الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب صلاة الجمعة
سُمِّيت بذلك؛ لجمعها الخلق الكثير، ويومها أفضل أيام الأسبوع
(1)
، وصلاة الجمعة مستقلة،
(2)
وأفضل من الظهر،
(3)
وفرض الوقت، فلو صلى الظهر أهل بلد مع بقاء الوقت: لم تصح،
(4)
وتؤخر فائتة؛ لخوف
باب صلاة الجمعة
وفيه مائة وأربع مسائل:
(1)
مسألة: أفضل أيام الأسبوع هو: يوم الجمعة، وهو من خصائص هذه الأمة؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم:"أفضل يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها، ولا تقوم الساعة إلا يوم الجمعة" وقد ألَّف السيوطي كتابًا خاصًا بها سمَّاه: "اللمعة في خصائص يوم الجمعة"، فإن قلتَ: لمَ سميت بذلك الاسم؟ قلتُ: لاجتماع الخلق فيه، وفيه اجتمع آدم وحواء، وهو معظَّم عند العرب قبل الإسلام، ويُسمُّونه "يوم العروبة".
(2)
مسألة: صلاة الجمعة صلاة مستقلَّة؛ فليست هي مبدلة عن صلاة الظهر؛ للتلازم؛ حيث إن صلاة الجمعة يمكن أن تصلى قبل الزوال، ولا يجوز جمعها مع العصر بخلاف الظهر، ولا تجزئ أن يصليها من لم تجب عليه الجمعة كالمرأة بنية أنها الظهر، ويلزم من وجود تلك الفروق: أنها صلاة مستقلة عن الظهر.
(3)
مسألة صلاة الجمعة أفضل من صلاة الظهر ممن لا تجب عليهم الجمعة كالمرأة والعبد والمسافر والمريض؛ للتلازم؛ حيث يلزم مما ورد فيها من الترغيب والفضل أن تكون أفضل من الظهر.
(4)
مسألة: إذا وجد وقت صلاة الجمعة: فلا تصلى الظهر: فلو صلى أهل بلد صلاة الظهر قبل خروج وقت صلاة الجمعة: فلا تصح صلاتهم؛ للقياس؛ بيانه: كما لا تصح صلاة العصر في وقت الظهر، فكذلك لا تصح الظهر في =
فوتها،
(5)
والظهر بدل عنها إذا فاتت
(6)
(تلزم) الجمعة (كل ذكر) ذكره ابن المنذر إجماعًا؛ لأن المرأة ليست من أهل الحضور في مجامع الرجال (حر)؛ لأن العبد محبوس على سيده (مكلف مسلم)؛ لأن الإسلام والعقل شرطان للتكليف وصحة العبادة، فلا تجب على مجنون، ولا صبي؛ لما روى طارق بن شهاب مرفوعًا:"الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة إلا أربعة عبد مملوك أو امرأة، أو صبي أو مريض "رواه أبو داود (مستوطن ببناء) معتاد، ولو كان فراسخ من حجر أو قصب ونحوه لا يرتحل منه شتاء ولا صيفًا (اسمه) أي: البناء (واحد ولو تفرَّق) البناء؛ حيث شمله اسم واحد كما تقدم (ليس بينه وبين المسجد) إذا كان خارجًا عن المصر (أكثر من فرسخ) تقريبًا،
(7)
وقت الجمعة، والجامع: أن كلًا منهما له وقت معيَّن قد خوطب به، فلا يُترك: إلا بعذر.
(5)
مسألة: إذا حضرت صلاة الجمعة وعليه صلاة فائتة -كالفجر مثلًا-: فإنه يصلي الجمعة الحاضرة، ثم يصلي الفائتة؛ للتلازم؛ حيث إن صلاة الجمعة لا تُدرك إذا فاتت، وغيرها من الفرائض يمكن تداركها فيلزم تقديم الجمعة التي لا تدرك إلا مع الجماعة، وهذا من باب الاحتياط في الدين وهذا هو المقصد منه.
(6)
مسألة: صلاة الظهر تكون بدلًا عن صلاة الجمعة بشرط: فوات صلاة الجمعة؛ للتلازم؛ حيث يلزم من عدم قضاء صلاة الجمعة إذا فاتت: أن يكون لها بدل، وهو صلاة الظهر؛ رخصة من الله تعالى في حق من فاتته، وهذا هو المقصد منه.
(7)
مسألة: صلاة الجمعة فرض عين على كل قادر قد توفرت فيه شروط سبعة: أولها: أن يكون ذكرًا، فلا تجب على امرأة، ثانيها: أن يكون حُرًّا، فلا تجب على رقيق ولا مُبعَّض، ثالثها: أن يكون بالغًا: فلا تجب على صبي، =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
رابعها أن يكون عاقلًا، فلا تجب على مجنون خامسها: أن يكون مسلمًا، فلا تجب على كافر حال كفره، سادسها: أن يكون مستوطنًا ومقيمًا ببناء معتاد معروف كإسمنت أو طين أو خشب يطلق عليه اسم واحد من أسماء البلاد، ولو تباعدت البنايات بعضها عن بعض، فلا تجب على قوم يتنقَّلون دائمًا، أو مسافرين ونحو ذلك، سابعها: أن لا يكون بينه وبين الجامع أكثر من فرسخ تقريبًا، وهو يُقدَّر بثلاثة أميال، ومسيرة ساعة ونصف في المشي على القدم للرجل المتوسط في سيره، وهو ما يُعادل (5، 4) كم تقريبًا، وهذا الشرط في حق من هو خارج البلد ومقيم في بيت شعر أو مزرعة؛ لقواعد: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} وهذا الأمر مطلق، فيقتضي الوجوب، الثانية: السنة القولية وهي من وجوه: أولها: قوله صلى الله عليه وسلم: "الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة، إلا أربعة: عبد مملوك، أو امرأة، أو صبي، أو مريض" حيث إن هذا دلَّ بمنطوقه على وجوبها على المسلم، ومفهوم الصفة دل على عدم وجوبها على الكافر، ودلَّ مفهوم الصفة أيضًا على إثبات وجوبها على الحر، والذكر، والبالغ والقادر؛ حيث نفى وجوبها على أضداد هؤلاء الأربعة؛ لأن الاستثناء من الإثبات نفي، وهذا لزم منه الشرط الأول والثاني والثالث والخامس؛ ثانيها: قوله: "رفع القلم عن ثلاثة: المجنون حتى يفيق
…
" حيث دل مفهوم الغاية على أن العاقل مكلَّف بالشرع، ومنها: صلاة الجمعة وهذا لزم منه الشرط الرابع، ثالثها: قوله: "الجمعة على من آواه الليل إلى أهله" ومن كان بينه وبين الجامع ثلاثة أميال - (5، 4) كم يُمكنه أن يأوي إلى أهله بعد صلاته الجمعة قبل الليل وهذا لزم منه الشرط السابع، الثالثة: السنة الفعلية؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم لا يصلي الجمعة أثناء سفره، بل صلى الظهر والعصر جمعًا وقصرًا في عرفة مع وجود العدد =
فتلزمه بغيره كمن بخيام ونحوها، ولا تنعقد به ولم يجز أن يؤمَّ فيها،
(8)
وأما من كان
الكافي لصلاة الجمعة، وهذا لزم منه الشرط السادس، فإن قلتَ: لمَ وجبت الجمعة بتلك الشروط؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إنها مشعر من مشاعر إظهار الإسلام، وتذكير المسلمين بالأوامر والنواهي الشرعية، وقد اشترطت "الذكورية": لكون المرأة عورة تثير الفتنة، فليست من أهل الحضور في مجامع الرجال، واشترطت "الحرية"؛ لكون العبد قد اشتراه سيده لخدمته، فلو وجبت عليه الجمعة لتضرر السيد، واشترط "التكليف"؛ لكون الصبي والمجنون ليسا من أهل التكليف أصلًا؛ لعدم إدراكهما وفهمهما للنية والمقصود من التكليف، واشترط "الإسلام"؛ لكون الكافر غير مخاطب بفروع الإسلام حال كفره، ولو فعلها: لا تصح منه، وذكرت هذا في كتابي:"الإلمام في مسألة تكليف الكفار بفروع الإسلام" واشترط "الاستيطان والإقامة"؛ لكون المسافر منشغل بسفره، فيشق عليه ذلك، واشترط:"عدم بعد المسافة أكثر من فرسخ"؛ لكون الذي يبعد سكنه أكثر من ذلك يشق عليه الحضور إلى المسجد الجامع، ولا يُمكنه الرجوع إلى أهله قبل الليل غالبًا لمن كان يمشي على قدميه وهذا في الغالب.
(8)
مسألة: إن حضر من كان بينه وبين الجامع أكثر من فرسخ - (5، 4) كم-: فإن الجمعة تجب عليه، وتنعقد به فيُكمِّل لهم أربعين رجلًا -شرط صحة الجمعة- وتصح إمامته لهم؛ للتلازم؛ حيث يلزم من حضوره: وجوبها عليه، ويلزم من وجوبها عليه: صحتها منه، ويلزم من صحتها: انعقادها به، وصحة إمامته فيها؛ لأنه من أهلها، فإن قلتَ: لمَ شرع هذا؟ قلتُ: لأنه إذا حضرها انتفت المشقة التي أُسقطت عنه من أجلها فوجبت بسبب حضوره فيكون من أهلها، فإن قلتَ: تجب عليه إذا حضرها، لكن لا تنعقد به ولا تصح إمامته فيها -وهو ما ذكره المصنف هنا-؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كونه ليس من أهلها: عدم =
في البلد: فيجب عليه السعي إليها: قَرُب أو بَعُد: سمع النداء أو لم يسمعه؛ لأن البلد كالشيء الواحد
(9)
(ولم تجب) الجمعة (على مسافر سفر قصر)؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يسافرون في الحج وغيره، فلم يصل أحد منهم الجمعة فيه مع اجتماع الخلق الكثير، وكما لا تلزمه بنفسه: لا تلزمه بغيره، فإن كان عاصيًا بسفره، أو كان سفره فوق فرسخ ودون المسافة، أو أقام ما يمنع القصر، أو لم ينو استيطانًا: لزمته بغيره (ولا) تجب الجمعة على (عبد) ومُبعَّض وامرأة؛ لما تقدَّم،
(10)
ولا خُنثى؛ لأنه لا يُعلم كونه
انعقادها به وعدم صحة إمامته إن حضر قلتُ: لا يُسلَّم هذا، بل يلزم من حضوره لها: أن يكون من أهل وجوبها، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض التلازمين".
(9)
مسألة: تجب الجمعة على جميع ساكني البلد الواحد الذي يشمله اسم واحد: سواء كان قريبًا كفرسخ فأقل، أو بعيدًا كأكثر من الفرسخ، وسواء سُمع النداء، أو لا؛ للتلازم؛ حيث يلزم من إقامتهم ببلدٍ اسمه واحد: وجوبها عليهم مطلقًا؛ لتوفر شرط الجمعة "السادس" في مسألة (7).
(10)
مسألة: تسقط الجمعة عن المسافر سفرًا تقصر فيه الصلاة -وهو السفر المباح الذي تبلغ مسافته (82) كم- أما إن سافر سفر معصية؛ أو سافر سفرًا مسافته أقل من (82) كم أو سافر ثم أقام إقامة تمنع القصر كأن يقيم ببلد أكثر من أربعة أيام، أو تزوج ببلد غير بلده، أو أقام ببلد ولم ينو استيطانه فإن الجمعة لا تسقط عنه؛ لقواعد الأولى: الكتاب، حيث قال تعالى:{وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} فلو سقطت الجمعة عن المسافر سفر معصية: لكان ذلك فيه تعاون على الإثم والعدوان، والله قد نهى عنه، والنهي مطلق فيقتضي التحريم، الثانية: السنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم كان قد صلى الظهر والعصر جمعًا وقصرًا =
رجلًا
(11)
(ومن حضرها منهم: أجزأته)؛ لأن إسقاطها عنهم تخفيف
(12)
(ولم
في يوم عرفة وهو موافق ليوم جمعة، ولم يصل الجمعة مع أنه معه العدد الكافي، لها؛ الثالثة: الإجماع؛ حيث إن الصحابة كانوا يسافرون في أيام الجمع، فلا يصلونها، بل يصلون الظهر، الرابعة: القياس، بيانه: كما أن المقيم تلزمه الجمعة فكذلك من سافر مسافة تبلغ أقل من مسافة قصر -وهي (82) كم- وكذلك من نوى الإقامة فوجد أربعة أيام، وكذلك من أقام ولكنه لم ينو الاستيطان تلزمهم الجمعة، والجامع: عدم وجود مشقة، فإن قلتَ: لمَ سقطت الجمعة عن المسافر؟ قلتُ: لأن الشخص لو أُصيب بمرض أو خوف ونحوهما مما يخصُّ نفسه تسقط عنه الجمعة، فكذلك تسقط عنه بسبب خارج عنه كالسفر ونحوه، وذلك لدفع المشقة، تنبيه: قوله: "ولا تجب على عبد ومبعَّض وإمرأة" الخ قد سبق بيانه في مسألة (7).
(11)
مسألة: تسقط الجمعة عن الخنثى المشكل -وهو: ما له آلة ذكر وأنثى-؛ للمصلحة؛ حيث إن هذا يُحتمل أن يكون ذكرًا، ويُحتمل أن يكون أنثى، ونظرًا لهذا الاحتمال تسقط عنه الجمعة؛ لأن دفع المفاسد مقدَّم على جلب المصالح.
(12)
مسألة: إذا حضر المسافر والعبد والمرأة والخنثى صلاة الجمعة: فإنه تُجزئهم عن صلاة الظهر؛ للقياس، بيانه: كما أن الجمعة تسقط عن المريض، ولكن لو حضرها: لأجزأته عن صلاة الظهر، فكذلك هؤلاء الأربعة تسقط عنهم الجمعة، لكن لو حضروها: لأجزأتهم عن الظهر، والجامع؛ أن كلًا منهم قد أُسقطت صلاة الجمعة عنهم؛ تخفيفًا ودفعًا للمشقة عنهم، فإذا حضروها أجزأتهم عن الظهر، فإن قلتَ: لمَ شرع هذا؟ قلتُ: لأن الأصل: وجوب صلاة الجمعة على كل أحد، وقد أسقط الشارع الجمعة عن بعض الناس، لدفع المشقة، ولحماية المسلم، لكن إن حضرها: صحَّت منهم.
تنعقد به)؛ لأنه ليس من أهل الوجوب، وإنما صحَّت منه تبعًا (ولم يصح أن يؤم فيها)؛ لئلا يصير التابع متبوعًا
(13)
(ومن سقطت عنه لعذر) كمرض وخوف إذا حضرها: (وجبت عليه وانعقدت به) وجاز أن يؤم فيها؛ لأن سقوطها لمشقة السعي وقد زالت
(14)
(ومن صلى الظهر) وهو (ممن) يجب (عليه حضور الجمعة قبل
(13)
مسألة: إذا حضر المسافر أو العبد الجمعة: فإنها تنعقد به، ويُكمِّل كل واحد منهما الأربعين شرط صحة الجمعة، وتصح إمامة كل واحد منهما فيها، أما إن حضرت المرأة أو الخنثى الجمعة فلا تنعقد بهما الجمعة، فلا يُكملان العدد المشترط لها -وهو: أربعون- ولا تصح إمامتهما لها مطلقًا؛ للتلازم؛ حيث يلزم من حضور المسافر أو العبد: وجوبها عليه، ويلزم من وجوبها عليه: صحتها منه، ويلزم من صحتها: انعقادها به وصحة إمامته فيها، ويلزم من كون المرأة عورة تثير الفتنة، واحتمال الخنثى أنثى: عدم انعقاد الجمعة بهما، وعدم صحة إمامتهما لها، فإن قلتَ: لا تنعقد الجمعة بالأربعة جميعًا، ولا تصح إمامتهم -وهو ما ذكره المصنف هنا-؛ للتلازم: حيث يلزم من كونهم ليسوا من أهلها: عدم انعقادها بهم، وعدم صحة إمامتهم لها؛ لأنه سيكون التابع متبوعًا وهذا خلاف الأصل، قلتُ: هذا لا يُسلَّم في المسافر والعبد؛ لأن الأصل: وجوبها عليهما ولكن خُفَّف عنهما: دفعًا للمشقة عن المسافر، وعن سيد العبد، لكن إذا حضرا صارا من أهل وجوبها ومن كان من أهل وجوبها: تنعقد به الجمعة وتصح إمامته كغيره، بخلاف المرأة والخنثى، فالمصلحة هي التي أخرجتهما، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض التلازمين".
(14)
مسألة: إذا سقطت صلاة الجمعة عن شخص لعذر مرض أو خوف -أو غيرهما من الأعذار المسقطة لصلاة الجمعة كما سبق بيانها- ثم تحمَّل المشقة وحضرها: فإنها تجب عليه، وتنعقد به -أي: يُحسبُ من الأربعين- وتصح =
صلاة الإمام) أي: قبل أن تقام الجمعة أو مع الشكِّ فيه: (لم تصح) ظهره؛ لأنه صلى ما لم يُخاطب به، وترك ما خوطب به،
(15)
وإذا ظنَّ أنه يدرك الجمعة: سعى إليها؛ لأنها فرضه، وإلا: انتظر حتى يتيقَّن أنهم صلُّوا الجمعة فيُصلِّي الظهر الظهر
(16)
(وتصح) الظهر (ممن لا تجب عليه) الجمعة لمرض ونحوه، ولو زال عذره قبل تجميع الإمام
(17)
إمامته فيها؛ للتلازم؛ وقد بيناه في مسألة (13) فإن قلتَ: لمَ شرع هذا؟ قلتُ: لأن الأصل: وجوبها على كل أحد، ولكن الشارع أسقطها عن المعذور؛ نظرًا لمشقة السعي إليها، فلزم من زوال هذا لعذر: وجوبها وصحة انعقادها وصحة الإمامة.
(15)
مسألة: إذا كان مَنْ تلزمه الجمعة قد صلى الظهر قبل أن يصلي الإمام الجمعة، أو صلى وهو شاك هل صلى الإمام أو لا؟: فإن صلاته الظهر لا تصح؛ للقياس، بيانه: كما أن من صلى العصر مكان الظهر لا تصح صلاته فكذلك هذا مثله والجامع: إن كلًا منهما قد صلى صلاة لم يُخاطب بها، وترك صلاة قد خوطب بها، فيكون غير معذور بتركها، وهذا هو المقصد منه.
(16)
مسألة: إذا غلب على ظن مَنْ تلزمه الجمعة: أنه سيدرك الجمعة إذا سعى إليها: فيجب عليه ذلك، وإن شك في ذلك، أو غلب على ظنه أنه سيجد مشقة في ذلك فإنه ينتظر حتى يفرغ الإمام من صلاته للجمعة: ثم يصلي الظهر وتصح منه؛ للتلازم؛ حيث إن فرض من تلزمه الجمعة السعي إليها إن غلب على ظنه، إدراكها، ويلزم من شكه في ذلك: عدم المشقة على نفسه في ذلك والصلاة ظهرًا؛ حماية له.
(17)
مسألة: إذا سقطت الجمعة عن شخص لعذر مرض أو خوف ونحوهما، ثم صلَّى الظهر قبل صلاة الإمام الجمعة فصلاته الظهر صحيحة: سواء زال عذره، قبل صلاة الإمام الجمعة أو لا؛ للقياس، بيانه: كما أن البعيد من موضع الجمعة إذا =
إلا الصبي إذا بلغ
(18)
(والأفضل) تأخير الظهر (حتى يصلي الإمام) الجمعة،
(19)
وحضورها لمن اختلف في وجوبها عليه كعبد أفضل،
(20)
ونُدب تصدُّق بدينار أو
صلى الظهر قبل صلاة الإمام الجمعة: تصح صلاته وإن وصل البلد قبل صلاة الإمام للجمعة، فكذلك الأمر هنا والجامع: أن كلًا منهما لم يُخاطب بالجمعة، وفعل ماله فعله، وهو تيسير من الشارع، وهذا هو المقصد الشرعي منه.
(18)
مسألة: إذا صلى الصبي الظهر، ثم بلغ قبل أن يصلي الإمام الجمعة: فتجب عليه صلاة الجمعة مع الإمام، أما إن بلغ بعد صلاة الإمام للجمعة: فتكفيه صلاته الظهر، ولا يُعيدها؛ للتلازم؛ حيث إن بلوغه قبل صلاة الإمام للجمعة: يلزم منه وجوبها عليه سواء صلى الظهر أو لم يصل، ويلزم من بلوغه بعد صلاة الإمام الجمعة: الاكتفاء بصلاة الظهر؛ لأنه فعل ماله فعله شرعًا.
(19)
مسألة: الأفضل لمن لا تلزمه الجمعة لعذر مرض أو رق ونحوهما: أن يُصلِّي الظهر بعد ما يفرغ الإمام من صلاة الجمعة؛ للمصلحة؛ حيث إنه يُحتمل زوال ذلك العذر، فيصلي الجمعة مع الإمام فيشارك الناس صلاتهم.
(20)
مسألة: الأفضل لمن لا تلزمه الجمعة لعذر: أن يحضرها؛ للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حضور اجتماع المسلمين، وتكثيرهم، وتحصيل أجر السعي إليها، [فرع]: العلماء اختلفوا في وجوب الجمعة على العبد، فذهب كثير من العلماء إلى وجوبها عليه وهو رواية عن أحمد؛ للكتاب؛ حيث قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا} وهذا عام؛ لأن "واو الجماعة" من صيغ العموم فيشمل العبد وغيره قلتُ: إن هذا العموم مخصَّص بالسنة القولية وهي قوله عليه السلام "الجمعة حق على كل مسلم: إلا عبد مملوك" فنفى الوجوب عن العبد هنا؛ لأن الاستثناء من الإثبات نفي، وهو من صيغ التخصيص المتصلة، فيكون محبوسًا على سيِّده أشبه المحبوس بالدَّين الذي تسقط الزكاة لأجله فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض =
نصفه لتاركها بلا عذر
(21)
(ولا يجوز لمن تلزمه) الجمعة (السفر في يومها بعد الزوال) حتى يصلي
(22)
إن لم يخف فوات رفقته،
(23)
وقبل الزوال: يكره إن لم يأت بها في طريقه
(24)
فصل: (يُشترط لصحتها) أي: صحة الجمعة أربعة (شروط ليس
الكتاب مع السنة"، فعندنا: أن عموم الآية قد خُصِّص بالسنة، وعندهم: لا.
(21)
مسألة: إذا ترك مَنْ تلزمه الجمعة صلاة الجمعة بلا عذر: فإنه يستغفر الله تعالى للاستصحاب: حيث لم يرد فيه شيء، فنعمل على الأصل، فإن قلتَ: يُستحب أن يتصدَّق بدينار أو نصفه وهو ما ذكره المصنف هنا؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "من ترك الجمعة من غير عذر فيتصدَّق بدينار فإن لم يجد فبنصف دينار" قلتُ: هذا الحديث ضعيف عند كثير من أئمة الحديث فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض السنة مع الاستصحاب" فنعمل بالاستصحاب؛ إذ لا يوجد ما يغيِّر الأصل، لكون الحديث الوارد فيه ضعيفًا، وعندهم: يعمل بالسنة لثبوتها عندهم.
(22)
مسألة: يحرم على من لزمته الجمعة السفر بعد زوال شمس يومها، أي: بعد أذان الجمعة الثاني، فإذا صلى مع الإمام يسافر؛ للقياس؛ بيانه: كما يحرم البيع والتجارة بعد النداء الثاني؛ لقوله تعالى: {وَذَرُوا الْبَيْعَ} فكذلك يحرم السفر بعد النداء الثاني، والجامع: منع الاشتغال عن الصلاة بشيء، لأنها مظهر من مظاهر المسلمين، فينبغي أن يُشاركهم، وهذا هو المقصد منه.
(23)
مسألة: إذا خاف من تلزمه الجمعة من فوات رفقته في السفر: فإنه يسافر معهم مطلقًا: سواء بعد الزوال أو قبله؛ للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حفاظ للمسلم عن السفر وحده فيتعرض للخطر، وهذه المصلحة قد خصَّصت عموم الآية السابقة في مسألة (22)، والتي وقع القياس عليها.
(24)
مسألة: يكره أن يسافر من تلزمه الجمعة في يومها قبل زوال الشمس إذا لم يغلب على ظنه أنه سيُصلِّيها في طريقه، أما إن غلب على ظنه ذلك: فإنه لا =
منها إذن الإمام)؛ لأن "عليًا صلى بالناس وعثمان محصور، فلم ينكره أحد، وصوَّبه عثمان" رواه البخاري بمعناه
(25)
(أحدها) أي: أحد الشروط: (الوقت)؛ لأنها صلاة مفروضة فاشترط لها الوقت كبقية الصلوات، فلا تصح قبل الوقت ولا بعده إجماعًا، قاله في "المبدع" (وأوله أول وقت صلاة العيد)؛ لقول عبد الله بن سيدان:"شهدتُ الجمعة مع أبي بكر، فكانت خطبته وصلاته قبل نصف النهار، ثم شهدتها مع عمر فكانت خطبته وصلاته إلى أن أقول: قد انتصف النهار، ثم شهدتها مع عثمان فكانت خطبته وصلاته إلى أن أقول: قد زال النهار، فما رأيتُ أحدًا عاب ذلك ولا أنكره" رواه الدارقطني وأحمد، واحتج به قال: وكذلك روي عن ابن مسعود وجابر وسعد ومعاوية أنهم صلوا قبل الزوال ولم يُنكر (وآخرها: آخر وقت صلاة الظهر) بلا خلاف، قاله في "المبدع"، وفعلها بعد الزوال أفضل
(26)
(فإن
يكُره: للمصلحة؛ حيث إن سفره يتسبَّب في حرمانه من الاجتماع مع الناس، والمشاركة معهم في إظهار الإسلام.
(25)
مسألة: لا يُشترط لصحة انعقاد الجمعة: أن يأذن الإمام الأعظم أو نائبه، فلو صلى الناس بدون إذنه: لصحت صلاتهم جمعة؛ للإجماع السكوتي؛ حيث إن عليًا صلى بالناس وعثمان محصور، فلم يُنكر عليه أحد، فإن قلتَ: لمَ لا يُشترط ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن طلب الإذن في ذلك فيه حرج وضيق ومشقة على الناس، فدفعًا لذلك: شرع.
(26)
مسألة: في الأول -من شروط صحة انعقاد الجمعة- وهو: أن تُصلى في وقتها، وهو: وقت صلاة الظهر الذي يبدأ من بعد زوال الشمس بقليل، أي: قبل أذان الظهر بربع ساعة، وينتهي بكون ظل الشيء مثله -كما سبق في وقت صلاة الظهر في مسألة (6) من باب "شروط الصلاة" ويُستحب تعجيلها كصلاة الظهر؛ لقاعدتين: الأولى: السنة الفعلية؛ حيث قال أنس =
خرج وقتها قبل التحريمة) أي: قبل أن يُكبِّروا للإحرام بالجمعة: (صلوا ظهرًا) قال في "الشرح": "لا نعلم فيه خلافًا"(وإلا) بأن أحرموا بها في الوقت فـ (جمعة) كسائر الصلوات تُدرك بتكبيرة الإحرام في الوقت، ولا تسقط بشك في خروج
رضي الله عنه: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الجمعة حين تميل الشمس" وقال سلمة بن الأكوع رضي الله عنه "كنا نجمع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا زالت الشمس" ولفظ "كان" من صيغ العموم، فتفيد الاستمرار والدوام الثانية: الإجماع؛ حيث أجمع العلماء على أن آخر وقت الجمعة هو آخر وقت صلاة الظهر، فإن قلتَ: لمَ كان وقت الجمعة هو وقت الظهر؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن وقت الظهر معروف عند أكثر المسلمين ابتداءً وانتهاءً فيكون ذلك أيسر لمعرفة وقت صلاة الجمعة وأحصر لهم وأكثر دقة في تنظيم يوم الجمعة وتعجيلها أفضل لتحصيل فضل الصلاة في أول وقتها، فإن قلتَ: إن أول وقت للجمعة هو: أول وقت صلاة العيد وهو: بعد ارتفاع الشمس قدر رمح -وهو: بعد طلوع الشمس بربع ساعة- لفعل الصحابي؛ حيث إن أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنه صلوها قبل الزوال وبعده -كما رواه عبد الله بن سيدان-، وقد روي ذلك عن أبن مسعود وجابر وسعد ومعاوية رضي الله عنه قلتُ: حديث ابن سيدان هذا ضعيف؛ حيث إن ابن سيدان هذا لا يُتابع على حديثه كما قال البخاري، وضعفه النووي في "المجموع"، وعلى فرض صحته: فإنه لا يُحتج به؛ لأنه قد خالف السنة الفعلية كما سبق، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض فعل الصحابي مع السنة الفعلية"، فعندنا: يُعمل بالسنة الفعلية فقط دون تخصيصها بشيء؛ لأن فعل الصحابي هنا ضعيف، وعندهم: يعمل بفعل الصحابي.
الوقت، فإن بقي من الوقت قدر الخطبة والتحريمة: لزمهم فعلها، وإلا: لم تجز،
(27)
الشرط (الثاني: حضور أربعين من أهل وجوبها) -وتقدم بيانهم- الخطبة والصلاة، قال أحمد:"بعث النبي صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير إلى أهل المدينة، فلما كان يوم الجمعة جمع بهم، وكانوا أربعين، وكانت أول جمعة جُمعت بالمدينة" وقال جابر: "مضت السنة: أن في كل أربعين فما فوق جمعة وإضحى وفطر" رواه الدارقطني، وفيه ضعف قاله في "المبدع"،
(28)
الشرط (الثالث: أن يكونوا بقرية مستوطنين) بها
(27)
مسألة: إذا غلب على ظنهم أن الباقي من الوقت يكفي للخطبتين، وقدر تكبيرة الإحرام للصلاة أو شكوا في بقاء ذلك: فإنهم يصلون جمعة، أما إن غلب على ظنهم أن الوقت لا يكفي للخطبتين: فإنهم يصلون ظهرًا؛ لقواعد: الأولى: القياس، بيانه: كما أن سائر الصلوات تدرك بتكبيرة الإحرام فكذلك الجمعة تدرك بالخطبتين وتكبيرة الإحرام، والجامع: أن كلًا منهما شرط لصحة الصلاة وركن من أركانها، الثانية: الاستصحاب؛ حيث إن الأصل بقاء وقت صلاة الجمعة، فلا يزول هذا الأصل بالشك فتصلى جمعة، الثالثة: التلازم؛ حيث يلزم من غلبة الظن في شيء العمل عليه؛ لأن العمل بالغالب واجب كالعمل بالمقطوع به.
(28)
مسألة: في الثاني -من شروط صحة انعقاد الجمعة- وهو: أن يحضر الخطبة وصلاة الجمعة أربعون ممن تلزمهم الجمعة -وهم من توفرت فيهم الشروط السبعة التي في مسألة (7) -؛ للسنة التقريرية؛ وهي من وجوه: أولها: أنه صلى الله عليه وسلم كان يخطب يوم الجمعة، فلما جاءت تجارة خرج بعض الحاضرين معه من المسجد، وبقي معه أربعون رجلًا وأكمل خطبته، ثانيها: أن أسعد بن زرارة قد صلى بالناس الجمعة بالمدينة قبل مقدم النبي صلى الله عليه وسلم إليها وكان عددهم أربعين، ثالثها: أن مصعب بن عمير قد صلي بالناس الجمعة بالمدينة، وكان عددهم =
مبنية بما جرت العادة، فلا تتم من مكانين متقاربين، ولا تصح من أهل الخيام، وبيوت الشعر ونحوهم؛ لأن ذلك لم يُقصد للاستيطان غالبًا، وكانت قبائل العرب حوله صلى الله عليه وسلم ولم يأمرهم بها،
(29)
وتصح بقرية خراب عزموا على
أربعين، فلو لم يكن هذا العدد مشترطًا لما أقرهم عليه، فيلزم اشتراطه؛ لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، ويبعد عدم علم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك؛ لكونه من العبادات، فإن قلتَ: لمَ اشتُرط هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن هذا العدد يحصل فيه الغرض الذي من أجله شرعت الجمعة وهي: حضور الاجتماع، وإظهار الإسلام، فإن قلتَ: إن العدد المشترط: هو اثنا عشر رجلًا من أهل وجوبها؛ للسنة التقريرية؛ حيث إن عدد الذين بقوا معه صلى الله عليه وسلم في المسجد -لما جاءت العير والتجارة- اثنا عشر رجلًا، وأقرهم النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، قلتُ: إنه صح عند البيهقي والدارقطني أن الباقين: أربعون، وعلى فرض أن الباقين إثنا عشر: فإنه يُحتمل أن الذين خرجوا قد عادوا، ويُحتمل أنه دخل غيرهم، فحضروا أركان الخطبة والصلاة، وإذا تطرق الاحتمال إلى الدليل: بطل به الاستدلال، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض السنتين التقريريتين" وأيضًا "الخلاف في عدد الباقين بعد خروج من خرج لما رأوا التجارة من مسجده صلى الله عليه وسلم" فعندنا: أربعون، تنبيه: حديث جابر الذي ذكره المصنف ضعيف لا يُحتج بمثله كما قال البيهقي.
(29)
مسألة: في الثالث -من شروط صحة انعقاد الجمعة- وهو: أن يكون من تلزمهم الجمعة قد أقاموا واستوطنوا بلدًا لا يرحلون منه صيفًا ولا شتاء، وهو الذي يُبنى من طين أو حجر أو إسمنت أو سعف، ونحو ذلك مما جرت العادة الاستيطان بمثله، وبناء عليه: فلو اجتمع أربعون من بلدين متقاربين، أو من أهل خيام وبيوت شعر: فلا جمعة عليهم؛ للسنة التقريرية؛ حيث إنه كان =
إصلاحها والإقامة بها
(30)
(وتصح) إقامتها (فيما قارب البنيان من الصحراء)؛ لأن "أسعد بن زرارة أول من جمع في حرة بني بياضة" أخرجه أبو داود والدارقطني، قال البيهقي:"حسن الإسناد صحيح" قال الخطابي: "حرة بني بياضة على ميل من المدينة"،
(31)
وإذا رأى الإمام وحده العدد فنقص: لم يجز أن يؤمهم، ولزمه استخلاف أحدهم، وبالعكس لا تلزم واحدًا منهم
(32)
(فإن نقصوا) عن الأربعين
يوجد حول المدينة أقوام يسكنون بيوت شعر، وكانوا لا يحضرون صلاة الجمعة معه صلى الله عليه وسلم ولم يُنكر عليهم ذلك، مما يدل على سقوطها عنهم؛ إذ لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، وهو أيضًا لم يأمرهم بها، فإن قلتَ: لمَ اشتُرط ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن المستوطن ببلد واحد لا يشقُّ عليه السعي إلى الجمعة، بخلاف من لم يقصد الاستيطان: فيشِقُّ ذلك؛ فدفعًا لذلك شرع هذا.
(30)
مسألة: إذا عزم أربعون رجلًا ممن تلزمهم الجمعة أن يُقيموا بقرية متهدِّمة بعد إصلاحها: فإن صلاة الجمعة تصح منهم فيها؛ للتلازم؛ حيث إن عزمهم الإقامة بتلك القرية التي قاموا بإصلاحها: يلزم منه الاستيطان بها، وتصح الجمعة من المستوطنين.
(31)
مسألة: لا تُشترط إقامة صلاة الجمعة داخل بنيان البلد، بل تصح في الصحراء القريبة من البنيان؛ للسنة التقريرية؛ حيث إن أسعد بن زرارة أقام الجمعة في مكان يبعد عن المدينة المنورة بميل تقريبًا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وهو يُقدَّر (5، 1 كم تقريبًا)، فإن قلتَ: لمَ صحَّت هنا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تيسير وتسهيل على المسلمين.
(32)
مسألة: إذا كان مذهب الإمام: أن حضور أربعين شرط لصحتها -فلما رأى المأمومين وجدهم لا يبلغون الأربعين: فلا يجوز له أن يؤمهم، بل يُنيب عنه منهم من يؤمهم إذا كان هذا النائب لا يشترط حضور الأربعين، ويصلي =
(قبل إتمامها): لم يُتموها جمعة؛ لفقد شرطها (واستأنفوا ظهرًا)
(33)
إن لم تمكن إعادتها جمعة،
(34)
وإن بقي معه العدد بعد انفضاض بعضهم، ولو ممن لم يسمع الخطبة ولحقوا بهم قبل نقصهم: أتموا جمعة
(35)
(ومن) أحرم في الوقت و (أدرك مع الإمام منها) أي من الجمعة (ركعة: أتَّمها جمعة)؛ لحديث أبي هريرة مرفوعًا: "من أدرك ركعة من الجمعة فقد أدرك الصلاة" رواه الأثرم (وإن أدرك أقل من ذلك) بأن رفع الإمام رأسه من الثانية، ثم دخل معه:(أتمها ظهرًا)؛ لمفهوم ما سبق (إذا كان نوى الظهر) ودخل وقته: لحديث: "وإنما لكل امرئ ما نوى"، وإلا: أتمها
الإمام صلاة الظهر، وكذلك إذا رأى واحد من المأمومين هذا الشرط: لا يصلي جمعة معهم، بل يصلي ظهرًا وإن كان منفردًا؛ للتلازم؛ حيث يلزم من عدم توفر شرط حضور الأربعين: عدم صحة الجمعة ممن يرى هذا الشرط.
(33)
مسألة: إذا حضر الأربعون رجلًا، ثم شرع الإمام في الخطبة أو الصلاة، ثم خرج واحدًا أو أكثر قبل تمام الخطبة، أو الصلاة: فإنها تبطل، فيقطعها الإمام إن علم ذلك، ويستأنف ويصلي ظهرًا بمن بقي؛ للتلازم؛ حيث يلزم من نقصان العدد المشترط: عدم صحتها جمعة.
(34)
مسألة: إن خرج بعض الأربعين، ثم بقي وقت الجمعة يُمكن فيه إعادتها بعد استكمال شروط صحة انعقادها: فإنه تجب إعادتها جمعة؛ للتلازم؛ حيث يلزم من بقاء وقتها، واستكمال شروط صحة انعقادها، وجوب أدائها فيه؛ لكونها فرضه.
(35)
مسألة: إن خرج بعض الأربعين، ثم عادوا، أو دخل المسجد غيرهم، ولحقوا قبل خروج الأولين ونقصهم بهذا الخروج: فإن الإمام يُتم بهم الجمعة، ولو كان هؤلاء اللاحقون لم يسمعوا الخطبة؛ للتلازم؛ حيث يلزم من وجود الأربعين: صحة الجمعة؛ نظرًا لتوفر شرطها.
نفلًا،
(36)
ومن أحرم مع الإمام، ثم زحم عن السجود: لزمه السجود على ظهر إنسان أو رجله، فإن لم يُمكنه: فإذا زال الزحام،
(37)
وإن أحرم، ثم زحم وأخرج
(36)
مسألة: إذا دخل شخص الجامع وكبَّر تكبيرة الإحرام قبل أن يرفع الإمام رأسه من ركوع الركعة الثانية من صلاة الجمعة: فإنه يكون مُدركًا لصلاة الجمعة، وإن لم يسمع الخطبة، وعليه أن يأتي بركعة ثانية فقط بعد سلام الإمام، أما إن رفع الإمام رأسه من ركوع الركعة الثانية قبل أن يدركه ذلك الداخل: فإنه يدخل معه ويُتمها ظهرًا أربع ركعات إذا نوى الظهر قبل الدخول مع الإمام إذا كان الوقت وقت الظهر -إذا صلى الإمام الجمعة قبل الزوال- فإن لم يدخل وقت صلاة الظهر: أتمها نافلة؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ وهي من وجهين: أولهما: قوله صلى الله عليه وسلم: "من أدرك ركعة من الجمعة فقد أدرك الصلاة" ومن أدرك تكبيرة الإحرام قبل أن يرفع الإمام من الركوع فقد أدرك الركعة والجمعة، هذا منطوقه، ودل مفهوم الشرط على أن من أدرك أقل من ركعة: فإنه لا يُدرك الجمعة، ويلزم منه أن يصلي ظهرًا؛ لكونه هو الواجب عليه بعد فوات الجمعة، ثانيهما: قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى" حيث دلَّ على عدم صحة عمل إلا بنية، فيلزم هذا الداخل الذي لم يُدرك الركعة الثانية: أن ينوي أنه سيُصلِّي ظهرًا، وإن لم ينو ذلك لا تصح صلاته؛ لأن النية شرط لصحة العمل، الثانية: التلازم؛ حيث يلزم من عدم دخول وقت صلاة الظهر: أن تكون الصلاة التي صلاها مع الإمام -ولم يدرك بها الركعة الثانية- نافلة؛ لعدم موافقتها لوقت صلاة الظهر.
(37)
مسألة: إذا لم يستطع المأموم في صلاة الجمعة السجود على الأرض بسبب زحام شديد: فيجب عليه السجود ولو على ظهر مسلم، أو رجله، فإن لم يستطع: صبر حتى يزول الزحام، ثم يسجد على الأرض، ثم يلحق بإمامه إن استطاع ذلك قبل فوات السجدة الثانية، وإن لم يستطع حاول أقصى جهده =
عن الصف فصلى فدًّا: لم تصح، وإن أخرج في الثانية: نوى مفارقته وأتمَّها جمعة،
(38)
الشرط الرابع: تقدُّم خطبتين وأشار إليه بقوله: (ويُشترط تقدُّم خطبتين)؛
متابعة إمامه ويتمها جمعة، فإن لم يُتابعه -وهو قادر عالم-: بطلت جمعته، ويصليها بعد ذلك ظهرًا، للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم:"إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" وهذا عام، وهذا الشخص قد فعل أقصى ما يستطيعه للحوق بالإمام، فيشمله ذلك، ويجب عليه؛ لأن الأمر هنا مطلق فيقتضي الوجوب، وما لا يستطيعه يسقط عنه؛ لأن الشرط والركن والواجب تسقط بالعجز عنها، ولذلك تبطل صلاته إذا ترك عمدًا شيئًا يستطيعه، وهذا من لطف الله تعالى على عباده، وهو المقصد الشرعي منه.
(38)
مسألة: إذا اضطر المأموم في صلاة الجمعة للخروج من الصف؛ لوجود زحام: فإنه يُتابع إمامه ويُتمها معه جمعة ولو كان منفردًا: سواء كان في الركعة الأولى أو الثانية، أما إن لم يتمكَّن من متابعة إمامه في ركوع ولا سجود: فصلاته لا تصح مطلقًا: سواء في الركعة الأولى أو الثانية؛ للسنة القولية وهي من وجهين: أولهما: قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" وهذا لم يستطيع إلا أن يصلي منفردًا خلف الصف؛ لوجود الزحام، فتصح صلاته؛ لعذره، ثانيهما: قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما جُعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه" وعدم القدرة على متابعة المأموم للإمام تستلزم الاختلاف عليه، وهو منهي عنه نهيًا مطلقًا، والنهي المطلق يقتضي الفساد، وهو فساد العمل، وعليه فلا تصح صلاته؛ لعدم المتابعة، فإن قلتَ: إن وقف خلف الصف منفردًا في الركعة الأولى: لم تصح صلاته الجمعة، وإن وقف خلف الصف منفردًا في الركعة الثانية: فإنه تصح بشرط: أن ينوي مفارقة إمامه لعذر الزحام: قلتُ: لم أجد دليلًا قويًا على هذا التفريق بهذا الاعتبار، بل التفريق يكون من حيث المتابعة وعدمها.
لقوله تعالى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} والذكر هو: الخطبة، ولقول ابن عمر رضي الله عنهم "كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب خطبتين وهو قائم يفصل بينهما بجلوس" متفق عليه
(39)
وهما بدل ركعتين لا من الظهر
(40)
(ومن شرط صحتهما: حمد الله) بلفظ: "الحمد لله"؛ لقوله
(39)
مسألة: في الرابع -من شروط صحة انعقاد الجمعة-: أن يتقدَّم صلاة الجمعة خطبتان، فإن لم يتقدَّمها شيء، أو تقدمها خطبة واحدة، أو تأخرتا عن الصلاة: فلا تصح صلاة الجمعة؛ لقواعد: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} و"الذكر" هو: الخطبة والصلاة -كما نقله القرطبي في تفسيره عن سعيد بن جبير- الثانية: السنة الفعلية؛ حيث "كان صلى الله عليه وسلم يواظب على تقديم خطبتين وهو قائم يفصل بينهما بجلوس، ثم يصلي الجمعة"، الثالثة: الإجماع؛ حيث كان الصحابة يخطبون بخطبتين ويقدِّمونهما على صلاة الجمعة، ولم ينكر ذلك بقية الصحابة، فكان إجماعًا سكوتيًا، فإن قلتَ: لمَ اشتُرط هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن من أهم المقاصد الشرعية لصلاة الجمعة هو: الاجتماع لسماع المواعظ وتذكير الناس بالأوامر والنواهي، وهذا لا يحصل إلا بخطبة، ولولا ذلك: لما استفاد الناس من التجمُّع لها، ولكانت كغيرها من الصلوات.
(40)
مسألة: شرعت خطبتا الجمعة بدلًا عن ركعتين، وليستا بدلًا عن ركعتين من الظهر؛ للمصلحة؛ حيث إن صلاة الجمعة لو كانت أربع ركعات مع تقديم خطبتين: للحق بعض المسلمين مشقة وضيق بسبب طول البقاء في المسجد، وهو على طهارة وحالة واحدة من التحفُّز والاستعداد لأي طارئ، وهو منقطع عن أهله وماله، فدفعًا لذلك: نُقصِّت ركعتان منها؛ تخفيفًا تنبيه: قد سبق بيان أن صلاة الجمعة صلاة مُستقلَّة، وليست بدلًا عن صلاة الظهر وذلك في مسألة (2) تنبيه آخر: شروط صحة انعقاد الجمعة أربعة فقط "دخول =
صلى الله عليه وسلم: "كل كلام لا يُبدأ فيه بالحمد لله: فهو أجذم" رواه أبو داود عن أبي هريرة
(41)
(والصلاة على رسوله) محمد (صلى الله عليه وسلم)؛ لأن كل عبادة افتقرت إلى ذكر الله تعالى: افتقرت إلى ذكر رسوله كالأذان، ويتعيَّن لفظ "الصلاة"
(42)
(وقراءة آية) كاملة؛ لقول جابر بن سمرة: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ آية ويُذكِّر الناس" رواه مسلم، قال أحمد:"يقرأ ما شاء" وقال أبو المعالي: لو قرأ آية لا تستقل بمعنى أو حكم كقوله: {ثُمَّ نَظَرَ} أو {مُدْهَامَّتَانِ} : لم يكف، والمذهب: لا بدَّ من قراءة آية ولو جُنبًا مع
وقتها" "وحضور أربعين" و"الاستيطان" و"تقدم خطبتين عليها" كما سبق بيانها في مسائل (26 و 28 و 29 و 39).
(41)
مسألة: في الأول -من شروط صحة خطبتي الجمعة- وهو: أن يحمد الله تعالى في كل خطبة وإن تلفَّظ بذلك قائلًا: "الحمد لله" فهو أفضل؛ للسنة الفعلية؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم يواظب على حمد الله والثناء عليه في خطبه، فإن قلتَ: لمَ اشتُرط ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن تقديم الحمدلة على أي كلامٍ يجعل ذلك الكلام مباركًا مستفادًا منه تنبيه: الحديث الذي ذكره المصنف هنا لا يصح الاستدلال به؛ لأنه ضعيف في سنده ومتنه كما قال كثير من أئمة الحديث، نقله عنهم الألباني في الإرواء (1/ 19، 21، 30).
(42)
مسألة: في الثاني -من شروط صحة خطبتي الجمعة- وهو: أن يُصلِّي على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في كل خطبة وإن تلفظ في ذلك فهو أفضل؛ للقياس، بيانه: كما وجب ذكر الرسول مع ذكر الله في الأذان فكذلك يجب ذكر الرسول مع ذكر الله في خطبتي الجمعة والجامع: أن كلًا منهما عبادة وذكر افتقرت إلى ذكر الله فافتقرت إلى ذكر رسوله ومعنى قوله تعالى: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} أي: لا أُذكر إلا ذُكرتَ معي، فإن قلتَ: لمَ اشتُرط ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم يستحق الدُّعاء له، وتأكيد الإيمان به، والتصديق بما جاء به.
تحريمها،
(43)
فلو قرأ ما تضمَّن "الحمد" و"الموعظة" ثم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم: أجزأه
(44)
(والوصية بتقوى الله عز وجل؛ لأنه المقصود،
(45)
قال في "المبدع": ويبدأ
(43)
مسألة: في الثالث -من شروط صحة خطبتي الجمعة- وهو: أن يقرأ آية كاملة، أو سورة تفيد المسلمين بحكم شرعي معيَّن، وذلك في كل خطبة؛ للسنة الفعلية؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم يداوم على قراءة آية، ويقرأ أحيانًا بسورة "ق"، فإن قلتَ: لمَ اشتُرط ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه بركة لقارئ الآية ولسامعها، وللاستشهاد بها على ما يقوله من أوامر ونواهي، تنبيه: قوله: "ولو جُنبًا" يشير به إلى أن الخطيب يقرأ آية ولو كان عليه حدث أكبر وسيأتي بيانه في مسألة (56).
(44)
مسألة: لا يُشترط -في الخطبتين-: أن يتلفَّظ بالحمد لله، والموعظة، فلو عبَّر بعبارات تضمَّنت هذه الأمور، وتفهم الآخرين معناها: لأجزأ ذلك؛ لقاعدتين: الأولى: السنة الفعلية؛ حيث قرأ النبي سورة "ق" في الخطبة، الثانية: الإجماع؛ حيث إن عمر رضي الله عنه قرأ سورة "الحج" على المنبر، ولم يخطب بغيرها، ولم ينكر عليه أحد، فكان إجماعًا سكوتيًا من الصحابة، فإن قلتَ: لمَ لا يُشترط ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن اشتراط التعبير بألفاظ معينة يشق على كثير من الخطباء.
(45)
مسألة: في الرابع -من شروط صحة خطبتي الجمعة- وهو: أن يوصي الخطيب الحاضرين بتقوى الله بأي عبارة شاء، لكن لو تلفَّظ بقوله:"أوصيكم بتقوى الله": لكان أفضل، لقاعدتين: الأولى: السنة الفعلية؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم يواظب على وصية الناس بذلك في خطبه، الثانية: الإجماع؛ حيث كان الصحابة يفعلون ذلك بدون نكير من أحد، فإن قلتَ: لمَ اشترط ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن تقوى الله إذا اتصف بها المسلم: ضمن خيري الدنيا =
بالحمد لله، ثم بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم بالموعظة، ثم القراءة في ظاهر كلام جماعة، ولا بدَّ في كل واحدة من الخطبتين من هذه الأركان
(46)
(و) يُشترط (حضور العدد المشترط) لسماع القدر الواجب؛ لأنه ذكر اشترط للصلاة فاشتُرط له العدد كتكبيرة الإحرام،
(47)
فإن نقصوا، وعادوا قبل فوت ركن منها:
والآخرة؛ لأنه لا يوصف بالتقوى إلا إذا كان ممتثلًا لأوامر الله، وتاركًا لنواهيه وهو المقصود من الخطبة، والأفضل التعبير بنفس عبارة "تقوى الله"؛ لأنها أوقع في النفوس.
(46)
مسألة: تُشترط تلك الشروط الأربعة السابقة في كل واحدة من الخطبتين -الأولى والثانية- ويُستحب أن يُرتبها هكذا: الحمدلة، ثم الصلاة على النبي، ثم الوصية بتقوى الله، ثم قراءة الآية؛ للتلازم؛ حيث إنَّ لكل شيء أركانًا يقوم عليها لا يتم إلا بها، وكل خطبة لا تتم إلا بتلك الأمور الأربعة فلزمت، ولا تتم الاستفادة منها استفادة كاملة إلا بترتيبها كما قلنا؛ فلزم ذلك؛ لأن ذلك فيه إقناع الآخرين بصورة أسرع.
(47)
مسألة: في الخامس -من شروط صحة خطبتي الجمعة- وهو: أن يحضر كل واحدة من الخطبتين العدد المشترط لحضور الجمعة -وهم: أربعون ممن تلزمهم الجمعة- كما سبق في مسألتي (7 و 28) -وذلك لسماع الحمدلة، والصلاة على النبي، وقراءة آية، والوصية بتقوى الله، فلو حضر أقلُّ من ذلك، ثم لما أُقيمت الصلاة: تم العدد أربعين: فإن صلاتهم الجمعة لا تصح، بل يُصلُّونها ظهرًا؛ للقياس، بيانه: كما أن تكبيرة الإحرام تُشترط للدخول في الصلاة، فلا تصح إلا بها، فكذلك حضور الأربعين يُشترط لكل واحدة من الخطبتين والجامع: أن كلًا منهما ذكر اشترط لشيء فلا يتم هذا الشيء إلا به، فإن قلتَ: لا يشترط هذا، بل يخطب وإن لم يحضر العدد المشترط، وهذا رواية عن أبي =
بنوا،
(48)
وإن كثر التفريق أو فات منها ركن، أو أحدث فتطهر: استأنف مع سعة الوقت،
(49)
ويُشترط لهما أيضًا
حنيفة؛ للقياس، بيانه: كما أن المؤذن يؤذن ولو لم يكمل عدد الجماعة، فكذلك الخطيب مثله والجامع: أن كلًا منهما ذكر يتقدَّم الصلاة، فلا يُشترط له كمال العدد قلتُ: هذا قياس فاسد، لأنه قياس مع الفارق؛ حيث إن المقصود من الأذان: إعلام الغائبين بأن وقت الصلاة قد دخل، أما الخطبة فهي وعظ وإرشاد الحاضرين، فلا بدَّ من حضورهم لأجل ذلك، وهو المقصد من مشروعية الجمعة، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض القياسين" فنحن ألحقناه بالتحريمة لكونه أكثر شبهًا بها، وهم ألحقوه بالأذان؛ لكونه أكثر شبهًا به عندهم، وهذا يُسمَّى بقياس "الشبه" أو "غلبة الأشباه".
(48)
مسألة: إذا اجتمع أربعون -من أهل وجوبها- فاستمعوا لأول الخطبة، ثم خرج بعض منهم، ثم عاد هؤلاء الخارجون قبل أن يفوت عليهم ركن وشرط من الأربعة السابقة -وهي الحمدلة، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، والوصية بتقوى الله، وقراءة آية-: فإنهم يبنون على ما سبق من استماعهم وتصح الخطبة؛ للتلازم؛ حيث إنهم أدركوا شروط الخطبة وأركانها: فتلزم صحتها.
(49)
مسألة: إذا كثر التفريق بين أجزاء وجُمل الخطبة، أو لم يذكر الخطيب شرطًا أو ركنًا من أركان الخطبة الأربعة -وهي: الحمدلة، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، والوصية بتقوى الله، وقراءة آية-، أو أحدث الخطيب فذهب وتطهر ثم رجع: فإن الخطبة قد بطلت، وتجب إعادتها بشرط: أن يكون الوقت واسعًا: يسع إعادة الخطبتين والصلاة أما إن ضاق الوقت: فإنه يصلي بهم ظهرًا؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كثرة التفريق بين جُمل الخطبة: عدم حصول المقصود من مشروعية الخطبة، وهو الاستفادة، وهذا يلزم منه =
الوقت،
(50)
وأن يكون الخطيب يصلح إمامًا فيها،
(51)
والجهر بهما بحيث يُسمع العدد المعتبر، حيث لا مانع،
(52)
والنية،
(53)
والاستيطان للقدر
بطلان الخطبة، فلزم استئنافها.
(50)
مسألة في السادس -من شروط صحة خطبتي الجمعة- وهو: وقوع الخطبتين في وقت صلاة الجمعة -وهو وقت صلاة الظهر كما سبق في مسألة (26) -، فلو وقعت الخطبتان أو إحداهما قبل أو بعد هذا الوقت: فلا يصح؛ للسنة الفعلية والإجماع؛ والمصلحة وقد سبق بيانها في مسألة (26).
(51)
مسألة: في السابع -من شروط صحة خطبتي الجمعة- وهو: أن يكون الذي يخطب في الخطبتين صالحًا للإمامة في الصلاة -وهو: من توفرت فيه شروط مَنْ تلزمه الجمعة وهي السبعة التي ذكرت في مسألة (7) -؛ للقياس، بيانه: كما أن تلك الشروط تُشترط فيمن يُصليها فكذلك تكون شروطًا فيمن يتولى الخطبة فيها من باب أولى، فإن قلتَ: لمَ اشتُرط ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن هذا فيه عدم التغيير على المأمومين؛ لئلا يضطربوا.
(52)
مسألة: في الثامن -من شروط صحة خطبتي الجمعة- وهو: أن يجهر الخطيب بالخطبتين بحيث يُسمع العدد المشترط لحضورهما -وهم الأربعون رجلًا- ولو وُجد مانع عند الحاضرين من سماع تلك الخطبة من نوم، أو غفلة، أو طرش؛ للسنة الفعلية؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم يداوم على رفع صوته في خطبه، فإن قلتَ: لمَ اشتُرط ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تحقيق الغرض الذي من أجله شرعت الجمعة.
(53)
مسألة: في التاسع -من شروط خطبتي الجمعة- وهو: أن ينوي أنه سيُلقي خطبتي الجمعة قبل الشروع فيهما، أما إن جمع شخص أناسًا ثم خطب بهم ووعظهم بدون نية ذلك، فلما حضرت الصلاة صلى بهم الجمعة ونوى بما =
الواجب منهما،
(54)
والموالاة بينهما وبين الصلاة
(55)
(ولا يشترط لهما الطهارة)
قاله سابقًا أنهما خطبتا الجمعة أو أن الحاضرين قد استمعوا لهما على أنهما ليستا خطبتا جمعة: فإن الجمعة لا تصح؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات" والخطبتان عمل شرعي، فيجب أن يُنويا أنهما خطبتا الجمعة، وأن الخطيب والمأمومين يتعبَّدون الله بقولهما وسماعهما، فإن قلتَ: لمَ اشتُرط ذلك؟ قلتُ: لتمييز الخطبتين عن غيرهما من المواعظ.
(54)
مسألة: في العاشر -من شروط خطبتي الجمعة- وهو: أن يكون الخطيب مستوطنًا حال ذكره للقدر الواجب في كل خطبة، وذلك بأن يحمد الله، ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ويوصي بتقوى الله، ويقرأ آية في كل خطبة، وهو في حالة الاستيطان، أما لو ذكر ذلك وهو غير مستوطن، أو ذكر بعضها وهو قائم على سفينة، ثم أكملها بعد وصول السفينة إلى بلده -مثلًا-: فإن خطبته لا تصح، ويجب أن يُعيدها إن اتسع الوقت، وإن لم يتسع: يصلي ظهرًا؛ للتلازم؛ حيث يلزم من عدم الاستيطان: عدم صحة الخطبة، لفقدان شرط من شروط صحة انعقاد الجمعة -كما سبق في مسألة (29) - ويلزم من عدم صحة الخطبة: عدم صحة الصلاة فإن قلتَ: لمَ اشتُرط هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن هذا يجعل الحاضرين يستفيدون مما يُلقى ويقال في تلك الخطبة.
(55)
مسألة: في الحادي عشر -من شروط صحة خطبتي الجمعة- وهو: أن يوالي بين الخطبتين وبينهما وبين الصلاة بأن تكون الخطبة الثانية تلي الأولى مباشرةً، وتكون الصلاة تلي الخطبة الثانية مباشرةً، ولا يفصل بين ذلك إلا بجلوس خفيف جدًا بين الخطبتين أو بين الصلاة والخطبة الثانية، وهو: يُقدَّر بقدر الموالاة بين الصلاتين المجموعتين أو بقدر الوضوء، أو التيمُّم؛ للسنة الفعلية؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك دائمًا، فإن قلتَ: لمَ اشتُرط ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك يُحقِّق المقصود من مشروعية صلاة الجمعة؛ حيث إنها عبادة =
من الحَدَثين والنجس ولو خطب بمسجد؛ لأنهما ذكر تقدم الصلاة أشبه الأذان، وتحريم لبث الجنب بالمسجد لا تعلّق له بواجب العبادة،
(56)
وكذلك لا يُشترط لهما
واحدة مكوَّنة من خطبتين وصلاة، فلا يجوز التفريق بين أجزائها؛ إذ لو فرق لما تحقق ذلك المقصود، تنبيه: شروط صحة خطبتي الجمعة أحد عشر شرطًا وقد سبقت في مسائل (41) إلى (55).
(56)
مسألة: لا تُشترط الطهارة لصحة خطبتي الجمعة، فلو خطب وهو على غير طهارة، أو كان ثوبه أو بدنه أو بقعته التي يخطب عليها نجسًا: فإن خطبته تصح؛ سواء كان ذلك في مسجد أو لا، وسواء كان حدثه أصغر كبول، أو أكبر كجنابة، وكذلك المستمع للخطبتين لا تشترط طهارته؛ للقياس، بيانه: كما أن الأذان يصح بدون طهارة فكذلك الخطبة مثله والجامع: أن كلًا منهما ذكر تقدَّم الصلاة، والذكر لا تشترط له الطهارة، فإن قلتَ: لمَ لا تشترط الطهارة هنا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه توسعة وتيسير على المسلمين؛ حيث إن بعض الخطباء، أو المأمومين لا يستطيع الاستمرار طوال الخطبتين وهو على طهارته، فدفعًا للمشقة عليه: شرع هذا، فإن قلتَ: تشترط الطهارة عن الحدث الأكبر إذا كانت الخطبة في المسجد؛ للتلازم؛ حيث يلزم من تحريم اللبث والجلوس في المسجد على الجنب: تحريم الخطبة في المسجد؛ لأنه لُبث فيه قلتُ: إن الخطبة عبادة واجبة هنا، ولا تعلُّق لتحريم اللبث في المسجد بتلك العبادة، فهو يؤجر على خطبتيه، ويأثم في هذا اللبث، فيكون كمن صلى وفي جيبه ريال مسروق، فيؤجر على صلاته، ويأثم على سرقته، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه "تعارض القياس مع التلازم" فعندنا: يعمل بالقياس على عمومه، وعندهم: تُخصَّص بعض الحالات بالتلازم.
ستر العورة
(57)
(ولا أن يتولاهما من يتولى الصلاة)، بل يُستحب ذلك؛ لأن الخطبة منفصلة عن الصلاة أشبها الصلاتين، ولا يشترط أيضًا حضور متولِّي الصلاة الخطبة،
(58)
ويُبطلها كلام محرم ولو يسيرًا،
(59)
ولا تجزئ بغير العربية مع
(57)
مسألة: لا تشترط لصحة خطبتي الجمعة: ستر العورة، فلو خطب شخص أو استمع لها وعورته مكشوفة، لكن لا يراها الحاضرون: فإن خطبته صحيحة والاستماع؛ للتلازم؛ حيث يلزم من اشتراط ستر العورة للصلاة فقط: عدم اشتراطه في غيرها، وخطبتا الجمعة ليستا بصلاة، فلا يشترط سترها، فإن قلتَ: لمَ لا يُشترط ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه توسعة على الخطباء فقد لا يجد بعض الخطباء أو بعض المأمومين ما يستر به عورته؛ فلا يلزم بذلك، لكن يقف أمام جدار؛ لئلا يراه أحد.
(58)
مسألة: لا يُشترط أن يتولَّى الخطبتين مَنْ يتولَّى الصلاة بل يستحب، فلو خطب رجل، وصلى الجمعة آخر: فإن ذلك يصح، ولا يُشترط لمن يتولَّى الصلاة أن يسمع الخطبة، فيصح أن يكون إمامًا للصلاة وهو لم يستمع الخطبة؛ للتلازم؛ حيث يلزم من انفصال الخطبة عن الصلاة: صحة أن يتولاهما إثنان، وصحة الصلاة ممن لم يستمع للخطبة، فإن قلتَ: لمَ لا يُشترط ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه توسعة وتيسير، فإن قلتَ: لمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: لإظهار وحدة الخطبة والصلاة بصوت واحد، ولانتفاع جميع الناس بالخطبة.
(59)
مسألة: تبطل الخطبتان بكلام محرم يوجده الخطيب بين كلمات الخطبة كالغيبة والنميمة والكذب والخيانة والتوصية بذلك، ولو كان هذا الكلام يسيرًا؛ للقياس بيانه كما أن الأذان يبطل بوجود كلام محرم بين كلماته فكذلك الخطبة مثله، والجامع أن كلًا منهما ذكر مأمور به يتنافى مع المنهي عنه، فإن قلتَ: لمَ شرع هذا؟ قلتُ: لأن الكلام المحرم ينافي الكلام الذي شرع في الخطبة =
القدرة
(60)
(ومن سُننهما) أي: الخطبتين: (أن يخطب على منبر)؛ لفعله صلى الله عليه وسلم -وهو بكسر الميم- من "النَّبر" وهو الارتفاع، واتخاذه سنة مجمع عليها قاله في "شرح مسلم"، ويصعده على تؤده إلى الدرجة التي تلي السطح (أو) يخطب على (موضع عال) إن عُدم المنبر؛ لأنه في معناه
(61)
عن يمين مستقبل القبلة بالمحراب، وإن خطب بالأرض: فعن يسارهم
(62)
(و) أن (يُسلَّم على المأمومين إذا أقبل عليهم)؛ لقول
من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأنواعهما.
(60)
مسألة: تجب أن تُلقى الخطبة باللغة العربية، ولا تصح بغيرها مع القدرة عليها، أما إن عجز عن العربية، ولا يوجد غيره يصلح لذلك فإنها تصح بغيرها؛ للقياس، بيانه: كما أن قراءة الفاتحة لا تجزئ بغير العربية للقادر عليها، وينوب عنها غيرها عند عدم القدرة فكذلك الخطبة مثلها والجامع: أن كلًا منهما شرط لصحة الصلاة، ويسقط الشرط بالعجز عنه، فإن قلتَ: لمَ وجب ذلك؟ قلتُ: لأن اللغة العربية أفصح اللغات، وأقلها ألفاظًا وأكثرها معان، ونزل الشرع بها، فإن قلتَ: لمَ تجزئ بغير العربية عند العجز عنها؟ قلتُ: لأن المقصود هو الوعظ والإرشاد والنصيحة، وهذا يتحقَّق بغير العربية.
(61)
مسألة: يُستحب أن يخطب في الجمعة على موضع مرتفع قليلًا عن الأرض: من منبر ونحوه ويصعده برفق وهدوء حتى يصل إلى مكان الاستراحة له؛ للسنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد فعل ذلك، فإن قلتَ: لمَ ستُحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تمكين المأمومين من رؤية الخطيب، وهذا يجعلهم يرون حركاته، وإشاراته، وهذا أبلغ في التأثير، تنبيه: قال النووي في شرح مسلم (6/ 2) عند شرحه للسنة الفعلية هنا: "وهو سنة مجمع عليها".
(62)
مسألة: يُستحب أن يقف الخطيب عن يمين من يصلي في المحراب وهو مستقبل القبلة سواء كان يخطب على المنبر أو على الأرض؛ للسنة الفعلية؛ =
جابر: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صعد المنبر: سلَّم" رواه ابن ماجه ورواه الأثرم عن أبي بكر وعمر وابن مسعود وابن الزبير رضي الله عنه ورواه النجاد عن عثمان كسلامه مع من عنده في خروجه
(63)
(ثم) يُسن أن (يجلس إلى فراغ الأذان): لقول ابن عمر رضي الله عنه: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس إذا صعد المنبر حتى يفرغ المؤذن ثم يقوم فيخطب" رواه أبو داود
(64)
(و) أن (يجلس بين الخطبتين)؛ لحديث ابن عمر
حيث كان صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك في خطبه، ولا فرق بين أن يخطب على المنبر أو على الأرض في المكان بجامع: التبرُّك في اتخاذ اليمين؛ لكونه صلى الله عليه وسلم يُحب التيامن في شأنه كله، فإن قلتَ: إنه إذا وقف على الأرض فإنه يقف عن يسار من وقف بالمحراب وهو مستقبل القبلة، وهو ما ذكره المصنف هنا - قلتُ: لم أجد دليلًا قويًا على هذا التفريق، ولا سببه.
(63)
مسألة: يُستحب للخطيب أن يسلم على الحاضرين في المسجد إذا دخله، وإذا رقى المنبر وجَّه وجهه إليهم وسلَّم عليهم قائلًا: "السلام عليكم ورحمة الله وبركاته؛ لقواعد: الأولى: السنة الفعلية؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك، الثانية: فعل الصحابي؛ حيث كان أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنه وغيرهم يفعلون ذلك، الثالثة: القياس، بيانه: كما يُستحب أن يُسلِّم على مَنْ دخل عليهم في أي مكان فكذلك الخطيب في الجمعة يُستحب له ذلك والجامع: اطمئنان القلوب في كل، فالسلام الأول شُرِع لدخوله عليهم، والسلام الثاني شُرِع؛ لأنه استقبلهم بعد استدبارهم، وهو: المقصد الشرعي من ذلك.
(64)
مسألة: يُستحب للخطيب أن يجلس على المنبر حتى يفرغ المؤذن من آذانه الثاني؛ للسنة الفعلية؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك، فإن قلتَ: لمَ استحُب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه بيان للناس بقرب بدء الخطيب بخطبته، وفيه راحة للخطيب من مشقة المشي وصعود المنبر.
السابق
(65)
(و) أن (يخطب قائمًا)؛ لما تقدَّم
(66)
(ويعتمد على سيف أو قوس أو عصى)؛ "لفعله صلى الله عليه وسلم" رواه أبو داود عن الحكم بن حزن، وفيه إشارة إلى أن هذا الدِّين فُتِح به، قال في "الفروع": ويتوجَّه باليُسرى، والأخرى بحرف المنبر، فإن لم يعتمد: أمسك يمينه، بشماله أو أرسلهما
(67)
(و) أن (يقصد تلقاء وجهه)؛ لفعله، صلى الله عليه وسلم، ولأن التفاته إلى أحد جانبيه إعراض عن الآخر، وإن استدبرهم: كُره،
(68)
(65)
مسألة: يُستحب أن يجلس الخطيب بين الخطبة الأولى والثانية جلسة خفيفة تقدر بقراءة سورة "الإخلاص"؛ للسنة الفعلية؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك، فإن قلتَ: لمَ استحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه راحة للخطيب من طول القيام والكلام، وفيه راحة للمستمع من طول التركيز.
(66)
مسألة: يُستحب أن يكون الخطيب قائمًا أثناء الخطبة، فإن خطب وهو قاعد فلا بأس، للسنة الفعلية؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم يخطب وهو قائم -كما رواه جابر بن سمرة وابن عمر رضي الله عنهم- فإن قلتَ: لمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن قيامه يؤثر في المستمعين أكثر مما لو كان جالسًا.
(67)
مسألة: يُستحب أن يُمسك الخطيب بيده اليُسرى عصى أو قوسًا ويُمسك بيده اليمنى طرف المنبر، فإن لم يمسك بشيء، أو جعل اليمني على اليسرى أو بالعكس، أو أطلقهما: فلا بأس؛ للسنة الفعلية؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم يتوكأ على عصى أو قوس في خطبه، فإن قلتَ: لمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه إعانة له على الوقوف تنبيه: لم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه اعتمد على سيف قاله ابن القيم، تنبيه آخر: قوله: "وفيه إشارة إلى أن هذا الدِّين فُتح به" قلتُ: هذا لا يُسلِّم، بل إن الإسلام قد انتشر بسبب اقتناع الناس بما جاء بالكتاب والسنة وتطبيق الخلفاء الأربعة لهما خير تطبيق.
(68)
مسألة: يُستحب أن يتوجه الخطيب أثناء الخطبة أمام وجهه، بدون أن يلتفت =
وينحرفون إليه إذا خطب، لفعل الصحابة، ذكره في "المبدع"،
(69)
(و) أن (يُقصِّر الخطبَة)؛ لما روى مسلم عن عمار مرفوعًا: "إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مِئنَّة من فقهه، فأطيلوا الصلاة واقصروا الخطبة"،
(70)
وأن تكون الثانية أقصر، ورفع صوته قدر إمكانه
(71)
(و) أن (يدعو للمسلمين)؛ لأنه مسنون في غير الخطبة
يمنة أو يسرة، ويُكره استدبارهم؛ للسنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك، فإن قلتَ: لمَ استحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن هذا فيه دفع مفسدة تخصيص جهة دون جهة وفيه إعراض عن بعض الناس بالاتجاه إليها، ودفع مفسدة الإعراض عن الناس باستدبارهم.
(69)
مسألة: يُستحب أن ينظر الحاضرون إلى الخطيب أثناء خطبته؛ لفعل الصحابي؛ حيث كان الصحابة يفعلون ذلك فإن قلتَ: لمَ استحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة: حيث إن نظرهم إليه أبلغ في تأثرهم بالخطبة.
(70)
مسألة: يُستحب أن يُقصِّر الخطيب خطبته ويوجزها بكلمات وألفاظ قليلة وبمعان ومقاصد كثيرة من غير إخلال بشروطها؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه، فأطيلوا الصلاة واقصروا الخطبة" والذي صرف هذا الأمر من الوجوب إلى الاستحباب مدحه لمقصِّر الخطبة بأنه فقيه، فإن قلتَ: لمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه دفع مضرَّة طول الوقوف للخطيب، وطول الجلوس للمستمعين، وعدم انقطاع الحاضرين عن حوائجهم.
(71)
مسألة: يُستحب أن يجعل الخطيب الخطبة الثانية أقصر من الأولى؛ للمصلحة؛ حيث إن الخطيب والمستمعين يكونون أقل نشاطًا في الثانية من الأولى، فمن باب دفع المفسدة مراعاة ذلك. تنبيه: قوله: "ورفع صوته قدر إمكانه" قد سبق بيانه في مسألة (52).
ففيها أولى،
(72)
ويُباح الدعاء لمعيَّن،
(73)
وأن يخطب من صحيفة،
(74)
قال في "المبدع": وينزل مسرعًا،
(75)
وإذا غلب الخوارج على بلد فأقاموا فيه الجمعة: جاز اتِّباعهم نصًا، وقال ابن أبي موسى: يصلي معهم الجمعة ويعيدها ظهرًا
(76)
فصل:
(72)
مسألة: يُستحب أن يدعو الخطيب لعامة المسلمين ويخص: أولي الأمر منهم من العلماء والسلاطين العاملين بالشرع؛ للقياس الأولى، بيانه: كما أن الدعاء بذلك مستحب في كل وقت فيكون مُستحبًا في الخطبة من باب أولى؛ لأن فيه ساعة مستجابة لعله يوافقها.
(73)
مسألة: يُباح الدعاء في الخطبة لشخص معيَّن باسمه إذا شهد أكثر الناس بأنه خدم الإسلام والمسلمين؛ لفعل الصحابي؛ حيث إن أبا موسى الأشعري قد دعا لعمر بن الخطاب رضي الله عنه في خطبته، فإن قلتَ: لمَ أبيح ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تنبيه للآخرين بالاقتداء به، ولبيان منزلة من يخدم الإسلام والمسلمين.
(74)
مسألة: يُباح أن يخطب الخطيب من صحيفة ينظر إليها، ويقرأها أمام الناس، للقياس، بيانه: كما يُباح أن يقرأ القرآن في الصلاة وهو ينظر في المصحف فكذلك يُباح هنا والجامع: النظر في صحيفة، وذكر ما كتب فيها من مواعظ، وهذا هو المقصد من هذا.
(75)
مسألة: يُستحب أن ينزل الخطيب من المنبر مسرعًا إذا فرغ من خطبته لأداء الصلاة؛ للتلازم؛ حيث يلزم من عدم جواز الفصل بين الخطبة والصلاة أن ينزل مسرعًا لتحقيق ذلك.
(76)
مسألة: إذا غلب الفجَّار والفسَّاق على بلد كالخوارج والمنافقين الذين يلهثون وراء السلاطين؛ طمعًا في الولايات والمناصب، وأقام هؤلاء صلاة الجمعة: فإن يُباح أن يصلي الصالحون خلف هؤلاء الفسَّاق، ولا يعيدونها ظهرًا؛ لفعل =
(و) صلاة (الجمعة ركعتان) إجماعًا حكاه ابن المنذر (يُسنُّ: أن يقرأ جهرًا)؛ لفعله صلى الله عليه وسلم (في) الركعة (الأولى بالجمعة) بعد الفاتحة (وفي) الركعة (الثانية بالمنافقين)؛ لأنه "صلى الله عليه وسلم ان يقرأ بهما" رواه مسلم عن ابن عباس رضي الله عنه، وأن يقرأ في فجرها في الأولى بـ {ألم} السجدة، وفي الثانية {هَلْ أَتَى} ؛ لأنه "صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بهما" متفق عليه من حديث أبي هريرة
(77)
(وتحرم إقامتها) أي: إقامة الجمعة وكذا: العيد (في أكثر من
الصحابي؛ حيث إن بعض الصحابة كابن عمر رضي الله عنه قد صلوا خلف بعض الفجار، ولم يرو عنهم أنهم يُعيدون ذلك ظهرًا، فإن قلتَ: لمَ أُبيح ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه جمع لكلمة المسلمين، واتحاد صفوفهم فإن قلتَ: إن الصالحين يعيدون الصلاة التي صلوها خلف الفُسَّاق ظهرًا قلتُ: لم أجد دليلًا قويًا على ذلك.
(77)
مسألة: صلاة الجمعة ركعتان فقط، يُفعل ويُقال فيهما كما يُفعل ويُقال في الركعتين الأوليين من المغرب والعشاء، ويُستحب أن يقرأ جهرًا في الركعة الأولى بسورة "الجمعة" وفي الثانية بسورة "المنافقين" وذلك بعد الفاتحة، ويُستحب أن يقرأ في فجر يوم الجمعة بسورة "السجدة" في الركعة الأولى، ويقرأ في الثانية بسورة "الإنسان" ويُستحب أن لا يداوم على قراءة ذلك في الجمعة، ولا في فجر يومها، فيقرأ بما شاء غيرهما كسورة "الأعلى" و"الغاشية"؛ لقواعد: الأولى: الإجماع؛ حيث أجمع العلماء على أن صلاة الجمعة ركعتان؛ الثانية: السنة الفعلية؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم يقرأ جهرًا في الجمعة وفي فجر يومها بما سبق ذكره من السور، الثالثة: المصلحة؛ حيث إنه لو داوم على قراءة ذلك في كل جمعة: لظن بعض عوام المسلمين أنه لا تجزئ القراءة إلا بذلك، فإن قلتَ: لمَ كانت الجمعة ركعتين؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تخفيف على الناس -كما سبق ذكره- فإن قلتَ: لمَ استُحبت قراءة ذلك؟ قلتُ: لأنَّ في =
موضع بالبلد)، لأنه صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يُقيموها في أكثر من موضع واحد (إلا لحاجة) كسعة البلد، وتباعد أقطاره، أو بعد الجامع، أو ضيقه، أو خوف فتنة فيجوز التعدُّد بحسبها فقط؛ لأنها تُفعل في الأمصار العظيمة في مواضع من غير نكير، فكان إجماعًا ذكره في "المبدع"
(78)
(فإن فعلوا) أي: صلُّوها في موضعين أو أكثر بلا حاجة: (فالصحيحة: ما باشرها الإمام، أو أذن فيها) ولو تأخرت، وسواء قلنا إذنه شرط أو لا، إذ في تصحيح غيرها: إفتيات عليه وتفويت الجمعته (فإن استويا في إذن أو عدمه: فالثانية باطلة)؛ لأن الاستغناء حصل بالأولى فأنيط الحكم بها، ويُعتبر السبق
سورة الجمعة تبشير المؤمنين، وفي سورة المنافقين توبيخ لمن فعل كفعلهم، وفي سورة "السجدة" و"الإنسان" ذكر للموت، وخلق آدم وحشر العباد، وفي ذلك تذكير لمن يصلي بما كان وما سيكون، فيقوى بذلك إيمانه.
(78)
مسألة: تحرم إقامة صلاة الجمعة والعيد في أكثر من موضع من بلد واحد بلا حاجة، أما إن وُجدت حاجة لذلك مثل كثرة سكان، أو ضيق مكان، أو بُعْد بعض أحياء البلد عن بعض، أو الخوف من حصول فتنة وحرب إذا اجتمعوا: فإنه يُباح أن يصلوا في موضعين أو أكثر على حسب الحاجة؛ لقواعد: الأولى: السنة الفعلية، حيث كان صلى الله عليه وسلم يقيمها في موضع واحد، الثانية: إجماع الصحابة؛ حيث كان الصحابة يقيمونها في موضع واحد، الثالثة: المصلحة؛ حيث إن دفع المضرة يقتضي إقامتها في أكثر من موضع، فإن قلتَ: إنه في آخر عهد النبي صلى الله عليه وسلم كثر الناس، وكذا في عهد الصحابة ومع ذلك كانوا يجتمعون في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم قلتُ: إن كثرة الناس في عهد النبي صلى الله عليه وسلم أو الصحابة رضي الله عنهم لم تبلغ درجة حاجتهم إلى إقامتها في موضع آخر، ثم إن الصحابة كانوا يحرصون على الصلاة مع النبي صلى الله عليه وسلم، والتابعون كانوا يحرصون على الصلاة مع الصحابة؛ للاستفادة من مخالطتهم ومشاركتهم الصلاة.
بالإحرام (وإن وقعتا معًا) ولا مزية لإحداهما: بطلتا؛ لأنه لا يُمكن تصحيحهما ولا تصحيح إحداهما، فإن أمكن إعادتها جمعة: فعلوا وإلا: صلوها ظهرًا (أو جُهلت الأولى) منهما: (بطلتا) ويصلون ظهرًا؛ لاحتمال سبق إحداهما فتصح ولا تعاد، وكذا: لو أقيمت في المصر جُمُعات، وجهل كيف وقعت،
(79)
وإذا وافق العيد
(79)
مسألة: إذا صلى بعض أهل البلد صلاة الجمعة في موضع، وصلى بعضهم الآخر في موضع آخر من غير حاجة: ففيه تفصيل هو كما يلي: أولًا: أنه إذا صلى الإمام أو نائبه في إحداهما أو حصل الإذن في إحداهما: فهي الصحيحة، وتكون الأخرى باطلة، ويصلونها ظهرًا: سواء تقدَّمت التي صلاها معهم الإمام أو تأخرت، وسواء اشترط إذن الإمام أو لا، للمصلحة؛ حيث إنه يلزم من تصحيح الجمعة التي لم يحضرها الإمام أو نائبه أو لم يأذن فيها: تفويت جمعته، وجمعة من صلى معهم، وهذا فيه تقليل من هيبة السلطان، وتفريق للكلمة، وسرور للكفار، فدفعًا لذلك: شرع هذا، ثانيًا: إذا تساوت الجمعتان في إذن الإمام بهما، أو عدم الإذن: فإن الجمعة التي صُلِّيت متقدمة هي الصحيحة، والمتأخرة هي: الباطلة، فإذا كبَّر الإمام تكبيرة الإحرام في الجمعة الأولى قبل الثانية: تكون بذلك متقدِّمة؛ للتلازم؛ حيث إن الجمعة الأولى وقعت بشروطها، ولم يزاحمها ما يُبطلها، ولا سبقها ما يُغني عنها: فيلزم من ذلك صحتها، ويلزم من صحتها: بطلان الثانية؛ لكونها سُبقت بما يغني عنها، ولكونها تُسبِّب الفتنة بين المسلمين ثالثًا: إذا تساوت الجمعتان في الإذن، أو عدمه، والوقت: فإن الجمعتين تبطلان، وعليهم جميعًا الاجتماع لصلاة الجمعة في موضع واحد إن لم يخرج وقتها، وإن خرج: فعليهم أن يصلوا ظهرًا؛ للسبر والتقسيم؛ حيث إنه لا يمكن أن تكونا صحيحتين معًا؛ لالتباس الصحيحة بالباطلة، ولا يمكن أن تكون إحداهما صحيحة والأخرى باطلة؛ لأنه ليست إحداهما بأولى من الأخرى فلم يبق إلا بطلانهما معًا؛ لأن ذلك أخف المفاسد =
يوم الجمعة: سقطت عن من حضره مع الإمام كمريض، دون الإمام، فإن اجتمع معه العدد المعتبر: أقامها وإلا: صلى ظهرًا وكذا: العيد بها إذا عزموا على فعلها: سقط
(80)
(وأقلُّ السنة) الراتبة (بعد الجمعة: ركعتان)؛ لأنه "صلى الله عليه وسلم كان يصلي بعد الجمعة ركعتين" متفق عليه من حديث ابن عمر رضي الله عنهم (وأكثرها: ست) ركعات:
فيقال به، رابعًا: إذا كانت إحداهما صليت قبل الأخرى، ولكن لا نعلم أيهما المتقدِّمة: فإنهما يبطلان، ولا تُعاد الجمعة هنا، وكذلك: يكون الحكم فيما لو تعدَّدت الجمعات في بلد واحد وجُهل وقتها؛ للتلازم؛ حيث إن إحداهما باطلة بيقين، ولكن لا يعلم عينها، فيلزم من ذلك: بطلان الجمعتين معًا؛ لعدم تميز إحداهما على الأخرى بشيء.
(80)
مسألة: إذا وافق يوم العيد في يوم جمعة: فإن من صلى العيد تسقط عنه الجمعة، وكذلك من عزم على صلاة الجمعة: فإن العيد يسقط عنه، بخلاف الإمام فيهما: فلا يسقط عنه منهما شيء، وإذا حضر في وقت الجمعة ولم يجد أربعين رجلًا -وهو شرط صحة انعقاد الجمعة-: فإنه يُصلِّي بالحاضرين ظهرًا؛ لقواعد: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: من شاء أن يُجمع فليجمع فإنا مجمعون" -لما وافق العيد يوم الجمعة- فلزم من هذا: أن الجمعة تسقط عمن صلى العيد، الثانية: القياس وهو من وجهين: أولهما: كما أن المريض تسقط عنه صلاة الجمعة ويصلي ظهرًا لكن إن حضر الجمعة أجزأته عن الظهر، فكذلك من صلى العيد تسقط عنه الجمعة، ثانيهما: كما أن من صلى العيد تسقط عنه الجمعة، فكذلك من عزم على صلاة الجمعة يسقط عنه العيد، والجامع: أن كلًا منهما صلاة تشرع لها الجماعة فتجزئ إحداهما عن الأخرى، الثالثة: التلازم؛ حيث يلزم من عدم توفر شرط انعقاد الجمعة وهم الأربعون: عدم صحتها جمعة، ويلزم من عدم صحتها: أن تصلى ظهرًا.
لقول ابن عمر رضي الله عنهم: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله" رواه أبو داود، ويصليها مكانه بخلاف سائر السنن ففي بيته،
(81)
ويُسن فصل بين فرض وسنة بكلام، أو انتقال من موضعه،
(82)
ولا سنة لها قبلها، أي: راتبة قال عبد الله: رأيتُ أبي يصلي في المسجد إذا أذن المؤذن ركعتين
(83)
(ويُسن أن يغتسل) لها في يومها؛ لخبر عائشة: "لو أنكم
(81)
مسألة: للجمعة سنة راتبة تكون بعدها، أقلُّها ركعتان، وأكثرها: ست ركعات، والأفضل في صلاة هذه الراتبة أن تكون في البيت؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة" وهذا عام في جميع السنن: في الجمعة وغيرها؛ لأن لفظ "بيته" مفرد منكر أُضيف إلى معرفة وهو الضمير وهو من صيغ العموم، الثانية: السنة الفعلية؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم يصلي بعدها ركعتين إلى ست، وكان لا يصلي بعد الجمعة حتى ينصرف فيصلي ركعتين في بيته، فإن قلتَ: لمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: للابتعاد عن الرياء والسُّمعة، فإن قلتَ: إنه يصلِّي راتبة الجمعة في مكانه في المسجد -وهو ما ذكره المصنف هنا- قلتُ: لم أجد دليلًا يُخصِّص راتبة الجمعة عن غيرها من عموم الحديث السابق.
(82)
مسألة: إذا أراد أن يُصلِّي راتبة الجمعة في المسجد الجامع: فإنه يُستحب أن يفصل بين صلاته الفرض، وهذه السنة بمكان أو كلام؛ للسنة القولية؛ حيث نهى صلى الله عليه وسلم أن توصل صلاة بصلاة حتى يُفصل بينهما بقيام أو كلام، فإن قلتَ: لمَ استحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه إزالة توهم أنه لا زال في الفرض.
(83)
مسألة: لا تُشرع سنة راتبة قبل صلاة الجمعة؛ للسنة الفعلية؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم يخرج من بيته ويصعد المنبر، ويؤذن بلال رضي الله عنه، فإذا فرغ أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بالخطبة، فإن قلتَ: لمَ كان ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تيسيرُ وتوسعة، فإن قلتَ: إن بعض الصحابة، وبعض السلف كأحمد كانوا يصلون =
تطهرتم ليومكم هذا" وعن جماع، وعند مضي أفضل (وتقدم) وفيه نظر
(84)
(و) يسن (تنظُّف وتطيب)؛ لما روى البخاري عن أبي سعيد مرفوعًا: "لا يغتسل رجل يوم الجمعة ويتطهر ما استطاع من طهر، ويدهن، ويمس من طيب امرأته، ثم يخرج، فلا يُفرق بين اثنين، ثم يصلي ما كُتب له، ثم يُنصت إذا تكلم -أي: خطب الإمام- إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى"(و) أن (يلبس أحسن ثيابه)؛ لوروده في بعض الألفاظ، وأفضلها البياض، ويعتم ويرتدي
(85)
(و) أن (يُبكِّر إليها
قبل صلاة الجمعة عددًا من الركعات قلتُ: لعلَّ هذا كان من باب السنن المطلقة، وليس من الرواتب، ثم لا يصحُّ شيء مما يفعله بعض الناس -مهما كان- إذا لم يأت به الشارع، ولم يؤيده.
(84)
مسألة: يُستحب أن يغتسل المسلم في يوم الجمعة، والأفضل: أن يكون هذا قبيل مضيه وذهابه إلى الصلاة مباشرة، وأن يكون هذا الغسل بعد جماعه لامرأته؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "لو أنكم تطهرتم ليومكم هذا"، وقال:"من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل" وقال: "من اغتسل يوم الجمعة غسل جنابة ثم راح
…
"، الثانية: المصلحة؛ حيث إن الاغتسال قبل الذهاب إلى الصلاة مباشرة أبلغ في عدم إيذاء الآخرين في رائحته حتى قال الإمام مالك: "إن الغسل لا يجزئ إلا أن يتعقَّبه الرواح لها" تنبيه: قوله: "وتقدَّم" يقصد أنه أشار إلى غسل الجمعة في كتاب الطهارة عند قوله: "وإن استعمل في طهارة مستحبَّة كتجديد وضوء وغسل جمعة"، وقول البهوتي: "وفيه نظر" يقصد: أنه لا يُسلِّم بأن ذكر ذلك قد تقدَّم، قلتُ: هذا غير صحيح، بل تقدَّم كما قال الماتن، وقد بينته في مسألة (20) من مسائل: حقيقة الكتاب والطهارة والمياه المتطهر بها".
(85)
مسألة: يُستحب أن يتنظَّف ويتطيَّب المسلم قبل ذهابه إلى صلاة الجمعة بأن =
ماشيًا)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "ومشى ولم يركب" ويكون بسكينة ووقار بعد طلوع الفجر الثاني (و) أن (يدنو من الإمام) مستقبل القبلة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "من غسل واغتسل، وبكَّرَ وابتكر، ومشى ولم يركب، ودنا من الإمام فاستمع ولم يلغ: كان له بكل خطوة يخطوها أجر سنة عمل: صيامها وقيامها" رواه أحمد، وأبو داود، وإسناده ثقات، ويشتغل بالصلاة والذكر والقراءة
(86)
(و) أن (يقرأ سورة الكهف في
يزيل كل شعر وظفر يتسبَّب في تجمع الأوساخ والأقذار، وأن يلبس أحسن ما عنده من الثياب، ويحرص على البيض منها، وأن يضع على رأسه شيئًا من عمامة أو طاقية، أو غترة أو شماغ، وأن يلبس ملحفة أو رداء، أو جبَّة أو عباءة ونحو ذلك مما يجعل باطنة وظاهرة نظيفًا؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد حثَّ على التنظف والتطيب في يوم الجمعة، وحث على لبس أحسن الثياب، وبين أن خير الثياب هو: البياض، الثانية: المصلحة؛ حيث إن فعل ذلك فيه زينة وتجمُّل، وهذا يُناسب هذا الاجتماع، ولا يشمُّ أحدٌ منه إلا رائحة طيبة، وهو داخل تحت عموم قوله تعالى:{خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} ، فإن قلتَ: لمَ كانت أحسن الثياب هي البيضاء؟ قلتُ: للدلالة على أن القلوب سالمة من الحقد والحسد والخيانة.
(86)
مسألة: يُستحب أن يذهب إلى صلاة الجمعة مبكِّرًا قدر ما يستطيع، وأن يذهب إليها ماشيًا على قدميه، وأن يكون متأنيًا في مشيته، ولا يلتفت، ولا يكثر العبث، ويغض البصر، ويخفض الصوت، وأن يتصف بالهيبة، وهذه هي:"السكينة والوقار" وأن يبدأ بالمشي إليها بعد صلاته الفجر بقليل، وأن يجلس قريبًا من من الإمام مستقبل القبلة، وأن يشتغل أثناء جلوسه بالنوافل من الصلوات والذكر والقراءة للقرآن ونحو ذلك؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد قال: "من غسل واغتسل، وبكَّر وابتكر، ومشى ولم يركب، ودنا من =
يومها)؛ لما روى البيهقي بإسناد حسن عن أبي سعيد مرفوعًا: "من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمعتين"
(87)
(و) أن (يُكثر الدعاء)؛ رجاء أن يصادف ساعة الإجابة (و) أن يكثر (الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "أكثروا عليّ من الصلاة يوم الجمعة" رواه أبو داود، وغيره، وكذا ليلتها
(88)
(ولا
الإمام فاستمع ولم يلغ، كان له بكل خطوة: أجر سنة عمل: صيامها وقيامها
…
" وقال: "إذا أتيتم الصلاة فامشوا وعليكم السكينة" وقال: "من جاء في الساعة الأولى فكأنما قرَّب بدنة" والمراد: من جاء في الجزء الأول من النهار، الثانية: المصلحة؛ حيث إن جلوسه وهو مستقبل القبلة يكون متوجهًا إلى أشرف الجهات، واشتغاله بالقراءة والذكر والصلاة فيه تحصيل للأجر، بدل أن يُضيع الوقت في الكلام أو النظر إلى الداخلين وفي دنوه من الإمام الاستفادة من الخطبة أكثر من البعيد.
(87)
مسألة: يُستحب أن يقرأ سورة "الكهف" في يوم الجمعة: سواء في أوله، أو في وسطه أو في آخره؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم:"من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمعتين" وهذا عام فيشمل جميع أجزاء يوم الجمعة؛ لأن اسم الشرط من صيغ العموم، فإن قلتَ: لمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن هذه السورة قد تضمَّنت ذكر أحوال يوم القيامة، وهو قريب من يوم الجمعة في التجمُّع، وذكر قصة أصحاب الكهف، وذي القرنين؛ ويأجوج ومأجوج، وأصحاب الجنتين، وموسى والخضر، وهذه القصص تزيد إيمان المؤمن، وتحذره من شياطين الجن والإنس ومن منافقي هذا الزمان.
(88)
مسألة: يُستحب أن يكثر المسلم من الدعاء في يوم الجمعة بما شاء، وأن يُكثر أيضًا من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في يوم الجمعة، وليلتها كيومها في ذلك؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "إن في يوم الجمعة لساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو =
يتخطَّى رقاب الناس)؛ لما روى أحمد: أن النبي صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر رأى رجلًا يتخطَّى رقاب الناس فقال له: "اجلس فقد آذيت"(إلا أن يكون) المتخطِّي (إمامًا) فلا يُكره؛ للحاجة، والحق به في "الغنية" المؤذن (أو) يكون المتخطِّي (إلى فرجة) لا يصل إليها إلا به فيتخطَّى، لأنهم أسقطوا حق أنفسهم بتأخرهم
(89)
(وحرم أن يُقيم
قائم يصلي يسأل الله شيئًا إلا أعطاه إياه" فيُكثر المسلم الدعاء، لعلَّهُ يصادف تلك الساعة، وقال: "أكثروا علي من الصلاة يوم الجمعة" وليلة الجمعة كيومها؛ إذ لا فرق من باب "مفهوم الموافقة"، فإن قلتَ: لمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن في الدعاء، والصلاة على النبي من الخيرات والفضل ما لا يحصى.
(89)
مسألة: يحرم على المسلم أن يتخطَّى رقاب الناس إذا دخل المسجد ويُزاحمهم بالمشي بينهم بلا حاجة، أما إن كان هناك حاجة كأن يكون الإمام لم يجد طريقًا إلى المنبر إلا بتخطي رقابهم، أو يكون مؤذنًا كذلك، أو أن يجد مسلم فرجة لا يُمكنه الوصول إليها إلا بتخطي رقابهم: فإنه يجوز تخطِّيهم؛ لقاعدتين؛ الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم لرجل رآه يتخطَّى الناس: "اجلس فقد آذيت" حيث أوجب عليه الجلوس؛ لئلا يتخطى رقاب الناس؛ لأن الأمر هنا مطلق فيقتضي الوجوب، وترك الواجب حرام الثانية: التلازم؛ حيث إن مشروعية وصول الإمام أو المؤذن إلى مقدمة المسجد ليقوما بالخطبة والآذان، ويلزم من إسقاط بعض المأمومين حقه وجلوسه في آخر الصفوف: يلزم منه جواز التخطي؛ لوجود ما هو مشروع أكثر من حرمة التخطي، وهو: الخطبة للإمام، والأذان للمؤذن، ووجود فرجة ينبغي أن تُسد ليكمل الصف، وهذا التلازم قد قيَّد مطلق الحديث السابق، فإن قلتَ: لمَ حرم التخطي؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه دفع مضرة المأمومين بتخطِّي أحد من عندهم، وإشغالهم عن الاستماع للخطبة والتفكُّر بما فيها.
غيره) ولو عبده أو ولده الكبير (فيجلس مكانه)؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهم: "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يُقيم الرجل أخاه من مقعده، ويجلس فيه" متفق عليه، ولكن يقول:"افسحوا" قاله في "التلخيص"(إلا) الصغير (ومن قدَّم صاحبًا له فجلس في موضع يحفظه له)، وكذا: لو جلس لحفظه بدون إذنه، قال في "الشرح": لأن النائب يقوم باختياره،
(90)
لكن إن جلس في مكان الإمام، أو طريق المارَّة، أو استقبل المصلِّين في مكان ضيِّق: أقيم قاله أبو المعالي،
(91)
وكره إيثار غيره بمكانه الفاضل، لا قبوله،
(90)
مسألة: إذا دخل المسلم المسجد: فيحرم عليه أن يُقيم آخر ويجلس مكانه: سواء كان عبدًا له، أو ولد له، وسواء كان كبيرًا أو صغيرًا، ولكن يقول:"إن شئتم فتفسَّحوا"، أما إذا أرسل وكيلًا له قائلًا له:"احفظ لي مكان كذا في الجامع" فيجوز أن يُقيمه إذا دخل الجامع ويجلس مكانه؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث نهى صلى الله عليه وسلم "أن يقيم الرجل أخاه من مقعده ويجلس فيه" والنهي هنا مطلق فيقتضي التحريم، وهذا عام لما ذكرنا لأن "أخاه" منكر مضاف إلى معرفة وهو الضمير، وهذا من صيغ العموم، الثانية: التلازم؛ حيث يلزم من كونه وكيلًا عنه: أن يقيمه إذا حضر؛ لأنه فعله باختياره، فإن قلتَ: لمَ حرم ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن إقامة الآخرين فيه كسر لقلوبهم، ويؤدي إلى البغضاء والتنازع والعداوة، فإن قلتَ: إن الصغير يجوز أن يُقيمه الكبير من مجلسه ويجلس فيه -وهذا ما ذكره المصنف هنا قلتُ: لم أجد دليلًا يخصص الصغير من عموم الحديث السابق، تنبيه: قوله: "وكذا لو جلس لحفظه بدون إذنه" يُشير به إلى أن بعض الناس يجلس لحفظ بعض الأماكن الفاضلة، فإذا جاء شخص كبير في السن أو العلم قام لأجله، وترك له المكان، قلتُ: هذا لا يدخل في المسألة هنا؛ لأن هذا مُتبرِّع بمكانه، وتخلَّى عنه باختياره.
(91)
مسألة: إذا جلس شخص في مكان الإمام أو المؤذن، أو في طريق المسلمين، =
وليس لغير المؤثر سبقه
(92)
(وحُرِّم رفعُ مصلَّى مفروش) لأنه كالنائب عنه (ما لم تحضر الصلاة) فيرفعه؛ لأنه لا حرمة له بنفسه، ولا يصلي عليه
(93)
(فإن قام من
أو كان متجهًا بوجهه إلى المصلِّين مُستدبرًا للقبلة في مكان ضيق: فيجوز أن يُقام ويُبعد عن هذا المكان؛ للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه دفع ضرر عن هؤلاء فشرع.
(92)
مسألة: إذا كان زيد في مكان فاضل في الجامع: فيُكره أن يؤثر غيره به بأن يقوم عنه، ويجلس عمرًا فيه، لكن إن قام عنه زيد، وأعطاه عمرًا: فيجوز أن يقبله عمرو بلا كراهة، ولا يجوز لبكر أن يسبق عمرًا ويجلس فيه؛ للتلازم؛ حيث إن إيثار زيد غيره بمكانه يلزم منه: أن زيدًا يرغب عن المكان الفاضل، وهذا فيه حرمان نفسه من الخير، ولكن عمرو قبل من زيد ذلك بلا كراهة، لكون زيدًا قد تبرِّع به فيلزم قبوله؛ لأن فيه فضلًا، والفضل لا يُردُّ، ويلزم من سبق بكر إلى المكان الذي تبرَّع به زيد لعمرو: أن يكون بكر قد أخذ حقًا ليس له، وهذا محرَّم.
(93)
مسألة: إذا وضع شخص مُصلَّى كالسجَّادة مثلًا في مكان فاضل في الجامع وتركها، وخرج: فيجوز لغيره من المصلِّين رفعها، وجعلها جانبًا والجلوس في مكانها: سواء حضرت الصلاة أو لا، لقاعدتين؛ الأولى: المصلحة؛ حيث إنه لو لم يجز رفع ذلك والجلوس في مكانها لأرسل أكثر الناس مصلياتهم في الصباح الباكر وجعلوها في أرض الجامع، ولم يجد الداخل للجامع مكانًا يجلس فيه، فسدًا لذلك: شرع جواز رفعها، الثانية: التلازم؛ حيث يلزم من الصلاة على تلك المصلَّيات: الإثم، وعدم صحة الصلاة؛ لأن الصلاة على الشيء المغصوب لا تصح، ويأثم المصلي عليها، لذلك تُرفع، ويجلس ويُصلَّي في مكانها، فإن قلتَ: إنه يحرم رفع تلك المصلَّيات والفرش -وهو ما ذكره المصنف =
موضع لعارض لحقه، ثم عاد إليه قريبًا: فهو أحقُّ به)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "من قام من مجلسه ثم رجع إليه قريبًا فهو أحق به" رواه مسلم، ولم يُقيِّده الأكثر بالعود قريبًا
(94)
(ومن دخل) المسجد (والإمام يخطب: لم يجلس) ولو كان وقت نهي (حتى يصلي
هنا-؛ للقياس، حيث إن ذلك المصلَّى المفروش كالنائب عنه فكما لا يجوز أن يُقيم النائب عنه ويجلس مكانه فكذلك المصلى هذا مثله والجامع: النيابة في كل قلتُ: هذا قياس فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ لأن الشخص النائب قد شغل المكان بشخصه، بخلاف المصلَّيات فليست مشخَّصة بأحد، فقد لا يأتي صاحبها، قلتُ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض القياس مع المصلحة"، فعندنا: المصلحة العامة مقدمة على القياس، وعندهم: القياس مقدم.
(94)
مسألة: إذا جلس مسلم في مكان في المسجد، ثم خرج بسبب عذر عارض كرعاف أو حصر بول أو نحوه ثم رجع: فإنه يكون أحق بمجلسه الأول بشرط: أن يرجع قريبًا؛ للسنة القولية: حيث قال صلى الله عليه وسلم: "من قام من مجلسه ثم رجع إليه قريبًا: فهو أحقُّ به" وخُصِّص القيام بالعذر بالعادة والعرف؛ لكون المسلم لا يقوم عادة إلا لعذر أصابه، فإن قلتَ: لمَ شرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إنه سبق إليه مبكرًا، ولم يقم منه إلا بسبب العذر الذي طرأ عليه، فيكون أحق به، فإن قلتَ: هو أحقُّ به مطلقًا سواء عاد قريبًا أو بعيدًا وهو قول الأكثر من الحنابلة قلتُ: النص قد قيَّده بالعود قريبًا، فمفهوم الزمان منه قد دل على أنه ليس أحق به إذا عاد إليه بعد زمن بعيد من مفارقته له -وهو: الزمن الذي يزيد عن مجرَّد ذهابه للتطهر ونحوه-، فقول بعض الحنابلة ذلك مخالف لهذا المفهوم، فلا يُقبل، قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "الخلاف في مفهوم الزمان هنا" فعندنا: هو حجة، وعندهم: لا.
ركعتين يوجز فيهما)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا جاء أحدكم يوم الجمعة وقد خرج الإمام فليصل ركعتين" متفق عليه، زاد مسلم:"وليتجوَّز فيهما"، فإن جلس قام فأتى بهما ما لم يطل الفصل، فتسنُّ تحية المسجد لمن دخله، غير وقت نهي
(95)
إلا الخطيب،
(95)
مسألة: يُستحب لمن دخل المسجد في يوم الجمعة: أن يُصلِّي ركعتين تحية المسجد؛ سواء كان الإمام يخطب أو لا بشرط: أن لا يكون الوقت وقت نهي، والأفضل أن يُخفف هاتين الركعتين؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم:"إذا جاء أحدكم يوم الجمعة وقد خرج الإمام فليُصلِّ ركعتين وليتجوَّز فيهما" وقد صرفت السنة القولية الأخرى هذا الأمر من الوجوب إلى الندب؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم لرجل رآه يتخطَّى رقاب الناس: "اجلس فقد آذيت" فلو كانت تحية المسجد والإمام يخطب واجبة لما أمره بالجلوس بدونها، فإن قلتَ: لمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تعظيم لله تعالى؛ حيث إن المسجد بيت الله فيُستحب لمن دخله أن يُعظم صاحبه، فإن قلتَ: تكره تحية المسجد والإمام يخطب وهو قول بعض العلماء؛ للمصلحة؛ حيث إنها تُشغل المصلي عن الاستماع للخطبة، وتمنع الاستفادة الكاملة قلتُ: هذا غير مُسلَّمِ؛ لأن المسلم يعلم ويفهم ما يدور حوله وهو يُصلِّي، ثم إنه يُستحب تخفيف ذلك؛ حتى يجمع بين تعظيم الله، والاستماع للخطبة، تنبيه: قوله: "ولو كان وقت نهي" يقصد: أن تحية المسجد تصلى ولو كان الوقت وقت نهي -وهو كون الشمس في كبد السماء- قلتُ: هذا لا يصح؛ لأنه مخالف للشرط الأول من شروط صحة انعقادها وهو أن صلاة الجمعة لا تصلى إلا في وقت صلاة الظهر وهو بعد الزوال وقد سبق في مسألة (26)، ثم إن هذا مخالف لحديث النهي عن صلاة التطوع في الأوقات الثلاثة المعروفة وقد سبق تفصيلها في مسائل (68 و 70 و 71) من باب "صلاة التطوع والأوقات المنهي عن صلاتها فيها".
وداخله لصلاة عيد، أو بعد الشروع في إقامة، وقيِّمه، وداخل المسجد الحرام؛ لأن تحيته: الطواف
(96)
(ولا يجوز الكلام والإمام يخطب) إذا كان منه بحيث يسمعه؛ لقوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} ، ولقوله صلى الله عليه وسلم:"من قال: صه: فقد لغا، ومن لغا: فلا جمعة له" رواه أحمد
(97)
(إلا له) أي: للإمام، فلا يحرم
(96)
مسألة: لا تُستحب تحية المسجد في حالات: أولها: عند دخول الخطيب ليُلقي خطبة الجمعة والعيد؛ للسنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك، والترك: فعل، ثانيها: عند دخول شخص والمقيم يقيم الصلاة؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "إذا أقيمت الصلاة: فلا صلاة إلا المكتوبة" فنفى أيَّ صلاة أخرى غير المفروضة، فيلزم ترك تحية المسجد، ثالثها: عند دخول قيِّم المسجد، وخادمه الذي يقوم بإصلاح ما فسد منه؛ للمصلحة؛ حيث إن هذا يتكرَّر دخوله إليه وخروجه منه فلو شرع له أن يصلي تحية المسجد كلما دخل أو خرج: للحقه الحرج والمشقة؛ رابعها: عند دخول المسجد الحرام لمن يريد الطواف بالبيت؛ للتلازم؛ حيث إن تحية المسجد الحرام في حق من يريد أن يطوف بالكعبة هي: الطواف نفسه فيلزم عدم مشروعية تحية أخرى له، فإن قلتَ: لمَ لا تُستحب تحية المسجد في تلك الأحوال؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه مراعاة لأحوال الآخرين، ومنع من تفويت الفريضة على من صلى نافلة، ودفع لمشقة جمع التحية مع الطواف.
(97)
مسألة: يحرم على المسلم الكلام أثناء إلقاء الخطيب خطبة الجمعة فمن تكلَّم: فهو آثم، وتصح جمعته؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "من تكلَّم يوم الجمعة والإمام يخطب فهو كمثل الحمار يحمل أسفارًا، ومن قال له: صه: فقد لغا، ومن لغا: فلا جمعة له" حيث دل ذلك على نقصان أجر من تكلم ولو كان كلامه للإصلاح -كمن قال لأخيه: "أنصت" أثناء الخطبة- ثبت =
عليه الكلام (أو لمن يُكلِّمه)؛ المصلحة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كلَّم سائلًا، وكلَّمه هو،
(98)
ويجب لتحذير ضرير وغافل عن هلكة
(99)
(ويجوز) الكلام (قبل الخطبة وبعدها) وإذا
هذا بدلالة الاقتضاء، حيث إن التقدير:"فلا جمعة كاملة له"، ودلَّ مفهوم الموافقة الأولى على تحريم أيِّ كلام آخر؛ حيث إنه أولى بالنهي عنه، الثانية: قول الصحابي؛ حيث "إن عثمان وابن عمر رضي الله عنه كانا ينهيان عن الكلام والإمام يخطب"، وهو نهي مطلق، فيقتضي التحريم، فإن قلتَ: لمَ حرم ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إنَّ الاستماع للخطبة مقصد من مقاصد مشروعية الجمعة، فإذا أبيح الكلام أثناء الخطبة: لم يتحقَّق هذا المقصود؛ حيث إن المتكلم لا يستفيد ولا يجعل الآخرين يستفيدون منها، تنبيه: استدلال المصنف بقوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ} لا يصح؛ لأن المراد: وجوب الإنصات عند قراءة القرآن في الصلاة، والخطبة ليست قرآنًا، ولا صلاة.
(98)
مسالة: يُباح أن يتكلّم الخطيب أثناء الخطبة مع الآخرين، وأن يتكَّلموا معه بشرط: أن يكون الكلام خاصًا بمصلحة الخطبة أو الصلاة، أو عامة المسلمين؛ للسنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد خاطب عباس بن مرداس في الاستسقاء، وخاطبه وهو يخطب، فإن قلتَ: لمَ أبيح ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه مراعاة لأحوال الآخرين من تنبيه بعض الحاضرين للخطيب أو إرشاد الخطيب لبعض الحاضرين، وهذه السنة الفعلية والمصلحة قد خصصتا عموم السنة القولية السابق ذكرها في مسألة (97).
(99)
مسألة: يجب الكلام أثناء الخطبة إذا اقتضت المصلحة ذلك كأن يرى بعض الحاضرين إنسانًا آخر في خطر: بأن يرى حوله حية أو عقربًا، أو جدارًا يريد أن يسقط أو حريقًا أو نحو ذلك فُيحذِّر منه؛ للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه دفع مضرة عن الآخرين فوجب، وهذه المصلحة مخصِّصة =
سكت بين الخطبتين أو شرع في الدعاء،
(100)
وله الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم إذا سمعها من الخطيب، وتُسنُّ سِرًّا كدعاء وتأمين عليه، وحَمْده خفية إذا عطس، وردُّ سلام، وتشميت عاطس،
(101)
وإشارة أخرس إذا فُهمت
لعموم السنة القولية التي ذكرت في مسألة (97).
(100)
مسألة: يُباح للمسلم أن يتكلم قبل أن يبدأ الخطيب خطبته، وبعد الفراغ منها، وبين الخطبتين، وأثناء دعاء الخطيب؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث "نهى صلى الله عليه وسلم عن الكلام والإمام يخطب" حيث دلَّ مفهوم الحال على أن الكلام في غير وقت الخطبة مباح، والدعاء ليس من الخطبة فيشمله عموم هذا المفهوم فأبيح الكلام أثناء دعاء الخطيب، الثانية: الإجماع؛ "حيث كان الصحابة يتحدَّثون يوم الجمعة وعمر جالس على المنبر، فإذا سكت المؤذن وقام عمر: لم يتكلَّم أحد حتى يقضي خطبته، فإذا نزل عمر تكلَّموا" -كما رواه ثعلبة بن عامر-، ولم ينكر ذلك أحد فكان إجماعًا سكوتيًا، وما بين الخطبتين مثل ذلك من باب "مفهوم الموافقة" فإن قلتَ: لمَ أبيح ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه توسعة على المسلمين.
(101)
مسألة: يُباح أن يُصلي الحاضر للخطبة على النبي صلى الله عليه وسلم إذا سمع ذكره من الخطيب، ويقول:"آمين" إذا دعا الخطيب، ويحمد الله إذا عطس، ويردُّ السلام على من سلَّم عليه من الحاضرين، ويُشمَّته إذا عطس كل ذلك يكون سرًا، أو يُسمع جاره فقط؛ للسنة القولية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد أمر بالصلاة عليه، والتأمين عند الدعاء، وتشميت العاطس، وردِّ السلام أمرًا عامًا، فيشمل من حضر خطبة الجمعة ومن لم يحضرها؛ إذ لا يوجد مخصِّص لذلك، فإن قلتَ: لمَ أُبيح ذلك سرًا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه جمع بين ثواب هذه الأمور، والاستماع للخطبة، وفيه عدم إيذاء الآخرين =
ككلام،
(102)
لا تسكيت مُتكلِّم بإشارة،
(103)
ويكره العبّث والشرب حال الخطبة إن سمعها، وإلا: جاز، نصَّ عليه
(104)
.
بالتشويش عليهم إذا رفع بذلك صوته.
(102)
مسألة: يحرم أن يُشير الأخرس أثناء الخطبة إلى شخص آخر يُفهم من تلك الإشارة مقصود الأخرس؛ للقياس، بيانه: كما أن قول المتكلم لآخر محرم فكذلك إشارة الأخرس مثل ذلك والجامع: أن كلًا منهما مشغل له وللآخرين، يؤيده: أن إشارة الأخرس تقوم مقام الكلام في البيع والشراء والتأجير، ونحو ذلك من المعاملات.
(103)
مسألة: يُباح أن يشير المتكلِّم بيده إلى متكلِّم آخر أثناء الخطبة بإشارة يُفهم منها أنه يُسكِّته؛ للقياس؛ بيانه: كما أن الإشارة تجوز أثناء الصلاة فكذلك تجوز الإشارة أثناء الخطبة، وجواز ذلك هنا أولى، والجامع: عدم وجود الكلام الممنوع في كل، فإن قلتَ: لمَ أبيح ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تسكيتٌ للشخص الذي أذى الحاضرين بكلامه.
(104)
مسألة: يكره العبث بتحريك يده أو رجله أو ما عليه من ثياب أو أن يشرب أثناء الخطبة إذا كان يسمعها، أما إن كان لا يسمعها: فلا بأس بذلك؛ للقياس، بيانه: كما أنه يُكره مسُّ الحصى والإمام يخطب، فكذلك يكره العبث والشرب حال خطبته، والجامع أن كلًا منهما عبث يمنع الاستماع، وقد يُشغل الآخرين، وهذا هو المقصد من ذلك.
هذه آخر مسائل باب "صلاة الجمعة" ويليه باب "صلاة العيدين"
باب صلاة العيدين
سمي به؛ لأنه يعود ويتكرَّر لأوقاته، أو تفاؤلًا، وجمعه أعياد (وهي) أي: صلاة العيدين (فرض كفاية)؛ لقوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء بعده يُداومون عليها
(1)
باب صلاة العيدين
وفيه تسع وثلاثون مسألة:
(1)
مسألة: صلاة العيدين سنة مؤكدة -كما قال الجمهور؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث إنه لما سأل الإعرابي عن فرائض الصلاة قال له صلى الله عليه وسلم: "خمس صلوات فرضهن الله على العبد في اليوم والليلة" فقال الإعرابي: هل علي غيرهن؟ قال: "لا إلا أن تطوع" حيث دل منطوقه على أن الواجب خمس صلوات فقط، وأثبت أن غيرهن نوافل؛ لأن الاستثناء من النفي إثبات، ودل مفهوم العدد -أيضًا- على أن غير الخمس لا يجب، وصلاة العيدين ليست من الخمس فيلزم عدم وجوبها، الثانية: القياس، بيانه: كما أن صلاة الكسوف والاستسقاء والتراويح نوافل فكذلك صلاة العيدين مثلها والجامع: أن كلًا منها ذات ركوع وسجود وتشرع لها الجماعة بدون أذان، فإن قلتَ: لمَ استُحبت تلك الصلاة؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن الله قد منَّ على عباده بانقضاء شهر رمضان وعشر ذي الحجة، ويوم عرفة، فشُرعت شكرًا لله على ذلك وإظهارًا للفرح والسرور على ذلك، وإظهارًا للإسلام، فإن قلتَ: لمَ سُمِّي بهذا الاسم؟ قلتُ: لكثرة تكراره وعوده بالفرح والسرور، أو سُمِّي بذلك للتفاؤل بأن يعود عليهم؛ قياسًا على تسمية القافلة، تفاؤلًا برجوعها وقفولها بكل خير، فإن قلتَ: لمَ جعل هذا الباب بعد باب الجمعة؟ قلتُ: لاشتراكهما في أمور: منها مشروعية الاجتماع، والجهر في القراءة، ووقوعها في النهار، ومشروعية الخطبة في كل =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
منهما فإن قلتَ: لمَ قُدِّمت الخطبة على صلاة الجمعة، بخلاف صلاة العيد؛ فإن خطبتها تقع بعد الصلاة؛ قلتُ: بسبب أن صلاة الجمعة فرض عين، ويكثر وقوعها فيحتاج المسلمون إلى بيان أحكام ما وقع خلال الأسبوع، أكثر من حاجتهم لخطبة صلاة العيد، فإن قلتَ: إن صلاة العيدين فرض كفاية -إذا قام بها من يكفي سقطت عن الباقين وهو ما ذكره المصنف هنا؛ لقواعد: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} حيث أمر بصلاة عيد الأضحى، ثم نحر الهدي أو الأضحية، وهذا واجب؛ لأن الأمر مطلق، فيقتضي الوجوب، وعيد الفطر مثله؛ لعدم الفارق من باب "مفهوم الموافقة"، الثانية: السنة الفعلية، حيث كان صلى الله عليه وسلم يُداوم عليها الثالثة: فعل الصحابة؛ حيث داوموا عليها، قلتُ: أما الآية: فالمراد بها الصلوات المفروضة -كما نقله القرطبي في تفسيره (20/ 218) عن ابن عباس رضي الله عنهم، وقيل: غير ذلك، وإذا تطرق الاحتمال إلى الدليل بطل به الاستدلال، أما السنة الفعلية وقول الصحابي: فإن المداومة على الشيء لا يدل على وجوبه دائمًا: يؤيده: أنه صلى الله عليه وسلم كان يداوم على الوتر، وهو لم يكن واجبًا، فإن قلتَ: إن صلاة العيدين فرض عين، وهو قول أكثر الحنفية وتبعهم ابن تيمية وابن القيم ومال إليه ابن عثيمين؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم "قد أمر النساء حتى الحُيَّض، وذوات الخدور أن يخرجن إلى المصلى في العيد"، والأمر مطلق، فيقتضي الوجوب، وإذا وجبت على النساء فمن باب أولى أن تجب على الرجال من باب مفهوم الموافقة الأولى، الثانية: القياس، بيانه: كما أن صلاة الجمعة فرض عين على الرجال فكذلك صلاة العيد مثلها، والجامع: أن كلًا منهما من أعلام الدِّين الظاهرة قلتُ: أما السنة القولية: فلا يُحتج بها هنا؛ لمعارضتها لقوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} والأمر بالقرار في البيوت هنا للوجوب وهو عام في العيد وغيره، وهذا لمصلحة وهي: دفع مفسدة الاختلاط الذي يُسبِّب الفتنة عادة، =
(إذا تركها أهل بلد قاتلهم الإمام)؛ لأنها من أعلام الدِّين الظاهرة
(2)
(و) أول
وإذا بطل الأخذ بمنطوق الحديث: بطل الأخذ بمفهومه فيُحمل الأمر الوارد في الحديث على الاستحباب إذا أُمنت الفتنة، أما القياس: فهو فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ حيث إن صلاة الجمعة فرض عين كصلاة الظهر بدليل: أنها لو فاتت الجمعة لوجب أن تُصلَّى ظهرًا، وهذا لم يخالف فيه أحد، بخلاف صلاة العيد ففي حكمها خلاف -كما سبق-، ثم إن العلة منتقضة؛ حيث إن صلاة الاستسقاء والكسوف والتراويح من أعلام الدين الظاهرة ولم تكن فرض عين عندكم، ولا عند غيركم، فائدة: جمع "عيد" أعياد، مع أن أصل "الياء": واو، فالأصل أن يُقال:"أعواد"، ولكن تُرك ذلك؛ لأن الفرد منه قد لزمته الياء فيقال:"عيد" فأُبقيت في الجمع، وللفصل بينه وبين أعواد الخشب، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف في حكم صلاة العيد؟ قلتُ: سببه: "تعارض النصوص واختلاف مفهوم كل طائفة" فنحن لم نفهم من الآية أن المراد بها: "صلاة العيد، ولم نفهم من مداومة الرسول والصحابة عليها الوجوب، وهم فهموا ذلك، وأيضًا: طتعارض القياسين" فنحن ألحقنا صلاة العيد بصلاة الكسوف والاستسقاء لأنها أكثر شبهًا بها، وهم الحقوها بصلاة الجمعة لأنها أكثر شبهًا بها عندهم".
(2)
مسألة: إذا ترك أهل بلد صلاة العيد: فإن الإمام أو نائبه يأمرهم بها، ويُبيِّن لهم حكمها، فإن أصرَّوا على تركها: فإنه يُؤدِّبهم بما يراه مناسبًا ليعملوا بتلك السنة المؤكدة، ولا يُقاتلهم إن لم يُصلُّوها؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كونها سنة مؤكدة، -كما سبق-: عدم مقاتلتهم عند تركها؛ لأن النافلة لا يُعاقب على تركها، فإن قلتَ: لمَ يؤدبهم؟ قلتُ: لكونهم تركوا أمرًا يُعتبر من أعلام الدين الظاهرة، فإن قلتَ: يُقاتلهم على تركها -وهو ما ذكره المصنف هنا-؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كونها فرض كفاية أو عين مقاتلة من تركها قلتُ: هذا مبني =
(وقتها كصلاة الضحى)؛ لأنه "صلى الله عليه وسلم ومن بعده لم يصلوها إلا بعد ارتفاع الشمس" ذكره في "المبدع"(وآخره) أي: آخر وقتها (الزوال) أي: زوال الشمس (فإن لم يُعلم بالعيد إلا بعده) أي: بعد الزوال: (صلوا من الغد) قضاء؛ لما روى أبو عمير بن أنس عن عمومة له من الأنصار قالوا: "غُمَّ علينا هلال شوال: فأصبحنا صيامًا، فجاء ركب في آخر النهار فشهدوا أنهم رأوا الهلال بالأمس فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يُفطروا من يومهم، وأن يخرجوا غدًا لعيدهم" رواه أحمد، وأبو داود، والدارقطني وحسَّنه
(3)
(وتسنُّ) صلاة العيد (في صحراء) قريبة عرفًا؛ لقول أبي سعيد: "كان
على كونها فرض كفاية أو عين ونحن نخالف في ذلك، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "الخلاف في حكم صلاة العيد هل هي سنة مؤكدة، أو فرض؟ "، فعندنا: لا يُقاتل من تركها؛ لكونها سنة، وعندهم: يُقاتل؛ لكونها فرض عندهم.
(3)
مسألة: وقت صلاة العيد يبدأ بعد طلوع الشمس وارتفاعها قدر رمح -أي: بعد طلوع الشمس بربع ساعة تقريبًا- وينتهي وقتها إذا بدأت الشمس بالزوال -أي: قبل دخول وقت صلاة الظهر، وهذا وقت صلاة الضحى كما سبق- وإذا لم يعلموا بالعيد إلا بعد الزوال: فإنهم يُفطرون -إن كان عيد الفطر- ولا يصلونها إلا في الغد في وقتها، وكذا عيد الأضحى؛ لقاعدتين: الأولى: السنة الفعلية؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم يُصلِّيها في هذا الوقت، ولما لم يعلم النبي صلى الله عليه وسلم بهلال شوال إلا بعد الزوال أمر الناس بالفطر، وإذا أصبحوا أن يغدوا إلى مصلَّاهم -كما رواه أبو عمير بن أنس عن عمومة له-، الثانية: فعل الصحابي؛ حيث إن الخلفاء الأربعة كانوا يصلونها في هذا الوقت، فإن قلتَ: لمَ كانت تصلى في هذا الوقت؟ قلتُ: لأن هذا الوقت هو وقت الزينة، وهو: مناسب للناس؛ حيث يُمكنهم فيه وبعده من قضاء حوائجهم بدون ضيق أو حرج، وهو وقت نشاط الإنسان العادي.
النبي صلى الله عليه وسلم يخرج في الفطر والأضحى إلى المصلى" متفق عليه، وكذلك الخلفاء من بعده
(4)
(و) يسن (تقديم صلاة الأضحى وعكسه الفطر) فيؤخرها؛ لما روى الشافعي مرسلًا: "النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى عمرو بن حزم أن عجِّل الأضحى، وأخّر الفطر، وذكِّر الناس"
(5)
(و) يسن (أكله قبلها) أي: قبل الخروج لصلاة الفطر؛ لقول بريدة: "كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يخرج يوم الفطر حتى يُفطر، ولا يطعم يوم النحر حتى يصلي" رواه أحمد، والأفضل: تمرات وترًا، والتوسعة على الأهل والصدقة
(4)
مسألة: يُستحب أن تُقام صلاة العيد في صحراء قريبة من البنيان؛ لقاعدتين: الأولى: السنة الفعلية؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك؛ فيخرج صلى الله عليه وسلم إلى مكان بينه وبين مسجده ألف ذراع من الجهة الشرقية، الثانية: فعل الصحابي؛ حيث كان الخلفاء الأربعة يفعلون ذلك، فإن قلتَ: لمَ استحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن الخروج لأجلها بهذا المظهر من التزين والفرح أظهر لشعائر الدين، وأوقع لهيبة الإسلام والمسلمين، فإن قلتَ: لمَ لا يُخرج لصلاة الجمعة؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن خروجهم لها فيه مشقة؛ نظرًا لتكرارها في كل أسبوع.
(5)
مسألة: يُستحب أن يُقدِّم الإمام صلاة عيد الأضحى قليلًا -وأن يؤخر صلاة عيد الفطر قليلًا؛ للسنة القولية؛ حيث "أمر صلى الله عليه وسلم بذلك" وصرفت المصلحة هذا الأمر من الوجوب إلى الاستحباب؛ حيث إن في تقديم صلاة الأضحى مصلحة تمكين الناس من ذبح الضحايا والهدي قبل مجيء الليل، والأكل، والتصدق والهدي منها، وفي تأخير صلاة الفطر: مصلحة تمكين الناس من الفراغ من توزيع صدقة الفطر قبل الصلاة، فائدة: الحديث المرسل هو: أن يقول من لم ير النبي صلى الله عليه وسلم: "قال النبي كذا" وهو حجة عند الجمهور، ولا يحتج به عند الشافعي إلا بخمسة شروط، وعند غيره يُحتج به مطلقًا، وقد بينت في كتابي:"المهذَّب" و"الخلاف اللفظي" ذلك بالتفصيل وذكرتُ أن الخلاف لفظي.
(وعكسه) أي: يُسنُّ الإمساك (في الأضحى إن ضحَّى) حتى يصلي؛ ليأكل من أضحيته، لما تقدَّم، والأولى من كبدها
(6)
(وتكره) صلاة العيد (في الجامع بلا عذر) إلا بمكة المشرفة؛ لمخالفة فعله صلى الله عليه وسلم،
(7)
ويُستحب للإمام أن يستخلف من يُصلِّي
(6)
مسألة: يُستحب أن يأكل المسلم شيئًا قبل خروجه إلى صلاة عيد الفطر، والأفضل: أن يكون المأكول تمرًا تكون وترًا: ثلاثًا أو خمسًا ونحوها، ويُستحب: أن لا يأكل شيئًا قبل خروجه إلى صلاة عيد الأضحى وبعد صلاته يأكل من أضحيته إن ضحَّى من كبدها، ويُستحب أن يُوسِّع على أهله، ويتصدق على الفقراء في هذين اليومين؛ القاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "أغنوهم عن السؤال في هذا اليوم" فيوسِّع على الفقراء، فإذا كان يفعل في الفقراء ذلك فمن باب أولى: أن يوسِّع على أهله، من باب "مفهوم الموافقة الأولى" الثانية: السنة الفعلية؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم "لا يخرج يوم الفطر حتى يفطر بتمرات يأكلهن وترًا، ولا يطعم يوم النحر حتى يصلي"، فإن قلتَ: لمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن المبادرة في أكل شيء في يوم الفطر فيه إخلاص العبادة الله تعالى؛ حيث إنه نفَّذ الأمر بالإفطار مباشرة، وشُرع تأخير الأكل حتى يأكل من أضحيته في يوم الأضحى؛ لشكر الله تعالى على أنه أمكنه من ذلك، وشُرِع أكل التمر؛ لسرعة تناوله وهضمه، وسرعة جريانه في الأمعاء فيُسبِّب نشاطًا له لذا: استُحب أن يُفطر عليه الصائم، وشرع الوتر؛ لأن الله وتر يحب الوتر، وشرع الأكل من الكبد؛ لفائدتها، وسهولة هضمها، وسرعة طبخها، وشُرع أن يوسع على الفقراء في هذا اليوم؛ لتمكينهم من المشاركة في الفرح والسرور.
(7)
مسألة: يُكره أن يصلي الإمام صلاة العيد في جامع داخل البلد بلا عذر، أما إن وجد عذر كنزول مطر، أو هبوب ريح، أو كثرة سكان، والصحراء بعيدة: فإنها تصلى في الجامع داخل البلد بلا كراهة، وتصلى في مكة في الحرم: سواء وجد عذر أو لا؛ للسنة الفعلية؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم يصليها خارج المدينة، ولا =
بضَعَفَة الناس في المسجد؛ لفعل علي رضي الله عنه، ويخطب لهم، ولهم فعلها قبل الإمام وبعده، وأيُّهما سَبَق: سقط به الفرض، وجازت التضحية
(8)
(ويُسنُّ تبكير مأموم إليها)؛ ليحصل له الدنو من الإمام، وانتظار الصلاة، فيكثر ثوابه (ماشيًا)؛ لقول علي صلى الله عليه وسلم:"من السنة أن يخرج إلى العيد ماشيًا" رواه الترمذي، وقال:"العمل على هذا عند أكثر أهل العلم"(بعد) صلاة (الصبح و) يُسنُّ (تأخر إمام إلى وقت الصلاة)؛ لقول أبي سعيد: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى، فأول شيء يبدأ به الصلاة" رواه مسلم، ولأن الإمام يُنتظر ولا يَنتظر
(9)
، ويخرج
يُصلِّيها في مسجده، فلو لم تكن مكروهة في المسجد: لما شقَّ النبي صلى الله عليه وسلم على نفسه وعلى غيره وخرج إلى خارج البلد، فإن قلتَ: لمَ كُره ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن صلاة العيد من مظاهر الدِّين، فإذا صُلِّيت داخل البلد لم تتحقق تلك المصلحة، فإن قلتَ: لمَ تصلى في الحرم المكي مطلقًا؟ قلتُ: لكثرة قاصدي هذا المسجد، والمضاعفة الصلاة فيه، فلو خرجوا لشقَّ عليهم ذلك، وللزم حرمانهم من مضاعفة الأجر فيه.
(8)
مسألة: إذا خرج الإمام ليصلي بالناس العيد خارج البلد: فإنه يُستحب أن يُنيب عنه شخصًا يُصلِّي بالمعذورين من الناس: كالمرضى والضعفة، ويجوز لأي شخص أن يذبح أضحيته بعد إحدى الصلاتين كما لو كانتا في بلدين منفصلتين؛ فيقوم هذا النائب بالخطبة والصلاة قبل صلاة الإمام أو بعدها؛ لفعل الصحابي؛ حيث "إن عليًا رضي الله عنه قد أناب عنه أبا مسعود البدري ليصلي بضَعَفَة الناس" فإن قلتَ: لمَ استحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه مراعاة أحوال الآخرين وتمكينهم من فعل الخيرات.
(9)
مسألة: يُستحب أن يبدأ المأموم بالمشي على قدميه إلى مصلى العيد مبكرًا: بأن يكون بعد صلاته الفجر مباشرة، ويُستحب للإمام أن يتأخر بالمشي =
(على أحسن هيئة) أي: لابسًا أجمل ثيابه؛ لقول جابر: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتمَّ ويلبس بُرْدَه الأحمر في العيدين والجمعة" رواه ابن عبد البر (إلا المعتكف فـ) يخرج (في ثياب اعتكافه)؛ لأنه أثر عبادة، فاستُحب بقاؤه،
(10)
(ومن شرطها) أي: شرط
بحيث إذا وصل المصلى يبدأ بالصلاة ثم الخطبة؛ لقواعد: الأولى: السنة الفعلية؛ حيث قال علي رضي الله عنه: "من السنة أن يخرج إلى العيد ماشيًا" وهذا القول له حكم الحديث المرفوع، "وكان صلى الله عليه وسلم يخرج إلى العيد ماشيًا ويرجع ماشيًا" -كما رواه ابن عمر رضي الله عنهم و"كان صلى الله عليه وسلم يخرج إلى العيد فأول شيء يبدأ به الصلاة"- كما رواه أبو سعيد، وهذا يلزم منه تأخره في الحضور، حتى يكمل حضور الصحابة، الثانية: المصلحة؛ حيث إن حضور صلاة العيد مبكرًا سبب لحصول الثواب والأجر، حيث إنه بذلك يدنو من الإمام، وينتظر الصلاة، ويجلس في الصف الأول، ولا يؤذي الآخرين بتخطِّي رقابهم، وفي حضور الإمام قبل المأمومين مشقة عليه، فالناس ينتظرونه وهو لا ينتظر الناس، وفي المشي: تكثير للأجر؛ لأن في كل خطوة حسنة ورفع سيئة.
(10)
مسألة: يُستحب أن يخرج المسلم إلى صلاة العيدين بأحسن ما عنده من ثياب وزينة وطيب، وبأجمل هيئة يستطيعها، أما إن كان معتكفًا إلى صلاة العيد: فإنه يخرج بثيابه المعتادة في اعتكافه، ولا يُستحب تغييرها؛ لقاعدتين: الأولى: السنة الفعلية؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم يلبس عمامته وبرده الأحمر في العيدين والجمعة، الثانية: القياس، بيانه، كما أنه لا يُستحب أن يُغيِّر الصائم رائحة فمه في آخر نهار يوم صومه، فكذلك لا يُستحب للمعتكف تغيير ثيابه والجامع: أن كلًا منهما أثر عبادة يستحب عند الشارع بقاؤه، فإن قلتَ: لمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن يوم العيد والجمعة من أيام الزينة والجمال، فيُستحب أن يلبس أحسن ما عنده ليُحقِّق ذلك، أما أثر العبادة فهو زينة بذاته فلا يُشرع تغييره؛ ليُباهي الله به ملائكته.
صحة صلاة العيد: (استيطان، وعدد الجمعة) فلا تقام إلا حيث تقام الجمعة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وافق العيد في حجَّته ولم يُصلِّ (لا إذن إمام) فلا يُشترط كالجمعة
(11)
(ويُسنُّ) إذا غدا من طريق (أن يرجع من طريق آخر)؛ لما روى البخاري عن جابر: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج إلى العيد خالف الطريق" وكذا: الجمعة، قال في "شرح المنتهى": ولا يمتنع ذلك في غير الجمعة، وقال في "المبدع":"الظاهر أن المخالفة فيه شُرِعت لمعنى خاص، فلا يلتحق به غيره"
(12)
(ويُصلِّيها ركعتين قبل الخطبة): لقول
(11)
مسألة: يُشترط لصحة صلاة العيد شرطان: أولهما: أن يكون الحاضرون مستوطنين بلدًا معينًا، فلا صلاة عيد على مسافرين، ثانيهما: أن يبلغ الحاضرون أربعين رجلًا؛ ولا يشترط أن يأذن الإمام، فتصح ولو لم يأذن بها الإمام أو نائبه؛ القاعدتين: الأولى: السنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم لم يصل العيد حينما كان مسافرًا في حجة الوداع، فيلزم منه: اشتراط الاستيطان لها، الثانية: القياس؛ بيانه: كما أنه يُشترط لصحة صلاة الجمعة بلوغ الحاضرين أربعين رجلًا، ولا يُشترط لها إذن الإمام فكذلك العيد مثلها والجامع: أن كلًا منهما يُعتبر مظهرًا من مظاهر الإسلام، وموضعًا يظهر فيه قوة المسلمين واجتماعهم، فيشترط لها بلوغهم الأربعين، ولا يُشترط إذن الإمام لذلك؛ إذ المقصود متحقق بدونه
(12)
مسألة: يُستحب أن يذهب المسلم إلى مصلى العيد من طريق، ويرجع من طريق آخر غير الأول؛ للسنة الفعلية؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك، فإن قلتَ: لمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه إظهار هذه الشعيرة في أكثر من موضع، وحصول التعارف مع أصحاب الطريقين، ومشاركتهم فرحتهم فيه، فإن قلتَ: إن هذا يُستحب في صلاة الجمعة، وكذا باقي الصلوات؛ قياسًا على صلاة العيد بجامعِ: وجود تلك المصالح في ذلك، وهو الذي نقله المصنف =
ابن عمر رضي الله عنه: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنه يصلون العيدين قبل الخطبة" متفق عليه، فلو قدَّم الخطبة: لم يعتد بها
(13)
(يُكبِّر في الأولى بعد) تكبيرة (الإحرام والاستفتاح، وقبل التعوذ والقراءة ستًا) زوائد (وفي) الركعة (الثانية قبل القراءة خمسًا)؛ لما روى أحمد وغيره عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كبَّر في عيد ثنتي عشرة تكبيرة: سبعًا في الأولى، وخمسًا في الآخرة" إسناده حسن، قال أحمد: اختلف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في التكبير، وكله جائز (ويرفع يديه مع كل تكبيرة)؛ لقول وائل بن حجر: "إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه مع
عن بعض الحنابلة قلتُ: هذا القياس فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ حيث إن صلاة الجمعة تتكرر كل أسبوع، والصلوات تتكرر في اليوم والليلة خمس مرات، فلو شرع هذا وحرص بعض الناس على فعله لشق على نفسه أنه لم يرد عنه صلى الله عليه وسلم أنه فعله في غير العيد، فيكون فعل ذلك في الجمعة وفي باقي الصلوات إحداثًا في الدين ما ليس منه فيكون مردودًا قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض القياس مع السنة الفعلية" فعندنا: يُعمل بالسنة، وعندهم: يُعمل بالقياس.
(13)
مسألة: صلاة العيد ركعتان، تكون قبل الخطبة عكس صلاة الجمعة، فلو خطب قبل صلاته في العيد: فلا يُعتدُّ بتلك الخطبة ولا الصلاة، فتُعادان؛ لقاعدتين: الأولى: السنة الفعلية؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم يصلي ركعتين صلاة العيد، ثم يخطب، الثانية: إجماع الصحابة السكوتي؛ حيث كان الخلفاء الأربعة يفعلون ذلك ولم يُنكر عليهم أحد، فإن قلتَ: لمَ كانت الصلاة قبل الخطبة هنا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن الناس بحاجة إلى الانتفاع بالوقت بعد صلاة العيد؛ لمعايدة الآخرين، ولذبح الأضحية والهدي فلا يُلزمون بالانتظار لها، ولأن حضور الصلاة أعظم أجرًا من حضور الخطبة.
التكبير" قال أحمد: فأرى أن يدخل فيه هذا كله، وعن عمر رضي الله عنه "أنه كان يرفع يديه مع كل تكبيرة في الجنازة والعيد"، وعن زيد كذلك رواهما الأثرم
(14)
(ويقول) بين كل تكبيرتين (الله أكبر كبيرًا والحمد لله كثيرًا وسبحان الله بكرةً وأصيلًا، وصلى الله على محمد النبي وآله، وسلم تسليمًا كثيرًا)؛ لقول عقبة بن عامر: سألت ابن مسعود رضي الله عنه عما يقوله بعد تكبيرات العيد قال: "يحمد الله، ويثني عليه، ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم" رواه الأثرم وحرب واحتجَّ به أحمد (وإن أحبَّ قال غير ذلك)؛
(14)
مسألة: صفة صلاة العيد هي أن يُكبِّر في الركعة الأولى: تكبيرة الإحرام، ثم يستفتح، ثم يُكبِّر ست تكبيرات، ثم يتعوذ، ثم يُبسمل، ثم يقرأ جهرًا الفاتحة، ثم يقرأ سورة بعدها، ثم يركع، ثم يرفع منه، ثم يسجد سجدتين -كالصلاة العادية- ثم يقوم للركعة الثانية مُكبِّرًا لها، ثم يُكبر خمس تكبيرات، ثم يقرأ الفاتحة، ثم يقرأ سورة بعدها، ثم يركع، فيرفع منه، فيسجد سجدتين -كالصلاة العادية- ثم يتشهد ويُسلِّم، ويرفع يديه مع كل تكبيرة؛ لقاعدتين: الأولى: السنة الفعلية؛ حيث صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك -كما رواه عمرو بن شعيب، وكان يرفع يديه مع كل تكبيرة- كما رواه وائل بن حجر -الثانية: فعل الصحابي؛ حيث إن ابن عباس، وأبا هريرة، وأُبي بن كعب، وزيد بن ثابت، وعمر رضي الله عنهم كانوا يفعلون ذلك، فإن قلتَ: لمَ شُرعت كثرة التكبيرات هنا؟ قلتُ: لبيان عظم الله تعالى، وأنه أكبر من أي شيء يعظم في نفوس الناس؛ لأن الناس في هذا اليوم يتعاظمون في أنفسهم بسبب كثرة الزينة والتجمُّل، فأراد الشارع أن يُبيِّن أنهم لا شيء بالنسبة لله تعالى، فإن قلتَ: لمَ استُحب رفع اليدين هنا؟ قلتُ: للمبالغة في تعظيم الله تعالى؛ ليجتمع له تعظيمان: تعظيم قولي، وهو قوله:"الله أكبر" وتعظيم فعلي وهو: رفع اليدين.
لأن الغرض الذكر بعد التكبير،
(15)
وإذا شك في عدد التكبير: بنى على اليقين
(16)
وإذا نسي التكبير حتى قرأ: سقط؛ لأنه سنة فات محلُّها،
(17)
وإن أدرك الإمام
(15)
مسألة: يُستحب أن يسرد تلك التكبيرات متوالية متصلة، فلا يقول شيئًا بينها، وهو مذهب الجمهور؛ للسنة الفعلية؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم يسردها، ولم يُنقل عنه أنه كان يقول بينها شيئًا فإن قلتَ: لمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن سردها أكثر إقناعًا في أن الله أكبر من كل شيء، فإن قلتَ: لا يسردها؛ بل يُستحب أن يقول بين كل تكبيرتين: "الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرةً وأصيلًا، وصلى الله على محمد النبي وآله وسلَّم تسليمًا كثيرًا" ويجوز أن يقول: غير ذلك مما في معناه؛ لفعل الصحابي؛ حيث كان ابن مسعود رضي الله عنه يقول ذلك -كما رواه عقبة- قلتُ: هذا لا يُحتجُّ به؛ لمعارضته السنة؛ لأن قول أو فعل الصحابي إذا عارض النص من الكتاب أو السنة فليس بحجة، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض قول الصحابي مع السنة الفعلية" فعندنا: يعمل بالسنة الفعلية، وزيادة ابن سعود لا يُنظر إليها، وعندهم: يقدم فعل الصحابي؛ لوجود زيادة فيه مع العمل بالسنة الفعلية.
(16)
مسألة: إذا شكَّ الإمام هل كبَّر أربعًا أو خمسًا؟ فإنه يجعل نفسه مُكبِّرًا أربعًا، ويأتي بخامسة؛ للاستصحاب؛ حيث إن الأربع متيقن منها والشك وقع في الخامسة، فيستصحب المتيقن وهو كونه قد كبَّر أربعًا، ولا يلتفت إلى ما شكَّ فيه، ولا يعتبره من الحساب، ويأتي به، فإن قلتَ: لمَ يفعل ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه احتياط في الدِّين، وعدم الالتفات إلى الشكوك.
(17)
مسألة: إذا كبَّر الإمام تكبيرة الإحرام في صلاة العيد، ثم شرع في القراءة كعادته ونسي التكبيرات الست: فإن التكبيرات تسقط، ولا يعود إليها، ويستمر في قراءته للفاتحة؛ للقياس؛ بيانه: كما أنه لو نسي التعوذ أو البسملة ولم يذكرهما إلا بعد شروعه بقراءة الفاتحة: فإنهما يسقطان، فكذلك من نسي =
راكعًا: أحرم ثم ركع، ولا يشتغل بقضاء التكبير وإن أدركه قائمًا بعد فراغه من التكبير: لم يقضه، وكذا: إن أدركه في أثنائه: سقط ما فات
(18)
(ثم يقرأ جهرًا)؛ لقول ابن عمر رضي الله عنه: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يجهر بالقراءة في العيدين والاستسقاء" رواه الدارقطني
(19)
(في الأولى بعد الفاتحة بسبح، وبالغاشية في الثانية): لقول سمرة: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في العيدين بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} رواه أحمد
(20)
(فإذا سلَّم) من الصلاة (خطب خطبتين كخطبتي الجمعة)
التكبيرات مثله والجامع: أن كلًا منها مستحب قد فات محله، فإن قلتَ: لمَ شرع هذا؟ قلتُ: لعدم جواز قطع ركن بسبب الإتيان بمستحب.
(18)
مسألة: إذا دخل المأموم مع الإمام في صلاة العيد وهو قد كبَّر بعض التكبيرات: فإنه يُكبر تكبيرة الإحرام، ثم يُكبِّر مع الإمام ما بقي من التكبيرات، وإن دخل معه وقد فرغ الإمام منها وهو قائم: قام معه ولم يقضها، أو إن دخل معه وهو راكع: ركع معه ولا يقضي تلك التكبيرات؛ للقياس، بيانه: كما أن المأموم لا يقرأ الفاتحة إذا فاتته، بل يتبع المأموم على ما هو عليه فكذلك هنا، والجامع: أن كلًا منها شيء مشروع قد فات محلُّه، فإن قلتَ: لمَ لا يقضي؟ قلتُ: للمصلحة؛ لأن قضاءها فيه مشقَّة.
(19)
مسألة: قراءة الفاتحة والسورة التي بعدها في ركعتي صلاة العيد تكون جهرًا؛ للسنة الفعلية؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك -كما روى ذلك ابن عمر رضي الله عنه-، فإن قلتَ: لمَ شرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن الجهر بالقراءة فيه إشراك المأمومين في الاستفادة مما يقرأه الإمام من القرآن، وفيه إظهار للإسلام.
(20)
مسألة: يُستحب أن يقرأ في الركعة الأولى من صلاة العيد -بعد الفاتحة- بسورة "الأعلى"، ويقرأ في الثانية -بعد الفاتحة- بسورة "الغاشية"؛ للسنة الفعلية؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم يقرأ بهما في صلاة العيد -كما رواه سمرة بن جندب =
في أحكامها حتى في الكلام،
(21)
إلا في التكبير مع الخاطب
(22)
(يستفتح الأولى بتسع تكبيرات) قائمًا نسقًا (والثانية: بسبع) تكبيرات كذلك، لما روى سعيد عن عبيد الله ابن عبد الله بن عتبة قال: يُكبِّر الإمام يوم العيد قبل أن يخطب تسع تكبيرات، وفي الثانية: سبع تكبيرات
(23)
(ويحثُّهم في) خطبة (الفطر على الصدقة)؛
وابن عباس والنعمان-، فإن قلتَ: لمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إنهما قد تضمَّنتا الحثَّ على الصلاة والزكاة، وقدرة الله تعالى، وهدايته وإرشاده لمن شاء من عباده، وتذكير بيوم القيامة، وأن الناس قسمان: قسم في الجنة، وقسم في النار كما روي عن سعيد بن المسيب وعمر بن عبد العزيز.
(21)
مسألة: إذا سلَّم الإمام من صلاة العيد: يرقى المنبر فيخطب خطبتين يجلس بينهما، وهاتان الخطبتان مثل خطبتي الجمعة فيما يُشترط، ويجب، ويُستحب ويكره، ويُحرم، ويباح وقد سبق بيان ذلك مع قواعدها ومقاصدها في مسائل (41 إلى 75) من باب "صلاة الجمعة"، فإن قلتَ: لمَ شرعت الخطبتان؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن اجتماع الناس على اختلاف أجناسهم وألوانهم، وأعمارهم، وطبقاتهم، وزينتهم يناسبه إلقاء خطبة يذكرهم الإمام فيهما بنعم الله تعالى على إكمال شهر رمضان، وعلى وقوفهم بعرفة، ويبين لهم الأحكام المناسبة لهذين اليومين كما سيأتي.
(22)
مسألة: يجوز للمأموم أن يُكبِّر التكبيرات بعد تكبير الخطيب في أثناء خطبته؛ للقياس؛ بيانه: كما يجوز لحاضر الخطبة أن يذكر الله أثناء خطبة الخطيب، فكذلك يجوز له أن يُكبِّر، والجامع أن كلًا منهما ذكر لا يمنع من الاستماع، فإن قلتَ: لمَ جاز ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه مشاركة في الخير.
(23)
مسألة: يبدأ خطبة العيد الأولى بتسع تكبيرات نسقًا وهو قائم، أي: تكون متتابعات، متتاليات بدون فصل، ويبدأُ الخطبة الثانية منهما بسبع تكبيرات متتابعات؛ للسنة الفعلية؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك فإن قلتَ: لمَ يفعل ذلك؟ =
لقوله صلى الله عليه وسلم: "اغنوهم بها عن السؤال في هذا اليوم"(ويُبيِّن لهم ما يُخرجون) جنسًا، وقدرًا، والوجوب، والوقت
(24)
(ويُرغبهم في) خطبة (الأضحى في الأضحية، ويُبيَّن لهم حكمها؛ لأنه ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر في خطبة الأضحى كثيرًا من أحكامها من رواية أبي سعيد، والبراء، وجابر وغيرهم
(25)
(والتكبيرات الزوائد)
قلتُ: لبيان عظم الله تعالى، وأنه أكبر من أي شيء يكبر في نفوس هؤلاء الحاضرين، وقد سبق بيانه، فإن قلتَ: لمَ كان هذا العدد من التكبيرات وترًا؟ قلتُ: لأن الله وتر يحب الوتر، ولأن في تكثيرها كمال للإقناع بأن الله أكبر من كل شيء فيجب أن يعظم هو لوحده.
(24)
مسألة: يُستحب للخطيب في خطبتي عيد الفطر: أن يحث الحاضرين على كثرة الصدقات على الفقراء؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "اغنوهم عن السؤال في هذا اليوم"، فإن قلتَ: لمَ استحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن هذا اليوم يوم زينة فلا يُناسبه السؤال فيتصدَّق عليهم بدون انتظار سؤالهم؛ لإغنائهم فيه، تنبيه: قوله: "ويبين لهم ما يخرجون جنسًا وقدرًا
…
" يشير به إلى أن الإمام يُبين صدقة الفطر من حيث جنسها، وقدرها، وحكمها، ووقت إخراجها في خطبة يوم عيد الفطر قلتُ: هذا لا يُناسب؛ لأن زكاة الفطر قد أُخرجت قبل الصلاة، والمناسب لبيان أحكام زكاة الفطر هو خطبة آخر جمعة من رمضان؛ للمصلحة: حيث إن مصلحة المسلمين تقتضي ذلك.
(25)
مسألة: يُستحب أن يُبيِّن الخطيب في خطبتي عيد الأضحى أحكام الأضحية، والمجزئ منها، وغير المجزئ، ووقت الذبح الأفضل ونحو ذلك، وكيفية الذبح، وما يُقال عنده، وكيفية تفريق لحمها؛ للسنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد فعل ذلك، فإن قلتَ: لمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه منع من الوقوع في المخالفات الشرعية، وذكر ذلك في خطبة عيد الأضحى مناسب؛ لكون الناس لم يقوموا بذبح أضحياتهم.
سنة (والذكر بينها) أي: بين التكبيرات سنة، ولا يُسنُّ بعد التكبيرة الأخيرة في الركعتين،
(26)
(والخطبتان سنة)؛ لما روى عطاء عن عبد الله بن السائب قال: شهدتُ مع النبي صلى الله عليه وسلم العيد فلما قضى الصلاة قال: "إنا نخطب، فمن أحبَّ أن يجلس للخطبة فليجلس، ومن أحبَّ أن يذهب فليذهب" رواه ابن ماجه، وإسناده ثقات، ولو وجبت: لوجب حضورها واستماعها
(27)
والسنة لمن حضر العيد من النساء: حضور الخطبة، وأن يُفرَدْن بموعظة إذا لم يسمعن خطبة الرجال،
(28)
(ويُكره التنفُّل)
(26)
مسألة: التكبيرات الزوائد -وهي: ست في الركعة الأولى، وخمس في الثانية- مستحبَّة، فلو لم يكبر تلك التكبيرات: لصحَّت صلاته: سواء تركها عمدًا أو سهوًا؛ للإجماع، حيث أجمع العلماء على ذلك، فإن قلتَ: لمَ كانت مستحبَّة؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه توسعة على المسلمين تنبيه: قوله: "والذكر بينها .. " يُشير به إلى استحباب إيجاد ذكر بين تلك التكبيرات، وأن ذلك مستحب قلتُ: قد بينتُ أنه لا يقول شيئًا بينها، بل تسرد في مسألة (15).
(27)
مسألة: يُستحب للمأموم أن يحضر خطبتي العيد، فلو تركهما فلا بأس؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم:"إنا نخطب فمن أحب أن يجلس للخطبة فليجلس، ومن أحب أن يذهب فليذهب" وهذا يفيد الإباحة لبيان تساوي الطرفين، فإن قلتَ: لمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة: حيث إن حضورهما فيه فائدة معرفة الأحكام التي يذكرها الخطيب، وهذا يُعتبر من طلب العلم، وطلب العلم سنة، فإن قلتَ: لمَ أذن بترك الخطبتين لمن أراد؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه مراعاة لأحوال الآخرين في قضاء حاجتهم خاصة في عيد الأضحى؛ حيث يحتاج أكثرهم إلى الخروج مبكرًا للذبح، وقضاء ما بقي من نسكه إن كان حاجًا.
(28)
مسألة: إذا حضرت النساء صلاة العيد: فإنه يُستحب حضورهن للخطبة، وإذا علم الخطيب أن صوته لم يسمعنه: فإنه يُستحب أن يأتيهن، ويعظهن وهن =
وقضاء فائتة (قبل الصلاة) أي: صلاة العيد (وبعدها في موضعها) قبل مفارقته؛ لقول ابن عباس رضي الله عنهم: "خرج النبي صلى الله عليه وسلم يوم عيد، فصلى ركعتين لم يصل قبلهما ولا بعدهما" متفق عليه
(29)
(ويُسنُّ لمن فاتته) صلاة العيد (أو) فاته (بعضها: قضاؤها) في يومها قبل الزوال، أو بعده (على صفتها)، لفعل أنس رضي الله عنه، وكسائر الصلوات
(30)
منفردات لقاعدتين: الأولى: السنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد خصَّص النساء بموعظة بعد خطبته للرجال الثانية: المصلحة؛ حيث إن حضورهن للخطبة يتسبَّب في معرفتهن ما لهن وما عليهن من الأحكام.
(29)
مسألة: يُستحب التنفُّل بصلاة قبل صلاة العيد وبعدها في موضع صلاتها وقضاء فوائت: سواء في الصحراء أو في الجامع؛ للاستصحاب، وهو استصحاب الأمر المطلق بالتنفل، والأمر بتحية المسجد وقضاء الفوائت، وموضع صلاة العيد يُعتبر مسجدًا، فيُعمل بذلك دون تفريق بين مصلي صلاة العيد ولا غيره، فإن قلتَ: لمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه إشغال للنفس بالطاعة، فإن قلتَ: إن ذلك يُكره، وهو ما ذكره المصنف هنا؛ للسنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد صلى ركعتي العيد، ولم يصل قبلهما ولا بعدهما -كما رواه ابن عباس رضي الله عنهم- قلتُ: هذا لا يدل على الكراهة، بل تركَّ للنافلة، والترك ليس بنهي، ويُحتمل أنه ترك النافلة لشغل أشغله عنها، وهذا كله لا يقوى على إزالة الأصل، وهو: الأمر بالتنفل المطلِّق فيبقى، فنعمل به فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض السنة الفعلية مع الاستصحاب" فعندنا: يبقى الأصل وهو: استحباب التنفل ولا تقوى السنة على تغيير ذلك هنا كما بينا، وعندهم: تقوى السنة على تغيير الأصل.
(30)
مسألة: يستحب قضاء صلاة العيد لمن فاتته على صفتها، وكذلك يقضي بعضها إن فاته على صفتها، وهذا القضاء يكون في يومها: سواء قبل الزوال أو =
(ويسن التكبير المطلق) أي: الذي لم يُقيَّد بإدبار الصلوات، وإظهاره، وجهر غير أنثى به (في ليلتي العيدين) في البيوت والسواق، والمساجد، وغيرها، ويجهر به في الخروج إلى المصلى إلى فراغ الإمام من خطبته (و) التكبير (في) عيد (فطر آكد)؛ لقوله تعالى:{وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ} (و) يسنُّ التكبير المطلق أيضًا (في كل عشر ذي الحجة) ولو لم ير بهيمة الأنعام
(31)
(و) يُسنُّ التكبير (المقيَّد عقب كل
بعده لقاعدتين: الأولى: القياس؛ بيانه: كما أن السنن الرواتب تقضى إذا فاتت فكذلك صلاة العيد مثلها والجامع: أن كلًا منها سنن في فعلها أداء أو قضاء أجر وثواب، وهذا هو المقصد، الثانية: فعل الصحابي: حيث إن أنسًا كان يقضي صلاة العيد إذا فاتته مع إمام البصرة فيجتمع مع أهله ومواليه فيأمر عبد الله بن أبي عتبة فَيُصِلي بهم ركعتين.
(31)
مسألة: يُستحب التكبير المطلق -كما ستأتي صفته في مسألة (37) - في كل وقت، يجهر بها -غير النساء- وهو: يبدأ من غروب الشمس من آخر يوم من رمضان، وينتهي بعد فراغ الخطيب من خطبته في يوم عيد الفطر، والتكبير هنا مؤكد، ويبدأ التكبير في عيد الأضحى من أول يوم من شهر ذي الحجة، وينتهي بعد فراغ الخطيب من خطبته في عيد الأضحى وهو اليوم العاشر، وهو عام لجميع الرجال والنساء والمقيمين والمسافرين، وفي جميع الأماكن، وفي جميع الحالات: سواء رأى بهيمة الأنعام التي ستذبح في الأضحى أو لم يرها؛ لقاعدتين: الأولى: الكتاب: حيث قال تعالى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} والمراد: لتكملوا عدة شهر رمضان، وتكبروا ذلك عند كماله على ما هداكم، ونزول هذه الآية في ذلك يُفيد تأكُّد التكبير المطلق في عيد الفطر، الثانية: فعل الصحابي؛ حيث ثبت أن ابن عمر رضي الله عنهم كان يُكبِّر في قبَّته في منى -وهو حاج- وكان يجهر بالتكبير، وثبت ذلك أيضًا عن أبي هريرة، فإن =
فريضة في جماعة) في الأضحى؛ لأن ابن عمر رضي الله عنه كان لا يُكبِّر إذا صلى وحده، وقال ابن مسعود رضي الله عنه:"إنما التكبير على من صلى في جماعة" رواه ابن المنذر، فيلتفت الإمام إلى المأمومين، ثم يُكبِّر؛ لفعله صلى الله عليه وسلم (من صلاة الفجر يوم عرفة) روي عن عمر وعلي وابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهم (وللمحرم: من صلاة الظهر يوم النحر إلى عصر آخر أيام التشريق)؛ لأنه قبل ذلك مشغول بالتلبية، والجهر به مسنون، إلا للمرأة، وتأتي به كالذكر عقب الصلاة، قدَّمه في "المبدع"،
(32)
وإذا فاتته
قلتَ: لمَ استحب هذا التكبير المطلق في العيدين؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن المسلمين قد تخلَّصوا من ذنوبهم بسبب صيامهم وقيامهم ودعائهم في رمضان، وبسبب قيامهم بالأعمال الصالحة التي فعلوها في عشر ذي الحجة وبسبب انقضاء حج الحجاج، فُشرع التكبير لشكر الله تعالى على ذلك، وإظهارًا للفرح والسرور، وشرع الجهر به لإظهار الإسلام.
(32)
مسألة: يستحب التكبير المقيَّد في عيد الأضحى، وهو يبدأ -لغير الحاج-: من صلاة الفجر من يوم عرفة إلى العصر من آخر أيام التشريق، ويبدأ للمحرم بالحج من صلاة الظهر من يوم النحر -وهو يوم العيد- إلى العصر من آخر أيام التشريق، وهو مقيَّد بعد كل صلاة مع الجماعة؛ لقاعدتين: الأولى: السنة الفعلية؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم وإذا صلى الصبح في يوم عرفة بدأ بالتكبير، فيُكبِّر معه أصحابه، الثانية: فعل وقول الصحابي؛ حيث كان بعض الصحابة - كعمر وعلي وابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهم يكبرون من بعد صلاة الفجر من يوم عرفة إلى صلاة العصر من آخر أيام التشريق، وكان ابن عمر رضي الله عنهم لا يُكبر إذا صلى وحده، وقال ابن مسعود رضي الله عنه:"التكبير على من صلى مع جماعة"، فإن قلتَ: لمَ استحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة، حيث إن ذلك فيه تعظيم الله تعالى وقد سبق، فإن قلتَ: لمَ يتأخر الحاج في بداية التكبير؟ قلتُ: لكونه مشغولًا بالتلبية، فإن قلت: لم استحب أن يجهر =
صلاة من عامه فقضاها فيها جماعة: كبَّر؛ لبقاء وقت التكبير
(33)
(وإن نسيه) أي: التكبير: (قضاه) مكانه، فإن قام، أو ذهب: عاد فجلس (ما لم يُحدثَ أو يخرج من المسجد) أو يطل الفصل؛ لأنه سنة فات محلُّها
(34)
ويُكبِّر المأموم إذا نسيه الإمام،
= بالتكبير: قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه إظهار الإسلام، وصوت المرأة عورة فلذلك لا تجهر بالتكبير، فإن قلتَ: لمَ يُشرع التكبير بعد الصلاة مع الجماعة؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن التكبير مع الجماعة أوقع في النفوس وأكثر عظمة الله تعالى.
(33)
مسألة: إذا نسي مسلم صلاة، فلم يتذكرها إلا في أيام التكبير المقيَّد، وقضاها فيها مع جماعة: فإنه يكبِّر بعدها، وإن لم تكن صلاة من صلوات أيام التكبير؛ للتلازم؛ حيث يلزم من وقوع قضائها في وقت التكبير: استحباب التكبير بعدها؛ تحصيلًا لأجر التكبير، وهذا هو المقصد منها.
(34)
مسألة: إذا نسي المسلم التكبير المقيَّد: فيُستحب أن يقضيه مطلقًا: سواء كان قد أحدث، أو لا، خرج من المسجد أو لا، طال الفصل أو لا، وهو قول كثير من العلماء؛ للقياس، بيانه: كما أن الذكر الذي بعد الصلاة يقضى إذا نسي على أية حالة فكذلك التكبير يُقضى مطلقًا والجامع: أن كلًا منهما ذكر شرع بعد الصلاة لا تشترط فيه الطهارة، فإن قلتَ: لمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه توسعة على المسلمين، فإن قلتَ: يُستحب أن يُقضى بشروط: أولها: أن يكون على طهارة، ثانيها: أن لا يخرج من المسجد، ثالثها: أن لا يطول الفصل عرفًا بين الصلاة وبين تذكره إياه، وهذا ما ذكره المصنف هنا؛ للتلازم؛ حيث إنه ذكر مستحب في وقت معيَّن فيلزم من فوات وقته: عدم قضائه قلتُ: هذا لا يلزم؛ لأن التكبير في الأصل مستحب، والأفضل فيه أن يكون عقب صلاة، وإذا فات وقته فيُستحب أن يُقضى كغيره من المستحبات؛ فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض التلازم مع القياس" فعندنا: يُعمل بالقياس، وعندهم: يُعمل بالتلازم.
والمسبوق إذا قضى كالذكر والدعاء
(35)
(ولا يسن) التكبير (عقب صلاة عيد)؛ لأن الأثر إنما جاء في المكتوبات، ولا عقب نافلة، ولا فريضة صلاها منفردًا؛ لما تقدم
(36)
(وصفته) أي: التكبير (شفعًا: الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر والله الحمد)؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يقول كذلك، رواه الدارقطني، وقاله علي رضي الله عنه، وحكاه ابن المنذر عن عمر رضي الله عنه،
(37)
ولا بأس بقوله لغيره: "تقبَّل الله منَّا ومنك"
(35)
مسألة: يُكبِّر المأموم التكبير المقيَّد وإن لم يُكبِّر الإمام، وكذلك يُكبِّر المسبوق إذا فرغ من قضائه لما فاته، للقياس؛ بيانه: كما أن المأموم - مسبوقًا أو غير مسبوق - يُستحب أن يأتي بالذكر والدعاء عقب كل صلاة سواء ذكره الإمام أو لا، فكذلك المأموم يُكبِّر هنا والجامع: أن كلًا منهما ذكر استحب بعد الصلاة غير مرتبط بالإمام؛ وهو لتحصيل الأجر وهو المقصد منه.
(36)
مسألة: لا يُشرع التكبير المقيَّد في ثلاثة مواضع: أولها: بعد صلاة العيدين، ثانيها: بعد صلاة نافلة، ثالثها: بعد صلاة فريضة صلاها منفردًا؛ لفعل الصحابي؛ حيث "كان عمر وعلي وابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهم يكبِّرون بعد كل صلاة فرض"، فيلزم من ذلك: عدم مشروعية التكبير بعد صلاة العيد؛ وبعد النوافل؛ لأنها ليست فرضًا، "وكان ابن عمر لا يكبر إذا صلى وحده" فيلزم منه: أنه لا يُكبَّر إلا مع الجماعة، فإن قلتَ: لمَ شرع هذا؟ قلتُ: لأن التكبير هذا عبادة مؤقتة بوقت وحالة فلا تكون في غيرها.
(37)
مسألة: صفة التكبير المطلق والمقيد في عيد فطر وأضحى هي: أن يقول: "الله الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد"؛ للسنة الفعلية؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم يقول ذلك، فإن قلتَ: لمَ شرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن هذا أكمل التكبير وأشمله وأعمه؛ حيث تضمَّن تعظيم الله وشكره وتوحيده.
كالجواب،
(38)
ولا بالتعريف عشية عرفة بالأمصار؛ لأنه دعاء وذكر، وأول من فعله ابن عباس وعمر رضي الله عنهم، وابن حريث.
(39)
(38)
مسألة: يستحب أن يهنئ بعض المسلمين بعضًا إذا رأى بعضهم بعضًا بالعيد قائلًا الواحد منهم: "تقبل الله منا ومنك" أو يقول: "أعاده علينا وعليكم باليمن والبركات" ونحو ذلك، ويقول الآخر مجيبًا: مثل ذلك؛ للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه إسرار الآخرين وإزالة الشحناء عنهم؛ خلافًا للمصنف من أن ذلك مباح.
(39)
مسألة: لا يُشرع التعريف - وهو: اجتماع غير الحجاج من بعد العصر: إلى غروب الشمس من يوم عرفة للدعاء والذكر-؛ للتلازم؛ حيث إن الوقوف والدعاء والذكر عبادة خاصة بعرفة لمن حج فيلزم عدم مشروعيته في غيره، فإن قلتَ: لا بأس به- وهو ما ذكره المصنف -؛ لفعل الصحابي، حيث إن ابن عباس فعله قلتُ: إن صحَّ أن ابن عباس قد فعله، فهو اجتهاد منه ولا يلزمنا؛ لمخالفته للقواعد الشرعية؛ حيث إنه يؤدي إلى اختلاط العبادات وأماكنها، قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض التلازم مع فعل الصحابي" فالتلازم عندنا أقوى؛ لموافقته للقواعد الشرعية، وعندهم: فعل الصحابي أقوى؛ للزيادة فيه.
هذه آخر مسائل باب "صلاة العيدين" ويليه باب "صلاة الكسوف"
باب صلاة الكسوف
يقال: "كَسَفَت" بفتح الكاف وضمها، ومثله؛ "خَسَفَت" وهو: ذهاب ضوء الشمس أو القمر أو بعضه،
(1)
وفعلها ثابت بالسنة المشهورة، واستنبطها بعضهم من قوله تعالى:{وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ} (تسنُّ) صلاة الكسوف (جماعة) وفي جامع أفضل؛ لقول عائشة: "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد فقام وكبَّر وصفَّ الناس وراءه" متفق عليه (وفرادى) كسائر النوافل (إذا كسف أحد النيرين) الشمسُ والقمر
(2)
ووقتها من ابتدائه إلى
باب صلاة الكسوف
وفيه ثمان عشرة مسألة:
(1)
مسألة: الكسوف والخسوف لفظان مترادفان، والمراد منه: أن يُحجب ضوء الشمس أو القمر أو بعضهما حجبًا مؤقتًا، ويقال:"كَسَفَت الشمس وخَسَفَت" أو "كسف القمر أو خسف"، فإن قلتَ: ما سبب الكسوف الحسي؟ قلتُ: سبب كسوف الشمس هو: وجود القمر بينها وبين الأرض، وسبب كسوف القمر هو: وجود الأرض بينه وبين الشمس، فإن قلتَ: ما سبب الكسوف الشرعي؟ قلتُ: المصلحة: حيث إن الله تعالى يُخوف عباده بأمر غير عادي -كالكسوف-؛ ليتوب الفاسق، ويندم المفرط - كما سيأتي -.
(2)
مسألة: صلاة الكسوف مُستحبَّة عند وجوده: سواء صلاها المسلم مع جماعة أو منفردًا، في المسجد أو غيره، ولكن صلاتها في الجامع أفضل؛ لقواعد: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم للأعرابي: "خمس صلوات فرضهن الله عليك في اليوم والليلة" فقال: هل علي غيرهن؟ قال: "لا، إلا أن تطوع" فنفى وجوب
=
التجلّي،
(3)
ولا تقضى كاستسقاء وتحية مسجد،
(4)
فيصلي (ركعتين) ويُسنُّ الغُسْل
لها (يقرأ في الأولى جهرًا) ولو في كسوف شمس (بعد الفاتحة سورة طويلة) من غير
= غير الصلوات الخمس، وأثبت أن غيرها نوافل، ومنها صلاة الكسوف؛ لأن الاستثناء من النفي إثبات، وقد سبق تقريره، الثانية: السنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد صلى صلاة الكسوف لما كسفت الشمس في مسجده -كما روت عائشة- وهذا يلزم منه أن صلاتها في الجامع أفضل، الثالثة: القياس، بيانه: كما أن الوتر يصلى في جماعة وفرادى فكذلك صلاة الكسوف مثله، والجامع: النفل في كل، فإن قلتَ: لمَ استُحبَّت صلاة الكسوف؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن هذه الصلاة تمنع - بمشيئة الله - وقوع العقاب بسبب تضمُّنها للقراءة والدعاء والذكر، فإن قلتَ: لمَ كانت في الجامع أفضل؟ قلتُ: للمصلحة، حيث إن الجامع يجمع كثيرًا من الناس، والدعاء الجماعة أقرب للاستجابة، تنبيه: قوله: "واستنبطها بعضهم من قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ
…
} " لعله يشير إلى نقل القرطبي في تفسيره (15/ 364) عن ابن خويزمنداد من المالكية استدلاله بهذه الآية على ثبوت صلاة الكسوف قلتُ: هذا الاستدلال غير صحيح؛ لأن الآية لا تدل بالمنطوق ولا بالمفهوم على هذا فتكون صلاة الكسوف ثابتة بالسنة فقط.
(3)
مسألة: وقت صلاة الكسوف يبدأ من ابتداء الكسوف، وينتهي بانتهائه، وهو تجلِّي وظهور القمر أو الشمس؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم:"فادعوا الله وصلوا حتى يتجلَّى" فإن قلتَ: لمَ شرع هذا؟ قلتُ: لأن تلك الصلاة سبب والذكر هو وقوع الكسوف، فيبدأ مع وجود سببه، وينتهي بزوال ذلك.
(4)
مسألة: إذا لم يعلم المسلم بالكسوف، وفاتت عليه صلاته: فلا تقضى؛ للقياس، بيانه: كما أن صلاة الاستسقاء وتحية المسجد لا يقضيان إذا فات وقتهما فكذلك صلاة الكسوف مثلهما والجامع: أن كلًا منها صلاة ذات سبب، فإذا لم توجد بعد حدوث سببها فقد فات محلُّها.
تعيين (ثم يركع) ركوعًا (طويلًا) من غير تقدير (ثم يرفع) رأسه (ويُسمِّع) أي: يقول: "سمع الله لمن حمده" في رفعه (ويحمد) أي: يقول: "ربنا ولك الحمد" بعد اعتداله كغيرها (ثم يقرأ الفاتحة وسورة طويلة دون الأولى ثم يركع فيطيل) الركوع (وهو دون الأول ثم يرفع) فيُسمِّع ويحمد كما تقدم، (ثم يسجد سجدتين طويلتين) ولا يطيل الجلوس بين السجدتين (ثم يُصلّي) الركعة (الثانية كـ) الركعة (الأولى لكن دونها في كل ما يفعل) فيها (ثم يتشهّد ويُسلّم)؛ لفعله صلى الله عليه وسلم كما روي عنه ذلك من طرق بعضها في الصحيحين
(5)
ولا يُشرع لها خطبة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أمر بها دون
(5)
مسألة: صفة صلاة الكسوف: أن يُكبِّر تكبيرة الإحرام، ثم يستفتح، ثم يتعوذ، ثم يُبسمل، ثم يقرأ الفاتحة ثم يقرأ سورة طويلة جهرًا ثم يركع طويلًا، ثم يرفع من ركوعه قائلًا:"سمع الله لمن حمده" ويقول المأموم: "ربنا ولك الحمد" ثم يُبسمل، ثم يقرأ الفاتحة، ثم يقرأ سورة طويلة ولكنها دون الأولى - وهذا كله جهرًا - ثم يركع ويطيل الركوع، ثم يرفع منه- كما فعل في السابق - ثم يسجد سجدتين بينهما جلوس - كالصلاة العادية - ويُطيل في السجود، ثم يرفع من السجدة الثانية ويعتدل قائمًا، ويفعل في الركعة الثانية كما فعل في الركعة الأولى تمامًا، ولكنه يفعل ويقرأ أقل من فعله وقراءته في الركعة الأولى: من القراءة والركوع والقيام والسجود، ثم يجلس بعد السجدتين من الركعة الثانية ويتشهد ويُسلّم؛ للسنة الفعلية؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم قد فعل ذلك في صلاة الكسوف فإن قلتَ: لمَ شرع هذا في صلاة الكسوف؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تكثير لقراءة القرآن والتسبيح والذكر والدعاء، وقد كانت الثانية أقل من الأولى، لمراعاة المأمومين؛ حيث شقَّ عليهم في الأولى، وقد كانت القراءة جهرًا؛ لأن ذلك فيه مشاركة المأمومين للإمام في سؤال العافية عند الوعيد وسؤال الجنة عند الوعد إذا مرَّ =
الخطبة،
(6)
ولا تُعاد إن فرغت قبل التجلّي، بل يدعو ويذكر كما لو كان وقت
= ذلك بالآيات. [فرع]: لا يشرع الاغتسال لصلاة الكسوف؛ للسنة الفعلية؛ حيث "إنه صلى الله عليه وسلم خرج إليها يجرُّ رداءه مسرعًا فزعًا" وهذا يلزم منه: عدم مشروعية الاغتسال لها، لأن الاغتسال يلزم منه تأخيرها، وهذا ينافي الإسراع، فإن قلتَ: لمَ لا يُشرع الاغتسال لها؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن صلاتها تكون بسبب وقوع الكسوف وهو ينذر بالخوف، وهذا يجعل المسلم يخرج مسرعًا متبدّلًا غير مُلتفت لنفسه أو لغيره، وهذا أدعى لرحمة الله، فإن قلتَ: إنه يستحب الاغتسال لها؛ وهو الذي ذكره المصنف هنا؛ قياسًا على صلاة الجمعة بجامع: الاجتماع في كل قلتُ: هذا فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ حيث إن الجمعة تسمَّى عيد الأسبوع، والعيد يغتسل له، ولأن الجمعة معروف موعدها، فيغتسل لها مبكرًا، بخلاف صلاة الكسوف، فليست بعيد، ولا يعرف موعدها؛ لأنها تختلف باختلاف حصول الكسوف، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض القياس مع السنة الفعلية": فعندنا: يعمل بالسنة وما يلزم منها، وعندهم: يعمل بالقياس؛ لأن السنة لا تدل على عدم الاغتسال لها عندهم.
(6)
مسألة: لا يُشرع لصلاة الكسوف خطبة قبلها ولا بعدها: للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة" فلم يأمر بخطبة لها مطلقًا، فإن قلتَ: لمَ لا يُشرع لها خطبة؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن الصلاة أدعى إلى إزالة الكسوف بسبب تضمُّنها للقراءة والدعاء والذكر، فإن قلتَ: إنه يُشرع لها خطبة؛ للسنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد خطب الناس بعد صلاة الكسوف قلتُ: إنه صلى الله عليه وسلم لما سلَّم منها، قد علَّم الناس أحكامها؛ نظرًا لغرابتها، وبيَّن لهم أسباب الكسوف الشرعية وهذا لا يُسمَّى خطبة فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: =
نهي
(7)
(فإن تجلَّى الكسوف فيها) أي: الصلاة: (أتمها خفيفة): لقوله صلى الله عليه وسلم: "فصلوا وادعوا حتى ينكشف ما بكم" متفق عليه من حديث ابن مسعود رضي الله عنه
(8)
(وإن غابت الشمس كاسفة أو طلعت) الشمس، أو طلع الفجر (والقمر خاسف): لم يصل؛ لأنه ذهب وقت الانتفاع بهما،
(9)
ويعمل بالأصل في بقائه وذهابه
(10)
(أو
= سببه: "تعارض السنة الفعلية مع السنة القولية" فعندنا: يُعمل بالسنة القولية؛ لأنه لا يُفهم مما عمله النبي بعدها أنه خطبة، وعندهم: يُعمل بالفعلية؛ لحمل كلامه بعدها على أنه خطبة.
(7)
مسألة: إذا فرغ المسلم من صلاة الكسوف، والكسوف لم يذهب: فلا يُعيد الصلاة مرة ثانية، بل يُكثر من الدعاء والذكر كما يفعل حين يدخل المسجد في وقت نهي عن صلاة تطوع؛ للسنة الفعلية، حيث إنه صلى الله عليه وسلم لم يزد عن ركعتين، فإن قلتَ: لمَ شرع هذا؟ قلتُ: لأن الكسوف سبب واحد تُشرع له صلاة واحدة، فلا تتعَّدد الصلاة - مع وحدة السبب.
(8)
مسألة: إذا زال الكسوف قبل الركوع الأول أو في أثناء الصلاة: فإنه يُتمُّها خفيفة كنافلة مطلقة وينوي ذلك؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "فصلوا وادعوا حتى ينكشف ما بكم" حيث دل مفهوم الغاية على عدم مشروعية الصلاة؛ إذا زال الكسوف، ويلزم من هذا: أنه يتمها خفيفة فيما لو زال أثناء الصلاة؛ لحصول المقصود من الصلاة.
(9)
مسألة: إذا غابت الشمس وهي كاسفة، أو طلع الفجر والقمر كاسف أو خاسف: فلا تصلى صلاة الكسوف؛ للتلازم؛ حيث إنه لا صلاة للكسوف إلا برؤيته، ولا يُرى بالليل كسوف الشمس، ولا يُرى بالنهار كسوف القمر، فيلزم عدم الصلاة لهما.
(10)
مسألة: إذا شك في وجود كسوف بسبب غيم: فلا يُصلي لذلك، وإذا تيقَّن الكسوف، ثم حصل غيم، لشكِّه في التجلِّي، أو ذهب بعض الكسوف وشكَّ =
كانت آية غير الزلزلة: لم يُصل)؛ لعدم نقله عنه، وعن أصحابه صلى الله عليه وسلم مع أنه وجد في زمانهم: انشقاق القمر، وهبوب الرياح، والصواعق، وأما الزلزلة - وهي: رجفة الأرض واضطرابها وعدم سكونها - فيُصلَّى لها إن دامت؛ "لفعل ابن عباس رضي الله عنه" رواه سعيد والبيهقي، وروى الشافعي عن علي نحوه، وقال:"لو ثبت هذا الحديث: لقلنا به"
(11)
(وإن أتى) مصلي الكسوف (في كل ركعة، بثلاث ركوعات أو أربع أو
= في ذهابه عن باقيه: فإنه يُصلِّي؛ للاستصحاب؛ حيث إن الأصل في الحالة الأولى عدم الكسوف، لشكه في وجوده: فلا يُصلَّى؛ عملًا بالأصل المتيقن، والأصل في الحالة الثانية والثالثة: وجود الكسوف، وشك في ذهابه كله أو ذهابه عن البعض الباقي؛ فيُصلي؛ عملًا بالأصل وهو: المتيقن، ولا يُعمل بالمشكوك فيه في كل؛ لأن اليقين لا يزول بالشك.
(11)
مسألة: تصلَّى صلاة الكسوف إذا وقع زلزال -وهو: اهتزاز الأرض وتحركها مما يُسبِّب تشقُّقًا فيها- بشرط: دوام هذا واستمراره، فيصلَّى حتى يزول؛ ولا تصلى تلك الصلاة لغير ذلك من عواصف شديدة وحصول ظلمة، وصواعق مخوفة؛ لقواعد الأولى: السنة الفعلية؛ حيث إنه قد حصل في زمنه صلى الله عليه وسلم الرياح والعواصف، وانشقاق القمر ولم يصل صلى الله عليه وسلم صلاة الكسوف، الثانية: الإجماع السكوتي؛ حيث إنه قد حصلت صواعق وظلمة، ورياح ونحوها في زمن الصحابة ولم يصل واحد منهم صلاة الكسوف، ولم يُنكر ذلك؛ فكان إجماعًا سكوتيًا، الثالثة: فعل الصحابي؛ حيث إنه ثبت أن ابن عباس وعليًا رضي الله عنهم قد صلَّيا صلاة الكسوف عند حدوث الزلزال، فإن قلتَ: لمَ شرع هذا؟ قلتُ: لأنه يحصل خوف عند وقوع الزلزال كما يحصل الخوف عند وقوع الكسوف، بل أشدَّ منه فلذلك أُلحق به؛ لإزالة ذلك، بخلاف العواصف والرياح والظلمة فلا يحصل للناس من الخوف مثل ما يحصل عند حصول الزلزال أو الكسوف، فإن =
خمس: جاز) رواه مسلم من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم "صلى ست ركعات في أربع سجدات"، ومن حديث ابن عباس رضي الله عنهم:"صلى النبي صلى الله عليه وسلم ثمان ركعات في أربع سجدات"، وروى أبو داود عن أُبي بن كعب:"أنه صلى الله عليه وسلم صلى ركعتين في كل ركعة خمس ركعات وسجدتين" واتفقت الروايات على أن عدد الركوع في الركعتين سواء؛ قال النووي: "وبكل نوع قال بعض الصحابة"،
(12)
وما بعد الأول سنة لا
= قلتَ: إن صلاة الكسوف تُصلَّى لأي شيء يتسبَّب في حصول الخوف: سواء كان كسوفًا أو زلزالًا؛ أو رياحًا أو عواصف، أو ظلمة أو نحو ذلك؛ وهو قول أبي حنيفة، ورواية عن أحمد، وهو اختيار ابن تيمية وتبعه ابن عثيمين؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم:"إنهما آيتان من آيات الله يُخوف بهما الله عباده" وهذا عام، فيشمل كل شيء يُخوف الناس ومنها: الرياح ونحوها قلتُ: إن صلاة الكسوف خاصة به، وأُلحق به الزلزال؛ لأنه أشدَّ منه في تخويف الناس من باب "مفهوم الموافقة الأولى" لذلك صلاها ابن عباس، بخلاف غيرهما: فلا يبلغ مبلغهما في التخويف وهذا يعرفه كل أحد فإن قلتَ، ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض عموم السنة القولية مع السنة الفعلية والإجماع، وفعل الصحابي"، فعندنا يُعمل بالسنة الفعلية، والإجماع وفعل الصحابي، وتُّخصِّص تلك الأدلة السنة القولية بالكسوف والزلزال، وعندهم: إن السنة القولية تبقى على عمومها فتشمل كل مخوف.
(12)
مسألة: صلاة الكسوف ركعتان، في كل ركعة ركوعان وسجدتان -كما سبق في مسألة (5)؛ للسنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد صلَّاها كذلك مرة واحدة يوم موت ابنه إبراهيم، ولم يرو عنه أنه صلاها مرة أخرى، وهو مذهب الجمهور، فإن قلتَ: تجوز الزيادات في الركعة الواحدة على ركوعين، فيُصلِّي ثلاث أو أربع أو خمس ركوعات، أو أكثر وهو ما ذكره المصنف هنا؛ لقاعدتين: الأولى: السنة الفعلية؛ =
تُدرك به الركعة ويصح فعلها كنافلة
(13)
وتقدَّم جنازة على كسوف
(14)
وعلى
= حيث إنه صلى الله عليه وسلم صلي ست ركوعات، الثانية: فعل الصحابي؛ حيث إنه روي عن عليه رضي الله عنه أنه صلى في كل ركعة ثلاث ركوعات قلتُ: أما ما روي عنه صلى الله عليه وسلم: أنه صلَّى خمسًا أو ستًا أو ثمان ركعات: فهذا ضعيف كما نقله الألباني في "الإرواء"(3/ 127) عن كثير من أئمة الحديث، أما ما روي عن علي، أو بعض الصحابة كما نقله النووي: فهو اجتهاد منهم، ولا يلزمنا؛ لأنه اجتهاد مع النَّص فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض السنة الفعلية السنة الفعلية" فعندنا: أن السنة الفعلية الأولى يعمل بها؛ لكونه لم يصلها إلا مرة واحدة عندنا، وعندهم: يُعمل بالسنة الفعلية الثانية؛ لكونه قد ثبت أنه عليه السلام قد صلاها عدة مرات.
(13)
مسألة: ما بعد الركوع الأول من الركوعات نافلة، لا تُدرك به الركعة، وذلك في كل ركعة: فمثلًا: لو دخل مأموم بعد رفع الإمام رأسه من الركوع الأول من الركعة الأولى: فإنه لا يدرك تلك الركعة، فإن شاء دخل معه استحبابًا، ويقضيها إذا سلّم الإمام، وإن شاء لم يدخل معه؛ للتلازم؛ حيث إن الركوع الأول ركن فيلزم من فواته عليه: عدم صحة الركعة كلها عن الواجب، تنبيه: قوله: "ويصح فعلها كنافلة" من النوافل المطلقة قلتُ: قد سبق بيان ذلك في مسألة (8).
(14)
مسألة: إذا اجتمعت صلاة جنازة وصلاة كسوف: فتُقدَّم صلاة الجنازة، فيُصلَّى عليها، ثم تُصلَّى صلاة الكسوف؛ للتلازم؛ حيث يلزم من وجوب صلاة الجنازة: أن تقدم على صلاة الكسوف؛ لكون الأخيرة نافلة والواجب يُقدَّم على النفل، ولأنه يُخشى من الجنازة من انفجارها وتأذي الناس برائحتها.
جمعة
(15)
وعيد أمن فوتهما،
(16)
وتقدَّم تراويح على كسوف إن تعذر فعلهما،
(17)
ويُتصوَّر كسوف الشمس والقمر في كل وقت والله على كل شيء قدير: فإن وقع بعرفة: صلَّى ثم دفع.
(18)
(15)
مسألة: إذا اجتمعت صلاة جمعة وصلاة كسوف: فتقدَّم صلاة الجمعة إذا خيف فواتها ثم تصلى صلاة الكسوف، أما إذا أمن فوتها: فتقدم صلاة الكسوف؛ للتلازم، وقد بيناه في مسألة (14).
(16)
مسألة: إذا اجتمعت صلاة عيد وصلاة كسوف: فتقدَّم صلاة العيد إذا خيف فواتها، ثم تصلى صلاة الكسوف، أما إذا أمن فوتها: فتقدم صلاة الكسوف؛ للتلازم؛ حيث يلزم من تحديد وقت صلاة العيد: تقديمها؛ لئلا يفوت وقتها، بخلاف صلاة الكسوف فليس لها وقت معين سابقًا، ووقت صلاة العيد يكون عادة قصيرًا جدًا.
(17)
مسألة: إذا اجتمعت صلاة تراويح وصلاة كسوف: فتقدَّم صلاة الكسوف؛ للمصلحة؛ حيث إن الكسوف فيه ضرر وهو التخويف فيُقدم ما يتسبَّب في إزالته، فإن قلتَ: تقدَّم صلاة التراويح إن تعذَّر فعلهما في وقت التراويح؛ للمصلحة؛ حيث إنَّ صلاة التراويح مقيدة بوقت معين يخش فواته وهو ما ذكره المصنف هنا قلتُ: إن صلاة الكسوف فيها دفع مفسدة، وصلاة التراويح فيها جلب مصلحة، وما فيه دفع المفسدة مقدَّم على ما فيه جلب مصلحة، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض المصلحتين".
(18)
مسألة: يُتصوَّر كسوف الشمس أو القمر في كل وقت، فقد يكون يوم عيد وجمعة وعرفة، فإذا وقع في يوم عرفة: فإن الناس يصلون الكسوف، ثم يدفعون إلى مزدلفة؛ للكتاب؛ حيث قال تعالى:{وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فيلزم منه: عدم خلو أيِّ يوم من حدوث هذا الكسوف. [فرع]: لا يُشرع لصلاة =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= الكسوف أذان ولا إقامة، وإنما يُنادى لها بقول المنادي:"الصلاة جامعة"؛ للسنة القولية والفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم بادر لصلاة الكسوف دون أذان ولا إقامة، وأمر مناديه أن يُنادي ويقول:"الصلاة جامعة".
هذه أخر مسائل باب "صلاة الكسوف" ويليه باب "صلاة الاستسقاء"
باب صلاة الاستسقاء
وهو: الدعاء بطلب السقي على صفة مخصوصة، أي: الصلاة لطلب السقي على الوجه الآتي (إذا اجدبت الأرض) أي: أمحلت، والجدب: نقيض الخصب (وقحط) أي: احتبس (المطر) وضرَّ ذلك، وكذا: إذا ضرَّهم غور ماء عيون أو أنهار:
(1)
(صلوها جماعة وفُرادى) وهي سنة مؤكدة؛ لقول عبد الله بن زيد: "خرج النبي صلى الله عليه وسلم يستسقي فتوجه إلى القبلة يدعو، وحوّل رداءه، ثم صلى ركعتين جهر فيهما بالقراءة" متفق عليه، والأفضل: جماعة حتى في سفر، ولو كان القحط بغير أرضهم،
(2)
ولا استسقاء لانقطاع مطر عن أرض غير مسكونة ولا مسلوكة؛ لعدم
باب صلاة الاستسقاء
وفيه ثنتان وعشرون مسألة:
(1)
مسألة: الاستسقاء هو: دُعاء الله بأن يُنزل الغيث والمطر، أو بأن يُكثر ماء العيون والأنهار والآبار والبحار بصورة مخصوصة سيأتي ذكرها، فإن قلتَ: ما سبب الاستسقاء؟ قلتُ: سببه: انقطاع المطر واحتباسه وإجداب الأرض، وقحطها، وغور الماء وذهابه وعدم خروجه في العيون والأنهار والآبار، وانقلاب الماء العذب إلى مالح.
(2)
مسألة: صلاة الاستسقاء مستحبَّة، تصح من الجماعة ومن المفرد، وهي في جماعة أفضل، وهذا مطلق، أي: سواء كان سبب القحط في أرض المصلين صلاة الاستسقاء أو بأرض غيرهم من أراضي المسلمين؛ لقواعد: الأولى: السنة القولية؛ وهي حديث الأعرابي الذي بين فيه صلى الله عليه وسلم أن الصلوات المفروضة خمس فقط، فقال الأعرابي: هل علي غيرهن قال: "لا إلا أن تطوع" فنفى صلى الله عليه وسلم وجوب شيء غير الخمس، وأثبت أن ما عدا هذه الخمس نفل، والاستسقاء =
الضَّرر
(3)
(وصفتها في موضعها وأحكامها كـ) صلاة (عيد) قال ابن عباس رضي الله عنه:
= غير الخمس: فيلزم أن تكون نفلًا؛ لأن الاستثناء من النفي إثبات، الثانية: السنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد صلى صلاة الاستسقاء جماعة - كما رواه عبد الله بن زيد - الثالثة: القياس؛ وهو من وجهين: أولهما: كما أن صلاة الكسوف تصح من الجماعة والمنفرد فكذلك صلاة الاستسقاء مثلها والجامع: أن كلًا منهما فيه دعاء بإزالة ضرر، ثانيهما: كما أن صلاة الاستسقاء تصلى بسبب قحط حصل بأرض المصلين فكذلك تصلى بسبب قحط حصل بأرض غيرهم والجامع: إزالة الضرر عن المسلمين في كل، وهذا هو المقصد من صلاة الاستسقاء، فإن قلتَ: لمَ كانت الصلاة في جماعة أفضل؟ قلت: لأن الدعاء مع الجماعة أقرب إلى الاستجابة، فإن قلتَ: لا تستحب صلاة الاستسقاء وهو محكي عن أبي حنيفة؛ للسنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد استسقى على المنبر وهو يخطب لصلاة الجمعة، ولم يخرج لأجلها قلتُ: خروجه صلى الله عليه وسلم لصلاة الاستسقاء ثابت بأحاديث كثيرة، ودعاؤه بالسقي وهو يخطب الجمعة لا يتعارض مع خروجه هذا فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض السنة الفعلية مع السنة القولية والفعلية" فعندنا: تقدم السنة القولية والفعلية التي رواها عبد الله بن زيد؛ لكون السنة الفعلية الثانية لا يفهم منها عدم مشروعيتها، وعندهم: تقدم السنة الفعلية الثانية؛ لفهمهم منها: عدم مشروعيتها، وعدم ثبوت ما رواه عبد الله بن زيد عندهم.
(3)
مسألة: لا تُشرع صلاة الاستسقاء إذا انقطع المطر عن أرض غير مسكونة، ولا يسلكها المسافرون؛ للتلازم؛ حيث إن الاستسقاء قد شُرع لإزالة الضرر عن المسلمين الساكنين فيلزم من هذا: عدم مشروعية هذه الصلاة في الأرض التي لا يسكنها ولا يمرُّ بها أحد؛ لعدم وجود ضرر على أحد.
"سنة الاستسقاء سنة العيدين" فتسنُّ في الصحراء، ويصلي ركعتين، يُكبِّر في الأولى ستًا زوائد، وفي الثانية خمسًا من غير أذان ولا إقامة، قال ابن عباس:"صلى النبي صلى الله عليه وسلم ركعتين كما يصلي العيد" وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، ويقرأ في الأولى بسبح، وفي الثانية بالغاشية، وتفعل وقت صلاة العيد
(4)
(وإذا أراد الإمام الخروج لها: وعظ الناس) أي: ذكَّرهم بما يُليِّن قلوبهم من الثواب والعقاب (ويأمرهم بالتوبة من المعاصي والخروج من المظالم) بردِّها إلى مستحقيِّها؛ لأن المعاصي سبب القحط، والتقوى سبب البركات (و) أمرهم بـ (ترك التشاحن) من الشحناء وهي: العداوة؛ لأنها تحمل على المعصية والبهت، وتمنع نزول الخير؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"خرجت لأخبركم بليلة القدر فتلاحى فلان وفلان فرُفعت"(و) أمرهم بـ (الصيام)؛ لأنه وسيلة إلى نزول الغيث، ولحديث:"دعوة الصائم لا ترد"(و) أمرهم بـ (الصدقة)؛ لأنها متضمنة للرحمة (ويعدهم) أي: يُعيِّن لهم (يومًا يخرجون
(4)
مسألة: صفة صلاة الاستسقاء: أن تُفعل في المصلى في الصحراء القريبة من البنيان - إن أمكن ذلك - وهي: ركعتان، يُكبر في الأولى - بعد تكبيرة الإحرام - بست تكبيرات زوائد، ثم يقرأ الفاتحة ثم يقرأ بعدها بسورة "الأعلى" ويكبِّر في الثانية - بعد تكبيرة الرفع من السجود - بخمس تكبيرات زوائد، ثم يقرأ الفاتحة، ثم يقرأ بسورة الغاشية، أو يقرأ غيرهما، وصفتها كصفة صلاة العيد: من حيث الخروج إليها، وكونها ركعتين، وما يقرأ فيهما، والجهر بذلك وحكمها، ووقتها، وكونها لا أذان لها ولا إقامة، وصفة التكبيرات الزوائد، وكون الصلاة قبل الخطبة، وقد سبق بيان ذلك بالتفصيل في باب "صلاة العيد" من أوّل مسائل ذلك الباب؛ لقاعدتين: الأولى: السنة الفعلية حيث قال ابن عباس رضي الله عنه في الاستسقاء: "صلى النبي صلى الله عليه وسلم ركعتين كما يصلي العيد" الثانية: قول الصحابي؛ حيث قال ابن عباس: "سنة الاستسقاء سنة العيدين".
فيه) ليتهيؤا للخروج على الصفة المسنونة
(5)
(ويتنظف) لها بالغسل، وإزالة الروائح الكريهة وتقليم الأظفار؛ لئلا يؤذي (ولا يتطيب)؛ لأنه يوم استكانة وخضوع
(6)
(5)
مسألة: يُستحب للإمام أن يُعيِّن يومًا للخروج فيه لصلاة الاستسقاء، وأن يعظ الناس - قبل الخروج بيوم أو يومين -: فيُذكِّرهم بهذه الموعظة الأوامر والنواهي الشرعية، ويُرغِّبهم فيها بالمسارعة في فعل الخيرات، وترك المعاصي والمنكرات، ويُرغِّبهم بالتوبة، والتخلص من المظالم التي ارتكبوها، وأن يُكثروا من الاستغفار، وأن يخرجوا زكاة جميع أموالهم، وأن يترفّعوا عن التشاحن والتخاصم، وأن يتركوا الكذب والخيانة والنفاق، وأن يكثروا من الصدقات والصيام؛ للمصلحة؛ حيث إن خروج المسلم وهو قد تخلَّى عن المعاصي والمنكرات، وتحلَّى بالتوبة، والاستغفار، والتقوى، والصوم والصدقة سبب لنزول البركات: من الأمطار وغيرها من الخيرات قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} ، وقال مجاهد في تفسير قوله:{وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} : "إن البهائم تلعن عصاة بني آدم إذا أمسك المطر وانقطع العشب"، والاستغفار سبب لكل بركة في كل شيء، قال تعالى:{فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} ويأمرهم بالخروج من المظالم؛ لأن الظلم ظلمات يوم القيامة، وإخراج الصدقة والزكاة؛ لكونها من أسباب منع غضب الله تعالى ونزول الرحمة، والصيام من أسباب استجابة الدعاء، قال صلى الله عليه وسلم:"دعوة الصائم لا تُردَّ" والشحناء والبغضاء بين الناس: تمنع كل الخير.
(6)
مسألة: يُستحب أن يتنظَّف المسلم لصلاة الاستسقاء: بأن يغتسل، ويتسوَّك، ويُزيل كل ما يُسبِّب ظهور رائحة كريهة: من شعر، وأظفار ونحوهما، ولا يتطيب؛ للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه دفع مفسدة إيذاء الآخرين بالروائح =
(ويخرج) الإمام كغيره (متواضعًا متخشعًا) أي: خاضعًا (متذللًا) من الذل وهو: الهوان (متضرعًا) أي: مُستكينًا؛ لقول ابن عباس: "خرج النبي صلى الله عليه وسلم للاستسقاء متذللًا متواضعًا متخشِّعًا متضرِّعًا" قال الترمذي: "حديث حسن صحيح"
(7)
(ومعه أهل الدِّين والصلاح والشيوخ)؛ لأنه أسرع لإجابتهم (والصبيان المميزون)؛ لأنهم لا ذنوب لهم، وأُبيح خروج طفل وعجوز، وبهيمة،
(8)
والتوسُّل بالصالحين
(9)
(وإن
= الكريهة عند الاجتماع لهذه الصلاة، وترك الطيب أقرب إلى التذلل والاستكانة، وهذا أقرب إلى استجابة الدعاء.
(7)
مسألة: يُستحب أن يخرج الإمام والمأموم لصلاة الاستسقاء وهو متَّصف بالتواضع والخشوع والخضوع، والاستكانة والتضرع، والتذلُّل في جميع أقواله وأفعاله، ويُكثر الدعاء لنفسه ولغيره وهو في هذه الحالة؛ للسنة الفعلية؛ حيث خرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو كذلك، فإن قلتَ: لمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن خروجه وهو في هذه الحالة أقرب إلى الاستجابة.
(8)
مسألة: يُستحب أن يخرج الإمام لصلاة الاستسقاء ومعه مَنْ يعرفهم بتقواهم وورعهم وعلمهم، وأن يتجنَّب أغلب أهل المناصب والمراكز، وكذا يخرج معه: المميزون من الصبيان والأطفال، والعجائز، والبهائمُ، للمصلحة؛ حيث إن دعوة هؤلاء قريبة من الاستجابة؛ نظرًا لعدم الذنوب، أو قلَّتها.
(9)
مسألة: لا يُشرع التوسُّل بالصالحين: فلا يحرص على خروج شخصٍ بعينه؛ للمصلحة؛ حيث إن هذا فيه دفع مفسدة قيام بعض الجهلة بعبادته أو بتقديسه، أو بالدعاء عند قبره إذا مات كما يفعل بعض الطوائف المبتدعة في هذا الزمان، فإن قلتَ: إن ذلك يُباح وهو ما ذكره المصنف هنا؛ لفعل الصحابي؛ حيث إن قد حرص على خروج العباس عمِّ النبي صلى الله عليه وسلم حينما أراد صلاة الاستسقاء قلتُ: هذا اجتهاد منه لا يلزمنا، ثم إن زمان عمر رضي الله عنه غير الأزمنة المتأخرة؛ =
خرج أهل الذمَّة منفردين عن المسلمين) بمكان؛ لقوله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} (لا) إن انفردوا (بيوم): لئلاَّ يَّتفق نزول غيث يوم خروجهم وحدهم، فيكون أعظم لفتنتهم، وربما افتتن بهم غيرهم:(لم يُمنعوا) أي: أهل الذمة؛ لأنه خروج لطلب الرزق
(10)
(فيصلي بهم) ركعتين كالعيد؛ لما تقدَّم (ثم يخطب) خطبة (واحدة)؛ لأنه لم يُنقل أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب بأكثر منها، ويخطب على منبر، ويجلس للاستراحة، ذكره الأكثر كالعيد في الأحكام والناس جلوس قاله
= حيث قلَّ الإيمان بالله في الأزمنة المتأخرة، فلذلك قلنا بعدم مشروعية ذلك؛ سدًا للذرائع؛ حيث إن دفع المفاسد مقدم على جلب المصالح، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض فعل الصحابي مع المصلحة" فعندنا: تقدم المصلحة، وهم: قدَّموا فعل الصحابي.
(10)
مسألة: إذا أراد الكفار أهل الذمة - وهم من أعطاهم المسلمون العهد على حمايتهم - أن يخرجوا للاستسقاء: فإنه يؤذن لهم بذلك بشرطين: أولهما: أن يخرجوا إلى مكان غير المكان الذي خرج إليه المسلمون، ثانيهما: أن يخرجوا في اليوم الذي خرج فيه المسلمون؛ للمصلحة؛ حيث إن الله يُجيب دعوة المضطر وإن كان كافرًا؛ لسعة لطف الله تعالى وعطفه وكرمه، لأن الله خلق الخلق وضمن أرزاقهم جميعًا، وخروجهم كان لطلب هذا الرزق، واشتُرط الأول؛ لمنع اختلاط الكفار بالمسلمين؛ لما فيه من فتنة ونجاسة، واشترط الثاني؛ لمنع حصول فتنة بهم وبدينهم فيما لو نزل المطر في اليوم الذي استسقوا فيه؛ حيث قد يقول ضعفاء العقول: لو لم يكونوا على حق: لما نزل المطر في يومهم، تنبيه: سبب ذكر المصنف لقوله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً
…
} أن هذا القحط قد يكون بسبب الظالمين ومنهم الكفار فشمل المسلمين وديارهم، والمراد منها: اتقوا فتنة تتعدَّى الظالم فتصيب الصالح والطالح كما ذكر القرطبي (7/ 393).
في "المبدع"(يفتتحها بالتكبير كخطبة العيد)؛ لقول ابن عباس رضي الله عنه: "صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الاستسقاء كما صنع في العيد"
(11)
(ويُكثر فيها الاسغفار، وقراءة الآيات التي فيها الأمر به) كقوله: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} الآيات قال في "المحرَّر" و "الفروع": ويُكثر فيها الدعاء، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن ذلك معونة على الإجابة (ويرفع يديه) استحبابًا في الدعاء؛ لقول أنس رضي الله عنه:"كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يرفع يديه في شيء من دعائه إلا في الاستسقاء، وكان يرفع حتى يُرى بياض إبطيه" متفق عليه، وظهورهما نحو السماء؛ لحديث رواه مسلم
(12)
(فيدعو بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم)
(11)
مسألة: إذا فرغ الإمام من ركعتي صلاة الاستسقاء: فإنه يرقى المنبر فيجلس للاستراحة عليه قبل ابتدائه بالخطبة والناس أمامه، ثم يقوم ليُلقي خطبة واحدة يفتتحها بتسع تكبيرات كما يفعل في الخطبة الأولى من خطبتي العيد؛ للسنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد فعل ذلك- كما رواه ابن عباس، فإن قلتَ: لمَ شرع لها خطبة واحدة بعد الصلاة؟ قلتُ: لأن المقصود الأهم هي: الصلاة المتضمِّنة للقراءة والدعاء والذكر، والمناجاة، وكانت خطبة واحدة؛ لأن الدعاء والتكبير والتذلل في ذلك ينبغي أن يتواصل دون انقطاع، وفيه أيضًا: اختصار الخطبة.
(12)
مسألة: يُستحب أن يُكثر الإمام في خطبة الاستسقاء من الاستغفار بأي عبارة، ويُكثر من قراءة الآيات التي تتضمَّن بيان أن الاستغفار هو: السبب لكل خير، ويُكثر من الدعاء بأي أسلوب، رافعًا يديه أثناء ذلك، جاعلًا بطون يديه نحو وجهه، وظهورهما نحو القبلة أو السماء؛ لقواعد: الأولى: السنة الفعلية؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم قد فعل ذلك، الثانية: قول الصحابي؛ حيث إن عمر خرج يستسقي فما زاد على الاستغفار، الثالثة: المصلحة؛ حيث إن الصلاة على النبي، والدعاء مع رفع اليدين فيه مصلحة استجابة الدعاء بصورة أسرع؛ وهو مبالغة في التذلُّل، والخضوع، والاستجداء.
تأسيًا به (ومنه): ما رواه ابن عمر الله رضي الله عنهم: (اللهم اسقنا) بوصل الهمزة وقطعها (غيثًا) أي: مطرًا (مُغيثًا) أي: مُنقذًا من الشدِّة يُقال: "غائه وأغاثه"(إلى آخره) أي: آخر الدعاء، أي:"هنيئًا مريئًا غدقًا مُجلِّلًا عامًا سحًا طبقًا دائمًا، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين"، "اللهم سقيا رحمة، لا سقيا عذاب، ولا بلاء، ولا هدم، ولا غرق"، "اللهم إن بالعباد والبلاد من اللأواء والجهد والضنك مالا نشكوه إلا إليك، اللهم أنبت لنا الزرع، وأدر لنا الضرع، واسقنا من بركات السماء، وأنزل علينا من بركاتك، اللهم ارفع عنا الجوع والجهد والعري، واكشف عنا من البلاء مالا يكشفه غيرك، اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفارًا، فأرسل السماء علينا مدرارًا"
(13)
ويُسن أن يستقبل القبلة في أثناء الخطبة، ويُحوِّل رداءه: فيجعل الأيمن على الأيسر، والأيسر على الأيمن، ويفعل الناس كذلك، ويتركونه حتى ينزعوه مع ثيابهم، ويدعو سرًّا، فيقول:"اللهم إنك أمرتنا بدعائك، ووعدتَّنا إجابتك، وقد دعوناك كما أمرتنا فاستجب لنا كما وعدتَّنا"
(14)
فإن سقوا وإلا: عادوا ثانيًا
(13)
مسألة: يُستحب أن يدعو الخطيب في خطبة الاستسقاء بالدعاء المأثور الذي ذكره المصنف هنا؛ للسنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد دعا به ـ كما ثبت بروايات مختلفة -، فإن قلتَ: لمَ استحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن هذا الدعاء جامع لمصالح الدنيا والآخرة.
(14)
مسألة: إذا فرغ من الخطبة يُستحب أن يستقبل الخطيب القبلة، ويُحوِّل رداءه، أو عباءته، فيجعل الأيمن على الأيسر، والأيسر على الأيمن، ويتبعه الحاضرون ويفعلون مثل ما فعل، ويدعون سرًا قائلين:"اللهم أمرتنا بدعائك، ووعدتنا إجابتك، وقد دعوناك كما أمرت فاستجب لنا كما وعدتنا" ثم يخرجون من المصلى وهم على تلك الهيئة، وينزعون ذلك في منازلهم؛ للسنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد فعل ذلك، وفعله معه أصحابه في خطبة الاستسقاء، =
وثالثًا
(15)
(وإن سقوا قبل خروجهم: شكروا الله وسألوه المزيد من فضله) ولا يصلون إلا أن يكونوا تأهبوا للخروج، فيصلونها شكرًا لله ويسألونه المزيد من فضله
(16)
(ويُنادى) لها (الصلاة جامعة) كالكسوف والعيد بخلاف جنازة وتراويح، والأول منصوب على الإغراء، والثاني: على الحال، وفي "الرعاية" برفعهما
= فإن قلتَ: لمَ استحب ذلك؟ قلتُ: تفاؤلًا بتغيير الحال من القحط إلى نزول المطر، ومن ضيق الحال إلى سعته فإن قلتَ: لمَ يستقبل القبلة ويدعو سرًا بذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك أقرب إلى الإخلاص، وأبلغ في الخشوع والتذلل، وأسرع في الإجابة.
(15)
مسألة: إذا استسقى الناس ولم يُسقوا: فيُستحب أن يستسقوا مرة ثانية، وثالثة حتى يُسقوا؛ للمصلحة؛ حيث إن تكرار الدعاء والإلحاح فيه مطلوب شرعًا وهو خير من الانقطاع؛ لأن الدعاء في ذلك وفي غيره هو مخَّ العبادة، فإن الله يُريد ذلك.
(16)
مسألة: إذا اتِّفق على الخروج في يوم من الأيام للاستسقاء، ولكن الله تعالى قد سقاهم قبل ذلك اليوم: ففيه التفصيل الآتي: أولًا: إن كانوا قد استعدُّوا للخروج: فإنهم يخرجون ويصلون صلاة الاستسقاء شكرًا الله تعالى، ثانيًا: إن لم يستعدُّوا لذلك: فإنهم لا يصلونها، بل يشكرون الله تعالى على تفضُّله بذلك بقولهم:"اللهم اجعله صيبًا نافعًا غير ضار"؛ لقاعدتين: الأولى: السنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد دعا بذلك لما رأى المطر، الثانية: التلازم؛ حيث إنه يلزم من نزول المطر: عدم الاستسقاء؛ لأن الغرض الذي من أجله شرعت له تلك الصلاة قد حصل فلا داعي لها، ولكنهم يشكرون الله؛ لأنه بالشكر تزيد النعم قال تعالى:{لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} .
وبنصبهما
(17)
(وليس من شرطها إذن الإمام) كالعيدين وغيرهما
(18)
(ويُسنُّ: أن
(17)
مسألة: لا يُنادى لصلاة الاستسقاء، ولا العيد بأيِّ شيء: فلا يُقال: "الصلاة جامعة" لها ولا يُقال غيرها؛ لقواعد: الأولى: السنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد صلى الاستسقاء والعيدين ولم يُناد لهما بشيء، الثانية: الإجماع، حيث إن الخلفاء الأربعة لم يُنادوا لها بهذه العبارة ولا بغيرها، ولم يُنكر عليهم أحد فكان إجماعًا سكوتيًا: الثالثة: القياس، بيانه: كما أنه لا يُنادى لصلاة التراويح والجنازة بأي عبارة، فكذلك صلاة الاستسقاء والعيدين لا ينادى لها بشيء، والجامع: أن كلًا منها لا تأتي فجأة، بل هي معلومة الوقت من قبل، فإن قلتَ: إنه يُنادى لصلاة الاستسقاء والعيدين بعبارة: "الصلاة جامعة" وهو ما ذكره المصنف هنا؛ للقياس، بيانه: كما أنه يُنادى لصلاة الكسوف بهذه العبارة فكذلك صلاة الاستسقاء مثلها والجامع: أن كلًا منها شُرِعت لحاجة الناس إليها فيُناسب أن ينادى لها بالصلاة جامعة قلت: هذا فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ حيث إن صلاة الكسوف تأتي فجأة؛ نظرًا لحصول الكسوف بغتة وبدون علم الناس بذلك، بخلاف صلاة الاستسقاء فإن الإمام يُخبر الناس بموعد صلاته للاستسقاء قبل ذلك -كما سبق في مسألة (5) -، وكذلك: صلاة العيد والتراويح والجنازة يعلم الناس موعدها: فلا تحتاج إلى مناداة، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض القياسين" فعندنا صلاة الاستسقاء والعيد تلحق بصلاة التراويح والجنازة، لأنها أكثر شبهًا بهما، وعندهم تلحق بصلاة الكسوف؛ لأنها أكثر شبهًا بها عندهم وهذا هو قياس "الشبه" أو "غلبة الأشباه".
(18)
مسألة: لا يُشترط أن يُستأذن الإمام أو نائبه لإقامة صلاة الاستسقاء، فتُقام عند حصول سببها ولو لم يأذن الإمام وكذلك صلاة العيدين مثلها؛ للقياس، =
يقف في أول المطر، وإخراج رحله وثيابه؛ ليُصيبها)؛ لقول أنس:"أصابنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مطر، فحسر ثوبه حتى أصابه من المطر، فقلنا: لم صنعتَ هذا؟ " قال: "لأنه حديث عهد بربه" رواه مسلم، وذكر جماعة: ويتوضأ ويغتسل، لأنه روي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: - إذا سال الوادي: "أخرجوا بنا إلى الذي جعله الله طهورًا فنتطهر به"
(19)
وفي معناه: ابتداء زيادة النيل ونحوه
(20)
(وإذا زادت المياه، وخيف
= بيانه: كما أن صلاة الكسوف لا يُشترط لإقامتها إذن الإمام أو نائبه فكذلك صلاة الاستسقاء مثلها والجامع: أن كلًا منهما شرع لإزالة ضرر عام، فإن قلتَ: لمَ لا يُشترط ذلك؟ قلت: للمصلحة؛ حيث إن القحط ضرر عام، فلو اشتُرط إذن الإمام أو نائبه: لتأخر الإذن، فيطول زمن الضرر على الناس.
(19)
مسألة: يُستحب للمسلم أن يقف في أول نزول المطر، ويخرج ثوبه ورحله، ليصيبها بعض القطرات منه، وإن تيسَّر الأمر: فيُستحب أن يتطهر منه؛ لقواعد: الأولى: السنة القولية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم كان يقول: "اخرجوا إلى الذي جعله الله طهورًا فنتطهر به" - إذا سال الوادي - يُشير به إلى قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} الثانية: السنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد حسر ثوبه حتى أصابه شيء من المطر، الثالثة: فعل الصحابي؛ حيث إن ابن عباس قد فعل ذلك، فإن قلتَ: لمَ استحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن تم ذلك فيه بركة، قرب عهده بربه؛ حيث قال تعالى: ? {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا} وقال ابن عباس رضي الله عنه لما أخرج فراشه ورحله: "أحب أن تصيب البركة فراشي ورحلي".
(20)
مسألة: إذا ابتدأ نهر النيل أو دجلة أو الفرات أو غيرها من الأنهار بالزيادة بالماء: فيُستحب: أن يتطهر به؛ للقياس: بيانه: كما أن الماء إذا سال في الوادي يُتطهر به، فكذلك هذا مثله والجامع: أن كلًا منهما قد زاد الماء فيه بسبب كثرة =
منها: سُنَّ أن يقول: اللهم حوالينا) أي: أنزله حوالي المدينة في مواضع النبات (ولا علينا) في المدينة ولا غيرها من المباني (اللهم على الضراب) أي: على الروابي الصغار (والآكام) بفتح الهمزة تليها مدَّة على وزن "آصال" وبكسر الهمزة بغير مدٍّ على وزن "جبال" قال مالك: هي "الجبال الصغار"(وبطون الأودية) أي: الأمكنة المنخفضة (ومنابت الشجر) أي: أصولها؛ لأنه أنفع لها؛ لما في الصحيح: أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول ذلك {رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} أي: لا تكلفنا من الأعمال مالا نطيق (الآية) أي: {وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}
(21)
ويُستحب أن يقول: "مُطرنا بفضل الله ورحمته" ويُحرَّم: "بنوء كذا"
= المطر وهو مثله في المقصد أيضًا، فإن قلتَ: إن التطهر خاص بالماء السائل في الوادي فقط دون زيادة تلك الأنهار وهو قول بعض الحنابلة؛ للسنة القولية، وهو - أمره عليه السلام بالخروج إلى الوادي للتطهر ولا يقاس عليه؛ لأن علته قاصرة قلتُ: إن زيادة الماء في النهر ناتجة عن نزول مطر في مكان آخر بعيد، فيكون مثل سيلان الماء في الوادي من مطر نازل في نفس المكان، ولا فرق، فيكون القياس صحيحًا، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "هل علة التطهر خاصة بالماء السائل في الوادي أم متعدية؟ " فعندنا: مُتعدِّية فقسنا عليه غيره، وعندهم قاصرة، فلم يقيسوا عليه غيره.
(21)
مسألة: إذا استمر المطر في النزول، أو زادت مياه العيون والأنهار والآبار والبحار وخيف من ذلك الضرر على المباني والزروع من التلف والهلاك: فيُستحب أن يدعو الناس الله تعالى بمنع ذلك، ويدعون بجعل ذلك في الصحراء، دون داخل البلدان قائلين بدعائهم:"اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الضراب والآكام وبطون الأودية ومنابت الشجر" ثم يقرأون قوله تعالى: {رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} إلى أخر سورة البقرة؛ للسنة الفعلية؛ حيث =
ويُباح: "في نوء كذا" وإضافة المطر إلى النوء دون الله: كفر إجماعًا، قاله في "المبدع"
(22)
.
= إنه صلى الله عليه وسلم قد دعا بذلك في خطبة الجمعة، فإن قلتَ: لمَ استحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة، حيث إن ذلك فيه تسبُّب في منع الضَّرر، وجعله في الصحراء يضمن الانتفاع به في إنبات الشجر.
(22)
مسألة: يُستحب أن يقول المسلم إذا نزل المطر: "مُطرنا بفضل الله ورحمته" ويجوز أن يقول: "مُطرنا في نوء كذا": أي: مُطرنا في الزمان الذي خرج فيه النجم الفلاني، أما من قال:"مُطرنا بنوء كذا": فهو كافر؛ للسنة القولية؛ حيث بيَّن صلى الله عليه وسلم: أن من قال: "مُطرنا بفضل الله ورحمته فهو المؤمن، ومن قال مُطرنا بنوء كذا: فهو الكافر" فإن قلتَ: لمَ يكفر من قال: "مُطرنا بنوء كذا"؟ قلتُ: لأن الباء سببية فكأنه قال: "مطرنا بسبب النجم الفلاني" لذلك أجمع العلماء على كفره؛ لكونه نسب إنزال المطر إلى النجم، لا إلى الله، فإن قلتَ: لم سُمِّي النجم بالنوء؟ قلتُ: لأنه إذا سقط بالمغرب: ناء الطالع بالمشرق. [فرع]: يُستحب للمسلم إذا سمع صوت الرعد أن يقول: "سبحان من سبَّح الرعد بحمده والملائكة من خيفته" أو يقول: "اللهم لا تقتلنا بغضبك، ولا تهلكنا بعذابك وعافنا قبل ذلك"؛ لقول الصحابي؛ حيث إن الزبير كان يقول ذلك.
هذه آخر مسائل باب "صلاة الاستسقاء" وهو آخر كتاب "الصلاة" ويليه كتاب "الجنائز"
كتاب الجنائز
بفتح الجيم: جمع جنازة بالكسر والفتح لغة: اسم للميت، أو للنَّعش عليه ميت، فإن لم يكن عليه ميت: فلا يُقال: "نعش" ولا "جنازة" بل سرير، قاله الجوهري، واشتقاقه من جنز: إذا ستر، وذكره هنا؛ لأن أهم ما يفعل بالميت الصلاة،
(1)
ويُسنُّ الإكثار من ذكر الموت، والاستعداد له؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "أكثروا من
كتاب الجنائز وأحكام الموتى
وفيه مائتان وخمس وثلاثون مسألة:
(1)
مسألة: الجنائز: جمع جنازة، والمقصود به: الميت: سواء كان على سرير أو نعش أو كان على الأرض - كما في الصحاح (3/ 897) - فإن قلتَ: لمَ سُمِّي الميت بالجنازة؟ قلتُ: لأن الجنز هو: الستر والإسراع؛ حيث إنه يُشرع الإسراع في تغسيله، وتكفينه، والصلاة عليه ودفنه، وهذا كله لأجل الإسراع في ستره؛ لئلا يظهر منه شيء مستقذر، وهذا يلزم منه: إكرامه بذلك، فإن قلتَ: لمَ شرعت أحكام الجنازة؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن الشارع قد أمر بإكرام المؤمن في حياته وبعد مماته، ووضعت أحكام الجنائز لإكرام المسلم بعد مماته، فما يُفعل بمن حضرته الوفاة من تلقينه للشهادة، ثم تغسيله بعد ذلك، ثم تكفينه، ثم الصلاة عليه والدعاء له، ثم دفنه، ثم الإحسان إليه بتنفيذ وصيته والإحسان إلى أقاربه كله راجع إلى نفعه، ذكره ابن القيم، فإن قلتَ: لمَ ذكر كتاب الجنائز في العبادات مع أن حق ذكره بعد كتاب "الوصايا" وقبل كتاب "الفرائض"؛ حيث إنه أنسب هناك؟ قلتُ: لأن ذكره هنا أنسب؛ حيث إن كل ما يُفعل بالميت من تلقينه للشهادة، وتغسيل، وتكفين وصلاة عليه، ودفن يُعتبر من العبادات؛ حيث يرجو الفاعل لذلك الثواب من الله تعالى، وهذا هو "التعبُّد لله"، فإن قلتَ: لمَ ذكر كتاب الجنائز بعد كتاب الصلاة؟ قلتُ: لأن أهم ما يُفعل بالميت =
ذكر هاذم اللَّذات" هو بالذال المعجمة،
(2)
ويُكره الأنين وتمني الموت،
(3)
ويُباح
= هي: الصلاة؛ حيث إنه ينتفع بدعاء المسلمين له في الصلاة، فإن قلتَ: لمَ أفردت مباحث الجنائز بكتاب لوحده، ولم يجعل بابًا من أبواب الصلاة؟ قلتُ: لأمرين: أولهما: إن الصلاة على الميت لا ركوع فيها ولا سجود، وهذا بخلاف الصلوات المعتادة، ثانيهما: أن أكثر أحكام الجنائز لا تخص الصلاة كأحكام التغسيل، والتكفين، والدفن ونحو ذلك، بخلاف أبواب الصلوات السابقة فإنها خاصة بالصلاة.
(2)
مسألة: يُستحب للمسلم أن يُحضر ذكر الموت في ذهنه في جميع أحواله، وأن يستعدّ للرَّحيل عن هذه الدنيا، وأن يعلم تمام العلم أن نهاية كلِّ حي هو هذا القبر، فيترك المعاصي، ويفعل الخيرات؛ للسنة القولية وهي من وجهين: أولهما: قوله صلى الله عليه وسلم: "أكثروا من ذكر هادم اللذات" وهو: الموت، ثانيها: قوله صلى الله عليه وسلم "أكيس الناس: أكثرهم للموت ذكرًا، وأحسنهم لما بعده استعدادًا، أولئك هم الأكياس ذهبوا بشرف الدنيا والآخرة" والأكياس: هم العقلاء الذين يزنون الأمور بميزان العدل والحق، لا يُنافقون ولا يُدارون ولا يُمارون أحدًا وهذه صفة المؤمن، فإن قلتَ: لمَ استحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إنه بتذكُّره للموت يتيقَّن أنه لن يُعمَّر، بل سيموت كما مات غيره من جميع المخلوقين: من الأنبياء والعلماء والصالحين وغيرهم، فلذا يتجَّه إلى المسارعة بفعل الخيرات، وترك المنكرات.
(3)
مسألة: يُكره أن يجزع أو يئنَّ المسلم إذا أصابه مرض، أو أن يتمنى الموت للتخلُّص من هذا المرض، أو تلك المصيبة التي نزلت به، بل عليه أن يصبر، ويتيقَّن بأن "ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليُصيبه"، ولذلك: يمنع نفسه عن الجزع، ويمنع لسانه عن الشكوى لغير الله، وإن شكر الله على ما أصابه به من مصائب: فهذه مرتبة فوق مرتبة الصبر، وهو من باب إحسان =
التداوي بمباح وتركه أفضل، ويحرَّم بمحرَّم: مأكول وغيره من صوت ملهاة وغيره،
(4)
ويجوز ببول إبل فقط، قاله في
= الظن بالله تعالى؛ حيث إن هذا مُتيقِّن أن هذا المرض أو تلك المصيبة خير له مما هو أشقُّ منها، فيشكر الله عليها؛ لقاعدتين: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} الثانية: السنة القولية وهي من وجوه: أولها: قوله صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى: "أنا عند ظن عبدي بي: إن ظنَّ عبدي بي خيرًا: فله، وإن ظنَّ بي شرًا: فله" ثانيهما: قوله صلى الله عليه وسلم: "من أحبَّ لقاء الله أحبَّ الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه" وهذا يلزم منه: كراهة الأنين، ثالثها: قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يتمنَّينَّ أحدكم الموت؛ لضر نزل به، فإن كان لا بدَّ فاعلًا فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرًا لي، وتوفَّني إذا كانت الوفاة خيرًا لي" والذي صرف النهي - في قوله: "لا يتمنَّينَّ" من التحريم إلى الكراهة قوله: "فإن كان لا بدَّ فاعلًا
…
" فإن قلتَ: لمَ كُرِه ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إذا أنَّ، أو جزع، أو تمنى الموت: فإن أجره ينقص؛ لعدم صبره على الأذى فكأنه يعترض على قضاء الله وقدره.
(4)
مسألة: إذا غلب ظن المريض أن هذا الدواء المباح سبب في شفائه: فيجب أن يتداوى به، أما إن كان هذا الدواء غير مُباح - كلحم الخنزير، أو الخمر- أو كان يشكُّ في شفائه بسبب ذلك الدواء: فإنه يحرم التداوي به: للسنة القولية، وهي من وجهين: أولهما: قوله صلى الله عليه وسلم: "ولا تداووا بحرام" حيث حرم التداوي بالحرام؛ حيث إن النهي مطلق فيقتضي التحريم، ثانيهما: قوله صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا ضرار في الإسلام" لأن النفي هنا نهي، وهو مطلق، فيقتضي التحريم: والمراد: يحرم التسبُّب في إلحاق الضرر بنفسه، وترك الحرام واجب، فيجب التداوي عما يُلحق الضَّرر بنفسه، فإن قلتَ: إن ترك التداوي أفضل وهو ما ذكره المصنف هنا؛ للتلازم؛ حيث إنه يلزم منه ترك التوكل على الله أو =
"المبدع"،
(5)
ويُكره أن يستطبَّ مسلم ذميًّا لغير ضرورة وأن يأخذ منه دواء لم يُبيِّن له مفرداته المباحة
(6)
و (تسنُّ عيادة المريض) والسؤال عن حاله؛ للأخبار، ويُغبَّ بها، وتكون بكرةً وعشيًا، ويأخذ بيده ويقول:"لا بأس طهور إن شاء الله تعالى"؛
= ضعفه قلتُ: هذا غير صحيح؛ للقياس، بيانه: كما أن العطشان أو الجوعان يجب عليه أن يشرب ويأكل ما يمنع عنه الضرر ومع ذلك فهو لا يتنافى مع التوكُّل، فكذلك ما نحن فيه مثله، والجامع: دفع الضر في كل فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض التلازم مع السنة القولية والقياس" فعندنا: يعمل بهما وعندهم: يُعمل بالتلازم، فإن قلتَ: لمَ وجب التداوي هنا؟ قلتُ: للمصلحة، وهو دفع الضرر عنه، ولذلك أجمع العلماء على قاعدة:"الضرر يزال" وعلى "أن المشقة تجلب التيسير" وعلى "أن الضرورات تبيح المحظورات" وغيرها.
(5)
مسألة: يُباح التداوي ببول الإبل، دون غيرها؛ للسنة القولية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم "أمر العرانيين بأن يشربوا من أبوال إبل الصدقة" والذي صرف الأمر هنا من الوجوب إلى الإباحة هو: ورود الأمر بعد الحظر؛ لأن شرب النجاسات حرام في الأصل، فإن قلتَ: لمَ أبيح ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث ثبت عن بعض الأطباء أن شرب بول الإبل فيه شفاء من الاصفرار والانتفاخ.
(6)
مسألة: يُكره أن يتداوى المسلم عند كافر ولو كان ذمِّيًا من غير ضرورة، أما إن وجدت ضرورة بأن خشي على نفسه الضَّرر، ولا يُحسن العلاج إلا ذلك الكافر: فيُباح التداوي عنده بشرط: أن يعرف هذا المسلم مكوِّنات جنس الدواء الذي أعطاه إياه ذلك الكافر؛ للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه دفع الضَّرر عن ذلك المسلم، وكره من غير ضرورة؛ لأن الكافر قد يعطيه دواء فيه ضرر عاجل أو آجل عليه، واشتُرط ذلك الشرط للاحتياط؛ لئلا يجعل هذا الكافر بعض المحرمات في تكوين ذلك الدواء كالخمر، أو لحم خنزير ونحو ذلك.
لفعله صلى الله عليه وسلم، ويُنفّس له في أجله؛ لخبر رواه ابن ماجه عن أبي سعيد؛ فإن ذلك لا يرد شيئًا، ويدعو له بما ورد
(7)
(و) يُسنُّ (تذكيره التوبة)؛ لأنها واجبة على كل
(7)
مسالة: يُستحب أن يعود المسلم أخاه المسلم إذا مُرض غبًّا: فيعوده يومًا، ويتركه آخر، بدون إزعاجه بكثرة كلام، أو جلوس طويل، أو نقل أخبار لا تسرُّ، وأن يمُسك بيده قائلًا:"لا بأس طهور إن شاء الله" ويحاول الزائر أن يُنفَّس عن المريض ويُخفِّف عنه ما هو فيه ويذكر له أن المرض لا يدل على دنو الأجل، وأن الصحة لا تدل على بعد الأجل، فكم من مريض طال عمره، وكم من صحيح معافى مات عاجلًا، وعاد بعض العلماء هارون الرشيد في مرضه الذي مات فيه فقال هذا العالم:"هوِّن عليك فإن الصحة لا تمنع من الفناء، والمرض لا يمنع من البقاء" فقال هارون الرشيد: "لقد طيبت نفسي وروَّحت قلبي"، ثم يُكثر من الدعاء للمريض إذا زاره، لقواعد: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "إذا دخلتم على المريض فنفِّسوا له في أجله"، الثانية: السنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم كان يعود بعض المرضى من أصحابه، وكان يدنو من المريض ويسأله عن حاله وكان يُمسك بيده، ويدعو له بالشفاء قائلًا:"اللهم اشفه" الثالثة: المصلحة؛ حيث إن زيارته يومًا وتركه يومًا، وعدم الإكثار من الكلام والجلوس عنده فيه رفع للحرج عنه، وإبعاد الموت فيه تفريح له، وإدخال سرور إليه، وفي الدعاء له بالشفاء: بسط لنفسه. [فرع]: يُستحب للمريض أن يضع يده على الموضع الذي يؤلمه من بدنه ويقول: "بسم الله" ثلاث مرات، ثم يقول:"أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر" سبع مرات، ثم يقرأ على نفسه الفاتحة، والإخلاص، والمعوذتين، للسنة الفعلية؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك إذا اشتكى، وقد أرشد صلى الله عليه وسلم عثمان بن أبي العاص إلى ذلك فإن قلتَ: لمَ استحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه دفع للأذى.
حال، وهو أحوج إليها من غيره (والوصية)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي به يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده" متفق عليه عن ابن عمر
(8)
(وإذا نزل به) أي: نزل به ملك الموت لقبض روحه (سُنَّ تعاهد) أرفق أهله وأتقاهم لربه بـ (بلِّ حلقه بماء أو شراب، وندي شفتيه) بقطنة؛ لأن ذلك يُطفئ ما نزل به من الشدَّة، ويُسهل عليه النطق بالشهادة
(9)
(ولقنه لا إله إلا الله) لقوله صلى الله عليه وسلم:
(8)
مسألة: يُستحب للزائر أن يُذكّر المريض بالتوبة النصوح من كل ذنوبه بأن يترك المعاصي، ويندم على ما فعل، ويعزم بأن لا يعود، وأن يُذكِّره بأن يوصي بثلث أو ربع أو خمس ماله ويجعله للأعمال الخيرية، وينص عليها إن شاء؛ حتى ربع يكون ذلك صدقة جارية تنفعه بعد موته، وأن يذكر في وصيته الأموال التي له عند الناس، والأموال التي عليه للناس؛ للمصلحة، حيث إن ذلك فيه جلب مصلحة للمريض بعد وفاته؛ حيث إن التوبة من الذنوب واجبة على كل مسلم مطلقًا: سواء كان مريضًا أو لا، والمريض أولى بأن يتوب، ويقبل الله تعالى ذلك؛ لأن الله يقبل توبة العبد ما لم يُغرغر، والوصية بردِّ الحقوق إلى أهلها واجبة؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم:"ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي به يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده"، والوصية بصدقة جارية تنفعه بعد موته؛ حيث يأتيه أجرها كما قال صلى الله عليه وسلم:"إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم يُنتفع به، أو ولد صالح يدعو له" وكل ذلك لأجل نفع المريض في حياته وبعد مماته.
(9)
مسألة: إذا ظهرت علامات نزول الموت على شخص: فيُستحب للأرفق والأتقى من أهله: أن يبلَّ حلقه ببعض الماء، ويُندِّي شفتيه بأي مُرطّب بدون إكثار، وذلك بقطنة أو خرقة نظيفة؛ للمصلحة؛ حيث إن ذلك يمنع شفتيه من التشقُّق، ويُسهِّل خروج الروح، والنطق بالشهادتين، والأرفق والأتقى هو من =
"لقِّنوا موتاكم لا إله إلا الله" رواه مسلم عن أبي سعيد (مرة، ولم يزد على ثلاث)؛ لئلا يُضجره (إلا أن يتكلم بعده فيُعيد تلقينه)؛ ليكون آخر كلامه: لا إله إلا الله، ويكون (برفق) أي: بلطف ومداراة؛ لأنه مطلوب في كل موضع فهنا أولى
(10)
= سيداريه ويتلطف به؛ لأن للموت سكرات وحركات غربية، فالأتقى الرفيق هو الذي يصبر على هذا المحتضر.
(10)
مسألة: يُستحب للأرفق والأتقى من أهل مَنْ حضرته الوفاة: أن يُلقّنه الشهادة - وهي كلمة: "لا إله إلا الله" - مرة، أو مرتين أو ثلاثًا، ولا يزيد عن ذلك؛ إلا إذا تكلَّم المحتضر بعد ذلك فيُستحب أن يعيد تلقينه بالشهادة؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم:"لقّنوا موتاكم لا إله إلا الله" والمراد: لقنوا من حضرته الوفاة الشهادة؛ حيث بينت ذلك السنة القولية وهي: قوله صلى الله عليه وسلم: "من كان آخر كلامه من الدنيا: لا إله إلا الله دخل الجنة"، فإن قلتَ: لمَ استحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن من كان آخر كلامه الشهادة دخل الجنة - كما ورد في النص - ولكن هذا بشرط: أن يكون قد قام بما تضمنته هذه الكلمة من امتثال لجميع الأوامر، وترك الجميع النواهي، فإن قلتَ: لمَ لا يُزاد عن ثلاث مرات في تلقينه؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن المحتضر فيه من الشدِّة ما يُخشى منه أن يتضجِّر إذا زيد على ذلك، وهذا يُغضبه: فقد يأبى ولا يقولها، فإن قلتَ: لمَ اشتُرط أن يكون الملقّن رفيقًا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه منع لأذاه إذا قيلت له بعنف، ولأن اللطف مطلوب في كل وقت، والمحتضر يحتاج إلى اللطف أكثر من غيره بسبب ما يُلاقيه من شدَّة خروج الروح، فإن قلتَ: لمَ لا يُلقَّن بكلمة: "محمد رسول الله"؟ قلتُ: لكونه لم يرد عنه صلى الله عليه وسلم، ولأن كلمة "لا إله إلا الله" متضمنة الاعتراف بأن محمدًا رسول الله، فإن قلتَ: لمَ قال صلى الله عليه وسلم: "لقنوا موتاكم" مع أن الميت لا يُمكن أن يُلقَّن؟ قلتُ: هذا مجاز؛ حيث سماه ميتًا =
(ويقرأ عنده) سورة (يس)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "اقرأوا على موتاكم سورة يس" رواه أبو داود، ولأنه يُسهِّل خروج الروح، ويقرأ عنده أيضًا الفاتحة
(11)
(ويُوجِّهه إلى القبلة)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم -عن البيت الحرام-: "قبلتكم أحياء وأمواتًا" رواه أبو داود، وعلى جنبه الأيمن أفضل إن كان المكان واسعًا وإلا: فعلى ظهره مُستلقيًا ورجلاه إلى القبلة،
= باعتبار ما سيكون كما قال: "من قُتل له قتيل"[فرع]: يُستحب أن لا يحضر من يكرهه المحتضر لأي سبب، ولا الأجنبي عنه، ولا يُلقّنه هذا المكروه أو الأجنبي عنه الشهادة إلا إذا لم يوجد غيره؛ للمصلحة؛ لأن المحتضر فيه من الشِّدَّة مالا يتحمَّل غيرها، فلا يُضيَّق عليه بذلك.
(11)
مسألة: يُستحب أن تقرأ عند المحتضر سورة "يس" و "الفاتحة" و "الملك" جهرًا بطريقة فيها لطف ورحمة ولين؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "اقرأوا على موتاكم يس" والمراد: أقرأوا على من حضرته الوفاة، لا أن تقرأ عليه بعد وفاته، وهو تعبير مجازي باعتبار ما سيكون حتمًا كما قلنا في حديث: "لقنوا موتاكم
…
" في مسألة (10) و "الفاتحة" و "الملك" مثل "يس"، فإن قلتَ: لمَ استحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تيسير خروج الروح، وتطييب خاطره، فيتذكر أنه ليس الوحيد الذي سيموت، بل كل من حوله من أهله وغيرهم سيلحقون به؛ وذلك لتضمُّن هذه السور تغيُّر الدنيا وزوالها لا محالة: فالذي لم يمت اليوم سيموت لا محالة غدًا، فالموت قضية حتمية لكل حي، فإذا سمع هذا في الآيات التي تقرأ: طابت نفسه من هذه الحياة، وسيكون مستعجلًا للآخرة خاصة إذا سمع قوله تعالى:{إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ} وغيرها من الآيات المبشرة بالجنة.
ويرفع رأسه قليلًا؛ ليصير وجهه إلى القبلة
(12)
(فإذا مات: سُنَّ تغميضه)؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أغمض أبا سلمة، وقال:"إن الملائكة يؤمِّنون على ما تقولون" رواه مسلم ويقول: "بسم الله وعلى وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم"، ويُغمِّض ذات محرم، وتُغمِّضه، وكره من حائض وجنب وأن يقرباه، وتُغمِّض الأنثى مثلها أو صبي
(13)
(وشدُّ لُحييه)؛ لئلا
(12)
مسألة: يُستحب أن يُجعل وجه المحتضر إلى القبلة على جنبه الأيمن إن أمكن، أو يُجعل مستلقيًا على ظهره، ويُرفع رأسه فتكون رجلاه ووجهه إلى القبلة؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم في البيت الحرام:"قبلتكم أحياء وأمواتًا"، فإن قلتَ: لمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن القبلة أشرف الجهات وخيرها وأبركها، واليمين فيه بركة قد سبق بيانها، ولا يفعل ذلك إلا بعد أن يغلب على الظن بنزول الموت؛ لئلا يخوف ذلك المريض فيشق عليه.
(13)
مسألة: يُستحب أن تغمض عينا الميت - حين خروج روحه -؛ لأن العينين تنفتحان تبعًا للروح، ويقوم بتغميض الرجل رجلٌ مثله، أو محارمه من النساء، ويقوم بتغميض المرأة امرأةٌ مثلها، أو صبي، أو محارمها من الرجال، ويكره أن يُغمِّضه جنب من رجل أو امرأة، أو حائض ونفساء، ويُستحب أن يُدعى للميت أثناء التغميض فيُقال:"بسم الله وعلى وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم اغفر له وارفع درجته، واخلفه في عقبه في الغابرين، واغفر لنا وله يا رب العالمين، وافسح له في قبره ونور له فيه"؛ لقواعد: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "إذا حضرتم الميت فأغمضوا البصر؛ فإن البصر يتبع الروح، وقولوا خيرًا؛ فإنه يؤمَّن على ما قاله أهل الميت" الثانية: السنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم دعا بذلك الدعاء حين غمَّض عيني أبي سلمة، الثالثة: المصلحة؛ حيث إن تغميض العينين فيه تحسين لمنظر الميت، وفيه منع الهوام والحشرات من أن تصل إلى حدقة العين قبل دفنه، ولا يُغمضه إلا رجل أو محارمه، وكذلك المرأة؛ =
يدخله الهوام
(14)
(وتليين مفاصله)؛ ليسهل تغسيله: فيردُّ ذراعيه إلى عضديه، ثم يردُّهما إلى جنبيه، ثم يردُّهما ويردُّ ساقيه إلى فخذيه، وهما إلى بطنه، ثم يردُّهما، ويكون ذلك عقب موته قبل قسوتها، فإن شق ذلك تركه
(15)
(وخلع ثيابه): لئلا يحمي جسده فيُسرع إليه الفساد (وستره بثوب)؛ لما روت عائشة: "أن النبي صلى الله عليه وسلم حين توفى سُجِّي ببرد حبرة" متفق عليه، وينبغي أن يعطف فاضل الثوب عند رأسه ورجليه؛ لئلا يرتفع بالريح
(16)
(ووضع حديدة) أو نحوها (على بطنه)؛ لقول أنس:
للاحتياط من الفتنة، وكُرِه أن يُغمِّضه من به حدث أكبر؛ للتأكيد على أنه لا يتولَّى الميت إلا طاهر؛ واستحب الدعاء له؛ لأن هذا الموضع من المواضع التي يستجاب فيها الدُّعاء؛ لكون الملائكة تحضر وتؤمِّن على الدعاء.
(14)
مسألة: يُستحب أن يُغلق فم الميت ويُشدِّ لحييه مع رأسه حال موته وذلك بلين ولطف؛ لقول الصحابي؛ حيث قال عمر لابنه رضي الله عنهم: "إذا رأيت روحي بلغت لهاتي فضع كفَّك اليُمنى على جبهتي واليسرى تحت ذقني" فإن قلتَ: لمَ استحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه منع للهوام والحشرات من أن تدخل عن طريقه قبل دفنه، وفيه تحسين منظر الميت.
(15)
مسألة: يُستحب أن تُليَّن مفاصل وأعضاء الميت بعد موته مباشرة، وطريقته: أن يرد ذراعيه إلى عضديه، ثم يجعلهما على جنبيه، ثم يرد ساقيه إلى فخذيه، ويرد فخذيه إلى بطنه ثم يرد كل ما سبق إلى موضعه، هذا إن تيسر، وإلا: تركه على ما هو عليه؛ للمصلحة: حيث إنه بعد موته يكون حارًا، فإذا مضى وقت: فإنه يبرد وتقسو عضلاته ومفاصله، فيصعب على المغسِّل تحريكها، وتغسيل ما بينها، وإذا حُرِّكت بعد قسوتها: فإنها تتكسَّر، لذا يفعل ذلك لتسهيل غسله.
(16)
مسألة: يُستحب أن تخلع ثياب الميت حال موته، ووضع ثوب عليه يستر جميع جسده، وإن فضل شيء منه: جعله تحت رأسه ورجليه؛ لقاعدتين: =
"ضعوا" على بطنه شيئًا من حديد"؛ لئلا ينتفخ بطنه
(17)
(ووضعه على سرير غسله)؛ لأنه يُبعد عن الهوام (متوجهًا) إلى القبلة على جنبه الأيمن (منحدرًا نحو رجليه) أي: أن يكون رأسه أعلى من رجليه؛ لينصب عنه الماء، وما يخرج منه
(18)
= الأولى: الإجماع؛ حيث أجمع الصحابة على ذلك؛ لأنه لما مات النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: "هل نُجرِّده كما نُجرِّد موتانا" وهذا يلزم منه: أن تجريد الميت من ثيابه حال موته معهود عندهم مجمع عليه، وأن الصحابة رضي الله عنهم قد أجمعوا على ستر رسول الله ببُرد من البرود اليمانية، وهو ثوب مخطَّط ومحسَّن وهو المقصود بـ "الحبرة" الوارد في الحديث، الثانية: المصلحة؛ حيث إن بقاء ثوبه المعتاد عليه لفترة طويلة بعد موته يؤدِّي إلى فساده، وظهور رائحة كريهة تؤذي من حوله، واستحب ستره بثوب يشمل بدنه؛ صيانة له من الانكشاف؛ نظرًا لأمر الشارع بستر المؤمن حيًا وميتًا، واستحب وضع ما فضل من الثوب تحت رأسه ورجليه؛ لمنع انكشاف بدنه بسبب هبوب ريح.
(17)
مسألة: يُستحب أن يوضع شيء ثقيل على بطنه بعد موته مباشرة كحديدة صغيرة أو طين أو حجر ونحوها لقول الصحابي؛ حيث قال أنس رضي الله عنه لما مات عبد له-: "ضعوا على بطنه شيئًا من حديد" فإن قلتَ: لمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك يمنع من انتفاخ بطنه، ويُسهِّل إخراج ما فيه من روائح وقاذورات.
(18)
مسألة: يُستحب أن يوضع الميت بعد موته مباشرة على موضع مرتفع عن الأرض غير متصل بها كسرير ويُجعل على جنبه الأيمن قد وُجِّه وجهه إلى القبلة، ويكون رأسه أعلى قليلًا من رجليه أثناء تغسيله؛ للمصلحة؛ حيث إن وضعه هذا: يمنع الهوام والحشرات من الدخول في فمه وأنفه ويمنع عنه رطوبة الأرض، ويُسهِّل انحدار الماء - حين تغسيله - من رأسه إلى رجليه، وخروج ما في بطنه من روائح وقاذورات كما يفعل الجنب، ويوجَّه إلى القبلة؛ لأنها أشرف الجهات كما سبق.
(وإسراع تجهيزه إن مات غير فجأة)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا ينبغي لجيفة مسلم أن تحبس بين ظهراني أهله" رواه أبو داود، ولا بأس أن يُنتظر به من يحضره من وليه أو غيره إن كان قريبًا، ولم يُخش عليه، أو يشقُّ على الحاضرين، فإن مات فجأة، أو شُكَّ في موته: انتُظر به حتى يُعلم موته ب-: انخساف صدغيه، وميل أنفه، وانفصال كفيه، واسترخاء رجليه
(19)
(وإنفاذ وصيته)، لما فيه من تعجيل الأجر (ويجب) الإسراع
(19)
مسألة: يُستحب الإسراع - قدر الإمكان - في تجهيز الميت: من غسل وتكفين، وصلاة ودفن، هذا إذا مات غير فجأة وبغتة، ويُباح تأخير الصلاة عليه إن كان يُرجى حضور بعض أهله البعيدين بُعدًا لا يتجاوز مسافة قصر - وهي (82) كم - بشرط: أن لا يُخشى من ظهور رائحة كريهة منه، وأن لا يشق الانتظار على الحاضرين، أما إن مات فجأة وبغتة - كالحوادث الناتجة عن السيارات أو الطائرات أو الغرق أو الحرق أو الكهرباء -: فيُستحب تأخير تجهيزه حتى يُتيقَّن من موته بانخساف صدغيه - وهو ما بين لحظ العين إلى أصل الأذن - أو بغيبوبة سواد عينيه، أو بميل أنفه وليونته، أو بانخلاع أو انفصال كفيه بأن تسترخي عصبة اليد، أو باسترخاء رجليه كيديه، أو بها جميعًا؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "لا ينبغي لجيفة مسلم أن تُحبس بين ظهراني أهله" حيث يلزم من لفظ "لا ينبغي": استحباب الإسراع بتجهيز الميت، الثانية: المصلحة؛ حيث إن الإسراع به فيه تقديم الميت إلى قبره؛ ليتمتَّع بالخير الذي ينتظره إن كان من الصالحين، أو ليسلم أهله من شره إن كان من الفاسدين كما قال صلى الله عليه وسلم:"أسرعوا بالجنازة، فإن تك صالحة فخير تُقدِّمونها إليه، وإن تك سوى ذلك فشرٌّ تضعونه عن رقابكم" وكذا: فيه تكريم للميت بستره بقبره؛ لئلا تخرج منه رائحة كريهة، وفي إباحة تأخيرها لأجل حضور بعض أقربائه بشرطه: مصلحة دعائهم له في الصلاة عليه؛ لأنهم أشفق عليه من الأجانب، وفي تأخير =
(في قضاء دينه) سواء كان الله تعالى، أو لأدمي؛ لما روى الشافعي وأحمد والترمذي وحسَّنه عن أبي هريرة مرفوعًا:"نفس المؤمن معلَّقة بدينه حتى يُقضى عنه"
(20)
= تجهيز من مات فجأة: مصلحة التأكُّد من موته؛ حيث إنه يُحتمل أنه أغمي عليه إغماءة طويلة - كما يحدث من وقوع الحوادث فجأة - فائدة: الموت الفجأة راحة للمؤمن وأسف على الفاجر كما قالت عائشة رضي الله عنها.
(20)
مسألة: يجب أن تُنفَّذ وصية الميت، والإسراع في قضاء دينه بعد وفاته مباشرة: سواء كان هذا الدَّين الله تعالى كالزكاة، أو النذر، أو كان للآدميين؛ لقواعد: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} ؛ حيث إن الشارع قد أوجب قضاء دين الميت وإنفاذ وصيته قبل توزيع تركته على الورثة؛ لأن هذا أمر بصيغة الخبر، وهو مطلق، فيقتضي الوجوب والفور، الثانية: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "نفس المؤمن مُعلَّقة بدينه حتى يقضى عنه" حيث دل مفهوم الغاية: بأن روحه لا ترتاح إلا إذا قُضي دينه، وعدم ارتياحها عقاب، ولا يُعاقب إلا على ترك واجب، فيكون قضاء الدين والإسراع بذلك واجبًا، الثالثة: القياس، بيانه: كما أنه يجب قضاء دينه والإسراع بذلك؛ فكذلك الوصية مثله والجامع: أن كلًا منهما قد انشغلت الذمة فيه فيجب إبراؤها منه وتعجيل الأجر وهو المقصد الشرعي، فإن قلتَ: لمَ قُدِّم ذكر الوصية على الدَّين مع أن الدَّين مقدم عليها بالعمل؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن الموصى له أصبح كالوارث في أخذ شيء من مال الموصي - وهو: الميت - فيصعب على الورثة إخراجها عادة، بخلاف الدَّين؛ حيث إن إخراجه لا يشق على الورثة عادة، فقُدِّم ذكر الوصية: للاهتمام بها، تنبيه: قوله: "وإنفاذ وصيته" يُفهم منه: أن إنفاذ الوصية مستحب قلتُ: هذا غير صحيح؛ لأن الوصية كالدَّين في حفظ الحقوق.
ولا بأس بتقبيله، والنظر إليه، ولو بعد تكفينه
(21)
فصل: (غسل الميت) المسلم (وتكفينه) فرض كفاية؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الذي وقصته راحلته: "اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه" متفق عليه عن ابن عباس رضي الله عنهم (والصلاة عليه) فرض كفاية؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "صلوا على من قال: لا إله إلا الله" رواه الخلَّال والدارقطني، وضعَّفه ابن الجوزي، (ودفنه: فرض كفاية)؛ لقوله تعالى: {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} قال ابن عباس: معناه: أكرمه بدفنه، وحمله أيضًا: فرض كفاية،
(22)
(21)
مسالة: يُباح أن يُقبِّل الميت، وينظر إليه كلُ شخص يجوز له النظر إليه: سواء بعد تكفينه أو قبله؛ للسنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد قبَّل عثمان بن مظعون وهو ميت، فإن قلتَ: لمَ أبُيح ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه راحة وسرور المقبِّل.
(22)
مسألة: غسل الميت، وتكفينه، والصلاة عليه، وحمله، ودفنه فرض كفاية - إذا قام به من يكفي سقط عن الباقين -؛ لقواعد: الأولى: الكتاب، حيث قال تعالى:{ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} والمراد: دفن الميت، حيث يجب كما فسر ذلك ابن عباس وهو تفسير صحابي مقبول، الثانية: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم في الذي وقصته ناقته في عرفة فمات -: "اغسلوه بماء وسدر وكفِّنوه في ثوبيه" حيث أوجب غسل الميت وتكفينه؛ لأن الأمر مطلق، فيقتضي الوجوب، الثالثة: الإجماع؛ حيث كان الصحابة يدفنون موتاهم، الرابعة: التلازم؛ حيث إنه لا يمكن دفنه إلا بحمله فيجب، من باب:"مالا يتم الواجب إلا به فهو واجب" فإن قلتَ: لمَ كان ذلك فرض كفاية؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه إكرام الميت وستره، وتحسين مظهره، والدعاء له، والتخلُّص من رائحته بدفنه، تنبيه: لا يصح الاستدلال بحديث: "صلوا على من قال: لا إله إلا الله"، لأنه ضعيف، والضعيف لا يُحتج به.
واتباعه: سنة،
(23)
وكرِه الإمام للغاسل: أخذ أجرة على عمله إلا أن يكون محتاجًا فُيعطى من بيت المال، فإن تعذَّر: أعطي بقدر عمله، قاله في "المبدع"،
(24)
والأفضل
(23)
مسألة: اتِّباع الميت وتشييعه حتى يُدفن مستحب؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "من شهد الجنازة حتى يصلى عليها فله قيراط، ومن شهدها حتى تُدفن: كان له قيراطان"، قيل: ما القيراطان؟ قال: "مثل الجبلين العظيمين"، فإن قلتَ: لمَ استحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه إكرام للميت، وإعزاز له، وتآلف مع أهله.
(24)
مسألة: يُكره أخذ الأجرة على غسل الميت وتكفينه، وحمله، ودفنه بدون حاجة، أما إن وُجدت حاجة: فيُباح أن يأخذ بقدر عمله من مال الميت، فإن تعذَّر: فمن بيت مال المسلمين، فإن تعذَّر: فمن مال ورثة الميت، فإن تعذَّر: سقط؛ للمصلحة؛ حيث إن تجهيز الميت من الأعمال الصالحة التي يتقرب بها إلى الله تعالى، فلو أخذ بدون حاجة: فإنه ينقص أجره، وأُبيح أخذه إن كان بحاجة؛ سدًا لحاجته؛ لئلا يتكفف الناس، فإن قلتَ: لمَ يأخذ من ماله أو من بيت المال؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه دفع المنَّة عنه، ولأنه قضاء لحاجة المسلمين فيصح من بيت مالهم، فإن قلتَ: لَم يؤخذ من مال الورثة؟ قلتُ: لأنه لو كان له مال لانتفعوا به فكذلك العكس، فإن قلتَ: لمَ يسقط عند تعذر ما سبق؟ قلتُ: لأن الواجب يسقط عند العجز عنه، تنبيه: قوله: "وكره الإمام" يقصد الإمام أحمد، قلتُ: كره أخذ الأجرة على ذلك جمهور العلماء، ولم ينفرد أحمد بذلك. [فرع]: يحرم أخذ الأجرة على الصلاة على الميت؛ للإجماع؛ حيث أجمع العلماء على ذلك، ومستنده: التلازم؛ حيث إن الصلاة عبادة محضة قد قصد المصلي بالأقوال والأفعال التي فيها التقرب إلى الله تعالى، ونوى ذلك بها فيلزم منه: تحريم أخذ الأجرة عليها.
أن يُختار لتغسيله ثقة عارف بأحكامه
(25)
(وأولى الناس بغسله وصيه) العدل؛ لأن أبا بكر رضي الله عنه أوصى أن تغسَّله امرأته أسماء، وأوصى أنس رضي الله عنه أن يُغسله محمد بن سيرين (ثم أبوه)؛ لاختصاصه بالحنو والشفقة (ثم جده) وإن علا؛ لمشاركته الأب في المعنى (ثم الأقرب فالأقرب من عصباته) فيُقدَّم الابن، ثم ابنه، وإن نزل، ثم الأخ لأبوين، ثم الأخ لأب على ترتيب الميراث (ثم ذووا أرحامه) كالميراث، ثم
(25)
مسألة: يجب أن يكون المغسِّل للميت عدلًا، عارفًا لأحكام التغسيل؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد أمر بأن يُغسل من وقصته ناقته بماء وسدر، وتجنيبه الطيب وكان قد قال للنساء اللواتي غسَّلن ابنته بأن تلف بكذا وكذا - مما سيأتي - وهذا يلزم منه: أن لا يتولى التغسيل إلا العدل العارف بالأحكام؛ الثانية: قول الصحابي؛ حيث أوصى أبو بكر رضي الله عنه امرأته أسماء بأن تُغسِّله إذا مات، وأوصى أنسٌ محمد بن سيرين بأن يُغسِّله إذا مات، وهذا يلزم منه اشتراط هذين الشرطين؛ لأنه معلوم عادة: أن لا يوصي شخص بأن يغسِّله أو يفعل له أيُّ فعل سِرِّي إلا إذا كان متصفًا بالعدالة، والمعرفة بأحكام ما سيفعله، وهذا فيه مصلحة للمغسَّل، وهو المقصد منه فإن قلتَ: إنه يُستحب أن يكون المغسل عدلًا، وعارفًا لأحكام التغسيل، للمصلحة: حيث إنه قد لا يوجد من يتوفر فيه هذان الشرطان، قلتُ: هذا فيه نظر؛ حيث إن غير العدل سينشر ما يراه على الميت من مكاره، وغير العارف لأحكام الغسل: سيُغسِّله على غير الطريقة الشرعية، فلا يكونان قائمين بفرض الكفاية، ولذا: قلنا: إنه يجب فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض المصلحة السنة القولية وقول الصحابي" حيث إنا قد فهمنا من لازمهما: اشتراط هذين الشرطين، والواجب يسقط بالعجز، وعندهم: لا يلزم من السنة وقول الصحابي هذان الشرطان.
الأجانب،
(26)
وأجنبي أولى من زوجة وأمة، وأجنبية أولى من زوج وسيد،
(27)
(26)
مسألة: إذا حصل تنازع فيمن يُغسِّل الميت الرجل: فإنه يُقدَّم وصيُّه - وهو: الذي أوصاه الميت بأن يُغسِّله - بشرط: كونه عدلًا عارفًا للأحكام، ولو كان هذا الموصى أنثى من محارمه، فإن تعذَّر فإن الأب هو الذي يتولَّى ذلك، فإن تعذَّر: فالجد وإن علا، فإن تعذَّر: فالأقرب ممن يعصبه: فيُقدَّم الابن، فإن تعذَّر، فابن الابن وإن نزل، فإن تعذَّر: فالأخ الشقيق، فإن تعذَّر: فالأخ لأب، فإن تعذَّر: فالعم الشقيق، فإن تعذَّر: فالعم لأب، فإن تعذَّر: فالأقرب من ذوي الأرحام - وهو: كل قريب ليس بذي فرض ولا عصبة - فيُقدَّم منهم جد الميت لأمه وهكذا كترتيب الميراث، فإن لم يوجد قريب: يغسله الأجانب ويقدَّم منهم الصديق ثم الجار: إذ توفرت صفة العدالة والعلم بأحكام التغسيل -؛ لقاعدتين: الأولى: قول الصحابة؛ وقد سبق ذكره في مسألة (25)، الثانية: المصلحة؛ حيث إن هذا الترتيب السابق أصلح للغسل؛ لتقديم الأرفق والأشفق والألطف، والأستر له، والأكثرون قربًا ومعرفة للميت هم الذين يتصفون بالرفق والشفقة عليه، فإن قلتَ: لمَ قُدِّم الأب والجد على الابن وابن الابن مع أن الأخيرين يُقدَّمان في الميراث؟ قلتُ: لأن رفق وشفقة الأب بابنه أكثر من العكس غالبًا، وكذا الجد.
(27)
مسألة: إذا مات رجل ولم يوجد عنده إلا زوجته أو أمته، وأجنبي عنه: فإنه يُقدَّم في تغسيله الزوجة أو الأمة، وإذا ماتت امرأة ولم يوجد عندها إلا زوجها أو سيدِّها، وأجنبية عنها: فإنه يُقدَّم في تغسيلها الزوج، أو السيد؛ للمصلحة؛ حيث إن هؤلاء الأقرباء أرفق وأشفق وأستر للميت من الأجنبي أو الأجنبية، ولكون هؤلاء الأقرباء قد اطلعوا على بدن الميت في حياته، فلا يختلف الأمر بعد مماته، فإن قلت: يقدَّم الأجنبي والأجنبية هنا - وهو ما ذكره المصنف هنا - قلتُ: لم أجد دليلًا على ذلك، وهو مخالف لمصلحة الميت.
وزوج أولى من سيد، وزوجة أولى من أُمِّ ولد
(28)
(و) الأولى (ب-) غسل (أنثى وصيتها) العدل (ثم القربى فالقربي من نسائها) فتقدَّم أمها وإن عَلَت، ثم بنتها وإن نزلت، ثم القربى كالميراث، وعمتها وخالتها سواء، وكذا: بنت أخيها، وبنت أختها؛ لاستوائهما في القرب والمحرمية
(29)
(ولكل) واحد (من الزوجين) إن لم تكن الزوجة ذمِّية (غسل صاحبه)؛ لما تقدم عن أبي بكر رضي الله عنه، وروى ابن المنذر أن عليًا رضي الله عنه غسَّل
(28)
مسألة: إذا ماتت أمة لها زوج ولها سيِّد: فيُقدَّم في تغسيلها زوجها، وإذا مات رجل له زوجة وأمُّ ولد: فتقدَّم في تغسيله الزوجة؛ للمصلحة؛ حيث إن القرابة تكون أشد بين الزوج وزوجته، ويلزم من ذلك: أن تكون الشفقة والمودَّة بينهما أعظم، هذا في الغالب.
(29)
مسألة: إذا حصل تنازع فيمن يُغسِّل الميتة: فإنه يُقدَّم وصيَّتها بشرط: كونها تتصف بالعدالة والعلم بأحكام التغسيل، فإن تعذَّر ذلك: فتغسلها القربي لها من نسائها: فتقدم في ذلك أمها، فإن تعذَّر: فجدتها وإن عَلَت، فإن تعذَّر: فابنتها، فإن تعذر: فبنتُ بنتها وإن نزلت، فإن تعذَّر: فأختها الشقيقة، فإن تعذَّر: فأختها لأب، وهكذا على حسب الميراث، فإن لم يوجد عندها إلا عمتها وخالتها، أو لم يوجد عندها إلا بنت أخيها وبنت أختها: فلا تقدَّم إحداهما على الأخرى، بل يُقرع بينهما فمن تصيبها القرعة تقدم بغسلها، فإن تعذر: فالأجنبيات تقوم بذلك؛ لقاعدتين: الأولى: القياس على غسل الرجل وقد سبق في مسألة (26) الثانية: التلازم؛ حيث إن استواء العمة والخالة وبنت الأخ وبنت الأخت في القرب والمحرمية: يلزم منه عدم تقديم إحداهما على الأخرى، والأخذ بحكم القرعة؛ حيث إنها تلزم إذا استوت الحقوق، وهو طريق يُفعل لتحقيق العدالة بين الناس.
فاطمة، ولأن آثار النكاح من: عدة الوفاة، والإرث باقية فكذا الغسل،
(30)
ويشمل ما قبل الدخول،
(31)
وأنها تغسِّله وإن لم تكن في عدة كما لو ولدت عقب موته،
(32)
(30)
مسألة: الرجل يُغسِّل زوجته المسلمة، والزوجة تغسِّل زوجها إذا مات كل واحد منهما؛ لقاعدتين: الأولى: قول وفعل الصحابي؛ حيث قالت عائشة رضي الله عنها: "لو استقبلتُ من أمري ما استدبرتُ ما غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا نساؤه"، وأوصى أبو بكر رضي الله عنه أن تغسله امرأته أسماء، وغسل علي زوجته فاطمة الثانية: القياس، بيانه: كما أن آثار النكاح باقية بعد الوفاة كعدَّة الوفاة والإرث فكذلك الغسل مثله يبقى، والجامع: عدم انقطاع صلة النكاح بالموت، فإن قلتَ: لمَ شرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن كل واحد منهما أرفق وأشفق بالآخر، ويعرف من أسرار صاحبه مالا يعرفه الآخرون، وللتيسير على العباد.
(31)
مسألة: إذا مات رجل بعد عقد النكاح على امرأة وقبل الدخول بها: فإن هذه المرأة تُغسِّله؛ للقياس؛ بيانه: كما أن الزوجة المدخول بها تغسله إذا مات فكذلك غير المدخول بها مثلها، والجامع؛ أن كلًا منهما تسمَّى زوجة شرعًا، وأنها ترث، وعليها العدة، وتستحق المهر.
(32)
مسألة: إذا مات رجل وزوجته حامل فولدت قبل تغسيله: فإنها تغسِّله بشرط: عدم زواجها قبل تغسيله؛ للقياس، بيانه: كما أن آثار النكاح باقية كالإرث فكذلك الغسل مثلها، والجامع: عدم انقطاع صلة الزوجية بالموت، وأن كل واحد منهما نظر إلى عورة الآخر في الحياة فكذلك بعد الموت، فإن قلتَ: لمَ جاز ذلك انقضاء العدة بالولادة؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تيسير على العباد، ولأنها أرفق به وأشفق عادةً.
والمطلَّقة الرجعية إذا أُبيحت له
(33)
(وكذا: سيِّد مع سريته) أي: أمته المباحة له، ولو أم ولد
(34)
(ولرجل وامرأة غسل من له دون سبع سنين فقط) ذكرًا كان أو أنثى؛ لأنه لا عورة له، ولأن إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم غسله النساء، فتغسله مُجَّردًا من غير سترة، وتمس عورته؛ وتنظر إليها
(35)
(وإن مات رجل بين
(33)
مسألة: إذا طلَّق رجل زوجته طلاقًا رجعيًا - بأن طلَّقها طلقة واحدة - ثم مات ذلك الرجل قبل انقضاء مدة عدَّة الطلاق - وهي: ثلاثة أشهر: فإنها تُغسِّله بشرط: إباحة مراجعتها - فيما لو كان حيًا -؛ للتلازم؛ حيث يلزم من جواز مراجعتها بدون عقد وولي: أن تكون شبهة الزوجية باقية، والزوجة تغسل زوجها، فإن قلتَ: لِمَ جاز ذلك مع أنه طلقها قلتُ: للمصلحة التي ذكرناها في مسألة (32).
(34)
مسألة: يُباح للسَّيِّد أن يُغسِّل أمته إذا ماتت، ومدبَّرة، ومكاتبة بشرط: أن يكون قد وطأها، وأن تكون مسلمة: سواء كانت أمَّ ولد أو لا، ويُباح العكس: بأن تغسل الأمة والمدبَّرة والمكاتبة سيدها - كما سبق -؛ للقياس، بيانه: كما أن الزوج يُغسِّل زوجته إذا ماتت، والزوجة تُغسِّل زوجها إذا مات فكذلك الأمة تغسِّل سيدها، والسيد يُغسِّل أمته، والجامع: نظر كل واحد منهما إلى عورة الآخر في الحياة، فلا يختلف بعد الممات، فإن قلتَ: لمَ أُبيح ذلك؟ قلتُ: للمصلحة، حيث إن ذلك فيه تيسير على العباد.
(35)
مسألة: يُباح للرجل والمرأة أن يُغسِّلان من هو دون سبع سنوات إذا مات: سواء كان هذا الميت ذكرًا أو أنثى، وسواء كان مجردًا من ثيابه أو لا، وسواء نظر إلى عورته ولمسها أو لا؛ للسنة التقريرية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد أقرَّ النساء اللَّاتي قد غسَّلن إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يُنكر عليهن، فإن قلتَ: لمَ أبيح ذلك؟ قلتُ: لكونه لا عورة له في الحياة وبعد الممات كذلك.
نسوة) ليس فيهن زوجة، ولا أمة مباحة له: يُمِّم (أو عكسه): بأن ماتت امرأة بين رجال ليس فيهم زوج ولا سيِّد لها: (يُمِّمت كخنثى مُشكل) لم تحضره أمة له فيُيمَّم؛ لأنه لا يحصل بالغسل من غير مَسٍّ تنظيف، ولا إزالة نجاسة، بل ربما كثرت،
(36)
وعُلِم منه: أنه لا مدخل للرجال في غسل الأقارب من النساء، ولا بالعكس
(37)
(ويحرم أن يغسل مسلم كافرًا) وأن يحمله، أو يُكفِّنه، أو يتبع جنازته كالصلاة عليه؛ لقوله تعالى:{لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} (أو يدفنه) للآية (بل يوارى)
(36)
مسألة: إذا مات رجل، بين نساء أجانب عنه ليس بينهن زوجة ولا أمة، أو ماتت امرأة بين رجال أجانب عنها ليس بينهم زوج ولا سيد لها: فإنهما لا يغسلان، بل يفعل بهما حكم التيمُّم: بأن يُقبض على يدي الميت بحائل - خرقة أو غيرها - فيضرب بهما الأرض فيُمسح بهما وجه الميت وكفَّيه - بعد أن ينوي الفاعل عن الميت -؛ للقياس، بيانه: كما أن الخنثى يُفعل به ذلك، فكذلك هذان يُفعل بهما ذلك والجامع: منع الفتنة في كل؛ لأنه لا يجوز للأجانب أن ينظروا أو يلمسوا عورات غيرهم من الأجانب إذا لم يوجد منهم من ذكرنا، والخنثى لا يُعلم هل هو ذكر أم أنثى؟ فنظرًا لهذا الاحتمال لا يُغسله أحد، بل يُيمَّم؛ احتياطًا فكذلك هذان مثله، فإن قلتَ: لمَ لا يغسَّل بصب الماء عليه؟ قلتُ: لأن المس حرام، ولو صُبَّ الماء عليه لما تحققت إزالة النجاسة، ولتسبَب في كثرتها.
(37)
مسألة: يحرم على الرجل أن يُغسِّل المرأة التي يحرم عليه أن يتزوجها في حال حياتها - كأمه وابنته ونحوهما - ويحرم على المرأة أن تُغسِّل الرجل الذي يحرم عليها أن تتزوج به في حال حياتها - كأبيها وابنها ونحوهما -؛ للقياس، بيانه: كما أن ذلك يحرم في حال الحياة فكذلك يحرم بعد الممات، والجامع: المحرمية في كل، فإن قلتَ: لمَ حرم ذلك؟ قلتُ: لشدَّة تحريم النظر إلى عورات المحارم في الشريعة.
وجوبًا (لعدم) من يواريه؛ لإلقاء قتلى بدر في "القليب"
(38)
، ويُشترط لغسله: طهورية ماء، وإباحته، وإسلام غاسل إلا نائبًا عن مسلم نواه، وعقله ولو مميزًا، أو حائضًا، أو جنبًا
(39)
(وإذا أخذ) أي: شرع (في غسله: ستر عورته) وجوبًا - وهي:
(38)
مسألة: يُحرَّم على المسلم أن يُجهز الميت من الكفار إذا مات بين المسلمين: فلا يُغسَّله، ولا يُكفنه، ولا يحمله، ولا يدفنه بل يدفنه؛ للتخلص من رائحته؛ إذا عُدم من يفعل ذلك؛ لقاعدتين: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} فحرَّم موالاة الكفار؛ لأن الموالاة تكريم، وتجهيز ميتهم من باب التكريم؛ لأن النهي هنا مطلق فيقتضي التحريم، الثانية: القياس، بيانه: كما تُحرَّم الصلاة على ميت الكفار فكذلك يحرم تجيزه والجامع: عدم التكريم والتطهير في كل، فإن قلتَ: لمَ حُرِّم ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه إعزاز للمسلمين، ووضعه تحت التراب؛ لمنع خروج رائحته الكريهة فتؤذي المسلمين كما أمر صلى الله عليه وسلم بإلقاء قتلى بدر من الكفار بالقليب.
(39)
مسألة: شروط صحة غسل الميت أربعة: أولها: أن يكون الماء الذي غُسل به طهورًا مباحًا فلا يصح غسله بماء طاهر، أو نجس أو مسروق، للقياس؛ بيانه: كما أنه يشترط ذلك في غسل الجنابة فكذلك غسل الميت مثل ذلك، والجامع: أن كلًا منهما يقصد منه التطهير، فلا يحصل إلا بذلك، ثانيها: أن يكون الغاسل مسلمًا، فلا يصحُّ غسل كافر المسلم ميت إلا إذا كان الكافر نائبًا عن مسلم و نوى المسلم الغسل فغسله الكافر: فإن هذا يصح؛ للتلازم؛ حيث إن غسل الميت المسلم عبادة، ولا صحة لأي عبادة إلا بنية، ولا نية صحيحة لكافر: فيلزم عدم صحة غسله، لفقدان النية الصحيحة منه، ولذا: صحَّ غسل الكافر لميت مسلم إذا كان نائبًا عن مسلم ونواه ذلك المسلم؛ لوجود النية من المسلم لا من الكافر؛ وإنما جُعل الكافر كالآلة، ثالثها: أن يكون الغاسل؛ =
ما بين سرته وركبته -
(40)
(وجرَّده) ندبًا؛ لأنه أمكن في تغسيله، وأبلغ في تطهيره، وغُسل النبي صلى الله عليه وسلم في قميص؛ لأن فضلاته طاهرة فلم يُخش تنجيس قميصه
(41)
= عاقلًا ولو كان نجسًا أو لم يبلغ؛ للقياس، بيانه: كما أنه يصح غسل العاقل لنفسه فكذلك يصح غسله لغيره، دون من لا يعقل كمن لا يميز، والمجنون، والمعتوه، فلا يصح غسلهم للميت؛ لكونهم لا يصح غسلهم لأنفسهم؛ لعدم النية الصحيحة منهم، رابعها: أن يكون الغاسل ثقة عدلًا عارفًا لأحكام التغسيل وطريقته؛ للسنة القولية، وقول الصحابي، وقد سبق بيان ذلك في مسألة (25)، فإن قلتَ: لمَ اشتُرط ذلك؟ قلتُ: للمصلحة، حيث إن ذلك فيه إكرام للميت.
(40)
مسألة: إذا بدأ الغاسل في غسل الميت: فيجب أن يستر عورة الميت - وهي: ما بين السرَّة إلى الركبة - بأن يضع عليها خرقة ونحوها؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه: "لا تنظر إلى فخذ حي ولا ميت" حيث حرم الشارع النظر إلى عورة الأجنبي؛ لأن النهي هنا مطلق، فيقتضي التحريم، وما يُترك به الحرام: واجب، فإن قلتَ: لمَ وجب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه دفع مفسدة الفتنة.
(41)
مسألة: يُستحب أن يُجرَّد الميت من جميع ثيابه عند تغسيله - سوى عورته -؛ للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تيسير وتسهيل غسله وتنظيفه وتطهيره، فإن قلت: لا يُستحب ذلك، بل يجعل على جسده قميصًا رقيقًا، ويُدخل الغاسل يده تحت ذلك القميص فيمرَّها على بدنه، والماء يُصبُّ أثناء ذلك، وهو مذهب الشافعي ورواية عن أحمد؛ للقياس، بيانه: كما أنه فعل بالنبي صلى الله عليه وسلم ذلك فكذلك غيره، والجامع: الستر في كل قلتُ: إن هذا فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يخرج منه ما يُنجس قميصه؛ لكونه طاهرًا حيًا وميتًا بخلاف غيره، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض القياس مع المصلحة" فعندنا: يعمل بالمصلحة؛ لفساد القياس، وعندهم: يُعمل بالقياس على النبي صلى الله عليه وسلم.
(وستره عن العيون) تحت ستر في خيمة أو بيت إن أمكن؛ لأنه أستر له
(42)
(ويكره لغير مُعيّن في غسله حضوره)؛ لأنه ربما كان في الميت مالا يجب اطلاع أحد عليه، والحاجة غير داعية إلى حضوره بخلاف المعين
(43)
(ثم يرفع رأسه) أي: رأس الميت غير أنثى حامل (إلى قرب جلوسه) بحيث يكون كالمحتضن في صدر غيره (ويعصر بطنه برفق)؛ ليخرج ما هو مستعد للخروج،
(44)
ويكون هناك بخور
(45)
(ويكثر صبَّ الماء حينئذٍ)؛ ليدفع ما يخرج بالعصر
(46)
(ثم يلف) الغاسل (على يده خرقة
(42)
مسألة: يُستحب أن يوضع الميت أثناء تغسيله في مكان لا يراه أحد: كأن يوضع في غرفة أو خيمة ونحوهما؛ للمصلحة؛ حيث إن ذلك أحوط في ستره.
(43)
مسألة: يُكره أن ينظر أحد إلى الميت أثناء تغسيله إلا الغاسل أو من يُعينه فقط وهذان يغضَّان البصر على حسب القدرة؛ للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه ستر الميت، وحفظ الناظر من أن يتأثَّر من رؤية شيء في الميت يكرهه، وقد يتحدَّث به في حين أن الميت لا يرضى به.
(44)
مسألة: يُستحب أن يرفع الغاسل رأس الميت رفعًا ظاهرًا حتى يكون قريبًا من حال جلوسه، ثم يعصر بطنه برفق ولين، إلا إن كانت الميتة حاملًا فلا يفعل فيها ذلك؛ للمصلحة؛ حيث إن هذه الطريقة يجعل ما هو متهيئ للخروج من نجاسات يخرج؛ لئلا يخرج بعد الفراغ من تغسيله فيؤذي المصلين عليه والمشيعين له، أما الحامل: فلا يفعل بها ذلك؛ لأن ذلك سيتسبَّب في خروج ولدها مع الدماء، وسيحتاج ذلك إلى وقت لتنظيفه.
(45)
مسألة: يُستحب أن يُجعل في مكان غسل الميت بخور - وهو: كل ماله رائحة طيبة من عود ونحوه -؛ للمصلحة؛ حيث إن ذلك يمنع تأذَّي الغاسل ومن معه من الروائح الكريهة التي تخرج من الميت.
(46)
مسألة: يُستحب أن يُكثر الغاسل صب الماء حال رفع رأس الميت وعصر بطنه؛ للمصلحة؛ حيث إن ذلك سيدفع النجاسات التي تخرج منه أثناء العصر.
فيُنجيِّه) أي: يمسح فرجه بها
(47)
(ولا يحلُّ مسُّ عورة من له سبع سنين) بغير حائل كحال الحياة؛ لأن التطهير يمكن بدون ذلك
(48)
ويُستحب: أن لا يمس سائره إلا بخرقة)؛ لفعل علي مع النبي صلى الله عليه وسلم، فحينئذ يُعدُّ الغاسل خرقتين: إحداهما للسبيلين، والأخرى لبقية بدنه
(49)
(ثم يوضِّيه ندبًا) كوضوئه للصلاة؛ لما روت أمُّ عطية: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في غسل ابنته: "إبدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها" رواه الجماعة،
(47)
مسألة: يُستحب أن يُنجِّي الغاسل الميت: بأن يضع خرقة خشنة أو قفَّازين على يده فيقوم بمسح فرج الميت بذلك، ثم يغسله بعد ذلك؛ للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه إزالة للنجاسة وتطهيره؛ لئلا يؤذي المصلين عليه والحاملين له.
(48)
مسألة: يحرم على الغاسل أن يمس عورة الميت البالغ سبع سنين فما فوق باليد مباشرة، ولكنه يمسها لغسلها بحائل كخرقة، أما من دون سبع سنين فلا بأس بمس عورته بدون حائل؛ للقياس، بيانه: كما لا يجوز مسَّ عورة من بلغ سبع سنين في حال الحياة فكذلك لا يجوز مسُّها بعد الممات، والجامع: إثارة الشهوة في كل غالبًا، وكذلك: كما يجوز مسُّ عورة من لم يبلغ ذلك في الحياة فكذلك يجوز ذلك بعد الممات، والجامع: عدم إثارة الشهوة غالبًا.
(49)
مسألة: يُستحب أن يمس الغاسل سائر جسد الميت - سوى العورة - بحائل من خرقة ونحوها؛ لفعل الصحابي؛ حيث إن عليًا رضي الله عنه قد فعل ذلك بالنبي صلى الله عليه وسلم، فإن قلتَ: لمَ استحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن الخرقة ونحوها أقوى في التنظيف، وأبعد عن إثارة الشهوة عن طريق لمس اليد جسد الميت مباشرة، فائدة: الغاسل يُعدُّ خرقتين أولهما: لإزالة النجاسات من قُبُل ودُبُر الميت، ثانيهما: لغسل سائر جسد الميت، وهذا أبلغ في التطهير.
وكان ينبغي تأخيره عن نية الغسل كما في "المنتهى" وغيره
(50)
(ولا يُدخل الماء في فيه، ولا في أنفه)؛ خشية تحريك النجاسة
(51)
(ويُدخل إصبعيه) إبهامه وسبَّابته (مبلولتين) أي: عليهما خرقة مبلولة (بالماء بين شفتيه فيمسح أسنانه وفي منخريه فيُنظِّفهما) بعد غسل كفِّي الميت، فيقوم المسح فيهما مقام غسلهما؛ خوف تحريك النجاسة بدخول الماء جوفه (ولا يدخلهما) أي: الفم والأنف (الماء)؛ لما تقدَّم
(52)
(50)
مسألة: يُستحب أن يقوم الغاسل بتوضية الميت كما يتوضأ الحي للصلاة؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم لمن غسَّلن ابنته: "ابدأُنَ بميامنها ومواضع الوضوء منها" وصرفت السنة القولية هذا الأمر من الوجوب إلى الاستحباب؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم فيمن وقصته ناقته ومات -: "اغسلوه بماء وسدر" حيث أمر الشارع بالغسل مباشرة، بدون وضوء، فإن قلتَ: لمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ لأن توضئة الميت والبداية باليمين منه يُعتبر من المبالغة في التطهير وتحقيق البركة، تنبيه: قوله: "وكان ينبغي تأخيره عن نية الغسل" يقصد: أنه ينبغي للماتن - وهو الحجَّاوي -: أن يؤخِّر الكلام عن البدء بالميامن وتوضئته إلى ما بعد الكلام عن نية الغسل، أي: بعد قوله: "ثم ينوي غسله
…
" الذي سيأتي في مسألة (53) وهو صحيح.
(51)
مسألة: لا يُشرع أن يُدخل الغاسل الماء في أنف الميت ولا في فمه؛ للمصلحة؛ حيث إن ذلك قد يتسبَّب في دخول الماء إلى جوف الميت فينتفخ البطن، وقد ينفجر قبل دفنه، وقد يؤدي ذلك إلى استمرار خروج النجاسات، فيؤذي الغاسل، والحاملين له، فدفعًا لذلك ثبت هذا الحكم.
(52)
مسألة: يُستحب أن ينظّف الغاسل أسنان الميت ومنخريه بخرقةِ مبلولة بالماء، ويستعمل لذلك إصبعيه: السبَّابة والإبهام إن سهل؛ للقياس، بيانه: كما أن المتوضئ الحي يفعل ذلك بالماء أثناء المضمضة والاستنشاق، فكذلك الغاسل يفعله =
(ثم ينوي غسله)؛ لأنه طهارة تعبُّدية، فاشتُرطت له النية كغسل الجنابة
(53)
(ويُسمِّي) وجوبًا؛ لما تقدَّم
(54)
(ويغسل برغوة السدر) المضروب (رأسه ولحيته
= بالميت ولكن بدون ماء، والجامع: المبالغة في التطهير، فإن قلتَ: لمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه إزالة للروائح الكريهة، وشرع عدم استعمال الماء؛ لأنه لو استعمل لدخل جوفه، وهذا فيه مفسدة وقد بيناها في مسألة (51) تنبيه:
قوله: "بعد غسل كفي الميت" هذا قد سبق بيانه في مسألة (50).
(53)
مسألة: يجب على الغاسل أن ينوي غسل هذا الميت؛ للقياس، بيانه: كما أن الجنب يجب عليه إذا أراد الاغتسال أن ينوي ذلك فكذلك الغاسل ينوي غسل هذا الميت؛ لانعدامها من الميت، والجامع: أن كلًا منهما طهارة تعبُّدية لا تصح إلا بنية، فإن قلتَ: لمَ وجبت النية هنا؟ قلتُ: لأنه لا عمل في الإسلام إلا بنية؛ لكونه يُرجى من ورائه الأجر والثواب؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات" فإن قلتَ: لا تجب النية في غسل الميت، وهو قول بعض العلماء كأبي يعلى وتلميذه ابن عقيل؛ للقياس، بيانه: كما أن غسل النجاسة لا تجب فيه النية فكذلك لا تجب النية هنا، والجامع: أن كلًا منهما المقصود به إزالة النجاسات والتطهير قلتُ: إن غسل الميت يُشبه غسل الحي من الجنابة أكثر من شبهه لغسل النجاسة فألحقناه به، فأوجبنا النية فيه كما وجبت النية على المغتسل عن الجنابة؛ مع أنه في الحقيقة يُزيل النجاسة، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض القياسين" فألحقناه بغسل الجنابة لأنه أكثر شبهًا به عندنا، فأوجبنا النية، وألحقوه بغسل النجاسة لأنه أكثر شبهًا به عندهم فلم يوجبوا النية، وهذا يُسمَّى بـ "قياس الشَّبه أو غلبة الأشباه".
(54)
مسألة: يُستحب أن يُسمِّي الغاسل عند بدء غسله للميت؛ للقياس، بيانه: كما أن المغتسل عن الجنابة يُستحب أن يُسمِّي قبل اغتساله فكذلك هنا، ويُسمِّي =
فقط)؛ لأن الرأس أشرف الأعضاء، والرغوة لا تتعلَّق بالشعر
(55)
(ثم يغسل شقَّه الأيمن ثم) شقَّه (الأيسر)؛ للحديث السابق
(56)
(ثم) يغسله (كله) يفيض الماء على جميع بدنه، يفعل ما تقدَّم (ثلاثًا) إلا الوضوء: ففي المرة الأولى فقط (يُمرُّ في كل مرة) من الثلاث (يده على بطنه): ليُخرج ما تخلَّف (فإن لم ينق بثلاث) غَسَلات: (زيد حتى يُنقي ولو جاوز السبع) وكره اقتصاره في غسله على مرة إن لم يخرج منه شيء فيحرم الاقتصار ما دام يخرج منه شيء على ما دون السبع، وسُنَّ قطع على
= الغاسل؛ نظرًا لتعذُّر التسمية منه، والجامع: أن كلًا منهما عبادة يُتقرَّب بها إلى الله، فيُستحب أن يُبدأ بها باسمه سبحانه، فإن قلتَ: لمَ استحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه التسبُّب في حصول البركة تنبيه: قوله: "ويُسمِّى وجوبًا" يُشير إلى أن التسمية واجبة هنا؛ قياسًا على وجوبها في الوضوء والغسل والتيمُّم، وهذا مرجوح كما سبق بيانه؛ حيث بيَّنا في مسألة (16) من باب "السواك وسنن الوضوء": أن التسمية في الطهارات كلها مستحبة.
(55)
مسألة: يُستحب أن يغسل الغاسل رأس الميت ولحيته برغوة السدر - وهو زُبَدَه المتصاعد منه - أو برغوة الصابون؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم "اغسلوه بماء وسدر" وهو عام، فيشمل الرأس واللحية داخلة فيه وخصِّص "السدر" لما فيه من الرغوة، فإن قلتَ: لمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن الشعر تتعلَّق به عادة الأوساخ، فيُحتاج إلى عناية أكثر، والرغوة تزول عادة.
(56)
مسألة: يُستحب أن يبدأ الغاسل بغسل شقِّ الميت الأيمن، ثم يغسل شقه الأيسر؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم لمن يُغسِّلن ابنته -:"ابدان بميامنها" يسر فإن قلتَ: لمَ استحب ذلك؟ قلتُ للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تحقيق
البركة.
وتر،
(57)
ولا تجب مباشرة الغسل: فلو تُرك تحت ميزاب ونحوه، وحضر من يصلح لغسله، ونوى، وسمَّى، وعمَّه الماء: كفى
(58)
(ويجعل في الغسلة الأخيرة) ندبًا
(57)
مسألة: يُستحب أن يوضئ الغاسلُ الميت مرة واحدة فقط تكون قبل الغسلة = الأولى، ثم يغسل جميع بدنه مرة واحدة وجوبًا، ويُستحب أن يزيد في غسله إلى ثلاث مرات يمر في كل مرة على بطنه مع عصر خفيف، فإن لم ينظف بتلك الثلاث: فإنه يُستحب أن يغسله خمسًا، فإن لم ينظف فيغسله سبعًا، ويزيد حتى يتحقق التنظيف، ويقف على وتر، ويُكره الاقتصار على واحدة: سواء خرج منه شيء بعد ذلك أولًا؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم -لمن غسلن ابنته-: "اغسلنها ثلاثًا، أو خمسًا، أو سبعًا أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك" وقال: "اغسلوه بماء وسدر" وهو أمر مطلق، فيقتضي الوجوب، ويقتضي المرة الواحدة، وتبرأ الذمة بها وإن خرج منه شيء من النجاسات، والزيادة مستحبة وكره الوقوف على غسلة واحدة؛ لحرمان نفسه من أجر الاستحباب، والحديث الأول يدل على استحباب قطع غسله على وتر، لأن الله وتر يحب الوتر، فإن قلتَ: يحرم الاقتصار على المرة الواحدة إذا كان يخرج من الميت بعض النجاسات وهو ما ذكره المصنف هنا قلتُ: لم أجد دليلًا قويًا على ذلك، حيث إن التلازم قد دل على جواز الاقتصار على مرة واحدة وإن خرج منه شيء؛ حيث يلزم من تلك الغسلة: الخروج عن العهدة، وتبرئة الذمَّة، فلا يأثم إذا تركه بعد ذلك، وإن كان يخرج منه شيء من النجاسات.
(58)
مسألة: لا تجب مباشرة الغسل باليد أو بالخرقة، فلو وُضع الميت تحت ميزاب يصبُّ عليه الماء: لصح غسله بشروط: أولها: أن يعم الماء جميع بدنه، ثانيها: أن يحضر من يصلح لغسله - كما سبق في مسألة، (39)، ثالثها: أن ينوي هذا الحاضر غسله - كما سبق في مسألة (53)؛ للتلازم؛ حيث إنه يلزم من توفر تلك الشروط: صحة الغسل، فإن قلتَ: لمَ صحَّ ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن =
(كافورًا) وسدرًا؛ لأنه يُصلّب الجسد، ويطرد عنه الهوام برائحته
(59)
(والماء الحار) يُستعمل إذا احتيج إليه (والأشنان) يُستعمل إذا احتيج إليه (والخلال يُستعمل إذا احتيج إليه) فإن لم يُحتج إليها: كُرِهت
(60)
(ويقصُّ شاربه، ويُقلّم أظفاره) ندبًا إن طالا، ويؤخذ شعر إبطيه، ويجعل المأخوذ معه
(61)
كعضو
= ذلك فيه توسعة على العباد، ويتبين أثره عند بعضهم فيما لو مات رجل بين نساء أجانب عنه، أو ماتت امرأة بين رجال أجانب عنها، أو مات خنثى: فإنه يُصب على الميت ماء ولا يُمسَّ، وهذا أولى عندهم من أن يُيَمَّم قلتُ: بل إن فعل أحكام التيمم فيه موافق للمصلحة كما سبق في مسألة (36)، تنبيه: قوله: "وسمَّى" يشير إلى أن التسمية واجبة، وقد بينا أن التسمية مستحبة في مسألة (54).
(59)
مسألة: يُستحب أن يجعل الغاسل مع الغسلة الأخيرة للميت كافورًا - وهو: طيب أبيض يُشبه الشَّب؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم -لمن غسلن ابنته-: "واجعلن في الغسلة الأخيرة كافورًا" فإن قلتَ: لمَ استحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن الكافور أبرد أنواع الطيب، ورائحته تطرد الهوام والحشرات عن الميت، ويجعل جسد الميت صلبًا لا يتكسر.
(60)
مسألة: يُباح استعمال الماء الحار، والأشنان - وهو: يُشبه الصابون - في غسل الميت والخلال - وهو العود الذي يزيل ما علق بين الأسنان من طعام - وذلك لإزالة ما علق بالميت من قاذورات بشرط: الحاجة إليها، ويُكره استعمالها بدون حاجة إليها؛ للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه مبالغة في التطهير والتنظيف، وإذا استعملت بدون حاجة: فإنه يتسبَّب في تأخير تجهيز الميت، وهذا مخالف للمشروع؛ حيث إنه يُشرع الإسراع به كما سبق بيانه.
(61)
مسألة: يُستحب أن يقصَّ الغاسل شارب الميت، ويُقلّم أظفاره إن كان ذلك طويلًا، ويحلق شعر إبطيه، ويجعل ما يأخذه منه في كفنه؛ لقاعدتين: الأولى: =
سقط،
(62)
وحرم حلف رأسه،
(63)
وأخذ عانته
(64)
= قول الصحابي؛ حيث قال أنس رضي الله عنه: "اصنعوا بموتاكم كما تصنعون بعرائسكم" وهذا يلزم منه قصَّ الشارب، وتقليم الأظفار، وحلق الإبط: الثانية: القياس، بيانه: كما أن الحي يُستحب له أن يدفن ما أخذه من شعر أو ظفر فكذلك الميت مثله، والجامع: إكرام أجزاء الميت والحي، فإن قلتَ: لمَ استحب ذلك؟ قلتُ للمصلحة، حيث إن ذلك فيه مبالغة في تطهير وتنظيف وإكرام الميت وإعداده لمقابلة الملكين اللذين سيسألانه عند دخوله القبر.
(62)
مسألة: إذا قُطع من مسلم عضو، وانفصل عنه فيجب أن يُدفن؛ للمصلحة وهي من وجهين: أولهما: أن هذا العضو المقطوع يُعتبر جزءًا منه، فدفنه يُعتبر إكرامًا للمقطوع منه؛ لئلا يُتلاعب به، ثانيهما: أن دفنه فيه منع أذية الناس برائحته الكريهة، تنبيه: قاس المصنف دفن الشعر والظفر على دفن العضو إذا قطع قلتُ: هذا القياس فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ حيث إن الحكم قد اختلف: فدفن الشعر والظفر مستحب - كما سبق في مسألة (61) - ودفن العضو المقطوع واجب كما في مسألة (62)، ولا توجد علة جامعة بينهما.
(63)
مسألة: يحرم حلق رأس الميت؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد" حيث لم يرد من الشارع ما يدل على مشروعية حلقه، فيكون حلقه فعلًا مردودًا، والمردود حرام؛ لكونه من البدع، فإن قلتَ: لمَ حرم ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تشويه للميت.
(64)
مسألة: يحرم أخذ وحلق عانة الميت - وهو: النابت فوق الفرج من قُبُل -؛ للتلازم؛ حيث يلزم من تحريم النظر إلى العورة: تحريم حلق العانة؛ لأنه لا يتم ذلك الحلق إلا بالنظر إليها، فإن قلتَ: لمَ حرم ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه منع للفتنة.
كختن
(65)
(ولا يُسرَّح شعره) أي: يُكره ذلك؛ لما فيه من تقطيع الشعر من غير حاجة إليه
(66)
(ثم ينشَّف) ندبًا (بثوب) كما فُعل به صلى الله عليه وسلم
(67)
(ويضفَّر) ندبًا (شعرها) أي: الأنثى (ثلاثة قرون، ويُسدل وراءها)؛ لقول أمِّ عطية: "فضفَّرنا شعرها ثلاثة قرون وألقيناه خلفها" رواه البخاري
(68)
(وإن خرج منه) أي: الميت (شيء بعد سبع) غسلات: (حشي) المحل (بقطن)؛ ليمنع الخارج كالمستحاضة (فإن لم يستمك) بالقطن: (فبطين حر) أي: خالص؛ لأن فيه
(65)
مسألة: يحرم ختن الميت - وهو: قطع الجلدة التي فوق الحشفة - إذا كان غير مختون -؛ للتلازم؛ وقد سبق بيانه، مع المقصد الشرعي منه في مسألة (64)، وفيه - أيضًا - إيذاء للميت من غير حاجة.
(66)
مسألة: يُكره تسريح شعر الميت: كشعر رأسه ولحيته وتمشيطه؛ لقول الصحابي؛ حيث إن عائشة رضي الله عنها نهت عن ذلك، فإن قلتَ: لمَ كُرِه ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك يؤدي إلى تقطيع شعره وإيذائه، وإضاعة الوقت بلا حاجة.
(67)
مسألة: يُستحب أن يُنشَّف الميت بثوب بعد الفراغ من غسله وقبل تكفينه؛ لفعل الصحابي؛ حيث إن ذلك فعله بعض الصحابة الذين غسلوا النبي صلى الله عليه وسلم، فإن قلتَ: لمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه منع من تعفُّن الميت وظهور رائحة منه إذا كفن بدون ذلك.
(68)
مسألة: يُستحب أن يُضفَّر شعر المرأة الميتة: بأن يُقسَّم إلى ثلاثة قرون، ثم ترُخى وتُسدل وراءها؛ للسنة التقريرية؛ حيث قالت أمُّ عطية:"فضفَّرنا رأسها وناصيتها، وقرنيها ثلاثة قرون، وألقيناه خلفها" - تعني بنت النبي صلى الله عليه وسلم لما ماتت - ولم يُنكر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فإن قلتَ: لمَ استحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن هذا يزيد من حسنها لمقابلة ربها والملكين، وهو يساعد أيضًا على جمع رأسها.
قوة تمنع الخارج (ثم يغسل المحلَّ) المتنجِّس بالخارج (ويُوضأ) الميت وجوبًا كالجنب إذا أحدث بعد الغسل
(69)
(وإن خرج) منه شيء (بعد تكفينه: لم يُعد الغسل)؛ دفعًا للمشقة،
(70)
ولا بأس بقول غاسل له: "انقلب يرحمك الله" ونحوه،
(71)
ولا يُغسِّله في حمَّام
(72)
(ومحرم) بحج أو عمرة (ميت كحي يُغسل بماء وسدر) لا كافور (ولا
(69)
مسألة: إذا خرج من الميت شيء من النجاسات بعد غسله المرة السابعة: فيجب أن يسدَّ الغاسل محلَّ خروج النجاسة بشيء من القطن، فإن لم ينسد: فيسدُّه بطين خالص - وهو: الطين الأبيض الذي لم يخالطه رمل -، ثم يغسل المحلَّ، ثم يُوضئه كوضوء الصلاة، ثم يكفّنه؛ للقياس، وهو من وجهين: أولهما: كما أن المستحاضة تسدُّ ما يخرج منها من الدماء بشيء من القطن بعد غسلها من الجنابة، فكذلك الميت هنا مثلها والجامع: دفع المشقة في كل، ثانيهما: كما أن الجنب إذا أحدث بعد اغتساله يتوضأ للصلاة، فكذلك الميت هنا مثله والجامع: أن كلًا منهما قد أحدث بعد الطهارة، فإن قلتَ: لمَ يُفعل ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه احتياط وتأكد تطهيره.
(70)
مسألة: إذا خرج شيء من الميت بعد تكفينه: فلا يُعاد غسله، بل يُصلى عليه مباشرة: سواء خرج هذا بعد السابعة أو قبلها، وسواء كان الخارج قليلًا أو كثيرًا؛ للمصلحة؛ حيث إن فكَّ كفنه وتغسيله، ثم تكفينه مرة أخرى فيه مشقة، فدفعًا لذلك: شرع هذا.
(71)
مسألة: لا يُشرع أن يقول الغاسل شيئًا أثناء غسله للميت؛ للتلازم؛ حيث إن هذا القول غير مفيد فيلزم عدم مشروعيته، فإن قلتَ: يُباح أن يقول: "انقلب يرحمك الله" أو "أرحني" ونحوهما قلتُ: لم أجد دليلًا قويًا على ذلك.
(72)
مسألة: لا يُغسل الميت في الحمَّام العام؛ للقياس، بيانه: كما أنه لا يغتسل الحي من الجنابة في الحمام العام فكذلك الميت مثله، والجامع: عدم الستر الكامل في كل.
يُقرِّب طيبًا) مطلقًا (ولا يلبس ذكر مخيطًا) من قميص ونحوه (ولا يُغطَّى رأسه، ولا وجه أنثى) محرمة، ولا يؤخذ شيء من شعرهما وظفرهما؛ لما في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهم:"أن النبي صلى الله عليه وسلم قال - في محرم مات -: "اغسلوه بماء وسدر، وكفّنوه في ثوبيه، ولا تحنِّطوه، ولا تخمروا رأسه، فإنه يُبعث يوم القيامة مُلبِّيًا"،
(73)
ولا تُمنع معتدَّة من طيب
(74)
وتُزال اللصوق لغسل واجب إن لم يسقط من جسده
(73)
مسألة: إذا مات محرم في حج أو عمرة: فإنه يُفعل به كما يُفعل بمن مات وهو غير محرم: من تغسيل، وتكفين، وصلاة عليه، ودفن، إلا أنه لا يُطيَّب، ولا يُلبس الرجل مخيطًا ولا يُغطى رأسه، ولا يُغطى وجه المرأة إن لم تكن عند أجانب، ولا يؤخذ من شعرهما، ولا ظفرهما كما يفعل لو كان محرمًا حيًا؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم في الرجل الذي وقصته ناقته في عرفة فمات -:"اغسلوه بماء وسدر، وكفِّنوه في ثوبيه، ولا تُمسُّوه طيبًا ولا تخمِّروا رأسه، فإن الله يبعثه يوم القيامة مُلبيًا" حيث أوجب تغسيله وتكفينه كغيره؛ لأن الأمر مطلق، فيقتضي الوجوب، وحرم مسُّه بطيب وتغطية رأسه، لأن النهي مطلق فيقتضي التحريم؛ ويلزم من قوله:"فإنه يُبعث مُلبيًا" تحريم لبسه المخيط، وعدم تغطية المرأة لوجهها، وتحريم أخذ شيء من شعره وظفره؛ لكونه في حالة إحرام بنسكٍ، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن هذا فيه جمع بين تطهيره وبقائه على نسكه.
(74)
مسألة: إذا ماتت امرأة معتدَّة بعدَّة وفاة: فإنها تُطيب بكافور وغيره كغيرها؛ للتلازم؛ حيث إن الإحداد قد سقط عنها بسبب موتها فيلزم عدم المنع من تطيبها كغيرها من الميتات غير المعتدَّات، فإن قلتَ: لمَ ذكرت المعتدَّة هنا مع أنها مثل غيرها؟ قلتُ: لأن المعتدَّة تمنع من التطيب كما يُمنع المحرم في حال الحياة، وذكرت هنا؛ لنفي الحرج في المعتدَّة وإنها تُطيب إذا ماتت، بخلاف من مات وهو محرم.
شيء بإزالتها فيُمسح عليها كجبيرة الحي،
(75)
ويُزال خاتم ونحوه ولو ببرده"
(76)
(ولا يُغسل شهيد معركة ومقتول ظلمًا) ولو انثيين، أو غير مكلَّفين؛ لأنه صلى الله عليه وسلم في شهداء أحد أمر بدفنهم بدمائهم ولم يغسلهم، وروى أبو داود عن سعيد بن زيد قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قُتل دون دمه فهو شهيد، ومن قُتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد" وصحَّحه الترمذي (إلا أن يكون) الشهيد أو المقتول ظلمًا (جُنبًا) أو وجب عليهما الغسل الحيض، أو نفاس أو إسلام
(77)
(75)
مسألة: إذا كان على جسد الميت لصوق وجبائر كخرق وقطن تمنع من وصول الماء إلى بشرته: فيجب نزعها وغسل ما تحتها بشرط: أن لا يتضرَّر جسده بسبب ذلك النزع؛ أما إن وجد ضرر: فتترك ويُمسح عليها؛ للقياس، بيانه: كما أن جبيرة الحي تُزال عند اغتساله من جنابة أو حيض أو نفاس عند عدم الضرر؛ لإيصال الماء إلى البشرة، ولا تُزال عند وجود الضرر، فكذلك الميت، والجامع: إيصال الماء إلى البشرة؛ لوجوبه، ورفع الضرر في كل.
(76)
مسألة: يجب أن يُزال ما على بدن الميت من خاتم، وحِلَق، وأسورة ونحوها؛ للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه إضاعة مال، وقد يمنع الماء من الوصول إلى بعض البشرة.
(77)
مسألة: لا يُغسَّل من مات شهيدًا في معركة قاتل فيها الكفار الإعلاء كلمة الله: سواء كان مُكلَّفًا أو لا، وسواء كان ذكرًا أو أنثى، وسواء كان عليه ما يوجب الغسل أو لا؛ للسنة القولية؛ حيث أمر صلى الله عليه وسلم بشهداء أحد أن يُدفنوا بدمائهم، ولم يغسلهم، ولم يُصلِّ عليهم، وهذا عام لجميع من ذكرنا ولم يسأل النبي صلى الله عليه وسلم هل على أحد منهم حدث أكبر أو لا؟ وترك الاستفصال عن الحال ينزل منزلة العموم في المقال، فإن قلتَ: لمَ شرع هذا؟ قلتُ: لأمرين: أولهما: =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= المصلحة؛ حيث إن غسلهم فيه مشقة؛ نظرًا لكثرة المقتولين في المعارك عادة، ولوجود التّعب عند الأحياء من أثر المعركة، ولو تركوا إلى ما بعد الراحة لظهرت روائح كريهة منهم، ثانيهما: أن تغسيله فيه إزالة لأثر عبادة مستطابة شرعًا وهي: الدماء، وهذا مكروه، كما قلنا في السواك بعد الظهر من يوم صوم، فإن قلتَ: المقتول ظلمًا لا يُغسل أيضًا - وهو ما ذكره المصنف هنا -؛ للقياس، بيانه: كما أن شهيد المعركة، لا يغسل فكذلك هذا مثله، والجامع: أن كلًا منهما شهيد، لكونه قُتل دون وجه حق؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم:"من قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد" قلتُ: هذا فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ حيث إن المقتول في المعركة يشق غسله - كما سبق بيانه، وهو لم يُكره على القتال، بخلاف المقتول ظلمًا دون ماله أو أهله فلا يشق غسله لندرته، وهو مكره على القتال فإن قلتَ: إن المقتول ظلمًا قد شارك المقتول في المعركة في التسمية وهو "الشهيد" فيلزم من ذلك مشاركته في الحكم وهو: عدم غسله قلتُ: لا نسلِّم هذا التلازم، فالشارع قد سمَّى المبطون، والغريق، والحريق شهيدًا، ولم يقل أحد من العلماء أن هؤلاء الثلاثة لا يغسلون مع أنهم يُشاركون المقتول في المعركة في اسم "الشهيد" فليست المشاركة في الاسم تقتضي المشاركة في الحكم والأجر، يؤيده: فعل الصحابي؛ حيث إنه قد غُسل عمر وعلي رضي الله عنهم مع أنهما قد قُتلا ظلمًا تنبيه: وجوب غسل المقتول ظلمًا هو مذهب جمهور العلماء؛ لعموم أدلة وجوب غسل الميت بدون معركة، فإن قلتَ: ما الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض القياس مع السنة القولية" فعندنا: يُعمل بالسنة؛ لضعف القياس هنا؛ وعندهم: يُعمل بالقياس؛ نظرًا لقوته فإن قلتَ: إن شهيد المعركة يُغسل إذا كان عليه ما يوجب الغسل كجنابة، أو حيض أو نفاس، وهو ما =
(ويدفن) وجوبًا (بدمه) إلا أن تخالطه نجاسة فيغسلا (في ثيابه) التي قُتل فيها (بعد نزع السلاح والجلود عنه)؛ لما روى أبو داود وابن ماجه عن ابن عباس: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتلى أحد أن يُنزع عنهم الحديد والجلود، وأن يدفنوا في ثيابهم بدمائهم"، (وإن سُلبها: كُفّن بغيرها) وجوبًا
(78)
(ولا يُصلَّى عليه)؛ للأخبار؛ لكونهم أحياء
= ذكره المصنف هنا للسنة؛ التقريريرية؛ حيث إن حنظلة بن الراهب قتل يوم أحد فقال صلى الله عليه وسلم: "ما شأن حنظلة، فإني رأيتُ الملائكة تغسله" قالوا: "إنه جامع امرأته، ثم خرج للقتال، فقُتل" فهذا يلزم منه: أن الشهيد إذا كان عليه جنابة أو غيرها مما يُوجب الغسل يُغسل لذلك، لا لأجل الموت قلتُ: هذا من باب التكريم؛ لكونه لا يُحسُّ ولا يُرى، وهذا لا يلزم منه: تغسيل البشر له فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض السنة التقريرية مع السنة القولية" فعندنا: يُعمل بالسنة القولية؛ لعمومها، وعندهم: يُعمل بالتقريرية وهي مخصِّصة لعموم السنة القولية عندهم تنبيه: قوله: "أو المقتول ظلمًا" هذا بناء على مذهبه المرجوح.
(78)
مسألة: يُدفن شهيد المعركة بثيابه التي قُتل فيها بعد أن يُنزع كلُّ ما عليه من سلاح وجلود، وخِفاف، وإن لم يكن عليه ثياب - كمن أخذ ثيابه العدو-: فيُكفن بثياب غيرها، وإن علقت به نجاسة: فتغسل؛ لقواعد: الأولى: السنة القولية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم "قد أمر بقتلى أحد أن يُنزع عنهم الحديد والجلود، وأن يُدفنوا في ثيابهم بدمائهم" الثانية: القياس، بيانه: كما أنه لا يُدفن أحد عريانًا، فكذلك شهيد المعركة إذا سلبه الكفار ثيابه لا يُدفن عريانًا بل يكفَّن، والجامع: الستر في كل، الثالثة: المصلحة؛ حيث إن غسل النجاسة فيه دفع مفسدة دفنه بنجاسته وإن زال مع غسلها بعض الدم وهو أثر عبادة لا يُزال؛ لأن دفع المفسدة مُقدَّم على جلب المصلحة.
عند ربهم
(79)
(وإن سقط عن دابته) أو شاهق بغير فعل العدو (أو وجد ميتًا ولا أثر به) أو مات حتف أنفه، أو برفسة، أو عاد سهمه عليه، (أو حمل فأكل) أو شرب، أو نام، أو بال أو تكلَّم، أو عطس (أو طال بقاؤه عرفًا: غُسِّل وصلي عليه) كغيره،
(80)
ويُغسَّل الباغي، ويصلى عليه، ويُقتل قاطع الطريق، ويغسل ويصلى
(79)
مسألة: لا يُصلَّى على شهيد المعركة، صلاة الجنازة، بل يُدفن بعد الفراغ من المعركة مباشرة؛ للسنة القولية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد أمر بدفن شهداء أحد، ولم يُصلَّ عليهم، فإن قلتَ: لمَ لا يصلى عليه؟ قلتُ: لأمرين: أولهما: أن الصلاة شرعت على الأموات، والشهداء أحياء عند ربهم، والحي لا يُصلَّى عليه، ثانيهما: أن الصلاة إنما شُرعت للشفاعة للميت والدعاء له، والشهيد قد أغناه الله بنيل الشهادة عن الشفاعة والدعاء؛ حيث إن الشهيد يشفع في سبعين من أهله، فإن قلتَ: يُصلَّى عليه استحبابًا؛ للسنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد خرج يومًا فصلى على قتلى أحد صلاته على الميت قلتُ: إن هذه صلاة مودِّع لهم؛ حيث إن هذا الخروج كان بعد ثمان سنوات من موتهم كما كان يخرج إلى من دفن في البقيع فيستغفر لهم كالمودِّع للأحياء، والأموات مثلهم كما قال ابن القيم في "زاد المعاد" فإن قلتَ: ما الخلاف؟ قلتُ: سببه: "تعارض السنة الفعلية مع القولية" فعندنا يعمل بالقولية؛ لضعف الفعلية، وعندهم: يعمل بالفعلية.
(80)
مسألة: إذا خرج مسلم لقتال الكفار ولكنه مات بسبب سقوطه عن دابته أو شاهق، أو وُجد ميتًا بساحة المعركة ولم يوجد فيه أثر الجرح أو ضرب، أو وجد ميتًا على فراشه، أو مات بسبب رفس دابته له، أو وطأته سيارة، أو مات بسبب عود سهمه عليه، أو قاتل ثم جرح، ثم حمل، ثم أكل أو شرب، أو نام أو بال أو تكلم أو عطس ونحو ذلك ثم مات، أو طال بقاؤه بعد الانتهاء من المعركة: فإن هذا يُغسَّل، ويُصلَّى عليه؛ لقاعدتين: الأولى: السنة الفعلية؛ حيث =
عليه ثم يُصلب
(81)
(والسقط إذا بلغ أربعة أشهر: غُسِّل وصُلِّي عليه) وإن لم يستهل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "والسَّقط يُصلَّى عليه، ويُدعى لوالديه بالمغفرة والرحمة" رواه، أحمد وأبو داود،
(82)
وتُستحبُّ تسميته، فإن جُهل أذكر هو أم أنثى؟: سُمِّي بصالح
= إن سعد بن معاذ قد أصابه سهم يوم الخندق، فحُمل إلى المسجد، وبقي مدة، ثم مات، فغُسِّل، وصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم، الثانية: القياس، بيانه: كما أنه يُغسَّل كل ميت ويُصلّى عليه فكذلك هذا مثلهم والجامع: عدم الموت بسلاح العدو مباشرة في كل.
(81)
مسألة: يُغسَّل البغاة والسارقون، وشاربو الخمر، والمقتولون بحد أو قصاص أو تعزير، وكذا: قطاع الطرق، ويُصلى عليهم، ثم يصلب قاطع الطريق بتعليقه على عود قوي مدَّة حتى يراه الناس؛ لقاعدتين: الأولى: السنة الفعلية؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم يُغسِّل ويصلي على كل أحد مات إلا شهيد المعركة، والغالَّ، - وهو: الذي يكتم شيئًا من الغنيمة؛ ليأخذها لنفسه -، وكذا لم يصل على قاتل نفسه، والبُغاة وقُطَّاع الطرق ليسوا من هؤلاء الثلاثة، الثانية: الاستصحاب؛ حيث إن الأصل وجوب تغسيل كل ميت والصلاة عليه، فيُستصحب ذلك ويُعمل به في الجميع - والشهيد، والغالُّ، وقاتل نفسه قد ورد ما يُخصِّصهم، ويبقى الباقي على الأصل.
(82)
مسألة: يُغسَّل السَّقط - وهو: الذي تضعه أمُّه ميتًا - ويُكفن، ويُصلَّى عليه بشرط: أن يكون قد بلغ في بطن أمه أربعة أشهر - (120 يومًا) -، أما إذا لم يبلغ ذلك: فإنه يُلفُّ بخرقة، ويُدفن، بلا غسل ولا كفن ولا صلاة؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم:"والسقط يُصلَّى عليه، ويُدعى لوالديه بالمغفرة والرحمة" ويلزم من الصلاة عليه: أنه يُغسَّل ويُكفَّن قبل ذلك وهذا عام لمن بلغ أربعة أشهر، ومن لم يبلغ لأن "السقط" مفرد محلى بأل وهو من صيغ العموم، =
لهما
(83)
(ومن تعذَّر غسله)؛ لعدم الماء أو غيره كالحرق، والجذام، والتبضيع:(يُمِّم) كالجنُب إذا تعذَّر عليه الغسل، وإن تعذَّر غسل بعضه: غُسِّل ما أمكن، ويُمم للباقي
(84)
(و) يجب (على الغاسل ستر ما رآه) من الميت (إن لم يكن حسنًا) فيلزمه
= فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إنه قد توفرت فيه صفة الإنسانية، ونُفخت فيه الروح، وهو من أولاد المسلمين؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم:"إن الجنين يكون في بطن أمه أربعين يومًا نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم مضغة مثل ذلك، فهذه أربعة أشهر، ثم يُرسل له الملك فينفخ فيه الروح" فهذا يلزم منه: أن يكون بعد أربعة أشهر إنسانًا كاملًا، بخلاف من هو أقل من ذلك، ولذا يُفعل به كما يُفعل بالبالغين من الاحترام، والتقدير، والتكريم في الحياة وبعد الممات، وهذا قد خصَّص عموم السنة القولية وهو قوله:"السقط يُصلّى عليه .. ".
(83)
مسألة: يُستحب أن يُسمَّى هذا السقط قبل تغسيله وتكفينه والصلاة عليه ودفنه، فإن لم يُعلم جنسه هل هو ذكر أم أنثى؟: فإنه يُسمَّى باسم صالح لهما مثل: "نعمة الله" و "هبة الله" و "فضل الله"؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "سموا أسقاطكم فإنهم أسلافكم" فإن قلتَ: لمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: لأنه في يوم القيامة يُدعى كل شخص باسمه.
(84)
مسألة: إذا عُدِم الماء، أو كان لا يكفي لغسله كله، أو كان فيه جروح أو حروق، أو كان غريقًا خشي من غسله أن يتقطَّع: فإن هذا لا يُغسَّل، أو يُغسَّل بما توفر من الماء، أو يُغسَّل الجانب الذي لا يتضرَّر بالغسل، ويُترك الباقي: ثم يُفعل به كما يفعل المتيمِّم، وإن لم يوجد ماء ولا تراب: فإنه يصلى عليه ويُدفن على حاله، فإن وجد الماء قبل دفنه: غُسِّل وصُلِّي عليه مرة ثانية، وإن وجد بعد دفنه: فلا يُخرج من قبره، بل يُترك؛ للقياس، بيانه كما أن الجنب إذا لم يجد الماء، أو يتضرَّر باستعماله يفعل ما يستطيعه، ويتمَّم للباقي، وإن وجد الماء =
ستر الشر، لا إظهار الخير،
(85)
ونرجو للمحسن، ونخاف على المسيء،
(86)
ولا
= قبل خروج الوقت يغتسل، ويُعيد الصلاة، فكذلك يُفعل بالميت والجامع: أن كلًا منهما معذور فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه دفع الضرر، واستعمال ما يُستطاع استعماله وفيه دفع مشقة نبشِهِ أصله قوله تعالى:"فاتقوا الله ما استطعتم" وقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم".
(85)
مسألة: يجب على الغاسل: أن يستر ما رآه على الميت من الأشياء القبيحة، ويُستحب إظهار ما رآه عليه من محاسن؛ للسنة القولية؛ وهي من وجهين: أولهما: قوله صلى الله عليه وسلم: "اذكروا محاسن موتاكم، وكفُّوا عن مساوئهم" والذي صرف الأمر مر من الوجوب إلى الاستحباب هنا: فعل الصحابي؛ حيث إن بعضهم لا يذكر محاسن من غسله من الصالحين، والنهي في قوله:"وكفوا" مطلق فيقتضي تحريم ذكر المساوئ، وترك المحرم واجب، ثانيهما: قوله صلى الله عليه وسلم: "من ستر عورة مسلم ستره الله في الدنيا والآخرة" وهو عام فيشمل الأحياء والأموات؛ لأن "من" الشرطية من صيغ العموم، فإن قلتَ: لمَ شرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه إكرام المسلم بسبب ستر ما ظهر من المساوئ عليه، وفي إظهار الحسن تذكير الناس بالدعاء، له، والاقتداء بما كان يعمل، تنبيه: قوله: "لا إظهار الخير" يُشير به إلى أن إظهار الخير مباح، قلتُ: وهذا فيه نظر؛ لكونه يرقى إلى درجة الاستحباب؛ لما فيه من المصالح كما سبق.
(86)
مسألة: يُستحب للمسلم أن يرجو للمحسن والصالح أن يُوفِّيه الله تعالى أجره كما وعده، ويخاف على المسيء أن يؤاخذه الله بما فعل فيدعو للاثنين قائلًا:"اللهم جازه بالحسنات إحسانًا وبالسيئات عفوًا وغفرانًا"؛ للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه جلب مصلحة ودفع مفسدة.
نشهد إلا لمن شهد له النبي صلى الله عليه وسلم
(87)
ويحرم سوء الظن بمسلم ظاهر العدالة، ويُستحب ظن الخير بالمسلم
(88)
فصل: في الكفن (يجب تكفينه في ماله)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في المحرم -: "كفّنوه في ثوبيه" مقدَّمًا على دين) ولو برهن (وغيره) من وصية وإرث؛ لأن المفلس يُقدَّم بالكسوة على الدَّين، فكذا: الميت،
(89)
فيجب لحقِّ الله
(87)
مسألة: يحرم أن يشهد شخص لشخص آخر بأنه في الجنة، وإن كان ظاهره أنه صالح مصلح، أو يشهد بأنه في النار وإن كان ظاهره أنه فاسد مفسد، بل يشهد بما شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة كالعشرة المبشرين بالجنة، ويشهد بما شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالنار؛ للإجماع؛ حيث أجمع أهل السنة والجماعة على ذلك، فإن قلتَ: لمَ شرع هذا؟ قلتُ: لعدم العلم بحقيقة الأمر، فقد يظهر بعضهم الصلاح، وهو في الحقيقة فاسد، وقد يظهر من بعضهم الفساد وهو في الحقيقة صالح، أما ما يشهد به النبي صلى الله عليه وسلم فقد أخبره به الله عز وجل، فيكون حقًا.
(88)
مسألة: تحرم إساءة الظن بالمسلم الذي ظاهره العدالة - وهو: من اجتمع فيه التقوى والمروءة -، ويُستحب أن يظن الخير فيه: سواء كان حيًا أو ميتًا، أما من ظاهره الفسق: فيُباح سوء الظن به؛ للتلازم؛ حيث يلزم ممن ظاهره العدالة: تحريم إساءة الظن به، لقربه من الصلاح، وبعده عن السوء، ويلزم ممن ظهر فسقه: إباحة سوء الظن به؛ لقربه من السوء، فإن قلتَ: لمَ شرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك يؤدِّي إلى التواصل بين المسلمين العدول، والتوادد والمحبة والتعاون فيما بينهم، وترك الفسَّاق، وإهانتهم، حتى يرجعوا عمَّا هم عليه.
(89)
مسألة: يجب أن يؤخذ كفن الميت من ماله بعد موته مباشرة قبل قضاء دينه ووصيته، وقبل تقسيم ماله على الورثة؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم فيمن وقصته ناقته بعرفة فمات -: "كفِّنوه في ثوبيه" فأوجب تكفينه في ثوبيه ولم يستفصل عن دين أو وصية ونحو ذلك؛ لأن الأمر مطلق =
وحقِّ الميت ثوب لا يصف البشرة، يستر جميعه
(90)
من ملبوس مثله،
(91)
ما لم يوص بدونه،
(92)
والجديد أفضل
(93)
(فإن لم يكن له) أي:
= فيقتضي الوجوب والفور، الثانية: القياس، بيانه: كما أن المفلس المدين يؤخذ مما عنده ليستره من كسوة، ويُقدَّم على قضاء دينه، فكذلك الميت مثله، والجامع: ستر المسلم حيًا وميتًا، فإن قلتَ: لمَ وجب ذلك؟ قلتُ: لأن الكفن الذي يكون من ماله: أنقى وأطهر، ولا تلحقه فيه منة.
(90)
مسألة: يجب أن يكون الكفن ساترًا الجميع بدن الميت، لا يُعلم لون البشرة أهي بيضاء أو سوداء؟ للمصلحة؛ حيث إن الله أمر بستر المسلم حيًا وميتًا، وهو حق للميت فيلزم أن يكون الكفن ساترًا للميت، لا يصف البشرة عملًا بالحقين، وإكرامًا للمسلم.
(91)
مسألة: يجب أن يكون الكفن عاديًا، يلبسه من هو مثله، فلا يُغالى فيه، ولو أوصى الميت بأن يُكفن بكفن غال في الثمن: فلا تُنفَّذ تلك الوصية؛ بل يُكفَّن مثل غيره؛ للمصلحة؛ حيث إن الكفن الغالي فيه إسراف وإضاعة للمال، والله لا يُحب المسرفين.
(92)
مسألة: إذا أوصى الميت بأن يُكفَّن بشيء أقل من ملبوس مثله: فيجب تنفيذ تلك الوصية؛ للتلازم؛ حيث إن تكفينه بملبوس مثله حقٌّ له، فيلزم من وصيته، بأن يكفن بأقل منه أن تُقبل؛ لأنه يُعتبر قد تنازل عن حقه.
(93)
مسألة: يُستحب أن يكفن بشيء جديد؛ لفعل الصحابي؛ حيث إن الذين كفنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم كفَّنوه بثلاثة أثواب سحولية جُدُد - كما قالت عائشة - فإن قلتَ: لمَ استحب ذلك؟ قلتُ: لتكريم الميت، وتحسينه أمام الناظرين. [فرع]: إذا أوصى الميت بأن يُكفَّن بشيء قديم: فيجب تنفيذ وصيته؛ لقول الصحابي؛ حيث =
للميت (مال فـ) كفنه ومؤنة تجهيزه (على من تلزمه نفقته)؛ لأن ذلك يلزمه حال الحياة، فكذا: بعد الموت (إلا لزوج لا يلزمه كفن امرأته) ولو غنيًا؛ لأن الكسوة وجبت عليه بالزوجية، والتمكُّن من الاستمتاع، وقد انقطع ذلك بالموت،
(94)
فإن
= إن أبا بكر رضي الله عنه قال: "كفِّنوني في ثوبي هذين؛ لأن الحي أحوج إلى الجديد من الميت، وإنما هما للمُهْل والتراب" و "المهل": الصديد والقيح - كما قال أبو عبيدة كما في اللسان (11/ 634)، فإن قلتَ: لمَ شرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن الكفن سيذهب مع التراب، والتكفين بالجديد إضاعة للمال، وإسراف، والله لا يحب المسرفين، ولقد صدق أبو بكر رضي الله عنه في مقالته.
(94)
مسألة: إذا لم يكن للميت مال: فجميع لوازم تجهيزه: من كفن، وحمل، ودفن تؤخذ ممن تلزمه نفقته، ومؤنته في حال الحياة، فيجب على الآباء وإن علوا أن يُجهزوا أولادهم وإن نزلوا، ويجب على الأبناء وإن نزلوا أن يجهزوا آباءهم وإن علو وهكذا؛ للقياس، بيانه: كما أن نفقته تلزمه حال الحياة، فكذلك تلزمه بعد الممات من تجهيزه، والجامع: أن كلًا منها نفقة لازمة، فإن قلتَ: لمَ شرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه قطع للمنَّة من الأجانب، فإن قلتَ: إن الزوج لا يلزمه تجهيز زوجته إذا ماتت - وإن كانت نفقتها تلزمه في حال حياتها - وهو ما ذكر المصنف هنا -؛ للتلازم؛ حيث إن عقد النكاح شرع لحلِّ الاستمتاع بالزوجة واستيلاءها، ويلزم من ذلك: النفقة عليها وكسوتها، فيلزم من انقطاع الاستمتاع والاستيلاء بالموت: انقطاع النفقة عليها وكسوتها، قلتُ: هذا لا يُسلَّم، بل يجب على الزوج تجهيز زوجته، وهو قول أكثر العلماء؛ للقياس الذي ذكرناه، وهي قاعدة عامة لجميع من تلزمه نفقته في حال الحياة، وكذا: التلازم؛ حيث يلزم من العشرة بالمعروف والمكافأة بالجميل: وجوب تجهيزها على الزوج، أما التلازم الذي =
عدم مال الميت، ومن تلزمه نفقته: فمن بيت المال إن كان مسلمًا،
(95)
فإن لم يكن: فعلى المسلمين العالمين بحاله،
(96)
قال الشيخ تقي الدين: من ظنَّ أن غيره لا يقوم به تعيَّن عليه،
(97)
فإن أراد بعض الورثة: أن ينفرد به: لم يلزم بقية الورثة
= ذكروه فمنقوض بالمريضة؛ حيث إنه قد أجمع العلماء على وجوب نفقتها مع أنه لا يُستمتع بها، ولا تصلح للاستيلاء فكذا الميتة فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض التلازم مع القياس" فعندنا يعمل بالقياس وهو عام، وعندهم: يعمل بالتلازم؛ حيث إنه قد خصَّص عموم ذلك القياس.
(95)
مسألة: إذا لم نجد مالًا للميت، ولم نجد من يُنفق عليه، أو تعذَّر ذلك: فإنه يُجهَّز من بيت مال المسلمين؛ للتلازم؛ حيث إن هذا البيت قد وضع لقضاء مصالح المسلمين، فيلزم تجهيزه منه، فإن قلتَ: لمَ شرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه قطع لمَّنة الأجانب عليه.
(96)
مسألة: إذا لم يكن للميت مال، ولا يوجد من ينفق عليه، وتعذَّر تجهيزه من بيت المال فيجب على عامة المسلمين العالمين بحال هذا الميت تجهيزه وجوبًا كفائيًا - فإذا قام به من يكفي سقط الإثم عن الجميع، وإن تركوه مع علمهم به: أثم الجميع -؛ للقياس، بيانه: كما أن الحي العاجز عن نفقة نفسه: يُنفق عليه من تلزمه نفقته من أقربائه، فإن تعذَّر فمن بيت المال، فإن تعذَّر فعلى عامة المسلمين فكذلك الميت مثله، بجامع: العجز في كل، فإن قلتَ: لمَ وجب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تعاون وتكافل اجتماعي.
(97)
مسألة: إذا قطع أو غلب على ظنِّ زيد عدم وجود غيره يقوم بالنفقة والتجهيز لعمرو: فإن ذلك يجب على زيد وجوبًا عينيًا، وهذا من صور انقلاب الواجب الكفائي إلى واجب عيني؛ للتلازم والمصلحة؛ حيث يلزم من عدم وجود غيره: وجوب ذلك عليه؛ لئلا يهلك عمرو، أو يؤذي غيره برائحته =
قبوله،
(98)
لكن ليس للبقية نبشه وسلبه من كفته بعد دفنه،
(99)
وإذا مات إنسان مع جماعة في سفر: كفَّنوه من ماله، فإن لم يكن: كفَّنوه ورجعوا على تركته، أو من تلزمه نفقته إن نووا الرجوع
(100)
(ويُستحب تكفين رجل في ثلاث لفائف بيض) من قطن؛ لقول عائشة رضي الله عنها: "كُفّن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب بيض
= إذا لم يُجهَّز إذا مات، وهذا فيه دفع مفسدة، وهذا هو المقصد الشرعي منه، وقد بسطتُ الكلام عن ذلك في المجلد الأول من كتابَي:"المهذب" و "الإتحاف" تحت عنوان: "متى ينقلب فرض الكفاية إلى فرض عين؟ ".
(98)
مسألة: إذا أراد واحد من الورثة، أو من الأجانب أن ينفرد بدفع جميع تكاليف تجهيز مورِّثهم: من كفن وحمل، ودفن، فلبقية الورثة أن يمتنعوا، ويطلبوا المشاركة في ذلك؛ للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه منع وجود المنَّة من هذا المنفرد على الورثة أو على الميت.
(99)
مسألة: إذا انفرد واحد من الورثة أو من الأجانب بتجهيز مورِّثهم، ثم دُفن: فلا يجوز لأحد من بقية الورثة أن ينبشه ويسلبه كفنه لأجل أن يشترك في ذلك؛ للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه مشقة وحرج عظيم: فقد يتغَّير الميت بعد دفنه - وهو الغالب - فيتأثر النابش بما رآه.
(100)
مسألة: إذا مات مسلم مع جماعة في سفر أو حضر: فيجب أن يُجِّهزوه من ماله، فإن لم يوجد معه مال: جهزوه من مالهم، ويجوز لهم أخذ ما جهَّزوه به من تركته أو ممن تلزمهم نفقته إذا رجعوا، بشرط: أن ينووا ذلك في حال تجهيزهم له، أما إذا لم ينووا ذلك: فلا يأخذوا منهم شيئًا؛ للمصلحة؛ حيث إن أخذهم المال الذي جهَّزوه به ممن تلزمهم نفقته فيه منع منَّتهم على الميت، وعلى أقربائه، ولا يأخذون إذا لم ينووا الأخذ منهم؛ لأن التجهيز عبادة، ولا يؤخذ مقابلها شيء.
سحولية جُدُد يمانية ليس فيها قميص، ولا عمامة أدرج فيها إدراجًا" متفق عليه،
(101)
ويُقدَّم بتكفين من يُقدَّم بغسل،
(102)
ونائبه كهو، والأولى: تولِّيه بنفسه
(103)
(تجمر) أي: تبخر بعد رشها بماء ورد أو غيره؛ ليعلق (ثم تُبسط بعضها
(101)
مسألة: يُستحب أن يكفن الرجل في ثلاث لفائف - تُلفُّ عليه - تكون بيضاء نقية، ليس فيها قميص، ولا عمامة، ولا سراويل ولا غير ذلك؛ لفعل الصحابي؛ حيث إن من كفَّن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصحابة قد كفَّنوه بذلك، فإن قلتَ: لمَ استحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك أستر للميت، وأطهر وأطيب، وفيه تفاؤل بالخير، وسرور لأهل الميت فائدة: المراد بالسحولية: الثياب البيض النقية المكونة من قطن، نسبةًّ إلى "سحول" قرية في اليمن - كما في اللسان (11/ 328) -.
(102)
مسألة: إذا حصل تنازع فيمن يُكفِّن الميت: فيُقدِّم وصيُّه، فإن لم يوجد وصي: فالأقرب من أقربائه: أصوله، ثم فروعه، للقياس، بيانه: كما يُفعل ذلك في تغسيله - كما سبق في مسألتي (26 و 29) فكذلك يُفعل في تكفينه، والجامع: تقديم من قدَّمه الشارع، فإن قلتَ: لمَ شرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إنه روعي في ذلك الأرحم والأشفق للميت.
(103)
مسألة: إذا أوصى زيد عمرًا بأن يُغسِّله ويُكفِّنه إذا مات، ثم أناب عمرو بكرًا بفعل ذلك لما مات زيد، فيكون بكر مقدمًا على أقارب الميت، ولكن الأفضل أن يقوم عمرو بتغسيل وتكفين زيد بنفسه، ولا يُنيب أحدًا عنه في ذلك إلا أن يقول زيد العمرو:"غسِّلني وكفِّني إذا متُ فإن تعذَّر ذلك منك: فأنب من تراه مناسبًا لذلك" فالموصى ونائبه سواء؛ للمصلحة؛ حيث إن زيدًا يعرف عدالة عمرو التي تقتضي عدم كشف ما يراه على الميت - وهو: زيد - وغيره ليس مثله في تلك العدالة، لذلك كان الأفضل أن يقوم الموصى بذلك =
فوق بعض) أوسعها، وأحسنها: أعلاها؛ لأن عادة الحي جعل الظاهر أفخر ثيابه (ويجعل الحنوط) وهو: أخلاط من طيب - يُعدُّ للميت خاصة - (فيما بينها) لا فوق العليا؛ لكراهة عمر وابنه، وأبي هريرة
(104)
(ثم يوضع) الميت (عليها) أي: اللَّفائف (مُستلقيًا)؛ لأنه أمكن لإدراجه فيها
(105)
(ويُجعل منه) أي: من الحنوط (في قطن
= بنفسه، أما إن قال له:"أنب عنك من يقوم بذلك" فكل من الموصَى ونائبه في مرتبة واحدة؛ لكون زيد قد أذن لعمرو في ذلك، والعدل لا يُنيب إلا عدلًا مثله.
(104)
مسألة: إذا أراد المكفّن تكفين الميت: فإنه يُبخِّر اللفائف بعد رشها بماء ورد ونحوه، ثم يبدأ ببسط ومدِّ اللفائف الثلاث على الأرض، أو على السرير، فيمدُّ اللُّفافة الأولى التي ينبغي أن تكون أوسع اللفائف وأحسنها ثم يوضع عليها الحنوط - وهو طيب يُعدُّ للميت خاصة - فوق هذه اللُّفافة، ثم يمدُّ اللفافة الثانية فوق الأولى، ثم يذر الحنوط فوقها من داخلها، ثم يمدُّ اللفافة الثالثة فوق الثانية؛ لقواعد: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم في المحرم الذي وقصته ناقته فمات -: "ولا تُقرِّبوه طيبًا" حيث دل مفهوم الصفة على أن غير المحرم يُطيَّب ويُحنَّط، الثانية: قول الصحابي؛ حيث إن عمر، وابنه، وأبا هريرة رضي الله عنهم يكرهون أن يوضع الطيب فوق اللفافة الأولى، بل داخلها، الثالثة: المصلحة؛ حيث إن ذلك يجعل منظر ورائحة الميت مقبولين عند الناظرين والقريبين من الجنازة، الرابعة: القياس بيانه: كما أن الحي يجعل أحسن وأوسع ثيابه هو الظاهر، فكذلك الميت مثله، والجامع: ظهور المسلم بأحسن هيئة وصورة في كل.
(105)
مسألة: بعد بسط اللفائف: يوضع الميت مُستلقيًا على ظهره فوق تلك اللَّفائف، ويُجعل وجهه إلى القبلة إن أمكن؛ للمصلحة؛ حيث إن ذلك أيسر في =
بين إليتيه)؛ ليرد ما يخرج عند تحريكه (ويشدُّ فوقها خرقة مشقوقة الطرف كالتبان) وهو السراويل بلا أكمام (تجمع إليتيه ومثانته ويُجعل الباقي) من القطن المحنَّط على منافذ وجهه): عينيه، ومنخريه، وأذنيه، وفمه؛ لأن في جعلها على المنافذ منعًا من دخول الهوام (و) على (مواضع سجوده): ركبتيه، ويديه، وجبهته، وأنفه، وأطراف قدميه؛ تشريفًا لها، وكذا مغابنه كطي ركبتيه، وتحت إبطيه، وسرته؛ لأن ابن عمر رضي الله عنهم كان يتتبع مغابن الميت ومرافقه بالمسك
(106)
(وإن طُيِّب) الميت (كله:
إدراجه في تلك اللَّفائف وطويها عليه بخلاف ما لو وضعه على جنب، ويُوجّه وجهه إلى القبلة؛ لأنها أشرف الجهات.
(106)
مسألة: بعد وضع الميت على اللفائف مستلقيًا يضع المكفِّن بعض الحنوط والطيب في قطنة كبيرة فيضعها بين إليتيه على دُبُره، ثم يُشد بخرقة مشقوق طرفها كالسروال القصير الذي ليس له أكمام - وهو: المسمَّى بالتِّبَّان - وفعل ذلك؛ لتجمع هذه الخرقة بين إليتيه، ومثانته، بسبب إدارتها على الفخذين معًا، ثم تُشدُّ وتربط بقوة بعد ذلك بجعل بعض القطن المطيَّب على منافذ وجهه وهي العينان، والمنخران، والشفتان، والأذنان، والفم، ويوضع بعضه على مواضع السجود وهي: الركبتان، واليدان، والجبهة والأنف، وأطراف القدمين، بعد ذلك يوضع بعضه على المواضع التي يظهر منها رائحة كريهة عادة كالذي تحت الركبتين، وإبطيه وسرته؛ لقاعدتين: الأولى المصلحة؛ حيث إن ذلك فيه ستر للقبل والدُّبْر فيما لو سقط الكفن عن الميت، وفيه منع لظهور الرائحة الكريهة التي يمكن أن تحرج منه أثناء تحريكه، وفيه منع من دخول الهوام إلى داخل الجسم، وفيه تشريف مواضع السجود، الثانية: فعل الصحابي؛ حيث إن ابن عمر رضي الله عنهم كان يتتبَّع مغابن: الميت كطي ركبتيه وإبطيه بالمسك؛ لمنع ظهور رائحة كريهة منه.
فحسن)؛ لأن أنسًا طلي بالمسك، وطَلَى ابن عمر ميتًا بالمسك،
(107)
وكُره داخل عينيه
(108)
وأن يُطيَّب بورس وزعفران،
(109)
وطليه بما يُمسكه كصبر ما لم يُنقل
(110)
(ثم يرد طرف اللفافة العليا) من الجانب الأيسر (على شقِّه الأيمن، ويرد
(107)
مسألة: يُكره تطييب جميع بدن الميت بالمسك؛ للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه إضاعة المال، وإسراف، والله لا يُحب المسرفين، فإن قلتَ: يُستحب تطييب جميع بدنه - وهو ما ذكره المصنف هنا -؛ لفعل الصحابي؛ حيث إن ابن عمر قد طلى ميتًا بالمسك قلتُ: إن ثبت هذا عنه، فإنه اجتهاد منه مخالف لعموم قوله تعالى:{إنه لا يحب المسرف} ، وقول أو فعل الصحابي إذا خالف نصًا لا يُحتج به فإن قلت: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض فعل الصحابي مع عموم الكتاب" فعندنا: يُعمل بالعموم ولا يقوى فعل الصحابي هنا على تخصيصه، وعندهم: يُعمل بفعل الصحابي، ويقوى على تخصيص عموم الآية، تنبيه: قوله: "لأن أنسًا طلي بالمسك" لا يصلح للاستدلال به؛ لأن الغالب أن الذي طلاه بذلك بعض التابعين، وقول أو فعل التابعي ليس بحجة.
(108)
مسألة: يُكره وضع قطن مُطيَّب داخل عيني الميت؛ للمصلحة؛ حيث إن ذلك يُفسدهما.
(109)
مسألة: يُكره وضع زعفران أو ورس على بدن أو كفن الميت؛ للمصلحة؛ حيث إنهما غير مناسبين، وغير لائقين بحال الموت؛ لكونهما يُستعملان للزينة.
(110)
مسألة: يُكره طلي ودهن جسم الميت بشيء يجعله متماسكًا صلبًا يابسًا مثل "الصَّبر"؛ للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه إضاعة مال ووقت بلا حاجة. [فرع]: يُستحب طلي جسم الميت بشيء يجعله صلبًا يابسًا كالصبر بشرط: أن يعزم أهله على نقله من بلد إلى بلد آخر - لغرض معيَّن -؛ للمصلحة؛ حيث إن ذلك يمنع من ظهور رائحة كريهة من الميت عند تأخر دفنه.
طرفها الآخر فوقه) أي: فوق الطرف الأيمن (ثم) يفعل بـ (الثانية والثالثة كذلك) أي: كالأولى
(111)
(ويجعل أكثر الفاضل) من كفنه (على رأسه)؛ لشرفه، ويُعيد الفاضل على وجهه ورجليه بعد جمعه؛ ليصير الكفن كالكيس، فلا ينتشر (ثم يعقدها)؛ لئلا ينتشر (وتحلُّ في القبر)؛ لقول ابن مسعود:"إذا أدخلتم الميت القبر فحلُّوا العقد" رواه الأثرم،
(112)
وكُرِه تخريق اللفائف؛ لأنَّه إفساد لها،
(113)
(وإن
(111)
مسألة: بعد فراغه من تطييب الميت على الطريقة السابقة - في مسألة (106) -: يقوم برد طرف اللفافة العليا، وهي الثالثة كما سبق في مسألة (104) - وهي: التي تلي الميت مباشرة - من الجانب الأيسر، ويجعلها على شقه الأيمن، ويرد طرف هذه اللفافة الآخر فوق الطرف الأيمن أو يرد طرفها الأيمن على شقه الأيسر، ثم يفعل باللفافة الثانية كما فعل بالأولى، ثم يفعل بالثالثة - وهي التي تظهر للناس - كما فعل بالثانية؛ للمصلحة؛ حيث إن ذلك يمنع خروج الميت من الكفن عند تحريكه أثناء حمله أو دفنه.
(112)
مسألة: إذا فضل من كفنه شيء: فيُجعل أكثره على رأسه، ويجعل باقي الفاضل على وجهه ورجليه، ثم يعقد ذلك على رأسه ووجهه ورجليه، ثم إذا وُضع في قبره: فإن تلك العُقد تُحل؛ لقاعدتين: الأولى: المصلحة: حيث إن هذا يجعل الكفن كالكيس، فلا ينتشر فيما: إذا سقط من حامليه، وجُعل الفاضل على الرأس والوجه؛ لشرفهما، وجُعل على الرجلين؛ ليمنع ذلك من السقوط والانزلاق، وشُرع حلُّ العقد في القبر؛ لأن الخوف من سقوط وانتشار الميت قد أُمن، الثانية: قول الصحابي؛ حيث قال ابن مسعود رضي الله عنه: "إذا أدخلتم الميت القبر فحلُّوا العقد".
(113)
مسألة: يُكره أن يُخرَّق الكفن، بحيث يُجعل فيه فَتَحات إلا إن خيف من سرقة الكفن فيُستحب تخريقه؛ للمصلحة؛ حيث إن تخريقه يُقبِّح الكفن، ويُفسده، إما إن خيف من سرقة الكفن: فيُستحب التخريق؛ لمنع نبش القبر لأجل ذلك فتنتهك حرمة الميت.
كُفِّن في قميص ومئزر ولفافة: جاز)؛ لأنَّه صلى الله عليه وسلم "ألبس عبد الله بن أُبَي قميصَه لما مات" رواه البخاري، وعن عمرو بن العاص: أن الميت يؤزر، ويُقمَّص، ويُلف بالثلاثة، وهذا عادة الحي، ويكون القميص بكمَّين، ودخاريص، لا يزِرٍّ
(114)
(وتُكفَّن المرأة) والخنثى ندبًا (في خمسة أثواب) بيض من قطن (إزار، وخمار، وقميص، ولفافتين)؛ لما روى أحمد وأبو داود - وفيه ضعف - عن ليلى الثقفية قالت: "كنتُ فيمن غسل أمَّ كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان أول ما أعطانا الحِقاء، ثم الدرع، ثم الخمار، ثم الملحفة، ثم أدرجت بعد ذلك في الثوب الآخر" قال أحمد: "الحِقاء": الإزار و "الدرع": القميص، فتؤزر بالمئزر، ثم تلبس القميص، ثم تخمَّر، ثم تُلَفُّ باللُّفافتين،
(115)
ويُكفَّن صبي في ثوب، ويُباح في ثلاثة ما لم يرثه غير
(114)
مسألة: يُباح تكفين الميت في قميص - وهو: الثوب العادي ذو الأكمام، ودخلات في جوانبه - وهي: الدخاريص - لكن بدون أزرار تقفل - وكذلك إزار يُجعل على الحقوين وما تحتهما، وكذلك: لفافة تلف جميع البدن، وصفة ذلك: أن يُلبس الإزار، ثم يُلبس القميص، ثم يُلفُّ باللفافة؛ لقواعد الأولى: السنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد ألبس قميصه عبد الله بن أُبَي لما مات، الثانية: القياس، بيانه: كما أن الحي يلبس الإزار، ثم القميص، ثم العباءة فكذلك الميت مثله، والجامع: الاحتياط في الستر في كل؛ الثالثة: قول الصحابي؛ حيث قال عمرو بن العاص: "إن الميت يؤزر، ويُقمَّص، ويُلفُّ بالثلاثة"، فإن قلتَ: لمَ أبيح ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه توسعة على المسلمين، وتزيين مظهر الميت، وستره.
(115)
مسألة: يُستحب أن تكفن المرأة والخنثى في خمسة أثواب، وهي:"إزار" و"قميص" وهو الثوب العادي ذو الأكمام و "خمار" يُجعل على رأسها، و"لفافتان" وهما اللتان يشملان جميع بدنها، وصفة ذلك: أن تُلبس الإزار، ثم =
مكلَّف
(116)
وصغيرة في قميص ولفافتين
(117)
(والواجب) للميت مطلقًا (ثوب
تُلبس القميص، ثم تُخمَّر، ثم تُلَفُّ باللفافتين؛ للقياس، بيانه: كما أن المرأة في الحياة تزيد على الرجل في لباسها؛ سترًا لها فكذلك تزيد عليه في كفنها والجامع: المبالغة في سترها؛ منعًا للفتنة، وإثارة الشهوة، وجُعل الخنثى مثل المرأة هنا، احتياطًا؛ لاحتمال أن يكون أنثى تنبيه: حديث ليلى الثقفية لا يصلح للاستدلال به؛ لأن من رواته نوح بن حكيم، وهو ضعيف الرواية.
(116)
مسألة: يُستحب أن يكفن الصبي بثلاثة أثواب، وهو قول الجمهور؛ للقياس، بيانه: كما أن البالغ يستحب أن يكفن في ثلاثة أثواب فكذلك الصبي، والجامع: الاحتياط في الستر، فإن قلتَ: يُستحب: أن يُكفَّن في ثوب واحد، ولا يُكفَّن في ثلاثة إلا إن كان وارثه مُكلَّفًا وأذن بذلك: فإنه يكفن في ثلاثة استحبابًا - وهو ما ذكره المصنف هنا -؛ للمصلحة؛ حيث إن غير المكلف بحاجة إلى المال، فلا يُوضع في ثلاثة أثواب مع أنه يكفيه واحد قلتُ: هذا غيرُ مسلِّم؛ لأن فيه جلب مصلحة لغيره من ماله، وفي تكفينه في ثلاثة أثواب جلب مصلحة له، فيُقدَّم ما فيه جلب مصلحة له؛ لأنَّه ماله فإن قلتُ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه "تعارض المصلحة مع القياس" فعندنا: يُعمل بالقياس؛ لما ذكرنا من مصلحة الميت، وعندهم: يُعمل بمصلحة الحي الوارث له.
(117)
مسألة: يُستحب أن تُكفَّن الصبية بخمسة أثواب؛ للقياس على البالغة، والجامع: المبالغة في الستر، فإن قلتَ: تكفن في قميص ولفافتين، ولا تخمر ولا يُغطى رأسها - وهو ما ذكره المصنف هنا -؛ للقياس، بيانه: كما أن الصغيرة ليست بحاجة إلى الخمار في حياتها فكذلك بعد موتها، والجامع: الأمن من الفتنة في كل قلتُ: لا يُسلَّم الأصل المقاس عليه؛ حيث إن الصبية التي بلغت سبع سنوات قد يُفتتن بها، فتكون بعد مماتها كذلك، فتكفَّن في خمسة أثواب، =
يستر جميعه)؛ لأن العورة المغلَّظة يجزئ في سترها ثوب واحد: فكفن الميت أولى
(118)
ويكره بصوف وشعر،
(119)
ويحرم بجلود،
(120)
ويجوز في حرير؛ لضرورة فقط،
(121)
فإن لم يجد إلا بعض ثوب: ستر العورة كحال الحياة، والباقي بحشيش
فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه "تعارض القياسين" فألحقناها بالبالغة؛ لأنها أكثر شبهًا بها، وألحقوها بحالها حال حياتها؛ لأنَّه أكثر شبهًا بها وهو المسمى بقياس "الشبه"، أو "غلبة الأشباه".
(118)
مسألة: يُجزئ تكفين الميت بثوب واحد ساتر للميت: سواء كان ذكرًا أو أنثى أو خنثى أو كبيرًا، أو صغيرًا، وسواء كان الثوب له أكمام أو لا؛ للقياس، بيانه: كما أن العورة المغلَّظة يُجزئ في سترها من الحي ثوب واحد، فمن باب أولى أن يُجزئ ذلك في الميت، والجامع: الستر في كل، بل إن الحي أحوج إلى الستر من الميت؛ لكون الحي المنكشف العورة يثير الفتنة أكثر من الميت المنكشف العورة، فإن قلتَ: لمَ يجزئ ذلك؟ قلتُ: لأن المطلوب الستر وقد وُجد.
(119)
مسألة: يُكره أن يُكفَّن الميت بكفن مكوَّن من صوف أو شعر؛ للمصلحة؛ حيث إن ذلك قد يؤثر في بشرة الميت قبل دفنه.
(120)
مسألة: يحرم أن يُكفن الميت بكفن مكوَّن من جلود الحيوانات؛ للسنة القولية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد أمر بنزع الجلود عن الشهداء مع ضيق الوقت، ومع عدم غسلهم وتكفينهم؛ لأن الأمر مطلق، فيقتضي الوجوب، وترك الواجب حرام، فإن قلتَ: لم حرم ذلك؟ قلتُ: لعدم التفاؤل في لبسها؛ وقد قيل: إنها من ألبسة أهل النار.
(121)
مسألة: يحرم تكفين الميت بكفن من حرير أو من ذهب أو فضة لغير ضرورة، أما إن وُجدت ضرورة: كأن لا يوجد إلا هذا الكفن من الحرير أو الذهب أو الفضة فيُباح تكفينه فيه؛ للمصلحة؛ حيث إن تكفينه فيها من غير =
أو ورق،
(122)
وحُرِّم دفن حُلي وثياب غير الكفن؛ لأنَّه إضاعة مال،
(123)
ولحي أخذ كفن ميت لحاجة حر أو برد بثمنه
(124)
فصل: في الصلاة على الميت: تسقط بمكلَّف،
(125)
وتسنُّ جماعة، وأن لا تنقص الصفوف عن
ضرورة ضياع للمال وإسراف؛ والله لا يُحب المسرفين، فإن وجدت ضرورة فيُباح لضرورة ستر العورة؛ لأن دفع المفسدة - وهو: ستر العورة - مُقدَّم على جلب المصلحة - وهو الحفاظ على المال، و "عند الضرورات تُباح المحظورات".
(122)
مسألة: إذا لم يوجد إلا قطعة لا تكفي لستر كل الميت: فإنه يُستر بها عورته وإن بقي شيء فرأسه، ويُجعل على باقيه شيء من الحشيش أو الورق؛ للقياس، بيانه: كما أن العورة تقدَّم في الستر في حال الحياة، فكذلك تُقدَّم في حال الممات، والجامع: الستر في كل، فإن قلتَ: لمَ شرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن كشف العورة يُثير الفتنة بخلاف غيرها.
(123)
مسألة: يحرم أن يُدفن مع الميت ذهب أو فضة أو غيرهما من الثياب والحلي؛ للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه إضاعة مال، وإسراف، والله لا يحب المسرفين.
(124)
مسألة: يُباح للحي أن يأخذ كفن الميت - قبل أو بعد وضعه في قبره - بشرط: أن يخاف على نفسه الهلاك أو الضرَّر من بردٍ أو حرٍّ، وذلك بثمنه، فيدفع ثمنه للورثة؛ للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه منع التلف أو الضرر عن ذلك الحي، ودفع المفسدة عن ذلك الحي مقدم على جلب المصلحة لذلك الميت بتكفينه فيه.
(125)
مسألة: إذا صلَّى مُكلَّف - بالغ عاقل - على ميت: فإن الصلاة عليه تسقط عن الباقين: سواء كان هذا المصلي ذكرًا أو أنثى، حرًا أو عبدًا، مقيمًا أو مسافرًا؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كون الصلاة عليه فرض كفاية - كما سبق في =
ثلاثة
(126)
(والسنة: أن يقوم الإمام عند صدره) أي: صدر ذكر (وعند وسطها) أي: وسط أنثى، والخنثى بين ذلك،
(127)
والأولى بها وصيُّه العدل، فسيِّد برقيقه، فالسلطان، فنائبه الأمير، فالحاكم، فالأولى بغسل رجل، فزوج بعد ذوي
مسألة (22) - أن تسقط بالواحد؛ لأنَّه يُعتبر بعضًا؛ حيث إن فرض الكفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه توسعة على المسلمين.
(126)
مسألة: يُستحب أن تُصلِّي جماعة على الميت، وأن تكون ثلاثة صفوف؛ للسنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي مع الجماعة، وأنَّه كان يُقسِّم الناس ثلاثة صفوف، فإن قلتَ: لمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تكثير الأجر، وغفران الذنوب للميت.
(127)
مسألة: يُستحب أن يقف الإمام - أثناء الصلاة على الميت - عند رأس الرجل والصبي، وعند وسط المرأة والصبية، والخنثى؛ للسنة الفعلية؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك، فإن قلتَ: لمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تشريف للرأس الذي فيه الفكر والذهن، الذي بسببه قد اهتدى إلى طريق الرشاد، وابتعد عن طريق الضلال، والأصل أن يقف عند رأس كل ميت، ولكن عُدل في المرأة فاستحب الوقوف عند وسطها؛ لكون ذلك أستر لها: فيمنع الإمام أن ينظر المأموم إلى ما يُقابل فرجها وعجزتها؛ دفعًا لإثارة الفتنة، وفُعل ذلك بالخنثى احتياطًا؛ لاحتمال أن يكون أنثى، ودفع المفاسد مقدم على جلب المصالح، فإن قلتَ: إن الإمام يقف عند صدر الذكر، ويقف بين صدر الخنثى ووسطه - وهو ما ذكره المصنف هنا قلتُ: لم أجد دليلًا قويًا على ذلك.
الأرحام،
(128)
ومن قدَّمه وليُّ بمنزلته،
(129)
من قدَّمه وصي،
(130)
وإذا اجتمعت
(128)
مسألة: إذا حصل تنازع فيمن يصلي على هذا الميت: فيُقدَّم وصيُّه العدل العارف لأحكام الصلاة، فإن لم يوجد وصي، فيُقدَّم سيد للصلاة على رقيقه، فإن تعذَّر: فالأولى بغسله يُقدَّم في الصلاة عليه - كما سبق في مسألة (26 و 29) - ممن يصلح للإمامة، ويُقدَّم في الصلاة على المرأة أبوها وإن علا، ثم ابنها وإن نزل، ثم أخوها، ثم زوجها؛ لقاعدتين: الأولى: فعل الصحابي؛ حيث إن أبا بكر رضي الله عنه قد أوصى بأن يُصلَّي عليه عمر رضي الله عنه، وأوصى عمر بأن يُصلِّي عليه صهيب فقُدِّما في ذلك، الثانية: المصلحة؛ حيث إن هذا الترتيب السابق أصلح للميت، وأعزُّ له، وسبب لاستجابة الدُّعاء.
(129)
مسألة: إذا قدَّم واحد من أولياء الميت شخصًا في إمامة الصلاة على الميت: فإنه يُقدَّم على غيره، فيكون المقدَّم بمنزلة المقدِّم بشرط: أن يكون هذا المقدَّم عدلًا عارفًا لأحكام الصلاة على الموتى؛ للقياس، بيانه: كما أن ولي النكاح إذا قدَّم غيره ووكَّله بأن يعقد النكاح على موليته: فإنه يُقدّم على غيره، فكذلك هنا، والجامع: التقديم والصلاحية في كل، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: لأن هذا من حقه شرعًا، والتيسير على المسلمين.
(130)
مسألة: إذا أوصى زيد بأن عمرًا يُصلِّي عليه إذا مات، وأوصى عمرو بكرًا بأن يُصلي على زيد: فلا يُقدَّم بكر، إلا إذا أذن زيد لعمرو بأن يُقدِّم من يشاء، وقدَّم عمرو بكرًا: فإنه يُقدَّم هنا؛ للتلازم؛ حيث إن زيدًا قد وثق بعمرو بأن يصلي عليه، ولا يلزم من ذلك: أن يكون غيره مثله في درجة الثقة فلزم منعه، بخلاف ما لو أذن لعمرو بأن يُقدِّم من يشاء فيلزم تقديمه؛ لأن زيدًا واثق بأن عمرًا لن يُقدِّم إلا من هو مثله أو أفضل منه، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه احتياط للميت.
جنائز: قُدِّم إلى الإمام أفضلهم - وتقدَّم -، فأسن، فأسبق، ويُقرع مع التساوي،
(131)
وجمعهم بصلاة أفضل
(132)
ويُجعل وسط أنثى حذاء صدر رجل، وخنثى
(131)
مسألة: إذا اجتمعت عدَّة أمواتٍ: رجال وصبيان ونساء: فإنه يوضع الرجال مما يلي الإمام مباشرة، ثم يليهم الصبيان، ثم النساء، فتكون النساء أبعد ما يكون عن الإمام؛ لقاعدتين: الأولى: فعل الصحابي؛ حيث إن ذلك قد ثبت عن عثمان وعلي، وابن عمر، وابن عباس، وأبي هريرة رضي الله عنهم، الثانية: المصلحة؛ حيث إن ذلك فيه منع للفتنة، وقد تقدَّم ذلك في مسألة (113) من باب "صلاة الجماعة" حيث إنه إذا اجتمع هؤلاء: صف الرجال وراء الإمام؛ ثم يصف الصبيان خلفهم، ثم تصف النساء خلف الجميع. [فرع]: إذا اجتمعت عدَّة أموات من الرجال: قُدِّم أفضلهم في العلم بأن يوضع بعد الإمام مباشرة، فإن كانوا في العلم سوءا: قُدِّم أكبرهم سِنًّا، فإن كانوا في السِّنِّ سواء: قُدِّم أسبقهم في الموت والتغسيل والتكفين، فإن كانوا في ذلك سواء: يُقرع بينهم، ويُجعل مما يلي الإمام من تخرج له القرعة؛ للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تقديم العلماء على غيرهم؛ لفضلهم على جميع الناس، ثم الأكبر سنًا؛ لكونهم أقدم في العمل في الأحكام الشرعية، فيكون أكمل وأشرف من غيره، ثم الأسبق في الموت وغيره؛ لئلا يشعر أهله بالظلم، ثم يُقدَّم من تُصيبه القرعة؛ نظرًا لتساوي الحقوق، فلا يشعر أحد بظلم كما قلنا في الأذان، والإمامة، وقد تقدَّم.
(132)
مسألة: إذا اجتمعت عدَّة جنائز: فإن الصلاة عليهم جميعًا بصلاة واحدة أفضل من الصلاة على كل جنازة لوحدها؛ للمصلحة؛ حيث إن ذلك يُحقِّق الإسراع بدفن الموتى قبل أن تخرج منهم روائح كريهة، وفيه تكثير الجماعة على كل جنازة؛ لاجتماع أهل الجنائز جميعهم.
بينهما
(133)
(ويُكبِّر أربعًا)؛ "لتكبير النبي صلى الله عليه وسلم على النجاشي أربعًا" متفق عليه
(134)
(يقرأ في الأولى) أي: بعد التكبيرة الأولى، وهي تكبيرة الإحرام و (بعد التعوِّذ) والبسملة (الفاتحة) سرًا ولو ليلًا لما روى ابن ماجه عن أم شريك الأنصارية قالت:"أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نقرأ على الجنازة بفاتحة الكتاب، ولا نستفتح، ولا نقرأ سورة معها"
(135)
(ويُصلِّي على النبي صلى الله عليه وسلم في) أي: بعد التكبير (الثانية كـ) الصلاة
(133)
مسألة: إذا اجتمع رجل وامرأة وخنثى وأريد الصلاة عليهم صلاة الجنازة: فإنه يُجعل وسط المرأة والخنثى مساويًا لرأس الرجل؛ للتلازم؛ حيث إن الإمام يقف عند وسط المرأة والخنثى، ورأس الذكر إذا انفرد كل واحد منهم، فيلزم أن يفعل ذلك إذا اجتمعوا؛ ليتحقَّق ذلك، تنبيه: قوله: "حذاء صدر رجل وخنثى بينهما" يشير إلى مذهبه في ذلك، والراجح أنه يقف عند وسط الخنثى كالمرأة، ورأس الذكر - كما سبق في مسألة (127).
(134)
مسألة: إذا وُضع الميت أمام الإمام - كما سبق وصفه -: فإنه يُصلِّي عليه مُكبِّرًا أربع تكبيرات للسنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم كان يُكبِّر في صلاة الجنازة أربع تكبيرات كما فعل في صلاته على النجاشي لما علم بوفاته، وكما فعل على عدة جنائز كما رواه أنس وابن عباس رضي الله عنهم، فإن قلتَ: لمَ شُرعت تلك التكبيرات الأربع؟ قلتُ: لأنها بمنزلة أربع ركعات، فإن قلتَ: لمَ كانت صلاة الجنازة لا ركوع فيها ولا سجود؟ قلتُ: لأن الإسراع بدفن الجنازة مقصود شرعًا؛ لئلا تخرج منه روائح كريهة، فتؤذي الناس، وتُشوه الميت، والصلاة عليه بهذه الطريقة تحقق هذا المقصود.
(135)
مسألة: يبدأ المصلي على الجنازة بتكبيرة الإحرام - وهي: التكبيرة الأولى - فيتعوَّذ بعدها من الشيطان الرجيم، ثم يُبسمل، ثم يقرأ الفاتحة سرًا، ولو وقعت تلك الصلاة في الليل، ولا يقرأ سورة بعدها؛ للسنة القولية؛ وهي من وجهين: أولهما: قول أمِّ شريك: "أمرنا رسول الله أن نقرأ في الجنازة بفاتحة الكتاب، =
في (التشهد) الأخير؛ لما روى الشافعي عن أبي أمامة عن أبي أمامة بن سهل: أنه أخبره رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: "أن السنة في الصلاة على الجنازة: أن يُكبِّر الإمام، ثم يقرأ بفاتحة الكتاب بعد التكبيرة الأولى سرًا في نفسه، ثم يُصلِّي على النبي صلى الله عليه وسلم، ويُخلص الدعاء للميت، ثم يُسلِّم"
(136)
(ويدعو في الثالثة)؛ لما تقدَّم (فيقول: اللهم اغفر لحينا وميتنا، وشاهدنا وغائبنا، وصغيرنا وكبيرنا، وذكرنا وأنثانا، إنك تعلم منقلبنا
ولا نستفتح، ولا نقرأ سورة معها"، ثانيهما: قول أبي أمامة بن سهل: "إن السنة في الصلاة على الجنازة: أن يُكبِّر الإمام، ثم يقرأ بفاتحة الكتاب بعد التكبيرة الأولى سِرًّا في نفسه، ثم يُصلِّي على النبي صلى الله عليه وسلم، ويُخلص الدعاء للميت، ثم يُسلِّم" وأبو إمامة قد أخبره بذلك رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا قال الصحابي: "من السنة" فله حكم الحديث المرفوع، فإن قلتَ: لمَ تقرأ الفاتحة هنا؟ قلتُ: لأن القيام مشروع في صلاة الجنازة، والفاتحة تُشرع في كل قيام، فإن قلتَ: لم لا يُشرع فيها دعاء الاستفتاح، وقراءة سورة؟ قلتُ: لأنَّه يُشرع في صلاة الجنازة الإسراع فيها، وفعلهما يؤخرها، فإن قلتَ: إنه يُجهر في قراءة الفاتحة؛ لفعل الصحابي؛ حيث إن ابن عباس قد جهر فيها قلتُ: إن ابن عباس رضي الله عنهم قد جهر بذلك لتعليم الناس صلاة الجنازة، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض السنة القولية مع فعل الصحابي" فعندنا: يعمل بالسنة وعندهم: يُعمل بفعل الصحابي.
(136)
مسألة: بعد فراغه من قراءة الفاتحة: يُكبِّر التكبيرة الثانية ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم كما يفعل في التشهد الأخير قائلًا: "اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صلَّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد"؛ للسنة القولية؛ وهو حديث أبي إمامة الذي ذكر في مسألة (135)، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تبرك بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم قبل الدعاء.
ومثوانا، وأنت على كل شيء قدير، اللهم من أحييته منا فأحييه على الإسلام والسنة، ومن توفيته منا فتوفه عليهما) رواه أحمد والترمذي وابن ماجه من حديث أبي هريرة، لكن زاد فيه الموفَّق:"وأنت على كل شيء قدير" ولفظة: "السنة"(اللهم اغفر له وارحمه وعافه واعف عنه وأكرم نُزُله) بضم الزاي وقد تسكن - وهو: القِرَى - (وأوسع مُدخله) بفتح الميم: إمكان الدخول، وبضمها: الإدخال (واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله دارًا خيرًا من داره، وزوجًا خيرًا من زوجه، وأدخله الجنة، وأعذه من عذاب القبر وعذاب النار) رواه مسلم عن عوف بن مالك أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول ذلك على جنازة حتى تمنى أن يكون ذلك الميت، وفيه:"وأبدله أهلًا خيرًا من أهله، وأدخله الجنة" وزاد الموفَّق لفظ: "من الذنوب"(وأفسح له في قبره ونوِّر له فيه)؛ لأنَّه لائق بالمحل،
(137)
وإن كان الميت أنثى: أنَّت الضمير، وإن كان خنثى قال:"هذا الميت" ونحوه،
(138)
ولا بأس بالإشارة بالإصبع حال الدعاء
(137)
مسألة: بعد الفراغ من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم يكبِّر التكبيرة الثالثة، ثم يدعو للميت بما شاء، ولكن الأولى: أن يدعو بما ورد عنه صلى الله عليه وسلم؛ للسنة الفعلية؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم يدعو بما أورده المصنف إذا صلى على ميت - كما رواه عوف بن مالك وأبو هريرة -، فإن قلتَ: لمَ شرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة، وهي مصلحة الميت والحي، وهي واضحة في الدعاء، تنبيه: قوله: لكن زاد فيه الموفق: "وأنت على كل شيء قدير" ولفظ: "السنة" ولفظ: "من الذنوب" يشير إلى أن موفَّق الدين ابن قدامة زاد تلك الألفاظ في كتابه: "المقنع في الفقه" في حين أنها لم ترد فيما رواه عوف بن مالك وأبو هريرة، وهذه الزيادات مناسبة للمقام.
(138)
مسألة: يُستحب أن يؤنِّث الضمير في الدعاء إن كان الميت أنثى، فيقول:"اللهم اغفر لها .. " وإن كان خنثى قال: "اللهم اغفر لهذا الميت، أو لهذه الجنازة"؛ للتلازم؛ حيث إن ذلك يُناسب المدعو له، فيلزم التلفُّظ بما يُناسب.
للميت
(139)
(وإن كان) الميت (صغيرًا): ذكرًا، أو أنثى، أو بلغ مجنونًا واستمر:(قال) - بعد: "ومن توفيته منا فتوفه عليهما" -: (اللهم اجعله ذخرًا لوالديه وفرطًا) أي: سابقًا مُهيئًا لمصالح والديه في الآخرة: سوءا مات في حياة والديه أو بعدهما (وأجرًا وشفيعًا حجابًا، اللهم ثقل به موازينهما، وأعظم به أجورهما، وألحقه بصالح سلف المؤمنين، واجعله في كفالة إبراهيم، وقه برحمتك عذاب الجحيم) ولا يستغفر له؛ لأنَّه شافع غير مشفوع فيه، ولا جرى عليه قلم،
(140)
وإذا لم يعرف إسلام والديه: دعا لمواليه
(141)
(ويقف بعد الرابعة قليلًا) ولا يدعو، ولا يتشهد،
(139)
مسألة: تباح الإشارة إلى الميت بالإصبع أثناء الدعاء له؛ للمصلحة: حيث إن ذلك فيه زيادة تخصيص وتأكيد، وهو من باب الإخلاص بالدعاء.
(140)
مسألة: إذا كان الميت صغيرًا أو مجنونًا وهو من أولاد المسلمين: فإنه يدعو المصلي قائلًا: "اللهم اجعله ذخرًا لوالديه وفرطًا .. الخ" - كما ذكر المصنف هنا - لقاعدتين: الأولى: السنة الفعلية؛ حيث إنه ورد بعض هذا الدعاء عنه صلى الله عليه وسلم، الثانية: المصلحة؛ حيث إن هذا الدعاء مناسب للمقام؛ إذ لا ذنب للصغار والمجانين، فإن قلتَ: لمَ يقال: اجعله في كفالة إبراهيم؟ قلتُ: لما ذكره ابن أبي الدنيا من أن إبراهيم عليه السلام هو حاضن من يموت من الصبيان، فإن قلتَ: لم لا يُستغفر له؟ قلتَ: لعدم وجود ذنب عليه؛ حيث إنه شافع لوالديه، فإن قلتَ: لمَ دعي له بأن يقيه الله من عذاب الجحيم مع أنه غير مُكلَّف؟ قلتُ: لأن النار ستنال كل أحد ومنهم الصغار، وهذا تحلِّة القسم؛ حيث قال تعالى:{وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} .
(141)
مسألة: إن كان الميت صغيرًا أو مجنونًا، ولا يعرف: هل والداه مسلمان أو لا؟ فإنه يُدعى لمواليه المسلمين فيقال: "اللهم اجعله ذخرًا لمواليه"؛ للتلازم؛ حيث إن مواليه هم الذين قاموا برعايته والعناية به، وتربيته على الإسلام، فيلزم أن يصرف الدعاء إليهم؛ جزاء بما فعلوا.
ولا يُسبِّح (ويُسلِّم) تسليمة (واحدة عن يمينه) روى الجوزجاني عن عطاء بن السائب: أن النبي صلى الله عليه وسلم سلَّم على الجنازة تسليمة واحدة،
(142)
ويجوز تلقاء وجهه، وثانية،
(143)
وسُنَّ وقوفه حتى تُرفع
(144)
(ويرفع يديه) ندبًا (مع كل تكبيرة)؛ لما تقدَّم في صلاة العيدين
(145)
(وواجبها) أي: الواجب في صلاة الجنازة
(142)
مسألة: بعد فراغه من الدعاء للميت: يُكبِّر الرابعة، ويسكت قليلًا ثم يُسلِّم عن يمينه تسليمة واحدة، فلا يقول شيئًا بعد هذه التكبيرة؛ للسنة الفعلية؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للفصل بين التكبيرة والتسليم بقدر أخذ النفس، وذلك كله للإسراع في دفن الجنازة فالتخفيف في ذلك مشروع؛ لذا يُجزئ لو قال:"السلام عليكم".
(143)
مسألة: يُباح أن يُسلِّم في صلاة الجنازة بدون التفات، أي: وهو مستقبل القبلة، ويُباح أن يُسلِّم تسليمتين كالصلاة العادية؛ لقاعدتين: الأولى: السنة الفعلية؛ حيث ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه سلَّم تسليمتين في صلاة الجنازة، الثانية: المصلحة؛ حيث إن في التفاته بعض التأخير، فأُبيح تركه؛ لكونه يُناسب الإسراع في الجنازة.
(144)
مسألة: إذا فرغ المصلي على الجنازة: يُستحب أن يقف حتى تُرفع تلك الجنازة من بين يديه؛ لفعل الصحابي؛ حيث كان ابن عمر لا يبرح من مُصلَّاه حتى يراها على أيدي الرجال، فإن قلتَ: لمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه احترام وتقدير هذا المسلم الميت.
(145)
مسألة: يُستحب أن يرفع المصلي على الجنازة يديه إلى محاذاة كتفيه أو أذنيه مع كل تكبيرة من التكبيرات الأربع، وأن يضع باطن اليد اليُمنى على ظاهر اليد اليُسرى تحت السرة أو فوقها بين التكبيرات الأربع؛ للقياس، بيانه: كما يُستحب فعل ذلك في سائر الصلوات ومنها صلاة العيدين، فكذلك صلاة الجنازة مثلها، والجامع: أن كلًا منها تُعتبر صلاة يُعظم بها الله تعالى، وبيان أن الله أكبر من كل شيء.
مما تقدَّم (قيام) في فرضها (وتكبيرات) أربع (والفاتحة) ويتحمَّلها الإمام عن المأموم (والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ودعوة للميت والسلام)،
(146)
ويُشترط لها النية، فينوي الصلاة على الميت، ولا يضرُّ جهله بالذكر وغيره، فإن جهله: نوى "على من يصلي عليه الإمام" وإن نوى: "أحد الموتى": اعتبر تعيينه، وإن نوى:"على هذا الرجل" فبان امرأة، أو بالعكس أجزأ؛ لقوة التعيين، قاله أبو المعالي، وإسلام الميت، وطهارته من الحدث والنجس مع القدرة، وإلا صُلِّي عليه، والاستقبال، والسترة كمكتوبة، وحضور الميت بين يديه، فلا تصح على جنازة محمولة، ولا من وراء جدار
(147)
(146)
مسألة: واجبات صلاة الجنازة ستة: أولها: القيام؛ فلا تصح من قاعد - وهو قادر على القيام ثانيها: التكبيرات الأربع، ثالثها: قراءة الفاتحة بعد التكبيرة الأولى، رابعها: الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الثانية، خامسها: الدعاء للميت بعد الثالثة، سادسها: التسليمة الواحدة بعد الرابعة؛ لقواعد: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "صَلِّ قائمًا"؛ حيث أوجب الشارع القيام في كل صلاة، ومنها صلاة الجنازة؛ لأن الأمر مطلق فيقتضي الوجوب، الثانية: السنة الفعلية، الثالثة: المصلحة، وقد سبق بيان ذلك في مسائل (134 و 135 و 136 و 137 و 142)، وسبق أيضًا بيان المقصد من كل واجب، تنبيه: قوله: "ويتحمَّلها الإمام عن المأموم"؛ قياسًا على الصلاة المفروضة وقد سبق بيانه، تنبيه آخر: إذا أخلَّ بواحد من تلك الواجبات الستة عمدًا: بطلت صلاته، وإن أخلَّ به سهوًا: أتى به إن لم يطل الفصل، فإن طال الفصل: سقط عنه.
(147)
مسألة: شروط صلاة الجنازة سبعة: أولها: أن ينوي أنه سيُصلي على ميت، وتصح ولو لم يعلم جنس الميت أذكرًا أو أنثى؟ فينوي:"الصلاة على الجنازة الحاضرة" أو "على هذه الجنازة" أو "على من يصلي عليه الإمام" وكذا: تصح ولو نوى أنه سيصلي على رجل فبان أن الميت امرأة، أو بالعكس، ولو نوى أنه سيُصلى على واحد فقط من أموات كثيرين صحَّت صلاته على هذا الواحد =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فقط، دون غيره؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات" وصلاة الميت عمل شرعي فلا يصح إلا بنية؛ لكونه يدخل تحت عموم لفظ "الأعمال" لأنَّه عموم جمع معرَّف بأل وهو من صيغ العموم، الثانية: التلازم؛ حيث يلزم من وجود الغرض من الصلاة وهو الدعاء: صحَّة الصلاة وإن لم يُعلم جنس الميت، أو عَلِم أنه ذكر فبان أنثى أو العكس، ويلزم من تعيين واحد من الموتى المجتمعين: إخراج غيره، فلا يكون مقصودًا، ثانيها: أن يكون الميت مسلمًا، فتحرم الصلاة على كافر إذا مات؛ للكتاب؛ حيث قال تعالى:{وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} حيث حرم الصلاة على من كفر: سواء كان أصليًا أو بنفاق؛ لأن النهي مطلق، فيقتضي التحريم، ثالثها: أن يكون الميت قد طُهِّر من الحدث والنجس بغسله إن كان مقدورًا على ذلك، أو بالتيمُّم؛ للقياس على الحي: فكما أن الحي يُشترط لصحة صلاته التطهر من ذلك، فكذلك الميت يُشترط لصحة الصلاة عليه تطهره، رابعها: أن يكون المصلي على الجنازة مستقبل القبلة والجنازة أمامه؛ للقياس على الصلوات المفروضة؛ حيث يُشترط فيها ذلك، فكذلك صلاة الجنازة مثلها بجامع: أن كلًا منها صلاة مُتعبِّد بها، خامسها: أن يكون المصلي ساترًا لعورته؛ للقياس على الصلوات المفروضة وقد سبق، سادسها: أن يكون الميت حاضرًا بين يدي المصلي، فلا تصح الصلاة على جنازة محمولة، ولا تصح وهي من وراء جدار، أو خشب لا يراه الإمام؛ للتلازم؛ حيث يلزم من تسميتها "صلاة الجنازة": أن تكون موجودة بين يدي الإمام يُعاينها بدون تحريك، سابعها: أن تكون الصلاة بعد التغسيل والتكفين، فلا تصح صلاة قبل ذلك لمن قدر عليه؛ للمصلحة؛ حيث لا يليق به إلا ذلك؛ لتكريمه وإجلاله، فإن قلتَ: لمَ اشتُرطت تلك الشروط؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث لا يفرق بين الأعمال الشرعية وغيرها إلا بالنية، ولتكريم المسلم الميت، ولإخلاص الدعاء له.
(ومن فاته شيء من التكبير: قضاه) ندبًا (على صفته)؛ لأن القضاء يحكي الأداء كسائر الصلوات، والمقضي أول صلاته يأتي فيه بحسب ذلك، وإن خشي رفعها: تابع التكبير: رُفعت أم لا، وإن سلَّم مع الإمام ولم يقضه: صحَّت؛ لقوله صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها: "ما فاتكِ لا قضاء عليكِ"
(148)
(ومن فاتته الصلاة عليه) أي: على الميت: (صلَّى على القبر) إلى شهر من دفنه؛ لما في الصحيحين من حديث
(148)
مسألة: إذا دخل زيد وقد فاتته بعض التكبيرات في صلاة الجنازة: فإنه يدخل مع الإمام ويُتابعه على ما هو عليه، فإذا سلَّم الإمام قضى زيد ما فاته من التكبيرات على صفة الأداء: فيُكبِّر الأولى ويقرأ الفاتحة، ويكبر الثانية، ويصلي على النبي، ثم يُكبِّر الثالثة ويدعو للميت، ثم يكبر الرابعة فيُسلِّم سواء: رُفعت الجنازة أو لا، وإن لم يقض: صحَّت صلاته؛ للقياس وهو من وجوه: أولها: كما أن الصلوات المفروضة يقضي المصلي ما فاته منها على صفة الأداء، فكذلك صلاة الجنازة مثلها، والجامع: أن كلًا منها صلاة مفروضة، ثانيها: كما أن المسبوق إذا أدرك ركعة، من صلاة الفرض: فإنه يقضي ما فاته إذا سلَّم إمامه وتحسب له الصلاة أداء وإن خرج الإمام من المسجد فكذلك الحال في صلاة الجنازة يستمر هذا المسبوق في قضاء صلاة الجنازة وإن رُفعت من الأرض، ويُحسب أنه صلى على الميت صلاة كاملة والجامع: أن كلًا منهما قد زال ما كان يقصده، ثالثها: كما أن المسبوق إذا وجد الإمام راكعًا فإنه يدخل معه وتصح الركعة ولا يقضيها، ولا يقضي قراءة الفاتحة، وتصح صلاته فكذلك من فاته عدد من التكبيرات في صلاة الجنازة لا يقضيها ويُسلّم مع إمامه وتصح صلاته، والجامع: تحمُّل الإمام ما فات على المأموم، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه التيسير والتوسعة على المسلمين، تنبيه: ما ذكره المصنف مما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لعائشة رضي الله عنها: "ما فاتك لا قضاء عليك": لم أجده.
أبي هريرة وابن عباس رضي الله عنهم: "أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على قبر" وعن سعيد بن المسيِّب: "أن أمَّ سعد ماتت والنبي صلى الله عليه وسلم غائب، فلما قدم: صلَّى عليها، وقد مضى لذلك شهر" رواه الترمذي، ورواته ثقات، قال أحمد:"أكثر ما سمعتُ هذا" وتحرم بعده ما لم تكن زيادة يسيرة
(149)
(و) يُصلَّى (على غائب) عن البلد، ولو دون مسافة قصر:
(149)
مسألة: يُستحب أن يُصلي المسلم على الميت ولو بعد دفنه بشرط: أن لا يمضي على دفنه أكثر من شهر تقريبًا، وتحرم بعد ذلك، والصلاة على القبر تكون على صفة الصلاة عليه قبل ذلك؛ للسنة الفعلية، وهي من وجهين: أولهما: أنه صلى الله عليه وسلم قد صلى على قبر المرأة السوداء التي كانت تقمُّ المسجد، ثانيهما: أنه صلى الله عليه وسلم قد صلى على قبر أم سعد وقد مضى على دفنها شهر - كما قال الراوي - فيلزم من ذلك: أنه محدَّد بشهر تقريبًا، ولا تضر الزيادة القليلة، فإن قلتَ: تصح الصلاة على الميت ولو بعد دفنه بشهرين أو ثلاثة، وهو قول بعض العلماء كابن عقيل وتبعهم ابن عثيمين؛ للسنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد صلى على قبر أم سعد بعد مضي شهر من دفنها - كما سبق - وهذا مطلق، ولم يُقيِّد بزمن معيَّن، وفعله صلى الله عليه وسلم قد وقع اتفاقي بدون قصد التحديد، وكذلك صلى على قتلى أحد بعد ثمان سنوات قلتُ: إن ما وقع منه صلى الله عليه وسلم مقصود منه، ولم يكن اتفاقيًا؛ لسدِّ الذرائع؛ حيث إننا لو فتحنا هذا الباب - وهو: أن أفعاله صلى الله عليه وسلم تقع اتفاقًا بدون قصد -: للزم تعطيل أكثر أفعاله من الاستدلال بها، وهذا باطل، أما صلاته صلى الله عليه وسلم على قتلى أحد: فليست هي صلاة الميت، وإنما هي صلاة وداع لهم كما كان يُودِّع الموتى الذين دُفنوا في البقيع أحيانًا، وقد سبقت الإشارة إلى ذلك فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض السنة الفعلية مع السنة الفعلية" فيُعمل عندنا بالسنة الفعلية الأولى، ويلزم من فعله بهذا الوقت التحديد الشرعي، وعندهم: يُعمل بالسنة الفعلية الثانية، ولا يفهم من فعله التحديد.
فتجوز صلاة الإمام والآحاد عليه (بالنية إلى شهر)؛ لصلاته صلى الله عليه وسلم على النجاشي كما في المتفق عليه عن جابر، وكذا غريق، وأسير ونحوهما،
(150)
وإن وُجد بعض ميت لم يُصلَّ عليه فككلَّه - إلا الشعر والظفر والسن - فيُغسَّل ويُكفَّن، ويُصلَّى عليه، ثم إن وجد الباقي فكذلك، ويُدفن بجنبه،
(151)
ولا يُصلَّى على مأكول ببطن آكل، ولا
(150)
مسألة: تصح الصلاة على المسلم الميت الغائب: سواء كان في بلد قريب أو بعيد، وسواء كان المصلي فردًا، أو جماعة: فيُوضع شيء أمامهم، ويصلون صلاة الجنازة كأنه أمامهم، بأن كان عند عدو، أو كان غريقًا لم يُستطع إخراجه، بشروط ثلاثة: أولها: أن لا يكون قد صُلِّي عليه، ثانيها: إن لا يمضي على دفنه أكثر من شهر تقريبًا، ثالثها: أن ينوي المصلي أن الميت الغائب بين يديه؛ للسنة الفعلية وهي من وجهين: أولهما: أنه صلى الله عليه وسلم قد صلى على النجاشي؛ حيث إنه لم يُصلَّ عليه؛ لأنَّه مات بين مشركين، بينما لم يُصلّ على من مات من الصحابة وهم غائبون؛ لكونهم قد صُلِّي عليهم قال ذلك ابن القيم، ثانيهما: أنه صلى الله عليه وسلم قد صلَّى على أم سعد وقد مضى شهر على دفنها، فيُقيَّد بذلك الزمن - كما سبق في مسألة (149) - والأسير والغريق مثل النجاشي، وأم سعد؛ لعدم الفارق من باب "مفهوم الموافقة" فإن قلتَ: لمَ اشترطت النية هنا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك يجعله مقصودًا في الدعاء، فإن قلتَ: لمَ اشترط: أن لا يكون قد صُلِّي عليه؟ قلتُ: لأن صلاة الجنازة فرض كفاية إذا قام بها من يكفي سقط عن الباقين، فيلزم من ذلك: عدم صحة الصلاة على غائب قد صُلِّي عليه.
(151)
مسألة: إذا وُجد عضو من أعضاء مسلم ميت - لا تنفصل في العادة - كيد أو رجل: فيجب غسله، وتكفينه، والصلاة عليه، ودفنه، وإن وجد الباقي: فُعل به ذلك ودُفن بجنب قبره إن سَهُل؛ لقاعدتين: الأولى: القياس، بيانه: كما أنه =
مستحيل بإحراق ونحوه،
(152)
ولا على بعض حي مدة حياته
(153)
(ولا) يُسنُّ: أن
لو مات ووُجد كاملًا يجب تجهيزه فكذلك يُفعل ببعضه والجامع: أن كلًا منهما له حرمة المسلم، الثانية: فعل الصحابي؛ حيث إن عمر قد صلَّى على عظام بالشام، وأبو أيوب قد صلى على رِجْل إنسان، وأبو عبيدة قد صلى على رؤوس وجدها، فإن قلتَ: لمَ يُفعل ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه إكرام المسلم، فإن قلتَ: لمَ اشتُرط: أن لا ينفصل عنه عادة؟ قلتُ: لأن المنفصل عن المسلم عادة كالشعر والظفر، والسن لا يُجهَّز إذا وُجد بعد وفاته؛ للمصلحة؛ حيث إنه لو وجب تجهيز ذلك: للحق المسلم ضيق ومشقَّة؛ نظرًا لكثرتها وانتشارها في الأرض، ثم إن انفصال ذلك طبيعي، فلا يُقاس على العضو غير المنفصل.
(152)
مسألة: لا يُصلَّى على مسلم قد أكله سبع - كأسد - ولو كان هذا السبع مُشاهَدًا، وكذا لا يُصلَّى على المحترق احتراقًا صيَّره إلى رماد لا يُشاهد منه شيء؛ للتلازم؛ حيث يلزم من عدم القدرة على تغسيله وتكفينه: عدم الصلاة عليه؛ لأن التغسيل والتكفين شرطان من شروط صلاة الجنازة - كما سبق في مسألة (147) -، فإن قلتَ: لمَ لا يُصلَّى على هذين مع صحة الصلاة على الغائب - كما سبق في مسألة (150)؟ قلتُ: لوجود الفرق بينهما؛ حيث إنه قد غلب على ظننا وجود جثَّة الغائب تحت الأرض، فيحصل تصوُّرها وإن كان غائبًا، أما من أكله السبع، أو احترق - كما وصفنا -: فلا توجد جُثَّة مشاهدة له، ولا مُتصوَّرة، ومع الفرق فلا قياس.
(153)
مسألة: إذا انقطعت يد مسلم، أو رجله، أو أيُّ عضو من أعضائه، وكان هذا المسلم حيًا: فلا يُغسَّل، ولا يكفن، ولا يُصلَّى على ذلك؛ للتلازم؛ حيث إن المقصود من الصلاة على الميت هو: الدعاء له بالمغفرة، فيلزم من =
(يُصلِّي الإمام) الأعظم، ولا إمام كل قرية، وهو واليها في القضاء (على الغالِّ) وهو: من كتم شيئًا ممن غنمه؛ لما روي زيد بن خالد قال: توفى رجل من جُهينة يوم خيبر فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "صلوا على صاحبكم" فتغيَّرت وجوه القوم، فلما رأى ما بهم قال:"إن صاحبكم غلَّ في سبيل الله"، ففتَّشنا متاعه فوجدنا فيه خرزًا من خرز اليهود ما يساوي درهمين، رواه الخمسة إلا الترمذي، واحتج به أحمد (ولا على قاتل نفسه) عمدًا؛ لما روى جابر بن سمرة:"أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءوه برجل قد قتل نفسه بمشاقص فلم يصل عليه"، رواه مسلم وغيره، و "المشاقص": جمع مشقص كمنبر: نصل عريض أو سهم فيه ذلك، أو نصل طويل، أو سهم فيه ذلك يُرمى به الوحش
(154)
(ولا بأس بالصلاة عليه) أي: على الميت
ذلك: عدم الصلاة على هذا العضو؛ لكونه لا ثواب له، ولا عقاب عليه، ولأنه يؤدِّي إلى أن يصلي المسلم على بعض نفسه، وهذا غير متصوَّر عقلًا ولا شرعًا، وهذا هو المقصد.
(154)
مسألة: لا يُستحب أن يصلي الإمام أو نائبه: كأمير قرية، أو قاضيها على "الغالِّ" وهو: من كتم شيئًا مما غنمه في الجهاد في سبيل الله قبل قسمتها، ولا على "قاتل نفسه عمدًا" ولا على "من مات على معصية بلا توبة"، ويُباح أن يصلي عامة المسلمين على هؤلاء الثلاثة وعلى غيرهم من العصاة كالقاتل، والزاني، وشارب الخمر، والمقتول قصاصًا أو حدًّا، وجميع الفسَّاق؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "صلوا على صاحبكم" يقصد: "الغال"؛ حيث إنه أوجب على المسلمين الصلاة على الغالِّ؛ لأن الأمر مطلق، فيقتضي الوجوب، وغيره من العصاة مثله؛ لعدم الفارق، من باب "مفهوم الموافقة"، الثانية: السنة الفعلية وهي من وجهين: أولهما: أنه صلى الله عليه وسلم قد امتنع عن الصلاة على الغال، وعلى قاتل نفسه - كما رواهما زيد بن خالد، وجابر بن سمرة - =
(في المسجد) إن أَمِن تلويثه؛ لقول عائشة: "صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على سهيل بن بيضاء في المسجد" رواه مسلم، "وصُلِّي على أبي بكر وعمر فيه" رواه سعيد،
(155)
وللمصلي قيراط، وهو معلوم عند الله تعالى، وله بتمام دفنها آخر بشرط: أن لا يُفارقها من الصلاة حتى تدفن
(156)
فصل: في حمل الميت ودفنه: ويسقطان بكافر
و"من مات على معصية بلا توبة" مثلهما؛ لعدم الفارق من باب "مفهوم الموافقة"، ثانيهما: أنه صلى الله عليه وسلم قد صلى على ماعز الأسلمي، وعلى الغامدية بعد رجمهما - لارتكابهما الزنا -؛ لكونهما قد تابا توبة نصوحًا، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن عدم صلاة السلطان أو نائبه على هؤلاء الثلاثة فيه عقوبة لهم، وزجرًا وردعًا عن أن يفعل غيرهم مثل ما فعلوا، وأذن الشارع لعامة المسلمين بالصلاة عليهم؛ لكونهم بحاجة إلى الدعاء لهم بالمغفرة.
(155)
مسألة: تُباح الصلاة على الميت في المسجد: بشرط: أن يغلب على الظن عدم خروج نجاسة منه تُلون المسجد، ولكن الأفضل: أن يصلِّى عليه خارج المسجد؛ لقواعد: الأولى: السنة الفعلية وهي من وجهين: أولهما: أن أكثر صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على الأموات كان خارج المسجد، ثانيهما: أنه صلى الله عليه وسلم صلى مرة على رجل في المسجد، الثانية: الإجماع السكوتي؛ حيث إن عمر قد صلى على أبي بكر رضي الله عنه، وصهيب صلى على عمر رضي الله عنهم في المسجد من غير نكير من أحد من الصحابة، فكان إجماعًا سكوتيًا، الثالثة: المصلحة؛ حيث إن الصلاة عليه خارج المسجد فيه منع للمسجد من التلويث ببعض النجاسات التي تخرج عادة من الميت، إلا إذا أُمن ذلك فلا بأس، لتحقق عدم التنجيس، وفيه توسعة على المسلمين.
(156)
مسألة: إذا صلى المسلم على ميت: فله قيراط، وإذا صلى عليها وتبعها حتى تُدفن: فله قيراطان، و "القيراطان" مثل الجبلين العظيمين من الأجر =
وغيره كتكفينه؛ لعدم اعتبار النية
(157)
(ويُسن التربيع في حمله)؛ لما روى سعيد وابن ماجه عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه قال: "من اتبع جنازة: فليحمل بجوانب السرير كلها؛ فإنه من السنة، ثم إن شاء فليطوع وإن شاء فليدع" إسناده ثقات، إلا أن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه، لكن كرهه الآجري وغيره إذا ازدحموا عليها، فيُسنُّ أن يحمله أربعة، و "التربيع": أن يضع قائمة السرير اليُسرى في المقدمة
والثواب؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "من شهد الجنازة حتى يُصلَّى عليها فله قيراط، ومن شهدها حتى تُدفن: فله قيراطان" فقيل: ما القيراطان؟ قال: "مثل الجبلين العظيمين" وفي رواية: "أصغرهما مثل أحد"، فإن قلتَ: لمَ خُصَّت الصلاة والدفن هنا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تكريم للميت، وتفريح أهله الذين حزنوا بفقده، ولأن المقصود من تجهيز الميت هو: الصلاة عليه، ودفنه، ولجواز مشاهدة الميت في هاتين الحالتين، أما ما قبلهما - من تغسيل وتكفين -: فلا يجوز لأحد مشاهدته إلا للمغسِّل والمكفِّن ومعاونهما، فلذا لم يُذكرا هنا.
(157)
مسألة: يكفي في تكفين الميت وحمله ودفنه أيُّ شخص يقوم بها: سواء كان مسلمًا أو كافرًا: فلا يُشترط الإسلام لذلك؛ للتلازم؛ حيث إن هذه الأمور لا تُشترط النية فيها فيلزم إجزاء قيام الكافر بها عن فعل المسلم لها، فإن قلتَ: لمَ صحَ ذلك من الكافر في حين لا تصح صلاته عليه وتغسيله له؟ قلتُ: لأن النية مشروطة في الصلاة والطهارة، وصلاة الجنازة، وتغسيل الميت يدخلان في عموم الصلاة والطهارة فلا يصحَّان إلا من مسلم، لصحة نيته، بخلاف التكفين، والحمل، والدفن، فلا تحتاج إلى النية؛ لأنَّه مجرد عمل، لا دعاء فيه فتصح من الكافر، وهذا من باب التوسعة على المسلمين.
على كتفه الأيمن، ثم ينتقل إلى المؤخرة، ثم يضع قائمته اليُمنى المقدمة على كتفه اليُسرى، ثم ينتقل إلى المؤخرة
(158)
(ويُباح) أن يحمل كل واحدة على عاتقه (بين العمودين)؛ لأنَّه صلى الله عليه وسلم حمل جنازة سعد بن معاذ بين العمودين،
(159)
وإن كان الميت طفلًا: فلا بأس بحمله على الأيدي، ويُستحب أن يكون على نعش،
(160)
فإن كان
(158)
مسألة: يُستحب التربيع في حمل الجنازة وصفته: أن يضع قائمة السرير - وهو النعش - اليُسرى التي في المقدمة على كتفه الأيمن - وهي التي تلي يمين الميت من عند رأسه - ثم ينتقل إلى ما يليها في المؤخرة، ثم يتقدَّم فيضع قائمة السرير اليُمنى على كتفه الأيسر - وهي التي تلي يسار الميت من عند رأسه -، ثم ينتقل إلى ما يليها في المؤخرة، فيكون بذلك قد أخذ بقوائم السرير الأربع، وكره ذلك إن وجد ازدحام؛ للسنة الفعلية؛ حيث قال ابن مسعود:"من اتبع جنازة فليحمل من جوانب السرير كلها؛ فإنه من السنة" وقول الصحابي "من السنة كذا" له حكم الحديث المرفوع، فإن قلتَ: لمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تعاقب في حمله، وتكثير الأجر، فإن قلتَ: لمَ كُرِه التربيع إن وجد ازدحام؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه دفع مفسدة التنازع، ودفع المفسدة - وهي الفتنة والتنازع - مُقدَّم على جلب المصلحة - وهي: التحصيل على أجر التربيع.
(159)
مسألة: يُباح أن يقف بين العمودين الأيمن والأيسر ويجعلهما على عاتقيه - كتفيه - الأيمن والأيسر عند حمله للجنازة؛ للسنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد فعل ذلك لما حمل جنازة سعد بن معاذ، فإن قلتَ: لمَ أبيح ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه توسعة على المسلمين في حمل الجنازة.
(160)
مسألة: يُستحب أن يُحمل الطفل الميت على نعش - وهو السرير - ويكون فيه مُستلقيًا على ظهره كالبالغ، ويُباح حمله على الأيدي بدون نعش؛ =
امرأة: استُحب تغطية نعشها بمكبَّة؛ لأنَّه أستر لها، ويُروى أن فاطمة صُنع لها ذلك بأمرها، ويُجعل فوق المكبَّة ثوب، وكذا إن كان بالميت حَدَب ونحوه،
(161)
وكُره تغطيته بغير أبيض،
(162)
ولا بأس بحمله على دابة؛ لغرض صحيح كبُعْد قبره
(163)
(ويُسنَّ الإسراع بها) دون الخَبَب؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "أسرعوا بالجنازة، فإن تكُ صالحة:
لقاعدتين: الأولى: السنة التقريرية؛ حيث إن عليًا قد حمل إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم على يديه حتى دُفن، ولم يُنكر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، الثانية: المصلحة؛ حيث إن حمل الطفل على النعش فيه البعد عن ملامسة الميت باليد، وعن احتمال سقوطه، فإن قلتَ: لمَ أبيح حمله على الأيدي؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه توسعة على المسلمين، ولأن ملامسة الطفل باليد لا يثير الفتنة عادة.
(161)
مسألة: يُستحب أن يُوضع على نعش المرأة مُكبَّة مصنوعة من خشب ونحوه، ويُوضع فوق تلك المكبَّة ثوب، وتكون كالقبَّة الصغيرة، وكذلك توضع تلك المكبَّة على كل ميت مشوَّه البدن: كحدب ونحوه؛ للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه ستر لجسم المرأة وتقاطيعه، وفيه تحسين لمنظر الميت المشوَّه الجسم، وهذا كله لتكريم الميت.
(162)
مسألة: يُستحب تغطية الميت بثوب أبيض، ويُكره بغيره؛ للمصلحة؛ حيث إن البياض أمارة على الطهارة والنقاء والصفاء، لذلك: استحب أن يلبسه الأحياء، ويُكفَّن فيه الأموات - كما ورد في الحديث.
(163)
مسألة: يُباح أن يُحمل الميت على دابة أو سيارة، ونحوهما، بسبب بُعْد المقبرة، أو عظم بدن الميت، ويُكره أن تحمل بطريقة مزرية كحمله في زنبيل؛ للمصلحة؛ حيث إن حمله على دابة ونحوها فيه دفع مشقة حمله، وفي كراهية حمله بطريقة مزرية دفع إهانة المسلم.
فخير تُقدِّمونها إليه، وإن تكُ سوى ذلك: فشر تضعونه عن رقابكم" متفق عليه
(164)
(و) يُسنُّ (كون المشاة أمامها) قال ابن المنذر "ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر رضي الله عنهم كانوا يمشون أمام الجنازة"(و) كون (الركبان خلفها)؛ لما روى الترمذي وصحَّحه عن المغيرة بن شعبة مرفوعًا: "الراكب خلف الجنازة"،
(165)
وكُرِه ركوب
(164)
مسألة: يُستحب الإسراع في حمل الجنازة إلى القبر: بأن يمشوا بها سريعًا فوق المشي المعتاد ودون العدو - هو الركض والخَبَب - ولا يجوز أن يُمشى بها بطيئًا - خطوة خطوة -؛ للسنة القولية؛ حيث قال: "أسرعوا بالجنازة" وصرفت السنة التقريرية هذا الأمر هنا من الوجوب إلى الاستحباب؛ حيث كان بعض الصحابة لا يُسرعون إذا حملوا جنازة، وكذلك لا يُبطئون، بل كانوا يمشون وعليهم السكينة، ولم يُنكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فإن قلتَ: لمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: لمصلحة الحامل والمحمول - كما نص الحديث على ذلك -؛ حيث إن كان الميت المحمول صالحًا فيُسرع به حتى يصل إلى الخير الذي ينتظره، وإن كان فاسقًا فيُسرع به حتى يتخلَّص الحامل له من شرٍّ يحمله، فإن قلتَ: لمَ لا يشرع الركض به؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك يتسبَّب في ارتجاج الميت، مما يؤدِّي إلى خروج بعض النجاسات، فيؤذي الحاملين، فإن قلتَ: لمَ لا يجوز المشي البطيء به؟ قلتُ: لأن هذا بدعة، لا أصل لها في الشريعة قد فعلها بعض الحكَّام ومن ينافقهم؛ لمخالفتها للنص الصريح في الحديث السابق، قال ابن القيم:"وأما دبيب الناس اليوم خطوة خطوة فبدعة مخالفة للسنة، ومتضمِّنة للتشبيه بأهل الكتاب".
(165)
مسألة: يُستحب للمشاة على أقدامهم من المشيعين: أن يكونوا أمام الجنازة، ويستحب للركبان منهم: أن يكونوا خلفها؛ لقواعد: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "الراكب خلف الجنازة" حيث دل مفهوم المكان على أن الماشي =
لغير حاجة،
(166)
وعَوْد
(167)
(ويُكره جلوس تابعها حتى توضع) بالأرض للدَّفن إلا لمن بَعُدَ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "من تبع جنازة: فلا يجلس حتى توضع" متفق عليه عن أبي سعيد،
(168)
وكُرِه قيامه لها إن جاءت، أو مرَّت به وهو
لا يكون خلفها بل يكون أمامها أو مساويًا لها الثانية: اللسنة الفعلية؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم يمشي أمام الجنازة، الثالثة: فعل الصحابي: حيث كان أبو بكر، وعمر، وعثمان، وأبو هريرة، وابن الزبير رضي الله عنهم يمشون أمام الجنازة، فالسنة الفعلية وفعل الصحابي قد خصَّصا عموم مفهوم المكان من السنة القولية السابقة، وجعل الماشي أمام الجنازة، فإن قلتَ: لمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن الأصل: أن يكون الجميع أمام الجنازة؛ لأن المشيعين شفعاء للميت، والشفيع يتقدم عادة المشفوع له، ولكن شرع تأخير الركبان؛ لئلا يؤذي المشاة، أو تقلل من السكينة.
(166)
مسألة: يُكره ركوب المشيِّع للجنازة على دابة ونحوها لغير حاجة، أما إن وُجدت حاجة كضعفه فيُباح الركوب بلا كراهة؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث رأى النبي صلى الله عليه وسلم ناسًا ركبانًا في تشييع جنازة فقال: "ألا تستحون إن ملائكة الله على أقدامهم وأنتم على ظهور الدَّواب" - كما رواه ثوبان -، الثانية: المصلحة؛ حيث إن الركوب بلا حاجة فيه نوع إهانة للميت، وللملائكة الذين مع المشيِّعين، أما إن وجدت حاجة فيُباح؛ لمراعاة أحوال الناس.
(167)
مسألة: يُباح أن يركب المشيع دابة ونحوها إذا عاد إلى بيته بعد دفن الجنازة؛ للسنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم "قد تبع جنازة ابن الدحداح ماشيًا، ورجع على فرس" - كما رواه جابر بن سمرة -، فإن قلتَ: لمَ أبيح ذلك؟ قلتُ: لعدم وجود جنازة، فلا إهانة لأحد.
(168)
مسألة: يُكره جلوس المشيِّع للجنازة على الأرض قبل أن توضع تلك الجنازة على الأرض إلا إن وصل قبل وصولها بوقت طويل: فيجلس =
جالس
(169)
ورفع الصوت معها، ولو بقراءة،
(170)
وأن تتبعها امرأة،
(171)
وحُرِّم: أن
لانتظارها؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "من تبع جنازة: فلا يجلس حتى توضع على الأرض" وقد صرف فعل الصحابي هذا النهي من التحريم إلى الكراهة؛ حيث ثبت أن بعض الصحابة كانوا يجلسون قبل وضع الجنازة، الثانية: المصلحة؛ حيث إن جلوسه قبلها فيه نوع إهانة لها، وأُبيح جلوسه قبل وصولها؛ لأن وقوفه لانتظارها فيه مشقة عليه، فدفعًا للإهانة والمشقة شُرِع هذا.
(169)
مسألة: يُستحب أن يقوم الجالس إذا مرَّت به جنازة محمولة، ولو كانت جنازة كافر؛ للسنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قام لجنازة يهودي فيلزم أن يُقام لجنازة المسلم من باب أولى من باب:"مفهوم الموافقة الأولى"، فإن قلتَ: لمَ استحب ذلك؟ قلتُ: لتعظيم أمر الله، وتعظيم القائمين به، والمشيعين والملائكة الذين يتبعون كل ميت، فإن قلتَ: إن القيام هنا مكروه - وهو ما ذكره المصنف هنا - قلتُ: لم أجد دليلًا قويًا على ذلك.
(170)
مسألة: يحرم رفع الصوت أثناء تشييع الجنازة وقبل دفنها: سواء في قراءة أو ذكر أو لا، ويحرم اتباعها بنار أو جمر ونحو ذلك؛ للسنة القولية؛ حيث "نهى صلى الله عليه وسلم أن تُتَّبع الجنازة بصوت أو نار" فحرم ذلك؛ لأن النهي مطلق، فيقتضي التحريم ولا يوجد صارف له، فإن قلتَ: لمَ حرم ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه إكرام للميت، وللملائكة الذين يمشون مع الميت، ولمخالفة أهل الكتاب الذين يفعلون ذلك في موتاهم، فإن قلتَ: إن ذلك مكروه - وهو ما ذكره المصنف هنا - قلتُ: لم أجد صارفاً قويًا للنهي الوارد في الحديث من التحريم إلى الكراهة.
(171)
مسألة: يحرم أن تتبع المرأة الجنازة؛ للسنة القولية؛ حيث قالت أمُّ عطية: "نُهينا عن اتباع الجنائز" فحرم الشارع ذلك؛ لأن النهي هنا مطلق، فيقتضي =
يتبعها مع منكر إن عجز عن إزالته، وإلا: وجبت
(172)
(ويُسجَّى) أي: يُغطَّى ندبًا
التحريم، ولا يوجد صارف له إلى الكراهة، فإن قلتَ: لمَ حُرِّم ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن المرأة شديدة الجزع، سريعة الانفعال، فلو تبعت الجنازة وحصل منها الجزع لأدَّى إلى ظهور بعض بدنها، وهذا يثير الفتنة، فدفعًا لذلك: حرم عليها ذلك، ودفع المفسدة - وهي: إثارة الفتنة - مقدَّم على جلب المصلحة - وهو: أجر اتباع الجنازة -، فإن قلتَ: إن اتِّباع المرأة للجنازة مكروه - وهو ما ذكره المصنف هنا -؛ للتلازم؛ حيث قالت أمُّ عطية في الحديث السابق: "ولم يُعزم علينا" حيث يلزم من عدم العزم على المنع: أن الخروج والاتِّباع مكروه؛ إذ لو كان حرامًا: لعزم على المنع قلتُ: إن لفظ "ولم يُعزم علينا" يظهر منه: أنه من اجتهاد أمُّ عطية، وقول الصحابي واجتهاده لا يُعمل به إذا كان مُعارضًا للسنة القولية مع تأييد المصلحة لذلك فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض قول الصحابي مع السنة القولية" فعندنا: يُعمل بالسنة على إطلاقها، ولا يوجد صارف للنهي، وعندهم: أن قول الصحابي هنا قد صرف النهي من التحريم إلى الكراهة.
(172)
مسألة: يحرم على المسلم أن يتبع جنازة قد أُحيطت بمنكرات كرفع صوت، أو وجود نيران، أو طبول أو مزامير، أو لطم خدود ونحو ذلك إن لم يقدر على إزالتها، وإن غلب على ظنه قدرته على إزالتها وإقناع الناس بأنها منكرة: فيجب عليه حضورها؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية: حيث قال صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان" حيث أوجب الشارع تغيير المنكر على المستطيع؛ لأن الأمر مطلق، فيقتضي الوجوب، الثانية: المصلحة؛ حيث إن حضور المسلم لهذا واستماعه للمنكرات وسكوته -؛ لعدم مقدرته على إنكارها - يُفهم الآخرين: أنه مُقرٌّ لها، فيفعل الآخرون كما فعل، فينتشر الفساد بسبب ذلك، وتعم =
(قبر امرأة) وخنثى (فقط) ويُكره لرجل بلا عذر؛ لقول علي رضي الله عنه وقد مرَّ بقوم دفنوا ميتًا، وبسطوا على قبره الثوب فجذبه - وقال:"إنما يصنع هذا بالنساء" رواه سعيد
(173)
(واللَّحد أفضل من الشق)؛ لقول سعد: "إلحدوا لي لحدًا، وانصبوا علي اللِّبن نصبًا كما صُنِع برسول الله صلى الله عليه وسلم " رواه مسلم و "اللحد" هو: أن يحفر إذا بلغ قرار القبر في حائط القبر مكانًا يسع الميت، وكونه مما يلي القبلة أفضل، و "الشَّقُّ": أن يُحفر في وسط القبر كالنهر، ويُبنى جانباه، وهو مكروه بلا عذر
(174)
المنكرات، ويصير المنكر معروفًا، والمعروف منكرًا لذا حُرِّم؛ لأن دفع المفاسد وهو عدم الحضور لتلك المنكرات - مقدم على جلب المصالح وهو: أجر الحضور.
(173)
مسألة: يُستحب أن يُغطَّى قبر امرأة وخنثى حال إدخالهما القبر؛ لقول الصحابي؛ حيث رأى علي رضي الله عنه قومًا دفنوا ميتًا وبسطوا على قبره ثوبًا لئلا يرى حين إدخاله فجذبه علي قائلًا: "إن هذا يُصنع بالنساء"، والخنثى كالمرأة؛ في هذا الحكم؛ احتياطًا؛ لاحتمال أن يكون أنثى، فإن قلتَ: لمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك أستر لها.
(174)
مسألة: يُستحب أن يوضع الميت في لحد القبر، وهو: أن يُحفر في مُنتهى القبر مكانًا في حائطه مما يلي القبلة فيوضع فيه الميت، ثم يُبنى باللِّبن والطِّين بحيث لا يمس التراب الميت، وهذا أفضل من "الشَّقِّ" وهو: أن يُشق وسط القبر شقًا كما يُشق النهر في وسط الوادي فيوضع الميت فيه، ثم يُبنى جانباه باللبن، ويُسقف بالحجارة ونحوها بحيث لا يمس التراب الميت وهو - أي: الشق - مكروه -، إلا إن تعذَّر اللَّحد ككون الأرض رخوة لا يثبت معه اللحد؛ لفعل الصحابي؛ حيث إن الصحابة الذين قاموا بدفن النبي صلى الله عليه وسلم فعلوا اللَّحد - كما حكى ذلك سعد بن أبي وقاص، وطلب أن يُفعل به ذلك، وهذا يلزم منه =
كإدخاله خَشَبًا، وما مسَّته النار، ودَفْن في تابوت،
(175)
وسُنَّ: أَن يُوسَّع ويُعمَّق قبر بلا حدٍّ، ويكفي ما يمنع من السباع والرائحة،
(176)
ومن مات في سفينة، ولم يُمكن
كراهة الشق بلا عذر فإن قلتَ: لمَ كان اللحد أفضل من الشق؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إنه أستر للميت من الشق، فإن قلتَ: لمَ يُلحد تجاه القبلة؟ قلتُ: لأنها أشرف الجهات، فإن قلتَ: لمَ أُبيح الشَّق لعذر؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه دفع المشقة والحرج عن الناس.
(175)
مسألة: يُكره وضع الخشب، وما مسَّته النار - مثل الآجر وهو: الطين المطبوخ بالنار - في القبر، وكذا: يُكره دفن الميت في تابوت - وهو صندوق يوضع فيه الميت ثم يوضع في القبر -؛ لقول الصحابي وهو من وجهين: أولهما: أن عمرو بن العاص قال: "لا تجعلوا في قبري خشبًا ولا حجرًا" والتابوت من الخشب، ثانيهما: أن زيد بن ثابت منع أن يوضع في قبره الآجر، فإن قلتَ: لمَ كُره ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تفاؤل بأن لا تمسه النار، ولأن الأرض أكثر امتصاصًا لفضلات الميت من الخشب.
(176)
مسألة: يكفي في حفر القبر أدنى حفر بشرط: أن يكون مانعًا من نبش السباع للقبر ومانعًا من ظهور رائحة كريهة، لكن يُستحب: أن يُعمَّق في القبر، ويُوسَّع؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم في قتلى أحد -: "احفروا وأوسعوا، وعمِّقوا" وقد صرف قول الصحابي هذا الأمر من الوجوب إلى الاستحباب؛ حيث إن ابن عمر رضي الله عنهم قد أوصى بأن يُحفر قبره قامة، الثانية: التلازم؛ حيث يلزم من إطلاق الأمر بوجوب دفن الميت، وعدم تحديده بعمق معيَّن: أن يُفعل أيُّ شيءُ يطلق عليه قبر ودفن، ومن واراه عن الأنظار: فإنه يصدق أنه دفنه وقبره؛ لأن الأمر مطلق، ويكفي أدنى ما يُطلق عليه أنه امتثال للأمر، وهذا فيه تيسير على العباد.
دفنه: ألقي في البحر سلًّا كإدخاله القبر بعد غسله، وتكفينه، والصلاة عليه، وتثقيله بشيء
(177)
(ويقول مُدخله) ندبًا (بسم الله وعلى ملَّة رسول الله)؛ لأمره صلى الله عليه وسلم بذلك، رواه أحمد عن ابن عمر
(178)
(ويضعه) ندبًا (في لحده على شقِّه الأيمن)؛ لأنَّه يُشبه النائم، وهذه سنته،
(179)
ويُقدم بدفن رجل من يُقدَّم بغسله،
(180)
وبعد
(177)
مسألة: إذا مات مسلم في سفينة ولم يُتمكَّن من دفنه في الأرض: فإن يُغسَّل، ويُكفَّن ويُصلَّى عليه، ثم يُوضع عليه شيء ثقيل، ثم يُلقى في البحر سَلًّا كإدخاله في القبر، وصفته: أن يُجعل رأس الميت في الموضع الذي يكون فيه رجلاه فيما لو دُفن، ثم يُسلُّ فيه سَلًّا رفيقًا؛ لقاعدتين: الأولى: فعل الصحابي؛ حيث إن الصحابة الذين دفنوا النبي صلى الله عليه وسلم سَلُّوه في قبره من قبل رأسه، الثانية: المصلحة؛ حيث إن هذا الفعل فيه منع للرائحة وفي وضع شيء ثقيل عليه سرعة استقراره في قاع البحر؛ لئلا يكون على سطح البحر، فيتأذى أقرباؤه.
(178)
مسألة: يُستحب أن يُقال عند إدخال الميت في قبره: "بسم الله، وعلي ملَّة رسول الله"؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "إذا وضعتم موتاكم في القبور فقولوا: بسم الله وعلى ملَّة رسول الله" فإن قلتَ: لمَ استحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن البسملة تسبَّب البركة، وحتى يكون آخر عهده بالتوحيد.
(179)
مسألة: يُستحب أن يوضع الميت في لحده على جنبه وشقِّه الأيمن؛ للقياس، بيانه: كما أنه يُستحب أن ينام على شقه الأيمن كما ورد عنه صلى الله عليه وسلم، فكذلك الميت يوضع على شقه الأيمن والجامع: التفاؤل باليمين، وطلب البركة، في فعله، لذا كان صلى الله عليه وسلم يحب التيامن في شأنه كله.
(180)
مسألة: إذا حصل تنازع في مَنْ يُقوم بدفن رجل: فإنه يُقدَّم من قُدِّم بغسله: فيتقدَّم وصيُّه، فإن تعذَّر: فأبوه وهكذا كما سبق في التنازع في غسله في مسألتي (26 و 29) وقد سبق الاستدلال على ذلك مع بيان المقصد من ذلك.
الأجانب محارمه من النساء،
(181)
ثم الأجنبيات،
(182)
وبدفن امرأة محارمها الرجال، فزوج، فأجانب،
(183)
ويجب أن يكون الميت (مستقبل القبلة)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في
(181)
مسألة: إذا مات رجل بين نساء فقط: فيقمن محارمه بدفنه - وهنَّ من يحرم عليه أن يتزوجهن في حال حياته -؛ للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه أمن الفتنة، من فإن قلتَ: لمَ يُقدَّم في الدفن الرجال الأجانب على محارمه من النساء؟ قلتُ: لضعف النساء، وشدَّة جزعهنَّ.
(182)
مسألة: إذا مات رجل بين نساء أجنبيات عنه: فيجب أن يقمن بدفنه، ولا يتركنه؛ للمصلحة؛ حيث إن تركه بدون دفن فيه ضرر ظهور رائحته الكريهة، وفيه إكرام له فوجب عليهن ذلك، فإن قلتَ: لمَ وجب ذلك عليهن مع عدم جواز غسله عليهن ولو لم يوجد غيرهن؟ قلتُ: لعدم وجود مس ولا نظر إلى الميت في الدفن، بخلاف الغسل والتكفين.
(183)
مسألة: إذا ماتت امرأة: فإن الذي يدفنها محارمها من الرجال - وهم الذين لا يجوز لهم الزواج منها في حال حياتها -، ويقدم في ذلك الأقرب فالأقرب: فيقدم الأب، ثم الجد وإن علا ثم الابن، ثم ابن الابن وإن نزل، وهكذا، فإن لم يوجد واحد منهم: قام بذلك زوجها وسيدها - إن كانت أمة -، فإن لم يوجد من سبق: قام بدفنها الأجانب؛ لقاعدتين: الأولى: القياس وهو من وجهين: أولهما: كما أن محارم المرأة من الرجال أولى بها في حال حياتها فكذلك أولى بها بعد مماتها، والجامع: جواز انكشافها لهم، ثانيهما: كما يجوز للزوج والسيد أن يُغسِّلا الزوجة والأمة فكذلك يجوز أن يقوما بدفنها، والجامع: أن الزوجية لا تنقطع بعد الموت بدليل الإرث والعدة الثانية: المصلحة؛ حيث إن تركت بلا دفن مع عدم المحارم: فإن ذلك فيه ضرر ظهور رائحة كريهة من الميتة، فإكرامًا للناس ولها: شرع دفن الأجانب لها.
الكعبة -: "قبلتكم أحياء وأمواتًا"،
(184)
وينبغي أن يُدنى من الحائط؛ لئلا ينكبُّ على وجهه، وأن يُسند من ورائه بتراب؛ لئلا ينقلب، ويُجعل تحت رأسه لبنة،
(185)
ويُشرج اللّحد باللّبِن، ويُتعاهد خلاله بالمدر ونحوه، ثم يُطيَّن فوق ذلك،
(186)
وحثو التراب عليه ثلاثًا باليد، ثم يُهال،
(187)
(184)
مسألة: يجب أن يُوجَّه الميت إلى القبلة حين وضعه في قبره، فيكون مستقبلًا لها؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم:"القبلة قبلتكم أحياء وأمواتًا" فيجب استقبال تلك الكعبة في حال الصلاة وحال الموت، فإن قلتَ: لمَ وجب ذلك؟ قلتُ للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تنزيل الميت بمنزلة المصلي، ولأن القبلة أشرف الجهات.
(185)
مسألة: يُستحب أن يوضع الميت قريبًا جدًا من حائط اللَّحد، وأن يُسند ظهره بشيء من التراب؛ ويوضع تحت رأسه لبنة أو بعض التراب؛ للمصلحة؛ حيث إن ذلك يمنعه من الانكباب على وجهه، ويمنعه من الانقلاب على ظهره والاستلقاء، ويُؤمَّن رأسه من السقوط.
(186)
مسألة: بعد وضع الميت في لحده: يُبنى اللحد باللِّبن، ويُضم بعضها إلى بعض حتى يُسدُّ على الميت تمامًا، ويوضع بين اللّبن بعض الطين الرطب حتى يلتصق بعضها ببعض؛ للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه منع من وصول التراب إلى الميت عند دفنه، فإن قلتَ: لمَ يفعل ذلك مع أن الميت سيكون ترابًا عما قريب؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تطييب لنفوس أهل الميت، فائدة: قوله: "ويُشرج اللبن" مراده: ضم بعض اللبن إلى بعض - كما في اللسان (2/ 305) - وقوله: "ويتعاهد خلاله بالمدر" مراده: يوضع بين اللبن قطع من اللبن الصغيرة - كما في الصحاح (2/ 813) -.
(187)
مسألة: يُستحب - بعد بناء اللَّبن على الميت - أن يحثي كل واحد من الحاضرين ثلاث حثيات من التراب بيده، ثم يقوم الجميع بالاشتراك في إهالة =
وتلقينه،
(188)
والدعاء له بعد الدفن عند القبر،
(189)
ورشُّه بماء بعد وضع حصباء عليه
(190)
(ويُرفع القبر عن الأرض قدر شبر)؛ لأنَّه "صلى الله عليه وسلم رُفع قبره عن الأرض
وصبِّ التراب في القبر بأيديهم أو بآلة كبيرة؛ للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه اشتراك كل واحد من الحاضرين بنصيب من الأجر، وصبِّ التراب بآلة فيه الإسراع بدفنه، وهو موافق لمشروعية الإسراع بتجهيز الميت، فائدة: قوله: "ثم يُهال" أي: يُرسل التراب ويُصبُّ من غير تقدير - كما في الصحاح (5/ 1855) -.
(188)
مسألة: لا يُشرع تلقين الميت بشيء بعد دفنه، بل إن هذا بدعة؛ للاستقراء؛ حيث إنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن أصحابه أنهم فعلوا ذلك بموتاهم، فيكون من المحدثات، وكل محدثة بدعة، وهذا ثابت بالاستقراء والتتبع لأحوالهم، فإن قلتَ: بل يُستحب تلقين الميت - وهو الذي ذكره المصنف هنا - بأن يُقال عند القبر: "يا فلان أذكر ما خرجت عليه من الدنيا شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد عبده ورسوله
…
" للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "لقنوا موتاكم" قلتُ: المراد من الحديث: أن يُلقّن المحتضر وهو الذي شارف على الهلاك، وقد سبق بيانه في مسألة (10) فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "التعارض بين السنة القولية والاستقراء" فعندنا: يُعمل بالاستقراء هنا؛ لأن المراد من السنة القولية هنا عندنا غير المراد بها عندهم، وعندهم: يعمل بالسنة.
(189)
مسألة: يُستحب أن يقف الحاضرون بعد الدفن مباشرة ويدعون للميت، ويستغفرون له، ويسألون الله أن يُثبِّته بالقول الثابت في الآخرة كما كان في الدنيا؛ للسنة القولية والفعلية؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم: إذا فرغ من دفن الميت وقف على قبره قائلًا: "استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت؛ فإنه الآن يُسأل" وهو واضح المقصد.
(190)
مسألة: يُستحب أن يوضع فوق القبر بعض الحصباء - وهي: الحجارة الصغيرة -، ثم يُرشُ بعد ذلك الماء عليه؛ للسنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد فعل =
قدر شبر" رواه السَّاجي من حديث جابر، ويُكره فوق شبر
(191)
ويكون القبر (مسنَّمًا)؛ لما رواه البخاري عن سفيان التمار: أنه رأى قبر النبي صلى الله عليه وسلم مُسنَّمًا،
(192)
لكن من دُفن بدار حرب؛ لتعذُّر نقله: فالأولى تسويته بالأرض، وإخفاؤه
(193)
(ويُكره تجصيصه) وتزويقه، وتخليقه، وهو بدعة (والبناء) عليه، لاصقة أو لا؛ لقول جابر:"نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُجصِّص القبر وأن يُقعد عليه، وأن يُبنى عليه" رواه
ذلك في قبر سعد بن معاذ، فإن قلتَ: لمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن فعل ذلك يمنع التراب من الابتعاد عن القبر، وقد يؤدِّي ذلك إلى ظهور الميت أو بعضه، فدفعًا لذلك شُرع.
(191)
مسألة: يُستحب أن يُرفع التراب الذي يُوضع على القبر قدر شبر المتوسط من الرجال - وهو المسافة بين أعلى الإبهام وأعلى الخنصر، ويُكره أن يُرفع أكثر من ذلك؛ لفعل الصحابي؛ حيث إن الذين دفنوا النبي صلى الله عليه وسلم من الصحابة قد رفعوا قبره قدر شبر - كما رواه جابر - ودل مفهوم العدد منه على كراهية رفعه أكثر من شبر، فإن قلتَ: لمَ شُرع ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن رفعه قدر شبر يمنع أن يطأه أحد، وهو يكفي في تعريفه؛ ليزار، وكُرِه رفعه أكثر من شبر؛ لئلا يقرب من البناء عليه المنهي عنه.
(192)
مسألة: يُستحب أن يُجعل القبر مُسنَّمًا: بأن يكون على شكل سنام البعير، لفعل الصحابي؛ حيث إن بعض الصحابة الذين دفنوا النبي صلى الله عليه وسلم جعلوه كذلك، فإن قلتَ: لمَ استحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه منع من أن يمشي عليه أحد؛ لإكرام الميت.
(193)
مسألة: يُستحب أن يُسوَّى قبر المسلم الذي دُفن في بلاد الكفار بالأرض، فلا يُرفع قدر شبر، ولا يُسنَّم؛ للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه إخفاء له وحمايته من أن ينبشه الكفار فيمثِّلوا به.
مسلم (و) تُكره (الكتابة والجلوس والوطء عليه)؛ لما روى الترمذي، وصحَّحه من حديث جابر مرفوعًا:"نهى أن تجصَّص القبور، وأن يُكتب عليها وأن توطأ" وروي مسلم عن أبي هريرة مرفوعًا "لأن يجلس أحدكم على جمرة، فتحرق ثيابه فتخلص إلى جلده خير من أن يجلس على قبر"(و) يُكره (الاتكاء إليه)؛ لما روى أحمد: أن النبي صلى الله عليه وسلم ورأى عمرو بن حزم مُتكئًا على قبر فقال: "لا تُؤْذه"،
(194)
ودفن بصحراء أفضل؛ لأنَّه صلى الله عليه وسلم كان يدفن أصحابه بالبقيع، سوى النبي صلى الله عليه وسلم، واختار صاحباه
(194)
مسألة: يحرم تبييض القبر بالجص، أو بالبويات الحديثة، ويحرم تطييبه، والبناء عليه، والكتابة عليه: سواء كتب اسمه أو لا للسنة القولية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد نهى عن تخصيص القبر، والبناء عليه، والكتابة عليه، والنهي مطلق فيقتضي التحريم، فإن قلتَ: لمَ حُرِّم ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن فعل ذلك قد يؤدِّي إلى تعظيم صاحب القبر، مما قد يفضي إلى عبادته أو التوسَّل به فسدًا ذلك: فإن قلتَ: إن ذلك كله مكروه - وهو ما ذكره المصنف هنا - قلتُ: لم أجد صارفًا للنهي الوارد في الحديث من التحريم إلى الكراهة. [فرع]: يُكره الجلوس على القبر، والوطء والاتكاء عليه، ووضعه كمخدَّة؛ للسنة القولية؛ حيث نهى صلى الله عليه وسلم عن الوطء على القبر، ونهى عمرو بن حزم عن الاتكاء عليه قائلًا:"لا تُؤْذِه" والجلوس عليه وطء وزيادة فيأخذ حكمه من باب "مفهوم الموافقة الأولى"، والسنة القولية الأخرى قد صرفت النهي هنا من التحريم إلى الكراهة؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم:"لأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه، فتخلص إلى جلده خير من أن يجلس على قبر" فيلزم من لفظ "خير" هنا: أن الجلوس على القبر مكروه؛ لأن الخيرية لا تكون إلا بين أمرين متفاضلين، ولا عقاب في ذلك، وهو حدُّ المكروه، والجلوس: وطء واتكاء وزيادة، فإن قلتَ: لمَ كُرِه ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن الجلوس والاتكاء والوطء على القبر فيه إهانة للميت، ومضايقة لأهله فكره لرفع ذلك.
الدفن عنده؛ تشرُّفًا وتبركًا، وجاءت أخبار تدل على دفنهم كما وقع،
(195)
ويُكره الحديث في أمر الدنيا عند القبور،
(196)
والمشي بالنعل فيها إلا خوف نجاسة أو
(195)
مسألة: يُستحب أن يُدفن الموتى بالصحراء خارج البلد: بأن يُوضع مكان يُسوَّر ويُخصَّص لدفن الموتى - ويُسمَّى بـ "المقبرة" سوى النبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث إنه دفن في الموضع الذي مات فيه، وقد اختار أبو بكر رضي الله عنه أن يُدفن بجانب النبي صلى الله عليه وسلم، واختار عمر رضي الله عنه أن يُدفن بجانب أبي بكر؛ لقواعد: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "يُدفن الأنبياء حيث يموتون" الثانية: السنة الفعلية؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم يدفن من مات من أصحابه في "البقيع" وهو مكان كان خارج المدينة المنورة، الثالثة: فعل الصحابي؛ حيث إن الذين دفنوا أبا بكر وعمر لم يدفنوهما في "البقيع" وإنما دفنوهما في حجرة عائشة مع النبي صلى الله عليه وسلم، استجابة لرغبتهما، فإن قلتَ: لمَ استُحب أن يُدفن الموتى في الصحراء؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية للساكنين مما قد يظهر من الروائح الكريهة من الموتى، فإن قلتَ: لمَ يُدفن الأنبياء في الموضع الذي ماتوا فيه؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية للقبر أن يُتخذ مسجدًا، تنبيه: قوله: "تبركًا" يشير به إلى أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهم قد اختارا أن يُدفنا عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم ليتبركا به، قلتُ: هذا لا يليق، فالأولى حذف تلك الكلمة، تنبيه آخر: قوله: "وجاءت أخبار على دفنهم كما وقع" قلتُ: لم أجد ذلك.
(196)
مسألة يُكره التحدُّث، والكلام في أمور الدنيا من أموال، وأولاد، وزوجات، ونحو ذلك في أثناء حمل أو دفن الجنازة، أو بعد ذلك بين القبور؛ للمصلحة؛ حيث إن حضور ذلك ينبغي أن يكون مُنبهًا له ومُذكِّرًا أن هذا المكان مصير كل حي: سواء طال الأمد أو قصر فعليه أن يستعدَّ للرحيل كما رحل غيره، وهذا كفيل بأن يصرف كل إنسان عن الكلام في الدنيا.
شوك،
(197)
وتبسُّم وضحك أشد،
(198)
ويحرم إسراجها، واتخاذ المساجد،
(199)
والتخلَّي عليها وبينها
(200)
(ويحرم فيه) أي: في قبر واحد
(197)
مسألة: يُكره أن يمشي المسلم بالنعل في المقبرة بلا عذر، أما إن وجد عذر كوجود نجاسة، أو حجارة حادة، أو حرارة أرض أو برودتها، أو شوك مؤذٍ فيُباح المشي بالنعل فيها، ويُباح المشي بالخف بعذر أو بغيره؛ للمصلحة؛ حيث إنه كُره المشي بالنَّعل لإكرام الموتى؛ لأن المقبرة دارهم، ومحل تزاورهم، وأفنية قبورهم، وأُبيح المشي بالخف لمشقة نزعه، لذا مُسح عليه عند الوضوء، وأُبيح لبس النعل إذا وجد عذر؛ لدفع الضرَّر من شوك وغيره، وعدم التعرض للنجاسة.
(198)
مسألة: يُكره الضحك والتبسُّم، وإظهار البهجة والسرور أثناء تشييع الجنازة ودفنها، وبعد الفراغ منها بقليل في المقبرة؛ للمصلحة؛ حيث إن هذا لا يُناسب المقام؛ حيث إن إظهار السرور في مصيبة الآخرين يشق عليهم، ويُضايقهم.
(199)
مسألة: يحرم إسراج القبور وإنارتها، أو بينها، وكذا: بناء المساجد عليها: سواء كانت قبور أنبياء أو لا؛ للسنة القولية وهي من وجهين: أولهما: قوله صلى الله عليه وسلم: "لعن الله زوَّارات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج" ثانيهما: قوله صلى الله عليه وسلم: "لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" حيث حرَّم الشارع ذلك؛ لأن "اللَّعن" هو: الطرد من رحمة الله، وهو عقاب، ولا يُعاقب إلا على فعل حرام، فإن قلتَ: لمَ حُرِّم ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن إسراج القبور والبناء عليها يؤدِّي إلى تعظيم أصحابها، مما قد يؤدِّي إلى الشرك، فسدًّا لذلك: حُرِّم، وقد أطال ابن القيم الكلام عن ذلك.
(200)
مسألة: يحرَّم التبوُّل والتغوُّط على القبور أو بينها؛ للمصلحة؛ حيث إن المقبرة دار الأموات، ومحل تزاورهم، وأفنية قبورهم، فيحرم فعل ذلك كما يحرم فعله في دارهم في الدنيا، وفعله في أسواقهم، وطرق ممشاهم.
(دفن اثنين فأكثر) معًا؛ أو واحدًا بعد آخر قبل بلاء السابق؛ لأنَّه صلى الله عليه وسلم كان يدفن كلَّ ميت في قبر، وعلى هذا استمر فعل الصحابة، ومن بعدهم،
(201)
وإن حفر فوجد عظام ميت: دفنها، وحفر في مكان آخر
(202)
(إلا لضرورة): ككثرة الموتى، وقلَّة من يدفنهم، وخوف الفساد عليهم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم يوم أُحُد -: "ادفنوا الاثنين والثلاثة في
(201)
مسألة: يُكره دفن اثنين فأكثر في قبر واحد لغير ضرورة؛ لقاعدتين: الأولى: السنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم كان يدفن كل صحابي في قبر منفردًا، الثانية: فعل الصحابي؛ حيث إن بعض الصحابة كانوا يدفنون كل ميت منهم في قبر منفردًا، وهذا يدل على استحباب دفن كل واحد في قبر منفردًا، ويلزم منه: كراهية مخالفته؛ فإن قلتَ: إن هذا محرَّم - وهو ما ذكره المصنف هنا - قلتُ: لم أجد دليلًا قويًا على ذلك، وهذا الفعل من النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة لا يدل على تحريم غيره، فإن قلتَ: لم كُرِه ذلك؟ قلتُ: لأن العادة جرت: أن الشخص لا يُحب أن يُشاركه أحد في منزله في الدنيا، فكذلك الحال في الآخرة. [فرع]: إذا بَلَت عظام الميت وصارت قريبة من التراب: فإنه يستحب أن يدفن فيه آخر كما يُفعل في البلاد الجبلية كِمكَّة والمدينة ونحوهما؛ للمصلحة؛ حيث إنه لو دُفن كلُّ ميت في قبره منفردًا لا يُشاركه فيه غيره وإن بَلَت عظامه: لما وجد الناس الأحياء أرضًا يُقيمون عليها، ويزرعون فيها، فدفعًا لذلك: شرع هذا الحكم.
(202)
مسألة: إذا حفر مسلم قبرًا يُريد دفن ميت فوجد عظامًا كثيرة لميت سابق: فإنه يدفنها في محلها ولا يُحركها، ويحفر لميته قبرًا آخر، أما إن وجد عظامًا قليلة: فإنه يجمعها بجانب من القبر - كما يصنع أهل الحجاز في قبورهم - ثم يدفن ميته بجانبها؛ للمصلحة التي ذكرناها في الفرع السابق، ولما ذكرناه في مسألة (201).
قبر واحد" رواه النَّسَائِي،
(203)
ويُقدَّم الأفضل للقبلة، وتقدَّم،
(204)
(ويُجعل بين كل اثنين حاجز من تراب)؛ ليصير كل واحد كأنه في قبر منفرد،
(205)
وكُرِه الدفن
(203)
مسألة: إذا وُجدت ضرورة أو حاجة لدفن أكثر من ميت في قبر واحد: كوجود حرب، أو مرض، وخيف على الموتى من الفساد، وظهور رائحة كريهة منهم: فيُستحب: أن يُجمع الاثنين أو الثلاثة أو الأكثر من ذلك في قبر واحد؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "ادفنوا الاثنين والثلاثة في قبر واحد" - يقصد قتلى أُحُد - وغير ذلك من الأمراض مثل الحروب؛ لعدم الفارق من باب "مفهوم الموافقة"، وفعل الصحابي هو الذي صرف هذا الأمر من الوجوب إلى الاستحباب؛ حيث إن بعض الصحابة قد دفنوا كل واحد في قبر واحد في بعض الحروب؛ فإن قلتَ: لمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه دفع مفسدة عن الأموات والأحياء، ودفع المفسدة مُقدَّم على جلب المصلحة.
(204)
مسألة: إذا دُفن اثنان فأكثر في قبر واحد: فيُستحب أن يُقدَّم إلى جهة القبلة أفضلهم وهو: أقرؤهم وأعلمهم، ثم أكثرهم سنًا، ثم أقدمهم إسلامًا، ثم أقدمهم هجرةً وهكذا كما قلنا في الإمامة، لقاعدتين: الأولى: السنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم أمر بتقديم الأكثر قرآنًا إلى القبلة في دفن الاثنين والثلاثة من قتلى أحد، الثانية: القياس، بيانه: كما أنه إذا صُلِّي على مجموعة من الموتى: فإنه يُقدَّم الأفضل إلى الإمام فكذلك يُقدَّم الأفضل إلى القبلة في القبر، والجامع: تقديم الأفضل في كل، فإن قلتَ: لمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن القبلة أشرف الجهات، فيُقدَّم أشرفهم وأفضلهم وأكرمهم إليها؛ ليتأسَّ به من يعلم ذلك.
(205)
مسألة: إذا دُفن اثنان أو أكثر في قبر واحد: فيُستحب أن يُجعل بين كل اثنين حاجز من تراب؛ للقياس: بيانه: كما يُستحب أن يُدفن كل واحد في قبر =
عند طلوع الشمس، وقيامها، وغروبها،
(206)
ويجوز ليلًا
(207)
ويُستحب جمع
منفرد، فكذلك ما نحن فيه مثله والجامع: تكريم الميت بانفراده بمحمل منعزل عن الآخر، وهو المقصد الشرعي.
(206)
مسألة: يُكره دفن الموتى في ثلاث أوقات: "عند طلوع الشمس" و "عند وقوفها في كبد السماء" و"عند غروبها"؛ للسنة القولية؛ حيث قال عقبة بن عامر: "ثلاث ساعات كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نصلي فيهن، وأن نقبر فيهن موتانا: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى يميل، وحين تضيِّف الشمس للغروب حتى تغرب"، والسنة القولية هي التي صرفت هذا النهي من التحريم إلى الكراهة؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "أسرعوا بالجنازة
…
" والإسراع بذلك يلزم منه دفنها في أيِّ وقت، فإن قلتَ: لمَ كره ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن طلوع الشمس وغروبها وقت عبادة المشركين، فتكره موافقتهم لذلك، ولأن وقوف الشمس وقت تسعير النار، فكره أن يدفن فيه؛ تفاؤلًا.
(207)
مسألة: يُباح دفن الميت في الليل؛ لقواعد: الأولى: السنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد دفن ذا النجادين في غزوة تبوك ليلًا، الثانية: السنة التقريرية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد مرَّ بقبر فقال: "من هذا؟ " قالوا: فلان دفن البارحة، فصلى عليه، ولم يُنكر ذلك، الثالثة: فعل الصحابي حيث إن عليًا رضي الله عنه قد دفن فاطمة ليلًا، وأبا بكر رضي الله عنه دُفن ليلًا، فإن قلتَ: لمَ أبيح لك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه توسعة على المسلمين. [فرع]: يُستحب دفن الموتى نهارًا؛ للمصلحة؛ حيث إنه في النهار يكثر المصلون، والمشيّعون، والحاضرون للدفن، والداعون للميت بعد الدفن بالثبات، وفي ذلك مصلحة للمدفون.
الأقارب في بقعة؛ لتسهل زيارتهم
(208)
قريبًا من الشهداء والصالحين؛ لينتفع بمجاورتهم
(209)
في البقاع الشريفة،
(210)
ولو وصَّى أن يُدفن في مُلكه: دُفن
(208)
مسألة: يُستحب أن يُدفن الأقارب في بقعة من الأرض متجاورين يعرفها أقاربهم إن سهل ذلك؛ للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تسهيل زيارتهم لهم.
(209)
مسألة لا يُستحب أن يُدفن الميت في بقعة يكثر فيها الشهداء والعلماء والصالحون؛ للكتاب؛ حيث قال تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} حيث دلت هذه الآية على أن الإنسان لا ينفعه إلا ما عمله في حياته فقط، أما بعد موته فلن ينفعه قربه من قبر آخر فإن قلتَ: إنه يُستحب ذلك؛ للمصلحة؛ حيث إنه ينتفع بمجاورتهم قلتُ: هذا مخالف للآية مخالفة صريحة فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض المصلحة مع "الكتاب" فعندنا: يعمل بالآية وعندهم بالمصلحة حيث خصصت عموم الآية عندهم.
(210)
مسألة: لا يُستحب أن يُدفن الميت في بقعة شريفة كالمدينة ومكة ونحوهما؛ للكتاب، وقد سبق ذكر ذلك في مسألة، (209)، فإن قلتَ: بل يُستحب ذلك لقول الصحابي؛ حيث إن عمر رضي الله عنه سأل الله الشهادة في سبيل الله والموت في بلد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلتُ: هذا مخالف لعموم الآية، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض قول الصحابي مع الكتاب" فعندنا: يعمل بالكتاب بعمومه، وعندهم: يعمل بقول الصحابي، وهو مخصص لعموم الآية. [فرع]: إذا اقتضت المصلحة بأن يُخرج الميت من قبره لُيدفن في موضع آخر كان يُخرج لأجل شق طريق للناس فيُباح ذلك؛ للمصلحة؛ وهي واضحة. [فرع آخر]: يُباح نقل الميت من بلد إلى بلد آخر ليُدفن فيه؛ لقول وفعل الصحابي؛ حيث إن ابن عمر أوصى بأن يُدفن في "سرف" - وهو: موقع يبعد عن مكة بعشرة أميال - وسعد بن أبي وقاص، وسعد بن زيد قد ماتا في العقيق فحُملا إلى المدينة، ولا =
مع المسلمين
(211)
من سبق إلى مسبَّلة: قُدِّم، ثم يُقرع،
(212)
وإن ماتت ذمِّية حامل من مسلم: دفنها مسلم وحدها إن أمكن، وإلا فمعنا على جنبها الأيسر، وظهرها إلى القبلة
(213)
(ولا تكره القراءة على القبر)؛ لما روى أنس مرفوعًا قال:
شك بوجود بعض الصحابة مع الحاملين، فإن قلتَ: لمَ أبيح ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه مراعاة أحوال المسلمين.
(211)
مسألة: إذا أوصى مسلم بأن يُدفن - بعد موته - فيما يملكه من أرض أو دار أو بستان: فإن تلك الوصية لا تُنفَّذ، بل يُدفن مع عامة المسلمين في المقبرة المعدَّة لذلك؛ للمصلحة؛ حيث إنَّ تنفيذ ذلك يُلحق ضررًا بورثته في حين أنه لن ينتفع بذلك، فدفعًا لذلك شرع هذا الحكم أصله قوله صلى الله عليه وسلم:"لا ضرر ولا ضرار في الإسلام".
(212)
مسألة: إذا وجد ميِّتان، ولم يُوجد في المقبرة المسبَّلة والوقف إلا قبر واحد: دُفن فيه أسبقهما إليه، ويُدفن الآخر في مكان آخر، فإن وصلا إليها معًا: أقرع بينهما: فمن أصابته القرعة: دفن في هذا القبر، ويُدفن الآخر في مكان آخر؛ للقياس، بيانه: كما أن من سبق إلى مكان في المسجد هو أحقُّ به، وإن وصلا إليه معًا: أقرع بينهما، فكذلك الحال في المقبرة والجامع: أن كلًا منهما ليس ملكًا لأحد، بل هو حق لمن سبق إليه، أو يُقرع إذا وصلا معًا؛ لأنَّه ليس أحدها بأولى من الآخر فيه، وهذا فيه تطييب لنفوس أهل الميت.
(213)
مسألة: إذا ماتت ذمِّية - يهودية أو نصرانية - وهي حامل من مسلم بسبب زواجه بها: فإنها تُدفن وحدها - لا مع الكفار ولا مع المسلمين -، هذا إن أمكن ذلك، وإن لم يمكن ذلك: فإنها تُدفن في مقابر المسلمين على جنبها الأيسر ويكون ظهرها متجهًا إلى القبلة، فيكون الجنين على جنبه الأيمن مستقبل القبلة؛ للمصلحة؛ حيث إنها لو دُفنت في مقابر المسلمين لتأذى =
"من دخل المقابر فقرأ فيها يس: خُفِّف عنهم يومئذ وكان له بعددهم حسنات" وصح عن ابن عمر: "أنه أوصى إذا دُفن أن يُقرأ عنده بفاتحة البقرة وخاتمتها" قاله في "المبدع"
(214)
(وأيُّ قربة) من دعاء، واستغفار، وصلاة وصوم، وحج، وقراءة وغير ذلك (فعلها) مسلم (وجعل ثوابها لميت مسلم أو حي: نفَعَه ذلك) قال أحمد: "الميت يصل إليه كل شيء من الخير للنصوص الواردة فيه ذكره المجد وغيره،
(215)
المسلمون بعذابها، وإن دُفنت في مقابر الكفار لتأذى الجنين بعذابهم، وإن تعذَّر ذلك: فتُدفن في مقابر المسلمين على الطريقة السابقة ضرورة؛ لئلا تبقى بدون دفن، ولئلا تدفن مع الكفار فيتأذى الجنين بعذابهم، فلذلك شرع هذا.
(214)
مسألة: تُكره القراءة بشيء من القرآن عند الفراغ من دفن الميت بجانب قبره، للمصلحة؛ حيث إن ذلك قد يُؤدِّي إلى الشعور بالانتفاع بصاحب القبر، أو تعظيمه، أو عبادته فسدًا لذلك: كُرِه، وهو من باب "سد الذرائع"، فإن قلتَ: لمَ كُره ذلك، ولم يُحرَّم؟ قلتُ: لأن هذه المفسدة محتملة: فقد تحصل، وقد لا تحصل، فإن قلتَ: لا يُكره ذلك؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "من دخل المقابر فقرأ فيها "يس": خُفِّف عنهم يومئذٍ" الثانية: قول الصحابي؛ حيث إن ابن عمر قد أمر بأن يُقرأ على قبره آيات من القرآن قلتُ: هذان لا يصلحان للاحتجاج بهما؛ نظرًا لضعفهما كما قال بعض أهل العلم فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: تعارض المصلحة مع السنة القولية وقول الصحابي" فعندنا: يعمل بالمصلحة؛ لضعف السنة القولية وقول الصحابي هنا، وعندهم: يعمل بالسنة وقول الصحابي؛ لقوتهما.
(215)
مسألة: إذا فعل زيد المسلم أيَّ شيء فيه قربة وطاعة: كالدعاء، والاستغفار والذكر، وقراءة القرآن، والصلاة، والصيام، والصدقة، والحج والعمرة، ثم نوى أجره وثوابه لعمرو المسلم: فإن ذلك يصل إلى عمرو، ويكون له ذلك الأجر وينفعه: سواء كان ميتًا أو حيًا؛ لقاعدتين: الأولى: =
وحتى لو أهداه للنبي صلى الله عليه وسلم: جاز، ووصل إليه
السنة القولية: حيث إن رجلًا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم قائلًا: إن أمي ماتت أينفعها إذا تصدَّقتُ عنها؟ قال: "نعم"، الثانية: السنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم كان يدعو لبعض الصحابة بعد موتهم كأبي سلمة، فلو لم يكن نافعًا لما دعا لهم، لكونه لا يفعل العبث والحي كالميت في ذلك، والأعمال الأخرى مثل الصدقة والدعاء؛ لعدم الفارق؛ من باب "مفهوم الموافقة"، فإن قلتَ: لمَ شُرِع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن هذا يُعتبر بابًا من أبواب الخير للأموات، يُخفِّف عنهم بعض ما يجدون من العذاب والضيق في القبور، فإن قلتَ: لا يصل إلى الميت شيء من الطاعات التي يفعلها له الحي، وهو قول الشافعي، وبعض العلماء؛ لقاعدتين: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} حيث أثبت للإنسان نفع سعيه، ونفى نفع سعي غيره وإن نواه له؛ لأن الاستثناء من النفي إثبات؛ الثانية: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم يُنتفع به، أو ولد صالح يدعو له" حيث أثبت انقطاع ما ينتفع المسلم به من الأعمال إذا مات، ونفى انقطاع ما أثبته هو لنفسه من وضعه للصدقة الجارية، أو العلم، أو الولد؛ لأن الاستثناء من الإثبات نفي، وعلى ذلك: فلا يصل إليه ما فعله غيره له من باب التلازم قلتُ: إن هذين النصّين عامان - "وهما الآية والحديث" -، وقد خُصِّصا بالسنة القولية، والفعلية اللَّتين ذكرناهما في أول المسألة فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض النصوص" فعندنا إن السنة القولية الأولى والسنة الفعلية قد خصَّصا عموم الكتاب والسنة القولية الثانية وعندهم: لم يقويا على تخصيصهما.
الثواب
(216)
(ويُسنُّ أن يُصلَّح لأهل الميت طعام يُبعث به إليهم) ثلاثة أيام؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "اصنعوا لآل جعفر طعامًا؛ فقد جاءهم ما يُشغلهم" رواه الشافعي وأحمد، والترمذي، وحسَّنه (ويُكره لهم) أي: لأهل الميت (فعله) أي: فعل الطعام (للناس)؛ لما روى أحمد عن جرير قال: "كنا نعدُّ الاجتماع إلى أهل الميت وصنعة الطعام بعد دفنه من النياحة" وإسناده ثُقات
(217)
ويُكره الذبح عند القبر، والأكل
(216)
مسألة: يُباح أن يُهدي المسلم ثواب القرب إلى النبي صلى الله عليه وسلم: "من صلاة وصيام وحج وصدقات، ودعاء ونحوها، ويصل إليه ذلك؛ لقاعدتين وهما: السنة القولية والفعلية كما سبق ذكرهما في مسألة (215) والنبي صلى الله عليه وسلم يدخل في عموم الخطابات الموجهة إلى عامة المسلمين إذا لم يوجد دليل يُخصِّصه ويُخرجه عن ذلك، وهنا لم يوجد شيء من ذلك، فيدخل معهم، ويكون حكمه حكمهم، وكذا: "يدخل المخاطِب ضمن الخطابات التي يوجهها إلى الآخرين".
(217)
مسألة: يُستحب أن يصنع بعض الناس - من أقارب أو جيران - طعامًا ويبعثون به إلى أهل الميت - وهم الذين كان ميتهم يُنفق عليهم - وذلك لمدة ثلاثة أيام من موت الميت، ولكن يُكره أن يصنع أهل الميت أنفسهم طعامًا ليأكله من يأتي إليهم؛ لقواعد: الأولى: السنة القولية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم لما علم بمقتل جعفر بن أبي طالب في معركة مؤتة قال: "اصنعوا لآل جعفر طعامًا؛ فقد جاءهم ما يُشغلهم" وقد صرفت السنة التقريرية هذا الأمر من الوجوب إلى الاستحباب؛ حيث كان بعض الصحابة لا يصنع طعامًا لأهل الميت ولم يكن صلى الله عليه وسلم يُنكر ذلك، الثانية: القياس، بيانه: كما يُستحب للمسلم إذا لاقى واحدًا من أقرباء الميت في الطريق أن يُعزِّيه في وقت لا يتعدّى ثلاثة أيام، فكذلك يُستحب صنع الطعام هذه المدة، والجامع: أن كلًا منهما واقع في وقت يكون الحزن فيه طريًا فيوافق محلَّه، الثالثة: قول الصحابي؛ حيث إن =
منه؛ لخبر أنس: "لا عَقْر في الإسلام" رواه أحمد بإسناد صحيح، وفي معناه: الصدقة عند القبر، فإنه مُحدث، وفيه رياء
(218)
فصل: (تسنُّ زيارة القبور) وحكاه النووي
جرير البجلي قال: "كنا نُعدُّ الاجتماع إلى أهل الميت، وصنعة الطعام بعد دفنه من النياحة" و"من" هنا للتبعيض، فيكون الاجتماع مع أهل الميت، وإعدادهم للطعام لأجل أن يُطعموا هؤلاء المجتمعين محرمًا؛ لأنَّه من النياحة، والنياحة على الميت حرام - كما سيأتي تفصيله -، فإن قلتَ: لمَ شرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إنهم انشغلوا بحزنهم بميتهم الثلاثة الأيام الأولى، وحرم إعداد أهل الميت للطعام؛ لما فيه من المشقة عليهم، ولما فيه من التشبه بأفعال أهل الجاهلية، والكفار.
(218)
مسألة: يحرم الذبح والصدقة عند القبر؛ سواء أُكل من ذلك أو لا؛ للسنة القولية، وهي من وجهين: أولهما: قوله صلى الله عليه وسلم: "لا عَقْرَ في الإسلام" حيث إن أهل الجاهلية كانوا إذا مات الميت عقروا عند قبره بعيرًا أو شاة يزعمون: أن هذا مكافأة له على صنيعه في حياته على أنه كان يعقر للأضياف، والنفي هنا: هو نهي، وهو مطلق، فيقتضي التحريم، ثانيهما: قوله صلى الله عليه وسلم: "من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد" والذبح، والصدقة بعد دفن الميت مباشرة عمل لم يأمر به الشارع، ولم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه ولا غيرهم من السلف الصالح فيكون مردودًا على صاحبه، وما كان مردودًا من الأعمال فهو فاسد، وكل فاسد حرام، فإن قلتَ: لمَ حُرِّم ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك قد يؤدِّي إلى تعظيم الميت والرياء، فدفعًا لذلك: حرم، سدًا للذرائع؛ فإن قلتَ: إن الذبح والصدقة هنا مكروه ولا يحرم، وهو ما ذكره المصنف هنا قلتُ: لم أجد دليلًا على ذلك، ولا توجد قرينة قويت على صرف النهي الوارد في حديث "لا عقر في الإسلام" من التحريم إلى الكراهة والصدقة كالذبح تمامًا بجامع: أن كلًا منهما يؤدِّي إلى تعظيم الميت والرياء من باب "مفهوم =
إجماعًا؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "كنتُ نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها" رواه مسلم، والترمذي، وزاد:"فإنها تذكر الآخرة" وسُنَّ: أن يقف زائر أمامه قريبًا منه كزيارته في حياته
(219)
(إلا النساءَ) فتكره لهن زيارتها غير قبره صلى الله عليه وسلم، وقبري صاحبيه رضي الله عنهم؛ روي أحمد والترمذي وصحَّحه عن أبي هريرة:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن زوَّارات القبور"
(220)
الموافقة" فائدة: "العقر": قطع قوائم البهيمة، أو واحدة منها، ثم يُنحر بعد ذلك - كما في اللسان (4/ 592) - وهذا محرم في الإسلام.
(219)
مسألة: يُستحب للرجال: أن يزوروا القبور: فيقف الزائر أمام قبر من يزوره تلقاء وجهه - فيكون بذلك مستقبلًا لوجه الميت مستدبرًا للقبلة، ولا يتمسَّح به؛ لقاعدتين: الأولى: الإجماع؛ حيث أجمع العلماء على استحباب زيارة القبور للرجال، ومستنده السنة القولية والفعلية ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم: "كنتُ نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها، فإنها تذكركم الآخرة" الثانية: القياس، بيانه: كما أن المسلم إذا زار حيًا يقف أمام وجهه ولا يتمسَّح به، فكذلك يفعل ذلك إذا زاره ميتًا، والجامع: إكرام المسلم في كل، فإن قلتَ: لمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن الميت ينتفع بالدعاء له، والحي يتَّعظ بما صار إليه ذلك الميت، ويتيقَّن أن مآله إلى مثل هذا القبر: سواء طال الزمن أو قصر فينصرف عن الدنيا، وعن أهلها من عُبَّاد المال والمناصب، ويعمل للآخرة، فإن قلتَ: لمَ يُحرَّم التمسُّح بالقبر؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك يؤدِّي إلى تعظيم الميت والرياء وهذا حرام.
(220)
مسألة: يحرم أن تزور المرأة القبور: سواء كان منها قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبري أبي بكر وعمر رضي الله عنهم أو لا؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "لعن الله زوَّارات القبور" حيث حرم بذلك زيارة القبور على النساء؛ لأنَّه توعَّد من زارته باللَّعن - وهو: الطرد عن رحمة الله - وهذا عقاب، ولا يُعاقب إلا على فعل محرم، وهو عام =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
يشمل قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبري صاحبيه؛ لأن لفظ "القبور" جمع معرف بأل، وهذا من صيغ العموم، فإن قلتَ: لمَ حُرِّم ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن المرأة قليلة الصبر، والعقل، شديدة الجزع والانفعال، فيُخش من زيارتها لقبر قريبها: أن تتصرَّف تصرُّفات لا تليق بالدين من نتف شعر، أو لطم خدٍّ، أو شقِّ جيب، أو تُظهر شيئًا من جسمها، أو تتخيَّل أن أحدًا يُكلِّمها بين القبور، فتُصاب بالأمراض النفسية، أو تفتتن برجل تراه هناك، ويفتتن بها؛ نظرًا لكون المقبرة تكون خارج البلد عادة، فتقع الفاحشة، فدفعًا لذلك كُلِّه: حُرِّمت زيارتها، فإن قلتَ: إن زيارة المرأة للقبور مكروهة، ولا تحرم، وهو ما ذكره المصنف هنا قلتُ: لم أجد دليلًا على ذلك، ولا توجد قرينة تدل على أن "اللَّعن" ليس بعقاب، فإن قلتَ: تُباح زيارة المرأة للقبور مطلقًا؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "فزوروها" حيث أباح زيارة القبور لكل شخص؛ لأنَّه أمر ورد بعد حظر، وهو يقتضي الإباحة، وهو عام للرجال والنساء؛ لأن "واو الجماعة" من صيغ العموم، فيدخلن في الخطابات الموجهة إلى الرجال، الثانية: فعل الصحابي؛ حيث إن عائشة رضي الله عنها قد زارت قبر أخيها: عبد الرحمن قلتُ: أما حديث: "فزوروها" فهو عام - كما ذكرتم - ولكنه مُخصَّص بالسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "لعن الله زائرات القبور"، والخاص مُقدَّم في العمل على العام، فيُعمل بالحديث الخاص، وبما بقي بعد التخصيص من الحديث العام، فتستمر دلالة حديث:"فزوروها" على استحباب زيارتها للرجال، ولكنه لا يُعمل به في النساء، أما فعل الصحابي - وهي: عائشة رضي الله عنها فقد يكون اجتهادًا منها، ولا يُعمل باجتهادها إذا عارض السُّنَّة، ويُحتمل أنها لم تعلم بحديث "لعن الله زوَّارات القبور" والدليل إذا تطرق إليه الاحتمال بطل به الاستدلال فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض السنة القولية مع السنة القولية" فعندنا: الخاص من السنة القولية يخصِّص العام منها، وعندهم لا.
(و) يُسنُّ: أن (يقول إذا زارها) أو مرَّ بها: (السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم للاحقون، يرحم الله المستقدمين منكم والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم)؛ للأخبار الواردة في ذلك، وقوله:"إن شاء الله بكم للاحقون": استثناء للتبرُّك، أو راجع للُّحوق، لا للموت، أو إلى البُقاع،
(221)
ويسمع الميت الكلام، ويعرف زائره يوم الجمعة بعد الفجر قبل طلوع الشمس، وفي "الغنية": يعرفه كل وقت، وهذا الوقت آكد،
(222)
(221)
مسألة: يُستحب لزائر القبور قاصدًا لها، أو مرَّ بها من غير قصد زيارتها: أن يقول: "السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون، يرحم الله المستقدمين منكم والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم"؛ للسنة القولية والفعلية؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم يقول ذلك، ويُعلِّمه أصحابه - كما روت عائشة رضي الله عنها وبُريدة -، فإن قلتَ: لمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك الدعاء نافع للزائر والمزار في الدنيا والآخرة، فائدة قوله:"وإن شاء الله بكم للاحقون" يُشير به إلى أن المسلم يقول "إن شاء الله" هنا للتبرُّك والتيمُّن بها فقط؛ لكون الموت واقع بالإنسان لا محالة؛ لقوله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} ، وهذا أرجح الأقوال فيها، وقيل: إن قوله: "إن شاء الله" راجع إلى اللُّحوق بالإسلام والموت عليه، وقيل: إنه راجع إلى اللحوق بكم في الدفن معكم في هذه البقعة من الأرض.
(222)
مسألة: الميت يسمع كلام زائره، ويعرفه، ويأنس به، ويرد السلام في كل وقت وهو عام للشهداء وغيرهم لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم - في قتلى بدر -: "ما أنتم بأسمع بما أقول منهم"، الثانية: السنة الفعلية؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم يُسلِّم عليهم - كما سبق في مسألة (221) - فيلزم أن يكونوا =
وتُباح زيارة قبر كافر،
(223)
(وتُسنُّ تعزية) المسلم (المصاب بالميت) ولو صغيرًا قبل الدفن، وبعده؛ لما روى ابن ماجه وإسناده ثقات عن عمرو بن حزم مرفوعًا:"ما من مؤمنٍ يُعزِّي أخاه بمصيبة إلا كساه الله من حُلَل الكرامة يوم القيامة"،
(224)
ولا
سامعين لذلك؛ إذ لو لم يكن سامعًا للكلام رادًا عليه: لما فعله، ولما أمر أصحابه به؛ لأنَّه منزَّه عن العبث، تنبيه: قوله: "ويعرف زائره يوم الجمعة .. " قلتُ: لم أجد دليلًا على ذلك، ومالا دليل عليه غير معتبر.
(223)
مسألة: يُباح للمسلم أن يزور قبر كافر بدون دعاء أو استغفار، أو سلام؛ لقاعدتين: الأولى: السنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد زار قبر أُمِّه، بعدما أُذن له فيه، ولم يؤذن له بالاستغفار والدعاء لها، الثانية: القياس، بيانه: كما يُباح للمسلم زيارة الكافر الحي، فكذلك يُباح زيارته وهو ميت، والجامع: تأليف القلوب، وتحسين الإسلام، وتخفيف العداء بين المسلمين والكفار، وهذا ثابت بالسياسة الشرعية، وهذا هو المقصد من هذا الحكم.
(224)
مسألة: يُستحب للمسلم أن يُعزِّي أهل الميت، أو أحدهم إذا رآه مصادفة في المسجد، أو في المقبرة، أو في الطريق: سواء كان ذلك قبل الدفن، أو بعده، وسواء كان الميت كبيرًا أو صغيرًا، ولا يُشرع الذهاب والقصد إلى أهل الميت لأجل تعزيتهم، ولا يُستحب بعد ثلاثة أيام من دفن الميت، ويقول المعزِّي أيَّ عبارة تتضمَّن تسلية أهل الميت، وتهوين المصيبة عليهم كقوله:"رحمه الله وآجرك" أو يقول: "أعظم الله أجرك، وأحسن عزاك، وغفر لميتك"، ويقولها المسلم لمسلم آخر إن مات له كافر كعبد ولكن بدون قوله:"وغفر لميتك" أو يقول: "إن لله ما أخذ وله ما أعطى، ولكل أجل كتاب، وكل إليه راجع"؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية وهي من وجهين: أولهما: قوله صلى الله عليه وسلم: "ما من مؤمن يُعزِّي أخاه بمصيبة إلا كساه الله من حُلِّل الكرامة يوم القيامة" والموت =
تعزية بعد ثلاث فيُقال لمصاب بمسلم: "أعظم الله أجرك، وأحسن عزاك، وغفر لميتك" وبكافر: "أعظم الله أجرك وأحسن عزاك" وتحرم تعزية الكافر،
(225)
وكُرِه تكرارها،
(226)
ويردُّ مُعزَّى بـ؛ "استجاب الله دعاءك ورحمنا
من المصائب، وهذا عام للأزمان، وعام للكبير والصغير؛ لأن "ما" موصولة وهي من صيغ العموم، ثانيهما: أنه جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن عند ابنته طفلًا يحتضر فقال صلى الله عليه وسلم: "إن الله ما أخذ، وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمَّى، فمرها أن تحتسب وتصبر" ولم يذهب صلى الله عليه وسلم ليُعزِّي أهله، وهو يدل على أن الصغير يُعزى فيه ولا يُقصد للتعزية، الثانية: المصلحة؛ حيث إن مثل تلك العبارات في التعزية تُهوِّن المصيبة على أهل الميت، وتحثهم على الرضى بالقضاء والقدر، ولأن التعزية فوق ثلاثة أيام فيه تجديد للحزن، وتذكير فيه؛ فدفعًا لذلك لا يُعزى فوق ثلاث؛ لأن دفع المفسدة مُقدَّم على جلب المصلحة.
(225)
مسألة: يحرم أن يُعزِّي مسلم كافرًا؛ للقياس، بيانه: كما أنه يحرم السلام على الكافر فكذلك تحرم تعزيته، والجامع: أن كلًا منهما فيه تعظيم للكافر، وتعظيمه محرم، وهو المقصد منه، تنبيه: قوله: "ولا تعزيه بعد ثلاث .. " قلت: قد سبق بيانه في مسألة (224).
(226)
مسألة يُكره أن يُكرِّر المسلم تعزيته للمصاب بمصيبة أكثر من مرة؛
للمصلحة؛ حيث إن هذا يؤدي إلى استدامة واستمرار الحزن، فدفعًا لذلك كره.
[فرع]: يحرم جلوس أهل الميت - رجالًا ونساء - لاستقبال المعزِّين وذهاب الناس إليهم لأجل التعزية؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ" والجلوس لاستقبال المعزين أو ذهاب الناس إليهم للتعزية أعمال لم يأمر بها الشارع، ولم يفعلها النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه فتكون محدثة، وكل محدثة بدعة، والبدع كلها حرام، وإنما إذا رأى المسلم واحدًا من أهل الميت صدفة في المسجد أو المقبرة أو الطريق: فإنه يُستحب تعزيته؛ =
وإياك
(227)
وإذا جاءته التعزية في كتاب: ردَّها على الرسول لفظًا،
(228)
(ويجوز البكاء على الميت)؛ لقول أنس: "رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وعيناه تذرفان وقال: "إن الله لا يُعذَّب بدمع العين، ولا بحزن القلب، ولكن يُعذِّب بهذا - وأشار إلى لسانه - أو يرحم" متفق عليه،
(229)
ويُسنُّ الصَّبر والرضى، والاسترجاع فيقول: "إنا لله
جبرانًا لخاطره، وتذكيرًا له بالإيمان بالقضاء والقدر - كما سبق ذكره في مسألة (224) - وهو كله للمصلحة.
(227)
مسألة: يُستحب أن يردَّ المعزَّى - وهو المصاب بموت قريبه - بأي عبارة تتضمَّن شكرًا ودعاء للمعزِّي كأن يقول: "استجاب الله دعاءك، ورحمنا وإياك" ونحوها؛ للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه بيان أنَّ تعزية المعزِّي، ومحاولته تهوين المصيبة قد أثمرت.
(228)
مسألة: إذا كتب زيد إلى عمرو يُعزِّيه بمصيبة موت قريبه أو نحو ذلك: فيُستحب أن يرد عمرو ذلك بلفظه، دون كتابة قائلًا:"استجاب الله دعاءه، ورحمنا وإيَّاه"؛ للمصلحة؛ حيث إن كتابة الرَّدِّ يشقُّ على عمرو؛ نظرًا لانشغاله عادةً بمصيبته.
(229)
مسألة: يُباح البكاء الطبيعي على الميت رحمة به - وهو: الحاصل من الإنسان بدون اختيار ولا تكلُّف -؛ للسنة الفعلية؛ وهي من وجهين: أولهما: أن أنسًا رأى عيني النبي صلى الله عليه وسلم يخرج منهما الدمع، فلما تعجَّب بعضهم: قال: "إن الله لا يُعذِّب بدمع العين، ولا بحزن القلب، ولكن يُعذِّب بهذا - وأشار إلى لسانه - أو يرحم" فنفى صلى الله عليه وسلم أن يُعذِّب الله بسبب البكاء، وهذا النفي صيغة من صيغ الإباحة؛ ثانيهما: أنه صلى الله عليه وسلم قد بكى على ابنه إبراهيم وقال: "العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يُرضي الرب، وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون"، فإن قلتَ: لمَ أبيح ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تنفيس =
وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرًا منها"، ولا يلزم الرضى بمرض وفقر وعاهة،
(230)
ويحرم بفعل المعصية،
(231)
وكره المصاب تغيير
للمصاب مما يجده، فإن قلتَ: يحرم البكاء على الميت، وهو قول لبعض العلماء، للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم:"إن الميت ليُعذَّب ببكاء أهله عليه" حيث إنه هنا حرم البكاء عليه؛ لأنَّه يلزم منه تعذيب الميت بسببه، ويحرم تعذيب الآخرين، أو التَّسبُّب في ذلك، وهذا عام للبكاء الطبيعي، وغيره قلتُ: إن المراد من التعذيب الوارد في الحديث: هو تعذيب همٍّ وألم وتضايق؛ حيث إن الميت يتألم لأجلهم إذا بكوا عليه، ويتعذَّب رأفةً ورحمةً بهم، وليس المراد به أن الميت يُعاقب فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض السنة الفعلية مع السنة القولية" فعندنا: يعمل بالفعلية؛ لضعف القولية، وعندهم: يعمل بالقولية.
(230)
مسألة: يجب على المسلم أن يرضى بما أصابه من المصائب من موت أحد أقربائه، أو مرض، أو فقد مال، أو نزول عاهة، أو نحو ذلك، وأن يصبر على ذلك كله، ويُستحب أن يقول عند ذلك:"إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي، واخلف لي خيرًا منها" وأن يتسبَّب في معالجة المرض والعاهة من أكل أدوية، ودعاء ونحو ذلك، وإن شكر الله على ما أصابه فهو من أعظم الصابرين؛ لقواعد: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} حيث مدحهم على هذه المقالة؛ حيث تضمَّنت الإقرار والإيمان على أن جميع من في الوجود سيرجع إلى الله تعالى لا محالة الثانية: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "ما من عبد تُصيبه مصيبة فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرًا منها إلا أجره الله في مُصيبته وأخلف له خيرًا منها"، الثالثة: المصلحة؛ حيث إن حمد الله وشكره على المصيبة يُعتبر صبرًا وزيادة، وهو أعظم الإيمان بقضاء الله وقدره، واليقين بأن ما أصابه لم يكن ليُخطئه، وما أخطأه لم يكن ليُصيبه، واليقين بأنه لو اجتمع الإنس والجن على أن يضروه بشيء لم يكتبه الله عليه لن يستطيعوا ذلك - كما ورد في الحديث - وبهذا يسعد في دنياه وأخرته، ولا يلهث وراء هذه الدنيا، بل يتجه إلى الله عز وجل في كل أموره وكذا: فعل أسباب المعالجة من أي مرض مطلوب شرعًا، فإن قلتَ: يُستحب الرضى والصبر - وهو ما ذكره المصنف - قلتُ: لم أجد دليلًا على هذا الاستحباب.
(231)
مسألة: يحرم على المسلم أن يرضى بفعل المعصية منه أو من غيره، للتلازم؛ حيث يلزم من وجوب إزالة المعاصي: تحريم الرضى بفعلها.
حاله وتعطيل معاشه، لا جَعْل علامة عليه؛ ليُعرف فيُعزَّى، وهجره للزينة وحسن الثياب ثلاثة أيام
(232)
(ويحرم الندب) أي: تعداد محاسن الميت كقوله: "وا سيِّداه"
(232)
مسألة: يُحرم على المصاب بموت أحد أقربائه أو غير ذلك من المصائب: أن يُغيِّر حالته وهيئته وخلع ما على رأسه من عمامة وغيرها، وأن يقف عن العمل؛ لأجل مصيبته، وأن يجعل على نفسه علامة ليُعزَّى، وأن يهجر التزين بثياب وغيرها، بل يلبس ما شاء من الثياب؛ للتلازم؛ حيث إن الصبر على المصائب واجب ويلزم من تغيير حاله، أو تعطيل عمله، أو هجره للتزيِّن: عدم الصبر، وإظهار الجزع، وهذا محرم، بل أنكر بعض العلماء - كابن تيمية - تلك الأفعال إنكارًا شديدًا، فإن قلتَ: لمَ حُرّم ذلك؟ قلتُ: لكونه يدل على عدم رضاه بالقضاء والقدر، فإن قلتَ: يُكره أن يُغير حاله، ويُباح أن يجعل على نفسه علامة، ويُباح أن يهجر التزين وحسن الثياب ثلاثة أيام وهو ما ذكره المصنف هنا؟ قلتُ: لم أجد دليلًا قويًا على ذلك بل هو مخالف للقواعد العقائدية.
و "انقطاع ظهراه"
(233)
(والنياحة) وهي: رفع الصوت بالندب
(234)
(وشق الثوب ولطم الخد، ونحوه) كصراخ ونتف شعر ونشره، وتسويد وجه، وخمشه؛ لما في الصحيحين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليس منا من لطم الخدود، وشق الجيوب،
(233)
مسألة: يحرم الندب إذا مات ميت، وهو: ذكر أشياء لا تكون إلا لله كقول المصاب: "واسيِّداه" أو "واسنداه" أو "واجبلاه" أو "وانقطاع ظهراه" ونحو ذلك؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "ما من ميت يموت فيقوم باكيهم فيقول: "واجبلاه، واسَيِّداه إلا وكَّل الله ملكين به يلمزانه ويقولان له: أهكذا كنت؟ " أي: يقول الملكان أهكذا كنت تعتمد على ذلك الميت، ولم تكن تعتمد على الله عز وجل، فأنكر الشارع على القائل بذلك؛ لأن الاستفهام إنكاري، ويلزم من هذا الإنكار: أن يكون هذا الفعل محرمًا؛ إذ لو كان جائزًا لما أنكر عليه، فإن قلتَ: لمَ حرم ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك مشعر بعدم الاعتماد على الله، والاعتراض على قضاء الله وقدره، فلذا حرم؛ حفاظًا على إيمان المسلم تنبيه: قوله: "الندب هو: تعداد محاسن الميت" قلتُ: هذا فيه نظر؛ لأن ذكر محاسن الميت كأن يُذكر أنه كان عالمًا، وكان يفعل الخيرات، وليس بمنافق لأحد مستحب؛ للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حث للآخرين أن يعملوا مثل فعله.
(234)
مسألة: تحرم النياحة على الميت، - وهو البكاء الشديد الصادر بنوح صاخب مزعج مُهيج للقلوب؛ للسنة القولية؛ حيث قالت أم عطية:"أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم عند البيعة: ألا ننوح" فحرم النياحة؛ لأن هذا نهي مطلق، فيقتضي التحريم، و"لعن النبي صلى الله عليه وسلم النائحة والمستمعة" واللَّعن - وهو: الطرد من رحمة الله - عقاب، ولا يُعاقب إلا على فعل الحرام، فإن قلتَ: لمَ حرم ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك مشعر بالتظلُّم والسخط من قضاء الله وعدم الرضا به، وهذا مخلٌّ بالإيمان محرم حفاظًا على عقيدة المسلم، فائدة: النائحة هي التي تفعل النوح وتصرخ، والمستمعة هي التي تسمعه ويُعجبها.
ودعا بدعوى الجاهلية" وفيهما: "أنه صلى الله عليه وسلم بريء من الصالقة، والحالقة والشاقة" والصالقة: التي ترفع صوتها عند المصيبة، وفي صحيح مسلم:"أنه صلى الله عليه وسلم لعن النائحة والمستمعة".
(235)
(235)
مسألة: يحرم فعل أيِّ شيء مخالف للعادة إذا مات الميت: كشق الثوب، أو الجيب، أو لطم الخدود، أو ضرب البدن، أو الصراخ الشديد، أو نتف الشعر، أو نثره، أو تسويد الوجه، أو خمشة أو خدشه، للسنة القولية، وهي من وجهين: أولهما: قوله صلى الله عليه وسلم: "ليس منا من لطم الخدود وشق الجيوب" حيث تبرأ ممن فعل ذلك، وهذا عقاب، ولا يُعاقب إلا على فعل حرام أو ترك واجب، ثانيهما: قوله صلى الله عليه وسلم: أنا بريء من الصالقة والحالقة والشاقة" ويُقال فيه كما قلنا في الحديث السابق، فإن قلتَ: لمَ حرم ذلك؟ قلتُ: للمصلحة، وقد بيناها في مسألة (234)، فإن قلتَ: لمَ وُجِّه الخطاب إلى النساء في الحديث؟ قلتُ: لأن أغلب هذه الأمور تقع من النساء؛ لشدة جزعهن وقلَّة عقولهن، فائدة: "الصالقة" هي: التي ترفع صوتها عند وقوع المصيبة، مأخوذ من الصَّلق: وهو الصوت الشديد - كما في المصباح (346)، و "الحالقة": هي التي تحلق شعر رأسها عند المصيبة، و"الشاقة": هي التي تشق ثوبها أو جيبها عند المصيبة.
هذه آخر مسائل كتاب "الجنائز وأحكام الموتى" ويليه كتاب "الزكاة"
كتاب الزكاة
لغة: النماء، والزيادة، يُقال:"زكى الزرع": إذا نما وزاد، ويُطلق على المدح، والتطهير، والصلاح، وسُمِّي المخرج زكاة؛ لأنَّه يزيد في المخرج منه، ويقيه الآفات، وفي الشرع: حق واجب في مال خاص لطائفة مخصوصة في وقت مخصوص
(1)
كتاب الزكاة
حقيقة الزكاة، وحكمها، وشروطها
وفيه تسع وثلاثون مسألة:
(1)
مسألة: الزكاة لغة تطلق على إطلاقات: أولها: تطلق على النماء والزيادة، ومنه قولهم:"زكى الزرع": إذا نما وزاد وبورك فيه وكثر ريعه، ثانيها: أنها تطلق على المدح ومنه قولهم: "فلان قد زكَّاه فلان" أي مدحه وأثنى عليه، ومنه قوله تعالى:{فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} أي: لا تمدحوها، ثالثها: أنها تطلق على التطهير، ومنه قولهم:"نفس فلان زكية" أي: طاهرة، ومنه قوله تعالى:{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} أي: طهرها من الأدناس كالحقد والحسد، والنفاق، والكذب ونحو ذلك، رابعها: أنها تطلق على الصلاح والعدالة، وزيادة الخير والصفات الحسنة في الإنسان، ومنه:"فلان مُزكَّى" أي: مُعدَّل، ولذلك سُمِّي باب في الحديث، وأصول الفقه باسم "التزكية والتجريح" وهذه الإطلاقات تصدق في زكاة المال؛ حيث إن إخراج زكاة المال يتسبَّب في نمو وزيادة المال المزكى، وأن فاعل ذلك ممدوح، ومُطهَّر من الأدناس، وأنَّه صالح فالح عدل، أما الزكاة في الاصطلاح فهي:"حقُّ واجبٌ في مال مخصوص لطائفةٍ مخصوصةٍ، في وقت مخصوص"، وهذا أقرب تعريف لها إلى الصحة؛ حيث خرج بقوله:"حق واجب" المستحب كالصدقات المطلقة، والمراد بـ "المال الخاص" المال الذي =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وجبت فيه الزكاة كالبهائم، والزروع والثمار، والنقدين، والعقارات ونحوها - مما سيأتي بيانه - وخرج بذلك: المال الواجب إخراجه بأسباب أخرى: كالوفاء بالدَّين، والنفقات، والنذور، والكفَّارات، والدِّيات، وأثمان البيوع ونحوها والمراد بـ "الطائفة المخصوصة" الأصناف الثمانية التي أمر الشارع بأن تدفع لهم الزكاة - كما سيأتي -، والمراد بـ "الوقت المخصوص": تمام الحول في الأثمان، والنقود، وبهيمة الأنعام، وعروض التجارة، واشتداد الحب، وبدو صلاح الثمار، وخروج ما في الأرض، وغروب الشمس من آخر يوم من أيام رمضان لزكاة الفطر، وسيأتي تفصيل ذلك - وخرجت بذلك النذور والكفَّارات، والدِّيات ونحوها مما لم يُعيَّن لها وقت محدَّد، فإن قلتَ: لمَ سُمِّي هذا المال المخرج زكاةً؟ قلتُ: لكونه يُزكي، ويزيد، ويُنمِّي المخرج منه، ويتسبَّب في بركته، ويحميه من الآفات التي تنقصه أو تزيله، وتُبارك في المزكي، ويكون بسبب إخراجها نقيًا طاهرًا صالحًا وهذه مسوِّغات دخول الجنة، فإن قلتَ: لمَ سُمِّيت الزكاة بالصدقة في قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ
…
}؟ قلتُ: لأن إخراجها بنفس راضية دليل على صدق عبودية مخرجها الله تعالى، وامتثاله لأوامره؛ ذلك لأنَّه يُخرج بعض ماله الذي لم يجتمع عنده إلا بشق الأنفس، وهذا لا يفعله إلا من صدق وقوي إيمانه، وأراد أن يتقرَّب بذلك إلى الله تعالى، ويهون كل شيء لأجل رضى الله تعالى، فإن قلتَ: لمَ وُضعت الزكاة بعد الصلاة في الكتب الفقهية؟ قلتُ: لأن الزكاة تُشبه الصلاة في عظم شأنها، وخطر تركها، وتأثيرها في صلاح فاعلها وسعادته في الدنيا والآخرة، وتأثيرها في بناء المجتمع الإسلامي المتكافل، المتواصل، المتعاون، ولذلك جاء ذكرها بعد الصلاة مباشرة في اثنتين وثمانين آية من القرآن، وفي كثير من الأحاديث، ولم تكن الصحابة تفرِّق بينهما، لذا قال أبو بكر رضي الله عنه - في قتال المرتدين -:"والله لأقاتلن من فرَّق بين الصلاة والزكاة" ولم يُنكر عليه أحد من الصحابة فكان إجماعًا سكوتيًا.
(تجب) الزكاة في سائمة بهيمة الأنعام، والخارج من الأرض، والأثمان، وعروض التجارة - ويأتي تفصيلها -
(2)
(بشروط خمسة): أحدها (حُرِّية) فلا تجب على عبد؛
(2)
مسألة تجب الزكاة وجوبًا قطعيًا - وهو الفرض، وهي من أركان الإسلام - في أنواع من الأموال هي:"سائمة بهيمة الأنعام" و "عروض التجارة" و "ما خرج من الأرض من معادن وزروع وحبوب" و "أثمان الأشياء" ونحو ذلك مما سيأتي تفصيله؛ لقواعد: الأولى: الكتاب؛ حيث إن الله تعالى قد أمر بأدائها في آيات كثيرة، ومنها قوله:{وَآتُوا الزَّكَاةَ} وهو أمر مطلق، فيقتضي الوجوب، الثانية: السنة القولية وهي من وجوه: أولها: قوله صلى الله عليه وسلم: "بُني الإسلام على خمس، وذكر منها: الزكاة" حيث دلَّ مفهوم العدد على أن من لم يفعل تلك الأمور الخمسة ويعتقدها فليس بمسلم، وهذا يلزم منه: أن من ترك الزكاة فهو كافر، فلو لم تكن واجبة لما أُخرج تاركها من الإسلام، ثانيها: حديث معاذ؛ حيث قال له صلى الله عليه وسلم لما أرسله إلى اليمن: "فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله قد فرض عليهم صدقة" و "الفرض" هو الواجب وزيادة، ثالثها: قول جرير البُجلي: "بايعتُ رسول الله على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة" وهذا يلزم منه وجوب الزكاة؛ لأنَّه لا إسلام لمن ترك الزكاة، الثالثة: الإجماع؛ حيث أجمع الصحابة على قتال مانعي الزكاة، ولا يُقاتل إلا على ترك واجب، الرابعة: القياس، على الصلاة بجامع: أن كلًا منهما قد أُمر به أمرًا جازمًا - وقد سبق - فإن قلتَ: لم وجبت الزكاة؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن دفع الزكاة سبب في حماية المجتمع من مرض الفقر، وفي زيادة مال المزكي، وفي علاج النفس وتطهيرها من داء الشح والبخل، وفي تحسين الإسلام في نفوس الكفار، وفي إنزال المطر، وكثرة المياه، وفي تكفير الخطايا، وفي إطفاء غضب الله، وفي إبعاد الأمراض عن المزكي، وفي نجاة مُخرجها من حرِّ يوم القيامة، وفي انشراح الصدر، وراحة النفس، وابتهاج الروح، وإبعاد الهموم والغموم عنه.
لأنَّه لا مال له ولا على مُكاتب؛ لأنَّه عبد، وملكه غير تام،
(3)
وتجب على مُبعَّض بقدر حُرِّيته
(4)
(و) الثاني (إسلام) فلا تجب على كافر أصلي، أو
(3)
مسألة: في الأول -من شروط وجوب الزكاة- وهو: أن يكون المالك للمال حُرًّا، فلا تجب على "العبد الرقيق" ولا على "المكاتب" - وهو: من اشترى نفسه من سيده بثمن يُسدِّده له على مراحل، فإذا أكمل السداد: عتق كما جاء في الصحاح (1/ 209) -، ولا على "المدبَّر" - وهو من قال له سيده:"أنت حرٌّ بعد موتي" كما في اللسان (4/ 273) - ولا على "أمِّ ولد" - وهي: الأمة التي أتت بولدٍ من سيدها -؛ لقاعدتين: الأولى: التلازم؛ حيث إن أدلة وجوب الزكاة - وهي المذكورة في مسألة (2) - يلزم منها وجوبها على المستطيع دفعها - وهو: المالك المتصرِّف، وهذا لا يمكن إلا من الحر، الثانية: القياس بيانه: كما أن الفقير لا تجب عليه الزكاة فكذلك العبد، والمكاتب، والمدبَّر، وأم الولد لا تجب عليهم الزكاة، والجامع: عدم ملكية المال في كل، فإن قلتَ: لمَ اشتُرط هذا الشرط؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن الحرَّ لا تعلُّق لأحد بماله، فإن قلتَ: لمَ سقطت الزكاة عن هؤلاء الأربعة؟ قلتُ: لأنهم لا مال لهم أصلًا؛ لكونهم وأموالهم لأسيادهم، فإن قلتَ: لمَ سقطت الزكاة عن المكاتب مع أن عنده شبهة ملك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إنه بحاجة إلى فكِّ رقبته بما عنده من المال، بدلًا من أن يُخرجه زكاة؛ لأن الرِّق مفسدة، ودفع المفسدة مُقدم على جلب المصلحة.
(4)
مسألة: تجب الزكاة على المبعَّض - وهو الذي أُعتق بعضه - فإن كان نصفه حُرًّا: زكَّى على نصف ماله إذا بلغ هذا النصف النصاب، وحال عليه الحول؛ للقياس؛ بيانه: كما أن الزكاة تجب على الحر فكذلك تجب على المبعَّض، والجامع: وجود الحرية في كُلِّه أو بعضه، فإن قلتَ: لمَ وجبت الزكاة عليه؟ قلتُ: لتصرُّفه بنصف ماله تصرُّفًا مُطلقًا دون تدخُّل غيره فيه، فهو يُتاجر فيه دون الرجوع لأحد، فتجب زكاته.
مُرتدِّ،
(5)
فلا يقضيها إذا أسلم
(6)
(و) الثالث (ملك نصاب) ولو لصغير أو
(5)
مسألة: في الثاني - من شروط وجوب الزكاة - وهو: أن يكون المالك للمال مسلمًا، فلا تجب على كافر أصلي - وهو: الذي لم يسبق إسلامه - ولا على كافرُ مرتد - وهو الذي أسلم ثم كفر -؛ للسنة القولية؛ وهي من وجهين: أولهما: قوله صلى الله عليه وسلم: "بني الإسلام على خمسٍ"، وذكر منها "الزكاة" بعد الشهادتين، وهذا يدل على: وجوبها على المسلم - وهو الذي أقرَّ بالشهادتين - ويلزم منه عدم وجوبها على الكافر مطلقًا حال كفره، ثانيهما: قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ - حين بعثه إلى اليمن -: "فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله" إلى قوله: "فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم صدقة" حيث دلَّ هذا الترتيب بالفاء على أن الزكاة لا تجب إلا بعد الإسلام - وهو: الإقرار بالشهادتين ومقتضاهما -، فإن قلتَ: لمَ اشتُرط هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن الزكاة طهرة وتنقية، والكافر لا طهرة له في حال كفره، ثم إنه لو وجبت الزكاة على الكافر في حال كفره مع دفعه للجزية: للحقه مشقة، وهذا يُنفِّره عن الإسلام، وهذا مخالف لمقاصد الشريعة العامة وهو: تحبيب الإسلام في نفوس الكفار، وقد فصَّلتُ القول في هذا في كتابي:"الإلمام في مسألة تكليف الكفار بفروع الإسلام"(6).
(6)
مسألة: إذا دخل الكافر في الإسلام: فلا يجب عليه قضاء ودفع ما ترك من الزكاة حال كفره، وإن كان عالمًا بالإسلام؛ لقواعد: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} حيث دل منطوقه على أن الكافر إذا أسلم يُسقط عنه كل ما سبق أن فعله أو تركه إلا ما بينه وبين الآدميين من معاملات، وهذا عام لجميع الأحكام الشرعية ومنها "الزكاة"؛ لأن "ما" موصولة وهي من صيغ العموم، الثانية: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "أما علمت أن الإسلام يجبُّ ما كان قبله" حيث دلَّ على أن الكافر إذا أسلم كأنه =
مجنون؛ لعموم الأخبار، وأقوال الصحابة، فإن نقص عنه: فلا زكاة،
(7)
إلا
وُلد من جديد، لم يصدر منه أيُّ معصية لله تعالى أصلًا، وهذا يلزم منه عدم قضاء ما تركه من واجبات الإسلام ومنها الزكاة الثالثة: السنة التقريرية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد أسلم على يديه الجم الغفير من الكفار، فلم يأمر أحدًا منهم بأن يقضي ما فاته من زكاة وغيرها من العبادات، ولم يُبيِّن إيجاب ذلك، فدل على عدم وجوبها عليهم إذا أسلموا؛ لأنَّه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تيسير وتحبيب الإسلام في نفوس من أراد الدخول فيه؛ إذ لو وجب على كل شخص دخل في الإسلام دفع زكاة السنوات الماضية: لتراجع عن الإسلام، ونفر غيره، لكن إذا علم أنه ساقط عنه كل شيء عمله في كفره إذا أسلم: فإنه سيُقدم عليه، وقد بينت ذلك في كتابي:"الإلمام" في مسألة تكليف الكفار بفروع الإسلام".
(7)
مسألة: في الثالث - من شروط وجوب الزكاة - وهو: أن يكون المال الذي يملكه المسلم الحر قد بلغ نصابًا - وهو: ما نصبه الشارع علامة على وجود الغنى من بهيمة الأنعام، والأثمان، وما خرج من الأرض من الزروع والحبوب، وعروض التجارة وغيرها وسيأتي بيان نصاب كل واحد منها - فمن لم يملك نصابًا، أو ملك دون النصاب: فلا زكاة عليه؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "ليس فيما دون خمس أواق صدقة" وقال: "ليس في أقل من عشرين مثقالًا من الذهب صدقة" وقال: "في خمس من الإبل صدقة" وقال: "في أربعين شاة شاة" ونحو ذلك مما سيأتي حيث دلَّ منطوقها على وجوبها فيما بلغ النصاب، ودل مفهوم العدد منها على عدم وجوبها فيما نقص من ذلك، فإن قلتَ: لمَ اشتُرط ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن الزكاة مواساة للفقراء ونحوهم، وما دون النصاب لا يحتمل المواساة؛ لكونه لو دفع من مال لم يبلغ النصاب لأصبح =
الرَّكاز
(8)
(و) الرابع (استقراره) أي تمام الملك في الجملة، فلا زكاة في دين الكتابة؛ لعدم استقراره؛ لأنَّه يملك تعجيز نفسه
(9)
(و) الخامس (مُضي الحول)؛ لقول عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا زكاة في مال حتى يحول عليه
فقيرًا مثل المدفوع له، وهذا فيه ضرر، ورفعه واجب؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم:"لا ضرر ولا ضرار في الإسلام".
(8)
مسألة: الركاز - وهو المال من الذهب والفضة الذي يستخرجه الشخص مدفونًا في الأرض - لا يُشترط فيه بلوغ النصاب، بل إنه يُقسَّم إلى خمسة: يكون لمستخرجه أربعة أخماسه، ويُدفع الخُمسُ الباقي لبيت المال؛ للقياس، بيانه: كما أن الغنيمة يُفعل فيها ذلك فكذلك الركاز مثلها، والجامع: عدم العلم بمقدار كل منهما عند الحصول عليه.
(9)
مسألة: في الرابع - من شروط وجوب الزكاة - وهو: أن يكون المالك للمال قد استقرَّ عنده هذا المال استقرارًا قد غلب على الظن عدم زواله، وعليه فلا تجب الزكاة في مال هو عرضة للتَّلف، أو عدم التمكُّن، أو يجري عليه احتمال زواله عنه: فمثلًا: لو اشترى عبد نفسه من سيده - بعشرة آلاف، ولم يدفعها العبد، وحال عليها الحول عنده: فلا زكاة فيها؛ لكون المال دين غير مستقر؛ حيث يستطيع ذلك العبد تعجيز نفسه، ويمتنع عن الأداء، فيرجع - حينئذٍ - تحت سيطرة سيده، وكذلك أجرة المنزل لا تجب فيها الزكاة قبل تمام مُدَّة الإجارة، ودفع المستأجر لها؛ حيث إنه قد ينهدم المنزل، وتنفسخ الإجارة بدون اختيار؛ للمصلحة؛ حيث إنه لو دفع زكاة مال غير مستقر عنده لأدَّى ذلك إلى إلحاق الضرر بنفسه، وهذا لا يصح؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم:"لا ضرر ولا ضرار في الإسلام".
الحول" رواه ابن ماجه، ورفقًا بالمالك؛ ليتكامل النماء، فيُواسي منه، ويُعفى فيه عن نصف يوم
(10)
(في غير المعشَّر) أي: الحبوب والثمار؛ لقوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} ، وكذا المعدن والركاز والعسل؛ قياسًا عليهما،
(11)
فإن استفاد مالًا بإرثٍ
(10)
مسألة: في الخامس - من شروط وجوب الزكاة - وهو: أن يكون قد حال ودار على هذا المال البالغ للنصاب حول كامل بالقمري، لا بالشمسي كباقي أحكام الإسلام كرمضان والحج وهو: شرط لوجوب الزكاة في الأثمان، وبهيمة الأنعام، وعروض التجارة - كما سيأتي -، ولا يضرُّ نقص يوم أو يومين؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم:"لا زكاة في مالٍ حتى يحول عليه الحول" حيث دلَّ مفهوم الغاية ومفهوم الزمان على وجوب الزكاة بشرط: حولان الحول على ملكه للمال البالغ للنصاب؛ لكونه نفى وجوبها قبل حولان الحول، فإن قلتَ: لمَ اشتُرط هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن الحول والعام الكامل بفصوله الأربعة وقت واسع، ينمو فيه المال، ويستطيع صاحبه أن يضبط ذلك فيستطيع بذلك أن يواسي به الفقراء وغيرهم من أهل الزكاة، بخلاف ما لو كان الوقتُ أقلَّ من ذلك: فيشقَّ عليه ذلك، ولا يؤثر نقص يوم أو يومين؛ لعدم تسميته نقصًا، ويغلب على الظن عدم انضباطه.
(11)
مسألة: لا يُشترط تمام الحول في "الخارج من الأرض" كالحبوب والثمار، وكذا:"المعادن والركاز" اللذان يوجدان مدفونين في الأرض، وكذا:"العسل" حيث تجب زكاة هذه الثلاثة حال الحصول عليها صالحة - وسيأتي -؛ لقاعدتين: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} حيث أوجب الشارع إخراج زكاة الزروع والثمار يوم حصاده؛ لأن الأمر مطلق، فيقتضي الوجوب، ولأن مفهوم الزمان دلَّ على عدم اشتراط حولان الحول؛ لأنَّه خصَّصه حصاده وجذِّه، والثانية: القياس وهو من وجهين: أولهما: كما أنَّ الغنيمة يؤخذ خمسها حال الحصول عليها، فكذلك الركاز والمعادن =
أو هبة ونحوهما: فلا زكاة فيه حتى يحول عليه الحول
(12)
(إلا نتاج السائمة، وربح التجارة ولو لم يبلغ) النتاج أو الربح (نصابًا، فإن حولهما حول أصلهما) فيجب ضمُّها إلى ما عنده (إن كان نصابًا)؛ لقول عمر رضي الله عنه: "اعتدَّ عليهم بالسُّخلة ولا تأخذها منهم رواه مالك، ولقول علي رضي الله عنه: "عُدَّ عليهم الصِّغار والكبار" فلو ماتت واحدة من الأمات فنتجت سُخلة: انقطع، بخلاف ما لو نتجت ثم ماتت
(13)
مثلها، فلا يشترط حولان الحول، والجامع: أن كلًا منهما يكون نفعه في وقت الحصول عليه، ثانيهما: أن الزروع والثمار لا يُشترط فيهما تمام الحول فكذلك العسل يُزكى حال الحصول عليه بدون اشتراط الحول، والجامع: أن كلًا منهما يكون نفعه في وقت الحصول عليه، فإن قلتَ: لِمَ لا يُشترط الحول هنا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن المقصود من الزكاة نفع الفقير، وهذه الثلاثة تكون أنفع له إذا أُعطى إياها حال الحصول عليها، وسيأتي بيان ذلك بالتفصيل.
(12)
مسألة: إذا قبض مسلم مالًا فجأة كأن يرثه، أو يُهبه له أحد، أو يكون عوض خلع أو فسخ نكاح، أو الصداق والمهر: فيُشترط له حولان الحول عليه، أي: لا تجب زكاته على القابض له إلا بعد حول كامل وهو مستقر عنده؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول" حيث إن ما قبضه يُعتبر مالًا فيشمله عموم لفظ "مال" هنا؛ لأنَّه نكرة في سياق نفي، وهذا من صيغ العموم، فإن قلتَ: لمَ اشتُرط الحول هنا؟ قلتُ: لأن ما قبضة قابل للنماء، والنماء لا يكونُ متكاملًا إلا إذا دار عليه الحول.
(13)
مسألة: لا يُشترط تمام الحول في أولاد بهيمة الأنعام السائمة، ولذا: تجب الزكاة في أولادها بدون تمام الحول على هؤلاء الأولاد بشرط: أن تبلغ الأمَّهات النصاب فمثلًا: لو عندك أربعون شاة، فولدت كل واحدة عددًا من =
(وإلا) يكن الأصل نصابًا (فـ) حول الجميع (كماله) نصابًا: فلو ملك خمسًا وثلاثين
الأولاد حتى بلغ مجموعها من الأمهات والأولاد مائة وإحدى وعشرون شاة وسخلة: فإنك تزكي بشاتين، ولو لم تبلغ تلك الأولاد الحول، لكن لو ماتت واحدة من الأمهات، وأنتجت شاةٌ أخرى سُخلةً: فالحول ينقطع فلا زكاة، بخلاف ما لو ولدت الأمُّ سُخلة ثم ماتت - أي: الأم - فالحول لا ينقطع، وكذا يُقال في فصلان الإبل وعجول البقر؛ لقول الصحابي؛ حيث قال عمر رضي الله عنه:"اعتدَّ عليهم بالسُّخلة يروح بها الراعي على يديه، ولا تأخذها منهم" وقال علي رضي الله عنه: "عُدَّ عليهم الصِّغار والكبار"، فإن قلتَ: لمَ لا يُشترط تمام الحول على أولادها؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إنه تجب الزكاة في الأمهات، والأولاد تبع لها في ذلك، لذلك قلنا: لا تجب الزكاة إذا ماتت واحدة من الأمهات؛ لاختلال النصاب في الأمهات فتبعها في ذلك الأولاد، ولمشقة معرفة وقت ميلاد كل شاة لتلك السخلة، فيؤدِّي إلى عدم معرفة حسابها، فدفعًا لذلك: جُعلت تابعة لأمَّهاتها في تمام الحول فائدة: السُّخلة هي: ولد المعز والضأن، وتطلق على الذكر والأنثى، وهي التي لم تبلغ أربعة أشهر. [فرع]: لا يُشترط تمام الحول في ربح التجارة: ولذا: تجب الزكاة في هذا الربح ولو لم يتمَّ عليه حول كامل بشرط: أن يبلغ أصل المال نصابًا، فمثلًا: لو اشتريت منزلًا للتجارة بمائة ألف، ثم في أثناء العام وقبل تمامه: صار يساوي مائتي ألف: فإنك تزكي في آخر العام على المائتين وكأنه مال واحد، مع أن الربح - وهو مائة ألف - لم يدر عليه حول كامل؛ للمصلحة؛ حيث إنه يشقُّ على المسلم حساب ربح كل مال مُتَّجر فيه من وقت الرِّبح؛ حيث إنه يُعتبر من نمائه، فدفعًا لتلك المشقة: أُلحق الرِّبح بأصله فيأخذ حكمه.
شاة فنتجت شيئًا فشيئًا: فحولها من حين تبلغ أربعين، وكذا: لو ملك ثمانية عشر مثقالًا وربحت شيئًا فشيئًا: فحولها منذ بلغت عشرين،
(14)
ولا يبنى الوارث على حول الموروث،
(15)
ويُضمُّ المستفاد إلى نصابٍ بيده من جنسه أو في حكمه، ويُزكي
(14)
مسألة: إذا كان عنده مال لا يبلغ نصابًا، فبلغ نصابًا بسبب إضافة المستفاد منه من جنسه: فإنه يُحسب الحول من حين بلوغ النصاب عليهما معًا فمثلًا: لو وجد عندك في "شهر المحرم" خمس وثلاثون شاة، ثم بلغت في "شهر ربيع الثاني" أربعين فيُحسب الحول هنا من "شهر ربيع الثاني"، فإذا جاء "ربيع الثاني" من العام القادم وجب إخراج زكاتها، وهو:"شاة واحدة" بشرط: عدم نقصانها أثناء العام، مثال آخر: لو كان عندك ثمانية عشر مثقالًا من الذهب في "شهر المحرم"، ثم ربح ذلك حتى وصل إلى العشرين في "شهر رمضان" فإن الحول يُحسب من "رمضان" فإذا جاء رمضان من العام القادم: وجب إخراج زكاة ذلك وهكذا؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كونه مالًا: اشتراط حولان الحول عليه - كما سبق - فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: لأن نماء المال لا يتكامل إلا بعد حولٍ كاملٍ، ويستطيع به مواساة الفقراء.
(15)
مسألة: إذا ورث شخص مالًا: فإن الحول يُحسب من حين ميراثه مباشرة، ولو كان المال مضى عليه أكثر الحول عند المورِّث، فمثلًا: لو كان زيد يملك مالًا يبلغ نصابًا فلما مضى عليه ثمانية أشهر مثلًا مات زيد، فورثه عمرو واستلم هذا المال في "شهر المحرم" مثلًا: فإن الحول يبدأ من جديد من "شهر المحرم"، فإذا جاء هذا الشهر من العام القادم وهو عند عمرو بدون نقصان: فإنه يزكي عليه؛ للتلازم؛ حيث يلزم من تعلُّق المال بذمَّة عمرو من "شهر المحرم" حساب الحول عليه من ذلك الشهر، دون ما قبله؛ لعدم تملُّكه إياه قبله، فلا يحسب.
كلُّ واحد إذا تمَّ حوله
(16)
(ومن كان له دين أو حق) من مغصوب، أو مسروق، أو موروث مجهول ونحوه (من صداق وغيره) كثمن مبيع وقرض (على ملئ) باذل (أو غيره: أدَّى زكاته إذا قبضه لما مضى) روي عن علي رضي الله عنه؛ لأنَّه يقدر على قبضه، والانتفاع به: قصد ببقائه عليه الفرار من الزكاة، أو لا،
(17)
ولو قبض دون نصاب:
(16)
مسألة: إذا استفاد مالًا من جنس مال بالغ للنِّصاب عنده: فإنه يضمهما معًا ويُزكي كل واحد منهما إذا تم حوله، فمثلًا: لو وجد عندك أربعون شاة قد مضى عليها بعض الحول، ثم اشتريت خمسًا وثمانين شاة، فهنا يضم الجنس إلى الجنس، ولكن يكون حول كُلِّ قسم منها مُستقلًا عن الآخر، فالأربعون إذا تمَّ حولها تُخرج زكاتها، والخمس والثمانون إذا تمَّ حولها تخرج زكاتها، وهكذا يُقال في الذهب والفضة؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كون كُلِّ واحد من الجنسين مالًا: اشتراط حولان الحول على كُلِّ واحدٍ منهما لوحده، فإن قلتَ: لمَ شُرِع هذا؟ قلتُ: لأنَّ كلَّ مالٍ له تنميتُه الخاصَّة به.
(17)
مسألة: إذا قبض زيد من عمرو دينًا أو مالًا قد سرقه عمرو منه سابقًا، أو قرضًا، أو ثمن مبيع، أو عارية، أو صداقًا لامرأة: فتجب على زيد إخراج زكاة ما قبضه لما مضى من الأعوام إذا بلغ هذا المال نصابًا: سواء كان عمر مليئًا باذلًا له معترفًا به، أو كان مُعسرًا مماطلًا جاحدًا، وسواء قصد زيد إبقاء ذلك المال عند عمرو للفرار من الزكاة، أو لم يقصد ذلك؛ لقول الصحابي؛ حيث ثبت عن علي قوله في الدَّين المظنون:"يُزكِّيه إذا قبضه لما مضى"، فإن قلتَ: لمَ لا تجب زكاة ذلك قبل قبضه؟ قلتُ: لأن الزكاة وجبت للمواساة، وليس من المواساة أن يُخرج زيد زكاة مال لم يقبضه ولا ينتفع به؛ لاحتمال تلف ذلك المال الذي عند عمرو، أو أن يجحده، لذلك لم تجب زكاته قبل قبضه، فإن قلتَ: لمَ وجبت زكاته حال قبضه دون اشتراط الحول عليه عند قابضه؟ قلتُ: لكونه قد تحصَّل على ماله بدون تعيين وقت محدَّد لذلك - كما سيأتي في باب "زكاة الثمار والحبوب" -.
زكاه، وكذا: لو كان بيده دون نصاب وباقيه دَيْن، أو غصب أو ضال،
(18)
والحوالة به، أو الإبراء كالقبض
(19)
(ولا زكاة في مال من عليه دين يُنقص النصاب) فالدَّين، وإن لم يكن من جنس المال مانع من وجوب الزكاة في قدره (ولو كان المال) المزكَّى
(18)
مسألة: إذا قبض زيد بعض ماله من عمرو، والباقي لم يدفعه له عمرو، أو غصبه إياه أو سرقه، أو كان ضالًا: فإن زيدًا يُخرج زكاة هذا البعض بشرط: أن يغلب على ظنِّ زيد أنه سيقبض الباقي من عمرو، أما إذا لم يغلب على ظنه ذلك: فلا يُزكِّي ذلك حتى يبلغ ما قبضه نصابًا، فمثلًا: لو كان زيد يُطالب عمرًا بمائة ريال، فأعطاه عمرو أربعين: فيجب على زيد أن يُخرج زكاة الأربعين - وهو ريال واحد تقريبًا - يفعل ذلك وإن كانت الأربعين لا تبلغ النِّصاب، لكن غلب على ظن زيدًا أن عمرًا سيُعطيه الباقي؛ للقياس، بيانه: كما أن زيدًا لو قبض المائة كلها من عمرو: فيجب أن يُخرج زكاتها فكذلك لو قبض بعضها ويغلب على ظنه أنه سيقبض الباقي مثل ذلك في الحكم، والجامع: تحقيق شرط ملك النصاب في كل، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: لقدرته على تحصيل الباقي.
(19)
مسألة: إذا كان زيد يُطالب عمرًا بألف ريال، وقال لعمرو:"أعطها بكرًا"، وقال لبكر "خذها من عمرو" وهي الحوالة - أو أبرأ زيد عمرًا من هذا المال وأسقطه عنه: فيكون زيد كأنه قبضه وبناء عليه: تجب زكاة الألف على زيد فيُخرج "خمسًا وعشرين ريالًا زكاة عليه" -؛ للقياس، بيانه: كما أنَّ زيدًا لو قبض هذا الألف من عمرو: فيجب على زيد إخراج زكاته فكذلك الحوالة به أو عليه، أو إبراءه منه مثل ذلك والجامع: تحقق شرط ملك النصاب في كل، فإن قلتَ: لمَ شرع هذا؟ قلتُ: لقدرة زيد على قبض الجميع، فوجبت مواساة الفقير منه.
(ظاهرًا) كالمواشي والحبوب والثمار
(20)
(وكفارة كدين)، وكذا: نذر مطلق، وزكاة،
(20)
مسألة: الدَّين مانع من وجوب الزكاة بشرط: أن يُنقص هذا الدَّين النِّصاب، فمثلًا: لو ملكتَ مائة شاة، وعليك دين يُعادل مقدار واحدة وستين من الشياه: فلا زكاة عليك؛ لكون الباقي تسعًا وثلاثين، وهو أقل من النصاب؛ وكذا: يُقال في جميع الأموال التي تُزكى، لكن إذا كان عليه دين لا يُنقص النِّصاب: فلا يمنع ذلك الدين الزكاة، فمثلًا: لو كنت تملك مائة من الغنم، وعليك دين يُقدَّر بستين منها: فتجب زكاة الباقي، وهي الأربعون؛ لبلوغها النصاب، وهذا مطلق، أي أن الدَّين مانع من الزكاة سواء كانت الأموال باطنة - وهي: الأثمان وعروض التجارة - أو ظاهرة - وهي: المواشي والحبوب والثمار - وسواء كان الدَّين حالًا أو مؤجَّلًا، وسواء كان الدَّين من جنس المال الذي عنده أو ليس من جنسه؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "لا صدقة إلا عن ظهر غِنى" فنفى الصدقة - وهي: الزكاة - عن غير غِنَى - وهو: الفقير - ومن عليه دين فقير وزيادة؛ لكون حاجته لقضاء دينه أشدَّ من حاجة الفقير، وأثبت هنا الصدقة بسبب الغنى - وهو: بلوغ المال النصاب -؛ لأن الاستثناء من النفي إثبات، وهذا عام؛ لأن لفظ "صدقة" نكرة في سياق نفي، وهو: من صيغ العموم، فيشمل الدَّين المعجَّل والمؤجَّل، والدَّين الذي هو من جنس ما عندك أو غيره، ويشمل الأموال الظاهرة والباطنة، الثانية: قول الصحابي؛ حيث إن عثمان رضي الله عنه قال في خطبة له: "هذا شهر زكاتكم، فمن كان عليه دين فليؤدِّه حتى تُخرجوا زكاة أموالكم" ويلزم من ذلك: أنه لا زكاة إلا بعد قضاء الدَّين وهو عام لما ذكرنا، فإن قلتَ: لم كان الدَّين مانعًا من وجوب الزكاة؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن المقصد من الزكاة هو: مواساة الفقراء، والشكر على نعمة الغِنَى، فلو كُلِّف بإخراج زكاة ما عنده وهو: مدين دينًا يُنقص النصاب: لشق عليه ذلك؛ لكونه أحوج إلى هذا المال ليُسدِّد به دينه، =
ودين حج، وغيره؛ لأنَّه يجب قضاؤه أشبه دين الآدمي، ولقوله صلى الله عليه وسلم:"دين الله أحقُّ بالوفاء"
(21)
ومتى برئ: ابتدأ حولًا
(22)
(وإن ملك نصابًا صغارًا: انعقد حوله حين
فدفعًا لذلك: سقطت الزكاة عن من عليه دين، فإن قلتَ: إن الأموال الظاهرة - كالحبوب والثمار والمواشي - لا يمنع الدَّين من وجوب الزكاة فيها، وهو قول مالك والشافعي؛ للمصلحة؛ حيث إن ظهور هذه الأموال يلزم منه: تعلُّق قلوب ونفوس الفقراء بها، فإذا لم يُعطوا منها فإن نفوسهم تنكسر، فمنعًا لذلك وجب إخراجها من تلك الأموال الظاهرة قلتُ: إن الدَّين مانع من زكاة الأموال الظاهرة والباطنة؛ لعموم السنة القولية وقول الصحابي، والمصلحة التي ذكرناها، ولا تقوى المصلحة التي ذكروها على معارضة ذلك، لكون سداد الدَّين واجب يُعاقب إذا لم يُسدِّده، بخلاف انكسار قلوب الفقراء لا يُعاقب عليه فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض المصلحة مع السنة القولية" فعندنا: يُعمل بعموم السنة ولا تقوى المصلحة على تخصيص ذلك، وعندهم: يخصَّص ذلك العموم بالمصلحة.
(21)
مسألة: إذا وجبت على مسلم كفارة جماع في نهار رمضان، أو كفارة قتل، أو كفارة ظهار من إطعام، أو عتق، أو نذر أن يتصدَّق، أو يحج، أو نحو ذلك: فإن هذا كله دين يمنع من وجوب الزكاة؛ للقياس، بيانه: كما أن دين الآدمي يمنع من وجوب الزكاة - كما سبق في مسألة (20) - فكذلك تلك الأمور مثله والجامع: أن كلًا منهما يُسمَّى دينًا انشغلت الذِّمَّة به فيجب قضاؤه، بل إن هذه الأمور أولى بالقضاء؛ لكونها ديون الله كما قال صلى الله عليه وسلم:"فدين الله أحقُّ بالقضاء" فيكون قياسًا أولى، وهذا هو المقصد الشرعي منه، وقد سبق.
(22)
مسألة: إذا قضى المسلم ما عليه دين الله من دين الآدميين: فإن ذمته تبرأ، وحينئذٍ يبدأ بحول جديد فيما يملك من الأموال، ولا يبني على ما سبق؛ =
ملكه)؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "في أربعين شاة شاة"؛ لأنها تقع على الكبير والصغير لكن لو تغدَّت باللّبن فقط: لم تجب؛ لعدم السَّوم
(23)
(وإن نقص النصاب في بعض الحول): انقطع؛ لعدم الشرط، لكن يُعفى في "الأثمان" و "قيم العروض" عن نقص
للتلازم؛ حيث يلزم من وفائه بدينه: إبراء ذِمَّته، وابتداء حساب مدة الحول من حين براءة ذِمَّته؛ لعدم المانع من ذلك.
(23)
مسألة: إذا ملك نصابًا من صغار المواشي السائمة - وهي: التي تعيش على العشب النابت من المطر - كان يملك أربعين سُخلة من الغنم، أو ثلاثين عجلًا من البقر، أو خمس فصلان من الإبل: فإنه يبدأ حساب حولها من حين ملكه إياها، أما إن كانت تلك الصغار ليست سائمة - بأن كانت تتغذَّى على اللَّبن -: فلا يبدأ حساب حولها من ملكها، ولا تجب الزكاة فيها أصلًا؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم:"في أربعين شاة شاة" حيث إن هذا عام للكبار والصغار، وصغار البقر والإبل مثلها؛ لعدم الفارق من باب "مفهوم الموافقة"، وخصَّصت السنة القولية الأخرى هذا العموم بالسائمة فقط -؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم:"في سائمة الغنم الزكاة" فيكون التقدير: تجب الزكاة في الصغار السائمة فقط، وعليه يبدأ حساب مُدَّة حولها من ملكه إياها، ودلَّنا مفهوم الصفة على أن غير السائمة وهي المعلوفة، لا تجب فيها الزكاة وهذا المفهوم عام للصغار والكبار، فإن قلتَ: لم وجبت الزكاة فيها إذا كانت سائمة مع أنها صغيرة، بخلاف غير السائمة؟ قلتُ للمصلحة؛ حيث إنها إذا اعتمدت على نفسها في الأكل خفَّت مؤنتها على صاحبها، فتجب فيها مواساة الفقير منها، بخلاف غير السائمة من الصغار والكبار: فإنه يشق على المالك لها تغذيتها باللَّبن، والعلف ودفع زكاتها: فدفعًا لتلك المشقة والضرر: سقطت زكاتها عنه: لأن دفع المفسدة، مقدَّم على جلب المصلحة.
يسير كحبة وحبَّتين؛ لعدم انضباطه (أو باعه) ولو مع خيار بغير جنسه: انقطع الحول (أو أبدله بغير جنسه، لا فِرارًا من الزكاة: انقطع الحول)؛ لما تقدَّم، ويستأنف حولًا
(24)
، إلا في ذهب بفضة وبالعكس؛ لأنهما كالجنس الواحد ويُخرج مما معه عند الوجوب، وإذا اشترى عَرَضًا لتجارة بنقد، أو باعه به: بنى على حول الأول؛ لأن الزكاة تجب في قيَم العروض، وهي من جنس النقد
(25)
، وإن قصد بذلك
(24)
مسألة: إذا نقص النصاب قبل أن يتم الحول: فإن الحول ينقطع، ويُستأنف حولًا جديدًا فمثلًا: لو عندك أربعون شاة وقبل شهر أو أقل من تمام الحول عليها بعتَ واحدة - ولو في وقت الخيار - بشيء غير جنسه كدراهم، أو ماتت واحدة، أو سُرقت أو أبدلت خمسًا منها ببقرة: فلا تجب الزكاة في الباقي بعد الحول بشرط أن يقع هذا بدون قصد الفرار من الزكاة، للتلازم؛ حيث يلزم من عدم وجود شرط الزكاة - وهو تمام الحول على النصاب -: عدم وجود الحكم وهو: وجوب الزكاة فإن قلتَ: لِمَ شُرِع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك شيء يعذر به المسلم. [فرع]: إذا نقص من نصاب الأثمان أو عروض التجارة شيء يسير كحبة أو حبَّتين: فلا ينقطع الحول بسبب ذلك؛ للمصلحة؛ حيث إن ذلك يندر من يسلم منه، ويصعب ضبطه، فدفعًا لذلك لا ينقطع الحول به.
(25)
مسألة: إذا أبدل ذهبًا بفضة، أو أبدل فضة بذهب في أثناء حول أحدهما، أو اشترى عرضًا للتجارة بنصاب من أثمان، أو بالعكس في أثناء حول أحدهما كان يشتري دارًا بألف، أو يبيع دارًا بألف، أو يشتري دارًا بدار أخرى للتجارة: فإنه لا ينقطع حول الأول الذي كان عنده، أي: يبنى على الأول الذي خرج من مُلكه فمثلًا: لو عندك دار للتجارة وبعد مضي ثمانية أشهر بعتها بألف: فإنه بعد أربعة أشهر تُخرج زكاة ذلك الألف؛ للتلازم؛ حيث إن =
الفرار من الزكاة لم تسقط؛ لأنه قصد به إسقاط حقِّ غيره فلم تسقط كالمطلِّق في مرض موته
(26)
، فإن ادَّعى عدم الفرار وثمَّ قرينة: عُمل بها، وإلا: فقوله
(27)
(وإن
كون المبدل والبدل، والمباع والمشترى من جنس واحد يلزم منه: عدم انقطاع الحول، فإن قلتَ: لمَ لا ينقطع الحول هنا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه منع لتحايل بعض التجار من التخلُّص من الزكاة، وحرمان الفقراء منها.
(26)
مسألة: إن كان عند شخص نصاب من الغنم - كأربعين - فأبدل خمسًا منها ببقرة، أو باع واحدة منها أو نحو ذلك قبل تمام الحول عليها قاصدًا بذلك إنقاص النصاب؛ للفرار من تزكية الأربعين شاة: فإن الزكاة لا تسقط عنه، بل تجب عليه؛ للقياس، بيانه: كما أن الذي يُطلِّق امرأته في مرض موته قاصدًا حرمانها من الميراث: فإنها لا تطلق، بل ترثه من جملة الورثة، فكذلك من قصد الفرار من الزكاة هنا مثله والجامع: أن كلًا منهما قصد إسقاط حق غيره، فيُعامل بنقيض قصده، وهي "قاعدة شرعية"، فإن قلتَ: لمَ لا تسقط الزكاة هنا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث ذلك فيه حماية الفقراء من أن يُسلبوا حقهم.
(27)
مسألة: إذا أبدل خمسًا من "أربعين شاة" ببقرة، أو باع واحدة منها قبل تمام الحول، وادَّعى "أنه فعل ذلك للحاجة، لا للفرار من الزكاة": فإنه يُقبل قوله، وينقطع الحول، فلا تجب عليه الزكاة بشرط: عدم وجود قرينة تدلُّ على كذبه، أما إن وُجدت قرينة تدلُّ على كذبه في ذلك: فإن الحول لا ينقطع، وتجب زكاة الأربعين - بإخراج شاة واحدة - فتؤخذ منه وإن لم يرض؛ للتلازم؛ حيث إن الأصل في المسلم الصدق، فيلزم أن نُصدِّقه فيما ادَّعاه إذا لم تدل قرينة على كذبه تصرفنا عن هذا الأصل، ويلزم من وجود قرينة على كذبه: أن نردَّ قوله، ونأخذ الزكاة؛ لمعاملته بنقيض قصده، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية للفقراء من التحايل على سلب حقوقهم.
أبدله بـ) نصاب من (جنسه) كأربعين شاة بمثلها أو أكثر: (بنى على حوله) والزائد تبع للأصل في حوله كنتاج: فلو أبدل مائة شاة بمائتين: لزمه شاتان إذا حال حول المائة
(28)
، وإن أبدله بدون نصاب انقطع
(29)
(وتجب الزكاة في عين المال) الذي لو
(28)
مسألة: إذا أبدل شيئًا بالغًا للنِّصاب بشيء من جنسه بالغ للنِّصاب: فلا ينقطع الحول، بل يبني على ما مضى من زمن المبدل، ويُخرج زكاة البدل والمبدل، فمثلًا: لو ملكتَ أربعين شاة، ومضى عليها وهي عندكَ ثمانية أشهر، ثم أبدلتها بأربعين أخرى: فإن حول الأربعين الأولى لا ينقطع، وعلى ذلك: فإذا مضى أربعة أشهر على الأربعين الثانية - وهي البدل - فإنه يجب عليك إخراج زكاتها، ويُنظر إلى الزائد، فمثلًا: لو كان عندك مائة شاة، ثم بعد ثمانية أشهر على وجودها عندك أبدلتها بمائتين: فإنه تجب زكاة المائتين بعد أربعة أشهر فقط - وهما شاتان -؛ لقاعدتين: الأولى: القياس، بيانه: كما أن نتاج المواشي تبع لأمَّهاتها في الحول، تُحسب في النصاب، وتخرج زكاتها وإن كانت صغارًا لم تبلغ الحول، أي: حولها حول أمهاتها - كما سبق في مسألة (13) - فكذلك البدل تُحسب في النصاب، وتخرج زكاتها، وحولها هو حول أصلها - وهو: المبدل - والجامع: مشقَّة انفراد كل شيء بحوله الثانية: التلازم؛ حيث يلزم من وجود الشرط - وهو: تمام الحول على جنس واحد - وجود المشروط - وهو: وجوب الزكاة -، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة، وقد بيناها في مسألة (27).
(29)
مسألة: إذا أبدل شيئًا بالغًا للنصاب بشيء من جنسه لم يكن بالغًا للنصاب: فالحول ينقطع، فمثلًا: لو كان عندك أربعون من الغنم، وقد مضى عليها عندك ستة أشهر، ثم أبدلتها بخمس وثلاثين: فإن حول الأربعين الأولى ينقطع، فلا زكاة عليها؛ للتلازم؛ حيث يلزم من عدم السبب - وهو: بلوغ النصاب في =
دفع زكاته منه: أجزات كالذهب والفضة، والبقر، والغنم السائمة ونحوها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"في أربعين شاة شاة" و"فيما سقت السماء العشر" ونحو ذلك، و"في" للظرفية، وتعلُّقها بالمال كتعلُّق أرش جناية برقبة الجاني فللمالك إخراجها من غيره
(30)
، والنماء بعد وجوبها له، وإن أتلفه: لزمه ما وجب فيه، وله التصرُّف فيه
الخمس والثلاثين -: عدم وجود الحكم - وهو: وجوب الزكاة - فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن وجوبها في شيء لم يبلغ النصاب ضرر على المالك، ودفع الضرر واجب؛ لأنه لا ضرر ولا ضرار في الإسلام.
(30)
مسألة: زكاة كُلِّ مالٍ تُدفع من جنسه؛ حيث إنها مُتعلِّقة بعين المال المزكَّى، فزكاة الذهب تُدفع ذهبًا، وزكاة الفضة تُدفع فضة، وزكاة الغنم تُدفع غنمًا وزكاة الحبوب تُدفع حبوبًا وهكذا، هذا إن تمكَّن من ذلك، أما إن لم يتمكَّن إخراج الزكاة من جنس المال المزكَّى: فله إخراجها من غير النصاب بشرط: أن يكون من جنسه، فمثلًا: لو كان عندك أربعون شاة، ولكنك لم تتمكَّن من إخراج شاة منها للزكاة: فلك إخراج شاة من غيرها ولو كان ذلك بعد مُدَّة، ولو أخذتها دينًا؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "في أربعين شاة شاة" وقال: "فيما سقت السماء العشر" حيث بيَّن الشارع أن الزكاة تتعلَّق بجنس المال الذي تُخرج منها؛ لكون "في" ظرفية دالة على كون مدخولها ظرفًا لمتعلِّقها الثانية: القياس، بيانه: كما أن أرش الجناية مُتعلِّق برقبة الجاني، فكذلك الزكاة تتعلَّق بعين المال المزكَّى، والجامع: أن كلًا منهما له تعلُّق بشيء فتلزم عينه، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن الأموال تختلف باختلاف أجناسه وصفاته، فهناك مال رديء، وهناك مال جيد، فتكون زكاة المال الرديء تؤخذ من عين ذلك المال الرديء، وزكاة المال الجيد تؤخذ من =
ببيع وغيره، فلذلك قال (ولها تعلُّق بالذمَّة) أي: ذمَّة المزكّي؛ لأنه المطالب بها
(31)
(ولا يُعتبر في وجوبها: إمكان الأداء) كسائر العبادات، فإن الصوم يجب على المريض والحائض، والصلاة تجب على المغمى عليه والنائم، فتجب في الدِّين، والمال الغائب ونحوه - كما تقدَّم - لكن لا يلزمه الإخراج قبل حصوله بيده
(32)
(ولا) يُعتبر في
عينه، فلو أُخذ مال رديء زكاة، عن مال جيد لتضرَّر الفقير، ولو أُخذ مال جيد زكاة عن مال رديء: لتضرَّر الغني، فدفعًا لذلك الضررين: شُرع ما ذكر.
(31)
مسألة: إذا وجبت زكاة في شيء - كشاة زكاة عن أربعين -: فإن هذا الوجوب يكون في ذمَّته، ولا تبرأ تلك الذمَّة إلا بإخراجها هي: سواء أخرجها من تلك الأربعين، أو من غيرها، وسواء باع تلك الأربعين أو أتلفها، أو أكلها، أو أبدلها بغيرها، أو نمت عنده أو زادت، أو لا، فلا يجب إلا إخراج تلك الشاة؛ للتلازم؛ حيث يلزم من بلوغ النصاب وحولان الحول على ذلك: وجوب الزكاة، واستقرار هذا الوجوب في الذِّمَّة، ولا يسقط ذلك إلا بالفعل، فيُطالب بها، فإن قلتَ: لمَ وجبت بالذمة، ولم تجب من النِّصاب؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه توسعة على المالك، فيتصرَّف فيها ببيع، أو تنمية، أو نحو ذلك، فلو وجبت في عين المال لا تُخرج إلا منه: للزم من ذلك إلحاق الضرر عليه.
(32)
مسألة: لا يُشترط في وجوب الزكاة: تمكُّن المالك من الأداء حال وجوبها، ولذا: تجب الزكاة في مال قد بلغ النصاب، وحال عليه الحول، وإن لم يتمكَّن من أدائها حالًا، ولذا وجبت الزكاة في الدَّين، والمال الغائب والمنسي إذا تذكَّره لكن لا يُخرج زكاة ذلك فعلًا إلا إذا قبض ذلك المال المزكَّى بيده - كما سبق في مسألة (17) -؛ للقياس بيانه: كما أن الصوم يجب على المريض والحائض والنفساء، والصلاة تجب على المغمى عليه والنائم وإن لم =
وجوبها أيضًا: (بقاء المال): فلا تسقط بتلفه: فرَّط أو لم يُفرِّط كدين الآدميين
(33)
،
يتمكَّن هؤلاء من أدائهما في الحال فكذلك الزكاة تجب وإن لم يتمكَّن المالك من أدائها والجامع: عدم التمكن من الأداء لعذر في كل، فإن قلتَ: لمَ لا يُشترط ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن الزكاة حق للفقير من هذا المال، فلا يسقط هذا الحق بسبب عدم التمكن من الأداء.
(33)
مسألة: لا يُشترط في وجوب الزكاة: بقاء المال على حاله: ولذا: لو تلف مال بالغ للنصاب تام الحول باحتراق أو نحوه: لوجبت الزكاة فيه: سواء كان صاحب المال فرَّط أو لا؛ للقياس؛ بيانه: كما أن دين الآدمي يجب الوفاء به: سواء تلف مال المدين أو لا، فرَّط أو لا فكذلك الزكاة إذا وجبت يجب إخراجها: سواء تلف المال المزكَّى أو لا، فرَّط أو لا، والجامع: انشغال الذِّمة بذلك في الكل، فلا تبرأ إلا بالأداء، أو الإبراء، فإن قلتَ: لمَ لا يُشترط ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إنه عين تلزمه مؤنة تسليمه إلى مستحقه، فيضمنه له، وهذا يستوي فيه المفرِّط وغيره؛ لاحتمال ادِّعاء بعضهم عدم التفريط في تلف هذا المال فيضيع حق الفقير فيتضرَّر لا سيما إذا عرفنا أن الزكاة تجب وجوبًا موسَّعًا، وتسقط عند العجز عنها، فتُقدِّم هنا حق الفقير ومراعاته فإن قلتَ: إن لم يفرط المالك فتلف المال المزكَّى: فإن لا يضمن تلك الزكاة بل تسقط عنه، وهو قول أبي الفرج ابن قدامة وتبعه ابن عثيمين؛ للمصلحة؛ حيث إن المالك يتضرر إذا ضمن ما تلف بسبب غيره قلتُ: إن هذا فيه فتح لباب ادعاء بعض المالكين عدم التفريط، فيضيع حق الفقير، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض المصلحة مع القياس" فعندنا: يُعمل بالقياس؛ مراعاة لحق الفقير، وعندهم يُعمل بالمصلحة مراعاة لحق الغني.
إلا إذا تلف زرع أو ثمر بجائحة قبل حصاد وجذاذ
(34)
، (والزكاة) إذا مات من وجبت عليه (كالدَّين في التركة)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"فدينُ الله أحق بالوفاء"
(35)
، فإن وجبت وعليه دين برهن، وضاق المال: قُدِّم
(36)
،
(34)
مسألة: إذا تلف زرع، أو ثمر بجائحة - كمطر، وحريق، ورياح - قبل جمع الحبوب والثمر من الزرع والنخيل في الجرين - وهو: مكان جمعه -: فإن الزكاة تسقط؛ للتلازم؛ حيث إن عدم توفر شرط الزكاة هنا - وهو: عدم جمع ذلك في الجرين بسبب التَّلف -: يلزم منه عدم وجوب الزكاة، فإن قلتَ: لمَ سقطت الزكاة هنا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن المالك لو دفع زكاة ما تلف: للحقه الضَّرر، فدفعًا لذلك: سقطت الزكاة عنه.
(35)
مسألة: إذا مات شخص بعد وجوب الزكاة عليه: فتؤخذ تلك الزكاة من رأس التركة قبل تقسيمها على الورثة؛ للقياس، بيانه: كما أنه لو مات وعليه دين فلا يسقط ذلك الدين بموته فكذلك الزكاة مثله، والجامع: أن كلًا منهما دين قد انشغلت الذمة به وسمَّاه الشارع بذلك؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "فدين الله أحق بالقضاء" فإن قلتَ: لمَ لا تسقط الزكاة بالموت؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن الزكاة حقٌّ للفقير، فلا يسقط هذا الحق بموت المالك؛ لكون حقه تعلَّق بعين المال، لا بعين صاحب المال.
(36)
مسألة: إذا وجبت زكاة على زيد، وكان عليه دين لعمرو، وهو - أي: زيد - قد رهن عند عمرو منزلًا، ولا يكفي المال الذي عند زيد إلا لسداد الدَّين، أو لإخراج الزكاة: فيُقدَّم هنا سداد الدَّين على إخراج الزكاة، فإن فضل شيء: صُرف للزكاة، وإلا تبقى في ذمته حتى يستطيع؛ للقياس، بيانه: كما يُقدَّم حق المرتهن على سائر الغرماء، فكذلك يُقدَّم قضاء دين برهن على أداء الزكاة، نظرًا للحاجة إلى فكِّ ذلك الرهن والجامع: تقديم حاجة المالك على حاجة الفقراء.
وإلا تحاصَّا
(37)
، ويُقدَّم نذر معَّين
(38)
، وأضحية مُعيَّنة
(39)
.
(37)
مسألة: إذا وجبت زكاة على زيد، وكان عليه دين لعمرو بدون رهن، والمال الذي عند زيد لا يكفي للزكاة وللوفاء بالدَّين: فيُعمل بالمحاصَّاة بالنِّسب فمثلًا: لو كان الدين ألفين، والزكاة ألفًا: فإنه يؤخذ ثلثا المال الذي عند زيد ويُعطى لعمرو، ويُؤخذ ثلثه الباقي ويُدفع زكاة؛ للقياس، بيانه: كما أنه إذا تزاحمت ديون الآدميين: فإنه يؤخذ بالمحاصَّاة على حسب نسبة دين كل واحد من الغرماء فكذلك الحال هنا والجامع: أن حقَّ كل واحد في مرتبة حق الآخر دون تفاوت مع التزاحم في كل، فإن قلتَ: لمَ يفعل ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه مراعاة لحقوق الغرماء، ولحقوق الفقراء.
(38)
مسألة: إذا كان عندك أربعون شاة، وحال عليها الحول، وكان عليه نذر بإخراج شاة معيَّنة - كأن يقول:"هذه الشاة لله تعالى" - فيُقدِّم الوفاء بالنذر، ويُخرج شاة له ثم يُخرج شاة أخرى للزكاة إن فضل شيء من ذلك وهو بالغ للنصاب، وإن تعذَّر ذلك: فإنها تبقى في ذمته حتى يؤدِّيها، فإن عجز: سقطت عنه، للتلازم؛ حيث إن تعيين الواجب - وهو: النذر - يلزم منه تقديمه على الواجب المطلق - وهو: الزكاة - نظرًا لكون المعيَّن مُقدَّم على المطلق، وسقطت إن عجز؛ لأنه يلزم من العجز: سقوط الواجب.
(39)
مسألة: إذا وجبت زكاة أربعين شاة - وهي: إخراج شاة واحدة - وكان قد عيَّن شاة لتكون أضحية: فإنه يُقدَّم إخراج شاة الزكاة، للتلازم؛ حيث يلزم من كون الزكاة واجبة: تقديم إخراجها على المستحب وهي: الأضحية وإن عُينت فلا تقدم على الزكاة الواجبة، فإن قلتَ: تُقدَّم الأضحية المعيَّنة هنا، وهو قول المصنف هنا؛ للتلازم؛ حيث يلزم من تعيينها: تقديمها قلتُ: هذا يصح إذا كان =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
المعيَّن واجبًا كغير المعيَّن، أما إن اختلف في الحكم فالتعيين لا يُغير الحكم ويجعله يُقدَّم على الواجب وهو هنا: الزكاة، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "هل التعيين للمستحب يقلبه إلى واجب ويُقدَّم على الواجب المطلق أم لا؟ " فعندنا: لا، وعندهم: نعم، وكذا "تعارض التلازمين".
هذه آخر مسائل: "حقيقة الزكاة وحكمها وشروطها" ويليه باب "زكاة بهيمة الأنعام"
باب زكاة بهيمة الأنعام
وهي الإبل، والبقر، والغنم، وسُمِّيت بهيمة الأنعام؛ لأنها لا تتكلَّم (تجب) الزكاة (في إبل) بخاتي، أو عراب (وبقر) أهلية أو وحشية، ومنها: الجواميس (وغنم): ضأن أو معز: أهلية، أو وحشية (إذا كانت) لدر ونسل، لا لعمل، وكانت (سائمة) أي: راعية للمباح (الحول أو أكثره)؛ لحديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "في كل إبل سائمة في كل أربعين ابنة لبون" رواه أحمد وأبو داود والنسائي، وفي حديث الصِّدِّيق:"وفي الغنم في سائمتها" إلى آخره، فلا تجب في معلوفة، ولا إذا اشترى لها ما تأكله، أو لها جمع من المباح ما تأكله
(1)
(فيجب في خمس وعشرين من الإبل بنت مخاض) إجماعًا وهو: ما تم لها
باب زكاة بهيمة الأنعام
وفيه ثمان عشرة مسألة:
(1)
مسألة: تجب الزكاة في بهيمة الأنعام - الإبل والبقر والغنم بأنواعها - بشرطين: أولهما: أن تكون مُعدَّة للنماء والدَّر والنّسل، فإن كانت مُعدَّة للعمل فلا زكاة فيها، ثانيهما: أن تكون سائمة: بأن كانت ترعى أكثر العام من العشب النابت من المطر، فإن كان صاحبها يشتري لها عَلَفًا، أو جمع بنفسه عشبًا من الصحراء وعلَّفها إياه: فلا زكاة فيها؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية وهي من وجهين: أولهما: قوله صلى الله عليه وسلم: "ليس في العوامل صدقة" فنفى وجوب الزكاة على البهائم التي يُعمل عليها وهو عام لجميع البهائم؛ لأن "العوامل" جمع مُعرَّف بأل وهو من صيغ العموم؛ ودلَّ بمفهوم الصفة على وجوب الزكاة على غير العوامل، وهي المعدَّة للدَّر والنَّسل فلزم اشتراطه لذلك، ثانيهما: قوله صلى الله عليه وسلم: "في سائمة الغنم الزكاة" وقوله صلى الله عليه وسلم: "في كل إبل سائمة" حيث إن مفهوم الصفة دلَّ على =
سنة، سُمِّيت بذلك؛ لأن أمها قد حملت، والماخض: الحامل، وليس كون أمها ماخضًا شرطًا، وإنما ذكر تفريعًا لها بغالب أحوالها (و) يجب (فيما دونها) أي: دون خمس وعشرين (في كل خمس شاة) بصفة الإبل إن لم تكن معيبة: ففي خمس من الإبل كرام سمان: شاة كريمة سمينة، فإن كانت الإبل معيبة: ففيها شاة صحيحة تنقص قيمتها بقدر نقص الإبل، ولا يُجزئ بعير ولا بقرة ولا نصفا شاتين، وفي العشر: شاتان، وفي خمس عشرة: ثلاث شياه، وفي عشرين: أربع شياه، إجماعًا في
أن المعلوفة لا زكاة فيها، فلزم من ذلك اشتراطه "السَّوم" والبقر مثل الإبل والغنم؛ لعدم الفارق من باب "مفهوم الموافقة"، الثانية: المصلحة؛ حيث إن تعليف البهيمة في اليسير لا يمكن التحرُّز منه، وصفة السوم لا تزول بذلك اليسير من العلف فلذا وجبت الزكاة فيها وإن عُلِّفت في بعض العام، فإن قلتَ: لمَ لا تجب الزكاة في المعلوفة؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية للمالك من الضرر؛ لأنه إذا اجتمع تعليفها مع إخراج زكاتها فإنه يتضرَّر ضررًا واضحًا، فإن قلتَ: لمَ لا تجب الزكاة في العاملة؟ قلتُ: لكونها مُعدَّة للانتفاع دون النماء، وهي تشبه بذلك البيت المؤجَّر، فتجب الزكاة في الأجرة، لا على البيت، فكذا هنا، فإن قلتَ: لمَ بُدئ ببهيمة الأنعام؟ قلتُ: لأنها أعظم أموال العرب، وأغلاها ثمنًا، وأجمعها للمنافع؛ حيث إنها تجمع بين الركوب والزينة، واللَّبن، والسمن، واللحم، فإن قلتَ: لمَ سُمِّيت بذلك الاسم؟ قلتُ: لإبهام صوتها، وعدم إدراك ما تريده، فإن قلتَ: لمَ سُمِّيت الراعية للعشب بالسائمة؟ قلتُ: لكونها تُعلم الأرض بسبب رعيها فيها ومنه قوله تعالى: {وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ} أي: المعلمة - كما في الصحاح (5/ 1955) - فائدة: "البخاتي": الإبل ذات السنامين المتولِّدة من العربي والعجمي؛ وهي منسوبة إلى بختنصَّر، و"العراب" الإبل ذات السنام الواحد.
الكل (وفي ست وثلاثين بنت لبون): ما تمَّ لها سنتان؛ لأن أمها قد وضعت غالبًا فهي ذات لبن (وفي ست وأربعين حِقَّة): ما تمَّ لها ثلاث سنين؛ لأنها استحقت أن يطرقها الفحل، وأن يُحمل عليها وتُركب (وفي إحدى وستين جَذَعَة) بالذال المعجمة: ما تمَّ لها أربع سنين؛ لأنها تجذع إذا سقط سنُّها، وهذا أعلى سن يجب في الزكاة (وفي ست وسبعين بنتا لبون وفي إحدى وتسعين حقتان): إجماعًا (فإذا زادت عن مائة وعشرين واحدة فثلاث بنات لبون)؛ لحديث "الصدقات الذي كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان عند آل عمر بن الخطاب" رواه أبو داود والترمذي وحسَّنه (ثم في كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقَّة): ففي مائة وثلاثين حقة، وبنتا لبون، وفي مائة وأربعين: حِقَّتان وبنت لبون، وفي مائة وخمسين: ثلاث حِقاق، وفي مائة وستين: أربع بنات لبون، وفي مائة وسبعين: حقة وثلاث بنات لبون، وهكذا، فإذا بلغت مائتين: خُيِّر بين أربع حقاق، وخمس بنات لبون
(2)
،
(2)
مسألة: مقدار النصاب في زكاة الإبل كما يلي: أولًا: إذا كانت الإبل أربعًا فقط: فلا زكاة فيها، ثانيًا: إذا كانت خمسًا: ففيها شاة واحدة تناسب الإبل في الصحة وعدمها، ولا يُجزئ إخراج بقرة أو بعير، أو نصف شاة، والنصف الآخر من أخرى عن ذلك، ثالثًا: إذا كانت عشرًا: ففيها شاتان، رابعًا: إذا كانت خمس عشرة: فيها ثلاث شياه، خامسًا: إذا كانت عشرين: ففيها أربع شياه، سادسًا: إذا كانت خمسًا وعشرين: ففيها بنت مُخاض، وهي الناقة التي بلغت سنة من عمرها، وهي التي تكون أمُّها ماخضًا أي: حامل في العادة، وتجب وإن لم تحمل أمَّها، سابعًا: إذا كانت ستًا وثلاثين: ففيها بنت لبون، وهي: الناقة التي لها سنتان، وهي التي تكون أمها ذات لبن في العادة، وتجب وإن لم تكن أمُّها ذات لبن، ثامنًا: إذا كانت ستًا وأربعين: ففيها حِقَّة، وهي الناقة التي لها ثلاث سنوات، وهي: التي استحقَّت أن يُحمل عليها، وأن يطرقها =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الفحل، تاسعًا: إذا كانت إحدى وستين: ففيها جَذَعَة وهي: الناقة التي تمَّ لها أربع سنوات، وهي الكاملة في الحسن واللَّبن والنَّسل والقوة، وهذه آخر سن تجب فيها الزكاة، وهي لا ينبت لها سن جديد - كما في اللسان (8/ 43) - عاشرًا: إذا كانت ستًا وسبعين ففيها بنتا لبون، حادي عشر: إذا كانت مائة وعشرين: ففيها حقَّتان، ثاني عشر: إذا كانت مائة وإحدى وعشرين: ففيها ثلاث بنات لبون، ثالث عشر: بعد ذلك يكون في كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة، رابع عشر: كلما زادت الإبل عشر بعد ذلك: تغيَّرت الفريضة: ففي مائة وثلاثين حقة وبنتا لبون، وفي مائة وأربعين: حقتان وبنت لبون، وفي مائة وخمسين: ثلاث حقاق، وفي مائة وستين: أربع بنات لبون، وفي مائة وسبعين حقة وثلاث بنات لبون، وفي مائة وثمانين: حقتان وبنتا لبون، وفي مائة وتسعين: ثلاث حقاق، وبنت لبون، وفي المائتين يخيَّر المالك بين أن يُخرج عنها: خمس بنات لبون، أو أربع حقاق؛ لأن في كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة - كما سبق -؛ للإجماع حيث أجمع العلماء على هذه المقادير، ومستنده السنة القولية؛ وهو حديث الصدقات الذي كتبه النبي صلى الله عليه وسلم وكان عند آل عمر بن الخطاب، وكذا: كتاب أبي بكر الصديق إلى أنس - لما وجهه إلى البحرين - قائلًا: "بسم الله، هذه فريضة الصدقة .. " إلى قوله: "في أربع وعشرين فما دونها من الإبل في كل خمس شاة" إلى قوله: "وفي كل خمسين حقة، ومن لم يكن معه إلا أربع من الإبل فليس عليه صدقة"، فإن قلتَ: لمَ بُدئ ببيان زكاة الإبل؟ قلتُ: لكونها أعظم النعم قيمة؛ وأجسامًا، وأكثر أموال العرب نفعًا وهذا معلوم، فإن قلتَ: لمَ لا يجب شيء في الأربع من الإبل فما دونها؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية للمالك؛ لأن هذا العدد لا يحتمل المواساة، فإن قلتَ: لمَ أوجب في كل خمس من الإبل شاة إلى بلوغها خمسًا =
ومن وجبت عليه بنت لبون مثلًا، وعُدمها، أو كانت معيبة، فله أن يعدل إلى بنت مخاض، ويدفع جبرانًا، أو إلى حقِّة ويأخذه، وهو: شاتان، أو عشرون درهمًا، ويُجزئ شاة وعشرة دراهم
(3)
، ويتعيَّن على ولي محجور عليه إخراج أدون
وعشرين؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إنه لو أوجب واحدًا من الإبل لتضرر المالك ولما احتمل المواساة، ولو لم يوجب شيئًا فيها لتضرَّر الفقير، فجمعًا بين المصلحتين: أوجب شاة، فإن قلتَ: لمَ "الوقص" - وهو: ما بين الخمس والعشرين إلى الست، والثلاثين، وما بين الست والثلاثين إلى الست والأربعين وهكذا لم يُوجب الشارع فيه زكاة مع أن الزيادة القليلة في الذهب والفضة والثمار والزروع تجب فيها الزكاة قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن العَشْر من الإبل تحتاج إلى مؤنة كثيرة فلو وجبت الزكاة فيها لتضرَّر المالك، بخلاف الذهب والفضة والثمار والحبوب فلا مؤنة فيها غالبًا فوجبت الزكاة فيما زاد على النصاب وإن قلَّ، فإن قلتَ: لمَ بُدئ بإخراج الإناث كبنت مُخاض، وبنت لبون، وحقَّة، وَجَذَعَة دون الذكور؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن الإناث أنفع للفقير، بسبب جلبها للذكور فيتسبَّب ذلك في كثرة مال الفقراء، ومن ثمَّ انتقالهم من مرتبة الفقر إلى الغنى، وهو المقصد منه.
(3)
مسألة: إذا لم يُوجد عند المالك الشيء الذي استحقَّ بالزكاة: فإنه يأخذ ما هو أدون منه، أو أعلى منه، ويجبر الناقص أو الزائد من المالك، أو ساعي الزكاة؛ فمثلًا: إذا وجبت عليك بنت لبون، كزكاة لما عندك، ولم توجد هذه عندك، أو وُجدت ولكنها معيبة: فإنك تُخرج عنها بنت مُخاض، وتدفع إلى ساعي الزكاة ما يُقابل الفرق وهو: شاة أو شاتان، أو دراهم على حسب سعر البهائم في العصر الذي أُخذت فيه الزكاة، وإذا لم يكن عندك بنت لبون ولا بنت مُخاض: فلك أن تدفع حقَّة، ويأخذها ساعي الزكاة، ويدفع لك الفرق، فتأخذ =
مُجزئ
(4)
، ولا دخل لجبران في غير الإبل
(5)
فصل: في زكاة البقر، وهي: مُشتقة من "بقرت الشيء": إذا شققته؛ لأنها تبقر الأرض بالحراثة (ويجب في ثلاثين من البقر) أهلية كانت أو وحشية (تبيع أو تبيعة) لكل منهما سنة، ولا شيء فيما دون الثلاثين؛ لحديث معاذ حين بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن (و) يجب (في أربعين: مُسنَّة) لها سنتان ولا يجزئ مسن ولا تبيعان (ثم) يجب (في كل ثلاثين تبيع وفي كل أربعين مُسنَّة) فإذا بلغت ما يتفق فيه الفرضان كمائة وعشرين: خُيِّر؛ لحديث معاذ، رواه
منه شاة أو شاتين، أو دراهم عن الزائد وهكذا يُقال في الجَذَعَة ونحو ذلك؛ للسنة القولية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد أمر بذلك، وبيَّنه في حديث الصدقات، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه توسعة على المالك، وعلى ساعي الزكاة، تنبيه: عند فعل ذلك يُنظر إلى سعر السوق في العصر الذي فيه أخذ الزكاة، لذلك نجد الرسول صلى الله عليه وسلم عبَّر بسعر السوق في عصره، وكانت الشاة بعشرة دراهم في ذلك الزمن.
(4)
مسألة: يجب على ولي المحجور عليه - كصبي، ومجنون وسفيه - أن يخرج الزكاة من مال المحجور عليه، ويكون أدون شيء في ماله بشرط: أن يكون هذا المخرج مُجزئًا؛ للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه مُراعاة لحال المحجور عليه؛ دفعًا للضرر عنه.
(5)
مسألة: الجبران، أو دفع الفرق - من شياه أو دراهم السابق ذكره في مسألة. (3) - يُفعل في الإبل فقط، ولا يُفعل في البقر والغنم؛ للتلازم؛ حيث يلزم من ورود النَّص على الجبران في الإبل الاقتصار عليه فيها فقط، وغيرها من البقر والغنم ليست في معنى الإبل؛ لوجود التفاوت بين الإبل وغيرها في السن والعِظَم، والثَّمن.
أحمد
(6)
(ويُجزئ الذكر هنا) وهو التبيع في الثلاثين من البقر؛ لورود النَّص به (و) يُجزئ (ابن لبون) وحقٌّ، وجَذَعٌ (مكان بنت مخاض) عند عدمها (و) يجزئ الذكر (إذا كان النصاب كله ذكورًا): سواء كان من إبل أو بقر، أو غنم؛ لأن الزكاة مواساة، فلا يُكلَّفها من غير ماله
(7)
فصل: في زكاة الغنم (ويجب في أربعين من
(6)
مسألة: مقدار النصاب في زكاة البقر كما يلي: أولًا: إذا كانت تسعًا وعشرين رأسًا: فلا زكاة فيها، ثانيًا: إذا كانت ثلاثين رأسًا: ففيها تبيع أو تبيعة، وهي التي لها سنة واحدة، ثالثًا: إذا كانت أربعين رأسًا: ففيها مُسنَّة، وهي التي لها سنتان، رابعًا: إذا زادت عن ذلك: فإن الحساب يستقرُّ على أن يكون في كل ثلاثين تبيع أو تبيعة، وفي كل أربعين مُسنَّة، فعلى هذا: يكون في خمسين منها: مُسنَّة، وفي ستين: تبيعان، أو تبيعتان، وفي سبعين: تبيع ومُسنَّة، وفي ثمانين: مُسنَّتان، وفي تسعين: ثلاث تبيعات، وفي مائة: تبيعان ومُسنَّة، خامسًا: إذا كانت مائة وعشرين: خُيِّر المالك بين أربع تبيعات، أو ثلاث مُسنَّات؛ للسنة القولية؛ حيث قال معاذ:"أمرني رسول الله - لما بعثني إلى اليمن - بأن آخذ من كل ثلاثين من البقر تبيعًا أو تبيعة، ومن كل أربعين مُسنَّة"، فإن قلتَ: لمَ لا تجب الزكاة فيما دون الثلاثين من البقر؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن البقر تحتاج إلى الكثير من المؤنة، فلو وجبت الزكاة في ذلك العدد للحق المالك ضرر؛ لاجتماع مؤنتها وزكاتها عليه، فإن قلتَ: لم سُمِّي ذلك بالبقر؟ قلتُ: لأنها تبقر وتشقُّ الأرض عند الحرث بها، فسُمِّيت بعملها.
(7)
مسألة: يجزئ إخراج الذكور من الإبل، فيُخرج ابن مُخاض، وابن لبون، وحقًّا، وجَذَع عن بنت مخاض، وبنت لبون، وحقة، وجذعة عند عدم وجودها، ويجزئ إخراج الذكر إذا كان المالك لا يملك إلا ذكورًا: سواء كان ذلك من الإبل، أو الغنم؛ للمصلحة؛ حيث إن الزكاة مواساة للفقير، وعدم =
الغنم) ضأنًا كانت أو معز، أهلية أو وحشية (شاة): جذع ضأن، أو ثني معز، ولا شيء فيما دون الأربعين (وفي مائة وإحدى وعشرين شاتان) إجماعًا (وفي مائتين وواحدة ثلاث شياه ثم) تستقرُّ الفريضة (في كل مائة شاة): ففي خمسمائة: خمس شياه، وفي ستمائة ست شياه، وهكذا
(8)
، ولا تُؤخذ هرمة، ولا معيبة لا يُضحَّى
إضرار بالغني، فإخراج ذكر مع وجود الأنثى إضرار في حق الفقير؛ لأن الأنثى أنفع للفقير، وتكليف الغني بأن يخرج أنثى في حين أنه لا يملك إلا ذكورًا فيها إلحاق الضرر به، فدفعًا للضررين: شُرع هذا، تنبيه: قوله: "ويُجزئ الذكر هنا وهو: التبيع .. " لا داعي له؛ لورود إجزائه في النَّص، فلا يحتاج إلى ذكره، بخلاف الذكر من الإبل والغنم فُيحتاج إلى ذكره؛ لورود النص بالأنثى، فاحتاج إلى التنبيه عليه، فإن قلتَ: لمَ جاز إخراج ماله سنة من الإبل - وهو: بنت مخاض - ومن البقر - وهو: التبيع والتبيعة؟ قلتُ: لأنه إذا بلغ هذا السنَّ استقلَّ بنفسه؛ لقدرته على الدفاع عن نفسه من صغار السباع، ورعيه للشجر ووروده للمياه، دون مُساعدة، أحد بخلاف ما هو دون السنة.
(8)
مسألة: مقدار النصاب في زكاة الغنم كما يلي: أولًا: إذا كانت تسعًا وثلاثين رأسًا: فلا زكاة فيها، ثانيًا: إذا كانت أربعين رأسًا: ففيها شاة واحدة، ثالثًا: إذا كانت مائة وإحدى وعشرين: ففيها شاتان، رابعًا: إذا كانت مائتين وواحدة: ففيها ثلاث شياه، خامسًا: إذا زادت عن ذلك: ففي كل مائة شاة واحدة، وتستقر الفريضة على ذلك، وعليه: يُخرج عن ثلاثمائة: ثلاث شياه، وعن أربعمائة: أربع شياه وهكذا؛ للسنة القولية؛ حيث ورد ذلك في كتاب الصدقات الذي عمل به أبو بكر وعمر رضي الله عنهم وغيرهما وهو كتاب كتبه النبي صلى الله عليه وسلم وفيه "وفي الغنم من أربعين إلى عشرين ومائة: شاة .. " فإن قلتَ: لمَ لا تجب الزكاة فيما دون الأربعين؟ قلتُ: للمصلحة؛ وقد بينَّاها في المقصد من عدم =
بها
(9)
إلا إن كان الكل كذلك
(10)
ولا حامل، ولا الرُّبى التي تُربِّي ولدها، ولا طروقة الفحل، ولا كريمة، ولا أكولة، إلا أن يشاء ربها، وتؤخذ مريضة من مراض
(11)
،
وجوب الزكاة فيما دون خمس من الإبل، وفيما دون الثلاثين من البقر في مسألتي (2 و 6).
(9)
مسألة: لا يجوز لساعي الزكاة وجامعها: أن يأخذ بهيمة معيبة بهرم أو مرض أو نحو ذلك مما لا يُجزئ في الأضحية؛ للسنة القولية؛ حيث ورد في الحديث الذي رواه أبو بكر رضي الله عنه: "ولا يُخرج في الصدقة هرمة، ولا ذات عوار، ولا تيس إلا أن يشاء المصدِّق" حيث حرَّم الشارع إخراج المعيبة في ذلك؛ لأن النهي هنا مطلق فيقتضي التحريم، فإن قلتَ: لمَ حُرِّم ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه دفع الضرر عن الفقراء والمستحقين للزكاة، فإن قلتَ: لمَ أذن للمصدِّق - وهو ساعي الزكاة - بأن يأخذ ما شاء؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إنه يأخذ ما فيه مصلحة للفقير، ولا يضر الغني.
(10)
مسألة: إذا كانت كل بهائم المالك معيبة كأن تكون مريضة: فيجوز إخراج معيبة منها زكاة عنها؛ للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه مُراعاة للمالك؛ لأن تكليفه إخراج صحيحة زكاة عن بهائم معيبة يلحق الضرر به، فدفعًا لذلك: جاز إخراج المعيبة هنا.
(11)
مسألة: لا تُؤخذ في الزكاة الحامل من البهائم، ولا التي تربي ولدها بلبنها، ولا التي طرقها الفحل، ولا الكريمة النفيسة، ولا الأكولة، إلا إذ أذن المالك في أخذ تلك الخمس؛ للمصلحة؛ حيث إن تلك الخمس لو أُخذت زكاة لتضرَّر المالك؛ لظهور منافعها له، لكن لو أذن بأخذها: فتؤخذ؛ لأن المالك أسقط حقَّه، تنبيه: قوله: "وتؤخذ مريضة من مراض" قلت: هذا مكرر مع قوله: "إلا إن كان الكل كذلك" وقد سبق في مسألة (10).
وصغيرة من صغار غنم
(12)
، لا إبل وبقر: فلا يُجزئ فصلان وعجاجيل
(13)
، وإذا
(12)
مسألة: يجوز أن يُخرج الصغيرة من الغنم كزكاة إذا كانت كلها صغيرة: بأن كانت لم تستكمل ستة أشهر في الضأن، أو لم تُكمل السنة في المعز، ولا يُكلِّف المالك بأن يُخرج كبيرة زكاة عن صغار؛ لقول الصحابي؛ حيث قال أبو بكر- رضي الله عنه:"لو منعوني عناقًا كانوا يؤدُّونه لرسول الله لقاتلتهم عليه" - قال ذلك في بعض القبائل الذين منعوا الزكاة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وهذا يدل على جواز إخراج الصغيرة من الغنم عن الصغار؛ لأن "العناق" هي الأنثى من ولد المعز الذي لم يتم له سنة، فإن قلتَ: لمَ جاز ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه منع الضرر عن المالك؛ لأن تكليفه بإخراج كبيرة عن صغار يلحق الضرر به؛ لكونها غالية الثمن.
(13)
مسألة: يجوز أن يُخرج الصغيرة من الإبل والبقر كزكاة إذا كانت كلها صغيرة بأن كانت كلها فصلان وعجاجيل؛ للقياس، بيانه: كما يجوز ذلك في الغنم - كما سبق في مسألة (12) - فكذلك يجوز في الإبل والبقر الصغيرة، والجامع: دفع الضَّرر عن المالك في كل، وهذا هو المقصد منه، فإن قلتَ: لا يجزئ ذلك، بل يشتري بنت مخاض فيخرجها عن صغار الإبل، ويشتري تبيعًا أو تبيعة فيُخرجها عن صغار البقر - وهو ما ذكره المصنف هنا -؛ للتلازم؛ حيث يلزم من عدم ورود ذلك: عدم إجزاء إخراج الصغيرة، وليست الإبل والبقر كالغنم؟ قلتُ: لا فرق بين البهائم في ذلك، وعدم وروده بنص لا يعني عدم مشروعيته بقياس الإبل والبقر على الغنم؛ لعدم الفارق في دفع الضرر عن المالك فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "هل العلة في إخراج الصغيرة من الغنم عن صغيرات قاصرة أو متعدية؟ " فعندنا: متعدية إلى الإبل والبقر وعندهم: قاصرة على الغنم فقط، ولا يقاس عليها غيرها.
اجتمع صغار وكبار، وصحاح ومعيبات، وذكور وإناث: أخذت أنثى صحيحة كبيرة على قدر قيمة المالين
(14)
، وإن كان النصاب نوعين: كبخاتي وعراب، وبقر، وجواميس، وضأن ومعز: أخذت الفريضة من أحدهما على قدر قيمة المالين
(15)
(14)
مسألة: إذا اجتمع عندك أربعون من الغنم مثلًا، فيها الصحاح والمعيبات، وفيها الكبار والصغار، وفيها الذكور والإناث فيجب أن تخرج أنثى صحيحة كبيرة بشرط: أن تكون المخرجة على قدر قيمة المالين: الصغار والكبار والصحاح والمعيبات، والذكور والإناث: فتقوِّم الصحيحة بمائة ريال - مثلًا -، وتقوَّم المعيبة بخمسين ريالًا، فتأخذ بنصف القيمتين، وهو هنا: نصف المائة: خمسون، ونصف الخمسين: خمس وعشرون، فيُجمع النصفان، فيكون مجموعهما: خمسة وسبعون، فتخرج شاة قيمتها خمسة وسبعون ريالًا، وكذلك يفعل بالكبيرة مع الصغيرة، والذكر مع الأنثى ويفعل في الإبل والبقر كذلك؛ للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية للمالك وللفقير من الضرر؛ إذ لو أخذنا الصحيحة الكبيرة الأنثى مطلقًا لتضرَّر المالك، ولو أخذنا المعيبة الصغيرة وأُعطيت للفقير لتضرر، فدفعًا لذلك أخذنا بمتوسط الثمنين؛ حفاظًا على حقوق الطرفين.
(15)
مسألة: إذا اجتمع عندك أنواع من الإبل كالبخاتي والعراب، وأنواع من البقر: كالجواميس والبقر العادي، وأنواع من الغنم: كالضأن والمعز: فإنك تخرج الزكاة من أحد النوعين، وتبرأ ذمتك بشرط: أن يكون المخرج على قدر قيمة المالين، فمثلًا: تقوِّم الناقة، من البخاتي بألفين، وتقوِّم الناقة من العراب بألف، فتأخذ نصف القيمتين، وهو نصف الألفين، وهو: ألف، ونصف الألف وهو خمسمائة، فتجمع النصفين، فيكون ألفًا وخمسمائة، فتخرج للزكاة ناقة تساوي ألفًا وخمسمائة، وكذا يُفعل بالبقر والجواميس، والضأن والمعز؛ للمصلحة؛ وقد بيناها في مسألة (14). [فرع]: يجوز إخراج قيمة المزكَّى به: =
(والخُلْطة) بضم الخاء، أي: الشركة، (تُصيِّر المالين) المختلطين (كـ) المال (الواحد) إن كان نصابًا من ماشية، والخليطان من أهل وجوبها: سواء كانت خلطة أعيان بكونه مُشاعًا: بأن يكون لكل نصف أو نحوه، أو خلطة أوصاف: بأن تُميَّز ما لكل، واشتركا في "مُرَاح" - بضم الميم -، وهو: المبيت و"المأوى" و"مسرح"، وهو: ما اجتمع فيه لتذهب للمرعى، و"محلب" وهو: موضع الحلب و"فحل": بأن لا يختص بطرق أحد المالين، و"مرعى" وهو موضع الرعي ووقته، لقوله صلى الله عليه وسلم:"لا يُجمع بين مفترق، ولا يُفرَّق بين مجتمع؛ خشية الصدقة، وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية" رواه الترمذي وغيره، فلو كان لإنسان شاة، ولآخر تسعة وثلاثون، أو لأربعين رجلًا أربعون شاة، لكل واحد شاة، واشتركا حولًا تامًا: فعليهم شاة على حسب ملكهم، وإذا كان لثلاثة مائة وعشرون شاة لكل واحد أربعون، ولم يثبت لأحدهم حكم الانفراد في شيء من الحول: فعلى الجميع شاة أثلاثًا، ولا أثر لخلطة من ليس من أهل الزكاة، ولا فيما دون نصاب، ولا لخلطة مغصوب
(16)
،
سواء كان في البهائم أو الحبوب أو الثمار، أو الذهب أو الفضة، فمثلًا يجوز إعطاء الفقراء الخمسة والسبعين ريالًا في مسألة (14)، وكذا إعطاؤهم الألف والخمسمائة ريالًا في مسألة (15)، وكذا: لو وجبت شاة على شخص فيجوز أن يُخرج قيمة شاة متوسطة، ويعطيها الفقير، وكذا: يُقدِّر ثمن زكاة الثمار والحبوب ويُعطي هذا الثمن الفقير؛ للمصلحة؛ حيث إن ذلك أنفع للفقير، وأيسر على المالك غالبًا.
(16)
مسألة: الخُلْطة في بهيمة الأنعام تجعل مال الشركاء كأنه مال واحد يملكه فرد واحد: تجب فيه الزكاة: إذا بلغت النصاب، وحال عليها الحول، وهي سائمة وكان الشركاء من أهل الزكاة غير غاصبين لشيء منها؛ للسنة القولية، حيث قال صلى الله عليه وسلم: "ولا يُجمع بين متفرِّق، ولا يُفرَّق بين مجتمع في الصدقة، وما كان =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية" فأوجب الشارع الزكاة في الخلطة بين الشركاء؛ لأن النهي مطلق فيقتضي التحريم، وترك الحرام واجب هذا إذا اجتمعت شروط الزكاة، وكل واحد يتحمل نصيبه من ذلك، فلو اشترك أربعة في ملك أربعين من الغنم: ففيها شاة واحدة تُعطى الفقير، وكل واحد من الشركاء يتحمَّل رُبُعَها من رأس المال وهكذا، وهذا عام لخلطة الأعيان، ولخلطة الأوصاف؛ لأن لفظ "مجتمع" الوارد في الحديث نكرة في سياق نفي، وهو من صيغ العموم، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: لأن المالين المختلطين مال واحد في المؤنة والكلفة، فإن قلتَ: لمَ لا زكاة على مال يكون أحد الشريكين فيه غاصبًا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن هذا فيه منع لتصرُّف الغاصب في المغصوب، [فرع] الفرق بين خلطة الأعيان، وخلطة الأوصاف؟ هو أن خلطة الأعيان هي أن يشترك اثنان فأكثر في ملك عدد من البهائم ويكون لكل واحد من الشركاء ثلثها أو ربعها، ويكون نصيب كل واحد منهم مشاعًا بينهم، أما خلطة الأوصاف فهي: أن يشترك اثنان فأكثر في ملك عدد من البهائم لكل واحد منهم عدد معيَّن تتميز عن حق الآخر، فتكون لفلان: عشر منها، وللآخر عشرون، وهكذا بشرط: أن تشترك هذه البهائم في أمور خمسة هي: "المراح" بأن تنام تلك البهائم في مكان واحد، "المسرح" بأن تسلك طريقًا واحدًا للذهاب إلى المرعى، "المحلب" بأن تحلب في موضع واحد، "الفحل" بأن يكون الفحل لهذه البهائم واحد، "المرعى" بأن ترعى في موضع واحد ووقت واحد؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "والخليطان ما اجتمعا في الحوض، والراعي والفحل" والمسرح، والمحلب كذلك؛ لعدم الفارق من باب "مفهوم الموافقة". [فرع آخر]: يُحرَّم إن يجمع أشخاص البهائم التي عند كل واحد منهم؛ =
وإذا كانت سائمة الرَّجل متفرقة فوق مسافة قصر: فلكلٍ محلُّ حكمه
(17)
، ولا أثر
للتخلُّص من كثرة الزكاة، ولا يفرق شخص ما عنده لأجل التخلص منها فمثلًا: لو ملك ثلاثة: مائة وعشرين شاة، كل واحد يملك أربعين شاة، فتجب على كل واحد منهم شاة، فيُعطى الفقراء ثلاث شياه، ولكن لو جمع هؤلاء الثلاثة ما عندهم جميعًا فترة من الزمن: لكانت مائة وعشرين شاة: وأخرجوا شاة واحدة عليها؛ بناء على أن كل في مائة شاة واحدة، فإن هذا محرَّم، وكذلك: لو كان عند واحد أربعون شاة ففرقها بينه وبين آخر؛ للتخلص من زكاتها: فهذا محرم؛ للسنة القولية؛ حث قال صلى الله عليه وسلم: "لا يُجمع بين مُتفرِّق، ولا يُفرَّق بين مجتمع؛ خشية الصدقة"، حيث إن النهي هنا مطلق فيقتضي التحريم، فإن قلتَ: لمَ حُرِّم ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه منع الحيل لسلب حقوق الفقراء بغير حق.
(17)
مسألة: إذا ملك مسلم أربعين شاة، وهي متفرِّقة في بلدان عديدة يبعد كل بلد عن الآخر مسافة قصر (وهي 82 كم) أو أقل أو أكثر: بأن كان يملك عشرين منها في مكة، وعشر في المدينة، وعشر في الرياض مثلًا: فإنه يضم بعضها إلى بعض، ويُخرج زكاتها، وهي: شاة واحدة، وكذا يُقال في الإبل والبقر؛ لقاعدتين: الأولى: التلازم؛ حيث يلزم من عموم أدلة وجوب الزكاة: أنها تُخرج من الأموال المجتمعة والمتفرِّقة إذا توفرت شروطها، الثانية: القياس، بيانه: كما أن تفرقة المال بين البلدان في غير البهائم لا يُؤثِّر، ويُضم بعضه إلى بعض، ويُخرج زكاة الجميع، فكذلك في البهائم، والجامع: أن كلًا منها يُعتبر مالًا قد تعلَّقت زكاته بذمته، وللنظر إلى جانب الفقير، وهو المقصد من هذا الحكم، فإن قلتَ: إذا تفرَّقت تلك الأغنام في بلدان يبعد كل واحد عن =
للخلطة ولا للتفريق في غير ماشية، ويُحرَّمان؛ فرارًا؛ لما تقدم
(18)
.
الآخر مسافة قصر: فلا زكاة فيها إذا لم تبلغ النصاب في البلد الواحد، - وهذا ما ذكره المصنف هنا - قلتُ: لم أجد دليلًا على ذلك.
(18)
مسألة: الخُلْطة وهو: الجمع والتفرقة لا يُؤثِّر في جميع الأموال التي يُزكى عليها من نقود وأثمان، وعروض تجارة، وحبوب وثمار - غير البهائم كما سبق في مسألة (16) - فمثلًا: لو اشترك اثنان في شركة، ودفع كل واحد منهما عشرة آلاف، واشتريا ثيابًا؛ لبيعها: فإن كل واحد مسؤول عن حصَّته من الرِّبح إذا بلغ نصابًا وحال الحول على ذلك: فيُخرج زكاة ذلك دون تعلّق أحدهما بالآخر؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم في البهائم: "لا يجمع بين مُتفرِّق، ولا يُفرَّق بين مجتمع" ولم يذكر هذا في غير البهائم، فيلزم: أن الخلطة والتفريق خاصَّان بالبهائم، ولا يتعدِّى ذلك إلى غير البهائم من الأموال الزكوية تنبيه: قوله: "ويحرمان لما تقدم" قلت: قد سبق ذلك في الفرع الثاني من مسألة (16).
هذه آخر مسائل باب "زكاة بهيمة الأنعام" ويليه باب "زكاة الحبوب والثمار"
باب زكاة الحبوب والثمار
قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} والزكاة تُسمَّى "نفقة"(تجب) الزكاة (في الحبوب كلها) كالحنطة والشعير والأرز، والدَّخن، والباقلاء، والعدس، والحمَّص، وسائر الحبوب (ولو لم تكن قوتًا) كحب الرشاد والفجل والقرطم، والأبازير كلها كالكسفرة، والكمون، وبزر الكتان، والقثاء، والخيار؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم:"فيما سقت السماء والعيون العشر" رواه البخاري (وفي كل ثمر يُكال ويُدَّخر)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة" فدلَّ على اعتبار التوسيق، وما لا يُدَّخر: لا تكمل فيه النعمة؛ لعدم النفع به مآلًا (كثمر وزبيب) ولوز وفستق وبندق، ولا تجب في سائر الثمار، ولا في الخضر والبقول، والزهور ونحوها، غير صعتر، وأشنان، وسماق، وورق شجر يُقصد كسدر وخطمي، وآس فتجب فيها، لأنها مكيلة مُدَّخرة
(1)
(ويُعتبر)
باب زكاة الحبوب والثمار وما أخرج من الأرض كالمعدن والركاز
وفيه خمس وعشرون مسألة:
(1)
مسألة: تجب الزكاة في جميع الحبوب والثمار بشرطين: أولهما: أن تكون مكيلة أو موزونة، ثانيهما: أن يكون قابلًا للادِّخار؛ للانتفاع به في المستقبل، وهذا يشمل التمر، والزيتون، واللوز، والفستق، والبندق، والبر، والحنطة، والشعير، والأرز، والذرة، والبقول، والعدس، والحمُّص، والماش، واللُّوبيا، والسعتر، والأشنان، والسماق، وورق السدر المستفاد منه، وحب الرشاد، والبهارات، والحبة السوداء، ونحو ذلك مما يخرج من الأرض وينتج من الأشجار من الحبوب والثمار أما ما لم يتوفر فيه هذان الشرطان فلا زكاة فيه كالزهور، والخضراوات والفواكه، والورود ونحو ذلك؛ لقاعدتين: الأولى: الكتاب، حيث =
لوجوب الزكاة في جميع ذلك: (بلوغ نصاب قدره) بعد تصفية حب من قشره، وجفاف غيره: خمسة أوسق؛ لحديث أبي سعيد الخدري يرفعه: "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة" رواه الجماعة و"الوسْق": ستون صاعًا وتقدَّم: أنه خمسة أرطال وثلث عراقي، فهي (ألف وستمائة رطل عراقي) وألف وأربعمائة وثمانية
قال تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} والحقُّ: هو الزكاة المفروضة - كما قال ابن عباس - وقال تعالى: {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} والزكاة: تسمَّى نفقة بدليل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} والمراد: ولا يخرجون زكاتها، ففي هاتين الآيتين أوجب إخراج الزكاة في جميع الحبوب والثمار؛ لأن الأمر في قوله:"وآتوا" و"أنفقوا" مطلق، فيقتضي الوجوب، الثانية: السنة القولية وهي من وجهين: أولهما: قوله صلى الله عليه وسلم: "فيما سقت السماء والعيون العشر، وفيما سُقي بالسانية نصف العشر" وهو عام للزروع، والثمار، والحبوب، ثانيهما: قوله: "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة" حيث دلَّ على أن الزكاة تجب فيما يُوسق من الثمار والحبوب، وهو الذي يُقدَّر بالكيل ويُدَّخر، دون ما لا يُدَّخر منها: كالخضراوات والفواكه، ويُكال - كما قال الخطَّابي في "معالم السنن"، فإن قلتَ: لمَ اشتُرط الأول؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ما يزكى يُقدَّر بذلك الكيل أو الوزن، لأن مالا يُقدَّر يصعب تقديره، فإن قلتَ: لمَ اشترط الثاني؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن مالا يُدَّخر لا تكتمل ماليته، ولا تظهر نعمته؛ لعدم التمكُّن من الانتفاع به في المستقبل، فائدة:"الصعتر" أو السعتر: نبات طيب الرائحة؛ و"الأشنان": نبات حمضي يُؤخذ ويُغسل به الثياب وهو: كالصابون في زماننا هذا، و"السَّماق": نبات شديد الحموضة يؤكل، والمراد بورق الشجر: الذي يُؤخذ ويُقصد منه الادخار للانتفاع به في المستقبل كورق السدر، والخمط والآس.
وعشرون رطلًا، وأربعة أسباع رطل، مصري، وثلاثمائة واثنان وأربعون رطلًا وستة أسباع رطل دمشقي، ومائتان وسبعة وخمسون رطلًا وسُبُع رطل قُدْسي، و"الوسْق" و"المدُّ" و"الصاع" مكاييل نُقلت إلى الوزن؛ لتحفظ، وتُنقل، وتُعتبر بالبر الرَّزين، فمن اتخذ مكيلًا يسع صاعًا منه: عُرِف به ما بلغ حدَّ الوجوب من غيره
(2)
(2)
مسألة: مقدار النصاب الذي تجب فيه الزكاة في الحبوب والثمار هو: خمسة أوسق، و"الوِسْق" ستون صاعًا، فتكون الخمسة الأوسق:"ثلاثمائة صاعًا"، و"الصاع": بالوزن: خمسة أرطال وثلث بالعراقي، فتكون الثلاثمائة صاعًا: ألفًا وستمائة رطل عراقي، وهذا يُعادل في أيامنا هذه:"ستمائة وثلاثة وخمسين كيلو جرام"، فمن ملك "300 صاعًا" أو "653 كجم" فأكثر: فإن الزكاة تجب عليه فيها، ويُخرج عشرها، أو نصفه - كما سيأتي بيانه ولا يُشترط حولان الحول عليه - أما إن ملك أقلَّ من ذلك: فلا زكاة عليه؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة" حيث دلَّ مفهوم العدد على وجوب الزكاة إذا بلغت خمسة أوسق، فإن قلتَ: لمَ شُرِع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن باب الزكاة مبني على مراعاة المالك والفقير معًا، فلو وجبت الزكاة فيما هو دون ذلك المقدار: لتضرَّر المالك؛ لكون الأقل من ذلك لا يتحمَّل أن يؤخذ منه شيء، فإن قلتَ: لمَ لا يُشترط تمام الحول هنا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إنه يكمل نماؤه بحصاده وجذِّ ثمره، وجنيه، وهذا أصلح للفقير، فلو أُجِّل عن ذلك لفسد، فإن قلتَ: لمَ نُقلت المكاييل - وهو الوسق، والمد، والصاع - إلى الوزن وقُدِّرت به؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن الوزن كثيرًا ما يكون أضبط، وأحفظ، وأمنع للنزاعات، والمكيلات تختلف بالوزن: فمنها الثقيل، كالتمر، ومنها الخفيف كالذرة والشعير، ومنها المتوسط كالبر الجيد؛ فإن قلتَ: لا يُشترط النصاب في الحبوب، والثمار، ولذا تجب الزكاة في قليله وكثيره، وهو قول مجاهد، وأبي حنيفة وبعض العلماء؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "فيما سقت =
(وتُضمُّ) أنواع الجنس من (ثمرة العام الواحد) وزرعه (بعضها إلى بعض) ولو مما يحمل في السنة حملين (في تكميل النصاب)؛ لعموم الخبر، وكما لو بدا صلاح إحداهما قبل الأخرى: سواء اتفق وقت إطلاعها، وإدراكها، أو اختلف تعدُّد البلد أو لا (لا جنس إلى آخر) فلا يُضمُّ برٌّ لشعير، ولا تمر لزبيب في تكميل نصاب كالمواشي
(3)
(ويُعتبر) أيضًا لوجوب الزكاة فيما تقدَّم: (أن يكون النصاب مملوكًا له
السماء العشر" وهذا عام فيما بلغ النصاب، أو لم يبلغه؛ لأن "ما" موصولة وهي من صيغ العموم قلتُ: إن هذا العموم قد خصَّصته السنة القولية الأخرى وهي قوله صلى الله عليه وسلم: "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة" حيث إن مفهوم العدد هنا دلَّ على وجوب الزكاة في خمسة أوسق فأكثر وهذا من باب تخصيص المنطوق بالمفهوم فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض السنة القولية مع السنة القولية" فعندنا تخصص قوله: "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة" عموم قوله: "فيما سقت السماء العشر" وعندهم: لا يقوى على تخصيصه.
(3)
مسألة: تُضمُّ ثمرة العام الواحد بعضها إلى بعض في تكميل النصاب فمثلًا: لو كان عندك شيء من الثمار أو الحبوب، يُجنى مُبكرًا؛ وهو أقل من النصاب، وعندك ما يتأخر جنيه وهو لا يبلغ النصاب: فإنك تضمُّ بعضه إلى بعض فإن كمل النصاب - وهو (653) كجم -: أخرج زكاته، وإن لم يُكمل النصاب: فلا زكاة فيه، هذا إذا كان ذلك في عام واحد، أما ثمرة عامين: فلا تُضمُّ، وأيضًا: يُضمُّ ثمر مزرعة في بلد إلى ثمر مزرعة أخرى في بلد آخر إذا كان المالك لهما واحدًا، وأيضًا: تضمُّ الأنواع إلى بعضها: فتضمُّ البُر إلى اللِّقيمي - وهو: الجريش -، وتضمُّ تمر السكري إلى تمر الخلاص وهكذا، ولا يجوز ضمُّ جنس إلى جنس آخر: فلا تضمُّ البر إلى الشعير، ولا تضمُّ تمر إلى بر، ولا تمر إلى زبيب لتكميل النصاب؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "ليس فيما =
وقت وجوب الزكاة) وهو: بدوُّ الصلاح (فلا تجب فيما يكتسبه اللَّقَّاط، أو يأخذه بحصاده) وكذا: ما ملكه بعد بدوِّ الصلاح بشراء أو إرث أو غيره (ولا فيما يجتنيه من المباح كالبطم والزَّعْبَل) بوزن "جَعْفَر" وهو: شعير الجبل (وبزر قطونا) وحبِّ نمام (ولو نبت في أرضه)؛ لأنه لا يملكه بملك الأرض، فإن نبت بنفسه ما يزرعه الآدمي كمن سقط له حبَّ حنطة في أرضه، أو أرض مباحة: ففيه الزكاة؛ لأنه يملكه وقت الوجوب
(4)
، فصل:(يجب عشر) وهو: واحد من عشرة (فيما سُقي بلا مؤنة)
دون خمسة أوسق صدقة" وهذا عام فيما يُحصَّل عليه في عام واحد، وإن اختلف الوقت في نفس العام، الثانية: القياس بيانه: كما يجوز ضم ضأن إلى معز في تكميل النصاب، ولا يجوز ضم غنم إلى إبل في تكميل النصاب، فكذلك الحبوب والثمار مثل ذلك والجامع: أن الأنواع لا تختلف بالقيمة غالبًا فجاز الضمُّ في ذلك، وأن الأجناس تختلف بالقيمة عادة فلم يجز، وهذا في كل مال يُزكَّى، فإن قلتَ: لمَ اشتُرط العام الواحد للضمِّ؟ قلتُ: لأن العام الواحد لا يستقل بعضه عن بعضه الآخر، لعدم تغيّر القيمة بسبب ذلك عادة، بخلاف العامين لاستقلال كل عام عن الآخر بالقيمة عادة.
(4)
تجب الزكاة في كل مُدَّخر مكيل أو موزون من الحبوب والثمار بشرطين: أولهما: أن يكون بالغًا للنصاب - وهو ما يُعادل (653) كجم - وقد سبق في مسألة (2) -، ثانيهما: أن يكون مملوكًا له وقت وجوب الزكاة - وهو: وجود الصلاح في ثمر النخيل من احمرار أو اصفرار، واشتداد الحبوب وصلابتها - وسواء كان ذلك النبات بقصد منه أو لا؛ بأرضه أو أرض مباحة له، أما إن ملك ذلك بعد هذا الوقت: فلا زكاة عليه، فمثلًا: لو التقط شخص ما تساقط من التمر، أو الحبوب وبلغ نصابًا، أو ورث بعد هذا الوقت ثمارًا وحبوبًا، أو اشتراها بعده أو أخذه أجرة لحصاده، أو جمع من الزعبل، والبطم، وبزر قطونا =
كالغيث، والسيوح، والبعل الشارب بعروقه (و) يجب (نصفه) أي: نصف العشر (معها) أي: مع المؤنة كالدولاب تُديره البقر، والنواضح يستقي عليها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر- رضي الله عنهم:"وما سُقي بالنضح نصف العشر" رواه البخاري (و) يجب (ثلاثة أرباعه) أي: أرباع العشر (بهما) أي: فيما يشرب بلا مؤنة وبمؤنة نصفين، قال في "المبدع": بغير خلاف نعلمه، (فإن تفاوتا) أي: السقي بمؤنة وبغيرها (فـ) الاعتبار (بأكثرهما نفعًا) ونموًا؛ لأن اعتبار عدد السقي وما يسقى به في كل وقت يشق، فاعتبر الأكثر كالسوم (ومع الجهل) بأكثرهما نفعًا (العشر)؛ ليخرج من عهدة الواجب بيقين
(5)
، وإذا كان له حائطان: أحدهما يُسقى بمؤنة، والآخر: بغيرها ضُمَّا
نصابًا: فلا زكاة على ذلك كله؛ للتلازم؛ حيث إن ملكه لذلك وقت وجوب الزكاة يلزم منه: وجوبها عليه؛ لتعلُّقها بذمته، فلا تبرأ إلا بأدائها، ويلزم من ملكه إياها بعد وقت وجوبها: عدم وجوب الزكاة عليه: لعدم تعلُّقها بذمته فإن قلتَ: لمَ حُدِّد وقت الوجوب ببدو الصلاح واشتداد الحب؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه إسراع لاستفادة الفقراء، بدون مؤنة، فائدة:"الزَّعْبَل": وهو: شعير الجبل، و"البطم": حبة خضراء تنبت في الصحراء، وبزر قطونا: سنبلة الحشيش، وهي "الرَّبلة" عند أهل نجد.
(5)
مسألة: مقدار ما يخرج زكاة على الحبوب والثمار إذا بلغت نصابًا هو: كما يلي: أولًا: الحبوب والثمار التي أُخذت من زروع وأشجار لم يتكلّف بسقيها - أي شربت الماء بلا مؤنة كأن تشرب من الأمطار، أو نحو ذلك - فيجب أن يخرج "عشرها" زكاة لها، فمثلًا لو كان عندك (800) كجم فإنك تُقسِّمها على عشرة، وتُخرج عشرها وهو (80) كجم، ثانيًا: الحبوب والثمار التي أخذت من زروع وأشجار قد تكلَّفت بسقيها - أي: شربت من ماء قد تكلَّفت بجلبه إليها كأن تضع دوالي، أو نواضح، أو مكائن، أو كهرباء ونحو ذلك - فيجب أن تخرج "نصف عشرها" زكاة لها، فمثلًا: لو كان عندك (800) كجم فإنك =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
تقسِّمها على عشرة، وتقسم العشر إلى نصفين ويكون النصف هو الزكاة، فتخرج (40) كجم، ثالثًا: الحبوب والثمار التي أخذتها من زروع وأشجار قد سقيتها نصف المدة بمؤنة ومشقة فقط، والباقي قد شربت بلا مشقة: فيجب أن تخرج "ثلاثة أرباع عشرها" زكاة لها، فمثلًا: لو كان عندك (800) كجم فإنك تقسِّمها على عشرة، وتقسِّمِ العشر على أربعة، وتأخذ ثلاثة أرباعه زكاة، فتخرج (60) كجم، رابعًا: إذا لم تعرف هل سقيت نصف المدة، أو أكثر، أو أقل؟: فإنك تعتبر بأكثرهما نفعًا ونماءً للزرع والشجر، فإن غلب على ظنك أن ذلك كان بمؤنة: فإنك تخرج "نصف العشر"، وإن غلب على ظنك أن ذلك كان بلا مؤنة: فتخرج "العشر"، خامسًا: إن جهلت ذلك ولم يغلب على ظنك شيء: من أسباب نموه ونفعه هل هو بمؤنة أو بغير مؤنة؟ فإنك تخرج "العشر"؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال- صلى الله عليه وسلم: "فيما سقت السماء والعيون العشر، أو كان عثريًا العشر، وفيما سُقي بالنضح نصف العشر" حيث دلَّ منطوقه على ما ذكر، ودلَّ مفهوم الصفة هنا على أنه إذا سقي نصف المدة بمؤنة والباقي بلا مؤنة: فيجب عليه إخراج ثلاثة أرباع العشر؛ لكونه إذا وجدت المؤنة في نصفها: أُوجب نصف العشر، وإذا لم توجد المؤنة: أُوجب نصف النصف وهو: الربع، وإذا جمعت نصف وربع أصبح المجموع "ثلاثة أرباع"، الثانية: المصلحة؛ حيث إنه يُعتبر أكثرهما نفعًا ونماء - وهي: السقي بلا مؤنة، أو السقي بمؤنة - إذا لم تعرف المدَّة، - كما قلنا في الرابع - وذلك لمشقة معرفة ذلك وتقديره، وإذا جهلنا ذلك فيُخرج "العشر" - كما في الخامس -؛ عملًا باليقين؛ لما فيه من الاحتياط؛ لكونه هو الأصل، فإن قلتَ: لمَ اختلف المخرج من ذلك بسبب اختلاف المشقة وعدمها؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث لو شرع إخراج شيء واحد لتضرَّر المالك، لأن في ذلك جمعًا بين المؤنة والزكاة.
في النصاب، ولكل منهما حكم نفسه في سقيه بمؤنة أو غيرها
(6)
، ويُصدَّق مالك فيما سقى به
(7)
(وإذا اشتدَّ الحبُّ، وبدا صلاح التمر: وجبت الزكاة)؛ لأنه يُقصد للأكل والاقتيات كاليابس
(8)
، فلو باع الحب أو الثمرة، أو تلفا بتعدِّيه بعدُ: لم
(6)
مسألة: إذا كان عندك مزرعتان: فتضمُّ تمر هذه المزرعة لتمر المزرعة الأخرى ليُكمل النصاب - وكذا في الحبوب - ثم يُنظر: فإن كانتا تسقيان بلا مؤنة فتخرج العشر كاملًا، وإن كانتا تسقيان بمؤنة: فتُخرج نصف العشر، وإن كانت إحداهما تسقى بلا مؤنة: فتخرج العشر من تمرها وحبوبها إذا بلغ نصابًا، وكانت الأخرى تُسقى بمؤنة: فتخرج نصف العشر من تمرها وحبوبها - إذا بلغ نصابًا -؛ للسنة القولية، وهو الحديث الذي ذُكر في مسألة (5) وهو عام، الثانية: التلازم؛ حيث يلزم من كون المزرعتين ملكًا لواحد: ضمُّ ثمار وحبوب كل واحدة إلى ثمار وحبوب الأخرى، ويلزم من اختلاف السقي فيهما بمؤنة أو بغيرها: اختلاف المخرج زكاة، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن في الضم منفعة للفقير.
(7)
مسألة: إذا ادَّعى مالك قائلًا: إني سقيت تلك الزروع والأشجار، وتكلَّفتُ عليها كل المدة، أو بعضها: فإنه يُصدَّق، ولا يُطلب منه يمين ولا شهود، وتؤخذ الزكاة على حسب قوله - إما العشر، أو نصفه -؛ للقياس، بيانه: كما أنه إذا قال: "إني صليت الظهر": فإنه يُصدَّق، فكذلك الحال هنا والجامع: أن كلًا منهما حق لله يرجع إلى ذمة المسلم، وهو مؤتمن عليه، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إنه يشق إثبات ذلك بالبينة لتكراره.
(8)
مسألة: وقت إخراج زكاة الحبوب والثمار هو: حين اشتداد الحب وصلابته، وحين بدو صلاح التمر باصفرار أو احمرار ونضوجه وطيب أكله؛ للقياس، بيانه: كما أن اليابس من الحبوب والثمار تجب فيه الزكاة بالإجماع، فكذلك =
تسقط
(9)
، وإن قطعهما أو باعهما قبله: فلا زكاة إن لم يقصد الفرار منها
(10)
(ولا يستقر الوجوب إلا بجعلها في "البيدر") ونحوه وهو: موضع تشميسها وتيبيسها؛
تجب الزكاة في تلك الحال، والجامع: أن كلًا منهما قد تحقَّق فيه المقصد منه، وهو: الاقتيات، والأكل، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن هذا الوقت هو وقت انتفاع الفقراء به، بخلاف ما قبله، فلا يُنتفع به.
(9)
مسألة: إذا باع المالك الحبَّ بعد اشتداده، والتمر بعد بدو صلاحه، أو تعدَّى فأتلفهما بعدهما: فلا تسقط الزكاة، بل تكون واجبة في ذمَّته؛ للتلازم؛ حيث يلزم من دخول وقت إخراج زكاتهما: عدم سقوطها ببيعهما، أو تعدِّيه بإتلافهما، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية لحقوق الفقراء. [فرع]: إذا تلفت الحبوب، والثمار بعد وقت وجوب الزكاة فيهما - وهو اشتداد الحب وبدو الصلاح - بدون تعدٍ من المالك أو تفريط: فإن الزكاة تسقط؛ للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية لحق المالك؛ إذ هو معذور، فلو أُوجبت عليه الزكاة هنا لتضرَّر.
(10)
مسألة: إذا حصد الزرع، أو قطع الشجر قبل اشتداد الحب، وبدو الصلاح، أو باعهما قبل ذلك لغرض صحيح: فإن الزكاة تسقط بشرط: أن لا يقصد المالك بذلك الفعل الفرار من الزكاة، أما إن قصد بفعله ذلك: الفرار منها: فتجب الزكاة عليه؛ للتلازم؛ حيث يلزم من قطع ذلك أو بيعه قبل دخول وقت زكاته: عدم تعلُّقها بذمته فلا تجب، ويلزم من قصده الفرار من الزكاة: وجوبها عليه، مُعاملةً له بنقيض قصده كمن طلَّق زوجته في مرض موته فإنها ترث، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه منع الضرر عن المالك، وعن الفقير؛ إذا لو وجبت الزكاة على المالك مع أنه لم يدخل وقت وجوبها: لتضرر، ولو سقطت عنه مع أنه قصد الفرار: لتضرر الفقير.
لأنه قبل ذلك في حكم ما لم تثبت اليد عليه
(11)
، (فإن تلفت) الحبوب أو الثمار (قبله) أي: قبل جعلها في "البيدر"(بغير تعدٍّ منه) ولا تفريط: (سقطت)؛ لأنها لم تستقر
(12)
، وإن تلف البعض: فإن كان قبل الوجوب: زكَّى الباقي إن بلغ نصابًا، وإلا: فلا، وإن كان بعده: زكَّى الباقي مُطلقًا؛ حيث بلغ مع التالف نصابًا
(13)
،
(11)
مسألة: يستقر وجوب زكاة الحبوب والثمار إذا وُضعت في مكان مُعدٌّ لتنظيفهما، وتشميسهما، ويُسمَّى هذا المكان بـ "البيدر" أو "الحوض" أو نحو ذلك؛ للمصلحة؛ حيث إن وضعها بذلك المكان سبب في معرفة قدرها، وجيدها من رديئها، فيسهل توزيعها، والانتفاع بها، أما قبل ذلك فيشق معرفة ذلك، لذلك: يكون في حكم من لم تثبت اليد عليه، وما لم تثبت اليد عليه لا زكاة فيه.
(12)
مسألة: إذا تلفت الحبوب والثمار كلها قبل وضعها بذلك المكان - وهو البيدر - بغير تفريط ولا تعدٍّ من المالك: فإن الزكاة تسقط، أما إن وُجد التفريط: فلا تسقط الزكاة؛ للمصلحة؛ حيث إن المالك يتضرَّر إذا وجبت الزكاة في مال تلف بدون تفريط منه، ويتضرَّر الفقير إذا سقطت الزكاة عن مال فرَّط فيه مالكه، فدفعًا لذلك: شرع هذا.
(13)
مسألة: إذا تلف بعض الحبوب والثمار، دون البعض الآخر قبل وقت وجوب الزكاة - أي الاشتداد، وبدو الصلاح والاستقرار في "البيدر" - فيُخرج زكاة البعض الذي لم يتلف إن بلغ نصابًا فقط، أما إن تلف بعد وقت وجوب الزكاة - أي: بعد الاشتداد وبدو الصلاح وبعد الاستقرار في "البيدر" - فيُخرج زكاة الباقي مُطلقًا: سواء بلغ الباقي نصابًا أو لم يبلغه؛ حيث يبلغ في العادة نصابًا إذا ضُمَّ إلى التالف منه؛ للتلازم؛ حيث يلزم من تلفه قبل دخول وقت وجوبها: عدم وجوب الزكاة في الذمة؛ لعدم وجود شرطها، ويلزم من تلفه بعده: وجوبها في الذِّمَّة؛ لوجود شرطها، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه ضمان لحقوق الفقراء ولحقوق المالك أيضًا.
ويلزم إخراج حب مُصفَّى، وثمر يابسًا
(14)
، ويحرم شراء زكاته أو صدقته ولا يصحُّ
(15)
، ويُزكِّي كل نوع على حدته
(16)
(ويجب العشر) أو نصفه (على مستأجر
(14)
مسألة: يجب على المالك أن يُخرج زكاة الحبوب والثمار بصفة ينتفع بها مستحقها من فقراء وغيرهم، وهي: كون الحب مصفَّى، نقيًا، خاليًا من التبن والقش الذي لا يؤكل ولا يُدَّخر ويكون التمر يابسًا جافًا نقيًا أيضًا؛ للسنة القولية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد أمر عتاب بن أُسيد أن يخرص العنب زبيبًا ويؤخذ، كما يُخرص النخل تمرًا، و"الزبيب" و"التمر" هو يابس في العادة، والحبوب مثل ذلك؛ لعدم الفارق من باب مفهوم الموافقة، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك أنفع للفقراء، وأصبر على الادِّخار، فيكون لهم في العاجل والآجل.
(15)
مسألة: إذا أخرج المالك زكاة ما يملكه من الحبوب والثمار والبهائم: فلا يجوز له شراء ذلك المخرج زكاة ممن دفعها إليه، ولو حصل البيع: فلا يصح؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "لا تعد في صدقتك، وإن أعطاكه بدرهم" حيث حرم الشارع ذلك؛ لأن النهي هنا مطلق، فيقتضي التحريم والفساد، فإن قلتَ: لمَ حرم ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه منع لاسترجاع شيء مما أخرجه زكاة بثمن قليل جدًا؛ لأن الفقير يستحي عادة من أن يُماكس من أعطاه زكاة، فيكون في تحريم ذلك وإفساد البيع سدًا لهذه الحيلة، ولحماية الفقير من استغلال المالك له.
(16)
مسألة: يجب إخراج زكاة كل نوع على حدته، ومثله، فمثلًا: تكون زكاة البر برًا مثله، وتكون زكاة اللقيمي: لُقيميًا مثله، وتكون زكاة الرديء رديئًا مثله، وزكاة الجيد جيدًا مثله وهكذا؛ للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية للمالك، وللفقير؛ حيث إن هذه الأنواع تختلف أسعارها، ومنافعها الغذائية، فلو كُلِّف =
الأرض) دون مالكها كالمستعير، لقوله تعالى:{وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ}
(17)
،
المالك بأن يُزكي عن الشعير بُرًّا، أو عن الرديء جيدًا: لتضرَّر، ولو أخرج المالك عن البر شعيرًا، أو الجيد رديئًا: لتضرَّر الفقير، فدفعًا لذلك: شُرع هذا فإن قلتَ: إن هذا يشق، وهو قول ابن قدامة وبعض العلماء قلتُ: هذا بعيد، بل هو سهل على المزارعين المتَّقين، وقد وقع عند كثير منهم فلم يروا هذه المشقة التي زعمها بعضهم، وحتى لو وجُدت مشقة في ذلك فإنها في سبيل إحقاق الحق تُتحمَّل لذلك، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض المصلحتين" فعملنا بالمصلحة الأولى؛ لعمومها، ولعدم المشقة في ذلك وهم عملوا بالمصلحة الثانية؛ دفعًا للمشقة عن المالك.
(17)
مسألة: إذا استأجر شخص أرضًا فزرعها وغرسها فأنتجت وأثمرت حبوبًا وتمرًا: فتجب زكاة ذلك على المستأجر: فإن كان ذلك بلا مؤنة: فيُخرج العشر، وإن كان ذلك بمؤنة: فيُخرج نصف العشر من ذلك ولا دخل لمالك الأرض ومؤجرها؛ لقاعدتين: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} حيث إن هذا الخطاب مُوجَّه إلى الشخص الذي من حقه جذاذ الثمار، وحصد الحبوب وكيلهما ووزنهما، وهو هنا: المستأجر، دون المالك، الثانية: القياس، بيانه: كما أن المستعير يُزكِّي الشيء الذي استعاره، فكذلك المستأجر مثله، والجامع: أن كلًا منهما قد ملك ما تحت يده وانتفع به، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: لأن الغرم يتبع الغُنْم، فكما أن المستأجر يغنم ما تحت يده، فعليه إخراج زكاته؛ ليواسي به الفقراء، فإن قلتَ: لِمَ لا تجب على المالك؟ قلتُ: لأنه لو وجبت عليه لوجبت عليه ولو لم تزرع أو تغرس، ولقُدِّر بقدر الأرض، لا بقدر الزرع والغرس، ولكن هذا لم يكن - كما سبق -.
ويجتمع العشر والخراج في أرض خراجية
(18)
ولا زكاة في قدر الخراج إن لم يكن له مال آخر
(19)
(وإذا أخذ ملكه أو موات) كرؤوس الجبال (من العسل مائة وستين رطلًا عراقيًا: ففيه عشره) قال الإمام: "اذهب إلى أن في العسل زكاة العشر، قد أخذ عمر منهم الزكاة"
(20)
، ولا زكاة فيما ينزل من السماء على الشجر كالمنِّ،
(18)
مسألة: الأرض التي دخلها المسلمون عنوة، وهرب أهلها الكفار منها ولم تُقسم - تسمَّى "الأرض الخراجية" إذا استولى على بعضها شخص فيجب عليه خراجها - كما سيأتي - ويجب عليه أيضًا زكاة ما خرج منها من حبوب وثمار إن زرعها وغرسها؛ للتلازم؛ حيث اجتمع على ذلك الشخص حقَّان:"حقُّ الزرع والغرس: وهو العشر أو نصفه على ما سبق" و"حقُّ الأرض، وهو: الخراج" حيث اجتمع سببهما، فيلزم من وجودهما: وجود الزكاة والخراج، فإن قلتَ: لمَ وجب عليه هذان الحقان؟ قلتُ: لأن الخراج في رقبتها، والعشر أو نصفه في غلَّتها تنبيه: سيأتي بيان الفرق بين الأرض الخراجية، والأرض العشرية في كتاب:"الجهاد".
(19)
مسألة: لا تجب الزكاة في قدر خراج الأرض الخراجية مهما بلغ، فلو أخرج زيد عشرة آلاف خراجًا فلا تجب في هذه العشرة الزكاة؛ للقياس، بيانه: كما أن دين الآدمي لا زكاة فيه فكذلك الحال هنا، والجامع: أن كلًا من الدَّين والخراج وجب بذلهما عليه، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن اجتماع قدر الخراج وتزكية هذا القدر على المالك: يشق عليه.
(20)
مسألة: تجب الزكاة في العسل إذا بلغ نصابًا، وهو: مائة وستون رطلًا عراقيًا، وهو ما يُعادل (62) كجم، فيُخرج من ذلك عشره، فيكون ما يُخرج منه ست كيلو جرامًا وخُمسُ الكيلو زكاة: سواء كان هذا النَّحل في ملكه، أو في أرض ليست لأحد كالجبال وغيرها؛ لقاعدتين: الأولى: القياس، بيانه: كما وجبت =
والترنجبيل
(21)
، ومن زكَّى ما ذُكر من المعشَّرات مرة: فلا زكاة فيه بعدُ؛ لأنه غير مرصد للنَّماء
(22)
، (والمعْدّن) إن كان ذهبًا أو فضة ففيه ربع عشره إن بلغ نصابًا،
الزكاة في الثمار والحبوب، فكذلك العسل مثلها، والجامع، أن كلًا منها يؤكل ويُدَّخر، ويُكال، ويُجنى في وقت معيَّن، الثانية: قول الصحابي؛ حيث إن عمر رضي الله عنه قد أخذ زكاة العسل، فإن قلتَ: لمَ وجبت الزكاة هنا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إنه يقصد للأكل والاقتيات، فتحصل بها المواساة، فإن قلتَ: لمَ وجب فيه العشر؟ قلتُ: لكونه يُتحصَّل عليه بلا مؤنة عادة، فإن قلتَ: لا زكاة في العسل، وهو قول كثير من العلماء، للقياس، بيانه: كما أن اللَّبن لا زكاة فيه فكذلك العسل، والجامع: أن كلًا منهما مائع خارج من حيوان مُتغذَّى به قلتُ: هذا فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ حيث إن الزكاة لم تجب في اللَّبن لكونها قد أخذت من أصله وهي: بهيمة الأنعام، أما العسل فلم تؤخذ الزكاة من أصله وهو: النحل، فأخذت من نتاجه وهو: العسل، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض القياسين": فنحن ألحقناه بالثمار والحبوب، لأن العسل أكثر شبهًا بهما، وهم ألحقوه باللبن لأنه أكثر شبهًا به عندهم وهذا يُسمَّى بـ "قياسه الشبه" أو "غلبة الأشباه".
(21)
مسألة: لا تجب الزكاة في الشيء الذي يُشبه العسل في الحلاوة والطعم مثل: المنِّ" و"الترنجبين" وهو: الطل الذي يسقط من السماء حلو يُشرب؛ للاستصحاب؛ حيث إن الأصل: عدم وجوب الزكاة في شيء إلا إذا دلَّ عليه دليل، ولم يرد دليل على وجوب الزكاة في ذلك، فيبقى على النفي الأصلي، فإن قلتَ: لمَ لا تجب الزكاة هنا؟ قلتُ: لصعوبة تقديره وادخاره، وضبطه.
(22)
مسألة: إذا أخرج زكاة الحبوب والثمار، والعسل ونحوها مما يجب فيه عشره أو نصفه مرة واحدة فلا يُزكّيه مرة أخرى ولو استمر ادِّخاره عنده سنوات؛ =
وإن كان غيرهما: ففيه ربع عشر قيمته إن بلغت نصابًا بعد سبك وتصفية إن كان المخرج له من أهل وجوب الزكاة
(23)
(والركاز: ما وجد من دِفْن الجاهلية) بكسر
لقاعدتين: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} حيث علَّق وجوب زكاة الحبوب والثمار بيوم حصاده، ودل مفهوم الزمان على أنه لا زكاة عليه بعد ذلك، وكذا: الأمر هنا مطلق وهو يقتضي امتثال الأمر مرة واحدة ولا يقتضي التكرار الثانية: المصلحة؛ حيث إنه لو تكرَّر إخراج زكاة الشيء أكثر من مرة مع عدم نمائه لتضرَّر المالك، ولأدَّى إلى عدم ادخار المطعومات، وهذا مضرٌّ للمجتمع الإسلامي.
(23)
مسألة: تجب الزكاة في المعْدَن إن كان واجده ممن تجب عليهم الزكاة: فإن كان هذا المعدن ذهبًا أو فضة وبلغ نصابًا فإن واجده يُخرج ربع عشره - كزكاة الأموال النقدية والذهب والفضة - كما سيأتي - وإن كان هذا المعدن غير الذهب والفضة كالحديد، والزبرجد، والجواهر، واللؤلؤ، والرخام، والكبريت، والبترول ونحو ذلك: فإنه يُخرج ربع عشر قيمته إن بلغت نصابًا بعد تصفيته؛ لقواعد: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} ويعم ذلك المعادن؛ لكونها مخرجة من الأرض؛ لأن "ما" موصولة وهي من صيغ العموم، فتجب الزكاة فيها؛ لأن الأمر مطلق وهو يقتضي الوجوب، والنفقة تطلق على الزكاة، الثانية: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "في الرِّقة ربع العشر" يقصد يُخرج ربع العشر من الورق، الثالثة: القياس، بيانه: كما أن الحبوب والثمار تجب فيها الزكاة فكذلك المعادن مثلها، والجامع: أن كلًا منها مستفاد ومخرج من الأرض، فإن قلتَ: لمَ وجبت الزكاة هنا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه شكر لله على تلك النعمة، ويتحمَّل المواساة.
الدال، أي: مدفونهم، أو من تقدَّم من كفار عليه، أو على بعضه علامة كفر فقط:(ففيه الخمس في قليله وكثيره)، ولو عَرَضًا؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"وفي الركاز الخمس" متفق عليه عن أبي هريرة، ويُصرف مصرف الفيء المطلق للمصالح كلها وباقيه لواجده، ولو أجيرًا لغير طلبه
(24)
، وإن كان على شيء منه علامة المسلمين: فلُقطة، وكذا:
(24)
مسألة: الركاز، وهو: أن يجد شخص مالًا مدفونًا تحت الأرض تظهر عليه أو على بعضه علامات تدلُّ على أنه مدفون في الجاهلية، أو دفنه قوم من الكفار، فهذا يُخرج منه خُمُسَه: سواء كان كثيرًا أو قليلًا، وسواء وُجد في ديار المسلمين، أو الكفار، وسواء وجده في مُلكه أو لا، وسواء وجده مكلَّف أو لا، وسواء بلغ الموجود نصابًا أو لا، وسواء حال عليه الحول أو لا، وهذا الخُمُس يُصرف في مصارف الفيء فيُوضع في مصالح المسلمين العامه والباقي - وهو: أربعة أخماسه - يكون لذلك الشخص الذي وجده وإن وجده أجير حفر لغير قصد؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "وفي الركاز الخمس" فأوجب الشارع إخراج خمس الركاز الذي وُجد؛ لأن "في" من صيغ الواجب، وهو عام لكل ما ذكر؛ لأن لفظ "الركاز" اسم جنس معروف بأل وهو من صيغ العموم، الثانية: فعل الصحابي؛ حيث إن رجلًا قد وجد ألف دينار مدفونة خارج المدينة، فأتى عمر رضي الله عنه بها، فأخذ عمر منها الخمس - وهي: مائتا دينار - ودفع للرجل بقيتها، وجعل عمر يُقسِّم المائتين على من حضر من المسلمين في مصالحهم، وفعل علي رضي الله عنه مثل ذلك، فإن قلتَ: لمَ يؤخذ منه الخمس، ويُدفع الباقي لواجده؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن الخمس من حقوق المسلمين كما يُقال في خمس الغنيمة، وواجده هو الذي تسبَّب في إظهاره فيكون من حقِّه الأكثر. [فرع]: يجوز لواجد الركاز أن يتولى بنفسه تفرقة خُمُس الركاز في مصالح المسلمين، دون الرجوع إلي الإمام أو نائبه، ويحتفظ بالباقي لنفسه؛ للقياس، بيانه: كما يجوز له أن يفرق الزكاة بين مستحقيها، فكذلك يجوز ذلك في =
إن لم تكن علامة
(25)
.
الركاز والجامع: أن كلًا منهما حق واجب، مؤتمن عليه، فإن قلتَ: لمَ جاز ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه توسعة على المسلمين.
(25)
مسألة: إن وجد شخص مالًا مدفونًا لم تظهر عليه أو على بعضه علامة الكفار، أو ظهرت عليه أو على بعضه علامة المسلمين - بذكر بعض الخلفاء أو نحو ذلك -: فإن حكم ذلك حكم اللُّقطة وهو: أن يُعرَّف عامًا للآخرين، فإن لم يُوجد صاحبه: فيملكه واجده؛ للاستصحاب؛ حيث إن الأصل فيما يُوجد في ديار المسلمين: أن يكون للمسلمين، إذا لم توجد علامة الكفار، فيُستصحب ذلك، ويعمل بأحكام المسلمين فيه، فإن قلتَ: لمَ شرع هذا؟ قلتُ: لتغليب دار الإسلام على دار الكفر، فإن قلتَ: لمَ ذكرت أحكام المعادن والركاز في باب "زكاة الثمار والحبوب"؟ قلتُ: لاشتراك الثمار والحبوب، والمعادن والركاز في كونها مُستخرجة من الأرض.
هذه آخر مسائل باب "زكاة الحبوب والثمار" ويليه باب "زكاة النقدين"
باب زكاة النقدين
أي: الذهب والفضة (يجب في الذهب إذا بلغ عشرين مثقالًا، وفي الفضة إذا بلغت مائتي درهم) إسلامي (ربع العشر منهما)؛ لحديث ابن عمر وعائشة رضي الله عنهم مرفوعًا: "أنه كان يأخذ من كل عشرين مثقالًا نصف مثقال" رواه ابن ماجه، وعن علي نحوه، وحديث أنس مرفوعًا:"في الرِّقة ربع العشر" متفق عليه، والاعتبار بالدرهم الإسلامي الذي وزنه:"ستة دوانق"، والعشرة من الدراهم: سبعة مثاقيل، فالدرهم نصف مثقال وخُمُسه، وهو: خمسون حبة وخُمسا حبة شعير، والعشرون مثقالًا: خمسة وعشرون دينارًا وسُبُعا دينار وتسعه على التحديد الذي زنته درهم وثمن درهم
(1)
، ويُزكِّي مغشوش إذا بلغ خالصه نصابًا وزنًا
(2)
(ويُضمُّ الذهب إلى
باب زكاة النَّقدين
وفيه ثلاثون مسألة:
(1)
مسألة: مقدار النصاب في الذهب: عشرون مثقالًا - وهو: ما يُعادل (85)
جرامًا من الذهب -، ومقدار النصاب في الفضة: مائتا درهم - وهو: ما يُعادل (56) ريالًا سعوديًا، فإذا بلغ كل من الذهب والفضة ذلك وحال عليه الحول: فيجب إخراج زكاتهما، وهي:"ربع عشر" ذلك: فتُقسِّم ما عندك من مال على "عشرة" ثم تُقسِّم العشرة على أربعة، والناتج هو زكاة ما عندك، أو تُقسِّم ما عندك كله على "أربعين" فما خرج فهو زكاة ما عندك، أو تأخذ "اثنين ونصف بالمائة 2،5 % مما عندك" وهو زكاة ما عندك فمثلًا لو عندك ألف ريال: تكون زكاته (25) حيث قسَّمته على "عشرة" فصارت "مائة" فقُسِّمت المائة على "أربعة" فصارت (25)، أو تُقسِّم الألف على "أربعين" فيكون الناتج (25) أو تأخذ (2،5) بالمائة من الألف فيكون الناتج (25) وهكذا؛ للسنة القولية، =
الفضة في تكميل النصاب) بالأجزاء، فلو ملك عشرة مثاقيل، ومائة درهم، فكل
وهي من وجوه: أولها: قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا كان عندك ذهب أو دنانير فبلغ عشرين دينارًا: ففيها نصف دينار" فأوجب الشارع الزكاة في الذهب؛ لأن "في" من صيغ الوجوب، ولزم من إخراج نصف دينار من عشرين دينار: أن يكون المخرج "ربع العشر" لأن النصف بالنسبة إلى العشرين ربع عشرها، ثانيها: قوله صلى الله عليه وسلم: "في الرِّقة ربع العشر" فأوجب الزكاة في الفضة؛ لأن لفظ "في" من صيغ الوجوب، و"الرِّقة" هي: الفضة الخالصة، والمراد بها: الورق المتعامل به في البلد الذي تعيش فيه كالريال السعودي، والجنيه المصري، والدينار العراقي، واللِّيرة السورية ونحو ذلك، ثالثها: قوله صلى الله عليه وسلم: "ليس فيما دون خمس أواق صدقة"، و"الأوقية": أربعون درهمًا، فإذا ضربنا خمسة في أربعين: كان الناتج مائتي درهم، فدل هذا بمفهوم العدد على وجوب الزكاة فيما بلغ خمس أواق - وهو مائتا درهم -، فإن قلتَ: لمَ وجبت الزكاة في النقدين؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك مال يزيد وينمو، ويُدَّخر، ويقبل المواساة، وهو أنفع الأموال للغني والفقير في الحال والمآل.
(2)
مسألة: إذا كان عندك ذهب أو فضة أصابهما غش بأن خالط ذلك شيء من الحديد ونحوه: فإنك تُخلِّص هذا مما خالطه، فإن بلغ الذهب غير المغشوش، أو الفضة غير المغشوشة نصابًا: - كما سبق في مسألة (1) - فيجب أن تُخرج زكاة ذلك وهو: "ربع عشره"؛ للتلازم؛ حيث يلزم من بلوغ النصاب وحولان الحول عليه: وجوب الزكاة فيه، فإن قلتَ: لمَ لا يُزكِّي على المغشوش ويُخرج مغشوشًا مثله كما فُعل في البهيمة المريضة من بهائم مراض؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن المغشوش من الذهب والفضة تبطل قيمته الشرائية، فيتضرَّر الفقير بذلك، ولو أخرج المالك الخالص عن المغشوش لتضرَّر هو، فدفعًا للضررين: شرع هذا الحكم، بخلاف البهيمة المريضة: فقد ينتفع بها الغير، وقد تُشفى.
منهما نصف نصاب، ومجموعهما نصاب
(3)
، ويُجزئ إخراج زكاة أحدهما من الآخر؛ لأن مقاصدهما وزكاتهما مُتَّفقة فهما كنوعي جنسٍ
(4)
، ولا فرق بين
(3)
مسألة: إذا وُجد عندك من الذهب ما لم يبلغ نصابًا كأن يكون عندك عشرة مثاقيل - وهي ما يُعادل (2/ 421) جرامًا وعندك من الفضة ما لم يبلغ نصابًا كأن يكون عندك مائة درهم - وهو: ما يُعادل (28) ريالًا، فإنك تضمُّ أحدهما إلى الآخر ضمًا بالأجزاء، وتُخرج ربع العشر من ذلك، أو تُقيِّم الذهب بالفضة، وتضمُّ ذلك إلى (28) ريالًا، وتخرج زكاتهما معًا فمثلًا: لو كان عندك اثنان وأربعون ونصف جرامًا من الذهب وقيَّمتها بمبلغ وقدره (500) ريالًا فإنك تضم ذلك إلى (28) ريالًا ثم تُخرج ربع عشر المجموع فيكون ربع عشر (528) ريالًا: (11) ريالًا تقريبًا، وهو الزكاة للمصلحة؛ حيث إن نفعهما واحد، والمقصود بهما مُتَّحد، فالذهب والفضة والدراهم والدنانير والريالات والجنيهات، وغيرها من أوراق التعاملات قيم شرائية، وأثمان للأشياء، فيكون في الضم نفع للفقير، وأحوط للغني، فإن قلتَ: لا يضمَّان؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "ليس فيما دون خمس أواق صدقة" ويلزم من ذكر الأواق عدم وجوب الزكاة إذا لم تبلغ هي ذلك قلتُ: إن هذا الحديث عام، قد خُصِّص بالمصلحة السابقة، وبالقياس على زكاة عروض التجارة؛ حيث يُضمُّ بعضها إلى بعض.
(4)
مسألة: يجوز إخراج الذهب زكاة عن الفضة، ويجوز إخراج الفضة زكاة عن الذهب، فيُقيِّم الذَّهب - مثلًا - بالريالات، وتخرج ربع عشر الناتج؛ للقياس، بيانه: كما أن أنواع الجنس الواحد، يجوز إخراج أحدهما عن الآخر كإخراج المعز عن الضأن وبالعكس، فكذلك يجوز هنا، والجامع: أن كلًا منهما يُؤدِّي إلى ما يؤدِّي إليه الآخر من المقاصد كالشراء ونحوه، فإن قلتَ: لمَ جاز ذلك؟ قلتُ للمصلحة؛ حيث إن هذا أيسر للغني، وأنفع للفقير.
الحاضر والدَّين
(5)
(وتُضمُّ قيمة العروض) أي: عروض التجارة (إلى كل منهما) كمن له عشرة مثاقيل، ومتاع قيمته عشرة أخرى، أوله مائة درهم، ومتاع قيمته مثلها، ولو كان ذهب وفضة وعروض: ضُمَّ الجميع في تكميل النصاب
(6)
، ويُضمُّ جيد كل جنس ومضروبه إلى رديئه وتِبْره
(7)
ويُخرج من كل نوع
(5)
مسألة: يجب إخراج زكاة الذهب والفضة مُطلقًا، أي: سواء كانا حاضرين عند المالك أو غائبين، أو كانا ديونًا أو قروضًا عند الآخرين، وهذا يكون بعد قبضه؛ للتلازم؛ حيث إن إيجاد نصاب ذلك وتمام الحول عليه يلزم منه وجوب الزكاة فيهما، فإن قلتَ: لمَ وجب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه نفع للفقراء؛ إذ لو لم يُخرج المالك زكاة ما غاب عنه لتضرَّر الفقير، ولكان ذلك حيلة.
(6)
مسألة: قيمة عروض التجارة تُضم بعضها إلى بعض، ويُستكمل بذلك النصاب، فمثلًا: لو وُجد عندك خمسون ريالًا، وعندك عشرون جرامًا من الذهب قيمته بالفضة: مائة ريال، وعندك عشرة ثياب قيمتها خمسون ريالًا، وكلها مُعدَّة للتجارة: فتضمَّ بعضها إلى بعض فتكون مائتي ريال وتُخرج ربع عشر ذلك، وعلى ذلك تخرج خمسة ريالات كزكاة عن ذلك وهكذا؛ للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حفظ لحق الفقير من الضياع؛ إذ لو لم تضم بعض ما سبق إلى بعضها الآخر: لما وجبت في أفرادها الزكاة، ويكون الفقير هو المتضرِّر، فدفعًا لذلك شرع الضم.
(7)
مسألة: يُضمُّ الجيد من الذهب والفضة إلى الرديء منهما، ويضم مضروبه - وهو الذهب والفضة بعد صياغتهما - إلى تِبْره - وهو الذهب والفضة قبل صياغتهما -، ويُخرج الزكاة من خالص ذلك إذا بلغ النصاب، وتم الحول عليه؛ للقياس، بيانه: كما يضم مريض البهائم إلى صحيحها، ويُخرج زكاة الجميع، فكذلك الحال هنا والجامع: أن كلًا منهما فيه نفع للفقير، وهو المقصد الشرعي من هذا الضم.
بحصَّته
(8)
، والأفضل من الأعلى
(9)
، ويجزئ إخراج رديء عن أعلى مع الفضل
(10)
، (ويُباح للذكر من الفضة الخاتم)؛ لأنه صلى الله عليه وسلم "اتخذ خاتمًا من ورق" متفق عليه
(11)
،
(8)
مسألة: يُخرج زكاة الجيد من الذهب والفضة جيدًا مثله، ويُخرج زكاة الرديء منهما رديئًا مثله؛ للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية لحق الغني والفقير؛ إذ لو أخرج الغنى جيدًا زكاة عن الرديء لتضرَّر هو، ولو أخرج الرديء زكاة عن الجيد لتضرَّر الفقير، فدفعًا لذلك: شرع هذا.
(9)
مسألة: إذا كان الذهب درجات في الفضل فبعضه أفضل من بعض وكذا: الفضة: فالأفضل أن يُخرج الأفضل والأنفع للفقير؛ للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تقديم حق الفقير على حقه.
(10)
مسألة: إذا وُجد عندك جيد ورديء من ذهب أو فضة: فإنه يُجزئ أن تُخرج الرديء بشرط: أن تزيد - قليلًا، فمثلًا إذا كان عندك أربعون دينارًا، وفيها ما هو جيد وما هو رديء: فإنك تُخرج دينارًا جيدًا، ويُجزئ أن تُخرج عنه دينارًا رديئًا ونصف دينار رديء؛ للقياس، بيانه: كما أنه لو أخرج دينارًا جيدًا أجزأه، فكذلك إذا أخرج دينارًا ونصف من الرديء: فإنه يُجزئه، والجامع: أن كلًا منهما قد أدَّى الواجب قدرًا وقيمة، فلا ضرر على الفقير، وهو المقصد الشرعي.
(11)
مسألة: يُباح للرجل أن يتخذ خاتمًا من الفضة؛ للسنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد فعل ذلك، فإن قلتَ: لمَ أُبيح ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تحسين مظهر المسلم في حين عدم وجود الإسراف والخيلاء في ذلك، ولا تنكسر قلوب الفقراء لأجله في العادة.
والأفضل: جعل فصه مما يلي كفَّه
(12)
، وله جعل فصِّه منه ومن غيره
(13)
، والأولى: جعله في يساره
(14)
، ويُكره بسبَّابة
(12)
مسألة: يُستحب أن يُجعل فص خاتم الفضة في ظهر كفه، لا في باطنه؛ للسنة الفعلية؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك، فإن قلتَ: لمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه منع أن يكون ذكر الله تعالى المكتوب في الفصِّ متوجهًا إلى النجاسة التي تزال عادة باليد اليُسرى.
(13)
مسألة: يُباح أن يُجعل فصُّ الخاتم الفضي منه، ويُباح أن يُجعل فصُّه من غيره، ويُباح أن يكون بلا فص، لقاعدتين: الأولى: السنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم "قد اتخذ خاتمًا من فضة، فصُّه منه" وزاد مسلم: "كان فصُّه حبشيًا" وتُقبل هذه الزيادة؛ لأنها زيادة ثقة، الثانية: المصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تيسير وتوسعة على المسلمين.
(14)
مسألة: يُستحب أن يُجعل الخاتم بيده اليُسرى؛ للسنة الفعلية؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك، فإن قلتَ: لمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن اليُمني تُستعمل للأكل والشرب، والعطاء، والأخذ، والمصافحة، والحمل ونحو ذلك، والخاتم قد يعيق تلك الحركات، وخلعه لكل فعل يشق؛ نظرًا لتكراره، فإن قلتَ: المستحب أن يُلبس باليُمنى؛ لقاعدتين: الأولى: السنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد تختَّم باليُمنى، الثانية: التلازم؛ حيث يلزم من كون الخاتم زينة أن يُلبس في اليمين - ذكره النووي - قلتُ: أما لبس النبي صلى الله عليه وسلم الخاتم في اليُمنى فقد ضعَّفه بعض أئمة الحديث، وذكر الدارقطني في "السنن الكبرى""أنه اتخذه في اليمنى ثم حوله إلى يساره"، فيكون منسوخًا، أما التلازم فلا يصح؛ لأن المصلحة التي قلناها مقدَّمة عليه؛ لأن دفع المفاسد مقدَّم على جلب المصالح من زينة وغيرهما فإن قلت: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض السنة الفعلية مع السنة الفعلية الأخرى" وكذا: "تعارض المصلحتين".
ووسطى
(15)
، ويُكره: أن يُكتب عليه ذكر الله: قرآنًا أو غيره
(16)
، ولو اتخذ لنفسه عِدَّة خواتيم: لم تسقط الزكاة فيما خرج عن العادة
(17)
إلا أن يتخذ ذلك لولده أو
(15)
مسألة: يُكره أن يُجعل الخاتم في السَّبَّابة والوسطى من أصابعه؛ للسنة القولية؛ حيث "نهى صلى الله عليه وسلم بعض الصحابة أن يجعل خاتمه في السبابة والوسطى منها" والمصلحة هي التي صرفت هذا النهي من التحريم إلى الكراهة؛ لأن العادة قد جرت بأن أكثر ما يُزيل النجاسة من الأصابع السبابة والوسطى، فلو لبسه في أحدهما لأدى ذلك إلى امتهان ذكر الله تعالى، وهذا لا يليق بجلاله، لكن لو جعله في أحدهما: لما أثم في ذلك، وهذا هو حد الكراهة.
(16)
مسألة: يُستحب أن يُكتب على الخاتم ذكر الله؛ للسنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد نقش على خاتمه ذكر الله تعالى، فإن قلتَ: لمَ استحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تشرُّف بذلك، فإن قلتَ: يُكره أن يُكتب ذلك - وهو ما ذكره المصنف هنا - للمصلحة؛ حيث إن ذلك يُؤدِّي إلى امتهان ذكره سبحانه؛ لكون اللَّابس لذلك يدخل فيه الخلاء، قلتُ: إنه لا يؤدِّي إلى الامتهان؛ لكون دخوله للخلاء نادر، ولأنه صلى الله عليه وسلم قد كتب عليه ذلك، وهو صلى الله عليه وسلم لا يفعل شيئًا مكروهًا فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض المصلحة مع السنة الفعلية" فعملنا بالسنة وعملوا بالمصلحة وخصَّصوا السنة بها.
(17)
مسألة: إذا لبس عِدَّة خواتم، وخرج بذلك عن المألوف والعادة عند الناس: فعليه زكاة ما خرج عن المألوف والعادة، فيُثمَّن ثم يُخرج ربع عشر ذلك الثمن زكاة، أما إن لبس خاتمًا أو خاتمين صغيرين قد اعتاد بعض الناس على لبسهما: فلا زكاة فيهما؛ للتلازم؛ حيث يلزم من لبس الخارج عن العادة: وجوب الزكاة فيه؛ لأنه حلي لم يُعدُّ للاستعمال العادي، ويلزم من لبس غير =
عبده
(18)
(و) يُباح له (قبيعة السيف) وهي: ما يُجعل على طرف القبضة، قال أنس رضي الله عنه:"كانت قبيعة سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم فضة" رواه الأثرم (و) يُباح له (حلية المنطقة) وهي: ما يُشدُّ به الوسط، وتسمِّيها العامة:"الحياصة"، واتخذ الصحابة رضي الله عنهم المناطق محلَّاة بالفضة (ونحوه) أي: نحو ما ذكر كحلية الجوشن، والخوذة والخف، والران، وحمائل السيف؛ لأن ذلك يساوي المنطقة معنى، فوجب أن يساويها حكمًا قال الشيخ تقي الدِّين: وتركاش النشاب، والكلاليب؛ لأنه يسيرٌ تابع
(19)
، ولا يُباح غير ذلك: كتحلية المراكب، ولباس الخيل كاللَّجم، وتحلية الدواة، والمقلمة،
الخارج عن العادة: عدم وجوب الزكاة فيه؛ لأنه حلي أُعدَّ للاستعمال العادي المباح كالأواني، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه منع من لبس الشيء الخارج عن العادة.
(18)
مسألة: إذا اشترى الشخص خواتم، وقسَّمها على من عنده من الأولاد، والعبيد بطريقة لا تخرج عن العادة: فلا زكاة فيها؛ للتلازم، وقد بينَّاه في مسألة (17).
(19)
مسألة: يُباح أن يحلَّى مقبض السيف بالفضة اليسيرة - وهو قبيعة السيف - وعلَّاقته، وكذا: المنطقة - وهو: الحزام الذي يشدُّ به الإنسان وسطه -، وكذا: رأس الرمح، ورأس النعل، وحلقة الإناء، وشعيرة السكين، ورأس الخف، ورأس الجرموق - وهو: الران -، ورأس الدرع - وهو: الحوشن - وما تُمسك به العمامة - وهي: الكلاليب، والحلقة التي تعين على ركوب الخيل - وهو: النشاب -، لقاعدتين: الأولى: السنة الفعلية؛ حيث كانت قبيعة سيف الرسول صلى الله عليه وسلم من فضة، الثانية: القياس، بيانه: كما يُباح للرجل أن يتخذ خاتمًا من فضة فكذلك يُباح ما ذكرنا، والجامع: أن كلًا منها حلي معتاد مُحسِّن لمظهر المسلم لا يصل إلى درجة الإسراف وكسر قلوب الفقراء، وهو يسير تابع وهو المقصد منه.
والكمران، والمشط، والمكحلة، والميل، والمرآة، والقنديل
(20)
(و) يُباح للذكر (من الذهب قبيعة السيف)، لأن "عمر كان له سيف فيه سبائك من ذهب، وعثمان بن حنيف كان في سيفه مسمار من ذهب" ذكرهما أحمد، وقيَّدهما باليسير مع أنه ذكر أن قبيعة سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم كان وزنها ثمانية مثاقيل فيُحتمل أنها كانت ذهبًا وفضة، وقد رواه الترمذي كذلك
(21)
(وما دعت إليه ضرورة كأنف ونحو) كرباط أسنان؛ "لأن عرفجة بن أسعد قُطع أنفه يوم الكُلاب: فاتخذ أنفًا من فضة، فأنتن
(20)
مسألة: لا يجوز أن يُحلَّى بالفضة غير ما سبق - في مسألة (19) -: فلا يجوز أن يُجعل من الفضة في المراكب، أو السُّرج، أو أطرافهما، وما يُجلس عليه في السيارات ولا في لجام الفرس، ولا في الدواة، والمقلمة، والكمران - وهو: الذي تُجعل الأواني عليه - ولا في الأمشاط - وهي: ما يُمشط الرأس فيها - ولا في المكحلة، والمروحة، والمشربة، والمدهنة، والمحمرة، ولا في الميل - وهي: الآلة التي يُكحَّل بها العين -، ولا في المرآة، والقنديل - وهو: المصباح من الزجاج -، ولا في نحو ذلك؛ للاستصحاب؛ حيث إن الأصل تحريم استعمال الفضة، فيستصحب هذا الأصل، ويُعمل به، حتى يرد دليل يُغيِّر الحالة، ولم يرد شيء من ذلك فنبقى على التحريم، فإن قلتَ: لمَ حرم ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه إسراف، وكسر لقلوب الفقراء.
(21)
مسألة: يُباح للرجل أن يُحلِّي مقبض السيف باليسير من الذهب؛ لقاعدتين: الأولى: السنة الفعلية؛ حيث "كانت قبيعة سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم مُحلَّاة باليسير من الذهب والفضة" لكون المقبض صغير فإذا كان بعضه مُحلَّى بالفضة، فلا يبقى إلا اليسير من الذهب، وهذا من اللوازم، الثانية: فعل الصحابي؛ حيث كان سيف عمر رضي الله عنه مُحلَّى باليسير من الذهب، فإن قلتَ: لمَ أُبيح ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه عزة للمسلمين مع عدم الإسراف في ذلك.
عليه، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم فاتخذ أنفًا من ذهب" رواه أبو داود وغيره، وصحَّحه الحاكم، وروى الأثرم "عن موسى بن طلحة وأبي جمرة الضبعي وأبي رافع، وثابت البناني، وإسماعيل بن زيد بن ثابت، والمغيرة بن عبد الله أنهم شدُّوا أسنانهم بالذهب"
(22)
(ويُباح للنساء من الذهب والفضة ما جرت عادتهن بلُبسه ولو كثُر) كالطَّوق والخلخال، والسوار، والقرض، وما في المخانق، والمقالد، والتاج، وما أشبه ذلك؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"أحلَّ الذهب والحرير لإناث أمتي، وحرِّم على ذكورها"
(23)
، ويُباح لهما
(22)
مسألة: يُباح للرجل أن يضع من الذهب ما تدعو الضرورة إليه وإن كثر: كأن يضع أنفًا من ذهب، أو أن يضع سنًا من ذهب، أو أن يربط أسنانه بشرائط من ذهب؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث "إن النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر عرفجة أن يتخذ أنفًا من ذهب" والذي صرف هذا الأمر من الوجوب إلى الإباحة هو وروده بعد حظر؛ حيث إنه يُحرم استعمال الذهب للرجل، فلما أمر به صلى الله عليه وسلم دلَّ على إباحة ذلك، الثانية: القياس، بيانه: كما أنه يجوز اتخاذ الأنف من الذهب، فكذلك يجوز اتخاذه لأي ضرورة أخرى، والجامع: دفع الضرر عن المسلم في كل، فإن قلتَ: لمَ أُبيح ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن الذهب لا يتغيَّر بطول مُكثه فهو أولى من غيره لدفع المفسدة عن المسلم، ودفع المفسدة مقدَّم على جلب المصلحة.
(23)
مسألة: يُباح للنساء لبس ما شاءت من الذهب والفضة على حسب عادة اللبس في ذلك سواء كثُر ذلك أو قلَّ؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "أُحلَّ الذهب والحرير لإناث أمتي، وحرم على ذكورها" وهذا عام، فيشمل القليل والكثير؛ لأن "الذهب" اسم جنس معرف بأل وهو من صيغ العموم، وإذا أحلَّ الذَّهب، فمن باب أولى أن يُحلَّ الفضة؛ لكونها أدون منه من باب "مفهوم الموافقة الأولى"، فإن قلتَ: لمَ أُبيح ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن =
تحلِّ بجوهر ونحوه
(24)
، وكره تختمهما بحديد، وصفر، ونحاس، ورصاص
(25)
(ولا زكاة في حُليهما) أي: حُلي الذكر والأنثى المباح (المعدِّ للاستعمال، أو العارية)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "ليس في الحلي زكاة" رواه الطبراني عن جابر، وهو قول أنس، وجابر، وابن عمر وعائشة، وأسماء أختها رضي الله عنهم، حتى ولو اتخذ الرجل حُلي النساء
الأصل تحريم الذهب والفضة على الذكر والأنثى، ولكن أحل للأنثى؛ نظرًا لحاجتها إليهما للتَّزيُّن لزوجها، مما يؤدِّي إلى وطئها، وهذا يكون سببًا في حملها، ثم ولادتها، وبذلك يكثر نسل المسلمين، وبهذا تتحقق مكاثرة الأمم؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم:"تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم".
(24)
مسألة: يُباح للرجل والمرأة أن يتحلَّيا بالجواهر، والزُّمرُّد، واللُّؤلؤ، والياقوت، والأحجار الكريمة بأي طريقة أرادا استعمالها فيها؛ للاستصحاب؛ حيث إن الأصل في هذه الأشياء الإباحة، فيُستصحب ذلك، ويُعمل به إذا لم يرد شيء يُغيِّر الحالة، فإن قلتَ: لمَ أُبيح ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تكريم للمسلمين، وإباحة مشاركتهم غيرهم في الزينة في حين أنه لا يُوجد في ذلك تكسير لقلوب الفقراء؛ لعدم معرفتهم لتلك الأشياء في العادة بخلاف الذهب والفضة.
(25)
مسألة: يُباح للرجل والمرأة أن يلبسا خاتمًا من حديد، أو صفر، أو نحاس، أو رصاص، بدون كراهة؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم:"ولو خاتمًا من حديد" حيث يلزم من ذلك أن الخاتم يكون من الحديد، ومن غيره مما شابهه، فإن قلتَ: لمَ أُبيح ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تزيُّن مع عدم التكلفة، فإن قلتَ: يُكره ذلك - وهو ما ذكره المصنف هنا - قلتُ: لم أجد دليلًا قويًا على ذلك.
لإعارتهن، أو بالعكس إن لم يكن فرارًا
(26)
(وإن أُعدَّ) الحلي (للكرى، أو النفقة،
(26)
مسألة: لا تجب الزكاة في حُلي المرأة والرَّجل من الذهب والفضة بشروط: أولها: أن يكون مباحًا كالخاتم من الفضة، وقبيعة السيف والمنطقة من الذهب والفضة أو ما أشبه ذلك أو اتخذه الرجل ضرورة - كما سبق -، ثانيها: أن يكون هذا الحلي مُعدًّا للاستعمال، أو مُعدًّا لإعارته للآخرين، ثالثها: أن لا يقصد في تحلِّيه بها، أو إعارتها الفرار والهروب عن الزكاة؛ لقواعد: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "لا زكاة في الحلي" وهذا عام في القليل والكثير والذكر والأنثى، لأن "زكاة" نكرة في سياق نفي، وهي من صيغ العموم، الثانية: فعل الصحابي؛ حيث ثبت عن بعض الصحابة أنهم كانوا لا يُزكون على حليهم من الذهب والفضة كأنس، وجابر، وابن عمر، وعائشة، وأسماء رضي الله عنهم، الثالثة: القياس، بيانه: كما أن العوامل من الإبل والبقر، وثياب القنية، والزينة لا زكاة فيها فكذلك الحلي من الذهب والفضة مثلها، والجامع: أن كُلًا منها قد أُعدَّ للاستعمال الشخصي المباح، فإن قلتَ: لمَ لا تجب الزكاة في الحلي؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه دفع ضرر عن المسلم؛ لأنه إذا زُكَّى ما يتحلَّى به لنقص ما عنده، دون نماء، وهذا مخالف للمقصد من مشروعية الزكاة، وهو: المواساة بين الفقير والغني، وعدم الإضرار بأحدهما، فإن قلتَ: تجب الزكاة في الحلي، وهو قول أكثر الحنفية وبعض الحنابلة وتبعهم ابن عثيمين؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث أمر صلى الله عليه وسلم امرأة أن تزكي ما عليها من أسورة، والأمر مطلق، فيقتضي الوجوب، الثانية: فعل الصحابي؛ حيث ثبت عن بعض الصحابة وجوب الزكاة فيها كعمر، وابن عباس، وابن مسعود رضي الله عنهم، قلتُ: أما الحديث: فهو ضعيف؛ -كما ذكر كثير من أئمة الحديث - وعلى فرض صحته: فيحتمل أن يكون المراد بزكاته: إعارته، وإذا تطرق الاحتمال إلى الدليل بطل به الاستدلال، أما قول الصحابي: فلا يُحتج به، لأنه مُعارض بقول صحابي آخر - كما قلنا - وإذا تعارضا: تساقطا، فإن قلتَ: لمَ =
أو كان محرمًا) كسرج ولجام، وآنية:(ففيه الزكاة) إن بلغ نصابًا وزنًا؛ لأنها إنما سقطت مما أُعدَّ للاستعمال بصرفه عن جهة النماء، فيبقى ما عداه على مقتضى الأصل
(27)
، فإن كان مُعدًّا للتجارة: وجبت الزكاة في قيمته كالعروض
(28)
، ومباح
وجبت الزكاة إذا قصد بالتحلِّي الفرار منها؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه منع بعض الناس من التحايل إلى تعطيل الزكاة، مما يُفضي إلى الإضرار بالفقير، فوجبت؛ معاملة له بنقيض قصده كمن طلَّق زوجته في مرض موته لحرمانها من الميراث: فإنها ترث فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض السنة القولية مع السنة القولية الأخرى" فعندنا: يُعمل بالسنة القولية الأولى؛ لضعف الثانية وعندهم: يُعمل بالثانية؛ لقوتها عندهم.
(27)
مسألة: الحلي المعدُّ للنَّماء - من ذهب وفضة - تجب فيه الزكاة كأن يُعدُّ للكراء والتأجير، أو كان مُعدًّا للنفقة منه على الأكل والشرب، أو كان مستعملًا في موضع لم يُجز الشارع استعماله فيه كأن يلبس الرجل الذهب من غير ضرورة، أو يضعه على السَّرج ولجام الدابة، أو الأواني، أو نحو ذلك بشرط بلوغه للنصاب - وهو (85) جرامًا من الذهب أو (56) ريالًا - وحولان الحول على ذلك؛ لقاعدتين: الأولى: الاستصحاب؛ حيث إن الأصل وجوب الزكاة في الحلي مُطلقًا، وإنما سقطت الزكاة عن ما أُعدَّ للاستعمال في المباح دون النماء، أما ما لم يُعد للاستعمال، أو استعمل في مواضع غير مباحة فتبقى على الأصل، وهو: وجوب الزكاة فيها، فإن قلتَ: لمَ وجبت الزكاة في ذلك؟ قلتُ: لأنه قابل للزيادة بتأجيره، ولأن الإنفاق منه فيه كسر لقلوب الفقراء؛ ولأن الرُّخص لا تكون في أمور غير مباحة.
(28)
مسألة: إذا كان الحلي من الذهب والفضة قد أُعدَّ للتجارة: فإن الزكاة تجب في قيمته: وطريقة ذلك: أن يُقيَّم الذهب البالغ نصابًا - وهو (85) جرامًا - والفضة البالغة (56) ريالًا بالريال السعودي مثلًا، والناتج يُخرج =
الصناعة إذا لم يكن للتجارة يُعتبر في النصاب بوزنه، وفي الإخراج بقيمته
(29)
، ويحرم أن يُحلَّى مسجد، أو يُموَّه سقف، أو حائط بنقد، وتجب إزالته، وزكاته بشرطه إلا إذا استهلك فلم يجتمع منه شيء
(30)
.
منه ربع عشرة، ويُعطى لأهل الزكاة؛ للقياس، بيانه: كما يُفعل ذلك في عروض التجارة من البهائم وغيرها، فكذلك يُفعل في عروض التجارة من الذهب والفضة والجامع: أنه في كل منهما يُحقق العدالة بالنسبة للمالك والفقير؛ إذ القيمة هي التي تقدِّر المال بدقة.
(29)
مسألة: إذا أُعدَّ الذهب والفضة للصناعة: فإنه يُنظر في النصاب إلى وزنه - وهو: (85) جرامًا من الذهب، و (56) ريالًا من الفضة -، ويُقيَّم الذهب والفضة ويُخرج ربع عشر قيمته؛ للقياس، بيانه: كما أن الحلي المعد للكرى يُعتبر في النصاب بوزنه، وفي الإخراج بقيمته فكذلك هذا مثله، والجامع: أن في كلا الحالتين مصلحة للمالك والفقير؛ إذ لا يفوت شيء من حقهما.
(30)
مسألة: يُحرَّم جعل نقد ذهب أو فضة في حيطان مسجد، أو محرابه، أو سقفه أو نحو ذلك، أو يُموَّه ذلك منهما، وإن وقع شيء من ذلك تجب إزالته، وتجب زكاته إن بلغ نصابًا وحال عليه الحول بنفسه أو بانضمامه إلى غيره؛ للقاعدتين: الأولى: الاستصحاب؛ حيث إن الأصل: وجوب الزكاة في الذهب والفضة، فيُستصحب ذلك، ويُعمل به حتى يرد شيء يُغيِّر الحالة، الثانية: القياس، بيانه: كما يُحرَّم على الرجل أن يلبس خاتمًا من ذهب وتجب عليه إزالته فكذلك هنا والجامع: الإسراف في كل، فإن قلتَ: لمَ شُرع ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه إسراف، والله لا يحب المسرفين وأن جعل الذهب والفضة في المسجد مشغل للمصلين عن عبادتهم، فدفعًا لذلك: شرع هذا.
هذه آخر مسائل باب "زكاة النقدين" ويليه باب "زكاة عروض التجارة"
باب زكاة العروض
جمع "عرْض" بإسكان الراء، وهو: ما أُعدَّ لبيع أو شراء؛ لأجل ربح، سُمِّي بذلك؛ لأنه يُعرض؛ ليُباع ويُشترى أو لأنه يعرض ثم يزول (إذا ملكها) أي: العروض (بفعله) كالبيع، والنكاح، والخلع، وقبول الهبة، والوصية، واسترداد المبيع (بنية التجارة) عند التملُّك، أو استصحاب حكمها فيما تُعوض عن عرضها (وبلغت قيمتها نصابًا) من أحد النَّقدين:(زكَّى قيمتها)؛ لأنها محلُّ الوجوب؛ لاعتبار النصاب بها، ولا تجزئ الزكاة من العروض
(1)
(فإن ملكها بـ) غير فعله
باب زكاة عروض التجارة
وفيه خمس عشرة مسألة:
(1)
مسألة: عروض التجارة وهي: كلُّ شيء أُعدَّ للمتاجرة فيه ببيع، أو شراء، وتأجير؛ لأجل الربح والمكسب من أي نوع من أنواع الأموال كالبهائم، والعقارات، والأقمشة، والكتب، والأواني، والذهب والفضة، وغيرها: تجب في قيمتها الزكاة بشروط: أولها: أن يكون الشخص قد ملكها بفعله بأن يشتريها، أو يبيعها، أو يقبلها كهدية، أو وصية، ثانيها: أن يقصد بها التكسُّب والمتاجرة عند تملُّكها، واستمرار ذلك، ثالثها: أن يبلغ قيمة ما يتاجر به نصابًا ويتم حوله عليه، فإذا اجتمعت تلك الشروط: وجب إخراج زكاتها، وهو ربع عشر قيمتها: فلو كان يملك عقارات، وبهائم، وثياب يُتاجر بها: فإنه بعد تمام الحول على ذلك: يُقيِّمها بالنَّقد المتعامل به في بلده، فلو كانت قيمة تلك الأشياء مائة ألف ريال - مثلًا -: فإنه يُخرج "ألفين وخمسمائة" ريالًا زكاة لها، ولا يُجزئ: أن يُخرج الزكاة من نفس العروض، فلو أخرج مثلًا ثوبًا أو بهيمة لتكون زكاة عما يُتاجر فيه منها: لما أجزأت؛ لقواعد: الأولى: السنة القولية؛ =
كـ (إرث أو) ملكها (بفعله بغير نية التجارة، ثم نواها) أي: التجارة بها: (لم تصر لها) أي: للتجارة؛ لأنها خلاف الأصل في العروض فلا تصير لها بمجرَّد النية
(2)
لا
حيث قال جابر بن سمرة: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نُخرج الزكاة مما نعدُّ للبيع" والأمر مطلق، فيقتضي الوجوب، وهذا عام لكل شيء يُعدُّ للتجارة؛ لأن "ما" من قوله:"مما" موصولة وهي من صيغ العموم الثانية: قول الصحابي؛ حيث قال أبو عمرو بن حماس: قال عمر لأبي: "أدِّ زكاة مالك" فقال أبي: مالي مال إلا جعاب وأدم فقال له: "قوِّمها، ثم أدِّ زكاتها" ويلزم من ذلك: أن ذلك كان يُتاجر بهما؛ لأن ما يُستعمل في البيوت لا يُزكى عليه بالاتفاق، الثالثة: المصلحة؛ حيث إن عروض التجارة تختلف أثمانها باختلاف أجناسها وأنواعها، ومنافعها فيشق إخراج زكاتها من عينها، وقد يفوت بعض حق الفقير، فدفعًا لذلك، وتحقيقًا لتأدية حقوق المالك والفقير: شُرع إخراج زكاة قيمة تلك العروض، فإن قلتَ: لمَ وجبت الزكاة في عروض التجارة بتلك الشروط؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن عروض التجارة مال تام ينمو فيتحمَّل المواساة، واشتُرط الأول؛ لكون فعله فيه دليل على التملُّك، واشتُرط الثاني: لأن تلك العقارات والبهائم لم تكن للتجارة أصلًا، فلا تصير لها إلا بنيتها وقصدها، واشتُرط الثالث؛ لكونه شرط وجوب الزكاة، فإن قلتَ: لمَ سُمِّيت بعروض التجارة؟ قلتُ: لكونها تعرض على الناس لتُباع وتُشترى من أجل التكسُّب والرِّبح.
(2)
مسألة: عروض التجارة تجب فيها الزكاة بمجرَّد أن ينويها للتجارة، ولو لم تكن للتجارة أولًا، فلو كنت تملك أرضًا أو سيارة - عن طريق الإرث أو الشراء، أو الهدي أو الصدقة، أو الهبة - وكنت تستعملهما استعمالًا خاصًا لنفسك، ثم بعد ذلك نويت أن تُؤجر الأرض أو السيارة، أو تُتاجر بهما، فإنهما تكونان للتجارة بمجرَّد تلك النية، وتجب فيهما الزكاة إذا بلغت =
حلي لبس إذا نواه لقنية، ثم نواه للتجارة فيُزكِّيه
(3)
(وتُقوَّم) العروض (عند) تمام (الحول بالأحظ للفقراء من عين) أي: ذهب (أو ورق) أي: فضة؛ فإذا بلغت
قيمتها النصاب، وحال عليهما الحول من وقت النية، ولو كان العكس: بأن اشتريت سيارة للمتاجرة بها، ثم مضت مدة، ثم نويت استعمالها استعمالًا شخصيًا: فلا تجب الزكاة فيها من وقت تلك النية؛ للسنة القولية وهي من وجهين: أولهما: قول جابر بن سمرة: "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نُخرج الصدقة مما نُعدُّه للبيع" وهذا عام؛ حيث إن النية تُعتبر إعداد، ثانيهما: قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات" حيث إنه بسبب النية يتغيَّر حكم العمل، فإذا نوى التجارة: وجبت الزكاة عليه وإذا نوى الاستعمال الشخصي: سقطت، فإن قلتَ: إذا ملك العروض بغير فعله كأن صارت في مُلكه بإرث، أو ملكها بفعله بغير نية التجارة، ثم نواها بعد ذلك لها: فلا تجب زكاتها؛ لكن لو باعها ثم اشترى غيرها ونوى بها التجارة ابتداء: وجبت الزكاة فيها إذا بلغت نصابًا، وحال على ذلك الحول وهو ما ذكره المصنف هنا؛ للتلازم؛ حيث يلزم من مُلكه لها بفعله مع النية: وجوب الزكاة، ويلزم من اختلال أحد الأمرين: عدم وجوبها قلتُ: تكفي النية في تغيير حكم الشيء، وإن لم يملكه بفعله كما قلنا فإن قلت: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض التلازم مع السنة القولية" فعملنا بعموم السنة، وهم عملوا بالتلازم المخصِّص لعموم تلك السنة.
(3)
مسألة: إذا اشترت امرأة حُليًا من ذهب أو فضة للقُنية والاستعمال الشخصي، فلا زكاة فيه - وقد سبق بيانه في مسألة (26) من باب "زكاة النقدين" -، فإذا نوت المتأجرة فيه: فتجب زكاته من حين وقت تلك النية؛ للسنة القولية؛ وهي من وجهين قد ذكرناهما في مسألة (2).
قيمتها نصابًا بأحد النَّقدين، دون الآخر: اعتبر ما تبلغ به نصابًا
(4)
، (ولا يُعتبر ما اشتريت به) لا قدرًا، ولا جنسًا، روي عن عمر رضي الله عنه، وكما لو كان عَرْضًا
(5)
، وتُقوَّم المغنية: ساذجة
(6)
،
(4)
مسألة: تُقوَّم العروض إذا بلغت نصابًا وحال عليها الحول بالأصلح للفقير، فإذا كان الأحظ والأصلح له أن يُقوِّمها بالذهب: فعله، وإذا كان الأحظ والأصلح له أن يُقوِّمها بالفضة والنقد المستعمل في الأسواق: فعله؛ للمصلحة؛ حيث إن ذلك أحوط لدين المالك، وأحفظ لحق الفقير.
(5)
مسألة: عند تقويم عروض التجار بعد تمام الحول: تُعتبر قيمتها عند تمام ذلك الحول، ولا يُعتبر قيمتها عند شرائها قبل عام لا من حيث القدر، ولا من حيث الجنس، فإذا بلغت نصابًا عند حولان الحول: وجبت تزكيتها، وإن لم تبلغ نصابًا: لا تجب تزكيتها؛ لقاعدتين: الأولى: التلازم؛ حيث يلزم من بلوغ النصاب، وحولان الحول على عين ذلك المال: وجوب الزكاة، بصرف النظر عن سابقه، الثانية: قول الصحابي؛ حيث قال عمر رضي الله عنه: "قَوِّمها وأدِّ زكاتها" وهذا يلزم منه وجوب ذلك بعد تمام الحول، وبلوغ النصاب، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك أحوط للمالك، وأنفع للفقير.
(6)
مسألة: إذا وُجد عند مسلم عبدٌ أو أمة يُغنِّيان أو يفعلان أيَّ شيء محرَّم من هذا النوع وهو يُتاجر بهما، وأراد تقويمهما، عند تمام الحول؛ لإخراج زكاتهما؛ فإنه يُقوِّمهما على أنهما ساذجان، أي: غير مُغنِّيين؛ للتلازم؛ حيث إن عدم مشروعية هذه الصنعة - وهي: الغناء - وتحريمها يلزم منه: عدم تقويمهما بها؛ لأنه لا قيمة لها شرعًا فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه إهانة لمن يفعل مثل هذه المنكرات.
والخصي بصفته
(7)
، ولا عبرة بقيمة آنية ذهب وفضة
(8)
(وإن اشترى عَرَضًا بنصاب من أثمان أو عروض: بنى على حوله)؛ لأن وضع التجارة على التغليب والاستبدال بالعروض والأثمان، فلو انقطع الحول به: لبطلت زكاة التجارة
(9)
(وإن اشتراه) أو باعه (بـ) نصاب (سائمة: لم يبنِ) على
(7)
مسألة: إذا وجد عند مسلم عبد خصي - وهو: مقطوع الخصيتين - وهو: يُتاجر به، وأراد تقويمه عند تمام الحول؛ لإخراج زكاته: فإنه يُقوِّمه بناء على صفة الخصي؛ لقاعدتين: الأولى: التلازم؛ حيث إن الاستدامة فيه ليست محرمة، فيلزم جوازه شرعًا، ويلزم من جوازه شرعًا: جواز تقويمه به، الثانية: المصلحة؛ حيث إن العبد ينقص ويزيد ثمنه بسبب الخصي وعدمه فكان لا بدَّ منه؛ حفاظًا لحقوق الآخرين، واحتياطًا للدِّين.
(8)
مسألة: إذا اتخذ مسلم آنية ذهب أو فضة، فإنه لا يُقيِّمها، ولا يُخرج زكاتها؛ للتلازم؛ حيث إن قيمة آنية الذهب والفضة محرَّمة فيلزم منه عدم إخراج زكاة ذلك؛ لأن الزكاة لا تكون من مال محرَّم؛ فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حث على عدم التعاون على الإثم والعدوان، أصله قوله تعالى:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} .
(9)
مسألة: إذا اشترى أرضًا للتجارة، وبعد مُضي أربعة أشهر استبدلها بمنزل للتجارة: فإنه يبني على حول الأرض، وعليه فإنه بعد ثمانية أشهر - بعد ملكه للمنزل - يُقيِّم ذلك المنزل، ويُخرج ربع عشر قيمته زكاة؛ للتلازم؛ حيث إنه يلزم من انقطاع الحول بالبيع والشراء، والاستبدال: عدم تحقق الزكاة في عروض التجارة؛ لأن التجارة مبنية على تغليب العروض، واستبدال الأملاك بغيرها؛ والبيع والشراء، وتغيير السلع؛ رغبة بالرِّبح ولذا: وجبت الزكاة في ذلك كله، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية للفقير من أن يُسلب حقوقه بالحيل.
حوله؛ لاختلافهما في النصاب والواجب
(10)
إلا أن يشتري نصاب سائمة للتجارة بمثله للقُنية؛ لأن السَّوم سبب للزكاة قُدِّم عليه زكاة التجارة؛ لقوَّتها، فبزوال المعارض يثبت حكم السوم؛ لظهوره
(11)
، ومن ملك نصابًا من السائمة لتجارة:
(10)
مسألة: إذا اشترى عَرَضًا من عروض التجارة، أو باعه بنصاب من بهيمة الأنعام السائمة: فلا يبني على حوله، بل يبدأ حساب حوله من وقت شرائه أو بيعه، فمثلًا: لو كان عندك خمسة آلاف ريال في شهر محرم، ثم اشتريت بها خمسًا من الإبل سائمة في شهر شعبان: فإن حساب الحول يبدأ من "شعبان" وكذا العكس: فلو كان عندك خمس من الإبل في محرَّم؛ فبعتها بخمسة آلاف ريال في شهر شعبان: فإن حساب حول الخمسة آلاف يبدأ من "شعبان" وهكذا؛ للتلازم، حيث إن اختلاف الجنس والنصاب، ومقدار الواجب بين النقود والبهائم يلزم منه اختلاف في الحول، فإن قلتَ: لمَ شرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه احتياط وحفظ لحق المالك والفقير.
(11)
مسألة: إذا اشترى أربعين شاة للتجارة مثلًا، وبعد مضي ستة أشهر باعها واشترى أربعين شاة للقنية، وهي سائمة: فإنه يبني على حول الأربعين التي اشتراها للتجارة، وعلى ذلك: فإذا مضى ستة أشهر أخرى: فإنه يُقيِّم ما عنده، ويُخرج ربع عشر قيمتها زكاة؛ للتلازم؛ حيث إن قوة التجارة يلزم منها تقديم زكاتها على زكاة السائمة، ويلزم من زوال نية التجارة: زكاتها بناء على أنها سائمة؛ نظرًا لظهور السَّوم على التجارة، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه احتياط للمالك، وإعطاء الفقير حقه، فإن قلتَ: لمَ كانت التجارة قوية في تزكيتها؟ قلتُ: لأن نية التجارة حين التملُّك تكفي في وجوب الزكاة فيها سواء حصل السوم فيها أو لا.
فعليه زكاة تجارة، وإن لم تبلغ قيمتها نصاب تجارة: فعليه زكاة السوم
(12)
، وإذا اشترى ما يُصبغ به ويبقى أثره كزعفران ونيل ونحوه: فهو عرض تجارة يُقوَّم عند حوله، وكذا: ما يشتريه دبَّاغ ليدبغ به كعفص، وما يدهن به كسمن، وملح
(13)
، ولا شيء في آلات الصَّبَّاغ، وأمتعة التجارة، وقوارير العطَّار إلا أن يُريد بيعها معها، ولا
(12)
مسألة: إذا ملك بهائم سائمة للتجارة، وكانت قيمتها قد بلغت نصاب تجارة: فإنه يُقوِّمها بنقد البلد الذي يعيش فيه، ثم يُخرج ربع عشر هذه القيمة، أما إن لم تبلغ قيمتها نصاب تجارة: فإنه يُزكِّيها زكاة البهائم السائمة، فيُخرج شاة عن أربعين شاة، ويُخرج بنت مخاض عن خمس وعشرين من الإبل، وهكذا - كما سبق -؛ للتلازم؛ حيث يلزم من قوة التجارة فيها تقديم زكاتها على زكاة السوم؛ ويلزم من عدم بلوغ قيمتها نصاب التجارة: أن يُزكِّيها زكاة السوم؛ لوجود سبب الزكاة، وهو: السوم، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: لما ذكرناه في مسألة (11).
(13)
مسألة: إذا وجد عند شخص ثياب أو أبواب أو نوافذ، ونحو ذلك يُتاجر بها واشترى لذلك أصباغًا لها، أو اشترى الصائغ ما يُعينه على صنعته كأن يشتري الدَّبَّاغ القرظ والصابون، أو يشتري الخباز الدهن والملح ونحو ذلك: فإن الأصباغ، والقرظ، والصابون، والدهن والملح تُعتبر من عروض التجارة، تجب فيها الزكاة، فيُقوِّم المشتري ذلك، ويُخرج ربع عشر القيمة، عند تمام الحول على شرائها؛ للتلازم؛ حيث إن تلك الأصباغ والدهن، والقرظ والصابون، والملح ونحوها تزيد في ثمن الأبواب والثياب، والخبز، أو الجلود المدبوغة فتتأثَّر التجارة بها فيلزم من ذلك: إخراج زكاة ذلك؛ لكونه داخلًا في عروض التجارة، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: لما فيها من المتاجرة فيها.
زكاة في غير ما تقدَّم
(14)
، ولا في قيمة ما أُعدَّ للكراء من عقار، وحيوان، وظاهر كلام الأكثر: ولو أكثر من شراء العقار فارًّا
(15)
.
(14)
مسألة: الآلات التي يستعملها التاجر لصنع الثياب، أو الأحذية، أو البهائم التي يحمل عليها أمتعته، وسياراته، وقوارير العطَّار، والزيَّات، وخشب البناء ونحو ذلك مما يبقى عنده، ولا يُريد بيعها: كل ذلك لا زكاة في قيمتها، أما إن أراد بيعها مع ما يبيعه: فإنه يُزكِّي على قيمتها كغيرها؛ للتلازم؛ حيث إن عدم نماء الآلات وحاجته إليها: يلزم منه عدم تزكيتها؛ لما فيه من الضرر على المالك، ويلزم من نيته في بيعها: تزكية قيمتها؛ لكونها عروض تجارة تنبيه: قوله: "ولا زكاة في غير ما تقدم" يقصد المسائل السابقة وما شابهها.
(15)
مسألة: لا زكاة في قيمة العقارات والحيوانات، والسيارات والقطارات، والطائرات ونحوها مما أُعدَّ للكراء والتأجير، سواء كثُرت، أو قلَّت، وسواء كان مالكها يفعل ذلك فرارًا من الزكاة أو لا، وإنما الزكاة في أجرتها إذا بلغت النصاب وحال عليها الحول، فيجمعه ويُخرج ربع عشره؛ للتلازم؛ حيث إن الزكاة فيما يرصد للنَّماء بالتجارة، وهذا ليس بمال تجارة؛ لكونه لا نماء فيه، فيلزم: عدم وجوب الزكاة في أعيانها، وإنما تكون الزكاة في أجرتها فإن قلتَ: لمَ لا تجب الزكاة في قيمة العين المؤجَّرة؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إنه لو وجبت الزكاة في تلك العين لتضرَّر المالك، ودفع الضرر واجب، فإن قلتَ: لمَ لا تجب الزكاة في قيمة العين المؤجَّرة إن قصد الفرار من الزكاة مع أن من باع مُلكًا له فرارًا من الزكاة: وجبت عليه الزكاة؟ قلتُ: لوجود الفرق بينهما وهو: أنَّ الذي يُؤجِّر العين فرارًا من زكاتها قد نوى وقصد: أنه سيُخرج زكاة الأجرة إذا بلغت نصابًا وحال عليها الحول، أما من باع مُلكًا فرارًا من الزكاة: فإنه قصد عدم دفع زكاة هذا العين مُطلقًا، فلما اختلف المقصد: اختلف الحكم ومعلوم أن الأمور بمقاصدها.
هذه آخر مسائل باب "زكاة عروض التجارة" ويليه باب "زكاة الفطر"
باب زكاة الفطر
هو: اسم مصدر من "أفطر الصائم إفطارًا"، وهذه يُراد بها الصدقة عن البدن، وإضافتها إلى "الفطر" من إضافة الشيء إلى سببه
(1)
(تجب على كل مسلم) من أهل البوادي وغيرهم، وتجب في مال اليتيم؛ لقول ابن عمر رضي الله عنهم: "فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر: صاعًا من بُرٍّ، أو صاعًا من شعير على العبد، والحر، والذكر، والأنثى، والصغير، والكبير من المسلمين، وأمر بها أن تؤدَّى قبل خروج الناس إلى
باب زكاة الفطر
وفيه خمس وثلاثون مسألة:
(1)
مسألة: المراد بزكاة الفطر: صدقة الفطر الواجبة التي تُدفع قبل صلاة عيد الفطر، فإن قلتَ: لمَ شُرعت زكاة الفطر؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إنها سبب لطهرة الصائم من اللغو والرفث، فتكون مُكفِّرة لما حصل منه من الخلل أثناء صيامه، وهي سبب أيضًا لإغناء الفقراء والمساكين ومنعهم من أن يتكفَّفوا ويسألوا الناس في يوم العيد، فيكون فيها إعزاز لهم، وهو ما نص عليه الحديث؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم:"أغنوهم عن المسألة في هذا اليوم" فإن قلتَ: لمَ ذُكرت زكاة الفطر في كتاب الزكاة مع أنها مُختصَّة برمضان؟ قلتُ: لكونها من الواجبات المالية، ولأنها تُعتبر زكاة عن البدن والنفس، فإن قلتَ: لمَ سُمِّيت بصدقة الفطر؟ قلتَ: لأن الزكاة تسمَّى صدقة شرعًا قال تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ .. } وقال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ: "وأعلمهم أن الله قد افترض عليهم صدقة تُؤخذ من أغنيائهم وتُدفع إلى فقرائهم" فإن قلتَ: لمَ أضيفت الزكاة إلى الفطر؟ قلتُ: لبيان أن سبب هذه الزكاة هو: الإفطار من صيام رمضان، وأنه مُكفِّر للخلل الذي حصل في صيامه من باب:"إضافة الشيء إلى سببه" وهي تسمية مجازية.
الصلاة" متفق عليه، ولفظه للبخاري
(2)
(فضُل له) أي: عنده (يوم العيد وليلته صاع عن قوته وقوت عياله)؛ لأن ذلك أهم فيجب تقديمه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "ابدأ بنفسك ثم بمن تعول"
(3)
، ولا يُعتبر لوجوبها ملك نصاب
(4)
، وإن فَضُل بعض
(2)
مسألة: يجب على كل مسلم أن يُخرج صاعًا من تمر - ونحوه مما سيأتي ذكره -: سواء كان هذا المسلم كبيرًا أو صغيرًا، حرًا أو عبدًا، حضريًا أو بدويًا، ذكرًا أو أنثى، وسواء صام رمضان كله، أو بعضه، أو لم يصمه؛ لعذر كنفاس، أو حيض، أو مرض أو سفر، أو كِبر؛ للسنة القولية؛ حيث قال ابن عمر:"فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر: صاعًا من تمر، أو صاعًا من شعير على العبد والحر والذكر والأنثى والكبير والصغير من المسلمين" وهذا عام فيشمل جميع ما ذكرنا؛ لأن لفظ "المسلمين" جمع معرَّف بأل وهو من صيغ العموم، ولفظ "فرض" من صيغ الوجوب.
(3)
مسألة: يُشترط لوجوب زكاة الفطر: أن يكون هذا الصاع الذي يُريد إخراجه زكاة قد فضل وزاد عن قوت نفسه، وقوت من يعول من أولاد وزوجات وعبيد وغيرهم ممن تجب نفقتهم عليه، وذلك في ليلة العيد ويومه إلى قبل صلاة العيد، أما إن كان محتاجًا إلى ذلك الصاع هو أو أحد ممن يعول: فإنها تسقط عنه؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "ابدأ بنفسك ثم بمن تعول" وهذا عام، فيشمل ما نحن فيه، فيجب على المسلم أن يبدأ بنفسه بإغنائها عن السؤال، فإن زاد شيء: وجب أن يُخرجه، لأن الأمر هنا مطلق فيقتضي الوجوب، و"ثم" للعطف مع الترتيب والتراخي فلزم ما قلناه، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تقديم الأهم، وهي إغناء النفس؛ لإعزازها وإكرامها - على المهم - وهو: إغناء الآخرين.
(4)
مسألة: لا يُشترط لوجوب زكاة الفطر: أن يملك المسلم نصابًا من الثمار والحبوب، وعليه: فتجب على الفقير الذي لا يملك إلا ما يُغنيه ويحتاجه إلى =
صاع: أخرجه؛ لحديث: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم"
(5)
(و) يُعتبر كون ذلك كله بعد (حوائجه الأصلية) لنفسه أو لمن تلزمه مؤنته من مسكن، وعبد، ودابة، وثياب بذلة، ونحو ذلك
(6)
(ولا يمنعها الدَّين)؛ لأنها ليست واجبة في المال
يوم العيد وليله وزيادة ذلك الصاع؛ للسنة القولية؛ وهي حديث ابن عمر السابق ذكره في مسألة (2)؛ حيث يشمل الغني والفقير، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: لكونه قد حصل له الغنى ذلك اليوم وليلته فاحتمل ماله مواساة الفقراء.
(5)
مسألة: يجب إخراج بعض الصاع إن كان هو الفاضل فقط عن حاجته وحاجة من يعول؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" وهذا عام، فيشمل ما نحن فيه؛ حيث إن زكاة الفطر أُمر بإخراجها أمر إيجاب، وهذا لا يستطيع إخراج صاع كامل، فيُخرج ما يستطيعه منه وجوبًا، لأن الأمر في قوله:"فأتوا منه" مطلق، وهو يقتضي الوجوب، ولفظ "من" هنا للتبعيض، فوجب إخراج بعضه، و"ما" الموصولة من صيغ العموم، فإن قلتَ: لمَ وجب هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه سدُّ بعض حاجة الفقير، وهو أولى من أن لا يُحرم كليًا.
(6)
مسألة: يُشترط لوجوب زكاة الفطر: أن يكون هذا الصاع الذي يُريد إخراجه زكاة فاضلًا وزائدًا عن حوائجه الأصلية وحوائج من يعولهم: فلا يحتاجه لمسكن أو ملبس، أو خدمة، أو مركوب أو ثياب زينة في هذا اليوم، ولا يحتاجه لفراش أو غطاء أو أي أثاث فمثلًا: لو كان يجد صاعًا من بُرٍّ ولكنه يحتاج إلى ثمنه ليستأجر دابة ليركب عليها لضرورة أو حاجة: فإن زكاة الفطر تسقط عنه؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا ضرار في الإسلام" وهذا عام؛ لأن "ضرر وضرار" نكرة في سياق نفي، وهذا من صيغ العموم، فيشمل ما نحن فيه؛ حيث إنه إذا دفع ذلك الصَّاع وهو مُحتاج إلى ثمنه للحقه ضرر، فدفعًا لذلك شرع، وهذا هو المقصد الشرعي منه.
(إلا بطلبه) أي: طلب الدَّين، فيُقدِّمه إذن؛ لأن الزكاة واجبة؛ مواساة، وقضاء الدَّين أهم
(7)
(فيُخرج) زكاة الفطر (عن نفسه)؛ لما تقدَّم (و) عن (مسلم يمونه) من الزوجات، والأقارب، وخادم زوجته إن لزمته مؤنته، وزوجة عبده الحرة، وقريبه الذي يلزمه إعفافه؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم:"أدُّوا الفطرة عمَّن تمونون"
(8)
، ولا تلزمه فطرة من يمونه من الكفار؛ لأنها طهرة للمُخرج عنه، والكافر لا يقبلها؛ لأنه لا
(7)
مسألة: لا يمنع الدَّين غير المطالب به زكاة الفطر، وعليه: فتجب زكاة الفطر وإن كان عليه دين إلا إذا طالب الدائن المدين بذلك الدين: فتسقط عنه زكاة الفطر هنا، للقياس، بيانه: كما أن النفقة واجبة على المسلم وإن كان عليه دين فكذلك زكاة الفطر واجبة مثلها والجامع: أن كلًا منهما طُعْمة، فيُطعمُها الفقراء كما يُطعِم عياله يوم العيد وليلته، فإن قلتَ: لمَ وجبت زكاة الفطر وإن كان عليه دين غير مطالب به؟ قلتُ: لعدم وجوبها في المال، ولتأكُّدها، فإن قلتَ: لمَ سقطت زكاة الفطر عن الشخص الذي يُطالب بدين؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن سداد الدَّين المطالب به يدفع عنه مفسدة ومضرَّة المطالبة، والضيق والحرج، وإخراج زكاة الفطر مواساة للفقراء لا يُطالب بها عند العجز عنها، فسقطت الزكاة هنا؛ لأن دفع المفسدة مُقدَّم على جلب المصلحة.
(8)
مسألة: إن كان المسلم قادرًا على إخراج زكاة الفطر عن نفسه وعمَّن يمون من قرابته من الزوجات والأولاد، والأقارب، ومن يلزمه إعفافه ونفقته من غيرهم كخادمه، وزوجة عبده الحرة: فإنه يجب أن يُخرجها عنه وعنهم؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "ابدأ بنفسك ثم بمن تعول" وقد سبق بيانه وتقريره في مسألة (3) تنبيه: ما ذكر المصنف مما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أدوا الفطرة .. " قد ضعَّفه كثير من أئمة الحديث، وبعضهم ذكر أنه موقوف على راويه.
يُطهره إلا الإسلام، ولو عبدًا
(9)
، ولا تلزمه فطرة أجير وضئر استأجرهما بطعامهما
(10)
، ولا من وجبت نفقته في بيت المال
(11)
(ولو) تبرَّع بمؤنة شخصٍ جميع
(9)
مسألة: إذا كان المسلم يمون بعض الكفار كعبيد وزوجات وإماء: فلا يجب عليه إخراج زكاة الفطر عنهم، وكذا: العكس، فلو كان الكافر يمون بعض المسلمين كأن يكون بعض المسلمين تحت يد كافر: فلا يجب عليه إخراج زكاة الفطر عنهم أيضًا؛ للسنة القولية؛ حيث قال ابن عمر رضي الله عنهم: "فرض رسول الله زكاة الفطر .. " إلى قوله: "من المسلمين - وقد سبق في مسألة (2) - حيث دلَّ مفهوم الصفة من "المسلمين" على أن الكافر لا تُخرج عنه زكاة الفطر، ولا يُخرج هو عن المسلم، فإن قلتَ: لمَ لا يُخرج المسلم عمَّن يمونه من الكفار؟ قلتُ: لأن زكاة الفطر طهرة عن مُخرجها، والكافر لا يُطهِّره إلا دخوله في الإسلام، فإن قلتَ: لمَ لا يخرج الكافر عمن يمونه من المسلمين؟ قلتُ: لأن الكافر غير مخاطب بفروع الشريعة في الدنيا، والمسلم تسقط عنه زكاة الفطر بهذا العذر - وهو كونه تحت يد كافر - وقد بينتُ ذلك في كتابي: "الإلمام في مسألة تكليف الكفار بفروع الإسلام".
(10)
مسألة: إذا كان زيد مستأجرًا لعمرو ليعمل عنده، أو كان مستأجرًا لزينب لتُرضع له ولده - وهو: الضئر - وكانت هذه الأجرة هي: إطعامهما وقت الأجرة، فجاء عيد الفطر وهما عنده: فلا تجب على زيد أن يُخرج زكاة الفطر عنهما؛ للقياس، بيانه: كما لو اشترى زيد من عمرو وزينب شيئًا: فلا يجب على زيد إلا أن يدفع المتفق عليه من الثمن فكذلك هنا، والجامع: عدم وجوب الزيادة على المستأجِر، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه دفع مضرَّة عن زيد.
(11)
مسألة: إذا وجبت نفقة زيد على بيت المال؛ نظرًا لكونه لقيطًا - لا يُعرف نسبه - أو عبدًا - لا يُعرف سيِّده -: فإن زكاة فطرته تُؤخذ من بيت المال؛ =
(شهر رمضان): أدَّى فطرته؛ لعموم الحديث السابق، بخلاف ما لو تبرَّع به بعض الشهر
(12)
(فإن عجز عن البعض) وقدر على البعض: (بدأ بنفسه)، لأن نفقة نفسه مُقدَّمة فكذا: فطرتها (فامرأته)؛ لوجوب نفقتها مُطلقًا، ولآكديتها، ولأنها معاوضة (فرقيقه)؛ لوجوب نفقته مع الإعسار، ولو مرهونًا، أو مغصوبًا، أو غائبًا، أو لتجارة (فأمُّه): لتقديمها في البر (فأبيه)؛ لحديث: "من أبرُّ يا رسول الله؟ "، (فولده)؛ لوجوب نفقته في الجملة (فأقرب في ميراث)؛ لأنه أولى من غيره
(13)
، فإن استوى
للقياس؛ بيانه: كما وجبت نفقته على بيت المال فكذلك زكاة الفطر مثلها والجامع: أن كلًا منهما طُعمة، وهو حق من حقوقه.
(12)
مسألة: إذا تبرَّع وتطوَّع زيد بأن يقوم بمؤنة عمرو والنفقة عليه طوال شهر رمضان: فيُستحب أن يُخرج زيد عنه زكاة الفطر، ولا تجب عليه؛ للتلازم؛ حيث يلزم من عدم وجوب نفقة عمرو على زيد شرعًا: عدم وجوب زكاة الفطر على زيد عنه؛ لكون زيدًا قد تبَّرع وتطوع فقط بنفقته، فإن قلتَ: بل تجب على زيد زكاة الفطر عن عمرو إن أنفق عليه طوال الشهر، بخلاف ما لو أنفق عليه بعض الشهر فلا تجب - وهو: ما ذكره المصنف هنا - قلتُ: لم أجد دليلًا قويًا على ذلك، والحديث الذي استُدل به - وهو:"أدُّوا الزكاة .. " - ضعيف كما سبق ذكره.
(13)
مسألة: إذا كان يمون عددًا من الأقرباء والعبيد ولا يقدر على إخراج زكاة جميعهم فيلزم ما يلي: أولًا: أن يبدأ بنفسه فيُخرج الزكاة عنها؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "ابدأ بنفسك" وقد سبق بيانه، ثانيًا: إن بقي شيء: فإنه يُخرجه زكاة عن زوجته، للتلازم؛ حيث إن وجوب نفقتها على سبيل المعاوضة عن الوطء مع العسر واليُسر يلزم منه تأكد نفقتها على زوجها، وتقديمها على أقربائه، فيلزم من ذلك تقديم إخراج زكاة الفطر عنها على =
اثنان فأكثر ولم يفضل إلا صاع: أُقرع
(14)
(والعبد بين شركاء عليهم صاع) بحسب مُلكهم فيه كنفقته، وكذا: حرٌّ وجبت نفقته على اثنين فأكثر يُوزَّع الصاع بينهم
غيرها؛ لكون غيرها من الأقرباء تلزم نفقتهم مع اليُسر فقط، ثالثًا: إن بقي شيء بعد ذلك: فإنه يُخرجه عن عبده: سواء كان عنده أو لا؛ للتلازم؛ حيث يلزم من وجوب نفقة العبد مع اليُسر والعسر: وجوب تقديمه على غيره في إخراج زكاة الفطر، رابعًا: إن بقي شيء بعد ذلك: فيُخرجه عن أُمِّه؛ للتلازم؛ حيث إن تقديمها في البِّر على الأب ثلاث مرات، وضعفها عن التكسُّب بنفسها يلزم منه تقديمها على الأب، خامسًا: إن بقي شيء بعد ذلك: فإنه يُخرجه عن أبيه؛ للتلازم؛ حيث إن ذكره بعد الأم في البر: يلزم جعله بعدها في الرتبة في ذلك، سادسًا: إن بقي شيء بعد ذلك: فيُخرجه عن أولاده - بنين أو بنات -؛ للتلازم؛ حيث إن وجوب نفقة الولد على الوالد في الجملة: يلزم منه تقديمه على غيره من الأقرباء خاصة الصغير منهم؛ لعجزه عن التكسُّب، سابعًا: إن بقي شيء بعد ذلك: فيُخرجه عن أقرب وارث له؛ للتلازم؛ حيث يلزم من تقديمه في الميراث: تقديمه في إخراج الزكاة عنه، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا الترتيب؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تقديم الأهم والأحق في المؤنة والمسؤولية.
(14)
مسألة: إن وُجد قريبان متساويان في الرُّتبة، وليس عنده إلا صاع واحد: كأن يكون عنده زوجتان، أو عبدان، أو ولدان: فإنه يُقرع بينهما: فمن أصابته القرعة: أخرج عنه ذلك الصاع، وترك الآخر ولا يُخرج نصفه عن واحد، والنصف الآخر عن الآخر؛ للتلازم؛ حيث إن تساوي المستحقين، وعدم وجود المرجِّح: يلزم الحكم بالقرعة؛ لكونها طريقًا من طرق تقسيم الحقوق إذا تساوى المستحقون؛ إذ لا يجوز ترجيح بدون مُرجِّح، ويلزم من أن الصاع كاملًا هو المشروع: أن لا يُجزئ بعضه عن مسلم.
بحسب النفقة؛ لأن الفطرة تابعة للنفقة
(15)
(ويُستحبُّ) أن يخرج (عن الجنين)؛ لفعل عثمان رضي الله عنه، ولا تجب عنه؛ لأنها لو تعلَّقت به قبل ظهوره: لتعلَّقت الزكاة بأجنَّة السوائم
(16)
(ولا تجب لـ) زوجة (ناشز)؛ لأنها لا تجب عليه نفقتها، وكذا:
(15)
مسألة: إذا وجد عبد يملكه اثنان أو أكثر: فإنه يُخرج عنه صاع يشترك فيه هؤلاء الشركاء في العبد، فلو اشترك أربعة في عبد: فإن كلَّ واحد منهم يدفع ربع الصاع، وكذا: الحرُّ إذا وجبت نفقته على مجموعة كأن يشترك أربعة أبناء في الإنفاق على أبيهم: فإن كلَّ واحد منهم يجب عليه ربع صاع وهكذا؛ للقياس؛ بيانه: كما أن نفقة العبد المشترك بين أشخاص، ونفقة الحر الواجبة على المتساويين في النفقة يشترك الجميع في ذلك، فكذلك يشتركون في الصاع الذي يُخرج زكاةً للفطر عن هذين، والجامع: الشراكة في كل، فإن قلتَ: لا تجب زكاة الفطر عن العبد المشترك وهو قول كثير من الحنفية؛ للقياس، بيانه: كما أن المكاتب لا تجب على سيده زكاة الفطر عنه، فكذلك العبد المشترك مثله والجامع: الشراكة في العبد، قلتُ: هذا فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ حيث إن المكاتب لا تلزم سيده نفقته؛ لكونه اشترى نفسه من سيده على أقساط، فأصبح بذلك مسؤولًا عن نفسه في النفقة؛ بخلاف العبد المشترك؛ حيث تجب نفقته على الشركاء فيه، والفطرة تابعة للنفقة، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض القياسين" فنحن ألحقناه بالنفقة على العبد؛ لأنه أكثر شبهًا بذلك، وهم ألحقوه بالمكاتب؛ لأنه أكثر شبهًا به عندهم، وهذا يُسمَّى بـ "قياس الشَّبه" أو "غلبة الأشباه".
(16)
مسألة: يُستحب أن تُخرج زكاة الفطر عن الجنين - وهو: ماله أربعة أشهر في بطن أمِّه -؛ لفعل الصحابي؛ حيث إن عثمان رضي الله عنه قد أخرج عنه، فإن قلتَ: لمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك يُعتبر صدقة مُطلقة؛ شكرًا لله تعالى كسائر الصدقات، فإن قلتَ: لمَ لا تجب الزكاة هنا؟ قلتُ: لكون الجنين لم =
من لم تجب نفقتها؛ لصغر ونحوه؛ لأنها كالأجنبية ولو حاملًا
(17)
، ولا لأمة تسلَّمها ليلًا فقط وتجب على سيِّدها
(18)
(ومن لزمت غيره فطرته) كالزوجة والنسيب
تثبت له أحكام الدنيا - إلا في الإرث والوصية - فلم تتعلَّق به الزكاة كأجنَّة البهائم السائمة، فإن قلتَ: لمَ حُدِّد ذلك بأربعة أشهر؟ قلتُ: لكونه إذا وصل إلى هذه المدَّة تُنفخ فيه الروح كما في الحديث، ولذلك إذا سقط بعد هذه المدة يُغسَّل ويُكفَّن، ويُصلى عليه، بخلاف من سقط قبل ذلك: فلا يُفعل به ذلك؛ لكونه ليس بإنسان.
(17)
مسألة: لا يجب على الزوج أن يُخرج زكاة الفطر عن زوجته الناشز - وهي التي تعصيه، وتترفَّع عليه، وتأتي بأفعال أو أقوال تحطُّ من كرامته، ولا تُطيعه إلا وهي مكرهة -، وكذلك المسافرة لقضاء حاجتها ولو كانت حاملًا؛ للقياس، بيانه: كما أن النفقة تسقط عن تلك الزوجة والأجنبية، فكذلك زكاة الفطر تسقط عنه والجامع: أن كلًا منهما يُعتبر نفقة، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه منع للزوجات من العصيان والنشوز، فإن قلتَ: إن الزوجة الناشز الحامل يجب على زوجها إخراج زكاة الفطر عنها، وهو قول بعض العلماء؛ للقياس، بيانه: كما تجب النفقة على الحامل فكذلك يجب إخراج زكاة عنها، لأن الفطرة تابعة للنفقة قلتُ: هذا فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ حيث إن الإنفاق واجب بسبب الحمل فقط، أما الفطرة فلا تجب للمحمول به بل مُستحب - كما سبق في مسألة (16) -، فلا دخل للزوجة الحامل بهذا الإنفاق، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض القياسين" فألحقناها بالأجنبية؛ لكونها أكثر شبهًا بها، وألحقوها هم بالحامل؛ لأنها أكثر شبهًا بها عندهم.
(18)
مسألة: إذا اشترى زيد من عمرو أمة، وتسلَّمها زيد ليلة عيد الفطر: ففطرتها تكون على عمرو؛ للتلازم؛ حيث إن عمرًا قد أنفق على تلك الأمة في النهار -=
المعسر (فأخرج عن نفسه بغير إذنه) أي: إذن من تلزمه: (أجزات)؛ لأنه المخاطب بها ابتداءً، والغير مُتحمِّل
(19)
، ومن أخرج عمَّن لا تلزمه فطرته بإذنه: أجزأ، وإلا: فلا
(20)
(وتجب) الفطرة (بغروب الشمس ليلة) عيد (الفطر) لإضافتها إلى الفطر، والإضافة تقتضي الاختصاص والسببية، وأول زمن يقع فيه الفطر من جميع رمضان: مغيب الشمس من ليلة الفطر (فمن أسلم بعده) أي: بعد الغروب (أو ملك عبدًا) بعد الغروب (أو تزوَّج) زوجة بعد الغروب (أو وُلد له ولد) بعد الغروب: (لم تلزمه فطرته) في جميع ذلك؛ لعدم وجود سبب الوجوب (و) إن
ومعلوم أن النهار هو زمن النفقة - فيلزم أن يُخرج - أي: عمرو - فطرتها، لكون الفطرة تابعة للنفقة.
(19)
مسألة: إذا كان زيد يمون ولدًا من أولاده، ثم أخرج هذا الولد فطرته عن نفسه: فإنها تُجزئ: سواء أذن زيد أو لم يأذن وكذلك زوجته، وأبوه ونحو ذلك يقال فيهم مثل القول في ولده؛ للاستصحاب؛ حيث إن الأصل: أن يُخرج كل مسلم فطرته عن نفسه؛ لأنه المخاطب بها، فإذا أخرجها عن نفسه فقد عمل بالأصل، تنبيه: كون زيد تحمَّلها؛ نظرًا لإعسار من يمونهم، فإذا أخرجها هؤلاء فإنهم أدُّوا ما عليهم أصلًا وابتداء.
(20)
مسألة: إن كان زيد لا تلزمه مؤنة عمرو، وأخرج فطرة عمرو: فإنها تُجزئ عن عمرو إن أذن لزيد بذلك، فإن لم يأذن عمرو له: فلا يُجزئ هذا الإخراج، وبناء عليه: يجب أن يُخرج عمرو فطرته؛ للتلازم؛ حيث يلزم من إذن عمرو لزيد ذلك: إجزاء ذلك الإخراج عنه، ويلزم من عدم إذنه: عدم الإجزاء؛ لأن الأصل: وجوب الفطرة على كل أحد بنفسه.
وُجدت هذه الأشياء (قبله) أي: قبل الغروب: (تلزم) الفطرة لمن ذكر؛ لوجود السبب
(21)
(ويجوز إخراجها) مُعجَّلة (قبل العيد بيومين فقط)؛ لما روى البخاري بإسناده عن ابن عمر رضي الله عنهم: "فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر من رمضان" وقال في آخره: "وكانوا يعطون قبل الفطر بيوم أو يومين"، وعُلم من قوله:"فقط": أنها لا تجزئ قبلهما؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "أغنوهم عن الطلب في هذا اليوم"، ومتى قدَّمها بالزمن الكثير: فات الإغناء المذكور
(22)
(و) إخراجها (يوم العيد قبل) مُضيه إلى
(21)
مسألة: وقت وجوب إخراج زكاة الفطر هو: غروب الشمس من ليلة عيد الفطر - وهو غروب شمس آخر يوم من أيام رمضان -، وبناء عليه: فلو أسلم شخص، أو ملك مسلم عبدًا مُسلمًا، أو وُلد له مولود، أو تزوَّج مُسلمة، أو أيسر بعد غروب الشمس ليلة عيد الفطر بلحظة: فلا تجب عليهم زكاة الفطر، ولو حصل ذلك قبله بلحظة: وجبت زكاة الفطر؛ للتلازم؛ حيث إن إضافة الزكاة إلى الفطر يلزم منه: أن يكون الفطر سببًا لوجوب الزكاة؛ لأن فطر رمضان جميعه يحصل بغروب الشمس من آخر يوم من رمضان فيتعلَّق الوجوب به، فيكون ما حدث بعد الغروب - من: إسلام، أو تملُّك عبد، أو ولادة، أو زواج أو يُسر - شيء قد حَدَث بعد خروج وقت الوجوب، كمن ملك مالًا جديدًا بعد إخراج زكاة ماله الأول فإن حوله يبدأ من حين ملكه الجديد كما سبق، ويلزم من حدوث هذه الأشياء قبل الغروب: وجوب زكاتهم؛ لوجودها قبل خروج وقته.
(22)
مسألة: يُباح إخراج زكاة الفطر قبل يوم العيد بيوم أو يومين فقط، ولا يُجزئ إخراجها قبل ذلك؛ لقاعدتين: الأولى: إجماع الصحابة؛ حيث قال ابن عمر رضي الله عنهم: "كانوا يُعطون قبل الفطر بيوم أو يومين" وهذا عام لجميع الصحابة؛ حيث إن "واو الجماعة" من صيغ العموم، ودل مفهوم الزمان منه على عدم =
(الصلاة: أفضل)؛ لحديث ابن عمر السابق أول الباب
(23)
(وتكره في باقيه) أي:
جواز إخراجها قبل الفطر بثلاثة أيام أو أكثر، الثانية: السنة القولية: حيث قال صلى الله عليه وسلم: "أغنوهم عن السؤال في هذا اليوم" حيث يلزم من قوله: "اغنوهم": أن لا تُخرج قبل الفطر بثلاثة أيام؛ حيث إنها ستنتهي غالبًا بأكلها، إذا أخرجت قبل الفطر بثلاثة أيام، ولا يتمُّ إغناؤهم في يوم العيد، فإن قلتَ: لمَ أُبيح إخراجها قبل الفطر بيوم أو يومين؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تيسير وتوسعة على المسلمين، ولا يُخلُّ ذلك بالمقصود منها؛ حيث إنها ستبقى غالبًا إلى آخر يوم العيد، فيتم الإغناء بها، فإن قلتَ: يُباح إخراجها من أول يوم من أيام رمضان، وهو قول الحنفية وبعض الشافعية، وقال آخرون: يُباح إخراجها من مُنتصف، رمضان، للسنة القولية؛ حيث قال ابن عمر:"فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر: صاعًا من تمر .. " وهذا مُطلق في الأزمان، فيشمل ما ذُكر قلتُ: هذا مُقيَّد بالقاعدتين اللَّتين قد ذكرناهما - وهما: الإجماع، والسنة القولية - وقد سبق بيانهما، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض السنة القولية التي رواها ابن عمر مع السنة القولية وهي قوله: "اغنوهم
…
" والإجماع فعندنا: أن السنة القولية التي رواها ابن عمر قد قيدت بالسنة القولية الأخرى، والإجماع وعندهم: لا.
(23)
مسألة: أفضل وقت لإخراج زكاة الفطر هو: يوم العيد، قبل خروج المسلم إلى صلاة العيد؛ للسنة القولية؛ حيث قال ابن عمر:"أمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تؤدَّى قبل خروج الناس إلى الصلاة" وإجماع الصحابة قد صرف هذا الأمر من الوجوب إلى الندب؛ حيث قال ابن عمر: "كانوا يُعطون قبل الفطر بيوم أو يومين" وقد سبق تقريره في مسألة (22) فإن قلتَ: لمَ كان ذلك هو أفضل وقت؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك سيُحقِّق إغناء الفقير عن السؤال في يوم العيد.
باقي يوم العيد بعد الصلاة
(24)
(ويقضيها بعد يومه) ويكون (آثمًا) بتأخيرها عنه؛ لمخالفته أمره صلى الله عليه وسلم بقوله: "أغنوهم في هذا اليوم" رواه الدارقطني من حديث ابن عمر
(25)
ولمن وجبت عليه فطرة غيره: إخراجها مع فطرته مكان نفسه
(26)
فصل:
(24)
مسألة: يُكره إخراج زكاة الفطر بعد صلاة العيد إلى غروب شمس يومه؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "أغنوهم عن السؤال في هذا اليوم" واليوم الكامل يبدأ من طلوع الفجر الصادق إلى غروب الشمس - كيوم الصوم -، فإذا أُخرجت قبل صلاة العيد: فإنه يتحصَّل الإغناء الكامل، وإذا أُخرجت بعدها: فلا يحصل الإغناء الكامل، بل بعضه، فلا يحصل كل المقصود منها، فلزم من ذلك كراهة ذلك؛ لفوات بعض المصلحة منها، وهو المقصد من ذلك الحكم.
(25)
مسألة: إذا أخَّر زكاة الفطر عن يوم عيد الفطر، فيجب أن يُخرجها قضاءً بعده، فإن كان هذا التأخير لعذر - كان لا يجد من يستحقها، أو أخَّرها وكيله، أو علم أن يوم العيد بالأمس -: فإنه لا يأثم، وإن أخَّر لغير عذر: فإنه يأثم؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "أغنوهم عن السؤال في هذا اليوم" حيث دل مفهوم الزمان على أنه إذا أخَّرها عن يوم العيد: فإنه يأثم؛ لمخالفته الأمر المطلق الدال على الوجوب، الثانية: القياس، بيانه: كما أنه إذا ترك الصلاة لعذر كنوم أو نسيان، ثم ذكرها بعد خروج وقتها: فإنه يجب عليه أن يقضيها ولا يأثم، وإذا تركها لغير عذر: فإنه يُصلِّيها قضاء ويأثم؛ فكذلك زكاة الفطر مثل ذلك والجامع: أن كلًا منهما مأمور به أمر إيجاب بأن يُفعل في وقت معيَّن، وأن الواجب لا يسقط بفوات وقته، ولا تبرأ الذمة إلا بالفعل في كل، وهو المقصد.
(26)
مسألة: إذا كان زيد يقوم بمؤنة ونفقة بعض أقاربه وهو - أي: زيد - بعيد عن البلد الذي يُقيم فيه هؤلاء الأقارب كان يكون هو في مكة، وهم في بغداد: فإنه =
(ويجب) في الفطرة (صاع) أربعة أمداد، - وتقدَّم في الغُسْل - (من بُرٍّ، أو شعير، أو دقيقهما، أو سويقهما) أي: سويق البر، أو الشعير، وهو: ما يُحمَّص، ثم يُطحن، ويكون الدقيق أو السويق بوزن حبِّه (أو) صاع من (تمر، أو زبيب، أو أقط) يُعمل من اللَّبن المخيض؛ لقول أبي سعيد الخدري: "كنا نخرج زكاة الفطر إذ كان فينا نبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعًا من طعام أو صاعًا من شعير، أو صاعًا من تمر، أو صاعًا من زبيب، أو صاعًا من أقط" متفق عليه
(27)
، والأفضل: تمر، فزبيب، فبرٍّ، فأنفع،
يُخرج زكاة الفطر عنهم في البلد الذي يُقيم فيه - وهي: مكة هنا - مع إخراج فطرته؛ للتلازم؛ حيث إن وجوب زكاة الفطر عليه عنهم، وتعلُّق الفقراء بها؛ لعلمهم بغناه يلزم منه: إخراجها مع فطرته في البلد الذي يُقيم هو فيه، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه احتياط للدِّين، وآكد لإخراجها.
(27)
مسألة: يُخرج كل مسلم - وجبت عليه زكاة الفطر - صاعًا من أحد أصناف خمسة وهي: إما من بُرٍّ، أو من شعير، أو من تمر، أو من زبيب، أو من أقط، ولو لم تكن من قوت البلد؛ للسنة التقريرية؛ حيث ذكر أبو سعيد الخدري أن الصحابة كانوا يخرجون زكاة الفطر من أحد هذه الأصناف، دون نكير منه صلى الله عليه وسلم؛ وإقراره الأقط والزبيب بأنهما يخرجان مع أنهما ليسا من قوت المدينة المنورة في عصره يدل على عدم اشتراط قوت البلد؛ لأنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، فإن قلتَ: لمَ حُددت هذه الأصناف دون غيرها؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه توسعة على الناس، حيث إن كلَّ صنفٍ يُحقِّق إغناء الفقير في يوم العيد، فإن قلتَ: لمَ اقتصر على الصاع الواحد هنا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إنه يكفي الفقير في ذلك اليوم، ولا يضرُّ بمال المخرج، [فرع] يُخرج "البرُّ" و"الشعير" مُطلقًا: أي: سواء كان حبًا =
فشعير، فدقيقهما، فسويقهما، فأقط
(28)
(فإن عدم الخمسة) المذكورة: (أجزأ كُلُّ
عاديًا، أو محموسًا - وهو: السَّويق منهما -، أو كان دقيقًا وطحينًا على وزن الحبِّ، والمراد بـ "الزَّبيب": يابس العنب، والمراد بـ "الأقط": اللَّبن المخيض بعد تجفيفه، والمراد بـ "التمر" هو: التمر الجاف الذي يمكن أن يُكال أو يوزن، فلا يُخرج "الرُّطَب"، [فرع آخر] الصاع: أربعة أمداد، كل مُدٍّ يُعادل حفنة بكفَّي الرجل المعتدل في الخِلْقة، وهو: يُعادل (3) كجم تقريبًا وقد سبق بيان ذلك، فإن قلتَ: لمَ سُمِّي البرُّ بالطعام في الحديث السابق؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن البرَّ أنفع الأطعمة قديمًا وحديثًا، وأقلُّها ضررًا، وكان أهل الحجاز قد تعارفوا بأنه هو الطعام الحقيقي، فإن قلتَ: لمَ جاز إخراج سويق البر والشعير ودقيقهما؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك أنفع للفقير؛ حيث إنه قد كُفي الفقير مؤنة طحنه وحمسه، وهو ممكن كيله، ووزنه، وادخاره، فإن قلتَ: لمَ لا يُجزئ إخراج الرُّطب، والعنب؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن هذا فيه دفع الضرر عن الفقير؛ لكون الرطب والعنب ينقصان إذا يبسا.
(28)
مسألة: الأفضل أن يخرج المسلم صاعًا من أيِّ طعامٍ يُعتبر هو قوت البلد العام، ويسهل الانتفاع به بدون تكلفة، ويشتهيه أكثر أهل البلد كالأرز في أيامنا هذه: لقاعدتين: الأولى: السنة التقريرية؛ حيث ورد في حديث أبي سعيد السابق: "صاعًا من طعام" وقد حُمل الطعام في عهده صلى الله عليه وسلم على البر؛ لكونه هو المنتشر في بلاد الحجاز، وهو المستطعم به عامة، ويُحمل الآن على الأرز ويُخصَّص به؛ لكونه هو الطعام المنتشر الآن، الثانية: المصلحة؛ حيث إن الطعام الذي ينتفع به الأكثر كالأرز الآن يحقق إغناء الفقير؛ لكونه أشهى، ويُطبخ بدون طحن، ويقبله عامة الناس عند البيع والشراء، فإن قلتَ: الأفضل أن يُخرج صاعًا من تمر، ويليه في الأفضلية صاع من زبيب، ويليه في ذلك صاع =
حبٍّ) يُقتات (وثمر يُقتات) كالذرة، والدخن، والأرز، والعدس، والتِّين اليابس
(29)
، و (لا) يُجزئ (معيب) كمسوس، ومبلول، وقديم تغيَّر طعمه، وكذا: مُختلط بكثير مما لا يُجزئ، فإن قلَّ: زاد بقدر ما يكون المصفَّى صاعًا، لقلَّة مشقَّة تنقيته
(30)
، وكان ابن سيرين، يُحبُّ أن يُنقَّى الطعام، وقال أحمد: وهو أحبُّ
من بُرٍّ، ويليه في ذلك صاع مما ينفع الناس - غير التمر والزبيب والبر - من أرز ونحوه، ويلي ذلك في الأفضلية صاع من شعير، ويليه في ذلك صاع من دقيق البر أو الشعير، ويليه في ذلك صاع من سويق البر أو الشعير، ثم يلي ذلك صاع من الأقط، وهو ما ذكره المصنف هنا -؛ للمصلحة؛ حيث إن هذا الترتيب فيه نفع للفقراء قلتُ: إن مصلحة الفقير تتحقَّق فيما قلناه من إخراج غالب قوت البلد كالأرز في هذه الأيام، وهي أرجح من المصلحة التي ذكروها، يُؤيد ذلك السنة التقريرية التي استدللنا بها، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض المصلحتين" حيث إن المصلحة التي ذكرناها أشمل وأعم فأخذنا بها، بخلاف المصلحة الأخرى.
(29)
مسألة: إذا فُقدت تلك الأصناف الخمسة - وهي: البر، والتمر، والشَّعير، والزبيب، والأقط -: فإنه يُجزئ عنها إخراج كلَّ حبٍّ وثمر كالذرة، والأرز، والتين الجاف، والعدس، ونحو ذلك بشرط: أن يكون مُقتاتًا يُستساغ أكله عادة؛ للمصلحة؛ حيث إن المقصود هو: إغناء الفقير عن السؤال في يوم العيد، وإخراج الطعام الذي يقتاته أهل البلد عادة يُحقِّق ذلك المقصود، وهذا فيه مصلحة للفقراء وللأغنياء كما قال ابن القيم.
(30)
مسألة: لا يُجزئ أن تُخرج زكاة الفطر من أصناف معيبة أو أكثرها معيبة: كأن يكون قد أصابه بلل فنفخه، أو أكله السوس فنخر جوفه، أو تغيَّر طعمه، أو ريحه من طول مكثه، أما إن كان المعيب أقل من الصحيح: فإنه يُجزئ أن =
إلي
(31)
(ولا) يُجزئ (خبز)؛ لخروجه عن الكيل، والادِّخار
(32)
(ويجوز أن يُعطى الجماعة) من أهل الزكاة (ما يلزم الواحد وعكسه): بأن يُعطى الواحد ما على الجماعة
(33)
، والأفضل: أن لا ينقص مُعطَى عن مدِّ بُرٍّ، أو نصف صاع من
يُخرج منه زكاة الفطر بشرط: أن يزيد من هذه الحبوب والثمار المختلطة حتى يغلب على ظنه أن المخرج يبلغ صاعًا فيما لو صُفِّي؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "أغنوهم عن المسألة في هذا اليوم" والحبوب والثمار المعيبة، أو التي أكثرها كذلك لا يحصل فيها الإغناء؛ لكونها لا تؤكل أصلًا، فيلزم أن لا يجزئ إخراجها عن الواجب، بخلاف ما إذا كان الأقلُّ معيبًا فيمكن أن يحصل به الإغناء؛ لأن تصفيته وتنقيته لا مشقَّة فيها، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية للفقير من أن يُسلب حقه.
(31)
مسألة: يُستحب أن تُنقَّى وتُصفَّى الحبوب والثمار التي يُريد إخراجها زكاة للفطر؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "أغنوهم عن المسألة في هذا اليوم" فلا يتحقَّق إغناؤهم إغناء كاملًا إلا إذا أُعطوا حبوبًا وثمارًا صالحة للأكل مباشرة، ولا يكون ذلك إلا بعد تنقيتها، وكان السلف يعملون ذلك، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تحصيل الأجر الكامل، أصله قوله تعالى:{كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} .
(32)
مسألة: لا يُجزئ إخراج الخبز، والمكرونة، والهريسة ولا أي شيء صنع بالطبخ: بأن يقوم شخص بطحن الحب الذي يُريد إعطاءه الفقير، وعجنه وطبخه؛ للمصلحة؛ حيث إن هذا يُفوِّت على الفقير منفعته الكاملة بما يُعطى؛ لفساده بالادخار، ومشقَّة معرفة وزنه وكيله بالتَّحديد.
(33)
مسألة: يُباح أن يُقسِّم مسلم صاعًا واحدًا على عدد من الفقراء، ويُباح العكس: بأن يُعطي المسلم عدَّة أصواع لفقير واحد؛ للكتاب؛ حيث قال تعالى: =
غيره
(34)
، وإذا دفعها إلى مستحقها فأخرجها آخذها إلى دافعها، أو جُمعت الصدقة عند الإمام ففرقها على أهل السُّهمان فعادت إلى إنسان صدقتُه: جاز ما لم يكن حيلة
(35)
.
{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} حيث أطلق الشارع ذلك، فلم يُحدِّد القدر المعطى، فإذا أعطى جمعًا من الفقراء والمساكين صاعًا واحدًا، قسَّمه بينهم، أو أعطى عِدَّة أصواع لفقير واحد: فإنه ينطبق عليه وصف الصدقة، فإن قلتَ: لمَ أُبيح ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه توسعة على المسلمين.
(34)
مسألة: إذا أراد مسلم أن يُقسِّم صاعًا على عدد من الفقراء: فيُستحبُّ أن يُقسِّمه على أربعة فقراء، كل واحد يأخذ مُدًّا إذا كان المخرج بُرًّا، أما إن كان غير بُرِّ - كتمر أو شعير، أو زبيب، أو أقط -: فيُستحب أن يُقسِّم الصاع على اثنين من الفقراء؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "أغنوهم عن السؤال في هذا اليوم" وربع الصاع من البر - وهو المدُّ - يُحقِّق هذا الإغناء، ونصف الصاع من غير البر يُحقِّق ذلك؛ لاختلاف البر عن غيره في الأهمية والفائدة، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه مُحاولة لتحقيق الإغناء بصورة كاملة.
(35)
مسألة: إذا دفع زيد فطرته إلى عمرو - فدفعها عمرو إلى زيد - وهما مستحقان - أو جمعها الإمام عنده، ثم وزَّعها على الفقراء فعادت إلى زيد فطرته التي أخرجها: فإنه يجوز لزيد أن يأخذها بشرط: أن لا يقصد زيد أخذ فطرته بعينها، وتحايل لأجل ذلك؛ للتلازم؛ حيث إن إخراج زيد لفطرته يلزم منه زوال ملكه لها، وقبولها بنفسها يُعتبر تمليكًا جديدًا، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه توسعة على المسلمين، فإن قلتَ: لمَ اشتُرط ذلك الشرط؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه دفع للحيل المحرَّمة؛ لأن أي شيء من الصدقات جرَّ نفعًا لا يُسمَّى صدقة. [فرع]: لا يُجزئ إخراج القيمة =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
بالنقود عن الصاع من بُرٍّ ونحوه في زكاة الفطر؛ للسنة التقريرية؛ وهو حديث أبي سعيد الخدري السابق ذكره في مسألة (27) حيث نصَّ على الأصناف الخمسة - وهي: البر، والشعير، والتمر، والزبيب والأقط - والنَّص عليها يلزم منه: عدم إجزاء إخراج غيرها ليس من جنسها، والقيمة ليست من جنسها، فلا يُجزئ إخراجها، فإن قلتَ: لمَ لا يُجزئ ذلك؟ قلتُ: لأن إخراجها تركًا للمأمور بإخراجه، فيكون إخراج القيمة مردودًا؛ عملًا بعموم قوله صلى الله عليه وسلم:"من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رَدٌّ"، فإن قلتَ: يُجزئ إخراج القيمة هنا، وهو قول كثير من الحنفية؛ للقياس، بيانه: كما أنه يجوز إخراج تلك الأصناف الخمسة من الأطعمة فكذلك يجوز إخراج القيمة والجامع: نفع الفقير في كل، بل إن هذا قياس أولى؛ لأن القيمة أنفع للفقير من تلك الأصناف؛ حيث إنه سيشتري بها طعامًا وغيره، قلتُ: هذا القياس فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ لأن القيمة ليست من جنس الأطعمة؛ حيث إن الأطعمة أنفع للفقراء، والواقع يشهد لذلك؛ إذ قد يشتري الفقير بتلك القيمة أشياء تُفسده وتُفسد غيره، وقد يبخل رب الأسرة الفقيرة بتلك القيمة، فلا يُنفقها على أسرته، ثم إنه يلزم أن يشتري بتلك القيمة بعض الأطعمة وهذا قد يشق على بعض الناس، فدفعًا لذلك: شرع الشارع الأصناف الخمسة وما هو من جنسها فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "هل يُقاس على المحصور بعدد؟ " فعندنا: لا يُقاس هنا على تلك الأصناف الخمسة إلا ما هو من جنسها وعندهم: يقاس عليها ما هو من جنسها وما هو من غير جنسها بجامع: النفع كما سبق بيانه.
هذه آخر مسائل باب "زكاة الفطر" ويليه باب "إخراج الزكاة"
باب إخراج الزكاة
يجوز لمن وجبت عليه الزكاة: الصدقة تطوعًا قبل إخراجها
(1)
(ويجب) إخراج الزكاة (على الفور مع إمكانه) كنذر مطلق، وكفارة؛ لأن الأمر المطلق يقتضي الفورية، وكما لو طالبه بها الساعي، ولأن حاجة الفقير ناجزة والتأخير مخلٍّ بالمقصور، وربَّما أدَّى إلى الفوات
(2)
(إلا لضرورة) كخوف رجوع ساع، أو على
باب إخراج الزكاة
وفيه ست وعشرون مسألة:
(1)
مسألة: يجوز أن يتصدَّق مَنْ وجبت عليه الزكاة بصدقة مُطلقة بأي شيء قبل إخراج تلك الزكاة الواجبة عليه؛ للتلازم؛ حيث إن الأمر بالصدقات مطلق في الأوقات، فيلزم إخراجها بأيِّ وقت، ومنها: الوقت الذي يكون قبل إخراج الزكاة الواجبة، فإن قلتَ: لمَ ذُكر ذلك مع أنه معلوم جوازه؟ قلتُ: ليُفرِّق بين الزكاة والصوم؛ لأن صوم التطوع لا يُقدَّم على صوم الفرض.
(2)
مسألة: إذا وجبت زكاة على مسلم لأيِّ مال من الأموال الزكوية كبهيمة الأنعام، أو الثمار والحبوب، أو النقود فيجب عليه أن يُخرجها فورًا، دون تأخير؛ لقاعدتين: الأولى: الكتاب، وهو من وجهين: أولهما: قوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} حيث دلَّ مفهوم الزمان على عدم جواز تأخير إخراج زكاة الحبوب والثمار عن يوم حصاده؛ ولأن الأمر مطلق فيقتضي الفور، وغير الثمار والحبوب مثلها؛ لعدم الفارق من باب "مفهوم الموافقة"، ثانيهما: قوله: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} حيث إن الأمر مطلق، فيقتضي الفور، الثانية القياس، وهو من وجهين: أولهما: كما أن الوفاء بالنذر المطلق وإخراج كفارة اليمين، يجب أن يكونا على الفور فكذلك إخراج الزكاة مثلهما والجامع: الإسراع في إبراء =
نفسه، أو ماله ونحوه، وله تأخيرها لأشدِّ حاجة، وقريب، وجار، ولتعذُّر إخراجها من المال لغيبة ونحوها
(3)
(فإن منعها) أي: الزكاة (جحدًا لوجوبها: كفر عارف بالحكم) وكذا: جاهل عرف فعُلِّم وأصرَّ، وكذا: جاحد وجوبها ولو لم يمتنع من أدائها (وأخذت) الزكاة (منه وقُتل)؛ لردَّته بتكذيبه لله ورسوله بعد أن يُستتاب ثلاثًا (أو بخلًا) أي: ومن منعها بخلًا من غير جحد: (أخذت منه) فقط قهرًا كدين الآدمي، ولم يُكفَّر (وعُزِّر) إن علم تحريم ذلك، وقوتل إن احتيج إليه، ووضعها
الذمة؛ والأمر يقتضي الفورية في كل، ثانيهما: كما أن ساعي الزكاة - وهو: جامعها من قبل الإمام - إذا طالب المالك بالزكاة فيجب عليه أن يدفعها له فورًا، فكذلك يجب أن يُخرجها فورًا بسبب طلب الشارع لها بدون ساع، والجامع: الطلب في كل الذي يقتضي الفورية فإن قلتَ: لمَ وجب إخراجها على الفور؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه احتياط المالك لدينه، والإسراع في إبراء ذمته منها، وقضاء حاجة الفقير؛ لأن حاجته ناجزة.
(3)
مسألة: يُستحب تأخير أداء الزكاة لمصلحة ضرورية أو حاجية اقتضت تأخيرها كمرض، أو غيبة مال - بسبب كونه ليس عنده - أو خشي المالك من لصوص إن علموا مقدار زكاته، أو خشي إن أخرجها بنفسه أن يأتي إليه ساعي الزكاة فيأخذها منه مرة أخرى، أو قصد بتأخيرها أن يعطيها أشدَّ الناس حاجة لها، أو أن يعطيها جاره، أو قريبه المستحقين لها، أو مُنع التصرف فيها أو نحو ذلك؛ للمصلحة؛ حيث إن هذا التأخير فيه دفع ضرر عن المالك، أو جلب مصلحة حاجية له في دنياه أو آخرته، فشرع ذلك من أجلها، أصله: قوله صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا ضرار في الإسلام". [فرع]: مقدار التأخير الذي استُحب في أداء الزكاة: مدَّة لا تزيد عن شهر؛ للتلازم؛ حيث إن الشهر هو أقصى مُدَّة يرجع فيه الناس، أو تُسدَّد فيها الديون، أو يزول الضرر فيها غالبًا: فلزمت.
الإمام في مواضعها، ولا يكفر بقتاله للإمام
(4)
، ومن ادَّعى أداءها، أو بقاء الحول،
(4)
مسألة: إذا منع شخص زكاة ماله: ففيه تفصيل هو كما يلي: أولًا: إن كان عارفًا بحكمها، ولكنه جحده وأنكره: فيُطبَّق عليه أحكام المرتدِّ، فيُستتاب ثلاثة أيام، فإن تاب ودفع الزكاة: تُرك، وإن لم يتب: أخذت منه الزكاة، وقُتل؛ وكذا: يُفعل فيمن كان جاهلًا بحكم الزكاة فعُلِّم إياه، وأصرَّ على عدم دفعها؛ لإجماع الصحابة السكوتي؛ حيث إن أبا بكر رضي الله عنه قد قاتل مانعي الزكاة، ولم يُنكر عليه أحد من الصحابة، فإن قلتَ: لمَ يُستتاب؟ قلتُ: لما ذكرناه فيمن جحد وجوب الصلاة في مسألة (15) من باب "حقيقة الصلاة وحكمها" من كتاب الصلاة، فإن قلتَ: لمَ يُقتل إذا لم يتب؟ قلتُ: لارتداده عن الإسلام: نظرًا لتكذيبه لله ورسوله، فيُقتل؛ لئلا يؤثِّر على غيره، فإن قلتَ: لمَ أخذت الزكاة منه مع أن الكفار غير مخاطبين بفروع الإسلام؟ قلتُ: لأن الزكاة قد استقرَّت في ذمَّته قبل الحكم بكفره فأصبحت من حقوق الفقراء، فإن قلتَ: لمَ يُعلَّم بحكم الزكاة إن كان جاهلًا؟ قلتُ: لكونه معذورًا بجهله فلا يؤاخذ به؛ قياسًا على النسيان والخطأ الوارد في قوله صلى الله عليه وسلم: "عفي عن أمتي الخطأ والنسيان .. " ثانيًا: إن كان عالمًا بحكم الزكاة، ومُقرًا به، ولكنه امتنع من دفع الزكاة بُخلًا: فلا يحكم بكفره، وتُؤخذ منه قهرًا، ثم يُعزِّره ويؤدِّبه الإمام بما يراه مناسبًا، فإن امتنع عن دفعها: فللإمام - الذي يقوم بمصالح المسلمين -: أن يقاتله، ولا يكفر هذا البخيل بسبب مقاتلته؛ للقياس، بيانه: كما أن الدَّين يُؤخذ من المدين قهرًا إذا امتنع عن الوفاء به فكذلك الزكاة تؤخذ من البخيل هذا، والجامع: أن كلًا منهما حقٌّ يجب أن يُخرج ويُعطى أصحابه، فإن قلتَ: لمَ لا يكفر هذا البخيل إذا قاتل الإمام؟ قلتُ: لكونه مُعتقدًا وجوب الزكاة، وهو يُقاتله دفاعًا عن نفسه، فإن قلتَ: لمَ يُعزَّر؟ قلتُ: لأنه أخَّر الزكاة عن مستحقيها.
أو نقص النصاب، أو أن ما بيده لغيره ونحوه: صُدِّق بلا يمين
(5)
(وتجب) الزكاة (في مال صبي ومجنون)؛ لما تقدَّم (فيُخرجها وليُّهما) في مالهما كصرف نفقة واجبة عليهما: لأن ذلك حق تدخله النيابة، ولذلك صحَّ التوكيل فيه
(6)
(ولا يجوز
(5)
مسألة: إذا طولب مسلم بأن يُزكِّي على ما عنده من أموال فقال: "إني قد دفعتها أو أن النصاب ناقص، أو أن الحول لم يتم، أو أن هذا المال ليس له" أو قال غير ذلك مما يمنع الزكاة فإنه يُصدَّق، ولا يُطلب منه اليمين على ذلك؛ للاستصحاب؛ حيث إن الأصل في المسلم الصدق، فيُستصحب ذلك ويعمل به إن لم يتبين ما يدل على خلافه، فإن قلتَ: لمَ شرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إنه لو طُلب من كل مسلم اليمين على كل ما ادَّعاه: للحق كثيرًا من المسلمين المشقة.
(6)
مسألة: تجب الزكاة في مال الصبي والمجنون - إذا بلغ النصاب وتمَّ عليه حول -، ويتولَّى إخراج ذلك وليُّهما؛ لقاعدتين: الأولى: القياس، بيانه: كما أنهما لو أتلفا شيئًا أخذ ثمن ما أتلفاه من مالهما فكذلك الزكاة تُؤخذ من مالهما، والجامع: أن كلًا منهما حق لآدمي، فيجب أن يُخرج هذا الحق، الثانية: فعل الصحابي؛ حيث إن عمر وابنه، وعلي، جابر، والحسن وعائشة رضي الله عنهم كانوا يُخرجون الزكاة من مالهما، فإن قلتَ: لمَ وجبت في مالهما مع أنهما غيرُ مكلَّفين؟ قلتُ: لأن الزكاة مُتعلِّقة بالمال، لا بالشخص، فإذا بلغ النصاب وحال عليه الحول: فيجب إخراج زكاته بصرف النظر عن مالكه من باب الحكم الوضعي، لا التكليفي وقد بينتُ ذلك في كتابي:"إتحاف ذوي البصائر" و"المهذب"، فإن قلتَ: لمَ يقوم الولي بإخراج الزكاة؟ قلتُ: لأن إخراج الزكاة لا بدَّ فيه من نية، والصبي والمجنون لا تصح منهما نية؛ فنية الولي تكفي عنهما؛ لكونه يُعتبر وكيلًا عنهما، ومعروف: صحة الوكالة والنيابة في الأموال كنفقة الأقارب والزوجات، وأروش الجنايات، وقيم المتلفات.
إخراجها) أي: الزكاة (إلا بنية) من مُكلَّف؛ لحديث: "إنما الأعمال بالنيات" والأولى: قرْن النية بدفع، وله تقديمها بزمنٍ يسير كصلاة، فينوي الزكاة أو الصدقة الواجبة ونحو ذلك
(7)
، وإذا أُخذت منه قهرًا: أجزأت ظاهرًا
(8)
، وإن تعدَّر وصول
(7)
مسألة: النية شرط لصحة دفع وإخراج الزكاة: سواء كانت زكاة أموال، أو زكاة فطر، وبناء على ذلك: فإنه إذا لم ينو شيئًا عند إخراجها، أو نوى الصدقة المطلقة ثم نواها زكاة لماله بعد ذلك: فلا تجزئ، والأفضل: أن تكون النية عند دفعها، ولا بأس بتقديم النية بزمن يسير على دفعها؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات" حيث إن الزكاة عمل، فلا يصح إلا بنية؛ لأن لفظ "الأعمال" جَمع مُعرَّف بأل وهو من صيغ العموم، ومفهوم حصر المبتدأ في الخبر يدل على أنه لا عمل شرعي وصحيح إلا بنية، الثانية: القياس، بيانه: كما أن نية الدخول في الصلاة تكون عند تكبيرة الإحرام، ويجوز تقديمها عليها بزمن يسير، فكذلك الزكاة تكون نيتها عند دفعها، ويجوز تقديمها عليه بزمن يسير والجامع: أن كلًا منهما عبادة تُشترط لها النية، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: لأن أوجه إخراج المال كثيرة، ولا يُحدِّد أنها للزكاة إلا النية، ثم إن تقديمها بزمن يسير فيه توسعة على المسلمين.
(8)
مسألة: إذا أخذ الإمام الزكاة قهرًا من شخص قد امتنع عن دفعها بُخلًا -: فإنها تُجزئ عن ذلك الشخص ظاهرًا، بأن لا يُطالبه الإمام بها مرة ثانية في ذلك العام، لكنها لا تُجزئ عنه باطنًا فلا تبرأ ذمته؛ للقياس، بيانه: كما أن هذا الشخص لو صلَّى خوفًا من الإمام بدون نية: فإن صلاته لا تصح، فكذلك مثلها والجامع: أن كلًا منهما عبادة قد فقدت شرط صحتها وهي النية، لكونه أخرجها خوفًا من الإمام، وهو المقصد من الحكم.
إلى المالك؛ لحبس أو نحوه، فأخذها الإمام أو نائبه: أجزأت ظاهرًا وباطنًا
(9)
(والأفضل: أن يُفرِّقها بنفسه)؛ ليكون على يقين من وصولها إلى مستحقها
(10)
وله دفعها إلى السَّاعي
(11)
، ويُسنُّ إظهارها
(12)
(و) أن (يقول عند دفعها هو) أي: مُؤدِّيها (وآخذها: ما ورد) فيقول دافعها: "اللهم اجعلها مغنمًا، ولا تجعلها مغرمًا" ويقول آخذها: "آجرك الله فيما أعطيت، وبارك لك فيما أبقيت، وجعله لك طهورًا
(13)
وإن وكَّل مسلمًا ثقة: جاز وأجزأت نية مُوكِّل مع قرب، وإلا: نوى
(9)
مسألة: إذا كان الشخص غائبًا؛ لعذر كأن يكون محبوسًا، أو مسافرًا: فأخذ الإمام زكاة ماله؛ ليوزِّعها على مستحقيها ونوى ذلك عنه: فإنها تجزئ عن ذلك الشخص ظاهرًا - فلا يُطالب بها مرة أخرى - وتجزئ عنه باطنًا - فتبرأ ذمَّته -؛ للقياس، بيانه: كما أن ولي الصبي والمجنون يقوم بإخراج زكاة مالهما وينوي عنهما، فكذلك الإمام مثله في ذلك، فإن قلتَ: لمَ أجزأت ظاهرًا وباطنًا؟ قلتُ: لكون عذره مقبولًا.
(10)
مسألة: يُستحب أن يقوم المالك بتوزيع وتقسيم زكاة ماله بنفسه على مستحقيها؛ للمصلحة؛ حيث إنه في ذلك يتيقن من وصولها إلى مستحقيها، وهذا أحوط للدِّين.
(11)
مسألة: يُباح للمالك أن يدفع زكاة ماله إلى الساعي - وهو: مندوب الإمام لجمع الزكوات - إذا كان ذلك الإمام يصرفها في مصارفها الثمانية -؛ للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه جمع لكلمة المسلمين، ودفع مشقة المالك إذا وزَّعها بنفسه.
(12)
مسألة: إذا رأى المالك أن إظهار دفع الزكاة فيه مصلحة: فيُستحب إظهارها؛ للمصلحة؛ حيث إن ذلك يؤدِّي إلى الاقتداء به.
(13)
مسألة: يُستحب أن يقول دافع الزكاة: "اللهم اجعلها مغنمًا، ولا تجعلها مغرمًا" أو يقول: "اللهم تقبَّل مني إنك أنت السميع العليم"، ويُستحب أن =
مُوكِّل عند دفع لوكيل، ووكيل عند دفع لفقير
(14)
، ومن عَلِم أهلية آخذ كُره إعلامه بها، ومع عدم عادته: لا يُجزئه الدفع له إلا إن أعلمه
(15)
(والأفضل: إخراج زكاة
يقول آخذها: "آجرك الله فيما أعطيت، وبارك لك فيما أبقيت، وجعله لك طهورًا"؛ لقاعدتين: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} حيث إن الشارع قد أمر هنا بالدعاء للدافع للزكاة؛ لأن المراد بـ "الصلاة هنا" الدعاء، الثانية: السنة القولية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد أرشد إلى دعاء الدافع للزكاة، وقد روى ذلك أبو هريرة، وابن أبي أوفى، فإن قلتَ: لمَ استُحب ذلك الدعاء؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن دعاء الدافع، والمعطى والفقير هنا يتسبَّب في بركة المال المتبقِّي عند الغني، وفي بركة المال المدفوع للفقير.
(14)
مسألة: يجوز للمالك أن يُوكِّل شخصًا ثقة بأن يُخرج زكاة ماله ويدفعها للفقير، وينوي هذا المالك: أن هذا المخرج زكاة ماله عند دفعها للوكيل، وينويها الوكيل عند دفعها للفقير إن كان زمن دفعها إلى الفقير بعيدًا عن زمن دفع الموكِّل إلى الوكيل فأكثر كثلاثة أيام فأكثر، أما إن قرب - كأقل من ذلك - فتجزئ نية الموكِّل في ذلك؛ لقاعدتين: الأولى: المصلحة؛ حيث إن التوكيل في هذا فيه توسعة على المسلمين، الثانية: التلازم؛ حيث إن اشتراط نية إخراج الزكاة لصحتها يلزم منه: أن تكون هذه النية مقارنة أو مقاربة للإخراج والدفع، فإن قلتَ: لمَ حُدِّد القرب بأقل من ثلاثة أيام والكثير بثلاثة أيام فأكثر؟ قلتُ: لأن هذا الزمن قليل في عرف وعادة كثير من الناس، فإن قلتَ: لمَ اشتُرط في الوكيل كونه ثقة؟ قلتُ: لأن الفاسق لا يُؤمن جانبه، فقد لا يُعطيها مستحقيها.
(15)
مسألة: إذا غلب على ظن المالك: أن زيدًا من المستحقين للزكاة، وأنه من عادته أنه يأخذها: فإنه يُعطيه الزكاة بدون إعلامه أن هذا من الزكاة: وإن =
كُلِّ مال في فقراء بلده)
(16)
ويجوز نقلها إلى دون مسافة قصر من بلد المال؛ لأنه في حكم بلد واحد (ولا يجوز نقلها) مطلقًا (إلى ما تُقصر فيه الصلاة)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ - لما بعثه إلى اليمن -: "أعلمهم أن الله قد افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فتُردُّ على فقرائهم" بخلاف نذر وكفارة، ووصيَّة مُطلقًا (فإن فعل) أي: نقلها إلى مسافة قصر: (أجزأت)؛ لأنه دفع الحق إلى مُستحقِّه فبرئ من عهدته، ويأثم (إلا أن يكون) المال (في بلد) أو مكان (لا فقراء فيه فيُفرِّقها في أقرب البلاد إليه)؛ لأنهم أولى
(17)
،
أعلمه: جاز مع الكراهة، أما إن كان من المستحقين لها وليست عادته أن يأخذ الزكاة: فيجب على المالك أن يُعلم زيدًا بأن هذا المال زكاة، فإن لم يُخبره بذلك وأعطاه إياه بدون إعلامه: فلا تُجزئه، ولا بدَّ أن يدفعها لآخر مرة أخرى؛ لقاعدتين: الأولى: المصلحة؛ حيث إن إعلام الذي من عادته أخذ الزكاة: فيه امتهانه وإذلاله فلذا كُره، الثانية: التلازم؛ حيث إن عدم عادة زيد بأخذ الزكاة، والمالك لم يُعلمه بأن ما أعطاه إياه زكاة: يلزم منه عدم إجزائها؛ لاحتمال أن يأخذها بناء على أن المال الذي أعطاه إياه عطية، أو هدية، أو صلة ونحو ذلك، لا زكاة، ومع هذا الاحتمال لا تُجزئ عن الزكاة، فلزم دفعها مرة أخرى لآخر.
(16)
مسألة: يُستحب أن يُقسِّم الشخص زكاة ماله بين فقراء بلده؛ للمصلحة؛ حيث إن الغني يعرف فقراء بلده معرفة دقيقة، وإعطاؤهم يُحقِّق المقصد من مشروعية الزكاة وهي: المواساة وإيجاد المودَّة والمحبَّة بين أهل البلد الواحد.
(17)
مسألة: يجوز للشخص أن ينقل زكاة ماله من بلده إلى بلدان أخرى: سواء كانت قريبة أقل من مسافة قصر - وهو (82) كم - أو أكثر من ذلك، وسواء وُجد فقراء في بلده أو لم يوجد، ولا يأثم في ذلك، وهو مذهب الجمهور؛ لقواعد: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ .. } حيث إن هذا =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
عام، فيشمل جميع فقراء ومساكين المسلمين؛ لأن لفظ "الفقراء والمساكين" جمع مُعرَّف بأل وهو من صيغ العموم، وهو مطلق في الأمكنة؛ الثانية: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم لقبيصة: "أقم حتى تأتينا الصدقة فأمر لك بها" ولم يكن قبيصة هذا من أهل المدينة، فدل على أنها تنقل، الثالثة: القياس، بيانه: كما أن المدين يدفع دينه لصاحبه في أيِّ مكان، فكذلك الزكاة تُدفع للفقير في أي مكان وإن كان بعيدًا والجامع: أن كلًا منهما فيه دفع حق لمستحقه، فإن قلتَ: لمَ جاز ذلك مُطلقًا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تواصل وتكاتف اجتماعي بين المسلمين؛ حيث إنه توجد أقلِّيات إسلامية في بلدان كافرة تعاني من الفقر والظلم الذي قد لا يتصوَّره أحد، فدفع الزكاة إلى هؤلاء فيه تقوية لهم، وتحسين للإسلام في نفوس جيرانهم من الكفار مما يجعلهم يعتنقوه، فإن قلتَ: لا يجوز للشخص أن ينقل زكاة ماله إلى بلد تبعد عن بلده مسافة قصر، وإن نقلها إلى ذلك البلد: فإنها تُجزئ ويأثم، أما إن لم يوجد فقراء في بلده فيجوز نقلها إلى أقرب البلدان إليه - وهو مذهب أكثر الحنابلة وهو ما ذكره المصنف هنا -؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم لمعاذ لما بعثه إلى اليمن:"وأعلمهم أن الله قد افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فتردُّ إلى فقرائهم" حيث إن الضمير يعود إلى فقراء اليمن فقط قلتُ: لا يُسلَّم ذلك؛ لأن الضمير يعود إلى فقراء المسلمين جميعًا؛ لأن العبرة بعموم اللَّفظ لا بخصوص السبب، ولعدم وجود مُخصِّص يُخصِّص فقراء اليمن فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "الخلاف في مرجع الضمير في حديث معاذ" فعندنا: راجع إلى جميع المسلمين؛ للقاعدة التي ذكرناها، ولا يقوى حديث معاذ على تخصيص وتقييد الكتاب والسنة القولية، أما عندهم فالضمير راجع إلى فقراء اليمن، وهو مخصِّص ومقيد للكتاب والسنة القولية تنبيه: وقوله: "بخلاف نذور كفارة =
وعليه مؤنة نقل، ودفع، وكيل، ووزن
(18)
، (فإن كان) المالك (في بلد وماله في) بلد (آخر: أخرج زكاة المال في بلده) أي: بلد به المال كل الحول أو أكثره، دون ما نقص عن ذلك؛ لأن الأطماع إنما تتعلَّق به غالبًا بمُضي زمن الوجوب، أو ما قاربه (و) أخرج (فطرته في بلد هو فيه) وإن لم يكن له به مال؛ لأن الفطرة إنما تتعلَّق بالبدن - كما تقدَّم -
(19)
، ويجب على الإمام بعث السعاة قرب زمن الوجوب؛ لقبض زكاة
ووصيَّة مُطلقًا" يشير به إلى أن الزكاة لا تُنقل إلى بلدان أخرى على مذهب أكثر الحنابلة، أما لو نذر أن يتصدَّق على فقراء، أو وصى للفقراء بشيء، أو وجبت عليه كفارة يمين: فإنه يُعطيها أيَّ فقير مهما كان بلده ولو كانت بعيدة عن بلد الناذر والمكفِّر والموصي.
(18)
مسألة: أُجرة نقل الزكاة من مكان إلى بلد أو مكان آخر، ومؤنة حملها، ودفعها، ومؤنة وكيل عنه، وأجرة كيلها، ووزنها تؤخذ من مال المزكِّي، لا من الزكاة؛ للقياس، بيانه: كما أن مؤنة تسليم المبيع وكيله ووزنه، ونقله تكون على البائع فكذلك الزكاة مثله تكون على المزكي والجامع: أن كلًا منهما من تمام توفية الحق، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية لحق الفقير؛ لئلا يزعم غني بأن تلك الزكاة قد نقصت بسبب المؤنة.
(19)
مسألة: إذا وُجد مسلم في مكة مثلًا، وماله في بغداد، وبلغ هذا المال النصاب وحال عليه الحول أو أكثره في بغداد: فيجب أن يُخرج زكاة هذا المال في بغداد، ويُوزِّعها على فقراء ذلك البلد - أعني بغداد -، أما زكاة الفطرة فيُخرجها في البلد الذي جاء عيد الفطر وهو فيه - وهو هنا مكة -؛ للتلازم؛ حيث إن زكاة كل شيء تابع للمزكَّى فيلزم أن يُخرج زكاة المال في البلد الذي وُجد فيه ذلك المال، وتُخرج زكاة النفس في البلد الذي تُوجد هذه النفس فيه كما سبق في مسألة (26) من باب "زكاة الفطر"؛ لأن أطماع الفقراء تتعلَّق بذلك المزكَّى =
المال الظاهر كالسائمة والزرع والثمار؛ لفعله صلى الله عليه وسلم، وفعل خلفائه رضي الله عنهم بعده
(20)
(ويجوز تعجيل الزكاة لحولين فأقل)؛ لما روى أبو عبيد في "الأموال" بإسناده عن علي رضي الله عنه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم تعجَّل من العباس صدقة سنتين"، ويعضده رواية مسلم:"فهي عليَّ ومثلها" وإنما يجوز تعجيلها إذا كمل النصاب، لا عما يستفيده
(21)
، وإذا
عنه، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه جمع بين مصلحتي الغني والفقير.
(20)
مسألة: يُستحب للإمام أن يبعث السُّعاة إلى جميع مناطق وأطراف دولته لجمع زكاة الأموال الظاهرة كبهيمة الأنعام، والزروع والثمار كل عام، ووضعها في بيت المال، وبعد ذلك يُقسِّمها على المستحقين لها بالعدل والإنصاف؛ لقاعدتين: الأولى: السنة الفعلية؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك، الثانية: فعل الصحابة؛ حيث كان الخلفاء الأربعة يفعلون ذلك، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن بعض الناس لا يعلمون تفاصيل أحكام الزكاة، فبعث هؤلاء السعاة يكفيهم مؤنة ذلك، فإن قلتَ: يجب على الإمام بعث السعاة - وهو ما ذكره المصنف هنا - قلتُ: لم أجد دليلًا قويًا على هذا الوجوب، والسنة الفعلية، وفعل الصحابي لا يفيدان إلا الندب فقط.
(21)
مسألة: يجوز أن يُعجِّل المسلم إخراج زكاة ماله قبل وقت وجوبها بحول أو حولين، بشرط: بلوغ هذا المال للنصاب قبل تعجيل تلك الزكاة، وعليه: فلا يجوز تعجيل إخراج زكاة عن شيء سيستفيده مُستقبلًا، ويُكمِّل به النصاب، فمثلًا: لو ملك بعض نصاب فعجَّل زكاته على أنه كامل النصاب: لم يُجزئه؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية، حيث رخَّص النبي صلى الله عليه وسلم لعمِّه العباس تعجيل زكاته حولين، الثانية: القياس، بيانه: كما أنه يجوز تعجيل قضاء الدَّين قبل حلوله فكذلك يجوز تعجيل الزكاة هنا والجامع: أن كلًا منهما قد وُجد سبب =
تمَّ الحول والنِّصاب ناقص قدر ما عجَّله: صحَّ، وأجزأه؛ لأن المعجَّل كالموجود في مُلكه، فلو عجَّل عن مائتي شاة شاتين فنتجت عند الحول سخلة: لزمته ثالثة
(22)
، وإن مات قابض معجَّلة، أو استغنى قبل الحول: أجزأت
(23)
، لا إن دفعها إلى من
وجوبه فجاز، فإن قلتَ: لمَ اشتُرط بلوغ النصاب في ذلك؟ قلتُ: لكون بلوغ النصاب سبب ولا يجوز تقديم الحكم على السبب، فإن قلتَ: لمَ لا يجوز تعجيل الزكاة عما سيستفيده مستقبلًا؟ قلتُ: لأن ما سيأتي ليس في ملكه؛ لعدم وجوده حقيقة، فإن قلتَ: لمَ حُدِّد التعجيل بالحولين فقط؟ قلتُ: لأن التعجيل خلاف الأصل، وإذا جاز في الحولين للنَّص وهو خلاف الأصل؛ رخصة - فما عداه يبقى على الأصل فيه كما قال ابن عقيل.
(22)
مسألة: إذا عجَّل زكاة ماله، ثم بعد أن تمَّ الحول وجد أن النصاب قد نقص مقدار ما عجَّله: فإن هذا يصح ويُجزئ عنه ما أخرجه، فمثلًا: لو عجَّل وأخرج شاتين عن مائتي شاة، فأنتجت هذه المائتان سخلة واحدة عند الحول: فإنه يجب عليه أن يخرج شاة ثالثة؛ للقياس، بيانه: كما أنه لو ملك مائتان وواحدة من الشياه: فإنه يُخرج زكاة عنها ثلاث شياه فكذلك يفعل إذا عجَّل عنها، والجامع: أن كلًا من المعجَّل والموجود داخل في مُلكه؛ لقاعدة: "إعطاء المعدوم حكم الموجود".
(23)
مسألة: إذا عجَّل زيد زكاة ماله ودفعها لعمرو الفقير حين الدفع ثم مات عمرو أو استغنى قبل تمام الحول على ذلك المال الذي عُجِّلت زكاته: فإن ما عجَّله زيد من زكاة يُجزئ عنه؛ للتلازم؛ حيث إن وجود عمرو فقيرًا عند دفع الزكاة إليه، وقبضها يلزم منه: إجزاؤها عن زيد، فإن قلتَ: لمَ أجزأت هنا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إنها لو لم تكن مُجزئة لأدَّى إلى عدم جواز تعجيل الزكاة؛ نظرًا لتطرق احتمال موت قابض المعجَّل منها واستغنائه.
يعلم غناه فافتقر؛ اعتبارًا بحال الدفع
(24)
(ولا يُستحب) تعجيل الزكاة
(25)
، ولمن أخذ الساعي منه زيادة أن يعتدَّ بها من قابلة، قال الموفق: إن نوى التَّعجيل
(26)
.
(24)
مسألة: إذا عجَّل زيد زكاة ماله ودفعها إلى عمرو الغني حين الدفع ويعلم زيد ذلك، وقبل تمام الحول على ذلك المال الذي عُجِّلت زكاته افتقر عمرو: فإن ما عجَّله زيد من زكاة لا يُجزئ عنه، بل لا بدَّ أن يُخرج زيد زكاة ماله مرة أخرى؛ للقياس، بيانه: كما أن زيدًا لو دفع زكاة ماله إلى غني لا يُجزئ ذلك فكذلك الحكم هنا، والجامع: أن كلًا منهما غني لا يستحق الزكاة حال الدفع.
(25)
مسألة: لا يُستحب للمسلم أن يُعجِّل زكاة ماله؛ للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية لحق المالك؛ حيث إنه يُحتمل أن ينقص النصاب، أو يتلف ماله كله قبل تمام الحول، فيتضرَّر فدفعًا لذلك: شرع عدم استحباب ذلك.
(26)
مسألة: إذا أخذ الساعي - وهو: نائب الإمام في جمع الزكاة - زيادة من المالك: كأن يأخذ الساعي شاتين عن أربعين شاة على أنها زكاة: فإن المالك يعتدُّ بالشاة الثانية ويحسبها في زكاة السنة القادمة بشرط: أن ينوي المالك أن ذلك تعجيل للزكاة، فإذا جاءت السنة القادمة وعنده مائتا شاة: فإنه يُعطي الساعي شاة واحدة؛ للتلازم؛ حيث يلزم من نية تعجيل الزكاة: احتساب تلك الشاة المعجَّلة، زكاة للسنة القادمة.
هذه آخر مسائل باب "إخراج الزكاة" ويليه باب "أهل الزكاة"
باب أهل الزكاة
وهم (ثمانية) أصناف، لا يجوز صرفها إلى غيرهم: من بناء المساجد، والقناطر، وسدِّ البثوق، وتكفين الموتى، ووقف المصاحف وغيرها من جهات الخير؛ لقوله تعالى:{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} الآية
(1)
أحدهم (الفقراء، وهم:)
باب أهل الزكاة
وفيه ثنتان وخمسون مسألة:
(1)
مسألة: أهل الزكاة - وهم: الذين يستحقون ويُعطون الزكاة - ثمانية: الفقراء، والمساكين، والعاملون على جمع الزكاة، والمؤلفة قلوبهم للإسلام، والعبيد الذين يُريدون فك رقابهم من أسيادهم، والغارمون، والمجاهدون في سبيل الله، والمسافرون المنقطعون - وسيأتي بيانهم - وهم مخصَّصون بذلك: وعليه: فلا يجوز صرف الزكاة لأمور أخرى غير ذلك: كإصلاح الطرق، وبناء المساجد والقناطر والمقابر، وتجهيز الموتى، وطبع القرآن والكتب الشرعية وغيرها من الأعمال الخيرية؛ للكتاب؛ حيث قال تعالى:{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ} حيث دلَّ منطوق ذلك على وجوب صرف الزكاة لأحد الأصناف الثمانية المذكورة، ودلَّ مفهوم الحصر بـ "إنما" ومفهوم الصفة، ومفهوم العدد على عدم جواز صرف الزكاة لغير تلك الأصناف، فإن قلتَ: لمَ خُصَّ هؤلاء الثمانية لذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن إعطاء هؤلاء الثمانية من الزكاة فيه جلب مصالح للإسلام والمسلمين، وسيأتي بيان تلك المصالح أثناء ذكر كل صنف. [فرع]: إذا لم يُوجد واحد من الأصناف الثمانية في بلده، ولا في البلدان الإسلامية الأخرى: فإن الوجوب يبقى في ذمَّة المزكِّي، ويسقط عنه الأداء، فإن وُجد أحد تلك الأصناف أعطاها إياه، وإن مات المزكِّي قبل ذلك: =
أشدُّ حاجة من المساكين؛ لأن الله تعالى بدأ بهم، وإنما يبدأ بالأهم فالأهم، فهم (من لا يجدون شيئًا) من الكفاية (أو يجدون بعض الكفاية) أي: دون نصفها
(2)
، وإن
فإن ذمته تبرأ؛ للتلازم؛ حيث إن وجود واحد من الأصناف الثمانية شرط للأداء فيلزم من عدم الشرط - وهو: وجود أحد الأصناف -: عدم الحكم - وهو: وجوب الأداء، فإن قلتَ: لمَ سقط الأداء هنا؟ قلتُ: لأن الأداء واجب، وهو معجوز عنه، ويسقط الواجب بالعجز عنه أصله قوله تعالى:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} . [فرع آخر]: يحرم أن يُعطى من الزكاة الفاسق بفعل المنكرات من زنا، أو شرب خمر، أو التعامل بالربا، أو التحايل على أكل الحرام، أو نحو ذلك من أنواع الفسق ولو كان من الأصناف الثمانية؛ للكتاب؛ حيث قال تعالى:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} فحرَّم هنا التعاون على الإثم؛ لأن النهي مطلق، فيقتضي التحريم، ولو أعطيت الفسَّاق: للزم من ذلك: التعاون على الإثم، فيدخل ما نحن فيه في عموم هذه الآية؛ لأن "الإثم" مفرد محلَّى بال وهو من صيغ العموم، فإن قلتَ: لمَ حُرِّم ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إنَّ حرمان الفسقة من إعطائهم الزكاة سبب لجعلهم يرجعون إلى رُشدهم.
(2)
مسألة: في الأول - ممن يُعطون من الزكاة - وهو: الفقير، وهو: الذي لا يجد شيئًا من كفايته، أو يجد بعض الكفاية التي لا تكفيه وعياله دون نصفها، ولا يقدر على فعل شيء؛ للكتاب؛ حيث قال تعالى:{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} فجعل الشارع الفقير من الذين يستحقون الزكاة، فإن قلتَ: لمَ كان الفقير من الثمانية ولِمَ بدأ به؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن الفقراء أولى الناس بالعطاء؛ لشدَّة حاجتهم، ولانتشارهم بين المسلمين، ولكثرتهم، فكانوا - لذلك - أهم من غيرهم، فإن قلتَ: لمَ سُمِّي الفقير بهذا الاسم؟ قلتُ: نسبة إلى فقرات الظهر؛ حيث إن من نُزِعت فقرة من فقراته: ينقطع صلبه، وتضعف قوته، فلا يقدر على العمل ليتكسَّب.
تفرَّغ قادر على التكسُّب للعلم، لا للعبادة، وتعذَّر الجمع: أُعطي
(3)
(و) الثاني (المساكين) الذين (يجدون أكثرها) أي: أكثر الكفاية (أو نصفها)
(4)
، فيُعطى الصنفان تمام كفايتهما مع عائلتهما سنة
(5)
، ومن ملك ولو من أثمان ما لا يقوم بكفايته:
(3)
مسألة: يجوز أن يُعطى طالب العلم من الزكاة وإن كان قدرًا على التكسُّب بشرطين: أولهما: أن لا يستطيع الجمع بين طلبه للعلم، والتكسُّب، ثانيهما: أن يقصد بهذا العلم الذي يطلبه: أن يرفع الجهل عن نفسه، وعن غيره ليُعبد الله على بصيرة، ويُعطى منها أيضًا لشراء الكتب الشرعية؛ ولا يُعطى من تفرَّغ للعبادة مع قدرته على التكسُّب؛ لقاعدتين: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} حيث إن هذا عام، فيشمل ما نحن فيه؛ لأن لفظ "الفقراء" جمع معرّف بأل، وهو من صيغ العموم؛ الثانية: المصلحة؛ حيث إن طلب العلم إذا وُجد فيه الشرط الثاني: فإنه سبب لنفع الإسلام والمسلمين في عصر طالب العلم هذا، وبعد ذلك، أما العابد: فلا يُعطى منها؛ لكونه لم ينفع إلا نفسه فقط.
(4)
مسألة: في الثاني - مَّمن يُعطون من الزكاة - وهو: المسكين، وهو الذي يجد أكثر كفايته، أو نصفها، وهو أحسن حالًا من الفقير؛ للكتاب؛ حيث قال تعالى:{ .. وَالْمَسَاكِينِ} فجعل الشارع المسكين ممن يستحق الزكاة فإن قلتَ: لمَ جُعل المسكين بعد الفقير هنا؟ قلتُ: لأنه يلي الفقير في شدَّة الحاجة، فإن قلتَ: لمَ سُمِّي المسكين بهذا الاسم؟ قلتُ: لكونه مشتقًا من السكون وهو ضد الحركة، ولا يسكن شيء إلا إذا انقطعت حركته، والمسكين قد أسكنته حاجته.
(5)
مسألة: يُعطى الفقير والمسكين من الزكاة قدر كفايتهما وكفاية من يعولان من الأولاد والزوجات ونحوهم لمدة سنة كاملة؛ للتلازم؛ حيث إن المقصد من الزكاة هو: سدُّ حاجة الفقير والمسكين مع عائلتهما؛ لإغنائهما عن الذُّل، =
فليس بغني
(6)
(و) الثالث (العاملون عليها وهم) السُّعاة الذين يبعثهم الإمام لأخذ الزكاة من أربابها كـ (جُباتها، وحُفَّاظها) وكتَّابها، وقُسَّامها
(7)
، وشُرِط: كونه مُكلَّفًا، مسلمًا أمينًا، كافيًا، من غير ذوي القربى
(8)
، ويُعطى قدر أجرته منها، ولو
فيلزم: أن يُعطيا تلك المدَّة، وهو: الحول تتكرَّر بتكرُّر ذلك الحول، وكل واحد من عائلتهما مقصود في دفع حاجته.
(6)
مسألة: إذا ملك شخص شيئًا من عقارات ونحوها لا تكفي أثمانها نفقته أو لا تكفي نفقة عياله: فإنه يُعطى من الزكاة، ويجوز له أن يأخذها؛ للكتاب؛ حيث قال تعالى:{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} حيث إن هذا الشخص يدخل تحت عموم ذلك؛ لأن "الفقراء والمساكين" جمع معرّف بأل، وهو من صيغ العموم.
(7)
مسألة: في الثالث - ممن يعطون من الزكاة - وهو: العامل عليها، وهو: الساعي الذي عيَّنه الإمام لجمع الزكاة، وحفظها، وكتابتها، وعدِّها، ووزنها، وكيلها، وقسمتها بين مُستحقيها، ومن أعان في ذلك، وأُحتيج إليه؛ للكتاب؛ حيث قال تعالى:{وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} ويعم ذلك كل من اشترك في جمع أو حفظ ونحو ذلك؛ لأن لفظ "العاملين" جمع معرف بأل وهو من صيغ العموم، فإن قلتَ: لمَ يُعطى هذا منها؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن العامل قد انقطع عن الأعمال الأخرى لأجلها، فيُعطى منها؛ تعويضًا عن ذلك الانقطاع، فإن قلتَ: لمَ اشتُرط أن يكون الساعي قد عيَّنه الإمام؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية للأغنياء من أن يتحايل عليهم بعض الناس لأخذ زكاتهم بدون أن يُعطوها الفقراء.
(8)
مسألة: شروط العامل على الزكاة والساعي لأخذها خمسة: أولها: أن يكون مُكلَّفًا - أي: بالغ عاقل -، ثانيها: أن يكون مسلمًا، ثالثها: أن يكون أمينًا =
غنيًا
(9)
، ويجوز كون حاملها وراعيها ممن مُنع منها
(10)
الصنف (الرابع: المؤلَّفة
عدلًا، رابعها: أن يكون قادرًا على العمل، عالمًا بأحكام الزكاة، خامسها: أن لا يكون من ذوي القربى للنبي صلى الله عليه وسلم، كبني هاشم، وبناء على ذلك: فلا يجوز أن يتولَّى ذلك صبي ولا مجنون، ولا كافر، ولا فاسق، ولا غير قادر على العمل أو غير عالم بأحكامها، ولا واحد من بني هاشم؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية، حيث قال صلى الله عليه وسلم للفضل بن العباس - لما سأله العمالة على الصدقات -:"إنها لا تحلُّ لمحمد، ولا لآل محمد" حيث بيَّن أن ذوي القربى لا يتولون جمع الصدقات، ولو تولى واحد منهم فيُعطى أجرته من غير الزكاة، الثانية: المصلحة؛ حيث إن العمل على الزكاة ولاية، ولا يصلح للولاية إلا من توفَّرت فيه تلك الشروط لحماية الغنى والفقير، فيأخذ الزكاة بأمانة، ويُوزِّعها على مستحقيها بأمانة وإخلاص، دون أن يظلم الغني بأخذ أكثر من الزكاة، أو يظلم الفقير بمنعه بعض حقه.
(9)
مسألة: يُعطى العامل على الزكاة قدر عمله وجهده من نفس الزكاة وإن كان ذلك العامل غنيًا؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "لا تحلُّ لغني إلا لخمسة: العامل عليها، ومشتريها، والغارم، والغازي، ومسكين أهدى منها لغني" فأثبت أن الغني العامل يعطى منها؛ لأن الاستثناء من النفي إثبات فإن قلتَ: لمَ يُعطى منها مع غناه؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك يُعتبر تعويضًا له عن انقطاعه عن الأعمال الأخرى.
(10)
مسألة: يجوز أن يحمل الزكاة من موضع الغني إلى بيت المال، وأن يرعى بهائم الصدقة شخص لا يتولَّى العمل على الزكاة، كالكافر، وذوي القربى، ويُعطى أجرته من غير الزكاة؛ للتلازم؛ حيث يلزم من عدم الاشتغال بجمع وتقسيم الزكاة مباشرة كنقلها ورعيها: جوازه؛ لعدم صلته بالولاية على الصدقة.
قلوبهم) جمع مؤلَّف، وهو: السَّيد المطاع في عشيرته (ممن يُرجى إسلامه، أو كفُّ شرِّه، أو يُرجى بعطيته: قوة إيمانه) أو إسلام نظيره، أو جبايتها ممن لا يُعطيها، أو دفع عن المسلمين
(11)
، ويُعطى ما يحصل به التأليف عند الحاجة فقط، فترك عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم إعطاءهم؛ لعدم الحاجة إليه في خلافتهم، لا لسقوط سهمهم، فإن تعذَّر الصرف إليهم: رُدَّ على بقية الأصناف
(12)
(الخامس: الرقاب وهم: الكاتبون) فيُعطى المكاتب وفاء دينه؛ لعجزه عن وفاء ما عليه، ولو مع قدرته على
(11)
مسألة في الرابع - ممن يُعطون من الزكاة - وهو: المؤلَّف قلبه، وهو الكافر المطاع في قومه الذي يُرجى إسلامه، ويُرجى بإسلامه أن ينفع المسلمين بأن يُدافع عنهم، أو يكف شرَّه عنهم وإن لم يرج إسلامه، وكذلك: المسلم ضعيف الإيمان يُعطى منها؛ لتقوية إيمانه؛ للكتاب؛ حيث قال تعالى: {وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ} وهو عام لجميع ما ذكرنا؛ لأن لفظ "المؤلَّفة" جمع معرف بأل، وهو من صيغ العموم، والمراد من التأليف: جمع القلوب وتألُّفها، وتهدئتها وإزالة العداوة عنها، فإن قلتَ: لمَ يُعطى هذا؟ قلتُ: للمصلحة، وقد بينَّاها.
(12)
مسألة: يُشترط في إعطاء المؤلَّفة قلوبهم: أن تكون مصلحة الإسلام والمسلمين قد اقتضت إعطاءهم، - كما سبقت الأمثلة على ذلك في مسألة (11) -، فإن كانت المصلحة لا تقتضي ذلك: فلا يُعطون بسبب تلك المصلحة لا بسبب سقوط سهمهم؛ حيث إن سهمهم باق إلى يوم القيامة، يُستعمل عند قيام المصلحة، ويُصرف ما يُعطون إياه من الزكاة إلى الأصناف الباقية؛ لفعل الصحابي؛ حيث إن عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم منعوا إعطاءهم في خلافتهم؛ لعدم اقتضاء المصلحة لذلك في تلك الفترة، ويُفهم من ذلك: أنهم يُعطون عند اقتضاء المصلحة لذلك.
التكسُّب، ولو قبل حلول نجم
(13)
، ويجوز أن يشتري منها رقبة لا تعتق عليه فيُعتقها؛ لقول ابن عباس
(14)
(و) يجوز أن (يفكَّ منها الأسير المسلم)؛ لأن فيه فكَّ رقبة من الأسر
(15)
، لا أن يُعتق قِنَّه أو مكاتبه
(13)
مسألة: في الخامس - ممن يُعطون من الزكاة - وهو: المكاتب، وهو الرقيق الذي اشترى نفسه من سيده بثمن يُسدِّده له على أقساط: سواء كان هذا الرقيق قادرًا على التكسُّب أو لا، وسواء حلَّ سداد القسط أو لا؛ للكتاب؛ حيث قال تعالى:{وَفِي الرِّقَابِ} وهو عام فيشمل كل ما ذُكر: لأن لفظ "الرقاب" جمع معرَّف بأل، وهو من صيغ العموم، فإن قلتَ: لمَ يُعطى هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه إزالة الرِّق والذُّل والمهانة عن مسلم وإرجاعه إلى الأصل وهو الحرية.
(14)
مسألة: يجوز أن يشتري الشخص عبدًا أجنبيًا عنه من زكاته، فيُعتقه؛ لقاعدتين: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {وَفِي الرِّقَابِ} حيث إن ذلك عام لجميع العبيد؛ لأن لفظ "الرقاب" جمع معرَّف بأل وهو من صيغ العموم كما سبق، الثانية: قول الصحابي؛ حيث إن ابن عباس قال ذلك، فإن قلتَ: لمَ جاز ذلك؟ قلتُ: للمصلحة، وقد بيناها في مسألة (13)، فإن قلتَ: لمَ جاز ذلك في العبد الأجنبي عنه فقط؟ قلتُ: لأن العبد القريب للشخص بنسب أو رحم كأبيه أو أمه، أو بنته، أو أخيه، أو أخته، أو عمه، أو خاله، أو عمته، أو خالته -، يعتقون شرعًا إذا اشتراهم ولو لم يُعتقهم المشتري، فإذا حسب أثمانهم التي اشترى بها هؤلاء من زكاته: فلا يُجزئ هذا عنه؛ للتلازم؛ حيث إن ذلك فيه عود نفع الزكاة إلى مُخرجها فيلزم: عدم إجزائها.
(15)
مسألة: يجوز أن يفكَّ الشخص مسلمًا من الأسر من زكاته؛ لقاعدتين: الأولى: الكتاب، وهو قوله تعالى:{وَفِي الرِّقَابِ} وهذا عام، فيشمل هذا - كما سبق -، الثانية: القياس، بيانه: كما يجوز أن يُعطى الغارم من الزكاة لسداد =
عنها
(16)
(السادس: الغارم) وهو: نوعان: أحدهما: غارم (لإصلاح ذات البين) أي: الوصل بأن: يقع بين جماعة عظيمة - كقبيلتين أو أهل قريتين - تشاجرا في دماء وأموال ويحدث بسببها الشحناء والعداوة، فيتوسط الرجل بالصلح بينهما، ويلتزم في ذمَّته مالًا؛ عوضًا عما بينهم، ليطفئ النائرة، فهذا قد أتى معروفًا عظيمًا، فكان من المعروف حمله عنه من الصدقة؛ لئلا يُجحف ذلك بسادات القوم المصلحين، أو يوهن عزائمهم، فجاء الشرع بإباحة المسألة فيها، وجعل لهم نصيبًا من الصدقة (ولو مع غنى) إن لم يدفع من ماله، النوع الثاني: ما أشير إليه بقوله (أو) تديَّن (لنفسه) في شراء من كفار، أو مباح أو محرَّم وتاب (مع الفقر)، ويُعطى وفاء دينه ولو لله
(17)
، ولا يجوز له صرفه
دينه وفكِّ رقبته منه، فكذلك يجوز هنا والجامع: فكُّ الرقبة في كل، والتَّخليص من الضيق الذي كان يُلاقيه الأسير والمدين، وهذا هو المقصد الشرعي.
(16)
مسألة: لا يجوز للشخص أن يُعتق عبده أو أمته من زكاته؛ للقياس، بيانه: كما أنه لا يجوز إخراج عين من العروض زكاة عنها، فكذلك لا يجوز إعتاق العبد منها، والجامع: عدم حصول نفع الفقير، وهو المقصد من الزكاة في كل، وهذا هو المقصد الشرعي.
(17)
مسألة: في السادس - ممن يُعطون من الزكاة - وهو: الغارم، وهو نوعان: أولهما: الشخص الذي التزم بدفع مال من أجل إصلاح بين جماعتين قد اختلفا لأي سبب، وهذا يُعطى منها وإن كان غنيًا سواء دفع من ماله أو لا، ثانيهما: الشخص الذي استدان أموالًا لنفسه ليشتغل بها، أو لينفقها على نفسه ومن يعول، أو لينفقها لله كحج ونحو ذلك: ثم بعد ذلك عجز عن السداد، أو مات قبل ذلك: فإنه يُسدَّد ذلك من الزكاة؛ لقاعدتين: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {وَالْغَارِمِينَ} وهذا عام لكل من ذكرنا ويعم قبل الموت وبعده؛ لأن "الغارمين" جمع معرَّف بأل وهو من صيغ العموم؛ الثانية: =
في غيره ولو فقيرًا
(18)
، وإن دُفع إلى الغارم؛ لفقره: جاز أن يقضي منه
السنة القولية، وهي من وجهين: أولهما: قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تحل لغني إلا لخمسة .. " وذكر منهم "الغارم" فأثبت جواز إعطاء الغارم من الزكاة وإن كان غنيًا؛ لأن الاستثناء من النفي إثبات، ولم يُفرِّق بين من دفع من ماله أو لا ثانيهما: أن قبيصة قال: تحمَّلتُ حمالة فأتيتُ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "أقم حتى تأتينا الصدقة فآمر لك بها" وهذا عام؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم لم يستفصل: هل هو غني أو فقير؟ فلزم أن تُعطى للغارم وإن كان غنيًا، أو دفع من ماله؛ لأن ترك الاستفصال عن الحال ينزل منزلة العموم في المقال، فإن قلتَ: لمَ يُعطى الغارم من الزكاة مع غناه؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حثُ الناس على إصلاح ذات البين، وهو: إصلاح حال الوصل الفاسد بين جماعتين، لئلا يضرُّ ذلك بالسادات المصلحين، أو يُضعف من عزائمهم، وفيه التكافُل والتعاون الاجتماعي بتسديد دين العاجز عن سداد دينه، أو مات قبل ذلك، وفيه تحسين الإسلام في أنظار الكفار فيتسبَّب في إسلامهم فإن قلتَ: لا يعطى الغني الغارم إذا دفع من ماله وهو ما ذكره المصنِّف هنا؛ للتلازم؛ حيث إن سداده من ماله يلزم منه سقوط الغرم، فلا يكون مدينًا قلتُ: إن الغارم يُعطى وإن سدَّد من ماله؛ لعموم القاعدتين السابقتين، فلم يخصص ذلك بشيء، ثم إن سداده من ماله يضرُّه فشُرع إعطاؤه من الزكاة لدفع ذلك الضرر فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض التلازم مع الكتاب والسنة" فنعمل بعمومهما وهم خصَّصوا ذلك بالتلازم.
(18)
مسألة: إذا أُعطي شخص من الزكاة؛ لكونه غارمًا فقط: فلا يجوز له أن يصرف ذلك إلا لما غرمه فقط، وعليه: فلا يجوز أن يصرف ما أُعطي لأكله أو شُربه أو مسكنه وإن كان فقيرًا مُحتاجًا إليه؛ للتلازم؛ حيث إن المعطي للزكاة قد نوى إعطاء ذلك الشخص لكونه غارمًا: يلزم منه أن يصرف ما أعطاه إياه =
دينه
(19)
(السابع: في سبيل الله وهم: الغزاة المتطوِّعة الذين لا ديوان لهم) أو لهم دون ما يكفيهم، فيُعطى ما يكفيه لغزوه ولو غنيًا
(20)
، ويُجزئ أن يُعطى منها لحج فرض فقير وعمرته
(21)
لا أن يشتري منها فرسًا يحبسها، أو عقارًا يقفه على
لما نواه المعطي فقط دون غيره؛ لأن النية تُعيِّن، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه سدٌّ للذرائع؛ لأن بعض الناس قد يتحايل الأخذ زكاة الناس بادِّعائه بأنه تحمَّل حمالة، ثم يصرفها لنفسه، فدفعًا لذلك شرع.
(19)
مسألة: إذا أُعطي شخص من الزكاة؛ لكونه غارمًا فقيرًا معًا: فيجوز له أن يُسدِّد ما غرمه ويأخذ منه لسداد دينه؛ للتلازم؛ حيث إنَّ المعطي للزكاة قد نوى حين دفع الزكاة إليه: أنه لما غرم، ولفقره، ولم يُعيِّن أحدهما: فيلزم منه جواز صرفه لهما معًا.
(20)
مسألة: في السابع - مَّمن يُعطون من الزكاة - وهو: المجاهد في سبيل الله، وهو: الذي يغزو ويُقاتل الكفار لإعلاء كلمة الله، المتطوِّع في ذلك الذي لا راتب ولا رزق ولا عطاء له من بيت المال، أو له شيء، ولكن لا يكفيه، فهذا يُعطى وإن كان غنيًا؛ لقاعدتين: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} حيث إن هذا عام لما ذكرنا؛ لأنه منكَّرًا أضيف إلى معرفة، وهذا من صيغ العموم، الثانية: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "لا تحلُّ لغني إلا لخمسة .. " وذكر منهم: "الغازي" حيث أثبت الشارع إعطاء الغازي وإن كان غنيًا؛ لأن الاستثناء من النفي إثبات، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه مصلحة عامة وهي نشر الإسلام، وهدم الكفر وأعظم التطوُّعات الشرعية الجهاد بالنفس، ثم النفقة فيه كما سبق بيانه في مسألة (2) من باب "صلاة التطوع" من كتاب "الصلاة".
(21)
مسألة: إذا عجز شخص عن فرض الحج أو العمرة؛ لفقره: فيجوز أن يأخذ من الزكاة ليحج أو يعتمر بما أخذ، ويُجزئ ذلك عن المخرج وهو المزكِّي؛ =
الغزاة
(22)
، وإن لم يغز: ردَّ ما أخذه
(23)
نقل عبد الله: إذا خرج في سبيل الله: أكل من الصدقة
(24)
(الثامن: ابن السَّبيل) وهو (المسافر المنقطع به) أي: بسفره المباح، أو المحرَّم إذا تاب (دون المنشئ للسفر من بلده) إلى غيرها؛ لأنه ليس في سبيل؛ لأن السَّبيل هي: الطريق، فسمي من لزمها ابن السَّبيل كما يُقال:"ولد الليل" لمن يكثر خروجه فيه، و"ابن الماء" لطيره؛ لملازمته له (فيُعطى) ابن السَّبيل (ما يوصله إلى بلده) ولو وُجد مُقرضًا، وإن قصد بلدًا واحتاج قبل وصوله إليها: أُعطي ما يصل
للقياس؛ بيانه: كما أنَّ من جاهد في سبيل الله يُعطى من الزكاة فكذلك الحاج والمعتمر العاجز عنهما من ماله والجامع: أن كلًا منهما يُسمَّى جهادًا؛ كما ورد عنه صلى الله عليه وسلم، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن هذا قد احتاج إلى الحج والعمرة فيُعطى لسدِّ هذه الحاجة، وهو موافق للمقصد الشرعي من الزكاة.
(22)
مسألة: لا يجوز للشخص أن يشتري من زكاة ماله فرسًا أو جملًا، أو عقارًا، أو درعًا ويوقف ذلك في سبيل الله؛ للكتاب؛ حيث قال تعالى:{وَآتُوا الزَّكَاةَ} ووقف الشيء ليس من الإيتاء أو الإعطاء، فلا يكون من الزكاة، فلم يجز.
(23)
مسألة: إذا أخذ شخص من الزكاة بناء على أنه سيغزو العدو، ولكنه لم يفعل ذلك: فيجب عليه: أن يردَّ ما أخذه؛ للقياس، بيانه: كما أن الشخص إذا أخذ نقودًا لأجل أن يعمل عملًا فلم يعمله، فيجب عليه ردُّ هذه النقود، فكذلك الحال هنا، والجامع: أن كلًا منهما لم يقم بالعمل الذي استلم الأجرة من أجله.
(24)
مسألة: لا يستفيد الشخص مما أُعطي - من الزكاة - لأجل الغزو إلا بعد خروجه له؛ للتلازم؛ حيث إنه أُعطي لخروجه للغزو فيلزم: أن لا يستفيد مما أُعطي - من أكل ونحوه - إلا بعد تحُّق الخروج؛ لكونه هو المقصود بالعطاء.
به إلى البلد الذي قصده، وما يرجع به إلى بلده
(25)
، وإن فضل مع ابن سبيل، أو غاز، أو غارم، أو مكاتب شيء: ردَّه وغيرهم يتصرَّف بما شاء؛ لملكه له مُستقرًا
(25)
مسألة: في الثامن والأخير - ممن يُعطون من الزكاة - وهو: المسافر المنقطع في سفره عن أهله وولده، ولا شيء معه يُوصله إليهم، أو قصد بلدًا مُعينًا، وانتهى ما معه من النفقة، فهذان يُعطيان: فيُعطى الأول ما يُوصله إلى أهله، ويُعطى الثاني ما يُوصله إلى البلد الذي قصده وما يُرجعه منه إلى بلده الأصلي: وهذا مطلق: أي سواء كان هذا السفر طويلًا أو قصيرًا، وسواء وجد مُقرضًا أو لم يجد، وسواء كان مُوسرًا في بلده أو لا، بشرطين: أولهما: أن يكون الانقطاع حال السفر، ثانيهما: أن يكون السفر مباحًا، أو غير مباح لكنه تاب؛ للكتاب؛ حيث قال تعالى:{وَابْنَ السَّبِيلِ} والمقصود به: المسافر المنقطع، وهذا يعمُّ كلَّ من ذكرنا لأنه منكرًا أضيف إلى معرفة، وهو من صيغ العموم، ودلَّ المنطوق من ذلك على أنَّ الذي يُعطى هو من لازم الطريق المنقطع؛ لذلك سُمِّي به؛ لملازمته إياه، ودلَّ مفهوم الصفة على أن من أراد الخروج لا يُعطى من الزكاة وإن لم يجد ما يُوصله إلى ما أراد السفر إليه؛ لكونه لا يُطلق عليه "ابن السَّبيل" حقيقة ولا مجازًا، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه دفع المضرَّة عن هذا المنقطع، والرفق به، لذلك لا يُعطى من أراد السفر وهو غير قادر على الوصول إلى البلد الذي يُريد السفر إليه؛ لأن وجود هذا في بلده أرفق به، فإن قلتَ: لمَ اشتُرط كون السفر مباحًا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن إعطاء المسافر سفر معصية إعانة له على معصيته، وهذا منهي عنه؛ حيث قال تعالى:{وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} .
(ومن كان ذا عيال: أخذ ما يكفيهم) لأن كل واحد من عائلته مقصود دفع حاجته
(26)
، ويُصدَّق من ادَّعى عيالًا، أو فقرًا، ولم يُعرف
(26)
مسألة: إن بقي شيء بعد سداد المكاتب لدينه، وسداد الغارم ما غرم، وفراغ المجاهد من جهاده، ووصول ابن السَّبيل إلى بلده: فيجب إرجاعه إلى من دفعه - من إمام أو غني -، أما إن بقي شيء بعد زوال الفقر، والمسكنة، والعمالة وحصول التأليف: فلا يجب إرجاعه إلى من دفعه؛ للكتاب حيث قال تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ} حيث يلزم من تعبير الشارع بـ "اللام" في الأربعة الأوائل: أن ملكهم قد استقر على ما أخذوه، لأن "اللام" للتمليك، ويلزم من تعبير الشارع بـ "في" في الأربعة الأواخر: أنهم لا يملكون ما أخذوه، فلم يستقر لهم، بل أخذهم مُراعى فيه السبب الذي من أجله أعطوا منها - وهو: سداد دين المكاتب، وسداد ما غرم، والجهاد في سبيل الله، ووصول ابن السبيل -، وبناء عليه: يجب على هؤلاء الأربعة أن يُرجعوا ما بقي بعد ذلك فإن قلتَ: لمَ فُرِّق بين أهل الزكاة في هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إنه يشقُّ معرفة زوال الفقر، والمسكنة، والعمالة، وحصول التأليف بالتَّحديد، فلا يرد الواحد من الأربعة الأوائل في الآية ما بقي بعد زوال ما هم فيه؛ دفعًا لتلك المشقة، بخلاف الفراغ من سداد الدَّين للمكاتب والغارم، والفراغ من الجهاد في سبيل الله، ووصول ابن السبيل إلى بلده فلا يشقُّ معرفته، فوجب ردُّ ما بقي بعد زوال ذلك، تنبيه: قوله: "ومن كان ذا عيال" إلى قوله "حاجته" قد سبق بيانه في مسألة (5). [فرع]: السائل للصدقة والزكاة يُعطى منها إن ظهرت عليه علامات الاستحقاق؛ للمصلحة؛ حيث إن أُعطي مُطلقًا فقد يؤدِّي إلى أن يأخذها من لا يستحقها، ويُحرم منها من يستحقها. [فرع آخر]: يُستحب للمسلم أن يتعفَّف، ولا يأخذ =
بغِنَى
(27)
(ويجوز صرفها) أي: الزكاة (إلى صنف واحد)؛ لقوله تعالى: {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} ولحديث معاذ - حين بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن - فقال: "أعلمهم أن الله قد افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فتردَّ على فقرائهم" متفق عليه، فلم يذكر في الآية والخبر إلا صنفًا واحدًا
(28)
، ويُجزئ
الصَّدقات وإن كان فقيرًا، وأن يحرص كل الحرص على أن يعمل عملًا وإن كانت أجرته قليلة؛ حيث إن هذا أعزُّ وأكرم له؛ للسنة القولية؛ وهي من وجهين: أولهما: قوله: "لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه" ثانيها: قوله: "من يستعفف يُعفُّه الله، ومن يستغن يُغنه الله" فإن قلتَ: لمَ استحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن الاستعفاف والاستغناء عما في أيدي الأغنياء والسلاطين يؤدِّي إلى عز الإسلام والمسلمين.
(27)
مسألة: إذا ادَّعى شخص أنه فقير، أو أنه صاحب عيال: فإنه يُصدَّق، فلا تُطلب البينة على ذلك، ويُعطى من الزكاة بشرط: عدم معرفته بالغِنَى؛ للكتاب؛ حيث قال تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} وهذا الشخص بادِّعائه الفقر يدخل تحت عموم تلك الآية، فيلزم إعطاؤه لعدم معرفتنا له بالغنى، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: لأن الأصل في المسلمين الصدق، ولمشقة إثبات البينة على ذلك.
(28)
مسألة: يجوز أن يُعطى الشخص جميع زكاة ماله لصنف واحد كالفقراء مثلًا، ويُستحب أن يجتهد في الأحوج لها منهم فيُقدِّمه في العطاء منها كما نص عليه الإمام مالك؛ لقواعد: الأولى: الكتاب: حيث قال تعالى: {وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ} ، الثانية: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "
…
فترد على فقرائهم" حيث لم يذكر إلا صنفًا واحدًا في النَّصَّين وهم: الفقراء، فيلزم جواز صرفها لهم فقط، الثالثة: قول الصحابي؛ حيث إن صرفها إلى صنف واحد قد روي عن عمر، =
الاقتصار على إنسان واحد، ولو غريمه، أو مكاتبه إن لم يكن حيلة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أمر بني زريق بدفع صدقتهم إلى سلمة بن صخر، وقال لقبيصة:"أقم يا قبيصة حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها"
(29)
(ويُسنُّ) دفعها (إلى أقاربه الذين لا تلزمه مؤنتهم) كخاله، وخالته، على قدر حاجتهم: الأقرب فالأقرب؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "صدقتك على ذي القرابة صدقة وصلة"
(30)
فصل: (ولا) يُجزئ أن (تُدفع إلى هاشمي) أي: من
وحذيفة، وابن عباس رضي الله عنهم، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه دفع مشقة تقسيمها على كل صنف من الثمانية.
(29)
مسألة: يجوز أن يُعطى زيد زكاة ماله لعمرو الفقير: سواء كانت كثيرة أو قليلة، وسواء كان عمرو غريمًا لزيد - بأن كان زيد يطلبه دينًا - أو لا، وسواء كان عمرو عبدًا مكاتبًا لزيد - بأن اشترى عمرو نفسه من زيد - أو لا، بشرط: أن لا يكون إعطاء زيد زكاة ماله لعمرو حيلة من زيد لينتفع بزكاة ماله؛ للسنة القولية وهي من وجهين: أولهما: أنه صلى الله عليه وسلم قد أمر بني زريق أن يدفعوا بزكاتهم لسلمة بن صخر، وهو واحد، ثانيهما: أنه قال لقبيصة: "أقم عندنا حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها" وهو واحد، وهي كثيرة، والنَّصان مُطلقان؛ حيث لم يُقيَّدا بشيء من كون المعطي غريمًا، أو مكاتبًا، فإن قلتَ: لمَ جاز ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه توسعة على المسلمين، وسد حاجة ذلك الفقير الواحد، ودفع مشقة تقسيمها على الثمانية، فإن قلتَ: لمَ اشتُرط ذلك الشرط؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه سدُّ الذرائع والحيل التي تجعل المزكِّي ينتفع بزكاة ماله؛ لقطع طمعه والعود في شيء مما أخرجه بكل طريق، وهذا من محاسن الإسلام كما قال ابن القيم.
(30)
مسألة: يُستحب أن يُعطي المسلم زكاة ماله قريبه المستحق لها الذي لا تجب نفقته عليه، أما إن كان ليس مستحقًا لها أو كان مستحقًا ولكنه ممن تجب =
يُنسب إلى هاشم بأن يكون من سلالته، فدخل فيهم آل عباس، وآل علي، وآل جعفر، وآل عقيل، وآل الحارث بن عبد المطلب، وآل أبي لهب؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد، إنما هي أوساخ الناس" أخرجه مسلم
(31)
لكن تجزئ
مؤنتهم ونفقته عليه: فلا يجوز دفع الزكاة إليه؛ للسنة القولية، حيث قال صلى الله عليه وسلم:"أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح" والزكاة يُطلق عليها "صدقة" وصيغة "أفضل" من صيغ الندب، فإن قلتَ: لمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تقوية الصلة والقرابة والتراحم بين الأقرباء. [فرع]: إذا أعطى زكاته للمستحقين لها من الأجانب أو الأقرباء: فإنه يُفرقها بينهم على التساوي إن كانوا في رتبة واحدة من الحاجة، وإن كان بعضهم أحوج من البعض الآخر: فإنه يُقدِّم في العطاء الأحوج فالأحوج، وإن وجد أجنبي أحوج لها من القريب: قدِّم ذلك الأجنبي، ويُقدَّم الجار من المستحقين لها على غير الجار، ويُقدَّم العالم على طالب العلم، ويُقدَّم المستقيم في دينه على من ليس كذلك؛ للمصلحة؛ حيث إن القصد من الزكاة هو: سدُّ حاجة المستحقين لها، ومواساتهم، وما كان أحوج، أو أقرب في الجوار، أو أعلم، أو أكثر استقامة فإنه يتحقق فيه ذلك المقصد بصورة آكد.
(31)
مسألة: لا يُجزئ دفع الزكاة إلى بني هاشم، ولا يحل لهم أخذها، ويشمل ذلك ستة بطون:"آل العباس" و"آل علي" و"آل جعفر" و"آل عقيل" و"آل الحارث بن عبد المطَّلب" و"آل أبي لهب"؛ للسنة القولية وهي من وجهين: أولهما: أن الفضل بن العباس، والمطلب بن ربيعة بن الحارث قالا للنبي صلى الله عليه وسلم:"أمِّرنا على هذه الصدقة، فنُصيب ما يُصيب الناس من المنفعة" فقال صلى الله عليه وسلم: "إن الصدقة لا تحلُّ لآل محمد، وإنما هي أوساخ الناس" فبيَّن تحريم دفع الزكاة إلى هؤلاء، وحُرِّم عليهم أن يأخذوها؛ لأن لفظ "لا تحلُّ" من صيغ التحريم، =
إليه إن كانَ غازيًا، أو غارمًا؛ لإصلاح ذات البين، أو مؤلَّفًا
(32)
(و) لا إلى (مطلبي)؛ لمشاركتهم لبني هاشم في الخمس، اختاره القاضي، وأصحابه، وصحَّحه ابن المنجا، وجزم به في "الوجيز" وغيره، والأصح: تُجزئ إليهم اختاره الخرقي، والشيخان وغيرهم؛ لأن آية الأصناف وغيرها من العمومات تتناولهم، ومشاركتهم
ثانيهما: أن الحسن بن علي أخذ تمرة من تمر الصدقة فجعلها في فيه فقال صلى الله عليه وسلم له: "كخ كخ ارم بها، أما علمت أنا لا نأكل الصدقة" فحرم ذلك فنهى هؤلاء عن الأخذ من الصدقة؛ لأن النفي: نهي، وهو مطلق، فيقتضي التحريم؛ فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن مَنْعهم من أكل الزكاة يُعتبر تكريمًا لهم؛ لكون الزكاة أوساخ الناس - كما ورد في الحديث - فإن قلتَ: إن آل أبي لهب يُعطون من الزكاة - وهو ما ذكره بعض العلماء -؛ للتلازم؛ حيث يلزم من إيذاء أبي لهب للنبي صلى الله عليه وسلم: أن لا تستحق ذراريه الكرامة بخلاف البطون الخمسة الأخرى فقد نصروه في الجاهلية والإسلام قلتُ: إن ابني أبي لهب: "عتية""ومُعتّب" قد أسلما عام الفتح، وحسن إسلامهما، وشهدا غزوة حنين والطائف، ولهما عَقِب نفع الله به، فلزم دخولهم مع أصلهم، وهم بنو هاشم، فلا يُعطون من الزكاة تكريمًا، ولا دخل لهم فيما فعله أبوهم أبو لهب؛ لعموم قوله تعالى:{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} .
(32)
مسألة: إذا كان الشخص من بني هاشم من المؤلَّفة قلوبهم، أو غازيًا، أو غارمًا لدين بسبب إصلاح ذات البين: فيجوز أن يُعطى من الزكاة، وله الأخذ منها؛ للقياس، بيانه: كما يجوز للغني أن يأخذ من الزكاة إذا كان غازيًا أو غارمًا، أو مؤلَّفًا فكذلك يجوز للهاشمي ذلك إذا كان كذلك، والجامع: أن كلًا منهم أخذ بسبب العمل الذي قام به، ولا توُجد منَّة في ذلك.
لبني هاشم في الخُمس ليس لمجرَّد قرابتهم؛ بدليل: أن بني نوفل وبني عبد شمس مثلهم ولم يُعطوا شيئًا من الخمس، وإنما شاركوهم بالنصرة مع القرابة كما أشار إليه صلى الله عليه وسلم بقوله:"لم يُفارقوني في جاهلية ولا إسلام" والنُّصرة لا تقتضي حرمان الزكاة
(33)
(و)
(33)
مسألة: لا يُجزئ دفع الزكاة إلى بني المطَّلب، وهم من يُنسبون إلى المطَّلب بن عبد مناف، ولا يحل لهم أخذها، وهو مذهب الجمهور؛ للقياس، بيانه: كما أن بني هاشم لا تدفع لهم الزكاة، ولا يحل لهم أخذها، فكذلك بنو المطَّلب مثلهم والجامع: أن كلًا منهم يأخذون من خمس الغنيمة الذي خُصِّص لذوي القربى، وأن كلًا منهم قد اشتركوا في نصرة النبي صلى الله عليه وسلم والقرابة له، ولذا حكم صلى الله عليه وسلم عليهما بأنهما كالشيء الواحد قائلًا:"إنما بنو المطَّلب وبنو هاشم شيء واحد" يُؤيده: أنه لما حاصرت قريش بني هاشم انضمَّ إليهم بنو المطَّلب، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة، وقد بيَّناها في مسألة (31)، فإن قلتَ: يُجزئ دفع الزكاة إلى بني المطَّلب، ويحلُّ لهم أخذها وهو قول كثير من الحنابلة - كالخرقي والشيخين: ابن قدامة موفق الدين، والمجد بن تيمية ومال إليه المصنف هنا -، للكتاب؛ حيث قال تعالى:{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ .. } وهذا عام، فيشمل فقراء بني المطَّلب، وغيرهم، وإنما خُصِّص منهم بنو هاشم بالسنة القولية، وهي من وجهين وقد سبق ذكرهما في مسألة (31) -، ويبقى لفظ الآية عامًا شاملًا لما بقي بعد التخصيص، وهو حجة فيه، وقرابة بني المطَّلب لبني هاشم لا تقتضي أن يكون بنو المطَّلب مثل بني هاشم في منعهم من أخذ الزكاة؛ لنقض ذلك في بني عبد شمس وبني نوفل؛ حيث إنهما مثل بني المطَّلب في القرابة ومع ذلك لم يُعطيا شيئًا من الخمس قلتُ: إن قياس بني المطلب على بني هاشم في ذلك قياس صحيح؛ حيث استكمل شروطه؛ حيث إن هناك أمورًا تجمع بني المطَّلب وبني هاشم منها: القرابة الشديدة التي بينهما، وأن كلًا =
لا إلى (مواليهما)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "وإنَّ مولى القوم منهم" رواه أبو داود والنسائي والترمذي وصحَّحه، لكن على الأصح: تُجزئ إلى موالي بني المطَّلب كإليهم
(34)
،
منهما يأخذ من خمس الغنيمة، وأنهما كالشيء الواحد، وأنهما قد انضمَّا معًا عند الضراء، فلذا صحَّ قياس بني المطلب على بني هاشم، وهذا القياس قد خصَّص عموم قوله تعالى:{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} فأخرج بني المطَّلب عن ذلك العموم فلا تُدفع لهم الزكاة كبني هاشم، بخلاف بني نوفل، وبني عبد شمس فلا يُوجد شيء من ذلك، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "هل القياس السابق قد قوي على تخصيص عموم الآية؟ " فعندنا: نعم، وعندهم: لا. [فرع]: يجوز للمطَّلبي أن يأخذ من الزكاة إذا كان غازيًا أو غارمًا أو مؤلفًا؛ قياسًا على الهاشمي في ذلك كما سبق في مسألة (32). [فرع آخر]: يجوز لبني هاشم وبني المطَّلب أخذ الزكاة إذا كانوا فقراء، ومُنعوا من خمس الغنيمة، أما إن لم يكونوا فقراء، أو أعطوا من الغنيمة فلا يجوز لهم أخذ الزكاة؛ للمصلحة؛ حيث إن منعهم من أخذ الزكاة مع حاجتهم، وعدم تمكُّنهم من أخذ الخمس يُلحق الضَّرر بهم، فدفعًا لذلك: شرع هذا.
(34)
مسألة: لا يُجزئ دفع الزكاة إلى موالي بني هاشم وموالي بني المطَّلب - وهم العبيد الذين أعتقهم هؤلاء وسُلالتهم -، للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم:"لا تحلُّ لنا الصدقة وإن موالي القوم منهم" فيكون على موالي القوم ما على القوم، ولهم مالهم ويعم ما ذكرناه، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: لأن بني هاشم وبني المطَّلب يرثون هؤلاء الموالي بالتعصيب، فإن قلتَ: يُجزئ دفع الزكاة إلى مواليهم، وهو قول كثير من العلماء؛ للقياس، بيانه: كما يجوز دفع الزكاة إلى فقراء سائر الناس فكذلك هؤلاء الموالي مثلهم إذا كانوا فقراء، والجامع: أن كلًا منهم ليسوا بقرابة للنبي صلى الله عليه وسلم، قلتُ: إن هذا فاسد؛ لأنه قياس =
ولكل أخذ صدقة التطوع، ووصية، أو نذر لفقراء
(35)
، لا كفارة
(36)
(ولا إلى فقيرة تحت غني مُنفق) ولا إلى فقير يُنفق عليه من وجبت عليه نفقته من أقاربه، لاستغنائه بذلك (ولا إلى فرعه) أي: ولده وإن سفل من ولد الابن، أو ولد البنت (و) لا إلى
مع الفارق؛ لأن هؤلاء الموالي بمنزلة القرابة؛ لثبوت حكم القرابة فيهم من الإرث، والعقل، والنفقة، فأجروا مجرى ذلك في الصدقة، وهذا بخلاف سائر فقراء الناس، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: هل لفظ "منهم" الوارد في الحديث شامل لحكم عدم دفع الزكاة لهم كالقوم أو لا؟ فعندنا: نعم، وعندهم: لا، تنبيه: قوله: "لكن على الأصح تُجزئ إلى موالي بني المطَّلب كإليهم" يُشير به إلى ما صحَّحه وهو: جواز دفع الزكاة إلى بني المطَّلب فإذا جاز ذلك فمن باب أولى جواز دفعها إلى مواليهم، وقد سبق أن هذا مرجوح في مسألة (33).
(35)
مسألة: يجوز لبني هاشم، ولبني المطَّلب ومواليهم أخذ صدقات التطوع، والصدقات الموصى بها، والصدقات المنذورة للفقراء إذا كانوا فقراء حقيقة؛ للتلازم؛ حيث إن كونها لا يُطلق عليها زكاة مفروضة يلزم منه: جواز أخذهم لها، فإن قلتَ: لمَ فُرِّق بين الزكاة والصدقات المطلقة هنا؟ قلتُ: لأن الزكاة تُعتبر من أوساخ الناس كما ورد، بخلاف الصدقات المطلقة، فلا توصف بذلك.
(36)
مسألة: لا يجوز لبني هاشم وبني المطَّلب ومواليهم أخذ الصَّدقات التي هي كفارة عن ذنب كإطعام عشرة مساكين في كفارة اليمين، أو إطعام ستين مسكينًا في كفارة الجماع في نهار رمضان ونحو ذلك؛ للقياس، بيانه: كما لا يجوز لهؤلاء أخذ الزكاة، فكذلك لا يجوز أخذ شيء من الكفارات والجامع: أن كلًا منها قد أوجبه الشارع، فيُؤخذ بسبب طلب الشارع له، فيكون كل منها من أوساخ الناس.
(أصله) كأبيه، وأُمه، وجده، وجدته من قبلهما وإن علوا
(37)
، لا أن يكونوا عُمَّالًا أو مؤلَّفين، أو غزاة، أو غارمين لذات بين، ولا يُجزئ أيضًا إلى سائر من تلزمه نفقته ما لم يكن عاملًا، أو غازيًا، أو مؤلفًا، أو مكاتبًا، أو ابن سبيل، أو غارمًا لإصلاح ذات بين
(38)
، ويُجزئ إلى من تبرَّع بنفقته بضمِّه إلى عياله
(39)
، أو تعذَّرت
(37)
مسألة: لا يُجزئ دفع الزكاة إلى أيِّ شخص يُنفق عليه مَنْ وجبت عليه نفقته من أقاربه كزوجته، وفروعه كابنه وبنته وإن نزلوا، وأصوله كأبيه وأمه وإن علوا، وهذا المنفق غني منفق، فإن كان فقيرًا، أو كان غنيًا لا يُنفق: فيجوز دفعها إلى هؤلاء؛ للتلازم؛ حيث إن الإنفاق عليهم يلزم منه استغناؤهم عن أخذ الزكاة، ويلزم من عدم الإنفاق: عدم استغنائهم عنها، فجاز دفعها إليهم؛ لدخولهم تحت عموم قوله تعالى: {
…
لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} وهو المقصد الشرعي.
(38)
مسألة: يجوز للشخص أن يدفع زكاة ماله إلى والديه، أو أولاده، أو أي شخصٍ تلزمه نفقته بشرط: أن يكون من تُدفع له الزكاة عاملًا على الزكاة، أو مؤلَّفًا قلبه، أو مجاهدًا في سبيل الله، أو غارمًا بسبب إصلاح ذات البين، أو مكاتبًا قد اشترى نفسه من سيده، أو قد انقطع به السبيل؛ للقياس، بيانه: كما أن الغني يُعطى من الزكاة لأجل هذه الأمور، فكذلك الأقرباء يُعطيهم قريبهم من زكاته لأجل تلك الأمور، والجامع: أن كلًا قد استحقَّ العطاء بسبب عمله، أو بسبب الانقطاع، أو كثرة الدَّين، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه سدٌّ لحاجة هؤلاء، وهو المقصد من مشروعية الزكاة.
(39)
مسألة: إذا تبرَّع زيد فضمَّ عمرًا إلى عياله، وأنفق عليه طول عمره: فيجوز لزيد أن يُعطي عمرًا من زكاته؛ للكتاب؛ حيث قال تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ .. } حيث إن هذا عام لكل فقير؛ لأن "الفقراء" جمع معرف بأل، وهو =
نفقته من زوج أو قريب بنحو غيبة، أو امتناع
(40)
(ولا) تجزئ (إلى عبد) كامل رق
(41)
غير عامل أو مكاتب
(42)
(و) لا إلى (زوج) فلا يُجزئها دفع زكاتها إليه ولا بالعكس
(43)
، وتُجزئ إلى ذوي أرحامه من غير عمودي
من صيغ العموم، فيشمل عمرًا؛ لكونه فقيرًا، فإن قلتَ: لمَ يُعطى وقد استغنى بالنفقة عليه؟ قلتُ: لأن نفقته مُتبرِّعًا بها، ولم تكن إلزامية من الشارع، لذا: يستطيع زيد التخلِّي عنه، فلم يكن عمرو مستغنيًا حقيقة.
(40)
مسألة: إذا كان لزيد زوجة، وأولاد، فغاب زيد، أو امتنع عن الإنفاق: فيجوز أن تُدفع لهم الزكاة؛ للكتاب؛ حيث قال تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} وهو عام لكل فقير، فيشمل هؤلاء؛ لعدم استغنائهم، وقد سبق ذلك في مسألة (37).
(41)
مسألة: لا يُجزئ أن يدفع السيد زكاة ماله إلى رقيقه؛ للتلازم؛ حيث يلزم من دفع ذلك: أن يكون قد دفعها إلى نفسه؛ لكون مال العبد لسيده؛ فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: لأن الزكاة تُعتبر مُلكًا لآخذها، والعبد لا يملك، ولأن السيد سينتفع من ذلك.
(42)
مسألة: إذا كان ذلك الرقيق عاملًا على الزكاة، أو مُكاتبًا - بأن اشترى نفسه من سيده -: فيجوز أن يدفع سيده إليه زكاة ماله؛ للكتاب؛ حيث قال تعالى: {وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ} وهذا عام، فيشمل الرقيق؛ لكون العامل يأخذ أجرة عمله وإن كان غنيًا، والمكاتب يأخذ ما يُسدِّد به دينه.
(43)
مسألة: يُجزئ أن تدفع الزوجة الغنية زكاة مالها إلى زوجها الفقير دون العكس؛ لقاعدتين: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} وهذا عام؛ لأن "الفقراء" جمع معرَّف بأل، وهو من صيغ العموم، فيشمل الزوج الفقير وغيره من الفقراء، فالمقتضى لإعطائه موجود، والمانع من ذلك مفقود، الثانية: السنة القولية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم لما علم بأن زينب تُعطي زوجها عبد الله بن مسعود من زكاة مالها قال: "لها أجران: أجر القرابة، وأجر =
النَّسب
(44)
(وإن أعطاها لمن ظنَّه غير أهل) لأخذها (فبان أهلًا): لم تُجزئه؛ لعدم جزمه بنية الزكاة حال دفعها لمن ظنه غير أهل لها
(45)
(أو بالعكس) بأن دفعها لغير أهلها ظانًا أنه أهلها: (لم تجزئه)؛ لأنه لا يخفى حاله غالبًا، وكدين الآدمي
(46)
(إلا)
الصدقة" وهذا يلزم منه جواز ذلك فإن قلتَ: لا يُجزئ أن تدفع الزوجة زكاتها إلى زوجها، ولا يُجزئ العكس وهو ما ذكره المصنف هنا قلتُ: أما عدم إجزاء دفع الزوج زكاته لزوجته فهذا صحيح وقد سبق بيانه في مسألة (37)، أما عدم إجزاء دفع الزوجة زكاتها لزوجها: فلم أجد دليلًا قويًا على ذلك؛ بل الدليل على خلافه وقد بينَّاه.
(44)
مسألة: يجوز للشخص أن يدفع زكاة ماله لأيِّ قريب لا تجب نفقته عليه: سواء من ذوي الأرحام أو لا بشرط: أن يكونوا فقراء؛ للكتاب؛ حيث قال تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ .. } وهذا عام، فيشمل القريب وغيره إذا كانوا فقراء، ولا تجب نفقتهم على المزكِّي.
(45)
مسألة: إذا دفع زيد زكاة ماله إلى عمرو ظنًا منه أنه ليس ممن يستحقونها: فبان بعد مُدَّة: أنه ممن يستحقونها: فإن هذا لا يُجزئه، بل يجب على زيد أن يدفع الزكاة مرة أخرى لأحد مستحقيها؛ للقياس، بيانه: كما أن الشخص لو صلى في وقت ظنه أنه ليس وقت للصلاة فبان بعد ذلك أنه وقت لها: فإن الصلاة لا تصح، فكذلك الحال هنا والجامع: أن كلًا منهما قد خلى من نية صلاحية كل من الركنين - وهما الصلاة والزكاة -؛ لعدم موافقته لما تصح فيه النية، وأيُّ عمل يخلو من النية لا يصح، فإن قلتَ: لمَ شرع هذا؟ قلتُ: لكونه وضعها في غير موضعها؛ حيث إنه أعطاها لغير مستحقها عمدًا فكانت مردودة.
(46)
مسألة: إذا دفع زيد زكاته إلى عمرو ظنًا منه أنه ممن يستحقها - غير الفقير -، فبان بعد مُدَّة: أنه ممن لا يستحقها: فلا يُجزئه ذلك، بل يجب على زيد أن =
إذا دفعها (لغني ظنَّه فقيرًا) فتُجزئه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى الرجلين الجلدين وقال: "إن شئتما أعطيتكما منها، ولا حظ فيها لغني، ولا لقوي مكتسب"
(47)
(وصدقة التطوع مستحبة) حثَّ الله عليها في كتابه العزيز في آيات كثيرة، وقال صلى الله عليه وسلم:"إن الصدقة لتطفئ غضب الرب، وتدفع ميتة السوء" رواه الترمذي، وحسَّنه
(48)
(و)
يدفع الزكاة مرة أخرى لأحد مستحقيها؛ لقاعدتين: الأولى: القياس، بيانه: كما أن زيدًا المدين لعمرو، لو أعطى هذا الدَّين لبكر ظنًا منه أنه عمرو، فبان بعد ذلك أنه ليس بعمرو، فيجب على زيد أن يُعطي ذلك الدَّين لعمرو مرة أخرى، فكذلك الحال هنا والجامع: أنه في كل منهما لم يصل الحق إلى صاحبه الحقيقي، الثانية: العادة والعرف؛ حيث إنه قد اعتاد الناس أن من يستحق الزكاة لا يخفى حاله، فنظرًا لتساهله في التأكد وإعطائها لغير مستحقيها: لم يُعذر وهذا هو المقصد من ذلك.
(47)
مسألة: إذا دفع زيد زكاة ماله إلى عمرو ظنًا منه أنه فقير، فبان بعد ذلك أنه غني: فإنها تجزئ عن زيد، وتبرأ ذمَّته؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم لرجلين جلدين سألا الصدقة -: "إن شئتما أعطيتكما منها .. " فيلزم من ذلك: جواز إعطاء من ادَّعى الفقر وأظهره، الثانية: المصلحة؛ حيث إن الغالب أن الغِنَى يخفى على كثير من الناس، ولو أراد شخص أن يعلم أن هذا غني أو فقير: لوجد مشقة عظيمة في ذلك فدفعًا لذلك: أجزأت.
(48)
مسألة: صدقة التطوع من أعظم المستحبَّات؛ لقاعدتين: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ} وغيرها من الآيات الكثيرة، الثانية: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "إن الصدقة لتطفئ غضب الرب، وتدفع ميتة السوء" فإن قلتَ: لمَ استُحبَّت؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إنها تتسبَّب في =
هي (في رمضان) وكل زمان ومكان فاضل كالعشر، والحرمين أفضل؛ لقول ابن عباس:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبرائيل" الحديث متفق عليه (و) في (أوقات الحاجات أفضل)
(49)
وكذا: على ذي رحم، ولا سيما مع عداوة وجار؛ لقوله تعالى:{يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} ولقوله صلى الله عليه وسلم: "الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي الرحم اثنتان:
إيجاد خيري الدنيا والآخرة من بركة المال المتصدق منه، وإطفاء غضب الرب، ودفع ميتة السوء، ورفع الأمراض، والستر.
(49)
مسألة: أفضل الأوقات في إخراج الصدقات هو: رمضان، والعشر ذي الحجة، ووقت حاجة الناس لها كأوقات الشتاء، والمطر، ووقت المجاعة، والحروب والقحط، والزلازل، والفتن، ونحو ذلك؛ لقواعد: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ} أي: أعظم الصدقة هي: الصدقة على فقير بئيس بحاجة إلى المال حاجة شديدة وغير ذلك مما ذكر مثل ذلك؛ لعدم الفارق من باب "مفهوم الموافقة"، الثانية: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر" يقصد عشر ذي الحجة؛ الثالثة: السنة الفعلية؛ حيث قال ابن عباس: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان" فإن قلتَ: لمَ كان ذلك الأفضل؟ قلتُ: لأفضلية الزمان الذي وقعت تلك الصدقة فيه. [فرع]: أفضل الأماكن في إخراج الصدقات هي: أفضل بُقاع العالم وهي مكة المكرمة، والمدينة المنورة؛ للتلازم؛ حيث إن مضاعفة الحسنات في هذين المكانين يلزم منه: أن تكون الصدقة فيهما أفضل من غيرهما.
صدقة وصلة"
(50)
(وتسن) الصدقة (بالفاضل عن كفايته و) كفاية (من يمونه)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "اليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول، وخير الصدقة عن ظهر غِنَى" متفق عليه (ويأثم) من تصدَّق (بما ينقصها) أي: يُنقص مؤنة تلزمه، وكذا: لو ضرَّ بنفسه، أو غريمه، أو كفيله؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"كفى بالمرء إثمًا أن يُضيِّع من يقوت"
(51)
، ومن أراد الصدقة بماله كله، وله عائلة لهم كفاية، أو يكفيهم بمكسبه:
(50)
مسألة: أفضل المستحقين للصدقة: هو القريب الفقير المظهر عداوته للمتصدِّق، ثم: القريب الفقير الكاتم عداوته له، ثم القريب الفقير المحب، ثم الجار الفقير المظهر عداوته له، ثم الجار الفقير الكاتم عداوته له، ثم الجار الفقير المحب له، ثم فقراء المسلمين ومساكينهم: الأمثل فالأمثل في الحاجة؛ لقاعدتين: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} وقال: {وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ} حيث قدَّم الأقربين في الصدقات سواء كانت قرابة نسب أو رحم، أو جوار، الثانية: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي الرحم اثنتان: صدقة وصلة" وقال: "أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح" أي: العدو المظهر لعداوته، والجار مثله؛ لعدم الفارق من باب "مفهوم الموافقة"، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك يتسبَّب في إزالة العداوة بين الأقرباء، ويُوجد الترابط الأسري، والجار بمنزلة القريب في الرحم؛ لشدَّة ما اهتمَّ الشارع به ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:"أوصاني جبريل بالجار حتى ظننت أنه سيُورِّثه".
(51)
مسألة: يُستحب أن يتصدَّق المسلم بما فضل وزاد عن كفايته وحاجته، وكفاية وحاجة من يعول، ويُحرَّم أن يتصدَّق بشيء يُنقص تلك الكفاية، أو يتسبَّب بضرره، أو ضرر غريمه - وهو: من يطالبه بدين - أو يضرُّ كفيله بحق مالي، ويأثم إن فعل ذلك؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "اليد العليا خير من اليد =
فله ذلك؛ لقصة الصدِّيق، وكذا: لو كان وحده، ويعلم من نفسه حسن التوَّكُّل والصبر عن المسألة، وإلا: حُرِّم
(52)
.
السُّفلى، وابدأ بنفسك ثم بمن تعول، وخير الصدقة ما كان عن ظهر غِنى" وقال:"لا ضرر ولا ضرار في الإسلام" وقال: "كفى بالمرء إثمًا أن يُضيِّع من يعول" حيث يلزم من تلك النصوص ما قلناه، ولا يُعاقب المسلم إلا إذا ارتكب حرامًا، أو ترك واجبًا، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن من تدبَّر ما ذكرناه هنا لوجد أن فيه جلب مصالح له، ودفع مفاسد عنه.
(52)
مسألة: يجوز أن يتصدَّق المسلم بكل ماله، أو بما يُنقص من كفايته وكفاية عياله، وله مع ذلك أجر عظيم، لكن بشرط: أن يكون قادرًا على التكسُّب بما يكفيهم، وهو واثق بحسن توكُّله على الله، والصبر على الفقر والتعفُّف عن المسألة، فإن فُقد هذا الشرط: فيُحرَّم عليه ذلك؛ لقاعدتين: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} حيث ورد ذلك في سياق المدح لهؤلاء، فيلزم من ذلك جواز ما قلناه ويؤجر على ذلك أجرًا عظيمًا، الثانية: السنة التقريرية؛ حيث أقرَّ صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله عنه حينما تصدَّق بجميع ماله؛ لعلمه صلى الله عليه وسلم عن أبي بكر أنه مُتكسِّب، ويصبر على الفقر، ويترك المسألة وغير أبي بكر ممن يشبهه في هذه الصفات مثله في الحكم؛ لعدم الفارق، من باب "مفهوم الموافقة"، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه أعظم الأجر، وسدُّ حاجة الفقراء، وفي اشتراط ذلك الشرط دفع مفسدة عنه وعائلته، ودفع المفاسد مُقدَّم على جلب المصالح.
هذه آخر مسائل باب "أهل الزكاة" وهو آخر أبواب كتاب "الزكاة"، ويليه كتاب "الصوم"
كتاب الصوم
لغة: مجرد الإمساك، يُقال للساكن:"صائم"؛ لإمساكه عن الكلام، ومنه:{إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} وفي الشرع: إمساك بنية عن أشياء مخصوصة في زمن مُعيَّن من شخص مخصوص، وفرض صوم رمضان في السنة الثانية من الهجرة، قال ابن حجر في "شرح الأربعين":"في شعبان" انتهى، فصام رسول الله صلى الله عليه وسلم تسع رمضانات إجماعًا
(1)
(يجب صوم رمضان
(2)
برؤية هلاله)؛ لقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ
كتاب الصوم
حقيقة الصيام وحكمه، وأحكام نيته، ورؤية هلاله
وفيه ستون مسألة:
(1)
مسألة: الصوم لغة: الإمساك والامتناع عن كل شيء: الأكل والشرب، والكلام، والمشي، ومنه قوله تعالى:{إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} أي: سكوتًا عن الكلام، ومنه قولهم:"صام الفرس" إذا أمسك عن أكله للعلف، وقولهم:"صام النهار" إذا وقف سير الشمس وهكذا، وهو في الاصطلاح:"أن يُمسك شخص مخصوص عن أشياء مخصوصة بنية مخصوصة، في وقت مخصوص" وسيأتي بيان تلك الأمور المخصوصة بالتفصيل، فائدة: فرض الصوم في شهر شعبان من السنة الثانية للهجرة، وبناء عليه: يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد صام تسع رمضانات.
(2)
مسألة: يجب صيام شهر رمضان وجوبًا قطعيًا - لذا: هو من أركان الإسلام الخمسة -؛ لقواعد: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} ولفظ "الكتب" من صيغ الوجوب، الثانية: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "بُني الإسلام على خمس
…
" وذكر منها: "صوم شهر رمضان" حيث دلَّ =
مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} ولقوله صلى الله عليه وسلم: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته"
(3)
،
مفهوم العدد على أن من ترك واحدًا من الخمس - ومنها رمضان - فليس بمسلم، فلو لم يكن الصيام من أركان الإسلام: لما خرج تاركه عن الإسلام، والأحاديث الواردة في ذلك كثيرة؛ الثالثة: الإجماع؛ حيث أجمع علماء الأمة على أن صوم رمضان من أركان الإسلام، لا يتم إسلام المرء إلا به، فإن قلتَ: لمَ وجب صيامه؟ قلتُ: للمصلحة؛ وهي من وجوه: أولها: الابتلاء والامتحان من الله لعباده؛ حيث إن العبد يترك ما لذَّ وطاب في الأمور الدنيوية من أجل جنات النعيم الباقية، وهذا مقصد من المقاصد الكلية للإسلام، ثانيها: تكثير الأجر والثواب؛ حيث إن الله هو الذي يُجزئ بالصوم جزاء لا يُعلم مقداره؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزئ به" ثالثها: طرد الشيطان من أن يجري في العروق، قال صلى الله عليه وسلم:"الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم فضيقوا مجاريه بالجوع بالصوم" رابعها: إنزال الرحمة للفقراء في قلوب الأغنياء؛ حيث إن الأغنياء يشعرون بصومهم لهذا الشهر بما يشعر به الفقراء طوال السنة، خامسها: الإكثار من شكر الله تعالى على نعمه الظاهرة والباطنة؛ حيث أباح لهم التَّمتُّع في نهار الشهور كلها - إلا رمضان - وهذا الشكر يتسبَّب في زيادة النعم، ونقصان النقم، سادسها: منع النفس وكسر شهواتها، وفي ذلك الخير كله، فإن قلتَ: لمَ وجب الصوم في شهر رمضان دون غيره من الشهور؟ قلتُ: لأن وقت وجوبه وافق الرَّمض، وهو: شدَّة الحرِّ، ولعلَّ في ذلك مناسبة بينهما؛ حيث إن الصوم يُحرق الذُّنوب كما تُحرق الرَّمضاء من يطأ عليها.
(3)
مسألة: يبدأ وجوب الصوم برؤية هلال رمضان بالعين المجرَّدة؛ لقاعدتين: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} فأوجب الصوم عند شهود ورؤية هلال ذلك الشهر؛ لأن الأمر هنا مطلق، وهو يقتضي =
والمستحب: قول: "شهر رمضان" كما قال تعالى، ولا يُكره قول:"رمضان"
(4)
(فإن لم يُر) الهلال (مع صحو ليلة الثلاثين) من شعبان: (أصبحوا مفطرين) وكُره الصوم؛ لأنه يوم الشك المنهي عنه
(5)
(وإن حال دونه) أي: دون هلال رمضان بأن: كان في مطلعه ليلة الثلاثين من شعبان (غيم أو قَتَر) بالتحريك، أي: غَبَرة، وكذا: دُخان (فظاهر المذهب يجب صومه) أي: صوم يوم تلك الليلة حكمًا ظنيًا احتياطيًا
الوجوب، وهذا الوجوب مُقيَّد برؤية الهلال، ودل مفهوم الزمان على عدم وجوب الصوم عند عدم رؤية الهلال، الثانية: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "صوموا لرؤيته" ويُقال هنا كما قيل في الآية، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ربط ذلك بشيء محسوس - وهو رؤية هلال رمضان - فيه توسعة على جميع المسلمين على اختلاف طبقاتهم وأماكنهم، وأزمنتهم، لذلك: لا يُصام رمضان بناء على الحسابات الرياضية لمنازل القمر، ولا بناء على النظر في المقرِّبات - المجهر ونحوه - بل لا بدَّ أن يكون بالعين المجرَّدة.
(4)
مسألة: يُستحب أن يُقال "دخل شهر رمضان"، ولكن لو قيل:"دخل رمضان" لما كُره، للتلازم؛ حيث إن الشارع سمَّاه بـ "شهر رمضان" حيث قال:{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} فيلزم استحباب قول ذلك، ولا يلزم كراهية قول:"دخل رمضان" فقط؛ لأن مقصود هذا القول: هو: "شهر رمضان".
(5)
مسألة: إذا لم ير أحد هلال رمضان في ليلة الثلاثين من شعبان مع وجود صحو، وصفاء السماء: فلا يُصام يوم غدٍ، بل يُصبحون، مُفطرين، ويُكره صوم يوم الثلاثين إن نواه أنه من شعبان؛ للتلازم؛ حيث إن كون السماء صافية ليلة الثلاثين من شعبان وعدم رؤية الهلال يلزم منه: أن يكون اليوم التالي هو المكمِّل لشهر شعبان ثلاثين يومًا، فإن قلتَ: لمَ كره صوم يوم الثلاثين من شعبان؟ قلتُ: لأنه يوم شك، ويوم الشك منهي عن الصيام فيه.
بنية رمضان، قال في "الإنصاف":"وهو المذهب عند الأصحاب، ونصروه، وصنَّفوا فيه التصانيف، وردُّوا حجج المخالف، وقالوا: نصوص أحمد تدلُّ عليه" انتهى، وهذا قول عمر، وابنه، وعمرو بن العاص، وأبي هريرة، وأنس، ومعاوية، وعائشة وأسماء ابنتي أبي بكر الصديق رضي الله عنهم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"إنما الشهر تسعة وعشرون يومًا، فلا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غُمَّ عليكم فاقدروا له" قال نافع: "كان عبد الله بن عمر رضي الله عنهم إذا مضى من الشهر تسعة وعشرون يومًا يبعث من ينظر له الهلال، فإن رُؤي: فذاك، وإن لم يُر، ولم يحل دون منظره سحاب ولا قتر: أصبح مُفطرًا، وإن حال دون منظره سحاب أو قتر: أصبح صائمًا" ومعنى: "اقدروا له" أي: ضيقوا بأن يُجعل شعبان تسعة وعشرين يومًا، وقد فسَّره ابن عمر بفعله، وهو راويه وأعلم بمعناه، فيجب الرجوع إلى تفسيره
(6)
، ويُجزئ صوم ذلك
(6)
مسألة: إذا لم ير أحد هلال رمضان في ليلة الثلاثين من شعبان مع وجود غيم - وهو: السحاب - أو قَتَر - وهو: التراب أو الغَبَرة، أو الدخان - حال دون رؤية السماء ومطلع الهلال: فلا يصام اليوم التالي، بل يحرم صومه، وهو مذهب الجمهور من الحنابلة وغيرهم؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية، وهو من وجهين: أولهما: قوله صلى الله عليه وسلم: "صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غُمَّ عليكم فعدُّوا ثلاثين" وفي رواية: "فأكملوا شعبان ثلاثين" حيث بيَّن الشارع هنا: أن الصوم يجب بأحد سببين: إما رؤية هلال رمضان، أو إكمال شعبان ثلاثين يومًا، وهنا: لم يوجد أحد السببين؛ - حيث لم يُر الهلال، ولم يكمل شعبان الثلاثين - فيلزم عدم صيام اليوم التالي على أنه من رمضان، ثانيهما: أنه صلى الله عليه وسلم "قد نهى عن صوم يوم الشك" على أنه من رمضان، واليوم الذي يلي التاسع والعشرين من شعبان إذا لم يُر الهلال يُعتبر يوم شك؛ حيث لا يُعلم هل هو المكمِّل لشعبان ثلاثين يومًا، أو هو أول يوم من رمضان؟ ولا يوجد مُرجِّح، =
اليوم إن ظهر منه، وتُصلَّى التراويح تلك الليلة، ويجب إمساكه على من لم يُبيِّت
فتساوى الطرفان - وهذا هو: حدُّ الشك - والنهي عن صيامه مطلق فيقتضي التحريم، الثانية: الاستصحاب؛ حيث إن الأصل: عدم الصيام؛ لأن اليوم الذي يلي التاسع والعشرين من شعبان الأصل فيه: أن يكون تابعًا لشعبان، فنبقى على هذا الأصل، ونعمل به؛ إذ لا يُوجد مُغيِّر، وبناء على ذلك: لا يُصام ذلك اليوم، فإن قلتَ: يجب صيام ذلك اليوم - كما سبق في المسألة وهو ما ذكره المصنف وهو المحكي عن أحمد، وكثير من أصحابه -؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "فإن غُمَّ عليكم فاقدروا له" أي: ضيِّقوا له، والمراد: اجعلوا شهر شعبان تسعة وعشرين يومًا، يؤيد ذلك تفسير ابن عمر له بذلك بعمله - وهو راوي الحديث - وتفسير الراوي لما رواه حجة الثانية: فعل الصحابي؛ حيث إن ذلك قد فعله عمر، وابنه، وأبو هريرة، وأنس، ومعاوية، وعمرو بن العاص رضي الله عنهم قلتُ: أما تفسير الحديث السابق بجعل شعبان: تسعة وعشرين يومًا: فلا يُسلَّم؛ لكونه مُخالفًا لما فسَّره به جمهور العلماء - وهو: أن يُقدَّر شعبان بثلاثين يومًا - ومخالفًا لرواية أبي هريرة، وأما تفسير ابن عمر له أو عمل بعض الصحابة بما ذكره فهو اجتهاد من صحابي ولا يُعمل به؛ لأنه عارض نصًا من السنة - كما سبق -، فإن قلتَ: إن ما رُوي عن أبي هريرة وهو: أنه صام ذلك اليوم يُخالف ما رواه - وهو إكمال شعبان ثلاثين يومًا قلتُ: يجب العمل بما رواه، لا بما رآه، وقد فصَّلتُ القول في ذلك في كتابي:"مخالفة الصحابي للحديث"، تنبيه: لم تصح نسبة وجوب صيام ذلك اليوم إلى الإمام أحمد؛ قال ذلك صاحب الفروع، ونبه عليه ابن تيمية فإن قلت: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: الاختلاف في تفسير عبارة "فاقدروا له" الواردة في الحديث وأيضًا: "الاختلاف فيما إذا تعارض فعل الراوي مع ما رواه" وقد سبق بيان ذلك.
نيته، لا عتق، أو طلاق معلَّق برمضان
(7)
(وإن رُؤي) الهلال (نهارًا) ولو قبل الزوال: (فهو للّيلة المقبلة) كما رؤي آخر النهار، وروى البخاري في "تاريخه" مرفوعًا:"من أشراط الساعة: أن يروا الهلال يقولون: هو ابن ليلتين"
(8)
(وإذا رآه
(7)
مسألة: إذا لم يُر الهلال ليلة الثلاثين من شعبان؛ بسبب وجود غيم أو قتر، وصام الناس ذلك اليوم - وهو: الثلاثين - على مذهب كثير من الحنابلة -: فإن صيامه يُجزئ عن صيام أول يوم من رمضان إن ثبت أنه من رمضان - بسبب ثبوت رؤيته بموضع آخر -، وتثبت سائر أحكامه بذلك كصلاة التراويح في ليلته - أي: ليلة الثلاثين -؛ ويجب إمساكه على من لم يُبيِّت نية الصيام من الليل - ولكن لا يُحسب له -، وتجب على المجامع زوجته فيه الكفارة، لكن لا تثبت فيه الأحكام المعلَّقة على أول يوم من رمضان: فمثلًا: لو قال السيِّد لعبده: "أنت حر في أول يوم من رمضان" أو قال الزوج لزوجته: "أنت طالق في أول يوم من رمضان" أو نحو ذلك، فلا يعتق العبد، ولا تطلق الزوجة في ذلك اليوم؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كونه قد صامه بنية أنه من رمضان: أن تثبت له أحكامه المتَّصلة بالصوم، ويلزم من كونه لم يُجزم أنه من أيام رمضان أن لا تترتَّب عليه الأحكام المعلَّقة عليه تنبيه: هذه المسألة مبنية على مذهب كثير من الحنابلة، وقد سبق القول: إنه مرجوح في مسألة (6): فلا يُصام، ولا يترتب عليه أحكام.
(8)
مسألة: إذا رؤي الهلال في النهار: فإنه يكون للَّيلة المقبلة، ولا يكون للماضية، سواء كانت تلك الرؤية قبل الزوال - أي: قبل الظهر - أو بعد ذلك، وسواء في آخر شعبان، أو في آخر رمضان، فلا يُعتدُّ بالرؤية إلا بعد الغروب، وعليه: فلا يجب برؤية الهلال نهارًا صوم؛ ولا يُباح بها فطر؛ لقاعدتين: الأولى: القياس، =
أهل بلد) أي: متى ثبتت رؤيته ببلد: (لزم الناس كلهم الصوم)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته" وهو خطاب للأمة كافة
(9)
، فإن رآه جماعة ببلد،
بيانه: كما أنه لو رؤي ذلك الهلال بعد زوال الشمس فإنه يكون للَّيلة المقبلة، فكذلك إذا رؤي قبل الزوال مثل ذلك، والجامع: أنه في كل منهما قد رؤي الهلال بعد انتهاء الليلة الماضية، فلا يلحقها، الثانية: قول الصحابي؛ حيث أرسل عمر رضي الله عنه إلى بعض ولاته قائلًا: "إن الأهلَّة بعضها أقرب من بعض، فإذا رأيتم الهلال نهارًا فلا تفطروا حتى تُمسوا، أو يشهد رجلان أنهما رأياه بالأمس عشية" وثبت ذلك أيضًا عن ابن عمر، وأنس، وابن مسعود رضي الله عنهم فإن قلتَ: لمَ كان للَّيلة المقبلة؟ قلتُ: لعدم حصول الظن الغالب أنه للَّيلة الماضية؛ نظرًا لانتهائها، تنبه: قال بعض العلماء: إن رؤي الهلال قبل الزوال فهو للَّيلة الماضية، وإن رؤي بعد الزوال: فهو للَّيلة المقبلة، وهو رواية عن أحمد، وقد بيَّنا أن الحكم واحد في الحالتين، تنبيه آخر: ذكر المصنف الحديث الذي هو من أشراط الساعة، ليُبيِّن بطلان زعمهم وهو: وصف الهلال بأنه ابن ليلتين، وأن الأهلَّة تكبر -؛ حيث إن ذلك من الغرائب والعجائب.
(9)
مسألة: إذا ثبتت رؤية هلال رمضان لأهل بلد: فيجب على جميع المكلَّفين في هذا البلد والبلدان القريبة منه والمشتركين في مطلع الهلال أن يصوموا - كمكة والمدينة، أو بغداد والبصرة - أما البلدان البعيدة: فلا يجب عليهم الصوم إلا إذا رأوا الهلال بأنفسهم من مطلعه عندهم، هذا ما صحَّحه النووي، وابن تيمية وغيرهما من محققي العلماء؛ لقاعدتين: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} فأوجب الشارع الصوم على من شهد هلال رمضان وعلى من هم في منزلتهم ممن يُساويهم في مطلع الهلال وهذا من اللوازم، أما أهل البلدان البعيدة فلا يجب عليهم الصوم حتى يُشاهدوه بأنفسهم، الثانية: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "صوموا لرؤيته" فأوجب =
ثم سافروا لبلد بعيد فلم يُر الهلال به في آخر الشهر: أفطروا
(10)
(ويُصام) وجوبًا (برؤية عدل) مُكلَّف، ويكفي خبره بذلك؛ لقول ابن عمر:"ترائى الناس الهلال، فأخبرتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أني رأيته، فصام وأمر الناس بصيامه" رواه أبو داود (ولو) كان (أنثى) أو عبدًا، أو بدون لفظ "الشهادة" ولا يختص بحاكم، فيلزم الصوم من سمع عدلًا يُخبر برؤيته
(11)
، وتثبت بقية
الصوم عند وجود سببه وهو: رؤية الهلال، أما من لم يره فلا صوم عليه؛ لعدم وجود سببه؛ فإن قلتَ: لمَ شرع هذا؟ قلتُ: لاختلاف التوقيت والمنازل؛ حيث إن هذا قد أجمع العلماء عليه - كما ذكر النووي: أنه كلما تحركت الشمس درجة فذلك طلوع فجر عند قوم، وطلوع شمس عند آخرين، وغروبها عند فريق ثالث، ونصف ليل عند فريق رابع وهكذا، تنبيه: قوله: إن خطاب "صوموا" للأمة كاملة لا يُسلَّم؛ إذ الراجح ما فصَّلناه.
(10)
مسألة: إذا رأى شخص هلال رمضان في العراق مثلًا، ثم سافر أثناء الشهر إلى مكة مثلًا فلم ير هلال شوال في آخر رمضان في مكة مع أنه رؤي في بلده - وهي: العراق - أو أكمل ثلاثين يومًا صائمًا: فإنه يُفطر؛ للتلازم؛ حيث إن الحكم قد تعلَّق به فيلزمه أن يفعل ما ثبت له من رؤية أو عدمها.
(11)
مسألة: إذا أخبر مُكلَّف عدل أنه رأى هلال رمضان: فيجب الصيام على من سمعه: سواء كان المخبر ذكرًا، أو أنثى أو خنثى، حرًا أو عبدًا، وسواء قال ذلك بلفظ "الشهادة" أو لا، وسواء صدَّقه الحاكم أو لا، لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث إن ابن عمر لما رأى الهلال أخبر النبي صلى الله عليه وسلم "فأمر الناس بصيام رمضان" وابن عمر كان مُكلَّفًا عدلًا، فلزم اشتراطهما، الثانية: القياس: بيانه: كما أن رواية العدل تقبل مطلقًا فكذلك إخباره عن رؤيته للهلال تقبل مُطلقًا والجامع: أن كلًا منهما قد أخبر عن شيء يشترك فيه المخبر والمخبَر غير متَّهم في ذلك فيستوي فيه من ذكرنا، فإن قلتَ: يُقبل خبر مجهول =
الأحكام
(12)
، ولا يُقبل في شوال وسائر الشهور إلا ذكران بلفظ "الشهادة"
(13)
،
الحال في رؤية هلال رمضان؛ للسنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد قبل خبر الأعرابي لما أخبر بأنه رأى هلال رمضان، وهو: لا يعرف عنه إلا الإسلام قلتُ: لا يُسلَّم أنه صلى الله عليه وسلم لا يعرف عن ذلك الأعرابي العدالة؛ حيث إن الظاهر من تصرُّفات النبي صلى الله عليه وسلم: أنه لا يتعامل في أي شيء من أمور الشريعة إلا مع من ظهرت عدالته، وهذه القاعدة يلزم منها: أنه لم يقبل من ذلك الإعرابي ذلك الخبر إلا لمعرفته به بالعدالة، وقد بينتُ ذلك في كتابي:"المهذَّب في علم أصول الفقه".
(12)
مسألة: إذا ثبتت رؤية هلال رمضان بخبر مكلَّف عدل - كما سبق في مسألة (11) -: فإن جميع بقية أحكام رمضان المتعلِّقة بدخوله تثبت: من تراويح، واعتكاف، وكذا: تثبت الأحكام المعلَّقة على دخوله كأن يقول السيد لعبده: "أنت حرٌّ بدخول رمضان" أو يقول الرجل لزوجته: "أنت طالق بدخول رمضان" أو يقول: "سأعطيك دينك بدخول رمضان": ففي أول يوم يصومه: يعتق العبد، وتطلق الزوجة، ويحل الوفاء بالدَّين، للتلازم؛ حيث إن تلك الأحكام قد تعلَّقت بدخول رمضان، وقد ثبت دخوله فيلزم ثبوت جميع الأحكام المتعلِّقة والمعلَّقة على دخوله.
(13)
مسألة: لا يُقبل في رؤية هلال غير رمضان - كشوال وغيره من شهور السنة - إلا شهادة ذكرين عدلين بلفظ الشهادة بأن يقول كل واحد منهما: "أشهد أني رأيت هلال شوال" وهكذا؛ للسنة الفعلية، حيث كان صلى الله عليه وسلم لا يُجيز على شهادة الإفطار إلا شهادة رجلين، وبقية الشهور مثله؛ لعدم الفارق من باب "مفهوم الموافقة" واشترط فيهما العدالة؛ قياسًا على الشهادة، فإن قلتَ: لمَ لا يُقبل هنا إلا اثنان، بينما يُقبل في رمضان واحد؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن رؤية هلال رمضان يُقبل الواحد فيه، لكونه لا تهمة فيه؛ إذ سيشترك المخبِر والمخبَر فيما =
ولو صاموا ثمانية وعشرين يومًا ثم رأوه: قضوا يومًا فقط
(14)
(وإن صاموا بشهادة واحد ثلاثين يومًا فلم يُر الهلال): لم يفطروا؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "وإن شهد اثنان فصوموا وأفطروا"
(15)
(أو صاموا لأجل غيم) ثلاثين يومًا ولم يروا الهلال: (لم يُفطروا)؛ لأن
أخبر به، بخلاف غيره من الشهور فيُحتمل وقوع الاتهام؛ لكون الشخص قد يشهد بدخول شهر من الشهور - غير رمضان - لمصلحته كعتق عبد موعود بدخول شهر "ما" لذا: منع قبول الواحد فيه، بل لا بدَّ من اثنين ذكرين بلفظ الشهادة؛ احتياطًا.
(14)
مسألة: إذا أخبر العدل برؤيته لهلال رمضان، ثم صام الناس، فلما مضى ثمانية وعشرون يومًا شهد ذكران عدلان أنهما رأيا هلال شوال ليلة التاسع والعشرين من رمضان: فيجب أن يُفطر الناس، ويقضوا يومًا واحدًا فقط؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "الشهر تسع وعشرون، الشهر ثلاثون" وأشار بإصبعيه، أي: يكون كذا وكذا، ولكن لا يكون ثمانية وعشرين، ولا واحدًا وثلاثين يومًا فيُقتصر على أقل ما يُطلق عليه الشهر وهو: تسعة وعشرون يومًا، الثانية: قول الصحابي؛ حيث ثبت ذلك عن علي رضي الله عنه، فإن قلتَ: لِمَ لا يقضِ الناس يومين؟ قلتُ: للعادة والعرف؛ حيث يبعد عادة أن يُخطئ الناس بيومين.
(15)
مسألة: إذا صام الناس بشهادة عدل مُكلَّف، واستمروا حتى أكملوا ثلاثين يومًا، ولم ير اثنان هلال شوال: فلا يجوز لهم الفطر، ولو صاموا واحدًا وثلاثين يومًا؛ للسنة القولية: حيث قال صلى الله عليه وسلم: "وإن شهد اثنان فصوموا وأفطروا" حيث إن مفهوم العدد قد دلَّ على أنه إذا شهد واحد برؤية هلال رمضان: فإنهم لا يُفطرون حتى يرى هلال شوال اثنان ولو زادت الأيام فإن قلتَ: لمَ لا يُفطرون هنا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إنه يُحتمل خطأ الواحد في رؤيته لهلال رمضان، =
الصوم إنما كان احتياطًا؛ والأصل: بقاء رمضان
(16)
، وعُلِم منه: أنهم لو صاموا بشهادة اثنين ثلاثين يومًا ولم يروه: أفطروا: صحوًا كان أو غيمًا؛ لما تقدَّم
(17)
(ومن رأى وحده هلال رمضان ورُدَّ قوله): لزمه الصوم، وجميع أحكام الشهر من طلاق وغيره معلَّق به؛ لعلمه أنه من رمضان
(18)
(أو رأى) وحده (هلال شوال: صام) ولم
ولأن الأصل بقاء رمضان، ولا يُمكن أن يزول هذا الأصل المتيقَّن بسبب يحتمل الخطأ فيه.
(16)
مسألة: إذا صام الناس يوم الثلاثين من شعبان بسبب عدم رؤية هلال رمضان لغيم أو قتر أو دخان في ليلته، واستمر صيامهم حتى أكملوا ثلاثين يومًا أو أزيد من ذلك، ولم يرَ اثنان هلال شوال: فلا يُفطرون؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية، وقد سبق بيانها، الثانية: الاستصحاب؛ حيث إن الأصل: بقاء رمضان، فنعمل على ذلك الأصل حتى يرد دليل يُغيِّر الحالة ولم يرد شيء من ذلك، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إنه يُحتمل أن يكونوا قد أخطئوا في ذلك اليوم الذي صاموه أول رمضان بسبب الغيم؛ لأنهم صاموه؛ احتياطًا فشرع عدم إفطارهم لهذا.
(17)
مسألة: إذا صام الناس بشهادة عدلين مُكلَّفين، واستمروا حتى أكملوا ثلاثين يومًا ولم يرَ اثنان هلال شوال: فإن الناس يُفطرون: سواء كان الجو صحوًا أو غيمًا؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "إن شهد اثنان فصوموا وأفطروا" حيث دل منطوقه على أن الناس يصومون بشهادة الاثنين، ويلزم منه: أن يُفطر الناس إذا أكملوا الثلاثين يومًا؛ لكون شهادة العدلين يثبت بها الفطر ابتداء تبعًا لثبوت الصوم بها، فإن قلتَ: لمَ يُفطروا هنا؟ قلتُ: لأنه يبعد احتمال الخطأ عن الاثنين.
(18)
مسألة: إذا رأى شخص وحده هلال رمضان، وأخبر الناس بذلك، ولكنهم لم يقبلوا خبره؛ لأي سبب فيجب عليه أن يصوم، ويُطبق على نفسه جميع =
يُفطر؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "الفطر يوم يُفطر الناس، والأضحى يوم يُضحِّي الناس" رواه الترمذي وصَحَّحه
(19)
، وإن اشتبهت الأشهر على نحو مأسور:
أحكام الصيام من: تراويح واعتكاف وكفارة إن جامع في نهاره، ويُطبِّق الأحكام التي علَّقها على دخول شهر رمضان كأن يقول لعبده "أنت حر في أول يوم من رمضان" ونحو ذلك: فيعتق عبده بصومه؛ للكتاب؛ حيث قال تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وهذا قد شهد هلال رمضان، فيجب أن يصومه؛ لأنه إذا تحقَّق الشرط يجب أن يتحقَّق المشروط، ويلزمه أن يُطبق جميع أحكامه، وجميع ما علَّقه على دخوله؛ لتحقق الشرط بالنسبة له، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: لكونه قد علم بدخول رمضان أو غلب على ظنه ذلك، وهذا كالمجتهد الذي توصَّل باجتهاده إلى حكم معيَّن فيجب أن يعمل بذلك، وإن لم يقبله الناس، فإن قلتَ: لا يجب عليه الصوم، ولا الأحكام المعلَّقة على ذلك، وهو رواية عن أحمد، وهو قول الحسن البصري، وابن سيرين، ونصره ابن تيمية؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم:"صومكم يوم تصومون، وفطركم يوم تفطرون" حيث إنه قد دلَّ بمنطوقه على أن الصوم والفطر يكون مع الجماعة، ودل بمفهوم الصفة على أن الفرد لا يصوم لوحده ولو رأى هلال رمضان قلتُ: إن دلالة الآية على أنه يصوم إذا رأى الهلال أقوى من دلالة الحديث على خلافه؛ لأن الآية قد دلَّت بمنطوقها على ما قلناه، والحديث قد دل بمفهومه على ما قالوه، ودلالة المنطوق أقوى من دلالة المفهوم، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه "تعارض المنطوق مع المفهوم".
(19)
مسألة: إذا رأى شخص وحده هلال شوال: فلا يجوز له الفطر، بل يستمر في الصوم مع المسلمين؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "الفطر يوم يُفطر الناس والأضحى يوم يُضحِّي الناس" فبيَّن الشارع أنه كما أن =
تحرَّى، وصام
(20)
وأجزأه إن لم يعلم أنه تقدَّمه
(21)
، ويقضي ما وافق
الشخص لا يُضحِّي إلا مع المسلمين يوم عيد الأضحى، فكذلك لا يُفطر يوم عيد الفطر إلا مع المسلمين جميعًا الثانية: قول الصحابي؛ حيث إن ذلك قد ثبت عن عمر وعائشة رضي الله عنهم فإن قلتَ: لمَ فرَّق الشارع بين هذا وبين ما إذا رأى هلال رمضان لوحده؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية المسلم؛ حيث إنه إذا أخطأ في رؤية هلال رمضان لن يلحقه ضرر في ذلك، أما إذا أخطأ في رؤية هلال شوال فأفطر: فسيلحقه ضرر؛ لكونه سيصوم يومًا عنه.
(20)
مسألة: إذا التبس على شخص معرفة شهر رمضان من غيره من الشهور: كأن يكون أسيرًا عند قوم، أو كان في صحراء: فيجب عليه أن يتحرَّى ويجتهد، فإذا غلب على ظنه دخول رمضان: وجب أن ينويه ويصومه، ويصحُّ ذلك؛ للقياس؛ بيانه: كما أن الشخص يجتهد في دخول وقت الصلاة، فإذا غلب على ظنه دخوله: صلى وصحَّت، فكذلك يفعل في الصيام، والجامع: أن كلًا منهما عبادة يُشترط لها الوقت فيجتهد من اشتبه عليه ذلك فيه، فإن قلتَ: لمَ صح صيامه؟ قلتُ: لأن هذا آخر قدرته واستطاعته، أصله قوله تعالى:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} .
(21)
مسألة: إذا اجتهد فعلم دخول رمضان، فصام: فإن علم بعد ذلك أنه صام في شعبان: فصيامه لا يُجزئ، وإن لم يعلم ذلك: فصيامه يُجزئ؛ للقياس: بيانه: كما أنه لو صلَّى في غيم بعد الاجتهاد وشكَّ بعد ذلك: هل صلَّى قبل الوقت أو بعده: فصلاته صحيحة إذا لم يعلم أنه صلى قبل الوقت، أما إذا علم أنه صلى قبله: فلا تصح فكذلك الصوم مثلها: والجامع: أن كلًا منهما عبادة اشترط لها الوقت فتصحُّ فيه، لا قبله، وهو المقصد الشرعي. [فرع]: إذا غلب على ظنه أن شهر رمضان لم يدخل، ومع ذلك صام، وعلم بعد ذلك أن تلك =
عيدًا أو أيام تشريق
(22)
(ويلزم الصوم) في شهر رمضان (لكل مسلم) لا كافر
(23)
،
الأيام التي صامها هي من أيام رمضان: فصومه تلك الأيام لا يصح، فيجب أن يقضيها؛ للقياس، بيانه: كما أنه لو صلَّى قبل دخول وقت الصلاة، وكان عالمًا بعدم دخول وقتها، ثم بعد ذلك علم أنه صلى بعد دخوله: فصلاته لا تصح، فكذلك الصوم مثلها، والجامع: أن كلًا منهما وقع من غير نية وقوعه في وقته، فافتقد شرطين:"النية" و"الوقت" فلم يصح.
(22)
مسألة: إذا اجتهد من التبس عليه دخول رمضان، فصام يوم العيد ظنًا منه أنه من رمضان: فلا يصح صومه فيجب أن يقضي ذلك؛ للسنة القولية؛ حيث "نهى صلى الله عليه وسلم عن صيام يومي العيدين" وهذا النهي مُطلق، وهو يقتضي التحريم والفساد فلو صام هذين اليومين: فلا يصح صومه، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: لأنها أيام ضيافة الله لعباده، فلا يجوز الانصراف عن ذلك [فرع]: يصح صوم أيام التشريق بعد عيد الأضحى؛ للسنة القولية؛ حيث قال ابن عمرو وعائشة: "لم يرخص في أيام التشريق أن يُصمن: إلا لمن لم يجد الهدي" ويُقاس على ذلك كل مفروض؛ لعدم الفارق، من باب "مفهوم الموافقة" فإن قلت: إنه لا يصح صيام أيام التشريق وهو ما ذكره المصنف؛ للسنة القولية؛ حيث قال عليه السلام "أيام التشريق أيام أكل وشرب" وهو في محل النهي عن صيامها قلتُ: هذا لا يدل على تحريم صومها، ولا فساد صوم من صامها، وإنما يدل على استحباب ترك الصوم فيها فإن قلت: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض السنة القولية مع السنة القولية الأخرى".
(23)
مسألة: في الأول - من شروط مَنْ يلزمه الصوم - وهو: أن يكون مسلمًا، فلا يجب على كافر، سواء أصليًا أو مُرتدًّا؛ للكتاب، وهو من وجهين: أولهما: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} فاشترط الإيمان والإسلام؛ =
ولو أسلم في أثنائه: قضى الباقي فقط
(24)
(مكلَّف) لا صغير ومجنون
(25)
(قادر) لا
لوجوب ذلك؛ حيث إن لفظ "الكتب" من صيغ الوجوب الصريحة، ثانيهما: قوله: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} حيث دلَّ هذا بمنطوقه على عدم وجوب الصوم وغيره من الفروع على الكافر في حال كفره؛ لعدم صحتها منهم وهم في تلك الحالة، ولم يُؤمروا بقضائها إذا أسلموا؛ حيث أسلم الكثير من الكفار على يد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يأمرهم بقضاء ما تركوه من الفروع أثناء كفرهم، فإن قلتَ: لمَ اشتُرط هذا؟ قلتُ: لأن النية لا تصح إلا من المسلم، والكافر لا نية له شرعًا، وإنما لم يُؤمروا بقضاء ما تركوه أثناء كفرهم إذا أسلموا؛ دفعًا للمشقة والكلفة وتحسينًا للإسلام في نفوسهم، وقد فصَّلتُ هذا في كتابي:"الإلمام في مسألة تكليف الكفار بفروع الإسلام".
(24)
مسألة: إذا أسلم الكافر في أثناء شهر رمضان - كأن يُسلم في اليوم العاشر منه: فيجب عليه أن يصوم الباقي - وهي عشرون يومًا -، ولا يجب عليه أن يقضي ما مضى وهي: عشرة أيام؛ للسنة القولية؛ حيث إن وفد ثقيف قدموا في رمضان فأسلموا في أثنائه "فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بصيام ما بقي من الشهر" وهذا يلزم منه عدم وجوب قضاء ما فات، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: لعدم وجوب الأيام التي مضت قبل إسلامه.
(25)
مسألة: في الثاني - من شروط مَنْ يلزمه الصوم - وهو: أن يكون مُكلَّفًا - وهو: البالغ العاقل -، فلا يجب على الصبي، والمجنون؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم:"رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن المجنون حتى يُفيق، وعن النائم حتى يستيقظ"؛ حيث دل منطوقه على أن التكاليف الشرعية ومنها الصوم قد رُفعت عن الصبي والمجنون، ودل بمفهوم الغاية على أن المكلف تجب عليه التكاليف الشرعية ومنها الصوم، فإن قلتَ: لمَ اشتُرط هذا؟ قلتُ: لأن =
مريض يعجز عنه؛ للآية
(26)
، وعلى ولي صغير مُطيق أمره به، وضربه عليه؛ ليعتاده
(27)
(وإذا قامت البينة في أثناء النهار) برؤية الهلال تلك الليلة: (وجب الإمساك والقضاء) لذلك اليوم الذي أفطره (على كل من صار في أثنائه أهلًا
المكلَّف تصحُّ منه النية والقصد؛ لكونه يعرف تفاصيل الطالب والمطلوب في التكاليف، بخلاف الصبي والمجنون فلا يُدركان ذلك، فلا تصح منهما نية أصلًا وقد بينتُ ذلك في كتابي "الإتحاف" و"المهذَّب".
(26)
مسألة: في الثالث - من شروط مَنْ يلزمه الصوم - وهو: أن يكون قادرًا على الصيام، فلا يجب الصيام على عاجز عنه كالكبير، والمريض؛ للكتاب؛ حيث قال تعالى:{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} فجعل الشارع الفدية بإطعام مسكين تُعادل الصوم للقادر، لكن هذا منسوخ عن القادر بقوله تعالى:{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} فيجب على القادر الصوم أما غير القادر على الصوم، كالكبير فلم يُنسخ عنه شيء، إذ يسقط عنه الصوم ويُطعم عن كل يوم مسكينًا نصف صاع من بر أو أرز، وهذا تفسير ابن عباس، وتفسير الصحابي يُقدَّم على تفسير غيره، والمريض كالكبير في ذلك؛ لعدم الفارق من باب:"مفهوم الموافقة"، فإن قلتَ: لمَ اشترط هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تيسير وتوسعة ودفع مشقة عن المسلمين.
(27)
مسألة: يجب على ولي صبي مُطيق للصوم أن يأمره به، ويضربه إذا عصى ضرب تأديب إن بلغ العاشرة؛ للقياس، بيانه: كما يفعل الولي بالصبي ذلك في الصلاة فكذلك الصوم مثلها، والجامع: أن كلًا منهما عبادة واجبة عليه عند البلوغ، فيجب أن يعتاد عليها.
لوجوبه) أي: وجوب الصوم
(28)
، وإن لم يكن حال الفطر من أهل وجوبه
(29)
(وكذا: حائض ونفساء طهرتا) في أثناء النهار فيُمسكان ويقضيان (و) كذا: (مسافر قدم مُفطرًا) يُمسك ويقضي، وكذا: لو برئ مريض مُفطرًا، أو بلغ صغير في أثنائه مُفطرًا: أمسك وقضى
(30)
،
(28)
مسألة: إذا رأى عدل هلال رمضان مساء الجمعة ليلة السبت مثلًا ولكنه لم يتمكَّن من إخبار الناس إلا في منتصف يوم السبت: فيجب على جميع من يلزمه الصوم أن يُمسكوا عن جميع المفطِّرات في آخر يوم السبت، ويجب عليهم أيضًا أن يقضوا ذلك اليوم بعد رمضان؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كون ذلك اليوم - وهو: السبت - من رمضان: أن يُمسكوا عن المفطِّرات؛ نظرًا لحرمته، ويلزم من كون ما أمسكوه بعض يوم: وجوب قضائه، ولكونه لم يُنو قبل طلوع الفجر.
(29)
مسألة: إذا لم يعلم الناس بدخول رمضان إلا في منتصف يوم السبت مثلًا، وفي أثناء ذلك اليوم أسلم كافر، أو أفاق مجنون، أو بلغ صبي: فإنه يلزم هؤلاء الثلاثة، إمساك آخر يوم السبت، ولا يلزمهم قضاؤه؛ وهو قول كثير من العلماء كابن تيمية؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كون ذلك اليوم من رمضان: أن يُمسكوا آخره؛ لحرمته، ويلزم من مجيء أول ذلك اليوم وهو في حال كفره، أو جنونه، أو صباه: أن لا يجب قضاؤه؛ لكونه وجب ذلك اليوم قبل تكليفه، فإن قلتَ: إنه يلزم هؤلاء الثلاثة القضاء أيضًا، وهو ما ذكره المصنف هنا؛ للتلازم، وقد سبق بيانه في مسألة (28)، قلتُ: لا يُسلَّم ذلك التلازم في هؤلاء الثلاثة؛ لعدم تكليفهم أصلًا قبل طلوع فجر ذلك اليوم بخلاف بقية المكلَّفين فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض التلازمين".
(30)
مسألة: إذا طهرت حائض ونفساء، أو قدم مسافر، أو شُفي مريض في أثناء يوم من أيام رمضان - وهم مُفطرون -: فيجب عليهم أن يُمسكوا بقية ذلك =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
اليوم، ويجب عليهم قضاؤه؛ لقواعد: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} فأوجب الشارع قضاء اليوم الذي أفطر فيه المريض والمسافر أثناء رمضان؛ حيث إن التقدير: "فأفطر فعدة من أيام آخر" حيث أوجبت ذلك التقدير دلالة الاقتضاء الثانية: السنة القولية؛ حيث قالت عائشة رضي الله عنها: "كنا نحيض في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فنؤمر بقضاء الصوم، ولا نؤمر بقضاء الصلاة" فأوجب الشارع قضاء الصوم على الحائض هنا؛ لأن الأمر مطلق، وهو يقتضي الوجوب، والآمر هو النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الأمر أُضيف إلى عهده، والنُّفاس كالحيض؛ لعدم الفارق من باب "مفهوم الموافقة"، الثالثة: القياس، بيانه: كما أن الناس إذا لم يعلموا برمضان إلا في منتصف اليوم فإنهم يُمسكون باقيه، ويقضونه فيما بعد فكذلك هؤلاء الأربعة يفعلون ذلك والجامع: أن كلًا منهم قد وُجد فيه معنى لو وُجد قبل الفجر لأوجب الصوم، فإذا طرأ أثناء النهار أوجب الإمساك، فإن قلتَ: لمَ وجب إمساك آخر النهار؟ قلتُ: لزوال المانع من الصوم - وهو الحيض، والنفاس، والمرض والسفر - ولحرمة رمضان، فإن قلتَ: لمَ وجب قضاء ذلك اليوم؟ قلتُ: لأن هؤلاء الأربعة من أهل الوجوب أصلًا، ولم ينووا الصيام قبل الفجر، فبقي هذا الواجب في ذمتهم، ولا تبرأ تلك الذمة إلا بالقضاء، فإن قلتَ: لم حُرِّم الصوم على الحائض والنفساء دون المستحاضة ومن ذرعه القيء والرعاف مع خروج الدم من الكل؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن الدم الخارج من الحائض والنفساء يكون كثيرًا عادة، فيحتاجان إلى الأكل والشرب؛ لتقويتهما، فدفعًا للضَّرر عنهما حرَّم الشارع عليهما الصوم، بخلاف غيرهما فإن الدَّم الخارج منه لا يؤثِّر على بدنه عادة، ولم يكن للخارج وقت محدَّد، فلا يمكن الاحتراز منه، فإن قلتَ: إن هؤلاء الأربعة يقضون ذلك اليوم فقط، ولا يُمسكون باقيه، وهو قول مالك والشافعي، ورواية عن أحمد اختارها ابن =
فإن كانوا صائمين: أجزأهم
(31)
، وإن علم مسافر أنه يقدم غدًا:
عثيمين؛ لقول الصحابي، حيث قال ابن مسعود رضي الله عنه:"من أكل أول النهار فليأكل آخره" قلتُ: هذا لا يُسلَّم؛ لكونه مبنيًا على قياس آخر النهار على أوله، وهذا فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ لأنه في أول النهار قد أكل أثناء وجود عُذره - وهو: الحيض والنفاس، والسفر والمرض - وهو مُجوَّز له ذلك رخصة، بخلاف آخر النهار فلا عذر عنده يُجوِّز له ذلك؛ نظرًا لزواله، فعاد إليه خطاب الأداء والإلزام فعليه الإمساك فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض القياسين" فألحقناه بالناس إذا لم يعلموا الصوم إلا في منتصف النهار؛ لأنه أكثر شبهًا به، وهم ألحقوا آخر النهار بأوله؛ لكونه أكثر شبهًا به، وهو قياس الشبه، تنبيه: قوله: "أو بلغ صغير .. " إلى آخره يشير به إلى أن الصبي كالحائض إذا بلغ في أثناء اليوم: فعليه الإمساك، والقضاء قلتُ: قد سبق بيان أن الراجح: أنه يمسك ولا يقضي في مسألة (29).
(31)
مسألة: إذا نوى مسافر، ومريض الصوم من اللَّيل، وصاما وهما في حال السفر والمرض: فإنه يصح صومهما؛ للتلازم؛ حيث إن كونهما من أهل الوجوب، والتكليف، وحصول النية في وقتها منهما، وعدم وجود مانع: يلزم منه صحَّة صومهما كالمقيم؛ إذ لا فرق، وهذا هو المقصد منه تنبيه: الحائض والنفساء لا يصح صومهما أصلًا وقد سبق بيانه في مسألتي (9 و 43) من باب "الحيض والنفاس" من كتاب الطهارة. [فرع]: إذا نوى صبي الصوم قبل فجر السبت مثلًا، فصام فبلغ في نصف ذلك اليوم: فيجب أن يُمسك باقيه، ولا يكون له صوم فرض، ولا يقضيه؛ للتلازم؛ حيث إن كون نيته نية ندب؛ لأن كونه في بداية اليوم ليس من أهل الوجوب: يلزم منه: أن لا يكون له صوم فرض؛ لأن نية الندب لا تصلح للوجوب، فإن قلتَ: إنه يُجزئه عن الفرض - وهو ما أشار إليه المصنف هنا -؛ لقياسه على المسافر =
لزمه الصوم
(32)
، لا صغير علم أنه يبلغ غدًا؛ لعدم تكليفه
(33)
(ومن أفطر؛ لكبر أو مرض لا يُرجى برؤه: أطعم لكل يوم مسكينًا) ما يُجزئ في كفارة: مُدَّ بُرٍّ، أو نصف صاع من غيره؛ لقول ابن عباس رضي الله عنهم في قوله تعالى:{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} -: "ليست بمنسوخة هي للكبير الذي لا يستطيع الصوم" رواه البخاري، والمريض الذي لا يُرجى برؤه في حكم الكبير
(34)
، لكن إذا كان الكبير أو
والمريض - في مسألة (30) - قلتُ: إن المسافر والمريض قد أدركا محل النية وهما من أهل وجوب الصيام؛ لبلوغهما، بخلاف الصبي فقد أدرك محل وجوب الصوم وهو لم يبلغ، فافترقا ولا يصح قياس مع وجود فرق، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض القياس مع التلازم".
(32)
مسألة: إذا غلب على ظن مسافر أنه سيصل غدًا إلى بلده: فيجب عليه أن ينوي الصوم قبل طلوع فجره؛ للتلازم؛ حيث يلزم من زوال عُذره - وهو السفر على حسب ما غلب ظنه -: أن يعود خطاب الأداء إليه الذي يُوجب الصوم؛ لتحريم الإفطار بلا عذر شرعي، وهو المقصد منه.
(33)
مسألة: إذا غلب على ظن صبي سيبلغ غدًا: فلا يجب عليه أن ينوي الصوم قبل طلوع فجره وهو: في حالة صغره، ولكن يُستحب له ذلك؛ للتلازم؛ حيث يلزم من عدم تكليفه في أثناء محل نية وجوب الصوم - وهو قبل طلوع الفجر -: عدم وجوب تلك النية عليه.
(34)
مسألة: إذا لم يستطع الشيخ الكبير، والمريض مرضًا لا يُرجى برؤه: أن يصوما: فإنه يسقط الصوم عنهما، ويُطعمان عن كل يوم ربع صاع بُرٍّ - وهو: المدُّ منه - أو من الأرز يُعطيانه مسكينًا، - وهو ما يُعادل ثلاثة أرباع كيلو جرام - أو يُعطيانه نصف صاع من غير البر والأرز كالتمر، والزبيب، والشعير، والأقط - وهو ما يعادل كيلو ونصف منه -، ولا يقضيان؛ لقواعد: الأولى: الكتاب؛ حيث =
المريض الذي لا يُرجى بُرؤه مسافرًا: فلا فدية؛ لفطره بعذر مُعتاد، ولا قضاء؛ لعجزه عنه
(35)
(وسُنَّ) الفطر (لمريض يضرُّه) الصوم (ولمسافر يقصر) ولو بلا
قال تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} حيث خُيِّر في أول الإسلام المسلم بين أن يصوم أو يُطعم ويُفطر، فنسخ ذلك، وأوجب الشارع الصوم على القادر، ولكن بقي حكم تلك الآية على غير القادر لم يُنسخ كما قال ابن عباس:"ليست بمنسوخة، هي للكبير الذي لا يستطيع الصوم" وتفسير الصحابي حجة يجب العمل به؛ الثانية: القياس وهو من وجهين: أولهما: كما أن الكبير العاجز عن الصيام يسقط عنه ويُطعم ولا يقضي فكذلك المريض مرضًا لا يُرجى بُرؤه والجامع: العجز الدائم عن الصيام في كل؛ ثانيهما: كما أنه يجب في كفارة اليمين مثلًا إطعام مساكين يُعطى كل واحد مُدُّ بُرٍّ، أو نصف صاع من غيره فكذلك هنا يُعطى كل مسكين هذا عن كل يوم يفطره، الثالثة: فعل الصحابي؛ حيث ثبت عن زيد، وابن عباس، وابن عمر، وأبي هريرة رضي الله عنهم أنهم كانوا يجعلون في الإطعام المدَّ من البر يُعادل نصف الصاع من غيره، فإن قلتَ: لمَ سقط الصوم عن هذين، ولا قضاء عليهما؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه دفع مفسدة ومضرَّة مشقة الصيام عنهما، أصله قوله صلى الله عليه وسلم:"لا ضرر ولا ضرار في الإسلام" فإن قلتَ: لمَ وجبت الفدية؟ قلتُ: لانتهاك حرمة نهار رمضان.
(35)
مسألة: إذا كان الكبير، والمريض الذي لا يُرجى برؤه مسافرين: فيسقط عنهما الصوم، ولا يقضيان - كما سبق في مسألة (34) - وتسقط عنهما الفدية - وهي: إطعام مسكين عن كل يوم -؛ للتلازم؛ حيث إن الفدية قد وجبت عليهما لإفطارهما في نهار رمضان وانتهاكهما حرمته وهما في الحضر، فيلزم من إفطارهما بعذر مُعتاد - ولو لغير عاجز وهو السفر -: عدم وجوب الفدية عليهما؛ ويلزم من العجز الدائم: عدم القضاء.
مشقة: لقوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} ويُكره لهما الصوم
(36)
، ويجوز وطء لمن به مرض ينتفع به فيه، أو به شَبَق، ولم تندفع شهوته بدون وطء، ويخاف تشقُّق أنثييه، ولا كفارة، ويقضي ما لم يتعذَّر؛ لشبق، فيُطعم كالكبير
(37)
، وإن سافر ليُفطر:
(36)
مسألة: يُستحب للمريض الذي يضرُّه الصوم، وللمسافر سفر قصر - (82) كم - أن يُفطرا، ويُكره لهما الصوم؛ لقواعد: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} حيث دلَّ هذا على جواز الفطر للمريض، والمسافر، وهو مطلق: أي: يُفطر من وُصف بالمرض والسفر سواء شقَّ عليهما الصوم أو لا، الثانية: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا ضرار في الإسلام" فنفى وجود الضَّرر في أيِّ حكم من الأحكام التكليفية؛ لأنه عام؛ حيث إنه نكرة في سياق نفي، وهو من صيغ العموم - والصوم منها -، الثالثة: القياس، بيانه: كما أن الإنسان الصحيح إذا خاف الضَّرر من استعمال الماء البارد أو الحار: فإنه يتركه ويتيمَّم استحبابًا ويُكره له استعمالهما فكذلك الحال هنا والجامع: دفع الضرر في كل، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن الصوم يشقُّ على المريض والمسافر؛ لأنهما في مظنَّة المشقة، فدفعًا لذلك عنهما: استحب الإفطار لهما، وكُره لهما الصوم.
(37)
مسألة: إذا خاف مسلم على نفسه الضَّرر إن لم يُجامع زوجته في نهار رمضان؛ ولا يندفع ذلك إلا بالجماع - وهو من به شَبَق -: فيجوز له أن يُجامعها، ولا كفارة عليهما، ويجب عليهما أن يقضيا ذلك، إلا إن كان هو لا يستطيع القضاء؛ نظرًا لقوة شهوته: فلا يقض، بل يجب عليه أن يُطعم عن كل يوم مسكينًا مُدَّ بر، أو نصف صاع من غيره؛ للقياس، بيانه: كما أن الكبير والمريض اللَّذين لا يستطيعان الصيام يُفطران، ولا يقضيان، ويُطعمان عن كل =
حَرُما
(38)
(وإن نوى حاضر صوم يوم، ثم سافر في أثنائه: فله الفطر) إذا فارق بيوت قريته ونحوها؛ لظاهر الآية، والأخبار الصحيحة، والأفضل: عَدَمُه
(39)
(وإن أفطرت حامل، أو) أفطرت (مرضع؛ خوفًا على أنفسهما) فقط، أو مع الولد؛ (قَضَتاه) أي: قضتا الصوم (فقط) من غير فدية؛ لأنهما بمنزلة المريض الخائف على
يوم مسكينًا فكذلك هذا الشخص مثلهما، والجامع: المرض واستمراره في كل، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن هذا فيه دفع مشقة وضرر عنه، ولا كفارة عليه ولا على زوجته؛ نظرًا لاستمرار ذلك فيه، ولأن مرض زوجها لا يندفع إلا بوطئها هي كمن أفطر لإنقاذ غريق فليس عليهما شيء.
(38)
مسألة: إذا سافر مسلم قاصدًا الفطر في رمضان: فيحرم الفطر، والسفر معًا؛ للتلازم؛ حيث يلزم من نيته ترك أداء الصوم في وقته لغير قصدٍ صحيح: تحريم فطره وسَفَره؛ لكونه استُعمل لمحرم، وهو ذلك القصد، ولئلا يتَّخذ ذلك ذريعة للإفطار، وهذا هو المقصد الشرعي.
(39)
مسألة: إذا سافر مُقيم في أثناء يوم صام فيه من رمضان: فيُباح له أن يُفطر بشرط: أن يُفارق بيوت بلدته، ولكن الأفضل: أن يستمر في الصوم إلى آخر ذلك اليوم؛ لقاعدتين: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {أَوْ عَلَى سَفَرٍ} حيث أباح الشارع الإفطار لمن يوصف بالسفر، وهو مطلق في الأزمان فيشمل من سافر أثناء اليوم، فله الفطر لذلك، الثانية: السنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد سافر وهو صائم، فأفطر، فإن قلتَ: لمَ كان الأفضل أن يستمر في الصوم؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إنه إذا أفطره فسيقضيه كاملًا، وكونه يستمر في صيامه أرفق به؛ لأن الباقي من اليوم أقلُّ مشقة من اليوم الكامل عادة وعرفًا، فإن قلتَ: لمَ أُبيح الفطر في السفر هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن السفر مظنة المشقة، وهذا يتساوى فيه أول السفر وآخره.
نفسه
(40)
(و) إن أفطرتا؛ خوفًا (على ولديهما) فقط: (قضتا) عدد الأيام (وأطعمتا) أي: وجب على من يمون الولد أن يُطعم عنهما (لكل يوم مسكينًا) ما يُجزئ في كفارة؛ لقوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} قال ابن عباس: "كانت رخصة للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة، وهما يُطيقان الصيام: أن يُفطرا ويُطعما مكان كل يوم مسكينًا، والمرضع والحبلى إذا خافتا على أولادهما: أفطرتا وأطعمتا" رواه أبو داود، وروي عن ابن عمر رضي الله عنهم
(41)
:
(40)
مسألة: إذا خافت الحامل والمرضع الضرر على نفسيهما من الصوم، أو عليهما مع ولديهما: فيُباح لهما الفطر، ويجب عليهما قضاء الأيام التي أفطرتا بها بعد رمضان بلا فدية - وهي: الإطعام -؛ للقياس، بيانه: كما أن المريض مرضًا يُرجى برؤه يُفطر إذا خاف على نفسه من الصوم، ويقضي ذلك إذا شُفي ولا يفدي بإطعام، فكذلك الحامل والمرضع مثله والجامع: دفع الضَّرر عن النفس في كل، وهو المقصد الشرعي منه.
(41)
مسألة: إذا خافت الحامل والمرضع على ولديهما الضرر - دون نفسيهما -: فيُباح لهما الفطر، ويجب أن يقضيا ما أفطرتاه بعد رمضان، مع الفدية - وهي: إطعام عن كل يوم مسكينًا ربع صاع من بر، أو نصف صاع من غيره - يدفعها ولي الولدين؛ لقاعدتين: الأولى: قول الصحابي؛ حيث إن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم كانا يقولان ذلك، الثانية: التلازم؛ حيث يلزم من كون ولي الولدين منفقًا عليهما: أن يدفع ذلك الولي تلك الفدية؛ لكونها تابعة للنفقة، فإن قلتَ: لمَ شرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن الإفطار؛ لأجل دفع الضرر عن ولديهما، ودفع الولي تلك الفدية؛ لئلا يجتمع على الحامل والمرضع القضاء والفدية.
وتُجزئ هذه الكفارة إلى مسكين واحد جملة
(42)
، ومتى قبل رضيع ثدي غيرها وقدر أن يستأجر له: لم تفطر
(43)
، وظئر
(42)
مسألة: يُباح أن تُعطى الكفارة - وهي: الفدية وهي: ربع صاع من بر، أو نصفه من غيره - إلى مسكين واحد، بأن يجمع جميع الطعام وكفارات الأيام التي أفطرها المعذورون كالكبير والمريض، والحامل والمرضع - كما سبق في مسائل (34 و 37 و 41) - ويُعطي لمسكين واحد، ويُباح أن تُفرَّق؛ للكتاب؛ حيث قال تعالى:{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} حيث إن الشارع أطلق، فمن أعطاها لمسكين واحد: صحَّ ذلك، وهو: فإن قلتَ: لمَ أُبيح هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه دفع مشقة توزيعها. [فرع]: إخراج الكفارة وهي: إطعام المسكين يجب أن يكون على الفور بأن يكون بعد إفطار الكبير والمريض، والحامل والمرضع مباشرة، ولا يؤخر ذلك إلى وقت القضاء؛ للكتاب؛ حيث قال تعالى:{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} حيث أمر الشارع بإطعام المسكين، وهو أمر مطلق، فيقتضي الوجوب والفورية، فإن قلتَ: لمَ شرع هذا؟ قلتُ: لوجوبه بالذِّمة، وهو يستطيع فعله، فتأخيره يُعتبر من التساهل بأوامر الشرع. [فرع آخر]: يُكره صوم الكبير والمريض، والحامل والمرضع إذا خافوا على أنفسهم، أو خافتا على ولديهما الضرر، ويحرم إذا خافوا على أنفسهم الهلاك، أو خافتا على ولديهما الهلاك؛ للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه دفع مفسدة راجحة، أو متحقِّقة، ودفع المفاسد مُقدَّم على جلب المصالح.
(43)
مسألة: لا يجوز للمرضع أن تفطر في رمضان بشرطين: أولهما: أن يقبل الرضيع ثدي غيرها من النساء الأخريات، ثانيهما: أن يقدر ولي الرضيع على دفع أجرة الرضاعة للمرأة التي سترضع له ولده؛ للتلازم؛ حيث إن إباحة الفطر للمرضعة بسبب وجود الرضيع وعدم قدرة ولي الرضيع على استئجار غيرها، =
كأم
(44)
، ويجب الفطر على من احتاجه؛ لإنقاذ معصوم من هلكة
فإذا وُجد غيرها تقوم بذلك مع قدرة الولي: يلزم عدم جواز الإفطار لها؛ لعدم الحاجة إليها، فانتفى سبب الإفطار، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: لأن الإفطار وانتهاك حرمة رمضان لا يجوز إلا لعذر، ولم يوجد.
(44)
مسألة: إذا استأجر ولي الرضيع امرأة لترضع ذلك الولد - وهي المسمَّاة بـ "الظئر" - فإن أحكام هذه المرأة المستأجرة للإرضاع كأحكام الأمِّ تمامًا، فيجوز أن تفطر إذا خافت على نفسها وعلى الرَّضيع، وتقضي تلك الأيام، ولا فدية كالأم - كما سبق في مسألة (40) -، ويجوز لها أن تفطر إذا خافت على الرضيع، وتقضي تلك الأيام، وتجب الفدية كالأم - كما سبق في مسألة (41) -، ويُكره لها الصوم إذا خافت على نفسها أو الرضيع، ويحرم صومها إذا خافت على نفسها والرضيع الهلاك كالأم - كما سبق في مسألة (42) -، والإطعام على ولي الرضيع - كما سبق في الفرع الآخر التابع لمسألة (42) -، والإطعام على ولي الولد - كما سبق في مسألة (41) - فإن لم تُفطر تلك المستأجرة أو تغيَّر لبنها أو نقص: فللمستأجر الفسخ كما يفعل بالأم إن أصرَّت على الصوم؛ للقياس، بيانه: كما أن ذلك كله يُفعل بالأم فكذلك المستأجرة للإرضاع مثلها، والجامع: دفع الضَّرر عن ذلك الرضيع، وهو المقصد الشرعي. [فرع]: يجب على الحاكم أن يُجبر حاملًا أو مُرضعة على الإفطار إن خشي على الجنين، أو الرضيع من الهلاك، أو الضَّرر؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم:"لا ضرر ولا ضرار" وهذا عام فيشمل ما نحن فيه؛ لأن "ضرر وضِرار" نكرة في سياق النفي، وهو من صيغ العموم، والحاكم هو الذي له الحق بإجبار الناس بفعل ما يجلب المصالح، ويدفع المفاسد العامَّة، والنفي هنا نهي، وهو مطلق فيقتضي التحريم، وترك الحرام واجب، فيجب عليه فعل ذلك لتحقيق =
كغرق
(45)
، وليس لمن أُبيح له فطر رمضان صوم غيره فيه
(46)
(ومن نوى الصوم،
تلك المصالح، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا مع أنه يلزم منه انتهاك حرمة رمضان؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث تعارضت مفسدة انتهاك حرمة رمضان مع مفسدة مضرَّة الرضيع فيما لو صامت المرضعة فقدَّمت أخفَّهما، وهي الفطر والإجبار عليه؛ لكون الصوم يُمكن تداركه بالقضاء، بخلاف الضَّرر إذا حلَّ فقد لا يزول.
(45)
مسألة: يجب على صائم أن يُفطر في نهار رمضان إذا خاف على آخر من هلكة كأن يكون غريقًا، أو أصابه حرق، أو نحو ذلك، ولا منُقذ له غيره، فإن لم ينقذه: أثم، ويقضي ما أفطره، ويُطعم عن كل يوم أفطره مسكينًا - كما سبق -؛ للقياس؛ بيانه: كما يجب على المرضع أن تفطر إذا خافت على ولدها وتقضي وتطعم، فكذلك الحال هنا والجامع: دفع الضَّرر في كل، وهو المقصد من ذلك. [فرع]: يُباح للصائم أن يُفطر في نهار رمضان إذا خاف أن تلحقه مشقة في طلب رزقه كالرعاة، والحطَّابين، والمزارعين، أو من كان يطلب ماله كعبد، أو ولد تائه، أو مغصوب أو نحو ذلك، ولا يُمكنه الجمع بين هذا العمل والصوم، ويقضي الأيام التي أفطرها، ويُطعم عن كل يوم أفطره مسكينًا - كما سبق -؛ للقياس؛ بيانه: كما أن الحامل والمرضع الخائفتين على ولديهما الشاعرتين بالمشقة بسبب الصوم: يجوز لهما الفطر، ويقضيان مع الفدية - وهو الإطعام كما سبق - فكذلك الحال هنا والجامع: دفع المشقة في كل.
(46)
مسألة: إذا أُبيح لشخص أن يُفطر في نهار رمضان لعذر - كمرض أو كِبَر، أو سفر، أو حمل، أو رضاع أو خوف -: فيحرم عليه أن يصوم ذلك النهار صومًا غير رمضان؛ للاستصحاب: حيث إن الأصل هو: صوم رمضان، وإنما أُبيح تركه العذر؛ تخفيفًا ورُخصة، فإذا لم يعمل بتلك الرخصة وأراد الصوم فإنه يصوم الأصل؛ حيث إنه مأمور به أداءً وفورًا، ولا يجوز غيره.
ثم جُنَّ، أو أغمي عليه جميع النهار، ولم يُفق جُزءًا منه: لم يصح صومه)؛ لأن الصوم الشرعي: الإمساك مع النية، فلا يُضاف للمجنون، ولا للمغمى عليه، فإن أفاق جُزءًا من النهار: صحَّ الصوم: سواء كان من أول النهار أو آخره
(47)
(إلا إن نام جميع النهار) فلا يمنع صحة صومه؛ لأن النوم عادة، ولا يزول الإحساس بالكلِّية
(48)
(ويلزم المغمى عليه القضاء) أي: قضاء الصوم الواجب زمن الإغماء؛ لأن مُدَّته لا تطول غالبًا، فلم يزل به التكليف (فقط) بخلاف المجنون فلا قضاء
(47)
مسألة: إذا نوى شخص الصوم من اللَّيل، ثم جُنَّ، أو أغمي عليه طوال النهار، فلم يفق أيَّ جزء منه: فصومه لذلك اليوم لا يصحُّ، أما إن أفاق جزءًا من النهار - أوَّله أو وسطه أو آخره -: فإنه يصح صومه؛ للتلازم؛ حيث إن شرط الصوم الصحيح: أن يتوفَّر فيه الإمساك مع وجود النية، ومن أُغمي عليه، أو جُنَّ طوال اليوم لم يتوفَّر فيه الإمساك والشعور به: فيلزم عدم صحَّة صومه، ومن أفاق جُزءًا من اليوم قد توفَّر فيه الإمساك والشعور به مع النية فيلزم صحَّة صومه؛ لتوفر شرط الصوم: فإن قلتَ: لمَ فُرِّق بينهما؟ قلتُ: أما الأول: فلم يشعر بشيء، ولا يصدق عليه أنه ترك طعامه وشرابه: فلم يصح صومه، وأما الثاني: فقد شعر وأحسَّ بالصوم ولو لفترة قليلة، وصدق عليه كونه قد ترك طعامه وشرابه: فصح صومه.
(48)
مسألة: إذا نوى شخص الصوم من الليل، ثم نام من قبل طلوع الفجر، إلى بعد غروب الشمس: فصومه صحيح؛ للقياس، بيانه كما أن صوم الساهي يصح فكذلك النائم مثله والجامع: أن كلًا منهما لم يزل الإحساس عنه بالكلية، بل يتنبَّه إذا نُبِّه، فإن قلتَ: لمَ فُرِّق بين النائم، والمجنون والمغمى عليه في هذا؟ قلتُ: لأن النوم عادي، ويتنبَّه إذا نُبِّه، بخلاف المجنون والمغمى عليه فليس بعادي، ولا يتنبَّهان إذا نُبِّها، فلم يوجد منهما الإحساس بالإمساك.
عليه؛ لزوال تكليفه
(49)
(ويجب تعيين النية) بأن يعتقد أنه يصوم من رمضان، أو قضائه، أو نذر، أو كفارة، لقوله صلى الله عليه وسلم:"وإنما لكل امرئ ما نوى"(من اللَّيل)؛ لما روى الدارقطني بإسناده عن عمرة عن عائشة رضي الله عنها مرفوعًا: "من لم يُبيِّت الصيام قبل طلوع الفجر: فلا صيام له وقال: إسناده كلهم ثقات، ولا فرق بين أول الليل ووسطه وآخره، ولو أتى بعدها ليلًا بمنافٍ للصوم من نحو أكل ووطء
(50)
(الصوم
(49)
مسألة: إذا نوى شخص الصوم من الليل، ثم جُنَّ أو أغمي عليه طوال النهار: فلا يصح صومه - كما سبق في مسألة (47) - ولكن يجب على المغمى عليه قضاء ذلك اليوم الذي لم يصح، بخلاف المجنون فلا يقضيه؛ للتلازم؛ حيث إن تكليف المغمى عليه إجماعاً، وعدم ثبوت الولاية عليه، وعدم طول مُدَّته غالبًا، وجوازه على الأنبياء: يلزم منها وجوب قضاء ذلك اليوم الذي أغمي عليه فيه، بخلاف المجنون فنظرًا لكونه غير مكلَّف بالإجماع، وثبوت الولاية عليه، وطول مُدَّته غالبًا، وعدم جوازه على الأنبياء لزم: عدم وجوب قضاء الأيام التي جُنَّ فيها، ونظرًا لهذا الفرق بينهما: افترق الحكم.
(50)
مسألة: إذا أراد شخص أن يصوم صوم واجب -كصوم رمضان، أو قضائه، أو وفاء بنذر أو كفارة عن يمين أو عن جماع في نهار رمضان، أو عن قتل خطأ-: فيجب أن ينوي ذلك قبل أذان فجر ذلك اليوم الذي سيصومه: سواء أوقع تلك النية في أول الليل أو وسطه أو آخره، وسواء فعل ما يُضاد الصوم بعد نيته -كأكل أو شرب أو وطء- أو لم يفعل ذلك، فإن لم ينو، أو نوى وشكَّ وتردَّد في نيته: فلا صحّة لصيامه؛ لقواعد: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} حيث دلَّت الآية على جواز الأكل والشرب إلى أذان الفجر وهذا مطلق في الأزمان، فيشمل الأكل أو الشرب قبل النية أو بعدها، وهذا لا يُنافي النية للصوم، =
كل يوم واجب)؛ لأن كل يوم عبادة مُفردة لا يفسد صومه بفساد صوم
(51)
ومثلهما: الوطء؛ لعدم الفارق من باب "مفهوم الموافقة"، الثانية: السنة القولية؛ وهي من وجهين: أولهما: قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى" حيث حصر الأعمال الصحيحة شرعًا بأنها التي تُنوى ويُقصد بها وجه الله، والصوم عمل، فيشمله عموم هذا الحديث؛ لأن لفظ "الأعمال" جمع معرَّف بأل وهو من صيغ العموم، ومعروف أن المتردَّد والشَّاك بالنية كمن لم ينو شيئًا؛ لكونه أبطلها بذلك الشك، ثانيهما: قوله صلى الله عليه وسلم: "من لم يُبيِّت الصيام من الليل فلا صيام له" حيث دلَّ هذا على أن من لم ينو الصيام من الليل وصام فلا صحّة لصيامه، ودل بمفهوم الشرط على صحَّة صيام من نوى من الليل وهذا عام لأول الليل ووسطه وآخره؛ لأن "الليل" اسم جنس معرف بأل، وهو من صيغ العموم في الأزمان، ولفظ "الصيام" اسم جنس معرف بأل وهو من صيغ العموم، فيشمل جميع أنواع الصيام: الفرض، والنفل، ولكن خُصِّص صوم النفل وأجيز بلا نية بالسنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد نوى صوم النفل في النهار، فإن قلتَ: لِمَ وجبت النية هنا؟ قلتُ: لأن كل يوم عبادة مستقلة فيجب أن تفرد بالنية.
(51)
مسألة: يجب أن يُعيِّن لكل يوم نية خاصة به كأن ينوي في الليل أنه سيصوم غدًا السبت مثلًا، فإذا أفطر ينوي أنه سيصوم غدًا الأحد وهكذا، ويكفي في ذلك أن يخطر بباله أنه صائم غدًا بأي جزء من أجزاء الليل؛ للتلازم؛ حيث إنه يلزم من كون صوم كل يوم عبادة منفردة: أن يجعل له نية منفردة، فإن قلتَ: تكفي نية واحدة تجزئ عن جميع الشهر إذا لم يقطعها، وهو قول كثير من الحنفية؛ للقياس، بيانه: كما أن الصلاة تكفي عنها نية واحدة فكذلك شهر =
(لا نية الفرضية) أي: لا يُشترط أن ينوي كون الصيام فرضًا؛ لأن التعيين يُجزئ عنه،
(52)
ومن قال: "أنا صائم غدًا إن شاء الله" مُتردِّدًا: فسدت نيته، لا مُتبرِّكًا، كما لا يفسد إيمانه بقوله: "أنا مؤمن إن شاء الله غير مُتردِّد في الحال
(53)
ويكفي في النية
الصوم مثلها، والجامع: أن كلًّا منهما عبادة مكونة من أجزاء تُشترط لها النية قلتُ: هذا فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ لأن الصلاة عبادة ذات أجزاء غير منفردة عن بعضها، بخلاف شهر الصوم فهو يتكون من أيام، كل يوم منفرد عن الآخر، بدليل: أنه لو فسد صوم يوم لا يؤثر على صحة صوم اليوم الذي بعده أو الذي قبله، فيقضيه لوحده، فلو حاضت امرأة: فإنها تقضي الأيام التي أفسدتها بالحيض فقط دون غيرها، أما الصلاة فلو فسد ركن واحد منها: فإن الصلاة كلها تفسد، ويجب إعادتها فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض التلازم والقياس" فعندنا: يُعمل بالتلازم؛ لضعف قياس الصوم على الصلاة وعندهم: يعمل بالقياس؛ لعدم الفارق بين الصلاة والصوم في ذلك.
(52)
مسألة: لا يُشترط في نية الصيام أن ينوي أنه يصوم فرضًا، بل المشترط: أن أنه سيصوم غدًا السبت، أو الأحد من رمضان وهكذا؛ للقياس، بيانه: كما أنه ينوي أنه سيصلي العصر مثلًا، ويجزئ عن نية أنه سيصلي الفرض، فكذلك هنا في الصوم مثلها، والجامع: أن كلًّا منهما عبادة تشترط فيها النية، وهذا للتيسير على العباد، وهو المقصد.
(53)
مسألة: يُستحب للمسلم أن يقول: "أنا صائم غدًا" بدون عبارة: "إن شاء الله" التي يقولها العوام كثيرًا؛ للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه سدٌّ للذرائع؛ حيث إن قول "إن شاء الله" قد يفتح الباب لأن يقولها بعضهم قاصدين أمورًا في نفوسهم، فدفعًا لذلك استُحب عدم قولها، فإن قلتَ: إن قال: "أنا صائم غدًا إن شاء الله" وهو متردد في النية: فإنها تفسد، ولا يصح صومه، أما إن قال ذلك =
الأكل والشرب بنية الصوم
(54)
(ويصح) صوم (النفل بنية من النهار قبل الزوال أو بعده)؛ لقول معاذ وابن مسعود، وحذيفة، وحديث عائشة رضي الله عنها:"دخل علي النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال: "هل عندكم من شيء؟ " فقلنا: لا، قال: "فإني إذًا صائم" رواه الجماعة إلّا البخاري، وأمر بصوم يوم عاشوراء في أثنائه، ويُحكم بالصوم الشرعي المثاب عليه من وقتها
(55)
(ولو نوى: إن كان غدًا من رمضان: فهو فرضي: لم
قاصدًا التبُّرك بذكر الله فقط: فلا تفسد، ويصح صومه؛ للقياس، بيانه: كما أنه إذا قال: "أنا مؤمن إن شاء الله" يريد التبرك فلا يفسد إيمانه وإذا قال ذلك وهو مُتردَّد في إيمانه: فإنه يفسد فكذلك الصوم مثله -وهو ما ذكره المصنف هنا- قلتُ: المصلحة وهي سدُّ الذرائع يقتضي عدم قولها، وكل تقلُّبات المسلم تحت مشيئة الله تعالى وتوفيقه ولو لم يُصرِّح بها فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض المصلحة مع القياس" فعندنا: يُعمل بالمصلحة، وعندهم بالقياس.
(54)
مسألة: يكفي في نية الصوم أن يأكل أو يشرب ليلًا بطريقة تختلف عن عادته طوال السنة؛ للتلازم؛ حيث يلزم من تلك الطريقة المختلفة: أنه ناوي الصيام غدًا.
(55)
مسألة: لا يُشترط في صوم النفل تبييت النية من الليل، فمثلًا: لو أصبح وهو لم يفعل شيئًا من المفطِّرات من أذان الفجر، ثم نوى الصوم في أول النهار أو آخره: فيصح صومه، ويُحسب أجره من وقت نيته؛ لقواعد الأولى: السنة القولية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد صام يوم عاشوراء وأمر بصيامه في أثناء نهاره، الثانية: السنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد صام لما لم يجد شيئًا يأكله عند عائشة رضي الله عنها الثالثة: قول الصحابي وفعله؛ حيث إن ذلك قد ثبت عن بعض الصحابة كمعاذ، وابن مسعود، وحذيفة رضي الله عنه، فإن قلتَ: لِمَ لا يُشترط ذلك هنا، واشتُرط في الفرض؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تيسير وتسهيل لكسب الخيرات بأدنى عمل، فإن قلتَ: لِمَ اشترط في صحة ذلك: أن لا =
يُجزئه)، لعدم جزمه بالنية
(56)
، وإن قال ذلك ليلة الثلاثين من رمضان وقال:"وإلا فأنا مفطر" فبان من رمضان: أجزاء، لأنه بنى على أصل لم يثبت زواله
(57)
(ومن نوى الإفطار: أفطر) أي: صار كمن لم ينو؛ لقطعه النية، وليس كمن أكل أو
يكون قد فعل شيئًا من المفطرات من أذان الفجر؟ قلتُ: لأنه لو فعل شيئًا من المفطرات بعد أذان الفجر فإنه لا يوصف بأنه صام يومًا كاملًا، فإن قلتَ: لِمَ لا يُحسب صومه إلّا بعد نيته؟ قلتُ: لكونه قبل النية لم يكن متعبدًا، والأجر على التَّعبُّد.
(56)
مسألة: يجب أن يجزم المسلم في نيته أنه سيصوم غدًا يومًا من رمضان، وبناء على ذلك: لو قال ليلة الثلاثين من شعبان: "أنا سأصوم غدًا، فإن كان من رمضان فهو فرضي، وإن لم يكن منه فعن واجب غيره ككفارة أو نذر أو نحو ذلك "فصار من رمضان، أو علم به بعد طلوع الشمس: فإنه يجب أن يُتمَّ صومه، ولا يُجزئه عن الفرض، فيجب قضاؤه؛ للتلازم؛ حيث إن نية الصوم من الليل يُشترط فيها العزم والجزم، وهذا القول فيه تردُّد فيلزم منه: عدم صحتها، ويلزم من عدم صحة النية: عدم صحة المنوي وهو هنا الصوم، ويلزم من عدم صحة الصوم: وجوب قضائه، فإن قلتَ: لِمَ شرع هذا؟ قلتُ: لأن الأصل الفطر؛ لأن الثلاثين من شعبان تابع له، ووقع التردُّد في نية الصوم، ولا يصح صوم وقع التردُّد في نيته.
(57)
مسألة إذا قال في ليلة الثلاثين من رمضان: "أنا سأصوم غدًا إن كان من رمضان، وإن لم يكن منه فأنا سأفطر" فصار من رمضان: فإنه يُجزئه صومه؛ للاستصحاب؛ حيث إن الأصل هو أنه من رمضان، فيستصحب ذلك؛ لتيقُنه، ويُعمل به، ولا تقوى تلك النية المتردَّد فيها: أن تُزيل ذلك المتيقن منه، وهو الصوم، فصح.
شرب
(58)
فيصح أن ينويه نفلًا بغير رمضان،
(59)
ومن قطع نية نذر، أو كفَّارة، ثم نواه نفلًا، أو قلب نيتهما إلى نفل: صح، كما لو انتقل من فرض صلاة إلى نقلها.
(60)
(58)
مسألة: إذا نوى الإفطار وهو صائم يومًا من رمضان، أو قال:"إن وجدتُ أكلاً أكلتُ، وإن لم أجد فأنا سأستمر في صومي": فإن صيامه يبطل في الحالتين: سواء أكل فعلًا أو لا، ويجب أن يقضيه، أما إن أكل أو شرب ناسيًا: فصومه صحيح؛ للقياس؛ بيانه: كما أنه لو نوى قطع صلاته الفرض فإنها تبطل، ويجب إعادتها فكذلك الصوم مثله، والتردُّد في النية -أيضًا مثل ذلك- والجامع: أن كلًّا منهما عبادة يُشترط فيها الجزم بالنية، واستمرار ذلك إلى فراغ تلك العبادة، فإن قلتَ: لِمَ شرع هذا؟ قلتُ: لأن العبادة تنقطع بسبب قطع نيتها، أو التردُّد فيها، وإذا قطعها: فإنه خرج منها، والخروج عن العبادة مبطل لها، فإن قلتَ: لِمَ لا يفسد الصوم إذا أكل أو شرب ناسيًا؟ قلتُ: لكونه معذورًا بذلك النسيان؛ لأنه ليس من فعله ولا قصد، وسيأتي.
(59)
مسألة إذا نوى الإفطار في يوم من نهار رمضان، ثم عاد فنوى أنه سيستمر في الصوم على أنه نفل: فلا يصحُّ صوم ذلك اليوم من رمضان على أنه فرض ولا على أنه نفل، ويجب إمساكه؛ للتلازم؛ حيث إن كون اليوم من رمضان واجبًا مُضيَّقًا يسعه ولا يسع غيره يلزم منه عدم صحَّة قلب نيته التي هي فرض إلى نية نفل؛ لكونه إذا فعل ذلك أصبح مستهترًا بزمن العبادة الواجبة، وبناء عليه لا يصح فرضًا ولا نفلًا.
(60)
مسألة: إذا صام يومًا واجبًا عليه في غير وقت شهر رمضان؛ كأن يصوم يومًا قضاء، أو عن نذر نذره، أو كفارة، ثم نواه نفلًا: صح صومه نفلًا؛ للقياس، بيانه: كما أنه يجوز أن يقلب نية صلاته الفرض إلى صلاة نفل، فكذلك يجوز =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ذلك في صيام غير رمضان والجامع: أن كلًّا منهما عبادة محضة، وقتها موسَّع، أي: يُمكن إيقاع كل منهما في وقته دون أن يضيق عليه وقته، وقد فصَّلت ذلك في كتابي:"الواجب الموسَّع عند الأصوليين"
هذه آخر مسائل "حقيقة الصيام وحكمه، وأحكام نيته ورؤية هلاله" ويليه: باب "ما يُفسد الصوم ويوجب الكفارة"
باب ما يُفسد الصوم ويوجب الكفارة وما يتعلَّق بذلك
(من أكل أو شرب
(1)
أو استعط) بدهن أو غيره فوصل إلى حلقه أو دماغه
(2)
(أو احتقن
(3)
أو اكتحل بما يصل) أي: يما يعلم وصوله (إلى حلقه)؛ لرطوبته، أو جِدَّته من كحل، أو صبر، أو قطور، أو ذرور، أو إثمد كثير، أو يسير مُطيِّب: فسد
باب ما يُفسد الصوم ويُوجب الكفارة وما يتعلَّق بذلك
وفيه سبع وثلاثون مسالة:
(1)
مسألة: إذا أكل أو شرب الصائم شيئًا عمدًا وهو ذاكر لصومه، فوصل هذا إلى معدته: فإن صومه يفسد: سواء كان كثيرًا أو قليلًا، وسواء كان مُفيدًا، أو مُضرًا، وسواء كان بعذر كالمرض أو لا؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم:"من أكل أو شرب ناسيًا فليتم صومه" حيث دل مفهوم الصفة على أن من أكل أو شرب عامدًا ذاكرًا: فلا يتم صومه؛ لأنه قد فسد، و "فعل الأكل والشرب" مطلق فيشمل المفيد والمضر، والقليل والكثير، وما هو لعذر أو لا، فإن قلتَ: لَم شُرع هذا؟ قلتُ: لمخالفته للمقصود الشرعي من الصيام.
(2)
مسألة: إذا جعل الصائم في أنفه سِّعُوطًا وهو عامد ذاكر لصومه، فأحسَّ بقوة ونشاط؛ نظرًا لوصول ذلك إلى حلقه أو دماغه: فإن صومه يفسد؛ للتلازم؛ حيث إن هذا يؤدِّي إلى نشاط وقوة بسبب دخول السعوط لمعدته أو دماغه فيلزم فساد صومه، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: لما ذكرنا في مسألة (1).
(3)
مسألة: إذا أدخل الصائم دواءً في دُبُره -وهو المسمى بالحقنةـ وهو ذاكر عامد، ووصل إلى معدته وشعر بالنشاط: فإن صومه يفسد؛ للتلازم، وقد بيَّناه في مسألة (2) فهو كالسعوط.
صومه؛ لأن العين منفذ وإن لم يكن معتادًا
(4)
(أو أدخل إلى جوفه شيئًا من أيِّ موضع كان
(5)
غير إحليله) فلو قطَّر فيه، أو غيَّب فيه شيئًا فوصل إلى المثانة: لم
(4)
مسألة: إذا اكتحل الصائم بشيء وهو ذاكر لصومه ـبأن وضع في عينيه إثمدًا، أو أيَّ شيء يُعالج به عينيه- وأحسَّ بوصوله إلى حلقة برطوبة أو طعم ونشاط: فسد صومه؛ للتلازم؛ وقد بيَّناه في مسألة (2) فهو كالسعوط، فإن قلتَ: إن الاكتحال لا يُفسد الصوم، وهو قول كثير من العلماء؛ لقاعدتين: الأولى: السنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد اكتحل في رمضان وهو صائم، الثانية: التلازم؛ حيث إن العين ليست منفذًا معتادًا إلى المعدة فيلزم منه عدم إفساد الاكتحال للصوم قلتُ: أما الحديث فلم يصح، وعلى فرض صحته: فيُحمل على الكحل الذي لم يصل طعمه إلى الحلق، أما التلازم فلا يُسلَّم؛ حيث إن الواقع يُكذِّبه؛ لأن بعض الناس يجد طعمه في الحلق، فإن قلتَ: إن الاكتحال والحقن لا يُفسدان الصوم، وهو قول كثير من العلماء، وتبعهم ابن تيمية وابن عثيمين؛ للتلازم؛ حيث إن الذي يُفسد الصوم هو الأكل والشرب والجماع: فيلزم أن الكحل والحقن لا يُفسدانه؛ لأنهما ليسا أكلًا ولا شربًا قلتُ: إن الذي يُفسد الصوم أيُّ شيء وصل إلى الحلق والمعدة يتقوى به الجسم، أو وجد رطوبته داخل جسمه، قال ذلك المحققون من العلماء؛ سدًا للذرائع؛ فهو يمنع بعض الناس من التحايل، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف فيما سبق؟ قلتُ: سببه: "الخلاف في المفسد للصوم هل هو كل شيء وصل إلى الحلق والمعدة وأحسَّ الجسم بالنشاط بسببه أو هو مقصور على الأكل والشرب والجماع فقط؟ " فعندنا: الأول، وعندهم: الثاني.
(5)
مسألة: إذا أدخل الصائم شيئًا في جسمه ونفذ إلى معدته كقطعة حديد، أو حصاة، أو خيط، أو منظار أو نحو ذلك، وهو عامد ذاكر: فإن صومه يفسد: سواء كان ذلك عن طريق دُبَره، أو غير ذلك من نواحي جسده -غير ذكَرِه-؛
يبطل صومه
(6)
(أو استقاء) أي: استدعى القيء فقاء: فسد أيضًا؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "من استقاء عمدًا فليقض" حسَّنه الترمذي
(7)
(أو استمنى) فأمني أو أمذى (أو باشر) دون الفرج أو قبَّل، أو لمس (فأمني أو أمذى، أو كرَّر النظر فأنزل) منيًا: فسد صومه
(8)
لا إن
للتلازم؛ حيث إن هذا يُعتبر مما يتقوَّى به الإنسان وهذا منافٍ للمقصد الشرعي من الصَّوم فيلزم: فساد صومه بسببه.
(6)
مسألة: إذا أدخل الصائم شيئًا في جسمه عن طريق ذكره ـوهو إحليله ـ بأن أدخل خيطًا أو قطر فيه سائلًا أو نحو ذلك: فلا يفسد صومه: سواء وُجد طعم ذلك أو لا؛ للتلازم؛ حيث إن ما وصل إلى الذَّكر لا يصل إلى المعدة؛ لأن ما بعد الذكر من جهة الجسم هي: المثانة، والمثانة ينزل إليها الماء والبول عن طريق الرَّشح والرطوبة؛ لأنه ليس لها إلا سقف واحد -كما قال الأطباء- فيلزم من ذلك: عدم فساد الصوم هنا؛ لعدم وجود سببه، [فرع]: إذا أدخلت المرأة شيئًا في قُبُلها فحكمها حكم الرجل.
(7)
مسالة: إذا استقى الصائم، وأخرج القيء مُتعمِّدًا ذاكرًا لصومه: فإن صومه يفسد سواء كان كثيرًا أو لا، وسواء كان طعامًا أو لا؛ للسنة القولية؛ حيث قال: صلى الله عليه وسلم "من استقاء عمدًا فليقض" فأوجب الشارع قضاء اليوم الذي استقاء فيه؛ لأن الأمر في قوله "فليقض" مُطلق، فيقتضي الوجوب، وهذا يلزم منه فساد صوم ذلك اليوم، ويدلُّ هذا بمفهوم الصفة على أن من استقاء ناسيًا، أو غلبه القيء: فصومه صحيح، وهذا الحكم عام للقيء الكثير والقليل، وللطعام وغيره، لأن اسم الشرط من صيغ العموم، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: لكون ذلك يؤدِّي إلى تقويته، وهذا مخالف للمقصد من مشروعية الصيام.
(8)
مسألة: إذا أنزل الصائم منيًا عامدًا ذاكرًا لصومه بسبب استمناء بيده أو بيد زوجته أو بسبب مباشرة ما دون الفرج، أو بسبب تقبيل زوجته، أو لمسها، أو
أمذى
(9)
(أو حجم أو احتجم، وظهر دم عامدًا ذاكرًا) في الكل (الصومه: فسد)
بسبب تكرار النظر إليها أو إلى غيرها فإن صومه يفسد للسنة القولية؛ حيث قال: صلى الله عليه وسلم "يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي" فالصائم هو: الذي يدع الأكل والشرب، وإخراج المني بشهوة عمدًا، ودلَّ مفهوم الصفة من ذلك على أن تلك الأمور الثلاثة مفسدات للصوم ومنها إنزال المني، وهذا المفهوم عام، فيكون شاملًا لكل ما ذكرنا، فإن قلتَ: لِمَ شرع هذا؟ قلتُ: لحصول التلذُّذ والتَّمتُّع، وهو مخالف للمقصد من مشروعية الصوم، فإن قلتَ: لمَ كان تكرار النظر مُفسدًا للصوم مع أن النظرة الأولى، والتفكير غير مفسد له وإن خرج المني بسببهما؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن النظرة الأولى والتفكير مما تعمُّ به البلوى فيشقُّ على أيِّ أحد أن يحترز منهما، فدفعًا لذلك: لم يكونا مُفسدين للصوم، بخلاف من كرَّر النظر فيفسد صومه؛ لأنه من فعله.
(9)
مسألة: إذا أنزل الصائم مذيًا عمدًا -وهو ذاكر لصومه ـ: فإنه لا يفسد صومه مُطلقًا، وهو مذهب كثير من العلماء؛ للاستصحاب؛ حيث إن الأصل: عدم فساد الصوم بأيِّ شيء إلّا إذا دلَّ دليل قوي على ذلك ولم يرد شيء يدل على فساده بخروج المذي مُطلقًا فنعمل بالأصل، وهو: عدم فساد صومه بذلك، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن خروج المذي لا يسلم منه أحد فلو فسد صوم كل أحد خرج منه مذي: للحق الناس مشقَّة، فدفعًا لذلك: شُرع ذلك، فإن قلتَ: إن خروج المذي بسبب استمناء، أو مباشرة ما دون الفرج أو تقبيل زوجته أو لمسها: يفسد الصوم، وهو ما ذكره المصنف هنا؛ للقياس، بيانه: كما أن خروج المني بأحد تلك الأسباب يُفسد الصوم فكذلك المذي مثله والجامع الإنزال بشهوة في كل قلتُ: هذا فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ لأن الإنسان يشعر بلذة شديدة واستمتاع عند خروج المني، وهذا مخالف للمقصد من مشروعية الصيام -كما سبق- بخلاف خروج المذي فلا يشعر =
صومه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "أفطر الحاجم والمحجوم" رواه أحمد والترمذي، قال ابن خزيمة:"ثبتت الأخبار عن رسول الله له بذلك"،
(10)
ولا يفطر بفصد، ولا شرط ولا
بذلك، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض القياس والاستصحاب" فعندنا يُعمل بالاستصحاب؛ لأن القياس لا يقوى على تغيير الأصل، وعندهم: يُعمل بالقياس؛ لقوته على تغيير الأصل.
(10)
مسألة: إذا طلب الصائم من يحجمه لحاجة فقام آخر صائم فحجمه وأخرج منه الدم، وهما عامدان ذاكران لصومهما: فإنه يفسد صومهما سواء كان الدم الخارج قليلًا أو كثيرًا، وسواء كانت الحجامة في الرأس أو غيره من أجزاء البدن، للسنة القولية؛ حيث قال: صلى الله عليه وسلم "أفطر الحاجم والمحجوم" حيث بين الشارع هنا أن الحاجم والمحجوم يُفطران بسبب الحجامة، وهذا يلزم منه: فساد صومهما، وهذا عام فيشمل كل ما ذكرناه؛ لأنه مفرد معرَّف بأل وهو من صيغ العموم، ويلزم من الحجامة إخراج الدم، ومصُّه فإن قلتَ: لِمَ يفسد صوم المحجوم؟ قلتُ: لإحساسه بالقوة والنشاط بعد خروج الدم غالبًا وهذا مناف للمقصد من مشروعية الصوم، فإن قلتَ: لِمَ يفسد صوم الحاجم؟ قلتُ: لتطاير بعض الدم إلى حلقه بسبب امتصاصه له بقوة غالبًا، وما وصل إلى الحلق فيغلب على الظن وصوله إلى المعدة، وما وصل إلى المعدة فهو مظنة الإفطار كما أن النوم مظنة خروج الحدث، فلما وجب الوضوء على النائم وجب إعادة صوم الحاجم، فإن قلتَ: لا تفسد الحجامة صوم الحاجم ولا المحجوم، وهو قول الجمهور؛ للسنة الفعلية، حيث "إنه صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم مُحرم" فلو كان يُفسده لما فعله صلى الله عليه وسلم قلتُ: لم ترد في الرواية الصحيحة لفظة "صائم" كما رواها، مسلم وأحمد، وعلى فرض ورودها: فإن هذا يُحمل على السنة القولية التي ذكرناها وهو: أنه صلى الله عليه وسلم احتجم فأفطر، أو يُحكم على السنة الفعلية بأنها منسوخة بالسنة القولية كما قال بعض العلماء، وإذا تطرق الاحتمال إلى الدليل
رعاف
(11)
(لا) إن كان (ناسيًا أو مكرهًا) ولو يوَجُور مغمى عليه؛ معالجة، فلا
بطل به الاستدلال، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض السنة القولية مع الفعلية" فعندنا تقدم القولية، وعندهم: تقدم الفعلية. [فرع]: إذا سُحب الدم صائم بآلات منفصلة عن الفم: فلا يفسد صوم الحاجم الساحب للتلازم؛ حيث يلزم من عدم مصِّ الدم مباشرة منه بقوة: عدم فساد الصوم؛ لأنه يغلب على الظن عدم وصول شيء إلى الحلق.
(11)
مسألة: إذا تعمَّد الصائم إخراج الدم منه بفصد، أو شرط ـوهما: شق العرق، أو تجميع الجلد حتى يخرج منه دم- أو برعاف ـوهو إخراج الدم من الأنف- وهو ذاكر لصومه: فإن صومه يفسد، أما إن كان غير مُتعمِّد، أو متعمدًا ولكنه قد نسي أنه صائم: فلا يفسد صومه؛ للقياس، وهو من وجهين: أولهما كما أن الحجامة المتعمدة تفسد الصوم، فكذلك إخراج الدم المتعمد يفسده، والجامع: الشعور بالنشاط والقوة في كل، ثانيهما: كما أن الأكل والشارب نسيانًا لا يفسد صومه فكذلك إخراج الدم بأي طريقة غير متعمَّدة، والجامع: أنه في كل منهما ليس من فعله، فإن قلتَ: لِمَ شرع هذا؟ قلتُ: لأن القصد والنية والإرادة لها أثرها في الأحكام، فإن قلتَ: إن إخراج الدم بتلك الأمور لا يُفسد الصوم سواء كانت بقصد أو لا، وهو ما ذكره المصنف هنا؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كون ذلك ليس بحجامة: عدم فساد الصوم به لأن النص ورد بالحجامة فقط قلتُ: إن إخراج الدم بأي صفة يبعث النشاط في الجسم، وهذا متناف مع المقصد من مشروعية الصوم فلذلك قلنا بأنه يُفسد الصوم إذا قُصد، بخلاف ما لم يُقصد؛ لأن الأمور بمقاصدها، ولا يختصُّ الأمر بالحجامة، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "هل إخراج الدم المفطِّر خاص في الحجامة الواردة في النص أو أن المقصود: أن كل إخراج للدم
يفسد صومه فأجزأه، لقوله صلى الله عليه وسلم:"عُفي لأمتي عن الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه" ولحديث أبي هريرة مرفوعًا: "من نسي وهو صائم فأكل أو شرب، فليُتمَّ صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه" متفق" عليه
(12)
(أو طار إلى حلقه دُباب أو غبار) من طريق، أو دقيق، أو دُخان لم يُفطر؛ لعدم إمكان التحرُّز من ذلك أشبه النائم
(13)
يُفطر؟ " فعندنا: يُعمل بالمقصد، وهو: أن كل ما يُخرجه يُفطر، وعندهم: هو خاص بإخراجه عن طريق الحجامة.
(12)
مسألة: إذا أوصل الصائم إلى معدته شيئًا من المأكولات أو المشروبات، أو غير ذلك وهو ناس لصومه، أو مُكَره على ذلك، ولم يقصده كمعالجة المغمى عليه بأكل أو شرب أو وجور أو نحو ذلك: فإن صومه لا يفسد؛ للسنة القولية؛ وهي من وجهين: أولهما: قوله صلى الله عليه وسلم: "من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليُتمَّ صومه" فيلزم من الأمر بمواصلة الصوم: أن صومه صحيح، وهو عام لكل ما ذكرنا من المأكولات والمشروبات وغيرها مما وصل إلى معدته؛ لأن من الشرطية من صيغ العموم، ثانيهما: قوله صلى الله عليه وسلم: "عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" وهذا عام للصيام وغيره من الأحكام: حيث إن غير المقصود لا يؤثر في الأحكام سلبًا وإن خالف المقصد من مشروعيتها، وقلنا بأنه عام؛ لأن "الخطأ، والنسيان" اسم جنس معرَّف بأل وهو من صيغ العموم، و "ما" في قوله و"ما استكرهوا" اسم موصول وهو من صيغ العموم أيضًا، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: لأن ذلك قد وقع من غير قصدٍ منه فهو معذور بذلك؛ لكونه من غير فعله، فائدة:"الوَجُور" سائل مكوَّن من ماء ودقيق وبعض الحشائش يوضع في فم المريض.
(13)
مسألة: إذا دخل في فم الصائم دُخان، أو غبار، أو ذباب، أو بعوض، أو أيُّ شيء، أو شمَّ بعض الروائح الطَّيبة من غير قصد منه: فلا يفسد صومه: سواء =
(أو فكَّر فأنزل): لم يُفطر؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "عفي لأمتي ما حدَّثت به أنفسها ما لم تعمل به أو تتكلَّم به" وقياسه على تكرار النظر غير مسلَّم؛ لأنه دونه
(14)
(أو احتلم): لم
حصل له بعض النشاط أو لا؛ للقياس، بيانه: كما أن النائم وهو صائم إذا دخل في فمه شيء من ذلك: لا يفسد صومه فكذلك الصائم غير النائم مثله، والجامع: صعوبة التحرز من ذلك في كل، فإن قلتَ: لِمَ شرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة حيث إن ذلك مما تعمُّ به البلوى؛ إذ لو فسد صوم الصائم بذلك: للحق كثيرًا من الناس مشقة، فدفعًا لذلك شُرع.
(14)
مسألة: إذا فكَّر الصائم بزوجته أو بغيرها فأنزل منيًا: فلا يفسد صومه؛ للسنة القولية؛ حيث قال: صلى الله عليه وسلم "عُفي لأمتي ما حدَّثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلَّم به " وهذا عام فيشمل ما نحن فيه؛ لأن "ما" في قوله: "ما حدَّثت" اسم موصول وهو من صيغ العموم، فيكون المنزل منيًا بسبب التفكير لا يفسد صومه؛ لكونه معفوًا عنه، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن التفكير يغلب على الإنسان عادة، وقد يشق دفعه على كثير من الناس، فلذلك عُفي عنه فلا يؤثر على الأحكام سلبًا، وهذا في الصوم وغيره، فإن قلتَ: إنه يُفسد الصوم إذا صاحبه إنزال وهو قول كثير من العلماء؛ للقياس، بيانه: كما من كرر النظر لزوجته أو لغيرها فأنزل منيًا يفسد صومه ـكما سبق في مسألة (8) -، فكذلك من فكَّر فأنزل مثله والجامع: أن كلًّا منهما لم يُباشر وأنزل بقصد قلتُ: هذا فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ لأن التفكير يغلب على الإنسان غالبًا؛ بخلاف تكرار النظر فإن الناظر يقوى غالبًا على صرف نفسه عن المنظور، وأيضًا: التفكير أضعف في استدعاء الشهوة وإفضائه إلى الإنزال من تكرار النظر، لعدم وجود شيء أمام المفكِّر، بخلاف المكرر للنظر فيُوجد أمامه شيء، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه "تعارض القياس مع عموم السنة" فعملنا بعموم السنة لضعف القياس؛ وهم عملوا بالقياس لقوته عندهم.
يفسد صومه؛ لأن ذلك ليس بسبب من جهته،
(15)
وكذا: لو دَرَعَه القيء، أي: غَلَبَه
(16)
(أو أصبح في فيه طعام فَلَفَظه) أي: طرحه: لم يفسد صومه، وكذا: لو شقَّ عليه أن يلفظه فبلعه مع ريقه من غير قصد: لم يفسد؛ لما تقدَّم، وإن تميز عن ريقه وبَلَعَه باختياره: أفطر،
(17)
ولا يُفطر إن لطخ باطن قدميه بشيء فوجد طعمه في
(15)
مسألة: إذا نام الصائم فاحتلم فأنزل في أثناء نومه: فلا يفسد صومه؛ للقياس، بيانه: كما أن من أكل أو شرب ناسيًا لا يفسد صومه، فكذلك النائم المحتلم المنزل مثله، والجامع: أن كلًّا منهما لم يقصد ما حصل له ولم يكن بسببه هو، فهو معذور بذلك، وهذا من تيسير الإسلام، وهذا هو المقصد منه.
(16)
مسألة: إذا خرج القيء من الصائم من غير قصد منه: بأن غلب عليه، أو أخرج القيء عمدًا وهو ناسي لصومه: فلا يفسد صومه؛ للسنة القولية؛ وهي من وجهين: أولهما: قوله صلى الله عليه وسلم: "من ذرعه القيء: فلا قضاء عليه" حيث يلزم من عدم القضاء: صحة صوم من غَلَبَه القيء، ثانيهما: قوله صلى الله عليه وسلم: "من استقاء عمدًا فليقض" حيث دل مفهوم الشرط على أن من قاء من غير عمد: فلا قضاء عليه؛ لكون صومه صحيحًا، فإن قلتَ: لِمَ شرع هذا؟ قلتُ: لكونه معذورًا؛ لأن ذلك ليس بسبب منه.
(17)
مسألة: إذا وجد صائم بقايا طعام في فمه لما أصبح فَلَفَظَه وأخرجه، أو لم يُخرجه فَبَلَعَه مع ريقه من غير قصد منه؛ نظرًا لمشقَّة إخراجه: فلا يفسد أما إن بلعه مع استطاعته إخراجه: فإن صومه يفسد؛ لقاعدتين: الأولى: القياس، بيانه: كما أنه لو بلع طعامًا من خارج ابتداء: فإنه يفسد صومه فكذلك إذا وجد في فمه طعامًا فبلعه قاصدًا: فإنه يفسد صومه مثله، والجامع أن كلًّا منهما =
حلقه
(18)
(أو اغتسل، أو تمضمض أو استنثر) يعني: استنشق (أو زاد على الثلاث) في المضمضة أو الاستنشاق
(19)
(أو بالغ) فيهما (فدخل الماء حلقه: لم يفسد) صومه؛ لعدم القصد، وتكره المبالغة في المضمضة والاستنشاق للصائم، وتقدَّم،
(20)
وكُرها
قد بلع طعامًا عن قصد، الثانية: المصلحة؛ حيث إن لفظه وإخراجه من الفم، أو بلعه من غير قصد لا يسلم منه أحد، فلو فسد صوم كل من فعل ذلك من غير قصد: لما سلم لأحد صومه إلّا ما ندر، فدفعًا لذلك: صح صوم هذين.
(18)
مسألة: إذا وضع صائم على قدميه حِنَّاء، أو دهن أو نحو ذلك، ووجد طعم ذلك في حلقه: فصومه صحيح؛ للقياس، بيانه: كما أنه لو دهن رأسه فوجد طعمه في حلقه لا يفسد صومه فكذلك ما نحن فيه مثله والجامع: أن كلًّا من القدمين والرأس ليسا منفذين إلى حلقه، فإن قلتَ: لِمَ شرع هذا؟ قلتُ: لعدم وجود مظنَّة الإفطار؛ لعدم محاولته الاقتراب من المنافذ التي توصل الطعام إلى معدته.
(19)
مسألة: إذا اغتسل الصائم، أو تمضمض، أو استنشق فصار شيء من الماء في معدته من غير قصد: فصيامه صحيح: سواء زاد على الثلاث أو لا؛ للتلازم؛ حيث يلزم من عدم قصده إدخال الماء إلى معدته: عدم فساد صومه، فإن قلتَ: لِمَ شرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إنه لو فسد صوم كل أحد بلع ماء أثناء المضمضة أو الاستنشاق، أو الاغتسال: للزم فساد صوم أكثر الخلق؛ لعموم البلوى فيه، فدفعًا لذلك: شرع عدم فساده.
(20)
مسألة: يكره أن يُبالغ الصائم في المضمضة والاستنشاق ولو فعل ذلك: فلا يفسد صومه؛ للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية للمسلم من أن يفسد صومه من حيث لا يدري، وقد سبق بيان ذلك في مسألة (33) من باب "السواك وسنن الوضوء" من كتاب "الطهارة".
له؛ عبثًا، أو إسرافًا، أو لحر، أو عطش كغوصه في ماء لغير غُسْل مشروع، أو تبرد، ولا يفسد صومه بما دخل حلقه من غير قصد
(21)
(ومن أكل) أو شرب أو جامع (شاكًا في طلوع الفجر) ولم يتبيَّن له طلوعه: (صحَّ صومه) ولا قضاء عليه، ولو تردَّد؛ لأن الأصل: بقاء الليل (لا إن أكل) ونحوه (شاكًا في غروب الشمس) من ذلك اليوم الذي هو صائم فيه، ولم يتبيَّن بعد ذلك أنها غربت فعليه قضاء الصوم الواجب؛ لأن الأصل: بقاء النهار
(22)
(أو) أكل ونحوه (مُعتقدًا أنه ليل فبان نهارًا)
(21)
مسألة يكره أن يتمضمض الصائم أو يستنشق، أو يغتسل لغير عبادة كأن يفعل ذلك للعبث، أو اللهو، أو الإسراف في ذلك، ولو فعل ذلك فدخل شيء من الماء من غير قصد: لم يفسد صومه؛ للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه احتمال دخول شيء من الماء إلى معدته، فيؤدِّي إلى تقليل الأجر، فكُره؛ لأجل حمايته من هذا الاحتمال، ولم يفسد صومه؛ لكون دخول الماء إلى معدته إن وقع: لم يُقصد. [فرع]: لا يُكره أن يتمضمض الصائم، أو يستنشق، أو يغتسل لشيء مشروع كان يشعر بالحر فيصبُّ الماء على بدنه أو نحو ذلك ولا يفسد صومه إذا دخل شيء من الماء إلى معدته؛ لقاعدتين: الأولى: السنة الفعلية؛ "حيث كان صلى الله عليه وسلم يُصبح جُنبًا فيغتسل وهو صائم" ولا يؤمن دخول الماء أثناء الاغتسال، الثانية: القياس، بيانه: كما يجوز للصائم أن يجلس في الظل للتبرُّد فكذلك يجوز أن يصبَّ عليه الماء للتبرُّد أو يغوص فيه والجامع: أنه في كل منهما يغلب على ظنه عدم وصول الماء إلى معدته، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه إزالة الضَّجر.
(22)
مسألة: إذا أكل أو شرب أو جامع وهو شاكٌّ في طلوع الفجر، أي: تردَّد هل طلع الفجر أو لا؟ ولم يترجَّح أحدهما: فإن صومه صحيح، أما إن فعل ذلك وهو شاك في غروب الشمس من اليوم الذي هو صائم فيه: فإن صومه يفسد؛ =
أي: فبان طلوع الفجر، أو عدم غروب الشمس: قضى؛ لأنه لم يتُمَّ صومه،
(23)
للاستصحاب؛ حيث إن الأصل في الأول: بقاء الليل، وإذا بقي الليل فالإفطار جائز، وطلوع الفجر مشكوك فيه، ولا يزول اليقين وهو الأصل وهو بقاء الليل هذا بشيء مشكوك فيه، فنستصحب ذلك الأصل ونعمل به، ولا نلتفت إلى الشك؛ لكونه غير معمول به في الأحكام، أما الثاني -وهو من أفطر وهو شاك بغروب الشمس- فالأصل فيه: بقاء النهار، وإذا بقي النهار فالصوم واجب، وغروب الشمس مشكوك فيه، ولا يزول اليقين وهذا الأصل، وهو بقاء النهار هنا بشيء مشكوك فيه، فنستصحب ذلك الأصل، ونعمل به، فيكون إفطاره باطلًا، وعليه قضاؤه، وهذا واضح المقصد.
(23)
مسألة: إذا غلب على ظن الصائم أنه بليل فأكل أو شرب أو جامع، فبان بعد ذلك أنه فعل ذلك في النهار: فإن صومه صحيح، وهو قول كثير من العلماء، وتبعهم ابن تيمية؛ لقاعدتين: الأولى: القياس؛ بيانه: كما أن من نسي فأكل أو شرب في النهار: لا يفسد صومه فكذلك من أفطر ظانًا أنه بليل فبان أنه في النهار مثله والجامع: عدم القصد منهما، الثانية: قول الصحابي؛ حيث إن عمر رضي الله عنه قد أكل فبان أنه كان في نهار فقال: "لا نقضي؛ فإنا لم نتجانف لإثم"، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك يقع كثيرًا؛ فدفعًا لمشقة القضاء: جُعل صومه صحيحًا، فإن قلتَ: إن صوم هذا فاسد، ويجب عليه القضاء -وهو ما ذكره المصنف هنا-؛ للكتاب؛ حيث قال تعالى:{ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} فأوجب الشارع صوم يوم كامل: من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، ودل مفهوم الزمان على أن من لم يصم يومًا كاملًا: فصومه فاسد، وهذا -الذي أفطر في النهار ظانًا أنه ليل، فبان أنه نهار- لم يصم يومًا كاملًا، فيلزم فساد صومه، ووجوب قضائه قلتُ: الآية دالَّة على =
وكذلك يقضي إن أكل ونحوه يعتقده نهارًا فبان ليلًا، ولم يُجدِّد نية لواجب،
(24)
لا من أكل ظانًا غروب الشمس ولم يتبيَّن له الخطا
(25)
فصل: (ومن جامع في نهار رمضان) ولو في يوم لزمه إمساكه، أو رأى الهلال ليلته ورُدَّت شهادته فغيَّب حشفة ذكره الأصلي (في قُبُل) أصلي (أو دُبُر) ولو ناسيًا، أو مكرهًا، أو جاهلًا: (فعليه
ما قلتم إذا فعل ذلك قاصدًا وعالمًا بأنه نهار، وهذا يختلف عما نحن فيه، حيث لم يقصد هنا ولم يعلم، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض القياس مع عموم مفهوم الآية" فعندنا: يُعمل بالقياس؛ حيث إنه خصَّص عموم مفهوم الآية في المتعمد فقط، وعندهم: لا يقوى القياس على تخصيص عموم مفهوم الآية، فيكون عامًا في المتعمد وغيره.
(24)
مسألة إذا أفطر -بأكل أو شرب أو جامع- في وقت غلب على ظنه أنه نهار وقصد ذلك، فبان أن هذا الوقت الذي أفطر فيه ليل: فصومه ذلك اليوم فاسد، ويجب قضاؤه وإن لم يُجدِّد النية فطلع الفجر من اليوم الثاني: فصومه في اليوم الثاني لا يصح ويجب قضاؤه؛ للتلازم؛ حيث يلزم من قطعه لنية الصوم في اليوم: فساد صومه، ويلزم من عدم تبييت نية الصوم لليوم الثاني: فساد صومه أيضًا، ويلزم من فساد صوم أي يوم قضاؤه؛ لأن الأمور بمقاصدها ونياتها.
(25)
مسألة: إذا غلب على ظن الصائم أن الشمس قد غربت فأفطر، ولم يتبيَّن له خطأ ظنه هذا: فإن صومه صحيح؛ للقياس، بيانه: كما أنه إذا غلب على ظنه أن هذه جهة القبلة فصلى إليها ولم يتبيَّن بعدها أنه أخطأ في ذلك: فصلاته صحيحة، فكذلك الصائم في هذه الحالة مثله والجامع: أن كلًّا منهما قد غلب على الظن في حين عدم وجود ما يُعارضه.
القضاء والكفارة) أنزل أو لا
(26)
ولو أولج خُنثى مشكل ذكره في قُبُل خُنثى
(26)
مسألة: إذا جامع الصائم وهو مكلَّف مُقيم عالم بتحريم ذلك، ذاكر الصومه، مختار، مُتعمِّد له فإن صومه يفسد، وعليه القضاء والكفارة -وهي: عتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يجد فإطعام ستين مسكينًا، وسيأتي بيانه- وهذا مطلق، أي: سواء جامع زوجته أو غيرها، وسواء أنزل أو لم يُنزل، وسواء أدخل ذكره الأصلي في قُبُل أصلي أو دُبُر، وسواء ثبت رمضان لديه وحده أو لا، وسواء أمسك آخر النهار أو أوله؛ للسنة القولية؛ وهو من وجهين: أولهما: أنه صلى الله عليه وسلم قد أمر الرجل الذي واقع امرأته في نهار رمضان بالكفارة، وهو أمر مطلق، فيقتضي الوجوب، والدُّبُر في الوطء كالقبل، ووطء الأجنبية كوطء الزوجة؛ لعدم الفارق في كل من باب "مفهوم الموافقة"، وهذا عام شامل لمن أنزل أو لا؛ لكونه صلى الله عليه وسلم لم يستفصل؛ لأن ترك الاستفصال عن الحال يُنزَّل منزلة العموم في المقال، واشتُرط في ذلك كون المجامع مكلَّفًا مختارًا عالمًا بالتحريم؛ لأن هذا الرجل قد أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه، ويلزم من إتيانه إليه صلى الله عليه وسلم: أن هذا الرجل كان مُقيمًا عالمًا بتحريم ذلك ذاكرًا لصومه مختارًا متعمدًا لما وقع منه الجماع، ثانيهما: قوله صلى الله عليه وسلم: "يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي" حيث دلَّ مفهوم الصفة منه على أن الذي لا يترك شهوته لا يُسمى صائمًا، فيجب عليه القضاء، فإن قلتَ: لِمَ وجبت الكفارة هنا؟ قلتُ: لأن المقصود بالصيام هو سد باب التمتُّع وسرور النفس؛ ابتلاء وامتحانًا، وإنما حُرم الصائم من الأكل والشرب لأجل ذلك فمنعه من الجماع من باب أولى، لكونه أبلغ في السرور وبسط النفس، وهتك حرمة نهار رمضان، فنظرًا لذلك أوجب الشارع على من فعل ذلك كفارة مثل كفارة الظهار؛ نظرًا لعظم وخطورة الفعل، فإن قلتَ: لِمَ وجب القضاء هنا؟ قلتُ: لكونه جامع عمليًا في نهار =
مُشكل، أو قُبُل امرأة، أو أولج رجلٌ ذكره في قُبُل خنثى مُشكل: لم يفسد صوم واحد منهما إلا أن ينزل كالغسل، وكذا: إذا أنزل محبوب، أو امرأتان بمُساحقة (وإن
رمضان فلم يتُم صيامه واليوم الذي لا يُتمَّ صيامه يكون فاسدًا، واليوم الفاسد يُقضى. [فرع]: إذا جامع في نهار رمضان ناسيًا صومه، أو جاهلًا بحكمه، أو مُكرهًا: فلا يفسد صومه، ولا قضاء عليه ولا كفَّارة، وهو قول الجمهور للقياس، بيانه: كما أن من أكل أو شرب ناسيًا أو جاهلًا، أو مكرهًا وهو صائم: لا يفسد صومه ولا كفارة عليه ولا قضاء فكذلك من جامع مثله والجامع: أن كلًّا منهم لم يقصد، فيكون معذورًا، فإن قلتَ: إن هذا المجامع يفسد صومه، وعليه الكفارة والقضاء، وهو قول المصنف هنا؛ للسنة القولية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قال للرجل الذي سأله عن الجماع في نهار: رمضان "اعتق رقبة " ولم يستفصل عن حاله هل وقع هذا منه نسيانًا أو جهلًا أو إكراهًا؛ وهذا يلزم منه أن الحكم عام لمن تعمَّد ولغيره فيجب عليه؛ لأن ترك الاستفصال عن الحال ينزل منزلة العموم في المقال: القضاء والكفارة مطلقًا؛ قلتُ: إن الرجل لما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: "هلكتُ يا رسول الله" فقال صلى الله عليه وسلم: "ماذا صنعت؟ " قال الرجل: "وقعتُ على أهلي في نهار رمضان" قال له النبي صلى الله عليه وسلم: "اعتق رقبة .. " فلفظ "هلكتُ يا رسول الله" يلزم منه: أنه قد تعمَّد ذلك الوقاع، ومعروف أن المتعمَّد خلاف الناسي، والمكره، والجاهل لذا: أوجب النبي صلى الله عليه وسلم وعلى ذلك الرجل الكفارة، والقضاء دون استفصال؛ لكونه علم ذلك من لسانه ولسان حاله، ولذا اشترطنا تلك الشروط فيمن وجب عليه ذلك، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: الخلاف في لفظ "هلكتُ" هل يلزم منه أن السائل كان متعمدًا، غير ناسٍ ولا جاهل ولا مكره أو لا يلزم منه شيء؟ فعندنا: يلزم منه ذلك وتُفهم تلك الشروط من ذلك، وعندهم: لا يلزم منه شيء.
جامع دون الفرج ولو عمدًا (فأنزل) منيًا أو مذيًا
(27)
(أو كانت المرأة) المجامعة (معذورة) بجهل أو نسيان أو إكراهٍ: فالقضاء، ولا كفارة، وإن طاوعت عامدة عالمة: فالكفارة أيضًا
(28)
(أو جامع من نوى الصوم في سفره) المباح فيه القصر، أو
(27)
مسألة: إذا أدخل خنثى ذكره في قُبُل خنثى آخر، أو أدخله في قُبُل امرأة، أو أدخل رجل ذكره في قُبُل خنثى، وكذلك المجبوب ـوهو من قُطع ذكره أو خُصيتاه- إذا ألصق جسمه إلى آخر، أو المرأة إذا الصقت جسمها إلى امرأة أخرى -وهي: المساحقة-، أو جامع رجل دون الفرج: فأنزل كل واحد مما في هذه الصور الست منيًا وهو صائم متعمِّد: فإن الصوم يفسد، ويجب قضاؤه، ولا كفارة، وإن لم يُنزل منيًا: فالصوم صحيح، ولا قضاء، ولا كفارة، للقياس؛ بيانه: كما أن الواحد مما سبق ذكرهم إذا أنزل بسبب الإدخال أو عدمه يجب عليه الغسل، وإذا لم ينزل فلا يجب عليه الغسل، فكذلك في تلك الصُّور الست يجب القضاء؛ لفساد الصوم إذا حصل إنزال، ولا يفسد الصوم ولا قضاء إذا لم يحصل إنزال والجامع: حصول التلذذ الكامل بالإنزال فأفسد الصوم؛ لمنافاة ذلك للمقصد من مشروعية الصوم، وعدم حصول التلذذ بعدم الإنزال، فلا يفسد الصوم في كل، وهذا هو المقصد الشرعي، فإن قلتَ: لِمَ لا تجب الكفارة هنا؟ قلتُ: لأن الكفارة قد وجبت، نظرًا لوصول المجامع إلى غاية السرور وبسط النفس وهذا يحصل إذا أدخل حشفة ذكره الأصلي في فرج أصلي، ولم يحصل ذلك في تلك الصور الست، فلم تجب الكفارة، تنبيه: قوله: "أو مذيًا" يُشير به إلى أن خروج المذي يفسد الصوم ويوجب الكفارة، وهذا مرجوح كما سبق بيانه في مسألة (9).
(28)
مسألة: إذا كانت المرأة الصائمة المجامَعَة مُكلَّفة مقيمة، عامدة، عالمة بتحريم ذلك، ذاكرة لصومها مختارة، مُطيعة: فإن صومها يفسد، وعليها القضاء =
في مرض يُبيح الفطر: (أفطر، ولا كفَّارة)؛ لأنه صوم لا يلزم المضي فيه أشبه التطوع، ولأنه يُفطر بنية الفطر فيقع الجماع بعده
(29)
(وإن جامع في يومين) مُتفرِّقين
والكفارة، أما إن كانت تلك المرأة معذورة: بأن كانت غير مكلَّفة، أو مسافرة، أو نائمة، أو جاهلة بتحريم ذلك، أو ناسية لصومها، أو مكرهة: فإن صومها لا يفسد، ولا قضاء عليها ولا كفارة؛ للقياس؛ على الرَّجل، وقد سبق تفصيل الكلام فيه في مسألة (26) والفرع التابع لها، فإن قلتَ: إن المرأة إن كانت معذورة فإن صومها يفسد، وعليها القضاء، ولا كفارة عليها، وهو ما ذكره المصنف هنا قلتُ: قد بينت أن الراجح: أن صومها صحيح مثل الرجل كما فَّصلت ذلك في مسألة (26) والفرع التابع لها وذكرت هناك سبب الخلاف في ذلك والمقصد الشرعي في ذلك. [فرع]: إذا وطأ الصائم بهيمة في فرجها: فإن صومه يفسد، فيجب عليه القضاء، ولا كفارة عليه؛ للتلازم؛ حيث يلزم من إفساد الصوم بالوطء: قضاؤه، ويلزم من عدم الإدخال في فرج أصلي: عدم الكفارة؛ لعدم وصوله إلى السرور وبسط النفس في هذا الوطء، ومعروف وطء البهيمة يُخالف وطء الآدمية في إيجاب الحد وفي كثير من الأحكام كما صرَّح بذلك أكثر المحققين كأبي الخطاب وغيره.
(29)
مسألة: إذا نوى شخص الصوم في سفر يُباح قصر الصلاة فيه ـوهو (82 كم) كما سبق-، أو نوى الصوم في مرض يُبيح الفطر، ثم جامع أثناء صومه في سفره أو مرضه: فإنه يفسد صومه، فيجب عليه قضاؤه، ولا تجب الكفارة؛ لقاعدتين: الأولى: القياس، بيانه: كما أنه لو صام تطوعاً: فإنه يجوز له الجماع أثناء صومه ولا كفارة فكذلك إذا صام في حال يجوز فيه الإفطار ـكالسفر والمرض- يجوز له الجماع ولا كفارة، والجامع: أن كلًّا منهما لا يلزم المضي فيه، الثانية: التلازم؛ حيث إن هذا السفر أو المرض يُبيح له الفطر، وبناء على ذلك ينوي الإفطار بالجماع ولا كفارة عليه في ذلك؛ لكونه فعل ماله فعله.
أو متواليين (أو كرَّره) أي كرَّر الوطء (في يوم ولم يُكفِّر) للوطء الأول (فكفَّارة واحدة في الثانية) وهي: ما إذا كرَّر الوطء في يوم قبل أن يكفر، قال في "المغني" و"الشرح": بغير خلاف (وفي الأولى) وهي: ما إذا جامع في يومين (اثنتان)؛ لأن كل يوم عبادة مفردة (وإن جامع ثم كفرَّ، ثم جامع في يومه: فكفارة ثانية)؛ لأنه وطء محرَّم، وقد تكرَّر فتتكرر هي كالحج،
(30)
(وكذلك من لزمه الإمساك) كمن لم
(30)
مسألة: إذا جامع الصائم في يوم واحد مرتين، ولم يُكفِّر عن جِماعه الأول: فتجب عليه كفَّارة واحدة تكون بعد الثانية تُجزئه عنهما؛ للقياس، بيانه: كما أنه لو شرب الخمر مرتين في يوم واحد ولم يُحدَّ عن المرة الأولى: فإن الواجب عليه حدٍّ واحد فقط يكون بعد الثانية، فكذلك من جامع مرَّتين مثله، والجامع: أن ذلك يُعتبر في كل منهما زجرًا له من أن يعود، وهو المقصد في ذلك. [فرع]: إذا جامع الصائم في يوم ثم كفَّر عن ذلك، ثم جامع مرة ثانية في نفس اليوم: فلا كفَّارة عليه، وهو قول الجمهور للتلازم؛ حيث إن اليوم الواحد عبادة واحدة فيلزم أن توجب كفَّارة واحدة فقط وتجزئ عنه في الجماعين، فإن قلتَ: إنه تجب عليه كفَّارة ثانية في هذه الحالة، وهو ما ذكره المصنف هنا؛ للقياس، بيانه: كما أنه لو كرَّر المحظور في الحج: كان يقتل صيدًا أول يوم عرفة، ثم يُكفِّر، ثم يقتل آخر في آخر ذلك اليوم فيجب عليه أن يُكفِّر أيضًا مرة ثانية فكذلك من جامع مرتين في يوم واحد مثله والجامع: أنه في كل منهما تكرَّر ما يوجب الكفارة فتتكرر هي قلتُ: هذا فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ لأن فعل المحظور إذا تكرَّر في يوم: فالكفارة واجبة على كل محظور -وإن كثرت وإن كفَّر عن المرة الأولى فلا فرق في ذلك في الحج لأن كل فعلٍ مُنفصل عن الآخر، بخلاف الصوم؛ حيث إن اليوم الواحد عبادة منفردة إذا جامع فيه عددًا من المرات فعليه كفَّارة واحدة، فلا تتعدَّد الكفارة مع وحدة العبادة فإن قلت: ما
يعلم برؤية الهلال إلّا بعد طلوع الفجر، أو نسي النية، أو أكل عامدًا (إذا جامع): فعليه الكفارة؛ لهتكه حرمة الزمن
(31)
(ومن جامع وهو مُعافى، ثم مُرِض، أو جُنَّ،
سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض التلازم مع القياس" فعندنا: يُعمل بالتلازم؛ لقوته، وعندهم: يُعمل بالقياس. [فرع آخر]: إذا جامع الصائم في يوم السبت مثلًا، ثم جامع في يوم الأحد: فتجب عليه كفَّارة عن كل يوم، فتجب عليه هنا كفَّارتان: سواء كان قد كفَّر عن جماعة في يوم السبت، أو لم يُكفِّر؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كون كل يوم عبادة منفردة: وجوب كفارة له إذا جامع فيه؛ لأن فساد يوم لا دخل له بفساد اليوم الآخر، لانفصال كل يوم عن الآخر كالرمضانين المنفصلين.
(31)
مسألة: إذا وجب على مكلف الإمساك، وإن لم يُحسب له اليوم -كمن نسي النية للصيام من الليل فطلع الفجر، أو لم يعلم برؤية الهلال إلّا بعد طلوع الشمس، أو أكل عامدًا بلا عذر، أو قدم من السفر، أو شُفي من المرض، أو طهرت حائض أو نفساء أثناء النهار-، ثم جامع وهو مُتعمِّد، ذاكر لصومه، عالم بحكم ذلك، مختار بعد إمساكه: فإنه تجب عليه الكفارة مع قضاء ذلك اليوم للتلازم؛ حيث إن سبب وجوب الكفارة: هتك حرمة زمن رمضان بفعل أعلى درجات الشهوة، فيلزم من وجود هذا الهتك بهذا الفعل في ذلك الزمن المحترم: وجوب الكفارة، فإن قلتَ: لا تجب الكفارة هنا وهو قول بعض العلماء ومنهم ابن عثيمين؛ للتلازم؛ حيث يلزم من جواز إفطاره في أول اليوم: جواز إفطاره في آخره قلتُ: إن الأصل: هو الصوم، وقد خُولف هذا الأصل وأُذن بالفطر هنا للعذر -وهو النسيان أو الجهل، أو السفر، أو المرض أو الحيض أو النفاس- فلما زال ذلك العذر في بقية اليوم: عاد إليهم الأصل وهو الحكم بوجوب الإمساك وما يتعلَّق به من أحكام، ومن ذلك: حرمة زمن رمضان =
أو سافر لم تسقط) الكفارة عنه؛ لاستقرارها كما لو لم يطرأ العذر
(32)
(ولا تجب الكفارة بغير جماع في صيام رمضان)؛ لأنه لم يرد به نص، وغيره لا يُساويه،
(33)
كأكل الميتة حيث يُحرَّم على غير المضطر أكل بعض من الميتة مع أنه قبل ساعة يجوز له ذلك وما نحن فيه مثل ذلك، وهذا يدخل تحت قاعدة:"الضرورة تقدَّر بقدرها"، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "الاختلاف في علة وجوب الكفارة" فعندنا: العلة هي: هتك حرمة زمن رمضان، وعندهم: هتك حرمة الصوم في رمضان.
(32)
مسألة: إذا جامع الصائم المكلَّف الصحيح المقيم المختار العالم بتحريم ذلك، الذاكر لصومه المتعمِّد، ثم بعد ذلك حصل له عذر يُبيح الفطر كسفر، أو جنون، أو مرض، أو حيض، أو نفاس: فتجب عليه الكفارة؛ للقياس، بيانه: كما أنه لو جامع ولم يحصل له عذر تجب عليه الكفارة فكذلك من جامع وحصل له بعد ذلك عذر تجب عليه الكفارة والجامع: أن الكفارة قد استقرَّت في ذمَّته بمجرَّد جماعه في كل.
(33)
مسألة: الكفارة تجب على من جامع في نهار شهر رمضان فقط، وبناء على ذلك: لا تجب الكفارة فيما لو جامع في صيام واجب ـغير رمضان- كأن يُجامع في قضاء، رمضان، أو صيام نذر، أو صيام كفَّارة يمين، أو قتل خطأ، أو ظهار، أو صيام فدية الأذى في الحج، أو صيام التمتع لمن لم يجد الهدي في الحج، أو صيام نفل؛ للسنة القولية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قال - للرجل الذي سأله عن حكم من جامع أهله في نهار رمضان-:"اعتق رقبة"، والسؤال مُعاد في الجواب فكأن التقدير: من جامع في نهار رمضان فعليه كفارة" ودلَّ مفهوم الزمان على أن من جامع في نهار غير شهر رمضان: فلا كفارة عليه، وهذا المفهوم عام لجميع ما ذكرنا من أنواع الصوم، فإن قلتَ: لِمَ شرع هذا؟ قلتُ: لأن نهار =
والنَّزع: جماع، والإنزال بالمساحقة كالجماع على ما في" المنتهى"
(34)
(وهي) أي:
رمضان قد تعيَّن لهذه العبادة، وهو محترم لذلك ولا يجوز انتهاك حرمته، وغيره لا يُساويه في ذلك، فلا يُقاس غيره عليه، فلزم اقتصار وجوب الكفارة على من جامع في نهار رمضان.
(34)
مسألة: إذا طلع الفجر من يوم صوم رمضان وذكَرُه داخل في فرج امرأته: فإنه ينزع ذكره ويُخرجه ولا يفسد صومه، ولا قضاء ولا كفَّارة عليه؛ لقاعدتين: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} وثبت عنه صلى الله عليه وسلم: أن الله تعالى قال: "قد فعلتُ" ومن طلع الفجر وذكره داخل في فرج امرأته لم يقصد الجماع في نهار رمضان: فلا يُؤاخذ ولا يترتَّب عليه شيء، الثانية: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم:"عُفي لأمتي عن الخطأ والنسيان" ويُقال فيه كما قلنا في الآية، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: لكونه لم يقصد الجماع في نهار رمضان والذي لم يقصد في فعله لا يؤاخذ عليه ولا يترتب عليه شيء فيما بينه وبين الله، وقد سبق بيانه في الفرع التابع لمسألة (26) فإن قلتَ: إن هذا يفسد صومه، وعليه القضاء والكفارة، وهو ما ذكره المصنف هنا؛ للقياس، بيانه: كما أنه لو جامع بعد طلوع الفجر: يفسد صومه وعليه القضاء والكفارة فكذلك من لم ينزع إلّا بعد طلوع الفجر مثله، والجامع: وقوع جماع في جزء من نهار رمضان في كل قلتُ: هذا فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ لأنه في هذه المسألة قد أدخل ذكره قبل طلوع الفجر وهو يظن أنه بعيد عن زمن طلوع الفجر، ثم أخرجه بعد علمه بطلوع الفجر، أما المقاس عليه: فإنه أدخل ذكره وأخرجه بعد طلوع الفجر، ومع هذا الفرق لا قياس فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض القياس مع الكتاب والسنة" فنعمل بعموم الكتاب والسنة، دون القياس؛ لضعفه وهم عملوا بالقياس، وخصَّصوا العموم به. تنبيه: قوله: "والإنزال بالمساحقة كالجماع" يُشير به إلى أنه إذا =
كفارة الوطء في نهار رمضان (عتق رقبة) مؤمنة سليمة من العيوب الضَّارَّة بالعمل (فإن لم يجد) رقبة (فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع) الصوم (فإطعام ستين مسكينًا) لكل مسكين مُدُّ بُرٍّ، أو نصف صاع من تمر أو زبيب أو شعير، أو أقط
(35)
تساحقت امرأتان فأنزلتا المني أو إحداهما: فإنه يفسد صومهما، وعليهما القضاء والكفارة، قلتُ: قد سبق بيان أن هذا يُفسد الصوم، ويجب القضاء ولا كفارة وذلك في مسألة (27).
(35)
مسألة: كفارة الجماع في نهار رمضان هي: أن يُعتق رقبة -أي: يُحرِّر عبدًا أو أمة- مؤمنة سالمة من العيوب التي تُعيقها عن العمل، فإن لم يجد: فإنه يصوم شهرين مُتتابعين، فإن لم يستطع: فإنه يُطعم ستين مسكينًا، يُعطي كل مسكين ربع صاع من بُرٍّ أو أرز -وهو المدُّ- وهو: ما يُعادل ثلاثة أرباع كيلو جرام - وهي على الترتيب كما ذكر؛ لقواعد: الأولى: السنة القولية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قال -للرجل الذي واقع أهله في نهار رمضان-: "اعتق رقبة" فقال: لا أجد، قال له:"صم شهرين مُتتابعين" فقال: لا أستطيع، قال له:"أطعم ستين مسكينًا" حيث أوجب عليه أن يفعل ذلك؛ لأن الأمر مطلق، فيقتضي الوجوب، ويلزم من لفظ الحديث: أنها واجبة على الترتيب، الثانية: القياس، وهو من وجهين: أولهما: كما أنه يُشترط في الرقبة المعتقة الإيمان والسلامة في كفارة الظهار، فكذلك يُشترط ذلك هنا والجامع: حصول المقصود من إعتاق الرقبة وهو: الانتفاع في كل ثانيهما: كما أن فدية الأذى نصف صاع من التمر والشعير والزبيب والأقط يُعطى للمسكين الواحد فكذلك الحال هنا والجامع: الإغناء في كل الثالثة: فعل اصحابي؛ حيث إن بعض الصحابة كابن عمر وابن عباس وأبي هريرة وزيد رضي الله عنهم كانوا يجعلون المدَّ من البر يقوم مقام نصف صاع من غيره، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: لمنع التلاعب والتساهل بحدود الله تعالى، وانتهاك حرمة رمضان.
(فإن لم يجد) شيئًا يُطعمه للمساكين: (سقطت) الكفارة؛ لأن الأعرابي لما دفع إليه النبي صلى الله عليه وسلم التمر ليطعمه للمساكين فأخبره بحاجته قال: "أطعمه أهلك" ولم يأمره بكفارة أخرى، ولم يذكر له بقاءها في ذمَّته، بخلاف كفَّارة حج وظهار ويمين ونحوها
(36)
ويسقط الجميع بتكفير غيره عنه بإذنه.
(37)
(36)
مسألة: إذا عجز المجامع في نهار رمضان عن العنق، والصوم، والإطعام: فإنها تسقط عنه؛ للسنة القولية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد أذن للرجل أن يُطعم ما أخذه من الصدقة لأهله، ولم يُبيِّن عليه السلام أنها تبقى في ذمَّته، أو يُكفِّر بأخرى، فهذا يلزم منه: أنها تسقط؛ لأنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة؛ فإن قلتَ: لِمَ تسقط هنا، ولا تسقط الكفارة إذا عجز عنها في كفَّارة الظهار واليمين، وفدية الحج؟ قلتُ: لأن الأصل: عدم سقوط الكفارات؛ حيث تبقى في الذمة؛ لكونها عقوبات وواجبات، والواجب لا يسقط إلا بالفعل، أو الإبراء، وإنما سقطت هنا؛ لورود النص فيه؛ رخصة وتوسعة، فخولف الأصل بهذا.
(37)
مسألة: إذا وجبت كفَّارة على شخص فقام شخص آخر بالتكفير عنه: فإنها تسقط عن الأول إذا أذن في ذلك إن كان حيًا؛ للتلازم؛ حيث إن الكفارة واجبة في ذمة الأول وهي مالية، فتبَّرع بإخراجها عنه الشخص الآخر، فيلزم من ذلك: سقوطها عن الأول كدين الآدميين إذا سدَّد عنه آخر.
هذه آخر مسائل باب "ما يفسد الصوم ويوجب الكفارة" ويليه باب "ما يكره ويُستحب في الصوم وحكم القضاء"
باب ما يُكره ويُستحب في الصوم وحكم القضاء
أي: قضاء الصوم (يُكره) لصائم (جمع ريقه فيبتلعه) للخروج من خلاف من قال بفطره
(1)
(ويحرم) على الصائم (بلع النخامة) سواء كانت من جوفه، أو صدره، أو دماغه (ويُفطر بها فقط) أي: لا بالريق (إن وصلت إلى فمه)؛ لأنها من غير الفم، وكذلك: إذا تنجس فمه بدم، أو قيء ونحوه فبلعه وإن قلَّ؛ لإمكان
باب ما يُكره ويُستحب في الصوم وحكم القضاء
وفيه سبع وعشرون مسألة:
(1)
مسألة: إذا جمع الصائم ريقه -وهو ماء الفم- فابتلعه: فهذا مكروه، ولا يُفسد صومه، وإن بلعه بدون تجميع فلا كراهة لقاعدتين: الأولى: التلازم؛ حيث يلزم من كون الريق المجموع صادرًا من المعدة ورجع إليها: عدم إفساده لصومه ويلزم من فعله هذا عن قصد: كراهيته؛ لإمكان التحرُّز منه، الثانية: المصلحة؛ حيث إن بلع الرِّيق بدون تجميع يصعب على كل أحد التحرُّز منه، فلو فسد صوم كل من بلعه أو كُره له ذلك لتحرَّج الخلق، فدفعًا لذلك: شُرع هذا، فإن قلتَ: يفسد صوم من جمع ريقه وابتلعه وهو قول بعض الحنفية؛ للتلازم؛ حيث يلزم من فعله ذلك: أنه قصد أن يتقوَّى به، وهذا يُفسد الصوم قلتُ: لا نعلم عن قصده هذا، ثم إن الرِّيق ليس طعامًا ولا شرابًا من خارج، بل هو من المعدة مثل الطعام والشراب الذي فيه إنما خرج منها وعاد إليها، وهذا لا يُفطر، فإن قلتَ: سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض التلازمين"، تنبيه: قوله: "للخروج من خلاف من قال بفطره" هذه إشارة إلى الاستدلال بمراعاة الخلاف، أو الخروج منه، وهو لا يُعتبر دليلًا عند الحنابلة، وجمهور العلماء، وإنما هو دليل عند المالكية بشروط ذكرتها في كتبي الأصولية.
التحرز منه،
(2)
وإن أخرج من فمه حصاة، أو درهمًا أو خيطًا، ثم أعاده فإن كثُر ما عليه: أفطر، وإلا: فلا،
(3)
ولو أخرج لسانه، ثم أعاده: لم يفطر بما عليه ولو كثُر؛ لأنه لم ينفصل عن محلِّه،
(4)
ويُفطر بريق أخرجه إلى ما بين شفتيه ثم
(2)
مسألة: يحرم على الصائم أن يبلع النخامة -وهي: البلغم اللَّزج الصادر من الدِّماغ أو الجوف أو الصدر- وكذا: بلع الدم، والقيء، وإذا فعل ذلك: قاصدًا عامدًا: فإن صومه يفسد، وعليه القضاء، سواء كثر هذا أو قل؛ للتلازم؛ حيث إن هذه الأمور تعتبر من خارج الفم والمعدة فيلزم من بلعها ووصولها إلى المعدة: فساد صومه؛ فإن قلتَ: لِمَ شرع هذا؟ قلتُ: لإمكانه التَّحرز منها بدون مشقة، لكنه لم يفعل فأثم، وفسد صومه؛ لأنه قصد هتك حرمة رمضان ببلع شيء ليس من الفم بخلاف الرِّيق: فإنه منه.
(3)
مسألة: إذا أخرج الصائم من فمه حصاة، أو خيطًا، أو قطعة من فضة أو ذهب أو نحو ذلك، ثم أعاد ذلك إلى فمه مرة أخرى: فإنه يفسد صومه وعليه القضاء إن علق عليها بعض الأتربة ونحوها الكثيرة، أما إن علق عليها شيء قليل: فلا يفسد صومه؛ للتلازم؛ حيث إن كثرة ما عُلق عليه وانفصاله ووصوله من خارج الفم، وعدم مشقة الاحتراز منه: يلزم منه فساد الصوم؛ نظرًا لتأثيره فيه، ويلزم من قلَّة ما علق عليه، وعدم تحقُّق انفصاله: صحَّة صومه؛ لعدم وجود سبب يُفسده.
(4)
مسألة: إذا أخرج الصائم لسانه، ثم أعاده: فلا يفسد صومه: سواء علق عليه شيء أو لا؛ للمصلحة؛ حيث إن إخراج اللَّسان لا يسلم منه أحد، فلو فسد صوم من أخرج لسانه للحق كثيرًا من الناس الحرج والمشقة، فدفعًا لذلك شرع هذا، تنبيه: قوله: "لأنه لم ينفصل عن محلَّه" قلتُ: هذا لا يصلح للتعليل به؛ لكونه لا يؤثِّر.
بلعه
(5)
(ويُكره ذوق طعام بلا حاجة) قال المجد: المنصوص عنه أنه لا بأس به لحاجة ومصلحة، وحكاه هو والبخاري عن ابن عباس
(6)
(و) يكره (مضغ علك قوي) وهو الذي كلما مضغه: صَلُب وقوي؛ لأنه يجلب البلغم، ويجمع الرِّيق، ويُورث العطش
(7)
(وإن وُجد طعمهما) أي: طعم الطعام والعلك (في حلقه:
(5)
مسألة: إذا أخرج الصائم ريقه إلى أطراف شفتيه أو ما بعدهما، ثم أعاده إلى فمه فَبَلَعَه قاصدًا ذاكرًا لصومه: فإن صومه يفسد، وعليه القضاء؛ للقياس بيانه: كما أنه لو شرب شربة ماء من خارج فمه فإنه يفسد صوم، فكذلك، هذا مثله، والجامع: أن كلًّا منهما يعتبر مُنفصلًا من خارج الفم، يمكن الاحتراز منه، فإن قلتَ: لِمَ شرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن هذا فيه سدٌّ للذرائع؛ حيث إن هذا قد يتَّخذه بعض الناس وسيلة للتنشيط، فمنع لأجل ذلك.
(6)
مسألة: يُباح للصائم أن يتذوَّق طعامًا بطرف لسانه لحاجة يخشى أن تفوت كأن يكون هذا الصائم طبَّاخًا لقوم يريدون أن يأكلوا ما طبخه عند الإفطار، أو يتذوق طعامًا لطفل أو نحو ذلك، ويكره ذلك لغير حاجة لقاعدتين: الأولى: قول الصحابي؛ حيث قال ابن عباس: "لا بأس أن يذوق الطعام والخلَّ والشيء يُريد شراءه" الثانية: فعل الصحابي؛ حيث إن الحسن بن علي "كان يمضغ الجوز لابن ابنه وهو صائم" فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه مراعاة أحوال الناس، ودفع المضار عنهم، فإن لم توجد الحاجة: فإنه يُكره ذلك؛ لاحتمال دخول شيء منه إلى حلقه، فحماية له: كُرِه.
(7)
مسألة: يُكره للصائم أن يمضغ علكًا قويًا -وهو: الذي يصلب ويتقوَّى عند كثرة مضغه ولا يتفتَّت-؛ للمصلحة؛ حيث إنه يحلب البلغم ويجذبه، ويجمع الرِّيق، ويُورث ويحدث العطش، ويُساء الظن به بسببه، فدفعًا لتلك المفاسد كره له.
أفطر)؛ لأنه أوصله إلى جوفه
(8)
(ويحرم) مضغ (العلك المتحلِّل) مطلقًا إجماعًا، قاله في "المبدع" (إن بلع ريقه) وإلا: فلا، هذا معنى ما ذكره في "المقنع" و "المغني" و"الشرح"؛ لأن المحرَّم إدخال ذلك إلى جوفه ولم يوجد، وقال في "الإنصاف":"والصحيح من المذهب: أنه يُحرَّم مضغ ذلك، ولو لم يبتلع ريقه، وجزم به الأكثر" ا. هـ، وجزم به في "الإقناع" و "المنتهى"،
(9)
ويكره أن يدع بقايا الطعام بين
(8)
مسألة إذا وجد الصائم طعم الطعام أو العلك الصلب في حلقه: فإنه يفسد صومه ويجب القضاء؛ للتلازم؛ حيث إن وصول الطعم إلى الحلق يلزم منه تحرك المعدة له، ووصوله إليها، ويلزم من وصوله إلى ذلك: فساد الصوم، ووجوب القضاء؛ لأنه يؤدي إلى النشاط والقوة، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه منع بعض الصائمين أن يتخذوا ذلك طريقًا لتنشيط أجسامهم.
(9)
مسألة: يحرم على الصائم مضغ وعلك العلك المتحلِّل اللِّين إذا بلع ريقه ويفسد صومه، أما إذا لم يبلع ريقه: فلا يُحرَّم، ولا يفسد صومه؛ للقياس، بيانه: كما أنه إذا تعمَّد أكل هذا العلك: فإنه يُحرَّم ويفسد صومه أما إذا لم يتعمد: فلا يفسد ولا يحرم فكذلك إذا مضغه وبلع ريقه أو لم يمضغه مثله والجامع: أنه في كل منهما فيه إدخال مأكول من خارج إلى داخل معدته، أو لم يوجد هذا الإدخال: فلا يفسد صومه ولا يُحرَّم، فإن قلتَ: إن هذا مُحرَّم مطلقًا، أي: سواء بلع ريقه أو لا، وهو قول كثير من الحنابلة؛ للعرف والعادة؛ حيث إنه قد جرت العادة أن مثل هذا العلك المتفتِّت يذهب بعضه إلى المعدة، وإن لم يبلع ريقه قلتُ: لا يُسلَّم هذا؛ حيث إن من العادة والعرف أن الرِّيق هو الذي يتسبِّب في إدخال أيِّ شيء إلى المعدة، فيكون بلعه هو المحرم، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: تعارض القياس والعادة والعرف".
أسنانه،
(10)
وشمُّ ما لا يُؤمن أن يجذبه نَفَسُه كسحيق مسك
(11)
(وتكره القبلة) ودواعي الوطء (لمن تحرك شهوته)؛ لأنه صلى الله عليه وسلم: "نهى عنها شابًا ورخَّص لشيخ" رواه أبو داود من حديث أبي هريرة، ورواه سعيد عن أبي هريرة وأبي الدرداء، وكذا: عن ابن عباس بإسناد صحيح، "وكان صلى الله عليه وسلم يُقبل وهو صائم" لما كان مالكًا لإربه، وغير ذي الشهوة في معناه، وتحرم إن ظنَّ إنزالًا،
(12)
(ويجب) مُطلقًا
(10)
مسألة: يُكره أن يترك الشخص بقايا طعام لاصقة بين أسنانه، بل ينبغي له إزالتها قبل بداية الصوم؛ للمصلحة؛ حيث إن ترك ذلك يُحتمل أن يذهب إلى المعدة أثناء الصوم، فينقص أجره.
(11)
مسالة: يُكره أن يشمَّ الصائم أيَّ رائحة طيَّبة كالعطور، والبخور، والمسك ونحو ذلك؛ للتلازم؛ حيث إن ذلك قد يُؤدَّي إلى معدته بسبب جذب النفس له، وهذا يؤدي إلى تنشيطه فيلزم تنقيص أجره؛ لأن هذا ينافي المقصد من مشروعية الصوم، وهذا الاحتمال بعيد لذا: كُره، ولم يُحرَّم.
(12)
مسألة: يُحرَّم على الصائم أن يُقبل زوجته إذا غلب على ظنه أنه سُنزل بسبب ذلك منيًا، ويفسد صومه إن حصل ذلك، أما إن لم يغلب على ظنه ذلك، ولكن شهوته تتحرَّك لذلك: فالقبلة مكروهة، أما إن لم تتحرَّك شهوته: فيُباح بدون كراهة؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم نهى شابًا عن القبلة في حال الصوم، ورخَّص للشيخ فيها، حيث إنها تحرَّك شهوة الشاب دون الشيخ غالبًا، فنهى الشاب عنها، ورخَّص للشيخ فيها لأجل ذلك، والنهي هنا مُطلق، فيقتضي التحريم إن غلب على ظنه نزول مني؛ لأنه سيتسبَّب في إفساد صومه، ويحمل على الكراهة لمن هي تحرك شهوته بدون إنزال، لاحتمال نزوله، وأباحها للشيخ؛ لكونه يبعد أن تُحرِّك شهوته، الثانية: السنة الفعلية؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم يُقبِّل وهو صائم، قال الراوي:"وهو أمكنكم لإربه" حيث دلَّ
(اجتناب كذب وغيبة) وتَميمة (وشتم) ونحوه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه" رواه أحمد والبخاري وأبو داود وغيرهم قال أحمد: "ينبغي للصائم أن يتعاهد صومه من لسانه، ولا يُماري، ويصون صومه، وكانوا إذا صاموا: قعدوا في المساجد، وقالوا: نحفظ صومنا، ولا نغتاب أحدًا، ولا يعمل عملًا يجرح به صومه"
(13)
(وسُنَّ) كثرة قراءة، وذكر
على أن المالك لإربه، والذي لا تحرِّكه الشهوة يُباح له أن يُقبِّل، ويلزم منه أن من تحرك القبلة شهوته بدون إنزال؛ فيُكره له ذلك، قلتُ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك يُنافي المقصد من مشروعية الصيام وفيه هتك لحرمة رمضان إن أنزل بسببها، أو تحركت شهوته، وأبيح ذلك في غير هاتين الحالتين؛ لكونه لمس بغير شهوة أشبه لمس اليد الحاجة.
(13)
مسألة: يجب على المسلم ترك الكذب والغيبة والنميمة، والشتم والسبِّ، وأي شيء يُقلِّل من قيمة الآخرين والنيل من كرامتهم، والاستهزاء بهم باللَّمز، والهمز، والإشارة والكتابة، ونشر أخبارهم، وأسرارهم، وكشفها، وجرح شعورهم وأحاسيسهم في غير رمضان، وتركها في رمضان أكد في الوجوب، وإذا فعلها فلا يفسد صومه؛ للسنة القولية؛ وهي من وجوه: أولها: قوله صلى الله عليه وسلم: "من لم يدع قول الزُّور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه "حيث حذَّر من الكذب وما تفرَّع عنه من أنواع العصيان، ولا يُحذَّر من فعله إلّا الحرام الذي يجب تركه، ثانيها قوله صلى الله عليه وسلم:"الصيام جنة فإذا كان صوم أحدكم فلا يرفث ولا يفسق ولا يصخب" حيث حرم الشارع الرفث، والفسق والصَّخب والجدال ونحو ذلك في حال الصوم، والنهي هنا مطلق وهو يقتضي التحريم، وترك الحرام واجب، ثالثها: قوله صلى الله عليه وسلم: " يدع طعامه: وشرابه وشهوته من أجلي" حيث إن من ترك هذه الأمور الثلاثة: فإنه يُسمَّى
وصدقة وكف لسانه عما يكره
(14)
وسُنَّ (لمن شُتِم: قوله) جهرًا: (إني صائم)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "فإن شاتمه أحد أو قاتله: فليقل: إني امرؤ صائم"
(15)
(و) سُنَّ (تأخير سحور) إن لم يخش طلوع فجر ثان؛ لقول زيد بن ثابت: "تسحَّرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم قمنا إلى الصلاة" قلتُ: كم كان بينهما؟ قال: "قدر خمسين آية" متفق عليه،
(16)
صائمًا حقيقة، ويدل بمفهوم العدد على أن الصائم إذا كذب، أو اغتاب، أو نمَّ، أو سبَّ، أو شتم، أو قتل: فإن صومه صحيح ولكنه يأثم، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تهذيب الأخلاق، وإكرام المسلمين، وإظهار الترابط بينهم، وهي لا تشعر بالنشاط، أو القوة ولذا لا تفسد الصوم.
(14)
مسألة: يُستحب أن يُكثر الصائم من فعل الطاعات كقراءة القرآن، والأذكار: كالتكبير، والتسبيح، والتهليل، والتحميد، والصدقات، وأن يترك جميع المكروهات؛ للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه مضاعفة الأجر: لأن رمضان تُضاعف فيه الحسنات، فيجتمع في ذلك صلاح، بدنه، وكلامه، وسلوكه.
(15)
مسألة: إذا شتم أحد صائمًا، أو سبَّه، أو نازعه ودفعه: فيُستحب أن يقول الصائم: "إني صائم" بصوت جهوري سواء كان الصوم فرضًا أو نفلًا؛ للسنة القولية؛ حيث أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقول ذلك، والمصلحة التي ترجع إلى الصائم هي التي صرفت هذا الأمر من الوجوب إلى الندب؛ حيث إن الصائم يُخبر الشاتم: بأن الذي منعه من الرَّدِّ هو الصوم؛ حيث لا يريد أن يُقلِّل من أجره بذلك، لا لعجزه، ويُذكّر بذلك الشاتم بأن لا يُقلّل من أجره أيضًا.
(16)
مسألة: يُستحب أن يؤخَّر السَّحور -وهو ما يؤكل قبيل الفجر إذا لم يخف من طلوع الفجر الثاني- وهو الصادق - لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال: صلى الله عليه وسلم إن بلالًا يُؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذِّن ابن أم مكتوم" وهذا يلزم منه: استحباب الأكل والشرب إلى غاية أذان الفجر، لأنه لا صيام
وكُره جماعٌ مع شكٍّ في طلوع فجر، لا سحور
(17)
(و) يُسنُّ (تعجيل فطر)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم "لا يزال الناس بخير ما عجَّلوا الفطر" متفق عليه والمراد: إذا تحقَّق غروب الشمس، وله الفطر بغلبة الظن،
(18)
وتحصل فضيلته بشرب، وكمالها بأكل، ويكون
في الليل، وهذا هو الصارف للأمر من الوجوب إلى الندب، الثانية: السنة الفعلية؛ حيث إن زيد بن ثابت قدر ما بين سحور النبي صلى الله عليه وسلم وإقامة صلاة الفجر بقدر قراءة خمسين آية بقراءة المتوسط من القراء، وهذا هو القدر الذي بين الأذان والإقامة، فيلزم من ذلك استحباب الأكل والشرب إلى غاية أذان الفجر فإن قلتَ: لِمَ سُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك يؤدِّي إلى تقليل مُدَّة الصوم فلا يشقُّ على الصائمين، وهذا يُمكنهم من أداء واجباتهم في النهار على أتم وجه، ويُحبِّبهم في عبادة الصوم.
(17)
مسألة: يُكره لمن نوى الصوم في الليل: أن يُجامع وهو شاكٌّ في طلوع الفجر الثاني، أما السحور فيتناوله مع شكِّه في ذلك؛ لقاعدتين: الأولى: الاستصحاب؛ حيث إن الأصل هنا بقاء الليل، فله أن يجامع ويأكل ويشرب؛ لأن هذا من حقه، والشك لا يُلتفت إليه، الثانية: المصلحة؛ حيث إن تأخير الجماع يتسبَّب في إضعاف بدنه، فتزداد مشقة الصوم عليه، ولأنه قد يطلع الفجر الثاني من حيث لا يدري؛ لاشتغاله بالجماع، فدفعًا لهذين الأمرين كُرِه، بخلاف السحور فيتناوله مع شكِّه في طلوع الفجر الثاني؛ لكونه يُقوِّيه على صوم كل النهار، ولأنه إذا علم بطلوع الفجر يقف عن تناوله.
(18)
مسألة: يُستحب للصائم أن يتعجَّل في الفطر إذا تأكَّد أو غلب على ظنه غروب الشمس؛ للسنة القولية؛ حيث قال: صلى الله عليه وسلم "لا يزال الناس بخير ما عجَّلوا الفطر" حيث دلَّ على أن من تعجَّل في فطره فهو خير وأفضل له، ودلَّ بمفهوم الصفة على أن من أخرَّ الفطر بقصد: فإنه يُحرم من ذلك الخير
(على رُطَب)؛ لحديث أنس: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُفطر على رُطَبَات قبل أن يُصلي، فإن لم تكن: فعلى تمرات، فإن لم تكن تمرات: حسا حسوات من ماء" رواه أبو داود والترمذي وقال "حسن غريب"(فإن عُدِم) الرطب (فتمر، فإن عدم فـ) على (ماء)؛ لما تقدَّم
(19)
(وقول ما ورد) عند فطره، ومنه:"اللهم لك صمتُ وعلى رزقك أفطرت، سبحانك وبحمدك، اللهم تقبَّل مني إنك أنت السميع العليم"
(20)
والفضل، فإن قلتَ: لِمَ شرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك يُؤدِّي إلى تقليل مُدَّة الصوم، فلا يشق على الصائمين، وتحبيبه إلى نفوس الناس، ولكون ذلك فيه مخالفة لفئة من الكفار يؤخرون الفطر.
(19)
مسألة: يتحصَّل الصائم على أجر فضيلة تعجيل الإفطار بشرب جرعة ماء، ويتحصَّل على كمال أجر فضيلة تعجيل الإفطار بأي مأكول، ويُستحب أن يكون فطره على رُطّب، فإن لم يجده، فيُفطر على تمر، فإن لم يجده فماء؛ للسنة القولية؛ حيث "كان صلى الله عليه وسلم يُفطر على رُطَب فإن لم يجد: فعلى تمر، فإن لم يجد فعلى ماء"، فهذا الترتيب يدل على أن الأكمل في الإفطار هو الرطب، ثم يليه: التمر، ثم يليه الماء، ولكن هذا لا يمنع من حصوله على أجر فضيلة التعجيل بالماء، لجلبه للنشاط إلى البدن، ولكن الأكمل في ذلك هو: الأكل على الترتيب السابق، فإن قلتَ: لِمَ ستحب ذلك الترتيب؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن الرُّطب -وهو: التمر الَّليِّن- أكثر نفعًا للجسم بعد هذا الصوم؛ حيث إن العروق تمتصُّ نَفْعَه بسرعة، فيُعيد النشاط للجسم والتمر -وهو التمر اليابس- قريب من الرَّطب في ذلك؛ إذ يشتركان في الحلاوة التي تُعطي الجسم طاقته التي فقدها أثناء الصوم، إلّا أنه يحتاج إلى مضغ بخلاف الرُّطب فلا يحتاج إلى ذلك.
(20)
مسألة: يُستحب للصائم أن يذكر الله ويدعو عند إفطاره بقوله: "اللهم لك صمتُ، وعلى رزقك أفطرتُ سبحانك وبحمدك، اللهم تقبَّل مني إنك أنت
(ويُستحب القضاء) أي: قضاء رمضان فورًا (مُتتابعًا)؛ لأن القضاء يحكي الأداء، وسواء أفطر بسبب مُحرَّم أو لا،
(21)
وإن لم يقض على الفور: وجب العزم
السميع العليم" ويقول: "ذهب الظمأ، وابتلَّت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله" لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال: صلى الله عليه وسلم "للصائم عند فطره دعوة لا تُردُّ " الثانية: السنة الفعلية؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم يذكر الله عند فطره، ويدعو بما ذُكر، وغيره فإن قلتَ: لِمَ استُحب هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك مُتضمِّن لشكر الله على أن أعانه على صيام هذا اليوم -، وبالشكر تزيد النعم-، والدعاء عند الإفطار أقرب إلى الاستجابة من غيره؛ لكون العبد في حالة من التعب والإرهاق والتذلل والخضوع.
(21)
مسألة: يُستحب قضاء رمضان -لمن أفطر فيه بعذر أو غيره- مُتتابعًا، وبعد رمضان فورًا، ولا يجب ذلك؛ لقاعدتين: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} فأوجب الشارع هنا القضاء، وأطلق في زمنه، فلم يُقيِّد ذلك بكونه بعد رمضان مباشرة، أو أن يكون هذا القضاء مُتتابعًا فدل على عدم وجوبهما ـ أعني الفور، والتتابع-، الثانية: المصلحة؛ حيث إن قضاء رمضان فورًا ومُتتابعًا فيه احتياط المسلم لنفسه؛ حيث يُسرع بإبراء ذمَّته، والإسراع في ذلك مُستحب، فإن قلتَ: إنه يجب أن يكون قضاء رمضان مُتتابعًا، وهو قول بعض العلماء؛ لقول الصحابي؛ حيث إن عائشة رضي الله عنها كانت تقول ذلك حتى أنها قرأت الآية السابقة:{فعدة من أيام أخر متتابعات} فهذا يدل على وجوبه قلتُ: يُحتمل أن يكون ذلك تفسيرًا منها للآية، ويُحتمل أنها قراءة لم تثبت صحتها، ويُحتمل أنه قول لها، وإذا تطرَّق الاحتمال إلى الدليل بطل به الاستدلال فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: تعارض قول الصحابي مع مطلق الآية" فعندنا:
عليه
(22)
(ولا يجوز) تأخير قضائه (إلى رمضان آخر من غير عذر)؛ لقول عائشة رضي الله عنها: "كان يكون علي الصوم من رمضان فما أستطيع أن أقضيه إلا في شعبان لمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متفق عليه،
(23)
فلا يجوز التَّطوُّع قبله ولا
يُعمل بالآية على إطلاقها، ولا يقوى قول الصحابي على تقييدها وعندهم: يُعمل بقول الصحابي، وهو مقيد لمطلق الآية.
(22)
مسألة: يُشترط فيمن لم يقضِ رمضان على الفور: أن يعزم وينوي أنه سيقضيه فيما بعد، وعلى ذلك: فلا يجوز تأخيره بدون عزم وقصد ذلك؛ للتلازم؛ حيث إن قضاء رمضان واجب موسَّع، وشرط الواجب الموسَّع: عدم جواز تأخيره عن أول وقته إلى وسط أو آخر وقته إلّا إذا عزم أنه سيفعله في وسط أو آخر وقته فيلزم هذا الشرط هنا؛ حيث إن تأخيره بدون عزم على فعله فيما بعد يُعتبر تركًا له مطلقًا، والواجب لا يجوز تركه مطلقًا، فإن قلتَ: لِمَ جاز ذلك بشرط: العزم على فعله؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه احتياط المسلم لدينه، إذ لو مات المسلم وهو لم يفعل الواجب، ولم يعزم على فعله: لكان عاصيًا؛ لكونه لم يخطر بباله أنه سيفعله، بخلاف ما لو عزم على فعله فيما بعد ثم مات فجأة: فإنه يموتُ مطيعًا؛ لكونه قد فعل ماله فعله من العزم على فعله مؤخرًا، وقد فصلتُ ذلك في كتابي:"الواجب الموسَّع عند الأصوليين".
(23)
مسألة: يجوز تأخير قضاء رمضان إلى قرب رمضان العام القادم إذا وُجد عذرًا كسفر، أو مرض، أو وجود زوج تُريد زوجته أن ترضيه إذا طلبها ونحو ذلك، فإن لم يُوجد عذر: فلا يجوز تأخيره؛ للسنة التقريرية؛ حيث إن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان يكون علي الصوم من رمضان فما أستطيع أن أقضيه إلا في شعبان لمكان رسول الله مني" ولم يُنكر عليها صلى الله عليه وسلم ذلك، ولا يجوز =
يصح
(24)
(فإن فعل) أيَّ أَخَّره بلا عذر: حُرِّم عليه، وحينئذ (فعليه مع القضاء إطعام مسكين لكل يوم) ما يُجزئ في كفارة، رواه سعيد بإسناد جيد عن ابن عباس، والدارقطني بإسناد صحيح عن أبي هريرة، وإن كان لعذر: فلا شيء عليه (وإن مات) بعد أن أخَّره لعذر: فلا شيء عليه، ولغير عذر: أُطعم عنه لكل يوم مسكين كما تقدَّم (ولو بعد رمضان آخر)؛ لأنه بإخراج كفارة واحدة زال تفريطه والإطعام من رأس ماله: أوصى به أو لا، وإن مات وعليه صوم كفارة: أُطعم عنه كصوم متعة،
(25)
ولا يُقضى عنه ما وجب بأصل الشرع: من صلاة وصوم (وإن
تأخير البيان عن وقت الحاجة، فإن قلتَ: لِمَ جاز ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه توسعة وتيسير على المسلمين، ومراعاة أحوال الناس.
(24)
مسألة: لا يجوز أن يصوم المسلم نفلًا وهو لم يقض ما عليه من الصيام الواجب: سواء كان ما عليه أيام من رمضان، أو نذر، أو كفارة، أو فدية، وإن صام نفلًا قبل الواجب: فلا يصح منه ذلك؛ للمصلحة؛ حيث إن صوم الواجب مُتعلّق بذمَّته، ولو مات قبل فعله تساهله فيه: فإنه سيُعاقب على ذلك، بخلاف النفل فلن يُعاقب على تركه مطلقًا فيلزم من ذلك: وجوب فعل ما سيُعاقب عليه -: وهو الواجب- قبل فعله للندب لإبراء ذمَّته وحصوله على أجره؛ لأن أجر الواجب أعظم بكثير من أجر النفل، وقد فصَّلتُ هذا في كتابي:"المهذَّب في أصول الفقه المقارن".
(25)
مسألة إذا وُجد عذر -كسفر أو مرض أو مراعاة زوج ونحوهاـ فأخَّر قضاء رمضان لهذا العام إلى ما بعد رمضان العام القادم: فإنه يقضي ولا إطعام عليه، وإن مات قبل القضاء: فلا يُقضى عنه، ولا يُطعم، أما إن لم يوجد عذر: فإنه يقضي وعليه إطعام مسكين عن كل يوم قضاه، يُعطيه عن كل مُدًّا من البر، أو الأرز، أو نصف صاع من غيره، أما إن مات: فلا قضاء ولكن يجب أن
مات وعليه صوم) نذر (أو حج) نذر (أو اعتكاف) نذر (أو صلاة نذر استُحب لوليه قضاؤه)؛ لما في الصحيحين: أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن إمِّي ماتت وعليها صوم نذر، أفأصوم عنها؟ قال:"نعم"، ولأن النيابة تدخل في العيادات بحسب خفَّتها، وهو أخفُّ حكمًا من الواجب بأصل الشرع، والولي هو: الوارث، فإن صام غيره: جاز مطلقًا؛ لأنه تبرُّع،
(26)
وإن خلَّف تركة: وجب الفعل،
يُطعم عن كل يوم مسكينًا ـكما سبق- يُؤخذ من تركته، وكذا: لو مات وعليه أيَّ نوع من أنواع الكفارات توجب صومًا: فإن الصوم يسقط، ويجب عليه الإطعام عن كل يوم مسكنًا، لقواعد: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} فأوجب الشارع على المفطر لعذر: أن يقضي فقط، وهذا مُطلق في الزمان، فلم يُقيَّد بكون القضاء بعد رمضان أو قبله، والميت ليس مخاطباً فيسقط القضاء عنه، الثانية: القياس بيانه: كما أن المتمتع بالحج إذا لم يقدر على الهدي: فإنه يجب عليه صيام عشرة أيام -ثلاثة في الحج وسبعة إذا رجع- فإن مات قبل ذلك -وهو متساهل في الصوم-: فإنه يُطعم عن كل يوم مسكينًا ـكما سبق-، فكذلك من مات وعليه قضاء رمضان يجب أن يُطعم عنه من ماله إذا أخَّره؛ تساهلًا وبدون عذر والجامع: التفريط في كل، الثالثة: قول الصحابي؛ حيث ثبت عن ابن عباس وابن عمر وأبي هريرة أنهم كانوا يُلزمون من لم يقض الأيام التي أفطرها من رمضان إلّا بعد الرمضان الثاني بغير عذر: بالقضاء والإطعام، فإن قلتَ: لِمَ يؤخذ الإطعام من مال الميت وإن لم يوص به؟ قلتُ: لكونه كالدين يخرج سواء أوصى أو لا، وسواء رضي الورثة أو لا.
(26)
مسألة: لا يجوز أن يُقضى عن شخص الصوم أو الصلاة الَّلذان وجبا بأصل الشرع، أما إن أوجب الشخص على نفسه شيئًا كان يقول: "نذرت أن أصوم،=
فيفعله الولي، أو يدفع إلى من يفعله عنه، ويدفع في الصوم عن كل يوم طعام مسكين، وهذا كله فيمن أمكنه صوم ما نذره فلم يصمه، فلو أمكنه بعضه قضى ذلك البعض فقط والعمرة في ذلك كالحج
(27)
.
أو أصلي أو أعتكف أو أحج أو اعتمر وتساهل بالوفاء بذلك، ومات: فإنه يستحب لأحد الورثة أن يفعل ذلك عنه إن لم يُخلف مالًا وإن تبرَّع غير الوارث بفعل ذلك: جاز؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم أمر امرأة أن تصوم عن أمِّها صوم نذر، وهذا الأمر للاستحباب، لكونه أوجبه على نفسه، وهو الصارف له، ونذر الحج والعمرة، والصلاة مثل الصوم؛ وغير الوارث كالوارث في قضاء المنذور؛ لعدم الفارق من باب "مفهوم الموافقة"؛ حيث إن كل واحد منهما متبرع، الثانية: التلازم؛ حيث إن الصوم والصلاة الواجبتين بأصل الشرع عبادتان بدنيتان لا تدخلهما النيابة، ولا يخلفهما مال، ولا يجب شيء منه لإفسادهما فيلزم من ذلك عدم جواز قضاء أحد عن أحد فيهما، فإن قلتَ: لِمَ استُحب قضاء ما نُذر من العبادات عن الميت، مع عدم جواز قضاء الصلاة والصوم المفروضتين من الشارع عنه؟ قلتُ: لأن النذر أوجبه على نفسه فيكون أخف في الوجوب مما أوجبه الله تعالى من الصلوات والصيام فتدخله النيابة -أقصد: المنذور- بخلاف ما أوجبه الله فنظرًا لثقله لا تدخله النيابة إلّا ما خصَّصه الشارع كالحج؛ نظرًا لاشتراك المال والبدن فيه، فإن قلتَ: لِمَ لا يجوز قضاء ما وجب بأصل الشرع كالصلاة والصوم؟ قلتُ: لأن المقصود من هذه العبادات طاعة العبد بنفسه، وقيامه بحق العبودية التي خُلق لها وأُمر بها، وهذا لا يؤدِّيه إليها غيره كما ذكر ذلك ابن القيم رحمه الله.
(27)
مسالة: إذا نذر شخص الصوم، وتساهل بفعل ذلك، ومات، وخلَّف مالًا فيجب على وارثه أن يصوم عنه، أو يدفع مالًا ويستأجر من يصوم عنه، =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ويُطعم عن كل يوم مسكينًا ربع صاع من البر أو الأرز، أو نصف صاع من غيرهما، ويقض ذلك الوارث ما تركه الناذر بدون عذر، ثم مات، أما ما لم يتمكن الناذر من فعله في حياته لعذر كاستمرار مرض ثم مات: فلا يقضيه الناذر؛ نظرًا لسقوطه عنه بالعذر، فمثلًا: لو نذر شخص أن يصوم عشرين يومًا فصام خمسة منها فقط، ثم مُرض بعدها فإنه لا يقضى عنه الباقي، أما إن نذرها ثم تركها بدون عذر: فإن الوارث يقضيها عنه، للتلازم؛ حيث إن الأيام المتروكة بدون عذر قد تُركت مع إمكان فعلها فيلزم فعلها منه، أو من وارثه، بخلاف الأيام المتروكة بعذر فقد تُركت مع عدم إمكان فعلها فيلزم عدم فعلها؛ لأن ذمته برأت بمجرَّد عدم قدرته على فعلها؛ لأن الواجب يسقط بالعجز عنه، تنبيه: قوله: "والعمرة في ذلك كالحج" يقصد في النذر والنيابة وقد سبق في مسألة (26).
هذه آخر مسائل باب "ما يُكره ويُستحب في الصوم وحكم القضاء" ويليه باب "صوم التطوع"
باب صوم التطوع
وفيه فضل عظيم؛ لحديث:" كل عمل ابن آدم له الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف فيقول الله تعالى: إلّا الصوم فإنه لي وأنا أجزئ به" وهذه الإضافة للتشريف والتعظيم
(1)
(يُسن صيام) ثلاثة أيام من كل شهر، والأفضل: أن يجعلها (أيام) الليالي (البيض): لما روى أبو ذر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "إذا صمت من الشهر ثلاثة أيام فصم ثلاثة عشر، وأربعة عشر، وخمسة عشر" رواه الترمذي، وحسَّنه، وسُمِّيت بيضًا؛ لبياض لياليها كلها بالقمر
(2)
(و) يُسنُ صوم (الاثنين والخميس)؛
باب صوم التطوع
وفيه سبع وعشرون مسألة:
(1)
مسألة: صوم التطوع فيه فضل عظيم؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى قال: كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزئ به يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي" ومعروف أن الكريم المستطيع إذا أخبر بأنه هو الذي سيتولَّى الجزاء بنفسه: فإنه يلزم منه: عِظم ذلك الجزاء وكثرة العطاء لكونه يعرف حقه، ولله المثل الأعلى، وهذا يُعتبر تشريفًا لذلك المجازَى والمعطَى، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه سدُّ ما نقص من فرض الصوم؛ ليكون العمل كاملًا؛ ليكمل الجزاء، وهذا مقصد كل تطوع من جنس الفرض، فإن قلتَ: لِمَ كانت تلك المنزلة للصائم؟ قلتُ: لأن الصوم سرٌّ بين العبد وربِّه، فلا يقوم به على أتم وجه إلّا من هو في غاية الإخلاص لله تعالى.
(2)
مسألة: يُستحب أن يصوم المسلم ثلاثة أيام من كل شهر، والأفضل: أن تكون هذه الأيام: أيام الليالي البيض وهي: الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس =
لقوله صلى الله عليه وسلم: "هما يومان تعرض فيهما الأعمال على رب العالمين، وأحبُّ أن يعرض عملي وأنا صائم" رواه أحمد والنسائي
(3)
(و) صوم (ست من شوال)؛ لحديث: "من صام رمضان وأتبعه بست من شوال فكأنما صام الدهر" أخرجه
عشر من كل شهر؛ للسنة القولية؛ حيث أمر النبي صلى الله عليه وسلم أبا ذر بأن يصومهن، وأوصى أبا هريرة بصيام ثلاثة أيام من كل شهر، فإن قلتَ: لِمَ استحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة وهي من وجهين: أولهما: أن أجر صيامه في هذه الثلاثة يعدل سنة كاملة؛ لأن الحسنة بعشر أمثالها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو بن العاص: "صم من الشهر ثلاثة أيام: فإن الحسنة بعشر أمثالها، وذلك مثل صيام الدَّهر"؛ حيث إنك إذا ضربت ثلاثة في عشرة: كان الناتج ثلاثين، فيكون أجره كأجر من صام شهرًا كاملًا، وهكذا في الشهر الثاني، والثالث وما بعدهما، ثانيهما: أن صيام تلك الأيام الثلاثة يتسبَّب في تنقية المعدة، وتصفية العروق، وتنظيم الدورة الدموية، فإن قلتَ: لِمَ كانت أيام ليالي البيض أفضل من غيرها؟ قلتُ: لأن لياليها تكون بيضاء بسبب نور القمر، وهذا يُسبِّب بقاء الفضلات بالجسم؛ نظرًا لقوة نور القمر، فمن صامها: سلم بإذن الله من شر تلك الفضلات.
(3)
مسألة: يُستحب أن يصوم المسلم يوم الاثنين والخميس من كل أسبوع؛ للسنة الفعلية؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم يصومهما، فإن قلتَ: لِمَ استحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن الأعمال تُعرض على الخالق في هذين اليومين، فإذا عُرض عمل المسلم على الله وهو صائم فإن الأجر والثواب يكون أعظم؛ لكونه في حال تذلُّل ومسكنة فتكون رحمته أقرب قال صلى الله عليه وسلم:"إن أعمال الناس تُعرض يوم الاثنين والخميس على رب العالمين، وأحبُّ أن يُعرض عملي وأنا صائم".
مسلم
(4)
ويستحب تتابعها، وكونها عقب العيد؛ لما فيه من المسارعة إلى الخير
(5)
(و) صوم (شهر المحرَّم)؛ لحديث: "أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرَّم" رواه
(4)
مسألة: يُستحب أن يصوم المسلم ستة أيام من شهر شوال بشرط: أن يكون قد أكمل صيام شهر رمضان، وعليه: فلا يجوز صيام ستٍ من شوال، وعليه بعض أيام من رمضان، وإن صامها قبل قضاء ما عليه من رمضان: فلا يصح صيامه؛
للسنة القولية؛ حيث قال: صلى الله عليه وسلم "من صام رمضان وأتبعه بست من شوال فكأنما صام الدَّهر" حيث بيَّن استحباب صيام هذه الأيام بعد إتمام صيام شهر رمضان؛ لأن لفظ "وأتبعه" يلزم منه ذلك؛ لأن الثاني لا يكون تابعًا للأول إلا إذا تمَّ الأول بكماله، يؤيده أن صيام تلك الأيام نافلة، لا يُعاقب على تركها مطلقًا، وقضاء رمضان واجب، يُعاقب على تركها مطلقًا، فيلزم منه: تقديم ما سيُعاقب عليه بالفعل كما سبق في مسألة (24) من باب "ما يكره ويُستحب في الصوم وحكم القضاء"، فإن قلتَ: لِمَ استحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تكميل سنة كاملة؛ حيث إن الحسنة بعشر أمثالها؛ لأن صيام شهر رمضان يكون عن عشرة أشهر، وصيام هذه الستة الأيام يكون عن شهرين فهذه سنة كاملة، أيَّ: لو ضربت عشرة في ثلاثين يومًا: لكان الناتج: ثلاثمائة يوم، ولو ضربت عشرة في ستة أيام: لكان الناتج: ستين يومًا: فيكون المجموع ثلاثمائة وستين يومًا، وهو عدد أيام السنة كاملة.
(5)
مسألة: يُستحب أن يصوم المسلم الستة الأيام من شوال بعد يوم عيد الفطر مباشرة، وأن تكون متتابعة؛ للمصلحة؛ حيث إن فعلها كذلك أحزم، وخير الأعمال أحزمها وأسرعها إلى الخير، ولأن ذلك أيسر في الصوم؛ لكونها تأتي بعد يوم العيد مباشرة؛ حيث إن النفس قد تعلَّمت على الصوم فلا يثقل على المسلم.
مسلم
(6)
(وآكده العاشر، ثم التاسع)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لئن بقيتُ إلى قابل لأصومن التاسع والعاشر" احتَّج به أحمد،
(7)
وقال:"إن اشتبه عليه أول الشهر: صام ثلاثة
(6)
مسألة: يُستحب أن يصوم المسلم شهر المحرَّم، وهو الشهر الأول من شهور السنة الهجرية؛ للسنة القولية؛ حيث قال: صلى الله عليه وسلم أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرَّم" فإن قلتَ: لِمَ استحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن إضافته إلى الله قد زاده تشريفًا وتعظيمًا؛ حيث إنه "شهر الله المحرم" وهو مثل قولهم: "بيت الله"؛ وهو أفضل الأشهر بعد رمضان، فيليه في الرتبة من حيث الفضل، فإن قلتَ: لا يُستحب صيامه؛ للسنة الفعلية؛ حيث لَم يرد عنه صلى الله عليه وسلم أنه صامه، أو أكثر الصيام فيه، وهذا يلزم منه عدم استحباب صيامه؟ قلتُ: قد بيَّن صلى الله عليه وسلم فضل صيامه بالقول ودلالته أقوى من دلالة الترك؛ لأن تركه صلى الله عليه وسلم صيامه قد يكون لانشغاله بشيء أهم، وقد يكون لم يعلم فضله إلا في آخر عمره لما ضعُف، وإذا تطرق الاحتمال إلى الدليل بطل به الاستدلال فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض السنة القولية مع الفعلية" فعندنا يُعمل بالقولية؛ لضعف الفعلية؛ نظرًا لاحتمالها، وعندهم يُعمل بالفعلية.
(7)
مسألة: يُستحب صوم يوم عاشوراء -وهو اليوم العاشر من المحرَّم- استحبابًا مؤكدًا، ويُستحب صوم يوم قبله أو يوم بعده؛ للسنة القولية؛ حيث قال ابن عباس رضي الله عنه:"أمر النبي صلى الله عليه وسلم بصوم يوم عاشوراء: العاشر من المحرم" وقال صلى الله عليه وسلم: "لئن بقيتُ إلى قابل لأصومن التاسع والعاشر" وقال: "صوموا يومًا قبله أو يومًا بعده" والذي صرف الأمر من الوجوب إلى الندب هو: أنه لم يرد إلا وجوب صوم رمضان، فإن قلتَ: لِمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إنه يُكفِّر ذنوب السنة الماضية كما ورد، حيث إن هذا الصيام جاء شكرًا لله تعالى على أنه أنقذ موسى عليه السلام وقومه، وأهلك فرعون وقومه - وبالشكر
أيام؛ ليتيقن صومهما، وصوم عاشوراء كفَّارة سنة،
(8)
ويُسنُّ فيه التُّوسعة على العيال
(9)
(و) صوم (تسع ذي الحجة)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "ما من أيام العمل الصالح فيهن أحبُّ إلى الله من هذه الأيام العشر" قالوا يا رسول الله: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال:" ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك
تدوم النعم -وكان اليهود يصومونه، فلما رآهم صلى الله عليه وسلم قال:"أنا أحق بموسى منكم فصامه وأمر الناس بصيامه"، واستُحب صيام يوم قبله، أو يوم بعده: لمخالفة اليهود فيما يفعلون كما ورد عنه صلى الله عليه وسلم.
(8)
مسألة: إذا اختلط على المسلم حساب شهر المحرم، فلا يعلم بالتَّحديد متى دخل؟: فإنه يُستحب أن يصوم التاسع والعاشر، والحادي عشر؛ للتلازم؛ حيث يلزم من ذلك: تيقنه صوم اليوم العاشر، وصوم يوم قبله أو بعده، وهذا للاحتياط، وهو المقصد منه، تنبيه: قوله: وصوم عاشوراء كفارة سنة" قد سبق بيانه في مسألة (7).
(9)
مسألة: لا يُشرع فعل أيِّ شيء في يوم عاشوراء غير الصوم فقط، وبناء عليه: فلا يُشرع التوسعة على العيال بالنفقة، أو الاكتحال، أو الاغتسال، أو إظهار السرور، أو اتخاذ أطعمة غير معتادة كطبخ الحبوب كما يفعله بعض الناس في يوم عاشوراء؛ للسنة القولية؛ حيث قال: صلى الله عليه وسلم من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد" وهذا عام لما نحن فيه؛ لأن "مَنْ" الشرطية من صيغ العموم؛ حيث لم يرد عنه صلى الله عليه وسلم، ولا عن أصحابه أنهم فعلوا شيئًا في يوم عاشوراء غير الصوم، فتكون هذه الأعمال مردودة؛ لكونها بدع لا أصل لها، فإن قلتَ: يُستحب التوسعة على العيال وهو ما ذكره المصنف هنا قلتُ: لم أجد دليلًا قويًا على ذلك، بل الدليل على خلافه.
بشيء" رواه البخاري
(10)
(و) آكده (يوم عرفة لغير حاج بها) وهو كفارة سنتين؛ لحديث: "صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يُكفِّر السنة التي قبله، والسنة التي بعده وقال ـفي صيام يوم عاشوراء-: "إني أحتسب على الله أن يُكفِّر السنة التي قبله " رواه مسلم
(11)
ويلي يوم عرفة في الآكدية: يوم التروية -وهو: اليوم
(10)
مسألة: يُستحب أن يصوم المسلم تسع ذي الحجة ـمن أوله إلى آخر اليوم التاسع-؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "ما من أيام العمل الصالح فيهن أحبُّ إلى الله من هذه الأيام العشر" يقصد عشر ذي الحجة، قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله قال: "ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء" حيث يلزم من مقارنته العمل في تلك الأيام بالجهاد في سبيل الله: عِظم الأجر بالعمل بها، والصوم من العمل، فيكون الصيام فاضلًا فيها، بل أفضل الأعمال، وإطلاق العشر على الأيام التسعة مجازًا من باب إطلاق الكل على الأكثر وهذا يدل على وقوع المجاز في السنة، فإن قلتَ: لَم كانت هذه المنزلة لتلك الأيام؟ قلتُ: لكونها واقعة في أيام الحج، فيُشارك غير الحاج من حجَّ بالأجر، لذا: وُجد شبه بين ذلك والجهاد؛ إذ الحج جهاد لا قتال فيه، والمراد بالتشبيه هنا بيان عظم أجر من عمل بتلك الأيام من صيام وغيره.
(11)
مسألة: يُستحب لغير الحاج أن يصوم يوم عرفة استحبابًا مؤكدًا، وصيامه أفضل من صيام يوم عاشوراء؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم -لما سئل عن صوم يوم عرفة-: إن أحتسب على الله أن يُكفِّر السنة التي قبله والسنة التي بعده" في حين أنه قال في صوم يوم عاشوراء: "إني أحتسب على الله أن يُكفِّر السنة التي قبله" ولا شك أن ما يُكفِّر ذنوب سنتين أفضل من الذي يُكفِّر ذنوب سنة، وهذا هو المقصد من هذا الحكم، فإن قلتَ: لِمَ لا يُستحب صيام يوم عرفة للحاج؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن صيامه وهو حاج سيُضعف من قوته مما يتسبَّب في إلحاق المشقة عليه في حجه، فلذا: لا يُشرع صومه فيه.
الثامن -
(12)
(وأفضله) أيَّ: أفضل صوم التطوع (صوم يوم وفطر يوم)؛ لأمره صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عمرو، وقال:"هو أفضل الصيام" متفق عليه
(13)
وشرطه: أن لا يُضعف البدن حتى يعجز عما هو أفضل من الصيام كالقيام بحقوق الله تعالى، وحقوق عباده الَّلازمة، وإلا: فتركه أفضل
(14)
(ويُكره إفراد رجب) بالصوم؛ لأن فيه إحياء
(12)
مسألة: يُستحب صوم يوم التروية -وهو: اليوم الثامن من ذي الحجة - وهو داخل ضمن الأيام التسعة من ذي الحجة- كما سبق في مسألة (10) ـفإن قلتَ: إنه يُستحب صومه استحبابًا مؤكدًا يلي في الآكدية صوم يوم عرفةـ وهو قول المصنف هنا - قلتُ: لم أجد دليلًا على استحبابه مؤكدًا.
(13)
مسألة: أفضل صيام التطوع: صوم يوم، وفطر يوم؛ للسنة القولية: حيث قال صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو بن العاص: "صم يومًا وأفطر يومًا، فذلك صيام داود، وهو أفضل الصيام" فإن قلتَ: لِمَ كان ذلك الأفضل؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك أرفق بالمسلم، وأدوم له على الإكثار منه، وشيء قليل يُداوم عليه خير من كثير ينقطع؛ لأن أفضل العمل عند الله أدومه وإن قلّ" كما ورد.
(14)
مسألة: يُشترط في صوم التطوع: أن لا يُؤثَّر على بدن أو نفس ذلك الصائم فيتسبَّب في ضعفه عن أداء الواجبات من حقوق الله أو حقوق الآدميين، فإن كان الصوم يؤثَّر عليه أو على أيَّ شيء مما هو أفضل منه عنده: فالأفضل ترك الصيام؛ لقاعدتين: الأولى: التلازم؛ حيث يلزم من وجوب الشيء على المسلم: أن يُقدِّم فعله على أي مستحب؛ لأن الواجب لا يسقط إلا بفعله، وسيُعاقب على تركه بخلاف المستحب مهما كان فاضلًا ومؤكدًا فلن يُعاقب على تركه، ولن يُذم وهو المقصد، الثانية: قول الصحابي؛ حيث إنه قيل لابن مسعود: إنا نراك تقلُّ من الصوم؟ فقال: "إن أخاف أن تضعف نفسي عن القراءة، والقرآن أحبُّ إلي من الصيام" فإذا كان يترك صوم التطوع لخوفه من أن يضعف عن=
لشعار الجاهلية، فإن أفطر منه، أو صام معه غيره: زالت الكراهة
(15)
(و) كُره إفراد يوم (الجمعة)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تصوموا يوم الجمعة إلا وقبله يوم أو بعده يوم" متفق عليه (و) كُره إفراد يوم (السبت)؛ لحديث: "لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم" رواه أحمد،
(16)
وكُرِه صوم يوم النَّيروز، والمهرجان، وكل عيد
قراءة القرآن وهي مُستحبة، فمن باب أولى أن يترك صوم التطوع من أجل أن لا يضعف بدنه عن القيام بالواجبات، وهذا من باب مفهوم الموافقة الأولى.
(15)
مسألة: يُكره أن يُفرد المسلم شهر رجب بالصوم بكامله، لكن إن صام بعضه فقط، أو صامه كاملًا مع صيام أيام من شهر جمادى الثانية، أو أيام من شهر شعبان: فلا يُكره؛ لقول الصحابي؛ حيث "إن أبا بكر وعمر وابنه وابن عباس رضي الله عنه كانوا ينهون عن إفراده بالصوم" والذي صرف هذا النهي من التحريم إلى الكراهة هي: المصلحة؛ حيث إن المقصود من ذلك مخالفة أهل الجاهلية؛ حيث إنهم كانوا يُعظمَّون هذا الشهر، لذا لا يحلُّون فيه القتال، حتى أن قبيلة "مُضر" إذا قُتل منهم أحد فيه لا يُطالبون بدمه إلا بعد خروج هذا الشهر لذا سُمِّي بـ"رجب مُضر" ومعروف أن مخالفة الكفار مقصد شرعي، يؤجر عليه المسلم، وفيه سدُّ ذريعة اتخاذ شهر من شهور السنة وإفراده بعبادة لم يأذن الله به أما إذا لم يصمه كله أو صام معه غيره فلا إفراد في ذلك فلم يُكره.
(16)
مسألة: يُكره إفراد يوم الجمعة بالصوم، وإفراد يوم السبت بالصوم، وإفراد يوم الأحد بذلك، أما إن صام مع الجمعة يومًا قبله أو بعده، أو صام السبت ويومًا قبله أو بعده، أو صام الأحد ويومًا قبله أو بعد: فلا كراهة؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث "انهى صلى الله عليه وسلم عن إفراد يوم الجمعة والسبت بالصوم" والذي صرف هذا النهي من التحريم إلى الكراهة هو: جواز صيام الجمعة والسبت إذا صام يومًا قبل ذلك أو يومًا بعده، الثانية: القياس، بيانه: كما =
للكفار، أو يوم يُفردونه بالتعظيم
(17)
(و) يوم (الشك) وهو: يوم الثلاثين من شعبان إذا لم يكن غيم ولا نحوه؛ لقول عمار: من صام اليوم الذي يُشك فيه فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم" رواه أبو داود، والترمذي، وصححه، والبخاري تعليقًا،
(18)
يكره إفراد السبت بالصوم فكذلك يُكره إفراد الأحد بالصوم، والجامع: أن كلًّا منهما مُعظَّم عند الكفار؛ حيث إن يوم السبت معظَّم عند اليهود؛ لأنهم يعتقدون أن تمام الخلق وقع فيه، ويوم الأحد معظَّم عند النصارى؛ لأنهم يعتقدون أن بدء الخلق وقع فيه، فإن قلتَ: لِمَ كُره أفراد الجمعة، والسبت والأحد، بالصوم؟ قلتُ: لأن يوم الجمعة يوم عيد الأسبوع، ويوم العيد يُفطر فيه ـكما قال النووي-، وكذا هو يوم ذكر ودعاء وعبادة وذهاب إلى صلاة الجمعة وذلك يشق مع الصوم، فدفعًا لذلك: كُرِه صيامه، أما السبت والأحد فكره إفرادهما بالصوم؛ لئلا يقع في ذلك التعظيم الذي يعتقده الكفار لهما، فيكون في ذلك تشبه بهم.
(17)
مسألة: يُكره أن يُفرد المسلم أيَّ يوم يُعظَّمه الكفار بالصوم كيوم النيروز، ويوم المهرجان، ويوم الفصح، ويوم النور، ويوم العيد الكبير، ونحوها؛ للمصلحة؛ حيث إن صيامها فيه نوع تعظيم لها، فتحصل موافقته للكفار في تعظيمها، وقد يتأثَّر المسلم بذلك، فدفعًا لذلك كُرِه، فائدة: المراد بيوم النيروز هو: أول يوم تنتهي فيه الشمس إلى أول بُرج الحمل عندهم، وهو عيد لهم، وهو وقت اعتدال ربيعي، والمراد بيوم المهرجان: أول يوم من السنة القبطية، وهو وقت الاعتدال الخريفي.
(18)
مسألة: يُكره أن يُفرد المسلم يوم الشك بالصوم تطوعًا ـوهو: اليوم الذي يلي التاسع والعشرين من شعبان وبعض يتحدَّث برؤيته ولكنه لم يثبت-، أما إن وافق هذا اليوم: يوم خميس أو اثنين وكان من عادته صومهما، أو كان يصوم واجبًا واجبًا من قضاء، أو نذر أو كفارة: فلا يُكره صومه؛ للسنة القولية؛
ويُكره الوصال، وهو أن لا يُفطر بين اليومين، أو الأيام،
(19)
ولا يُكره إلى السَّحر، وتركه أولى
(20)
(ويحرم صوم) يومي (العيدين) إجماعًا؛ للنهي المتفق عليه (ولو في
وهي من وجهين: أولهما: قول عمار: "من صام اليوم الذي يُشك فيه فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم " والمقصود أن المشكوك في وجوبه لا يجب فعله، ولا يُستحب، بل تركه أولى؛ احتياطًا، ثانيهما: قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تقدموا رمضان بصوم يوم أو يومين إلا رجل كان يصوم صومًا فليصمه" والذي صرف هذا النهي من التحريم إلى الكراهة هو: أن ذلك قُصد منه الاحتياط؛ لئلا يُخذ ذريعة إلى أن يُلحق بالفرض ما ليس منه، وهذا الحديث دال على إثبات جواز هذا اليوم لرجل قد اعتاد صوم الاثنين أو الخميس ووافق هذا اليوم أحدهما، أو كان يصوم صوم واجب؛ لأن الاستثناء من النفي إثبات، فائدة: لا يجوز لأحد أن يتكنَّى بأبي القاسم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لئلا يختلط بكنيته صلى الله عليه وسلم، أما بعد وفاته فيجوز؛ لعدم المانع، فائدة أخرى: الحديث المعلَّق: ما حُذف من مبدأ إسناده را و فأكثر على التوالي.
(19)
مسألة يُحرَّم الوصال وهو: أن يصوم اليومين أو الثلاثة بدون إفطار بالليل؛ للسنة القولية؛ حيث "نهى صلى الله عليه وسلم عن الوصال" فقالوا: إنك تواصل، قال:"إني لستُ مثلكم إني أُطعم وأُسقى " والنهي هنا مُطلق، فيقتضي التحريم، ولا صارف له، فإن قلتَ: لِمَ حرم ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك مضرَّ بالمسلم ضررًا بليغًا، فدفعًا لذلك حرم، أصله قوله صلى الله عليه وسلم:"لا ضرر ولا ضرار في الإسلام"، فإن: قلتَ: إن الوصال مكروه -وهو ما ذكره المصنف هنا؟ قلتُ: لا دليل على ذلك، ولم أجد صارفًا قد قوي على صرف النهي هنا إلى الكراهة.
(20)
مسألة: يُباح أن يواصل صومه من فجر يوم السبت إلى قبيل الفجر من يوم الأحد -وهو: السحر- مثلًا، ولكن الأفضل ترك ذلك، وأن يُعجِّل الفطر؛=
فرض و) يحرم (صيام أيام التشريق)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر الله" رواه مسلم
(21)
(إلا عن دم متعة وقِران) فيصح صوم أيام التشريق لمن
للسنة القولية، وهي من وجهين أولهما قوله صلى الله عليه وسلم:"فأيُّكم أراد أن يُواصل فليواصل إلى السحر" وهذا الأمر للإباحة؛ لأنه ورد بعد النهي عن الوصال، ثانيهما: قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يزال الناس بخير ما عجَّلوا الفطر" حيث دلَّ بمفهوم الصفة على أن المؤخر للفطر -وهو المواصل إلى السحر- يُحرم من تلك الخيرية، فإن قلتَ: لو لم يكن في الوصال إلى سحر خير وفضل لما أباحه صلى الله عليه وسلم في الحديث الأول قلتُ: لا شك أن في وصال الصوم إلى سحر الله تعالى أجر عظيم؛ للمشقة التي يعانيها في ذلك، لكن هذا الأجر لا يُساوي أجر تعجيل الفطر وعدم الوصال؛ لأن دفع المفسدة مقدم على جلب المصلحة.
(21)
مسألة: يحرم صوم يوم عيد الفطر، ويوم عيد الأضحى، للسنة القولية؛ حيث نهى صلى الله عليه وسلم عن صوم يومي العيدين، والنهي مطلق، فيقتضي التحريم، فإن قلتَ: لِمَ حرم ذلك؟ قلتُ: لأن صيام يوم عيد الفطر فيه ذريعة إلى الزيادة على صوم الواجب -وهو رمضان- وهو منهي عنه، ولأن يوم عيد الأضحى، يوم ضيافة الله لعباده، وفي صومهما إعراض عن تلك الضيافة، وهذا لا يجوز، ولأن إباحة الذبح في يوم الأضحى لا يجتمع مع الصوم؛ فإن قلتَ: لِمَ سُمِّيت بأيام التشريق؟ قلتُ: لأن الناس كانوا يضعون لحوم الأضاحي في الشمس حتى تُشرق عليها بعد ما يضعون فيه الملح، فييبس تحت ضوء الشمس، ثم يجمعونه بعد ذلك في أكياس، فيأكلون منه شهورًا، لذلك نهى صلى الله عليه وسلم عن ادخار لحوم الأضاحي من أجل فقراء أحاطوا بالمدينة في عام من الأعوام وذلك ليتصدقوا باللحم عليهم فلا يدَّخروه. تنبيه: قد سبق بيان حكم صوم أيام التشريق، وأنه مختلف فيه في الفرع التابع لمسألة (22) من "حقيقة الصيام وحكمه وأحكام نيته .. "
عدم الهدي؛ لقول ابن عمر وعائشة: "لم يُرخص في أيام التشريق أن يُصمن إلا لمن لم يجد الهدي" رواه البخاري
(22)
(ومن دخل في فرض موسَّع) من صوم أو غيره: (حُرِّم قطعه) كالمضيَّق، فيحرم خروجه من الفرض بلا عذر، لأن الخروج من عهدة الواجب مُتعيِّن، ودخلت التوسعة في وقته؛ رفقًا ومظنة للحاجة، فإذا شرع: تعيَّنت المصلحة في إتمامه،
(23)
(ولا يلزم) الإتمام (في النفل) من صوم وصلاة، ووضوء
(22)
مسألة: يجوز للمتمتع والقارن في الحج أن يصوم أيام التشريق إذا لم يجد الهدي، للسنة القولية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد رخَّص في ذلك ـكما قال ابن عمر وعائشة رضي الله عنها-؛ فإن قلتَ: لِمَ جاز ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن غير القادر على الهدي قد لا يجد إلا تلك الأيام الثلاثة ليصومها في الحج حيث إن الواجب عليه صيام عشرة أيام عن الهدي: ثلاثة في الحج، وسبعة إذا رجع إلى أهله، فأباح له صيامها؛ توسعة منه سبحانه.
(23)
مسألة: يجب على المسلم إذا دخل في واجب موسَّع: أن يُتمُّه، ولا يجوز قطعه بلا عذر فلو دخل في قضاء رمضان، أو صوم نذر أو نحو ذلك: فلا يجوز قطعه إلا بعذر؛ للقياس، بيانه: كما أنه لا يجوز قطع صيام الواجب المضيِّق وهو رمضان إذا دخل فيه إلا بعذر -من سفر ومرض ونحوهما- فكذلك الواجب الموسَّع إذا دخل فيه والجامع: أن كلًّا منهما قد تعيَّن صومه، فالواجب المضيق قد عيَّنه الله تعالى، والواجب الموسَّع قد عيَّنه المكلَّف نفسه بالدخول فيه؛ لما في التعيين من المصلحة التي ترجَّحت على مصلحة التوسعة التي شرعها الشارع رحمة بالعبد، وقد فصَّلتُ الكلام عن هذا في كتابي:"الواجب الموسَّع عند الأصوليين"، وقلتُ فيه: إن هذا من الأقسام التي ينقلب فيها الموسَّع إلى مضيق.
وغيرها؛ لقول عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله: لقد أهدي لنا حيس، فقال:"أرنيه فلقد أصبحتُ صائمًا فأكل"، رواه مسلم وغيره، وزاد النسائي بسند جيد:"إنما مثل صوم التطوع مثل الرجل يخرج من ماله الصدقة فإن شاء أمضاها، وإن شاء حبسها" وكُره خروجه منه بلا عذر (ولا قضاء فاسده) أيَّ: لا يلزم قضاء ما فسد من النفل
(24)
(إلا الحج) والعمرة فيجب إتمامهما؛ لانعقاد الإحرام لازمًا، فإن
(24)
مسألة: لا يجب إتمام النفل من صوم وصلاة بمجرَّد الشروع والدخول فيه، وبناء على ذلك: يُباح الخروج من النفل متى شاء، بلا عذر، ولا إثم، ولا يقضي ما فسد منه؛ لقاعدتين؛ الأولى: السنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد صام تطوعًا، فأكل في النهار وهذا مطلق؛ حيث لم يرد أنه بعذر أو لا، ولم يرد أنه قضاه ولا بيَّن وجوب قضائه، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، الثانية: فعل الصحابي؛ حيث ثبت عن ابن عباس وابن عمر وابن مسعود رضي الله عنهم أنهم كانوا يُصبحون صائمين تطوعًا، ثم يُفطرون بالنهار، وهذا مطلق، فلم يرد أن ذلك كان بعذر أو لا، ولم يرد عنهم أنهم قضوا ذلك، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تيسير المندوبات، وإعانة على تكثيرها؛ إذ التوسعة في الشيء يُسهِّل أمر إيقاعه؛ إذ لو وجب النفل بالشروع فيه لشق ذلك على الناس، فإن قلتَ: إن النفل يلزم بالشروع فيه، وإذا أفسده بلا عذر فيجب قضاؤه وهو قول أبي حنيفة وكثير من العلماء، وتبعهم ابن عثيمين؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها:"اقضيا يومًا مكانه" لما قالتا له إنا أصبحنا، صائمتين فلما أهدي إلينا حيس أفطرنا عليه في النهار، والأمر هنا للوجوب؛ لأنه مطلق، ولا يمكن ذلك إلا إذا كان النفل يلزم بالشروع فيه قلتُ: هذا الحديث ضعيف بناء على قول كثير من أئمة الحديث، وعلى فرض قوته: فيُحمل الأمر هنا على أمر الاستحباب فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض السنة القولية مع الفعلية" فنعمل بالسنة =
أفسدهما، أو فسدا لزمه القضاء
(25)
(وتُرجى ليلة القدر في العشر الأخير) من رمضان؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "تحرَّوا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان" متفق عليه وفي الصحيحين: "من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا: غُفر له ما تقدَّم من ذنبه" زاد أحمد "وما تأخرَّ" وسُمِّيت بذلك؛ لأنه يُقدَّر فيها ما يكون في تلك السنة، أو لعظم قدرها عند الله، أو لأن للطاعات فيها قدراً عظيماً، وهي أفضل الليالي، وهي باقية لم تُرفع؛ للأخبار (وأوتاره أكد)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"اطلبوها في العشر الأواخر: في ثلاث بقين، أو سبع بقين، أو تسع بقين"(وليلة سبع وعشرين أبلغ) أي: أرجاها؛ لقول
الفعلية؛ لضعف القولية، وهم عملوا بالقولية؛ لقوتها عندهم، فإن قلتَ: يُكره خروجه من النفل بلا عذر وهو ما ذكره المصنف، قلتُ: لم أجد دليلًا على هذه الكراهية؛ إلا مراعاة الخلاف وليس بدليل مُعتبر.
(25)
مسألة: الحج والعمرة يلزمان بالشروع فيهما، ويقضيان إذا فسدا: سواء كانا واجبين أو مستحبين، فلو حج مسلم نفلًا، ثم أفسد ذلك بالجماع قبل التحلل الأول: فإنه يلزمه إتمامه، وعليه قضاؤه من العام المقبل، وعليه كفارة وهي: ذبح بدنة، وإن دخل في عمرة نفلًا ثم أفسدها: فعليه أن يتمها، ثم يُعيدها كاملة، وعليه ذبح شاة؛ لقاعدتين: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ} وهذا عام في الواجب والنفل والأمر في الإتمام مطلق، فيقتضي وجوب الإتمام، الثانية: القياس، بيانه: كما أن العلماء أجمعوا على أن الكفارة واجبة في إفساد الحج والعمرة بالجماع قبل التحلُّل الأول، ولا يُفرقون بين النفل والواجب في ذلك، فكذلك قضاؤهما يجب، ولا يُفرق بين نفله وواجبه، والجامع: أن كلًّا منهما قد انعقد الإحرام فيه لازمًا، ولا يمكن الخروج منهما بالمحظورات، وهذا هو المقصد وسيأتي بيانه في الحج إن شاء الله.
ابن عباس وأبي بن كعب، وغيرهما وحكمة إخفائها: ليجتهدوا في طلبها
(26)
(26)
مسألة: يُرجى أن تكون ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان، ويُتأكد طلبها في الوتر من ليالي العشر، أيَّ: في ليلة الواحد والعشرين، وفي ليلة الثالث والعشرين، وفي ليلة الخامس والعشرين، وفي ليلة السابع والعشرين، وفي ليلة التاسع والعشرين من رمضان، وكونها ليلة السابع والعشرين أكد تلك الليالي، وهي باقية في الأمة الإسلامية إلى قيام الساعة، لم ترفع، وهي من خصائص هذه الأمة، وهي أفضل ليالي السنة؛ لقواعد: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} حيث إن هذا عام في الأزمان، فلم يُخصَّص زمن بها دون زمن فيلزم من ذلك: عدم رفعها، وهو يدل على أن العمل فيها خير من العمل في ألف شهر -وهو ما يُعادل ثلاثًا وثمانين عامًا تقريبًا-، الثانية: السنة القولية وهي من وجوه: أولهما: قوله صلى الله عليه وسلم: "التمسوها في العشر الأواخر في الوتر منها" حيث بيَّن أنها تتأكد في ليالي الوتر منها، وهذا عام لجميع المسلمين إلى قيام الساعة؛ لأن "الواو" من صيغ العموم، ثانيها: قوله صلى الله عليه وسلم: "اطلبوها في العشر الأواخر في ثلاث بقين، أو سبع أو تسع بقين"، ثالثها: قوله صلى الله عليه وسلم: "من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا: غفر له ما تقدم من ذنبه" حيث دل هذا على أنها أفضل الليالي والأيام أيضًا، الثالثة: قول الصحابي؛ حيث إنه قد ثبت عن ابن عباس وأُبي بن كعب أنهما قالا: "إنها سبع وعشرين من رمضان" فإن قلتَ: لِمَ أُخفيت ليلة القدر؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن إخفائها يجعل المسلم يجتهد في العبادة في تلك العشر الأواخر لعلَّه يُصيبها، كما أُخفيت ساعة الإجابة في يوم الجمعة، فإن قلتَ: لِمَ سُمِّيت بهذا الاسم؟ قلتُ: لأنه يُقدَّر فيها تقديرًا خاصًا الأرزاق، والأعمار، والآجال ما سيكون في تلك السنة إلى مثلها من السنة المقبلة، وهو قول أكثر
(ويدعو فيها)؛ لأن الدعاء مُستجاب فيها (بما ورد) عن عائشة قالت: يا رسول الله: إن وافقتها فِيمَ أدعو؟ قال: "قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني" رواه أحمد وابن ماجه، وللترمذي: معناه وصحَّحه، ومعنى: العفو: الترك، وللنسائي من حديث أبي هريرة مرفوعًا:"سلوا الله العفو والعافية والمعافاة الدائمة، فما أُوتي أحد بعد يقين خيرًا من معافاة" فالشر الماضي يزول بالعفو، والحاضر بالعافية، والمستقبل بالمعافاة؛ لتضمُّنها دوام العافية.
(27)
العلماء؛ للكتاب؛ حيث قال تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} فإن قلتَ: لِمَ تتأكد في الوتر من الليالي؟ قلتُ: لأن الله وتر يحب الوتر. [فائدة]: علامة ليلة القدر: طلوع الشمس في صبيحتها صافية ليس لها شُعاع، مخالفة بذلك عادتها، ومن صادفها فإنه يشعر بانبساط في نفسه؛ وانشراح في صدره، وطمأنينة في قلبه؛ وراحة في بدنه أكثر مما يجده في الليالي العادية، ويكثر رزقه، وتقلُّ مصائبه بمشيئة الله تعالى.
(27)
مسألة: يُستحب أن يكثر المسلم الدعاء في ليلة القدر، وأفضل الأدعية ما ورد وهو:"اللهم إنك عفو تحب العفو فاعفو عني" و "اللهم إن أسألك العفو والعافية والمعافاة الدائمة" ويدعو بما شاء مما يحتاجه في الدنيا والآخرة؛ للسنة القولية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد أرشد عائشة لهذا، فإن قلتَ: لِمَ استحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن هذا الوقت: وقت إجابة، وهذا الدعاء مُتضمِّن لزوال الشرور الماضية، والحاضرة، والمستقبلة، مما يُؤدِّي إلى الصلاح والفلاح في الدنيا والآخرة.
هذه آخر مسائل باب "صوم التطوع" ويليه باب "الاعتكاف"
باب الاعتكاف
(هو) لغة: لزوم الشيء ومنه: {يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ} واصطلاحًا: (لزوم مسجد) أيَّ: لزوم مسلم عاقل ولو مميزًا لا غُسل عليه مسجدًا ولو ساعة (الطاعة الله تعالى)،
(1)
ويُسمَّى
باب الاعتكاف
وفيه إحدى وأربعون مسألة:
(1)
مسألة: الاعتكاف لغة: لزوم الشيء والمداومة عليه، والاحتباس عنده ومنه قوله تعالى:{يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ} وقوله: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} أيَّ ملازمون لها، وهو اصطلاحًا:"أن يلزم مسلم عاقل مسجدًا وهو غير محدث حدثًا أكبر ولو ساعة لأجل طاعة الله تعالى" وقُيِّد بـ "مسلم" لإخراج الكافر الأصلي والمرتد؛ لعدم صحة النية منه وهو في حال كفره، وقُيِّد بـ "عاقل" لإخراج المجنون والصبي غير المميز؛ لكونهما لا يُدركان النية والقصد، أما المميز من الصبيان فيصح منه الاعتكاف نفلًا؛ لإدراكه ذلك، وقُيِّد بـ "مسجد" لبيان أن الاعتكاف لا يصح إلا بمسجد اشتهر عند الناس بذلك، فلو عمل لنفسه مسجدًا في منزله، أو انقطع عن الناس في بيته يتعبَّد الله، أو لزم رباطًا لطلاب العلم: لا يُسمّى اعتكافًا شرعًا، وقُيِّد بـ "الذي ليس عليه حدث أكبر" لإخراج من عليه حدث أكبر كالجنب، والحائض والنفساء فإنهم لا يصح منهم الاعتكاف؛ لكون الاعتكاف: لبث وجلوس، وهؤلاء لا يصح منهم أن يلبثوا ويجلسوا في المسجد، وأتي بقيد ولو ساعة"؛ لأنه أقل ما يُطلق عليه الزمن، فيصح منه اعتكاف هذا الزمن، بدليل أنه لو نذر أن يعتكف وأطلق: لأجزأته الساعة كما قال المحققون من العلماء، وأتي بعبارة "لأجل طاعة الله" لكون هذا هو المقصد الاعتكاف، فلو لزم مسجدًا بدون =
جوارًا،
(2)
ولا يبطل بالإغماء،
(3)
وهو (مسنون) كل وقت إجماعًا؛ لفعله صلى الله عليه وسلم، ومداومته عليه، واعتكف أزواجه بعده ومعه، وهو في رمضان آكد؛ لفعله صلى الله عليه وسلم،
نية أو نوى ولكنه انشغل عن طاعة الله فلا يُسمَّى ذلك اعتكافًا شرعًا؛ لخروجه عن المقصود، فإن قلتَ: لِمَ ذكر باب "الاعتكاف" في كتاب الصوم مع أنه يصح بدون صوم؟ قلتُ: للغالب؛ حيث إن أغلب اعتكاف النبي صلى الله عليه وسلم، وزوجاته وأصحابه ومن جاء بعدهم كان في العشر الأواخر من رمضان، وأكثر الأحكام جارية على الغالب.
(2)
مسألة: يُسمَّى الاعتكاف جوارًا؛ للسنة القولية؛ حيث قال: صلى الله عليه وسلم "جاورت هذه العشر، ثم بدا لي أن أجاور هذه العشر الأواخر" فيلزم من هذا التعبير جواز تسميته بذلك، فإن قلتَ: يُسمَّى أيضًا خلوة قلتُ: لم ترد هذه التسمية من الشارع، ولا من الصحابة ولا من التابعين، ولا من العلماء المحققين، فتبقى على النفي الأصلي، فتكون محدثة.
(3)
مسألة: لا يبطل الاعتكاف بالإغماء: فلو أغمي على المعتكف فترة مؤقتة ثم أفاق لصح اعتكافه: للقياس، بيانه: كما أن النوم لا يُبطل الاعتكاف، فكذلك الإغماء مثله، والجامع: أن كلًّا منهما فترته قليلة عادة، ولا يسلب التكليف، ولا يسلم منه كثير من الناس؛ لأسباب مختلفة، وهذا هو المقصد منه. [فرع]: يبطل الاعتكاف بالارتداد عن الإسلام، والحيض، والنفاس، والجنون، فيجب إخراج هؤلاء من المسجد؛ للمتلازم؛ حيث إن بطلان النية من الكافر والمجنون، وعدم جواز لبث الحائض والنفساء في المسجد: يلزم منها: بطلان الاعتكاف؛ لمخالفة ذلك للعبادة ومُضادتها لها.
وآكده في العشر الأخير
(4)
(ويصح) الاعتكاف (بلا صوم)؛ لقول عمر رضي الله عنه: يا رسول الله: إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة بالمسجد الحرام فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أوف بنذرك" رواه البخاري، ولو كان الصوم شرطًا: لما صحَّ اعتكاف الليل
(5)
(ويلزمان) أيَّ: الاعتكاف والصوم (بالنذر): فمن نذر أن يعتكف صائمًا، أو يصوم معتكفًا: لزمه الجمع، وكذا: لو نذر أن يصلي معتكفًا ونحوه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "من نذر
(4)
مسألة:: يُستحب الاعتكاف في كل وقت من السنة، ولكن هذا الاستحباب أكد في رمضان، وآكده: أن يكون في العشر الأواخر منه؛ لقاعدتين: الأولى: السنة الفعلية؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم يعتكف ويداوم عليه، وكان يعتكف في رمضان، قال نافع:"أراني عبد الله بن عمر المكان الذي يعتكف فيه النبي صلى الله عليه وسلم" وكان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفَّاه الله ـ كما قالت عائشة رضي الله عنها، الثانية: فعل الصحابي؛ حيث كانت زوجات النبي يعتكفن معه، وبعده في رمضان، وكان كثير من أصحابه يفعلون ذلك وهذا يلزم منه الآكدية، فإن قلتَ: لِمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن الاعتكاف ينقطع المسلم فيه لأجل فعل أنواع من العبادات: من صلاة وصوم، ودعاء وذكر، وقراءة، واستغفار ونحو ذلك، وإذا وقع ذلك في رمضان فالأجر مضاعف، وإذا وقع في العشر الأواخر فهو أرجى لموافقة ليلة القدر؛ لأنها فيها، فيجتمع له خيري الدنيا والآخرة.
(5)
مسألة لا يُشترط لصحة الاعتكاف: كون المعتكف صائمًا، بل يصح بلا صوم؛ للسنة القولية، حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد أمر عمر بأن يوفي بنذره لما نذر أن يعتكف ليلة" فيلزم صحة الاعتكاف بلا صوم؛ لأن الصوم لا يُشرع بالليل، فإن قلتَ: لِمَ يُشترط ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه توسعة وتيسير على الناس أن يفعلوا الخيرات بدون تقييدات؛ لتكثر أجورهم؛ لينالوا الجنة، ومعلوم: أن الصوم والاعتكاف عبادتان كل واحدة منفصلة عن الأخرى.
أن يُطيع الله فليطعه" رواه البخاري، وكذا لو نذر صلاة بسورة معيَّنة،
(6)
ولا يجوز لزوجة اعتكاف بلا إذن زوجها، ولا لقنِّ بلا إذن سيِّده،
(7)
ولهما تحليلهما من تطوع مُطلقًا ومن نذر بلا إذن
(8)
(ولا يصح) الاعتكاف (إلا) بنية؛ لحديث: "إنما
(6)
مسألة: إذا نذر أن يعتكف وهو صائم، أو أن يصوم وهو معتكف: فيجب أن يفعل ذلك وهو جامع بينهما؛ فلا يصح هنا اعتكاف بلا صوم، ولا صوم بلا اعتكاف للسنة القولية؛ حيث قال: صلى الله عليه وسلم "من نذر أن يطيع الله فليُطعه" وهذا عام لكل ما يُنذر؛ لأن "مَنْ" الشرطة من صيغ العموم، والوفاء بما نُذر منفردًا أو مجموعًا مع غيره واجب؛ لأن الأمر هنا مطلق، وهو يقتضي الوجوب، فهو كمن نذر أن يصلي بسورة معيَّنة فلا تصح الصلاة بدون تلك السورة، ولا تصح السورة بلا صلاة.
(7)
مسألة: لا يجوز للزوجة أن تعتكف إلا بإذن زوجها، ولا يجوز للرقيق أن يعتكف إلا بإذن سيده؛ للمصلحة؛ حيث إن اعتكاف الزوجة والرقيق فيه تفويت حق الزوج والسيد الواجب بأصل الشرع من استمتاع وخدمة، من أجل نافلة، فلا يجوز ذلك، حفاظاً لحقوق الزوج والسيد، ودفع المفسدة مُقدَّم على جلب المصلحة.
(8)
مسألة: إذا تطوَّعت زوجة، أو تطوع رقيق فصلَّيا، أو صاما، أو اعتكفا تطوعًا فإنه يجوز للزوج أن يُخرج زوجته، وللسيد أن يُخرج عبده من هذا التطوع: سواء أذنا لهما، أو لا؛ للسنة القولية؛ حيث إنه قد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم "أنه قد أذن لعائشة وحفصة في الاعتكاف، ثم منعهما بعد أن دخلتا فيه" وإذا كان ذلك فيما أذن فيه، فإنه يكون فيما لم يُؤذن فيه من باب أولى من باب "مفهوم الموافقة الأولى"، فإن قلتَ: لِمَ جاز ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه محافظة على الحقوق الواجبة للزوج والسيد؛ حيث إن حقهما واجب، فيقدَّم على التطوع =
الأعمال بالنيات"،
(9)
ولا يصح إلا (في مسجد)؛ لقوله تعالى: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} (يُجمع فيه) أيَّ: تقام فيه الجماعة؛ لأن الاعتكاف في غيره يفضي إما إلى ترك الجماعة، أو تكرار الخروج إليها كثيرًا مع إمكان التَّحرُّز منه، وهو مناف للاعتكاف
(10)
(إلا) من لا تلزمه الجماعة كـ (المرأة) والمعذور، والعبد (ف) يصح
مطلقًا، [فرع]: إذا نذرت الزوجة الاعتكاف أو نذر الرقيق ذلك، ودخلا فيه دون أن يستأذنا الزوج والسيد: فإنه يجوز للزوج والسيد أن يُخرجاهما منه؛ للمصلحة، وقد بيَّناها في مسألة، (7)، أما إذا استأذناهما، فأذنا لهما فدخلا فيه: فلا يجوز للزوج والسيد أن يُخرجاهما منه؛ للتلازم؛ حيث إن الزوج والسيد قد أسقطا حقَّهما بالإذن، والوفاء بالنذر واجب فيلزم عدم جواز إخراجهما مما نذراه؛ لأنهما فعلا مالهما فعله دون إضرار بالآخرين.
(9)
يُشترط لصحة الاعتكاف: أن ينوي قبل دخوله فيه: أنه لطاعة وعبادة الله تعالى فقط؛ للسنة القولية؛ حيث قال: صلى الله عليه وسلم "إنما الأعمال بالنيات" حيث إن هذا عام، والاعتكاف عمل فيشمله هذا العموم؛ لأن "الأعمال" جمع معرَّف بأل وهو من صيغ العموم، فإن قلتَ: لِمَ اشترط ذلك؟ قلتُ: لأن الاعتكاف عبادة، والعبادات لا تصح إلا بنية التقرُّب إلى المعبود به وهو الله تعالى.
(10)
مسألة: يُشترط لصحة الاعتكاف أن يعتكف في مسجد تُقام فيه صلاة الجماعة للسنة الفعلية؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم يعتكف في مسجده الذي يُصلي بالجماعة فيه، وكان لا يدخل بيته إلا لحاجة الإنسان، وكان يُدخل رأسه فترُجِّله له عائشة رضي الله عنها، وهذا بيان للمراد من قوله تعالى:{وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} ولفظ "كان" من صيغ العموم في الأزمان؛ حيث يدل على الاستمرار في العمل، وهذه قرينة دلَّت على اشتراط ذلك، فإن قلتَ: لِمَ اشترط ذلك؟ قلتُ: لأن هذا هو الموافق لحقيقة "الاعتكاف" =
اعتكافهم (في كل مسجد)؛ للآية،
(11)
وكذا من اعتكف من الشروق إلى الزوال
حيث يلزم من اعتكافه في مسجد لا تُقام فيه الجماعة: إما ترك صلاة الجماعة، وهذا يُنقص أجر صلاته وهو يُريد زيادة أجره باعتكافه، أو الإكثار من الخروج من مسجده الذي اعتكف فيه لأجل الصلاة مع الجماعة، وهذا مخالف لحقيقة الاعتكاف -وهو: لزوم مسجد للعبادة-، واعتكافه في مسجد تقام فيه الجماعة لا يقع في أحد هذين الأمرين، فلزم واشترط للمصلحة.
(11)
مسألة: الذي تسقط عنه صلاة الجماعة كالمرأة، والعبد، والمعذور بمرض أو سفر أو نحوهما: يصح اعتكافه في أيَّ مسجد ولو لم تُقم فيه الجماعة؛ لقواعد: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} فيلزم من تحريم مباشرة المعتكف لزوجته في مكان الاعتكاف: عدم صحة الاعتكاف إلا فيما يُطلق عليه مسجد عرفًا، الثانية: فعل الصحابة؛ حيث كانت زوجات النبي صلى الله عليه وسلم يعتكفن في حياته وبعد مماته في أي مسجد، الثالثة: القياس، بيانه كما أن المرأة تعتكف في أيَّ مسجد ولو لم تقم فيه الجماعة فكذلك العبد والمعذور ونحوهما مثلها، والجامع: أن كلًّا منهم لا يخرج لأجل الجماعة، ولا يُحرم من أجرها وهذا هو المقصد الشرعي منه. [فرع]: يُشترط لاعتكاف المرأة: أن لا يخاف وليها عليها من الفتنة، أو الوحشة، أو أيِّ ضرر في المسجد الذي تعتكف فيه، فإن خيف عليها شيء من ذلك: فإنه يُحرَّم اعتكافها فيه؛ للمصلحة؛ حيث إن المرأة عورة، وقليلة عقل ودين فيُخاف عليها أن يفتتن بها أحد، أو هي تفتتن بأحد، ودفعًا لذلك: فإنها تمنع من الاعتكاف، كما مُنعت من زيارة القبور لذلك، والقربات لها كثيرة ومنها حسن التبعُّل لزوجها بأن تطيعه، وتسره، وتحفظه في ماله وعرضها وهذا فيه أجر الجهاد في سبيل الله، وقد ورد:"أن من مات زوجها وهو عنها راضٍ خيِّرها الله من أيَّ باب من أبواب الجنة تدخل" فأي فضل أعظم من هذا؟!
مثلا
(12)
(سوى مسجد بيتها) وهو: الموضع الذي تتخذه لصلاتها في بيتها؛ لأنه ليس بمسجد حقيقة ولا حكمًا؛ الجواز لبثها فيه حائضًا وجُنُبًا،
(13)
ومن المسجد: ظهره ورحبته المحوطة، ومنارته التي هي أو بابها فيه، وما زيد فيه،
(14)
والمسجد
(12)
مسألة: إذا اعتكف من شروق الشمس إلى زوالها -وهو قبل صلاة الظهر-: يصح اعتكافه في أي مسجد: سواء كان فيه جماعة أو لا؛ للتلازم؛ حيث إن حقيقة الاعتكاف قد وُجدت، بدون الحاجة إلى خروج لصلاة الجماعة، أو تركها فيلزم صحته.
(13)
مسألة: إذا وضعت المرأة مكانًا لتصلي فيه في بيتها وسمَّته مسجدًا: فلا الاعتكاف فيه؛ للسنة التقريرية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد أقرَّ بعض زوجاته لما اعتكفن في مسجده صلى الله عليه وسلم، ولم يأمرهن بأن يعتكفن في مُصلاهن ومساجدهن التي في بيوتهن مع أنه أستر لهن، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، فلزم من ذلك: عدم صحة الاعتكاف في ذلك المكان الذي في بيتها فإن قلتَ: لِمَ لا يصح ذلك؟ قلتُ: لأن مسجد بيتها لا يُسمَّى مسجدًا حقيقة؛ لعدم صلاة غيرها فيه، وليس حكمه حكم المسجد، إذ يجوز جلوسها فيه وهي حائض ونفساء، وجنب، بخلاف المساجد الأخرى: فلا يجوز ذلك.
(14)
مسألة: المسجد الذي يُعتكف فيه هو داخله، وظهره، وساحته المحيطة فيه، ومنارته الواقعة داخل المسجد، أو كان بابها داخله، وزياداته التي زادها بعض المحسنين في المسجد مهما كانت سعتها؛ للتلازم، حيث إن هذا كله يُطلق عليه مسجد، ويمكن الصلاة فيه فتلزم صحة الاعتكاف فيه فإن قلتَ: ثم شرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن هذا فيه سعة.
الجامع أفضل لرجل تخلَّل اعتكافه جمعة
(15)
(ومن نذره) أي: الاعتكاف (أو الصلاة في مسجد غير) المساجد (الثلاثة) مسجد مكة، والمدينة، والأقصى (وأفضلها) المسجد (الحرام فمسجد المدينة فالأقصى)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام" رواه الجماعة إلا أبا داود: (لم يلزمه) جواب "مَنْ" أيَّ: لم يلزمه الاعتكاف أو الصلاة (فيه) أيَّ: في المسجد الذي عيَّنه إن لم يكن من الثلاثة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تُشدُّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى" فلو تعيَّن غيرها بتعيينه: لزمه المضي إليه، واحتاج لشدِّ الرحل إليه،
(16)
لكن إن نذر الاعتكاف في جامع: لم
(15)
مسألة: إذا نوى الاعتكاف أيامًا فيهن يوم جمعة: فالأفضل أن يعتكف في مسجد تصلى فيه الجمعة؛ للمصلحة؛ حيث إن ذلك يجعله لا يخرج إلى صلاة الجمعة في مسجد آخر فيكون أجر اعتكافه أكمل، لتمام اللزوم.
(16)
مسألة إذا نذر أن يعتكف أو يصلي في مسجد مكة، أو المدينة، أو الأقصى: فإنه يلزمه أن يوفي بنذره بنفس المسجد الذي عيَّنه من تلك الثلاثة، أما إن نذر ذلك في مسجد مُعيَّن غير المساجد الثلاثة: فإنه يوفي بنذره في أي مسجد أراد؛ للسنة القولية؛ حيث قال: صلى الله عليه وسلم "لا تُشدُّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى" حيث أثبت لزوم الوفاء بنذره إذا كان هذا النذر في أحد المساجد الثلاثة، ويكون هذا الوفاء بما نُذر منها، فيجب عليه أن يُسافر إليه بعينه، ونفى ذلك في غير تلك المساجد، وعليه فيُوفى بنذره في أيَّ مسجد أراد دون ما عيَّنه؛ لأن الاستثناء من النفي إثبات، وقد دل على هذا أيضًا مفهوم العدد هنا؛ حيث إن حكم غير المساجد الثلاثة ليس كحكم المساجد الثلاثة، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: لأن المساجد الثلاثة قد تميَّزت عن غيرها بأفضليتها؛ لكونها مساجد الأنبياء، ولأن المسجد الحرام قبلة المسلمين، والمسجد النبوي قد أسس على التقوى، والمسجد الأقصى قبلة الأمم =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
السابقة، بخلاف غيرها من المساجد فلا تساويها في ذلك، فلا يُفرَّق بينها في الأجر، فيُوفي نذره بما شاء منها. [فرع]: أفضل المساجد الثلاثة: المسجد الحرام، وهو خاص في الموضع الذي فيه الكعبة، وما حوله من الزيادات، والساحات إذا اتصلت الصفوف، وهو الذي الصلاة فيه خير من مائة ألف صلاة في غيره، ثم يلي ذلك في الأفضلية: المسجد النبوي، وهو: خاص في نفس المسجد وما زيد عليه من الزيادات المتصلة به، وهو الذي الصلاة فيه خير من ألف صلاة في غيره -سوى المسجد الحرام-، ثم يلي ذلك في الأفضلية: المسجد الأقصى، وهو الذي الصلاة فيه خير من خمسمائة صلاة في غيره -سوى المسجد الحرام ومسجد المدينة- لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال: صلى الله عليه وسلم "صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه "وقال: "صلاة في المسجد الأقصى خير من خمسمائة صلاة فيما سواه" وقال: "لا تُشدُّ الرِّحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى" وهذه النصوص واضحة الدلالة، الثانية: الإجماع؛ حيث إن الصحابة قد صلوا في الزيادات التي زادها عثمان في المسجد النبوي مع أنها خارجة عن المسجد الذي كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يُنكر واحد منهم ذلك، فكان إجماعًا سكوتيًا، وغير مسجد النبوي مثله في ذلك الحكم؛ لعدم الفارق، فإن قلتَ: لِمَ كان هذا الترتيب؟ قلتُ: لأن المسجد الحرام فيه الكعبة قبلة المسلمين، وموضع حج الناس، ومنهم أكثر الأنبياء كموسى ويونس وغيرهما عليهم السلام، وجعل فيه آيات بينات كمقام إبراهيم، وحجر إسماعيل، وأمَّن كل من قصده لمحض العبادة، وقد أكثر ابن تيمية من ذكر مزاياه، ومسجد المدينة مسجد أسس على التقوى؛ والمسجد الأقصى القبلة الأولى للأمم السابقة، وللمسلمين في أول عهدهم بالإسلام، وهي ديار أنبياء بني إسرائيل.
يُجزئه في مسجد لا تُقام فيه الجمعة
(17)
(وإن عيَّن) لاعتكافه أو صلاته (الأفضل) كالمسجد الحرام: (لم يجز) اعتكافه أو صلاته (فيما دونه) كمسجد المدينة، أو الأقصى:(وعكسه بعكسه) فمن نذر اعتكافًا أو صلاة بمسجد المدينة، أو الأقصى أجزاء بالمسجد الحرام؛ لما روى أحمد وأبو داود عن جابر: أن رجلًا قال يوم الفتح: يا رسول الله: إني نذرتُ إن فتح الله عليك مكة أن أصلي في بيت المقدس، فقال:"صلِّ هاهنا" فسأله فقال: "صلِّ هاهنا" فسأله فقال: "شأنك إذًا"
(18)
(ومن نذر) اعتكافًا (زمنًا مُعيَّنًا) كعشر ذي الحجة: (دخل مُعتكفه قبل ليلته الأولى) فيدخل قبيل الغروب من اليوم الذي قبله (وخرج) من معتكفه (بعد آخره) أي: بعد
(17)
مسألة: إذا نذر أن يعتكف في مسجد تقام فيه صلاة الجمعة: فلا يصح اعتكافه في مسجد لا تُقام فيه الجمعة، ولو لم يكن يوم الجمعة مع الأيام التي نُذِرت؛ للتلازم؛ حيث إن المسجد الجامع فاضل، فيلزم عدم إجزاء الاعتكاف في مسجد مفضول؛ لكونه لم يقم بما أوجبه على نفسه بتمامه.
(18)
مسألة إذا نذر أن يعتكف أو يصلي في الفاضل من المساجد: فلا يصح اعتكافه وصلاته في المفضول منها، وإن نذر أن يعتكف أو يُصلي في المفضول من المساجد: صحَّ اعتكافه وصلاته في الفاضل، فمثلًا إن نذر أن يصلي أو يعتكف في المسجد الحرام: فلا يصح فعل ذلك في مسجد المدينة، لكن إن نذر أن يعتكف أو يصلي في مسجد المدينة: فيصح فعل ذلك في المسجد الحرام؛ للسنة القولية؛ حيث "إنه صلى الله عليه وسلم قد أمر رجلًا نذر أن يُصلِّي في بيت المقدس بأن يوفي بنذره في المسجد الحرام"؛ وذلك لكونه صلاة في بيت المقدس وزيادة، والاعتكاف مثل الصلاة؛ لعدم الفارق، من باب "مفهوم الموافقة" ويلزم منه: أنه إذا نذر في المسجد الحرام فلا يوفي بنذر في غيره؛ لأنه أنقص من القيام بالواجب، وهذا هو المقصد منه.
غروب الشمس آخر يوم منه،
(19)
وإن نذر يومًا: دخل قبل فجره، وتأخَّر حتى تغرب شمسه
(20)
وإن نذر زمنًا مُعينًا: تابعه ولو أطلق،
(21)
وعددًا: فله تفريقه،
(22)
(19)
مسألة: إذا نذر أن يعتكف أيامًا كأن يقول: إني نذرت أن اعتكف العشر الأواخر من رمضان": فيجب أن يدخل مُعتكفه قبل ليلته الأولى: فيدخل قبل غروب شمس اليوم التاسع عشر -وهو ليلة العشرين منه-، ويخرج منه بعد غروب الشمس من آخر يوم من رمضان -إذا ثبت أن غدًا هو يوم عيد الفطر-؛ لقاعدة:" ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب"؛ حيث لا يمكن إكمال اعتكاف جميع العشرة الأيام إلا بذلك، فوجب فعله ابتداءً وانتهاءً كما قلنا في إمساك جزء من الليل لأجل إتمام صوم اليوم من النهار، وغسل جزء من الرأس لإتمام غسل الوجه، وهذا كله للاحتياط وهو المقصد منه.
(20)
مسألة: إذا نذر أن يعتكف يومًا: فيجب عليه أن يدخل معتكفه قبل طلوع فجر ذلك اليوم الصادق، وأن يخرج منه إذا غربت شمسه؛ للقياس، بيانه: كما لو نذر صوم يوم: فإنه يفعل ذلك، فكذلك الحال إذا نذر اعتكافه، والجامع: أن المنذور هو يوم، واليوم هو المحدود بذلك حقيقة.
(21)
مسألة: إذا نذر أن يعتكف زمنًا مُعيَّنًا كأن يقول: "نذرت أن أعتكف العشر الأواخر من رمضان: أو العشر من ذي الحجة": فيجب أن يُتابع الاعتكاف في تلك الأيام، ولا يُفرِّفها: سواء تلفُّظ بـ "التتابع" أو لا، وسواء نوى التتابع أو لا؛ للقياس، بيانه: كما أنه لو حلف لا يُكلّم زيدًا شهرًا: فيجب عليه التتابع، ولا يُفرِّقها فكذلك الحال في نذر الاعتكاف والجامع: أنَّ اللفظ في كل منهما قد اقتضى التتابع.
(22)
مسألة: إذا نذر أن يعتكف عددًا من الأيام لم يُعينها كأن يقول: "نذرتُ أن أعتكف عشرة أيام" ولم ينو تتابعها: فله أن يتابعها، وله أن يُفرِّقها؛ للتلازم؛ حيث يلزم من عدم تعيينها، وعدم نية التتابع فيها: أن يُباح له تفرِّقها.
ولا تدخل ليلة يوم نَدَرَه كيوم ليلة نَدَرَها
(23)
(ولا يخرج المعتكف) من مُعتكفه (إلا لما لا بدَّ) له (منه) كإتيانه بمأكل ومشرب؛ لعدم من يأتيه بهما، وكقيء بغتة، وبول، وغائط، وطهارة واجبة، وغسل متنجِّس يحتاجه، وإلى جمعة وشهادة لزمتاه،
(24)
والأولى: أن لا يُبكِّر لجمعة، ولا يُطيل الجلوس بعدها،
(25)
وله المشي على
(23)
مسألة: إذا نذر أن يعتكف يوم السبت مثلًا: فلا تدخل ليلة السبت: حيث يبدأ اعتكافه من قبل طلوع فجر يوم السبت إلى بعد غروب شمسه، وإذا نذر أن يعتكف ليلة السبت مثلًا: فلا يدخل يوم السبت، ولا يوم الجمعة؛ حيث يبدأ اعتكافه من بعد غروب الشمس من يوم الجمعة، ويستمر إلى طلوع فجر تلك الليلة، وهو الفجر الصادق من يوم السبت؛ للتلازم؛ حيث إن اليوم والليلةُ يطلقان على ما بيناه: فيلزم ما نذره؛ لاقتضاء ذلك.
(24)
مسألة: إذا دخل مُعتكفه: فلا يخرج منه إلا للضرورة: كأن يقضي حاجته من بول أو غائط، أو الإتيان بأكل أو شرب -إذا لم يوجد أحد يأتيه بهما-، أو يُؤدِّي شهادة لازمة، ولا تُؤخَّر، أو يخرج لصلاة الجمعة إذا كان ممن تجب عليه، أو يخرج لغسل نجاسة أو نحو ذلك؛ لقاعدتين: الأولى: السنة الفعلية؛ حيث قالت عائشة رضي الله عنها: "السنة للمعتكف: أن لا يخرج إلا لما لا بدَّ له منه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان" وإذا قال الصحابي: "السنة كذا" فإنه يقصد سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو حديث مرفوع وما ذكر من الحاجات تدخل في عموم هذا الحديث، الثانية: المصلحة؛ حيث إن خروجه للضرورة فيه دفع مفسدة عنه، ودفع المفاسد مُقدَّم على جلب المصالح، وهذا هو المقصد منه.
(25)
مسألة: إذا أراد المعتكف الخروج لصلاة الجمعة: فالمستحب له: أن لا يُبكِّر في الخروج، ولا يُطيل الجلوس في الجامع بعد انقضائها، بل يذهب إلى مُعتكفه =
عادته،
(26)
وقصد بيته لحاجة إن لم يجد مكاناً يليق به، بلا ضرر ولا مِنَّة،
(27)
وغسل يده بمسجد في إناء من وسخ ونَحَوه،
(28)
لا بول، وفصد، وحجامة بإناء فيه أو في هوائه
(29)
(ولا يعود مريضًا ولا يشهد جنازة) حيث وجب عليه الاعتكاف متتابعًا
مباشرة؛ للمصلحة؛ حيث إنه قد أُذن له في الخروج لصلاة الجمعة؛ لكون ذلك ضرورة، والضرورة تُقدَّر بقدرها، فلا يُبكِّر في الخروج قبل صلاة الجمعة، ولا يُطيل الجلوس بعدها؛ محافظة على وقت الاعتكاف من الضياع فينقص أجره.
(26)
مسألة: إذا أراد المعتكف أن يخرج لصلاة الجمعة، أو لبيته، أو لأي حاجة يقضيها: فإنه يخرج على طريقته وعادته، دون بطء، أو استعجال؛ للمصلحة؛ حيث إن تغيير عادته في المشي لحاجاته قد يكون فيها مشقة عليه، فدفعًا لذلك: شرع المشي العادي.
(27)
مسألة: يُباح للمعتكف: أن يذهب إلى بيته ليقضي أيَّ حاجة أرادها من بول أو غائط، أو اغتسال، أو تطهر ونحو ذلك بشرط: عدم وجود مكان آخر يفعل ذلك فيه بلا ضرر أو مِئَة من آخرين؛ للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه إكرام للمعتكف، وهذا فيه جلب مصلحة له، ودفع مفسدة عنه وهو معروف.
(28)
مسالة: يُباح للمعتكف: أن يغسل يده من وسخ أو طعام في إناء داخل المسجد بشرط: أن لا يؤذي أحدًا من الموجودين بالمسجد بذلك؛ للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه دفع مشقة الخروج من المسجد لأجل ذلك، ودفع الضرر عن الآخرين إن أذاهم بذلك.
(29)
مسألة لا يجوز للمعتكف: أن يبول أو يتغوَّط، أو يحتجم، أو يفصد عرقه بإخراج بعض الدَّم في إناء داخل المسجد الذي يعتكف فيه أو فوقه؛ للمصلحة؛ حيث إنه يُحتمل أن يتناثر بعض ذلك احتمالًا راجحًا، فيتنجَّس المسجد، فدفعًا لذلك: حُرّم ذلك، فإن قلتَ: لِمَ أذن للمستحاضة أن تعتكف في المسجد مع خروج الدم منها؟ قلتُ: إن الإذن لها بذلك مشروط بأن يغلب على ظنها عدم =
ما لم يتعيَّن عليه ذلك؛ لعدم من يقوم به
(30)
(إلا أن يشترطه) أي: يشترط في ابتداء اعتكافه الخروج إلى عيادة مريض، أو شهود جنازة، وكذا: كل قربة لم تتعيَّن عليه، وماله منه بدّ كعشاء، ومبيت في بيته
(31)
لا الخروج للتجارة، ولا التكسُّب بالصنعة في المسجد، ولا الخروج لما شاء
(32)
وإن قال: "متى مرضت أو عرض لي عارض
تلويث المسجد بما يخرج منها، ويصعب عليها أن تحترز منه، بخلاف غيرها فيمكنه الاحتراز بالخروج من المسجد.
(30)
مسألة: إذا كان الاعتكاف مُتتابعًا بأن نذر التتابع، أو نواه: فلا يجوز للمعتكف أن يخرج لأي قربة لا تتعيَّن عليه، فلا يعود مريضًا، ولا يشهد جنازة، ولا يزور قريبًا، ولا يتحمَّل شهادة؛ ولا يغسل ميتًا؛ للسنة الفعلية؛ حيث "كان صلى الله عليه وسلم لا يسأل عن مريضٍ إذا كان مُعتكفًا" فيلزم من ذلك: عدم جواز الخروج لأي قربة لا تلزمه؛ لأن ذكر "المريض" هنا يدل على ذلك وغير ذلك مثل المريض؛ لعدم الفارق، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن لزوم الاعتكاف أكثر أجراً من خروجه لذلك؛ حيث إن غيره يُمكنه فعل ذلك، بخلاف الاعتكاف.
(31)
مسألة: إذا نوى أن يعتكف واشترط في نيته لذلك: أن يخرج لكل قربة لم تتعيَّن عليه كأن يشترط أن يعود المرضى، وأن يشهد الجنائز، أو مبيت في بيته أو نحو ذلك من القربات: فله ذلك؛ للقياس، بيانه، كما أن الواقف إذا شرط في وقفه شرطًا فله ذلك، فكذلك المعتكف مثله، والجامع: أن كلًّا منهما وجب بقصده فكان الشرط إليه فيه، وهذا توسعة على المسلمين وهو المقصد منه.
(32)
مسألة: لا يجوز للمعتكف أن يشترط في نيته قبل دخوله الموضع الاعتكاف: أن يخرج للاشتغال بالتجارة، أو يشترط الاشتغال بصنعته داخل المسجد، أو يشترط أن يخرج لما شاء، ولا يشترط أيَّ حال من أحوال الدنيا؛ للتلازم؛ حيث
خرجتُ": فله شرطه، وإذا زال العذر: وجب الرجوع إلى اعتكاف واجب
(33)
(وإن وطئ) المعتكف (في فرج) أو أنزل بمباشرة دونه: (فسد اعتكافه) ويُكفِّر كفارة يمين إن كان الاعتكاف منذورًا؛ لإفساد نذره إلا لوطئه
(34)
ويبطل أيضًا اعتكافه بخروجه
إن ذلك يُنافي حقيقة الاعتكاف - وهو: لزوم مسجد لطاعة الله - فيلزم عدم جوازه، ويكون كمن اشترط ترك المقام في المسجد.
(33)
مسألة: إذا اشترط من أراد الاعتكاف قائلًا: "إذا عرضت لي حاجة، أو حصل عذر: فإني أخرج": جاز ذلك، وله الخروج لذلك، ويجب عليه أن يعود إن زال ذلك العذر المعارض إن كان اعتكافه واجبًا كالاعتكاف المنذور، وإن لم يكن كذلك فهو بالخيار؛ للقياس، بيانه: كما أن الحاج إذا اشترط في نيته عند الإحرام قائلًا: "فإن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني" جاز له ذلك، فيخرج من حجه إن حصل الحابس، فكذلك الحال هنا والجامع: أن كلًا منهما لازم لا يجوز تركه إلا بشرط عند نيته.
(34)
مسألة: إذا وطئ المعتكف فرج زوجته: فإن اعتكافه يفسد: سواء أنزل أو لم يُنزل، وكذا: إن باشر دون الفرج وأنزل: فإنه يفسد اعتكافه، ويجب عليه قضاؤه إن كان ذلك الاعتكاف واجبًا كالاعتكاف المنذور، ولا كفارة عليه ولا يجب قضاؤه إن كان الاعتكاف مستحبًا؛ أما إن باشر بدون إنزال: فلا يفسد اعتكافه؛ لقاعدتين: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} والنهي هنا مطلق فيقتضي التحريم والفساد، وعليه: يفسد اعتكافه بذلك، وإذا كان ذلك في المباشرة فإنه يكون في الوطء من باب أولى، وهذا من دلالة مفهوم الموافقة الأولى، الثانية: السنة الفعلية؛ حيث كانت عائشة رضي الله عنها تُرجِّل شعر رأس النبي صلى الله عليه وسلم وتُغسِّله وهو مُعتكف، ولو كان مُفسدًا لاعتكافه: لما فعله، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، =
لما له منه بدٌّ، ولو قلِّ
(35)
(ويُستحب اشتغاله بالقُرب) من صلاة، وقراءة، وذكر، ونحوها (واجتناب مالا يعنيه) بفتح الياء، أي: يهمه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "من حسن إسلام المرء: تركه مالا يعنيه"،
(36)
ولا بأس أن تزوره زوجته في المسجد، وتتحدَّث معه،
فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: لمنافاة ذلك مع المقصد الشرعي للاعتكاف، وهو: الانقطاع للعبادة، فإن قلتَ: إن من جامع وباشر فأنزل وهو معتكف: فإنه يفسد اعتكافه وعليه قضاؤه، وعليه كفارة يمين - وهي: إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، أو عتق رقبة، فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام - وهذا لإفساد اعتكافه قلتُ: لم أجد دليلًا على وجوب تلك الكفارة؛ حيث لم يرد ذلك في القاعدتين السابقتين، ولا في غيرهما، فيبقى على النفي الأصلي، فنستصحب عدم مشروعية الكفارة هنا.
(35)
مسألة: إذا خرج المعتكف لغير ضرورة، وهو لم يشترطه: فإنه يفسد اعتكافه: سواء استغرق ذلك الخروج وقتًا طويلًا أو قصيرًا؛ للتلازم؛ حيث إن الخروج لغير ضرورة وحاجة يُنافي حقيقة الاعتكاف - وهو: لزوم مسجد لطاعة - فيلزم من ذلك فساده، لكونه يُفوِّت جُزءًا مستحقًا من لزوم المسجد، بلا عذر.
(36)
مسألة: يُستحب لكل شخص ولا سيما للمعتكف أن يمضي وقته ويُشغله بشتى القُرُبات كقراءة القرآن، والدعاء، والذكر، والصلوات، والصدقات، والصيام، ويُستحب أن يترك كل مالا يعنيه أو يهمه؛ للقياس الأولى، بيانه: كما أن فعل تلك القربات، وترك مالا يعنيه في غير الاعتكاف مُستحب، كما قال صلى الله عليه وسلم:"من حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه" فهو في الاعتكاف أولى بالاستحباب؛ لما هو عليه من انقطاعه للعبادة.
وتصلح رأسه أو غيره ما لم يتلذَّذ بشيء منها،
(37)
وله أن يتحدَّث مع من يأتيه ما لم يُكثر،
(38)
ويُكره الصَّمت إلى الليل، وإن نَذَرَه: لا يفِ به،
(39)
وينبغي لمن قصد
(37)
مسألة: يُباح أن تزور المرأة زوجها المعتكف، وتتحدَّث معه ولا تُطيل في ذلك، وتصلح رأسه، وغيره مما يحتاج إلى إصلاح أو مداواة بشرط: أن لا يشعر المعتكف بأيِّ لذَّة في ذلك؛ للسنة الفعلية والتقريرية؛ حيث إن عائشة رضي الله عنها كانت تغسل رأس النبي صلى الله عليه وسلم وتُرجِّله وهو معتكف في المسجد، وكانت صفية تزوره وتتحدَّث معه وهو كذلك، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يُحادثهما ولا يُنكر ذلك منهما، فلو لم يجز لما فعله، ولبيَّن إنكاره؛ لأنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، وإصلاح غير الرأس كإصلاح الرأس؛ لعدم الفارق في ذلك، فإن قلتَ: لمَ أُبيح ذلك؟ قلتُ: لعدم منافاته لحقيقة الاعتكاف.
(38)
مسألة: يُباح للمعتكف: أن يتحدَّث مع من يزوره، أو يراه بأحاديث لا تخصُّ الدُّنيا وملذَّاتها، ولا تكون طويلة، ويُباح له: أن يقوم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويشهد على النكاح، ويُصلح بين القوم، ويُؤذِّن، ويُقيم، ويُصلِّي على الجنازة داخل المسجد الذي يعتكف فيه، ويُباح له: أن يتنظف، ويتطيَّب، ويلبس أحسن ثيابه؛ لقاعدتين: الأولى: السنة الفعلية؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم يتحدَّث مع صفية رضي الله عنها كما سبق ذكره في مسألة (37) -، الثانية: المصلحة؛ حيث إن فعل تلك الأمور لا تنافي حقيقة الاعتكاف وأحكامه، مع ما فيها من جلب المصالح ودفع المفاسد.
(39)
مسألة: يحرم على المعتكف وغيره أن يصمت من الصباح إلى اللَّيل عن الكلام المباح، وإن نذره قائلًا:"لله علي أن لا أتكلَّم اليوم": فلا يفِ بهذا النذر؛ للسنة القولية؛ حيث إن رجلًا قد نذر: أن لا يتكلَّم فقال صلى الله عليه وسلم: "مروه فليتكلَّم" ولم يذكر وجوب كفارة عليه، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت =
المسجد: أن ينوي الاعتكاف مُدَّة لُبْثِه فيه لا سيَّما إن كان صائمًا،
(40)
ولا يجوز البيع ولا الشراء فيه للمعتكف وغيره ولا يصح.
(41)
الحاجة، وهذا الأمر للوجوب؛ لأنه مُطلق، وترك الواجب حرام، فالصَّمت يكون حرامًا لغير سبب، فإن قلتَ: إن الصَّمت لغير سبب مكروه قلتُ: لم أجد صارفًا قويًا على صرف هذا الأمر إلى الندب، حتى يكون عكسه مكروهًا.
(40)
مسألة: يُستحبُّ للمسلم إذا قصد مسجدًا للصلاة أو الجلوس فيه: أن ينوي الاعتكاف زمن صلاته أو جلوسه في ذلك المسجد خاصة إن كان صائمًا؛ للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه جمع بين صلاة واعتكاف وصوم وهذا فضل عظيم؛ لكون الاعتكاف يصح ولو ساعة كما سبق في مسألة (1).
(41)
مسألة: لا يجوز للمعتكف ولا لغيره: أن يبيع، أو يشتري، أو يؤجَّر، أو يستأجر في المسجد، وإن فعل ذلك فالبيع، والتأجير فاسد؛ للسنة القولية؛ وهي من وجهين: أولهما: أنه صلى الله عليه وسلم "قد نهى عن البيع والشراء في المسجد" والنهي هنا مطلق، فيقتضي التحريم والفساد، ثانيهما: قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا: لا أربح الله تجارتك" ويلزم من هذا: تحريم البيعُ والشراء في المسجد؛ لأن الدعوة عليه: عقوبة، ولا يُعاقب إلا من فعل محرَّمًا، فإن قلتَ: لمَ لا يجوز ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن المساجد قد بُنيت لمحض العبادة، فلو أذن في ذلك لاتخذ الناس المساجد أسواقًا يبيعون فيها ويشترون؛ وهذا لا يليق بموضع خُصِّص للعبادة.
هذه آخر مسائل باب "الاعتكاف" الذي هو آخر كتاب "الصوم" ويليه كتاب "المناسك: الحج
والعمرة"
كتاب المناسك
جمع "منسَك" بفتح السين وكسرها، وهو: التَّعبُّد، يقال:"تنسَّك": تعبَّد، وغلب إطلاقها على متعبَّدات الحج، والمنسك في الأصل: من النسيكة، وهي: الذَّبيحة
(1)
(الحَجُّ) بفتح الحاء في الأشهر - عكس ذي الحِجَّة -: فُرِض سنة تسع من الهجرة،
(2)
وهو: لغة: القصد، وشرعًا: قصد مكة لعمل مخصوص في زمن مخصوص
(3)
(والعمرة) لغة: الزيارة، وشرعًا:
كتاب المناسك: الحج والعمرة
حقيقتهما، وحكمهما، وشروطهما، والنيابة فيهما
وفيه أربعون مسألة:
(1)
مسألة: المناسك: جمع منسَك، والمنسَك: التَّعبُّد، يقال:"تنسَّك فلان فهو ناسك" أي: تعبَّد فهو عابد، والأصل عموم هذا اللفظ إلى جميع المتعبَّدات، وهي: المتقرَّب بها إلى الله، لذا تُسمَّى:"الذبيحة": نسيكة، ويقال:"من فعل كذا فعليه نسك" أي: دم وشاة يذبحها لتقسَّم على فقراء مكة، ومنه قوله تعالى:{وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} أي: متعبُّداتنا، وقد فُصِّل بيان ذلك في اللِّسان (10/ 498).
(2)
مسألة: فرض الحج سنة تسع من الهجرة، وتأمَّر على الحجيج في تلك السنة أبو بكر رضي الله عنه بتكليف من النبي صلى الله عليه وسلم، وحج صلى الله عليه وسلم في السنة العاشرة حجَّة الوداع؛ إذ لم يحج قبلها ولا بعدها، وودَّع الناس فيها في خطبة له مشهورة، وما من نبي إلا وقد حج ذلك البيت، واعتمر صلى الله عليه وسلم أربع مرات.
(3)
مسألة: الحج لغة هو: كثرة القصد إلى من تُعظِّمه وتُحبُّه وتُبجِّله، وهو قول الخليل بن أحمد، وهو أصح من قول أكثر العلماء: إن الحج هو: القصدُ مطلقًا؛ لأن لفظ "الحج" يلزم منه كثرة القصد والذِّهاب، لذلك سُمِّي الطريق: محجَّة؛ =
زيارة البيت على وجه مخصوص،
(4)
وهما (واجبان)؛ لقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} ، ولحديث عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله: هل على النساء من جهاد؟ قال: "نعم عليهن جهاد لا قتال فيه: الحج والعمرة" رواه أحمد وابن ماجه بإسناد صحيح، وإذا ثبت ذلك في النساء فالرجال أولى،
(5)
نظرًا لكثرة من يطرقه ويمشي عليه، والحج اصطلاحًا: هو: قصد مكة لعمل مخصوص في زمن مخصوصٍ على وجهٍ مخصوص، وسيأتي بيان ذلك بالتفصيل.
(4)
مسألة: العمرة لغة: الزيارة، يقال:"اعتمر فلان" أي: زار، وهي اصطلاحًا: زيارة بيت الله لعبادته بإحرام، وطواف، وسعي وحلق أو تقصير على وجه مخصوص، وسيأتي بيان ذلك، فإن قلتَ: لِمَ عُرِّفت العمرة بالزيارة بخلاف الحج؟ قلتُ: لأن العمرة تجوز في أي وقتٍ من السنة كما تجوز زيارة أيِّ شخصٍ بأي وقت بخلاف الحج فلا يصحُّ إلا بوقت معلوم، فإن قلتَ لمَ سُمِّيت العمرة بالحج الأصغر؟ قلتُ: لمشاركتها للحج في بعض أعماله كالإحرام والطواف، والسعي، والحلق أو التقصير.
(5)
مسألة: يجب الحج والعمرة على جميع الناس - ممن توفرت فيهم شروطه التي ستأتي -؛ لقواعد: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} حيث إن لفظ "على" من صيغ الوجوب، الثانية: السنة القولية، وهي من وجوه: أولها: قوله صلى الله عليه وسلم: "عليهن جهاد لا قتال فيه: الحج والعمرة" و"على" من صيغ الوجوب، و"الواو" تدل على توحيد الحكم بين الحج والعمرة وإذا وجبا على النساء فمن باب أولى وجوبهما على الرجال من باب "مفهوم الموافقة الأولى" وهذا عام لجميع المسلمين: أهل مكة وغيرهم، ثانيها: قوله صلى الله عليه وسلم: "بُني الإسلام على خمس .. " وذكر منها: "الحج" حيث دل مفهوم العدد على أن من لم يحج وهو: قادر: فلا إسلام =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
له، وهذا يستلزم الوجوب، ثالثها: قوله صلى الله عليه وسلم: "يا أيها الناس قد فرض عليكم الحج فحجوا" حيث إن "فُرض" من صيغ الوجوب القطعي، والأمر في قوله:"فحجوا" مطلق، وهو يقتضي الوجوب، الثالثة: قول الصحابي؛ حيث إنه قد ثبت عن عمر وابنه، وابن عباس، وزيد بن ثابت رضي الله عنهم: أن العمرة واجبة، فإن قلتَ: لمَ وجب الحج والعمرة؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن الحج جامع للعبادات البدنية والمالية والقولية؛ وهما: سرُّ التوحيد كما قال كثير من العلماء، والحاج والمعتمر أقرب الخلق إلى الله؛ حيث إنهما وفدا الله تعالى، قال صلى الله عليه وسلم:"الحجَّاج والعمَّار وفدا الله تعالى، وزُوَّاره: إن سألوا: أعطوا، وإن استغفروا: غُفِر لهم، وإن دعوا: استُجيب لهم، وإن شفعوا: شُفِّعوا" وقال ابن عباس: "فأما منافع الآخرة في الحج: فرضوان الله تعالى، وأما منافع الدنيا: فما يُصيبون من لحوم البدن في ذلك اليوم والذبائح والتجارات" وقد صُنِّف في ذلك المصنفات منها: "أسرار الحج" للغزالي، فإن قلتَ: إن العمرة سنة وليست بواجبة وهو قول أبي حنيفة ومالك؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم سُئل عن العمرة أواجبة هي؟ فقال: "لا، وإن تعتمر خير لك" رواه جابر، فنفى وجوبها، وأثبت الخيرية فيها الدالة على سنيتها، الثانية: الاستصحاب؛ حيث إن الأصل: عدم وجوب العمرة، ولم يثبت دليل نقلنا من هذا الأصل، فلم تجب قلتُ: أما الحديث: فقد روي بأسانيد لا تصح ولا تقوم بمثلها الحجة - كما قال ابن عبد البر -، وعلى فرض صحته: فيُحمل على ما زاد على العمرة الواحدة، أو على العمرة التي قضوها حين أُحصروا في الحديبية، وإذا تطرق الاحتمال إلى الدليل بطل به الاستدلال، أما الاستصحاب فحاصله: أنكم تطالبوننا بإثبات الدليل على وجوب العمرة، ونحن قد أثبتنا ذلك، بالسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم:"عليهن جهاد ولا قتال فيه الحج والعمرة"، وقول الصحابي: =
إذا تقرَّر ذلك فيجبان (على المسلم، الحر، المكلَّف، القادر) أي: المستطيع
(6)
(في
فيُقبل ذلك؛ لأن الخبر الناقل عن الأصل يُرجَّح على الخبر المبقي على الأصل؛ لكونه أحوط للدِّين، وأبرأ للذِّمة، فإن قلتَ: إن العمرة واجبة على جميع الناس إلا أهل مكة، فهي سنة بحقهم، وهو رواية عن أحمد، رجَّحها ابن تيمية، وكثير من العلماء؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كون العمرة: الزيارة: أن لا تجب على أهل مكة، لكون الزائر ينبغي أن يكون بعيدًا عن المزار قلتُ: هذا اجتهاد قد عارض نصًا - وهو الحديث الذي أوجب العمرة كما سبق - ولا اجتهاد مع النص، وما ذكروه من التلازم لا يصلح للتخصيص، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض السنة القولية التي ذكرناها أولًا مع السنة القولية التي ذكرها المخالف، وهي ما رواها جابر" فعندنا: أن السنة التي ذكرناها أول المسألة عام لجميع المسلمين، ولا تقوى السنة التي رواها جابر على معارضتها لضعفها ولم تخصص بشيء، وعندهم: يُعمل بالسنة التي رواها جابر؛ لقوتها، ويقوى التلازم على تخصيص عموم السنة، تنبيه: قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} لا يصلح للاستدلال به على وجوب الحج والعمرة؛ لأنها تدل على وجوب إتمامهما على من دخل فيهما، لا على وجوبهما ابتداء بدليل سبب نزولها؛ حيث إن رجلًا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد أحرم بالعمرة قائلًا: كيف تأمرني أن أصنع في عمرتي؟ فنزلت هذه الآية آمرة له بأن يُتمَّ ما بدأ.
(6)
مسألة: يُشترط فيمن يجب عليه الحج والعمرة أربعة شروط: أولها: أن يكون مسلمًا، فلا وجوب على كافر، ثانيها: أن يكون حُرًّا، فلا وجوب على العبد، ثالثها: أن يكون مُكلَّفًا أي: بالغ، عاقل، فلا وجوب على الصبي والمجنون، رابعها: أن يكون قادرًا عليهما بماله وبدنه، فإن كان قادرًا ببدنه دون ماله: فإن الوجوب يسقط عنه، وإن كان قادرًا بماله دون بدنه، وجب أن يُنيب عنه غيره، =
عمره مرة) واحدة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "الحج مرَّة، فمن زاد: فهو مُطَّوِّع" رواه أحمد وغيره،
(7)
فالإسلام والعقل شرطان للوجوب والصحة، والبلوغ، وكمال الحرية
فإن لم يجد نائبًا سقط عنه، وإن لم تجد المرأة محرمًا: سقط عنها، وإن كانت قادرة ببدنها ومالها؛ لقواعد: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} فيلزم من ذلك: اشتراط الاستطاعة في الحج، والعمرة مثله؛ لعدم الفارق؛ لكونهما لا يتمان إلا بسفر، فيشمل ذلك الفقير، والعاجز ببدنه، والعبد، والمرأة التي لم تجد محرمًا؛ الثانية: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "رُفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، والمجنون حتى يُفيق، والنائم حتى يستيقظ" والقلم هو: التكليف، فيلزم: عدم تكليف الصبي والمجنون بأي تكليف، ومنها الحج والعمرة، الثالثة: التلازم؛ حيث يلزم من عدم صحة النية من الكافر والصبي والمجنون: عدم وجوب التكاليف عليهم، ومنها الحج والعمرة، فإن قلتَ: لمَ اشترط ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ لكون الفروع لا تصح من شخص إلا إذا قدَّم عليها التوحيد، وهو: الإسلام والإيمان، ولكون النية والقصد لا يصحَّان من صبي ولا مجنون؛ لعدم إدراكهما ذلك، ولأن العبد قد اشتراه سيده لخدمته؛ فلو حج لتضرَّر السيد، فسقط الحج والعمرة عن العبد؛ حفاظًا لحقوق السيد كما قلنا في سقوط الجمعة عنه، ولأن الاستطاعة لا بدَّ من اشتراطها لكل عمل، وهي عامة لكل ما ذكرنا؛ لأن الحج والعمرة يستلزمان السفر والانتقال، وهذا يحتاج إلى هذا الشرط أكثر من غيره، وهذه الشروط لو دققت فيها لوجدتها في مصلحة المسلم.
(7)
مسألة: يجب الحج والعمرة مرة واحدة في العُمُر؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "الحج مرة فمن زاد: فهو مُطَّوِّع" وهذا صريح في وجوبه مرة واحدة، والعمرة مثل الحج؛ لعدم الفارق، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث =
شرطان للوجوب والإجزاء، دون الصحة، والاستطاعة شرط للوجوب، دون الإجزاء،
(8)
فمن كملت له الشروط: وجب عليه السعي (على الفور) ويأثم إن أخَّره بلا عذر؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "تعجَّلوا إلى الحج - يعني الفريضة - فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له" رواه أحمد،
(9)
(فإن زال الرِّق): بأن عتق العبد مُحرمًا (و) زال
إنهما يستلزمان السفر، والإنفاق، والتعرض للأخطار، فلو وجبا كل عام: للحق المسلمين ضررًا عظيمًا، وهو معلوم، فدفعًا لذلك: شرعا مرة واحدة.
(8)
مسألة: اشتُرط الإسلام والعقل - فيمن يجب عليه الحج والعمرة - للوجوب والصحة، أي: لا يجب الحج والعمرة على الكافر، والمجنون أصلًا، وإذا حجَّا واعتمرا: فلا يُصحَّان منهما، واشتُرط البلوغ، وكمال الحرية للوجوب والإجزاء دون الصحة، أي: أنهما لا يجبان على الصبي والعبد أصلًا، وإذا حج واعتمر العبد والصبي: فإنهما يصحَّان، ولكن لا يُجزئان عنهما، فيجب على الصبي الحج والعمرة إذا بلغ، ويجبان على العبد إذا عتق، واشتُرطت الاستطاعة للوجوب، دون الإجزاء، أي: لا يجبان على غير المستطيع، لكن إن فعلهما - وهو في حالة عدم استطاعته -: فإنهما يُجزئان عنه؛ للتلازم؛ حيث إن ذلك يلزم من تلك الشروط.
(9)
مسألة: يجب الحج والعمرة على الفور، أي: تجب المبادرة إلى الحج - إذا توفرت شروطه الأربعة المذكورة في مسألة (6) -؛ للسنة القولية؛ وهي من وجهين: أولهما: قوله صلى الله عليه وسلم: "تعجَّلوا الحج" حيث أوجب الشارع إيقاع الحج - بعد توفر شروطه - مباشرة؛ لأن لفظ "تعجَّلوا" أمر مطلق، وهو يقتضي الوجوب والفورية، ولأن هذا اللفظ يلزم منه ذلك؛ لأن مادة "ع، ج، ل" تقتضي ذلك، ثانيهما: قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله قد فرض عليكم الحج فحجوا" وهذا أمر مطلق، فيقتضي الوجوب، والفورية والعمرة كالحج في ذلك؛ لعدم =
(الجنون) بأن أفاق المجنون وأحرم إن لم يكن محرمًا (و) زال (الصبا): بأن بلغ الصغير، وهو محرم (في الحج) وهو (بعرفة) قبل الدفع منها، أو بعده إن عاد فوقف في وقته، ولم يكن سعى بعد طواف القدوم (وفي) أي: أو وجد ذلك في إحرام (العمرة قبل طوافها: صح) أي: الحج والعمرة فيما ذكر (فرضًا) فتُجزئه عن حجة الإسلام وعمرته، ويُعتدُّ بإحرام ووقوف موجودين إذًا، وما قبله تطوع لم ينقلب فرضًا، فإن كان الصغير أو القن سعى بعد طواف القدوم قبل الوقوف: لم يُجزئه
الفارق من باب: "مفهوم الموافقة"، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة: حيث إن القيام بهما مباشرة وبغيرهما من التكاليف الشرعية أحوط للدِّين، وأحزم للعمل، فقد تعرض للإنسان العوارض من فقر، ومرض، وخوف، فدفعًا لذلك: شرع ذلك، فإن قلتَ: إنهما واجبان على التراخي؛ حيث إنهما من الواجبات الموسَّعة، فلا يأثم من أخَّرهما وهو قول أكثر الشافعية؛ للسنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم لم يحج إلا في السنة العاشرة مع أنه مفروض في السنة التاسعة، وهذا يلزم منه: أنه واجب على التراخي قلتُ: يُحتمل أنه أخره لمرض، أو فقر، أو كراهيته رؤية المشركين عراة حول الكعبة فبعث أبا بكر ينادي:"أن لا يحج بعد هذا العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان"، أو أخَّره لاستقباله الوفود الكثيرة في السنة التاسعة لذلك سُمِّيت:"سنة الوفود" أو أخره لأجل أن تكون حجته حجة الوداع في السنة التي استدار فيها الزمان كهيئة يوم خلق الله السموات والأرض، ولتصادف وقفة عرفة يوم الجمعة، ويُكمِّل بذلك دينه، وإذا تطرق الاحتمال إلى الدليل بطل به الاستدلال، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض السنة الفعلية مع السنة القولية" فعندنا: يُعمل بالقولية؛ نظرًا لضعف الفعلية بسبب كثرة تطرق الاحتمالات إليها، وعندهم: يُعمل بالفعلية؛ لقوتها عندهم.
الحج ولو أعاد السعي؛ لأنه لا يُشرع مجاوزة عدده، ولا تكراره، بخلاف الوقوف فإنه لا قدر له محدود، وتشرع استدامته، وكذا: إن بلغ، أو عتق في أثناء طواف العمرة: لم تُجزئه ولو أعاده
(10)
(و) يصح (فعلهما) أي: الحج والعمرة (من الصبي) نفلًا؛ لحديث ابن
(10)
مسألة: لو أحرم العبد مع سيده، وأحرم الولي عن المجنون والصبي عند الميقات في الحج والعمرة، ثم أعتق السيد عبده، وأفاق المجنون، وبلغ الصبي في يوم عرفة، أو حصل لهم ذلك بعد دفع الناس من عرفة، ثم عادوا إلى عرفة في وقت الوقوف - وهو: من صباح يوم التاسع إلى الفجر من اليوم العاشر -؛ فإن الحج يكون فرضًا عن هؤلاء الثلاثة بشرط: أن لا يكونوا قد سعوا - وهم في حالة الرق، والصبا، والجنون - بعد طواف القدوم، وبهذا قد أعتدَّ بالإحرام والوقوف عند وجود البلوغ، والحرية والعقل، أما ما فعلوه قبل ذلك فيكون تطوعًا لا ينقلب إلى فرض، وكذلك الحال فيما إذا بلغ الصبي، وزال الرق، وأفاق المجنون قبل طواف العمرة: فإنها تصح منهم فرضًا، وبذلك يُجزئ الحج والعمرة عن حجة الإسلام وعمرته؛ للتلازم؛ حيث إن شروط الحج وهي: الإسلام والحرية، والتكليف، والاستطاعة - قد وُجدت: فيلزم وجود صحتهما فرضًا، فإن قلتَ: لمَ اشتُرط ذلك الشرط؟ قلتُ: لأنه إذا سعى بعد طواف القدوم - وهو في حالة الرق، أو الجنون، أو الصبا -: فإنه لا يجزئه عن حجة الإسلام ولو أعاد ذلك السعي بعد بلوغه وعقله وعتقه؛ لكون السعي لا يجوز أن يُزاد على عدده، ولا يجوز تكراره في حجة واحدة وعمرة واحدة، ولو بلغ أو عتق، أو أفاق في أثناء طواف العمرة: لم تجزئه تلك العمرة ولو أعاد الطواف؛ لكون الطواف لا يُزاد على عدده، ولا يُكرَّر في عمرة واحدة، فإن قلتَ: لمَ يجزئه الحج إذا عاد إلى عرفة فوقف فيها، مع أنه لا يجزئه إذا أعاد السعي، أو طواف العمرة؟ قلتُ: لوجود الفرق؛ حيث إن السعي والطواف لا تُشرع الزيادة عليهما، ولا تكرارهما، =
عباس: أن امرأة رفعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم صبيًا فقالت: ألهذا حج؟ قال: "نعم ولكِ أجر" رواه مسلم،
(11)
ويُحرم الولي في مال عمَّن لم يُميِّز ولو مُحرمًا أو لم يحج،
(12)
ويُحرم
بخلاف الوقوف بعرفة: فإنه لا قدر له محدَّد؛ حيث إنه يكفي ولو وقف لحظة، أو مرَّ مرورًا بها، هذا لمن لم يقف نهارًا.
(11)
مسألة: يصحُّ الحج والعمرة من الصبي نفلًا إذا أتى بهما، ولمن تولَّاه في ذلك الأجر؛ للسنة القولية؛ حيث قالت امرأة للنبي صلى الله عليه وسلم: ألهذا حج؟ - تعني صبيًا بين يديها - فقال: "نعم ولكِ أجر" فصحح النبي هنا الحج من الصبي إذا فعله، ولمن حجَّ به الأجر، والعمرة مثل الحج؛ لعدم الفارق من باب "مفهوم الموافقة"، ولم يتبيَّن: أن ذلك الصبي مميزًا أو لا، فيكون عامًا لهما؛ لأن ترك الاستفصال عن الحال ينزَّل منزلة العموم في المقال، فإن قلتَ: لا يصح الحج والعمرة من الصبي فرضًا ولا نفلًا؛ للتلازم؛ حيث يلزم من عدم صحة النية منه: عدم صحة العبادات كلها منه؟ قلتُ: إن كان مميزًا فإنه يدرك النية وتصح منه، وإن كان غير مميز فينوي عنه وليه ويتحمَّل عنه أعمال الحج، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض التلازم مع السنة القولية" فنعمل بالسنة؛ لعمومها، وهم قد عملوا بالتلازم؛ لتشدُّدهم بالنية.
(12)
مسألة: الولي هو الذي يعقد الإحرام للصبي غير المميز وهذا عام، أي: سواء كان هذا الولي محرمًا بالحج والعمرة، أو لا، وسواء كان مُحرمًا عن نفسه أو عن غيره، وسواء كان قد حج عن نفسه أو لا؛ للسنة القولية؛ حيث إن امرأة رفعت صبيًا للنبي صلى الله عليه وسلم وقالت: ألهذا حج؟ فقال لها: "نعم ولكِ أجر" فهذا يدل على ذلك الإطلاق؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يسأل تلك المرأة هل حجت عن نفسها أو لا، أو هي حاجة الآن أو لا، أو هي حاجة عن نفسها أو هي نائبة عن غيرها فهو =
مميز بإذنه،
(13)
ويفعل ولي ما يُعجزهما،
(14)
لكن يبدأ الولي في رمي بنفسه،
(15)
يعمها جميعًا؛ لأن ترك الاستفصال ينزَّل منزلة العموم في المقال، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: لأن الولي مؤتمن عليه فيما يخصُّه من مال فلذا كُلِّف بذلك؛ لكونه مُكلَّفًا تصح نيته، وشُرع عقد الإحرام عنه؛ توسعة على المسلمين.
(13)
مسألة: يُحرم الصبي المميز بنفسه إذا أذن وليه؛ للقياس، وهو من وجهين: أولهما: كما أن وضوء الصبي المميز يصح فكذلك يصح إحرامه، والجامع: أن كلًا منهما تُشترط فيه النية، وهو مدرك لها، ثانيهما: كما يصح من الصبي المميز عقد البيع إذا أذن له وليه فكذلك الإحرام مثله، والجامع: أن كلًا منهما فيه التزام بمال، والولي هو المسؤول عن ذلك، فلا بد من إذنه ليتحمَّل المسؤولية.
(14)
مسألة: يفعل الصبي المميز وغير المميز من أفعال الحج والعمرة ما يستطيعان فعله: كالوقوف بعرفة والمبيت ونحوهما، ويفعل وليهما ما يعجزان عنه كرمي الجمار ونحو ذلك؛ لقاعدتين: الأولى: السنة التقريرية؛ حيث قال جابر: "حججنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا النساء والصبيان، فأحرمنا عن الصبيان ورمينا عنهم" وهذا يلزم منه ما ذكرناه، الثانية: المصلحة؛ حيث إن فعل الولي عنهم مالا يستطيعون فعله فيه دفع مفسدة ومضرة عنهم.
(15)
مسألة: إذا أراد ولي الصبي أن يرمي الجمار عنه: فإن الولي يرمي عن نفسه أولًا، ثم يرمي عن الصبي؛ للقياس؛ بيانه: كما أن الذي ينوب عن غيره المكلَّف في الرمي يبدأ بالرمي عن نفسه أولًا ثم يرمي عن مَنْ وكّله فكذلك الحال هنا، والجامع: أنه في كل منهما نائب عن غيره، وهذا هو الأصل، ودليله قوله صلى الله عليه وسلم:"ابدأ بنفسك ثم بمن تعول".
ولا يُعتدُّ برمي حلال،
(16)
ويُطاف به؛ لعجز راكبًا أو محمولًا
(17)
(و) يصحَّان من (العبد نفلًا)؛ لعدم المانع،
(18)
ويلزمانه بنذره، ولا يُحرم به ولا زوجة إلا بإذن سيِّد وزوج، فإن عقداه: فلهما تحليلهما،
(19)
ولا يمنعها من حج فرض
(16)
مسألة: إذا كان ولي الصبي حلالًا - أي: لم يُحرم بالحج - والصبي محرم به: فلا يجوز لهذا الولي أن يرمي عن الصبي، ولو رمى عنه: فإنه لا يُعتبر ذلك الرمي؛ للتلازم، حيث يلزم من عدم صحة رميه عن نفسه: عدم صحة رميه عن غيره.
(17)
مسألة: إذا عجز الصبي عن الطواف: فإنه يُطاف به راكبًا على دابة، أو محمولًا بجانب وليه؛ للقياس؛ بيانه: كما أن المريض يُحمل على دابة أو على إنسان ويُطاف به ويصح ذلك فكذلك الصبي مثله، والجامع: العجز في كل، وينوي الصبي المميز، وغير المميز ينوي عنه وليه.
(18)
مسألة: إذا حج العبد أو اعتمر: فإنهما يصحان منه نفلًا؛ للإجماع؛ حيث أجمع العلماء على أن العبد إذا عتق يجب عليه أن يحج ويعتمر - إذا توفرت شروطهما -، وهذا يلزم منه: أن ما يفعله قبل عتقه يصح نفلًا، ولا يكفيه عن الواجب، فإن قلتَ: لمَ صح ذلك نفلًا؟ قلتُ: لعدم المانع من صحتهما منه نفلًا؛ لأنه من أهل العبادة.
(19)
مسألة: إذا نذر العبد، أو الزوجة الحج أو العمرة: فيجب عليهما أن يوفيا بذلك النذر، لكن لا يجوز لهما أن يُحرما بالحج والعمرة المنذورين إلا أذن السيد والزوج، وإن أحرما بهما بدون إذنهما: فللسيد والزوج أن يُخرجاهما من هذا الإحرام؛ لقاعدتين؛ الأولى: القياس، بيانه: كما أنه يجب على الحر أن يفِ بنذره، فكذلك العبد مثله، والجامع: أن كلًا منهما مُكلَّف، الثانية: المصلحة؛ حيث إن العبد والزوجة إذا أحرما بحج وعمرة بدون إذن السيد =
كملت شروطه،
(20)
ولكل من أبوي حُرِّ بالغ منعه من إحرام بنفل كنفل جهاد،
(21)
ولا يُحلِّلانه إن أحرم
(22)
(والقادر) المراد فيما سبق (من أمكنه الركوب ووجد زادًا
والزوج: فإنه يترتَّب على ذلك تفويت حق كل من السيد والزوج ولذا: يُقدَّم القيام بحقهما على الوفاء بنذرهما؛ لأن حقهما آكد من الوفاء بنذرهما الذي لم يُؤذن لهما فيه ويخرجانهما من الإحرام؛ دفعًا للضرر الذي يمكن أن يلحق بالسيد والزوج.
(20)
مسألة: لا يجوز للزوج أن يمنع زوجته من حج الفرض، أو العمرة الواجبة إذا استكملت شروطهما ولا يجوز له أن يُخرجها من إحرامها بهما، ونفقة حجها وعمرتها عليها، لا على الزوج؛ للقياس، بيانه: كما أنه لا يجوز للزوج أن يمنع الزوجة من الصلاة والصوم المفروضين، ولا يُخرجها منهما إذا دخلت فيهما فكذلك الحج والعمرة مثلهما والجامع: أن كلًا منها قد وجبت بأصل الشرع، ولم تجب بنذر ونحوه؛ إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وهذا هو المقصد منه، فإن قلتَ: لمَ كانت النفقة في الحج والعمرة لا تجب على الزوج؟ قلتُ: لأن عقد الزواج لا يوجب إلا النفقة العادية، وغيرها لا يدخل، ولكن يُستحب للزوج أن يدفع نفقة حجها وعمرتها المفروضتين؛ لاقتضاء المعاشرة له.
(21)
مسألة: يجوز للأبوين أو أحدهما أن يمنعا ولدهما من حج أو عمرة نفلًا؛ للقياس؛ بيانه: كما يجوز لهما أن يمنعا ولدهما من جهاد النفل فكذلك الحال هنا والجامع: أن حقَّهما مُقدَّم على القيام بالنفل في كل، وذلك كله لدفع الضَّرر عنهما، ودفع المفسدة مُقدَّم على جلب المصلحة.
(22)
مسألة: إذا أحرم شخص بحج وعمرة نفلًا: فلا يجوز لوالديه أن يُخرجاه من ذلك الإحرام ولا يطيعهما في ذلك؛ للمصلحة؛ حيث إن الشروع والدخول في =
وراحلة) بآلتهما (صالحين لمثله)؛ لما روى الدارقطني بإسناده عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله عز وجل: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} قال: قيل: يا رسول الله ما السبيل؟ قال: "الزاد والراحلة" وكذا: لو وجد ما يحصل به ذلك (بعد قضاء الواجبات) من الدِّيون حالَّة أو مؤجَّلة، والزكوات، والكفارات، والنذور (و) بعد (النفقات الشرعية) له ولعياله على الدوام من عقار أو بضاعة أو صناعة (و) بعد (الحوائج الأصلية) من كتب، ومسكن، وخادم، ولباس مثله، وغطاء، ووطاء ونحوها ولا يصير مُستطيعًا ببذل غيره له، ويُعتبر أمن الطريق بلا خفارة، يوجد فيه الماء والعلف على المعتاد وسعة وقت يمكن فيه السير على العادة
(23)
(وإن أعجزه) عن السعي
نفل الحج والعمرة يجعلهما واجبين لازمين، فلو خرج منهما لوجب أن يقضيهما، وهذا فيه مضرة على الولد، فدفعًا لتلك المضرَّة: شرع هذا الحكم؛ لأن دفع المفسدة مُقدَّم على جلب المصلحة ولأنه إذا تعارضت مفسدتان: قُدِّمت أخفهما، وهذا هو المقصد منه.
(23)
مسألة: يكون المسلم قادرًا على الحج والعمرة بتسعة شروط: أولها: أن يجد راحلة تحمله من منزله إلى مكة وتُرجعه إليه: سواء كان ذلك ملكًا له أو أجرة، بدون مِنَّة من أحد، ثانيها: أن يقدر على الركوب على الراحلة بدون مشقة، ثالثها: أن يجد نفقة وزادًا يكفيه من حين خروجه من منزله إلى رجوعه إليه بدون مِنَّة من أحد، رابعها: أن يكون هذا الزاد والراحلة مناسبين لحاله، بحيث لا يختلف كثيرًا عن مركوبه وزاده العاديين، خامسها: أن يكون ذلك الزاد والراحلة زائدين عن الواجبات، بحيث يكونان فائضين بعد قضاء ديونه العاجلة والمؤجَّلة، وقضاء الكفارات، والزكوات، والنذور، ونفقات مَنْ يعول بحيث يُبقي ما يكفيهم إلى رجوعه، سادسها: أن يكون هذا =
(كِبَرٌ أو مرض لا يُرجى برؤه) أو ثُقل لا يقدر معه على ركوب إلا بمشقة شديدة، أو كان نضو الخلقة لا يقدر أن يثبت على راحلة إلا بمشقة غير محتملة:(لزمه أن يُقيم من يحج ويعتمر عنه) فورًا (من حيث وجبا) أي: من بلده؛ لقول ابن عباس: إن امرأة من خثعم قالت: يا رسول الله: إن أبي أدركته فريضة الله في الحج شيخًا كبيرًا لا يستطيع أن يستوي على الراحلة أفأحج عنه؟ قال: "حجِّي عنه" متفق
الزاد والراحلة زائدين عن حوائجه الأصلية: من مسكن، وثياب، وفرش، وأواني، وأثاث، وكتب علم ينتفع بها، وأدوات وآلات صنعته ونحو ذلك مما يحتاجه في يومه وليلته، سابعها: أن يكون آمنًا على نفسه في سفره أمنًا عاديًا، أي: بدون خفارة وحراسة وحماية غير عادية، ثامنها: أن يغلب على ظنه وجود العلف والماء للدَّواب في الطريق، أو الوقود للسيارات ونحو ذلك، تاسعها: أن يكون الوقت كافيًا للوصول إلى مكة بسير معتدل دون مشقة فوق المعتاد؛ لقواعد: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} فاشترط الشارع لوجوب الحج والعمرة: الاستطاعة والقدرة، ويلزم من ذلك: توفُّر تلك الشروط التسعة حتى يكون مُستطيعًا بحقٍ دون مشقة أو ضيق أو مِنَّة من أحد، أو خوف، الثانية: السنة القولية؛ حيث بيَّن صلى الله عليه وسلم: أن المراد بالسبيل - الوارد في الآية - هو: الزاد والراحلة، وهذا هو مناط وجوب الحج والعمرة، الثالثة: المصلحة؛ حيث إن الحج والعمرة يقتضيان قطع مسافات طويلة ذهابًا وإيابًا وإقامة، وهذا فيه ضرر بفقدان تلك الأمور التسعة إما على نفسه أو على أهله، فدفعًا لتلك المضرَّة اشتُرطت تلك الشروط التسعة، دفعًا للضرر، ودفع المفسدة مقدم على جلب المصلحة.
عليه
(24)
(ويُجزئ) الحج والعمرة (عنه) أي: عن المنوَّب عنه إذًا (وإن عوفي بعد
(24)
مسألة: إذا لم يقدر المسلم على السفر للحج والعمرة الفرضين بسبب صعوبة الركوب عليه، أو لمرض لا يُرجى برؤه، أو لِكبَر سن، أو لثُقل وزيادة وزن، أو هزال شديد، أو كان السفر يشق على نفسيته مشقة عظيمة: فيجوز له أن يُنيب غيره من يحج أو يعتمر عنه إن كان قادرًا ماليًا، فإن لم يقدر: سقطا عنه؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية صلى الله عليه وسلم حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد أمر المرأة التي جاءت إليه تسأله عن الحج عن أبيها الشيخ الكبير بأن تحج عنه، وهذا يلزم منه: سقوطه عن الكبير، والمريض، ومن يصعب عليه الركوب، والهزيل، والسمين جدًا مثل الكبير في ذلك، لعدم الفارق، فيكون من باب مفهوم الموافقة المساوي، الثانية: المصلحة؛ حيث إن هؤلاء لو حجُّوا على ما هم عليه من الأعذار: للحق بهم الضرر، فدفعًا لذلك: شُرع هذا الحكم، أصله: قوله صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا ضرار في الإسلام" حيث إنه عام، فيشمل ما نحن فيه، وجازت النيابة هنا؛ توسعة على المسلمين ورفعًا للحرج عنهم، فإن قلتَ: لمَ سقطا عن غير المستطيع مطلقًا؟ قلتُ: لأن الواجب يسقط بالعجز عنه، كالقيام في الصلاة يسقط بالعجز عنه مع أنه ركن فيها. [فرع]: لا يُشترط في النائب عن من لم يستطع الحج والعمرة: أن يُحرم من بلد المنيب - وهو: القادر ماليًا، دون بدنه بل يجوز أن يكون النائب عنه بعيدًا عن بلده، فلو كان غير القادر في بغداد مثلًا، وأناب من يحج عنه من أهل مكة: لأجزأ ذلك، وكذلك العمرة؛ للتلازم؛ حيث إن المقصود فعل الحج والعمرة بالقيام بأركانهما وواجباتهما، وقد حصل ذلك فيلزم: الإجزاء: سواء كان النائب من بلده، أو لا، فإن قلتَ: يُشترط أن يحرم النائب من بلد المنيب أوجهته؛ للقياس، بيانه: كما أن المنيب إذا أراد أن يحج أو يعتمر: فإنه يُحرم من بلده أو جهته فكذلك نائبه مثله، والجامع: أن الحج أو العمرة لذلك المنيب فينبغي أن تتحد الجهة قلتُ: هذا لا يصح؛ لأن =
الإحرام) قبل فراغ نائبه من النسك أو بعده؛ لأنه أتى بما أمر به فخرج من العهدة،
(25)
ويسقطان عمَّن لم يجد نائبًا،
(26)
ومن لم
المقصود هو: حصول الحج والعمرة بأركانهما وواجباتهما، أما السعي إلى ذلك من مكان قريب أو بعيد فليس بمقصود، والأمور بمقاصدها فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض التلازم مع القياس" فنعمل بالتلازم؛ لأنه يفي بالمقصود، وعندهم: لا.
(25)
مسألة: إذا شُفي المريض المنيب بعد إحرام النائب عنه بحج أو عمرة: فإنهما يُجزئان عن ذلك المريض الذي شُفي؛ للتلازم؛ حيث يلزم من شفائه بعد إحرام نائبه بهما: أن تُجزئه تلك الحجة أو العمرة؛ لكونه فعل ماله فعله، وأتى بما أُمر به، فيكون خارجًا عن العهدة. [فرع]: إذا شُفي المريض المنيب قبل إحرام النائب - بحج أو عمرة - ولكن هذا النائب لم يعلم بذلك، وأحرم فيهما حتى أنجزهما: فإنهما لا يجزئان عن فرض الحج والعمرة عن المريض الذي شفي ولكنهما يصحَّان نفلًا عنه، ويجب على هذا المريض الذي شفي أن يحج ويعتمر فرضه في تلك السنة إن أمكنه، أو في السنة القادمة؛ للتلازم؛ حيث يلزم من شفائه قبل إحرام نائبه: أن يعود الوجوب إليه؛ نظرًا لزوال العذر - وهو المرض - قبل دخول النائب عنه فيه.
(26)
مسألة: إذا لم يجد العاجز عن الحج والعمرة - بسبب كبر، أو مرض - نائبًا عنه: فإنهما يسقطان عنه؛ للتلازم؛ حيث يلزم من عدم القدرة على فعل الواجب: سقوطه؛ لأن الواجب يسقط بالعجز عنه كالقيام في الصلاة يسقط عمَّن عجز عنه.
يحج عن نفسه: لم يحج عن غيره،
(27)
ويصحُّ أن يستنيب قادر وغيره في نفل حج أو بعضه،
(28)
والنائب أمين فيما يُعطاه ليحجَّ منه، ويحتسب له نفقة رجوعه وخادمه
(27)
مسألة: الشخص الذي لم يقم بفرض الحج والعمرة عن نفسه لا يجوز أن يحج أو يعتمر عن غيره، فإن حج أو اعتمر عن غيره وهو لم يفعلهما عن نفسه: فإنهما يكونان عن نفسه، ويُعطى المنيب ما دفعه إليه من نفقة؛ للسنة القولية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد سمع رجلًا يقول: لبيك عن شبرمة فقال له: "أحججت عن نفسك؟ " قال: لا، قال:"حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة" حيث دلَّ هذا على وجوب الحج عن النفس أولًا، ثم إن أراد أن يحج عن الغير: فعل في الأعوام القادمة؛ لأن الأمر هنا مطلق، وهو يقضي الوجوب ابتداءً؛ ولأن "ثمَّ" للتراخي، ويلزم من ذلك: أن من حج عن غيره وهو لم يحج عن نفسه: فحجه يكون له؛ لاقتضاء هذا الحديث، والعمرة كالحج في ذلك؛ لعدم الفارق من باب "مفهوم الموافقة"، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: لأنه يجب أن يبدأ بنفسه فيما وجب بأصل الشرع؛ ولهذا: يجب أن يدعو لنفسه، وينفق على نفسه ونحو ذلك قبل والديه وولده؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم:"ابدأ بنفسك ثم بمن تعول".
(28)
مسألة: إذا أدَّى شخص فرض الحج والعمرة فيجوز له أن يستنيب غيره بأن يحج ويعتمر عنه نفلًا، أو يستنيب من يفعل عنه بعض أعمال الحج كالرمي ونحوه: سواء كان ذلك المنيب قادرًا أو لا؛ للقياس؛ بيانه: كما يجوز له أن يستنيب غيره في توزيع زكاة ماله، فكذلك يجوز له أن يستنيب غيره في الحج أو بعضه، أو العمرة، والجامع: أن كلًا منهما تدخله النيابة، وهذا للتيسير على المسلمين، وهذا المقصد منه.
إن لم يخدم مثله نفسه
(29)
(30)
(ويُشترط لوجوبه) أي: الحج والعمرة (على المرأة:
(29)
مسألة: إذا أعطى المنيب نائبه مالًا ليحج عنه أو يعتمر: فإن هذا النائب أمين يصرف من هذا المال بالمعروف في ذهابه إلى مكة وإقامته فيها، ورجوعه منها، دون إسراف، أو تقتير، ويرد النائب ما زاد إلى المنيب، ويُطالبه بما نقص عليه للقياس؛ بيانه: كما أن الوكيل أمين في مال الموكِّل، فكذلك هذا مثله، والجامع: النيابة المالية في كل.
(30)
مسألة: إذا خالف النائب ما أمره به المنيب مما لا يُخل بالحج والعمرة المأمور بهما: فيصح ذلك وهذا له صور: أولها: إذا أمره المنيب بأن يحج عنه مفردًا فحج النائب بالتمتُّع أو القران: صحَّ ذلك؛ للتلازم؛ حيث إن النائب أتى بما أُمر به وزيادة فتلزم الصحة، ثانيها: إذا أمره المنيب بحج تمتع فحج النائب قارنًا، أو بالعكس: صحَّ ذلك؛ للتلازم؛ حيث إن مقصود المنيب أن يجمع له النائب حجة وعمرة في سفرة واحدة فحصل ذلك: فتلزم الصحة، ثالثها: إذا أمره بحج تمتُّع أو قِران، فحج النائب مفردًا: صح ذلك مفردًا، ويردُّ النائب إلى المنيب مالًا قدر ما تركه من النسك الذي أمره به؛ للتلازم حيث يلزم من وقوع الحج بأركانه وواجباته: صِحَّته إفرادًا، ويلزم من عدم فعله للتمتع أو القِران أن يرد ثمن الهدي الذي يستلزمانه، رابعها: إذا أمره المنيب بالحج، فحج النائب ثم اعتمر لنفسه، أو أمره المنيب بالعمرة، فاعتمر النائب، ثم حج لنفسه: صحَّ ذلك؛ للتلازم؛ حيث إن النائب قد فعل ما أُمر به بالتمام: فتلزم الصحة، خامسها: إذا حج النائب عن زيد، واعتمر عن عمرو في سفرة واحدة: صح ذلك؛ للتلازم؛ حيث إنه فعل ما أمره به كلُّ واحدٍ منهما على الكمال فتلزم الصحة، تنبيه: ذكرتُ هذه الصور؛ لكثرة ما يُسأل عنها أثناء وجودي في لجنة الفتوى والتوعية في الحج.
وجود محرمها)؛ لحديث ابن عباس: "لا تسافر امرأة إلا مع محرم، ولا يدخل عليها رجل إلا ومعها محرم" رواه أحمد بإسناد صحيح، ولا فرق بين الشابة والعجوز، وقصير السفر وطويله (وهو) أي: محرم السفر (زوجها أو من تحرم عليه على التأبيد بنسب) كأخ مسلم مكلف (أو سبب مباح) كأخ من رضاع كذلك،
(31)
وخرج من تحرم عليه بسبب مُحرَّم كأم المزني بها، وبنتها، وكذا: أم الموطوءة بشبهة وبنتها، والملاعن ليس محرمًا للملاعنة؛ لأن تحريمها عليه أبدًا؛ عقوبة وتغليظ عليه، لا
(31)
مسألة: المحرَم المشتَرط لوجوب الحج والعمرة على المرأة - كما سبق في مسألة (6) - هو: الذكر المسلم المكلَّف الذي تحرم تلك المرأة عليه على التأبيد بنسب، أو سبب مباح كزوجها، وابنه، وأبيها وجدها وإن علا، وابنها وإن نزل، وزوج ابنتها، وزوج أمها، وأخيها من الرضاع: سواء كانت شابة، أو لا، وسواء كان الطريق طويلًا أو لا، وسواء كانت حرة أو أمة، وسواء كان معها نساء أو لا؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم:"لا تُسافر امرأة إلا مع محرم، ولا يدخل عليها رجل إلا ومعها محرم" فحرَّم سفرها لوحدها؛ لأن النهي هنا مطلق، فيقتضي التحريم، وهذا عام؛ لأن "امرأة" نكرة في سياق نفي، وهو من صيغ العموم، فيشمل ما ذكرنا، وهو مطلق في السفر فيشمل الطويل والقصير، ويلزم من لفظ "محرم": اشتراط كونه ذكرًا مكلَّفًا؛ لأن هذا هو الذي يستطيع الدفاع عنها، أو منعها من المعصية؛ حيث إن معنى:"المحرم": المانع، فإن قلتَ: لمَ اشتُرط ذلك للمرأة؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن المرأة ناقصة عقل ودين - كما ورد في الحديث - فقد تستحسن أقبح الرجال بسبب كلام أو منظر، أو يستحسنها هو بسبب وجود الشيطان، فتقع الفاحشة؛ قال صلى الله عليه وسلم:"ما اجتمع رجل مع امرأة أجنبية عنه إلا وثالثهما الشيطان" فسدًا للذرائع: اشتُرط ذلك.
لحرمتها،
(32)
ونفقة المحرم عليها: فيُشترط لها ملك زاد وراحلة لهما،
(33)
ولا يلزمه مع بذلها ذلك سفر معها،
(34)
ومن أيست منه: استنابت،
(35)
وإن حجَّت بدونه:
(32)
مسألة: الذي حَرُمت عليه المرأة بسبب مُحرَّم، أو بسبب مُشتبه به أو نحو ذلك: لا يصلح أن يكون محرمًا لها: فلو زنى رجل بامرأة لا يصلح أن يكون هذا الزاني محرمًا لابنتها، ولا لأمها، ولو وطأ رجل امرأة وطء شبهة كأن يظنها امرأته: فلا يصح أن يكون محرمًا لابنتها، ولا لأمها، وإذا لاعن رجل امرأة: فلا يصح أن يكون محرمًا لها؛ للتلازم؛ حيث إن الوطء المحرم، أو الوطء بشبهة، أو الملاعنة يلزم منها: عدم صلاحية الواطئ أو الملاعن لأن يكون محرمًا لأم أو بنت الموطوءة، أو الملاعنة؛ لكونه قد وقع بسبب محرم، أو فيه شُبهة، أو لكونه وقع عقوبة وتغليظًا: فلا يكون ذلك الرجل محرمًا شرعيًا.
(33)
مسألة: نفقة المحرم الذي يذهب مع المرأة لحجها أو عمرتها تكون على المرأة فيُشترط عليها أن تقوم بنفسها وبمحرمها، فإن لم تقدر على ذلك: سقطا عنها؛ للتلازم؛ حيث يلزم من اشتراط المحرم لوجوب حج المرأة وعمرتها: اشتراط الزاد والراحلة لها ولمحرمها.
(34)
مسألة: إذا طلبت المرأة من محرمها أن يُسافر معها للحج أو العمرة، وبذلت له ما يصلح له من الزاد والراحلة وامتنع هو: فلا يُلزم بأن يُسافر معها؛ للمصلحة؛ حيث إن السفر فيه مشقة قد لا يتحمَّلها من طلبت منه ذلك، فدفعًا لذلك: لا يُلزم بالسفر معها.
(35)
مسألة: إذا لم تجد المرأة محرمًا يُسافر معها مع بذلها له ما يُريد من الزاد والراحلة: فيجب عليها أن تُنيب عنها من يحج عنها ويعتمر؛ للقياس، بيانه: كما أن الكبير يُنيب عنه من يحج عنه ويعتمر فكذلك المرأة التي لم تجد محرمًا مثله، والجامع: العجز عن السفر في كل.
حرم وأجزأ
(36)
(وإن مات من لزماه) أي: الحج والعمرة: (أُخرجا من تركته) من رأس المال: أوصى به أو لا، ويحج النائب من حيث وجبا على الميت؛ لأن القضاء يكون بصفة الأداء، وذلك لما روى البخاري عن ابن عباس: أن امرأة قالت: يا رسول الله: إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت أفأحج عنها؟ قال: "نعم حجِّي عنها، أرأيتِ لو كان على أمك دين أكنتِ قاضيته؟ اقضوا الله، فالله أحق بالوفاء"،
(37)
ويسقط بحج أجنبي عنه
(38)
لا عن حي بلا إذنه،
(39)
وإن ضاع ماله:
(36)
مسألة: إذا سافرت المرأة للحج والعمرة بمفردها بدون محرم: فالحج يجزئ عنها، ولكنها تأثم؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية: حيث قال صلى الله عليه وسلم: "لا تسافر امرأة إلا مع محرم" حيث حرّم السفر: لأن النهي مطلق، فيقتضي التحريم وهو خاص بالنهي عن سفرها دون محرم، ومن فعل محرمًا فهو آثم، الثانية: القياس، بيانه: كما أن من حج أو اعتمر وهو تارك لواجب كنفقة من يعول يصح حجه وعمرته مع الإثم، فكذلك المرأة إذا سافرت بدون محرم: يصح حجها وعمرتها مع الإثم، والجامع: أن كلًا منهما ترك واجبًا، وأقام أركان وواجبات الحج والعمرة.
(37)
مسألة: إذا مات من توفرت فيه شروط وجوب الحج والعمرة - كما سبق بيانها في مسألة (6) - فيجب أن يُحج عنه من تركته قبل إخراج الدين والوصية: سواء أوصى بذلك أو لا، وسواء كان مُفرِّطًا أو لا؛ للسنة القولية؛ حيث أمر صلى الله عليه وسلم أن يُحج عن المرأة التي ماتت قبل أن تقوم بالحج الذي نذرته، وهو أمر مطلق، فيقتضي الوجوب، والعمرة كالحج في هذا؛ لعدم الفارق من باب "مفهوم الموافقة"، فإن قلتَ: لمَ وجب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه إبراء لذمة ذلك الميت، تنبيه: قوله: "ويحج النائب من حيث وجبا على الميت" هذا على رأي المصنف، وقد بينا أن الراجح: أنه يُجزئ أن يحج النائب من أي بلد كان ولو كان من مكة، وذلك في الفرع التابع لمسألة (24).
(38)
مسألة: إذا حج أجنبي عن الميت أو اعتمر عنه: أجزأ ذلك عن الميت: سواء استأذن الميت قبل موته، أو الورثة أو لا؛ للقياس، بيانه: كما أن الدَّين يُقضى عن المدين وتبرأ ذمته وإن لم يعلم المدين فكذلك الحال هنا، والجامع: أن كلًا منهما دين قد انشغلت الذمة به، فبرأت بفعله، أو بفعل غيره؛ لأنه هو المقصود.
(39)
مسألة: لا يجوز أن يحج شخص أو يعتمر عن حي إلا بإذنه؛ للقياس بيانه: كما أن الزكاة لا يجوز أن تخرج عن الحي إلا بإذنه، فكذلك الحال هنا، والجامع: أن كلًا منهما عبادة تدخلها النيابة، فلم تجز عن المكلف الحي إلا بإذنه.
حجَّ به من حيث بلغ، وإن مات في الطريق: حُجَّ عنه من حيث مات.
(40)
(40)
مسألة: إذا سافر شخص للحج أو العمرة فضاع ماله، أو مات قبل وصوله إلى مكة: فإنه يُقام عنه نائب من حيث بلغ إن كان المال يكفي، فإن لم يوجد ما يكفي أو لم يُوجد نائب: سقط عنه الحج؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" حيث يجب على هذا أن يفعل المقدور عليه، وما عجز عنه، أو مات دونه: فهو ساقط عنه، وهذا من تسهيل الشريعة.
هذه آخر مسائل باب "حقيقة الحج والعمرة وحكمهما وشروطهما والنيابة فيهما" ويليه باب
"المواقيت المكانية والزمانية للحج والعمرة"
باب المواقيت
الميقات لغة: الحد، واصطلاحًا: موضع العبادة وزمنها
(1)
(وميقات أهل المدينة: ذو الحُلَيْفَة) بضم الحاء وفتح اللام، بينها وبين المدينة ستة أميال أو سبعة، وهي: أبعد المواقيت من مكة: بينها وبين مكة عشرة أيام (و) ميقات (أهل الشام ومصر والمغرب: الجُحْفَة) بضم الجيم وسكون الحاء المهملة، قرب رابغ بينها وبين مكة ثلاث مراحل (و) ميقات (أهل اليمن: يَلَمْلَم) بينه وبين مكة ليلتان (و) ميقات (أهل نجد) والطائف: (قَرن) بسكون الراء، ويقال:"قرن المنازل" و"قرن الثعالب" على يوم وليلة من مكة (و) ميقات (أهل المشرق) أي: العراق وخراسان ونحوهما: (ذات عرق): منزل معروف، سُمِّي بذلك لأن فيه عرقًا، وهو: الجبل الصغير، وبينه وبين مكة نحو مرحلتين
(2)
باب المواقيت المكانية والزمانية للحج والعمرة
وفيه إحدى عشرة مسألة:
(1)
مسألة: المواقيت: جمع ميقات، وهو: لغة: الحد، والتوقيت: تحديد وقوع الشيء بمكان أو زمان مُعيَّنين، والميقات اصطلاحًا:"ما حدَّده الشارع ووقَّته لإيقاع الحج والعمرة منه وفيه": فحدَّد الشارع مواقيت مكانية لا يجوز الإحرام إلا منها، وحدَّد مواقيت زمانية لا يجوز الحج والعمرة إلا فيها، فإن قلتَ: لمَ بُدئ بذكر المواقيت؟ قلتُ: لأن أول ما يبدأ به من أراد الحج والعمرة هو: الإحرام، فلا بدَّ من بيان مكانه ووقته.
(2)
مسألة: المواقيت المكانية التي يجب على المريد للحج والعمرة أن يحرم منها خمسة: أولها: ذو الحُلَيفة، وهو المعروف بـ"أبيار علي" وهو ميقات أهل المدينة وكل من سافر إلى مكة عن طريق المدينة وهو قريب جدًا من المدينة، وهو يبعد =
(وهي) أي: هذه المواقيت (لأهلها) المذكورين (ولمن مرَّ عليها من غيرهم) أي: من
عن مكة (400) كم تقريبًا، وهو يُعتبر أبعدها عن مكة، ثانيها: الجُحْفَة، وهو معروف بمدينة "رابغ" الآن، وهو ميقات أهل الشام ومصر والمغرب، ولكن حجاج تلك البلدان يُحرمون الآن من ذي الحُلَيْفة، وبين رابغ وبين مكة سبع مراحل، أو يحرمون من بلدانهم، فإذا حاذوا "بلد رابغ" جوًا أو بحرًا أو برًا نووا الإحرام دون توقف؛ لعدم وضوح هذا المكان - وهو: الجحفة، ولعدم كثرة الماء فيه، ثالثها: يَلَمْلَم، وهو المعروف الآن بـ"السَّعدية"، وهو ميقات أهل اليمن، يبعد عن مكة بمرحلتين، رابعها: قرن المنازل، ويُعرف الآن بـ"السيل الكبير"، ويوازيه طريق الهدى أو الكراء وهو:"وادي محرم"، وهو يبعد عن مكة بمرحلتين - حوالي (80) كم - وهو: ميقات أهل نجد والطائف، خامسها: ذات عرق، ويُعرف الآن بـ"الضَّريبة" وهو: ميقات أهل المشرق كالعراق وفارس ونحوهما؛ للسنة القولية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد وقَّت لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل نجد قرنًا، ولأهل اليمن يلملم، ولأهل العراق: ذات عرق - كما روى ذلك ابن عباس وعائشة رضي الله عنهم فإن قلتَ: لمَ شُرعت تلك المواقيت؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تعظيم لبيت الله، وتشريفه، بحيث لا يُقبلون عليه، ويطوفون به إلا وهم على هيئة خاصة وهي: تجرُّدهم من زينة الدنيا؛ ليتذكَّروا الآخرة، وما سيحصل فيها، ولإظهار فقرهم أمام خالقهم وعند بيته، وهذا أدعى للاستجابة، ولأجل أن تكون تلك المواقيت المكانية حصنًا حصينًا وحمى لا يجوز تجاوزها إلا بهيئة خاصة، فإن قلتَ: لمَ كانت بعض تلك المواقيت أبعد من بعض بالنسبة لمكة؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن أسماء تلك المواقيت هي: أسماء لقرى كانت عامرة في عهده صلى الله عليه وسلم، فأمر المسلم أن يحرم منها؛ نظرًا لوجود ما يحتاجه لإحرامه فيها من ماء ولباس وناس، وطعام وشراب، تنبيه: قوله: "رابغ بينها وبين مكة ثلاث مراحل" قلتُ: إن بينها وبين مكة سبع مراحل كما قال النووي، وهو الواقع الآن.
غير أهلها،
(3)
ومَنْ منزله دون هذه المواقيت يُحرم منه بحج وعمرة
(4)
(ومن حج من أهل مكة فـ) إنه يُحرم (منها)؛ لقول ابن عباس: "وقَّت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل نجد قرنًا، ولأهل اليمن يلملم، هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن يُريد الحج والعمرة، ومن كان دون ذلك فمهلُّه من أهله، وكذلك أهل مكة يُهلُّون منها" متفق عليه،
(5)
ومن لم يمر بميقات:
(3)
مسألة: لا يختصُّ كلُّ ميقاتٍ بمن وُضع له، بل يُحرم كل شخص من أي ميقات مرَّ به: سواء كان ممن وضع لهم ذلك أو لا: فالعراقي أو المصري يحرم من "السيل" إذا مرَّ به، والنجدي أو اليمني يحرم من ذي الحليفة إذا مرَّ به وهكذا؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم:"هنَّ لهنَّ ولمن أتى عليهنَّ من غير أهلهنَّ ممن كان يريد الحج والعمرة" وهذا عام للجميع، فيشمل من كان ميقاته أبعد أو أقرب إلى مكة؛ لأن "من" شرطية، وهي من صيغ العموم، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إنه لو كُلِّف كل شخص بأن يُحرم من الميقات الخاص ببلده: لشق ذلك على المسلمين، فدفعًا لذلك شرّع هذا.
(4)
مسألة: إذا كان منزل شخص يوجد بين تلك المواقيت ومكة: فيُحرم من منزله لحج وعمرة، وإذا كان له منزلان: فيحرم من أقربهما إلى مكة؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "فمن كان دونهنَّ فمهلُّه من أهله"، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تيسير.
(5)
مسألة: إذا أراد شخص من أهل مكة الحج، أو أراده شخص من غير أهلها ولكنه فيها وقت الحج: فإنه يُحرم به من مسكنه في مكة؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "وكذلك أهل مكة يُهلُّون منها" ومن كان فيها من غيرهم في حكمهم إذا أنشأوا النية فيها، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه دفع مشقة =
أحرم إذا علم أنه حاذى أقربها منه؛ لقول عمر رضي الله عنه: "انظروا إلى حذوها من طريقكم" رواه البخاري، ويُسنَّ أن يحتاط، فإن لم يُحاذ ميقاتًا: أحرم عن مكة بمرحلتين
(6)
(وعمرته) أي: عمرة من كان بمكة يُحرم لها (من الحلِّ)؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم "أمر عبد الرحمن بن أبي بكر أن يعمر عائشة من التَّنعيم" متفق عليه،
(7)
ولا يحلُّ لحرٍّ
خروجه إلى الميقات لأجل الإحرام بالحج، في حين أنه سيجمع بين الحل - وهي: عرفة - والحرم - وهو: الطواف، لكون الجمع بينهما مقصود.
(6)
مسألة: إذا أراد الشخص الحج أو العمرة، ولا يوجد واحد من المواقيت الخمسة في طريقه: فإنه يُحرم إذا غلب على ظنه أنه يُحاذي ويوازي أقرب المواقيت إليه، ويُستحب أن يُحرم إذا وازى أبعدها عن مكة، فإن لم يغلب على ظنه شيء: فيُحرم من مكان يبعد عن مكة بمرحلتين - وهي ما يقارب ثلاثين ميلًا -؛ لقاعدتين: الأولى: قول الصحابي؛ حيث إن عمر رضي الله عنه قال - لأهل العراق لما شقَّ عليهم الإحرام من قرن المنازل -: "انظروا إلى حذوها من طريقكم" فكانت ذات عرق، وغيرهم مثلهم في ذلك؛ لعدم الفارق من باب "مفهوم الموافقة" الثانية: المصلحة؛ حيث إن ذلك فيه دفع مشقة الانحراف عن الطريق لأجل الإحرام من تلك المواقيت، وإحرامه من مكان يبعد عن مكة بمرحلتين فيه احتياط للدِّين، وعدم المشقة على المحرم؛ لمناسبة ذلك؛ حيث لا ميقات دون ذلك.
(7)
مسألة: أهل مكة، أو غيرهم ممن أقاموا بمكة فترة: يحرمون للعمرة من أقرب الحل لهم، وهو:"التَّنعيم"، ويُعرف أيضًا بـ"مسجد عائشة" رضي الله عنها، للسنة القولية؛ حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم "قد أمر عبد الرحمن بن أبي بكر أن يعتمر بأخته عائشة من التَّنعيم" فلو صح الإحرام بالعمرة لأهل مكة منها: لما أمر =
مسلم مُكلَّف أراد مكة أو الحرم: تجاوز الميقات بلا إحرام إلا لقتالٍ مُباح، أو خوف أو حاجة تتكرَّر كحطَّاب ونحوه، فإن تجاوزه لغير ذلك: لزمه أن يرجع ليُحرم منه إن لم يخف فوت الحج أو على نفسه، وإن أحرم من موضعه: فعليه دم،
(8)
وإن
النبي صلى الله عليه وسلم بهذا؛ لما فيه من المشقَّة، فلزم اشتراط ذلك، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: ليكون المعتمر جامعًا بهذا بين الحل والحرم، وهو شرط في النسك.
(8)
مسألة: يجوز للمسلم الحر المكلَّف أن يتجاوز تلك المواقيت الخمسة بدون إحرام إذا لم يُرد الحج أو العمرة: سواء كان بعذرٍ أو لا؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "هُنَّ لهنَّ من غير أهلهنَّ ممن يُريد الحج والعمرة" حيث دلَّ مفهوم الصفة على أن من لم يُرد الحج والعمرة يجوز له تجاوز تلك المواقيت بدون إحرام ودخول مكة وهذا المفهوم عام فيشمل من له عذر وغيره، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إنه لو كُلِّف كل شخص بالإحرام وهو لم يُرد الحج والعمرة: للحق الناس حرج ومشقة، ولتعطَّلت مصالحهم، ولضاق بهم الحرم، فدفعًا لذلك: شرع هذا، فإن قلتَ: يجوز تجاوز تلك المواقيت الخمسة بدون إحرام للمعذورين فقط كمن يُقاتل قتالًا مباحًا، أو خاف على نفسه، أو من يُكرِّر الدخول مرارًا كالحطَّابين، والجمَّالين وأهل البريد ونحوهم، أما غير المعذور: فلا يجوز له تجاوزها ودخول مكة إلا بإحرام، فإن دخلها بدون ذلك: فإنه يجب عليه الرجوع إليها فيحرم منها إن لم يخف على نفسه، أو يخف فوات الحج، وإن أحرم من موضعه: فعليه دم - وهو: ذبح شاة وهو ما ذكره المصنف هنا -؛ لقول الصحابي؛ حيث قال ابن عباس: "لا يدخل أحد مكة إلا بإحرام" وهذا عام؛ لأن "أحد" نكرة في سياق نفي وهي من صيغ العموم، فيشمل المعذور وغيره، لكن المصلحة خصَّصت المعذور "كالحطَّاب ونحوه" فأخرجته من هذا العموم؛ لدفع المشقة عنه؟ قلتُ: إن كثيرًا من أئمة الحديث ضعَّفوا سند =
تجاوزه غير مكلَّف ثم كُلِّف: أحرم من موضعه،
(9)
وكُره إحرام قبل ميقات، وبحج قبل أشهره وينعقد
(10)
(وأشهر الحج: شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي
هذا القول من ابن عباس، وعلى فرض قوته: فإنه مخالف لما رواه هو بنفسه - حيث إنه هو راوِ حديث "ممَّن يريد الحج والعمرة" - وإذا خالف الصحابي الحديث الذي رواه: فإنا نأخذ بما رواه لا بما رآه كما بينتُ ذلك في كتابي: "مخالفة الصحابي للحديث النبوي الشريف"، وكذلك خالف السنة القولية، فلا اجتهاد مع النص، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "الخلاف فيما إذا خالف الصحابي ما رواه هل نعمل بما رآه أو بما رواه؟ "، وكذا:"تعارض السنة القولية مع قول الصحابي".
(9)
مسألة: إذا تجاوز الكافر والمجنون، والصبي، والعبد، تلك المواقيت بدون إحرام: فلا شيء عليهم، فإن أسلم الكافر، وأفاق المجنون، وبلغ الصبي، وعتق العبد بعد تجاوزهم ذلك فإنهم يُحرمون من الموضع الذي حصل لهم ذلك فيه، وإن كان في نفس مكة ويصح ذلك منهم؛ للتلازم؛ حيث يلزم من مرور هؤلاء من تلك المواقيت وهم غير مكلَّفين بالحج: عدم وجوب ذلك عليهم، ويلزم من حصول التكليف بعد تجاوزهم لها: أن يُعاد إليهم وجوب الحج، فيُبادروا بعمل الحج من فورهم.
(10)
مسألة: إذا أحرم بالحج قبل أن يصل إلى ميقاته، أو أحرم به قبل دخول وقته - وهو: شوال، وذو القعدة وذو الحجة -: فإن الإحرام ينعقد، ولكن يُكره له ذلك؛ للسنة الفعلية؛ حيث "إنه صلى الله عليه وسلم كان يُحرم من الميقات" ولا شك أنه يفعل الأفضل، وقال ابن عباس:"من السنة أن لا يحرم بالحج إلا في أشهر الحج" وإذا قال الصحابي ذلك: فإن له حكم الحديث المرفوع، ويلزم منه: أن فعل =
الحجة) منها يوم النحر، وهو يوم الحج الأكبر.
(11)
غير ذلك مكروه؛ لمخالفته للسنة، فإن قلتَ: لمَ كُره ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه دفع مشقة طول زمن بقاء الإحرام عليه.
(11)
مسألة: المواقيت الزمانية هي: أشهر الحج وهي: شوال، وذو القعدة، وذو الحجة؛ للكتاب؛ حيث قال تعالى:{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} والأشهر: جمع شهر، وأقل الجمع: ثلاثة - كما بينتهُ في كتابي "أقل الجمع عند الأصوليين" فلا يكون هذا الجمع: شهرين وجزءًا من الشهر، فإن قلتَ: إن أشهر الحج: "شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة" ويكون اليوم العاشر منها وهو ما ذكره المصنف هنا؛ لقول الصحابي؛ حيث ثبت ذلك عن ابن عباس وابن عمر، وابن مسعود رضي الله عنهم؟ قلتُ: هذا اجتهاد منهم مُعارض لظاهر الكتاب ولا يصح أن يخصِّصه، ولا اجتهاد مع النص، فإن قلتَ: لمَ كانت ثلاثة أشهر؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه توسعة على الناس، إذ يجوز أن يؤخر أعمال الحج إلى آخر ذي الحجة ولو بدون عذر، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه "تعارض قول الصحابي مع الكتاب" فعندنا: يُعمل بظاهر الكتاب، وعندهم: يُعمل بقول الصحابي ويخصص عموم الكتاب.
هذه آخر مسائل باب "المواقيت المكانية والزمانية" ويليه باب "الإحرام وكيفيته وأحكامه
وأنواع الأنساك والتلبية"
باب الإحرام
لغة: نية الدخول في التحريم؛ لأنه يُحرِّم على نفسه بنيته ما كان مباحًا له قبل الإحرام من النكاح والطيب ونحوهما، وشرعًا:(نية النُسك) أي: نية الدخول فيه، لا نية أن يحج أو يعتمر
(1)
(سُنَّ لمريده) أي: لمريد الدخول في النسك من ذكر وأنثى (غسل) ولو حائضًا ونفساء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم "أمر أسماء بنت عُميس - وهي نفساء - أن تغتسل" رواه مسلم، و"أمر عائشة أن تغتسل لإهلال الحج وهي حائض" (أو تيمُّم؛ لعدم) أي: عدم الماء، أو تعذُّر استعماله؛ لنحو مرض
(2)
(و) سُنَّ له أيضًا
باب الإحرام وكيفيته وأحكامه وأنواع الأنساك والتلبية
وفيه ثنتان وأربعون مسألة:
(1)
مسألة: الإحرام لغة: نفس نية الدخول في التحريم، أي: نية المسلم أن يُحرِّم على نفسه ما كان مُباحًا قبل تلك النية، والإحرام اصطلاحًا: نية الدخول في الإحرام للنُّسك الذي يُريده من "تمتُّع" أو "قِران" أو "إفراد" أو "عمرة" وهو بهذه النية يُحرِّم على نفسه كل شيء كان حلالًا قبل ذلك كالنكاح والطيب ونحوهما، ولا بدَّ من قول أو عمل يصير به مُحرمًا؛ إذ لا يكون محرمًا بمجرَّد ما في قلبه من نية حج أو عمرة وقصدهما؛ لأن ذلك القصد بالقلب هو كائن منذ سنوات في بلده كما قرَّره ابن تيمية، وهذا الإحرام كتكبيرة الإحرام في الصلاة تمامًا وقد سبق بيانه.
(2)
مسألة: يُستحب أن يغتسل قبل إحرامه، فإن تعذَّر ذلك فيُستحب أن يتوضأ، فإن تعذَّر ذلك لعدم ماء، أو برد أو مرض: فيُستحب أن يتيمَّم،: سواء كان ذكرًا أو أنثى، طاهرة أو حائضًا أو نفساء؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "النفساء والحائض تغتسل وتحرم وتقضي المناسك كلها غير =
(تنظُّف): بأخذ شعر وظفر، وقطع رائحة كريهة؛ لئلا يحتاج إليه في إحرامه فلا يتمكَّن منه
(3)
(و) سُنَّ له أيضًا (تطيُّب) في بدنه بمسك أو بخور، أو ماء ورد ونحوها؛ لقول عائشة رضي الله عنها:"كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه قبل أن يحرم ولحلِّة قبل أن يطوف بالبيت" وقالت: "كأني أنظر إلى وبيض المسك في مفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم" متفق عليه،
(4)
وكُرِه أن يتطيب في ثوبه
(5)
وله استدامة
أنها لا تطوف بالبيت"، وقد أمر صلى الله عليه وسلم عائشة وأسماء بنت عميس بأن تغتسلا عند الإحرام، الثانية: السنة الفعلية؛ حيث "كان صلى الله عليه وسلم يتجرَّد لإحرامه ويغتسل"، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه إزالة أيِّ رائحة كريهة قد يتأذى بها الحجاج الآخرون، وقد يتأذى هو بنفسه إذا طال الزمن عليه.
(3)
مسألة: يُستحب أن يتنظَّف قبل أن يُحرم بأن يأخذ شعر عانته، وإبطيه، ويُقلِّم أظفاره، ونحو ذلك؛ للمصلحة، حيث إن ذلك فيه منع ظهور رائحة كريهة منه فتؤذيه أو تؤذي الآخرين.
(4)
مسألة: يُستحب أن يتطيَّب قبل أن يُحرم بأي طيب، بأن ضع ذلك على رأسه وإبطيه، وبعض بدنه؛ للسنة الفعلية؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه إظهار رائحة طيبة منه، وهو نافع عند كثرة الزحام.
(5)
مسألة: يحرم أن يضع الطيب على لباس الإحرام؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "لا تلبسوا ثوبًا مسَّه الزعفران ولا الورس" وهما من أنواع الطيب، فحرَّم ذلك؛ لأن النهي هنا مُطلق، وهو يقتضي التحريم، فإن قلتَ: لمَ حُرِّم ذلك؟ قلتُ: لأن الطيب يُنافي المقصد من مشروعية الحج، وهو أنه يأتي أشعث أغبر، فإن قلتَ: إن هذا مكروه فقط، وهو ما ذكره المصنف هنا؟ قلتُ: لم أجد دليلًا على هذه الكراهة، ولم أجد قرينة قد صرفت هذا النهي من التحريم إلى الكراهة.
لبسه ما لم ينزعه، فإن نزعه: فليس له أن يلبسه قبل غسل الطيب منه
(6)
ومتى تعمَّد مسَّ ما على بدنه من الطيب، أو نحَّاه من موضعه ثم ردَّه إليه أو نقله إلى موضع آخر: فدى،
(7)
لا إن سال بعَرَق أو شمس
(8)
(و) يُسنُّ له أيضًا (تجرُّد من مخيط)
(6)
مسألة: إذا جعل الطيب في لباس الإحرام: فله الاستمرار في لبسه بشرط: أن لا ينزعه، فإن نزعه لاغتسال ونحوه: فلا يلبسه مرة ثانية إلا بعد غسل الطيب منه، وإن لبسه قبل غسله: فعليه فدية؛ للتلازم؛ حيث إن ذلك فيه قصد التطيُّب، وهذا من محظورات الإحرام فيلزم عدم الجواز، والفدية إن فعل، تنبيه: هذه المسألة مبنية على أن وضع الطبيب في اللباس مكروه - وهو رأي المصنف -، والراجح أنه حرام كما سبق.
(7)
مسألة: إذا وضع الطيب على بدنه قبل لبس إحرامه، ثم إنه بعد لبسه لإحرامه تعمَّد مسَّ هذا الطيب بأصابعه بتنحيته عن مكانه، أو تحريكه، أو نقله إلى موضع آخر: فإن عليه فدية؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "لا تمسُّوه طيبًا" - في الرجل الذي وقصته ناقته يوم عرفة فمات وهو محرم - حيث حرم عليه الطيب؛ لأن النهي هنا مطلق، وهو يقتضي التحريم، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: لتعمُّده مسَّ الطيب الذي هو من محظورات الإحرام؛ لمنافاته للمقصد من مشروعية الإحرام.
(8)
مسألة: إذا سال الطَّيب الذي وضعه على بدنه إلى لباسه أو إلى أي بقعة في البدن بدون قصدٍ منه ولا تعمُّد: فلا شيء عليه؛ للسنة التقريرية؛ حيث قالت عائشة رضي الله عنها: "كنا نضمد جباهنا بالمسك عند الإحرام، فإذا عرقت إحدانا: سال على وجهها فيراه النبي صلى الله عليه وسلم فلا ينهاها" فلو كان هذا فيه شيء لبيَّنه النبي صلى الله عليه وسلم، فلما ترك بيانه دلَّ على عدم وجوب شيء فيه؛ لأنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إنه =
وهو: كل ما يُخاط على قدر الملبوس عليه كالقميص والسراويل؛ "لأنه صلى الله عليه وسلم تجرَّد لإهلاله" رواه الترمذي
(9)
(و) سُنَّ له أيضًا: أن (يُحرم في إزار ورداء أبيضين) نظيفين، ونعلين؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"وليُحرم أحدكم في إزار ورداء ونعلين" رواه أحمد، والمراد بـ"النعلين": التاسومة، ولا يجوز له لبس "السرموزة" و"الجمجم" قاله في "الفروع"
(10)
(و) سُنَّ (إحرام عقب ركعتين) نفلًا، أو عقب فريضة، لأنه صلى الله عليه وسلم "أهلَّ
يشق منعه من السَّيلان، فدفعًا لذلك: شرع عدم وجوب شيء فيه؛ لأن المشقة تجلب التيسير، فيكون معفوًا عنه.
(9)
مسألة: يُستحب أن يتجرَّد من ثيابه العادية المخيطة، ثم يغتسل، ثم يلبس لباس الإحرام؛ للسنة الفعلية؛ حيث "إنه صلى الله عليه وسلم قد تجرَّد لإهلاله"، فإن قلتَ: لمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك يُسهِّل الاغتسال، ولبس لباس الإحرام، وليتذكَّر قيام الناس يوم القيامة حفاة عراة، وليتذكَّر أنه سيُفعل به كذلك بعد موته وسيُغسَّل، ويُلبس الكفن المشابه للباس الإحرام، وهذا يجعله يترك الدنيا وملذَّاتها، ويُقبل إلى العمل بالشريعة وترك الدنيا؛ لما في ذلك من المصالح الشاملة، فائدة: المراد من "المخيط": كل ما فُصِّل وخيط على هيئة بدن الإنسان بفَتَحات دخول الرأس، واليدين والرجلين كالقمصان، والسراويل، والدروع، والجبَّة والعباءة، ونحو ذلك: سواء كان ذلك قد خيط بخيط أو لا، كأن توضع فتحات من نفس الثوب بدون خياطة. [فرع]: يصح إحرامه بثيابه العادية، ويجب عليه أن يخلعها إذا علم بذلك، ويكون هذا الخلع عاديًا بدون شقِّ، ولا شيء عليه؛ للسنة القولية؛ حيث إن يعلى بن أمية قد أحرم في جُبَّة "فأمره صلى الله عليه وسلم بخلعها من رأسه" ولم يرد: أنه أمره بشقِّها أو فدية، فدل على عدم وجوب ذلك؛ تيسيرًا وتوسعة على العباد، وهو المقصد منه.
(10)
مسألة: يُستحب أن يُحرم الرجل في إزار ورداء أبيضين، نظيفين، ونعلين؛ للسنة القولية؛ وهي من وجهين أولهما: قوله صلى الله عليه وسلم: "وليُحرم أحدكم في إزار =
دُبُر الصلاة" رواه النسائي
(11)
(ونيته: شرط) فلا يصير مُحرمًا بمجرَّد التجرُّد، أو التلبية من غير نية الدخول في النُّسك؛ لحديث:"إنما الأعمال بالنيات"
(12)
ورداء ونعلين" والذي صرف هذا الأمر من الوجوب إلى الندب السنة التقريرية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم لم يُنكر على أصحابه ما لبسوا في إحرامهم، ثانيهما: قوله صلى الله عليه وسلم: "خير ثيابكم البياض" وهو عام، فيشمل ما نحن فيه؛ لأن "ثيابكم" جمع منكَّر أضيف إلى معرفة، وهذا من صيغ العموم، ولفظ "خير" يلزم منه: الاستحباب، فإن قلتَ: لمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تسوية الناس في لباسهم؛ لمنع التفاخر، وتذكُّر يوم القيامة، وعند تكفينهم، وهذا فيه أعظم العِبَر لمن كان له قلب، فائدة: المراد بـ"النِّعلين": هما النعلان ذات السِّيور التي تظهر بشرة القدم من بينها، ولذلك لا يجوز لبس البابوج - وهو: السَّرموزة -، ولا المداس - وهو: الجمجم؛ لكونهما يُغطيان بشرة القدم.
(11)
مسألة: يُستحب أن تجعل إحرامك بعد صلاة نافلة أو فريضة؛ للسنة الفعلية؛ حيث قال جابر: "أهلَّ النبي صلى الله عليه وسلم دُبُر الصلاة"، وهذا عام لصلاة النفل والفرض؛ لأن لفظ "الصلاة" مفرد محلى بأل، وهو من صيغ العموم، فإن قلتَ: لمَ استُحب هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك أدعى للقبول؛ لأنه يكون طاعة بعد طاعة، ولشكر الله على أنه أوصله إلى هذا الميقات؛ ليقوم بذلك، تنبيه: لا يجوز أن تكون النافلة في وقت نهي كما سبق.
(12)
مسألة: تشترط النية للدخول في النُّسك الذي يُريد أن يقوم به من: تمتُعٍ أو قِران، أو إفراد، أو عمرة، فلو تجرَّد ولبس لباس الإحرام، ولبَّى بدون أن ينوي ذلك النُّسك: فلا يصح نسكه - وهذا ركن من أركان الحج والعمرة -؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئٍ ما نوى" وهذا =
(ويُستحب قول: اللهم إني أريد نسك كذا) أي: أن يُعيِّن ما يُحرم به، ويلفظ به وأن يقول:(فيسِّره لي) وتقبَّله مِنِّي،
(13)
وأن يشترط فيقول: (وإن حبسني حابس فمحلِّي حيث حبستني)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم لضباعة بنت الزبير - حين قالت له: إني أريد الحج وأجدني وجعة فقال: "حجِّي واشترطي وقولي: "اللهم محلِّي حيث حبستني" متفق عليه زاد النسائي في رواية إسنادها جيد: "فإن لك على ربك ما استثنيت" فمتى حبس بمرض أو عدو، أو ضلَّ عن الطريق: حلَّ ولا شيء عليه،
(14)
ولو
عام؛ لأن "الأعمال" جمع معرَّف بأل وهو من صيغ العموم، فيشمل ما نحن فيه لأن "النُّسك" عمل، فيلزم عدم قبوله إلا بنية.
(13)
مسألة: يُستحب أن يدعو عند نيته للنسك الذي يُريد الدخول فيه من تمتعٍ أو قِران، أو إفراد أو عمرة قائلًا:"يسِّره لي وتقبَّله مني"، ولا يتلفظ بالنسك أو ينطق به؛ للاستقراء؛ حيث ثبت بعد استقراء وتتبُّع أحوال النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أنهم كانوا يدعون الله بذلك عند إحرامهم، ولكنهم لا يتلفظون بالنُّسك الذي يريدون الدخول فيه، فإن قلتَ: لمَ لا يتلفَّظ بذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن نيته وقصده تكفي عن ذلك، ولأنه لو نطق كل شخص بما في قلبه من نيات: لتعالت الأصوات من رجال ونساء مما يُسبِّب الاضطراب والفتنة، فدفعًا لذلك: شُرع هذا، فإن قلتَ: إنه يُستحب أن يتلفظ بالنسك الذي يُريد الدخول فيه وهو ما ذكره المصنف هنا؟ قلتُ: لم أجد دليلًا على ذلك، بل الدليل على منعه؛ حيث إن التلفُّظ بذلك بدعة وإحداث بالدِّين فيكون مردودًا؛ عملًا بعموم قوله صلى الله عليه وسلم:"من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ".
(14)
مسألة: يُستحب أن يشترط عند إحرامه قائلًا: "وإن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني" هذا إذا كان خائفًا من عدم تمكُّنه من أداء نسكه بسبب ضعف =
شرط: "أن يُحلَّ متى شاء" أو"إن أفسده: لم يقضه": لم يصح الشرط، (15) ولا يبطل
يحسُّ به، أو مرض يخشى زيادته، أو عدو يهاجمه، أو عدم معرفته لطريق مكة، أما إن لم يكن خائفًا من شيء عند إحرامه فلا يشترط، ولو اشترط لن ينفعه؛ لقواعد: الأولى: السنة القولية؛ حيث إن ضباعة بنت الزبير قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: إني أريد الحج وأجدني وجعة فقال لها: "حجِّي واشترطي وقولي: "وإن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني" فيلزم من لفظ "وجعة": أن الذي يشترط هو الخائف من شيء عند إحرامه، وشرطه ينفعه، أما غير الخائف فلا يشترط ذلك، ولو اشترط لا ينفعه، الثانية: السنة الفعلية؛ حيث كان عمر رضي الله عنه يُنكر الاشتراط في الحج ويقول: "أليس حسبكم سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم أنه لا يشترط" الثالثة: فعل الصحابي؛ حيث إن كثيرًا من الصحابة كانوا لا يشترطون ذلك، فإن قلتَ: لمَ استُحب أن يشترط الخائف؟ قلتُ: للمصلحة؛ لأن هذا الشرط - وهو: قوله: "وإن حبسني
…
" - ينفعه؛ حيث إنه لو وقع ما خاف منه لجاز له أن يحلُّ من إحرامه بدون هدي، وهذا فيه تيسير عليه؛ لمراعاة حاله، فإن قلتَ: لمَ لا يشترط كل أحد؟ قلتُ: لكونه لن ينفعه ذلك الشرط حتى لو اشترطه، فلو طرأ عليه طارئ وتحلَّل: فلا يسقط عنه الهدي وإن اشترط، تنبيه: عبارة المصنف يلزم منها: أن الكل يشترط، وهذا غير صحيح كما سبق بيانه. (15) مسألة: إذا شرط عند إحرامه قائلًا: "إنه يُحلُّ متى شاء" أو قائلًا: "إن أفسد حجَّه فلن يقضيه": فلا يصح ذلك، فيجب عليه إن حلَّ إحرامه الهدي، وإن أفسده بشيء يجب عليه قضاؤه؛ للتلازم؛ حيث يلزم من وجوب إتمام الحج والعمرة: أن لا يصح هذا الاشتراط، ويلزم من عدم صحتهما: وجوب الهدي، أو القضاء إن حلَّ، أو أفسده.
الإحرام بجنون أو إغماء، أو سكر كموت،
(16)
ولا ينعقد مع وجود أحدها،
(17)
والأنساك: تمتُّع، وإفراد، وقِران (وأفضل الأنساك: التمتُّع) فالإفراد، فالقِران، قال أحمد:"لا أشكُّ أنه صلى الله عليه وسلم كان قارنًا، والمتعة أحب إلي" انتهى، وقال:"لأنه آخر ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم: ففي الصحيحين: أنه صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه لما طافوا وسعوا: "أن يجعلوها عمرة إلا من ساق هديًا" وثبت على إحرامه؛ لسوقه الهدي وتأسَّف بقوله: "لو استقبلتُ من أمري ما استدبرت ما سُقتُ الهدي ولأحللتُ معكم"
(18)
(وصفته) أي: التَّمتُّع: (أن
(16)
مسألة: إذا أحرمَ المكلف ثم بعد ذلك جُنَّ، أو أغمي عليه، أو سكر: فلا يبطل إحرامه؛ للقياس، بيانه: كما أنه لو مات: فإن إحرامه لا يبطل كما في حديث الذي وقصته ناقته وهو محرم فمات؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "يُبعث يوم القيامة مُلبيًا" فكذلك ما نحن فيه مثله والجامع: زوال العقل، وعدم الإدراك، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: لكونه قد عقد الإحرام وهو بكامل تكليفه ونواه، والطارئ أثناء الإحرام لا يؤثِّر عليه.
(17)
مسألة: لا ينعقد الإحرام ممن هو في حالة جنون، أو إغماء، أو سكر؛ للتلازم؛ حيث إن نية الدخول في الإحرام شرط من شروط الإحرام للحج والعمرة، والمجنون أو المغمى عليه أو السكران لا تصح النية منهم وهم في حالتهم تلك، فيلزم: عدم صحة الإحرام؛ لأن عدم الشرط يلزم منه عدم الحكم.
(18)
مسألة: الأنساك في الحج ثلاثة: التَّمتُّع، والإفراد، والقِران، وأفضلها: التمتع، ثم الإفراد، ثم القِران - وسيأتي بيانها -؛ للسنة القولية؛ وهي من وجهين: أولهما: قوله صلى الله عليه وسلم: "من أراد منكم أن يُهلَّ بحج فليفعل، ومن أراد أن يُهلَّ بحج وعمرة فليفعل، ومن أراد أن يُهلَّ بعمرة فليفعل" قالت عائشة رضي الله عنها: "فأهلَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بحج" وهذا يدل على مشروعية الأنساك الثلاثة، ثانيهما: أنه صلى الله عليه وسلم قد أمر الصحابة لما طافوا وسعوا أن يجعلوها عمرة إلا من =
يُحرم بالعمرة في أشهر الحج، ويفرغ منها، ثم يُحرم بالحج في عامه) من مكة، أو قربها، أو بعيد منها،
(19)
والإفراد: أن يُحرم بحج، ثم يعتمر بعد فراغه منه،
(20)
والقِران: أن يُحرم بهما معًا، أو بها ثم يُدخله عليها قبل شروعه في طوافها،
(21)
ومن أحرم به، ثم
ساق هديًا، وقال:"لو استقبلتُ من أمري ما استدبرتُ ما سُقتُ الهدي ولأحللتُ معكم" وهذا يلزم منه: أن التمتع هو أفضل الأنساك؛ لكونه تمنَّاه وتأسَّف لكونه قارنًا؛ لسوقه الهدي، وأمر أصحابه الذين لم يسوقوا الهدي أن يُحلِّلوا بعمرة، ثم يدخلوا في الحج - وهذا هو حقيقة التَّمتُّع، فإن قلتَ: لمَ كانت الأنساك ثلاثة؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه توسعة على العباد ومراعاة أحوالهم البدنية والمالية، فإن قلتَ: لمَ كان الأفضل التمتع؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن فيه جمع عبادات في سفرة واحدة وهي: الحج والعمرة، وذبح الدم، وفيه مراعاة الحاج من أنه يستمتع بما شاء بين إحلاله من العمرة وإحرامه للحج.
(19)
مسألة: صفة التمتع: أن يُحرم بالعمرة في أشهر الحج - وهي: شوال، وذو القعدة، وذو الحجة قبل التاسع منه -، فإذا فرغ منها يُحلُّ، ثم يتمتَّع بما شاء، ثم يحرم بالحج من عامه ذلك من مكة أو مكان قريب منها، ويقول عند إحرامه هنا:"لبيك عمرة مُتمتِّعًا بها إلى الحج"، لقول الصحابي: حيث قال ابن عمر رضي الله عنهم: "إذا اعتمر في أشهر الحج ثم أقام فهو متمتع".
(20)
مسألة: صفة الإفراد: أن يُحرم بحج فقط، ولا هدي عليه، وعليه طواف واحد وسعي واحد قبل الوقوف بعرفة أو بعده، وإن شاء فليأتي بعمرة بعد هذا، ولكن الأفضل ترك ذلك هنا؛ للسنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم لم يعتمر بعد حجه.
(21)
مسألة: صفة القِران: أن يُحرم بالحج والعمرة جميعًا، ينويهما معًا، ويطوف لهما طوافًا واحدًا، ويسعى لهما سعيًا واحدًا، أو يُحرم بالعمرة، ثم يُدخل الحج =
أدخلها عليه: لم يصح إحرامه بها
(22)
(و) يجب (على الأفقي) وهو: من كان مسافة قصر فأكثر من الحرم إن أحرم مُتمتِّعًا أو قارنًا (دم) نسك، لا جبران، بخلاف أهل الحرم، ومن هو منه دون المسافة فلا شيء عليه؛ لقوله تعالى:{ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} ، ويُشترط: أن يُحرم بها من ميقات، أو مسافة قصر فأكثر من مكة، وأن لا يُسافر بينهما، فإن سافر مسافة قصر فأحرم فلا دم عليه،
(23)
وسُنَّ
عليها وينويه قبل شروعه في طواف العمرة، إلا من ساق الهدي فيصح منه إدخال الحج عليها، ولو بعد طوافه بالعمرة؛ لقواعد: الأولى: السنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد حج قارنًا فنوى الحج والعمرة جميعًا، الثانية: السنة التقريرية؛ حيث قالت عائشة رضي الله عنها: "أهللنا بالعمرة، ثم أدخلنا عليها الحج" ولم يُنكره صلى الله عليه وسلم، وهذا يدل على جوازه؛ لأنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، الثالثة: التلازم؛ حيث يلزم من سوقه للهدي جواز إدخال الحج على العمرة ولو بعد طوافها؛ لوضوح قصده.
(22)
مسألة: إذا أحرم بالحج فقط، ثم بعد ذلك أحرم بالعمرة وأدخلها على الحج: لم يصح إحرامه بتلك العمرة، ويبقى على إحرامه بالحج؛ للتلازم؛ حيث إن عدم موافقته لصفة التمتع - وهو: الإحرام بالعمرة متمتعًا بها إلى الحج - وعدم موافقته لصفة القِران - وهو: إحرامه بهما معًا -: يلزم منه أن يبطل إحرامه بالعمرة، والبقاء على إحرام الحج فيكون مفردًا؛ لكونه أتى بصفة غير مُتعبَّد بها شرعًا فتكون مردودة، وهذا هو المقصد منه.
(23)
مسألة: الآفاقي - وهو: الذي يبعد مسكنه عن مكة مسافة قصر - وهو: (82) كم -: إذا أحرم مُتمتِّعًا أو قارنًا فيجب عليه هدي وهو دم نسك وهو: ذبح شاة - بشرطين: أولهما: أن يُحرم بذلك من أحد المواقيت الخمسة السابقة الذكر - في مسألة (2) من باب "المواقيت" -، فإن أحرم من مكان دون تلك =
لمفرد وقارن فسخ نيتهما بحج، وينويان بإحرامهما ذلك عمرة مفردة؛ لحديث الصحيحين السابق، فإذا حلَّا: أحرما به؛ ليصيرا مُتمتِّعين ما لم يسوقا هديًا، أو يقفا بعرفة،
(24)
وإن ساقه مُتمتِّع: لم يكن له أن يحلَّ فيُحرم بحج إن طاف وسعى لعمرته قبل
المواقيت من جهة مكة -: فلا هدي عليه، ثانيهما: أن لا يُسافر المتمتع بعد إحلاله من العمرة، فإن سافر مسافة قصر، ثم رجع مُحرمًا للحج: فلا دم عليه؛ للكتاب؛ حيث قال تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} إلى قوله: {لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} فالذي يبعد عن الحرم مسافة قصر هو: الآفاقي؛ حيث لا يكون أهله من حاضري المسجد الحرام، وهو الذي يُحرم من أحد المواقيت، وهو الذي أدَّى عمرة وحجة في سفرة واحدة ولم يُسافر بينهما مسافة قصر، فلزم الشرطان من الآية، فإن قلتَ: لمَ وجب عليه دم نسك، لا دم جبران؟ قلتُ: لأن دم النسك دم شكر فيؤكل منه، ودم الجبران دم وجب لجبران ما نقص من فعل محظور ونحوه، فهذا لا يؤكل منه.
(24)
مسألة: يُستحب لمن أحرم بإفراد، ولمن أحرم بقِران: أن يفسخا نيتهما، وينويان عمرة مفردة، فإذا أحلَّا منها: أحرما بالحج؛ ليكونا مُتمتِّعين، وذلك بشرطين: أولهما: أن لا يكون القارن قد ساق الهدي، فإن ساقه فلا يصح الفسخ، ثانيهما: أن لا يكونا قد وقفا بعرفة فإن وقفا فيها: لم يصح الفسخ؛ للسنة القولية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد أمر أصحابه لما طافوا وسعوا أن يجعلوها عمرة إلا من ساق الهدي، وهذا الأمر وقع قبل الوقوف بعرفة، فلزم الشرطان من ذلك، فإن قلتَ: لمَ اشتُرط الشرطان؟ قلتُ: لكونه لما ساق الهدي أصبحت نية القِران مؤكدة بالسوق حيث نواها لله، وما هو لله لا يُنقض، ولأنه نوى بالوقوف بعرفة أنه للحج المفرد أو للقِران، فلا تنقلب النية بعد وقوعها خاصة في الركن الأعظم للحج قال صلى الله عليه وسلم:"الحج عرفة".
حلق، فإذا ذبحه يوم النحر: حلَّ منهما
(25)
(وإن حاضت المرأة) المتمتعة قبل طواف العمرة (فخشيت فوات الحج: أحرمت به) وجوبًا (وصارت قارنة)؛ لما روى مسلم: أن عائشة رضي الله عنها كانت متمتعة فحاضت فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: "أهلِّي بالحج"، وكذا: لو خشيه غيرها،
(26)
ومن أحرم وأطلق: صحَّ وصرفه لما
(25)
مسألة: من نوى عند إحرامه نسك التمتع، وهو قد ساق الهدي معه: فلا يحلُّ إحرامه بعد انقضاء طواف وسعي عمرته، لكنه قبل حلقه ينوي الحج فإذا ذبح الهدي يوم النحر ورمى: فإنه يتحلَّل منهما التحلُّل الأول؛ للسنة القولية؛ حيث قال ابن عمر: "تمتع الناس بالعمرة إلى الحج فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من كان معه هدي: فإنه لا يحلُّ من شيء حرم عليه حتى يقضي حجه" وهذا عام لمن ساق الهدي: سواء كان مُتمتِّعًا أو قارنًا؛ لأن "مَنْ" شرطية، وهي من صيغ العموم.
(26)
مسألة: إذا أحرمت امرأة بالتمتع، ثم بعد ذلك حاضت أو نفست قبل طواف العمرة، أو في أثنائه، وخشيت أن يفوتها الحج - فيما لو بقيت في أيام عادتها أو نفاسها حتى تطهر -: فيجب عليها أن تقلب نيتها وتُحرم بالحج، وتترك العمرة، وتكون بذلك قارنة، أما إذا حاضت أو نفست بعد طواف العمرة: فإنها تُكمل السعي والتقصير، ثم تحل، ثم تحرم بالحج كالعادة، لكون السعي لا تشترط له الطهارة، وكذلك من أحرم بالتمتع، وخشي أن يفوته الوقوف بعرفة إن هو ذهب إلى الحرم ليؤدِّي العمرة: فإنه يترك العمرة، ويحرم بالحج، ويكون قارنًا؛ للسنة القولية؛ حيث إن عائشة رضي الله عنها كانت مُتمتعة، ثم حاضت قبل أن تطوف طواف العمرة فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم:"أهلِّي بالحج" ويلزم من ذلك أن تكون قارنة؛ وغيرها ممن خشي فوات الحج إذا هو اشتغل بالعمرة مثل عائشة؛ لعدم الفارق =
شاء،
(27)
وبمثل ما أحرم فلان: انعقد بمثله،
(28)
وإن جهله: جعله عمرة؛ لأنها اليقين،
(29)
فيكون من باب "مفهوم الموافقة"، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن من أحرم بالتمتع أراد أن يجمع حجة وعمرة بسفرة واحدة، فأراد الشارع أن لا يحرمه من ذلك عند حصول عذره، ولكون إدخال الحج على العمرة جائز بلا عذر، فلئن يكون إدخاله على العمرة بالعذر أولى.
(27)
مسألة: إذا نوى شخص الحج عند إحرامه وأطلق، فلم ينوِ في إحرامه التمتع، أو القِران أو الإفراد: فيصحُّ ذلك، ويصرفه فيما بعد لما شاء مما يناسبه من تلك الأنساك؛ للمصلحة؛ حيث إن أكثر المسلمين لا يعرفون تلك الأنساك ولا الفروق بينها، ولو كُلِّف كل شخصٍ معرفتها لشق ذلك عليهم، فدفعًا لذلك: صحَّ ما نواه، وللتيسير على الناس.
(28)
مسألة: إذا قال زيد عند إحرامه: "أنا أحرمتُ بمثل ما أحرم به عمرو": فإن إحرام زيد ينعقد بمثل ما أحرم به عمرو: فإن كان عمرًا متمتعًا فزيد كذلك، وإن كان قارنًا فزيد كذلك، وإن كان مفردًا فزيد كذلك؛ للسنة التقريرية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم سأل علي رضي الله عنه قائلًا:"بمَ أحرمت؟ " فقال علي: بما أحرمتَ به يا رسول الله، فلم يُنكر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يلزم منه إقراره على ذلك، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تيسير على الخلق.
(29)
مسألة: إذا قال زيد عند إحرامه: "أنا أحرمتُ بمثل ما أحرم به عمرو" ولكنه جهل ما أحرم به عمرو: فإن زيدًا يجعل إحرامه عن عمرة؛ للقياس؛ بيانه: كما يجوز صرف تمتُّع وقِران إلى عمرة مع العلم بهما فمن باب أولى جواز صرف ما يُجهل من الأنساك إلى عمرة، والجامع: أن العمرة مُتيقَّنة في كل.
ويصحُّ: أحرمتُ يومًا، أو بنصف نسك،
(30)
لا "إن أحرم فلان فأنا مُحرم"؛ لعدم جزمه
(31)
(وإذا استوى على راحلته: قال) قطع به جماعة، والأصح عقب إحرامه:(لبيك اللهم لبيك) أي: أنا مُقيم على طاعتك، وإجابة أمرك (لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك) روي ذلك عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث متفق عليه،
(32)
وسُنَّ أن يذكر نسكه
(30)
مسألة: يصح أن يقول عند إحرامه: "أحرمتُ يومًا" أو يقول: "أحرمتُ بنصف نسك"؛ للتلازم؛ حيث يلزم من نيته لذلك: أن يحلّ إذا انتهى اليوم، أو انتهى نصف النسك الذي نواهما؛ لأن الأمور بمقاصدها، أما لو قال:"أحرمتُ زمنًا" أو قال: "أحرمتُ نسكًا": فلا يُحل إلا إذا أتمَّ نسكًا كاملًا من تمتع، أو قِران أو إفراد، أو عمرة.
(31)
مسألة: إذا قال زيد: "إن أحرم عمرو فأنا مُحرم": فلا يصح ذلك؛ للتلازم؛ حيث إن الإحرام عبادة يُشترط فيها الجزم والعزم في نيتها فيلزم من تردُّده في ذلك: عدم صحة هذا الإحرام؛ لعدم وجود شرطه؛ لكون المتردَّد فيه والمشكوك كالمعدوم.
(32)
مسألة: إذا فرغ من إحرامه: فإنه يُستحب أن يقول: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك": سواء بعد ركوبه مركوبه أو قبله؛ للسنة الفعلية؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم يقول ذلك، فإن قلتَ: لمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن هذا القول مُتضمِّن لإجابة النداء الذي أمر فيه بقوله: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} ، وهو مُتضمن لتوحيد الله، وامتثال أوامره، وترك نواهيه، وإقرار بالاستمرار على طاعته، وهذه التلبية يُحبُّها الله تعالى، وكلما أكثر العبد منها كلما كان أحبُّ إلى الله وأحظى عنده كما قال ابن القيم، فإن قلتَ: لمَ كُررت التلبية؟ قلتُ: لأنه أراد إقامة بعد إقامة =
فيها،
(33)
وأن يبدأ القارن بذكر عمرته،
(34)
وإكثار التلبية، وتتأكد: إذا علا نشزًا، أو هبط واديًا، أو صلَّى مكتوبة، أو أقبل ليل أو نهار، أو التقت الرفاق، أو سمع مُلبيَّاً، أو فعل محظورًا ناسيًا، أو ركب دابته، أو نزل عنها، أو رأى البيت
(35)
(يُصوِّت بها
لتكثير الاستجابة. [فرع]: تُستحب الزيادة على تلك الألفاظ في التلبية فيقول: "لبيك وسعديك والخير كله بين يديك" ونحو ذلك مما قُصد فيه تعظيم الله؛ لفعل الصحابي؛ حيث كان عمر وابنه وأنس رضي الله عنهم يزيدون في التلبية مثل ذلك، وهو إظهار للعبودية وهو المقصد منه.
(33)
مسألة: يُستحب أن يُسمِّي في التلبية النسك الذي أحرم به فيقول: "لبيك عمرة متمتعًا بها إلى الحج" أو يقول: "لبيك عمرة وحجًا" أو يقول: "لبيك حجًا" أو يقول: "لبيك عمرة"؛ للسنة الفعلية؛ حيث قال أنس: سمعتُ النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لبيك عمرة وحجًا"، وهذه التسمية يؤكد ما نواه وقصده من تلك الأنساك، وهو المقصد منه.
(34)
مسألة: يُستحب أن يبدأ القارن بذكر عمرته عند التلبية فيقول: "لبيك عمرة وحجًا"؛ للسنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد فعل ذلك؛ لكونه قارنًا، فإن قلتَ: لمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: لأن أعمال العمرة يُبدأ بها قبل الحج فقُدِّم في الذكر ما قُدِّم في العمل.
(35)
مسألة: يُستحب أن يُكثر المحرم من التلبية، ويتأكد هذا الاستحباب إذا اعتلى شيئًا مرتفعًا، أو هبط منه، أو فرغ من صلاة، أو أقبل ليل أو نهار، أو استوى على راحلته، أو التقى بآخر مُحرم، أو سمعه يُلبِّي، أو فعل محظورًا ناسيًا، أو نزل من دابته، أو اعتلى عليها، أو رأى البيت، أو دخل المسجد الحرام، أو دخل أحد مساجد المشاعر؛ لقواعد: الأولى: السنة الفعلية؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم يُكثر التلبية، ويُكررها في بعض تلك المواضيع، والأوقات، الثانية: =
الرجل) أي: يجهر بالتلبية؛ لخبر السائب بن خلَّاد مرفوعًا: "أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالإهلال والتلبية" صحَّحه الترمذي،
(36)
وإنما يُسنُّ الجهر بالتلبية في غير مساجد الحلِّ وأمصاره،
(37)
وفي غير طواف القدوم والسعي
فعل الصحابي؛ حيث كان بعض الصحابة يفعل ذلك في تلك المواضع والأوقات، الثالثة: القياس، بيانه: كما أنه يأتي بالتكبير في الصلاة عند الانتقال من حال إلى حال، فإذا قام أو ركع، أو سجد كبَّر فكذلك يفعل بالتلبية عند الانتقال من حال إلى حال، فإن قلتَ: لمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تجديد لتعظيم الله تعالى، وهذا يتسبَّب في كثرة الأجر، ومشاركة الجمادات له في ذلك، قال صلى الله عليه وسلم:"ما من مسلم يُلبِّي إلا لبَّى ما عن يمينه وشماله من شجر أو حجر أو مذر حتى تنقطع الأرض من ها هنا وها هنا".
(36)
مسألة: يُستحب أن يرفع الرجل المحرم صوته بالتلبية، ويجهر بها؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم:"أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالإهلال بالتلبية" والذي صرف هذا من الوجوب إلى الندب: السنة التقريرية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم لم يُنكر على من خفض في التلبية، فإن قلتَ: لمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن التلبية شعار الحج، والشعار يرفع عادة ليُقتدى به.
(37)
مسألة: يُكره الجهر بالتلبية داخل مُدن الحل ومساجدها، وقراها؛ لقول الصحابي؛ حيث أنكر ابن عباس على من سمعه يُلبِّي في المدينة المنورة وقال:"إنما التلبية إذا برزت"، فإن قلتَ: لمَ كُره ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إنه يقع في ذلك تشويش على الناس، وقد يكون فيه بعض الرياء والسمعة.
بعده،
(38)
وتُشرع بالعربية لقادر، وإلا: فبلغته،
(39)
ويُسنُّ بعدها دُعاء وصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم
(40)
(وتخفيها المرأة) بقدر ما تسمع رفيقتها، ويُكره جهرها فوق ذلك؛ مخافة الفتنة
(41)
،
(38)
مسألة: يُكره الجهر بالتلبية في طواف القدوم، وفي السعي بين الصفا والمروة؛ للمصلحة؛ حيث إن الجهر بها يؤدِّي إلى التشويش على الطائفين والساعين، فدفعًا لذلك: شرع هذا.
(39)
مسألة: يجب أن تكون التلبية بالعربية من القادر عليها، وأما غير القادر: فيُلبي بلغته؛ للقياس، بيانه: كما أنه يجب أن يذكر الله، ويُكبر في الصلاة بالعربية إن كان قادرًا عليها، وغير القادر يذكر الله ويُكبِّر بلغته فكذلك التلبية مثلهما والجامع: أن كلًا منها ذكر مشروع المقصود منه تعظيم الله، وهذا يكون بالعربية للقادر عليها، ويسقط ذلك عن غير القادر؛ لأن الواجب يسقط بالعجز عنه؛ تيسيرًا وتسهيلًا، وهذا هو المقصد.
(40)
مسألة: يُستحب للمحرم: أن يدعو لنفسه بالفلاح في الدنيا والآخرة، ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم بعد فراغه من التلبية؛ لقاعدتين: الأولى: السنة الفعلية؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم يدعو بعد فراغه من التلبية، الثانية: القياس، بيانه: كما أن الصلاة والأذان تُشرع فيهما الصلاة على النبي، فكذلك التلبية، والجامع: أن كلًا منهما موضع يُشرع فيه ذكر الله فتُشرع فيه الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، فإن قلتَ: لمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه مظنة استجابة الدعاء، لكونه ورد بعد ذكر الله، ولاختتام ذلك بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.
(41)
مسألة: يجب على المرأة أن تخفض صوتها في التلبية بقدر ما تُسمع بها رفيقتها التي بجانبها، ولا يجوز أن تجهر بها فوق ذلك؛ للمصلحة؛ حيث إن صوت المرأة عورة، فلو رفعت صوتها بها لأدَّى إلى أن يفتتن بها من في قلبه مرض، فسدًا لذلك حرم جهرها بها، تنبيه: قوله: "ويُكره جهرها" قلتُ: هذا بعيد؛ لأن الغالب وجود أجنبي قريبًا منها في الطريق إلى الحج والعمرة، والحكم للغالب.
ولا تكره التلبية لحلال.
(42)
.............................................................................................
(42)
مسألة: تُكره التلبية للحلال - وهو: غير المحرم - وهو قول الإمام مالك؛ لقاعدتين: الأولى: الاستقراء؛ حيث إنه لم يُنقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه أنهم لبُّوا في غير الإحرام، وهذا ثبت بعد استقراء وتتبُّع أحوالهم في ذلك، فلزم عدم مشروعية ذلك، الثانية؛ القياس، بيانه: كما يكره الجهر بالتلبية للمحرم داخل مدن وقرى الحل - كما سبق في مسألة (37) - فكذلك الحال هنا، والجامع: دفع التشويش واللَّبس عن الناس، فإن قلتَ: إن التلبية للحلال لا تكره، وهو ما ذكره المصنف هنا؛ للقياس؛ بيانه: كما أن سائر الأذكار تُشرع للمحرم ولغيره، فكذلك التلبية مثلها، والجامع: أن كلًا منهما يُعتبر ذكرًا، قلتُ: هذا فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ حيث إن الذكر مطلوب من المحرم وغيره، وورد فعله عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الإحرام وغيره، بخلاف التلبية فلم تفعل إلا أثناء الإحرام، ثم إن الذكر لا يُلبس ولا يُشوِّش على أحد، أما التلبية من غير المحرم فهي مُلبسة ومشوشة على الآخرين، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض القياسين": فنحن ألحقناه بالجهر بالتلبية للمحرم داخل الحل؛ لكونه أكثر شبهًا به عندنا، وهم ألحقوه بالذكر؛ لكونه أكثر شبهًا به عندهم، وهذا يُسمَّى بقياس "غلبة الأشباه". [فرع]: يُستحب أن يُلبَّى عن أخرس، وصغير، ومغمى عليه ومجنون، ومريض؛ للقياس، بيانه: كما أن أفعال الحج تُفعل عن هؤلاء فكذلك يُلبَّى عنهم، والجامع: تكميل نسكهم في كل.
هذه آخر مسائل باب "الإحرام وكيفيته وأحكامه وأنواع الأنساك والتلبية" ويليه باب
"محظورات الإحرام"
باب محظورات الإحرام
أي: المحرَّمات بسببه
(1)
(وهي) أي: محظوراته (تسعة): أحدها: (حلق الشعر) من جميع بدنه بلا عذر، يعني: إزالته بحلق: أو نتف، أو قلع؛ لقوله تعالى:{وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ}
(2)
(و) الثاني (تقليم الأظفار) أو قصَّها
باب محظورات الإحرام
وفيه تسع وخمسون مسألة:
(1)
مسألة: المقصود بمحظورات الإحرام: الأشياء التي يُمنع المحرم من فعلها أثناء إحرامه، وإذا فعلها لحاجةٍ وهو محرم: فلا إثم عليه، وعليه فدية، وإذا فعلها لغير حاجة: فإنه يأثم، مع وجوب الفدية عليه؛ لقواعد: الأولى: السنة القولية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد رخَّص لمن آذاه رأسه أن يحلقه، وعليه فدية ولم يأمره بالاستغفار، وهذا يلزم منه: عدم الإثم على من فعل محظورًا لحاجة، ووجوب الفدية، الثانية: القياس، بيانه: كما أن كفارة اليمين تجب إذا حنث بدون إثم، فكذلك الفدية واجبة إذا فعل محظورًا بدون إثم، والجامع: الحاجة في كل، الثالثة: التلازم؛ حيث يلزم من ارتكابه المحظور المحرم بلا حاجة: أنه يأثم؛ لكونه ارتكب ما يُعاقب على فعله.
(2)
مسألة: في الأول - من محظورات الإحرام - وهو: حلق الشعر وأخذه، فلا يجوز للمحرم أخذ شيء من شعر رأسه أو بدنه بحلق أو قصٍّ، أو نتف، أو قلع، وإن أخذ منه لغير عذر: فإنه يأثم، وعليه فدية، وإن أخذ منه لعذر: فعليه فدية فقط - وهي: إما ذبح شاة، أو صيام ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين لكل مسكين ربع صاع من بر، أو أرز، أو نصف صاع من تمر أو شعير، لقواعد: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ =
من يد أو رجل بلا عذر،
(3)
فإن خرج بعينه شعر، أو انكسر ظفره فأزالهما أو زالا
كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} فدلَّت الآية بدلالة الاقتضاء على: جواز أخذ المحرم من شعره إذا كان عنده عذر كالمرض ونحوه، لأن التقدير:"فمن كان منكم مريضًا أو به أذى من رأسه فأخذ: ففدية .. " الثانية: السنة القولية؛ حيث إن كعب بن عجرة قال: كان بي أذى في رأسي فحُملتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر على وجهي فقال: "ما كنتُ أرى الجهد يبلغ بك ما أرى، أتجد شاة؟ " قلتُ: لا، فنزلت الآية السابقة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"هو صوم ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين: نصف صاع طعامًا لكل مسكين أو ذبح شاة" حيث إن هذا مُبيِّن ومفُصِّل لما أجمل في الآية السابقة؛ حيث أذن له بالحلق، ثم أوجب عليه الفدية بالتخيير بين تلك الأمور الثلاثة: لأن "أو" للتخيير، وغير الحلق من نتف أو قلع كالحلق في هذا؛ لعدم الفارق من "باب مفهوم الموافقة"، الثالثة: القياس، بيانه: كما يحرم حلق رأس المحرم بدون عذر، ويفدى إذا فعله فكذلك شعر سائر بدنه مثله والجامع: أن كلًا منهما حلقه فيه ترفُّه مناف للمقصد من الإحرام، فإن قلتَ: لمَ كان هذا من محظورات الإحرام؟ قلتُ: لأن "المقصود من الإحرام هو: أن يكون المحرم أشعث أغبر، فالأخذ من الشعر مناف" لذلك؛ لكون ذلك فيه تزيِّن وتجمُّل.
(3)
مسألة: في الثاني - من محظورات الإحرام - وهو: تقليم الأظافر، فلا يجوز للمحرم أن يأخذ شيئًا من أظفار أصابع يديه أو رجليه بلا عذر، وإن أخذ منها بعذر أو بغيره: فتجب الفدية عليه - كما سبق بيانها في مسألة (2) -؛ لقاعدتين؛ الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} وقضاء التفث هو: حلق الرأس، وتقليم الأظافر ونتف الإبط - كما قال بعض الصحابة والتابعين - وهذا لا يكون إلا بعد النحر، ويدل مفهوم الزمان على: عدم جواز أخذ شيء =
مع غيرهما فلا فدية،
(4)
وإن حصل الأذى بقرح أو قمل ونحوه فأزال شعره لذلك: فدى،
(5)
ومن حُلِق رأسه بإذنه، أو سكت ولم ينهه: فدى،
(6)
ويُباح للمحرم غسل
من ذلك أثناء الإحرام، الثانية: القياس، بيانه: كما لا يجوز الأخذ من الشعر أثناء الإحرام فكذلك لا يجوز أخذ الأظفار، والجامع: أن كلًا منهما يُفضي إلى الترف والتزين المنافيين للمقصد الشرعي من الإحرام كما سبق.
(4)
مسألة: إذا أذاه شعر أو ظفر، فأزالهما؛ دفعًا لذلك الأذى، أو هما زالا وسقطا بلا تدخل منه كأن ينكسر ظفر، أو قطع جلدًا فيه شعر: فإنه لا فدية عليه؛ لقاعدتين: الأولى: القياس، بيانه: كما أنه لو صال وهجم صيد على المحرم، فقتل المحرمُ ذلك الصائل: فلا شيء عليه، فكذلك الحال هنا والجامع: أن ذلك فيه إزالة للأذى عنه في كل، الثانية: التلازم، حيث يلزم من سقوط ظفر أو شعر بلا تدخل منه: عدم الفدية عليه؛ لكونه تابعًا لغيره، والتابع لا يُفرد بحكم، فإن قلتَ: لمَ شُرع ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه دفع مشقة وحرج وتوسعة على المسلمين.
(5)
مسألة: إذا لحق المحرم ضرر بسبب قروح في جلده، أو قمل، أو شدة صداع أو حر أو نحو ذلك: فيُباح أن يحلق شعره بلا إثم، وتجب عليه فدية؛ للسنة القولية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد أمر كعب بن عجرة أن يحلق شعره لما رأى تأذيه من كثرة القمل، وأمره بفدية، ولم يأمره بالاستغفار، وهذا يلزم منه: أنه لا يأثم، وتجب الفدية، والأمر بالحلق للإباحة؛ لأنه ورد بعد حظر، وهذا فيه دفع الضَّرر عنه، وهو مقصد شرعي.
(6)
مسألة: إذا حلق عمرو شعر زيد المحرم، وزيد قد أذن بذلك، أو سكت ولم يُنكر ذلك: فإن زيدًا يأثم، وتجب عليه الفدية: سواء كان عمرو حلالًا أو محرمًا؛ للقياس، بيانه: كما أن زيدًا المحرم لو حلق شعره بنفسه: فإنه يأثم، =
شعره بسدر ونحوه
(7)
(فمن حلق) شعرة واحدة أو بعضها: فعليه طعام مسكين، وشعرتين أو بعض شعرتين فطعام مسكينين، وثلاث شعرات: فعليه دم (أو قلَّم) ظفرًا فطعام مسكين، وظفرين فطعام مسكينين و (ثلاثة: فعليه دم) أي: شاة، أو إطعام ستة مساكين، أو صيام ثلاثة أيام،
(8)
وإن خلَّل شعره وشكَّ في سقوط شيء به:
وعليه فدية فكذلك إذا أذن لغيره بحلقه أو سكت - في حين أنه يقدر على الامتناع - مثله، والجامع: أنه في كل منهما راضٍ بذلك الحلق، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه سد للذرائع والتحايل. [فرع]: إذا حلق المحرم حلالًا - أي: شخص لم يُحرم - أو قلَّم أظفاره: فلا شيء على المحرم؛ للتلازم؛ حيث يلزم من عدم وقوع المحظور - وهو الحلق والتقليم - على المحرم: عدم وجوب شيء عليه؛ لعدم مخالفته للشرع بارتكاب محظور.
(7)
مسألة: يُباح للمحرم أن يغسل رأسه وبدنه بماء وسدر وصابون وتحريكه أثناء غسله، ولا شيء عليه فيما لو سقط شعر بسبب ذلك؛ للسنة الفعلية؛ حيث "إنه صلى الله عليه وسلم قد غسل رأسه وهو محرم وحرك رأسه" وهذا يلزم منه: سقوط بعض الشعر عادة، ولو كان فيه شيء لبيَّنه صلى الله عليه وسلم ولكنه لم يبينه فيدل على إباحة ذلك؛ لأنه لا يجوز ترك البيان عن وقت الحاجة، فإن قلتَ: لمَ أُبيح ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه مُراعاة لأحوال الناس.
(8)
مسألة: تجب الفدية إذا حلق حلقًا أو قلَّم تقليمًا يُماط به الأذى، ويحصل به التزيُّن والترفُّه، وإزالة الشعث، وهذا لا يُقدَّر بشعرة أو شعرتين أو ثلاث، أو ظفر أو ظفرين أو ثلاثة، بل أكثر من ذلك، وهو مذهب الإمام مالك، ويقرب منه مذهب أبي حنيفة - وهو أنه إذا حلق ربع الرأس، وهو ما صحَّحه ابن عثيمين؛ لقاعدتين: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ} فيلزم من =
استُحبَّت
(9)
الثالث: تغطية رأس الذكر إجماعًا، وأشار إليه بقوله (ومن غطَّى رأسه
لفظ: "الأذى" أن تتعلَّق الفدية بحلق ما به أذى، ولا يكون الأذى في أربع أو خمس شعرات إذا أزالهما ذهب الأذى، بل الأذى يأتي من أغلب الرأس، فتكون الفدية واجبة إذا حلق أغلب الرأس، والأظفار مثل ذلك؛ لعدم الفارق من باب مفهوم الموافقة، الثانية: السنة القولية؛ وهو حديث كعب بن عجرة - السابق ذكره في مسألة (2) - حيث أوجب عليه الفدية بسبب حلقه كل شعر رأسه، والأظفار مثله؛ لعدم الفارق من باب مفهوم الموافقة، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: لأنه إذا حلق حلقًا أو قلَّم تقليمًا يحصل به التزين يكون بذلك مُخالفًا للمقصد من مشروعية الإحرام، وهو: أن يكون المحرم أشعث أغبر؛ ليكون أقرب إلى استجابة الدعوة، فإن قلتَ: تجب الفدية على المحرم إذا حلق ثلاث شعرات فأكثر، أو قلَّم ثلاثة أظفار، فأكثر، أما إذا حلق شعرة أو قلَّم ظفرًا: فعليه إطعام مسكين واحد، وإذا حلق شعرتين، أو قلَّم ظفرين: فعليه إطعام مسكينين، وهو ما ذكره المصنف هنا؛ للكتاب؛ حيث قال الله تعالى:{وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} حيث إن النهي هنا يتوجه إلى الجمع، وأقل الجمع ثلاث شعرات، فتجب الفدية فيها؛ لأنها أقل ما يُحمل عليه الحكم، أما ما هو أقل من ثلاث شعرات: فلا يُحمل على شيء إلا أنه يُحتاط في إطعام مسكين في كل شعرة ومسكينين في كل شعرتين ويُقال في الظفر مثل ذلك؟ قلتُ: إن الآية لا تدلُّ على ما قلتم بالمنطوق ولا بالمفهوم؛ لأن "رؤوس" جمع رأس، وليس جمع شعرات، تنبيه: قد سبق بيان المراد بالفدية في مسألة (2).
(9)
مسألة: إذا خلَّل المحرم شعر رأسه أو لحيته أو بدنه بمشط وشكَّ في سقوط شيء من الشعر: فلا شيء عليه، ولكن يُستحب أن يفدي؛ للمصلحة؛ حيث إن ذلك =
بملاصق: فدى) سواء كان معتادًا كعمامة، وبرنس، أم لا كقرطاس، وطين، ونَوْرة، وحنَّاء، أو عصبه بسير، أو استظلَّ في محمل راكبًا أو لا، ولو لم يُلاصقه، ويحرم ذلك بلا عذر، لا إن حُمل عليه، أو استظلَّ بخيمة، أو شجرة، أو بيت،
(10)
الرابع: لبس المخيط، وإليه الإشارة بقوله:(وإن لبس ذكر مخيطًا فدى)،
(11)
ولا يعقد عليه رداء
أكمل لإبراء الدِّين، والشك لا تبنى عليه أحكام. [فرع]: يُباح للمحرم أن يحتجم في رأسه للحاجة، ولو حلق بعض رأسه، ولا شيء عليه؛ للسنة الفعلية؛ حيث "إنه صلى الله عليه وسلم قد احتجم وهو محرم"، ولم يُبيَّن من أيِّ مكان قد احتجم، فينصرف إلى أنه قد احتجم في وسط رأسه؛ لأنه هو العادة فتخصِّصة به، ويلزم من الاحتجام حلق بعض شعر رأسه؛ حيث لا يمكن ذلك إلا به، وهذا توسعة على المسلمين، وهذا هو المقصد منه.
(10)
مسألة: في الثالث - من محظورات الإحرام - وهو: تغطية الذكر لرأسه، فلا يجوز للمحرم الذكر أن يغطِّي رأسه بشيء ملاصق له كالطاقية، والعمامة، والشماغ، والغترة ونحو ذلك، وإن فعل ذلك: فعليه فدية، بخلاف ما لو استظلَّ بخيمة، أو محمل، أو شجرة، أو بيت، أو كان يحمل متاعه على رأسه، أو كان على رأسه شيء يمسكه من التطاير كالحناء والعسل أو نحو ذلك: فهذا لا شيء عليه؛ للسنة الفعلية؛ حيث قال جابر: "ضربتُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم قبَّة بنمرة فبقى فيها حتى زالت الشمس في عرفة" وقال ابن عمر رضي الله عنهم: "رأيت رسول الله يُهلُّ مُلبِّدًا" أي: على رأسه شيء يُلبِّده به، فإن قلتَ: لمَ كان ذلك محظورًا؟ قلتُ: لأن تغطية الرأس يُعتبر من التزيِّن والتَّرف المخالف للمقصد من مشروعية الإحرام، تنبيه: قوله: "وطين ونَوْرة .. " قلتُ: لم أجد دليلًا قويًا على ما ذكره.
(11)
مسألة: في الرابع - من محظورات الإحرام - وهو: لبس الذكر المخيط، فلا يجوز للمحرم الذكر أن يلبس مخيطًا، فمن فعل ذلك: فعليه فدية، ويأثم؛ للسنة =
ولا غيره إلا إزاره ومنطقة، وهميانًا فيهما نفقته مع حاجة لعقد،
(12)
وإن لم يجد نعلين: لبس حُفَّين؛ أو لم يجد إزارًا لبس سراويل إلى أن يجد، ولا فدية،
(13)
الخامس:
القولية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم لما سئل عما يلبس المحرم قال: "لا يلبس القميص، ولا السراويل، ولا البرانس، ولا العمائم، ولا الخفاف" وهذه كلها مخيطة فيلزم النهي عنها، والنهي مطلق وهو يقتضي التحريم، فيكون المخيط من محظورات الإحرام، فإن قلتَ: لمَ كان ذلك محظورًا؟ قلتُ: لأن لبس المخيط فيه نوع تجمُّل وتزيُّن وترفُّه وهو مخالف للمقصد من مشروعية الإحرام، تنبيه: قد سبق بيان والمراد من المخيط، في مسألة (9) من باب "الإحرام وكيفيته" والمراد من الفدية في مسألة (2) من هذا الباب.
(12)
مسألة: لا يجوز للمحرم أن يعقد على لباس الإحرام أيَّ شيء بدون حاجة، أما إن احتاج إلى عقد إزاره لسبب خشيته من ظهور عورته، أو لأجل حفظ نفقته بوضع منطقة أو حزام ونحوهما لذلك: فلا بأس؛ لقاعدتين: الأولى: قول الصحابي؛ حيث إن ابن عمر رضي الله عنهم قال: "ولا يُعقد عليه شيئًا" الثانية: المصلحة؛ حيث إن دفع المفسدة يقتضي عقد الإزار، حماية له ولماله، فإن قلتَ: لمَ لا يعقد إزاره عند عدم الحاجة؟ قلتُ: لأن فيه شيئًا من التزيُّن المنافي للمقصد من الإحرام.
(13)
مسألة: يلبس المحرم نعلين، فإن لم يجدهما: فله لبس خُفَّين، ويلبس الإزار، فإن لم يجده: فله لبس السراويل، ولا شيء عليه، إلا إذا لبس ذلك مع وجود النعلين والإزار: فعليه فدية؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "من لم يجد نعلين فليلبس الخفَّين، ومن لم يجد إزارًا: فليلبس السراويل" حيث إن مفهوم الشرط يدل على عدم جواز لبس الخُفَّين أو السراويل عند وجود النِّعلين، والإزار، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه دفع مضرة مشيه بلا نعلين، وبلا إزار
الطيب، وقد ذكره بقوله:(وإن طيَّب) محرم (بدنه أو ثوبه) أو شيئًا منهما، أو استعمله في أكل أو شرب (أو إدَّهن) أو اكتحل أو استعط (بمطيَّب أو شمَّ) قصدًا (طيبًا، أو تبخَّر بعود ونحوه) أو شمَّه قصدًا، ولو بخور الكعبة: أثم و (فدى) ومن الطِّيب: مسك، وكافور، وعنبر، وزعفران، وورس، وورد، وبنفسج، والينوفر، وياسمين، وبان، وماء ورد، وإن شمَّها بلا قصد، أو مسَّ مالا يعلق كقطع كافور، أو شمَّ فواكه، أو عودًا، أو شيحًا، أو ريحانًا فارسيًا، أو نمامًا، أو ادَّهن بدهن غير مطيَّب: فلا فدية،
(14)
السادس: قتل صيد البر واصطياده، وقد أشار إليه بقوله:
(14)
مسألة: في الخامس - من محظورات الإحرام - وهو: الطيب، فلا يجوز للمحرم أن يُطيِّب بدنه، أو لباسه أثناء الإحرام بأيِّ نوع من أنواع الطِّيب؛ وإن فعل ذلك بقصد منه: فإنه يأثم، وعليه فدية، أما إن لم يقصد ذلك: فلا إثم ولا فدية؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "لا يلبس من الثياب شيئًا مسَّه الزعفران ولا الورس" وهذا يدل بمفهوم الموافقة على تحريم التطيُّب للمحرم؛ لكون "الزعفران والورس" من الطِّيب؛ ولأن النهي هنا مطلق، فيقتضي التحريم، فإن قلتَ: لمَ كان ذلك من المحظورات؟ قلتُ: لأن التطيب من باب الزينة، والتجمُّل، والترفُّه، وهذا مناف للمقصد من مشروعية الإحرام. [فرع]: يُباح أن يدهن المحرم رأسه وبدنه بأي دهن لا توجد فيه رائحة طيِّبة؛ للسنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد فعل ذلك، فإن قلتَ: لمَ أُبيح ذلك؟ قلتُ: لعدم وجود زينة فيه، فلم يُخالف المقصد من مشروعية الإحرام. [فرع آخر]: من فعل محظورًا من المحظورات الخمسة السابقة - في مسائل (2، 3، 10، 11، 14) وهي: حلق الشعر، أو تقليم الأظافر، أو تغطية الذكر لرأسه، أو لبسه للمخيط، أو الطيب -: فإن الفدية واجبة عليه، وهي: صيام ثلاثة أيام، أو ذبح شاة، أو إطعام ستة مساكين لكل مسكين ربع صاع من بر أو أرز، أو نصف صاع من غيره، أما =
(وإن قتل صيدًا مأكولًا بريًا أصلًا) كحمام، وبط ولو استأنس، بخلاف إبل وبقر أهلية ولو توحشَّت (ولو تولَّد منه) أي: من الصيد المذكور (ومن غيره) كالمتولِّد بين المأكول وغيره، أو بين الوحشي وغيره؛ تغليبًا للحظر
(15)
(أو تلف) الصيد المذكور (في
باقي المحظورات التي ستأتي فلا تجب الفدية تلك على مُخالفيها، وإنما تجب أمورًا أخرى سيأتي تفصيلها، وقد ذكرت هذا الفرع؛ لأني رأيت بعض المفتين في الحج لا يُفرِّقون بينها.
(15)
مسألة: في السادس - من محظورات الإحرام - وهو: قتل صيد البر واصطياده، فلا يجوز للمحرم أن يصيد عمدًا صيدًا برِّيًا مأكولًا متوحشًا أصلًا، ولو استأنس كالحمام والبط ونحوهما، وكذا المتولِّد من متوحِّش ومُستأنس، فلو فعل ذلك قصدًا فإنه يأثم، وعليه جزاؤه - كما سيأتي بيانه - بخلاف غير المأكول فيقتل؛ لقاعدتين: الأولى: الكتاب، وهو من وجهين: أولهما: قوله تعالى: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} فالنهي هنا مطلق فيقتضي تحريم الصيد على المحرم وفساده كالميتة، ثانيهما: قوله تعالى: "أحلَّ لكم صيد البحر" ثم قال: "وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حُرُمًا" حيث إنها خصِّصت التحريم بصيد البر المأكول فقط؛ لكونه لازمًا من تحليله لصيد البحر دون صيد البر، الثانية: السنة القولية حيث إن الصَّعب بن جثامة قد صاد حمارًا وحشيًا فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم فردَّه قائلًا: "إنا لم نردُّه عليك إلا أنا حُرُم" فبيَّن أن سبب عدم أكله هو: كونه مُحرمًا، فلزم تحريم الصيد المأكول المتوحِّش فإن قلتَ: لمَ حُرِّم قتل الحيوان المتوحِّش إذا استأنس؟ قلتُ: تبعًا لأصله، فإن قلتَ: لمَ حُرِّم قتل الحيوان المتولِّد من المتوحِّش والمستأنس؟ قلتُ: تغليبًا للتحريم، حيث إنه إذا اجتمع في شيء حاظر ومبيح: فإنه يُغلَّب جانب الحظر؛ احتياطًا.
يده) بمباشرة،
(16)
أو سبب كإشارة، ودلالة، وإعانة، ولو بمناولة آلة أو بجناية دابة هو مُتصرِّف فيها:(فعليه جزاؤه)،
(17)
وإن دلَّ ونحوه محرم محرمًا: فالجزاء بينهما
(18)
ويحرم على المحرم أكله مما صاده، أو كان له أثر في صيده، أو ذبح أو صيد لأجله، وما حرم عليه لنحو دلالة أو صيد له لا يحرم على محرم غيره،
(19)
ويضمن بيض
(16)
مسألة: إذا تلف الصيد في يد المحرم مباشرة وهو يستطيع دفع التلف عنه فلم يفعل: فإنه يأثم، وعليه جزاؤه؛ للقياس، بيانه: كما أن المحرم لو أتلفه بصيد: فإنه يأثم وعليه جزاؤه فكذلك الحال هنا مثل ذلك، والجامع: أن كلًا من الصيدين تلف تحت يد معتدية.
(17)
مسألة: إذا تلف الصيد بسبب غير مباشر من المحرم ولكنه مقصود: كأن يدل غيره عليه فيقتله الآخر، أو يُعينه على قتله، أو صيده بمد آلة للصائد أو القاتل له، أو يجعل دابته تقتله برجلها، أو بفمها: فإن ذلك المحرم يأثم، ويجب عليه جزاؤه؛ للقياس، وقد سبق بيانه في المسألة (16)، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه سدٌّ للذرائع؛ لئلا يتحايل بعض المحرمين إلى صيد الطيور وغيرها بتلك الطريقة.
(18)
مسألة: إذا دلَّ محرم محرمًا آخر على صيد، أو تعاونا في ذلك: فإن كل واحد منهما يأثم، وعليهما جزاء صيد واحد يُقسَّم بينهما بالمناصفة؛ للتلازم؛ حيث يلزم من اشتراكهما في ذلك: أن يكون الجزاء بينهما؛ تحقيقًا للعدالة والإنصاف.
(19)
مسألة: يحرم على المحرم أن يأكل من صَيد قد صيد لأجله، أو أعان على صيده أو ذبحه بإشارة، أو دلالة: سواء أخرج جزاءه أو لا، أما المحرم الذي لم يُصد ذلك من أجله أو لم يُعِن على صيده فيجوز أن يأكل منه: سواء كان الصائد مُحرمًا أو لا؛ لقاعدتين: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {لَا تَقْتُلُوا =
صيد، ولبنه إذا حَلَبَه بقيمته،
(20)
ولا يملك المحرم ابتداء صيدًا بغير إرث،
(21)
وإن أحرم وبملكه صيد: لم يُزل، ولا يده الحكمية، بل تزال يده المشاهدة: بإرساله
(22)
الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} حيث حرم أكل الصيد على المحرم الذي صيد من أجله، أو أعان على صيده، لأن النهي مطلق وهو يقتضي التحريم والفساد كالميتة، الثانية: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "لحم الصيد للمحرم حلال ما لم تصيدوه أو يُصد لكم" حيث دلَّ منطوقه على أن لحم الصيد حلال للمحرم بشرط: عدم صيده بنفسه، أو صيد لأجله، ودلَّ مفهوم الشرط على أنه إذا صدتموه، أو صيد لأجلكم: فإنه حرام.
(20)
مسألة: إذا أتلف المحرم بيض صيد، أو لبنه بقصد منه، أو تسبَّب في ذلك: فإنه يضمنهما بقيمتهما: فيسأل أهل المعرفة بذلك عن ثمن بيض أو لبن هذا الصيد فإذا عرفه: يُخرج ذلك الثمن ويتصدَّق به على فقراء مكة - كما سيأتي بيانه -؛ للتلازم، حيث يلزم من عدم وجود ما يُماثل البيض واللَّبن من بهيمة الأنعام: أن يضمنهما بقيمتهما.
(21)
مسألة: لا يجوز للمحرم أن يملك ابتداءً صيدًا أثناء إحرامه بشراء، أو هبة، أو نحو ذلك إلا إذا كان المحرم قد ورث الصيد من مورِّثه؛ لقاعدتين: الأولى: القياس؛ بيانه: كما أنه يحرم عليه أن يملك خمرًا بعد تحريمها، فكذلك يحرم على المحرم أن يملك صيدًا والجامع: أن كلًا منهما ليس محلًا للتمليك لتحريم الله له، الثانية: التلازم؛ حيث يلزم من كون المال الموروث يملكه الوارث بدون تصرُّف منه: جواز ملكه له وإن كان محرمًا؛ لأنه ليس من فعله.
(22)
مسألة: إذا أحرم شخص وكان تحت يده صيد: فلا يُزال ملكه عنه، ولكنه لا يتحكَّم فيه، بل يودعه غيره حتى يتحلَّل، بحيث لا يشاهده، فإن شاهده كأن يكون ذلك الصيد في قبضة يده، أو خيمته، أو قفصه، أو رجله، أو مربوطًا بحبل معه: فإنه يُزل ملك يده له: بأن يقوم بإطلاقه وتخليته، وإن لم يُطلقه: فعليه =
(ولا يحرم) بإحرام أو حرم (حيوان إنسي) كالدَّجاج، وبهيمة الأنعام؛ لأنه ليس بصيد، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يذبح البُدْنَ في إحرامه بالحرم
(23)
(ولا) يحرم (صيد البحر) إن لم يكن بالحرم: لقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} ،
(24)
وطير الماء برِّي،
(25)
(ولا) يحرم بحرم ولا إحرام (قتل محرَّم الأكل) كالأسد، والنمر، والكلب إلا المتولِّد كما تقدم
(26)
(ولا) يحرم قتل الصيد (الصائل)؛ دفعًا عن نفسه،
جزاؤه؛ للتلازم؛ حيث يلزم من ملكه له قبل الإحرام: استدامة ذلك بعد الإحرام، ويلزم من إمساكه له: الترفُّه بذلك، فيلزم الجزاء عليه.
(23)
مسألة: يُباح للمحرم وغيره أن يصيد، ويذبح، ويقتل كل حيوان إنسي كبهيمة الأنعام والدجاج، ولو توحَّش: سواء كان داخل الحرم أو خارجه؛ للسنة الفعلية؛ حيث "إنه صلى الله عليه وسلم قد ذبح البُدْنَ وهو محرم في الحرم" وبقية بهيمة الأنعام والدجاج من الحيوانات الإنسية مثل البُدْنَ؛ لعدم الفارق؛ وهو من باب مفهوم الموافقة، فإن قلتَ: لمَ أُبيح هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه توسعة على الناس، فإن قلتَ: لمَ أُبيح ذلك فيها وإن توحَّشت؟ قلتُ: تبعًا لأصلها وهو الأنس.
(24)
مسألة: يُباح للمحرم وغيره: أن يصيد صيد البحر من سمك وغيره إن لم يكن بالحرم؛ للكتاب، حيث قال تعالى:{أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} وهذا عام للمحرم وغيره، وهذا فيه توسعة على الناس، وهو المقصد منه.
(25)
مسألة: طيور المياه البحرية: بَرِّية، يحرم صيدها إن كانت بأرض الحرم؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كونها تبيض وتُفرِّخ في البرِّ: أنها برية، فإن كانت بأرض الحرم فيحرم صيدها، وإن فُعل ذلك فيجب الجزاء؛ قياسًا على صيد البر العادي.
(26)
مسألة: يُباح للمحرم وغيره: أن يصيد ويقتل كل حيوان غير مأكول اللحم في الحرم وغيره كالأسد، والنمر، والكلب، والبعوض والجعلان، والخنافس، =
أو ماله: سواء خشي التلف أو الضَّرر بجرحه أو لا؛ لأنه التحق بالمؤذيات فصار كالكلب العقور، ويُسنُّ مُطلقًا قتل كل مُؤذٍ غير آدمي،
(27)
ويحرم بإحرام قتل قمل وضئبانه ولو برميه، ولا جزاء فيه، لا براغيث، وقراد ونحوهما،
(28)
ويضمن جراد
والحية، والعقرب، والغراب، والحدأة ونحو ذلك مما يؤذي؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم:"خمس يقتلن في الحل والحرم: الغراب، والحدأة، والعقرب، والحية، والفأرة، والكلب العقور" وغيرها مما يُشابهها في الإيذاء مثلها؛ لعدم الفارق، وهو من باب "مفهوم الموافقة" أو من باب "القياس على المحصور بعدد" فإن قلتَ: لمَ أُبيح ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه دفع الأذى عن المسلمين، تنبيه: قوله: "إلا المتولِّد" قد سبق بيانه في مسألة (15).
(27)
مسألة: يُستحب للمسلم أن يقتل كل مؤذٍ وصائل عليه من الحيوانات والحشرات، والطيور إذا خاف منه الضرر على نفسه أو ماله: سواء كان مأكولًا، أو لا، وسواء كان وحشيًا أو لا، وسواء كان القاتل محرمًا أو لا، وسواء كان بالحرم أو لا، للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه دفع الضرر عن المسلم، ودفع المفسدة مقدم على جلب المصلحة تنبيه: قوله: "ولا يحرم قتل الصيد الصائل" يفيد أن ذلك مباح فقط قلتُ: لم أجد دليلًا قويًا على ذلك، بل يُستحب؛ دفعًا لأذاه كما قلنا.
(28)
مسألة: يحرم على المحرم قتل القمل الذي على رأسه أو بدنه، أو ضئبانه - وهو بيضه -، ولا يأخذه من بدنه ورأسه ويُلقيه في الأرض، فإن قتله، أو قتل البراغيث والقِراد والبعوض أو رماها: فإنه يأثم، ولا جزاء عليه؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كون ذلك لا يُسمَّى صيدًا ولا قيمة له، وهي مؤذية بطبعها: أن لا جزاء على قتلها، ويلزم من كون إزالتها فيه نوع ترفُّه وتنعُّم: تحريم قتلها وإلقائها.
بقيمته،
(29)
ولمحرم احتاج لفعل محظور فعلُه ويفدى، وكذا: لو اضطرَّ إلى أكل صيد: فله ذبحه وأكله كمن بالحرم، ولا يُباح إلا لمن له أكل الميتة
(30)
السابع: عقد النكاح، وقد ذكره بقوله:(ويحرم عقد نكاح) فلو تزوَّج المحرم، أو زوَّج مُحرمة، أو كان وليًا أو وكيلًا في النكاح: حرم (ولا يصح)؛ لما روى مسلم عن عثمان رضي الله عنه مرفوعًا: "لا ينكح المحرم ولا يُنكح"(ولا فدية) في عقد النكاح كشراء الصيد، ولا فرق بين الإحرام الصحيح والفاسد،
(31)
ويُكره للمحرم: أن يخطب امرأة كخطبة عقده، أو
(29)
مسألة: يضمن المحرم الجراد إذا قتله وذلك بدفع قيمته للمساكين، للتلازم؛ حيث إن الجراد برِّي يُشاهد طيرانه: فيلزم جزاؤه على من قتله أو تسبَّب في ذلك، أو يُتصدَّق عن كل جرادة بتمرة.
(30)
مسألة: إذا احتاج المحرم إلى فعل محظور من محظورات الإحرام كأن يحتاج إلى حلق رأسه، أو لبس المخيط، أو تغطية رأسه، فإنه يفعله، ويفدى بذبح شاة، أو صيام ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين - وكذا: لو اضطر إلى أكل صيد: فإنه يصيده، ويأكل منه ما يدفع عنه الضرر وعليه جزاؤه؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية: وهو حديث كعب بن عجرة وقد سبق في مسألة (2)، الثانية: القياس، بيانه: كما يجوز للمضطر أن يأكل من الميتة فكذلك يجوز للمحرم أن يأكل من الصيد إذا اضطر إليه، والجامع: دفع الضرر في كل، وقد بينتُ ذلك في كتابي:"الرخص الشرعية وإثباتها بالقياس".
(31)
مسألة: في السابع - من محظورات الإحرام - وهو: عقد النكاح، فلا يجوز للمحرم أن يتزوج مُحرمة أو مُحلَّة، ولا أن يكون وليًا بأن يُزوج مُحرمة على مُحلِّ، ولا أن يُزوج محلَّه على محل، ولا محرمة على محرم، ولا وكيلًا في ذلك: فإن فعل ذلك، فإنه يأثم، ولا يصح ذلك العقد، بل يكون فاسدًا، ولا تجب عليه فدية في ذلك، سواء كان ذلك الإحرام الذي هو فيه صحيحًا، أو كان فاسدًا =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
بجماع قبل التحلُّل الأول؛ لقواعد: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "لا يَنكَح المحرم ولا يُنكح" حيث حرم الشارع عقد النكاح مُطلقًا على المحرم، وبيَّن فساده لو وقع؛ لأن النهي هنا مُطلق، وهو يقتضي التحريم والفساد، ولم يُبين وجوب فدية عند وقوع ذلك، فدل على أنه لا فدية فيه؛ حيث لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، الثانية: القياس، وهو من وجهين: أولهما: كما أن المحرم إذا اشترى صيدًا: فإنه يفسد عقده لأجل الإحرام ولا فدية فكذلك: إذا عقد النكاح مثله، والجامع: أن كلًا منهما قد فعل عملًا منهيًا عنه في حالة الإحرام، ثانيهما: كما أنه يجب المضي في الإحرام والحج الفاسد، والعمل بكل ما يجب فيه، فكذلك يحرم عليه كل المحظورات ومنها: عقد النكاح، والجامع: الالتزام بالإحرام في كل، الثالثة: قول الصحابي؛ حيث ثبت عن عمر وابنه وزيد أن عقد النكاح من محظورات الإحرام، فإن قلتَ: لمَ كان ذلك محظورًا في الإحرام؟ قلتُ: لأن عقد النكاح فيه التفات إلى الدنيا وملذاتها، وهذا مناف للمقصد من مشروعية الإحرام، فإن قلتَ: يجوز عقد المحرم للنكاح، وهو قول كثير من الحنفية؛ لقاعدتين: الأولى: السنة الفعلية؛ حيث "إنه صلى الله عليه وسلم قد تزوَّج ميمونة وهو محرم" كما قال ابن عباس، الثانية: القياس، بيانه: كما يجوز للمحرم شراء الأمة وهو مُحرم فكذلك يجوز له تزوج الحرة والجامع: أن كلًا منهما فيه عقد يملك به الاستمتاع قلتُ: أما حديث ابن عباس فهو معارض بقول ميمونة نفسها، وهو:"أنه صلى الله عليه وسلم قد تزوَّجها وهو حلال" ومعارض بقول أبي رافع وهو: "تزوج النبي صلى الله عليه وسلم ميمونة وهو حلال، وبنى بها وهو حلال، وكنتُ أنا الرسول بينهما" فيُرجَّح قولهما على قول ابن عباس؛ لأن ميمونة أعلم بحالها، وأبا رافع أعلم بالواقعة؛ لكونه هو السفير بينهما، وابن عباس كان صغيرًا فيُحتمل اختلاط الأمور عليه، أما القياس: فهو فاسد؛ لأنه قياس مع =
حضوره أو شهادته فيه
(32)
(وتصحُّ الرَّجعة) أي: لو راجع المحرم امرأته: صحَّت بلا كراهة؛ لأنه إمساك،
(33)
وكذا: شراء أمة للوطء
(34)
الثامن: الوطء، وإليه الإشارة
الفارق؛ حيث إن نكاح الحرة يراد عادة للوطء والولد، أما شراء الأمة فيراد به عادة الخدمة والتجارة، فاختلفا.
(32)
مسألة: يُكره أن يخطب المحرم امرأة لنفسه أو لغيره، أو أن يحضر عقد نكاح بين مُحلّين؛ أو أن يشهد على ذلك؛ للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه اشتغال عن كمال العبادة التي أحرم لأجلها، وهذا يُنقص من أجره، فإن قلتَ: لمَ كُره ذلك ولم يحرم؟ قلتُ: لأن الاشتغال بالخطبة أو حضورها، أو الشهادة فيها ليس اشتغالًا بالدنيا خالصًا كالنكاح، فإن قلتَ: لمَ كَرِه حضور عقد نكاح بين مُحلِّين أو الشهادة عليه؟ قلتُ: لأن حضوره عقد نكاح بين محرمين، أو بين مُحرم ومُحل، أو الشهادة على ذلك حرام؛ للتلازم؛ حيث إن عقد نكاح المحرم حرام - كما سبق في مسألة (31) - فيلزم أن المشاركة فيه حرام؛ حيث إن الراضي كالفاعل في الإثم.
(33)
مسألة: إذا طلَّق رجل امرأته: فيصح أن يراجعها وهو مُحرم، بلا كراهة؛ للكتاب؛ حيث قال تعالى:{فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} حيث بيَّن أن الرجعة إمساك للزوجة، وليس ابتداء نكاح جديد، والأمر هنا مُطلق في الأزمان فيشمل الإمساك جميع الأزمان، ومنها زمن الإحرام، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: لأن الرَّجعية مباحة قبل الرَّجعة، فاستدام ذلك بالرجعة، بدليل: عدم الحاجة إلى ولي، ولا شهود، ولا إذن، بخلاف المرأة الأجنبية التي يُراد العقد عليها ابتداء.
(34)
مسألة: يجوز أن يشتري المحرم أمة للوطء والخدمة والتجارة؛ للتلازم؛ حيث إن الأمة تُشترى عادة لمنفعة الوطء وغيره فيلزم جواز شرائها، فإن قلتَ: لمَ جاز ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه توسعة على المسلمين.
بقوله (وإن جامع) المحرم: بأن غيَّب الحشفة في قُبُل أو دُبُر من آدمي أو غيره: حرم؛ لقوله تعالى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ} قال ابن عباس: هو الجماع،
(35)
وإن كان الوطء (قبل التحلُّل الأول: فسد نسكهما) ولو بعد الوقوف بعرفة، ولا فرق بين العامد والساهي؛ لقضاء بعض الصحابة رضي الله عنهم بفساد الحج ولم يستفصل (يمضيان فيه) أي: يجب على الواطئ والموطوءة المضي في النسك الفاسد، ولا يخرجان منه بالوطء؛ روي عن عمر، وعلي، وأبي هريرة، وابن عباس رضي الله عنهم فحكمه كالإحرام الصحيح؛ لقوله تعالى:{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} (ويقضيانه) وجوبًا (ثاني عام) روي عن ابن عباس، وابن عمر، وابن عمرو،
(36)
وغير المكلَّف يقضي
(35)
مسألة: في الثامن - من محظورات الإحرام - وهو: الجماع والوطء، فلا يجوز للمحرم أن يجامع جماعًا صحيحًا وهو: تغييب حشفته الأصلية في قُبُل أو دُبُر أصلي من آدمي أو غيره، ومن فعله: فإنه يأثم؛ للكتاب؛ حيث قال تعالى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ} و"الرفث" هو: الجماع كما قال ابن عباس، يؤيد ذلك قوله تعالى:{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} ويُراد بالنفي - في قوله: {فَلَا رَفَثَ} - النهي، وهو مُطلق فيقتضي التحريم، فإن قلتَ: لمَ كان ذلك من محظورات الإحرام؟ قلتُ: لأن ذلك فيه اشتغال عن العبادة التي أحرم لأجلها، وهذا منافٍ للمقصد من مشروعية الإحرام.
(36)
مسألة: إذا جامع المحرم عامدًا مُختارًا، ذاكرًا لإحرامه، عالمًا بتحريم ذلك قبل التحلل الأول - أي: قبل أن يفعل اثنين من ثلاثة وهي: الرمي والحلق أو التقصير، وطواف الإفاضة -: فإنه يأثم، ويترتب عليه أمور أربعة: أولها: فساد حجِّه هذا، ثانيها: المضي فيه حتى يفرغ منه وإن كان فاسدًا، ثالثها: وجوب قضائه في العام القادم مباشرة، رابعها: وجوب الفدية عليه، وهي ذبح بدنة تكون في القضاء توزَّع على فقراء مكة، فإن لم يجد فصيام عشرة أيام: ثلاثة في =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الحج، وسبعة إذا رجع إلى أهله، والأربعة هذه تجب عليه سواء جامع قبل الوقوف بعرفة أو بعدها والزوجة مثله في ذلك؛ لقاعدتين: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} حيث أوجب الشارع إتمام الحج والعمرة مطلقًا: سواء كانا صحيحين، أو كانا فاسدين بجماع؛ لأن الأمر مطلق، وهو يقتضي الوجوب واستواء الحالتين، الثانية: قول الصحابي؛ حيث إن تلك الأمور الأربعة قد ثبتت عن بعض الصحابة كابن عباس، وأبي هريرة، وعمر وابنه، وعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم، فإن قلتَ: لمَ وجبت عليه تلك الأمور؟ قلتُ: تغليظًا عليه؛ لكونه قد انتهك بفعله هذا حرمة المكان، والزمان، والهيئة، كما أوجب على من جامع في نهار رمضان عتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين مُتتابعين، وإن لم يجد: فإنه يُطعم ستين مسكينًا، فإن قلتَ: تجب تلك الأمور من جامع وهو ناسي أو ساهي، وهو ما ذكره المصنف هنا؛ لفعل الصحابي؛ حيث إن ابن عمرو وبعض الصحابة قد أوجب عليه تلك الأمور بدون أن يستفصل عن حالته لما جامع هل هو عامد أو ناسي؟ فهذا يدل على عموم الحكم للعامد والناسي وغيرهما؛ لأن ترك الاستفصال عن الحال ينزل منزلة العموم في المقال قلتُ: لا تجب تلك الأمور الأربعة إلا على من ذكرنا صفاته، أما الناسي، أو المخطئ، أو المكره، أو الجاهل فلا تجب عليهم تلك الأمور لو جامعوا وهم محرمون، والزوجة مثله في ذلك؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "عُفي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" وهذا عام، فيشمل ما نحن فيه وهذا مخصص لعموم الآية، الثانية: القياس، بيانه: كما أن من جامع في نهار رمضان وهو ناسي، أو مخطئ، أو مكره، أو جاهل لا شيء عليه فكذلك الحال هنا والجامع: وجود العذر في كل، وهذا مخصص لعموم الآية أيضًا، أما عدم استفصال بعض الصحابة: فلا يصلح =
بعد تكليفه وحجة الإسلام فورًا من حيث أحرم أولًا إن كان قبل ميقات، وإلا: فمنه،
(37)
وسُنَّ تفرقهما في قضاء من موضع وطء إلى أن يحلَّا،
(38)
والوطء بعد
للاستدلال به؛ لأنه يُحتمل أن ذلك معروف عند الصحابة أن هؤلاء لا يجب عليهم شيء، فلم يستفصل؛ لعلمه بذلك، أو أنه لم يستفصل اجتهادًا منه، ولا اجتهاد مع النص، وإذا تطرق الاحتمال إلى الدليل بطل به الاستدلال، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "الخلاف في عدم استفصال بعض الصحابة هنا هل يدل على العموم في المقال؛ حيث يعم العامد والناسي أو لا؟ " فعندنا: لا يدل؛ للاحتمال الذي ذكرناه، وعندهم: يدل، وسيأتي زيادة بيان لهذا في باب "الفدية".
(37)
مسألة: إذا أحرم غير المكلَّف بحج، ثم جامع: فإنه يمضي بهذا الحج الذي أفسده بجماعه هذا ثم بعد تكليفه: يحج فريضته وهي حجة الإسلام، ثم بعدها مباشرة يقضي تلك الحجة التي أفسدها: فيُحرم بهذه الحجة من المكان الذي أحرم به عند حجه تلك الحجة الفاسدة تمامًا: فإن كان قد أحرم بها قبل الميقات: أحرم منه، وإن كان قد أحرم من الميقات أو بعده: فيُحرم من الميقات؛ للتلازم؛ حيث إن حج غير المكلف يعتبر نفلًا، والنفل كالفرض في المضي فيه وقضائه إذا فسد، والقضاء يكون بصفة الأداء: فيلزم ما قلناه من الحكم، ويلزم من كون حجة الإسلام آكد من القضاء: أن تُقدَّم على القضاء؛ لأنها ركن من أركان الإسلام.
(38)
مسألة: إذا أراد الزوج وزوجته أن يقضيا تلك الحجة التي أفسداها بالجماع من العام القادم: فيُستحب أن يتفرقا في حجة القضاء تلك: بحيث لا يركبان مركوبًا واحدًا، ولا يجلسان في خيمة واحدة، بل يكون الزوج قريبًا منها يراعي أحوالها إلى أن يحلَّان من إحرامهما؛ للمصلحة؛ حيث إنه ظهر منهما من التسرع =
التحلُّل الأول لا يُفسد النُّسك وعليه شاة ولا فدية على مُكرهة، ونفقة حجِّة قضائها عليه؛ لأنه المفسد لنسكها
(39)
التاسع: المباشرة دون الفرج، وذكرها بقوله:(وتحرم المباشرة) أي: مباشرة الرجل المرأة
(40)
(فإن فعل) أي: باشرها (فأنزل: لم
إلى إفساد العبادة بالوطء بما يخاف عليهما مثله في القضاء، وهذا فيه احتياط للعبادة، كما قاله الباجي في "المنتقى".
(39)
مسألة: إذا جامع المحرم عمدًا، وهو مختار، ذاكر، عالم بعد التحلُّل الأول - أي: بعد أن رمى وقصَّر أو حلق -: فإنه يأثم؛ ويجب عليه: أن يخرج إلى أقرب الحل - وهو: التنعيم - ويُحرم من هناك ثم يطوف طواف الإفاضة والسعي، وعليه شاة يذبحها ويُقسِّمها على فقراء مكة، فإن لم يجد فعليه صيام عشرة أيام: ثلاثة في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله؛ لقول الصحابي؛ حيث إن بعض الصحابة قضى بذلك على من جامع بعد التحلل الأول. [فرع]: إذا أحرم بالعمرة، ثم جامع قبل الفراغ من السعي: فإنها تفسد، ويجب عليه أن يمضي في فسادها، ويُكملها، ثم يقضيها مرة أخرى مباشرة؛ ويجب عليه ذبح شاة، فإن لم يجد فصيام عشرة أيام؛ للقياس على الحج تمامًا، [فرع آخر]: إن جامع بعد السعي فلا شيء عليه وإن لم يحلق أو يُقصِّر؛ للتلازم؛ حيث يلزم من إتمامها صحيحة: عدم وجوب شيء عليه، تنبيه: قوله: "ولا فدية على مكرهة ونفقة حجة قضائها عليه: لأنه المفسد لنسكها" قلتُ: قد سبق بيان أن الجماع الواقع عن خطأ، أو إكراه، أو نسيان، أو جهل: لا يُفسد الحج، ولا يوجب شيئًا في مسألة (36).
(40)
مسألة: في التاسع - من محظورات الإحرام - وهو: مباشرة النساء بشهوة دون الفرج، فلا يجوز للمحرم أن يُلامس، أو يُباشر المرأة دون الفرج كتقبيل أو لمس =
يفسد حجُّه) كما لو لم ينزل، ولا يصح قياسها على الوطء؛ لأنه يجب به الحدُّ دونها
(41)
(وعليه بدنه) إن أنزل بمباشرة، أو قُبْلة، أو تكرار نظر، أو لمس بشهوة أو أمنى باستمناء؛ قياسًا على بدنة الوطء،
(42)
وإن لم يُنزل: فشاة كفدية
بدن بشهوة؛ للمصلحة؛ حيث إن هذا الفعل قد يؤدِّي إلى الجماع والوطء المحرم، فحرم؛ حماية للمحرم من أن يُفسد حجه.
(41)
مسألة: إذا باشر محرم امرأته بشهوة دون الفرج فأنزل: فحجُّه صحيح: سواء كان قبل التحلل الأول أو بعده؛ للقياس، بيانه، كما أنه إذا لم يُنزل لا يفسد حجه فكذلك إذا أنزل هنا لا يفسد حجه، والجامع: أن كلًا منهما فيه استمتاع لا يجب بنوعه الحدُّ، فلم يُفسد الحج، فإن قلتَ: بل يفسد حجه؛ للقياس، بيانه: كما أنه لو وطأ زوجته وهو محرم يفسد حجه فكذلك إذا باشر مثله والجامع: أن كلًا منهما قد فعل ما يوجب الغسل قلتُ: هذا فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ لأن الوطء بالزنا يوجب الحد، أما المباشرة: فهي توجب التعزير فقط، وكذلك يختلفان في الاستمتاع وكثير من الأحكام، ومع الاختلاف لا قياس، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض القياسين" فنحن قسنا المباشر المنزل على من لم يُنزل؛ لكونه أكثر شبهًا به، وهم قاسوه على الواطئ؛ لكونه أكثر شبهًا به عندهم، وهذا ما يُسمَّى بـ"قياس الشبه" أو"غلبة الأشباه".
(42)
مسألة: إذا باشر محرم امرأته بلمس، أو قُبْلة، أو تكرار نظر، أو استمنى بيده فأنزل المني قبل التحلُّل الأول: فحجه صحيح كما سبق وعليه شاة كما قال الشافعي وأبو حنيفة، فإن لم يجد فعليه صيام عشرة أيام لقاعدتين: الأولى: القياس؛ بيانه: كما أن من باشر ولم يُنزل فحجه صحيح وعليه شاة، فكذلك من باشر وأنزل مثله، والجامع: أن كلًا منهما وقع دون الفرج، =
أذى
(43)
وخطأ في ذلك كعمد، وامرأة مع شهوة كرجل في ذلك
(44)
(لكن يحرم) بعد أن يخرج (من الحلِّ)؛ ليجمع في إحرامه بين الحل والحرم (لطواف الفرض)
وأن فيه استمتاع لا يوجب الحد، الثانية: قول الصحابي؛ حيث إن بعض الصحابة قد قضى بالصيام لمن لم يجد الشاة فإن قلتَ: إنه إذا باشر فأنزل فعليه بدنة وهو ما ذكره المصنف هنا؛ للقياس، بيانه: كما أنه لو وطأ في الفرج قبل التحلل الأول لوجبت عليه بدنة، فكذلك إذا باشر دون الفرج فأنزل مثله والجامع: أن كلًا منهما قد فعل ما يوجب الغسل قلتُ: هذا فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق، وقد بيَّناه في مسألة (41)، وبينا أيضًا فيها سبب الخلاف، وأنه بسبب:"تعارض القياسين".
(43)
مسألة: إذا باشر محرم امرأته ولم يُنزل منيًا: فحجُّه صحيح، وعليه فدية أذى - وهو: إما ذبح شاة، أو صيام ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين، كل مسكين ربع صاع من بر أو أرز أو نصف صاع من غيره -؛ للقياس، بيانه: كما أن من حلق رأسه، أو قلَّم أظفاره، أو تطيب، أو لبس المخيط أو غطى رأسه تجب عليه فدية الأذى فكذلك تجب هنا، والجامع: أن كلًا منها فيه اشتغال عن العبادة بتمتع وملذات منافية للمقصد من مشروعية الإحرام.
(44)
مسألة: إذا باشر رجل امرأته أو باشرت امرأة زوجها وهما محرمان بشهوة، وهما عامدان، ذاكران، عالمان، مختاران: فإن حجَّهما صحيح، وعلى كل واحد منهما شاة إذا أنزلا منيًا، أما إذا لم يُنزلا: فعليهما فدية أذى - كما سبق في مسائل (40 إلى 43) أما إن كانا مخطئين، أو ناسيين، أو جاهلين، أو مكرهين، وفعلا ذلك، أو فعل أحدهما وهما محرمان: فلا شيء عليهما كما سبق في مسألة (36) - حيث سبقت قواعد ذلك، تنبيه: قوله: "وخطأ في ذلك كعمد" قلتُ: قد سبق الجواب عن ذلك في مسألة (36).
أي: ليطوف طواف الزيارة مُحرمًا، وظاهر كلامه: أن هذا في المباشرة دون الفرج إذا أنزل، وهو غير مُتَّجه، لأنه لم يفسد إحرامه حتى يحتاج لتجديده، فالمباشرة كسائر المحرَّمات غير الوطء، هذا مقتضى كلامه في "الإقناع" كالمنتهى، و"المقنع"، و"التنقيح"، و"الإنصاف"، و"المبدع"، وغيرها، وإنما ذكروا هذا الحكم فيمن وطئ بعد التحلُّل الأول إلا أن يكون على وجه الاحتياط؛ مراعاة للقول بالإفساد
(45)
(وإحرام المرأة) فيما تقدَّم (كالرَّجل
(46)
إلا في اللباس) أي: لباس المخيط، فلا يحرم
(45)
مسألة: إذا باشر محرم امرأته دون الفرج فأنزل قبل التحلل الأول: فحجُّه صحيح، وعليه شاة - كما سبق بيانه في مسألة (42) - ولا يجب عليه أن يخرج إلى أقرب الحل ليحرم من هناك؛ لكونه لم يفسد إحرامه أصلًا وإنما ذلك واجب على من وطئ امرأته وهو محرم بعد التحلل الأول، مع وجوب شاة، والإثم كما سبق في مسألة (39)، تنبيه: الظاهر أن صاحب المتن قال تلك العبارة سهوًا، أو أن بعض النُّسَّاخ قد زادها، أو أنه قد أخَّر موضعها، تنبيه آخر: قوله: "إلا أن يكون على وجه الاحتياط؛ مُراعاة للقول بالإفساد" قلتُ: هذا لا يصح؛ لأن الاحتياط ومراعاة الخلاف ليسا بدليلين مُعتبرين عند الجمهور.
(46)
مسألة: إحرام المرأة مثل إحرام الرَّجل تمامًا في المحظورات: فيحرم عليها حلق الشعر - كما في مسألة (2) - وتقليم الأظافر - كما في مسألة (3) - والطِّيب - كما في مسألة (14) - وقتل الصيد - كما في مسألة (15) - وعقد النكاح - كما في مسألة (31) - والجماع والوطء - كما في مسألة (35) - والمباشرة - كما في مسألة (40) -؛ للقياس على الرَّجل في ذلك كله، أو عموم النصوص الواردة في الرجال فتشمل النساء.
عليها، ولا تغطية الرأس
(47)
(وتجتنب البرقع والقفَّازين)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تنتقب المرأة، ولا تلبس القفَّازين" رواه البخاري وغيره، و"القُفَّازان" شيء يُعمل لليدين يُدخلان فيه يسترهما من الحر كما يعمل للبزاة،
(48)
ويفدي الرجل والمرأة
(47)
مسألة: يجب على المرأة أن تلبس المخيط من الثياب، وأن تُغطِّي رأسها أثناء إحرامها؛ للمصلحة؛ حيث إن المرأة عورة فلباسها للمخيط وتغطية رأسها أستر لها، وأحفظ لها من أن تنكشف عورتها بخلاف الرَّجل: فإن عورته من السرة إلى الركبة ولباس الإحرام يكفي لذلك، فحرم أن يُغطي رأسه - كما سبق في مسألة (10) - وحرم عليه أن يلبس المخيط - كما في مسألة (11) - وقد بينا المقصد من ذلك.
(48)
مسألة: يحرم على المرأة المحرمة وغيرها: أن تلبس البرقع بدون حاجة - وهو: أن تغطي وجهها كله إلا فتحة بقدر العينين، فإن كان في ذلك زينة وتجمُّل: فهو "البرقع" وإن لم يُوجد ذلك، ولكن أوجدت ذلك تنظر فيهما طريقها: فهو "النِّقاب" وكذلك يحرم على المحرمة أن تلبس القفَّازين بدون حاجة، وهما تلبسهما المرأة في يدها لتغطي فيهما جميع الكف وبعض المرفق؛ لحمايته من الحر أو البرد كما يلبسه من يحمل الصقور؛ لئلا يؤذيه عند إطلاقه -؛ للسنة القولية: حيث قال صلى الله عليه وسلم: "لا تنتقب المرأة ولا تلبس القُفَّازين" فحرمهما الشارع؛ لأن النهي هنا مطلق، وهو يقتضي التحريم، وإذا حُرم النِّقاب وهو ليس بزينة، فمن باب أولى أن يحرم البرقع الذي هو زينة من باب مفهوم الموافقة الأولى، فإن قلتَ: لمَ حرم ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية للمرأة من أن يطمع فيها أصحاب القلوب المريضة، أو هي تنظر إليهم بقلب مريض فتطمع فيهم، والبرقع والقفازان فيهما نوع ترفُّه وتزين يُنافي المقصد من مشروعية الإحرام.
بلبسهما
(49)
(و) تجتنب (تغطية وجهها) أيضًا؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "إحرام الرجل في رأسه، وإحرام المرأة في وجهها" فتضع الثوب فوق رأسها، وتسدله على وجهها؛ لمرور الرجال قريبًا منها
(50)
(ويُباح لها التحلِّي) بالخلخال، والسوار، والدملج
(49)
مسألة: إذا لبس الرجل والمرأة القُفَّازين، أو لبست المرأة النقاب أو البرقع بدون حاجة: فتجب عليهم فدية الأذى - وهي: إما ذبح شاة، أو صيام ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين: ربع صاع لكل مسكين من بر أو أرز، ونصف صاع من غيره -؛ للقياس؛ بيانه: كما أن فدية الأذى تجب على من حلق رأسه، أو قلَّم أظافره، فكذلك ما نحن فيه مثله والجامع: أن كلًا منهما قد زاول التنعُّم والتزين، وهذا مناف للمقصد من مشروعية الإحرام.
(50)
مسألة: يجب على المرأة المحرمة أن تغطِّي وجهها إن غلب على ظنها وجود رجال بقربها، أما إن لم يغلب على الظن ذلك: فيُستحب لها كشف وجهها؛ للسنة التقريرية؛ حيث قالت عائشة رضي الله عنها: "كان الركبان يمرُّون بنا ونحن محرمات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا حاذوا بنا: سدلت إحدانا جلبابها على وجهها، فإذا جاوزونا: كشفناه" ولا شك أنه لا يخفى شيء من ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا لم يُنكره فهو مُقرٌّ به؛ إذ لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، وهذا يلزم منه: أنه غلب على ظن عائشة رضي الله عنها ومن معها من النسوة: أن الرجال إذا جاوزوهن لا ينظرون إليهن، فيكون كشفهن حينئذٍ مستحب؛ نظرًا لفعلهن الذي لم يُنكره النبي صلى الله عليه وسلم، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه منع للفتنة، وفيه تيسير على النساء بترك تغطية الوجه عند عدم وجود رجال، تنبيه: ما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إحرام الرجل في رأسه .. " لا أصل له فيبطل الاحتجاج به كما قال ابن تيمية وابن القيم.
ونحوها
(51)
، ويُسنُّ لها خضاب عند إحرام
(52)
، وكُرِه بعده
(53)
، وكُرِه لهما اكتحال بإثمد؛ لزينة
(54)
، ولها لبس معصفر وكُحلي، وقطع رائحة كريهة بغير طيب
(55)
(51)
مسألة: يُباح للمرأة المحرمة أن تتحلَّى بالذهب والفضة، وأن تلبس الخلخال، والأسورة، والدملج - وهو شيء يُلبس على العضد -، لتقرير الصحابي، حيث إن نساء ابن عمر كن يلبسن الحلي والمعصفر وهن محرمات، ولم يُنكر عليهن ابن عمر ذلك أنه لا يخفى عليه مثل ذلك، فإن قلتَ: لمَ أُبيح ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تيسير على المسلمين وتوسعة على نسائهم.
(52)
مسألة: يُستحب للمرأة أن تخضب رأسها ويديها ورجليها بالحناء عند إحرامها؛ للقياس، بيانه: كما يُستحب أن يتطيب المسلم عند إحرامه فكذلك الخضاب مثل ذلك، والجامع: أن كلًا منهما فيه إزالة للرائحة الكريهة.
(53)
مسألة: يُكره للمرأة المحرمة أن تخضب رأسها ويديها ورجليها بالحناء بعد إحرامهما؛ للمصلحة؛ حيث إن فعلها ذلك يؤدِّي إلى التقليل من أجر عبادتها؛ لما فيه من التزيُّن والتجمُّل المخالف للمقصد من مشروعية الإحرام.
(54)
مسألة: يُكره للرجل والمرأة المحرمين أن يكتحلا؛ لقصد التزيُّن، أما إذا اكتحلا ليُزيلا وجعًا في عيونهما: فلا يُكره؛ للمصلحة؛ وقد بيناها في مسألة (53).
(55)
مسألة: يُباح للرجل والمرأة المحرمين أن يفعلا أيَّ شيء يتسبَّب في قطع أيِّ رائحة كريهة من اغتسال ونحوه - غير الطيب -، ويُباح للمرأة أن تلبس أي لباس ساتر - غير مصبوغ بورس وزعفران كما سبق في مسألة (14) -؛ للاستصحاب؛ حيث إن الأصل أن يُزيل أيَّ رائحة كريهة، وأن تلبس المرأة أيَّ ثوب ساتر إلا ما ورد الشرع بتحريم التطيب به، أو لبسه، أما ما بقي فيُستصحب ويُعمل به؛ تيسيرًا على المسلمين وتوسعة عليهم.
وأتِّجار، وعمل صنعة ما لم يُشغلا عن واجب أو مُستحب
(56)
، وله لبس خاتم
(57)
، ويجتنبان الرَّفث، والفسوق، والجدال
(58)
، ويُسنُّ قلَّة الكلام إلا فيما ينفع
(59)
.
(56)
مسألة: يُباح للمحرم أن يُتاجر في الحج ويعمل أيَّ شيء يستطيع صنعه إذا لم يُشغله عن ركن أو واجب في الحج، أو مستحب من مستحباته؛ للكتاب؛ حيث قال تعالى:{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} والفضل هو: التجارة بالمال، والصناعة وإن كان محرمًا؛ إذ لا مانع من ذلك؛ حيث إن سبب نزولها يدل على ذلك كما قال ابن عباس، و"نفي الجناح" من صيغ الإباحة فإن قلتَ: لمَ أُبيح ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه توسعة على المسلمين.
(57)
مسألة: يُباح للرجل المحرم اتخاذ الخاتم من الفضة؛ لقول الصحابي؛ حيث قال ابن عباس رضي الله عنهم: "لا بأس بالهميان والخاتم للمحرم"، فإن قلتَ: لمَ أُبيح ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه توسعة على المسلمين.
(58)
مسألة: يجب على المحرم أن يترك الرفث، - وهو الجماع، ومقدماته -، وأن يترك الفسوق - وهو كل شيء فيه معصية: قولية كانت أو فعلية، صغيرة أو كبيرة - وأن يترك الجدال - وهو كل مماراة ومجادلة ومنازعة تؤدي إلى سب أو شتم ومقاطعة -؛ للكتاب؛ حيث قال تعالى:{فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} والنفي هنا: نهي، وهو مطلق، فيقتضي التحريم، وترك الحرام واجب، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن فعل ذلك فيه انشغال عن العبادة.
(59)
مسألة: يُستحب للمحرم وغيره أن يُقلَّل الكلام فيما لا ينفع في الآخرة؛ للمصلحة؛ حيث إن ترك الكلام فيما لا يعنيه يحفظ له دينه، وعلمه، وصحته، ووقته، فيجتمع له خيرا الدنيا والآخرة، وهذه هي سيرة السلف الصالح.
هذه آخر مسائل باب "محظورات الإحرام" ويليه باب "الفدية"
باب الفدية
أي: أقسامها، وقدر ما يجب والمستحق لأخذها
(1)
(يُخيَّر بفدية) أي: في فدية (حلق) فوق شعرتين (وتقليم) فوق ظفرين (وتغطية رأس، وطيب، ولبس مخيط بين صيام ثلاثة أيام أو إطعام ستة مساكين لكل مسكين مُدَّ بُرٍّ أو نصف صاع من تمر أو شعير أو ذبح شاة)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم لكعب بن عجرة: "لعلك آذاك هوام رأسك" قال: نعم يا رسول الله فقال: "احلق رأسك وصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، أو أنسك شاة" متفق عليه، و"أو" للتخيير، وألحق الباقي بالحلق
(2)
(و)
باب الفدية
وفيه تسع عشرة مسألة:
(1)
مسألة: الفدية لغة: الإنقاذ، يُقال:"فديته" إذا أنقذته، أو استنقذته من هلكة، وهي في الاصطلاح: دفع مال أو صيام، أو نسك مقابل ما فعله من محظورات الإحرام التسعة السابقة في باب:"محظورات الإحرام" - وهي: حلق الشعر، وتقليم الأظافر، وتغطية الرأس، ولبس المخيط، والطيب، وقتل الصيد، وعقد النكاح، والوطء، والمباشرة دون الفرج - فإن قلتَ: لمَ سُمِّي ذلك فدية، ولم يُسمَّ كفارة؟ قلتُ: لأنه يفدي نفسه بما يدفعه أو يفعله في مقابل ما عمله من محظور الإحرام كأنه يُنقذ تلك النفس من هلكة وقع فيها لما وقع في محظور، ولم يُسمَّ كفارة؛ لعظم شأن الإحرام وتأكد حرمته؛ لكونه يفعل حول بيت الله؛ بخلاف الكفارة.
(2)
مسألة: إذا فعل المحرم واحدًا من: حلق الرأس أو تقليم الأظافر، أو الطيب، أو تغطية الرأس، أو لبس المخيط: فتجب الفدية عليه، وهي: إما ذبح شاة أو معز، بما يُجزئ في الأضحية، أو يصوم ثلاثة أيام، أو يُطعم ستة مساكين يُعطي =
يُخيَّر (بجزاء صيد بين) ذبح (مثل إن كان) له مثل من النِّعم (أو تقويمه) أي: المثل بمحل التَّلف أو قربه (بدراهم يشتري بها طعامًا) يُجزئ في فطرة، أو يُخرج بعدله من طعامه (فيُطعم كل مسكين (مُدًّا) إن كان الطعام بُرًّا، وإلا فمُدَّين (أو يصوم عن كل مُدٍّ) من البر (يومًا)؛ لقوله تعالى:{فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} الآية، وإن بقي دون مد: صام يومًا (و) يُخيَّر (بما لا مثل له) بعد أن يقوِّمه بدراهم؛ لتعذُّر المثل، ويشتري بها طعامًا كما مرَّ (بين إطعام) كما مرَّ (وصيام) على ما تقدَّم
(3)
كل مسكين ربع صاع من بر أو أرز، أو نصف صاع من غيرهما: من شعير، أو تمر، أو أقط، أو زبيب؛ لقواعد؛ وهي الكتاب، والسنة القولية؛ - وهي: حديث كعب بن عجرة -، والقياس، وقد سبق بيانها والتفصيل فيها في مسألتي (2، 14) من باب "محظورات الإحرام"؛ وكذا: سبق بيان المقصد الشرعي من ذلك في مسألة (2)، وكذا: سبق بيان أنه ليس المراد بحلق الشعر أو تقليم الأظفار هو: حلق ثلاث شعرات فأكثر أو تقليم ثلاثة أظفار فأكثر وذلك في مسألة (8) من باب "محظورات الإحرام".
(3)
مسألة: إذا قتل المحرم صيدًا أو اصطاده: فعليه جزاؤه، وهو أنه يُخيَّر بين أمور ثلاثة: أولها: إما أن يذبح مثل ما صاد وقتل من بهيمة الأنعام، فلو قتل حمارًا وحشيًا: فعليه بقرة، ولو قتل غزالًا فعليه شاة، وهكذا - كما سيأتي بيانه - يذبح ذلك ويُوزِّعه على فقراء مكة في أي وقت شاء، وهو دم جبران - لا يأكل منه - ثانيها: أو يُقوِّم المثل كالشاة مثلًا بدراهم فيشتري بها طعامًا يصلح أن يُزكَّى به زكاة الفطر - وهو: البر، والأرز، والتمر، والأقط، والشعير، والزبيب - فيُعطي كل مسكين ربع صاع من البر أو الأرز - وهو: المد - أو يُعطيه نصف صاع من غيرهما - وهو المدَّان -، ثالثها: أو يصوم عن كل مُدٍّ يومًا، فتكون عدد الأيام بعدد الأمداد، فالصائد هنا يُخيَّر بين تلك الأمور الثلاثة إن وجد =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
مثلًا لما صاده، أما إن لم يجد مثلًا كأن يصيد جرادًا: فإنه يسقط المثل، ويُخيَّر بين أمرين: أولهما: إما أن يقوَّم ما صاده وقتله ويشتري بقيمته طعامًا، ويُعطي كل مسكين مُدًا - كما سبق بيانه -، ثانيهما: أو يصوم عن كل مد يومًا، وإذا بقي أقل من مُدٍّ من الطعام: فإنه يصوم عنه يومًا كاملًا ولا يجب التتابع؛ لقاعدتين: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ، وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ، أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} فأوجب الشارع جزاء الصيد على المحرم على النحو الذي ذكرناه، الثانية: قول الصحابي؛ حيث ثبت جزاء الصيد على ذلك التفصيل الذي قلناه عن بعض الصحابة، ومنهم ابن عباس، فإن قلتَ: لمَ يُقوَّم المثل، ولا يُقوَّم الصيد نفسه إن وجد مثلًا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن الصيد يشق تقويمه؛ لكونه قليل التداول، فإن قلتَ: لمَ يُقوَّم بدراهم، ثم يُشترى بها طعامًا يُوزَّع على فقراء مكة؟ قلتُ: لأن الله تعالى قد سمَّى ذلك كفارة، ولا يكون كفارة ما لم يجب إخراجه وجعله طعامًا للمساكين، ومالا يجوز صرفه إليهم لا يكون طعامًا لهم، فإن قلتَ: لمَ يُتصدَّق بلحمه ولا يُتصدَّق به وهو حي؟ قلتُ: لأن الله سمَّاه هديًا والهدي يجب ذبحه، ثم إنه يشق على الفقراء ذبحه فإن قلتَ: لمَ يُقوَّم المثل في البلد الذي قتل فيه الصيد أو قريبًا منه؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك يُحقِّق العدالة، فلا يظلم الصائد، ولا الفقراء، فإن قلتَ: لِمَ جاز ذبح المثل في أي وقت سواء كان وقت أيام النحر أو لا؟ قلتُ: لأن الأمر بإخراج الجزاء الوارد في الآية مطلق في الأزمان؛ فلم يُقيَّد بوقت مُعيَّن، وهذا فيه توسعة على المسلمين، فإن قلتَ: لمَ لا تجوز الصدقة بثمن المثل؟ قلتُ: لأن الشارع في الآية قد خيَّرنا بين ثلاثة أمور ليس بينها "التصدُّق بثمن المثل" فيدل مفهوم العدد =
(وأما دم متعة وقران: فيجب الهدي) بشرطه السابق؛ لقوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} والقارن بالقياس على المتمتع (فإن عدمه) أي: عدم الهدي، أو عدم ثمنه، ولو وجد من يقرضه (فصيام ثلاثة أيام) في الحج (والأفضل: كون آخرها يوم عرفة) وإن أخَّرها عن أيام منى: صامها بعد، وعليه دم مُطلقًا (و) صيام (سبعة) أيام (إذا رجع إلى أهله) قال تعالى:{فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} وله صومها بعد أيام منى وفراغه من أفعال الحج، ولا يجب تتابع ولا تفريق في الثلاثة، ولا السبعة
(4)
(والمحصر) يذبح
منها على عدم مشروعيته، فإن قلتَ: لمَ كان المدُّ من البر يُعادل المدَّين من غيره؟ قلتُ: لأن البر، وما ماثله كالأرز أنفع للفقراء، وأصلح للادِّخار، وقد سبق، فإن قلتَ: لمَ يصوم عن كل مُدٍّ يومًا؟ قلتُ: لكونها كفَّارة دخلها الصيام والإطعام، فكان اليوم في مقابلة المدِّ مثل: كفارة الظهار، والجماع في نهار رمضان، وقتل الخطأ، فإن قلتَ: لمَ يصوم يومًا كاملًا عما نقص عن المد؟ قلتُ: لأن الصوم لا يتبعَّض، فلا يجوز صوم نصف يوم، فإن قلتَ: لمَ لا يجب التتابع في الصوم؟ قلتُ: لأن الأمر الوارد في الآية مُطلق، فلم يشترط التتابع، وهذا من تيسير الشارع.
(4)
مسألة: إذا أحرم بالحج مُتمتعًا أو قارنًا فيجب عليه الهدي - وهو: ذبح شاة تُجزئ أضحية - وهو دم شكران: يأكل منه - فإن لم يجد: فيجب عليه أن يصوم عشرة أيام: يصوم ثلاثة منها في مكة، وسبعة إذا رجع إلى أهله، فإن لم يستطع: فإنه يصومها كلها عند أهله، وهذا مطلق، أي: سواء وجد من يُقرضه لشراء هديًا أو لم يجد، وسواء كانت تلك الأيام في أيام منى، أو بعدها، وسواء كانت متتابعة أو لا، وسواء قبل يوم عرفة أو بعده، ولكن الأفضل أن يكون آخر الأيام الثلاثة هو يوم عرفة؛ للكتاب؛ حيث؛ قال تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى =
هديًا بنية التحلُّل؛ لقوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} و (إذا لم يجد هديًا: صام عشرة) أيام بنية التحلُّل (ثم حلَّ)؛ قياسًا على المتمتع
(5)
(ويجب بوطء
الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} حيث أوجب الهدي فيمن حج مُتمتعًا؛ لأن التقدير: "فعليه هدي" و"على" من صيغ الإيجاب، وهذا مطلق، فيشمل ما ذكرنا من الصور دون تقييد، والقارن مثل المتمتع هنا بل أولى منه في وجوب الهدي؛ لأن القارن لا يجب عليه إلا طواف واحد وسعي واحد فهو أولى بإيجاب الهدي؛ لقلة المشقة؛ بخلاف المتمتع، فيكون من باب مفهوم الموافقة الأولى، فإن لم يجد القارن الهدي: فإنه يصوم كالمتمتع، فإن قلتَ: لمَ وجب الهدي عليهما دون المفرد؟ قلتُ: شكرًا لله تعالى على أنه يسَّر له وجمع حجة وعمرة في سفرة واحدة، وأنه جعل المتمتع يفعل ما يشاء بين العمرة والحج، وأنه جعل عمل القارن أقل من عمل المتمتع، فإن قلتَ: لمَ أوجب صيام الثلاثة في الحج؟ قلتُ: لعدم مشقة صيامها في الحج غالبًا كفدية الأذى، وكفارة اليمين: فإن قلتَ: لمَ كان الأفضل جعل آخر صيام الثلاثة يوم عرفة؟ قلتُ: لأجل أن تكون قبل أيام النحر التي هي أيام أكل وشرب وذكر لله.
(5)
مسألة: المحصَر - وهو: من أحرم بالحج أو العمرة من الميقات، ثم مُنع من دخول مكة -: فإنه يذبح هديًا في موضع الإحصار - وهو: بدنة أو شاة كما سيأتي بيانه في باب "الفوات والإحصار" - ويفعل ذلك بنية التحلُّل من الإحرام، فإن لم يجد هديًا: فإنه يصوم عشرة أيام: ثلاثة في موضع الإحصار، وسبعة إذا رجع إلى أهله؛ لقاعدتين: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} حيث أوجب الشارع الهدي على المحصر؛ لأن التقدير: "إن أحرمت ثم مُنعت من دخول مكة فعليك هدي" و"على" =
في فرج في الحج) قبل التحلل الأول (بدنة) وبعده شاة، فإن لم يجد البدنة: صام عشرة أيام: ثلاثة في الحج، وسبعة إذا رجع؛ لقضاء الصحابة (و) يجب بوطء (في العمرة شاة) وتقدَّم حكم المباشرة (وإن طاوعته زوجته: لزمها) أي ما ذكر من الفدية في الحج والعمرة، وفي نسخة "لزماها" أي: البدنة في الحج، والشاة في العمرة، والمكرهة لا فدية عليها، وتقدم حكم
من صيغ الوجوب الثانية: القياس، بيانه: كما أن المتمتع إذا لم يجد هديًا: فإنه يصوم عشرة أيام، فكذلك المحصر إذا لم يجد ذلك مثله، والجامع: أن كلًا منهما لم يجد الواجب عليه، وأن كلًا منهما قد ترفَّه بالتحلُّل، فإن قلتَ: إن هذا فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ لأن المتمتع حصل له مقصوده من الحج والعمرة، أما المحصر فلم يحصل له مقصوده منهما؛ حيث إنه مُنع من دخول مكة ومع هذا الفرق لا يجوز القياس، فلا يجب الصوم عشرة أيام على المحصَر إذا لم يجد الهدي وهو قول كثير من العلماء، وصحَّحه ابن عثيمين قلتُ: بل هو قياس صحيح إذا نظرنا إلى العلَّة الجامعة بينهما وهو: أنه في كل منهما قد ترفَّه بالتحلل والتخلُّص من الإحرام؛ منعًا من المشقَّة عليه بالاستمرار بالإحرام، وهذا مقصد بحد ذاته؛ إذا لو لم يكن ذلك مقصودًا لما وجب عليه هدي أصلًا، ولعُذِر بالحصر نفسه وتحلَّل؛ لأنه ليس من فعله، ولكن لما وجب عليه هدي ولم يجده: وجب عليه بديله وهو: الصوم، فإن قلتَ: لمَ ينوي المحصَر التحلُّل إذا أراد الهدي أو الصوم بخلاف من أكمل نسكه فلا ينوي التحلُّل؟ قلتُ: لأن من أكمل نسكه لا يحتاج إلى نية، أما المحصر: فإنه يُريد التحلُّل من إحرامه قبل إكمال نسكه فاحتاج إلى نية لذلك؛ لأنه كما لا يصح الدخول بالعبادة إلا بنية؛ فكذلك لا يصح الخروج منها قبل كمالها إلا بنية.
المباشرة دون الفرج
(6)
، ولا شيء على من فكَّر فأنزل
(7)
، والدم الواجب لفوات، أو ترك واجب كمتعة
(8)
فصل: (ومن كرَّر محظورًا من
(6)
مسألة: إذا جامع المحرم قبل التحلل الأول: فعليه بدنة، أما إذا جامع بعد التحلل الأول: فعليه شاة، فإن لم يجد: فعليه صيام عشرة أيام: ثلاثة في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله، وإذا جامع في عمرة قبل الطواف والسعي، أو بينهما: فتجب عليه شاة، فإن لم يجد: فإنه يصوم عشرة أيام - كما سبق، وعلى المرأة مثل ما على الرجل إن كانت مطاوعة بخلاف ما إذا كانت مكرهة فلا شيء عليها، ولا يفسد حجها ولا عمرتها، والمباشر دون الفرج: حجه صحيح، وعليه شاة إن أنزل أو لا، وكل ذلك قد سبق في مسائل (35 إلى 46) وفروعها من باب "محظورات الإحرام" ولا داعي لتكراره.
(7)
مسألة: إذا فكَّر المحرم فأنزل منيًا: فلا شيء عليه؛ للمصلحة؛ حيث إن ذلك لا يسلم منه كثير من الناس، فلو وجب على المفكِّر في ذلك شيء: للحق كثيرًا من الناس مشقة، فدفعًا لذلك: شرع هذا.
(8)
مسألة: إذا أحرم بالحج، وفاته الوقوف بعرفة لأي سبب: فله أن يُحلَّ من إحرامه، وعليه ذبح شاة، فإن لم يجد: فعليه صيام عشرة أيام: ثلاثة في موضع تحلُّله، وسبعة إذا رجع إلى أهله، وكذلك: من ترك واجبًا من واجبات الحج كمن يترك رمي الجمرة، أو البيات في مزدلفة من غير عذر: فعليه ذبح شاة، فإن لم يجد فصيام عشرة أيام؛ للقياس، بيانه: كما أن المتمتع يجب عليه ذبح شاة، فإن لم يجد فعليه صيام عشرة أيام، فكذلك من فاته الحج، أو من ترك واجبًا مثله، والجامع: أن كلًا من المتمتع ومن فاته الحج قد ترفَّه بإحلاله من الإحرام، وكلًا من المتمتع وتارك الواجب قد ترفَّه بالراحة، وهذا هو المقصد منه.
جنس) واحد: بأن حَلَق، أو قلَّم، أو لبس مخيطًا، أو تطيَّب، أو وطئ، ثم أعاده (ولم يفد)؛ لما سبق:(فدى مرة) سواء فعله مُتتابعًا، أو مُتفرقًا؛ لأن الله تعالى أوجب في حلق الرأس فدية واحدة، ولم يُفرِّق بين ما وقع في دُفعة أو دُفعات، وإن كفَّر عن السابق: ثم أعاده لزمته الفدية ثانيًا
(9)
(بخلاف صيد) ففيه بعدده ولو في دُفعة؛ لقوله تعالى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ}
(10)
(ومن فعل محظورًا من أجناس)
(9)
مسألة: إذا كرَّر المحرم فعل محظور من جنس واحد كأن لبس مخيطًا، ثم نزعه، ثم لبسه مرة أخرى دون أن يفدي للمرة الأولى: فعليه فدية واحدة فقط، أما إن لبس المخيط ثم فدى، ثم لبسه مرة أخرى: فعليه فدية أخرى أيضًا: سواء كان ذلك اللُّبس مُتفرقًا، أو مُتتابعًا؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد قال لكعب بن عجرة: "احلق رأسك وصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، أو أنسك شاة" - كما سبق - وهذا مُطلق، فلم يُفرق فيه بين ما وقع من الحلق مُتتابعًا أو متفرقًا، حيث إنه تكفي في ذلك فدية واحدة وغيره من المحظورات كالحلق، من باب مفهوم الموافقة، الثانية: القياس، بيانه: كما أنه إذا تعددت الأحداث التي من جنس واحد في نقض الوضوء يكفي فيها وضوء واحد كأن يبول، ثم يبول مرة أخرى: فيكفي في ذلك وضوء واحد، أما إن بال، ثم توضأ، ثم بال فإنه يتوضأ مرة أخرى، فكذلك ما نحن فيه مثله، والجامع: أن لكل شيء سببه، ووجود التداخل بين ما يكون من جنس واحد، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن الفدية الواحدة عن محظورات كثيرة فيه تيسير على العباد.
(10)
مسألة: إذا قتل المحرم صيدين مثلًا: فعليه جزاءان: سواء قتلهما في وقت واحد، أو في وقتين، أو في رمية واحدة، أو في عدة مرات، وسواء وقع متفرقًا أو مُتتابعًا؛ لقاعدتين: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ =
بأن حلق، وقلَّم أظفاره، ولبس المخيط:(فدى لكل مرة) أي: لكل جنس فديته الواجبة فيه: سواء (رفض إحرامه أو لا)؛ إذ التحلُّل من الحج لا يحصل إلا بأحد ثلاثة أشياء: "كمال أفعاله" أو "التحلل عند الحصر" أو "بالعذر إذ اشرطه في ابتدائه" وما عدا هذه لا يتحلَّل به، ولو نوى التحلُّل: لم يُحل ولا يفسد إحرامه برفضه، بل هو باقٍ يلزمه أحكامه، وليس عليه لرفض الإحرام شيء؛ لأنه مُجرَّد نية
(11)
(ويسقط بنسيان) أو جهل، أو إكراه (فدية لبس، وطيب، وتغطية رأس)؛
مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} ولفظ "مثل" يلزم منه: أنه كلما قتل صيدًا: لزمه مثله، ومثل الصَّيدين لا يكون مثل أحدهما، الثانية: القياس، بيانه: كما أن المسلم لو قتل مسلمين في رمية واحدة خطأ: فتلزمه ديتان، فكذلك ما نحن فيه مثله، والجامع: أن كلًا منهما له حق خاص به الذي لا يكفي عنه غيره، وهو المقصد منه.
(11)
مسألة: إذا فعل المحرم محظورات من أجناس مختلفة كأن يحلق، ويلبس المخيط، ويتطيَّب: فعليه عن كل واحد فدية، فتجب ثلاث فِدَى في هذا المثال: سواء وقع ذلك دفعة واحدة أو لا، وسواء كان ذلك في وقت واحد أو لا، وسوى نوى فاعل ذلك رفض إحرامه والخروج منه وتركه أو لا؛ لقاعدتين: الأولى: القياس، بيانه: كما أن لكل حدٍّ من الحدود المختلفة عقوبته الخاصة به وإن تعدَّد وقوعها في وقت واحد كمن يقذف ويشرب الخمر، فكل واحد حده، فكذلك المحظورات المختلفة إذا فعلها المحرم لكل محظور فديته الخاصة به، والجامع: عدم التداخل في ذلك، الثانية: الاستقراء؛ حيث ثبت بعد الاستقراء والتتبع: أن التحلُّل من الإحرام يكون بفعل أحد أمور ثلاثة فقط: أولها: استكمال أفعال الحج والعمرة، ثانيها: التحلُّل عند الحصر والفوات كما سبق في مسألتي (5، 8) ثالثها: وجود العذر إذا شرطه الخائف قائلًا عند إحرامه: =
لحديث: "عُفي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" ومتى زال عذره: أزاله في الحال (دون) فدية (وطء وصيد، وتقليم وحلق) فتجب مُطلقًا؛ لأن ذلك إتلاف، فاستوى عمده وسهوه كمال الآدمي
(12)
، وإن استدام لُبس محيط: أحرم فيه
"وإن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني" كما سبق في مسألة (14) من باب "الإحرام وكيفيته" وبناء على ذلك: لا يكون تطيبه، أو لبسه للمخيط، أو حلقه سببًا لتركه ورفضه لإحرامه في الحج أو العمرة وإن نواه، بل هو باق على إحرامه شرعًا إذا لم يُوجد واحد من تلك الأمور الثلاثة، وإن كان لابسًا للمخيط، أو مُتطيبًا، أو تاركًا للمشاعر، ويحسب عليه كل ما يفعله من محظورات الإحرام، لذلك إذا نوى رفض إحرامه وتركه فلا توجب تلك النية عليه شيئًا من دم أو فدية أو كفارة؛ لكونه مستمرًا على إحرامه شرعًا كما سبق بيانه.
(12)
مسألة: المحرم إذا فعل محظورًا من محظورات الإحرام التسعة السابقة في باب: "محظورات الإحرام" - وهي حلق الشعر، وتقليم الأظفار، وتغطية الرأس، ولبس المخيط، والطيب، وقتل الصيد، وعقد النكاح، والجماع، والمباشرة - وهو مُتعمِّد ذاكر لإحرامه، عالم بالحكم، مختار: فإن عليه فديته، وجزاؤه، وبدنته أو شاته، وإن كان مخطئًا، أو ناسيًا، أو جاهلًا، أو مكرهًا: فلا شيء عليه، وهو رواية عن الإمام أحمد، وهو قول داود، وطاووس، وهو لبعض الصحابة كابن عباس ولبعض التابعين كسعيد بن جبير؛ لقواعد: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} فأوجب جزاء الصيد على المتعمِّد فقط، وهذا يدل بمفهوم الصفة على أن غير المتعمِّد: لا يجب عليه شيء، ويعم هذا المفهوم: المكره، والمخطئ، والناسي، والجاهل، وغير القاتل للصيد - كمن حلق رأسه، أو لبس مخيطًا، أو غطى =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
رأسه، أو تطيب، أو جامع، أو عقد نكاحًا، أو باشر، أو قلَّم أظفارًا - مثل القاتل للصيد في العمد وغيره؛ لعدم الفارق المؤثر، فيكون من باب مفهوم الموافقة، الثانية: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "عُفي لأمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" وهذا عام لجميع أفعال المسلم، فيشمل ذلك جميع ما ذكرناه هنا، فيكون ما وقع عن طريق الخطأ والنسيان معفوًا عنه ومثله ما وقع إكراهًا، أو جهلًا؛ لعدم الفارق المؤثر، فيكون من باب مفهوم الموافقة، الثالثة: القياس، بيانه: كما أن الناسي، والجاهل، والمكره إذا أكل في نهار رمضان فصومه صحيح، فكذلك من فعل هذه المحظورات وهو بتلك الحالة مثله لا شيء عليه، والجامع: أن كلًا منهم قد انتهك حرمة عبادة بعذر، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: لأن الأمور بمقاصدها فهو لم يقصد انتهاك حرمة الإحرام، فإن قلتَ: إن جامع المحرم، أو باشر، أو صاد صيدًا، أو قتله، أو قلَّم أظفاره، أو حلق شعره: فتجب عليه الفدية: سواء كان عامدًا أو لا، أما إذا غطى رأسه، أو لبس مخيطًا، أو تطيَّب: فإن الفدية تجب عليه إن كان عامدًا، ذاكرًا، مختارًا، عالمًا، وإن كان غير ذلك: فلا شيء عليه، هذا ما ذكره المصنف هنا لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" حيث إن هذا خاص بتغطية الرأس، ولبس المخيط، والطيب، دون بقية المحظورات، الثانية: القياس، بيانه: كما أن المسلم إذا أتلف مال غيره: فعليه ضمانه: سواء كان عامدًا، أو مخطئًا أو غير ذلك، فكذلك الحال في الفدية في الجماع، والمباشرة، والصيد، وتقليم الأظفار، والحلق، والجامع: الإتلاف في كل قلتُ: أما الحديث: فلم أجد دليلًا مُخصِّصًا له في تغطية الرأس، ولبس المخيط، والتطيب؛ لكون عمومه قويًا، أما القياس: فهو فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ حيث إن الإتلاف الذي يستوي فيه العمد وغيره والعذر =
ولو لحظة فوق المعتاد من خلعه: فدى
(13)
، ولا يشقُه
(14)
(وكل هدي أو إطعام) يتعلَّق بحرم أو إحرام كجزاء صيد، ودم مُتعة، وقِران، ومنذور، وما وجب لترك
وغير العذر هو: ما كان من حقوق الآدميين فقط؛ لكونه من باب الحكم الوضعي؛ حيث إنه إذا وجد السبب وجد الحكم: فهنا وجد الإتلاف: فلا بد من وجود الحكم وهو: ضمان المتلف، أما ما كان في حق الله تعالى: فلا يجب ضمانه؛ نظرًا لإسقاط الله تعالى له؛ تلطُّفًا وتكرمًا وتيسيرًا منه على عباده، ولكونه ليس بحاجة إلى شيء، بخلاف الآدمي، ومع الفرق لا قياس، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "الخلاف في الحديث هل هو عام أو خاص؟ " و"هل الله تعالى كالآدمي فيما يُتلف؟ " و"تعارض القياسين".
(13)
مسألة: إذا نوى الإحرام وعليه مخيط، ولم يخلعه ليلبس لباس الإحرام، بل استمر على لبس ذلك المخيط وقتًا فوق وقت المعتاد لخلعه، ولو كان لحظة أو ساعة، وهو ذاكر عالم متعمِّد مختار: فتجب عليه فدية - وهي: إما ذبح شاة، أو إطعام ستة مساكين - على ما سبق - أو صيام؛ للقياس، بيانه: كما أنه إذا لبس المخيط أثناء إحرامه: فعليه فدية، فكذلك إذا استمر على لبسه له مثله، والجامع: أن كلًا منهما يوصف بلبس المخيط.
(14)
مسألة: إذا أراد خلع لباسه المخيط: فإنه يخلعه خلعًا عاديًا من عند فتحة رأسه ولو غطَّاه بسبب ذلك، ولا يشقُّه ولا فدية عليه؛ للسنة القولية؛ حيث "أمر صلى الله عليه وسلم يعلى بن أُمية بنزع المخيط" وهذا يلزم منه: أن يُنزع نزعًا عاديًا، بدون شقٍّ، فإن قلتَ: لمَ لا تجب فدية على ذلك مع أنه غطَّى رأسه أثناء نزعه؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن تغطية الرأس هنا غير مقصوده، ولأن شق الثوب المخيط فيه إضاعة للمال، وهو لا يجوز.
واجب، أو فعل محظور في الحرم (فـ) إنه يلزمه ذبحه في الحرم، قال أحمد:"مكة ومنى واحد"، والأفضل: نحر ما بحج بمنى، وما بعمرة بالمروة، ويلزمه تفرقة لحمه، أو إطلاقه (لمساكين الحرم)؛ لأن القصد: التوسعة عليهم، وهم: المقيم به، والمجتاز: من حاج وغيره ممن له أخذ الزكاة لحاجة
(15)
، وإن سلَّمه لهم حيًا فذبحوه: أجزأ،
(15)
مسألة: إذا وجب هدي تمتع أو قران، أو جزاء صيد، أو نذر في الحرم، أو شاة، أو إطعام يفدي به ما فعله من محظورات الإحرام، في الحرم أو أثناء الإحرام: فإنه يتصدَّق بذلك كله على فقراء مكة: سواء كانوا داخلها، أو خارجها في المشاعر كمنى ومزدلفة، وسواء كانوا من أهل مكة المقيمين فيها دائمًا، أو كانوا من الحجاج الذين أتوا إليها، أو كانوا مارِّين بها بشرط: أن يكونوا مُستحقِّين للزكاة: لقاعدتين: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} فأوجب الشارع أن محل الذبح مكة، وقال:{هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} فأوجب الشارع أن يكون جزاء الصيد في مكة وبقية الفدى مثل ذلك؛ لعدم الفارق، وهو من باب مفهوم الموافقة، وقال:{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ .. } حيث خصَّصت الآية الصدقات من اللحوم والأطعمة للذين يستحقون الزكاة من أهل مكة، الثانية: قول الصحابي: حيث قال ابن عباس: "الهدي والإطعام بمكة، والصوم حيث شاء" فإن قلتَ: لمَ كان ذلك لمساكين مكة؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حث على عمارة بيت الله والمسجد الحرام بالطاعة؛ إذ ذلك سيكفل للمجاورين لعبادة الله بعض رزقهم؛ لعموم قوله تعالى: {وَارْزُقْ أَهْلَهُ} . [فرع]: يُستحب أن يذبح الهدي والفِدَى، ويُخرج الطعام في المكان الذي يكثر فيه الفقراء والمساكين من أهل مكة؛ للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه دفع مشقة ذهابهم إلى مكان توزيع ذلك، فإن قلتَ: المستحب أن يُذبح ما يخصُّ الحج بمنى، وما يخصُّ العمرة بالمروة، وهو ما ذكره المصنف هنا؛ للسنة الفعلية؛ حيث "إنه صلى الله عليه وسلم قد ذبح بمنى" وهذا يلزم منه: ما =
وإلا: ردَّه وذبحه
(16)
(وفدية الأذى) أي: الحلق (واللُّبس ونحوهما) كطيب، وتغطية رأس، وكل محظور فعله خارج الحرم (ودم الإحصار حيث وجد سببه) من حلٍّ أو حرم؛ لأنه صلى الله عليه وسلم نحر هديه في موضعه بالحديبية، وهي من الحلِّ، ويُجزئ بالحرم أيضًا
(17)
(ويُجزئ الصوم) والحلق (بكل مكان)؛ لأنه لا يتعدَّى نفعه لأحد، فلا
ذكروه أن يذبح ما يخص الحج في منى، ويُفهم منه: أن يذبح ما يخص العمرة في المروة، قلتُ: إن هذا يدل على ما ذكرناه، وهو الذبح عند المكان الذي يكثر فيه الفقراء؛ لكونه صلى الله عليه وسلم حينما ذبح في منى ذبح حول من سيأكله من الناس، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "الخلاف في مقصود النبي صلى الله عليه وسلم حينما ذبح في منى" فعندنا: قصده عند كثرة الناس، وعندهم: قصده المكان.
(16)
مسألة: المحرم يذبح هديه، أو فديته بنفسه، ويُعطي الفقراء اللحم، وإن أعطى الفقراء الهدي، أو الفدية حية كشاة مثلًا فذبحوها وعلم بذلك: فإن هذا يُجزئ، أما إن لم يذبحوها فيجب عليه أن يردَّها، ويذبحها بنفسه؛ للتلازم؛ حيث يلزم من وجوبها في ذمته ذبحها وهذا يتحقَّق إما بنفسه أو بغيره. [فرع]: إن تعذَّر ذبح الهدي والفدية داخل الحرم: فيجوز ذبحها في أي مكان آخر، وتوزع على الفقراء في أي مكان؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم:"إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" فإذا تعذَّر فعل الواجب في المكان الذي وجب فيه، فإنه يجب فعله في مكان آخر غير مُتعذِّر، وهذا فيه توسعة.
(17)
مسألة: إذا فعل محظورًا من محظورات الإحرام كحلق ولبس مخيط، ونحوهما، أو حصل إحصار: فيؤدِّي الفدية والهدي من ذبحٍ وإطعام في المكان الذي حصل فيه المحظور، أو الإحصار: سواء كان داخل الحرم أو خارجه، في حل أو حرم؛ لقاعدتين: الأولى: السنة الفعلية، حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد نحر هديه بالحديبية لما حصر، وهو من الحل، الثانية: القياس، بيانه: كما أن الحرم =
فائدة لتخصيصه
(18)
(والدم) المطلق كأضحية (شاة)) جذع ضأن، أو ثني معز (أو سُبُع بدنة) أو بقرة، فإن ذبحها فأفضل، وتجب كلها (وتجزئ عنها) أي: عن البدنة (بقرة) ولو في جزاء صيد كعكسه، وعن سبع شياه: بدنة، أو بقرة مُطلقًا
(19)
.
موضع للذبح والإطعام فكذلك الحل مثله، والجامع: أن كلًا منهما هو موضع حلِّه، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تيسير على الناس. [فرع]: يجب أن يكون جزاء الصيد وذبحه داخل الحرم، وإن صيد في الحلال؛ للكتاب؛ حيث قال تعالى في جزاء الصيد-:{هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} فأوجب الشارع أن يكون المذبوح جزاء الصيد في الحرم، ويأكل فقراء مكة لحمه؛ لأن هذا أمر مطلق، فيقتضي الوجوب، وقد خصَّصه في مكان معيَّن وهي مكة، فيجب فيها، ودل مفهوم المكان على عدم إجزائه في غير مكة، فإن قلتَ: لمَ وجب هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن هذا الصيد من حق فقراء مكة، فلما صاده هذا المحرم: وجب أن يُعوِّضه لهم بهذا الجزاء من بهيمة الأنعام.
(18)
مسألة: إذا اختار في فدية الأذى صيام ثلاثة أيام: فإنه يصومها في أي مكان، وفي أي وقت: سواء في مكة، أو عند أهله، وسواء في وقت الحج أو لا؛ لقول الصحابي؛ حيث قال ابن عباس:"الهدي والإطعام في مكة، والصوم حيث شاء" فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن هذا فيه تيسير على الناس، خاصة أن نفعه لا يتعدَّى إلى أحد، فلا فائدة من تخصيصه بمكان مُعيَّن، أما الذبح، والإطعام فنفعه يتعدَّى إلى غيره، فخُصِّص فقراء مكة بهذا النفع.
(19)
مسألة: إذا قيل: "عليك دم" وأطلق في محظورات الإحرام: فالمراد: يجب عليك أحد أمور ثلاثة: إما ذبح شاة، أو إطعام ستة مساكين - على ما سبق تفصيله - أو صوم ثلاثة أيام، بالتخيير بينها، وكذا: إن قيل: "عليك فدية أذى"، وإذا اختار المحرم ذبح شاة عن هدي أو غيره: فالمراد بها: ما يُجزئ في الأضحية =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
من ضأن ومعز، ويُجزئ عنها سُبُع بدنة، أو سبع بقرة، وإن كان عليه سبع من الدماء، أو كان هناك سبعة كل واحد عليه دم: فيُجزئهم ذبح ناقة، أو بقرة - توفَّر فيهما شروط الأضحية -؛ للسنة القولية وهي من وجهين: أولهما: أنه صلى الله عليه وسلم قد أمر كعب بن عجرة بذبح شاة أو صوم، أو إطعام - كما سبق تفصيله في مسألة (2) من باب:"محظورات الإحرام"، ثانيهما: أن جابرًا قال: "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نشترك في الإبل والبقر، كل سبعة منا في بدنة". [فرع]: إذا ذبح عن الشاة: بدنة: ناقة أو جمل، أو بقرة فهو أفضل ويُؤجر على سُبُعها أجر إيجاب، والباقي يُؤجر عليه أجر ندب، وهذا له أثره فيما إذا كان عليه دم جبران فذبح بدنة: فإنه لا يأكل من السُبُع الذي هو عن ذلك الدم، أما الباقي: فإنه يأكل منه، فإن قلتَ: إنه إذا عيَّن بدنة عن شاة، فإنها تكون كلها واجبة، ويؤجر عليها أجر واجب قلتُ: هذا غير صحيح؛ لكون المطلوب مُحدَّدًا يعرف الواجب من غيره، فهو كمن أخرج دينارًا زكاة عن عشرين دينارًا: فإن نصفه يكون زكاة واجبة، والنصف الآخر يكون مندوبًا، وهذا قد فصَّلتُ الكلام فيه في كتابي:"الإتحاف" و"المهذَّب".
هذه آخر مسائل باب "الفدية" ويليه باب "جزاء الصيد"
باب جزاء الصيد
أي: مثله في الجملة إن كان، وإلا: فقيمته: فيجب المثل من النِّعَم فيما له مثل؛ لقوله تعالى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} و"جعل النبي صلى الله عليه وسلم في الضبع كبشًا"
(1)
،
باب جزاء الصيد
وفيه ثلاث عشرة مسألة:
(1)
مسألة: إذا قتل محرم صيدًا مُتعمِّدًا، وهو عالم بتحريم ذلك، ذاكر لإحرامه، مختار لذلك، فيجب عليه جزاؤه، وهو: أن يذبح ما يُماثله من بهيمة الأنعام، هذا إن وُجد مثله في الجملة بأن يقرب من صورة وخِلْقة بعض بهيمة الأنعام، ولا يُشترط في المماثلة: التطابق بين ما صاده المحرم من الصيد وبين ما ماثله من بهيمة الأنعام؛ لقاعدتين: الأولى: الكتاب، حيث قال تعالى:{فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} حيث يلزم من لفظ "مثل": عدم اشتراط التطابق؛ لكون المثل لا يُطابق ما يُماثله؛ إذ لو طابقه لكان عينه لا مثله، الثانية: السنة القولية؛ حيث "إنه صلى الله عليه وسلم قد قضى على من قتل ضبعًا بأن عليه كبشًا من الغنم" ولو دقَّقتَ النظر في الكبش لوجدته يُماثل الضبع من حيث الصورة والخلقة، دون التطابق بينهما من كل جانب، فإن قلتَ: لمَ وجب المثل هنا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تحقيق للعدالة؛ حيث إن وجوب المماثلة فيه رد لفقراء مكة مثل الصيد الذي حُرموا منه في صحرائهم، فإن قلتَ: لمَ لا تُشترط المطابقة هنا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن التطابق بين الصيد، وبهيمة الأنعام يشق، فدفعًا لذلك لم تشترط. [فرع]: الواجب هو: مثل الصيد المقتول؛ ليذبحه في مكة، ولا تجب قيمته؛ لفعل الصحابي؛ حيث إن كثيرًا من الصحابة كانوا يقضون بالمثل، ولم =
ويُرجع فيما قضت فيه الصحابة إلى ما قضوا به فلا يحتاج أن يُحكم عليه مرة أخرى؛ لأنهم أعرف، وقولهم أقرب إلى الصواب، ولقوله صلى الله عليه وسلم:"أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم"
(2)
ومنه (في النعامة بدنة) روي عن عمر، وعثمان، وعلي،
يقضوا بها على وجه القيمة؛ إذ لو قضوا على وجه القيمة لاعتبروا صفة المتلف التي تختلف القيمة فيه إما برؤية أو إخبار، ولم يُنقل عنهم السؤال عن ذلك حال قضائهم بذلك، فإن قلتَ: لمَ لا تجب القيمة هنا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن القيمة تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والبيئات، فدفعًا لمشقة ذلك: اعتبرت المثلية؛ تحقيقًا للعدالة.
(2)
مسألة: إذا قضى بعض الصحابة بأن هذا الصيد مثل ذلك الحيوان من بهيمة الأنعام: فإنا نأخذ به، ولا يحتاج إلى اجتهاد منا مرة أخرى؛ لقول وفعل وتقرير الصحابي؛ حيث إنه حجة فيما يقوله ويفعله ويُقرِّره، فإن قلتَ: يجوز لغيرهم ممن جاء بعدهم أن يجتهدوا فيما اجتهد فيه الصحابة مرة ثانية، وهو قول مالك؛ للكتاب؛ حيث قال تعالى:{يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} حيث إن الآية مُطلقة فيمن توفرت فيه شروط العدالة، وهذا يدخل فيه الصحابة، وغيرهم قلتُ: إن اجتهادات الصحابة في ذلك وغيره مقدَّمة على اجتهادات غيرهم ممن جاء بعدهم؛ للتلازم؛ حيث إن مشاهدتهم للتنزيل، وأخذهم الشريعة من فيِّ النبي صلى الله عليه وسلم، ومعرفتهم لأسباب النزول العامة والخاصة، وشهادة الله لهم ورسوله بالعدالة يلزم منه أنهم أعلم بمقاصد الشريعة من غيرهم: فيكون قولهم أقرب للصواب من قول غيرهم، تنبيه: حديث: "أصحابي كالنجوم" ضعيف عند كثير من أئمة الحديث، وهذا لا يحتج به، لذلك يُقدَّم الاستدلال الذي ذكرناه على الاستدلال به الحديث.
وزيد، وابن عباس، ومعاوية رضي الله عنهم؛ لأنها تُشبهها
(3)
(و) في (حمار الوحش) بقرة روي عن عمر رضي الله عنه (و) في (بقرته) أي: الواحدة من بقر الوحش: بقرة، روي عن ابن مسعود (و) في (الأيِّل) على وزن "قنَّب" و"وخِلَّب" و"سَيِّد": بقرة، روي عن ابن عباس (و) في (الثيتل): بقرة، قال الجوهري:"الثيتل": الوَعْل المسن (و) في (الوَعْل: بقرة) روي عن ابن عمر أنه قال (في الأروى: بقرة) قال في "الصحاح": الوعل هي: الأروى، وقال في القاموس: الوَعْل بفتح الواو مع فتح العين وكسرها وسكونها: تيس الجبل
(4)
(و) في (الضَّبع: كبش) قال الإمام: "حكم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بكبش"
(5)
(و) في (الغزالة: عنز)
(6)
روي عن جابر عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "في الظبي: شاة"، (و) في (الوَبَر) وهي: دويبة كحلاء دون السنور لا ذنب لها: جَدْي (و) في (الضَّب: جدي) قضى به عمر رضي الله عنه وأرْبَد و"الجدي": الذكر من أولاد المعز
(3)
مسألة: إذا قتل المحرم نعامة - وهي طير طويل العنق كثير الرِّيش -: فعليه ذبح بدنة - وهي: الجمل أو الناقة -؛ لقول الصحابي؛ حيث قضى بذلك بعض الصحابة كعمر، وعثمان، وعلي، وابن عباس، وزيد، ومعاوية رضي الله عنهم.
(4)
مسألة: إذا قتل المحرم حمارًا وحشيًا، أو قتل بقرة من البقر الوحشية أو قتل أيلًا، أو الثَّيتَل: أو الوَعْل وهي أنواع من الضباء الكبيرة القريبة الشكل من البقرة: فعليه ذبح بقرة؛ لقول الصحابي؛ حيث إن بعض الصحابة قد قضى بذلك كعمر، وابنه، وابن مسعود، وابن عباس رضي الله عنهم.
(5)
مسألة: إذا قتل محرم ضَبْعًا: فعليه ذبح كبش من الغنم؛ للسنة القولية؛ حيث حكم بذلك النبي صلى الله عليه وسلم.
(6)
مسألة: إذا قتل محرم غزالًا: فعليه ذبح عنز أو شاة؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "في الظبي شاة".
له ستة أشهر
(7)
(و) في (اليربوع: جَفْرة) لها أربعة أشهر، روي عن ابن عمر وابن مسعود
(8)
(و) في (الأرنب: عناق) روي عن عمر رضي الله عنه، و"العناق": الأنثى من أولاد المعز أصغر من الجفرة
(9)
(و) في (الحمامة: شاة) حكم به عمر، وعثمان، وابن عمر، وابن عباس، ونافع بن عبد الحارث رضي الله عنهم في حمام الحرم، وقيس عليه حمام الإحرام، و"الحمام": كل ما عبَّ في الماء وهدر فيدخل فيه: الفواخت، والوراشين، والقطا، والقمري، والدبسي
(10)
، وما لم تقض فيه الصحابة يُرجع فيه إلى قول
(7)
مسألة: إذا قتل ضبًّا - وهو حيوان زاحف له ذَنَب طويل - أو قتل الوَبَر - وهو: حيوان أصغر جسمًا من الهرة، وأكبر من الفأرة لا ذنب له -: فعليه ذبح جدي - وهو: الذكر من ولد المعز له ستة أشهر، ويُسمَّى التيس الصغير -؛ لقول الصحابي؛ حيث إن عمر رضي الله عنه قد قضى بأن من قتل ضبًا فعليه جدي، والوَبَر مثله؛ لعدم الفارق.
(8)
مسألة: إذا قتل محرم اليربوع - وهو حيوان يُشبه الفأرة إلا أنه أكبر قليلًا، وأطول رجلًا منه، ويُسمَّى الجربوع -: فيجب عليه أن يذبح جَفْرة، وهو: الجدي الذي له أربعة أشهر فقط -؛ لقول الصحابي؛ حيث إن ابن مسعود وابن عمر قد قضيا بذلك.
(9)
مسألة: إذا قتل محرم أرنبًا: فعليه ذبح عناق - وهي: الأنثى من ولد المعز لها ثلاثة أشهر -؛ لقول الصحابي؛ حيث إن عمر رضي الله عنه قد قضى بذلك.
(10)
مسألة: إذا قتل محرم حمامة - وهي: كل ما عبَّ الماء بأن يشرب الماء مرة واحدة من غير مصِّ، ويكرع كما تكرع الشاة له صوت الهدير - فعليه ذبح شاة؛ لقول الصحابي؛ حيث إن عمر، وابنه، وابن عباس، وعثمان رضي الله عنهم قد قضوا بذلك.
عدلين خبيرين
(11)
، وما لا مثل له كباقي الطيور ولو أكبر من الحمام -: فيه القيمة
(12)
،
(11)
مسألة: إذا قتل محرم صيدًا لم يقضِ به الصحابة: فإنه يُرجع فيه إلى قول عدلين خبيرين في ذلك، فإذا قالا: إن هذا الصيدَ يُماثل هذا الحيوان من بهيمة الأنعام: من حيث الخِلْقة والصُّورة: فإنه يجب على هذا القاتل أن يذبح ذلك الحيوان المشابه له؛ للكتاب؛ حيث قال تعالى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} فاشترط لتحقيق المماثلة: أن يحكم فيه اثنان عدلان، فإن قلتَ: لمَ اشترطت العدالة هنا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن العدالة فيها تحقيق الثقة بما يُقال ويحكم وهي شرط في كل من يُقبل قوله، فإن قلتَ: لمَ اشترطت الخبرة فيهما، دون التفقُّه؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث لا نثق بقول قائل في ذلك إلا إذا كان من أهل الخبرة الطويلة بالحيوانات، والأثمان، والأسواق، أما الفقيه الذي لا خبرة عنده في ذلك: فلا يُفيد في ذلك لذلك سأل عمر قائلًا: "من يحكم في الضب" مع أن حوله بعض فقهاء الصحابة، فلم يقتصر عليهم، وكان الإمام مالك يسأل عن أمور الحيض والنفاس بعض النساء ذوات الخبرة في ذلك.
(12)
مسألة: إذا قتل محرم صيدًا لم يقض فيه الصحابة، ولم يستطع العدلان الخبيران معرفة ما يُماثله: فإنه يُقيَّم بدراهم، فيشتري المحرم القاتل له بتلك الدراهم طعامًا، فيُعطي كل واحد من مساكين وفقراء مكة مُدًّا من البر، أو الأرز، أو يُعطيه نصف صاع من غيرهما أو يصوم عن كُلِّ مدٍ يومًا - كما سبق تقريره -؛ للكتاب؛ حيث قال تعالى:{وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ، أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ، أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} فخيَّر الشارع بين تلك الأمور الثلاثة: لأن لفظ "أو" للترتيب، ويلزم من ذكر هذه الثلاثة فقط: عدم إجزاء القيمة.
وعلى جماعة اشتركوا في قتل صيد جزاءٌ واحد
(13)
.
(13)
مسألة: إذا اشترك مجموعة من المحرمين في قتل صيد: فعليهم جميعًا جزاء واحد، فلو اشترك ثلاثة منهم في قتل غزال مثلًا: فإنهم يشترون شاة أو عنزًا، كل واحد يدفع ثلث ثمنها، أو يشترون بثمنها طعامًا، ويُوزِّعونه على فقراء مكة: كل واحد يُعطونه مدًا من البر أو الأرز - وهو ربع صاع -، أو يصومون عن كل مد يومًا، وكل واحد يصوم نصيبه، فإذا كان الطعام تسعة أمداد مثلًا: فإن كل واحد يصوم ثلاثة أيام وهكذا، للكتاب؛ حيث قال تعالى:{فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} حيث أوجب جزاءً واحدًا، وهو مطلق فيمن تفرَّد في الصيد، أو اشترك مع غيره، فكما أن المحرم لو قتل ثلاثة من الصيد: فإن عليه ثلاثة من الجزاءات، فكذلك إذا قتل ثلاثة من المحرمين صيدًا واحدًا: فإن عليهم جزاء واحدا، فالعبرة في الصيد، لا في القاتلين له. [فرع]: إذا أتلف المحرم جُزءًا من الصيد كذَنَبه، أو جناحه، ولم يمت ذلك الصَّيد وذهب: فتجب على المحرم المتلف له قيمة ما أتلفه من ذَنبٍ، أو جناح ونحوهما، ثم يُشترى بتلك القيمة طعامًا، ويوزعه على فقراء مكة - على ما سبق - فمثلًا: لو أتلف المحرم ذَنَب ضبٍّ ولم يمت ذلك الضب، ثم قوِّم الضب بأنه يُساوي مائة درهم، وذنبه يُساوي منه ثلاثين درهمًا، فإنه يُشترى بتلك الثلاثين طعامًا من بر أو أرز، فيُعطى كل فقير من فقراء مكة مُدًّا واحدًا من الطعام، أو يصوم عن كل مد يومًا، وهذا مطلق، أي: سواء كان هذا الصيد له مثل أو لا؛ للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية للصيد من أن يُعتدى عليه، فيُؤخذ بعضه، وفيه دفع مشقة عن الصائد في أنه يُخرج كل الجزاء مع أنه لم يُتلف إلا بعض الصيد.
هذه آخر مسائل باب "جزاء الصيد" ويليه باب "حكم صيد الحرم المكي والمدني، وحكم النبات فيهما"
باب حكم صيد الحرم
أي: حرم مكة (يحرم صيده على المحرم والحلال)، إجماعًا؛ لحديث ابن عباس رضي الله عنهم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: "إن هذا البلد حرَّمه الله يوم خلق السموات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة"(وحكم صيده كصيد المحرم) فيه الجزاء، حتى على الصغير، والكافر، لكن بحريُّه لا جزاء فيه، ولا يملك ابتداء بغير إرث
(1)
،
باب حكم صيد الحرم المكي والمدني، وحكم النبات فيهما
وفيه تسع عشرة مسألة:
(1)
مسألة: صيد حرم مكة حرام على المحرم - كما سبق - وحرام على المحلِّ - وهو الذي لم يُحرم بنسك - فإذا قتله المحرم أو المحل في الحرم: فعليه جزاؤه - كما سبق تفصيله -، وهذا الحكم شامل للكبير، والصغير، والمسلم والكافر، ولا جزاء في صيد البحر، ولا يملك المحلُّ أيَّ صيد ببيع أو هبة إلا بسبب الإرث - كما سبق بيانه في مسألة (21) من باب:"محظورات الإحرام" -؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم في خطبة حجة الوداع: "إن هذا البلد حرَّمه الله يوم خلق السموات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة" ثم قال: "لا يُختلى خلاها، ولا يُنفَّر صيدها" حيث إنه حرم صيد مكة؛ لأن النهي مُطلق، وهو يقتضي التحريم، وهذا عام؛ لأن "صيدها" جمع منكر أضيف إلى معرفة وهذا من صيغ العموم، فيشمل لكل من صاد صيدها: سواء كان محرمًا، أو محلًا، للمحل والمحرم، والصغير والكبير، والمسلم والكافر: وسواء وقع الصيد بالفعل أو بالإشارة أو نحو ذلك، الثانية: القياس، بيانه: كما أن المحرم مُنع من الصيد، ويجب عليه جزاؤه، فكذلك المحل الذي يوجد في =
ولا يلزم المحرم جزاءان
(2)
(ويحرم قطع شجرة) أي: شجر الحرم (وحشيشه الأخضرين) اللَّذين لم يزرعهما آدمي؛ لحديث: "ولا يُعضد شجرها، ولا يُحشُّ حشيشها" وفي رواية: "ولا يُختلى شوكها"، ويجوز قطع اليابس والثمرة وما
الحرم مثله، والجامع: أن كلًا منهما مُنع لحق الله تعالى؛ حيث إنه في حماه، فإن قلتَ: لم حُرِّم ذلك؟ قلتُ: لأن هذا الصيد معصوم الدم؛ لكونه قد التجأ إلى حمى الله تعالى حول بيته، كالخائف الذي لجأ إلى بيت الله فاحتمى به. [فرع]: إذا جلب المحل صيدًا من خارج الحرم: فيباح أن يذبحه في مكة ويأكله؛ لإقرار الصحابي؛ حيث إن عبد الله بن الزبير وبعض الصحابة قد أقرُّوا بذلك ولم يُنكروه، وفيه مصلحة. [فرع آخر]: إذا كان شخص خارج الحرم فرمى صيدًا كان داخل الحرم: فقتله، أو كان الصيد على غصن داخل الحرم، فقتله شخص في الحل، أو أمسك طائرًا في الحل فهلك فراخه الذين في الحرم وعلم بذلك: فعليه جزاء الصيد؛ للقياس؛ بيانه: كما أن المحرم عليه جزاء الصيد الذي قتله فكذلك المحل الذي هو خارج الحرم مثله هنا، والجامع: أن كلًا منهما قد قتل صيدًا معصوم الدم، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية لصيد الحرم من التحايل لصيده. [فرع ثالث]: إذا كان شخص في الحرم وهو محلُّ فقتل صيدًا في الحل بأي آلة: فلا جزاء عليه؛ للاستصحاب؛ حيث إن الأصل: حلُّ الصيد، واستُثنيَ صيد الحرم فحرم بالنص كما سبق فبقي ما عداه على أصله، وهو حلُّه، فيُستصحب ذلك ويُعمل به، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة، وهي التوسعة على المسلمين.
(2)
مسألة: إذا قتل المحرم صيدًا في الحرم: فعليه جزاء واحد، ولا يجب عليه جزاءان: جزاء لأجل إحرامه، وجزاء لكونه قتله داخل الحرم، للكتاب؛ حيث قال تعالى:{وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} وهو مطلق في المكان والحال: ويكفي في امتثاله جزاء واحد؛ فإن قلتَ: لمَ لا يجب إلا جزاء واحد؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تخفيف على العباد.
زرعه الآدمي، والكمأة، والفقع
(3)
، وكذا: الإذخر كما أشار إليه بقوله: (إلا الإذخر) قال في القاموس: حشيش طيِّب الرائحة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "إلا الإذخر"
(4)
(3)
مسألة: يحرم قطع وإزالة شجر الحرم البري وحشيشه، إذا كان أخضرًا، ولم يزرعه آدمي، أما إن كان يابسًا، أو ثمرًا، أو قام آدمي بزراعته، أو كان تحت الأرض مثل الفقع، والكمأة: فتجوز إزالته ولا شيء في ذلك؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "لا يُختلى خلاها، ولا يُعضد شوكها" وفي رواية "ولا يُحش حشيشها" فحرم ذلك؛ لأن النهي مُطلق، فيقتضي التحريم، وقوله:"ولا يُحشُّ حشيشها" زيادة ثقة مقبولة، ويلزم من ذلك: أن اليابس، والفقع والكمأة، والثمرة وما زرعه الآدمي: يُباح قطعه والانتفاع به؛ لكونه لا يُسمَّى حشيشًا، فإن قلتَ: لم شُرع هذا؟ قلتُ: لأن الشارع قد جعل كلَّ شيء مُحرّمًا فيها، وينعم بحمى الله تعالى، وهو مؤكِّد بحرمة مكة، فإن قلتَ: لمَ جاز قطع ما يُنتفع به، أو ما هو من زراعة الآدمي؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه سد حاجة المسلم، وفيه حماية لحق الآدمي الذي تعب في زراعة ذلك. [فرع]: يُباح للشخص أن يترك بهائمه ترعى من أشجار وحشيش مكة بنفسها؛ للسنة التقريرية، حيث إنه صلى الله عليه وسلم لم يُنكر ذلك لما رأى بهائم من إبل الصدقة، والهدي والأضاحي ترعى من هذه الأشجار والحشيش، فإن قلتَ: لمَ أُبيح ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تيسير على الناس.
(4)
مسألة: يُباح للمحرم وغيره قطع وإزالة نبات الإذخر - وهو: حشيش له رائحة طيِّبة له أطراف دقيقة -؛ للسنة القولية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم لما نهى عن قطع شجرها وحشيشها استثنى ذلك قائلًا: "إلا الإذخر" فيدل على إثبات إباحة قطعه؛ لأن الاستثناء من النفي إثبات، فإن قلتَ: لمَ أُبيح ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن الإذخر يحتاجه الناس في اشتعال النار بالحطب، وفي جعله في أسقف بيوتهم، وبين اللَّبنات في القبر ونحو ذلك.
ويباح انتفاع بما زال، أو انكسر بغير فعل آدمي ولو لم يَبُنْ
(5)
، وتضمن شجرة صغيرة عرفًا بـ "شاة" وما فوقها بـ "بقرة" روي عن ابن عباس، ويُفعل فيها كجزاء صيد
(6)
،
(5)
مسألة: يُباح للمحرم وغيره أن ينتفع بأي غصن سقط على الأرض، أو انكسر، ولو لم ينفصل عن الشجرة بشرط: أن لا يكون ذلك من فعله؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "ولا يُعضد شجرها، ولا يُحشُّ حشيشها" فحرم الشارع هنا قطع الشجرة أو أي غصن منها، ودل بمفهوم الصفة على أنه ينتفع بما سقط على الأرض أو انكسر بدون فعله؛ لكونه لا يُسمَّى قطعًا، فإن قلتَ: لمَ أُبيح ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه جلب مصلحة لهم، بدون ضرر على أحد.
(6)
مسألة: إذا قطع شجرة صغيرة: فعليه شاة، وإذا قطع كبيرة فعليه بقرة، فيجب عليه أن يذبحهما، أو يشتري بقيمة الشاة، أو البقرة طعامًا، فيُعطي كل مسكين أو فقير من فقراء مكة مُدًّا من بُرٍّ أو أرز، ويُعطيه نصف صاع من غيرهما، أو يصوم عن كل مُدٍّ يومًا؛ لقاعدتين: الأولى: القياس، بيانه: كما أنه إذا قتل صيدًا فعليه جزاؤه، كل بحسبه، فكذلك إذا قطع شجرة فعليه جزاؤها كل بحسبه، والجامع أن كلًا منهما قد حرم الاعتداء عليه، وهو في حمى الله، الثانية: قول الصحابي وفعله، حيث إن عمر رضي الله عنه أمر بقطع شجرة كانت في المسجد تضرُّ بالطائفين وفدى، وأن ابن عباس وابن الزبير رضي الله عنهم قالا: في الدوحة: بقرة، وفي الجزلة: شاة و"الدَّوحة": الشجرة العظيمة، و"الجزلة" الشجرة الصغيرة، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: لانتهاك حرمة الله المكانية، فائدة: الذي يحكم بأن الشجرة صغيرة أو كبيرة، أو متوسطة هما المسلمان المكلَّفان العدلان الخبيران المتوسطان في أحكامهما.
ويُضمن حشيش وورق بقيمته
(7)
، وغصن بما نقص
(8)
، فإن استخلف شيء منها: سقط ضمانه كردِّ شجرة فتنبت، لكن يضمن نقصها
(9)
، وكُره إخراج تراب الحرم وحجارته إلى الحلِّ
(10)
، لا ماء
(7)
مسألة: إذا أزال حشيشًا وقطعه مما في حدود الحرم: فإنه يضمنه بقيمته: بأن يُقوِّم عدلان خبيران هذا الحشيش بما يُعادله من الأثمان، فيشتري بذلك الثمن طعامًا: ويفعل به - كما فصَّلناه في مسألة (6) -؛ للمصلحة؛ حيث إنه يشقُّ فعل غير ذلك فيه.
(8)
مسألة: إذا قطع غصنًا من شجرة: فتُقيَّم تلك الشجرة كلها، ثم يُنزع ما يُقابل ثمن ذلك الغصن، ويشتري به طعامًا - ويفعل به كما قلنا في مسألة (6) -؛ للقياس، بيانه: كما أن من قطع جُزءًا من صيد كذنبه مثلًا: فإنه تجب عليه قيمة ذلك الذنب فقط - كما سبق في الفرع التابع لمسألة (13) من باب "جزاء الصيد" فكذلك الحال هنا، والجامع: أن كلًا منهما قد قطع جُزءًا من محظور فيجب ضمانه، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: لأنه نقص بقلعه فوجب ضمانه.
(9)
مسألة: إذا قطع شجرة، أو قلع حشيشًا، ثم ردَّه، أو ردَّ مثله فنبت كالأول بدون نقصان: فإنه يسقط ضمانه، أما إن وجد نقصان عما كان في الأول: فإنه يضمن ما نقص بقدره قيمة - كما فصَّلنا في مسألة (6) -؛ للقياس، بيانه: كما أن زيدًا لو قطع شعر عمرو، ثم نبت ذلك الشعر: فلا ضمان على زيد، وإن نبت ناقصًا: فإن زيدًا يضمن ذلك النقص، فكذلك الحال هنا، والجامع: أن كلًا منهما يُعتبر جناية على حق الغير، فيقتضي الضمان، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه محافظة على حقوق الآخرين من انتهاكها.
(10)
مسألة: يُكره إخراج تراب أو حجارة كانت داخل حدود الحرم، وجعله في الحل؛ لقول الصحابي؛ حيث إن ابن عباس وابن عمر قد كرها ذلك، فإن قلتَ: =
زمزم
(11)
، ويحرم إخراج تراب المساجد، وطيبها للتبرُّك وغيره
(12)
(ويحرم صيد) حرم (المدينة)؛ لحديث علي رضي الله عنه: "المدينة حرام ما بين عير إلى ثور، لا يُختلى خلاها، ولا يُنفَّر صيدها، ولا يصلح أن تقطع منها شجرة إلا أن يُعلِّف رجل بعيره" رواه أبو داود
(13)
(ولا جزاء) فيما حرم من صيدها وشجرها وحشيشها قال
لمَ كُرِه ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إنه إذا أُخرج ذلك قد يُهان، وقد يُعظَّم تعظيمًا مخالفًا للعقيدة كما يفعل بعض "الجهلة" فمنعًا للإهانة، أو التعظيم المحتملين: كُرِه ذلك.
(11)
مسألة: يُباح إخراج ماء زمزم عن الحرم؛ للسنة الفعلية؛ حيث إن عائشة كانت تحمله من مكة إلى المدينة، وتُخبر أنه صلى الله عليه وسلم قد فعله، فإن قلتَ: لمَ أُبيح ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ماء زمزم لما شرب له، فيُستعمل سواء كان ذلك داخل الحرم أو لا.
(12)
مسألة: يحرم إخراج بعض تراب المساجد وطينها إلى خارجها بقصد التبرُّك به: سواء كانت المساجد الثلاثة - المسجد الحرام، والمسجد النبوي، والمسجد الأقصى - أو غيرها؛ للمصلحة؛ حيث إن ذلك بدعة لم تكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه، وكل بدعة ضلالة، فسدًا للذرائع؛ حرم ذلك.
(13)
مسألة: يحرم صيد ما دخل في حدود حرم المدينة المنورة، وقطع شجرها، وإزالة حشيشها لغير حاجة؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم:"اللهم إن إبراهيم حرَّم مكة فجعلها حرامًا، وإني حرمتُ المدينة ما بين مآزميها: أن لا يراق فيها دم، ولا يحمل فيها سلاح لقتال، ولا يُخبط فيها شجرة إلا لعلف" وقال: "إني حرمتُ المدينة ما بين لابتيها لا يُقطع غضاها، ولا يُصاد صيدها" والجمع بين الحديثين يُفيد ما قلناه، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: إكرامًا لها، فإن قلتَ: لمَ سُمِّيت بالمدينة، ويثرب، وطيبة؟ قلتُ: سُمِّيت بالمدينة لاشتقاق ذلك من الدِّين؛ =
أحمد - في رواية بكر بن محمد -: "لم يبلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم ولا أحدًا من أصحابه حكموا فيه بجزاء
(14)
(ويُباح الحشيش) من حرم المدينة (للعلف)؛ لما تقدَّم
(15)
(و) يُباح اتخاذ (آلة الحرث ونحوه) كالمساند، وآلة الرَّحل من شجر حرم المدينة؛ لما روى أحمد عن جابر بن عبد الله: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حرم المدينة قالوا: يا رسول الله: إنا أصحاب عمل وأصحاب نضح، وإنا لا نستطيع أرضًا غير أرضنا فرخِّص لنا فقال:"القائمتان، والوسادة، والعارضة والمسند، فأما غير ذلك فلا يُعضد، ولا يُخبط منها شيء" و"المسند": عود البكرة
(16)
، ومن أدخلها صيدًا:
لكونه قد غلب عليها، وسميت بيثرب نسبة إلى الأرض التي هي فيه؛ حيث إنه يُسمَّى بهذا، وسميت بطيبة أو طابة، لأنها طهرت من الشرك والخبث.
(14)
مسألة: إذا قتل شخص صيدًا أو قطع شجرة، أو أزال حشيشًا وهو داخل حدود حرم المدينة المنورة: فإنه يأثم، ولا جزاء ولا ضمان عليه؛ للاستقراء؛ حيث إنه قد ثبت بعد الاستقراء والتتبُّع لما ورد عنه صلى الله عليه وسلم وأصحابه أنهم كانوا لا يحكمون على من فعل ذلك بشيء، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا في المدينة، خلافًا لمكة؟ قلتُ: لأن حرمتها أدنى من حرمة مكة؛ حيث إن مكة فيها بيت الله، ويحمي الله تعالى من حام حول بيته: إذ لا يجوز دخولها بغير إحرام لمن أراد النسك، وتؤدَّى فيها المناسك، وتذبح فيها الهدي، بخلاف المدينة كما هو معلوم.
(15)
مسألة: يُباح لأي شخص أن يأخذ من الحشيش أو الشجر النابت في حرم المدينة، ويُعلِّفه لبهائمه؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم:"لا يصلح أن تقطع منها شجرة إلا أن يُعلِّف رجل بعيره" فأثبت إباحة أخذ حشيش المدينة للتعليف؛ لأن الاستثناء من النفي إثبات، والمصلحة في ذلك لا تخفى على أحد.
(16)
مسألة: يُباح لأن شخص أن يأخذ من أشجار حرم المدينة ما يُنتفع به في صنع محراث، أو آلة رحل، أو الآلات التي يُسحب بها الماء من البئر كالمسند، =
فله إمساكه وذبحه
(17)
، وحرمها: بريد في بريد وهو: (ما بين عير) جبل مشهور بها (إلى ثور) جبل صغير لونه إلى الحمرة فيه تدوير ليس بالمستطيل خلف "أُحده" من جهة الشمال، وما بين "عير" إلى "ثور" هو ما بين لابتيها، واللَّابة: الحَرَّة، وهي: أرض تركبها حجارة سود
(18)
وتُستحب المجاورة بمكة وهي أفضل من المدينة، قال
والعارضة، والوسادة، والقائمتين؛ للسنة القولية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد رخَّص لأهل المدينة أن يأخذوا من أشجارها ما سبق ذكره، ويُقاس على ذلك كل ما يُنتفع به غير ما ذكر؛ لأن القياس على المحصور بالعدد يجوز ويعم ذلك أهل المدينة وغيرهم؛ لأن الأصل عموم الأحكام، ولا تخفى مصلحة الناس في ذلك.
(17)
مسألة: إذا دخل صيد داخل المدينة، أو دخل بيتًا لشخص: فيجوز إمساكه وذبحه وأكله، ولا يجب إرساله، ولا شيء في ذلك؛ للسنة التقريرية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم كان يقول لصبي يلعب بعصفور صغير:"يا أبا عمير ما فعل النُّغير؟ " -كما رواه أنس - وكان لا يُنكر ذلك، ولم يُبيِّن صلى الله عليه وسلم تحريم ذلك، فدل على إباحته: لأنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، ويدل مفهوم الموافقة الأولى: على جواز ذبحه وأكله، وهذا تيسير من الله على العباد.
(18)
مسألة: حدود حرم المدينة المنورة: بريد طولًا في بريد عرضًا، وكل بريد أربعة فراسخ، وهو ما بين جبل "عير" وهو جبل جنوب الميقات إلى جبل "ثور" وهو جبل خلف جبل "أحد" المشهور من جهة الشمال، وما بين لابتيها هو حدٌّ لحرمها من جهتي المشرق والمغرب؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم:"حرم المدينة ما بين ثور وعير"، وقال:"ما بين لابتيها حرام" والمراد باللَّابة: الحرة، وهي: الأرض التي يُوجد على سطحها حجارة سود. [فرع]: لا يوجد إلا حَرَمان: حرم مكة، وحرم المدينة، فلا صحة لما يُقال:"حرم القدس" أو حرم المسجد الإبراهيمي، أو حرم وادي وج بالطائف؛ للاستصحاب؛ حيث إن الأصل الحل =
في "الفنون": الكعبة أفضل من مجرد الحجرة فأما والنبي صلى الله عليه وسلم فيها: فلا والله، ولا العرش وحملته، ولا الجنة؟ لأن بالحجرة جسدًا لو وُزِن به لرجح" أ. هـ. وتُضاعف الحسنة والسيئة بمكان وزمان فاضل
(19)
.
في جميع الأراضي، واستثنى الشارع حرم مكة، والمدينة؛ لورود النص فيهما - وغيرهما يبقى على الأصل وهو: الحل، فنستصحبه ونعمل به، فإن قلتَ: إن وادي وجِّ حرم يحرم صيده وقطع شجره وهو قول الشافعي؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "صيد وج وعضاها محرم" قلتُ: إن هذا الحديث قد ضعَّفه كثير من أئمة الحديث ومنهم أحمد، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "الخلاف في هذا الحديث الذي احتج به الشافعي" فعندنا: ضعيف، وعند الشافعي: قوي.
(19)
مسألة: يُستحب أن يسكن المسلم بمكة مجاورًا لبيت الله تعالى؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "إنكِ لأحب البقاع إلى الله" - يقصد مكة - فيلزم من هذا: أن مكة أفضل من المدينة وغيرها، الثانية: المصلحة؛ حيث إن الصلاة في المسجد الحرام تعدل مائة ألف صلاة في غيره، وتُضاعف فيها الحسنات، وكذا السيئات، وقد أُلِّف في فضل مكة على المدينة مؤلَّفات عديدة، تنبيه: قوله: "قال في الفنون" إلى قوله: "لرجح" حكاه المصنف عن ابن عقيل، وهذا يُستبعد أن يقوله عالم من علماء الأمة كابن عقيل؛ لعدم قبول الشرع والعقل له، ولذلك ينبغي أن لا يُنقل.
هذه آخر مسائل باب "حكم صيد الحرم المكي والمدني وحكم النبات فيهما" ويليه باب "طريقة وصفة دخول مكة والطواف والسعي"
باب ذكر دخول مكة وما يتعلَّق به من الطواف والسعي
(يُسنُّ) دخول مكة (من أعلاها) والخروج من أسفلها
(1)
(و) يُسنُّ دخول (المسجد) الحرام (من باب بني شيبة)؛ لما روى مسلم وغيره عن جابر: "أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة ارتفاع الضحى، وأناخ راحلته عند باب بني شيبة ثم دخل"
(2)
، ويُسنُّ: أن يقول عند دخوله: "بسم الله وبالله ومن الله، وإلى الله، اللهم افتح لي أبواب رحمتك" وإذا خرج قال: "افتح لي أبواب فضلك" ذكره في "أسباب الهداية"
(3)
باب طريقة وصفة دخول مكة والطواف والسعي
وفيه أربع وأربعون مسألة:
(1)
مسألة: يُستحب أن تُدخل مكة من أعلاها - أي من جهة الحجون ومن ثنية كداء وهو طريق بين جبلين - ويُستحب الخروج من أسفلها - أي: من كُدي عند ذي طوى، وهو المعروف بباب الشبيكة -؛ للسنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد فعل ذلك، فإن قلتَ: لمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن الدخول من تلك الجهة يواجه باب الكعبة، وتكون أقرب شيء إليه، والبيوت تُؤتى من أبوابها، وخروجه من تلك الجهة أنسب وأسهل.
(2)
مسألة: يُستحب أن يدخل المسجد الحرام من باب بني شيبة - وهو يُوجد بالمسعى تجاه مقبرة المعلاة قرب باب السلام -؛ للسنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد فعل ذلك، فإن قلتَ: لمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك أقرب الأبواب إلى الكعبة، ويواجه بذلك باب الكعبة والحجر الأسود، وهذا أشرف جهات الكعبة.
(3)
مسألة: يُستحب أن يقول الداخل للمسجد الحرام: "بسم الله، وبالله، ومن الله، وإلى الله، اللهم افتح لي أبواب رحمتك" ويُستحب أن يقول الخارج منه - بعد =
(وإذا رأى البيت: رفع يديه)؛ "لفعله صلى الله عليه وسلم" رواه الشافعي عن ابن جُريج (وقال: ما ورد) ومنه: "اللهم أنت السلام ومنك السلام، حينا ربنا بالسلام، اللهم زد هذا البيت تعظيمًا وتشريفًا وتكريمًا ومهابة وبرًا وزد مَنْ عظَّمه، وشرَّفه ممن حجه واعتمره تعظيمًا وتشريفًا، وتكريمًا ومهابةً وبرًا""الحمد لله رب العالمين كثيرًا كما هو أهله، وكما ينبغي لكريم وجهه، وعز جلاله" و"الحمد لله الذي بلّغني بيته، ورآني لذلك أهلًا، والحمد لله على كل حال، اللهم إنك دعوت إلى حج بيتك الحرام وقد جئتك لذلك""اللهم تقبَّل مني، واعف عني، وأصلح لي شأني كله لا إله إلا أنت" يرفع بذلك صوته
(4)
(ثم يطوف مضطبعًا) في كل أسبوعه استحبابًا إن
"وإلى الله" -: "اللهم افتح لي أبواب فضلك"؛ للقياس، بيانه: كما أنه يُستحب أن يقول ذلك عند دخول المساجد العادية والخروج منها فكذلك يقوله عند دخوله المسجد الحرام والخروج منه بجامع: أن كلًا منها مساجد الله تعالى، بل إن المسجد الحرام أولى بذلك؛ لأنه أعظم المساجد، فإن قلتَ: لمَ استحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك يؤدي إلى بركة ما سيفعل من صلاة في المسجد، وعمل خارجه كما قاله ابن الجوزي في كتابه:"أسباب الهداية".
(4)
مسألة: يُستحب لمن دخل المسجد الحرام ورأى الكعبة أن يقف على مقربة منها، ويرفع كفيه إلى السماء ويقول رافعًا صوته:"اللهم أنت السلام ومنك السلام .. " إلى آخر ما ذكره المصنف؛ لقواعد: الأولى: السنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد قال ذلك رافعًا يديه، الثانية: فعل الصحابي؛ حيث إن بعض الصحابة كانوا يفعلون ذلك، الثالثة: القياس، بيانه: كما أنه يُستحب رفع الصوت في التلبية فكذلك ما نحن فيه مثله، والجامع: أن كلًا منهما ذكر مشروع، وهو من شعار الحج والعمرة، فإن قلتَ: لمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن هذا الدعاء ورفع اليدين ورفع الصوت به مناسب للحال؛ حيث إنه أقرب للاستجابة، لكونه قد وصل من السفر أشعث أغبر من أثر السفر.
لم يكن حامل معذور بردائه، و"الاضطباع": أن يجعل وسط ردائه تحت عاتقه الأيمن وطرفيه على عاتقه الأيسر، وإذا فرغ من الطواف: أزال الاضطباع
(5)
(يبتدئ المعتمر بطواف العمرة)؛ لأن الطواف تحية المسجد الحرام فاستُحبَّت البدائة به، ولفعله صلى الله عليه وسلم (و) يطوف (القارن والمفرد للقدوم) وهو: الورود
(6)
(فيُحاذي الحجر الأسود بكُلِّه) أي: بكل بدنه، فيكون مبدأ طوافه، لأنه صلى الله عليه وسلم كان يبتدئ به
(7)
(5)
مسألة: يُستحب للحاج والمعتمر أن يضطبع عند طواف القدوم والعمرة بأن يجعل طرفي ردائه فوق كتفه الأيسر، ويجعل وسطه تحت كتفه الأيمن، فيكون كتفه الأيمن مكشوفًا، يفعل ذلك في الأشواط السبعة، فإذا فرغ منها: أزال ذلك وغطَّى كتفيه بردائه، يفعل هذا إن لم يكن حاملًا بردائه بعض الأشياء من متاع، أو طفل ونحو ذلك؛ للمصلحة؛ حيث إن الاضطباع يجعل الطائف أنشط في القيام بهذه العبادة، ويسقط عنه إن حمل شيئًا؛ لوجود المشقة.
(6)
مسألة: يبدأ المحرم الداخل للمسجد الحرام وهو يريد نُسكًا بالطواف على الكعبة، وينويه لطواف العمرة إن كان مُتمتِّعًا، أو معتمرًا، وينويه لطواف القدوم إن كان قارنًا أو مفردًا؛ لقاعدتين: الأولى: السنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد قام بالطواف على البيت قبل أن يفعل أيَّ شيء - كما قالت عائشة رضي الله عنها؛ الثانية: فعل الصحابي؛ حيث ثبت أن أبا بكر وعمر وابنه وعثمان رضي الله عنهم كانوا يطوفون أول ما يدخلون المسجد الحرام إذا كانوا مُريدين لنسك، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: لأن الطواف تحية المسجد الحرام، ويُبدأ بالتحية قبل كل شيء، فإن قلتَ: لمَ سُميَّ بطواف القدوم؟ قلتُ: لأنه أول ما يفعله القارن والمفرد حين يقدم ويرد مكة.
(7)
مسألة: إذا أراد أن يطوف بالبيت: فإنه يقف مُقابل الحجر الأسود بجميع بدنه، وينظر إليه، ثم يبدأ الطواف؛ للسنة الفعلية؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للاحتراز من أن يميل عنه يمينًا أو يسارًا فيقلُّ أجره.
(ويستلمه) أي: يمسح الحجر بيده اليمنى، وفي الحديث:"أنه نزل من الجنة أشدُّ بياضًا من اللَّبن فسوَّدته خطايا بني آدم" رواه الترمذي وصحَّحه
(8)
(ويُقبِّله)؛ لما روى عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم استقبل الحجر ووضع شفتيه عليه يبكي طويلًا، ثم التفت فإذا بعمر بن الخطاب يبكي فقال:"يا عمر هاهنا تسكب العبرات" رواه ابن (ماجه)
(9)
نقل الأثرم: ويسجد عليه، وفعله ابن عمر وابن عباس
(10)
(فإن شقَّ) استلامه وتقبيله: لم يُزاحم، واستلمه بيده و (قبَّل يده)؛ لما روى مسلم عن ابن عباس:"أن النبي صلى الله عليه وسلم استلمه وقبَّل يده"
(11)
(فإن شقَّ): استلمه بشيء وقبَّله، روي
(8)
مسألة: يُستحب عند ابتداء الطواف: أن يستلم الحجر الأسود بأن يمسح عليه بيده اليمنى؛ للسنة الفعلية؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك، فإن قلتَ: لمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: لتحيته بالمصافحة كما يفعل في بني آدم، لذلك انقلب لونه الأبيض إلى أسود بسبب خطايا بني آدم كما ورد.
(9)
مسألة: يُستحب عند ابتداء الطواف: أن يُقبِّل الحجر الأسود، للسنة الفعلية؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك، فإن قلتَ: لمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: لإتمام تحيته بالتقبيل، وكأنه يُقبِّل شخصًا اشتاق إليه لمحبته.
(10)
مسألة: يُستحب أن يميل وينهزع باتجاه الحجر عند تقبيله كهيئته عندما يُريد السجود؛ للسنة الفعلية؛ حيث إن ابن عمر قد فعل ذلك، وقال: إني رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك، فإن قلتَ: لمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: لتأكيد التذلُّل لله، ولتيسير التقبيل.
(11)
مسألة: إذا شقَّ استلام الحجر باليد وتقبيله: فإنه يستلمه بيده فقط، ثم يُقبِّلها؛ للسنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم فعل ذلك، فإن قلتَ: لمَ يُفعل ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه دفعُ مزاحمة الناس، وفيه دفع مفسدة عنه وعن غيره.
عن ابن عباس
(12)
، فإن شقَّ (اللُّمس: أشار إليه) أي: إلى الحجر بيده أو بشيء، ولا يُقبِّله، لما روى البخاري عن ابن عباس قال:"طاف النبي صلى الله عليه وسلم على بعير، كُلَّما أتى الحجر أشار إليه بشيء في يده وكبَّر"
(13)
(ويقول) مستقبل الحجر بوجهه - كُلَّما استلمه - (ما ورد) ومنه: "بسم الله والله أكبر، اللهم إيمانًا بك وتصديقًا بكتابك ووفاء بعهدك، واتباعًا لسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم"؛ لحديث عبد الله بن السائب: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول ذلك عند استلامه"
(14)
(ويجعل البيت عن يساره)؛ لأنه صلى الله عليه وسلم طاف
(12)
مسألة: إذا شقَّ استلام الحجر بيده: فإنه يستلمه بشيء كعصا ونحوه ثم يُقبِّل ذلك الشيء؛ لفعل الصحابي؛ حيث إن ابن عباس قد فعل ذلك، فإن قلتَ: لمَ يُفعل ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ كما سبق في مسألة (11).
(13)
مسألة: إذا شقَّ استلام ولمس الحجر بيده أو بأي شيء: فإنه يُشير إليه بيده أو بأي شيء، ولا يُقبِّل آلة الإشارة؛ للسنة الفعلية؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك، فإن قلتَ: لمَ يفعل ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن فيه دفع مشقة عنه وعن غيره، ولا داعي لتقبيل آلة الإشارة؛ لعدم لمسها له.
(14)
مسألة: يُستحب أن يقول عند الابتداء بالطواف واستقباله للحجر ما ورد، ومنه:"بسم الله، والله أكبر، اللهم إيمانًا بك، وتصديقًا بكتابك، ووفاء بعهدك، واتباعًا لسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم" أما عند ابتداء كل شوط فيقتصر على قول: "بسم الله والله أكبر"؛ للسنة الفعلية؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم يقول ذلك، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تأكيد للتوحيد، وسبب لبركة الدعاء ويقتصر في كل شوط أن يقول:"بسم الله، والله أكبر" لأن الطواف كالصلاة؛ حيث إنه في الصلاة يُكبِّر تكبيرة الإحرام ثم يدعو دعاء الاستفتاح في ابتدائها، ولا يفعل ذلك في الركعات الأخرى، والطواف مثلها.
كذلك وقال: "خذوا عني مناسككم"
(15)
(ويطوف سبعًا يرمل الأفقي) أي: المحرم من بعيد من مكة (في هذا الطواف) فقط إن طاف ماشيًا، فيُسرع المشي، ويُقارب الخطى (ثلاثًا) أي: في ثلاثة أشواط (ثم) بعد أن يرمل الثلاثة أشواط (يمشي أربعًا) من غير رمل؛ لفعله صلى الله عليه وسلم
(16)
، ولا يُسن رمل الحامل معذور، ونساء، ومحرم من مكة
(15)
مسألة: يجب أن يجعل الكعبة عن يساره أثناء الطواف؛ للسنة القولية والفعلية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "خذوا عني مناسككم" وكان صلى الله عليه وسلم يجعل الكعبة عن يساره أثناء طوافه، فوجب؛ لأن الأمر مطلق، فيقتضي الوجوب، فإن قلتَ: لمَ وجب ذلك مع أن اليمين تستعمل لكل شيء مكرَّم؟ قلتُ: ليكون قلبه محل الإيمان قريبًا من الكعبة؛ محبة لله وتعظيمًا له، وللاعتماد على الرجل اليسرى عند الدوران على الكعبة وهذا أنشط للعمل.
(16)
مسألة: يُستحب للآفاقي - وهو من جاء مُحرمًا من المواقيت الخمسة -: أن يرمل في الأشواط الثلاثة الأولى فقط - وهو: الإسراع في المشي ومقاربة الخطى - ثم يمشي في الأشواط الأربعة الباقية مشيًا عاديًا، وذلك في طواف العمرة للمتمتع، والمعتمر، وفي طواف القدوم للقارن والمفرد؛ للسنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد فعل ذلك في العمرة، والقِران، وعمرة التمتع، والإفراد مثل ذلك؛ لعدم الفارق، فإن قلتَ: لمَ استحب الرَّمل هنا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه إبطال لما زعمه كفار قريش من أن المسلمين قد أضعفتهم حُمَّن يثرب، واستمر عليه النبي صلى الله عليه وسلم حتى بعد فتح مكة؛ للتذكير فيما عاناه المسلمون في سبيل الدعوة إلى الله، فإن قلتَ: لمَ لا يُفعل الرَّمل في الأشواط الأربعة الباقية؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن الاستمرار في الرَّمل فيه مشقة، فدفعًا لذلك لم يُشرع روي عن ابن عباس، فإن قلتَ: لمَ سُمِّي الدوران حول الكعبة شوطًا؟ قلتُ: لأن الشوط عند العرب هو الجري مرة إلى الغاية.
أو قربها
(17)
، ولا يُقضى الرَّمل إن فات في الثلاثة الأولى
(18)
، والرَّمل أولى من الدنوِّ من البيت
(19)
، ولا يُسنُّ رمل، ولا اضطباع في غير هذا الطواف
(20)
، ويُسن أن (يستلم الحجر والركن اليماني) في (كل مرة) عند محاذاتهما؛ لقول ابن عمر:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدع أن يستلم الركن اليماني والحجر في طوافه" قال نافع: "وكان
(17)
مسألة: لا يُستحب الرَّمل لمن حمل معه مريضًا أو صغيرًا أو متاعًا، ولا يُستحب أن ترمل النساء، ولا من رافقهن، ولا يُستحب أن يرمل من أحرم داخل حدود الحرم؛ للمصلحة؛ حيث إنَّ رمل من حَمَل معه شيئًا فيه مشقة، ورَمْل النساء فيه تسبُّب لظهور عورتها، ورَمْل من رافقهن بدونهن فيه مشقة عليهم وعليهن، ورَمْل من هو داخل الحرم لا يُحقق الغرض الذي من أجله شرع الرَّمل، فدفعًا لذلك كله: لم يشرع الرمل هنا.
(18)
مسألة: إذا لم يرمل في الأشواط الثلاثة الأولى: فإنه يسقط عنه؛ للتلازم حيث إن الرَّمل شرع في الثلاثة الأولى فيلزم من فوات محلِّه: سقوطه، ولا يُقاس عليها غيرها.
(19)
مسألة: إذا تمكَّن من الرَّمل: فإنه يفعله وإن كان بعيدًا عن البيت، وهو أفضل من الدنو منه مع عدم الرَّمل؛ للسنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم كان لا يترك الرَّمل، ولكن دنوُّه من البيت لم يرد فيه شيء، فيكون مُباحًا، فيقدَّم المستحب على المباح؛ تحصيلًا لأجر المستحب، وهو المقصد منه.
(20)
مسألة: لا يُشرع الرَّمل ولا الاضطباع في غير طواف العمرة للمتمتع والمعتمر، وطواف القدوم للقارن والمفرد؛ للاستصحاب؛ حيث إن الأصل عدم مشروعيتهما، ولكن شُرعا؛ للسنة الفعلية في هذا الطواف، ويبقى غيره من أنواع الطواف على الأصل: وهو عدم الرمل والاضطباع فيها، فنستصحبه ونعمل به.
ابن عمر يفعله" رواه أبو داود، فإن شقَّ استلامهما: أشار إليهما، لا الشامي - وهو أول ركن يمرُّ به - ولا الغربي - وهو ما يليه -
(21)
ويقول بين الركن اليماني والحجر الأسود "ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار"، وفي بقية طوافه:"اللهم اجعله حجًا مبرورًا، وسعيًا مشكورًا، وذنبًا مغفورًا، رب اغفر وارحم، واهدني السبيل الأقوم، وتجاوز عما تعلم وأنت الأعز الأكرم" وتسنُّ القراءة فيه
(22)
(ومن ترك شيئًا من الطواف) ولو يسيرًا من شوط من السبعة: لم
(21)
مسألة: يُستحب أن يستلم الحجر، والركن اليماني - وهو: الركن الواقع في جهة اليمن الذي هو قبل الركن الذي فيه الحجر - إذا ساواهما وذلك في يده إن قدر، فإن شقَّ ذلك: فإنه يُشير إلى الحجر الأسود فقط، أما الركن اليماني فلا يُشير إليه، وذلك في كل شوط، ولا يستلم الركن الشامي - وهو: أول ركن يمرُّ به بعد ركن الحجر، وهو المتجه إلى الشام - ولا يستلم الركن الغربي، وهو المتجه إلى الغرب، ولا يُشير إليهما؛ للسنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك، فإن قلتَ: لمَ لا يفعل ذلك في الركن الشامي والغربي؟ قلتُ: للاستصحاب؛ حيث إن الأصل: عدم الاستلام والإشارة، ولكن شرع ذلك في الحجر والاستلام في اليماني؛ لثبوت ذلك بالسنة الفعلية، فيبقى الباقي على الأصل وهو عدم الاستلام والإشارة، فإن قلتَ: لمَ لا يُشير إلى الركن اليماني؟ قلتُ: للاستصحاب؛ حيث لم يرد ذلك في الشريعة، فيبقى على نفيه.
(22)
مسألة: يُستحب أن يدعو أثناء طوافه بما شاء، ويقرأ القرآن، ومن ذلك قوله:"اللهم اجعله حجًا مبرورًا، وسعيًا مشكورًا، وذنبًا مغفورًا، رب اغفر وارحم، واهدني السبيل الأقوم، وتجاوز عما تعلم، وأنت الأعز الأكرم"، ويقول بين الركن اليماني والحجر:"ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار"؛ لقاعدتين؛ الأولى: السنة الفعلية؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم يقول ذلك، الثانية: المصلحة؛ حيث إن الدعاء والقراءة أفضل الذكر، فناسب قوله هنا.
يصح؛ لأنه صلى الله عليه وسلم طاف كاملًا وقال: "خذوا عني مناسككم"
(23)
(أو لم ينوه) أي: ينوي الطواف: لم يصح؛ لأنه عبادة أشبه الصلاة، ولحديث:"إنما الأعمال بالنيات"(أو) لم ينو (نسكه): بأن أحرم مُطلقًا، وطاف قبل أن يصرف إحرامه لنسك مُعيَّن: لم يصح طوافه
(24)
(أو طاف على الشاذَرْوَان) بفتح الذال - وهو: ما فضل من
(23)
مسألة: إذا ترك شيئًا من شوط يعرفه ولو يسيرًا: فلا يصح ذلك الشوط، ويُعيده، ويُكمل طوافه؛ للسنة الفعلية والقولية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد طاف بالبيت طوافًا كاملًا، وقال:"خذوا عني مناسككم"، وهذا الذي ترك جُزءًا من شوط لا يُسمَّى طائفًا بكل البيت، فيلزم عدم صحته؛ لعدم إتيانه به على المشروع. [فرع]: إذا شكَّ بعد فراغه من الطواف هل طاف سبعًا أو ستًا؟ أو شكَّ هل ترك جُزءًا من شوط أو لا: فطوافه صحيح، أما إذا شكَّ في ذلك قبل فراغه من الطواف: فإنه يزيد شوطًا آخر؛ للمصلحة؛ حيث إن فعل شوط بعد الفراغ من الطواف فيه مشقة، أما فعله قبل ذلك: فلا مشقة فيه عادة فخولف في الحكم لأجل ذلك. [فرع آخر]: إذا قطع طوافه لعذر: كأن يقطعه؛ لكونه قد أحدث فيه وذهب ليتوضأ أو فصل بين شوطين فصلًا غير طويل، أو حضرت جنازة وصلى عليها، أو أقيمت صلاة مفروضة: فإنه يبني على ما سبق، ويُكمل طوافه؛ للمصلحة؛ حيث إن استئناف الطواف من جديد للمعذور بذلك فيه مشقة، فدفعًا لذلك شرع هذا.
(24)
مسألة: يُشترط أن ينوي المحرم أنه سيطوف لعمرة التمتع، أو للعمرة، أو للقِران، أو للإفراد، فلو لم ينو، أو نوى في أثنائه، أو نوى طوافًا لكنه لم يُعيِّن نسكه: فلا يصح طوافه؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى" والطواف عمل شرعي فلا يصح إلا بنية أنه طاعة، ويُنوى نوع تلك الطاعة؛ لعموم لفظ "الأعمال" كما سبق فإن قلتَ: لمَ اشتُرط =
جدار الكعبة -: لم يصح طوافه؛ لأنه من البيت فإذا لم يطف به: لم يطف بالبيت جميعه
(25)
(أو) طاف على (جدار الحِجْر) بكسر الحاء المهملة: لم يصح طوافه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم طاف من وراء الحجر والشاذَرْوَانَ وقال: "خذوا عني مناسككم"
(26)
(أو) طاف
ذلك؟ قلتُ: لما ذكرناه في سبب اشتراط النية لجميع العبادات، فإن قلتَ: لا تُشترط النية هنا وهو قول بعض الحنفية وبعض الشافعية؛ للقياس، بيانه: كما أن نية الصلاة من أولها تكفي عن جميع أفعالها؛ فكذلك نية النسك عند الإحرام من الميقات تكفي عن جميع أفعاله قلتُ: هذا فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ لأن أعمال الصلاة مُتقاربة، لذلك اشتُرط الموالاة فيها، بخلاف الحج فإن أعماله متباعدة، فقد يكون بين إحرامه من الميقات ووصوله للكعبة الساعات الطويلة بل الأيام أحيانًا، لذلك لا بد من تجديد النية لكل عمل من أعمال الحج، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "الخلاف في أعمال الحج هل هي مثل أعمال الصلاة من حيث النية أو لا؟ " فعندنا: لا، وعندهم نعم.
(25)
مسألة: إذا طاف فوق الشاذَرْوَان - وهي شيء مُرتفع عن الأرض ملتصق بجدار الكعبة فاضل عنه؛ ليحميه من السقوط -: فلا يصح طوافه؛ للتلازم؛ حيث إن الواجب: الطواف بجميع البيت، والشاذروان داخل فيه، فيلزم من الطواف فوقه: عدم الطواف بجميع البيت، بل ببعضه، وهذا يلزم منه: عدم صحة طوافه.
(26)
مسألة: إذا طاف دون الحِجْر - وهو: البناء المقوَّس بين الركن الشمالي الشامي، وبين الركن الغربي - أو طاف على جداره: فلا يصح طوافه؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث سألت عائشة رضي الله عنها النبي صلى الله عليه وسلم عن الحِجْر فقال: "إنه من البيت" و"منْ" للتبعيض، والمراد أن الحِجْر داخل =
وهو (عريان أو نجس) أو مُحدِث: (لم يصح) طوافه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "الطواف بالبيت صلاة إلا أنكم تتكلمون فيه" رواه الترمذي، والأثرم عن ابن عباس رضي الله عنهم
(27)
، ويُسنُّ
في البيت، وإذا كان الأمر كذلك: فلا يصح الطواف دونه أو فوق جداره؛ لكونه لا يُسمَّى طائفًا بجميع البيت، الثانية: السنة الفعلية والقولية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد طاف من وراء الحِجْر، وقال:"خذوا عني مناسككم" وهذا يلزم منه: أنه من البيت؛ لذا طاف من وراءه؛ ليُحقِّق الطواف بجميع البيت، فإن قلتَ: إذا كان الحِجْر من البيت، فلِمَ لم يبن مع الكعبة؟ قلتُ: لأن قُريشًا لما أرادت أن تبني البيت على قواعد إبراهيم من كسب حلال: لم يكن عندهم منه ما يتحمَّل نفقة بناء البيت كله، فأجمعوا على ترك بعضه، ولم يتركوا الجهة التي فيها الحجر الأسود؛ لفضله وكرامته، ولم يتركوا جهة الركن اليماني؛ لفضله عندهم، فكان الأولى بالترك الجهة الشمالية الغربية بهذه المساحة التي تسمَّى بـ "الحجر" فإن قلتَ: لمَ سُمِّي بالحِجْر؟ قلتُ: نظرًا لتحجيره بالجدار فصار كالحجرة، وقد فعل ذلك به ليُطاف من ورائه، وقد سمَّاه بعضهم بالحطيم، وهذا غير صحيح؛ لأن الحطيم: ما بين الحجر الأسود والمقام كما ورد.
(27)
مسألة: إذا طاف وهو عريان - أي مُتكشِّف العورة وهي من السِّرَّة إلى الركبة للرجل، والمرأة كلها عورة -، أو كان مُحدِثًا - حدثًا أكبر أو أصغر -: فلا يصح طوافه؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "الطواف بالبيت صلاة إلا أنكم تتكلَّمون فيه" فيلزم من تشبيه الطواف بالصلاة: عدم صحة طواف مُنكشف العورة، والمحدِث؛ لأن ستر العورة والطهارة شرطان من شروط الصلاة، فيكونان شرطين للطواف، فيلزم من عدمهما: بطلان الطواف والصلاة؛ فإن قلتَ: لمَ لا يصح طواف مُنكشف العورة، والمحدث؟ قلتُ: لما ذكرناه في سبب اشتراط ستر العورة والطهارة للصلاة وقد سبق في باب "شروط الصلاة".
فعل باقي المناسك كلها على طهارة
(28)
، وإن طاف المحرم لابس مخيط: صحَّ وفدى
(29)
(ثم) إذا تمَّ طوافه (يُصلِّي ركعتين) نفلًا، يقرأ فيهما بالكافرون والإخلاص بعد الفاتحة، وتُجزئ مكتوبة عنهما، وحيث ركعهما: جاز، والأفضل كونهما (خلف المقام)؛ لقوله تعالى:{وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}
(30)
فصل:
(28)
مسألة: يُستحب أن يعمل الحاج والمعتمر باقي المناسك - غير الطواف - وهو على طهارة؛ للمصلحة؛ حيث إن ذلك أكمل في الدِّين، وأطهر للمسلمين.
(29)
مسألة: إذا طاف الرَّجل المحرم وهو لابس للمخيط: فيصح طوافه، ولكن تجب عليه فدية أذى - وهو: إما ذبح شاة، أو صيام ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين لكل مسكين مُدُّ من البر أو الأرز، أو نصف صاع من غيرهما -؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كمال شروط الطواف؛ صحته، ويلزم من فعل المحظور - وهو لبس المخيط -: إخراج فديته، وقد سبق.
(30)
مسألة: إذا فرغ من طوافه: فإنه يُستحب أن يصلي ركعتين نفلًا يقرأ في الأولى بالفاتحة ثم بسورة "الكافرون" ويقرأ في الثانية الفاتحة ثم بسورة الإخلاص، ويُصلِّي هاتين الركعتين في أي مكان اختاره ولو خارج المسجد الحرام، ولكن الأفضل: أن يُصلِّيهما خلف مقام إبراهيم مباشرة إن أمكن؛ لقاعدتين: الأولى: السنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد صلَّاهما خلف مقام إبراهيم، وقرأ بهاتين السورتين، الثانية: فعل الصحابي؛ حيث إن عمر قد صلَّاهما خارج المسجد الحرام، فإن قلتَ: لمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: لاستكمال شكر الله وتعظيمه، فإن قلتَ: لمَ يقرأ بهاتين السورتين؟ قلتُ: لتجديد التوحيد، فإن قلتَ: لمَ لم يُعيِّن لهما مكانًا معينًا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه توسعة على المسلمين، فإن قلتَ: لمَ سُمِّي بمقام إبراهيم؟ قلتُ: لأن إبراهيم قد قام عليه حين ارتفع بناء الكعبة؛ ليُكمله؛ وكان هذا المقام قريبًا جدًا من الكعبة فأبعده عمر رضي الله عنه؛ لما رأى أن الناس قد تضايقوا منه عند طوافهم.
(ثم) بعد الصلاة يعود و (يستلم الحَجَر)؛ لفعله صلى الله عليه وسلم
(31)
ويُسنُّ الإكثار من الطواف كل وقت
(32)
(ويخرج إلى الصفا من بابه) أي: باب الصفا؛ ليسعى (فيرقاه) أي: الصفا (حتى يرى البيت) فيستقبله (ويُكبِّر ثلاثًا ويقول ما ورد) ثلاثًا، ومنه:"الحمد لله على ما هدانا، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يُحيي ويُميت، وهو حي لا يموت، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده" ويدعو بما أحب ولا يُلبِّي
(33)
(ثم ينزل) من الصفا (ماشيًا إلى) أن يبقى بينه وبين (العلم الأول) وهو: الميل الأخضر في ركن المسجد نحو ستة أذرع (ثم يسعى) ماشيًا سعيًا
(31)
مسألة: إذا فرغ من ركعتي الطواف: يُستحب له أن يعود إلى الحجر الأسود فيستلمه بيده، ولا يُقبِّله؛ للسنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد فعل ذلك؛ فإن قلتَ: لمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه مبالغة في تعظيم بيت الله، وهذا فيه أعظم الأجر، وفيه توديعه إلى لقاء قريب.
(32)
مسألة: يُستحب الإكثار من الطواف على الكعبة في كل وقت؛ للمصلحة؛ حيث إن ذلك من أعظم مُحصِّلات الحسنات؛ حيث إن النظر إلى الكعبة عبادة كما قال كثير من السلف.
(33)
مسألة: إذا فرغ من ركعتي الطواف: فإنه يتوجَّه إلى الصفا؛ ليسعى، فيرقى الصفا، ثم يقف مُوجِّهًا وجهه إلى الكعبة، ويرفع يديه، ويقول:"الله أكبر .. " إلى آخر ما ذكره المصنف هنا، لقاعدتين: الأولى: السنة الفعلية، حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد فعل ذلك، الثانية: فعل الصحابي؛ حيث إن ابن عمر قد فعل ذلك وأطال الدعاء وهو واقف هنا، فإن قلتَ: لمَ شُرع ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تجديد التوحيد، وسبب لاستجابة الدعاء، تنبيه: قوله: "ولا يُلبِّي" سيأتي بيانه في مسألة (44).
(شديدًا إلى) العلم (الآخر) وهو: الميل الأخضر بفناء المسجد حذاء دار العباس (ثم يمشي ويرقى المروة، ويقول ما قاله في الصفا ثم ينزل) من المروة (فيمشي في موضع مشيه، ويسعى في موضع سعيه إلى الصفا يفعل ذلك) أي: ما ذكر من المشي والسعي (سبعًا: ذهابه سعية، ورجوعه سعية) يفتتح بالصفا، ويختم بالمروة
(34)
،
(34)
مسألة: طريقة السعي بين الصفا والمروة: أنه إذا فرغ من التكبير والدعاء الذي يقوله إذا اعتلى الصفا: فإنه ينزل من الصفا ماشيًا أو راكبًا، فإذا وصل إلى العَلَم الأخضر الأول: فيُستحب للرجل الماشي أن يُهرول قليلًا، فإذا وصل إلى العَلَم الأخضر الثاني: يترك الهرولة، ويمشي مشيًا عاديًا إلى أن يصل إلى المروة - وهو: جبل صغير مقابل للصفا -، فإذا صعد عليه استحب أن يفعل ويقول مثل ما فعل وقال عندما صعد الصفا، ثم ينزل من المروة ماشيًا فإذا وصل إلى العَلَم الأخضر: فإنه يُهرول قليلًا، فإذا وصل إلى العلم الأخضر الآخر يمشي، ويستمر في ذلك حتى يصل إلى أول الصفا، وهكذا يفعل في ستة الأشواط الباقية، فتكون سبعة: ذهابه من الصفا إلى المروة يُعتبر شوطًا واحدًا، ورجوعه من المروة إلى الصفا يُعتبر شوطًا واحدًا، فيكون مُفتتحًا سعيه بالصفا، ومُختتمًا له بالمروة؛ للسنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد فعل ذلك، فإن قلتَ: لمَ شُرع السعي، وشرع الركض بين العلمين؟ قلتُ: للتذكير بعظمة الله وقدرته على صنع المعجزات؛ حيث إن قصة ذلك: أن إبراهيم قد ترك إسماعيل وأمه بين الصفا والمروة، ففرغ ما عندهما من طعام وشراب، فجعل إسماعيل يبكي من شدة العطش وهو طفل، فبدأت أمه تدور بين الصفا والمروة لعلها ترى أحدًا يُنقذها، سبع مرات، وكانت كلما مرت من عند ولدها أسرعت في المشي - وهو: هذا الذي بين العَلَمَين - فنزل جبريل بأمر من الله فضرب برجله الأرض فنبع الماء - وهو المعروف بماء زمزم - فشربت أم إسماعيل فدرَّ لبنها فأرضعت ولدها، وسُمِّي جبل الصفا بهذا: لصلابة وقوة حجارته، وسمي =
ويجب استيعاب ما بينهما في كل مرَّة، فيُلصق عقبه بأصلهما إن لم يرقهما، فإن ترك مما بينهما شيئًا ولو دون ذراع: لم يصح سعيه
(35)
(فإن بدأ بالمروة: سقط الشوط الأول) فلا يحتسبه
(36)
، ويُكثر من الدعاء والذكر في سعيه، قال أبو عبد الله: كان
جبل المروة بذلك لبياض حجارته ولمعانها. [فرع]: يُباح أن يسعى راكبًا شيئًا ولو من غير عذر؛ للسنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد فعل ذلك، فإن قلتَ: لمَ أُبيح ذلك في السعي دون الطواف؟ قلتُ: لأن الطواف صلاة، والصلاة لا تصح على الراحلة فكذلك الطواف، أما السعي فليس بصلاة: لذلك جاز السعي على الراحلة وبلا طهارة.
(35)
مسألة: يجب أن يكون سعيه مستوعبًا لما بين الصفا والمروة في كل شوط: بأن يتم الشوط من أول الصفا إلى أول المروة بحيث يلصق بهما لصوقًا لا يترك شيئًا بينه وبين أحدهما، فإن ترك مساحة ولو مترًا واحدًا أو نصفه قصدًا: فإن ذلك الشوط الذي ترك منه ذلك يفسد فيُعيده؛ للتلازم؛ حيث إن الواجب السعي بين الصفا والمروة، والذي ترك شيئًا لا يُسمَّى ساعيًا، فيلزم بطلان ذلك الشوط الذي ترك منه شيئًا.
(36)
مسألة: إذا بدأ بالسعي من المروة: فإنه يسقط الشوط الأول من الحساب، فيجب أن يبدأ من الصفا؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم:"ابدأ بما بدأ الله به" وقرأ قوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} والأمر مطلق، فيقتضي الوجوب، ويلزم منه: أنه لو بدأ من المروة: فإن الشوط الأول يكون فاسدًا؛ لكونه مخالفًا لما أمر الله به، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن كل شوط منفرد عن الآخر، فيكفي أن يُعيد الفاسد، دون أن يعيد الأشواط كلها؛ لما فيه من المشقة العظيمة.
ابن مسعود إذا سعى بين الصفا والمروة قال: "رب اغفر وارحم واعف عما تعلم وأنت الأعز الأكرم"
(37)
، ويُشترط له نية وموالاة، وكونه بعد طواف نسك ولو مسنونًا
(38)
(وتُسنُّ فيه الطهارة) من الحدث والنَّجس (والستارة) أي: ستر العورة، فلو سعى مُحدثًا، أو نجسًا، أو عريانًا: أجزأه
(39)
(و) تُسنُّ (الموالاة) بينه وبين
(37)
مسألة: يُستحب الإكثار من الذكر والدعاء في السعي؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "إنما جُعل رمي الجمار والسعي بين الصفا والمروة لإقامة ذكر الله عز وجل" الثانية: فعل الصحابي؛ حيث إن ابن مسعود "كان يدعو في سعيه" لمناسبة ذلك للمقام والحال.
(38)
مسألة: يُشترط أن ينوي لسعيه، فينوي أنه يسعى لعمرة، أو لحج التمتع أو القِران أو الإفراد، وكذلك تُشترط الموالاة بين الأشواط، فلا يفصل بينها فصلًا طويلًا بدون عذر؛ وكذلك يُشترط أن يسعى بعد طواف نسك ولو كان ذلك نافلة؛ لقاعدتين: الأولى: القياس، بيانه: كما تشترط النية والموالاة في الطواف فكذلك السعي مثله والجامع: أن كلًا منهما عبادة واحدة فلا تصح إلا بنية، ومتابعة العمل فيها، الثانية: الاستقراء؛ حيث ثبت بعد استقراء وتتبع أحوال النبي صلى الله عليه وسلم وأحوال أصحابه أنهم كانوا لا يسعون إلا بعد طواف. [فرع]: يُباح الفصل القصير بين شوطين من أشواط السعي لعذر كحصر بول أو غائط، أو صلاة فرض، أو صلاة جنازة، أو شرب ماء، أو أكل شيء احتاجه؛ للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه دفع مفسدة قد تلحق به؛ لكون وقت السعي طويلًا.
(39)
مسألة: يُستحب أن يكون الساعي على طهارة من الأحداث والأنجاس، وأن يكون ساترًا لعورته، ولا يجبان، فلو سعى، بلا طهارة، أو هو مُنكشف العورة: صحَّ سعيه؛ لقاعدتين: الأولى: التلازم؛ حيث يلزم من عدم تعلُّق السعي بالبيت: عدم وجوب الطهارة والستارة؛ لكونهما يختصان بما يتعلَّق به كالصلاة والطواف، =
الطواف
(40)
، والمرأة لا ترقى الصفا ولا المروة، ولا تسعى سعيًا شديدًا
(41)
، وتُسنُّ مبادرة معتمر لذلك
(42)
(ثم إن كان مُتمتعًا لا هدي معه: قصر من شعره) ولو لبَّده، ولا يحلقه ندبًا؛ ليُوفِّره للحج، (وتحلَّل)؛ لأنه تمت عمرته (وإلا) بأن كان مع المتمتع هدي: لم يُقصِّر و (حلَّ إذا حج) فيُدخل الحج على العمرة، ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعًا، والمعتمر غير المتمتع يحلُّ: سواء كان معه هدي، أو لم يكن في أشهر الحج أو غيرها
(43)
(والمتمتع) والمعتمر (إذا شرع في الطواف: قطع التلبية)؛
الثانية: المصلحة؛ حيث إن الطهارة والستارة قد استحبَّا للساعي؛ لأن ذلك فيه كمال الدِّين، وتمام الصيانة للمؤمنين، والبعد عن الفتن والفساد والمفسدين.
(40)
مسألة: تُستحب الموالاة بين الطواف والسعي: بأن يسعى بعد الطواف مباشرة، ولا يجب ذلك، فلو طاف صباحًا، ثم سعى مساء: لصحَّ ذلك، لقاعدتين: الأولى: التلازم؛ حيث يلزم من عدم تعلُّق السعي بالبيت: عدم وجوب الإتيان به بعد الطواف مباشرة، الثانية: المصلحة؛ حيث إن الموالاة بين الطواف والسعي فيه الحزم على إنهاء نسكه؛ لئلا يحدث ما يُفسده فاستُحب.
(41)
مسألة: لا يُشرع للمرأة أن ترقى الصفا ولا المروة ولا تُسرع في مشيها بين العَلَمَين عند سعيها؛ لقول الصحابي؛ حيث إن ابن عمر قد نهى المرأة عن ذلك فإن قلتَ: لمَ لا يُشرع ذلك في حقها؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن المرأة عورة، فيُخشى إن هي أسرعت أو رقت: أن تظهر عورتها، أو تزاحم الرجال في ذلك، فدفعًا لذلك: لم يُشرع لها ذلك.
(42)
مسألة: يُستحب للمعتمر أن يُبادر بالسعي إذا فرغ من الطواف؛ للسنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد فعل ذلك في عمرته، فإن قلتَ: لمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة التي ذكرناها في مسألة (40).
(43)
مسألة: إذا فرغ المتمتع من طوافه وسعيه: فإنه يُقصِّر من شعره، وبذلك يتحلَّل، فيحلُّ له كل شيء؛ نظرًا لتمام عمرته، أما إن كان قارنًا - وهو الذي =
لقول ابن عباس يرفعه: "كان يُمسك عن التلبية في العمرة إذا استلم الحجر" قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح" ولا بأس بها في طواف القدوم سرًّا
(44)
.
نواه وساق الهدي معه - أو كان مفردًا: فإنه لا يُقصِّر شعره، بل يستمر في إحرامه إلى أن يفرغ من حجه في يوم النحر، أما إن كان معتمرًا فقط: فإنه بعد فراغه من السعي يُقصِّر أو يحلق، ثم يحلُّ: سواء كان ذلك في أشهر الحج أو لا، وسواء كان قد ساق الهدي أو لا؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "من كان معه هدي: فإنه لا يحل من شيء حرم عليه حتى يقضي حجه، ومن لم يكن معه هدي فليطف بالبيت وبالصفا والمروة وليُقصِّر وليتحلَّل" فوجب هذا الفعل؛ لأن الأمر هنا مطلق، وهو يقتضي الوجوب، الثانية: السنة الفعلية؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم إذا اعتمر فقط: حلَّ بعد سعيه مُطلقًا، فإن قلتَ: لمَ أمر المتمتع بالتقصير هنا؟ قلتُ: لأجل أن يُوفِّر شعره ليحلقه إذا فرغ من حجه.
(44)
مسألة: إذا استلم المتمتع والمعتمر الحجر الأسود مُريدًا الطواف لذلك: فإنه يقطع التلبية - وهو قوله: "لبيك اللهم لبيك
…
" -، أما القارن أو المفرد: فإنه يقطع التلبية عند البدء برمي جمرة العقبة يوم النحر؛ للسنة الفعلية وهي من وجهين: أولهما: قول ابن عباس: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يُمسك عن التلبية في العمرة إذا استلم الحجر"، ثانيهما: أنه صلى الله عليه وسلم كان قارنًا فلم يزل بالتلبية حتى رمى جمرة العقبة في يوم النحر والمفرد مثله؛ لعدم الفارق من باب: "مفهوم الموافقة"، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: لأن التلبية إجابة إلى العبادة، وشعار للإقامة عليها، فإذا شرع فيما ينافيها وهو التحلُّل منها، أو البدء فيما يوصِّل إلى التحلل - وهو: الطواف للمعتمر، والمتمتع، ورمي الجمرة للقارن والمفرد -: فإنه يكون =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
قد شرع بشيء آخر له ذكر ودعاء آخر؛ حيث إن لكل عبادة وحالة ما يُناسبها، تنبيه: قوله: "ولا بأس بها في طواف القدوم سرًا" يقصد أنه يُباح أن يُلبِّي سرًا في حالة طواف القدوم، قلتُ: إن الراجح ما قلناه؛ لقوة دليله.
هذه آخر مسائل باب "طريقة وصفة دخول مكة والطواف والسعي" ويليه باب "صفة الحج والعمرة وبيان أركانهما وواجباتهما وسننهما"
باب صفة الحج والعمرة
(يُسنُّ للمُحلِّين بمكة) وقربها حتى المتمتع - حلَّ من عمرته - (الإحرام بالحج يوم التروية) وهو: ثامن ذي الحجة، سُمِّي بذلك، لأن الناس كانوا يتروون فيه الماء لما بعده (قبل الزوال) فيُصلي بمنى الظهر مع الإمام ويسن أن يحرم (منها) أي: من مكة، والأفضل: من تحت الميزاب (ويُجزئ) إحرامه (من بقية الحرم) ومن خارجه، ولا دم عليه
(1)
، والمتمتع إذا عُدم الهدي وأراد الصوم: سُنَّ له أن يُحرم يوم السابع؛
باب صفة الحج والعمرة وبيان أركانهما وواجباتهما وسننهما
وفيه ثمان وثمانون مسألة:
(1)
مسألة: يُستحب للمحل أن يُحرم للحج من المكان الذي هو نازل فيه من مكة، وذلك قبل صلاة الظهر من يوم الثامن من ذي الحجة - وهو يوم التروية -، وإن خرج إلى أي ميقات وأحرم منه: فلا بأس، ويُصلِّي الظهر في مِنى، لقواعد: الأولى: السنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد نزل بالأبطح، ثم أحرم منه يوم التروية، الثانية: السنة التقريرية؛ حيث إن أكثر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قد نزلوا بالأبطح، وأحرموا منه، ثم خرجوا إلى منى، وصلوا فيها الظهر، ولم يُنكر عليهم النبي صلى الله عليه وسلم: الثالثة: فعل الصحابي؛ حيث إن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم كانا يحرمان يوم التروية قبل صلاة الظهر، فإن قلتَ: لمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه توسعة على المسلمين، فإن قلتَ: لمَ سُمِّي بيوم التروية؟ قلتُ: لأن الناس كانوا يروون الماء ويجمعونه لاستعماله في اليوم التاسع وهو يوم عرفة، تنبيه: قوله: "والأفضل من تحت الميزاب" يقصد أن المستحب أن يكون الإحرام للحج من تحت ميزاب الكعبة؛ بأن يكون ملاصق لها، قلتُ: هذا لا دليل عليه، فلا يكون مستحبًا، ثم إن هذا ممتنع ضرورة.
ليصوم الثلاثة محرمًا
(2)
(ويبيت بمنى) ويُصلِّي مع الإمام استحبابًا
(3)
(فإذا طلعت الشمس) من يوم عرفة: (سار) من منى (إلى عرفة) فأقام بنمرة إلى الزوال يخطب بها الإمام أو نائبه خطبة قصيرة مُفتتحة بالتكبير، يُعلِّمهم فيها الوقوف ووقته، والدفع منه، والمبيت بمزدلفة
(4)
(وكلها) أي: كل عرفة (موقف إلا بطن عُرَنة)؛
(2)
مسألة: يُستحب للمتمتع الذي لم يجد الهدي: أن يُحرم من اليوم السابع من ذي الحجة؛ للمصلحة؛ حيث إن هذا سيجعله يصوم الثلاثة الأيام التي في الحج وهو في حالة إحرامه، وفي ذلك من الأجر مالا يحصل في غيره.
(3)
مسألة: يُستحب للمحرم بالحج أن يُصلِّي في منى الظهر والعصر والمغرب والعشاء في اليوم الثامن، ويبيت فيها ليلة التاسع؛ للسنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد فعل ذلك، فإن قلتَ: لمَ سُمِّي هذا المكان بمنى؟ قلتُ: لأن الدم يُمنى فيه ويُصبُّ لكثرة ما يذبح فيه.
(4)
مسألة: إذا صلى الفجر بمنى: فيُستحب له أن يجلس قليلًا فيها حتى تطلع الشمس، وبعد ذلك يسير إلى عرفة، ويقف فيها وهو ركن، ويُستحب للإمام أو نائبه أن يخطب الناس خطبة قصيرة بمسجد نمرة وذلك بعد الزوال، يُعلِّم الناس فيها أحكام الشريعة عامة، وأحكام الحج خاصة باختصار، ويفتتح تلك الخطبة بالتكبير لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "الحج عرفة"، الثانية: السنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد خطب الناس في هذا اليوم، فإن قلتَ: لمَ استحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إنه يعلم الناس أمور حجهم ودينهم، فإن قلتَ: لمَ يبدأ الخطبة بالتكبير؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه بيان أن الله أعظم وأكبر من هذا التجمُّع، وأكبر من كل شيء قد يعظم في نفوس بعض الناس من خلفاء وملوك وسلاطين، فتصح عقيدة المتيقِّن من ذلك، فإن قلتَ: لمَ استحب تقصير الخطبة؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن التقصير في هذا المقام =
لقوله صلى الله عليه وسلم: "كل عرفة موقف، وارفعوا عن بطن عُرَنة" رواه ابن ماجه
(5)
(وسُنَّ أن يجمع) بعرفة من له الجمع (بين الظهر والعصر) تقديمًا
(6)
(و) أن (يقف راكبًا)
مناسب؛ نظرًا لمراعاة حال الناس من التعب والمشقة، فإن قلتَ: لمَ سُمِّي هذا المكان بعرفة؟ قلتُ: لأن جبريل قد حج بإبراهيم عليهما السلام، فلما وصل هذا المكان قال إبراهيم: عرفتُ، وهو المروي عن كثير من الصحابة والتابعين، وقيل غير ذلك.
(5)
مسألة: يُباح للحاج أن يقف بجميع ما يُطلق عليه اسم عرفة، إلا بطن عُرَنَة - وهو: واد يسيل فيه الماء - فلا يجزئ الوقوف فيه؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "قد وقفتُ هنا، وعرفة كلها موقف وارفعوا عن بطن عُرَنة" فأوجب الشارع ترك وادي عُرَنَة؛ لأن الأمر في قوله: "وارفعوا" مُطلق، فيقتضي الوجوب، فيلزم منه: أن الوقوف في شيء من وادي عُرَنَة لا يُجزئ؛ لأن الأمر بالشيء نهي عن ضدِّه والنهي يقتضي الفساد: فلا صحة للوقوف في المنهي عنه، فإن قلتَ: لمَ قال صلى الله عليه وسلم ذلك وهو واقف في عرفة؟ قلتُ: لأنه رأى الناس قد اجتمعوا عليه وتزاحموا فبيَّن لهم أن الأمر فيه سعة.
(6)
مسألة: يُستحب للإمام أو نائبه ومن صلى خلفه من أهل مكة وغيرهم: أن يجمعوا الظهر والعصر جمع تقديم مع قصرهما بأذان واحد وإقامتين: بأن يؤذن بعد الزوال، ثم يقيم لصلاة الظهر فيُصليها ركعتين، ثم يُسلِّم، ثم يقيم لصلاة العصر فيُصليها ركعتين ثم يُسلِّم؛ للسنة الفعلية والتقريرية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد فعل ذلك، وصلى بصلاته كل من حج معه من الصحابة وأقرهم على ذلك، ولم يُرو أنه أمر أهل مكة - ممن حج معه - بالإتمام، أو نهاهم عن الجمع، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، والاستعداد للدفع إلى مزدلفة فإن قلتَ: لمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه دفع المشقة عن الحجاج، =
مستقبل القبلة (عند الصخرات وجبل الرحمة)؛ لقول جابر: "إن النبي صلى الله عليه وسلم جعل بطن ناقته القصوى إلى الصَّخرات، وجعل حبل المشاة بين يديه، واستقبل القبلة" ولا يُشرع صعود جبل الرحمة، ويُقال له:"جبل الدعاء"(ويُكثر الدعاء مما ورد) كقوله: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد يُحيي ويُميت، وهو حي لا يموت بيده الخير، وهو على كل شيء قدير، اللهم اجعل في قلبي نورًا، وفي بصري نورًا، وفي سمعي نورًا، ويسر لي أمري" ويكثر الاستغفار، والتضرع، والخشوع، وإظهار الضعف، والافتقار، ويُلحُّ في الدعاء، ولا يستبطئ الإجابة
(7)
وهو معلوم، ولأجل أن يتفرَّغوا للذكر والدعاء، فإن قلتَ: إنه صلى الله عليه وسلم قد أمر أهل مكة بالإتمام قائلًا: "أتموا الصلاة فإنا قوم سفر" لذلك قال المصنف: "ممن له الجمع" يقصدهم؟ قلتُ: إنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك لأهل مكة في غزوة الفتح لما صلى بهم داخل مكة - كما صحَّت الرواية -، أما عرفة ومزدلفة ومنى فهي خارج مكة فيجوز لهم القصر والجمع فيها.
(7)
مسألة: يُستحب أن يقف بعرفة قريبًا من جبل الرحمة، ويكون أمامه وهو مُستقبل للقبلة إن استطاع، ولا يُشرع صعوده، ويمكث إلى أن تغرب الشمس، على أية حالة أراد: أي: سواء كان واقفًا، أو جالسًا، أو مضطجعًا، وسواء كان راكبًا أو لا، ويُستحب أن يُكثر وهو في هذه الحالة من الدعاء، والتكبير، والتهليل، والتحميد، وأن يكون خاشعًا متذللًا، مُتلهفًا، مُفتقرًا، مُلحًّا بالدعاء بما شاء من أمور آخرته ودنياه، ولا يجوز له أن يستبطئ الاستجابة؛ لقاعدتين؛ الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} فوعد أن يجيب دعوة الداعي إذا دعاه، وهو مخلص العبادة، ولا يُخلف الله وعده، وستأتيه الإجابة قطعًا ولو بعد حين، الثانية: السنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد وقف بقرب هذا الجبل راكبًا ناقته، وهو مستقبل القبلة، ولم يصعده، وقد أكثر صلى الله عليه وسلم من الدعاء في هذا المكان قال ابن عباس: "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم بعرفات يدعو ويداه =
(ومن وقف) أي: حصل بعرفة (ولو لحظة) أو نائمًا، أو مارًّا، أو جاهلًا أنها عرفة (من فجر يوم عرفة إلى فجر يوم النحر وهو أهل له) أي: للحج: بأن يكون مُسلمًا مُحرمًا بالحج، ليس سكرانًا، ولا مجنونًا، ولا مُغمى عليه:(صحَّ حجه)؛ لأنه حصل بعرفة في زمن الوقوف (وإلا) يقف بعرفة، أو وقف في غير زمنه، أو لم يكن أهلًا للحج:(فلا) يصح حجه؛ لفوات الوقوف المعتدِّ به
(8)
(ومن وقف) بعرفة (نهارًا
إلى صدره كاستطعام المسكين"، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة، حيث إن استقبال القبلة، وجبل الرحمة في هذا اليوم العظيم سبب للاستجابة.
(8)
مسألة: الوقوف بعرفة يبدأ من طلوع الفجر يوم عرفة وهو التاسع، وينتهي بطلوع الفجر يوم النحر - وهو اليوم العاشر - فإذا وقف المحرم المسلم العاقل المختار في أي جزء من ذلك الوقت ولو دقيقة: فإنه يصح حجه، سواء بعد الزوال أو قبله ولو كان نائمًا، أو جاهلًا أن هذا المكان هو عرفة، لكنه قاصد له، أما إن كان حالة مروره بهذا المكان كافرًا، أو غير محرم، أو مجنونًا، أو مغمى عليه، أو وقف بغير زمن الوقوف فلا يصح وقوفه وبالتالي لا يصح حجه؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم في حديث عروة بن المضرَّس -:"من شهد صلاتنا هذه، ووقف معنا حتى ندفع وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلًا أو نهارًا فقد تمَّ حجه" قال ذلك في مزدلفة، وهو عام ليوم عرفة، واليوم يكون من طلوع الفجر الصادق إلى غروب الشمس، والليلة تكون من غروب الشمس إلى طلوع الفجر الصادق، فإن قلتَ: لمَ كان وقت الوقوف طويلًا هكذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تمكين المسلمين من الحصول على ذلك؛ لكونه الركن الأعظم في الحج؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "الحج عرفة"، فإن قلتَ: لمَ صحَّ حج من وقف وهو لا يعلم أن ما وقف فيه هو عرفة؟ قلتُ: لكونه وجد في أرض عرفة، في زمن الوقوف، وهو مسلم عاقل محرم مختار ناوي للوقوف وقاصد له كما حصل لعروة بن المضرَّس، فإن قلتَ: لمَ صحَّ حج من كان نائمًا طول وقت =
ودفع) منها (قبل الغروب ولم يَعُد) إليها (قبله) أي: قبل الغروب، ويستمر بها إليه:(فعليه دم) أي: شاة؛ لأنه ترك واجبًا، فإن عاد إليها واستمر للغروب، أو عاد بعده قبل الفجر: فلا دم عليه؛ لأنه أتى بالواجب، وهو: الوقوف بالليل والنهار
(9)
،
عرفة مع أنه لا يشعر بشيء؟ قلتُ: لكونه في حكم المستيقظ؛ إذ لو نُبِّه لتنبَّه، بخلاف المجنون، والمغمى عليه، والسكران، فإن قلتَ: لمَ لم يصح وقوف السكران والكافر، والمجنون، والمغمى عليه، ومن وقف بغير مكان عرفة، ومن وقف في غير زمنه؟ قلتُ: لفوات شرط صحة الوقوف الشرعي في هؤلاء الستة، فإن قلتَ: إن من وقف قبل الزوال من يوم عرفة، فلا بدَّ أن يقف بعد الزوال ولو لحظة، فإن ترك الوقوف بعد الزوال: لم يصح حجه وهو قول الجمهور؛ للسنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد وقف قبل الزوال وبعده وقال: "خذوا عني مناسككم" قلتُ: إن لفظ السنة القولية التي ذكرناها مطلق في الأزمان - وهو قوله: "من شهد صلاتنا
…
" - فيُجزئ الوقوف قبل الزوال وحده، ويُجزئ الوقوف بعد الزوال وحده، والقولية أقوى من الفعلية؛ لتطرق الاحتمال إلى الفعلية فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض السنة الفعلية مع القولية" فعملنا بمطلق السنة القولية، لضعف السنة الفعلية هنا.
(9)
مسألة: إذا وقف في عرفة في النهار: فيجب عليه أن يقف جُزءًا من الليل، فلو خرج من عرفة قبل غروب الشمس، ولم يرجع إليها: فحجه صحيح، ويجب عليه دم وهو ذبح شاة، أما لو رجع إليها واستمر إلى الغروب، أو عاد إليها في الليل: فلا شيء عليه؛ لقاعدتين: الأولى: القياس، بيانه: كما أنه لو وقف ساعة من ليل صحَّ حجُّه، فكذلك يصح حج من وقف ساعة من نهار، والجامع: أن كلًا منهما قد وقف في زمن الوقوف، الثانية: التلازم؛ حيث إن الواجب هو الوقوف بالنهار وإدراك جزء من الليل، فيلزم من ذلك أن من ترك =
(ومن وقف ليلًا فقط: فلا) دم عليه قال في "شرح المقنع": "لا نعلم فيه خلافًا"؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من أدرك عرفات بليل: فقد أدرك الحج"
(10)
(ثم يدفع بعد الغروب) مع الإمام أو نائبه على طريق المأزِمَين (إلى مزدلفة) وهي: ما بين المأزمين إلى وادي "مُحسِّر"، ويُسن: كون دفعه (بسكينة)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "أيها الناس السكينة السكينة"
(11)
(ويُسرع في الفجوة)؛ لقول أسامة: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير العنق،
الليل عليه دم؛ لكونه أخلَّ بالواجب عليه، وهذا جبر له، ويلزم عدم وجوب شيء على من عاد إليها في النهار وانتظر حتى غابت الشمس، أو عاد إليها ليلًا؛ لكونه قد أتى بالواجب عليه فبرأت ذمته.
(10)
مسألة: إذا وقف في عرفة في ليلة العاشر من ذي الحجة - وهي ليلة العيد - ولو ساعة: صحَّ حجُّه، ولا شيء عليه؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم:"من وقف بعرفة ساعة من ليل أو نهار: فقد تمَّ حجه" وهذا عام فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة: حيث إن ذلك فيه توسعة على المسلمين كما هو معلوم.
(11)
مسألة: إذا غربت الشمس وهو في عرفة: فإنه يدفع ويتحرَّك ذاهبًا إلى مُزدلفة، ويُستحب أن يكون ذلك في حالة السكينة والهدوء والدعاء والذكر؛ للسنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد فعل ذلك وكان يُشير إلى الناس قائلًا:"أيها الناس السكينة السكينة" أي: عليكم بالسكينة والهدوء، فإن قلتَ: لمَ يدفع بعد غروب الشمس؟ قلتُ: لمخالفة الكفار، حيث إنهم يدفعون قبل غروبها، فائدة: طريق "المأزِمَين" يؤدِّي إلى مُزدلفة بصورة سريعة، وهو مخالف لطريق "ضب" الذي دخل منه إلى عرفة، وهذا العمل يُحقِّق دخول عرفة من طريق، والخروج منها عن طريق آخر كصلاة العيد، فإن قلتَ: لمَ استحب أن يمشوا بهدوء وسكينة؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه دفع أذى التزاحم عن الناس، فإن قلتَ: لمَ استحب الدعاء والذكر في حالة الدفع؟ قلتُ: لأنه من أوقات الاستجابة.
فإذا وجد فجوة نصَّ" أي: أسرع؛ لأن "العنق" انبساط السير، و"النص" فوق العنق
(12)
(ويجمع بها) أي: بمزدلفة (بين العشائين) أي: يُسنُّ لمن دفع من عرفة: أن لا يصلي المغرب حتى يصل إلى مزدلفة فيجمع بين المغرب والعشاء من يجوز له الجمع قبل حطِّ رَحْلِه
(13)
، وإن صلى المغرب بالطريق: ترك السنة وأجزأه
(14)
(ويبيت بها) وجوبًا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بات بها وقال: "خذوا عني مناسككم"(وله الدفع) من مزدلفة قبل الإمام (بعد نصف الليل)؛ لقول ابن عباس: "كنت فيمن
(12)
مسألة: يُستحب الإسراع في الدفع من عرفة إلى مزدلفة إن وجد مُتسعًا لا يوجد فيه أحد؛ للسنة الفعلية؛ حيث "إنه صلى الله عليه وسلم يسير العنق، فإذا وجد فجوة نصَّ" - كما قال أسامة - أي: إذا وجد مُتسعًا من المكان أسرع وظهر وهو المراد من "النَّص" هنا، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه جمع بين الوصول إلى مُزدلفة بسرعة؛ وبين عدم إيذائه لغيره.
(13)
مسألة: يُستحب لمن دفع إلى مُزدلفة أن يصلي المغرب والعشاء جمعًا وقصرًا في مزدلفة بأذان وإقامتين، وهذا قبل إنزال متاعه من دابته أو سيارته؛ للسنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد فعل ذلك بجميع الحجاج الذين معه: سواء كانوا من أهل مكة أو لا، فإن قلتَ: لمَ استحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه توسعة على المسلمين خاصة مع قلة الماء وكثرة الناس، وضيق الوقت، تنبيه: قوله: "من يجوز له الجمع" فيه إشارة إلى أن أهل مكة لا يجمعون ولا يقصرون هنا، وقد أبطلناه في مسألة (6).
(14)
مسألة: إذا صلى المغرب في وقتها في الطريق بين عرفة ومزدلفة: أجزأه ذلك، لكنه مخالف للمستحب؛ للسنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد صلى المغرب والعشاء في مُزدلفة جمعًا وقصرًا، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يفعل إلا الواجبات والمستحبَّات فترك ما فعله مخالفة لسنته المستحبة، لكنه يجزئه؛ لكونه فعل ما له فعله.
قدم النبي صلى الله عليه وسلم في ضَعَفَة أهله من مُزدلفة إلى منى" متفق عليه (و) الدفع (قبله) أي: قبل نصف الليل (فيه دم)
(15)
، على غير سقاة ورعاة
(16)
، سواء كان عالمًا بالحكم،
(15)
مسألة: يجب على الحاج أن يبيت في مُزدلفة إلى ما قبل صلاة الفجر - وهو: ثلثا الليل -، وهو قول المحققين من العلماء؛ للسنة القولية؛ حيث قال ابن عباس:"كنتُ فيمن قدم النبي صلى الله عليه وسلم في ضعفة أهله من مزدلفة إلى منى""وقد رخَّص لأم سلمة رضي الله عنها ليلة النحر فرمت الجمرة قبل الفجر" وهذا يدل بمفهوم الصفة على أنه يجب على الأقوياء أن يبيتوا ليلة مزدلفة فيها إلى أن يذهب ثلثا تلك الليلة - أي: حتى يغيب القمر - ومن لم يفعل ذلك من الأقوياء فعليه دم، وهو ذبح شاة؛ نظرًا لتركه واجبًا قد فعله صلى الله عليه وسلم، وقال "خذوا عني مناسككم"، وإذا بات ثلثي الليل يوصف بأنه بات ليلة، فإن قلتَ: يبيت إلى ما بعد نصف الليل فقط، وله بعد ذلك الذهاب منها، وإن تركها قبل نصف الليل: صحَّ حجه وعليه دم، وهو ذبح شاة وهو الذي ذكره المصنف هنا؛ للسنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد بات فيها إلى هذا الوقت، وقال:"خذوا عني مناسككم" قلتُ: إن هذا لا يدل على ما ذهبتم إليه؛ لكون البيات لا يطلق ولا يوصف به إلا من بات كامل الليل، أو أكثره، وهو ثلثاه وهو الذي ذكرناه، فإن قلتَ: ما الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "الخلاف فيما يُطلق عليه البيات" فعندنا: يُطلق على من بات كل الليل أو أكثره وهو ثلثاه، وعندهم يطلق على من بات أكثر من نصفه بقليل.
(16)
مسألة: يُباح لمن يخدم الحجاج وهو محرم كالسقاة، والرعاة، ورجال الأمن والصحة: أن يدفعوا من مزدلفة إلى منى قبل منتصف الليل، ولا شيء عليهم؛ للسنة القولية؛ حيث "رخَّص النبي صلى الله عليه وسلم للسقاة في ذلك" والرعاة، ورجال الأمن والصحة مثلهم في خدمة الحجاج؛ لعدم الفارق؛ من باب "مفهوم الموافقة" وهذا كله لدفع المفسدة عن الأمة.
أو جاهلًا، عامدًا، أو ناسيًا
(17)
(كوصوله إليها) أي: إلى مزدلفة (بعد الفجر) فعليه دم؛ لأنه ترك نُسُكًا واجبًا
(18)
(لا) إن وصل إليها (قبله) أي: قبل الفجر فلا دم عليه، وكذا: إن دفع من مزدلفة قبل نصف الليل، وعاد إليها قبل الفجر لا دم عليه
(19)
(فإذا) أصبح بها: (صلى الصبح) بغلس، ثم (أتى المشعر الحرام) وهو: جبل صغير بالمزدلفة سُمِّي بذلك؛ لأنه من علامات الحج (فيرقاه، أو يقف عنده ويحمد الله ويُكبِّره) ويُهلِّله (ويقرأ: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ} الآيتين، ويدعو
(17)
مسألة: إذا لم يبت ليلة مُزدلفة فيها وهو جاهل بالحكم، أو ناسي، أو غافل، أو مكره: صحَّ حجُّه ولا شيء عليه؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" وهذا عام لجميع الأحكام ومنها أحكام الحج لأن "الخطأ والنسيان" اسم جنس معرف بأل، وهو من صيغ العموم، ولأن "ما" في قوله:"وما استكرهوا عليه" موصولة وهي من صيغ العموم وقد سبق بيانه، فإن قلتَ: إن من لم يبت فيها وهو من الأقوياء: صحَّ حجه وعليه دم: سواء كان عالمًا أو لا، ناسيًا أو لا، عامدًا أو لا، وهذا قول المصنف هنا قلتُ: لم أجد دليلًا قويًا على ذلك.
(18)
مسألة: إذا وصل إلى مُزدلفة بعد صلاة الفجر بلا عذر من جهل، أو نسيان، أو إكراه أو غفلة - فعليه دم وهو ذبح شاة؛ للتلازم؛ حيث يلزم من عدم مبيته بمزدلفة: وجوب الدم عليه؛ لتركه نسكًا واجبًا؛ لقول ابن عباس: "من ترك نُسُكًا فعليه دم".
(19)
مسألة: إذا خرج من مزدلفة قبل مضي ثلثي الليل - أو قبل نصفه عند بعضهم - وعاد إليها قبل صلاة الفجر، أو لم يصل إليها أصلًا إلا قبل صلاة الفجر؛ فلا شيء عليه؛ للتلازم، حيث يلزم من وجوده فيها إلى صلاة الفجر: عدم وجوب شيء عليه؛ لكونه فعل ماله فعله.
حتى يُسفر)؛ لأنه في حديث جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل واقفًا عند المشعر الحرام حتى أسفر جدًا، فإذا أسفر: سار قبل طلوع الشمس بسكينة
(20)
، (فإذا بلغ مُحسِّرًا) - وهو: واد بين مُزدلفة ومنى، سُمِّي بذلك، لأنه يحسر سالكه -:(أسرع) قدر (رمية حجر) إن كان ماشيًا، وإلا: حرَّك دابته: "لأنه صلى الله عليه وسلم لما أتى بطن مُحسِّر: حرَّك قليلًا"
(20)
مسألة: يُستحب أن يمكث في مُزدلفة حتى يصلي الفجر من اليوم العاشر -، ثم يأتي المشعر الحرام - وهو: جبل صغير يقع في مُزدلفة بُني عليه المسجد الموجود الآن - فيقف عنده: فيحمد الله، ويُثني عليه بما هو أهله، ويشكره على ما هداه، ويُكبِّره ويُعظمه، ويستغفره، ويتوب إليه، ويقرأ قوله تعالى:{فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ثم يدعو بما شاء حتى يُسفر، ثم يسير قبل طلوع الشمس على هيئة السكينة والهدوء متوجهًا إلى منى؛ للسنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد فعل ذلك، فإن قلتَ: لمَ استُحبَّ ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك من أوقات الاستجابة فإن قلتَ: لمَ سُمِّي هذا الجبل بالمشعر الحرام؟ قلتُ: لكونه من علامات الحج؛ حيث إنه داخل في حدود الحرم، بخلاف عرفة فإنها مشعر ومنسك، لكنها مشعر حلال، فإن قلتَ: لمَ سُمِّي الدفع بالإفاضة؟ قلتُ: لأنه دفع بكثرة، ومنه قولهم:"أفاض الماء" أي: دفعه وصبَّه بكثرة، فإن قلتَ: لمَ استحب قراءة الآيتين؟ قلتُ: لمناسبتهما للمقام؛ إذ تُذكِّران المسلم بأوامر الله تعالى، كما أنه من المناسب للساعي بين الصفا والمروة أن يقرأ قوله تعالى:{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} ، فإن قلتَ: لِمَ يُستحب أن يسير إلى منى قبل طلوع الشمس قلتُ: لمخالفة المشركين؛ حيث إنهم يفيضون من مُزدلفة بعد طلوع الشمس، ومخالفتهم مقصد شرعي.
كما ذكره جابر
(21)
(وأخذ الحصى) أي: حصى الجمار من حيث شاء، وكان ابن عمر يأخذ الحصى من "جَمْع"، وفعله سعيد بن جبير، وقال:"كانوا يتزوَّدون الحصى من جمع"
(22)
والرمي: تحية منى فلا يبدأ قبله بشيء
(23)
، (وعدده)
(21)
مسألة: إذا مرَّ من وادي مُحسِّر - وهو الكائن بين مُزدلفة ومنى وهو سائر إلى منى -: يُستحب أن يسرع في السير قليلًا: سواء كان ماشيًا أو راكبًا؛ للسنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد فعل ذلك، فإن قلتَ: لمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: لأمرين: أولهما: مخالفة الكفار؛ حيث إنهم كانوا إذا مرُّوا بهذا الوادي توقفوا ليتذكَّروا آبائهم، وأجدادهم وأمجادهم، ثانيهما: أن هذا الوادي قد عُذِّب فيه أصحاب الفيل الذين جاءوا مع أبرهة ليهدموا بيت الله، وينقلونه إلى مكان آخر، وكل أرض عُذِّب فيها أقوام يُشرع الإسراع عند المرور بها، فإن قلتَ: لمَ سُمِّي هذا الوادي بهذا الاسم؟ قلتُ: لأن أصحاب الفيل قد تحسَّروا على أنفسهم لما رأوا العذاب؛ وقيل: لأن الفيل وأصحابه قد حسروا وانقطعوا عن الذهاب.
(22)
مسألة: إذا جاوز وادي مُحسِّر يكون قد دخل حدود منى، فيأخذ الحصى السبع التي يُريد أن يرمي بها جمرة العقبة من "منى" أو من أيِّ مكان شاء؛ للسنة القولية؛ حيث أمر النبي صلى الله عليه وسلم ابن عباس "بأن يلتقط الحصى السبع من منى" ولم يُعيِّن الصحابة مكانًا مُعينًا لالتقاطها، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه توسعة على المسلمين، فإن قلتَ: يُستحب أخذ الحصى من مزدلفة؛ لفعل الصحابي؛ حيث إن ابن عمر كان يفعل ذلك، وكان كثيرًا من الصحابة يفعلون ذلك كما حكاه سعيد بن جبير قلتُ: فعل الصحابي هذا غير مُعتبر؛ لمخالفته السنة فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض فعل الصحابي مع السنة القولية".
(23)
مسألة: إذا وصل إلى منى اليوم العاشر: فأول شيء يبدأ به هو رمي جمرة العقبة؛ للسنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد فعل ذلك، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ =
أي: عدد حصى الجمار (سبعون) حصاة، كل واحدة (بين الحمَّص والبندق) كحصى الخذف، فلا تُجزئ صغيرة جدًا، ولا كبيرة
(24)
، ولا يُسنُّ غسله
(25)
(فإذا وصل إلى منى وهي من وادي مُحسِّر إلى جمرة العقبة): بدأ بجمرة العقبة فـ (رماها بسبع حصيات متعاقبات) واحدة بعد واحدة، فلو رمى دفعة واحدة: لم يُجزئه إلا عن واحدة، ولا يُجزئ الوضع (يرفع يده) اليمنى حال الرمي (حتى يُرى بياض إبطه)؛ لأنه أعون على الرمي (ويُكبِّر مع كل حصاة) ويقول: "اللهم اجعله حجًا
قلتُ: لأن الرمي تحية منى، كما أن الطواف تحية المسجد الحرام لمن أراد، وصلاة ركعتين تحية دخول أيِّ مسجد.
(24)
مسألة: عدد حصى رمي الجمار سبعون حصاة، كل حصاة بحجم حبة الحمُّص، أو أقل قليلًا، أو قدر نواة التمرة، أو قدر أنملة الإصبع، ولا يُجزئ الرمي بأكبر من ذلك، وإلا أصغر، وطريقة ذلك: أن يرمي جمرة العقبة بسبع حصيات في اليوم العاشر، ويرمي الثلاث الجمرات بإحدى وعشرين حصاة في اليوم الحادي عشر، وكذلك يرميها في اليوم الثاني عشر، فيكون مجموع الحصيات تسعًا وأربعين حصاة لمن أراد أن يتعجَّل، ويرميها في اليوم الثالث عشر بإحدى وعشرين فيكون مجموع الحصيات سبعين لمن أراد أن يتأخر، للسنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد رمى هذا العدد، وبهذا الحجم، ومن رمى بأقل أو أكثر خالف ذلك، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: تأسيًا بإبراهيم عليه السلام حين عرض له الشيطان في أمكنة الجمرات الثلاث؛ حيث رماه بسبع في كل مكان من هذه الأمكنة، وطردًا للشيطان من تأثيره على إيمان المسلم.
(25)
مسألة: لا يُستحب غسل الحصاة التي تُرمى الجمار بها؛ للاستقراء؛ حيث ثبت بعد الاستقراء أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم لم يكونوا يغسلوا الجمار، فغسلها يكون من المحدثات، فيكون بدعة.
مبرورًا وسعيًا مشكورًا وذنبًا مغفورًا"
(26)
(ولا يُجزئ الرمي بغيرها) أي: غير الحصاة كجوهر، وذهب، ومعادن
(27)
(ولا) يُجزئ الرمي (بها ثانيًا)؛ لأنها
(26)
مسألة: يرمي جمرة العقبة بسبع حصيات متعاقبات: كل واحدة بعد الأخرى مباشرة ويُستحب: أن يرفع يده اليُمنى عند رمي كل حصاة، ويُكبِّر قائلًا:"الله أكبر" ثم يدعو قائلًا: "اللهم اجعله حجًا مبرورًا، وسعيًا مشكورًا، وذنبًا مغفورًا"، ولا يُجزئ رمي السبع كلها دفعة واحدة، ولو فعل: لكفى ذلك عن حصاة واحدة، ولا يُجزئ وضع السبع في الحوض دون رمي وحذف؛ لقاعدتين: الأولى: السنة الفعلية والقولية؛ حيث "كان صلى الله عليه وسلم يرمي كل حصاة منفردة، ويرفع يده اليُمنى عند الرمي، ويُكبر عند ذلك" وقال: "خذوا عني مناسككم، ورمي السبع دفعة واحدة مخالف لذلك، ووضعها في الحوض لا يُسمَّى رميًا، الثانية: فعل الصحابي، حيث كان ابن عمر وابن مسعود رضي الله عنهم يقولان عند الرمي: "اللهم اجعله حجًا مبرورًا
…
"، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: لأن المقصود هو طرد الشيطان ومجاهدته ولا يكون إلا برمي مُتعاقب، دون وضع، أو حذف دفعة واحدة، ورفع اليد يُعينه على ذلك الرمي، والتكبير شرع لتعظيم الله تعالى، وإظهار عظمته على كل سلطان وشيطان، وشرع الدعاء لمناسبته للمقام.
(27)
مسألة: الرمي يكون بحصى من جنس الأرض، فلا يُجزئ الرمي بجواهر، أو معادن، أو ذهب أو فضة أو خشب، أو ثياب أو نعال أو نحو ذلك؛ للاستقراء؛ حيث ثبت بعد استقراء وتتبع أحوال النبي وأصحابه أنهم كانوا يرمون بحجارة من جنس الأرض، فلا يجوز غيرها، لأن غيرها يكون مُحدثًا، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إنه لو شرع الرمي بماله ثمن لأدَّى إلى إضاعة المال المنهي عنه.
استعملت في عبادة فلا تستعمل ثانيًا كماء الوضوء
(28)
(ولا يقف) عند جمرة العقبة بعد رميها؛ لضيق المكان، ونُدِب: أن يستبطن الوادي، وأن يستقبل القبلة، وأن يرمي على جانبه الأيمن
(29)
وإن وقعت الحصاة خارج المرمى، ثم تدحرجت فيه:
(28)
مسألة: يجزئ الرمي بحصاة قد رُمي بها من قبل؛ لقاعدتين: الأولى: الاستصحاب؛ حيث إن الأصل جواز ذلك، فيُستصحب ويعمل به؛ لعدم المغيِّر، الثانية: المصلحة: حيث إن الحصى الصالح للرمي قد لا يُوجد مع كثرة الأعوام، والحجاج ثم إنه قد تسقط حصاة من الحاج في غير الحوض، فيشق عليه أن يأتي بجديدة لم يُرم بها مع شدة الزحام، فإن قلتَ: لا يُجزئ ذلك وهو ما ذكره المصنف هنا؛ للقياس، بيانه: كما أنه لا يُجزئ الوضوء ورفع الحدث بماء قد تُطهِّر به من قبل، فكذلك الحال هنا والجامع: أن كلًا منهما قد استعمل شيئًا واحدًا في عبادتين وهذا لا يصح، قلتُ: هذا فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ لأن الماء المستعمل في رفع حدث قد أصابته نجاسة أعضاء المتوضئ الأول، فلذلك كان طاهرًا غير مطهر - كما سبق - أما الحصاة فلم تتأثر بشيء عند رميها، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض القياس مع الاستصحاب والمصلحة".
(29)
مسألة: يُستحب عدم الوقوف بعد الفراغ من رمي جمرة العقبة، وأن يرميها من بطن الوادي إن قدر، وأن يكون حال رميه مستقبل القبلة على جانبه الأيمن؛ لقاعدتين: الأولى: السنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد مضى سريعًا بعد رميه لها، ورماها من بطن الوادي، وكان مستقبل القبلة، الثانية: فعل الصحابي؛ حيث إن ابن عمر قد رمى الجمرة على جانبه الأيمن، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن الوقوف بعد الرمي فيه تضييق على المسلمين، ورميه في بطن الوادي فيه الحفاظ على نفسه من السقوط، بخلاف ما لو رمى من أعلى =
أجزأت
(30)
(ويقطع التلبية قبلها)؛ لقول الفضل بن عباس: "إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل يُلبِّي حتى رمى جمرة العقبة" أخرجاه في الصحيحين
(31)
(ويرمي) ندبًا (بعد طلوع الشمس)؛ لقول جابر: "رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمي الجمرة ضحى يوم النحر وحده" أخرجه مسلم
(32)
(ويُجزئ) رميها (بعد نصف الليل) من ليلة النحر؛ لما
الجبل، وشرع استقبال القبلة لأنها أشرف الجهات، والرمي على الجانب الأيمن أقوى وأنشط للرامي.
(30)
مسألة: إذا رمى الحاج حصاة باتجاه الشاخص والحوض فلم تقع فيه مباشرة، ولكنها انحدرت وتدحرجت إليه بعد ذلك: فإنها تُجزئه؛ للتلازم؛ حيث إنه يلزم من وقوعها في الحوض الإجزاء؛ لكونه فعل ماله فعله فإن قلتَ: لمَ أجزأ ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك يكثر وقوعه، فهو مما تعم به البلوى، فدفعًا للمشقة: شرع الشارع الإجزاء.
(31)
مسألة: يُستحب للقارن والمفرد أن يقطع التلبية - وهو قوله: "لبيك اللهم لبيك
…
" - قبل البدء برمي جمرة العقبة؛ للسنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد قطعها في هذا الوقت والمفرد مثل القارن؛ لعدم الفارق فإن قلتَ: لم استُحب ذلك؟ قلتُ: لكونه شرع فيما يحصل به التحلل من الإحرام الذي يُناسبه التلبية، فشرع في شيء يناسب ذلك التحلُّل وهو التكبير. تنبيه: قد سبق بيان ذلك في مسألة (44) من باب: "طريقة وصفة دخول مكة والطواف والسعي" وبينا أن المتمتع والمعتمر يقطع التلبية عند بدء الطواف لهما.
(32)
مسألة: يُستحب أن يرمي جمرة العقبة في الضُّحى من يوم النحر - وهو العاشر من ذي الحجة -؛ للسنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد فعل ذلك، فإن قلتَ: لمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إنه أنسب وقت لذلك، نظرًا لوضوحه؛ حيث يتيقَّن من أن كل حصاة قد سقطت في الحوض، ولتمكنه بعد ذلك من الحلق وطواف الإفاضة والسعي إن أراد ذلك.
روى أبو داود عن عائشة: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أمَّ سلمة ليلة النحر فرمت جمرة العقبة قبل الفجر، ثم مضت فأفاضت"
(33)
، فإن غربت شمس يوم الأضحى قبل رميه: رمَى من غدٍ بعد الزوال
(34)
(ثم ينحر هديًا إن كان معه) واجبًا كان أو تطوعًا، فإن لم يكن معه هدي، وعليه واجب: اشتراه، وإن لم يكن عليه واجب: سُنَّ له أن يتطوع به، وإذا نحر الهدي: فرَّقه على مساكين الحرم
(35)
(ويحلق) ويُسنُّ أن يستقبل
(33)
مسألة: وقت رمي جمرة العقبة يبدأ من بعد مُضي ثُلُثَي الليل من ليلة مُزدلفة - وهو: ليلة يوم النحر، اليوم العاشر - للأقوياء، أما الضعفة من الرجال والنساء المعذورين فيُجزئ الرمي منهم ولو بعد نصف الليل من ليلة مزدلفة وهو ليلة العاشر، وهو يوم النحر، وقد سبق بيان ذلك في مسألة (15) بالتفصيل.
(34)
مسألة: إذا غابت شمس يوم النحر - وهو اليوم العاشر - وهو لم يرم جمرة العقبة: فإنه يرميها قضاء في الغد، أي: في اليوم الحادي عشر بعد الزوال مع الحصى التي سيرميها فيه؛ للتلازم؛ حيث يلزم من فوات وقت الرمي هنا: أن يقضيه في وقت الرمي في اليوم الآخر؛ نظرًا لاحترام الوقت المشروع للرمي.
(35)
مسألة: إذا فرغ من رمي جمرة العقبة: فإنه ينحر هديه في منى: سواء كان قد أتى بالهدي معه، أو كان قد اشتراه من مكة، وسواء كان واجبًا كهدي القِران والتمتع، أو مندوبًا كمن تطوع بذبح هدي، ويُباح له أن يأكل من ذبحه، ويُوزِّع الباقي على فقراء مكة إن قدر أو يُعطي الهدي الفقراء وهو حي، ليذبحوه بأنفسهم؛ لقاعدتين: الأولى: السنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد فعل ذلك، الثانية: المصلحة؛ حيث إن إعطاءهم الهدي حيًا ليذبحوه في وقت الذبح أنسب لكثير منهم.
القبلة، ويبدأ بشقه الأيمن
(36)
(أو يُقصِّر من جميع شعره) لا من كل شعرة بعينها
(37)
، ومن لبَّد رأسه أو ضفَّره، أو عقَّصه: فكغيره
(38)
، وبأي شيء قصَّر
(36)
مسألة: إذا فرغ من ذبح هديه: فإن الرَّجل يحلق رأسه ويُستحب أن يكون في حالة حلقه مستقبلًا للقبلة بادئًا بشقه الأيمن، ثم الأيسر منه؛ للسنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد فعل ذلك، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد دعى للمحلِّقين ثلاثًا، والقبلة أشرف الجهات، والبدء باليمين أكثر بركة للعمل، فيكون أكثر أجرًا.
(37)
مسألة: إذا لم يحلق رأسه: فإنه يُقصِّر من جميع شعره القدر الذي يُسمَّى تقصيرًا عرفًا، ولا يجب عليه أن يُقصِّر من كل شعرة بعينها، ويُستحب أن يكون في حالة تقصيره مستقبلًا للقبلة، بادئًا بشقه الأيمن ثم الأيسر، وهو - أي: التقصير - أقل أجرًا من الحلق؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد دعى للمحلِّقين ثلاث مرات، ودعا للمقصِّرين مرة واحدة، وهذا يلزم منه: مشروعية التقصير إذا لم يحلق، وأن الحلق أفضل من التقصير، الثانية: القياس، بيانه: كما يُستحب استقبال القبلة والبدء باليمين في الحلق، فكذلك التقصير مثله والجامع: وجود المصلحة الظاهرة فيهما، فإن قلتَ: لمَ كان الحلق أفضل من التقصير؟ قلتُ: لأن المقصود قضاء التفث وإزالة الأقذار، وهذا يُحققه الحلق، فيكون أبلغ وأدل على صدق الإخلاص.
(38)
مسألة: إذا كان الشعر مُلبَّدًا كأن يكون عليه حِنَّاء أو صمغ، أو كان ذا ضفائر وجدايل أو كان معقودًا خلفه: فإنه يُقصِّر منه مثل ما لو لم يكن كذلك، ولا يحتاج إلى إطلاقه وفكِّه؛ للمتلازم؛ حيث إن التقصير يكون كاملًا وهو في حالته تلك، فلا يلزم أن يقوم بإطلاقه؛ لكونه فعل ماله فعله، وفي ذلك تيسير على الناس، وهو المقصد.
الشعر: أجزأ، وكذا: إن نتفه، أو أزاله بنَوْرة؛ لأن القصد إزالته، لكن السنة الحلق أو التقصير
(39)
(وتقصِّر منه المرأة) أي: من شعرها (قدر أنملة) فأقل؛ لحديث ابن عباس يرفعه: "ليس على النساء حلق إنما على النساء التقصير" رواه أبو داود، فتُقصِّر من كل قرن قدر أنملة أو أقل
(40)
، وكذا: العبد، ولا يحلق إلا بإذن
(39)
مسألة: يُجزئ الحلق أو التقصير بأي آلة تُزيل الشعر أو تقصِّر منه كأن ينتفه، أو يزيله بنورة - وهو النير المعروف - أو نحو ذلك، ولكن المستحب: أن يحلق ويُقصِّر بما هو معتاد؛ لقاعدتين: الأولى: السنة الفعلية؛ حيث "إنه صلى الله عليه وسلم قد حلق بما هو مُعتاد في زمنه"، والتقصير مثله؛ لعدم الفارق الثانية: التلازم؛ حيث يلزم من حلقه أو تقصيره بأي آلة: إجزاء ذلك؛ نظرًا لتحقيق المقصود، فإن قلتَ: لم شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة، وهي التوسعة على المسلمين.؟ [فرع]: إذا لم يُوجد على الرأس شعر كالأصلع، أو من حَلَقَه قريبًا: فإنه يسقط عنه الحلق والتقصير؛ للتلازم: حيث يلزم من عجزه عن فعل الواجب: سقوطه؛ لكون الواجب يسقط بالعجز عنه.
(40)
مسألة: يجب على المرأة أن تقصِّر شعرها، ولا يجوز لها حلقه ولو أذن زوجها، فتأخذ من كل قرن وجديلة قدر أنملة - وهو: قدر طرف الإصبع، ويُساوي حبَّة الحمَّص أو أقل من ذلك - هذا إن كان لها قرون وجدايل، أما إن لم يكن كذلك: فتجمع شعرها في مقدِّمة رأسها وتقبضه بيدها وتأخذ منه قدر أنملة أو أقل؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "ليس على النساء حلق إنما على النساء التقصير" فنفى الحلق عن النساء، وأثبت التقصير عليهن، والنفي هنا نهي، وهو مُطلق، فيقتضي التحريم وترك الحرام واجب؛ الثانية: التلازم؛ حيث يلزم من أخذ قدر أنملة: إجزاء ذلك، لكونه يقع اسم التقصير عليه عرفًا؛ وذلك لعدم تقدير الشارع لذلك فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ =
سيده
(41)
، وسُنَّ لمن حلق أو قصَّر: أخذ ظفر وشارب وعانة، وإبط
(42)
(ثم) إذا رمى، وحلق، أو قصَّر: فـ (قد حلَّ له كل شيء) كان محظورًا بالإحرام (إلا النساء) وطئًا ومباشرة، وقبلة، ولمسًا بشهوة، وعقد نكاح؛ لما روى سعيد عن عائشة رضي الله عنها مرفوعًا:"إذا رميتم وحلقتم: فقد حلَّ لكم الطيب والثياب، وكل شيء إلا النساء"
(43)
(والحلاق والتقصير) ممن لم يحلق (نسك) في تركهما دم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:
قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن حلق رأسها يتسبَّب في تشويهها كُلِّيًا، وأخذ أكثر من أنملة يتسبب في تشويهها جُزئيًا، فحفاظًا عليها، وترغيبًا فيها: شرع لها تقصير ذلك من شعرها فقط.
(41)
مسألة: يجب على العبد أن يُقصِّر شعره، ولا يحلقه إلا إذا أذن له سيده؛ للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حفاظ على حقوق السيد وماله؛ لأن العبد المحلوق الشعر أقل قيمة من العبد غير المحلوق، أما إن أذن السيد: فقد أسقط حقه في ذلك.
(42)
مسألة: يُستحب لمن حلق أو قصَّر: أن يُزيل ظفرًا، ويحلق عانة، وإبط، ويقص شاربه، للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه قضاء التَّفث وإزالة الأوساخ والأقذار التي تراكمت بسبب تلبُّسه بالإحرام.
(43)
مسألة: إذا رمى جمرة العقبة في اليوم العاشر، ثم حلق، أو قصَّر: فإنه يحلُّ له كل شيء إلا النساء وهذا يُسمَّى "التحلُّل الأول"، فيحلُّ لبس المخيط، وتغطية الرأس، وأخذ الشعر، والأظفار، والطيب، أما النساء وما يتعلق بهن من وطء، ولمس بشهوة، وتقبيل ومباشرة وعقد ونكاح: فلا يحل شيء من ذلك؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "إذا رميتم وحلقتم: فقد حلَّ لكم الطيب والثياب وكل شيء إلا النساء" حيث أثبت إحلال كل شيء بفعل هذين الشيئين، ونفى إحلال النساء وما يتعلَّق بهن؛ لأن الاستثناء من الإثبات نفي، والنفي؛ نهي، وهو مطلق، فيقتضي التحريم، فإن قلتَ: لمَ حُرِّمت النساء هنا؟ قلتُ: لكون =
"فليُقصِّر ثم ليتحلَّل"(ولا يلزم بتأخيره) أي: الحلق أو التقصير عن أيام منى (دم، ولا بتقديمه على الرمي والنحر) ولا إن نحر أو طاف قبل رميه ولو عالمًا لما روى سعيد عن عطاء: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من قدَّم شيئًا قبل شيء: فلا حرج"
(44)
،
الوطء من أغلظ المحظورات، لكونها من المتع الخالصة المخالفة للإحرام وما بعده، وحُرّمت مقدماته؛ منعًا للوقوع في الوطء.
(44)
مسألة: الحلق أو التقصير نسك من أنساك الحج والعمرة، وعبادة وقربة إلى الله تعالى، يجوز تأخيره عن الرمي والنحر إلى آخر ذي الحجة؛ ويجوز تقديمه على الرمي والنحر، وإذا تركه: فعليه دم، أي: ذبح شاة؛ لقواعد: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} فلو لم يكونا نسكًا لما وُصف الحجاج بذلك؛ الثانية: السنة القولية، وهي من وجهين: أولهما: أنه صلى الله عليه وسلم دعا للمحلِّقين وفضَّلهم على المقصِّرين، فلو لم يكونا نسكًا لما فاضل بينهما، ثانيهما: أنه صلى الله عليه وسلم قال: "من قدَّم شيئًا على شيء فلا حرج" فأباح تقديم الحلق أو التقصير على الرمي والنحر، وتأخيرهما عليهما؛ لأن لفظ "لا حرج" من صيغ الإباحة، الثالثة: إجماع الصحابة؛ حيث إن الصحابة قد حلقوا أو قصَّروا في جميع حججهم وعُمَرهم، الرابعة: التلازم؛ حيث يلزم من بيان أول وقت الحلق أو التقصير، وعدم بيان آخره: أنه لا وقت لآخره إلا وقت نهاية وقت الحج - وهو: آخر ذي الحجة - الخامسة: قول الصحابي؛ حيث إن ابن عباس قال: "من ترك نسكًا فعليه دم" والحلق أو التقصير نسك، فيكون على من تركه دم، فإن قلتَ: إن الحلق أو التقصير ليس بنسك، وإنما هو إطلاق من محظورات كانت محرمة فأطلق فيه الحل وهذه رواية عن الإمام أحمد وهو قول كثير من العلماء؛ للقياس؛ بيانه كما أن المحرم يلبس مخيطًا بعد رميه فكذلك يحلق أو يُقصِّر، وبناء على ذلك يحصل التحلل بالرمي فقط، وبدون حلق أو تقصير، قلتُ: هذا =
ويحصل التحلُّل الأول باثنين من "حلق" و"رمي" و"طواف" والتحلُّل الثاني: بما بقي مع سعي
(45)
، ثم يخطب الإمام بمنى يوم النحر خطبة يفتتحها بالتكبير، يُعلِّمهم فيها النحر والإفاضة والرمي
(46)
، فصل: (ثم يفيض إلى مكة، ويطوف القارن
لا يصح؛ لأنه قياس قد خالف نصًا وإجماعًا، فلا يصح، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض القياس مع النص والإجماع".
(45)
مسألة: يحصل التحلُّل الأول - وهو: أن يحلَّ له كل شيء إلا النساء - إذا فعل اثنين من ثلاثة وهي: 1 - رمي جمرة العقبة 2 - حلق أو تقصير 3 - طواف الإفاضة مع السعي، يختار اثنين كيفما شاء فيحصل له التحلل الأول، ويحصل التحلُّل الثاني - وهو: أن يحل له كل شيء حتى النساء -: إذا فعل الثلاثة السابقة معًا؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم إذا سأله أحد بأن قدَّم شيئًا من تلك الأمور الثلاثة على شيء قال له: "افعل ولا حرج" ولفظ "ولا حرج" من صيغ المباح الصريحة، الثانية: الاستقراء؛ حيث ثبت بعد استقراء وتتبع أحوال النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم في الحج: أن التحلل الأول والثاني يحصلان بما قلناه، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه توسعة على المسلمين، فإن قلتَ: الرمي والحلق أو التقصير يُقدَّمان على طواف الإفاضة، فلو قُدِّم الطواف عليهما لما أجزأ ذلك، وهو قول الإمام مالك؛ لقول الصحابي؛ حيث إن ابن عمر كان يُفتي بذلك قلتُ: هذا معارض للنص، فلا يُحتج به، أو لعلَّه يُفتي بما هو أسهل للناس عن طريق ما تقتضيه المصلحة فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض قول الصحابي مع السنة والاستقراء".
(46)
مسألة: يُستحب أن يخطب الإمام أو نائبه في يوم النحر خطبة يفتتحها بالتكبير، ويعلم الناس فيها مناسكهم وكيفية فعلها: من نحر، وطواف إفاضة، وسعي، =
والمفرد بنية الفريضة طواف الزيارة) ويقال: طواف الإفاضة، فيُعيِّنه بالنية، وهو ركن لا يتم حج إلا به، وظاهره: أنهما لا يطوفان للقدوم، ولو لم يكونا دخلا مكة قبل، وكذا: المتمتع يطوف للزيارة فقط كمن دخل المسجد وأُقيمت الصلاة: فإنه يكتفي بها عن تحية المسجد، واختاره الموفِّق، والشيخ تقي الدين، وابن رجب، ونصَّ الإمام -وأختاره الأكثر-: أن القارن والمفرد إن لم يكونا دخلاها قبل: يطوفان للقدوم برمل، ثم للزيارة، وأن المتمتع يطوف للقدوم، ثم للزيارة بلا رمل
(47)
ورمي ونحو ذلك من أحكام الحج، وتكون هذه الخطبة كصلاة العيد وخطبته بالنسبة لأهل المدن الذين لم يحجوا؛ للسنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد فعل ذلك، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلت: للمصلحة؛ لأن الخطبة في تعليم الناس أمور دينهم وحجهم مفيدة لهم في مثل هذه الأوقات، وخير الكلام ما وقع في وقته.
(47)
مسألة: إذا فرغ من رمي جمرة العقبة، وحلق أو قصَّر: فإنه يفيض ويذهب إلى مكة؛ ليطوف طواف الإفاضة -ويُسمَّى طواف الزيارة- على ما سبق وصفه وطريقته في مسائل (7 إلى 33) من باب "طريقة وصفة دخول مكة والطواف والعمرة" -وهذا يفعله كل حاج سواء كان مُتمتِّعًا أو قارنًا أو مُفردًا، ويجب أن ينويه على أنه ركن لا يتم الحج إلا به، ولا يرملون فيه: سواء طافوا طواف القدوم ورملوا فيه أو لا؛ لقواعد: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} فأوجب الشارع طواف الإفاضة؛ لأن الأمر هنا مطلق، وهو يقتضي الوجوب؛ الثانية: السنة القولية وهي من وجهين: أولهما: أن صفية رضي الله عنها لما حاضت قبل طواف الإفاضة قال صلى الله عليه وسلم: "أحابستنا هي؟! " قالوا: إنها أفاضت يوم النحر فقال: "أخرجوا" فلفظ "أحابستنا؟ " يلزم منه أن طواف الإفاضة ركن لا يخرج الحاج من مكة إلا إذا فعله، ثانيهما: قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات" وطواف الإفاضة عمل فلا يصح شرعًا إلا بنية كغيره من الأعمال الشرعية، الثالثة: السنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد أفاض يوم النحر فطاف بالبيت، ولم يرمل فيه -كما ذكره ابن عباس رضي الله عنهم- فإن قلتَ: لمَ لا =
(وأول وقته) أي: وقت طواف الزيارة (بعد نصف ليلة النحر) لمن وقف قبل ذلك بعرفات، وإلا: فبعد الوقوف،
(48)
(ويُسنُّ) فعله (في يومه)؛ لقول ابن عمر رضي الله عنهم:
يرمل في هذا الطواف، مع انه يرمل في طواف القدوم؟ قلتُ: لأن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم قد رملوا في طواف القدوم لإثبات أنهم على خلاف ما زعمه كفار قريش وهو: "أن محمدًا وأصحابه قد أنهكتهم حُمَّى المدينة" أما طواف الإفاضة والزيارة فلم يأتوا من المدينة، بل أتوا من منى، فالغرض الذي شُرع الرَّمل لأجله لم يوجد ممن أتى من منى فإن قلتَ: يجب على المتمتع والقارن والمفرد أن يرملوا: فإن لم يكونوا قد طافوا بالبيت طواف القدوم ورملوا فيه من قبل: فإن الواجب على من أتى من منى أن يطوف أولًا طواف القدوم فيرمل فيه، ثم يطوف طواف الإفاضة والزيارة ولا يرمل فيه، وهو ما نصَّ عليه أحمد، وأيَّده بعض الحنابلة قلتُ: هذا بعيد؛ لأمور: أولها: عدم الدليل القوي عليه، وعدم الدليل دليل على عدم الحكم، ثانيها: أنه لم يذكر أحد من الرواة والمحدِّثين أنه صلى الله عليه وسلم فعله، أو أمر أحدًا من أصحابه أن يفعله، ثالثها: أنه لم يثبت عن واحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لما رجع من عرفة طاف للقدوم ورمل، ثم طاف للإفاضة والزيارة ولم يرمل، ذكر هذا الأخير ابن القيم، تنبيه: قوله: "كمن دخل المسجدَ" يُشير به إلى الاستدلال بالقياس قلتُ: لا يصح ذلك القياس؛ لعدم الجامع.
(48)
مسألة: يبدأ وقت طواف الإفاضة وهو الزيارة -من بعد مضي ثلُثَي ليلة يوم النحر -وهي ليلة مزدلفة- للأقوياء، ويبدأ للضعفاء من بعد نصف ليلة يوم النحر -وهي ليلة مُزدلفة- هذا لمن كان قد وقف بعرفة قبل ذلك، أما من لم يقف بها: فإن طوافه للإفاضة يبدأ بعد وقوفه بها؛ لقاعدتين: الأولى: السنة التقريرية؛ حيث "إن أم سلمة رضي الله عنها دفعت من مُزدلفة ورمت جمرة العقبة، وذهبت للمسجد الحرام فطافت بالبيت، ثم رجعت فالتقت بالنبي صلى الله عليه وسلم، وهو يرمي الجمرة في صباح يوم النحر، ولم يُنكر عليها ذلك" وهذا يلزم منه =
"أفاض النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر" متفق عليه،
(49)
ويُستحب: أن يدخل البيت فيُكبِّر في نواحيه ويُصلِّي فيه ركعتين بين العمودين تلقاء وجهه، ويدعو الله عز وجل
(50)
(وله تأخيره) أي: تأخير الطواف عن أيام منى؛ لأن آخر وقته غير محدود كالسعي
(51)
(ثم يسعى بين الصفا والمروة إن كان متمتعًا)؛ لأن سعيه أولًا كان للعمرة، فيجب أن يسعى للحج (أو) كان (غيره) أي: غير مُتمتِّع بأن كان قارنًا، أو مفردًا (ولم يكن
أنها طافت بعد نصف ليلة يوم النحر، الثانية: التلازم؛ حيث إنه يلزم من انتهاء وقت المبيت ليلة مزدلفة بمضي ثُلُثي الليل: أن يبدأ وقت طواف الإفاضة بعد ذلك، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تيسير وتوسعة على المسلمين.
(49)
مسألة: يُستحب أن يجعل طواف الإفاضة أو الزيارة في يوم النحر بعد الرمي والحلق أو التقصير؛ للسنة الفعلية؛ حيث إن ذلك قد فعله النبي صلى الله عليه وسلم، فإن قلتَ: لمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث يجعل آخر عمل له في ذلك اليوم هو طواف الإفاضة، فيرجع إلى منى ليستكمل أعمال الحج الأخرى وهو أحزم للأعمال.
(50)
مسألة: يُستحب للحاج: أن يدخل داخل الكعبة -إن استطاع بيسر-، فيُكبِّر، ويدعو بما شاء، وذلك في نواحيها؛ ويصلي داخلها نفلًا بين العمودين تلقاء وجهه إذا دخل من بابها؛ للسنة الفعلية؛ حيث "إنه صلى الله عليه وسلم قد فعل ذلك" لفضل الكعبة وشرفها.
(51)
مسألة: يُباح تأخير طواف الإفاضة إلى آخر أيام الحج؛ للكتاب؛ حيث قال تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} وهذا أمر مطلق في الزمان، فلم يُقيَّد بوقت مُعيَّن فإن قلتَ: لمَ أُبيح ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تيسير على المسلمين.
سعى مع طواف القدوم) فإن كان سعى بعده: لم يُعِدْه؛ لأنه لا يُستحب التطوع بالسعي كسائر الأنساك غير الطواف؛ لأنه صلاة
(52)
(ثم قد حلَّ له كل شيء) حتى
(52)
مسألة: بعد طواف الإفاضة يجب على المتمتع أن يسعى بين الصفا والمروة -على ما سبق وصفه وطريقته في مسائل (34 إلى 42) من باب "طريقة وصفة دخول مكة والطواف والسعي"-، ويجب على القارن والمفرد كذلك إذا لم يسعيا بعد طواف القدوم؛ لقواعد: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي"، وهذا أمر مُطلق، فيقتضي الوجوب، ولفظ "كتب" من صيغ الوجوب، الثانية: السنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم لم يسع إلا سعيًا واحدًا جعله بعد طواف القدوم؛ لكونه صلى الله عليه وسلم قارنًا، ولم يسع بعد طواف الإفاضة، الثالثة: التلازم؛ حيث إن كون الأصل: عدم التطوع بجميع الأنساك -سوى الطواف- يلزم منه: عدم تكرار السعي لنسك واحد، وبناء على ذلك: لا يسعى المفرد إلا مرة واحدة: سواء قبل الوقوف أو بعده، ويلزم من كون المتمتع قد قام بنسكين أن يسعى سعيين هما: سعي للعمرة، وقد سبق فعله بعد طوافه، وسعي للحج يكون بعد طواف الإفاضة، فإن قلتَ: لمَ سُمِّي بطواف الإفاضة والزيارة؟ قلتُ: سُمِّي للإفاضة؛ لكونه يقوم به عند إفاضته من منى إلى مكة، وسمي بالزيارة، لكونه يأتي من منى فيزور البيت، فإن قلتَ: لمَ يُستحب الطواف أكثر من مرة بخلاف سائر المناسك؟ قلتُ: إن الأصل: عدم التطوع بأي واحد من المناسك، ولكن أستثني الطواف فجاز التطوع به وتكراره؛ نظرًا لكون الطواف صلاة، فكما يُتطوع بالصلاة فكذلك الطواف، ويبقى الباقي على الأصل، وهو عدم التطوع به وتكراره.
النساء، وهذا هو التحلُّل الثاني
(53)
(ثم يشرب من ماء زمزم لما أحب ويتضلَّع منه) ويرشُّ على بدنه وثوبه: ويستقبل القبلة، ويتنفَّس ثلاثًا (ويدعو بما ورد) فيقول:"بسم الله، اللهم اجعله لنا علمًا نافعًا، ورزقًا واسعًا، وريًا وشبعًا، وشفاءً من كل داء، واغسل به قلبي، واملأه من خشيتك وحكمتك"
(54)
(ثم يرجع) من مكة بعد
(53)
مسألة: إذا رمى جمرة العقبة، وحلق أو قصَّر، وطاف طواف الإفاضة وسعى -من وجب عليه السعي-: فإنه يحل له كل شيء حتى النساء، وهذا هو التحلُّل الثاني؛ للسنة الفعلية؛ حيث قال ابن عمر:"لم يحلَّ النبي صلى الله عليه وسلم من شيء حرم منه حتى قضى حجه، ونحر هديه يوم النحر، وأفاض بالبيت، ثم حل من كل شيء حرم منه""وكل" من صيغ العموم فتشمل كل أنواع الحلال، ومنها النساء.
(54)
مسألة: إذا فرغ من السعي بين الصفا والمروة -بعد طوافه للإفاضة-: فإنه يُستحب أن يشرب من ماء زمزم، ويتضلَّع منه فيملأ أضلاعه منه بأن يشرب أكثر من حاجته، وينوي بشربه ما أحبَّ أن يُؤتى من الخيرات: سواء الصحة، أو العلم، وأن يكون حال شربه مُستقبلًا للقبلة، وأن يرش على بدنه وثوبه منه، وأن يتنفَّس قليلًا ثم يعود للشرب، وأن يدعو عند شربه قائلًا:"بسم الله، اللهم إني أسألك علمًا نافعًا، ورزقًا واسعًا، وشفاء من كل داء؛ واغسل به قلبي، واملأه من خشيتك وحكمتك"؛ لقواعد: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "ماء زمزم لما شُرب له" وقال: "ماء زمزم طعام طعم" الثانية: السنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم لما شرب من ماء زمزم صبَّ على رأسه منه، الثالثة: قول الصحابي؛ وفعله؛ حيث إن ابن عباس قد أمر رجلًا بأن يتضلع منه وأمر بالتنفُّس ثلاثًا بعد كل شربة منه، وكان يدعو بذلك الدعاء، وكان يستقبل القبلة أثناء شربه إياه، فإن قلتَ: لمَ =
الطواف والسعي (فـ) يُصلِّي ظهر يوم النحر بمنى و (يبيت بمنى ثلاث ليال) إن لم يتعجل، وليلتين إن تعجَّل في يومين،
(55)
ويرمي الجمرات أيام التشريق (فيرمي الجمرة الأولى وتلي مسجد الخيف بسبع حصيات) مُتعاقبات يفعل كما تقدم في جمرة العقبة (ويجعلها) أي: الجمرة (عن يساره ويتأخر قليلًا) بحيث لا يصيبه الحصى (ويدعو طويلًا) رافعًا يديه (ثم) يرمي (الوسطى مثلها) بسبع حصيات، ويتأخر قليلًا، ويدعو طويلًا لكن يجعلها عن يمينه (ثم) يرمي (جمرة العقبة) بسبع كذلك (ويجعلها عن يمينه، ويستبطن الوادي، ولا يقف عندها، يفعل هذا) الرمي للجمار الثلاث على الترتيب والكيفية المذكورين (في كل يوم من أيام التشريق بعد الزوال) فلا يجزئ قبله،
(56)
ولا
استُحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ماء زمزم فيه بركة، فلعله بشربه منه تناله تلك البركة، فيسعد في دنياه وآخرته.
(55)
مسألة: إذا فرغ من طواف الإفاضة والسعي: فإنه يرجع إلى منى، ويُستحب أن يصلي فيها ظهر يوم النحر قصرًا، ويبيت فيها ثلاث ليال: ليلة اليوم الحادي عشر، وليلة اليوم الثاني عشر، وليلة اليوم الثالث عشر، إن كان غير مُتعجِّل، أما إن كان مُتعجِّلًا: فإنه يبيت ليلتين فقط هما: ليلة الحادي عشر، وليلة الثاني عشر؛ للاستقراء؛ حيث إنه قد ثبت من استقراء وتتبع حجة النبي صلى الله عليه وسلم وحجج أصحابه: أنهم كانوا يفعلون ذلك، بدون أن يُنكر بعضهم على بعض.
(56)
مسألة: في اليوم الحادي عشر -وهو: أول يوم من أيام التشريق- يذهب إلى الجمرات الثلاث فيرميها بعد زوال الشمس، ولا يُجزئ قبله، فيبدأ بالجمرة الأولى -وهي التي تلي مسجد الخيف وهي الصغرى، فيرميها بسبع حصيات متعاقبات، ويفعل كما فعل في جمرة العقبة في اليوم العاشر، لكنه يجعل الجمرة الصغرى هذه عن يساره ويتأخر قليلًا عنها، ويدعو كثيرًا رافعًا يديه، ثم يذهب في الحال إلى الجمرة الوسطى فيرميها ويجعلها عن يمينه ويفعل بها كما فعل في =
ليلًا لغير سقاة ورعاة،
(57)
والأفضل: الرمي قبل صلاة الظهر
(58)
ويكون (مستقبل القبلة) في الكل
(59)
(مُرتِّبًا) أي: يجب ترتيب الجمرات الثلاث على ما
الصغرى، ثم يذهب إلى جمرة العقبة، فيرميها ويفعل كما فعل في رميها في اليوم العاشر، ولا يقف عندها، ثم يرمي الجمرات الثلاث في اليوم الثاني عشر كما فعل فيها في اليوم الحادي عشر، ثم يُغادر منى إن كان مُتعجِّلًا، أما إن كان غير مُتعجِّل وبات ليلة الثالث عشر: فيجب عليه أن يرمي الجمرات الثلاث في اليوم الثالث عشر كما فعل في اليوم الحادي والثاني عشر؛ للسنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد فعل ذلك بعد زوال الشمس -كما قالت عائشة رضي الله عنها وقال: "خذوا عني مناسككم"، ويلزم منه: عدم جواز الرمي قبل الزوال في أيام التشريق.
(57)
مسألة: يُجزئ رمي الجمار الثلاث في أيام التشريق في الليل لجميع الناس؛ للقياس: بيانه: كما يجوز الوقوف بعرفة في ليلة العاشر من ذي الحجة فكذلك يجوز رمي الجمار الثلاث في الليل أيام التشريق، والجامع: دفع الضرر عن المسلمين، وهو المقصد الشرعي منه، فإن قلتَ: لا يُجزئ الرمي في الليل هنا إلا لمن يقوم بخدمة الحجاج كالسقاة، والرعاة، والجند ونحوهم، وهو ما ذكره المصنف هنا قلتُ: لم أجد دليلًا على تخصيص هؤلاء بذلك.
(58)
مسألة: يُستحب أن يرمي قبل صلاة الظهر بعد زوال الشمس؛ للسنة الفعلية؛ "حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد فعل ذلك" فإن قلتَ: لمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: لظهور النهار في هذا الوقت ولأنه أحزم في العمل.
(59)
مسألة: يُستحب أن يكون حال رميه للجمار مستقبلًا للقبلة؛ للسنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد فعل ذلك، فإن قلتَ: لمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: لكونها أشرف الجهات، وقد سبق.
تقدَّم
(60)
(فإن رماه كله) أي: رمى حصى الجمار السبعين كله (في) اليوم (الثالث) من أيام التشريق: (أجزاء) الرمي أداءً؛ لأن أيام التشريق كلها وقت للرمي، (ويُرتبه بنيته) فيرمي لليوم الأول بنيته، ثم للثاني مُرتَّبًا، وهُلمَّ جَّرا كالفوائت من الصلاة،
(61)
(فإن أخره) أي: الرمي (عنه) أي: عن ثالث أيام التشريق: فعليه
(60)
مسألة: يُشترط الترتيب في رمي الجمار: بأن يرمي الجمرة الأولى والصغرى، ثم بعدها يرمي الوسطى، ثم الكبرى، وهي جمرة العقبة، فإن قدم الوسطى على الصغرى، أو جمرة العقبة على الوسطى أو نحو ذلك: فلا يُجزئ الرمي، ويجب أن يُعيده؛ لقاعدتين: الأولى: السنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد رماها بذلك الترتيب، وقال:"خذوا عني مناسككم" فيلزم اشتراطه، الثانية: الإجماع؛ حيث إن الصحابة قد رموها بهذا الترتيب، فيلزم اشتراطه، فإن قلتَ: لمَ اشتُرط ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ترتيب العمل يُسهِّله على العامل. [فرع]: لا تشترط الموالاة في رمي الجمار؛ فيجوز أن يرمي الصغرى، ثم يتريث قليلًا، ثم يرمي الوسطى، ثم يتريث قليلًا، ثم يرمي الكبرى؛ للسنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد رمى الجمار، وقال:"خذوا عني مناسككم" وهذا مطلق في الوقت، فلم يُفهم أنه رمى الوسطى بعد فراغه من الصغرى مباشرة؛ لعدم ما يدل عليه، فيكون اشتراط الموالاة تقييد بلا مُقيِّد، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن عدم تقييد الشيء بالموالاة فيه تيسير على العباد.
(61)
مسألة: يجوز أن يرمي جميع الحصى السبعين في اليوم الثالث عشر، ويكون أداءً، بشرط: أن يُرتِّب هذا الرمي، وينوي كل يوم برميه هذا: فينوي أنه في اليوم العاشر فيرمي جمرة العقبة فيرميها بسبع، ثم ينوي أنه في اليوم الحادي عشر فيرمي الجمرات الثلاث بإحدى وعشرين، كل واحدة يرميها بسبع، ثم ينوي أنه في اليوم الثاني عشر فيرميها بإحدى وعشرين كذلك، ثم ينوي أنه في =
دم
(62)
(أو لم يبت بها) أي: بمنى: (فعليه دم)؛ لأنه ترك نسكًا واجبًا،
(63)
ولا مبيت على سُقاة ورُعاة،
(64)
ويخطب الإمام ثاني أيام التشريق خطبة يُعلِّمهم فيها حكم
اليوم الثالث للمتأخر فيرميها بإحدى وعشرين، فيكون مجموع ما رمى به: سبعين حصاة؛ للقياس، وهو من وجهين: أولهما كما يجوز تأخير الوقوف بعرفة إلى آخر وقته، ويكون أداءً، فكذلك يجوز تأخير الرمي إلى أخر وقته -؛ حيث إن أيام التشريق كلها وقت رمي- والجامع: تأخير الواجب إلى آخر وقته، ثانيهما: كما يجب ترتيب الفوائت من الصلاة بنية كل فائتة، فكذلك يجب ترتيب الرمي بنية كل يوم، والجامع: النية والترتيب شرطان لصحة فعل ما فات.
(62)
مسألة: يجب أن تُرمى الجمار في أيام التشريق، فمن أخَّرها، أو أخَّر شيئًا منها عن اليوم الثالث عشر لغير عذر: فعليه دم، وهو ذبح شاة؛ للتلازم؛ حيث إن وقت الرمي ينتهي باليوم الثالث عشر، فيلزم من تركه للرمي فيه: وجوب الدم عليه؛ لكونه ترك نسكًا لغير عذر، فإن قلتَ: لمَ وجب ذلك؟ قلت: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حثُّ للناس على فعل ما شُرع في وقته.
(63)
مسألة: يجب المبيت بمنى ليلة الحادي عشر، وليلة الثاني عشر، ومن ترك ذلك لغير عذر: فعليه دم، وهو ذبح شاة؛ للتلازم؛ حيث إن المبيت ليالي منى نسك، فيلزم من تركه: وجوب الدم؛ لقول ابن عباس رضي الله عنهم: "من ترك نسكًا فعليه دم".
(64)
مسألة: لا يجب المبيت ليالي منى على السقاة، والرعاة، ونحوهم ممن يقومون بخدمة الحجاج كالجند، أو المعذورين كالمرضى والخائفين على أهلهم أو مالهم؛ للسنة القولية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد رخَّص للسقاة والرعاة وأذن لهم بعدم المبيت، ومن ذكرناهم مثل هؤلاء؛ لعدم الفارق من باب "مفهوم الموافقة" أو من باب "القياس في الرُّخص" وهو جائز، وقد بيّنتهُ في كتابي:"الرخص الشرعية وإثباتها بالقياس".
التعجيل، والتأخير والتَّوديع
(65)
(ومن تعجَّل في يومين: خرج قبل الغروب) ولا إثم عليه، وسقط عنه رمي اليوم الثالث ويدفن حصاه (وإلا) يخرج قبل الغروب:(لزمه المبيت والرمي من الغد) بعد الزوال، قال ابن المنذر: وثبت عن عمر رضي الله عنه أنه قال: "من أدركه المساء في اليوم الثاني فليُقم إلى الغد حتى ينفر مع الناس"،
(66)
(65)
مسألة: يُستحب للإمام أو نائبه أن يُلقي خطبة على الحجاج في اليوم الثاني عشر يُبيِّن فيها أحكام ما بقي من أعمال الحج كحكم التعجيل، والتأخير، وطريقة توديع البيت؛ للسنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد فعل ذلك، فإن قلتَ: لمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ وهي واضحة.
(66)
مسألة: إذا أراد الحاج أن يتعجَّل -وهو: أن يرمي الحادي عشر، والثاني عشر فقط-: فله ذلك بشرط: أن يخرج من منى قبل غروب شمس اليوم الثاني عشر، فهذا يسقط عنه رمي اليوم الثالث عشر، أما إن غابت شمس اليوم الثاني عشر وهو لم يخرج من منى: فيجب عليه أن يبيت فيها، وأن يرمي في اليوم الثالث عشر بعد الزوال، لقاعدتين: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى} واليوم ينتهي بغروب الشمس، ونفي الإثم يدل على الإباحة الثانية: قول الصحابي؛ حيث قال عمر رضي الله عنه: "من أدركه المساء في اليوم الثاني عشر: فليُقم إلى الغد حتى ينفر الناس" والمساء يبدأ من غروب الشمس، وهذا الأمر مطلق، فيقتضي الوجوب، فإن قلتَ: لمَ شُرع التعجيل؟ قلتُ: لمراعاة ظروف وأحوال الناس، تنبيه: قوله: "ويدفن حصاه" يقصد: أن المتعجِّل يدفن حصى اليوم الثالث عشر وهي: إحدى وعشرون حصاة تحت الأرض قلتُ: لم أجد دليلًا قويًا على ذلك، بل يُلقيها. [فرع]: يُستحب للإمام أو نائبه، ولجميع الحجاج أن يبقوا في اليوم الثالث عشر فيرمون فيه؛ لقاعدتين: الأولى: السنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم =
(فإذا أراد الخروج من مكة) بعد عودته إليها (لم يخرج حتى يطوف للوداع) إذا فرغ من جميع أموره؛ لقول ابن عباس: "أُمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خَفِّف عن المرأة الحائض" متفق عليه، ويُسمَّى طواف "الصَّدَر"
(67)
(فإن أقام) بعد طواف الوداع (أو اتجر بعده: أعاده) إذا عزم على الخروج وفرغ من جميع أموره؛
قد فعل ذلك، الثانية: فعل الصحابي؛ حيث إن أكثر الصحابة رضي الله عنهم قد فعلوا ذلك، فإن قلتَ: لمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تزوُّد من الخيرات، وتكثير من الطاعات وهم قدوة في ذلك.
(67)
مسألة: إذا فرغ من رمي الجمار -على ما سبق وصفه- فإنه يتوجَّه إلى مكة ويُقيم فيها ما شاء، فإذا أراد الخروج منها: وجب عليه أن يطوف بالبيت طواف الوداع بعد أن يفرغ من جميع أموره وتعلُّقاته، ويسقط ذلك عن الحائض والنفساء؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال ابن عباس: "أُمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خُفِّف عن المرأة الحائض" والآمر هنا هو النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذا هو المفهوم من عبارة الصحابي، والأمر هنا مُطلق، فيقتضي الوجوب، ونفى الوجوب عن الحائض؛ لأن الاستثناء من الإثبات نفي، و"النفساء" مثل "الحائض"؛ لعدم الفارق؛ نظرًا لخروج الدم منهما، فيكون من باب "مفهوم الموافقة"، أو من باب "القياس في الرخص" الثانية: السنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد ارتحل من الأبطح فمرَّ بالبيت فطاف به، ثم سار مُتوجِّهًا إلى المدينة من أسفل مكة من ثنية "كُدَي" فإن قلتَ: لمَ وجب طواف الوداع؟ قلتُ: ليكون آخر عهده بالبيت كما ورد، كما يفعل الزائر لعزيز إذا غادره فائدة: سُمِّي طواف الوداع بطواف الصَّدَر -بفتح الراء- لأن الصَّدَر من كل شيء: الرجوع، والانصراف عن الورد وعن كل أمر، وهو يعني: صدور الناس من حجهم - كما جاء في اللسان (4/ 448).
ليكون آخر عهده بالبيت كما جرت العادة في توديع المسافر أهله وإخوانه
(68)
(وإن تركه) أي: طواف الوداع (غير حائض: رجع إليه) بلا إحرام إن لم يبعد عن مكة، ويحرم بعمرة إن بَعُد عن مكة، فيطوف ويسعى للعمرة، ثم للوداع، (فإن شقَّ) الرجوع على من بَعُد عن مكة دون مسافة قصر، أو بَعُد عنها مسافة قصر فأكثر: فعليه دم، ولا يلزمه الرجوع إذًا (أو لم يرجع) إلى الوداع:(فعليه دم)؛ لتركه نسكًا واجبًا
(69)
(وإن أخَّر طواف الزيارة) -ونصُّه: "أو القدوم"- (فطافه عند الخروج
(68)
مسألة: إذا طاف طواف الوداع، ثم أقام طويلًا كيوم مثلًا، أو اشتغل بتجارة وقتًا طويلًا: فيجب عليه أن يُعيد طواف الوداع، أما إن أقام بعد طوافه هذا وقتًا قصيرًا كساعات مثلًا، أو اشترى شيئًا وهو في طريقه للخروج من مكة، أو قضى حاجة، أو دخل منزلًا لذلك، أو استراح قليلًا في أطراف مكة، أو صلى فرضًا أو فرضين فيها: فلا شيء عليه، ولا يُعيد طواف الوداع؛ للسنة القولية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد "أمر بأن يكون المسلم آخر عهده بالبيت" ومن أقام بعد طوافه وقتًا طويلًا لم يكن آخر عهده بالبيت، فلزمه إعادته ليُحقِّق ذلك، ومن أقام بعده وقتًا قصيرًا: فإن البيت لا زال في ذاكرته ولا يبعد عادة.
(69)
مسألة: إن خرج من مكة قبل طواف الوداع: فإنه يرجع ويطوفه بلا إحرام إن لم يبعد عن مكة مسافة قصر -وهي (82) كم- أما إن بَعُد عنها مسافة قصر: فإنه يحرم من أحد المواقيت بعمرة، فيأتي البيت فيطوف ويسعى ويحلق أو يُقصِّر، ثم يُحل، ثم يطوف طواف الوداع عن الحج والعمرة، فإن شقَّ عليه ذلك، أو لم يُرد هو أن يرجع لأي سبب: فعليه دم وهو ذبح شاة: سواء ابتعد عن مكة مسافة قصر أو لا؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كون طواف الوداع واجبًا: الإتيان به أو جبرانه بدم؛ لكونه قد ترك نسكًا، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ وهي واضحة هنا في مُراعاة أحوال المسلم.
أجزأ عن) طواف (الوداع)؛ لأن المأمور به: أن يكون آخر عهده بالبيت وقد فعل، فإن نوى بطوافه الوداع: لم يُجزئه عن طواف الزيارة،
(70)
ولا وداع على حائض
(70)
مسألة: إذا أخِّر طواف الإفاضة -وهو: طواف الزيارة- فطافه عندما أراد الخروج من مكة: فإنه يُجزئ عن طواف الوداع، ثم يسعى سعي الحج ثم يغادر، بشرط: أن ينوي بذلك الطواف أنه طواف الإفاضة، أما إن نواه على أنه طواف الوداع: فإنه لا يُجزئه عن طواف الإفاضة؛ للتلازم؛ حيث إن المقصد من طواف الوداع: أن يجعل آخر عهده بالبيت، فيلزم من تأخيره لطواف الإفاضة إلى قبيل مغادرته مكة: أن يجزئه عن الوداع؛ لكونه قد حقَّق ذلك المقصد بذلك ويدخل الواجب -وهو طواف الوداع- بالركن -وهو طواف الإفاضة- لذا يلزم من عدم نيته وقصده أنه عن طواف الإفاضة: أن لا يصح حجه أصلًا؛ لإخلاله بركن من أركانه، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن هذا فيه تيسير على العباد، خاصة في هذه الأزمنة، فإن قلتَ: إنه إذا طاف طواف الإفاضة في آخر أعمال الحج، ثم سعى -من وجب عليه السعي-: فإنه يكون قد اشتغل بشيء بعد هذا الطواف فيلزمه: أن يطوف طوافًا للوداع بعد سعيه؛ يجعل آخر عهده بالبيت حقيقة كما ورد في الحديث، قلتُ: إن السعي بعد طوافه لا يُؤثر؛ لكونه ضرورة، ولكونه لا يستغرق ساعة أو ساعتين، وهذا ليس بالوقت الطويل الذي يُزيل ذاكرة البيت عن ذهنه، ولكون طوافه للوداع بعد السعي فيه مشقة عظيمة ليست من عادة الشارع أن يأتي بها، وهذا ثابت من استقراء أحكام الشريعة فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "الخلاف في السعي بعد الطواف هل يُعتبر فاصلًا مؤثرًا يلزم منه بعد العهد بالبيت أو لا؟ " فعندنا: لا، وعندهم: نعم.
ونفساء إلا أن تطهر قبل مُفارقة البنيان
(71)
(ويقف غير الحائض) والنفساء بعد الوداع في الملتزم -وهو: أربع أذرع- (بين الركن) أي: الذي به الحجر الأسود (والباب) ويُلصق به وجهه: وصدره، وذراعيه، وكفيه مبسوطتين (داعيًا بما ورد) ومنه:"اللهم هذا بيتك، وأنا عبدك وابن عبدك وابن أمتك، حملتني على ما سخَّرت لي من خلقك، وسيَّرتني في بلادك حتى بلَّغتني بنعمتك إلى بيتك، وأعنتني على أداء نسكي، فإن كنت رضيت عني فازدد عني رضى، وإلا: فمن الآن قبل أن تنأى عن بيتك داري، وهذا أوان انصرافي إن أذنت لي، غير مستبدل بك، ولا ببيتك، ولا راغب عنك، ولا عن بيتك، اللهم فأصحبني العافية في بدني، والصحة في جسمي، والعصمة في ديني، وأحسن مُنقلبي، وارزقني طاعتك ما أبقيتني، وأجمع لي بين خيري الدنيا والآخرة، إنك على كل شيء قدير" ويدعو بما أحبَّ، ويصلي على
(71)
مسألة: الحائض والنفساء لا تطوفان طواف الوداع بشرط: عدم طهارتهما قبل مُفارقة بنيان مكة، فإن طهرتا قبل ذلك: فعليهما أن يغتسلا، ويرجعا إلى البيت، ويطوفان طواف الوداع، فإن لم يفعلا والحالة هذه: فعلى كل واحدة منهما دم، وهو ذبح شاة؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث "إنه صلى الله عليه وسلم قد خفَّف عن الحائض وأسقط عنها طواف الوداع" والنفساء مثلها، وقد سبق في مسألة (67)، الثانية: القياس، بيانه: كما يجب طواف الوداع على الطاهرة، وإن تركته فعليها دم، فكذلك الحائض والنفساء اللتان قد طهرتا قبل مفارقة بنيان مكة مثلها، والجامع: الطهورية وعدم المشقة، فإن قلتَ: لمَ سقط الطواف عن الحائض والنفساء؟ قلتُ: لاشتراط الطهارة في كل طواف، ولحماية المسجد من نجاستهما؛ حيث إنه يسقط بعض الدماء منهما غالبًا عند الحركة.
النبي صلى الله عليه وسلم، ويأتي الحطيم أيضًا -وهو تحت الميزاب- فيدعوا،
(72)
ثم يشرب من ماء زمزم، ويستلم الحجر ويُقبِّله، ثم يخرج
(73)
(وتقف الحائض) والنفساء (ببابه) أي: باب المسجد (وتدعو بالدعاء) الذي سبق
(74)
(وتُستحب زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبري صاحبيه) رضي الله عنهم؛ لحديث: "من حج فزار قبري بعد وفاتي فكأنما زارني في حياتي"
(72)
مسألة: إذا فرغ من طواف الوداع -غير الحائض والنفساء-: فيُستحب أن يقف بين الركن الذي الحجر الأسود، وباب الكعبة إن استطاع، فيدعو بما شاء، ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم؛ لقاعدتين: الأولى: السنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد فعل ذلك، الثانية: فعل الصحابي؛ حيث إن ابن عباس كان يفعل ذلك، وكان يقول:"لا يلتزم ما بينهما أحد سأل الله شيئًا إلا أعطاه إياه" فإن قلتَ: لمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن هذا المكان يُعتبر من الأمكنة التي تستجاب الدعوة فيها، وهو ما أشار إليه ابن عباس، فإن قلتَ: لمَ سُمِّي هذا المكان بالملتزم؟ قلتُ: لأن الناس يلتزمونه للدعاء، فإن قلتَ: لمَ سُمِّي بالحطيم؟ قلتُ: لأن الناس يزدحمون للدعاء فيه، ويُحطّم بعضهم بعضًا، وقيل: هو: ما تحت الميزاب.
(73)
مسألة: يُستحب لمن أراد مغادرة مكة أن يشرب من ماء زمزم، ويستلم الحجر الأسود ويُقبِّله قبلة الوداع، هذا إن قدر على ذلك؛ للسنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد فعل ذلك، فإن قلتَ: لمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: ليكون آخر عهده بالبيت حقيقة، وليستفيد من ماء زمزم كما سبق.
(74)
مسألة: يُستحب للحائض والنفساء أن تقفا عند باب من أبواب المسجد الحرام من خارج، وتدعو بما شاءت، ثم تغادر مكة كغيرها؛ للمصلحة، حيث إن ذلك يكون بمنزلة من دعا بين الركن الذي فيه الحجر الأسود والباب، فيُرجى أن لا يحرمها الله من الإجابة، وفيه حماية المسجد من نجاستها.
رواه الدارقطني، فيُسلِّم عليه مُستقبلًا له، ثم يستقبل القبلة، ويجعل الحجرة عن يساره ويدعو بما أحب،
(75)
ويحرم الطواف بها،
(76)
ويُكره التمسُّح بالحجرة، ورفع
(75)
مسألة: يُستحب السفر إلى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة، فيقوم بعدما يُصلِّي فيه بالسلام على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى صاحبيه سلامًا عاديًا لا مبالغة فيه، وتكون هذه الزيارة تبعًا لذهابه للصلاة في مسجده صلى الله عليه وسلم، ويحرم أن يكون السفر لأجل زيارة قبر من القبور، سواء كان لنبي أو لغيره؛ للسنة القولية؛ وهي من وجهين: أولهما: قوله صلى الله عليه وسلم: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها" والأمر بعد النهي: للإباحة، فأباح زيارة القبور، ثانيهما: قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تشدُّ الرحال إلا لثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى" فنهى أن يُسافر المسلم إلا لهذه المساجد؛ للصلاة فيها، أما السفر لزيارة شيء من القبور فقد نهى الشارع عنه وأثبت تحريمه؛ لأن الاستثناء من النفي إثبات فأثبت زيارة المساجد، لا القبور، فإن قلتَ: لمَ حُرِّم السفر لزيارة القبور؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه منع لبعض البدع التي تحدث من خلال هذا السفر لأجلها، فإن قلتَ: إذا فرغ من حجه: فإنه يُستحب له أن يزور قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبري صاحبيه في المدينة وهو ما ذكره المصنف هنا؛ للسنة القولية؛ حيث روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من حج فزار قبري بعد وفاتي فكأنما زارني في حياتي" قلتُ: هذا الحديث ضعيف عند أكثر أئمة الحديث، وقال بعضهم: إنه موضوع، ولا يُحتج بمثل ذلك، فإن قلتَ: يُستحب أن يستقبل القبلة أثناء السلام عند قبره صلى الله عليه وسلم جاعلًا الحجرة عن يساره، ويدعو وهو ما ذكره المصنف هنا قلتُ: لم أجد دليلًا على ذلك، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "الخلاف في صحة حديث: "من حج فزار قبري
…
" فعندنا: لم يصح، وعندهم: صحيح.
(76)
مسألة: يحرم الطواف بالحجرة التي فيها قبر النبي صلى الله عليه وسلم؛ للإجماع، ومستنده المصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تشبيه بالكعبة، وهذه مبالغة لا دليل عليها.
الصوت عندها
(77)
وإذا أدار وجهه إلى بلده قال: "لا إله إلا الله آيبون تائبون عابدون، لربنا حامدون، صدق الله وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده"
(78)
(وصفة العمرة: أن يُحرم بها من الميقات) إن كان مارًّا به (أو من أدنى الحل) كالتنعيم (من مكي ونحوه) ممن بالحرم و (لا) يجوز أن يُحرم بها (من الحرم)؛ لمخالفة أمره صلى الله عليه وسلم، وينعقد وعليه دم (وإذا طاف وسعى و) حلق، أو (قصَّر: حلَّ)؛ لإتيانه بأفعالها
(79)
(وتباح) العمرة (كل وقت) فلا تكره بأشهر الحج، ولا يوم
(77)
مسألة: يُكره التمسُّح بجدران الحجرة التي فيها قبر النبي صلى الله عليه وسلم، ويُكره أن يرفع صوته عندها؛ لقاعدتين: الأولى: القياس، بيانه: كما يُكره رفع الصوت فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم وهو حي كما نهى الشارع عنه في قوله: "لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي"، فكذلك ما نحن فيه والجامع: التوقير والاحترام في كل، وهو المقصد منه، الثانية: المصلحة؛ حيث إن التمسُّح بجدرانها فيه مبالغة مما قد يؤدِّي إلى البدع المحرمة، فدفعًا لذلك: كره.
(78)
مسألة: يُستحب للمسلم إذا وجَّه وجهه إلى بلده راجعًا من الحج والعمرة أن يقول: "لا إله إلا الله، آيبون، تائبون، عابدون، لربنا حامدون، صدق الله وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده"؛ للسنة الفعلية: حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد قال ذلك حينما وجه وجهه للرجوع من حجة الوداع، فإن قلتَ: لمَ استُحبَّ ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه ذكر الله، وشكر على أفضاله ونعمه التي لا تُعدُّ ولا تُحصى، ومنها تفضُّله بتيسير الحج.
(79)
مسألة: صفة العمرة: أن يُحرم بها من ميقات من المواقيت الخمسة -كما سبق بيانها في مسألة (2) من باب "المواقيت"- هذا إن كان مارًّا بأحدها، أما من كان دونها وأهل مكة: فإنهم يُحرمون من أدنى الحلِّ- وهو التنعيم، ثم يأتي
النحر، أو عرفة، ويُكره الإكثار والموالاة بينها باتفاق السلف قاله في "المبدع"،
(80)
إلى مكة فيطوف بالبيت ثم يسعى، ثم يحلق شعره، أو يُقصِّره كما سبق تفصيله؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد أمر عائشة رضي الله عنها أن تخرج إلى التنعيم حينما أرادت أن تعتمر والأمر مطلق فيقتضي الوجوب، الثانية: السنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد فعل تلك الصفة في عُمَره. [فرع]: إذا أحرم من الحرم للعمرة، ولم يخرج إلى الحل: فإنه ينعقد إحرامه، ويصح وتصح عمرته، لكن يجب عليه دم، وهو ذبح شاة، تقسَّم على فقراء مكة؛ للقياس؛ بيانه: كما أنه لو أحرم بالحج أو العمرة بعد أن جاوز الميقات: فعليه دم، فكذلك إذا أحرم بالحرم للعمرة فعليه ذلك، والجامع: أن كلًا منهما ترك واجبًا -وهو: الإحرام من الميقات- فإن قلتَ: لمَ صحَّت العمرة مع أنه لم يُحرم من الميقات؟ قلتُ: لأن أركان العمرة -وهي: نية الإحرام والطواف، والسعي- قد توفَّرت، فيلزم من ذلك صحَّتها، وترك الواجب يُجبر بدم فإن قلتَ: لمَ وجب جبرانه بذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك يُكمِّل ما نقص من عمرته.
(80)
مسألة: يُباح أن يعتمر المسلم في جميع أوقات السنة، ويُكررها ويوالي بينها، ولا فرق بين أوقات الحج وغيرها في ذلك، فتجوز حتى في يوم النحر، أو يوم عرفة لمن لم يكن مُلبِّيًا بحج؛ للسنة القولية؛ وهي من وجهين: أولهما: أنه صلى الله عليه وسلم قد أمر بها وحثَّ عليها، دون تقييد ذلك بزمن معين، ومن ذلك قوله:"العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما" وهذا يلزم منه جواز تكرارها والموالاة بينها، ثانيهما: أنه صلى الله عليه وسلم قد أمر عائشة رضي الله عنها بأن تعتمر وتحرم بها من التنعيم في أيام الحج، فإن قلتَ: لمَ أُبيح ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن تقييدها بوقتٍ مُعيَّن فيه مشقة وضيق يلحق بعض الناس، فدفعًا لذلك: أُطلقت في الأزمان، فإن قلتَ: إن الإكثار منها والموالاة بينها مكروه، وهو ما ذكره المصنف هنا؛ للسنة الفعلية: حيث إنه صلى الله عليه وسلم كان يعتمر كل سنة بعمرة واحدة، ولم يُكرِّر =
ويُستحب تكرارها في رمضان؛ لأنها تعدل حجة،
(81)
(وتجزئ) العمرة من التنعيم وعمرة القارن (عن) عمرة (الفرض) التي هي: عمرة الإسلام
(82)
(وأركان الحج)
عمرتين بسنة واحدة قلتُ: يُحتمل أنه صلى الله عليه وسلم لم يُكرِّر ذلك؛ لاشتغاله بالدعوة إلى الله، واستقبال الوفود، ويحتمل أن ظروفه وأحواله الشخصية منعت من ذلك، ويُحتمل أنه لو اعتمر كل شهر مثلًا لاتبعه بعض الناس، تأسيًا به ومحبَّة في مرافقته، وهذا يشق عليهم، وإذا تطرق الاحتمال إلى الدليل بطل به الاستدلال، فلم يكن تركه لذلك دالًا على الكراهية؛ فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض السنة الفعلية والسنة القولية" فنعمل بالسنة القولية؛ لضعف السنة الفعلية؛ نظرًا لتطرق الاحتمال إليها، وهم عملوا بالفعلية؛ لقوتها عندهم.
(81)
مسألة: تُستحب العمرة في رمضان، وتكرارها فيه؛ للسنة القولية؛ حيث قال: صلى الله عليه وسلم: "العمرة في رمضان تعدل حجة" وهذا يكفي في فضلها، فإن قلتَ: لمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: لاجتماع فضل الزمان -وهو شهر رمضان- وفضل المكان -وهو المسجد الحرام- فإن قلتَ: إن تكرار العمرة في أشهر الحج أفضل من تكرارها في رمضان؛ للسنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد كرر الاعتمار في أشهر الحج، ولم يكن الله يختار لنبيه إلا الأفضل، قلتُ: إن السنة القولية مقدَّمة على السنة الفعلية إذا تعارضتا، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض السنة القولية مع الفعلية" فقدَّمنا: القولية، وقدَّموا؛ الفعلية.
(82)
مسألة: إذا اعتمر المسلم عمرة صحيحة: فإنها تُجزئ عن عمرة الفرض، وهي عمرة الإسلام: سواء أحرم بها مع الحج -وهو المتمتع والقارن- أو أحرم بها منفردة من أي ميقات من المواقيت الخمسة السابقة، أو خرج من مكة إلى التَّنعيم؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم لإحدى زوجاته لما =
أربعة: (الإحرام) الذي هو نية الدخول في النسك؛ لحديث: "إنما الأعمال بالنيات"(والوقوف) بعرفة؛ لحديث: "الحج عرفة"(وطواف الزيارة)؛ لقوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (والسعي)؛ لحديث: "اسعوا؛ فإن الله كتب عليكم السعي" رواه أحمد
(83)
(وواجباته) سبعة: (الإحرام من الميقات المعتبر له) وقد تقدَّم
قرنت وطافت: "لقد حللتِ من حجَّكِ وعمرتك" حيث يلزم منه أن العمرة المقرونة بالحج تكفي عن الفرض، الثانية: التلازم، حيث إن تمام العمرة بأركانها وواجباتها: يلزم منه صحة العمرة بصرف النظر عن موضع ووقت الإحرام بها من الحل، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تيسير على الناس.
(83)
مسألة: أركان الحج -وهي: التي لا يصح الحج شرعًا إلا بها، ولا تسقط بعذر ولا بغير عذر ولا يُجبر بشيء- أربعة: أولها: الإحرام، وهو نية الدخول في النسك الذي يُريد الدخول فيه من تمتع أو قِران، أو إفراد، فلا يصح بلا نية -كما سبق في مسألتي (1 و 12) من مسائل باب "الإحرام وكيفيته"-، ثانيها: الوقوف بعرفة ولو لحظة من ليل أو نهار في اليوم التاسع من ذي الحجة من طلوع الشمس منه إلى طلوع الفجر من اليوم العاشر منه، فمن لم يقف بعرفة: فلا حجَّ له -كما سبق في مسألة (4 و 8) -، ثالثها: طواف الإفاضة، وهو طواف الزيارة، فلا صحة لحج بدون هذا الطواف -كما سبق في مسألة (47) -، رابعها: السعي بين الصفا والمروة، فمن لم يسع لا صحة لحجه -كما سبق في مسألة (52) -، فإن قلتَ: لمَ كانت تلك الأعمال أركانًا؟ قلتُ: لأن الشارع طلب فعلها طلبًا جازمًا بأدلة قطعية، ولو دققت النظر في تلك الأدلة لوجدتها كذلك، فلو طلبها الشارع طلبًا جازمًا بدليل ظني لكانت واجبات، ولو طلبها الشارع طلبًا غير جازم لكانت مستحبَّات وقد فصَّلتُ الكلام عن ذلك في كتبي:"الإتحاف" و"المهذب" و"الجامع" و"الواجب الموسَّع".
(والوقوف بعرفة إلى الغروب) على من وقف نهارًا (والمبيت لغير أهل السقاية والرعاية بمنى) ليالي أيام التشريق على ما مرَّ (و) المبيت بـ (مُزدلفة إلى بعد نصف الليل) لمن أدركها قبله على غير السقاة والرعاة (والرمي) مُرتَّبًا (والحلاق) أو التقصير (والوداع،
(84)
والباقي) من أفعال الحج، وأقواله السابقة (سُنَن) كطواف
(84)
مسألة: واجبات الحج -وهي التي يصح الحج بدونها، ولكنه ناقص يُجبر بدم وهو ذبح شاة- سبعة: أولها: أن يحرم بالحج من أحد المواقيت المكانية -كما سبق في مسألة (1 وما بعدها) من مسائل باب "المواقيت"-، ثانيها: أن الذي وقف بعرفة نهارًا يجب عليه أن يستمر حتى تغرب الشمس، -كم سبق في مسألة (9) -، ثالثها: أن يبيت بمزدلفة ليلة العاشر إلى ذهاب ثُلُثي الليل، أو أكثر من نصفه عند بعضهم -كما سبق في مسألة (15) -، وهذا لغير السقاة والرعاة ومن في خدمة الحجاج كما سبق في مسألة (16)، رابعها: أن يبيت ليلة الحادي عشر والثاني عشر في منى -كما سبق في مسألة (63) -، وهذا لغير السقاة أو الرعاة كما سبق في مسألة (4)، خامسها: أن يرمي جمرة العقبة في اليوم العاشر، ويرمي الجمرات الثلاث في أيام التشريق فيما بعده -كما سبق في مسألة (23) وما بعدها، و (56) وما بعدها، سادسها: أن يحلق أو يُقصِّر -كما سبق في مسألة (36) وما بعدها، سابعها: أن يطوف طواف الوداع- كما سبق في مسألة (67)، فإن قلتَ: لمَ كانت تلك واجبات ولم تكن مُستحبَّات؟ قلتُ: لأن الشارع قد طلب فعلها طلبًا جازمًا بدليل ظني، والغالب في الأدلة ذلك، فإن قلتَ: لمَ صح الحج مع عدم فعله لواجب؟ قلتُ: لأن الحج قد استكمل شروطه وأركانه، ولكنه نقص نُقصانًا لا يؤثِّر على أساسياته، فصلح ذبح الدم لأن يجبر ذلك، كما أن سجود السهو يجبر واجبًا قد تركه في الصلاة، [فرع]: إن لم يجد دمًا -وهو ذبح الشاة-: فإنه يصوم =
القدوم، والمبيت بمنى ليلة عرفة، والاضطباع، والرَّمل في موضعهما، وتقبيل الحجر، والأذكار، والأدعية، وصعود الصفا والمروة
(85)
(وأركان العمرة) ثلاثة: (إحرام وطواف، وسعي) كالحج
(86)
(وواجباتها: الحلاق) أو التقصير (والإحرام من ميقاتها)؛ لما تقدَّم
(87)
(فمن ترك الإحرام: لم ينعقد نسكه) حجًا كان أو عمرة
عشرة أيام، ثلاثة في الحج وسبعة إذا رجع؛ قياسًا على المتمتع إذا لم يجد هديًا، وقد سبق بيان ذلك.
(85)
مسألة: سنن ومستحبات الحج -وهي التي يصح الحج بدونها، وبدون نقصان، لكن إن فعلها الحاج فله أجر، وإن تركها فلا إثم ولا شيء عليه- وهي: ما عدا أركان الحج الأربعة، وما عدا واجباته السبعة، وهذه المستحبات قد بيِّنتُ مسائلها بالتفصيل مع قواعدها ومقاصدها في أبواب "المواقيت" و"الإحرام وكيفيته" و"محظورات الإحرام" و"طريقة دخول مكة والطواف والسعي" و"صفة الحج والعمرة" ولا داعي لتكرارها، فإن قلتَ: لمَ كانت تلك مُستحبات وسُنن؟ قلتُ: لأن الشارع قد طلب فعلها طلبًا غير جازم، أو وُجدت قرينة صرفت ذلك من الوجوب إلى الاستحباب.
(86)
مسألة: أركان العمرة -وهي التي لا تصح العمرة إلا بها- ثلاثة: أولها: الإحرام، وهو نية الدخول في نسك العمرة، ثانيها: الطواف بالبيت، ثالثها: السعي بين الصفا والمروة، فمن لم ينوِ، أو لم يطف، أو لم يسع: فلا عمرة له، وهي في ذلك كالحج تمامًا -كما سبق في مسألة (83).
(87)
مسألة: للعمرة واجبان: أولهما: أن يحرم من ميقات من المواقيت الخمسة إن كان مارًّا بها، أو من أدنى الحل -وهو التنعيم- إن كان من أهل مكة ومن في حكمهم، ثانيهما: أن يحلق أو يُقصِّر، فمن لم يحرم من الميقات، أو لم يحلق أو يُقصِّر: فعمرته صحيحة لكنها ناقصة، فيجبرها بالدم -وهو ذبح شاة-، وهي =
كالصلاة لا تنعقد إلا بالنية (ومن ترك ركنًا غيره) أي: غير الإحرام (أو نيته) حيث اعتبرت: (لم يتم نسكه) أي: لم يصح (إلا به) أي: بذلك الركن المتروك هو أو نيته المعتبرة، وتقدَّم: أن الوقوف بعرفة يُجزئ حتى من نائم وجاهل أنها عرفة (ومن ترك واجبًا) ولو سهوًا: (فعليه دم) فإن عدمه فكصوم المتعة (أو سنة) أي: ومن ترك سنة: (فلا شيء عليه) قال في "الفصول" وغيره: "ولم يُشرع الدم عنها؛ لأن جبران الصلاة أدخل فيتعدَّى إلى صلاته من صلاة غيره".
(88)
في ذلك كالحج تمامًا كما في مسألة (84). [فرع]: مُستحبات وسُنَن العمرة -وهي وهي التي تصح العمرة بدونها، وبدون نقصان، لكن إن فعلها المعتمر فله أجر، وإن تركها فلا إثم ولا شيء عليه- وهي ما عدا أركان العمرة الثلاثة، وما عدا الواجبين لها، وهذه المستحبات قد بينتها في مسائلها بالتفصيل قواعدها ومقاصدها وذلك في أبواب "المواقيت"، و"الإحرام وكيفيته"، و"طريقة دخول مكة والسعي والطواف"، و"صفة الحج والعمرة"، ولا داعي لتكرارها.
(88)
مسألة: إذا ترك الحاج أو المعتمر ركنًا من أركان الحج الأربعة، أو ركنًا من أركان العمرة الثلاثة: فلا صحة لحجه ولا عمرته، ولا يجبر بشيء، ولو كان نائمًا أو جاهلًا بأن هذا مشعر من المشاعر -كما سبق في مسألتي (83 و 86) -، أما إذا ترك واجبًا من واجبات الحج السبعة أو واجبًا من واجبي العمرة: فحجه أو عمرته صحيحة، لكن يجب عليه دم، فإن لم يجد فإنه يصوم عشرة أيام؛ قياسًا على المتمتع -كما سبق في مسألتي (84 و 87) -، أما إن ترك مستحبًا وسنة من سنن الحج أو العمرة: فحجه أو عمرته صحيحة، ولا إثم ولا شيء عليه -كما سبق في مسألة (85) والفرع التابع لها، فإن قلتَ: لمَ لا يجب دم في ترك السنة والمستحب؟ قلتُ: قياسًا على الصلاة؛ حيث إن المصلي إذا ترك =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
سنة ومستحبًا من أفعال وأقوال الصلاة: فلا يجبره بسجود سهو، مع أن جبران الصلاة بسجود السهو أدخل من جبران الحج بدم؛ لكونه داخلًا ضمن الصلاة وآكد من الحج؛ حيث إنه يسجد للسهو لجبران الصلاة وإن كانت صلاة غيره كما أنه لو سها إمامه فالمأموم يسجد مع إمامه، فيكون مُتعدِّيًا لغيرها، بخلاف الحج، فإذا كان لا يسجد للسهو لجبران صلاة قد ترك فيها سنة مع أن ذلك آكد: فلأن لا يُجبر سقوط سنة ومستحب في حج وعمرة بدم من باب أولى، تنبيه: قوله: "ومن ترك واجبًا ولو سهوًا: فعليه دم" قلتُ: هذا لا يصح؛ حيث كما سبق أن بيِّنا: أن من ترك واجبًا متعمدًا ذاكرًا مختارًا، عالمًا بذلك: فيجب عليه الدم، أما من تركه وهو ساهي أو ناسي أو مخطئ، أو مكره، أو جاهل: فلا شيء عليه؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "عُفي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" وهذا بناء على قاعدة: "الأمور بمقاصدها" وقد سبق بيان ذلك مرارًا.
هذه آخر مسائل باب "صفة الحج والعمرة" ويليه باب "الفوات والإحصار"
باب الفوات والإحصار
"الفوات" كالفوت: مصدر فات إذا سبق فلم يدرك، و"الإحصار": مصدر "أحصره" مرضًا كان أو عدوًا، ويُقال:"حصره" أيضًا
(1)
(ومن فاته الوقوف) بأن طلع عليه فجر يوم النحر ولم يقف بعرفة: (فاته الحج)؛ لقول جابر: "لا يفوت الحج حتى يطلع الفجر من ليلة جمع" قال أبو الزبير: فقلتُ له: أقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك؟ قال: "نعم" رواه الأثرم (وتحلَّل بعمرة) فيطوف، ويسعى، ويحلق، أو يُقصِّر إن لم يختر البقاء على إحرامه ليحج من قابل (ويقضي) الحج الفائت (ويهدي) هديًا يذبحه في قضائه (إن لم يكن اشترط) في ابتداء إحرامه؛ لقول عمر رضي الله عنه لأبي أيوب -لما فاته الحج-:"اصنع ما يصنع المعتمر، ثم قد تحلَّلت، فإن أدركت الحج قابلًا فحج، واهدِ ما استيسر من الهدي" رواه الشافعي، والقارن وغيره سواء، ومن اشترط بأن قال -في ابتداء إحرامه-:"وإن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني"
باب الفوات والإحصار
وفيه ثمان مسائل:
(1)
مسألة: الفوت: مأخوذ من فات، يفوت، فوتًا، فهو فائت: إذا سبق الشيء الذي يُدرك به الحج، وفات ومضى وعجز عن اللُّحوق به، كان ينتهي وقت الوقوف بعرفة مثلًا قبل أن يصل إليها، و"الإحصار": مأخوذ من حصر، يحصر فهو محصور: إذا حُبس ومُنع عن الحج، وهذا الفوات والإحصار مُطلق: أي: سواء وقعا بسبب مرض، أو عدو تسبَّب في فوات الحج، فإن قلتَ: لمَ خصِّص أكثر الباب بفوات الحج والإحصار عنه، دون العمرة؟ قلتُ: لأن وقت الحج ضيِّق، فعقد هذا الباب ليُبيِّن فيه طريقة الحلِّ عند فواته أو الحصر عنه، بخلاف العمرة فوقتها العام كله، ولذا فلا تفوت.
فلا هدي عليه ولا قضاء، إلا أن يكون الحج واجبًا فيؤدِّيه
(2)
وإن أخطأ الناس
(2)
مسألة: إذا أحرم بالحج متمتعًا أو قارنًا، أو مفردًا -وفاته وقت الحج: بأن طلع فجر يوم النحر- وهو: العاشر من ذي الحجة -وهو لم يقف بعرفة: ففيه تفصيل هو كما يلي: أولًا: إن كان عند إحرامه قد اشترط قائلًا: "إن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني"؛ نظرًا لخوفه من زيادة مرض أو عدو: فإن هذا يحل من إحرامه، ويلبس ثيابه، ويرجع إلى بيته ولا شيء عليه، ثانيًا: إن لم يشترط ذلك الشرط: فإنه يتحلَّل بعمرة بأن يأتي البيت ويطوف ويسعى، ويحلق أو يُقصِّر، ثم يقضي هذا الحج الذي فاته فيما بعد، ويجب عليه أن يهدي بأن يذبح شاة ويُقسِّمها على فقراء مكة: سواء كان هذا الحج فرضًا أو نفلًا، وسواء كان متمتعًا أو قارنًا، أو مفردًا، أما إن لم يفعل هذا: فإنه يبقى على إحرامه حتى يأتي وقت الحج من العام القادم، فيؤدِّي ذلك الحج الذي أحرم به وفاته، ويتجنَّب جميع محظورات الإحرام خلال تلك السنة؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ وهي من وجهين: أولهما: قوله صلى الله عليه وسلم: "الحج عرفة فمن جاء قبل صلاة الفجر ليلة جمع فقد تم حجه"، حيث دل بمفهوم الزمان والشرط على أن من جاء بعد صلاة الفجر من ليلة جمع -وهي ليلة مزدلفة- وهو بعد صلاة فجر يوم العاشر من ذي الحجة -: فقد فاته الحج ويبقى على إحرامه إلى العام القادم، ثانيهما: أنه صلى الله عليه وسلم قد أمر من كانت شاكية وهي تريد الحج مع النبي صلى الله عليه وسلم قائلًا لها: "حجي واشترطي وقولي: وإن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني، فإن ذلك على ربكِ ما استثنيت" وفي رواية: "فإن حُبستِ أو مُرضتِ فقد حللتِ من ذلك بشرطكِ على ربكِ" حيث إن ذلك يدل على أن المشترط لا شيء عليه إذا حُبس وحُصر وفات عليه الحج، ويدل بمفهوم الشرط: أن غير المشترط ليس مثل المشترط في الحكم عند الفوات والإحصار، الثانية: قول الصحابي؛ حيث إنه قد ثبت عن عمر وابنه، وزيد وابن عباس، وابن الزبير =
فوقفوا في الثامن أو العاشر: أجزأهم، وإن أخطأ بعضهم فاته الحج
(3)
(ومن) أحرم
رضي الله عنهم أنهم قالوا: "من فاته الحج فليتحلَّل بطواف، وسعي، وحلق، وعليه القضاء والهدي" ولم يُفرقوا بين نفل وفرض، وهذا يُعتبر مُبيِّن لمفهوم الحديثين السابقين، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تيسير وتوسعة على المسلمين، فإن قلتَ: لمَ صحَّ قلب الحج إلى عمرة هنا؟ قلتُ: لأن حلَّ الإحرام لا يجوز إلا بعد فعل نسك لمن لم يشترط، فإن قلتَ: لمَ وجب قضاء الحج هنا وإن كان نفلًا؟ قلتُ: لأن الحج النفل يلزم بالشروع فيه، فيصير كالمنذور، فإن قلتَ: لمَ وجب الهدي؟ قلتُ: لكونه قد حلَّ من إحرامه قبل تمامه، تنبيه: إذا كان لم يحج فرضه ورجع إلى أهله لما أحصر، فيجب عليه أن يؤدِّيه.
(3)
مسألة: إذا أخطأ جميع الحجاج أو أكثرهم فوقفوا في اليوم الثامن، أو العاشر من ذي الحجة: فإن هذا الوقوف صحيح، ولا شيء عليهم، أما إذا وقف الأقل في اليوم الثامن أو العاشر: فإن وقوفهم لا يصح ولا يصح حجهم؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "الحج يوم يحج الناس" أي: ما غلب على ظنهم أنه يوم عرفة، أو غلب على أكثرهم؛ لكون الغالب كالكل في الأحكام، الثانية: المصلحة؛ حيث إن قضاء ذلك الحج على جميعهم أو أكثرهم مع كثرتهم وتفرقهم فيه مشقة عظيمة، فدفعًا لذلك: صح حجهم؛ أما إن كان الأقل هم الذين وقفوا في اليوم الثامن أو العاشر: فلا يصح ذلك، وعليهم أن يتحلَّلوا بعمرة، ثم يقضوا ذلك الحج فيما بعد مع هدي، وذلك لعدم المشقة عليهم؛ نظرًا لقلَّتهم وإمكان حصرهم، فإن قلتَ: إن وقف بعضهم: فإن الحج قد فاتهم، وعليهم القضاء فيما بعد مع الهدي سواء كان هذا البعض الأقل أو الأكثر، وهو ما يُشير إليه المصنف هنا قلتُ: هذا بعيد؛ لأن الأكثر يلحق بالكل في كثير من الأحكام الفقهية، لكون الأكثر مثل الكل في المشقة =
فـ (صدَّه عدو عن البيت) ولم يكن له طريق إلى الحج: (أهدى) أي: نحر هديًا في موضعه (ثم حلَّ)؛ لقوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} سواء كان في حج أو عمرة، أو قارنًا، وسواء كان الحصر عامًا في جميع الحاج، أو خاصًا بواحد كمن حُبس بغير حق (فإن فقده) أي: فقد الهدي: (صام عشرة أيام) بنية التحلُّل (ثم حلَّ) ولا إطعام في الإحصار، وظاهر كلامه -كالخرقي وغيره-: عدم وجوب الحلق أو التقصير، وقدمه في "المحرر" و"شرح ابن رزين"
(4)
(وإن صُدَّ عن عرفة)
فيُقاسون عليه، أما الأقل: فلا توجد مشقة عليهم في القضاء غالبًا، فلا يُقاسون على الكل، ولا على الأكثر فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "الخلاف في الأكثر هل يُعامل معاملة الكل أو لا؟ " فعندنا: نعم، وعندهم: لا.
(4)
مسألة: إذا أحرم بحج أو عمرة، ومُنع من الوصول إلى الكعبة: فإنه ينوي التحلُّل فيذبح شاة، ثم يحلق أو يُقصِّر، ثم يحلُّ من كل شيء، فإن شقَّ عليه ذلك: فإنه يحل، ثم يذبح شاة، فإن لم يجد: فإنه يصوم عشرة أيام بعد أن يتحلَّل، فإن لم يستطع أخرج عن كل يوم مُدًّا من بُرٍّ أو أرز، أو نصف صاع من غيرهما، لقواعد: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} فأوجب الهدي لمن أحصر ومنع من إكمال نسكه، الثانية: السنة القولية؛ حيث "أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه حين أُحصروا في الحُديبية أن ينحروا ويحلقوا" وهذه زيادة على ما جاء في نص القرآن وهي مقبولة فيُعمل بها، الثالثة: القياس، بيانه: كما أن المتمتع إذا لم يجد هديًا: فإنه يصوم عشرة أيام، فإن لم يستطع الصوم: فإنه يُطعم عن كل يوم مسكينًا يُعطيه مُدًّا من البر أو الأرز، أو نصف صاع من غيرهما، فكذلك المحصر والممنوع من إكمال نسكه مثله والجامع: أن كلًا منهما أراد أن يُحلَّ من إحرامه للتمتع والتخلص من محظورات الإحرام، وهذا من باب: =
دون البيت: (تحلَّل بعمرة) ولا شيء عليه؛ لأن قلب الحج عمرة جائز بلا حصر
التوسعة على المكلَّفين، فإن قلتَ: لا يجب الهدي على المحصر عن البيت، بل يُحلُّ بدون ذلك وهو قول مالك؛ للقياس، بيانه: كما أن من أتمَّ حجَّ يُحلُّ ولا يهدي، فكذلك من أُحْصِر مثله، والجامع: أن كلًا منهما قد أُبيح له التحلُّل بدون تفريط منه؟ قلتُ: هذا فاسد؛ لأنه قياس مع النص وهي الآية وقياس مع الفارق؛ لأن المحصّر تحلَّل قبل تمام نُسكه، لذا: وجب عليه الهدي؛ لإخلاله كمن فاته الحج، وهذا بخلاف من أتم نسكه فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض القياس مع الكتاب" فنعمل بالآية؛ لفساد قياسهم، وهم عملوا بالقياس فإن قلتَ: إذا لم يجد الهدي: فإنه يسقط عنه، فلا يصوم بدلًا عنه، وهو قول أبي حنيفة، وبعض المالكية، ولا يجب الصوم كذلك؛ للكتاب؛ حيث قال تعالى:{فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} فأوجب عليه الهدي فقط، ولم يكن للصيام ذكر؟ قلتُ: إن قياس المحصَر على المتمتع هو الذي أثبت وجوب الصوم بدلًا عن الهدي؛ إذ لا فرق بينهما في هذا فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض الكتاب مع القياس" فنعمل بالقياس؛ لكونه قد أتى بزيادة على النص وهم: أخذوا بظاهر الكتاب، فإن قلتَ: لا يجب الحلق أو التقصير وهو ما أشار إليه المصنف هنا؛ للكتاب؛ حيث لم يذكر الله تعالى في الآية السابقة شيئًا من ذلك قلتُ: إن الحلق قد ثبت بالسنة؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد أمر أصحابه في الحديبية أن ينحروا ويحلقوا، والتقصير مثله، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض الكتاب مع السنة"؛ حيث إنها أتت بزيادة على الكتاب فيُعمل بها؛ لأنها حجة عندنا، وهم: لم يأخذوا بتلك الزيادة الواردة بالسنة؛ لعدم حجيتها عندهم.
فمعه أولى،
(5)
وإن أُحصر عن طواف الإفاضة فقط: لم يتحلَّل حتى يطوف،
(6)
وإن أُحصر عن واجب: لم يتحلَّل وعليه دم
(7)
(وإن حصره مرض أو ذهاب نفقة) أو
(5)
مسألة: إذا أحرم بحج، ثم مُنع من الوقوف بعرفة، ولم يُمنع من البيت: فإنه ينوي التحلّل بعمرة: فيطوف ويسعى، ويحلق أو يُقصِّر، ثم يحل، ولا شيء عليه؛ للقياس الأولى: بيانه: كما أن المحرم بالحج يجوز له أن يتحلَّل بعمرة، قبل أن يقف بعرفة من غير سبب حصر أو غيره فإنه من باب أولى جواز التحلُّل من نية الحج إلى العمرة بسبب الحصر، والجامع: أن كلا منهما قد عقد نسكه فيجوز أن ينوي غير ما نواه عند إحرامه وأمكن الوصول إلى البيت، للتيسير على الناس، وهذا لا يخفى. [فرع]: إذا أحرم بحج، فطاف للقدوم وسعى، ثم حُصر أو مرض أو فاته إكمال ذلك الحج لأي سبب: فإنه يتحلَّل بعمرة، ولكن بشرط: أن يطوف ويسعى للعمرة مرة أخرى، بدون تجديد إحرام؛ للتلازم؛ حيث إن طوافه وسعيه الأولين كانا للحج، فيلزم عدم صحتهما للعمرة؛ لعدم نيتهما لها، فيلزم أن تخصَّص العمرة بطواف وسعي آخرين.
(6)
مسألة: إذا أحرم بحج، فوقف بعرفة، ورمى، وحلق أو قصَّر، ثم أُحصر ومُنع من طواف الإفاضة: فإنه يتحلَّل بعمرة -كما سبق في مسألة (5) -؛ للكتاب؛ حيث قال تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} وهذا عام لجميع الحالات؛ لأن "إن" الشرطية من صيغ العموم، ولا تخفى المصلحة من التيسير والتوسعة على المسلمين في ذلك، فإن قلتَ: إن هذا لا يجوز له التحلُّل إلا بعد طوافه للإفاضة، ولو بقي على إحرامه أبدًا وهو ما ذكره المصنف هنا قلتُ: لم أجد دليلًا على ذلك.
(7)
مسألة: إذا أحرم بحج، وأُحصر ومنع من فعل واجب من واجبات الحج السبعة: فإنه لا يتحلَّل بل يمضي في إكمال حجه، ويترك ذلك الواجب، وعليه دم -وهو: ذبح شاة-؛ للتلازم؛ حيث إنه ترك واجبًا فيلزمه الدم.
ضلَّ الطريق: (بقي محرمًا) حتى يقدر على البيت؛ لأنه لا يستفيد بالإحلال: التخلص من الأذى الذي به، بخلاف حصر العدو، فإن قدر على البيت بعد فوات الحج: تحلَّل بعمرة، ولا ينحر هديًا معه إلا بالحرم، هذا (إن لم يكن اشترط) في ابتداء إحرامه:"أن محلِّي حيث حبستني" وإلا: فله التحلُّل مجانًا في الجميع.
(8)
(8)
مسألة: إذا أحرم بحج، ثم مُرض، أو سُرقت نفقته، أو ضلَّ الطريق وفاته الحج: فإنه ينوي التحلل، ويتحلل، ويذبح هديًا؛ للكتاب؛ حيث قال تعالى:{فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} وهذا عام لجميع الحالات؛ لأن "إن" الشرطية من صيغ العموم فإن قلتَ: إن اشترط عند إحرامه قائلًا: "إن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني": فإنه يحل ولا شيء عليه، وإن لم يُشترط: بقي على إحرامه حتى يقدر على البيت ويتحلل بعمرة بعد فوات وقت الحج؛ للمصلحة؛ حيث يلزم من عدم استفادته بالإحلال أن يتخلَّص من هذا الأذى الذي لحقه: أن يستمر على إحرامه حتى يقدر على البيت؛ لكونه أصلح له، وهذا ما ذكره المصنف هنا؟ قلتُ: هذا لا يُسلَّم بل يستفيد من إحلاله بأن يرجع إلى أهله، ويفعل ما يشاء وهذا أصلح له، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض المصلحة مع ظاهر الكتاب" فنعمل بعموم الكتاب؛ إذ لا مخصِّص لذلك عندنا، وهم عملوا بالمصلحة.
هذه آخر مسائل باب "الفوات والإحصار" ويليه باب "الهدي والأضحية والعقيقة"
باب الهدي والأضحية والعقيقة
"الهدي": ما يُهدى للحرم: من نِعَم وغيرها، سُمِّي بذلك؛ لأنه يُهدى إلى الله سبحانه وتعالى، و"الأضحية" بضم الهمزة وكسرها: واحدة الأضاحي، ويُقال:"ضحيَّة"،
(1)
وأجمع المسلمون على مشروعيتهما
(2)
(أفضلها إبل، ثم بقر) إن أخرج
باب الهدي والأضحية والعقيقة
وفيه أربع وخمسون مسألة:
(1)
مسألة: "الهدي": كل ما يُهدى إلى الحرم من بهيمة الأنعام، أو أطعمة، أو ألبسة لينتفع بها فقراء مكة، و"الأضحية": هي التي يُضحَّي بها وتُذبح من بهيمة الأنعام في أيام عيد الأضحى؛ تقربًا إلى الله تعالى، و"العقيقة": هي التي تُذبح في اليوم السابع من ولادة الولد: إبنًا أو بنتًا، وتُسمَّى بـ"التميمة" عند كثير من أهل نجد، فإن قلتَ: لمَ سُمِّي ما يُذبح من الهدي بهذا الاسم؟ قلتُ: لكونه يُهدى إلى الحرم؛ قربة إلى الله تعالى، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يبعث بالهدي إلى مكة وهو في المدينة، واتبع السلف هذه الطريقة فقد كانوا يبعثون الهدي والأطعمة والثياب إلى فقراء مكة، أو يأتون بها معهم إذا جاءوا إليها، فإن قلتَ: لم سُمِّيت الأضحية بهذا الاسم؟ قلتُ: لكونها تُذبح ضُحى في يوم عيد الاضحى، فإن قلتَ: لمَ سُمِّي ما يُذبح في سابع ولادة المولود بالعقيقة؟ قلتُ: لأن شعر كل مولود من الناس والبهائم الذي يُولد وهو عليه يُسمَّى عقيقة، فإذا حلق هذا الشعر في اليوم السابع سُمِّي: هذا الفعل "عقيقة" فسُمِّيت الشاة التي تُذبح في هذا اليوم بهذا الاسم وهي تسمية مجازية بسبب المجاورة والحال.
(2)
مسألة: الهدي والأضحية والعقيقة مشروعة؛ لقواعد: الأولى: الإجماع؛ حيث أجمع العلماء على مشروعية الهدي والأضحية، الثانية: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "كل مولود مرتهن بعقيقته" وهذا يلزم منه مشروعيتها الثالثة: السنة =
كاملًا؛ لكثرة الثمن، ونفع الفقراء (ثم غنم)
(3)
وأفضل كل جنس أسمن، فأغلى ثمنًا؛ لقوله تعالى:{وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ}
(4)
فأشهب، وهو: الأملح، أي: الأبيض، أو ما بياضه أكثر من سواده، فأصفر، فأسود،
(5)
(ولا
الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد عقَّ عن الحسن والحسين، وسيأتي بيان ذلك، تنبيه: لم يرَ أبو حنيفة مشروعية العقيقة وسيأتي بيان ذلك، لذلك قال المصنف:"وأجمع المسلمون على مشروعيتهما" يعني الهدي والأضحية فقط، فإن قلتَ: لمَ شُرِعت هذه الثلاثة؟ قلتُ: قربة إلى الله تعالى، وعبادة له، وشكرًا على ما أنعم عليه الله من وصوله إلى الحرم، وعلى إغنائه، وعلى رزقه بالولد وعلى أنه فضَّله على كثير من الناس وعرفانًا بذلك، فإن قلتَ: لمَ جُعلت مسائل الأضحية والعقيقة مع مسائل الهدي الخاصة بأبواب الحج مع أنهما لا يختصان بالحج؟ قلتُ: لاتفاق مسائلها ومباحثها، فلا تنفرد الأضحية والعقيقة إلا بمسائل قليلة جدًا، ولكون الأضحية شُرعت في وقت الحج.
(3)
مسألة: الأفضل في الهدي والأضحية أن يذبح بدنة كاملة، ثم تلي ذلك: البقرة كاملة، ثم الغنم؛ للمصلحة؛ حيث إنه كلما كثر اللحم كلما كان أنفع للفقراء، وهم المقصودون بذلك.
(4)
مسألة: الأفضل في الهدي والأضحية والعقيقة: ما كان سمينًا وغالي الثمن من كل جنس؛ للكتاب؛ حيث قال تعالى: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} واختيار الأفضل دليل على صدق وقوة إيمان وإخلاص وعبودية المختار؛ حيث إن ذلك فيه مبالغة في الطاعة لله تعالى، وقد أشار إلى ذلك ابن عباس، وهو أنفع للفقراء.
(5)
مسألة: الأفضل من الضأن: ما كان لونه أبيضًا أملحًا -وهو: الأشهب-، ثم يليه: ما غالبه البياض، ثم يليه الأصفر، ثم يليه الأسود؛ للسنة الفعلية؛ حيث =
يجزئ فيها إلا جذع ضأن) ماله ستة أشهر -كما يأتي- (وثني سواه) أي: سوى الضأن من إبل، وبقر، ومعز (فالإبل) أي: السن المعتبر لإجزاء إبل (خمس) سنين (والبقر: سنتان والمعز: سنة، والضأن نصفها) أي: نصف سنة؛ لحديث: "الجذع من الضأن أضحية" رواه ابن ماجه
(6)
(وتُجزئ الشاة عن واحد) وأهل بيته وعياله؛ لحديث أبي أيوب: "كان الرجل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم يضحي بالشاة عنه وعن أهل بيته، فيأكلون ويُطعمون" قال في "شرح المقنع" .. "حديث صحيح"
(7)
(و) تجزئ
إنه صلى الله عليه وسلم قد ضحَّى بكبشين أملحين، ولا شك أنه كلما كان اللون يميل إلى البياض كلما كان أفضل؛ لكونه يدل على النقاء كاستحباب لباس الثياب البيض، فإن قلتَ: لم يُسمَى الأبيض بالأشهب؟ قلتُ: لأن العرب لا تنطق بالبياض، نظرًا لكراهيتهم له؛ لأنه يُشبه البرص، لذلك سمَّت عائشة رضي الله عنها التمر والماء بالأسودين، ووصفت عائشة وخديجة رضي الله عنهم بالحميراء مع أنهما بيضاوان.
(6)
مسألة: يجزئ من الإبل: ما بلغ خمس سنوات وهو: الثني، ومن البقر: ما بلغ سنتين، ومن الغنم: ما بلغ سنة إن كان مِعْز، وإن كان من الضأن: ما بلغ ستة أشهر، وهو: الجذع؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "الجذع من الضأن أضحية" والهدي والعقيقة كالأضحية في ذلك؛ لعدم الفارق من باب "مفهوم الموافقة"، الثانية: الإجماع؛ حيث أجمع العلماء على أن المجزئ من هذه الأجناس ما بلغ ما ذكرناه من الأعمار، فدل مفهوم الغاية والعدد والصفة على أنه لا يجزئ ما دونه، فإن قلتَ: لمَ حُدِّد ذلك السن لكل جنس؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن لحمها يكون أنفع للآكلين، وأنها في هذه السن تعتمد على نفسها.
(7)
مسألة: يُجزئ الواحد من الضأن، ومن المعز عن الواجب من الهدي، وعن الأضحية والعقيقة، وتُجزئ في الأضحية عنه وعن أهل بيته ولو كثروا؛ للسنة =
(البدنة والبقرة عن سبعة)؛ لقول جابر: "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نشترك في الإبل والبقر كل سبعة في واحد منهما" رواه مسلم، وشاة أفضل من سُبُع بدنة أو بقرة
(8)
(ولا تُجزئ العوراء) بيِّنة العَوَر: بأن انخسفت عينها في الهدي ولا في الأضحية، ولا العمياء (و) لا (العجفاء) الهزيلة التي لا مخ فيها (و) لا (العرجاء) التي لا تطيق مشيًا مع الصحيحة (و) لا (الهتماء) التي ذهبت ثناياها من أصلها (و) لا (الجداء) أي: ما شاب ونشف ضرعها (و) لا (المريضة) بيِّنة المرض؛ لحديث البراء بن عازب: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أربع لا تجوز في الأضاحي: العوراء البيِّن عورها، والمريضة البيِّن مرضها، والعرجاء البيِّن ضلعها، والعجفاء التي لا تُنِّقي"
التقريرية؛ حيث قال أبو أيوب: "كان الرجل في عهده صلى الله عليه وسلم يُضحي بالشاة عنه، وعن أهل بيته فيأكلون ويُطعمون" وظاهر ذلك: أنه صلى الله عليه وسلم يعلم ذلك؛ لعدم خفاء مثل ذلك، ولم يُنكره، فدل على إجزاء ذلك عنه؛ لعدم جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة وفي ذلك توسعة على المسلمين.
(8)
مسألة: ذبح كل فرد شاة أفضل من سُبُع بدنة أو بقرة، لكن تجزئ البدنة عن سبعة من الأفراد، والبقرة عن سبعة أيضًا: سواء اشترك من وجب عليهم الهدي، ومن يُضحي، ومن يذبح عقيقة أو لا، وسواء كانوا مجتمعين قبل ذبح البدنة أو البقرة أو لا؛ للسنة القولية؛ حيث قال جابر:"أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نشترك في الإبل والبقر كل سبعة في واحد منهما" وهذا الأمر للإباحة؛ لكونه ورد بعدما يُظن أنه يُمنع منه، ولا تخفى المصلحة في الاشتراك في ذلك على أحد، فإن قلتَ: لمَ كان الأفضل أن تذبح شاة عن كل واحد؟ قلتُ: لأنه الأصل؛ حيث إن فيه إزهاقًا لعدد أكثر من البهائم؛ لتعظيم الله تعالى.
رواه أبو داود والنسائي (و) لا (العضباء) التي ذهب أكثر أذنها أو قرنها
(9)
(9)
مسألة: لا يُجزئ في الأضحية، والهدي، والعقيقة تسع: أولها: العوراء البيِّن عورها: بأن يرى أكثر الناس أن إحدى عينيها منخسفة وبياض عينها واضح، ثانيها: العمياء وهي التي لا ترى بعينيها معًا، ثالثها: العجفاء، وهي: الهزيلة التي ذهب شحم جسمها، ومخ عظامها، رابعها: العرجاء البيِّن عرجها لأكثر الناس، وهي التي لا تستطيع اللُّحوق بالصحيحة عند المشي، خامسها: المقطوعة إحدى قوائمها، سادسها: الهتماء وهي: التي سقطت أكثر أسنانها وثناياها بحيث لا تستطيع تقطيع العشب، سابعها: الجدَّاء وهي: التي نشف ضرعها ويبس وصار كالشَّبِّ من البياض، ثامنها: المريضة الواضح مرضها بسبب ظهور جرب في جلدها، أو تعبها الظاهر أو خمولها، أو ظهرت بعض الأورام فيها، تاسعها: العضباء وهي: التي ذهب نصف أو أكثر أذنها، أو قرنها؛ لقواعد: الأولى: السنة القولية وهي من وجهين: أولهما: قوله صلى الله عليه وسلم: "أربع لا تجوز في الأضاحي: العوراء البيِّن عَوَرها، والمريضة البيِّن مرضها، والعرجاء البيِّن ضلعها، والعجفاء التي لا تنقي"، وهذا النهي مطلق، فيقتضي الفساد ثانيهما: قول علي رضي الله عنه: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُضحِّي بأعضب القرن أو الأذن" وهذا النهي مطلق فيقتضي الفساد الثانية: القياس؛ وهو من وجوه: أولها: كما أن العوراء لا تُجزئ فمن باب أولى: أن لا تُجزئ العمياء، والجامع: عدم رؤية كل العلف أو بعضه، بل العمياء أولى بعدم الإجزاء؛ لأن العَمى: عَوَرٌ مرَّتين، وإن فُرض عليها علف فقد لا يُناسبها فتسوء حالتها، ثانيها: كما أن العرجاء لا تُجزئ فمن باب أولى أن لا تُجزئ مقطوعة إحدى قوائمها، والجامع: أن كلًا منهما لا تلحق بغيرها من البهائم، فيفوتها أكثر العلف الصالح، ثالثها: كما أن المريضة لا تُجزئ فكذلك الهتماء مثلها والجامع: أن كلًا منهما قد ضعُفت عن الأكل، رابعها: كما أن المريضة لا =
(بل) تجزئ (البتراء) التي لا ذنب لها (خِلْقة) أو مقطوعًا، والصمعاء، وهي: صغيرة الأذن (والجمَّاء): التي لم يُخلق لها قرن (وخصُّي غير مجبوب) بأن قُطع خصيتاه فقط
(10)
(و) يُجزئ مع الكراهة (ما بإذنه أو قرنه) خرق أو شق أو (قطع أقل من
تُجزئ فكذلك الجدَّاء مثلها والجامع: دفع الضرر عن آكلها، فإن قلتَ: لمَ لا تجزئ تلك الحيوانات بتلك الصفات؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن تلك الصفات تُؤثِّر على أكلها بالسَّلب، فيتأثر لحمها وعظامها، فيتضرَّر آكلها، فدفعًا لذلك الضَّرر شرع هذا الحكم، فإن قلتَ: إن الهتماء، والجداء، والعضباء تُجزئ في الأضحية، والهدي، والعقيقة، وهو قول أكثر الحنابلة، واختاره ابن عثيمين؛ للاستصحاب؛ حيث إن الأصل هو: إجزاء كل بهيمة الأنعام لذلك، وإنما حُكم بعدم إجزاء بعضها -وهي: العوراء، والعمياء والعجفاء، والعرجاء، والمقطوعة القائمة، والمريضة-؛ لثبوت الأدلة القوية على عدم إجزائها، فيبقى الباقي على الأصل، وهو: الإجزاء، فيُستصحب ويُعمل به؛ لعدم ورود دليل يُغيِّر الحالة قلتُ: إن السنة القولية -وهي: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أن يُضحِّي بالعضباء"- وقياس الهتماء والجداء على المريضة: هي التي غيَّرت الأصل، فتُقبل ويُعمل بها: فلا تُجزئ لذلك فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: تعارض الاستصحاب مع السنة القولية وهو حديث علي، والقياس فنعمل بالسنة، والقياس، وهم لم يعملوا بهما.
(10)
مسألة: يُجزئ أربع من البهائم في الأضحية والهدي والعقيقة بدون كراهة وإن وُجد فيها بعض العيوب: أولها: البتراء، وهي: التي خُلِقت بلا ذنَب، أو كان مقطوعًا منذ ولادتها، وكذا: إذا كان هذا في إليتها، فلا يؤثِّر، ثانيها: الصَّمعاء، وهي: صغيرة الإذن، ثالثها: الجمَّاء وهي: التي خُلِقت بلا قرن، رابعها: الخصي غير المجبوب، وهو: مقطوع الخصيتين، غير مقطوع الذكر، أما إذا قُطِعت خصيتان مع ذكره: فلا يجزئ؛ لقواعد: الأولى: السنة الفعلية؛ حيث =
النصف) أو النصف فقط على ما نصَّ عليه في رواية حنبل وغيره، قال في "شرح المنتهى" وهذا هو المذهب
(11)
(والسنَّة: نحر الإبل قائمة معقولة يدها اليُسرى
إنه صلى الله عليه وسلم قد ضحَّى بكبشين مقطوعي الخصيتين، الثانية: قول الصحابي؛ حيث إن ابن عمر رضي الله عنهم يُفتي بصحة التضحية بالبتراء، والهدي والعقيقة كالأضحية في ذلك؛ لعدم الفارق من باب "مفهوم الموافقة"، الثالثة: القياس، بيانه: كما أن الصحيحة تُجزئ في ذلك، فكذلك هذه الأربع السابقة تُجزئ، والجامع: أن كلًا منها لم يتأثَّر اللحم بشيء، فإن قلتَ: لمَ أجزأت؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إنه لا يسلم من تلك العيوب حيوان غالبًا، فلو حُكم بعدم إجزائها مع التسع التي ذُكرت في مسألة (9): لَلَحق الناس ضررٌ ومشقَّة، فدفعًا لذلك: حُكم بإجزائها بدون كراهة، فإن قلتَ: إن الجمَّاء لا تُجزئ، وهو قول بعض العلماء منهم ابن حامد؛ للقياس الأولى؛ بيانه: كما أن "العضباء" -وهي التي ذهب أكثر قرنها- لا تُجزئ فكذلك "الجماء": من باب أولى أنها لا تُجزئ؛ لذهاب قرنها كله قلتُ: هذا فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ لأن الباقي من قرن "العضباء" قد يُؤذيها إذا تعلَّق بشجرة ونحوها، فيتأثر الجرح، مما يُفضي إلى تأثر لحم الحيوان كله، فيضرُّ آكلها، بخلاف "الجماء" فلم يُخلق لها قرن أصلًا، فلا يُوجد طريق لتأثُّره بشيء فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض القياسين" فنحن ألحقنا "الجماء" بالصحيحة؛ لكونها أكثر شبهًا بها، وهم ألحقوها بالعضباء؛ لأنها أكثر شبهًا بها عندهم، وهو المسمى بقياس "غلبة الأشباه" أو "قياس الشبه".
(11)
مسألة: يُجزئ إثنان من الحيوانات في الأضحية والهدي والعقيقة الكراهة أولهما: الحيوان الذي بإذنه أو قرنه خرق أو شق، ثانيهما: الحيوان الذي قُطع من إذنه أو قرنه نصفه أو أقل من ذلك؛ للمصلحة؛ حيث إن ذلك لا يُؤثِّر على لحمها غالبًا فأجزأت، وكرهت؛ لاحتمال تأثُّرها احتمالًا ضعيفًا، وهذا كله لحماية آكلها، وهو المقصد منه.
فيطعنها بالحربة) أو نحوها (في الوهدة التي بين أصل العنق والصدر)؛ لفعله صلى الله عليه وسلم، وفعل أصحابه كما رواه أبو داود عن عبد الرحمن بن سابط (و) السنة أن (يُذبح غيرها) أي: غير الإبل على جنبها الأيسر موجَّهة إلى القبلة (ويجوز عكسها) أي: ذبح ما يُنحر، ونحر ما يُذبح؛ لأنه لم يتجاوز محل الذبح، والحديث:"ما أنهر الدم، وذكر اسم الله عليه فكل"
(12)
(ويقول) حين يُحرِّك يده بالنحر أو الذبح (بسم الله) وجوبًا
(13)
(والله أكبر) استحبابًا (اللهم هذا منك ولك) ولا بأس بقوله: "اللهم
(12)
مسألة: يُستحب أن تنحر الإبل وهي قائمة، معقولة يدها اليُسرى، بطعنها بالحربة، أو بالسكين، أو بالسيف في الوَهْدَة -: وهي موضع منخفض يوجد بين الرقبة والصدر-، أما غير الإبل من: بقر وغنم فيُستحب أن يذبحها على جنبها الأيسر فيضع رجله على صفحتها، ويوجهها إلى القبلة، ثم يذبحها بيده اليُمنى من أعلى الرقبة، ويُباح العكس: بأن يفعل بالإبل مثل ما فعل في البقر والغنم، ويفعل بهما مثل ما فعل بالإبل؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "ما أنهر الدم، وذكر اسم الله عليه فكل" وهذا عام في نحر الإبل، وذبح البقر والغنم بأي طريقة أراد، الثانية: السنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم نحر الإبل وهي قائمة، وذبح الكبشين على طريقة الاضطجاع، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إنه قد رُوعي ما يُناسب كل حيوان، فالإبل إذا ضرب بالسيف أو السكين من الوَهْدَة أسرع في موته، والبقر والغنم إذا ذُبحا عن طريق الاضطجاع أسرع في ذلك، وهذا فيه مصلحة للذابح والمذبوح؛ حيث إن ذلك فيه راحتهما.
(13)
مسألة: يجب على الذابح أن يُسمِّي قائلًا: "بسم الله" عند إرادته تحريك يده للنحر أو الذبح، فإن ترك التسمية عمدًا: فهو آثم، ولا تؤكل ذبيحته، أما إن ترك التسمية خطأ، أو جهلًا، أو غفلة أو سهوًا: فلا إثم عليه، وتؤكل ذبيحته؛ =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
لقاعدتين: الأولى: الكتاب وهو من وجهين: أولهما: قوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} حيث نهى عن الأكل مما لم يُذكر اسم الله، وهذا النهي مُطلق، فيقتضي التحريم والفساد، وهذا عام لمتروك التسمية عمدًا وغيره؛ لأن "ما" الموصولة من صيغ العموم، ومفهوم الصفة قد دلَّ على جواز الأكل مما ذكر عليه اسم الله، ثانيهما: قوله تعالى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} حيث إن هذه الآية قد خصَّصت الآية السابقة فيكون المراد: لا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه عمدًا، أما المتروك التسمية عليه خطأ، أو سهوًا أو جهلًا: فكلوا منه؛ حيث إن المراد: عدم المؤاخذة، وجواز الأكل؛ لأنه لا يتعلَّق بحق آدمي، الثانية: السنة القولية وهي من وجهين: أولهما: قوله صلى الله عليه وسلم: "ما أنهر الدم وذُكر اسم الله عليه فكل" حيث دلَّ مفهوم الصفة على عدم جواز الأكل مما لم يُذكر اسم الله عليه: وهذا المفهوم عام فيشمل متروك التسمية عمدًا أو خطأ أو جهلًا، ثانيهما: قوله صلى الله عليه وسلم: "عُفي لأمتي عن الخطأ والنسيان
…
" حيث إن هذا قد خصَّص عموم مفهوم الصفة من الحديث السابق، وخصَّص أيضًا عموم الآية، فيكون المراد: يحرم الأكل من متروك التسمية عمدًا، أما متروك التسمية خطأً، أو جهلًا أو نسيًا: فلا يحرم أكله، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: لأن تارك التسمية عمدًا أراد مخالفة الشارع فلم يذكر اسم الله على شيء أراد التقرب به إليه، فلم تؤكل ذبيحته، بخلاف المخطئ والجاهل فهو معذور، فعدم ذكر التسمية ليس من فعله ولا قصده وليس هذا حقًا من حقوق الآدميين فيضمنه، بل هو حق الله تعالى، ولله سبحانه قد أسقط عن المعذور من التأثيم والفعل في الآية الثانية، والحديث الثاني مما ذكرنا، فلو لم يجزئ الأكل من الذبيحة متروكة التسمية من غير عمد أو قصد: للحق الناس ضرر؛ لكثرة ما يقع، فدفعًا لذلك: شُرع الأكل منها، تنبيه: ما ذكرناه في التسمية هنا يقال في =
تقبَّل من فلان"،
(14)
ويذبح واجبًا قبل نقل
(15)
(ويتولَّاها) أي: الأضحية (صاحبها) إن قدر
(16)
(أو يُوكِّل مُسلمًا ويشهدها) أي: يحضر ذبحها إن وكَّل
الصيد مثله، تنبيه آخر: بعض العلماء قال: ما لم يُذكر اسم الله عليه لا يؤكل سواء كانت ذبيحة أو صيدًا، وسواء تُركت التسمية عمدًا، أو سهوًا أو نسيانًا أو جهلًا، وسيأتي.
(14)
مسألة: يُستحب أن يقول الذابح -بعد التسمية-: "الله أكبر، اللهم هذا منك ولك، اللهم تقبَّل مني"؛ للسنة الفعلية؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم يقول عند الذبح: "الله أكبر، اللهم هذا منك ولك"، فإن قلتَ: لمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تجديد وتوحيد لله، واستحضار أن الله أكبر من كل شيء، لذلك تُنحر له الأنعام؛ لاستحقاقه، ولاستحقار هذه الدنيا وما فيها، وليُذكِّر نفسه ومن حوله: أن هذه البهيمة وغيرها من الله أصلًا؛ إذ لولاه لما رُزق إياها، ولما انقادت له، ذلك فقد أذن الله تعالى بأن يُتعبَّد بها إليه تلطُّفًا منه سبحانه، وهذا من أعظم الكرم.
(15)
مسألة: يجب أن يُقدِّم المسلم ذبح ما وجب عليه -كهدي التمتع، أو الإحصار، وما وجب بترك واجب من الحج، أو نذر- قبل أن يذبح المستحب كالأضحية والعقيقة؛ للقياس، بيانه: كما أنه يُقدَّم فعل الواجب من صلاة وصوم وزكاة وحج على نفل صلاة وصوم وصدقة وحج فكذلك الحال هنا، والجامع: أن كلًا من الواجبات يُعاقب على تركه، دون النفل، وهذا فيه احتياط المسلم لدينه.
(16)
مسألة: يُستحب أن يذبح المسلم أضحيته وهديه بنفسه، وكذلك ولي المعقِّ له إن استطاع؛ للسنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم "قد فعل ذلك في الأضحية، والهدي" =
فيه،
(17)
وإن استناب ذمِّيًا في ذبحها: أجزأت مع الكراهة،
(18)
(ووقت الذَّبح)
والعقيقة مثلهما؛ لعدم الفارق من باب: "مفهوم الموافقة"، فإن قلتَ: لمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك أكثر أجرًا؛ لاجتماع دفع الثمن والفعل.
(17)
مسألة: يُباح أن يؤكِّل المسلم مسلمًا آخر ليقوم بذبح أضحية أو هدي، أو عقيقة، ويُستحب أن يحضر صاحب الذبيحة ذلك؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة: "أحضري أُضحيتكِ يُغفر لكِ عند أول قطرة من دمها" والذي صرف هذا الأمر من الوجوب إلى الاستحباب السنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد وكَّل من يذبح عنه بعض هديه، ولم يحضر ذلك كل وقت ذبحها، الثانية: السنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم وكَّل بعض أصحابه أن يذبح الباقي من هديه، والأضحية، والعقيقة مثل ذلك؛ لعدم الفارق من باب "مفهوم الموافقة"، فإن قلتَ: لمَ أُبيح التوكيل هنا؟ قلتُ: للمصلحة؛ ولا يخفى ما في ذلك من التوسعة على المسلمين، فإن قلتَ: لمَ استُحب الحضور هنا؟ قلتُ: للمصلحة؛ وهو: غفران الذنوب، وكثرة الأجر كما ورد في النص.
(18)
مسألة: لا يُجزئ ذبح الكافر عن المسلم -سواء كان ذميًا أو لا-، ولا تؤكل ذبيحته؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم:"لا يذبح ضحاياكم إلا طاهر" فنهى أن يذبح النجس -وهو الكافر- الضَّحايا وهو مفهوم صفة من لفظ "طاهر"، وأثبت جواز ذبح الطاهر -وهو المسلم-؛ لأن الاستثناء من النفي إثبات، والنهي هنا مطلق فيقتضي التحريم، وفساد المذبوح إن ذبحه نجس -وهو الكافر-، فلا يُؤكل؛ فإن قلتَ: لمَ لا يُجزئ ذلك؟ قلتُ: لأن الكافر ليس من أهل العبادة والطاعة والقربة، فلا يحلُّ ما يتولَّاه مما يخصُّ العبادة، والهدي والعقيقة كالأضحية هنا، فإن قلتَ: بل يُجزئ ذبح الذمِّي مع الكراهة، وهو ما ذكره المصنف هنا قلتُ: لم أجد دليلًا قويًا على ذلك، ولم أجد قرينة قويت على =
لأضحية وهدي نذر أو تطوع، أو متعة، أو قِران (بعد صلاة العيد) بالبلد، فإن تعدَّدت فيه: فبأسبق صلاة، فإن فاتت الصلاة بالزوال: ذبح بعده (أو) إن كان بمحلِّ لا تُصلَّى فيه العيد: فالوقت بعد (قدره) أي: قدر زمن صلاة العيد، ويستمر وقت الذَّبح (إلى) آخر (يومين بعده) أي: بعد يوم العيد، قال أحمد:"أيام النحر ثلاثة عن غير واحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم"،
(19)
والذبح في اليوم الأول
صرف النهي إلى الكراهة. [فرع]: إذا ذبح الكافر ذبائح لغير القربة والعبادة -أي: لغير الأضحية والعقيقة والهدي-: فيجوز للمسلم أن يأكل منه بشرط: أن يُسمِّي بالله عند أكله؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم -لما سُئل عن ذلك-: "سمُّوا وكُلُوا" وهذا الأمر للإباحة؛ لأنه ورد بعد حظر وسيأتي بيانه في باب "الذكاة" من كتاب "الأطعمة".
(19)
مسألة: وقت ذبح الأضحية وهدي تمتع، أو قرآن، أو نذر، أو تطوع يبدأ من بعد صلاة عيد الأضحى مباشرة -قبل الخطبة-، ويُقدَّر ذلك بساعتين من بعد طلوع الشمس لمن لم يُصلِّ، أو في مكان لا تُصلَّى فيه صلاة العيد كالصحراء، وينتهي بمغيب الشمس من اليوم الثاني عشر من ذي الحجة، فتكون أيام النحر ثلاثة فقط، ولا يُعتبر الذبح قبل صلاة العيد؛ لقواعد: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} حيث جاء ذكر النحر بعد الصلاة، فيُبدأ بما بدأ الله به كما ذكرنا ذلك في الصفا والمروة، فكما أن من بدأ السعي بالمروة لا يصح سعيه، فكذلك من بدأ بالنحر قبل الصلاة لا يصح نحره كأضحية أو هدي، الثانية: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "من صلى صلاتنا ونسك نسُكنا: فقد أصاب النسك، ومن ذبح قبل أن يُصلِّي فليُعد مكانها أخرى" وهذا صريح في عدم اعتبار ذبح قبل الصلاة أضحية، الثالثة: قول الصحابي؛ حيث ثبت عن عمر وابنه، وعلي، وابن عباسٍ، وأبي هريرة، وأنس رضي الله عنهم: أن وقت الذبح ثلاثة أيام فقط، فإن قلتَ: لمَ شرع هذا؟ قلتُ: للتوسعة على =
عقب الصلاة والخطبة وذبح الإمام: أفضل، ثم ما يليه
(20)
(ويُكره) الذبح (في ليلتهما) أي: ليلتي اليومين بعد يوم العيد؛ خروجًا من خلاف من قال: بعدم الإجزاء فيهما
(21)
(فإن فات) وقت الذَّبح: (قضى واجبه) وفعل به كالأداء، وسقط التطوع؛ لفوات وقته،
(22)
ووقت ذبح واجب بفعل محظور من حينه، فإن أراد فعله
المسلمين، فإن قلتَ: لمَ لا يُذبح في اليوم الثالث عشر؟ قلتُ: لأن هذا اليوم لا يجب الرمي فيه، فلم تجز التضحية فيه كاليوم الذي بعده، [فرع]: إذا تعددت صلوات العيد في بلد واحد: فإنه يذبح بعد أسبق صلاة منها؛ نظرًا لتعلُّق الحكم بالصلاة، لا بالوقت، ولذلك يُذبح قبل الخطبة.
(20)
مسألة: الأفضل في وقت الذبح: أن يكون بعد الصلاة والخطبة مباشرة، وبعد ذبح الإمام أو نائبه -إن قدر على العلم بذلك-، ويليه: اليوم الذي بعده؛ لقاعدتين: الأولى: السنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد ذبح في هذا الوقت، الثانية: فعل الصحابي؛ حيث إن كثيرًا من الصحابة قد ذبحوا بعد ذبح النبي صلى الله عليه وسلم، فإن قلتَ: لمَ كان ذلك هو الأفضل؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه أجر عظيم؛ نظرًا للمبادرة والمسارعة في فعل الطاعات كالصلاة في أول وقتها.
(21)
مسألة: يُجزئ الذبح في ليلة الحادي عشر، وليلة الثاني عشر، مع الكراهة؛ لقاعدتين: الأولى: التلازم؛ حيث يلزم من وقوع الذبح في وقته: إجزاؤه، الثانية: المصلحة؛ حيث إن الليل يصعب توزيع اللحم وهو طريُّ على مُستحقيه، فيفوت أكثر نفعه فكُره لذلك، تنبيه: قوله: "خروجًا من خلاف .. " يُريد: أنه قال بالكراهة؛ لمراعاة الخلاف هنا قلتُ: مُراعاة الخلاف ليس بدليل مُعتبر عند الجمهور، وقد سبق بيانه.
(22)
مسألة: إذا فات وقت الذبح بأن غابت الشمس من يوم الثاني عشر: فإنه يجب عليه أن يذبح الواجب عليه -كهدي تمتع أو قرآن أو نذر- قضاءً، أما إن =
لعذر: فله ذبحه قبله، وكذا: ما وجب لترك واجب: وقته من حينه
(23)
فصل: (ويتعيَّنان) أي: الهدي والأضحية (بقوله: هذا هدي أو أضحية) أو لله؛ لأنه لفظ يقتضي الإيجاب، فترتَّب عليه مُقتضاه، وكذا: يتعيَّن بإشعاره، أو بتقليده بنيته (لا بالنية) حال الشراء، أو السوق كإخراجه مالًا للصدقة
(24)
(وإذا تعيَّنت) هديًا أو
كان تطوعًا -كالأضحية- فإنه يسقط؛ للقياس، وهو من وجهين، أولهما: كما أن الصلاة الواجبة لا تسقط بفوات وقتها، بل يصليها قضاء في أي وقت قدر عليه بعد ذلك؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"من نام عن صلاة أو نسيها فليُصلها إذا ذكرها" فكذلك الذَّبح الواجب لا يسقط بفوات وقته، بل يُقضى بعد وقته، والجامع أن كلًا منهما قد انشغلت به الذمة، فلا تبرأ إلا بفعله، ثانيهما: كما أن التراويح تسقط بفوات وقتها فكذلك الأضحية تسقط بفوات وقتها والجامع: عدم تعلُّق الذِّمَّة بهما؛ لكونهما سنة إن فعله فله أجر، وإن تركه فلا إثم عليه.
(23)
مسألة: وقت ذبح ما وجب من دم -وهي: الشاة- بسبب فعل محظور من محظورات الإحرام -كالحلق أو التقليم ونحوهما-، أو بسبب تركه لواجب من واجبات الحج -كترك المبيت بمزدلفة-: يكون من حين فعله، أو قبله بقليل إذا عزم على فعله، للتلازم؛ حيث إن فعل المحظور، أو ترك الواجب سبب لوجوب ذلك الدم فيلزم أن يكون ذبحه في حينه؛ لأن الحكم يكون بعد وجود سببه، والعزم سبب، [فرع]: شروط الذَّبح الشرعي: أن يكون الذابح عاقلًا مسلمًا، وأن تكون الآلة حادَّة، وأن يقطع الحلقوم والمرئ، وأن يُسمِّي بالله وسيأتي تفصيل ذلك في باب "الذكاة" من كتاب "الأطعمة".
(24)
مسألة: تتعيَّن هذه البهيمة -وهي الشاة مثلًا- أنها أضحية أو هدي بالنية والقول: بأن ينوِ بها أنها قربة لله تعالى، وأن يقول:"إن هذه أُضحية أو هدي" أو "هي لله تعالى" أو يُعلِّق على الهدي نِعالًا أو قطعة من الثياب، أو "يشق =
أضحية: (لم يجزِ بيعها ولا هبتها)؛ لتعلُّق حق الله تعالى بها كالمنذور عتقه نذر تبرر
(25)
(إلا أن يُبدلها بخير منها) فيجوز، وكذا: لو نقل الملك فيها، واشترى خيرًا منها: جاز نصًا، واختاره الأكثر؛ لأن المقصود: نفع الفقراء، وهو حاصل بالبدل،
(26)
ويركب لحاجة فقط بلا ضرر
(27)
(ويجزُّ صوفها ونحوه) كشعرها،
سنام البعير الأيمن فيُخرج بعض الدم" ويُسمَّى بالإشعار أو التقليد؛ لقاعدتين: الأولى: القياس، بيانه: كما أن الصدقة أو الوقف، أو العتاق لا يتعيَّن إلا بالنية والقول فكذلك الأضحية والهدي لا يتعيَّنان إلا بذلك، والجامع أن كلًا منها فيه لفظ اقتضى الإيجاب على نفسه على قصد القربة فلا بد منهما، ولا تكفي نيته عند شرائها أنها أضحية، الثانية: فعل الصحابي؛ حيث إن ابن عمر رضي الله عنهم كان يفعل الإشعار، والتقليد في الهدي.
(25)
مسألة: إذا تعيَّنت بهيمة كشاة مثلًا بالقول والنية على أنها أضحية أو هدي: فيجب ذبحها لذلك، فلا يجوز بيعها، ولا هبتها ولا وفاء دينه منها؛ للقياس؛ بيانه: كما أن السيد لو نذر أن يُعتق عبده المعيَّن نذر برٍّ: فلا يجوز بيعه أو التصرف فيه، ولا سداد دينه من ثمنه فيما لو مات وعليه دين، بل لا بدَّ من عتقه، فكذلك الحال هنا في الشاة، والجامع: أن كلًا منهما قد خرج من مُلكه بمجرد تعيينه لله تعالى.
(26)
مسألة: يجوز إبدال شاة مُعيَّنة لله تعالى بشاة أفضل منها، ويجوز بيعها لقصد شراء أفضل منها؛ للقياس، بيانه: كما يجوز استبدال وقف بما هو خير منه، فكذلك ما نحن فيه مثله والجامع: حصول المقصود من كل منهما وهو نفع الفقراء، وهو المقصد الشرعي.
(27)
مسألة: يُباح أن يركب ما عيَّنه أُضحية أو هديًا -مثل الإبل- إن احتاج لذلك، ولم يلحق المركوب ضرر، فإن لم يحتج إلى ذلك، أو احتاج ولكن =
ووبرها (إن كان) جَزُّه (أنفع لها ويتصدَّق به) وإن كان بقاؤه أنفع لها: لم يجز جَزُّه،
(28)
ولا يُشرب من لبنها إلا ما فضل عن ولدها
(29)
(ولا يُعطى جازرها
المركوب يتضرَّر: فلا يُباح الركوب؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم لرجل قد عيَّن بدنة هديًا: "اركبها بالمعروف" وهذا يلزم منه: أن يركبها إن احتاج لذلك، وأن لا يلحقها ضرر بذلك، وفيه دفع الضرر عنهما؛ وهو المقصد الشرعي.
(28)
مسألة: يُباح أن يجز ويأخذ شعر، وصوف، ووَبَر البهيمة المعيِّنة أُضحية أو هديًا، وينتفع به إن كان أخذه أنفع لها، أما إن كان يضرُّها ذلك: فلا يُباح؛ لقاعدتين، الأولى: القياس، بيانه: كما أن المالك ينتفع بجلد وشحم وعظام الأضحية والهدي فكذلك ينتفع بشعرها وصوفها ووبرها، والجامع: أن كلًا منها لا يصدق عليه اسم اللحم المأمور بالتصدق به، الثانية: المصلحة؛ حيث إنها تقتضي أخذ شعرها وصوفها ووبرها أحيانًا، وأحيانًا لا تقتضي، فأوجب الشارع مراعاة ذلك، فإن قلتَ: إنه إذا أخذ شعرها وصوفها ووبرها: لا ينتفع به، بل يتصدَّق به، وهو ما ذكره المصنف هنا؛ للقياس، بيانه: كما أنه يتصدق بلحمها فكذلك الصوف والشعر والوبر مثله، والجامع: نفع الفقراء في كل، قلتُ: هذا فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ حيث إن انتفاع الفقراء باللحم أعظم من انتفاعهم بالشعر ونحوه، فلا يُقاس عليه الشعر، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض القياسين" فعندنا تُلحق تلك الأمور بالجلد والعظام والشحم؛ لكون الشعر ونحوه أكثر شبهًا بها، وعندهم: تُلحق باللحم لأنها أكثر شبهًا به عندهم، وهذا قياس الشبه، أو "غلبة الأشباه".
(29)
مسألة: يُباح أن يُشرب من لبن الأضحية والهدي المعيَّنتين إن لم يُلحق ذلك الضرر بها أو بولدها، فإن وجد هذا الضرر: فلا يُباح ذلك: للقياس، بيانه: =
أجرته منها)؛ لأنه معاوضة، ويجوز أن يُهدي له، أو يتصدَّق عليه منها
(30)
(ولا يبيع جلدها ولا شيئًا منها) سواء كانت واجبة أو تطوعًا؛ لأنها تعيَّنت بالذبح (بل ينتفع به) أي: بجلدها، أو يُتصدَّق به استحبابًا؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"لا تبيعوا لحوم الأضاحي والهدي، وتصدُّقوا، واستمتعوا بجلودها" وكذا: حكم جُلِّها،
(31)
(وإن تعيَّبت) بعد
كما يباح ركوبها إن لم تتضرَّر، فكذلك يُباح شرب لبنها إن لم يلحق بها ضرر أو بولدها، والجامع: دفع الضرر عنه وعنها في كل، وهو المقصد منه.
(30)
مسألة: الجزَّار الذي يقوم بذبح الأضحية أو الهدي لا يُعطى أجرته من لحمها، ولكن يُتصدَّق عليه منه إن كان من أهل الصدقة، أو يُهدى إليه منه؛ للسنة القولية؛ حيث قال علي رضي الله عنه:"أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقوم على بُدنه، وأن أقسِّم جلودها، وجلالها، وأن لا أعطي الجازر منها شيئًا" فحرم إعطاء الجزَّار منها شيئًا؛ لأن النهي هنا مطلق فيقتضي التحريم، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: لأن الأضحية أو الهدي أصبحت مُلكًا الله بتعيينها، ولا يجوز أن يُعوِّض الآخرين عن عملهم من أملاك غيرهم، فإن قلتَ: لمَ يُعطى الجزَّار منها كصدقة، أو هدية؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إنه مستحق للأخذ منها كغيره، بل هو أولى؛ لكون نفسه قد اشتاقت إليها؛ لكونه قد باشر ذبحها واطَّلع على لحمها.
(31)
مسألة: يجوز أن ينتفع بجلد ورأس، وكبد، ورجل وكرش الأضحية والهدي لنفسه، أو يتصدَّق به، وكذا: جُلَّها -وهو: الغطاء الذي يُطرح عادة على ظهر الدَّابة-: سواء كان الهدي واجب أو لا، ولا يجوز بيعها؛ للسنة القولية: حيث قال صلى الله عليه وسلم: "لا تبيعوا لحوم الأضاحي والهدي، وتصدَّقوا، واستمتعوا بجلودها" فالأمر بالاستمتاع بالجلود نهي عن بيعه، والرأس، والكرش، والكبد، وآخر الأرجل مثل الجلود؛ لعدم الفارق من باب "مفهوم الموافقة"، وحديث علي رضي الله عنه المذكور في مسألة (30) - يلزم منه: عدم جواز بيع الجِلال، لأمره =
تعيينها: (ذبحها وأجزأته)،
(32)
وإن تلفت أو عابت بفعله أو تفريطه: لزمه البدل كسائر الأمانات
(33)
(إلا أن تكون واجبة في ذمَّته قبل التعيين) كفدية ومنذور في الذِّمَّة عيَّن عنه صحيحًا فتعيَّب: وجب عليه نظيره مُطلقًا،
(34)
وكذا لو سُرق، أو
بالتصدق بها، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: لكونها قد تعيَّنت بالذبح الله، ولا يجوز بيع شيء مما لا يملكه المسلم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"لا تبع مالا تملك".
(32)
مسألة: إذا أصاب الأضحية أو الهدي التطوع عيب من العيوب التسعة -المذكورة في مسألة (9) - كأن تُصاب بعور أو عمى، أو تنكسر رجلها من غير تفريط من المالك بعد أن عيَّنها لله تعالى: فإنه يذبحها وتجزئه، للسنة القولية؛ حيث قال أبو سعيد:"ابتعنا كبشًا نُضحِّي به فأصاب الذئب إليته فسألنا النبي صلى الله عليه وسلم فأمرنا أن نُضحِّي به" والأمر هنا للإباحة؛ لكونه ورد بعد حظر، ولا فرق بين العيوب في ذلك من باب "مفهوم الموافقة"، فإن قلتَ: لمَ كانت مجزئة؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه توسعة على المسلمين، ومحافظة على حقوق الناس.
(33)
مسألة: إذا تلفت الأضحية أو الهدي أو تعيَّبت بعد تعيينها بسبب فعله هو، أو تفريط منه: بأن صارت عوراء أو عمياء: فإنها لا تُجزئ، بل لا بدَّ أن يُوجد بديلًا عنها؛ للقياس، بيانه: كما أن الأمانة إذا تعيَّبت أو تلفت بسبب تعدِّي المؤتمن، أو تفريطه: فإنه يضمن ذلك فكذلك الحال هنا والجامع: أن كلًا منهما ليس مُلكًا له تلف أو تعيَّب بسببه فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حفظ وحماية حقوق الله تعالى.
(34)
مسألة إذا وجب الهدي -كهدي التمتع والقِران-، أو وجب عليه دم بفعل محظور من محظورات الإحرام، أو بترك واجب من واجبات الحج، أو بسبب نذر، فاشترى شاة لذلك وعيَّنها، ثم أصابها عيب من العيوب التسعة - السابقة =
ضلَّ ونحوه،
(35)
وليس له استرجاع معيب وضال ونحوه وَجَدَه
(36)
الذكر في مسألة (9) -كأن يُصيبها عرج ونحوه: فلا تجزئه لو ذبحها، ويجب عليه أن يذبح عنها صحيحة: سواء كان هذا العيب بتفريطٍ منه أو لا؛ للتلازم؛ حيث إنه قد وجب عليه دم -وهي: الشاة- صحيح تبرأ به الذِّمة، وما أصابها عيب لا تبرأ الذِّمَّة به وإن كان من غير قصد": فيلزم ذبح صحيحة عنها لأن الإيجاب كالشرط.
(35)
مسألة: إذا سُرِقت أو ضلَّت الأضحية أو الهدي أو المنذورة، أو الدم بعد تعيينها لذلك: فيجب عليه أن يذبح ما يُماثلها؛ للتلازم؛ حيث إنه لما عيَّنها، أو نذرها، أو وجبت بسبب فعل محظور أو ترك واجب: اشتغلت الذِّمَّة بذلك فيلزم أن يذبحها أو ما يماثلها؛ لإبراء ذمته.
(36)
مسألة: إذا سُرقت أو ضلَّت الأضحية أو الهدي أو المنذورة، أو الدم أو تعيَّبت وذبح ما يُماثلها، ثم وجد المسروقة، أو الضالة، أو شُفيت المعيبة: فإنه يملكها تمام الملك، ولا يجب عليه ذبحها؛ للتلازم؛ حيث إن ذمَّته قد برأت بذبح ما يُماثلها: فيلزم عدم وجوب شيء عليه فيمتلكها إذا عادت؛ لأن العبادة لا تُفعل مرَّتين، فإن قلتَ: إنه لا يمتلكها ولا يسترجعها لنفسه، بل يذبحها أيضًا، ويُقسِّم لحمها على الفقراء وهو ما ذكره المصنف هنا؛ لفعل الصحابي؛ حيث إنه قد ثبت عن عائشة، وعمر وابنه، وابن عباس رضي الله عنهم أنهم ذبحوا البدل، ولما عادت الضالَّة ذبحوها أيضًا، والمعيبة مثلها قلتُ: ذبحوا العائدة استحبابًا؛ لأن الفعل لا يدل إلا على الاستحباب، ولا يوجد سبب لإيجاب ذبحها بعد ذبحهم لما يُماثلها، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه "تعارض التلازم مع فعل الصحابي" فعندنا: يُعمل بالتلازم؛ لضعف فعل الصحابي، وعندهم: يُعمل بفعل الصحابي؛ لقوته عندهم.
(والأضحية سنة) مؤكَّدة على المسلم،
(37)
وتجب
(37)
مسألة: الأضحية مستحبة استحبابًا مؤكَّدًا على القادر وغيره؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "ثلاث كُتبن عليَّ، وهنَّ لكم تطوع: الوتر، والنحر، وركعتا الفجر" وهذا من الفروق في الأحكام بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين أمته، الثانية: التلازم؛ حيث يلزم من محافظة الصحابة عليها: أنها سنة مؤكدة، فإن قلتَ: لمَ استُحبت؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إنها من شعائر الإسلام، وهي تزيد من أجر الأحياء، ويصل ثوابها إلى الأموات، فإن قلتَ: إنها واجبة على المستطيع، وهو قول أبي حنيفة ومالك وبعض العلماء؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم:"من كان له سَعَة ولم يُضحِّ: فلا يقربنَّ مُصلَّانا" فدم من لم يُضحِّ وهو قادر بعدم قربانه المسجد وهذا عقاب، ولا يُعاقب إلا من ترك واجبًا قلتُ: هذا الحديث قد ضعَّفه أكثر أئمة الحديث، وعلى فرض قوته: فإنه يدلُّ على أنها مُستحبة استحبابًا مؤكَّدًا؛ قياسًا على قوله: "من أكل من هاتين الشجرتين فلا يقربنَّ مُصلَّانا" يُريد الثوم والبصل، ومع ذلك: فإنه لو صلى أكل الثوم والبصل في المسجد لصحَّت صلاته مع الكراهة، لأنه صلى الله عليه وسلم أراد بذلك التعبير أن يُؤكّد كراهة الصلاة مع الجماعة بعد أكله ذلك، فكذلك هنا أراد أن يؤكد بذلك التعبير استحباب الأضحية، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "الخلاف في صحَّة حديث: "من كان له سعة .. "، فعندنا: لا يُحتجُّ به؛ لضعفه، وعندهم: يُحتجُّ به. [فرع]: الأضحية تكون للأحياء، ولا تكون للأموات استقلالًا، أي: أن المسلم يُضحِّي عن نفسه، وعن أهل بيته من الأحياء والأموات، فالأموات يدخلون تبعًا، وعلى هذا: فلو أفرد ميتًا بأضحية: فإنها تكون صدقة، لا أضحية، وأفراد الميت بذلك على أنها أضحية بدعة؛ لقواعد: الأولى: السنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد ضحَّى عشر سنوات =
بنذر
(38)
(وذبحها أفضل من الصدقة بثمنها) كالهدي والعقيقة؛ لحديث: "ما عمل ابن آدم يوم النحر عملًا أحبُّ إلى الله من إراقة الدم"
(39)
(وسُنَّ أن يأكل) من
عن نفسه وأهل بيته، ويدخل في ذلك الأحياء والأموات، لكنه لم ينوِ أضحية خاصة لعمه حمزة، أو لزوجته خديجة رضي الله عنهم، أو لبعض أولاده أو أقربائه الذين ماتوا قبله، الثانية: الاستقراء؛ حيث إنه ثبت بعد استقراء وتتبُّع أحوال الصحابة أنهم فعلوا كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، الثالثة: التلازم؛ حيث يلزم من فعل شيء لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه: أن يكون بدعة، وكل بدعة ضلالة.
(38)
مسألة: تجب الأضحية إذا نذرها؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "من نذر أن يُطبع الله فليطعه" فأوجب الشارع الوفاء بالنذر؛ لأن الأمر هنا مطلق فيقتضي الوجوب، وهو عام فيشمل ما نحن فيه؛ لأن اسم الشرط من صيغ العموم.
(39)
مسألة ذبح الأضحية، والهدي، والعقيقة أفضل من التصدُّق بثمنها، ولو كان ثمنها يُشترى به أكثر من لحمها؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "ما عمل ابن آدم يوم النحر عملًا أحبُّ إلى الله من إراقة الدم" فيلزم من لفظ "أُحبُّ" أن ذبح ذلك وإراقة دمه أفضل من التصدُّق بثمنها؛ لأن "أحب" صيغة مبالغة، الثانية: السنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد ضحَّى عشر سنين، فلو كانت الصدقة بثمنها أفضل لفعله؛ مع أن الناس كثيرًا ما يكونون بحاجة إلى الثمن أكثر من اللحوم، ومع ذلك لم يتصدَّق بثمنه، بل ذبح، فإن قلتَ: لمَ كان الذبح أفضل؟ قلتُ: لأمرين: أولهما: أن سيلان الدم عبادة مقصودة كما قصد من الصلاة التعبُّد الخالص لله تعالى بجميع أفعالها وأقوالها لذلك قرن الذبح بالصلاة في قوله: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} وقوله: {إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وفي كل مِلَّة صلاة =
الأضحية (ويهدي، ويتصدَّق أثلاثًا) فيأكل هو وأهل بيته الثلث، ويُهدي الثلث، ويتصدَّق بالثلث حتى من الواجبة،
(40)
وما ذبح ليتيم، أو مكاتب لا هدية ولا صدقة منه، وهدي التطوع، والمتعة، والقِران كالأضحية،
(41)
والواجب بنذر، أو تعيين لا يأكل منه
(42)
(وإن أكلها) أي: الأضحية (إلا أوقية تصدَّق بها: جاز)؛ لأن
ونسيكة لا يقوم غيرها مقامها كما قال ابن القيم في "تحفة المودود" ثانيهما: أن مجرَّد إراقة الدم شعيرة من شعائر الله وسنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإحياء السنن أفضل الأعمال.
(40)
مسألة: يُستحب أن يُقسِّم لحم الأضحية والهدي، والعقيقة أثلاثًا: يأكل ثلثًا، ويتصدَّق بثلث، ويهدي الثلث الأخير: سواء كانت واجبة أو نافلة؛ لفعل الصحابي؛ حيث ثبت عن ابن عمر وابن مسعود رضي الله عنهم أنهما كانا يُقسِّمان الأضحية والهدي أثلاثًا كما سبق، فإن قلتَ: لمَ استحب ذلك؟ قلت: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تعميم للخير.
(41)
مسألة: إذا ذبح ولي أضحية أو هديًا عن يتيم، أو ذبح سيِّد عن عبد مكاتب -وهو: من اشترى نفسه من سيده بمال مؤجَّل-: فإنه لا يجوز التصدُّق من لحم المذبوح، ولا الإهداء منه؛ للقياس، بيانه: كما أنه لا يجوز للولي أن يتصدَّق ويهدي من مال اليتيم، والمكاتب فكذلك لا يجوز التصدُّق والهدي من أضحيتهما والجامع: أنه ليس داخلًا في ملكهما، وهذا فيه المحافظة على حقوق الآخرين، وهو المقصد منه.
(42)
مسألة: لا يجوز أن يأكل مما يذبحه وفاء لنذره، أو ما عيَّنه بسبب فعله لمحظور من محظورات الإحرام، أو بسبب تركه لواجب من واجبات الحج؛ للتلازم؛ حيث إن الوفاء بالنذر عقوبة وما وجب لترك واجب، أو لفعل محظور: جبران، وهو كفارة، والكفارة عقوبة، فيلزم عدم جواز الأكل من تلك العقوبة؛ لئلا =
الأمر بالأكل والإطعام مُطلق (وإلا) يتصدَّق منها بأوقية بأن أكلها كُلَّها: (ضمنها) أي: الأوقية بمثلها لحمًا؛ لأنه حق يجب عليه أداؤه مع بقائه فلزمته غرامته إذا أتلفه كالوديعة
(43)
(ويحرم على من يُضحِّي) أو يُضحَّى عنه: (أن يأخذ في العشر) الأول من ذي الحجة (من شعره) أو ظفره (أو بشرته شيئًا) إلى الذَّبح؛ لحديث مسلم عن أُمِّ سلمة رضي الله عنها مرفوعًا: "إذا دخل العشر، وأراد أحدكم أن يُضحِّي: فلا يأخذ من شعره ولا من أظفاره شيئًا حتى يُضحِّي"،
(44)
وسُنَّ حلق
ينتفع فلا يرتدع، بخلاف ما ذبحه لشكر الله كهدي التمتع، أو القِرآن، أو الأضحية أو العقيقة: فإنه يأكل منه، وإن كان واجبًا.
(43)
مسألة: يجب أن يتصدَّق بشيء من الأضحية أو الهدي أو العقيقة ولو قليلًا كأوقية -أي: أقل من كيلو جرام واحد-، فإن لم يفعل وأكلها كلها: فإنه يشتري أوقية من اللحم، فيتصدق بها؛ لقاعدتين: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} الثانية: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي أما الآن فكلوا وتصدقوا، وادخروا" فالأمر في النَّصَّين بالتصدُّق مُطلق، فيقتضي الوجوب، وهو شامل للتصدق بالقليل والكثير، فلو تصدَّق بشيء قليل يُسمَّى مُتصدِّقًا، لكن لو لم يتصدَّق: فإنه يلزمه غرامته لكونه وجب في ذمته -بالأمر السابق- فلا تبرأ إلا بأدائه كالوديعة تُضمن إذا تلفت، و"العقيقة" كالهدي والأضحية في ذلك؛ لعدم الفارق من باب "مفهوم الموافقة".
(44)
مسألة: يُكره أن يأخذ مَنْ أراد أن يُضحِّي من شعره أو أظفاره شيئًا ذلك من أول يوم من شهر ذي الحجة إلى بعد ذبح أضحيته في اليوم العاشر، أو ما بعده، وهو قول الجمهور؛ للمصلحة؛ حيث إن ترك الأخذ من الشعر والظفر يتسبَّب في تكثير الأجر في الأضحية؛ ليكون ذلك سببًا في إعتاقه من النار فكُرِه؛ حرصًا على منفعة المسلم، فإن قلتَ: إن الأخذ من الشعر والظفر يحرم، =
بعده
(45)
فصل: (تُسنُّ العقيقة) أي: الذبيحة عن المولود في حقِّ أب، ولو مُعسرًا،
وهو ما ذكره المصنف هنا؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم "إذا دخل العشر وأراد أحدكم أن يُضحِّي: فلا يأخذ من شعره، ولا من أظفاره شيئًا حتى يُضحِّي" فحرَّم الأخذ من ذلك؛ لأن النهي هنا مطلق، فيقتضي التحريم، الثانية: القياس، بيانه: كما أن المحرم في الحج لا يأخذ من شعره وظفره شيئًا فكذلك من أراد أن يُضحِّي مثله، والجامع: أن كلًا منهما أراد نسكًا في أيام معلومة، فأراد إكثار أجره قلتُ: أما الحديث: فالنهي الوارد فيه للكراهة، والذي صرفه من التحريم إلى الكراهة أمران أولهما: السنة الفعلية؛ حيث قالت عائشة رضي الله عنها: "كنت أفتل قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يُقلّدها بيده، ثم يبعث بها، ولا يحرم عليه شيء أحله الله حتى ينحر هديه" ثانيهما: المصلحة؛ حيث إن منع الأخذ من ذلك طوال العشرة الأيام فيه مشقَّة وحرج على من أراد أن يتقرَّب إلى الله بالتضحية، وقد يؤدي ذلك إلى ترك ذلك، أما القياس: فهو فاسد، لأنه قياس مع الفارق؛ لأن من أراد أن يُضحِّي فإنه يحرم عليه الأخذ من شعره وأظفاره عشرة أيام غالبًا، أما المحرم فإنه يحرم عليه الأخذ منهما يومين أو أقل على حسب وقت إحرامه، وهذا يلزم منه المشقة على المضحي قد لا يتحملها، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "الخلاف في النهي الوارد في الحديث هل هو للتحريم أو للكراهة؟ " فعندنا: للكراهة؛ لوجود الصارف، وعندهم: للتحريم، وكذلك:"الخلاف في المضحي هل هو مثل الحاج في ذلك أو لا؟ " فعندنا: ليس مثله ولا يُقاربه، وعندهم: إنه مثله.
(45)
مسألة: يُستحب لمن فرغ من أضحيته: أن يحلق شعر رأسه، وأن يقص شاربه، وأن يُقلّم أظفاره؛ للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه إزالة للقاذورات المتعلِّقة بشعر رأسه أو شاربه، أو أظفاره خلال الأيام السابقة التي كُرِه له الأخذ منها.
ويقترض، قال أحمد:"العقيقة سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عقَّ عن الحسن والحسين، وفعله أصحابه"(عن الغلام شاتان) مُتقاربتان سنًا وشبهًا، فإن عدم فواحدة (وعن الجارية: شاة)؛ لحديث أم كرز الكعبية قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "عن الغلام شاتان متكافئتان، وعن الجارية شاة"(تُذبح يوم سابعه) أي: سابع المولود،
(46)
ويحلق فيه رأس الذكر، ويُتصدَّق بوزنه
(46)
مسألة: تُستحب العقيقة بأن يذبح الأب المستطيع شاتين متشابهتين عن المولود الذكر، وشاة واحدة عن المولودة الأنثى في اليوم السابع من ولادتهما؛ لقواعد: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "عن الغلام شاتان مُتكافئتان، وعن الجارية شاة" الثانية: السنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم "قد عقَّ عن الحسن والحسين كبشين كبشين" الثالثة: قول الصحابي؛ حيث إن عائشة رضي الله عنها قالت: "إن العقيقة تُذبح يوم السابع"، وورد عن ابن عباس وابن عمر وعائشة رضي الله عنهم أنهم قالوا:"العقيقة مستحبة فمن شاء عقَّ عن مولوده، ومن شاء لم يفعل" فإن قلتَ: لمَ استُحبت العقيقة؟ قلتُ: للمصلحة؛ وقد ذكرنا ذلك في مسألة (2)، فإن قلتَ: لمَ قُيِّدت العقيقة بالأب؟ قلتُ: لأنه لا يُستحب أن يعقَّ عنه إلا أبوه فقط، فلو تركها الأب أو كان الأب ميتًا: فلا يُعقَّ عنه، ولا يُستحب أن يعقُّ عن نفسه إذا بلغ؛ لأن العقيقة شُرعت؛ ليشكر الأب الله تعالى على هذا الرزق، وغيره لا يقوم مقامه في ذلك، ثم إن محلها اليوم السابع، فلا تكون مشروعة بعد البلوغ، فإن قلتَ: إنه يُشرع للشخص أن يعقَّ عن نفسه بعد بلوغه إذا علم أنه لم يُعقَّ عنه؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "كل غلام مرتهن بعقيقته" فيفكُّ نفسه بالعقيقة قلتُ: إنه يلزم من لفظ "غلام": أن العقيقة تكون عن الغلام فقط ومن بلغ لا يُسمَّى غلامًا، والمرأة لا تسمَّى جارية، فإن قلتَ: إن المعسر يعق عن ولده فيستدين لذلك، وهو ما ذكره المصنف هنا قلتُ: إن المصلحة تدل على عدم استحباب العقيقة من الأب المعسر؛ لأن ذلك فيه =
ورقًا
(47)
ويُسمَّى فيه، ويُسنُّ تحسين الاسم، ويحرم بنحو: عبد الكعبة، وعبد النبي، وعبد المسيح، ويُكره بنحو: حرب ويسار، وأحب الأسماء: عبد الله، وعبد الرحمن
(48)
(فإن فات) الذبح يوم السابع (ففي أربعة عشر، فإن فات: ففي
مشقة عليه فقد لا يتمكن من سداد دينه الذي استدانه لأجل ذلك، فإن قلتَ: لمَ استحب أن يُعق عن الذكر بشاتين، والأنثى بشاة؟ قلتُ: لأن النعمة بميلاد الذكر أتم، والفرحة به أكمل فكان الشكر عليه أكثر كما قال ابن القيم، فإن قلتَ: لمَ كان ذلك بعد أسبوع من الولادة؟ قلتُ: لأنه غلب على الظن سلامة المولود؛ إذ لا يُعقُّ عن مولود يغلب على الظن موته.
(47)
مسألة: يُستحب أن يُحلق رأس المولود الذكر في يوم سابعه، ويُتصدَّق بوزن شعره فضَّة؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم:"مع الغلام عقيقته فأهريقوا عنه دمًا، وأميطوا عنه الأذى" فيلزم من عبارة "أميطوا عنه الأذى" استحباب حلق رأسه، والتصدُّق بوزنه فضة؛ لأن هذا من منع الأذى والأمراض عنه، وهذا هو المقصد منه.
(48)
مسألة: يُستحب أن يُسمَّى المولود في اليوم السابع من ولادته، ويُستحب تحسين اسمه، وأحب الأسماء:"عبد الله" و"عبد الرحمن"، ويُكره كل اسم فيه تشاؤم خالص مثل: عاص، أو حرب، أو كلب، أو كليب، أو حنظلة، أو قحط، أو حزن، أو مُرَّة، أو حيَّة، أو صعب، أو شهاب ونحو ذلك، ويُكره كل اسم فيه تفاؤل خالص مثل: يسار، ورباح، ونجاح، وأفلح، ويُحرَّم كل اسم مُعبَّد لغير الله مثل: عبد النبي، وعبد الكعبة، وعبد الحسين، وعبد الرضا، وعبد علي، وعبد المسيح، ونحو ذلك؛ لقواعد: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "أحبُّ الأسماء إلى الله: عبد الله وعبد الرحمن" وغيرهما مما أضيف إلى الله مثلهما كعبد العزيز وعبد الكريم وعبد الخالق؛ لعدم الفارق من باب "مفهوم =
إحدى وعشرين) من ولادته، روي عن عائشة رضي الله عنها، ولا تُعتبر الأسابيع بعد ذلك، فيعقُّ في أي يوم أراد
(49)
(تُنزع جدولًا): جمع جدل بالدال المهملة أي:
الموافقة"؛ لكون المقصود إظهار العبودية لله، الثانية: السنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد كره تلك الأسماء التي فيها تشاؤم أو تفاؤل، وغيَّر صلى الله عليه وسلم اسم رجل -وهو عبد الحجر- إلى "عبد الله" وهذا يدل على تحريم الاسم المعبَّد لغير الله، وسمَّى أبناءه، وأبناء فاطمة ابنته بأحسن الأسماء وهي: إبراهيم، والقاسم، والحسن والحسين، الثالثة: المصلحة؛ حيث إن التسمية في اليوم السابع فيه موافقة مع ذبح العقيقة وحلق الرأس، فيكون مناسبًا، والتشاؤم كله منهي عنه، والتفاؤل بالاسم قد لا يكون مثل اسمه فقد يُسمَّى يسارًا وهو من أعسر الناس، وقد يُسمَّى رباحًا وهو من أخسر الناس. [فرع]: يُكره أن يقول شخص لشخص آخر: "يا سيِّدي"، ويحرم أن يقول له: "يا مولاي" ويحرم أن يوصف شخص بأنه ملك الملوك أو الأملاك، أو سيِّد الناس، أو صاحب الجلالة، أو صاحب العظمة، أو الملك المعظَّم، أو قاضي القضاة؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "السيِّد الله تبارك تعالى" فيقتضي التأدُّب: كراهة التسمية بذلك، ونهى صلى الله عليه وسلم أن يقول الشخص يا مولاي، ونهى أن يقال: ملك الأملاك والنهي فيقتضي التحريم، والباقي مما يدل على العظمة مثل ذلك؛ لعدم الفارق، من باب: "مفهوم الموافقة".
(49)
مسألة: إذا لم يذبح الأب عقيقة مولوده في اليوم السابع: فإنه يذبحها في اليوم الرابع عشر، فإن لم يفعل: ففي اليوم الحادي والعشرين، فإن لم يفعل: ففي أي يوم شاء؛ لقول الصحابي؛ حيث إن ذلك ورد عن عائشة رضي الله عنها، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: لكون الرابع عشر، والحادي والعشرين يشبهان السابع من حيث التسبيع، وما بعد ذلك يكون قضاء، والقضاء يُفعل في أي وقت مناسب. [فرع]: تُجزئ الأضحية عن العقيقة إذا اتفق يوم عيد الأضحى =
أعضاء (ولا يُكسر عظمها)؛ تفاؤلًا بالسلامة، كذلك قالت عائشة رضي الله عنها
(50)
وطبخها أفضل، ويكون منه بحلو
(51)
(وحكمها) أي: حكم العقيقة فيما يجزئ، ويُستحب، ويُكره، والأكل، والهدية، والصدقة (كالأضحية)،
(52)
لكن يُباع جلد، ورأس، وسواقط، ويُتصدَّق بثمنه (إلا أنه لا يجزئ فيها) أي: في العقيقة (شرك في دم) فلا تجزئ بدنة ولا بقرة إلا كاملة، قال في "النهاية":"وأفضلها شاة"
(53)
(ولا تُسنُّ الفَرَعَة) بفتح الفاء والراء، نحر أول ولد الناقة (ولا) تسنُّ
مع اليوم السابع من ولادة المولود، هذا إذا نواهما، فيجتمع له أجرهما؛ للقياس؛ بيانه: كما أنه لو وُلد لشخص عدة أولاد في يوم واحد: فإنه تُجزئ عنهم عقيقة واحدة، فكذلك الحال هنا، والجامع: أن الذبح والنية قد حصلا، فحصل المقصود من العقيقة وهو: شكر الله تعالى.
(50)
مسألة: يُستحب أن تقطَّع أعضاء العقيقة من مفاصلها: جدولًا جدولًا، فلا تكسر عظامها، بأن تقطع يدها لوحدها، وكذا رجلها وهكذا؛ لقول الصحابي؛ حيث إن عائشة رضي الله عنها قالت ذلك، فإن قلتَ: لمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تفاؤل بسلامة هذا المولود من أن تكسر عظامه.
(51)
مسألة: يُستحب أن يُطبخ لحم العقيقة، ويوضع مع ذلك شيء حلو؛ للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه سرعة انتفاع الفقراء، والمهدَى إليهم منه.
(52)
مسألة: أحكام العقيقة فيما يُجزئ، وفيما يُستحب، وفيما يُكره وفيما يؤكل، ويُهدى ويُتصدَّق مثل أحكام الأضحية تمامًا وقد سبق بيان ذلك في كل مسألة من مسائل الأضحية ولا داعي لتكراره.
(53)
مسألة: الفروق بين العقيقة، وبين الأضحية والهدي ثلاثة: أولها: أنه يجوز بيع مالا يؤكل عادة من العقيقة كجلدها ورأسها وشعرها وسواقطها، ثم يُتصدَّق بثمنها، أما الأضحية والهدي: فلا يجوز ذلك؛ للتلازم؛ حيث إنهما أخلص من العقيقة في التعبُّد: فلزم عدم جواز بيع شيء منهما، ولزم التسامح =
(العتيرة) أيضًا، وهي: ذبيحة رجب؛ لحديث أبي هريرة مرفوعًا: "لا فرع ولا عتيرة" متفق عليه، ولا يكرهان، والمراد بالخبر: نفي كونهما سنة.
(54)
في العقيقة ثانيها: أنه لا يُعقُّ بسُبُع بدنة أو بقرة، بل لا بدَّ أن تكون بهيمة كاملة كناقة، أو بقرة، أو شاة، أما الأضحية والهدي فيجوز ذلك فيهما؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كون العقيقة فدية عن نفس كاملة: عدم قبول التشريك فيها بالبهيمة، ثالثها: أن الأفضل في العقيقة: أن تكون شاة، بخلاف الأضحية والهدي فالأفضل أن تكون بدنة، ثم بقرة، ثم شاة؛ للمصلحة؛ حيث إن ذبح الشاة عقيقة فيه عدم مبالغة في هذا المولود، وعدم المبالغة في الأمور مطلوب.
(54)
مسألة: لا تُستحب الفَرَعَة -وهي: ذبح أول ولد الناقة- ولا تُستحب العتيرة -وهي: أن تُذبح ذبيحة في العشر الأول من شهر رجب- وتُسمَّى "الرجبية"؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "لا فَرَع، ولا عتيرة في الإسلام" فنفى: أن يكون هذين الفعلين من سنن الإسلام -كما يظن البعض-، فإن قلتَ: لمَ لا يُستحب ذلك؟ قلتُ: لكونهما من أعمال الجاهلية؛ حيث إن العرب كانوا يذبحون أول ولد الناقة؛ شكرًا لآلهتهم وتقربًا إليها، والعتيرة: يذبحونها؛ تعظيمًا لشهر رجب، فبيَّن الشارع عدم استحبابهما؛ سدًا للذرائع؛ لأنه يُخشى من يتخذها بعض المسلمين طريقة للنسك كالأضحية، والهدي، والعقيقة، فإن قلتَ: لمَ لم يكن محرمًا أو مكروهًا؟ قلتُ: لأن المسلم قد يذبح أول ولد الناقة؛ شكرًا لله تعالى، أو يذبح أول شهر رجب ويُقسِّم ذلك على الفقراء، فهذا يختلف حكمه على حسب قصده: فإن كان قاصدًا به أن يفعل منها ما فعل العرب في الجاهلية فهو محرم، أو مكروه، وإن كان قاصدًا شكر الله تعالى: فإنه يُستحب، والأمور بمقاصدها كما هو معلوم.
هذه آخر مسائل باب "الأضحية والهدي، والعقيقة" وهو آخر باب من أبواب "كتاب المناسك: الحج والعمرة والأضحية والهدي" ويليه كتاب "الجهاد"
كتاب الجهاد
مصدر "جاهد" أي: بالغ في قتال عدوِّه، وشرعًا: قتال الكفار
(1)
(وهو: فرض كفاية) إذا قام به من يكفي: سقط عن سائر الناس وإلا: أثم الكل
(2)
ويُسنُّ
كتاب الجهاد
حقيقة الجهاد، وحكمه، والغنائم، والأمان، والهدنة، وما يتعلَّق بذلك
وفيه إحدى وخمسون مسألة:
(1)
مسألة: الجهاد لغة: مصدر مأخوذ من "جاهد، يجاهد، فهو مجاهد": إذا كان باذلًا لكل طاقته وكل ما في وسعه في الدفاع عن نفسه من عدو، وهو في الاصطلاح: بذل الجهد في قتال الكفار لإعلاء كلمة الله بعد امتناعهم عن الإسلام، ودفع الجزية، فإن قلتَ: لمَ جُعل الجهاد ضمن العبادات، مع أن بعض الفقهاء يجعلونه بعد مباحث الحدود؟ قلتُ: لأن كون الجهاد عبادة أظهر من كونه ردعًا وانتقامًا؛ حيث إن المسلم يُجاهد الكفار ليقيموا أركان الإسلام الخمسة، وهي "الشهادتان" والصلاة، والزكاة، والصوم، والحج والعمرة" وهي عبادات قد سبق تفصيل مسائلها.
(2)
مسألة: الجهاد فرض كفاية: إذا قام به من يكفي سقط عن الباقين، وإن تركه الجميع أثموا؛ لقاعدتين: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القتال} و"الكَتْب" من صيغ الوجوب، الثانية: السنة الفعلية؛ حيث "إنه صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج في غزوة أبقى بعض المؤمنين في المدينة" و"كان يبعث السرايا تقاتل في سبيل الله" وهذا يلزم منه: أن الجهاد فرض كفاية، فإن قلتَ: لمَ شُرع الجهاد؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن الإسلام لا يبقى ظاهرًا عزيزًا إلا بالجهاد، فإن قلتَ: إنه فرض عين، وهو قول سعيد بن =
بتأكُّد مع قيام من يكفي به، وهو أفضل مُتطوَّع به، ثم النفقة فيه
(3)
(ويجب) الجهاد
المسيب وبعض العلماء؛ للكتاب؛ حيث قال تعالى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} إلى قوله: {إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} حيث يلزم من الوعيد بالعذاب لمن تركه: أنه فرض عين؛ إذ لا يُتوعَّد بذلك إلا على ترك واجب عيني قلتُ: هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} كما قال ابن عباس رضي الله عنهم، وعلى فرض عدم نسخها: فيُحتمل أن يكون ذلك خاصًا بغزوة تبوك حين استنفر النبي صلى الله عليه وسلم الناس إلى تلك الغزوة، فتكون هذه الحالة من الحالات التي تجب فيها الإجابة، ولذلك هجر النبي صلى الله عليه وسلم كعب بن مالك وصاحبيه حينما تخلفوا عن تلك الغزوة بلا عذر، حتى أذن له بترك هجرهم، والدليل إذا تطرق إليه الاحتمال بطل به الاستدلال. [فرع]: يُشترط في كون الجهاد فرض كفاية: أن يكون المسلمون عندهم القوة والقدرة التي يغلب على ظنهم بسببهما: أنهم سينتصرون على الكفار، أما إن لم يكن ذلك مُتوفِّرًا: فلا يجوز الجهاد؛ للكتاب؛ حيث قال تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} وقال: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} حيث حرم ذلك؛ لأن النهي مُطلق، فيقتضي التحريم، وهو عام، فيشمل ما نحن فيه فيلزم من ذلك اشتراط القوة والقدرة، فإن قلتَ: لمَ اشتُرط ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن قتال العدو بلا قوة وقدرة يؤدِّي إلى إفناء المسلمين، وإهلاك الأنفس، وسبي ما بقي من الرجال والنساء، وجعلهم خدمًا للكفار، فدفعًا لذلك: اشترط ذلك.
(3)
مسألة: يكون الجهاد مُستحبًا استحبابًا مؤكَّدًا على شخص إذا قام به من يكفي به؛ للتلازم؛ حيث إنه يلزم من قيام بعض الطوائف بالجهاد: سقوط الوجوب عن هذا الشخص، فيكون الجهاد بحقِّه مُستحبًا فإن قلتَ: لمَ كان مُؤكَّدًا؟ قلتُ: لكونه مظهرًا من مظاهر الإسلام، ولمواظبة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عليه، تنبيه: =
(إذا حضره) أي: إذا حضر صف القتال (أو حضر بلده عدو) أو احتيج إليه (أو استنفره الإمام) حيث لا عذر له؛ لقوله تعالى: {إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا} وقوله: {مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ} ، وإذا نودي:"الصلاة جامعة" لحادثة يُشاور فيها: لم يتأخر أحد بلا عذر
(4)
(وتمام الرباط: أربعون يومًا)؛
قوله: "وهو أفضل مُتطوَّع به، ثم النفقة فيه" قد سبق بيان ذلك بالتفصيل في مسألة (2) من باب "صلاة التطوع والأوقات المنهي عن صلاتها فيها".
(4)
مسألة: يكون الجهاد فرض عين على المسلم القادر في خمس حالات: أولها: أن يكون المسلم قد حضر صف القتال، وهو قادر عليه، فهذا لا يجوز له ترك القتال إلا إذا خشي فناء المسلمين، أو كان مُتحرِّفًا لقتال بأن يُظهر أنه هرب، وهو يُريد أن يخدعهم، أو يترك فئة من المسلمين لينضم إلى فئة أخرى، ثانيها: إذا دخل الكفار بلد ذلك المسلم، وقدر على قتالهم، ثالثها: إذا كان عامة المسلمين بحاجة إلى ذلك المسلم: كأن يكون حاذقًا في رمي النبال، أو ذكيًا في خداع العدو، أو مهندسًا في بعض الآلات الحربية، أو كان حضوره يُحزن العدو، أو يفرح المسلمين رابعها: أن يطلب الإمام أو نائبه من ذلك المسلم الخروج للجهاد، ويستنفره، خامسها: أن يُنادي الإمام أو نائبه جميع المسلمين بعبارة: "الصلاة جامعة" من أجل التشاور في مسألة تهم الإسلام والمسلمين: سواء كانت تخص الجهاد، أو لا؛ لقواعد: الأولى: الكتاب؛ وهو من وجوه: أولها: قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفًا فلا تولُّوهم الأدبار، ومن يتولهم يومئذٍ دُبَره إلا متحرفًا لقتال أو متحيّزًا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير} فأوجب الشارع على من حضر صف القتال: أن يُقاتل؛ حيث إنه توعد من هرب بهذا الوعيد، ولا يُتوعَّد بذلك إلا تارك فرض عين عليه، أو فاعل الحرام، واستثنى المتحرف للقتال، =
لقوله صلى الله عليه وسلم: "تمام الرِّباط أربعون يومًا"رواه أبو الشيخ في كتاب: "الثواب" و"الرباط": لزوم ثغر الجهاد مقويًا للمسلمين، وأقلَّه ساعة، وأفضله بأشد الثغور خوفًا،
(5)
وكُره
والمتحيز إلى فئة؛ لأنه لم يقصد الهرب، ومن دخل الكفار بلده مثل من حضر الصف في ذلك؛ لعدم الفارق؛ وهو من باب "مفهوم الموافقة" ثانيهما: قوله تعالى: {مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ} فأوجب على من استنفره الإمام أن يخرج معه؛ لأن الاستفهام في قوله: "مالكم" للتوبيخ والإنكار، وهذه عقوبة، ولا يُعاقب إلا على ترك واجب، أو فعل حرام، ثالثها: قوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} حيث أوجب الشارع على من طُلب لأخذ رأيه في مسألة تخص الجهاد أو غيره: أن يُلبِّي ذلك بعينه؛ لكونه لا فائدة في هذا الخطاب إلا استجابة من كُلِّفوا بذلك، الثانية: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "اجتنبوا السبع الموبقات" وذكر منها: "التولِّي يوم الزحف"، و"الموبق" هو: المبطل لجميع الأعمال وهذه عقوبة، ولا يعاقب إلا من ترك واجبًا أو فعل محرمًا، الثالثة: المصلحة؛ حيث إن المشاركة المسلمين في القتال والمشورة فيه تأييد للإسلام والمسلمين وإضعاف للكفار، وهذا هو سبب النصر.
(5)
مسألة: يُستحب الرِّباط -وهو: لزوم الحدود بين ديار الإسلام وديار الكفار بنية: دفع الكفار إذا هجموا فجأة على المسلمين-، وأتمُّه: أربعون يومًا، وأفضله: الوقت والمكان اللذان يشتد فيهما الخوف من الكفار، وأقله: لزوم الحدود بينهما ساعة من نهار أو ليل؛ لقواعد: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا} حيث أمر بالمرابطة، والسنة القولية هي التي صرفت هذا الأمر من الوجوب إلى الاستحباب؛ حيث قال: صلى الله عليه وسلم: "رباط ليلة في سبيل الله خير من صيام شهر وقيامه" وقال: "رباط يوم =
نقل أهله إلى مُخوف
(6)
(وإذا كان أبواه مسلمين): حُرَّين، أو أحدهما كذلك:(لَم يُجاهد تطوعًا إلا بإذنهما)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "ففيهما فجاهد" صحَّحه الترمذي، ولا يُعتبر إذنهما لواجب، ولا إذن جدٍّ وجدَّة
(7)
وكذا: لا يتطوع به مَدِين آدمي لا وفاء
في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل" فلزم من لفظ "خير" الاستحباب، وإذا رابط ساعة يُسمَّى بالمرابط؛ لأن الأمر مطلق فيقتضي مرة واحدة وإذا فعل أقلَّ ما يطلق عليه الاسم صدق إطلاق الاسم عليه الثانية: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "من رابط أربعون يومًا فقد استكمل الرباط" الثالثة: المصلحة؛ حيث إن الرباط في وقت شدَّة خوف المسلمين من الكفار أو في مكان خوفهم منهم أنفع لهم، وأحوج ما يكونون إليه فيكون أفضل الرباط؛ لكثرة أجره؛ نظرًا لكونه يدفع أشد المضرَّات عن المسلمين.
(6)
مسألة: يُكره أن ينقل المرابط أهله: من زوجة وأولاد إلى مكان المرابطة الذي يخاف من هجوم العدو بغتة فيه؛ للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية لأهله من التعرض للأخطار، والأضرار؛ لأن دفع المفاسد مُقدَّم على جلب المصالح.
(7)
مسألة: إذا أراد المسلم أن يُجاهد جهاد فرض عين -كما سبق في مسألة (4) -: فإنه يخرج دون إذن والديه، أما إن كان الجهاد تطوُّعًا: فلا يخرج إلا بعد إذنهما، إن كانا مسلمين حُرَّين عدلين أو أحدهما، أما الجد والجدة: فلا يُعتبر إذنهما مطلقًا؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث إن رجلًا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يطلب أن يجاهد في سبيل الله قال له: "ألك أبوان؟ " قال نعم، قال:"ففيهما فجاهد" وفي رواية: "إن أذنا لك فجاهد، وإلا: فبرهما" فقدَّم الشارع برَّ الوالدين على الجهاد المستحب، ولزم من لفظ "أبوان": أن الجدَّ، والجدة لا يُعتبر إذنهما؛ لأنهما ليسا بأبوين حقيقة بدليل: مسائل الإرث، الثانية: المصلحة؛ حيث إن الجهاد الواجب مُقدَّم على برِّ الوالدين وإن كان واجبًا؛ لأن منفعة ومصلحة الجهاد عامة، وبرَّ الوالدين مصلحته خاصة، فتُقدّم العامة على =
له إلا مع إذن، أو رهن محرز، أو كفيل مليء،
(8)
(ويتفقَّد الإمام) وجوبًا (جيشه عند المسير ويمنع) من لا يصلح لحرب من رجال وخيل كـ: (المخذِّل) الذي يُفنِّد الناس عن القتال، ويُزهدهم فيه و (المرجف) كالذي يقول: هلكت سرية المسلمين، ومالهم مَدَد، أو طاقة، وكذا: من يُكاتب بأخبارنا، أو يرمي بيننا بفتن،
(9)
ويُعرِّف
الخاصة وهذه المصلحة هي التي خصَّصت الحديث السابق فجعلته خاصًا بالجهاد المستحب، فإن قلتَ: لمَ اشتُرط في الأبوين كونهما مسلمين حرين عدلين؟ قلتُ: لأن الكافِرَين لن يأذنا في حرب ضد الكفار، والعبدَين تبع لسيدهما فلا رأي لهما، والفاسقين لا يهمَّهما نصرة الإسلام.
(8)
مسألة: لا يجوز للمسلم أن يُجاهد تطوعًا إذا كان مدينًا لشخص آخر إلا بعد أن يأذن له هذا الآخر، أو يرهن شيئًا يفي بذلك الدَّين، أو يكفله مليء بأنه إن لم يرجع هو الذي يُسدِّد دينه؛ للسنة القولية؛ حيث قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: أيُكفِّر الله عني خطاياي إن مُتُّ صابرًا مُحتسبًا في سبيل الله؟ قال له: "نعم إلا الدَّين" حيث بيَّن أن الجهاد -وإن كان أعظم الطاعات- إلا أنه لا يُكفِّر الدَّين؛ لأن الاستثناء من الإثبات نفي فالمدين لا بدَّ أن يفي بدينه قبل خروجه للجهاد التطوعي، أو يأذن الدائن، أو يكفله مليء أو يرهن شيئًا يفي بدينه، فإن قلتَ: لمَ قيِّد ذلك بالجهاد تطوعًا؟ قلتُ: لأن الجهاد الفرض يجوز أن يخرج إليه المسلم ولو كان عليه دين، ولو لم يأذن الدائن؛ وللمصلحة؛ حيث إن الجهاد الواجب مقدَّم على قضاء الديون وإن كان واجبًا؛ لأن مصلحة الجهاد عامة فيقدم لذلك كما قلنا في تقديم الجهاد الواجب على برِّ الوالدين -وقد سبق في مسألة (7).
(9)
مسألة: يجب على الإمام أو نائبه: أن يتفقَّد جيش المسلمين قبل خروجه إلى القتال فإن وجد شخصًا قد اقتضت المصلحة عدم خروجه: أبعده عن الجيش كالشخص المخذِّل للجنود المضعف لحماسهم وعزيمتهم بعبارات كقوله: "إن =
الأمير عليهم العُرَفاء، ويعقد لهم الألوية، والرايات، ويتخيَّر لهم المنازل، ويحفظ
الوقت لا يصلح للقتال" أو يقول: "إن الطريق طويل" أو "السرية الفلانية من المسلمين قد انهزمت" أو نحو ذلك؛ وكذلك الشخص الذي يغلب على ظن الإمام أنه يُفشي سرَّ المسلمين، أو المنافقين والزنادقة الذين يسعون بشتى الطرق إبراز أنفسهم وتضعيف الآخرين من المسلمين المخلصين، أو التقليل من قيمتهم ومنزلتهم؛ للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية للمسلمين والجنود من الخذلان؛ لكون هؤلاء المخذِّلين ينشرون الفتنة، وتقوية جانب العدو، وهذا فيه ضرر على الإسلام والمسلمين، فوجب منعهم من الخروج، بل يجوز قتلهم إن أصروا على ذلك؛ لأن دفع المفاسد، مُقدَّم على جلب المصالح، ومن هنا وجب على الإمام أو نائبه أن يتفقَّد جيشه. [فرع]: لا تجوز الاستعانة بالكفار في الجهاد، إلا إن كان كافرًا حسن الرأي في المسلمين، وأمِنوا خيانته، واحتاجوا إليه كأن يكون عند الكفار أسلحة لا يعرفها إلا كافر مثلهم: فتجوز الاستعانة به بقدر الحاجة ليكشف لنا أسرار تلك الأسلحة؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "ارجع فلن أستعين بمشرك"، وهو عام، فيشمل جميع الكفار والمشركين؛ لأنه نكرة في سياق نفي، وهو من صيغ العموم فيلزم عدم جواز الاستعانة بأي كافر، الثانية: السنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد استعان بناس من المشركين في حرب خيبر، وحارب صفوان مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو حينئذٍ مشرك، وهذا يُحمل على ما إذا كان المشرك مأمون الجانب واحتيج إليه، وهذه السنة قد خصَّصت عموم السنة القولية السابقة، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه دفع مفسدة عن المسلمين، وهي مقدمة على جلب المصالح.
مكامنها، ويبعث العيون، ليتعرَّف حال العدو
(10)
(وله أن ينفل) أي: يُعطي زيادة على السهم (في بدايته) أي: عند دخوله أرض العدو، ويبعث سرية تُغير، ويجعل لها (الربع) فأقل (بعد الخمس، وفي الرَّجعة) أي: إذا رجع من أرض العدو، وبعث سرية ويجعل لها (الثلث) فأقل (بعده) أي: بعد الخمس، ويُقسِّم الباقي في الجيش كله؛ لحديث حبيب بن مسلمة:"شهدتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم نفل الربع في البدأة والثلث في الرجعة" رواه أبو داود
(11)
(ويلزم الجيش طاعته) والنصح (والصبر معه)؛ لقوله
(10)
مسألة: يجب على أمير الجيش وقائدهم العام الذي سيخرج معهم: أن يُقسِّم جيشه إلى فرق، ويجعل على كل فرقة عريفًا -ويُسمَّى رئيسًا-، ويجعل لكل عريف لواء، يختلف لونه عن لون العريف الآخر، ويجعل لكل عريف وفرقته مكانًا معروفًا، ويُخصِّص أناسًا يأتون له بأخبار العدو وتفصيلات حالتهم: من عدد، وعُدَّة، وخِطط، ومنازل، ويفعل هذا القائد كل ما فيه مصلحة للمسلمين، ومفسدة للعدو؛ لقاعدتين: الأولى: السنة الفعلية؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك في غزواته، ومنها: أنه جعل على كل عشرة عريفًا يوم خيبر، الثانية: المصلحة؛ حيث إن هذه السياسة الحربية تؤدي إلى نصر الإسلام والمسلمين.
(11)
مسألة: يُستحب لقائد الجيش -عند نزوله دار الحرب- أن يبعث سرَّية مكونة من عدة أفراد؛ ليبدأوا بقتال العدو، ويُعطيهم ربع ما يغنمونه من ذلك، ويُستحب له -عند خروجه من دار الحرب-: أن يبعث سرية أخرى لتقاتل آخر الكفار، وتُنكلِّ بهم، وتحمي ظهور المسلمين، ويُعطيهم ثلث ما يغنمونه من ذلك، أي: أن ما تغنمه السرية القبلية: يؤخذ خمسه -وهو سهم الله ورسوله- ثم يُؤخذ ربع الباقي، فيُقسَّم على أفراد تلك السرية، ويُضم الباقي إلى الغنائم العامة، وكذلك يُفعل في السرية البعدية؛ فتُعطى ثلث الباقي لما =
تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ}
(12)
(ولا يجوز) التَّعلُّف،
غنموه -بعد نزع الخمس- والباقي يُضم إلى الغنائم العامة، ثم إن أفراد السَّريتين يأخذون نصيبهم عند تقسيم الغنيمة العامة كغيرهم، فيكون ما يأخذونه من الربع والثلث زيادة ونفل لهم؛ للسنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد نقل الربع في البدأة والثلث في الرجعة، فإن قلتَ: لمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية لمقدمة جيش المسلمين ولمؤخرته، مما يؤدِّي إلى نصر الإسلام، فإن قلتَ: لمَ تُعطى السرية القبلية الرُّبع، وتُعطى السرية البعدية الثلث؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن مشقة السرية البعدية أكثر من مشقة السرية القبلية؛ لأن البعدية تحارب بعد انتهاء المعركة في حالة تكون النفوس والأجساد قد تعبت، وكلَّت، ولو هُزمت فقد لا يتنبَّه لها المسلمون؛ لكونهم قد ذهبوا، فاستحقت الثلث لذلك، بخلاف السرية القبلية: فإنها تحارب بنشاط وقوة، وإذا هُزمت: فإن الجيش كله خلفها يستطيع نصرها، فلما اختلفت المشقة اختلف الأجر في الدنيا والآخرة، والأجر في كل شيء على قدر المشقة.
(12)
مسألة: يجب على أفراد الجيش كله: أن يُطيعوا أميرهم وقائدهم، ويُخلصوا له النصيحة، وأن يصبروا معه -ولو كان ذلك الأمير فاسقًا، إذا لم يأمر بمعصية -؛ لقاعدتين: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا} وقال: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} فأوجب الشارع طاعة ولي الأمر، لأن الأمر في الآيتين مُطلق، فيقتضي الوجوب، وهو مطلق في الأزمان والأحوال، فيشمل الحرب والسلم، الثانية: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "من أطاعني فقد أطاع الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني" فطاعة الله والإخلاص له تقتضي وجوب طاعة أمراء المسلمين إذا لم يأمروا بمعصية، فإن قلتَ: لمَ وجب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ =
والاحتطاب، و (الغزو إلا بإذنه
(13)
إلا أن يفجأهم عدو يخافون كَلَبه) بفتح اللام، أي: شرَّه وأذاه؛ لأن المصلحة تتعيَّن في قتاله إذًا،
(14)
ويجوز تبييت الكفار، ورميهم بالمنجنيق،
(15)
ولو
حيث إن عدم طاعة أمير الجيش، والأمير العام يُؤدِّي إلى التنازع والاختلاف والفشل، وذهاب الريح والقوة، وهذا ما يُفرق بين المسلمين ويتسبَّب في هزيمتهم ويُفرح الكفار وينصرهم، فدفعًا لذلك: شرع ذلك.
(13)
مسألة: يحرم على أي جندي في الجيش أن يبدأ بالغزو، أو أن يخرج من المعسكر لتعليف البهائم، أو للاحتطاب، أو أي حركة إلا إذا أذن أميره؛ للكتاب؛ حيث قال تعالى:{وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا معه حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} وهذا عام للرسول ولغيره ممن يقوم بأمر المسلمين، وهذا النفي: نهي، وهو مطلق، فيقتضي التحريم، ومفهوم الغاية دلَّ على أنهم إذا أذن بذلك: فإنه يجوز، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن أمير الجيش وقائده أعلم بحال العدو، وطريقة حربهم بسبب ما تصل إليه من معلومات عن طريق مَنْ يبعثهم لذلك.
(14)
مسألة: إذا فاجأ الكفار المسلمين وغاروا عليهم: فيجوز لأي فرد من جيش المسلمين أن يُقاتلوهم ولو لم يأذن أمير الجيش؛ للقياس، بيانه: كما يجوز للمسلم أن يقتل الصائل والهاجم عليه بدون إذن أحد، فكذلك الحال هنا، والجامع: الحفاظ على النفس والدفاع في كل.
(15)
مسألة: يجوز للمسلمين أن يُغيروا على الكفار بليل أو نهار، في بيان أو لا، ويجوز رميهم بالمنجنيق -وهي المدافع-؛ للسنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد فعل ذلك، على أهل الطائف وغيرهم، فإن قلتَ: لمَ جاز ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ وهو: نصرة المسلمين.
قتل بلا قصد صبيًا ونحوه،
(16)
ولا يجوز قتل صبي، ولا امرأة، وخنثى، وراهب، وشيخ فان، وزمن، وأعمى لا رأي لهم، ولم يُقاتلوا، أو يحرِّضوا،
(17)
ويكونون أرقَّاء بسبي،
(18)
والمسبي غير بالغ مُنفرِدًا،
(16)
مسألة: إذا قامت الحرب: فيجوز للمسلمين أن يستعملوا أيَّ آلةٍ وطريقة تتسبَّب في نصرتهم، وهزيمة الكفار، ولو أدَّى ذلك إلى قتل الصبيان والنساء، والشيوخ، والرهبان من غير قصد، أو ضع الكفار بعض المسلمين في مُقدِّمة جيشهم -وهو التترس- فتجوز مهاجمتهم؛ للمصلحة؛ حيث إن مصلحة عامة المسلمين مُقدَّم على مصلحة هؤلاء؛ لأنه إذا تعارضت مصلحتان: قُدِّمت أعمهما وأعظمهما نفعًا.
(17)
مسألة: يحرم قتل أيِّ كافر لم يشترك في محاربة المسلمين: من قتال، أو رأي أو مشورة، أو تحريض: كصبيان الكفار، ونسائهم، ورهبانهم وشيوخهم، وأصحاب العاهات والأمراض، والعميان، أو غير ذلك؛ لقواعد: الأولى: السنة القولية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم "قد نهى عن قتل النساء والصبيان" والنهي هنا مُطلق، فيقتضي التحريم، الثانية: فعل الصحابي؛ حيث إن أبا بكر رضي الله عنه قد ترك الرهبان من الكفار، الثالثة: المصلحة؛ حيث إن هؤلاء إما أن يدفعوا الجزية، أو يكونوا أرقاء، فقتلهم فيه مفسدة على المسلمين.
(18)
مسألة: إذا سُبي أيُّ شخص من الكفار: فإن إمام المسلمين يفعل به ما تقتضيه المصلحة، فإن اقتضت قتلهم: فعل، وإن اقتضت الاسترقاق: فعل، وإن اقتضت المنَّ والفداء فعل؛ لقواعد؛ الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} وقال: {فإما مَنٌّ بعد وإما فِداء} الثانية؛ السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم لبعض زوجاته: "اعتقيها" يقصد امرأة قد أُسرت، الثالثة: السنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد منَّ على ثمامة وغيره، وقد فدى الرَّجل بالرَّجلين، =
أو مع أحد أبويه: مسلم،
(19)
وإن أسلم، أو مات أحد أبوي غير بالغ بدارنا: فمسلم،
(20)
وكغير البالغ من بلغ
الرابعة: المصلحة؛ حيث إن بعض من يُؤخذ أسيرًا قتله أصلح من إبقائه، وبعضهم فداؤه أصلح وبعضهم استرقاقه أصلح، وبعضهم المن عليه بالحرية أصلح، فكل فرد يُناسبه شيء قد لا يُناسب الآخرين وهذا من باب "تحقيق المناط الخاص". [فرع]: يترك الراهب من الكفار -وهو: الذي انقطع في مكان منعزل يعبد الله على ما جاء في دينه، وهو لا يُساعد الكفار على الإضرار بالمسلمين- فلا يُتعرَّض له بسبي، ولا قتل ولا تؤخذ منه الجزية؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "ذرهم وما حبسوا أنفسهم عليه" الثانية: فعل الصحابي؛ حيث إن أبا بكر رضي الله عنه فعل ذلك، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن قتلهم أو سبيهم، أو إيذاءهم يؤدي غالبًا إلى نفور الناس عن الإسلام، خاصة وأنهم لم يُشاركوا في شيء مما يؤذي المسلمين، وأنهم لا يصلحون إلا لما هم عليه.
(19)
مسألة: إذا سبى مسلم صبيًا من الكفار: فيُحكم عليه بأحكام الإسلام: سواء كان مُميزًا أو لا، وسواء سُبي مع أبويه أو أحدهما، أو بدونهما؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم:"كل مولود يُولد على الفطرة، فأبواه يُهوِّدانه، أو يُنصِّرانه، أو يُمجِّسانه"، فتكون تبعيته لأبويه انقطعت بسبب السبي؛ نظرًا لإخراجه من دار الكفر إلى دار الإسلام، فيكون تبعًا للمسلم.
(20)
مسألة: إذا أسلم أحد أبوي الصبي، في دار الإسلام: فيحكم على الصبي بالإسلام، للتلازم؛ حيث إنه تابع لدين أبويه أو أحدهما، فيلزم من إسلامهما أو إسلام أحدهما: أن يكون ولدهما تابعًا لذلك، فإن قلتَ: لمَ يُحكم عليه بحكم الإسلام إذا أسلم أحد أبويه فقط؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إنا غلَّبنا الأصلح له في الدنيا والآخرة، تنبيه: قوله: "أو مات" سيأتي بيانه في المسألة الآتية.
مجنونًا
(21)
(وتُملك الغنيمة بالاستيلاء عليها في دار الحرب) وتجوز قسمتها فيها؛ لثبوت أيدينا عليها، وزوال ملك الكفار عنها، و"الغنيمة": ما أُخذ من مال حربي قهرًا بقتال، وما أُلحق به، مشتقة من الغنم، وهو: الربح
(22)
(وهي لمن شهد الوقعة)
(21)
مسألة: إذا مات أبوا الصبي -وهما كافران- وذلك في دار الإسلام، أو بلغَ في دار الإسلام وهو مجنون: فلا يُحكم عليه بأحكام الإسلام، وهو مذهب الجمهور، بل يكون تابعًا لأقاربه الكفار؛ للاستقراء؛ حيث إنه قد ثبت بعد الاستقراء والتتبُّع لأحوال الكفار من أهل الذِّمَّة: أنهم لما ماتوا وتركوا صبيانًا: فإن الصحابة ومن جاء بعدهم من الخلفاء والولاة لم يحكموا على هؤلاء الصبيان بأحكام الإسلام، بل تركوهم على ما هم عليه، والمجانين مثلهم، فإن قلتَ: إن الصبي أو من بلغ مجنونًا هنا يُحكم عليه بأحكام الإسلام قلتُ: لم أجد دليلًا قويًا على ذلك.
(22)
مسألة: تُملك الغنيمة -وهي: كل مال أخذ من كافر حربي قهرًا بقتال، وما ألحق به مما أخذ بفداء أو أهدي لأمير أو نائبه- بعد الاستيلاء عليها في دار الحرب، وتُقسَّم بعد انتهاء المعركة مباشرة؛ لقواعد: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا} الثانية: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "وأُحلَّت لي الغنيمة" فيلزم من إحلالها ملكيتها، الثالثة: السنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم كان لا يرجع من غزوة إلا بعد أن يُقسِّم الغنيمة على من قاتل معه؛ الرابعة: التلازم، حيث إن الاستيلاء على ذلك المال بسبب شرعي، وهو: الجهاد، وطرد الكفار عنها وقهرهم: يلزم منه ثبوت أيدينا عليها وإزالة ملك الكفار عنها، فإن قلتَ: لمَ شُرعت الغنيمة في الإسلام؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن المجاهد إذا علم أنه سيجمع في الجهاد بين أجر الآخرة، وأجر الدنيا: مما يغنيه عن غيره، أو يُغني أولاده، أو يكون له صدقة جارية: فإنه سيُقاتل قتالًا شديدًا، يكون فيه النصر للمسلمين بإذن الله تعالى.
أي: الحرب (من أهل القتال) بقصده: قاتل أو لم يُقاتل حتى تجَّار العسكر وأجرائهم المستعدِّين للقتال؛ لقول عمر رضي الله عنه: "الغنيمة لمن شهد الوقعة"
(23)
(فيُخرج) الإمام أو نائبه (الخمس) بعد دفع سلب لقاتل، وأجرة جمع، وحفظ، وحمل، وجُعل من دلَّ على مصلحة، ويجعله خمسة أسهم: منها: سهم لله، ولرسوله صلى الله عليه وسلم مصرفه كفيء، وسهم لبني هاشم وبني المطَّلب؛ حيث كانوا: غنيهم وفقيرهم، وسهم لفقراء اليتامى، وسهم للمساكين، وسهم لأبناء السبيل، يعم من بجميع البلاد حسب الطاقة (ثم يُقسِّم باقي الغنيمة) وهو أربعة أخماسها بعد إعطاء النفل والرَّضخ لنحو قنِّ، ومميز على ما يراه (للراجل سهم) ولو كافرًا (وللفارس ثلاثة سهم له وسهمان لفرسه) إن كان عربيًا؛ لأنه صلى الله عليه وسلم "أسهم يوم خيبر للفارس ثلاثة أسهم: سهمان لفرسه، وسهم له" متفق عليه عن ابن عمر رضي الله عنه، وللفارس على فرس غير عربي سهمان فقط،
(24)
(23)
مسألة: تقسَّم الغنيمة على كل شخص شهد المعركة ممن قاتل فعلًا، أو كان مُستعدًا للقتال قاصدًا له ولو لم يُقاتل، ولو كان تاجرًا فيها؛ لقاعدتين: الأولى: السنة الفعلية؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم يُقسِّم الغنيمة على من شهد المعركة معه، الثانية: قول الصحابي، حيث قال عمر رضي الله عنه:"الغنيمة لمن شهد الوقعة" وهذا عام يشمل مَنْ ذكرنا فإن قلتَ: لِمَ يُعطى من حضر الوقعة وإن لم يُقاتل؟ قلتُ: لأنه مستعدٌّ في حالة الحاجة إليه.
(24)
مسألة: طريقة تقسيم الغنيمة هي كما يلي: أولًا: أن يُعطى كلُّ واحد سَلَبه، أي: إذا قتل مسلم كافرًا منفردًا، وعلم ذلك قائد الجيش: فإنه يستحق كل ما على ذلك الكافر فيأخذه المسلم دون أن يُشاركه فيه أحد وإن كان كثيرًا؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "من قتل قتيلًا له عليه بينة فله سَلَبه" وهو عام فيشمل القليل والكثير؛ لأن "مَنْ" الشرطية من صيغ العموم، ثانيًا: بعد ذلك: =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
يُعطى كل من استُؤجر لأجل جمع الغنيمة، أو حفظها من السارقين والأمطار، أو حملها من مكان إلى آخر، أو أرشد المسلمين مكان العدو؛ للتلازم؛ حيث إن ذلك كله من أجل مصلحة الغنيمة ودفع المفسدة عنها فيلزم أن يُعطى القائم بذلك منها قبل تقسيمها قياسًا على عامل الزكاة؛ حيث إنه يُعطى منها قبل إعطائها لمستحقيها كما سبق، ثالثًا: بعد ذلك: يُعطى كل مسلم أو مُعاهد ماله الذي أثبت مُلكيته له؛ للسنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد ردَّ غُلامًا قد هرب من ابن عمر إليه بعد المعركة؛ والمعاهد مثل المسلم؛ لعدم الفارق في ذلك من باب مفهوم الموافقة؛ نظرًا لكون المعاهد له ما للمسلم وعليه ما على المسلم، وهو يتضرَّر بأخذ حقه، رابعًا: بعد ذلك: يأخذ الإمام أو نائبه خُمُس الغنيمة، ويُقسِّمه على خمسة أسهم بالتساوي هي: 1 - سهم لله ولرسوله، ويكون فيئًا، يُجعل في بيت مال المسلمين، ويُصرف في مصالح المسلمين العامة، 2 - سهم يُوزَّع على ذوي القربى من رسول الله وهم بنو هاشم، وبنو عبد المطَّلب، ويُعطى هؤلاء مُطلقًا أي: سواء كانوا أغنياء أو فقراء، وسواء وُجد أو كان غائبًا، 3 - سهم يُوزَّع على فقراء اليتامى -واليتيم هو: من لا أب له وهو لم يبلغ- 4 - سهم يُوزَّع على المساكين -والمسكين هو الذي لا يجد قوت يومه ويشمل الفقير- 5 - سهم يُعطى ابن السَّبيل وهو المسافر المنقطع في سفره فيُعطى ما يُوصله إلى بلده؛ للكتاب؛ حيث قال تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَإنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ، وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} خامسًا: بعد ذلك: تُعطى السرية القبلية ربع ما غنموه في تلك السرية، وتُعطى السرية البعدية ثلث ما غنموه من تلك السرية -كما سبق في مسألة (11) -، سادسًا: بعد ذلك: يُخرج الرَّضخ، وهو: أن يُعطى بعض من حضر قسمة الغنيمة مما لا سهم له من الصبيان المميزين والنساء، والعبيد =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
النافعين، وأهل الذمة، وبعض رؤوس القبائل والعشائر ويُعطون أقل من سهم على حسب ما يراه الإمام من المصلحة؛ لقاعدتين الأولى: السنة الفعلية؛ حيث إن أم عطية قالت: "كان صلى الله عليه وسلم يرضخ لنا" أي: يُعطينا أقل من السهم، والصبيان والعبيد منهم؛ لعدم الفارق وأعطى صلى الله عليه وسلم قريشًا وبعض رؤوس القبائل من الغنيمة ويُعطى أهل الذمة مثلهم، لعدم الفارق، من باب "مفهوم الموافقة" الثانية: الإجماع؛ حيث أجمع الصحابة على أنه لا سهم للغلمان والنساء، وإنما يُرضخ لهم، سابعًا: بعد ذلك يُقسَّم الباقي على المجاهدين في تلك المعركة، والذين خرجوا قاصدين القتال، ولو لم يُقاتلوا، فيُعطى الراجل - وهو الذي قاتل بدون فرس - سهم واحد فقط، ويُعطى الفارس: ثلاثة أسهم: له، وسهمان لفرسه، إذا كان الفرس عربيًا، أما إن كان غير عربي كله، أو كان أحد أبويه غير عربي: فإنه يُعطى سهم واحد ولفرسه سهم واحد فقط؛ للسنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم "قد أعطى الراجل سهمًا، والفارس ثلاثة أسهم: سهمان لفرسه، وسهم له في غزوة خيبر"، "وأعطى الفرس العربي سهمين وأعطى الهجين سهمًا"، فإن قلتَ: لِمَ قُسِّمت الغنيمة على هذا التقسيم؟ قلتُ: لتحقيق العدالة في ذلك، فلو دقَّقت في هذا التقسيم لوجدت الشارع قد أعطى كل ذي حقٍّ حقَّه، وراعى جلب المصالح، ودفع المفاسد في هذا التقسيم، فإن قلتَ: لِمَ يأخذ الإمام خمس الغنيمة؟ قلتُ: شكرًا الله تعالى على ما حصل من النصر، فإن قلتَ: لِمَ يُعطى الرَّضخ؟ قلتُ: لتقوية إيمان من يُعطون من العبيد، ورؤوس القبائل، ولدفع شرَّهم، فإن قلتَ: لِمَ يُعطى الراجل سهمًا، والفارس ثلاثة؟ قلتُ: لأن تأثير الفرس في القتال والنكاية بالعدو أعظم وأشد من الراجل والفرس العربي أصبر وأقوى فيستحق أكثر من غيره.
ولا يُسهم لأكثر من فرسين إذا كان مع رجل خيل،
(25)
ولا شيء لغيرها من البهائم؛ لعدم وروده عنه صلى الله عليه وسلم
(26)
(ويُشارك الجيش سراياه) التي بُعثت منه من دار الحرب (فيما غنمت، ويُشاركونه فيما غنم) قال ابن المنذر: روينا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "وتُردُّ سراياهم على قعدهم"،
(27)
وإن بعث الإمام من دار الإسلام جيشين أو
(25)
مسألة: إذا كان مع مسلم أكثر من فرس: فإنه لا يُسهم إلا لفرس واحد فقط، فيُعطى ثلاثة سهمان، لفرسه وسهم له، وهو قول الجمهور؛ للسنة الفعلية؛ حيث "إنه صلى الله عليه وسلم قد فعل ذلك في غزوة خيبر" مع أنه يُحتمل أن بعض الصحابة معه أكثر من فرس، فإن قلتَ: يسهم لفرسين فيُعطى خمسة أسهم: سهمان لفرسه الأول، وسهمان لفرسه الثاني، وسهم له، وهو ما ذكره المصنف هنا قلتُ: هذا مخالف للسنة، ومخالف للمصلحة؛ حيث إن ذلك يتسبَّب في نقصان أنصبة الآخرين.
(26)
مسألة: إذا وُجد مع المجاهدين بهائم - غير الخيل - من إبل، وبقر، وغنم، وفيَلة، وحمير، ونحو ذلك: فلا يُسهم لها وإن انتفع بها في القتال؛ للسنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم: قد أسهم للخيل فقط في غزواته، وكان مع المجاهدين الإبل الكثير، ولم يُسهم لواحد منها، وعدم ذلك: يدل على عدم الحكم، فإن قلتَ: لِمَ لا يُسهم لها مع أنها تقوم ببعض الأعمال؟ قلتُ: لكون الخيول تُسهم وتشارك في القتال مشاركة فعلية من كرٍّ، وفرٍّ، وذهاب، وإياب، ودنو، وبعد، وسرعة ميل، ورفع وخفض، ومساعدة الفارس في القتال، ولا يمكن لغير الخيل أن تفعل ذلك، ولا تقاربه.
(27)
مسألة: إذا بعث قائد الجيش سرية، قبلية وسرية بعديةٍ من دار الحرب فإن ما غنمه أفراد هاتين السرَّيتين يشاركهم فيه أفراد الجيش العام الموجود في دار الحرب، وما غنمه - بعد إخراج الثلث والربع منه كما سبق في مسألة (11) - =
سريتين: انفردت كل بما غنمت
(28)
(والغال من الغنيمة) وهو: من كتم ما غنمه أو بعضه: لا يُحرم سهمه
(29)
و (يُحرق) وجوبًا (رحله كله) ما لم يخرج عن ملكه (إلا
وكذلك العكس: أي أن أفراد السريتين يُشاركون الجيش العام ما غنمه؛ لقواعد: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "وتُردُّ سراياهم على قعدهم" ويقصد بـ "القعد" الجيش العام؛ لكونهم قعدوا في دار الحرب، الثانية: السنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم لما غزَ هوازن بعث سرية من الجيش ففتحت تلك السرية فأشرك بينها وبين الجيش، الثالثة: القياس، بيانه: كما أنه لو غنم أحد جانبي الجيش: فإن الجانب الآخر يشترك معه في الغنيمة، فكذلك ما نحن فيه مثل ذلك والجامع: أن كلًّا منهما يُعتبر رفدًا وقوة لأصل الجيش ويشمله اسم واحد، والمصلحة واحدة.
(28)
مسألة: إذا بعث الإمام أو نائبه جيشين، أو سريتين من دار الإسلام والسلام، وغنم كل جيش أو سريَّة شيئًا: فإن كل أفراد الجيش، أو السرية ينفردون بما غنموه؛ للتلازم؛ حيث إن انبعاث كل جيش أو سرية من دار الإسلام، وقيامهم لوحدهم بالمعركة مع الكفار يلزم منه: أن يكون ما غنموه لهم؛ لما لاقوه من المشقة في ذلك.
(29)
مسألة يحرم أن يغلَّ واحد من الغزاة أو غيرهم من الغنيمة - والغلُّ: أن يأخذ أحد الغزاة شيئًا من الغنيمة، ويكتمه، ولا يطرحه مع الغنيمة عند قسمتها - وهذا الغال لا يُحرم سهمه من الغنيمة، بل يُعطى إياه؛ لقواعد الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} وهذا وعيد، ولا يُتوعَّد إلا على فعل حرام، الثانية: السنة القولية؛ وهي من وجهين: أولهما: قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الشملة التي أخذها يوم خيبر من المغانم لم تُصبها المقاسم: لتشتعل عليه نارًا" فلما سمع الناس ذلك: جاء رجل بشراك، أو =
السلاح والمصحف وما فيه روح) وآلته، ونفقته، وكتب علم، وثيابه التي عليه، ومالا تأكله النار فله قال يزيد بن يزيد بن جابر:"السنة في الذي يغلُّ: أن يُحرق رحله" رواه سعيد في "سننه"
(30)
(وإذا غنموا) أي: المسلمون (أرضًا) بأن
شراكين إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "شراك من نعل أو شراكان من نار" و "الشراك": سير النعل، وهذا وعيد، ولا يتوعَّد إلا على فعل محرم، ثانيهما: قوله صلى الله عليه وسلم: "أسهم يوم خيبر للفارس ثلاثة أسهم: سهمان لفرسه، وسهم له" وهذا عام فيشمل من غلَّ وغيره، فلا يمنع غلوله أن يُعطى حقه، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: لأن كتمان شيء من الغنيمة يُعتبر من باب الخيانة، والخيانة من الموبقات، ولا يجوز منع الغالِّ حقه؛ لكونه يلحق الضَّرر به، ولا ضرر في الإسلام.
(30)
مسألة: مَنْ غلَّ يُعاقبه الإمام أو نائبه وجوبًا بإحراق رحله ومتاعه كله إن كان تحت ملكه وتصرُّفه، إلا السلاح، والمصحف، وكل ما فيه روح من بهائم، وجميع الآلات التي معه، والكتب العلمية، والثياب، ونحو ذلك: فإنها لا تُحرق، ثم بعد ذلك يُعزَّر ذلك الغال بما يناسبه من، جلد، أو حبس؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ وهي من وجهين: أولهما: قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا وجدتم الرَّجل قد غلَّ فأحرقوا متاعه واضربوه" وهذا الأمر مُطلق، فيقتضي الوجوب، وقوله:"فاضربوه" كناية عن التعزير وللإمام أو نائبه أن يُعزِّر بما يراه مناسبًا للردع، ثانيهما: قول يزيد: "السنة في الذي يغلَّ: أن يُحرق رحله" ويلزم من هذا التعبير: أنها سنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّه هو الظاهر من هذا التعبير الثانية: المصلحة؛ حيث إن إحراق ما يجوز إحراقه فيه معاملة له بنقيض قصده، وحرمانه من كل متاعه ورحله عقوبة له، وردعًا لأمثاله، والعقاب من جنس العمل، وترك بعض الأمور بدون إحراق كالسلاح وكتب العلم ونحوها فيه مضرَّة عامة، فمُنع ذلك، فإن قلتَ: لا يُحرَّق شيء، وإنما يُؤخذ ما معه ويُجعل =
(فتحوها) عنوة (بالسيف) فأجلوا عنها أهلها (خُيِّر الإمام بين قسمها) بين الغانمين (ووقفها على المسلمين) بلفظ من ألفاظ الوقف ويضرب عليها خراجًا مستمرًا يؤخذ ممن هي بيده) من مسلم وذمي، يكون أجره لها في كل عام كما فعل عمر رضي الله عنه فيما فتحه من أرض الشام والعراق ومصر، وكذا: الأرض التي جلو عنها؛ خوفًا منا، أو صالحناهم على أنها لنا ونقرها معهم بالخراج،
(31)
بخلاف ما صُولحوا على
في بيت المال، وهو قول كثير من السلف، وتبعهم ابن تيمية وابن القيم؛ للسنة القولية؛ حيث "نهى صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال" وإحراق ذلك يُعتبر من إضاعة المال قلتُ: إن إحراق ذلك ليس من باب إضاعة المال، بل من باب حمايته؛ لأن هذا الفعل فيه زجر للفاعل وردع للآخرين من أن يفعلوا مثله، ففيه حماية لحقوق الآخرين من النهب والسلب وإبقاؤه كما قلنا في مصلحة قطع يد السارق ونحوه من العقوبات، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض السنتين، والمصلحتين" كما فصَّلنا.
(31)
مسألة: إذا غنم المجاهدون أرضًا عن طريق القتال والقهر، أو عن طريق جلاء الكفار عنها بدون قتالٍ، بل لخوف من المسلمين، أو عن طريق مصالحة المجاهدين معهم على أن تلك الأرض للمجاهدين، وهم يُقرِّونها بأيدي الكفار بالخراج فإن الإمام أو نائبه مُخيَّر بين أمرين: أحدهما: أن يُقسِّمها بين الغانمين ثانيهما: أن يوقفها على مصالح المسلمين بأحد ألفاظ الوقف، ويضرب عليها خراجًا مستمرًا بأن يقول مثلًا:"على كل متر من هذه الأرض أجرة وقدرها مائة درهم أو دينار - أو ما يُعادلهما من الأثمان - تؤخذ تلك الأجرة سنويًا ممن هي بيده: سواء كان مسلمًا أو ذمِّيًا" وهذا التخيير تخيير مصلحة كالتخيير في الأسرى؛ حيث إن الإمام يرى ما تقتضيه المصلحة فيفعله - بعد مشورة أهل العلم والفضل والخبرة في ذلك؛ لقواعد: الأولى: السنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قسَّم نصف أرض خيبر بين المسلمين، ووقف نصفها الآخر على نوائبه، =
أنها لهم ولنا الخراج عنها: فهو كالجزية تسقط بإسلامهم
(32)
(والمرجع في) مقدار (الخراج والجزية) حين وضعهما (إلى اجتهاد الإمام) الواضع لهما فيضعه بحسب اجتهاده؛ لأنَّه أجرة: يختلف باختلاف الأزمنة، فلا يلزم الرجوع إلى ما وضعه عمر رضي الله عنه،
(33)
وما وضعه هو أو غيره من الأئمة ليس لأحد تغييره ما لم يتغيَّر السَّبب كما في الأحكام السلطانية؛ لأن تقديره ذلك حكم،
(34)
والخراج على أرض لها ماء
الثانية: فعل الصحابي؛ حيث إن عمر رضي الله عنهم قد وقف الأراضي التي فُتحت عنوة في الشام ومصر والعراق، ونحوها، وضرب الخراج، ولم يُنكر عليه أكثر الصحابة الثالثة: المصلحة؛ حيث إن لكل عصر وقوم منفعة تختلف عن غيرهم؛ لذلك خُيِّر الإمام فيفعل ما يراه مناسبًا لعصره.
(32)
مسألة: إذا وقعت مصالحة بين المسلمين وبين الكفار على: أن هذه الأرض لهم، ولنا الخراج عنها: فإن حكم ما يُؤخذ من خراج حكم الجزية؛ وتسقط تلك الجزية إذا أسلموا؛ للتلازم؛ حيث إنها ليست بدار إسلام، فيلزم من إسلامهم: سقوط ذلك.
(33)
مسألة: الذي يضع مقدار الخراج - أو الجزية - الذي سيُؤخذ من تلك الأرض هو الإمام أو نائبه فيُقدِّر ما يراه مُناسبًا للزمان والمكان، والأفراد، والجودة فإذا فُتحت أرض لا يلزم أن يُوضع خراجها كما وضع عمر بن الخطاب رضي الله عنه إخراج أرض فُتحت في عصره، بل يُنظر لكل أرض بمفردها، فما يُناسبها قد لا يُناسب الأخرى؛ للمصلحة؛ حيث إن مقدار كل خراج وأجرة يختلف باختلاف الأزمان والأمكنة والجودة، فدفعًا للمشقة يُعطى كل عصر ومكان ما يُناسبه.
(34)
مسألة: إذا وضع إمام كعمر - مثلًا - مقدارًا لخراج أرض معينة، أو جزية على قوم: فلا يجوز لأحد من الذين يأتون بعده: أن يُغيِّروا ذلك المقدار، فلا =
تُسقى به، ولو لم تُزرع، لا على مساكن
(35)
(ومن عجز عن عمارة أرضه) الخراجية: (أجبر على إجارتها أو رفع يده عنها) بإجارة أو غيرها؛ لأن الأرض للمسلمين، فلا يجوز تعطيلها عليهم
(36)
(ويجري فيها الميراث) فتنتقل إلى وارث من
يُنقص منه ولا يزيد عليه، وإنما يُعادل ذلك بما يساويه من العملة المستعملة في عصر كل إمام؛ للاستصحاب؛ حيث إن حكم الإمام السابق في ذلك لازم في الحال، فيستصحب: لزومه في المستقبل إن لم يُوجد سبب يُغيِّر ذلك، ويلزم من تغيُّر العملات: مُعادلتها بما يساويها؛ للمصلحة الظاهرة. [فرع]: إذا تغيَّرت حال الأرض بأن غلا ثمنها، أو رخص فإنه يجوز للإمام أو نائبه أن يُغيِّر مقدار الخراج، فيزيد أو يُنقص على حسب ما يراه من اقتضاء المصلحة؛ للتلازم؛ حيث إن الخراج أجرة، والأجرة تختلف باختلاف الأزمان والأمكنة، والفائدة وعدمها: فيلزم من ذلك تغيير الأجرة على حسب ذلك.
(35)
مسألة: الخراج يوضع على أرض يُمكن سقيها بالماء لزرعها، وغرسها، ولو لم يقم الشخص بزراعتها، أو سقيها: أي: سواء زرعها أو لم يزرعها: فإنه يجب عليه دفع خراجها، أما المساكن المبنية والدور: أو الأراضي التي لا يصل إليها ماء: فلا خراج عليها؛ للقياس؛ كما أن الأجرة تُؤخذ من شيء ينتفع به المستأجر، أما ما لا يُنتفع به: فلا يُؤخذ منه شيء؛ لعدم الفائدة من ورائه، فكذلك الخارج مثلها، والجامع: الانتفاع وعدمه في كل وهو المقصد.
(36)
مسألة: إذا عجز شخص عن زراعة أو غراسة الأرض الخراجية التي تحت يده فإنه يُجبر على تركها لغيره حتى يقوم بزراعتها، أو رفع يده عنها؛ للمصلحة؛ حيث إن الأرض لمصالح جميع المسلمين، فلزم أن يُتصرف بذلك؛ لينتفعوا بخراجها وريعها.
كانت بيده على الوجه الذي كانت عليه في يد مُورِّثه، فإن آثر بها أحدًا: صار الثاني أحقُّ بها كالمستأجرة،
(37)
ولا خراج على مزارع مكة والحرم
(38)
(وما أُخذ) بحق بغير قتال (من مال مشرك) أي: كافر (كجزية، وخراج وعشر) تجارة من حربي، أو نصفه من ذمِّي اتَّجر إلينا (وما تركوه فَزَعًا) منَّا أو تخلَّف عن ميت لا وارث له (وخمس خمس الغنيمة فـ) هو (فيء) سُمِّي بذلك؛ لأنَّه رجع من المشركين إلى المسلمين وأصل الفيء: الرجوع (يُصرف في مصالح المسلمين) ولا يختصُّ بالمقاتِلة، ويبدأ بالأهم فالأهم من سد بثق، أو تعزيل نهر، وعمل قنطرة ورزق نحو قضاة، ويُقسَّم فاضل بين أحرار المسلمين: غنيهم وفقيرهم
(39)
(37)
مسألة: إذا كانت أرض خراجية تحت يد زيد فمات، أو باعها، أو آثر بها شخصًا آخر فإن تلك الأرض تنتقل إلى الذي آثره وقدَّمه، فإن لم يُوجد، فإنها تكون لمشتريها، فإن لم يُوجد: فإنها تكون لوارثه بشرط أن يكون المنتقلة إليه قادرًا على غرسها وزراعتها ودفع خراجها كما كان زيد يفعل ذلك تمامًا؛ للقياس، بيانه: كما أن زيدًا لو استأجر أرضًا أو دارًا مُدَّة فمات، أو جعل آخر عنه في باقي تلك المدَّة: فإن الوارث، أو الذي جعله عنه هو الأحق في باقي تلك المدة، فكذلك الحال في الأرض الخراجية، والجامع: أن كلًّا من ذلك حق له فيستفيد من ذلك المقدَّم، أو الوارث بشرطه فيهما.
(38)
مسألة: لا يجوز أخذ الخراج عن أراضي مكة والحرم وإن زُرعت أو غُرست؛ للقياس؛ بيانه: كما لا يجوز أن تؤجَّر المناسك بمنى ومُزدلفة فكذلك لا يجوز أخذ الخراج عن أراضيها مُطلقًا، والجامع: أن الأحق لمن سبق في كل؛ لتيسير العبادة، وهذا هو المقصد منه.
(39)
مسألة: الأموال التي يأخذها الإمام أو نائبه من الكفار تسمَّى "الفيء" وهو متكون مما يلي: أولًا: الذي يُؤخذ منهم كجزية وخراج - كما سبق في مسألة (32)، و 33)، ثانيًا: الذي يُؤخذ منهم كعشر مكسب تجارة كافر حربي =
فصل: ويصح الأمان من مسلم عاقل مختار غير سكران
قد تاجر في بلاد المسلمين، ثالثًا: الذي يُؤخذ منهم كنصف عشر مكسب تجارة كافر ذمِّي قد تاجر في بلاد المسلمين، رابعًا: الذي يُؤخذ منهم لما هربوا، أو فزعوا، أو طلبوا الهدنة، خامسًا: الذي يؤخذ من كافر قد مات لا وارث له، وكذا: مال مسلم لا وارث له مثله سادسًا: الذي يُؤخذ كخمس خمس الغنيمة - وهو: سهم الله ورسوله كما سبق في مسألة (24) -، وهذه الأموال توضع في بيت المال، وتُصرف في مصالح المسلمين العامة، ويُقدَّم في ذلك الأهم فالمهم على حسب الحاجة بكل عدالة وإخلاص، فيُبدأ مثلًا بتوفير المياه للمسلمين: من إصلاح الأنهار أو حفر الآبار، أو توصيل المياه إلى منازل المسلمين، ووضع القناطر؛ لكون نفع ذلك ظاهر وعام، ثم يُصرف على أشياء تُعين في الدين والحكم فيه كوضع القضاة، والتشجيع على طلب العلم طلبًا حقيقيًا وتوفير الكتب مع توفير العلماء الذين يشرحون تلك الكتب ويبينونها للناس، ثم يُعمل بعد ذلك ما يُناسب المصالح العاجلة والآجلة، ثم إن بقي شيء: فإنه يُصرف على جميع المسلمين الأحرار، فقيرهم وغنيهم على السواء، فلا يجوز لأي شخص قد تولَّى أمر المسلمين أن يحابي نفسه بما عنده من مال الدولة أو المنافقين الذين حوله، ويترك من قد يكون أخلص له من هذا المنافق الذي يدور حوله؛ لأن من نافقك فسيُنافق غيرك، ومن خان غيرك فسيخونك لا محالة وهذه قاعدة في السياسة الشرعية؛ لقاعدتين: الأولى: قول الصحابي؛ حيث قال عمر رضي الله عنه: "ما أحد من المسلمين إلا له في هذا المال نصيب إلا العبيد" فأثبت أن لكل مسلم حق بالتساوي ونفاه عن العبيد؛ لأن الاستثناء من الإثبات نفي، ولأن نفس العبيد مال لأسيادهم، الثانية: المصلحة؛ حيث إن هذا التقسيم يُحقق جلب المصالح، ودفع المفاسد، وهذا هو الغرض الذي جاء الإسلام لأجله، فإن قلتَ: لمَ سُمِّي هذا المال بالفيء؟ قلتُ: لأن الفيء هو: الرجوع، وهنا قد أرجع المال من غير المستحقين له وهم الكفار إلى المسلمين؛ لإعانتهم على عبادة الله.
ولو قَنًّا، أو أنثى، بلا ضرر،
(40)
في عشر سنين فأقل،
(41)
مُنجزًا
(40)
مسألة: إذا خاف كافر، وأمَّنه مسلم: فإنه يصح أمانه إذا كان هذا المؤمِّن مُسلمًا عاقلًا، مُختارًا، لا يلحقه ضرر من ذلك الأمان، وهذا مُطلق: أي: سواء كان هذا المسلم المؤمِّن عبدًا، أو حرًا، امرأة أو ذكرًا، أما إن كان غير مسلم، أو غير عاقل، أو مُكره، أو يلحقَه ضرر من هذا التأمين: فلا يصح أمانه للكافر؛ لقواعد: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} وهذا يدل على إباحة أمان المسلم للكافر؛ لأن الأمر ورد بعد حظر الثانية: السنة القولية؛ وهي من وجهين أولهما: قوله صلى الله عليه وسلم: "ذِمَّة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم" والعبد والمرأة يصح أمانهما؛ لعموم قوله: "المسلمين" للعبيد والنساء؛ لأن الخطاب يعمهم، ودلَّ مفهوم الصفة على عدم جواز تأمين الكافر، ثانيهما: قوله صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا ضرار في الإسلام" فحرم التأمين الذي يُؤدِّي إلى الأضرار بالمؤمِّن؛ لأن النفي: نهي، والنهي مُطلق، وهو يقتضي التحريم، الثالثة: قول الصحابي؛ حيث قال عمر رضي الله عنه: "العبد المسلم رجل من المسلمين يجوز أمانه" وهو خاص في المسألة، الرابعة: التلازم؛ حيث يلزم من اختلاط حقائق الأمور على غير العاقل والسكران، والمكره: عدم صحة أمانهم؛ لعدم قصد الأمان؛ حيث إن الأمور بمقاصدها، فإن قلتَ: لمَ صحَّ الأمان؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك من باب الدعوة إلى الإسلام، فقد يتأثَّر الكافر بمعاملة المسلمين له، وبمعاملة بعضهم لبعض، ثم يُسلم، فإن قلتَ: لمَ اشتُرطت تلك الشروط؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه جلب مصلحة للمؤمِّن، وللمؤمَّن، ودفع مفسدة عنهما.
(41)
مسألة: يُباح تأمين الكافر عشر سنين وأكثر وأقل، فلا يُوجد تعيين ذلك بمدَّة؛ للمصلحة؛ حيث إن المسلمين قد يحتاجون في التأمين أو المهادنة للكفار أكثر أو أقل من عشر سنين، فشُرع ذلك؛ لمراعاة حاجة المسلمين، فإن قلتَ: يشترط: أن =
ومعلَّقًا،
(42)
من إمام الجميع المشركين ومن أمير لأهل بلدة جُعل بإزائهم، ومن كل أحد لقافلة، وحصن صغيرين عُرفًا،
(43)
ويحرم به قتل، ورقٌّ،
يُؤمَّن الكافر عشر سنين فما دونها، ولا يُزاد عليها سواء كان المؤمِّن الإمام أو نائبه أو فرد من أفراد المسلمين قلتُ: لم أجد دليلًا قويًا على ذلك.
(42)
مسألة: يصحُّ الأمان مُنجزًا بأن يقول المسلم للكافر: "أنت آمن" أو "لا بأس عليك" أو "أجرتك" أو "ألق سلاحك" أو "لا تخف" أو "لا تخش شيئًا"، ويصح مُعلقًا على شرط بأن يقول المسلم للكافر:"إن فعلت كذا: فأنت آمن" أو يقول: "من فعل كذا فهو آمن" ونحو ذلك، ويصح الأمان في رسالة، أو كتابة، أو إشارة أو إيماء تُفهم الأمان؛ لقواعد: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "من دخل داره فهو آمن .. " حيث إن هذا معلَّق بشرط، وإذا صح الأمان المعلق فمن باب أولى أن يصح الأمان الناجز من باب "مفهوم الموافقة الأولى" الثانية: القياس، بيانه: كما أن النَّطق بالأمان يصح، فكذلك ما تلفَّظ به ووضع في كتاب أو رسالة وأرسلت إلى الكافر، والجامع: أن كلًّا منها يُفهم الأمان، الثالثة: قول الصحابي؛ حيث قال عمر رضي الله عنه: "لو أن أحدكم أشار بإصبعه إلى السماء إلى مُشرك فنزل بأمانه فقتله: لقتلته به" فإن قلتَ: لمَ صحَّ ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه توسعة وتيسير على المسلمين في الأمان والمهادنة.
(43)
مسألة: يصح أمان إمام المسلمين أو نائبه الجميع الكفار، ولا يصحُّ أمان أمير بلدة أو آحاد المسلمين لمجموعة من الكفار إلا بعد أن يُجيز ذلك الإمام الأعظم أو نائبه ويُوافق عليه؛ للمصلحة؛ حيث إن الإمام الأعظم أو نائبه أعلم بمصالح المسلمين العامة، فلو أذن لكل شخص أن يؤمِّن مجموعة من الكفار بدون إذن الإمام لترتَّب على ذلك: اختلاط الكفار بالمسلمين، وتعطيل الجهاد، فإن قلتَ: =
وأسرٌ
(44)
ومن طلب الأمان؛ ليسمع كلام الله، ويعرف شرائع الإسلام: لزم إجابته، ثم يُردُّ إلى مأمنه
(45)
والهدنة: عقد الإمام أو نائبه على ترك القتال مُدَّة
يصحُّ أن يؤمِّن أمير بلدة أهل بلدة كافرة، أو أهل حصن منهم، ويصح ذلك آحاد المسلمين أيضًا: سواء أذن الإمام الأعظم أو نائبه أو وهو الذي أشار إليه المصنف هنا قلتُ: لم أجد دليلًا قويًا على ذلك، بل إنه مخالف لما اقتضته المصلحة؛ لأن دفع المفاسد مقدم على جلب المصالح.
(44)
مسألة: إذا وقع الأمان من مُسلم لكافرٍ، أو لعددٍ من الكفار: سواء كان المؤمِّن إمام المسلمين الأعظم، أو نائبه، أو فرد من المسلمين: فإنه يحرم - بسبب هذا الأمان -: أن يتعرض هذا الكافر المؤمَّن لأي أذى: من قتل، أو استرقاق، أو أسر، أو سرقة ماله أو نحو ذلك، ولو جعل هذا الكافر مالًا عند مسلم كوديعة ثم رجع إلى دار الحرب، فيجب على المسلم أن يُرجع هذا المال إلى ذلك الكافر، فإن كان ميتًا: فإنه يُعطيه ورثته؛ للتلازم؛ حيث يلزم من إعطائه للأمان: أن يكون عليه ما على المسلم وله ما للمسلم، فهو معصوم مثله، ويلزم من كون الكافر قد سلَّم تلك الوديعة إلى المسلم في حالة الأمان: أن تُردُّ إليه وإن رجع إلى دار الحرب؛ استصحابًا للحال السابق، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك الاحترام يُعتبر احترامًا وتكريمًا للمسلم الذي أمَّنه، فقد يتأثر هذا الكافر بذلك فيُسلم. [فرع]: إذا دخل مسلم ديار الكفار: فإنه يحترم أنظمتهم، ويحرم عليه خيانتهم، وتخويفهم بأي شيء، وإن سرق شيئًا يلزمه إرجاعه إليهم؛ للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تحقيق للعدالة ونشر الإسلام، ودخول الآخرين فيه عن اقتناع.
(45)
مسألة: إذا طلب كافر أن يُؤمِّن لأجل أن يسمع كلام الله، ويعرف الأحكام الشرعية فيجب على أي مسلم أن يُجيبه على ذلك، وأن يُسهِّل الأمور لتحقيقه؛ للكتاب؛ حيث قال تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ=
معلومة، ولو طالت بقدر الحاجة، وهي لازمة يجوز عقدها؛ لمصلحة؛ حيث جاز تأخير الجهاد؛ لنحو ضعف بالمسلمين ولو بمال منَّا ضرورة،
(46)
ويجوز شرط ردِّ
حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} فأوجب الشارع ذلك؛ لأن الأمر مُطلق، فيقتضي الوجوب، فإن قلتَ: لمَ وجب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه دعوة إلى الله تعالى والدعوة إلى الله واجبة إذا تيسرت.
(46)
مسألة: يجوز عقد الهدنة بين المسلمين والكفار عقد لازم - وهو: أن يعقد الإمام أو نائبه عقدًا يتضمَّن ترك القتال الكفار، وهو مُدَّة معلومة - وتُسمَّى مهادنة، وموادعة، ومعاهدة وصلح، ويجوز ذلك بغير مال، ويجوز بمال يدفعه الكفار للمسلمين، وبمال يدفعه المسلمون للكفار؛ لقواعد: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} وقال: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} وهذا يلزم منه جواز الهدنة مُطلقًا، الثانية: السنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد عقد هُدنة وصُلحًا مع كفار قريش في الحديبية بدون مال، الثالثة: القياس، بيانه: كما يجوز للأسير المسلم فداء نفسه بمال يُدفع للكفار، فكذا يجوز أن يدفع المسلمون مالًا للكفار من أجل الهدنة والصلح العام، والجامع: الدفاع عن المسلمين: أفرادًا وجماعات في كل، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلت: للمصلحة؛؛ حيث إن ذلك فيه دفع مضرة عن المسلمين، ودفع المفاسد مقدم على جلب المصالح، فإن قلتَ: إن دفع المسلمين المال للكفار لا يجوز، وهو قول الشافعي وأحمد وبعض الفقهاء؛ للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه مفسدة على المسلمين وهي: صغار وإذلال للمسلمين قلتُ: إن المسلمين لا يدفعون هنا مالًا إلا عند الضرورة، وهي أن يخشوا من قيام الكفار، بسبيهم، أو قتلهم قتلًا عامًا، أو يعتدوا على أعراضهم، فيكون هذا المال يدفع لحفظ دينهم، وعرضهم، وأنفسهم، وهذا أعظم المصالح، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض المصلحتين" كما هو واضح.
رجل جاء منهم مُسلمًا؛ للحاجة، وأمره سِرًّا بقتالهم والفرار منهم،
(47)
ولو هرب قنٌّ فأسلم: لم يُردُّ وهو حر
(48)
، ويؤخذون بجنايتهم على مسلم من مال، وقَوَد، وحدٍّ،
(49)
ويجوز قتل رهائنهم إن قتلوا
(47)
مسألة: إذا اشترط الكفار - في عقد الهدنة -: أن يرد المسلمون رجلًا جاء من الكفار مسلمًا أو مستأمنًا إليهم: فإن هذا يجوز، ويجوز للمسلمين أن يأمروا هذا الرجل الذي جاء مسلمًا من الكفار بأن يهرب منهم، وأن يفعل أيَّ شيء فيه نقص عليهم، لكن لا يرجع إلى المسلمين للسنة الفعلية؛ حيث إن الكفار قد شرطوا ذلك في صلح الحديبية ووفَّى صلى الله عليه وسلم لهم بذلك، فلما جاء أبو جندل، وأبو بصير ردَّهما رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الكفار، وأمرهما بأن يفعلا بالمشركين ما شاءا من المكائد، فإن قلتَ: لمَ جاز ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن المسلمين في حال ضعفهم يجوز لهم أن يقبلوا كل شيء إلا الضرورات الخمس وهي: حفظ الدين، والعرض، والعقل، والنسل، والنفس؛ وذلك للحاجة.
(48)
مسألة: إذا هرب عبد رقيق من كافر، ودخل في دار الإسلام، ثم أسلم: فإنه يكون حُرًّا ولا يُردُّ إليهم؛ للتلازم؛ حيث إن عقد الهدنة يقع عرفًا على الأحرار، والعبيد يتبعون أسيادهم، فإذا أسلم وجاء إلى ديار الإسلام فإنه يكون حُرًّا حكمًا فيلزم من ذلك: عدم ردِّه؛ لأن الشخص يملك نفسه إذا أسلم.
(49)
مسألة: يجب أن تقام على الكفار - الذين يقع بيننا وبينهم عقد هدنة وأمان - جميع العقوبات والحدود التي تلزم من جناياتهم على المسلمين، فإذا سرق المعاهد وتوفَّرت شروط السرقة: تقطع يده وهكذا؛ للتلازم؛ حيث يلزم من عقد الهدنة: أن يكون الكفار كالمسلمين في الأمن على أنفسهم بأن يكونوا لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم، وهذا يلزم منه إقامة جميع العقوبات عليهم، وقد فصَّلتُ ذلك =
رهائننا،
(50)
وإن خيف نقض عهدهم: أعلمهم أنه لم يبق بينه وبينهم عهد قبل الإغارة عليهم.
(51)
في كتابي: "الإلمام في مسألة تكليف الكفار بفروع الإسلام"، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية حقوق المسلمين.
(50)
مسألة: يجوز قتل رهائنهم إذا قتلوا رهائن المسلمين؛ للمصلحة؛ حيث إنه إذا عرف الكفار بأن رهائنهم الذين عند المسلمين سيُقتلون إن قتلوا رهائن المسلمين: فإنهم سيمتنعون عن قتل الرهائن من المسلمين.
(51)
مسألة: إذا وُجدت علامات وأمارات من الكفار تدل على نقضهم للعهد: فيجب على إمام المسلمين أو نائبه أن يتأكد من ذلك، فإذا تأكَّد من ذلك: فيجب أن يُعلمهم أنه قد انتقض العهد شرعًا، ويُعلمهم بأنه سيهجم عليهم، وبذلك تحلُّ دماؤهم، وسبي ذراريهم، وجميع أموالهم؛ لقاعدتين: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} فأوجب إعلامهم بقتالهم؛ لأن الأمر مُطلق فيقتضي الوجوب، وهذا الخطاب يشمل أمته لأن الخطاب الموجَّه إليه صلى الله عليه وسلم تدخل فيه أمته فيكون عامًا له ولهم، ولا يوجد ما يُخصَّصه، الثانية: السنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم "لما هادن قريشًا فنقضوا العهد: حلَّ له منهم كل ما كان قد حُرِّم عليه منهم" و "لما نقض بنو قريظة العهد قتل رجالهم، وسبى ذراريهم، وأخذ أموالهم" فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: يُعلمون قبل قتالهم لئلا يؤخذون على حين غرَّة، ولعلهم يرجعون ويتبين أن ذلك كان وشاية وخيانة من أحدهم فقط. [فرع]: يجب أن يُمنع الكفار من الإقامة في جزيرة العرب - وهي: من: جنوب العراق إلى عدن طولًا، ومن تهامة إلى أطراف الشام عرضًا-، أما إذا أقاموا للعمل: فيجوز؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب" =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فأوجب إخراجهم؛ لأن الأمر مطلق فيقتضي الوجوب، وهذا المنع جاء للمصلحة؛ حيث إن إقامتهم فيها فيه مفسدة على أهلها وهم سكان أرض العرب، ومسكنها ومعدنها ومنبع قبائلها، فإن قلتَ: لمَ سُمِّيت جزيرة العرب؟
قلتُ: لأنها مُحاطة بالبحر الأحمر، والخليج العربي، ونهر الفرات.
وهذه آخر مسائل "حقيقة الجهاد وحكمه والغنائم والأمان والهدنة"، ويليه باب "عقد الذمة وأحكامها"
باب عقد الذِّمَّة وأحكامها
الذمة: لغة: العهد، والضمان، والأمان، ومعنى عقد الذمة: إقرار بعض الكفار على كفرهم بشرط: بذل الجزية، والتزام أحكام الملَّة،
(1)
والأصل فيه: قوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}
(2)
(لا يُعقد) أي: لا يصح عقد
باب عقد الذمة وأحكامها
وفيه أربع وعشرون مسألة:
(1)
مسألة: الذمة: لغة هي: العهد، والضمان، والأمان: بأن تُعطي غيرك عهدًا، أو ضمانًا أو أمانًا بأن لا تؤذيه، وأن تحميه من الآخرين ببدل أو بدونه، وعقد الذمة اصطلاحًا: أن يُدعى الكفار إلى الإسلام، فإن أبوه: فإنهم يُبقون في ديار الإسلام على كفرهم بشرط دفع الجزية، والتزام أحكام الشريعة، ويُسمَّى المعقود له:"ذمِّيًا"، فإن قلتَ: ما الفرق بينه وبين المعاهد والمستأمن؟ قلتُ: المستأمن هو: من دخل دار الإسلام بأمان من إمام المسلمين أو نائبه أو أحد المسلمين، والمعاهد هو: من عقد معه عقد مُعاهدة ومُهادنة ولو كان في ديار الكفار - كما سبق -، وهذان لا يدفعان الجزية، أما الذمي: فهو الذي يُقيم في ديار المسلمين مع دفعه للجزية.
(2)
مسألة: يصح عقد الذمة أهل الكتاب بشرطين: أولهما: أن يُعطوا الجزية التي يقدِّرها الإمام عليهم كل عام على وجه الذّلِّ، ثانيهما: أن يلتزموا الأحكام الإسلامية، فتُقام عليهم أحكام الجنايات، والحدود، والعقوبات، والمعاملات؛ لقواعد: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} إلى قوله: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} فأوجب الشارع قتالهم؛ لأن الأمر مُطلق فيقتضي الوجوب، ودلَّ مفهوم الغاية على =
الذمة (لغير المجوس)؛ لأنَّه يروى أنه كان لهم كتاب فرُفع، فصارت لهم بذلك شبهة، ولأنه صلى الله عليه وسلم "أخذ الجزية من مجوس هجر" رواه البخاري عن عبد الرحمن بن عوف (وأهل الكتابين): اليهود والنصارى على اختلاف طوائفهم (ومن تبعهم) فتديَّن بأحد الدينين كالسامرة، والفرنج والصابئين؛ لعموم قوله تعالى:{مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ}
(3)
(ولا يعقدها) أي: لا يصح عقد الذمة (إلا) من (إمام أو نائبه)؛ لأنَّه
أنهم لا يُقاتلون إذا دفعوا الجزية عن ذل وصغار، الثانية: السنة القولية؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم يقول لمن يُرسله للغزو: "ادعهم للإسلام، فإن أبوا فادعهم إلى دفع الجزية، فإن أبوا فقاتلهم"، الثالثة: المصلحة؛ حيث إن حماية حقوق المسلمين تقتضي اشتراط الشرط الثاني، فإن قلتَ: لمَ صحَّ عقد الذمة؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه إعطاء الكافر مهلة ليُفكر في الإسلام، وهذه دعوة إليه، وقد ثبت أن أكثر الكفار أسلموا عن اقتناع بسبب هذه المهلة، فإن قلتَ: لمَ وجبت عليهم الجزية؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن هذه الجزية بدل وعوض عن قتلهم وأسرهم، وأجرة لحمايتهم، وليس هو بدل عن إقرار دينهم.
(3)
مسألة: عقد الذمة يصح لأربعة أصناف من الكفار: أولهم: اليهود، وهم الذين هادوا عن عبادة العجل ويعملون بالتوراة، ثانيهم: النصارى: نسبة إلى بلدة "ناصرة" بالشام، ويعملون بالإنجيل، ثالثهم: المجوس، وهم الذين اعتنقوا المجوسية من العرب وغيرهم بسبب مجاورتهم للفرس، وهم يعملون بكتاب رُفع عنهم، رابعهم: التابعون لليهود أو النصارى أو المجوس، المتدينون بدينهم العاملون بأحد الكتب الثلاثة مثل:"السامرة" طائفة وهي من اليهود: نُسبوا إلى السامري، و "الفرنج" وهم: الروم، ويُقال لهم بنوا الأصفر، وهذه التسمية نسبة إلى جزيرة "فرنجة"، و "الصابئة" وهم: الذين انتقلوا من اليهودية إلى النصرانية أو بالعكس، ولا فرق بين عربي وأعجمي في ذلك؛ لقاعدتين: الأولى: الكتاب؛ =
عقد مُؤبَّد، فلا يفتات على الإمام فيه، ويجب إذا اجتمعت شروطه
(4)
(ولا جزية)
حيث قال تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} إلى قوله: {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} فأوجب قتال جميع الكفار؛ لأن الأمر مطلق، فيقتضي الوجوب، ودلَّ مفهوم الغاية على أنهم إذا أعطوا الجزية عن ذل وصغار لا يُقاتلون، وهذا عام لجميع الأصناف الأربعة: فاليهود والنصارى يدخلون في هذا العموم بوضوح، وكذا: المجوس؛ إذ كان لهم كتاب فرُفع، وغيرهم من أتباعهم كذلك؛ لأنهم عملوا بتلك الكتب الثلاثة، حيث إن "الذين" الموصولة، و "واو الجمع" في قوله:"أوتوا" من صيغ العموم المتفق عليها، الثانية: السنة الفعلية والقولية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد أخذ الجزية من المجوس وقال: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب"، فإن قلتَ: لمَ صحَّ عقد الذمة مع هذه الأصناف فقط دون غيرهم؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن هؤلاء يؤمنون بالله، ويعتقدون توحيده، وأنَّه خالق كل شيء، لكنهم لا يؤمنون برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وبهذا نأمنهم على أنفسنا، أما غير تلك الأصناف الأربعة: كعبدة الأوثان، والنيران، والشمس، وأهل الإلحاد: فليسوا مثل من سبق في الإيمان بالله، ولذلك لا يُقبل منهم إلا الإسلام أو القتل؛ حتى نأمن على أنفسنا منهم.
(4)
مسألة: لا يتولّى عقد الذمة مع الكفار إلا إمام المسلمين أو نائبه، فلا يصح من آحاد المسلمين؛ للتلازم؛ حيث إن عقد الذمة مُؤيَّد فيلزم من كونه كذلك: أن لا يفوت الإمام الاطلاع على تفاصيله والنظر فيه، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن الإمام الأعظم أو نائبه يعرف الكفار بشكل مُفصَّل، ويعرف الصالح من الطالح منهم عن طريق جواسيسه وعيونه، فيكون تولِّيه لعقد الذمة أنفع للإسلام والمسلمين، تنبيه: قوله: "ويجب إذا اجتمعت =
وهي: مال يُؤخذ منهم على وجه الصغار كل عام بدلًا عن قتلهم وإقامتهم بدارنا (على صبي ولا امرأة) ومجنون، وزمن وأعمى وشيخ فإن، وخنثى مُشكل (ولا عبد، ولا فقير يعجز عنها)،
(5)
وتجب على عتيق ولو لمسلم
(6)
(ومتى صار أهلًا لها) أي: للجزية: (أخذت منه في آخر الحول) بالحساب
(7)
(ومتى بذلوا الواجب عليهم)
شروطه" يقصد: يجب عقد الذمة بشروط ثلاثة: كونه سيدفع الجزية، وكونه سيلتزم بأحكام الشريعة، وكونه من أهل الكتاب، وقد سبق بيان ذلك في مسألتي (2 و 3).
(5)
مسألة: لا تؤخذ الجزية من أي كافر يعجز عنها: كالصبي، والمجنون، والمرأة، والخنثى، والزَّمن - وهو من أقعده المرض -، والأعمى، والشيخ الفان، والضعيف، والعبد الرقيق، والفقير، والراهب، ونحو هؤلاء ممن شابههم ممن لا يُخاف منهم؛ للمصلحة؛ حيث إن أخذ الجزية من هؤلاء يضرُّ بهم إضرارًا ظاهرًا، فدفعًا لذلك: شرع هذا، وهذا فيه تحبيب للإسلام في نفوس الكفار، وهو دعوة إلى الإسلام.
(6)
مسألة: يجب أخذ الجزية على الرجل العتيق من أهل الكتاب: سواء كان الذي أعتقه مسلمًا أو كافرًا؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كونه حُرًّا مُكلفًا موسرًا قادرًا على القتال أن لا يُقر على دينه، وفي ديار الإسلام إلا بدفع الجزية.
(7)
مسألة: تُؤخذ الجزية ممن صار أهلًا لها في آخر العام عن عام كامل كالأجرة، ومن صار أهلًا لها في منتصف العام مثلًا كأن يبلغ الصبي، أو يعقل المجنون ونحو ذلك: فإن الجزية تؤخذ منه عن المدة التي عقل، أو بلغ فيها: فمثلًا لو كانت الجزية تؤخذ عن كل شخص (1200) درهمًا في العام كله، وبلغ هذا الصبي من الكفار في منتصف العام: فإنه يؤخذ منه (600) درهمًا وهكذا؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كونه صار أهلًا لدفع الجزية في هذا الوقت أن تلزمه =
من الجزية: (وجب قبوله) منهم (وحرم قتالهم) وأخذ مالهم، ووجب دفع من قصدهم بأذى ما لم يكونوا بدار حرب،
(8)
ومن أسلم بعد الحول: سقطت عنه
(9)
(ويمتهنون عند أخذها) أي: أخذ الجزية (ويُطال وقوفهم، وتُجرُّ أيديهم) وجوبًا؛ لقوله تعالى: {وَهُمْ صَاغِرُونَ} ولا يُقبل إرسالها
(10)
فصل: في أحكام أهل الذمة
الجزية عن تلك المدَّة بحسابها؛ نظرًا لكون هذا هو الواجب، وهو الذي يُحقق العدالة والإنصاف الذي جاء به الإسلام، وهو المقصد منه.
(8)
مسألة إذا دفع أهل الذمة الجزية بأوصافها وشروطها، ووقتها: فيجب على الإمام أو نائبه قبولها، ولا يجوز ردُّها، ولا يجوز مسُّهم بأي أذى: كقتلهم أو أخذ مالهم أو استرقاقهم، أو الاعتداء على أعراضهم أو نحو ذلك، ويجب أيضًا أن يحميهم من أي أذى، إذا كانوا بدار الإسلام، أما إن كانوا بدار الحرب: فلا يجب ذلك؛ للسنة القولية؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم يقول: "ادعهم إلى دفع الجزية، فإن هم أجابوك لذلك فاقبل منهم وكفَّ عنهم" فأوجب الشارع كفَّ عنهم كل ما يُؤذيهم؛ لأن الأمر مُطلق فيقتضي الوجوب، والكف مطلق، فيشمل كل ما ذكرناه، وهذا من حقهم علينا.
(9)
مسألة: إذا وجبت الجزية على فرد منهم، وحان، دفعها، ولكنه أسلم: فإن تلك الجزية تسقط عنه؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "من أسلم على شيء فهو له" فمنطوقه قد دلَّ على أن الكافر إذا أسلم وعنده شيء من حقوق الله تعالى لم يدفعه: فإنه يسقط عنه ومفهوم الشرط قد دل على استمراره على دفع الجزية إذا لم يسلم فإن قلتَ: لمَ شرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تحبيب للإسلام، والدعوة إليه.
(10)
مسألة: لا تؤخذ الجزية من ذمي إلا وهو قائم والمسلم الآخذ يكون جالسًا، وأن يُوقف الكافر عند دفعها، وأن تُجرُّ يده، وهذا ينبغي أن يحصل بدون إيقاع =
(ويلزم الإمام أخذهم) أي أخذ أهل الذمة (بحكم الإسلام في) ضمان (النفس، والمال، والعرض، وإقامة الحدود عليهم فيما يعتقدون تحريمه) كالزنا (دون ما يعتقدون حلَّه) كالخمر؛ لأن عقد الذمة لا يصح إلا بالتزام أحكام الإسلام - كما تقدم - وروى ابن عمر رضي الله عنهم: أن النبي صلى الله عليه وسلم أُتيَ بيهوديين قد فجرا بعد إحصانهما: فرجمهما
(11)
(ويلزمهم التميُّز عن المسلمين) بالقبور: بأن لا يُدفنوا في مقابرنا،
تعذيب لهم، أو يُشق عليهم بطريقة يكرهون الإسلام بسببها، ولا تُقبل منهم بواسطة، بل لا بدَّ أن يدفع كل واحد الجزية بنفسه؛ للكتاب؛ حيث قال تعالى:{حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} وهذه الأفعال التي عليها الكافر عند دفع الجزية يُحقق الصغار والذل له، ويُحقق عزَّة الإسلام، لكن بدون تعذيب لهم؛ لئلا يكرهون الإسلام.
(11)
مسألة: يجب على الإمام أو نائبه أن يُعامل الذمي معاملة المسلم في ضمان النفس، والمال، والعرض، وجميع المعاملات، والحدود، والجنايات فيما يعتقدون تحريمه في دينهم، فإذا قتل أو سرق، أو زنا، أو قذف: أقيمت عليهم الحدود، وإذا أتلف شيئًا: وجب ضمان ما أتلفه، وإن فعل معصية لا حد فيها كالغيبة والنميمة ونحوهما: عُزِّر كالمسلم تمامًا، أما إذا فعلوا شيئًا لا يعتقدون تحريمه كشرب الخمر: فلا يُقام عليهم حدُّه، لكن يُمنعون من إظهاره، أما العبادات: كالصلاة والزكاة، والصوم، والحج: فلا يُطالبون بها؛ لقواعد؛ الأولى: السنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم رجم يهوديين قد زنيا وهما محصنان، ورضَّ رأس يهودي كان قد رضَّ رأس جارية بين حجرين حتى ماتت؛ الثانية: المصلحة؛ حيث إن إقامة تلك الحدود والعقوبات عليهم فيه محافظة على حقوق المسلمين، الثالثة: التلازم؛ حيث يلزم من عقد الذمة: أن يُقروا على كفرهم فيما يعتقدون حله.
والحلي بحذف مقدَّم رؤوسهم، لا كعادة الأشراف، ونحو شد زنَّار، ولدخول حمامنا جُلْجُل، أو نحو خاتم رصاص برقابهم، (ولهم ركوب غير خيل) كالحمير (بغير سرج) فيركبون (بإكاف) وهو: البرذعة؛ لما روى الخلال: "أن عمر رضي الله عنه أمر بجزِّ نواصي أهل الذمة، وأن يشدُّوا المناطق، وأن يركبوا الأكف بالعرض"(ولا يجوز تصديرهم في المجالس ولا القيام لهم، ولا بداءتهم بالسلام) أو بـ "كيف أصبحت أو أمسيت أو حالك؟ "، ولا تهنئتهم وتعزيتهم وعيادتهم، وشهادة أعيادهم؛ لحديث أبي هريرة مرفوعًا:"لا تبدأوا اليهود والنصارى بالسلام، فإذا لقيتم أحدهم في الطريق فاضطروهم إلى أضيقها" قال الترمذي حديث حسن صحيح
(12)
(12)
مسألة: يجب أن يتميز الذمي عن المسلم بما يلي: أولًا: أنه لا يُدفن في مقابر المسلمين، ثانيًا: أن يحلق مُقدِّمة رأسه: بأن يزيلوا النواصي، ثالثًا: أن يشدَّ ويربط وسطه بزنار وهو: الحبل الذي يُرخى شيئًا منه، رابعًا: أن يجعل شيئًا له صوت في عنقه كجرس صغير عند دخول حمام المسلمين - وهو "الجلجل" -، أو يضع في عنقه حبلًا يجعل في وسطه خاتمًا من حديد أو رصاص، خامسًا: أن يركب غير الخيل من حمار أو بغل، وأن يركب عليها بالعرض: بأن تكون رجلاه إلى جانب وظهره من الجانب الآخر، سادسًا: أن يكون ركوبه على ظهر الدابة بدون شيء بينهما، أو بالبردعة - وهو كساء لا قيمة له يُلقى على ظهر الدابة - سابعًا: أن لا يُجعل في صدر المجلس، ولا يقام له إذا أقبل، ولا يُبدأ بالسلام، ولا يُسأل عن حاله في الصباح والمساء، ولا يُهنأ في أفراح، ولا يُعزَّى في مصائب إلا عند الضرورة، ولا يُعاد إذا مرض، ولا يُشهد عيد من أعياده، ويُضيَّق عليه إذا مشى قليلًا؛ لقواعد: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام، وإذا لقيتم أحدهم في الطريق فاضطروهم إلى أضيقها" وما ذكر من فعل أشياء لاحتقارهم، وإعزاز الإسلام =
(ويُمنعون من إحداث كنائس وبيع) ومجتمع لصلاة في دارنا (و) من (بناء ما انهدم منها ولو ظلمًا)؛ لما روى كثير بن مُرَّة قال: سمعتُ عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تُبنى الكنيسة في الإسلام، ولا يُجدَّد ما خرب منها"
(13)
(و) يُمنعون أيضًا (من تعلية بنيان على مسلم) ولو رضي؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "الإسلام يعلوا ولا يُعلى عليه" وسواء لاصقه أو لا، إذا كان يُعدُّ جارًا له، فإن علا: وجب
مثل مضايقتهم في الطريق؛ لعدم الفارق حيث إن هذا من باب "مفهوم الموافقة" الثانية: قول الصحابي؛ حيث إن عمر رضي الله عنه "قد أمر بجزِّ نواصي أهل الذمة وأن يشدُّوا المناطق، وأن يركبوا الأكف بالعرض" الثالثة: المصلحة؛ حيث إن إعزاز المسلمين، والحذر من الذميين وأخذ الحيطة منهم يستلزم تلك الميزات التي ينبغي أن يفعلها الذمي، فإن قلتَ: لمَ يُهنأ الذمي أو يُعزَّى عند الضرورة؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك من باب دفع الأذى عن المسلمين.
(13)
مسألة: يجب منع أهل الذمة من إحداث وبناء كنائس لهم، ومجمعات صلاة لهم جديدة، وإذا انهدمت كنيسة: فلا يُسمح لهم بأن يُعيدوها؛ للسنة القولية حيث قال صلى الله عليه وسلم: "لا تُبنى الكنيسة في الإسلام، ولا يُجدَّد ما خرب منها" فإن قلتَ: لمَ وجب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه إذلال لهم، ولا يُؤذن بذلك ولو أذن الكفار ببناء المساجد للمسلمين عندهم؛ لأن ديننا قد نسخ دينهم، فيكون بناء المساجد قائمًا على حق، وبناء الكنائس باطل، ولا يُقرون على الباطل. [فرع]: إذا اعتدى بعض المسلمين على كنيسة لأهل الذمة فهدمها فيجب على الإمام أو نائبه أن يعيدها لهم، أو يأذن لهم في إعادتها؛ للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه دفع الظلم عنهم - وهو من مقتضيات عقد الذمة -، وفيه تحسين صورة الإسلام عند الكفار، وفيه دعوة إليه، وهذه المصلحة قد خصَّصت عموم قوله صلى الله عليه وسلم:"ولا يجدَّد ما خرب منها".
نقضه
(14)
و (لا) يمنعون من (مساواته) أي: البنيان (له) أي: لبناء المسلم؛ لأن ذلك لا يقتضي العلو،
(15)
وما ملكوه عاليًا من مسلم لا يُنقض، ولا يعاد عاليًا لو انهدم
(16)
(و) يُمنعون أيضًا (من إظهار خمر وخنزير) فإن فعلوا: أتلفناهما (و) من إظهار (ناقوس، وجهر بكتابهم) ورفع صوت على ميت، ومن قراءة قرآن، ومن إظهار أكل وشرب في نهار رمضان،
(17)
وإن صولحوا في بلادهم على جزية أو
(14)
مسألة: يجب منع الذمِّي من أن يبني بناء يكون سقفه أعلى من بناء جيرانه من المسلمين سواء كانت لاصقة لبناء المسلم أو لا، فإن فعل ذلك: يجب أن ينقض حتى يساوي بناء المسلم؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "الإسلام يعلو ولا يُعلى عليه" وهذا عام للأمور المعنوية كالأخلاق ونحوها والأمور الحسية كالبنايات، ونحوها وهذا فيه إعزاز المسلمين.
(15)
مسألة: لا يُمنع الذمي من بناء دار يساوي ارتفاعها بناء المسلم، للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم:"الإسلام يعلو ولا يُعلى عليه" حيث إن مفهوم الصفة قد دلَّ على أن الذمي لا يمنع من مساواة المسلم في البناء.
(16)
مسألة: إذا اشترى ذمِّي دارًا من مسلم وكان بناؤها أعلى من بناء بعض المسلمين فلا يُنقض، بل يسكنها على ما هي عليه، فإن انهدم لا يُعاد عاليًا؛ للمصلحة؛ حيث إن نقضها إفساد للبناء الذي بناه المسلم، وضياع للمال الذي دفعه الذمي وهذا إضرار به لا يُقرِّه الإسلام؛ لأنَّه:"لا ضرر ولا ضرار في الإسلام".
(17)
مسألة: يجب على الإمام أو نائبه أن يمنع الذمي من إظهاره شرب الخمر، وأكله لحم الخنزير، وإن فعل ذلك وجب إتلافهما، وكذلك يمنعه من إظهار قراءة كتبه، ونواقيسه، ويُمنع من رفعه لصوته، ويُمنع من شراء مصحف، وقراءته فيه، ويُمنع من إظهار أكل أو شرب في نهار رمضان؛ للمصلحة؛ حيث =
خراج: لم يُمنعوا شيئًا من ذلك،
(18)
وليس لكافر دخول مسجد، ولو أذن له مسلم،
(19)
وإن تحاكموا إلينا: فلنا الحكم والترك؛ لقوله تعالى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} ،
(20)
وإن اتَّجر إلينا حربي: أخذ منه العشر وذمي
إن إظهار ذلك فيه إفساد للمسلمين، وتشويش على عباداتهم، وجرح لشعور المسلمين قد يؤثر على بعض ضعاف المسلمين.
(18)
مسألة: إذا وقع بين الكفار والمسلمين صلح وعقدوا هدنة اتفق فيها الفريقان على السلم، وأن يدفع الكفار الجزية للمسلمين أو خراجًا وهم باقون في بلادهم دون أن يدخلوا بلاد المسلمين: فلا يمنعهم إمام المسلمين أو نائبه من فعل أي شيء أرادوه - كما سبق في مسألة (17) - ولا يأمرهم بأن يتميزون عن المسلم بشيء من المميزات السبع - كما سبق في مسألة (12) -؛ للقياس، بيانه: كما يجوز للذمي أن يفعل أي شيء داخل منزله دون تدخُّل إمام المسلمين أو نائبه، فكذلك يجوز له أن يفعل أيَّ شيء داخل بلاده، والجامع: عد تضرُّر المسلمين في كل، وهو المقصد منه.
(19)
مسألة: يجب على الإمام أو نائبه أن يمنع أيَّ كافر - ذمي وغيره - من دخول أيِّ مسجد: سواء كان قد أذن له واحد من المسلمين أو لا؛ لقاعدتين: الأولى: القياس: الأولى؛ بيانه: كما أن الحائض والنفساء والجنب يُمنعون من دخول المساجد وهم مسلمون، فمن باب أولى أن يُمنع الكافر من دخولها، والجامع: النجاسة في كل، بل نجاسة الكافر أغلظ، الثانية: فعل الصحابي؛ حيث إن عمر، وعلي، وأبا موسى الأشعري رضي الله عنهم قد منعوا كفارًا من دخول المساجد، وأخرجوا من دخل منهم.
(20)
مسألة: إذا وقع تنازع بين طائفتين من أهل الذمة، أو فردين منهم، وطلبوا أن يحكم بينهم إمام المسلمين أو نائبه: فله الخيار: إن شاء حكم بينهم، وإن شاء =
نصف العشر؛ لفعل عمر رضي الله عنه، مرَّة في السنة فقط
(21)
. ولا تُعشَّر أموال المسلمين
(22)
تركهم، فإن حكم بينهم: فإنه يحكم بحكم الإسلام وإن لم يطلبوا من إمام المسلمين الحكم بينهم فليس له الحق بأن يُرغمهم على الحكم بينهم فيما تنازعوا فيه إلا إذا خشي على المسلمين من هذا التنازع فيتدخل هنا؛ لقواعد: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} وحرف "أو" للتخيير، الثانية: التلازم؛ حيث إن شريعة الإسلام ناسخة لجميع الشرائع السابقة فيلزم: أن لا يصح حكم إلا بها على المسلمين وعلى غيرهم، ويلزم من عقد الذمة: تركهم يحلُّوا مشاكلهم على حسب دينهم إذا لم يطلبوا من إمامنا الحكم بينهم، فإن قلتَ: لمَ شُرع تدخُّل إمام المسلمين إذا خشي على المسلمين من تنازع الكفار فيما بينهم؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك يُعتبر من أنواع الدفاع عن المسلمين.
(21)
مسألة: إذا اشتغل كافر حربي بالتجارة في بلاد المسلمين: فإن إمام المسلمين أو نائبه يأخذ عشر مكسبه مرَّة في كل عام دفعة واحدة، وإذا اشتغل كافر ذمي بالتجارة في بلاد المسلمين: فإن الإمام أو نائبه يأخذ نصف عشر مكسبه: فمثلًا لو كسب الحربي مائة درهم: فإنه يؤخذ عشرة دراهم، ولو كسب الذمي مائة: فيؤخذ خمسة دراهم وهكذا؛ لفعل الصحابي؛ حيث إن عمر رضي الله عنه قد فعل ذلك، فإن قلتَ: لمَ شرع هذا؟ قلتُ: لكونه قد استعمل الأراضي الإسلامية في تجارته، وفُرِّق بينهما في الأخذ: لأن الحربي لا تُؤخذ منه جزية، والذمِّي تُؤخذ منه، فروعي ذلك.
(22)
مسألة: لا يجوز للإمام أو نائبه أن يأخذ من أموال المسلمين إلا الزكاة إذا بلغ المال النصاب، وحال عليه الحول، وبناء عليه: فإنه يحرم عليه أن يأخذ عشر أموال المسلمين أو الضرائب، أو الكُلَف ولا غير ذلك؛ للاستقراء؛ حيث إنه =
(وإن تهوَّد نصراني أو عكسه): بأن تنصَّر يهودي: (لم يُقر)؛ لأنَّه انتقل إلى دين باطل، قد أقرَّ ببطلانه، أشبه المرتد (ولم يُقبل منه إلا الإسلام أو دينه) الأول، فإن أباهما، هُدِّد، وحُبس، وضرُب، قيل للإمام: أنقتله؟ قال: لا
(23)
فصل: فيما ينقض
قد ثبت بعد استقراء وتتبع النصوص الشرعية، وأقوال وأفعال الصحابة: أنه لا تؤخذ من أموال المسلمين إلا زكاتها فقط.
(23)
مسألة: إذا انتقل نصراني، أو يهودي، أو مجوسي إلى غير دينه - ولم يسلم - وهو من أهل الذمة: فلا يُقبل منه ذلك، فيقال له: إما أن ترجع إلى دينك، وإما أن تُسلم، فإن لم يفعل أحدهما: فإنه يُستتاب ثلاثة أيام، فإن لم يرجع إلى دينه ولم يُسلم بعدها: فإنه يُقتل؛ لقواعد: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "من بدَّل دينه فاقتلوه" حيث: أوجب الشارع قتل من بدَّل دينه؛ لأن الأمر هنا مطلق فيقتضي الوجوب، وهذا الحكم عام فيشمل من ترك الإسلام إلى غيره، ومن ترك اليهودية إلى النصرانية أو بالعكس؛ لأن "من" الشرطية من صيغ العموم، الثانية: القياس، بيانه: كما أن المرتد عن الإسلام يُستتاب ثلاثة أيام فإن رجع إلى الإسلام ترك، وإن لم يرجع: قتل، فكذلك المرتد عن دينه من أهل الذمة إلى دين آخر من أهل الذمة مثله، والجامع: أن كلًّا منهما قد انتقل إلى دين قد أقر سابقًا بأنه باطل، الثالثة: الاستصحاب؛ حيث إنا قد أقررناه على دينه بشرط دفع الجزية، فإذا تركه، ثم عاد إليه فإنه يُقرُّ على ذلك؛ استصحابًا لما أقررناه عليه أولًا؛ لعدم وجود ما يُغيِّر الحالة، فإن قلتَ: إن هذا يُعزَّر بالضَّرب، والسجن، ولكن لا يُقتل، فإن أصرّ، فإنا نقره على ما انتقل إليه، وهو ما أشار إليه المصنف هنا، وهو مذهب أبي حنيفة وأحد قولي الشافعي، ورواية عن أحمد؛ للقياس؛ بيانه: كما أن المستمر على دينه من أهل الذمة لا يُقتل فكذلك من انتقل إلى دين غيره من أهل الكتاب مثله والجامع: أن كلًّا =
العهد (فإن أبى الذمي بذل الجزية) أو الصغار (أو التزام حكم الإسلام) أو قاتلنا (أو تعدَّى على مسلم بقتل أو زنا) بمسلمة، وقياسه اللواط (أو) تعدَّى بـ (قطع طريق، أو تجسيس، أو إيواء جاسوس، أو ذكر الله أو رسوله، أو كتابه) أو دينه (بسوء: انتقض عهده)؛ لأن هذا ضرر يعم المسلمين، وكذا: لو لحق بدار حرب، لا إن أظهر منكرًا، أو قذف مسلمًا، وينتقض بما تقدم عهده (دون) عهد (نسائه، وأولاده) فلا ينتقض عهدهم تبعًا له؛ لأن النقض وُجد منه فاختصَّ به (وحلَّ دمه) ولو قال: "تبتُ" فيُخير فيه الإمام - كأسير حربي - بين قتل ورق ومَنٍّ، وفداء بمال، أو أسير مسلم (و) حل (ماله)؛ لأنَّه لا حرمة له في نفسه، بل هو تابع لمالكه، فيكون فيئًا، وإن أسلم: حُرِّم قتله.
(24)
منهما لم يخرج عن دين أهل الكتاب قلتُ: هذا فاسد؛ لأنَّه قياس مع الفارق؛ لأن المستمر على دينه لم يعتقد بطلان دينه فلم ينتقل، أما من انتقل منه إلى دين آخر فإنه لم يفعل ذلك إلا لأنَّه قد أقرَّ ببطلان دينه الذي عقدنا الذمة معه وهو مُتلبِّس فيه وهو كان مُقرُّ ببطلان الدِّين الذي انتقل إليه، فلم يبقَ إلا أن يعود إلى ما عقدنا الذمة وهو مُتديِّن فيه، وإما أن يُقتل، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض القياس مع السنة القولية" فعملنا بعموم السنة، وهم خصصوا ذلك العموم بالقياس الذي ذكروه، وكذلك "تعارض القياسين" فنحن قسناه على من ارتدَّ عن دين الإسلام؛ لكونه أكثر شبهًا به، وهم قاسوه على المستمر على دينه؛ لكونه أكثر شبهًا به، وهذا هو قياس "غلبة الأشباه".
(24)
مسألة: ينتقض عهد وعقد الذمة مع كافر ذمي إذا امتنع عن دفع الجزية، أو امتنع عن إظهار الصغار والذل، أو امتنع عن الالتزام بأحكام الشريعة، أو أن يُقاتلنا بمفرده، أو مع جماعة، أو يلحق بدار الحرب، أو أن يقتل مسلمًا عمدًا، =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
أو أن يزن بمسلمة وإن كانت راضية، أو يفعل فاحشة اللواط بمسلم وإن كان راضٍ، أو أن يقطع الطريق، أو يتجسَّس على المسلمين لحساب الكفار، أو يحمي عنده جاسوسًا للكفار، أو يذكر الله أو رسوله، أو الدين الإسلامي، أو القرآن أو السنة بسوء، ولو قال "تبتُ": فلا يُقبل منه: فهذا يحلُّ ماله، فيُؤخذ ويُجعل في بيت مال المسلمين وهو "فيء" يُصرف في مصالح المسلمين العامة هذا إن فعل بكل الأفعال المضرَّة بعامة المسلمين ما إن أظهر منكرًا، أو قذف مسلمًا بزنا أو لواط، أو ركب خيلًا، أو رفع صوته بكتابه أو نحو ذلك: فلا ينتقض عهده، للتلازم؛ حيث إن عقد الذمة مع أي كافر يقتضي أن لا يفعل أي شيء مما سبق، فيلزم من فعل واحد منها: نقض العهد؛ لكونه لم يلتزم بالعقد كالمسلم إذا لم يلتزم بعقد من العقود، ويلزم من عدم الإضرار بعامة المسلمين: عدم نقض العهد بنحو إظهار مُنكر ونحو ذلك، فإن قلتَ: لمَ حلَّ ماله؟ قلتُ: لأن المالك إذا حل دمه: فإنه يحل ماله تبعًا. [فرع]: إذا نقض فرد من الذميين عهده بأحد الأمور المذكورة في مسألة (24): فإنه يُعاقب وحده، دون أولاده وزوجاته، وأتباعه إذا لم يصدر منهم شيء من الأمور السابقة الذكر - في مسألة (24) -، وهذا مطلق، أي: سواء أنكروا عليه ما فعله أو لا، وسواء لحقوا به في دار الحرب أو لا، ولذلك لا يجوز أن يُؤذي أيَّ واحد من أقرباء من نقض عهده؛ للتلازم؛ حيث إن النقض قد وُجد من شخص بعينه فيلزم أن يتحمَّل عواقبه بنفسه؛ نظرًا لاختصاص ذلك به، وهذا من عدالة الشريعة الإسلامية؛ حيث عمَّت بعدالتها الكفار. [فرع آخر]: إذا نقض الذمي عهده بأحد الأمور السابقة في مسألة (24): فإن الإمام أو نائبه يُخير بين أن يجعله أسير حرب، أو =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
أسير سلم، فإن جعله أسير حرب: فإنه يُخيَّر بين أن يقتله، أو يسترقه، أو يمنُّ عليه بإطلاقه، أو يأخذ مالًا فداءً له، وإن كان أسير سلم: فإن للمسلم أن يجعله عبدًا له؛ للسنة القولية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد فعل بيهود بني قريظة ذلك لما نقضوا العهد، فإن قلتَ: لمَ شُرع هذا؟ قلتُ: لأن الغالب فيمن يخون مرة: أنه يخون مرَّات، فلا يؤمن جانبه. [فرع ثالث]: إذا نقض الذمي عهده بأحد الأمور السابقة الذكر في مسألة (24) - ثم بعد ذلك أسلم فلا يجوز أن يُفعل فيه أيُّ شيء من قتل أو رق، أو نحو ذلك؛ للتلازم؛ حيث إنه فعل المطلوب منه أولًا، وهو الإسلام، فيلزم تركه بدون أذى؛ قياسًا على المسلمين.
هذه آخر مسائل باب "عقد الذمة وأحكامها" وهو آخر أبواب كتاب "الجهاد" وهو آخر المجلد الثاني من كتاب "تيسير مسائل الفقه شرح الروض المربع وتنزيل الأحكام على قواعدها الأصولية، وبيان مقاصدها ومصالحها، وأسرارها وأسباب الاختلاف فيها" لفضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور: عبد الكريم بن علي بن محمد النملة نفع به الإسلام والمسلمين، ويليه المجلد الثالث وأوله:
"كتاب البيع"