأنه متقدِّم عليه،

(102)

وإن وقفوا حول الكعبة مستديرين: صحَّت، فإن كان المأموم في جهته أقرب من الإمام في جهته: جاز إن لم يكونا في جهة واحدة: فتبطل صلاة المأموم،

(103)

ويُغتفر التقدُّم

يمكنه متابعة إمامه بيسر وسهولة، بدون التفات فلزمت، فإن قلتَ: لمَ حُدِّد ذلك بما ذكر؟ قلتُ: لأن مؤخر القدم هو محل الوقوف، والإلية هي محل القعود، والجنب هو محل الاضطجاع، فيُقدَّر بها.

(102)

مسألة: تصح صلاة مأموم نافلة خلف إمامه وهما داخل الكعبة بشرط: أن يجعل المأموم وجهه متجهًا إلى وجه إمامه، أو أن يجعل المأموم ظهره متجهًا إلى ظهر إمامه، أما إن جعل المأموم ظهره إلى وجه إمامه: فلا تصح صلاته؛ للتلازم؛ حيث إنه في الحالة الأولى لم يتقدَّم إمامه: فلزم صحة صلاته، أما في الحالة الثانية - وهي: كون ظهره متجهًا إلى وجه إمامه - فإنه يتقدم عليه فلزم: عدم صحة صلاته؛ لعدم قدرته متابعة إمامه، وهذا هو المقصد من المسألة.

(103)

مسألة: إذا صلى الناس مستديرين حول الكعبة: فتصح صلاتهم: سواء تقدم المأموم إلى الكعبة وصار أقرب إليها من الإمام أو لا بشرط: أن لا يتقدَّم المأموم إمامه في الجهة التي فيها الإمام، فإن تقدمه في هذه الجهة: بطلت صلاته؛ للتلازم؛ حيث إن المأموم إذا تقدم إلى الكعبة أكثر من إمامه في غير الجهة التي هو فيها فلا يكون متقدمًا لإمامه، فيلزم: صحة صلاته أما إن تقدم إمامه في الجهة التي هو فيها: فيكون متقدمًا لإمامه: فيلزم منه بطلان صلاته؛ لتقدُّمه - كالمسجد العادي - فإن قلتَ: لمَ صحت الصلاة في الحالة الأولى دون الحالة الثانية؟ قلتُ: لكونه في الحالة الأولى يمكنه أن يُتابع إمامه بيسر وسهولة، بخلاف الحالة الثانية: فلا يمكنه ذلك كما سبق بيانه.

ص: 640

في شدة خوف إذا أمكن المتابعة

(104)

(ولا) يصح للمأموم إن وقف (عن يساره فقط) أي: مع خلو يمينه إذا صلى ركعة فأكثر؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أدار ابن عباس وجابرًا رضي الله عنهم عن يساره إلى يمينه، وإذا كبَّر عن يساره: أداره من ورائه إلى يمينه، فإن كبَّر معه آخر: وقفا خلفه، فإن كبَّر الآخر عن يساره: أدارهما بيده وراءه، فإن شقَّ ذلك أو تعذر: تقدم الإمام فصلى بينهما أو عن يسارهما،

(105)

ولو تأخَّر الأيمن قبل إحرام

(104)

مسألة: صلاة المأموم قدام إمامه لا تصح مطلقًا: سواء كان ذلك في شدَّة خوف أو لا؛ للتلازم، وقد بيناه في مسألة (100)، فإن قلتَ: إن أمكنه متابعة إمامه وهو في حالة خوف فتصح - وهو ما ذكره المصنف هنا - قلتُ: لا داعي لافتراض أمرٍ لا يُمكن حصوله - وهو إمكان متابعة المأموم المتقدم على إمامه لما يفعله الإمام - بل قد يصل ذلك إلى الاستحالة، ثم إنه لا ضرورة لذلك كما سبق قوله في مسألة (100).

(105)

مسألة: تصح صلاة المأموم إذا وقف عن يسار الإمام وإن كان اليمين خاليًا، ويُديره الإمام من خلفه ويجعله عن يمينه، وإن جاء مأموم آخر: فإنه يُديرهما إلى يساره إن تيسر، فإن شقَّ ذلك: تقدَّم الإمام وجعلهما خلفه، أو انتقل هو وجعل نفسه عن يسارهما؛ للسنة الفعلية؛ حيث إن ابن عباس رضي الله عنهم قد وقف عن يسار النبي صلى الله عليه وسلم فأداره من خلفه وجعله عن يمينه، ولم يأمره بإعادة تلك الصلاة التي أحرم بها عن يساره، وهذا يلزم منه صحتها، وكان صلى الله عليه وسلم قد واظب على تقدُّمه على المصلين، فإن قلتَ: إن صلاة المأموم الواقف عن يسار الإمام لا تصح إذا كان اليمين خاليًا؛ للسنة الفعلية، "حيث أدار صلى الله عليه وسلم ابن عباس من يساره إلى يمينه" فلو كانت صحيحة لأقره على اليسار، قلتُ: هذا يدل على أن الوقوف في اليمين أفضل من اليسار فقط، ولو لم تكن صحيحة: لبيَّن له عدم صحتها، ولكنه لم يفعل، ولا يجوز تأخير البيان عن =

ص: 641

الداخل؛ ليُصلِّيا خلفه: جاز،

(106)

ولو أدركهما الداخل جالسين: كبَّر وجلس عن يمين صاحبه، أو يسار الإمام ولا تأخر إذن؛ للمشقة، والزَّمنى لا يتقدمون ولا يتأخرون

(107)

(ولا) تصح صلاة (الفذ) أي: الفرد (خلفه) أي: خلف الإمام (أو خلف الصف) إن صلى ركعة، فأكثر عامدًا أو ناسيًا، عالمًا أو جاهلًا؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"لا صلاة لفرد خلف الصف" رواه أحمد وابن ماجة، "ورأى صلى الله عليه وسلم رجلًا يصلي خلف الصف فأمره أن يعيد الصلاة" رواه أحمد والترمذي وحسنَّه، وابن ماجه،

وقت الحاجة، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلت: سببه: "هل عدم أمره صلى الله عليه وسلم لابن عباس بإعادة الصلاة التي صلاها عن يسار النبي يلزم منه: صحتها أو لا؟ " فعندنا: نعم يلزم صحتها، وعندهم: لا.

(106)

مسألة: إذا صلى مأموم واقفًا عن يمين إمامه، ودخل شخص ثالث ووجدهما واقفين وتأخر ذلك المأموم قبل أن يُكبِّر الداخل تكبيرة الإحرام معه فصفَّا معًا خلف ذلك الإمام: صح ذلك؛ للتلازم؛ حيث إن تأخر هذا المأموم بنية وصول الداخل إليه: يلزم منه صحة صلاتهما خلف ذلك الإمام، وهو الموقف المستحب للمأموم إذا كان معه آخر.

(107)

مسألة: إذا دخل شخص ووجد مأمومًا جالسًا عن يمين إمامه: فإنه يُكبِّر، ويجلس عن يمين هذا المأموم، أو يجلس عن يسار الإمام، ولا يتأخر المأموم معه ليُصلِّيا خلف الإمام؛ نظرًا لجلوس المأموم؛ للقياس، بيانه: كما أن الشخص الذي مرضه مزمن - وهو: المقعد - لا يتأخر لمأموم قد دخل، ولا يتقدَّم، فكذلك الحال هنا بجامع: وجود المشقَّة، فإن قلتَ: لمَ شرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة، وهي دفع المشقة عنه عن المعذور.

ص: 642

وإسناده ثقات،

(108)

(إلا أن يكون) الفذ خلف الإمام أو الصف (امرأة) خلف

(108)

مسألة: لا تصحُّ صلاة منفرد خلف الإمام؛ أو خلف الصف إذا صلى ركعة فأكثر مع تمكُّنه من الوقوف في الصف، أو عن يمين أو يسار الإمام، إذا كان عالمًا بأن صلاته تبطل، وكان ذاكرًا لذلك، أما إن انضمَّ إليه آخر قبل أن يصلي ركعة، أو لم يجد مكانًا إلا خلف الصف أو كان جاهلًا للحكم، أو كان عالمًا به ولكنه نسيه: فإن صلاته تصح؛ لقواعد: الأولى: السنة القولية؛ وهي من وجوه: أولها: قوله صلى الله عليه وسلم: "لا صلاة لفرد خلف الصف" حيث إن المنفي هنا الصحَّة، والتقدير "لا صلاة صحيحة ..... ؛ لأنه يمكن حمله على ذلك، ولا يحمل على نفي الكمال؛ لإمكاننا حمله على نفي الصحة من باب: "دلالة الاقتضاء"، ثانيها: أنه صلى الله عليه وسلم قد أمر رجلًا صلى خلف الصف وحده بإعادة صلاته، فلو كانت صحيحة: لما أمره بإعادتها، ثالثها: قوله صلى الله عليه وسلم: "عُفي لأمَّتي عن الخطأ والنسيان .. " فالمخطي والناسي والجاهل معفو عنه؛ للعذر، فتكون صلاته منفردًا جاهلًا أو ناسيًا صحيحة، ومن صلى خلف إمامه كمن صلى خلف الصف منفردًا؛ لعدم الفارق بجامع: الانفراد في كل من باب: "مفهوم الموافقة"، الثانية: المصلحة؛ حيث إن الذي لم يجد مكانًا إلا خلف الصف إما أن يصبر إلي أن يحضر شخص آخر يصلي معه، وهذا يُفوّت عليه الركعة أو الجماعة، وإما أن يجذب معه شخصًا من الصف المكتمل، وهذا يتسبَّب في إشغال المجذوب وإشغال من حوله، ونقله من الفاضل إلى المفضول، وفتح فرجة في الصف، فدفعًا لتلك المفاسد: شُرع أن يقف منفردًا خلف الصف؛ لأن دفع المفسدة مقدم على جلب المصلحة، الثالثة: التلازم؛ حيث إن الداخل في الصف، أو الآتي معه شخص وصف معه قبل فوات الركعة حقَّق الاصطفاف: فلزم صحة صلاته، تنبيه: قوله: "عامدًا أو ناسيًا أو عالمًا أو جاهلًا" قلتُ: هذا لا يُسلَّم على إطلاقه وقد سبق بيانه، فإن قلتَ: تصح صلاة الفرد خلف الصف =

ص: 643

رجل فتصح صلاتها؛ لحديث أنس،

(109)

وإن وقفت بجانب الإمام فكرجل،

(110)

وبصف رجال لم تبطل صلاة من يليها أو خلفها فصف تام من نساء لا يمنع اقتداء من خلفهن من رجال

(111)

(وإمامة النساء تقف في صفهن) ندبًا، روي عن عائشة

مطلقًا؛ للسنة التقريرية؛ حيث إن أبا بكرة قد صلى منفردًا خلف الصف ولم يأمرْ صلى الله عليه وسلم بالإعادة، وهذا يلزم منه: صحة صلاته مطلقًا، قلتُ: إن أبا بكرة مشى وهو راكع حتى دخل في الصف، وهذا يخالف ما نحن فيه، وسيأتي بيانه في مسألة (116).

(109)

مسألة: تصح صلاة امرأة منفردة خلف رجل أو خلف صف من الرجال؛ للسنة الفعلية؛ حيث قال أنس رضي الله عنه: "صلَّى رسول الله بأم أنس أو خالته فأقامني عن يمينه وأقام المرأة خلفنا"؛ فإن قلتَ: لمَ صح ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك أكثر سترًا للمرأة، وأمنع من الفتنة.

(110)

مسألة: تصح صلاة امرأة وقفت عن يمين أو يسار رجل غير أجنبي عنها، للقياس؛ بيانه: كما أنه يصح ذلك من الرجل: فكذا يصح من المرأة، والجامع: أن كلًا منهما يُعتبر موقفًا للمأموم وهذا من تيسير الشارع على الناس، وهو المقصد منه.

(111)

مسألة: إذا وقفت عدة نساء صفًا واحدًا خلف رجل، أو خلف صف من الرجال، ثم صف وراء هذا الصف من النساء عدة رجال، وهم مقتدون بذلك الإمام: فإن صلاة الجميع تصح؛ للتلازم؛ حيث إن هذا يُعتبر موقفًا للمأمومين من الرجال والنساء، ولا يقطعن النساء صلاة الرجال - كما سبق - فلزم صحة صلاة الجميع، وهذا من تيسير الشارع على الناس، وهو المقصد منه.

ص: 644

وأم سلمة، فإن أمَّت واحدة: وقفت عن يمينها، ولا يصح خلفها

(112)

(ويليه) أي: يلي الإمام من المأمومين (الرجال) الأحرار، ثم العبيد الأفضل فالأفضل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"ليليني منكم أولو الأحلام والنّهى" رواه مسلم (ثم الصبيان) الأحرار ثم العبيد (ثم النساء): لقوله صلى الله عليه وسلم: "أخِّروهن من حيث أخَّرهن الله" ويُقدم منهن البالغات الأحرار، ثم الأرقاء، ثم من لم تبلغ من الأحرار فالأرقاء الفضلى فالفضلي، وإن وقف الخناثى صفًا: لم تصح صلاتهم (كـ) الترتيب في (جنائزهم) إذا اجتمعت، فيُقدَّمون إلى الإمام وإلى القبلة في القبر على ما تقدَّم في صفوفهم

(113)

(112)

مسألة: إمامة النساء يُستحب أن تقف في وسطهن، فإن وقفت عن يسارهن أو يمينهن، أو أمامهن: فلا بأس، وإن كانت المأمومة واحدة: فإنها تقف عن يمينها أي: يمين الإمامة، ولا تصح صلاة امرأة منفردة وقفت خلف إمامتها، أو خلف صف النساء إن كانت واجدة لمكان لها في الصف أو عن يمين الإمامة أو يسارها؛ لقاعدتين: الأولى: فعل الصحابي؛ حيث إن عائشة وأمَّ سلمة رضي الله عنهما قد وقفتا في وسط النساء حين أمَّتاهن، الثانية: القياس، بيانه: كما تصح صلاة الرجل عن يمين أو يسار الإمام، ولا تصح صلاته إذا وقف منفردًا خلف إمامه أو خلف الصف إن كان واجدًا مكانًا له - كما سبق في مسألتي (105 و 108) - فكذلك المرأة مثله في هذين الحكمين.

(113)

مسألة: إذا أراد جماعة من الرجال والنساء والصبيان أن يصلوا جماعة: فإن المستحب أن يقف خلف الإمام مباشرة الرجال البالغون من الأحرار، ثم يليهم الرجال البالغون من العبيد، ويُقدَّم منهم الفاضل ثم المفضول في العلم، ثم يليهم الصبيان من الأحرار، ثم يليهم الصبيان من العبيد، ثم يلي هؤلاء النساء البالغات الحرائر، ثم تليهن النساء البالغات من الإماء، ثم يليهن الصبيات الحرائر، ثم يليهن الصبيات الإماء؛ لقواعد: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال =

ص: 645

(ومن لم يقف معه) في الصف (إلا كافر أو امرأة) أو خنثى، وهو رجل، (أو من علمَ حدثه) أو نجاسته (أحدهما) أي: المصلي أو المصافف له (أو) لم يقف معه إلا (صبي في فرض: ففذ) أي: فرد، فلا تصح صلاته ركعة فأكثر، وعُلِم منه: صحة مصافَّة الصبي في النفل، أو من جهل حدثه أو نجسه حتى فرغ

(114)

(ومن وجد

- صلى الله عليه وسلم "ليليني منكم أولو الأحلام والنُّهى" أي: ذوي العقول والعلم، الثانية: السنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد صف الرجال، ثم الغلمان، ثم النساء - كما رواه أبو مالك الأشعري - الثالثة: القياس، بيانه: كما أنه لو مات رجل وصبي وامرأة: فإنه يُستحب أن توضع المرأة أقربهم إلى القبلة وأبعدهم عن الإمام، ثم يليها الصبي - من جهة الإمام، ثم يليه الرجل ويكون ألصق الثلاثة بالإمام عند الصلاة عليهم، فكذلك يُفعل بهم في الصلاة والجامع: تقديم الرجال وتأخير النساء، فإن قلتَ: لمَ شرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه إبعاد عن الفتنة وتقريب من يُمكنه تنبيه الإمام إن غلط أو سها. [فرع]: لا تصح صلاة مجموعة من الخناثى صفًا واحدًا؛ للمصلحة؛ حيث إن كل واحد منهم يُحتمل أن يكون رجلًا، والباقي نساء؛ لمنع احتمال الفتنة.

(114)

مسألة: إذا وقف زيد خلف الصف بمفرده بلا عذر، أو وقف معه كافر، أو وقفت معه امرأة، أو خنثى، أو رجل به حدث أو نجس يعلم زيد هذا الحدث والنجس، أو وقف معه صبي في فرض، فإن زيدًا يكون قد صلى منفردًا، فلا تصح صلاته إن صلى ركعة فأكثر، أما إن صف معه صبي في نفل، أو صفَّ معه شخص لا يعلم هل هو كافر أو لا؟ أو لا يعلم هل هو على طهارة أو لا؟: فإن صلاة زيد صحيحة؛ لقواعد: الأولى: التلازم؛ حيث يلزم من وقوف الكافر، والمرأة والخنثى والمحدث والمتنجس معه: أنه مفرد؛ لأن وجودهم كعدمهم، فلزم عدم صحة صلاته - كما سبق في مسألة (108)، الثانية: السنة =

ص: 646

فُرجة) بضم الفاء، وهي: الخلل في الصف ولو بعيدة: (دخلها) وكذا: إن وجد الصف غير مرصوص: وقف فيه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله وملائكته يُصلُّون على الذين يصلون الصفوف"(وإلا) يجد فُرجة: وقف (عن يمين الإمام)؛ لأنه موقف الواحد (فإن لم يُمكنه: فله أن يُنبِّه من يقوم معه) بنحنحة، أو كلام، أو إشارة، وكره بجذبه، ويتبعه من نبهه وجوبًا (فإن صلى فذًا ركعة: لم تصح) صلاته؛ لما تقدَّم، وكرره لأجل ما أعقبه به

(115)

(وإن ركع فذًا) أي: فردًا؛ لعذر: بأن خشي فوات الركعة

التقريرية؛ حيث إن أنسًا صفَّ خلف النبي صلى الله عليه وسلم ومعه يتيم في نفل، ولم ينكر النبي ذلك، الثالثة: الاستصحاب؛ حيث إن الأصل: أن كل من يدخل المسجد مسلم طاهر، فيُستصحب ذلك ويُعمل به فصحَّت مصافَّته، فصحَّت صلاة زيد بذلك، ولا يُلتفت إلى شيء بعد الفراغ من الصلاة، فإن قلتَ: لمَ شرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن الشكَّ لا تُبنى عليه أحكام؛ للتيسير، والنفل قد تساوي به مع الصبي؛ لجواز قطعه بلا عذر بدون تفريق.

(115)

مسألة: إذا وجد الداخل فرجة تسعه في الصف: فيجب عليه أن يقف فيها، ويصل الصف بذلك ولا يصف وحده، فإن لم يجد فرجة: فإنه يقف عن يمين أو يسار الإمام إن لم يشق ذلك عليه ولا على المأمومين؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "تراصُّوا وسدُّوا الخلل" حيث أوجب الشارع أن يسدَّ كل شخص كل خللٍ يجده في الصف؛ لأن الأمر مطلق، فيقتضي الوجوب، وهو وجوب كفائي - إذا قام به من يكفي سقط عن الباقين - الثانية: التلازم؛ حيث يلزم من كون يمين أو يسار الإمام موقفًا للمأموم: أن يصح أن يقف المأموم فيه بشرط: عدم المشقة على الآخرين، فإن قلتَ: لمَ شرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه الحصول على الأجر العظيم؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم في ذلك: "إن الله وملائكته يصلون على الذين =

ص: 647

(ثم دخل في الصف) قبل سجود الإمام (أو وقف معه آخر قبل سجود الإمام: صحَّت) صلاته؛ لأن أبا بكرة ركع دون الصف، ثم مشى حتى دخل في الصف فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:"زادك الله حرصًا ولا تعد" رواه البخاري، وإن فعله ولم يخش فوات الركعة: لم تصح إن رفع الإمام رأسه من الركوع قبل أن يدخل الصف أو يقف معه آخر

(116)

فصل: في أحكام الاقتداء (يصح اقتداء المأموم بالإمام) إذا كانا

يصلون الصفوف، من سدَّ فرجة رفعه الله بها درجة" تنبيه: قوله: "فله أن ينبه" إلى قوله: "وجوبًا" قلتُ: هذا لا يُسلَّم، بل إن لم يجد فرجة، ولم يستطع الوقوف بجانب الإمام: فإنه يصلي وحده وتصح صلاته، وعليه: فلا يجب على المأموم في الصف أن يرجع لهذا المتأخر، وهذا كله قد سبق بيانه في مسألة (108)، تنبيه آخر: قوله: "فإن صلى فذًا ركعة لم تصح صلاته" يُشير به إلى قوله سابقًا: "ولا تصح صلاة الفذ". وقد سبق بيانه في مسألة (108)، وكرَّره؛ لكونه سيُرتب عليه ما سيأتي من الأحكام.

(116)

مسألة: إذا دخل شخص المسجد فركع قبل أن يصل إلى الصف؛ لعذر كأن يخشى فوات الركعة، ثم مشى حتى دخل الصف وهو راكع قبل أن يسجد الإمام، أو وقف معه شخص آخر قبل سجود ذلك الإمام: فصلاته صحيحة، أما إن ركع قبل أن يصل الصف بلا عذر: فلا تصح صلاته إن رفع الإمام رأسه من الركوع قبل أن يدخل الصف أو يقف معه شخص آخر معه؛ لقاعدتين: الأولى: السنة التقريرية؛ حيث إن أبا بكرة قد ركع قبل الصف ثم مشى حتى دخل فيه قبل سجود الإمام، فلما علم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك: لم يأمره بإعادتها فلزم من ذلك صحتها، ويلزم مما يُخالف ذلك: بطلانها، الثانية: التلازم؛ حيث يلزم من وقوف شخص آخر معه: صحة صلاته؛ لكونهما يُعتبران صفًا، لا فردًا.

ص: 648

(في المسجد وإن لم يره، ولا من ورائه إذا سمع التكبير)؛ لأنه في موضع الجماعة، ويُمكنهم الاقتداء به بسماع التكبير أشبه المشاهدة

(117)

(وكذا) يصح الاقتداء إذا كانا أحدهما (خارجه) أي: خارج المسجد (إن رأى) المأموم (الإمام أو) بعض (المأمومين) الذين وراء الإمام، ولو كانت الرؤية في بعض الصلاة أو من شِبَّاك ونحوه، وإن كان بين الإمام والمأموم نهر تجري فيه السفن، أو طريق ولم تتصل فيه الصفوف، حيث صحَّت فيه، أو كان المأموم بسفينة وإمامه في أخرى في غير شدَّة خوف: لم يصح الاقتداء

(118)

(وتصح) صلاة المأمومين (خلف إمام عال عنهم)؛

(117)

مسألة: يصح اقتداء المأموم بالإمام إذا سمع تكبيرات الإمام، وهو داخل المسجد سواء كان يرى الإمام أو لا يراه، وسواء كان يرى بعض المأمومين أو لا، وسواء اتصلت الصفوف أو لا؛ للقياس، بيانه: كما تصح صلاة المأموم إذا رأى إمامه وشاهده، فكذلك تصح صلاته إذا سمع التكبيرات وهو في المسجد والجامع: أن كلًا منهما في موضع الجماعة - وهو: المسجد - ويُمكنه متابعة الإمام والاقتداء به، وهذا من باب التوسعة على الناس، وهو المقصد منه.

(118)

مسألة: يصح اقتداء المأموم بالإمام إذا كان خارج المسجد بشرطين: أولهما: أن يسمع تكبيرات الإمام، ثانيهما: أن يرى المأموم الإمام، أو بعض المأمومين الذين يصلون وراء ذلك الإمام وهذا مطلق، أي: سواء رأى ذلك في جميع الصلاة، أو في جزء منها، وسواء كانت الرؤية مباشرة، أو من وراء زجاج أو شباك أو نحو ذلك، وسواء كانت الصفوف متصلة أو لا، وسواء وُجد فاصل بين الإمام والمأموم كنهر أو بئر أو نار، أو طريق يمشي فيه بعض الناس أو لا، وسواء كان الإمام في سفينة والمأموم في سفينة أخرى؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم:"إنما جُعل الإمام ليؤتمَّ به" ويمكن تحقيق الائتمام والمتابعة بهذين الشرطين لذا صح الاقتداء هنا، وهذا عام لكل الحالات المذكورة، فإن قلتَ: لمَ شرع =

ص: 649

"لفعل حذيفة وعمار رضي الله عنهم" رواه أبو داود، (ويُكره) علو الإمام عن المأموم (إذا كان العلو ذراعًا فأكثر)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"إذا أمَّ الرجل القوم فلا يقومنَّ في مكان أرفع من مكانهم" فإن كان العلو يسيرًا دون ذراع: لم يكره؛ لصلاته صلى الله عليه وسلم على المنبر في أول يوم وضع، فالظاهر: أنه على الدرجة السفلى؛ جمعًا بين الأخبار، ولا بأس بعلو المأموم

(119)

(كـ) ما تكره (إمامته في الطاق) أي: طاق القبلة، وهو المحراب؛ روي

هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه توسعة وتيسير على الناس، فإن قلتَ: إذا وُجد بين الإمام والمأموم فاصل من بئر أو نهر أو طريق، أو كان الإمام في سفينة والمأموم في أخرى: فلا يصح الاقتداء إلا لشدة خوف قلتُ: لم أجد دليلًا قويًا على ذلك، [فرع]: الأعمى يكفيه أن يسمع تكبيرات الإمام، وأن يُصلِّي بجانب بصير، والأصم يكفيه أن يرى الإمام أو بعض المأمومين؛ لما سبق من السنة القولية.

(119)

مسألة: تصح الصلاة إذا كان الإمام أعلى من المأموم، أو المأموم أعلى من الإمام في المكان، ولكن يُكره أن يكون الإمام أعلى من المأموم بذراع فأكثر بغير عذر؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم:"إذا أمَّ الرجل القوم فلا يقومن في مكان أرفع من مكانهم" والذي صرف هذا النهي من التحريم إلى الكراهة: السنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم صلى على المنبر، والذي خصَّص الكراهة بالذراع فأكثر: قول الصحابي؛ حيث قال عمار لحذيفة: "ألم تعلم أنهم كانوا ينهون عن ذلك؟ " قال: "بلى، ومحل النهي إذا كان ذراعًا فأكثر"، فإن قلتَ: لمَ صحَّت الصلاة؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه التوسعة والتيسير على المسلمين، فإن قلتَ: لمَ كره ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه احتمال ترفع الإمام عن المأمومين، تنبيه: قوله: "فالظاهر: أنه كان على الدرجة .... " قلتُ: لم أجد دليلًا على ذلك الجمع.

ص: 650

عن ابن مسعود رضي الله عنه وغيره؛ لأنه يستتر عن بعض المأمومين، فإن لم يمنع رؤيته: لم يكره

(120)

(و) يكره (تطوعه موضع المكتوبة) بعدها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يصلِّين الإمام في مقامه الذي صلى فيه المكتوبة حتى يتنحَّى عنه" رواه أبو داود، عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه (إلا من حاجة) فيهما: بأن لا يجد موضعًا خاليًا غير ذلك

(121)

(و) يكره للإمام (إطالة قعوده بعد الصلاة مستقبل القبلة)؛ لقول عائشة: "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سلَّم لم يقعد إلا مقدار ما يقول: اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام" رواه مسلم، فيُستحب له أن يقوم أو ينحرف عن قبلته إلى مأموم

(120)

مسألة: يكره أن يصلي الإمام داخل محراب المسجد - وهو المسمى بالطاق - بلا حاجة، فإن وجدت حاجة كزحام: فلا كراهة؛ لقول الصحابي؛ حيث كره ابن مسعود رضي الله عنه ذلك، فإن قلتَ: لمَ كُرِه ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن صلاته داخله يتسبَّب في عدم رؤية بعض المأمومين للإمام، وهو شرط الاقتداء به - كما سبق -.

(121)

مسألة: يُكره أن يصلي الإمام النافلة في موضع صلاته المفروضة بلا حاجة، فإن وجدت حاجة كضيق مكان ونحوه: فلا كراهة، أما المأموم فيصلي النافلة في موضع صلاته المفروضة بلا كراهة؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث نهى صلى الله عليه وسلم أن يصلي الإمام النافلة في موضعه، والذي صرف هذا من التحريم إلى الكراهة المصلحة؛ حيث إن النهي هنا لمنع أن يظن الداخل للمسجد أن الإمام لا زال في صلاة المفروضة فيلتبس عليه الأمر، وهو المقصد من هذا النهي، الثانية: فعل الصحابي؛ حيث إن ابن عمر رضي الله عنهم كان يصلي في موضعه الذي صلى فيه الفريضة إذا كان مأمومًا، تنبيه: قوله: "إلا من حاجة فيهما" يقصد في المسألتين السابقتين (120 و 121).

ص: 651

جهة قصده، وإلا: فعن يمينه

(122)

(فإن كان ثمَّ) أي: هناك (نساء: لبث) في مكانه (قليلًا؛ لينصرفنَّ)؛ لأنه صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يفعلون ذلك،

(123)

ويُستحب: أن لا ينصرف المأموم قبل إمامه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تسبقوني بالانصراف" رواه مسلم، قال في "المغني" و "الشرح": إلا أن يخالف الإمام السنة في إطالة الجلوس أو لم ينحرف: فلا بأس بذلك

(124)

(ويُكره وقوفهم) أي؛ المأمومين (بين السواري إذا قطعن)

(122)

مسألة: يُكره أن يُطيل الإمام قعوده وهو مستقبل القبلة بعد سلامه، بل يُستحب أن يقوم مباشرة، أو ينحرف إلى جهة المأمومين عن اليمين أو اليسار؛ للسنة الفعلية؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم لا يقعد بعد سلامه إلا مقدار ما يقول:"اللهم أنت السلام ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام"، وكان يُقبل على أصحابه بوجهه - كما روته عائشة وجابر بن سمرة رضي الله عنهم، فإن قلتَ: لمَ كره ذلك؟ قلتُ: للمصلحة: حيث إنه إذا قعد وهو مستقبل القبلة بعد سلامه فقد يتوهَّم أحد أنه لا زال في الصلاة، فدفعًا لذلك: شرع هذا.

(123)

مسألة: يُستحب للإمام أن يجلس قليلًا وهو مستقبل القبلة بعد سلامه إذا وجدت نساء يُصليِّن معه؛ للسنة الفعلية؛ حيث كان يفعل ذلك، فإن قلتَ: لمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تمكين النساء من أن يخرجن قبل الرجال؛ لئلا يحصل اختلاط الرجال والنساء عند باب الانصراف.

(124)

مسألة: يُكره أن ينصرف المأموم ويخرج من المسجد قبل أن ينصرف إمامه عن القبلة وينحرف عنها إذا كان الإمام لا يطيل قعوده باتجاه القبلة عادة، أما إن كان يُطيل القعود وهو مستقبل القبلة بعد سلامه - خلافًا للمستحب والسنة - فلا كراهة على المأموم أن ينصرف ويخرج من المسجد؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم:"لا تسبقوني بالانصراف" والذي صرف هذا إلى الكراهة: المصلحة؛ حيث إن النهي هنا لمصلحة المأموم؛ حيث إن الإمام قد يتذكّر شيئًا نسيه أو زاده أو =

ص: 652

الصفوف عرفًا بلا حاجة؛ لقول أنس رضي الله عنه "كنا نتقي هذا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم" رواه أحمد وأبوداود، وإسناده ثقات، فإن كان الصف صغيرًا قدر ما بين الساريتين: فلا بأس،

(125)

وحرم بناء مسجد يُراد به الضِّرار لمسجد بقربه فُيهدم مسجد الضرار،

(126)

ويُباح اتخاذ

نقصه فيسجد للسهو، فلا يتمكَّن المأموم المسرع في الخروج من فعل ذلك معه فيفوته، فنظرًا لهذا الاحتمال: شُرِعت هذه الكراهة، لذلك قال بعض العلماء: لو كانت عادة الإمام إطالة القعود: فلا يُكره للمأموم أن يسبقه بالخروج والانصراف؛ لزوال ذلك الاحتمال.

(125)

مسألة: يُكره أن يقف المأمومون بين السواري والأعمدة بلا حاجة، أما إن وُجدت حاجة كضيق مسجد، أو كان ما بين العمودين قدر صف كامل بحيث لا ينقطع: فلا كراهة؛ للسنة التقريرية؛ حيث كان الصحابة يتجنَّبون ما بين السواري والأعمدة في عهده صلى الله عليه وسلم، وكان صلى الله عليه وسلم لا يُنكره، مما يلزم منه: كراهة الوقوف بينها، فإن قلتَ: لمَ كُره ذلك لغير حاجة؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن الوقوف بينها يؤدي إلى قطع الصفوف، وعدم التصاق المأمومين مع بعض، وعند الحاجة إلى ذلك لا يُكره؛ للتوسعة على المسلمين.

(126)

مسألة: يحرم أن يُبنى مسجد بقرب مسجد آخر أقدم منه لقصد الضرار وجلب الجماعة عن المسجد القديم، ويجب هدم مسجد الضرار وهو الجديد؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم:"لا ضرر ولا ضرار في الإسلام" وهو عام؛ لأنه نكرة في سياق نفي، وهو من صيغ العموم، فيشمل ما نحن فيه، والنفي هنا هو بمنزلة النهي، والنهي مطلق فيقتضي التحريم والفساد، فيُهدم هذا المسجد الجديد، فإن قلتَ: لمَ حُرِّم ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه منع للبغضاء والتقاطع بين المسلمين.

ص: 653

المحراب،

(127)

وكره حضور مسجدُ وجماعة لمن أكل بصلًا ونحوه حتى يذهب ريحه

(128)

فصل: في الأعذار المسقطة للجمعة والجماعة (ويُعذر بترك جمعة وجماعة مريض) لأنه صلى الله عليه وسلم لما مرض تخلَّف عن المسجد، وقال:"مروا أبا بكر فليصل بالناس" متفق عليه، وكذا خائف حدوث مرض،

(129)

وتلزم الجمعة، دون الجماعة من لم يتضرَّر بإتيانها راكبًا أو محمولًا

(130)

(و) يُعذر بتركهما (مُدافع أحد الأخبثين) البول

(127)

مسألة: يُستحب وضع المحراب في المسجد، وهو الذي يقف الإمام اتجاهه، أو داخله عند الحاجة؛ للمصلحة؛ حيث يستدل به الجاهل لجهة القبلة فيصلي - كما سبق - تنبيه: قوله: "يُباح اتخاذ المحراب" قلتُ: لم أجد دليلًا على الإباحة فقط، حيث إن المصلحة تقتضي الاستحباب.

(128)

مسألة: يُكره للشخص أن يصلي مع جماعة وفيه رائحة كريهة كآكل بصل أو ثوم أو كراث أو شارب دخَّان ونحو ذلك، أو يشتغل بالجزارة ونحوها؛ وعليه: ترك ذلك حتى تذهب تلك الرائحة؛ للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه إيذاء للمأمومين الآخرين من ذلك، وتنفيرهم، ومُضايقتهم.

(129)

مسألة: تسقط الجمعة والجماعة عن المريض في بدنه أو نفسيته، أو من خاف المرض بشيء؛ للسنة الفعلية؛ حيث "ترك النبي صلى الله عليه وسلم الجماعة لما مرض" والجمعة، والخوف من المرض مثل الجماعة، والمرض؛ لعدم الفارق، وذلك لدفع المشقة والحرج عن المسلمين من باب مفهوم الموافقة.

(130)

مسألة: تجب الجمعة على المريض الذي يقدر على الوصول إلى الجامع بأي وسيلة دون أذى؛ للمصلحة؛ حيث إن الجمعة فرض عين، وهي لا تتكرر كالصلوات الخمس، فلا يضره إتيانها في الغالب، بخلاف الصلوات الخمس فيضرُّه إتيانها غالبًا؛ نظرًا لتكرارها في خمس مرات في اليوم والليلة.

ص: 654

والغائط (ومن بحضرة طعام) هو (محتاج إليه) ويأكل حتى يشبع: لخبر أنس في "الصحيحين"

(131)

(و) يُعذر بتركهما (خائف من ضياع ماله أو فواته، أو ضرر فيه) كمن يخاف على ماله من لص ونحوه، أو له خبز في تنُّور يخاف عليه فسادًا، أو له ضالَّة، أو آبق يرجو وجوده إذًا، أو يخاف فوته إن تركه، ولو مستأجرًا لحفظ بستان، أو مال، أو ينضر في معيشة يحتاجها (أو) كان يخاف بحضوره الجمعة أو الجماعة (موت قريبه) أو رفيقه، أو لم يكن من يمرضهما غيره، أو يخاف على أهله أو ولده، (أو) كان يخاف (على نفسه من ضرر) كسبع (أو) من (سلطان) يأخذه (أو) من (ملازمة غريم ولا شيء معه) يدفعه به؛ لأن حبس المعسر ظلم، وكذا: إن خاف مطالبته بالمؤجل قبل أجله، فإن كان حالًّا وقدر على وفائه: لم يُعذر (أو) كان يخاف بحضورهما (من فوات رفقته) بسفر مباح سواء أنشأه أو استدامه (أو) حصل له (غلبة نعاس) يخاف به فوات الصلاة في الوقت أو مع الإمام،

(132)

(أو) حصل

(131)

مسألة: تسقط الجمعة والجماعة عن من حصره بول أو غائط أو ريح، أو حضره طعام يشتهيه؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم:"لا صلاة بحضرة طعام، ولا هو يدافع الأخبثين" والمنفي هنا: "الكمال" والتقدير: "لا صلاة كاملة

" فإن قلتَ: لمَ شرع هذا؟ قلتُ: لأن هذه الأمور تشغل المسلم عن التركيز فيما يقول ويفعل في صلاته.

(132)

مسألة: تسقط الجمعة والجماعة عن الخائف مطلقًا: أي: سواء خاف على نفسه، أو ماله أو أهله، أو أولاده، أو عبيده، أو كان الوقت المناسب لإيجاد ماله الضائع هو وقت الصلاة، أو كان خائفًا من غريمه، أو خاف على مريض عنده أن يتضرَّر أو يموت، أو خاف أن يغلبه النعاس في الطريق، أو خاف من السلطان أن يؤذيه أو نحو ذلك؛ للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه دفع مفسدة عنه، ودفع المفسدة مقدم على جلب المصلحة.

ص: 655

له (أذى بمطر وَوَحْل) بفتح الحاء وتسكينها لغة رديئة، وكذا: ثلج وبرد (و بريح باردة شديدة في ليلة مظلمة)؛ لقول ابن عمر رضي الله عنهما: كان النبي صلى الله عليه وسلم ينادي مناديه في الليلة الباردة أو المطيرة "صلوا في رحالكم" رواه ابن ماجه بإسناد صحيح

(133)

وكذا: تطويل إمام،

(134)

ومن عليه قَوَد يرجو العفو عنه، لا من عليه حدُّ،

(135)

ولا إن كان في طريقه أو المسجد منكر، ويُنكر

(133)

مسألة: تسقط الجمعة والجماعة عن شخص يوجد مطر أو وَحْل - وهو الطين الرطب - أو برد أو حر شديدين، أو ريح أو نحو ذلك مما يؤذي في طريقه بين المسجد وبيته؛ للسنة القولية؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم يُرسل مناديه في الليلة الباردة والمطيرة لينادي قائلًا:"صلوا في رحالكم" وما ذكرنا مثل البرد والمطر؛ لعدم الفارق من باب: "مفهوم الموافقة"، وكل ذلك لرفع الضَّرر عن المسلمين.

(134)

مسألة: تسقط الجمعة والجماعة عن شخصٍ يُطيل إمامه الصلاة إطالة لا يُمكنه مواصلة الصلاة معه، ولا يمكنه الذهاب إلى مسجد آخر، وكذا: إن كان إمامه يختصر الصلاة ويُسرع بها سرعة لا يُمكنه معها اللَّحاق به، أو إكمال أركانها وواجباتها أو بعض مسنوناتها؛ للسنة التقريرية، حيث إن رجلًا قد ترك الصلاة مع معاذ، فلما سأله النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك: قال: إن معاذًا يُطيل الصلاة، فأنكر النبي صلى الله عليه وسلم على معاذ ذلك، ولم يُنكر على ذلك الرَّجل تركه له، مما يدل على جواز ترك الإمام المطيل للصلاة، والمسرع في صلاته كالمطيل؛ لعدم الفارق بجامع: دفع المشقة، وهو المقصد من هذا الحكم، وهذا من باب:"مفهوم الموافقة".

(135)

مسألة: تسقط الجمعة والجماعة عن شخص يرجو العفو عنه بسبب حق من حقوق الآدميين كأن يكون عليه قصاص وقود أو عليه دية، أو عليه حد القذف، بخلاف من عليه حد من حدود الله كحد الخمر أو الزنا ونحوهما: فلا =

ص: 656

بحسبه،

(136)

وإذا طرأ بعض الأعذار في الصلاة: أتمها خفيفة إن أمكن وإلا: خرج منها، قاله في "المبدع" قال:"والمأموم يُفارق إمامه أو يخرج منها"

(137)

.

تسقط عنه الجمعة من أجل ذلك؛ للمصلحة؛ حيث إن حقوق الآدميين تدخله المصالحة والمفاوضة، ويمكن إسقاطه بسبب ذلك، فتكون هناك مصلحة في غياب هذا الشخص المطالب بذلك، بخلاف حقوق الله فلا تدخلها المفاوضة والمصالحة، فهي واجبة عليه سواء صلى مع الجماعة أو لا.

(136)

مسألة: لا تسقط الجمعة والجماعة عن شخص توجد في طريقه منكرات كشرب خمور، أو المتاجر بها، أو بالمخدرات، أو طرب، أو غناء، بل يذهب إلى المسجد وإذا رأى شيئًا من ذلك: فإنه يُنكره على حسب قدرته؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكرًا فلغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه" وهو واضح الدلالة، وفيه مصلحة نشر السنة، وقمع البدعة والضلالة.

(137)

مسألة: إذا دخل في صلاة الجمعة أو الجماعة ثم طرأ عليه عذر الأعذار المسقطة للجمعة والجماعة مما سبق ذكره كمرض، أو حصر بول أو غائط أو جوع، أو خوف أو برد أو حر أو نحو ذلك مما سبق في مسائل (129 إلى 135): فإنه يُتمها خفيفة إن قدر، أو يقطعها، ويصليها منفردًا لقاعدتين: الأولى: السنة التقريرية؛ حيث إن الرجل الذي قطع صلاته معاذ، وصلى لوحده: لم يُنكر عليه صلى الله عليه وسلم ذلك، الثانية: المصلحة؛ حيث إن ذلك فيه دفع مفسدة عنه، ودفع المفاسدُ مقدَّم على جلب المصالح.

هذه آخر مسائل باب "صلاة الجماعة وأحكام الإمام والمأموم والاقتداء والأعذار

" ويليه باب "صلاة أهل الأعذار وقصر الصلاة وجمعها، وصلاة الخوف"

ص: 657

‌باب صلاة أهل الأعذار

وهم المريض والمسافر والخائف (تلزم المريض الصلاة) المكتوبة (قائمًا) ولو كراكع، أو معتمدًا، أو مستندًا إلى شيء (فإن لم يستطع) بأن عجز عن القيام، أو شقَّ عليه؛ لضرر أو زيادة مرض (فقاعدًا) متربِّعًا ندبًا، ويُثني رجليه في ركوع وسجود (فإن عجز) أو شق عليه القعود كما تقدَّم:(فعلى جنبه) والأيمن أفضل

(1)

(فإن صلى مستلقيًا ورجلاه إلى القبلة: صح) وكره مع القدرة على جنبه، وإلا تعيَّن

(2)

‌باب صلاة أهل الأعذار، وقصر الصلاة وجمعها، وصلاة الخوف

وفيه ثنتان وستون مسألة:

(1)

مسألة: يصلي المريض قائمًا على حسب قدرته ولو كان مُنحنيًا، أو معتمدًا على شيء من جدار، أو عصى ونحوهما، فإن لم يستطع أو قدر ولكن يشق عليه، أو خاف زيادة المرض: فإنه يصلي قاعدًا، ويُستحب أن يقعد متربِّعًا ويثني رجليه عند الركوع والسجود - وقد سبق - فإن لم يستطع، أو خاف زيادة المرض فإنه يصلي على أحد جنبيه ووجهه إلى القبلة، وكونه يصلي على جنبه الأيمن أفضل؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "صل قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنب"، الثانية: المصلحة؛ حيث إن ذلك فيه مراعاة أحوال المسلم، وفي قعوده مُتربِّعًا راحة له واطمئنان، وفي الأيمن من جنبيه: بركة التيامن - كما سبق بيانه -.

(2)

مسألة: إذا لم يقدر المريض على الصلاة على جنبه: فإنه يصلي مُستلقيًا على ظهره ورجلاه إلى القبلة؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" وهو عام - كما سبق - فيشمل ما نحن فيه، تنبيه: قوله: "ويكره" إلى آخره، يشير به إلى كراهية صلاتهُ مستلقيًا وهو قادر على الصلاة على جنبه قلتُ: =

ص: 658

(ويومئ راكعًا وساجدًا) ما أمكنه (ويخفضه) أي: السجود (عن الركوع)؛ لحديث علي رضي الله عنه مرفوعًا: "يصلي المريض قائمًا فإن لم يستطع: صلى قاعدًا، فإن لم يستطع أن يسجد أومأ وجعل سجوده أخفض من ركوعه، فإن لم يستطع أن يصلي قاعدًا: صلى على جنبه الأيمن مستقبل القبلة، فإن لم يستطع: صلى مستلقيًا رجلاه مما يلي القبلية" رواه الدارقطني

(3)

(فإن عجز) عن الإيماء: (أومأ بعينيه)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "فإن لم يستطع أومأ بطرفه" رواه زكريا الساجي بسنده عن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، وينوي الفعل عند إيمائه له، والقول كالفعل يستحضره بقلبه إن عجز عنه بلفظه،

(4)

وكذا:

هذا غير صحيح؛ إذ القادر على الصلاة على جنبه لا تصح صلاته وهو مستلقي للتلازم؛ حيث يلزم ذلك من الترتيب الوارد في الحديث السابق في مسألة (1) ذلك.

(3)

مسألة: إذا عجز المريض عن الركوع والسجود: فإنه يُومئ برأسه، ويجعل السجود أخفض من الركوع، وينوي أن هذا الخفض عن الركوع، والآخر عن السجود؛ للسنة القولية، حيث قال صلى الله عليه وسلم:"إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم"، وهو عام فيشمل ما نحن فيه، وهو لا يستطيع الركوع والسجود فوجب ما يستطيعه وهو هنا الإيماء، وهو تيسير من الشارع وهو، المقصد الشرعي من هذا الحكم، تنبيه: حديث علي رضي الله عنه الذي ذكره المصنف لا يصلح للاستدلال به هنا؛ لأنه ضعيف كما ذكر ذلك كثير من أئمة الحديث.

(4)

مسألة: إذا عجز المريض عن الإيماء برأسه عن الركوع والسجود: فإنه يومئ بعينه وطرفه وحاجبه لهما، وينوي أن هذا الإيماء هو عن فعل الركوع أو السجود، وكذا: إن عجز عن التلفظ بالقول كالقراءة والتسبيح والتكبير والتسليم: فيجب أن يستحضره بقلبه؛ للسنة القولية؛ وقد ذكرناها في مسألتي (2 و 3) تنبيه: الحديث الذي رواه زكريا كما ذكر المصنف لا يصلح للاستدلال به؛ لأنه ضعيف كما ذكر ذلك كثير من أئمة الحديث.

ص: 659

أسير خائف،

(5)

ولا تسقط الصلاة ما دام العقل ثابتًا،

(6)

ولا ينقص أجر المريض إذا صلى ولو بالإيماء عن أجر الصحيح المصلي قائمًا،

(7)

ولا بأس بالسجود على وسادة ونحوها،

(8)

وإن رُفع له شيء عن الأرض فسجد عليه ما

(5)

مسألة: إذا وقع مسلم في الأسر عند الأعداء، وخاف إن هو صلى بركوع وسجود وقيام: أن يؤذيه العدو بأي أذى: فإن هذا يسقط عنه القيام والركوع والسجود، ويومئ برأسه، إن قدر، وإلا: فيومئ بعينيه وحاجبه؛ للسنة القولية حيث قال صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا ضرار في الإسلام" وهذا خاف الضرر إن هو صلى صلاة عادية، فيدخل في عموم هذا النص؛ لأن "ضرر وضرار" نكرة في سياق نفي، وهو من صيغ العموم، ويسقط عنه القيام والركوع والسجود، ويصلي على حسب قدرته؛ دفعًا للضرر.

(6)

مسألة: لا تسقط جميع التكاليف - ومنها الصلاة - عن العاقل - وهو: المميز بين الخير والشر -، وإن كان هذا العاقل عاجزًا عنه فيفعله على حسب قدرته البدنية وإن قلَّت كأن يومئ ويُشير بحاجبه؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم:"رفع القلم عن ثلاثة: عن المجنون حتى يفيق" حيث دل مفهوم الغاية على أن العاقل مكلَّف بجميع التكاليف الشرعية ومنها: الصلاة، وقد سبق بيان سبب تكليف العاقل.

(7)

مسألة: إذا صلى المريض قاعدًا، أو على جنبه، أو مستلقيًا، أو بالإيماء: فإن أجر صلاته لا ينقص عن أجر صلاة الصحيح الذي يصلي قائمًا؛ للسنة القولية: حيث قال صلى الله عليه وسلم: "إذا مرض العبد أو سافر: كُتِب له ما كان يعمل صحيحًا مُقيمًا" فصلاة المريض بالإيماء كصلاته لما كان صحيحًا قائمًا في تمام الأجر، وصلاة المسافر ركعتين قصرًا كصلاته أربع ركعات لما كان مقيمًا في تمام الأجر، وهذا من لطف الله تعالى.

(8)

مسألة: يُباح أن يسجد المصلي على مخدَّة ووسادة فيضع عليها أنفه وجبهته من غير أن تُرفع عن الأرض؛ لفعل الصحابي؛ حيث كان ابن عباس رضي الله عنهم يفعل =

ص: 660

أمكنه: صحَّ وكُرِه

(9)

(فإن قدر) المريض في أثناء الصلاة على قيام (أو عجز) عنه (في أثنائها: انتقل إلى الآخر) فينتقل إلى القيام من قدر عليه، وإلى الجلوس من عجز عن القيام، ويركع بلا قراءة من كان قرأ، وإلا: قرأ، وتُجزئ الفاتحة من عجز فأتَّمها في انحطاطه، لا من صحَّ فأتمها في ارتفاعه

(10)

(وإن قدر على قيام وقعود، دون ركوع وسجود: أومأ بركوع قائمًا)؛ لأن الراكع كالقائم في نصب رجليه (و) أومأ (بسجود قاعدًا)؛ لأن الساجد كالجالس في جمع رجليه،

(11)

ومن قدر على أن

ذلك، فإن قلتَ: لمَ أبيح ذلك؟ قلتُ: للتوسعة على المسلمين؛ إذ إن هذا لا يُنافي كمال الصلاة.

(9)

مسألة: يُكره أن يسجد على شيء مرتفع عن الأرضُ منفصل عنها، وصلاته صحيحة؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كمال شروط وأركان وواجبات الصلاة: صحتها، ويلزم من قلة الخفض في السجود: كراهة ذلك.

(10)

مسألة: إذا بدأ المريض صلاته قاعدًا - بسبب مرضه - ثم قدر على القيام في أثنائها: فيجب عليه أن يقوم، ويتوقف عن القراءة حين شعوره بقدرته على القيام، ويُتم قراءته للفاتحة إذا قام - إن كان قد بدأ بها - وكذا: العكس كأن يبدأ صلاته قائمًا، ثم عجز عن مواصلة القيام: فإنه يقعد، فإن كان قد قرأ الفاتحة: فإنه يركع ويسجد - بالإيماء كما سبق - وإن لم يقرأها: قرأها وهو قاعد، وإن كان قد بدأ بها وهو قائم: فإنه يُتمها وهو قاعد؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" وهذا عام، فيشمل ما نحن فيه لأن "ما" الموصولة من صيغ العموم، وهذا آخر ما يستطيعه هذا المريض فوجب، فإن قلتَ: لمَ شرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة، وهو مراعاة أحوال الناس.

(11)

مسألة: إذا لم يقدر المريض على ركوع ولا على سجود فقط، ولكنه قادر على قيام وقعود: فإنه يومئ للركوع وهو قائم، ويومئ للسجود وهو قاعد - برأسه أو =

ص: 661

يحني رقبته دون ظهره: حناها، وإذا سجد قرَّب وجهه من الأرض ما أمكنه،

(12)

ومن قدر أن يقوم منفردًا، ويجلس في جماعة: خُيِّر

(13)

(ولمريض الصلاة مستلقيًا مع

حاجبه - كما سبق -؛ للتلازم؛ حيث إن الركوع أقرب إلى القيام في نصب الرجلين، والسجود أقرب إلى القعود في جمع الرجلين: فلزم الإيماء إلى الركوع وهو قائم، والإيماء إلى السجود وهو قاعد: لكون ذلك أقرب إلى صفاتهما.

(12)

مسألة: إذا أراد المريض أن يصلي بإيماء رأسه: فإنه يحني رقبته بدون ظهره إن قدر على ذلك، ويبذل جهده في الاقتراب من الأرض إذا أومأ للسجود؛ للسنة القولية، وقد بيناها في مسألة (10)، فإن قلتَ: لمَ شرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك أبرأ للدين وأحوط.

(13)

مسألة: إذا كان الشخص يستطيع أن يصلي قائمًا وهو منفرد، ولا يستطيع أن يقوم إذا صلى مع الجماعة: فيجب عليه أن يصلي قائمًا وإن كان منفردًا؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال: "صل قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا" فأوجب الشارع القيام عند القدرة عليه؛ لأن الأمر مطلق، فيقتضي الوجوب، ولا يعدل عن القيام إلى القعود إلا إذا عجز عنه، وهذا مطلق: إذ لم يُقيَّد بجماعة أو غير جماعة، الثانية: التلازم؛ حيث يلزم من كون القيام ركنًا في الصلاة كما سبق، وصلاة الجماعة واجبة عند بعضهم، وسنة عند الجمهور: أن لا تصح الصلاة إلا بالقيام، أما الجماعة فتصح الصلاة بدونها، فإن قلتَ: يُخيَّر بين الصلاة منفردًا وبين صلاته مع الجماعة في هذه الحالة، وهو ما ذكره المصنف هنا قلتُ: هذا بعيد جدًا؛ لما ذكرناه من السنة القولية والتلازم، وظاهر هذا القول: أنه مبني على مذهب من يقول: "إن صلاة الجماعة فرض عين وهي شرط في صحة الصلاة" وهو باطل كما سبق في مسألتي (1 و 2) من "باب صلاة الجماعة".

ص: 662

القدرة على القيام؛ لمداواة بقول طبيب مسلم) ثقة، وله الفطر بقوله:"إن الصوم مما يُمكِّن العلَّة"

(14)

(ولا تصح صلاته قاعدًا في السفينة وهو قادر على القيام

(15)

ويصح الفرض على الراحلة) واقفة أو سائرة؛ (خشية التأذِّي بوحلٍ) أو مطر ونحوه؛ لقول يعلى بن مرة: "انتهى النبي صلى الله عليه وسلم إلى مضيق هو وأصحابه، وهو على راحلته، والسماء من فوقهم، والبلَّة من أسفل منهم، فحضرت الصلاة، فأمر المؤذن، فأذن، وأقام، ثم تقدم صلى الله عليه وسلم فصلى بهم، يعني إيماء: يجعل السجود أخفض من الركوع" رواه أحمد والترمذي، وقال:"العمل عليه عند أهل العلم"، وكذا: إن خاف انقطاعًا عن رفقته بنزوله، أو على نفسه، أو عجز عن ركوب إن نزل، وعليه الاستقبال وما يقدر عليه

(16)

و (لا) تصح الصلاة على الراحلة (لمرض) وحده،

(14)

مسألة: إذا قال طبيب مسلم ثقة لمريض يُمكن أن أعالجك وأُداويك إن صلَّيت مستلقيًا: فإنه يُباح لهذا المريض أن يُصلِّي مُستلقيًا وإن كان قادرًا على القيام، للقياس، بيانه: كما يجوز للمسلم أن يفطر في رمضان إذا قال له طبيب: "إن الصوم مضرٌّ بك ويمكن معالجتك إذا أفطرت" فكذلك الحال هنا والجامع: دفع المضرة في كل، وهو المقصد الشرعي.

(15)

مسألة: إذا كان الشخص في سفينة سائرة أو واقفة فإنه يصلي قائمًا إن كان قادرًا على ذلك، فإن عجز عنه: فإنه يصلي قاعدًا فيها؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "صل قائمًا فإن لم تستطع فقاعدًا" فبيَّن: عدم جواز القعود إلا إذا عجز عن القيام مُطلقًا: سواء كان في سفينة أو لا، وهو من باب ترتيب فعل الأوامر على حسب القدرة.

(16)

مسألة: إذا كان الشخص راكبًا دابة أو سيارة، والأرض مملوءة بالمطر أو الطين الرطب، أو الثلج، أو الأقذار، وخاف إن نزل أن يتلطخ ثوبه أو بدنه، أو خاف إن نزل أن ينقطع عن رفقته وهو في سفر، أو خاف إن نزل على نفسه أو =

ص: 663

دون عذر مما تقدَّم،

(17)

ومن بسفينة وعجز عن القيام فيها والخروج منها: صلى جالسًا مستقبلًا، ويدور إلى القبلة كلما انحرفت السفينة، بخلاف النفل،

(18)

فصل: في

أهله أو ولده من عدو، أو سبع أو حريق أو غرق، أو خاف إن نزل منها: أن يعجز عن الركوب، أو تأخر الشفاء، أو زيادة المرض؛ فإنه يجوز أن يصلي وهو على دابته أو سيارته ويفعل أقصى ما يقدر عليه من استقبال القبلة وركوع وسجود، وإيماء إليهما، وإيجاد شروط وأركان وواجبات الصلاة على حسب القدرة؛ لقاعدتين الأولى: السنة القولية وهي من وجهين: أولهما: قوله صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا ضرار في الإسلام" حيث أسقط الشارع كل شيء من الشرائع فيه ضرر على القائم به، وهو عام؛ لأن "ضرر" نكرة في سياق نفي وهو من صيغ العموم، فيشمل ما نحن فيه، فيصلي كل مسلم على حسب قدرته؛ دفعًا للضرر، الثانية: قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" وهو عام أيضًا لأن "ما" الموصولة من صيغ العموم، فيشمل ما نحن فيه، وهذا أخر ما يستطيعه المسلم فيجب، الثانية: السنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد صلى على دابته إيماء كما رواه يعلى بن مرة.

(17)

مسألة: إذا قدر المريض على النزول من الدابة أو السيارة بدون مشقة: فيجب عليه ذلك، ولا تصح صلاته على دابته وهو قادر على الصلاة على الأرض بدون وجود وحل أو خوف؛ لفعل الصحابي؛ حيث إن ابن عمر رضي الله عنهم كان يُنزل مرضاه القادرين على النزول؛ ليصلوا على الأرض؛ ولأن الصلاة عليها هو الأصل، فلا يُترك إلا لعذر، وهذا هو المقصد الشرعي.

(18)

مسألة: إذا كان الشخص في سفينة، وهو عاجز عن الصلاة قائمًا، وعن الخروج منها: فإنه يصلي جالسًا بشرط: أن يستقبل القبلة، وينحرف إلى القبلة إذا انحرفت السفينة إلى غيرها إن لم توجد مشقة، أما إن وجدت مشقة في ذلك: =

ص: 664

قصر المسافر الصلاة، وسنده قوله تعالى:{وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة} الآية (من سافر) أي: نوى (سفرًا مباحًا) أي: غير مكروه، ولا حرام، فيدخل فيه: الواجب، والمندوب، والمباح المطلق، ولو نزهة وفرجة، يبلغ (أربعة بُرُد) وهو: ستة عشر فرسخًا: بَرًّا وبحرًا، وهما: يومان قاصدان (سُنَّ له قصر الرباعية ركعتين): لأنه صلى الله عليه وسلم داوم عليه: بخلاف المغرب والصبح فلا يقصران إجماعًا قاله ابن المنذر

(19)

(إذا فارق عامر قريته) سواء كانت البيوت داخل

فيجب أن يصلي إلى الاتجاه الذي تتوجَّه إليه السفينة، بخلاف صلاة النافلة: فلا يُشترط ذلك: فلا يلزمه الانحراف إلى القبلة كلما انحرفت السفينة عنها؛ للتلازم؛ حيث يلزم من اشتراط القبلة: أن يتوجه إليها وإن انحرفت السفينة إلى غيرها، ويلزم من مشقة ذلك: أن يسقط عنه ذلك؛ لأن الشرط يسقط بالعجز عنه، ويلزم من تساهل الشارع بالنوافل: عدم لزوم انحراف المتنفِّل إلى القبلة عند انحراف السفينة عنها.

(19)

مسألة: يُستحب قصر الصلاة الرباعية - وهي: الظهر والعصر والعشاء - إلى ركعتين بشرط أن يكون مسافرًا سفرًا مباحًا، أربعة بُرُد - وهو (16) فرسخًا، وهو ما يُعادل (82) كم - فإن سافر سفرًا غير مباح كالسفر للمعاصي، أو سافر مسافة أقل من (82) كم: فلا يجوز القصر؛ لقواعد: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا} والمراد بالضرب هنا: السفر، الثانية: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم يعني قصر الصلاة -: "صدقة تصدَّق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته" والذي صرف هذا الأمر من الوجوب إلى استحباب القصر هو: لفظ "صدقة" حيث يلزم منها: أنها نافلة، وفعل الصحابي؛ حيث إن بعض الصحابة كانوا يُتمَّون، الثالثة: =

ص: 665

السور أو خارجة (أو) فارق (خيام قومه) أو ما نسبت إليه عرفًا سكان قصور وبساتين ونحوهم؛ لأنه صلى الله عليه وسلم إنما كان يقصر إذا ارتحل،

(20)

، ولا يُعيد من قصر بشرطه

السنة الفعلية؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم يداوم على قصر الرباعية في أسفاره وهو: لا يسافر المعصية فلزم أن يكون السفر مباحًا، الرابعة: قول الصحابي؛ حيث قال ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم: "يا أهل مكة لا تقصروا في أدنى من أربعة بُرُد: ما بين عسفان إلى مكة"، وهذا أصح الروايتين عن ابن عمر كما قال الخطابي، فلزم أن تكون المسافة في السفر التي تقصر فيها الصلاة أربعة بُرُد، الخامسة: الإجماع؛ حيث أجمع العلماء على أن المغرب والفجر لا يقصران، ومستند الإجماع: السنة الفعلية، وفعل الصحابة؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم وأصحابه لا يقصرون صلاتي المغرب والفجر فإن قلتَ: لمَ استحب القصر؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه إعانة للمسلم المسافر على سفره وقضاء حاجته، والوصول إلى مراده بأسرع وقت مع تمكينه من أداء الواجبات، فإن قلتَ: لمَ لا يُشترط وجود الخوف لإباحة القصر مع أن الآية أوردته؟ قلتُ: إن هذا الشرط لا مفهوم له؛ لأنه خرج مخرج الغالب؛ إذ الغاب في الأسفار الخوف، ومن شروط مفهوم المخالفة: أن لا يكون الشرط قد خرج مخرج الغالب، كما فصَّلتُ ذلك في كتابي "المهذَّب" وقد أيَّد ذلك: قول عمر رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم: "لم نقصر وقد أمنا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته" وهذا يُعتبر نسخًا لشرط الخوف الوارد في الآية، وقد فصَّل ذلك القرطبي في تفسيره (5/ 353) فائدة: "البُرد" جمع بريد، وهو: الذي يحمل الرسائل من بلد إلى بلد، يسير المعتدل من البريد في نصف اليوم: أربعة فراسخ عادة، فيمشي الأربعة بُرُد في يومين، فيمشي في هذين اليومين ستة عشر فرسخًا، وهو بالتقارير الحديثة (82) كم.

(20)

مسألة: يبدأ المسافر قصر صلاته بعد أن يُفارق البيوت العامرة بالسكان من بلدته أو بعد مفارقته لخيام قومه، أو بعد مفارقته لبساتين بلدته ولو مفارقة =

ص: 666

ثم رجع قبل استكماله المسافة،

(21)

ويقصر من أسلم، أو بلغ، أو طهرت بسفر مبيح، ولو كان الباقي دون المسافة

(22)

لا من تاب إذًا،

(23)

ولا يقصر من شكَّ في قدر المسافة،

(24)

ولا من لم يقصد جهة

قليلة؛ للسنة الفعلية؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم يقصر إذا ارتحل من المدينة، فإن قلتَ: لمَ شرع هذا؟ قلتُ: لأنه إذا فارق ذلك أطلق عليه وصف السفر، وهذا من باب التيسير على المسلمين.

(21)

مسألة: إذا سافر المسلم سفرًا مباحًا إلى بلد آخر تبعد عن بلدته (82) كم، ثم بدأ يقصر الصلاة في بداية تلك المسافة، ثم لم يستكمل سفره بل عاد ورجع إلى بلدته: فإنه لا يُعيد الصلاة التي قصرها؛ للتلازم؛ حيث إنه فعل ماله فعله: فيلزم صحة صلاته، فلا يُعيدها، وهذا من باب التيسير.

(22)

مسألة: إذا كان الكافر، أو المجنون، أو الصبي، أو الحائض أو النفساء مسافر سفرًا يبيح القصر - وهو السفر المباح الذي مسافته (82) كم - ثم أسلم الكافر، أو عقل المجنون، أو بلغ الصبي أو طهرت الحائض أو النفساء أثناء السفر: فإنه يقصر الصلاة، وإن كان الباقي من المسافة أقل من مسافة القصر - أي: أقل من (82) كم -؛ للتلازم؛ حيث يلزم من وجود الشرطين - وهما: وجود السفر المباح -: وجود الحكم، وهو صحة القصر، بقطع النظر عن كونه مُكلَّفًا قبل ذلك أو لا.

(23)

مسألة: إذا سافر سفر معصية مسافة قصر - وهو: (82) كم - ثم تاب في أثناء سفره وكان المتبقي أقل من مسافة القصر - أي: أقل من (82) كم -: فإن هذا لا يقصر؛ للتلازم؛ حيث إن انعدام أحد شرطي السفر في ابتدائه وهو - كونه مباحًا - وكون المتبقي بعد توبته لم يبلغ مسافة القصر - وهي (82) كم -: يلزم منهما: عدم صحة القصر.

(24)

مسألة: إذا شكَّ وتردَّد شخص في المسافة التي بين بلدته والبلدة التي يُريد أن يسافر إليها هل تبلغ مسافة القصر - وهي (82) كم - أو لا؟: فلا يجوز له أن =

ص: 667

معينة كالتائه،

(25)

ولا من سافر ليترخَّص،

(26)

ويقصر المكره كالأسير، وامرأة وعبد تبعًا لزوج وسيد

(27)

(وإن أحرم) في الـ (حضر، ثم سافر أو) أحرم (سفرًا ثم أقام):

يقصر الصلاة؛ للاستصحاب، حيث إن الأصل الإتمام، فلا يعدل عنه إلا عندما يتيقن أو يغلب على ظنه أن شرطي السفر - وهما: بلوغ المسافة (82) كم، والإباحة: - قد توفرا؛ دون الشك بذلك؛ لكون الشك لا تبنى عليه أحكام؛ فيُعمل بالأصل.

(25)

مسألة: إذا سافر من بلده إلى جهة غير معينة كمن يتيه في الأرض، أو الضال أو نحوهما: فإن هذا لا يجوز له القصر؛ للتلازم؛ حيث يلزم من عدم تأكده من المسافة التي تبيح القصر: عدم صحة القصر؛ لأن عدم الشرط: يلزم منه عدم المشروط.

(26)

مسألة: إذا سافر لأجل أن يترخَّص بقصر الصلاة: فله أن يقصر الصلاة؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "إن الله يُحب أن تؤتى رخصه كما يُحب أن تؤتى عزائمه" وهو عام للمسافر للترخَّص بالقصر، ولغيره؛ لكون قصر الصلاة من الرخص المندوب إليها؛ لأن "رخصة" مُنكَّر أضيف إلى معرفة وهو الضمير وهو من صيغ العموم، الثانية: التلازم؛ حيث يلزم من توفُّر شرطي القصر، وهو: السفر المباح، والمسافة - وهي (82) كم - إباحة القصر، فإن قلتَ: لا يجوز القصر في هذه الحالة - وهو ما ذكره المصنف هنا -؛ للتلازم؛ حيث إن القصر شُرع للتخفيف من مشقة المسافر فيلزم عدم جوازه لمن أراد بسفره الترخص فقط قلتُ: إن التلازم الذي ذكرناه أقوى مما ذكرتموه؛ حيث إن الترخص ليس بمعصية، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض التلازمين" فعندنا: الأول أقوى، وعندهم: الثاني أقوى.

(27)

مسألة: المكره على السفر بأي سبب، والأسير عند العدو، والمرأة التابعة لزوجها في السفر، والعبد التابع لسيده في السفر، والجنود الذين يتبعون أميرهم =

ص: 668

أتم؛ لأنها عبادة اجتمع لها حكم الحضر والسفر فغُلِّب حكم الحضر،

(28)

وكذا: لو سافر بعد دخول الوقت: أتمها وجوبًا؛ لأنها وجبت تامة

(29)

(أو ذكر صلاة حضر

يقصرون جميعًا؛ للتلازم؛ حيث إنه اجتمع في سفرهم شرطا السفر، وهما: السفر المباح، وكون المسافة مسافة قصر - وهو (82) كم - فتلزم صحة القصر؛ لأنهم فعلوا ما لهم فعله شرعًا.

(28)

مسألة: إذا كبَّر تكبيرة الإحرام وهو في الحضر، ثم سافر بأن كان في سفينة فمشت به تلك السفينة أثناء صلاته، أو كبَّر تكبيرة الإحرام وهو في السفر ثم وصل الحضر - وهي: بلدته - بأن كان في سفينة مسافرة، وكانت تسير وهو يصلي بناء على أنه في سفر ثم وصلت تلك السفينة ميناء بلدته: وهو لا يزال يصلي: فإنه في الحالتين يُتمُّ صلاته ولا يقصرها؛ للقياس، بيانه: كما أنه إذا لبس الخف في الحضر ثم سافر، أو لبسه في السفر ثم أقام ووصل بلدته: فإنه يمسح مسح مقيم - وهو: يوم وليلة فقط - فكذلك القصر مثله والجامع: أن كلًا من المسح والقصر عبادة تختلف بالسفر والحضر، فإذا وجد أحد طرفيها في الحضر: غُلِّب حكم الحضر؛ تغليبًا للحظر، فإن قلتَ: لمَ شرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه احتياط للدِّين، وإبراء للذمَّة.

(29)

مسألة: إذا سافر بعد دخول وقت صلاة: فإنه يقصرها؛ للقياس، بيانه: كما أنه لو سافر قبل دخول وقتها يقصرها، فكذلك إذا سافر بعده والجامع: أن كلًا منهما مؤدَّاة في وقت، فإن قلتَ: لمَ شرع هذا؟ قلتُ: لاجتماع شرطي القصر، وللتيسير على العباد، فإن قلتَ: إنه يجب عليه أن يتمها في هذه الحالة - وهو ما ذكره المصنف هنا -؛ للتلازم؛ حيث يلزم من دخول وقتها: وجوبها تامة: سواء سافر أو لا قلتُ: هذا لا يلزم؛ حيث إن الأدلة المثبتة للقصر - وهي: الكتاب، والسنة القولية والفعلية، وقول الصحابي - وردت مطلقة في الزمان: فلم تفرق =

ص: 669

في سفر): أتمها؛ لأن القضاء معتبر بالأداء وهو أربع

(30)

(أو عكسها) بأن ذكر صلاة سفر في حضر: أتم؛ لأن القصر من رخص السفر فبطل بزواله

(31)

(أو ائتم) مسافر

في إباحة القصر بين من سافر بعد دخول وقت الصلاة أو بعده، فيبطل التلازم الذي ذكرتموه، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "هل يقوى التلازم الذي ذكروه على تقييد المطلق الوارد في النصوص المثبتة للقصر أو لا؟ " فعندنا: لا، وعندهم: نعم.

(30)

مسألة: إذا نسي صلاة في الحضر، فلما سافر تذكَّر تلك الصلاة المنسية، أو تذكَّر أنه صلى في الحضر بلا طهارة وهو في السفر: فإنه يقضيها تامة أربع ركعات، بدون قصر؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم:"من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها" فأوجب الشارع أن تصلى الصلاة المتروكة، كما وجبت تامة دون أن تتأثَّر بالحال الذي هو عليه؛ لكون قضاء الشيء يكون كما وجب أداء، وهي في الحضر أربع وخرج الوقت وهو في الحضر، فتقضى هكذا دون تغيير؛ إبراء الذمته.

(31)

مسألة: إذا نسي صلاة في السفر، فلما حضر ووصل إلى بلده تذكر تلك الصلاة، أو تذكَّر أنه صلى في سفره بلا طهارة: فإنه يقضيها تامة، بدون قصر؛ للتلازم؛ حيث إن القصر قد شرع رخصة بشرط: السفر - كما سبق - فيلزم من زوال السفر: زوال الرخصة وهي: القصر، فإن قلتَ: لمَ شرع هذا؟ قلتُ: لعدم وجود مشقةً في الإتمام؛ لكونه في بلده، فإن قلتَ: إنه يقضيها مقصورة وهو: قول أبي حنيفة ومالك وبعض الحنابلة كابن عثيمين؛ للتلازم؛ حيث إن تلك الصلاة قد وجبت في السفر فيلزم أن يقضيها مقصورة؛ لكون قضاء الشيء يكون كما وجب أداء، وهي في السفر ركعتان، وخرج وقتها وهي كذلك، فتقضى هكذا قلتُ: الصلاة وجبت على المسافر تامة وليست مقصورة، ولكن =

ص: 670

(بمقيم): أتم، قال ابن عباس رضي الله عنهم:"تلك السنة" رواه أحمد،

(32)

ومنه: لو ائتمَّ مسافر بمسافر فاستخلف مُقيمًا؛ لعذر: فيلزمه الإتمام

(33)

(أو) ائتم مسافر (بمن يشك فيه) أي: في إقامته وسفره: لزمه أن يُتم وإن بان أن الإمام مسافر؛ لعدم نيته،

(34)

لكن

الشارع قد خفَّف ذلك وجعلها ركعتين بشرط السفر المشتمل غالبًا على المشقة، فلما حضر ونوى الإقامة: لم يكن موصوفًا بالسفر فزالت عنه العلة التي من أجلها شرع القصر وهي: المشقة، فعادت الصلاة كما هي في الأصل وهي: كونها تامة، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض التلازمين".

(32)

مسألة: إذا صلى مسافر خلف مقيم: فيجب على المسافر أن يُتمَّ صلاته كالمقيم؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "إنما جُعل الإمام ليؤتمَّ به، فلا تختلفوا عليه" وهذا عام؛ لأن "واو الجماعة" من صيغ العموم، فيشمل المأموم المقيم والمسافر، ولذا: يحرم أن يقصر المسافر مع إتمام الإمام المقيم؛ لأن النهى هنا مطلق، فيقتضي التحريم، الثانية: قول الصحابي؛ حيث ثبت عن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم ذلك، فإن قلتَ: لمَ شرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تحقيق المتابعة للإمام، وفي ذلك اجتماع المسلمين.

(33)

مسألة: إذا صلى زيد المسافر خلف محمد المسافر - أيضًا - وكان معهما بكر المقيم، ثم أحدث محمد الإمام - مثلًا - فقطع إمامته، واستخلف بكرًا - المقيم - عنه: فيجب على زيد أن يتم صلاته ولو كان قد بدأها خلف محمد - المسافر -؛ للقياس، بيانه: كما أن زيدًا لو ابتدأ صلاته خلف مقيم: فإنه يتم، فكذلك الحال هنا، والجامع: أن كلًا منهما يوصف بأنه مقيم - كما سبق في مسألة (32).

(34)

مسألة: إذا شكَّ زيد المسافر في إمامه هل هو مقيم أو مسافر؟: فيجب أن ينوي الإتمام ويتم سواء اتضح من هذا الإمام أنه مسافر في أثناء صلاته أو لم يتضح؛ للاستصحاب؛ حيث إن الأصل الإتمام، وزيد قد نواه، فيُعمل على ذلك الأصل، =

ص: 671

إذا علم، أو غلب على ظنه أن الإمام مسافر بأمارة كهيئة لباس، وأن إمامه نوى القصر: فله القصر؛ عملًا بالظاهرة،

(35)

وإن قال: "إن أتمَّ: أتممتُ، وإن قصر: قصرتُ": لم يضر

(36)

(أو أحرم بصلاة: يلزمه إتمامها)؛ لكونه اقتدى بمقيم، أو لم ينو قصرها - مثلًا - (ففسدت) بحدثٍ أو نحوه، وأعادها: أتمها؛ لأنها وجبت عليه تامَّة بتلبُّسه بها

(37)

(أو لم ينو القصر عند إحرامها): لزمه أن يُتم؛ لأنه الأصل، وإطلاق

وعلى تلك النية وإن بان خلاف ذلك أثناء الصلاة؛ فإن قلتَ: لمَ شرع؟ قلتُ: لأن الشك لا تُبنى عليه أحكام، ولا يجوز تغيير النية بعد تكبيرة الإحرام.

(35)

مسألة: إذا غلب على ظن زيد المسافر أن إمامه مسافر بسبب ظهور إمارات وعلامات السفر كرثة في ثيابه، أو وجود دابة أو متاع بجانبه أو نحو ذلك، وغلب على ظنه أيضًا: أن هذا الإمام قد نوى القصر: فإن زيدًا ينوي القصر، ويصلي معه؛ للتلازم؛ حيث يلزم من ظاهر هذا الإمام أنه مسافر وأنه نوى القصر: أن ينوي زيد القصر ويصلي خلفه؛ لأن العمل بالظاهر واجب.

(36)

مسألة: إذا أراد المسافر أن يصلي خلف إمام لا يعلم عنه أنه مسافر أو مقيم ونواهما فقال: "إن أتم هذا الإمام الصلاة: أتممتُها، وإن قصرها: قصرُتها": صحَّ ذلك، ويصلي على حسب إمامه؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم:"إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى" وهذا عام، فيشمل الأمرين إذا نواهما وقيَّد ذلك بفعل إمامه، فإن قلتَ: لمَ صح ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تخليص بعض المسافرين من الحيرة التي يجدونها في هذه الحالة.

(37)

مسألة: إذا كبَّر المسافر تكبيرة الإحرام لصلاة يلزمه إتمامها كأن يكون قد اقتدى بها بإمام مقيم، أو لم ينو قصرها أصلًا، فصلاها تامة، فلما فرغ منها، بأن أنها فاسدة - بأن كان قد صلَّاها بلا طهارة -: فيجب أن يُعيدها تامة غير مقصورة؛ للتلازم؛ حيث إنه قد تلبَّس ودخل فيها تامَّة، فيجب أن يُعيدها كما تلبَّس بها قبل بيان فسادها، فيُصليها تامة.

ص: 672

النية ينصرف إليه

(38)

(أو شكَّ في نيته) أي: نية القصر: أتم؛ لأن الأصل: أنه لم ينوه

(39)

(أو نوى إقامة أكثر من أربعة أيام): أتم، وإن أقام أربعة أيام فقط: قصر؛ لما في المتفق عليه من حديث جابر وابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم مكة صبيحة رابعة من ذي الحجة فأقام بها الرابع، والخامس، والسادس، والسابع، وصلى الصبح في اليوم الثامن ثم خرج إلى منى، وكان يقصر الصلاة في هذه الأيام، وقد أجمع على إقامتها

(40)

(أو) كان المسافر (ملَّاحًا) أي: صاحب سفينة (معه أهله، لا ينوي الإقامة ببلد: لزمه أن يُتمَّ)؛ لأن سفره غير منقطع مع أنه غير ظاعن عن وطنه

(38)

مسألة: إذا لم ينو المسافر قصر الصلاة عند تكبيرة الإحرام: فيجب عليه أن يُصلِّيها تامة؛ للاستصحاب؛ حيث إن الأصل الإتمام، والواجب أن ينويه، فإذا أطلق: فإن النية تنصرف إلى هذا الأصل وهو: الإتمام، فيُستصحب ويُعمل به، ولا يُترك ذلك إلا بتعيين نيته؛ لأنها سر العبادة.

(39)

مسألة: إذا شك المسافر هل نوى القصر أو الإتمام عند تكبيرة الإحرام؟ فيجب عليه أن يصليها تامة؛ للاستصحاب: حيث إن الأصل: أنه لم ينو القصر، وإذا كان الأمر كذلك: فليس له إلا الإتمام، فيستصحبه ويعمل به؛ لكون الشك لا تُبنى عليه أحكام.

(40)

مسألة: إذا سافر شخص، ثم نوى الإقامة في أي مكان أربعة أيام: فيباح له قصر الصلاة وإن أقام أكثر من ذلك فيجب عليه أن يُتم الصلاة؛ للسنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم لما أقام أربعة أيام في مكة قصر الصلاة، ويلزم من ذلك: وجوب الإتمام عندما يُقيم أكثر من ذلك، وهو: رجوع إلى الأصل، فإن قلتَ: لمَ شرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن إقامته تلك الأيام الأربعة يُعدُّ نفسه للسفر مرة أخرى، فلو أتم فقد تلحقه مشقة في ذلك، فدفعًا لذلك شرع.

ص: 673

وأهله، ومثله: مكار، وراع، ورسول سلطان ونحوهم،

(41)

ويتم المسافر إذا مرَّ بوطنه، أو ببلد له به امرأة، أو كان قد تزوج فيه،

(42)

أو نوى الإتمام ولو في أثنائها بعد نية القصر

(43)

(وإن كان له طريقان) بعيد وقريب (فسلك أبعدهما): قصر؛ لأنه سافر سفرًا بعيدًا

(44)

(أو ذكر صلاة سفر في) سفر (آخر: قصر)؛ لأن وجوبها

(41)

مسألة: إذا كان المسافر ملاحًا - وهو قائد السفينة -، أو كان يُكري دابته، أو سيارته لحمل الناس والبضائع من بلد إلى بلد آخر، أو كان راع لماشية، أو كان رسول سلطان - وهو: البريد -: فيجب أن يُتم صلاته إذا كان أهله معه كزوجته، فإن لم يكن معه أهله، فله القصر؛ للقياس، بيانه: كما أن المقيم ببلد لا يقصر، فكذلك هذا والجامع: أن كلًا معه مصالحه من تنوُّر، وأهل، وقلة مشقة؛ لكونه معتادًا على ذلك فلم توجد العلَّة التي من أجلُها شرع قصر الصلاة وهي: المشقة.

(42)

مسألة: إذا سافر شخص فمرَّ ببلده أو مرَّ ببلد له فيه زوجة، أو مرَّ ببلد غريب فتزوج فيه: فيجب عليه أن يُصلي صلاة تامة؛ للتلازم؛ حيث يلزم من تلك الحالات: انقطاع السفر الذي هو مظنة المشقة، ويلزم من ذلك: الإتمام؛ حيث لم يتوفر شرط القصر.

(43)

مسألة: إذا نوى المسافر القصر قبل تكبيرة الإحرام، فلما دخل في الصلاة قلب نيته من القصر إلى الإتمام: فيجب عليه الإتمام؛ للتلازم؛ حيث يلزم من رجوعه إلى الأصل - وهو الإتمام - بتلك النية: أن يعمل على ذلك في باقي الصلاة؛ لكون نية الإتمام: نية للقصر وزيادة.

(44)

مسألة: إذا كان للبلد الذي يريد أن يسافر إليه الشخص طريقان: طريق قريب لا يبلغ مسافة قصر - وهي: (82) كم -، وطريق بعيد يبلغ ذلك فسافر مع الطريق الأخير: فإنه يقصر الصلاة؛ للتلازم؛ حيث يلزم من وجود شرطي =

ص: 674

وفِعلها وجدا في السفر كما لو قضاها فيه نفسه قال ابن تميم وغيره: وقضاء بعض الصلاة في ذلك كقضاء جميعها، واقتصر عليه في "المبدع"، وفيه شيء

(45)

(وإن حُبس) ظلمًا، أو بمرض أو مطر ونحوه (ولم ينو إقامة): قصر أبدًا؛ لأن ابن عمر رضي الله عنه أقام بأذربيجان ستة أشهر يقصر الصلاة، وقد حال الثلج بينه وبين الدخول" رواه الأثرم، والأسير يقصر ما أقام عند العدو (أو أقام لقضاء حاجة بلا نية إقامة) لا يدري متى تنقضي؟: (قصر أبدًا) غلب على ظنه كثرة ذلك أو قلته؛ لأنه صلى الله عليه وسلم: "أقام بتبوك عشرين يومًا يقصر الصلاة" رواه أحمد وغيره وإسناده ثقات،

(46)

وإن ظنَّ أن

القصر - وهما: السفر المباح الذي يبلغ (82) كم فأكثر - وجود القصر؛ وذلك لدفع المشقة التي توجد غالبًا عند المسافر.

(45)

مسألة: إذا نسي شخص صلاة وهو مسافر، ثم عاد وأقام في بلده مدة، ثم سافر مرة أخرى، ثم تذكَّر تلك الصلاة المنسية أثناء سفره الأخير: فإنه يقضي تلك الصلاة قصرًا؛ للقياس، بيانه: كما أن من نسي صلاة في سفر ثم تذكَّرها في نفس هذا السفر: فإنه يقضيها قصرًا، فكذلك الحال هنا، والجامع: أن كلًا منهما قد وجبت أداء وقضاء في سفر، فلها حكم السفر، تنبيه: قوله: "قال ابن تميم: "وقضاء بعض الصلاة في ذلك كقضاء جميعها": يُشير به إلى أن الشخص إذا دخل في تلك الصلاة المقضية وهو مسافر وهو قائم في سفينة مثلًا، ثم وصلت تلك السفينة إلى ذلك البلد أثناء صلاته: فإنه يقصر قلتُ: هذا غير صحيح بل يُتم وقد بيّنت ذلك في مسألة (28) لذلك قال المصنف: "وفيه شيء".

(46)

مسألة: إذا حبس المسافر حابس من مرض أو ثلج، أو مطر أو سلطان، أو خوف على نفسه، أو برد، أو حر، أو كان أسيرًا عند قوم، أو كان ينتظر حاجة يريد أن يقضيها، وأقام مكرهًا، ولم ينو إقامة، ولا يدري متى يزول ذلك العذر؟ أو متى تنقضي الحاجة؟: فإنه يقصر ولو طالت المدَّة؛ لقاعدتين: =

ص: 675

لا تنقضي إلا فوق أربعة أيام: أتمَّ،

(47)

وإن نوى مسافر القصر حيث لم يُبح: لم تنعقد صلاته كما لو نواه مقيم

(48)

فصل: في الجمع (يجوز الجمع بين الظهرين) أي: الظهر والعصر في وقت أحدهما (و) يجوز الجمع (بين العشائين) أي: المغرب

الأولى: السنة الفعلية؛ حيث أقام النبي صلى الله عليه وسلم بتبوك عشرين يومًا يقصر الصلاة - كما رواه جابر -، الثانية: فعل الصحابي: حيث إن ابن عمر رضي الله عنه قد أقام بأذربيجان ستة أشهر يصلي ركعتين حيث حبسه الثلج، وغير الثلج مما ذكر مثله؛ لعدم الفارق بجامع: عدم نية الإقامة من باب: "مفهوم الموافقة"، فإن قلتَ: لمَ شرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك الشخص لا يعلم متى يزول ذلك العذر، فيكون مُستعدَّاً للسفر دائمًا، فأبيح له القصر؛ دفعًا لمشقة ذلك.

(47)

مسألة: إذا غلب على ظن المسافر الذي حبسه حابس - مما سبق ذكره في مسألة (46) - أنه سيستمر أكثر من أربعة أيام: فإنه يُتم صلاته من أول ما حبسه هذا الحابس؛ للقياس، بيانه: كما أنه إذا علم ذلك يقينًا ونواه يُتم - كما سبق في مسألة (40) - فكذلك إذا غَلَب على ظنَّه ذلك مثله والجامع: نيته الإقامة في كل؛ لعدم وجود مشقة في ذلك غالبًا، وهو المقصد منه.

(48)

مسألة: إذا نوى مسافر القصر وهو لا يُباح له القصر: كأن ينويه في سفر معصية، أو كانت مسافة سفره أقل من (82) كم أو نحو ذلك: فلا تصح نيته، ولا تنعقد صلاته فيما لو صلى، ويجب إعادتها تامة؛ للقياس، بيانه: كما أن المقيم لو نوى القصر وصلى صلاة مقصورة: فإنها لا تنعقد، وتجب إعادتها، فكذلك المسافر الذي نوى القصر في سفر لا يُباح له القصر فيه مثله والجامع: عدم توفر شرطي القصر وهما: السفر سفر مباح مسافة تقصر فيه الصلاة وهي - (82) كم - وذلك في كل من المقيم، وهذا المسافر.

ص: 676

والعشاء (في وقت أحدهما

(49)

في سفر قصر)؛ لما روى معاذ: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في

(49)

مسألة: يُباح الجمع بين صلاتي الظهر والعصر، ويُباح الجمع بين صلاتي المغرب والعشاء؛ لعذر، سواء كان جمع تقديم: بأن تصلى الظهر والعصر في وقت الظهر وتصلى المغرب والعشاء في وقت المغرب، أو جمع تأخير بأن تُصلَّى الظهر والعصر في وقت العصر، وتصلى المغرب والعشاء في وقت العشاء؛ للسنة الفعلية؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك كما رواه معاذ وأنس رضي الله عنهم، فإن قلتَ: لمَ أُبيح الجمع؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه دفع لمشقة فعل كل صلاة في وقتها، فإن قلتَ: لمَ لا تُجمع العصر مع المغرب؟ قلتُ: نظرًا لاختلاف الصلاتين في الوقت؛ حيث إن العصر في النهار، والمغرب في الليل، فإن قلتَ: لمَ لا تجمع العشاء مع الفجر، ولا الفجر مع الظهر قلتُ: لاحتمال انتفاء المبيح للجمع؛ نظرًا لطول الفاصل بين العشاء والفجر، وبين الفجر والظهر، فإن قلتَ: لمَ لا تُجمع الجمعة مع العصر؟ قلتُ: لأن الجمعة تنفرد عن غيرها بشروطها ووقتها، وهيئتها، ولم يرد عنه صلى الله عليه وسلم أنه جمع بينها وبين العصر، فإن قلتَ: لا يُجمع إلا بين الظهر والعصر في يوم عرفة، وبين المغرب والعشاء في مزدلفة فقط؛ وهو قول كثير من الحنفية، ورواية عن مالك؛ للسنة الفعلية المتواترة؛ حيث إنه تواتر عنه صلى الله عليه وسلم الجمع في هذين الوقتين، وهذه السنة المتواترة تقوى على تخصيص السنة القولية والفعلية المتواترة والواردة في تحديد مواقيت الصلاة - كما سبق في شروط الصلاة - قلتُ: إن أخبار الآحاد - كخبر معاذ وأنس رضي الله عنهم التي ورد فيها الجمع بين الصلاتين في غير عرفة ومزدلفة قد قويت على تخصيص الأخبار المتواترة الواردة في مواقيت الصلاة؛ إذ تخصيص المتواتر بخبر الواحد جائز، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا: قلت: سببه: "الخلاف في السنة الأحادية، هل تقوى على تخصيص المتواترة أو لا؟ " فعندنا: نعم، وعندهم: لا.

ص: 677

غزوة تبوك إذا ارتحل قبل زيغ الشمس أخر الظهر حتى يجمعها إلى العصر يصليهما جميعًا وإذا ارتحل بعد زيغ الشمس صلى الظهر والعصر جميعًا، ثم سار وكان يفعل مثل ذلك في المغرب والعشاء" رواه أبو داود والترمذي، وقال: "حسن غريب"، وعن أنس معناه متفق عليه (و) يُباح الجمع بين ما ذكر (لمرض يلحقه بتركه) أي: ترك الجمع (مشقة)؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم "جمع من غير خوف ولا مطر" وفي رواية: "من غير خوف ولا سفر" رواهما مسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنه، ولا عذر بعد ذلك إلا المرض، وقد ثبت جواز الجمع للمستحاضة وهي نوع مرض، ويجوز أيضًا لمرضع؛ المشقة كثرة نجاسة ونحو مستحاضة، وعاجز عن طهارة أو تيمُّم لكل صلاة، وعن معرفة وقت كأعمى ونحوه، ولعذر أو شغل يُبيح ترك جمعة وجماعة (و) يُباح الجمع (بين العشائين) خاصة (لمطر يبل الثياب) وتوجد معه مشقة، والثلج والبَرَد والجليد مثله (وَوَحْل وريح شديدة باردة)؛ لأنه صلى الله عليه وسلم "جمع بين المغرب والعشاء في ليلة مطيرة" رواه النجاد بإسناده وفعله أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم

(50)

وله الجمع

(50)

مسألة: إذا وجد المسلم أيَّ مشقة تلحقه في تكرار الطهارة لكل صلاة في وقتها فيباح له أن يجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء بشرط: أن يكون هذا المسلم متوسطًا في عقله ودينه - أي غير متشدَّد في الدين ولا متساهل فيه - كأن يسافر سفر تقصر له الصلاة وهي مسافة (82) كم - كما سبق بيانه في مسألة (19) - أو أصابه مرض، أو كان يخرج منه حدث دائم لا يستطيع منعه كسلس بول، أو ريح، أو دم، أو مذي أو رعاف ونحو ذلك، أو امرأة تستحاض، أو كانت مرضعًا يشق عليها الوضوء لكل صلاة، أو كان خائفًا على نفسه أو ماله أو أهله أو أحد من خاصَّته، أو على معيشة يحتاجها كالطباخ أو الخباز أو الحارس، أو كان عاجزًا عن إيجاد الماء أو التراب لكل صلاة بوقتها، أو كان عاجزًا عن معرفة القبلة في أحد الوقتين كالأعمى مثلًا، =

ص: 678

لذلك (ولو صلى في بيته أو في مسجد طريقة تحت ساباط) ونحوه؛ لأن الرخصة العامة يستوي فيها حال وجود المشقة وعدمها كالسفر

(51)

(والأفضل) لمن له الجمع

أو كان قد نزل مطر يبلِّل الثياب، أو وجد في طريقه ثلج أو بَرَد أو جليد، أو وَحْل - وهو الطين الرطب - أو وُجدت ريح شديدة باردة؛ لقواعد: الأولى: السنة القولية؛ حيث أمر صلى الله عليه وسلم المستحاضة بالجمع، والاستحاضة: مرض، الثانية: السنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد جمع الصلاتين في سفر مسافة قصر، الثالثة: القياس؛ بيانه: كما أنه يجمع في الاستحاضة والسفر فكذلك يجمع فيما ذكرناه من الحالات إذا شعر المسلم بمشقة تكرار الطهارة لكل صلاة في وقتها والجامع: دفع المشقة في كل عن المسلمين، وهذا هو المقصد الشرعي منه، فإن قلتَ: يُباح جمع الصلاتين من غير عذر؛ للسنة الفعلية؛ حيث جمع صلى الله عليه وسلم الظهر مع العصر من غير عذر، وقال ابن عباس رضي الله عنهم:"إنه فعل ذلك؛ لئلا يُحرج أمتَّه" قلتُ: الظاهر: أن هذا ليس بجمع؛ حيث إنه أخَّر الظهر إلى آخر وقتها وقدم العصر إلى أول وقتها فصلى الظهر، فلما دخل وقت العصر صلاها وهذا لا يُسمَّى جمعًا بل صلى كل صلاة في وقتها، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلت: سببه: "الخلاف فيما ظهر من فعله عليه السلام" تنبيه: قوله: "يُباح الجمع بين العشائين خاصة .. " قلتُ: يُباح الجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء بسبب المطر، ولا يخص ذلك المغرب والعشاء فقط؛ لعموم الأدلة السابقة.

(51)

مسألة: يُباح جمع الصلاتين إذا نزل مطر، أو وجد وحل في طرق البلدة، وإن كان الشخص يمشي تحت ساباط - وهو الطريق المسقوف الواصل بين المسجد وبيت هذا الشخص -؛ لقاعدتين: الأولى: السنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد جمع الصلاتين ولا يوجد بين مسجده وحجرته شيء يذكر، الثانية: القياس، بيانه: =

ص: 679

(فعل الأرفق به من) جمع (تأخير) بأن يؤخر الأولى إلى الثانية (و) جمع (تقديم) بأن يُقدِّم الثانية فيُصليها مع الأولى؛ لحديث معاذ السابق، فإن استويا: فالتأخير أفضل،

(52)

والأفضل بعرفة: التقديم، وبمزدلفة: التأخير مطلقًا، وترك الجمع في سواهما أفضل،

(53)

كما أن المسافر الذي قد لا يجد مشقة في سفره يُباح له القصر والفطر والجمع، فكذلك هذا الشخص يُباح له الجمع والجامع: أن كلًا منها رخص عامة شُرعت في حالة يغلب وجود المشقة فيها، وهذا هو المقصد منه.

(52)

مسالة إذا أراد أن يجمع صلاتين: فالأفضل أن يفعل الأرفق والأيسر والأسهل عليه، فإن كان الأرفق به: جمع التقديم: فعله، وإن كان الأرفق به جمع التأخير: فعله بدون حرج، وإن استويا عنده: فالأفضل جمع التأخير؛ لقاعدتين: الأولى: السنة الفعلية؛ حيث كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل الأنسب والأرفق به وبالمؤمنين -كما سبق في حديث معاذ وأنس رضي الله عنه- الثانية: المصلحة؛ حيث إن جمع التأخير يُحقق المحافظة على المواقيت للصلوات، وهذا أحوط.

(53)

مسألة: إذا أراد أن يجمع صلاة الظهر مع العصر في عرفة: فالأفضل أن يصليهما في وقت الظهر، وإذا أراد أن يجمع المغرب مع العشاء في مزدلفة: فالأفضل أن يصليهما في وقت العشاء، أما في غير هذين الموضعين من أعمال الحج فالأفضل ترك الجمع؛ للسنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد فعل ذلك في الحالات الثلاث التي ذُكرت هنا، فإن قلتَ: لِمَ كان الأفضل ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن في جمع التقديم في عرفة: إيجاد وقت للعبادة في آخر يوم عرفة، وفي جمع التأخير في مزدلفة: إيجاد وقت للسير من عرفة إلى مزدلفة، وفي ترك الجمع في غيرهما من أعمال الحج: الاحتياط للعمل في أحاديث المواقيت.

ص: 680

ويُشترط للجمع ترتيب مطلقًا

(54)

(فإن جمع في وقت الأولى: اشترط) له ثلاثة شروط: (نية الجمع عند إحرامها) أي: إحرام الأولى دون الثانية، (و) الشرط الثاني: الموالاة بينهما فـ (لا يفرق بينهما إلا بمقدار إقامة) صلاة (ووضوء خفيف) لأن معنى الجمع: المتابعة والمقارنة، ولا يحصل ذلك مع التفريق الطويل، بخلاف اليسير، فإنه معفو عنه (ويبطل) الجمع (براتبة) يصليها (بينهما) أي: بين المجموعتين؛ لأنه فرَّق بينهما بصلاة فبطل كما لو قضى فائتة، وإن تكلَّم بكلمة أو كلمتين: جاز (و) الثالث (أن يكون العذر) المبيح (موجودًا عند افتتاحهما وسلام الأولى)؛ لأن افتتاح الأولى موضع النية وفراغها، وافتتاح الثانية موضع الجمع،

(55)

ولا يشترط دوام العذر إلى فراغ الثانية في جمع المطر ونحوه، بخلاف

(54)

مسألة: يُشترط للجمع: الترتيب: فيُصلي الظهر ثم العصر بعدها، ويصلي المغرب ثم العشاء بعدها: سواء كان ذلك جمع تقديم أو جمع تأخير، فإن قدَّم العصر على الظهر، أو العشاء على المغرب: فلا يصح الجمع؛ للسنة الفعلية؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك ويُواظب عليه، فإن قلتَ: لِمَ اشتُرط ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن الظهر والمغرب متقدَّمتان في أصل المشروعية على العصر والعشاء، فيُحافظ على هذا الأصل.

(55)

مسألة: اشترط لجمع التقديم شروط ثلاثة: أولها: أن ينوي عند تكبيرة الإحرام للصلاة الأولى: أنه سيجمع الثانية مع الأولى، فإن صلى الأولى، ثم نوي أنه سيجمع معها ثانية ثم دخل في الثانية: فلا يصح ذلك، ثانيها: أن يوالي بين الصلاتين المجموعتين، بأن يصلي الأولى، ثم يليها الثانية مباشرة، إلا إن كان الفاصل يسيرًا مثل كلمتين أو وضوء وتيمم سريع، فهذا لا يضر، أما إن صلى بينهما فائتة عليه، أو صلى راتبة الأولى بعدها، ثم صلى الثانية: فلا يصح الجمع، ثالثها: أن يوجد السبب والعذر المبيح للجمع حال افتتاح الأولى، وافتتاح الثانية، وعند الفراغ والسلام من الأولى؛ لقواعد: الأولى: السنة =

ص: 681

غيره،

(56)

وإن انقطع السفر في الأولى: بطل الجمع والقصر مطلقًا: فيُتمُّها وتصح،

القولية حيث قال صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى" وهذا عام، فيشمل ما نحن فيه لأن "الأعمال" جمع معرف بأل وهو من صيغ العموم؛ حيث إن الجمع عمل، فلا بد أن ينوى قبل البدء بذلك العمل، ولا تصح نية الجمع إلا إذا وجد السبب والعذر المبيح للجمع وعند السلام منها؛ لأن الجمع بلا عذر: لا يصح، الثانية: السنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم لما جمع الصلاتين والى بينهما وأتبع الثانية الأولى، ولم يُعهد عنه أنه فرق بينهما، فإن قلتَ: لمَ اشترطت تلك الشروط؟ قلتُ: لأن الجمع عبادة، ولا تصح أيُّ عبادة بلا نية، ولأن اتباع الثانية بالأولى هو الذي يُحقق الغرض الذي من أجله شُرع الجمع وهو: التخفيف على العباد، ولأن افتتاح الأولى هو موضع نية الجمع، وافتتاح الثانية هو: موضع الجمع نفسه فيلزم اعتبار العذر في هذين الموضعين، فإن قلتَ: لا تشترط الموالاة وهو قول كثير من العلماء، ومنهم ابن تيمية؛ للتلازم؛ حيث إن المراد بالجمع هو: الجمع في الوقت، وهذا يلزم منه: أن يصح الجمع وإن لم تتصل الثانية مع الأولى، قلتُ: هذا فيه نظر؛ لمخالفته للمقصد الشرعي من مشروعية الجمع، وهو: الرفق والتخفيف على الناس؛ إذ لو فُرِّق بينهما لكانت قريبة من الصلاة المعتادة، وهذا لم يقصده الشارع عند مشروعية الجمع كما سبق، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "الخلاف في تحقيق المقصود من الجمع" فعندنا: لا يتحقق إلا إذا صُلِّيت الثانية بعد الأولى مباشرة، وعندهم: يتحقق إذا صُلِّيت الثانية في وقت الأولى مطلقًا.

(56)

مسألة: إذا جمع بسبب مطر، أو بَرَد أو ثلج: فلا يُشترط دوام ذلك إلى الفراغ من الثانية؛ للتلازم؛ حيث يلزم من المطر ونحوه: وجود وَحْل وطين رطب بعده =

ص: 682

وفي الثانية يُتمها نفلًا

(57)

(وإن جمع في وقت الثانية: اشترط) له شرطان (نية الجمع في وقت الأولى): لأنه متى أخرها عن ذلك بغير نية: صارت قضاء، لا جمعًا (إن لم يضق) وقتها (عن فعلها)؛ لأن تأخيرها إلى ما يضيق عن فعلها حرام، وهو يُنافي الرخصة (و) الثاني (استمرار العذر) المبيح (إلى دخول وقت الثانية) فإن زال العذر قبله: لم يجز الجمع؛ لزوال مقتضيه كالمريض يبرأ، والمسافر يقدم، والمطر ينقطع، ولا بأس بالتطوع بينهما،

(58)

ولو صلى الأولى وحده، ثم الثانية إمامًا أو مأمومًا، أو

فقد يكون أشد ضررًا من المطر نفسه، وهذا يجمع له، بخلاف غيره من سفر ونحوه فلا يوجد ذلك فيه، فيلزم اشتراطه؛ لعدم وجود توابع له.

(57)

مسألة: إذا كان يجمع ويقصر الصلوات؛ نظرًا لسفره، ثم انقطع سفره بأن وصل بلده وهو يصلي على سفينة صلاة الظهر: فيجب أن يتم تلك الصلاة، أما إن وصل أثناء صلاته العصر المجموعة مع الظهر: فإنه يُتمها نفلًا؛ للتلازم، وهو من وجوه أولها: أنه يلزم من زوال العذر -وهو السفر- زوال الحكم وهو: الجمعُ والقصر، ثانيها: أنه يلزم من مصادفة صلاة الظهر لوقتها: إتمامها وصحتها، ثالثها: أنه يلزم من عدم دخول وقت العصر: إتمامها نفلًا، لكون الصلاة المفروضة لا تصح قبل دخول وقتها.

(58)

مسألة: اشتُرط لجمع التأخير شرطان أولهما: أن ينوي في وقت الصلاة الأولى: أنه سيجمعها مع الثانية، في وقت الثانية، وأن تكون هذه النية في وقت الأولى الموسَّع، فلو أن رجلًا عنده سبب مبيح للجمع، فأخر المغرب حتى لم يبق من وقتها إلا وقت لا يمكنه فعلها فيه؛ نظرًا لضيقه، فنوى في هذه اللحظة جمعها مع العشاء: فهذا لا يصح، ثانيهما: أن يستمر العذر المبيح للجمع إلى حين دخول وقت الثانية، فإن زال ذلك العذر في وقت الأولى كأن يبرأ المريض أو ينقطع المطر، أو يرجع المسافر: فلا يصح الجمع؛ للتلازم، وهو من وجوه: =

ص: 683

صلاهما خلف إمامين، أو من لم يجمع: صح

(59)

فصل: (وصلاة الخوف صحَّت عن النبي صلى الله عليه وسلم بصفات كلها جائزة) قال الأثرم: قلتُ لأبي عبد الله: تقول بالأحاديث كلها أو تختار واحدًا منها؟ قال: "أنا أقول: من ذهب إليها كلها فحسن، وأما حديث سهل: فأنا أختاره" وشرطها: أن يكون العدو مباح القتال: سفرًا كان أو حضرًا مع خوف هجومهم على المسلمين، وحديث سهل الذي أشار إليه هو: صلاته صلى الله عليه وسلم بذات الرقاع: "طائفة صفَّت معه وطائفة وجاه العدو، فصلى بالتي معه

أولها: أن تحديد أوقات الصلوات يلزم منه عدم جواز تأخير أي صلاة عن وقتها بلا عذر أو وجود سبب مبيح لجمع التأخير ولا يكون ذلك إلا بنية وقصد يكون في وقت الأولى؛ إذ لا بدَّ من الفعل أو عزم ونية على الفعل، وإن لم توجد هذه النية: فإن صلاته الأولى في وقت الثانية: يكون قضاء، ثانيها: أن تأخير الصلاة إلى وقت يضيق عن فعلها فيه حرام، وهذا يُنافي الرخصة -وهي الجمع- أي: لا يُباح شيء رخصة عن طريق محرم، فيلزم عدم صحة النية، وإذا بطلت النية بطل الجمع، ثالثها: أن استمرار وجود العذر إلى دخول وقت الثانية يلزم منه: تحقق العذر في الوقتين فيصح جمعهما لعذر واحد، تنبيه: قوله: "ولا بأس بالتطوع بينهما" يشير به إلى جواز الفصل بين الصلاتين المجموعتين قلتُ: هذا لا يصح، وهو مخالف لشرط الموالاة بينهما، وقد سبق بيانه في مسألة (55).

(59)

مسألة: لا يُشترط في الجمع اتحاد الصلاتين المجموعتين من حيث كونهما وقعتا من منفرد أو إمام أو مأموم، فلو صلى الجامع الأولى منفردًا، ثم صلى الثانية، وهو إمام، أو مأموم، أو خلف من لم يجمع: لصح ذلك؛ للتلازم: حيث إن شروط الجمع -التي في مسائل (54 و 55 و 58) - إذا وجدت لزم صحة الجمع مطلقًا، بصرف النظر عن وقوعهما من منفرد أو مؤتم أو إمام.

ص: 684

ركعة، ثم ثبت قائمًا، فأتموا لأنفسهم، ثم انصرفوا وصفوا وجاه العدو، وجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم الركعة التي بقيت من صلاته، ثم ثبت جالسًا وأتموا لأنفسهم، ثم سلَّم بهم" متفق عليه،

(60)

وإذا اشتدَّ الخوف: صلوا رجالًا وركبانًا

(60)

مسألة: تجوز صلاة الخوف بشرط: كون العدو يُخاف هجومه على المسلمين، ويحل قتاله، لقاعدتين: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} وهو واضح الدلالة، الثانية: السنة الفعلية: حيث ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه صلاها بصفات أشهرها صفتان: الصفة الأولى: تكون إذا كان العدو في غير جهة القبلة وهي التي ذكرها المصنف والتي رواها صالح بن خوات عن بعض الصحابة كسهل بن أبي حثمه الأنصاري في صلاة ذات الرقاع، الصفة الثانية: تكون إذا كان العدو في جهة القبلة، بحيث لا يخفى بعضهم عن المسلمين، قال جابر:"صففنا خلفه صفين والعدو بيننا وبين القبلة فكبَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم فكبرنا جميعًا، ثم ركع وركعنا، ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعًا، ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه، وقام الصف المؤخر نحو العدو، فلما قضى النبي السجود وقام الصف الذي يليه: انحدر الصف المؤخر بالسجود وقاموا، ثم تقدم الصف المؤخر، وتأخر الصف المقدم، ثم ركع وركعنا جميعًا، ورفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعًا، ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه -الذي كان مؤخرًا في الركعة الأولى- وقام الصف المؤخر نحو العدو، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم السجود وقام الصف الذي يليه انحدر الصف المؤخر بالسجود، ثم سلم النبي صلى الله عليه وسلم وسلمنا معه جميعًا" فإن قلتَ: لمَ شُرِعت تلك الصلاة؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه محافظة على المسلمين من غدر العدو، فإن قلتَ: إن صلاة الخوف خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم فقط، ولا يُصليها غيره، وهو قول بعض الحنفية؛ =

ص: 685

للقبلة وغيرها يومئون طاقتهم، وكذا: حالة هرب مباح من عدو، أو سيل ونحوه، أو خاف فوت عدو يطلبه، أو وقت وقوف بعرفة

(61)

(ويُستحب أن يحمل معه في صلاتها من السلاح ما يدفع به عن نفسه ولا يُثقله كسيف ونحوه) كسكين؛ لقوله تعالى: {وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ} ويجوز حمل سلاح نجس في هذه الحال؛ للحاجة بلا إعادة.

(62)

للكتاب؛ حيث قال تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ} حيث إنه خطاب له صلى الله عليه وسلم فلا يتعدَّى قلتُ: هذا ضعيف؛ لقاعدتين: الأولى: أن ما ثبت في حق النبي صلى الله عليه وسلم فإنه ثابت في حق الأمة إذا لم يوجد دليل على اختصاصه به، وضمير المخاطب هنا لا يجعل ذلك خاصًا به صلى الله عليه وسلم وإن كان مفردًا، يؤيده قول تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} الثانية: فعل الصحابي: حيث إن عليًا وأبا موسى الأشعري رضي الله عنه قد صليا صلاة الخوف بكثير من الصحابة من غير نكير، وهذا قريب من إجماع الصحابة السكوتي.

(61)

مسألة: إذا اشتدَّ خوف مسلم على نفسه أو أهله أو ماله بسبب عدو، أو حريق، أو غرق، أو سبع، أو بسبب خوفه من فوات الوقوف بعرفة، أو اشتد هربه من العدو، وخاف من فوات الوقت: فإنه يصلي صلاة الخوف، أو الصلاة العادية بأي طريقة من ركوع أو سجود إن أمكن أو إيماء بالرأس أو بالحاجب، سواء كان راكبًا أو ماشيًا، وسواء اتجه إلى القبلة أو لا؛ وإن شق عليه ذلك فإنه يؤخر الصلاة حتى يأمن على نفسه ومن معه ثم صلي؛ لقاعدتين: الأولى: السنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد أخَّر الصلوات في غزوة الأحزاب حتى أمن، الثانية: المصلحة؛ حيث إن ذلك فيه دفع مفسدة عن المسلمين، لئلا ينالهم أذى.

(62)

مسألة: إذا غلب على ظن المسلم هجوم العدو أثناء صلاته: فيجب أن يحمل سلاحه وهو يصلي: سواء كان هذا السلاح طاهرًا أو لا، وسواء كان خفيفًا

ص: 686

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

كالسكين، أو ثقيلًا كالبندقية، أما إن شك في هجومه: فيُستحب أن يحمل سلاحه أثناء صلاته؛ لقاعدتين: الأولى: قوله تعالى: {وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ} فأوجب حمل السلاح؛ لأن الأمر مطلق فيقتضي الوجوب، الثانية: المصلحة؛ حيث إن ذلك فيه دفع المضرة عن المسلم.

هذه آخر مسائل باب "صلاة أهل الأعذار، وقصر الصلاة وجمعها وصلاة الخوف" وهو آخر المجلد الأول من كتاب: "تيسير مسائل الفقه شرح الروض المربع وتنزيل الأحكام على قواعدها الأصولية، وبيان مقاصدها، ومصالحها وأسرارها وأسباب الاختلاف فيها" لفضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور عبد الكريم بن علي بن محمد النملة نفع به الإسلام والمسلمين، ويليه المجلد الثاني وأوله باب "صلاة الجُمعة"

ص: 687